زهور
مجلة إخبارية ،اجتامعية وثقافية، تصدر عن جمعية زهور للعدالة االجتامعية والتنمية املستدامة ،شهرية ومؤقتا فصلية. العدد الثالث، السنة األوىل ،يوليوز .2012 املدير املسؤول :محمد املداين اإلدارة والتحرير: 19حي خيرب -موالي ادريس زرهون الربيد اإللكرتوين: zohour.magazine@yahoo.com الهاتف06 61 40 48 98 : 06 61 36 66 28 اإليداع القانوين: 2012 PE 0042 ردمد: 2028 - 8190 اإليداع القانوين للصحافة: 03/2012 التوزيع: SaPress الطبع واإلخراج : Imprimerie
RABAT NET MAROC Av. Hassan II Cité Al Manar n° 6/3 - Rabat 05 37 20 46 32 - 06 61 20 37 76
imprimerierabatnet@gmail.com
فاس اهلوية والتارخي
فاس ،يف أمعاق تراثها احلضاري؛ حمطات أساسية يف تارخي فاس؛ فاس ،األندلس والوجدان املشرتك؛ حرف سكنت وجدان فاس.
-املحور
الثاين :فاس يف أعني اآلخر
قصيدة «فاس» للتوجيري فاس مدينة ممتنعة؛ فاس عرب أختام احلمل؛ فاس ،معىن الزمن.
-املحور
الثالث :جامعة القرويني ،تارخي ومعرفة
جامعة القرويني بفاس؛ تأمالت يف أرسار خزانة القرويني بفاس.
زاوية زهور :الكلماتاحلرية.
درا�سات و مقاالت:واقعنا اللغوي يف زمن العوملة هل يكشف لنا أسباب الرتاجـــــع..؟
متابعات �إعالمية:املغرب يف منمظة املدن العربية؛ برناجم األمم املتحدة لملدن واملستوطنات البرشية.
منرب املجتمع املدين:امجلعية ماذا يعين هذا املصطلح؟
وبعد...«كونوا قوامني بالقسط»
يف هذا العدد
زهور
-املحور الأول:
العدد الثالث -السنة األولى -يوليوز 2012
1
زهور
فاحتة
2
العدد الثالث -السنة األولى -يوليوز 2012
رفعت القلم ألعبر للقراء األعزاء عن اعتذاري لتأخر إصدار هذا العدد عن موعده بـ 15يوما ،فانتابني شعور رهيب ميزج بني األسف واإلحساس بالذنب؛ إذ وأنا أستحضر مواد العدد ،وكأنني أقف بني يدي هذه املدينة الشامخة ،حيث وهي تلتحف إزارا ناصع البياض من الوقار ،قد تألأل وجهها نورا ،وظهرت عالمات اجلمال والشباب واحليوية على محياها رغم العمر الطويل ،إال أنها تترنح بني الفينة و األخرى، وبال���كاد تت���أوه ،وكأنه���ا تتألم في صم���ت من مرض عضال خطير ق���د ألم بها منذ وق���ت بعيدُ ،ي ّ قطع أوصاله���ا ،ويح���اول العبث مبفاتنها ،التي حركت في يوم ما حس���د بغداد ودمش���ق ،وغرناطة وباريس، ناهيك عن غيرة ش���قيقاتها كمكناس واحلمراء ..لع ّله مرض الفس���اد ،وسوء التدبير ،وخيانة التاريخ.. وقف���ت ب�ي�ن يديها وأنا أحس بكثير م���ن التقصير ،وخيبة أمل تكاد تخنقني ال أس���تطيع قول شيء ،وقد فتنت بجمال احلاضرة وبهائها .تبسمت العاصمة رغم آالمها وقالت:
1¡G2
«ال عليك���م ،أعرف أنكم أردمت زيارت���ي ،أو باألحرى عيادتي ،و معكم هدية؛ عبارة ع���ن عدد خاص ع ّني ،مبواصف���ات عالية وقيمة راقية ،وأعرف أنك���م طرقتم أبواب بعض هؤالء الذين يحس���بون أنفسهم مسؤولني عن خدمتي ،وموكول إليهم االهتمام بشأني، ملساعدتكم على ذلك ،فتجاهلكم البعض ،وأخلف آخرون وعدهم لكم ّ وتنكر لكم، ¢S a بل ّإن أحد (أس���اتذتي الكبار) الذي أملتم مساعدته ،استصغر مشروعكم ،واعتبره @ O s jÄÁ v B%F Sمتواضع���ا و غي���ر (أكادمي���ي!؟) على حد قول���ه ..إال أنّني جد س���عيدة مببادرتكم، ¡ sB% % dG zkh C0 H وفخ���ورة مبش���روعكم كما هو ،ألنه عل���ى تواضعه فهو أصيل ،وعلى بس���اطته فهو jQ dGh ROPk1!% E O B *>>>>> t %³B% صادق ،فال تأبهوا لهؤالء ،واعتمدوا أكثر على أنفس���كم ،واستمروا في عملكم، واس���تمدوا قوتكم ّ وغذوا عزائمكم من إميان إدريس ،وكرم أم البنني ،وعبقرية ابن خل���دون ،وفصاح���ة ابن اخلطيب ،وبالغة اب���ن باجة ،وتواضع «سلفيس���تر الثاني» ،ونبوغ موس���ى بن ميمون ...والتنسوا أن ّ تتذكروني ،بنفس الهدية املتواضعة ،لكن مع احملافظة على طهارتها ونقاءها ،ولو مرة كل سنة»! ﺩﺭﳘﺎ
Magaz
ine
ﳎﻠﺔ
ﺛﻘﺎﻓﻴﺔ ﺍﺟ
ﳣﺎﻋﻴﺔ
ﺟﺎﻣﻌﺔ ﴲ
ﺮﻳﺔ ﺗﺼﺪﺭ
Zohour
ﻣﺆﻗﺘﺎ ﻓ
ﺼﻠﻴﺔ //
ﺍﻟﻌﺪﺩ ﺍ
- 20ﺍﳌ
ﻮﻟﻴﻮﺯ 12
ﻟﺜﺎﻟﺚ ﻳ
ﳥﻦ 15 : ﺍﻟ :ﷴ ﺍﳌﺴﺆﻭﻝ ﺪﻳﺮ
ﺍﳌﺪﺍﱐ
أيقنت حينئذ أن لبؤة احلواضر س���تعود يوما إلى عرينها مرفوعة الهامة عالية املقام ،وستتخلص دون شك من هذه املكروبات التي أملت بها ،مستعينة في ذلك بهمم األخيار من أبناءها وأبناء هذا الوطن. ال ندّ ع���ي ،ف���ي مجلة زهور ،أننا الوحيدون الذين نحاول القيام مببادرة ثقافية أصيلة من هذا النوع، فقد سبقنا ويزامننا آخرون ،وال شك أن ج ّلهم اصطدم بنفس اإلكراهات ،وواجه نفس العقليات ،وكثير منهم ،لألسف الشديد ،استسلم ورمى باملنشفة على احللبة واعتزل. عل���ى أي���ة حال ،ما تقوم به مجلة زهور في حق هذه املدين���ة الرائعة واملدن املغربية األخرى ما هو إال خطوة أولى ومتواضعة ،على البررة من أبناء هذا الوطن من علماء وأساتذة وباحثني وسياسيني ومثقفني ومهتمني ..أن يبادروا إلى تعزيزها بخطوات أخرى أكثر شموال ّ وأدق تفصيال ،للكشف عن محسنات تاريخ مملكتنا العريقة ،الذي هو في النهاية تاريخ كل املغاربة ،بل وكل املسلمني.. وأعتذر كثيرا عن التأخير!!! محمد املداني
زهور
فاس الهوية والتاريخ
م ح ور
العدد الثالث -السنة األولى -يوليوز 2012
خا
3
ص
4
زهور
العدد الثالث -السنة األولى -يوليوز 2012
فاس...
محور خاص ..
في أعماق تراثها الحضاري تحتضن مدينة فاس ،التي يعود تأسيسها إلى أزيد من اثني عشرة قرنا ،العديد من اآلثار العمرانية/ الحضاري��ة /الثقافية ،الدالة على مختلف الحقب التاريخية اإلس�لامية ،الت��ي توافدت عليها لتصنع تاريخه��ا العربي /اإلس�لامي ...العمي��ق .وهو ما جعل منظم��ة األمم المتح��دة للثقافة والفنون (اليونس��كو) تصنفها سنة ،1981تراثا عالميا ،اعترافا منها بمكانة هذه المدينة ،التي تضم إلى اليوم ،أكبر مآثر الحضارة اإلسالمية في المغرب ،من أسوار وأبواب وأبراج ومدارس ومساجد وقصور، تحمل طابع ساكنتها من أمازيغ األطلس المتوسط وقيراوانيين وأندلسيين ويهود ،وهو ما ساهم في تطورها عمرانيا /حضاريا ... /وثقافيا. تقول اإلحصاءات الرسمية :إن عدد البنايات التاريخية بمدينة فاس يصل إلى 11.601بناية تقليدية، منها 74قصرا ورياضا و 355بناية ذات قيمة أثرية تاريخية كبرى و 143مسجدا و 113فندقا. في هذه الورقة تتوقف مجلة زهور عند نماذج من هذه اآلثار ،انطالقا من س��ور فاس الذي يعود تأسيسه األولي إلى المولى إدريس الثاني ،مرورا بأبوابها وأبراجها وقصباتها ومدارسها وقصورها وحدائقها ومتاحفها ،في محاولة إلعطاء صورة تقريبية عن هذه الحاضرة التي أصرت على كتابة تاريخها بمداد عبقريتها اإلبداعية.
فاس الهوية والتاريخ
زهور
العدد الثالث -السنة األولى -يوليوز 2012
الغربي��ة والش�مالية والجنوبي��ة الرشقية ،فلقد ش��يد املرينيون /1أسوار مدينة فاس س��ورا مزدوجا ،ويف هذه الناحية من السور قام السعديون بإنش��اء أبراج ضخمة لحمل املدافع الثقيلة وص��د الهجوم��ات املحتملة بواس��طة السالح الناري ،تتمثل هذه األبراج يف برج سيدي بونافع وبرج الشيخ أحمد وبرج بوطويل. عىل عهد امللوك العلويني عرفت أس��وار مدينة فاس العديد من التعديالت كام ش��يدت أجزاء أخرى جديدة خاصة عىل عهد الس��لطان موالي الحس��ن األول عىل إثر أش��غال توس��عة القرص وتهيئة مشور باب املاكينة .أما السلطان موالي س��ليامن فقد عمل ع�لى ترميم أغل��ب أبواب املدين��ة الخارجية التي ال زالت تتخلل أس��وار فاس البايل :باب الجديد وباب س��يدي بوجيدة وغريه��ا ،ويرجع له الفضل يف إع��ادة بناء باب الفتوح لتصلنا بالشكل الذي نعرفه حاليا. تتفق العديد من املراجع التاريخية ،عىل أن أسوار عدوة األندلس وأبوابه��ا مبدين��ة فاس ،بدأ تش��ييدها عىل عهد امل��وىل إدريس الثاين. /2أبواب مدينة فاس وعىل إثر توسيع العدوتني (عدوة القرويني وعدوة األندلس) قام ملوك الدولة اإلدريس��ية ،بإحاطة مدينة فاس بسور جديد ،بغية مدينة فاس أحيط��ت من��ذ عهد امل��وىل إدريس الثاين بأس��وار لحاميتها إال أنها توسعت يف مختلف املراحل التاريخية ،وفتحت إضفاء طابع االستقاللية والتفرد لكل من العدوتني. أبواب به��ا ،اختارت مواقعها حس��ب حاجات املدينة ،باعتبارها كانت هذه األس��وار تتوفر عىل إثنى عرش بابا ،س��تة لكل عدوة. منافذ للخروج والدخول ،ونقطا هامة ملراقبة املدينة من الغرباء، وبعد انتقال مدينة فاس إىل حكم امللوك املرابطني يف سنة 468هـ/ م��ن أجل إحكام الضب��ط األمني ،باإلضاف��ة إىل دورها التجاري، 1075م قام يوس��ف بن تاش��فني بجمع عدويت فاس داخل سور حيث تستقبل وتسهل عملية عبور القوافل من وإىل املدينة من واحد ،وهناك من املؤرخ�ين والباحثني املعارصين من يؤكد عىل مختلف الجهات. كون بن تاش��فني مل يقم إال بهدم الجدران الفاصلة واقترص عمله يف حقيق��ة األمر عىل إكامل العمل الذي ب��دأه امللوك الزناتيون .فيام ييل جملة من هذه األبواب ،التي ما زالت تشهد عىل عظمة يف س��نة 540هـ1145 /م ،إبان حكم الس��لطان النارص املوحدي ،الرتاث الحضاري للعاصمة العلمية للمملكة. تم هدم السور األصيل وعوض بسور متني مبني بالرتاب املمزوج بالجري .مل يع��رف هذا اإلنجاز األخري س��وى تعديالت طفيفة إذ مازال يحيط بجزء كبري من فاس البايل .يتجاوز سمك هذا الجدار املرتين ،تعلوه رشفات هرمية الشكل كام تدعمه يف جزءه الواقع رشق باب محروق خمس��ة أبراج .عىل عهد املرينيني متت إعادة بناء أألسوار ملرات عديدة ومتيزت هذه الفرتة بالخصوص بتشييد س��ور فاس الجديد التي كانت بدورها تشتمل عىل خمسة أبوب كبرية الزال بعضها قامئا إىل اليوم ،ويتعلق األمر بباب الس�مارين وباب السبع وباب أألمر وباب أكدال. يبلغ س��مك سور فاس الجديد مرتين وعلوه سبعة أمتار وتدعمه أب��راج كثرية تم دمج جلها يف النس��يج العمراين .أما يف الواجهات
5
6
زهور
محور خاص ..
العدد الثالث -السنة األولى -يوليوز 2012
باب الفتوح
قناة مائية تربط بني املشور القديم وقصبة الرشاردة .
باب بني مسافر
يسمى حاليا باب سيدي بوجيدة ،وكان يدعى يف األول «باب أيب س��فيان» ،ولعل تسمية «بني مس��افر» تحيل عىل إسم قبيلة أو عش�يرة عربية كانت تستقر باملوضع الذي يتواجد به الباب أو بالقرب منه ،فأضيف الباب إليها.
باب الجيزيين
يق��ع هذا الباب عن ميني الخارج من باب الفتوح ،ويش��تهر اليوم تحت تس��مية «باب الحمراء» .ينسب الباب إىل قبيلة كانت تستقر بالقرب من الباب عند تأسيس املدينة ،وأغلق س��نة 357هجرية يوم خ��روج جثة الدارس بن إس�ماعيل بسبب سقوطها عن رؤوس حامليها.
باب حصن سعدون
هو أصل باب الجيس��ة الحايل (باب عجيسة) ،واملكان الذي بني فيه هذا الباب هو مكان قوس ساباط حومة الحفارين فوق رحبة الزرع القدمية.
يعت�بر باب الفتوح من األبواب التاريخية الرئيس��ية ملدينة فاس. وهو يقع بالس��ور الرشقي لعدوة األندلس .حول ظروف تشييده تش�ير الرواية التاريخية إىل أنه بعد وفاة األمري املغراوي دوناس ب��ن حاممة س��نة 452ه��ـ1060/م ،ع�ين ابنه األك�بر أمريا عىل املدينة واتخذ عدوة األندلس مقرا له وأس��ند تسيري شؤون عدوة القرويني إىل أخيه األصغر عجيسة .لكن طموح هذا األخري دفعه إلعالن الثورة عىل الفتوح مستفيدا يف ذلك من استقالل العدوتني بعضهام ع��ن بعض .وأمام احتدام الرصاع بني األخوين قام األمري الفتوح بتش��ييد قلعة وباب كبري حمل مند ذلك الوقت إس��مه. وردا ع�لى ذلك قام عجيس��ة ببناء قلعة وب��اب بعدوة القرويني عرف مند ذاك باسم باب عجيسة (باب الجيسة حاليا). لعب باب الفتوح مند تش��ييده أدوارا مختلفة بحيث كان نقطة انطالق الجيوش املتجهة نحو ال�شرق ومكان تجمعها ودخولها. كام كان مير عربه املس��افرون والتجار والس��لع...وقد اس��تمر يف أداء دوره رغم القالقل التي ش��هدتها املدينة .تعرض باب الفتوح لتحول كبري خالل الفرتة العلوية إذ أمر الس��لطان موالي سليامن سنة 1798م بفتح باب جديد بإزائه.
باب الخوخة
كان هذا الباب يدعى عىل عهد املوىل إدريس الثاين باب الكنيسة؛ ومنه كان يخرج املس��افر إىل مدينة تلمسان .هدم الباب األصيل م��ن طرف الخليفة املوحدي عبد املؤمن ،ومل تجر إعادة بنائه إال عىل عهد الخليفة املوحدي النارص حينام جدد أس��وار فاس سنة 601هجرية .
باب المحروق
ب��اب مش��هور يخرج من��ه إىل قصبة الرشاردة وظه��ر الخميس. بني الباب من طرف الخليفة املوحدي محمد النارص س��نة 601 هجرية ،وأطلق عليه إس��م باب الرشيعة قبل أن يش��تهر تحت تسمية الباب املحروق لتزامن بنائه مع انتهاء ثورة العبيدي الذي س��يق إىل فاس وقتل ثم علق رأس��ه عىل الباب ،وأحرق ،فسمي الباب من ذلك التاريخ باب املحروق .
باب الشماعين
أح��د أبواب جامع القرويني ،وهو الب��اب الذي يدخل منه ملوك املغرب أثناء حلولهم بالجامع لتأدية صالة الجمعة .يحمل الباب باب السجمة إسم سوق الشامعني الواقع أمامه ،والذي كان يف األصل يباع فيه بني هذا الباب الذي مل يتبق منه إال الربجني املثمنني اللذين كانا الش��مع ،قبل أن يتحول إىل سوق لبيع الفواكه الجافة مثل التمر يدعامنه ،من طرف املوىل الحس��ن يف القرن التاسع عرش .ويبدو واللوز والزبيب والتني. اعتامدا عىل مقاييس��ه الضخمة أنه كان مشكال من قوس يحمل
فاس الهوية والتاريخ
زهور
أبواب فاس الجديد باب الماكينة
العدد الثالث -السنة األولى -يوليوز 2012
/3أبراج مدينة فاس نتوقف يف هذه الورقة عند برجني أساسيني:
ب��اب املكينة حاليا الذي يربط م��ا بني املدينة القدمية واملمرات البرج الشمالي
املؤدي��ة إىل املدينة الجدي��دة ،وقد بني هذا الب��اب الضخم يف يعرف هذا الربج بإس��م برج باب الجيس��ة لوقوعه عىل مخارج عهد الس��لطان الحسن األول العلوي س��نة 1886م ،حيث كانت املدين��ة من جهة الباب املذكورة .يأخذ هذا الربج الضخم موقعه س��احة هذا الباب تقام بها ف��وق مرتفع صخري يرشف عىل فاس الب��ايل مبقربة من املصىل االس��تعراضات العس��كرية القدي��م الذي يع��ود إىل العرص املريني .تم تش��ييد هذه البناية وتس��تقبل الوفود األجنبية الدفاعي��ة يف س��نة 990ه��ـ1582 /م عىل عهد الس��لطان أحمد خصوص��ا وأن س��احتها املنصور الذهبي ،وصممت وفقا لنموذج هنديس ش��اع استعامله مج��اورة ملصنع األس��لحة، خالل القرن السادس عرش عرب مختلف بلدان حوض البحر األبيض ال��ذي الزالت مع��امل آثاره املتوسط ،إذ كان يعترب شكال متطورا يف تصميم البنايات الدفاعية حارضة إىل اآلن ،ويعد حاليا التي تس��تعمل األس��لحة النارية الثقيلة .باإلضافة لهذه املعلمة الفضاء الروح��ي للمدينة، البارزة يف الجهاز الدفاعي ملدينة فاس ،قام الس��لطان الس��عدي حي��ث يحتض��ن كل س��نة أحم��د املنصور ببن��اء برجني آخرين عىل نفس الش��اكلة مبدينة املهرجان العاملي للموسيقى العرائش الساحلية .وتعترب هذه األبراج الثالثة أمثلة فريدة لهذا الروحي��ة .ه��ذا الباب كان النوع من الع�مارة يف املغرب .خالل الفرتات الالحقة تحول دور مدخ�لا لفاس الجدي��د الربج الشاميل من حامية فاس من هجومات خارجية محتملة إىل م��ن جهة املدينة القدمية، دفع غارات القبائل املحيطة باملدينة. حسبام جاء يف تاريخ الدولة السعدية ملؤلف مجهول ،وهو كتاب اعتن��ى بنرشه «جورج كوالن» باملطبعة الجديدة بالرباط س��نة البرج الجنوبي بني هذا الحصن ذو الشكل املتميز يف نفس الفرتة التي شيد فيها أربع وثالثني وتسعامئة وألف للميالد (1934م). الربج الشاميل أي يف أواخر القرن السادس عرش .يقع هذا الحصن باب الجياف ك�ما يدل عىل ذلك اس��مه جنوب فاس البايل ع�لى مخارج باب باب الجي��ف ،يوجد رشق باب الس�مارين وتنطقه العامة حاليا الفتوح ،ولقد تم بناءه حسب مؤرخ الدولة السعدية عبد العزيز «ب��اب الجياف» ،ويس��ميه البع��ض باب الجياد ،حس��ب بعض الفش��تايل فوق مرتفع صخري يرشف عىل املدينة ويسمى حجر املصادر وحوال��ة ألحباس فاس الجديد ،وهو من أبواب الس��ور القطران .كام هو الشأن بالنسبة للربج الشاميل املقابل له ،تحول الثاين ،أما الباب املقابل له ش�ماال ،فهو من بناء السلطان العلوي دوره من حصن يقف يف وجه أي هجوم خارجي محتمل إىل آلة الحسن األول ،ويرجع سبب تسميته باب السبع ،حسب الدكتور عس��كرية لرد هجامت القبائل املجاورة للمدينة كقبيلة األوداية أحمد مختار العب��ادي ،يف مقال له عن هذا املوضوع ،إىل صورة األسد التي كانت مرسومة عليه ،ثم زالت مبرور الزمن ،ويشري إىل األهمية التاريخية لهذا الباب وانتشار صورته حديثا يف البطاقات السياحية وعىل طوابع الربيد ،نظرا ملكانته اإلسرتاتيجية ،كمدخل رئييس للقرص املريني أو لدار املخزن يف فاس الجديد.
باب الصرف
باب الرصف وهو أيضا من أبواب فاس الجديد ،وقد رجح األستاذ الباح��ث محمد املنوين أن يكون ه��و باب الوادي ،أطلقت عليه هذه التسمية نظرا لقربه من دار السكة املرينية ،وإذا صح هذا الرتجي��ح ،فإن الب��اب كان وال يزال قامئا أثن��اء القرن الثاين عرش للهجرة.
7
8
زهور
محور خاص ..
العدد الثالث -السنة األولى -يوليوز 2012
التي أغارت عىل فاس الجديد وقام الس��لطان العلوي موالي عبد الرحامن مبهاجمتهم بالقذائف النارية من أعىل الربج الجنويب . البناية عبارة عن مس��تطيل مبني بتقنية الطابية ،يتوفر عىل برج بزاوية ح��ادة يف جهته الجنوبية وبرجني جانبيني مس��تطيلني يف الواجهت�ين الغربية والرشقي��ة باإلضافة إىل ب��رج رابع يف الجهة الش�مالية .الطابق السفيل للربج يتوفر عىل ممر مكشوف يؤدي إىل مجموعة من الغرف التي يرجح أنها كانت تستعمل كمخزن للذخرية ،أما الطابق العلوي فيتوفر عىل سبعة غرف ضيقة يبدو /5دور وقصور مدينة فاس أنها كانت تأوي الحراس .سطح البناية يتكون من طابقني يتوفران ونتوقف يف هذه الورق��ة عند منوذجني فقط من الدور /القصور عىل العديد من فتحات املدافع واألسلحة النارية. العتيقة ملدينة فاس ،حيث اخرتنا دار عديل الذي يعود إىل القرن الثامن عرش ،ودار دبيبغ الذي يتزامن مع هذه الدار تاريخيا.
تحت تس��مية «تك��رارات» عىل عهد الدول��ة املرابطية (القرنان 5و 6الهجري��ان 11/و 12امليالديان) ،ث��م أعاد بناءها املوحدون من بعدهم فأضحت مقرا لس��كنى والتهم وإدارتهم .وعىل عهد الدولة املريني��ة بقيت القصبة ذات أهمية كبرية ،واس��تقر فيها امللوك املرينيون األوائل ،ومل يربحوها إال بعد تأسيس مدينة فاس الجديد حيث ش��يدت قصورهم ودور أعيانه��م ،وبقوا يرتددون عليها بعد ذلك بني الفينة واألخرى لإلقامة فيها.
/4قصبات الحاضرة الفاسية
دار عديل
تق��ع دار أو قرص عدي��ل يف حومة املعادي بح��ي زقاق البغل من عدوة القرويني يف فاس البايل .أس��س القرص من طرف أرسة عديل يف أواس��ط الق��رن 11الهجري 17/املي�لادي ،وهي أرسة كان��ت مكلفة بأمانة جباية مكوس فاس حتى حكم الس��لطان سيدي محمد بن عبد الله (-1205 - 1171هـ1790 - 1757/م). وبع��د نكبة الحاج الخياط عديل وعائلت��ه ،صودرت الدار وكل ممتلكات��ه ،وأضح��ت الدار تحتضن أمانة جباي��ة املكوس التي كانت بفندق النجارين قبل ذلك. رممت دار عديل سنة 1998من طرف وزارة الثقافة ،وحولتها إىل معهد للموس��يقى تم افتتاحه رسميا يف 18فرباير .1999تتكون ونتوقف يف هذه الورقة ،عند ثالث قصبات منوذجية من قصبات ال��دار من طاب��ق أريض وآخر علوي ،ينتظامن حول فناء فس��يح فاس العتيقة: مح��اط برواق م��ن جوانبه األربع ،تحتفظ واجهاته بتش��كيالت قصبة الشراردة متميزة من الزليج والجبص املحفور والخشب املنقوش واملدهون، قلعة مربعة الشكل ،شاس��عة األطراف ومسيجة بأسوار مدعمة الذي تعود إىل القرن الثامن عرش امليالدي. بأبراج عديدة مخصصة للحراسة والدفاع عن القصبة .بنيت هذه دار الدبيبغ املعلمة من طرف الس��لطان املوىل الرش��يد؛ وخصصت بالدرجة ه��و قرص من تأس��يس الس��لطان املوىل عبد الله بن إس�ماعيل األوىل إىل حامية ضواحي مدينة فاس . جن��وب مدينة ف��اس البايل (ف��اس العتيق��ة) ابتداءا من س��نة
قصبة النوار
قصب��ة متواضع��ة املقاييس تع��رف أيضا تحت تس��مية «قصبة فياللة» ،وهي قصبة بنيت من ط��رف الدولة املوحدية (القرنان 12و 13امليالدي��ان ) ،وش��كلت منذئ��ذ مقر إقام��ة الدول التي تعاقبت عىل حكم املغرب قبل بناء مدينة فاس الجديد (املدينة البيضاء) من طرف الدولة املرينية.
قصبة الوادي
هي قصبة بوجلود الحالية .كانت القصبة يف األصل معسكرا ذكر
فاس الهوية والتاريخ 1154ه��ـ1742/م .أصبح القرص اليوم خرابا ،وأضحت تس��ميته تطلق من طرف س��اكنة فاس عىل األحياء الحديثة التي أنشئت بجواره والتي أصبح يتوسطها. شيدت دار الدبيبغ يف موقع اسرتاتيجي عىل بضع كيلومرتات من أس��وار املدينة ،متكن من مراقبة تحركات الوافدين عىل املدينة واملغادرين لها .ويرجع س��بب بناء هذا القرص إىل رغبة السلطان املوىل عبد الله (1171 - 1142هـ1757 - 1729/م) يف بناء حصن مني��ع يف مواجهة أهل فاس الذين بايعوه ثم تراجعوا عنه وثاروا عليه ،وخوفا من جيش العبيد الذي كان يف رصاع دائم معه. ينتظم القرص حاليا عىل شكل قلعة مربعة يصل طول ضلعها إىل 700مرت ،ويحيط بها سور عال زود جزؤه العلوي مبسننات ومبمر للجند .ولتقوية مقدراتها الدفاعية ،جرى تشييد أربع أبراج بالزوايا األربع للقرص ،وتم تزويدها بفتحات مجهزة باملدافع .وبالداخل، تنتصب العديد من الدور والساحات املتصلة ،من أبرزها املشور وقبة االستقباالت وإسطبل الخيول يف الشامل وساحة الجيش يف الجنوب واملنزه الذي يطل عىل دار الحريم وملحقاته ،وميكن من مراقبة سهل سايس وضاحية املدينة بأكملها. ويف سنة ،1911استقرت باملبنى جيوش االستعامر الفرنيس ،فبدأ يفق��د بعضا من مكوناته ،وأصبح منذئذ عرضة لإلهامل والتاليش بس��بب الضغط الس��كاين ،وخاصة بعد أن أضحى مقرا لسكنى بعض الجنود املغاربة يف الجيش الفرنيس.
زهور
العدد الثالث -السنة األولى -يوليوز 2012
مدين��ة فاس ،عرب قرون من الزمن طابعها الرتبوي والعلمي ،وقد أخرتنا منها املدارس التالية:
مدرسة الصفارين
ورد ذك��ر هذه املدرس��ة تحت تس��مية «مدرس��ة الحلفاويني» لتواجده��ا بس��وق تب��اع فيها الحلف��اء؛ وتعرف حاليا مبدرس��ة الصفارين نس��بة إىل سوق صناعة النحاس بعدوة القرويني الذي تنفتح عليه بواسطة بوابة يعلوها قوس منكرس ومتجاوز. انطلقت أش��غال بناء هذه املدرسة عام 670هـ1270/م وانتهت ع��ام 675هـ1274/م ع�لى يد الس��لطان املرين��ي يعقوب ابن /6مدارس مدينة فاس تزخر مدينة ف��اس ،بالعديد من املدارس ،التي أعطت عب��د الح��ق ،لذلك حملت يف بعض الوثائق تس��مية «املدرس��ة اليعقوبية» .ويف س��نة 684هـ1284/م ،حبس عليها أبو يوس��ف يعقوب كل الكتب التي حصل عليه��ا مقابل الهدنة التي أبرمها مع ملك قشتالة. يتميز تصميم املدرس��ة بش��كله غري املنتظم؛ ويضم مس��تويني رتبا حول صحن مكش��وف .يحيط به��ذا األخري رواق رمم ترميام كلي��ا تنفتح عليه مجموعة من الغ��رف املخصصة للطلبة وقاعة للصالة .ويف الطابق األول ،تتواجد أربع دويريات مخصصة إليواء الطلبة ومنارة متناسقة األجزاء زينت واجهاتها األربع بتشبيكات معامرية وبقطع م��ن الزليج املتعدد األلوان ،عىل ش��اكلة باقي صوامع الفرتة املرينية مثل تلك املتواجدة مبس��جد أيب الحس��ن واملدرس��ة البوعنانية بفاس ومدرس��ة شالة ومس��جد بن صالح مبراكش.
مدرسة دار المخزن
بنيت هذه املدرس��ة بفاس الجديد حيث دور وقصور الس��لطان وحاش��يته ومخزنه ،مام جعلها تش��تهر تحت تس��مية «مدرسة دار املخ��زن» .أسس��ت هذه املدرس��ة من طرف الس��لطان أيب
9
10
زهور
محور خاص ..
العدد الثالث -السنة األولى -يوليوز 2012
املحفور وبالخشب املنقوش ،وقاعة للصالة وغرف للطلبة ،بنيت يف الطاب��ق األول ،وفق تصميم س��وف يصب��ح منوذجا لتصاميم املدارس الالحقة بفاس ومبدينة سال.
مدرسة الصهريج
سعيد عثامن س��نة 720هـ1320/م؛ وجاءت ،عىل عكس مدرسة الصفاري��ن التي جس��دت التجربة املريني��ة األوىل .عند مدخل املدرس��ة ،ينطلق درج��ان يؤديان إىل مس��تويني آخرين خصصا لغرف الطلبة .كام جهزت املدرس��ة بدار للوض��وء تحتل الزاوية الجنوبي��ة الرشقية للبناية ،وتنتظم حول صحن مغطي ،تحيط به مجموعة من املراحيض.
مدرسة العطارين
حملت مدرس��ة العطارين إسم الس��وق الذي ينفتح بابها عليه، وهو س��وق بائعي العطور .ترتفع املدرس��ة بالق��رب من جامع القرويني الذي ال يفصلها عنه إال زقاق ضيق؛ وبنيت وسط املدينة حيث ترتكز أغلب األنشطة االقتصادية ،وتكرث البنايات العمومية والخاص��ة مام دفع مبصممها إىل ترتيب مكوناتها فوق مس��احة ضيقة ويف مستويات ثالث ،أضافها إىل املستوى األريض. أسست مدرسة العطارين من طرف السلطان املريني ،أبو سعيد عثامن ،س��نة 723ه��ـ1323/م؛ وأوكل مهم��ة مراقبة أعاملها إىل الش��يخ أيب محمد عبد الله ابن القاس��م امل��زوار .تتكون البناية م��ن مدخل مرفقي ي��ؤدي إىل صحن مكش��وف زينت واجهاته تزيين��ا مبالغا فيه بالزليج والجبص املحفور والخش��ب املنقوش، ومن قاعة للصالة مس��تطيلة الشكل وثالث مستويات مخصصة كلها لس��كنى الطلبة .وبالزاوية الشاملية الغربية ،جرى بناء دار للوضوء عىل شاكلة تلك التي تتواجد مبدرسة الصهريج. وبالرغم م��ن صغر مس��احتها ،تبقى مدرس��ة العطارين إحدى أب��رز املع��امل املريني��ة باملغرب إذ تؤس��س ملرحل��ة نضج الفن الزخريف املغريب ،وتجس��د التوجهات الجديدة للجاملية الزخرفية املريني��ة خالل بداي��ة القرن 8الهجري 14/املي�لادي .من ناحية أخ��رى ،تحتفظ هذه املدرس��ة بني جدرانها ع�لى تيجان أعمدة متميزة تحمل العديد من النقائش الكتابية الشعرية والتاريخية والقرآني��ة ،وثري��ا من الربونز الزالت معلقة وس��ط مس��جدها. إنه تصميم متناس��ق األجزاء والزخارف :فناء مس��تطيل يتوسطه صهريج ،وأروقة جانبية مزخرفة بالزليج املتعدد األلوان وبالجبص
تتواج��د مدرس��ة الصهري��ج بع��دوة األندلس مبحاذاة مس��جد األندلسيني .اشتهرت املدرس��ة بهذه التسمية نسبة إىل الصهريج املزين لفنائها ،كام عرفت باملدرسة الكربى نظرا النفتاحها بواسطة باب صغري عىل مدرسة السبعيني املجاورة لها. أسست هذه املدرسة من طرف السلطان أيب الحسن املريني عام -723 - 721ه��ـ1323 - 1321 /م .تتكون من صحن مكش��وف يفيض إلي��ه باب مس��تقيم .يحيط بهذا األخ�ير رواق ضيق من جهاته الثالث تنفتح عليه مجموعة من الغرف املعدة للطلبة .أما الجهة الرابعة ،فخصصت لقاعة الصالة التي تتخذ شكال مستطيال، وتحتف��ظ عىل أحد جدرانها بالنقيش��ة الوقفية التي ُنقش عليها تاريخ التأس��يس واسم املؤس��س وكل األوقاف التي حبست عىل املدرسة من أجل الرصف عىل تسيريها وترميمها.
/7األسواق التقليدية لمدينة فاس
تحفل مدينة فاس ،بعرشات األس��واق التي تحمل هوية الصناعة التقليدي��ة املغربي��ة ،أو التي تحمل الهوي��ة التجارية ،وجميعها تعطي للحارضة الفاسية خصوصية ثقافية واجتامعية ،قل نظريها يف املدن العربية األخرى. نتوقف يف هذه الورقة ،عند خمسة من هذه األسواق:
سوق الشماعين
يتواجد سوق الش�ماعني بني جامع القرويني والرضيح اإلدرييس، وهو أحد أشهر األس��واق باملدينة .خصصت دكاكينه إىل االتجار يف الش��مع قبل أن يتم نقل بيع الش��مع إىل ب��اب رضيح املوىل إدريس ،وأصبح س��وق الشامعني خاصا ببيع الفواكه الجافة مثل
فاس الهوية والتاريخ
زهور
العدد الثالث -السنة األولى -يوليوز 2012
الجوز والتمر والزبيب والتني .ويف السنوات األخرية ،بدأت بعض حوانيته تتحول إىل محالت لبيع الثياب بالجملة.
سوق العشابين
يتواجد سوق العشابني يف حدود حيي الصاغة وفندق اليهودي، وهو س��وق مخصص لبائعي األعش��اب (العش��ابة) الذين كانوا يلعب��ون دور صيادل��ة الوق��ت الراهن ،ويبيع��ون كل النباتات الطبية واألعشاب .
سوق الحرارين
يقع هذا السوق بني الصاغة وعني علو ،وهو مجمع من الدكاكني املتخصص��ة يف بيع الخي��ط الحريري املس��تعمل يف الصناعات النسيجية النسائية والرجالية عىل السواء.
سوق الحناء
تتجم��ع دكاك�ين س��وق الحناء «الحن��ة» حول س��احة صغرية، ويباع فيها باإلضافة إىل الحناء ،الكحل الذي تكتحل به النس��اء، والغاس��ول ،وامل��داد ،وأق�لام القصب املصنوع��ة لفائدة تالميذ الكتاتيب القرآنية.
سوق الصفارين
يتميز س��وق الصفارين بكرثة ضجيج الرضب باملطارق إذ تعرف دكاكينه والساحة التي تتقدم الورشات املختلفة نشاطا غري مألوف بس��بب رضب النح��اس بعد مروره يف النار م��ن أجل معالجته، وإعداد أواين نحاس��ية وقدور مختلفة األحجام تستخدم للطهي اليومي أو الطهي يف املناسبات كاألعياد واالحتفاالت الخاصة.
/8الحدائق األندلسية بمدينة فاس
تحف��ل مدينة ف��اس بالعديد م��ن الحدائق األندلس��ية الغناء، أشهرها وأعظمها جنان السبيل.
جنان السبيل
أسس��ت حدائ��ق جن��ان الس��بيل يف الق��رن 18م��ن ط��رف الس��لطان موالي عبد الله داخل موقع تاريخي ملدينة فاس ،وقد جعلت منه��ا نباتاتها الفريدة وتنظيمه��ا املميز جوهرة يف عقد التقاليد األندلسية .فهذا الفضاء املشبع بالتاريخ ،هو ذاكرة متثل أقدم وأعرق حديقة عمومية متتاز بها العاصمة الروحية للمملكة املغربية. هذه الحديقة تحمل كل مع��اين اإلرث التاريخي والجاميل الذي طب��ع هذه الحارضة عىل مدى قرون عديدة .متتد عىل مس��احة 8هكتارات وتضم حوايل 1000نوع من املغروس��ات وتش��به يف شكلها ومرافقها حدائق األندلس املفقودة ،وهي ال زالت صامدة
وجميلة ومفعمة بالكثري من الهدوء والس��كينة ،رغم ما يهددها بسبب شح املياه. وتتوفر الحديقة عىل سبعة أبواب ضخمة ومزركشة من الحديد، تتجس��د بداخلها روعة طبيعية خالبة تحيط بنافورات وجداول وأحواض ،فضال عن مس��تطيالت ومربعات من العشب واألزهار وأنواع كثرية من األش��جار الكثيفة ،يقدر املهتمون عددها بنحو 1000ن��وع ،منه��ا ما هو ن��ادر وال يوجد مثيل ل��ه إال يف الصني والهند ،كالخيزران .كتب املؤرخون الكثري من الروائع والذكريات عن جنان الس��بيل ،ونظم حوله الش��عراء والزجالون الكثري من قصائ��د املدح ،وتغن��ى به عدد م��ن املطربني ،فه��ذه الحديقة التاريخي��ة ال زالت حارضة يف وجدان الكثري من س��كان املدينة وزوارها ،وال زالت تحتفظ بتوهجه��ا وعظمتها ،بفضل ما تتوفر عليه من مناظر جاملية وطبيعية ومعامل تاريخية.
11
12
زهور
محور خاص ..
العدد الثالث -السنة األولى -يوليوز 2012
محطات أساسية يف تاريخ مدينة فاس العاصمة العلمية للمملكة د .أمحد العلوي
(*)
تقول مصادر التاريخ املختلفة ،أن املوىل إدريس الثاين اختار لبناء عاصمته «فاس» موقعا عىل س��هل سايس يف سنة 191هـ (805- 806م) ،وتق��ول مصادر التاريخ أيض��ا أن اليشء الذي فرض عىل املل��ك اإلدرييس هذا االختيار يف نهاية املط��اف ،هو موقع فاس كملتقى للطرق الكبرية للمواصالت بني املحيط األطليس واملرشق من جهة ،وبني البحر األبيض املتوسط وإفريقيا السوداء من جهة أخرى ،ع�لى ضفاف نهر وادي فاس؛ منبع الحياة والحيوية الذي كان وال يزال زينة هذه املدينة. وقد أقام عند ذاك املوىل إدريس مخيمه ،يف مكان يسمى كرواوى، والذي ال يزال يحمل هذا االس��م ،عىل الضفة اليمنى من الوادي. ومبجرد أن استقر ،أمر ببدء أشغال البناء يف فاتح شهر ربيع األول من سنة 192للهجرة املوافق لـ 4يناير سنة 808ميالدية ،حيث أعطى اإلشارة ملعاونيه من أجل إعداد التصاميم الالئقة مبدينته. وقبل رضب��ة الفأس األوىل ،رفع املوىل إدريس كفيه إىل الس�ماء
داعيا الله بهذه العب��ارة« :اللهم اجعلها دار علم وفقه ،يتىل بها كتاب��ك وتقام بها حدودك ،واجعل أهلها مستمس��كني بالس��نة والجامعة ما أبقيتها»( .القرطاس) ،ثم أضاف« :باسم الله الرحمن الرحي��م ،الحمد الله ،إن األرض لله يورثها من يش��اء من عباده، والعاقبة للمتقني». ويف أول األمر أمر برفع سور مستديرة ،كانت ستحتضن األندلسيني وتعطي االس��م له��ذا الحي .واألندلس��يون كام ي��دل عىل ذلك إسمهم ،جاؤوا من األندلس للجوء إىل املغرب تحت حامية امللك الكبري ،يف هذا الوادي؛ وادي فاس ،وعىل ضفاف النهر اللطيف مل يفارقهم الحنني إىل األندلس أبدا. ثم انتقل اإلمام إدريس بعد ذلك إىل الضفة اليرسى ،وبدأ يف بناء الح��ي الثاين الذي أطلق عليه عدوة القرويني ،ألن س��كانه كانوا منحدرين من مدينة القريوان بتونس ،والذين جاؤوا منها بعد أن جذبهم إشعاع املوىل إدريس ومملكته.
فاس الهوية والتاريخ ويف امل��كان الذي أقام ب��ه خيمته خالل مدة بن��اء هذه املدينة الثانية ،أنش��أ قرصا أصبح مقرا إلقامته ،وأطلق عليه إس��م «دار القيطون» ،حيث ال يزال يحمل هذا اإلس��م إىل اآلن .وقد مكث امل��وىل إدريس بهذه املدينة ،حتى وفاته رحمه الله يف فاتح ربيع األول سنة 231هـ املوافق لـ 20ماي سنة 828م ،فدفن بها. **** هكذا عملت كل الس�لاالت املتنوعة الت��ي تعاقبت عىل العرش بعد إدريس الثاين ،دون أي اس��تثناء عىل توسيع وتجميل املدينة املقدس��ة ف��اس ،وقد حرص كل س��لطان عىل أن يطب��ع املدينة بخامته عن طريق البناء ،والتجميل ،واإلصالح ،والتحصني ،وتشييد األبواب واملدارس والسواقي والجس��ور والقيساريات والفنادق. فكانت فاس عاصمة األدارس��ة و من جاء من بعدهم ،حيث مل يتوقف الخلف فيها عن متابعة عمل أسالفهم. فف��ي عهد يحيي بن إدريس ،وبفض��ل هبة من فاطمة الفهرية، تم بناء جامعة القرويني سنة 859م ،وهي مسجد عظيم ،وإحدى أوىل الجامع��ات يف العامل ،ومن املحتمل أوالها ،يف حني أن أخت فاطمة ،وهي مريم ،تربعت لبناء مسجد األندلس الكبري. ويف عهد زيري بن عطية ،تم س��نة 994م بناء التحصينات األوىل ملدينة فاس ،وذلك بإقامة البابني الكبريين األساسيني :باب الفتوح يف الرشق ،وباب الكيس��ة يف الشامل .وقد أمر ذلك العاهل أيضا ببناء صومعة القرويني الت��ي توجت ،ال كام تقيض بذلك العادة: بدرج ،بل بقبة. **** أما يف عهد املرابطني ،وما أن أتم يوسف بن تاشفني بسط سلطته ع�لى مجموع البالد حتى جمع املدينتني التوأمتني اللتني يفرقهام وادي ف��اس؛ وه�ما األندل��س والقرويني يف مدينة واحدة س��نة 1062م ،ووسع القرويني ،وبنى باب الشامعني وقصبة بوجلود. **** وقد اعتن��ى املوح��دون ،وإن نقلوا عاصمته��م إىل مراكش ،كل العناية مبدينة فاس .والصحيح أنه مل يكن يف اإلمكان ادعاء امللك عىل املغرب دون اعرتاف من فاس ،وكان من الواجب تأكيد حفل البيعة من الناخبني باملدينة. ويف مجال البناء و العمران ،عمل املوحدون عىل توس��يع املدينة وحزام األسوار الجديدة ،وخاصة نحو الشامل ،وهي األسوار التي نكتشفها اليوم من تحت آثار املرينيني الذين خلفوهم. **** أما خالل حكم املرينيني ،فقد اس��تعادت فاس مكانتها كعاصمة للمملكة ،حيث دش��ن أبو يوس��ف يعقوب املنصور ،املنترص يف
زهور
العدد الثالث -السنة األولى -يوليوز 2012
معركة األالركوس ،بإسبانيا (1195م) أوراش بناء املدينة البيضاء. وقد تم بناء هذه املدينة سنة 1276م ،لتصبح مقام إقامة جميع ملوك املرينني والوطاسيني من بعدهم. وبقيت مدينة فاس عاصمة للمغرب حتى س��نة 1508م ،ويرجع تاريخ الع�صر املليك الزاهر لهذه الفرتة ،إذ كانت فاس يف الواقع يف ذورته��ا ويف قمة بهائها ،حيث تم بناء مدارس مش��هورة حول القرويني التي تم توسيعها من جديد ،وتجهيزها مبكتبة أصبحت معروف��ة يف جميع أنح��اء العامل املتحرض يف ذل��ك الوقت ،وكان الناس يأتون من كل مكان ملراجعة مؤلفاتها التي ال تحىص. ك�ما كان الطلبة يفدون من كل جهة؛ م��ن املغرب الكبري ،ومن الرشق ،ومن إفريقيا ،وحتى من أوربا ،وكانوا يقطنون يف ثانويات، كانت أيضا مبثابة داخليات ومدارس .وهكذا ،تم إنش��اء مدرسة الس��فارين ،ومدرس��ة أيب عنان ،ومدرس��ة العطارين ،ومدرس��ة املصباحية ،التي كانت تحيط بالقرويني. **** إال أنه ،يف عهد الس��عديني ،أصبحت مراكش هي عاصمة اململكة مرة أخرى ،وم��ع ذلك اهتم ملوكها مبدين��ة املوىل إدريس .وقد زاره��ا أحمد املنصور ،املنترص يف املعرك��ة الكربى لوادي املخازن مب��ارشة بعض انتص��اره ،كام عمل عىل تجميل املدينة وتوس��يع القرويني وإغناء مكتبتها ،وبناء اثنني من أهم املنش��آت الدفاعية للمدينة ،وهام الربج الشاميل والربج الجنويب. **** و ج��اء العلويون فأعادوا االعتبار للعاصم��ة التاريخية للمملكة من جديد ،ويف سنة 1670م جعل املوىل رشيد (1672 - 1660م) من فاس عاصمة له ،وبنى القرص املليك العلوي إىل جانب القرص القديم ال��ذي بناه املريني��ون ،وبنى مدرس��ة الرشاطني وقصبة رشاردة وس��د وادي الزيتون ،ثم قام ببناء الجرس املش��هور عىل وادي س��بو لربط فاس بشامل البالد ،حيث ال تزال هذه املنشأة إىل اليوم ،تحظ��ى بإعجاب االختصاصيني ،فقد صمد هذا الجرس يف وج��ه كل الفياضات التي عرفها النهر ،وتحمل دون أي ضعف املرور املتكرر للجيش الفرنيس خالل حرب الريف. وقد نقل املوىل إسامعيل عاصمته إىل مكناس ،لكن الفضل يرجع إليه يف بناء قبة رضيح املوىل إدريس والزاوية (-1727 - 1672م). و بعده مبارشة ،جعل خلفاؤه من جديد فاس عاصمة لهم. وقد بنى س��يدي محمد بن عبد الل��ه (-1757 - 1790م) الحي الذي ال يزال يحمل إس��م والده ،كام بن��ى أيضا الرضيح العلوي بفاس ،الذي دفن في��ه املوىل عبد الله (1728 - 1757م) واملوىل عب��د العزيز (1908 - 1894م) واملوىل حفيظ (-1912 - 1908م)
13
14
زهور
العدد الثالث -السنة األولى -يوليوز 2012
واملوىل يوس��ف (1927 - 1912م) وعدد من األمراء ،باإلضافة إىل أمره ببناء مدرسة باب الكيسة. وبنى املوىل س��ليامن (1822 - 1792م) مدرسة الوادي ،ومسجد الرصيف ،ومسجد الديوان ،وزاوية سيدي عيل بوغالب ،ثم بارش إعادة بناء مس��جد الرشادين ،وتجدي��د وتجميل جامع القرويني إضافة إىل بناء قصبة فياللة. كام ّ دشن املوىل الحسن األول (1894 - 1873م) املنشآت الحديثة والصناعية ويرجع إليه الفضل يف بناء املكينة (بباب املكينة) وهو املصنع املش��هور لألس��لحة بفاس ،وعمل كذلك عىل توسيع دار املخزن. أما املوىل عبد العزيز(1908 - 1894م) فقد قام ببناء دار الفاسية داخ��ل قرص فاس ،وبنى أول معمل للكهرباء ،وعمل جاللة امللك املغفور له محمد الخامس (1961 - 1927م) عىل توسيع جامعة القرويني ،وقام ببناء املدرس��ة املحمدي��ة ،وأخريا فإن املغفور له جاللة امللك الحس��ن الثاين ضاعف من املباين ،والرتميم واإلعداد، وخاصة القرص املليك .وقد ظلت مدينة فاس محط عناية جاللته، ويف عهده نالت إش��عاعا جديدا عىل األصعدة الثقافية والدينية واالجتامعية والسياحية والسياسية ،وخري دليل عىل ذلك، ك��ون جاللت��ه اختارها دوم��ا الحتضان مؤمت��رات القمم العربية واإلسالمية. **** وبالفع��ل فق��د كانت مدينة ف��اس ،وعىل م��ر العصور، مركزا للثقافة واإلش��عاع اللذين ال نظ�ير لهام ،فكثري من الفالس��فة الكب��ار ،واملفكرين الكب��ار ،واألطب��اء الكبار، والعلامء الكبار ،درس��وا أو قام��وا بالتدريس بها .ويكفي التذكري بأس�ماء الصويف امليتافيزيق��ي ابن عريب ،والرحالة امل��ؤرخ ابن بطوط��ة ،والريايض ابن البنا ...والفيلس��وف الطبيب اليهودي ابن ميمون ...واملؤرخ ابن خلدون ،وابن رشد ،وابن طفيل ،والبابا سيلفيشرت ،واملفكر كرسيتان روز مؤسس «الزهرة الصليب». فف��ي فاس تم اللق��اء التاريخي بني عب��د املومن وموىس ماميوني��د الذي جاء مع والده حاخ��ام قرطبة ،وإثر هذه املقابل��ة كلف املاميوني��د بكريس الطب وعل��م الترشيح بالقرويني. لق��د كانت ف��اس خالل ق��رون ،مرك��زا إلش��عاع الثقافة والحضارة ،ليس فحسب يف املغرب واألندلس ،خاصة بعد انتصار الزالقة وحتى سقوط غرناطة ،بل وأيضا يف إفريقيا الغربية ،ولنذكر أن أحد العلامء الكبار ،وهو أحمد بابا من تومبوكتو ،قام بالتدريس يف فاس يف عهد املنصور الذهبي،
محور خاص .. وقد ألف «تاريخ السودان» .كام يجب التأكيد أيضا ،عىل أن أكرب جمعية دينية إسالمية إلفريقيا الغربية ،وهي الطريقة التيجانية، تم تأسيس��ها من ط��رف أحمد التيجاين ال��ذي يوجد قربه بفاس إىل جانب رضي��ح املوىل إدريس .وال ي��زال التيجانيون بإفريقيا الغربي��ة يقومون ،إىل الي��وم ،بزيارة قرب مؤس��س الطريقة ،ويف غالب األحيان عند رجوعهم من البقاع املقدسة. ويف ف��اس أيضا ،كان��ت أول انتفاضة ضد الحامية الفرنس��ية يف أبريل .1912ويف فاس تم س��نة 1934إنش��اء أول حركة وطنية وهي لجن��ة العمل املغريب التي أدت إىل مي�لاد جميع األحزاب األخ��رى .وأخريا ،ففي فاس ولد مح��رر الوطن جاللة املغفور له محمد الخامس طيب الله ثراه. ويف ي��وم االثنني 21أبريل 1980عرف��ت فاس العاصمة الروحية والعلمية للمملكة ميالد أكادميية اململكة املغربية؛ وهو ما يعني ربط األوارص مباضيها املجيد كمدينة للثقافة ولإلشعاع الثقايف. (*) باحث أكادميي مبعهد الدراسات األكادميية بباريس
فاس الهوية والتاريخ
زهور
العدد الثالث -السنة األولى -يوليوز 2012
فاس األندلس والوجدان المشترك الدكتور رشيد بناين
تتضمن األخبار التي تتناقلها كتابات األقدمني عن نش��وء مدينة فاس ،إش��ارات عديدة تجتمع أغلبها للداللة بش��كل متواتر عىل أن تأسيس هذه املدينة معجون بأريج األندلس وتربتها ورجالها، منذ ابتداء أمرها عىل يد املوىل إدريس األزهر. فق��د نزح أبوه؛ ذلك الفتى الق��ريش إىل املغرب ناجيا بجلده من أهوال السياس��ة يف امل�شرق أنذاك ،فارا بنس��به وطموحاته من نزاعات األرس القرش��ية حول السلطة يف ذلك الزمان ،السيام بعد أن انقلب ظهر املجن يف املرشق عىل أبناء العمومة من آل البيت النب��وي الذي ينتمي إليه ،وحني حل إدريس ببالد املغرب ،رحب ب��ه وجوه القبائل الرببرية وآزروه ،وزوج��وه منهم ،ومكنوه من نرش الدعوة الجديدة يف الغرب اإلسالمي. وكأي زعيم حقيقي ،مل ينحرص ما قام به إدريس األول يف تأسيس أرسة حاكمة هاشمية تنتمي للبيت النبوي ،وإمنا تجاوز ذلك إىل تأسيس دولة جديدة ،بكل مقوماتها .ثم قام ابنه ووارث رسه من بعده ،إدريس الثاين ،وجسد عنوان ذلك حني أسس حارضة عربية إسالمية أس�ماها فاس ،مثلت تحوال غري مسبوق يف تاريخ البالد، وجعلها مختلفة يف كنهها وتركيبتها عن باقي الحوارض اإلس�لامية األخ��رى آنذاك ،مثل مكة أو دمش��ق أو الب�صرة أو القريوان أو قرطبة.
(*)
ومن العجيب أن نجد األندلس تتقدم عىل ما سواها يف العديد من الحكايات والقصص التي تروى بصدد تأسيس هذه املدينة .وحني نعلم مقدار األهمية الت��ي يوليها الباحثون يف علم األنرتبولوجيا لهذه الحكايات ،ومقدار الدالالت التي يستخرجونها منها ،يتيرس لنا فهم س��بب اإللحاح عىل األندلس ال��ذي تتضمنه .أليس هذا اإللحاح قنطرة يتوس��ل بها للوصول إىل صورة فاس وش��خصيتها األصيلة واملركبة ،كام أرادها س��كان ه��ذه املدينة ومنظروها أن تصلن��ا عنها ومنثله��ا يف وعينا وال وعينا مختلف��ة عن غريها من حوارض الدنيا وفريدة بني حوارض اإلس�لام س��واء التي سبقتها أو التي تأسس��ت بعده��ا ؟ وللتدليل عىل ما أقول س��وف أقتطف فق��رات من كت��اب «األنيس املطرب ب��روض القرطاس ،يف أخبار ملوك املغرب وتاريخ مدينة فاس» ،لعيل بن أيب زرع الفايس. يقول هذا املؤلف« :كان تأسيس اإلمام إدريس ملدينة فاس ،عىل ما ذكره املؤرخون الذين اعتنوا بتاريخها ،وأنبأوا عن ابتداء أمره، يف ي��وم الخميس غرة ربي��ع األول عام اثنني وتس��عني ومائة (4 يناير 808م) ،أسس عدوة األندلس منها وأدار بها السور ،وبعدها بسنة أسس عدوة القرويني» (ص.)38 : أليس من العجيب حق��ا أن تكون خمرية األندلس هي األوىل يف رحم هذه املدينة وتربتها ،وتكون عدوة األندلس سابقة يف فاس
15
16
زهور
العدد الثالث -السنة األولى -يوليوز 2012
عىل غريها من العمران؟! وتتع��زز هذه األولوية العمراني��ة بأولوية برشية ينقلها لنا نفس املؤلف إذ يقول: «أم��ا أهل األندلس بقرطب��ة ،حني أوقع بهم الحكم بن هش��ام وأجالهم عن األندلس إىل العدوة ،فصعدوا إىل مدينة فاس وكانوا مثانية آالف بي��ت ،فنزلوا عدوة األندلس ورشع��وا يف البناء ميينا وشامال إىل الكدان ومصمودة وفوارة وصارة البادية والكنيف إىل الرميلة ،فسميت عدوة األندلس». ث��م يضيف« :بعد ذلك س��ميت ع��دوة القروي�ين ،ألن أول من نزلها مع إدريس ريض الل��ه عنه ثالمثائة بيت من أهل القريوان، فسميت بهم ،ونسبت إليهم» ص.47 : إن مقارنة بس��يطة بني ع��دد البيوت األندلس��ية الثامنية آالف، املذك��ورة عن��د صاحب «ال��روض» ،وع��دد البي��وت القريوانية الثالمثائة التي نزلت املدينة ،تفصح بدون شك عن هذا التفاوت يف الرتكيبة البرشية ملدينة فاس ،منذ بداية تشكلها األوىل ،لصالح العنرص األندليس. وال نتوقف ع��ن هذه اإلحاالت إىل قصص تأس��يس املدينة ،كام وردت عند املؤلفني القدماء ،قبل أن نش�ير إىل قصة أخرى كثرية الداللة ه��ي بدورها ،وهي املتصلة بتأس��يس جام��ع القرويني. هذا الجامع ال��ذي كان دامئا مركزا للمدين��ة ،وممثال للكثري من خصوصياتها سواء عىل املستوى الواقعي أو الرمزي .فقد كان هذا الجامع وما يزال أهم معلمة فكرية وعلمية و حضارية احتضنتها املدينة ،وهي ممثل الوحدة العقائدية واإلش��عاع الفكري للبالد، وبدون��ه تبقى املدينة مج��رد تابع .إن بناء هذا الجامع نفس��ه ع�لى يد فاطمة الفهرية املعروفة ب��أم البنني ،يف عدوة القرويني، وتسميته باسم جامع القرويني ،مل يتحقق بدون األندلس؛ وأعوذ ألقتطف يف هذا الص��دد فقرة أخرية من كتاب»األنيس املطرب» يقول فيها املؤلف : «وقي��ل هام أختان ،فاطمة أم البن�ين ومريم ،بنتا محمد الفهري املذكور .فبنت فاطمة جامع القرويني املذكور ،وبنت مريم جامع األندل��س من مال حالل طيب موروث ع��ن أبيهام وأختيهام»... (ص.)55 وإذا كان��ت األندلس حارضة يف بؤرة اهت�مام الناس منذ قصص تأس��يس مدينة ف��اس ،فإنها مل تنقطع لحظة ع��ن الحظوة مبثل هذا االهتامم الرفيع ،ألن الروابط اإلنسانية والثقافية مل تنقصهم عراها مع إيبرييا حتى بعد س��قوط غرناط��ة ،فقد كانت مدينة فاس تس��تقبل باس��تمرار العلامء والكتاب والصناع الذين كانوا يفدون عليها س��واء م��ن األندلس أو من الرشق اإلس�لامي ،كام أن الحس��ن الوزان الذي كان يطلق عليه «لي��ون اإلفريقي» قد
محور خاص .. كت��ب لقرائه من جمهور عرص النهض��ة األوربية ،أن مدينة فاس كانت يف القرن الس��ادس عرش «عاصمة لإلس�لام الغريب ووريثة النهضة األندلس��ية» ،لهذا كان العلامء والباحثون يأتون إليها من مختلف األقطار واألمصار بحثا عن املؤلفات والدراسات العلمية املجهول��ة ،وبذلك ميكن القول أنها لعبت بحيوية بالغة أدوارا يف التبادل بني الرشق والغرب السيام مع جارتها األوربية. وإىل اآلن يراود املغاربة عامة ،السيام يف مدنهم التاريخية العتيقة وعىل رأس��ها فاس ،حنني غامض ومس��تمر إىل بالد األندلس ،فإىل وقت قريب كنا نس��مع عن أرس تحتف��ظ من بني ما تتوارثه عرب األجيال ،مبفاتيح دور ورياض ومتاجر وعرصات ،كانت متلكها قبل نزوحه��ا مكرهة عن األندلس ،ك�ما نعرف أرسا أخرى ،وهي أكرث عددا ،تفتخر بأصولها األندلسية التي ترفعها إىل عامل أو فيلسوف أو أمري أو وجيه معني ،وتنسبها إىل حارضة بعينها من حوارض تلك العدوة .كام كنا نس��تمع عىل لس��ان عامة الناس ،أو أحد شيوخ العائلة ،إىل أس��طورة بالد األندلس وهي تحىك ،وتنسج خيوطها يف مخيلتنا املتعطش��ة وكأنها فردوس مفقود ،أو باألحرى مفرط في��ه .إنها حكايات عن رغد يف العي��ش ،ورقة يف الطباع ،ورهافة يف اإلحساس ،وانتش��ار للغناء والرقص واملوسيقى إىل حد السفه والتخنث واللهو عن الواج��ب ،فكانت هذه الليونة واإلفراط يف االس��تمتاع بلذائذ الحياة ومفاتن األندلس س��ببا يف كارثة الطرد؛ هذا هو الدرس الذي كنا نس��تخرجه من هذه الحكايات الفاتنة، فنستمرئ فضيلة تقشف عاقل وجدية بالغة نتبعها يف حياتنا. وكانت هذه الحكايات بجانب وظيفتها الرتبوية الواضحة ،ترتجم بدون ش��ك وجداننا الجامعي وتلونات ش��عورنا إزاء هذا الجار القريب والبعيد ،هذا الجار الذي كان ذات يوم جزءا منا ،فأصبح حلام نعوض به عن حرماننا منه .كان قطعة منا فقدناها سياسيا، ولكنها بقيت تش��كل جزءا من حياتن��ا الثقافية والحضارية ،مع إيقاف الزمن .فام تزال تجسده أمام أعيننا ألوان العامرة وأشكال اللباس والعادات واملطبخ واملوسيقى ،وصنائع مل تتوقف األجيال عن إنتاج نسخ مطابقة أو مقاربة لها منذ أكرث من ستة قرون. أال نش��عر ،ونحن نذرع غرف قرص الحمراء ،أنها س��تفيض بنا إىل إحدى املدارس املرينية أو إىل إحدى دور فاس العتيقة ؟ أمل نقل عن موس��يقانا األندلس��ية أنها طرب وقور ال ينقص من م��روءة عازفه أو املس��تمع إليه وكامل دينه ...ث��م أال نعزفها يف حفالتنا الدنيوية كام نرتل بألحانها القصائد الدينية يف املس��اجد والزوايا ؟ أال ننسب إىل األندلس الكثري من أشياءنا املتحرضة والجميلة!؟ هك��ذا يتلون وجدانن��ا الجامعي نحو األندل��س ببعض املفارقة املعذبة؛ مفارقة ال تناقض بني أطرافها ،بل هي تتكامل فيام بينها
فاس الهوية والتاريخ وكأنها معادلة لتعرب عن وجداننا القلق إزاء هذا املوضوع. فيها يرتبط الشوق والحنني باملرارة والندم عىل أرض واحدة .لقد كانت ه��ذه األرض الخطيئة وعقاب الخطيئ��ة يف نفس الوقت، لق��د كانت أرض األحالم والفردوس املفقود التي أوقع املغريب يف خطيئة االستمتاع به ،فأخرج منه ليكفر عن نفس الذنب القديم والخطيئ��ة األوىل التي مل تكن متثل خطيئة يف عمق وجدانه ،لقد كان��ت مجرد تنعم بطيب��ات متاحة يف ذلك الف��ردوس بفاكهته املحللة واملحرم��ة ،ورياضه وأزهاره وأش��عاره وأنغامه وخمرته وجواري��ه وغلامن��ه .لقد كان هذا الفردوس ال��داء والرتياق معا والنعم��ة والخطيئ��ة مجتمعتني ،غري أن العرب واملس��لمني ،من كرثة ما انش��غلوا يف التلذذ بطيبات هذا الفردوس ،مل يتفطنوا إىل األخطار املداهمة ،ومل يأخذوا العدة للتصدي للعدو واملرتبص. تقول تلك الحكاية الش��عبية التي استظهرناها من كرثة ما رددت
زهور
العدد الثالث -السنة األولى -يوليوز 2012
عىل أسامعنا ،أن أحد أمرائهم جاءه أحد السعاة لينذره بالكارثة؛ وملا اس��تقصاه يف األمر تبني أن النصارى استولوا عىل أحد املواقع القريب��ة ،فام كان من األمري إال أن صاح فيه« :لقد أفزعتني حتى ظننت أن أحد أوتار عودي قد انكرس!». إنه��ا أيضا نظرية الحضارة كام صاغها فيلس��وف ذلك الزمن ابن خل��دون« :فكل حضارة ،كام يقول ،البد أن تصل إىل قمة الليونة والدعة حتى يفقد الناس فيها خشونتهم وعصبيتهم ،فتايت عصبية خشنة جديدة لتأخذ منهم القوة والسيادة بالقهر». هكذا كن��ا ،إىل وقت قريب ندرك األندل��س ومنثلها بعقولنا ويف أعامق وجداننا ،ترى هل تغري الزمان وأصبحنا أمام أدوار جديدة مختلفة للحضارة ؟ وأمام متثل جديد ملوضوع األندلس؟ ال ش��ك ّأنّ ...أن ذلك صحيح!!! (*) أستاذ باحث /محافظ املركب الثقايف البلدي بفاس
17
18
زهور
العدد الثالث -السنة األولى -يوليوز 2012
محور خاص ..
حرف سكنت وجدان مدينة فاس أشرقت لقرون متواصلة وغيبتها طالئع العصرنة الداهمة للمدينة
محمد السعيدي(*)
فاس الهوية والتاريخ
زهور
العدد الثالث -السنة األولى -يوليوز 2012
حرف لها تاريخ تعتبر احلرف التي اش � � � ��تهرت بفاس وازدهرت قرونا من الزمن ،مكونا أساسيا من ثقافتها االجتماعية ،ساهمت في إنعاش احلياة اليومية لس � � � ��اكنة هذه املدينة ،إنعاش � � � ��ا متواصال ال يفتقر وال يلني ،فقد كانت احلاجة ماسة إلى أصحابها ذوي اخلبرات واملواهب الفني � � � ��ة والكف � � � ��اءة التقنية ،واملقدرة املعرفي � � � ��ة ،وكان حضور أصحاب هذه احلرف متميزا في كل املناس � � � ��بات املتاحة أو األزمات الطارئة ،شغلهم توظيف خبراتهم وآلياتهم البسيطة ،وهمهم حل اإلشكاليات املطروحة عليهم. بفضل هذه املهن ،تزخر ذاكرة فاس بس � � � ��جالت حافلة بالعطاءات ،مليئة باإلجن � � � ��ازات وطافحة باالبتكارات في مختلف امليادين االجتماعية .في املقال التالي ،نتوقف عند البعض منها الذي بدأت مالمحه تغيب عن خارطة هذه املدينة وعن وجدانها. يف املايض ،لولع تج��ار فاس ،وحكامها ووجهائه��ا بركوب البغال «لقوادسية» :مهندسون شعبيون واألحصن��ة املرسجة ،وكذلك لولع القبائ��ل املتاخمة ملدينة فاس ظهر ه��ؤالء «املعلمني» بالحارضة الفاس��ية منذ القرن التاس��ع بألعاب الفروس��ية التقليدية ،والهتامم ه��ذه القبائل بالحصان، امليالدي ،حيث دعت الحاجة إليهم بادئ األمر لتنظيف مصبات لدوره الوظيفي يف املعارك والحروب واالحتفاالت الشعبية. العيون وضبط مساراتها .ومع اتساع العمران وتكاثر البنيان عمل رجاالتها من األجيال الالحقة عىل تطوير ما ورثوه ،عن أجدادهم «السقاطين» :مركز لصناعة األسلحة م��ن صنعة تتالءم مع متطلب��ات املدينة يف هيكلتها الهندس��ية ازدهرت صناعة البنادق الحربية وبنادق ألعاب الفروسية ،بسوق الجدي��دة ،خصوصا وأن «املعدات» وهي جفنات مقعرة صغرية، «السقاطني» لقرون طويلة من الزمن بسبب اإلقبال الذي عرفته انترشت باملئات عرب الدور واملرصيات والرياضات يصب فيها املاء بنادقها من لدن فرس��ان «التربدة» املعروف�ين بالبوادي املجاورة مضبوطا يف أوقات معلومة ،ثم يتوقف بعد أن تس��تويف املساكن للحارضة الفاسية ،والذين ورثوا هذا الرتاث عن أبائهم وأجدادهم، حظها منه ،ليتابع مس�يره نحو الدور الالحقة ،وهكذا دواليك إىل حيث كانوا ينش��طون املواسم واألعياد واملناس��بات االجتامعية أن يتوصل كل مس��كن مبا يلزم��ه من ماء العيون الدفاقة .وليس بتقدميهم للقطات تثري اإلعجاب والحامس من املتحلقني حولهم، من ش��ك يف أن املعلمني «لقوادس��ية» يقومون بني أسبوع وآخر املنجذبني لفنّهم .وقد ساهمت ظروف أمنية ،باإلضافة إىل إعراض بتنقية مجاري املاء املنهمر ،مام قد يعلق بها من الشوائب ،وذلك األجيال الناشئة عن مسايرة طقوس «التربدة» أو تطويرها بإدخال بتطعيمها بالنش��ارة املتكونة عند املعلم�ين النجارة ،فإذا اختنق قادوس أو تعذر عىل املاء االنهامر عربه س��ارعوا خفافا لترسيحه تعديالت عليها ...وبالتايل اختفاء صنّاع أسلحتها. بكف��اءة عالية ،ال يتطلب منهم ذل��ك أكرث من بضع دقائق .آخر «القبابة» :حرفة من الماء إلى الماء رموز «القوداس��ية» املعلم محمد الذي كان يجعل من الشامعني وهم حرفيون عرفوا برتكيب «اقباب» الحامم البلدي من خشب، مرك��زا له ،ومبوت��ه رحمه الله طويت صفح��ة «املعلمني» الذين تفنن��وا يف ذلك أميا تفنن ،إىل أن غ��دت حاممات فاس بأجمعها خدم��وا «املعادي» مبدينة ف��اس بكل ما أتوا م��ن ذكاء فطري، تس��تعمل هذه «القب��اب» ،يضعونها تحت ترصف املس��تحمني وحس عمي��ق ،ودراية منقطعة النظري ،لتج��ف «امعادي» فاس من الرجال صباحا ورهن إش��ارة املستحامت مساءا ،كام اشتهروا م�ما كان يهطل فيها من مياه وتعويضها بأنابيب حديثة مرتبطة بصناعة «لقباقب» من خش��ب يلبسها املستحمون واملستحامت بعدادات تحسب عىل ساكنة املدينة ما يستهلكونه من مياه. ووس��عوا دائرة عملهم ليبدعوا كأحذية داخل حاممات املدينةّ ، أواين ل�شرب امل��اء «اغرارف» وكؤوس من العرع��ار الجيد ،يقبل «السراجون» :خدام الفروسية عليها مقتنوها أيام الصيف ...ويوجد مقر أصحاب هذه الحرفة، اش��تهرت مدينة فاس «بالرساجني» وهو س��وق معروف بصناعة رسوج األحصن��ة والبغ��ال ،حيث كان بعض س��اكنتها من حكام منذ مئات السنني بحي باب السلسلة بفاس العتيقة.
وتجار وميسوري الحال ،يتنقلون داخل الحارضة الفاسية ممتطني «مطاحن فاس» :تمحي من قلب المدينة
صهواتهم وبغالهم .وحرفة الرساجني التي اختفت آثارها ،ازدهرت
مطاحن فاس ،وكانت بالعرشات تش��تغل بشكل مستمر إلعداد
19
20
زهور
العدد الثالث -السنة األولى -يوليوز 2012
دقيق القمح والش��عري والذرة ،ولتزويد أسواق املدينة بالكميات الت��ي تحتاج إليها ،مس��اهمة يف ذات الوقت يف طحن ما يقدمه إليها ساكنة املدينة. وليس من ش��ك يف أن من أس��باب إمحاء هذه املطاحن ،،نضوب مياه وادي فاس الدفاقة التي كانت تدير رحيها ،وبروز تكنولوجية جديدة تجلت يف ظهور مطاح��ن آلية متقدمة باملدينة ،لتعويض مهنة انقرضت رغام عنها ...وعن ساكنة املدينة العتيقة. تألق��ت هذه املهنة حول جامع القروي�ين العتيقة ،وعىل مقربة من س��وق السبطريني ،كام اش��تهرت بقربها من مكتبة القرويني ومبجاورتها لس��وق الدلاّ لة ،وهو ما جعلها حرفة داخل النس��يج االجتامعي /الشعبي ملدينة فاس ،لفرتة طويلة من الزمن.
صناعة «الحصر» ألجل الطلبة والمصلين
كان لها شأن وأي شأن ،لكونها كانت امللجأ الوحيد ألوقاف املساجد والكتاتي��ب القرآنية والزوايا ،لتزويدها مبا هي يف حاجة إليه من «ح�صر» تغطي رحابها عىل ع��ادة األقدمني .لذلك تخصص فيها «معلمون» برعوا يف نس��ج خيوطها وألوانها ورسومها من عشب يابس مهيأ لهذا الغرض .وقد انقرضت هذه الصناعة واندثرت بعد أن أبدى املتحمس��ون من املحسنني تطلعهم لتعويض «الحرص» بالزرايب التقليدية أو الحديثة ،حيث مل يبق من هذه الحرفة غري قلة قليلة من املعلمني ،تس��د بالكاد طلبات الس��وق الفايس أو البدوي عىل قلته .والبد من اإلش��ارة يف هذا السياق ،إىل أن وقفا خاصا بالحرص خلفه األقدمون عىل مر الس��نني بجامعة القرويني ومساجد أخرى بالعاصمة العلمية.
«فالسة» فاس ،حرفيون يبحثون عن الفضول
حرفة «الفالس��ة» كان ميتهنها أن��اس منعدمو الصنعة ،تحفزهم دواف��ع الفضول والرغبة يف معانقة الحظ ،والش��د عليه ،يلجأون ألودية مدينة فاس مبا فيه��ا مجاري «بوخرارب» ،ويعملون عىل جمع ما ترسب عىل جنباتها وبأعامقها ،باحثني عن سوار أو سلسلة
محور خاص ..
أو خاتم من ذهب ،منقبني عن كل ما ميكن أن يعترب تحفة نادرة انفلتت مع مجاري مياه البيوت والقصور والرياضات ،فإذا فازوا بغنيم��ة عرضوها للبيع عىل الرصي��ف يف حي من أحياء املدينة. وإذا تعلق األمر بذهب أو فضة تسابقوا عند أمني سوق الذهب ضامنا لهم بيعها ،تش��فع لهم حرفة «الف�لاس» االبتعاد عن كل ش��بهة أو شك .وقد ّ القصاصون «الفالس» يف غري قليل من وظف ّ إبداعاتهم ،إلضفاء طابع الغرابة واإلثارة عليها.
«زرزاية» أوالد سيدي عيسى
وه��م قوم ش��داد ،قو ّيو الش��كيمة يحلون بف��اس ،بعضهم تعود أصوله إىل قرية «أوطات الحاج» ،يوظفهم الفاسيون قدميا لحراسة األس��واق واملنازل والقصور والدور ،ولنقل «السخرة» من األسواق العامة للبيوت .كام كانوا ُيس��تعملون لنقل متاع العروس وفراشها لبي��ت الزوجية يف طقوس ال تخلو من تصليات عىل النبي الكريم. هؤالء مل تعد لهم بفاس القرن الواحد والعرشين صورة تذكر ،وهم ش��بيهون فيام يتعلق بحراستهم األسواق ومداخل املدينة وأبوابها بالشبكة األمنية الخاصة اليوم ،والتي يطلق عليها «سيكريت».
كل هذه املهن املندث � � � ��رة تعكس حضارة فاس القدمي � � � ��ة ،ألجل ذل � � � ��ك ارتفع � � � ��ت العديد من األص � � � ��وات ،املهتم � � � ��ة بالتراث والس � � � ��ياحة، مطالبة بإحيائها وإحياء أسواقها ،وذلك في إطار املخطط اجلهوي للسياحة الذي يسعى إلى إظه � � � ��ار تراث هذه املدينة املقدس � � � ��ة كما عاش أيام ازدهارها الثقافي واحلضاري. شاعر وباحث /أستاذ مربز
فاس الهوية والتاريخ
زهور
العدد الثالث -السنة األولى -يوليوز 2012
ﻣﺠ ﻠ ﺔ ﺛﻘﺎ ﺗ ﻓ ﻴ ﺻ ﺩ ﺔ ﺭ ﺍ ﻏﺭﺓ ﻛﻝ ﺷﻬ ﺟﺘﻤﺎ ﻋ ﻴ ﺍﻻﺟﺗﻣﺎﻋ ﺭ ﻋﻥ ﺟﻣ ﺔ ﺷ ﺎ ﻣ ﻠ ﺔ ﻳﺔ ﻌﻳﺔ ﻭ ﺍ ﺯ ﻟ ﺗ ﻫ ﻧ ﻭ ﻣ ﻳﺔ ﺭﻟ ﺍﻟﻣﺳﺗﺩﺍﻣﺔ ﻠﻌﺩﺍﻟﺔ ﺯﻫ ﻮ ﺭ : ﺗ
ﻨ ﻮ ﻳ ﺮ ﻭﺗﺠ
* ﺍ ﻟ ﺗ ﻌ ﺭ ﻳﻑ ﺑ ﺎ ﻟ ﺣ ﺗ * ﺭ ﺍ ﺍ ﻟ ﺙ ﻣ ﻀﻮﺭ ﺣ ﻭ ﺎ ﺗﺛ ﻓﻅ ﺔ ﻣﻳﻧﻪ؛ ﻋ ﻠ * ﻰ ﻁ ﺍ ﻟ ﺭ ﻬ ﺡ ﻭﻳﺔ ﺃﻫ ﻡ ﻭ ﺍ ﺍ ﻟ ﻟ ﺩ ﻘ ﺿﺎ *ﺧ ﻓﺎﻉ ﻠ ﻳ ﺎ ﻋ ﻕ ﺍ ﻧ ﻻ ﻣ ﻬ ﻧﺑ ﺎ؛ ﺟﺗ ﺭ ﻣ ﺎ ﺧ ﻋ ﺎ ﻳ ﺔ *ﻧ ﺹ ﺷ ﻭ ﺑ ﺭ ﻣ ﺎ ﻧ ﻟ ﺛ ﺎ ﻣ ﻗ ﻘﺎﻓ ﺔ ﺣ ﺟﺗﻣﻊ ﺍﻟﻣﺩﻧ ﺷﺗﻬﺎ؛ ﻘ *ﺍ ﻭ ﻟ ﺗ ﻕ ﻭ ﺍ ﻋ ﻲ ﻹ ﻳ ؛ ﻧ ﺔ ﻭ ﺍ ﻟ ﻧ ﺳﺎﻥ؛ ﺻﻳﺣ ﺔ ﻭ ﺍ ﻹ ﺭﺷﺎﺩ.
ﺪﻳﺪ ﻭ
21
22
زهور
العدد الثالث -السنة األولى -يوليوز 2012
فاس ..
فاس... في أعين اآلخر
في أعين اآلخر
زهور
العدد الثالث -السنة األولى -يوليوز 2012
نقدم في هذا احملور قصيدة و ثالث مقاالت على درجة كبيرة من األهمية ،ليس� � � ��ت ألنها تقيم اجلوانب احلضارية املتميزة ملدينة فاس ،ولكن ألنها أيضا تعطي لقرائها انطباعات مختلفة لكتاب وشعراء وباحثني ،ينتمون إلى الغرب والشرق ،عن هذه املدينة ،التي تصفها األقالم املبدعة جميعها بـــــــــــ «املقدسة» و«احللم» و«اجلوهرة النفيسة» على خارطة املغرب اإلسالمي.
والش� � � ��ك ،أن قراءات وانطباعات ،الش� � � ��اعرة اإلس� � � ��بانية «فينادي كالديرون» ،والكاتب الفرنس� � � ��ي «هنري بوسكو» والش� � � ��اعر العراقي «ش� � � ��اكر نوري» ،عن مدينة فاس ،تشكل شهادات علمية /ثقافية /حضارية ،تؤكد إضافة إلى املوقع اخلاص لهذه املدينة على اخلريطة اإلنس� � � �انية ،على ّمتيزها احلضاري /التاريخي ،الذي ال يضاهى رغم تو ّغله في أعماق القرون الوسطى.
23
24
زهور
العدد الثالث -السنة األولى -يوليوز 2012
فــا�س
فاس ..
د .عبد العزيز التويجري
ـــــو ُ ـا�س َع ِ ق ـا�ش ٌ َق ْل ِبـي ِل َف ٍ ـــق َي َت�شَ َّ
َيـرنـو �إليـهـا فـي الوفـاءِ وي�سبقُ
دوح بـا�ســقٌ بلد لها يف الـمـجــد ٌ ٌ
ُ ـدعــت العقـــول و�أَ ْب فيها ْ َو َت َع َّل َم ْ ت َ ُ ويـرهــق يـ�شـوق نجز ما ُ تبني و ُت ُ
ٍ و�صـنــاعـة رائــــــع فـــن مـن كـل ِّ ٍ
�شر ُ ِ ق عطاء فـي ولها الـمعارف ُم ِ ٌ
ُ �شـرق فـكـر فـي العـوامل ُت وعلـوم ٍ ِ
فيـهـا مــن ال َّن�ســب ال�شّ ـريف ت�ألقٌ
ق بيـن العـوا�صـم نـورهـا يـتـدقـــ ّ ُ ِ ً ِ غ�شاوة احلنيف الدين يجلو عن ّ
ً درة إدريـ�س �أنـ�شــــ�أهــا فـ�صــارت � ُ
َ ت�ســـامـــح مـجــال كانت وما زالت ٍ
َّ ً منـــــــارة يعـــــود فـلـعـل جـامعهـا ُ
ٍ ينـطـــق باملـحـبــــة �صدق ول�سان ُ ُ ّ
أحـمـــــق أعـاجـم � قد حاكها بني ال ُ ِ
َ ـــــــق ـحيـح ُمـو ّث ال�ص ياتيك ٌ ِ باخليـر ّ ِ
ـ�صـــد ُ ِ ِ و�صـف �آالءِ ق لــديــك ُت فـي َّ
و�س ْ َ�س ْ ل �أحـوازهـــا ل جام ًعا فيها َ
مدت على الدنيا رواق ح�ضارةِ ّ
يزهو بها َمن للح�ضارةِ يع�شـــــقُ
ٌ ـدرة ـذرا مـا ل�شـعــري ُق فا�س ُع ً يا ُ
�شافع فـحبي عـجـز �إن كـان لـي ٌ ٌ ّ ٌ ف�ضـل فف�ض ُل ِ أ�سبق ك� �أو كـان لـي ُ
في أعين اآلخر
فــا�س
زهور
مدينة متمنعة أفك��ر يف فاس ،إنها واحدة من املدن املركبة بامتياز ..املدن املؤمتنة والجمل املريكانتيليا والصمت العتيق ..مدن الصالة واملوسيقى ُ عىل ّ ال متنح للنظر سوى األلغاز وال للبحث سوى جدران باردة أو متاهات مدوخة .يف بعض األحيان يتيه فيها حتى األسوياء الخلص. إنه��ا مدن ذات تجاويف وتعقيدات ،حيث ال حائط وال باب ،أو زق��اق أو ظ��ل آدامي ،ال يد ّوخ أو يحيرّ بس��بب تعرجات مبهمة وطرق بدون مخرج .هي م��دن غن ّية بالصمم والرفض والكتامن غري املفهوم وال العادل ،حيث كل ملمح نكتشفه ،تكذبه وتسقط عن��ه القناع ..إنها متحركة ،متبدلة ،تضم بني جدرانها وأس��وارها آالف األرواح واألنف��س ،تتقاط��ع دون أن تتوحد أو تفرتق ..هي ورعة مبعابدها ،غنية بتجارتها ،ومقدسة يف عمقها ()... كل�ما ُ عدت إليها ،إال وترس��خت يف داخيل فكرة مفادها أن فاس تنتمي لهذه املدن املحرم��ة التي يعتقد األجنبي عنها واهام ،أن مبستطاعه ولوج أبوابها. املفارقة أن متة مدن قليلة هيأت يف أسوارها مداخل ذات ألقاب تذكراي��ة ،مثال (ب��اب فتوح) التي تعني ب��اب االنتصارات( ،باب محروق) التي تعني باب املحاسبة القضائية (باب غيسة) املؤرشة عىل باب الحرب وغريها كثري ،وقيمة هذه األس�ماء ال تس��اعدك يف يشء م�ما ذك��ر من قبل ،فهي ال تفتح ملن يري��د بابا حرا ،أي مدخل سهل للكل .فاس ليست مدينة منفتحة ،إنها دوما املدينة املمنوع��ة ،أي أنها عامل خ��اص .وإذا كان فضويل يعاين أرضارا من ذلك ،فإنها تعجبني أنا هكذا ،أحبها متمنعة غري ممسوسة ..هل كانت ستكون كذلك لوال هذه الرغبة املتوارثة والتي تصل أحيانا حد العدوان ،يف املحافظة عليها ككنز مثني ال مثيل له والذي هو أحد أهم الكنوز يف اإلسالم!؟ إنها كنز ال عنوان له ،كنز واقعي ،كائن ولكن ال أستطيع قول يشء عنه سوى أنه هنا ،أنه كائن إن مسسته فإن أظافرك قد تدنست طهارته .إن مثة ش��يئا مقدسا يف املدن املنغلقة ..وأنا ال أكره البتة حني أعرب مكانا إن نالح��ظ فيه قيام معابد قدمية ،ونصادف فيه عند العتبة وجها جهوما.. لك��ن كام قلت ،لي��س لفاس هذا الوجه العب��وس غري املضياف، إن له��ا أياما للغناء وهو غناء مؤن��س ،لطيف ،إن بها أيام حرية رائع��ة ،مثال :يف أبريل حيث يرحل يف قوافل هواة مباهج البادية فرحني بسامع صوت الريح ممزوجا بخرير املاء املحيط باملدينة، وحيث تزه��ر فيها أحواض آالف الحدائق الصغرية ش��به الربية. إنهم يشدون الرحال إليها ،وهي العملية التي يطلقون عليها هنا
العدد الثالث -السنة األولى -يوليوز 2012
هنري بوسكو
إسم (النزاهة) «نزهة الربيع» كان ص��ف من البغ��ال يحم��ل رب الروضة واألصدقاء ،الس��جائد والوس��ائد ،املأك��والت واألواين ،الخي��ام البي��ض املط��روزة وآالت املوس��يقى ..إنه مخي��م يف الهواء الطلق من أجل قض��اء يوم رائق وألجل االس��تمتاع بليلة هادئة بني األشجار املثمرة ..إنه الجو الذي يطلق العنان للكلامت الرائقة والش��اعرية ،حيث يستدعي الرباب الناي ،والناي الرباب إىل فرح املوسيقى الذي يشد أوثار اآلالت وآثار القال��ب والذي يزيده صفاء الس�ماء رونقا ال يوصف ،حيث يصبح ألريج الحدائق طعم آخر أنفذ ،وتصبح الرفقة أنسا ما بعده أنس... إن��ه جو البادية الص��ايف الذي يأرس أهل املدن ويط��وح بهم ،إنهم يغنون أغاين الحب والوله يف أبريل وعىل ألسنتهم ترتدد أبيات: «فاقد الحب أضاع النعم فالعشق ضد األمل الليل جـــــــاء فخذ كل املصابيح الالمرئية وجهها وحده يضيئ الليل القمـر قد طلع».. يا بنات القـدر تسلحن باإليباء تشجعـــن يا مايض الجميل يا لطفا ال ينتهي آه أيها اللطف» هل «غاب عني الحنني؟ والدنيا فانيـة ال املاء ،ال الخرضة ،ال الجامل كل يشء فـــان.. أتضمن أنك باقي للغد؟ هو وحده الباقي هو وحده املوجود الحمد لله. يكون الغناء سيد املكان حتى الفجر ،حيث يأيت صوت املؤذن من أعىل مآذن فاس معلنا مقدم يوم جديد.
25
26
زهور
العدد الثالث -السنة األولى -يوليوز 2012
فــا�س
فاس ..
عبر أختام الحلم فينادي كالديرون تعريب مصطفى القصري
يتغنني بهذه األغنية الشعبية القدمية التي تقول في معناها« :حبيبي جرحني بنظرة من نساء فاس ّ عينيه ،فماذا عسى كان يقع لو نطق بكلمة من فمه؟». وأنا أيضا مثلهن أصابتني فاس بسهامها ،فقط حني حلمت بها ،فماذا كان سيقع لو أنّي شاهدتها في احلقيقة والواقع ،ال في احللم واخليال؟ فعال ،لم يس � � � ��بق لي أن زرت هذه املدينة ،لكن يخيل لي أن روحي وروحها التقيتا ذات يوم ،ولو أن خطايا لم تلمس ترابها وال قدمي وطئت أرضها. إني ألتقمص روح الش � � � ��اعر األندلس � � � ��ي (رفئيل ألبيرتي) الذي حتدث في إحدى قصائده ـ صادرا عن جتربته اخلاصة ـ عن «الذي لم تطأ غرناطة رجاله» ولم تش � � � ��اهدها عيناه ،ثم اس � � � ��تمر مقابل هذا احلرمان في تخيلها في أحالمه ورؤاه ،فلما تأتت له زيارتها ،عند نهاية املطاف ،تأكد من أن تصورها في خياله لم يكذب حدسه فيها. الواق��ع أن األحالم يف بعض األحيان تش��وه الحقائ��ق ،ولكن االتصال املبارش باألشياء قد يحدث أحيانا أخرى انحرافات واختالالت غري متوقعة. كم من مرة عكس��ت عني البصرية نسخة شفافة واضحة لصور قد تكدر عني البرص ماريتها وتطفئ ملعانها. يقول الشاعر األملاين «غوته»: «اعتقد ش��خصيا أن االنس��ان يرسح به الخيال ليك ال يتوقف عن املشاهدة، وق��د يحدث يوما أن ينبعث م��ن أعامقنا نور داخيل لدرجة ،ال نعود نحتاج معه إىل أي يشء آخر». ويأيت بعده الش��اعر املكس��ييس «اكتافيوباز» ليساند هذا الرأي ويؤكد هذه الحقيق��ة حني يقول ب��دوره« :الحلم ش��حنة لالنفجار ،ف��إذا هي انطلقت تحولت إىل شمس يف سامء الكون». كم من مرة تس��ليت باستعراض فاس يف ذاكريت ،ببعثها من بني طيات رؤاي، وثني��ات أحالمي :أتخيله��ا بيضاء ناصعة البياض بط�لاء الجري التي تبلط به جدرانه��ا ،أتخيلها مكس��اال نؤوما تغفو يف خدر صحونه��ا املرمرية ،أتخيلها
يف نفس الوق��ت صاخبة بالناس خالية من صخبهم ،أتخيلها نش��يطة مليئة باملرح كناعورة الس��اقية ،أو غامضة كتومة خفية كوجه مليح يطل من وراء الحج��اب ،أتصور الش��مس تترسب خيوطه��ا الذهبية إىل مياهها الش��فافة املتصببة عىل صهاريجها. وعند األصيل تصبغ ش��مس الغروب ،جدرانها املقدس��ة القدمية ،باإلحمرار. وحني يسدل الليل عىل اللون سدوله ،يفضض القمر الساهر نوافذها املنتبهة اليقظة ،مالمسا رسوها الشامخ ،نارشا أريج عطر ياسمينها العليل ،وقد يتأىت أحيانا لخيايل أن يرتقي بعد الزوال مدارج األزقة والدروب املرقشة بالحصب، الت��ي كثريا م��ا تكون محفوظة من لهيب الش��مس وهجرانه��ا متنعها عنه س��قائف من مش��بكات القصب ،فانصت حينئذ إىل الباعة وهم يس��وقون بغاله��م املثقل��ة بالبضائع ،يدفع بعضهم بعضا وس��ط االزدح��ام ،صائحني بصوت عال« :بالك بالك» كأنها كلمة الرس السحرية «سمسم» التي ستفرج لهم السبيل عرب جمهور املارة. الواقع أنه مل يس��بق يل أن زرت مدينة فاس ،ولكن يف اس��تطاعتي أن أرسم لك صورتها عىل وج��ه التقريب ،متأكدة من أن التعبري الصادق لن يخونني
في أعين اآلخر يف وصف ش��كلها وهيأتها ونش��اطها ومختلف اللوينات التي متيز مالمحها، فأش��اهد يف متاهايت بني السهاد والرقاد ،الصوامع العالية املطلة عىل املدينة يف ش��موخ ليعلن من فوقها املؤذن حيا عىل الصالة ،وأصغي إىل اإلمام وهو يأم باملصلني. إين ألتخيل القباب الفضية والخش��بية الفاخرة املنقوش��ة قبل مش��اهدتها بالع�ين املجردة ،وهي متوارية تحت س��قوف مس��جد القرويني ومس��جد امل��وىل إدريس ،فأتخط��ى عتبتهام لتثري إعجايب ودهش��تي مجموعة األلوان التي تبعث الحياة يف مش��بكات األفازير وتجعيداتها ،ويف مجموع النجيامت وتواتر الرسوم املسننة عىل الطريقة اليونانية املنقوشة عىل الزليج املتخالف األش��كال املتباين األلوان ،فاس��تند إىل الحواجز املزركشة بخطوط الكتابات ورس��وم اآليات ،ثم أحيط بالسواري واألعمدة الواحدة تلو األخرى ،مالمسة ب��رؤوس البنان جوانبه��ا ،ثم بعد ذلك أتفس��ح عرب األروق��ة ذات األقواس املختلفة املتفاوتة األشكال التي تحيط بالصحن املتفتح عىل زرقة السامء. وب�ين هذه وتل��ك من الحركات الت��ي أبارشها ،أالحظ م��ن وراء املرشفيات الخش��بية ش��بحا جميال يش�ير إيل يف تس�تر وخفر ،وأكاد أس��مع همس��ته الناعمة. وكث�يرا ما ألتج��ئ يف النهاية إىل أحد كرايس «جنان الس��بيل» بعد أن تكون روحي قد اس��تمتعت مبش��اهدة كل هذا الرثاء الفن��ي الطافح ،فيتوجه إىل بع��ض املارة بكلامت ،من الغريب أنني أس��تطيع فهمه��ا ،رغم أنها من لغة أجهلها. الواق��ع أن��ه مل يس��بق يل أن زرت مدين��ة ف��اس ،ورغ��م ذلك ،ف��إن جمال وعبارات غريبة يكاد ينطق بها لس��اين ،ويف رنتها نغمة األس��اطري والخرافات واألحاجي. يا للعجب أن املرء يستطيع علم يشء دون أن يكون قد تعلمه!! وما هو يا ترى ه��ذا الرس الغامض يف تفتح عقلنا عىل املجهول كام تتفتح أبواب قلعة محصنة؟ مدينة فاس ترحب يب من خالل أسوارها ،فأمر بـ «باب الجديد « كام أمر بـ «باب الجنود» ألقف دون انتباه مني ،أمام العتبة الذهبية لباب العسكر غري بعيد من قبة العرش بالقرص املليك. وها هي السقايات املستندة عىل الجدران املغلفة بالزليج تغني ألذين نشيد مياهها الرثة الرثثارة. وكل�ما مرت األيام كلام كش��فت يل فاس عن آثار تاريخنا املش�ترك ،فألتقط أص��داء مالحم األندلس املجيدة ،وأيام قرطبة الغراء ،مجس��مة يف ش��خص الخليفة عبد الرحامن الثالث ،الذي أهدى إىل فاس باب املس��جد املس��مى اليوم بجامع األندلس. يا للعيون األندلس��ية الساحرة ،التي تطل يف تسرت وخفاء من وراء الشبابيك الشبيهة بالشبابيك الحديدية التي تزين أبواب مدن جنوب إسبانيا! الواقع أنه مل يس��بق يل أن زرت مدينة فاس ،وما عس��اه أن يحدث ،لو أنني وقفت ذات يوم ،حقيقة ،بإحدى أبوابها؟ يق��ول الكاتب «جان جاك روس��و» يف هذا الصدد« :ولو حس��بت أن جميع أحالمي تحولت فجأة إىل حقيقة ملموس��ة ،فلم تكن كافية عندي ومل تشبع نهم��ي ،إذن لتخيلت ولحلمت ،ولتمنيت م��ن جديد ،إذن لوجدت يف قلبي فراغا يفرسه ،وال يشء ميلئه ،إذن لكش��فت يف هذا القلب عن شوق وتشوق إىل متعة بطريقة أخرى».
زهور
العدد الثالث -السنة األولى -يوليوز 2012
وأكاد أنا ،أتوجس لو أن فاس ،اكتىس مشهدها يف عيني ثوب الحقيقة ،لكانت من جديد محطة أحالمي وسجل رؤاي؛ ذلك أن فاس متثل تلك الشبكة التي متس��كنا ال محالة حبالها يف الوهم كام متسكنا يف الحقيقة ،ولذا أراين أستمر متشبثة بنزوات ،ومتعلقة بأهواء ،تراود خيايل وتداعب أحالمي. وها أنا اآلن أتوجه إىل ضواحي املدينة ألتفس��ح يف ربوعها ،فأشاهد الهضاب واآلكام حافل��ة بالنخي��ل والزيتون والربتق��ال والليمون ،أش��جارها محملة بالثمرات مثقلة بالفواكه. ثم أقتحم املنازل بعد حني ،فأعرث يف إحداها عىل عرس فتاة فاتنة املحاس��ن، وضعوا عىل رأس��ها خامرا مذهبا وزينوه بإكلي��ل مرصع بالجواهر واألحجار الكرمية .ما أجمل تلك الكواعب اللوايت يحطن بها ،وهن مرتديات «قفاطني» و»منصوريات» مزينة بحيل فاخر! أجدين س��عيدة وأنا أنصت إليهن يداعنب أوتار العود ويرضبن عىل البنادير والدفوف. مل يس��بق يل أن زرت مدين��ة ف��اس ،ولكنني أعلم حق العل��م أنها تضم بني ظهرانيها أثارا مجيدة ،وأطالال فاخرة بالرس والغموض .فها هي اآلثار ..تشهد مب��رور القرون واألحقاب ،وها هي املدين��ة تحدثني بكلامت من حجر ،عن مؤسس��ها املوىل إدريس ،وعن تاريخ املوحدين الحافل باألمجاد ،وعن عرص بني مرين الذهبي ...ها أنا أعيش من جديد تلك األيام البهيجة التي عاشتها املدين��ة عند إعالن قيام دول��ة العلويني ،الذين يعد من س�لالتهم الفاخرة، العاهل الحسن الثاين ملك املغرب رحمه الله. رغم أين مل يسبق يل أن زرت مدينة فاس ،فإنني أشعر وكأنني أصيخ بسمعي ألنص��ت إىل الدروس التي كان يلقيها الفقهاء الس��ابقون والعلامء األقدمون عىل تالمذتهم يف رحاب املدارس ،أشارك حياة هؤالء الطلبة الذين وفدوا إىل املدينة من مش��ارق األرض ومغاربه��ا ،فأصبحت عىل اقتناع تام بأنني فعال، اس��تمعت إليهم وهم يلقنون هؤالء التالمي��ذ دروس الوعظ وتعاليم الدين الحنيف. لقد أحسس��ت وخيايل معلق بفاس ،برغبة تعلم جميع الحرف ،ولذلك فقد أخذت يف الطواف عرب األزقة والدروب بحثا عن مختلف الصناعات التقليدية املوزع��ة عىل أحي��اء املدينة :ابت��داء من مصانع الخزف وخش��ب األبنوس، وانتهاء مبصانع املنس��وجات الحريري��ة املرهفة ،التي يط��رز عليها الحرفاء رسوم الخطوط املشتبكة بخيوط ذهبية وفضية .بعد مروري عىل الحدادين الذي��ن يلينون زبر الحديد بأصابعهم املاهرة ،وخصوصا عىل الدباغني الذين يغطسون الجلود داخل أحواض واسعة من الطني فأسأل أحد هؤالء بعد أن أصابتني الدهشة من ثراء األلوان املختلفة ..وبريقها: كيف أيها الفتى ،حصلت عىل كل هذه اللونيات باستعاملك أصباغا كررتاستعاملها مثلام فعلت؟ فيجيبني بلهجة الحكيم العارف: ال أحد يشبه اآلخر يف الواقع ،مهام كانت وجوه الشبه متقاربة.مل يس��بق يل أن زرت مدينة فاس ،لكنني قمت فقط بدور الكاهنة والعرافة عرب مخيلتي رغم أنني شاعرة كل الشعور ،بكل ما بقي مام مل أشاهد منظره، أو أستنشق عرفه ،أو أستمع إليه ،أو أحس بوجوده. ومهام كان األمر ،فإنني أش��عر« ،بالفراس��ة» أن حلمي س��يمتزج بالحقيقة والواقع ذات ليلة من ليايل األنوار واألعياد ،وس��يتمم الحلم الواقع كام يتمم الواقع الحلم ويكلمه ،وحينذاك ستنجيل يل فاس مضاعفة يف صورتني فأجهر بالقول « :أمل يسبق يل ...أن زرت فاس؟».
27
28
زهور
فاس ..
العدد الثالث -السنة األولى -يوليوز 2012
فــا�س
معنى الزمن األستاذ شاكر نوري(*)
رس ،إ ّنه��ا تتغذى من قوامي��س اللغة كام املدينة س��ؤال ،رم��زّ ، يتغذى الزمن من س��نوات عمرنا .وهل تكفى القواميس الباردة لتص��ف لحظة افرتاق عن ميناء أو عن امرأة؟ املدينة تس��ألك... وأنت تسألها...لكن مثة من يفك أرسارها من أين نبدأ؟ أمن خرائط الجغرافيا ،أم من سجالت التاريخ ،أم من أرقام الدليل الس��ياحي ...أم نبدأ من عيون النساء؟ وكيف نقرأ املدن من غري أن نقرأ عيون النساء؟ قال يل صديق ذات م ّرة! ...ويا صديقي ،فاملدينة مثل املرأة ،ليس��ت مستوطنة يف الجسد، هي مستوطنة يف الروح ...ثم أضاف من يصدق أننا نحب مدننا، رغم أن مدننا هي كلها انهيارات القلب؟ امل��دن هنا موجودة عىل الخارطة أمام��ي ،أبرصها ،أفتح أبوابها، لكن��ي أرغ��ب أن أكون فيها م��رة واح��دة ...ويف لحظة واحدة!
املدينة هاجس! الرب��اط ...مدينة تتنفس برئة قرية! الجزائ��ر ...تنفتح كجرح أو كف��م عىل الفضاء ،قرطاج ...ال تزال تبح��ث عن هنيبعل .طنجة تنظر إىل األندلس بحنني طارق بن زياد ..وإىل الصني وس��مرقند بحامس ابن بطوطة .وهران ...تتذكر بأمل أقدام الجيش االنكساري والغزاة اإلسبان واملستعمرين الفرنسيني دون أن تنس الطاعون. والق�يروان ...تتأل��ق يف مجانينها ،وفاس ...تؤدي ب��ك أزقتها إىل املتاه��ة ...متاهة الذاك��رة والكتابة ...ابن ع��ريب ،وابن خلدون، وابن باجة .وتلمس��ان ...مدينة الس��بع وثالثني من��ارة والحرير، و»همفري بوغ��ارت» يتذكر «كازابالنكا» وأصيلة تس��تعري لون أبواب بيوتها من زرقة السامء ،أما العرائش ...فقد اختارها «جان جينيه» ،منزال وقربا ...منزال أمام قرب مفتوح ،ما هي املدينة؟
في أعين اآلخر أنصنعها نحن ،أم تصنعنا هي؟ لنس��أل املعامريني والبنائني ...ومل ال نس��أل دواة الحرب...وريشة الوراقني ؟؟ املدينة تأخذ شكل الحرب ..والحرب يأخذ شكل الحروف.. تبزغ هذه املدن يف ذاكريت كلام حاولت نسيانها.. خاصا ،هو عطر األم دون ش��ك، وأتذك��ر أن ل��كل مدينة عط��اء ّ أليس��ت املدن تولد من رحم الذاكرة؟ واأللف��اظ تولد من رحم دواة الحرب؟ هذه املدن ..ت ّولد يف نف�سي رغبة البقاء والرحيل ...إنها كالثامر الطازج��ة التي يبقى طعمها عالقا يف باطن الفم ،بجوار الكلامت املحظورة بجوار الكلامت التي ترتدد بني البقاء والخروج. مثار هذه املدن ...هم الناس الذين يتوالدون فيها دون أن يعبأوا بالزم��ن ...ويجوبون أزقتها دون مل��ل أو كلل .هكذا إذن نكتب عن الرؤية ،البرص ،األفق ...فمن يكتب عن األصوات :خطى أقدم الب�شر ،دبيب النمل ،حفيف األش��جار ،هدي��ر البحر ...رصخات النس��اء أثناء طلق الوالدة ...من يصغي إىل هذه األصوات ...من يقرأ هذه األصوات؟ تحتض��ن مدينة فاس التالل الفس��يحة لسلس��لة جبال األطلس املتوس��ط إىل الجنوب من مدينة طنجة .وتنت�شر بيوت املدينة الفاتح��ة األل��وان من وادي فاس إىل أعايل الت�لال املحيطة ،فيام ترتفع أكرث من ثالمثائة منارة مس��جد ،وفاس تغفو منذ ما يقرب األلف عام ،بني خرائ��ب وقبور املرابطني ،غري عابئة بالزمن ،وقد تأسس��ت فاس يف أواخر القرن الثام��ن امليالدي عىل يدي موالي إدري��س الثاين الذي حول املدينة مالذا أمينا ملئات العائالت التي هجرت م��ن األندلس ،أم��ا العائالت التي قدمت م��ن القريوان يف تونس فاس��تقرت عىل الضفة املقابلة من نهر فاس ،واس��تمر القطاعان األندل�سي والقريواين من حال انفص��ال تام ملدة تزيد عىل مئتني وخمس�ين عام��ا إىل أن برزت س�لالة حاكمة جديدة من أعامق الصحراء ،املعروف�ين بـ «املرابطون» ،فهدمت الجدار الفاص��ل بني القطاع�ين ،ووصلت ضفتي النهر بجس��وره ،وش��يدت املس��اجد الجميل��ة واألس��واق املزدهرة وبعدها الفنادق األنيقة والحامم��ات العام��ة والقص��ور الضخمة والحدائق. قليلة هي املدن التي تخلصت من أرس الزم��ن ،وف��اس تأتينا مبارشة م��ن الق��رون الوس��طى ،رغم أن بع��ض املظاه��ر العرصية دخلت
زهور
العدد الثالث -السنة األولى -يوليوز 2012
إليها مثل األس�لاك الكهربائية أو أعمدة استالم البث التلفزيوين املزروعة عىل الس��طوح ،وهذا إمنا ي��دل عىل أن القرن العرشين ق��د دخل إىل قلعة املدينة القدمية .وإذا كان معظم مدن القرون الوس��طى قد زال آثارها ،فإن مدين��ة فاس مل تخضع إىل تغيريات جذري��ة حتى فجر االس��تقالل .ومل تبق املدينة عىل حالها هكذا، بل ألن منط الحياة والتقاليد بقيت ذاتها دون تغيري. وأثناء رحلتي يف هذه املدينة ،وأنا أتذكر هذه املعلومات أو تلك كأنن��ي أتصفح كتابا ،مل يكن من املمكن أن أنس دلييل مصطفى، الذي مل يك��ن دليال تقليديا ،فهو منذ البداي��ة ،أخربين بأنه يريد التعرف علينا ،وبعد ذلك وجه يل س��يال من األسئلة عن بغداد... راح يتحدث عن مدينته ،ليس بلغة األدالء املحرتفني ،ولكن بلغة شاعر عاشق ملدينته ،إنه يعرف كل خبايا املدينة القدمية ،بأزقتها املفتوحة واملغلقة ،وحدائقه��ا الرسية وقصورها املختفية .يقول يل بأنه حني كان صب ّيا ،لعب يف كل تلك الدهاليز ،دون اس��تثناء، ورشب من كل النافورات املتناثرة يف الزوايا ،وهو نوع من أولئك الس��حرة الذين يحولون أي س��ائح إىل مواطن ف��ايس ،ويضيف بلغة فصحى ،تش��وبها ،يف كل مقطع ،بع��ض الكلامت الدارجة: ينبغي عىل املدينة أن تفرض إيقاعها عليك ،وليس أن تفرض أنت إيقاعك عليها .وحني استمع إىل وقع خطى مصطفى أدرك معنى الزم��ن ...زمن فاس .وكل ما كن��ت اعتربه فوضويا يف باريس ،بدأ يظهر يل شيئا فشيئا ،منتظام ...ففاس إحدى الغاز عاملنا. مثة مدينتان ...إحداهام مفتوحة ،هي عامل السوق واألزقة وأخرى مغلق��ة ،وهي ع��امل البيت ،وطراز البيت الفايس الش��هري بريزته وزخ��ارف جدرانه الداخلية ،لكن العائالت الفاس��ية بدأت تهجر هذه املنازل ،لتسكن خارج أسوار فاس العتيقة ،تاركة املنازل إىل أبناء الريف الزاحفني نحو املدينة. وفاس موطن الكتّاب الذين جاؤوا من أجل البحث عن أنفس��هم داخ��ل جدران املدينة وأزقتها وحوارييه��ا ،بل تحولت إىل نقطة لق��اء بني الكتابة والفضاء والرؤي��ة ،وفاس كانت وال تزال مغرية للكت��اب والفنانني ،عىل اختالف أصولهم ومواهبهم وأجناس��هم، فالغرائبي��ة أو ما جذب��ت أولئك الكت��اب الغربيني ،وعالقة العامل الخارجي بف��اس ،كمهد للحضارة العربية /اإلس�لامية ،قوية للغاية، ذلك ألن الغرب بن��ى يف مخيلته صورة رمزية له��ذه املدينة ...كام ال ين�سى الغربيون باب��ل فهم ال ينسون فاس أيضا! «وف��اس تجتم��ع بيوته��ا التي ال تح�صى بحيث تب��دو مغلقة ،وال
29
30
زهور
العدد الثالث -السنة األولى -يوليوز 2012
منافد لها ،يخيل لنا بأننا يف جوف رمانة» .جميل جدا! أيها الصديق «هوغو فون هوفامنس��تال» ،إنك تش��به فاس برمانة ،وماذا عن أزقتها ...يجيبني الكاتب النمساوي« ...شوارعها تشبه أبارا بشكل رساديب ...ننتقل من ش��ارع إىل آخر دون أن ننتبه» أعرف جيدا أن��ك تفكر بعالقة فاس بكل األش��ياء املحيط��ة ،وكذلك تعاقب األجيال منذ اثني عرش قرنا ،واملحرتفات ،واألس��واق ،واملساجد... كتابة منس��وجة تتحدث عن حياة آالف الن��اس ...لكن كل تلك الحياة مكس��وة بنوع من الغموض ،بنوع من العطر الذي نشمه كالذكري��ات اآلتية من بابل ،واليونان ،وروما وحكايات ألف ليلة وليلة ...هكذا أش��عر أن فاس تتح��ول إىل أفق لالنتظار ...ولتأمل حياة قدمية هادئة أمام ،قساوة الحياة العرصية. ولك��ن من الذي يصون املدينة؟ وباألحرى من الذي صان املدينة عرب ما يزيد عن ألف عام؟ العنكبوت تصلح سقفها القرميدي دون أن نالحظها ،رمبا ألن ض�لال أيدي العنكبوت تختلط بش��عاعات الشمس ،وهكذا تصلح بيوته��ا املهدم��ة دون أن ن��رى العامل... وتزخ��رف جدرانها الداخلي��ة دون أن نرى املزخرفني .ه��ذه العملية اس��تمرت قرونا بأكمله��ا .ح��روب الكتابة الب��د أنها تضيع وس��ط ع�مارة بيوته��ا وأنت ي��ا «غوميز كارييل��و» ...أعرف أن��ك زرت فاس يف عام 1925وتذكرت أصل��ك األندليس يف كتابك «فاس أو الحن�ين األندليس» .الحذر الناعم ال��ذي اس��توىل عليك ميكنن��ي أن أفهمه... ذلك ألنه لقاء فنتازي مع مس��قط رأس��ك وه��ذا الحذر هو حذر الصور املتتالية التي تع�بر ذهنك ع�بر القرون .وف��اس تجعلك تعيش «س��حر آالف الس��نني ،كام تجعلك تعي��ش الحقيقة كام عش��تها من قبل عرب م��دن املخيلة القدمي��ة» يف األندلس ،رمبا. و»أني��س ن�ين» الكاتب��ة األمريكي��ة ابنة املوسيقي اإلس��باين الش��هري «جواكا نني»، زارت ف��اس يف 1936وحاولت أن متس��ك بأعامق األشياء التي تعيشها« ،فاس مدينة عىل ش��كل دماغ ،مدينة تشبه مدن الروح، إننا ننتهي دامئا بااللتقاء عاجال أو آجال ،إنها مدينة الصورة يف املدن الداخلية ،ووس��ط هذه املتاهة الغنية ...أضيع» وتت��وايل ف��اس ع�لى مخيل��ة الكت��اب...
منذ ق��رون ...وهي تنتظر أن تش��حذ مخيلة الكت��اب والفنانني القادمني... وخرج��ت من فاس ...بعد أن دخلت هي يف أعامقي ...وها أنا ذا أتذكر تلك الوجوه املنحوتة من النبل والسحر والجامل ...ولكنني تأس��فت كثريا ألنني مل أقنت ثعبان الكوبرا الذي دبغ جلده صناع فاس املهرة ،وعلق��ه البائع يف واجهة دكانه املنزوي ،وكم حلمت وأنا مش��دود عىل ظهر الطائرة الت��ي تنقلني إىل باريس ،أن أعرث عىل ذات الثعبان ،بجلده الذي انفرش عىل شكل سجادة ،معلقا عىل جدار غرقني... ومنذ تلك اللحظة مل أعد أخاف الثعابني. (*) كاتب وأديب عراقي
جامعة القرويين
زهور
العدد الثالث -السنة األولى -يوليوز 2012
جامعة القرويين بفاس
بقلم :روم الندو
تعريب :محمد اخلطيب
نشر هذا املقال ألول مرة في مجلة العالم اإلسالمي اإلجنليزية ،بعددها لشهر أبريل سنة ،1958وعندما قام األستاذ محمد اخلطيب بتعريبه ملجلة دعوة احلق سنة ،1958كان الهدف اإلطالع على وجهة نظر كاتب /مؤرخ غربي ،في أقدم جامعة بالعالم.
وتعيد مجلة زهور نش � � � ��ره ،ضمن محورها اخلاص ع � � � ��ن مدينة فاس ،رغبة منها في تعري � � � ��ف قراء مغرب األلفية الثالثة بالوضعية األكادميي � � � ��ة /التربوية /الثقافية التي كانت عليها هذه اجلامعة ،برأي باحث غربي متخصص في املجال ،ومبقاربة علمية وأكادميية صرفة.
31
32
زهور
العدد الثالث -السنة األولى -يوليوز 2012
كان املغ��رب بالدا مجهولة خالل القرنني الثامن والتاس��ع عرش ،بل وحتى أيام الحامية ما بني 1912و ،1956فاملستعربون االحرتافيون أنفس��هم ،كانوا يعرف��ون عن املغرب أقل م�ما يعرفون عن الرشق األدىن ،وقلي��ل منهم من كان يعرف أن املغرب كان أول دولة عربية أسس جامعة ال تزال موجودة حتى الوقت الحارض. أس��س جامع القرويني عىل يد فاطمة بنت محم��د الفهرية ،وهي بن��ت أحد أثرياء القريوان يف تونس ،وذلك يف حدود س��نة 857أي قبل مائة سنة من تأسيس جامع األزهر بالقاهرة. واملس��احة األصلي��ة للجامع كان��ت محدودة ،إال أن اتس��اع نطاق التعليم جعلها تتسع عاما بعد آخر حتى أصبحت سنة 918املسجد الرس��مي الذي يؤدي فيه الس��لطان صالة الجمع��ة ،وبذلك دخل الجامع تحت أرشاف الحكومة. كانت (القرويني) محل توسيع وتجميل منذ عهد األدارسة يف القرن التاس��ع إىل أي��ام الدولة العلوي��ة يف الوقت الراهن ،أما مس��احتها الح��ارضة فهي ال تزال كام كانت عليه منذ عهد الس��لطان عيل بن يوسف املرابطي. إن هذا املس��جد اإلس�لامي الكبري الذي يس��ع مائتي ألف مصيل، قد أصبح منذ عهده األول ،املركز الرئييس للدراس��ات اإلس�لامية يف إفريقيا ،وأحد املراكز اإلس�لامية الكربى يف العامل اإلس�لامي .وهو ال يتميز كثريا عن بقية مس��اجد فاس من ناحية البناء ،وقرص الحمراء بغرناطة ال يفوقه حجام وعظمة رغم جامله ولطفه. وإن مكتبة القرويني اليوم ،ليست إال ظال ملا كانت عليه أيام السلطان أيب عن��ان املريني ،حيث كانت تحتوي عىل اآلالف من املخطوطات التي غنمت للملك املس��يحي يف إشبيلية .وزائر القرويني يف الوقت الحارض يعرث عىل نسخة خطية لتاريخ ابن خلدون ،نص فيها املؤلف بخط يده ،عىل أنها النسخة األصلية لكتابه ،كام يعرث عىل نسخة من كتاب ابن رش��د ،ونسخة أخرى بخط يد ابن خامتة ،ولسنا يف حاجة إىل ذكر نسخ أخرى لكتاب حديث البخاري. وجمي��ع هذه الكتب يف حالة جيدة ،وإن كان ال يزال عىل الحكومة املغربية ،أن تعتني أكرث ،باملحافظة عليها وحفظها للمستقبل. كان الع�صر الذهبي للقرويني خالل الق��رون الثاين والثالث والرابع
جامعة القرويين .. والخام��س ع�شر ،أي أي��ام دولتي املوحدين واملرينيني، اللت�ين كان��ت أيامهام عرص عل��م ،وعه��د تش��ييد مدن تحتوي عىل مآث��ر تاريخية جميلة ،ومل تكن (القرويني) مقص��د التالميذ من إفريقيا والعامل اإلس�لامي فحسب، بل كانت مقص��د األوربيني أنفسهم يف ذلك العرص. ونج��د م��ن ب�ين أس��اتذة القرويني :ابن خلدون ،وابن الخطيب ،وابن حرازم ،وابن باج��ة ،ولرمبا ،اب��ن العريب ويظن أن البابا (سلفس�تر) روم الندو الث��اين ق��د درس بالقرويني، وأن��ه تعل��م فيه��ا األرق��ام العربية واس��تعامل الصفر ،وأنه هو الذي أدخلها ألوروبا .كام يظن أن (ابن ميمون) واملؤرخ االفريقي (حس��ن اب��ن الوزان) املعروف «بليون االفريقي» كانا من تالمذة القرويني. وعندما انت�صر امللكان الكاثوليكي��ان «فرنان��د» و «إيزابيال» عىل الع��رب أواخ��ر القرن الخامس ع�شر ،واضطر الع��رب للتخيل عن مدينته��م الجميلة التي أسس��وها ف��وق الرتاب اإلس��باين ،أصبحوا ينظرون ألوروبا نظرة عداء ،ويتطلعون السرتداد إسبانيا إىل الحظرية اإلفريقية ،فانتهى بذلك عهد التبادل الثقايف بني املسيحيني واليهود، وأصاب القرويني تأخر صاحبها منذ ذلك العهد دون انقطاع ،إىل أن استعاد املغرب استقالله سنة .1956 وبالرغم من ذلك ،فقد ظلت (القرويني) مقصدا للتالميذ من س��ائر الشامل اإلفريقي ،رغم أن برنامج الدراسة فيها ظل متسام بأساليب التعليم يف العصور الوس��طى ،بينام كانت تلك األس��اليب آخذة يف التطور يف جميع أنحاء العامل. وقد زاد التأخ��ر إمعانا وبرسعة خالل النصف الثاين للقرن التاسع عرش ،عندما أخذ االستعامر األوريب ينترش يف شامل إفريقي��ا ،وزاد ذلك التأخر إب��ان االحتالل الفرنيس ما بني 1912و .1956ويتج�لى الفرق ب�ين التعليم يف القرويني خالل النصف األول من القرن التاسع عرش ،والنصف األول من الق��رن العرشين يف املواد الت��ي كان التعليم يتناولها خ�لال الفرتتني .فالتعليم يف القروي�ين خالل الفرتة الثانية عندم��ا كان املغرب يتطلع إىل اس��تقالله ،مل يعد مقترصا ع�لى علوم الدين والنح��و واملنطق والبيان والش��عر ،بل أدخلت عليه مواد أخرى مثل الحساب والهندسة والتنجيم والطب .بينام كان التعليم بالقرويني خالل القرن التاس��ع ع�شر ،وإبان عهد الحامية ال يتن��اول غري التوحيد والفقه
تاريخ ومعرفة والحديث والتصوف واألمداح والبالغة والبيان والعروض والقوايف وفلس��فة النحو واملنطق، ومل تكن أبسط العلوم تدرس فيها. كان التعليم بالقرويني يس��لك طريقة غريبة يف األداء ،فالتلمي��ذ يقت�صر ع�لى الق��راءة وإعادتها حت��ى يحفظ عن ظهر قلب ما قرأ، ومل يكن س��ؤال األستاذ مس��موحا به ،كام مل يكن امتحان األستاذ للتلميذ معموال به أيضا، فكل ما كان هناك أن التلميذ يقيض يف الرتدد ع�لى الدروس ما بني خمس ،وعرش س��نوات، ال ينال بعدها أية شهادة حسبام هو معمول ب��ه يف الجامعات الحديثة .وكل ما هنالك أنه ينال وثيقة تش��هد بأنه حرض الدرس الفالين، والدرس الفالين ،وأنه قرأ كتاب كذا وكذا ،وأن معلوماته تسمح له بالتنقل بني أستاذ وآخر. كانت هيئة التدريس تنقس��م إىل أربعة أقس��ام ،تن��درج من عامل أي م��ا يقابل بروفس��ور -إىل املحارض الذي هو عبارة عن ش��ابحديث العهد بإنهاء دراسته .أما تعيني األساتذة فكان من اختصاص الحكومة ،وهم ينالون أجورا جد زهيدة ،فيستعينون عىل رضوريات حياتهم بوظائف أخرى ،مثل القضاء ،أو الوظيفة الحبسية واإلفتاء، أو الوع��ظ الدين��ي ،أو التعليم الق��رآين ،أو اآلذان ،أو مزاولة حرفة العدالة ،أو الكتابة بإحدى اإلدارات. وقد متتع علامء القرويني مبيزة انتخاب السلطان وقراءة بيعة توليته. وهم عندما يظهرون يف الش��ارع يلبسون مالبس بيضاء ،ويظهرون بس��حنة الوقار ،ويسريون بتؤدة دون أن يلتفتوا ميينا أو يسارا ،وإذا مر بهم أمي ،أو صاحب دكان ،أو تاجر ،أو موظف ،يلزم أن ينحني ويح��اول تقبي��ل اليد ،أو ع�لى األقل ملس الكس��اء ،وتقيض اآلداب بعدم ظهورهم يف األس��واق أو املقاه��ي أو الحاممات العامة ،فهم يعيش��ون يف أجواء اجتامعية غريب��ة ،وتعترب طبقتهم طبقة خاصة. وإذا اس��تثنينا طائفة محدودة منهم ،فجلهم ال يظهر مبظهر القائد املفكر ،إذ أن قراءتهم تقترص عىل كتب القرون الوسطى ،وأفكارهم محافظة ال تقبل التجديد ،وهم ال يسايرون العامل إال بصعوبة. وبالرغ��م من عقم القرويني من الناحي��ة الروحية ،فقد ظلت فاس املرك��ز الثق��ايف لغاية الوقت الحارض ،ومل يك��ن املغاربة وحدهم هم الذين يقصدون مدينة موالي إدريس بقصد التعليم ،بل كان الجزائريون والتونسيون يقصدونها أيضا لنفس الغاية. هذا ومل تكن جامعة القرويني وحدها مركزا للتبادل الثقايف ،بل كان ذلك يف بيوت تجار فاس ،ويف االجتامعات السياس��ية ،ويف املقاهي واملتاجر ،ومل تكن املظاهرات الثقافية محصورة بني جدران املسجد الجامعي ،بل إن املناقشات العلمية كانت تدرس يف مدارس السكن الجميلة يف بنائها والغري صحية يف حالتها. وجدير بالذكر هنا أن حزب االس��تقالل قد تأس��س يف إحدى غرف
زهور
العدد الثالث -السنة األولى -يوليوز 2012
تل��ك املدارس .وبالرغم من س��يطرة القرويني س��يطرة تزمتية ،فقد أنجبت قادة تقدميني ومجددين ،يف مقدمتهم الزعيم عالل الفايس رئيس حزب االستقالل ،وأحد القادة الذين قادوا األمة إىل االستقالل، وهؤالء الزعامء قد تلقوا خصائص التقدم االجتامعي ومبادئ التحرر من جامعة القرويني ،وهم الذين نفخوا يف الشبيبة روح االستقالل، ويرجع الفضل يف إصالح الشبيبة من الناحية االجتامعية والسياسية إىل م��ا كان��ت تتلقاه عىل يد ح��زب االس��تقالل ،وإن الكثريين من رجاالت املغرب يف الوقت الح��ارض ،هم من تالمذة القرويني ،ومن املتشبعني بروحها ملا تلقوه فيها من علوم. يج��ب أال ينظر إىل قضاي��ا القرويني يف الوق��ت الحارض مبعزل عن بقية القضايا األخرى ،فالقرويني ليس��ت يف حد ذاتها سوى واحدة م��ن مجموع القضايا التي جابهت املغرب بعد األس��بوع األول من االستقالل. ومن قضاياها الجدي��رة بالذكر ،العمل عىل ربط ماضيها بحارضها، والتوفيق بني التعاليم اإلس�لامية وما يج��ب اتخاذه حيال األوضاع السياس��ية واالقتصادي��ة ،وصيانة الش��باب الذي��ن تغريهم األفكار الحديثة ،وليست هذه القضايا جديدة وال غريبة عن املغرب. إن مغ��رب اليوم يعيش يف فرتة انتقال م��ن حياته ،وإن القليل من مظاه��ر تلك الحياة ه��و الذي وجد قالبه الخ��اص ،أما الباقي فهو يعاين صعوبة يف التكييف. لقد تغري املغرب تغريا ظاهرا محسوسا منذ سنة 1956إىل اآلن أكرث مام تغري خالل عقود الفرتة االس��تعامرية ،فاملوظفون بالقرص املليك ويف دواوين الحكومة ،ورجال الحرف والتجارة ،واألساتذة قد تخلوا عن ألبس��تهم الجميلة ،وارتدوا املالبس الغربية ،وهم يعللون هذا بكون املالبس الغربية أرخص مثنا وأكرث إحكاما ،وأن املالبس القدمية ليست عملية بالنسبة لألعامل الحديثة التي أصبحوا يزاولونها. فألول مرة س��نة 1957بدأ املغاربة يقدمون الطعام لضيوفهم سواء يف الحفالت الخاصة أو الرسمية منها ،مستعملني السكاكني والشوك، وغن��ي عن البيان ،القول بأن صن��ف الطعام املقدم اآلن أصبح أقل
33
34
زهور
العدد الثالث -السنة األولى -يوليوز 2012
جامعة القرويين ..
تاريخ ومعرفة م��ن ذلك الذي كان يطب��خ يف املايض عىل الطريق��ة املغربية ،وأن الضي��وف أصبحوا يس��تمتعون اآلن أقل مام كانوا يس��تمتعون من قبل ،نظرا لألغالط املرتكبة يف استعامل الطريقة الغربية. ففي بيت أحد التجار املغاربة األثرياء ،الذي كنت قبل س��نة أتناول في��ه طعاما مغربيا فاخرا ،قدم يل عش��اء عىل الطريقة الفرنس��ية، ومكان الشاي املنعنع الذي كان يقدم قبل األكل ،احتلته املرشوبات املثلجة التي أصبحت تعوض ما كان يقدم من املاء خالل الطعام. وإن ما يتمتع به املغرب اآلن من وحدة اجتامعية وساللية وسياسية، يرجع الفضل فيه لقيادة محمد الخامس ،ورجال حزب االس��تقالل، إن هذا امللك كان يتمتع بسمعة عظيمة ،وال توجد فئة من املغاربة ال تنظر إليه كرجل استطاع حل الكثري من املشاكل الروحية واملادية وأن رسعة تقلب األحوال قد أخذته عىل غرة ،فجابه الحوادث الغري منتظرة يوما بيوم ،وهو مييل لها ما تستلزم من حلول كان يف املايض يس��بقها تأويل طويل ،وم��ا يقال يف حق امللك يق��ال أيضا يف حق حزب االس��تقالل وخاصة مفكري��ه ومنظميه ،مثل ع�لال الفايس، واملهدي بن بركة ،الذين كانا يحرصان جهودهام يف الكفاح من أجل االستقالل ،وعندما تحقق االستقالل حدثت كثري من القضايا مل تكن يف الحس��بان ،من بينها الس��عي للتوفيق بني الع��رب والرببر الذين يكون��ون عنارص املجتمع املغريب ،لالس��تجابة ملس��تلزمات الوحدة والتجديد وإقامة نظام دميقراطي. وم��ن قضايا البالد األساس��ية ،قضية القرويني التي يلزم أن تس��اير مطالب الوقت حس��بام يرغب يف ذلك كل من ملك املغرب وزعامء حزب االس��تقالل .وليس معنى هذا أن العلامء ال يعون أن القرويني يلزم أن تجابه هذا األمر ،فقد اجتمعت بالكثريين منهم خالل صيف س��نة 1957وبعضهم مسن تقليدي ال يتكلم كلمة فرنسية واحدة، وهم محافظون عىل تقاليدهم وعاداتهم ،وينادون بالطرق القدمية التي كان يس��لكها الع��امل الفايس إال أن من بينهم ش��بابا يتحدثون بالفرنس��ية ،ويرتدون األلبس��ة اإلفرنجية ،وين��ادون بالتقدم ،وكال الجامعتني متفقتان عىل وجوب القيام بيشء ،إذا ما كانت القرويني تري��د أن تلعب دوره��ا يف حياة املغرب الجديد .إال أنهم يعلنون يف رصاحة أنهم ال يدرون ماذا يفعلون!! وينحرص النقاش فيام يأيت: هل ميكن للقرويني أن تجعل الدراس��ة دراسة إس�لامية حقيقة كاملة ،ليك تقي الشباب املغريب من االنسياق يف التيارات العاملي��ة التي ميكن أن تجرفه لالنجراف ع��ن الرتبي��ة واألخ�لاق اإلس�لامية؟ فالنزع��ات اإلنس��انية كام تط��ورت يف أورب��ا حتى بعد أي��ام النهضة قد ظلت يف العامل اإلس�لامي تعتمد عىل التعاليم اإلس�لامية وحدها ،وفصلها عن اإلس�لام معناه فصلها عن العمل الرئييس للرتبية
زهور
العدد الثالث -السنة األولى -يوليوز 2012
واألخالق اإلس�لاميني .والعلامء يقرون وجوب االستعجال لحل هذا املش��كل ،إال أنهم ال ميلكون الجواب عن الس��ؤال ،يف الوقت الذي يتوق��ف الجواب عليهم بوصفهم املرشفني عىل ش��ؤون الدين ،غري أنهم متفقون عىل أن أس��اليب التعلي��م يف القرويني يلزم أن تتغري، والشباب من العلامء أنفسهم يخشون نتائج التعليم الحديث إذا ما حرضوا عىل إدخال اإلصالح الرضوري ،وهذا معناه أن اإلصالح يجب أن يأيت من ناحية أخرى. إن الحكومة املغربية نفس��ها مصمم��ة عىل وجوب تجديد التعليم يف القروي�ين ،وأن ه��ذا التجديد يلزم أن يك��ون عىل العموم ضمن إطار الرتبية املغربية .وق��د كان تعريب التعليم من األعامل األوىل الت��ي حاول��ت الحكومة املغربي��ة القيام به بعد االس��تقالل ،نظرا لكون التعليم كان عىل عهد الحامية يلقن باللغة الفرنسية ،وكانت العربي��ة تدرس كلغة أجنبية ،كام أن س��لطات الحامية كانت تبذل الجهد إلحالل الرببرية محل العربية ،أما تاريخ وأدب اللغة العربية، فقد كان مجهوال متاما بالنسبة لتلك املدارس ،ولذا أصبحت الجهود منرصف��ة لتغيري ه��ذا الوضع ،غري أن هذا األم��ر يتطلب وقتا حتى يتمكن من تدريب القدر الكايف من املعلمني املواطنني. ومن اإلجراءات املهمة املتخذة يف هذا السبيل إنشاء جامعة حديثة، ويف الوق��ت ال��ذي يظهر فيه هذا املقال يك��ون املرشوع قد أخرج لحيز الوجود .وس��تحتوي الجامعة عىل بع��ض املدارس العليا التي أسس��ت يف الرباط عىل يد الفرنسيني ،والتي كانت كل واحدة منها تعمل مبعزل عن األخ��رى ،وكان القصد منها التهييء للحصول عىل الش��هادات من الجامعة الفرنسية .فهناك مدرسة للحقوق ،وأخرى للعلوم ،ومعهد للدراسات العربية العليا قام بأعامل ذات قيمة من الناحية اللغوي��ة والتاريخية واآلثار القدمي��ة .وقد كان البعض من الرؤساء يستعمل تلك املعاهد لبدر الدعاية االستعامرية. هذه املعاهد الثالثة تكون نواة الجامعة الوطنية ،وس��تتكون هيئة األس��اتذة فيها من مغاربة وفرنس��يني وبعض األجانب ،وس��تصبح القروي�ين كلية للحق��وق اإلس�لامية واآلداب ،أما امل��واد العلمية
35
36
زهور
العدد الثالث -السنة األولى -يوليوز 2012
األخ��رى فتتطلب التجدي��د ،ومنهاج التلميذ فيها يجب أن يس��اير منهاج التعليم يف جامعة الرباط ،وس��تقوى هيئة األساتذة فيها من العامل العريب مثل مرص والعراق وسوريا. أم��ا فيام يخص الحكومة فإن تجديد القرويني ليس باألمر الهني ،ملا يلزم إدخاله من األس��اليب بالنسبة للتعليم ،فاملدارس التي يسكنها التالمي��ذ ،بالرغم من جامل هندس��تها ،عتيقة من الناحية الصحية، ولذا فه��ي تحتاج إىل إصالح كبري كام تحتاج لذلك أيضا األس��اليب الدراسية ،فليس يف القرويني صفوف مستقلة ،وإمنا يجتمع التالميذ ح��ول أس��اتذتهم يف حلق��ات دروس موزعة بني أطراف املس��جد، والتالميذ مخريون يف حضور درس أو آخر ،أما فيام يخص سري الدرس فليست هناك مناقشة بني األستاذ والتالميذ ،وليس هناك أي اتصال بني جامع��ة وأخرى ،وكل هذا يحتاج ألن تقوم مقامه طرق حديثة تساير طرق التعليم الحديث. وأكرث م�ما تتوقف (القرويني) ع�لى املهر الخارج��ي وناحية طرق التعليم ،تتوقف عىل الروح التي تقودها وتسيطر عليها ،فروحها ال تزال روح مؤسسة عتيقة طبقا لتقدم عهدها ،بحيث ال ميكن تغيريها بني يوم وليلة ،بل إن ذلك سوف يستغرق سنوات حتى يوجد جيل من األساتذة املدربني تدريبا حديثا ،إال أن تالمذتها ال يزالون يدعون يف الوقت الحارض بقرويي الروح كام كانوا يدعون سابقا ،فمعظمهم
جامعة القرويين .. م��ن القبليني ،ولهم إملام ضئيل بالرتبية الحديثة ،واملظهر املدين بني القبليني ال يزال يخالف مظهر س��كان املدن ،والدين يف «القبائل» ال يزال القوة الشاملة ،والكثريون من شباب «القبائل» ال يحنون حتى اآلن إىل الرتبي��ة الت��ي تلقن يف املدارس الحديث��ة التي تتبع الطرق الغربية ،فهم ال يتجهون اتجاها رياضيا أو طبيعيا ،بل ينهجون نهجا دينيا وقانونيا ،وليس مثلهم األعىل أن يصبحوا مهندس�ين أو أطباء، بل قضاة دينني ،أو موظفني يف األحباس ،أو أساتذة قرآنيني. لق��د زرت تالمذة القرويني يف صومعة مس��كنهم إبان عهد الحامية وبع��د االس��تقالل فوجدتهم متواضع�ين ،كرم��اء كمواطنيهم ،وأن مس��تواهم التصنيع��ي أكرث من املس��توى العام لبقي��ة مواطنيهم، إال أنه��م فيام يخ��ص القرويني يظهرون إعجابا كب�يرا بها ،بل إنهم يظهرون عجرفة وغطرس��ة تتناىف مع تواضعهم الشخيص .والحقيقة أنهم يتطلعون إىل مس��توى أرغ��د يف العيش ،كام يريدون أن تكون صفوفهم أحسن تنظيام ،إال أنهم مقتنعون بأن التعليم الذي يلقونه أعىل مام يتلقى يف املدارس الحديثة .وقد حاول البعض خالل زياريت األخرية ،إقناعي بأن وزير العدل ـ وهو من األش��خاص املمتازين يف القان��ون الحديث ـ وغريه من وزراء يعرفون م��ن مادة الدين أقل مام يعرفون هم. إن املغرب قد بدأ تطوره منذ سنة ،1956ومن البديهي أن يستدعي هذا التطور ثورة سياس��ية واجتامعية واقتصادية من الناحية الشكلية ،إال أن البادية التي توجد بها جذور الدين عميقة، فإن كل إصالح فيها يجب أن يكون إصالحا يف الدين نفسه، غري أنه مل مير بعد الوقت الكايف إلعادة التفكري يف اإلصالحات الدينية املس��تعجلة التي يلزم إدخالها ،وكل إجراء يتخذ يف هذا السبيل يجب أن يكون تجارب مؤقتة أكرث من إجراءات نهائية ،ففيام يتعلق باألحوال الشخصية ،فإن املادة الرشعية هي الت��ي ال ي��زال العمل جاريا به��ا .أما القان��ون املدين والجن��ايئ فهام ال يزاالن فرنس��يني ،ومعظ��م القضاة الذين يحكم��ون بهذين القانونني هم م��ن املغاربة مع عدد كبري من الفرنسيني واإلسبانيني .ولس��وف يوقف العمل بالزواج الباكر ،كام أن املرأة س��تمنح حق اختيار زوجها ،وسوف ال يك��ون رضوري أن يكون االختيار من حق الوالدين ،غري أن قان��ون تعدد الزوجات مل يصدر بعد ،والعمل جار إلرجاعه إىل أصله الديني حسب نصوص القرآن. إن الكثري من نساء املدن قد رفعن الحجاب ،وهن يختلطن بالرج��ال اختالطا اجتامعيا ،أما يف البادية فال يزال الحجاب معموال به ،واالختالط الجنيس غري معروف. فه��ل هناك م��ا يدعو لألمل ب��أن املغرب سيس��تطيع حل القضاي��ا العديدة التي تواجهه؟ إن املغاربة رغم احتياجهم إىل اتخاذ الكثري من األس��اليب اإلدارية الغربية ،قد حققوا خالل الس��نوات األوىل من االس��تقالل أكرث م�ما كان أكرث أصدقائهم تف��اؤال يؤملون ،وقد أكدت حوادث الس��نوات القليلة أنهم يحسنون إصابة الهدف.
تاريخ ومعرفة
زهور
العدد الثالث -السنة األولى -يوليوز 2012
تأمالت في أسرار خزانة القرويين بفاس
ذ .محمد احلدادي
37
38
زهور
العدد الثالث -السنة األولى -يوليوز 2012
جامعة القرويين ..
يس � � � ��عى هذا املقال ،إلى دراس � � � ��ة أس � � � ��رار خزانة القرويني التي حتتوي على مخطوطات عربية جتمع بني اخلط العربي واألندلسي واملش � � � ��رقي ،تضم ما ألف في املغرب واألندلس ،وهو ما ميكن اعتباره ذخائر علمية وأدبية وفقهية ،ميكن للباحثني الكش � � � ��ف عن هويتها وإبراز أسرارها من خالل حتقيق دقيق وعلمي رصني. لقد تأسست خزانة القرويني سنة 750هـ ،على يد أبي عنان املريني ،إذ كانت في البداية باجلهة الشرقية من صحن مسجد القرويني ،ثم نقلت في عهد أحمد املنصور الس � � � ��عدي إلى بناء جديد بجوار احملراب ،لتس � � � ��تقر في النهاية في اجلناح املس � � � ��تعمل اآلن واملشتمل على الباب اخلارجي املتصل بحي الصفارين .ميكن القول أن هذه التحوالت قد ساهمت إلى حد ما في تثبيت وج � � � ��ود هذه اخلزانة ،واحلرص عل � � � ��ى رمزيتها ،ذلك أن بعض امللوك واألمراء والوزراء واحملبس � �ي � ��ن ،كانوا يقدمون مخطوطات ووثائق كهدايا لهذه اخلزانة ،مما رفع من ذخائرها ،وجعلها ترقى إلى مرتبة عليا ،وأصبح العلماء والطلبة وكل املثقفني يتوافدون عليها من جميع أنحاء العالم اإلسالمي. وتعد خزانة جامع القرويني من أقدم اخلزائن وأعرقها باملغرب خاصة ،والعالم اإلسالمي عامة .فهي تضم اليوم عددا كبيرا من الكتب النفيسة باإلضافة إلى املخطوطات العربية التي يعود العديد منها إلى القرون الوسطى ،الشيء الذي يجعلها مبثابة قبلة للباحثني من كل أنحاء العالم .ومن أجل استكشاف كنوز هذه اخلزانة ،ينبغي اإلطالع على الكتاب الرائد الذي وضعه األستاذ محمد العابد الفاسي“ :فهرس مخطوطات خزانة القرويني” الذي يتكون من أربعة أجزاء ،إذ يذكر الباحث كل املخطوطات املوجودة في اخلزانة ،وتاريخ نس � � � ��خها ونوع اخلط ونوع الكاغط وأحواله ،هل هو متالش � � � ��ي أم متني ،ويقف عند األوراق التي أصابها اخلرق والتمزيق ،وينبه إلى خطورة فقدان املخطوط ،حيث إن لم تؤخذ منه نس � � � ��خة عاجلة ،فقد يكون مآله الضياع واالندثار ،واخلرق الناشئ ـ كما يقول الفاسي ـ عن فساد املواد املكتوب بها”. ويت�بن من خالل املناهج التي جاء بها فهرس األس��تاذ الفايس يف كتابه الرائد أن معرفة ذخائر خزانة القرويني أصبحت يف متناول الباحث�ين ،إذ أن الوقوف عىل معظ��م املخطوطات املوجودة يف هذه الخزانة مل يعد يطرح صعوبات ومشاكل كام كان عليه األمر قبل صدور الطبعة األوىل من هذا الفهرس ،عىل الرغم أن الفايس مل يذكر جميع املخطوطات املوج��ودة يف خزانة القرويني ،وهذا أمر ينتظر باحثني جدد ،يقومون بدورهم بهذه املهمة ،من أجل التعريف بأرسار العلم والطب والفقه والفلك والتاريخ ،مساهمة يف إغناء الثقافة العربية اإلسالمية. ويذك��ر األس��تاذ محمد بن عب��د العزيز الدب��اغ ،محافظ خزانة القروي�ين يف مقالة ل��ه عن ه��ذه الخزانة ودوره��ا اإليجايب يف حفظ الرتاث املخطوط ،أن الس��لطان سيدي محمد بن عبد الله قد كل��ف أربعة علامء بالتحقق مام ينقل من النس��خة املرينية املوجود يف الخزانة من كتاب «البيان والتحصيل البن رشد الجد» حيث نجده يقول عن هذه النس��خة« :إن النس��خة املرينية من البي��ان والتحصيل تعد من أروع ما كت��ب عىل رق الغزال فهي قد نسخت بخط دقيق وكتابة محققة سليمة من األخطاء ،كتبها أحمد الصنهاجي أليب الحس��ن املريني عام 720هـ ،قبل تأسيس
خزان��ة القرويني بثالثني س��نة ،وقد صارت بعد كتابتها النس��خة التي يعتمد عليها يف النقل واملقابلة ،بحيث نجد اإلشارة إليها يف كثري من النس��خ املنقولة منها كنسخة «تامكورت» مثال ،بل إنها أصبحت معتمدة حتى م��ن الذين حققوا هذا الكتاب أخريا .إن هذه النس��خة تعد من التحف الن��ادرة يف خزانة القرويني ،فهي زي��ادة عىل قيمته��ا العلمية متتاز بجامل خطه��ا ،ودقة صنعها، وهندس��ة مقياس��ها ،وجودة حربها ،بحيث يج��د كل من اطلع عليها متعة يف صورتها ،ويف إبداع ش��كلها ،ويس��توحى منها صربا بعينه عىل العمل ،ويدفعه إىل الجدية يف نقل العلوم وتدوينها. وباالضافة إىل هذه النس��خة النادرة «البيان والتحصيل البن رشد الجد» ،نجد نسخة أخرى البن رشد الحفيد تحمل عنوان «كتاب األخالق النيقوماخية» ألرس��طو ،ولسنا ندري إن كانت جامعا أم تلخيصا أم رشحا ،ألن الناسخ مل يفصح عن ذلك. وتتكون هذه النس��خة من إحدى عرش مقالة ،تبتدئ كلها بكلمة «ق��ال» ،وهي كلمة نجدها دامئا يف بداية تالخيص أيب الوليد ابن رش��د الفيلس��وف والفقيه ،وتجدر اإلش��ارة إىل أن هذه النسخة فري��دة ونظرا للبرت أو التاليش ال��ذي أصابها ،لها تحقق إىل يومنا هذا.
تاريخ ومعرفة **** يتب��ادر إىل الذه��ن عندما نتح��دث عن خزان��ة القرويني ،ذلك االتصال الحميمي ال��ذي وقع بني هذه الخزانة ومدينة فاس ،أو أثينة إفريقيا ،كام تس��مى عادة يف بعض الكتابات االس��ترشاقية، ذل��ك أن فاس ،أو اإلرث األندليس ،ال��ذي يقول عنه املراكيش يف كتابه «املعج��ب يف اخبار املغرب»« ،وما أظ��ن يف الدنيا مدينة كمدين��ة فاس ،اجتم��ع فيها علم الق�يروان وعل��م قرطبة ،إنها «بغداد املغرب» ،والحق أن فاس تس��تحق اس��م بغداد املغرب ألنها استقبلت حضارة من أكرب الحضارات يف تاريخ اإلسالم ،وهي الحضارة األندلس��ية .فأصبحت عبارة عن روح الحضارة العربية اإلسالمية املعارصة ،ومن أهم معاملها التاريخية جامعة القرويني التي تضم أقدم خزانة يف املغرب ،حيث استطاعت أن تستقطب أغلب العلامء والفالسفة والشعراء األندلسيني. تجمع بعض الكتابات التاريخية أن ابن باجة الفيلسوف األندليس، ق��د اختار فاس يف آخر أيامه ليحقق فيها س��عادته القصوى ،أي ليبل��غ مقام كل الواصلني ،مقام الس��عداء ،وهي االتصال بلحظة اللحظ��ات الت��ي يتم االحس��اس بها عن��د االكتواء بن��ار العقل الفعال. إن ه��ذا الفيلس��وف املتمرد ع�لى األخالق الس��ائدة يف املدينة األندلس��ية ،فضل أن مي��وت يف فاس« ،بغداد املغ��رب» ،كام أن موىس ابن ميمون الطبيب والفيلسوف اليهودي ،هاجر إىل فاس منذ 565هـ (أي قبل وفاة ابن رشد عام 595بنحو أربعني سنة)، حيث س��كن ملدة خمس سنوات بدار املجانة بفاس ،التي كانت آنذاك مركزا ألول جامعة؛ هي جامعة القرويني. وقام الفيلس��وف اليهودي س��ليامن ابن يحي��ى ابن جربيل منذ س��نة 450هـ ،بتدريس أفالطونية املحدث يف ه��ذه املدينة ،أما اب��ن خل��دون فقد ج��اء قاصدا له��ا من أجل اإلنصات إىل طبيعة علم العمران ،ولعل املنزل الذي س��كن فيه مازال يوجد إىل اليوم كشاهد ع�لى حضور هذا املؤرخ يف ه��ذه املدينة .كام أن املكاليت صاحب كتاب «لباب العقول» الذي ميكن نعته بأيب حامد املغ��ريب ،عىل اعتبار أنه أراد مامحكة الفالس��فة وبخاصة ابن رشد ،قد قام بهذا العمل داخل أسوار «بغداد املغرب»، ودون أن ننىس ذلك الش��اهد الذي يحمل اسم الشاعر لسان الدين ابن الخطيب. **** إن األس�ماء التي تركت بصامتها يف جسد هذه املدينة كث�يرة ،ومقابر باب املح��روق ممتلئة
زهور
العدد الثالث -السنة األولى -يوليوز 2012
بالعلامء والش��عراء ،يعرس علينا حرصها ها هنا ،بيد أن ما يهمنا يف هذا الباب هو التساؤل عن الدور الذي لعبته جامعة القرويني وخزانتها يف استقطاب العلامء ،وهل مازالت هذه الخزانة تلعب دورا يف الحي��اة الثقافي��ة املغربية إىل اليوم؟ ب��ل أكرث من ذلك، هل اس��تحقت فاس لق��ب العاصمة العلمية ألنه��ا كانت تضم أه��م جامعة وخزانة يف إفريقيا خالل القرون الوس��طى ،أم ألنها حافظت عىل اإلرث االندليس؟ لقد أسهم محافظ خزانة القرويني الفقيه املرحوم األستاذ محمد عاب��د الفايس يف إث��راء خزانة القرويني من خ�لال جمعه لكنوز مخطوطات ه��ذه الخزانة يف فهرس��ه الرائد ،ك�ما أن محافظها األس��تاذ محمد ب��ن عبد العزيز الدباغ ق��ام بتتميم العمل الذي قدمه الفايس ،وهذا ما س��يجعل أرسار ه��ذه الخزانة يف متناول الباحثني. املراجع: محم��د العاب��د الفايس ،فهرس مخطوط��ات خزانة القروي�ين ج ،1تقديم محمد الفايس الفهري ،الدار البيضاء ،دار الكتاب.1997 ، محم��د بن عبد العزيز الدباغ ،خزانة القروي�ين ودورها اإليجايب يف حفظ الرتاث املخطوط ،املنشور ضمن املخطوطات العربية يف الغرب اإلسالمي ،الدار البيضاء، مؤسسة امللك ابن عبد العزيز .1990 عب��د الواحد املراك�شي ،املعجب يف تلخيص أحبار املغرب تحقيق محمد س��عيد العريان ،القاهرة ،مطبعة االستقامة.1949 ، املقري ،نفح الطيب ،تحقيق إحسان عباس ،بريوت ،دار صادر ب.ت. ابن خلكان ،وفاية األعيان وانباء أبناء الزمان ،تحقيق إحس��ان عباس ،بريون ،دار صدار 1973 ُ عزي��ز الحدادي ،عن مجلة الحكمة يف أثين��ة إفريقيا ،ضمن العلم الثقايف الرباط .1993
39
40
زهور
زاوية زهور
العدد الثالث -السنة األولى -يوليوز 2012
َا ْل َ ــــات ك ِل َم ُ
? في هذه الزاوية ،ستحاول أسرة تحرير مجلة زهور، التوقف قليال عند مفاهيم الكلمات األكثر إشاعة بين القراء والمهتمين بالفكر والثقافة والسياسة ،في نطاق رؤيتها الموضوعية لهذه المجاالت.
في هذا العدد ،نحاول مالمسة مصطلح الحرية ،ال باعتباره فقط مصطلحا فلسفيا /سياسيا /ثقافيا، تتداخل على مساحته الواسعة العديد من المفاهيم، ولكن أيضا باعتباره مصطلحا على صلة وثقى بحقوق اإلنسان وقيمها المتداخلة والمتشابكة. بذلك ،ستسعى مجلة زهور من خالل هذه الزاوية فتح الباب على مصراعيه للحوار والنقاش مع قرائها األعزاء حول المفاهيم التي ستطرحها تباعا من خالل الكلمات، انطالقا من هذا العدد ،واهلل الموِّفق ? 1 الحرية» كانت وما تزال عش��ق اإلنس��ان وهيامه ،كانت مح��ل انجذابه الفكري والنفيس والش��عوري ،يف كل الحقب واألزم��ان .ولكن عىل طول التاريخ وعرضه، مل يس��تطع اإلنسان تحديد مفهومها/مفاهيمها ،أو اإلجابة عن أسئلتها الفلسفية والدينية ،السياسية/الحقوقية ،أو بتعبري أكرث صحة ودقة ،مل يستطع االتفاق عىل مفاهيمها املتشابكة واملتداخلة .فطيلة التاريخ اإلنساين ،طرحت مسألة الحرية، عىل أنها الحاجة الحيوية لإلنس��ان ،ملواجهة أخطار الحي��اة املختلفة ،وعىل أنها «الباب الواسع» النتقال اإلنسان إىل العلم واملعرفة ...ولكن مع ذلك مازال مفهوم هذا املصطلح محل انجذاب وخالف واختالف ،بني املثقفني والسياسيني والفالسفة والعلامء ،يف كل الديانات واإليديولوجيات واألنظمة ...ويف كل األزمان.
زاوية زهور و أسئلة الحرية كثرية : هل هي تحطيم كل الطواغيت؟ هل هي إلغاء كل الطابوهات؟ هل ه��ي األمن عىل النفس واملال واإلرث ،أم هيحري��ة الرأي و التعبري ،وحري��ة التفكري واالختيار واالعتقاد وباقي الحري��ات املرتبطة بقيم حقوق اإلنسان ودولة القانون...؟ هل هي إطالق ترصف اإلنسان يف ذاته وكسبه ،معأمنه عىل نفس��ه وعرضه وماله ،أم هي مس��اواته مع أبناء جنسه يف الرأي والحكم والسلطة...؟ هل هي انعدام القيود القمعية والزجرية ،أم هينقيض العبودية والتبعية...؟ هل هي اس��تقالل اإلنس��ان عن أي يشء ،أم هيالقدرة عىل الترصف يف كل يشء...؟ ه��ل هي الكش��ف الحر ع��ن الق��درات الذاتيةوالفكرية ،أم هي إثبات الوجود والحضور والتعبري عن اإلرادة الشخصية؟ خارج ه��ذه األس��ئلة ،التي ال يدعى ه��ذا املقال الق��درة عىل اإلجاب��ة عنها ،تبق��ى الحرية يف نظر العدي��د م��ن الفالس��فة واملفكرين ،ه��ي عنوان الحياة ،هي الحقيقة الثابتة لإلنس��ان ،وهي الجزء األك�بر من وج��وده ،والحظ األوفر من إنس��انيته، فهي يف نظر العدي��د منهم ،تتمدد وتأخذ حجمها التاريخ��ي والفك��ري والدين��ي والنفيس ،حس��ب ظ��روف األم��م والش��عوب املوضوعي��ة ،املكانية والزمانية والحضارية .فالحرية التي ترتابط حولها، قيم الدين والسياسة واألخالق والفلسفة ،ال تطاوع عىل تش��كيلها يف وح��دة نهائية ،بق��در ما تطاوع عىل تنس��يقها يف فض��اءات وتي��ارات ،تلتقي عند ف�ترات معينة ،أو حاالت معينة ،وجميعها ال ترقى إىل تحدي��د مفاهيمها ،وجميعها مس��كونة برغبة التخل��ص من أش��ياء أغلبها ال مح��دود يف النفس، ورمبا يف الزمان واملكان. هل يعني ذلك ،أن الحرية فكرة وهمية...؟ هل هي خاصية اإلنس��ان ،باعتباره مس��ؤول عننفس��ه وعن حريت��ه،؟ أم هي ذل��ك اليشء الذي يجب أن يكون ،ومل يتحقق بعد…؟
زهور
العدد الثالث -السنة األولى -يوليوز 2012
2 إس�لاميا ،حظيت مس��ألة الحرية باهتامم األولني واآلخري��ن ،فالصح��ايب القائد واملجاه��د عمر بن الخطاب ،ريض الله عنه ،لخص املوقف واملسألة ،يف قولته الشهرية «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاته��م أحرارا »...املس��لم يف منظ��ور املذاهب والتفاسري القرآنية ،حر يف أساسه الديني ،من غري أن يهبه أح��د حق الحرية ،فهي حق��ه الطبيعي ال��ذي يح��رم العبودي��ة، إذ يش��هد ع�لى ذل��ك ما تزخر به املكتبة اإلس�لامية من مصنف��ات وأطروحات، أنجزه��ا الفقه��اء والعل�ماء والفالسفة املس��لمون ،حول تحريم العبودية ،عىل اعتبار أن األسياد ،هم أحرار ،يؤطر اإلسالم حريتهم حسب ما متليه اإلرادة اإللهية. يف الع�صر الحديث ،ويف خض��م االهتامم الجمعي بالحري��ة ،عالج املس��لمون مس��ألتها ،م��ن زوايا متعددة ،واتخ��ذ العلامء والفقه��اء ورجال الدين والح��كام ،منها مواقف متعددة ومختلفة ،س��واء فيام يتعل��ق بعالقتها بالدين وأحكامه ،أو بعالقتها مع النفس املسلمة. بالنسبة للدين اإلس�لامي الحنيف ،اإلنسان حر يف أساس��ه ،ميلك حق الحرية ،كام رشعه��ا الله ،ومن ال مي��ارس ه��ذا الحق ،خوفا م��ن صاحب نفوذ أو س��لطان ،ليس بحر ،ويحت��اج إىل من يدافع عنه... لذلك كان الناس يف الدول اإلسالمية األوىل ،أحرارا، ال يهاب��ون حاك�ما ويعلن��ون قدرتهم ع�لى تغيري املنكر ،وعىل تقويم االعوجاج ،وعىل حامية الحرية واألحرار يف نظر الباحث املرصي املعروف ،الدكتور محمد أحمد خلف الله ( يف مقال له يحمل عنوان قضية الحرية يف الرشيعة) «املسلم ال ميكنه تأدية واجباته الدينية ،وال مامرسة حياته اليومية والعامة إال عىل أس��اس الحرية ...حرية اإلرادة التي متكن صاحبه��ا من تحمل مس��ؤوليته يف كل ما يقوم به من قول أو عمل »...
41
42
زهور
زاوية زهور
العدد الثالث -السنة األولى -يوليوز 2012
3 يف الفلس��فة ،يأخذ األمر مجرى آخر ،حيث الحرية ه��ي غياب اإلكراه والقيود التي يفرضها طرف عىل طرف آخر .فاإلنس��ان الحر ه��و القادر عىل اختيار هدفه وطرقه ،فهو الذي يس��تطيع االختيار ،س��واء من خ�لال خضوعه إلرادة ش��خص أو دولة أو أية سلطة أخرى. ويذهب بعض املفكرين إىل القول ،أن غياب اإلكراه، الكايف وال�ضروري لتجديد هو الرشط الحرية ،فطاملا أن اإلنسان يت�صرف مب��لء إرادته وال يخضع ألي إكراه يف س��لوكه فهو حر. ويف نظر الفيلس��وف الربيطاين راس��ل »:إن الحرية بشكل عام هي غياب الحواجز أمام تحقيق الرغبات واألهداف». الحري��ة إذن ،وبالنظ��ر إىل التوجه��ات الفلس��فية وقيمها ،هي مفهوم ذايت/شخيص/سيايس/اقتصادي/ أخالقي/فلس��في متداخل ،ذو مدل��والت متعددة ومتش��عبة .وكل مدل��ول فيها يحتاج إىل مس��توى معني من التحديد والتعريف ،بل هي شبكة معقدة م��ن املفاهيم ،من الصعب تحديدها يف كلامت ،أو صهره��ا يف مفهوم واحد .فالحري��ة تتضمن نظريا عدة «حري��ات» حرية الفكر /حرية التعبري /حرية االجتامع والتنظيم /حري��ة العمل /حرية التحرك/ حري��ة التملك /حري��ة االعتقاد والعب��ادة /حرية االنتامء …/إنها حقل واسع يصنع اإلنسان بداخله اختياراته وقراراته ،ويرسم من خالله مجرى حياته، بعيدا عن أي إكراه أو قمع أو تسلط ...أو توجيه.
4 يف الثقاف��ة السياس��ية ،تبلورت فك��رة الحرية عرب العص��ور واألزم��ان والحضارات ،حت��ى إذا وصلت عرص التنظي�مات والتحوالت ،حيث تراجع مجتمع التقلي��د ،وتوس��ع نط��اق الدول��ة ،وانت�شر الفكر اإلصالحي وبرزت مهام املجتمع السيايس ،أصبحت الحرية املحور األس��ايس ال��ذي يرتابط حوله إصالح القوانني ومحو الع��ادات البالية ،كام أصبحت هي محور األف��كار واإليديولوجي��ات املؤثرة يف تيارات الحضارة الراهنة واالنتقال إىل العوملة.
لق��د حظيت فك��رة الحري��ة يف العرص الس��يايس الحديث ،باهتامم خاص ،كإحدى األفكار املرتبطة باإلصالح��ات الحضارية التي ينتظره��ا عامل اليوم، بقيم ومفاهيم مختلفة ،هي أكرب وأوسع. ي��رى املفك��ر املغريب عب��د الله الع��روي يف كتابه «مفه��وم الحرية» ،أن التط��ورات االجتامعية التي عرفه��ا الع��امل يف الق��رون األخرية ،أف��رزت حاجة موضوعية إىل هذه الحرية ،وقد تم بالفعل تحقيق جزيئ لبع��ض الحريات ،وم��ازال البعض يتطلع إىل حرية أعمق وأشمل.
5 مغربيا ،اق�ترن ظهور االهت�مام بالحرية ورشوطها ومواصفاتها ،عند الجارة األوروبية بظهور كتابات/ نقاش��ات هام��ة حول هذه املس��ألة ،ب�ين النخبة املغربية ،نهاية القرن التاس��ع ع�شر وبداية القرن العرشين ،نذكر منها عىل الخصوص ،كتابات أحمد النارصي وأيب عب��د الله الس��ليامين يف نهاية القرن التاس��ع عرش ،وكتابات سعيد حجي وعالل الفايس ومحم��د عزيز الحب��ايب ،وأحم��د بالفريج ،ومحمد امليك الن��ارصي ،ومحمد حس��ن ال��وزاين ،والفقيه داوود ،وعب��د الل��ه إبراهي��م ،يف الق��رن املايض... وهي كتابات فقهية وفلس��فية وسياس��ية وسعت من مفاهي��م الحرية ،جيال بعد جيل ،ومرحلة بعد أخرى ،وأعط��ت «وصفة» متميزة له��ذا املصطلح املتعدد املفاهيم. – 1بالنس��بة للفقيه السليامين وجيله (نهاية القرن ،)19كان��ت الحري��ة مرشوطة بأح��كام الرشع ،ال تخرج عن أداء الش��عائر الديني��ة /حرية امللكية / حري��ة الفكر /حرية التعبري /حري��ة العمل /حرية الدفاع عن النفس بالحجة البالغة /الحرية السياسية املناقضة لالستبداد ،هي حرية ال تخرج عن الرشع، ولكنها ترف��ض الحرية التي ميارس��ها الغرب والتي تقبل بفك��رة الحرية املطلقة الت��ي «تتعدى أوامر ال�شرع ونواهيه» .ويف نظر املفك��ر املغريب محمد سبيال يعترب هذا التوجه ،مع ذلك متفتحا بالنظر إىل األوضاع التي كان عليه��ا املغرب يف القرنني الثامن عرش والتاسع عرش. ه��ل كان تحفظ النخب��ة املغربية م��ن الحرية يف املفاهي��م الغربية خالل تلك الف�ترة ،يعكس عدم نض��ج كيان وحقوق الفرد يف املجتمع التقليدي ،أم
زاوية زهور كان يعك��س مقاومة النخب��ة املغربية لكل األفكار املرتبط��ة باألجنبي أو الواردة من��ه ،باعتباره كافرا يعيش يف حالة الجاهلية؟ يالحظ ذ .سبيال أن هذه النخب��ة مل تربط املعنى الجديد للحرية يف كتاباتها، مبسألة اإلصالح السيايس ،الذي يربط الحرية ببعدها السيايس املتمثل يف الحقوق السياسية للفرد وإقامة الس��لطة عىل أس��اس ضامن الحريات السياس��ية للمواطن ..فهي ظلت محصورة يف تصوراتها القامئة عىل الرشع ،حتى إشعار آخر. – 2أما بالنسبة لجيل السيايس واملفكر محمد عالل الفايس (بداية القرن املايض) فقد اختلف أمر تقييم الحري��ة ،إذ أخذت مفاهي��م الحرية موقعا آخر يف الس��لوك ويف التفكري ،فه��ذا الجيل أطلق ش��عار: «الحرية جهادنا حتى نراه��ا» ...وأصبحت الحرية تنتق��ل من نض��ج إىل آخ��ر لتصبح أكرث اس��تيعابا لظروف العرص ولرشوطه امللزمة. و لرمبا كان ملعاهدة الحامية (مارس ،)1912حيث فقد املغرب اس��تقالله ،دخل هام يف هذا االنتقال، ويف تطوير مفه��وم الحرية ،التي أصبحت ش��عارا واسعا وش��امال ،يبحر يف كل الفصائل واالتجاهات والرصاع��ات .الحرية ع�بر أفكار النخب��ة الجديدة ملغ��رب عه��د الحامية ،انتقلت يف خطب وأش��عار وكتابات الزع�ماء واملثقفني واإلعالميني ،واملناضلني يف األحزاب السياسية إىل العقل الجمعي ،فأصبحت أداة أوىل ،لن��زع االس��تقالل ،وبن��اء مغرب جديد، منخرط يف الحضارة العاملية ،بخصوصياته وقيمه. إن جيل محمد عالل الفايس جسد بعمق توجهات الجي��ل األول له��ذه النخب��ة يف كتاباته السياس��ية والفقهي��ة واإلبداعية .إذ أضح��ت الحرية تتجاوز مفهوم تحقيق اس��تقالل البالد ،واس��تقالل إرادتها إىل مفه��وم املواطن��ة ،ومفهوم الحق��وق الفردية والجامعي��ة ،متيز ب�ين الحري��ة اإللهي��ة املطلقة، والحري��ة اإلنس��انية املطلقة املبدع��ة ،كام قررها اإلس�لام« ،الحرية اإلنسانية ليس��ت شيئا اعتباطيا، وليست رشعية برشع الله وفعله» /عالل الفايس الحرية الش��خصية أو الفردي��ة يف نظر هذا الجيل، ال تعن��ي إرادة االنس��ان يف أن يفعل ما يش��اء ،بل هي متتع اإلنس��ان بالحقوق ،وقيام��ه بالواجبات، هي حرية الفكر وحرية اإلحس��اس وحرية التعبري، وهي أيض��ا رفض العبودية والتمييز ،هي مقاربات
زهور
العدد الثالث -السنة األولى -يوليوز 2012
مستمرة ودامئة ،بني حقوق الله وحقوق العباد ،يف «ملعب» الحرية الواسع. – 3أما بالنس��بة لجيل محمد عزيز الحبايب/عبد الله العروي/محم��د س��بيال/فاطمة املرنييس/ …/محمد عاب��د الجابري (ال��ذي أىت مبارشة بع��د جيل عالل الفايس) ،فقد عرف مفهوم الحرية نقلة نوعية أخرى، ذلك ألن األفكار واملقاربات التي جاء بها هذا الجيل، تؤك��د أن الحرية ليس��ت مفهوما فقط ،وال ش��عارا فقط ،بل ه��ي حاجة فردية /س��يكو لو جية / تاريخية واجتامعية ،يجب التعام��ل معه��ا برشوطها املوضوعية والذاتية. إىل حد ه��ذا الجيل ،يكون مفهوم الحري��ة يف املغرب املع��ارص واملغرب الحدي��ث أيضا، ق��د انتقل ع�لى مدى قرن من الزم��ن ،من مفهوم ف��ردي /أخالقي ،كام نج��ده يف الفقه وعلم الكالم، إىل مفهوم اجتامعي وتاريخي وس��يايس وفلس��في أوسع وأشمل؛ إنه يتقارب مع املفهوم الذي تحمله الليربالية والفلسفات الحديثة يف عامل اليوم. فالنخبة املغربية الجدي��دة ،تربط الحرية بالتطور والتنمي��ة ،وتجع��ل منه��ا رشط��ا رضوري��ا لبلورة العبقرية واملواطنة ...و حقوق اإلنس��ان .وأكيد أن األجيال الصاعدة ،مازال��ت تقلب يف هذه الكلمة/ الحرية ،وما زالت تستخرج منها ما تطمح إليه.. ففي الحرية تتجىل إنس��انية اإلنسان ،ويف املواطن الفاع��ل تتجىل مع��اين ومفاهيم الحري��ة ...هكذا تريدها الدميقراطية.
6 ترى هل استطاعت رؤى هذه األجيال اإلجابة عىل بعض األسئلة التي تطرحها مسألة الحرية…؟ ش��خصيا ال أعتقد ذلك ،ألن سؤال الحرية ،كان وما يزال هو األصعب يف كل املطارحات التي «تشتغل» عىل اإلنس��ان ،و الحداثة ،والعوملة ،والدميقراطية، ولكن م��ع ذلك كانت قراءة هذه األجيال ملس��ألة الحرية تسعى إىل وضع مفاهيم «الحرية» يف إطار موضوعي وشمويل ،وهو ما جعلها حية باستمرار يف الوجدان املغريب. رئيس التحرير
43
44
زهور
مقاالت وأبحاث
العدد الثالث -السنة األولى -يوليوز 2012
واقعنا اللغوي في زمن العولمة هل يكشف لنا أسباب التراجـــــع.. -1-
محمد أديب السالوي adibslaoui@gmail.com
اللغة ،أية لغة ،سواء كانت حية أم مرتاجعة، علمية أم ش��عرية ،تبقى من أخص خصائص األمم والش��عوب ،تبقى غذاء عقلها وروحها وعاطفتها ،ركيزة من ركائزها األساسية املرتبطة بأبنيتها وهويتها وتاريخها وحضارتها. اللغة بهذا املعنى ،تتحول إىل هوية غري قابلة للمجادل��ة ،كل إهامل لها ينعكس س��لبا عىل األم��ة ،ومت��ى أصبح��ت الهوية مس��تلبة ،تخلفت األم��ة يف بنائها الحضاري/ الفكري /الس��يايس /االجتامع��ي ،ذلك ألنها تش��كل يف نفس اآلن ،قاعدة واستثناء يف هذا البناء. ومت��ى تعرض��ت اللغة للغ��زو أو االس��تالب ،تصبح لغة مرتاجعة ،ال تس��تطيع
التفاع��ل أو التعامل أو التعاي��ش مع قضايا األمة ،ال تس��تجيب لطموحاته��ا العلمية أو الثقافي��ة ،تفقد موقعه��ا يف إدارة الدولة ويف املجتمع ،كام يف الجامعات واألكادمييات ويف مخت�برات البحث العلم��ي ،باإلضافة إىل أنها تفقد صوتها يف التجاذبات الحضارية. ويف نظ��ر علامء اللغة ،وعل�ماء التاريخ ،فإن التخلف االقتص��ادي كام التخلف االجتامعي والحضاري والسيايس عموما ،يعني فصيلة من التخلف اللغوي يف عرص العلم والتكنولوجيا، فمثل هذا التخلف يجس��م تف��اوت التطور الرتكيب��ي بني اإلنس��ان ولغته ،بني اإلنس��ان وهويت��ه ،بينه وبني التاريخ املايض ،بينه وبني التاريخ الحارض واآليت.
مقاالت وأبحاث -2-
يف الجغرافي��ا العربية لس��نا يف حاجة إىل بيان األدوار التي اضطلعت بها لغة الضاد كأداة للتخاطب واإلبداع والبحث العلمي يف امل��ايض ،إذ يكف��ي أن نراج��ع املناجد واملوس��وعات وه��ي عدي��دة ومتنوعة، لنلم��س ذلك ال�ثراء الذي ع��ز نظريه يف الجغرافيا الكونية. ففي مصنفات العل��وم الرياضية واألدبية والفلس��فية والقانوني��ة وغريه��ا ،ذخرية لغوية كانت هي القوام األسايس للتفاهم بني العل�ماء ،للتعبري عن أعمق النظريات التقني��ة ،يوم كانت الحض��ارة العربية يف عنفوانها وازدهارها. يحدثن��ا التاري��خ عن ه��ذه اللغة ،يقول بش��فافية ووضوح :أنه منذ القرن الهجري األول ،ونتيجة انتصارات الدولة املس��لمة، انبثقت حركة فكرية واس��عة ،مل يس��تفد منها فقط الشعب الذي عاش لفرتة طويلة من التاريخ خارج ح��دود العامل املتمدن، ونعني به الش��عب العريب ،ولكن استفاد منها أيضا املتكلمون بالرسيانية والفارسية واليوناني��ة واألمازيغية ،لدرج��ة تبلورت معها هذه اللغات عىل الخريطة الفكرية العاملية. يف هذا املوضوع أوضح جوس��تاف لوبون، يف كتاب��ه حضارة العرب ،أن اللغة العربية أضح��ت خالل هذا التاريخ ،اللغة العاملية األوىل يف جمي��ع األقط��ار واألمصار التي
زهور
دخلها الع��رب ،حيث أخلف��ت اللهجات التي كانت مستعملة يف تلك البالد ،ومنها: الرسياني��ة واليونانية والقبطية والرببرية/ األمازيغية. يف هذا املوضوع أيض��ا ،يذكر العديد من املؤرخ�ين ،يف الرشق والغ��رب ،أن العرب يف عرص االزده��ار ،مل يكتفوا بنرش لغتهم وفرضها بقوة العلم ،وإمنا انكبوا عىل دراسة لغات العامل من أجل املثاقفة ،فقد تعرفوا عىل أهم املصنف��ات اليونانية و اإليرانية والهندية إب��ان عهد الخلفاء العباس��يني، وانكب��وا ع�لى دراس��ة اآلداب األجنبي��ة بحامس فاق الحامس الذي أظهرته أوروبا يف عه��د االنبع��اث ،وهو ما جع��ل اللغة تخضع ا لعر بي��ة
يف نظر علامء اللغة، وعلامء التاريخ ،فإن التخلف االقتصادي كام التخلف االجتامعي والحضاري والس��يايس عموما ،يعني فصيلة م��ن التخل��ف اللغوي يف عرص العلم والتكنولوجيا
ملقتضيات اإلص�لاح الجديد ،فانترشت يف مجموع أنحاء آس��يا ،واس��تأصلت نهائيا اللهجات القدمية وقضت عليها ،السيام يف شبه الجريرة األيبريية ،حيث ندد الكاتب املس��يحي ج��ان لوغارو وهو م��ن رجال
العدد الثالث -السنة األولى -يوليوز 2012
الق��رن التاس��ع امليالدي بجه��ل مواطنيه باللغ��ة الالتيني��ة ،فقال :إن املس��يحيني يتعلقون بقراءة القصائ��د وروائع الخيال العربية ،ويدرسون مصنفات علامء الكالم للمسلمني ،ال بقصد تنفيذها ،بل من أجل التمرن عىل األس��لوب الصحي��ح واألنيق للتعبري والتصنيف والكتابة. يف هذا املوضوع أيضا أكد املؤرخ دورزي، أن أهل الذوق (يف القرن العارش امليالدي) أبهرته��م فصاحة األدب الع��ريب واحتقروا البالغة الالتيني��ة ،وص��اروا يكتبون بلغة العرب الفاتحني.
-3تعني هذه الشهادات املخترصة ،أن اللغة العربية التي كانت إىل حني ،لغة منس��ية يف «جاهلي��ة» الجزي��رة العربية ،أدركت يف القرون الهجرية األوىل عنفوانها .فقد وصفها أح��د املفكرين الكبار يف الغرب املس��يحي ،فيكث��ور بريار ،أنها أبس��ط وأق��وى وأرق لغة يف الع��امل ،وأنها أكرث اللهجات اإلنس��انية مرون��ة وروعة ،وأنها كنز يزخر باملفاتن ويفيض بس��حر الخيال وعجي��ب املجاز ،رقيق الحاش��ية ،مهذب الجوانب ،رائع التصوير. وخ��ارج مفاهيم هذه الش��هادة ،يحدثنا تاريخ الغرب املس��يحي ،أن نف��وذ اللغة العربية ،أصبح بعيد املدى ،حتى أن جانبا من أوروبا الجنوبية ،أيقن أن هذه اللغة، هي األداة الوحيدة لنقل العلوم واآلداب، وأن رجال الكنيس��ة اضطروا إىل تعريب مجموعاتهم القانونية لتسهيل قراءتها يف الكنائس اإلسبانية ،وأن الفقيه اليسوعي جان س��يفيل ،وج��د نفس��ه مضطرا إىل تحري��ر الكتب املقدس��ة باللغة العربية ليقدمه��ا للق��راءة العام��ة ،يف الكنائس اإلسبانية. والش��ك أن الجامع��ات األوروبية خالل هذه الفرتة من التاريخ ،كانت عامال مهام يف ذي��وع اللغة العربية التي أصبحت يف
45
46
زهور
العدد الثالث -السنة األولى -يوليوز 2012
مقاالت وأبحاث
اس��تعملتها املس��يحية ،والتي استطاعت بها اس��تكامل عقيدتها جوه��را وتعبريا... ويع�ترف ه��ذا املؤل��ف أيضا مبس��اهمة الفلسفة اإلس�لامية يف تكوين علم الكالم خالل القرون الوسطى ،وبالدور الذي قام به كل من ابن س��ينا وابن رش��د يف التأثري عىل مفكري الديانة املسيحية. االستاذ ماس��نيون يعرب عن نفس الفكرة، عندم��ا يقول يف كتاباته االس��ترشاقية ،أن املنه��اج العلمي قد انطلق أوال يف التاريخ الحضاري بأوروبا باللغة العربية ،وأن هذه اللغة استطاعت بقيمتها الجدلية والنفسية والصوفية ،إضفاء صيغ القوة عىل التفكري الغريب ،إذ استطاعت نقل بدائع الفكر يف
العصور الوس��طى ،لغة العلوم والفلسفة والقان��ون والطب والفن��ون ،بل أصبحت لغ��ة دولية للحضارة .فف��ي عام 1207م، تم تش��ييد معهد يف جنوب أوروبا لتعليم اللغة العربية ،وإحداث كرايس لهذه اللغة يف كربيات الجامعات الغربية ... ويف الق��رن الس��ابع عرش ،اهتم��ت أوربا الش�مالية والرشقي��ة اهتامم��ا خاص��ا بتدريس اللغة العربية ونرشها .ففي عام 1638م ،ق��ررت حكومة الس��ويد ،تعليم اللغ��ة العربي��ة يف مدارس��ها ومعاهدها وجامعاته��ا ،ومنذ ذلك العه��د انرصفت السويد إىل طبع ونرش املصنفات اإلسالمية، وبدأت روس��يا يف نفس هذه الفرتة تعنى بالدراس��ات الرشقي��ة والعربية ،خاصة يف يج��ب عهد البطرس األكرب ،ويف عام 1769قررت امللكة كاترين��ا ،إجبارية اللغة العربية ،يف االع�تراف أن��ه بعد التعليم الع��ايل والبحث العلمي .ويف عام توقف االمتداد العريب ،توقف 1816تم إحداث قسم اللغات السامية يف جامعة بيرت وكراد ،حيث تم اقتباس مئات الزحف الحض��اري العريب ،فتوقف املصطلح��ات العلمي��ة من لغ��ة الضاد .من��و اللغ��ة العربي��ة إىل درج��ة وحس��ب ليف��ي بروفنصال ،أن��ه يف إطار الجمود هذا االقتباس ،تم دعم القاموس اإلسباين/ الالتيني بأسامء األزهار والرياحني العربية، وم��ن هذا القام��وس انتقلت مصطلحات العل��وم الطبيعي��ة إىل فرنس��ا وباقي بالد امليدان الروحي عىل الجسد األوريب ،ومن أوربا الغربية. خالله عىل خريطة الحضارة اإلنسانية. يعن��ي ذلك بوض��وح ،أن اللغ��ة العربية، -4قامت حتى اآلن بدعم العلوم والفلسفات يف القراءات التاريخية لهذه الفرتة املشعة ،والفنون يف الحضارتني القدمية واملعارصة، الح��ظ ع��امل إيطايل كب�ير ،أن لغ��ة روما وس��اعدت عىل تطويره��ا ،ونقلها يف زمن مل تزده��ر وتتوس��ع عن طريق التوس��ع الرتجامت من اللغتني الفارسية واليونانية، االس��تعامري ،ولكن بفضل إشعاع اإلسالم وقامت بحملها إىل اللغات األخرى ،فكانت الثقايف ،بل إن اإلصالح الخاص بالكنيس��ة أهم جرس لنقل النهضة إىل أوروبا ،وكانت يف نظ��ره -تأثر إىل حد بعي��د بالثقافة واحدة من أهم عنارص تقدمها.العربية. يعني ذلك أيضا ،أن اللغة العربية استطاعت يف هذا االتج��اه ،يعرتف البارون كارادوفو يف زمن مبكر حمل الثقافة العلمية والفنية مؤلف كتاب مفكرو اإلسالم ،وهو مسيحي واألدبية ،ودعم وتطوير الحضارة اإلنسانية متحم��س ،أن اإلس�لام عل��م املس��يحية عرب قرون طويلة ،وهو ما يؤكد قدرتها عىل منهجها يف التفكري الفلسفي ،وأن مفكري التجديد وعىل التطور واالستمرار. اإلسالم نظموا لغة الفلسفة الكالمية التي
هك��ذا إذن ،تك��ون اللغ��ة العربي��ة قد انطلق��ت بقوة وحيوية يف القرن الس��ابع امليالدي ،لتفتح مس��احة واسعة وشاسعة من التأثري الثقايف والفلس��في والحضاري، متتد م��ن املرشق إىل املغرب ،ومن آس��يا إىل أوربا ،حيث س��اهمت بفعالية يف بناء تقدم وازدهار العديد من الش��عوب عىل الخريطة اإلنسانية. وبش��هادة املؤرخ�ين والعل�ماء واألدب��اء والفقه��اء يف العديد من جهات الدنيا ،أن املصطلحات العلمية ،والصناعية والتجارية والفالحية واالقتصادي��ة والطبية ،والفنية والهندس��ية ،ظهرت يف لغات أوروبا وآسيا نقال عن لغة الضاد. وبشهادة القواميس العلمية ،فإن أثر اللغة العربي��ة يف املفردات العلمية ،الفارس��ية، والرتكية والكردية ،واألردوية ،واإلس��بانية، والربتغالية ،ولغات رشق أوروبا ،قد تجاوز املصطلح��ات اللغوية ،إىل أس�ماء األعالم اإلنس��انية والحضاري��ة والجغرافية ،مام جعل تأث�ير الثقافة العربية ميتد إىل البناء الحضاري لهذه الشعوب.
-5الس��ؤال الذي يطرح نفس��ه الي��وم بقوة وحدة :ما هو وضع اللغة العربية ،يف زمن العوملة من هذا اإلرشاق؟ يج��ب االعرتاف أنه بع��د توقف االمتداد العريب ،توقف الزح��ف الحضاري العريب، فتوق��ف من��و اللغ��ة العربي��ة إىل درجة الجم��ود .ففي الق��رون الثالث��ة املاضية، حي��ث أحك��م االس��تعامر الفرن�سي/ اإلنجلي��زي /الرتيك /اإلس��باين قبضته عىل الخريطة العربية ،بذل هذا االستعامر أكرث من جهد ،من أجل إحالل لغته بديال للغة العربية ،والدفع باللهجات من أجل إذكاء ال�صراع معها ،وإضعاف اللغ��ة األم...ويف ذلك نرص وانتصار للمرشوع االستعامري. وهك��ذا عندم��ا ح��ل علين��ا «الع�صر التكنولوجي» /عرص العوملة /عرص األلفية الثالث��ة ،بدأ الحديث داخل البيت العريب،
مقاالت وأبحاث عن ضعف اللغ��ة العربية التي كانت إىل حني لغة عاملية ،لغة علمية قوية محصنة باألخالقيات والقيم اإلنسانية ،كأقوى لغة س��امية ،باعتبارها لغة الوحي ،لغة القرآن الكريم .ويف خضم الحديث عن ضعف لغة الض��اد يف زمن العوملة يطبق الصمت عن ضعف أهل هذه اللغة ومدبري ش��ؤونها، يطب��ق الصم��ت ع��ن الذي��ن أضعفوها بلجوئه��م إىل لغات العدو االس��تعامري، وتخليهم عن اللغة األم ،اللغة الهوية ،التي حباه��ا الله بكل أس��باب الرفعة واملتعة، وجهزه��ا بكل م��ا يرقى بالفك��ر ويحرك الحس ويسمو بالخيال. يعني ذلك يف نظر العديد من علامء اللغة أن الجمود الذي أصاب اللغة العربية من أهلها أصابها باختالالت متعددة أبرزها: اختالالت يف لغة التعليم وتعليم اللغة؛ اختالالت وظيفية يف الحياة العامة؛ واختالالت ذات طبيعة مؤسساتية ،وهو ما يتطلب من املؤسسات األكادميية واملجامع اللغوية ،إنجاز دراس��ات وتحفيز التأليف الجيد ،والنهوض بالبحث العلمي يف مجال اللغة العربية بكل أبعادها ويف كل امليادين املتعلقة بها ،وذلك بالوس��ائل واملنهجيات التي تالئم إعادة الروح إىل الهوية اللغوية، والت��ي تجعل منه��ا مجددا لغ��ة للتعليم، وللتواصل ،وللبح��ث العلمي ،والتكوين يف كافة امليادين واملجاالت العلمية واملعرفية والتكنولوجي��ة ،مب��ا يف ذل��ك الدراس��ات العلمية /التقنية /الطبية /التدبريية /املالية، التي من ش��أنها تنمية وس��ائلها وقدراتها، وجعلها قادرة ع�لى أن تلعب دورها كامال يف ساحة العوملة...واأللفية الثالثة ...والقرية الكونية ،التي يعمل الغرب عىل طردنا منها بكل الوسائل واألسلحة.
زهور
اللغة إذن ،تعكس حال املجتمع املتحدث بها ،تعرب عن مس��توى تعليم��ه وتكوينه وثقافته وتطوره ،وتعرب بالتايل عن مكانته الحضارية بني األمم. ه��ذه الحقيق��ة ،تعك��س أمامن��ا واقعنا الحض��اري /الثقايف /العلمي /االقتصادي املرتدي اليوم ،تقول لنا بصوت مرتفع :إن واقع اللغة العربية ،هو نفس��ه واقع األمة العربية م��ن املحي��ط إىل الخليج ،يف كل املجاالت وامليادين. تقول لن��ا ه��ذه الحقيقة أيض��ا ...وبكل وضوح وش��فافية :إن اللغة العربية تواجه يف عامل اليوم ،تحديات متعددة ومتداخلة ومتشابكة؛ أهمها ما ميكن اعتباره «عوملة
ا للغ��ة ، أي لغة ،ه��ي كائن حي ،ينم��و ويتطور ويحتفظ بعوام��ل قوت��ه وتط��وره ،عندما يك��ون مجتمعه يف حالة س��ليمة، ينمو ويتطور ويستطيع التحدي واملواجهة
اللغــــة» وهي فصيل من التحديات التي يواجهها الوطن العريب يف ثقافته واقتصاده وسياساته. ويعتقد العديد من الباحثني والدارسني أن التحدي الذي ق��د تواجهه اللغة العربية، خ�لال العقود القادمة بس��بب العوملة مل يكن ه��و أول تحد واجهته ه��ذه اللغة، فه��و حلقة من سلس��لة م��ن التحديات السابقة التي واجهتها يف العقود السابقة، أثن��اء الحكم العثامين ،ث��م أثناء الحمالت االس��تعامرية الفرنس��ية /اإلس��بانية/ -6اإلنجليزية /الربتغالي��ة ،التي عملت بقوة اللغ��ة ،أي لغ��ة ،ه��ي كائن ح��ي ،ينمو ورشاسة من أجل اقتالع جذور هذه اللغة ويتطور ويحتف��ظ بعوامل قوته وتطوره ،من أرضها دون هوادة... عندما يكون مجتمعه يف حالة سليمة ،ينمو لذلك ،البد من االعرتاف ،أن اللغة العربية ويتطور ويس��تطيع التح��دي واملواجهة.
العدد الثالث -السنة األولى -يوليوز 2012
الي��وم ،ويف ظل تجاذب��ات األلفية الثالثة، تواجه تحديا مهوال ،يهدد دورها الوظيفي، وهو ما يحتاج من العرب جميعا مواجهة واعية ،تعيد للغة األم ،اللغة الهوية ،موقعها عىل األرض ،ال من أجل اللغة نفسها ،ولكن من أجل الهوية ،واإلنسان ،والعقيدة ،ومن أجل صيانة الوجود العريب برمته.
-7إن من يتأمل واقع اللغة العربية اليوم يف ظل زمن العوملة ي��درك أن إهامال يطالها يف كثري من املجاالت الحيوية مقارنة بعدد من اللغات العاملية األخرى ،التي تس��يطر حالي��ا ع�لى العل��وم واآلداب اإلنس��انية والتكنولوجيا وغريه��ا من مظاهر التقدم الحضاري يف العرص الحديث. إن لعبة اللغة ،كام هي جارية اآلن يف العامل العريب ،تجعل املجتمعات العربية ،الخارس األول يف العملية ،ففي الوقت الذي تهمل فيه هذه املجتمع��ات لغتها لصالح لغات أخرى وتتوهم أن هذه اللغات ستقدمها أو ستخرجها من نفق التخلف التكنولوجي/ العلم��ي /الحضاري ...تك��ون قد جعلت من موطنها س��وقا اس��تهالكية اضطرارية للس��لع والثقاف��ات والتكنولوجي��ات األجنبي��ة .ذل��ك ألن رواج اللغة ،أي لغة، يعني علميا وحضاريا ،رواج ثقافة وس��لع وقيم أصحابها ،لذل��ك أصبحت اللغة من األسلحة األساسية املس��تعملة (غربيا) يف الحرب الحضارية باملفه��وم الذي جاء به صاموي��ل هتنغنت يف كتابه الش��هري رصاع الحضارات( )1إذ برهنت العوملة ،أن دور اللغة أخطر بكثري مام كان يتصوره علامء وفقه��اء اللغة أنفس��هم .فاقتصاد املعرفة بره��ن أن هذه الوس��يلة قد أضحت من أغىل الرس��اميل الت��ي ميكن اس��تثامرها وجني أرباحها الطائل��ة ،ليس يف الهيمنة االقتصادي��ة وحدها ،ولكن أيضا وأساس��ا يف الهيمن��ة الثقافية/الحضارية ،وهي أكرث تأثريا وفتكا عىل املجتمعات املستضعفة. ــــــــــــــــــــــــ - 1عبد القادر الفايس الفهري /أي موقع للغة العربية يف االقتصاد العريب جريدة الصباح 15/مايو /2002ص.7
47
48
زهور
العدد الثالث -السنة األولى -يوليوز 2012
متابعات إعالمية
منظمة املدن العربية
المغرب في موقع الريادة
يحتل املغرب موقعا بارزا وهاما يف منظمة املدن العربية ،وهي منظمة غري حكومية، متخصصة يف شؤون البلدات واملدن داخل الوط��ن الع��ريب .ت��م تأسيس��ها يف مارس ،1967ومقره��ا الدائم بالكويت .ليس لها أي نش��اط أو ارتباط س��يايس أو عقائدي، وال تتدخ��ل يف األمور السياس��ية ألي بلد. تعمل من أجل الحفاظ عىل هوية املدينة العربية و تعزيز مكانة الس��لطات املحلية العربية وتشجيع الالمركزية و رفع مستوى الخدمات واملرافق البلدية يف املدن العربية ورعاية التعاون وتب��ادل الخربات بينها ،و اعتامد أس��لوب التخطيط الشامل لتوجيه نشاطات وخدمات املدينة عىل أساس من واقعه��ا االقتصادي واالجتامع��ي والثقايف والبيئ��ي .كام تعمل ع�لى تحقيق التنمية املس��تدامة يف امل��دن العربي��ة ،وتنمي��ة وتحدي��ث املؤسس��ات البلدي��ة واملحلية والعمل عىل تطوي��ر وتوحيد الترشيعات والنظم البلدي��ة يف العامل العريب ،ومعاونة
بلدي��ات امل��دن األعض��اء ع�لى تحقيق مرشوعاته��ا اإلمنائي��ة عن طري��ق مدها بقروض ميرسة. ويف ش��هر م��اي امل��ايض ( )2012بحضور املغرب ،نظمت هذه املؤسس��ة باالشرتاك م��ع برنامج األمم املتحدة للمس��توطنات البرشية ،مؤمترا أك��دت تقاريره العلمية، أن ال��دول العربية متكن��ت حتى اآلن من تحقي��ق خطوات واضحة وملموس��ة نحو بلوغ األه��داف اإلمنائية لأللفي��ة الثالثة، والسيام يف مجايل التعليم والصحة. فف��ي كلمته أمام هذا املؤمت��ر أكد األمني الع��ام املس��اعد ملنظمة امل��دن العربية ، أن ه��ذه املنظمة أدركت منذ تأسيس��ها يف الكوي��ت يف م��ارس ،1967أن التنمية الحرضي��ة يف املدن العربي��ة هي املكون الرئيس إلس�تراتيجية التنمي��ة ..وقد كان أحد أهدافه��ا تأمني ُصنّاع ق��رار ومهنيني يس��همون يف تطوير األداء البلدي باملدن، ويعملون عىل وضع الربامج وتطوير عملية
متابعات إعالمية التخطيط ...وإطالق آليات تسهم يف دمج كل مكونات التنمية املس��تدامة ...وتأمني وصول كل الخدمات األساس��ية للساكنني، وعدم إهامل أي منطقة حرضية. ك�ما أكدت كلم��ة األمني العام املس��اعد كذلك عىل أن توسع املدن العربية وتزايد املشكالت والتحديات التي تواجه قادتها، تف��رض عليه��ا البحث ع��ن رشكاء دوليني يعنون باملدن وس��اكنيها ،وه��و ما جعل منظمة املدن العربية يف سنة ،2004تفتح مكتبا إقليميا لربنامج املستوطنات البرشية التابع لألمم املتحدة ()UN-HABITAT يهتم باملدن العربية ويساعدها يف العملية الحرضية واحتياجاتها الرئيسية وتحدياتها، مع األخذ باالعتبار الخصوصيات املشرتكة ملدننا ،بحيث تكون املدن والبلدات قادرة عىل التكيف مع املبادئ األساسية املالمئة للتجديد والتنمية املس��تدامة واالبتكار... ووض��ع اس�تراتيجيات تخطي��ط عمرانية وحرضية مالمئة للمنطقة. وأش��ار األم�ين الع��ام املس��اعد يف نفس الكلم��ة ،إىل أن منظم��ة امل��دن العربية أس��همت يف إعداد تقرير عن حالة املدن العربية مع املكت��ب اإلقليمي للهابيتات، وتعترب عملية إصدار التقرير بشكل دوري أحد مكونات االتفاقية املوقعة بني برنامج األمم املتح��دة وحكومة دول��ة الكويت، والتعاض��د والتع��اون مع منظم��ة املدن
مدينة الرباط
زهور
العربية .ثم اختتم كلمته قائ ًال :إن إطالق هذا التقرير يف هذا املؤمتر يش��كل إضافة جدي��دة من ش��أنها أن تع��زز الرشاكات املحلية واإلقليمي��ة والدولية الفاعلة نحو اعتامد اسرتاتيجية متعددة للمستوطنات واملشاريع الحرضية. ص��در ع��ن ه��ذا املؤمت��ر ،العدي��د من التوصيات ،أكد فيها املشاركون عىل رضورة اعتامد املنظور الطويل األمد للحفاظ عىل املايض ،وإعادة رس��م الحارض ،والتخطيط للمس��تقبل ضمن إطار اإلب��داع واالبتكار لتحقي��ق التنمية يف املنطق��ة العربية مع رضورة مواجهة املدن العربية لوضع نهج اس�تراتيجي يف مج��ال التخطيط الحرضي واإلقليم��ي للرتويج لنفس��ها م��ن خالل أصوله��ا التاريخية والثقافي��ة والطبيعية املتميزة .كام حذروا م��ن زيادة معدالت الكثافة الس��كانية الش��ابة ،مش�يرين إىل زي��ادة مع��دالت البطال��ة يف منطقت��ي املرشق واملغرب العريب عىل السواء ،داعني إىل رضورة اتخ��اذ التداب�ير الوقائي��ة إزاء التأثريات املتوقعة لتغري املناخ. من جهة أخرى ،خص املش��اركون البلدان الت��ي تتمت��ع مب��وارد الطاقة الشمس��ية بالدعوة إلعداد دراس��ات متعمقة ضمن الخطط الوطنية واإلقليمية يف هذا املجال، مشددين عىل أهمية تفعيل الرشاكات بني املدن والحكومات واملؤسس��ات اإلقليمية
مدينة مراكش
العدد الثالث -السنة األولى -يوليوز 2012
والدولية للتصدي للتحديات الحرضية ،مع دعوة وزراء البلديات العرب لتعزيز الحوار يف م��ا بينهم وتبادل الخ�برات بني دولهم يف مج��ال املناط��ق الحرضي��ة ،من خالل منتدى وزاري حرضي إقليمي واس��تضافة الدورة الثانية للمؤمتر والعمل عىل صياغة السياسات الحرضية عىل املستوى الوطني وإنش��اء أط��ر العم��ل الخاص��ة بالتنمية العمراني��ة واعتامد منهجي��ات جديدة يف مجال التخطيط االسرتاتيجي عىل املستوى اإلقليم��ي ،مع رضورة إرشاك الش��باب يف التنمية الوطنية وتبادل الخربات وإنش��اء املراصد الحرضية. وحث املش��اركون وزراء البلديات العرب ع�لى تقدي��م الدع��م ألنش��طة برنام��ج األم��م املتح��دة للمس��توطنات البرشية، ودعوة الربنامج لتنفيذ عمليات التش��اور الواسعة النطاق بشأن اسرتاتيجية الرشاكة اإلقليمية وتش��جيعه ع�لى تنظيم اجتامع لوضع اسرتاتيجية الرشاكة اإلقليمية قبيل انعقاد املنتدى الحرضي العاملي يف مدينة نابويل اإليطالية خالل الفرتة 7 - 1سبتمرب .2012 املدن املغربي��ة ذات العضوية يف املكتب الدائم ملنظمة املدن العربية : الرباط (تاريخ االنضامم )15/03/1967 مراكش (تاريخ االنضامم )02/05/1972 العيون (تاريخ االنضامم )15/05/1977
مدينة العيون
49
50
زهور
متابعات إعالمية
العدد الثالث -السنة األولى -يوليوز 2012
FOR A BETTER URBAN FUTURE
برنامج األمم المتحدة للمستوطنات البشرية: موئل األمم المتحدة - 1التأسيس تم تأس��يس املوئل سنة 1978إثر اجتامع «فانكوفر» كندا ،الذي عرف ب «موئل »1أو Habitat-Iوقد كان التمدن وانعكاساته أق��ل حضورا عىل جدول أعامل األمم املتحدة التي تم إنش��اؤها أكرث من ثالثة عقود قبل ذلك؛ وكان ثلثي اإلنسانية ال يزال يعيش يف املناطق الريفية. وما ب�ين عامي 1978و ،1997وبدعم ضئي��ل وعمل غري مركز، حاول املوئل -تقريبا لوحده من بني املنظامت املتعددة األطراف – التخفيف من املشاكل الناجمة عن النمو الحرضي الهائل الذي عرفه العامل خالل هذه الفرتة ،الس��يام يف مدن الدول الس��ائرة يف طريق النمو. إال أنه ،من س��نة 1997إىل غاي��ة ،2002وهي الفرتة التي أصبح فيها نصف سكان العامل يعيش يف املناطق الحرضية ،فقد استطاع موئل األمم املتحدة الرفع من كثافة ووترية نش��اطاته ،مستخدما خربت��ه يف تحديد األولوي��ات الت��ي أضحت تتجدد باس��تمرار، ومعتمدا عىل “إعالن األلفية الجديدة» و «برنامج األمم املتحدة لإلسكان».
لإلسكان” و”اإلعالن بش��أن املدن واملستوطنات البرشية األخرى خالل األلفية الجديدة” و “القرار رقم .”56/206 كام تعتمد ميزانية املنظمة عىل أربعة مصادر و هي: الغالبية العظمى من املوارد هي عبارة عن تربعات من الرشكاء؛ مصادر التعاون التقني؛ مساهامت الحكومات و السلطات املحلية واملؤسسات؛ ثم %5من امليزانية العادية لألمم املتحدة.
– 3المكاتب اإلقليمية للمنظمة
ملوئل األمم املتحدة ثالثة مكاتب جهوية رئيسية و هي: املكت��ب اإلقليمي إلفريقيا و ال��دول العربية و مقره يف نريويب،كينيا؛ املكت��ب اإلقليمي آلس��يا و املحيط الهادئ و مق��ره يف فوكوكااليابانية؛ املكت��ب اإلقليمي ألمريكا الالتينية و منطقة الكاريبي ،و مقرهيف مدينة ريودي جانريو الربازيلية. زي��ادة عىل املكاتب اإلقليمية ،يتوفر املوئل عىل مكاتب لالتصال – 2المهمة برنام��ج األم��م املتح��دة للمس��توطنات البرشية؛ موئ��ل األمم و املعلومات و هي كام ييل: املتح��دة ”UN-HABITAT”،هي وكالة تابع��ة لألمم املتحدة، مهمته��ا هي تعزيز التط��ور االجتامعي والبيئي للمس��توطنات مكتب شيناي – الهند؛ البرشية من خالل برامج مندمجة للتنمية املس��تدامة مع توفري مكتب القاهرة – مرص؛ املأوى املالئم للجميع. مكتب جنيف – سويرسا؛ وتح��ددت أهداف ومهم��ة املنظمة بناء عىل «إع�لان فانكوفر مكتب بروكسيل – بلجيكا؛ للمس��توطنات” و “ إعالن إس��طانبول” و”برنامج األمم املتحدة مكتب بكني – الصني.
منبر المجتمع المدني
زهور
العدد الثالث -السنة األولى -يوليوز 2012
الجمعية ،ماذا يعني هذا المصطلح؟ احللقة الأوىل عرف املجتمع امل��دين املغريب خالل العقدين األخريي��ن منوا كب�يرا وتطورا رسيع��ا ،حيث انترشت الجمعيات واملؤسسات املدنية بكل مناطق اململكة؛ مدنها وقراها ،كام برز جيل جديد منها بره��ن بقوة عىل قدرته ،وخربته، يف املس��اهمة بش��كل فعال وملم��وس ،من أجل تثبيت دعائم الدميقراطية ببالدنا ،ونرش ثقافة حقوق اإلنسان والدفاع عليها ،وترسيخ مفه��وم التضامن وتفعيله ،و خلق مش��اريع تنموية هامة ومتعددة … وتعترب الجمعية أداة للتعبري الجامعي ،وذلك عرب تأسيس��ها لعالقة خاص��ة فيام بني األفراد املكونني له��ا أوال ثم بني ه��ؤالء كمجموعة واملجتمع يف شكل جديد يختلف عن األسس الت��ي كان يقوم عليها م��ن قبل ،مبعنى آخر: تؤس��س الجمعي��ة قاع��دة جدي��دة للعبة اجتامعية تطبعها الليونة والتس��امح ،وقادرة عىل زرع حيوية ودينامية يف نسيج اجتامعي صل��ب وهالمي ،وم��ن تم تعدي��ل جوهرة العالقة التي تربط الدولة باملجتمع (.)1 وإذا كان��ت هناك جمعي��ات ال يتعدى عدد أعضائها بضعة أفراد ،تعمل بطريقة موسمية ومرتجلة ،ومنها من ال يقوم إال بنشاط واحد فقط ،ليخلد بعدها إىل الراحة األبدية ،حيث ال يذك��ر وجوده االفرتايض إال من خالل ملفه املتواجد يف أرش��يف السلطات املحلية ،الذي إن احتف��ظ به فألس��باب أمني��ة ،أو محاباة لصاح��ب نعم��ة ال غري ،فإن هن��اك باملقابل جمعيات أبانت مؤخرا عن إملام كبري مبجاالت الهندسة االجتامعية ،والتنظيم املحكم ،وفن إدارة املش��اريع ،وعقلنة التدخالت ،والتدبري م��ن خ�لال املقارب��ة التش��اركية الحقيقية،
والتتبع والتقييم ،وغريها من املهارات التي ال ميكن ملؤسس��ات املجتمع املدين أن تستغني عنها يف الوقت الراهن. م��ن جهة أخرى ،وإذا كان يف الس��ابق مجال الجمعيات ينحرص أساسا فيام هو اجتامعي، وريايض ،وثقايف ،وهي أنش��طة كانت تحقق بال��كاد بعض األهداف املعنوي��ة واألخالقية ألعضائها ،فإن التحوالت التي عرفها املجتمع املغ��ريب مؤخ��را ،جعلت م��ن االعتامد عىل املجتم��ع املدين مطلبا ال غن��ى عنه من أجل دع��م األنش��طة االجتامعي��ة ،واالقتصادية، والصحي��ة ،والبيئي��ة ،والحقوقي��ة ...بل إن ه��ذه املؤسسس��ات أضح��ت أداة ال محيد عنه��ا لتعزيز مختل��ف السياس��ات الوطنية الرامي��ة إىل مواجهة الفقر والتهميش ،والحد من اس��تفحال ظاهرة البطال��ة ،باإلضافة إىل الحفاظ عىل البيئة ،وإدماج املرأة يف التنمية، وتنمية العامل القروي...الخ. وكنتيج��ة طبيعي��ة للتط��ور الحاصل اآلن يف بالدنا ،ف��إن الوض��ع الراهن يس��تدعي من الدولة بلورة سياسة شاملة ومندمجة تسعى إىل دعم وتش��جيع بروز مجتمع مدين جديد ورائد ومستقل ومس��ؤول ،ومهيكل ومنظم، يشارك بكامل الفعالية يف التنمية االجتامعية واالقتصادي��ة والثقافية .ألن��ه ورغم ضعف التأطري و قلة اإلمكانيات ،وس��يادة األسلوب االرتجايل يف التدبري ،ف��إن جمعيات املجتمع املدين س��اهمت ،بطريق��ة أو بأخرى إىل حد اآلن ،يف تدعي��م الدميقراطي��ة ،والدف��اع عن حقوق اإلنس��ان ،وإرشاك الس��كان يف تدبري ش��ؤونهم ،وتوف�ير فض��اءات لرتس��يخ قيم التضامن ،ومس��اعدة الفئات املعوزة ،إضافة
إىل ذلك فقد صارت الجمعيات بحكم عالقات القرب التي تربطها بالس��كان املحليني ،هي أفض��ل مخاطب لهم وأحس��ن إط��ار لتلبية حاجياته��م والرف��ع من نجاع��ة مجهودات الدولة يف تنزيل الربامج التي تهمهم(.)2 وق��د أدى ه��ذا الواقع الجدي��د و املتجدد، لهيئات ومؤسس��ات املجتمع امل��دين ببالدنا، واملتمي��ز بكم��ه الواس��ع وكيف��ه املتن��وع ومشاكله ومعوقاته املتعددة ،إىل بروز جدل واسع حوله ،س��واء داخل األوساط الرسمية، أو عىل مس��توى األحزاب السياس��ية ،وحتى داخل دوائ��ر املجتمع املدين نفس��ه ،يطرح عدة أس��ئلة أهمه��ا :كيف ميكن مس��اعدة ه��ذا القطاع الحيوي و الهام عىل أن يتهيكل بطريقة أفضل ،ويتنظم عىل مستوى أحسن، ليصبح قادرا عىل املنافس��ة والخلق واإلنتاج واإلبداع ..؟ للمس��اهمة يف اإلجاب��ة ع�لى هذا الس��ؤال العريض ،وإميانا منا ب��دور اإلعالم والتواصل و رضورة تبس��يط املس��اطر وتقريبه��ا م��ن املواطنني ،ستس��عى مجلة زه��ور من خالل هذا املن�بر ،بحول الله و قوت��ه ،عىل تقديم حلق��ات ته��م بالخصوص رشح و تبس��يط: اإلطار القانوين للجمعيات ،التدبري واملحاسبة، انتقاء املشاريع وهندس��تها ،التواصل وتدبري الخالف��ات ،خل��ق الرشاكات ..كام س��تعمل كذل��ك ع�لى ع��رض آرائك��م واقرتاحاتك��م وانتقاداتكم. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ ( :)1الظاهرة الجمعوية باملغرب – د .عبد العزيز مياج ( :)2دلي��ل الجمعوي -وزارة التنمية االجتامعية واألرسة والتضامن باملغرب 2006 -
51
52
زهور
العدد الثالث -السنة األولى -يوليوز 2012
وبعد..
ُ َ ْ ني ِب�ٱ ْل ِق ْ�س ِط ام و ق ا ُو ن و ك ِ َّ َ
األستاذ صالح زارة خطيب امجلعة مبجسد بدر بالرباط