الدين ..والدجل ()3
مقاالت قصصية د .نور الدين أبو لحية الطبعة األولى 5162 – 6331
دار األنوار للنشر والتوزيع
فهرس المحتويات
المقدمة
3
اإلشارة ..والعبارة
9
العبرة ..واألسطورة
33
العلم ..والخرافة
17
المحكم ..والمتشابه
93
التفعيل ..والتعطيل
771
المقدمة (القرآن الكريم هو حبل الله المتين ..وهو الذكر الحكيم ،والصراط المستقيم ..وهو الذي ال تزيغ به األهواء ،وال تلتبس به األلسن ،وال يشبع منه العلماء ،وال يخلق على كثرة الرد ،وال تنقضي عجائبه ..من قال به صدق ،ومن عمل به أجر ،ومن حكم به عدل ،ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم).. هذه العبارات وغيرها نسمعها كثيرا ..ونرددها كثيرا ..ولكنا عند التأمل في حياتنا بجوانبها المختلفة نجد الهوة السحيقة بين تلك األوصاف العظيمة ،وبين واقعنا الممتلئ بالمآسي. ولذلك فإنا في هذه المقاالت نحاول أن نتلمس بكل هدوء تلك االنحرافات التي جعلت المسلمين ينحرفون عن هدي كتابهم ،بل يشوهونه ..فيحولونه من كتاب هداية وتبصرة وذكرى وموعظة إلى كتاب تاريخ وأسطورة وخرافة وشعوذة وإرهاب ..أو يعطلون معانيه ..أو يحرفونها تحريفا شديد. وقد أخبر الله سبحانه وتعالى أن هذا االنحراف سيقع في هذه األمة كما ِ ِ َاب ِمنْ ُه وقع في غيرها من األمم ..قال تعالىُ { :ه َو ا َّلذي َأن َْز َل َع َل ْي َك ا ْلكت َ ات ُه َّن ُأ ُّم ا ْل ِكت ِ ات َف َأ َّما ا َّل ِذي َن فِي ُق ُلوبِ ِه ْم َز ْي ٌغ َاب َو ُأ َخ ُر ُمت ََشابِ َه ٌ ات ُم ْحك ََم ٌ آ َي ٌ َف َيتَّبِ ُع َ ون َما ت ََشا َب َه ِمنْ ُه ا ْبتِ َغا َء ا ْل ِف ْتن َِة َوا ْبتِ َغا َء َت ْأ ِويلِ ِه َو َما َي ْع َل ُم َت ْأ ِوي َل ُه إِ َّال ال َّل ُه
3
والر ِ ون فِي ا ْل ِع ْل ِم َي ُقو ُل َ اس ُخ َ ون آ َمنَّا بِ ِه ُك ٌّل ِم ْن ِعن ِْد َر ِّبنَا َو َما َي َّذك َُّر إِ َّال ُأو ُلو َ َّ ْاألَ ْل َب ِ اب } [آل عمران]7 : فقد وجد في تاريخنا وتراثنا الكثير ممن يتتبع المتشابه ،ويفسر الدين على أساسه ..بل يؤول المحكم لينسجم مع هواه ..تاركا الراسخين في العلم الذين أخبر الله أنهم يدركون المحكم ،ويفقهون المتشابه. ولذلك تحول القرآن الكريم بواسطة تلك األيدي اآلثمة إلى كتاب يحض على الكراهية ،ويدعو إلى األسطورة ،وينشر الخرافة ،ويحرض على اإلرهاب ،ويفرق بين الناس على أسس عنصرية مقيتة. وهذا نفس ما حصل في األمم السابقة التي هجرت كتابها أو حرفت ِ معانيه ..كما قال تعالى { :وإِ ْذ َأ َخ َذ ال َّله ِمي َث َ ِ َاب َل ُت َب ِّينُنَّ ُه اق ا َّلذي َن ُأو ُتوا ا ْلكت َ ُ َ َّاس َو َال َت ْك ُت ُمو َن ُه َفنَ َب ُذو ُه َو َرا َء ُظ ُه ِ لِلن ِ ور ِه ْم َو ْاشت ََر ْوا بِ ِه َث َمنًا َقلِ ًيًل َفبِ ْئ َس َما ون } [آل عمران ،]787 :وقالَ { :و َل َّما َجا َء ُه ْم َر ُس ٌ َي ْشت َُر َ ول ِم ْن ِعن ِْد ال َّل ِه ِ ِ ِ ِ ِ َاب ال َّل ِه َو َرا َء ُظ ُه ِ ور ِه ْم َاب كت َ ين ُأو ُتوا ا ْلكت َ ُم َصدِّ ٌق ل َما َم َع ُه ْم َن َب َذ َف ِر ٌيق م َن ا َّلذ َ َك َأن َُّه ْم َال َي ْع َل ُم َ ون } [البقرة]707 : ومما ورد في تفسير هذه اآليات قول اإلمام الجواد( :وكل أمة قد رفع الله عنهم علم الكتاب حين نبذوه ووالهم عدوهم حين تولوه ،وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه وحرفوا حدوده ،فهم يروونه وال يرعونه،
4
والجهال يعجبهم حفظهم للرواية ،والعلماء يحزنهم تركهم للرعاية)
()7
وقد أشار أبو حامد الغزالي إلى النبذ الخطير لجواهر القرآن وحقائقه العظيمة ،فقال( :إني أنبهك على رقدتك ،أيها المسترسل في تًلوتك، المتخذ دراسة القرآن عمًل ،المتلقف من معانيه ظواهر وجمًل ،إلى كم تطوف على ساحل البحر مغمضا عينيك عن غرائبها؟ أوما كان لك أن تركب متن لجتها لتبصر عجائبها؟ وتسافر إلى جزائرها آلجتناء أطايبها؟ وتغوص في عمقها فتستغني بنيل جواهرها؟ أوما تعير نفسك في الحرمان عن دررها وجواهرها بإدمان النظر إلى سواحلها وظواهرها؟ أوما بلغك أن القرآن هو البحر المحيط؟ ومنه يتشعب علم األولين واآلخرين كما يتشعب عن سواحل البحر المحيط أنهارها وجداولها؟ أوما تغبط أقواما خاضوا في غمرة أمواجها فظفروا بالكبريت األحمر؟ وغاصوا في أعماقها فاستخرجوا الياقوت األحمر ،والدر األزهر ،والزبرجد األخضر؟)
()2
وقد أشار قبل ذلك كله رسول الله حين ذكر الفئة الباغية التي تنحرف باألمة انحرافا شديدا ،فجعل من أهم أوصافها إقامتها لحروف ذر القرآن ،وإعراضها عن معانيه وحقائقه ومقاصده ،ففي الحديث عن أبي ّ رضي الله عنه قال :قال رسول الله ( :إن بعدى من أمتى ( أو سيكون
( )7الكافي..71 / 35 / 8 : ( )2جواهر القرآن (ص)27 :
5
بعدى من أمتى ) قوم يقرأون القرآن ال يجاوز حًلقيمهم يخرجون من الرم ّية ،ثم ال يعودون فيه ،هم شر الخلق الدين كما يخرج السهم من ّ والخليقة)
()7
وفي حديث آخر قال رسول الله ( :سيكون في أمتي اختًلف وفرقه؛ َ يحسنون َ َ َ يقرءون القرآن ال يجاوز تراقيهم، الفعل، القيل ،ويسيئون قوم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية ،ال يرجعون حتى يرتد على ُف ِ وق ِه؛ ّ ّ ِ والخليقةُ ،طوبى لمن قتلهم وقتلوه ،يدعون إلى كتاب الله هم شر الخلق وليسوا منه في شيء ،من قاتلهم كان أولى بالله منهم)
()2
وبناء على هذه الدعوة من رسول الله لمواجهتهم وحربهم كانت هذه المقاالت.. فنحن ال ننقدهم أو نحذر منهم لشهوة في نفوسنا ،وإنما ألنه ال يمكن أن يعرف الناس دين الله ،وال أن يعيشوا في صحبة كتاب الله ،وهم يرون المنحرفين عنه هم الذين يمثلونه في اإلعًلم والمنابر وكل المنصات.. وقد بدأ التحذير من هذه األيدي الملوثة في عهد رسول الله نفسه، وفي القرآن الكريم.. َّاس من ي ْشت َِري َلهو ا ْلح ِد ِ ِ يث َْ َ فعندما يقول الله سبحانه وتعالى { َوم َن الن ِ َ ْ َ
( )7رواه مسلم. ( )2رواه أبو داود ()5713
6
ِ ِ ِ لِي ِض َّل َعن سبِ ِ ِ ن } اب ُم ِهي ٌ يل ال َّله بِ َغ ْي ِر ع ْل ٍم َو َيتَّخ َذ َها ُه ُز ًوا ُأو َلئ َك َل ُه ْم َع َذ ٌ ُ ْ َ [لقمان ]1 :فإنه يشير إلى أولئك األسطوريين الذين حولوا الحقائق القرآنية الجميلة إلى حكايات ال تختلف عن حكايات ألف ليلة وليلة ،أو حكايات رستم واسفنديار التي كان يحكيها النضر بن الحارث ليشغل بها الناس عن حقائق القرآن الكريم المتضمنة في قصصه. وعندما يذكر القرآن الكريم آالم رسول الله وهو يشكو إلى ربه قومه َّخ ُذوا َه َذا ا ْل ُق ْر َ قائًلَ { :ي َار ِّب إِ َّن َق ْو ِمي ات َ ورا } [الفرقان ،]50 :فإنه آن َم ْه ُج ً يشير إلى ذلك التع طيل لحقائق القرآن الكريم المرتبطة باألنفس واآلفاق، والدنيا واآلخرة ،واالنشغال عنها بعلوم كثيرة ،وتوافه كثيرة. وعندما يدعو القرآن الكريم إلى االعتصام بحبل الله وعدم التفرق ،كما في قوله تعالىَ { :وا ْعت َِص ُموا بِ َح ْب ِل ال َّل ِه َج ِمي ًعا َو َال َت َف َّر ُقوا َوا ْذ ُك ُروا نِ ْع َم َت ف َب ْي َن ُق ُلوبِ ُك ْم َف َأ ْص َب ْح ُت ْم بِن ِ ْع َمتِ ِه إِ ْخ َوانًا } [آل ال َّل ِه َع َل ْي ُك ْم إِ ْذ ُكنْ ُت ْم َأ ْعدَ ا ًء َف َأ َّل َ
عمران ،]705 :فإنه يشير إلى أولئك { ا َّل ِذي َن َف َّر ُقوا ِدين َُه ْم َوكَا ُنوا ِش َي ًعا َل ْس َت ِمن ُْه ْم فِي َش ْي ٍء إِن ََّما َأ ْم ُر ُه ْم إِ َلى ال َّل ِه ُث َّم ُينَ ِّب ُئ ُه ْم بِ َما كَا ُنوا َي ْف َع ُل َ ون } [األنعام: ]731 وهكذا نجد القرآن الكريم نفسه ينبهنا إلى أن األمة ستعطل كتاب ربها في كل شؤون حياتها.. وبناء على هذا حاولنا في هذه المقاالت أن نرسم صورة لتلك
7
التشويهات التي طالت القرآن الكريم ..وذلك لغرضين: األول :هو التنبيه إلى خطورتها وضًللها وانحرافها ،وأن القرآن الكريم أسمى من أن تعبر عنه تلك األيادي الملوثة ،وتلك العقول المشوهة. الثاني :هو الدعوة إلعادة قراءة قرآن الكريم غضا طريا كما أنزله الله، وكما فهمه أولياء الله الذين هم الصراط المستقيم الذي أوصانا الله بالتمسك به ،واالهتداء بهديه ..وسنكتشف حينها فقط حقيقة مقولة اإلمام علي كرم الله وجهه( :فتج ّلى لهم سبحانه في كتابه من غير أن يكونوا رأوه)
()7
( )7نهج البًلغة :الخطبة .757
8
اإلشارة ..والعبارة في ذلك اليوم قدر الله لي أن أسمع سورة قرآنية واحدة من عقلين وقلبين مختلفين تماما ..مختلفين في المشرب ،وفي السلوك ،وفي التعامل مع قضايا الحياة المختلفة.. وقد تعجبت في البداية عن سر ذلك االختًلف الشاسع بينهما مع أن كليهما يرفع راية القرآن الكريم ،ويدعي أنه خادمه وتلميذه ،ولكليهما أتباع وأصحاب ..ولكن مع ذلك كانا ،وكأنهما من ديانتين مختلفتين تماما.. عندما عدت إلى بيتي في الليل بعد مروري عليهما ،وبعد محاولة تحليل ٍ اء و ِ اح ٍد َو ُن َف ِّض ُل ما رأيت وما سمعت عرفت سر قوله تعالىُ { :ي ْس َقى بِ َم َ َب ْع َض َها َع َلى َب ْع ٍ ض فِي ْاألُ ُك ِل } [الرعد ،]5 :وعرفت أن التفضيل ال يعني التنوع فقط ،كالتفضيل الذين نراه بين التفاح والبرتقال وغير ذلك من الفواكه ..وإنما قد يعني أيضا التفضيل بين العشبة التي جعلها الله ترياقا لكل األدواء ،وبين العشبة التي جعلها سما زعافا تقضي على كل صحة وعافية. وألدع لكم الفرصة لتكتشفوا ما اكتشفت ،وتحكموا بما ترونه ،سأحكي لكم الحكاية كما حصلت ..وال تحسبوا أنها حكاية من وحي الخيال ..إنها بنت الواقع المؤلم الذي نعيشه ..ولكنها محروسة بالرمز ..فالذي يفهم الرمز ،ويفك شيفرته سيفهم المراد العميق منها ..والذي يفهم العبارة ،وال
9
يجاوزها إلى اإلشارة ،فحسبه أن يرى قشرتها ،وينعم بالنظر إلى طًلئها. اإلشارة: مررت عليه وهو على كرسيه الذي تعود أن يجلس عليه بين مريديه وتًلمذته ..وكان القارئ يقرأ سورة العصر بترتيل خاشع جميل. بعد أن انتهى من قراءتها التفت الشيخ إلى المحيطين حوله ،وقال: سنحاول أن نستمع للمعاني التي أراد الله إبًلغنا إياها من خًلل هذه السورة الكريمة(..)7 إن القسم بالعصر في هذه السورة يفيد كون اإلنسان يجهل خسرانه، ويبعد أن يدركه ما دام ال يشعر بحقيقة ما كان عليه قبل تع ّلق الروح بالجسم المعدني ..أ ّما لو تخيل ذلك ..عندما كـان جوهرا خالصا متخ ّلصا من عموم المواد ،وسائر لوازم الفساد ،العترف بخسرانه بالنظر لما هو عليه اآلن ،ومن أين له أن يدرك ذلك ،وهو مكبل بشهواته ،مسجون في ظروف طبيعته ،وتلك الحالة هي أبعد المراتب ،وأقصى الغايات التي تبعد به عن نيل سعادته األبد ّية. وكذلك يبقى ما دامت بصيرته لم تنفذ إلى ما وراء هذه الظروف
( )7اقتبسنا هذا التفسير اإلشاري بتصرف من (رسالة مفتاح علوم السر في تفسير سورة والعصر) للشيخ ابن عليوة ،باعتباره هو شيخ اإلشارة في هذه الحكاية ..وخصمه السلفي الذي كفره هو شيخ العبارة.
01
المحدقة به ،ولكن ال تنفذ إالّ بتصريح برهان { َفا ْن ُف ُذوا َال َتنْ ُف ُذ َ ون إِ َّال بِس ْل َط ٍ ان } [الرحمن ،]55 :وإذ ذاك يدرك خسرانه بالنسبة لما كان عليه قبل ُ تع ّلق الروح بالبدن ،ولو تخ ّيل ذلك لما احتيج للتوكيد. قال بعض الجالسين :لقد شوقتنا يا شيخنا ..فحدثنا عن عوالم الجمال التي كان يعيشها اإلنسان قبل نزوله إلى هذا العالم. قال الشيخ ،وهو شاخص البصر ،وكأنه يرى ما ال نقدر على رؤيته ،أو كأنه يشاهد شيئا ،وهو يصفه كما يشاهده :في تلك العوالم الجميلة كانت الروح في كرامة عظيمة وحالة جسيمة ،تت ّلقى أمرها من الله من غير واسطة ،وتجيب جـوابا خاليا من ّ كل شبهة ..ولم تفقد ح ّظها من تلك الكرامة ولو بعد هبوطها وتع ّلقها بأول جسم لإلنسـان فإنّه توجها بتاج العلم ،وك ّللها بإكليل الفهم ،وعلمها ما لم تكن تعلم ،وكفاها أنّه أسجد لهـــا المًلئكة ،وعموم األرواح كالذر وفي ظهر آدم. قال تلميذ آخر :فكيف انتقل اإلنسان من تلك األحوال السامية إلى األحوال الحيوانية ،وما قدر الخسارة التي خسرها بسبب ذلك؟ قال الشيخّ : إن رابطة الجسم أكسبت الروح صبغة غير التي كانـت عليها، فلم يشعر اإلنسان إالّ وهو نوع من أنواع الحيوان يعمل بحكم الطبيعة األول، داخل الجنس العام ،وشتان ما بين المرتبتين ..بين حال اإلنسان ّ وحال اإلنسان الثاني ..فعلى مـا يقتضيه البون الشاسع بين الرتبتين صار
00
كأنّه لم يكن هو ..بل ليس بمستبعد إن قلناّ : إن اإلنسان األول هو غير اإلنسان الثاني مهما كان يطلق لفظ اإلنسان على المعنيين. قال تلميذ آخر :أنت تشير بهذا إلى الحقيقة اإلنسانية ،وأن ما عليه اإلنسان اآلن ليس سوى نشأة من النشآت ،وأن هناك نشآت كثيرة سابقة، كان اإلنسان فيها في أعلى عليين.. قال الشيخ :أجل ..وقد عبر العرفاء عن ذلك النزول بــ (قوس النزول).. ويعنون به ذلك العالم الذي يبدأ من العقل والمجردات التامة والمًلئكة المقربين ،وينتهي إلى أدنى موجود وهو الهيولى والمادة األولى لعالم الطبيعة. قال التلميذ :وجود قوس نزول يقتضي وجود قوس صعود. قال الشيخ :أجل ..وهي التي أشار إليها قوله تعالى { :ا َّل ِذي َن َي ُظن َ ُّون َأ َّن ُه ْم م ًَل ُقو ر ِّب ِهم َو َأن َُّهم إِ َل ْي ِه ر ِ اج ُع َ ون } [البقرة ،]51 :وقوله { :إِنَّا ل ِ َّل ِه َوإِنَّا إِ َل ْي ِه َ ْ َ ْ ُ ر ِ اج ُع َ ون } [البقرة]731 : َ قال التلميذ :فكيف يحدد مصير اإلنسان في قوس الصعود؟ قال الشيخ :هذه النشأة هي المنطلق لتحديد مصير اإلنسان النهائي.. عزة ..وليس ذلك إالّ أن يكون فباستطاعة اإلنسان أن يتدارك ما فاته من ّ ِ ين آ َمنُوا بالروح إنسانا ،وذلك يتم بالتحقق بمقتضى قوله تعالى { :إِ َّال ا َّلذ َ ِ ِ ِ الص ْب ِر } [العصر]5 : اص ْوا بِ َّ اص ْوا بِا ْل َح ِّق َوت ََو َ الصال َحات َوت ََو َ َو َعم ُلوا َّ
01
يتصور بمعناه الًلزم إالّ باستجماع فالخًلص النهائي ال يتح ّقق وال ّ تلك الخصال األربعة وهـي :اإليمان ،واألعمال الصالحة ،والتواصي بالحق ،والتواصي بالصبر عليه ،أ ّما إذا فات اإلنسان -والعياذ بالله -ح ّظه ّ من اإليمان في هاته الحياة ،الدنيا فقد خسر خسرانا مبينــا يجعله يقول يوم ْت ُت َرا ًبا } يرى سعادة السعداء بالنظر إلى شقاوة األشقياءَ { :يا َل ْيتَنِي ُكن ُ [النبأ]50 : أ ّما إذا نال ح ّظه من اإليمان في هاته الدنيا بالقدر الذي يفصله عن محيط الكفران بالله ورسولــه ،فقد يتقدّ م بذلك شوطا غير قصير في سبيل سعادته ونيل بغيته. ولكن ال تثبت أقدامه في ذلك الدور إالّ باألعمال الصالحة ،واألعمال كل فعل محمود ،ويخرج منه ّ الصالحة هي جنس يدخل تحته أفراد ّ كل فعل مذموم. وهذا الدور يعتبر أرفع درجة في نيل السعادة غير أنّه ال تستقر أقدام بالحق قل أن بالحق ،ومن لم يتواص صاحبه استقرارا تاما إالّ مع التواصي ّ ّ الحق ،بناء على أن رأس األعمـال الصالحة هو األمر يصبر في طريق ّ بالمعروف والنهي عن المنكر ،ومن لم ينه ويأمر يخش عليه يوما من األيام يصبـح فيه حيث ال نهي وال أمر. وهكذا يسير المؤمن من العرفان إلى الشريعة ،فيتمسك بها ،فًل طريق
03
إلى الله إال من خًللها. أصابتني رعشة شديدة ،وأنا أسمع لهذه الكلمات ..لقد كانت تنبيهات قوية تنبه كل راقد وقاعد وراكن إلى الدنيا ليقوم باالستعداد لصناعة مصيره األبدي قبل أن يتحسر حسرة ال حد لها.. ظل الشيخ يردد ذلك ،ويشرحه بطرق مختلفة ،وكان تًلميذه وكأن على رؤوسهم الطير سكونا وخشوعا ..وكان المكان البسيط الذي كنا نجلس فيه قد تحول إلى قطعة من عالم الملكوت الواسع الجميل. بعد أن انتهى الشيخ من درسه ،التفت إلى مريديه ،وقال :من فهم منكم من السورة شيئا آخر ،فليتقدم به ..فأنتم تعلمون أن القرآن الكريم ال تنتهي عجائبه ،وال تفنى عطاياه. رفع أحد التًلميذ يده ،وقال :يا شيخ ..ائذن لي أن أطرح لك إشكاال وقع لي ،ولبعض زمًلئي ..ولكن ال عًلقة له بالسورة الكريمة. أذن له الشيخ ،فقال :سيدي مع احترامنا لك ولمجلسك ،وللعلوم العظيمة التي نستفيدها منك ،ولما نراه من تأثيرها على حياتنا جميعا ..إال أن هناك من يعيبون علينا جلوسنا بين يديك ..وهم يذكرون لنا بأنك ال تحمل أي إجازة من مشايخ الحديث أو اللغة أو غيرها حتى يتاح لك أن تتكلم في القرآن الكريم ..بل يذكرون لنا أنك أمي ..وليست لك البًلغة الكافية التي تؤهلك للحديث عن القرآن الكريم ..لقد ذكروا لنا أن من يرفع
04
المنصوب ،وينصب المرفوع أقل من أن يفهم القرآن لنفسه ،فكيف يفهمه لغيره. ابتسم الشيخ ،وقال :لقد ذكرتني يا بني بشبابي الباكر عندما كنا ننشغل فيه بالنحو والصرف والبًلغة عن الكنوز العظيمة التي يحويها القرآن الكريم.. كنا حينها نأتي باآلية الواحدة ،ونعربها بالوجوه الكثيرة ..وننتفخ مع كل إعراب ..ثم ال نلتفت لمعناها ،وال نعيشه ..بل ال تزيدنا تلك القدرات التي أتيحت لنا إال حجابا عن فهم القرآن ..حينها التقيت شيخا من العارفين، قال لي( :أقبح ّ كل قبيح أن يتع ّلم اإلنسان نحو اللسان ويع ّلمه ،وال يتع ّلم نحو القلب ويع ّلمه ،مع أنّه ّ الرب ،فإذا كان نحو اللسان مع نحو محل نظر ّ الجنان كان صاحبهما في أمان ،وال يخشى عليه الخسارة والخذالن ،يوم وقوفه بين يدي الرحمنّ ، ألن الله تبارك وتعالى ال يثيب العباد على إعرابهم ،وإنّما يثيبهم على قلوبهم)
()7
والتقيت آخر ،قال لي ( :ما عرفنا من النحو إالّ إعراب قوله تعالى { :إِ ْن َي ُكو ُنوا ُف َق َرا َء ُي ْغنِ ِه ُم ال َّل ُه ِم ْن َف ْضلِ ِه } [النورّ ،]52 : إن حرف شرط ،ويغنهم جواب الشرط ،والمقصود بالغنى الغنى األكبر فيكون خطابه للمتوجهين
( )7ابن عليوة ،المنح القدوسية ،ص.20
05
على طريق أهل اإلشارة)
()7
وحكي لنا آخر أن بعض النحويين دخل مجلس الحسن بن سمعون ليسمع كًلمه فوجده يلحن ،فانصرف ذا ّما له ،فبلغ ذلك الحسن ،فكتب له: (إنك من كثرة اإلعجاب رضيت بالوقوف دون الباب ،فاعتمدت على ضبط أقوالك مع لحن أفعالك ،وإنك قد تهت بين خفض ورفع ونصب وجزم ،فانقطعت عن المقصودّ ، هًل رفعت إلى ال ّله جميع الحاجات، وخفضت كل المنكرات ،وجزمت عن الشهوات ،ونصبت بين عينيك الممات؟ وال ّله يا أخي ما يقال للعبد لم لم تكن معربا ،وإنما يقال له :لم كنت مذنبا؟ ليس المراد فصاحة المقال ،وإنما المراد فصاحة الفعال ،ولو كان الفضل في فصاحة اللسان ،لكان سيدنا هارون أولى بالرسالة من سيدنا ِ هار ُ ون ُه َو َأ ْف َص ُح ِمنِّي لِسان ًا [القصص: موسى ،حيث يقول :و َأخي ُ )]55
()2
حين سمعت هذا جلست لمشايخي من العارفين ..وقد رأيت من أنوار الفهم عندهم ما فتح لقلبي أنوار الحقائق التي كنت محجوبا عنها بظلمات نفسي ،وظلمات الغرور الذي كانت تمتلئ به. سكت قليًل ،ثم قال :أنا ال أقول لكم يا أبنائي ..ال تعربوا القرآن ..أو ال
( )7ابن عليوة ،المنح القدوسية ،ص.27 ( )2إيقاظ الهمم فى شرح الحكم ،ص.581 :
06
تبحثوا عن استعارته ومجازه ..وإنما أقول لكم :عيشوا القرآن ..واسمعوه من الله ..فًل يفقه القرآن من ال يسمعه من ربه. قال التلميذ :وهذا أيضا مما يعترضونه علينا ..إنهم يذكرون لنا أننا نكفر بذلك ..فرسول الله وحده الذي سمع القرآن من الله ..بل إنه سمعه من الله بواسطة جبريل عليه السًلم. ابتسم الشيخ ،وقال :ألم يقرؤوا قوله في حديث الوالية( :فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به)( )7فـ (والصفة ال تنفك عن موصوفها ،وال تظهر إال من حجاب لبسهاَ { ،و َما ك َ َان ل ِ َب َش ٍر َأ ْن ُي َك ِّل َم ُه ال َّل ُه إِ َّال َو ْح ًيا َأ ْو ِم ْن َو َر ِاء ِح َج ٍ اب } [الشورى ]37 :موسى عليه السًلم لما سمع خطابا من جانب الطور األيمن لم يستدل على أنه كًلم الله يكلمه به إال به من أجل ما أعطي من سًلمة الذوق وصحة الوجدان ،وهكذا الواحد منا مهما تقوى يقينه وانشرح باطنه فيما يسمعه من ألفاظ القرآن ،فًل يراه إال كًلما يكلمه الله به في ذلك الحال ،وال يستدل عليه إال به لما يحده في قلبه من تأثير النزول ورعدة الزواجر)
()2
لقد ذكر لي شيخي بعض ما يحصل لسامع القرآن من الله من تأثير حين سماعه ،فقال( :وهكذا لما ينزل به على محمد يحصل من تأثر النزول
( )7صحيح البخاري ()757 /8 ( )2ابن عليوة ،البحر المسجور ،ص.71
07
ما ترتعد به مفاصله ،ولن يزال هكذا مهما مر على قلب فارغ من الكدورات إال ويحدث فيه من تأثير النزول ،وقد كان لي نصيب من ذلك والحمد لله، فكنت مهما يطرق سمعي كًلم الله فترتعد بوادري عن الفحص حتى كأني أسمع حسيسا من بقية صلصلة الجرس ،وكنت إذا ما تناولت المصحف الكريم نتناوله بيد التبجيل والتعظيم ،وأراه كتابا وصل إلي من حكيم عليم ..وبهذه الخاصية والحمد لله أطلعني الله على بعض من جواهره)
()7
قال التلميذ :لو قلنا لهم ما ذكرته اآلن لرمونا بالحجارة. قال الشيخ :فقولوا لهم( :)2إن مرادنا من سماع القرآن من الله ال يعني إال أننا نعتبره خطابا مباشرا من الله لنا ..أي أننا المقصودون بكل خطاب في القرآن الكريم ،فإن سمعنا أمرا أو نهيا قدرنا أننا المنهيون والمأمورون.. وإن سمعنا وعدا أو وعيدا فكمثل ذلك ..وإن سمعنا قصص األولين واألنبياء علمنا أن السمر غير مقصود وإنما المقصود ليعتبر به وليأخذ من تضاعيفه ما يحتاج إليه فما من قصة في القرآن إال وسياقها لفائدة في حق ِ ِ الر ُس ِل َما النبي وأمته ولذلك قال تعالى { َو ُك اًل َن ُق ُّ ص َع َل ْي َك م ْن َأ ْن َباء ُّ ُن َث ِّب ُت بِ ِه ُف َؤا َد َك َو َجا َء َك فِي َه ِذ ِه ا ْل َح ُّق َو َم ْو ِع َظ ٌة َو ِذك َْرى ل ِ ْل ُم ْؤ ِمنِي َن } [هود: ]720فليقدر العبد أن الله ثبت فؤاده بما يقصه عليه من أحوال األنبياء
( )7البحر المسجور.20 -71 : ( )2انظر :إحياء علوم الدين (ج)283 /7
08
وصبرهم على اإليذاء وثباتهم في الدين النتظار نصر الله تعالى. وكيف ال يقدر هذا ،والقرآن ما أنزل على رسول الله لرسول الله خاصة ،بل هو شفاء وهدى ورحمة ونور للعالمين ،ولذلك أمر الله تعالى الكافة بشكر نعمة الكتاب فقال تعالىَ { :وا ْذ ُك ُروا نِ ْع َم َت ال َّل ِه َع َل ْي ُك ْم َو َما َأن َْز َل َع َل ْي ُك ْم ِم َن ا ْلكِت ِ َاب َوا ْل ِحك َْم ِة َي ِع ُظ ُك ْم بِ ِه } [البقرة ،]257 :وقال عز وجلَ { :ل َقدْ َأن َْز ْلنَا إِ َل ْي ُك ْم كِتَا ًبا فِ ِيه ِذك ُْر ُك ْم َأ َف ًَل َت ْع ِق ُل َ ون } [األنبياء..]70 : وغيرها من اآليات الكريمة ،وإذا قصد بالخطاب جميع الناس فقد قصد اآلحاد ،فهذا القارىء الواحد مقصود ،فما له ولسائر الناس ،فليقدر أنه ِ وحي إِ َلي ه َذا ا ْل ُقر ُ ِ ِ ِ ن َب َل َغ } المقصود ،قال الله تعالىَ { :و ُأ َ َّ َ آن ألُنْذ َر ُك ْم بِه َو َم ْ ْ [األنعام ،]71 :وقد قال بعض مشايخنا بعد قراءته لآلية الكريمة( :من بلغه القرآن فكأنما كلمه الله) وفي هذه الحالة ،وعند تقديره أنه المقصود من كل خطاب ،لم يتخذ دراسة القرآن عمله ،بل يقرؤه كما يقرأ العبد كتاب مواله الذي كتبه إليه، ليتأمله ،ويعمل بمقتضاه ،ولذلك قال بعض مشايخنا( :هذا القرآن رسائل أتتنا من قبل ربنا عز وجل بعهوده نتدبرها في الصلوات ،ونقف عليها في الخلوات ،وننفذها في الطاعات والسنن المتبعات) وكان بعض مشايخنا في الزاوية يزورنا ،ونحن نحفظ القرآن أو نراجعه، ويقول( :ما زرع القرآن في قلوبكم يا أهل القرآن ،إن القرآن ربيع المؤمن
09
كما أن الغيث ربيع األرض) قال تلميذ آخر :إنهم يا شيخنا يقولون لنا :إنكم لن تستفيدوا من تلك اإلشارات إال بعدا عن حقائق القرآن ..فالقرآن عبارة ال إشارة ..وقد يخطئ اإلنسان في اإلشارة ..لكنه لن يخطئ أبدا في العبارة ،ألنها محروسة باللغة واإلعراب والبًلغة وكًلم أساطين المفسرين. قال الشيخ :ليس الشأن يا بني أن نعرب القرآن أو نستخرج درر بًلغته.. الشأن أن نتأثر بالقرآن ..فالقرآن يحدث في قلب اإلنسان آثارا مختلفة بحسب اختًلف اآليات ،فيكون له بحسب كل فهم حال ووجد يتصف به قلبه من الحزن والخوف والرجاء وغيره. وهكذا فإن قلب المؤمن إذا تمت معرفته تغلب عليه الخشية في عامة أحواله ،ألن ذلك من مقاصد القرآن الكريم لتربية النفوس وتطهيرها.. ولهذا ال نرى ذكر المغفرة والرحمة إال مقرونا بشروط يقصر العارف عن نيلها كقوله عز وجلَ { :وإِنِّي َل َغ َّف ٌار } [طه ،]82 :ثم أتبع ذلك بأربعة ِ َاب َوآ َم َن َو َع ِم َل َصال ِ ًحا ُث َّم ْاهتَدَ ى } [طه]82 : شروط { :ل َم ْن ت َ ومثل ذلك السورة التي كنا نحاول أن نسمعها من الله ،فقد ذكر الله أربعة شروط لتحقيق الفوز والفًلح. ومن فهم ذلك فجدير بأن يكون حاله الخشية والحزن ،ولذلك كان بعض مشايخنا يقول( :والله ما أصبح اليوم عبد يتلو القرآن يؤمن به إال كثر
11
حزنه ،وقل فرحه ،وكثر بكاؤه ،وقل ضحكه ،وكثر نصبه وشغله ،وقلت راحته وبطالته) وقال شيخ آخر ،وقد رآنا ننشغل بالروايات واألحاديث عن القرآن الكريم( :نظرنا في هذه األحاديث والمواعظ فلم نجد شيئا أرق للقلوب وال أشد استجًلبا للحزن من قراءة القرآن وتفهمه وتدبره) وهكذا فإن تأثر العبد بالتًلوة تجعله يصير بصفة اآلية المتلوة ،فعند الوعيد وتقييد المغفرة بالشروط يتضاءل من خيفته كأنه يكاد يموت ،وعند التوسع ووعد المغفرة يستبشر كأنه يطير من الفرح. وعند ذكر الله وصفاته وأسمائه يتطأطأ خضوعا لجًلله واستشعارا لعظمته ..وعند ذكر الكفار ما يستحيل على الله عز وجل يغض صوته، ويكسر في باطنه حياء من قبح مقالتهم. وعند وصف الجنة ينبعث بباطنه شوقا إليها ..وعند وصف النار ترتعد فرائصه خوفا منها. وإذا قالَ { :ر َّبنَا َع َل ْي َك ت ََو َّك ْلنَا َوإِ َل ْي َك َأ َن ْبنَا َوإِ َل ْي َك ا ْل َم ِص ُير } [الممتحنة: ]5ولم يكن حاله التوكل واإلنابة كان حاكيا. وإذا قالَ { :و َلن َْصبِ َر َّن َع َلى َما آ َذ ْي ُت ُمونَا } [إبراهيم ]72 :فليكن حاله الصبر أو العزيمة عليه حتى يجد حًلوة التًلوة. فإن لم يكن بهذه الصفات ولم يتردد قلبه بين هذه الحاالت كان حظه
10
من التًلوة حركة اللسان مع صريح اللعن على نفسه في قوله تعالىَ { :أ َال ِِ ِ ين } [هود ،]78 :وهكذا في كل موضع فيه لعنة.. َل ْعنَ ُة ال َّله َع َلى ال َّظالم َ ولهذا ورد في الحديث( :رب تال للقرآن والقرآن يلعنه)
()7
وإذا لم يكن يقرأ بهذه الصفة كان داخًل في معنى قوله عز وجل{ :
ون َال يع َلم َ ِ ِ َاب إِ َّال َأ َمانِ َّي َوإِ ْن ُه ْم إِ َّال َي ُظن َ ُّون } [البقرة]78 : ون ا ْلكت َ َومن ُْه ْم ُأ ِّم ُّي َ َ ْ ُ يعني التًلوة المجردة. وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا في قوله عز وجلَ { :و َك َأ ِّي ْن ِم ْن آ َي ٍة فِي السماو ِ ات َو ْاألَ ْر ِ ون َع َل ْي َها َو ُه ْم َعن َْها ُم ْع ِر ُض َ ض َي ُم ُّر َ ون } [يوسف،]703 : َّ َ َ ألن القرآن هو المبين لتلك اآليات في السموات واألرض ..ومهما تجاوزها ولم يتأثر بها كان معرضا عنها. كان بعض مشايخنا يمر علنا ،ونحن نقرأ القرآن في الزاوية ،ويقول لنا: (إياكم وأن يكون حظكم من القرآن إقامة حروفه ..فإن من لم يكن متصفا بأخًلق القرآن ،إذا قرأ القرآن ناداه الله تعالى :مالك ولكًلمي وأنت معرض عني ،دع عنك كًلمي ،إن لم تتب إلي) قال ذلك ،ثم التفت لتلميذه الذي سأله ،وقال :هل تعلم ما هو مثال العاصي إذا قرأ القرآن وكرره؟ قال التلميذ :وما مثاله؟ ( )7ابن أبي حاتم في تفسيره ج 1:ص.2077:
11
قال الشيخ :مثله مثل من يكرر كتاب الملك في كل يوم مرات وقد كتب إليه في عمارة مملكته وهو مشغول بتخريبها ومقتصر على دراسة كتابه. وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في قوله عز وجلَ { :فنَ َب ُذو ُه َو َرا َء ُظ ُه ِ ور ِه ْم َو ْاشت ََر ْوا بِ ِه َث َمنًا َقلِ ًيًل َفبِ ْئ َس َما َي ْشت َُر َ ون } [آل عمران]787 : وأشار إلى حال المؤمنين عند قراءته ،فقال { :إِنَّما ا ْلم ْؤ ِمنُ َ ِ ين إِ َذا ون ا َّلذ َ َ ُ
ِ ِ ِ يمانًا َو َع َلى َر ِّب ِه ْم ُذك َر ال َّل ُه َوج َل ْت ُق ُلو ُب ُه ْم َوإِ َذا ُتل َي ْت َع َل ْي ِه ْم آ َيا ُت ُه َزا َدت ُْه ْم إِ َ َيت ََو َّك ُل َ ون } [األنفال]2 : قال لي بعض زمًلئي أثناء التحصيل :قرأت القرآن على شيخ لي ،ثم رجعت ألقرأ ثانيا فانتهرني ،وقال :جعلت القرآن علي عمًل ،اذهب فاقرأ على الله عز وجل ،فانظر بماذا يأمرك وبماذا ينهاك(.)7 قال التلميذ :اسمح لنا سيدنا أن نذكر لك ما يثيره فينا تًلميذ شيخ العبارة من اإلشكاالت. قال الشيخ :اذكر ما بدا لك ..فمتى حجرت عليكم أن تسألوني؟ قال التلميذ :لقد ذكروا لنا أن الله أكرم وأعدل من أن يخص أحدا دون أحد بفهم كتابه ..فالكتاب للناس جميعا ..وذلك ال تقوم به إال العبارة. قال الشيخ :صدقوا في هذا ،فالله أكرم من أن يحرم خلقه ..ولكنه غني كريم ،فًل يعطي عطاءه لمن رغب عنه ،ألم تسمع قوله تعالىُ { :ك اًل ُن ِمدُّ ( )7إحياء علوم الدين (ج.)281 /7
13
ِ ِ ِ ِ ورا } [اإلسراء: َه ُؤ َالء َو َه ُؤ َالء م ْن َع َطاء َر ِّب َك َو َما كَا َن َع َطا ُء َر ِّب َك َم ْح ُظ ً ..]20فكما أن ظاهر جلد المصحف وورقه محروس عن ظاهر بشرة الًلمس إال إذا كان متطهر ًا ،فباطن معناه أيض ًا بحكم عزه وجًلله محجوب عن باطن القلب إال إذا كان متطهر ًا عن كل رجس ومستنير ًا بنور التعظيم والتوقير ..وكما ال يصلح لمس جلد المصحف كل يد ،فًل يصلح لتًلوة حروفه كل لسان وال لنيل معانيه كل قلب(.)7 لقد سألت شيخي عن معنى الطهارة التي تبيح مس المصحف ،فقال: (طهارة أهل المحبة الفكرة والنظرة ،وطهارة أهل الخدمة بالمجاهدة والمكابدة بين عبادة ظاهرة كصًلة وصيام وذكر وتًلوة وتعليم ..وبين عبادة خفية كخوف ورجاء وزهد وصبر وورع ورضا وتسليم ورحمة وشفقة وغير ذلك مما ال يظهر للعيان ..وأما طهارة أهل الباطن ،فهو الغيبة عن األكوان بشهود المكون ،أو الغيبة عن الخلق بشهود الملك الحق)..
()2
قال الشيخ ذلك ،ثم التفت لتلميذ آخر ،وقال :وأنت ..أظن أنك لديك سؤاال ..وأنت تستحي من ذكره. قال التلميذ :أجل.. قال الشيخ :اذكر سؤالك يا بني ..فأنت تعلم أن الحيي محروم من
( )7إحياء علوم الدين (ج.)287 /7 ( )2إيقاظ الهمم فى شرح الحكم ،ص 70 :بتصرف.
14
االستفادة ..مثله مثل المستكبر تماما. قال التلميذ :هم يعترضون على ما ذكرته لنا البارحة عند قوله تعالى{ :
ِ ِ ِ ِ ِ اج َع ْل لِي ِم ْن َو ُق ْل َر ِّب َأ ْدخ ْلني ُمدْ َخ َل صدْ ٍق َو َأ ْخ ِر ْجني ُم ْخ َر َج صدْ ٍق َو ْ َلدُ ن َْك ُس ْل َطانًا ن َِص ًيرا } [اإلسراء ..]80 :لقد ذكرنا لهم ما قلته ..فذكروا أنك مخطئ فيها ،والصحيح أن هذه اآلية نزلت في فتح مكة ،وأن ال ّله تعالى أمر رسوله أن يقول هذا الدعاء عند دخولها حال فتحها ،ومعناه: رب أدخلني مكة مدخل صدق أي :إدخال صدق ،بأن يكون دخولي بك واعتمادي عليك ناصرا لدينك بحولك وقوتك ،وأخرجني من مكة مهاجرا إلى جهاد عدوك مخرج صدق :أي :إخراج صدق ،بأن أكون منصورا بك، معصوما بحفظك ورعايتك ،واجعل لي من لدنك سلطانا :أي :برهانا دامغا لكل باطل نصيرا ينصرني على من عاداني. قال الشيخ :وهل أنكرت أنا هذا التفسير؟ قال التلميذ :ال ..ولكنك ذكرت لنا معه تفسيرا آخر استغربوه ..بل قالوا فيك كًلما شديدا بسببه. قال الشيخ :لعلكم أخطأتم يا بني في النقل عني ..فهل تذكر لي ما قلتم لهم بالضبط؟ قال التلميذ :محال أن نخطئ في ذلك يا شيخنا ..نحن نسجل كل كلمة تقولها ..سأعيد لك ما ذكرته لنا.
15
فتح دفتره ،ثم راح يقرأ ( :هذه اآلية الكريمة تدل على أن دخول العارفين في األشياء كلها يكون بال ّله ،وخروجهم منها يكون بال ّله ،وكأن الله يخاطبنا من خًللها بقوله :قل أيها العارف :رب أدخلني في األشياء حقوقا كانت أو حظوظا مدخل صدق أي :إدخال صدق ،بأن يكون ذلك اإلدخال بك ،معتمدا فيه على حولك وقوتك متبرئا من حولي وقوتي ومن شهود نفسي ،وأخرجني منها مخرج صدق أي :إخراج صدق ،بأن أكون مأذونا بإذن خاص ،مصحوبا بالخشية وسر اإلخًلص ،ليكون نظري إلى حولك وقوتك إذا أدخلتني في األشياء وانقيادي إليك إذا أخرجتني منها.. واجعل لي من لدنك أي :من مستبطن أمورك بًل واسطة وال سبب سلطانا أي :برهانا قو ّيا ،وليس ذلك إال وارد قوى من حضرة قهار ال يصادمه شيء إال دمغه فيحق الحق ويزهق الباطل ،ويكون ذلك السلطان ينصرني على الغيبة عن الحس ،وعن شهود السوى حتى نبعد عنهما برؤية موالهما وال على الوهم والحس وشهود الغيرية) ينصر ّ
()7
قال الشيخ :نعم ..قلت لكم هذا ..وهو واضح ،وليس فيه أي شيء منكر ال من الشريعة ،وال من العقل.. قال التلميذ :ولكنهم يذكرون أن هذا تحريف للقرآن الكريم ..وأننا ال يصح أن نخرج باآلية عما قال المفسرون. ( )7إيقاظ الهمم فى شرح الحكم ،ص.377 :
16
قال الشيخ :صدقوا يا بني في ذلك ..وال تجادلوهم فيه ..هم تحدثوا عن مرتبتهم الوجودية ..أوعيتهم ال تقبل غير ذلك.. أذكر أني في شبابي الباكر أرسلت لشيخي رسالة أذكر له فيها ما يطرحه المعترضون عليه ،فرد علي برسالة قال فيها( :اعلم – أيها الولد المحب- أن من العلوم القرآنية ما هو خاص بالخاصة ،وال يمكن للعامة أن تفهمه أو تتعاطاه ،وقد ورد في األثر( :إن من العلم كهيئة المكنون ال يعلمه إال العلماء بالله ،فإذا أظهروه أنكرته أهل الغرة بالله) ( ..)7وقد ورد في وصية اإلمام علي لتلميذه الصالح كميل( :يا ُكميل ،إن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها ،فاحفظ عني ما أقول لك :الناس ثًلثة؛ عالم رباني ،ومتعلم على أتباع كل ناعق ،مع كل ريح يميلون ،لم يستضيئوا سبيل نجاة ،وهمج رعاع ُ بنور العلم ولم يلجئوا إلى ركن وثيق ،فاحذر أن تكون منهم يا كميل).. وقال له شاكيا( :آه لو وجدت لهذا العلم حملة ال أجد إال لقن ًا غير مأمون ،يستعمل آلة الدين للدنيا ،ويستظهر بنعم الله على عباده ،وبحججه على أوليائه ،أو منقاد ًا لحملة الحق ،وال بصيرة له في أحناته ،ينقدح الشك في قلبه ألول عارض من ُشبهة ،ال إلى هؤالء وال إلى هؤالء ،أو منهوكا
( )7قال العراقي في تخريجه( :رواه أبو عبد الرحمن السلمي في األربعين له في التصوف من حديث أبي هريرة بإسناد ضعيف) (انظر :أبو الفضل العراقي ،المغني عن حمل األسفار ،تحقيق: أشرف عبد المقصود ،مكتبة طبرية الرياض7573 ،هـ 7113 -م( ،ج)25 /7
17
باللذة سلس القياد للشهوة ،أو مغرم ًا بالجمع واالدخار ،ليسا من رعاة أقرب شبه ًا بهما األنعا ُم السائمة كذلك يموت العلم بموت الدين في شيءُ ، حامليه مستترا).. العبارة: بعد أن امتألت بمشاعر عظيمة في مجلس شيخ العبارة ،وبعد أن سال من دموعي ما لم أستطع إيقافه ..وبعد تلك الحسرة التي شعرت بها على تقصيري في حق ربي ..رحت لجهلي وغبائي أبحث عن شيخ العبارة الذي كانوا يتحدثون عنه كل حين. فسألت عنه ،فدلني بعضهم على قصر مهيب ..فتعجبت أن يكون لشيخ العبارة مثل تلك المدرسة ..بينما مدرسة شيخ اإلشارة ال تعدو أن تكون كوخا من األكواخ ،أو منزال بسيطا ال يزيد عن البيوت التي تجاورها شيئا. وعندما دخلت المدرسة زاد عجبي من كثرة تًلميذها ..وكثرة المتاع المتوفر فيها.. كان التًلميذ في انتظار الشيخ على أحر من الجمر ..وكان بيد كل منهم دفتر وقلم.. دخل الشيخ ،وكان ضخم الجثم ،حسن البزة ،طويل القامة ،عريض الهامة ،يمأل السمع والبصر.. بدأ القارئ بإشارة من الشيخ يقرأ القرآن الكريم ..وكان العجب أن يقرأ
18
سورة العصر.. بعد قراءتها أخذ الشيخ في تفسيرها ،وكان جهوري الصوت ،فصيح اللسان ،يحرص على أن يقيم القلقة والغنة والمدود ونحوها ..ويحرص على أال يقع في أي لحن ..سأحكي لكم نموذجا مما كان يقوله ،ويمكنكم أن تقيسوا عليه الباقي.. قال الشيخ :نبدأ باللغة( ..ا ْل َع ْص ِر) كما في القاموس :الدهر ..والجمع أعصار وعصور وأعصر وعصر ..والعصر اليوم والليلة والعشي إلى احمرار الشمس ..والغداة والحبس والرهط والعشيرة والمطر من المعصرات والمنع والعطية ،عصره يعصره وبالتحريك الملجأ والمنجاة كالعصر بالضم(.)7 قال بعض التًلميذ :ماذا قال السلف الصالح في معناه؟ قال الشيخ :لقد ورد عن السلف فيه ثًلثة أقوال(:)2 أحدها :أنه الدَّ هر ،قاله ابن عباس ،وزيد بن أسلم ،والفراء ،وابن قتيبة. وإنما أقسم بالدهر ألن فيه عبرة للناظر من مرور الليل والنهار على تقدير ال ينخرم. والثاني :أنه العشي ،وهو ما بين زوال الشمس وغروبها ،قاله الحسن
( )7إعراب القرآن وبيانه (.)377 /70 ( )2زاد المسير في علم التفسير (.)587 /5
19
وقتادة. والثالث :صًلة العصر ،قاله مقاتل. قال تلميذ آخر :هًل وضحت لنا كيف نقرؤها غضة طريقة. قال الشيخ :في ذلك وجوه ::منها ما قرأ به سًلم أبو المنذر ،حيث قرأ (والعصر) بكسر الصاد والراء ..وهذا إنما يكون في نقل الحركة عند الوقف كقولك مررت ببكر تعلو كسرة الراء إلى الكاف عند الوقف.. وكذلك يفعلون في المرفوع وال ينقلون في المنصوب إال في ضرورة شاعر ،وقد قال سيبويه :الوقف على االسم بستة أشياء :باإلشمام واإلشباع ،وروم الحركة ،ونقل الحركة ،والتشديد ،واإلسكان ..ونقول اإلشمام ضم الشفتين بعد اإلسكان في المرفوع والمضموم لإلشارة إلى الحركة من صوت والغرض به الفرق الساكن والمسكن في الوقف ،والروم هو أن تأتي بالحركة مع إضعاف صوتها والغرض به هو الغرض باإلشمام إال أنه أتم في البيان من اإلشمام فإنه يدركه األعمى والبصير واإلشمام ال يدركه إال البصير. قال تلميذ آخر :شكرا لنا شيخنا ..فلنذهب إلى الكلمة الثانية ْ ِ (اإلن َ ْسان) قال الشيخِ ْ : (اإلن َ ْسان) لفظ يقع للذكر واألنثى من بني آدم وربما أنّثت العرب فقالوا إنسان وإنسانة ،كما قال الشعر: إنسانة تسقيك من إنسانها ...خمرا حًلال مقلتاها عنبه
31
وال فيه الستغراق الجنس فيشمل المؤمن والكافر بدليل االستثناء. قال تلميذ آخر :وكلمة ُ (خ ْس ٍر) ..ما تعني؟ قال الشيخ :الخسر والخسران سواء ،قال في المصباح( :خسر في تجارته خسارة بالفتح وخسرا وخسرانا ويتعدى بالهمزة فيقال أخسرته فيها وخسر خسرا وخسرانا أيضا :هلك) بقي الشيخ هكذا يشرح السورة كلمة كلمة ..ثم أعربها ،وأطال في وجوه إعرابها ..ثم تكلم عن البيان والمعاني والبديع ..ثم انتهى من درسه، وطلب من تًلميذه أن يسألوه عما لم يفهموه. قال أحدهم :شكرا لك شيخنا على هذا التفسير العظيم الذي لم نقرأ مثله ..وأنا أريد أن أسألك سؤاال حول شيخ اإلشارة.. غضب الشيخ ،وقال :ما به ..أال يزال ذلك األمي الملحد يتجرأ على تفسير القرآن ..ألم أكن قد نهيته عن ذلك ..ألم تأت الشرطة بعد لتغلق عليه السرداب الذي ينشر فيه الباطنية وكل أنواع الضًلل؟ قال التلميذ :بلى ..لم تأت الشرطة بعد ..وقد كنت في الصباح عنده.. وقد رأيته يفسر هذه السورة بخًلف ما فسرتها ..وقد مأل تًلميذه رعبا ..بل صور لهم ،وكأنهم هم الخاسرون ..ال الكفار والمبتدعة والزنادقة. قال الشيخ ،وهو يضحك :لقد صدق في هذا ..فمن تبعه ال شك في خسارته..
30
ضحكوا جميعا ،لكن أحد التًلميذ قال :ولكن السورة فيها هذا التهديد المخيف. قال الشيخ :هي تهديد للمبتدعة المنحرفين الضالين ..أما أصحاب الفرقة الناجية ،فًل خوف عليهم وال هم يحزنون ..لقد وردت اآلثار الكثيرة عن سلفنا الصالح تضمن النجاة لكل من تمسك بما نتمسك به من السنة وهدي السلف الصالح.. ثم أخذ يروي لهم ما ورد عن البربهاري وابن بطة وابن خزيمة وابن تيمية وغيرهم من الضمانات ما مألهم بشرا وسعادة ،وأكد لهم أنهم ال محالة داخلون الجنة ،وأن من عداهم ال محالة داخلون النار. بعد انتهى رفع تلميذ آخر يده ،وقال :هل علمت يا شيخنا بأن شيخ اإلشارة قد عاد لما حذرته منه ،فذكر أنه يمكن لإلنسان أن يسمع القرآن من الله مباشرة من غير حاجة لملك أو غيره. قال الشيخ( :)7هذه جراءة لم يتح ألحد ـ فيما مضى ـ أن يعلن بمثلها في قوم من المسلمين فتروى عنه وتروج ،إنها تؤدى بقائلها والمصدق به إلى االستغناء عن رسالة محمد إذا كان (المؤمن) يأخذ القرآن من االمام
( )7الكًلم الوارد هنا هو للشيخ أحمد حماني في كتابه ،صراع بين السنة والبدعة(،ج)272/7 في نقد الشيخ ابن عليوة الذي اعتبرناه شيخ اإلشارة ..وقد أشرنا بقصر شيخ العبارة إلى المجلس اإلسًلمي األعلى الذي كان يرأسه الشيخ حماني.
31
المبين ..أو يأخذ مباشرة من أرحم الراحمين فإنه ليس من أمة محمد ،ألن أمة محمد أخذت القرآن منه ،أخذه الصحابة مباشرة وكتبوه ورووه، وبلغ إلى من لم يكن حاضرا نزوله ومن بعده برواية بلغت حد التواتر في كل كلمة منه وكل حرف ،وهو لم يأخذ القرآن مباشرة من اللوح المحف وظ ،وال تلقاه مباشرة من الله ،وإنما تلقاه من لدن حكيم عليم بواسطة أمين الوحي جبريل عليه السًلم ،كما أنبأنا عًلم الغيوبَ { ،وإِ َّن ُه َل َتن ِْز ُيل َر ِّب ا ْل َعا َل ِمي َن } [الشعراء..]712 : إن هذه الدعوى خطيرة جدا ألنها تؤدي إلى أن الوحي لم ينقطع بختم الرسالة ،فمن يقرأ اللوح المحفوظ ،ومن يتلقى عن الله فهو يوحى إليه{ :
َان ل ِ َب َش ٍر َأ ْن ُي َك ِّل َم ُه ال َّل ُه إِ َّال َو ْح ًيا َأ ْو ِم ْن َو َر ِاء ِح َج ٍ اب َأ ْو ُي ْر ِس َل َر ُس ً َو َما ك َ وال ِ ِِ ِ ِ يم } [الشورى ،]37 :ونحن المسلمين َف ُيوح َي بِإِ ْذنه َما َي َشا ُء إِ َّن ُه َعل ٌّي َحك ٌ نعتقد أن الوحي قد انتهى بختم الرسالة) قال ذلك ،ثم ختم الجلسة ،وهو يقول :انتظروا ..في هذا المساء سوف نقضي على هذه الفتنة من جذورها. قبل آذان المغرب بقليل ،شعرت بأشواق تجذبني إلى شيخ اإلشارة، ألزيح عن قلبي ما علق به من رين بسبب شيخ العبارة ،فذهبت ،لكني فوجئت بها مغلقة بالشمع األحمر ..سألت المارة عن الشيخ ،فأخبروني أنه اقتيد إلى السجن ..وأن شيخ العبارة انتصر أخيرا على شيخ اإلشارة..
33
وفي ذلك المساء أيضا سمعت أن شيخ العبارة رقي إلى مناصب مهمة في الدولة ،بحيث صار هو الممثل األعلى لإلسًلم ،وهو المفتي الوحيد في الدولة ،والمفسر الوحيد للقرآن.
34
العبرة ..واألسطورة تشكل القصص جزءا مهما من القرآن الكريم قد يصل إلى النصف ،وقد يتجاوزه ..وهنا تكمن الخطورة.. فالذي يتقن التعامل مع هذا النصف ،يكون قد تعامل حقيقة مع القرآن اإللهي المقدس ..وإن أساء التعامل معه يكون قد ضيع نصف القرآن ،أو تعامل مع قرآن آخر نسجه بهواه أو ثقافته أو بيئته أو طائفته ومذهبه ..وهو يقول حينذاك شعر أو لم يشعر بتحريف القرآن وتبديله وتغييره ،ويكون من الذين بدلوا الكلم عن مواضعه ،وتكون يده من األيادي اآلثمة التي لم تتطهر لتلمس الحقائق القرآنية. ال تستعجلوا في اإلنكار علي ..فهذا الكًلم ليس من نسج الخيال، وليس نظرة موغلة في التشاؤم ،بل هو الواقع السائد في تراثنا وتاريخنا.. وأنا ال أقوله ألحكم على أحد من الناس بأي حكم ..فالله هو الديان وهو ال ذي يحكم بين عباده ..ولكني أقوله ألنه الواقع أوال ..ونحن مطالبون بأن نكون صادقين في نظرتنا للواقع ،وفي حكمنا عليه ..وأقوله ثانيا ،ألنه ال يمكن أن نصحح واقعنا ،ونحن نفخر بأنفسنا وتراثنا وأمجادنا، ولو كان على حساب تضييع نصف القرآن ،أو تحريفه وتبديله. سأقص عليكم قصة قد تبسط هذه الحقيقة التي أومن بها ،وهي رمزية كسائر القصص ،فمن فك الرمز وصل إلى الحقيقة ،ومن انشغل بالرمز تاه
35
عنها ،مثلما نتيه تماما عن الرموز المودعة في القصص القرآني. لقد قدر لي في ذلك اليوم أن أمر على مدرستين وشيخين مختلفتين تماما إلى درجة التناقض مع أن الكتاب الذي يحاوالن فهمه واحد. أما الشيخ األول الذي مررت عليه بجنب تًلميذه في مدرسته المتواضعة ،فهو شيخ العبرة ..كان المحل الذي يقيم فيه مع تًلميذه ضيقا بسيطا ..وكان عدد تًلميذه قليًل جدا ..ربما يمثلون تلك الطائفة المحدودة التي فهمت مراد الله من قصصه ..فاعتبرت الله مربيا بالقصص ،وهاديا بها ،وداعيا عباده إلى سبيله من خًلله. تلك الطائفة التي وعت قوله تعالىَ { :ل َقدْ ك َ َان فِي َق َص ِص ِه ْم ِع ْب َر ٌة ِّألُ ْول ِي األَ ْل َب ِ اب َما ك َ َان َح ِديث ًا ُي ْفت ََرى َو َلـكِن ت َْص ِد َيق ا َّل ِذي َب ْي َن َيدَ ْي ِه َو َت ْف ِص َيل ُك َّل َش ْي ٍء َو ُهدً ى َو َر ْح َم ًة ِّل َق ْو ٍم ُي ْؤ ِمنُ َ ون } (يوسف)777 : تلك الطائفة هم أولوا األلباب الذي يهتمون باللب ،ال بالقشور، وباألعماق ال بالسطحيات.. تلك الطائفة هي الوحيدة التي عرفت أن الله بذاته العلية عندما يقص ص َع َل ْي َك َأ ْح َس َن ا ْل َق َص ِ ص } (يوسف)5 : علينا أحسن القصص { :ن َْح ُن َن ُق ُّ ليس حكواتيا وال مؤرخا ..وإنما هو الله رب العالمين ..الذي يعلم نفوس عباده ،ويعلم كيف يربيها. أما الشيخ الثاني ،فقد كانت مدرسته واسعة فسيحة ،وكان عدد تًلميذه
36
كثيرا ،وكان الثراء والترف باد على الجميع :الشيخ وتًلميذه.. وهم يمثلون تلك الطائفة الكبيرة من األمة التي انشغلت بالقصة عن العبرة ..وانشغلت بالتاريخ عن الواقع ..وانشغلت بهوى النفس عن مراد الرب.. ولذلك لم ترفعها القصص ..ولم تعرج بها ..بل لم تهذب بها نفوسها.. بل إن الشيطان تسرب إليها من خًللها ليبثها وحيه ،ويلقنها مراده ..ويتخذ من آيات الله وسيلة لذلك ،كما صور الله تعالى ذلك بدقة في قولهَ { :و َما َأرس ْلنَا ِم ْن َق ْب ِل َك ِم ْن رس ٍ الش ْي َط ُ ول َو َال نَبِ ٍّي إِ َّال إِ َذا ت ََمنَّى َأ ْل َقى َّ ان فِي ُأ ْمن ِ َّيتِ ِه َ ُ ْ َ ِ ِِ ِ ِ الش ْي َط ُ َف َين َْس ُخ ال َّل ُه َما ُي ْل ِقي َّ يم ()32 يم َحك ٌ ان ُث َّم ُي ْحك ُم ال َّل ُه آ َياته َوال َّل ُه َعل ٌ ان فِ ْتنَ ًة ل ِ َّل ِذين فِي ُق ُلوبِ ِهم مر ٌض وا ْل َق ِ الش ْي َط ُ ل ِ َي ْج َع َل َما ُي ْل ِقي َّ اس َي ِة ُق ُلو ُب ُه ْم َوإِ َّن َ َ ْ ََ اق ب ِع ٍ ِِ ِ ِ يد } [الحج]35 ،32 : ال َّظالمي َن َلفي ش َق ٍ َ وقد كان للشيطان نصيب وافر في تفاسير القرآن ،وخاصة في الجانب القصصي منها ،وكان له دور في تحريف مسار القرآن الكريم بتلك التفاسير ليتحول من كتاب سنن وقوانين وحقائق وعبر إلى كتاب خرافة وأسطورة وشعوذة. سأحكي لكم حديث شيخ العبرة مع تًلميذه ..وسأحكي لكم بعدها حديث شيخ األسطورة مع تًلميذه ،ولكم أن تحددوا موقفكم الذي يجعلكم تعيشون القصص ،أم تتسلون بها.
37
وقد كان النموذج الذي شهدته في كًل المدرستين واحد ،وهو قصة نبي الله سليمان عليه السًلم ..فهلم لنراه بين العبرة واألسطورة ..ونسأل أنفسنا بعد ذلك :أين هو سليمان الحقيقي الذي قص علينا القرآن قصته: هل هو سليمان العبرة ،أم سليمان األسطورة؟ العبرة: جلست مع التًلميذ المتواضعين في المدرسة المتواضعة مع الشيخ المتواضع ..وبدأ الحديث.. طلب الشيخ من القارئ أن يقرأ ما ورد في القرآن الكريم حول سليمان عليه السًلم ..فقرأ القارئ بصوته الجميل الهادئ من مواضع مختلفة تحكي جميعا قصة سليمان عليه السًلم. بعد أن انتهي القارئ ،التفت الشيخ إلى تًلميذه ،وقال :أنتم تعلمون طريقتي في التعامل معكم ..فنحن جميعا تًلميذ القرآن الكريم ..وليس فينا أستاذ وال تلميذ ..ولذلك سلوني ما بدا لكم ،ودعوني أسألكم ..فبالحوار نستطيع أن نفهم الحقائق ..وبالحوار نستطيع أن نمارس التفكير الجماعي الذي دعا إليه قوله تعالىُ { :ق ْل إِنَّما َأ ِع ُظ ُكم بِو ِ احدَ ٍة َأ ْن َت ُقو ُموا ل ِ َّل ِه َم ْثنَى ْ َ َ َو ُف َرا َدى ُث َّم َت َت َفك َُّروا } [سبأ]51 :
وتذكروا جيدا أننا أمام كتاب { َال َي ْأتِ ِيه ا ْل َباطِ ُل ِم ْن َب ْي ِن َيدَ ْي ِه َو َال ِم ْن َخ ْل ِف ِه َتن ِْز ٌيل ِمن حكِي ٍم ح ِم ٍ يد } [فصلت ،]52 :فكل كلمة فيه حقيقة عظيمة.. َ ْ َ
38
وكل آية فيه بحر من بحار الحكمة ..ولكم أن تسبحوا في هذا البحر ..ولكم أن تغترفوا منه ..وال تحقروا ما يلهمكم الله أثناء تدبركم لكتابه ،فالله { ُه َو ِ يم } [سبأ]21 : ا ْل َفت ُ َّاح ا ْل َعل ُ وال تحذروا أن تقولوا في القرآن ما لم يقله سلفكم أو خلفكم ..فالقرآن هو خطاب الله لكم ..وبقدر تقواكم تنالون من حكمته ،وتفهمون مراد الله ..وترقى حياتكم ودرجتكم عند الله بذلك ..كما قال تعالىَ { :وا َّت ُقوا ٍ ِ يم } [البقرة]282 : ال َّل َه َو ُي َع ِّل ُم ُك ُم ال َّل ُه َوال َّل ُه بِ ُك ِّل َش ْيء َعل ٌ رفع أحد التًلميذ يده بأدب ،وقال( :)7يا شيخ ..في نفسي شيء من طلب سليمان عليه السًلم من ربه سبحانه وتعالى أن يعطيه ملكا لم يعطه أحدا ِ ِ ب لِي من عباده ،كما نص على ذلك قوله تعالىَ { :ق َال َر ِّب ا ْغف ْر لي َو َه ْ اب } [ص]53 : ُم ْلكًا َال َينْ َب ِغي ِألَ َح ٍد ِم ْن َب ْع ِدي إِن ََّك َأن َ ْت ا ْل َو َّه ُ قال الشيخ :قل ،فًل حرج على المتعلم أن يعرض شبهته على معلمه، ألم تعلم أن الناس سألوا رسول الله عن الوسوسة التي يجدها أحدهم، ألن يسقط عن الثريا أحب إليه أن يتكلم بها ،فقال (:ذاك صريح اإليمان ،إن الشيطان يأتي العبد فيما دون ذلك فإن عصم منه وقع فيما هنالك)
()2
( )7بعض العبر المذكوره هنا نقلتها بتصرف من كتابي (مفاتيح المدائن) ( ) )2رواه النسائي.
39
قال التلميذ :لقد قلت في نفسي :لقد عهدنا األنبياء ـ عليهم الصًلة والسًلم ـ زاهدين في متاع الدنيا راغبين في الله مكتفين بالله ،فكيف طلب سليمان هذا الطلب الغريب؟ قال الشيخ :أجبني يا بني ..كيف ترى سليمان في القرآن الكريم؟ قال التلميذ :ال أراه إال خيرا منيبا ،بل لقد أثنى الله عليه بكونه منيبا رجاعا إلى الله ،فقال {:ووهبنَا لِدَ اود س َليم َ ِ اب } ان ن ْع َم ا ْل َع ْبدُ إِ َّن ُه َأ َّو ٌ َ َ َْ ُ َ ُ َْ ِ ِ (ص ،)50:وقالَ {:و َل َقدْ َف َتنَّا ُس َل ْي َم َ َاب } ان َو َأ ْل َق ْينَا َع َلى ُك ْرس ِّيه َج َسد ًا ُث َّم َأن َ ّ (ص)55: ّ قال الشيخ :فهل شغله تدبير ملكه العظيم الذي ال نظير له عن الله؟ قال التلميذ :ال ..بل أراه يذكر الله كل حين ،ويعرف الفضل لله كل حين ،فعندما مر على النملة وسمع كًلمها قالَ {:ر ِّب َأ ْو ِز ْعنِي َأ ْن َأ ْش ُك َر نِ ْع َمت ََك ا َّلتِي َأ ْن َع ْم َت َع َل َّي َو َع َلى َوالِدَ َّي َو َأ ْن َأ ْع َم َل َصالِح ًا ت َْر َضا ُه َو َأ ْد ِخ ْلنِي ِ ِ ِ ِ الصال ِ ِحي َن } (النمل :من اآلية)71 بِ َر ْح َمت َك في ع َباد َك َّ قال الشيخ :وهل ظهرت هذه اإلنابة في عًلقته مع غيره؟ قال التلميذ :أجل ،فقد كتب لملكة سبأ يقول لها {:إِ َّن ُه ِم ْن ُس َل ْي َم َ ان َوإِ َّن ُه ِ الر ِحي ِم َأ َّال َت ْع ُلوا َع َل َّي َو ْأ ُتونِي ُم ْسلِ ِمي َن } (النمل)57: الر ْح َم ِن َّ بِ ْس ِم ال َّله َّ َّاس ُع ِّل ْمنَا َمنْطِ َق ال َّط ْي ِر َو ُأوتِينَا ِم ْن ُك ِّل وقال مخاطبا رعيتهَ {:يا َأ ُّي َها الن ُ َش ْي ٍء إِ َّن َه َذا َل ُه َو ا ْل َف ْض ُل ا ْل ُمبِي ُن } (النمل :من اآلية ،)71فقد أرجع الفضل
41
إلى الله في تعليمه منطق الطير ،أو في إتيانه من كل شيء. قال الشيخ :فإن سليمان طلب ذلك الملك ،وبتلك الصورة التي ال ينازعه فيها أحد ليكون حجة على من شغله ملكه عن الله ،وكأن سليمان يقول لربه (:يارب هب لي من الملك ما تشاء ..بل هب لي ملكا ال ينبغي ألحد من بعدي أن يحصل عليه ..فإن هذا الملك مهما كان عظيما.. وذلك الفضل مهما كان وفيرا لن يحجباني عنك ،ولن يبعدا قلبي عن الرغبة فيك ..فإني ال أرى األشياء مهما كثرت إال منك ..وال أرى نفسي إال بك ..فكيف أحجب بهداياك الواصلة إلي ..أم كيف أنشغل بفضلك عنك؟) قال التلميذ :فاستجاب الله ليبلوه؟ قال الشيخ :ال ،بل استجاب له ،ليبلوكم. قلت :كيف؟ قال الشيخ :لقد علم الله صدقه وصدق يقينه ،فجعله حجة على كل من انشغل بفضل الله عن الله ،أو انشغل بالرغبة في األشياء عن الرغبة في مشيئ األشياء ..وقد جعله الله تعالى باإلضافة إلى ذلك مقوما لمن أساءوا فهم الزهد ،فتصوروا األرزاق حجبا عن الله ،والفضل اإللهي جنودا لله تبعد عن الله. قال التلميذ :نعم ،هذا صحيح ،ولعله ألجل هذا ذكر الله تعالى ما أظهر
40
سليمان لملكة سبأ من مظاهر الملك الذي أعطاه الله له ،فلم يكن غرضه الفخر عليها ،وإنما كان غرضه تعريفها بالله ،ألنها انشغلت بالعرش العظيم( )7الذي كان لها عن الله ،فلذلك كان أول ما القاها به سليمان هو عرشها الذي حجبها عن الله ،وعن التسليم له ،قال تعالىَ {:ف َل َّما َجا َء ْت ِق َيل َأ َهك ََذا َع ْر ُش ِك َقا َل ْت َك َأ َّن ُه ُه َو }(النمل)52: فلما قالت ذلك ،وفي غمرة انبهارها بما رأت أخبرها سليمان بأنه مع هذا الملك كان مسلما لله ،فلم يحجب به عن الله ،فقال تعالى على لسانه(َ {:)2و ُأوتِينَا ا ْل ِع ْل َم ِم ْن َق ْب ِل َها َو ُكنَّا ُم ْسلِ ِمي َن) فلما رأى سليمان حاجتها إلى المزيد من األدلة ،أحضرها إلى الصرح الممرد من القوارير ،وقد كان من الجمال بحيث ال يساوي عرشها الذي شغلها عن الله شيئا بجانبه ،وحينذاك لم تملك إال أن تسلم لله ،قال ِ ِ الص ْر َح َف َل َّما َر َأ ْت ُه َح ِس َب ْت ُه ُل َّج ًة َوك ََش َف ْت َع ْن َسا َق ْي َها تعالى {:ق َيل َل َها ا ْد ُخلي َّ َق َال إِ َّن ُه َص ْر ٌح ُم َم َّر ٌد ِم ْن َق َو ِار َير َقا َل ْت َر ِّب إِنِّي َظ َل ْم ُت َن ْف ِسي َو َأ ْس َل ْم ُت َم َع ت ا ْم َر َأ ًة ت َْملِ ُك ُه ْم َو ُأوتِ َي ْت ِم ْن ( )7وقد ذكر القرآن الكريم ذلك ،فقال على لسان الهدهد:إِنِّي َو َجدْ ُ ٍ ِ يم ( النمل)25: ُك ِّل َش ْيء َو َل َها ع َْر ٌش َعظ ٌ ( ) 7هذا هو الصحيح ،وهو ما قاله مجاهد وسعيد بن جبير ،وقد اختاره ابن جرير وابن كثير ،ال من قول ملكة سبأ ،بدليل أنها إنما أظهرت اإلسًلم بعد دخولها إلى الصرح ،كما قالِ (:ق َيل َل َها ا ْد ُخلِي ِ عَن َسا َق ْي َها َق َال إِ َّن ُه َص ْر ٌح ُم َم َّر ٌد ِم ْن َق َو ِار َير َقا َل ْت َر ِّب إِنِّي الص ْر َح َف َل َّما َر َأ ْت ُه َحس َب ْت ُه ُل َّج ًة َوك ََش َف ْت ْ َّ َظ َل ْم ُت َن ْف ِسي َو َأ ْس َل ْم ُت َم َع ُس َل ْي َما َن لِ َّل ِه َر ِّب ا ْل َعا َل ِمي َن( النمل)55:
41
ُس َل ْي َم َ ان ل ِ َّل ِه َر ِّب ا ْل َعا َل ِمي َن } (النمل)55: قال الشيخ :بل في القرآن الكريم ما يدل على هذا المعنى ،فقد أوتيت ملكة سبأ من الذكاء ما استطاعت أن تميز به الملوك من المؤمنين ،فقد أرسلت بهدية قيمة لسليمان لتختبره موقفه من المال ،قال تعالى على لسانهاَ {:وإِنِّي ُم ْر ِس َل ٌة إِ َل ْي ِه ْم بِ َه ِد َّي ٍة َفنَاظِ َر ٌة بِ َم َي ْر ِج ُع ا ْل ُم ْر َس ُل َ ون } (النمل)53: لكن سليمان نظر إلى ما أعطاه الله من اإليمان والفضل فوجده أعظم بكثير من أن ينحجب بهديتهم ،فقالَ {:أ ُت ِمدُّ ون َِن بِم ٍ ال َف َما آتَانِ َي ال َّل ُه َ َخ ْي ٌر ِم َّما آتَا ُك ْم َب ْل َأ ْن ُت ْم بِ َه ِد َّيتِ ُك ْم َت ْف َر ُح َ ون } (النمل)51: قال التلميذ :لقد فهمت يا معلم سر طلب سليمان ،ولكن لماذا ورد في القرآن الكريم ذكر ملكة سبأ بالذات ،وذكر هذا الموقف من سليمان معها؟ قال الشيخ :لقد أراد الله من هذا النموذج أن يبين لنا كيفية دعوة من بهرتهم الدنيا وشغلتهم عن الله. قال التلميذ :لم أفهم. قال الشيخ :إن ملكة سبأ بعرشها ،وقومها بتعظيمهم لها انشغلوا عن الله ،فجعل الله فيما أعطى المؤمنين من أسباب الفضل التي لم تشغلهم عن الله ما يرغبهم في اإليمان بالله.
43
قال التلميذ :ولكن القرآن الكريم ذكر إسًلم ملكة سبأ وحدها. قال الشيخ :والقرآن الكريم ذكر التبعية المطلقة لقومها لها ،كما قال س َش ِد ٍ تعالى على لسان مستشاريها {:ن َْح ُن ُأو ُلو ُق َّو ٍة َو ُأو ُلو َب ْأ ٍ يد َو ْاألَ ْم ُر إِ َل ْي ِك َفا ْن ُظ ِري َما َذا َت ْأ ُم ِري َن } (النمل :من اآلية ،)55وهو ما يدل على أنهم اتبعوها على اإليمان. قال التلميذ :وهل رجعت إليهم حتى يتبعوها؟ قال الشيخ :ومن قال :إنها لم ترجع إليهم ..إن القرآن الكريم أخبر أن غاية سليمان من إرساله لها هو حثها على اإلسًلم ال سلب ملكها ِِ ِ ن} منها ،كما قال تعالى على لسانهَ {:أ َّال َت ْع ُلوا َع َل َّي َو ْأ ُتوني ُم ْسلمي َ (النمل)57: قال التلميذ :ولكن المفسرين أخبروا أنه تزوجها. قال الشيخ :وهل حضروا حفل زواجها!؟ ..ما أولعكم بما ال يفيدكم. قال التلميذ :ولكنهم رووا في ذلك أخبارا ،فقد رووا أن الجن أرادوا أن يبشعوا منظرها عند سليمان وأن تبدي عن ساقيها ليرى ما عليها من الشعر فينفره ذلك منها ،وخشوا أن يتزوجها ألن أمها من الجان فتتسلط عليهم معه وذكر بعضهم أن حافرها كان كحافر الدابة. ثم إن سليمان لما أراد إزالته ـ حين عزم على تزوجها ـ سأل اإلنس عن زواله فذكروا له الموسى ،فامتنعت من ذلك ،فسأل الجان فصنعوا له
44
النورة ووضعوا له الحمام ،فكان أول من دخل الحمام فلما وجد مسه قال (:أوه من عذاب أوه أوه قبل أن ال ينفع أوه ) وقد ذكر الثعلبي وغيره أن سليمان لما تزوجها أقرها على مملكة اليمن وردها إليها ،وكان يزورها في كل شهر مرة ،فيقيم عندها ثًلثة أيام ثم يعود على البساط ،وأمر الجان فبنوا له ثًلثة قصور باليمن :غمدان وسالحين وبيتون. قال الشيخ :طهروا كتب تفسيركم من هذا الرفث ،فالحقائق الجميلة الطاهرة للقرآن الكريم ال ينجسها إال هذا اللغو الذي تملؤون به أسفاركم، وتضيعون به أوقاتكم ،وتنشغلون به عن ربكم. قال التلميذ :أال يمكن ،يا معلم ،أن نستفيد من موقف سليمان مع ملكة سبأ فنجعله أسلوبا من أساليب الدعوة لله في عصرنا؟ قال الشي خ :بل لم يذكره القرآن الكريم إال لتستخدموه ،فلو أن رجاال من هذه األمة رفعوا هممهم وسخروا السنن التي وضعها الله لهم ،وامتطوا صهوة الزمان ،فأخرجوا األمة من غياهب التخلف والمعاناة ،وأوصلوها إلى التقدم والتطور الذي ال يحجب عن الله لتحقق بذلك نصر الله الذي يدخل الناس بسببه في دين الله أفواجا. قال التلميذ :ولكن النصر ـ كما أتصوره ـ نصر جيوش. قال الشيخ :ذلك نصر المصارعين ،أما المسالمون فهم الذين ينتصرن
45
بأقًلمهم ودفاترهم ،وفؤوسهم ومعاولهم. رفع تلميذ آخر يده ،وقال :لدي سؤال ال يزال يثار في ذهني. قال الشيخ :قل ما بدا لك ..فمتى حجرت عليكم السؤال؟ قال التلميذ :أنا أتعجب من طلب سليمان من ملئه أن يأتيه بعرشها ..فقد كان له من القوى ما ليس لهم ..فلم طلب منهم ذلك ،فقال: { َيا َأ ُّي َها ا ْل َم َ ُ أل َأ ُّي ُك ْم َي ْأتِينِي بِ َع ْر ِش َها َق ْب َل َأ ْن َي ْأ ُتونِي ُم ْسلِ ِمي َن } (النمل)58 : قال الشيخ :فما الذي أجابه به العفريت؟ قال التلميذ :قال له ما نص عليه القرآن الكريم من قوله تعالىَ {:أنَا آتِ َ يك بِ ِه َق ْب َل َأ ْن َت ُقو َم ِم ْن َم َق ِام َك َوإِنِّي َع َل ْي ِه َل َق ِو ٌّي َأ ِمي ٌن } (النمل)51: قال الشيخ :فهل كان ما طرحه العفريت مقبوال من جهة سرعة إحضاره؟ قال التلميذ :أجل ،فًل أظن أن هناك وسيلة معاصرة تستطيع إحضارالعرش بهذه السرعة. قال الشيخ :وهل رضي سليمان بما طرحه العفريت؟ قال التلميذ :ال ،بدليل أنه لم يكتف به ،بل سمع للذي عنده علم من الكتاب ،فقد ضمن له سرعة أكبر. قال الشيخ :إذن سليمان لم يرض بما اقترح العفريت ،بل ظل يتطلع إلى سرعة أعظم ،إلى أن حصل عليها. قال التلميذ :أجل هذا واضح من القصة.
46
قال الشيخ :يمكنك أن تفهم من هذا بحسب وعائك ..وبحسب القبلة التي يتوجه إليها عقلك وقلبك. قال التلميذ :لم أفهم. قال الشيخ :القرآن الكريم يخاطب كل إنسان بحسب الوجهة التي توجه لها ..فإن كان عابدا فهم من اآلية السباق الجاري بين العابدين،كما قال تعالىَ { :وفِي َذل ِ َك َف ْل َي َتنَا َف ِ س ا ْل ُم َتنَافِ ُس َ ون } [المطففين ..]21 :وإن كان عالما فهم منها السباق القائم بين العلماء ..وهكذا تشمل اآلية كل أنواع السباق حتى السباق القائم بين الدول ..فأنتم تعلمون أن هناك دوال متطورة تصنف ضمن العالم األول ..ودوال متخلفة عن ركب غيرها من األمم.. ومن العار على األمة التي أوتيت الكتاب أن تكون آخر األمم وأكثرها تخلفا. قال تلميذ آخر :فحدثنا يا شيخنا عن سر قوله تعالىَ {:ول ِ ُس َل ْي َم َ يح الر َ ان ِّ اح َها َش ْه ٌر } (سـبأ)72 : ُغدُ ُّو َها َش ْه ٌر َو َر َو ُ قال الشيخ :فما فهمت منها ..وما الذي استفدته من المفسرين منها؟ قال التلميذ :يخبر الله تعالى عن النعم التي وهبها سليمان ،ومنها تسخير الريح له تحمل بساطه غدوها شهر ورواحها شهر ،كما قال الحسن البصري (:كان يغدو على بساطه من دمشق ،فينزل بإصطخر يتغدى بها، ويذهب رائح ًا من إصطخر فيبيت بكابل ،وبين دمشق وإصطخر شهر كامل
47
للمسرع ،وبين إصطخر وكابل شهر كامل للمسرع ) قال الشيخ :فمن أخبر الحسن بذلك؟ قال التلميذ :ربما يكون سمعها من الصحابة الذين سمعوها من رسول الله .. قال الشيخ :فلم لم تقل :إن رسول الله هو الذي ذكر ذلك؟ قال التلميذ :ألنه ال دليل على ذلك ،فقد يكون سمعها من اليهود ،أو من غيرهم. قال الشيخ :فما قيمة هذا العلم الذي ال تعرف مصدره ،وال صدقه.. وحتى لو عرفته فما الذي يفيدك أين يتغدى وأين يتعشى ..وهل ترى سليمان عليه السًلم كان من المترفين الذين يستغلون نعم الله عليهم لتغذية مآرب الترف فيهم ..أال ترى فيما ذكرته لي إهانة لنبي الله األواب التواب الزاهد؟ قال التلميذ :من هذه الجهة صدقت ..ولكن لم ذكر الله ذلك؟ قال الشيخ :اآلية تشير الى أن الطريق مفتوح أمام البشر لقطع مثل هذه المسافة في الهواء.. قال التلميذ :كأنك تقول :إن هذه اآلية تحث على البحث عن القدرات المخزنة في الهواء الستغًللها في قطع المسافات. قال الشيخ :لست أنا الذي أقول هذا ،بل إن الله تعالى يقول في معنى
48
فحمل ُته فوق متون هذه اآلية الكريمة (:إن عبد ًا من عبادي ترك هوى نفسهّ ، الهواء ،وأنت ايها االنسان! ان نبذت كسل النفس وتركته ،واستفدت جيد ًا من قوانين سنتي الجارية في الكون ،يمكنك أيض ًا أن تمتطي صهوة الهواء )
()7
قال تلميذ آخر :أخبرنا سيدنا عن سر سمع سليمان للنملة عندما قالت {:يا َأيها النَّم ُل اد ُخ ُلوا مس ِ اكنَ ُك ْم ال َي ْحطِ َمنَّ ُك ْم ُس َل ْي َم ُ ان َو ُجنُو ُد ُه َو ُه ْم َ ُّ َ ْ ْ َ َ ال َي ْش ُع ُر َ ون } (النمل :من اآلية ،)78فتبسم ضاحكا من قولها ..وعن سر ذكر القرآن الكريم لذلك؟ قال الشيخ :فما ترى أنت؟ قال التلميذ :تلك معجزة حصلت له. قال الشيخ :ألم تعلم بأن معجزات الله ال تخرق سنن الله ،فسنن الله ال يعتريها التبديل والتحريف!؟ قال التلميذ :أجل لقد علمتنا علم ذلك ،ولكن كيف استطاع سليمان أن يسمع النمل ،وكيف استطاع أن يعلم لغتها!؟ قال الشيخ :من صدق مع الله لم يحتقر أي شيء ..ومن لم يحتقر أي شيء استفاد من كل شيء ..فاالحتقار هو الحجاب الذي يحول بيننا وبين فهم األشياء أو االستفادة منها ..ولذلك قال تعالى { :إِ َّن ال َّل َه َال َي ْست َْح ِيي َأ ْن ( )7كًلم لبديع الزمان النورسي.
49
ِ ين آ َمنُوا َف َي ْع َل ُم َ ون َأ َّن ُه ا ْل َح ُّق ِم ْن َي ْض ِر َب َم َث ًًل َما َب ُع َ وض ًة َف َما َف ْو َق َها َف َأ َّما ا َّلذ َ َر ِّب ِه ْم َو َأ َّما ا َّل ِذي َن َك َف ُروا َف َي ُقو ُل َ ون َما َذا َأ َرا َد ال َّل ُه بِ َه َذا َم َث ًًل ُي ِض ُّل بِ ِه كَثِ ًيرا َو َي ْه ِدي بِ ِه كَثِيرا وما ي ِض ُّل بِ ِه إِ َّال ا ْل َف ِ اس ِقي َن } [البقرة]21 : ً َ َ ُ َّاس ولهذا ضرب الله لنا المثل بالذباب ..كما قال تعالىَ { :يا َأ ُّي َها الن ُ ِ ُض ِرب م َث ٌل َف ِ ون ِمن د ِ ون ال َّل ِه َل ْن َي ْخ ُل ُقوا ُذ َبا ًبا َو َل ِو استَم ُعوا َل ُه إِ َّن ا َّلذي َن تَدْ ُع َ ْ ُ ْ َ َ ِ اجت ََم ُعوا َل ُه َوإِ ْن َي ْس ُل ْب ُه ُم ُّ ب اب َش ْي ًئا َال َي ْس َتن ِْق ُذو ُه ِمنْ ُه َض ُع َ ف ال َّطال ُ الذ َب ُ ْ وب } [الحج]75 : َوا ْل َم ْط ُل ُ فالعارف بالله يستفيد من الذباب ما ال يستفيده الغافل من الكون جميعا.. بقي التًلميذ والشيخ يتناولون كل جزئية وردت في قصة سليمان عليه السًلم بالبحث والتحليل والنظر مدة من الزمن ..وقد شعرت حينها بأن تلك السورة تتسع في عيني لتشمل الحياة جميعا بمختلف جوانبها.. وشعرت وكأن سليمان عليه السًلم عاد من جديد بصورته الحقيقية.. صورة األواب التواب الشاكر ..جاء ليلقننا من خًلل الكلمات القرآنية المقدسة كيف نعيش حياته ،وكيف نتقمص شخصه الكريم ..ليتحقق ِ ِ ين َهدَ ى ال َّل ُه َفبِ ُهدَ ُاه ُم ا ْقت َِد ْه } [األنعام: بذلك فينا قوله تعالىُ { :أو َلئ َك ا َّلذ َ ]10 األسطورة:
51
سرت بتلك المشاعر الجميلة ،وبصحبة روحية مع سليمان عليه السًلم إلى المدرسة الثانية ،وأنا أقول في نفسي :ليس على المرء أن يدرس من مدرسة واحدة ..فكلما تنوعت المدارس وتعددت كلما نضج المرء واتسع أفقه.. كنت أقول هذا من دون أن أدرك أن تلك المدرسة سوف تقوم بتخريب خطير لتلك الصورة الجملية التي رسمتها في نفسي مدرسة العبرة المتتلمذة على القرآن الكريم.. لم أكن حينها أعي سر قوله لعمر عندما أراه صحيفة من التوراة، محذرا له من أن يخلط المنابع القرآنية الجميلة بتلك التحريفات الخطيرة التي تنسخ جمال المعاني القرآنية المقدسة بقذارة التحريفات البشرية المدنسة.. لقد قال له حينها( :أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب؟ والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية ،ال تسألوهم عن شيء فيخبرونكم بحق فتكذبوا به أو بباطل فتصدقوا به ،والذي نفسي بيده لو أن موسى صلى الله عليه وسلم ح ّي ًا ما وسعه إال أن يتبعني)
()7
لكن لألسف قومنا لم ينظروا لغضب رسول الله ..ولم ينظروا إلى قوله الواضح الذي ال يحتمل أي تأويل أو نسخ أو استدراك ..بل راحوا ( )7رواه أحمد.
50
ينشرون أن رسول الله أذن في الحديث عن بني إسرائيل بًل حرج.. وأصبح ذلك هو األصل ..ونسخ الحديث السابق ،ونسخ معه غضب رسول الله ألن هؤالء يعتقدون أن غضب رسول الله غير معصوم.. وأنه يمكن أن يغضب لغير شيء كما يغضب سائر البشر ..ولم يعلموا أبدا أن غضب رسول الله هو غضب الله نفسه ..فرسول الله ال يغضب عن هوى كما ال ينطق عن هوى. دعكم من أحاديثي فهي زفرة من زفرات غضبي على ذهابي إلى تلك المدرسة ،وسماعي لمشايخها ..فقد بقيت آثار كلماتهم في نفسي زمنا طويًل ..ولم أستطع قلع تلك الصورة األسطورية القبيحة التي صوروها لنبي الله سليمان عليه السًلم إال بعد جهد جهيد ،والتجاء إلى الله أن يطهر قلبي من كل تحريف شيطاني لكتابه ولصورة نبيه.. سأحكي لكم ..واعذروني ..واحذروا أن يرتسم ما أنقله من صور إلى نفوسكم ..فإن خفتم عليها ..فاتركوا القراءة ،وال تكملوا باقي القصة.. فدينكم أهم من كل قصة. عندما دخلت المدرسة الكبيرة ذات التًلميذ الكثيرين والكتب الكثيرة المتزاحمة أحسست في البداية ببعض الراحة التي نحس بها عندما نرى مكانا جميًل متسعا ..ومنيت نفسي بأن أنال علما كثيرا جديدا. ودخل في أمنيتي شيء جديد ،وهو اإلجازة والشهادة ..فقد علق على
51
باب المدرسة بيان كبير عليه أختام كثيرة ..تبشر المداومين على الحضور بنيل اإلجازات والشهادات العليا التي تتيح لهم تبوؤ المناصب الرفيعة في تلك المدرسة وغيرها. وهذا ما فسر لي بعد ذلك سر كثرة التًلميذ ..وسر حرصهم على الحضور. جلست مجلسا من المجالس ..وكانت المفاجأة أن الدرس كان عن سليمان عليه السًلم.. اعذروني أن أنقل لكم ما يقولون ..فبعض الناس ال يصدق بشيء إال إذا رأيناه بعينه ..ولعل في قوله تعالىَ { :ال ي ِحب ال َّله ا ْلجهر بِالس ِ وء ِم َن ا ْل َق ْو ِل ُ ُّ ُ َ ْ َ ُّ ِ ِ إِ َّال َم ْن ُظلِ َم َوك َ يما } [النساء ]758 :ما يكون لنا عذرا في َان ال َّل ُه َسمي ًعا َعل ً ذكر ذلك ..وهو من باب تغيير المنكر ال من باب إشاعته.. قال الشيخ لتًلميذه :سنحاول اليوم أن نرسم صورة علمية دقيقة لحياة سليمان الشخصية واالجتماعية والسياسية من خًلل ما قصه القرآن الكريم علينا.. استبشرت خيرا لكًلمه هذا ،وحمدت الله على نعمة حضوري للمدرسة.. بدأ الشيخ درسه بسؤال تًلميذه قائًل :أنتم تعلمون طريقتي ..فأسألوني عن أي آية تتعلق بسليمان عليه السًلم ،وسأنبئكم بخبرها ..فالحمد لله
53
وفقني الله بفضله فقرأت ،بل حفظت كل ما ترون من كتب التفسير ابتداء من الطبري وانتهاء بمن تعلمون من المفسرين المعاصرين ،ولي فوق ذلك عشرين مجلدا في تفسير القرآن الكريم ..لم أترك فيه قوال قيل في أي آية إال ذكرته. استأذن تلميذ من تًلميذه ،فأذن له ،فقال :أجل يا شيخنا ..والحمد لله قد استفدنا منك كثيرا ..ونحن ال نتتلمذ عليك فقط ..بل نتتلمذ على تفسيرك أيضا ..وانطًلقا منه أريد أن أسألك عن تلك القصص الكثيرة التي ذكرتها ..فقد حصل لنفسي منها شيء. قال الشيخ :سل ما بدا لك ..فًل حرج عليك في ذلك. قال التلميذ :لقد رأيت أن الكثير منها من رواية كعب األحبار ووهب بن منبه وغيرهما من اليهود أو من تًلميذ اليهود ..أال ترى أن في ذلك خلطا بين المعاني القرآنية والمعاني اليهودية الدخيلة؟ قال الشيخ ،وهو يحاول كظم غيظه :لو حضرت الحصص السابقة لعلمت قيمة هؤالء المفسرين ..لوالهم لكانت القصص القرآنية غامضة مبهمة ال نستطيع أن نفهم دقائقها وتفاصيلها.. تصور لو لم يحك لنا كعب ووهب قصة بقرة بني إسرائيل هل كنا سنفهمها ..إنها تصبح مثل قصة بًل أول وال آخر.. قال ذلك ،ثم توجه لتًلميذه قائًل :بالمناسبة ..من منكم يذكر قصة بقرة
54
بني إسرائيل ..فقد قصصنا لكم مفصلة وموجزة.. قال تلميذ من التًلميذ :أنا أحفظ الموجزة منها على ظهر قلب. قال الشيخ :فاسردها لنا حتى يعلم زميلك قيمة العلم ..وقيمة المعلومات التي بثها لنا أولئك الذين قيضهم الله لتفسير كتابه.. أخذ التلميذ يقرأ من ذاكرته ،وكأنه يردد سورة من القرآن الكريم قصة عجيبة لبقرة بني إسرائيل ممتلئة باألحداث والتفاصيل التي لم يتطرق القرآن الكريم إليها. بعد أن انتهى قال الشيخ :بورك فيك يا بني ..أظن أنك في المستقبل القريب سيكون لك مجلس مثل مجلسي في هذه المدرسة. قال تلميذ آخر :ولكن يا شيخنا من أين لنا أن هذه القصة صادقة؟ قال الشيخ :أول دليل على صدقها هو ذلك الثناء العظيم الذي أثنت به األمة على رواتها ..فكعب األحبار ووهب بن منبه من المشهود لهم بالعلم.. قال التلميذ :ولكني رأيت شيخا كبيرا مثل الشيخ محمد رشيد رضا يتهم هؤالء بأنهم دسوا في الدين الخرافة واألسطورة ،وقد قال في ذلك( :إن كعب األحبار كان من زنادقة اليهود الذين أظهروا اإلسًلم والعبادة لتقبل أقوالهم في الدين ،وقد راجت دسائسه وانخدع بها بعض الصحابة فرووا عنه وتناقلوا مروياته بدون إسناد إليه حتى ظن بعض التابعين ومن بعدهم
55
أنها مما سمعوه من النبي )
()7
قال آخر :أجل ..وقد قرأت له قوله( :إن شر رواة هذه اإلسرائيليات أو أشدهم تلبيس ًا وخداع ًا للمسلمين وهب بن منبه وكعب األحبار ،فًل تجد خرافة دخلت في كتب التفسير والتاريخ اإلسًلمي في أمور الخلق والتكوين واألنبياء وأقوالهم والفتن والساعة واآلخرة إال منهما مضرب المثل)
()2
غضب الشيخ ،وقال :ويله ..ما هذا الهراء الذي ينطق به ..أهو خير من شيخ اإلسًلم ..وغيرهم من أعًلم السلف الذين اعتبروا كعب األحبار خصوصا من أئمة الدين ،وبحرا من بحور العلم ..بل إنهم اعتبروا من يتهم كعبا كمن يتهم الصحابة أنفسهم ..والشواهد الكثيرة تشهد لكعب األحبار بصدق إسًلمه وقوة إيمانه ،ومن أبرز هذه الشواهد شهادة كثير من الصحابة له بذلك(.)5 فإذا تتبعنا حياة كعب في اإلسًلم ،ورجعنا إلى مقاالت بعض أعًلم الصحابة فيه ،وأحصينا من تحمل منهم عنه وروى له ،ومن أخرج له من شيوخ الحديث في مصنفاتهم ..لو فعلنا ذلك لوجدنا ما يدحض ويبطل
( )7مجلة المنار ()357 / 27 ( )2مجلة المنار ()785 / 27 ( )5نقلنا هذا ،وبتصرف من موقع معتمد لدى التيارات السلفية ،وهو موقع بيان اإلسًلم.
56
هذه الفرية ،ويشهد له بقوة دينه وصدق يقينه ،وأنه قد طوى قلبه على اإلسًلم المحض والدين الخالص ،ولغزارة علمه وكثرة معارفه لهج بعض أعًلم الصحابة بالثناء عليه ،فقال عنه أبو الدرداء( :إن عند ابن الحميرية لعلما كثيرا)
()7
أما خال المؤمنين معاوية ،فقد وضعه مع كبار الصحابة ،وأثنى عليه من بينهم ،فقال( :أال إن أبا الدرداء أحد الحكماء ،أال إن كعب األحبار أحد العلماء ،إن كان عنده لعلم كالبحار ،وإن كنا فيه لمفرطين)( ..)2انظر كيف اعتبر نفسه مفرطا في التلقي عنه.. وهكذا نجد جماهير المحدثين على توثيق كعب؛ وأنى يكون ذلك وقد جلس الكثير من الصحابة بين يديه ،ورووا عنه كما رووا عن رسول الله سواء بسواء ..وهذا سر ما اختلط من رواياتهم عنه برواياتهم عن رسول الله ..لقد حدث عنه من أعًلم الصحابة كأبي هريرة ،وعبد الله بن عمر ،وعبد الله بن الزبير ،ولم يكن هؤالء وال غيرهم ممن رووا عنه سذجا وال مخدوعين فيه ،وإنما أيقنوا أنه صدوق فيما يروي ،فرووا عنه؛ لذلك قال عنه ابن حجر في التقريب( :ثقة مخضرم)( ،)5وقد روى له مسلم في
( )7الطبقات الكبير ،ابن سعد)551/1( ، ( )2اإلصابة في تمييز الصحابة ،ابن حجر العسقًلني..)130/ 3( ، ( )5تقريب التهذيب ،ابن حجر العسقًلني ،ص..872
57
صحيحه ،وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم ،وهو دليل على أن كعبا كان ثقة غير متهم عند هؤالء جميعا(.)7 استأذن تلميذ آخر ،فقال له الشيخ :مجلسنا اليوم عن سليمان عليه السًلم ..وال أريد أسئلة أخرى خارج الموضوع.. قال التلميذ :عنه كنت سأسألك .. قال الشيخ :ما دمت تريد أن تسأل عنه ،فسل ما بدا لك. قال التلميذ :ما معنى قوله تعالى { َو َل َقدْ َف َتنَّا ُس َل ْي َم َ ان َو َأ ْل َق ْينَا َع َلى ُك ْر ِس ِّي ِه َاب } [ص ..]55 :فقد اختبرنا بعض المشايخ البارحة فيها، َج َسدً ا ُث َّم َأن َ فبهت ،ولم يجد جوابا. قال الشيخ ،وهو يبتسم :على الخبير سقطت ..سأنبئك من نبئها ما يروي غليلك.. هذه اآلية الكريمة تذكر الفتنة العظيمة التي وقعت لسليمان عليه السًلم ..وقد ذهب أكثر المفسرين( )2إلى أن الجسد الذي ألقي على كرسي سليمان هو صخر الجني. وقد اختلف المفسرون في اسمه ،فالسدي ذكر أن اسمه حبقيق ،وعن بعضهم :ان اسمه كان آصف ،والمعروف هو األول ،وقد روي عن ابن
( )7الطبقات الكبير ،ابن سعد.)551 /1( ، ( )2ما نذكره هنا من تفسير اآلية هو من تفسير السمعاني ( ،)557 /5فما بعدها.
58
عباس. وأما قصته :فقد روي أن صخرا كان شيطانا ماردا ال يقوى عليه أحد، فابتلى الله تعالى سليمان به ،وسلبه ملكه ،وقعد هذا الشيطان على كرسيه يقضي بين الناس ،وكان سبب ذلك أن ملك سليمان كان في خاتمه. وقد قال وهب بن منبه :وكان ذلك الخاتم فما ألبسه الله تعالى آدم عليه السًلم في ا لجنة ،وكان يضيء كضوء الشمس ،فلما أكل آدم من الشجرة، وعصى الله تعالى سلب الخاتم ،ثم إن الله تعالى أنزله على سليمان ،وعقد به ملكه.. قال أحد التًلميذ :هًل وصفت لنا سيدنا صفة ذلك الخاتم ،فقد شوقتنا إليه. قال الشيخ :لقد قمت بتحقيق معمق في ذلك ..وقد وصلت إلى أنه خاتم مربع له أربعة أركان ،في ركن منه مكتوب :أنا الله لم أزل ،وفي الركن الثاني مكتوب :أنا الله الحي القيوم ،وفي الركن الثالث مكتوب :أنا العزيز ال عزيز غيري ،وفي الركن الرابع مكتوب :محمد رسول الله ..وذكر بعضهم أن المكتوب عليه كان آية الكرسي. قال التلميذ :فأكمل لنا القصة.. قال الشيخ :أين وصلت؟ قال التلميذ :لقد ذكرت لنا أن سر ملك سليمان كان في خاتمه..
59
قال الشيخ :أجل ..تذكرت ..كان سليمان عليه السًلم إذا دخل مغتسله سلم الخاتم إلى جارية له ،وقد كان له المئات من الجواري.. وقد دخل مرة وسلم الخاتم إلى الجارية ،فجاء صخر في صورة سليمان ،فأخذ الخاتم من الجارية ..أنتم تعلمون أن الجن يتشكل في الصور المختلفة ..وقد يكون من الجالسين بيننا اآلن جني في صورة تلميذ من التًلميذ.. اقشعر جسدي لما قال ،وصرت أنظر إلى التًلميذ الملتفين حوله، فأراهم بصور عجيبة مرعبة ..لكني تماسكت ،ورحت أستمع إلى القصة. قال الشيخ .. :وخرج سليمان يطلب الخاتم ،فلم يجده ،فعلم أن الله تعالى سلبه ملكه ..فذهب يسيح في األرض ،ولم يعرفه أحد بصورته، وكان يستطعم الناس ،ويقول :أنا سليمان بن داود ،فيكذبونه ويؤذونه ويزعمون أنه مجنون. لقد ورد في مصادرنا الموثوقة أنه استطعم مرة من قوم وزعم أنه سليمان بن داود ،فقام رجل وشج رأسه بعصا في يده ،ثم إنهم أعطوه كسرة يابسة، فحمل الكسرة إلى شط نهر ليبليها بالماء ،وكان جائعا لم يصب طعاما منذ أيام ،فذهب الماء بالكسرة. وروي إنه كان على شط البحر ،فجاءت موجة وحملت الكسرة ،فدخل هو الب حر في إثرها حتى خاف الغرق فرجع ورجعت الكسرة ثم إنه طمع
61
فيها وذهب ليأخذها ،فذهبت الكسرة ،هكذا مرات.. رأيت تًلميذه يبكون بحرارة ،ولم أدر هل كانوا يبكون على الكسرة التي فرت منه ،أم على سليمان عليه السًلم الذي وعده الله بأن يهبه الله ملكا ال ينبغي ألحد من بعده. قال بعض التًلميذ ،ودموعه تنحدر :فهل ظفر بالخاتم ..وكيف عاد ملكه إليه؟ قال الشيخ :في يوم من األيام ..وبعد محن كثيرة مر بها ..مر على قوم صيادين؛ فسألهم شيئا ليأكله فأعطوه سمكة ميتة ،فشق جوفها ،فوجد خاتمة فيها ،فجعله في إصبعه ،وعاد إليه ملكه ،وعكفت الطير في الوقت على رأسه ،واجتمع إليه اإلنس والجن والشياطين. رأيت الفرح باديا على وجوه التًلميذ ،وصار يهنئ بعضهم بعضا من الفرح.. قال بعض التًلميذ :فما كان مصير صخر الجني ،وماذا فعل بخاتم سليمان؟ قال الشيخ :لقد روي في مصادرنا الموثوقة أنه لما أخذ الجني الخاتم تحولت صورته إلى صورة سليمان ..ثم ذهب وقعد على كرسيه ،وجعل ينفذ ما كان ينفذه سليمان إال أنه اختلف في قيامه بعًلقة مع نساء سليمان الكثيرات والتي يقربن من ألف امرأة ..فذهب البعض إلى أنه لم يكن
60
يس تطيع ذلك ..وذهب آخرون إلى أنه كان يصيبهن في فترة العادة الشهرية ..وذهب آخرون إلى أنه كان يصيبهن مطلقا(.)7 قال تلميذ آخر :ألم يفطن بنو إسرائيل إلى التفريق بين صخر وسليمان؟ قال الشيخ :لقد روي في مصادرنا الموثوقة أن بني إسرائيل أنكروا أمر صخر الجني؛ ألنه كان يقضي بغير الحق؛ فذهبوا إلى نساء سليمان ،وقالوا لهن :تنكرون من أمر سليمان شيئا ،فقلن :نعم؛ فحينئذ وقع في قلبهم أن سليمان قد ابتلي ،وأن الله تعالى سلبه ملكه ،وأن الشخص الذي على الكرسي شيطان. فأخذ بنو إسرائيل التوراة وجاءوا إلى حول الكرسي وجعل يقرؤونها؛ فطار صخر إلى أشرف القصر ،ثم طار من شرف القصر ومر فوقع في البحر. قال التلميذ :فما فعل سليمان بصخر عندما عاد إلى ملكه؟ قال الشيخ :روي في مصادرنا الموثوقة أنه لما رد الله تعالى على سليمان ملكه ،أمر الشياطين بطلب صخر ،فوجدوه وحملوه إلى سليمان؛ فصفده بالحديد ،وجعله في صندوق ،وألقاه في البحر ،فهو في البحر إلى يوم القيامة. وروي أن الشيطان هرب حتى لحق بجزيرة من جزائر البحر ،فأرسل ( )7تفسير السمعاني ()552 /5
61
سليمان –عليه السًلم -في طلبه ،وكان شيطانا مريدا يطلبونه وال يقدرون عليه حتى وجدوه يوما نائما ،فجاؤوا فبنوا عليه بناينا من رصاص، فاستيقظ ،فوثب ،فجعل ال يثب في مكان من البيت إال أن دار معه الرصاص ،فأخذوه وأوثقوه :وجاءوا به إلى سليمان –عليه السًلم ،-فأمر به ،فنقب له في رخام ،ثم أدخل في جوفه ،ثم سد بالنحاس ،ثم أمر به، فطرح في البحر. قال تلميذ آخر :ما هو السبب في رأيك – سيدنا – الذي بسببه وقع سليمان عليه السًلم في هذه الفتنة؟ قال الشيخ :لقد روي في مصادرنا الموثوقة في ذلك أقوال كثيرة ..منها أن الله تعالى كان أمره أال يتزوج امرأة من غير بني إسرائيل ،فخالف وتزوج امرأة من غيرهم ،فا بتًله الله تعالى ..ومنها أنه كانت عنده امرأة ،وكان يحبها حبا شديدا ،فخاصم أخوها إلى سليمان في شيء مع إنسان ،فطلبت المرأة من سليمان أن يقضي ألخيها؛ فقال لها :نعم ،ولم يفعل ذلك ،فابتًله الله تعالى ..ومنها أنه احتجب من الناس ثًلثة أيام ،ولم ياذن ألحد، فأوحى ا لله تعالى إليه :يا سليمان ،إني إنما بعثتك وأعطيتك هذا الملك؛ لتنصف المظلومين ،وتكون عونا للضعفاء على األقوياء ،ولم أعطك لتحتجب عن الناس ..ومنها أنه قال مرة :والله ألطوفن الليلة على نسائي، وكان له ثلثمائة امرأة ،وسبعمائة سرية ،ولتحملن كل امرأة منهن ،وتلد
63
غًل ما يقاتل في سبيل الله ،فقال له الملك :قل إن شاء الله ،فلم يقل ،فلم تحمل امرأة منهن إال امرأة واحدة حملت ،فولدت نصف إنسان ،وابتًله الله تعالى ..ومنها أنه كان أصاب من بعض نسائه في حالة الحيض ،فابتًله الله تعالى ..وغير ذلك من األقوال. قال التلميذ :فما القول الذي تراه راجحا؟ قال الشيخ :لقد بقيت عشرين سنة أحقق في المسألة ..وقد عرفت بعد البحث الطويل أن السبب في ذلك هو أنه تزوج بامرأة؛ فعبدت المرأة صنما في داره من غير أن يشعر بذلك ،فابتًله الله تعالى لغفلته(..)7 قال تلميذ آخر :بالمناسبة -سيدنا -هًل حكيت لنا قصة سليمان عليه السًلم مع ملكة سبأ ،والتي ورد ذكرها في القرآن الكريم. قال الشيخ :تلك المرأة هي بلقيس بنت شراحيل ..وقد ذكر الثقاة أنه ولدها أربعون ملكا ،آخرهم أبوها ..وكان أحد أبويها من الجن(..)2 قال التلميذ :عجبا لهم كيف طاب ألهل اليمن أن يولوا أمرهم امرأة؟ ضحك الشيخ ،وقال :كيف تنتظر من قوم يعبدون الشمس أن يفطنوا إلى هذا ..ولهذا ورد عن سلفنا الصالح ذم أهل اليمن وغبائهم ،فعن خالد بن صفوان قال واصفا أهل اليمن( :هم من بين دابغ جلد ،وسايس قرد،
( )7تفسير السمعاني ()555 /5 ( )2تفسير السمعاني ()81 /5
64
وحائك برد ،ملكتهم امرأة ،ودل عليم هدهد وغرقتهم فأرة)
()7
قال التلميذ :فحدثنا عن الهدية التي أهدتها له ..ما كانت؟ قال الشيخ :لقد روي في مصادرنا الموثوقة أنها كانت مائة غًلم ،ومائة جارية ..وقيل أنها أرسلت إليه مائتي غًلم ومائتي جارية ،وكان بعضهم يشبه البعض في الصورة والصوت والهيئة ،وقالت للرسول :قل له :ليميز بين الغلمان والجواري(.)2 قال التلميذ :بربك سيدنا كيف استطاع سليمان عليه السًلم أن يميز بين الغلمان والجواري؟ قال الشيخ :لقد قمت بتحقيق علمي مفصل في ذلك استغرق مني زمنا طويًل ..وها أنذا أقدمه لكم مجانا ..لقد وصلت إلى أنه أمرهم بالجلوس ودعا بالغلمان والجواري بأن يتوضئوا ،فمن صب الماء على بطن ساعده قال :هي جارية ،ومن صب الماء على ظهر ساعده قال :هو غًلم ..وقد ذكر آخرون أنه جعل من بدأ بالمرفق في الغسل غًلما ،ومن بدأ بالزند في الغسل جارية ..وذكر آخرون أنه جعل من أغرف األناء غًلما ،ومن صب على يده جارية ..وكل ذلك غير صحيح ..والصحيح ما ذكرته لكم. قال تلميذ آخر :فما قصة القصر الممرد من قوارير ؟
( )7تفسير السمعاني ()10 /5 ( )2تفسير السمعاني ()11 /5
65
قال الشيخ :لقد بحثت في ذلك أيضا ..وقد وصلت إلى أنه جعل تحته تماثيل من الحيتان والضفادع ،وكان الواحد إذا رآه ظنه ماء ..وقد أمر سليمان -عليه السًلم – أن يوضع سريره في وسط الصرح ،ثم دعا بلقيس إلى مجلسه ،فلما وصلت إلى الصرح ونظرت ظنت أنه ماء ،فكشفت عن ساقيها لتدخل في الماء ،فصاح سليمان { :إِ َّن ُه َص ْر ٌح ُم َم َّر ٌد ِم ْن َق َو ِ ار َير } [النمل]55 : قال التلميذ :فلم صنعه ..ولم كشفت عن ساقيها؟ قال الشيخ :لقد قيل لسليمان عليه السًلم أن على رجليها شعرا كثيرا.. أخبرته الجن بذلك ..فأراد أن يتأكد. قال التلميذ :فهل وجد الجن صادقين فيما ذكروه؟ قال الشيخ :أجل ..وقد ذكر ثقاتنا من أهل التفسير :أن سليمان -عليه السًلم -قال للشياطين :ما الذي يذهب الشعر؟ فاتخذوا النورة ،وهو أول من اتخذ الحمام والنورة. قال التلميذ :فلم استقدمها لقصره؟ قال الشيخ :ذلك واضح ..لقد أراد أن يتزوج بها ،فقصد أن ينظر إلى ساقيها(.)7 قال تلميذ آخر :شكرا جزيًل شيخنا ..لقد عرفنا اليوم من قصة سليمان ( )7تفسير السمعاني ()702 /5
66
عليه السًلم ما لم يكن لنا أن نعرفه لوالك ..ولكن أال ترى أنه كان له اهتمام كبير بالنساء؟ قال الشيخ :أجل ..فقد خلق الله -عز وجل -األنبياء والرسل، وفضلهم على سائر البشر ،ومن تلك الفضائل القوة في هذا الجانب ..فقد أقر بذلك علماء األمة سلفا وخلفا ،وذلك ألن النقص في هذا الشيء يعد عيبا ،وحاشاهم -صلوات الله وسًلمه عليهم -أجمعين عن العيب والنقص ،فاألنبياء معصومون. وقد روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي قال( :قال سليمان بن داود :ألطوفن الليلة على سبعين امرأة ،تحمل كل امرأة فارسا يجاهد في سبيل الله ،فقال له صاحبه :إن شاء الله .فلم يقل ،ولم تحمل شيئا إال واحدا ساقطا أحد شقيه .فقال النبي :لو قالها لجاهدوا في سبيل الله) وقد علق النووي على هذا الحديث بقوله( :وفي هذا بيان ما خص به األنبياء -صلوات الله تعالى وسًلمه عليهم -من القوة على إطاقة هذا في ليلة واحدة ،وكان نبينا يطوف على إحدى عشرة امرأة له في الساعة الواحدة ،كما ثبت في الصحيحين ،وهذا كله من زيادة القوة)
()7
وقال المناوي( :إن سليمان -عليه السًلم -تمنى أن يكون له ملكا ال ( )7شرح صحيح مسلم ،النووي..)2370 /1( ،
67
ينبغي ألحد من بعده ،فأعطي الملك ،وأعطي القوة في الجماع؛ ليتم له الملك على خرق العادة من كل الجهات؛ ألن الملوك يتخذون من الحرائر والسراري بقدر ما أحل لهم ويستطيعونه ،فأعطي سليمان -عليه السًلم - تلك الخصوصية ليتميز بها عنهم ،فكان نساؤه من جنس ملكه الذي ال ينبغي ألحد من بعده)
()7
قال تلميذ آخر :فحدثنا عما فعله سليمان عليه السًلم بالخيل لما شغلته عن الصًلة ..كما ورد في قوله تعالىَ { :و َو َه ْبنَا لِدَ ُاوو َد ُس َل ْي َم َ ان نِ ْع َم ا ْل َع ْبدُ ِ ِ َات ا ْل ِج َيا ُد (َ )57ف َق َال إِنِّي الصافِن ُ اب ( )50إِ ْذ ُع ِر َض َع َل ْيه بِا ْل َعش ِّي َّ إِ َّن ُه َأ َّو ٌ ب ا ْل َخ ْي ِر َع ْن ِذك ِْر َر ِّبي َحتَّى ت ََو َار ْت بِا ْل ِح َج ِ وها َع َل َّي اب (ُ )52ر ُّد َ َأ ْح َب ْب ُت ُح َّ وق َو ْاألَ ْعن ِ َف َط ِف َق مس ًحا بِالس ِ َاق ([ } )55ص]55 - 50 : ُّ َ ْ
قال الشيخ :لقد بحثت في ذلك ..وقد وصلت إلى أن سليمان عرض عليه الخيل الجياد في وقت العصر ،فألهاه هذا العرض عن صًلة العصر ،فلما اقترب المغرب غضب ،وطلب من الله أن يرد الشمس بعد أن غربت ليصلي العصر فردت ..وكصورة من غضبه على الخيل ألنها كانت السبب في فوات العصر وألهته عن الصًلة قام وقطع سوقها وأعناقها مسح ًا بالسيف. قال التلميذ :فكيف تعلل هذا السلوك من سليمان ،ولم عذب ( )7فيض القدير ،المناوي..)131 /5( ،
68
الحيوان بالعرقبة ،وأهلك ماال من ماله بًل سبب سوى أنه اشتغل عن صًلته بالنظر إليها وال ذنب لها؟ قال الشيخ :لقد بحثت في ذلك ..وقد وصلت إلى أنه قد يكون في شرعهم جواز مثل هذا ،وال سيما إذا كان غضبا لله عز وجل بسبب أنه شغل بها حتى خرج وقت الصًلة؛ ولهذا لما خرج عنها لله تعالى عوضه الله تعالى ما هو خير منها وهي الريح التي تجري بأمره رخاء حيث أصاب غدوها شهر ورواحها شهر ،فهذا أسرع وخير من الخيل(.)7 بقي الشيخ إلى الليل ..وهو يجيب عن كل سؤال ،ويذكر من األقوال العجيبة فيه ما جعل القرآن الكريم في ذهني وأذهان تًلميذه كتابا ال يختلف عن كتاب ألف ليلة وليلة ..وال يختلف عن الحكايات واألساطير التي كان يحكيها النضر بن الحرث لقومه من قريش ليشغلهم بها عن القرآن.. ولألسف مات النظر بن الحرث الجاهلي ..وخلفه كثير ممن ال يقلون عنه من المسلمين.. قلت في نفسي ،وأنا عائد إلى بيتي ممتلئا حزنا( :لقد استطاع الشيطان في األخير أن يحيي أساطير النضر) سمعت صوتا مزعجا لست أدري مصدره ،يقول لي ..( :ال ..بل فعلت ما هو أخطر من ذلك ..لقد حولت كًلم ربكم إلى أساطير مقدسة بعد أن ( )7انظر :تفسير ابن كثير.13/7 :
69
كانت أساطير خرافة وتسلية)
71
العلم ..والخرافة تشكل المعارف العلمية المختلفة ركنا مهما من أركان القرآن الكريم، ال يمكن لمن يريد أن يلمس القرآن بطهارة إال أن يراعيها ،ويهتم بها، ويبحث عنها ،ويبحث فيها ..فالله تعالى لم يذكرها عبثا ،ولم ينزلها لمجرد أن نتعبد بتًلوتها ،وإنما أنزلها لنبحث فيها ،ونتدبرها ،ونثيرها. وهذا الركن المهم من القرآن الكريم ليس قليًل أو هينا حتى ال يرمى من لم يهتم به بالتقصير ..بل إنه يشكل ما يقارب خمس القرآن الكريم ،فهناك أكثر من ( )7200آية قرآنية على األقل تشير إلى المعارف العملية المختلفة. وكل آية منها تشير إلى حقائق الوجود الكبرى التي استغرقت من البشر قرونا طويلة للوصول إليها ..ولكن القرآن الكريم يعطيها لنا بسهولة ويسر، ويربطها بحقائق الوجود جميعا. ولو أن األمة أعملته في هذا الجانب ،وتركت تلك التفسيرات التقليدية التي استندت إليها من موروثاتها البيئية أو الخرافية لكان السبق لألمة اإلسًلمية في جميع المجاالت.. لكن ـ لألسف ـ سيطرت الخرافة على الحقيقة في تعامل الكثيرين مع القرآن الكريم ،وخصوصا التيار السلفي ..الذي لم يكتف بأن يفرط في البحث عن حقائق الكون والعلوم المختلفة من خًلل القرآن ،بل راح يذم
70
كل من يقوم بهذه الوظيفة ،ويؤدي هذا الواجب نيابة عنه. ولم يكتف بذلك أيضا ،بل راح في هذا العصر الذي فتح الله فيه أبواب المعرفة العلمية على عباده ،يغلق بشدة هذه األبواب ،ليعود للخرافة، ويفسر بها القرآن ،ويفسر بها الدين جميعا. سأحكي لكم نبأ مدرستين زرتهما ،قد تشرحان بطريقة أوضح ما قامت به األيدي الملوثة من تحريف القرآن الكريم ،ومن تحويله من أكبر كتاب علمي عرفته البشرية إلى أكبر كتاب خرافة. العلم: دخلت المدرسة العجيبة في شكلها ومحتواها ..المدرسة التي أطلق عليها أصحابها (مدرسة علوم القرآن) ..وقد خطر على بالي بمجرد أن رأيت العنوان أنني سأرى من أقسامها (الناسخ والمنسوخ) و(المكي والمدني) و(األشباه والنظائر) و(مبهمات القرآن) ..وغيرها من العلوم التي نجدها عادة في الكتب المتخصصة في علوم القرآن.. وكنت أتصور كذلك أنني سأرى أساتذة مثل السيوطي والزرقاني والزركشي والذهبي والقطان وغيرهم ممن صنفوا في هذه العلوم. لكني لم أر شيئا من ذلك ..بل رأيت عناوين غريبة كـ (الكون في القرآن) ،و(الصحة في القرآن) ،و(علوم األرض في القرآن) ..وغيرها من العناوين الغريبة ..وهذا ما دعاني إلى التأكد من كوني حقيقة في مدرسة
71
تبحث في علوم القرآن ..وقد وجدت الجميع يؤكد لي ذلك ،ويؤكد لي أن جميع من في هذه المدرسة من المختصين في هذه المعارف ،وأنهم ينهلون الحقائق من بحر القرآن العذب ،الذي هو المعجزة الكبرى ،والذي هو الكتاب المقروء والمسطور والحقيقة المطلقة ..كما ينهلونها من الكتاب المفتوح والمنظور الذي هو الكون بما فيه. أردت الدخول إلى قسم (الكون في القرآن) ،فنهاني المشرفون على المدرسة ،وقالوا لي :أنت جديد هنا ،ولذلك ال يحق لك أن تدخل أي قسم من أقسامها قبل أن تؤصل لألسس التي تقوم عليها ..فًل يحل المرئ أن يقدم على أمر قبل أن يعلم حكم الله فيه. لم أجد إال أن أخضع لهم ،فجلست في حلقة من الحلقات ،وكان يلتف فيها بعض التًلميذ حول بعض األساتذة.. كان الشيخ يقرأ قوله تعالى { :سنُ ِر ِيهم آ َياتِنَا فِي اآل َف ِ اق َوفِي َأن ُف ِس ِه ْم َح َّتى ْ َ ي َتبين َلهم َأ َّنه ا ْلح ُّق َأو َلم يك ِ ْف بِ َر ِّب َك َأ َّن ُه َع َلى ُك ِّل َش ْي ٍء َش ِهيد } [سورة َ َ َّ َ ُ ْ ُ َ َ ْ َ فصلت ]35:بهدوء ،ويقف أمام كل كلمة ،وكأنه ينبه التًلميذ إلى ضرورة تدبرها واالهتمام بها. بعد أن انتهى من القراءة ،قال :أظن أن اآلية الكريمة واضحة في الداللة على وعد الله لعباده بأن يكشف لهم حقائق اآلفاق واألنفس ..وواضحة في الداللة على أنه في ذلك الحين سيتبين للناس أن الحقائق التي نطق بها
73
الكريم حقائق صحيحة ..وسبب ذلك أن الله على كل شيء شهيد.. ولذلك يستحيل أن تتناقض المعارف المكتشفة مع المعارف التي أنزلها الله على عباده في كتابه. لقد أشار الله إلى هذه الحقيقة في آية أخرى ،فقالَ { :و ُق ِل ا ْل َح ْمدُ ل ِ َّل ِه َس ُي ِري ُك ْم آ َياتِ ِه َف َت ْع ِر ُفون ََها َو َما َر ُّب َك بِ َغافِ ٍل َع َّما َت ْع َم ُلون } [سورة النمل]15: بل أخبر في مواضع مختلفة أن الزمن كفيل بأن يوضح من الحقائق القرآنية ما لم يكن مدركا في الزمن الذي أنزل فيه القرآن ،قال تعالىِّ { :ل ُك ِّل َن َبإٍ ُّم ْس َت َق ٌّر َو َس ْو َ ف َت ْع َل ُمون } [سورة األنعام ،]17:وقالَ {:و َل َت ْع َل ُم َّن َن َب َأ ُه َب ْعدَ ِحين } [سورة ص]88: وهذا كله يدل على أننا نعيش في فترة الوعد اإللهي ،وأننا ال ينبغي أن نتخلف أبدا عن استخدام حقائق القرآن الكريم وموافقتها للمعارف العلمية المختلفة لهداية الناس إليه ..فقد أشار رسول الله إلى ذلك ،فقال( :ما من األنبياء نبي إال أعطي من اآليات ما مثله آمن عليه البشر ،وإنما كان الذي أوتيته وحي ًا أوحاه الله إلي ،فأرجوا أن أكون أكثرهم تابع ًا يوم القيامة)
()7
بل أشار الله تعالى إلى تأثير الحقائق القرآنية في هداية أهل العلم ،فقال: { َو َي َرى ا َّل ِذي َن ُأو ُتوا ا ْل ِع ْل َم ا َّل ِذي ُأن ِْز َل إِ َل ْي َك ِم ْن َر ِّب َك ُه َو ا ْل َح َّق َو َي ْه ِدي إِ َلى اط ا ْلع ِز ِيز ا ْلح ِم ِ ِصر ِ يد }[سـبأ]1: َ َ َ ( )7رواه البخاري ومسلم.
74
قال تلميذ من التًلميذ الملتفين حوله :اسمح لنا سيدي أن نطرح عليك بعض الشبهات التي يعرضها علينا تًلميذ المدرسة األخرى الذين يرون أن الحقائق القرآنية كلها اتضحت من القرون الثًلثة األولى ،وأنه ال يحق ألحد مهما كان أن يتدخل في تفسير القرآن إال إذا كان من أهل القرون األولى ،أو من تبعهم وسار خلفهم. قال الشيخ :اذكر ما بدا لك ..فأنا أعرف جيدا شيوخ تلك المدرسة، وأعلم أنهم العقبة الكبرى التي تحول بين وصول حقائق القرآن إلى العالم.. قال التلميذ :إنهم يثبطوننا عن المعارف العلمية التي نتناولها في هذه المدرسة من الطب والفلك وغيرها ..ويذكرون لها أنها علوم دنيوية ،وال عًلقة لها بالدين ،وال ثواب لمن تعلمها ،وال عًلقة لها البتة بالقرآن الكريم.. ابتسم الشيخ ،وقال :أمهلني يا بني ..أنت ذكرت شبها كثيرة ..وقد تعلمنا أن نفكك القضايا ،وال نضعها جميعا في سلة واحدة. قال التلميذ :فأجبني أوال عن حديث القرآن الكريم عن العلم ..هل هو خاص بالعلم الديني الشرعي من الفقه والتفسير ونحوهما ،أم أنه يشمل جميع المعارف العلمية؟ ..فهم ينطلقون من هذا في التحذير من سائر العلوم ،ومن ربطها بالقرآن الكريم.
75
قال الشيخ :إن العلم في القرآن الكريم يشمل كل حقائق الوجود ابتداء من أعظم حقيقة ،وهي الله سبحانه وتعالى ،فالله تعالى ال يأمرنا أن نعبده فقط ،بل يأمرنا قبل ذلك أن نعرفه عن بصيرة وبرهان ،قال تعالىَ { :فا ْع َل ْم َأ َّن ُه ال إِ َل َه إِال ال َّل ُه }[محمد]71: وقد أخبر عن أصناف عباده العارفين به ،فذكر منهم أولو العلم ،فقال{:
ًلئ َك ُة و ُأو ُلوا ا ْل ِع ْل ِم َق ِائما بِا ْل ِقس ِ َش ِهدَ ال َّله َأ َّنه ال إِ َله إِال هو وا ْلم ِ ط ال إِ َل َه إِال َ ْ َ ُ ُ ْ ً ُ َ َ َ ِ يم }[آل عمران]78 : ُه َو ا ْل َع ِز ُيز ا ْل َحك ُ وهكذا فإن الله سبحانه وتعالى يأمرنا بالنظر في كل الكائنات التي أبدعها لنزداد قربا منه ،ومعرفة به ،وخشية له ،قال تعالىَ { :أ َل ْم ت ََرى َأ َّن ال َّل َه ِ ٍ ِ ِ ات م ْختَلِ ًفا َأ ْل َوا ُن َها َو ِم ْن ا ْل ِج َب ِ ال ُجدَ ٌد الس َماء َما ًء َف َأ ْخ َر ْجنَا بِه َث َم َر ُ َأن َْز َل م ْن َّ يب ُسو ٌد َو ِم ْن الن ِ اب َواألَ ْن َعا ِم يض َو ُح ْم ٌر ُم ْختَلِ ٌ بِ ٌ َّاس َوالدَّ َو ِّ ف َأ ْل َوا ُن َها َو َغ َرابِ ُ ِ ِ ِِ ِ ور ُم ْختَلِ ٌ ف َأ ْل َوا ُن ُه ك ََذل َك إِن ََّما َي ْخ َشى ال َّل َه م ْن ع َباده ا ْل ُع َل َما ُء إِ َّن ال َّل َه َع ِز ٌيز َغ ُف ٌ } [فاطر]28 ،27 : انظر ..كيف أن الله سبحانه وتعالى لم يذكر خشية العلماء لله أثناء ذكره ألحكام الشريعة ،وإنما ذكرها في معرض بيان آياته في السموات واألرض ،ليبين أن كمال الخشية يكون في تلك الرؤية المفصلة آليات الله في الكون. ولهذا فإن الله سبحانه وتعالى عندما ذكر أولي األلباب ،وتوجههم إلى
76
الله بالعبودية قدم الفكر في السموات واألرض على الذكر والعبادة نفسها، ار آلي ٍ ضو ْ ِ ِ فقال { :إِ َّن فِي َخ ْل ِق السم ِ ات اختًلَف ال َّل ْي ِل َوالن ََّه ِ َ اوات َواألَ ْر ِ َ َّ َ َ ِّألُ ْولِي األ ْل َباب } [سورة آل عمران.]710: بل إننا لو طبقنا مقاييس الفقهاء واألصوليين على اآليات الكريمة التي تتعلق بهذه الجوانب ،فإننا نجد الحكم بالوجوب على تعلم هذه الحقائق، فالله تعالى يأمر فيها عباده بالنظر والتفكر في كونه ،قال تعالى آمرا بالنظر: { ُق ْل ا ْن ُظروا ما َذا فِي السماو ِ ات َواألَ ْر ِ ض } [يونس ،]707 :وقال آمرا َّ َ َ ُ َ بالسيرُ { :ق ْل ِس ُيروا فِي األَ ْر ِ ف َبدَ َأ ا ْل َخ ْل َق }[العنكبوت: ض َفا ْن ُظ ُروا َك ْي َ ]20 قال التلميذ :ال يستطيع أحد أن يجادلك في هذا ..لكنهم يذكرون أنه ال عًلقة لهذه العلوم بالقرآن الكريم ..وإن إدخالها فيه ،أو ربطها به انحراف عن الغرض الذي أنزل من أجله القرآن الكريم. قال الشيخ :وهل عرفوا الغرض الذي أنزل من أجله القرآن الكريم؟ قال التلميذ :هم يذكرون أنه توحيد الله وعبادته. قال الشيخ :أليس من توحيد الله ما يسمونه (توحيد األفعال) ،وهو اعتقاد أن كل ما يحدث في الكون من أحداث هو من فعل الله؟ قال التلميذ :بلى ..هم يقولون بذلك ..ويحكمون بالشرك على من يخالفه.
77
قال الشيخ :فأخبرهم بأن دور كل العلوم التي يجحدونها هي الكشف عن تفاصيل تدبيرات الله في خلقه ..لقد ذكر كل العقًلء هذا.. انظر مثًل إلى الغزالي الذي مر على وفاته قرون عديدة كثيرة ،ومع ذلك، فقد ذكر في كتابه (جواهر القرآن) قبل أن تفتح خزائن العلوم التي فتحت في عصرنا أن العلوم كلها متشعبة من القرآن ،فقال( :ثم هذه العلوم ما عددناها وما لم نعدها ليست أوائلها خارجة عن القرآن ،فإن جميعها مغترفة من بحر واحد من بحار معرفة الله تعالى ،وهو بحر األفعال ،وقد ذكرنا أنه بحر ال ساحل له ،وأن البحر لو كان مدادا لكلماته لنفد البحر قبل أن تنفد) ()7
ثم ضرب أمثلة على ذلك ،ومنها (الشفاء والمرض ،كما قال الله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السًلمَ { :وإِ َذا َم ِر ْض ُت َف ُه َو َي ْش ِفين } [سورة الشعراء ،] 80:وهذا الفعل الواحد ال يعرفه إال من عرف الطب بكماله ،إذ ال معنى للطب إال معرفة المرض بكماله وعًلماته ،ومعرفة الشفاء وأسبابه)
()2
ومنها (أفعاله تبارك وتعالى في تقدير معرفة الشمس والقمر ومنازلهما بحسبان ،وقد قال الله تعالىَّ { : الش ْم ُس َوا ْل َق َم ُر بِ ُح ْس َبان } [سورة
( )7جواهر القرآن (ص.)53 : ( )2جواهر القرآن (ص.)53 :
78
الرحمن ]3:وغيرها من اآليات ..وال يعرف حقيقة سير الشمس والقمر بحسبان ،وخسوفهما وولوج الليل في النهار ،وكيفية تكور أحدهما على اآلخر ،إال من عرف هيئات تركيب السماوات واألرض ،وهو علم برأسه) ()7
وهكذا ذكر أنه ال يعرف كمال معنى قوله تعالىَ { :يا َأ ُّي َها ْ ِ اإلن َْس ُ ان َما َغ َّر َك ِ بِ َر ِّب َك ا ْلك َِري ِم ( )1ا َّل ِذي َخ َل َق َك َف َس َّو َ ور ٍة َما َشا َء اك َف َعدَ َل َك ( )7في َأ ِّي ُص َ َر َّك َب َك ([ } )8االنفطار ]8 - 1 :إال من عرف تشريح األعضاء من اإلنسان ظاهرا وباطنا ،وعددها وأنواعها وحكمتها ومنافعها ،وقد أشار في القرآن في مواضع إليها ،وهي من علوم األولين واآلخرين ،وفي القرآن مجامع علم األولين واآلخرين)
()2
قال التلميذ :هم يعرضون علينا أيضا أقوال مشايخهم وخاصة من يسمونه شيخ اإلسًلم ..وتًلميذه.. قال الشيخ :الحجة في القرآن الكريم ال في غيره ..والغزالي بشر كسائر البشر ،وما ذكرته لك من باب االحتجاج ،وإنما ذكرته من باب المثال على من يعطي القرآن الكريم حقه من التقديس والتعظيم والتفعيل في جميع جوانب الحياة ..واألمثلة غيره كثير من السلف والخلف.
( )7جواهر القرآن (ص.)53 : ( )2جواهر القرآن (ص.)51 :
79
قال التلميذ :هناك شبهة أخرى يعرضونها علينا ،أو يعرضها علينا من هو قريب منهم ..حيث يذكرون أن غيرنا يعمل ويبحث ونحن نأتي ونقول لهم :لقد سبق القرآن إلى ذكر هذه الحقيقة. قال الشيخ :عدم العمل والبحث مشكلة أخرى ،ولكنها ال تعالج بترك القرآن ،وعدم التدبر في حقائقه ،وعدم ربطها بالعلوم المختلفة ،وإنما تعالج بتطبيقه وتفعيله في جميع جوانب الحياة.. ثم أال ترى أن الله تعالى أمرنا بالجهاد بالقرآن واستعماله كوسيلة للدعوة إليه؟ ِ ِ ين قال التلميذ :بلى ..وقد قال تعالى في ذلكَ { :فًل ُتط ِع ا ْلكَاف ِر َ وج ِ اهدْ ُه ْم بِ ِه ِج َهاد ًا كَبِير ًا } (الفرقان)32: َ َ قال الشيخ :فأجبني :أرأيت لو أن دولة كان لها أسلحة متطورة كثيرة لم تكشف عنها ألعدائها ،فلم يعرفوا أسرارها ،وال أنواعها ،وال أنواع القوة التي تحملها ،فلذا كلما قدم أعداؤها سًلحا ،كلما وجدوا عندها من األسلحة ما يفوق ذلك السًلح ..أذلك خير أم دولة ليس لها من السًلح إال ما تسلح به سلفها ،وليس لها من القوة إال ما ورثته ،فأيهما أقوى قوة؟ قال التلميذ :ال شك أنها الدولة األولى. قال الشيخ :فهكذا األمر في القرآن الكريم بين من يقول بإطًلق اإلعجاز فيه ،وبين من يقول بتحديده.
81
من يقول بإطًلقه يجعل القرآن الكريم كًلم الله كنزا من كنوز العجائب والمعجزات ،ومن يقول بمحدوديته ال يراه إال كما يراه ذلك البدوي البسيط ..يراه من خًلله عنزاته وناقته وخيمته. بقيت في تلك المدرسة مدة أتفقه على مشايخها ،وأدرس العلوم المختلفة التي تدرسها ..وقد استفدت من ذلك كثيرا ..وتعمق إيماني بالقرآن الكريم ..وذقت لذة المعرفة بالله وبكتابه ،وصرت أرى الكون بصورة أخرى أجمل وأكمل من التي كنت أراها به. الخرافة: لكني لفرط غبائي ،أو لوسوسة الشيطان لي مررت ذات يوم على مدرسة الخرافة ،فحدثتني نفسي أن أدخل إليها ،وليتني ما أطعتها ..فقد حولت كل ما تزين في قلبي من زينة اإليمان إلى دمامة ،وأبعدتني عن ربي وعن كتابه، ولم أتخلص من كل ذلك الركام الذي أحدثته في إال بجهد جهيد. وحتى ال يسرى لكم ما سرى لي من آثارها ،سأقص عليكم نماذج قليلة مما سمعته ..وما خفي أعظم. قال الشيخ لتًلميذه :وهل ذكر لكم المنبهرون بالعلوم العصرية شيئا آخر غير هذا؟ قال تلميذ من تًلميذه :أجل ..فقد مررنا عليهم البارحة ،فوجدهم َاها بِ َأ ْي ٍد َوإِنَّا الس َماء َبنَ ْين َ يرطنون ببدعة جديدة يفسرون بها قوله تعالىَ { :و َّ
80
َلم ِ وس ُعون } [سورة الذاريات]57: ُ قال الشيخ :وما يقولون؟ قال التلميذ :هم ينقلون عن الكفرة بأنهم اكتشفوا أن السماء تتوسع.. وأنهم أثبتوا ذلك بأدلة قطعية ال مجال للنظر فيها. غضب الشيخ ،وقال( :)7ويلهم ..كيف يثقون في الكفرة ..ومن أين للكافر أن يعرف السماء ..إن جميع المفسرين الموجودة تفاسيرهم في مكتبتنا العامرة التي ورثناها عن آبائنا السابقين ال يفسرون اآلية بذلك ..لقد قال ابن عباس ،ومجاهد ،وقتادة ،والثوري ،وغير واحد { :وإنا لموسعون } أي :قد وسعنا أرجاءها ورفعناها بغير عمد ،حتى استقلت كما هي)(..)2 وهذا يدل على أن الله عز وجل قد خلق السموات وفرضها وأوسعها وفرغ منها ،حتى جاء هؤالء المخبولون يفسرونها بتفسير محدث يقتضي أن الله عز وجل ال يزال يزيد في السماء قليًل قليًل كحال من يعجز عن إيجاد الشيء دفعة واحدة.. إن قولهم هذا يتناقض مع قوله تعالى { :إِن ََّما َأ ْم ُر ُه إِ َذا َأ َرا َد َش ْي ًئا َأ ْن َي ُقو َل َل ُه ُك ْن َف َي ُك ُ ون } [يس]82 :
( )7نقلنا هذه التفسيرات الخرافية للقرآن الكريم بتصرف من كتاب (الصبح الشارق في الرد على توحيد الخالق) للشيخ السلفي يحي الحجوري. ( )2تفسير ابن كثير ت سًلمة (.)525 /7
81
قال تلميذ آخر :وقد مررت عليهم البارحة ،فوجدتهم ال يزالون يرددون بأن األرض تدور ..بل يحاولون أن يثبتوا ذلك من القرآن الكريم(..)7 قال الشيخ :ويلهم ..أوصلت بهم الجرأة إلى هذا ..أين عقولهم ..أال يرون بعيونهم األرض ثابتة ال تتحرك؟ ويلهم ..ألم يقرؤوا قوله تعالى { :إِ َّن ال َّله يم ِس ُك السماو ِ ات َواألَ ْر َض َّ َ َ َ ُْ َأن ت َُزوالَ و َل ِئن َزا َلتَا إِ ْن َأمسكَهما ِمن َأح ٍد من بع ِد ِه إِ َّنه ك َ ِ ورا } ُ ْ َ ُ َ ْ َ ِّ َ ْ َ يما َغ ُف ً َان َحل ً [سورة فاطر ،]57:لقد قال جميع مفسري السلف رضوان الله عليهم: (ولو كانت األرض تجري وتدور وتزول من مكان إلى آخر لكان هذا خًلف نص اآلية الكريمة ،والقائلون بالدوران يشككون في مثل هذه النصوص) بالم ِ غر ِ وحا لِلتَّو َب ِة خلقه الله يوم خلق ب َمف ُت ً وقد ذكر رسول الله َ با ًبا َ السماوات واألرض ال ُيغ َل ُق َحتَّى تَط ُل َع َّ مس ِمن ُه ،حين أن يأمر الله الش ُ بخروج عًلمات الساعة الكبرى ..وهذا الباب ال يدور تارة من الجنوب، وتارة من الشرق ،وتارة من الشمال ،وتارة ما بين ذلك ،بل هو منذ خلق السموات واألرض ال يزال عند جهة المغرب على ما خلقه الله ،ولو كانت األرض تدور لدار معها يو ًما من الدهر إلى جهة أخرى لكنها ساكنة ال تتحرك. ( )7انظر األدلة على هذا في كتابنا (معجزات علمية)
83
ذلك ألن الله ثبتها بالجبال أن تميد بِهم ،ولو جعلها متحركة متزلزلة لما سكن الناس وال هدأ لهم بال ،بل تكون حيا ُتهم الدنيا عبارة عن عذاب مستمر ..أال ترون حين حدوث بعض الزالزل التي يخوف الله بِها عباده في األرض كيف تتهدم بيو ُتهم ،وتزهق أنفسهم ،وتتقلقل معيشتهم ويصبحون خائفين وجلين مذعورين حزينين (.)7 لقد قال اإلمام عبدالقاهر بن طاهر البغدادي يذكر إجماع العلماء على ثبوب األرض( :وأجمعوا على وقوف األرض وسكونِها وأن حركتها إنما تكون بعارض يعرض لها من زلزلة ونحوها خًلف قول من زعم من الدهرية أن األرض تَهوي أبدً ا ألن الخفيف ال يلحق من هو أثقل منه في انحداره) ثم قال( :وأجمعوا أن األرض متناهية األطراف من الجهات كلها وكذلك السماء متناهية األقطار من الجهات الست خًلف قول من زعم من الدهرية أنه ال نَهاية لألرض وأجمعوا أن السموات سبع طباق خًلف قول من زعم من الفًلسفة أنَّها تسع)
()2
قال تلميذ آخر :لقد الحظت سيدي من خًلل استراقي للسمع في
( )7انظر الصبح الشارق ،و(هداية الحيران في مسألة الدوران) لعبدالكريم الحميد ص (-27 .)22 ( )2الفرق بين الفرق ،ص (.)557-550
84
مجالسهم أنهم يذكرون أن األرض كوكب من الكواكب. قال الشيخ :ويلهم ..ما أجرأهم على الله ..ألم يقرؤوا ما كتبه الشيخ محمد بن يوسف الكافي في رده على على بعض أشياع محمد عبده المصري ،حيث قال( :قوله( :هي كوكب) كذب وافتراء على الله تعالى من أرضا ،والكوكب هو النجم سماها كوك ًبا ألن الله تعالى الذي خلقها سماها ً ومحله العلو ومن صفاته اإلضاءة واإلشراق واألفول والطلوع واألرض بخًلف ذلك)
()7
قال تلميذ آخر :لقد رأيتهم يستدلون بقوله تعالىَ { :أ َو َل ْم َي َر ا َّل ِذي َن َك َف ُروا ات و ْاألَرض كَا َنتَا رتْق ًا َف َف َت ْقنَاهما وجع ْلنَا ِمن ا ْلم ِ اء ُك َّل َش ْي ٍء َح ٍّي او ِ َ ْ َ ُ َ َ َ َ الس َم َ َ َ َ َأ َّن َّ َأ َفًل ُي ْؤ ِمنُ َ ون } (االنبياء )50:على أن الجميع من السماء واألرض كان متصًل بعضه ببعض متًلصقا متراكما بعضه فوق بعض في ابتداء األمر، ففتق هذه من هذه ،ويستدلون لهذا بما يقوله الكفرة. قال الشيخ :ويلهم ..ألم يقرؤوا قول العًلمة السلفي الكبير ابن كثير.. فقد ذكر في تفسيره (أن األرض خلقت قبل السماء ،ولكن إنما دحيت بعد خلق السماء ،بمعنى أنه أخرج ما كان فيها بالقوة إلى الفعل .وهذا معنى قول ابن عباس ،وغير واحد ،واختاره ابن جرير)
()2
( )7انظر :الصواعق الشديدة على أتباع الهيئة الجديدة ،ص (..)777 ( )2تفسير ابن كثير ت سًلمة (.)571 /8
85
وقال في موضع آخر( :ففي هذا داللة على أنه تعالى ابتدأ بخلق األرض أوال ثم خلق السماوات سبعا ،وهذا شأن البناء أن يبدأ بعمارة أسافله ثم أعاليه بعد ذلك ،وقد صرح المفسرون بذلك)
()7
أما اآلية الكريمة التي استدلوا بها ،فأرجح التفاسير فيها أقوال ابن عباس وابن عمرو ومجاهد ابن جبر وغيرهم أن معنى (رت ًقا) في اآلية أي أن السماء كانت رت ًقا ال تمطر ،واألرض رت ًقا ال تنبث ،ففتق السماء بإنزال المطر منها ،وفتق األرض بإخراج النبات منها. قال تلميذ آخر :لقد سمعت البارحة من أحدهم قوله( :لقد كشف العلم الحديث أن الليل يحيط باألرض من كل مكان ،وأن الجزء الذي تتكون فيه حالة النهار هو الهواء الذي يحيط باألرض ويمثل قشرة رقيقة تشبه الجلد، وإذا دارت األرض سلخت حالة النهار الرقيقة) ،ورأيته يفسر بقوله هذا قوله تعالىَ {::وآ َي ٌة َل ُه ُم ال َّل ْي ُل ن َْس َل ُخ ِمنْ ُه الن ََّه َار َفإِ َذا ُه ْم ُم ْظلِ ُم َ ون } ( ّيـس)57: قال الشيخ :ويله ..كيف استطاع أن يعرف سمك النهار ،وأنه قشرة رقيقة تشبه الجلد ،فإن المعلوم يقينا أن الليل والنهار ليست له سماكة محسوسة بحاسة اللمس ..ثم إن المفسرين من سلفنا الصالح لم يفهموا هذا الفهم الذي فهمه هؤالء األساتذة الذين يتتلمذون على اليهود والنصارى. ( )7تفسير ابن كثير ت سًلمة (ج.)275 /7
86
قال تلميذ آخر :لقد رأيتهم دائما يرددون قوله تعالىَ { :سنُ ِر ِيه ْم آ َياتِنَا فِي اق وفِي َأن ُف ِس ِهم حتَّى ي َتبين َلهم َأ َّنه ا ْلح ُّق َأو َلم يك ِ ْف بِ َر ِّب َك َأ َّن ُه َع َلى ُك ِّل ْ َ َ َ َّ َ ُ ْ ُ َ َ ْ َ اآل َف ِ َ َش ْي ٍء َش ِهيد } [سورة فصلت ،]35:ويستدلون بها على بدعهم. قال الشيخ( :)7أال يعلم هؤالء الجهلة أن الوحي قد انقطع من السماء، وقد تبين الحق بالقرآن والسنة ولم يمت النبي حتى بين للناس أعظم بيان وأقام عليهم الحجة؟ أال يعرفون أن الله سبحانه قد أكمل دينه وأظهر الحق للناس ،وأرانا آياته في اآلفاق من ليل ونَهار وأحجار وأشجار وأنْهار وشمس وقمر ونجوم وسماء وأرض وغيرها من اآليات المشاهدة حتى في أنفسنا ،ولم يحوج الله خلقه إلى هلوسة المستشرقين. إن من اللوازم الخطيرة الستداللهم ذلك أن الله سبحانه لم يبين الحق لعباده من لدن رسول الله حتى جاء صاحبنا وأساتذته وقرروا للناس أشياء في الكون يتبين للناس بِها الحق ،وتقوم عليهم بِها الحجة التي لم تقم على من قبلهم لجهلهم ببيان الحق في القرون السابقة بعد البعثة النبوية إلى زمننا هذا ،ومن عقيدة أهل السنة والجماعة أن الحجة ال تقوم إال بعد بيان ِ الر ُس َ ول ِم ْن َب ْع ِد َما َت َب َّي َن َل ُه الحق للناس ،كما قال تعالىَ { :و َم ْن ُي َشاق ِق َّ ِِ ا ْل ُهدَ ى َو َيتَّبِ ْع َغ ْي َر َسبِ ِ ين ُن َو ِّل ِه َما ت ََو َّلى َو ُن ْصلِ ِه َج َهن ََّم َو َسا َء ْت َم ِص ًيرا يل ا ْل ُم ْؤمن َ ( )7الصبح الشارق 700 ،بتصرف.
87
} [النساء ،]773 :وقد استدل السلف بِهذه اآلية وأمثالها على أن من لم يتبين له الحق والهدى لم تقم عليه الحجة. ومعنى هذا أن الذين ماتوا على الشرك بالله ،قبل أن يخلق هؤالء الجهال ظالما لهم. الحمقى إن عذ َبهم الله يكون ً بعد أن انتهى الشيخ من حديثه ضحك تلميذ بصوت عال ،فغضب الشيخ ،وقال :ويلك ..أتضحك على كًلمي ..ألفعلن بك وألفعلن. صاح التلميذ :اعذرني يا أستاذ ..فمعاذ الله أن أضحك على كًلمك.. أتريدني أن أقع في الكفر. قال الشيخ :فما الذي أضحكك إذن؟ قال التلميذ :لقد ذكرت أني كنت مع بعض أولئك المبتدعة مرة، فسمعتهم يذكرون أن المسافة بيننا وبين الشمس ( )15مليون ميل ،وأن الضوء يقطعها في ثمان دقائق.. قال ذلك ،ثم عاد للضحك من جديد،وضحك معه جميع الحضور إال الشيخ فقد كان يمسك نفسه بشدة حتى ال يضحك معهم حرصا على وقاره.. بعد أن سكتوا ،قال( :)7هذه المسألة كسابقتها مبنية على التهوكات والتهويًلت وإال فإنكم تًلحظون أنه ما إن يخرج قرص الشمس من ( )7الصبح الشارق ،ص.778
88
المشرق إال وتمتلئ الدنيا بالضوء دون أقل من دقيقة واحدة ،ولو أن الشمس كانت تحت السحاب ،ثم تجلى عنها لرأيت أن الدنيا سرعان ما تضيء بدون تحديد أقصر زمن ،وكذلك القمر. فمن التخرص الذي ال يصدقه ذو عقل وبصر وفطرة سليمة أن يقال إن الشمس حين تطلع جلية من المشرق أو في السماء ال يصل الضوء إلى األرض إال بعد ثمان دقائق ،وتبقى السماء صافية والشمس مضيئة مدة سبع دقائق والناس يشاهدون ذلك بين ظلمة األرض وفي الدقيقة الثامنة يصل إليهم الضوء فتشرق األرض. انظروا إلى هذا الكًلم السامج ..وانظروا كيف يقررون توحيد الله بأقوال المًلحدة الذين يحاولون إدخال الشكوك في قلوب جهال المسلمين وإضاعة أعمارهم في دراسة مثل هذا الهذيان الفارغ ،بل الطعن في عقائد المسلمين وعلومهم والحط من قدر علماء الشريعة اإلسًلمية حيث لم يعلموا المسافة بين الشمس واألرض ،ومن حسن حظهم أن تحصلوا على مجموعة خاوية من الحمقى والمغفلين يثبتون لهم هذه األطروحات على أنَّها حقائق ويتعاونون معهم على اإلثم والعدوان باسم الدين .فإنا لله وإنا إليه راجعون. وإن أرادوا أن الشمس ال تطلع واألرض مظلمة لكن عرفوا ذلك فيما يزعمون بسرعة الضوء ونحوه قلنا :كيف عرفوا ذلك ،وأنى لهم أن يعرفوا
89
المسافة بسرعة الضوء في األرض ،وأي ضوء وصل إلى الشمس وأضاء فأف لمن رضي بالكذب ٍ عليها على ذلك البعد الهائل من األرضٍ ، وأف للكذابين. قال تلميذ آخر :لقد مررت البارحة على بعض المبتدعة والزنادقة ممن لم تقنعهم علوم السلف ،فراحوا إلى علوم الكفار يفسرون بها القرآن الكريم ،وقد حصلت بيني وبينهم مشادة عنيفة أوقفتهم فيها عند حدودهم. ابتسم الشيخ مسرورا ،وهو يقول :لطالما كنت فرحا بك يا بني ..أرى أن لك مستقبًل رائعا ..لست أدري كلما رأيتك تذكرت البربهاري وابن بطة وشيخنا شيخ اإلسًلم. قال التلميذ :وكيف ال أغضب يا أستاذ ،وأنا أرى حمى القرآن ينتهك.. اح َل َو ِاق َح َف َأ َنز ْلنَا ِم َن الر َي َ لقد سمعتهم يفسرون قوله تعالىَ { :و َأ ْر َس ْلنَا ِّ الس َماء َماء َف َأ ْس َق ْينَا ُك ُمو ُه َو َما َأن ُت ْم َل ُه بِ َخ ِ ازنِين } [سورة الحجر ]22:تفسيرا َّ تقشعر منه األبدان ..لقد سمعتهم يذكر أن الرياح تحمل الماء من البحار، ثم تصعد به ،ثم يعود ينْزل من السماء مرة ثانية.. قام الشيخ غاضبا ،وهو يقول :ويلهم ما أجرأهم على الكذب ..لقد ذكرت لكم بطًلن هذه األسطورة ساب ًقا ..لقد قال ابن كثير في تفسيرها: تدر كما مر السحاب ،حتى ّ (ترسل الرياح فتحمل الماء من السماء ،ثم تمر َّ تدر اللقحة) ،وذكر أن هذا هو قول ابن عباس وإبراهيم النخعي وقتادة، ّ
91
وقال الضحاك :يبعثها الله على السحاب فتلقحه فيمتلئ ماء. قال تلميذ آخر :لقد فعلت يا سيدي مثلما فعل زميلي الذي تشبهه دائما بالبربهاري ..لقد لقيت البارحة جماع سمعت يرطنون بتلك الهرطقات، فرميتهم بحجارة كثيرة أسالت دماءهم ،وفرقت مجلسهم. قال الشيخ :بورك فيك يا بني ..أنت أيضا أجلك وأحترمك ،وأعتقد أن لك مستقبًل في النهي عن المنكر والرد على المًلحدة والزنادقة ال يقل عن شيخنا شيخ اإلسًلم ،وسلفنا البربهاري. قال التلميذ :تصور سيدنا ..لقد سمعتهم يمجدون أشخاصا من الكفرة كأينشتاين ،وأديسون ،وباستور ..وأسماء أخرى غريبة ..وفوق ذلك يذكرون أسماء لكتب في التنجيم والكيمياء ونحوها من علوم السحرة.. غضب الشيخ ،وقال( :)7كًلمهم هذا أعظم خيانة ألبناء المسلمين من وجهين: األول :أن مصدر التوحيد وجميع علوم الشريعة اإلسًلمية هو الكتاب والسنة فكان يجب عليهم أن يتحدثوا عن مصادر التوحيد مثل(،الدر النضيد( لإلمام الشوكاني ،و(تطهير االعتقاد) لإلمام محمد بن إسماعيل األمير
الصنعاني،
و(األصول
الثًلثة)
و(كشف
الشبهات)
وكتاب(،التوحيد) لإلمام محمد بن عبدالوهاب النجدي ،و(الواسطية) ( )7انظر الصبح الشارق بتصرف ،ص.712
90
لشيخ اإلسًلم ابن تيمية ،و(لمعة االعتقاد) لإلمام ابن قدامة ،و(السنة) لإلمام البر َبهاري ،و(الرسالة الوافية في اعتقادات السنة) ألبي عمرو الداني وأمثال هذه المختصرات النافعة المفيدة والعقائد الصحيحة والعلوم الميسرة لهؤالء األئمة الناصحين رحمهم الله تعالى. أما مراجع العلوم الكونية من الفلكيين والفًلسفة وأعداء الدين والجهال والمتهوكين الذين ربما أحدهم ال يعرف سورة الفاتحة فض ً ًل عن صحيحا أو خل ًقا حميدً ا أن يعلموا المسلمين توحيدً ا أو يكسبوا منم معتقدً ا ً فهذه ذات الخيانة. اشتد به الغضب ،فقام يصرخ :لماذا ال يدلونهم على قراءة (عمدة األحكام) و(اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان) و(بلوغ المرام) ونحوها من المختصرات إذا كانوا ال يفهمون كتب األسانيد كـ(،صحيح البخاري) و(صحيح مسلم) وأمهات كتب الحديث! لماذا ال يرغبونهم في حفظ كتاب رب العالمين وتدبره وفهم معانيه على فهم السلف الصالح من أصحاب رسول الله والقرون المفضلة رضوان الله عليهم. لماذا يصدون الشباب المسلم ويصرفونهم إلى ما ال يقدرون منه على شيء في دنياهم وال أخراهم مع صعوبة مقدماته وإتًلف األوقات فيه وال يعود على صاحبه يوم القيامة إال بالحسرة والندامة ،كما قال تعالىَ { :و َي ْو َم
91
َّخ ْذ ُت م َع الرس ِ َي َع ُّض ال َّظال ِ ُم َع َلى َيدَ ْي ِه َي ُق ُ ول َيا َل ْيتَنِي ات َ ول َسبِ ًيًل ()27 َّ ُ َ ياوي َلتَى َليتَنِي َلم َأت ِ َّخ ْذ ُف ًَلنًا َخلِ ًيًل (َ )28ل َقدْ َأ َض َّلنِي َع ِن ِّ الذك ِْر َب ْعدَ إِ ْذ ْ َ َْ ْ الشي َط ُ ِ إلنْس ِ ان َخ ُذ ً َجا َءنِي َوك َ وال } [الفرقان]21 - 27 : َان َّ ْ ان ل ْ ِ َ
قال ذلك ،ثم جلس يتنفس الصعداء ،فقال له بعض تًلميذه :لقد ذكرت الوجه األول ..فما الوجه الثاني؟ قال الشيخ :الوجه الثاني ما يحويه كًلمهم ذلك من خيانة ألبناء المسلمين ..حيث يعظم في نفوسهم ويرتسم في أذهانِهم إجًلل أصحاب هذه العلوم البائرة من يهود ونصارى وفًلسفة حيارى ومروجي أفكارهم من جهال المسل مين الذين لم يأتوا للمسلمين إال بتشويش األذهان، وزعزعة العقيدة الصحيحة ،وزعزعة الثقة بكًلم الله عز وجل وكًلم رسوله . فهؤالء بسبب جهلهم وعدم تربيتهم على كتب السنة وأهلها يقعون في هذه العظائم ،وهم يحسبون أنَّهم يحسنون صن ًعا ،وأنَّهم أحدثوا لإلسًلم ونصرا وهم كما قيل :ال للحق نصروا ،وال للباطل كسروا وإنما كانوا عزا ً ً مفاتيح أبواب الشرور. بقي الشيخ يردد هذا وأمثاله أمام تًلميذه ،وال يكتفي برد الحقائق المعلومة من العلم بالضرورة ،وال يكتفي بأن يكون جاهًل مركبا معقدا، يصور الخرافة بصورة العلم ،ولكنه يضيف إلى ذلك صًلفة وعنفا وغلظة
93
وجفاء ال تحتمل.
94
المحكم ..والمتشابه يشكل التعريف بالله الجانب األساسي والمركزي الذي تدل عليه جميع آيات القرآن الكريم صراحة أو إشارة أو إماء.. فًل تكاد تخلو آية إال وتعرفنا بربنا سبحانه وتعالى :تملؤنا منه مهابة ،وله حبا ،وبه ثقة ،وعليه اعتماد وتوكًل ،ومنه أنسا وإليه قربا.. يشعر القارئ لكتاب ربه ،وكأنه يسمع ربه ،ويراه من خًلل تلك المعاني المقدسة الجميلة التي تلوح له في كل سورة ..بل في كل آية ..بل في كل حرف.. يسمع قوله تعالى { :هو ا َّل ِذي َخ َل َق السماو ِ ات َواألَ ْر َض فِي ِست َِّة َأ َّيا ٍم ُث َّم َّ َ َ ُ َ ش َي ْع َل ُم َما َيلِ ُج فِي األَ ْر ِ است ََوى َع َلى ا ْل َع ْر ِ ض َو َما َي ْخ ُر ُج ِمن َْها َو َما َي ِنز ُل ِم َن ْ الس َماء َو َما َي ْع ُر ُج فِ َيها َو ُه َو َم َع ُك ْم َأ ْي َن َما ُكن ُت ْم َوال َّل ُه بِ َما َت ْع َم ُل َ ون َب ِصير } َّ [سورة الحديد ،]5:فيشعر بعلم الله الذي ال حد له ،والذي يسع الكليات والجزئيات ،بل أدق التفاصيل ..ويشعر بإبداع الله الدائم المتجلي في خلقه لكل شيء ..ويشعر بتدبير الله وتصرفه وملكيته لكل الكائنات.. ومع كل هذه المشاعر المهيبة يشعر بأن الله قريب منه ،وأنه معه ال يغيب عنه ..وأن في إمكانه أن يتصل به متى شاء ،وألي أمر شاء. كنت أردد هذه اآلية الكريمة ،وأحاول أن أعيش معناها ،وأنا أسير في تلك البلدة باحثا عن مدرسة قيل لي بأنني أجد فيها تفسير قوله تعالىُ {:ه َو
95
ِ ِ ات ُه َّن ُأ ُّم ا ْلكِت ِ َاب َو ُأ َخ ُر ات ُّم ْحك ََم ٌ َاب ِمنْ ُه آ َي ٌ ا َّلذ َي َأ َنز َل َع َل ْي َك ا ْلكت َ ات َف َأ َّما ا َّل ِذي َن في ُق ُلوبِ ِه ْم َز ْي ٌغ َف َيتَّبِ ُع َ ون َما ت ََشا َب َه ِمنْ ُه ا ْبتِ َغاء ا ْل ِف ْتن َِة ُمت ََشابِ َه ٌ وابتِ َغاء َت ْأ ِويلِ ِه وما يع َلم َت ْأ ِوي َله إِالَّ ال ّله والر ِ ون فِي ا ْل ِع ْل ِم َي ُقو ُل َ اس ُخ َ ون آ َمنَّا بِ ِه ُ َ ْ ُ َ َّ َ َ َْ ُ
ُك ٌّل من ِع ِ ند َر ِّبنَا َو َما َي َّذك َُّر إِالَّ ُأ ْو ُلو ْا األ ْل َباب } [سورة آل عمران]7: ِّ ْ
وأن فيها من الراسخين في العلم من يميز بين المحكم والمتشابه ،ومن يرد المتشابه إلى المحكم. المحكم: ما هي إال لحظات قليلة حتى وجدتها ،وقد تعجبت إذ رأيت بنيانها القديم البالي ،وتعجبت أكثر عندما رأيت قلة تًلميذها ،وأساتذتها. ما إن دخلت حتى مالت نفسي إلى مجلس من مجالسها ،فرحت أسمع ويرى ما يجري فيه. قال الشيخ :لقد برهنت لكم في المجالس السابقة ما عساه يقنعكم بأن الغرض األكبر للقرآن الكريم هو التعريف بالله ،وملء النفس تعظيما له، وملء القلب محبة له ..لتتحرك حياة اإلنسان بعدها وفق مرضاة الله ،ووفق ما تقتضيه عبوديته. قال تلميذ من التًلميذ :أجل سيدنا ..ولكن مع ذلك لم تذكر لنا أهم شيء في هذه المعرفة ..وهو معرفة الذات ،وقد رأينا من إخواننا من مدرسة المتشابه من يعيبون علينا ذلك ،ويقولون بأننا نعبد الوهم ،فنحن ال نعرف
96
من ذات ربنا ال نقيرا وال قطميرا.. ويقولون لنا ساخرين :كيف تعبدون إلها ليس فوق العالم ،وال تحته، وال عن يمينه ،وال عن يساره ،وال يحس ،وال يشم ،وال يرى أبد ًا ،وأنه ال يحويه مكان ،وأنه ال يوصف بالنزول ،وال المجيء ،وال الهرولة.. ويقولون لنا :إن تلك األوصاف وغيرها كثير ال تقال إال للمعدوم. ويذكرون لنا بأننا نعطل القرآن الكريم بذلك ..بل نعطل السنة المطهرة ..ونعطل معها كل ما ورد عن السلف الصالح من اآلثار. وبذلك ال يمكننا أبدا أن نعرف الله ..فمعرفتنا بالله ال تختلف عن معرفتنا للوهم. وقد ذكروا لنا في ذلك قول شيخهم الذي يعتبرونه شيخا لإلسًلم..( : ففي التوراة والقرآن من اآليات التي ظاهرها التجسيم ما ال يحصى ،وليس فيها نص بما يقوله النفاة من أن الله ليس بداخل العالم وال خارجه وال متصل به وال منفصل عنه ..إلى نحو ذلك من النفي الذي يقوله نفاة الصفات .فمعلوم أن ه ليس في الكتب اإللهية ال التوراة وال اإلنجيل وال الزبور وال القرآن وال غير ذلك من النبوات من هذا حرف واحد ،وكلها مملوءة مما يقول هؤالء إنه تجسيم)
()7
ابتسم الشيخ ،وقال :وهل أجبتموهم؟ ( )7الجواب الصحيح 535/5
97
ابتسم التلميذ ،وقال :وهل تركوا لنا الفرصة لجوابهم ..لقد رمونا بالتجهم والرفض واالعتزال ..وكفرونا ..وأباحوا دماءنا. قال الشيخ :وما يمنعكم من أن تسلكوا سبيلهم ..وتنضموا إليهم، لتحقنوا دماءكم من جهة ..ولتعرفوا ذات ربكم من جهة أخرى. قال التلميذ :منعنا من ذلك أمران :أما أولهما فإحساسنا في مجالسكم بعظمة ربنا وعدم محدوديته وتقدسه أكثر من إحساسنا في مدرستهم.. وأما الثاني ،فهو أنهم يلزموننا إذا انضممنا إلى مدرستهم بأن نقول أقواال شنيعة في حق ربنا ،ال تطيق عقولنا قبولها ..وهم يفرضونها فرضا على كل من دخل مدرستهم وإال طردوه منها. قال الشيخ :فما يقولون؟ قال التلميذ :إنهم يلزموننا أن نقول بأن لله صورة ووجه ًا زائد ًا على الذات ،وعينين وفم ًا ولهوات وأضراس ًا ويدين وأصابع وكف ًا وخنصر ًا وإبهام ًا وصدر ًا وفخذ ًا وساقين ورجلين ..وأنه يجوز أن يمس ويمس، ويدني العبد من ذاته ..بل يلزمنا بعضهم أن نقول بأنه يتنفس(.)7 وقد ذكروا لنا أن كل مخالفة لذلك مخالفة للقرآن الكريم ،وللسنة المطهرة ..وأنه ال حظ لمن ال يؤمن بها في معرفة الله ..وأن من ينكر ذلك
( )7انظر :الباز األشهب المنقض على مخالفي المذهب البن الجوزي (ص)2 : .
98
عابد للوهم. قال الشيخ :فمن أين لهم كل هذه المعرفة؟ قال التلميذ :هم يعتبرون كل ما أضافه الله إلى نفسه صفة من صفاته، ولذلك أطلقوا على جميع ما ورد منسوبا لله صفة لله كاليد والوجه والساق وغيرها ،واعتبروا المؤول لها معطًل. قال الشيخ :فقد أضاف الله إلى نفسه بحسب ما تقتضيه اللغة المكر والخداع ..فهل ينسبونها لله؟ قال التلميذ :أجل ..هم ينسبونها لله ..ويذكرون أنها صفات نقص في اإلنسان ،وكمال في الله. قال الشيخ :فقد أضاف الله إلى نفسه الروح ،وذكر أنه نفخها في اإلنسان ،فقالَ { :فإِ َذا سوي ُته و َن َف ْخ ُت فِ ِيه ِمن ر ِ وحي َف َق ُعو ْا َل ُه س ِ اج ِدين } َ َّ ْ ُ َ َ ُّ [سورة الحجر ،]21:فهل يزعمون أن الروح المنفوخة في اإلنسان هي روح الله؟ سكت التلميذ ،فقال الشيخ :فقد أضاف الله النسيان لنفسه ،فقال{ :
ن َُسو ْا ال ّل َه َفن َِس َي ُه ْم } [سورة التوبة ..]17:فهل ينسبون النسيان إلى الله؟ قال التلميذ :هم يتصرفون في مثل هذه النصوص تصرفا خاصا، ويؤولونها بطرق عجيبة غريبة.. وقد حضرت مرة مجلسا من مجالسهم أولوا فيه كل اآليات الدالة على
99
قرب الله من عباده ،وقد نقلوا عن شيخهم الذي يسمونه شيخ اإلسًلم والذي يرجعون إليه كل حين قوله في اآلية الكريمةَ { :و َل َقدْ َخ َل ْقنَا ِ نس َ ان اإل َ َو َن ْع َل ُم َما ُت َو ْس ِو ُس بِ ِه َن ْف ُس ُه َون َْح ُن َأ ْق َر ُب إِ َل ْي ِه ِم ْن َح ْب ِل ا ْل َو ِريد } [سورة ق( :]71:هو قرب ذوات المًلئكة وقرب علم الله)( ،)7ثم عقب على ذلك بقوله( :وأما من ظن أن المراد بذلك قرب ذات الرب من حبل الوريد إذ أن ذاته أقرب فهذا في غاية الضعف)
()2
وهكذا قال في موضع آخر( :إن الله معنا حقيقة ،وهو فوق العرش حقيقة ..ثم هذه المعية تختلف أحكامها بحسب الموارد فلما قالُ { :ه َو ِ ِ ِ ا َّل ِذي َخ َل َق السم ِ است ََوى َع َلى ا ْل َع ْر ِ ش َي ْع َل ُم َّ َ َ اوات َواألَ ْر َض في ستَّة َأ َّيا ٍم ُث َّم ْ ِ ِ َما َيلِ ُج فِي األَ ْر ِ الس َماء َو َما َي ْع ُر ُج فِ َيها َو ُه َو ض َو َما َي ْخ ُر ُج من َْها َو َما َي ِنز ُل م َن َّ َم َع ُك ْم َأ ْي َن َما ُكن ُت ْم َوال َّل ُه بِ َما َت ْع َم ُل َ ون َب ِصير } [سورة الحديد ]5:دل ظاهر الخطاب على أن حكم هذه المعية ومقتضاها أنه مطلع عليكم ،شهيد عليكم ومهيمن عالم بكم ،وهذا معنى قول السلف :إنه معهم بعلمه ،وهذا ظاهر الخطاب وحقيقته)
()5
قال الشيخ :فلم لم يذكروا أن في هذا الصرف تعطيًل لما وصف الله
( )7األسماء والصفات .18/2 ( )2األسماء والصفات .551/2 ( )5األسماء والصفات .87/2
011
تعالى به نفسه ..ولم لم يقولوا :التقرب معلوم والكيف مجهول واإليمان به واجب؟ قال التلميذ :هذا سر نفورنا منهم ..فهم يتناقضون كثيرا ..فبينما يعتبرون التأويل تعطيًل وتجهما ورفضا ..إذا بهم هم أنفسهم يؤولون ،بل يكاد تأويلهم يغلب تأويل جميع مخالفيهم ..فهم من أجل إثبات علو الله ينفون كل آيات المعية وما يدل عليها ،وما أكثرها في القرآن الكريم.. بل إن بعض مشايخهم المعاصرين ذكر جواز صرف اللفظ عن ظاهره، ولكنه لم يسمه تأويًل ،بل سماه تفسير ًا ،فقال في جواب من سأله عن قوله تعالىَ { :يدُ ال َّل ِه َف ْو َق َأ ْي ِد ِيه ْم } [سورة الفتح( :]70:ينبغي أن ُيعلم أن التأويل عند أهل السنة ليس مذموم ًا كله ،بل المذموم منه مالم يدل عليه دليل ،وما دل عليه دليل يسمى تفسير ًا سواء كان الدليل متص ً ًل بالنص أو منفص ً ًل عنه ،فصرف الدليل عن ظاهره يسمى تفسير ًا ،فصرف الدليل عن ظاهره ليس مذموم ًا على اإلطًلق)
(.)7
قال الشيخ :هذه عاقبة كل من يترك المحكم ،وينصرف إلى المتشابه.. فًل هو يفهم المتشابه ..وال هو يعطي المحكم حقه الذي أعطاه الله له. لقد سمع النبي قوم ًا يتدارؤون فقال( :هلك من كان قبلكم بهذا ضربوا كتاب الله بعضه ببعض ،وإنما نزل كتاب الله يصدق بعضه بعض ًا ( )7مجموع فتاويه 718 /7
010
فًل تضربوا بعضه بعض ًا ،ما علمتم منه فقولوا وما ال فكلوه إلى عالمه)
()7
وروي أنه تًل آية المحكمات والمتشابهات ،ثم قال( :إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين عنى الله فاحذروهم)
()2
قال تلميذ اآلخر :نحن نعلم التخبط الذي يقعون فيه ..ولكنا نتألم عندما يذكرون لنا بأننا نجهل الله ..وأننا نعبد الوهم ..وقد سربوا لنا بسبب ذلك من الشبهات ما احتجنا إليك فيه لرده. قال الشيخ :لو رجعنا إلى المحكمات في القرآن الكريم النتفت لدينا كل مشكلة ،وحلت لنا كل معضلة ..والمحكمات المرتبطة بتعريف الله في القرآن الكريم لها مجاالن كبيران :التنزيه والتعظيم ..ولذلك شرع لنا في األذكار أن نقول( :سبحان الله) الدالة على التنزيه ..ونقول (الحمد لله) الدالة على التعظيم ..فمن جمع بينهما فهو العارف حقا. وكل أسماء الله الحسنى تدل على أحد هذين ،أو تجمع بينهما. قال التلميذ :وما تقول في اإلضافات التي تعلقت بها مدرسة المتشابه.. والتي اعتبرتها صفات لله؟ قال الشيخ :الناس فيها نوعان :عوام وخواص ..وقد ذكر القرآن الكريم التفريق بينهما في التعامل مع هذا في اآلية الكريمة.
( )7رواه أحمد. ( )2رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
011
قال التلميذ :فما حكم العوام فيها؟ قال الشيخ :العوام ليس لهم القدرات على البحث فيها ،ولذلك حسبهم أن يتناولوا المحكمات ،ويكلوا علم المتشابهات إلى الله تعالى ..أو أن عليهم أن يؤمنوا بما ورد فيها مع صرف اللفظ الموهم عن ظاهره ور ِّد العلم بالمراد إلى الله تعالى
(.)7
وقد ذكر مشايخنا في هذا أمورا على العوام مراعاتها تجاه المشابهات(:)2 منها اليقين بتنزيه الله عز وجل وتعظيمه تصديق ًا لقوله تعالى في اآلية ِ ِ ِِ يع ال َب ِصير } [سورة السم ُ الكريمة :قال تعالىَ { :ل ْي َس كَم ْثله َش ْي ٌء َو ُه َو َّ الشورى]77: ومنها التصديق بما جاء في القرآن الكريم وما وافقه من السنة الصحيحة ،وأنه حق على المعنى الذي أراده الله ورسوله. ومنها االعتراف بالعجز عن معرفة ذات الله عز وجل واإلحاطة بوصفه. ومنها السكوت عما سكت عليه الصالحون ،والكف عن السؤال عنه كما كفوا ،وأن ال نخوض فيه. ومنها اإلمساك عن التصرف في تلك األلفاظ .فنمسك عن تفسيرها بلغة
( )7انظر شرح جوهرة التوحيد للباجوري .751 ( )2انظر إلجام العوام لحجة اإلسًلم الغزالي 85-15
013
أخرى ،ألن من األلفاظ العربية ما ال يطابقها في غير العربية ،وفي اللغة تراكيب لغوي ٌة تدل على معان ال تدل عليها بترجمة ألفاظها.. العربية ُ الر ْح َم ُن َع َلى ا ْل َع ْر ِ ش ونمسك عن تصريفها فًل نقول في قوله تعالىَّ { : است ََوى } [سورة طه ،]3:هو المستوي على العرش ألن الفعل يدل على ْ استوا ء مرتبط بزمان ،واسم الفاعل ليس كذلك ففي مثل هذا التصريف زياد ُة معنى ربما ال يكون مراد ًا في اللفظ الوارد. ونمسك عن تجميع ماتفرق من هذه األلفاظ ،كما يفعل زعماء مدرسة المتشابه حين يجمعون في كتاب واحد أخبار ًا تحت باب خصوه إلثبات اليد ،وخصوا باب ًا إلثبات الرجل ،وباب ًا إلثبات الوجه ،فقوي بذلك اإليهام وغ َلب الحس. ونمسك عن تجريد اللفظ عن سياقه وسباقه ألن كل كلمة سابقة والحقة اهر َفو َق ِعب ِ ِ اد ِه َ تؤثر في إفهام المراد فإذا بلغنا قول الله عز وجلَ { :و ُه َو ا ْل َق ُ ْ } [سورة األنعام ،]78:فًل يجوز أن نقول( :هو فوق عباده) ،ألن لفظ القاهر قبله يشير إلى فوقية الرتبة والقهر ،كما قال تعالى على لسان فرعون: اهرون } [سورة األعراف ،]727:ونزع ِ ِ لفظ القاهر يعطل ُ { َوإِنَّا َف ْو َق ُه ْم َق ُ غيرها لم يكن هذا المعنى الذي يحتمله السياق احتماالً قوي ًا ويوهم فوقي ًة َ ل ُيفطن إليها لوال هذا التجريد عن السياق ،بل قولنا( :القاهر فوق غيره) اهر َفو َق ِعب ِ ِ اد ِه } ،ألن ذكر العبودية مع كونه موصوف ًا َ ليس كقولناَ { :و ُه َو ا ْل َق ُ ْ
014
القاهر فوقه يؤكد فوقية السيادة والقهر. بأن َ قال تلميذ آخر :ليتك تعلم شيخنا ماذا يقول لنا تًلميذ مدرسة المتشابه إن ذكرنا لهم هذا ومثله ..إنهم يعتبرون هذا من أشد أنواع البدع ،وقد نقلوا لنا عن زعيمهم الذين يطلقون عليه لقب شيخ اإلسًلم قول في المسلك الذي ذكرته لنا..( :فتبين أن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم متبعون للسنة والسلف من شر أقوال أهل البدع واإللحاد)
()7
بل إنهم ينقلون عنه أنه سمى َ أهل التفويض بأهل التجهيل ،فقال..( :أما أهل التجهيل فهم كثير من المنتسبين إلى السنة واتباع السلف يقولون إن معاني ما أنزل الله إليه من آيات الصفات..وال السابقون الرسول لم يعرف َ األولون عرفوا ذلك)...
()2
وقد نقلوا لنا عن بعض المعاضرين ،ويطلقون عليه ابن عثيمين قوله: (التفويض من شر أقوال أهل البدع ..وإذا تأملته وجدته تكذيب ًا للقرآن وتجهي ً ًل للرسول)
()5
قال الشيخ :من اتبع المتشابه في الله فسيقع في المتشابه في الدين جميعا ..فيؤول سماحته إلى عنف ..ويؤول أدبه إلى خشونة ..ويوؤل لطفه
( )7درء التعارض 203/7 ( )2مجموع الفتاوى 55/3 ( )5المحاضرات السنية 17/7
015
إلى خشونة ..وهكذا.. فمن لم يستح من الله أن يشببه بخلقه ،وأن يصنع له قالبا جسميا كيف يستحيي أال يكفر األمة أو يبدعها أو يرميها بكل ما تمليه عليه أحقاده من أصناف السباب. قال تلميذ آخر :دعنا منهم يا شيخنا ..نحن ما جلسنا هذا المجلس إال لنعرف ربنا ،ونسلك سبيله ،وال يهمنا من سلك معنا ،ومن لم يسلك.. ونحن واثقون فيك وفي ورعك ،فبصرنا بطريق الخواص الراسخين في العلم. قال الشيخ :لقد وضع الراسخون في العلم للتعامل مع المتشابه أربعة ضوابط. قال التلميذ :فما أولها؟ قال الشيخ :أولها أن من تعظيم القرآن الكريم والسنة المطهرة واحترام دالالتهما أال يصرف اللفظ عن ظاهره فيهما إال عند قيام الدليل القاطع على أن ظاهره محال ممتنع(..)7 وكمثال على ذلك قول النبي ( :قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن)( ،)2وقد قال الغزالي تعقيبا على هذا الحديث( :حمله على الظاهر
( )7انظر أساس التقديس ،الرازي .782 ( )2صحيح مسلم )2135(2053 /5
016
غير ممكن...إذ لو فتشنا عن قلوب المؤمنين لم نجد فيها أصابع َف ُع ِل َم أنها كناية عن القدرة التي هي سر األصابع ،وكنِّي باألصابع عن القدرة ألن ذلك أعظم وقع ًا في تفهم تمام االقتدار)
()7
قال التلميذ :فما الثاني؟ قال الشيخ :من خًلل المحكمات الواردة في القرآن الكريم والسنة المطهرة عرفنا أن الله عز وجل ليس في جهة أو حيز ،وال يجوز عليه التركيب وال التجسيم وال التشبيه ،والتقوم به الحوادث ،فإذا وردت النصوص المتشابهة معارض ًة لهذه العقائد نأخذ بالمحكم ،فنؤول الظواهر إما إجماالً ونفوض تفصيلها إلى لله ،وإما تفصي ً ًل بتعيين المراد الموافق للسان العربي الذي نزل به القرآن الكريم
(.)2
قال التلميذ :فما الثالث؟ قال الشيخ :ال يصح أن نصرف النص المتشابه عن داللته الظاهرة إال وفق أساليب اللغة وعرف االستعمال جاري ًا على ما يقتضيه لسان العرب وما يفهمونه في خطاباتها
(.)5
قال التلميذ :فهًل وضحت لي هذا بمثال؟
( )7انظر قواعد العقائد ،مع إحياء علوم الدين .702/7 ( )2انظر المواقف ،اإليجي .27 ( )5انظر فيصل التفرقة بين اإلسًلم والزندقة.
017
ف َعن قال الشيخ :عندما نبحث عن معنى قوله تعالى مثًلَ { :ي ْو َم ُيك َْش ُ ًل يست ِ ِ ٍ َطي ُعون } [سورة القلم ]52:في اللسان الس ُجود َف َ َ ْ َساق َو ُيدْ َع ْو َن إِ َلى ُّ العربي ،فإننا نجد العرب يفسرون ذلك بالشدة ،وقد روي أن ابن عباس سئل عن هذه اآلية ،فقال :إذا خفي عليكم شيء من القرآن فابتغوه في الشعر ،فإنه ديوان العرب ،أما سمعتم قول الشاعر: سن لنا قومك ضرب األعناق ..وقامت الحرب بنا على ساق
()7
قال التلميذ :صدقت سيدنا ..وأنا أحفظ من مثل هذا الكثير ،فالعرب تعبر عن كل كرب وشدة بذلك ،ومن ذلك قول الشاعر: كشفت لكم عن ساقها ...وبدا من الشر الصراح وقال آخر: قد شمرت عن ساقها فشدوا ...وجدت الحرب بكم فجدوا قال تلميذ آخر :ليتك حضرت معنا سيدي إلى مدرسة المتشابه ،فإنهم يفسرونها تفسيرا خطيرا. قال الشيخ :دعنا منهم ..فمن وقع في المتشابه وقع في التشبيه ال محالة.. قال التلميذ :حدثتنا عن ا لضابط الثالث ،فحدثنا عن الرابع ؟ قال الشيخ :الرابع هو أنه ال ينبغي لمن صرف المتشابه عن ظاهره أن ( )7تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (.)175 /50
018
يجزم بأن مراد الله هو ذلك المراد ،أدبا مع الله ،وتعظيما لمراده ،وخاصة إذا احتمل وجوها في اللسان العربي.. قال التلميذ :فهًل ضربت لنا مثاال على ذلك. الر ْح َم ُن َع َلى ا ْل َع ْر ِ ش قال الشيخ :من األمثلة على ذلك قوله تعالىَّ { : است ََوى } [سورة طه ،]3:فإن المحكم يقتضي أال نفسر االستواء بالجلوس ْ والقعود كما يفعل المتبعين للمتشابه ،ألن ذلك حد لله ،ووصف له بصفات الحوادث ..أما تعيين المراد منه ،فيحتمل وجوها عديدة ،وقد قال بعض علمائنا في ذلك( :ال يمتنع منا حمل االستواء على القهر والغلبة، وذلك شائع في اللغة ...وال يبعد حمل االستواء على قصد اإلله إلى أمر في العرش)( )7وغير ذلك من الوجوه. بعد أن انتهى الشيخ من حديثه عن ضوابط التعامل مع المتشابه أخذ التًلميذ يسألونه عن أسماء الله الحسنى ،فيشرحها لهم شرحا عجيبا، ويربطها بحقائق الكون التي نراها ..حتى اعتقدت جازما بعد خروجي من مدرسته أن المجال الوحيد المتاح لعقولنا وقلوبنا للتعرف على الله هي أسماؤه الحسنى ..فبقدر ما نستغرق فيها بقدر ما نرتبط بالله ،وبشرع الله، وبالتحقق بدين الله ..فأسماء الله مدرسة كاملة في العقيدة ،وفي حقائق الوجود ،وتفسير ما يحصل فيه ..وهي كذلك مدرسة في التربية والسلوك ( )7انظر اإلرشاد .57
019
واألخًلق والروحانية. المتشابه: بعد أن خرجت من مدرسة المحكم سولت لي نفسي أن أرى مدرسة المتشابه ،وأرى العلوم التي تدرس فيها ..وليتني ما فعلت ..فقد كان للطروحات التي طرحت فيها آثار سلبية خطيرة على نفسي أزالت كثيرا من معاني التقديس والتعظيم التي كنت أستشعرها من خًلل القراءة الفطرية للقرآن الكريم ..ولم أتخلص من تلك الرواسب إال بعد جهد جهيد. كانت المدرسة كبيرة مزخرفة ..وكان لمشايخها من األبهة والسلطان ما لم يكن لمشايخ مدرسة المحكم ..فقد كان كل واحد منهم مستو على عرشه ،وكأنه ملك من الملوك يأمر وينهى.. جلست في أحد المجالس ،وقد تعجبت إذ سئل الشيخ بمجرد جلوسي اق ويدْ َعو َن إِ َلى السج ِ ود َف َ ًل عن تفسير قوله تعالى { َي ْو َم ُيك َْش ُ ُّ ُ ف َعن َس ٍ َ ُ ْ َي ْستَطِي ُعون } [سورة القلم]52: فاعتدل في جلسته فرحا مسرورا ،وقال :أحسنت بسؤالك هذا ..فبهذه اآلية يمكننا أن نفرق بين أهل السنة وأهل البدعة ..وبين أهل النجاة وأهل الضًللة ..فقد ورد حديث صحيح في البخاري يؤكد هذا ،ويدل عليه.. فأبشروا ..فهذا الحديث بشارة ألهل السنة ،وإنذار للمبتدعة. قال التلميذ :فهًل حدثتنا شيخنا بهذا الحديث.
001
قال الشيخ :أجل ..وأنا أرويه مسندا من شيخي إلى البخاري إلى رسول الله .. قال ذلك ،ثم أخذ يردد سندا طويًل ،استغرق وقتا كثيرا ..وبعد تعديد عشرات األسماء واأللقاب والكنى والبلدان وصلنا إلى آخر راو في سلسلة السند الطويل ..وقد تعجبت من ذاكرته العجيبة التي حفظت كل تلك األسماء. بعد الراوي األخير مباشرة بدأ الحديث عن رسول الله .. ال أستطيع أن أذكر لكم أن الحديث لرسول الله ..فرسول الله أكثر تعظيما لربه من أن يقول هذا ..ولهذا سأذكره باعتباره الرواية التي سمعتها.. كان الشيخ يتفاعل مع كل كلمة يقولها ،ويمطط فيها حتى صرنا ،وكأننا – وأستغفر الله – نرى الله تعالى وتقدس بأعيننا المجردة بلباسه وتاجه وساقه.. قال الشيخ ،وهو يسرد الحديث( ،)7وكأنه يقص قصة من قصص ألف ليلة وليلة :في ذلك اليوم من أيام القيامة يؤذن مؤذن يسمعه الخًلئق جميعا :لتتبع كل أمة ما كانت تعبد ،فًل يبقى أحد كان يعبد غير الله من األصنام واألنصاب إال يتساقطون في النار حتى إذا لم يبق إال من كان يعبد ( )7الحديث وارد في الصحيحين ،وقد نقلته بتصرف ،ولم أنسبه لرسول الله .
000
الله من بر وفاجر وغير أهل الكتاب؛ فيدعى اليهود فيقال لهم :ما كنتم تعبدون؟ قالوا :كنا نعبد عزير ابن الله .فيقول :كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة وال ولد فماذا تبغون؟ قالوا :عطشنا يا رب فاسقنا ،فيشار إليهم أال تردون؟ فيحشرون إلى النار كأنها سراب يحطم بعضها بعضا ،فيتساقطون في النار. ثم يدعى النصارى فيقال لهم :ما كنتم تعبدون؟ قالوا :كنا نعبد المسيح ابن الله فيقال لهم :كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة وال ولد فماذا تبغون؟ فيقولون .عطشنا يا رب فاسقنا قال :فيشار إليهم أال تردون؟ فيحشرون إلى جهنم كأنها سراب يحطم بعضها بعضا فيتساقطون في النار. نظر الشيخ إلى التًلميذ ،وهو يقول :الحمد لله ..ها قد تخلصنا من اليهود والنصارى ..ولم يبق في ذلك الموقف إال نحن ..لكن ال تستعجلوا ال تتصورا أن كل من بقي ناج ..الناجي هو من يعتقد ما نعتقد فقط.. اسمعوا لباقي الحديث ..يقول الحديث :حتى إذا لم يبق إال من كان يعبد الله من بر وفاجر أتاهم الله في أدنى صورة من التي رأوه فيها ،فيأتيهم الجبار في صورة غير الصورة التي رأوها أول مرة قال :فما تنتظرون :لتتبع كل أمة ما كانت تعبد قالوا :يا ربنا فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم ولم نصاحبهم .فيقول :أنا ربكم فيقولون :نعوذ بالله منك ال نشرك بالله شيئا -مرتين أو ثًلثا؛ حتى إن بعضهم ليكاد أن ينقلب -فيقول :هل بينكم
001
وبينه آية تعرفونه بها؟ فيقولون :نعم .فيكشف عن ساق ،فًل يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إال أذن الله له بالسجود ،وال يبقى من كان يسجد نفاقا ورياء إال جعل الله ظهره طبقة واحدة كلما أراد أن يسجد خر على قفاه ثم يرفعون رءوسهم وقد تحول في الصورة التي رأوه فيها أول مرة فقال :أنا ربكم فيقولون :أنت ربنا. وقف الشيخ بحماسه ،وراح يرفع يده بقوة ،وهو يقول :أرأيتم قيمة معرفة صفة الساق ،فكل من جحد بها ال يستطيع أن يسجد يوم القيامة.. وكل من أنكر أن لله صورة ووجها وساقا وضرسا ال يستطيع أن يسجد.. وكل من أنكر أن يأتي الله أو يذهب أو يجري أو يهرول ال يستطيع أن يسجد ..وكل من أنكر أن الله يتكلم ويضحك ويستلقي ال يستطيع أن يسجد.. وبقي يردد ذلك ..ويخوف تًلميذه بذلك ..وقد كانت الصور تتوارد على خيالي ،وهو يلصقها بالله ..حتى صار الله ..تعالى وتقدس ..وكأنه جرم من األجرام الضخمة ..وليس من فرق بينه وبينها إال أننا نعرف هيئة تلك األجرام ..وال نعرف بدقة هيئة الله. لكن الشيخ بقي يوضح ويزيد األمر تفصيًل إلى أن أصبحنا وكأننا نرى الله بأعيننا المجردة. قال له أحد التًلميذ :كشف الساق يا سيدنا يدل على الله تعالى يلبس
003
لباسا؟ قال الشيخ :أحسنت بني في استنتاجك ..فقد دلت عليه الرواية ،فقد روى سلفنا الصالح في أحاديث كثيرة متواترة عن أصحابنا عن رسول الله أنه (رأى ربه عز وجل في النوم في صورة شاب ذي وفرة قدماه في الخضر عليه نعـًلن من ذهب على وجهـه فراش من ذهب)
()7
قال التلميذ :ولكن هذا الحديث يدل على أنه رآه في النوم ..وال يمكن أن نرى في النوم الحقائق بدقة. قال الشيخ :لقد رد سلفنا الصالح على هذا االعتراض من وجهين ،أما األول ،فهو أن الذي رأى هو رسول الله ..وليس أحدا آخر ،ورؤيا األنبياء صدق ..وأما الثاني ،فقد روي من طرق متعددة من أصحابنا أن الرؤية كانت في اليقظة ..فقد روى الطبراني في (السنة) عن ابن عباس قال: رأى محمد ربه في صورة شاب أمرد ،وبه قال ابن جريـج عن صفـوان بن سليـم عـن عائشة قالت :رأى النبي ربه على صورة شاب جالس على كرسي رجله في خضرة من نور يتألأل.. وروى الطبراني في المعجم األوسط عن عكرمة ،قال :سئل ابن عباس: هل رأى محمد ربه عز وجل ؟ قال :نعم ،رآه في صورة شاب بين شعر
( )7كتاب رؤية الله للدارقطني ص 10ط .مكتبة القرآن /القاهرة.
004
من لؤلؤّ ، كأن قدمية في خضرة(.)7 وروى أبو يعلى الفراء عن ابن عباس ما يؤكد صحة حديثه ذكره أبو بكر بن أبي داود في كتاب السنة بإسناده عن عكرمة قال :سئل ابن عباس :هل رأى محمد ربه ؟ قال :نعم ،قال :كيف رآه؟ قال( :في صورة شاب دونه ستر من لؤلؤ ّ كأن قدميه في خضرة) ،فقلت أنا البن عباس :أليس هو من يف ا ْل َ خبِير } يقول { :الَّ ُتدْ ِر ُك ُه األَ ْب َص ُار َو ُه َو ُيدْ ِر ُك األَ ْب َص َار َو ُه َو ال َّلطِ ُ [سورة األنعام ]705:؟ قـال :ال أم لك ،ذلك نـوره الذي هو نوره إذا تجلى بنوره ال يدركه شيء (.)2 وروى أبو بكر الخًلل عن عكرمة ،عن ابن عباس ّ أن النبي رأى ربه جل ثناؤه جعد ًا قطط ًا أمرد في حلة حمراء(.)5 بقي الشيخ يورد الكثير من النصوص التي تدل على هذا ،ويستشهد لذلك من كًلم سلفه الصالح ما يمأل القلوب رهبة من مخالفتها.. بعد أن انتهى من ذلك ،قال بعض التًلميذ :لقد زرت البارحة مدرسة المحكم ..وقد رأيتهم ينكرون مثل هذا ،ويردون عليه ردا شديدا. غضب الشيخ ،وقال :ألم أكن نهيتكم عن زيارة أولئك المبتدعة الضالين
( )7المعجم األوسط للطبراني ج 5ص 553رقم .5717 ( . )2إبطال التأويًلت ألخبار الصفات ج 7ص 758رقم 737 ( )5إبطال التأويًلت ألخبار الصفات ج 7ص 755رقم .722
005
الجاحدين؟ قال التلميذ :أنا لم أذهب إال ألتجسس لك عن أخبارهم ..ومعاذ الله أن أترك النبع الصافي الذي تسقينا منه ،وأذهب إلى تلك المنابع الكدرة المختلطة بالفلسفة والكًلم والرفض.. قال ا لشيخ :ما دمت قلت هذا ..فسأذكر لك حديثا عن بعض سلفنا الصالح يفيدك في إقامة الحجة عليهم.. لقد حدثني بعض مشايخنا بسنده عن حماد بن زيد قال :مثل الجهمية مثل رجل قيل له :في دارك نخلة؟ قال :نعم ،قيل :فلها خوص؟ قال :ال، قيل :فلها سعف؟ قال :ال ،قيل :فلها كرب؟ قال :ال ،قيل :فلها جذع؟ قال: ال ،قيل :فلها أصل؟ قال :ال ،قيل :فًل نخلة في دارك ..وهؤالء الجهمية قيل لهم :لكم رب يتكلم؟ قالوا :ال ،قيل :فله يد؟ قالوا :ال ،قيل :فله قدم؟ قالوا :ال ،قيل :له إصبع؟ قالوا :ال ،قيل :فًل رب لكم)
()7
خرجت من مدرسة المتشابه ،وأنا ممتلئ بالشبهات ،ولم أستطع أن أطهر قلبي من درن التشبيه إال بعد أن التجأت إلى ربي الذي أرشدني إلى العودة لمدرسة المحكم ،وفيها استطعت بفضل الله أن أتخلص من كل الشبهات التي زرعها في نفسي أتباع المتشابهات.
( )7إبطال التأويًلت (ص)33 :
006
التفعيل ..والتعطيل لو قمنا بعملية حسابية بسيطة لآليات القرآنية التي يمكن تفعيلها في حياتنا – من وجهة النظر السلفية التراثية – فإننا سنجد ما ال يقل عن واحد في المائة من القرآن الكريم جميعا مما يمكن تطبيقه في الحياة ..وحتى هذا الواحد يمكن أن يكون مخصصا ومقيدا ومؤوال ومحدودا.. وحتى ال يعتبر قولنا هذا دعوى ..فإنا نذكر بأن نصف القرآن تقريبا من القصص ..وهذه لم يكتف السلفيون والتراثيون بتعطيها عن العمل في حياتنا فقط بحجة أن شرع من قبلنا ليس شرعا لنا ،وإنما شوهت وغيرت وبدلت تبديًل عظيما.. وهكذا بالنسبة لآليات الكونية في القرآن الكريم ..والتي أسيء فهمها، وحرم التيار السلفي المتطرف من النظر إليها وفق معطيات العلم ..وجعل البحث فيها محصورا في تلك العقول الفارغة التي ال تزال تتناول معارفها من تراث بني أكثره على الخرافة. أما آيات األحكام ..والتي أنزلت لتنفذ في واقع الحياة ..فقد عرض لها ما عرض لغيرها من القول بالنسخ والتخصيص والتقييد ..ولذلك ال يحق ألحد من الناس أن يستفيد من الرؤى القرآنية في هذا الجانب ،بل يحذر من التدبر من ال يميز الناسخ من المنسوخ ،والعام من الخاص ،والمطلق من المقيد.
007
وهكذا بالنسبة آليات التسامح التي نسخت جميعا بآية السيف.. وهكذا بالنسبة آلية رعاية أموال اليتامى ،وعدم أكلها ،فقد نسخت بحديث التعصيب الذي يجيز البن العم مهما بعد أن يتقاسم التركة مع البنات مهما قربن ..مع أن القرآن الكريم لم يقل ذلك ..والفطرة السليمة ال تقول ذلك ..والعدالة التي برمجها الله في عقول عباده ال تقول ذلك.. وهكذا لم يبق من القرآن الكريم مفعًل في حياتنا إال ما يسمونه آية السيف ..ويؤكدون ذلك بأن رسول الله قال :كفى بالسيف شافيا.. ونصرت بالرعب.. ولو شئنا أن نأتي باألمثلة المفصلة على هذا ،فلن ننتهي.. فإذا حسبنا كل تلك اإللغاءات والتحديدات والتقييدات ..فإننا نجدها كل القرآن تقريبا ..ولذلك ال حرج علينا إذا قلنا بأننا نعطل القرآن ،ألنه يستحيل أن يفعل القرآن من يعطل ولو آية واحدة من آياته. وسأقص عليكم هنا قصة بسيطة ترمز إلى كلتا الرؤيتين: الرؤية التي أتبناها بفضل الله ،وأدعو إلى تبنيها ،وهي التي أشار إليها ِ َاب ُأ ْحكِ َم ْت آ َيا ُت ُه ُث َّم ُف ِّص َل ْت ِم ْن َلدُ ْن َحكِي ٍم َخبِ ٍ ير } قوله تعالى { :الر كت ٌ [هود]7 : والرؤية التي نشرها الشيطان في هذه األمة ،والتي أشار إليها قوله تعالى: { و َق َال ا َّل ِذين َك َفروا َال تَسمعوا لِه َذا ا ْل ُقر ِ آن َوا ْل َغ ْوا فِ ِيه َل َع َّل ُك ْم َت ْغلِ ُب َ ون } ْ َ ُ َ َ ْ َ ُ
008
[فصلت ،]21 :أي :تواصوا فيما بينهم أال يطيعوا للقرآن ،وال ينقادوا ألوامره(.)7 ِ الر ْح َم ِن ُن َق ِّي ْض َل ُه َش ْي َطانًا وأشار إليها قوله تعالىَ { :و َم ْن َي ْع ُش َع ْن ذك ِْر َّ السبِ ِ ون َأن َُّه ْم ُم ْهتَدُ َ يل َو َي ْح َس ُب َ ون } َف ُه َو َل ُه َق ِري ٌن (َ )51وإِن َُّه ْم َل َي ُصدُّ ون َُه ْم َع ِن َّ [الزخرف]57 ،51 : التفعيل: في المدرسة األولى ،البسيطة المتواضعة صاحبة المرافق المحدودة، والتًلميذ القليلين ..وجدت شيخا يشبه شيخ اإلشارة ،وشيخ العبرة، وشيخ المحكم يخاطب تًلميذه بقوله :لقد طرحتم علي البارحة شبها يثيرها زعماء التعطيل ..وقد طلبت منكم أن تجمعوها ..وأن تجمعوا اآليات التي قاموا بتعطيلها ،ألبين لكم وجوه تفعيلها ..فهل فعلتم؟ قال تلميذ من تًلميذه :أجل ..وقد وجدنا أنها تكاد تشمل القرآن جميعا ..فما من آية إال نجدهم قد ربطوها بأهل الكتاب ،أو بشرع من قبلنا، أو ربطوها بسبب نزول ..أو ذكروا أنها منسوخة ..أو أنها مخصصة ..أو أنها مقيدة ..أو أن القصد منها التشديد وليس الحقيقة ..وهكذا.. قال الشيخ :أعلم ذلك يا بني ..ولوال ذلك ألقمنا الكتاب كما أمر الله،
( )7تفسير ابن كثير ()775 /7
009
ولما حصل في األمة ما حصل ،بل ألكلنا من فوقنا ومن تحت أرجلنا ..لقد اإلن ِ قال الله تعالى يحذرنا من ذلكَ { :و َل ْو َأن َُّه ْم َأ َقا ُموا الت َّْو َرا َة َو ْ ِ ْج َيل َو َما ُأن ِْز َل إِ َلي ِهم ِمن رب ِهم َألَ َك ُلوا ِمن َفو ِق ِهم و ِمن تَح ِ ت َأ ْر ُجلِ ِه ْم ِمن ُْه ْم ُأ َّم ٌة ُم ْقت َِصدَ ٌة ْ ْ ْ َ ْ ْ ْ ْ ْ َ ِّ ْ َوكَثِ ٌير ِمن ُْه ْم َسا َء َما َي ْع َم ُل َ ون } [المائدة]11 : ضحك أحد التًلميذ ،وقال :هم يعطلون هذه اآلية أيضا ..فقد ذكروا أنها في أهل الكتاب ،وأنهم هم الذين فرطوا في التوراة واألنجيل ..أما نحن فعلى العكس منهم تماما. قال الشيخ :فهل أكلت هذه األمة من فوقها ومن تحت أرجلها ..أم أن المصائب واالستبداد والجوع والفقر واالستعمار كلها حلت بها في تاريخها كله؟ قال التلميذ :يمكننا أن نرجع إلى كتب التاريخ في هذا ..وقد أخبرتنا بأن المصائب لم تبرح تنزل بهذه األمة ..وأولها البأس الشديد الذي حل بينها على مدار التاريخ جميعا. قال الشيخ :فهل ترى أن الله سبحانه وتعالى الحكم العدل يجعل قانونا خاصا بمن فرط في كتابه ،فيطبقه على قوم ،ويعفو عن آخرين؟ أم ترى أن التوراة واإلنجيل أكثر حرمة عند الله من القرآن الكريم ،ولذلك يعاقب من فرط فيهما ،وال يعاقب من فرط فيه؟ قال التلميذ :هم يقولون بأن هذه األمة مرحومة ..وأنها خير أمة أخرجت
011
للناس. قال الشيخ :أما كونها مرحومة ..فذلك راجع إلى أعمالها ..وأما كونها فضلت على سائر األمم ..فالله تعالى أخبر بأنه فضل بني إسرائيل كذلك.. أي اختارهم دون الخلق لتحمل المسؤولية ..فمن وفى فله الجزاء ،ومن فرط فله العقوبة.. لقد ذكر الله قانون ذلك ،فقالَ { :ل ْي َس بِ َأ َمانِ ِّي ُك ْم َو َال َأ َمانِ ِّي َأ ْه ِل ا ْلكِت ِ َاب من يعم ْل سوءا يج َز بِ ِه و َال ي ِجدْ َله ِمن د ِ ون ال َّل ِه َول ِ ايا َو َال ن َِص ًيرا (َ )725و َم ْن ُ ْ ُ َ َ َ ْ ََْ ُ ً ُ ْ يعم ْل ِمن الصالِح ِ ات ِم ْن َذك ٍَر َأ ْو ُأ ْن َثى َو ُه َو ُم ْؤ ِم ٌن َف ُأو َل ِئ َك َيدْ ُخ ُل َ ون ا ْل َجنَّ َة َ َّ َ ََْ
َو َال ُي ْظ َل ُم َ ون ن َِق ًيرا } [النساء]725 ،725 :
قال تلميذ آخر :لقد ذكرتني يا شيخنا بتفسيرهم للسورة التي نرددها كل يوم ..والتي ورد فيها أصناف الناس ..فتراهم إذا قرأوا قوله تعالى { ا َّل ِذي َن َأ ْن َع ْم َت َع َل ْي ِه ْم } [الفاتحة ]7 :خصوها بأنفسهم ..وإذا قرأوا { َغ ْي ِر ا ْل َم ْغ ُض ِ الضا ِّلي َن } [الفاتحة ]7 :قسموها شطرين ،فشطر وب َع َل ْي ِه ْم َو َال َّ الغضب أرسلوه لليهود ..وشطر الضًلل أرسلوه للنصاري.. قال تلميذ آخر :أجل سيدي ..وقد كنت أود أن أسألك عن هذا ،فقد قرأت في تفسير ابن كثير قوله( :طريقة أهل اإليمان مشتملة على العلم بالحق والعمل به ،واليهود فقدوا العمل ،والنصارى فقدوا العلم؛ ولهذا كان الغضب لليهود ،والضًلل للنصارى ،ألن من علم وترك استحق
010
الغضب ،بخًلف من لم يعلم ..والنصارى لما كانوا قاصدين شيئا لكنهم ال يهتدون إلى طريقه ،ألنهم لم يأتوا األمر من بابه ،وهو اتباع الرسول الحق ،ضلوا ،وكل من اليهود والنصارى ضال مغضوب عليه ،لكن أخص أوصاف اليهود الغضب)
()7
قال الشيخ :هذا من تعطيل القرآن ..فالله سبحانه وتعالى ذكر في القرآن الكريم أوصاف المغضوب عليهم ..وأوصاف الضالين ..فمن انطبقت عليه ..فهو منهم كان يهوديا أو نصرانيا أو مسلما ..فالله ال يفرق بين عباده. قال التلميذ :ولكن ابن كثير استدل لذلك من القرآن الكريم ،فالله تعالى قال عن اليهودُ { :ق ْل َه ْل ُأ َن ِّب ُئ ُك ْم بِ َش ٍّر ِم ْن َذلِ َك َم ُثو َب ًة ِعنْدَ ال َّل ِه َم ْن َل َعنَ ُه ال َّل ُه ِ ب َع َل ْي ِه َو َج َع َل ِمن ُْه ُم ا ْل ِق َر َد َة َوا ْل َخن ِ وت ُأو َل ِئ َك َش ٌّر َاز َير َو َع َبدَ ال َّطا ُغ َ َو َغض َ ِ السبِ ِ يل } [المائدة]10 : َمكَانًا َو َأ َض ُّل َع ْن َس َواء َّ وقال عن النصارىُ { :ق ْل َيا َأ ْه َل ا ْل ِكت ِ َاب َال َت ْغ ُلوا فِي ِدين ِ ُك ْم َغ ْي َر ا ْل َح ِّق َو َال َتتَّبِ ُعوا َأ ْه َوا َء َق ْو ٍم َقدْ َض ُّلوا ِم ْن َق ْب ُل َو َأ َض ُّلوا َكثِ ًيرا َو َض ُّلوا َع ْن َس َو ِاء السبِ ِ يل } [المائدة]77 : َّ قال الشيخ :فهل ذكر الله تعالى األعمال التي قام بها هؤالء حتى استحقوا هذه األوصاف؟ قال التلميذ :أجل ..والقرآن الكريم ممتلئ بذكر أفعالهم.. ( )7تفسير ابن كثير (ج.)757 /7
011
قال الشيخ :هو لم يذكرها ألجلهم ..إنما ذكرها ألجلكم ..هو يحذركم إن سلكتم سلوكهم في انحرافهم عن كتابهم وأنبيائهم أن ينزل بكم غضب الله ،وتضلوا عن الطريق المستقيم. قال تلميذ آخر :ائذن لي يا شيخ أن أحدثك بآية كنت سمعت تفسيرها البارحة في مدرسة التعطيل ،وقد سمعتهم يعتبرونها معفاة من العمل ..وأنه ليس علينا سوى قراءتها ،واالستفادة من الحسنات التي ننالها من خًلل ذلك ..وقد حاولت جهدي أن أفك تعطليها ،وأرى كيف تفعل حياتنا ،فلم أطق. قال الشيخ :تفضل ..اذكرها ..فيستحيل على الكتاب الذي { َال َي ْأتِ ِيه ا ْل َباطِ ُل ِم ْن َب ْي ِن َيدَ ْي ِه َو َال ِم ْن َخ ْل ِف ِه } [فصلت ]52 :أن يعطل حرف من حروفه. الًلتِي ي ْأتِين ا ْل َف ِ قال التلميذ :هي قوله تعالىَ { :و َّ اح َش َة ِم ْن نِ َس ِائ ُك ْم َ َ َفاست َْش ِهدُ وا َع َلي ِهن َأربع ًة ِمنْ ُكم َفإِ ْن َش ِهدُ وا َف َأم ِس ُكوهن فِي ا ْلبي ِ وت َحتَّى ُُ ُ َّ ْ َّ ْ َ َ ْ ْ ْ اه َّن ا ْل َم ْو ُت َأ ْو َي ْج َع َل ال َّل ُه َل ُه َّن َسبِ ًيًل } [النساء ،]73 :فقد نقلوا اتفاق َيت ََو َّف ُ المفسرين على أنها معطلة عن العمل (.)7 ( )7نقل ابن كثير القول بنسخها عن ابن عباس وعكرمة ،وسعيد بن جبير ،والحسن ،وعطاء الخراساني ،وأبي صالح ،وقتادة ،وزيد بن أسلم ،والضحاك ،ثم علق على ذلك بقوله( :منسوخة. وهو أمر متفق عليه) ،انظر :تفسير ابن كثير ( ،)255 /2لكن أبي مسلم األصفهاني – وهو من القائلين بعدم النسخ – خالف ذلك ،فذكر أن المراد بقوله :والًلتي يأتين الفاحشة السحاقات،
013
قال الشيخ :ما دامت معطلة ..فكيف أمرنا بإقامة القرآن الكريم جميعا.. لقد قال الله تعالى { :اتَّبِع ما ُأ ِ وح َي إِ َل ْي َك ِم ْن َر ِّب َك َال إِ َل َه إِ َّال ُه َو َو َأ ْع ِر ْض ْ َ َع ِن ا ْل ُم ْش ِركِي َن } [األنعام ،]701 :ولم يقل اتبع بعض ما يوحى إليك من ربك. قال التلميذ :فكيف ترى تفعيل اآلية الكريمة في واقعنا؟ قال الشيخ :أخبرني أوال ..كيف يعطلونها؟ قال التلميذ :هم ال يقولون بنسخها ،ولكنهم يذكرون أنها مرحلة من المراحل التي مرت بها الحدود المرتبطة بالزنا ..وقد قال السعدي في تفسيرها ( :وهذه اآلية ليست منسوخة ،وإنما هي مغياة إلى ذلك الوقت، فكان األمر في أول اإلسًلم كذلك حتى جعل الله لهن سبيًل وهو رجم المحصن وجلد غير المحصن)
()7
وحدهن الحبس إلى الموت وبقوله :والذان يأتيانها منكم :أهل اللواط ،وحدهما األذى بالقول والفعل ،واحتج لذلك – كما يذكر الرازي – بوجوه ،منها: األول :أن قوله :والًلتي يأتين الفاحشة من نسائكم مخصوص بالنسوان ،وقوله :والذان يأتيانها منكم مخصوص بالرجال ،ألن قوله :والذان تثنية الذكور. الثاني :هو أن على هذا التقدير ال يحتاج إلى التزام النسخ في شيء من اآليات ،بل يكون حكم كل واحدة منها باقيا مقررا ،وعلى التقدير الذي ذكرتم يحتاج إلى التزام النسخ ،فكان هذا القول أولى( .انظر :تفسير الرازي = مفاتيح الغيب ()328 /1 ( )7تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص.)777 :
014
قال الشيخ :كل ذلك سواء ..التعطيل ال يكون بالقول بالنسخ فقط.. مجرد إخراج اآلية الكريمة عن دورها العملي في واقع الحياة تعطيل. قال التلميذ :فكيف ترى تفعيلها؟ قال الشيخ :هذه اآليات مع مجموعة أخرى تحل مشكلة الفواحش في المجتمع ..ولو أنها فعلت جميعا وفق ما ذكر القرآن الكريم لزالت الفاحشة ،أو كادت. لقد قمت بإحصائها ،ووجدت من خًللها ذلك االنتظام العجيب في المعالجة القرآنية لهذه المشكلة الخطيرة( ..)7وقد وجدت بعد اإلحصاء تسع آيات كريمة. قال التلميذ :فما اآلية األولى؟ وماذا تعالج؟ قال الشيخ :اآلية األولى هي قوله تعالىَّ { :لزانِي ُة و َّ ِ اجلِدُ وا ُك َّل الزاني َف ْ َ َ و ِ اح ٍد ِمن ُْه َما ِما َئ َة َج ْلدَ ٍة َو َال َت ْأ ُخ ْذ ُك ْم بِ ِه َما َر ْأ َف ٌة فِي ِد ِ ين ال َّل ِه إِ ْن ُكنْ ُت ْم ُت ْؤ ِمنُ َ ون َ بِال َّل ِه َوا ْل َي ْو ِم ْاآل ِخ ِر َو ْل َي ْش َهدْ َع َذا َب ُه َما َط ِائ َف ٌة ِم َن ا ْل ُم ْؤ ِمنِي َن } [النور]2 : وهي تضع الحد الشرعي للزانية والزاني اذا ضبطا في حالة تلبس، فالعقوبة مائة جلدة أمام الناس ..حتى يرتدع الناس جميعا.
()7
رجعت في تفسير هذه اآلية بحسب هذه الرؤية إلى مقال علمي ممتاز بعنوان .:رجـــم
الــزانـــي المحصن ليس من القرآن ،موقع أهل القرآن ،على الرابط التالي: ()7778=http://www.ahl-alquran.com/arabic/document.php?main_id
015
قال التلميذ :ولكن لماذا كان ذلك أمام الناس؟ قال الشيخ :ألن هؤالء لم يتستروا ..بل راحوا يقومون بالفاحشة أمام الناس ..لدرجة أنه لم يرهم شخص واحد أو شخصين ،بل أربعة أشخاص وكلهم بالغون وعدول وأصحاب حرمة في المجتمع ..فتمكن هؤالء األربع مع عدالتهم من رؤيتهم يدل على أن هناك كثيرين قد رأوهم ..ولهذا كانت العقوبة أمام الناس جميعا لترتبط صورة العقوبة أمام صورة الذنب، فيرتدع المجتمع. قال التلميذ :فما اآلية الثانية؟ وماذا تعالج؟ قال الشيخ :هي نفسها اآلية التي سألت عنها ،وهي قوله تعالى{ :
ِ ِ ِ ِ ِ و َّ ِ است َْش ِهدُ وا َع َل ْي ِه َّن َأ ْر َب َع ًة ِمنْ ُك ْم َفإِ ْن َ الًلتي َي ْأتي َن ا ْل َفاح َش َة م ْن ن َسائ ُك ْم َف ْ ِ ِ ِ اه َّن ا ْل َم ْو ُت َأ ْو َي ْج َع َل ال َّل ُه َل ُه َّن وه َّن في ا ْل ُب ُيوت َحتَّى َيت ََو َّف ُ َش ِهدُ وا َف َأ ْمس ُك ُ َسبِ ًيًل } [النساء]73 : وهي تتحدث عن امرأة يشاع بأنها سيئة السلوك ،وتتكاثر الشواهد علي سوء سمعتها في مجتمعها ..وفي هذه الحالة البد من عقاب مناسب لها بعد االشهاد عليها بأربعة شهود بأنها من الًلتي يأتين الفاحشة بدون أن يتم ضبطها ..وهنا تعاقب بالحبس في البيت ،ومنعها من الخروج إلى أن تموت أو تتزوج أوتتوب.. انظروا كيف تأمر اآلية الكريمة باالستشهاد في مثل هذه الحالة حتى
016
يخلص المجتمع من كل أسباب الفواحش.. قال التلميذ :ولكن لم عوقبت المرأة ،ولم يعاقب الرجل سيء السمعة؟ قال الشيخ :معاذ الله أن يفرق الله العدل الرحيم بين عباده ،فيعاقب المرأة وال يعاقب الرجل ..لقد نص الله تعالى على عقوبة الرجل ،فقال{ :
ِ ِ ِ ِ وه َما َفإِ ْن تَا َبا َو َأ ْص َل َحا َف َأ ْع ِر ُضوا َعن ُْه َما إِ َّن ال َّل َه ك َ َان َوال َّل َذان َي ْأت َيان َها منْ ُك ْم َفآ ُذ ُ ِ يما } [النساء ،]71 :واآلذية تشمل كل عقوبة يمكنها أن تردع ت ََّوا ًبا َرح ً الرجل عن ارتكاب الفواحش. قال التليمذ :فلم حبست النساء في البيوت ،ولم يحبس الرجال؟ قال الشيخ :أنتم تعلمون أنه لوال كون النساء سبب اإلثارة والفتنة لما تجرأ الرجال على الفاحشة ..فالعفيفة الطاهرة يستحيل أن يأتيها رجل برضاها ..فإن فعل فقد شرع الله له أخطر عقوبة ،وهي عقوبة المحاربة كما سنرى. قال التلميذ :فما اآلية الثالثة؟ قال الشيخ :قوله تعالىَ { :و َم ْن َل ْم َي ْستَطِ ْع ِمنْ ُك ْم َط ْو ًال َأ ْن َينْكِ َح َت َأيما ُن ُكم ِمن َف َتياتِ ُكم ا ْلم ْؤ ِمن ِ ِ ِ ِ ِ َات َوال َّل ُه ا ْل ُم ْح َصنَات ا ْل ُم ْؤمنَات َفم ْن َما َم َلك ْ ْ َ ْ ْ َ ُ ُ َأ ْع َلم بِإِيمانِ ُكم بع ُض ُكم ِمن بع ٍ ِ ِ ور ُه َّن وه َّن بِإِ ْذن َأ ْهلِ ِه َّن َوآ ُت ُ ض َفانْك ُح ُ ْ ْ َْ ُ َ ْ َْ وه َّن ُأ ُج َ
َّخ َذ ِ ات و َال مت ِ ِ ٍ ٍ ِ ات َأ ْخدَ ٍ ان َفإِ َذا ُأ ْح ِص َّن َفإِ ْن بِا ْل َم ْع ُروف ُم ْح َصنَات َغ ْي َر ُم َساف َح َ ُ ف ما َع َلى ا ْلمحصن ِ ِ ِ ٍ َات ِم َن ا ْل َع َذ ِ اب َذل ِ َك ل ِ َم ْن ُ ْ َ َأ َت ْي َن بِ َفاح َشة َف َع َل ْي ِه َّن ن ْص ُ َ
017
ِ ِ ِ يم } [النساء]23 : ور َرح ٌ َخش َي ا ْل َعن ََت منْ ُك ْم َو َأ ْن ت َْصبِ ُروا َخ ْي ٌر َل ُك ْم َوال َّل ُه َغ ُف ٌ وفيها يخاطب الله تعالى المؤمنين الفقراء الذين اليستطيعون زواج الحرائر لغًلء مهورهم وغيره من األسباب أن يتزوجوا من الفتيات المؤمنات من ماملكت االيمان ،فهذه المؤمنة الجارية إذا تزوجت ،فوقعت في جريمة الزنا تكون عقوبتها خمسون جلدة أي نصف ما على المتزوجات الحرائر من العذاب اذا وقعن في الزنا. قال التلميذ :لقد ظللت دهرا محتارا في هذه اآلية ..فكيف تكون عقوبتها نصف الثيب مع أن عقوبتها الرجم ..فهل يعقل أن يوجد نصف رجم؟ ..واذا كانت المرأة الحرة المحصنة تموت بحد الرجم ،فهل يوجد نصف موت؟ ابتسم الشيخ ،وقال :ها أنت يا بني تفعل هذه اآلية ..وتنفي تعطيلها؟ قال التلميذ :لم أفهم.. قال الشيخ :هذه اآلية الكريمة أكبر رد على من وضعوا حد الرجم الذي هو تعطيل لعموم عقوبة الزناة الواردة في أول سورة النور ..وكأن الله تعالى نبه عقولنا من خًلله إلى أن هذا الحد مناف لتشريعه. قال التلميذ :ولكنهم رووا أنه قد نزل في ذلك قرآن ..وقد رفع ..أو أكلته الداجن.. قال الشيخ :فهًل قرأت لي اآلية التي زعموا رفعها ..وهل تتناسب مع
018
اإلعجاز القرآني الذي ورد التحدي به ..وهل رويت متواترة؟ قال التلميذ :معاذ الله ..فالقرآن أعظم بكثير.. قال الشيخ :لن أعيد لكم ما ذكرته سابقا ..فالله تعالى أخبرنا أنه ال مبدل لكلماته ،فقالَ { :وت ََّم ْت كَلِ َم ُت َر ِّب َك ِصدْ ًقا َو َعدْ ًال َال ُم َبدِّ َل لِكَلِ َماتِ ِه َو ُه َو الس ِميع ا ْلعلِيم } [األنعام ،]773 :وقال { :وات ُْل ما ُأ ِ وح َي إِ َل ْي َك ِم ْن كِت ِ َاب َ َ َّ ُ َ ُ ر ِّب َك َال م َبدِّ َل لِكَلِماتِ ِه َو َل ْن ت ِ َجدَ ِم ْن ُدونِ ِه ُم ْلت ََحدً ا } [الكهف]27 : َ ُ َ وأخبرنا أنه { َال ي ْأتِ ِيه ا ْلب ِ اط ُل ِم ْن َب ْي ِن َيدَ ْي ِه َو َال ِم ْن َخ ْل ِف ِه َتن ِْز ٌيل ِم ْن َح ِكي ٍم َ َ
ح ِم ٍ يد } [فصلت]52 : َ
وأخبرنا أنه ال يحوي على أي عوج ،فقالَ { :و َل َقدْ َض َر ْبنَا لِلن ِ َّاس فِي َه َذا ا ْل ُقر ِ آن ِم ْن ُك ِّل َم َث ٍل َل َع َّل ُه ْم َيت ََذك َُّر َ ون (ُ )27ق ْرآنًا َع َربِ ايا َغ ْي َر ِذي ِع َو ٍج َل َع َّل ُه ْم ْ
َي َّت ُق َ ون } [الزمر]28 ،27 : قال التلميذ :ولكن ماذا تفعل بحديث ماعز والغامدية؟ قال الشيخ :هذه األحاديث نفسها تدل على التناقض الذي يقع فيه القائلون بالرجم. قال التلميذ :كيف ذلك؟ قال الشيخ :أال ترون أنهم يستدلون بحديث المخزومية التي سرقت، وطلبت قريش أال يقام عليها الحد ،لكن رسول الله قام فخطب فقال: (يا أيها الناس إنما َض َّل من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه،
019
وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد ،وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها)()7؟ قال التلميذ :بلى ..ولكن ما وجه االستدالل بهذا؟ قال الشيخ :فقد ذكروا في حديث الغامدية أن رسول الله كان يردها على حين ..ولم يكن حريصا على حضورها ليقيم الحد عليها ..ولو أنها لم تحضر لما طلبها ..أفتراه يتشدد في حدود الله مع المخزومية ويتساهل مع الغامدية. قال التلميذ :ولكنهم رووا في ذلك أحاديث أخرى.. قال الشيخ :لقد أثبت لكم باألدلة الكثيرة أن كل حديث يخالف القرآن الكريم ال عبرة به( ..)2وقد ذكر لنا رسول الله ذلك ..ولكن المعطلين يأبون إال أن يضربوا القرآن بالحديث ..ويضربوا الحديث بالقياس وآراء الرجال ..حتى ال يخلص لنا من الدين إال أقوالهم المخلوطة بأهوائهم. قال التلميذ :فما هي اآلية التي تتعارض مع تلك األحاديث؟ قال الشيخ :هي اآلية األولى التي بدأنها بها ..وهي قوله تعالى { :ا َّلزانِ َي ُة الزانِي َفاجلِدُ وا ُك َّل و ِ اح ٍد ِمن ُْه َما ِما َئ َة َج ْلدَ ٍة } [النور ]2 :أال ترى أن الله َو َّ َ ْ سبحانه عم بها كل زان ،ولم يستثن من هذا الحكم البكر أو الثيب ،ولو كان
( )7رواه البخاري ومسلم. ( )2ذكرنا األدلة المفصلة على هذا في كتاب (سنة بًل مذاهب)
031
مستثنى لذكره ..فالقرآن الكريم يذكر التفاصيل في أقل من هذ الحد.. فكيف ال يذكرها في هذا ،والعقوبة فيه أشد؟ قال التلميذ :أال تذكر لنا مثاال على ذلك؟ قال الشيخ :األمثلة أكثر من أن تعد أو تحصى ..فالقرآن يوضح األمور ِ َاب ويفصلها حتى ال يقع االلتباس ..لقد قال الله تعالى يذكر ذلك { :كت ٌ ُأ ْحكِ َم ْت آ َيا ُت ُه ُث َّم ُف ِّص َل ْت ِم ْن َلدُ ْن َحكِي ٍم َخبِ ٍير } [هود]7 : سكت قليًل يفكر ،ثم قال :من األمثلة على ذلك قوله تعالىَ { :و َر َب ِائ ُب ُك ُم الًلتِي فِي ُح ُج ِ ور ُك ْم ِم ْن نِ َس ِائ ُك ُم َّ َّ الًلتِي َد َخ ْل ُت ْم بِ ِه َّن َفإِ ْن َل ْم َت ُكو ُنوا َد َخ ْل ُت ْم َاح َع َل ْي ُك ْم } [النساء ]25 :انظروا كيف فصل اآلية ووضحها بِ ِه َّن َف ًَل ُجن َ حتى ال يقع االلتباس. وهكذا في آيات كثيرة ..فلو أن عقاب البكر كان مختلفا عن عقاب الثيب ،لوضحه ولنفى الغموض فيه. قال التلميذ :فحدثنا عن اآلية الرابعة ..وما المشكلة التي تعالجها؟ وه َّن ِم ْن قال الشيخ :هي قوله تعالى في حق المطلقاتَ { :ال ُت ْخ ِر ُج ُ بيوتِ ِهن و َال ي ْخرجن إِ َّال َأ ْن ي ْأتِين بِ َف ِ اح َش ٍة ُم َب ِّين ٍَة َوتِ ْل َك ُحدُ و ُد ال َّل ِه َو َم ْن َي َت َعدَّ َ َ ُ ُ َّ َ َ ُ ْ َ ُحدُ و َد ال َّل ِه َف َقدْ َظ َل َم َن ْف َس ُه } [الطًلق ،]7 :فاآلية الكريمة تنص على أن من حق المطلقة في فترة العدة أن تظل في بيت الزوجية ،ولكنها تفقد هذا الحق اذا وقعت في الزنا ،وحينئذ يكون من حق زوجها أن يطردها ،ولكن بشرط
030
ان تكون جريمة الزنا مثبتة حتى ال يتاح لزوجها أن يتجنى عليها بالباطل. صاح بعض التًلميذ :الحمد لله ..لقد فتح الله علي في هذه اآلية ما يؤكد قولك في حكم الرجم. قال الشيخ :ما شاء الله ..هات ..اذكر لنا ما فتح الله عليك به. قال التلميذ :لقد وصف الله تعالى الفاحشة في اآلية الكريمة بكونها (فاحشة مبينة) أي مثبتة ،ضمانا لعدم االفتراء بًل دليل ..ومع ذلك لم ينص على الرجم ..بل اعتبر عقوبتها الطرد باإلضافة إلى العقوبة األساسية المحكمة ،وهي مائة جلدة. قال الشيخ :بورك فيك يا بني ..وهي تشير إلى ذلك كما ذكرت. قال التلميذ :فحدثنا عن اآلية الخامسة ..وما المشكلة التي تعالجها؟ قال الشيخ :هي قوله تعالى في ذكر عقوبة المطلقة إذا وقعت في الزنا ِ وه َّن لِت َْذ َه ُبوا بِ َب ْع ِ ين ض َما آ َت ْي ُت ُم ُ بعد اتمام الطًلقَ { :و َال َت ْع ُض ُل ُ وه َّن إِ َّال َأ ْن َي ْأت َ بِ َف ِ اح َش ٍة ُم َب ِّين ٍَة } [النساء ،]71 :وهي تعطي الحق للزوج أن يمنع من طلقها عن الزواج إال أن تدفع له بعض ما أعطاه لها من الصداق بشرط أن تكون جريمة الزنا في حقها مثبتة بالدليل. قال التلميذ :فحدثنا عن اآلية السادسة ..وما المشكلة التي تعالجها؟ الزانِي َال َين ِْك ُح إِ َّال َزانِ َي ًة َأ ْو ُم ْش ِر َك ًة َوال َّزانِ َي ُة قال الشيخ :هي قوله تعالىَّ { : َال ينْكِحها إِ َّال َز ٍ ان َأ ْو ُم ْش ِر ٌك َو ُح ِّر َم َذل ِ َك َع َلى ا ْل ُم ْؤ ِمنِي َن } [النور ،]5 :وهي َ ُ َ
031
تشير إلى عقوبة اجتماعية أخرى تساهم في الردع عن الزنا ..فالمرأة الزانية أي التي ال تتوب عن الزنا ال يتزوجها المؤمن ..ومثلها الزاني يمنع من الزواج من المؤمنة. قال التلميذ :فحدثنا عن اآلية السابعة ..وما المشكلة التي تعالجها؟ قال الشيخ :هي اآليات الكريمة التي وردت في حق الزوج إذا شهد على زوجته بالفاحشة ،ولم يكن معه شهود آخرون ،وقد ذكر الله تعالى التفاصيل الكثيرة المرتبطة بها في أربع آيات كريمة ،وهي قوله تعالى{ :
َوا َّل ِذي َن َي ْر ُم َ اج ُه ْم َو َل ْم َي ُك ْن َل ُه ْم ُش َهدَ ا ُء إِ َّال َأ ْن ُف ُس ُه ْم َف َش َها َد ُة َأ َح ِد ِه ْم ون َأ ْز َو َ ات بِال َّل ِه إِ َّنه َل ِمن الص ِ َأربع َشهاد ٍ اد ِقي َن (َ )1وا ْل َخ ِام َس ُة َأ َّن َل ْعن ََت ال َّل ِه َع َل ْي ِه إِ ْن ُ َ َّ َْ ُ َ َ
َاذبِين ( )7ويدْ ر ُأ َعنْها ا ْلع َذاب َأ ْن ت َْشهدَ َأربع َشهاد ٍ ِ ك َ ِ ات بِال َّل ِه إِ َّن ُه َ َْ َ َ َ ََ َ َ َ َ َان م َن ا ْلك َ ِِ َاذبِين ( )8وا ْل َخ ِامس َة َأ َّن َغ َضب ال َّل ِه َع َليها إِ ْن ك َ ِ ِ ِ ن} الصادقي َ َان م َن َّ َْ َ َ َلم َن ا ْلك َ َ [النور]1 - 1 : انظروا كيف ذكر الله كل هذه التفاصيل ..حتى صيغة الشهادة ذكرها.. فكيف ترون عدم ذكره للرجم ،وهو أخطر منها جميعا؟ صاح تلميذ آخر :في هذه اآلية أيضا سيدي ما يدل على عدم وجود حد الرجم. قال الشيخ :فهاته. قال التلميذ :لقد وصف الله تعالى عقوبة الزنا المرتبطة بهذه الحالة بأنها
033
اب } [النور ،]8 :ولم يقل( :ويدرأ عذاب جسدي ،فقالَ { :و َيدْ َر ُأ َعن َْها ا ْل َع َذ َ عنها الرجم) ..والعذاب الذي ذكره هو نفسه الذي نص عليه في أول السورة ..هو مائة جلدة. قال التلميذ :فحدثنا عن اآلية الثامنة ..وما المشكلة التي تعالجها؟ قال الشيخ :هي اآليات الكريمة التي تهدد زوجات النبي أنه في حال وقوع الفاحشة منهن فإن العقوبة في حقهن مضاعفة ..أي تكون العقوبة مائتي جلدة في تلك الجريمة ،أي ضعف ما على النساء الحرائر ،وفي المقابل فلهن في عمل الصالحات ضعف ما علي المحسنات ،قال تعالى: ت ِمنْ ُكن بِ َف ِ { يانِساء النَّبِي من ي ْأ ِ اب ِض ْع َف ْي ِن اع ْ اح َش ٍة ُم َب ِّين ٍَة ُي َض َ ف َل َها ا ْل َع َذ ُ َّ ِّ َ ْ َ َ َ َ َوك َ َان َذلِ َك َع َلى ال َّل ِه َي ِس ًيرا } [األحزاب]50 : وهنا ترون أيضا أن العقوبة ال يمكن أبدا أن تكون رجما ،ألنه إذا كانت عقوبة المتزوجات العاديات الًلتي ارتكبن الفاحشة الرجم حتى الموت، فكيف يضاعف ذلك؟ قال التلميذ :فحدثنا عن اآلية التاسعة ..وما المشكلة التي تعالجها؟ قال الشيخ :هي اآلية الكريمة التي نصت على حكم الحرابة واإلفساد في األرض ،وهي قوله تعالى { :إِن ََّما َج َزا ُء ا َّل ِذي َن ُي َح ِ ار ُب َ ون ال َّل َه َو َر ُسو َل ُه َو َي ْس َع ْو َن فِي ْاألَ ْر ِ ض َف َسا ًدا َأ ْن ُي َق َّت ُلوا َأ ْو ُي َص َّل ُبوا َأ ْو ُت َق َّط َع َأ ْي ِد ِيه ْم َو َأ ْر ُج ُل ُه ْم ِمن ِخ ًَل ٍ ف َأ ْو ُينْ َف ْوا ِم َن ْاألَ ْر ِ ض َذل ِ َك َل ُه ْم ِخ ْز ٌي فِي الدُّ ْن َيا َو َل ُه ْم فِي ْاآل ِخ َر ِة ْ
034
ِ يم } [المائدة ،]55 :وهي تنطبق على كل إفساد في األرض ،أو َع َذ ٌ اب َعظ ٌ محاربة لله القيم التي نطق بها القرآن الكريم ،وبينها رسول الله .. ومن أرذل أنواع اإلفساد االغتصاب ،واإلكراه على الفاحشة ،وعقوبة هؤالء هي أشد عقوبة أنزلها الله تعالى ،وذكرها في كتابه. بعد أن انتهى الشيخ من استعراض اآليات المرتبطة بالفاحشة ،وكيفية عًلجها لكل الحاالت ..أذن لهم في قليل من الراحة.. ثم اجتمعوا من جديد ،وأذن لهم في السؤال ..فقال أحدهم :ائذن لنا يا شيخنا أن أسألك عن آية قد رأيت أهل التعطيل يحرفونها تحريفا شديدا.. نعم هم يقيمون ألفاظها غضة طريقة ..ولكن معناها غيروه تماما.. قال الشيخ :فاقرأها علي. قال التلميذ :هي قوله تعالىَ { :ال َين َْها ُك ُم ال َّل ُه َع ِن ا َّل ِذي َن َل ْم ُي َقاتِ ُلو ُك ْم فِي ِ ِ ين َو َل ْم ُي ْخ ِر ُجو ُك ْم ِم ْن ِد َي ِ الدِّ ِ ب ار ُك ْم َأ ْن َت َب ُّر ُ وه ْم َو ُت ْقس ُطوا إِ َل ْي ِه ْم إِ َّن ال َّل َه ُيح ُّ ا ْل ُم ْق ِسطِي َن } [الممتحنة]8 : قال الشيخ :فكيف عطلوها؟ قال التلميذ :لقد ذكروا في تعطيلها أقواال كثيرة ،فمنهم من ذهب إلى أن هذا كان في أول اإلسًلم عند الموادعة وترك األمر بالقتال ثم نسخ ..ومنهم من ذهب إلى أنها مخصوصة في حلفاء النبي ومن بينه وبينه عهد لم ينقضه ..ومنهم من ذهب إلى أنها خاصة بخزاعة وبني الحارث بن عبد
035
مناف ..ومنهم من ذهب إلى أنها مخصوصة في الذين آمنوا ولم يهاجروا.. ومنهم من ذهب إلى أنها خاصة بالنساء والصبيان؛ ألنهم ممن ال يقاتل، فأذن الله في برهم. قال تلميذ آخر :وحتى الذين لم يقوموا بتعطيلها مطلقا عطلوها في مواضع كثيرة ..وقد حضرت البارحة مجلسا ألهل التعطيل ذكروا اآلية ،ثم قيدها بقيود كثيرة انحرفت بمعناها تماما ..ومن ذلك ما حدثوا به عن شيخ يقال له محمد بن صالح بن عثيمين ،قال :ال يجوز أن يبدأ أهل الكتاب بالسًلم؛ ألن النبي نهى عن ذلك ،وألن في هذا إذالال للمسلم حيث يبدأ بتعظيم غير المسلم ،والمسلم أعلى مرتبة عند الله عز وجل؛ فًل ينبغي أن يذل المسلم نفسه في هذا.. وحدثوا عن آخر دعوته إلى اضطرار المخالفين إلى أضيق الطريق وجوانبها بحيث ال يمشون وسط الطريق ،وذلك إلهانتهم وإظهار فضل المسلم وتقديمه على غيره.. وهكذا ظلوا يتحدثون إلى أن انقلب في ذهني مفهوم اآليات تماما، فصارت وكأنها تأمرنا بالتماس كل السبل التي تؤذي المجاورين لنا من غير أهل ديننا. قال الشيخ :اآلية ال تحتاج إلى أي شرح أو تفصيل أو مزاحمة ..هي واضحة تماما ..وقراءتها حكمها ،وحكمها قراءتها.
036
قال التلميذ :ولكن أهل التعطيل يقدمون غيرها عليها ،فيعتبرونها متشابها ،ويعتبرون المحكم هو قوله تعالى { :يا َأيها ا َّل ِذين آمنُوا َال َتت ِ َّخ ُذوا َ ُّ َ َ َ عَدُ ِّوي َوعَدُ َّو ُك ْم َأ ْول ِ َيا َء ُت ْل ُق َ ون إِ َل ْي ِه ْم بِا ْل َم َو َّد ِة َو َقدْ َك َف ُروا بِ َما َجا َء ُك ْم ِم َن ا ْل َح ِّق } [الممتحنة]7 : قال الشيخ :ولم بتروا اآلية ،ولم يكملوها ..ألم يصف الله تعالى هؤالء الر ُس َ الذين يحرم علينا مودتهم بقوله بعدهاُ { :ي ْخ ِر ُج َ ول َوإِ َّيا ُك ْم َأ ْن ون َّ ُت ْؤ ِمنُوا بِال َّل ِه َر ِّب ُك ْم } [الممتحنة ..]7 :فالذين تحرم مودتهم هم المعتدون ِ ين َقا َت ُلو ُك ْم فقط ..وهو ما نص عليه قوله تعالى { :إِن ََّما َين َْها ُك ُم ال َّل ُه َع ِن ا َّلذ َ اهروا َع َلى إِ ْخر ِ ين َو َأ ْخ َر ُجو ُك ْم ِم ْن ِد َي ِ فِي الدِّ ِ اج ُك ْم َأ ْن ت ََو َّل ْو ُه ْم َو َم ْن َ ار ُك ْم َو َظ َ ُ
َيت ََو َّل ُه ْم َف ُأو َل ِئ َك ُه ُم ال َّظال ِ ُم َ ون } [الممتحنة]1 :
قال ذلك ،ثم أخذ يرد بتفاصيل كثيرة دقيقة على التعطيل العظيم الذي ارتكتبه األمة في تاريخها وتراثها حول السماحة اإلسًلمية ،والرحمة التي جاء بها رسول الله ..والتي حولت اإلسًلم إلى دين عنف وإرهاب همه التوسع العسكري ،والسيطرة على اآلخر ،ال نشر الدين والقيم بالعقل والمنطق والحجة. التعطيل: بعد أن خرجت من مدرسة التفعيل المتواضعة ،وعرفت فيها باألدلة الكثيرة أنه ال يوجد حرف في القرآن الكريم إال وله داللته العظيمة التي
037
تمس جميع جوانب الحياة ..ذهبت إلى المدرسة الثانية ،والتي سمعتهم يتحدثون عنها كثيرا ،ويصفونها بكونها مدرسة التعطيل.. وقد كنت أتصور أنها مدرسة صغيرة حقيرة ال يرتادها إال العوام والجهلة ..لكني فوجئت بكبرها وضخامتها وكثرة طًلبها وكثرة أساتذتها وشهرتهم.. حين رأيتها عرفت سر قوله تعالى { :و َقلِ ٌيل ِمن ِعب ِ اد َي َّ ور } [سبأ: ْ َ َ الش ُك ُ ،]75فقد أخبر الله عن قلة الشاكرين الذين يفعلون نعم الله عليهم، ويستخدمونها استخداما صحيحا ..وأكبر نعم الله على عباده هي كلماته الهادية ،فًل تفعل أي نعمة من دون االهتداء بهديها. كانت المجالس في المدرسة كثيرة ..وأمام كل حلقة تًلميذ كثيرون.. ولذلك لم أجد بدا من أن أجلس في أقربها إلي.. كان أمام الشيخ كتبا كثيرة ،وكان كلما سئل عن سؤال أخذ واحدا من تلك الكتب ،وراح يشرح من خًلله. قال الشيخ :أظن أني قد أجبتكم على هذه اآلية ..وذكرت لكم قول المفسرين من السلف الصالح فيها ..وهي كافية لردع أولئك المبتدعة من أهل التفعيل والتزوير والتحوير ..الذين أرادوا أن يخضعوا القرآن ألهوائهم ناسين أنه ال يفهم القرآن إال المفسرون الفطاحل من أهل التحقيق والتدقيق والتوثيق.
038
اص َف ُحو ْا َحتَّى قال تلميذ من التًلميذ :فحدثنا عن قوله تعالىَ { :فا ْع ُفو ْا َو ْ َي ْأتِ َي ال ّل ُه بِ َأ ْم ِر ِه إِ َّن ال ّل َه َع َلى ُك ِّل َش ْي ٍء َق ِدير } [سورة البقرة]701: قال الشيخ :هذه اآلية منسوخة ..وقد قال النيسابوري( :نسخ ما فيها من ون بِال ّل ِه والَ بِا ْليو ِم ِ ِ ِ ين الَ ُي ْؤ ِمنُ َ اآلخ ِر َْ َ عفو وصفح بقوله تعالىَ { :قات ُلو ْا ا َّلذ َ َوالَ ُي َح ِّر ُم َ ون َما َح َّر َم ال ّل ُه َو َر ُسو ُل ُه } [سورة التوبة]21:؟ ثم صوب النظر إلي بشدة ،وقال :لقد أمر المسلمون بهذا في بداية اإلسًلم عندما كانوا مستضعفين ..أما عندما قووا فلم يبق هناك مجال للعفو أو الصفح. اجو َننَا فِي ال ّل ِه َو ُه َو قال تلميذ آخر :فما تقول في قوله تعالىُ {:ق ْل َأ ُت َح ُّ َر ُّبنَا َو َر ُّب ُك ْم َو َلنَا َأ ْع َما ُلنَا َو َل ُك ْم َأ ْع َما ُل ُك ْم َون َْح ُن َل ُه ُم ْخلِ ُصون } [سورة البقرة]751:؟ قال الشيخ :هذه اآلية أيضا منسوخة ،نسختها آية السيف( ..)7فما حاجة المسلمين إلى محاجة خصومهم ومجادلتهم وحوارهم بعد أن أن أمدهم الله بقوة السيف؟ فكفى بالسيف شافيا ،وكفى بالسيف محاورا. قال تلميذ آخر :فما تقول في قوله تعالى {:و َقاتِ ُلو ْا فِي سبِ ِ ِ ِ ين يل ال ّله ا َّلذ َ َ ِ ِ ب ا ْل ُم ْعت َِدين } [سورة البقرة]710:؟ ُي َقات ُلو َن ُك ْم َوالَ َت ْعتَدُ و ْا إِ َّن ال ّل َه الَ ُيح ُّ
( )7الناسخ والمنسوخ للنيسابوري ص.53-55
039
قال الشيخ :هي مثل أخواتها منسوخة آية السيف( ،)7وقد قال النيسابوري فيها( :قوله { وال تعتدوا } ،هذا كان في االبتداء ،عندما كان اإلسًلم ضعيفا) قال تلميذ آخر :فما تقول في قوله تعالى {:الَ إِك َْرا َه فِي الدِّ ِ ين َقد َّت َب َّي َن الر ْشدُ ِم َن ا ْل َغ ِّي } [سورة البقرة]231:؟ ُّ قال الشيخ :مثل سابقاتها ..نسختها آية السيف(..)2 اج َ قال تلميذ آخر :فما تقول في قوله تعالىْ {: وك َف ُق ْل َأ ْس َل ْم ُت فإن َح ُّ ِ ِ ِ ِ َاب َواألُ ِّم ِّيي َن َأ َأ ْس َل ْم ُت ْم َفإِ ْن ين ُأ ْو ُتو ْا ا ْلكت َ َو ْج ِه َي ل ّله َو َم ِن ا َّت َب َع ِن َو ُقل ِّل َّلذ َ َأ ْس َل ُمو ْا َف َق ِد ْاهتَدَ و ْا َّوإِن ت ََو َّل ْو ْا َفإِن ََّما َع َل ْي َك ا ْل َب َ ًل ُغ َوال ّل ُه َب ِص ٌير بِا ْل ِع َباد } [سورة آل عمران.]20: قال الشيخ :هذه اآلية مثل سابقاتها منسوخة آية السيف( ..)5فًل منطق أفضل من السيف. قال تلميذ آخر :فما تقول في قوله تعالى {:أو َل ِـئ َك ا َّل ِذي َن َي ْع َل ُم ال ّل ُه َما فِي ُق ُلوبِ ِه ْم َف َأ ْع ِر ْض َعن ُْه ْم َو ِع ْظ ُه ْم َو ُقل َّل ُه ْم فِي َأن ُف ِس ِه ْم َق ْوالً َبلِي ًغا } [سورة النساء]15:؟
( )7الناسخ والمنسوخ للنيسابوري ص .11-13 ( )2الناسخ والمنسوخ للنيسابوري ص ..17- 11 ( )5الناسخ والمنسوخ للنيسابوري ص .705- 702
041
قال الشيخ :لقد ذكر علماؤنا أن هذا (كان في بدء اإلسًلم ،ثم صار الوعظ واإلعراض منسوخ ًا بآية السيف)
()7
اص َف ْح إِ َّن اع ُ قال تلميذ آخر :فما تقول في قوله تعالىَ {:ف ْ ف َعن ُْه ْم َو ْ ِ ب ا ْل ُم ْح ِسنِين } [سورة المائدة]75:؟ ال ّل َه ُيح ُّ قال الشيخ :لقد ذكر علماؤنا أنها (نزلت في اليهود ،ثم نسخ العفو والصفح بآية السيف)
()2
قال تلميذ آخر :فما تقول في قوله تعالى {:ما َع َلى الرس ِ ول إِالَّ ا ْل َب َ ًل ُغ َّ ُ َّ َوال ّل ُه َي ْع َل ُم َما ُت ْبدُ َ ون َو َما َت ْك ُت ُمون } [سورة المائدة]11:؟ قال الشيخ :هي مثل سابقاتها منسوخة آية السيف(.)5 قال تلميذ آخر :فما تقول في قوله تعالى في شأن رقة النصارى مقارنة باليهودَ { :لت ِ َجدَ َّن َأ َشدَّ الن ِ َّاس عَدَ َاو ًة ِّل َّل ِذي َن آ َمنُو ْا ا ْل َي ُهو َد َوا َّل ِذي َن َأ ْش َر ُكو ْا َو َلت ِ َجدَ َّن َأ ْق َر َب ُه ْم َّم َو َّد ًة ِّل َّل ِذي َن آ َمنُو ْا ا َّل ِذي َن َقا ُل َو ْا إِنَّا ن ََص َارى َذل ِ َك بِ َأ َّن ِمن ُْه ْم
ِقس ِ يسي َن َو ُر ْه َبانًا َو َأن َُّه ْم الَ َي ْس َتكْبِ ُرون } [سورة المائدة]82:؟ ِّ
اعتدل الشيخ في جلسته مسرورا ،وقال :هذا ليس عاما بكل النصارى، بل خاص بالنجاشي ووفده الذين أسلموا لما قدموا على النبي وهم
( )7الناسخ والمنسوخ للنيسابوري ص .753 ( )2الناسخ والمنسوخ للنيسابوري ،ص .730 ( )5الناسخ والمنسوخ للنيسابوري ،ص ..732
040
اثنان وثًلثون أو أربعون أو سبعون أو ثمانون رجًل ،وليس المراد كل النصارى ألنهم في عداوتهم كاليهود(.)7 ِ اجن َْح َل َها لس ْل ِم َف ْ قال تلميذ آخر :فما تقول في قوله تعالىَ {:وإِن َجن َُحو ْا ل َّ وتَوك َّْل َع َلى ال ّل ِه إِ َّنه هو ِ يع ا ْل َعلِيم } [سورة األنفال]17: السم ُ َ َ ُ ُ َ َّ قال الشيخ :هي منسوخة بآية السيف ( ..)2فما حاجة المسلمين للسًلم، وقد أعطاهم الله القوة التي يقهرون بها أعداءهم. قال تلميذ آخر :فما تقول في قوله تعالى {:ا ْد ُع إِلِى َسبِ ِ يل َر ِّب َك بِا ْل ِحك َْم ِة وا ْلمو ِع َظ ِة ا ْلحسن َِة وج ِ اد ْل ُهم بِا َّلتِي ِه َي َأ ْح َس ُن إِ َّن َر َّب َك ُه َو َأ ْع َل ُم بِ َمن َض َّل َ َ َ َ َ َْ َعن َسبِيلِ ِه َو ُه َو َأ ْع َل ُم بِا ْل ُم ْهت َِدين } [سورة النحل]723:؟ قال الشيخ :الشك أنها منسوخة نسختها آية السيف( ..)5فما حاجة المسلمين للحكمة والموعظة وقد من الله عليهم بنعمة القوة والعزة والتسلط. ِ ِ الس ِّي َئ َة قال تلميذ آخر :فما تقول في قوله تعالى {:ا ْد َف ْع بِا َّلتي ه َي َأ ْح َس ُن َّ ن َْح ُن َأ ْع َل ُم بِ َما َي ِص ُفون } [سورة المؤمنون.]11: قال الشيخ :نسختها آية السيف( ..)5وذلك واضح لكل عاقل ..فمن ( )7قًلئد المرجان في بيان الناسخ والمنسوخ في القرآن (ص.)700 : ( )2قًلئد المرجان ،ص .777-771 ( )5قًلئد المرجان ،ص ..270 ( )5قًلئد المرجان ،ص ..253
041
أعطاه الله القوة التي يقهر بها أعداءه ال يحتاج إلى أن يدفع بالتي هي أحسن. َّاس َقدْ َجاء ُك ُم قال تلميذ آخر :فما تقول في قوله تعالىُ {:ق ْل َيا َأ ُّي َها الن ُ ا ْل َح ُّق ِمن َّر ِّب ُك ْم َف َم ِن ْاهتَدَ ى َفإِ َّن َما َي ْهت َِدي لِنَ ْف ِس ِه َو َمن َض َّل َفإِن ََّما َي ِض ُّل َع َل ْي َها َو َما َأ َن ْا َع َل ْي ُكم بِ َو ِكيل } [سورة يونس.]708: قال الشيخ :نسخ معناها ال لفظها بآية السيف(.)7 قال تلميذ آخر :فما تقول في قوله تعالىَ {:وإِ َذا َس ِم ُعوا ال َّل ْغ َو َأ ْع َر ُضوا ًلم َع َلي ُكم الَ َنبت َِغي ا ْلج ِ اهلِين } َ ْ َعنْ ُه َو َقا ُلوا َلنَا َأ ْع َما ُلنَا َو َل ُك ْم َأ ْع َما ُل ُك ْم َس َ ٌ ْ ْ [سورة القصص.]33: قال الشيخ :هي األخرى نسخت بآية السيف( ..)2وهو واضح لمن تأمله ..أليس اإلعراض نوعا من الضعف ..والمسلم قوي عزيز ال يحتاج أن يذل نفسه. قال تلميذ آخر :فما تقول في قوله تعالىَ {:يا َأ ُّي َها النَّبِ ُّي إِنَّا َأ ْر َس ْلن َ َاك َش ِ اهدً ا َو ُم َب ِّش ًرا َون َِذ ًيرا } [سورة األحزاب]53:؟ قال الشيخ :ال أحتاج أن أقول شيئا ..فهي مثل سابقاتها منسوخة بآية
( )7قًلئد المرجان ،ص ..232 ( )2المصدر السابق ص .235
043
السيف( ..)7وهي واضحة ال تحتاج إلى شرح يبين نسخها. قال تلميذ آخر :فما تقول في قوله تعالىَ {:والَ ت َْست َِوي ا ْل َح َسنَ ُة َوالَ ِ ِ ِ او ٌة َك َأ َّن ُه َول ِ ٌّي َح ِميم } الس ِّي َئ ُة ا ْد َف ْع بِا َّلتي ه َي َأ ْح َس ُن َفإِ َذا ا َّلذي َب ْين ََك َو َب ْينَ ُه َعدَ َ َّ [سورة فصلت]55:؟ قال الشيخ :هي منسوخة بآية السيف(.)2 ِ ِ است َِق ْم ك ََما قال تلميذ آخر:فما تقول في قوله تعالىَ {:فل َذل َك َفا ْد ُع َو ْ ِ نت بِ َما َأ َنز َل ال َّل ُه ِمن كِت ٍ َاب َو ُأ ِم ْر ُت ألَ ْع ِد َل اءه ْم َو ُق ْل آ َم ُ ُأم ْر َت َوالَ َتتَّبِ ْع َأ ْه َو ُ َب ْينَ ُك ُم ال َّل ُه َر ُّبنَا َو َر ُّب ُك ْم َلنَا َأ ْع َما ُلنَا َو َل ُك ْم َأ ْع َما ُل ُك ْم الَ ُح َّج َة َب ْينَنَا َو َب ْينَ ُك ُم ال َّل ُه َي ْج َم ُع َب ْينَنَا َوإِ َل ْي ِه ا ْل َم ِصير } [سورة الشورى.]73: قال الشيخ :هي منسوخة بآية السيف (.)5 بعد أن بقي مدة يجيب كل سائل يسأله بهذه الكلمات وأمثالها ،سأله بعض التًلميذ قائًل :إنا نرى – يا شيخنا -آلية السيف شأنا. قال الشيخ :أجل ..وقد قال الحسن بن فضل في فضلها( :نسخت هذه اآلية كل آية في القرآن فيها ذكر اإلعراض والصبر على أذى األعداء،).. وقال ابن حزم في كتابه الناسخ والمنسوخ( :في القرآن مائة وأربع عشرة آية
( )7المصدر السابق ص .238 ( )2المصدر السابق ص .218 ( )5المصدر السابق ص .270
044
في ثمان وأربعين سورة نسخت الكل بقوله :اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) ..
()7
بعد أن انتهى الشيخ من حديثه ،وبعد أن ألغى في وقت قصير كل ما دعا إليه القرآن الكريم من سماحة وسًلم ولطف وأدب ..خرجت من المدرسة وأنا ممتلئ ألما.. وأمام بابها وجدت تلميذين يختصمان ،وحولهما جمع من التًلميذ، فتقربت منهما أبغي اإلصًلح بينهما.. قلت ألشدهما ،وقد رأيته آخذا بتًلبيب صاحبه :دعه ،فأنت تراه هزيًل ضعيفا ال يستطيع أن يقاومك. قال لي :ما دام كذلك ..فكيف يتجرأ علي ،ويتحدث أمامي بما يسوؤني. اص َف ِح قلت :ال بأس ..اعف عنه ..لقد أمرنا الله تعالى بذلك ،فقالَ { :ف ْ الص ْف َح ا ْل َج ِم َيل } [الحجر]83 : َّ ترك تًلبيب صاحبه ،ومد يده إلى تًلبيبي ،وهو يقول :ويلك ..أتعمد إلى آية منسوخة تريد أن تجادلني بها ..اذهب وإال طبقت عليك آية السيف. ثم أطلق يدي ،فأهرعت مسرعا إلى بيتي ،وأنا ألتفت خلفي كل حين خشية أن يلحق بي بسيفه. ( )7الناسخ والمنسوخ البن حزم (ص)72 :
045
هذه قصتي مع المدرستين ..ولكم أن تختاروا بينهما.
046