أنمار رحمة اهلل
واسألهم عن القرية...
قصص
ّ أنمار رحمة اهلل
واسألهم عن القرية...
ﻟﻠﻨﺸﺮ ﻭ ﺍﻟﺘﻮﺯﻳﻊ
ﻟﻠﻨﺸﺮ ﻭ ﺍﻟﺘﻮﺯﻳﻊ
واسألهم عن القرية... أنمار رحمة اهلل
Ask them about the village Anmar Rahmallah الطبعة األولى2016 :
إصدار دار سطور للنشر والتوزيع بغداد ـ شارع المتنبي ـ مدخل جديد حسن باشا هاتف 07711002790 :ـ 07700492576ـ email: bal_alame@yahoo. com جميع حقوق الطبع والنسخ والترجمة محفوظة للدار والمؤلف أنمار رحمة ال ّله ،حسب قوانين الملكية الفكرية للعام ،1988وال يجوز نسخ أو طبع أو اجتزاء أو إعادة نشر أية معلومات أو صور من هذا الكتاب إال بإذن خطي من الطرفين. First Published by Dar Sutour For Publishing and Distribution Jadeed Hasan Basha Entryـ Al Mutnabi streetـ Iraqـ Baghdad Revised copyright © Dar Sotour And Anmar rahmallah، The right of the Author of this work has been asserted in accordance with the Copyright, Designs and Patents Act 1988.
تعبر بالضرورة عن تعبر عن رأي كاتبها ،أو محررها ،أو الجهة الصادرة عنها ،وال ّ هام :إن جميع اآلراء الواردة في هذا الكتاب ّ رأي الناشر الترقيم الدوليISBN: 978-1-988295-21-3 :
توصيف بقلم األديب األستاذ خضير): (محمد ّ وصحبت شخصياتها ،هي وأبحرت في عالمها القصص التي قرأتُها ُ ُ من دون ريب ،مكتملة في بنائها وشائقة بأخيلتها .هي مكتوبة لتخاطب مستوى قرائي ًا معين ًا يتقبل أخيلتها المنسوبة إلى نوع من السرد العجائبي، يمكن تسميته هنا بـ (سرد القرية) .قد يبدو هذا النوع غريب ًا على عصر ٍ مكتف بعالمه البعيد، الثيمات الواقعية الجديدة ،والتقنيات الحديثة ،لكنه المنتمي إلى عصر البراءة والبساطة والنقاء .وقد يشعر قسم من القراء بحاجة إلى السفر نحو هذا العالم المنطوي بصحبة أشخاص مبعوثين من وراء حجاب الزمن الحاضر ،يذكّ رونه بأصول فكرية وسلوكيات قديمة ال يشعر بها حالي ًا وسط صخب الحياة وعنفوان العمل اليومي الشاق تقدم قصص المجموعة دروس ًا في الحكمة ومهوالت األوضاع .لذا فقد ّ والموعظة ،وقد تقترب مبانيها ومحكياتها من قصص الرؤيا التي اشتهرت في أوائل القرن العشرين على يد قصاصين عراقيين أبرزهم عطا أمين. إن لمسات حداثية مفتعلة ،وشخصيات إشكالية ،تدخل عالم هذه القصص ،ستفسد نقاءه وبساطته وتشوش رؤياه ،وما يعيه القاص هنا يتناسب وهذا المستوى (األولي) أو (البدئي) من التخييل السردي، 5
يتمسك بأهدابه وحوافه وبنائه كي يفي بقواعد هذا النوع الغرائبي وال يتعداه متطلع ًا إلى ما بعده من تقنيات ورؤى .وليس هناك من اعتراض قوي على هذا االبتداء والبناء ،ألنهما أسلم وأوفى لصدق التجربة وحقيقة االنفعال القصصي البسيط .لكن الوقوف عند هذا المستوى لن يواجه تحديات متزايدة من قراء أصبحوا أكثر تطلب ًا وأقوى حث ًا على االنعطاف والتجريب السردي في أرقى مستوياته. وهذا التوقع يجعل القناعة والكفاية بحدود هذا النوع (الغرائبي) المتواري في غابات الزمن الماضي السعيد ،مصدر قلق لكاتب وناقد وقارئ يتعرضون على حد سواء لضغوط اللحظة السردية التي توصف أحيان ًا بالحداثة ،وأحيانا بما بعد الحداثة ،ما يجعل الطبع البسيط الذي أنتج هذه القصص غير مرغوب فيه إزاء التطبع المتحايل على النفس والشعور وفهم مطالبهما المتغيرة والمعقدة .وبالطبع فإن خيار سرد (القرية) رغم صدقه وتشويقه وكفايته يصبح مع المرور في غابات السرد الحديثة مهدد ًا بخطر النقض والتفكيك والمصادرة.
مع هذه الخطورة (الحداثية) وإلحاحها ،فليس هناك من ينكر حاجة بعض القراء بالعودة إلى األصول الممتعة لقصص الكائنات األثيرية، والغريبة عن عالم يزداد توحش ًا وتصلب ًا .ولنا في اشتهار قصص (ملك الخواتم) و(هاري بوتر) وقبلهما قصص (أجاثا كريستي وهيتشكوك وسيمنون) وعودة سحرها المؤثر في هذه األيام خير دليل على استمرار هذه الحاجة النوستاليجية والبدئية لعالم ما قبل المدينة ووسائل االنتاج الصناعي والتكنولوجي واالتزان العقالني. 6
تذكرنا قصص المجموعة (قصة حارس المكتبة مثال) بقصص الجان والساحرات والعالم الورائي التي قرأنا مثلها أيام الطفولة والصبا في سالسل خاصة بالفتيان ،وقد أصبحت الشقة بيننا وبينها بعيدة جدا ،وقد ال يفكر قارئ كبير في السن بالرجوع إليها ،كذلك بالنسبة لقارئ راشد اختلفت عنده مقاييس المغامرة ومستويات التخييل ومثالها حكايات (ألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة والمقامات) ،ناهيك عما تقدمه نظريات السرد الحديثة من مداخل لهذا العالم البعيد عن عالمنا الملغز بأكثر من مقترب علمي وخيالي .وما زال أدبنا القصصي العربي عموم ًا قاصر ًا عن اجتياز هذا الحاجز (الخيال العلمي) باقتراحات ممكنة ومعقولة. قد تستثنى قصة (الهتر) من هذه المقاييس (الراشدة) لتواطؤها مع ثيمة إشكالية معاصرة ،إال أنها سرعان ما تلتحق بالقصص التي سبقتها الى النفاذ خلف الحاجز األثيري وتنتهي مثلها نهاية سحرية.
أحسب انفراد قصص القسم الثاني من المجموعة بمقاييس خاصة، اشتركت مع القسم األول يبرره قصر النصوص وتركيز ثيماتها ،وإنْ ْ في الغرابة واالنتحاء عن عالم معقول وملموس الحدود والمستويات. فقصة (األضراس) مثال تنتمي إلى عالم القسم األول برغم تجاوزها المستوى البسيط والقروي. وتكاد قصة (التضاؤل) تؤكد صلتها بالقسم األول بقوة الموضوع الغرائبي ،لكنها تنفصل عنه بارتفاع التقنية وزاوية النظر ،حيث يبدو التكافؤ المختل بين الزوجين أقرب إلى طريقة (كافكا) الرؤيوية الحادة في تسليط النظرة وتضخيم الشعور وانفراد الحالة الفكرية واالجتماعية. 7
حتى إذا تقدمنا مع القصة الثالثة (الصبار) صار واضح ًا أن قصص القسم الثاني تتجه لكي تؤلف نوع ًا سردي ًا رؤيوي ًا مستق ً ال بموضوعاته وزوايا نظره المركزة والصافية .بل أن العثور على مفاتيح مالئمة لأللغاز الغرائبية يجعل عملية القراءة أكثر إمتاع ًا ومقبولية.
وال أحسب القاص أنمار مقتنع ًا بأن قصصه المكثفة هذه تنتمي إلى النوع الشائع في سردنا (القصة القصيرة جد ًا) .فهي تطمح إلى أن تؤلف (حاالت) قصصية متميزة مكتفية بنوعها وموضوعها تنتسب إلى النوع السردي القصير األساسي ،من دون نقصان أو زيادة. وعلى هذا األساس فإن قصص القسم الثاني تمتاز بحدثها المدهش والجديد ،ما يقربها من أجود المجموعات القصصية العربية والعالمية (مجموعة ساروت :انفعاالت ،مثال) لما أدركته من حافات المخيلة البيضاء والسوداء بالتناوب والجدل الخيالي الخصب بالبراهين والنهايات الذكية والمؤثرة .فإذا ما أطلقنا عليها (قصص الحافة البيضاء أو السوداء للمخيلة) تمييزا لها عن نماذج قصص (االنفعاالت الداخلية والتحليلية) فلسنا على قدر من المبالغة في تسويق نوع قصصي محلي جديد.
وهذا االستنتاج يستثني القصص المختصرة (جدا) المعنونة (رحيل، نهاية ،ذاكرة ،تبادل) من هذا التخصيص والتمييز ،فهي أقرب إلى القصص الشذرية الحكمية ،في الحكاية العربية التقليدية (وخاصة االثنتين األخيرتين) ،ما يخرجها من حافة التخييل الحر إلى موضة التنصيص المختزل الشائع ،من دون مسوغ فني او نوعي .لكنها من ناحية أخرى ُحسب براهين قصيرة مضادة للنوع المفرط في الغرابة والتطويل في قد ت َ 8
قصص القسم األول .كما أنها إثبات لحالة (التضاؤل) الذي قد يصيب القصة في آخر المطاف ،حين يفكر القاص بجوهر القصة وتخليصه من الزوائد والنظرات الزائغة بحس نقدي مفرط .ومهما كان تسويغ القاص لها ،فهي برهان مركز ال يسوغ إال نوعه (الشذري الحكيم) وحده ،لكنه ال يقدر على إعمام البرهان على أنواع جديدة من السرد المتجوهر بقدرته على فتح النص القصصي على أكثر من خيال (في النوع والطول خاصة). يمكننا أن نفرد مكانة خاصة لنص (في مديتنا) ذي المقاطع الثالثة، فهو ال ينساق وراء رغبة االنعكاس واالرتداد على نصوص القسم األول والبرهان على صحتها أو شططها عن النوع األساسي للقصة القصيرة، بل يلتحق بأفضل ما حققه القسم الثاني من نصوص متميزة.
محمد خضير في 14/2/2016
9
10
((القسم األول))
11
12
الرسام ّ ِ أغصان األشجار تشي بحلول السماء متخمة بالغيوم ،وحركة كانت ُ عاصفة وشيكة .النوافذ محكمة الغلق واألبواب ك َّف ْت عن الثرثرة .في تلك الساعة ،وقف (الرسام) عند باب (قرية الجمال) والفضول يعانق روحه .ألقى حقيبته ورفع يديه ووجهه نحو السماء ليعيش لحظة راقت له ،مع نثيث المطر الذي تحول إلى زخات محتدمة( .أخير ًا وصلت)!... هتف الرسام ضاحكا مستبشر ًا بالقرية التي ذاع صيتها ،وعال شأنها صيت جماله لجمال أهلها وزينتهم .حتى قيل أن النبي (يوسف) تضاءل ُ أميزها تلك المقبرة وحسنه مقارن ًة بجمالهم .ثم أن أشياء لفتت انتباههْ ، الكبيرة على جانب الطريق عند مدخل القرية ،ودروب السوق الفارغة من الناس والدكاكين المقفلة ،كأن ّ السكان انتقلوا إلى المقبرة تلك دفعة واحدة .انطلق حام ً ال حقيبته صوب عنوان يبتغيه ،من المتفق أن يمكث يصور فيها جمال أهل القرية وبهاءهم( .ما فيه فترة رسمه لِلوحات، ّ يتخيل عدد اللوحات التي سيرسمها، أروعها من مغامرة )!...تمتم وهو ّ المثمنون قيم َتها ورونقها ،حيث سكنت فيها وكيف س ُتعرض ويشتريها ّ وجوه بشر تناظر المالئكة. زئير العاصفة ،قفز الرسام من فراشه في اليوم التالي وبعد أن خفت ُ 13
وهب وعدة إبداعه ورزقه .ألقى في جوفه لقمتين مرتب ًا حاجياته وأدواته ّ َّ خارج الغرفة الصغيرة في منزل كبير إليواء النزالء والمسافرين .صاحبة المنزل امرأة عجوز ،لكنها رائعة الجمال .اشتهى أن تكون أول لوحة له فلكز رغبته موبخ ًا ،مؤج ً ال الفكرة إلى وقت آخر بعد استكشاف القرية بالكامل .فمن المحتمل أن يعثر على وجوه أكثر جما ً ال .نظرت المرأة
صاحبة المنزل إلى وجه الرسام طوي ً ال قبل أن تستلم مفاتيح الغرفة منه، مما جعل الرسام يبتسم متسائ ً ال(نعم سيدتي ..؟ هل هناك خطب ما؟!).
أشارت إلى وجهه قائلة (أنك قبيح ...مخيف!!) .ضحك الرسام ضحكة جاهزة فيها من التصنع الكثير ،وأخفى في قلبه حسرة كبيرة ،فوجهه لم يكن بالفعل جمي ً ال ،بل كان ذا سمرة داكنة ،وعينين كعيني غوريال، ومنخرين واسعين ،وشعر مجعد وجبهة مليئة بالبثور.
خرج من المنزل متمه ً ال ،حافظ ًا لتفاصيل الطرقات والبنايات
وخريطة الذهاب واإلياب ،تعصف في أذنه جملة العجوز صاحبة
المنزل (إنك قبيح .)...طرد الحزن من قلبه ،وشتت كل شيء سيشغله عن مهمته الرئيسة .هام على وجهه سائح ًا بين الوجوه الجميلة الباهرة
يتبضع استماله بقوة لكن وجه ًا آخر المرأة د ّقق النظر في وجه رجل ّ
شده أكثر .التفت صوب اليمين ،رجالن تبيع األرغفة على األرض ّ يمشيان أذهاله بجمالهما ،وارجع البصر صوب الشمال حيث وقفت يس ُل ُب جما ُلها العقل .يمين ،شمال ،يمين ،شمال .عيناه تعبتا من سيدة ْ والب َهار ما لو ُق ِس َم على أهل المطالعة ،والقرية أه ُلها حملوا من البهاء َ كمذنَّب يجهل موعد تحير الرسام كثير ًا وهو يجول ُ الدنيا لكفاهمَّ . ومكان االرتطام( .أيهم أرسم...؟ وأيهم اترك...؟) سأل نفسه في حيرة 14
شديدة ،وفي الوقت الذي كان يفكر فيه ،كان أهل القرية يمرون عليه المستهجن لديهم .مرت أيام مرتابين ،خائفين ،مذعورين من شكله ُ والرسام قابع في غرفته َّ كل ليلة متحير في االختيار .يخرج كل صباح ٌ نظيفة لم تكحلها ريشته، لوحات ويرجع إلى منزله خاوي اليدين ،تنتظره ٌ ولم تقب ّلها ألوانه .إيمانه بطول مكوثه في القرية ،جعله يتأقلم مع ُسبل العيش هناك ،خصوص ًا حرصه على مصروفه اليومي ،وكتم غيظه على تصرفات أهل القرية .ففي كل مرة يعود بها إلى المنزل ،يكتشف أن بائع ًا قد غشه في المعيار والجودة ،ثم يتحول إلى بائع آخر ،فيكتشف الشيء ذاته .حتى تبين له أن أهل القرية جميعهم عاشوا ويعيشون على المخاتلة في معاييرهم( .وجوههم مالئكية وموازينهم مريبة) جملة تح ّلق في فضاء عقل الرسام في ِّ ُ الرغبة على كل ساعة ،حين عاشر القوم ،وأجبرته مسايرتهم بما يشتهون ،تسليم ًا منه حتى إنهاء مهمته التي جاء من أجلها. كان يشكو دائم ًا للمرأة العجوز الغش في القرية ،ويسألها فتجيب (هذا ما تعودنا عليه ...أنه شيء طبيعي). ثم تمر األيام تباع ًا والرسام عاطل عن العمل ،إذ قاطعه أهل القرية، ورفضوا أن يكونوا مادة فنية له .كانوا يخاطبونه في كل مرة يريد رسم تقيمنا احدهم (كيف تريد رسم وجوهنا الساحرة وأنت مسخ دميم؟ هل ّ ريشتك أيها القبيح؟!) ..فقرر أن يرجع إلى غرفته ليعيد حساباته من جديد .وأن يخرج ساتر ًا وجهه بلثام في المرة المقبلة ،مخاطب ًا نفسه (هذا أفضل ...حتى ال تُقذف القشعريرة واالشمئزاز في قلوب أهل القرية، فيجفلون مني). يمر الليل ثقي ً ال ،كسحاب تدفعه رياح كسولة .الوقت يلضم نفسه ُّ 15
بنفسه ليكون مشنقة ملتفة حول عنق الرسام ..لفت انتباهه قدوم البرق الهث ًا يتبعه الرعد ،فكانت فرصة جميلة للترويح عن نفسه ،فهو عاشق المطر وصديقه القديم .نزل إلى الشارع الذي بدا مهجور ًا .أضواء خافتة وشارع كئيب ومطر ينقر ،ينقر ،يحتدم ،يهطل دفعات دفعات. الرسام رفع يديه ورأسه صوب السماء وسار بال وجهة محددة ،تعزف في أذنه موسيقى المطر .شبابيك القرية المضيئة احتشدت خلفها أفواههم ،وتوسعت فتدورت ُ الرؤوس ،تطالع رقصة الرسام في المطرَّ ، أحداقهم متعجبين ،يطالعون للمرة األولى جسم ًا يتمايل نشوان ،بهذا الهطول الالثم جبين األرض .توقف المطر ،فانتبه الرسام إلى نفسه وقد تبلل بالكامل ،عاد مهرو ً ال إلى منزله ،ففاجأته العجوز صاحبة المنزل مستغربة من خروجه في هذه الساعة وهذا الموقف .دلف إلى المنزل ينكث رأسه من البلل ،فسألته العجوز في ريبة( :أال تخاف من مبتسم ًا ُ المطر..؟) ،أجابها مبتهج ًا( :األطفال يعشقون المطر) .لم تقل له شيئ ًا، رجعت إلى غرفتها لكن الرسام أوقفها مستفسر ًا هذه المرة( :سيدتي وهزت رأسها مستفسرة عن سؤاله أرجوك لدي سؤال!) .صدعت لطلبه ّ حين قال( :لم أر في القرية أطفا ً ال منذ حضوري وإلى هذه اللحظة؟). تنهدت ثم أشارت بسبابتها صوب مدخل القرية متسائلة( :هل رأيت ّ القبور التي تمأل المكان هناك؟) .أشار برأسه عارف ًا مكان القبور وشكلها وكثرتها ،فأجابته( :إنها قبور أطفالنا ،نحن لم نرب طف ً ال منذ سنواتُّ ، كل طفل نُرزق به يخرج من بطن أمه ميت ًا ،ثم ُيدفن في المقبرة .لم يعد الناس هنا يفكرون في األطفال سيدي) أدارت العجوز ظهرها ودخلت غرفتها، تاركة الرسام فاغر ًا فاه ،وقد ج ّفت مالبسه على بدنه المقشعر. 16
الرسام متلثم ًا ،خافي ًا وجهه ،محاو ً ال في صباح اليوم التالي ،خرج ّ اقتناص فرصة ثمينة إلقناع أحدهم ورسمه .تفجر صوت مرعب في سمعه آمر ًا( :قف) .أوقف الرسام خطواته والتفت خلفه ليرى موكب وعرافها األوحد .أنزل حقيبته وطالع من فتحة لثامه الموكب شيخ القرية ّ العراف وحاشيته وجنده .خاطبه شيخ القرية بحنق: الذي اعتلى عرشه ّ حرمت اللثام (من أنت؟ ولماذا تضع اللثام في قريتنا؟ .أال تعلم أنني ّ على ّ العراف أجمل وجه في القرية، سكان القرية!) .لقد كان وجه ّ يسلب األرواح ويبهر العقول أللقه ونوره وروعته ،حيث ُص ِد َم الرسام به وتعجب الئم ًا نفسه ،متمني ًا أن يفوز بوجهه لوح ًة سحرية ال مثيل لها .أمر العر ُ حراس الموكب أرغموه اف َ الرسام بخلع لثامه فأبى مرعوب ًا .لكن ّ ّ وطرحوه أرض ًا خالعين نقابه ،فبان للجمع الغفير من الناس قبح شكله. العراف وحاشيته من المنظر وأمر بتكتيفه في الحال ،لم يتحرك فزع ّ العراف في الرسام بل استسلم كما تستسلم الشاة لسكين ذابحها .هتف ّ الناس( :قريتنا الجميلة وأهلها ال يرضون بهذا الجرم العظيم ،حين وطأ أرضنا رجل قبيح كهذا ،وجب علينا تطهير قريتنا منه وال يطهر جريرته إلاّ العراف راجي ًا متوس ً َ ال( :دعني أكمل الرسام أن ُينفى مطرود ًا) .خاطب ُ العراف مهمتي أرجوك ...وسأخرج من قريتكم ولن تروني ثانية)َّ .. هز ّ رأسه رافض ًا وأمر الحرس بمرافقته ولم اشياءه والمغادرة وشيك ًا .عاد يجر أحزانه وأوهامه الرسام إلى المنزل وجمع الوانه ولوحاته ،ثم خرج ُّ ولوحاته البيض النظيفة .على مهله يمشي يلحظ بحزن الجماهير الواقفة. أحزنته النهاية حين خرج مدحور ًا خاسر ًا وقد كان يرجو الفوز والجائزة. وأحزنه أن الوجوه الباهرة الجميلة قد صار بينهن وجهه القبيح نشاز ًا 17
وعاهة .وصل بالقرب من موكب شيخ القرية ،الذي صرخ بحزم صارم (أخرج من هنا أيها القبيح ..ال أريد رؤيتك مجدد ًا في قريتي). في تلك اللحظة ابتسم الرسام وشعر باالرتياح ،رافع ًا يديه ورأسه سر تلك الحركة !..لكن الشيء الذي تالها نحو السماء .لم يفهم الجمع َّ نثيث ثم قطرات ثم مطر ...مطر ...المطر يهطل بشدة ورعود تزمجر اشتد مالئة الفضاء بهزيمها .الجمع الغفير اضطرب وعال صياحه و ّ نفوره ،ركض الجميع فزعين ،فتالطمت الرؤوس بالرؤوس ،وتشابكت (العراف) الذي وقع على األذرع ،وتخبطت األفعال ،وعلى رأسهم ّ األرض وصار يزحف حتى أحتمى بسقيفة خشبية قريبة .كل هذا والرسام رافع يديه ورأسه مبتسم ًا ،حتى لفتت انتباهه ألوان وأصباغ سالت على األرض( .هل هي أصباغي ..؟ ليست بهذه الكثرة )!..تساءل وهو يطالع فد ِهش حين كمية األصباغ في األرض ،ثم طالع مرة أخرى وجوه الناسُ ، رأى وجوههم تسيل أصباغ ًا ملونة ،غسلها المطر وأزالها عن مواضعها التي تعودتها ،فظهرت له وجوههم ممسوخة قبيحة ،دميمة ُمستهجنة ،ال عرافهم كان أشد الوجوه قبح ًا ورعب ًا ..حين بريق فيها وال جمال ،ووجه ّ انتهت العاصفة ُ وغ ِسلت الوجوه ،صرخ العراف بالناس( :أين القبيح..؟ ...أين القبيح؟) ،ففتشوا عن الرسام طوي ً ال لكنهم لم يميزوه.
18
عود ُة ّ الحكاء... فتح عينيه محدق ًا فلم ير غير العتمة .أحس بشيء ثقيل يجثو على صدره ،ثم حرك يده الخادرة فانهال على جانبها تراب رطب ،أخرج لسانه من فمه متذوق ًا طعم التراب ،ثم تفله بعد امتالء فمه بالملوحة. راح يخربش بيديه التراب الطري ،يخربش ويخربش حتى انهال جزء، كشفت له السماء عن وجهها، فتشجع وكرر الفعل مرة بعد مرة .حتى ْ وبان له المكان بوضوح حين مسح عن وجهه التراب .كان قلبه يتحرك بشدة ،وهو يطالع أرض مقبرة القرية التي غمرتها األمطار الغزيرة .هرول على الطريق المؤدي إلى القرية متعثر ًا بحفر طينية .شبحه استفز الكالب، والتي بدورها َّنبهت حارس بوابة القرية بنباحها لما رأت شبح ًا يتمايل ويبرك بين الحين والحين .صرخ الحارس بحزم وهو يحمل عمود ًا بيده (من هناك....؟) .،سقط الرجل اآلتي على األرض وقد افلتت من فمه آهة .هرع إليه الحارس وحين تعرف عليه توسعت عيناه وهتف بقوة: (من ...؟ ّ حك ُاء القرية؟!). ّ (الحكاء الشيخ) أنه قد توفي قبل ليلة، في صباح اليوم التالي عرف ّ الحكاء وأن أهل القرية قد ارسلوه بيد دفان ليدفنه في المقبرة القديمة. لم يستغرب من عودته إلى الحياة ،ولم يستغرب من كفنه البالي ،ودفنه 19
في قبر رخيص رخو ،بل َّ جل استغرابه كان من تصرفات أهل القرية وترحيبهم الفاتر بعودته .ففي الماضي كانت حزمة أيام من السفر ّ الحكاء الشيخ ،توقف القرية وال تقعدها تهلي ً ال وترحاب ًا به. يقطفها ف ُتذ َبح الخراف ،ويتباشر الناس ..اليوم لم يكترث بعودته أحد قط( .كل هذا بسبب ذلك الوغد )...هكذا أعلن الحكاء في سره ،مستذكر ًا تلك
األيام المجيدة ،حين تلملم الشمس غدائرها وقت الغروب ،وتستضيف َ ُ الليل األدهم ذا األنفاس الباردة ،وحين تحدث نوبة كالفزع في القرية
ضربات األقدام الدروب القرية .فيقفل الباعة أفواه الدكاكين ،وتضرب ُ َ ِ األعشية المتصاعدة .المنازل تفتح روائح المغادرة ،وتمأل الفضا َء ُ أحداقها المضيئة ،األطفال ترقب األمهات المنهمكات في تحضير الموائد ،الرجال تدلف إلى المنازل في استنفار عجيب .الغريب عن
المكان سيصيبه الذهول حين يرى السكون يلقي بعباءته على جسد القرية ،مالحظ ًا الجموع وانخراطها كالعقد المقطوع ،فيظن من يظن أن وحش ًا سيداهم القرية ،أو عارض ًا أو زلزا ً ال سيلتهم سكينتها .لكن القرية ّ (الحكاء) أرضها وخالط أهلها ،وسمعوا على هذا الحال ،منذ أن وطأ منه حكايات الجن والشياطين وفرسان الخرافات والوحوش والغيالن. ّ الحكاء ذو اللحية البيضاء ُمنتهى المطاف اليومي ألهل القرية. فصار ُفر ُ ش يجتمع الناس في مجلسه الليلي الذي َّ يتمدد على ظهر الشارع ،إذ ت َ
األرض ،وتُثنى الوسائد ،وتتراقص أشباح دخان البخور ،والروائح
طر ُد األراذل الزاحفون إلى الصف األول في المجلس ،و ُيقدَ م الزكيةَ ،و ُي َ ّ الحكاء الشيخ إذ يقبل ماسك ًا عصاه وجهاء القرية وأكابرها ،منتظرين التي يلكز بها األرض بحزم ،حام ً ال في صرته حكايات عن الماضي 20
السحيق وأهوالهّ .. لحكاء القرية مكانته العليا ،ومكانه المخصص الذي يقص على الناس فيه حكاية َّ كل ليلة .حكاية تفوح منها روائح الساحرات ُّ والشياطين والوحوش والسراديب ،فيتبول األطفال في سرواليهم، ُ ّ والحكاء مسترسل في الرجال دهش ًة. ويكبر وتتغشى النساء بعباءاتهن، ِّ كلماته التي ينثرها في عقول أهل القرية ،التي ربت واهتزت ونما فيها اإلعجاب والتكبير واالحترام لشخص الحك ّاء وسطوة حكايته .حتى أن ّ فعرفت بين القرى أهل القرية أطلقوا على قريتهم اسم (قرية الحكاء)ُ ، بهذا االسم ،وذاع صيتها وصيته في مسارب األقوال والمجالس. ّ الحكاء ٍ ماض من نصر إلى نصر ...حتى انتبه ذات ليلة إلى مجلسه، وقد تآكل كما يتآكل الجرف من صفعات الموج .لم يكترث واسترسل في حضوره الليلي .لكن خشيته تبدلت إلى هلعٍ ،حين رأى ذات نهار صغار ًا في ٍ درب من دروب القرية ،يتبارون في ما بينهم ،في أفضل من ّ الحكاء الشيخ حين سمع كلمة يقص حكاية عن المستقبل ،أحمر وجه ُّ (المستقبل) واستيقن أنها كلمة دخيلة على آذان القرية وأهلها ،فراح ينصت إلى طفل يحكي إلى أقرانه الحكاية ،فتبعه طفل آخر بحكاية ُ ّ الحكاء متسائ ً ال (من ع ّل َم األطفال جديدة ،وتبعه ثالث .فتسارع نبض هذا الكالم..؟) .عاد إلى منزله في ذلك اليوم ،بخطى أثقلها السؤال، وعينين مألهما العجب ،وقلب خالطه الفضول. جهز ّ حكاء القرية نفسه لي ً ال ،متعطر ًا بأطيب العطور ،مزهو ًا بالملبس الحسن ،مختا ً ال بعصاه التي حفظت األرض نقراتها ،متوجه ًا إلى مجلسه المعتاد .استوقفته الدهشة ،حين ُص ِد َم بنزارة عدد الجالسين وق َّلتهم. فاضطر إلى سحب احدهم هامس ًا في أذنه( :أين اختفى الناس وماذا 21
شغلهم عن مجلسي؟) .فأجابه فاضح ًا ما ُكبِ َت في صدره وصدور القلة
الباقية في المجلس( :لعل المتخلفين عن مجلسك سيدي قد طابت لهم حكايات ّ حكاء شاب جديد ،اقبل إلى القرية مؤخر ًا) .أخذت هذه ّ الحكاء الشيخ بضع ثوان ،وبعدها انتبه إلى نفسه وقد الجملة من وقت طال سكوته ،ثم اعتلى منبره ليكمل على مضض حكاية تلك الليلة .ثم ّ الحكاء الجديد خفية. توجه محثوث ًا بالفضول القاتل صوب مجلس محيا األطفال والنساء تفاجأ حين رأى البسمة واالبتهاج قد طرزا ّ والرجال ،وعالمات الرضا واالستحسان البائنة في حركات رؤوسهم، وانجذاب أسماعهم ،فانزوى متلفع ًا في طرف المجلس ،مستمع ًا ّ لحكاء
شاب ،وحكايات عن مستقبل كان يصف لهم ضياءه ورونقه .ارتعشت ّ واحس بحرقة توزعت على مساحة صدره ،فنفض الحكاء الشيخ، عينا َّ
وهم بنفسه طارد ًا إياها ،راجع ًا إلى منزله في تلك الليلة. عباءته َّ ***
مرت أيام قالئل ،والحكاء الشيخ منشغل بتطريز حكاياته العتيقة.
فاستبدل في حكاية ما دور الشيطان بساحرة ،واستبدل بأخرى دور الغول بسعلية ،متمني ًا الرجوع إلى سالف عهده ،وقديم عزه ومجده...
ّ وهم ليتأكد من رتاج بابه ،ثم عاد إلى فراشه نفض الحكاء الشيخ أفكارهَّ ، مستسلما لعفريت النعاس .أودع رأسه الوسادة ،وما إن أغمض عينيه،
حتى طافت به األماني واألحالم .تراءت له القرية هازجة ،مرحبة ،منحنية لهيبة ّ حكائها الوحيد .وكيف أن مجلسه قد عاد يغمره الحضور بالتصفيق
والتكبير ،وهو كالساحر يخرج لهم من كمه الحكايات المدهشة .كانت ّ الحكاء الشيخ قبل موته .فهو هذه الليلة هي آخر ما تبقى في وعاء ذاكرة 22
لم يعلم أن َّسقّاء القرية العنيد ،هو من وشى باكتشاف موته ،بعد أن طرق مد عنقه من نافذة المنزل ليجد الحكاء الباب كثير ًا ،وحين لم يجد مجيب ًاَّ ، متمدد ًا بال حراك .ومن ثم انتشر الخبر بين أهل القرية الذين تجمهروا في ّ الحكاء بينه وبين نفسه( :كل وأعدوا مراسيم بسيطة لدفنه ..كرر مابعد، ّ هذا بسبب ذلك الوغد ..إنها فرصتي ...لقد منحني القدر إياها ،ولن ّ أفوت هذه الفرصة) يفلت الحكاء الشاب من عقابي ،ولن ّ ***
بدأ الحكاء الشاب مجلسه ،الجموع متلهفة ،اآلذان صاغية ،األحداق يقص أقاصيص وحكايات عن المستقبل وأبطاله .في تطالع بشغفُّ . ّ الحكاء الشاب عن الكالم وقد رمى نظره إلى باب تلك اللحظة توقف ّ بالحكاء الشيخ. المجلس ،فاستدارت الرؤوس صوب الباب ،وإذا دخل ناق ً يجس الحاضرين بطرف عينيه .استمر ال أقدامه على مهل ُّ ماشي ًا حتى وقف في موضع مميز وهتف بأعلى صوته( :أتيت اليوم لكي اشهد وأبارك للقرية حكاءها الشاب ،بوركت وبوركنا بك يا بني ..اكمل ّ الحكاء الشاب وهامت أشباح الناس في حكايتك) ..حين انتهى مجلس الدروب راجعة إلى منازلها ،كان هناك شبح وحيد يكمن في الظلمة، ّ ال خنجر ًا صقي ً حام ً الحكاء الشيخ خانس في زاوية عتيمة ،ينتظر قدوم ال. غريمه ،وبالفعل أتى الغريم ُّ يخف به السير زهو ًا .حين وصل اختطفته يد ّ الحكاء الشاب جسمه الشيخ غيلة وسحبه غارس ًا في ظهره الخنجر ،أدار ناحية قاتله مشير ًا إليه بيده ،وفي حلقه شخرة يخالطها صراخ مكبوت. ّ الحكاء الشيخ رجع إلى الوراء يشخص خفوت أنفاس ضحيته ،وانسالل روحها .فلم يكتف إذ عاد إلى الجسد الملقى على األرض ،مركز ًا في طعنته إيغا ً ال ،حتى كاد طرف الخنجر أن يخرج من الجهة األخرى. 23
لما أصبح الصباح ،وشاع الخبر .هرع الناس ،وناحت النسوة ،و ُف ِز َع األطفال ،واحتشدت الحشود .كان ّ الحكاء الشيخ على رأس الحاضرين، يلعن صارخ ًا المجرم الذي اقترف جرمه ،داعي ًا عليه بالفضيحة والذل ّ الحكاء الجديد إلى مثواه األخير ،حيث هزت شيعت القرية والحتفّ . َ صراخهم وبكاؤهم ،يتقدمهم تابوت الطيور أقدامهم ،وأجفل األرض ُ ُ َ ّ الحكاء الشاب .يتقدم الجمع سائر ًا وراءه نفر من كبار القرية يتوسطهم ّ الحكاء الشيخ ،مشيع ًا ومستذكر ًا معهم محاسن فقيدهم وجميل ما
صنع .وأطفال يطوفون كالحمائم حاملين أزاهير بيض ،قاذفين في قلب ّ الحكاء الشيخ الضيق والحزن ،حين رأى غريمه ينال المجد والتفخيم ّ الحكاء الشاب، حتى هذه اللحظة .عاشت القرية أيام ًا من الحزن لرحيل كلهم حزنوا سوى حكائهم القديم الذي راح يعلن من جديد عن مجلسه القديم وحكاياته العتيقة ،عن فرسان الخرافات والساحرات والشياطين والسراديب والغيالن والمسوخ .من جديد راح يجهز نفسه مستذكر ًا حكاياته ،ململم ًا أطرافها ،في كيس مخيلته ،ماسح ًا عن وجهها التراب. وبالفعل عاد مرة أخرى ،في تلك الليلة حين اخبروه أن مجلسه قد جهز، فلم تسعه الفرحة ،معطر ًا أثوابه ،حام ً ال عصاه التي كان يلكز بها وجه األرض ،متوجه ًا إلى المجلس المخصص .لكن صدمته َك ُبرت هذه المرة حين رأى المجلس ،لم يحضر فيه سوى نفر ُيعدون على أصابع ّ الحكاء الشيخ عن سبب قلة الحضور ،فرد عليه اليد الواحدة .تساءل احدهم مستنكر ًا قلة الحضور( :أهل القرية الجهالء يا سيدي ،دخلوا إلى بيت ّ الحكاء الشاب ،ووجدوا عنده الكتب التي كان يأتي منها بالحكايات فهموا بالكتب ووزعوهن على البلهاوات عن ما يدعونه المستقبلّ ، 24
أرباب ُ األسر ،ويقرؤون القصص المنازل ،وصاروا يجتمعون كل ليلة، ُ ّ الحكاء تسمر ويتسامرون مستذكرين تلك األيام ،حالمين بحكاياته)َّ . الشيخ في مكانه ،متجهم ًا مرتعش ًا في ذهول .مرت دقيقة عليه كأنها دهر، ثم أدار للحاضرين ظهره وسار على مهل وقد صبغ وجهه الشحوب. نادوا وراءه لكنه لم يلتفت ماشي ًا صوب الظلمة ،رامي ًا عصاه في مكان، وعباءته في مكان آخر على التوالي .حتى خرج من سور القرية مثق ً ال كأنه جريح حرب ،متوجه ًا صوب قبر طري مكشوف في مقبرة القرية.
25
المعلّم دخل المعلم الجديد إلى القرية ،كان أول المنتبهين له حفنة أطفال تركوا موقع لعبهم ،ووقفوا صف ًا يطالعونه بتعجب ،كأنه مخلوق نزل جانبي الطريق، من الفضاء .ثم أنتقل الفضول إلى رجال يجلسون على ّ س ّلم المعلم عليهم فردوا السالم ببرود .سار على مهل مستكشف ًا مالمح القرية القصية ،حام ً ال على كتفه (حقيبة كبيرة) معبأة بالكتب والمالبس. قوي البنية ،مهيب الطلعة ،زكي الرائحة .هندامه أثار األعجاب، كان َّ ٍ فتيات تهامسن عليه بفضول لبريق رونقه ود ّقة تأنّقه ،ووسامته استمالت خجول .سار متجه ًا صوب شبه مدرسة أنهكها تعاقب األزمان ،وصراخ الهجير ،ونحيب المطر .تحوي غرفتين ،األولى غرفة يعيش فيها المعلم، والثانية صف يأوي أطفا ً ال متهرئة أثوابهم ،متربة وجوههمَّ ، حل بينهم بعد فصل معلمهم السابق لغيابه الطويل عن دوامه الرسمي .تأقلم المعلم الجديد مع وضعه الحالي .في ِّ كل صباح يصدع ألمر المنبه .يتناول ما دغدغت نفسه فكر ُة تيسر من ُلقيمات ،ثم يتجه إلى عمله برتابة ،حتى ْ َّ ً التنزه .فاستثمر يوم العطلة لكي يتجول مستكشفا مالمح القرية البسيطة. ُذ ِه َل حين اكتشف أن القرية المنسية لم تُطرز سجادتها بحديقة ،ولم يزين وجهها شارع نظيف ،أو بناية ذات هيبة ،أو مكان للترويح ،غير مقهى 26
بسيط يقبع في آخر الدرب الترابي الوحيد الذي ُصلبت على جانبيه دور كالد ّمل على وجه الشارع، وأبنية شائخة .وأحزنه أن تالميذه المتناثرين ُ يحدقون في سحنته من دون أن يبادلوه السالم والتحية ،مكتفين بنظرات ّ جامدة .النسوة المتلفعات بالبؤس والعباءات الرثة ،يتغامزن هامسات (هذا هو المعلم الجديد!) .الرجال يطلقون العنان ألنظارهم صوبه وك ُّلها رجاء ،في أن يقذف الحياة في عقول أبنائهم ،و ُيبعث منهم ٌ (نبي)، طفل ّ ينتشلهم من بئر أحزانهم وبؤسهم .الدهشة تكسوه ،الحيرة تجتاحه، تلح عليه ،فيقوده التعب إلى مقهى القرية الرغبة في أن يريح ساقيه ُّ الوحيد .دقائق مرت وجيزة وهو منزو في المقهى يراقب الجالسين ،حيث رابه أنهم ال يعرفون الكالم .ال ضجيج ،ال مزاح ،ال نقاشات .يجلسون كأصنام ملقين بص ّنارات أنظارهم في فضاء الدرب المحاذي للمقهى. أحس بغربة أكبر ،فتوجه صوب الشارع بعد أن حاسب صاحب المقهى، َّ َ فحرك ُمنهي ًا جولته الرتيبة ..ل َف َت انتباهه ّ تجم ٌع غفير في الجهة المقابلةَّ ، لحوذي هاج التجمع .كان مشهد ًا ساقيه ببطء وهو يناور في نظراته حول ٍّ ّ يجر عربة توصيل البضائع .حيث رفع الحمار جزئه الخلفي حماره الذي ُّ رافس ًا العربة بعنف ،ناهق ًا بقوة .الناس َّ شكلت دائرة حول المشهد ،تنتظر الحمار األرض بحوافره ،كاسر ًا مفاجأة لم تتأخر كثير ًا ،حيث ضرب ُ اللجام العتيق ،وهرب خبيب ًا صوب الغابة المحاذية للقرية ،مالئ ًا الفضاء بنهيق ٍ عال.
الحوذي العجوز على ركبتيه ،صارخ ًا بأعلى صوته وراء حماره: جثا ُّ (تعال ...تعاااااال ..يا حسرتي ...سأموت جوع ًا من دونك) .إلى الغابة المليئة ـ كما هتف البعض ـ بالوحوش والضواري ،هرب الحمار تارك ًا 27
المعلم، المنظر وراءه صاحبه الحوذي وهو يلعن ويئن جزع ًا .أفزع َ ُ حمار في غابة؟ .هل سينجو من الوحوش هامس ًا في نفسه(كيف يعيش ٌ
هناك؟ لقد اختار هالكه).
لت كتفاه تعب ًا اصفر لونه، بعد أيام قالئل الحظ المعلم تلميذ ًا َّ وتهد ْ َّ ومرض ًا .أخرجه إلى الفناء ليغسل وجهه ويريحه قلي ً ال .غسل التلميذ
وجهه ،وصار يفرك عينيه ماسح ًا الماء برفق ،والمعلم يطالعه بحزن. منظر التلميذ أعاد للمعلم بلحظات قافلة من الذكريات .تذكره منزلهم القديم ،وأبيه الكادح ،وأمه التي لم يذكر منها سوى صورة معلقة .تذكر
شارعهم الرث ،وجيرانهم الالهثين وراء اللقمة ليل نهار ..أنتبه المعلم فز المعلم على صوته قائ ً ال إلى وجه التلميذ يتحرك أمامه ،ثم بلحظة َّ
فرد التلميذ بجملة (شكر ًا أستاذ) .سأله على الفور (ماذا يعمل أبوك..؟)َّ ، يمطها (أبي حوذي ...رجل شايب ..إنه في البيت يجلس حزين ًا بعد أن
هرب حمارنا) .أنت ابن الحوذي صاحب العربة التي هرب منها الحمار بحجة توصيل (هتف المعلم) ،ثم قرر الحق ًا الذهاب إلى بيت ّ الحوذيَّ ، ولده واالطمئنان عليه .ولما وصل اكتشف أنه لم يكن بيت ًا ،بل كوخ ًا نال
فأرجعت له تفحص العربة المركونة خارج الكوخ، ْ منه الفقر والعوزّ .
الحوذي تفاصيل الحادثة ،وما جرى لمالكها في ذلك النهار ..اعترف ُّ سيموت حرقة وكمد ًا على رحيل حماره ،الن األخير للمعلم الضيف انه ُ سبب حياته وحياة عياله .فطمأنه وتك َّفل له بإعانته على احتياجاته ما استطاع .شكر الحوذي ضيفه كثير ًا ،ثم غادر المعلم إلى مأواه مفكر ًا بمصير الحوذي وما سيالقيه ،حتى أستولى التفكير عليه طارد ًا النوم عن عينيه ،متخي ً ال نفسه بدل الحوذي! .ماذا سيفعل حينها؟ .ولم يفهم كيف 28
حصن وال بربري ال يصد هجومه اجتاحت روحه تلك الفكرة كجيش ْ ٌ ّ قلعة؛ فكر ُة أن يساعد ذلك الرجل بما ُأتي من قوة .عاد المعلم للحوذي في اليوم الثاني ،وفي جعبته ٌّ ُّ الحل خطير ًا ،لكنه لم حل للمشكلة ...كان يمتلك غيره. حدق الحوذي في وجه المعلم ثم هتف ضاحك ًا( :هل أنت جاد في ّ مساعدتك لي ..؟) فأجابه المعلم( :نعم ...سوف أساعدك ...طلبات سأجرها ... أجلها إلى الليل ،وأنا وأنت سننقلها بالعربة ذاتها، التوصيل ّ ّ ال ٍ والليل سيكون ساتر ًا لي ولك ،إلى أن تجمع ما ً كاف يساعدك على شراء حمار آخر بدل الذي هرب) .دمعت عينا الحوذي فرح ًا ،ورجفت ويديه ،واألخير يهتف مستغفر ًا ربه ،منتشي ًا يقبل رأس المعلم ّ كفاه وهو ّ بهذا الصنيع.
لم يكن العمل شاق ًا في البداية ،مشاوير بسيطة تنتهي بيسر ويرجع – المعلم والحوذيـ كل واحد إلى مخدعه .ولكن بعد شهر من المشاوير التي ازدادت ثق ً ال وارهاق ًا ،استوطن التعب في تفاصيل جسد المعلم، والدهشة من صوت أقدامه التي صارت تنقر ب َن َس ٍق غريب على األرض!، باتت تراوده وأجبرته على ووجهه الذي صار أكثر بالدة .حالة من الفزع ْ إنهاء ما بدأه ،فقرر إنهاء َّ كل شيء ليلتها ،حين يوصل آخر طلب ،يفاتح ِّ الكف عن المواصلة ،خصوص ًا أن الحوذي لم الحوذي في رغبته في َّ يهتم بشأن شراء حمار آخر ،مرتاح ًا على بقاء الحال هذا .وصل المعلم أجل الفكرة إلى حين إليه في الليل ،أراد َ فتح وثاق الحديث ،لكنه َّ المعلم دهش ًة ،حين طالع الحوذي وهو يضع االنتهاء من عمله .أتسع فم ُ مندس ًا بين أغراضه القديمة .أراد لجام ًا جديد ًا قوي ًا ،ثم أخرج سوط ًا كان ّ 29
المعلم إفهامه إن السوط لم يكن ُمتفق ًا عليه ،لكن الحوذي تجاهل كالمه وكأن ال وجود له ،فلم يتمالك نفسه صارخ ًا بقوة( :ماذا تفعل...؟ أنا أتحدث معك!) ،لكن صرخته التي ارعدت في الزريبة لم تثر الحوذي، فرد عليه الحوذي إذ رد عليه بجلدة موجعة .صرخ المعلم مرة أخرىَّ ، فحرك المعلم أقدامه جالد ًا بقسوة أكبر .صرخ ،جلده ،صرخ ،جلدهَّ ، رويد ًا رويد ًا ،مسحوب ًا ،مقهور ًا ال يستطيع المقاومة والرفض ،مع كل الجهد الذي بذله لكي يبدي عصيانه الذي ضاع هبا ًء ،وهو يرى الحوذي يدفعه باتجاه باب الزريبة ،ثم تبعه راكب ًا على العربة بالطريقة المعتادة لسائس متمرس ،يواصل الجلد وعيناه قد احمرتا حزم ًا وصرامة ،حتى عيني المعلم ،تحملها استقر السير ْ وانتظمت الحركة ،والدموع تتقافز من ّ الريح المواجهة إلى الوراء. أيام مضت ....المعلم يصرخ في شوارع القرية ،ولم يهتم أحد لصراخه .المشاوير التي خرج بها لي ً ال ،صار يمارسها في النهار ،والذي يحدث في العلن .أهل القرية يباركون للحوذي حين السر ،صار ُ حدث في ِّ يمر بعربته في الشارع (مبارك الحمار الجديد ،)..والحوذي يرد عليهم ُّ مقب ً ال يده باطن ًا وظاهر ًا ،ثم يضعها على جبينه حامد ًا على هذه النعمة. حتى أن تالميذ المعلم ذاتهم ،كانوا يهرولون وراء العربة مصفقين ،أو يقفون صف ًا أمام والمعلم حين يربطه الحوذي لتوصيل طلبية ما ،أو لمحاسبة أحدهم واالتفاق على توصيلة سريعة .كان المعلم يستغيث تار ًة وتارة يسرقه الصمت كما يسرق النهر الغريق .وحين ينفجر من ألمه ودهشته السوداوية ،يصرخ عالي ًا بوجه الناس في السوق (أيها الناس... ماذا جرى لكم ..؟ انقذوني ّ وفكوا لجامي هذا وحرروني من قيدي ... 30
أنا معلم القرية ..اال تذكرون ..؟) .ولكن كل ما كان يراه المعلم حين المارة ،وبعضهم كان يغلق أذنيه من صوت يصرخ ،هو نظرة امتعاض من ّ المعلم العالي ،والحوذي يرد عليه بلكز قاس في خاصرته بالسوط، أو بجلدتين سريعتين كبرق على ظهره ،كانتا كفيلتين بإسكاته مدة من الزمن .ولم يشغل بال المعلم سوى صورة حمار الحوذي القديم، ومشهد هروبه صوب الغابة ،مفكر ًا في تكرار التجربة وكسر اللجام. لوال أنه كان أشد قوة وأصلب من اللجام المتهرئ الذي كسره الحمار الهارب .فقفزت في رأس المعلم فكرة الهروب لي ً ال ،حين ُّ يفل الحوذي اللجام ويدلف إلى مأواه .في الليل َّ الحوذي الوثاق عن العربة، حل ُّ وربطه على عمود في الزريبة .ألقى أمام المعلم العشاء (التبن) ،ومأل ومرغه وقربه أمامه .وضع الحوذي يده على رأس المعلمَّ ، دلو ًا بالماء َّ لكي يتناول التبن ويخلد إلى النوم ،فالغد ُينبئ بمشاوير أخرى أثقل وزن ًا. حين غادر الحوذي الزريبة ،أجتهد المعلم في قطع الحبل عن العمود، وهو يتحدث مع نفسه (ال مكان لي سوى الغابة البعيدة ،حيث تنتظرني الوحوش والذئاب !...لكنني سأكتشف فرصتي هناك ،أفضل من ُّ الذل والقهر والمرض والمهانة .سأهرب إلى الغابة ،المجال لدي للتفكير، سأقطع الحبل المربوط بعنقي وأنجو بنفسي ...الغابة أرحم). بعد أيام وجيزة ،وحين كان ابن الحوذي يروي ألصدقائه تفاصيل هروب حمارهم لي ً ال .لفت انتباهه همهمة رجال يشيرون بأنظارهم وأكفهم صوب مدخل القرية ،وأطفا ً ال وقفوا صف ًا متسربلين بالفضول. ال غريب ًا داخ ً ال ،حاشر ًا رأسه بينهم بقوة ،ليرى رج ً أقبل نحوهم متسائ ً ال إلى القرية ،متهندم بأناقة فائقة ،ويحمل على كتفه حقيبة كبيرة. 31
العازف (الصرخة) .ولم يميز ُ ُ أهل القرية في منذ مئات السنين أرعدت
ذلك الحين المكان الذي أتت منه .فبعضهم قال أنها نزلت من السماء، وبعضهم قال من باطن األرض .فتصارعت اآلراء ،واختلطت األحكام.
لكن الحقيقة الماثلة أن أهل القرية فقدوا السمع من ساعتها .ولم يكتفوا بالصمم ،بل توارثوه جي ً ال بعد جيل .ومع جريان األيام في أودية السنين، المولود ُيولد بال اختفت آذانهم ،بعد أن تضاءلت شيئ ًا فشيئ ًا ،حتى صار ُ
أذنين .مكتفين بلغة اإليماءات وإشارات الكفوف .فتضاءلت ألسنتهم أيض ًا ،حتى اختفت هي األخرى .وجرى األمر على الحيوانات أيض ًا. فلم تعد القرية تتنغَّ م بتغريد العنادل ،وال يشعرها بالزهو صهيل األفراس، أو يمنحها الرضا ثغاء الخراف .صارواـ أهل القريةـ يحتفلون َّ كل سنة بعيد (الصرخة) .حين تأتي ليلة ذكراها ،يحتفلون ويعربدون ويرقصون ُ الرجال النساء حتى الصباح ،بعد أن ألزموا أنفسهم بصمت ،ثم يضاجع
بهذا الطقس.
في صبيحة الذكرى السنوية لعيد الصرخة ،تفاجأ (عازف الكمان)
الداخل للقرية ،حين سرقت انتباهه هرولة الرجال والنساء إلى حمامات السوق الكبيرة ،يحمل على ظهره حقيبة كمانه ،متوجه ًا في طريقه صوب 32
(غابة النغم) .حيث أخبره راو صدوق عن تلك الغابة .فقد ذاع في البقاع صيت الشجر الذي تعزف أغصانه ،والطيور التي تناغمه بالنقر واإليقاع، والجداول التي ّ تشكل معه (الهارموني) .فأقسم أن ال يمضي عام من سمعه لح ُنها .عازف الكمان وقف عمره حتى تطأ قدماه أرضها، ويجس َ ُّ مشدوها حين أثار المشهد في قلبه الفضول .أستمر ماشي ًا على مهل يرقب الخطى المتعبة ،والوجوه الذابلة ..سأل العازف رج ً ال مسرع ًا فلم يجبه، ظهره ،فغر العازف فاه ورفع حاجبيه حين رآه ولما أدار الرجل للعازف َ بال أذنين!( .عجيب )!..تمتم العازف ،ظل يبحث عن إنسان يملك أذن ًا ولكن عبث ًا يحاول .وحين داهمه اليأس جلس على حجر عريض ،وفي قلبه ألف سؤال .حتى أن الرغبة في مواصلة مسيره صوب غابة النغم قد اختفت فجأة ،تأخذه وتأتي به فكرة المكوث أيام ًا في هذه القرية .ورغبة وطالع سحاب حقيبته، َ في إعالن نبوءة النغم على هؤالء القوم .فتح ّ كمانه هامس ًا( :كن جاهز ًا يا صديقي). ***
(سأحاول) ...همس عازف الكمان في نفسه مصمم ًا ،وفاء منه للموسيقى ،وتصديق ًا لما اعتقده من لذة النغم ولذة اإلنصات .كان على الدوام ،وطوال األسابيع التي قضاها في القرية ،يحاول إقناعهم بضرورة عناد أهل القرية السمع ..حتى أتعبته لغة اإلشارة ،ونال من تصميمه ُ وجفاؤهم .وكان يحدث نفسه بين الحين والحين(كيف لألصابع أن َّ تحل محل اللسان؟ .هل نستطيع اختصار األحاسيس وآالف الكلمات بعشرة قرر التوجه إلى الطبيعة .. أصابع؟) .حتى طرقت باب قلبه فكرة بِكر .إذ َّ تعمد عازف الكمان العزف في وضح النهار .عزف في ظهيرة ساطعة َّ 33
لحن ٍ غيوم حمر .ثم عاد وعزف حزن عميق، وتلبدت ٌ َّ فاكفهرت السماءّ ، الشمس ضاحكة .ثم عاد لحن ًا آخر ُمبهج ًا فته َّللت السماء ،وأشرقت ُ رمادي ،وأسرعت الظلمة سحاب فتحز َب وعزف لحن ًا مخيف ًا ،غامض ًا، َّ ّ ٌ
منتشرة ،وهرول النور إلى مغارة عميقة ..األرض عطشى ،الفالحون في ُ عازف الكمان غيوم ًا حبلى القرية يشكون اليباب والجدب .فساق إليهم
والكمان .فارتوت ٌ ُ مصفرة نخلة الرعد بالمطر .في ليلة ماطرة حين تناغم ُ ّ ُ والكمان في حوار .ما همهما بحلقة والرعد الم الفراق، ُ الوجه تحكي َ األطفال وإشارات النسوة ولعنات المتأنقين .لم ينصت لهما إلاّ العازف شهروا به، والطبيعة ..لكن أهل القرية لم يزدادوا إلاّ عناد ًا وصمت ًا .بل َّ ولعنوه ،وقذفوه بالتهم .فمنهم من اتهمه بالسحر ،ومنهم من الصق به
طينة البدعة ،ومنهم من البسه ثوب الجنون.
(الصديق يؤثر في قلب صديقه ،و«الصاحب ساحب» كما ُيقال)
هكذا حدث العازف نفسه ،بعد فشله في إقناع أهل القرية في محاولته
قرر التوجه إلى صديق البشر األزلي(الحيوانات) ،إلقناعها السابقةَّ . بالتخلي عن صممها ،واللحاق بسفينة الموسيقىُ .مم ّني ًا نفسه بالنصر (البشرال ينقادون بسهولة ،لكن الحيوان يطيع ،البشر في هذه المغامرة. ُ
ال يتخلون عن اعتيادهم ،والحيوان يتأقلم ،يصغي ،يقلد رضا ًء لرغبة سائسيه) هكذا كان يفكر مقتنع ًا بالمحاولة الجديدة ونجاحها .أقبل إلى
العصافير والبالبل، الطيور ...غرد بكمانه فاستغربت اليمامات ،وجفلت ُ ظ َّن ًا أن في حركاته على (القوس) إشارة خطر ،أو إنذار بالشر .الكالب والقطط والغزالن واألغنام وأنواع الماشية َّ شكلت حوله دائرة وهي تراقب تموجه ،تقاسيمه ،تنغيمه .فقد آلف عزفه بين الغرماء ،ومازج بين 34
أنفس األعداء بالمخالطة المحببة ،حتى أقبلت الوحوش أيض ًا تراقب حركاته في العزف الباهرة ،كالذئاب والثعالب وبنات آوى! .سكن لهاث خنست أعين الذئاب .فنبتت لحوم الكالب ،توقف صفق أجنحة الطيورَ ، جانبي الرأس في كل ضيف من الحيوانات .وعلى أفواهها صغيرة على ّ المستغربة .لحوم على شكل قطع مدورة ،تحولت إلى صواوين ،تكبر، تكبر ،تكبر .وألسنة ،تطول ،تطول ،تطول .تحركت الريح ،ورقصت األشجار ،حين مأل الفضاء تغريد البالبل ،وزقزقة العصافير ،ونباح الكالب ،وعواء الذئاب ،وثغاء الماشية .أعلى وأعلى .والعازف مسترسل في العزف .حتى اكتملت اوركسترا كبيرة ،بقيادة عازف الكمان ،الذي هطلت أمطار دموعه ،وهو يرقب ،تموج النغم والتلذذ به بادي ًا على وجوه الحيوانات ،التي أفصحت ،وصرخت ،وانقطع حبل صمتها الملتف على عنق القرية. ***
شعر عازف الكمان بالمضايقة ..بدأ أهل القرية بمحاصرته ،تجويعه، إرهابه ،طرده من سكناه الذي استأجره إلى اجل غير مسمى .لقد نثر الفتنة في قلوب حيواناتهم ؛فحصدوا التمرد .وأوقع الضغينة بينهم وبين مر أنهارهم ،شمسهم ،قمرهم ،غيومهم ،رياحهم ،ليلهم ،نهارهم ..لقد َّ عام كامل ألاّ يوم ًا .فالليلة هي عيد (الصرخة) عند القرية ،وقد أمروه أن شمس يحزم حقيبة كمانه وأنغامه ويرحل بعيد ًا عن القرية .قبل أن تزورهم ُ صباح الغد .حيث سينشغلون الليلة بالعيد واالحتفال والمضاجعة ،حتى الصباح ،بعد عام كامل من الشغف؛احترام ًا لعيد (الصرخة) .رتَّب واستعد لمواصلة رحلته التي أوقفها قبل سنة في هذه القرية حاجياته، َّ 35
التي عشقت الصمت ،وولهت بالكتمان وكبت النغم .استعد للتحليق في سماء اإلنصات صوب (غابة النغم) هناك حيث تنتظره األشجار الموسيقية ،والسواقي الم ِ نغمة .لكنه تمهل بينه وبين نفسه مفكر ًا( :القرية ُ المضي نحو مقصدي األول .ولكن ال تريد رؤيتي بعد اآلن ،فصار لزوم ًا َّ علي انجاز شيئ ًا أخير). قبل كل شيء َّ في تلك الليلة ـ ذكرى الصرخةـ حين توارى أهل القرية في منازلهم. تجهزت النساء ،تنحنح الرجال .فالليلة هي النافذة الوحيدة غفا األطفالَّ ، ويعم االسترخاء ،بعد التي تدخل من خاللها اللذة ،وتُقطف النشوة، ُّ طول المضاجعة وعنفها .أضواء الغرف ،أشارات التأوه ،صرير األجساد، طقطقات األسرة ،كلها شواهد على ليلة هي األكثر شبق ًا في العالم .في ذلك الوقت ،كان عازف الكمان يجول في الظلمة وهو يعزف بكمانه لحن ًا جديد ًا ،كان يتمنى عزفه للمرة االولى في غابة النغم .صار يجول بين المنازل وفي الدهاليز مغمض العينين ،يسير مطلق ًا أنغام لحنه في فضاء القرية الهادئ .سمعت الطيور في الوكنات صوت الكمان فهبت صوبه. الحيوانات التي تسير على أربع أتت من كل صوب عبر مداخل القرية .من الحقول والغابات والمزارع والمراعي واألجمات .فتداخلت على شكل فصيل منتظم خلف العازف .تسير مبتهجة بنغمه السحري الذي عال ومأل يترددوا في الرقص والبهجة. الفضاء بلحن شجين .القمر والنجوم لم َّ وتناقلت النجوم الخبر ،حتى وصل إلى الشمس في الجهة األخرى من فوتت العالم ،حين كانت تمارس اإلشراق ،فتأسفت وتأففت ،ألنها َّ فرصة االستماع إلى كونشرتو العازف .على الجهة األخرىـ داخل الغرفـ وسر بقاء بني جنسهم ،إلى أجواف النساء كان الرجال يضخون فحولتهمَّ ، 36
فكن اللواتي تراخت أعضاؤهن ،وتصبب عرقهن ،وتهللت أساريرهنَّ . وهن يمنحنهم يتبادلن مع أزواجهن الهدايا .هم يمنحوهن َّ اعز ما يملكن َّ َّ ألذ ما يشعرون .هم منهمكون وجادون في أن يخرج جي ً ال يشبههم في هذه جاد أيض ًا في إكمال عزفه ،وإلقاء ألحانه .وحين الليلة .وعازف الكمان ٌّ أزف الوقت ،وحانت اللحظة .انطلق العازف مغادر ًا القرية من الباب التي دخل منها .خرج من القرية ملتحف ًا ظالم الكون ،ونسائم الغابة المجاورة، منطلق ًا صوب(غابة النغم) ،تارك ًا خلفه الغرف التي بدأت تطفئ أضواءها بالتدريج .بعد أن خفت تأوه األسرة ،وصرير األجسام العارية .تارك ًا خلفه مشهد القرية وهي تغفو.
في صباح اليوم التالي ،جاءت الشمس مهرولة على غير عادتها، ُ البالبل ،وزقزقة الطيور ،وأنغام السواقي، حيث أثار ولهها تغريد وموسيقى الريح ،وأجراس األثمار المعلقة كالنواقيس على الشجر. صحت القرية من غفوتها ،وحين لم تجد العازف ،ارتاح أهلها من ذلك الغريب ،وتجدد يومهم بهاء وصار عيدهم عيدين (عيد الصرخة وعيد طرد العازف) .هرع الرجال والنساء إلى الحمامات ،عالقة في أذهانهم ٍ حكايات عن بطوالتهم في دقائق األمس .يتبادلون بكلمات إيمائية بواطن الغرف .النساء تجمعن أفواج ًا ودلفن إلى الحمامات ،تتفاخر ُّ كل واحدة على صاحبتها بأنها األفضل ،واألجمل ،واألكثر شبق ًا وراحة في أرحامهن تحمل أجنة ،ستنبت يعلمن ...لم يتو ّقعن أن المضاجعة .لم ّ ّ صواوين صغيرات. بعد أشهر على رؤوسها ُ
37
حارس المكتبة ُ تأخرت مكتبة المدينة عن موعد إقفالها هذه الليلة ،بسبب طالب كان مغروس ًا في إحدى زوايا قاعة المطالعة .لكن تنحنح مسعود (القيم على همة مرتجلة، المكتبة وحارسها) َّنبه الطالب الذي غادر بطريقة صاحبتها ّ يجس البناية قاف ً ال غرفها ،مرتب ًا كراسيها، معتذر ًا عن تأخره .راح مسعود ُّ عد مصروفه اليومي مرتين متتاليتين ،مجهز ًا نفسه لغلق بوابة المكتبة. ثم َّ ثم غادر مغطي ًا رأسه بـل ّفاف سميك وسترة زرقاء ،مهرو ً ال صوب مقهى التثاؤب رواده يثرثرون بال انقطاع ..عاد ًة يب ّلغه ُ متواضع ،كان أغلب ّ بقرب وقت الرحيل إلى المنزل ،واالستعداد لوجبة عشاء ملفوفة بكيس ورقي ،يأخذه كل ليلة من محل لبيع الوجبات السريعة الرخيصة .يتعشى وهو يطالع التلفاز بال تركيز ،فقط لسماع صوت آخر يجالسه وقت العشاء .توجه صوب المنزل حام ً ال العشاء البارد ،وفي رأسه تدور أحاديث رواد المقهى بلخبطة مزعجة .دخل إلى المنزل ،ثم نقر على زر الضوء محو ً ال عينيه صوب المرآة المعلقة على الجانب األيمن من ِّ الباب .تقدم بخطوات متمهلة ،ناظر ًا لوجهه ال َت ِعب .الحظ آثار ما تبقى نظيف ًا منها ،المرآة التي يكسوها النمش والغبار ،ما عادت كسابق عهدها، بعد مرور زمن أثر في بدنها الالمع. 38
وضع مفاتيحه على الكومدينة ،ثم َّ حل وثاق التعب بعد أن لفظ مالبسه على األريكة .،دفع العشاء في بطنه ،غير متلذذ بطعمه الرديء. ثم تناول قطعة الـ ( )Remote Controlمقلب ًا جهاز الستاليت ،باحث ًا عن أخبار أو برامج يقصقص به أعشاب وحدته الكثيفة .كان أصدقاؤه يدعونه (الكئيب) ويرونه وحيد ًا منعز ً ال حتى عنهم ،وكان يدافع عن نفسه حتى أعياه كالمهم فترك كل شيء وصار ال يجالس أحد طول الوقت ،مردد ًا بينه وبين نفسه (مادامت هذه فكرتهم عني فلماذا ال أمارسها وينتهي كل شيء) .وجد في وظيفته في المكتبة مالذ ًا ،حين ارتاح لصمت الكتب، وسكون األجواء وروادها ،مع أنه لم يقرأ حرف ًا في كتاب من تلك الكتب التي ُرصفت على الرفوف بالمئات .كان دائم ًا ما يصف الذين يقبعون لساعات طويلة بالمعتوهين ،والعاطلين عن العمل. لم يفكر في الزواج .عاش أربعين سنة في منزل ورثه عن أبيه (المعلم الشهير في المدينة) المثقف ،الكاتب ،صاحب الغرفة التي كان يجلس فيها لساعات منشغ ً ال بالكتابة والقراءة .حتى صارت جزء ًا من فلكلور المدينة .فكلما يتحدث مسعود عن أبيه ،يأتي بذكر الغرفة وكتبها ومخطوطات أبيه ،متجاه ً ال كومة األسئلة عن مصيرها .في تلك اللحظة قفزت إلى رأس مسعود فكرة الذهاب إلى الغرفة(مشغل األب) .ولم تكن الفكرة بمستحبة؛ بعد أن استولت عليها العناكب والرطوبة ،وعليه أيض ًا الخروج إلى المكتبة مبكر ًا .لكن الصوت المتدفق من دواخله المرتج .نظر بات يدفعه شيئ ًا فشيئ ًا للنهوض والتوجه صوب باب الغرفة ُ مسعود إلى قفل الباب طوي ً يمد يده لفتحه ،لكنه تنازل عن ال قبل أن َّ فض ً ال النوم. الفكرة وأتجه إلى فراشه ُم ّ 39
حاجتان كانتا ت ّلحان على مسعود قبل النوم .األولى التأكد من إقفال باب المنزل ،والثانية زيارة الحمام وتفريغ كمية البول عن مثانته .حين أكملهما بالشكل المطلوب ،توجه لغرفته كجندي منهك ،تارك ًا المنزل يسبح في فضاء من الصمت المطبق .بعد أن وضع رأسه على الوسادة ِ َ صوت نقرات خفيفة من حنفية المطبخ. سمع ِه فضول لثوان ،أثار ُ تجاهل النقرات ؛لكنها زادت حتى صار وقعها كالطبل في أذنيه .مما أدى به إلى النهوض مسرع ًا للقضاء على مصدر االزعاج ،والعودة إلى الفراش منتصر ًا على الحنفية .وضع رأسه مرة أخرى على الوسادة، منتظر ًا عفريت النوم ،فطرقت في أذنيه نقرات مرة أخرى! .تساءل مع نفسه عن سبب النقرات الجديدة( :هل عادت الحنفية تقطر من جديد؟). نهض مرة أخرى متجه ًا صوب المطبخ ،لكن صوت النقرات اآلتي من حول اتجاهه صوبها .سلب انتباهه با ُبها باب غرفة األب المهجورة ،قد ّ والنقرات الخفيفة عليه! .تولدت قشعريرة بسيطة في أطرافه ،ثم بعثرها بحزم حين توجه صوب الباب ،متحسس ًا بسمعه سبب الضربات تلك. بين الشك واليقين ،والتسليم بأنها هواجس عادية يجب تجاهلها عاش مسعود لحظات قليلة .لكن َّ شكه تحول إلى رعدة في ساقيه ،لما رأى بشكل واضح مقبض الباب وقد تحرك لألسفل ،كأن يد ًا في الجانب اآلخر تتحكم به .تراجع مسعود إلى الوراء وهو يطالع الباب الذي لم يتأخر فتحه طوي ً ال .كاشف ًا عن فضاء من العتمة وريح باردة .د َّقق تكبر شيئ ًا فشيئ ًا، مسعود النظر بصعوبة ،إذ ظهرت نقطة بيضاء بدأت ُ حتى تحولت إلى سحابة ثلجية ،تحيط بشبح رجل طويل القامة ،أصاب النحول منه مصاب ًا بائن ًا .وتهدلت على كتفيه سحابتان بيضاوان من شعر 40
طويل .ولحية وشارب أبيضان طال بهما النمو حتى صارا كثيفين .لم تسمر منتظر ًا يفعل مسعود شيئ ًا ،ولم يحرك جزء ًا من جسده المرتعد ،بل َّ نهاية المشهد .اقتربت السحابة وفي داخلها الرجل الطويل الكهل ،حتى توسطت الهول ،ثم صدر صوت من مسعود: أننننت؟ ـ مممممن ... َ
لم يجب الشبح الكهل الطويل ،فقد أشار بيديه بحركة بيضاوية كحركات راهب ،ثم اختفت السحابة في تشتت وشيك ،حتى بان مظهر الشبح جيد ًا ،البس ًا ردا ًء أبيض ،وقد ارتفعت قدماه عن األرض مسافة متر ،ثم خاطب مسعود: ـ لماذا لم تفتح باب الغرفة؟
لم يجب مسعود ...تمتم وهو منكس رأسه بآية الكرسي بصوت خفيض ،مما أدى إلى صراخ الشبح األبيض غاضب ًا على مسعود، بصوت تش َّتت أبعاده في فضاء المنزل ،قاذف ًا في قلب مسعود كمية كبيرة من الرعب مخاطب ًا إياه: ـ أتهددني ...؟
ـ أبد ًا يا سيدي ...
ـ سيدك...؟
ثم ضحك الشبح مقهقه ُا متلذذ ًا وأردف بصوت واثق:
ـ أنا أبوك يا مسعود...
ـ أبي...؟ مستحيل !.. 41
ـ مغفل!..
ـ ما الذي أتى بك الليلة؟
ـ لماذا لم تتجرأ على دخول غرفتي كل هذه الفترة؟
ـ دخولها..؟!
ـ لماذا أذن تتفاخر أمام الخلق بوجود مشغل أبيك الخرافي؟
طأطأ مسعود رأسه مفتش ًا عن جواب مقنع لهذه الروح المتوهجة. وحين لم يجد حجة مقنعة تمتم بضعف: ـ ال أعرف!..
ـ ال تعرف؟ وماذا تعرف غير انزوائك في عملك ،وجلوسك في مقهى تعيس ،ومعاشرة أناس تدور على أفواههم حكايات مجترة؟. تحير مسعود في معرفة شبح أبيه بكل تلك المعلومات ،ثم سأل بلهجة المستغرب: ـ كيف عرفت كل هذا...؟
ـ أنا أتابعك ليل نهار ـ تتابعني؟
ـ نعم ..واعرف كل صغيرة وكبيرة تجري هنا .هل تريد أن أحسب لك عدد النساء اللواتي تستحضر أشكالهن حين تمارس عادتك السرية؟ .هل تريد أن اعد لك عدد دموعك وحركاتك الراقصة الحمقاء في الغرفة؟. حك مسعود رأسه بعنف ،ودلك عينيه ،ليتأكد من حقيقة المشهد، 42
ثم تمتم بصوت خفيض «إنه حلم!» .صرخ الشبح صرخة هزت مفاصل المنزل ،ثم بصق على وجه مسعود في حنق ،بصاق ًا ضوئي ًا لزج ًا مأل جوانب الغرفة كلها ،فعاد مسعود إلى وعي المشهد متوس ً ال هذه المرة: ـ أرجوك يا شبح أبي ...أرحل بعيد ًا ...أرجوك
ـ هل تطلب مني المغادرة من دون أن تدخل إلى غرفتي وترى ما خلفته لك طوال هذه السنوات؟. ـ ماذا خلفت لي؟
ـ لو أنك طاوعت الصوت اآلتي من بواطنك منذ البداية ودخلت من علي مشوار المجيء. قبل لوفرت َّ ـ أنا جاهز لكي أصنع ما تطلبه مني ولكن ال تؤذني أرجوك.
ـ لن أؤذيك ..يكفي أني آذيتك من قبل بتسميتك بهذا االسم. ستدخل إلى الغرفة ،تجد في زاويتها اليمنى البعيدة بعد حفرها مسافة ذراع كتيب صغير .مكتوب ًا فيه طالسم ُحلم. ـ ُحلم...؟
ـ نعم ُحلم ..ألم تنتبه لنفسك أنك لم تحلم منذ دهر
استعان مسعود بذاكرته البالية ،ليستحضر حلم ًا واحد ًا فلم يستطع. وحين الحظ الشبح الحيرة التي استولت على وجه مسعود ،تقدم نحوه مقرب ًا رأسه المتوهج من رأس مسعود هامس ًا بحزم:
ـ حين تضع ُ الكتيب تحت الوسادة ستحلم .حذار من عدم إتمامك الحلم في هذه الليلة؛إذ تحل عليك اللعنة .وال تنس فتح المغاليق؛فهو سبيل نجاتك الوحيد. 43
ـ ولماذا أفتح المغاليق في الحلم؟ هل نستطيع فتحهن اآلن وينتهي كل شيء؟ أنزل الشبح رأسه حتى المس حنكه أعلى صدره ثم خاطب مسعود بطريقة مخيفة: ـ لقد عشت حياتك خانع ًا ،غير ٍ مبال ،غليظ القلب ،مأسور ًا للماضي...
إنه ذنبي يا مسعود وليس ذنبك وها قد أتت الفرصة لتصحيحه.
أكمل الشبح كلماته ،رجعت السحابة الثلجية إلى التكوين مرة أخرى ،ثم أرتفع الضوء عالي ًا حتى أخترق السقف مغادر ًا المنزل إلى الفضاء ببطء مردد ًا( :وداع ًا يا مسعود)... ***
خيم الظالم على المنزل دفعة واحدة .انتبه بعد انصراف السحابةّ ، مسعود إلى الكهرباء التي غادرت هي األخرى ،ثم قفزت نصيحة الشبح المحشوة بالتهديد والوعيد إلى قلبه .أوقد مصباح ًا كهربائي ًا وصار يفتش عن ذريعة تنجيه من الدخول إلى غرفة األب المهجورة .لكنه أحس بالروح تراقبه ،فراح يبحلق في زوايا السقف القديم وهو يتمتم (يا لها من ورطة؟). سحل قدميه إلى المطبخ ،مفتش ًا عن مسحاة صغيرة في إحدى األدراج ،وحين عثر عليها حضنها بيد وحمل المصباح بيد أخرى ،متجه ًا إلى الغرفة العتيمة .أنزل قدمه ببطء مقدم ًا المصباح ذا الضوء الراعش، متحسس ًا تيار هواء بارد لم يحدد مصدره مع أن الغرفة كانت محكمة الغلق من الداخل .فال نوافذ وال ثغرات فيها!. 44
(لم يبق لدي وقت طويل) تمتم مسعود ،ثم راح يدور بالمصباح مستذكر ًا تفاصيل الغرفة التي لم يدخل إليها منذ زمن طويل .همس صوت الشبح مرة أخرى في أذنيه ،حول مكان وجود الكتيب «في الزاوية اليمنى »..حزم مسعود أمره بهذه الجملة ثم توجه مباشرة إلى ذلك المكان ،يقيس طول الذراع لكي يقدر حجم التعب الذي سوف يبذله في الحفر .لم تعترض على الحفر سوى قطعة من مربعات األرضية المثلومة .أزاحها بيديه ثم بان له وجه التراب الرطب األصفر .حين بدأ الحفر ،داهمه تساؤل((ماذا تفعل أيها األبله؟؟ هل تصدق شبح ًا قد تكون رؤيته كلها وهم ًا؟!)) لكن ذراعه المغروسة في التراب لم تستجب لتفكيره ،فقد كان الدافع متساوي ًا مع رفض الفكرة في القوة.
نزلت ذراعه حتى المرفق في حفرة طولية ،تحسس مسعود ُمغلف ًا ملفوف ًا ،وحين سحبه لألعلى وسلط عليه ضوء المصباح ،تبين أنها ل ّفة من الجلد مربوطة بخيط أسود عريض ومتين .التقطها وغادر الغرفة بعد أن قطع جزء ًا من الوصية ،مهرو ً ال إلى غرفته حام ً ال اللفة الجلدية. وضعها على سريره ،ووضع المصباح إلى جانبها ،وانهمك بشدة بفتحها. وألن الخيط الذي يلف الرقعة الجلدية كان محكم ًا ،لم يجد مسعود بد ًا سوى فتحها بالطريقة المتأنية ،مستعين ًا بزفير وشهيق عميقين ،كانا كفيلين ببعثرة بعض من توتره .حين فتح مسعود الرقعة ،وجد فيها ذلك الكتيب ذا الغالف البني العتيق .في تلك اللحظة عاد النور إلى الغرفة. أغمض مسعود عينيه برهة ثم فتحهما محدق ًا بالكتيب الملقى على فراش سريره .مرت حياته كشريط سينمائي سريع من أمامه مستذكر ًا أهم تنبه للوقت اللحظات التي مرت به .مضيف ًا هذه الليلة حدث ًا من نوع آخرّ . 45
إذ عبرت الساعة ضفة منتصف الليل ،والكتيب ذو الطالسم الغريبة في مكانه .تسللت فكرة صغيرة إلى قلبه ،بإلقائه في بالوعة الحمام أو في مزبلة مركونة على جانب باب المنزل ،لكن الفكرة تشتتت كدخان هش أمام صرخات وعيد الشبح التي مازالت تمأل أذنيه ،فقرر في تلك اللحظة إنهاء ما بدأه .أسرع راجع ًا إلى سريره ،ثم وضع الكتيب تحت الوسادة. دبت رغبة النوم في جسد مسعود .حين أكتسح جيش الخدر دماغه ،ثم استلقى على السرير من دون أن يمد ظهره ،فإذا بيد أثيرية تسحبه من كتفيه ورأسه ،جعلت مسعود يتأوه ،ويخفض جسمه تمام ًا على السرير. ***
أحس بحركة تحت رأسه ،نهض محدق ًا بالوسادة التي اختفت وحل محلها جسد بني كبير .هتف مسعود(ماهذا ..؟!!) .كان كتاب ًا مطروح ًا على أرض عشبية .نهض الكتاب وهو يسعل كالمريض صارخ ًا: ـ من أنت.؟
ـ أنا...؟ أنا مسعود ـ هل أنت كتاب؟ ـ أنا إنسان
ـ إنسان..؟ لم أصادف هذا المخلوق من قبل
انتبه مسعود إلى المنظر حوله ،غابة ذات أشجار متباعدة غير كثيفة وجو ال يدل على نهار أو ليل .ثم الحظ مسعود بعد ثوان قطيع كتب تسير على أربعة أرجل .فتساءل وهو يحك رأسه كطفل: 46
ـ أين أنا؟
ـ أنت في قرية الكتب
ـ هل أنت كتاب أم إنسان يرتدي كتاب ًا؟
ـ قلت لك لم أصادف مخلوق ًا يدعى إنسان من قبل
لم يستطع مسعود تفسير ما يدور حوله ،ولم يصنع شيئ ًا سوى التسلح
بالصمت .ثم أن الكتاب تكلم بعد بضع ثوان من الصمت: ـ أنا راع لماشية الكتب هذه
ممني ًا نفسه هناك ّ تشجع مسعود في الرد على الكتاب كاسر ًا الحاجزّ ، في التماشي مع المنظر الغريب متسائ ً ال: ـ ماشية الكتب؟!
ـ أنا راع ،ألم تقرأ اسمي على غالفي
ثم أشار الكتاب بيديه إلى مكان على غالفه مكتوب ًا عليه(راعي الماشية) .تساءل مسعود في عجب(( :كيف تعلمت مهنة الرعي أيها الكتاب؟)). قهقه الكتاب الراعي بقوة ثم هتف ببشاشة:
ـ أنا أرعى ماشية (شيخ قرية الكتب) .نجهز الماشية التي تُذبح وتسلخ وتُشوى على مائدة الشيخ في حفالته ووالئمه الكبرى .كل هذه الكتب التي تسير على أربعة هي كتب بين دفتيها معلومات وفيرة عن لحم لذيذ. (قرية الكتب؟) سأله مسعود فأجاب الكتاب الراعي: 47
ـ نعم قرية الكتب! .نعيش فيها بإمرة حاكمها ونظام مكتبتها.
قهقه مسعود حتى وضع يديه على بطنه من شدة الضحك ،والكتاب
الراعي يطالعه في استغراب ،ثم قال مسعود بصوت أعلى:
ـ إن كان للمكتبة لديكم حاكم ،فأنا من أكون؟ أنا يا صديقي حاكم المكتبة والقيم عليها.
ضحك الكتاب الراعي ،ثم ترك مسعود وحده ،وراح يهش على ماشيته مبتعد ًا ،وهو يتمتم بصوت ُمطعم بالقهقهة( :هذا المخلوق مجنون بال شك). ظل مسعود واقف ًا وهو يراقب الراعي كيف يسوق قطيعه صوب مساحة من العشب ،ثم تحرك حثيث الخطى باحث ًا عن القرية .وبعد مسيرة قصيرة ،الحت لمسعود على الجانب األيمن من الغابة مجموعة من الكتيبات ،يرقصن بصورة غريبة ،وكتب أخرى تصفق وتعزف بشكل صاخب .دنا مسعود من المنظر متخفي ًا وراء شجيرات متوسطة الطول. بعد ثوان وجيزة اكتشفت مجموعة الكتب تلك وجود مسعود ،فأقبلت هز كبيرهم ناحيته وصنعت دائرة حوله .رفع مسعود يديه كأسير حربَّ . رأسه المربع مشير ًا لمسعود باالقتراب .دنا مسعود من كبيرهم مسلم ًا، وعلى فمه ُطبعت ابتسامة عريضة كعربون صداقة .سأله كبيرهم ذو الشارب الكث والقبعة العريضة: ـ من أنت؟
ـ أنا مسعود
ـ هل أنت جاسوس لهم 48
ـ لهم..؟؟ من تعني ـ شقاوات المكتبة؟ ـ لم أسمع بهم من قبل ..أنا رجل غريب على هذه األنحاء ـ ومن يضمن ما تقول ـ شكلي ..فأنا ال أشبهكم كما ترون ـ الجواسيس يتنكرون دوم ًا
ـ قلت لك إنني رجل غريب ..وقد أضعت الطرق إلى قرية الكتب نظرت الكتب إليه ،ثم تبادلت النظرات ،وقد شاع االطمئنان وفترت حدة المشهد ،مما أثار في قلب مسعود األمان متسائ ً ال هذه المرة: ـ هل أنتم ُمطاردون؟
لم يجبه أحد سوى كبيرهم ذو الشارب الكث:
ـ نحن كتب غير مرغوب فيها في القرية .بعد أن ثرنا على شح الحبر،
ووضاعة الورق ،طاردنا شيخ القرية وشقاواته .فصرنا مشردين في
الغابات ،نعيش حياة الغجر وقطاع الطرق .قرية الكتب تخضع لحكم كل ّ (المكتبة النظيفة) ،ولها سلطة على ِّ سكان القرية .تمنع الكتب التي تعادي شيخ القرية من العيش في قريته ،وتسمح للكتب التي تواءم فكر
(المكتبة).
تنفس مسعود بصعوبة ،متأثر ًا بكالم الكتاب .ثم تساءل عن موقع
القرية تلك ،فأجابه الكتاب( :لماذا تريد الذهاب إلى هناك؟) .صمت 49
مسعود طوي ً ال حتى تفجرت أجابته التي أضحكت الجميع حين قال( :أنا القيم على المكتبة وحارسها الوحيد ،ولن أسمح لغيري بالتصرف هكذا بال حساب). قال كبيرهم وهو يحاول السيطرة على نفسه من الضحك:
ـ هل تعلم أين يعيش شيخ القرية؟
ـ ال أعلم!..
ـ يعيش في قصر مرصوف من الحجر المصقول على شكل كتب. وتحيطه أربع مكتبات من الكتب المسلحة باألوراق القوية ،واألغلفة الجارحة .وأنت تريد أن تخترق كل هذا الجيش ...أنت ميت أيها الغريب.
لم يهتم مسعود لكالم الكتاب ذو الشارب الكث ،نهض نافض ًا مالبسه ،ثم غادر المكان متوجه ًا لقرية الكتب .لكنه عاد بعد ثوان قليلة، يسأل عن الوجهة إليها واقصر الطرق .هناك تبرع كتيب صغير (يتحدث عن فضائل الحياة الزوجية) للمسير معه .شكر مسعود الجمع مغادر ًا مع الكتيب مسعود: الكتيب ،ثم أنه بالطريق سأل ُ ـ هل أنت متزوج؟
ـ ال ..لماذا تسأل؟
ـ خسارة ...لو كنت متزوج ًا لعلمتك فضائل وطرائق الحياة سعيد ًا مع عائلتك أنتبه مسعود في مسيره أنه فع ً ال لم يتزوج إلى هذه اللحظة !..وكيف 50
أستطاع الصبر كل هذه السنوات على الوحدة الرتيبة! .ظل الكتاب يتحدث طوي ً ال ،ومسعود هائم في ذكرى الماضي وتداعياته والمشاريع المؤجلة والتي كان من ضمنها الزواج ،حتى وصال ورأى مسعود من بعيد سور قرية الكتب القائم على شكل كتب طولية .شكر مسعود الكتيب، هب ماشي ًا بسرعة صوب القرية .أستقبله سورها العالي الذي يسبقه ثم َّ نهر من األوراق البيض ،وأشجار مرتبة على شكل أغلفة مج َّلدة .كان مسعود يناور في نظراته يمين ًا وشما ً ال ،مستطلع ًا المكان بحذر .عبر النهر على جسر مرصوف بإحكام ،حتى وصل إلى بوابة القرية المحشورة في سورها العالي. لم يكن مسعود قارئ ًا جيد ًا ،بل كان يخشى مواجهة الكتاب ،متمسك ًا بفلسفة أخترعها وآمن بها (فتح الكتاب يحتاج إلى جرأة كبيرة ،وإكماله حتى النهاية يحتاج إلى جرأة أكبر) .وإذا به يواجه عالم ًا من الكتب، كتاب ّبزاز على اليمين بجالد سوق كبير ،دكاكين تقف فيها كتب متنوعةٌ . باهظ ،يبيع أجلدة متنوعة ،حمر و سود داكنة .تجمهرت حوله كتيبات ٍ كتاب طبيب على جانب آخر، يبغين شراء أجلدة لهن وألطفالهن .عياد ُة كتب على لوحته (طبيب الكتب ..لمعاجلة أمراض األحبار والكلمات الممسوحة ..متخصص في جراحة الورق وكبسه) .أطلق مسعود نظره إلى الجانب البعيد من السوق الطويل ذي األرضية الحجرية .فلمح كتب ًا تحمل ُم ْديات صقيلة ،صنعت دائرة على كتاب ذي جالد ممزق، وهيئة فقيرة ،راكع على األرض .وكتاب عمالق يتوعده بمسح كلماته، وتمزيق أوراقه .وحين الحظ مسعود أنه الشخص الوحيد الذي يهتم بالمنظر تعجب! .فالسكان لم يبالوا بل لم يحولوا أنظارهم لحظة صوب 51
مر بالقرب من مسعود كتيب صبي ،يحمل في يديه علبة خشبية المشهدَّ . المسكر وطحين أوراق البردي .سأله فيها حلوى مصنوعة من الحبر ُ مسعود عن الكتب الواقفة حول هذا الكتاب الراكع ،فأجابه الطفل: (إنهم شقاوات المكتبة وزعيمهم .منذ وقت وهم يطاردون كل كتاب لم يدفع اإلتاوة في سوقنا الكبير) .تحير مسعود هذه المرة وسأل الكتاب الصبي عن إتاوة السوق فرد عليه الصبي بذكاء من عجنته التجارب:
ـ لعلك غريب عن القرية؟! .اإلتاوة هنا هي مجموعة من األفكار التي تسلبها شقاوات المكتبة من السكان .كل كتاب عليه أن يدفع فكرة من مجموعة أفكاره التي يحتويها بين غالفه .وهذا الكتاب فقير كما ترى ،إذ لم يبق منه سوى غالفه ،بعد أن دفع َّ كل أفكاره ضريبة لشقاوات الكتب وسلطة المكتبة النظيفة. وألن مسعود من النوع الذي (يمشي قرب الحائط) ظل يراقب المنظر بعد أن أرجعه إلى الماضي السحيق .لقد تع ّلم مسعود طيلة الفترة الماضية ،مع حكومات كان يصفها بالبوليسية حكمت البالد، أن ال يسمع وال يرى وال يتكلم .كي يعيش بأمانٍ ، خال من االلتزامات الفكرية ،والطرائق التي سلكها الثائرون .لكن مسعود لم ُيوفق في كثير من المواقف التي تداهمه فيها التهائم وهو نائم .وهذا الموقف شبيه بهن، حين صرخ زعيم الشقاوات برفاقه ،محو ً ال حركتهم صوب مسعود الذي تلبسه الهلع .وصل الشقاوات إلى مسعود وأحاطوا تسمر في مكانه ،وقد ّ به ،ثم أقبل زعيمهم وهو يحك الجزء السفلي من غالفه األسود القوي. مستفسر ًا من مسعود: ـ من أنت؟
52
لم يستطع مسعود تجميع أفكاره ليجيب ،ثم أنه فكر في إجابته مهما كانت فهي ناقصة المصداقية واإلقناع .متمني ًا في تلك اللحظة أن يفتح
غالف الشقي ،ويقرأ ما في قلبه من أفكار ،لكي يجيبه بما يوافقها .حين طال سكوته هتف الشقي بحنق وهو يشير إلى مسعود مشير ًا بسالحه : ـ ألم تسمع..؟ قلت لك من أنت وأن أستمر سكوتك دفعتك إلى
المخزن.
ـ أنا مسافر
ـ من أين؟ والى أين؟
ـ من عالمي إلى عالمكم ـ أين يقع عالمك؟
ـ عالمي؟! ..عالم البشر
ـ بشر؟ ..أذن أنت جاسوس لعين لقرية معادية
ـ ال ال أرجوك يا سيدي ..أنا غير مرتبط بأية جهة غير نفسي
ـ كلكم تقولن هكذا .وحين تُحبسون وتُعذبون يتبدل الكالم ـ صدقني هذا ما أؤمن به
ـ اعتقلوه وقيدوه ..سنأخذه إلى مخزن المكتبة لنرى صدقه من كذبه.
ثم تكالبت الكتب ذات السكاكين الالمعة ،واألغلفة الخشنة ،على
مسعود الصارخ( :لقد فهمتم كالمي بالخطأ ،أنا رجل عادي ،أرجوكم ...آه). أقتاد الشقاوات مسعود مقيد ًا إلى مخزن المكتبة (سجنها) ،حيث 53
سيعرض على (المكتبة النظيفة) في موعد لم ُيحدد .في ذلك األثناء، ُ شعر مسعود بخيبة أمل كبيرة وورطة أكبر .ومما زاد في قلبه الحنق ،أن السوق الكبير لم يهتم ،بل لم ينظر احد له أثناء اعتقاله ،ولم يعترض أحد ،ولم ينبس كتاب بكلمة أو بحرف واحد.
مخزن المكتبة مكان تخشاه أغلب الكتب .فهو مكان رطب ومخيف. تتهرأ في زنازينه األغلفة ،وتُمحى األفكار ،وتموت السطور .لقد صادف مسعود في اقتياده للسجن سجناء ُيعذبون في زنازين ضيقة ومظلمة ،مع اختالف طرائق التعذيب .الحظ كتاب ًا معلق ًا وكتاب آخر يعذب به لكي يسحب اعتراف ًا منه بخلع صفحاته الواحدة تلو األخرى .كتب في إحدى الزنازين محروقة للنصف بالنار ،وأخرى ّ رشوا عليها ما ًء ينهش أطرافها. حين وصل السجان بمسعود إلى زنزانته المقرر رميه فيها ،دفعه بشدة إلى داخلها ،فوقع مسعود على األرض متأوه ًا. بعد أن غادر السجان ،التفت مسعود إلى حاله وما وصل إليه نتيجة الوصية الكارثية من أبيه ،تمنى لو انه لم يدخل إلى المنزل ليلتها ،وظل هائم ًا في الشوارع على هذه الورطة الكبيرة .في تلك اللحظة نبس صوت من الجانب األيمن في السجن ،مسلم ًا على مسعود بطريقة وكأنه ينتظر قدومه إلى الزنزانة تلك .د ّقق مسعود النظر في جانب الزنزانة األيمن، حيث يعم الظالم المكان ،ولم يعد يميز الشكل بصورة دقيقة .وقف صاحب الصوت وأقبل إلى مسعود يمشي على مهل ،حتى بان لمسعود كتاب ذو ورق متعب ،وجالد أنهكته الضربات والتعذيب .سأله مسعود ٌ بلهفة: ـ من أنت .؟
54
ـ نعم يا صديقي
شعر مسعود بنوع من الراحة حين دخلت كلمة (صديقي) في أذنه .ثم سأله مسعود مرة ثانية: ـ ما هي تهمتك؟
المعتقل مبتسم ًا: أجابه الكتاب ُ
ـ ال جدوى من تحديد التهمة في هذه القرية ،مادام رفض الواقع ُيعتبر تهمة كبرى ـ يعني ماذا؟ (سأله مسعود ببالهة فرد الكتاب من جديد):
ـ أنا مسجون هنا بتهمة العمالة والتجسس والخيانة العظمى ضد نظام المكتبة النظيفة ،وسيحاكمونني في القريب العاجل مع معرفتي التامة بحكم المكتبة ُمسبق ًا. ـ وهل أنت فعال خائن؟
ـ تهمة الخيانة في قريتي تطلقها المكتبة على كل كتاب ال يوافق فكرها ونظام الفهرس فيها. صمت مسعود برهة ثم خاطب رفيق سجنه مشفق ًا على مصير صاحبه:
ـ هل أنت خائف من الموت؟ ـ أبد ًا..
ـ لماذا؟
ـ الموت عندي أفضل من تصحيح كلماتي بأخريات ال أؤمن بهن... 55
المعتقل إلى مسعود طوي ً ال وسأله بثقة من أن الجواب ثم نظر الكتاب ُ سيكون لصالحه: ـ أنت إنسان؟
ـ أنا...؟ نعم إنسان ..ولكن كيف عرفت هذا؟! ـ ألم يخبرك بهذا احد من قبل؟
ـ نعم نعم ..أنا اعرف جيد ًا هذا ،ولكن في هذه القرية لم أصادف كتاب ًا يعرف ما هو اإلنسان ـ ألن المكتبة النظيفة قد محت كل كلمة أو فكرة تشير إليه
ـ كيف؟
ـ في السابق كنت القرية تعج بروائع الكتب المحترمين .لكن حكومة المكتبة النظيفة قتلت بعضهم وشردت البعض اآلخر ولم يبق فيها غيري وبعض السجناء المعتقلين في هذا السجن الكبير.
نظر مسعود إلى الكتاب ،ثم دقق في عنوانه جيد ًا ،فوجد الكتاب يحمل عنوان (كيف تصبح إنسان ًا)فسأل مسعود الكتاب: ـ هل أنت متعاطف مع اإلنسان؟
ـ لقد بلغت إلى هذا المصير بسبب هذا التعاطف ،وألني لم أجد شيئ ًا أجمل من أن تكون إنسان ًا حقيقي ًا. ـ وكيف برأيك يصبح الفرد أنسان ًا حقيقي ًا؟
ـ حين تقول ما تؤمن به بال أكمام تكمم ففاك ،فأنت إنسان حقيقي. 56
صعقت هذه الجملة مسعود بعنف ،حين تراءى له أن هذا الكتاب
ٌ إنسان حقيقي .ومسعود المكون من المكون من الورق والجلد والحبر، اللحم والجلد والقلب والدم ما هو إلاّ جماد ُمسير .انتبه الكتاب إلى النكسة في وجه مسعود ،فحاول إرجاع الحديث إلى دفقته األولى:
نمر بمرحلة نضعف فيها وهذا ليس بعيب .العيب أن نراوح في ـ كلنا ُّ أماكننا ضعاف ًا خانعين .وان ال نفكر يوم ًا في فتح المغاليق. رفع مسعود رأسه مستغرب ًا من كلمة (مغاليق) فقد سمعها من قبل!. ثم تذكر جيد ًا كالم شبح أبيه ،محاو ً ال هذه المرة استدراج الكتاب لعل
في كالمه فائدة لمسعود:
ـ وكيف يفتح اإلنسان ِمغالقه؟
ٍ َ اإلنسان الذي العالم إنسان ِمغالق واحد أو عدة .سيكافئ ـ لكل ُ
يختم حياته بفتح كل مغاليقه التي تمنعه من الشعور بإنسانيته وتفرده ..
في تلك اللحظة أحس مسعود والكتاب بحركة عنيفة في فتح باب
السجن ،حيث تفاجئا بدخول زعيم الشقاوات بنفسه ،بعد جولة في
مخزن الكتب .واخبر االثنين بدنو محاكمتهما ،حيث ستعقد المكتبة النظيفة أولى جلساتها في ساحة القرية ،وبحضور شيخ القرية .نظر
الكتاب لمسعود وقال بهدوء كبير( :سينتهي كل شيء). ***
ٍ إنسانية مكث مسعود مع صديقه (الكتاب الثائر) ،تعلم منه الكثير عن
وصفها مسعود بالضائعة .أحس مسعود بغالتها(اإلنسانية) ووقعها في 57
النفس .تعلم من كيف يشعر اإلنسان بالضعف فيقوى ،وكيف يشعر بالتعاسة فينتصر آم ً ال .تعلم مسعود من صديقه الكتاب الثائر الذي فاحت أوراقه بعبق اإلنسانية ،أروع ما في اإلنسان من شفقة ورحمة وانتصار للضعيف والوقوف بوجه الظلم .وتفاجأ مسعود أن طيلة حياته التي قضاها كان رج ً ال مغبون ًا ،وأن يومه القادم أفضل من يومه الماضي بصحبة صديقه ورفيق سجنه .لكن الوقت لم يمهلهما الكثير ،فقد دفعوهما إلى المحاكمة سوية ،حيث تجمهر الناسُ ، وأعدت الساحة وزُ ينت بشرائط وقورة ،ولوحة كبيرة لكتاب يحمل ميزان ًا ،وطاولة مستطيلة كبيرة مرتفعة. ومجموعة من الحراس وقائد الشرطة وكتب تهتف بحياة شيخ القرية والمكتبة ،وتلعن الجواسيس والخونة. كان شيخ قرية الكتب جالس ًا على منصة عالية ،هو وعدة من أتباعه. وبعد مدة وجيزة دخل إلى ساحة المحاكمة مجموعة من الكتب التي بان على أغلفتها الوقار .وأدخل الشقاوات على الفور مجموعة من المساجين ،كان من بينهم مسعود ورفيق سجنه .وقف المنادي بالقضايا، ثم بدأ بقضايا الخيانة العظمى ،وقد ُأجبرت السكان على الحضور لرؤية المحاكمة العلنية. نُودي على الكتاب صديق مسعود (كيف تصبح أنسان ًا) ثم أنبرى المدعي عليه بقراءة خطبة طويلة عن الخيانة والتجسس والعمالة ،وكيف أن هذا الكتاب قد خالف كل هذه التعليمات ،وصار يحتفظ بأفكار قديمة بالية .وهي عبارة عن سموم خطيرة تهدد مستقبل القرية والكتب والمكتبة .وبعد أن أكمل المدعي قراءة خطبته ،حكم قضاة المكتبة عليه باإلعدام وحكم اإلعدام في قرية الكتب هو حرق أوراق الكتاب حتى 58
الموت .لكن الكتاب في ذلك الوقت أراد من المحكمة أن تمنحه فرصة للكالم بأسطر قليلة .تمت الموافقة على طلبه فوقف غير مكترث هاتف ًا:
علي باإلعدام وأنا لم أدافع عن نفسي .وليس في كالمي (لقد حكمتم ّ هذا طلب الرأفة منكم .بل ألني مشفق عليكم من ضياع مفردة اإلنسانية
من قلوبكم البائسة .أنا ال أخاف من النار فهي أرحم من الحياة معكم. ولكن خوفي من مستقبل سيأتي ،وأطفال كتبنا المقبلة ال يفقهون شيئ ًا عن اإلنسانية ،منشغلين بالحبر والكلمات المزيفة واألغلفة المنمقة .سيأتي يوم سينفد فيه حبر شيخ القرية ،ولن يستطيع كتابة ما يحلو له على أرواقنا
المقبلة .))...في تلك اللحظة وقف شيخ القرية على المنصة ،وقد بان للرائي قلم ًا أسود ،طوي ً ال ،ذو رأس حاد يسيل حبر ًا أسود .ثم أشار برأسه
للشقاوات بإيقاف الكتاب ،ورميه في شعلة نار كبيرة صنعها كتاب ملثم بلثام غامق ،يمسك في يديه مشع ً ال .ثم ُدفع الكتاب المقيد ،على لوح عال تلتهب في أسفل نهايته النار المخصصة لإلعدام .قذف الشقاوات
الكتاب في النار مع صرخات تعجب وخوف من الجمهور ،وصراخ عال من مسعود الذي وقف يطالع المشهد وقلبه يدق بقوة .مالحظ ًا أن صديقه الكتاب الثائر لم يصدر صوت ًا حين التهمته النار وأحرقت صفحاته .في ذلك الحين وقف مسعود صارخ ًا( :أيها المجرمون ...لقد قتلتم أفضل حدق القلم (شيخ القرية) بمسعود ثم سأله من على كتاب بينكمّ .))!!.. المنصة( :من أنت؟) .أجاب مسعود بثقة كبيرة(( :أنا حارس المكتبة
والقيم عليها)) .تفجرت الساحة ضاحكة من جملة مسعود األخيرة ،وقد
كان شيخ القرية أشد الضاحكين ،حتى سال من شدة ضحكه حبر على صدره ،ملطخ ًا أجزاء من المنصة .ثم رد على مسعود( :إن كنت أنت 59
القيم على المكتبة ،فمن أكون أنا؟) .وبعد أن خفتت ضحكات الجمع، هتف القلم (شيخ القرية) مخاطب ًا مسعود ومنبه ًا الجمع( :بحبري هذا سوف أكتب تأريخ قريتي ،ولن أسمح للمتعاطفين مع الخونة بالعيش هنا بسالم) .رد عليه مسعود ضارب ًا صدره( :ومن م ّنا ال يتعاطف معه؟. لقد أحرقتم كل إنسانيتي المؤرشفة في بواطن هذا الكتاب أيها األوغاد. ّتب ًا لكم وسحق ًا لمكتبتكم الوسخة). جاء األمر برمي مسعود في لهيب النار من قبل شيخ القرية ،دفع الجالد مسعود على اللوح الخشبي المؤدي إلى الشعلة الكبيرة ،كان مسعود يرفض المسير ضارب ًا المنصة بقدميه ،ولكن الكتاب الجالد كان أقوى منه ،فدفعه بشدة في النار .سقط مسعود في الشعلة صارخ ًا( :تب ًا لكم أيها االوغاااااااااااااد). ***
نهض مسعود مفزوع ًا على فراشه ،وقد تبللت الوسادة بالعرق .نظر في االتجاهات حوله ،وكان صدره يتنفس بسرعة ،مع ضربات متتالية من قلبه المرتعد .كان نور الشمس يطرق بخفة على النافذة ،والصباح أعلن بداية يوم جديد .حمد اﷲ على صحوته وانتهاء ذلك الحلم العجيب. نهض مسعود من فرشه مرهقة مفاصله ،متأم ً ال الغرفة والمنزل ،وباب غرفة أبيه المقفلة بإحكام .عاد إلى الوسادة ليكتشف اختفاء الكتيب أيض ًا! .ثم هرع إلى الغرفة فاتح ًا بابها ،مفتش ًا في زاويتها اليمنى ،والتي لم ير أية آثار حفر فيها .نظر طوي ً ال الى صورة أبيه المعلقة في الغرفة ،ثم أزالها عن الجدار ،منظف ًا تفاصيلها بنفخة شديدة ،وراح يفتش عن موقع
مناسب لتعليقها في صالة المنزل .عاود مسيرته اليومية ،تناول فطوره، 60
رتب حاجياته متجه ًا إلى مكتبة المدينة .وقبل أن يخرج من المنزل، نظر إلى المرآة المركونة جانب الباب ،تناول الخرقة ماسح ًا الغبار عنها بلطف ،لتظهر صورته ناصعة نظيفة .تأملها طوي ً ال ثم خرج إلى المكتبة وفي قلبه شوق لمالقاة (صديق ثائر) مركون على إحدى رفوف المكتبة.
61
الجرو ِ ُ بطمأنينة المساءات .منذ متحرش ًا ينقطع، والعواء ال منذ أن ُك َّنا صغار ًا ُ ُ ِّ ٌ ملتصقة بصمغ الماضي ،حين ظ ّلت أن ُك َّنا صغار ًا وصور ُة ذلك الجرو لما أرضيـنا غريزته باللعب والقفز والنباح تُخايلنا وهو ُ يركض وراءناّ ، ُ ُ القرية وأه ُلها ،نركض تتصرف غبطة وسروراُ .ك ّنا صغار ًا ال نفهم كيف في الدروب ،معلنين َ عبث الطفولة وبراءتها ،في أز َّقة قرية متخمة بالتص ّنع سور طويل ،أقنعونا أن خلف السور والمداهنة .قري ُتنا الصغيرة يحيطها ٌ لصوص ًا ووحوش ًا وغيالن ،وأن للقرية عين ًا ال تنام وال ُّ تكل (حارسها ُ نسرق ِمن وقتنا دقائق لنتجمع خط ًا يحرس بوابتها العالية). األمين الذي ُ غير منتظم نطالع البوابة والحارس الذي كان يتركها َّ كل صباح قبل أن جمر ُ أنفاسه األخيرة. يلفظ َ يغادر إلى بيتهُ ،مخ ِّلف ًا اسطوانة معدنية فيها ٌ يجر ذات صباح وحين أنهى ُ حارس البوابة نوب َة حراسته الليلة ،راح ُّ خلفه نعاسه وإرهاقه وجرو ًا صغير ًاُ .دهشنا حين رأينا الجرو يقفز حول الحارس ،متم ّلق ًا ،نابح ًا ،مهرو ً ال أمامه وراجعا خلفه .حينها عرفنا أننا جرو وديع ،أبيض لسنا األطفال الوحيدين في القرية ،فها قد التحق بنا ٌ فاقع له ذنب ال يكف عن التلويح ،وعينان تطاردان أي حركة تصدر هنا وهناك .تس َّللنا ذات يوم ،صوب بيت الحارس المنزوي في آخر القرية، 62
ٌ ُ أدرنا َدي، تي، ورائحة عشب ن ّ وزقزقة نسمعها حيثما ْ تدفعنا نسائم ربيع َف ّ ُ الليلة البارحة، أسماعنا .وجدنا الجرو نائم ًا قرب باب المنزل ،وقد أنهكته والحارس أيض ًا ُّ أحس بدبيب يغط في نوم عميق كجروه الذي ما أن َّ أقدامنا ،وصرخات إعجابنا به ،وابتهاجنا بشكله ،حتى اندفع نحونا نابح ًا احدنا عصا صوب مكان في زاوية المنزل، /قافز ًا/مبتهج ًا مثلنا ،رمى ُ سحت فنزلت عليهَ ،م فأسرع ناحيتها الجرو ،التقمها وعاد بها نحونا، ُ ُ شعر ونباحه ال ينقطع. على ظهره َ ُ التفت الجرو إلى باب المنزل حين َ بشيء لم نشعر به من شدة الحبور والعجب ،انتبهنا إلى الحارس وهو يلوح بيديه العن ًا وجودنا ،شاتم ًا وقوفنا حول الجرو .لم نتمالك أنفسنا، وتدافعنا مهرولين إلى شارع آخر ،وقد لفظت مثانة ِّ كل واحد منا ما بها من البول خوف ًا من صراخ الحارس الحازم ..صورة الجرو وفكرة العودة إليه قد راودتني ليلتها ولم أكف عن التفكير به. رت قنبل َة الفكرة بين أصدقائي( :دعونا نرجع إلى فج ُ في اليوم التاليَّ ، الجرو مر ًة أخرى )...فلم يوافقني ُج َّلهم ،وتركوني أقطع لهم الوعو َد بمراوغة الحارس ،واللعب مع الجرو .لكنهم خافوا ،فقررت الذهاب الشجاعة واإلصرار .تركتهم خلفي مهرو ً ُ ال مألت قلبي بمفردي ،وقد ْ قاومت على أن ال غرست أظفارها في ظهري ،لكني وصيحات وعيدهم ُ ُ ْ خفي التفت وأرجع ،فالجرو في انتظار صديق لكي يلعب معه، َ ٌ وصوت ٌّ صديق َ ٍ لذاك الجرو الوحيد). خير كان يهمس في أذني َ ُ (أنت ُ ٍ خفيفة جسدَ األرض ،وأف ِّت ُ ش أجس بأقدا ٍم ُ وصلت إلى منزل الحارس ُّ مت بسبِ َس ًا ،عله يخرج لي وأرا ُه .لكني ُص ِد ُ َ بعيني عن الجرو ،هامس ًاُ ،م ْ َّ صوت نباحه عالي ًا ،من دون أن أعثر على مكانه! .ف ّتشْ ُت سمعت حين َ ُ َ 63
التركيز والتصميم على العثور فحاولت وتعبت من دون جدوى، كثير ًا َ ُ ُ عليه ،فسحبني صوت ُُه شيئ ًا فشيئ ًا إلى ت ّنور ْ ِ آثار قد ُبن َي حديث ًا ،ومازالت ُ اليد التي َب َن ْت ُه َّ كل النوافذ سوى نافذة ور كبير أقفلت ُ ْ البناء واضحة عليه .ت ّن ٌ علمت ساعتها أن الجرو صغيرة في أسفله ،كان يتس َّل ُل منها الصوت، ُ فاقتربت منه َح ِذر ًا ،وما أن تحسس رائحتي ،ظل ينبح محبوس في ال ّت ّنور، ُ ٌ حاولت اشعر به يبكي خوف ُا من مكانه المظلم. وأقسم أني كنت عالي ًا، ُ ُ ُ وتأخري لم يكن إيجا َد منفذ لكي أساعده على الهروب ،لكنني لم أفلحّ ، مد عنقه من نافذة المنزل، لصالحي هذه المرة ،حين لمحني لما َّ ُ الحارس ّ صوب منزلنا فخرج راكض ًا ورائي بعصا غليظة يحملها معه دوم ًا ،هربت َ ُ كانت يعصف في أذني، وصوت الجرو ُ ُ عينيْ ، والدموع التي لم تستقر في ّ المعتقل. خير دليل على حجم اشتياقي وألمي على صديقي ُ ُ ***
َ واعدوا رجال القرية ـ الذين فتلوا شواربهم، سمع ُتهم يتحدثون ـ ّ لجلساتهم المتكأ المألوف في برانية شيخ القرية ،مع الحارس الذي راح كنت محشور ًا يشرح بطوالته في حمايتهم وحراسة بوابة قريتهم العاليةُ . إلى جنب أبي ،لكي استمع قهر ًا إلى حديثهم الرتيب ،وضحكاتهم انتبهت بقوة وتوسعت أحداقي لكي أرى المصطنعة .لك َّنني هذه المرة ُ تلتهم َّ َّ كل الكلمات ،حين كل تفاصيل المشهد ،وانتصبت أذناي لكي َ الحارس عن جروه المحبوس ،وقصة العثور عليه ،وتدريبه لكي تحد َث َّ ُ دبره ،فهو أراد يعاونه في حراسة البوابة .وعن أطفال أرادوا إفساد ما َّ جرو ًا يربيه ليكبر ويصير وحش ًا يحرس باب القرية ال جرو ًا أليف ًا يالعب فقرر الحارس أن يبني ت ّنور ًا يحبس األطفال ،وال يفقه من الغلظة شيئ ًاّ . 64
َ غير الحارس من رائحته الجرو فيه لكي يتوحش ،ولن يعرف أحد ًا َ المعتادة حين يرمي إلى الجرو ما يزود من طعام( .إذن سيكون للقرية شيخ القرية الحديث بسؤاله، كلب يحرس بابها هذه المرة؟) هكذا َخ َت َم ُ فلم يجبه الحارس إلاّ بهزة رأس واثقة .تساءلت حينها بيني وبين نفسي ألح على نفسي (كيف لذلك الجرو األليف أن يصير وحش ًا؟). ُ ورحت ُّ حر ًا مرة أخرى .كيف.؟ ومع من .؟ أن تطاوعني وأجعل ذلك الجرو ّ كلها أسئلة تطوف في مخيلتي التعبة ،ومشاريع كبيرة أرهقت يومي، عرفت أمي وأبي ما اشعر به فنهراني عنه وأشعلت النار في غابة أفكاري. ْ بكيت من داخلي ،فلم يساندني احدٌ ،والجرو المسكين في وبكيت.. ُ ُ طريقه إلى التحول إلى وحش عربيد.
األيام كالبرق في سماء الزمن ،وصور ُة ذاك الجرو وصوتُه مر ْت ُ َّ ساعدي الخشن في الشعر علي بين الحين والحين .ن ََب َت ّ ُ ُ يحلاّ ن ضيفين ّ وأجزاء من جسمي الذي بدأ ُ ُ الحزن أيض ًا في يلفظ طفول َت ُه ،كما ن ََب َت ِ أخبار الحارس وأخبار كلبه وربت به .نسمع اهتز ْت ارض قلبي ،التي َّ ْ َ ُ يعرف المخيف الذي لم يره احد .تناقلت الناس أن الجرو صار كلب ًا ال فجر ًا .وقد َّ يخرج معه لي ً حذ َر غير الحارس ورائحته. ُ ال ويرجع معه ْ َ ِ مغبة التقرب صوب منزله إن لم يكن موجود ًا، ُ الحارس أهل القرية من ّ ٌ (وحش) ال يرحم ،وال تأخذه بالمعضوض كلب إذ ينتظرهم في المنزل ٌ رأفة .فخاف ُ وتبو َل وارتعبت نساؤها، وتهي َب رجا ُلها، أهل القرية ْ َّ َّ َ األطفال األمهات صارت سيرت ُُه قص ًة تخيف بها أطفالها في كل مرة ،فقد ُ ْ تعودوا الذين يعاندون النوم .وبطوالت ُُه ْ غدت فخر ًا لرجال القرية الذين َّ المباهاة ببطوالت غيرهم ،كما تتباهى المرأة الصلعاء بشعر أختها. 65
والحارس لم ينل إ ّ ال االحترام والتقدير والتبجيل من شيخ القرية وأهلها، حتى َّ زف القدر إلى الناس خبر ًا أصابهم بالذعر( .لقد هرب الكلب )... الحارس نبأ تمرد كلبه ،حين شاهده جمع غفير راجع ًا من عند هكذا تال ُ باب القرية وحيد ًا ،وحين سألوه عن سبب هروب كلبه أجابهم( :لقد طع ،فضرب ُت ُه بالعصا ،لكنه نبح في وجهي ُأ َ فلم ُي ْ صيب بالجنون ...نهرت ُُه ْ وقد تطاير الشر من عينيه ،وحاول في النهاية أن يعضني ،فضربته بحجر، وهرول هارب ًا مني والزبد يتطاير من فمه ولسانه المندلع .خذوا حذركم يا أهل القرية ...فالكلب سائب اآلن ولم تعد لي سيطرة عليه) .هلع ُ أهل س اآلن في إحدى األمكنة، القرية جميعهم حين علموا بان الكلب ْ يخ ُن ُ وال يعلم أحد كيف يظهر وكيف يختفي .فاختفى األطفال من الدروب، َ الناس في منازلهم سوى الحارس الذي واختبأ وأقفلت الدكاكين باكر ًا، ُ أوكلوا إليه حماية قريتهم ،وهو من تصدى حالف ًا لهم أن يكمل مشواره بال كلل وخوف .كيف ال وهو الحارس الذي أمنت القرية في عهده ونامت واستقرت .أنا الوحيد الذي نام ليلته مرتاح ًا ،ع َّلني أعثر عليه يوم ًا ،وكنت علي؟ هل يتذكر رائحتي؟ ماذا لو لم يتذكرني اسأل نفسي( :هل سيتعرف َّ وعضني !..حينها سيكون ألم غدره بي أشد من ألف عضة). ***
الغابة من ِّ ُ الشتاء صباحات ُُه بارد ٌة في قريتنا التي ُّ والفجر كل جهة، تلفها ُ ُ ما أن يتس َّلل على مشارفها ،حتى نجد السوق قد فتح فمه للمتبضعين، تهز أترب َتها الخطى السائر ُة ذهاب ًا وإياب ًا .كعادتي خرجت حيث الشوارع ُّ إلى دكان أبي الذي ينتظرني َّ لت مسير َة حو ُ كل صباح ،لكنني هذه المرة َّ صوب جمهرة من الناس َّ شكلوا دائر ًة وهم ينظرون إلى شيء خطاي َ 66
حيث ُمدِّ َد بشعُ ، على األرضَ .حشَ ُ منظر ٌ رت رأسي بين أكتافهم فأذهلني ٌ بلعوم ُه و ُن ِه َ صدر ُه ،وسالت دماؤه حتى مألت ش حارس البوابة وقد ُذبِ َح ُ ُ ُ َ الجمع مناشد ًا وصرخ أصوات االستغاثة، المكان كبركة حمراءَ .ع َل ْت ُ ُ فانتشر الخبر كالنار في البارود ،وتجمع ُ أهل بحمله بعيد ًا عن الطريق، َ شيخ القرية القرية جماعات جماعات ،يتداولون الحادثة برعب دفيقُ . ُ أمر الحارس ومقتله البشع، أجتمع فيه أعد مجلس ًا َّ َ الرجال ،ليتداولوا َ مخالب حاد ٌة وأيقن الجميع أن الحارس مات معضوض ًا وقد عبثت َ ُ شيخ القرية على الرجال أن قلب ُه الذي اختفى .فأشار ُ بصدره مستخرج ًة َ شيخ احدهم الباب، فسكت الجميع ولم ينبسوا بكلمة .نظر إليهم ُ يحرس ُ َ خيم الوجوم على وجوههم ثم قال متهكم ًا( :هل القرية مستغرب ًا بعد أن َّ تريدون أن أحرس أنا الباب..؟) .فسكتوا ولم يتبرع أحد بهذه المهمة .ثم شيخ القرية عن أج ٍر كبي ٍر لِ َم ْن يتبرع لحراسة البوابة ،لكن سكوت أعلن ُ الرجال َّ الشيخ في وجوههم ُمعلن ًا عدم رضاه انفجر ظل مستمر ًا ،حتى ُ َ ورغبته في أن يغادروه في الحال.
قص علينا ماجرى في بيت كنت أنا وأمي في المنزل ننتظر أبي الذي َّ الجميع أن َمن أيقن شيخ القرية وحين سألنا ُه عن الفاعل أجابنا( :لقد َ ُ كلب الحارس المسعور) .وفي اليوم التالي باتت القرية فعل الفعلة هو ُ الليل ثقي ً مر ُ عانت من صراخ الريح ال هذه المرة ،والشبابيك ْ بال حارسَّ ، الشتوية .صرنا نشتاق إلى الشمس ونورها .وبالفعل أتى ال َّنهار هذه المرة حام ً ال في جعبته مفاجأة أخرى ،حين خرجنا إلى سوق القرية فوجدنا جثة رجل يبيع اللبن يخرج باكر ًا َّ كل يوم ،وقد ُم ِز َق بلعومه شر ُ حالة من داهمت القرية صدر ُه بمخلب حاد .هذه المرة تمزيق ،و ُفتِ َح ْ ُ 67
الذعر والهلع ،فاجتمع الرجال من ِّ وقر َر الجمع في بيت شيخ كل بيتَّ ، َ أشعل القرية أن يجدوا الكلب ويقتلوه ويريحوا القرية من شره ،وبالفعل
الرجال المشاعل ،واجتمع ّ كل خمسة رجال على حدا ،ليبحثوا عنه في دروب القرية لي ً ال ،لم يبق في البيوت غير األطفال والنسوة الخائفات، وفي بيتنا لم تبق سوى أمي ،ألنني هذه المرة غافلت أبي الذي حمل الكلب ليأخذ بثأر القرية منه .تبعتهم وهم يحومون في مشعله يطلب َ الدروب بحث ًا وتفتيش ًا ،مروا على خربة القرية ،وعلى جانبي السور، وصعد آخرون فوق المنازل ،فأضاءت المشاعل فضاء القرية( .ها هو ذا يركض هناك ...الكلب األبيض) هتف أحد الرجال ،فركض وتبعه رجال يحملون السكاكين الطويلة ،والبنادق المحشوة ،والقلوب المملوءة بالغيض والحقد .تبعتهم فرآني أبي الذي صرخ مذعور ًا من حضوري، فأقسمت له أن الكلب يعرفني ،وأنا قادر على ترويضه وإخفات زمجرة ِِ علي وانطلقَ خلفهم وراء الكلب وحشيتهَّ ، ضمني إلى حزبه خوف ًا َّ وجماعة اتجهوا شما ً ٌ ٌ ال ،فلم يبقَ سوى جماعة اتجهوا يمين ًا المطلوب. الدرب المؤدي إلى منزل حارس البوابة ،اقترب الرجال صوب المنزل، س فد َّلهم على الكلب عواؤ ُه ُ المنبعث من فوهة التنور ،التنور الذي ُحبِ َ صرخت عالي ًا (اتركوه ...أرجوكم) ،فلطمني أبي على فيه أيام طفولته، ُ تحر َك ْت ٌ أشد فئة منهم يحملون َّ وجهي واضع ًا كفه على فمي الراجفَّ . المشاعل توهج ًا ،فرموها على الكلب الذي زَ مجر ونبح في ِ ِ رجال وجه َ َ القرية الممتلئين بالثأر .أشعلوا التنور وأنا اصرخ عالي ًا (ال تقتلوه... أرجوكم ال تقتلوه) حضنني أبي بقوة وأنا اصرخ بكل قوة ،والكلب يعوي عالي ًا ..عالي ًا .عواؤ ُه مأل الفضاء ،فاقشعر بدن األشجار والبيوت 68
والدروب ،ولم تتأثر قلوب الرجال المكتظة بالثأر والغل .عوى عالي ًا من ٍ شعلة من اللهب .عيناي لم األلم ،وهو يحترق في التنور ،الذي تحول إلى تتحمال الصورة ،وأذناي لم تقويا على سماع صوت عواء الكلب ،الذي انم ليلتها ،كنت أبكي إلى الصباح ،صباح القرية بدأ ُ يخفت شيئ ًا فشيئ ًا .لم ْ الذي عاد يحمل لهم بشار َة الخالص من الكلب .في تلك الساعة تسابقَ ُ وكركر رجال القرية عند شيخها للحصول على وظيفة الحارس الجديد، َ
الرجال أمام الدكاكين ابتهاج ًا بالخالص ،وتباشرت النسوة المتبضعات، كنت منزوي ًا في ورجع األطفال من جديد إلى اللعب في الدروب .وأناُ ... غرفتي التي كانت تتراءى لي مثل ت ّنور كبير ،أنوح على صديقي الكلب/ الجرو األبيض ..لكن أهل القرية المسرورين بالخالص والبشارة ،وبعد انتهاء عيدهم بالنصر والغنيمة ،لم يهنأوا بعيشهم أبد ًا ،فقد ُذ ِعروا مرة ِ أخرى ،حين عثروا في فجر يوم آخر على ِ ِ القرية الجديد، حارس جثة بت تحته ٌ بركة حمراء. َّ ترس ْ ممدد ًا على األرض منهوش ًا صدره ،وقد َّ
69
الهتر أنت من أوصلني إلى هذه النهاية؛ ألن َ قلبك اللعين السببَ ... َ أنت َّ َ ٌ غدت سلعة ال ثمن لها في سوق وطيبتك الحمقاء فائض عن الحاجة، ْ َ يخبرك حياتنا ذي الحيلة والمداهنة .أيها البائس المسامح الرحيم .ألم احدٌ عن قريتنا الظالم أهلها؟ .الم تتعظ وتحزم َ وتقوي عزيمتك، أمركّ ، َ أقتلك إلاّ بدافع أن وتمثّل لمرة دور البئيس الغاشم؟ .عذر ًا فأنا لم تجرع أريحك وأريح نفسي من ِّ همك وثقل طيبتك وسذاجتك .بعد ّ شراب الصبر في سنوات صحبتك ،وأكوام من النصائح التي لم تفلح يوم ًا معك ،صارحتك بأن ال عيش في قريتنا ألمثالك ،وأردت إقناعك ِ ورسمت لك خريطة بغلق سدود حزمك أمام طوفان محبتك الهائج، ُ دت لك فيها ولون ُتها بقليل من الغدرَّ ، وحد ُ حياتك ،إذ خططتها بالحيلة ّ وعاندت ْ فذق ما أبيت َ اتجاهات المجامالت والنفاق وال َّتص ّنع .لكنك َ أنتَّ ، مازلت اذكر يوم عصرتَه من ثمار صدقك أنت. وتلذذ بما طبخته َ ُ ْ التقيت َ التحمل بك قديم ًا ،حينها لم اصدق أن لإلنسان مقدرة مثلك على ُ ّ كنت والصبر! .في تلك الطفولة الغابرة حين ك ّنا صغار ًا وكانوا يلعبونُ ، وكنت ُأرغّ ُبك بالحيلة فتأنف ،حتى تطاول أحثُّك على الغش فتأبى، ُ َ َ لئام التالميذ في مدرستنا الصغار قبل الكبار ،وراح عليك يضربك ُ ُ 70
وأراذلهم ،حيث يتربصون بك َّ كل صباح في الذهاب وعند الرجوع. ينهالون عليك تارة بالضرب وتارة بالشتائم وتارة بالتحقير .وأنت أيها َ تخي ُب ظني دائم ًا!. الرقيق تكافئهم بالطيبة والعفو .منذ طفولتك وأنت ّ َ وحلفت لي أقنعتك بضربهم بقطعة من زجاج سجى كيف َ الم ّ أتذكر أيها ُ انَّك ستزرعها في صدر احدهم في اليوم التالي ،لكنك خذلتني حين مت الزجاج َة قبل خروجك من عتبة دارك ،وتركت صبية بعمرك َّ هش َ واصغر يعكرون صفو أيامك ،ويسرقون بهجتك ،ويسخرون منك ضرب ًا وكنت تكتفي بالوحدة والدعاء ،حيث تستقر سفينة روحك وتجريح ًا، َ وتعذر قل َة صبري حين على مرفأ طيبتك وهدوئك .أتمنى أن تعذرني َ إليك لكي ُأ ِ أتسلل َ ُ كم َل نصاب األلم ،فأضربك ضرب ًا قاسي ًا ،ع َّلني كنت ُ اطرد مالك الطيبة القابع في جسدك الهزيل .حينها لم أكن ُ املك خيار ًا َ َ َ َ َ عورتك، أمامك لكي ترى وتعريتك دمعتك توبيخك وإنزال سوى فأنت لم تزدد إلاّ ولكن لم تفلح ُّ كل صرخاتي العالية ،وضرباتي القاسيةَ ، والقرية وأه ُلها لم يزدادوا إلاّ قسوة وتجاه ً ُ ال وظلم ًا. دماثة ولطف ًا وطيبة، َ ألبستك عباءة من السخرية رأسك ،نساؤها أطفالها ْ ُ رصعت باألحجار َ زء ،رجالها أطلقوا عليك لقب (الهتر) بد ً َ وهبك ال عن اسمك الذي ُ واله ْ شم ْت إياه أبوك الراحل منذ زمن بعيد .حتى كالبها ال تنبح عليك ،كأنَّها َّ فأمنت عقوبتك. رائحة لطفك ونعومة مشاعرك!، ْ َ عكسك أيها المغفل، كنت على رت معنا رغباتنا ،لقد ُ وكب ْ ثم َك ُبرنا معا ُ أثر النجاح بأنف حيلتي ،وأناضل للوصول إلى بغيتي شاب ًا ماكر ًا أقتفي َ وكانت لعنتي كبرنا ِّ ْ بأي ثمن كان وبأ ِّية طريقة يرسمها لي مكري .لقد ُ َ َ َ ويتجاهلك العابرون على جثمان الناس، يستغفلك أراك أمامي أن ُ 71
َ رأيك وقراراتك .هم يأكلون وأنت جائع ،هم يلعبون وأنت خامل ،هم يصفقون ويمرحون وأنت منطو على ذاتك .أتذكر حين جمعنا القدر في ينث رز ُقها َ نثيث المطر في لهيب الحر ،وأنت متح ِّفظ متز ِّمت في وظيفة ُّ اشرأب عنقها صارخة (العوز ...العوز)!. عصمة نفسك ،تزجرها كلما َّ َ حينها جلسنا سوية في ليلة ُمخفضين أصواتنا، فنصحتك ساعتها بمدِّ اليد بمزاوجة الحيلة والمكر ،والوصول إلى آمادنا كما وصل غيرنا منذ فحيح رأيي بعصا قابلت زمن قديم .فلم تطاوعني أيها الخانع الجبان ،إذ َ َ َ ووبختني والناس عرايا ،بل بزي االحتشام َ زجرك ،وتأن َ َّقت ِّ ُ تطاولت َّ َ أضربك معاود ًا َّرت شأني وطردتني ،فلم املك زمام نفسي َف ُر ْح ُت وحق َ َ أنجيك من مخالب طرفي نقيض ،ع َّلني الكرة كما ك ّنا طفلين على ّ أخالقك المغروسة في قلب روحك ،ع َّلني أصنع َ منك رج ً ال ُ تقف له ُّ األكف .لك ّني عبث ًا أحاول، األجسام وتنحني له الرؤوس وتُرفع له َ فتركتك ليلتها ملطخ ًا بدم لكماتيُ ،مب َّل ً ال برشقات توبيخي و إهاناتي.
األمر ،وامتأل ديجور أيامك ظالم ًا، تطور أيها المغفل ...بعد أن َّ ُ َ ُ صوب الخديعة ،فوقعت لقمة سهلة المضغ القرية وأه ُلها استدرجتك َ مصم ٌم على مقاسك.. مدعين انه بين أضراسهم ،وألبسوك ثوب األبله َّ َّ كنت اآلن مرتاح ًا لو أن ََّك طاوعتني منذ البداية لما وقعت في فخهم ،و َل َ َ رجع َت إلى بيتك مغموم ًا هائم ًا ،فلم زاهي ًا بنصرك وغنيمتك .حينها ْ أفو ِ استشعرت نار غضبك، ت الفرصة هذه المرة ،تبع ُت َك خطوة ،خطوة. ُ ّ َ ُ وطارت من عافك ظ ُل َك، تبعتك حين مت هواء حقدك وشحناءك. وتنس ُ ْ َّ دخلت منكسر ًا حين على أغصان قلبك َ عصافير اللطف والحنان .رأي ُت َك َ ُ نم َت على سرير صبرك مستذكر ًا شريط أيامك الغابرة. دارك ،وحين ْ 72
ُ فالليلة ستكون ثقيلة كالجبل .سوف نم على سريرك نم أيها المغفلْ ... ْ ُ القرية صباح ًا تنتهي محن ُت َك وض ُن ُك أيامك إلى األبد ،فغد ًا ستصحو ولن يروا (الهتر) واطئ ًا أرضهم ،وال مستنشق ًا هواءهم ،وال آكال وشارب ًا ُ القرية مذهولة حين أضع حد ًا آلالمك وحزنك من ُسفرتهم .ستصحو لت خفية التليد .ها أنا ذا أنهيت ما يجب فعله قبل سنوات ،بعد أن تس ّل ُ ُ كل ما يحيط َ وطالعت هازئ ًا ِّ بك من مكتبة كبيرة، إلى حجرتك الكئيبة، ُ عشت فيها وأوراق مرمية هنا وهناك كأحالمك المبعثرة .الغرفة التي َ سنوات من الوحدة والعزلة ،ف َّتش ُتها شبر ًا ...شبر ًا ،وحزن ًا ...حزن ًا، وأنت ونظرة ...نظرة .يالك من مغفل حقيقي!. أنجزت زمانك الماضي َ َ عت من عمرك سنوات من ُ ضي َ ترافق كتب ًا بلهاوات مركونة على الرفَّ . مت أجزاءها بدمعك وصبرك ورم َ القهر تدافع عن مس َّلة صنع َتها وزين َتها َّ َ أقتلك بشيء آخر غير هذه الكتب المرمية في وتفانيك؟! .لم أنتظر لكي كل مكان ،كتاب ثقيل يكفي لكي أخنقك به ،قتلتك بعنف متجاه ً ال أفواه وألسنة الصارخين والباكين في صفحات الكتاب يا لهذا الجنون! .لم أتوان في ما أتيت إلنجازه ،وأذهلني َ أنك لم ترفس ،لم تمانع ،بل لم َ يضج في مسمعي (زد ...زد)، وصوتك تصدر حركة واحدة! .خنقتك ُّ َ فيك(إنك فضغطت على وجهك بقوة اكبر حتى خرجت آخر جملة من ُ صرخت َ أنت السبب) بك في حنق صديق صالح). (أنت السببَ ... َ ُ الباب لقبائل من الشتائم وفتحت فكافأتني بالدفء والرضاَ .لع ْن ُت َك ُ َ َ أتركك وأهرول إلى ولين ًا .سوف نحوك ،فما َ ازددت إلاَّ رحمة وطيبة ْ وأغبش غد ًا لكي َ أراك محمو ً ُ ال على تابوت تُساق إلى مثواك مخدعي، عشرتك وتع ُّلقي َ َ َ بك عبئك األثقل ،ومرارة تخلصت من األخير .لقد ُ 73
َ عليك. اهتز ْت ضحك ًا وحرقتي عليك .غد ًا سوف تحم ُل َك أكتا ُفهم التي َّ عك إلى َ أشي َ َ ُ قبرك ،حينها سيحملونك غد ًا وسأكون أول الحاضرين لكي ّ َ غبي ح ّتى سينتهي كابوسك إلى األبد .هل تعلم؟ ،إن جثتك لها منظر ٌّ بعد موتك. ***
أحب توضيح شيئ ًا لك ،فبعد أن ها قد التقينا من جديد ..بالمناسبة ُّ َ بوفاتك ،هرعوا إلى منزلك ،وأخرجوك باكين نائحين. عرف أهل القرية كنت حاضر ًا بينهم في تلك الساعة وحين هرولوا َ بك إلى المغتسل، ُ المثقلة .وبعد دقائق ُ رأيت يد ًا غليظ ًة تُق ِّل ُب َك ،آلفت األجسام الباردة ُ مرت كأنَّها قطيع غربان سود ،تبعتهم وهم يسيرون بك كالعريس إلى ْ ماتت معك ،نادمين على مثواك ،مستذكرين أيام ًا من الصفاء والنقاء ْ صرخت بهم عالي ًا وهم يحملون فقدانك ،مترحمين على روحك، ُ نعشك (أوغاد!) .فلم يجبني احد منهم ،بل استمروا مطأطئين رؤوسهم، يتقدم الموكب المغادر منكسرة أرواحهم ،محزونة قلوبهم والتابوت َّ صوب المقبرة ،هناك حيث ستدفن القرية (الهتر).
فور وصول الحشد صوب القبر المخصص َ انتشلت عيناي لك، ْ صرة صورتين ماجتا بن الحاضرين ،امرأة تبكي بحرقة ،وهي تحمل ّ فيها مالبس أطفال ،تشير بها َ ورحت أراقب دموعها تركت الجمع إليك ُ ُ لفتت انتباهي صورة رجل التي هبطت على مهل سائحة على خديها .ثم ْ ْ آخر ـ اعرفه جيد ًا ـ ٌ سالت جروحه بعد رجل يرتدي مالبس الجبهة ،وقد ْ أنكب باكي ًا على َ أن َّ قبرك نائح ًا بشدة .استغربت نت جسده الشظايا، دش ْ َّ 74
كثيرا! .إني اعرفهما جيدا فقد خالطاني وخالطاك قديم ًا ،ومازالت صورهما تطوف في فلك خيالي مثل الكواكب .لم أسمح الستغرابي أن يمكث طوي ً دت تعم ُ ال ،حين تحرك حشد المشيعين عائد ًا إلى القريةّ ، البقاء في مكاني ألنظر إلى هذين الباكيين وما قصتهما ،وما عالقتهما َ اقتربت منهما مخاطب ًا( :من أنتما؟) بك أيها المتواري تحت لحافك. ُ
حركا جسميهما الهالميين وفي خ َّفة صعدا صوب فلم يجب منهما أحدَّ ، إليك بالصعود!، تشابكت يداهما، السماء وقد ُ ْ استغربت حين أشارا َّ َ عهدتك خفيف الروح ،لطيف الحركة ،بشوش الوجه ،تسارع وأنت كما يخف َ ُّ ُ الوزن بأقدام أثيرية ،ال أعلم لماذا لم بك في خطوك نحوهما، تلتفت لصراخي! .أومأت إليك كالمجنون طالب ًا َ منك تفسير ما يحدث، شع النور مبتهج ًا ،تعلو ثم تعلو لتعلن لكنك أشحت باسم ًا ورافقتهما ُم َّ أطيافكم الضئيلة اختفائكم بين ذراعي السماء ،تارك ًا خل َف َك قبر ًا فاغر غادر عائد ًا. الفم مدهوش ًا مثلي ،وقري ًة ُ سألتحق بحشدها الذي َ *الهتر :المخبول الذي فقد صوابه
75
76
((القسم الثاني))
77
78
األضراس باب قلبي ،وغادرت دكّ انه دوخني (الصائغ) بعرض طرق بنعومة َ ّ مخير في العمل معي ...بال شك ُمق ّلب ًا عباراته التي شتلها في أذني (أنت َّ أحس الصائغ ولما كان من ضمنهم موتى يمتلكون أسنان ًا ُمذهبة؟)ّ . َّ بعدم قدرتي على الرد وشيك ًا ،أمهلني فرصة إلى يوم آخر .رحت عائد ًا أحسب عدد الفكوك التي ألقمتها أحجار ًا ،في طقوس إلى منزلي وأنا ُ نمارسها نحن الدفَّانون ،مشدوه ًا برغبة خالطها القلق .لكنني في اليوم التالي ،وبعد ليلة اتخمها التفكير؛ذهبت إلى محل الصائغ معلن ًا رضاي بالعمل معه .وبعد االتفاق ،جلسنا نتحاور بشأن األجر ووقت أول مهمة سأقوم بها ،فلم أتردد حين فاجأته هامس ًا «الليلة». ليل المقابر في قريتنا ال يشبهه ليل ،بالرغم من أن الليل واحد في كل أرجاء القرية ،غير أنه هناك أكثر عتمة ،وأوقع في النفس« .القبور قبوري» هكذا ألقمت فم خوفي بحجر الغلظة ،وتناسيت رغبة إلغاء تقدمت بحزم صوب قبر مالك مزرعة العملية ،تحت نقر شاكوش العوزَّ . الماشية ،الرجل الثري ذي األسنان المذهبة والكرش المنسدل .تذكرت يومها كم تعبنا أنا ومن جلبوه في دفنه ،حتى أن ّ فكه كان صعب الفتح متصلب ًا ،لحظة وضع الحجر في جوفه .ساعة كاملة وأنا أحفر على نور 79
فانوس خفيض ،تمالكت فيها أعصابي ،وألقيت عندها مرساة فكري.
بان لي في تلك اللحظة جسدٌ أخذت منه الضآلة مأخذها .أمطت اللثام عن الوجه الذي كان عصي ًا على التمييز .فتحت فمه بيسر ،ثم خلعت ما أريد خلعه من أضراس ُمذهبة ،ثم دفنت الجثة من جديد ألعود إلى منزلي مبتهج ًا. (مذهل)!!...هتف الصائغ بعد أن رأى األضراس الالمعة .وراح يعد
المال الكافي لمكافأتي على صنعي .أخذت المال وهرعت إلى ما كنت أحلم به في أيام عوزي وفاقتي .أأكل واشرب وأضاجع بثمن األضراس.
بالرغم من ذلك اإلحساس الفائح بالغثيان ..وبعد أيام قالئل ،داهمني العوز مرة أخرى .وثبت على باب الصائغ الذي لم يفعل شيئ ًا ،سوى أنه أشار بيده إلى كرسي أجلسني عليه ،وصار يتساءل عن مشروع جديد لنبش قبر آخر .لم يستغرق األمر طوي ً ال ،أنهيت كالمي معه في
ُ الرغبة صوب غرفتي ،ألتناول عشا ًء تلك الساعة ،وتوجهت تدفعني ساعدي في مهمة النبش اآلتية .كان دسم ًا ،يكفي لسد احتياج عضالت َّ الشخص التالي سيدة كبيرة في منزلتها عند أهل القرية .فهي زوجة شيخ
القرية .مازلت أتذكر يوم دفنها كيف أقفلت الحشود باب المقبرة ،وكيف أن النساء تجمهرن باكيات ،والرجال احتشدوا معزين شيخ القرية .مع أن شيخ القرية الذي لحق بها بعد أشهر قليلة ،لم يأت إلى جنازته ربع العدد
ساعدين تعودا الحفر ،ولم يفاجئني مشهد السالف .لم يطل األمر على ْ
المكممة والملفوفة كمومياء .كشفت اللثام عن وجهها ،أخرجت الجثة َّ حجري الذي كان مغروس ًا في فكها ،ومن ثم اقتلعت حصتي (ثالثة أضراس ُمذهبة) .ثم أرجعت َّ كل شيء إلى مكانه ،كأن شيئ ًا لم يكن. 80
عد هرعت باكر ًا إلى الصائغ لكي أستلم حصتي .وكما هو متفق عليهَّ ، الصائغ المبلغ ،وضرب بخفة على كتفي مهنئ ًا( :خذ وقتك ...تم َّتع). الصباحات في قريتي نسخة مكررة مع تالل من القبور الصامتة .مرت أيام لم أر فيها جثة واحدة .سبب بقائي مرهون بموت نفس وهذا ما جعلني ُّ أمل
من أيامي المستنسخة .غير أن فكرة تركي لعملي (الدفن) باتت تزعجني، ماذا أعمل حين اترك هذه المهنة ،وبعد أن صار لها طعم ًا آخر لم أتذوقه من قبل ..من بعيد الحت جنازة يحملها نفر قليل ،فتهللت أساريري ،وأزاح منظر التابوت العتمة عن قلبي .حين طرح النفر التابوت على األرض، بدأت استعرض هوايتي التي حفظتها عن ظهر قلب ،في ترديد العبارات، والترحمات ،وأشياء أخرى جعلتني أبدوا كناسك ،والواقفون مندهشون من تلك الجمل الرنانة الفخمة المليئة بالروحانية والسكينة الغريبة».رجل علي أقربهم وقد انفجر أم امرأة؟» سألتهم بنبرة تص ّن ُ عت فيها الوقار ،فرد َّ باكي ًا( :رجل ...كان رج ً تمتمت ال كبير ًا لعن اﷲ من قتله)».فليرحمه اﷲ» ُ ثم باشرت بدفنه ،وفي جيبي حجري الذي ألقم به زبائني .ومنذ أن باشرت مع الصائغ في اتفاقنا ،بدأت أد ِّقق النظر في الفكوك ،كي ال يفوتني ضرس ذهب .في تلك اللحظة تفجر بركان ذهولي ،حين رأيت َّ فك الميت مليئ ًا ُم ّ المذهبة .وحين عدت إلى منزلي عقدت العزم على اللحاق باألضراس ُ بالجثة لي ً ال ،وأعود غانم ًا بأضراسها إلى الصائغ. مرت حزمة أيام عشت فيهن أجوا ًء من الرغد والتلذذ بأثمان األضراس السالفة .حتى ُأحضرت جنازة امرأة عجوز ،كان زوجها موظف ًا حكومي ًا إلي ميتة« .وجدناها كبير ًا ،ثم ظلت وحيدة حتى أتى جمع غفير بها َّ
رحمها اﷲ مذبوحة في بيتها» قذفت هذه الجملة التي أطلقها احدهم 81
دب االرتباك في تفاصيلي حتى كعيار ناري القشعريرة في بدني .ثم َّ كدت ال أقوى على الدفن .وخصوص ًا بعد أن الحظت عدد األضراس المذهبة في فكها! .بعد انتهائي من دفنها وتوديع المشيعين .جلست أفكر طوي ً الصدف الغريبة! .لكنني بعثرت دخان ذهولي بزفير حزمي ال في هذه ُ وعدم اكتراثي .حتى تطورت الحوادث في القرية من ساعتها .حين ُأشيع عن سفاح يقتل في القرية ،والغريب في األمر انه يقتل وال يسرق شيئ ًا من قتيله .والشيء الغريب اآلخر الذي لم ينتبه له أحد غيري ،أن جميع القتلى يملكون أضراس ًا ُمذهبة! .صبرت هذه المرة وفي حوزتي أضراس المرأة المذبوحة ،ولم أغادر منزلي ،حتى دفعتني الرغبة في العودة بهن للصائغ ،متناسي ًا تلك الحوادث ورائي .خرجت مخفي ًا أضراس المرأة العجوز في جيبي ،صوب دكّ ان الصائغ ،وأنا أحلم لحظتئذ بالمال الذي سأكسبه اليوم ،وأين سأصرفه؟ .سوف أقضي الليلة منتشي ًا بما كسبته. فنبش القبور بحث ًا عن جثث ثمينة ،تراءى لي أفضل بعشرة أضعاف من دفنها .لكنني حين وصلت إلى دكّ ان الصائغ ،رأيته من بعيد وهو يوشوش في أذن رجل غريب يرتدي ثوب ًا أسود ،وعلى خده األيمن نزلت ندبة طويلة ،كأنها ضربة سكين ملتئمة .كان وجهه وهيئته يخيفان أي شخص يراهما ..انتظرت طوي ً ال خارج الدكّ ان أراقبهما بحذر ،حتى وقف االثنان ،وقد تهيأ الرجل المخيف للمغادرة .ضرب الصائغ على كتفه دلفت إلى محل الصياغة ،وقد كان دخولي مع خروج ضيف بخ ّفة .ثم ُ دسه في جيبه.. الصائغ ،الذي لمحته بطرف عيني ُّ يعد مبلغ ًا من المال ،ثم َّ رأيت في عينيه أحساس ًا بالنشوة ،ذلك اإلحساس الذي يداهمني كلما خرجت من دكّ ان الصائغ!. 82
التضاؤل أستيقظ (وديع) من نومه وكأنه لم ينم لساعات طويلة ،فقد كان التعب مستوطن ًا في مناطق متفرقة في جسده ،وما أن استقرت الصورة حوله ،حتى قفزت إلى رأسه صورة زوجته وصوتها اللذين لم يقو على مجاراتهما ،بعد عراك طويل في الليلة الماضية .أنتبه إلى صوت زوجته في المطبخ( :قم أيها الكسول ...ينتظرك عمل شاق ...حاول أن تغتسل بصورة أفضل ،فزنخ األصباغ عالق بك منذ البارحة) .ثوان مرت ووديع يفكر في المشهد ذاته ،زوجته التي تعمل أستاذة في علم (البيولوجيا)، تجهز الفطور لتخرج مسرعة إلى الجامعة ،توبخ زوجها أستاذ الرسم الذي ترك وظيفته ليتفرغ للوحاته ،متهكمة من ولهه بالفن– كما تقولـ أنه هرول وراء أشياء ستنتهي به إلى الفقر أو الجنون. مرر كفيه على رأسه فارك ًا ،ثم نهض من فراشه متوجها نحو الحمام ،بعد َّ أن لبس نعله المركون .خرجت من فمه صرخة تعجب ،أثارت الفضول في قلب زوجته التي مدت عنقها ،لترى زوجها ينظر إلى النعل ،وهو يشير بيديه هاتف ًا( :لقد َك ُب َر نعلي!) .لم تفهم زوجته العبارة قائلة من دون اهتمام (تفاهة
أخرى..؟) .لكن الرجل أقسم لها أن النعل قد َك ُب َر ،وأن ُر ْدنا القميص قد طاال أيضا ،وسرواله صار يسحل طرفاه من الطول .أنهت الزوجة فطورها، 83
وخرجت حاملة حقيبة أوراقها ومحاضراتها صوب الجامعة ،تاركة وراءها زوجها ،الذي رجع إلى غرفته متلفع ًا بالصمت .أخرج وديع جميع مالبسه، ثم الحظ أن المالبس جميعها قد كبرت ،إلاَّ بذلة العمل التي يلبسها في مشغله حين يرسم .حينها فكر من جديد ،وقال في نفسه مندهش ًا( :هل المالبس كبرت ،أم حجمي الذي تضاءل؟!). في الليل حين اجتمع وديع بزوجته مرة أخرى ،أطلق عيار الحديث حين ذكّ رها بحادثة الصباح .ردت عليه زوجته بنبرة مشحونة باالنتصار، تعلن فيها صواب رأيها فيه دائم ًا .ثم عادت لترديد عبارات تعود على سماعها وديع مثل (أنت رجل متكاسل) و (هذه نهاية العزلة والشخبطة)، فرد عليها بصوت مبحوح بعد أن أحمرت عيناه ( :حالتي أفضل من حالة امرأة تعيش مع األوبئة ...حماقة كبيرة أن يعيش المرء بين مجاهر وعينات) .تشاجرا من جديد ،لعنته ولعنها ،ثم دلفت إلى غرفة بحوثها ّ المكتظة بالعينات والمجاهر والميكروبات .وهو دخل إلى غرفته ليقفل ٍ ُرسم بعد. النور وينام بعد أن تذكر أن وراءه غد ًا مشاريع لوحات لم ت َ في اليوم التالي نهض (وديع) من فراشه ليجد زوجته قد غادرت البيت مبكرة .أحس بالدوار حين تراءت له الغرفة كبيرة كسفينة والسرير كساحة. نهض على مهله ،أراد أن تصل رجاله إلى األرض فلم تقدرا .حينها عاين المنظر فوجد أن المسافة بين رجليه واألرض تبعد ثالثة أضعاف المسافة .أطال النظر في أشعة الشمس المتسللة ،والتي بدورها أثبتت له بالدليل القاطع ،أنه لم يكن في حلم .تسلق على الشرشف ونزل بصعوبة إلى األرض ،راكض ًا صوب كومة المالبس .فتبين أن مالبسه صارت كمالبس عمالق .لم توافق بدنه في تلك اللحظة سوى بذلة العمل. 84
هرول صوب الباب خارج ًا نحو الصالة ،كان كل ما يحيطه اكبر حجم ًا من السابق .فأضطر إلى عدم المغادرة في ذلك الصباح منتظر ًا زوجته. بعد ساعات من الريبة والقلق القاتل .دخلت زوجته إلى المنزل .طالعته منزوي ًا في إحدى زوايا الصالة ،فهدرت من فمها ضحكة عالية ،عالية جد ًا أزعجت أذنيه الصغيرتين اللتين بدتا تتحسسان األصوات بتركيز أكبر .كانت تضحك وسبابتها تمتد نحوه منتصرة .حملته كطفل وأقعدته على السرير ،وهو يطالعها تغير مالبسها ،فرمت عليه سترتها التي خنقته بحجمها السميك ،سامع ًا من وراء مسامات السترة صوت زوجته الهادر بالضحك ،والمغادر شيئ ًا فشيئ ًا فضاء الغرفة صوب الصالة .في المساء لم يجد (وديع) ثوب ًا يلبسه غير بذلة العمل المبقعة باأللوان الخاصة به، مستعين ًا على برودة الجو .تجدد تهكم زوجته به من جديد ،فانفجر هذه المرة صارخ ًا ،بصوت يشبه صوت الرضيع حين يبكي .فردت عليه ُصر على زوجته بقرصة أذن قاسية وهمست فيها( :حتى وأنت قزم ت ُّ عنادك) .عاش تلك الليلة كئيب ًا ،وزاد حزنه حين وضعته زوجته في سرير تدخره لطفل لم يأت. صغير للرضع ،كانت َّ
في الصباح تفاجأ حين جلس من نومه ،وقد وجد نفسه نائم ًا على سطح المع بارد .صرخ مذهوال حين رأى عين ًا كبيرة في أنبوب موجه نحوه تطالعه من األعلى .اختفت العين ،وظهرت من وراء األنبوب زوجته مبتسمة .همست فيه موضحة أنها وضعته على قطعة زجاجية مختبرية ،في مجهرها داخل غرفة األبحاث الخاصة بها .لقد صار حجم (وديع) صغير ًا جدا ،لدرجة انعدام رؤيته بالعين المجردة .قبل أن تخرج زوجته إلى الجامعة ،رمت نحوه بكائن مجهري غريب ،بدا كأنه قطعة 85
هالم لزجة ..همست( :هذا غذاؤك ،كل فأنت بحاجة إلى غذاء كي ال يتضاءل حجمك أكثر) .بعد سويعات وحين عادت الزوجة من عملها، وجدت زوجها يرقد ملتحف ًا ذراعه ،وقد ذبل وجهه .أيقظته بنقرات على الزجاجة أفزعته من نومه .بدأ يلوح للعين التي تطالعه في عدسة المجهر. أراد التكلم معها ،لكن زوجته لم تستطع سماعه ،ثم تركته بعد أن أغلقت ضوء المجهر والغرفة ،وقد َّ غط فضاء الغرفة بظالم دامس.
في صباح اليوم التالي ،نهضت الزوجة من نومها ،جهزت الفطور، تناولته برفقة صوت مذيع األخبار ،وهي تفكر في زوجها الراقد في غرفة األبحاث .نظرت إلى باب الغرفة طوي ً ال قبل أن تقرر الدخول .نهضت صوبها لترى ماذا حل بزوجها الراقد هناك .أضاءت المجهر ،ودست عينها في عدسته ،لم تشاهد شيئ ًا سوى الكائن المجهري المقطع.. أطفأت مجهرها ،تناولت حقيبة أوراقها الجامعية .خرجت من المنزل وهي تفكر في محاضرتها األولى لهذا اليوم.
86
الصبار ّ (صبار) صغيرة ،من مشتل مملوء لم تؤنسها فكر ُة شراء زوجها شتل َة ّ بأنواع شتى من األزاهير والورود .وحين تضايقت غمغم زوجها ،و وصفها بـ (المرأة الغريبة األطوار) ،التي ال تفقه معنى الجمال .صارت تطالع زوجها من خالل النافذة المطلة على الحديقة الصغيرة ،وهو يقتطع جزء ًا من وقته ،لرعاية الشتلة والنظر أليها .بالرغم من شكلها األسطواني الشاحب ،وفروعها المكتظة باإلبر .زوجها الذي أثبت العلم والفحوصات عقمه ،يهرول صباح ًا إلى عمله ،وحين يخرج إلى باحة للصبار ،متفقد ًا شكلها قبل خروجه .وحين يعود المنزل ،يقف ناظر ًا ّ يقف الوقفة ذاتها مستغرق ًا الوقت ،وكأنه يحييها ،يلقي عليها السالم محببة إلى نفسه! .ذات يوم وكالعادة ،نهضت الزوجة بقدسية ودهشة َّ من نومها ،لترى من دون دهشة مكان زوجها على السرير ٍ خال ،ومن ثم تجول عيناها على طاولة المطبخ ،متفقدة آثار جلسته ،وبقايا طعام الفطور ،على صحن يقبع وحيد ًا على الطاولة .أخرجت من صدرها كمية كبيرة من الزفير ،مصحوب ًا بـ (أيه) ،وجلست تجدول في رأسها الوقت والمشوار اليومي في المنزل .تأخر الزوج هذه الليلة ،حيث تصبر نفسها على تأخره ببرنامج تلفزيوني ،أو حكاية جلست الزوجة ّ 87
قديمة أنعشت ذاكرتها ،أو خطة مستقبلية تأتي بشكل عشوائي وترحل في الوقت ذاته .لفت انتباهها شيء يتحرك ظله أمامها ،بجسم متطفل عبر النافذة المطلة على الحديقة! .أدارت رأسها بسرعة ،لترى رأس ًا، (الصبار )...صرخت بهلع سقط في قلبها كالشالل. مدبب ًا مليئ ًا باإلبرّ . شتلة الصبار كسرت النافذة وقد طالت وازدادت غلظة ،وتناثرت واإلبر حولها كالنِصال .اقتحمت شجرة الصبار سكون المكان ،وهي تلتف على الجدران ،مقتفية أثر الزوجة ،التي هرولت إلى جوف المنزل ،وهي تصرخ مستغيثة .شجرة الصبار لم يوهنها الصراخ ،بل اشتدت حزم ًا، وتقدمت زاحفة على الجدار ،األرضية ،الطاولة ،تتقدم ببطء وهي واثقة أن الزوجة لن تفر من قبضتها .كررت الزوجة الصراخ ،حين اجتهدت في رفع صوتها ،لعل منقذ ًا يهبط عليها في تلك اللحظة ..الزوجة ركضت وتوارت عن أنظار شتلة الصبار الزاحفة إلى الصالة .تمتمت الزوجة بكلمات اشبه بهلوسة محموم ،لكن رشقة إبر متفرقة في فضاء الصالة، كانت كفيلة بإيقاظها ،فقد توزعت اإلبر على الجدران ،وطالت البعض منها (اإلبر) جسم الزوجة .صرخت عالي ًا صراخ ًا خالطته نوبة هستيرية من البكاء( :أرجوك ...اتركيني) .زحفت شجرة الصبار العمالقة ،حيث مألت المنزل ،بفروعها ،أشواكها ،نفثت من صمغها اللزج في أركان المنزل ،وتسللت أصابعها المسورة بالشوك إلى الغرف .و بعد أن هيمنت على المنزل ،اقتربت صوب الزوجة ،التي غ ّلقت عينيها بشدة ،وارتجفت أعضاؤها مرعوبة ،ولم يفصل بينها وبين شجرة الصبار غير سنتيمترات الصبار ،بعد أن تقيأت صمغها على رأس قليلة ،تحسست الزوجة رائحة ّ الزوجة ،وسال على أكتافها وجسمها بالكامل ،فصارت كشرنقة يكسوها 88
صمغ لزج ،يميل لونه إلى الصفرة ،كان وثاقها وسلسلة قيدها الهالمية. فمها لم يعد قادر ًا على الصراخ! .تشجعت من جديد ،وأقدمت على محاولة أخيرة للصراخ ،الصراخ فقط كل ما تملكه تلك المرأة المكبلة بالصمغ .صرخت عالي ًا ،وهي تماطل كمية الصمغ التي كستها ،صرخت أحست بنور عالي ًا ،تدفق الصراخ من جوفها كالبركان .في تلك اللحظةّ ، عبر حاجز جفنها المغلق ،منتشر في فضاء الصالة .فتحت جفنيها على الصبار. مهل ،تفاجأت حين لم تعثر على أثر الصمغ واإلبر وشجرة ّ نهضت على مهل لتطالع مندهشة زوجها ...زوجها الذي عاد إلى المنزل .كان واقف ًا قرب الباب يطالع زوجته ،ثم هتف بجملة مليئة باإلبر: لك ِ (ألم أقل ِ أنك امرأة غريبة األطوار؟).
89
التوأم في المدن المكتظة تحدث الغرائب بين ساعة وأخرى ،فتضيع مع الضوضاء والزحام .لكن الغرابة التي حدثت في تلك المدينة ،كانت مختلفة وتناقلتها األلسن ودارت حولها الحكايات واألخبار .حين أفاقت المدينة على خبر والدة توأم برأسين .أنتقل الخبر من صالة العمليات ،إلى الممر ثم إلى ساحة المستشفى ثم إلى الشارع والمدينة. فكي الطلق ساعتها ،لم يهتم األطباء والممرضات، ولما ماتت األم بين ّ بل هرولوا بالتوأم صوب مكان خاص ..أحاطت المدينة التوأم برعاية فائقة .رأس أيمن ورأس أيسر ،وجسد واحد ،يشربان الحليب بفمين ويلفظان المخلفات بشرج وقضيب .مع انحياز واضح في اليد اليمنى للرأس األيمن ،وانحياز في اليد اليسرى للرأس األيسر .والساقان كذلك .في سنتهما األولى ،انتبهت المربية كيف أنهما تصارعا في وجهة مشيهما ،حين رغب الرأس األيمن في المسير إلى اليمن ،بينما رفض الرأس األيسر الذهاب .فاختلفت الساقان ،وتعثرتا ،فوقع الجسد الواحد بهما على األرض وضجا بالبكاء .مرت بهما فترة المراهقة ،في تلك الفترة اكتشفا لذة الذكورة ،فدب الصراع من جديد .الرأس األيمن يريد منيه على صورة في مخيلته ،والرأس األيسر عنده صورة أخرى. إفراغ ّ 90
الصراع داخلي ،حين يحزن رأس ويفرح رأس ،يحدث شيء أشبه بـ(التماس الكهربائي) في جسدهما .فهو (الجسد) ال يحتمل صراعهما الدائب على التكرار .في إحدى المرات وحين كانا يشاهدان مباراة في كرة القدم ،تفجر الصراع من جديد ،حين شجع األيمن فريق ًا وشجع األيسر فريق ًا آخر .اشتدت وتيرة المباراة ،فارتفع الصراخ ،وتهاوت الشتائم .والجسد مشحون بالصدمات والخالف والصراخ( .القلب الواحد ال يكفي في جسد يملك عقلين) هكذا أعلن الرأس األيمن، حين وصل عمرهما إلى مرحلة االنتخاب ،وحين ذهبا إلى ((االقتراع))، فاجأهما موظفو االقتراع بأن إصبع ًا واحد ًا هو الذي يحبر ،ورأس ًا واحد ًا هو الذي يختار .فتفجر الخالف واحتدم الصراع في القاعة ،حيث اجتمع الناس ينظرون إلى رأسين بجسد واحد ،يتقاذفان الشتائم والبصاق ،مع أن المسافة بين رأس ورأس ال تزيد عن (مليمترات) قليلة ،وخرجا من القاعة دون أن ينتخبا .تستمر األيام وبينما هما جالسان على األريكة في شقتهما .فجر الرأس األيسر مفاجأة حين فاتح أخاه األيمن ( :لقد أحببت فتاة وانوي االرتباط بها) .سأله الرأس األيمن عن اسم الفتاة وهويتها ،أجابه األول باسمها وهويتها ومكانهاُ .ص ِعقَ الرأسان حين لم يحسا في تلك اللحظة بشحنة الكهرباء التي تداهمهما حين يختلفان. فعرفا حينها أنهما اتفقا على حب فتاة واحدة ،حين اعترف األيمن بذلك الحب والفتاة ذاتها .نظرا إلى بعض بخوف وقلق ،فتفجر الصراع هذه المرة على شيء واحد ،وهو صراع مرير ،مخيف ،أشد هيجان ًا من تلك الصراعات .أمر الرأس األيمن الذراع اليمنى بضرب الرأس األيسر، بادله األخير بلكمة من اليد اليسرى .تماطال وخنق كل واحد اآلخر 91
بعنف ،حتى وقعت في يد الرأس األيمن قطعة معدنية فضرب بها رأس أخيه بقوة .نظر الرأس األيمن إلى أخيه خائف ًا .ثم جس نبضه حين اكتسح الفتور جهة الجسد اليسرى بالكاملُ .ذ ِع َر الرأس األيمن بعد أن اكتشف موت أخيه .جلس على األرض منهوك ًا من التعب ،وراح يضرب على الرأس الميت بضربات خفيفة ثم قوية على الخدين متمني ًا إفاقته ،ولكن بال جدوى .هجمت األفكار على الرأس األيمن كسيل عارم .أطفأ النور ليلتها لكي يفكر بالظالم من دون أن يرى رأس أخيه متدل جانب رأسه. مذعور ًا من موجة الفتور والخدر التي تسللت إلى الضفة اليمنى.
92
مرايا مر الوقت كالسهم وهو يطالع صورته المطبوعة على المرآة .الشيء َّ تهكم الناس وسخريتهم من شكله الوحيد الذي كان يضج في رأسه، ُ ال ويرونه قبيح ًا ،يراه أنيق ًا ويرونه مبتذ ً وهيئته .كان يرى شكله جمي ً ال. كانت المرآة صقيلة ،ناصعة ،النمش فيها وال بثور يعكران صفوها و انعكاس الصورة فيها .جاهد على شرائها بثمن غال .ووضعها في أكثر األماكن قرب ًا له في غرفته الصغيرة .ولم يعكر مزاجه غير تلك القهقهة التي تفلت من أفواه الناس كلما صادفوه .حتى نخر الشك قلبه متسائ ً ال في نفسه (هل خدعني صانع المرايا؟ وباعني مرآة تعكس صورة غير صورتي؟! .أم الناس حولي غاروا ومأل قلوبهم الحسد؟) .لم يصبر على ال أمام المرآة .خرج من المنزل متوس ً المكوث طوي ً ال بساقيه أن تعيناه على المسير ،متحاشي ًا أهل البلدة الذين يفاجؤوه بهمساتهم الباسمة ،ونكهة سخرية وإيماءات ُه ْزء .واصل مسيره بال تحديد لوجهة ما ،ثم توقف عند النهر ...طالع بحزن موجات النهر المسافرة ،يتدافعن كأنهن فتيات مليحات بغنج وحبورَّ . ركز في النهر بد ّقة كبيرة ،حتى تهللت أساريره وهو يرى صورته المعكوسة على صدر النهر .كانت لطيفة شفيفة، بل كانت أجمل من صورته التي عكستها مرآته الثمينة( .أيها النهر... 93
ياغاسل الوجوه من الدرن ...امنحني حصاتي التي أودعتها أمانة لديك حين كنت طف ً ُ النهر ،لتخرج بعد لحظات الرجل ال )...هكذا خاطب َ حصاة صغيرة ملساء ،كانت تحملها كف موجة بان على وجهها صفاء زاللي .حملها الرجل وهرول صوب نقطة عالية ،لتضاريس تشرف على البلدة من علو شاهق .صعد بالهرولة وتسلق وتشبث حتى بلغ تلك القمة بجهد عسير .بانت له البلدة من فوق كأنها صينية ُرصفت فيها الشوارع والمنازل واألسواق .قذف تلك الحصاة على البلدة وضحك ...ضحك بشدة وهو يطالع البلدة وقد ت ّ صوت تكس ٍر مأل الفضاء. َشظت ،محدثة َ
94
موعد هرب التيار الكهربائي من الغرفة ،غطت تفاصيلها في غيبوبة ضوئية عتيمة .لكن رب األسرة باشر عائلته بنداء أشاع الطمأنينة في قلوبهم .وصار الواحد منهم يتعرف على اآلخر من صوته .عال صوت الطفل األصغر الرضيع باكي ًا ،فباغتت البنت الوسط أباها قبل أن يسرق انتباهه الرضيع هاتفة( :أبي المعلمة طالبتني بنشرة مدرسية أنا وصديقاتي) .فأجابها األب: (لك هذا يا نور عيني) .االبن األكبر استغل الفرصة مطالب ًا بحصته( :أبي أين ما وعدتني به حين أنجح في امتحاني؟ .لقد وعدتني بساعة يدوية تزين معصمي) .فأذعن األب موفي ًا بوعده مع اعتذار .الزوجة وهي تهود رضيعها نبهت زوجها( :عزيزي غد ًا بال شك سوف نعيد ترتيب الحاجيات مع قليل من الخضروات ،وعلبة حليب للرضيع) .فرد رب األسرة بالقبول، رغبت .األصوات تتدفق صوب أذني وأنه سيذهب غد ًا إلى التسوق كما ْ رب األسرة .الرضيع استمر باكي ًا مطالب ًا بحصته (الحليب) .البنت تغني نشيد ًا خافت حفظته مؤخر ًا ،الولد يحلم بساعته الجديدة .الزوجة تتأفف لطول فترة انقطاع الضوء وكآبة العتمة .رجع الضوء أخير ًا ،وحين دلك رب األسرة عينيه ،لم يجد أسرته حوله! .انقشع غبش الرؤية رويد ًا رويد ًا، اطرق برأسه حزين ًا ،منكسر ًا ،حين تنحنح (الجدار) م ِ ذكر ًا إياه بموعد تعليق ُ ُ ْ َ صورة كبيرة ألربعة راحلين. 95
الطعنة من يعرف وقت حدوثها وسببها غيري؟ كتمت سرها وأخفيت تفاصيل قصتها عن العالم كله ،بالرغم من ألمها الذي كان في البدء قدمي .أما اآلن فقد متوزع ًا على أطراف جسمي ،من رأسي وحتى ّ صار محيط ًا بمكان النصل ال غير .في بعض األحيان أشعر بوخزة في خاصرتي ،أعرف حينها وبعد إنفالت النوم من عيني ،أنني كنت نائما على طعنتي .هكذا اسميها ...طعنتي .لقد صارت من ضمن أشيائي ،بل صارت لي معها ذكريات بالرغم من حزنها ،ولكنها مع تعتيق الزمن لها صارت أكثر عذوبة من أفراح جديدة ُمعلبة .قال أبي أصبت وأنا طفل أثناء الوالدة ،حين أنغرزت إبرة تحملها ممرضة في خاصرتي ،ثم كبرت وكبرت اإلبرة معي وصارت نص ً ال يافع ًا .أمي تنكر هذه الرواية ،فقد كانت تقول أن النصل في األصل زنجار لحديدة عتيقة ترسب في لحمي، مربوطة بها قطعة زرقاء ذات عيون خمس لحمايتي من الحسد .وبالرغم من إختالف الروايات بين أبي وأمي ،فلم يكونا متأكدين من تأريخ النصل ووجوده في خاصرتي .فهما يخمنان فحسب .أنا الوحيد الذي كنت أعرف وأخفيت الحقيقة ولم أعلنها .ذات ليلة من ليالي الطفولة، حلمت كما يحلم البشر ،معركة تدور في العصور الوسطى ،وكنت أنا 96
قائد ًا لهذه المعركة ،بح صوتي من الصراخ الهائج فيها ،وتعبت عضالتي من حمل سيف ثقيل صبغته الدماء .حلمت كما يحلم البشر ...أنني قائد قوي شجاع أصارع التنانين ،وأهزم الغيالن والوحوش ،وأصارع لوحدي جيش ًا من البرابرة .وحين صحوت من نومي في تلك الليلة الهثا مبلال بالعرق والدم .تحسست ألم الطعنة والقطعة المعدنية التي سببتها .ومنذ ذلك الحين وأنا أحمل نصال في خاصرتي .كانت مدرستي االبتدائية توبخني لجنوني وكثرة تحركي على الرحلة ومضايقة التالميذ حين يجلسون إلى جنبي .فكنت أقول في نفسي أنه النصل اللعين ... كل هذا بسببه .صرت شاب ًا ،أحببت فتاة لم تحبني قط ،وحين صارحتها بكل شجاعتي قالت متهكمة (لك مشية غريبة ،كأنها مشية كلب أعرج). ففهمت وقتها أن النساء تعشق رجا ً ال بال طعنات مخفية تجبرهم على مشية سخيفة كمشيتي .تزوجت امرأة عمياء ،كان خيار ًا جيدا حين أحدثها فتسمعني وال ترى مني شيئ ًا .الشيء الوحيد الذي كان يزعجها ألمي وتأوهاتي في الفراش لي ً ال ،فقد كان سمعها قوي ًا ،وصوتها أقوى. تعوض فقدانها لنظرها بصوت كالسوط على ظهر أوقاتي .وبعد فترة طويلة من زواجي صرت اكثر تعب ًا وتقويس ًا ،وصرت ال أمشي إال ويدي موضوعة على طعنتي .وأتوقف بين الحين والحين في كالمي إلسترداد أنفاسي .صار عندي أطفال ،كبروا صاروا رجا ً ال ،فكانت طعناتهم أشد علي حين فهمت أنهم يستنكفون مني ،فلم أستطع إفهامهم أن ال ذنب ّ لي سوى أنني حلمت كما يحلم البشر ،وليتني لم أحلم .زاد ألم الطعنة تلك ،فأوقفني عن كل عمل أقوم به ،تضاءل جسمي وقلت حيلتي وبات رزقي شحيح ًا .والليلة قررت ...ما بدأ في تلك الليلة سينتهي في هذه 97
الليلة وعلى يدي .أنا السبب وأنا من سينهي كل هذا األلم .أنا اآلن أجهز نفسي بعد أن رحل الجميع ،ولكي أثبت لهم أنني لم اكن عاجز ًا ،بل كنت مجبر ًا لجرح دفين في أحشائي ..ها أنا ذا أجهز نفسي لسحب النصل من تفاصيل لحمي ...آآآه أنه مؤلم جد ًا!! ..أن تماطل شيئ ًا مغروس ًا كل هذه السنوات ...إنه مؤلم!! آآآآه ...يا ألهي ساعدني ...يا ألهي ماهذا !!...لقد توسع جرحي بعد إزالة النصل ،تحول إلى فوهة بركانية من الدم والقيح!! ،ماهذا الذي يخرج من فوهة الجرح !!!..إنهما قبرا أبي وأمي ،طابوق مدرستي والرحالت والقراطيس ،فساتين حبيبتي ،عينا زوجتي وهما بكامل قوتهما ،مالبس أوالدي البالية ،جيوش ،تنانين، غيالن ،برابرة ...لقد ضعفت ...هرمت مرة واحدة!! ،سأموت اآلن... أموت ولم أنتصر في الحرب التي حلمت أن أكون فيها قائد ًا ،ذات ليلة من ليالي الطفولة.
98
حين تتأخر األمهات تأخرت العصفور ُة طوي ً ال هذا الصباح! .لم أستطع إنقاذ صغارها ِ وتدحرجت على األرصفة جثامي ُنهم. الريح أرياشهم، تداولت الذين ْ ُ عت كعادتها ت ْل ُ تقط حب ًة هنا ،وأخرى هناك .بالرغم من صراخ الريح، َه َر ْ ْ يدفعها ترتعب ،لم وعفونة الجو ،وزمجرة المدينة .لم تخف ،فقد كان ُ ْ غريزي للبقاء ،المواجهة ،الصبر والتحمل ،من أجل حفنة أفراخ، دافع ٌّ ٌ صاروا هبا ًء على يد صبية عبثوا بذلك العش الذي يقبع أمام نافذة غرفتي الصغيرة .لم يبعد العش كثير ًا ،كان باستطاعتي النهوض إليهم ،وطردهم، ضربهم ،توبيخهم .لوال تأخر أمي أنا أيض ًا ،أمي التي عادت مع عودة العصفورة الثكلى .أم تحمل بمنقارها حبة طعام ،وأخرى تسير حثيثة بعكازي الجديدين. تلوح لي ّ وهي ّ
99
أمنية كان صانع التوابيت منهمك ًا في صنع أحلى التوابيت وأفخرها .هو يصنع للناس توابيت رديئة ،لكنه اعتنى هذه المرة بتابوت وحيد ،حجزه تمر السنوات ،وتنفد التوابيت إلاّ التابوت الفاخر، لنفسه بعد موتهُّ . يمر شتاء قارص .يشرب المصنوع خصيص ًا لمعانقة جثة الحانوتيُّ . الوقود ،الدفء ،العزيمة .فيتجه أهل القرية إلى الخشب ،ال يبقى في القرية عمود أو منضدة أو سرير إلاّ واحرقوه للتنعم بالدفء .الحانوتي احرق كل التوابيت ،وظل التابوت الفاخر منزوي ًا .حيث لم يرض الحانوتي التفكير في التنازل عنه أو االستغناء والتضحية به .فهو جائزته وتحفته الوحيدة .في ليلة اليوم التالي مات الحانوتي من البرد .فهرع أهل القرية إليه ،وقد غسلوه وجهزوه عند الصباح للدفن ،تاركين ورائهم بقايا رماد ،لتابوت فاخر ،منحهم الدفء في الليلة الماضية
100
صراع ويتسور لم ُيبنى في قريتنا سوى جامع وحيد ،يلوذ به المحزونون، ّ به الالئذون .ولم يكن في الجامع سوى إمام جماعة ،ومؤذن تجفل صالواتنا من صوته الناشز .ثم ظهر مؤذن شاب ،سلب ألبابنا بصوته حب َب في نفوسنا الصالة ،أخشع آذاننا لصوت التكبير الرخيم الحنونَّ ، والتهليل والشهادة .لم يرق المشهد للمؤذن السابق ذي الصوت الناشز، فصار يطوف في القرية يطلق على المؤذن الجديد ال ُت َهمات والبهتان. ودبت الفتنة .فأحتكم فاختلط على الناس األمر ،وتشعب الخالفّ ، الجمع عند إمام الجماعة ،نفر مع المؤذن ذي الصوت الناشز ،ونفر مع إمام الجماعة في حنق: المؤذن ذي الصوت الرخيم الخاشع .هناك هتف ُ (حاولوا رفع أصواتكم حين تكلموني ...سمعي ثقيل).
101
وقيعة ٌ رجل يسير بين حشد الناس في السوق ،يتوقف بين الحين والحين ٍ صوت يهتف وراءه ،يتتبعه أنَّى وضع قدميه ،منادي ًا مفتش ًا عن صاحب ِ ذكية أن يحصر الصوت باسمه ،مستنجد ًا به! .حاول الرجل بخطوة ّ ضيق .فأتاه الصوت منادي ًا والشخوص وكثرة السائرين .اتجه إلى شارع ّ باسمه في هلع ،أدار رأسه بسرعة ،لكنه لم يجد سوى عدة أشخاص تعجبوا التفاتته المريبة .حاول التضييق ،الحصر ،تفويت الفرصة على الصوت في أن يختفي مرة أخرى ،فذهب إلى شارع أضيق ،ومن ثم عاد الصوت ذاته .حينها نبتت فكرة كالسهم في قلبه؛حين قرر الذهاب للصحراء ،حيث ال يمأل المكان غير الفراغ .في الصحراء انتقل بقدمين حذرتين ،متسائ ً ال عن تأخر الصوت؟! .توقف عن الحركة هذه المرة، حين أرعبه الصوت اآلتي من الخلف .ليس صوت ًا منادي ًا باسمه ،بل عواء لذئب لطخ فكيه لعاب لزج.
102
المتسول ضبع على الحيوانات ،بعد إرعابها بقوة تسيدَ ٌ في غابة متنائيةّ ، األضراس والبطش ،ومعاضدة باقي الوحوش له .فصارت الحيوانات تغني وته ّلل للضبع ،في فسحة من الغابة صارت للضبع منصة ،يجلس فيها وتأتي الحيوانات مغني ًة ،مبايع ًة لحاكمها األوحد ،إذ تعلو الشعارات والهتافات بحياة الزعيم وعشيرته .وكان يجلس في الجهة المقابلة للمنصة حمار متسول شائخ ،أفلت من عضة أسد متراخية ،فتدهورت صحته، ٌ الضبع بالحيوانات، أشتد بطش ولم يستطع العمل فالتجأ إلى التسول. َّ ُ يفرق في ظلمه بين حيوان وحيوان .وبعد اجتماعات سرية، حين صار ال ّ ومشاورات طويلة ،وتنظيمات ثورية تقودها حيوانات مجاهدة ال ترهب الحتف في سبيل حرية أتباعها .تفجرت ثورة حيوانية كبرى ،أطاحت َ يضم َّ كل ألوان مجلس الموقف تسيدَ ٌ ُّ بنظام الضبع وزبانيته ،ومن ثم َّ الطيف الحيواني .تارك ًا الغابة في حلم وردي كبير .الحمار المتسول نهق عالي ًا بحياة الثورة ومن فجرها ،وترك التسول حالم ًا بمستقبل يكفل حرية النهيق والعمل والعودة إلى ٍ الحمار به على الدوام. ماض جميل يحلم ُ مرت السنون ،ولم يتغير شيء في الغابة .فقد عادت الشعارات والهتافات للتسول أمام المنصة، الحمار الشائخ على منصة الضبع المخلوع .وعاد ُ ّ حكم عض َته بشكل صحيح. العن ًا أسد ًا لم ُي ْ 103
في مدينتنا ... السيرك
نزل في مدينتنا سرك ،فيه دواليب وألعاب ومهرجون ،وخيمة كبيرة تتسع لبضع مئات ،تتقافز فيها النمور واألسود ،على حركة للمروض بالسوط يمين ًا وشما ً ال .وكان في السرك أيض ًا محالت لبيع العصائر والفطائر وشتى الحلويات والمكسرات .تركتها جميع ًا وتوجهت إلى لعبة كانت مركونة في إحدى زوايا السرك ،لعبة األخطاء والنجاحات. كان صاحب اللعبة يضع صندوقين خشبيين ملونين بألوان قوس قزحية، وكان مكتوب ًا على الصندوق األيمن (صندوق النجاحات) وعلى األيسر (صندوق األخطاء) .وفي كل صندوق عدسة تضع فيها عينك لترى إما نجاحاتك وإما أخطاءك .كان الجمهور من النساء والرجال فقط مهتم بهذه اللعبة ،أما األطفال فلم يكترثوا بها مفرغين طاقتهم الطفولية في ألعاب المراجيح والدواليب والمزالق .قررت أن ألعب هذه اللعبة. ولكنني تحيرت في أيهما أشارك (األخطاء أم النجاحات)...؟ وحين رأيت أن الجمع متكالب على رؤية نجاحاته ،اخترت صندوق األخطاء حيث لم أجد منافس ًا عليه .قبل أن أحشر عيني في العدسة سألني صاحب 104
اللعبة( :هل تريد رؤية كل أخطائك ،أم أشنعها ..؟) .فقلت له( :الفادح علي الباقيات) .وكان هذا تصرف ًا ذكي ًا كما منها ،حين أتعرف عليه ستهون َّ حشرت عيني في العدسة وقد مألني عطش الفضول ،ثم تحول اعتقدت. ُ إلى آهة تعجب ،حين رأيت صورتي منحني ًا على صندوق خشبي ملون، جمع يتنافس على صندوق ُمالصق. وإلى جنبي ٌ
الم ْس َمك َ
كان في مدينتنا َم ْس َمك كبير ،وكان السماكون يفرغون أحشاء السمك على أرصفة المحال .حيث تتماوج الروائح الزنخة كاألشباح ،ويمارس حولها الذباب طيرانه االستطالعي .وكان في المسمك قط بني وسخ، شره ،يده طويلة ،وإن لم يجد ما يسرقه ،يلتجأ إلى الفضالت بعد إقفال المحال .ذات يوم دخلت البلدوزرات إلى السوق ،هدمت المحال وسوتها باألرض .ثم أتى رجل مهيب ،أشقر ،غريب عن المدينة يرتدي بدلة أنيقة ورباط قصير ،وحوله رجال يحملون على رؤوسهم طاسات صفر عميقة .ثم بدأ البناء حتى تحول المسمك القديم إلى سوق حديث ذي محالت فاخرة ،ومقاه راقية ،ومطاعم درجة أولى .فاختفت تلك الروائح الزنخة ،والمناظر الكريهة .واختفى القط البني أيض ًا .اختفى مدة من الزمن ،ثم رأيناه جالس ًا في أحدى مطاعم السوق الجديد ،يأكل سمك ًا معلب ًا ،وقد تح َّلق حوله خدم المطعم مسرورين بتشريفه لهم.
105
الو ّزان
كان (خريبط) يملك ميزان ًا يضعه تحت أبطه ويأتي به إلى سوق مدينتنا .لديه مكان مخصص ،يضع ميزانه ويجلس كصياد على نهر من األشخاص .يأتي إليه الرجال والنساء وحتى األطفال يزنون أجسادهم، ويضعون ثمن الوزن في طاسة قريبة .بعد مدة أصاب الميزان عط ً ال، فلم يعد يميز وزن األجساد بدقة .فصار(خريبط) يفتي بوزن واحد من عنده .هناك تعجب أهل المدينة ،هل من المعقول أن يكون وزن الناس متساوي ًا؟! .فثاروا على خريبط مطالبين بتغيير الميزان بآخر جديد .لكنه رفض مصر ًا على أن ميزانه دقيق ،بل أنه أدق الموازين في العالم .ثم بعد زمن دخل صبي يحمل ميزان ًا إلكترونيا إلى السوق ،تح َّلق حوله الزبائن لمعرفة أوزانهم بدقة علمية فائقة .تاركين (خريبط) الذي صار يلعن ويسب الحظ ،ويشكك بعبارة»من قال أن هذا الميزان الجديد أفضل من القديم؟ كل شيء قديم أفضل» .فلم يكترث له الناس ،سوى بعض ِ الضعاف من السقم ،تجمعوا حوله مؤمنين بميزان خريبط الصدئ.
106
المتنزه وقف طفل على باب متنزه ،منشغ ً ال بمنظر األراجيح ،وتنسيق الحدائق وخضرتها ،وأصوات الضحكات واألغاني واألحاديث الحميمية بين زواره ،والتي تبدو للسامع كأنها هدير شالل .أراد الطفل الدخول ،لكن حارس الحديقة الضخم ،ذو المالمح الصارمة منعه واضع ًا يد ًا على الباب ،ومشير ًا باليد األخرى إلى لوحة معلقة على باب المتنزه(للعوائل فقط) .غادر الطفل المكان حزين ًا ،وبعد سنوات عاد الطفل رج ً ال بهي ًا، رشيد ًا ،يجر بكفيه طفلين متقاربة أعمارهم .وتسير إلى جنبه زوجته التي وعدها بالجلوس في متنزه جميل ،فيه أراجيح مبهجة ،وأشجار وحدائق تسر عين الناظر .لكنه تفاجأ حين وصل إلى باب المتنزه ،رآها مقفلة، وقد التحف المكان بالصمت الموحش .وزاد ذهوله حين الحظ قطع تعزية سود تمأل جدار المتنزه ،وقد استبدلت لوحة (للعوائل فقط) بلوحة أكبر ،مخطوط ًا عليها سورة الفاتحة.
107
الروبوت (عزيز) يقوم بكل احتياجات المنزل .بل لواله لما استطاعت زوجته القيام بأغلب المشاغل المتعبة في المنزل ».تعال يا حبيبي أريد تقطيع البصل» يهرول إلى المطبخ كقط مطيع ،ثم يضع رأسه على الطاولة، ثم تبدأ الزوجة بتقطيع البصل على رأسه».عزيز األوالد يريدون كتابة دروسهم» يهرع إلى الصالة حيث األوالد ،ينحني على ركبتيه ثم يضع األوالد كراساتهم على ظهره ويبدؤون بالكتابة لمدة طويلة ،وعزيز ال يظهر مل ً ال أو تعب ًا ،بل كان سعيد ًا ،سعيد ًا جد ًا ويعترف بهذا أمام الناس ويقول «أنا أسعد زوج في العالم» .عزيز يدخل الحمام مع األوالد ،حيث تحتاج الزوجة لحيته ليف ًة لتنظيف جسدها وجسد األوالد .عزيز يبلع التراب الذي جمعته زوجته من على السجادة ،مستغني ًا عن (المكرافة). عزيز يقف ساعات لي ً ال واضع ًا في كل كف ورقة صلبة ،ويحرك ذراعيه كما المروحة الكهربائية .بعد مدة من االستخدام يصيبه عطل ،فيقبع في إحدى زوايا المنزل كالبليد .حزنت زوجته كثير ًا ،ولكن حزنها تبدد ذات صباح حين طرق في أذنها صوت في الشارع «عتيق للبيع ...عتيق للبيع».
108
خالف في ذلك اليوم ،حين أشاحت السماء بوجهها ،ولملم البحر أمواجه غيض ًا .لم نفهم سبب التباعد والخالف بينهما .ولما سألنا السماء أشارت باستخفاف صوب البحر هاتفة( :اسألوه) .وحين سألنا البحر أجاب في كمد( :ال فائدة) .وبعد أن وشت موجة من أمواج البحر تسللت خفية، الزرقة .هل عن سبب خالف السماء والبحر .عرفنا أن الخالف يخص ُ السماء من ألقت بعباءتها على صدر البحر بغنج أنثوي .أم البحر من كلل عروسه(السماء)؟! .استمر التباعد ،بعد أن نصبت الحيرة عمود خيمتها، وتسلل الفتور كاللص ليسرق منهما ذلك التآلف والصفاء .وحين لم يصال إلى حل يرضيهما ،أنهى الليل الخالف ،لما أزف وقته ،سائقا ًأمامه الظلمة العتيمة.
109
خيبة ٍ بثمن باهظ ومعاناة ثقيلة ،استطاع في النهاية شرا َء (فرخ نسر) من يجهز له أحد بائعي الطيور .ولم يرض للنسر بأكل خسيس ،فقد كان ُّ ُ حمام ًة َّ يأخذ الحمام َة النسر بطريقته الخاصة ،حيث كل يوم ،ليأكلها ُ جانب ًا في إحدى الزوايا ،ثم يخفيها خلف جناحيه ويفترسها بصمت. ُ مالك النسر يضحي بوقته ،جهده ،نقوده ،دماء الحمامات .فقط كان لكي يرى نسر ًا غازي ًا السماء بجناحيه الكبيرين .لكنه وبعد تلك السنوات واالنتظار ،أدهشه أن بائع الطيور قد خدعه ،حين باع له نسر ًا مصاب ًا بفوبيا المرتفعات.
110
...وأخواتها في اليوم التالي ،ومن دون سابق رأي .أفاق (المبتدأ) من نومه .جلس على السرير بعينين يملؤهما التساؤل ،حين لم يعثر على صديقه (الخبر) في السرير المجاور .وبعد لحظات تيق َّن أن صاحبه قد حزم حقائبه و اِرتَحل بال رجعة .غادر(المبتدأ) المكان أيض ًا ،مهاجر ًا إلى مكان لم عم الذعر في المدينة ،وأكثر المذعورين يرسم مالمحه .في اليوم التالي َّ (كان وأخواتها) .فلم تعد (أصبح) تبيع النور صباح ًا ،ولم تعد (أمسى) تبيع النجوم مسا ًء( .صار) تحولت إلى مسخ ،و(ليس) أصابها الخنوع والمداهنة( .بات) هجرها النوم ،و(ظل) تناست االستقرار .لم تبق ألاّ (كان) ،صابرة على شيخوخة المعنى سنوات وسنوات .تحكي لاِ سمين جد ْيهما اللذين تخاصما وهاجرا من دون طفلين حكاية قديمة ،عن َّ سابق رأي.
111
تفاهم على أريكة انتظار الحافلة ،جلس رجالن بالصدفة .قال الذي على اليمن للجالس على اليسار( :الحياة مقرفة) ،فلم ينبس اآلخر بكلمة!. فكرر المحاولة( :الحياة مع كل بشارات التطور ،تحولت إلى شيء ماسخ...؟) .استمر الجالس على اليسار ساكت ًا ،ناظر ًا باستغراب للجالس بجواره .أقبلت الحافلة ،فانتصب الرجل الجالس على اليسار واقف ًا، سائر ًا بحذر شيخ ليركب الحافلة التي غادرت المكان مخلفة كمية من الدخان ،وكان مكتوب ًا على جانبيها عبارة(معهد األمل للصم والبكم). في ذلك األثناء وقف الرجل الجالس على اليمين ،بعد أن شعر بمغادرة الرجل الجالس قربه ،مرتدي ًا نظارة سوداء واسعة ،ثم غادر المكان وهو يجس األرض بعصاه. ُّ
112
رحيل النهر الذي تج َّلدَ االصطبار ،لم يعد يحتمل تفاهات المدينة ،أوالدها المشاكسين ،قيأها ،نفاياتها ،عبث المتبولين ،جثث الحيوانات ،هجرة األسماك ،توبيخ النخيل .حين تفاخر بالماء كسروا هيبته بالجسور. توعدهم بالجفاف ،فهددوه بالسدود .زمجر فائض ًا ،فألقموه بال ُترس .في َّ ذلك الحين ،جمع جرفيه وشاورهما األمر؛فوافقاه .حزم حقيبة أمواجه، وارتدى عباءة زرقته ،وغادر المدينة صوب المحيط .هناك حيث انتحرت قبله انهار المدن التي خيم على شفاهها اليباب.
113
نهاية إطار سيارة المسؤول ،يتفاخر بهيبة حين يهرول على الطريق .تخافه إشارات المرور ،واألرصفة ،واإلسفلت والحصى والتراب .بعد مدة ليست بالطويلة .وجدوه مرمي ًا في ساحة أنقاض ،بعد أن تم استبداله بإطار جديد .قرر االنتقام ،حين تبرع بحرق نفسه منتحر ًا ،في مظاهرة قام بها ث ّل ٌة من الجياع.
114
ذاكرة ال يتذكر عد َد السفن التي أبحر بها قائد ًا ،لكنه يتذكر جيد ًا طوق النجاة الذي أرجعه إلى جزيرته.
115
تبادل ٍ بساق يسرى ،لم يعد مهتم ًا بأحذية القدم اليمنى، الجندي الذي عاد ُّ جندي آخر فقد ساقه اليسرى. هن إلى ٍّ فتبرع بِ َّ
116
وصحبت شخصياتها ،هي وأبحرت في عالمها «القصص التي قرأتُها ُ ُ من دون ريب ،مكتملة في بنائها وشائقة بأخيلتها .هي مكتوبة لتخاطب مستوى قرائي ًا معين ًا يتقبل أخيلتها المنسوبة إلى نوع من السرد العجائبي، يمكن تسميته هنا بـ (سرد القرية) .قد يبدو هذا النوع غريب ًا على عصر ٍ مكتف بعالمه البعيد، الثيمات الواقعية الجديدة ،والتقنيات الحديثة ،لكنه المنتمي إلى عصر البراءة والبساطة والنقاء .وقد يشعر قسم من القراء بحاجة إلى السفر نحو هذا العالم المنطوي بصحبة أشخاص مبعوثين من وراء حجاب الزمن الحاضر ،يذكّ رونه بأصول فكرية وسلوكيات قديمة ال يشعر بها حالي ًا وسط صخب الحياة وعنفوان العمل اليومي الشاق ومهوالت األوضاع» «قصص القسم الثاني تمتاز بحدثها المدهش والجديد ،ما يقربها من أجود المجموعات القصصية العربية والعالمية (مجموعة ساروت: انفعاالت ،مثال) لما أدركته من حافات المخيلة البيضاء والسوداء بالتناوب والجدل الخيالي الخصب بالبراهين والنهايات الذكية والمؤثرة»
(محمد خض ّير)
117