واسألهم عن القرية للاديب أنمار رحمة الله

Page 1


‫أنمار رحمة اهلل‬

‫واسألهم عن القرية‪...‬‬



‫قصص‬

‫ّ‬ ‫أنمار رحمة اهلل‬

‫واسألهم عن القرية‪...‬‬

‫ﻟﻠﻨﺸﺮ ﻭ ﺍﻟﺘﻮﺯﻳﻊ‬


‫ﻟﻠﻨﺸﺮ ﻭ ﺍﻟﺘﻮﺯﻳﻊ‬

‫واسألهم عن القرية‪...‬‬ ‫أنمار رحمة اهلل‬

‫‪Ask them about the village‬‬ ‫‪Anmar Rahmallah‬‬ ‫الطبعة األولى‪2016 :‬‬

‫إصدار دار سطور للنشر والتوزيع‬ ‫بغداد ـ شارع المتنبي ـ مدخل جديد حسن باشا‬ ‫هاتف‪ 07711002790 :‬ـ ‪ 07700492576‬ـ ‪email: bal_alame@yahoo. com‬‬ ‫جميع حقوق الطبع والنسخ والترجمة محفوظة للدار والمؤلف أنمار رحمة ال ّله‪ ،‬حسب قوانين الملكية الفكرية للعام ‪ ،1988‬وال‬ ‫يجوز نسخ أو طبع أو اجتزاء أو إعادة نشر أية معلومات أو صور من هذا الكتاب إال بإذن خطي من الطرفين‪.‬‬ ‫‪First Published by Dar Sutour For Publishing and Distribution‬‬ ‫‪ Jadeed Hasan Basha Entry‬ـ ‪ Al Mutnabi street‬ـ ‪ Iraq‬ـ ‪Baghdad‬‬ ‫‪Revised copyright © Dar Sotour And Anmar rahmallah، The right of the Author of this work has‬‬ ‫‪been asserted in accordance with the Copyright, Designs and Patents Act 1988.‬‬

‫تعبر بالضرورة عن‬ ‫تعبر عن رأي كاتبها‪ ،‬أو محررها‪ ،‬أو الجهة الصادرة عنها‪ ،‬وال ّ‬ ‫هام‪ :‬إن جميع اآلراء الواردة في هذا الكتاب ّ‬ ‫رأي الناشر‬ ‫الترقيم الدولي‪ISBN: 978-1-988295-21-3 :‬‬


‫توصيف بقلم األديب األستاذ‬ ‫خضير)‪:‬‬ ‫(محمد‬ ‫ّ‬ ‫وصحبت شخصياتها‪ ،‬هي‬ ‫وأبحرت في عالمها‬ ‫القصص التي قرأتُها‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫من دون ريب‪ ،‬مكتملة في بنائها وشائقة بأخيلتها‪ .‬هي مكتوبة لتخاطب‬ ‫مستوى قرائي ًا معين ًا يتقبل أخيلتها المنسوبة إلى نوع من السرد العجائبي‪،‬‬ ‫يمكن تسميته هنا بـ (سرد القرية)‪ .‬قد يبدو هذا النوع غريب ًا على عصر‬ ‫ٍ‬ ‫مكتف بعالمه البعيد‪،‬‬ ‫الثيمات الواقعية الجديدة‪ ،‬والتقنيات الحديثة‪ ،‬لكنه‬ ‫المنتمي إلى عصر البراءة والبساطة والنقاء‪ .‬وقد يشعر قسم من القراء‬ ‫بحاجة إلى السفر نحو هذا العالم المنطوي بصحبة أشخاص مبعوثين من‬ ‫وراء حجاب الزمن الحاضر‪ ،‬يذكّ رونه بأصول فكرية وسلوكيات قديمة‬ ‫ال يشعر بها حالي ًا وسط صخب الحياة وعنفوان العمل اليومي الشاق‬ ‫تقدم قصص المجموعة دروس ًا في الحكمة‬ ‫ومهوالت األوضاع‪ .‬لذا فقد ّ‬ ‫والموعظة‪ ،‬وقد تقترب مبانيها ومحكياتها من قصص الرؤيا التي اشتهرت‬ ‫في أوائل القرن العشرين على يد قصاصين عراقيين أبرزهم عطا أمين‪.‬‬ ‫إن لمسات حداثية مفتعلة‪ ،‬وشخصيات إشكالية‪ ،‬تدخل عالم هذه‬ ‫القصص‪ ،‬ستفسد نقاءه وبساطته وتشوش رؤياه‪ ،‬وما يعيه القاص هنا‬ ‫يتناسب وهذا المستوى (األولي) أو (البدئي) من التخييل السردي‪،‬‬ ‫‪5‬‬


‫يتمسك بأهدابه وحوافه وبنائه كي يفي بقواعد هذا النوع الغرائبي وال‬ ‫يتعداه متطلع ًا إلى ما بعده من تقنيات ورؤى‪ .‬وليس هناك من اعتراض‬ ‫قوي على هذا االبتداء والبناء‪ ،‬ألنهما أسلم وأوفى لصدق التجربة‬ ‫وحقيقة االنفعال القصصي البسيط‪ .‬لكن الوقوف عند هذا المستوى‬ ‫لن يواجه تحديات متزايدة من قراء أصبحوا أكثر تطلب ًا وأقوى حث ًا على‬ ‫االنعطاف والتجريب السردي في أرقى مستوياته‪.‬‬ ‫وهذا التوقع يجعل القناعة والكفاية بحدود هذا النوع (الغرائبي)‬ ‫المتواري في غابات الزمن الماضي السعيد‪ ،‬مصدر قلق لكاتب وناقد‬ ‫وقارئ يتعرضون على حد سواء لضغوط اللحظة السردية التي توصف‬ ‫أحيان ًا بالحداثة‪ ،‬وأحيانا بما بعد الحداثة‪ ،‬ما يجعل الطبع البسيط الذي‬ ‫أنتج هذه القصص غير مرغوب فيه إزاء التطبع المتحايل على النفس‬ ‫والشعور وفهم مطالبهما المتغيرة والمعقدة‪ .‬وبالطبع فإن خيار سرد‬ ‫(القرية) رغم صدقه وتشويقه وكفايته يصبح مع المرور في غابات السرد‬ ‫الحديثة مهدد ًا بخطر النقض والتفكيك والمصادرة‪.‬‬

‫مع هذه الخطورة (الحداثية) وإلحاحها‪ ،‬فليس هناك من ينكر حاجة‬ ‫بعض القراء بالعودة إلى األصول الممتعة لقصص الكائنات األثيرية‪،‬‬ ‫والغريبة عن عالم يزداد توحش ًا وتصلب ًا‪ .‬ولنا في اشتهار قصص (ملك‬ ‫الخواتم) و(هاري بوتر) وقبلهما قصص (أجاثا كريستي وهيتشكوك‬ ‫وسيمنون) وعودة سحرها المؤثر في هذه األيام خير دليل على استمرار‬ ‫هذه الحاجة النوستاليجية والبدئية لعالم ما قبل المدينة ووسائل االنتاج‬ ‫الصناعي والتكنولوجي واالتزان العقالني‪.‬‬ ‫‪6‬‬


‫تذكرنا قصص المجموعة (قصة حارس المكتبة مثال) بقصص الجان‬ ‫والساحرات والعالم الورائي التي قرأنا مثلها أيام الطفولة والصبا في‬ ‫سالسل خاصة بالفتيان‪ ،‬وقد أصبحت الشقة بيننا وبينها بعيدة جدا‪ ،‬وقد‬ ‫ال يفكر قارئ كبير في السن بالرجوع إليها‪ ،‬كذلك بالنسبة لقارئ راشد‬ ‫اختلفت عنده مقاييس المغامرة ومستويات التخييل ومثالها حكايات‬ ‫(ألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة والمقامات)‪ ،‬ناهيك عما تقدمه نظريات‬ ‫السرد الحديثة من مداخل لهذا العالم البعيد عن عالمنا الملغز بأكثر من‬ ‫مقترب علمي وخيالي‪ .‬وما زال أدبنا القصصي العربي عموم ًا قاصر ًا عن‬ ‫اجتياز هذا الحاجز (الخيال العلمي) باقتراحات ممكنة ومعقولة‪.‬‬ ‫قد تستثنى قصة (الهتر) من هذه المقاييس (الراشدة) لتواطؤها مع‬ ‫ثيمة إشكالية معاصرة‪ ،‬إال أنها سرعان ما تلتحق بالقصص التي سبقتها‬ ‫الى النفاذ خلف الحاجز األثيري وتنتهي مثلها نهاية سحرية‪.‬‬

‫أحسب انفراد قصص القسم الثاني من المجموعة بمقاييس خاصة‪،‬‬ ‫اشتركت مع القسم األول‬ ‫يبرره قصر النصوص وتركيز ثيماتها‪ ،‬وإنْ‬ ‫ْ‬ ‫في الغرابة واالنتحاء عن عالم معقول وملموس الحدود والمستويات‪.‬‬ ‫فقصة (األضراس) مثال تنتمي إلى عالم القسم األول برغم تجاوزها‬ ‫المستوى البسيط والقروي‪.‬‬ ‫وتكاد قصة (التضاؤل) تؤكد صلتها بالقسم األول بقوة الموضوع‬ ‫الغرائبي‪ ،‬لكنها تنفصل عنه بارتفاع التقنية وزاوية النظر‪ ،‬حيث يبدو‬ ‫التكافؤ المختل بين الزوجين أقرب إلى طريقة (كافكا) الرؤيوية الحادة‬ ‫في تسليط النظرة وتضخيم الشعور وانفراد الحالة الفكرية واالجتماعية‪.‬‬ ‫‪7‬‬


‫حتى إذا تقدمنا مع القصة الثالثة (الصبار) صار واضح ًا أن قصص‬ ‫القسم الثاني تتجه لكي تؤلف نوع ًا سردي ًا رؤيوي ًا مستق ً‬ ‫ال بموضوعاته‬ ‫وزوايا نظره المركزة والصافية‪ .‬بل أن العثور على مفاتيح مالئمة لأللغاز‬ ‫الغرائبية يجعل عملية القراءة أكثر إمتاع ًا ومقبولية‪.‬‬

‫وال أحسب القاص أنمار مقتنع ًا بأن قصصه المكثفة هذه تنتمي إلى‬ ‫النوع الشائع في سردنا (القصة القصيرة جد ًا)‪ .‬فهي تطمح إلى أن تؤلف‬ ‫(حاالت) قصصية متميزة مكتفية بنوعها وموضوعها تنتسب إلى النوع‬ ‫السردي القصير األساسي‪ ،‬من دون نقصان أو زيادة‪.‬‬ ‫وعلى هذا األساس فإن قصص القسم الثاني تمتاز بحدثها المدهش‬ ‫والجديد‪ ،‬ما يقربها من أجود المجموعات القصصية العربية والعالمية‬ ‫(مجموعة ساروت‪ :‬انفعاالت‪ ،‬مثال) لما أدركته من حافات المخيلة‬ ‫البيضاء والسوداء بالتناوب والجدل الخيالي الخصب بالبراهين والنهايات‬ ‫الذكية والمؤثرة‪ .‬فإذا ما أطلقنا عليها (قصص الحافة البيضاء أو السوداء‬ ‫للمخيلة) تمييزا لها عن نماذج قصص (االنفعاالت الداخلية والتحليلية)‬ ‫فلسنا على قدر من المبالغة في تسويق نوع قصصي محلي جديد‪.‬‬

‫وهذا االستنتاج يستثني القصص المختصرة (جدا) المعنونة (رحيل‪،‬‬ ‫نهاية‪ ،‬ذاكرة‪ ،‬تبادل) من هذا التخصيص والتمييز‪ ،‬فهي أقرب إلى القصص‬ ‫الشذرية الحكمية‪ ،‬في الحكاية العربية التقليدية (وخاصة االثنتين‬ ‫األخيرتين)‪ ،‬ما يخرجها من حافة التخييل الحر إلى موضة التنصيص‬ ‫المختزل الشائع‪ ،‬من دون مسوغ فني او نوعي‪ .‬لكنها من ناحية أخرى‬ ‫ُحسب براهين قصيرة مضادة للنوع المفرط في الغرابة والتطويل في‬ ‫قد ت َ‬ ‫‪8‬‬


‫قصص القسم األول‪ .‬كما أنها إثبات لحالة (التضاؤل) الذي قد يصيب‬ ‫القصة في آخر المطاف‪ ،‬حين يفكر القاص بجوهر القصة وتخليصه من‬ ‫الزوائد والنظرات الزائغة بحس نقدي مفرط‪ .‬ومهما كان تسويغ القاص‬ ‫لها‪ ،‬فهي برهان مركز ال يسوغ إال نوعه (الشذري الحكيم) وحده‪ ،‬لكنه‬ ‫ال يقدر على إعمام البرهان على أنواع جديدة من السرد المتجوهر بقدرته‬ ‫على فتح النص القصصي على أكثر من خيال (في النوع والطول خاصة)‪.‬‬ ‫يمكننا أن نفرد مكانة خاصة لنص (في مديتنا) ذي المقاطع الثالثة‪،‬‬ ‫فهو ال ينساق وراء رغبة االنعكاس واالرتداد على نصوص القسم األول‬ ‫والبرهان على صحتها أو شططها عن النوع األساسي للقصة القصيرة‪،‬‬ ‫بل يلتحق بأفضل ما حققه القسم الثاني من نصوص متميزة‪.‬‬

‫محمد خضير‬ ‫في ‪14/2/2016‬‬

‫‪9‬‬


10


‫((القسم األول))‬

‫‪11‬‬


12


‫الرسام‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫أغصان األشجار تشي بحلول‬ ‫السماء متخمة بالغيوم‪ ،‬وحركة‬ ‫كانت‬ ‫ُ‬ ‫عاصفة وشيكة‪ .‬النوافذ محكمة الغلق واألبواب ك َّف ْت عن الثرثرة‪ .‬في‬ ‫تلك الساعة‪ ،‬وقف (الرسام) عند باب (قرية الجمال) والفضول يعانق‬ ‫روحه‪ .‬ألقى حقيبته ورفع يديه ووجهه نحو السماء ليعيش لحظة راقت‬ ‫له‪ ،‬مع نثيث المطر الذي تحول إلى زخات محتدمة‪( .‬أخير ًا وصلت‪)!...‬‬ ‫هتف الرسام ضاحكا مستبشر ًا بالقرية التي ذاع صيتها‪ ،‬وعال شأنها‬ ‫صيت جماله‬ ‫لجمال أهلها وزينتهم‪ .‬حتى قيل أن النبي (يوسف) تضاءل‬ ‫ُ‬ ‫أميزها تلك المقبرة‬ ‫وحسنه مقارن ًة بجمالهم‪ .‬ثم أن أشياء لفتت انتباهه‪ْ ،‬‬ ‫الكبيرة على جانب الطريق عند مدخل القرية‪ ،‬ودروب السوق الفارغة‬ ‫من الناس والدكاكين المقفلة‪ ،‬كأن ّ‬ ‫السكان انتقلوا إلى المقبرة تلك دفعة‬ ‫واحدة‪ .‬انطلق حام ً‬ ‫ال حقيبته صوب عنوان يبتغيه‪ ،‬من المتفق أن يمكث‬ ‫يصور فيها جمال أهل القرية وبهاءهم‪( .‬ما‬ ‫فيه فترة رسمه لِلوحات‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫يتخيل عدد اللوحات التي سيرسمها‪،‬‬ ‫أروعها من مغامرة‪ )!...‬تمتم وهو ّ‬ ‫المثمنون قيم َتها ورونقها‪ ،‬حيث سكنت فيها‬ ‫وكيف س ُتعرض ويشتريها‬ ‫ّ‬ ‫وجوه بشر تناظر المالئكة‪.‬‬ ‫زئير العاصفة‪ ،‬قفز الرسام من فراشه‬ ‫في اليوم التالي وبعد أن خفت ُ‬ ‫‪13‬‬


‫وهب‬ ‫وعدة إبداعه ورزقه‪ .‬ألقى في جوفه لقمتين‬ ‫مرتب ًا حاجياته وأدواته ّ‬ ‫َّ‬ ‫خارج الغرفة الصغيرة في منزل كبير إليواء النزالء والمسافرين‪ .‬صاحبة‬ ‫المنزل امرأة عجوز‪ ،‬لكنها رائعة الجمال‪ .‬اشتهى أن تكون أول لوحة له‬ ‫فلكز رغبته موبخ ًا‪ ،‬مؤج ً‬ ‫ال الفكرة إلى وقت آخر بعد استكشاف القرية‬ ‫بالكامل‪ .‬فمن المحتمل أن يعثر على وجوه أكثر جما ً‬ ‫ال‪ .‬نظرت المرأة‬

‫صاحبة المنزل إلى وجه الرسام طوي ً‬ ‫ال قبل أن تستلم مفاتيح الغرفة منه‪،‬‬ ‫مما جعل الرسام يبتسم متسائ ً‬ ‫ال(نعم سيدتي ‪..‬؟ هل هناك خطب ما؟!)‪.‬‬

‫أشارت إلى وجهه قائلة (أنك قبيح ‪ ...‬مخيف!!)‪ .‬ضحك الرسام ضحكة‬ ‫جاهزة فيها من التصنع الكثير‪ ،‬وأخفى في قلبه حسرة كبيرة‪ ،‬فوجهه لم‬ ‫يكن بالفعل جمي ً‬ ‫ال‪ ،‬بل كان ذا سمرة داكنة‪ ،‬وعينين كعيني غوريال‪،‬‬ ‫ومنخرين واسعين‪ ،‬وشعر مجعد وجبهة مليئة بالبثور‪.‬‬

‫خرج من المنزل متمه ً‬ ‫ال‪ ،‬حافظ ًا لتفاصيل الطرقات والبنايات‬

‫وخريطة الذهاب واإلياب‪ ،‬تعصف في أذنه جملة العجوز صاحبة‬

‫المنزل (إنك قبيح‪ .)...‬طرد الحزن من قلبه‪ ،‬وشتت كل شيء سيشغله‬ ‫عن مهمته الرئيسة‪ .‬هام على وجهه سائح ًا بين الوجوه الجميلة الباهرة‬

‫يتبضع استماله بقوة لكن وجه ًا آخر المرأة‬ ‫د ّقق النظر في وجه رجل ّ‬

‫شده أكثر‪ .‬التفت صوب اليمين‪ ،‬رجالن‬ ‫تبيع األرغفة على األرض ّ‬ ‫يمشيان أذهاله بجمالهما‪ ،‬وارجع البصر صوب الشمال حيث وقفت‬ ‫يس ُل ُب جما ُلها العقل‪ .‬يمين‪ ،‬شمال‪ ،‬يمين‪ ،‬شمال‪ .‬عيناه تعبتا من‬ ‫سيدة ْ‬ ‫والب َهار ما لو ُق ِس َم على أهل‬ ‫المطالعة‪ ،‬والقرية أه ُلها حملوا من البهاء َ‬ ‫كمذنَّب يجهل موعد‬ ‫تحير الرسام كثير ًا وهو يجول ُ‬ ‫الدنيا لكفاهم‪َّ .‬‬ ‫ومكان االرتطام‪( .‬أيهم أرسم‪...‬؟ وأيهم اترك‪...‬؟) سأل نفسه في حيرة‬ ‫‪14‬‬


‫شديدة‪ ،‬وفي الوقت الذي كان يفكر فيه‪ ،‬كان أهل القرية يمرون عليه‬ ‫المستهجن لديهم‪ .‬مرت أيام‬ ‫مرتابين‪ ،‬خائفين‪ ،‬مذعورين من شكله ُ‬ ‫والرسام قابع في غرفته َّ‬ ‫كل ليلة متحير في االختيار‪ .‬يخرج كل صباح‬ ‫ٌ‬ ‫نظيفة لم تكحلها ريشته‪،‬‬ ‫لوحات‬ ‫ويرجع إلى منزله خاوي اليدين‪ ،‬تنتظره‬ ‫ٌ‬ ‫ولم تقب ّلها ألوانه‪ .‬إيمانه بطول مكوثه في القرية‪ ،‬جعله يتأقلم مع ُسبل‬ ‫العيش هناك‪ ،‬خصوص ًا حرصه على مصروفه اليومي‪ ،‬وكتم غيظه على‬ ‫تصرفات أهل القرية‪ .‬ففي كل مرة يعود بها إلى المنزل‪ ،‬يكتشف أن بائع ًا‬ ‫قد غشه في المعيار والجودة‪ ،‬ثم يتحول إلى بائع آخر‪ ،‬فيكتشف الشيء‬ ‫ذاته‪ .‬حتى تبين له أن أهل القرية جميعهم عاشوا ويعيشون على المخاتلة‬ ‫في معاييرهم‪( .‬وجوههم مالئكية وموازينهم مريبة) جملة تح ّلق في‬ ‫فضاء عقل الرسام في ِّ‬ ‫ُ‬ ‫الرغبة على‬ ‫كل ساعة‪ ،‬حين عاشر القوم‪ ،‬وأجبرته‬ ‫مسايرتهم بما يشتهون‪ ،‬تسليم ًا منه حتى إنهاء مهمته التي جاء من أجلها‪.‬‬ ‫كان يشكو دائم ًا للمرأة العجوز الغش في القرية‪ ،‬ويسألها فتجيب (هذا‬ ‫ما تعودنا عليه ‪ ...‬أنه شيء طبيعي)‪.‬‬ ‫ثم تمر األيام تباع ًا والرسام عاطل عن العمل‪ ،‬إذ قاطعه أهل القرية‪،‬‬ ‫ورفضوا أن يكونوا مادة فنية له‪ .‬كانوا يخاطبونه في كل مرة يريد رسم‬ ‫تقيمنا‬ ‫احدهم (كيف تريد رسم وجوهنا الساحرة وأنت مسخ دميم؟ هل ّ‬ ‫ريشتك أيها القبيح؟!)‪ ..‬فقرر أن يرجع إلى غرفته ليعيد حساباته من‬ ‫جديد‪ .‬وأن يخرج ساتر ًا وجهه بلثام في المرة المقبلة‪ ،‬مخاطب ًا نفسه (هذا‬ ‫أفضل‪ ...‬حتى ال تُقذف القشعريرة واالشمئزاز في قلوب أهل القرية‪،‬‬ ‫فيجفلون مني)‪.‬‬ ‫يمر الليل ثقي ً‬ ‫ال‪ ،‬كسحاب تدفعه رياح كسولة‪ .‬الوقت يلضم نفسه‬ ‫ُّ‬ ‫‪15‬‬


‫بنفسه ليكون مشنقة ملتفة حول عنق الرسام‪ ..‬لفت انتباهه قدوم البرق‬ ‫الهث ًا يتبعه الرعد‪ ،‬فكانت فرصة جميلة للترويح عن نفسه‪ ،‬فهو عاشق‬ ‫المطر وصديقه القديم‪ .‬نزل إلى الشارع الذي بدا مهجور ًا‪ .‬أضواء‬ ‫خافتة وشارع كئيب ومطر ينقر‪ ،‬ينقر‪ ،‬يحتدم‪ ،‬يهطل دفعات دفعات‪.‬‬ ‫الرسام رفع يديه ورأسه صوب السماء وسار بال وجهة محددة‪ ،‬تعزف‬ ‫في أذنه موسيقى المطر‪ .‬شبابيك القرية المضيئة احتشدت خلفها‬ ‫أفواههم‪ ،‬وتوسعت‬ ‫فتدورت‬ ‫ُ‬ ‫الرؤوس‪ ،‬تطالع رقصة الرسام في المطر‪َّ ،‬‬ ‫أحداقهم متعجبين‪ ،‬يطالعون للمرة األولى جسم ًا يتمايل نشوان‪ ،‬بهذا‬ ‫الهطول الالثم جبين األرض‪ .‬توقف المطر‪ ،‬فانتبه الرسام إلى نفسه وقد‬ ‫تبلل بالكامل‪ ،‬عاد مهرو ً‬ ‫ال إلى منزله‪ ،‬ففاجأته العجوز صاحبة المنزل‬ ‫مستغربة من خروجه في هذه الساعة وهذا الموقف‪ .‬دلف إلى المنزل‬ ‫ينكث رأسه من البلل‪ ،‬فسألته العجوز في ريبة‪( :‬أال تخاف من‬ ‫مبتسم ًا‬ ‫ُ‬ ‫المطر‪..‬؟)‪ ،‬أجابها مبتهج ًا‪( :‬األطفال يعشقون المطر)‪ .‬لم تقل له شيئ ًا‪،‬‬ ‫رجعت إلى غرفتها لكن الرسام أوقفها مستفسر ًا هذه المرة‪( :‬سيدتي‬ ‫وهزت رأسها مستفسرة عن سؤاله‬ ‫أرجوك لدي سؤال!)‪ .‬صدعت لطلبه ّ‬ ‫حين قال‪( :‬لم أر في القرية أطفا ً‬ ‫ال منذ حضوري وإلى هذه اللحظة؟)‪.‬‬ ‫تنهدت ثم أشارت بسبابتها صوب مدخل القرية متسائلة‪( :‬هل رأيت‬ ‫ّ‬ ‫القبور التي تمأل المكان هناك؟)‪ .‬أشار برأسه عارف ًا مكان القبور وشكلها‬ ‫وكثرتها‪ ،‬فأجابته‪( :‬إنها قبور أطفالنا‪ ،‬نحن لم نرب طف ً‬ ‫ال منذ سنوات‪ُّ ،‬‬ ‫كل‬ ‫طفل نُرزق به يخرج من بطن أمه ميت ًا‪ ،‬ثم ُيدفن في المقبرة‪ .‬لم يعد الناس‬ ‫هنا يفكرون في األطفال سيدي) أدارت العجوز ظهرها ودخلت غرفتها‪،‬‬ ‫تاركة الرسام فاغر ًا فاه‪ ،‬وقد ج ّفت مالبسه على بدنه المقشعر‪.‬‬ ‫‪16‬‬


‫الرسام متلثم ًا‪ ،‬خافي ًا وجهه‪ ،‬محاو ً‬ ‫ال‬ ‫في صباح اليوم التالي‪ ،‬خرج ّ‬ ‫اقتناص فرصة ثمينة إلقناع أحدهم ورسمه‪ .‬تفجر صوت مرعب في‬ ‫سمعه آمر ًا‪( :‬قف)‪ .‬أوقف الرسام خطواته والتفت خلفه ليرى موكب‬ ‫وعرافها األوحد‪ .‬أنزل حقيبته وطالع من فتحة لثامه الموكب‬ ‫شيخ القرية ّ‬ ‫العراف وحاشيته وجنده‪ .‬خاطبه شيخ القرية بحنق‪:‬‬ ‫الذي اعتلى عرشه ّ‬ ‫حرمت اللثام‬ ‫(من أنت؟ ولماذا تضع اللثام في قريتنا؟‪ .‬أال تعلم أنني ّ‬ ‫على ّ‬ ‫العراف أجمل وجه في القرية‪،‬‬ ‫سكان القرية!)‪ .‬لقد كان وجه ّ‬ ‫يسلب األرواح ويبهر العقول أللقه ونوره وروعته‪ ،‬حيث ُص ِد َم الرسام به‬ ‫وتعجب الئم ًا نفسه‪ ،‬متمني ًا أن يفوز بوجهه لوح ًة سحرية ال مثيل لها‪ .‬أمر‬ ‫العر ُ‬ ‫حراس الموكب أرغموه‬ ‫اف‬ ‫َ‬ ‫الرسام بخلع لثامه فأبى مرعوب ًا‪ .‬لكن ّ‬ ‫ّ‬ ‫وطرحوه أرض ًا خالعين نقابه‪ ،‬فبان للجمع الغفير من الناس قبح شكله‪.‬‬ ‫العراف وحاشيته من المنظر وأمر بتكتيفه في الحال‪ ،‬لم يتحرك‬ ‫فزع ّ‬ ‫العراف في‬ ‫الرسام بل استسلم كما تستسلم الشاة لسكين ذابحها‪ .‬هتف ّ‬ ‫الناس‪( :‬قريتنا الجميلة وأهلها ال يرضون بهذا الجرم العظيم‪ ،‬حين وطأ‬ ‫أرضنا رجل قبيح كهذا‪ ،‬وجب علينا تطهير قريتنا منه وال يطهر جريرته إلاّ‬ ‫العراف راجي ًا متوس ً‬ ‫َ‬ ‫ال‪( :‬دعني أكمل‬ ‫الرسام‬ ‫أن ُينفى مطرود ًا)‪ .‬خاطب‬ ‫ُ‬ ‫العراف‬ ‫مهمتي أرجوك‪ ...‬وسأخرج من قريتكم ولن تروني ثانية)‪َّ ..‬‬ ‫هز ّ‬ ‫رأسه رافض ًا وأمر الحرس بمرافقته ولم اشياءه والمغادرة وشيك ًا‪ .‬عاد‬ ‫يجر أحزانه وأوهامه‬ ‫الرسام إلى المنزل وجمع الوانه ولوحاته‪ ،‬ثم خرج ُّ‬ ‫ولوحاته البيض النظيفة‪ .‬على مهله يمشي يلحظ بحزن الجماهير الواقفة‪.‬‬ ‫أحزنته النهاية حين خرج مدحور ًا خاسر ًا وقد كان يرجو الفوز والجائزة‪.‬‬ ‫وأحزنه أن الوجوه الباهرة الجميلة قد صار بينهن وجهه القبيح نشاز ًا‬ ‫‪17‬‬


‫وعاهة‪ .‬وصل بالقرب من موكب شيخ القرية‪ ،‬الذي صرخ بحزم صارم‬ ‫(أخرج من هنا أيها القبيح‪ ..‬ال أريد رؤيتك مجدد ًا في قريتي)‪.‬‬ ‫في تلك اللحظة ابتسم الرسام وشعر باالرتياح‪ ،‬رافع ًا يديه ورأسه‬ ‫سر تلك الحركة‪ !..‬لكن الشيء الذي تالها‬ ‫نحو السماء‪ .‬لم يفهم الجمع َّ‬ ‫نثيث ثم قطرات ثم مطر‪ ...‬مطر‪ ...‬المطر يهطل بشدة ورعود تزمجر‬ ‫اشتد‬ ‫مالئة الفضاء بهزيمها‪ .‬الجمع الغفير اضطرب وعال صياحه و‬ ‫ّ‬ ‫نفوره‪ ،‬ركض الجميع فزعين‪ ،‬فتالطمت الرؤوس بالرؤوس‪ ،‬وتشابكت‬ ‫(العراف) الذي وقع على‬ ‫األذرع‪ ،‬وتخبطت األفعال‪ ،‬وعلى رأسهم‬ ‫ّ‬ ‫األرض وصار يزحف حتى أحتمى بسقيفة خشبية قريبة‪ .‬كل هذا والرسام‬ ‫رافع يديه ورأسه مبتسم ًا‪ ،‬حتى لفتت انتباهه ألوان وأصباغ سالت على‬ ‫األرض‪( .‬هل هي أصباغي ‪..‬؟ ليست بهذه الكثرة‪ )!..‬تساءل وهو يطالع‬ ‫فد ِهش حين‬ ‫كمية األصباغ في األرض‪ ،‬ثم طالع مرة أخرى وجوه الناس‪ُ ،‬‬ ‫رأى وجوههم تسيل أصباغ ًا ملونة‪ ،‬غسلها المطر وأزالها عن مواضعها‬ ‫التي تعودتها‪ ،‬فظهرت له وجوههم ممسوخة قبيحة‪ ،‬دميمة ُمستهجنة‪ ،‬ال‬ ‫عرافهم كان أشد الوجوه قبح ًا ورعب ًا‪ ..‬حين‬ ‫بريق فيها وال جمال‪ ،‬ووجه ّ‬ ‫انتهت العاصفة ُ‬ ‫وغ ِسلت الوجوه‪ ،‬صرخ العراف بالناس‪( :‬أين القبيح‪..‬؟‬ ‫‪ ...‬أين القبيح؟)‪ ،‬ففتشوا عن الرسام طوي ً‬ ‫ال لكنهم لم يميزوه‪.‬‬

‫‪18‬‬


‫عود ُة ّ‬ ‫الحكاء‪...‬‬ ‫فتح عينيه محدق ًا فلم ير غير العتمة‪ .‬أحس بشيء ثقيل يجثو على‬ ‫صدره‪ ،‬ثم حرك يده الخادرة فانهال على جانبها تراب رطب‪ ،‬أخرج‬ ‫لسانه من فمه متذوق ًا طعم التراب‪ ،‬ثم تفله بعد امتالء فمه بالملوحة‪.‬‬ ‫راح يخربش بيديه التراب الطري‪ ،‬يخربش ويخربش حتى انهال جزء‪،‬‬ ‫كشفت له السماء عن وجهها‪،‬‬ ‫فتشجع وكرر الفعل مرة بعد مرة‪ .‬حتى‬ ‫ْ‬ ‫وبان له المكان بوضوح حين مسح عن وجهه التراب‪ .‬كان قلبه يتحرك‬ ‫بشدة‪ ،‬وهو يطالع أرض مقبرة القرية التي غمرتها األمطار الغزيرة‪ .‬هرول‬ ‫على الطريق المؤدي إلى القرية متعثر ًا بحفر طينية‪ .‬شبحه استفز الكالب‪،‬‬ ‫والتي بدورها َّنبهت حارس بوابة القرية بنباحها لما رأت شبح ًا يتمايل‬ ‫ويبرك بين الحين والحين‪ .‬صرخ الحارس بحزم وهو يحمل عمود ًا بيده‬ ‫(من هناك‪....‬؟)‪ .،‬سقط الرجل اآلتي على األرض وقد افلتت من فمه‬ ‫آهة‪ .‬هرع إليه الحارس وحين تعرف عليه توسعت عيناه وهتف بقوة‪:‬‬ ‫(من ‪...‬؟ ّ‬ ‫حك ُاء القرية؟!)‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫(الحكاء الشيخ) أنه قد توفي قبل ليلة‪،‬‬ ‫في صباح اليوم التالي عرف‬ ‫ّ‬ ‫الحكاء‬ ‫وأن أهل القرية قد ارسلوه بيد دفان ليدفنه في المقبرة القديمة‪.‬‬ ‫لم يستغرب من عودته إلى الحياة‪ ،‬ولم يستغرب من كفنه البالي‪ ،‬ودفنه‬ ‫‪19‬‬


‫في قبر رخيص رخو‪ ،‬بل َّ‬ ‫جل استغرابه كان من تصرفات أهل القرية‬ ‫وترحيبهم الفاتر بعودته‪ .‬ففي الماضي كانت حزمة أيام من السفر‬ ‫ّ‬ ‫الحكاء الشيخ‪ ،‬توقف القرية وال تقعدها تهلي ً‬ ‫ال وترحاب ًا به‪.‬‬ ‫يقطفها‬ ‫ف ُتذ َبح الخراف‪ ،‬ويتباشر الناس‪ ..‬اليوم لم يكترث بعودته أحد قط‪( .‬كل‬ ‫هذا بسبب ذلك الوغد‪ )...‬هكذا أعلن الحكاء في سره‪ ،‬مستذكر ًا تلك‬

‫األيام المجيدة‪ ،‬حين تلملم الشمس غدائرها وقت الغروب‪ ،‬وتستضيف‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫الليل األدهم ذا األنفاس الباردة‪ ،‬وحين تحدث نوبة كالفزع في‬ ‫القرية‬

‫ضربات األقدام‬ ‫الدروب‬ ‫القرية‪ .‬فيقفل الباعة أفواه الدكاكين‪ ،‬وتضرب‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫األعشية المتصاعدة‪ .‬المنازل تفتح‬ ‫روائح‬ ‫المغادرة‪ ،‬وتمأل الفضا َء‬ ‫ُ‬ ‫أحداقها المضيئة‪ ،‬األطفال ترقب األمهات المنهمكات في تحضير‬ ‫الموائد‪ ،‬الرجال تدلف إلى المنازل في استنفار عجيب‪ .‬الغريب عن‬

‫المكان سيصيبه الذهول حين يرى السكون يلقي بعباءته على جسد‬ ‫القرية‪ ،‬مالحظ ًا الجموع وانخراطها كالعقد المقطوع‪ ،‬فيظن من يظن أن‬ ‫وحش ًا سيداهم القرية‪ ،‬أو عارض ًا أو زلزا ً‬ ‫ال سيلتهم سكينتها‪ .‬لكن القرية‬ ‫ّ‬ ‫(الحكاء) أرضها وخالط أهلها‪ ،‬وسمعوا‬ ‫على هذا الحال‪ ،‬منذ أن وطأ‬ ‫منه حكايات الجن والشياطين وفرسان الخرافات والوحوش والغيالن‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫الحكاء ذو اللحية البيضاء ُمنتهى المطاف اليومي ألهل القرية‪.‬‬ ‫فصار‬ ‫ُفر ُ‬ ‫ش‬ ‫يجتمع الناس في مجلسه الليلي الذي َّ‬ ‫يتمدد على ظهر الشارع‪ ،‬إذ ت َ‬

‫األرض‪ ،‬وتُثنى الوسائد‪ ،‬وتتراقص أشباح دخان البخور‪ ،‬والروائح‬

‫طر ُد األراذل الزاحفون إلى الصف األول في المجلس‪ ،‬و ُيقدَ م‬ ‫الزكية‪َ ،‬و ُي َ‬ ‫ّ‬ ‫الحكاء الشيخ إذ يقبل ماسك ًا عصاه‬ ‫وجهاء القرية وأكابرها‪ ،‬منتظرين‬ ‫التي يلكز بها األرض بحزم‪ ،‬حام ً‬ ‫ال في صرته حكايات عن الماضي‬ ‫‪20‬‬


‫السحيق وأهواله‪ّ ..‬‬ ‫لحكاء القرية مكانته العليا‪ ،‬ومكانه المخصص الذي‬ ‫يقص على الناس فيه حكاية َّ‬ ‫كل ليلة‪ .‬حكاية تفوح منها روائح الساحرات‬ ‫ُّ‬ ‫والشياطين والوحوش والسراديب‪ ،‬فيتبول األطفال في سرواليهم‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫والحكاء مسترسل في‬ ‫الرجال دهش ًة‪.‬‬ ‫ويكبر‬ ‫وتتغشى النساء بعباءاتهن‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫كلماته التي ينثرها في عقول أهل القرية‪ ،‬التي ربت واهتزت ونما فيها‬ ‫اإلعجاب والتكبير واالحترام لشخص الحك ّاء وسطوة حكايته‪ .‬حتى أن‬ ‫ّ‬ ‫فعرفت بين القرى‬ ‫أهل القرية أطلقوا على قريتهم اسم (قرية‬ ‫الحكاء)‪ُ ،‬‬ ‫بهذا االسم‪ ،‬وذاع صيتها وصيته في مسارب األقوال والمجالس‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫الحكاء ٍ‬ ‫ماض من نصر إلى نصر‪ ...‬حتى انتبه ذات ليلة إلى مجلسه‪،‬‬ ‫وقد تآكل كما يتآكل الجرف من صفعات الموج‪ .‬لم يكترث واسترسل‬ ‫في حضوره الليلي‪ .‬لكن خشيته تبدلت إلى هلعٍ ‪ ،‬حين رأى ذات نهار‬ ‫صغار ًا في ٍ‬ ‫درب من دروب القرية‪ ،‬يتبارون في ما بينهم‪ ،‬في أفضل من‬ ‫ّ‬ ‫الحكاء الشيخ حين سمع كلمة‬ ‫يقص حكاية عن المستقبل‪ ،‬أحمر وجه‬ ‫ُّ‬ ‫(المستقبل) واستيقن أنها كلمة دخيلة على آذان القرية وأهلها‪ ،‬فراح‬ ‫ينصت إلى طفل يحكي إلى أقرانه الحكاية‪ ،‬فتبعه طفل آخر بحكاية‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫الحكاء متسائ ً‬ ‫ال (من ع ّل َم األطفال‬ ‫جديدة‪ ،‬وتبعه ثالث‪ .‬فتسارع نبض‬ ‫هذا الكالم‪..‬؟)‪ .‬عاد إلى منزله في ذلك اليوم‪ ،‬بخطى أثقلها السؤال‪،‬‬ ‫وعينين مألهما العجب‪ ،‬وقلب خالطه الفضول‪.‬‬ ‫جهز ّ‬ ‫حكاء القرية نفسه لي ً‬ ‫ال‪ ،‬متعطر ًا بأطيب العطور‪ ،‬مزهو ًا بالملبس‬ ‫الحسن‪ ،‬مختا ً‬ ‫ال بعصاه التي حفظت األرض نقراتها‪ ،‬متوجه ًا إلى مجلسه‬ ‫المعتاد‪ .‬استوقفته الدهشة‪ ،‬حين ُص ِد َم بنزارة عدد الجالسين وق َّلتهم‪.‬‬ ‫فاضطر إلى سحب احدهم هامس ًا في أذنه‪( :‬أين اختفى الناس وماذا‬ ‫‪21‬‬


‫شغلهم عن مجلسي؟)‪ .‬فأجابه فاضح ًا ما ُكبِ َت في صدره وصدور القلة‬

‫الباقية في المجلس‪( :‬لعل المتخلفين عن مجلسك سيدي قد طابت‬ ‫لهم حكايات ّ‬ ‫حكاء شاب جديد‪ ،‬اقبل إلى القرية مؤخر ًا)‪ .‬أخذت هذه‬ ‫ّ‬ ‫الحكاء الشيخ بضع ثوان‪ ،‬وبعدها انتبه إلى نفسه وقد‬ ‫الجملة من وقت‬ ‫طال سكوته‪ ،‬ثم اعتلى منبره ليكمل على مضض حكاية تلك الليلة‪ .‬ثم‬ ‫ّ‬ ‫الحكاء الجديد خفية‪.‬‬ ‫توجه محثوث ًا بالفضول القاتل صوب مجلس‬ ‫محيا األطفال والنساء‬ ‫تفاجأ حين رأى البسمة واالبتهاج قد طرزا‬ ‫ّ‬ ‫والرجال‪ ،‬وعالمات الرضا واالستحسان البائنة في حركات رؤوسهم‪،‬‬ ‫وانجذاب أسماعهم‪ ،‬فانزوى متلفع ًا في طرف المجلس‪ ،‬مستمع ًا ّ‬ ‫لحكاء‬

‫شاب‪ ،‬وحكايات عن مستقبل كان يصف لهم ضياءه ورونقه‪ .‬ارتعشت‬ ‫ّ‬ ‫واحس بحرقة توزعت على مساحة صدره‪ ،‬فنفض‬ ‫الحكاء الشيخ‪،‬‬ ‫عينا‬ ‫َّ‬

‫وهم بنفسه طارد ًا إياها‪ ،‬راجع ًا إلى منزله في تلك الليلة‪.‬‬ ‫عباءته َّ‬ ‫***‬

‫مرت أيام قالئل‪ ،‬والحكاء الشيخ منشغل بتطريز حكاياته العتيقة‪.‬‬

‫فاستبدل في حكاية ما دور الشيطان بساحرة‪ ،‬واستبدل بأخرى دور‬ ‫الغول بسعلية‪ ،‬متمني ًا الرجوع إلى سالف عهده‪ ،‬وقديم عزه ومجده‪...‬‬

‫ّ‬ ‫وهم ليتأكد من رتاج بابه‪ ،‬ثم عاد إلى فراشه‬ ‫نفض‬ ‫الحكاء الشيخ أفكاره‪َّ ،‬‬ ‫مستسلما لعفريت النعاس‪ .‬أودع رأسه الوسادة‪ ،‬وما إن أغمض عينيه‪،‬‬

‫حتى طافت به األماني واألحالم‪ .‬تراءت له القرية هازجة‪ ،‬مرحبة‪ ،‬منحنية‬ ‫لهيبة ّ‬ ‫حكائها الوحيد‪ .‬وكيف أن مجلسه قد عاد يغمره الحضور بالتصفيق‬

‫والتكبير‪ ،‬وهو كالساحر يخرج لهم من كمه الحكايات المدهشة‪ .‬كانت‬ ‫ّ‬ ‫الحكاء الشيخ قبل موته‪ .‬فهو‬ ‫هذه الليلة هي آخر ما تبقى في وعاء ذاكرة‬ ‫‪22‬‬


‫لم يعلم أن َّسقّاء القرية العنيد‪ ،‬هو من وشى باكتشاف موته‪ ،‬بعد أن طرق‬ ‫مد عنقه من نافذة المنزل ليجد الحكاء‬ ‫الباب كثير ًا‪ ،‬وحين لم يجد مجيب ًا‪َّ ،‬‬ ‫متمدد ًا بال حراك‪ .‬ومن ثم انتشر الخبر بين أهل القرية الذين تجمهروا في‬ ‫ّ‬ ‫الحكاء بينه وبين نفسه‪( :‬كل‬ ‫وأعدوا مراسيم بسيطة لدفنه‪ ..‬كرر‬ ‫مابعد‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫هذا بسبب ذلك الوغد‪ ..‬إنها فرصتي ‪ ...‬لقد منحني القدر إياها‪ ،‬ولن‬ ‫ّ‬ ‫أفوت هذه الفرصة)‬ ‫يفلت‬ ‫الحكاء الشاب من عقابي‪ ،‬ولن ّ‬ ‫***‬

‫بدأ الحكاء الشاب مجلسه‪ ،‬الجموع متلهفة‪ ،‬اآلذان صاغية‪ ،‬األحداق‬ ‫يقص أقاصيص وحكايات عن المستقبل وأبطاله‪ .‬في‬ ‫تطالع بشغف‪ُّ .‬‬ ‫ّ‬ ‫الحكاء الشاب عن الكالم وقد رمى نظره إلى باب‬ ‫تلك اللحظة توقف‬ ‫ّ‬ ‫بالحكاء الشيخ‪.‬‬ ‫المجلس‪ ،‬فاستدارت الرؤوس صوب الباب‪ ،‬وإذا‬ ‫دخل ناق ً‬ ‫يجس الحاضرين بطرف عينيه‪ .‬استمر‬ ‫ال أقدامه على مهل‬ ‫ُّ‬ ‫ماشي ًا حتى وقف في موضع مميز وهتف بأعلى صوته‪( :‬أتيت اليوم لكي‬ ‫اشهد وأبارك للقرية حكاءها الشاب‪ ،‬بوركت وبوركنا بك يا بني‪ ..‬اكمل‬ ‫ّ‬ ‫الحكاء الشاب وهامت أشباح الناس في‬ ‫حكايتك)‪ ..‬حين انتهى مجلس‬ ‫الدروب راجعة إلى منازلها‪ ،‬كان هناك شبح وحيد يكمن في الظلمة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ال خنجر ًا صقي ً‬ ‫حام ً‬ ‫الحكاء الشيخ خانس في زاوية عتيمة‪ ،‬ينتظر قدوم‬ ‫ال‪.‬‬ ‫غريمه‪ ،‬وبالفعل أتى الغريم ُّ‬ ‫يخف به السير زهو ًا‪ .‬حين وصل اختطفته يد‬ ‫ّ‬ ‫الحكاء الشاب جسمه‬ ‫الشيخ غيلة وسحبه غارس ًا في ظهره الخنجر‪ ،‬أدار‬ ‫ناحية قاتله مشير ًا إليه بيده‪ ،‬وفي حلقه شخرة يخالطها صراخ مكبوت‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫الحكاء الشيخ رجع إلى الوراء يشخص خفوت أنفاس ضحيته‪ ،‬وانسالل‬ ‫روحها‪ .‬فلم يكتف إذ عاد إلى الجسد الملقى على األرض‪ ،‬مركز ًا في‬ ‫طعنته إيغا ً‬ ‫ال‪ ،‬حتى كاد طرف الخنجر أن يخرج من الجهة األخرى‪.‬‬ ‫‪23‬‬


‫لما أصبح الصباح‪ ،‬وشاع الخبر‪ .‬هرع الناس‪ ،‬وناحت النسوة‪ ،‬و ُف ِز َع‬ ‫األطفال‪ ،‬واحتشدت الحشود‪ .‬كان ّ‬ ‫الحكاء الشيخ على رأس الحاضرين‪،‬‬ ‫يلعن صارخ ًا المجرم الذي اقترف جرمه‪ ،‬داعي ًا عليه بالفضيحة والذل‬ ‫ّ‬ ‫الحكاء الجديد إلى مثواه األخير‪ ،‬حيث هزت‬ ‫شيعت القرية‬ ‫والحتف‪ّ .‬‬ ‫َ‬ ‫صراخهم وبكاؤهم‪ ،‬يتقدمهم تابوت‬ ‫الطيور‬ ‫أقدامهم‪ ،‬وأجفل‬ ‫األرض‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫الحكاء الشاب‪ .‬يتقدم الجمع سائر ًا وراءه نفر من كبار القرية يتوسطهم‬ ‫ّ‬ ‫الحكاء الشيخ‪ ،‬مشيع ًا ومستذكر ًا معهم محاسن فقيدهم وجميل ما‬

‫صنع‪ .‬وأطفال يطوفون كالحمائم حاملين أزاهير بيض‪ ،‬قاذفين في قلب‬ ‫ّ‬ ‫الحكاء الشيخ الضيق والحزن‪ ،‬حين رأى غريمه ينال المجد والتفخيم‬ ‫ّ‬ ‫الحكاء الشاب‪،‬‬ ‫حتى هذه اللحظة‪ .‬عاشت القرية أيام ًا من الحزن لرحيل‬ ‫كلهم حزنوا سوى حكائهم القديم الذي راح يعلن من جديد عن مجلسه‬ ‫القديم وحكاياته العتيقة‪ ،‬عن فرسان الخرافات والساحرات والشياطين‬ ‫والسراديب والغيالن والمسوخ‪ .‬من جديد راح يجهز نفسه مستذكر ًا‬ ‫حكاياته‪ ،‬ململم ًا أطرافها‪ ،‬في كيس مخيلته‪ ،‬ماسح ًا عن وجهها التراب‪.‬‬ ‫وبالفعل عاد مرة أخرى‪ ،‬في تلك الليلة حين اخبروه أن مجلسه قد جهز‪،‬‬ ‫فلم تسعه الفرحة‪ ،‬معطر ًا أثوابه‪ ،‬حام ً‬ ‫ال عصاه التي كان يلكز بها وجه‬ ‫األرض‪ ،‬متوجه ًا إلى المجلس المخصص‪ .‬لكن صدمته َك ُبرت هذه‬ ‫المرة حين رأى المجلس‪ ،‬لم يحضر فيه سوى نفر ُيعدون على أصابع‬ ‫ّ‬ ‫الحكاء الشيخ عن سبب قلة الحضور‪ ،‬فرد عليه‬ ‫اليد الواحدة‪ .‬تساءل‬ ‫احدهم مستنكر ًا قلة الحضور‪( :‬أهل القرية الجهالء يا سيدي‪ ،‬دخلوا إلى‬ ‫بيت ّ‬ ‫الحكاء الشاب‪ ،‬ووجدوا عنده الكتب التي كان يأتي منها بالحكايات‬ ‫فهموا بالكتب ووزعوهن على‬ ‫البلهاوات عن ما يدعونه المستقبل‪ّ ،‬‬ ‫‪24‬‬


‫أرباب ُ‬ ‫األسر‪ ،‬ويقرؤون القصص‬ ‫المنازل‪ ،‬وصاروا يجتمعون كل ليلة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫الحكاء‬ ‫تسمر‬ ‫ويتسامرون مستذكرين تلك األيام‪ ،‬حالمين بحكاياته)‪َّ .‬‬ ‫الشيخ في مكانه‪ ،‬متجهم ًا مرتعش ًا في ذهول‪ .‬مرت دقيقة عليه كأنها دهر‪،‬‬ ‫ثم أدار للحاضرين ظهره وسار على مهل وقد صبغ وجهه الشحوب‪.‬‬ ‫نادوا وراءه لكنه لم يلتفت ماشي ًا صوب الظلمة‪ ،‬رامي ًا عصاه في مكان‪،‬‬ ‫وعباءته في مكان آخر على التوالي‪ .‬حتى خرج من سور القرية مثق ً‬ ‫ال كأنه‬ ‫جريح حرب‪ ،‬متوجه ًا صوب قبر طري مكشوف في مقبرة القرية‪.‬‬

‫‪25‬‬


‫المعلّم‬ ‫دخل المعلم الجديد إلى القرية‪ ،‬كان أول المنتبهين له حفنة أطفال‬ ‫تركوا موقع لعبهم‪ ،‬ووقفوا صف ًا يطالعونه بتعجب‪ ،‬كأنه مخلوق نزل‬ ‫جانبي الطريق‪،‬‬ ‫من الفضاء‪ .‬ثم أنتقل الفضول إلى رجال يجلسون على‬ ‫ّ‬ ‫س ّلم المعلم عليهم فردوا السالم ببرود‪ .‬سار على مهل مستكشف ًا مالمح‬ ‫القرية القصية‪ ،‬حام ً‬ ‫ال على كتفه (حقيبة كبيرة) معبأة بالكتب والمالبس‪.‬‬ ‫قوي البنية‪ ،‬مهيب الطلعة‪ ،‬زكي الرائحة‪ .‬هندامه أثار األعجاب‪،‬‬ ‫كان َّ‬ ‫ٍ‬ ‫فتيات تهامسن عليه بفضول‬ ‫لبريق رونقه ود ّقة تأنّقه‪ ،‬ووسامته استمالت‬ ‫خجول‪ .‬سار متجه ًا صوب شبه مدرسة أنهكها تعاقب األزمان‪ ،‬وصراخ‬ ‫الهجير‪ ،‬ونحيب المطر‪ .‬تحوي غرفتين‪ ،‬األولى غرفة يعيش فيها المعلم‪،‬‬ ‫والثانية صف يأوي أطفا ً‬ ‫ال متهرئة أثوابهم‪ ،‬متربة وجوههم‪َّ ،‬‬ ‫حل بينهم بعد‬ ‫فصل معلمهم السابق لغيابه الطويل عن دوامه الرسمي‪ .‬تأقلم المعلم‬ ‫الجديد مع وضعه الحالي‪ .‬في ِّ‬ ‫كل صباح يصدع ألمر المنبه‪ .‬يتناول ما‬ ‫دغدغت نفسه فكر ُة‬ ‫تيسر من ُلقيمات‪ ،‬ثم يتجه إلى عمله برتابة‪ ،‬حتى‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫التنزه‪ .‬فاستثمر يوم العطلة لكي يتجول مستكشفا مالمح القرية البسيطة‪.‬‬ ‫ُذ ِه َل حين اكتشف أن القرية المنسية لم تُطرز سجادتها بحديقة‪ ،‬ولم يزين‬ ‫وجهها شارع نظيف‪ ،‬أو بناية ذات هيبة‪ ،‬أو مكان للترويح‪ ،‬غير مقهى‬ ‫‪26‬‬


‫بسيط يقبع في آخر الدرب الترابي الوحيد الذي ُصلبت على جانبيه دور‬ ‫كالد ّمل على وجه الشارع‪،‬‬ ‫وأبنية شائخة‪ .‬وأحزنه أن تالميذه المتناثرين ُ‬ ‫يحدقون في سحنته من دون أن يبادلوه السالم والتحية‪ ،‬مكتفين بنظرات‬ ‫ّ‬ ‫جامدة‪ .‬النسوة المتلفعات بالبؤس والعباءات الرثة‪ ،‬يتغامزن هامسات‬ ‫(هذا هو المعلم الجديد!)‪ .‬الرجال يطلقون العنان ألنظارهم صوبه وك ُّلها‬ ‫رجاء‪ ،‬في أن يقذف الحياة في عقول أبنائهم‪ ،‬و ُيبعث منهم ٌ‬ ‫(نبي)‪،‬‬ ‫طفل ّ‬ ‫ينتشلهم من بئر أحزانهم وبؤسهم‪ .‬الدهشة تكسوه‪ ،‬الحيرة تجتاحه‪،‬‬ ‫تلح عليه‪ ،‬فيقوده التعب إلى مقهى القرية‬ ‫الرغبة في أن يريح ساقيه ُّ‬ ‫الوحيد‪ .‬دقائق مرت وجيزة وهو منزو في المقهى يراقب الجالسين‪ ،‬حيث‬ ‫رابه أنهم ال يعرفون الكالم‪ .‬ال ضجيج‪ ،‬ال مزاح‪ ،‬ال نقاشات‪ .‬يجلسون‬ ‫كأصنام ملقين بص ّنارات أنظارهم في فضاء الدرب المحاذي للمقهى‪.‬‬ ‫أحس بغربة أكبر‪ ،‬فتوجه صوب الشارع بعد أن حاسب صاحب المقهى‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫فحرك‬ ‫ُمنهي ًا جولته الرتيبة‪ ..‬ل َف َت انتباهه ّ‬ ‫تجم ٌع غفير في الجهة المقابلة‪َّ ،‬‬ ‫لحوذي هاج‬ ‫التجمع‪ .‬كان مشهد ًا‬ ‫ساقيه ببطء وهو يناور في نظراته حول‬ ‫ٍّ‬ ‫ّ‬ ‫يجر عربة توصيل البضائع‪ .‬حيث رفع الحمار جزئه الخلفي‬ ‫حماره الذي ُّ‬ ‫رافس ًا العربة بعنف‪ ،‬ناهق ًا بقوة‪ .‬الناس َّ‬ ‫شكلت دائرة حول المشهد‪ ،‬تنتظر‬ ‫الحمار األرض بحوافره‪ ،‬كاسر ًا‬ ‫مفاجأة لم تتأخر كثير ًا‪ ،‬حيث ضرب‬ ‫ُ‬ ‫اللجام العتيق‪ ،‬وهرب خبيب ًا صوب الغابة المحاذية للقرية‪ ،‬مالئ ًا الفضاء‬ ‫بنهيق ٍ‬ ‫عال‪.‬‬

‫الحوذي العجوز على ركبتيه‪ ،‬صارخ ًا بأعلى صوته وراء حماره‪:‬‬ ‫جثا‬ ‫ُّ‬ ‫(تعال‪ ...‬تعاااااال‪ ..‬يا حسرتي‪ ...‬سأموت جوع ًا من دونك)‪ .‬إلى الغابة‬ ‫المليئة ـ كما هتف البعض ـ بالوحوش والضواري‪ ،‬هرب الحمار تارك ًا‬ ‫‪27‬‬


‫المعلم‪،‬‬ ‫المنظر‬ ‫وراءه صاحبه الحوذي وهو يلعن ويئن جزع ًا‪ .‬أفزع‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫حمار في غابة؟‪ .‬هل سينجو من الوحوش‬ ‫هامس ًا في نفسه(كيف يعيش‬ ‫ٌ‬

‫هناك؟ لقد اختار هالكه)‪.‬‬

‫لت كتفاه تعب ًا‬ ‫اصفر لونه‪،‬‬ ‫بعد أيام قالئل الحظ المعلم تلميذ ًا‬ ‫َّ‬ ‫وتهد ْ‬ ‫َّ‬ ‫ومرض ًا‪ .‬أخرجه إلى الفناء ليغسل وجهه ويريحه قلي ً‬ ‫ال‪ .‬غسل التلميذ‬

‫وجهه‪ ،‬وصار يفرك عينيه ماسح ًا الماء برفق‪ ،‬والمعلم يطالعه بحزن‪.‬‬ ‫منظر التلميذ أعاد للمعلم بلحظات قافلة من الذكريات‪ .‬تذكره منزلهم‬ ‫القديم‪ ،‬وأبيه الكادح‪ ،‬وأمه التي لم يذكر منها سوى صورة معلقة‪ .‬تذكر‬

‫شارعهم الرث‪ ،‬وجيرانهم الالهثين وراء اللقمة ليل نهار‪ ..‬أنتبه المعلم‬ ‫فز المعلم على صوته قائ ً‬ ‫ال‬ ‫إلى وجه التلميذ يتحرك أمامه‪ ،‬ثم بلحظة َّ‬

‫فرد التلميذ بجملة‬ ‫(شكر ًا أستاذ)‪ .‬سأله على الفور (ماذا يعمل أبوك‪..‬؟)‪َّ ،‬‬ ‫يمطها (أبي حوذي‪ ...‬رجل شايب ‪ ..‬إنه في البيت يجلس حزين ًا بعد أن‬

‫هرب حمارنا)‪ .‬أنت ابن الحوذي صاحب العربة التي هرب منها الحمار‬ ‫بحجة توصيل‬ ‫(هتف المعلم)‪ ،‬ثم قرر الحق ًا الذهاب إلى بيت‬ ‫ّ‬ ‫الحوذي‪َّ ،‬‬ ‫ولده واالطمئنان عليه‪ .‬ولما وصل اكتشف أنه لم يكن بيت ًا‪ ،‬بل كوخ ًا نال‬

‫فأرجعت له‬ ‫تفحص العربة المركونة خارج الكوخ‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫منه الفقر والعوز‪ّ .‬‬

‫الحوذي‬ ‫تفاصيل الحادثة‪ ،‬وما جرى لمالكها في ذلك النهار‪ ..‬اعترف‬ ‫ُّ‬ ‫سيموت حرقة وكمد ًا على رحيل حماره‪ ،‬الن األخير‬ ‫للمعلم الضيف انه‬ ‫ُ‬ ‫سبب حياته وحياة عياله‪ .‬فطمأنه وتك َّفل له بإعانته على احتياجاته ما‬ ‫استطاع‪ .‬شكر الحوذي ضيفه كثير ًا‪ ،‬ثم غادر المعلم إلى مأواه مفكر ًا‬ ‫بمصير الحوذي وما سيالقيه‪ ،‬حتى أستولى التفكير عليه طارد ًا النوم عن‬ ‫عينيه‪ ،‬متخي ً‬ ‫ال نفسه بدل الحوذي!‪ .‬ماذا سيفعل حينها؟‪ .‬ولم يفهم كيف‬ ‫‪28‬‬


‫حصن وال‬ ‫بربري ال يصد هجومه‬ ‫اجتاحت روحه تلك الفكرة كجيش‬ ‫ْ‬ ‫ٌ‬ ‫ّ‬ ‫قلعة؛ فكر ُة أن يساعد ذلك الرجل بما ُأتي من قوة‪ .‬عاد المعلم للحوذي‬ ‫في اليوم الثاني‪ ،‬وفي جعبته ٌّ‬ ‫ُّ‬ ‫الحل خطير ًا‪ ،‬لكنه لم‬ ‫حل للمشكلة ‪ ...‬كان‬ ‫يمتلك غيره‪.‬‬ ‫حدق الحوذي في وجه المعلم ثم هتف ضاحك ًا‪( :‬هل أنت جاد في‬ ‫ّ‬ ‫مساعدتك لي ‪..‬؟) فأجابه المعلم‪( :‬نعم ‪ ...‬سوف أساعدك‪ ...‬طلبات‬ ‫سأجرها ‪...‬‬ ‫أجلها إلى الليل‪ ،‬وأنا وأنت سننقلها بالعربة ذاتها‪،‬‬ ‫التوصيل ّ‬ ‫ّ‬ ‫ال ٍ‬ ‫والليل سيكون ساتر ًا لي ولك‪ ،‬إلى أن تجمع ما ً‬ ‫كاف يساعدك على‬ ‫شراء حمار آخر بدل الذي هرب)‪ .‬دمعت عينا الحوذي فرح ًا‪ ،‬ورجفت‬ ‫ويديه‪ ،‬واألخير يهتف مستغفر ًا ربه‪ ،‬منتشي ًا‬ ‫يقبل رأس المعلم ّ‬ ‫كفاه وهو ّ‬ ‫بهذا الصنيع‪.‬‬

‫لم يكن العمل شاق ًا في البداية‪ ،‬مشاوير بسيطة تنتهي بيسر ويرجع –‬ ‫المعلم والحوذيـ كل واحد إلى مخدعه‪ .‬ولكن بعد شهر من المشاوير‬ ‫التي ازدادت ثق ً‬ ‫ال وارهاق ًا‪ ،‬استوطن التعب في تفاصيل جسد المعلم‪،‬‬ ‫والدهشة من صوت أقدامه التي صارت تنقر ب َن َس ٍق غريب على األرض!‪،‬‬ ‫باتت تراوده وأجبرته على‬ ‫ووجهه الذي صار أكثر بالدة‪ .‬حالة من الفزع ْ‬ ‫إنهاء ما بدأه‪ ،‬فقرر إنهاء َّ‬ ‫كل شيء ليلتها‪ ،‬حين يوصل آخر طلب‪ ،‬يفاتح‬ ‫ِّ‬ ‫الكف عن المواصلة‪ ،‬خصوص ًا أن الحوذي لم‬ ‫الحوذي في رغبته في‬ ‫َّ‬ ‫يهتم بشأن شراء حمار آخر‪ ،‬مرتاح ًا على بقاء الحال هذا‪ .‬وصل المعلم‬ ‫أجل الفكرة إلى حين‬ ‫إليه في الليل‪ ،‬أراد َ‬ ‫فتح وثاق الحديث‪ ،‬لكنه َّ‬ ‫المعلم دهش ًة‪ ،‬حين طالع الحوذي وهو يضع‬ ‫االنتهاء من عمله‪ .‬أتسع فم‬ ‫ُ‬ ‫مندس ًا بين أغراضه القديمة‪ .‬أراد‬ ‫لجام ًا جديد ًا قوي ًا‪ ،‬ثم أخرج سوط ًا كان‬ ‫ّ‬ ‫‪29‬‬


‫المعلم إفهامه إن السوط لم يكن ُمتفق ًا عليه‪ ،‬لكن الحوذي تجاهل كالمه‬ ‫وكأن ال وجود له‪ ،‬فلم يتمالك نفسه صارخ ًا بقوة‪( :‬ماذا تفعل‪...‬؟ أنا‬ ‫أتحدث معك!)‪ ،‬لكن صرخته التي ارعدت في الزريبة لم تثر الحوذي‪،‬‬ ‫فرد عليه الحوذي‬ ‫إذ رد عليه بجلدة موجعة‪ .‬صرخ المعلم مرة أخرى‪َّ ،‬‬ ‫فحرك المعلم أقدامه‬ ‫جالد ًا بقسوة أكبر‪ .‬صرخ‪ ،‬جلده‪ ،‬صرخ‪ ،‬جلده‪َّ ،‬‬ ‫رويد ًا رويد ًا‪ ،‬مسحوب ًا‪ ،‬مقهور ًا ال يستطيع المقاومة والرفض‪ ،‬مع كل‬ ‫الجهد الذي بذله لكي يبدي عصيانه الذي ضاع هبا ًء‪ ،‬وهو يرى الحوذي‬ ‫يدفعه باتجاه باب الزريبة‪ ،‬ثم تبعه راكب ًا على العربة بالطريقة المعتادة‬ ‫لسائس متمرس‪ ،‬يواصل الجلد وعيناه قد احمرتا حزم ًا وصرامة‪ ،‬حتى‬ ‫عيني المعلم‪ ،‬تحملها‬ ‫استقر السير‬ ‫ْ‬ ‫وانتظمت الحركة‪ ،‬والدموع تتقافز من ّ‬ ‫الريح المواجهة إلى الوراء‪.‬‬ ‫أيام مضت ‪ ....‬المعلم يصرخ في شوارع القرية‪ ،‬ولم يهتم أحد‬ ‫لصراخه‪ .‬المشاوير التي خرج بها لي ً‬ ‫ال‪ ،‬صار يمارسها في النهار‪ ،‬والذي‬ ‫يحدث في العلن‪ .‬أهل القرية يباركون للحوذي حين‬ ‫السر‪ ،‬صار‬ ‫ُ‬ ‫حدث في ِّ‬ ‫يمر بعربته في الشارع (مبارك الحمار الجديد‪ ،)..‬والحوذي يرد عليهم‬ ‫ُّ‬ ‫مقب ً‬ ‫ال يده باطن ًا وظاهر ًا‪ ،‬ثم يضعها على جبينه حامد ًا على هذه النعمة‪.‬‬ ‫حتى أن تالميذ المعلم ذاتهم‪ ،‬كانوا يهرولون وراء العربة مصفقين‪ ،‬أو‬ ‫يقفون صف ًا أمام والمعلم حين يربطه الحوذي لتوصيل طلبية ما‪ ،‬أو‬ ‫لمحاسبة أحدهم واالتفاق على توصيلة سريعة‪ .‬كان المعلم يستغيث‬ ‫تار ًة وتارة يسرقه الصمت كما يسرق النهر الغريق‪ .‬وحين ينفجر من ألمه‬ ‫ودهشته السوداوية‪ ،‬يصرخ عالي ًا بوجه الناس في السوق (أيها الناس‪...‬‬ ‫ماذا جرى لكم ‪..‬؟ انقذوني ّ‬ ‫وفكوا لجامي هذا وحرروني من قيدي ‪...‬‬ ‫‪30‬‬


‫أنا معلم القرية ‪ ..‬اال تذكرون ‪..‬؟)‪ .‬ولكن كل ما كان يراه المعلم حين‬ ‫المارة‪ ،‬وبعضهم كان يغلق أذنيه من صوت‬ ‫يصرخ‪ ،‬هو نظرة امتعاض من‬ ‫ّ‬ ‫المعلم العالي‪ ،‬والحوذي يرد عليه بلكز قاس في خاصرته بالسوط‪،‬‬ ‫أو بجلدتين سريعتين كبرق على ظهره‪ ،‬كانتا كفيلتين بإسكاته مدة من‬ ‫الزمن‪ .‬ولم يشغل بال المعلم سوى صورة حمار الحوذي القديم‪،‬‬ ‫ومشهد هروبه صوب الغابة‪ ،‬مفكر ًا في تكرار التجربة وكسر اللجام‪.‬‬ ‫لوال أنه كان أشد قوة وأصلب من اللجام المتهرئ الذي كسره الحمار‬ ‫الهارب‪ .‬فقفزت في رأس المعلم فكرة الهروب لي ً‬ ‫ال‪ ،‬حين ُّ‬ ‫يفل الحوذي‬ ‫اللجام ويدلف إلى مأواه‪ .‬في الليل َّ‬ ‫الحوذي الوثاق عن العربة‪،‬‬ ‫حل‬ ‫ُّ‬ ‫وربطه على عمود في الزريبة‪ .‬ألقى أمام المعلم العشاء (التبن)‪ ،‬ومأل‬ ‫ومرغه‬ ‫وقربه أمامه‪ .‬وضع الحوذي يده على رأس المعلم‪َّ ،‬‬ ‫دلو ًا بالماء َّ‬ ‫لكي يتناول التبن ويخلد إلى النوم‪ ،‬فالغد ُينبئ بمشاوير أخرى أثقل وزن ًا‪.‬‬ ‫حين غادر الحوذي الزريبة‪ ،‬أجتهد المعلم في قطع الحبل عن العمود‪،‬‬ ‫وهو يتحدث مع نفسه (ال مكان لي سوى الغابة البعيدة‪ ،‬حيث تنتظرني‬ ‫الوحوش والذئاب‪ !...‬لكنني سأكتشف فرصتي هناك‪ ،‬أفضل من ُّ‬ ‫الذل‬ ‫والقهر والمرض والمهانة‪ .‬سأهرب إلى الغابة‪ ،‬المجال لدي للتفكير‪،‬‬ ‫سأقطع الحبل المربوط بعنقي وأنجو بنفسي‪ ...‬الغابة أرحم)‪.‬‬ ‫بعد أيام وجيزة‪ ،‬وحين كان ابن الحوذي يروي ألصدقائه تفاصيل‬ ‫هروب حمارهم لي ً‬ ‫ال‪ .‬لفت انتباهه همهمة رجال يشيرون بأنظارهم‬ ‫وأكفهم صوب مدخل القرية‪ ،‬وأطفا ً‬ ‫ال وقفوا صف ًا متسربلين بالفضول‪.‬‬ ‫ال غريب ًا داخ ً‬ ‫ال‪ ،‬حاشر ًا رأسه بينهم بقوة‪ ،‬ليرى رج ً‬ ‫أقبل نحوهم متسائ ً‬ ‫ال‬ ‫إلى القرية‪ ،‬متهندم بأناقة فائقة‪ ،‬ويحمل على كتفه حقيبة كبيرة‪.‬‬ ‫‪31‬‬


‫العازف‬ ‫(الصرخة)‪ .‬ولم يميز ُ‬ ‫ُ‬ ‫أهل القرية في‬ ‫منذ مئات السنين أرعدت‬

‫ذلك الحين المكان الذي أتت منه‪ .‬فبعضهم قال أنها نزلت من السماء‪،‬‬ ‫وبعضهم قال من باطن األرض‪ .‬فتصارعت اآلراء‪ ،‬واختلطت األحكام‪.‬‬

‫لكن الحقيقة الماثلة أن أهل القرية فقدوا السمع من ساعتها‪ .‬ولم يكتفوا‬ ‫بالصمم‪ ،‬بل توارثوه جي ً‬ ‫ال بعد جيل‪ .‬ومع جريان األيام في أودية السنين‪،‬‬ ‫المولود ُيولد بال‬ ‫اختفت آذانهم‪ ،‬بعد أن تضاءلت شيئ ًا فشيئ ًا‪ ،‬حتى صار‬ ‫ُ‬

‫أذنين‪ .‬مكتفين بلغة اإليماءات وإشارات الكفوف‪ .‬فتضاءلت ألسنتهم‬ ‫أيض ًا‪ ،‬حتى اختفت هي األخرى‪ .‬وجرى األمر على الحيوانات أيض ًا‪.‬‬ ‫فلم تعد القرية تتنغَّ م بتغريد العنادل‪ ،‬وال يشعرها بالزهو صهيل األفراس‪،‬‬ ‫أو يمنحها الرضا ثغاء الخراف‪ .‬صارواـ أهل القريةـ يحتفلون َّ‬ ‫كل سنة‬ ‫بعيد (الصرخة)‪ .‬حين تأتي ليلة ذكراها‪ ،‬يحتفلون ويعربدون ويرقصون‬ ‫ُ‬ ‫الرجال النساء حتى الصباح‪ ،‬بعد أن ألزموا أنفسهم‬ ‫بصمت‪ ،‬ثم يضاجع‬

‫بهذا الطقس‪.‬‬

‫في صبيحة الذكرى السنوية لعيد الصرخة‪ ،‬تفاجأ (عازف الكمان)‬

‫الداخل للقرية‪ ،‬حين سرقت انتباهه هرولة الرجال والنساء إلى حمامات‬ ‫السوق الكبيرة‪ ،‬يحمل على ظهره حقيبة كمانه‪ ،‬متوجه ًا في طريقه صوب‬ ‫‪32‬‬


‫(غابة النغم)‪ .‬حيث أخبره راو صدوق عن تلك الغابة‪ .‬فقد ذاع في البقاع‬ ‫صيت الشجر الذي تعزف أغصانه‪ ،‬والطيور التي تناغمه بالنقر واإليقاع‪،‬‬ ‫والجداول التي ّ‬ ‫تشكل معه (الهارموني)‪ .‬فأقسم أن ال يمضي عام من‬ ‫سمعه لح ُنها‪ .‬عازف الكمان وقف‬ ‫عمره حتى تطأ قدماه أرضها‪،‬‬ ‫ويجس َ‬ ‫ُّ‬ ‫مشدوها حين أثار المشهد في قلبه الفضول‪ .‬أستمر ماشي ًا على مهل يرقب‬ ‫الخطى المتعبة‪ ،‬والوجوه الذابلة‪ ..‬سأل العازف رج ً‬ ‫ال مسرع ًا فلم يجبه‪،‬‬ ‫ظهره‪ ،‬فغر العازف فاه ورفع حاجبيه حين رآه‬ ‫ولما أدار الرجل للعازف َ‬ ‫بال أذنين!‪( .‬عجيب‪ )!..‬تمتم العازف‪ ،‬ظل يبحث عن إنسان يملك أذن ًا‬ ‫ولكن عبث ًا يحاول‪ .‬وحين داهمه اليأس جلس على حجر عريض‪ ،‬وفي‬ ‫قلبه ألف سؤال‪ .‬حتى أن الرغبة في مواصلة مسيره صوب غابة النغم قد‬ ‫اختفت فجأة‪ ،‬تأخذه وتأتي به فكرة المكوث أيام ًا في هذه القرية‪ .‬ورغبة‬ ‫وطالع‬ ‫سحاب حقيبته‪،‬‬ ‫َ‬ ‫في إعالن نبوءة النغم على هؤالء القوم‪ .‬فتح ّ‬ ‫كمانه هامس ًا‪( :‬كن جاهز ًا يا صديقي)‪.‬‬ ‫***‬

‫(سأحاول)‪ ...‬همس عازف الكمان في نفسه مصمم ًا‪ ،‬وفاء منه‬ ‫للموسيقى‪ ،‬وتصديق ًا لما اعتقده من لذة النغم ولذة اإلنصات‪ .‬كان على‬ ‫الدوام‪ ،‬وطوال األسابيع التي قضاها في القرية‪ ،‬يحاول إقناعهم بضرورة‬ ‫عناد أهل القرية‬ ‫السمع ‪ ..‬حتى أتعبته لغة اإلشارة‪ ،‬ونال من تصميمه ُ‬ ‫وجفاؤهم‪ .‬وكان يحدث نفسه بين الحين والحين(كيف لألصابع أن َّ‬ ‫تحل‬ ‫محل اللسان؟‪ .‬هل نستطيع اختصار األحاسيس وآالف الكلمات بعشرة‬ ‫قرر التوجه إلى الطبيعة ‪..‬‬ ‫أصابع؟)‪ .‬حتى طرقت باب قلبه فكرة بِكر‪ .‬إذ َّ‬ ‫تعمد عازف الكمان العزف في وضح النهار‪ .‬عزف في ظهيرة ساطعة‬ ‫َّ‬ ‫‪33‬‬


‫لحن ٍ‬ ‫غيوم حمر‪ .‬ثم عاد وعزف‬ ‫حزن عميق‪،‬‬ ‫وتلبدت ٌ‬ ‫َّ‬ ‫فاكفهرت السماء‪ّ ،‬‬ ‫الشمس ضاحكة‪ .‬ثم عاد‬ ‫لحن ًا آخر ُمبهج ًا فته َّللت السماء‪ ،‬وأشرقت‬ ‫ُ‬ ‫رمادي‪ ،‬وأسرعت الظلمة‬ ‫سحاب‬ ‫فتحز َب‬ ‫وعزف لحن ًا مخيف ًا‪ ،‬غامض ًا‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ٌ‬

‫منتشرة‪ ،‬وهرول النور إلى مغارة عميقة‪ ..‬األرض عطشى‪ ،‬الفالحون في‬ ‫ُ‬ ‫عازف الكمان غيوم ًا حبلى‬ ‫القرية يشكون اليباب والجدب‪ .‬فساق إليهم‬

‫والكمان‪ .‬فارتوت ٌ‬ ‫ُ‬ ‫مصفرة‬ ‫نخلة‬ ‫الرعد‬ ‫بالمطر‪ .‬في ليلة ماطرة حين تناغم‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫والكمان في حوار‪ .‬ما همهما بحلقة‬ ‫والرعد‬ ‫الم الفراق‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫الوجه تحكي َ‬ ‫األطفال وإشارات النسوة ولعنات المتأنقين‪ .‬لم ينصت لهما إلاّ العازف‬ ‫شهروا به‪،‬‬ ‫والطبيعة‪ ..‬لكن أهل القرية لم يزدادوا إلاّ عناد ًا وصمت ًا‪ .‬بل َّ‬ ‫ولعنوه‪ ،‬وقذفوه بالتهم‪ .‬فمنهم من اتهمه بالسحر‪ ،‬ومنهم من الصق به‬

‫طينة البدعة‪ ،‬ومنهم من البسه ثوب الجنون‪.‬‬

‫(الصديق يؤثر في قلب صديقه‪ ،‬و«الصاحب ساحب» كما ُيقال)‬

‫هكذا حدث العازف نفسه‪ ،‬بعد فشله في إقناع أهل القرية في محاولته‬

‫قرر التوجه إلى صديق البشر األزلي(الحيوانات)‪ ،‬إلقناعها‬ ‫السابقة‪َّ .‬‬ ‫بالتخلي عن صممها‪ ،‬واللحاق بسفينة الموسيقى‪ُ .‬مم ّني ًا نفسه بالنصر‬ ‫(البشرال ينقادون بسهولة‪ ،‬لكن الحيوان يطيع‪ ،‬البشر‬ ‫في هذه المغامرة‪.‬‬ ‫ُ‬

‫ال يتخلون عن اعتيادهم‪ ،‬والحيوان يتأقلم‪ ،‬يصغي‪ ،‬يقلد رضا ًء لرغبة‬ ‫سائسيه) هكذا كان يفكر مقتنع ًا بالمحاولة الجديدة ونجاحها‪ .‬أقبل إلى‬

‫العصافير والبالبل‪،‬‬ ‫الطيور‪ ...‬غرد بكمانه فاستغربت اليمامات‪ ،‬وجفلت‬ ‫ُ‬ ‫ظ َّن ًا أن في حركاته على (القوس) إشارة خطر‪ ،‬أو إنذار بالشر‪ .‬الكالب‬ ‫والقطط والغزالن واألغنام وأنواع الماشية َّ‬ ‫شكلت حوله دائرة وهي‬ ‫تراقب تموجه‪ ،‬تقاسيمه‪ ،‬تنغيمه‪ .‬فقد آلف عزفه بين الغرماء‪ ،‬ومازج بين‬ ‫‪34‬‬


‫أنفس األعداء بالمخالطة المحببة‪ ،‬حتى أقبلت الوحوش أيض ًا تراقب‬ ‫حركاته في العزف الباهرة‪ ،‬كالذئاب والثعالب وبنات آوى!‪ .‬سكن لهاث‬ ‫خنست أعين الذئاب‪ .‬فنبتت لحوم‬ ‫الكالب‪ ،‬توقف صفق أجنحة الطيور‪َ ،‬‬ ‫جانبي الرأس في كل ضيف من الحيوانات‪ .‬وعلى أفواهها‬ ‫صغيرة على‬ ‫ّ‬ ‫المستغربة‪ .‬لحوم على شكل قطع مدورة‪ ،‬تحولت إلى صواوين‪ ،‬تكبر‪،‬‬ ‫تكبر‪ ،‬تكبر‪ .‬وألسنة‪ ،‬تطول‪ ،‬تطول‪ ،‬تطول‪ .‬تحركت الريح‪ ،‬ورقصت‬ ‫األشجار‪ ،‬حين مأل الفضاء تغريد البالبل‪ ،‬وزقزقة العصافير‪ ،‬ونباح‬ ‫الكالب‪ ،‬وعواء الذئاب‪ ،‬وثغاء الماشية‪ .‬أعلى وأعلى‪ .‬والعازف‬ ‫مسترسل في العزف‪ .‬حتى اكتملت اوركسترا كبيرة‪ ،‬بقيادة عازف‬ ‫الكمان‪ ،‬الذي هطلت أمطار دموعه‪ ،‬وهو يرقب‪ ،‬تموج النغم والتلذذ‬ ‫به بادي ًا على وجوه الحيوانات‪ ،‬التي أفصحت‪ ،‬وصرخت‪ ،‬وانقطع حبل‬ ‫صمتها الملتف على عنق القرية‪.‬‬ ‫***‬

‫شعر عازف الكمان بالمضايقة‪ ..‬بدأ أهل القرية بمحاصرته‪ ،‬تجويعه‪،‬‬ ‫إرهابه‪ ،‬طرده من سكناه الذي استأجره إلى اجل غير مسمى‪ .‬لقد نثر‬ ‫الفتنة في قلوب حيواناتهم ؛فحصدوا التمرد‪ .‬وأوقع الضغينة بينهم وبين‬ ‫مر‬ ‫أنهارهم‪ ،‬شمسهم‪ ،‬قمرهم‪ ،‬غيومهم‪ ،‬رياحهم‪ ،‬ليلهم‪ ،‬نهارهم‪ ..‬لقد َّ‬ ‫عام كامل ألاّ يوم ًا‪ .‬فالليلة هي عيد (الصرخة) عند القرية‪ ،‬وقد أمروه أن‬ ‫شمس‬ ‫يحزم حقيبة كمانه وأنغامه ويرحل بعيد ًا عن القرية‪ .‬قبل أن تزورهم‬ ‫ُ‬ ‫صباح الغد‪ .‬حيث سينشغلون الليلة بالعيد واالحتفال والمضاجعة‪ ،‬حتى‬ ‫الصباح‪ ،‬بعد عام كامل من الشغف؛احترام ًا لعيد (الصرخة)‪ .‬رتَّب‬ ‫واستعد لمواصلة رحلته التي أوقفها قبل سنة في هذه القرية‬ ‫حاجياته‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫‪35‬‬


‫التي عشقت الصمت‪ ،‬وولهت بالكتمان وكبت النغم‪ .‬استعد للتحليق‬ ‫في سماء اإلنصات صوب (غابة النغم) هناك حيث تنتظره األشجار‬ ‫الموسيقية‪ ،‬والسواقي الم ِ‬ ‫نغمة‪ .‬لكنه تمهل بينه وبين نفسه مفكر ًا‪( :‬القرية‬ ‫ُ‬ ‫المضي نحو مقصدي األول‪ .‬ولكن‬ ‫ال تريد رؤيتي بعد اآلن‪ ،‬فصار لزوم ًا‬ ‫َّ‬ ‫علي انجاز شيئ ًا أخير)‪.‬‬ ‫قبل كل شيء َّ‬ ‫في تلك الليلة ـ ذكرى الصرخةـ حين توارى أهل القرية في منازلهم‪.‬‬ ‫تجهزت النساء‪ ،‬تنحنح الرجال‪ .‬فالليلة هي النافذة الوحيدة‬ ‫غفا األطفال‪َّ ،‬‬ ‫ويعم االسترخاء‪ ،‬بعد‬ ‫التي تدخل من خاللها اللذة‪ ،‬وتُقطف النشوة‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫طول المضاجعة وعنفها‪ .‬أضواء الغرف‪ ،‬أشارات التأوه‪ ،‬صرير األجساد‪،‬‬ ‫طقطقات األسرة‪ ،‬كلها شواهد على ليلة هي األكثر شبق ًا في العالم‪ .‬في‬ ‫ذلك الوقت‪ ،‬كان عازف الكمان يجول في الظلمة وهو يعزف بكمانه‬ ‫لحن ًا جديد ًا‪ ،‬كان يتمنى عزفه للمرة االولى في غابة النغم‪ .‬صار يجول بين‬ ‫المنازل وفي الدهاليز مغمض العينين‪ ،‬يسير مطلق ًا أنغام لحنه في فضاء‬ ‫القرية الهادئ‪ .‬سمعت الطيور في الوكنات صوت الكمان فهبت صوبه‪.‬‬ ‫الحيوانات التي تسير على أربع أتت من كل صوب عبر مداخل القرية‪ .‬من‬ ‫الحقول والغابات والمزارع والمراعي واألجمات‪ .‬فتداخلت على شكل‬ ‫فصيل منتظم خلف العازف‪ .‬تسير مبتهجة بنغمه السحري الذي عال ومأل‬ ‫يترددوا في الرقص والبهجة‪.‬‬ ‫الفضاء بلحن شجين‪ .‬القمر والنجوم لم َّ‬ ‫وتناقلت النجوم الخبر‪ ،‬حتى وصل إلى الشمس في الجهة األخرى من‬ ‫فوتت‬ ‫العالم‪ ،‬حين كانت تمارس اإلشراق‪ ،‬فتأسفت وتأففت‪ ،‬ألنها َّ‬ ‫فرصة االستماع إلى كونشرتو العازف‪ .‬على الجهة األخرىـ داخل الغرفـ‬ ‫وسر بقاء بني جنسهم‪ ،‬إلى أجواف النساء‬ ‫كان الرجال يضخون فحولتهم‪َّ ،‬‬ ‫‪36‬‬


‫فكن‬ ‫اللواتي تراخت أعضاؤهن‪ ،‬وتصبب عرقهن‪ ،‬وتهللت أساريرهن‪َّ .‬‬ ‫وهن يمنحنهم‬ ‫يتبادلن مع أزواجهن الهدايا‪ .‬هم يمنحوهن َّ‬ ‫اعز ما يملكن َّ‬ ‫َّ‬ ‫ألذ ما يشعرون‪ .‬هم منهمكون وجادون في أن يخرج جي ً‬ ‫ال يشبههم في هذه‬ ‫جاد أيض ًا في إكمال عزفه‪ ،‬وإلقاء ألحانه‪ .‬وحين‬ ‫الليلة‪ .‬وعازف الكمان ٌّ‬ ‫أزف الوقت‪ ،‬وحانت اللحظة‪ .‬انطلق العازف مغادر ًا القرية من الباب التي‬ ‫دخل منها‪ .‬خرج من القرية ملتحف ًا ظالم الكون‪ ،‬ونسائم الغابة المجاورة‪،‬‬ ‫منطلق ًا صوب(غابة النغم)‪ ،‬تارك ًا خلفه الغرف التي بدأت تطفئ أضواءها‬ ‫بالتدريج‪ .‬بعد أن خفت تأوه األسرة‪ ،‬وصرير األجسام العارية‪ .‬تارك ًا خلفه‬ ‫مشهد القرية وهي تغفو‪.‬‬

‫في صباح اليوم التالي‪ ،‬جاءت الشمس مهرولة على غير عادتها‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫البالبل‪ ،‬وزقزقة الطيور‪ ،‬وأنغام السواقي‪،‬‬ ‫حيث أثار ولهها تغريد‬ ‫وموسيقى الريح‪ ،‬وأجراس األثمار المعلقة كالنواقيس على الشجر‪.‬‬ ‫صحت القرية من غفوتها‪ ،‬وحين لم تجد العازف‪ ،‬ارتاح أهلها من ذلك‬ ‫الغريب‪ ،‬وتجدد يومهم بهاء وصار عيدهم عيدين (عيد الصرخة وعيد‬ ‫طرد العازف)‪ .‬هرع الرجال والنساء إلى الحمامات‪ ،‬عالقة في أذهانهم‬ ‫ٍ‬ ‫حكايات عن بطوالتهم في‬ ‫دقائق األمس‪ .‬يتبادلون بكلمات إيمائية‬ ‫بواطن الغرف‪ .‬النساء تجمعن أفواج ًا ودلفن إلى الحمامات‪ ،‬تتفاخر ُّ‬ ‫كل‬ ‫واحدة على صاحبتها بأنها األفضل‪ ،‬واألجمل‪ ،‬واألكثر شبق ًا وراحة في‬ ‫أرحامهن تحمل أجنة‪ ،‬ستنبت‬ ‫يعلمن ‪ ...‬لم يتو ّقعن أن‬ ‫المضاجعة‪ .‬لم‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫صواوين صغيرات‪.‬‬ ‫بعد أشهر على رؤوسها‬ ‫ُ‬

‫‪37‬‬


‫حارس المكتبة‬ ‫ُ‬ ‫تأخرت مكتبة المدينة عن موعد إقفالها هذه الليلة‪ ،‬بسبب طالب كان‬ ‫مغروس ًا في إحدى زوايا قاعة المطالعة‪ .‬لكن تنحنح مسعود (القيم على‬ ‫همة مرتجلة‪،‬‬ ‫المكتبة وحارسها) َّنبه الطالب الذي غادر بطريقة صاحبتها ّ‬ ‫يجس البناية قاف ً‬ ‫ال غرفها‪ ،‬مرتب ًا كراسيها‪،‬‬ ‫معتذر ًا عن تأخره‪ .‬راح مسعود ُّ‬ ‫عد مصروفه اليومي مرتين متتاليتين‪ ،‬مجهز ًا نفسه لغلق بوابة المكتبة‪.‬‬ ‫ثم َّ‬ ‫ثم غادر مغطي ًا رأسه بـل ّفاف سميك وسترة زرقاء‪ ،‬مهرو ً‬ ‫ال صوب مقهى‬ ‫التثاؤب‬ ‫رواده يثرثرون بال انقطاع ‪ ..‬عاد ًة يب ّلغه‬ ‫ُ‬ ‫متواضع‪ ،‬كان أغلب ّ‬ ‫بقرب وقت الرحيل إلى المنزل‪ ،‬واالستعداد لوجبة عشاء ملفوفة بكيس‬ ‫ورقي‪ ،‬يأخذه كل ليلة من محل لبيع الوجبات السريعة الرخيصة‪ .‬يتعشى‬ ‫وهو يطالع التلفاز بال تركيز‪ ،‬فقط لسماع صوت آخر يجالسه وقت‬ ‫العشاء‪ .‬توجه صوب المنزل حام ً‬ ‫ال العشاء البارد‪ ،‬وفي رأسه تدور‬ ‫أحاديث رواد المقهى بلخبطة مزعجة‪ .‬دخل إلى المنزل‪ ،‬ثم نقر على‬ ‫زر الضوء محو ً‬ ‫ال عينيه صوب المرآة المعلقة على الجانب األيمن من‬ ‫ِّ‬ ‫الباب‪ .‬تقدم بخطوات متمهلة‪ ،‬ناظر ًا لوجهه ال َت ِعب‪ .‬الحظ آثار ما تبقى‬ ‫نظيف ًا منها‪ ،‬المرآة التي يكسوها النمش والغبار‪ ،‬ما عادت كسابق عهدها‪،‬‬ ‫بعد مرور زمن أثر في بدنها الالمع‪.‬‬ ‫‪38‬‬


‫وضع مفاتيحه على الكومدينة‪ ،‬ثم َّ‬ ‫حل وثاق التعب بعد أن لفظ‬ ‫مالبسه على األريكة‪ .،‬دفع العشاء في بطنه‪ ،‬غير متلذذ بطعمه الرديء‪.‬‬ ‫ثم تناول قطعة الـ (‪ )Remote Control‬مقلب ًا جهاز الستاليت‪ ،‬باحث ًا عن‬ ‫أخبار أو برامج يقصقص به أعشاب وحدته الكثيفة‪ .‬كان أصدقاؤه يدعونه‬ ‫(الكئيب) ويرونه وحيد ًا منعز ً‬ ‫ال حتى عنهم‪ ،‬وكان يدافع عن نفسه حتى‬ ‫أعياه كالمهم فترك كل شيء وصار ال يجالس أحد طول الوقت‪ ،‬مردد ًا‬ ‫بينه وبين نفسه (مادامت هذه فكرتهم عني فلماذا ال أمارسها وينتهي كل‬ ‫شيء)‪ .‬وجد في وظيفته في المكتبة مالذ ًا‪ ،‬حين ارتاح لصمت الكتب‪،‬‬ ‫وسكون األجواء وروادها‪ ،‬مع أنه لم يقرأ حرف ًا في كتاب من تلك الكتب‬ ‫التي ُرصفت على الرفوف بالمئات‪ .‬كان دائم ًا ما يصف الذين يقبعون‬ ‫لساعات طويلة بالمعتوهين‪ ،‬والعاطلين عن العمل‪.‬‬ ‫لم يفكر في الزواج‪ .‬عاش أربعين سنة في منزل ورثه عن أبيه (المعلم‬ ‫الشهير في المدينة) المثقف‪ ،‬الكاتب‪ ،‬صاحب الغرفة التي كان يجلس‬ ‫فيها لساعات منشغ ً‬ ‫ال بالكتابة والقراءة‪ .‬حتى صارت جزء ًا من فلكلور‬ ‫المدينة‪ .‬فكلما يتحدث مسعود عن أبيه‪ ،‬يأتي بذكر الغرفة وكتبها‬ ‫ومخطوطات أبيه‪ ،‬متجاه ً‬ ‫ال كومة األسئلة عن مصيرها‪ .‬في تلك اللحظة‬ ‫قفزت إلى رأس مسعود فكرة الذهاب إلى الغرفة(مشغل األب)‪ .‬ولم‬ ‫تكن الفكرة بمستحبة؛ بعد أن استولت عليها العناكب والرطوبة‪ ،‬وعليه‬ ‫أيض ًا الخروج إلى المكتبة مبكر ًا‪ .‬لكن الصوت المتدفق من دواخله‬ ‫المرتج‪ .‬نظر‬ ‫بات يدفعه شيئ ًا فشيئ ًا للنهوض والتوجه صوب باب الغرفة ُ‬ ‫مسعود إلى قفل الباب طوي ً‬ ‫يمد يده لفتحه‪ ،‬لكنه تنازل عن‬ ‫ال قبل أن َّ‬ ‫فض ً‬ ‫ال النوم‪.‬‬ ‫الفكرة وأتجه إلى فراشه ُم ّ‬ ‫‪39‬‬


‫حاجتان كانتا ت ّلحان على مسعود قبل النوم‪ .‬األولى التأكد من إقفال‬ ‫باب المنزل‪ ،‬والثانية زيارة الحمام وتفريغ كمية البول عن مثانته‪ .‬حين‬ ‫أكملهما بالشكل المطلوب‪ ،‬توجه لغرفته كجندي منهك‪ ،‬تارك ًا المنزل‬ ‫يسبح في فضاء من الصمت المطبق‪ .‬بعد أن وضع رأسه على الوسادة‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫صوت نقرات خفيفة من حنفية المطبخ‪.‬‬ ‫سمع ِه‬ ‫فضول‬ ‫لثوان‪ ،‬أثار‬ ‫ُ‬ ‫تجاهل النقرات ؛لكنها زادت حتى صار وقعها كالطبل في أذنيه‪ .‬مما‬ ‫أدى به إلى النهوض مسرع ًا للقضاء على مصدر االزعاج‪ ،‬والعودة إلى‬ ‫الفراش منتصر ًا على الحنفية‪ .‬وضع رأسه مرة أخرى على الوسادة‪،‬‬ ‫منتظر ًا عفريت النوم‪ ،‬فطرقت في أذنيه نقرات مرة أخرى!‪ .‬تساءل مع‬ ‫نفسه عن سبب النقرات الجديدة‪( :‬هل عادت الحنفية تقطر من جديد؟)‪.‬‬ ‫نهض مرة أخرى متجه ًا صوب المطبخ‪ ،‬لكن صوت النقرات اآلتي من‬ ‫حول اتجاهه صوبها‪ .‬سلب انتباهه با ُبها‬ ‫باب غرفة األب المهجورة‪ ،‬قد ّ‬ ‫والنقرات الخفيفة عليه!‪ .‬تولدت قشعريرة بسيطة في أطرافه‪ ،‬ثم بعثرها‬ ‫بحزم حين توجه صوب الباب‪ ،‬متحسس ًا بسمعه سبب الضربات تلك‪.‬‬ ‫بين الشك واليقين‪ ،‬والتسليم بأنها هواجس عادية يجب تجاهلها عاش‬ ‫مسعود لحظات قليلة‪ .‬لكن َّ‬ ‫شكه تحول إلى رعدة في ساقيه‪ ،‬لما رأى‬ ‫بشكل واضح مقبض الباب وقد تحرك لألسفل‪ ،‬كأن يد ًا في الجانب‬ ‫اآلخر تتحكم به‪ .‬تراجع مسعود إلى الوراء وهو يطالع الباب الذي‬ ‫لم يتأخر فتحه طوي ً‬ ‫ال‪ .‬كاشف ًا عن فضاء من العتمة وريح باردة‪ .‬د َّقق‬ ‫تكبر شيئ ًا فشيئ ًا‪،‬‬ ‫مسعود النظر بصعوبة‪ ،‬إذ ظهرت نقطة بيضاء بدأت ُ‬ ‫حتى تحولت إلى سحابة ثلجية‪ ،‬تحيط بشبح رجل طويل القامة‪ ،‬أصاب‬ ‫النحول منه مصاب ًا بائن ًا‪ .‬وتهدلت على كتفيه سحابتان بيضاوان من شعر‬ ‫‪40‬‬


‫طويل‪ .‬ولحية وشارب أبيضان طال بهما النمو حتى صارا كثيفين‪ .‬لم‬ ‫تسمر منتظر ًا‬ ‫يفعل مسعود شيئ ًا‪ ،‬ولم يحرك جزء ًا من جسده المرتعد‪ ،‬بل َّ‬ ‫نهاية المشهد‪ .‬اقتربت السحابة وفي داخلها الرجل الطويل الكهل‪ ،‬حتى‬ ‫توسطت الهول‪ ،‬ثم صدر صوت من مسعود‪:‬‬ ‫أننننت؟‬ ‫ـ مممممن ‪...‬‬ ‫َ‬

‫لم يجب الشبح الكهل الطويل‪ ،‬فقد أشار بيديه بحركة بيضاوية‬ ‫كحركات راهب‪ ،‬ثم اختفت السحابة في تشتت وشيك‪ ،‬حتى بان مظهر‬ ‫الشبح جيد ًا‪ ،‬البس ًا ردا ًء أبيض‪ ،‬وقد ارتفعت قدماه عن األرض مسافة‬ ‫متر‪ ،‬ثم خاطب مسعود‪:‬‬ ‫ـ لماذا لم تفتح باب الغرفة؟‬

‫لم يجب مسعود‪ ...‬تمتم وهو منكس رأسه بآية الكرسي بصوت‬ ‫خفيض‪ ،‬مما أدى إلى صراخ الشبح األبيض غاضب ًا على مسعود‪،‬‬ ‫بصوت تش َّتت أبعاده في فضاء المنزل‪ ،‬قاذف ًا في قلب مسعود كمية كبيرة‬ ‫من الرعب مخاطب ًا إياه‪:‬‬ ‫ـ أتهددني ‪...‬؟‬

‫ـ أبد ًا يا سيدي ‪...‬‬

‫ـ سيدك‪...‬؟‬

‫ثم ضحك الشبح مقهقه ُا متلذذ ًا وأردف بصوت واثق‪:‬‬

‫ـ أنا أبوك يا مسعود‪...‬‬

‫ـ أبي‪...‬؟ مستحيل ‪!..‬‬ ‫‪41‬‬


‫ـ مغفل‪!..‬‬

‫ـ ما الذي أتى بك الليلة؟‬

‫ـ لماذا لم تتجرأ على دخول غرفتي كل هذه الفترة؟‬

‫ـ دخولها‪..‬؟!‬

‫ـ لماذا أذن تتفاخر أمام الخلق بوجود مشغل أبيك الخرافي؟‬

‫طأطأ مسعود رأسه مفتش ًا عن جواب مقنع لهذه الروح المتوهجة‪.‬‬ ‫وحين لم يجد حجة مقنعة تمتم بضعف‪:‬‬ ‫ـ ال أعرف‪!..‬‬

‫ـ ال تعرف؟ وماذا تعرف غير انزوائك في عملك‪ ،‬وجلوسك في‬ ‫مقهى تعيس‪ ،‬ومعاشرة أناس تدور على أفواههم حكايات مجترة؟‪.‬‬ ‫تحير مسعود في معرفة شبح أبيه بكل تلك المعلومات‪ ،‬ثم سأل‬ ‫بلهجة المستغرب‪:‬‬ ‫ـ كيف عرفت كل هذا‪...‬؟‬

‫ـ أنا أتابعك ليل نهار‬ ‫ـ تتابعني؟‬

‫ـ نعم‪ ..‬واعرف كل صغيرة وكبيرة تجري هنا‪ .‬هل تريد أن أحسب لك‬ ‫عدد النساء اللواتي تستحضر أشكالهن حين تمارس عادتك السرية؟‪ .‬هل‬ ‫تريد أن اعد لك عدد دموعك وحركاتك الراقصة الحمقاء في الغرفة؟‪.‬‬ ‫حك مسعود رأسه بعنف‪ ،‬ودلك عينيه‪ ،‬ليتأكد من حقيقة المشهد‪،‬‬ ‫‪42‬‬


‫ثم تمتم بصوت خفيض «إنه حلم!»‪ .‬صرخ الشبح صرخة هزت مفاصل‬ ‫المنزل‪ ،‬ثم بصق على وجه مسعود في حنق‪ ،‬بصاق ًا ضوئي ًا لزج ًا مأل‬ ‫جوانب الغرفة كلها‪ ،‬فعاد مسعود إلى وعي المشهد متوس ً‬ ‫ال هذه المرة‪:‬‬ ‫ـ أرجوك يا شبح أبي ‪ ...‬أرحل بعيد ًا‪ ...‬أرجوك‬

‫ـ هل تطلب مني المغادرة من دون أن تدخل إلى غرفتي وترى ما‬ ‫خلفته لك طوال هذه السنوات؟‪.‬‬ ‫ـ ماذا خلفت لي؟‬

‫ـ لو أنك طاوعت الصوت اآلتي من بواطنك منذ البداية ودخلت من‬ ‫علي مشوار المجيء‪.‬‬ ‫قبل لوفرت َّ‬ ‫ـ أنا جاهز لكي أصنع ما تطلبه مني ولكن ال تؤذني أرجوك‪.‬‬

‫ـ لن أؤذيك ‪ ..‬يكفي أني آذيتك من قبل بتسميتك بهذا االسم‪.‬‬ ‫ستدخل إلى الغرفة‪ ،‬تجد في زاويتها اليمنى البعيدة بعد حفرها مسافة‬ ‫ذراع كتيب صغير‪ .‬مكتوب ًا فيه طالسم ُحلم‪.‬‬ ‫ـ ُحلم‪...‬؟‬

‫ـ نعم ُحلم ‪ ..‬ألم تنتبه لنفسك أنك لم تحلم منذ دهر‬

‫استعان مسعود بذاكرته البالية‪ ،‬ليستحضر حلم ًا واحد ًا فلم يستطع‪.‬‬ ‫وحين الحظ الشبح الحيرة التي استولت على وجه مسعود‪ ،‬تقدم نحوه‬ ‫مقرب ًا رأسه المتوهج من رأس مسعود هامس ًا بحزم‪:‬‬

‫ـ حين تضع ُ‬ ‫الكتيب تحت الوسادة ستحلم‪ .‬حذار من عدم إتمامك‬ ‫الحلم في هذه الليلة؛إذ تحل عليك اللعنة‪ .‬وال تنس فتح المغاليق؛فهو‬ ‫سبيل نجاتك الوحيد‪.‬‬ ‫‪43‬‬


‫ـ ولماذا أفتح المغاليق في الحلم؟ هل نستطيع فتحهن اآلن وينتهي‬ ‫كل شيء؟‬ ‫أنزل الشبح رأسه حتى المس حنكه أعلى صدره ثم خاطب مسعود‬ ‫بطريقة مخيفة‪:‬‬ ‫ـ لقد عشت حياتك خانع ًا‪ ،‬غير ٍ‬ ‫مبال‪ ،‬غليظ القلب‪ ،‬مأسور ًا للماضي‪...‬‬

‫إنه ذنبي يا مسعود وليس ذنبك وها قد أتت الفرصة لتصحيحه‪.‬‬

‫أكمل الشبح كلماته‪ ،‬رجعت السحابة الثلجية إلى التكوين مرة‬ ‫أخرى‪ ،‬ثم أرتفع الضوء عالي ًا حتى أخترق السقف مغادر ًا المنزل إلى‬ ‫الفضاء ببطء مردد ًا‪( :‬وداع ًا يا مسعود‪)...‬‬ ‫***‬

‫خيم الظالم على المنزل دفعة واحدة‪ .‬انتبه‬ ‫بعد انصراف السحابة‪ّ ،‬‬ ‫مسعود إلى الكهرباء التي غادرت هي األخرى‪ ،‬ثم قفزت نصيحة الشبح‬ ‫المحشوة بالتهديد والوعيد إلى قلبه‪ .‬أوقد مصباح ًا كهربائي ًا وصار يفتش‬ ‫عن ذريعة تنجيه من الدخول إلى غرفة األب المهجورة‪ .‬لكنه أحس‬ ‫بالروح تراقبه‪ ،‬فراح يبحلق في زوايا السقف القديم وهو يتمتم (يا لها‬ ‫من ورطة؟)‪.‬‬ ‫سحل قدميه إلى المطبخ‪ ،‬مفتش ًا عن مسحاة صغيرة في إحدى‬ ‫األدراج‪ ،‬وحين عثر عليها حضنها بيد وحمل المصباح بيد أخرى‪ ،‬متجه ًا‬ ‫إلى الغرفة العتيمة‪ .‬أنزل قدمه ببطء مقدم ًا المصباح ذا الضوء الراعش‪،‬‬ ‫متحسس ًا تيار هواء بارد لم يحدد مصدره مع أن الغرفة كانت محكمة‬ ‫الغلق من الداخل‪ .‬فال نوافذ وال ثغرات فيها!‪.‬‬ ‫‪44‬‬


‫(لم يبق لدي وقت طويل) تمتم مسعود‪ ،‬ثم راح يدور بالمصباح‬ ‫مستذكر ًا تفاصيل الغرفة التي لم يدخل إليها منذ زمن طويل‪ .‬همس‬ ‫صوت الشبح مرة أخرى في أذنيه‪ ،‬حول مكان وجود الكتيب «في‬ ‫الزاوية اليمنى‪ »..‬حزم مسعود أمره بهذه الجملة ثم توجه مباشرة إلى‬ ‫ذلك المكان‪ ،‬يقيس طول الذراع لكي يقدر حجم التعب الذي سوف‬ ‫يبذله في الحفر‪ .‬لم تعترض على الحفر سوى قطعة من مربعات األرضية‬ ‫المثلومة‪ .‬أزاحها بيديه ثم بان له وجه التراب الرطب األصفر‪ .‬حين بدأ‬ ‫الحفر‪ ،‬داهمه تساؤل((ماذا تفعل أيها األبله؟؟ هل تصدق شبح ًا قد‬ ‫تكون رؤيته كلها وهم ًا؟!)) لكن ذراعه المغروسة في التراب لم تستجب‬ ‫لتفكيره‪ ،‬فقد كان الدافع متساوي ًا مع رفض الفكرة في القوة‪.‬‬

‫نزلت ذراعه حتى المرفق في حفرة طولية‪ ،‬تحسس مسعود ُمغلف ًا‬ ‫ملفوف ًا‪ ،‬وحين سحبه لألعلى وسلط عليه ضوء المصباح‪ ،‬تبين أنها ل ّفة‬ ‫من الجلد مربوطة بخيط أسود عريض ومتين‪ .‬التقطها وغادر الغرفة‬ ‫بعد أن قطع جزء ًا من الوصية‪ ،‬مهرو ً‬ ‫ال إلى غرفته حام ً‬ ‫ال اللفة الجلدية‪.‬‬ ‫وضعها على سريره‪ ،‬ووضع المصباح إلى جانبها‪ ،‬وانهمك بشدة بفتحها‪.‬‬ ‫وألن الخيط الذي يلف الرقعة الجلدية كان محكم ًا‪ ،‬لم يجد مسعود‬ ‫بد ًا سوى فتحها بالطريقة المتأنية‪ ،‬مستعين ًا بزفير وشهيق عميقين‪ ،‬كانا‬ ‫كفيلين ببعثرة بعض من توتره‪ .‬حين فتح مسعود الرقعة‪ ،‬وجد فيها ذلك‬ ‫الكتيب ذا الغالف البني العتيق‪ .‬في تلك اللحظة عاد النور إلى الغرفة‪.‬‬ ‫أغمض مسعود عينيه برهة ثم فتحهما محدق ًا بالكتيب الملقى على‬ ‫فراش سريره‪ .‬مرت حياته كشريط سينمائي سريع من أمامه مستذكر ًا أهم‬ ‫تنبه للوقت‬ ‫اللحظات التي مرت به‪ .‬مضيف ًا هذه الليلة حدث ًا من نوع آخر‪ّ .‬‬ ‫‪45‬‬


‫إذ عبرت الساعة ضفة منتصف الليل‪ ،‬والكتيب ذو الطالسم الغريبة في‬ ‫مكانه‪ .‬تسللت فكرة صغيرة إلى قلبه‪ ،‬بإلقائه في بالوعة الحمام أو في‬ ‫مزبلة مركونة على جانب باب المنزل‪ ،‬لكن الفكرة تشتتت كدخان هش‬ ‫أمام صرخات وعيد الشبح التي مازالت تمأل أذنيه‪ ،‬فقرر في تلك اللحظة‬ ‫إنهاء ما بدأه‪ .‬أسرع راجع ًا إلى سريره‪ ،‬ثم وضع الكتيب تحت الوسادة‪.‬‬ ‫دبت رغبة النوم في جسد مسعود‪ .‬حين أكتسح جيش الخدر دماغه‪ ،‬ثم‬ ‫استلقى على السرير من دون أن يمد ظهره‪ ،‬فإذا بيد أثيرية تسحبه من‬ ‫كتفيه ورأسه‪ ،‬جعلت مسعود يتأوه‪ ،‬ويخفض جسمه تمام ًا على السرير‪.‬‬ ‫***‬

‫أحس بحركة تحت رأسه‪ ،‬نهض محدق ًا بالوسادة التي اختفت وحل‬ ‫محلها جسد بني كبير‪ .‬هتف مسعود(ماهذا ‪..‬؟!!)‪ .‬كان كتاب ًا مطروح ًا‬ ‫على أرض عشبية‪ .‬نهض الكتاب وهو يسعل كالمريض صارخ ًا‪:‬‬ ‫ـ من أنت‪.‬؟‬

‫ـ أنا‪...‬؟ أنا مسعود‬ ‫ـ هل أنت كتاب؟‬ ‫ـ أنا إنسان‬

‫ـ إنسان‪..‬؟ لم أصادف هذا المخلوق من قبل‬

‫انتبه مسعود إلى المنظر حوله‪ ،‬غابة ذات أشجار متباعدة غير كثيفة‬ ‫وجو ال يدل على نهار أو ليل‪ .‬ثم الحظ مسعود بعد ثوان قطيع كتب تسير‬ ‫على أربعة أرجل‪ .‬فتساءل وهو يحك رأسه كطفل‪:‬‬ ‫‪46‬‬


‫ـ أين أنا؟‬

‫ـ أنت في قرية الكتب‬

‫ـ هل أنت كتاب أم إنسان يرتدي كتاب ًا؟‬

‫ـ قلت لك لم أصادف مخلوق ًا يدعى إنسان من قبل‬

‫لم يستطع مسعود تفسير ما يدور حوله‪ ،‬ولم يصنع شيئ ًا سوى التسلح‬

‫بالصمت‪ .‬ثم أن الكتاب تكلم بعد بضع ثوان من الصمت‪:‬‬ ‫ـ أنا راع لماشية الكتب هذه‬

‫ممني ًا نفسه‬ ‫هناك ّ‬ ‫تشجع مسعود في الرد على الكتاب كاسر ًا الحاجز‪ّ ،‬‬ ‫في التماشي مع المنظر الغريب متسائ ً‬ ‫ال‪:‬‬ ‫ـ ماشية الكتب؟!‬

‫ـ أنا راع‪ ،‬ألم تقرأ اسمي على غالفي‬

‫ثم أشار الكتاب بيديه إلى مكان على غالفه مكتوب ًا عليه(راعي‬ ‫الماشية)‪ .‬تساءل مسعود في عجب‪(( :‬كيف تعلمت مهنة الرعي أيها‬ ‫الكتاب؟))‪.‬‬ ‫قهقه الكتاب الراعي بقوة ثم هتف ببشاشة‪:‬‬

‫ـ أنا أرعى ماشية (شيخ قرية الكتب)‪ .‬نجهز الماشية التي تُذبح وتسلخ‬ ‫وتُشوى على مائدة الشيخ في حفالته ووالئمه الكبرى‪ .‬كل هذه الكتب‬ ‫التي تسير على أربعة هي كتب بين دفتيها معلومات وفيرة عن لحم لذيذ‪.‬‬ ‫(قرية الكتب؟) سأله مسعود فأجاب الكتاب الراعي‪:‬‬ ‫‪47‬‬


‫ـ نعم قرية الكتب!‪ .‬نعيش فيها بإمرة حاكمها ونظام مكتبتها‪.‬‬

‫قهقه مسعود حتى وضع يديه على بطنه من شدة الضحك‪ ،‬والكتاب‬

‫الراعي يطالعه في استغراب‪ ،‬ثم قال مسعود بصوت أعلى‪:‬‬

‫ـ إن كان للمكتبة لديكم حاكم‪ ،‬فأنا من أكون؟ أنا يا صديقي حاكم‬ ‫المكتبة والقيم عليها‪.‬‬

‫ضحك الكتاب الراعي‪ ،‬ثم ترك مسعود وحده‪ ،‬وراح يهش على‬ ‫ماشيته مبتعد ًا‪ ،‬وهو يتمتم بصوت ُمطعم بالقهقهة‪( :‬هذا المخلوق‬ ‫مجنون بال شك)‪.‬‬ ‫ظل مسعود واقف ًا وهو يراقب الراعي كيف يسوق قطيعه صوب‬ ‫مساحة من العشب‪ ،‬ثم تحرك حثيث الخطى باحث ًا عن القرية‪ .‬وبعد‬ ‫مسيرة قصيرة‪ ،‬الحت لمسعود على الجانب األيمن من الغابة مجموعة‬ ‫من الكتيبات‪ ،‬يرقصن بصورة غريبة‪ ،‬وكتب أخرى تصفق وتعزف بشكل‬ ‫صاخب‪ .‬دنا مسعود من المنظر متخفي ًا وراء شجيرات متوسطة الطول‪.‬‬ ‫بعد ثوان وجيزة اكتشفت مجموعة الكتب تلك وجود مسعود‪ ،‬فأقبلت‬ ‫هز كبيرهم‬ ‫ناحيته وصنعت دائرة حوله‪ .‬رفع مسعود يديه كأسير حرب‪َّ .‬‬ ‫رأسه المربع مشير ًا لمسعود باالقتراب‪ .‬دنا مسعود من كبيرهم مسلم ًا‪،‬‬ ‫وعلى فمه ُطبعت ابتسامة عريضة كعربون صداقة‪ .‬سأله كبيرهم ذو‬ ‫الشارب الكث والقبعة العريضة‪:‬‬ ‫ـ من أنت؟‬

‫ـ أنا مسعود‬

‫ـ هل أنت جاسوس لهم‬ ‫‪48‬‬


‫ـ لهم‪..‬؟؟ من تعني‬ ‫ـ شقاوات المكتبة؟‬ ‫ـ لم أسمع بهم من قبل ‪ ..‬أنا رجل غريب على هذه األنحاء‬ ‫ـ ومن يضمن ما تقول‬ ‫ـ شكلي ‪ ..‬فأنا ال أشبهكم كما ترون‬ ‫ـ الجواسيس يتنكرون دوم ًا‬

‫ـ قلت لك إنني رجل غريب‪ ..‬وقد أضعت الطرق إلى قرية الكتب‬ ‫نظرت الكتب إليه‪ ،‬ثم تبادلت النظرات‪ ،‬وقد شاع االطمئنان وفترت‬ ‫حدة المشهد‪ ،‬مما أثار في قلب مسعود األمان متسائ ً‬ ‫ال هذه المرة‪:‬‬ ‫ـ هل أنتم ُمطاردون؟‬

‫لم يجبه أحد سوى كبيرهم ذو الشارب الكث‪:‬‬

‫ـ نحن كتب غير مرغوب فيها في القرية‪ .‬بعد أن ثرنا على شح الحبر‪،‬‬

‫ووضاعة الورق‪ ،‬طاردنا شيخ القرية وشقاواته‪ .‬فصرنا مشردين في‬

‫الغابات‪ ،‬نعيش حياة الغجر وقطاع الطرق‪ .‬قرية الكتب تخضع لحكم‬ ‫كل ّ‬ ‫(المكتبة النظيفة)‪ ،‬ولها سلطة على ِّ‬ ‫سكان القرية‪ .‬تمنع الكتب التي‬ ‫تعادي شيخ القرية من العيش في قريته‪ ،‬وتسمح للكتب التي تواءم فكر‬

‫(المكتبة)‪.‬‬

‫تنفس مسعود بصعوبة‪ ،‬متأثر ًا بكالم الكتاب‪ .‬ثم تساءل عن موقع‬

‫القرية تلك‪ ،‬فأجابه الكتاب‪( :‬لماذا تريد الذهاب إلى هناك؟)‪ .‬صمت‬ ‫‪49‬‬


‫مسعود طوي ً‬ ‫ال حتى تفجرت أجابته التي أضحكت الجميع حين قال‪( :‬أنا‬ ‫القيم على المكتبة وحارسها الوحيد‪ ،‬ولن أسمح لغيري بالتصرف هكذا‬ ‫بال حساب)‪.‬‬ ‫قال كبيرهم وهو يحاول السيطرة على نفسه من الضحك‪:‬‬

‫ـ هل تعلم أين يعيش شيخ القرية؟‬

‫ـ ال أعلم‪!..‬‬

‫ـ يعيش في قصر مرصوف من الحجر المصقول على شكل كتب‪.‬‬ ‫وتحيطه أربع مكتبات من الكتب المسلحة باألوراق القوية‪ ،‬واألغلفة‬ ‫الجارحة‪ .‬وأنت تريد أن تخترق كل هذا الجيش‪ ...‬أنت ميت أيها‬ ‫الغريب‪.‬‬

‫لم يهتم مسعود لكالم الكتاب ذو الشارب الكث‪ ،‬نهض نافض ًا‬ ‫مالبسه‪ ،‬ثم غادر المكان متوجه ًا لقرية الكتب‪ .‬لكنه عاد بعد ثوان قليلة‪،‬‬ ‫يسأل عن الوجهة إليها واقصر الطرق‪ .‬هناك تبرع كتيب صغير (يتحدث‬ ‫عن فضائل الحياة الزوجية) للمسير معه‪ .‬شكر مسعود الجمع مغادر ًا مع‬ ‫الكتيب مسعود‪:‬‬ ‫الكتيب‪ ،‬ثم أنه بالطريق سأل‬ ‫ُ‬ ‫ـ هل أنت متزوج؟‬

‫ـ ال‪ ..‬لماذا تسأل؟‬

‫ـ خسارة‪ ...‬لو كنت متزوج ًا لعلمتك فضائل وطرائق الحياة سعيد ًا‬ ‫مع عائلتك‬ ‫أنتبه مسعود في مسيره أنه فع ً‬ ‫ال لم يتزوج إلى هذه اللحظة‪ !..‬وكيف‬ ‫‪50‬‬


‫أستطاع الصبر كل هذه السنوات على الوحدة الرتيبة!‪ .‬ظل الكتاب‬ ‫يتحدث طوي ً‬ ‫ال‪ ،‬ومسعود هائم في ذكرى الماضي وتداعياته والمشاريع‬ ‫المؤجلة والتي كان من ضمنها الزواج‪ ،‬حتى وصال ورأى مسعود من بعيد‬ ‫سور قرية الكتب القائم على شكل كتب طولية‪ .‬شكر مسعود الكتيب‪،‬‬ ‫هب ماشي ًا بسرعة صوب القرية‪ .‬أستقبله سورها العالي الذي يسبقه‬ ‫ثم َّ‬ ‫نهر من األوراق البيض‪ ،‬وأشجار مرتبة على شكل أغلفة مج َّلدة‪ .‬كان‬ ‫مسعود يناور في نظراته يمين ًا وشما ً‬ ‫ال‪ ،‬مستطلع ًا المكان بحذر‪ .‬عبر النهر‬ ‫على جسر مرصوف بإحكام‪ ،‬حتى وصل إلى بوابة القرية المحشورة في‬ ‫سورها العالي‪.‬‬ ‫لم يكن مسعود قارئ ًا جيد ًا‪ ،‬بل كان يخشى مواجهة الكتاب‪ ،‬متمسك ًا‬ ‫بفلسفة أخترعها وآمن بها (فتح الكتاب يحتاج إلى جرأة كبيرة‪ ،‬وإكماله‬ ‫حتى النهاية يحتاج إلى جرأة أكبر)‪ .‬وإذا به يواجه عالم ًا من الكتب‪،‬‬ ‫كتاب ّبزاز على اليمين بجالد‬ ‫سوق كبير‪ ،‬دكاكين تقف فيها كتب متنوعة‪ٌ .‬‬ ‫باهظ‪ ،‬يبيع أجلدة متنوعة‪ ،‬حمر و سود داكنة‪ .‬تجمهرت حوله كتيبات‬ ‫ٍ‬ ‫كتاب طبيب على جانب آخر‪،‬‬ ‫يبغين شراء أجلدة لهن وألطفالهن‪ .‬عياد ُة‬ ‫كتب على لوحته (طبيب الكتب‪ ..‬لمعاجلة أمراض األحبار والكلمات‬ ‫الممسوحة‪ ..‬متخصص في جراحة الورق وكبسه)‪ .‬أطلق مسعود نظره‬ ‫إلى الجانب البعيد من السوق الطويل ذي األرضية الحجرية‪ .‬فلمح‬ ‫كتب ًا تحمل ُم ْديات صقيلة‪ ،‬صنعت دائرة على كتاب ذي جالد ممزق‪،‬‬ ‫وهيئة فقيرة‪ ،‬راكع على األرض‪ .‬وكتاب عمالق يتوعده بمسح كلماته‪،‬‬ ‫وتمزيق أوراقه‪ .‬وحين الحظ مسعود أنه الشخص الوحيد الذي يهتم‬ ‫بالمنظر تعجب!‪ .‬فالسكان لم يبالوا بل لم يحولوا أنظارهم لحظة صوب‬ ‫‪51‬‬


‫مر بالقرب من مسعود كتيب صبي‪ ،‬يحمل في يديه علبة خشبية‬ ‫المشهد‪َّ .‬‬ ‫المسكر وطحين أوراق البردي‪ .‬سأله‬ ‫فيها حلوى مصنوعة من الحبر ُ‬ ‫مسعود عن الكتب الواقفة حول هذا الكتاب الراكع‪ ،‬فأجابه الطفل‪:‬‬ ‫(إنهم شقاوات المكتبة وزعيمهم‪ .‬منذ وقت وهم يطاردون كل كتاب لم‬ ‫يدفع اإلتاوة في سوقنا الكبير)‪ .‬تحير مسعود هذه المرة وسأل الكتاب‬ ‫الصبي عن إتاوة السوق فرد عليه الصبي بذكاء من عجنته التجارب‪:‬‬

‫ـ لعلك غريب عن القرية؟!‪ .‬اإلتاوة هنا هي مجموعة من األفكار التي‬ ‫تسلبها شقاوات المكتبة من السكان‪ .‬كل كتاب عليه أن يدفع فكرة من‬ ‫مجموعة أفكاره التي يحتويها بين غالفه‪ .‬وهذا الكتاب فقير كما ترى‪ ،‬إذ‬ ‫لم يبق منه سوى غالفه‪ ،‬بعد أن دفع َّ‬ ‫كل أفكاره ضريبة لشقاوات الكتب‬ ‫وسلطة المكتبة النظيفة‪.‬‬ ‫وألن مسعود من النوع الذي (يمشي قرب الحائط) ظل يراقب‬ ‫المنظر بعد أن أرجعه إلى الماضي السحيق‪ .‬لقد تع ّلم مسعود طيلة‬ ‫الفترة الماضية‪ ،‬مع حكومات كان يصفها بالبوليسية حكمت البالد‪،‬‬ ‫أن ال يسمع وال يرى وال يتكلم‪ .‬كي يعيش بأمان‪ٍ ،‬‬ ‫خال من االلتزامات‬ ‫الفكرية‪ ،‬والطرائق التي سلكها الثائرون‪ .‬لكن مسعود لم ُيوفق في كثير‬ ‫من المواقف التي تداهمه فيها التهائم وهو نائم‪ .‬وهذا الموقف شبيه بهن‪،‬‬ ‫حين صرخ زعيم الشقاوات برفاقه‪ ،‬محو ً‬ ‫ال حركتهم صوب مسعود الذي‬ ‫تلبسه الهلع‪ .‬وصل الشقاوات إلى مسعود وأحاطوا‬ ‫تسمر في مكانه‪ ،‬وقد ّ‬ ‫به‪ ،‬ثم أقبل زعيمهم وهو يحك الجزء السفلي من غالفه األسود القوي‪.‬‬ ‫مستفسر ًا من مسعود‪:‬‬ ‫ـ من أنت؟‬

‫‪52‬‬


‫لم يستطع مسعود تجميع أفكاره ليجيب‪ ،‬ثم أنه فكر في إجابته مهما‬ ‫كانت فهي ناقصة المصداقية واإلقناع‪ .‬متمني ًا في تلك اللحظة أن يفتح‬

‫غالف الشقي‪ ،‬ويقرأ ما في قلبه من أفكار‪ ،‬لكي يجيبه بما يوافقها‪ .‬حين‬ ‫طال سكوته هتف الشقي بحنق وهو يشير إلى مسعود مشير ًا بسالحه ‪:‬‬ ‫ـ ألم تسمع‪..‬؟ قلت لك من أنت وأن أستمر سكوتك دفعتك إلى‬

‫المخزن‪.‬‬

‫ـ أنا مسافر‬

‫ـ من أين؟ والى أين؟‬

‫ـ من عالمي إلى عالمكم‬ ‫ـ أين يقع عالمك؟‬

‫ـ عالمي؟!‪ ..‬عالم البشر‬

‫ـ بشر؟ ‪ ..‬أذن أنت جاسوس لعين لقرية معادية‬

‫ـ ال ال أرجوك يا سيدي ‪ ..‬أنا غير مرتبط بأية جهة غير نفسي‬

‫ـ كلكم تقولن هكذا‪ .‬وحين تُحبسون وتُعذبون يتبدل الكالم‬ ‫ـ صدقني هذا ما أؤمن به‬

‫ـ اعتقلوه وقيدوه‪ ..‬سنأخذه إلى مخزن المكتبة لنرى صدقه من كذبه‪.‬‬

‫ثم تكالبت الكتب ذات السكاكين الالمعة‪ ،‬واألغلفة الخشنة‪ ،‬على‬

‫مسعود الصارخ‪( :‬لقد فهمتم كالمي بالخطأ‪ ،‬أنا رجل عادي‪ ،‬أرجوكم‪ ...‬آه)‪.‬‬ ‫أقتاد الشقاوات مسعود مقيد ًا إلى مخزن المكتبة (سجنها)‪ ،‬حيث‬ ‫‪53‬‬


‫سيعرض على (المكتبة النظيفة) في موعد لم ُيحدد‪ .‬في ذلك األثناء‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫شعر مسعود بخيبة أمل كبيرة وورطة أكبر‪ .‬ومما زاد في قلبه الحنق‪ ،‬أن‬ ‫السوق الكبير لم يهتم‪ ،‬بل لم ينظر احد له أثناء اعتقاله‪ ،‬ولم يعترض‬ ‫أحد‪ ،‬ولم ينبس كتاب بكلمة أو بحرف واحد‪.‬‬

‫مخزن المكتبة مكان تخشاه أغلب الكتب‪ .‬فهو مكان رطب ومخيف‪.‬‬ ‫تتهرأ في زنازينه األغلفة‪ ،‬وتُمحى األفكار‪ ،‬وتموت السطور‪ .‬لقد صادف‬ ‫مسعود في اقتياده للسجن سجناء ُيعذبون في زنازين ضيقة ومظلمة‪ ،‬مع‬ ‫اختالف طرائق التعذيب‪ .‬الحظ كتاب ًا معلق ًا وكتاب آخر يعذب به لكي‬ ‫يسحب اعتراف ًا منه بخلع صفحاته الواحدة تلو األخرى‪ .‬كتب في إحدى‬ ‫الزنازين محروقة للنصف بالنار‪ ،‬وأخرى ّ‬ ‫رشوا عليها ما ًء ينهش أطرافها‪.‬‬ ‫حين وصل السجان بمسعود إلى زنزانته المقرر رميه فيها‪ ،‬دفعه بشدة إلى‬ ‫داخلها‪ ،‬فوقع مسعود على األرض متأوه ًا‪.‬‬ ‫بعد أن غادر السجان‪ ،‬التفت مسعود إلى حاله وما وصل إليه نتيجة‬ ‫الوصية الكارثية من أبيه‪ ،‬تمنى لو انه لم يدخل إلى المنزل ليلتها‪ ،‬وظل‬ ‫هائم ًا في الشوارع على هذه الورطة الكبيرة‪ .‬في تلك اللحظة نبس صوت‬ ‫من الجانب األيمن في السجن‪ ،‬مسلم ًا على مسعود بطريقة وكأنه ينتظر‬ ‫قدومه إلى الزنزانة تلك‪ .‬د ّقق مسعود النظر في جانب الزنزانة األيمن‪،‬‬ ‫حيث يعم الظالم المكان‪ ،‬ولم يعد يميز الشكل بصورة دقيقة‪ .‬وقف‬ ‫صاحب الصوت وأقبل إلى مسعود يمشي على مهل‪ ،‬حتى بان لمسعود‬ ‫كتاب ذو ورق متعب‪ ،‬وجالد أنهكته الضربات والتعذيب‪ .‬سأله مسعود‬ ‫ٌ‬ ‫بلهفة‪:‬‬ ‫ـ من أنت ‪.‬؟‬

‫‪54‬‬


‫ـ نعم يا صديقي‬

‫شعر مسعود بنوع من الراحة حين دخلت كلمة (صديقي) في أذنه‪ .‬ثم‬ ‫سأله مسعود مرة ثانية‪:‬‬ ‫ـ ما هي تهمتك؟‬

‫المعتقل مبتسم ًا‪:‬‬ ‫أجابه الكتاب ُ‬

‫ـ ال جدوى من تحديد التهمة في هذه القرية‪ ،‬مادام رفض الواقع ُيعتبر‬ ‫تهمة كبرى‬ ‫ـ يعني ماذا؟ (سأله مسعود ببالهة فرد الكتاب من جديد)‪:‬‬

‫ـ أنا مسجون هنا بتهمة العمالة والتجسس والخيانة العظمى ضد‬ ‫نظام المكتبة النظيفة‪ ،‬وسيحاكمونني في القريب العاجل مع معرفتي‬ ‫التامة بحكم المكتبة ُمسبق ًا‪.‬‬ ‫ـ وهل أنت فعال خائن؟‬

‫ـ تهمة الخيانة في قريتي تطلقها المكتبة على كل كتاب ال يوافق‬ ‫فكرها ونظام الفهرس فيها‪.‬‬ ‫صمت مسعود برهة ثم خاطب رفيق سجنه مشفق ًا على مصير صاحبه‪:‬‬

‫ـ هل أنت خائف من الموت؟‬ ‫ـ أبد ًا‪..‬‬

‫ـ لماذا؟‬

‫ـ الموت عندي أفضل من تصحيح كلماتي بأخريات ال أؤمن بهن‪...‬‬ ‫‪55‬‬


‫المعتقل إلى مسعود طوي ً‬ ‫ال وسأله بثقة من أن الجواب‬ ‫ثم نظر الكتاب ُ‬ ‫سيكون لصالحه‪:‬‬ ‫ـ أنت إنسان؟‬

‫ـ أنا‪...‬؟ نعم إنسان‪ ..‬ولكن كيف عرفت هذا؟!‬ ‫ـ ألم يخبرك بهذا احد من قبل؟‬

‫ـ نعم نعم‪ ..‬أنا اعرف جيد ًا هذا‪ ،‬ولكن في هذه القرية لم أصادف كتاب ًا‬ ‫يعرف ما هو اإلنسان‬ ‫ـ ألن المكتبة النظيفة قد محت كل كلمة أو فكرة تشير إليه‬

‫ـ كيف؟‬

‫ـ في السابق كنت القرية تعج بروائع الكتب المحترمين‪ .‬لكن حكومة‬ ‫المكتبة النظيفة قتلت بعضهم وشردت البعض اآلخر ولم يبق فيها غيري‬ ‫وبعض السجناء المعتقلين في هذا السجن الكبير‪.‬‬

‫نظر مسعود إلى الكتاب‪ ،‬ثم دقق في عنوانه جيد ًا‪ ،‬فوجد الكتاب‬ ‫يحمل عنوان (كيف تصبح إنسان ًا)فسأل مسعود الكتاب‪:‬‬ ‫ـ هل أنت متعاطف مع اإلنسان؟‬

‫ـ لقد بلغت إلى هذا المصير بسبب هذا التعاطف‪ ،‬وألني لم أجد شيئ ًا‬ ‫أجمل من أن تكون إنسان ًا حقيقي ًا‪.‬‬ ‫ـ وكيف برأيك يصبح الفرد أنسان ًا حقيقي ًا؟‬

‫ـ حين تقول ما تؤمن به بال أكمام تكمم ففاك‪ ،‬فأنت إنسان حقيقي‪.‬‬ ‫‪56‬‬


‫صعقت هذه الجملة مسعود بعنف‪ ،‬حين تراءى له أن هذا الكتاب‬

‫ٌ‬ ‫إنسان حقيقي‪ .‬ومسعود المكون من‬ ‫المكون من الورق والجلد والحبر‪،‬‬ ‫اللحم والجلد والقلب والدم ما هو إلاّ جماد ُمسير‪ .‬انتبه الكتاب إلى‬ ‫النكسة في وجه مسعود‪ ،‬فحاول إرجاع الحديث إلى دفقته األولى‪:‬‬

‫نمر بمرحلة نضعف فيها وهذا ليس بعيب‪ .‬العيب أن نراوح في‬ ‫ـ كلنا ُّ‬ ‫أماكننا ضعاف ًا خانعين‪ .‬وان ال نفكر يوم ًا في فتح المغاليق‪.‬‬ ‫رفع مسعود رأسه مستغرب ًا من كلمة (مغاليق) فقد سمعها من قبل!‪.‬‬ ‫ثم تذكر جيد ًا كالم شبح أبيه‪ ،‬محاو ً‬ ‫ال هذه المرة استدراج الكتاب لعل‬

‫في كالمه فائدة لمسعود‪:‬‬

‫ـ وكيف يفتح اإلنسان ِمغالقه؟‬

‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫اإلنسان الذي‬ ‫العالم‬ ‫إنسان ِمغالق واحد أو عدة‪ .‬سيكافئ‬ ‫ـ لكل‬ ‫ُ‬

‫يختم حياته بفتح كل مغاليقه التي تمنعه من الشعور بإنسانيته وتفرده ‪..‬‬

‫في تلك اللحظة أحس مسعود والكتاب بحركة عنيفة في فتح باب‬

‫السجن‪ ،‬حيث تفاجئا بدخول زعيم الشقاوات بنفسه‪ ،‬بعد جولة في‬

‫مخزن الكتب‪ .‬واخبر االثنين بدنو محاكمتهما‪ ،‬حيث ستعقد المكتبة‬ ‫النظيفة أولى جلساتها في ساحة القرية‪ ،‬وبحضور شيخ القرية‪ .‬نظر‬

‫الكتاب لمسعود وقال بهدوء كبير‪( :‬سينتهي كل شيء)‪.‬‬ ‫***‬

‫ٍ‬ ‫إنسانية‬ ‫مكث مسعود مع صديقه (الكتاب الثائر)‪ ،‬تعلم منه الكثير عن‬

‫وصفها مسعود بالضائعة‪ .‬أحس مسعود بغالتها(اإلنسانية) ووقعها في‬ ‫‪57‬‬


‫النفس‪ .‬تعلم من كيف يشعر اإلنسان بالضعف فيقوى‪ ،‬وكيف يشعر‬ ‫بالتعاسة فينتصر آم ً‬ ‫ال‪ .‬تعلم مسعود من صديقه الكتاب الثائر الذي فاحت‬ ‫أوراقه بعبق اإلنسانية‪ ،‬أروع ما في اإلنسان من شفقة ورحمة وانتصار‬ ‫للضعيف والوقوف بوجه الظلم‪ .‬وتفاجأ مسعود أن طيلة حياته التي‬ ‫قضاها كان رج ً‬ ‫ال مغبون ًا‪ ،‬وأن يومه القادم أفضل من يومه الماضي بصحبة‬ ‫صديقه ورفيق سجنه‪ .‬لكن الوقت لم يمهلهما الكثير‪ ،‬فقد دفعوهما إلى‬ ‫المحاكمة سوية‪ ،‬حيث تجمهر الناس‪ُ ،‬‬ ‫وأعدت الساحة وزُ ينت بشرائط‬ ‫وقورة‪ ،‬ولوحة كبيرة لكتاب يحمل ميزان ًا‪ ،‬وطاولة مستطيلة كبيرة مرتفعة‪.‬‬ ‫ومجموعة من الحراس وقائد الشرطة وكتب تهتف بحياة شيخ القرية‬ ‫والمكتبة‪ ،‬وتلعن الجواسيس والخونة‪.‬‬ ‫كان شيخ قرية الكتب جالس ًا على منصة عالية‪ ،‬هو وعدة من أتباعه‪.‬‬ ‫وبعد مدة وجيزة دخل إلى ساحة المحاكمة مجموعة من الكتب التي‬ ‫بان على أغلفتها الوقار‪ .‬وأدخل الشقاوات على الفور مجموعة من‬ ‫المساجين‪ ،‬كان من بينهم مسعود ورفيق سجنه‪ .‬وقف المنادي بالقضايا‪،‬‬ ‫ثم بدأ بقضايا الخيانة العظمى‪ ،‬وقد ُأجبرت السكان على الحضور لرؤية‬ ‫المحاكمة العلنية‪.‬‬ ‫نُودي على الكتاب صديق مسعود (كيف تصبح أنسان ًا) ثم أنبرى‬ ‫المدعي عليه بقراءة خطبة طويلة عن الخيانة والتجسس والعمالة‪ ،‬وكيف‬ ‫أن هذا الكتاب قد خالف كل هذه التعليمات‪ ،‬وصار يحتفظ بأفكار‬ ‫قديمة بالية‪ .‬وهي عبارة عن سموم خطيرة تهدد مستقبل القرية والكتب‬ ‫والمكتبة‪ .‬وبعد أن أكمل المدعي قراءة خطبته‪ ،‬حكم قضاة المكتبة عليه‬ ‫باإلعدام وحكم اإلعدام في قرية الكتب هو حرق أوراق الكتاب حتى‬ ‫‪58‬‬


‫الموت‪ .‬لكن الكتاب في ذلك الوقت أراد من المحكمة أن تمنحه فرصة‬ ‫للكالم بأسطر قليلة‪ .‬تمت الموافقة على طلبه فوقف غير مكترث هاتف ًا‪:‬‬

‫علي باإلعدام وأنا لم أدافع عن نفسي‪ .‬وليس في كالمي‬ ‫(لقد حكمتم ّ‬ ‫هذا طلب الرأفة منكم‪ .‬بل ألني مشفق عليكم من ضياع مفردة اإلنسانية‬

‫من قلوبكم البائسة‪ .‬أنا ال أخاف من النار فهي أرحم من الحياة معكم‪.‬‬ ‫ولكن خوفي من مستقبل سيأتي‪ ،‬وأطفال كتبنا المقبلة ال يفقهون شيئ ًا عن‬ ‫اإلنسانية‪ ،‬منشغلين بالحبر والكلمات المزيفة واألغلفة المنمقة‪ .‬سيأتي‬ ‫يوم سينفد فيه حبر شيخ القرية‪ ،‬ولن يستطيع كتابة ما يحلو له على أرواقنا‬

‫المقبلة‪ .))...‬في تلك اللحظة وقف شيخ القرية على المنصة‪ ،‬وقد بان‬ ‫للرائي قلم ًا أسود‪ ،‬طوي ً‬ ‫ال‪ ،‬ذو رأس حاد يسيل حبر ًا أسود‪ .‬ثم أشار برأسه‬

‫للشقاوات بإيقاف الكتاب‪ ،‬ورميه في شعلة نار كبيرة صنعها كتاب ملثم‬ ‫بلثام غامق‪ ،‬يمسك في يديه مشع ً‬ ‫ال‪ .‬ثم ُدفع الكتاب المقيد‪ ،‬على لوح‬ ‫عال تلتهب في أسفل نهايته النار المخصصة لإلعدام‪ .‬قذف الشقاوات‬

‫الكتاب في النار مع صرخات تعجب وخوف من الجمهور‪ ،‬وصراخ عال‬ ‫من مسعود الذي وقف يطالع المشهد وقلبه يدق بقوة‪ .‬مالحظ ًا أن صديقه‬ ‫الكتاب الثائر لم يصدر صوت ًا حين التهمته النار وأحرقت صفحاته‪ .‬في‬ ‫ذلك الحين وقف مسعود صارخ ًا‪( :‬أيها المجرمون‪ ...‬لقد قتلتم أفضل‬ ‫حدق القلم (شيخ القرية) بمسعود ثم سأله من على‬ ‫كتاب بينكم‪ّ .))!!..‬‬ ‫المنصة‪( :‬من أنت؟)‪ .‬أجاب مسعود بثقة كبيرة‪(( :‬أنا حارس المكتبة‬

‫والقيم عليها))‪ .‬تفجرت الساحة ضاحكة من جملة مسعود األخيرة‪ ،‬وقد‬

‫كان شيخ القرية أشد الضاحكين‪ ،‬حتى سال من شدة ضحكه حبر على‬ ‫صدره‪ ،‬ملطخ ًا أجزاء من المنصة‪ .‬ثم رد على مسعود‪( :‬إن كنت أنت‬ ‫‪59‬‬


‫القيم على المكتبة‪ ،‬فمن أكون أنا؟)‪ .‬وبعد أن خفتت ضحكات الجمع‪،‬‬ ‫هتف القلم (شيخ القرية) مخاطب ًا مسعود ومنبه ًا الجمع‪( :‬بحبري هذا‬ ‫سوف أكتب تأريخ قريتي‪ ،‬ولن أسمح للمتعاطفين مع الخونة بالعيش‬ ‫هنا بسالم)‪ .‬رد عليه مسعود ضارب ًا صدره‪( :‬ومن م ّنا ال يتعاطف معه؟‪.‬‬ ‫لقد أحرقتم كل إنسانيتي المؤرشفة في بواطن هذا الكتاب أيها األوغاد‪.‬‬ ‫ّتب ًا لكم وسحق ًا لمكتبتكم الوسخة)‪.‬‬ ‫جاء األمر برمي مسعود في لهيب النار من قبل شيخ القرية‪ ،‬دفع‬ ‫الجالد مسعود على اللوح الخشبي المؤدي إلى الشعلة الكبيرة‪ ،‬كان‬ ‫مسعود يرفض المسير ضارب ًا المنصة بقدميه‪ ،‬ولكن الكتاب الجالد كان‬ ‫أقوى منه‪ ،‬فدفعه بشدة في النار‪ .‬سقط مسعود في الشعلة صارخ ًا‪( :‬تب ًا‬ ‫لكم أيها االوغاااااااااااااد)‪.‬‬ ‫***‬

‫نهض مسعود مفزوع ًا على فراشه‪ ،‬وقد تبللت الوسادة بالعرق‪ .‬نظر‬ ‫في االتجاهات حوله‪ ،‬وكان صدره يتنفس بسرعة‪ ،‬مع ضربات متتالية من‬ ‫قلبه المرتعد‪ .‬كان نور الشمس يطرق بخفة على النافذة‪ ،‬والصباح أعلن‬ ‫بداية يوم جديد‪ .‬حمد اﷲ على صحوته وانتهاء ذلك الحلم العجيب‪.‬‬ ‫نهض مسعود من فرشه مرهقة مفاصله‪ ،‬متأم ً‬ ‫ال الغرفة والمنزل‪ ،‬وباب‬ ‫غرفة أبيه المقفلة بإحكام‪ .‬عاد إلى الوسادة ليكتشف اختفاء الكتيب‬ ‫أيض ًا!‪ .‬ثم هرع إلى الغرفة فاتح ًا بابها‪ ،‬مفتش ًا في زاويتها اليمنى‪ ،‬والتي‬ ‫لم ير أية آثار حفر فيها‪ .‬نظر طوي ً‬ ‫ال الى صورة أبيه المعلقة في الغرفة‪ ،‬ثم‬ ‫أزالها عن الجدار‪ ،‬منظف ًا تفاصيلها بنفخة شديدة‪ ،‬وراح يفتش عن موقع‬

‫مناسب لتعليقها في صالة المنزل‪ .‬عاود مسيرته اليومية‪ ،‬تناول فطوره‪،‬‬ ‫‪60‬‬


‫رتب حاجياته متجه ًا إلى مكتبة المدينة‪ .‬وقبل أن يخرج من المنزل‪،‬‬ ‫نظر إلى المرآة المركونة جانب الباب‪ ،‬تناول الخرقة ماسح ًا الغبار عنها‬ ‫بلطف‪ ،‬لتظهر صورته ناصعة نظيفة‪ .‬تأملها طوي ً‬ ‫ال ثم خرج إلى المكتبة‬ ‫وفي قلبه شوق لمالقاة (صديق ثائر) مركون على إحدى رفوف المكتبة‪.‬‬

‫‪61‬‬


‫الجرو‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫بطمأنينة المساءات‪ .‬منذ‬ ‫متحرش ًا‬ ‫ينقطع‪،‬‬ ‫والعواء ال‬ ‫منذ أن ُك َّنا صغار ًا‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ِّ‬ ‫ٌ‬ ‫ملتصقة بصمغ الماضي‪ ،‬حين ظ ّلت‬ ‫أن ُك َّنا صغار ًا وصور ُة ذلك الجرو‬ ‫لما أرضيـنا غريزته باللعب والقفز والنباح‬ ‫تُخايلنا وهو‬ ‫ُ‬ ‫يركض وراءنا‪ّ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫القرية وأه ُلها‪ ،‬نركض‬ ‫تتصرف‬ ‫غبطة وسرورا‪ُ .‬ك ّنا صغار ًا ال نفهم كيف‬ ‫في الدروب‪ ،‬معلنين َ‬ ‫عبث الطفولة وبراءتها‪ ،‬في أز َّقة قرية متخمة بالتص ّنع‬ ‫سور طويل‪ ،‬أقنعونا أن خلف السور‬ ‫والمداهنة‪ .‬قري ُتنا الصغيرة يحيطها ٌ‬ ‫لصوص ًا ووحوش ًا وغيالن‪ ،‬وأن للقرية عين ًا ال تنام وال ُّ‬ ‫تكل (حارسها‬ ‫ُ‬ ‫نسرق ِمن وقتنا دقائق لنتجمع خط ًا‬ ‫يحرس بوابتها العالية)‪.‬‬ ‫األمين الذي‬ ‫ُ‬ ‫غير منتظم نطالع البوابة والحارس الذي كان يتركها َّ‬ ‫كل صباح قبل أن‬ ‫جمر ُ‬ ‫أنفاسه األخيرة‪.‬‬ ‫يلفظ‬ ‫َ‬ ‫يغادر إلى بيته‪ُ ،‬مخ ِّلف ًا اسطوانة معدنية فيها ٌ‬ ‫يجر‬ ‫ذات صباح وحين أنهى‬ ‫ُ‬ ‫حارس البوابة نوب َة حراسته الليلة‪ ،‬راح ُّ‬ ‫خلفه نعاسه وإرهاقه وجرو ًا صغير ًا‪ُ .‬دهشنا حين رأينا الجرو يقفز حول‬ ‫الحارس‪ ،‬متم ّلق ًا‪ ،‬نابح ًا‪ ،‬مهرو ً‬ ‫ال أمامه وراجعا خلفه‪ .‬حينها عرفنا أننا‬ ‫جرو وديع‪ ،‬أبيض‬ ‫لسنا األطفال الوحيدين في القرية‪ ،‬فها قد التحق بنا ٌ‬ ‫فاقع له ذنب ال يكف عن التلويح‪ ،‬وعينان تطاردان أي حركة تصدر هنا‬ ‫وهناك‪ .‬تس َّللنا ذات يوم‪ ،‬صوب بيت الحارس المنزوي في آخر القرية‪،‬‬ ‫‪62‬‬


‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫أدرنا‬ ‫َدي‪،‬‬ ‫تي‪،‬‬ ‫ورائحة عشب ن ّ‬ ‫وزقزقة نسمعها حيثما ْ‬ ‫تدفعنا نسائم ربيع َف ّ‬ ‫ُ‬ ‫الليلة البارحة‪،‬‬ ‫أسماعنا‪ .‬وجدنا الجرو نائم ًا قرب باب المنزل‪ ،‬وقد أنهكته‬ ‫والحارس أيض ًا ُّ‬ ‫أحس بدبيب‬ ‫يغط في نوم عميق كجروه الذي ما أن‬ ‫َّ‬ ‫أقدامنا‪ ،‬وصرخات إعجابنا به‪ ،‬وابتهاجنا بشكله‪ ،‬حتى اندفع نحونا نابح ًا‬ ‫احدنا عصا صوب مكان في زاوية المنزل‪،‬‬ ‫‪/‬قافز ًا‪/‬مبتهج ًا مثلنا‪ ،‬رمى ُ‬ ‫سحت‬ ‫فنزلت عليه‪َ ،‬م‬ ‫فأسرع ناحيتها الجرو‪ ،‬التقمها وعاد بها نحونا‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫شعر‬ ‫ونباحه ال ينقطع‪.‬‬ ‫على ظهره‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫التفت الجرو إلى باب المنزل حين َ‬ ‫بشيء لم نشعر به من شدة الحبور والعجب‪ ،‬انتبهنا إلى الحارس وهو‬ ‫يلوح بيديه العن ًا وجودنا‪ ،‬شاتم ًا وقوفنا حول الجرو‪ .‬لم نتمالك أنفسنا‪،‬‬ ‫وتدافعنا مهرولين إلى شارع آخر‪ ،‬وقد لفظت مثانة ِّ‬ ‫كل واحد منا ما بها‬ ‫من البول خوف ًا من صراخ الحارس الحازم‪ ..‬صورة الجرو وفكرة العودة‬ ‫إليه قد راودتني ليلتها ولم أكف عن التفكير به‪.‬‬ ‫رت قنبل َة الفكرة بين أصدقائي‪( :‬دعونا نرجع إلى‬ ‫فج ُ‬ ‫في اليوم التالي‪َّ ،‬‬ ‫الجرو مر ًة أخرى‪ )...‬فلم يوافقني ُج َّلهم‪ ،‬وتركوني أقطع لهم الوعو َد‬ ‫بمراوغة الحارس‪ ،‬واللعب مع الجرو‪ .‬لكنهم خافوا‪ ،‬فقررت الذهاب‬ ‫الشجاعة واإلصرار‪ .‬تركتهم خلفي مهرو ً‬ ‫ُ‬ ‫ال‬ ‫مألت قلبي‬ ‫بمفردي‪ ،‬وقد‬ ‫ْ‬ ‫قاومت على أن ال‬ ‫غرست أظفارها في ظهري‪ ،‬لكني‬ ‫وصيحات وعيدهم‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫خفي‬ ‫التفت وأرجع‪ ،‬فالجرو في انتظار صديق لكي يلعب معه‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫وصوت ٌّ‬ ‫صديق َ‬ ‫ٍ‬ ‫لذاك الجرو الوحيد)‪.‬‬ ‫خير‬ ‫كان‬ ‫يهمس في أذني َ‬ ‫ُ‬ ‫(أنت ُ‬ ‫ٍ‬ ‫خفيفة جسدَ األرض‪ ،‬وأف ِّت ُ‬ ‫ش‬ ‫أجس بأقدا ٍم‬ ‫ُ‬ ‫وصلت إلى منزل الحارس ُّ‬ ‫مت‬ ‫بسبِ َس ًا‪ ،‬عله‬ ‫يخرج لي وأرا ُه‪ .‬لكني ُص ِد ُ‬ ‫َ‬ ‫بعيني عن الجرو‪ ،‬هامس ًا‪ُ ،‬م ْ‬ ‫َّ‬ ‫صوت نباحه عالي ًا‪ ،‬من دون أن أعثر على مكانه!‪ .‬ف ّتشْ ُت‬ ‫سمعت‬ ‫حين‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫‪63‬‬


‫التركيز والتصميم على العثور‬ ‫فحاولت‬ ‫وتعبت من دون جدوى‪،‬‬ ‫كثير ًا‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫عليه‪ ،‬فسحبني صوت ُ​ُه شيئ ًا فشيئ ًا إلى ت ّنور ْ ِ‬ ‫آثار‬ ‫قد ُبن َي حديث ًا‪ ،‬ومازالت ُ‬ ‫اليد التي َب َن ْت ُه َّ‬ ‫كل النوافذ سوى نافذة‬ ‫ور كبير‬ ‫أقفلت ُ‬ ‫ْ‬ ‫البناء واضحة عليه‪ .‬ت ّن ٌ‬ ‫علمت ساعتها أن الجرو‬ ‫صغيرة في أسفله‪ ،‬كان يتس َّل ُل منها الصوت‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫فاقتربت منه َح ِذر ًا‪ ،‬وما أن تحسس رائحتي‪ ،‬ظل ينبح‬ ‫محبوس في ال ّت ّنور‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫حاولت‬ ‫اشعر به يبكي خوف ُا من مكانه المظلم‪.‬‬ ‫وأقسم أني كنت‬ ‫عالي ًا‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫وتأخري لم يكن‬ ‫إيجا َد منفذ لكي أساعده على الهروب‪ ،‬لكنني لم أفلح‪ّ ،‬‬ ‫مد عنقه من نافذة المنزل‪،‬‬ ‫لصالحي هذه المرة‪ ،‬حين لمحني‬ ‫لما َّ‬ ‫ُ‬ ‫الحارس ّ‬ ‫صوب منزلنا‬ ‫فخرج راكض ًا ورائي بعصا غليظة يحملها معه دوم ًا‪ ،‬هربت‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫كانت‬ ‫يعصف في أذني‪،‬‬ ‫وصوت الجرو‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫عيني‪ْ ،‬‬ ‫والدموع التي لم تستقر في ّ‬ ‫المعتقل‪.‬‬ ‫خير دليل على حجم اشتياقي وألمي على صديقي ُ‬ ‫ُ‬ ‫***‬

‫َ‬ ‫واعدوا‬ ‫رجال القرية ـ الذين فتلوا شواربهم‪،‬‬ ‫سمع ُتهم يتحدثون ـ‬ ‫ّ‬ ‫لجلساتهم المتكأ المألوف في برانية شيخ القرية‪ ،‬مع الحارس الذي راح‬ ‫كنت محشور ًا‬ ‫يشرح بطوالته في حمايتهم وحراسة بوابة قريتهم العالية‪ُ .‬‬ ‫إلى جنب أبي‪ ،‬لكي استمع قهر ًا إلى حديثهم الرتيب‪ ،‬وضحكاتهم‬ ‫انتبهت بقوة وتوسعت أحداقي لكي أرى‬ ‫المصطنعة‪ .‬لك َّنني هذه المرة‬ ‫ُ‬ ‫تلتهم َّ‬ ‫َّ‬ ‫كل الكلمات‪ ،‬حين‬ ‫كل تفاصيل المشهد‪ ،‬وانتصبت أذناي لكي‬ ‫َ‬ ‫الحارس عن جروه المحبوس‪ ،‬وقصة العثور عليه‪ ،‬وتدريبه لكي‬ ‫تحد َث‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫دبره‪ ،‬فهو أراد‬ ‫يعاونه في حراسة البوابة‪ .‬وعن أطفال أرادوا إفساد ما َّ‬ ‫جرو ًا يربيه ليكبر ويصير وحش ًا يحرس باب القرية ال جرو ًا أليف ًا يالعب‬ ‫فقرر الحارس أن يبني ت ّنور ًا يحبس‬ ‫األطفال‪ ،‬وال يفقه من الغلظة شيئ ًا‪ّ .‬‬ ‫‪64‬‬


‫َ‬ ‫غير الحارس من رائحته‬ ‫الجرو فيه لكي يتوحش‪ ،‬ولن‬ ‫يعرف أحد ًا َ‬ ‫المعتادة حين يرمي إلى الجرو ما يزود من طعام‪( .‬إذن سيكون للقرية‬ ‫شيخ القرية الحديث بسؤاله‪،‬‬ ‫كلب يحرس بابها هذه المرة؟) هكذا َخ َت َم ُ‬ ‫فلم يجبه الحارس إلاّ بهزة رأس واثقة‪ .‬تساءلت حينها بيني وبين نفسي‬ ‫ألح على نفسي‬ ‫(كيف لذلك الجرو األليف أن يصير وحش ًا؟)‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ورحت ُّ‬ ‫حر ًا مرة أخرى‪ .‬كيف‪.‬؟ ومع من ‪.‬؟‬ ‫أن تطاوعني وأجعل ذلك الجرو ّ‬ ‫كلها أسئلة تطوف في مخيلتي التعبة‪ ،‬ومشاريع كبيرة أرهقت يومي‪،‬‬ ‫عرفت أمي وأبي ما اشعر به فنهراني عنه‬ ‫وأشعلت النار في غابة أفكاري‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫بكيت من داخلي‪ ،‬فلم يساندني احدٌ ‪ ،‬والجرو المسكين في‬ ‫وبكيت‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫طريقه إلى التحول إلى وحش عربيد‪.‬‬

‫األيام كالبرق في سماء الزمن‪ ،‬وصور ُة ذاك الجرو وصوتُه‬ ‫مر ْت‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ساعدي‬ ‫الخشن في‬ ‫الشعر‬ ‫علي بين الحين والحين‪ .‬ن َ​َب َت‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫يحلاّ ن ضيفين ّ‬ ‫وأجزاء من جسمي الذي بدأ ُ‬ ‫ُ‬ ‫الحزن أيض ًا في‬ ‫يلفظ طفول َت ُه‪ ،‬كما ن َ​َب َت‬ ‫ِ‬ ‫أخبار الحارس وأخبار كلبه‬ ‫وربت به‪ .‬نسمع‬ ‫اهتز ْت‬ ‫ارض قلبي‪ ،‬التي َّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫يعرف‬ ‫المخيف الذي لم يره احد‪ .‬تناقلت الناس أن الجرو صار كلب ًا ال‬ ‫فجر ًا‪ .‬وقد َّ‬ ‫يخرج معه لي ً‬ ‫حذ َر‬ ‫غير الحارس ورائحته‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ال ويرجع معه ْ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫مغبة التقرب صوب منزله إن لم يكن موجود ًا‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫الحارس أهل القرية من ّ‬ ‫ٌ‬ ‫(وحش) ال يرحم‪ ،‬وال تأخذه بالمعضوض‬ ‫كلب‬ ‫إذ ينتظرهم في المنزل ٌ‬ ‫رأفة‪ .‬فخاف ُ‬ ‫وتبو َل‬ ‫وارتعبت نساؤها‪،‬‬ ‫وتهي َب رجا ُلها‪،‬‬ ‫أهل القرية‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫األطفال‬ ‫األمهات‬ ‫صارت سيرت ُ​ُه قص ًة تخيف بها‬ ‫أطفالها في كل مرة‪ ،‬فقد‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫تعودوا‬ ‫الذين يعاندون النوم‪ .‬وبطوالت ُ​ُه‬ ‫ْ‬ ‫غدت فخر ًا لرجال القرية الذين َّ‬ ‫المباهاة ببطوالت غيرهم‪ ،‬كما تتباهى المرأة الصلعاء بشعر أختها‪.‬‬ ‫‪65‬‬


‫والحارس لم ينل إ ّ‬ ‫ال االحترام والتقدير والتبجيل من شيخ القرية وأهلها‪،‬‬ ‫حتى َّ‬ ‫زف القدر إلى الناس خبر ًا أصابهم بالذعر‪( .‬لقد هرب الكلب ‪)...‬‬ ‫الحارس نبأ تمرد كلبه‪ ،‬حين شاهده جمع غفير راجع ًا من عند‬ ‫هكذا تال‬ ‫ُ‬ ‫باب القرية وحيد ًا‪ ،‬وحين سألوه عن سبب هروب كلبه أجابهم‪( :‬لقد‬ ‫طع‪ ،‬فضرب ُت ُه بالعصا‪ ،‬لكنه نبح في وجهي‬ ‫ُأ َ‬ ‫فلم ُي ْ‬ ‫صيب بالجنون‪ ...‬نهرت ُ​ُه ْ‬ ‫وقد تطاير الشر من عينيه‪ ،‬وحاول في النهاية أن يعضني‪ ،‬فضربته بحجر‪،‬‬ ‫وهرول هارب ًا مني والزبد يتطاير من فمه ولسانه المندلع‪ .‬خذوا حذركم‬ ‫يا أهل القرية ‪ ...‬فالكلب سائب اآلن ولم تعد لي سيطرة عليه)‪ .‬هلع ُ‬ ‫أهل‬ ‫س اآلن في إحدى األمكنة‪،‬‬ ‫القرية جميعهم حين علموا بان الكلب ْ‬ ‫يخ ُن ُ‬ ‫وال يعلم أحد كيف يظهر وكيف يختفي‪ .‬فاختفى األطفال من الدروب‪،‬‬ ‫َ‬ ‫الناس في منازلهم سوى الحارس الذي‬ ‫واختبأ‬ ‫وأقفلت الدكاكين باكر ًا‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫أوكلوا إليه حماية قريتهم‪ ،‬وهو من تصدى حالف ًا لهم أن يكمل مشواره بال‬ ‫كلل وخوف‪ .‬كيف ال وهو الحارس الذي أمنت القرية في عهده ونامت‬ ‫واستقرت‪ .‬أنا الوحيد الذي نام ليلته مرتاح ًا‪ ،‬ع َّلني أعثر عليه يوم ًا‪ ،‬وكنت‬ ‫علي؟ هل يتذكر رائحتي؟ ماذا لو لم يتذكرني‬ ‫اسأل نفسي‪( :‬هل سيتعرف َّ‬ ‫وعضني ‪!..‬حينها سيكون ألم غدره بي أشد من ألف عضة)‪.‬‬ ‫***‬

‫الغابة من ِّ‬ ‫ُ‬ ‫الشتاء صباحات ُ​ُه بارد ٌة في قريتنا التي ُّ‬ ‫والفجر‬ ‫كل جهة‪،‬‬ ‫تلفها‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ما أن يتس َّلل على مشارفها‪ ،‬حتى نجد السوق قد فتح فمه للمتبضعين‪،‬‬ ‫تهز أترب َتها الخطى السائر ُة ذهاب ًا وإياب ًا‪ .‬كعادتي خرجت‬ ‫حيث الشوارع ُّ‬ ‫إلى دكان أبي الذي ينتظرني َّ‬ ‫لت مسير َة‬ ‫حو ُ‬ ‫كل صباح‪ ،‬لكنني هذه المرة َّ‬ ‫صوب جمهرة من الناس َّ‬ ‫شكلوا دائر ًة وهم ينظرون إلى شيء‬ ‫خطاي‬ ‫َ‬ ‫‪66‬‬


‫حيث ُمدِّ َد‬ ‫بشع‪ُ ،‬‬ ‫على األرض‪َ .‬حشَ ُ‬ ‫منظر ٌ‬ ‫رت رأسي بين أكتافهم فأذهلني ٌ‬ ‫بلعوم ُه و ُن ِه َ‬ ‫صدر ُه‪ ،‬وسالت دماؤه حتى مألت‬ ‫ش‬ ‫حارس البوابة وقد ُذبِ َح‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫الجمع مناشد ًا‬ ‫وصرخ‬ ‫أصوات االستغاثة‪،‬‬ ‫المكان كبركة حمراء‪َ .‬ع َل ْت‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫فانتشر الخبر كالنار في البارود‪ ،‬وتجمع ُ‬ ‫أهل‬ ‫بحمله بعيد ًا عن الطريق‪،‬‬ ‫َ‬ ‫شيخ القرية‬ ‫القرية جماعات جماعات‪ ،‬يتداولون الحادثة برعب دفيق‪ُ .‬‬ ‫ُ‬ ‫أمر الحارس ومقتله البشع‪،‬‬ ‫أجتمع فيه‬ ‫أعد مجلس ًا‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫الرجال‪ ،‬ليتداولوا َ‬ ‫مخالب حاد ٌة‬ ‫وأيقن الجميع أن الحارس مات معضوض ًا وقد عبثت‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫شيخ القرية على الرجال أن‬ ‫قلب ُه الذي اختفى‪ .‬فأشار ُ‬ ‫بصدره مستخرج ًة َ‬ ‫شيخ‬ ‫احدهم الباب‪،‬‬ ‫فسكت الجميع ولم ينبسوا بكلمة‪ .‬نظر إليهم ُ‬ ‫يحرس ُ‬ ‫َ‬ ‫خيم الوجوم على وجوههم ثم قال متهكم ًا‪( :‬هل‬ ‫القرية مستغرب ًا بعد أن َّ‬ ‫تريدون أن أحرس أنا الباب‪..‬؟)‪ .‬فسكتوا ولم يتبرع أحد بهذه المهمة‪ .‬ثم‬ ‫شيخ القرية عن أج ٍر كبي ٍر لِ َم ْن يتبرع لحراسة البوابة‪ ،‬لكن سكوت‬ ‫أعلن ُ‬ ‫الرجال َّ‬ ‫الشيخ في وجوههم ُمعلن ًا عدم رضاه‬ ‫انفجر‬ ‫ظل مستمر ًا‪ ،‬حتى‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ورغبته في أن يغادروه في الحال‪.‬‬

‫قص علينا ماجرى في بيت‬ ‫كنت أنا وأمي في المنزل ننتظر أبي الذي َّ‬ ‫الجميع أن َمن‬ ‫أيقن‬ ‫شيخ القرية وحين سألنا ُه عن الفاعل أجابنا‪( :‬لقد َ‬ ‫ُ‬ ‫كلب الحارس المسعور)‪ .‬وفي اليوم التالي باتت القرية‬ ‫فعل الفعلة هو ُ‬ ‫الليل ثقي ً‬ ‫مر ُ‬ ‫عانت من صراخ الريح‬ ‫ال هذه المرة‪ ،‬والشبابيك‬ ‫ْ‬ ‫بال حارس‪َّ ،‬‬ ‫الشتوية‪ .‬صرنا نشتاق إلى الشمس ونورها‪ .‬وبالفعل أتى ال َّنهار هذه‬ ‫المرة حام ً‬ ‫ال في جعبته مفاجأة أخرى‪ ،‬حين خرجنا إلى سوق القرية‬ ‫فوجدنا جثة رجل يبيع اللبن يخرج باكر ًا َّ‬ ‫كل يوم‪ ،‬وقد ُم ِز َق بلعومه شر‬ ‫ُ‬ ‫حالة من‬ ‫داهمت القرية‬ ‫صدر ُه بمخلب حاد‪ .‬هذه المرة‬ ‫تمزيق‪ ،‬و ُفتِ َح‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫‪67‬‬


‫الذعر والهلع‪ ،‬فاجتمع الرجال من ِّ‬ ‫وقر َر الجمع في بيت شيخ‬ ‫كل بيت‪َّ ،‬‬ ‫َ‬ ‫أشعل‬ ‫القرية أن يجدوا الكلب ويقتلوه ويريحوا القرية من شره‪ ،‬وبالفعل‬

‫الرجال المشاعل‪ ،‬واجتمع ّ‬ ‫كل خمسة رجال على حدا‪ ،‬ليبحثوا عنه في‬ ‫دروب القرية لي ً‬ ‫ال‪ ،‬لم يبق في البيوت غير األطفال والنسوة الخائفات‪،‬‬ ‫وفي بيتنا لم تبق سوى أمي‪ ،‬ألنني هذه المرة غافلت أبي الذي حمل‬ ‫الكلب ليأخذ بثأر القرية منه‪ .‬تبعتهم وهم يحومون في‬ ‫مشعله يطلب‬ ‫َ‬ ‫الدروب بحث ًا وتفتيش ًا‪ ،‬مروا على خربة القرية‪ ،‬وعلى جانبي السور‪،‬‬ ‫وصعد آخرون فوق المنازل‪ ،‬فأضاءت المشاعل فضاء القرية‪( .‬ها هو ذا‬ ‫يركض هناك‪ ...‬الكلب األبيض) هتف أحد الرجال‪ ،‬فركض وتبعه رجال‬ ‫يحملون السكاكين الطويلة‪ ،‬والبنادق المحشوة‪ ،‬والقلوب المملوءة‬ ‫بالغيض والحقد‪ .‬تبعتهم فرآني أبي الذي صرخ مذعور ًا من حضوري‪،‬‬ ‫فأقسمت له أن الكلب يعرفني‪ ،‬وأنا قادر على ترويضه وإخفات زمجرة‬ ‫ِ​ِ‬ ‫علي وانطلقَ خلفهم وراء الكلب‬ ‫وحشيته‪َّ ،‬‬ ‫ضمني إلى حزبه خوف ًا َّ‬ ‫وجماعة اتجهوا شما ً‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ال‪ ،‬فلم يبقَ سوى‬ ‫جماعة اتجهوا يمين ًا‬ ‫المطلوب‪.‬‬ ‫الدرب المؤدي إلى منزل حارس البوابة‪ ،‬اقترب الرجال صوب المنزل‪،‬‬ ‫س‬ ‫فد َّلهم على الكلب عواؤ ُه‬ ‫ُ‬ ‫المنبعث من فوهة التنور‪ ،‬التنور الذي ُحبِ َ‬ ‫صرخت عالي ًا (اتركوه‪ ...‬أرجوكم)‪ ،‬فلطمني أبي على‬ ‫فيه أيام طفولته‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫تحر َك ْت ٌ‬ ‫أشد‬ ‫فئة منهم يحملون َّ‬ ‫وجهي واضع ًا كفه على فمي الراجف‪َّ .‬‬ ‫المشاعل توهج ًا‪ ،‬فرموها على الكلب الذي زَ مجر ونبح في ِ‬ ‫ِ‬ ‫رجال‬ ‫وجه‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫القرية الممتلئين بالثأر‪ .‬أشعلوا التنور وأنا اصرخ عالي ًا (ال تقتلوه‪...‬‬ ‫أرجوكم ال تقتلوه) حضنني أبي بقوة وأنا اصرخ بكل قوة‪ ،‬والكلب‬ ‫يعوي عالي ًا‪ ..‬عالي ًا‪ .‬عواؤ ُه مأل الفضاء‪ ،‬فاقشعر بدن األشجار والبيوت‬ ‫‪68‬‬


‫والدروب‪ ،‬ولم تتأثر قلوب الرجال المكتظة بالثأر والغل‪ .‬عوى عالي ًا من‬ ‫ٍ‬ ‫شعلة من اللهب‪ .‬عيناي لم‬ ‫األلم‪ ،‬وهو يحترق في التنور‪ ،‬الذي تحول إلى‬ ‫تتحمال الصورة‪ ،‬وأذناي لم تقويا على سماع صوت عواء الكلب‪ ،‬الذي‬ ‫انم ليلتها‪ ،‬كنت أبكي إلى الصباح‪ ،‬صباح القرية‬ ‫بدأ‬ ‫ُ‬ ‫يخفت شيئ ًا فشيئ ًا‪ .‬لم ْ‬ ‫الذي عاد يحمل لهم بشار َة الخالص من الكلب‪ .‬في تلك الساعة تسابقَ‬ ‫ُ‬ ‫وكركر‬ ‫رجال القرية عند شيخها للحصول على وظيفة الحارس الجديد‪،‬‬ ‫َ‬

‫الرجال أمام الدكاكين ابتهاج ًا بالخالص‪ ،‬وتباشرت النسوة المتبضعات‪،‬‬ ‫كنت منزوي ًا في‬ ‫ورجع األطفال من جديد إلى اللعب في الدروب‪ .‬وأنا‪ُ ...‬‬ ‫غرفتي التي كانت تتراءى لي مثل ت ّنور كبير‪ ،‬أنوح على صديقي الكلب‪/‬‬ ‫الجرو األبيض‪ ..‬لكن أهل القرية المسرورين بالخالص والبشارة‪ ،‬وبعد‬ ‫انتهاء عيدهم بالنصر والغنيمة‪ ،‬لم يهنأوا بعيشهم أبد ًا‪ ،‬فقد ُذ ِعروا مرة‬ ‫ِ‬ ‫أخرى‪ ،‬حين عثروا في فجر يوم آخر على ِ‬ ‫ِ‬ ‫القرية الجديد‪،‬‬ ‫حارس‬ ‫جثة‬ ‫بت تحته ٌ‬ ‫بركة حمراء‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫ترس ْ‬ ‫ممدد ًا على األرض منهوش ًا صدره‪ ،‬وقد َّ‬

‫‪69‬‬


‫الهتر‬ ‫أنت من أوصلني إلى هذه النهاية؛ ألن َ‬ ‫قلبك اللعين‬ ‫السبب‪َ ...‬‬ ‫َ‬ ‫أنت َّ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫غدت سلعة ال ثمن لها في سوق‬ ‫وطيبتك الحمقاء‬ ‫فائض عن الحاجة‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫يخبرك‬ ‫حياتنا ذي الحيلة والمداهنة‪ .‬أيها البائس المسامح الرحيم‪ .‬ألم‬ ‫احدٌ عن قريتنا الظالم أهلها؟‪ .‬الم تتعظ وتحزم َ‬ ‫وتقوي عزيمتك‪،‬‬ ‫أمرك‪ّ ،‬‬ ‫َ‬ ‫أقتلك إلاّ بدافع أن‬ ‫وتمثّل لمرة دور البئيس الغاشم؟‪ .‬عذر ًا فأنا لم‬ ‫تجرع‬ ‫أريحك وأريح نفسي من ِّ‬ ‫همك وثقل طيبتك وسذاجتك‪ .‬بعد ّ‬ ‫شراب الصبر في سنوات صحبتك‪ ،‬وأكوام من النصائح التي لم تفلح‬ ‫يوم ًا معك‪ ،‬صارحتك بأن ال عيش في قريتنا ألمثالك‪ ،‬وأردت إقناعك‬ ‫ِ‬ ‫ورسمت لك خريطة‬ ‫بغلق سدود حزمك أمام طوفان محبتك الهائج‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫دت لك فيها‬ ‫ولون ُتها بقليل من الغدر‪َّ ،‬‬ ‫وحد ُ‬ ‫حياتك‪ ،‬إذ خططتها بالحيلة ّ‬ ‫وعاندت ْ‬ ‫فذق ما‬ ‫أبيت‬ ‫َ‬ ‫اتجاهات المجامالت والنفاق وال َّتص ّنع‪ .‬لكنك َ‬ ‫أنت‪َّ ،‬‬ ‫مازلت اذكر يوم‬ ‫عصرتَه من ثمار صدقك أنت‪.‬‬ ‫وتلذذ بما‬ ‫طبخته َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫التقيت َ‬ ‫التحمل‬ ‫بك قديم ًا‪ ،‬حينها لم اصدق أن لإلنسان مقدرة مثلك على‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫كنت‬ ‫والصبر!‪ .‬في تلك الطفولة الغابرة حين ك ّنا صغار ًا وكانوا يلعبون‪ُ ،‬‬ ‫وكنت ُأرغّ ُبك بالحيلة فتأنف‪ ،‬حتى تطاول‬ ‫أحثُّك على الغش فتأبى‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫لئام التالميذ في مدرستنا‬ ‫الصغار قبل الكبار‪ ،‬وراح‬ ‫عليك‬ ‫يضربك ُ‬ ‫ُ‬ ‫‪70‬‬


‫وأراذلهم‪ ،‬حيث يتربصون بك َّ‬ ‫كل صباح في الذهاب وعند الرجوع‪.‬‬ ‫ينهالون عليك تارة بالضرب وتارة بالشتائم وتارة بالتحقير‪ .‬وأنت أيها‬ ‫َ‬ ‫تخي ُب ظني دائم ًا!‪.‬‬ ‫الرقيق تكافئهم بالطيبة والعفو‪ .‬منذ‬ ‫طفولتك وأنت ّ‬ ‫َ‬ ‫وحلفت لي‬ ‫أقنعتك بضربهم بقطعة من زجاج‬ ‫سجى كيف‬ ‫َ‬ ‫الم ّ‬ ‫أتذكر أيها ُ‬ ‫انَّك ستزرعها في صدر احدهم في اليوم التالي‪ ،‬لكنك خذلتني حين‬ ‫مت الزجاج َة قبل خروجك من عتبة دارك‪ ،‬وتركت صبية بعمرك‬ ‫َّ‬ ‫هش َ‬ ‫واصغر يعكرون صفو أيامك‪ ،‬ويسرقون بهجتك‪ ،‬ويسخرون منك ضرب ًا‬ ‫وكنت تكتفي بالوحدة والدعاء‪ ،‬حيث تستقر سفينة روحك‬ ‫وتجريح ًا‪،‬‬ ‫َ‬ ‫وتعذر قل َة صبري حين‬ ‫على مرفأ طيبتك وهدوئك‪ .‬أتمنى أن تعذرني‬ ‫َ‬ ‫إليك لكي ُأ ِ‬ ‫أتسلل َ‬ ‫ُ‬ ‫كم َل نصاب األلم‪ ،‬فأضربك ضرب ًا قاسي ًا‪ ،‬ع َّلني‬ ‫كنت‬ ‫ُ‬ ‫اطرد مالك الطيبة القابع في جسدك الهزيل‪ .‬حينها لم أكن ُ‬ ‫املك خيار ًا‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫عورتك‪،‬‬ ‫أمامك لكي ترى‬ ‫وتعريتك‬ ‫دمعتك‬ ‫توبيخك وإنزال‬ ‫سوى‬ ‫فأنت لم تزدد إلاّ‬ ‫ولكن لم تفلح ُّ‬ ‫كل صرخاتي العالية‪ ،‬وضرباتي القاسية‪َ ،‬‬ ‫والقرية وأه ُلها لم يزدادوا إلاّ قسوة وتجاه ً‬ ‫ُ‬ ‫ال وظلم ًا‪.‬‬ ‫دماثة ولطف ًا وطيبة‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ألبستك عباءة من السخرية‬ ‫رأسك‪ ،‬نساؤها‬ ‫أطفالها‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫رصعت باألحجار َ‬ ‫زء‪ ،‬رجالها أطلقوا عليك لقب (الهتر) بد ً‬ ‫َ‬ ‫وهبك‬ ‫ال عن اسمك الذي‬ ‫ُ‬ ‫واله ْ‬ ‫شم ْت‬ ‫إياه أبوك الراحل منذ زمن بعيد‪ .‬حتى كالبها ال تنبح عليك‪ ،‬كأنَّها َّ‬ ‫فأمنت عقوبتك‪.‬‬ ‫رائحة لطفك ونعومة مشاعرك!‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫عكسك أيها المغفل‪،‬‬ ‫كنت على‬ ‫رت معنا رغباتنا‪ ،‬لقد ُ‬ ‫وكب ْ‬ ‫ثم َك ُبرنا معا ُ‬ ‫أثر النجاح بأنف حيلتي‪ ،‬وأناضل للوصول إلى بغيتي‬ ‫شاب ًا ماكر ًا أقتفي َ‬ ‫وكانت لعنتي‬ ‫كبرنا‬ ‫ِّ‬ ‫ْ‬ ‫بأي ثمن كان وبأ ِّية طريقة يرسمها لي مكري‪ .‬لقد ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ويتجاهلك العابرون على جثمان‬ ‫الناس‪،‬‬ ‫يستغفلك‬ ‫أراك أمامي‬ ‫أن‬ ‫ُ‬ ‫‪71‬‬


‫َ‬ ‫رأيك وقراراتك‪ .‬هم يأكلون وأنت جائع‪ ،‬هم يلعبون وأنت خامل‪ ،‬هم‬ ‫يصفقون ويمرحون وأنت منطو على ذاتك‪ .‬أتذكر حين جمعنا القدر في‬ ‫ينث رز ُقها َ‬ ‫نثيث المطر في لهيب الحر‪ ،‬وأنت متح ِّفظ متز ِّمت في‬ ‫وظيفة ُّ‬ ‫اشرأب عنقها صارخة (العوز‪ ...‬العوز)!‪.‬‬ ‫عصمة نفسك‪ ،‬تزجرها كلما‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫حينها جلسنا سوية في ليلة ُمخفضين أصواتنا‪،‬‬ ‫فنصحتك ساعتها بمدِّ‬ ‫اليد بمزاوجة الحيلة والمكر‪ ،‬والوصول إلى آمادنا كما وصل غيرنا منذ‬ ‫فحيح رأيي بعصا‬ ‫قابلت‬ ‫زمن قديم‪ .‬فلم تطاوعني أيها الخانع الجبان‪ ،‬إذ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ووبختني‬ ‫والناس عرايا‪ ،‬بل‬ ‫بزي االحتشام‬ ‫َ‬ ‫زجرك‪ ،‬وتأن َ‬ ‫َّقت ِّ‬ ‫ُ‬ ‫تطاولت َّ‬ ‫َ‬ ‫أضربك معاود ًا‬ ‫َّرت شأني وطردتني‪ ،‬فلم املك زمام نفسي َف ُر ْح ُت‬ ‫وحق َ‬ ‫َ‬ ‫أنجيك من مخالب‬ ‫طرفي نقيض‪ ،‬ع َّلني‬ ‫الكرة كما ك ّنا طفلين على‬ ‫ّ‬ ‫أخالقك المغروسة في قلب روحك‪ ،‬ع َّلني أصنع َ‬ ‫منك رج ً‬ ‫ال ُ‬ ‫تقف له‬ ‫ُّ‬ ‫األكف‪ .‬لك ّني عبث ًا أحاول‪،‬‬ ‫األجسام وتنحني له الرؤوس وتُرفع له‬ ‫َ‬ ‫فتركتك ليلتها ملطخ ًا بدم لكماتي‪ُ ،‬مب َّل ً‬ ‫ال برشقات توبيخي و إهاناتي‪.‬‬

‫األمر‪ ،‬وامتأل ديجور أيامك ظالم ًا‪،‬‬ ‫تطور‬ ‫أيها المغفل‪ ...‬بعد أن َّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫صوب الخديعة‪ ،‬فوقعت لقمة سهلة المضغ‬ ‫القرية وأه ُلها‬ ‫استدرجتك‬ ‫َ‬ ‫مصم ٌم على مقاسك‪..‬‬ ‫مدعين انه‬ ‫بين أضراسهم‪ ،‬وألبسوك ثوب األبله َّ‬ ‫َّ‬ ‫كنت اآلن مرتاح ًا‬ ‫لو أن َ​َّك طاوعتني منذ البداية لما‬ ‫وقعت في فخهم‪ ،‬و َل َ‬ ‫َ‬ ‫رجع َت إلى بيتك مغموم ًا هائم ًا‪ ،‬فلم‬ ‫زاهي ًا بنصرك وغنيمتك‪ .‬حينها‬ ‫ْ‬ ‫أفو ِ‬ ‫استشعرت نار غضبك‪،‬‬ ‫ت الفرصة هذه المرة‪ ،‬تبع ُت َك خطوة‪ ،‬خطوة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫وطارت من‬ ‫عافك ظ ُل َك‪،‬‬ ‫تبعتك حين‬ ‫مت هواء حقدك وشحناءك‪.‬‬ ‫وتنس ُ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫دخلت منكسر ًا‬ ‫حين‬ ‫على أغصان قلبك‬ ‫َ‬ ‫عصافير اللطف والحنان‪ .‬رأي ُت َك َ‬ ‫ُ‬ ‫نم َت على سرير صبرك مستذكر ًا شريط أيامك الغابرة‪.‬‬ ‫دارك‪ ،‬وحين ْ‬ ‫‪72‬‬


‫ُ‬ ‫فالليلة ستكون ثقيلة كالجبل‪ .‬سوف‬ ‫نم على سريرك‬ ‫نم أيها المغفل‪ْ ...‬‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫القرية صباح ًا‬ ‫تنتهي محن ُت َك وض ُن ُك أيامك إلى األبد‪ ،‬فغد ًا ستصحو‬ ‫ولن يروا (الهتر) واطئ ًا أرضهم‪ ،‬وال مستنشق ًا هواءهم‪ ،‬وال آكال وشارب ًا‬ ‫ُ‬ ‫القرية مذهولة حين أضع حد ًا آلالمك وحزنك‬ ‫من ُسفرتهم‪ .‬ستصحو‬ ‫لت خفية‬ ‫التليد‪ .‬ها أنا ذا‬ ‫أنهيت ما يجب فعله قبل سنوات‪ ،‬بعد أن تس ّل ُ‬ ‫ُ‬ ‫كل ما يحيط َ‬ ‫وطالعت هازئ ًا ِّ‬ ‫بك من مكتبة كبيرة‪،‬‬ ‫إلى حجرتك الكئيبة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫عشت فيها‬ ‫وأوراق مرمية هنا وهناك كأحالمك المبعثرة‪ .‬الغرفة التي‬ ‫َ‬ ‫سنوات من الوحدة والعزلة‪ ،‬ف َّتش ُتها شبر ًا‪ ...‬شبر ًا‪ ،‬وحزن ًا‪ ...‬حزن ًا‪،‬‬ ‫وأنت‬ ‫ونظرة‪ ...‬نظرة‪ .‬يالك من مغفل حقيقي!‪.‬‬ ‫أنجزت زمانك الماضي َ‬ ‫َ‬ ‫عت من عمرك سنوات من‬ ‫ُ‬ ‫ضي َ‬ ‫ترافق كتب ًا بلهاوات مركونة على الرف‪َّ .‬‬ ‫مت أجزاءها بدمعك وصبرك‬ ‫ورم َ‬ ‫القهر تدافع عن مس َّلة صنع َتها وزين َتها َّ‬ ‫َ‬ ‫أقتلك بشيء آخر غير هذه الكتب المرمية في‬ ‫وتفانيك؟!‪ .‬لم أنتظر لكي‬ ‫كل مكان‪ ،‬كتاب ثقيل يكفي لكي أخنقك به‪ ،‬قتلتك بعنف متجاه ً‬ ‫ال أفواه‬ ‫وألسنة الصارخين والباكين في صفحات الكتاب يا لهذا الجنون!‪ .‬لم‬ ‫أتوان في ما أتيت إلنجازه‪ ،‬وأذهلني َ‬ ‫أنك لم ترفس‪ ،‬لم تمانع‪ ،‬بل لم‬ ‫َ‬ ‫يضج في مسمعي (زد‪ ...‬زد)‪،‬‬ ‫وصوتك‬ ‫تصدر حركة واحدة!‪ .‬خنقتك‬ ‫ُّ‬ ‫َ‬ ‫فيك(إنك‬ ‫فضغطت على وجهك بقوة اكبر حتى خرجت آخر جملة من‬ ‫ُ‬ ‫صرخت َ‬ ‫أنت السبب)‬ ‫بك في حنق‬ ‫صديق صالح)‪.‬‬ ‫(أنت السبب‪َ ...‬‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫الباب لقبائل من الشتائم‬ ‫وفتحت‬ ‫فكافأتني بالدفء والرضا‪َ .‬لع ْن ُت َك‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫أتركك وأهرول إلى‬ ‫ولين ًا‪ .‬سوف‬ ‫نحوك‪ ،‬فما‬ ‫َ‬ ‫ازددت إلاَّ رحمة وطيبة ْ‬ ‫وأغبش غد ًا لكي َ‬ ‫أراك محمو ً‬ ‫ُ‬ ‫ال على تابوت تُساق إلى مثواك‬ ‫مخدعي‪،‬‬ ‫عشرتك وتع ُّلقي َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫بك‬ ‫عبئك األثقل‪ ،‬ومرارة‬ ‫تخلصت من‬ ‫األخير‪ .‬لقد‬ ‫ُ‬ ‫‪73‬‬


‫َ‬ ‫عليك‪.‬‬ ‫اهتز ْت ضحك ًا‬ ‫وحرقتي عليك‪ .‬غد ًا سوف تحم ُل َك أكتا ُفهم التي َّ‬ ‫عك إلى َ‬ ‫أشي َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫قبرك‪ ،‬حينها‬ ‫سيحملونك غد ًا‬ ‫وسأكون أول الحاضرين لكي ّ‬ ‫َ‬ ‫غبي ح ّتى‬ ‫سينتهي كابوسك إلى األبد‪ .‬هل تعلم؟ ‪ ،‬إن‬ ‫جثتك لها منظر ٌّ‬ ‫بعد موتك‪.‬‬ ‫***‬

‫أحب توضيح شيئ ًا لك‪ ،‬فبعد أن‬ ‫ها قد التقينا من جديد‪ ..‬بالمناسبة ُّ‬ ‫َ‬ ‫بوفاتك‪ ،‬هرعوا إلى منزلك‪ ،‬وأخرجوك باكين نائحين‪.‬‬ ‫عرف أهل القرية‬ ‫كنت حاضر ًا بينهم في تلك الساعة وحين هرولوا َ‬ ‫بك إلى المغتسل‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫المثقلة‪ .‬وبعد دقائق‬ ‫ُ‬ ‫رأيت يد ًا غليظ ًة تُق ِّل ُب َك‪ ،‬آلفت األجسام الباردة ُ‬ ‫مرت كأنَّها قطيع غربان سود‪ ،‬تبعتهم وهم يسيرون بك كالعريس إلى‬ ‫ْ‬ ‫ماتت معك‪ ،‬نادمين على‬ ‫مثواك‪ ،‬مستذكرين أيام ًا من الصفاء والنقاء‬ ‫ْ‬ ‫صرخت بهم عالي ًا وهم يحملون‬ ‫فقدانك‪ ،‬مترحمين على روحك‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫نعشك (أوغاد!)‪ .‬فلم يجبني احد منهم‪ ،‬بل استمروا مطأطئين رؤوسهم‪،‬‬ ‫يتقدم الموكب المغادر‬ ‫منكسرة أرواحهم‪ ،‬محزونة قلوبهم والتابوت َّ‬ ‫صوب المقبرة‪ ،‬هناك حيث ستدفن القرية (الهتر)‪.‬‬

‫فور وصول الحشد صوب القبر المخصص َ‬ ‫انتشلت عيناي‬ ‫لك‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫صرة‬ ‫صورتين ماجتا بن الحاضرين‪ ،‬امرأة تبكي بحرقة‪ ،‬وهي تحمل ّ‬ ‫فيها مالبس أطفال‪ ،‬تشير بها َ‬ ‫ورحت أراقب دموعها‬ ‫تركت الجمع‬ ‫إليك‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫لفتت انتباهي صورة رجل‬ ‫التي‬ ‫هبطت على مهل سائحة على خديها‪ .‬ثم ْ‬ ‫ْ‬ ‫آخر ـ اعرفه جيد ًا ـ ٌ‬ ‫سالت جروحه بعد‬ ‫رجل يرتدي مالبس الجبهة‪ ،‬وقد‬ ‫ْ‬ ‫أنكب باكي ًا على َ‬ ‫أن َّ‬ ‫قبرك نائح ًا بشدة‪ .‬استغربت‬ ‫نت جسده الشظايا‪،‬‬ ‫دش ْ‬ ‫َّ‬ ‫‪74‬‬


‫كثيرا!‪ .‬إني اعرفهما جيدا فقد خالطاني وخالطاك قديم ًا‪ ،‬ومازالت‬ ‫صورهما تطوف في فلك خيالي مثل الكواكب‪ .‬لم أسمح الستغرابي‬ ‫أن يمكث طوي ً‬ ‫دت‬ ‫تعم ُ‬ ‫ال‪ ،‬حين تحرك حشد المشيعين عائد ًا إلى القرية‪ّ ،‬‬ ‫البقاء في مكاني ألنظر إلى هذين الباكيين وما قصتهما‪ ،‬وما عالقتهما‬ ‫َ‬ ‫اقتربت منهما مخاطب ًا‪( :‬من أنتما؟)‬ ‫بك أيها المتواري تحت لحافك‪.‬‬ ‫ُ‬

‫حركا جسميهما الهالميين وفي خ َّفة صعدا صوب‬ ‫فلم يجب منهما أحد‪َّ ،‬‬ ‫إليك بالصعود!‪،‬‬ ‫تشابكت يداهما‪،‬‬ ‫السماء وقد‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫استغربت حين أشارا َّ‬ ‫َ‬ ‫عهدتك خفيف الروح‪ ،‬لطيف الحركة‪ ،‬بشوش الوجه‪ ،‬تسارع‬ ‫وأنت كما‬ ‫يخف َ‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫الوزن بأقدام أثيرية‪ ،‬ال أعلم لماذا لم‬ ‫بك‬ ‫في خطوك نحوهما‪،‬‬ ‫تلتفت لصراخي!‪ .‬أومأت إليك كالمجنون طالب ًا َ‬ ‫منك تفسير ما يحدث‪،‬‬ ‫شع النور مبتهج ًا‪ ،‬تعلو ثم تعلو لتعلن‬ ‫لكنك أشحت باسم ًا ورافقتهما ُم َّ‬ ‫أطيافكم الضئيلة اختفائكم بين ذراعي السماء‪ ،‬تارك ًا خل َف َك قبر ًا فاغر‬ ‫غادر عائد ًا‪.‬‬ ‫الفم مدهوش ًا مثلي‪ ،‬وقري ًة‬ ‫ُ‬ ‫سألتحق بحشدها الذي َ‬ ‫*الهتر‪ :‬المخبول الذي فقد صوابه‬

‫‪75‬‬


76


‫((القسم الثاني))‬

‫‪77‬‬


78


‫األضراس‬ ‫باب قلبي‪ ،‬وغادرت دكّ انه‬ ‫دوخني (الصائغ) بعرض طرق بنعومة َ‬ ‫ّ‬ ‫مخير في العمل معي‪ ...‬بال شك‬ ‫ُمق ّلب ًا عباراته التي شتلها في أذني (أنت َّ‬ ‫أحس الصائغ‬ ‫ولما‬ ‫كان من ضمنهم موتى يمتلكون أسنان ًا ُمذهبة؟)‪ّ .‬‬ ‫َّ‬ ‫بعدم قدرتي على الرد وشيك ًا‪ ،‬أمهلني فرصة إلى يوم آخر‪ .‬رحت عائد ًا‬ ‫أحسب عدد الفكوك التي ألقمتها أحجار ًا‪ ،‬في طقوس‬ ‫إلى منزلي وأنا‬ ‫ُ‬ ‫نمارسها نحن الدفَّانون‪ ،‬مشدوه ًا برغبة خالطها القلق‪ .‬لكنني في اليوم‬ ‫التالي‪ ،‬وبعد ليلة اتخمها التفكير؛ذهبت إلى محل الصائغ معلن ًا رضاي‬ ‫بالعمل معه‪ .‬وبعد االتفاق‪ ،‬جلسنا نتحاور بشأن األجر ووقت أول مهمة‬ ‫سأقوم بها‪ ،‬فلم أتردد حين فاجأته هامس ًا «الليلة»‪.‬‬ ‫ليل المقابر في قريتنا ال يشبهه ليل‪ ،‬بالرغم من أن الليل واحد في‬ ‫كل أرجاء القرية‪ ،‬غير أنه هناك أكثر عتمة‪ ،‬وأوقع في النفس‪« .‬القبور‬ ‫قبوري» هكذا ألقمت فم خوفي بحجر الغلظة‪ ،‬وتناسيت رغبة إلغاء‬ ‫تقدمت بحزم صوب قبر مالك مزرعة‬ ‫العملية‪ ،‬تحت نقر شاكوش العوز‪َّ .‬‬ ‫الماشية‪ ،‬الرجل الثري ذي األسنان المذهبة والكرش المنسدل‪ .‬تذكرت‬ ‫يومها كم تعبنا أنا ومن جلبوه في دفنه‪ ،‬حتى أن ّ‬ ‫فكه كان صعب الفتح‬ ‫متصلب ًا‪ ،‬لحظة وضع الحجر في جوفه‪ .‬ساعة كاملة وأنا أحفر على نور‬ ‫‪79‬‬


‫فانوس خفيض‪ ،‬تمالكت فيها أعصابي‪ ،‬وألقيت عندها مرساة فكري‪.‬‬

‫بان لي في تلك اللحظة جسدٌ أخذت منه الضآلة مأخذها‪ .‬أمطت اللثام‬ ‫عن الوجه الذي كان عصي ًا على التمييز‪ .‬فتحت فمه بيسر‪ ،‬ثم خلعت‬ ‫ما أريد خلعه من أضراس ُمذهبة‪ ،‬ثم دفنت الجثة من جديد ألعود إلى‬ ‫منزلي مبتهج ًا‪.‬‬ ‫(مذهل‪)!!...‬هتف الصائغ بعد أن رأى األضراس الالمعة‪ .‬وراح يعد‬

‫المال الكافي لمكافأتي على صنعي‪ .‬أخذت المال وهرعت إلى ما كنت‬ ‫أحلم به في أيام عوزي وفاقتي‪ .‬أأكل واشرب وأضاجع بثمن األضراس‪.‬‬

‫بالرغم من ذلك اإلحساس الفائح بالغثيان‪ ..‬وبعد أيام قالئل‪ ،‬داهمني‬ ‫العوز مرة أخرى‪ .‬وثبت على باب الصائغ الذي لم يفعل شيئ ًا‪ ،‬سوى‬ ‫أنه أشار بيده إلى كرسي أجلسني عليه‪ ،‬وصار يتساءل عن مشروع‬ ‫جديد لنبش قبر آخر‪ .‬لم يستغرق األمر طوي ً‬ ‫ال‪ ،‬أنهيت كالمي معه في‬

‫ُ‬ ‫الرغبة صوب غرفتي‪ ،‬ألتناول عشا ًء‬ ‫تلك الساعة‪ ،‬وتوجهت تدفعني‬ ‫ساعدي في مهمة النبش اآلتية‪ .‬كان‬ ‫دسم ًا‪ ،‬يكفي لسد احتياج عضالت‬ ‫َّ‬ ‫الشخص التالي سيدة كبيرة في منزلتها عند أهل القرية‪ .‬فهي زوجة شيخ‬

‫القرية‪ .‬مازلت أتذكر يوم دفنها كيف أقفلت الحشود باب المقبرة‪ ،‬وكيف‬ ‫أن النساء تجمهرن باكيات‪ ،‬والرجال احتشدوا معزين شيخ القرية‪ .‬مع أن‬ ‫شيخ القرية الذي لحق بها بعد أشهر قليلة‪ ،‬لم يأت إلى جنازته ربع العدد‬

‫ساعدين تعودا الحفر‪ ،‬ولم يفاجئني مشهد‬ ‫السالف‪ .‬لم يطل األمر على‬ ‫ْ‬

‫المكممة والملفوفة كمومياء‪ .‬كشفت اللثام عن وجهها‪ ،‬أخرجت‬ ‫الجثة‬ ‫َّ‬ ‫حجري الذي كان مغروس ًا في فكها‪ ،‬ومن ثم اقتلعت حصتي (ثالثة‬ ‫أضراس ُمذهبة)‪ .‬ثم أرجعت َّ‬ ‫كل شيء إلى مكانه‪ ،‬كأن شيئ ًا لم يكن‪.‬‬ ‫‪80‬‬


‫عد‬ ‫هرعت باكر ًا إلى الصائغ لكي أستلم حصتي‪ .‬وكما هو متفق عليه‪َّ ،‬‬ ‫الصائغ المبلغ‪ ،‬وضرب بخفة على كتفي مهنئ ًا‪( :‬خذ وقتك ‪ ...‬تم َّتع)‪.‬‬ ‫الصباحات في قريتي نسخة مكررة مع تالل من القبور الصامتة‪ .‬مرت أيام‬ ‫لم أر فيها جثة واحدة‪ .‬سبب بقائي مرهون بموت نفس وهذا ما جعلني ُّ‬ ‫أمل‬

‫من أيامي المستنسخة‪ .‬غير أن فكرة تركي لعملي (الدفن) باتت تزعجني‪،‬‬ ‫ماذا أعمل حين اترك هذه المهنة‪ ،‬وبعد أن صار لها طعم ًا آخر لم أتذوقه من‬ ‫قبل‪ ..‬من بعيد الحت جنازة يحملها نفر قليل‪ ،‬فتهللت أساريري‪ ،‬وأزاح‬ ‫منظر التابوت العتمة عن قلبي‪ .‬حين طرح النفر التابوت على األرض‪،‬‬ ‫بدأت استعرض هوايتي التي حفظتها عن ظهر قلب‪ ،‬في ترديد العبارات‪،‬‬ ‫والترحمات‪ ،‬وأشياء أخرى جعلتني أبدوا كناسك‪ ،‬والواقفون مندهشون‬ ‫من تلك الجمل الرنانة الفخمة المليئة بالروحانية والسكينة الغريبة‪».‬رجل‬ ‫علي أقربهم وقد انفجر‬ ‫أم امرأة؟» سألتهم بنبرة تص ّن ُ‬ ‫عت فيها الوقار‪ ،‬فرد َّ‬ ‫باكي ًا‪( :‬رجل ‪ ...‬كان رج ً‬ ‫تمتمت‬ ‫ال كبير ًا لعن اﷲ من قتله)‪».‬فليرحمه اﷲ»‬ ‫ُ‬ ‫ثم باشرت بدفنه‪ ،‬وفي جيبي حجري الذي ألقم به زبائني‪ .‬ومنذ أن باشرت‬ ‫مع الصائغ في اتفاقنا‪ ،‬بدأت أد ِّقق النظر في الفكوك‪ ،‬كي ال يفوتني ضرس‬ ‫ذهب‪ .‬في تلك اللحظة تفجر بركان ذهولي‪ ،‬حين رأيت َّ‬ ‫فك الميت مليئ ًا‬ ‫ُم ّ‬ ‫المذهبة‪ .‬وحين عدت إلى منزلي عقدت العزم على اللحاق‬ ‫باألضراس ُ‬ ‫بالجثة لي ً‬ ‫ال‪ ،‬وأعود غانم ًا بأضراسها إلى الصائغ‪.‬‬ ‫مرت حزمة أيام عشت فيهن أجوا ًء من الرغد والتلذذ بأثمان األضراس‬ ‫السالفة‪ .‬حتى ُأحضرت جنازة امرأة عجوز‪ ،‬كان زوجها موظف ًا حكومي ًا‬ ‫إلي ميتة‪« .‬وجدناها‬ ‫كبير ًا‪ ،‬ثم ظلت وحيدة حتى أتى جمع غفير بها َّ‬

‫رحمها اﷲ مذبوحة في بيتها» قذفت هذه الجملة التي أطلقها احدهم‬ ‫‪81‬‬


‫دب االرتباك في تفاصيلي حتى‬ ‫كعيار ناري القشعريرة في بدني‪ .‬ثم َّ‬ ‫كدت ال أقوى على الدفن‪ .‬وخصوص ًا بعد أن الحظت عدد األضراس‬ ‫المذهبة في فكها!‪ .‬بعد انتهائي من دفنها وتوديع المشيعين‪ .‬جلست أفكر‬ ‫طوي ً‬ ‫الصدف الغريبة!‪ .‬لكنني بعثرت دخان ذهولي بزفير حزمي‬ ‫ال في هذه ُ‬ ‫وعدم اكتراثي‪ .‬حتى تطورت الحوادث في القرية من ساعتها‪ .‬حين ُأشيع‬ ‫عن سفاح يقتل في القرية‪ ،‬والغريب في األمر انه يقتل وال يسرق شيئ ًا‬ ‫من قتيله‪ .‬والشيء الغريب اآلخر الذي لم ينتبه له أحد غيري‪ ،‬أن جميع‬ ‫القتلى يملكون أضراس ًا ُمذهبة!‪ .‬صبرت هذه المرة وفي حوزتي أضراس‬ ‫المرأة المذبوحة‪ ،‬ولم أغادر منزلي‪ ،‬حتى دفعتني الرغبة في العودة بهن‬ ‫للصائغ‪ ،‬متناسي ًا تلك الحوادث ورائي‪ .‬خرجت مخفي ًا أضراس المرأة‬ ‫العجوز في جيبي‪ ،‬صوب دكّ ان الصائغ‪ ،‬وأنا أحلم لحظتئذ بالمال الذي‬ ‫سأكسبه اليوم‪ ،‬وأين سأصرفه؟‪ .‬سوف أقضي الليلة منتشي ًا بما كسبته‪.‬‬ ‫فنبش القبور بحث ًا عن جثث ثمينة‪ ،‬تراءى لي أفضل بعشرة أضعاف من‬ ‫دفنها‪ .‬لكنني حين وصلت إلى دكّ ان الصائغ‪ ،‬رأيته من بعيد وهو يوشوش‬ ‫في أذن رجل غريب يرتدي ثوب ًا أسود‪ ،‬وعلى خده األيمن نزلت ندبة‬ ‫طويلة‪ ،‬كأنها ضربة سكين ملتئمة‪ .‬كان وجهه وهيئته يخيفان أي شخص‬ ‫يراهما‪ ..‬انتظرت طوي ً‬ ‫ال خارج الدكّ ان أراقبهما بحذر‪ ،‬حتى وقف‬ ‫االثنان‪ ،‬وقد تهيأ الرجل المخيف للمغادرة‪ .‬ضرب الصائغ على كتفه‬ ‫دلفت إلى محل الصياغة‪ ،‬وقد كان دخولي مع خروج ضيف‬ ‫بخ ّفة‪ .‬ثم‬ ‫ُ‬ ‫دسه في جيبه‪..‬‬ ‫الصائغ‪ ،‬الذي لمحته بطرف عيني ُّ‬ ‫يعد مبلغ ًا من المال‪ ،‬ثم َّ‬ ‫رأيت في عينيه أحساس ًا بالنشوة‪ ،‬ذلك اإلحساس الذي يداهمني كلما‬ ‫خرجت من دكّ ان الصائغ!‪.‬‬ ‫‪82‬‬


‫التضاؤل‬ ‫أستيقظ (وديع) من نومه وكأنه لم ينم لساعات طويلة‪ ،‬فقد كان‬ ‫التعب مستوطن ًا في مناطق متفرقة في جسده‪ ،‬وما أن استقرت الصورة‬ ‫حوله‪ ،‬حتى قفزت إلى رأسه صورة زوجته وصوتها اللذين لم يقو على‬ ‫مجاراتهما‪ ،‬بعد عراك طويل في الليلة الماضية‪ .‬أنتبه إلى صوت زوجته‬ ‫في المطبخ‪( :‬قم أيها الكسول‪ ...‬ينتظرك عمل شاق‪ ...‬حاول أن تغتسل‬ ‫بصورة أفضل‪ ،‬فزنخ األصباغ عالق بك منذ البارحة)‪ .‬ثوان مرت ووديع‬ ‫يفكر في المشهد ذاته‪ ،‬زوجته التي تعمل أستاذة في علم (البيولوجيا)‪،‬‬ ‫تجهز الفطور لتخرج مسرعة إلى الجامعة‪ ،‬توبخ زوجها أستاذ الرسم‬ ‫الذي ترك وظيفته ليتفرغ للوحاته‪ ،‬متهكمة من ولهه بالفن– كما تقولـ أنه‬ ‫هرول وراء أشياء ستنتهي به إلى الفقر أو الجنون‪.‬‬ ‫مرر كفيه على رأسه فارك ًا‪ ،‬ثم نهض من فراشه متوجها نحو الحمام‪ ،‬بعد‬ ‫َّ‬ ‫أن لبس نعله المركون‪ .‬خرجت من فمه صرخة تعجب‪ ،‬أثارت الفضول في‬ ‫قلب زوجته التي مدت عنقها‪ ،‬لترى زوجها ينظر إلى النعل‪ ،‬وهو يشير بيديه‬ ‫هاتف ًا‪( :‬لقد َك ُب َر نعلي!)‪ .‬لم تفهم زوجته العبارة قائلة من دون اهتمام (تفاهة‬

‫أخرى‪..‬؟)‪ .‬لكن الرجل أقسم لها أن النعل قد َك ُب َر‪ ،‬وأن ُر ْدنا القميص قد‬ ‫طاال أيضا‪ ،‬وسرواله صار يسحل طرفاه من الطول‪ .‬أنهت الزوجة فطورها‪،‬‬ ‫‪83‬‬


‫وخرجت حاملة حقيبة أوراقها ومحاضراتها صوب الجامعة‪ ،‬تاركة وراءها‬ ‫زوجها‪ ،‬الذي رجع إلى غرفته متلفع ًا بالصمت‪ .‬أخرج وديع جميع مالبسه‪،‬‬ ‫ثم الحظ أن المالبس جميعها قد كبرت‪ ،‬إلاَّ بذلة العمل التي يلبسها في‬ ‫مشغله حين يرسم‪ .‬حينها فكر من جديد‪ ،‬وقال في نفسه مندهش ًا‪( :‬هل‬ ‫المالبس كبرت‪ ،‬أم حجمي الذي تضاءل؟!)‪.‬‬ ‫في الليل حين اجتمع وديع بزوجته مرة أخرى‪ ،‬أطلق عيار الحديث‬ ‫حين ذكّ رها بحادثة الصباح‪ .‬ردت عليه زوجته بنبرة مشحونة باالنتصار‪،‬‬ ‫تعلن فيها صواب رأيها فيه دائم ًا‪ .‬ثم عادت لترديد عبارات تعود على‬ ‫سماعها وديع مثل (أنت رجل متكاسل) و (هذه نهاية العزلة والشخبطة)‪،‬‬ ‫فرد عليها بصوت مبحوح بعد أن أحمرت عيناه ‪( :‬حالتي أفضل من‬ ‫حالة امرأة تعيش مع األوبئة‪ ...‬حماقة كبيرة أن يعيش المرء بين مجاهر‬ ‫وعينات)‪ .‬تشاجرا من جديد‪ ،‬لعنته ولعنها‪ ،‬ثم دلفت إلى غرفة بحوثها‬ ‫ّ‬ ‫المكتظة بالعينات والمجاهر والميكروبات‪ .‬وهو دخل إلى غرفته ليقفل‬ ‫ٍ‬ ‫ُرسم بعد‪.‬‬ ‫النور وينام بعد أن تذكر أن وراءه غد ًا مشاريع لوحات لم ت َ‬ ‫في اليوم التالي نهض (وديع) من فراشه ليجد زوجته قد غادرت البيت‬ ‫مبكرة‪ .‬أحس بالدوار حين تراءت له الغرفة كبيرة كسفينة والسرير كساحة‪.‬‬ ‫نهض على مهله‪ ،‬أراد أن تصل رجاله إلى األرض فلم تقدرا‪ .‬حينها‬ ‫عاين المنظر فوجد أن المسافة بين رجليه واألرض تبعد ثالثة أضعاف‬ ‫المسافة‪ .‬أطال النظر في أشعة الشمس المتسللة‪ ،‬والتي بدورها أثبتت له‬ ‫بالدليل القاطع‪ ،‬أنه لم يكن في حلم‪ .‬تسلق على الشرشف ونزل بصعوبة‬ ‫إلى األرض‪ ،‬راكض ًا صوب كومة المالبس‪ .‬فتبين أن مالبسه صارت‬ ‫كمالبس عمالق‪ .‬لم توافق بدنه في تلك اللحظة سوى بذلة العمل‪.‬‬ ‫‪84‬‬


‫هرول صوب الباب خارج ًا نحو الصالة‪ ،‬كان كل ما يحيطه اكبر حجم ًا‬ ‫من السابق‪ .‬فأضطر إلى عدم المغادرة في ذلك الصباح منتظر ًا زوجته‪.‬‬ ‫بعد ساعات من الريبة والقلق القاتل‪ .‬دخلت زوجته إلى المنزل‪ .‬طالعته‬ ‫منزوي ًا في إحدى زوايا الصالة‪ ،‬فهدرت من فمها ضحكة عالية‪ ،‬عالية‬ ‫جد ًا أزعجت أذنيه الصغيرتين اللتين بدتا تتحسسان األصوات بتركيز‬ ‫أكبر‪ .‬كانت تضحك وسبابتها تمتد نحوه منتصرة‪ .‬حملته كطفل وأقعدته‬ ‫على السرير‪ ،‬وهو يطالعها تغير مالبسها‪ ،‬فرمت عليه سترتها التي خنقته‬ ‫بحجمها السميك‪ ،‬سامع ًا من وراء مسامات السترة صوت زوجته الهادر‬ ‫بالضحك‪ ،‬والمغادر شيئ ًا فشيئ ًا فضاء الغرفة صوب الصالة‪ .‬في المساء‬ ‫لم يجد (وديع) ثوب ًا يلبسه غير بذلة العمل المبقعة باأللوان الخاصة به‪،‬‬ ‫مستعين ًا على برودة الجو‪ .‬تجدد تهكم زوجته به من جديد‪ ،‬فانفجر هذه‬ ‫المرة صارخ ًا‪ ،‬بصوت يشبه صوت الرضيع حين يبكي‪ .‬فردت عليه‬ ‫ُصر على‬ ‫زوجته بقرصة أذن قاسية وهمست فيها‪( :‬حتى وأنت قزم ت ُّ‬ ‫عنادك)‪ .‬عاش تلك الليلة كئيب ًا‪ ،‬وزاد حزنه حين وضعته زوجته في سرير‬ ‫تدخره لطفل لم يأت‪.‬‬ ‫صغير للرضع‪ ،‬كانت َّ‬

‫في الصباح تفاجأ حين جلس من نومه‪ ،‬وقد وجد نفسه نائم ًا على‬ ‫سطح المع بارد‪ .‬صرخ مذهوال حين رأى عين ًا كبيرة في أنبوب موجه‬ ‫نحوه تطالعه من األعلى‪ .‬اختفت العين‪ ،‬وظهرت من وراء األنبوب‬ ‫زوجته مبتسمة‪ .‬همست فيه موضحة أنها وضعته على قطعة زجاجية‬ ‫مختبرية‪ ،‬في مجهرها داخل غرفة األبحاث الخاصة بها‪ .‬لقد صار حجم‬ ‫(وديع) صغير ًا جدا‪ ،‬لدرجة انعدام رؤيته بالعين المجردة‪ .‬قبل أن تخرج‬ ‫زوجته إلى الجامعة‪ ،‬رمت نحوه بكائن مجهري غريب‪ ،‬بدا كأنه قطعة‬ ‫‪85‬‬


‫هالم لزجة‪ ..‬همست‪( :‬هذا غذاؤك‪ ،‬كل فأنت بحاجة إلى غذاء كي ال‬ ‫يتضاءل حجمك أكثر)‪ .‬بعد سويعات وحين عادت الزوجة من عملها‪،‬‬ ‫وجدت زوجها يرقد ملتحف ًا ذراعه‪ ،‬وقد ذبل وجهه‪ .‬أيقظته بنقرات على‬ ‫الزجاجة أفزعته من نومه‪ .‬بدأ يلوح للعين التي تطالعه في عدسة المجهر‪.‬‬ ‫أراد التكلم معها‪ ،‬لكن زوجته لم تستطع سماعه‪ ،‬ثم تركته بعد أن أغلقت‬ ‫ضوء المجهر والغرفة‪ ،‬وقد َّ‬ ‫غط فضاء الغرفة بظالم دامس‪.‬‬

‫في صباح اليوم التالي‪ ،‬نهضت الزوجة من نومها‪ ،‬جهزت الفطور‪،‬‬ ‫تناولته برفقة صوت مذيع األخبار‪ ،‬وهي تفكر في زوجها الراقد في غرفة‬ ‫األبحاث‪ .‬نظرت إلى باب الغرفة طوي ً‬ ‫ال قبل أن تقرر الدخول‪ .‬نهضت‬ ‫صوبها لترى ماذا حل بزوجها الراقد هناك‪ .‬أضاءت المجهر‪ ،‬ودست‬ ‫عينها في عدسته‪ ،‬لم تشاهد شيئ ًا سوى الكائن المجهري المقطع‪..‬‬ ‫أطفأت مجهرها‪ ،‬تناولت حقيبة أوراقها الجامعية‪ .‬خرجت من المنزل‬ ‫وهي تفكر في محاضرتها األولى لهذا اليوم‪.‬‬

‫‪86‬‬


‫الصبار‬ ‫ّ‬ ‫(صبار) صغيرة‪ ،‬من مشتل مملوء‬ ‫لم تؤنسها فكر ُة شراء زوجها شتل َة ّ‬ ‫بأنواع شتى من األزاهير والورود‪ .‬وحين تضايقت غمغم زوجها‪ ،‬و‬ ‫وصفها بـ (المرأة الغريبة األطوار)‪ ،‬التي ال تفقه معنى الجمال‪ .‬صارت‬ ‫تطالع زوجها من خالل النافذة المطلة على الحديقة الصغيرة‪ ،‬وهو‬ ‫يقتطع جزء ًا من وقته‪ ،‬لرعاية الشتلة والنظر أليها‪ .‬بالرغم من شكلها‬ ‫األسطواني الشاحب‪ ،‬وفروعها المكتظة باإلبر‪ .‬زوجها الذي أثبت العلم‬ ‫والفحوصات عقمه‪ ،‬يهرول صباح ًا إلى عمله‪ ،‬وحين يخرج إلى باحة‬ ‫للصبار‪ ،‬متفقد ًا شكلها قبل خروجه‪ .‬وحين يعود‬ ‫المنزل‪ ،‬يقف ناظر ًا‬ ‫ّ‬ ‫يقف الوقفة ذاتها مستغرق ًا الوقت‪ ،‬وكأنه يحييها‪ ،‬يلقي عليها السالم‬ ‫محببة إلى نفسه!‪ .‬ذات يوم وكالعادة‪ ،‬نهضت الزوجة‬ ‫بقدسية ودهشة َّ‬ ‫من نومها‪ ،‬لترى من دون دهشة مكان زوجها على السرير ٍ‬ ‫خال‪ ،‬ومن‬ ‫ثم تجول عيناها على طاولة المطبخ‪ ،‬متفقدة آثار جلسته‪ ،‬وبقايا طعام‬ ‫الفطور‪ ،‬على صحن يقبع وحيد ًا على الطاولة‪ .‬أخرجت من صدرها‬ ‫كمية كبيرة من الزفير‪ ،‬مصحوب ًا بـ (أيه)‪ ،‬وجلست تجدول في رأسها‬ ‫الوقت والمشوار اليومي في المنزل‪ .‬تأخر الزوج هذه الليلة‪ ،‬حيث‬ ‫تصبر نفسها على تأخره ببرنامج تلفزيوني‪ ،‬أو حكاية‬ ‫جلست الزوجة ّ‬ ‫‪87‬‬


‫قديمة أنعشت ذاكرتها‪ ،‬أو خطة مستقبلية تأتي بشكل عشوائي وترحل‬ ‫في الوقت ذاته‪ .‬لفت انتباهها شيء يتحرك ظله أمامها‪ ،‬بجسم متطفل‬ ‫عبر النافذة المطلة على الحديقة!‪ .‬أدارت رأسها بسرعة‪ ،‬لترى رأس ًا‪،‬‬ ‫(الصبار‪ )...‬صرخت بهلع سقط في قلبها كالشالل‪.‬‬ ‫مدبب ًا مليئ ًا باإلبر‪ّ .‬‬ ‫شتلة الصبار كسرت النافذة وقد طالت وازدادت غلظة‪ ،‬وتناثرت واإلبر‬ ‫حولها كالنِصال‪ .‬اقتحمت شجرة الصبار سكون المكان‪ ،‬وهي تلتف‬ ‫على الجدران‪ ،‬مقتفية أثر الزوجة‪ ،‬التي هرولت إلى جوف المنزل‪ ،‬وهي‬ ‫تصرخ مستغيثة‪ .‬شجرة الصبار لم يوهنها الصراخ‪ ،‬بل اشتدت حزم ًا‪،‬‬ ‫وتقدمت زاحفة على الجدار‪ ،‬األرضية‪ ،‬الطاولة‪ ،‬تتقدم ببطء وهي واثقة‬ ‫أن الزوجة لن تفر من قبضتها‪ .‬كررت الزوجة الصراخ‪ ،‬حين اجتهدت في‬ ‫رفع صوتها‪ ،‬لعل منقذ ًا يهبط عليها في تلك اللحظة‪ ..‬الزوجة ركضت‬ ‫وتوارت عن أنظار شتلة الصبار الزاحفة إلى الصالة‪ .‬تمتمت الزوجة‬ ‫بكلمات اشبه بهلوسة محموم‪ ،‬لكن رشقة إبر متفرقة في فضاء الصالة‪،‬‬ ‫كانت كفيلة بإيقاظها‪ ،‬فقد توزعت اإلبر على الجدران‪ ،‬وطالت البعض‬ ‫منها (اإلبر) جسم الزوجة‪ .‬صرخت عالي ًا صراخ ًا خالطته نوبة هستيرية‬ ‫من البكاء‪( :‬أرجوك‪ ...‬اتركيني)‪ .‬زحفت شجرة الصبار العمالقة‪ ،‬حيث‬ ‫مألت المنزل‪ ،‬بفروعها‪ ،‬أشواكها‪ ،‬نفثت من صمغها اللزج في أركان‬ ‫المنزل‪ ،‬وتسللت أصابعها المسورة بالشوك إلى الغرف‪ .‬و بعد أن هيمنت‬ ‫على المنزل‪ ،‬اقتربت صوب الزوجة‪ ،‬التي غ ّلقت عينيها بشدة‪ ،‬وارتجفت‬ ‫أعضاؤها مرعوبة‪ ،‬ولم يفصل بينها وبين شجرة الصبار غير سنتيمترات‬ ‫الصبار‪ ،‬بعد أن تقيأت صمغها على رأس‬ ‫قليلة‪ ،‬تحسست الزوجة رائحة ّ‬ ‫الزوجة‪ ،‬وسال على أكتافها وجسمها بالكامل‪ ،‬فصارت كشرنقة يكسوها‬ ‫‪88‬‬


‫صمغ لزج‪ ،‬يميل لونه إلى الصفرة‪ ،‬كان وثاقها وسلسلة قيدها الهالمية‪.‬‬ ‫فمها لم يعد قادر ًا على الصراخ!‪ .‬تشجعت من جديد‪ ،‬وأقدمت على‬ ‫محاولة أخيرة للصراخ‪ ،‬الصراخ فقط كل ما تملكه تلك المرأة المكبلة‬ ‫بالصمغ‪ .‬صرخت عالي ًا‪ ،‬وهي تماطل كمية الصمغ التي كستها‪ ،‬صرخت‬ ‫أحست بنور‬ ‫عالي ًا‪ ،‬تدفق الصراخ من جوفها كالبركان‪ .‬في تلك اللحظة‪ّ ،‬‬ ‫عبر حاجز جفنها المغلق‪ ،‬منتشر في فضاء الصالة‪ .‬فتحت جفنيها على‬ ‫الصبار‪.‬‬ ‫مهل‪ ،‬تفاجأت حين لم تعثر على أثر الصمغ واإلبر وشجرة‬ ‫ّ‬ ‫نهضت على مهل لتطالع مندهشة زوجها‪ ...‬زوجها الذي عاد إلى‬ ‫المنزل‪ .‬كان واقف ًا قرب الباب يطالع زوجته‪ ،‬ثم هتف بجملة مليئة باإلبر‪:‬‬ ‫لك ِ‬ ‫(ألم أقل ِ‬ ‫أنك امرأة غريبة األطوار؟)‪.‬‬

‫‪89‬‬


‫التوأم‬ ‫في المدن المكتظة تحدث الغرائب بين ساعة وأخرى‪ ،‬فتضيع مع‬ ‫الضوضاء والزحام‪ .‬لكن الغرابة التي حدثت في تلك المدينة‪ ،‬كانت‬ ‫مختلفة وتناقلتها األلسن ودارت حولها الحكايات واألخبار‪ .‬حين‬ ‫أفاقت المدينة على خبر والدة توأم برأسين‪ .‬أنتقل الخبر من صالة‬ ‫العمليات‪ ،‬إلى الممر ثم إلى ساحة المستشفى ثم إلى الشارع والمدينة‪.‬‬ ‫فكي الطلق ساعتها‪ ،‬لم يهتم األطباء والممرضات‪،‬‬ ‫ولما ماتت األم بين ّ‬ ‫بل هرولوا بالتوأم صوب مكان خاص‪ ..‬أحاطت المدينة التوأم برعاية‬ ‫فائقة‪ .‬رأس أيمن ورأس أيسر‪ ،‬وجسد واحد‪ ،‬يشربان الحليب بفمين‬ ‫ويلفظان المخلفات بشرج وقضيب‪ .‬مع انحياز واضح في اليد اليمنى‬ ‫للرأس األيمن‪ ،‬وانحياز في اليد اليسرى للرأس األيسر‪ .‬والساقان‬ ‫كذلك‪ .‬في سنتهما األولى‪ ،‬انتبهت المربية كيف أنهما تصارعا في وجهة‬ ‫مشيهما‪ ،‬حين رغب الرأس األيمن في المسير إلى اليمن‪ ،‬بينما رفض‬ ‫الرأس األيسر الذهاب‪ .‬فاختلفت الساقان‪ ،‬وتعثرتا‪ ،‬فوقع الجسد الواحد‬ ‫بهما على األرض وضجا بالبكاء‪ .‬مرت بهما فترة المراهقة‪ ،‬في تلك‬ ‫الفترة اكتشفا لذة الذكورة‪ ،‬فدب الصراع من جديد‪ .‬الرأس األيمن يريد‬ ‫منيه على صورة في مخيلته‪ ،‬والرأس األيسر عنده صورة أخرى‪.‬‬ ‫إفراغ ّ‬ ‫‪90‬‬


‫الصراع داخلي‪ ،‬حين يحزن رأس ويفرح رأس‪ ،‬يحدث شيء أشبه‬ ‫بـ(التماس الكهربائي) في جسدهما‪ .‬فهو (الجسد) ال يحتمل صراعهما‬ ‫الدائب على التكرار‪ .‬في إحدى المرات وحين كانا يشاهدان مباراة في‬ ‫كرة القدم‪ ،‬تفجر الصراع من جديد‪ ،‬حين شجع األيمن فريق ًا وشجع‬ ‫األيسر فريق ًا آخر‪ .‬اشتدت وتيرة المباراة‪ ،‬فارتفع الصراخ‪ ،‬وتهاوت‬ ‫الشتائم‪ .‬والجسد مشحون بالصدمات والخالف والصراخ‪( .‬القلب‬ ‫الواحد ال يكفي في جسد يملك عقلين) هكذا أعلن الرأس األيمن‪،‬‬ ‫حين وصل عمرهما إلى مرحلة االنتخاب‪ ،‬وحين ذهبا إلى ((االقتراع))‪،‬‬ ‫فاجأهما موظفو االقتراع بأن إصبع ًا واحد ًا هو الذي يحبر‪ ،‬ورأس ًا واحد ًا‬ ‫هو الذي يختار‪ .‬فتفجر الخالف واحتدم الصراع في القاعة‪ ،‬حيث اجتمع‬ ‫الناس ينظرون إلى رأسين بجسد واحد‪ ،‬يتقاذفان الشتائم والبصاق‪ ،‬مع‬ ‫أن المسافة بين رأس ورأس ال تزيد عن (مليمترات) قليلة‪ ،‬وخرجا من‬ ‫القاعة دون أن ينتخبا‪ .‬تستمر األيام وبينما هما جالسان على األريكة‬ ‫في شقتهما‪ .‬فجر الرأس األيسر مفاجأة حين فاتح أخاه األيمن ‪( :‬لقد‬ ‫أحببت فتاة وانوي االرتباط بها)‪ .‬سأله الرأس األيمن عن اسم الفتاة‬ ‫وهويتها‪ ،‬أجابه األول باسمها وهويتها ومكانها‪ُ .‬ص ِعقَ الرأسان حين لم‬ ‫يحسا في تلك اللحظة بشحنة الكهرباء التي تداهمهما حين يختلفان‪.‬‬ ‫فعرفا حينها أنهما اتفقا على حب فتاة واحدة‪ ،‬حين اعترف األيمن بذلك‬ ‫الحب والفتاة ذاتها‪ .‬نظرا إلى بعض بخوف وقلق‪ ،‬فتفجر الصراع هذه‬ ‫المرة على شيء واحد‪ ،‬وهو صراع مرير‪ ،‬مخيف‪ ،‬أشد هيجان ًا من تلك‬ ‫الصراعات‪ .‬أمر الرأس األيمن الذراع اليمنى بضرب الرأس األيسر‪،‬‬ ‫بادله األخير بلكمة من اليد اليسرى‪ .‬تماطال وخنق كل واحد اآلخر‬ ‫‪91‬‬


‫بعنف‪ ،‬حتى وقعت في يد الرأس األيمن قطعة معدنية فضرب بها رأس‬ ‫أخيه بقوة‪ .‬نظر الرأس األيمن إلى أخيه خائف ًا‪ .‬ثم جس نبضه حين اكتسح‬ ‫الفتور جهة الجسد اليسرى بالكامل‪ُ .‬ذ ِع َر الرأس األيمن بعد أن اكتشف‬ ‫موت أخيه‪ .‬جلس على األرض منهوك ًا من التعب‪ ،‬وراح يضرب على‬ ‫الرأس الميت بضربات خفيفة ثم قوية على الخدين متمني ًا إفاقته‪ ،‬ولكن‬ ‫بال جدوى‪ .‬هجمت األفكار على الرأس األيمن كسيل عارم‪ .‬أطفأ النور‬ ‫ليلتها لكي يفكر بالظالم من دون أن يرى رأس أخيه متدل جانب رأسه‪.‬‬ ‫مذعور ًا من موجة الفتور والخدر التي تسللت إلى الضفة اليمنى‪.‬‬

‫‪92‬‬


‫مرايا‬ ‫مر الوقت كالسهم وهو يطالع صورته المطبوعة على المرآة‪ .‬الشيء‬ ‫َّ‬ ‫تهكم الناس وسخريتهم من شكله‬ ‫الوحيد الذي كان يضج في رأسه‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ال ويرونه قبيح ًا‪ ،‬يراه أنيق ًا ويرونه مبتذ ً‬ ‫وهيئته‪ .‬كان يرى شكله جمي ً‬ ‫ال‪.‬‬ ‫كانت المرآة صقيلة‪ ،‬ناصعة‪ ،‬النمش فيها وال بثور يعكران صفوها و‬ ‫انعكاس الصورة فيها‪ .‬جاهد على شرائها بثمن غال‪ .‬ووضعها في أكثر‬ ‫األماكن قرب ًا له في غرفته الصغيرة‪ .‬ولم يعكر مزاجه غير تلك القهقهة‬ ‫التي تفلت من أفواه الناس كلما صادفوه‪ .‬حتى نخر الشك قلبه متسائ ً‬ ‫ال‬ ‫في نفسه (هل خدعني صانع المرايا؟ وباعني مرآة تعكس صورة غير‬ ‫صورتي؟!‪ .‬أم الناس حولي غاروا ومأل قلوبهم الحسد؟)‪ .‬لم يصبر على‬ ‫ال أمام المرآة‪ .‬خرج من المنزل متوس ً‬ ‫المكوث طوي ً‬ ‫ال بساقيه أن تعيناه على‬ ‫المسير‪ ،‬متحاشي ًا أهل البلدة الذين يفاجؤوه بهمساتهم الباسمة‪ ،‬ونكهة‬ ‫سخرية وإيماءات ُه ْزء‪ .‬واصل مسيره بال تحديد لوجهة ما‪ ،‬ثم توقف‬ ‫عند النهر‪ ...‬طالع بحزن موجات النهر المسافرة‪ ،‬يتدافعن كأنهن فتيات‬ ‫مليحات بغنج وحبور‪َّ .‬‬ ‫ركز في النهر بد ّقة كبيرة‪ ،‬حتى تهللت أساريره‬ ‫وهو يرى صورته المعكوسة على صدر النهر‪ .‬كانت لطيفة شفيفة‪،‬‬ ‫بل كانت أجمل من صورته التي عكستها مرآته الثمينة‪( .‬أيها النهر‪...‬‬ ‫‪93‬‬


‫ياغاسل الوجوه من الدرن ‪ ...‬امنحني حصاتي التي أودعتها أمانة لديك‬ ‫حين كنت طف ً‬ ‫ُ‬ ‫النهر‪ ،‬لتخرج بعد لحظات‬ ‫الرجل‬ ‫ال ‪)...‬هكذا خاطب‬ ‫َ‬ ‫حصاة صغيرة ملساء‪ ،‬كانت تحملها كف موجة بان على وجهها صفاء‬ ‫زاللي‪ .‬حملها الرجل وهرول صوب نقطة عالية‪ ،‬لتضاريس تشرف على‬ ‫البلدة من علو شاهق‪ .‬صعد بالهرولة وتسلق وتشبث حتى بلغ تلك القمة‬ ‫بجهد عسير‪ .‬بانت له البلدة من فوق كأنها صينية ُرصفت فيها الشوارع‬ ‫والمنازل واألسواق‪ .‬قذف تلك الحصاة على البلدة وضحك‪ ...‬ضحك‬ ‫بشدة وهو يطالع البلدة وقد ت ّ‬ ‫صوت تكس ٍر مأل الفضاء‪.‬‬ ‫َشظت‪ ،‬محدثة‬ ‫َ‬

‫‪94‬‬


‫موعد‬ ‫هرب التيار الكهربائي من الغرفة‪ ،‬غطت تفاصيلها في غيبوبة ضوئية‬ ‫عتيمة‪ .‬لكن رب األسرة باشر عائلته بنداء أشاع الطمأنينة في قلوبهم‪ .‬وصار‬ ‫الواحد منهم يتعرف على اآلخر من صوته‪ .‬عال صوت الطفل األصغر‬ ‫الرضيع باكي ًا‪ ،‬فباغتت البنت الوسط أباها قبل أن يسرق انتباهه الرضيع‬ ‫هاتفة‪( :‬أبي المعلمة طالبتني بنشرة مدرسية أنا وصديقاتي)‪ .‬فأجابها األب‪:‬‬ ‫(لك هذا يا نور عيني)‪ .‬االبن األكبر استغل الفرصة مطالب ًا بحصته‪( :‬أبي‬ ‫أين ما وعدتني به حين أنجح في امتحاني؟‪ .‬لقد وعدتني بساعة يدوية‬ ‫تزين معصمي)‪ .‬فأذعن األب موفي ًا بوعده مع اعتذار‪ .‬الزوجة وهي تهود‬ ‫رضيعها نبهت زوجها‪( :‬عزيزي غد ًا بال شك سوف نعيد ترتيب الحاجيات‬ ‫مع قليل من الخضروات‪ ،‬وعلبة حليب للرضيع)‪ .‬فرد رب األسرة بالقبول‪،‬‬ ‫رغبت‪ .‬األصوات تتدفق صوب أذني‬ ‫وأنه سيذهب غد ًا إلى التسوق كما‬ ‫ْ‬ ‫رب األسرة‪ .‬الرضيع استمر باكي ًا مطالب ًا بحصته (الحليب)‪ .‬البنت تغني‬ ‫نشيد ًا خافت حفظته مؤخر ًا‪ ،‬الولد يحلم بساعته الجديدة‪ .‬الزوجة تتأفف‬ ‫لطول فترة انقطاع الضوء وكآبة العتمة‪ .‬رجع الضوء أخير ًا‪ ،‬وحين دلك‬ ‫رب األسرة عينيه‪ ،‬لم يجد أسرته حوله!‪ .‬انقشع غبش الرؤية رويد ًا رويد ًا‪،‬‬ ‫اطرق برأسه حزين ًا‪ ،‬منكسر ًا‪ ،‬حين تنحنح (الجدار) م ِ‬ ‫ذكر ًا إياه بموعد تعليق‬ ‫ُ ُ‬ ‫ْ َ‬ ‫صورة كبيرة ألربعة راحلين‪.‬‬ ‫‪95‬‬


‫الطعنة‬ ‫من يعرف وقت حدوثها وسببها غيري؟ كتمت سرها وأخفيت‬ ‫تفاصيل قصتها عن العالم كله‪ ،‬بالرغم من ألمها الذي كان في البدء‬ ‫قدمي‪ .‬أما اآلن فقد‬ ‫متوزع ًا على أطراف جسمي‪ ،‬من رأسي وحتى‬ ‫ّ‬ ‫صار محيط ًا بمكان النصل ال غير‪ .‬في بعض األحيان أشعر بوخزة في‬ ‫خاصرتي‪ ،‬أعرف حينها وبعد إنفالت النوم من عيني‪ ،‬أنني كنت نائما‬ ‫على طعنتي‪ .‬هكذا اسميها‪ ...‬طعنتي‪ .‬لقد صارت من ضمن أشيائي‪ ،‬بل‬ ‫صارت لي معها ذكريات بالرغم من حزنها‪ ،‬ولكنها مع تعتيق الزمن لها‬ ‫صارت أكثر عذوبة من أفراح جديدة ُمعلبة‪ .‬قال أبي أصبت وأنا طفل‬ ‫أثناء الوالدة‪ ،‬حين أنغرزت إبرة تحملها ممرضة في خاصرتي‪ ،‬ثم كبرت‬ ‫وكبرت اإلبرة معي وصارت نص ً‬ ‫ال يافع ًا‪ .‬أمي تنكر هذه الرواية‪ ،‬فقد‬ ‫كانت تقول أن النصل في األصل زنجار لحديدة عتيقة ترسب في لحمي‪،‬‬ ‫مربوطة بها قطعة زرقاء ذات عيون خمس لحمايتي من الحسد‪ .‬وبالرغم‬ ‫من إختالف الروايات بين أبي وأمي‪ ،‬فلم يكونا متأكدين من تأريخ‬ ‫النصل ووجوده في خاصرتي‪ .‬فهما يخمنان فحسب‪ .‬أنا الوحيد الذي‬ ‫كنت أعرف وأخفيت الحقيقة ولم أعلنها‪ .‬ذات ليلة من ليالي الطفولة‪،‬‬ ‫حلمت كما يحلم البشر‪ ،‬معركة تدور في العصور الوسطى‪ ،‬وكنت أنا‬ ‫‪96‬‬


‫قائد ًا لهذه المعركة‪ ،‬بح صوتي من الصراخ الهائج فيها‪ ،‬وتعبت عضالتي‬ ‫من حمل سيف ثقيل صبغته الدماء‪ .‬حلمت كما يحلم البشر‪ ...‬أنني‬ ‫قائد قوي شجاع أصارع التنانين‪ ،‬وأهزم الغيالن والوحوش‪ ،‬وأصارع‬ ‫لوحدي جيش ًا من البرابرة‪ .‬وحين صحوت من نومي في تلك الليلة‬ ‫الهثا مبلال بالعرق والدم‪ .‬تحسست ألم الطعنة والقطعة المعدنية التي‬ ‫سببتها‪ .‬ومنذ ذلك الحين وأنا أحمل نصال في خاصرتي‪ .‬كانت مدرستي‬ ‫االبتدائية توبخني لجنوني وكثرة تحركي على الرحلة ومضايقة التالميذ‬ ‫حين يجلسون إلى جنبي‪ .‬فكنت أقول في نفسي أنه النصل اللعين ‪...‬‬ ‫كل هذا بسببه‪ .‬صرت شاب ًا‪ ،‬أحببت فتاة لم تحبني قط‪ ،‬وحين صارحتها‬ ‫بكل شجاعتي قالت متهكمة (لك مشية غريبة‪ ،‬كأنها مشية كلب أعرج)‪.‬‬ ‫ففهمت وقتها أن النساء تعشق رجا ً‬ ‫ال بال طعنات مخفية تجبرهم على‬ ‫مشية سخيفة كمشيتي‪ .‬تزوجت امرأة عمياء‪ ،‬كان خيار ًا جيدا حين‬ ‫أحدثها فتسمعني وال ترى مني شيئ ًا‪ .‬الشيء الوحيد الذي كان يزعجها‬ ‫ألمي وتأوهاتي في الفراش لي ً‬ ‫ال‪ ،‬فقد كان سمعها قوي ًا‪ ،‬وصوتها أقوى‪.‬‬ ‫تعوض فقدانها لنظرها بصوت كالسوط على ظهر أوقاتي‪ .‬وبعد فترة‬ ‫طويلة من زواجي صرت اكثر تعب ًا وتقويس ًا‪ ،‬وصرت ال أمشي إال ويدي‬ ‫موضوعة على طعنتي‪ .‬وأتوقف بين الحين والحين في كالمي إلسترداد‬ ‫أنفاسي‪ .‬صار عندي أطفال‪ ،‬كبروا صاروا رجا ً‬ ‫ال‪ ،‬فكانت طعناتهم أشد‬ ‫علي حين فهمت أنهم يستنكفون مني‪ ،‬فلم أستطع إفهامهم أن ال ذنب‬ ‫ّ‬ ‫لي سوى أنني حلمت كما يحلم البشر‪ ،‬وليتني لم أحلم‪ .‬زاد ألم الطعنة‬ ‫تلك‪ ،‬فأوقفني عن كل عمل أقوم به‪ ،‬تضاءل جسمي وقلت حيلتي وبات‬ ‫رزقي شحيح ًا‪ .‬والليلة قررت‪ ...‬ما بدأ في تلك الليلة سينتهي في هذه‬ ‫‪97‬‬


‫الليلة وعلى يدي‪ .‬أنا السبب وأنا من سينهي كل هذا األلم‪ .‬أنا اآلن أجهز‬ ‫نفسي بعد أن رحل الجميع‪ ،‬ولكي أثبت لهم أنني لم اكن عاجز ًا‪ ،‬بل كنت‬ ‫مجبر ًا لجرح دفين في أحشائي‪ ..‬ها أنا ذا أجهز نفسي لسحب النصل من‬ ‫تفاصيل لحمي ‪ ...‬آآآه أنه مؤلم جد ًا!!‪ ..‬أن تماطل شيئ ًا مغروس ًا كل‬ ‫هذه السنوات‪ ...‬إنه مؤلم!! آآآآه ‪ ...‬يا ألهي ساعدني‪ ...‬يا ألهي ماهذا‬ ‫‪ !!...‬لقد توسع جرحي بعد إزالة النصل‪ ،‬تحول إلى فوهة بركانية من‬ ‫الدم والقيح!!‪ ،‬ماهذا الذي يخرج من فوهة الجرح ‪ !!!..‬إنهما قبرا أبي‬ ‫وأمي‪ ،‬طابوق مدرستي والرحالت والقراطيس‪ ،‬فساتين حبيبتي‪ ،‬عينا‬ ‫زوجتي وهما بكامل قوتهما‪ ،‬مالبس أوالدي البالية‪ ،‬جيوش‪ ،‬تنانين‪،‬‬ ‫غيالن‪ ،‬برابرة‪ ...‬لقد ضعفت‪ ...‬هرمت مرة واحدة!!‪ ،‬سأموت اآلن‪...‬‬ ‫أموت ولم أنتصر في الحرب التي حلمت أن أكون فيها قائد ًا‪ ،‬ذات ليلة‬ ‫من ليالي الطفولة‪.‬‬

‫‪98‬‬


‫حين تتأخر األمهات‬ ‫تأخرت العصفور ُة طوي ً‬ ‫ال هذا الصباح!‪ .‬لم أستطع إنقاذ صغارها‬ ‫ِ‬ ‫وتدحرجت على األرصفة جثامي ُنهم‪.‬‬ ‫الريح أرياشهم‪،‬‬ ‫تداولت‬ ‫الذين‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫عت كعادتها ت ْل ُ‬ ‫تقط حب ًة هنا‪ ،‬وأخرى هناك‪ .‬بالرغم من صراخ الريح‪،‬‬ ‫َه َر ْ‬ ‫ْ‬ ‫يدفعها‬ ‫ترتعب‪ ،‬لم‬ ‫وعفونة الجو‪ ،‬وزمجرة المدينة‪ .‬لم‬ ‫تخف‪ ،‬فقد كان ُ‬ ‫ْ‬ ‫غريزي للبقاء‪ ،‬المواجهة‪ ،‬الصبر والتحمل‪ ،‬من أجل حفنة أفراخ‪،‬‬ ‫دافع‬ ‫ٌّ‬ ‫ٌ‬ ‫صاروا هبا ًء على يد صبية عبثوا بذلك العش الذي يقبع أمام نافذة غرفتي‬ ‫الصغيرة‪ .‬لم يبعد العش كثير ًا‪ ،‬كان باستطاعتي النهوض إليهم‪ ،‬وطردهم‪،‬‬ ‫ضربهم‪ ،‬توبيخهم‪ .‬لوال تأخر أمي أنا أيض ًا‪ ،‬أمي التي عادت مع عودة‬ ‫العصفورة الثكلى‪ .‬أم تحمل بمنقارها حبة طعام‪ ،‬وأخرى تسير حثيثة‬ ‫بعكازي الجديدين‪.‬‬ ‫تلوح لي‬ ‫ّ‬ ‫وهي ّ‬

‫‪99‬‬


‫أمنية‬ ‫كان صانع التوابيت منهمك ًا في صنع أحلى التوابيت وأفخرها‪ .‬هو‬ ‫يصنع للناس توابيت رديئة‪ ،‬لكنه اعتنى هذه المرة بتابوت وحيد‪ ،‬حجزه‬ ‫تمر السنوات‪ ،‬وتنفد التوابيت إلاّ التابوت الفاخر‪،‬‬ ‫لنفسه بعد موته‪ُّ .‬‬ ‫يمر شتاء قارص‪ .‬يشرب‬ ‫المصنوع خصيص ًا لمعانقة جثة الحانوتي‪ُّ .‬‬ ‫الوقود‪ ،‬الدفء‪ ،‬العزيمة‪ .‬فيتجه أهل القرية إلى الخشب‪ ،‬ال يبقى في‬ ‫القرية عمود أو منضدة أو سرير إلاّ واحرقوه للتنعم بالدفء‪ .‬الحانوتي‬ ‫احرق كل التوابيت‪ ،‬وظل التابوت الفاخر منزوي ًا‪ .‬حيث لم يرض‬ ‫الحانوتي التفكير في التنازل عنه أو االستغناء والتضحية به‪ .‬فهو جائزته‬ ‫وتحفته الوحيدة‪ .‬في ليلة اليوم التالي مات الحانوتي من البرد‪ .‬فهرع أهل‬ ‫القرية إليه‪ ،‬وقد غسلوه وجهزوه عند الصباح للدفن‪ ،‬تاركين ورائهم بقايا‬ ‫رماد‪ ،‬لتابوت فاخر‪ ،‬منحهم الدفء في الليلة الماضية‬

‫‪100‬‬


‫صراع‬ ‫ويتسور‬ ‫لم ُيبنى في قريتنا سوى جامع وحيد‪ ،‬يلوذ به المحزونون‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫به الالئذون‪ .‬ولم يكن في الجامع سوى إمام جماعة‪ ،‬ومؤذن تجفل‬ ‫صالواتنا من صوته الناشز‪ .‬ثم ظهر مؤذن شاب‪ ،‬سلب ألبابنا بصوته‬ ‫حب َب في نفوسنا الصالة‪ ،‬أخشع آذاننا لصوت التكبير‬ ‫الرخيم الحنون‪َّ ،‬‬ ‫والتهليل والشهادة‪ .‬لم يرق المشهد للمؤذن السابق ذي الصوت الناشز‪،‬‬ ‫فصار يطوف في القرية يطلق على المؤذن الجديد ال ُت َهمات والبهتان‪.‬‬ ‫ودبت الفتنة‪ .‬فأحتكم‬ ‫فاختلط على الناس األمر‪ ،‬وتشعب الخالف‪ّ ،‬‬ ‫الجمع عند إمام الجماعة‪ ،‬نفر مع المؤذن ذي الصوت الناشز‪ ،‬ونفر مع‬ ‫إمام الجماعة في حنق‪:‬‬ ‫المؤذن ذي الصوت الرخيم الخاشع‪ .‬هناك هتف ُ‬ ‫(حاولوا رفع أصواتكم حين تكلموني ‪ ...‬سمعي ثقيل)‪.‬‬

‫‪101‬‬


‫وقيعة‬ ‫ٌ‬ ‫رجل يسير بين حشد الناس في السوق‪ ،‬يتوقف بين الحين والحين‬ ‫ٍ‬ ‫صوت يهتف وراءه‪ ،‬يتتبعه أنَّى وضع قدميه‪ ،‬منادي ًا‬ ‫مفتش ًا عن صاحب‬ ‫ِ‬ ‫ذكية أن يحصر الصوت‬ ‫باسمه‪ ،‬مستنجد ًا به!‪ .‬حاول الرجل بخطوة ّ‬ ‫ضيق‪ .‬فأتاه الصوت منادي ًا‬ ‫والشخوص وكثرة السائرين‪ .‬اتجه إلى شارع ّ‬ ‫باسمه في هلع‪ ،‬أدار رأسه بسرعة‪ ،‬لكنه لم يجد سوى عدة أشخاص‬ ‫تعجبوا التفاتته المريبة‪ .‬حاول التضييق‪ ،‬الحصر‪ ،‬تفويت الفرصة على‬ ‫الصوت في أن يختفي مرة أخرى‪ ،‬فذهب إلى شارع أضيق‪ ،‬ومن ثم‬ ‫عاد الصوت ذاته‪ .‬حينها نبتت فكرة كالسهم في قلبه؛حين قرر الذهاب‬ ‫للصحراء‪ ،‬حيث ال يمأل المكان غير الفراغ‪ .‬في الصحراء انتقل بقدمين‬ ‫حذرتين‪ ،‬متسائ ً‬ ‫ال عن تأخر الصوت؟!‪ .‬توقف عن الحركة هذه المرة‪،‬‬ ‫حين أرعبه الصوت اآلتي من الخلف‪ .‬ليس صوت ًا منادي ًا باسمه‪ ،‬بل عواء‬ ‫لذئب لطخ فكيه لعاب لزج‪.‬‬

‫‪102‬‬


‫المتسول‬ ‫ضبع على الحيوانات‪ ،‬بعد إرعابها بقوة‬ ‫تسيدَ‬ ‫ٌ‬ ‫في غابة متنائية‪ّ ،‬‬ ‫األضراس والبطش‪ ،‬ومعاضدة باقي الوحوش له‪ .‬فصارت الحيوانات‬ ‫تغني وته ّلل للضبع‪ ،‬في فسحة من الغابة صارت للضبع منصة‪ ،‬يجلس‬ ‫فيها وتأتي الحيوانات مغني ًة‪ ،‬مبايع ًة لحاكمها األوحد‪ ،‬إذ تعلو الشعارات‬ ‫والهتافات بحياة الزعيم وعشيرته‪ .‬وكان يجلس في الجهة المقابلة للمنصة‬ ‫حمار متسول شائخ‪ ،‬أفلت من عضة أسد متراخية‪ ،‬فتدهورت صحته‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫الضبع بالحيوانات‪،‬‬ ‫أشتد بطش‬ ‫ولم يستطع العمل فالتجأ إلى التسول‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫يفرق في ظلمه بين حيوان وحيوان‪ .‬وبعد اجتماعات سرية‪،‬‬ ‫حين صار ال ّ‬ ‫ومشاورات طويلة‪ ،‬وتنظيمات ثورية تقودها حيوانات مجاهدة ال ترهب‬ ‫الحتف في سبيل حرية أتباعها‪ .‬تفجرت ثورة حيوانية كبرى‪ ،‬أطاحت‬ ‫َ‬ ‫يضم َّ‬ ‫كل ألوان‬ ‫مجلس‬ ‫الموقف‬ ‫تسيدَ‬ ‫ٌ‬ ‫ُّ‬ ‫بنظام الضبع وزبانيته‪ ،‬ومن ثم َّ‬ ‫الطيف الحيواني‪ .‬تارك ًا الغابة في حلم وردي كبير‪ .‬الحمار المتسول نهق‬ ‫عالي ًا بحياة الثورة ومن فجرها‪ ،‬وترك التسول حالم ًا بمستقبل يكفل حرية‬ ‫النهيق والعمل والعودة إلى ٍ‬ ‫الحمار به على الدوام‪.‬‬ ‫ماض جميل يحلم‬ ‫ُ‬ ‫مرت السنون‪ ،‬ولم يتغير شيء في الغابة‪ .‬فقد عادت الشعارات والهتافات‬ ‫للتسول أمام المنصة‪،‬‬ ‫الحمار الشائخ‬ ‫على منصة الضبع المخلوع‪ .‬وعاد‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫حكم عض َته بشكل صحيح‪.‬‬ ‫العن ًا أسد ًا لم ُي ْ‬ ‫‪103‬‬


‫في مدينتنا ‪...‬‬ ‫السيرك‬

‫نزل في مدينتنا سرك‪ ،‬فيه دواليب وألعاب ومهرجون‪ ،‬وخيمة كبيرة‬ ‫تتسع لبضع مئات‪ ،‬تتقافز فيها النمور واألسود‪ ،‬على حركة للمروض‬ ‫بالسوط يمين ًا وشما ً‬ ‫ال‪ .‬وكان في السرك أيض ًا محالت لبيع العصائر‬ ‫والفطائر وشتى الحلويات والمكسرات‪ .‬تركتها جميع ًا وتوجهت إلى‬ ‫لعبة كانت مركونة في إحدى زوايا السرك‪ ،‬لعبة األخطاء والنجاحات‪.‬‬ ‫كان صاحب اللعبة يضع صندوقين خشبيين ملونين بألوان قوس قزحية‪،‬‬ ‫وكان مكتوب ًا على الصندوق األيمن (صندوق النجاحات) وعلى األيسر‬ ‫(صندوق األخطاء)‪ .‬وفي كل صندوق عدسة تضع فيها عينك لترى إما‬ ‫نجاحاتك وإما أخطاءك‪ .‬كان الجمهور من النساء والرجال فقط مهتم‬ ‫بهذه اللعبة‪ ،‬أما األطفال فلم يكترثوا بها مفرغين طاقتهم الطفولية في‬ ‫ألعاب المراجيح والدواليب والمزالق‪ .‬قررت أن ألعب هذه اللعبة‪.‬‬ ‫ولكنني تحيرت في أيهما أشارك (األخطاء أم النجاحات)‪...‬؟ وحين‬ ‫رأيت أن الجمع متكالب على رؤية نجاحاته‪ ،‬اخترت صندوق األخطاء‬ ‫حيث لم أجد منافس ًا عليه‪ .‬قبل أن أحشر عيني في العدسة سألني صاحب‬ ‫‪104‬‬


‫اللعبة‪( :‬هل تريد رؤية كل أخطائك‪ ،‬أم أشنعها ‪..‬؟)‪ .‬فقلت له‪( :‬الفادح‬ ‫علي الباقيات)‪ .‬وكان هذا تصرف ًا ذكي ًا كما‬ ‫منها‪ ،‬حين أتعرف عليه ستهون َّ‬ ‫حشرت عيني في العدسة وقد مألني عطش الفضول‪ ،‬ثم تحول‬ ‫اعتقدت‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫إلى آهة تعجب‪ ،‬حين رأيت صورتي منحني ًا على صندوق خشبي ملون‪،‬‬ ‫جمع يتنافس على صندوق ُمالصق‪.‬‬ ‫وإلى جنبي ٌ‬

‫الم ْس َمك‬ ‫َ‬

‫كان في مدينتنا َم ْس َمك كبير‪ ،‬وكان السماكون يفرغون أحشاء السمك‬ ‫على أرصفة المحال‪ .‬حيث تتماوج الروائح الزنخة كاألشباح‪ ،‬ويمارس‬ ‫حولها الذباب طيرانه االستطالعي‪ .‬وكان في المسمك قط بني وسخ‪،‬‬ ‫شره‪ ،‬يده طويلة‪ ،‬وإن لم يجد ما يسرقه‪ ،‬يلتجأ إلى الفضالت بعد إقفال‬ ‫المحال‪ .‬ذات يوم دخلت البلدوزرات إلى السوق‪ ،‬هدمت المحال‬ ‫وسوتها باألرض‪ .‬ثم أتى رجل مهيب‪ ،‬أشقر‪ ،‬غريب عن المدينة يرتدي‬ ‫بدلة أنيقة ورباط قصير‪ ،‬وحوله رجال يحملون على رؤوسهم طاسات‬ ‫صفر عميقة‪ .‬ثم بدأ البناء حتى تحول المسمك القديم إلى سوق حديث‬ ‫ذي محالت فاخرة‪ ،‬ومقاه راقية‪ ،‬ومطاعم درجة أولى‪ .‬فاختفت تلك‬ ‫الروائح الزنخة‪ ،‬والمناظر الكريهة‪ .‬واختفى القط البني أيض ًا‪ .‬اختفى‬ ‫مدة من الزمن‪ ،‬ثم رأيناه جالس ًا في أحدى مطاعم السوق الجديد‪ ،‬يأكل‬ ‫سمك ًا معلب ًا‪ ،‬وقد تح َّلق حوله خدم المطعم مسرورين بتشريفه لهم‪.‬‬

‫‪105‬‬


‫الو ّزان‬

‫كان (خريبط) يملك ميزان ًا يضعه تحت أبطه ويأتي به إلى سوق‬ ‫مدينتنا‪ .‬لديه مكان مخصص‪ ،‬يضع ميزانه ويجلس كصياد على نهر من‬ ‫األشخاص‪ .‬يأتي إليه الرجال والنساء وحتى األطفال يزنون أجسادهم‪،‬‬ ‫ويضعون ثمن الوزن في طاسة قريبة‪ .‬بعد مدة أصاب الميزان عط ً‬ ‫ال‪،‬‬ ‫فلم يعد يميز وزن األجساد بدقة‪ .‬فصار(خريبط) يفتي بوزن واحد من‬ ‫عنده‪ .‬هناك تعجب أهل المدينة‪ ،‬هل من المعقول أن يكون وزن الناس‬ ‫متساوي ًا؟!‪ .‬فثاروا على خريبط مطالبين بتغيير الميزان بآخر جديد‪ .‬لكنه‬ ‫رفض مصر ًا على أن ميزانه دقيق‪ ،‬بل أنه أدق الموازين في العالم‪ .‬ثم بعد‬ ‫زمن دخل صبي يحمل ميزان ًا إلكترونيا إلى السوق‪ ،‬تح َّلق حوله الزبائن‬ ‫لمعرفة أوزانهم بدقة علمية فائقة‪ .‬تاركين (خريبط) الذي صار يلعن‬ ‫ويسب الحظ‪ ،‬ويشكك بعبارة»من قال أن هذا الميزان الجديد أفضل‬ ‫من القديم؟ كل شيء قديم أفضل»‪ .‬فلم يكترث له الناس‪ ،‬سوى بعض‬ ‫ِ‬ ‫الضعاف من السقم‪ ،‬تجمعوا حوله مؤمنين بميزان خريبط الصدئ‪.‬‬

‫‪106‬‬


‫المتنزه‬ ‫وقف طفل على باب متنزه‪ ،‬منشغ ً‬ ‫ال بمنظر األراجيح‪ ،‬وتنسيق الحدائق‬ ‫وخضرتها‪ ،‬وأصوات الضحكات واألغاني واألحاديث الحميمية بين‬ ‫زواره‪ ،‬والتي تبدو للسامع كأنها هدير شالل‪ .‬أراد الطفل الدخول‪ ،‬لكن‬ ‫حارس الحديقة الضخم‪ ،‬ذو المالمح الصارمة منعه واضع ًا يد ًا على‬ ‫الباب‪ ،‬ومشير ًا باليد األخرى إلى لوحة معلقة على باب المتنزه(للعوائل‬ ‫فقط)‪ .‬غادر الطفل المكان حزين ًا‪ ،‬وبعد سنوات عاد الطفل رج ً‬ ‫ال بهي ًا‪،‬‬ ‫رشيد ًا‪ ،‬يجر بكفيه طفلين متقاربة أعمارهم‪ .‬وتسير إلى جنبه زوجته التي‬ ‫وعدها بالجلوس في متنزه جميل‪ ،‬فيه أراجيح مبهجة‪ ،‬وأشجار وحدائق‬ ‫تسر عين الناظر‪ .‬لكنه تفاجأ حين وصل إلى باب المتنزه‪ ،‬رآها مقفلة‪،‬‬ ‫وقد التحف المكان بالصمت الموحش‪ .‬وزاد ذهوله حين الحظ قطع‬ ‫تعزية سود تمأل جدار المتنزه‪ ،‬وقد استبدلت لوحة (للعوائل فقط) بلوحة‬ ‫أكبر‪ ،‬مخطوط ًا عليها سورة الفاتحة‪.‬‬

‫‪107‬‬


‫الروبوت‬ ‫(عزيز) يقوم بكل احتياجات المنزل‪ .‬بل لواله لما استطاعت زوجته‬ ‫القيام بأغلب المشاغل المتعبة في المنزل‪ ».‬تعال يا حبيبي أريد تقطيع‬ ‫البصل» يهرول إلى المطبخ كقط مطيع‪ ،‬ثم يضع رأسه على الطاولة‪،‬‬ ‫ثم تبدأ الزوجة بتقطيع البصل على رأسه‪».‬عزيز األوالد يريدون كتابة‬ ‫دروسهم» يهرع إلى الصالة حيث األوالد‪ ،‬ينحني على ركبتيه ثم يضع‬ ‫األوالد كراساتهم على ظهره ويبدؤون بالكتابة لمدة طويلة‪ ،‬وعزيز ال‬ ‫يظهر مل ً‬ ‫ال أو تعب ًا‪ ،‬بل كان سعيد ًا‪ ،‬سعيد ًا جد ًا ويعترف بهذا أمام الناس‬ ‫ويقول «أنا أسعد زوج في العالم»‪ .‬عزيز يدخل الحمام مع األوالد‪ ،‬حيث‬ ‫تحتاج الزوجة لحيته ليف ًة لتنظيف جسدها وجسد األوالد‪ .‬عزيز يبلع‬ ‫التراب الذي جمعته زوجته من على السجادة‪ ،‬مستغني ًا عن (المكرافة)‪.‬‬ ‫عزيز يقف ساعات لي ً‬ ‫ال واضع ًا في كل كف ورقة صلبة‪ ،‬ويحرك ذراعيه‬ ‫كما المروحة الكهربائية‪ .‬بعد مدة من االستخدام يصيبه عطل‪ ،‬فيقبع في‬ ‫إحدى زوايا المنزل كالبليد‪ .‬حزنت زوجته كثير ًا‪ ،‬ولكن حزنها تبدد ذات‬ ‫صباح حين طرق في أذنها صوت في الشارع «عتيق للبيع ‪ ...‬عتيق للبيع»‪.‬‬

‫‪108‬‬


‫خالف‬ ‫في ذلك اليوم‪ ،‬حين أشاحت السماء بوجهها‪ ،‬ولملم البحر أمواجه‬ ‫غيض ًا‪ .‬لم نفهم سبب التباعد والخالف بينهما‪ .‬ولما سألنا السماء أشارت‬ ‫باستخفاف صوب البحر هاتفة‪( :‬اسألوه)‪ .‬وحين سألنا البحر أجاب في‬ ‫كمد‪( :‬ال فائدة)‪ .‬وبعد أن وشت موجة من أمواج البحر تسللت خفية‪،‬‬ ‫الزرقة‪ .‬هل‬ ‫عن سبب خالف السماء والبحر‪ .‬عرفنا أن الخالف يخص ُ‬ ‫السماء من ألقت بعباءتها على صدر البحر بغنج أنثوي‪ .‬أم البحر من كلل‬ ‫عروسه(السماء)؟!‪ .‬استمر التباعد‪ ،‬بعد أن نصبت الحيرة عمود خيمتها‪،‬‬ ‫وتسلل الفتور كاللص ليسرق منهما ذلك التآلف والصفاء‪ .‬وحين لم‬ ‫يصال إلى حل يرضيهما‪ ،‬أنهى الليل الخالف‪ ،‬لما أزف وقته‪ ،‬سائقا ًأمامه‬ ‫الظلمة العتيمة‪.‬‬

‫‪109‬‬


‫خيبة‬ ‫ٍ‬ ‫بثمن باهظ ومعاناة ثقيلة‪ ،‬استطاع في النهاية شرا َء (فرخ نسر) من‬ ‫يجهز له‬ ‫أحد بائعي الطيور‪ .‬ولم يرض للنسر بأكل خسيس‪ ،‬فقد كان‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫حمام ًة َّ‬ ‫يأخذ الحمام َة‬ ‫النسر بطريقته الخاصة‪ ،‬حيث‬ ‫كل يوم‪ ،‬ليأكلها‬ ‫ُ‬ ‫جانب ًا في إحدى الزوايا‪ ،‬ثم يخفيها خلف جناحيه ويفترسها بصمت‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫مالك النسر يضحي بوقته‪ ،‬جهده‪ ،‬نقوده‪ ،‬دماء الحمامات‪ .‬فقط‬ ‫كان‬ ‫لكي يرى نسر ًا غازي ًا السماء بجناحيه الكبيرين‪ .‬لكنه وبعد تلك السنوات‬ ‫واالنتظار‪ ،‬أدهشه أن بائع الطيور قد خدعه‪ ،‬حين باع له نسر ًا مصاب ًا بفوبيا‬ ‫المرتفعات‪.‬‬

‫‪110‬‬


‫‪ ...‬وأخواتها‬ ‫في اليوم التالي‪ ،‬ومن دون سابق رأي‪ .‬أفاق (المبتدأ) من نومه‪ .‬جلس‬ ‫على السرير بعينين يملؤهما التساؤل‪ ،‬حين لم يعثر على صديقه (الخبر)‬ ‫في السرير المجاور‪ .‬وبعد لحظات تيق َّن أن صاحبه قد حزم حقائبه و‬ ‫اِرتَحل بال رجعة‪ .‬غادر(المبتدأ) المكان أيض ًا‪ ،‬مهاجر ًا إلى مكان لم‬ ‫عم الذعر في المدينة‪ ،‬وأكثر المذعورين‬ ‫يرسم مالمحه‪ .‬في اليوم التالي َّ‬ ‫(كان وأخواتها)‪ .‬فلم تعد (أصبح) تبيع النور صباح ًا‪ ،‬ولم تعد (أمسى)‬ ‫تبيع النجوم مسا ًء‪( .‬صار) تحولت إلى مسخ‪ ،‬و(ليس) أصابها الخنوع‬ ‫والمداهنة‪( .‬بات) هجرها النوم‪ ،‬و(ظل) تناست االستقرار‪ .‬لم تبق ألاّ‬ ‫(كان)‪ ،‬صابرة على شيخوخة المعنى سنوات وسنوات‪ .‬تحكي لاِ سمين‬ ‫جد ْيهما اللذين تخاصما وهاجرا من دون‬ ‫طفلين حكاية قديمة‪ ،‬عن َّ‬ ‫سابق رأي‪.‬‬

‫‪111‬‬


‫تفاهم‬ ‫على أريكة انتظار الحافلة‪ ،‬جلس رجالن بالصدفة‪ .‬قال الذي على‬ ‫اليمن للجالس على اليسار‪( :‬الحياة مقرفة)‪ ،‬فلم ينبس اآلخر بكلمة!‪.‬‬ ‫فكرر المحاولة‪( :‬الحياة مع كل بشارات التطور‪ ،‬تحولت إلى شيء‬ ‫ماسخ‪...‬؟)‪ .‬استمر الجالس على اليسار ساكت ًا‪ ،‬ناظر ًا باستغراب للجالس‬ ‫بجواره‪ .‬أقبلت الحافلة‪ ،‬فانتصب الرجل الجالس على اليسار واقف ًا‪،‬‬ ‫سائر ًا بحذر شيخ ليركب الحافلة التي غادرت المكان مخلفة كمية من‬ ‫الدخان‪ ،‬وكان مكتوب ًا على جانبيها عبارة(معهد األمل للصم والبكم)‪.‬‬ ‫في ذلك األثناء وقف الرجل الجالس على اليمين‪ ،‬بعد أن شعر بمغادرة‬ ‫الرجل الجالس قربه‪ ،‬مرتدي ًا نظارة سوداء واسعة‪ ،‬ثم غادر المكان وهو‬ ‫يجس األرض بعصاه‪.‬‬ ‫ُّ‬

‫‪112‬‬


‫رحيل‬ ‫النهر الذي تج َّلدَ االصطبار‪ ،‬لم يعد يحتمل تفاهات المدينة‪ ،‬أوالدها‬ ‫المشاكسين‪ ،‬قيأها‪ ،‬نفاياتها‪ ،‬عبث المتبولين‪ ،‬جثث الحيوانات‪ ،‬هجرة‬ ‫األسماك‪ ،‬توبيخ النخيل‪ .‬حين تفاخر بالماء كسروا هيبته بالجسور‪.‬‬ ‫توعدهم بالجفاف‪ ،‬فهددوه بالسدود‪ .‬زمجر فائض ًا‪ ،‬فألقموه بال ُترس‪ .‬في‬ ‫َّ‬ ‫ذلك الحين‪ ،‬جمع جرفيه وشاورهما األمر؛فوافقاه‪ .‬حزم حقيبة أمواجه‪،‬‬ ‫وارتدى عباءة زرقته‪ ،‬وغادر المدينة صوب المحيط‪ .‬هناك حيث انتحرت‬ ‫قبله انهار المدن التي خيم على شفاهها اليباب‪.‬‬

‫‪113‬‬


‫نهاية‬ ‫إطار سيارة المسؤول‪ ،‬يتفاخر بهيبة حين يهرول على الطريق‪ .‬تخافه‬ ‫إشارات المرور‪ ،‬واألرصفة‪ ،‬واإلسفلت والحصى والتراب‪ .‬بعد مدة‬ ‫ليست بالطويلة‪ .‬وجدوه مرمي ًا في ساحة أنقاض‪ ،‬بعد أن تم استبداله‬ ‫بإطار جديد‪ .‬قرر االنتقام‪ ،‬حين تبرع بحرق نفسه منتحر ًا‪ ،‬في مظاهرة‬ ‫قام بها ث ّل ٌة من الجياع‪.‬‬

‫‪114‬‬


‫ذاكرة‬ ‫ال يتذكر عد َد السفن التي أبحر بها قائد ًا‪ ،‬لكنه يتذكر جيد ًا طوق النجاة‬ ‫الذي أرجعه إلى جزيرته‪.‬‬

‫‪115‬‬


‫تبادل‬ ‫ٍ‬ ‫بساق يسرى‪ ،‬لم يعد مهتم ًا بأحذية القدم اليمنى‪،‬‬ ‫الجندي الذي عاد‬ ‫ُّ‬ ‫جندي آخر فقد ساقه اليسرى‪.‬‬ ‫هن إلى‬ ‫ٍّ‬ ‫فتبرع بِ َّ‬

‫‪116‬‬


‫وصحبت شخصياتها‪ ،‬هي‬ ‫وأبحرت في عالمها‬ ‫«القصص التي قرأتُها‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫من دون ريب‪ ،‬مكتملة في بنائها وشائقة بأخيلتها‪ .‬هي مكتوبة لتخاطب‬ ‫مستوى قرائي ًا معين ًا يتقبل أخيلتها المنسوبة إلى نوع من السرد العجائبي‪،‬‬ ‫يمكن تسميته هنا بـ (سرد القرية)‪ .‬قد يبدو هذا النوع غريب ًا على عصر‬ ‫ٍ‬ ‫مكتف بعالمه البعيد‪،‬‬ ‫الثيمات الواقعية الجديدة‪ ،‬والتقنيات الحديثة‪ ،‬لكنه‬ ‫المنتمي إلى عصر البراءة والبساطة والنقاء‪ .‬وقد يشعر قسم من القراء‬ ‫بحاجة إلى السفر نحو هذا العالم المنطوي بصحبة أشخاص مبعوثين‬ ‫من وراء حجاب الزمن الحاضر‪ ،‬يذكّ رونه بأصول فكرية وسلوكيات‬ ‫قديمة ال يشعر بها حالي ًا وسط صخب الحياة وعنفوان العمل اليومي‬ ‫الشاق ومهوالت األوضاع»‬ ‫«قصص القسم الثاني تمتاز بحدثها المدهش والجديد‪ ،‬ما يقربها‬ ‫من أجود المجموعات القصصية العربية والعالمية (مجموعة ساروت‪:‬‬ ‫انفعاالت‪ ،‬مثال) لما أدركته من حافات المخيلة البيضاء والسوداء بالتناوب‬ ‫والجدل الخيالي الخصب بالبراهين والنهايات الذكية والمؤثرة»‬

‫(محمد خض ّير)‬

‫‪117‬‬



Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.