مجلة زهور العدد الثالث يوليوز 2012

Page 1

‫زهور‬

‫مجلة إخبارية‪ ،‬اجتامعية وثقافية‪،‬‬ ‫تصدر عن جمعية زهور للعدالة االجتامعية‬ ‫والتنمية املستدامة‪ ،‬شهرية ومؤقتا فصلية‪.‬‬ ‫العدد الثالث‪،‬‬ ‫السنة األوىل‪ ،‬يوليوز ‪.2012‬‬ ‫املدير املسؤول‪ :‬محمد املداين‬ ‫اإلدارة والتحرير‪:‬‬ ‫‪ 19‬حي خيرب‪ -‬موالي ادريس زرهون‬ ‫الربيد اإللكرتوين‪:‬‬ ‫‪zohour.magazine@yahoo.com‬‬ ‫الهاتف‪06 61 40 48 98 :‬‬ ‫‪06 61 36 66 28‬‬ ‫اإليداع القانوين‪:‬‬ ‫‪2012 PE 0042‬‬ ‫ردمد‪:‬‬ ‫‪2028 - 8190‬‬ ‫اإليداع القانوين للصحافة‪:‬‬ ‫‪03/2012‬‬ ‫التوزيع‪:‬‬ ‫‪SaPress‬‬ ‫الطبع واإلخراج ‪:‬‬ ‫‪Imprimerie‬‬

‫‪RABAT NET MAROC‬‬ ‫‪Av. Hassan II Cité Al Manar n° 6/3 - Rabat‬‬ ‫‪05 37 20 46 32 - 06 61 20 37 76‬‬

‫‪imprimerierabatnet@gmail.com‬‬

‫فاس اهلوية والتارخي‬

‫فاس‪ ،‬يف أمعاق تراثها احلضاري؛‬ ‫حمطات أساسية يف تارخي فاس؛‬ ‫فاس‪ ،‬األندلس والوجدان املشرتك؛‬ ‫حرف سكنت وجدان فاس‪.‬‬

‫‪ -‬املحور‬

‫الثاين‪ :‬فاس يف أعني اآلخر‬

‫قصيدة «فاس» للتوجيري‬ ‫فاس مدينة ممتنعة؛‬ ‫فاس عرب أختام احلمل؛‬ ‫فاس‪ ،‬معىن الزمن‪.‬‬

‫‪ -‬املحور‬

‫الثالث‪ :‬جامعة القرويني‪ ،‬تارخي ومعرفة‬

‫جامعة القرويني بفاس؛‬ ‫تأمالت يف أرسار خزانة القرويني بفاس‪.‬‬

‫ زاوية زهور ‪ :‬الكلمات‬‫احلرية‪.‬‬

‫درا�سات و مقاالت‪:‬‬‫واقعنا اللغوي يف زمن العوملة‬ ‫هل يكشف لنا أسباب الرتاجـــــع‪..‬؟‬

‫ متابعات �إعالمية‪:‬‬‫املغرب يف منمظة املدن العربية؛‬ ‫برناجم األمم املتحدة لملدن واملستوطنات البرشية‪.‬‬

‫ منرب املجتمع املدين‪:‬‬‫امجلعية ماذا يعين هذا املصطلح؟‬

‫ وبعد‪...‬‬‫«كونوا قوامني بالقسط»‬

‫يف هذا العدد‬

‫زهور‬

‫‪ -‬املحور الأول‪:‬‬

‫العدد الثالث ‪ -‬السنة األولى ‪ -‬يوليوز ‪2012‬‬

‫‪1‬‬


‫زهور‬

‫فاحتة‬

‫‪2‬‬

‫العدد الثالث ‪ -‬السنة األولى ‪ -‬يوليوز ‪2012‬‬

‫رفعت القلم ألعبر للقراء األعزاء عن اعتذاري لتأخر إصدار هذا العدد عن موعده بـ ‪ 15‬يوما‪ ،‬فانتابني‬ ‫شعور رهيب ميزج بني األسف واإلحساس بالذنب؛ إذ وأنا أستحضر مواد العدد‪ ،‬وكأنني أقف بني يدي‬ ‫هذه املدينة الشامخة‪ ،‬حيث وهي تلتحف إزارا ناصع البياض من الوقار‪ ،‬قد تألأل وجهها نورا‪ ،‬وظهرت‬ ‫عالمات اجلمال والشباب واحليوية على محياها رغم العمر الطويل‪ ،‬إال أنها تترنح بني الفينة و األخرى‪،‬‬ ‫وبال���كاد تت���أوه‪ ،‬وكأنه���ا تتألم في صم���ت من مرض عضال خطير ق���د ألم بها منذ وق���ت بعيد‪ُ ،‬ي ّ‬ ‫قطع‬ ‫أوصاله���ا‪ ،‬ويح���اول العبث مبفاتنها‪ ،‬التي حركت في يوم ما حس���د بغداد ودمش���ق‪ ،‬وغرناطة وباريس‪،‬‬ ‫ناهيك عن غيرة ش���قيقاتها كمكناس واحلمراء‪ ..‬لع ّله مرض الفس���اد‪ ،‬وسوء التدبير‪ ،‬وخيانة التاريخ‪..‬‬ ‫وقف���ت ب�ي�ن يديها وأنا أحس بكثير م���ن التقصير‪ ،‬وخيبة أمل تكاد تخنقني ال أس���تطيع قول‬ ‫شيء‪ ،‬وقد فتنت بجمال احلاضرة وبهائها‪ .‬تبسمت العاصمة رغم آالمها وقالت‪:‬‬

‫‪1¡G2‬‬

‫«ال عليك���م‪ ،‬أعرف أنكم أردمت زيارت���ي‪ ،‬أو باألحرى عيادتي‪ ،‬و معكم هدية؛ عبارة‬ ‫ع���ن عدد خاص ع ّني‪ ،‬مبواصف���ات عالية وقيمة راقية‪ ،‬وأعرف أنك���م طرقتم أبواب بعض‬ ‫هؤالء الذين يحس���بون أنفسهم مسؤولني عن خدمتي‪ ،‬وموكول إليهم االهتمام بشأني‪،‬‬ ‫ملساعدتكم على ذلك‪ ،‬فتجاهلكم البعض‪ ،‬وأخلف آخرون وعدهم لكم ّ‬ ‫وتنكر لكم‪،‬‬ ‫‪¢S a‬‬ ‫بل ّإن أحد (أس���اتذتي الكبار) الذي أملتم مساعدته‪ ،‬استصغر مشروعكم‪ ،‬واعتبره‬ ‫@‪ O s‬‬ ‫‪ jÄÁ‬‬ ‫‪ v B%F‬‬ ‫ ‪ S‬متواضع���ا و غي���ر (أكادمي���ي!؟) على حد قول���ه‪ ..‬إال أنّني جد س���عيدة مببادرتكم‪،‬‬ ‫‪¡ sB% %‬‬ ‫‪dG‬‬ ‫ ‪ zkh C0‬‬ ‫‪H‬‬ ‫ ‬ ‫وفخ���ورة مبش���روعكم كما هو‪ ،‬ألنه عل���ى تواضعه فهو أصيل‪ ،‬وعلى بس���اطته فهو‬ ‫‪jQ dGh‬‬ ‫‪ ROPk1!% E‬‬ ‫‪ O B‬‬ ‫*>>>>>‪ t‬‬ ‫‪%³B%‬‬ ‫صادق‪ ،‬فال تأبهوا لهؤالء‪ ،‬واعتمدوا أكثر على أنفس���كم‪ ،‬واستمروا في عملكم‪،‬‬ ‫واس���تمدوا قوتكم ّ‬ ‫وغذوا عزائمكم من إميان إدريس‪ ،‬وكرم أم البنني‪ ،‬وعبقرية ابن‬ ‫خل���دون‪ ،‬وفصاح���ة ابن اخلطيب‪ ،‬وبالغة اب���ن باجة‪ ،‬وتواضع «سلفيس���تر الثاني»‪ ،‬ونبوغ‬ ‫موس���ى بن ميمون‪ ...‬والتنسوا أن ّ‬ ‫تتذكروني‪ ،‬بنفس الهدية املتواضعة‪ ،‬لكن مع احملافظة على طهارتها‬ ‫ونقاءها‪ ،‬ولو مرة كل سنة‪»! ‬‬ ‫ﺩﺭﳘﺎ‬

‫‪Magaz‬‬

‫‪ine‬‬

‫ﳎﻠﺔ‬

‫ﺛﻘﺎﻓﻴﺔ ﺍﺟ‬

‫ﳣﺎﻋﻴﺔ‬

‫ﺟﺎﻣﻌﺔ ﴲ‬

‫ﺮﻳﺔ ﺗﺼﺪﺭ‬

‫‪Zohour‬‬

‫ﻣﺆﻗﺘﺎ ﻓ‬

‫ﺼﻠﻴﺔ ‪//‬‬

‫ﺍﻟﻌﺪﺩ ﺍ‬

‫‪ - 20‬ﺍﳌ‬

‫ﻮﻟﻴﻮﺯ ‪12‬‬

‫ﻟﺜﺎﻟﺚ ﻳ‬

‫ﳥﻦ ‪15 :‬‬ ‫ﺍﻟ‬ ‫‪:‬ﷴ‬ ‫ﺍﳌﺴﺆﻭﻝ‬ ‫ﺪﻳﺮ‬

‫ﺍﳌﺪﺍﱐ‬

‫أيقنت حينئذ أن لبؤة احلواضر س���تعود يوما إلى عرينها مرفوعة الهامة عالية املقام‪ ،‬وستتخلص دون‬ ‫شك من هذه املكروبات التي أملت بها‪ ،‬مستعينة في ذلك بهمم األخيار من أبناءها وأبناء هذا الوطن‪.‬‬ ‫ال ندّ ع���ي‪ ،‬ف���ي مجلة زهور‪ ،‬أننا الوحيدون الذين نحاول القيام مببادرة ثقافية أصيلة من هذا النوع‪،‬‬ ‫فقد سبقنا ويزامننا آخرون‪ ،‬وال شك أن ج ّلهم اصطدم بنفس اإلكراهات‪ ،‬وواجه نفس العقليات‪ ،‬وكثير‬ ‫منهم‪ ،‬لألسف الشديد‪ ،‬استسلم ورمى باملنشفة على احللبة واعتزل‪.‬‬ ‫عل���ى أي���ة حال‪ ،‬ما تقوم به مجلة زهور في حق هذه املدين���ة الرائعة واملدن املغربية األخرى ما هو إال‬ ‫خطوة أولى ومتواضعة‪ ،‬على البررة من أبناء هذا الوطن من علماء وأساتذة وباحثني وسياسيني ومثقفني‬ ‫ومهتمني‪ ..‬أن يبادروا إلى تعزيزها بخطوات أخرى أكثر شموال ّ‬ ‫وأدق تفصيال‪ ،‬للكشف عن محسنات‬ ‫تاريخ مملكتنا العريقة‪ ،‬الذي هو في النهاية تاريخ كل املغاربة‪ ،‬بل وكل املسلمني‪..‬‬ ‫وأعتذر كثيرا عن التأخير!!!‬ ‫محمد املداني‬


‫زهور‬

‫فاس‬ ‫الهوية‬ ‫والتاريخ‬

‫م‬ ‫ح‬ ‫ور‬

‫العدد الثالث ‪ -‬السنة األولى ‪ -‬يوليوز ‪2012‬‬

‫خا‬

‫‪3‬‬

‫ص‬


‫‪4‬‬

‫زهور‬

‫العدد الثالث ‪ -‬السنة األولى ‪ -‬يوليوز ‪2012‬‬

‫فاس‪...‬‬

‫محور خاص‪ ..‬‬

‫في أعماق تراثها الحضاري‬ ‫تحتضن مدينة فاس‪ ،‬التي يعود تأسيسها إلى أزيد من اثني عشرة قرنا‪ ،‬العديد من اآلثار العمرانية‪/‬‬ ‫الحضاري��ة‪ /‬الثقافية‪ ،‬الدالة على مختلف الحقب التاريخية اإلس�لامية‪ ،‬الت��ي توافدت عليها لتصنع‬ ‫تاريخه��ا العربي‪ /‬اإلس�لامي‪ ...‬العمي��ق‪ .‬وهو ما جعل منظم��ة األمم المتح��دة للثقافة والفنون‬ ‫(اليونس��كو) تصنفها سنة ‪ ،1981‬تراثا عالميا‪ ،‬اعترافا منها بمكانة هذه المدينة‪ ،‬التي تضم إلى‬ ‫اليوم‪ ،‬أكبر مآثر الحضارة اإلسالمية في المغرب‪ ،‬من أسوار وأبواب وأبراج ومدارس ومساجد وقصور‪،‬‬ ‫تحمل طابع ساكنتها من أمازيغ األطلس المتوسط وقيراوانيين وأندلسيين ويهود‪ ،‬وهو ما ساهم‬ ‫في تطورها عمرانيا‪ /‬حضاريا‪ ... /‬وثقافيا‪.‬‬ ‫تقول اإلحصاءات الرسمية‪ :‬إن عدد البنايات التاريخية بمدينة فاس يصل إلى ‪ 11.601‬بناية تقليدية‪،‬‬ ‫منها ‪ 74‬قصرا ورياضا و‪ 355‬بناية ذات قيمة أثرية تاريخية كبرى و‪ 143‬مسجدا و‪ 113‬فندقا‪.‬‬ ‫في هذه الورقة تتوقف مجلة زهور عند نماذج من هذه اآلثار‪ ،‬انطالقا من س��ور فاس الذي يعود‬ ‫تأسيسه األولي إلى المولى إدريس الثاني‪ ،‬مرورا بأبوابها وأبراجها وقصباتها ومدارسها وقصورها‬ ‫وحدائقها ومتاحفها‪ ،‬في محاولة إلعطاء صورة تقريبية عن هذه الحاضرة التي أصرت على كتابة‬ ‫تاريخها بمداد عبقريتها اإلبداعية‪.‬‬


‫فاس الهوية والتاريخ‬

‫زهور‬

‫العدد الثالث ‪ -‬السنة األولى ‪ -‬يوليوز ‪2012‬‬

‫الغربي��ة والش�مالية والجنوبي��ة الرشقية‪ ،‬فلقد ش��يد املرينيون‬ ‫‪ /1‬أسوار مدينة فاس‬ ‫س��ورا مزدوجا‪ ،‬ويف هذه الناحية من السور قام‬ ‫السعديون بإنش��اء أبراج ضخمة لحمل املدافع‬ ‫الثقيلة وص��د الهجوم��ات املحتملة بواس��طة‬ ‫السالح الناري‪ ،‬تتمثل هذه األبراج يف برج سيدي‬ ‫بونافع وبرج الشيخ أحمد وبرج بوطويل‪.‬‬ ‫عىل عهد امللوك العلويني عرفت أس��وار مدينة‬ ‫فاس العديد من التعديالت كام ش��يدت أجزاء‬ ‫أخرى جديدة خاصة عىل عهد الس��لطان موالي‬ ‫الحس��ن األول عىل إثر أش��غال توس��عة القرص‬ ‫وتهيئة مشور باب املاكينة‪ .‬أما السلطان موالي‬ ‫س��ليامن فقد عمل ع�لى ترميم أغل��ب أبواب‬ ‫املدين��ة الخارجية التي ال زالت تتخلل أس��وار‬ ‫فاس البايل‪ :‬باب الجديد وباب س��يدي بوجيدة‬ ‫وغريه��ا‪ ،‬ويرجع له الفضل يف إع��ادة بناء باب‬ ‫الفتوح لتصلنا بالشكل الذي نعرفه حاليا‪.‬‬ ‫تتفق العديد من املراجع التاريخية‪ ،‬عىل أن أسوار عدوة األندلس‬ ‫وأبوابه��ا مبدين��ة فاس‪ ،‬بدأ تش��ييدها عىل عهد امل��وىل إدريس‬ ‫الثاين‪.‬‬ ‫‪ /2‬أبواب مدينة فاس‬ ‫وعىل إثر توسيع العدوتني (عدوة القرويني وعدوة األندلس) قام‬ ‫ملوك الدولة اإلدريس��ية‪ ،‬بإحاطة مدينة فاس بسور جديد‪ ،‬بغية مدينة‪ ‬فاس‪ ‬أحيط��ت من��ذ عهد امل��وىل إدريس الثاين بأس��وار‬ ‫لحاميتها إال أنها توسعت يف مختلف املراحل التاريخية‪ ،‬وفتحت‬ ‫إضفاء طابع االستقاللية والتفرد لكل من العدوتني‪.‬‬ ‫أبواب به��ا‪ ،‬اختارت مواقعها حس��ب حاجات‪ ‬املدينة‪ ،‬باعتبارها‬ ‫كانت هذه األس��وار تتوفر عىل إثنى عرش بابا‪ ،‬س��تة لكل عدوة‪.‬‬ ‫منافذ للخروج والدخول‪ ،‬ونقطا هامة ملراقبة‪ ‬املدينة‪ ‬من الغرباء‪،‬‬ ‫وبعد انتقال مدينة فاس إىل حكم امللوك املرابطني يف سنة ‪468‬هـ‪/‬‬ ‫م��ن أجل إحكام الضب��ط األمني‪ ،‬باإلضاف��ة إىل دورها التجاري‪،‬‬ ‫‪1075‬م قام يوس��ف بن تاش��فني بجمع عدويت فاس داخل سور‬ ‫حيث تستقبل وتسهل عملية عبور القوافل من وإىل‪ ‬املدينة‪ ‬من‬ ‫واحد‪ ،‬وهناك من املؤرخ�ين والباحثني املعارصين من يؤكد عىل‬ ‫مختلف الجهات‪.‬‬ ‫كون بن تاش��فني مل يقم إال بهدم الجدران الفاصلة واقترص عمله‬ ‫يف حقيق��ة األمر عىل إكامل العمل الذي ب��دأه امللوك الزناتيون‪ .‬فيام ييل جملة من هذه األبواب‪ ،‬التي ما زالت تشهد عىل عظمة‬ ‫يف س��نة ‪540‬هـ‪1145 /‬م‪ ،‬إبان حكم الس��لطان النارص املوحدي‪ ،‬الرتاث الحضاري للعاصمة العلمية للمملكة‪.‬‬ ‫تم هدم السور األصيل وعوض بسور متني مبني بالرتاب املمزوج‬ ‫بالجري‪ .‬مل يع��رف هذا اإلنجاز األخري س��وى تعديالت طفيفة إذ‬ ‫مازال يحيط بجزء كبري من فاس البايل‪ .‬يتجاوز سمك هذا الجدار‬ ‫املرتين‪ ،‬تعلوه رشفات هرمية الشكل كام تدعمه يف جزءه الواقع‬ ‫رشق باب محروق خمس��ة أبراج‪ .‬عىل عهد املرينيني متت إعادة‬ ‫بناء أألسوار ملرات عديدة ومتيزت هذه الفرتة بالخصوص بتشييد‬ ‫س��ور فاس الجديد التي كانت بدورها تشتمل عىل خمسة أبوب‬ ‫كبرية الزال بعضها قامئا إىل اليوم‪ ،‬ويتعلق األمر بباب الس�مارين‬ ‫وباب السبع وباب أألمر وباب أكدال‪.‬‬ ‫يبلغ س��مك سور فاس الجديد مرتين وعلوه سبعة أمتار وتدعمه‬ ‫أب��راج كثرية تم دمج جلها يف النس��يج العمراين‪ .‬أما يف الواجهات‬

‫‪5‬‬


‫‪6‬‬

‫زهور‬

‫محور خاص‪ ..‬‬

‫العدد الثالث ‪ -‬السنة األولى ‪ -‬يوليوز ‪2012‬‬

‫باب الفتوح‬

‫قناة مائية تربط بني املشور القديم وقصبة الرشاردة‪ .‬‬

‫باب بني مسافر‬

‫يسمى حاليا باب سيدي بوجيدة‪ ،‬وكان يدعى يف األول «باب‬ ‫أيب س��فيان»‪ ،‬ولعل تسمية «بني مس��افر» تحيل عىل إسم‬ ‫قبيلة أو عش�يرة عربية كانت تستقر باملوضع الذي يتواجد‬ ‫به الباب أو بالقرب منه‪ ،‬فأضيف الباب إليها‪.‬‬

‫باب الجيزيين‬

‫يق��ع هذا الباب عن ميني الخارج من باب الفتوح‪ ،‬ويش��تهر‬ ‫اليوم تحت تس��مية «باب الحمراء»‪ .‬ينسب الباب إىل قبيلة‬ ‫كانت تستقر بالقرب من الباب عند تأسيس املدينة‪ ،‬وأغلق‬ ‫س��نة ‪ 357‬هجرية يوم خ��روج جثة الدارس بن إس�ماعيل‬ ‫بسبب سقوطها عن رؤوس حامليها‪.‬‬

‫باب حصن سعدون‬

‫هو أصل باب الجيس��ة الحايل (باب عجيسة)‪ ،‬واملكان الذي‬ ‫بني فيه هذا الباب هو مكان قوس ساباط حومة الحفارين‬ ‫فوق رحبة الزرع القدمية‪.‬‬

‫يعت�بر باب الفتوح من األبواب التاريخية الرئيس��ية ملدينة فاس‪.‬‬ ‫وهو يقع بالس��ور الرشقي لعدوة األندلس‪ .‬حول ظروف تشييده‬ ‫تش�ير الرواية التاريخية إىل أنه بعد وفاة األمري املغراوي دوناس‬ ‫ب��ن حاممة س��نة ‪452‬ه��ـ‪1060/‬م‪ ،‬ع�ين ابنه األك�بر أمريا عىل‬ ‫املدينة واتخذ عدوة األندلس مقرا له وأس��ند تسيري شؤون عدوة‬ ‫القرويني إىل أخيه األصغر عجيسة‪ .‬لكن طموح هذا األخري دفعه‬ ‫إلعالن الثورة عىل الفتوح مستفيدا يف ذلك من استقالل العدوتني‬ ‫بعضهام ع��ن بعض‪ .‬وأمام احتدام الرصاع بني األخوين قام األمري‬ ‫الفتوح بتش��ييد قلعة وباب كبري حمل مند ذلك الوقت إس��مه‪.‬‬ ‫وردا ع�لى ذلك قام عجيس��ة ببناء قلعة وب��اب بعدوة القرويني‬ ‫عرف مند ذاك باسم باب عجيسة (باب الجيسة حاليا)‪.‬‬ ‫لعب باب الفتوح مند تش��ييده أدوارا مختلفة بحيث كان نقطة‬ ‫انطالق الجيوش املتجهة نحو ال�شرق ومكان تجمعها ودخولها‪.‬‬ ‫كام كان مير عربه املس��افرون والتجار والس��لع‪...‬وقد اس��تمر يف‬ ‫أداء دوره رغم القالقل التي ش��هدتها املدينة‪ .‬تعرض باب الفتوح‬ ‫لتحول كبري خالل الفرتة العلوية إذ أمر الس��لطان موالي سليامن‬ ‫سنة ‪1798‬م بفتح باب جديد بإزائه‪.‬‬

‫باب الخوخة‬

‫كان هذا الباب يدعى عىل عهد املوىل إدريس الثاين باب الكنيسة؛‬ ‫ومنه كان يخرج املس��افر إىل مدينة تلمسان‪ .‬هدم الباب األصيل‬ ‫م��ن طرف الخليفة املوحدي عبد املؤمن‪ ،‬ومل تجر إعادة بنائه إال‬ ‫عىل عهد الخليفة املوحدي النارص حينام جدد أس��وار فاس سنة‬ ‫‪ 601‬هجرية‪ .‬‬

‫باب المحروق‬

‫ب��اب مش��هور يخرج من��ه إىل قصبة الرشاردة وظه��ر الخميس‪.‬‬ ‫بني الباب من طرف الخليفة املوحدي محمد النارص س��نة ‪601‬‬ ‫هجرية‪ ،‬وأطلق عليه إس��م باب الرشيعة قبل أن يش��تهر تحت‬ ‫تسمية الباب املحروق لتزامن بنائه مع انتهاء ثورة العبيدي الذي‬ ‫س��يق إىل فاس وقتل ثم علق رأس��ه عىل الباب‪ ،‬وأحرق‪ ،‬فسمي‬ ‫الباب من ذلك التاريخ باب املحروق‪ .‬‬

‫باب الشماعين‬

‫أح��د أبواب جامع القرويني‪ ،‬وهو الب��اب الذي يدخل منه ملوك‬ ‫املغرب أثناء حلولهم بالجامع لتأدية صالة الجمعة‪ .‬يحمل الباب‬ ‫باب السجمة‬ ‫إسم سوق الشامعني الواقع أمامه‪ ،‬والذي كان يف األصل يباع فيه‬ ‫بني هذا الباب الذي مل يتبق منه إال الربجني املثمنني اللذين كانا الش��مع‪ ،‬قبل أن يتحول إىل سوق لبيع الفواكه الجافة مثل التمر‬ ‫يدعامنه‪ ،‬من طرف املوىل الحس��ن يف القرن التاسع عرش‪ .‬ويبدو واللوز والزبيب والتني‪.‬‬ ‫اعتامدا عىل مقاييس��ه الضخمة أنه كان مشكال من قوس يحمل‬


‫فاس الهوية والتاريخ‬

‫زهور‬

‫أبواب فاس الجديد‬ ‫باب الماكينة‬

‫العدد الثالث ‪ -‬السنة األولى ‪ -‬يوليوز ‪2012‬‬

‫‪ /3‬أبراج مدينة فاس‬ ‫نتوقف يف هذه الورقة عند برجني أساسيني‪:‬‬

‫ب��اب املكينة حاليا الذي يربط م��ا بني‪ ‬املدينة‪ ‬القدمية واملمرات البرج الشمالي‬

‫املؤدي��ة إىل‪ ‬املدينة‪ ‬الجدي��دة‪ ،‬وقد بني هذا الب��اب الضخم يف يعرف هذا الربج بإس��م برج باب الجيس��ة لوقوعه عىل مخارج‬ ‫عهد الس��لطان الحسن األول العلوي س��نة ‪1886‬م‪ ،‬حيث كانت املدين��ة من جهة الباب املذكورة‪ .‬يأخذ هذا الربج الضخم موقعه‬ ‫س��احة هذا الباب تقام بها‬ ‫ف��وق مرتفع صخري يرشف عىل فاس الب��ايل مبقربة من املصىل‬ ‫االس��تعراضات العس��كرية‬ ‫القدي��م الذي يع��ود إىل العرص املريني‪ .‬تم تش��ييد هذه البناية‬ ‫وتس��تقبل الوفود األجنبية‬ ‫الدفاعي��ة يف س��نة ‪990‬ه��ـ‪1582 /‬م عىل عهد الس��لطان أحمد‬ ‫خصوص��ا وأن س��احتها‬ ‫املنصور الذهبي‪ ،‬وصممت وفقا لنموذج هنديس ش��اع استعامله‬ ‫مج��اورة ملصنع األس��لحة‪،‬‬ ‫خالل القرن السادس عرش عرب مختلف بلدان حوض البحر األبيض‬ ‫ال��ذي الزالت مع��امل آثاره‬ ‫املتوسط‪ ،‬إذ كان يعترب شكال متطورا يف تصميم البنايات الدفاعية‬ ‫حارضة إىل اآلن‪ ،‬ويعد حاليا‬ ‫التي تس��تعمل األس��لحة النارية الثقيلة‪ .‬باإلضافة لهذه املعلمة‬ ‫الفضاء الروح��ي للمدينة‪،‬‬ ‫البارزة يف الجهاز الدفاعي ملدينة فاس‪ ،‬قام الس��لطان الس��عدي‬ ‫حي��ث يحتض��ن كل س��نة‬ ‫أحم��د املنصور ببن��اء برجني آخرين عىل نفس الش��اكلة مبدينة‬ ‫املهرجان العاملي للموسيقى‬ ‫العرائش الساحلية‪ .‬وتعترب هذه األبراج الثالثة أمثلة فريدة لهذا‬ ‫الروحي��ة‪ .‬ه��ذا الباب كان‬ ‫النوع من الع�مارة يف املغرب‪ .‬خالل الفرتات الالحقة تحول دور‬ ‫مدخ�لا لفاس‪ ‬الجدي��د‬ ‫الربج الشاميل من حامية فاس من هجومات خارجية محتملة إىل‬ ‫م��ن جهة‪ ‬املدينة‪ ‬القدمية‪،‬‬ ‫دفع غارات القبائل املحيطة باملدينة‪.‬‬ ‫حسبام جاء يف تاريخ الدولة السعدية ملؤلف مجهول‪ ،‬وهو كتاب‬ ‫اعتن��ى بنرشه «جورج كوالن» باملطبعة‪ ‬الجديدة‪ ‬بالرباط س��نة البرج الجنوبي‬ ‫بني هذا الحصن ذو الشكل املتميز يف نفس الفرتة التي شيد فيها‬ ‫أربع وثالثني وتسعامئة وألف للميالد (‪1934‬م)‪.‬‬ ‫الربج الشاميل أي يف أواخر القرن السادس عرش‪ .‬يقع هذا الحصن‬ ‫باب الجياف‬ ‫ك�ما يدل عىل ذلك اس��مه جنوب فاس البايل ع�لى مخارج باب‬ ‫باب الجي��ف‪ ،‬يوجد رشق باب الس�مارين وتنطقه العامة حاليا الفتوح‪ ،‬ولقد تم بناءه حسب مؤرخ الدولة السعدية عبد العزيز‬ ‫«ب��اب الجياف»‪ ،‬ويس��ميه البع��ض باب الجياد‪ ،‬حس��ب بعض الفش��تايل فوق مرتفع صخري يرشف عىل املدينة ويسمى حجر‬ ‫املصادر وحوال��ة ألحباس‪ ‬فاس‪ ‬الجديد‪ ،‬وهو من أبواب الس��ور القطران‪ .‬كام هو الشأن بالنسبة للربج الشاميل املقابل له‪ ،‬تحول‬ ‫الثاين‪ ،‬أما الباب املقابل له ش�ماال‪ ،‬فهو من بناء السلطان العلوي دوره من حصن يقف يف وجه أي هجوم خارجي محتمل إىل آلة‬ ‫الحسن األول‪ ،‬ويرجع سبب تسميته باب السبع‪ ،‬حسب الدكتور عس��كرية لرد هجامت القبائل املجاورة للمدينة كقبيلة األوداية‬ ‫أحمد مختار العب��ادي‪ ،‬يف مقال له عن هذا املوضوع‪ ،‬إىل صورة‬ ‫األسد التي كانت مرسومة عليه‪ ،‬ثم زالت مبرور الزمن‪ ،‬ويشري إىل‬ ‫األهمية التاريخية لهذا الباب وانتشار صورته حديثا يف البطاقات‬ ‫السياحية وعىل طوابع الربيد‪ ،‬نظرا ملكانته اإلسرتاتيجية‪ ،‬كمدخل‬ ‫رئييس للقرص املريني أو لدار املخزن يف‪ ‬فاس‪ ‬الجديد‪.‬‬

‫باب الصرف‬

‫باب الرصف وهو أيضا من أبواب‪ ‬فاس‪ ‬الجديد‪ ،‬وقد رجح األستاذ‬ ‫الباح��ث محمد املنوين أن يكون ه��و باب‪ ‬الوادي‪ ،‬أطلقت عليه‬ ‫هذه التسمية نظرا لقربه من دار السكة املرينية‪ ،‬وإذا صح هذا‬ ‫الرتجي��ح‪ ،‬فإن الب��اب كان وال يزال قامئا أثن��اء القرن الثاين عرش‬ ‫للهجرة‪.‬‬

‫‪7‬‬


‫‪8‬‬

‫زهور‬

‫محور خاص‪ ..‬‬

‫العدد الثالث ‪ -‬السنة األولى ‪ -‬يوليوز ‪2012‬‬

‫التي أغارت عىل فاس الجديد وقام الس��لطان العلوي موالي عبد‬ ‫الرحامن مبهاجمتهم بالقذائف النارية من أعىل الربج الجنويب‪ .‬‬ ‫البناية عبارة عن مس��تطيل مبني بتقنية الطابية‪ ،‬يتوفر عىل برج‬ ‫بزاوية ح��ادة يف جهته الجنوبية وبرجني جانبيني مس��تطيلني يف‬ ‫الواجهت�ين الغربية والرشقي��ة باإلضافة إىل ب��رج رابع يف الجهة‬ ‫الش�مالية‪ .‬الطابق السفيل للربج يتوفر عىل ممر مكشوف يؤدي‬ ‫إىل مجموعة من الغرف التي يرجح أنها كانت تستعمل كمخزن‬ ‫للذخرية‪ ،‬أما الطابق العلوي فيتوفر عىل سبعة غرف ضيقة يبدو‬ ‫‪ /5‬دور وقصور مدينة فاس‬ ‫أنها كانت تأوي الحراس‪ .‬سطح البناية يتكون من طابقني يتوفران‬ ‫ونتوقف يف هذه الورق��ة عند منوذجني فقط من الدور‪ /‬القصور‬ ‫عىل العديد من فتحات املدافع واألسلحة النارية‪.‬‬ ‫العتيقة ملدينة فاس‪ ،‬حيث اخرتنا دار عديل الذي يعود إىل القرن‬ ‫الثامن عرش‪ ،‬ودار دبيبغ الذي يتزامن مع هذه الدار تاريخيا‪.‬‬

‫تحت تس��مية «تك��رارات» عىل عهد الدول��ة املرابطية (القرنان‬ ‫‪ 5‬و‪ 6‬الهجري��ان‪ 11/‬و‪ 12‬امليالديان)‪ ،‬ث��م أعاد بناءها املوحدون‬ ‫من بعدهم فأضحت مقرا لس��كنى والتهم وإدارتهم‪ .‬وعىل عهد‬ ‫الدولة املريني��ة بقيت القصبة ذات أهمية كبرية‪ ،‬واس��تقر فيها‬ ‫امللوك املرينيون األوائل‪ ،‬ومل يربحوها إال بعد تأسيس مدينة فاس‬ ‫الجديد حيث ش��يدت قصورهم ودور أعيانه��م‪ ،‬وبقوا يرتددون‬ ‫عليها بعد ذلك بني الفينة واألخرى لإلقامة فيها‪.‬‬

‫‪ /4‬قصبات الحاضرة الفاسية‬

‫دار عديل‬

‫تق��ع دار أو قرص عدي��ل يف حومة املعادي بح��ي زقاق البغل‬ ‫من عدوة القرويني يف فاس البايل‪ .‬أس��س القرص من طرف أرسة‬ ‫عديل يف أواس��ط الق��رن ‪ 11‬الهجري‪ 17/‬املي�لادي‪ ،‬وهي أرسة‬ ‫كان��ت مكلفة بأمانة جباية مكوس فاس حتى حكم الس��لطان‬ ‫سيدي محمد بن عبد الله (‪-1205 - 1171‬هـ‪1790 - 1757/‬م)‪.‬‬ ‫وبع��د نكبة الحاج الخياط عديل وعائلت��ه‪ ،‬صودرت الدار وكل‬ ‫ممتلكات��ه‪ ،‬وأضح��ت الدار تحتضن أمانة جباي��ة املكوس التي‬ ‫كانت بفندق النجارين قبل ذلك‪.‬‬ ‫رممت دار عديل سنة ‪ 1998‬من طرف وزارة الثقافة‪ ،‬وحولتها إىل‬ ‫معهد للموس��يقى تم افتتاحه رسميا يف ‪ 18‬فرباير ‪ .1999‬تتكون‬ ‫ونتوقف يف هذه الورقة‪ ،‬عند ثالث قصبات منوذجية من قصبات‬ ‫ال��دار من طاب��ق أريض وآخر علوي‪ ،‬ينتظامن حول فناء فس��يح‬ ‫فاس العتيقة‪:‬‬ ‫مح��اط برواق م��ن جوانبه األربع‪ ،‬تحتفظ واجهاته بتش��كيالت‬ ‫قصبة الشراردة‬ ‫متميزة من الزليج والجبص املحفور والخشب املنقوش واملدهون‪،‬‬ ‫قلعة مربعة الشكل‪ ،‬شاس��عة األطراف ومسيجة بأسوار مدعمة الذي تعود إىل القرن الثامن عرش امليالدي‪.‬‬ ‫بأبراج عديدة مخصصة للحراسة والدفاع عن القصبة‪ .‬بنيت هذه دار الدبيبغ‬ ‫املعلمة من طرف الس��لطان املوىل الرش��يد؛ وخصصت بالدرجة‬ ‫ه��و قرص من تأس��يس الس��لطان املوىل عبد الله بن إس�ماعيل‬ ‫األوىل إىل حامية ضواحي مدينة فاس‪ .‬‬ ‫جن��وب مدينة ف��اس البايل (ف��اس العتيق��ة) ابتداءا من س��نة‬

‫قصبة النوار‬

‫قصب��ة متواضع��ة املقاييس تع��رف أيضا تحت تس��مية «قصبة‬ ‫فياللة»‪ ،‬وهي قصبة بنيت من ط��رف الدولة املوحدية (القرنان‬ ‫‪ 12‬و‪ 13‬امليالدي��ان )‪ ،‬وش��كلت منذئ��ذ مقر إقام��ة الدول التي‬ ‫تعاقبت عىل حكم املغرب قبل بناء مدينة فاس الجديد (املدينة‬ ‫البيضاء) من طرف الدولة املرينية‪.‬‬

‫قصبة الوادي‬

‫هي قصبة بوجلود الحالية‪ .‬كانت القصبة يف األصل معسكرا ذكر‬


‫فاس الهوية والتاريخ‬ ‫‪1154‬ه��ـ‪1742/‬م‪ .‬أصبح القرص اليوم خرابا‪ ،‬وأضحت تس��ميته‬ ‫تطلق من طرف س��اكنة فاس عىل األحياء الحديثة التي أنشئت‬ ‫بجواره والتي أصبح يتوسطها‪.‬‬ ‫شيدت دار الدبيبغ يف موقع اسرتاتيجي عىل بضع كيلومرتات من‬ ‫أس��وار املدينة‪ ،‬متكن من مراقبة تحركات الوافدين عىل املدينة‬ ‫واملغادرين لها‪ .‬ويرجع س��بب بناء هذا القرص إىل رغبة السلطان‬ ‫املوىل عبد الله (‪1171 - 1142‬هـ‪1757 - 1729/‬م) يف بناء حصن‬ ‫مني��ع يف مواجهة أهل فاس الذين بايعوه ثم تراجعوا عنه وثاروا‬ ‫عليه‪ ،‬وخوفا من جيش العبيد الذي كان يف رصاع دائم معه‪.‬‬ ‫ينتظم القرص حاليا عىل شكل قلعة مربعة يصل طول ضلعها إىل‬ ‫‪ 700‬مرت‪ ،‬ويحيط بها سور عال زود جزؤه العلوي مبسننات ومبمر‬ ‫للجند‪ .‬ولتقوية مقدراتها الدفاعية‪ ،‬جرى تشييد أربع أبراج بالزوايا‬ ‫األربع للقرص‪ ،‬وتم تزويدها بفتحات مجهزة باملدافع‪ .‬وبالداخل‪،‬‬ ‫تنتصب العديد من الدور والساحات املتصلة‪ ،‬من أبرزها املشور‬ ‫وقبة االستقباالت وإسطبل الخيول يف الشامل وساحة الجيش يف‬ ‫الجنوب واملنزه الذي يطل عىل دار الحريم وملحقاته‪ ،‬وميكن من‬ ‫مراقبة سهل سايس وضاحية املدينة بأكملها‪.‬‬ ‫ويف سنة ‪ ،1911‬استقرت باملبنى جيوش االستعامر الفرنيس‪ ،‬فبدأ‬ ‫يفق��د بعضا من مكوناته‪ ،‬وأصبح منذئذ عرضة لإلهامل والتاليش‬ ‫بس��بب الضغط الس��كاين‪ ،‬وخاصة بعد أن أضحى مقرا لسكنى‬ ‫بعض الجنود املغاربة يف الجيش الفرنيس‪.‬‬ ‫ ‬

‫زهور‬

‫العدد الثالث ‪ -‬السنة األولى ‪ -‬يوليوز ‪2012‬‬

‫مدين��ة فاس‪ ،‬عرب قرون من الزمن طابعها الرتبوي والعلمي‪ ،‬وقد‬ ‫أخرتنا منها املدارس التالية‪:‬‬

‫مدرسة الصفارين‬

‫ورد ذك��ر هذه املدرس��ة تحت تس��مية «مدرس��ة الحلفاويني»‬ ‫لتواجده��ا بس��وق تب��اع فيها الحلف��اء؛ وتعرف حاليا مبدرس��ة‬ ‫الصفارين نس��بة إىل سوق صناعة النحاس بعدوة القرويني الذي‬ ‫تنفتح عليه بواسطة بوابة يعلوها قوس منكرس ومتجاوز‪.‬‬ ‫انطلقت أش��غال بناء هذه املدرسة عام ‪670‬هـ‪1270/‬م وانتهت‬ ‫ع��ام ‪675‬هـ‪1274/‬م ع�لى يد الس��لطان املرين��ي يعقوب ابن‬ ‫‪ /6‬مدارس مدينة فاس‬ ‫تزخر مدينة ف��اس‪ ،‬بالعديد من املدارس‪ ،‬التي أعطت عب��د الح��ق‪ ،‬لذلك حملت يف بعض الوثائق تس��مية «املدرس��ة‬ ‫اليعقوبية»‪ .‬ويف س��نة ‪684‬هـ‪1284/‬م‪ ،‬حبس عليها أبو يوس��ف‬ ‫يعقوب كل الكتب التي حصل عليه��ا مقابل الهدنة التي أبرمها‬ ‫مع ملك قشتالة‪.‬‬ ‫يتميز تصميم املدرس��ة بش��كله غري املنتظم؛ ويضم مس��تويني‬ ‫رتبا حول صحن مكش��وف‪ .‬يحيط به��ذا األخري رواق رمم ترميام‬ ‫كلي��ا تنفتح عليه مجموعة من الغ��رف املخصصة للطلبة وقاعة‬ ‫للصالة‪ .‬ويف الطابق األول‪ ،‬تتواجد أربع دويريات مخصصة إليواء‬ ‫الطلبة ومنارة متناسقة األجزاء زينت واجهاتها األربع بتشبيكات‬ ‫معامرية وبقطع م��ن الزليج املتعدد األلوان‪ ،‬عىل ش��اكلة باقي‬ ‫صوامع الفرتة املرينية مثل تلك املتواجدة مبس��جد أيب الحس��ن‬ ‫واملدرس��ة البوعنانية بفاس ومدرس��ة شالة ومس��جد بن صالح‬ ‫مبراكش‪.‬‬

‫مدرسة دار المخزن‬

‫بنيت هذه املدرس��ة بفاس الجديد حيث دور وقصور الس��لطان‬ ‫وحاش��يته ومخزنه‪ ،‬مام جعلها تش��تهر تحت تس��مية «مدرسة‬ ‫دار املخ��زن»‪ .‬أسس��ت هذه املدرس��ة من طرف الس��لطان أيب‬

‫‪9‬‬


‫‪10‬‬

‫زهور‬

‫محور خاص‪ ..‬‬

‫العدد الثالث ‪ -‬السنة األولى ‪ -‬يوليوز ‪2012‬‬

‫املحفور وبالخشب املنقوش‪ ،‬وقاعة للصالة وغرف للطلبة‪ ،‬بنيت‬ ‫يف الطاب��ق األول‪ ،‬وفق تصميم س��وف يصب��ح منوذجا لتصاميم‬ ‫املدارس الالحقة بفاس ومبدينة سال‪.‬‬

‫مدرسة الصهريج‬

‫سعيد عثامن س��نة ‪720‬هـ‪1320/‬م؛ وجاءت‪ ،‬عىل عكس مدرسة‬ ‫الصفاري��ن التي جس��دت التجربة املريني��ة األوىل‪ .‬عند مدخل‬ ‫املدرس��ة‪ ،‬ينطلق درج��ان يؤديان إىل مس��تويني آخرين خصصا‬ ‫لغرف الطلبة‪ .‬كام جهزت املدرس��ة بدار للوض��وء تحتل الزاوية‬ ‫الجنوبي��ة الرشقية للبناية‪ ،‬وتنتظم حول صحن مغطي‪ ،‬تحيط به‬ ‫مجموعة من املراحيض‪.‬‬

‫مدرسة العطارين‬

‫حملت مدرس��ة العطارين إسم الس��وق الذي ينفتح بابها عليه‪،‬‬ ‫وهو س��وق بائعي العطور‪ .‬ترتفع املدرس��ة بالق��رب من جامع‬ ‫القرويني الذي ال يفصلها عنه إال زقاق ضيق؛ وبنيت وسط املدينة‬ ‫حيث ترتكز أغلب األنشطة االقتصادية‪ ،‬وتكرث البنايات العمومية‬ ‫والخاص��ة مام دفع مبصممها إىل ترتيب مكوناتها فوق مس��احة‬ ‫ضيقة ويف مستويات ثالث‪ ،‬أضافها إىل املستوى األريض‪.‬‬ ‫أسست مدرسة العطارين من طرف السلطان املريني‪ ،‬أبو سعيد‬ ‫عثامن‪ ،‬س��نة ‪723‬ه��ـ‪1323/‬م؛ وأوكل مهم��ة مراقبة أعاملها إىل‬ ‫الش��يخ أيب محمد عبد الله ابن القاس��م امل��زوار‪ .‬تتكون البناية‬ ‫م��ن مدخل مرفقي ي��ؤدي إىل صحن مكش��وف زينت واجهاته‬ ‫تزيين��ا مبالغا فيه بالزليج والجبص املحفور والخش��ب املنقوش‪،‬‬ ‫ومن قاعة للصالة مس��تطيلة الشكل وثالث مستويات مخصصة‬ ‫كلها لس��كنى الطلبة‪ .‬وبالزاوية الشاملية الغربية‪ ،‬جرى بناء دار‬ ‫للوضوء عىل شاكلة تلك التي تتواجد مبدرسة الصهريج‪.‬‬ ‫وبالرغم م��ن صغر مس��احتها‪ ،‬تبقى مدرس��ة العطارين إحدى‬ ‫أب��رز املع��امل املريني��ة باملغرب إذ تؤس��س ملرحل��ة نضج الفن‬ ‫الزخريف املغريب‪ ،‬وتجس��د التوجهات الجديدة للجاملية الزخرفية‬ ‫املريني��ة خالل بداي��ة القرن ‪ 8‬الهجري‪ 14/‬املي�لادي‪ .‬من ناحية‬ ‫أخ��رى‪ ،‬تحتفظ هذه املدرس��ة بني جدرانها ع�لى تيجان أعمدة‬ ‫متميزة تحمل العديد من النقائش الكتابية الشعرية والتاريخية‬ ‫والقرآني��ة‪ ،‬وثري��ا من الربونز الزالت معلقة وس��ط مس��جدها‪.‬‬ ‫إنه تصميم متناس��ق األجزاء والزخارف‪ :‬فناء مس��تطيل يتوسطه‬ ‫صهريج‪ ،‬وأروقة جانبية مزخرفة بالزليج املتعدد األلوان وبالجبص‬

‫تتواج��د مدرس��ة الصهري��ج بع��دوة األندلس مبحاذاة مس��جد‬ ‫األندلسيني‪ .‬اشتهرت املدرس��ة بهذه التسمية نسبة إىل الصهريج‬ ‫املزين لفنائها‪ ،‬كام عرفت باملدرسة الكربى نظرا النفتاحها بواسطة‬ ‫باب صغري عىل مدرسة السبعيني املجاورة لها‪.‬‬ ‫أسست هذه املدرسة من طرف السلطان أيب الحسن املريني عام‬ ‫‪-723 - 721‬ه��ـ‪1323 - 1321 /‬م‪ .‬تتكون من صحن مكش��وف‬ ‫يفيض إلي��ه باب مس��تقيم‪ .‬يحيط بهذا األخ�ير رواق ضيق من‬ ‫جهاته الثالث تنفتح عليه مجموعة من الغرف املعدة للطلبة‪ .‬أما‬ ‫الجهة الرابعة‪ ،‬فخصصت لقاعة الصالة التي تتخذ شكال مستطيال‪،‬‬ ‫وتحتف��ظ عىل أحد جدرانها بالنقيش��ة الوقفية التي ُنقش عليها‬ ‫تاريخ التأس��يس واسم املؤس��س وكل األوقاف التي حبست عىل‬ ‫املدرسة من أجل الرصف عىل تسيريها وترميمها‪.‬‬

‫‪ /7‬األسواق التقليدية لمدينة فاس‬

‫تحفل مدينة فاس‪ ،‬بعرشات األس��واق التي تحمل هوية الصناعة‬ ‫التقليدي��ة املغربي��ة‪ ،‬أو التي تحمل الهوي��ة التجارية‪ ،‬وجميعها‬ ‫تعطي للحارضة الفاسية خصوصية ثقافية واجتامعية‪ ،‬قل نظريها‬ ‫يف املدن العربية األخرى‪.‬‬ ‫نتوقف يف هذه الورقة‪ ،‬عند خمسة من هذه األسواق‪:‬‬

‫سوق الشماعين‬

‫يتواجد سوق الش�ماعني بني جامع القرويني والرضيح اإلدرييس‪،‬‬ ‫وهو أحد أشهر األس��واق باملدينة‪ .‬خصصت دكاكينه إىل االتجار‬ ‫يف الش��مع قبل أن يتم نقل بيع الش��مع إىل ب��اب رضيح املوىل‬ ‫إدريس‪ ،‬وأصبح س��وق الشامعني خاصا ببيع الفواكه الجافة مثل‬


‫فاس الهوية والتاريخ‬

‫زهور‬

‫العدد الثالث ‪ -‬السنة األولى ‪ -‬يوليوز ‪2012‬‬

‫الجوز والتمر والزبيب والتني‪ .‬ويف السنوات األخرية‪ ،‬بدأت بعض‬ ‫حوانيته تتحول إىل محالت لبيع الثياب بالجملة‪.‬‬

‫سوق العشابين‬

‫يتواجد سوق العشابني يف حدود حيي الصاغة وفندق اليهودي‪،‬‬ ‫وهو س��وق مخصص لبائعي األعش��اب (العش��ابة) الذين كانوا‬ ‫يلعب��ون دور صيادل��ة الوق��ت الراهن‪ ،‬ويبيع��ون كل النباتات‬ ‫الطبية واألعشاب‪ .‬‬

‫سوق الحرارين‬

‫يقع هذا السوق بني الصاغة وعني علو‪ ،‬وهو مجمع من الدكاكني‬ ‫املتخصص��ة يف بيع الخي��ط الحريري املس��تعمل يف الصناعات‬ ‫النسيجية النسائية والرجالية عىل السواء‪.‬‬

‫سوق الحناء‬

‫تتجم��ع دكاك�ين س��وق الحناء «الحن��ة» حول س��احة صغرية‪،‬‬ ‫ويباع فيها باإلضافة إىل الحناء‪ ،‬الكحل الذي تكتحل به النس��اء‪،‬‬ ‫والغاس��ول‪ ،‬وامل��داد‪ ،‬وأق�لام القصب املصنوع��ة لفائدة تالميذ‬ ‫الكتاتيب القرآنية‪.‬‬

‫سوق الصفارين‬

‫يتميز س��وق الصفارين بكرثة ضجيج الرضب باملطارق إذ تعرف‬ ‫دكاكينه والساحة التي تتقدم الورشات املختلفة نشاطا غري مألوف‬ ‫بس��بب رضب النح��اس بعد مروره يف النار م��ن أجل معالجته‪،‬‬ ‫وإعداد أواين نحاس��ية وقدور مختلفة األحجام تستخدم للطهي‬ ‫اليومي أو الطهي يف املناسبات كاألعياد واالحتفاالت الخاصة‪.‬‬

‫‪ /8‬الحدائق األندلسية بمدينة فاس‬

‫تحف��ل مدينة ف��اس بالعديد م��ن الحدائق األندلس��ية الغناء‪،‬‬ ‫أشهرها وأعظمها جنان السبيل‪.‬‬

‫جنان السبيل‬

‫أسس��ت حدائ��ق جن��ان الس��بيل يف الق��رن ‪ 18‬م��ن ط��رف‬ ‫الس��لطان‪ ‬موالي عبد الله‪ ‬داخل موقع تاريخي ملدينة فاس‪ ،‬وقد‬ ‫جعلت منه��ا نباتاتها الفريدة وتنظيمه��ا املميز جوهرة يف عقد‬ ‫التقاليد األندلسية‪ .‬فهذا الفضاء املشبع بالتاريخ‪ ،‬هو ذاكرة متثل‬ ‫أقدم وأعرق حديقة عمومية متتاز بها‪ ‬العاصمة الروحية‪ ‬للمملكة‬ ‫املغربية‪.‬‬ ‫هذه الحديقة تحمل كل مع��اين اإلرث التاريخي والجاميل الذي‬ ‫طب��ع هذه الحارضة‪ ‬عىل مدى قرون عديدة‪ .‬متتد عىل مس��احة‬ ‫‪ 8‬هكتارات وتضم حوايل ‪ 1000‬نوع من املغروس��ات وتش��به يف‬ ‫شكلها ومرافقها حدائق‪ ‬األندلس‪ ‬املفقودة‪ ،‬وهي ال زالت صامدة‬

‫وجميلة ومفعمة بالكثري من الهدوء والس��كينة‪ ،‬رغم ما يهددها‬ ‫بسبب شح املياه‪.‬‬ ‫وتتوفر الحديقة عىل سبعة أبواب ضخمة ومزركشة من الحديد‪،‬‬ ‫تتجس��د بداخلها روعة طبيعية خالبة تحيط بنافورات وجداول‬ ‫وأحواض‪ ،‬فضال عن مس��تطيالت ومربعات من العشب واألزهار‬ ‫وأنواع كثرية من األش��جار الكثيفة‪ ،‬يقدر املهتمون عددها بنحو‬ ‫‪ 1000‬ن��وع‪ ،‬منه��ا ما هو ن��ادر وال يوجد مثيل ل��ه إال يف الصني‬ ‫والهند‪ ،‬كالخيزران‪ .‬كتب املؤرخون الكثري من الروائع والذكريات‬ ‫عن جنان الس��بيل‪ ،‬ونظم حوله الش��عراء والزجالون الكثري من‬ ‫قصائ��د املدح‪ ،‬وتغن��ى به عدد م��ن املطربني‪ ،‬فه��ذه الحديقة‬ ‫التاريخي��ة ال زالت حارضة يف وجدان الكثري من س��كان املدينة‬ ‫وزوارها‪ ،‬وال زالت تحتفظ بتوهجه��ا وعظمتها‪ ،‬بفضل ما تتوفر‬ ‫عليه من مناظر جاملية وطبيعية ومعامل تاريخية‪.‬‬

‫‪11‬‬


‫‪12‬‬

‫زهور‬

‫محور خاص‪ ..‬‬

‫العدد الثالث ‪ -‬السنة األولى ‪ -‬يوليوز ‪2012‬‬

‫محطات أساسية يف تاريخ مدينة‬ ‫فاس العاصمة العلمية للمملكة‬ ‫د‪ .‬أمحد العلوي‬

‫(*)‬

‫تقول مصادر التاريخ املختلفة‪ ،‬أن املوىل إدريس الثاين اختار لبناء‬ ‫عاصمته «فاس» موقعا عىل س��هل سايس يف سنة ‪191‬هـ (‪805-‬‬ ‫‪806‬م)‪ ،‬وتق��ول مصادر التاريخ أيض��ا أن اليشء الذي فرض عىل‬ ‫املل��ك اإلدرييس هذا االختيار يف نهاية املط��اف‪ ،‬هو موقع فاس‬ ‫كملتقى للطرق الكبرية للمواصالت بني املحيط األطليس واملرشق‬ ‫من جهة‪ ،‬وبني البحر األبيض املتوسط وإفريقيا السوداء من جهة‬ ‫أخرى‪ ،‬ع�لى ضفاف نهر وادي فاس؛ منبع الحياة والحيوية الذي‬ ‫كان وال يزال زينة هذه املدينة‪.‬‬ ‫وقد أقام عند ذاك املوىل إدريس مخيمه‪ ،‬يف مكان يسمى كرواوى‪،‬‬ ‫والذي ال يزال يحمل هذا االس��م‪ ،‬عىل الضفة اليمنى من الوادي‪.‬‬ ‫ومبجرد أن استقر‪ ،‬أمر ببدء أشغال البناء يف فاتح شهر ربيع األول‬ ‫من سنة ‪ 192‬للهجرة املوافق لـ ‪ 4‬يناير سنة ‪ 808‬ميالدية‪ ،‬حيث‬ ‫أعطى اإلشارة ملعاونيه من أجل إعداد التصاميم الالئقة مبدينته‪.‬‬ ‫وقبل رضب��ة الفأس األوىل‪ ،‬رفع املوىل إدريس كفيه إىل الس�ماء‬

‫داعيا الله بهذه العب��ارة‪« :‬اللهم اجعلها دار علم وفقه‪ ،‬يتىل بها‬ ‫كتاب��ك وتقام بها حدودك‪ ،‬واجعل أهلها مستمس��كني بالس��نة‬ ‫والجامعة ما أبقيتها»‪( .‬القرطاس)‪ ،‬ثم أضاف‪« :‬باسم الله الرحمن‬ ‫الرحي��م‪ ،‬الحمد الله‪ ،‬إن األرض لله يورثها من يش��اء من عباده‪،‬‬ ‫والعاقبة للمتقني»‪.‬‬ ‫ويف أول األمر أمر برفع سور مستديرة‪ ،‬كانت ستحتضن األندلسيني‬ ‫وتعطي االس��م له��ذا الحي‪ .‬واألندلس��يون كام ي��دل عىل ذلك‬ ‫إسمهم‪ ،‬جاؤوا من األندلس للجوء إىل املغرب تحت حامية امللك‬ ‫الكبري‪ ،‬يف هذا الوادي؛ وادي فاس‪ ،‬وعىل ضفاف النهر اللطيف مل‬ ‫يفارقهم الحنني إىل األندلس أبدا‪.‬‬ ‫ثم انتقل اإلمام إدريس بعد ذلك إىل الضفة اليرسى‪ ،‬وبدأ يف بناء‬ ‫الح��ي الثاين الذي أطلق عليه عدوة القرويني‪ ،‬ألن س��كانه كانوا‬ ‫منحدرين من مدينة القريوان بتونس‪ ،‬والذين جاؤوا منها بعد أن‬ ‫جذبهم إشعاع املوىل إدريس ومملكته‪.‬‬


‫فاس الهوية والتاريخ‬ ‫ويف امل��كان الذي أقام ب��ه خيمته خالل مدة بن��اء هذه املدينة‬ ‫الثانية‪ ،‬أنش��أ قرصا أصبح مقرا إلقامته‪ ،‬وأطلق عليه إس��م «دار‬ ‫القيطون»‪ ،‬حيث ال يزال يحمل هذا اإلس��م إىل اآلن‪ .‬وقد مكث‬ ‫امل��وىل إدريس بهذه املدينة‪ ،‬حتى وفاته رحمه الله يف فاتح ربيع‬ ‫األول سنة ‪231‬هـ املوافق لـ ‪ 20‬ماي سنة ‪828‬م‪ ،‬فدفن بها‪.‬‬ ‫****‬ ‫هكذا عملت كل الس�لاالت املتنوعة الت��ي تعاقبت عىل العرش‬ ‫بعد إدريس الثاين‪ ،‬دون أي اس��تثناء عىل توسيع وتجميل املدينة‬ ‫املقدس��ة ف��اس‪ ،‬وقد حرص كل س��لطان عىل أن يطب��ع املدينة‬ ‫بخامته عن طريق البناء‪ ،‬والتجميل‪ ،‬واإلصالح‪ ،‬والتحصني‪ ،‬وتشييد‬ ‫األبواب واملدارس والسواقي والجس��ور والقيساريات والفنادق‪.‬‬ ‫فكانت فاس عاصمة األدارس��ة و من جاء من بعدهم‪ ،‬حيث مل‬ ‫يتوقف الخلف فيها عن متابعة عمل أسالفهم‪.‬‬ ‫فف��ي عهد يحيي بن إدريس‪ ،‬وبفض��ل هبة من فاطمة الفهرية‪،‬‬ ‫تم بناء جامعة القرويني سنة ‪859‬م‪ ،‬وهي مسجد عظيم‪ ،‬وإحدى‬ ‫أوىل الجامع��ات يف العامل‪ ،‬ومن املحتمل أوالها‪ ،‬يف حني أن أخت‬ ‫فاطمة‪ ،‬وهي مريم‪ ،‬تربعت لبناء مسجد األندلس الكبري‪.‬‬ ‫ويف عهد زيري بن عطية‪ ،‬تم س��نة ‪994‬م بناء التحصينات األوىل‬ ‫ملدينة فاس‪ ،‬وذلك بإقامة البابني الكبريين األساسيني‪ :‬باب الفتوح‬ ‫يف الرشق‪ ،‬وباب الكيس��ة يف الشامل‪ .‬وقد أمر ذلك العاهل أيضا‬ ‫ببناء صومعة القرويني الت��ي توجت‪ ،‬ال كام تقيض بذلك العادة‪:‬‬ ‫بدرج‪ ،‬بل بقبة‪.‬‬ ‫****‬ ‫أما يف عهد املرابطني‪ ،‬وما أن أتم يوسف بن تاشفني بسط سلطته‬ ‫ع�لى مجموع البالد حتى جمع املدينتني التوأمتني اللتني يفرقهام‬ ‫وادي ف��اس؛ وه�ما األندل��س والقرويني يف مدينة واحدة س��نة‬ ‫‪1062‬م‪ ،‬ووسع القرويني‪ ،‬وبنى باب الشامعني وقصبة بوجلود‪.‬‬ ‫****‬ ‫وقد اعتن��ى املوح��دون‪ ،‬وإن نقلوا عاصمته��م إىل مراكش‪ ،‬كل‬ ‫العناية مبدينة فاس‪ .‬والصحيح أنه مل يكن يف اإلمكان ادعاء امللك‬ ‫عىل املغرب دون اعرتاف من فاس‪ ،‬وكان من الواجب تأكيد حفل‬ ‫البيعة من الناخبني باملدينة‪.‬‬ ‫ويف مجال البناء و العمران‪ ،‬عمل املوحدون عىل توس��يع املدينة‬ ‫وحزام األسوار الجديدة‪ ،‬وخاصة نحو الشامل‪ ،‬وهي األسوار التي‬ ‫نكتشفها اليوم من تحت آثار املرينيني الذين خلفوهم‪.‬‬ ‫****‬ ‫أما خالل حكم املرينيني‪ ،‬فقد اس��تعادت فاس مكانتها كعاصمة‬ ‫للمملكة‪ ،‬حيث دش��ن أبو يوس��ف يعقوب املنصور‪ ،‬املنترص يف‬

‫زهور‬

‫العدد الثالث ‪ -‬السنة األولى ‪ -‬يوليوز ‪2012‬‬

‫معركة األالركوس‪ ،‬بإسبانيا (‪1195‬م) أوراش بناء املدينة البيضاء‪.‬‬ ‫وقد تم بناء هذه املدينة سنة ‪1276‬م‪ ،‬لتصبح مقام إقامة جميع‬ ‫ملوك املرينني والوطاسيني من بعدهم‪.‬‬ ‫وبقيت مدينة فاس عاصمة للمغرب حتى س��نة ‪1508‬م‪ ،‬ويرجع‬ ‫تاريخ الع�صر املليك الزاهر لهذه الفرتة‪ ،‬إذ كانت فاس يف الواقع‬ ‫يف ذورته��ا ويف قمة بهائها‪ ،‬حيث تم بناء مدارس مش��هورة حول‬ ‫القرويني التي تم توسيعها من جديد‪ ،‬وتجهيزها مبكتبة أصبحت‬ ‫معروف��ة يف جميع أنح��اء العامل املتحرض يف ذل��ك الوقت‪ ،‬وكان‬ ‫الناس يأتون من كل مكان ملراجعة مؤلفاتها التي ال تحىص‪.‬‬ ‫ك�ما كان الطلبة يفدون من كل جهة؛ م��ن املغرب الكبري‪ ،‬ومن‬ ‫الرشق‪ ،‬ومن إفريقيا‪ ،‬وحتى من أوربا‪ ،‬وكانوا يقطنون يف ثانويات‪،‬‬ ‫كانت أيضا مبثابة داخليات ومدارس‪ .‬وهكذا‪ ،‬تم إنش��اء مدرسة‬ ‫الس��فارين‪ ،‬ومدرس��ة أيب عنان‪ ،‬ومدرس��ة العطارين‪ ،‬ومدرس��ة‬ ‫املصباحية‪ ،‬التي كانت تحيط بالقرويني‪.‬‬ ‫****‬ ‫إال أنه‪ ،‬يف عهد الس��عديني‪ ،‬أصبحت مراكش هي عاصمة اململكة‬ ‫مرة أخرى‪ ،‬وم��ع ذلك اهتم ملوكها مبدين��ة املوىل إدريس‪ .‬وقد‬ ‫زاره��ا أحمد املنصور‪ ،‬املنترص يف املعرك��ة الكربى لوادي املخازن‬ ‫مب��ارشة بعض انتص��اره‪ ،‬كام عمل عىل تجميل املدينة وتوس��يع‬ ‫القرويني وإغناء مكتبتها‪ ،‬وبناء اثنني من أهم املنش��آت الدفاعية‬ ‫للمدينة‪ ،‬وهام الربج الشاميل والربج الجنويب‪.‬‬ ‫****‬ ‫و ج��اء العلويون فأعادوا االعتبار للعاصم��ة التاريخية للمملكة‬ ‫من جديد‪ ،‬ويف سنة ‪1670‬م جعل املوىل رشيد (‪1672 - 1660‬م)‬ ‫من فاس عاصمة له‪ ،‬وبنى القرص املليك العلوي إىل جانب القرص‬ ‫القديم ال��ذي بناه املريني��ون‪ ،‬وبنى مدرس��ة الرشاطني وقصبة‬ ‫رشاردة وس��د وادي الزيتون‪ ،‬ثم قام ببناء الجرس املش��هور عىل‬ ‫وادي س��بو لربط فاس بشامل البالد‪ ،‬حيث ال تزال هذه املنشأة‬ ‫إىل اليوم‪ ،‬تحظ��ى بإعجاب االختصاصيني‪ ،‬فقد صمد هذا الجرس‬ ‫يف وج��ه كل الفياضات التي عرفها النهر‪ ،‬وتحمل دون أي ضعف‬ ‫املرور املتكرر للجيش الفرنيس خالل حرب الريف‪.‬‬ ‫وقد نقل املوىل إسامعيل عاصمته إىل مكناس‪ ،‬لكن الفضل يرجع‬ ‫إليه يف بناء قبة رضيح املوىل إدريس والزاوية (‪-1727 - 1672‬م)‪.‬‬ ‫و بعده مبارشة‪ ،‬جعل خلفاؤه من جديد فاس عاصمة لهم‪.‬‬ ‫وقد بنى س��يدي محمد بن عبد الل��ه (‪-1757 - 1790‬م) الحي‬ ‫الذي ال يزال يحمل إس��م والده‪ ،‬كام بن��ى أيضا الرضيح العلوي‬ ‫بفاس‪ ،‬الذي دفن في��ه املوىل عبد الله (‪1728 - 1757‬م) واملوىل‬ ‫عب��د العزيز (‪1908 - 1894‬م) واملوىل حفيظ (‪-1912 - 1908‬م)‬

‫‪13‬‬


‫‪14‬‬

‫زهور‬

‫العدد الثالث ‪ -‬السنة األولى ‪ -‬يوليوز ‪2012‬‬

‫واملوىل يوس��ف (‪1927 - 1912‬م) وعدد من األمراء‪ ،‬باإلضافة إىل‬ ‫أمره ببناء مدرسة باب الكيسة‪.‬‬ ‫وبنى املوىل س��ليامن (‪1822 - 1792‬م) مدرسة الوادي‪ ،‬ومسجد‬ ‫الرصيف‪ ،‬ومسجد الديوان‪ ،‬وزاوية سيدي عيل بوغالب‪ ،‬ثم بارش‬ ‫إعادة بناء مس��جد الرشادين‪ ،‬وتجدي��د وتجميل جامع القرويني‬ ‫إضافة إىل بناء قصبة فياللة‪.‬‬ ‫كام ّ‬ ‫دشن املوىل الحسن األول (‪1894 - 1873‬م) املنشآت الحديثة‬ ‫والصناعية ويرجع إليه الفضل يف بناء املكينة (بباب املكينة) وهو‬ ‫املصنع املش��هور لألس��لحة بفاس‪ ،‬وعمل كذلك عىل توسيع دار‬ ‫املخزن‪.‬‬ ‫أما املوىل عبد العزيز(‪1908 - 1894‬م) فقد قام ببناء دار الفاسية‬ ‫داخ��ل قرص فاس‪ ،‬وبنى أول معمل للكهرباء‪ ،‬وعمل جاللة امللك‬ ‫املغفور له محمد الخامس (‪1961 - 1927‬م) عىل توسيع جامعة‬ ‫القرويني‪ ،‬وقام ببناء املدرس��ة املحمدي��ة‪ ،‬وأخريا فإن املغفور له‬ ‫جاللة امللك الحس��ن الثاين ضاعف من املباين‪ ،‬والرتميم واإلعداد‪،‬‬ ‫وخاصة القرص املليك‪ .‬وقد ظلت مدينة فاس محط عناية جاللته‪،‬‬ ‫ويف عهده نالت إش��عاعا جديدا عىل األصعدة الثقافية والدينية‬ ‫واالجتامعية والسياحية والسياسية‪ ،‬وخري دليل عىل ذلك‪،‬‬ ‫ك��ون جاللت��ه اختارها دوم��ا الحتضان مؤمت��رات القمم‬ ‫العربية واإلسالمية‪.‬‬ ‫****‬ ‫وبالفع��ل فق��د كانت مدينة ف��اس‪ ،‬وعىل م��ر العصور‪،‬‬ ‫مركزا للثقافة واإلش��عاع اللذين ال نظ�ير لهام‪ ،‬فكثري من‬ ‫الفالس��فة الكب��ار‪ ،‬واملفكرين الكب��ار‪ ،‬واألطب��اء الكبار‪،‬‬ ‫والعلامء الكبار‪ ،‬درس��وا أو قام��وا بالتدريس بها‪ .‬ويكفي‬ ‫التذكري بأس�ماء الصويف امليتافيزيق��ي ابن عريب‪ ،‬والرحالة‬ ‫امل��ؤرخ ابن بطوط��ة‪ ،‬والريايض ابن البنا‪ ...‬والفيلس��وف‬ ‫الطبيب اليهودي ابن ميمون‪ ...‬واملؤرخ ابن خلدون‪ ،‬وابن‬ ‫رشد‪ ،‬وابن طفيل‪ ،‬والبابا سيلفيشرت‪ ،‬واملفكر كرسيتان روز‬ ‫مؤسس «الزهرة الصليب»‪.‬‬ ‫فف��ي فاس تم اللق��اء التاريخي بني عب��د املومن وموىس‬ ‫ماميوني��د الذي جاء مع والده حاخ��ام قرطبة‪ ،‬وإثر هذه‬ ‫املقابل��ة كلف املاميوني��د بكريس الطب وعل��م الترشيح‬ ‫بالقرويني‪.‬‬ ‫لق��د كانت ف��اس خالل ق��رون‪ ،‬مرك��زا إلش��عاع الثقافة‬ ‫والحضارة‪ ،‬ليس فحسب يف املغرب واألندلس‪ ،‬خاصة بعد‬ ‫انتصار الزالقة وحتى سقوط غرناطة‪ ،‬بل وأيضا يف إفريقيا‬ ‫الغربية‪ ،‬ولنذكر أن أحد العلامء الكبار‪ ،‬وهو أحمد بابا من‬ ‫تومبوكتو‪ ،‬قام بالتدريس يف فاس يف عهد املنصور الذهبي‪،‬‬

‫محور خاص‪ ..‬‬ ‫وقد ألف «تاريخ السودان»‪ .‬كام يجب التأكيد أيضا‪ ،‬عىل أن أكرب‬ ‫جمعية دينية إسالمية إلفريقيا الغربية‪ ،‬وهي الطريقة التيجانية‪،‬‬ ‫تم تأسيس��ها من ط��رف أحمد التيجاين ال��ذي يوجد قربه بفاس‬ ‫إىل جانب رضي��ح املوىل إدريس‪ .‬وال ي��زال التيجانيون بإفريقيا‬ ‫الغربي��ة يقومون‪ ،‬إىل الي��وم‪ ،‬بزيارة قرب مؤس��س الطريقة‪ ،‬ويف‬ ‫غالب األحيان عند رجوعهم من البقاع املقدسة‪.‬‬ ‫ويف ف��اس أيضا‪ ،‬كان��ت أول انتفاضة ضد الحامية الفرنس��ية يف‬ ‫أبريل ‪ .1912‬ويف فاس تم س��نة ‪ 1934‬إنش��اء أول حركة وطنية‬ ‫وهي لجن��ة العمل املغريب التي أدت إىل مي�لاد جميع األحزاب‬ ‫األخ��رى‪ .‬وأخريا‪ ،‬ففي فاس ولد مح��رر الوطن جاللة املغفور له‬ ‫محمد الخامس طيب الله ثراه‪.‬‬ ‫ويف ي��وم االثنني ‪ 21‬أبريل ‪ 1980‬عرف��ت فاس العاصمة الروحية‬ ‫والعلمية للمملكة ميالد أكادميية اململكة املغربية؛ وهو ما يعني‬ ‫ربط األوارص مباضيها املجيد كمدينة للثقافة ولإلشعاع الثقايف‪.‬‬ ‫(*) باحث أكادميي مبعهد‬ ‫الدراسات األكادميية بباريس‬


‫فاس الهوية والتاريخ‬

‫زهور‬

‫العدد الثالث ‪ -‬السنة األولى ‪ -‬يوليوز ‪2012‬‬

‫فاس األندلس والوجدان‬ ‫المشترك‬ ‫الدكتور رشيد بناين‬

‫تتضمن األخبار التي تتناقلها كتابات األقدمني عن نش��وء مدينة‬ ‫فاس‪ ،‬إش��ارات عديدة تجتمع أغلبها للداللة بش��كل متواتر عىل‬ ‫أن تأسيس هذه املدينة معجون بأريج األندلس وتربتها ورجالها‪،‬‬ ‫منذ ابتداء أمرها عىل يد املوىل إدريس األزهر‪.‬‬ ‫فق��د نزح أبوه؛ ذلك الفتى الق��ريش إىل املغرب ناجيا بجلده من‬ ‫أهوال السياس��ة يف امل�شرق أنذاك‪ ،‬فارا بنس��به وطموحاته من‬ ‫نزاعات األرس القرش��ية حول السلطة يف ذلك الزمان‪ ،‬السيام بعد‬ ‫أن انقلب ظهر املجن يف املرشق عىل أبناء العمومة من آل البيت‬ ‫النب��وي الذي ينتمي إليه‪ ،‬وحني حل إدريس ببالد املغرب‪ ،‬رحب‬ ‫ب��ه وجوه القبائل الرببرية وآزروه‪ ،‬وزوج��وه منهم‪ ،‬ومكنوه من‬ ‫نرش الدعوة الجديدة يف الغرب اإلسالمي‪.‬‬ ‫وكأي زعيم حقيقي‪ ،‬مل ينحرص ما قام به إدريس األول يف تأسيس‬ ‫أرسة حاكمة هاشمية تنتمي للبيت النبوي‪ ،‬وإمنا تجاوز ذلك إىل‬ ‫تأسيس دولة جديدة‪ ،‬بكل مقوماتها‪ .‬ثم قام ابنه ووارث رسه من‬ ‫بعده‪ ،‬إدريس الثاين‪ ،‬وجسد عنوان ذلك حني أسس حارضة عربية‬ ‫إسالمية أس�ماها فاس‪ ،‬مثلت تحوال غري مسبوق يف تاريخ البالد‪،‬‬ ‫وجعلها مختلفة يف كنهها وتركيبتها عن باقي الحوارض اإلس�لامية‬ ‫األخ��رى آنذاك‪ ،‬مثل مكة أو دمش��ق أو الب�صرة أو القريوان أو‬ ‫قرطبة‪.‬‬

‫(*)‬

‫ومن العجيب أن نجد األندلس تتقدم عىل ما سواها يف العديد من‬ ‫الحكايات والقصص التي تروى بصدد تأسيس هذه املدينة‪ .‬وحني‬ ‫نعلم مقدار األهمية الت��ي يوليها الباحثون يف علم األنرتبولوجيا‬ ‫لهذه الحكايات‪ ،‬ومقدار الدالالت التي يستخرجونها منها‪ ،‬يتيرس‬ ‫لنا فهم س��بب اإللحاح عىل األندلس ال��ذي تتضمنه‪ .‬أليس هذا‬ ‫اإللحاح قنطرة يتوس��ل بها للوصول إىل صورة فاس وش��خصيتها‬ ‫األصيلة واملركبة‪ ،‬كام أرادها س��كان ه��ذه املدينة ومنظروها أن‬ ‫تصلن��ا عنها ومنثله��ا يف وعينا وال وعينا مختلف��ة عن غريها من‬ ‫حوارض الدنيا وفريدة بني حوارض اإلس�لام س��واء التي سبقتها أو‬ ‫التي تأسس��ت بعده��ا ؟ وللتدليل عىل ما أقول س��وف أقتطف‬ ‫فق��رات من كت��اب «األنيس املطرب ب��روض القرطاس‪ ،‬يف أخبار‬ ‫ملوك املغرب وتاريخ مدينة فاس»‪ ،‬لعيل بن أيب زرع الفايس‪.‬‬ ‫يقول هذا املؤلف‪« :‬كان تأسيس اإلمام إدريس ملدينة فاس‪ ،‬عىل‬ ‫ما ذكره املؤرخون الذين اعتنوا بتاريخها‪ ،‬وأنبأوا عن ابتداء أمره‪،‬‬ ‫يف ي��وم الخميس غرة ربي��ع األول عام اثنني وتس��عني ومائة (‪4‬‬ ‫يناير‪ 808‬م)‪ ،‬أسس عدوة األندلس منها وأدار بها السور‪ ،‬وبعدها‬ ‫بسنة أسس عدوة القرويني» (ص‪.)38 :‬‬ ‫أليس من العجيب حق��ا أن تكون خمرية األندلس هي األوىل يف‬ ‫رحم هذه املدينة وتربتها‪ ،‬وتكون عدوة األندلس سابقة يف فاس‬

‫‪15‬‬


‫‪16‬‬

‫زهور‬

‫العدد الثالث ‪ -‬السنة األولى ‪ -‬يوليوز ‪2012‬‬

‫عىل غريها من العمران؟!‬ ‫وتتع��زز هذه األولوية العمراني��ة بأولوية برشية ينقلها لنا نفس‬ ‫املؤلف إذ يقول‪:‬‬ ‫«أم��ا أهل األندلس بقرطب��ة‪ ،‬حني أوقع بهم الحكم بن هش��ام‬ ‫وأجالهم عن األندلس إىل العدوة‪ ،‬فصعدوا إىل مدينة فاس وكانوا‬ ‫مثانية آالف بي��ت‪ ،‬فنزلوا عدوة األندلس ورشع��وا يف البناء ميينا‬ ‫وشامال إىل الكدان ومصمودة وفوارة وصارة البادية والكنيف إىل‬ ‫الرميلة‪ ،‬فسميت عدوة األندلس»‪.‬‬ ‫ث��م يضيف‪« :‬بعد ذلك س��ميت ع��دوة القروي�ين‪ ،‬ألن أول من‬ ‫نزلها مع إدريس ريض الل��ه عنه ثالمثائة بيت من أهل القريوان‪،‬‬ ‫فسميت بهم‪ ،‬ونسبت إليهم» ص‪.47 :‬‬ ‫إن مقارنة بس��يطة بني ع��دد البيوت األندلس��ية الثامنية آالف‪،‬‬ ‫املذك��ورة عن��د صاحب «ال��روض»‪ ،‬وع��دد البي��وت القريوانية‬ ‫الثالمثائة التي نزلت املدينة‪ ،‬تفصح بدون شك عن هذا التفاوت‬ ‫يف الرتكيبة البرشية ملدينة فاس‪ ،‬منذ بداية تشكلها األوىل‪ ،‬لصالح‬ ‫العنرص األندليس‪.‬‬ ‫وال نتوقف ع��ن هذه اإلحاالت إىل قصص تأس��يس املدينة‪ ،‬كام‬ ‫وردت عند املؤلفني القدماء‪ ،‬قبل أن نش�ير إىل قصة أخرى كثرية‬ ‫الداللة ه��ي بدورها‪ ،‬وهي املتصلة بتأس��يس جام��ع القرويني‪.‬‬ ‫هذا الجامع ال��ذي كان دامئا مركزا للمدين��ة‪ ،‬وممثال للكثري من‬ ‫خصوصياتها سواء عىل املستوى الواقعي أو الرمزي‪ .‬فقد كان هذا‬ ‫الجامع وما يزال أهم معلمة فكرية وعلمية و حضارية احتضنتها‬ ‫املدينة‪ ،‬وهي ممثل الوحدة العقائدية واإلش��عاع الفكري للبالد‪،‬‬ ‫وبدون��ه تبقى املدينة مج��رد تابع‪ .‬إن بناء هذا الجامع نفس��ه‬ ‫ع�لى يد فاطمة الفهرية املعروفة ب��أم البنني‪ ،‬يف عدوة القرويني‪،‬‬ ‫وتسميته باسم جامع القرويني‪ ،‬مل يتحقق بدون األندلس؛ وأعوذ‬ ‫ألقتطف يف هذا الص��دد فقرة أخرية من كتاب»األنيس املطرب»‬ ‫يقول فيها املؤلف ‪:‬‬ ‫«وقي��ل هام أختان‪ ،‬فاطمة أم البن�ين ومريم‪ ،‬بنتا محمد الفهري‬ ‫املذكور‪ .‬فبنت فاطمة جامع القرويني املذكور‪ ،‬وبنت مريم جامع‬ ‫األندل��س من مال حالل طيب موروث ع��ن أبيهام وأختيهام‪»...‬‬ ‫(ص‪.)55‬‬ ‫وإذا كان��ت األندلس حارضة يف بؤرة اهت�مام الناس منذ قصص‬ ‫تأس��يس مدينة ف��اس‪ ،‬فإنها مل تنقطع لحظة ع��ن الحظوة مبثل‬ ‫هذا االهتامم الرفيع‪ ،‬ألن الروابط اإلنسانية والثقافية مل تنقصهم‬ ‫عراها مع إيبرييا حتى بعد س��قوط غرناط��ة‪ ،‬فقد كانت مدينة‬ ‫فاس تس��تقبل باس��تمرار العلامء والكتاب والصناع الذين كانوا‬ ‫يفدون عليها س��واء م��ن األندلس أو من الرشق اإلس�لامي‪ ،‬كام‬ ‫أن الحس��ن الوزان الذي كان يطلق عليه «لي��ون اإلفريقي» قد‬

‫محور خاص‪ ..‬‬ ‫كت��ب لقرائه من جمهور عرص النهض��ة األوربية‪ ،‬أن مدينة فاس‬ ‫كانت يف القرن الس��ادس عرش «عاصمة لإلس�لام الغريب ووريثة‬ ‫النهضة األندلس��ية»‪ ،‬لهذا كان العلامء والباحثون يأتون إليها من‬ ‫مختلف األقطار واألمصار بحثا عن املؤلفات والدراسات العلمية‬ ‫املجهول��ة‪ ،‬وبذلك ميكن القول أنها لعبت بحيوية بالغة أدوارا يف‬ ‫التبادل بني الرشق والغرب السيام مع جارتها األوربية‪.‬‬ ‫وإىل اآلن يراود املغاربة عامة‪ ،‬السيام يف مدنهم التاريخية العتيقة‬ ‫وعىل رأس��ها فاس‪ ،‬حنني غامض ومس��تمر إىل بالد األندلس‪ ،‬فإىل‬ ‫وقت قريب كنا نس��مع عن أرس تحتف��ظ من بني ما تتوارثه عرب‬ ‫األجيال‪ ،‬مبفاتيح دور ورياض ومتاجر وعرصات‪ ،‬كانت متلكها قبل‬ ‫نزوحه��ا مكرهة عن األندلس‪ ،‬ك�ما نعرف أرسا أخرى‪ ،‬وهي أكرث‬ ‫عددا‪ ،‬تفتخر بأصولها األندلسية التي ترفعها إىل عامل أو فيلسوف‬ ‫أو أمري أو وجيه معني‪ ،‬وتنسبها إىل حارضة بعينها من حوارض تلك‬ ‫العدوة‪ .‬كام كنا نس��تمع عىل لس��ان عامة الناس‪ ،‬أو أحد شيوخ‬ ‫العائلة‪ ،‬إىل أس��طورة بالد األندلس وهي تحىك‪ ،‬وتنسج خيوطها‬ ‫يف مخيلتنا املتعطش��ة وكأنها فردوس مفقود‪ ،‬أو باألحرى مفرط‬ ‫في��ه‪ .‬إنها حكايات عن رغد يف العي��ش‪ ،‬ورقة يف الطباع‪ ،‬ورهافة‬ ‫يف اإلحساس‪ ،‬وانتش��ار للغناء والرقص واملوسيقى إىل حد السفه‬ ‫والتخنث واللهو عن الواج��ب‪ ،‬فكانت هذه الليونة واإلفراط يف‬ ‫االس��تمتاع بلذائذ الحياة ومفاتن األندلس س��ببا يف كارثة الطرد؛‬ ‫هذا هو الدرس الذي كنا نس��تخرجه من هذه الحكايات الفاتنة‪،‬‬ ‫فنستمرئ فضيلة تقشف عاقل وجدية بالغة نتبعها يف حياتنا‪.‬‬ ‫وكانت هذه الحكايات بجانب وظيفتها الرتبوية الواضحة‪ ،‬ترتجم‬ ‫بدون ش��ك وجداننا الجامعي وتلونات ش��عورنا إزاء هذا الجار‬ ‫القريب والبعيد‪ ،‬هذا الجار الذي كان ذات يوم جزءا منا‪ ،‬فأصبح‬ ‫حلام نعوض به عن حرماننا منه‪ .‬كان قطعة منا فقدناها سياسيا‪،‬‬ ‫ولكنها بقيت تش��كل جزءا من حياتن��ا الثقافية والحضارية‪ ،‬مع‬ ‫إيقاف الزمن‪ .‬فام تزال تجسده أمام أعيننا ألوان العامرة وأشكال‬ ‫اللباس والعادات واملطبخ واملوسيقى‪ ،‬وصنائع مل تتوقف األجيال‬ ‫عن إنتاج نسخ مطابقة أو مقاربة لها منذ أكرث من ستة قرون‪.‬‬ ‫أال نش��عر‪ ،‬ونحن نذرع غرف قرص الحمراء‪ ،‬أنها س��تفيض بنا إىل‬ ‫إحدى املدارس املرينية أو إىل إحدى دور فاس العتيقة ؟‬ ‫أمل نقل عن موس��يقانا األندلس��ية أنها طرب وقور ال ينقص من‬ ‫م��روءة عازفه أو املس��تمع إليه وكامل دينه‪ ...‬ث��م أال نعزفها يف‬ ‫حفالتنا الدنيوية كام نرتل بألحانها القصائد الدينية يف املس��اجد‬ ‫والزوايا ؟‬ ‫أال ننسب إىل األندلس الكثري من أشياءنا املتحرضة والجميلة!؟‬ ‫هك��ذا يتلون وجدانن��ا الجامعي نحو األندل��س ببعض املفارقة‬ ‫املعذبة؛ مفارقة ال تناقض بني أطرافها‪ ،‬بل هي تتكامل فيام بينها‬


‫فاس الهوية والتاريخ‬ ‫وكأنها معادلة لتعرب عن وجداننا القلق إزاء هذا املوضوع‪.‬‬ ‫فيها يرتبط الشوق والحنني باملرارة والندم عىل أرض واحدة‪ .‬لقد‬ ‫كانت ه��ذه األرض الخطيئة وعقاب الخطيئ��ة يف نفس الوقت‪،‬‬ ‫لق��د كانت أرض األحالم والفردوس املفقود التي أوقع املغريب يف‬ ‫خطيئة االستمتاع به‪ ،‬فأخرج منه ليكفر عن نفس الذنب القديم‬ ‫والخطيئ��ة األوىل التي مل تكن متثل خطيئة يف عمق وجدانه‪ ،‬لقد‬ ‫كان��ت مجرد تنعم بطيب��ات متاحة يف ذلك الف��ردوس بفاكهته‬ ‫املحللة واملحرم��ة‪ ،‬ورياضه وأزهاره وأش��عاره وأنغامه وخمرته‬ ‫وجواري��ه وغلامن��ه‪ .‬لقد كان هذا الفردوس ال��داء والرتياق معا‬ ‫والنعم��ة والخطيئ��ة مجتمعتني‪ ،‬غري أن العرب واملس��لمني‪ ،‬من‬ ‫كرثة ما انش��غلوا يف التلذذ بطيبات هذا الفردوس‪ ،‬مل يتفطنوا إىل‬ ‫األخطار املداهمة‪ ،‬ومل يأخذوا العدة للتصدي للعدو واملرتبص‪.‬‬ ‫تقول تلك الحكاية الش��عبية التي استظهرناها من كرثة ما رددت‬

‫زهور‬

‫العدد الثالث ‪ -‬السنة األولى ‪ -‬يوليوز ‪2012‬‬

‫عىل أسامعنا‪ ،‬أن أحد أمرائهم جاءه أحد السعاة لينذره بالكارثة؛‬ ‫وملا اس��تقصاه يف األمر تبني أن النصارى استولوا عىل أحد املواقع‬ ‫القريب��ة‪ ،‬فام كان من األمري إال أن صاح فيه‪« :‬لقد أفزعتني حتى‬ ‫ظننت أن أحد أوتار عودي قد انكرس!»‪.‬‬ ‫إنه��ا أيضا نظرية الحضارة كام صاغها فيلس��وف ذلك الزمن ابن‬ ‫خل��دون‪« :‬فكل حضارة‪ ،‬كام يقول‪ ،‬البد أن تصل إىل قمة الليونة‬ ‫والدعة حتى يفقد الناس فيها خشونتهم وعصبيتهم‪ ،‬فتايت عصبية‬ ‫خشنة جديدة لتأخذ منهم القوة والسيادة بالقهر»‪.‬‬ ‫هكذا كن��ا‪ ،‬إىل وقت قريب ندرك األندل��س ومنثلها بعقولنا ويف‬ ‫أعامق وجداننا‪ ،‬ترى هل تغري الزمان وأصبحنا أمام أدوار جديدة‬ ‫مختلفة للحضارة ؟ وأمام متثل جديد ملوضوع األندلس؟ ال ش��ك‬ ‫ّأن‪ّ ...‬أن ذلك صحيح‪!!! ‬‬ ‫(*) أستاذ باحث‪ /‬محافظ املركب الثقايف البلدي بفاس‬

‫‪17‬‬


‫‪18‬‬

‫زهور‬

‫العدد الثالث ‪ -‬السنة األولى ‪ -‬يوليوز ‪2012‬‬

‫محور خاص‪ ..‬‬

‫حرف سكنت‬ ‫وجدان مدينة‬ ‫فاس‬ ‫أشرقت لقرون‬ ‫متواصلة‬ ‫وغيبتها‬ ‫طالئع‬ ‫العصرنة‬ ‫الداهمة‬ ‫للمدينة‬

‫محمد السعيدي(*)‬


‫فاس الهوية والتاريخ‬

‫زهور‬

‫العدد الثالث ‪ -‬السنة األولى ‪ -‬يوليوز ‪2012‬‬

‫حرف لها تاريخ‬ ‫تعتبر احلرف التي اش � � � ��تهرت بفاس وازدهرت قرونا من الزمن‪ ،‬مكونا أساسيا من ثقافتها االجتماعية‪ ،‬ساهمت في إنعاش احلياة‬ ‫اليومية لس � � � ��اكنة هذه املدينة‪ ،‬إنعاش � � � ��ا متواصال ال يفتقر وال يلني‪ ،‬فقد كانت احلاجة ماسة إلى أصحابها ذوي اخلبرات واملواهب‬ ‫الفني � � � ��ة والكف � � � ��اءة التقنية‪ ،‬واملقدرة املعرفي � � � ��ة‪ ،‬وكان حضور أصحاب هذه احلرف متميزا في كل املناس � � � ��بات املتاحة أو األزمات‬ ‫الطارئة‪ ،‬شغلهم توظيف خبراتهم وآلياتهم البسيطة‪ ،‬وهمهم حل اإلشكاليات املطروحة عليهم‪.‬‬ ‫بفضل هذه املهن‪ ،‬تزخر ذاكرة فاس بس � � � ��جالت حافلة بالعطاءات‪ ،‬مليئة باإلجن � � � ��ازات وطافحة باالبتكارات في مختلف امليادين‬ ‫االجتماعية‪ .‬في املقال التالي‪ ،‬نتوقف عند البعض منها الذي بدأت مالمحه تغيب عن خارطة هذه املدينة وعن وجدانها‪.‬‬ ‫يف املايض‪ ،‬لولع تج��ار فاس‪ ،‬وحكامها ووجهائه��ا بركوب البغال‬ ‫«لقوادسية»‪ :‬مهندسون شعبيون‬ ‫واألحصن��ة املرسجة‪ ،‬وكذلك لولع القبائ��ل املتاخمة ملدينة فاس‬ ‫ظهر ه��ؤالء «املعلمني» بالحارضة الفاس��ية منذ القرن التاس��ع‬ ‫بألعاب الفروس��ية التقليدية‪ ،‬والهتامم ه��ذه القبائل بالحصان‪،‬‬ ‫امليالدي‪ ،‬حيث دعت الحاجة إليهم بادئ األمر لتنظيف مصبات‬ ‫لدوره الوظيفي يف املعارك والحروب واالحتفاالت الشعبية‪.‬‬ ‫العيون وضبط مساراتها‪ .‬ومع اتساع العمران وتكاثر البنيان عمل‬ ‫رجاالتها من األجيال الالحقة عىل تطوير ما ورثوه‪ ،‬عن أجدادهم «السقاطين»‪ :‬مركز لصناعة األسلحة‬ ‫م��ن صنعة تتالءم مع متطلب��ات املدينة يف هيكلتها الهندس��ية‬ ‫ازدهرت صناعة البنادق الحربية وبنادق ألعاب الفروسية‪ ،‬بسوق‬ ‫الجدي��دة‪ ،‬خصوصا وأن «املعدات» وهي جفنات مقعرة صغرية‪،‬‬ ‫«السقاطني» لقرون طويلة من الزمن بسبب اإلقبال الذي عرفته‬ ‫انترشت باملئات عرب الدور واملرصيات والرياضات يصب فيها املاء‬ ‫بنادقها من لدن فرس��ان «التربدة» املعروف�ين بالبوادي املجاورة‬ ‫مضبوطا يف أوقات معلومة‪ ،‬ثم يتوقف بعد أن تس��تويف املساكن‬ ‫للحارضة الفاسية‪ ،‬والذين ورثوا هذا الرتاث عن أبائهم وأجدادهم‪،‬‬ ‫حظها منه‪ ،‬ليتابع مس�يره نحو الدور الالحقة‪ ،‬وهكذا دواليك إىل‬ ‫حيث كانوا ينش��طون املواسم واألعياد واملناس��بات االجتامعية‬ ‫أن يتوصل كل مس��كن مبا يلزم��ه من ماء العيون الدفاقة‪ .‬وليس‬ ‫بتقدميهم للقطات تثري اإلعجاب والحامس من املتحلقني حولهم‪،‬‬ ‫من ش��ك يف أن املعلمني «لقوادس��ية» يقومون بني أسبوع وآخر‬ ‫املنجذبني لفنّهم‪ .‬وقد ساهمت ظروف أمنية‪ ،‬باإلضافة إىل إعراض‬ ‫بتنقية مجاري املاء املنهمر‪ ،‬مام قد يعلق بها من الشوائب‪ ،‬وذلك‬ ‫األجيال الناشئة عن مسايرة طقوس «التربدة» أو تطويرها بإدخال‬ ‫بتطعيمها بالنش��ارة املتكونة عند املعلم�ين النجارة‪ ،‬فإذا اختنق‬ ‫قادوس أو تعذر عىل املاء االنهامر عربه س��ارعوا خفافا لترسيحه تعديالت عليها‪ ...‬وبالتايل اختفاء صنّاع أسلحتها‪.‬‬ ‫بكف��اءة عالية‪ ،‬ال يتطلب منهم ذل��ك أكرث من بضع دقائق‪ .‬آخر «القبابة»‪ :‬حرفة من الماء إلى الماء‬ ‫رموز «القوداس��ية» املعلم محمد الذي كان يجعل من الشامعني‬ ‫وهم حرفيون عرفوا برتكيب «اقباب» الحامم البلدي من خشب‪،‬‬ ‫مرك��زا له‪ ،‬ومبوت��ه رحمه الله طويت صفح��ة «املعلمني» الذين‬ ‫تفنن��وا يف ذلك أميا تفنن‪ ،‬إىل أن غ��دت حاممات فاس بأجمعها‬ ‫خدم��وا «املعادي» مبدينة ف��اس بكل ما أتوا م��ن ذكاء فطري‪،‬‬ ‫تس��تعمل هذه «القب��اب»‪ ،‬يضعونها تحت ترصف املس��تحمني‬ ‫وحس عمي��ق‪ ،‬ودراية منقطعة النظري‪ ،‬لتج��ف «امعادي» فاس‬ ‫من الرجال صباحا ورهن إش��ارة املستحامت مساءا‪ ،‬كام اشتهروا‬ ‫م�ما كان يهطل فيها من مياه وتعويضها بأنابيب حديثة مرتبطة‬ ‫بصناعة «لقباقب» من خش��ب يلبسها املستحمون واملستحامت‬ ‫بعدادات تحسب عىل ساكنة املدينة ما يستهلكونه من مياه‪.‬‬ ‫ووس��عوا دائرة عملهم ليبدعوا‬ ‫كأحذية داخل حاممات املدينة‪ّ ،‬‬ ‫أواين ل�شرب امل��اء «اغرارف» وكؤوس من العرع��ار الجيد‪ ،‬يقبل‬ ‫«السراجون»‪ :‬خدام الفروسية‬ ‫عليها مقتنوها أيام الصيف‪ ...‬ويوجد مقر أصحاب هذه الحرفة‪،‬‬ ‫اش��تهرت مدينة فاس «بالرساجني» وهو س��وق معروف بصناعة‬ ‫رسوج األحصن��ة والبغ��ال‪ ،‬حيث كان بعض س��اكنتها من حكام منذ مئات السنني بحي باب السلسلة بفاس العتيقة‪.‬‬

‫وتجار وميسوري الحال‪ ،‬يتنقلون داخل الحارضة الفاسية ممتطني «مطاحن فاس»‪ :‬تمحي من قلب المدينة‬

‫صهواتهم وبغالهم‪ .‬وحرفة الرساجني التي اختفت آثارها‪ ،‬ازدهرت‬

‫مطاحن فاس‪ ،‬وكانت بالعرشات تش��تغل بشكل مستمر إلعداد‬

‫‪19‬‬


‫‪20‬‬

‫زهور‬

‫العدد الثالث ‪ -‬السنة األولى ‪ -‬يوليوز ‪2012‬‬

‫دقيق القمح والش��عري والذرة‪ ،‬ولتزويد أسواق املدينة بالكميات‬ ‫الت��ي تحتاج إليها‪ ،‬مس��اهمة يف ذات الوقت يف طحن ما يقدمه‬ ‫إليها ساكنة املدينة‪.‬‬ ‫وليس من ش��ك يف أن من أس��باب إمحاء هذه املطاحن‪ ،،‬نضوب‬ ‫مياه وادي فاس الدفاقة التي كانت تدير رحيها‪ ،‬وبروز تكنولوجية‬ ‫جديدة تجلت يف ظهور مطاح��ن آلية متقدمة باملدينة‪ ،‬لتعويض‬ ‫مهنة انقرضت رغام عنها‪ ...‬وعن ساكنة املدينة العتيقة‪.‬‬ ‫تألق��ت هذه املهنة حول جامع القروي�ين العتيقة‪ ،‬وعىل مقربة‬ ‫من س��وق السبطريني‪ ،‬كام اش��تهرت بقربها من مكتبة القرويني‬ ‫ومبجاورتها لس��وق الدلاّ لة‪ ،‬وهو ما جعلها حرفة داخل النس��يج‬ ‫االجتامعي‪ /‬الشعبي ملدينة فاس‪ ،‬لفرتة طويلة من الزمن‪.‬‬

‫صناعة «الحصر» ألجل الطلبة والمصلين‬

‫كان لها شأن وأي شأن‪ ،‬لكونها كانت امللجأ الوحيد ألوقاف املساجد‬ ‫والكتاتي��ب القرآنية والزوايا‪ ،‬لتزويدها مبا هي يف حاجة إليه من‬ ‫«ح�صر» تغطي رحابها عىل ع��ادة األقدمني‪ .‬لذلك تخصص فيها‬ ‫«معلمون» برعوا يف نس��ج خيوطها وألوانها ورسومها من عشب‬ ‫يابس مهيأ لهذا الغرض‪ .‬وقد انقرضت هذه الصناعة واندثرت بعد‬ ‫أن أبدى املتحمس��ون من املحسنني تطلعهم لتعويض «الحرص»‬ ‫بالزرايب التقليدية أو الحديثة‪ ،‬حيث مل يبق من هذه الحرفة غري‬ ‫قلة قليلة من املعلمني‪ ،‬تس��د بالكاد طلبات الس��وق الفايس أو‬ ‫البدوي عىل قلته‪ .‬والبد من اإلش��ارة يف هذا السياق‪ ،‬إىل أن وقفا‬ ‫خاصا بالحرص خلفه األقدمون عىل مر الس��نني بجامعة القرويني‬ ‫ومساجد أخرى بالعاصمة العلمية‪.‬‬

‫«فالسة» فاس‪ ،‬حرفيون يبحثون عن الفضول‬

‫حرفة «الفالس��ة» كان ميتهنها أن��اس منعدمو الصنعة‪ ،‬تحفزهم‬ ‫دواف��ع الفضول والرغبة يف معانقة الحظ‪ ،‬والش��د عليه‪ ،‬يلجأون‬ ‫ألودية مدينة فاس مبا فيه��ا مجاري «بوخرارب»‪ ،‬ويعملون عىل‬ ‫جمع ما ترسب عىل جنباتها وبأعامقها‪ ،‬باحثني عن سوار أو سلسلة‬

‫محور خاص‪ ..‬‬

‫أو خاتم من ذهب‪ ،‬منقبني عن كل ما ميكن أن يعترب تحفة نادرة‬ ‫انفلتت مع مجاري مياه البيوت والقصور والرياضات‪ ،‬فإذا فازوا‬ ‫بغنيم��ة عرضوها للبيع عىل الرصي��ف يف حي من أحياء املدينة‪.‬‬ ‫وإذا تعلق األمر بذهب أو فضة تسابقوا عند أمني سوق الذهب‬ ‫ضامنا لهم بيعها‪ ،‬تش��فع لهم حرفة «الف�لاس» االبتعاد عن كل‬ ‫ش��بهة أو شك‪ .‬وقد ّ‬ ‫القصاصون «الفالس» يف غري قليل من‬ ‫وظف ّ‬ ‫إبداعاتهم‪ ،‬إلضفاء طابع الغرابة واإلثارة عليها‪.‬‬

‫«زرزاية» أوالد سيدي عيسى‬

‫وه��م قوم ش��داد‪ ،‬قو ّيو الش��كيمة يحلون بف��اس‪ ،‬بعضهم تعود‬ ‫أصوله إىل قرية «أوطات الحاج»‪ ،‬يوظفهم الفاسيون قدميا لحراسة‬ ‫األس��واق واملنازل والقصور والدور‪ ،‬ولنقل «السخرة» من األسواق‬ ‫العامة للبيوت‪ .‬كام كانوا ُيس��تعملون لنقل متاع العروس وفراشها‬ ‫لبي��ت الزوجية يف طقوس ال تخلو من تصليات عىل النبي الكريم‪.‬‬ ‫هؤالء مل تعد لهم بفاس القرن الواحد والعرشين صورة تذكر‪ ،‬وهم‬ ‫ش��بيهون فيام يتعلق بحراستهم األسواق ومداخل املدينة وأبوابها‬ ‫بالشبكة األمنية الخاصة اليوم‪ ،‬والتي يطلق عليها «سيكريت»‪.‬‬

‫كل هذه املهن املندث � � � ��رة تعكس حضارة فاس‬ ‫القدمي � � � ��ة‪ ،‬ألجل ذل � � � ��ك ارتفع � � � ��ت العديد من‬ ‫األص � � � ��وات‪ ،‬املهتم � � � ��ة بالتراث والس � � � ��ياحة‪،‬‬ ‫مطالبة بإحيائها وإحياء أسواقها‪ ،‬وذلك في‬ ‫إطار املخطط اجلهوي للسياحة الذي يسعى‬ ‫إلى إظه � � � ��ار تراث هذه املدينة املقدس � � � ��ة كما‬ ‫عاش أيام ازدهارها الثقافي واحلضاري‪.‬‬ ‫شاعر وباحث‪ /‬أستاذ مربز‬


‫فاس الهوية والتاريخ‬

‫زهور‬

‫العدد الثالث ‪ -‬السنة األولى ‪ -‬يوليوز ‪2012‬‬

‫ﻣﺠ‬ ‫ﻠ‬ ‫ﺔ‬ ‫ﺛﻘﺎ‬ ‫ﺗ‬ ‫ﻓ‬ ‫ﻴ‬ ‫ﺻ‬ ‫ﺩ‬ ‫ﺔ‬ ‫ﺭ‬ ‫ﺍ‬ ‫ﻏﺭﺓ ﻛﻝ ﺷﻬ ﺟﺘﻤﺎ‬ ‫ﻋ‬ ‫ﻴ‬ ‫ﺍﻻﺟﺗﻣﺎﻋ ﺭ ﻋﻥ ﺟﻣ ﺔ ﺷ‬ ‫ﺎ‬ ‫ﻣ‬ ‫ﻠ‬ ‫ﺔ‬ ‫ﻳﺔ‬ ‫ﻌﻳﺔ‬ ‫ﻭ‬ ‫ﺍ‬ ‫ﺯ‬ ‫ﻟ‬ ‫ﺗ‬ ‫ﻫ‬ ‫ﻧ‬ ‫ﻭ‬ ‫ﻣ‬ ‫ﻳﺔ‬ ‫ﺭﻟ‬ ‫ﺍﻟﻣﺳﺗﺩﺍﻣﺔ ﻠﻌﺩﺍﻟﺔ‬ ‫ﺯﻫ‬ ‫ﻮ‬ ‫ﺭ‬ ‫‪:‬‬ ‫ﺗ‬

‫ﻨ‬ ‫ﻮ‬ ‫ﻳ‬ ‫ﺮ‬ ‫ﻭﺗﺠ‬

‫*‬ ‫ﺍ‬ ‫ﻟ‬ ‫ﺗ‬ ‫ﻌ‬ ‫ﺭ‬ ‫ﻳﻑ‬ ‫ﺑ‬ ‫ﺎ‬ ‫ﻟ‬ ‫ﺣ‬ ‫ﺗ‬ ‫*‬ ‫ﺭ‬ ‫ﺍ‬ ‫ﺍ‬ ‫ﻟ‬ ‫ﺙ‬ ‫ﻣ‬ ‫ﻀﻮﺭ‬ ‫ﺣ‬ ‫ﻭ‬ ‫ﺎ‬ ‫ﺗﺛ‬ ‫ﻓﻅ‬ ‫ﺔ‬ ‫ﻣﻳﻧﻪ؛‬ ‫ﻋ‬ ‫ﻠ‬ ‫*‬ ‫ﻰ‬ ‫ﻁ‬ ‫ﺍ‬ ‫ﻟ‬ ‫ﺭ‬ ‫ﻬ‬ ‫ﺡ‬ ‫ﻭﻳﺔ‬ ‫ﺃﻫ‬ ‫ﻡ‬ ‫ﻭ‬ ‫ﺍ‬ ‫ﺍ‬ ‫ﻟ‬ ‫ﻟ‬ ‫ﺩ‬ ‫ﻘ‬ ‫ﺿﺎ‬ ‫*ﺧ‬ ‫ﻓﺎﻉ‬ ‫ﻠ‬ ‫ﻳ‬ ‫ﺎ‬ ‫ﻋ‬ ‫ﻕ‬ ‫ﺍ‬ ‫ﻧ‬ ‫ﻻ‬ ‫ﻣ‬ ‫ﻬ‬ ‫ﻧﺑ‬ ‫ﺎ؛‬ ‫ﺟﺗ‬ ‫ﺭ‬ ‫ﻣ‬ ‫ﺎ‬ ‫ﺧ‬ ‫ﻋ‬ ‫ﺎ‬ ‫ﻳ‬ ‫ﺔ‬ ‫*ﻧ‬ ‫ﺹ‬ ‫ﺷ‬ ‫ﻭ‬ ‫ﺑ‬ ‫ﺭ‬ ‫ﻣ‬ ‫ﺎ‬ ‫ﻧ‬ ‫ﻟ‬ ‫ﺛ‬ ‫ﺎ‬ ‫ﻣ‬ ‫ﻗ‬ ‫ﻘﺎﻓ‬ ‫ﺔ‬ ‫ﺣ‬ ‫ﺟﺗﻣﻊ ﺍﻟﻣﺩﻧ ﺷﺗﻬﺎ؛‬ ‫ﻘ‬ ‫*ﺍ‬ ‫ﻭ‬ ‫ﻟ‬ ‫ﺗ‬ ‫ﻕ‬ ‫ﻭ‬ ‫ﺍ‬ ‫ﻋ‬ ‫ﻲ‬ ‫ﻹ‬ ‫ﻳ‬ ‫؛‬ ‫ﻧ‬ ‫ﺔ‬ ‫ﻭ‬ ‫ﺍ‬ ‫ﻟ‬ ‫ﻧ‬ ‫ﺳﺎﻥ؛‬ ‫ﺻﻳﺣ‬ ‫ﺔ‬ ‫ﻭ‬ ‫ﺍ‬ ‫ﻹ‬ ‫ﺭﺷﺎﺩ‪.‬‬

‫ﺪﻳﺪ ﻭ‬

‫‪21‬‬


‫‪22‬‬

‫زهور‬

‫العدد الثالث ‪ -‬السنة األولى ‪ -‬يوليوز ‪2012‬‬

‫فاس‪ ..‬‬

‫فاس‪...‬‬ ‫في أعين اآلخر‬


‫في أعين اآلخر‬

‫زهور‬

‫العدد الثالث ‪ -‬السنة األولى ‪ -‬يوليوز ‪2012‬‬

‫نقدم في هذا احملور قصيدة و ثالث مقاالت على درجة كبيرة من األهمية‪ ،‬ليس� � � ��ت ألنها تقيم‬ ‫اجلوانب احلضارية املتميزة ملدينة فاس‪ ،‬ولكن ألنها أيضا تعطي لقرائها انطباعات مختلفة لكتاب‬ ‫وشعراء وباحثني‪ ،‬ينتمون إلى الغرب والشرق‪ ،‬عن هذه املدينة‪ ،‬التي تصفها األقالم املبدعة‬ ‫جميعها بـــــــــــ «املقدسة» و«احللم» و«اجلوهرة النفيسة» على خارطة املغرب اإلسالمي‪.‬‬

‫والش� � � ��ك‪ ،‬أن قراءات وانطباعات‪ ،‬الش� � � ��اعرة اإلس� � � ��بانية «فينادي كالديرون»‪ ،‬والكاتب‬ ‫الفرنس� � � ��ي «هنري بوسكو» والش� � � ��اعر العراقي «ش� � � ��اكر نوري»‪ ،‬عن مدينة فاس‪ ،‬تشكل‬ ‫شهادات علمية‪ /‬ثقافية‪ /‬حضارية‪ ،‬تؤكد إضافة إلى املوقع اخلاص لهذه املدينة على اخلريطة‬ ‫اإلنس� � � �انية‪ ،‬على ّمتيزها احلضاري‪ /‬التاريخي‪ ،‬الذي ال يضاهى رغم‬ ‫تو ّغله في أعماق القرون الوسطى‪.‬‬

‫‪23‬‬


‫‪24‬‬

‫زهور‬

‫العدد الثالث ‪ -‬السنة األولى ‪ -‬يوليوز ‪2012‬‬

‫فــا�س‬

‫فاس‪ ..‬‬

‫د‪ .‬عبد العزيز التويجري‬

‫ـــــو ُ‬ ‫ـا�س َع ِ‬ ‫ق ‬ ‫ـا�ش ٌ‬ ‫َق ْل ِبـي ِل َف ٍ‬ ‫ـــق َي َت�شَ َّ‬

‫َيـرنـو �إليـهـا فـي الوفـاءِ وي�سبقُ ‬

‫دوح بـا�ســقٌ ‬ ‫بلد لها يف الـمـجــد‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬

‫ُ‬ ‫ـدعــت‬ ‫العقـــول و�أَ ْب‬ ‫فيها‬ ‫ْ‬ ‫َو َت َع َّل َم ْ‬ ‫ت َ‬ ‫ُ‬ ‫ويـرهــق‬ ‫يـ�شـوق‬ ‫نجز ما‬ ‫ُ‬ ‫تبني و ُت ُ‬

‫ٍ‬ ‫و�صـنــاعـة‬ ‫رائــــــع‬ ‫فـــن‬ ‫مـن كـل‬ ‫ِّ‬ ‫ٍ‬

‫�شر ُ‬ ‫ِ‬ ‫ق ‬ ‫عطاء فـي‬ ‫ولها‬ ‫الـمعارف ُم ِ‬ ‫ٌ‬

‫ُ‬ ‫�شـرق‬ ‫فـكـر فـي العـوامل ُت‬ ‫وعلـوم‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬

‫فيـهـا مــن ال َّن�ســب ال�شّ ـريف ت�ألقٌ ‬

‫ق‬ ‫بيـن‬ ‫العـوا�صـم نـورهـا يـتـدقـــ ّ ُ‬ ‫ِ‬ ‫ً‬ ‫ِ‬ ‫غ�شاوة‬ ‫احلنيف‬ ‫الدين‬ ‫يجلو عن ّ‬

‫ً‬ ‫درة ‬ ‫إدريـ�س �أنـ�شــــ�أهــا فـ�صــارت‬ ‫�‬ ‫ُ‬

‫َ‬ ‫ت�ســـامـــح ‬ ‫مـجــال‬ ‫كانت وما زالت‬ ‫ٍ‬

‫َّ‬ ‫ً‬ ‫منـــــــارة‬ ‫يعـــــود‬ ‫فـلـعـل جـامعهـا‬ ‫ُ‬

‫ٍ‬ ‫ينـطـــق ‬ ‫باملـحـبــــة‬ ‫�صدق‬ ‫ول�سان‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬

‫أحـمـــــق‬ ‫أعـاجـم �‬ ‫قد حاكها بني ال‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬

‫َ‬ ‫ـــــــق ‬ ‫ـحيـح ُمـو ّث‬ ‫ال�ص‬ ‫ياتيك‬ ‫ٌ‬ ‫ِ‬ ‫باخليـر ّ‬ ‫ِ‬

‫ـ�صـــد ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫و�صـف �آالءِ‬ ‫ق‬ ‫لــديــك ُت‬ ‫فـي‬ ‫َّ‬

‫و�س ْ‬ ‫َ�س ْ‬ ‫ل �أحـوازهـــا ‬ ‫ل جام ًعا فيها َ‬

‫مدت على الدنيا رواق ح�ضارةِ ‬ ‫ّ‬

‫يزهو بها َمن للح�ضارةِ يع�شـــــقُ ‬

‫ٌ‬ ‫ـدرة‬ ‫ـذرا مـا ل�شـعــري ُق‬ ‫فا�س ُع ً‬ ‫يا ُ‬

‫�شافع‬ ‫فـحبي‬ ‫عـجـز‬ ‫�إن كـان لـي‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ّ‬ ‫ٌ‬ ‫ف�ضـل فف�ض ُل ِ‬ ‫أ�سبق‬ ‫ك�‬ ‫�أو كـان لـي‬ ‫ُ‬


‫في أعين اآلخر‬

‫فــا�س‬

‫زهور‬

‫مدينة متمنعة‬ ‫أفك��ر يف فاس‪ ،‬إنها واحدة من املدن املركبة بامتياز‪ ..‬املدن املؤمتنة‬ ‫والجمل املريكانتيليا والصمت العتيق‪ ..‬مدن‬ ‫الصالة واملوسيقى ُ‬ ‫عىل ّ‬ ‫ال متنح للنظر سوى األلغاز وال للبحث سوى جدران باردة أو متاهات‬ ‫مدوخة‪ .‬يف بعض األحيان يتيه فيها حتى األسوياء الخلص‪.‬‬ ‫إنه��ا مدن ذات تجاويف وتعقيدات‪ ،‬حيث ال حائط وال باب‪ ،‬أو‬ ‫زق��اق أو ظ��ل آدامي‪ ،‬ال يد ّوخ أو يحيرّ بس��بب تعرجات مبهمة‬ ‫وطرق بدون مخرج‪ .‬هي م��دن غن ّية بالصمم والرفض والكتامن‬ ‫غري املفهوم وال العادل‪ ،‬حيث كل ملمح نكتشفه‪ ،‬تكذبه وتسقط‬ ‫عن��ه القناع‪ ..‬إنها متحركة‪ ،‬متبدلة‪ ،‬تضم بني جدرانها وأس��وارها‬ ‫آالف األرواح واألنف��س‪ ،‬تتقاط��ع دون أن تتوحد أو تفرتق‪ ..‬هي‬ ‫ورعة مبعابدها‪ ،‬غنية بتجارتها‪ ،‬ومقدسة يف عمقها (‪)...‬‬ ‫كل�ما ُ‬ ‫عدت إليها‪ ،‬إال وترس��خت يف داخيل فكرة مفادها أن فاس‬ ‫تنتمي لهذه املدن املحرم��ة التي يعتقد األجنبي عنها واهام‪ ،‬أن‬ ‫مبستطاعه ولوج أبوابها‪.‬‬ ‫املفارقة أن متة مدن قليلة هيأت يف أسوارها مداخل ذات ألقاب‬ ‫تذكراي��ة‪ ،‬مثال (ب��اب فتوح) التي تعني ب��اب االنتصارات‪( ،‬باب‬ ‫محروق) التي تعني باب املحاسبة القضائية (باب غيسة) املؤرشة‬ ‫عىل باب الحرب وغريها كثري‪ ،‬وقيمة هذه األس�ماء ال تس��اعدك‬ ‫يف يشء م�ما ذك��ر من قبل‪ ،‬فهي ال تفتح ملن يري��د بابا حرا‪ ،‬أي‬ ‫مدخل سهل للكل‪ .‬فاس ليست مدينة منفتحة‪ ،‬إنها دوما املدينة‬ ‫املمنوع��ة‪ ،‬أي أنها عامل خ��اص‪ .‬وإذا كان فضويل يعاين أرضارا من‬ ‫ذلك‪ ،‬فإنها تعجبني أنا هكذا‪ ،‬أحبها متمنعة غري ممسوسة‪ ..‬هل‬ ‫كانت ستكون كذلك لوال هذه الرغبة املتوارثة والتي تصل أحيانا‬ ‫حد العدوان‪ ،‬يف املحافظة عليها ككنز مثني ال مثيل له والذي هو‬ ‫أحد أهم الكنوز يف اإلسالم!؟‬ ‫إنها كنز ال عنوان له‪ ،‬كنز واقعي‪ ،‬كائن ولكن ال أستطيع قول يشء‬ ‫عنه سوى أنه هنا‪ ،‬أنه كائن إن مسسته فإن أظافرك قد تدنست‬ ‫طهارته‪ .‬إن مثة ش��يئا مقدسا يف املدن املنغلقة‪ ..‬وأنا ال أكره البتة‬ ‫حني أعرب مكانا إن نالح��ظ فيه قيام معابد قدمية‪ ،‬ونصادف فيه‬ ‫عند العتبة وجها جهوما‪..‬‬ ‫لك��ن كام قلت‪ ،‬لي��س لفاس هذا الوجه العب��وس غري املضياف‪،‬‬ ‫إن له��ا أياما للغناء وهو غناء مؤن��س‪ ،‬لطيف‪ ،‬إن بها أيام حرية‬ ‫رائع��ة‪ ،‬مثال‪ :‬يف أبريل حيث يرحل يف قوافل هواة مباهج البادية‬ ‫فرحني بسامع صوت الريح ممزوجا بخرير املاء املحيط باملدينة‪،‬‬ ‫وحيث تزه��ر فيها أحواض آالف الحدائق الصغرية ش��به الربية‪.‬‬ ‫إنهم يشدون الرحال إليها‪ ،‬وهي العملية التي يطلقون عليها هنا‬

‫العدد الثالث ‪ -‬السنة األولى ‪ -‬يوليوز ‪2012‬‬

‫هنري بوسكو‬

‫إسم (النزاهة) «نزهة الربيع»‬ ‫كان ص��ف من البغ��ال يحم��ل رب الروضة واألصدقاء‪ ،‬الس��جائد‬ ‫والوس��ائد‪ ،‬املأك��والت واألواين‪ ،‬الخي��ام البي��ض املط��روزة وآالت‬ ‫املوس��يقى‪ ..‬إنه مخي��م يف الهواء الطلق من أجل قض��اء يوم رائق‬ ‫وألجل االس��تمتاع بليلة هادئة بني األشجار املثمرة‪ ..‬إنه الجو الذي‬ ‫يطلق العنان للكلامت الرائقة والش��اعرية‪ ،‬حيث يستدعي الرباب‬ ‫الناي‪ ،‬والناي الرباب إىل فرح املوسيقى الذي يشد أوثار اآلالت وآثار‬ ‫القال��ب والذي يزيده صفاء الس�ماء رونقا ال يوصف‪ ،‬حيث يصبح‬ ‫ألريج الحدائق طعم آخر أنفذ‪ ،‬وتصبح الرفقة أنسا ما بعده أنس‪...‬‬ ‫إن��ه جو البادية الص��ايف الذي يأرس أهل املدن ويط��وح بهم‪ ،‬إنهم‬ ‫يغنون أغاين الحب والوله يف أبريل وعىل ألسنتهم ترتدد أبيات‪:‬‬ ‫«فاقد الحب أضاع النعم‬ ‫فالعشق ضد األمل‬ ‫الليل جـــــــاء‬ ‫فخذ كل املصابيح الالمرئية‬ ‫وجهها وحده يضيئ الليل‬ ‫القمـر قد طلع‪»..‬‬ ‫يا بنات القـدر‬ ‫تسلحن باإليباء‬ ‫تشجعـــن‬ ‫يا مايض الجميل‬ ‫يا لطفا ال ينتهي‬ ‫آه أيها اللطف»‬ ‫هل «غاب عني الحنني؟‬ ‫والدنيا فانيـة‬ ‫ال املاء‪ ،‬ال الخرضة‪ ،‬ال الجامل‬ ‫كل يشء فـــان‪..‬‬ ‫أتضمن أنك باقي للغد؟‬ ‫هو وحده الباقي‬ ‫هو وحده املوجود‬ ‫الحمد لله‪.‬‬ ‫يكون الغناء سيد املكان حتى الفجر‪ ،‬حيث يأيت صوت املؤذن من‬ ‫أعىل مآذن فاس معلنا مقدم يوم جديد‪.‬‬

‫‪25‬‬


‫‪26‬‬

‫زهور‬

‫العدد الثالث ‪ -‬السنة األولى ‪ -‬يوليوز ‪2012‬‬

‫فــا�س‬

‫فاس‪ ..‬‬

‫عبر أختام الحلم‬ ‫فينادي كالديرون‬ ‫تعريب مصطفى القصري‬

‫يتغنني بهذه األغنية الشعبية القدمية التي تقول في معناها‪« :‬حبيبي جرحني بنظرة من‬ ‫نساء فاس ّ‬ ‫عينيه‪ ،‬فماذا عسى كان يقع لو نطق بكلمة من فمه؟»‪.‬‬ ‫وأنا أيضا مثلهن أصابتني فاس بسهامها‪ ،‬فقط حني حلمت بها‪ ،‬فماذا كان سيقع لو أنّي شاهدتها‬ ‫في احلقيقة والواقع‪ ،‬ال في احللم واخليال؟‬ ‫فعال‪ ،‬لم يس � � � ��بق لي أن زرت هذه املدينة‪ ،‬لكن يخيل لي أن روحي وروحها التقيتا ذات يوم‪ ،‬ولو‬ ‫أن خطايا لم تلمس ترابها وال قدمي وطئت أرضها‪.‬‬ ‫إني ألتقمص روح الش � � � ��اعر األندلس � � � ��ي (رفئيل ألبيرتي) الذي حتدث في إحدى قصائده ـ صادرا‬ ‫عن جتربته اخلاصة ـ عن «الذي لم تطأ غرناطة رجاله» ولم تش � � � ��اهدها عيناه‪ ،‬ثم اس � � � ��تمر مقابل‬ ‫هذا احلرمان في تخيلها في أحالمه ورؤاه‪ ،‬فلما تأتت له زيارتها‪ ،‬عند نهاية املطاف‪ ،‬تأكد من أن‬ ‫تصورها في خياله لم يكذب حدسه فيها‪.‬‬ ‫الواق��ع أن األحالم يف بعض األحيان تش��وه الحقائ��ق‪ ،‬ولكن االتصال املبارش‬ ‫باألشياء قد يحدث أحيانا أخرى انحرافات واختالالت غري متوقعة‪.‬‬ ‫كم من مرة عكس��ت عني البصرية نسخة شفافة واضحة لصور قد تكدر عني‬ ‫البرص ماريتها وتطفئ ملعانها‪.‬‬ ‫يقول الشاعر األملاين «غوته»‪:‬‬ ‫«اعتقد ش��خصيا أن االنس��ان يرسح به الخيال ليك ال يتوقف عن املشاهدة‪،‬‬ ‫وق��د يحدث يوما أن ينبعث م��ن أعامقنا نور داخيل لدرجة‪ ،‬ال نعود نحتاج‬ ‫معه إىل أي يشء آخر»‪.‬‬ ‫ويأيت بعده الش��اعر املكس��ييس «اكتافيوباز» ليساند هذا الرأي ويؤكد هذه‬ ‫الحقيق��ة حني يقول ب��دوره‪« :‬الحلم ش��حنة لالنفجار‪ ،‬ف��إذا هي انطلقت‬ ‫تحولت إىل شمس يف سامء الكون»‪.‬‬ ‫كم من مرة تس��ليت باستعراض فاس يف ذاكريت‪ ،‬ببعثها من بني طيات رؤاي‪،‬‬ ‫وثني��ات أحالمي‪ :‬أتخيله��ا بيضاء ناصعة البياض بط�لاء الجري التي تبلط به‬ ‫جدرانه��ا‪ ،‬أتخيلها مكس��اال نؤوما تغفو يف خدر صحونه��ا املرمرية‪ ،‬أتخيلها‬

‫يف نفس الوق��ت صاخبة بالناس خالية من صخبهم‪ ،‬أتخيلها نش��يطة مليئة‬ ‫باملرح كناعورة الس��اقية‪ ،‬أو غامضة كتومة خفية كوجه مليح يطل من وراء‬ ‫الحج��اب‪ ،‬أتصور الش��مس تترسب خيوطه��ا الذهبية إىل مياهها الش��فافة‬ ‫املتصببة عىل صهاريجها‪.‬‬ ‫وعند األصيل تصبغ ش��مس الغروب‪ ،‬جدرانها املقدس��ة القدمية‪ ،‬باإلحمرار‪.‬‬ ‫وحني يسدل الليل عىل اللون سدوله‪ ،‬يفضض القمر الساهر نوافذها املنتبهة‬ ‫اليقظة‪ ،‬مالمسا رسوها الشامخ‪ ،‬نارشا أريج عطر ياسمينها العليل‪ ،‬وقد يتأىت‬ ‫أحيانا لخيايل أن يرتقي بعد الزوال مدارج األزقة والدروب املرقشة بالحصب‪،‬‬ ‫الت��ي كثريا م��ا تكون محفوظة من لهيب الش��مس وهجرانه��ا متنعها عنه‬ ‫س��قائف من مش��بكات القصب‪ ،‬فانصت حينئذ إىل الباعة وهم يس��وقون‬ ‫بغاله��م املثقل��ة بالبضائع‪ ،‬يدفع بعضهم بعضا وس��ط االزدح��ام‪ ،‬صائحني‬ ‫بصوت عال‪« :‬بالك بالك» كأنها كلمة الرس السحرية «سمسم» التي ستفرج‬ ‫لهم السبيل عرب جمهور املارة‪.‬‬ ‫الواقع أنه مل يس��بق يل أن زرت مدينة فاس‪ ،‬ولكن يف اس��تطاعتي أن أرسم‬ ‫لك صورتها عىل وج��ه التقريب‪ ،‬متأكدة من أن التعبري الصادق لن يخونني‬


‫في أعين اآلخر‬ ‫يف وصف ش��كلها وهيأتها ونش��اطها ومختلف اللوينات التي متيز مالمحها‪،‬‬ ‫فأش��اهد يف متاهايت بني السهاد والرقاد‪ ،‬الصوامع العالية املطلة عىل املدينة‬ ‫يف ش��موخ ليعلن من فوقها املؤذن حيا عىل الصالة‪ ،‬وأصغي إىل اإلمام وهو‬ ‫يأم باملصلني‪.‬‬ ‫إين ألتخيل القباب الفضية والخش��بية الفاخرة املنقوش��ة قبل مش��اهدتها‬ ‫بالع�ين املجردة‪ ،‬وهي متوارية تحت س��قوف مس��جد القرويني ومس��جد‬ ‫امل��وىل إدريس‪ ،‬فأتخط��ى عتبتهام لتثري إعجايب ودهش��تي مجموعة األلوان‬ ‫التي تبعث الحياة يف مش��بكات األفازير وتجعيداتها‪ ،‬ويف مجموع النجيامت‬ ‫وتواتر الرسوم املسننة عىل الطريقة اليونانية املنقوشة عىل الزليج املتخالف‬ ‫األش��كال املتباين األلوان‪ ،‬فاس��تند إىل الحواجز املزركشة بخطوط الكتابات‬ ‫ورس��وم اآليات‪ ،‬ثم أحيط بالسواري واألعمدة الواحدة تلو األخرى‪ ،‬مالمسة‬ ‫ب��رؤوس البنان جوانبه��ا‪ ،‬ثم بعد ذلك أتفس��ح عرب األروق��ة ذات األقواس‬ ‫املختلفة املتفاوتة األشكال التي تحيط بالصحن املتفتح عىل زرقة السامء‪.‬‬ ‫وب�ين هذه وتل��ك من الحركات الت��ي أبارشها‪ ،‬أالحظ م��ن وراء املرشفيات‬ ‫الخش��بية ش��بحا جميال يش�ير إيل يف تس�تر وخفر‪ ،‬وأكاد أس��مع همس��ته‬ ‫الناعمة‪.‬‬ ‫وكث�يرا ما ألتج��ئ يف النهاية إىل أحد كرايس «جنان الس��بيل» بعد أن تكون‬ ‫روحي قد اس��تمتعت مبش��اهدة كل هذا الرثاء الفن��ي الطافح‪ ،‬فيتوجه إىل‬ ‫بع��ض املارة بكلامت‪ ،‬من الغريب أنني أس��تطيع فهمه��ا‪ ،‬رغم أنها من لغة‬ ‫أجهلها‪.‬‬ ‫الواق��ع أن��ه مل يس��بق يل أن زرت مدين��ة ف��اس‪ ،‬ورغ��م ذلك‪ ،‬ف��إن جمال‬ ‫وعبارات غريبة يكاد ينطق بها لس��اين‪ ،‬ويف رنتها نغمة األس��اطري والخرافات‬ ‫واألحاجي‪.‬‬ ‫يا للعجب أن املرء يستطيع علم يشء دون أن يكون قد تعلمه!! وما هو يا‬ ‫ترى ه��ذا الرس الغامض يف تفتح عقلنا عىل املجهول كام تتفتح أبواب قلعة‬ ‫محصنة؟‬ ‫مدينة فاس ترحب يب من خالل أسوارها‪ ،‬فأمر بـ «باب الجديد « كام أمر بـ‬ ‫«باب الجنود» ألقف دون انتباه مني‪ ،‬أمام العتبة الذهبية لباب العسكر غري‬ ‫بعيد من قبة العرش بالقرص املليك‪.‬‬ ‫وها هي السقايات املستندة عىل الجدران املغلفة بالزليج تغني ألذين نشيد‬ ‫مياهها الرثة الرثثارة‪.‬‬ ‫وكل�ما مرت األيام كلام كش��فت يل فاس عن آثار تاريخنا املش�ترك‪ ،‬فألتقط‬ ‫أص��داء مالحم األندلس املجيدة‪ ،‬وأيام قرطبة الغراء‪ ،‬مجس��مة يف ش��خص‬ ‫الخليفة عبد الرحامن الثالث‪ ،‬الذي أهدى إىل فاس باب املس��جد املس��مى‬ ‫اليوم بجامع األندلس‪.‬‬ ‫يا للعيون األندلس��ية الساحرة‪ ،‬التي تطل يف تسرت وخفاء من وراء الشبابيك‬ ‫الشبيهة بالشبابيك الحديدية التي تزين أبواب مدن جنوب إسبانيا!‬ ‫الواقع أنه مل يس��بق يل أن زرت مدينة فاس‪ ،‬وما عس��اه أن يحدث‪ ،‬لو أنني‬ ‫وقفت ذات يوم‪ ،‬حقيقة‪ ،‬بإحدى أبوابها؟‬ ‫يق��ول الكاتب «جان جاك روس��و» يف هذا الصدد‪« :‬ولو حس��بت أن جميع‬ ‫أحالمي تحولت فجأة إىل حقيقة ملموس��ة‪ ،‬فلم تكن كافية عندي ومل تشبع‬ ‫نهم��ي‪ ،‬إذن لتخيلت ولحلمت‪ ،‬ولتمنيت م��ن جديد‪ ،‬إذن لوجدت يف قلبي‬ ‫فراغا يفرسه‪ ،‬وال يشء ميلئه‪ ،‬إذن لكش��فت يف هذا القلب عن شوق وتشوق‬ ‫إىل متعة بطريقة أخرى»‪.‬‬

‫زهور‬

‫العدد الثالث ‪ -‬السنة األولى ‪ -‬يوليوز ‪2012‬‬

‫وأكاد أنا‪ ،‬أتوجس لو أن فاس‪ ،‬اكتىس مشهدها يف عيني ثوب الحقيقة‪ ،‬لكانت‬ ‫من جديد محطة أحالمي وسجل رؤاي؛ ذلك أن فاس متثل تلك الشبكة التي‬ ‫متس��كنا ال محالة حبالها يف الوهم كام متسكنا يف الحقيقة‪ ،‬ولذا أراين أستمر‬ ‫متشبثة بنزوات‪ ،‬ومتعلقة بأهواء‪ ،‬تراود خيايل وتداعب أحالمي‪.‬‬ ‫وها أنا اآلن أتوجه إىل ضواحي املدينة ألتفس��ح يف ربوعها‪ ،‬فأشاهد الهضاب‬ ‫واآلكام حافل��ة بالنخي��ل والزيتون والربتق��ال والليمون‪ ،‬أش��جارها محملة‬ ‫بالثمرات مثقلة بالفواكه‪.‬‬ ‫ثم أقتحم املنازل بعد حني‪ ،‬فأعرث يف إحداها عىل عرس فتاة فاتنة املحاس��ن‪،‬‬ ‫وضعوا عىل رأس��ها خامرا مذهبا وزينوه بإكلي��ل مرصع بالجواهر واألحجار‬ ‫الكرمية‪ .‬ما أجمل تلك الكواعب اللوايت يحطن بها‪ ،‬وهن مرتديات «قفاطني»‬ ‫و»منصوريات» مزينة بحيل فاخر! أجدين س��عيدة وأنا أنصت إليهن يداعنب‬ ‫أوتار العود ويرضبن عىل البنادير والدفوف‪.‬‬ ‫مل يس��بق يل أن زرت مدين��ة ف��اس‪ ،‬ولكنني أعلم حق العل��م أنها تضم بني‬ ‫ظهرانيها أثارا مجيدة‪ ،‬وأطالال فاخرة بالرس والغموض‪ .‬فها هي اآلثار‪ ..‬تشهد‬ ‫مب��رور القرون واألحقاب‪ ،‬وها هي املدين��ة تحدثني بكلامت من حجر‪ ،‬عن‬ ‫مؤسس��ها املوىل إدريس‪ ،‬وعن تاريخ املوحدين الحافل باألمجاد‪ ،‬وعن عرص‬ ‫بني مرين الذهبي‪ ...‬ها أنا أعيش من جديد تلك األيام البهيجة التي عاشتها‬ ‫املدين��ة عند إعالن قيام دول��ة العلويني‪ ،‬الذين يعد من س�لالتهم الفاخرة‪،‬‬ ‫العاهل الحسن الثاين ملك املغرب رحمه الله‪.‬‬ ‫رغم أين مل يسبق يل أن زرت مدينة فاس‪ ،‬فإنني أشعر وكأنني أصيخ بسمعي‬ ‫ألنص��ت إىل الدروس التي كان يلقيها الفقهاء الس��ابقون والعلامء األقدمون‬ ‫عىل تالمذتهم يف رحاب املدارس‪ ،‬أشارك حياة هؤالء الطلبة الذين وفدوا إىل‬ ‫املدينة من مش��ارق األرض ومغاربه��ا‪ ،‬فأصبحت عىل اقتناع تام بأنني فعال‪،‬‬ ‫اس��تمعت إليهم وهم يلقنون هؤالء التالمي��ذ دروس الوعظ وتعاليم الدين‬ ‫الحنيف‪.‬‬ ‫لقد أحسس��ت وخيايل معلق بفاس‪ ،‬برغبة تعلم جميع الحرف‪ ،‬ولذلك فقد‬ ‫أخذت يف الطواف عرب األزقة والدروب بحثا عن مختلف الصناعات التقليدية‬ ‫املوزع��ة عىل أحي��اء املدينة‪ :‬ابت��داء من مصانع الخزف وخش��ب األبنوس‪،‬‬ ‫وانتهاء مبصانع املنس��وجات الحريري��ة املرهفة‪ ،‬التي يط��رز عليها الحرفاء‬ ‫رسوم الخطوط املشتبكة بخيوط ذهبية وفضية‪ .‬بعد مروري عىل الحدادين‬ ‫الذي��ن يلينون زبر الحديد بأصابعهم املاهرة‪ ،‬وخصوصا عىل الدباغني الذين‬ ‫يغطسون الجلود داخل أحواض واسعة من الطني فأسأل أحد هؤالء بعد أن‬ ‫أصابتني الدهشة من ثراء األلوان املختلفة‪ ..‬وبريقها‪:‬‬ ‫ كيف أيها الفتى‪ ،‬حصلت عىل كل هذه اللونيات باستعاملك أصباغا كررت‬‫استعاملها مثلام فعلت؟‬ ‫فيجيبني بلهجة الحكيم العارف‪:‬‬ ‫ ال أحد يشبه اآلخر يف الواقع‪ ،‬مهام كانت وجوه الشبه متقاربة‪.‬‬‫مل يس��بق يل أن زرت مدينة فاس‪ ،‬لكنني قمت فقط بدور الكاهنة والعرافة‬ ‫عرب مخيلتي رغم أنني شاعرة كل الشعور‪ ،‬بكل ما بقي مام مل أشاهد منظره‪،‬‬ ‫أو أستنشق عرفه‪ ،‬أو أستمع إليه‪ ،‬أو أحس بوجوده‪.‬‬ ‫ومهام كان األمر‪ ،‬فإنني أش��عر‪« ،‬بالفراس��ة» أن حلمي س��يمتزج بالحقيقة‬ ‫والواقع ذات ليلة من ليايل األنوار واألعياد‪ ،‬وس��يتمم الحلم الواقع كام يتمم‬ ‫الواقع الحلم ويكلمه‪ ،‬وحينذاك ستنجيل يل فاس مضاعفة يف صورتني فأجهر‬ ‫بالقول‪ « :‬أمل يسبق يل‪ ...‬أن زرت فاس؟»‪.‬‬

‫‪27‬‬


‫‪28‬‬

‫زهور‬

‫فاس‪ ..‬‬

‫العدد الثالث ‪ -‬السنة األولى ‪ -‬يوليوز ‪2012‬‬

‫فــا�س‬

‫معنى الزمن‬ ‫األستاذ شاكر نوري(*)‬

‫رس‪ ،‬إ ّنه��ا تتغذى من قوامي��س اللغة كام‬ ‫املدينة س��ؤال‪ ،‬رم��ز‪ّ ،‬‬ ‫يتغذى الزمن من س��نوات عمرنا‪ .‬وهل تكفى القواميس الباردة‬ ‫لتص��ف لحظة افرتاق عن ميناء أو عن امرأة؟ املدينة تس��ألك‪...‬‬ ‫وأنت تسألها‪...‬لكن مثة من يفك أرسارها من أين نبدأ؟‬ ‫أمن خرائط الجغرافيا‪ ،‬أم من سجالت التاريخ‪ ،‬أم من أرقام الدليل‬ ‫الس��ياحي‪ ...‬أم نبدأ من عيون النساء؟ وكيف نقرأ املدن من غري‬ ‫أن نقرأ عيون النساء؟ قال يل صديق ذات م ّرة!‬ ‫‪...‬ويا صديقي‪ ،‬فاملدينة مثل املرأة‪ ،‬ليس��ت مستوطنة يف الجسد‪،‬‬ ‫هي مستوطنة يف الروح‪ ...‬ثم أضاف من يصدق أننا نحب مدننا‪،‬‬ ‫رغم أن مدننا هي كلها انهيارات القلب؟‬ ‫امل��دن هنا موجودة عىل الخارطة أمام��ي‪ ،‬أبرصها‪ ،‬أفتح أبوابها‪،‬‬ ‫لكن��ي أرغ��ب أن أكون فيها م��رة واح��دة‪ ...‬ويف لحظة واحدة!‬

‫املدينة هاجس!‬ ‫الرب��اط‪ ...‬مدينة تتنفس برئة قرية! الجزائ��ر‪ ...‬تنفتح كجرح أو‬ ‫كف��م عىل الفضاء‪ ،‬قرطاج‪ ...‬ال تزال تبح��ث عن هنيبعل‪ .‬طنجة‬ ‫تنظر إىل األندلس بحنني طارق بن زياد‪ ..‬وإىل الصني وس��مرقند‬ ‫بحامس ابن بطوطة‪ .‬وهران‪ ...‬تتذكر بأمل أقدام الجيش االنكساري‬ ‫والغزاة اإلسبان واملستعمرين الفرنسيني دون أن تنس الطاعون‪.‬‬ ‫والق�يروان‪ ...‬تتأل��ق يف مجانينها‪ ،‬وفاس‪ ...‬تؤدي ب��ك أزقتها إىل‬ ‫املتاه��ة‪ ...‬متاهة الذاك��رة والكتابة‪ ...‬ابن ع��ريب‪ ،‬وابن خلدون‪،‬‬ ‫وابن باجة‪ .‬وتلمس��ان‪ ...‬مدينة الس��بع وثالثني من��ارة والحرير‪،‬‬ ‫و»همفري بوغ��ارت» يتذكر «كازابالنكا» وأصيلة تس��تعري لون‬ ‫أبواب بيوتها من زرقة السامء‪ ،‬أما العرائش‪ ...‬فقد اختارها «جان‬ ‫جينيه»‪ ،‬منزال وقربا‪ ...‬منزال أمام قرب مفتوح‪ ،‬ما هي املدينة؟‬


‫في أعين اآلخر‬ ‫أنصنعها نحن‪ ،‬أم تصنعنا هي؟‬ ‫لنس��أل املعامريني والبنائني‪ ...‬ومل ال نس��أل دواة الحرب‪...‬وريشة‬ ‫الوراقني ؟؟‬ ‫املدينة تأخذ شكل الحرب‪ ..‬والحرب يأخذ شكل الحروف‪..‬‬ ‫تبزغ هذه املدن يف ذاكريت كلام حاولت نسيانها‪..‬‬ ‫خاصا‪ ،‬هو عطر األم دون ش��ك‪،‬‬ ‫وأتذك��ر أن ل��كل مدينة عط��اء ّ‬ ‫أليس��ت املدن تولد من رحم الذاكرة؟ واأللف��اظ تولد من رحم‬ ‫دواة الحرب؟‬ ‫هذه املدن‪ ..‬ت ّولد يف نف�سي رغبة البقاء والرحيل‪ ...‬إنها كالثامر‬ ‫الطازج��ة التي يبقى طعمها عالقا يف باطن الفم‪ ،‬بجوار الكلامت‬ ‫املحظورة بجوار الكلامت التي ترتدد بني البقاء والخروج‪.‬‬ ‫مثار هذه املدن‪ ...‬هم الناس الذين يتوالدون فيها دون أن يعبأوا‬ ‫بالزم��ن‪ ...‬ويجوبون أزقتها دون مل��ل أو كلل‪ .‬هكذا إذن نكتب‬ ‫عن الرؤية‪ ،‬البرص‪ ،‬األفق‪ ...‬فمن يكتب عن األصوات‪ :‬خطى أقدم‬ ‫الب�شر‪ ،‬دبيب النمل‪ ،‬حفيف األش��جار‪ ،‬هدي��ر البحر‪ ...‬رصخات‬ ‫النس��اء أثناء طلق الوالدة‪ ...‬من يصغي إىل هذه األصوات‪ ...‬من‬ ‫يقرأ هذه األصوات؟‬ ‫تحتض��ن مدينة فاس التالل الفس��يحة لسلس��لة جبال األطلس‬ ‫املتوس��ط إىل الجنوب من مدينة طنجة‪ .‬وتنت�شر بيوت املدينة‬ ‫الفاتح��ة األل��وان من وادي فاس إىل أعايل الت�لال املحيطة‪ ،‬فيام‬ ‫ترتفع أكرث من ثالمثائة منارة مس��جد‪ ،‬وفاس تغفو منذ ما يقرب‬ ‫األلف عام‪ ،‬بني خرائ��ب وقبور املرابطني‪ ،‬غري عابئة بالزمن‪ ،‬وقد‬ ‫تأسس��ت فاس يف أواخر القرن الثام��ن امليالدي عىل يدي موالي‬ ‫إدري��س الثاين الذي حول املدينة مالذا أمينا ملئات العائالت التي‬ ‫هجرت م��ن األندلس‪ ،‬أم��ا العائالت التي قدمت م��ن القريوان‬ ‫يف تونس فاس��تقرت عىل الضفة املقابلة من نهر فاس‪ ،‬واس��تمر‬ ‫القطاعان األندل�سي والقريواين من حال انفص��ال تام ملدة تزيد‬ ‫عىل مئتني وخمس�ين عام��ا إىل أن برزت س�لالة حاكمة جديدة‬ ‫من أعامق الصحراء‪ ،‬املعروف�ين بـ «املرابطون»‪ ،‬فهدمت الجدار‬ ‫الفاص��ل بني القطاع�ين‪ ،‬ووصلت‬ ‫ضفتي النهر بجس��وره‪ ،‬وش��يدت‬ ‫املس��اجد الجميل��ة واألس��واق‬ ‫املزدهرة وبعدها الفنادق األنيقة‬ ‫والحامم��ات العام��ة والقص��ور‬ ‫الضخمة والحدائق‪.‬‬ ‫قليلة هي املدن التي تخلصت من‬ ‫أرس الزم��ن‪ ،‬وف��اس تأتينا مبارشة‬ ‫م��ن الق��رون الوس��طى‪ ،‬رغم أن‬ ‫بع��ض املظاه��ر العرصية دخلت‬

‫زهور‬

‫العدد الثالث ‪ -‬السنة األولى ‪ -‬يوليوز ‪2012‬‬

‫إليها مثل األس�لاك الكهربائية أو أعمدة استالم البث التلفزيوين‬ ‫املزروعة عىل الس��طوح‪ ،‬وهذا إمنا ي��دل عىل أن القرن العرشين‬ ‫ق��د دخل إىل قلعة املدينة القدمية‪ .‬وإذا كان معظم مدن القرون‬ ‫الوس��طى قد زال آثارها‪ ،‬فإن مدين��ة فاس مل تخضع إىل تغيريات‬ ‫جذري��ة حتى فجر االس��تقالل‪ .‬ومل تبق املدينة عىل حالها هكذا‪،‬‬ ‫بل ألن منط الحياة والتقاليد بقيت ذاتها دون تغيري‪.‬‬ ‫وأثناء رحلتي يف هذه املدينة‪ ،‬وأنا أتذكر هذه املعلومات أو تلك‬ ‫كأنن��ي أتصفح كتابا‪ ،‬مل يكن من املمكن أن أنس دلييل مصطفى‪،‬‬ ‫الذي مل يك��ن دليال تقليديا‪ ،‬فهو منذ البداي��ة‪ ،‬أخربين بأنه يريد‬ ‫التعرف علينا‪ ،‬وبعد ذلك وجه يل س��يال من األسئلة عن بغداد‪...‬‬ ‫راح يتحدث عن مدينته‪ ،‬ليس بلغة األدالء املحرتفني‪ ،‬ولكن بلغة‬ ‫شاعر عاشق ملدينته‪ ،‬إنه يعرف كل خبايا املدينة القدمية‪ ،‬بأزقتها‬ ‫املفتوحة واملغلقة‪ ،‬وحدائقه��ا الرسية وقصورها املختفية‪ .‬يقول‬ ‫يل بأنه حني كان صب ّيا‪ ،‬لعب يف كل تلك الدهاليز‪ ،‬دون اس��تثناء‪،‬‬ ‫ورشب من كل النافورات املتناثرة يف الزوايا‪ ،‬وهو نوع من أولئك‬ ‫الس��حرة الذين يحولون أي س��ائح إىل مواطن ف��ايس‪ ،‬ويضيف‬ ‫بلغة فصحى‪ ،‬تش��وبها‪ ،‬يف كل مقطع‪ ،‬بع��ض الكلامت الدارجة‪:‬‬ ‫ينبغي عىل املدينة أن تفرض إيقاعها عليك‪ ،‬وليس أن تفرض أنت‬ ‫إيقاعك عليها‪ .‬وحني استمع إىل وقع خطى مصطفى أدرك معنى‬ ‫الزم��ن‪ ...‬زمن فاس‪ .‬وكل ما كن��ت اعتربه فوضويا يف باريس‪ ،‬بدأ‬ ‫يظهر يل شيئا فشيئا‪ ،‬منتظام‪ ...‬ففاس إحدى الغاز عاملنا‪.‬‬ ‫مثة مدينتان‪ ...‬إحداهام مفتوحة‪ ،‬هي عامل السوق واألزقة وأخرى‬ ‫مغلق��ة‪ ،‬وهي ع��امل البيت‪ ،‬وطراز البيت الفايس الش��هري بريزته‬ ‫وزخ��ارف جدرانه الداخلية‪ ،‬لكن العائالت الفاس��ية بدأت تهجر‬ ‫هذه املنازل‪ ،‬لتسكن خارج أسوار فاس العتيقة‪ ،‬تاركة املنازل إىل‬ ‫أبناء الريف الزاحفني نحو املدينة‪.‬‬ ‫وفاس موطن الكتّاب الذين جاؤوا من أجل البحث عن أنفس��هم‬ ‫داخ��ل جدران املدينة وأزقتها وحوارييه��ا‪ ،‬بل تحولت إىل نقطة‬ ‫لق��اء بني الكتابة والفضاء والرؤي��ة‪ ،‬وفاس كانت وال تزال مغرية‬ ‫للكت��اب والفنانني‪ ،‬عىل اختالف أصولهم ومواهبهم وأجناس��هم‪،‬‬ ‫فالغرائبي��ة أو ما جذب��ت أولئك‬ ‫الكت��اب الغربيني‪ ،‬وعالقة العامل‬ ‫الخارجي بف��اس‪ ،‬كمهد للحضارة‬ ‫العربية‪ /‬اإلس�لامية‪ ،‬قوية للغاية‪،‬‬ ‫ذلك ألن الغرب بن��ى يف مخيلته‬ ‫صورة رمزية له��ذه املدينة‪ ...‬كام‬ ‫ال ين�سى الغربيون باب��ل فهم ال‬ ‫ينسون فاس أيضا!‬ ‫«وف��اس تجتم��ع بيوته��ا التي ال‬ ‫تح�صى بحيث تب��دو مغلقة‪ ،‬وال‬

‫‪29‬‬


‫‪30‬‬

‫زهور‬

‫العدد الثالث ‪ -‬السنة األولى ‪ -‬يوليوز ‪2012‬‬

‫منافد لها‪ ،‬يخيل لنا بأننا يف جوف رمانة»‪ .‬جميل جدا! أيها الصديق‬ ‫«هوغو فون هوفامنس��تال»‪ ،‬إنك تش��به فاس برمانة‪ ،‬وماذا عن‬ ‫أزقتها‪ ...‬يجيبني الكاتب النمساوي‪« ...‬شوارعها تشبه أبارا بشكل‬ ‫رساديب‪ ...‬ننتقل من ش��ارع إىل آخر دون أن ننتبه» أعرف جيدا‬ ‫أن��ك تفكر بعالقة فاس بكل األش��ياء املحيط��ة‪ ،‬وكذلك تعاقب‬ ‫األجيال منذ اثني عرش قرنا‪ ،‬واملحرتفات‪ ،‬واألس��واق‪ ،‬واملساجد‪...‬‬ ‫كتابة منس��وجة تتحدث عن حياة آالف الن��اس‪ ...‬لكن كل تلك‬ ‫الحياة مكس��وة بنوع من الغموض‪ ،‬بنوع من العطر الذي نشمه‬ ‫كالذكري��ات اآلتية من بابل‪ ،‬واليونان‪ ،‬وروما وحكايات ألف ليلة‬ ‫وليلة‪ ...‬هكذا أش��عر أن فاس تتح��ول إىل أفق لالنتظار‪ ...‬ولتأمل‬ ‫حياة قدمية هادئة أمام‪ ،‬قساوة الحياة العرصية‪.‬‬ ‫ولك��ن من الذي يصون املدينة؟ وباألحرى من الذي صان املدينة‬ ‫عرب ما يزيد عن ألف عام؟‬ ‫العنكبوت تصلح سقفها القرميدي دون أن‬ ‫نالحظها‪ ،‬رمبا ألن ض�لال أيدي العنكبوت‬ ‫تختلط بش��عاعات الشمس‪ ،‬وهكذا تصلح‬ ‫بيوته��ا املهدم��ة دون أن ن��رى العامل‪...‬‬ ‫وتزخ��رف جدرانها الداخلي��ة دون أن نرى‬ ‫املزخرفني‪ .‬ه��ذه العملية اس��تمرت قرونا‬ ‫بأكمله��ا‪ .‬ح��روب الكتابة الب��د أنها تضيع‬ ‫وس��ط ع�مارة بيوته��ا وأنت ي��ا «غوميز‬ ‫كارييل��و»‪ ...‬أعرف أن��ك زرت فاس يف عام‬ ‫‪ 1925‬وتذكرت أصل��ك األندليس يف كتابك‬ ‫«فاس أو الحن�ين األندليس»‪ .‬الحذر الناعم‬ ‫ال��ذي اس��توىل عليك ميكنن��ي أن أفهمه‪...‬‬ ‫ذلك ألنه لقاء فنتازي مع مس��قط رأس��ك‬ ‫وه��ذا الحذر هو حذر الصور املتتالية التي‬ ‫تع�بر ذهنك ع�بر القرون‪ .‬وف��اس تجعلك‬ ‫تعيش «س��حر آالف الس��نني‪ ،‬كام تجعلك‬ ‫تعي��ش الحقيقة كام عش��تها من قبل عرب‬ ‫م��دن املخيلة القدمي��ة» يف األندلس‪ ،‬رمبا‪.‬‬ ‫و»أني��س ن�ين» الكاتب��ة األمريكي��ة ابنة‬ ‫املوسيقي اإلس��باين الش��هري «جواكا نني»‪،‬‬ ‫زارت ف��اس يف ‪ 1936‬وحاولت أن متس��ك‬ ‫بأعامق األشياء التي تعيشها‪« ،‬فاس مدينة‬ ‫عىل ش��كل دماغ‪ ،‬مدينة تشبه مدن الروح‪،‬‬ ‫إننا ننتهي دامئا بااللتقاء عاجال أو آجال‪ ،‬إنها‬ ‫مدينة الصورة يف املدن الداخلية‪ ،‬ووس��ط‬ ‫هذه املتاهة الغنية‪ ...‬أضيع»‬ ‫وتت��وايل ف��اس ع�لى مخيل��ة الكت��اب‪...‬‬

‫منذ ق��رون‪ ...‬وهي تنتظر أن تش��حذ مخيلة الكت��اب والفنانني‬ ‫القادمني‪...‬‬ ‫وخرج��ت من فاس‪ ...‬بعد أن دخلت هي يف أعامقي‪ ...‬وها أنا ذا‬ ‫أتذكر تلك الوجوه املنحوتة من النبل والسحر والجامل‪ ...‬ولكنني‬ ‫تأس��فت كثريا ألنني مل أقنت ثعبان الكوبرا الذي دبغ جلده صناع‬ ‫فاس املهرة‪ ،‬وعلق��ه البائع يف واجهة دكانه املنزوي‪ ،‬وكم حلمت‬ ‫وأنا مش��دود عىل ظهر الطائرة الت��ي تنقلني إىل باريس‪ ،‬أن أعرث‬ ‫عىل ذات الثعبان‪ ،‬بجلده الذي انفرش عىل شكل سجادة‪ ،‬معلقا‬ ‫عىل جدار غرقني‪...‬‬ ‫ومنذ تلك اللحظة مل أعد أخاف الثعابني‪.‬‬ ‫(*) كاتب وأديب عراقي‬


‫جامعة القرويين‬

‫زهور‬

‫العدد الثالث ‪ -‬السنة األولى ‪ -‬يوليوز ‪2012‬‬

‫جامعة القرويين بفاس‬

‫بقلم‪ :‬روم الندو‬

‫تعريب‪ :‬محمد اخلطيب‬

‫نشر هذا املقال ألول مرة في مجلة العالم اإلسالمي اإلجنليزية‪ ،‬بعددها لشهر أبريل سنة‬ ‫‪ ،1958‬وعندما قام األستاذ محمد اخلطيب بتعريبه ملجلة دعوة احلق سنة ‪ ،1958‬كان‬ ‫الهدف اإلطالع على وجهة نظر كاتب‪ /‬مؤرخ غربي‪ ،‬في أقدم جامعة بالعالم‪.‬‬

‫وتعيد مجلة زهور نش � � � ��ره‪ ،‬ضمن محورها اخلاص ع � � � ��ن مدينة فاس‪ ،‬رغبة منها في‬ ‫ ‬ ‫تعري � � � ��ف قراء مغرب األلفية الثالثة بالوضعية األكادميي � � � ��ة‪ /‬التربوية‪ /‬الثقافية التي كانت عليها‬ ‫هذه اجلامعة‪ ،‬برأي باحث غربي متخصص في املجال‪ ،‬ومبقاربة علمية وأكادميية صرفة‪.‬‬

‫‪31‬‬


‫‪32‬‬

‫زهور‬

‫العدد الثالث ‪ -‬السنة األولى ‪ -‬يوليوز ‪2012‬‬

‫كان املغ��رب بالدا مجهولة خالل القرنني الثامن والتاس��ع عرش‪ ،‬بل‬ ‫وحتى أيام الحامية ما بني ‪ 1912‬و ‪ ،1956‬فاملستعربون االحرتافيون‬ ‫أنفس��هم‪ ،‬كانوا يعرف��ون عن املغرب أقل م�ما يعرفون عن الرشق‬ ‫األدىن‪ ،‬وقلي��ل منهم من كان يعرف أن املغرب كان أول دولة عربية‬ ‫أسس جامعة ال تزال موجودة حتى الوقت الحارض‪.‬‬ ‫أس��س جامع القرويني عىل يد فاطمة بنت محم��د الفهرية‪ ،‬وهي‬ ‫بن��ت أحد أثرياء القريوان يف تونس‪ ،‬وذلك يف حدود س��نة ‪ 857‬أي‬ ‫قبل مائة سنة من تأسيس جامع األزهر بالقاهرة‪.‬‬ ‫واملس��احة األصلي��ة للجامع كان��ت محدودة‪ ،‬إال أن اتس��اع نطاق‬ ‫التعليم جعلها تتسع عاما بعد آخر حتى أصبحت سنة ‪ 918‬املسجد‬ ‫الرس��مي الذي يؤدي فيه الس��لطان صالة الجمع��ة‪ ،‬وبذلك دخل‬ ‫الجامع تحت أرشاف الحكومة‪.‬‬ ‫كانت (القرويني) محل توسيع وتجميل منذ عهد األدارسة يف القرن‬ ‫التاس��ع إىل أي��ام الدولة العلوي��ة يف الوقت الراهن‪ ،‬أما مس��احتها‬ ‫الح��ارضة فهي ال تزال كام كانت عليه منذ عهد الس��لطان عيل بن‬ ‫يوسف املرابطي‪.‬‬ ‫إن هذا املس��جد اإلس�لامي الكبري الذي يس��ع مائتي ألف مصيل‪،‬‬ ‫قد أصبح منذ عهده األول‪ ،‬املركز الرئييس للدراس��ات اإلس�لامية يف‬ ‫إفريقيا‪ ،‬وأحد املراكز اإلس�لامية الكربى يف العامل اإلس�لامي‪ .‬وهو ال‬ ‫يتميز كثريا عن بقية مس��اجد فاس من ناحية البناء‪ ،‬وقرص الحمراء‬ ‫بغرناطة ال يفوقه حجام وعظمة رغم جامله ولطفه‪.‬‬ ‫وإن مكتبة القرويني اليوم‪ ،‬ليست إال ظال ملا كانت عليه أيام السلطان‬ ‫أيب عن��ان املريني‪ ،‬حيث كانت تحتوي عىل اآلالف من املخطوطات‬ ‫التي غنمت للملك املس��يحي يف إشبيلية‪ .‬وزائر القرويني يف الوقت‬ ‫الحارض يعرث عىل نسخة خطية لتاريخ ابن خلدون‪ ،‬نص فيها املؤلف‬ ‫بخط يده‪ ،‬عىل أنها النسخة األصلية لكتابه‪ ،‬كام يعرث عىل نسخة من‬ ‫كتاب ابن رش��د‪ ،‬ونسخة أخرى بخط يد ابن خامتة‪ ،‬ولسنا يف حاجة‬ ‫إىل ذكر نسخ أخرى لكتاب حديث البخاري‪.‬‬ ‫وجمي��ع هذه الكتب يف حالة جيدة‪ ،‬وإن كان ال يزال عىل الحكومة‬ ‫املغربية‪ ،‬أن تعتني أكرث‪ ،‬باملحافظة عليها وحفظها للمستقبل‪.‬‬ ‫كان الع�صر الذهبي للقرويني خالل الق��رون الثاين والثالث والرابع‬

‫جامعة القرويين‪ ..‬‬ ‫والخام��س ع�شر‪ ،‬أي أي��ام‬ ‫دولتي املوحدين واملرينيني‪،‬‬ ‫اللت�ين كان��ت أيامهام عرص‬ ‫عل��م‪ ،‬وعه��د تش��ييد مدن‬ ‫تحتوي عىل مآث��ر تاريخية‬ ‫جميلة‪ ،‬ومل تكن (القرويني)‬ ‫مقص��د التالميذ من إفريقيا‬ ‫والعامل اإلس�لامي فحسب‪،‬‬ ‫بل كانت مقص��د األوربيني‬ ‫أنفسهم يف ذلك العرص‪.‬‬ ‫ونج��د م��ن ب�ين أس��اتذة‬ ‫القرويني‪ :‬ابن خلدون‪ ،‬وابن‬ ‫الخطيب‪ ،‬وابن حرازم‪ ،‬وابن‬ ‫باج��ة‪ ،‬ولرمبا‪ ،‬اب��ن العريب‬ ‫ويظن أن البابا (سلفس�تر)‬ ‫روم الندو‬ ‫الث��اين ق��د درس بالقرويني‪،‬‬ ‫وأن��ه تعل��م فيه��ا األرق��ام‬ ‫العربية واس��تعامل الصفر‪ ،‬وأنه هو الذي أدخلها ألوروبا‪ .‬كام يظن‬ ‫أن (ابن ميمون) واملؤرخ االفريقي (حس��ن اب��ن الوزان) املعروف‬ ‫«بليون االفريقي» كانا من تالمذة القرويني‪.‬‬ ‫وعندما انت�صر امللكان الكاثوليكي��ان «فرنان��د» و «إيزابيال» عىل‬ ‫الع��رب أواخ��ر القرن الخامس ع�شر‪ ،‬واضطر الع��رب للتخيل عن‬ ‫مدينته��م الجميلة التي أسس��وها ف��وق الرتاب اإلس��باين‪ ،‬أصبحوا‬ ‫ينظرون ألوروبا نظرة عداء‪ ،‬ويتطلعون السرتداد إسبانيا إىل الحظرية‬ ‫اإلفريقية‪ ،‬فانتهى بذلك عهد التبادل الثقايف بني املسيحيني واليهود‪،‬‬ ‫وأصاب القرويني تأخر صاحبها منذ ذلك العهد دون انقطاع‪ ،‬إىل أن‬ ‫استعاد املغرب استقالله سنة ‪.1956‬‬ ‫وبالرغم من ذلك‪ ،‬فقد ظلت (القرويني) مقصدا للتالميذ من س��ائر‬ ‫الشامل اإلفريقي‪ ،‬رغم أن برنامج الدراسة فيها ظل متسام بأساليب‬ ‫التعليم يف العصور الوس��طى‪ ،‬بينام كانت تلك األس��اليب آخذة يف‬ ‫التطور يف جميع أنحاء العامل‪.‬‬ ‫وقد زاد التأخ��ر إمعانا وبرسعة خالل النصف الثاين للقرن‬ ‫التاسع عرش‪ ،‬عندما أخذ االستعامر األوريب ينترش يف شامل‬ ‫إفريقي��ا‪ ،‬وزاد ذلك التأخر إب��ان االحتالل الفرنيس ما بني‬ ‫‪ 1912‬و ‪ .1956‬ويتج�لى الفرق ب�ين التعليم يف القرويني‬ ‫خالل النصف األول من القرن التاسع عرش‪ ،‬والنصف األول‬ ‫من الق��رن العرشين يف املواد الت��ي كان التعليم يتناولها‬ ‫خ�لال الفرتتني‪ .‬فالتعليم يف القروي�ين خالل الفرتة الثانية‬ ‫عندم��ا كان املغرب يتطلع إىل اس��تقالله‪ ،‬مل يعد مقترصا‬ ‫ع�لى علوم الدين والنح��و واملنطق والبيان والش��عر‪ ،‬بل‬ ‫أدخلت عليه مواد أخرى مثل الحساب والهندسة والتنجيم‬ ‫والطب‪ .‬بينام كان التعليم بالقرويني خالل القرن التاس��ع‬ ‫ع�شر‪ ،‬وإبان عهد الحامية ال يتن��اول غري التوحيد والفقه‬


‫تاريخ ومعرفة‬ ‫والحديث والتصوف واألمداح والبالغة والبيان‬ ‫والعروض والقوايف وفلس��فة النحو واملنطق‪،‬‬ ‫ومل تكن أبسط العلوم تدرس فيها‪.‬‬ ‫كان التعليم بالقرويني يس��لك طريقة غريبة‬ ‫يف األداء‪ ،‬فالتلمي��ذ يقت�صر ع�لى الق��راءة‬ ‫وإعادتها حت��ى يحفظ عن ظهر قلب ما قرأ‪،‬‬ ‫ومل يكن س��ؤال األستاذ مس��موحا به‪ ،‬كام مل‬ ‫يكن امتحان األستاذ للتلميذ معموال به أيضا‪،‬‬ ‫فكل ما كان هناك أن التلميذ يقيض يف الرتدد‬ ‫ع�لى الدروس ما بني خمس‪ ،‬وعرش س��نوات‪،‬‬ ‫ال ينال بعدها أية شهادة حسبام هو معمول‬ ‫ب��ه يف الجامعات الحديثة‪ .‬وكل ما هنالك أنه‬ ‫ينال وثيقة تش��هد بأنه حرض الدرس الفالين‪،‬‬ ‫والدرس الفالين‪ ،‬وأنه قرأ كتاب كذا وكذا‪ ،‬وأن‬ ‫معلوماته تسمح له بالتنقل بني أستاذ وآخر‪.‬‬ ‫كانت هيئة التدريس تنقس��م إىل أربعة أقس��ام‪ ،‬تن��درج من عامل‬ ‫ أي م��ا يقابل بروفس��ور‪ -‬إىل املحارض الذي هو عبارة عن ش��اب‬‫حديث العهد بإنهاء دراسته‪ .‬أما تعيني األساتذة فكان من اختصاص‬ ‫الحكومة‪ ،‬وهم ينالون أجورا جد زهيدة‪ ،‬فيستعينون عىل رضوريات‬ ‫حياتهم بوظائف أخرى‪ ،‬مثل القضاء‪ ،‬أو الوظيفة الحبسية واإلفتاء‪،‬‬ ‫أو الوع��ظ الدين��ي‪ ،‬أو التعليم الق��رآين‪ ،‬أو اآلذان‪ ،‬أو مزاولة حرفة‬ ‫العدالة‪ ،‬أو الكتابة بإحدى اإلدارات‪.‬‬ ‫وقد متتع علامء القرويني مبيزة انتخاب السلطان وقراءة بيعة توليته‪.‬‬ ‫وهم عندما يظهرون يف الش��ارع يلبسون مالبس بيضاء‪ ،‬ويظهرون‬ ‫بس��حنة الوقار‪ ،‬ويسريون بتؤدة دون أن يلتفتوا ميينا أو يسارا‪ ،‬وإذا‬ ‫مر بهم أمي‪ ،‬أو صاحب دكان‪ ،‬أو تاجر‪ ،‬أو موظف‪ ،‬يلزم أن ينحني‬ ‫ويح��اول تقبي��ل اليد‪ ،‬أو ع�لى األقل ملس الكس��اء‪ ،‬وتقيض اآلداب‬ ‫بعدم ظهورهم يف األس��واق أو املقاه��ي أو الحاممات العامة‪ ،‬فهم‬ ‫يعيش��ون يف أجواء اجتامعية غريب��ة‪ ،‬وتعترب طبقتهم طبقة خاصة‪.‬‬ ‫وإذا اس��تثنينا طائفة محدودة منهم‪ ،‬فجلهم ال يظهر مبظهر القائد‬ ‫املفكر‪ ،‬إذ أن قراءتهم تقترص عىل كتب القرون الوسطى‪ ،‬وأفكارهم‬ ‫محافظة ال تقبل التجديد‪ ،‬وهم ال يسايرون العامل إال بصعوبة‪.‬‬ ‫وبالرغ��م من عقم القرويني من الناحي��ة الروحية‪ ،‬فقد ظلت فاس‬ ‫املرك��ز الثق��ايف لغاية الوقت الحارض‪ ،‬ومل يك��ن املغاربة وحدهم‬ ‫هم الذين يقصدون مدينة موالي إدريس بقصد التعليم‪ ،‬بل كان‬ ‫الجزائريون والتونسيون يقصدونها أيضا لنفس الغاية‪.‬‬ ‫هذا ومل تكن جامعة القرويني وحدها مركزا للتبادل الثقايف‪ ،‬بل كان‬ ‫ذلك يف بيوت تجار فاس‪ ،‬ويف االجتامعات السياس��ية‪ ،‬ويف املقاهي‬ ‫واملتاجر‪ ،‬ومل تكن املظاهرات الثقافية محصورة بني جدران املسجد‬ ‫الجامعي‪ ،‬بل إن املناقشات العلمية كانت تدرس يف مدارس السكن‬ ‫الجميلة يف بنائها والغري صحية يف حالتها‪.‬‬ ‫وجدير بالذكر هنا أن حزب االس��تقالل قد تأس��س يف إحدى غرف‬

‫زهور‬

‫العدد الثالث ‪ -‬السنة األولى ‪ -‬يوليوز ‪2012‬‬

‫تل��ك املدارس‪ .‬وبالرغم من س��يطرة القرويني س��يطرة تزمتية‪ ،‬فقد‬ ‫أنجبت قادة تقدميني ومجددين‪ ،‬يف مقدمتهم الزعيم عالل الفايس‬ ‫رئيس حزب االستقالل‪ ،‬وأحد القادة الذين قادوا األمة إىل االستقالل‪،‬‬ ‫وهؤالء الزعامء قد تلقوا خصائص التقدم االجتامعي ومبادئ التحرر‬ ‫من جامعة القرويني‪ ،‬وهم الذين نفخوا يف الشبيبة روح االستقالل‪،‬‬ ‫ويرجع الفضل يف إصالح الشبيبة من الناحية االجتامعية والسياسية‬ ‫إىل م��ا كان��ت تتلقاه عىل يد ح��زب االس��تقالل‪ ،‬وإن الكثريين من‬ ‫رجاالت املغرب يف الوقت الح��ارض‪ ،‬هم من تالمذة القرويني‪ ،‬ومن‬ ‫املتشبعني بروحها ملا تلقوه فيها من علوم‪.‬‬ ‫يج��ب أال ينظر إىل قضاي��ا القرويني يف الوق��ت الحارض مبعزل عن‬ ‫بقية القضايا األخرى‪ ،‬فالقرويني ليس��ت يف حد ذاتها سوى واحدة‬ ‫م��ن مجموع القضايا التي جابهت املغرب بعد األس��بوع األول من‬ ‫االستقالل‪.‬‬ ‫ومن قضاياها الجدي��رة بالذكر‪ ،‬العمل عىل ربط ماضيها بحارضها‪،‬‬ ‫والتوفيق بني التعاليم اإلس�لامية وما يج��ب اتخاذه حيال األوضاع‬ ‫السياس��ية واالقتصادي��ة‪ ،‬وصيانة الش��باب الذي��ن تغريهم األفكار‬ ‫الحديثة‪ ،‬وليست هذه القضايا جديدة وال غريبة عن املغرب‪.‬‬ ‫إن مغ��رب اليوم يعيش يف فرتة انتقال م��ن حياته‪ ،‬وإن القليل من‬ ‫مظاه��ر تلك الحياة ه��و الذي وجد قالبه الخ��اص‪ ،‬أما الباقي فهو‬ ‫يعاين صعوبة يف التكييف‪.‬‬ ‫لقد تغري املغرب تغريا ظاهرا محسوسا منذ سنة ‪ 1956‬إىل اآلن أكرث‬ ‫مام تغري خالل عقود الفرتة االس��تعامرية‪ ،‬فاملوظفون بالقرص املليك‬ ‫ويف دواوين الحكومة‪ ،‬ورجال الحرف والتجارة‪ ،‬واألساتذة قد تخلوا‬ ‫عن ألبس��تهم الجميلة‪ ،‬وارتدوا املالبس الغربية‪ ،‬وهم يعللون هذا‬ ‫بكون املالبس الغربية أرخص مثنا وأكرث إحكاما‪ ،‬وأن املالبس القدمية‬ ‫ليست عملية بالنسبة لألعامل الحديثة التي أصبحوا يزاولونها‪.‬‬ ‫فألول مرة س��نة ‪ 1957‬بدأ املغاربة يقدمون الطعام لضيوفهم سواء‬ ‫يف الحفالت الخاصة أو الرسمية منها‪ ،‬مستعملني السكاكني والشوك‪،‬‬ ‫وغن��ي عن البيان‪ ،‬القول بأن صن��ف الطعام املقدم اآلن أصبح أقل‬

‫‪33‬‬


‫‪34‬‬

‫زهور‬

‫العدد الثالث ‪ -‬السنة األولى ‪ -‬يوليوز ‪2012‬‬

‫جامعة القرويين‪ ..‬‬


‫تاريخ ومعرفة‬ ‫م��ن ذلك الذي كان يطب��خ يف املايض عىل الطريق��ة املغربية‪ ،‬وأن‬ ‫الضي��وف أصبحوا يس��تمتعون اآلن أقل مام كانوا يس��تمتعون من‬ ‫قبل‪ ،‬نظرا لألغالط املرتكبة يف استعامل الطريقة الغربية‪.‬‬ ‫ففي بيت أحد التجار املغاربة األثرياء‪ ،‬الذي كنت قبل س��نة أتناول‬ ‫في��ه طعاما مغربيا فاخرا‪ ،‬قدم يل عش��اء عىل الطريقة الفرنس��ية‪،‬‬ ‫ومكان الشاي املنعنع الذي كان يقدم قبل األكل‪ ،‬احتلته املرشوبات‬ ‫املثلجة التي أصبحت تعوض ما كان يقدم من املاء خالل الطعام‪.‬‬ ‫وإن ما يتمتع به املغرب اآلن من وحدة اجتامعية وساللية وسياسية‪،‬‬ ‫يرجع الفضل فيه لقيادة محمد الخامس‪ ،‬ورجال حزب االس��تقالل‪،‬‬ ‫إن هذا امللك كان يتمتع بسمعة عظيمة‪ ،‬وال توجد فئة من املغاربة‬ ‫ال تنظر إليه كرجل استطاع حل الكثري من املشاكل الروحية واملادية‬ ‫وأن رسعة تقلب األحوال قد أخذته عىل غرة‪ ،‬فجابه الحوادث الغري‬ ‫منتظرة يوما بيوم‪ ،‬وهو مييل لها ما تستلزم من حلول كان يف املايض‬ ‫يس��بقها تأويل طويل‪ ،‬وم��ا يقال يف حق امللك يق��ال أيضا يف حق‬ ‫حزب االس��تقالل وخاصة مفكري��ه ومنظميه‪ ،‬مثل ع�لال الفايس‪،‬‬ ‫واملهدي بن بركة‪ ،‬الذين كانا يحرصان جهودهام يف الكفاح من أجل‬ ‫االستقالل‪ ،‬وعندما تحقق االستقالل حدثت كثري من القضايا مل تكن‬ ‫يف الحس��بان‪ ،‬من بينها الس��عي للتوفيق بني الع��رب والرببر الذين‬ ‫يكون��ون عنارص املجتمع املغريب‪ ،‬لالس��تجابة ملس��تلزمات الوحدة‬ ‫والتجديد وإقامة نظام دميقراطي‪.‬‬ ‫وم��ن قضايا البالد األساس��ية‪ ،‬قضية القرويني التي يلزم أن تس��اير‬ ‫مطالب الوقت حس��بام يرغب يف ذلك كل من ملك املغرب وزعامء‬ ‫حزب االس��تقالل‪ .‬وليس معنى هذا أن العلامء ال يعون أن القرويني‬ ‫يلزم أن تجابه هذا األمر‪ ،‬فقد اجتمعت بالكثريين منهم خالل صيف‬ ‫س��نة ‪ 1957‬وبعضهم مسن تقليدي ال يتكلم كلمة فرنسية واحدة‪،‬‬ ‫وهم محافظون عىل تقاليدهم وعاداتهم‪ ،‬وينادون بالطرق القدمية‬ ‫التي كان يس��لكها الع��امل الفايس إال أن من بينهم ش��بابا يتحدثون‬ ‫بالفرنس��ية‪ ،‬ويرتدون األلبس��ة اإلفرنجية‪ ،‬وين��ادون بالتقدم‪ ،‬وكال‬ ‫الجامعتني متفقتان عىل وجوب القيام بيشء‪ ،‬إذا ما كانت القرويني‬ ‫تري��د أن تلعب دوره��ا يف حياة املغرب‬ ‫الجديد‪ .‬إال أنهم يعلنون يف رصاحة أنهم‬ ‫ال يدرون ماذا يفعلون!!‬ ‫وينحرص النقاش فيام يأيت‪:‬‬ ‫هل ميكن للقرويني أن تجعل الدراس��ة‬ ‫دراسة إس�لامية حقيقة كاملة‪ ،‬ليك تقي‬ ‫الشباب املغريب من االنسياق يف التيارات‬ ‫العاملي��ة التي ميكن أن تجرفه لالنجراف‬ ‫ع��ن الرتبي��ة واألخ�لاق اإلس�لامية؟‬ ‫فالنزع��ات اإلنس��انية كام تط��ورت يف‬ ‫أورب��ا حتى بعد أي��ام النهضة قد ظلت‬ ‫يف العامل اإلس�لامي تعتمد عىل التعاليم‬ ‫اإلس�لامية وحدها‪ ،‬وفصلها عن اإلس�لام‬ ‫معناه فصلها عن العمل الرئييس للرتبية‬

‫زهور‬

‫العدد الثالث ‪ -‬السنة األولى ‪ -‬يوليوز ‪2012‬‬

‫واألخالق اإلس�لاميني‪ .‬والعلامء يقرون وجوب االستعجال لحل هذا‬ ‫املش��كل‪ ،‬إال أنهم ال ميلكون الجواب عن الس��ؤال‪ ،‬يف الوقت الذي‬ ‫يتوق��ف الجواب عليهم بوصفهم املرشفني عىل ش��ؤون الدين‪ ،‬غري‬ ‫أنهم متفقون عىل أن أس��اليب التعلي��م يف القرويني يلزم أن تتغري‪،‬‬ ‫والشباب من العلامء أنفسهم يخشون نتائج التعليم الحديث إذا ما‬ ‫حرضوا عىل إدخال اإلصالح الرضوري‪ ،‬وهذا معناه أن اإلصالح يجب‬ ‫أن يأيت من ناحية أخرى‪.‬‬ ‫إن الحكومة املغربية نفس��ها مصمم��ة عىل وجوب تجديد التعليم‬ ‫يف القروي�ين‪ ،‬وأن ه��ذا التجديد يلزم أن يك��ون عىل العموم ضمن‬ ‫إطار الرتبية املغربية‪ .‬وق��د كان تعريب التعليم من األعامل األوىل‬ ‫الت��ي حاول��ت الحكومة املغربي��ة القيام به بعد االس��تقالل‪ ،‬نظرا‬ ‫لكون التعليم كان عىل عهد الحامية يلقن باللغة الفرنسية‪ ،‬وكانت‬ ‫العربي��ة تدرس كلغة أجنبية‪ ،‬كام أن س��لطات الحامية كانت تبذل‬ ‫الجهد إلحالل الرببرية محل العربية‪ ،‬أما تاريخ وأدب اللغة العربية‪،‬‬ ‫فقد كان مجهوال متاما بالنسبة لتلك املدارس‪ ،‬ولذا أصبحت الجهود‬ ‫منرصف��ة لتغيري ه��ذا الوضع‪ ،‬غري أن هذا األم��ر يتطلب وقتا حتى‬ ‫يتمكن من تدريب القدر الكايف من املعلمني املواطنني‪.‬‬ ‫ومن اإلجراءات املهمة املتخذة يف هذا السبيل إنشاء جامعة حديثة‪،‬‬ ‫ويف الوق��ت ال��ذي يظهر فيه هذا املقال يك��ون املرشوع قد أخرج‬ ‫لحيز الوجود‪ .‬وس��تحتوي الجامعة عىل بع��ض املدارس العليا التي‬ ‫أسس��ت يف الرباط عىل يد الفرنسيني‪ ،‬والتي كانت كل واحدة منها‬ ‫تعمل مبعزل عن األخ��رى‪ ،‬وكان القصد منها التهييء للحصول عىل‬ ‫الش��هادات من الجامعة الفرنسية‪ .‬فهناك مدرسة للحقوق‪ ،‬وأخرى‬ ‫للعلوم‪ ،‬ومعهد للدراسات العربية العليا قام بأعامل ذات قيمة من‬ ‫الناحية اللغوي��ة والتاريخية واآلثار القدمي��ة‪ .‬وقد كان البعض من‬ ‫الرؤساء يستعمل تلك املعاهد لبدر الدعاية االستعامرية‪.‬‬ ‫هذه املعاهد الثالثة تكون نواة الجامعة الوطنية‪ ،‬وس��تتكون هيئة‬ ‫األس��اتذة فيها من مغاربة وفرنس��يني وبعض األجانب‪ ،‬وس��تصبح‬ ‫القروي�ين كلية للحق��وق اإلس�لامية واآلداب‪ ،‬أما امل��واد العلمية‬

‫‪35‬‬


‫‪36‬‬

‫زهور‬

‫العدد الثالث ‪ -‬السنة األولى ‪ -‬يوليوز ‪2012‬‬

‫األخ��رى فتتطلب التجدي��د‪ ،‬ومنهاج التلميذ فيها يجب أن يس��اير‬ ‫منهاج التعليم يف جامعة الرباط‪ ،‬وس��تقوى هيئة األساتذة فيها من‬ ‫العامل العريب مثل مرص والعراق وسوريا‪.‬‬ ‫أم��ا فيام يخص الحكومة فإن تجديد القرويني ليس باألمر الهني‪ ،‬ملا‬ ‫يلزم إدخاله من األس��اليب بالنسبة للتعليم‪ ،‬فاملدارس التي يسكنها‬ ‫التالمي��ذ‪ ،‬بالرغم من جامل هندس��تها‪ ،‬عتيقة من الناحية الصحية‪،‬‬ ‫ولذا فه��ي تحتاج إىل إصالح كبري كام تحتاج لذلك أيضا األس��اليب‬ ‫الدراسية‪ ،‬فليس يف القرويني صفوف مستقلة‪ ،‬وإمنا يجتمع التالميذ‬ ‫ح��ول أس��اتذتهم يف حلق��ات دروس موزعة بني أطراف املس��جد‪،‬‬ ‫والتالميذ مخريون يف حضور درس أو آخر‪ ،‬أما فيام يخص سري الدرس‬ ‫فليست هناك مناقشة بني األستاذ والتالميذ‪ ،‬وليس هناك أي اتصال‬ ‫بني جامع��ة وأخرى‪ ،‬وكل هذا يحتاج ألن تقوم مقامه طرق حديثة‬ ‫تساير طرق التعليم الحديث‪.‬‬ ‫وأكرث م�ما تتوقف (القرويني) ع�لى املهر الخارج��ي وناحية طرق‬ ‫التعليم‪ ،‬تتوقف عىل الروح التي تقودها وتسيطر عليها‪ ،‬فروحها ال‬ ‫تزال روح مؤسسة عتيقة طبقا لتقدم عهدها‪ ،‬بحيث ال ميكن تغيريها‬ ‫بني يوم وليلة‪ ،‬بل إن ذلك سوف يستغرق سنوات حتى يوجد جيل‬ ‫من األساتذة املدربني تدريبا حديثا‪ ،‬إال أن تالمذتها ال يزالون يدعون‬ ‫يف الوقت الحارض بقرويي الروح كام كانوا يدعون سابقا‪ ،‬فمعظمهم‬

‫جامعة القرويين‪ ..‬‬ ‫م��ن القبليني‪ ،‬ولهم إملام ضئيل بالرتبية الحديثة‪ ،‬واملظهر املدين بني‬ ‫القبليني ال يزال يخالف مظهر س��كان املدن‪ ،‬والدين يف «القبائل» ال‬ ‫يزال القوة الشاملة‪ ،‬والكثريون من شباب «القبائل» ال يحنون حتى‬ ‫اآلن إىل الرتبي��ة الت��ي تلقن يف املدارس الحديث��ة التي تتبع الطرق‬ ‫الغربية‪ ،‬فهم ال يتجهون اتجاها رياضيا أو طبيعيا‪ ،‬بل ينهجون نهجا‬ ‫دينيا وقانونيا‪ ،‬وليس مثلهم األعىل أن يصبحوا مهندس�ين أو أطباء‪،‬‬ ‫بل قضاة دينني‪ ،‬أو موظفني يف األحباس‪ ،‬أو أساتذة قرآنيني‪.‬‬ ‫لق��د زرت تالمذة القرويني يف صومعة مس��كنهم إبان عهد الحامية‬ ‫وبع��د االس��تقالل فوجدتهم متواضع�ين‪ ،‬كرم��اء كمواطنيهم‪ ،‬وأن‬ ‫مس��تواهم التصنيع��ي أكرث من املس��توى العام لبقي��ة مواطنيهم‪،‬‬ ‫إال أنه��م فيام يخ��ص القرويني يظهرون إعجابا كب�يرا بها‪ ،‬بل إنهم‬ ‫يظهرون عجرفة وغطرس��ة تتناىف مع تواضعهم الشخيص‪ .‬والحقيقة‬ ‫أنهم يتطلعون إىل مس��توى أرغ��د يف العيش‪ ،‬كام يريدون أن تكون‬ ‫صفوفهم أحسن تنظيام‪ ،‬إال أنهم مقتنعون بأن التعليم الذي يلقونه‬ ‫أعىل مام يتلقى يف املدارس الحديثة‪ .‬وقد حاول البعض خالل زياريت‬ ‫األخرية‪ ،‬إقناعي بأن وزير العدل ـ وهو من األش��خاص املمتازين يف‬ ‫القان��ون الحديث ـ وغريه من وزراء يعرفون م��ن مادة الدين أقل‬ ‫مام يعرفون هم‪.‬‬ ‫إن املغرب قد بدأ تطوره منذ سنة ‪ ،1956‬ومن البديهي أن يستدعي‬ ‫هذا التطور ثورة سياس��ية واجتامعية واقتصادية من الناحية‬ ‫الشكلية‪ ،‬إال أن البادية التي توجد بها جذور الدين عميقة‪،‬‬ ‫فإن كل إصالح فيها يجب أن يكون إصالحا يف الدين نفسه‪،‬‬ ‫غري أنه مل مير بعد الوقت الكايف إلعادة التفكري يف اإلصالحات‬ ‫الدينية املس��تعجلة التي يلزم إدخالها‪ ،‬وكل إجراء يتخذ يف‬ ‫هذا السبيل يجب أن يكون تجارب مؤقتة أكرث من إجراءات‬ ‫نهائية‪ ،‬ففيام يتعلق باألحوال الشخصية‪ ،‬فإن املادة الرشعية‬ ‫هي الت��ي ال ي��زال العمل جاريا به��ا‪ .‬أما القان��ون املدين‬ ‫والجن��ايئ فهام ال يزاالن فرنس��يني‪ ،‬ومعظ��م القضاة الذين‬ ‫يحكم��ون بهذين القانونني هم م��ن املغاربة مع عدد كبري‬ ‫من الفرنسيني واإلسبانيني‪ .‬ولس��وف يوقف العمل بالزواج‬ ‫الباكر‪ ،‬كام أن املرأة س��تمنح حق اختيار زوجها‪ ،‬وسوف ال‬ ‫يك��ون رضوري أن يكون االختيار من حق الوالدين‪ ،‬غري أن‬ ‫قان��ون تعدد الزوجات مل يصدر بعد‪ ،‬والعمل جار إلرجاعه‬ ‫إىل أصله الديني حسب نصوص القرآن‪.‬‬ ‫إن الكثري من نساء املدن قد رفعن الحجاب‪ ،‬وهن يختلطن‬ ‫بالرج��ال اختالطا اجتامعيا‪ ،‬أما يف البادية فال يزال الحجاب‬ ‫معموال به‪ ،‬واالختالط الجنيس غري معروف‪.‬‬ ‫فه��ل هناك م��ا يدعو لألمل ب��أن املغرب سيس��تطيع حل‬ ‫القضاي��ا العديدة التي تواجهه؟ إن املغاربة رغم احتياجهم‬ ‫إىل اتخاذ الكثري من األس��اليب اإلدارية الغربية‪ ،‬قد حققوا‬ ‫خالل الس��نوات األوىل من االس��تقالل أكرث م�ما كان أكرث‬ ‫أصدقائهم تف��اؤال يؤملون‪ ،‬وقد أكدت حوادث الس��نوات‬ ‫القليلة أنهم يحسنون إصابة الهدف‪.‬‬


‫تاريخ ومعرفة‬

‫زهور‬

‫العدد الثالث ‪ -‬السنة األولى ‪ -‬يوليوز ‪2012‬‬

‫تأمالت في أسرار‬ ‫خزانة القرويين بفاس‬

‫ذ‪ .‬محمد احلدادي‬

‫‪37‬‬


‫‪38‬‬

‫زهور‬

‫العدد الثالث ‪ -‬السنة األولى ‪ -‬يوليوز ‪2012‬‬

‫جامعة القرويين‪ ..‬‬

‫يس � � � ��عى هذا املقال‪ ،‬إلى دراس � � � ��ة أس � � � ��رار خزانة القرويني التي حتتوي على مخطوطات عربية جتمع بني اخلط العربي واألندلسي‬ ‫واملش � � � ��رقي‪ ،‬تضم ما ألف في املغرب واألندلس‪ ،‬وهو ما ميكن اعتباره ذخائر علمية وأدبية وفقهية‪ ،‬ميكن للباحثني الكش � � � ��ف‬ ‫عن هويتها وإبراز أسرارها من خالل حتقيق دقيق وعلمي رصني‪.‬‬ ‫لقد تأسست خزانة القرويني سنة ‪ 750‬هـ‪ ،‬على يد أبي عنان املريني‪ ،‬إذ كانت في البداية باجلهة الشرقية من صحن مسجد‬ ‫القرويني‪ ،‬ثم نقلت في عهد أحمد املنصور الس � � � ��عدي إلى بناء جديد بجوار احملراب‪ ،‬لتس � � � ��تقر في النهاية في اجلناح املس � � � ��تعمل‬ ‫اآلن واملشتمل على الباب اخلارجي املتصل بحي الصفارين‪ .‬ميكن القول أن هذه التحوالت قد ساهمت إلى حد ما في تثبيت‬ ‫وج � � � ��ود هذه اخلزانة‪ ،‬واحلرص عل � � � ��ى رمزيتها‪ ،‬ذلك أن بعض امللوك واألمراء والوزراء واحملبس � �ي � ��ن‪ ،‬كانوا يقدمون مخطوطات‬ ‫ووثائق كهدايا لهذه اخلزانة‪ ،‬مما رفع من ذخائرها‪ ،‬وجعلها ترقى إلى مرتبة عليا‪ ،‬وأصبح العلماء والطلبة وكل املثقفني يتوافدون‬ ‫عليها من جميع أنحاء العالم اإلسالمي‪.‬‬ ‫وتعد خزانة جامع القرويني من أقدم اخلزائن وأعرقها باملغرب خاصة‪ ،‬والعالم اإلسالمي عامة‪ .‬فهي تضم اليوم عددا كبيرا من‬ ‫الكتب النفيسة باإلضافة إلى املخطوطات العربية التي يعود العديد منها إلى القرون الوسطى‪ ،‬الشيء الذي يجعلها مبثابة قبلة‬ ‫للباحثني من كل أنحاء العالم‪ .‬ومن أجل استكشاف كنوز هذه اخلزانة‪ ،‬ينبغي اإلطالع على الكتاب الرائد الذي وضعه األستاذ‬ ‫محمد العابد الفاسي‪“ :‬فهرس مخطوطات خزانة القرويني” الذي يتكون من أربعة أجزاء‪ ،‬إذ يذكر الباحث كل املخطوطات‬ ‫املوجودة في اخلزانة‪ ،‬وتاريخ نس � � � ��خها ونوع اخلط ونوع الكاغط وأحواله‪ ،‬هل هو متالش � � � ��ي أم متني‪ ،‬ويقف عند األوراق التي‬ ‫أصابها اخلرق والتمزيق‪ ،‬وينبه إلى خطورة فقدان املخطوط‪ ،‬حيث إن لم تؤخذ منه نس � � � ��خة عاجلة‪ ،‬فقد يكون مآله الضياع‬ ‫واالندثار‪ ،‬واخلرق الناشئ ـ كما يقول الفاسي ـ عن فساد املواد املكتوب بها”‪.‬‬ ‫ويت�بن من خالل املناهج التي جاء بها فهرس األس��تاذ الفايس يف‬ ‫كتابه الرائد أن معرفة ذخائر خزانة القرويني أصبحت يف متناول‬ ‫الباحث�ين‪ ،‬إذ أن الوقوف عىل معظ��م املخطوطات املوجودة يف‬ ‫هذه الخزانة مل يعد يطرح صعوبات ومشاكل كام كان عليه األمر‬ ‫قبل صدور الطبعة األوىل من هذا الفهرس‪ ،‬عىل الرغم أن الفايس‬ ‫مل يذكر جميع املخطوطات املوج��ودة يف خزانة القرويني‪ ،‬وهذا‬ ‫أمر ينتظر باحثني جدد‪ ،‬يقومون بدورهم بهذه املهمة‪ ،‬من أجل‬ ‫التعريف بأرسار العلم والطب والفقه والفلك والتاريخ‪ ،‬مساهمة‬ ‫يف إغناء الثقافة العربية اإلسالمية‪.‬‬ ‫ويذك��ر األس��تاذ محمد بن عب��د العزيز الدب��اغ‪ ،‬محافظ خزانة‬ ‫القروي�ين يف مقالة ل��ه عن ه��ذه الخزانة ودوره��ا اإليجايب يف‬ ‫حفظ الرتاث املخطوط‪ ،‬أن الس��لطان سيدي محمد بن عبد الله‬ ‫قد كل��ف أربعة علامء بالتحقق مام ينقل من النس��خة املرينية‬ ‫املوجود يف الخزانة من كتاب «البيان والتحصيل البن رشد الجد»‬ ‫حيث نجده يقول عن هذه النس��خة‪« :‬إن النس��خة املرينية من‬ ‫البي��ان والتحصيل تعد من أروع ما كت��ب عىل رق الغزال فهي‬ ‫قد نسخت بخط دقيق وكتابة محققة سليمة من األخطاء‪ ،‬كتبها‬ ‫أحمد الصنهاجي أليب الحس��ن املريني عام ‪720‬هـ‪ ،‬قبل تأسيس‬

‫خزان��ة القرويني بثالثني س��نة‪ ،‬وقد صارت بعد كتابتها النس��خة‬ ‫التي يعتمد عليها يف النقل واملقابلة‪ ،‬بحيث نجد اإلشارة إليها يف‬ ‫كثري من النس��خ املنقولة منها كنسخة «تامكورت» مثال‪ ،‬بل إنها‬ ‫أصبحت معتمدة حتى م��ن الذين حققوا هذا الكتاب أخريا‪ .‬إن‬ ‫هذه النس��خة تعد من التحف الن��ادرة يف خزانة القرويني‪ ،‬فهي‬ ‫زي��ادة عىل قيمته��ا العلمية متتاز بجامل خطه��ا‪ ،‬ودقة صنعها‪،‬‬ ‫وهندس��ة مقياس��ها‪ ،‬وجودة حربها‪ ،‬بحيث يج��د كل من اطلع‬ ‫عليها متعة يف صورتها‪ ،‬ويف إبداع ش��كلها‪ ،‬ويس��توحى منها صربا‬ ‫بعينه عىل العمل‪ ،‬ويدفعه إىل الجدية يف نقل العلوم وتدوينها‪.‬‬ ‫وباالضافة إىل هذه النس��خة النادرة «البيان والتحصيل البن رشد‬ ‫الجد»‪ ،‬نجد نسخة أخرى البن رشد الحفيد تحمل عنوان «كتاب‬ ‫األخالق النيقوماخية» ألرس��طو‪ ،‬ولسنا ندري إن كانت جامعا أم‬ ‫تلخيصا أم رشحا‪ ،‬ألن الناسخ مل يفصح عن ذلك‪.‬‬ ‫وتتكون هذه النس��خة من إحدى عرش مقالة‪ ،‬تبتدئ كلها بكلمة‬ ‫«ق��ال»‪ ،‬وهي كلمة نجدها دامئا يف بداية تالخيص أيب الوليد ابن‬ ‫رش��د الفيلس��وف والفقيه‪ ،‬وتجدر اإلش��ارة إىل أن هذه النسخة‬ ‫فري��دة ونظرا للبرت أو التاليش ال��ذي أصابها‪ ،‬لها تحقق إىل يومنا‬ ‫هذا‪.‬‬


‫تاريخ ومعرفة‬ ‫****‬ ‫يتب��ادر إىل الذه��ن عندما نتح��دث عن خزان��ة القرويني‪ ،‬ذلك‬ ‫االتصال الحميمي ال��ذي وقع بني هذه الخزانة ومدينة فاس‪ ،‬أو‬ ‫أثينة إفريقيا‪ ،‬كام تس��مى عادة يف بعض الكتابات االس��ترشاقية‪،‬‬ ‫ذل��ك أن فاس‪ ،‬أو اإلرث األندليس‪ ،‬ال��ذي يقول عنه املراكيش يف‬ ‫كتابه «املعج��ب يف اخبار املغرب»‪« ،‬وما أظ��ن يف الدنيا مدينة‬ ‫كمدين��ة فاس‪ ،‬اجتم��ع فيها علم الق�يروان وعل��م قرطبة‪ ،‬إنها‬ ‫«بغداد املغرب»‪ ،‬والحق أن فاس تس��تحق اس��م بغداد املغرب‬ ‫ألنها استقبلت حضارة من أكرب الحضارات يف تاريخ اإلسالم‪ ،‬وهي‬ ‫الحضارة األندلس��ية‪ .‬فأصبحت عبارة عن روح الحضارة العربية‬ ‫اإلسالمية املعارصة‪ ،‬ومن أهم معاملها التاريخية جامعة القرويني‬ ‫التي تضم أقدم خزانة يف املغرب‪ ،‬حيث استطاعت أن تستقطب‬ ‫أغلب العلامء والفالسفة والشعراء األندلسيني‪.‬‬ ‫تجمع بعض الكتابات التاريخية أن ابن باجة الفيلسوف األندليس‪،‬‬ ‫ق��د اختار فاس يف آخر أيامه ليحقق فيها س��عادته القصوى‪ ،‬أي‬ ‫ليبل��غ مقام كل الواصلني‪ ،‬مقام الس��عداء‪ ،‬وهي االتصال بلحظة‬ ‫اللحظ��ات الت��ي يتم االحس��اس بها عن��د االكتواء بن��ار العقل‬ ‫الفعال‪.‬‬ ‫إن ه��ذا الفيلس��وف املتمرد ع�لى األخالق الس��ائدة يف املدينة‬ ‫األندلس��ية‪ ،‬فضل أن مي��وت يف فاس‪« ،‬بغداد املغ��رب»‪ ،‬كام أن‬ ‫موىس ابن ميمون الطبيب والفيلسوف اليهودي‪ ،‬هاجر إىل فاس‬ ‫منذ ‪565‬هـ (أي قبل وفاة ابن رشد عام ‪ 595‬بنحو أربعني سنة)‪،‬‬ ‫حيث س��كن ملدة خمس سنوات بدار املجانة بفاس‪ ،‬التي كانت‬ ‫آنذاك مركزا ألول جامعة؛ هي جامعة القرويني‪.‬‬ ‫وقام الفيلس��وف اليهودي س��ليامن ابن يحي��ى ابن جربيل منذ‬ ‫س��نة ‪450‬هـ‪ ،‬بتدريس أفالطونية املحدث يف ه��ذه املدينة‪ ،‬أما‬ ‫اب��ن خل��دون فقد ج��اء قاصدا له��ا من أجل‬ ‫اإلنصات إىل طبيعة علم العمران‪ ،‬ولعل املنزل‬ ‫الذي س��كن فيه مازال يوجد إىل اليوم كشاهد‬ ‫ع�لى حضور هذا املؤرخ يف ه��ذه املدينة‪ .‬كام‬ ‫أن املكاليت صاحب كتاب «لباب العقول» الذي‬ ‫ميكن نعته بأيب حامد املغ��ريب‪ ،‬عىل اعتبار أنه‬ ‫أراد مامحكة الفالس��فة وبخاصة ابن رشد‪ ،‬قد‬ ‫قام بهذا العمل داخل أسوار «بغداد املغرب»‪،‬‬ ‫ودون أن ننىس ذلك الش��اهد الذي يحمل اسم‬ ‫الشاعر لسان الدين ابن الخطيب‪.‬‬ ‫****‬ ‫إن األس�ماء التي تركت بصامتها يف جسد هذه‬ ‫املدينة كث�يرة‪ ،‬ومقابر باب املح��روق ممتلئة‬

‫زهور‬

‫العدد الثالث ‪ -‬السنة األولى ‪ -‬يوليوز ‪2012‬‬

‫بالعلامء والش��عراء‪ ،‬يعرس علينا حرصها ها هنا‪ ،‬بيد أن ما يهمنا‬ ‫يف هذا الباب هو التساؤل عن الدور الذي لعبته جامعة القرويني‬ ‫وخزانتها يف استقطاب العلامء‪ ،‬وهل مازالت هذه الخزانة تلعب‬ ‫دورا يف الحي��اة الثقافي��ة املغربية إىل اليوم؟ ب��ل أكرث من ذلك‪،‬‬ ‫هل اس��تحقت فاس لق��ب العاصمة العلمية ألنه��ا كانت تضم‬ ‫أه��م جامعة وخزانة يف إفريقيا خالل القرون الوس��طى‪ ،‬أم ألنها‬ ‫حافظت عىل اإلرث االندليس؟‬ ‫لقد أسهم محافظ خزانة القرويني الفقيه املرحوم األستاذ محمد‬ ‫عاب��د الفايس يف إث��راء خزانة القرويني من خ�لال جمعه لكنوز‬ ‫مخطوطات ه��ذه الخزانة يف فهرس��ه الرائد‪ ،‬ك�ما أن محافظها‬ ‫األس��تاذ محمد ب��ن عبد العزيز الدباغ ق��ام بتتميم العمل الذي‬ ‫قدمه الفايس‪ ،‬وهذا ما س��يجعل أرسار ه��ذه الخزانة يف متناول‬ ‫الباحثني‪.‬‬ ‫املراجع‪:‬‬ ‫محم��د العاب��د الفايس‪ ،‬فهرس مخطوط��ات خزانة القروي�ين ج‪ ،1‬تقديم محمد‬ ‫الفايس الفهري‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬دار الكتاب‪.1997 ،‬‬ ‫محم��د بن عبد العزيز الدباغ‪ ،‬خزانة القروي�ين ودورها اإليجايب يف حفظ الرتاث‬ ‫املخطوط‪ ،‬املنشور ضمن املخطوطات العربية يف الغرب اإلسالمي‪ ،‬الدار البيضاء‪،‬‬ ‫مؤسسة امللك ابن عبد العزيز ‪.1990‬‬ ‫عب��د الواحد املراك�شي‪ ،‬املعجب يف تلخيص أحبار املغرب تحقيق محمد س��عيد‬ ‫العريان‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مطبعة االستقامة‪.1949 ،‬‬ ‫املقري‪ ،‬نفح الطيب‪ ،‬تحقيق إحسان عباس‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار صادر ب‪.‬ت‪.‬‬ ‫ابن خلكان‪ ،‬وفاية األعيان وانباء أبناء الزمان‪ ،‬تحقيق إحس��ان عباس‪ ،‬بريون‪ ،‬دار‬ ‫صدار ‪1973‬‬ ‫ُ‬ ‫عزي��ز الحدادي‪ ،‬عن مجلة الحكمة يف أثين��ة إفريقيا‪ ،‬ضمن العلم الثقايف الرباط‬ ‫‪.1993‬‬

‫‪39‬‬


‫‪40‬‬

‫زهور‬

‫زاوية زهور ‬

‫العدد الثالث ‪ -‬السنة األولى ‪ -‬يوليوز ‪2012‬‬

‫َا ْل َ‬ ‫ــــات‬ ‫ك ِل َم‬ ‫ُ‬

‫? في هذه الزاوية‪ ،‬ستحاول أسرة تحرير مجلة زهور‪،‬‬ ‫التوقف قليال عند مفاهيم الكلمات األكثر إشاعة‬ ‫بين القراء والمهتمين بالفكر والثقافة‬ ‫والسياسة‪ ،‬في نطاق رؤيتها الموضوعية‬ ‫لهذه المجاالت‪.‬‬

‫في هذا العدد‪ ،‬نحاول مالمسة مصطلح‬ ‫الحرية‪ ،‬ال باعتباره فقط مصطلحا فلسفيا‪ /‬سياسيا‪ /‬ثقافيا‪،‬‬ ‫تتداخل على مساحته الواسعة العديد من المفاهيم‪،‬‬ ‫ولكن أيضا باعتباره مصطلحا على صلة وثقى بحقوق‬ ‫اإلنسان وقيمها المتداخلة والمتشابكة‪.‬‬ ‫بذلك‪ ،‬ستسعى مجلة زهور من خالل هذه الزاوية فتح‬ ‫الباب على مصراعيه للحوار والنقاش مع قرائها األعزاء‬ ‫حول المفاهيم التي ستطرحها تباعا من خالل الكلمات‪،‬‬ ‫انطالقا من هذا العدد‪ ،‬واهلل الموِّفق ?‬ ‫‪1‬‬ ‫الحرية» كانت وما تزال عش��ق اإلنس��ان وهيامه‪ ،‬كانت مح��ل انجذابه الفكري‬ ‫والنفيس والش��عوري‪ ،‬يف كل الحقب واألزم��ان‪ .‬ولكن عىل طول التاريخ وعرضه‪،‬‬ ‫مل يس��تطع اإلنسان تحديد مفهومها‪/‬مفاهيمها‪ ،‬أو اإلجابة عن أسئلتها الفلسفية‬ ‫والدينية‪ ،‬السياسية‪/‬الحقوقية‪ ،‬أو بتعبري أكرث صحة ودقة‪ ،‬مل يستطع االتفاق عىل‬ ‫مفاهيمها املتشابكة واملتداخلة‪ .‬فطيلة التاريخ اإلنساين‪ ،‬طرحت مسألة الحرية‪،‬‬ ‫عىل أنها الحاجة الحيوية لإلنس��ان‪ ،‬ملواجهة أخطار الحي��اة املختلفة‪ ،‬وعىل أنها‬ ‫«الباب الواسع» النتقال اإلنسان إىل العلم واملعرفة‪ ...‬ولكن مع ذلك مازال مفهوم‬ ‫هذا املصطلح محل انجذاب وخالف واختالف‪ ،‬بني املثقفني والسياسيني والفالسفة‬ ‫والعلامء‪ ،‬يف كل الديانات واإليديولوجيات واألنظمة‪ ...‬ويف كل األزمان‪.‬‬


‫زاوية زهور‬ ‫و أسئلة الحرية كثرية ‪:‬‬ ‫ هل هي تحطيم كل الطواغيت؟‬‫ هل هي إلغاء كل الطابوهات؟‬‫ هل ه��ي األمن عىل النفس واملال واإلرث‪ ،‬أم هي‬‫حري��ة الرأي و التعبري‪ ،‬وحري��ة التفكري واالختيار‬ ‫واالعتقاد وباقي الحري��ات املرتبطة بقيم حقوق‬ ‫اإلنسان ودولة القانون‪...‬؟‬ ‫ هل هي إطالق ترصف اإلنسان يف ذاته وكسبه‪ ،‬مع‬‫أمنه عىل نفس��ه وعرضه وماله‪ ،‬أم هي مس��اواته‬ ‫مع أبناء جنسه يف الرأي والحكم والسلطة‪...‬؟‬ ‫ هل هي انعدام القيود القمعية والزجرية‪ ،‬أم هي‬‫نقيض العبودية والتبعية‪...‬؟‬ ‫ هل هي اس��تقالل اإلنس��ان عن أي يشء‪ ،‬أم هي‬‫القدرة عىل الترصف يف كل يشء‪...‬؟‬ ‫ ه��ل هي الكش��ف الحر ع��ن الق��درات الذاتية‬‫والفكرية‪ ،‬أم هي إثبات الوجود والحضور والتعبري‬ ‫عن اإلرادة الشخصية؟‬ ‫خارج ه��ذه األس��ئلة‪ ،‬التي ال يدعى ه��ذا املقال‬ ‫الق��درة عىل اإلجاب��ة عنها‪ ،‬تبق��ى الحرية يف نظر‬ ‫العدي��د م��ن الفالس��فة واملفكرين‪ ،‬ه��ي عنوان‬ ‫الحياة‪ ،‬هي الحقيقة الثابتة لإلنس��ان‪ ،‬وهي الجزء‬ ‫األك�بر من وج��وده‪ ،‬والحظ األوفر من إنس��انيته‪،‬‬ ‫فهي يف نظر العدي��د منهم‪ ،‬تتمدد وتأخذ حجمها‬ ‫التاريخ��ي والفك��ري والدين��ي والنفيس‪ ،‬حس��ب‬ ‫ظ��روف األم��م والش��عوب املوضوعي��ة‪ ،‬املكانية‬ ‫والزمانية والحضارية‪ .‬فالحرية التي ترتابط حولها‪،‬‬ ‫قيم الدين والسياسة واألخالق والفلسفة‪ ،‬ال تطاوع‬ ‫عىل تش��كيلها يف وح��دة نهائية‪ ،‬بق��در ما تطاوع‬ ‫عىل تنس��يقها يف فض��اءات وتي��ارات‪ ،‬تلتقي عند‬ ‫ف�ترات معينة‪ ،‬أو حاالت معينة‪ ،‬وجميعها ال ترقى‬ ‫إىل تحدي��د مفاهيمها‪ ،‬وجميعها مس��كونة برغبة‬ ‫التخل��ص من أش��ياء أغلبها ال مح��دود يف النفس‪،‬‬ ‫ورمبا يف الزمان واملكان‪.‬‬ ‫ هل يعني ذلك‪ ،‬أن الحرية فكرة وهمية‪...‬؟‬‫ هل هي خاصية اإلنس��ان‪ ،‬باعتباره مس��ؤول عن‬‫نفس��ه وعن حريت��ه‪،‬؟ أم هي ذل��ك اليشء الذي‬ ‫يجب أن يكون‪ ،‬ومل يتحقق بعد…؟‬

‫زهور‬

‫العدد الثالث ‪ -‬السنة األولى ‪ -‬يوليوز ‪2012‬‬

‫‪2‬‬ ‫إس�لاميا‪ ،‬حظيت مس��ألة الحرية باهتامم األولني‬ ‫واآلخري��ن‪ ،‬فالصح��ايب القائد واملجاه��د عمر بن‬ ‫الخطاب‪ ،‬ريض الله عنه‪ ،‬لخص املوقف واملسألة‪ ،‬يف‬ ‫قولته الشهرية «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم‬ ‫أمهاته��م أحرارا‪ »...‬املس��لم يف منظ��ور املذاهب‬ ‫والتفاسري القرآنية‪ ،‬حر يف أساسه الديني‪ ،‬من غري أن‬ ‫يهبه أح��د حق الحرية‪ ،‬فهي حق��ه الطبيعي‬ ‫ال��ذي يح��رم العبودي��ة‪،‬‬ ‫إذ يش��هد ع�لى ذل��ك ما‬ ‫تزخر به املكتبة اإلس�لامية‬ ‫من مصنف��ات وأطروحات‪،‬‬ ‫أنجزه��ا الفقه��اء والعل�ماء‬ ‫والفالسفة املس��لمون‪ ،‬حول تحريم العبودية‪ ،‬عىل‬ ‫اعتبار أن األسياد‪ ،‬هم أحرار‪ ،‬يؤطر اإلسالم حريتهم‬ ‫حسب ما متليه اإلرادة اإللهية‪.‬‬ ‫يف الع�صر الحديث‪ ،‬ويف خض��م االهتامم الجمعي‬ ‫بالحري��ة‪ ،‬عالج املس��لمون مس��ألتها‪ ،‬م��ن زوايا‬ ‫متعددة‪ ،‬واتخ��ذ العلامء والفقه��اء ورجال الدين‬ ‫والح��كام‪ ،‬منها مواقف متعددة ومختلفة‪ ،‬س��واء‬ ‫فيام يتعل��ق بعالقتها بالدين وأحكامه‪ ،‬أو بعالقتها‬ ‫مع النفس املسلمة‪.‬‬ ‫بالنسبة للدين اإلس�لامي الحنيف‪ ،‬اإلنسان حر يف‬ ‫أساس��ه‪ ،‬ميلك حق الحرية‪ ،‬كام رشعه��ا الله‪ ،‬ومن‬ ‫ال مي��ارس ه��ذا الحق‪ ،‬خوفا م��ن صاحب نفوذ أو‬ ‫س��لطان‪ ،‬ليس بحر‪ ،‬ويحت��اج إىل من يدافع عنه‪...‬‬ ‫لذلك كان الناس يف الدول اإلسالمية األوىل‪ ،‬أحرارا‪،‬‬ ‫ال يهاب��ون حاك�ما ويعلن��ون قدرتهم ع�لى تغيري‬ ‫املنكر‪ ،‬وعىل تقويم االعوجاج‪ ،‬وعىل حامية الحرية‬ ‫واألحرار يف نظر الباحث املرصي املعروف‪ ،‬الدكتور‬ ‫محمد أحمد خلف الله ( يف مقال له يحمل عنوان‬ ‫قضية الحرية يف الرشيعة) «املسلم ال ميكنه تأدية‬ ‫واجباته الدينية‪ ،‬وال مامرسة حياته اليومية والعامة‬ ‫إال عىل أس��اس الحرية‪ ...‬حرية اإلرادة التي متكن‬ ‫صاحبه��ا من تحمل مس��ؤوليته يف كل ما يقوم به‬ ‫من قول أو عمل ‪»...‬‬

‫‪41‬‬


‫‪42‬‬

‫زهور‬

‫زاوية زهور ‬

‫العدد الثالث ‪ -‬السنة األولى ‪ -‬يوليوز ‪2012‬‬

‫‪3‬‬ ‫يف الفلس��فة‪ ،‬يأخذ األمر مجرى آخر‪ ،‬حيث الحرية‬ ‫ه��ي غياب اإلكراه والقيود التي يفرضها طرف عىل‬ ‫طرف آخر‪ .‬فاإلنس��ان الحر ه��و القادر عىل اختيار‬ ‫هدفه وطرقه‪ ،‬فهو الذي يس��تطيع االختيار‪ ،‬س��واء‬ ‫من خ�لال خضوعه إلرادة ش��خص أو دولة أو أية‬ ‫سلطة أخرى‪.‬‬ ‫ويذهب بعض املفكرين إىل القول‪ ،‬أن غياب اإلكراه‪،‬‬ ‫الكايف وال�ضروري لتجديد‬ ‫هو الرشط‬ ‫الحرية‪ ،‬فطاملا أن اإلنسان‬ ‫يت�صرف مب��لء إرادته وال‬ ‫يخضع ألي إكراه يف س��لوكه‬ ‫فهو حر‪.‬‬ ‫ويف نظر الفيلس��وف الربيطاين‬ ‫راس��ل ‪»:‬إن الحرية بشكل عام هي غياب الحواجز‬ ‫أمام تحقيق الرغبات واألهداف»‪.‬‬ ‫الحري��ة إذن‪ ،‬وبالنظ��ر إىل التوجه��ات الفلس��فية‬ ‫وقيمها‪ ،‬هي مفهوم ذايت‪/‬شخيص‪/‬سيايس‪/‬اقتصادي‪/‬‬ ‫أخالقي‪/‬فلس��في متداخل‪ ،‬ذو مدل��والت متعددة‬ ‫ومتش��عبة‪ .‬وكل مدل��ول فيها يحتاج إىل مس��توى‬ ‫معني من التحديد والتعريف‪ ،‬بل هي شبكة معقدة‬ ‫م��ن املفاهيم‪ ،‬من الصعب تحديدها يف كلامت‪ ،‬أو‬ ‫صهره��ا يف مفهوم واحد‪ .‬فالحري��ة تتضمن نظريا‬ ‫عدة «حري��ات» حرية الفكر‪ /‬حرية التعبري‪ /‬حرية‬ ‫االجتامع والتنظيم‪ /‬حري��ة العمل‪ /‬حرية التحرك‪/‬‬ ‫حري��ة التملك‪ /‬حري��ة االعتقاد والعب��ادة‪ /‬حرية‬ ‫االنتامء‪ …/‬إنها حقل واسع يصنع اإلنسان بداخله‬ ‫اختياراته وقراراته‪ ،‬ويرسم من خالله مجرى حياته‪،‬‬ ‫بعيدا عن أي إكراه أو قمع أو تسلط ‪ ...‬أو توجيه‪.‬‬

‫‪4‬‬ ‫يف الثقاف��ة السياس��ية‪ ،‬تبلورت فك��رة الحرية عرب‬ ‫العص��ور واألزم��ان والحضارات‪ ،‬حت��ى إذا وصلت‬ ‫عرص التنظي�مات والتحوالت‪ ،‬حيث تراجع مجتمع‬ ‫التقلي��د‪ ،‬وتوس��ع نط��اق الدول��ة‪ ،‬وانت�شر الفكر‬ ‫اإلصالحي وبرزت مهام املجتمع السيايس‪ ،‬أصبحت‬ ‫الحرية املحور األس��ايس ال��ذي يرتابط حوله إصالح‬ ‫القوانني ومحو الع��ادات البالية‪ ،‬كام أصبحت هي‬ ‫محور األف��كار واإليديولوجي��ات املؤثرة يف تيارات‬ ‫الحضارة الراهنة واالنتقال إىل العوملة‪.‬‬

‫لق��د حظيت فك��رة الحري��ة يف العرص الس��يايس‬ ‫الحديث‪ ،‬باهتامم خاص‪ ،‬كإحدى األفكار املرتبطة‬ ‫باإلصالح��ات الحضارية التي ينتظره��ا عامل اليوم‪،‬‬ ‫بقيم ومفاهيم مختلفة‪ ،‬هي أكرب وأوسع‪.‬‬ ‫ي��رى املفك��ر املغريب عب��د الله الع��روي يف كتابه‬ ‫«مفه��وم الحرية»‪ ،‬أن التط��ورات االجتامعية التي‬ ‫عرفه��ا الع��امل يف الق��رون األخرية‪ ،‬أف��رزت حاجة‬ ‫موضوعية إىل هذه الحرية‪ ،‬وقد تم بالفعل تحقيق‬ ‫جزيئ لبع��ض الحريات‪ ،‬وم��ازال البعض يتطلع إىل‬ ‫حرية أعمق وأشمل‪.‬‬

‫‪5‬‬ ‫مغربيا‪ ،‬اق�ترن ظهور االهت�مام بالحرية ورشوطها‬ ‫ومواصفاتها‪ ،‬عند الجارة األوروبية بظهور كتابات‪/‬‬ ‫نقاش��ات هام��ة حول هذه املس��ألة‪ ،‬ب�ين النخبة‬ ‫املغربية‪ ،‬نهاية القرن التاس��ع ع�شر وبداية القرن‬ ‫العرشين‪ ،‬نذكر منها عىل الخصوص‪ ،‬كتابات أحمد‬ ‫النارصي وأيب عب��د الله الس��ليامين يف نهاية القرن‬ ‫التاس��ع عرش‪ ،‬وكتابات سعيد حجي وعالل الفايس‬ ‫ومحم��د عزيز الحب��ايب‪ ،‬وأحم��د بالفريج‪ ،‬ومحمد‬ ‫امليك الن��ارصي‪ ،‬ومحمد حس��ن ال��وزاين‪ ،‬والفقيه‬ ‫داوود‪ ،‬وعب��د الل��ه إبراهي��م‪ ،‬يف الق��رن املايض‪...‬‬ ‫وهي كتابات فقهية وفلس��فية وسياس��ية وسعت‬ ‫من مفاهي��م الحرية‪ ،‬جيال بعد جيل‪ ،‬ومرحلة بعد‬ ‫أخرى‪ ،‬وأعط��ت «وصفة» متميزة له��ذا املصطلح‬ ‫املتعدد املفاهيم‪.‬‬ ‫‪ – 1‬بالنس��بة للفقيه السليامين وجيله (نهاية القرن‬ ‫‪ ،)19‬كان��ت الحري��ة مرشوطة بأح��كام الرشع‪ ،‬ال‬ ‫تخرج عن أداء الش��عائر الديني��ة ‪/‬حرية امللكية ‪/‬‬ ‫حري��ة الفكر ‪/‬حرية التعبري ‪/‬حري��ة العمل ‪/‬حرية‬ ‫الدفاع عن النفس بالحجة البالغة ‪/‬الحرية السياسية‬ ‫املناقضة لالستبداد‪ ،‬هي حرية ال تخرج عن الرشع‪،‬‬ ‫ولكنها ترف��ض الحرية التي ميارس��ها الغرب والتي‬ ‫تقبل بفك��رة الحرية املطلقة الت��ي «تتعدى أوامر‬ ‫ال�شرع ونواهيه»‪ .‬ويف نظر املفك��ر املغريب محمد‬ ‫سبيال يعترب هذا التوجه‪ ،‬مع ذلك متفتحا بالنظر إىل‬ ‫األوضاع التي كان عليه��ا املغرب يف القرنني الثامن‬ ‫عرش والتاسع عرش‪.‬‬ ‫ه��ل كان تحفظ النخب��ة املغربية م��ن الحرية يف‬ ‫املفاهي��م الغربية خالل تلك الف�ترة‪ ،‬يعكس عدم‬ ‫نض��ج كيان وحقوق الفرد يف املجتمع التقليدي‪ ،‬أم‬


‫زاوية زهور‬ ‫كان يعك��س مقاومة النخب��ة املغربية لكل األفكار‬ ‫املرتبط��ة باألجنبي أو الواردة من��ه‪ ،‬باعتباره كافرا‬ ‫يعيش يف حالة الجاهلية؟ يالحظ ذ‪ .‬سبيال أن هذه‬ ‫النخب��ة مل تربط املعنى الجديد للحرية يف كتاباتها‪،‬‬ ‫مبسألة اإلصالح السيايس‪ ،‬الذي يربط الحرية ببعدها‬ ‫السيايس املتمثل يف الحقوق السياسية للفرد وإقامة‬ ‫الس��لطة عىل أس��اس ضامن الحريات السياس��ية‬ ‫للمواطن‪ ..‬فهي ظلت محصورة يف تصوراتها القامئة‬ ‫عىل الرشع‪ ،‬حتى إشعار آخر‪.‬‬ ‫‪ – 2‬أما بالنسبة لجيل السيايس واملفكر محمد عالل‬ ‫الفايس (بداية القرن املايض) فقد اختلف أمر تقييم‬ ‫الحري��ة‪ ،‬إذ أخذت مفاهي��م الحرية موقعا آخر يف‬ ‫الس��لوك ويف التفكري‪ ،‬فه��ذا الجيل أطلق ش��عار‪:‬‬ ‫«الحرية جهادنا حتى نراه��ا»‪ ...‬وأصبحت الحرية‬ ‫تنتق��ل من نض��ج إىل آخ��ر لتصبح أكرث اس��تيعابا‬ ‫لظروف العرص ولرشوطه امللزمة‪.‬‬ ‫و لرمبا كان ملعاهدة الحامية (مارس ‪ ،)1912‬حيث‬ ‫فقد املغرب اس��تقالله‪ ،‬دخل هام يف هذا االنتقال‪،‬‬ ‫ويف تطوير مفه��وم الحرية‪ ،‬التي أصبحت ش��عارا‬ ‫واسعا وش��امال‪ ،‬يبحر يف كل الفصائل واالتجاهات‬ ‫والرصاع��ات‪ .‬الحرية ع�بر أفكار النخب��ة الجديدة‬ ‫ملغ��رب عه��د الحامية‪ ،‬انتقلت يف خطب وأش��عار‬ ‫وكتابات الزع�ماء واملثقفني واإلعالميني‪ ،‬واملناضلني‬ ‫يف األحزاب السياسية إىل العقل الجمعي‪ ،‬فأصبحت‬ ‫أداة أوىل‪ ،‬لن��زع االس��تقالل‪ ،‬وبن��اء مغرب جديد‪،‬‬ ‫منخرط يف الحضارة العاملية‪ ،‬بخصوصياته وقيمه‪.‬‬ ‫إن جيل محمد عالل الفايس جسد بعمق توجهات‬ ‫الجي��ل األول له��ذه النخب��ة يف كتاباته السياس��ية‬ ‫والفقهي��ة واإلبداعية‪ .‬إذ أضح��ت الحرية تتجاوز‬ ‫مفهوم تحقيق اس��تقالل البالد‪ ،‬واس��تقالل إرادتها‬ ‫إىل مفه��وم املواطن��ة‪ ،‬ومفهوم الحق��وق الفردية‬ ‫والجامعي��ة‪ ،‬متيز ب�ين الحري��ة اإللهي��ة املطلقة‪،‬‬ ‫والحري��ة اإلنس��انية املطلقة املبدع��ة‪ ،‬كام قررها‬ ‫اإلس�لام‪« ،‬الحرية اإلنسانية ليس��ت شيئا اعتباطيا‪،‬‬ ‫وليست رشعية برشع الله وفعله» ‪ /‬عالل الفايس‬ ‫الحرية الش��خصية أو الفردي��ة يف نظر هذا الجيل‪،‬‬ ‫ال تعن��ي إرادة االنس��ان يف أن يفعل ما يش��اء‪ ،‬بل‬ ‫هي متتع اإلنس��ان بالحقوق‪ ،‬وقيام��ه بالواجبات‪،‬‬ ‫هي حرية الفكر وحرية اإلحس��اس وحرية التعبري‪،‬‬ ‫وهي أيض��ا رفض العبودية والتمييز‪ ،‬هي مقاربات‬

‫زهور‬

‫العدد الثالث ‪ -‬السنة األولى ‪ -‬يوليوز ‪2012‬‬

‫مستمرة ودامئة‪ ،‬بني حقوق الله وحقوق العباد‪ ،‬يف‬ ‫«ملعب» الحرية الواسع‪.‬‬ ‫‪ – 3‬أما بالنس��بة لجيل محمد عزيز الحبايب‪/‬عبد الله‬ ‫العروي‪/‬محم��د س��بيال‪/‬فاطمة املرنييس‪/ …/‬محمد‬ ‫عاب��د الجابري (ال��ذي أىت مبارشة بع��د جيل عالل‬ ‫الفايس)‪ ،‬فقد عرف مفهوم الحرية نقلة نوعية أخرى‪،‬‬ ‫ذلك ألن األفكار واملقاربات التي جاء بها هذا الجيل‪،‬‬ ‫تؤك��د أن الحرية ليس��ت مفهوما فقط‪ ،‬وال ش��عارا‬ ‫فقط‪ ،‬بل ه��ي حاجة فردية‪ /‬س��يكو لو جية ‪/‬‬ ‫تاريخية واجتامعية‪ ،‬يجب‬ ‫التعام��ل معه��ا برشوطها‬ ‫املوضوعية والذاتية‪.‬‬ ‫إىل حد ه��ذا الجيل‪ ،‬يكون‬ ‫مفهوم الحري��ة يف املغرب‬ ‫املع��ارص واملغرب الحدي��ث أيضا‪،‬‬ ‫ق��د انتقل ع�لى مدى قرن من الزم��ن‪ ،‬من مفهوم‬ ‫ف��ردي‪ /‬أخالقي‪ ،‬كام نج��ده يف الفقه وعلم الكالم‪،‬‬ ‫إىل مفهوم اجتامعي وتاريخي وس��يايس وفلس��في‬ ‫أوسع وأشمل؛ إنه يتقارب مع املفهوم الذي تحمله‬ ‫الليربالية والفلسفات الحديثة يف عامل اليوم‪.‬‬ ‫فالنخبة املغربية الجدي��دة‪ ،‬تربط الحرية بالتطور‬ ‫والتنمي��ة‪ ،‬وتجع��ل منه��ا رشط��ا رضوري��ا لبلورة‬ ‫العبقرية واملواطنة‪ ...‬و حقوق اإلنس��ان‪ .‬وأكيد أن‬ ‫األجيال الصاعدة‪ ،‬مازال��ت تقلب يف هذه الكلمة‪/‬‬ ‫الحرية‪ ،‬وما زالت تستخرج منها ما تطمح إليه‪..‬‬ ‫ففي الحرية تتجىل إنس��انية اإلنسان‪ ،‬ويف املواطن‬ ‫الفاع��ل تتجىل مع��اين ومفاهيم الحري��ة‪ ...‬هكذا‬ ‫تريدها الدميقراطية‪.‬‬

‫‪6‬‬ ‫ترى هل استطاعت رؤى هذه األجيال اإلجابة عىل‬ ‫بعض األسئلة التي تطرحها مسألة الحرية…؟‬ ‫ش��خصيا ال أعتقد ذلك‪ ،‬ألن سؤال الحرية‪ ،‬كان وما‬ ‫يزال هو األصعب يف كل املطارحات التي «تشتغل»‬ ‫عىل اإلنس��ان‪ ،‬و الحداثة‪ ،‬والعوملة‪ ،‬والدميقراطية‪،‬‬ ‫ولكن م��ع ذلك كانت قراءة هذه األجيال ملس��ألة‬ ‫الحرية تسعى إىل وضع مفاهيم «الحرية» يف إطار‬ ‫موضوعي وشمويل‪ ،‬وهو ما جعلها حية باستمرار يف‬ ‫الوجدان املغريب‪.‬‬ ‫رئيس التحرير‬

‫‪43‬‬


‫‪44‬‬

‫زهور‬

‫مقاالت وأبحاث ‬

‫العدد الثالث ‪ -‬السنة األولى ‪ -‬يوليوز ‪2012‬‬

‫واقعنا اللغوي‬ ‫في زمن‬ ‫العولمة‬ ‫هل يكشف‬ ‫لنا أسباب‬ ‫التراجـــــع‪..‬‬ ‫‪-1-‬‬

‫محمد أديب السالوي‬ ‫‪adibslaoui@gmail.com‬‬

‫اللغة‪ ،‬أية لغة‪ ،‬سواء كانت حية أم مرتاجعة‪،‬‬ ‫علمية أم ش��عرية‪ ،‬تبقى من أخص خصائص‬ ‫األمم والش��عوب‪ ،‬تبقى غذاء عقلها وروحها‬ ‫وعاطفتها‪ ،‬ركيزة من ركائزها األساسية املرتبطة‬ ‫بأبنيتها وهويتها وتاريخها وحضارتها‪.‬‬ ‫اللغة بهذا املعنى‪ ،‬تتحول إىل هوية‬ ‫ ‬ ‫غري قابلة للمجادل��ة‪ ،‬كل إهامل لها ينعكس‬ ‫س��لبا عىل األم��ة‪ ،‬ومت��ى أصبح��ت الهوية‬ ‫مس��تلبة‪ ،‬تخلفت األم��ة يف بنائها الحضاري‪/‬‬ ‫الفكري‪ /‬الس��يايس‪ /‬االجتامع��ي‪ ،‬ذلك ألنها‬ ‫تش��كل يف نفس اآلن‪ ،‬قاعدة واستثناء يف هذا‬ ‫البناء‪.‬‬ ‫ومت��ى تعرض��ت اللغة للغ��زو أو‬ ‫ ‬ ‫االس��تالب‪ ،‬تصبح لغة مرتاجعة‪ ،‬ال تس��تطيع‬

‫التفاع��ل أو التعامل أو التعاي��ش مع قضايا‬ ‫األمة‪ ،‬ال تس��تجيب لطموحاته��ا العلمية أو‬ ‫الثقافي��ة‪ ،‬تفقد موقعه��ا يف إدارة الدولة ويف‬ ‫املجتمع‪ ،‬كام يف الجامعات واألكادمييات ويف‬ ‫مخت�برات البحث العلم��ي‪ ،‬باإلضافة إىل أنها‬ ‫تفقد صوتها يف التجاذبات الحضارية‪.‬‬ ‫ويف نظ��ر علامء اللغة‪ ،‬وعل�ماء التاريخ‪ ،‬فإن‬ ‫التخلف االقتص��ادي كام التخلف االجتامعي‬ ‫والحضاري والسيايس عموما‪ ،‬يعني فصيلة من‬ ‫التخلف اللغوي يف عرص العلم والتكنولوجيا‪،‬‬ ‫فمثل هذا التخلف يجس��م تف��اوت التطور‬ ‫الرتكيب��ي بني اإلنس��ان ولغته‪ ،‬بني اإلنس��ان‬ ‫وهويت��ه‪ ،‬بينه وبني التاريخ املايض‪ ،‬بينه وبني‬ ‫التاريخ الحارض واآليت‪.‬‬


‫مقاالت وأبحاث‬ ‫‪-2-‬‬

‫يف الجغرافي��ا العربية لس��نا يف حاجة إىل‬ ‫بيان األدوار التي اضطلعت بها لغة الضاد‬ ‫كأداة للتخاطب واإلبداع والبحث العلمي‬ ‫يف امل��ايض‪ ،‬إذ يكف��ي أن نراج��ع املناجد‬ ‫واملوس��وعات وه��ي عدي��دة ومتنوعة‪،‬‬ ‫لنلم��س ذلك ال�ثراء الذي ع��ز نظريه يف‬ ‫الجغرافيا الكونية‪.‬‬ ‫ففي مصنفات العل��وم الرياضية واألدبية‬ ‫والفلس��فية والقانوني��ة وغريه��ا‪ ،‬ذخرية‬ ‫لغوية كانت هي القوام األسايس للتفاهم‬ ‫بني العل�ماء‪ ،‬للتعبري عن أعمق النظريات‬ ‫التقني��ة‪ ،‬يوم كانت الحض��ارة العربية يف‬ ‫عنفوانها وازدهارها‪.‬‬ ‫يحدثن��ا التاري��خ عن ه��ذه اللغة‪ ،‬يقول‬ ‫بش��فافية ووضوح‪ :‬أنه منذ القرن الهجري‬ ‫األول‪ ،‬ونتيجة انتصارات الدولة املس��لمة‪،‬‬ ‫انبثقت حركة فكرية واس��عة‪ ،‬مل يس��تفد‬ ‫منها فقط الشعب الذي عاش لفرتة طويلة‬ ‫من التاريخ خارج ح��دود العامل املتمدن‪،‬‬ ‫ونعني به الش��عب العريب‪ ،‬ولكن استفاد‬ ‫منها أيضا املتكلمون بالرسيانية والفارسية‬ ‫واليوناني��ة واألمازيغية‪ ،‬لدرج��ة تبلورت‬ ‫معها هذه اللغات عىل الخريطة الفكرية‬ ‫العاملية‪.‬‬ ‫يف هذا املوضوع أوضح جوس��تاف لوبون‪،‬‬ ‫يف كتاب��ه حضارة العرب‪ ،‬أن اللغة العربية‬ ‫أضح��ت خالل هذا التاريخ‪ ،‬اللغة العاملية‬ ‫األوىل يف جمي��ع األقط��ار واألمصار التي‬

‫زهور‬

‫دخلها الع��رب‪ ،‬حيث أخلف��ت اللهجات‬ ‫التي كانت مستعملة يف تلك البالد‪ ،‬ومنها‪:‬‬ ‫الرسياني��ة واليونانية والقبطية والرببرية‪/‬‬ ‫األمازيغية‪.‬‬ ‫يف هذا املوضوع أيض��ا‪ ،‬يذكر العديد من‬ ‫املؤرخ�ين‪ ،‬يف الرشق والغ��رب‪ ،‬أن العرب‬ ‫يف عرص االزده��ار‪ ،‬مل يكتفوا بنرش لغتهم‬ ‫وفرضها بقوة العلم‪ ،‬وإمنا انكبوا عىل دراسة‬ ‫لغات العامل من أجل املثاقفة‪ ،‬فقد تعرفوا‬ ‫عىل أهم املصنف��ات اليونانية و اإليرانية‬ ‫والهندية إب��ان عهد الخلفاء العباس��يني‪،‬‬ ‫وانكب��وا ع�لى دراس��ة اآلداب األجنبي��ة‬ ‫بحامس فاق الحامس الذي أظهرته أوروبا‬ ‫يف عه��د االنبع��اث‪ ،‬وهو ما جع��ل اللغة‬ ‫تخضع‬ ‫ا لعر بي��ة‬

‫يف‬ ‫نظر علامء اللغة‪،‬‬ ‫وعلامء التاريخ‪ ،‬فإن التخلف‬ ‫االقتصادي كام التخلف االجتامعي‬ ‫والحضاري والس��يايس عموما‪ ،‬يعني‬ ‫فصيلة م��ن التخل��ف اللغوي يف‬ ‫عرص العلم والتكنولوجيا‬

‫ملقتضيات اإلص�لاح الجديد‪ ،‬فانترشت يف‬ ‫مجموع أنحاء آس��يا‪ ،‬واس��تأصلت نهائيا‬ ‫اللهجات القدمية وقضت عليها‪ ،‬السيام يف‬ ‫شبه الجريرة األيبريية‪ ،‬حيث ندد الكاتب‬ ‫املس��يحي ج��ان لوغارو وهو م��ن رجال‬

‫العدد الثالث ‪ -‬السنة األولى ‪ -‬يوليوز ‪2012‬‬

‫الق��رن التاس��ع امليالدي بجه��ل مواطنيه‬ ‫باللغ��ة الالتيني��ة‪ ،‬فقال‪ :‬إن املس��يحيني‬ ‫يتعلقون بقراءة القصائ��د وروائع الخيال‬ ‫العربية‪ ،‬ويدرسون مصنفات علامء الكالم‬ ‫للمسلمني‪ ،‬ال بقصد تنفيذها‪ ،‬بل من أجل‬ ‫التمرن عىل األس��لوب الصحي��ح واألنيق‬ ‫للتعبري والتصنيف والكتابة‪.‬‬ ‫يف هذا املوضوع أيضا أكد املؤرخ دورزي‪،‬‬ ‫أن أهل الذوق (يف القرن العارش امليالدي)‬ ‫أبهرته��م فصاحة األدب الع��ريب واحتقروا‬ ‫البالغة الالتيني��ة‪ ،‬وص��اروا يكتبون بلغة‬ ‫العرب الفاتحني‪.‬‬

‫‪-3‬‬‫تعني هذه الشهادات املخترصة‪ ،‬أن اللغة‬ ‫العربية التي كانت إىل حني‪ ،‬لغة منس��ية‬ ‫يف «جاهلي��ة» الجزي��رة العربية‪ ،‬أدركت‬ ‫يف القرون الهجرية األوىل عنفوانها‪ .‬فقد‬ ‫وصفها أح��د املفكرين الكبار يف الغرب‬ ‫املس��يحي‪ ،‬فيكث��ور بريار‪ ،‬أنها أبس��ط‬ ‫وأق��وى وأرق لغة يف الع��امل‪ ،‬وأنها أكرث‬ ‫اللهجات اإلنس��انية مرون��ة وروعة‪ ،‬وأنها‬ ‫كنز يزخر باملفاتن ويفيض بس��حر الخيال‬ ‫وعجي��ب املجاز‪ ،‬رقيق الحاش��ية‪ ،‬مهذب‬ ‫الجوانب‪ ،‬رائع التصوير‪.‬‬ ‫وخ��ارج مفاهيم هذه الش��هادة‪ ،‬يحدثنا‬ ‫تاريخ الغرب املس��يحي‪ ،‬أن نف��وذ اللغة‬ ‫العربية‪ ،‬أصبح بعيد املدى‪ ،‬حتى أن جانبا‬ ‫من أوروبا الجنوبية‪ ،‬أيقن أن هذه اللغة‪،‬‬ ‫هي األداة الوحيدة لنقل العلوم واآلداب‪،‬‬ ‫وأن رجال الكنيس��ة اضطروا إىل تعريب‬ ‫مجموعاتهم القانونية لتسهيل قراءتها يف‬ ‫الكنائس اإلسبانية‪ ،‬وأن الفقيه اليسوعي‬ ‫جان س��يفيل‪ ،‬وج��د نفس��ه مضطرا إىل‬ ‫تحري��ر الكتب املقدس��ة باللغة العربية‬ ‫ليقدمه��ا للق��راءة العام��ة‪ ،‬يف الكنائس‬ ‫اإلسبانية‪.‬‬ ‫والش��ك أن الجامع��ات األوروبية خالل‬ ‫هذه الفرتة من التاريخ‪ ،‬كانت عامال مهام‬ ‫يف ذي��وع اللغة العربية التي أصبحت يف‬

‫‪45‬‬


‫‪46‬‬

‫زهور‬

‫العدد الثالث ‪ -‬السنة األولى ‪ -‬يوليوز ‪2012‬‬

‫مقاالت وأبحاث ‬

‫اس��تعملتها املس��يحية‪ ،‬والتي استطاعت‬ ‫بها اس��تكامل عقيدتها جوه��را وتعبريا‪...‬‬ ‫ويع�ترف ه��ذا املؤل��ف أيضا مبس��اهمة‬ ‫الفلسفة اإلس�لامية يف تكوين علم الكالم‬ ‫خالل القرون الوسطى‪ ،‬وبالدور الذي قام‬ ‫به كل من ابن س��ينا وابن رش��د يف التأثري‬ ‫عىل مفكري الديانة املسيحية‪.‬‬ ‫االستاذ ماس��نيون يعرب عن نفس الفكرة‪،‬‬ ‫عندم��ا يقول يف كتاباته االس��ترشاقية‪ ،‬أن‬ ‫املنه��اج العلمي قد انطلق أوال يف التاريخ‬ ‫الحضاري بأوروبا باللغة العربية‪ ،‬وأن هذه‬ ‫اللغة استطاعت بقيمتها الجدلية والنفسية‬ ‫والصوفية‪ ،‬إضفاء صيغ القوة عىل التفكري‬ ‫الغريب‪ ،‬إذ استطاعت نقل بدائع الفكر يف‬

‫العصور الوس��طى‪ ،‬لغة العلوم والفلسفة‬ ‫والقان��ون والطب والفن��ون‪ ،‬بل أصبحت‬ ‫لغ��ة دولية للحضارة‪ .‬فف��ي عام ‪1207‬م‪،‬‬ ‫تم تش��ييد معهد يف جنوب أوروبا لتعليم‬ ‫اللغة العربية‪ ،‬وإحداث كرايس لهذه اللغة‬ ‫يف كربيات الجامعات الغربية ‪...‬‬ ‫ويف الق��رن الس��ابع عرش‪ ،‬اهتم��ت أوربا‬ ‫الش�مالية والرشقي��ة اهتامم��ا خاص��ا‬ ‫بتدريس اللغة العربية ونرشها‪ .‬ففي عام‬ ‫‪1638‬م‪ ،‬ق��ررت حكومة الس��ويد‪ ،‬تعليم‬ ‫اللغ��ة العربي��ة يف مدارس��ها ومعاهدها‬ ‫وجامعاته��ا‪ ،‬ومنذ ذلك العه��د انرصفت‬ ‫السويد إىل طبع ونرش املصنفات اإلسالمية‪،‬‬ ‫وبدأت روس��يا يف نفس هذه الفرتة تعنى‬ ‫بالدراس��ات الرشقي��ة والعربية‪ ،‬خاصة يف‬ ‫يج��ب‬ ‫عهد البطرس األكرب‪ ،‬ويف عام ‪ 1769‬قررت‬ ‫امللكة كاترين��ا‪ ،‬إجبارية اللغة العربية‪ ،‬يف‬ ‫االع�تراف أن��ه بعد‬ ‫التعليم الع��ايل والبحث العلمي‪ .‬ويف عام توقف االمتداد العريب‪ ،‬توقف‬ ‫‪ 1816‬تم إحداث قسم اللغات السامية يف‬ ‫جامعة بيرت وكراد‪ ،‬حيث تم اقتباس مئات الزحف الحض��اري العريب‪ ،‬فتوقف‬ ‫املصطلح��ات العلمي��ة من لغ��ة الضاد‪ .‬من��و اللغ��ة العربي��ة إىل درج��ة‬ ‫وحس��ب ليف��ي بروفنصال‪ ،‬أن��ه يف إطار‬ ‫الجمود‬ ‫هذا االقتباس‪ ،‬تم دعم القاموس اإلسباين‪/‬‬ ‫الالتيني بأسامء األزهار والرياحني العربية‪،‬‬ ‫وم��ن هذا القام��وس انتقلت مصطلحات‬ ‫العل��وم الطبيعي��ة إىل فرنس��ا وباقي بالد امليدان الروحي عىل الجسد األوريب‪ ،‬ومن‬ ‫أوربا الغربية‪.‬‬ ‫خالله عىل خريطة الحضارة اإلنسانية‪.‬‬ ‫يعن��ي ذلك بوض��وح‪ ،‬أن اللغ��ة العربية‪،‬‬ ‫‪-4‬‬‫قامت حتى اآلن بدعم العلوم والفلسفات‬ ‫يف القراءات التاريخية لهذه الفرتة املشعة‪ ،‬والفنون يف الحضارتني القدمية واملعارصة‪،‬‬ ‫الح��ظ ع��امل إيطايل كب�ير‪ ،‬أن لغ��ة روما وس��اعدت عىل تطويره��ا‪ ،‬ونقلها يف زمن‬ ‫مل تزده��ر وتتوس��ع عن طريق التوس��ع الرتجامت من اللغتني الفارسية واليونانية‪،‬‬ ‫االس��تعامري‪ ،‬ولكن بفضل إشعاع اإلسالم وقامت بحملها إىل اللغات األخرى‪ ،‬فكانت‬ ‫الثقايف‪ ،‬بل إن اإلصالح الخاص بالكنيس��ة أهم جرس لنقل النهضة إىل أوروبا‪ ،‬وكانت‬ ‫ يف نظ��ره ‪ -‬تأثر إىل حد بعي��د بالثقافة واحدة من أهم عنارص تقدمها‪.‬‬‫العربية‪.‬‬ ‫يعني ذلك أيضا‪ ،‬أن اللغة العربية استطاعت‬ ‫يف هذا االتج��اه‪ ،‬يعرتف البارون كارادوفو يف زمن مبكر حمل الثقافة العلمية والفنية‬ ‫مؤلف كتاب مفكرو اإلسالم‪ ،‬وهو مسيحي واألدبية‪ ،‬ودعم وتطوير الحضارة اإلنسانية‬ ‫متحم��س‪ ،‬أن اإلس�لام عل��م املس��يحية عرب قرون طويلة‪ ،‬وهو ما يؤكد قدرتها عىل‬ ‫منهجها يف التفكري الفلسفي‪ ،‬وأن مفكري التجديد وعىل التطور واالستمرار‪.‬‬ ‫اإلسالم نظموا لغة الفلسفة الكالمية التي‬

‫هك��ذا إذن‪ ،‬تك��ون اللغ��ة العربي��ة قد‬ ‫انطلق��ت بقوة وحيوية يف القرن الس��ابع‬ ‫امليالدي‪ ،‬لتفتح مس��احة واسعة وشاسعة‬ ‫من التأثري الثقايف والفلس��في والحضاري‪،‬‬ ‫متتد م��ن املرشق إىل املغرب‪ ،‬ومن آس��يا‬ ‫إىل أوربا‪ ،‬حيث س��اهمت بفعالية يف بناء‬ ‫تقدم وازدهار العديد من الش��عوب عىل‬ ‫الخريطة اإلنسانية‪.‬‬ ‫وبش��هادة املؤرخ�ين والعل�ماء واألدب��اء‬ ‫والفقه��اء يف العديد من جهات الدنيا‪ ،‬أن‬ ‫املصطلحات العلمية‪ ،‬والصناعية والتجارية‬ ‫والفالحية واالقتصادي��ة والطبية‪ ،‬والفنية‬ ‫والهندس��ية‪ ،‬ظهرت يف لغات أوروبا وآسيا‬ ‫نقال عن لغة الضاد‪.‬‬ ‫وبشهادة القواميس العلمية‪ ،‬فإن أثر اللغة‬ ‫العربي��ة يف املفردات العلمية‪ ،‬الفارس��ية‪،‬‬ ‫والرتكية والكردية‪ ،‬واألردوية‪ ،‬واإلس��بانية‪،‬‬ ‫والربتغالية‪ ،‬ولغات رشق أوروبا‪ ،‬قد تجاوز‬ ‫املصطلح��ات اللغوية‪ ،‬إىل أس�ماء األعالم‬ ‫اإلنس��انية والحضاري��ة والجغرافية‪ ،‬مام‬ ‫جعل تأث�ير الثقافة العربية ميتد إىل البناء‬ ‫الحضاري لهذه الشعوب‪.‬‬

‫‪-5‬‬‫الس��ؤال الذي يطرح نفس��ه الي��وم بقوة‬ ‫وحدة‪ :‬ما هو وضع اللغة العربية‪ ،‬يف زمن‬ ‫العوملة من هذا اإلرشاق؟‬ ‫يج��ب االعرتاف أنه بع��د توقف االمتداد‬ ‫العريب‪ ،‬توقف الزح��ف الحضاري العريب‪،‬‬ ‫فتوق��ف من��و اللغ��ة العربي��ة إىل درجة‬ ‫الجم��ود‪ .‬ففي الق��رون الثالث��ة املاضية‪،‬‬ ‫حي��ث أحك��م االس��تعامر الفرن�سي‪/‬‬ ‫اإلنجلي��زي‪ /‬الرتيك‪ /‬اإلس��باين قبضته عىل‬ ‫الخريطة العربية‪ ،‬بذل هذا االستعامر أكرث‬ ‫من جهد‪ ،‬من أجل إحالل لغته بديال للغة‬ ‫العربية‪ ،‬والدفع باللهجات من أجل إذكاء‬ ‫ال�صراع معها‪ ،‬وإضعاف اللغ��ة األم‪...‬ويف‬ ‫ذلك نرص وانتصار للمرشوع االستعامري‪.‬‬ ‫وهك��ذا عندم��ا ح��ل علين��ا «الع�صر‬ ‫التكنولوجي» ‪/‬عرص العوملة‪ /‬عرص األلفية‬ ‫الثالث��ة‪ ،‬بدأ الحديث داخل البيت العريب‪،‬‬


‫مقاالت وأبحاث‬ ‫عن ضعف اللغ��ة العربية التي كانت إىل‬ ‫حني لغة عاملية‪ ،‬لغة علمية قوية محصنة‬ ‫باألخالقيات والقيم اإلنسانية‪ ،‬كأقوى لغة‬ ‫س��امية‪ ،‬باعتبارها لغة الوحي‪ ،‬لغة القرآن‬ ‫الكريم‪ .‬ويف خضم الحديث عن ضعف لغة‬ ‫الض��اد يف زمن العوملة يطبق الصمت عن‬ ‫ضعف أهل هذه اللغة ومدبري ش��ؤونها‪،‬‬ ‫يطب��ق الصم��ت ع��ن الذي��ن أضعفوها‬ ‫بلجوئه��م إىل لغات العدو االس��تعامري‪،‬‬ ‫وتخليهم عن اللغة األم‪ ،‬اللغة الهوية‪ ،‬التي‬ ‫حباه��ا الله بكل أس��باب الرفعة واملتعة‪،‬‬ ‫وجهزه��ا بكل م��ا يرقى بالفك��ر ويحرك‬ ‫الحس ويسمو بالخيال‪.‬‬ ‫يعني ذلك يف نظر العديد من علامء اللغة‬ ‫أن الجمود الذي أصاب اللغة العربية من‬ ‫أهلها أصابها باختالالت متعددة أبرزها‪:‬‬ ‫اختالالت يف لغة التعليم وتعليم اللغة؛‬ ‫اختالالت وظيفية يف الحياة العامة؛‬ ‫واختالالت ذات طبيعة مؤسساتية‪ ،‬وهو ما‬ ‫يتطلب من املؤسسات األكادميية واملجامع‬ ‫اللغوية‪ ،‬إنجاز دراس��ات وتحفيز التأليف‬ ‫الجيد‪ ،‬والنهوض بالبحث العلمي يف مجال‬ ‫اللغة العربية بكل أبعادها ويف كل امليادين‬ ‫املتعلقة بها‪ ،‬وذلك بالوس��ائل واملنهجيات‬ ‫التي تالئم إعادة الروح إىل الهوية اللغوية‪،‬‬ ‫والت��ي تجعل منه��ا مجددا لغ��ة للتعليم‪،‬‬ ‫وللتواصل‪ ،‬وللبح��ث العلمي‪ ،‬والتكوين يف‬ ‫كافة امليادين واملجاالت العلمية واملعرفية‬ ‫والتكنولوجي��ة‪ ،‬مب��ا يف ذل��ك الدراس��ات‬ ‫العلمية‪ /‬التقنية‪ /‬الطبية‪ /‬التدبريية‪ /‬املالية‪،‬‬ ‫التي من ش��أنها تنمية وس��ائلها وقدراتها‪،‬‬ ‫وجعلها قادرة ع�لى أن تلعب دورها كامال‬ ‫يف ساحة العوملة‪...‬واأللفية الثالثة‪ ...‬والقرية‬ ‫الكونية‪ ،‬التي يعمل الغرب عىل طردنا منها‬ ‫بكل الوسائل واألسلحة‪.‬‬

‫زهور‬

‫اللغة إذن‪ ،‬تعكس حال املجتمع املتحدث‬ ‫بها‪ ،‬تعرب عن مس��توى تعليم��ه وتكوينه‬ ‫وثقافته وتطوره‪ ،‬وتعرب بالتايل عن مكانته‬ ‫الحضارية بني األمم‪.‬‬ ‫ه��ذه الحقيق��ة‪ ،‬تعك��س أمامن��ا واقعنا‬ ‫الحض��اري ‪ /‬الثقايف ‪ /‬العلمي ‪ /‬االقتصادي‬ ‫املرتدي اليوم‪ ،‬تقول لنا بصوت مرتفع‪ :‬إن‬ ‫واقع اللغة العربية‪ ،‬هو نفس��ه واقع األمة‬ ‫العربية م��ن املحي��ط إىل الخليج‪ ،‬يف كل‬ ‫املجاالت وامليادين‪.‬‬ ‫تقول لن��ا ه��ذه الحقيقة أيض��ا‪ ...‬وبكل‬ ‫وضوح وش��فافية‪ :‬إن اللغة العربية تواجه‬ ‫يف عامل اليوم‪ ،‬تحديات متعددة ومتداخلة‬ ‫ومتشابكة؛ أهمها ما ميكن اعتباره «عوملة‬

‫ا للغ��ة ‪،‬‬ ‫أي لغة‪ ،‬ه��ي كائن‬ ‫حي‪ ،‬ينم��و ويتطور ويحتفظ‬ ‫بعوام��ل قوت��ه وتط��وره‪ ،‬عندما‬ ‫يك��ون مجتمعه يف حالة س��ليمة‪،‬‬ ‫ينمو ويتطور ويستطيع التحدي‬ ‫واملواجهة‬

‫اللغــــة» وهي فصيل من التحديات التي‬ ‫يواجهها الوطن العريب يف ثقافته واقتصاده‬ ‫وسياساته‪.‬‬ ‫ويعتقد العديد من الباحثني والدارسني أن‬ ‫التحدي الذي ق��د تواجهه اللغة العربية‪،‬‬ ‫خ�لال العقود القادمة بس��بب العوملة مل‬ ‫يكن ه��و أول تحد واجهته ه��ذه اللغة‪،‬‬ ‫فه��و حلقة من سلس��لة م��ن التحديات‬ ‫السابقة التي واجهتها يف العقود السابقة‪،‬‬ ‫أثن��اء الحكم العثامين‪ ،‬ث��م أثناء الحمالت‬ ‫االس��تعامرية الفرنس��ية‪ /‬اإلس��بانية‪/‬‬ ‫‪-6‬‬‫اإلنجليزية‪ /‬الربتغالي��ة‪ ،‬التي عملت بقوة‬ ‫اللغ��ة‪ ،‬أي لغ��ة‪ ،‬ه��ي كائن ح��ي‪ ،‬ينمو ورشاسة من أجل اقتالع جذور هذه اللغة‬ ‫ويتطور ويحتف��ظ بعوامل قوته وتطوره‪ ،‬من أرضها دون هوادة‪...‬‬ ‫عندما يكون مجتمعه يف حالة سليمة‪ ،‬ينمو لذلك‪ ،‬البد من االعرتاف‪ ،‬أن اللغة العربية‬ ‫ويتطور ويس��تطيع التح��دي واملواجهة‪.‬‬

‫العدد الثالث ‪ -‬السنة األولى ‪ -‬يوليوز ‪2012‬‬

‫الي��وم‪ ،‬ويف ظل تجاذب��ات األلفية الثالثة‪،‬‬ ‫تواجه تحديا مهوال‪ ،‬يهدد دورها الوظيفي‪،‬‬ ‫وهو ما يحتاج من العرب جميعا مواجهة‬ ‫واعية‪ ،‬تعيد للغة األم‪ ،‬اللغة الهوية‪ ،‬موقعها‬ ‫عىل األرض‪ ،‬ال من أجل اللغة نفسها‪ ،‬ولكن‬ ‫من أجل الهوية‪ ،‬واإلنسان‪ ،‬والعقيدة‪ ،‬ومن‬ ‫أجل صيانة الوجود العريب برمته‪.‬‬

‫‪-7‬‬‫إن من يتأمل واقع اللغة العربية اليوم يف‬ ‫ظل زمن العوملة ي��درك أن إهامال يطالها‬ ‫يف كثري من املجاالت الحيوية مقارنة بعدد‬ ‫من اللغات العاملية األخرى‪ ،‬التي تس��يطر‬ ‫حالي��ا ع�لى العل��وم واآلداب اإلنس��انية‬ ‫والتكنولوجيا وغريه��ا من مظاهر التقدم‬ ‫الحضاري يف العرص الحديث‪.‬‬ ‫إن لعبة اللغة‪ ،‬كام هي جارية اآلن يف العامل‬ ‫العريب‪ ،‬تجعل املجتمعات العربية‪ ،‬الخارس‬ ‫األول يف العملية‪ ،‬ففي الوقت الذي تهمل‬ ‫فيه هذه املجتمع��ات لغتها لصالح لغات‬ ‫أخرى وتتوهم أن هذه اللغات ستقدمها أو‬ ‫ستخرجها من نفق التخلف التكنولوجي‪/‬‬ ‫العلم��ي‪ /‬الحضاري‪ ...‬تك��ون قد جعلت‬ ‫من موطنها س��وقا اس��تهالكية اضطرارية‬ ‫للس��لع والثقاف��ات والتكنولوجي��ات‬ ‫األجنبي��ة‪ .‬ذل��ك ألن رواج اللغة‪ ،‬أي لغة‪،‬‬ ‫يعني علميا وحضاريا‪ ،‬رواج ثقافة وس��لع‬ ‫وقيم أصحابها‪ ،‬لذل��ك أصبحت اللغة من‬ ‫األسلحة األساسية املس��تعملة (غربيا) يف‬ ‫الحرب الحضارية باملفه��وم الذي جاء به‬ ‫صاموي��ل هتنغنت يف كتابه الش��هري رصاع‬ ‫الحضارات(‪ )1‬إذ برهنت العوملة‪ ،‬أن دور‬ ‫اللغة أخطر بكثري مام كان يتصوره علامء‬ ‫وفقه��اء اللغة أنفس��هم‪ .‬فاقتصاد املعرفة‬ ‫بره��ن أن هذه الوس��يلة قد أضحت من‬ ‫أغىل الرس��اميل الت��ي ميكن اس��تثامرها‬ ‫وجني أرباحها الطائل��ة‪ ،‬ليس يف الهيمنة‬ ‫االقتصادي��ة وحدها‪ ،‬ولكن أيضا وأساس��ا‬ ‫يف الهيمن��ة الثقافية‪/‬الحضارية‪ ،‬وهي أكرث‬ ‫تأثريا وفتكا عىل املجتمعات املستضعفة‪.‬‬ ‫ــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪ - 1‬عبد القادر الفايس الفهري‪ /‬أي موقع للغة العربية يف‬ ‫االقتصاد العريب جريدة الصباح‪ 15/‬مايو ‪/2002‬ص‪.7‬‬

‫‪47‬‬


‫‪48‬‬

‫زهور‬

‫العدد الثالث ‪ -‬السنة األولى ‪ -‬يوليوز ‪2012‬‬

‫متابعات إعالمية ‬

‫منظمة املدن العربية‬

‫المغرب‬ ‫في‬ ‫موقع‬ ‫الريادة‬

‫يحتل املغرب موقعا بارزا وهاما يف منظمة‬ ‫املدن العربية‪ ،‬وهي منظمة غري حكومية‪،‬‬ ‫متخصصة يف شؤون البلدات واملدن داخل‬ ‫الوط��ن الع��ريب‪ .‬ت��م تأسيس��ها يف مارس‬ ‫‪ ،1967‬ومقره��ا الدائم بالكويت‪ .‬ليس لها‬ ‫أي نش��اط أو ارتباط س��يايس أو عقائدي‪،‬‬ ‫وال تتدخ��ل يف األمور السياس��ية ألي بلد‪.‬‬ ‫تعمل من أجل الحفاظ عىل هوية املدينة‬ ‫العربية و تعزيز مكانة الس��لطات املحلية‬ ‫العربية وتشجيع الالمركزية و رفع مستوى‬ ‫الخدمات واملرافق البلدية يف املدن العربية‬ ‫ورعاية التعاون وتب��ادل الخربات بينها‪ ،‬و‬ ‫اعتامد أس��لوب التخطيط الشامل لتوجيه‬ ‫نشاطات وخدمات املدينة عىل أساس من‬ ‫واقعه��ا االقتصادي واالجتامع��ي والثقايف‬ ‫والبيئ��ي‪ .‬كام تعمل ع�لى تحقيق التنمية‬ ‫املس��تدامة يف امل��دن العربي��ة‪ ،‬وتنمي��ة‬ ‫وتحدي��ث املؤسس��ات البلدي��ة واملحلية‬ ‫والعمل عىل تطوي��ر وتوحيد الترشيعات‬ ‫والنظم البلدي��ة يف العامل العريب‪ ،‬ومعاونة‬

‫بلدي��ات امل��دن األعض��اء ع�لى تحقيق‬ ‫مرشوعاته��ا اإلمنائي��ة عن طري��ق مدها‬ ‫بقروض ميرسة‪.‬‬ ‫ويف ش��هر م��اي امل��ايض (‪ )2012‬بحضور‬ ‫املغرب‪ ،‬نظمت هذه املؤسس��ة باالشرتاك‬ ‫م��ع برنامج األمم املتحدة للمس��توطنات‬ ‫البرشية‪ ،‬مؤمترا أك��دت تقاريره العلمية‪،‬‬ ‫أن ال��دول العربية متكن��ت حتى اآلن من‬ ‫تحقي��ق خطوات واضحة وملموس��ة نحو‬ ‫بلوغ األه��داف اإلمنائية لأللفي��ة الثالثة‪،‬‬ ‫والسيام يف مجايل التعليم والصحة‪.‬‬ ‫فف��ي كلمته أمام هذا املؤمت��ر أكد األمني‬ ‫الع��ام املس��اعد ملنظمة امل��دن العربية ‪،‬‬ ‫أن ه��ذه املنظمة أدركت منذ تأسيس��ها‬ ‫يف الكوي��ت يف م��ارس ‪ ،1967‬أن التنمية‬ ‫الحرضي��ة يف املدن العربي��ة هي املكون‬ ‫الرئيس إلس�تراتيجية التنمي��ة‪ ..‬وقد كان‬ ‫أحد أهدافه��ا تأمني ُصنّاع ق��رار ومهنيني‬ ‫يس��همون يف تطوير األداء البلدي باملدن‪،‬‬ ‫ويعملون عىل وضع الربامج وتطوير عملية‬


‫متابعات إعالمية‬ ‫التخطيط‪ ...‬وإطالق آليات تسهم يف دمج‬ ‫كل مكونات التنمية املس��تدامة‪ ...‬وتأمني‬ ‫وصول كل الخدمات األساس��ية للساكنني‪،‬‬ ‫وعدم إهامل أي منطقة حرضية‪.‬‬ ‫ك�ما أكدت كلم��ة األمني العام املس��اعد‬ ‫كذلك عىل أن توسع املدن العربية وتزايد‬ ‫املشكالت والتحديات التي تواجه قادتها‪،‬‬ ‫تف��رض عليه��ا البحث ع��ن رشكاء دوليني‬ ‫يعنون باملدن وس��اكنيها‪ ،‬وه��و ما جعل‬ ‫منظمة املدن العربية يف سنة ‪ ،2004‬تفتح‬ ‫مكتبا إقليميا لربنامج املستوطنات البرشية‬ ‫التابع لألمم املتحدة (‪)UN-HABITAT‬‬ ‫يهتم باملدن العربية ويساعدها يف العملية‬ ‫الحرضية واحتياجاتها الرئيسية وتحدياتها‪،‬‬ ‫مع األخذ باالعتبار الخصوصيات املشرتكة‬ ‫ملدننا‪ ،‬بحيث تكون املدن والبلدات قادرة‬ ‫عىل التكيف مع املبادئ األساسية املالمئة‬ ‫للتجديد والتنمية املس��تدامة واالبتكار‪...‬‬ ‫ووض��ع اس�تراتيجيات تخطي��ط عمرانية‬ ‫وحرضية مالمئة للمنطقة‪.‬‬ ‫وأش��ار األم�ين الع��ام املس��اعد يف نفس‬ ‫الكلم��ة‪ ،‬إىل أن منظم��ة امل��دن العربية‬ ‫أس��همت يف إعداد تقرير عن حالة املدن‬ ‫العربية مع املكت��ب اإلقليمي للهابيتات‪،‬‬ ‫وتعترب عملية إصدار التقرير بشكل دوري‬ ‫أحد مكونات االتفاقية املوقعة بني برنامج‬ ‫األمم املتح��دة وحكومة دول��ة الكويت‪،‬‬ ‫والتعاض��د والتع��اون مع منظم��ة املدن‬

‫مدينة الرباط ‬

‫زهور‬

‫العربية‪ .‬ثم اختتم كلمته قائ ًال‪ :‬إن إطالق‬ ‫هذا التقرير يف هذا املؤمتر يش��كل إضافة‬ ‫جدي��دة من ش��أنها أن تع��زز الرشاكات‬ ‫املحلية واإلقليمي��ة والدولية الفاعلة نحو‬ ‫اعتامد اسرتاتيجية متعددة للمستوطنات‬ ‫واملشاريع الحرضية‪.‬‬ ‫ص��در ع��ن ه��ذا املؤمت��ر‪ ،‬العدي��د من‬ ‫التوصيات‪ ،‬أكد فيها املشاركون عىل رضورة‬ ‫اعتامد املنظور الطويل األمد للحفاظ عىل‬ ‫املايض‪ ،‬وإعادة رس��م الحارض‪ ،‬والتخطيط‬ ‫للمس��تقبل ضمن إطار اإلب��داع واالبتكار‬ ‫لتحقي��ق التنمية يف املنطق��ة العربية مع‬ ‫رضورة مواجهة املدن العربية لوضع نهج‬ ‫اس�تراتيجي يف مج��ال التخطيط الحرضي‬ ‫واإلقليم��ي للرتويج لنفس��ها م��ن خالل‬ ‫أصوله��ا التاريخية والثقافي��ة والطبيعية‬ ‫املتميزة‪ .‬كام حذروا م��ن زيادة معدالت‬ ‫الكثافة الس��كانية الش��ابة‪ ،‬مش�يرين إىل‬ ‫زي��ادة مع��دالت البطال��ة يف منطقت��ي‬ ‫املرشق واملغرب العريب عىل السواء‪ ،‬داعني‬ ‫إىل رضورة اتخ��اذ التداب�ير الوقائي��ة إزاء‬ ‫التأثريات املتوقعة لتغري املناخ‪.‬‬ ‫من جهة أخرى‪ ،‬خص املش��اركون البلدان‬ ‫الت��ي تتمت��ع مب��وارد الطاقة الشمس��ية‬ ‫بالدعوة إلعداد دراس��ات متعمقة ضمن‬ ‫الخطط الوطنية واإلقليمية يف هذا املجال‪،‬‬ ‫مشددين عىل أهمية تفعيل الرشاكات بني‬ ‫املدن والحكومات واملؤسس��ات اإلقليمية‬

‫مدينة مراكش ‬

‫العدد الثالث ‪ -‬السنة األولى ‪ -‬يوليوز ‪2012‬‬

‫والدولية للتصدي للتحديات الحرضية‪ ،‬مع‬ ‫دعوة وزراء البلديات العرب لتعزيز الحوار‬ ‫يف م��ا بينهم وتبادل الخ�برات بني دولهم‬ ‫يف مج��ال املناط��ق الحرضي��ة‪ ،‬من خالل‬ ‫منتدى وزاري حرضي إقليمي واس��تضافة‬ ‫الدورة الثانية للمؤمتر والعمل عىل صياغة‬ ‫السياسات الحرضية عىل املستوى الوطني‬ ‫وإنش��اء أط��ر العم��ل الخاص��ة بالتنمية‬ ‫العمراني��ة واعتامد منهجي��ات جديدة يف‬ ‫مجال التخطيط االسرتاتيجي عىل املستوى‬ ‫اإلقليم��ي‪ ،‬مع رضورة إرشاك الش��باب يف‬ ‫التنمية الوطنية وتبادل الخربات وإنش��اء‬ ‫املراصد الحرضية‪.‬‬ ‫وحث املش��اركون وزراء البلديات العرب‬ ‫ع�لى تقدي��م الدع��م ألنش��طة برنام��ج‬ ‫األم��م املتح��دة للمس��توطنات البرشية‪،‬‬ ‫ودعوة الربنامج لتنفيذ عمليات التش��اور‬ ‫الواسعة النطاق بشأن اسرتاتيجية الرشاكة‬ ‫اإلقليمية وتش��جيعه ع�لى تنظيم اجتامع‬ ‫لوضع اسرتاتيجية الرشاكة اإلقليمية قبيل‬ ‫انعقاد املنتدى الحرضي العاملي يف مدينة‬ ‫نابويل اإليطالية خالل الفرتة ‪ 7 - 1‬سبتمرب‬ ‫‪.2012‬‬ ‫املدن املغربي��ة ذات العضوية يف املكتب‬ ‫الدائم ملنظمة املدن العربية ‪:‬‬ ‫الرباط (تاريخ االنضامم ‪)15/03/1967‬‬ ‫مراكش (تاريخ االنضامم ‪)02/05/1972‬‬ ‫العيون (تاريخ االنضامم ‪)15/05/1977‬‬

‫مدينة العيون‬

‫‪49‬‬


‫‪50‬‬

‫زهور‬

‫متابعات إعالمية‬

‫العدد الثالث ‪ -‬السنة األولى ‪ -‬يوليوز ‪2012‬‬

‫‪FOR A BETTER URBAN FUTURE‬‬

‫برنامج األمم المتحدة‬ ‫للمستوطنات البشرية‪:‬‬ ‫موئل األمم المتحدة‬ ‫‪ - 1‬التأسيس‬ ‫تم تأس��يس املوئل سنة ‪ 1978‬إثر اجتامع «فانكوفر» كندا‪ ،‬الذي‬ ‫عرف ب «موئل ‪ »1‬أو ‪ Habitat-I‬وقد كان التمدن وانعكاساته‬ ‫أق��ل حضورا عىل جدول أعامل األمم املتحدة التي تم إنش��اؤها‬ ‫أكرث من ثالثة عقود قبل ذلك؛ وكان ثلثي اإلنسانية ال يزال يعيش‬ ‫يف املناطق الريفية‪.‬‬ ‫وما ب�ين عامي ‪ 1978‬و ‪ ،1997‬وبدعم ضئي��ل وعمل غري مركز‪،‬‬ ‫حاول املوئل ‪ -‬تقريبا لوحده من بني املنظامت املتعددة األطراف‬ ‫– التخفيف من املشاكل الناجمة عن النمو الحرضي الهائل الذي‬ ‫عرفه العامل خالل هذه الفرتة‪ ،‬الس��يام يف مدن الدول الس��ائرة يف‬ ‫طريق النمو‪.‬‬ ‫إال أنه‪ ،‬من س��نة ‪ 1997‬إىل غاي��ة ‪ ،2002‬وهي الفرتة التي أصبح‬ ‫فيها نصف سكان العامل يعيش يف املناطق الحرضية‪ ،‬فقد استطاع‬ ‫موئل األمم املتحدة الرفع من كثافة ووترية نش��اطاته‪ ،‬مستخدما‬ ‫خربت��ه يف تحديد األولوي��ات الت��ي أضحت تتجدد باس��تمرار‪،‬‬ ‫ومعتمدا عىل “إعالن األلفية الجديدة» و «برنامج األمم املتحدة‬ ‫لإلسكان»‪.‬‬

‫لإلسكان” و”اإلعالن بش��أن املدن واملستوطنات البرشية األخرى‬ ‫خالل األلفية الجديدة” و “القرار رقم ‪.”56/206‬‬ ‫كام تعتمد ميزانية املنظمة عىل أربعة مصادر و هي‪:‬‬ ‫الغالبية العظمى من املوارد هي عبارة عن تربعات من الرشكاء؛‬ ‫مصادر التعاون التقني؛‬ ‫مساهامت الحكومات و السلطات املحلية واملؤسسات؛‬ ‫ثم ‪ %5‬من امليزانية العادية لألمم املتحدة‪.‬‬

‫‪ – 3‬المكاتب اإلقليمية للمنظمة‬

‫ملوئل األمم املتحدة ثالثة مكاتب جهوية رئيسية و هي‪:‬‬ ‫ املكت��ب اإلقليمي إلفريقيا و ال��دول العربية و مقره يف نريويب‪،‬‬‫كينيا؛‬ ‫ املكت��ب اإلقليمي آلس��يا و املحيط الهادئ و مق��ره يف فوكوكا‬‫اليابانية؛‬ ‫ املكت��ب اإلقليمي ألمريكا الالتينية و منطقة الكاريبي‪ ،‬و مقره‬‫يف مدينة ريودي جانريو الربازيلية‪.‬‬ ‫زي��ادة عىل املكاتب اإلقليمية‪ ،‬يتوفر املوئل عىل مكاتب لالتصال‬ ‫‪ – 2‬المهمة‬ ‫برنام��ج األم��م املتح��دة للمس��توطنات البرشية؛ موئ��ل األمم و املعلومات و هي كام ييل‪:‬‬ ‫املتح��دة‪ ”UN-HABITAT”،‬هي وكالة تابع��ة لألمم املتحدة‪،‬‬ ‫مهمته��ا هي تعزيز التط��ور االجتامعي والبيئي للمس��توطنات مكتب شيناي – الهند؛‬ ‫البرشية من خالل برامج مندمجة للتنمية املس��تدامة مع توفري مكتب القاهرة – مرص؛‬ ‫املأوى املالئم للجميع‪.‬‬ ‫مكتب جنيف – سويرسا؛‬ ‫وتح��ددت أهداف ومهم��ة املنظمة بناء عىل «إع�لان فانكوفر مكتب بروكسيل – بلجيكا؛‬ ‫للمس��توطنات” و “ إعالن إس��طانبول” و”برنامج األمم املتحدة‬ ‫مكتب بكني – الصني‪.‬‬


‫منبر المجتمع المدني‬

‫زهور‬

‫العدد الثالث ‪ -‬السنة األولى ‪ -‬يوليوز ‪2012‬‬

‫الجمعية‪ ،‬ماذا يعني هذا المصطلح؟‬ ‫احللقة الأوىل‬ ‫عرف املجتمع امل��دين املغريب خالل العقدين‬ ‫األخريي��ن منوا كب�يرا وتطورا رسيع��ا‪ ،‬حيث‬ ‫انترشت الجمعيات واملؤسسات املدنية بكل‬ ‫مناطق اململكة؛ مدنها وقراها‪ ،‬كام برز جيل‬ ‫جديد منها بره��ن بقوة عىل قدرته‪ ،‬وخربته‪،‬‬ ‫يف املس��اهمة بش��كل فعال وملم��وس‪ ،‬من‬ ‫أجل تثبيت دعائم الدميقراطية ببالدنا‪ ،‬ونرش‬ ‫ثقافة حقوق اإلنسان والدفاع عليها‪ ،‬وترسيخ‬ ‫مفه��وم التضامن وتفعيله‪ ،‬و خلق مش��اريع‬ ‫تنموية هامة ومتعددة …‬ ‫وتعترب الجمعية أداة للتعبري الجامعي‪ ،‬وذلك‬ ‫عرب تأسيس��ها لعالقة خاص��ة فيام بني األفراد‬ ‫املكونني له��ا أوال ثم بني ه��ؤالء كمجموعة‬ ‫واملجتمع يف شكل جديد يختلف عن األسس‬ ‫الت��ي كان يقوم عليها م��ن قبل‪ ،‬مبعنى آخر‪:‬‬ ‫تؤس��س الجمعي��ة قاع��دة جدي��دة للعبة‬ ‫اجتامعية تطبعها الليونة والتس��امح‪ ،‬وقادرة‬ ‫عىل زرع حيوية ودينامية يف نسيج اجتامعي‬ ‫صل��ب وهالمي‪ ،‬وم��ن تم تعدي��ل جوهرة‬ ‫العالقة التي تربط الدولة باملجتمع (‪.)1‬‬ ‫وإذا كان��ت هناك جمعي��ات ال يتعدى عدد‬ ‫أعضائها بضعة أفراد‪ ،‬تعمل بطريقة موسمية‬ ‫ومرتجلة‪ ،‬ومنها من ال يقوم إال بنشاط واحد‬ ‫فقط‪ ،‬ليخلد بعدها إىل الراحة األبدية‪ ،‬حيث‬ ‫ال يذك��ر وجوده االفرتايض إال من خالل ملفه‬ ‫املتواجد يف أرش��يف السلطات املحلية‪ ،‬الذي‬ ‫إن احتف��ظ به فألس��باب أمني��ة‪ ،‬أو محاباة‬ ‫لصاح��ب نعم��ة ال غري‪ ،‬فإن هن��اك باملقابل‬ ‫جمعيات أبانت مؤخرا عن إملام كبري مبجاالت‬ ‫الهندسة االجتامعية‪ ،‬والتنظيم املحكم‪ ،‬وفن‬ ‫إدارة املش��اريع‪ ،‬وعقلنة التدخالت‪ ،‬والتدبري‬ ‫م��ن خ�لال املقارب��ة التش��اركية الحقيقية‪،‬‬

‫والتتبع والتقييم‪ ،‬وغريها من املهارات التي ال‬ ‫ميكن ملؤسس��ات املجتمع املدين أن تستغني‬ ‫عنها يف الوقت الراهن‪.‬‬ ‫م��ن جهة أخرى‪ ،‬وإذا كان يف الس��ابق مجال‬ ‫الجمعيات ينحرص أساسا فيام هو اجتامعي‪،‬‬ ‫وريايض‪ ،‬وثقايف‪ ،‬وهي أنش��طة كانت تحقق‬ ‫بال��كاد بعض األهداف املعنوي��ة واألخالقية‬ ‫ألعضائها‪ ،‬فإن التحوالت التي عرفها املجتمع‬ ‫املغ��ريب مؤخ��را‪ ،‬جعلت م��ن االعتامد عىل‬ ‫املجتم��ع املدين مطلبا ال غن��ى عنه من أجل‬ ‫دع��م األنش��طة االجتامعي��ة‪ ،‬واالقتصادية‪،‬‬ ‫والصحي��ة‪ ،‬والبيئي��ة‪ ،‬والحقوقي��ة ‪ ...‬بل إن‬ ‫ه��ذه املؤسسس��ات أضح��ت أداة ال محيد‬ ‫عنه��ا لتعزيز مختل��ف السياس��ات الوطنية‬ ‫الرامي��ة إىل مواجهة الفقر والتهميش‪ ،‬والحد‬ ‫من اس��تفحال ظاهرة البطال��ة‪ ،‬باإلضافة إىل‬ ‫الحفاظ عىل البيئة‪ ،‬وإدماج املرأة يف التنمية‪،‬‬ ‫وتنمية العامل القروي‪...‬الخ‪.‬‬ ‫وكنتيج��ة طبيعي��ة للتط��ور الحاصل اآلن يف‬ ‫بالدنا‪ ،‬ف��إن الوض��ع الراهن يس��تدعي من‬ ‫الدولة بلورة سياسة شاملة ومندمجة تسعى‬ ‫إىل دعم وتش��جيع بروز مجتمع مدين جديد‬ ‫ورائد ومستقل ومس��ؤول‪ ،‬ومهيكل ومنظم‪،‬‬ ‫يشارك بكامل الفعالية يف التنمية االجتامعية‬ ‫واالقتصادي��ة والثقافية‪ .‬ألن��ه ورغم ضعف‬ ‫التأطري و قلة اإلمكانيات‪ ،‬وس��يادة األسلوب‬ ‫االرتجايل يف التدبري‪ ،‬ف��إن جمعيات املجتمع‬ ‫املدين س��اهمت‪ ،‬بطريق��ة أو بأخرى إىل حد‬ ‫اآلن‪ ،‬يف تدعي��م الدميقراطي��ة‪ ،‬والدف��اع عن‬ ‫حقوق اإلنس��ان‪ ،‬وإرشاك الس��كان يف تدبري‬ ‫ش��ؤونهم‪ ،‬وتوف�ير فض��اءات لرتس��يخ قيم‬ ‫التضامن‪ ،‬ومس��اعدة الفئات املعوزة‪ ،‬إضافة‬

‫إىل ذلك فقد صارت الجمعيات بحكم عالقات‬ ‫القرب التي تربطها بالس��كان املحليني‪ ،‬هي‬ ‫أفض��ل مخاطب لهم وأحس��ن إط��ار لتلبية‬ ‫حاجياته��م والرف��ع من نجاع��ة مجهودات‬ ‫الدولة يف تنزيل الربامج التي تهمهم(‪.)2‬‬ ‫وق��د أدى ه��ذا الواقع الجدي��د و املتجدد‪،‬‬ ‫لهيئات ومؤسس��ات املجتمع امل��دين ببالدنا‪،‬‬ ‫واملتمي��ز بكم��ه الواس��ع وكيف��ه املتن��وع‬ ‫ومشاكله ومعوقاته املتعددة‪ ،‬إىل بروز جدل‬ ‫واسع حوله‪ ،‬س��واء داخل األوساط الرسمية‪،‬‬ ‫أو عىل مس��توى األحزاب السياس��ية‪ ،‬وحتى‬ ‫داخل دوائ��ر املجتمع املدين نفس��ه‪ ،‬يطرح‬ ‫عدة أس��ئلة أهمه��ا‪ :‬كيف ميكن مس��اعدة‬ ‫ه��ذا القطاع الحيوي و الهام عىل أن يتهيكل‬ ‫بطريقة أفضل‪ ،‬ويتنظم عىل مستوى أحسن‪،‬‬ ‫ليصبح قادرا عىل املنافس��ة والخلق واإلنتاج‬ ‫واإلبداع ‪..‬؟‬ ‫للمس��اهمة يف اإلجاب��ة ع�لى هذا الس��ؤال‬ ‫العريض‪ ،‬وإميانا منا ب��دور اإلعالم والتواصل‬ ‫و رضورة تبس��يط املس��اطر وتقريبه��ا م��ن‬ ‫املواطنني‪ ،‬ستس��عى مجلة زه��ور من خالل‬ ‫هذا املن�بر‪ ،‬بحول الله و قوت��ه‪ ،‬عىل تقديم‬ ‫حلق��ات ته��م بالخصوص رشح و تبس��يط‪:‬‬ ‫اإلطار القانوين للجمعيات‪ ،‬التدبري واملحاسبة‪،‬‬ ‫انتقاء املشاريع وهندس��تها‪ ،‬التواصل وتدبري‬ ‫الخالف��ات‪ ،‬خل��ق الرشاكات ‪ ..‬كام س��تعمل‬ ‫كذل��ك ع�لى ع��رض آرائك��م واقرتاحاتك��م‬ ‫وانتقاداتكم‪.‬‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫(‪ :)1‬الظاهرة الجمعوية باملغرب – د‪ .‬عبد العزيز مياج‬ ‫(‪ :)2‬دلي��ل الجمعوي‪ -‬وزارة التنمية االجتامعية واألرسة والتضامن‬ ‫باملغرب ‪2006 -‬‬

‫‪51‬‬


‫‪52‬‬

‫زهور‬

‫العدد الثالث ‪ -‬السنة األولى ‪ -‬يوليوز ‪2012‬‬

‫وبعد‪..‬‬

‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ني ِب�ٱ ْل ِق ْ�س ِط‬ ‫ام‬ ‫و‬ ‫ق‬ ‫ا‬ ‫ُو‬ ‫ن‬ ‫و‬ ‫ك‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬

‫األستاذ صالح زارة‬ ‫خطيب امجلعة مبجسد بدر بالرباط‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.