1 التغيرات الديموغرافية :هل كانت الثورات في البلدان العربية قد ار محتوما؟ يوسف كرباج* سيظل عام 1122في تاريخ المنطقة بل وحتى في تاريخ اإلنسانية عام المعجزات .إذ أدت االضطرابات السياسية التي شهدتها بلدان مثل تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن والبحرين ،إلى تحوالت كبرى طرأت على مختلف األصعدة االجتماعية واالقتصادية والثقافية واإليديولوجية والدينية .ولكن هل نحن مدركون تماما أن لها بعدا ديموغرافيا أيضا؟ سنتطرق في البداية إلى التحوالت الديموغرافية األخيرة ،ثم سنلقي الضوء على العامل الديموغرافي الذي يلعب دو ار رئيسيا في األحداث الحالية أو المستقبلية. أوال ،حتى عام ،1112وهو العام الذي أصدرت فيه كتاب "لقاء الحضارات" مع إيمانويل تود ،استمرت ظاهرة التقارب الديموغرافي مع بلدان شمال البحر األبيض المتوسط بوتيرة قوية في كافة البلدان العربية وغير العربية في جنوب المتوسط .ومن خالل النظر إلى مؤشر الخصوبة بشكل خاص ،وهو مؤشر مشحون بالعواطف والخلفيات النفسية ،والذي اُستخدم في كتابات الصحفية اإليطالية الشهيرة أوريانا فالتشي لرسم صورة قبيحة عن العالمين العربي واإلسالمي ،كان هذا التقارب جليا في حالة لبنان وتونس والمغرب وتركيا ،واذا ما ذهبنا بعيدا بعض الشيء ،في جمهورية إيران اإلسالمية حيث
تضاهي مؤشرات الخصوبة نظيرتها في أوروبا ،بل وتقل عنها .وفي حالة المغرب ،بل واألكثر استغراباً في ليبيا ،حيث
يواصل معدل الخصوبة انخفاضه ،من المرجح أن يتحقق هذا التقارب خالل سنوات قليلة .بالمقابل ،يبدو مسلسل التحول
الديموغرافي أكثر بطئاً ويراوح مكانه في مصر وسوريا واألردن .إال أن التطورات األكثر مدعاة لالستغراب تتعلق بثنائي إسرائيل وفلسطين.
ومما يدعو إلى االستغراب أن ثمة تباينا كبي ار في الصورة الديموغرافية في البلدان التي شهدت أو ال تزال تشهد اضطرابات سياسية ،وهو ما ُيعرف ببلدان الربيع العربي .فضمن البلدان التي تتزايد فيها حالة عدم االستقرار ،نجد بعض البلدان التي أنهت مسلسل تحولها الديموغرافي ،مثل البحرين ،وأخرى ال تزال في بداياته األولى مثل اليمن والسودان .بيد أن التغير الديموغرافي يشمل المنطقة ككل ويحمل في طياته تحوالت سياسية كبيرة في أنحاء المنطقة.
التغيرات الديموغرافية في المغرب ،انخفض مؤشر الخصوبة باطراد منذ عام 2721فيما ارتفع معدل العمر المتوقع .ووفقا لتعداد عام
،1112بلغ مؤشر الخصوبة ،1.22وهو مؤشر متدني جدا (فرنسا .)1.11 :ويؤكد المسح الذي تكرر إجراؤه عامي 1121 - 1117هذا االنخفاض ،1.27 -وهو مؤشر على انخفاض معدل الخصوبة ،حتى في المناطق الريفية .وظلت معدالت الخصوبة مستقرة في المناطق الحضرية التي تعيش فيها غالبية السكان عند مستوى يقل عن حد االحالل الطبيعي وهو 1.11طفل لكل امرأة.وفي تونس ،كانت المعدالت الكلية للخصوبة حتى 1112أقل من حد االحالل الطبيعي ( .)1.21وتتمثل
التحدي ،التي تشترك فيها جل بلدان المغرب العربي ،في صعوبة التنبؤ باتجاهات الخصوبة في المستقبل بعد أن بلغت هذه
2 المستويات المنخفضة .وقبل عدة سنوات ( ،)1111توقع خبراء الدراسات السكانية التونسيون أن ينخفض معدل خصوبة بشدة إلى .2.1وتشير التوقعات األخيرة ( )1111إلى أن معدل الخصوبة سيكون في حدود 2.21طفل لكل امرأة ابتداء من ، 1112وهو رقم أقل من االفتراضات التي تقوم عليها تقديرات األمم المتحدة (بالوضع في االعتبار الرغبة في الحفاظ على مستوى معين من التجانس العالمي). وكانت الجزائر لوقت طويل متفردة ،وذلك بالنظر لالرتفاع الكبير في معدل الخصوبة بها خالل فترة ما قبل
المرحلة االنتقالية ،إذ بلغ 8أطفال لكل امرأة ،متجاوزة بطفل واحد لكل امرأة نظيرتها في المغرب وتونس .ويعزى تأخر المرحلة اال نتقالية مقارنة بجيرانها بشكل أقل إلى سياسة الحكومة المشجعة على زيادة النسل واإلنجاب ،وكانت مدفوعة
بتأثيرات االقتصاد الريعي الذي يمكنه استيعاب الزيادة السكانية حتى وان كان بأعداد كبيرة 1.غير أنه وخالل عقدين من
الزمن ،التحق معدل الخصوبة في الجزائر بنظيره في تونس والمغرب .إال أنه وابتداء من عام ،1111فقد تغير اتجاه التحول الديموغرافي -حيث بدأ معدل الخصوبة في االرتفاع! وكان هذا االتجاه ملحوظا بدرجة تدعونا إلى القول إنه ناتج عن خطأ إحصائي .بل وربما تكون مرتفعة بحيث تُعزى فقط إلى عوامل دورية ،مثل :تحسن االقتصاد ،وانفراجع أزمة اإلسكان ،وتراجع أعمال العنف السياسي ،التي قد تكون وراء تشجيع الرغبة في الزواج ( 181ألف عقد زواج في 1111 مقابل 122ألفا في )1117وأدت بدوره إلى زيادة معدالت اإلنجاب .وقد يتعلق األمر بحدوث تغير في استراتيجيات اإلنجاب التي من شأنها تقريب األوضاع الديموغرافية في الجزائر إلى نظيرتها في الشرق األدنى .إال أنه بالمقابل ،ال يزال معدل الخصوبة في الزواج متوجها نحو االنخفاض. شهدت ليبيا ،وهي بلد قليل السكان ذو اقتصاد ريعي ،تحوال ديموغرافيا مماثال للدول الخليجية المنتجة للنفط.
ولفترة طويلة ،كانت السياسة الحكومية المشجعة لإلنجاب توازيها إعادة توزيع سخي للعائدات النفطية .وأدى انهيار أسعار النفط ثم الحصار الدولي إلى تراجع الزيادة السكانية في ليبيا .وال تتوفر اإلحصاءات في ليبيا ،التي تعد من بين البلدان
األكثر غموضا من الناحية الديموغرافية ،وهو أمر من غير المتوقع أن يتحسن في ظل حالة الفوضى السائدة حاليا .إال أنه ،ووفقا للبيانات القليلة المتوفرة ،فإن معدل الخصوبة في ليبيا قد استمر في التراجع ليصل إلى 1..8طفل في عام .1111 وفي مصر ،يتعارض االستقرار الالفت للنظر ثم االرتفاع في معدل الخصوبة مع حالة عدم االستقرار السياسي
الراهنة .أو ربما يفسر أحداها اآلخر؟ فرغم الكثافة السكانية الكبيرة ،التي تعزى إلى تمركز السكان الذين يزيد عددهم على
81مليون نسمة في مساحة ال تزيد على 1-2بالمائة من إجمالي مساحة البالد البالغة مليون كلم ،1فإن عدد السكان ال
يزال مرتفعا عند 1بالمائ ة سنويا .ويعزى هذا النمو القوي إلى ارتفاع معدل الخصوبة (أخذا بعين االعتبار السياق العام للبالد) ،الذي وبعد أن استقر عند حوالي 1.11 – 1.11طفل ،بما يفوق بنسبة 11بالمائة نظيره في المغرب أو تونس، أصبح اآلن يقترب من .1.1وال يوجد تفسير واحد أو بسيط لشرح هذه الظاهرة المعقدة ،بل هنالك مزيج من العوامل الثقافية ،والسياسية/اإليديولوجية ،أو المرتبطة بتدفقات هجرة العمالة بأعداد كبيرة نحو شبه الجزيرة العربية (بدال من التوجه
نحو أوروبا كما هو الحال في بلدان المغرب العربي) ،مع تداعيات ذلك على االختيارات األسرية.
وينطبق الوضع نفسه على كل من سوريا واألردن .ورغم التقدم الهائل الذي أنجزه كال البلدين على صعيد التعليم
ومحو األمية ،ظل معدل الخصوبة مرتفعا للغاية ،يتجاوز 1.1و 1.8طفل لكل امرأة على التوالي .وفي تسعينيات القرن
الماضي ،تباطأ االتجاه نحو خفض معدالت الخصوبة بسرعة كبيرة لتصبح شبه منعدمة .وكما هو الحال في مصر ،هناك
1
يمكن للدول ذات االقتصادات الريعية أن تعتني بمواطنيها "من المهد إلى اللحد" ،حيث تصبح تكلفة رعاية الطفل منخفضة للغاية ،مما يعزز من
سياسات تشجيع اإلنجاب.
3 مجموعة من العوامل تفسر ذلك ،ومن بينها :سيادة األب المطلقة وااللحاح على إنجاب ابن ذكر ،وهو ما يفسر استمرار ارتفاع معدالت الخصوبة مقارنة ببلدان المغرب العربي حيث تحررت األسر من هذه الحتمية األساسية .كما أن التنافس الطائفي في سوريا ،الذي ترجع أصوله إلى األردن (فلسطين/شرق األردن) ،يعيق بعض الشيء انخفاض الخصوبة بالنظر إلى التنافس الدائر فيما بين المجموعات. وعلى النقيض من ذلك ،يبدو لبنان كما ولو أنه من كوكب آخر :فهو بلد حديث تنخفض فيه معدالت الخصوبة
( ،)2..وينطبق ذلك بالتحديد على الطائفة المارونية والطائفة الشيعية .لقد اختفت هنا مظاهر التنافس الديموغرافي التي
انتشرت خالل الستينيات والسبعينيات قبل الحرب األهلية ،والتي ساهمت في إذكاءها ،لتترك بلدا ينعم بالهدوء من الناحية
الديموغرافية على أمل أن يمتد ذلك ليشمل الحياة السياسية.
وفي تركيا ،سجل التحول الديموغرافي تحسنا ملحوظا ،حيث بلغ مؤشر الخصوبة حاليا 1.17أي دون مستوى
اإلحالل الطبيعي .وبعبارة أخرى ،فرغم وجود حكومة ذات توجه إسالمي على رأس هرم السلطة تشجع على زيادة النسل، كما كانت حكومة أربكان من قبل وحكومة أردوغان الحالية ،فإن المجتمع المدني واألسر يقرران بكل حرية بشأن مواليدهم ويحدون من هذا العدد. وتمثل جمهورية إيران اإلسالمية نموذجا آخر لهذا االنفصام ،حيث يبلغ معدل الخصوبة 2.8وهو منخفض حتى
مقارنة بتركيا .ويتجلى الفارق بدون شك في كون إيران استطاعت أن تدمج بشكل أفضل أقلياتها ،بما فيها المكون الكردي، بخالف تركيا التي تتجلى فيها الخصوصية الكردية أيضا من خالل ارتفاع معدل الخصوبة بشكل ملموس من المتوسط.
وتبرز المفاجأة الكبرى من الثنائي إسرائيل-فلسطين أو باألحرى من السلوك الديموغرافي لليهود والفلسطينيين .ال
يزال معدل الخصوبة لليهود في إسرائيل يرتفع من عام ألخر ليتجاوز اليوم السقف الرمزي البالغ 1أطفال لكل امرأة ،فيما يتواصل االنخفاض لدى الفلسطينيين في األراضي المحتلة :الضفة الغربية (بما في ذلك القدس الشرقية) وحتى في قطاع
غزة التي بلغت فيها نسبة المواليد أرقاما قياسية عالمية خالل سنوات االنتفاضة األولى .انخفض معدل الخصوبة الكلي خالل الفترة 1122-1122إلى 1.2أطفال لكل امرأة مقارنة مع 6أطفال لكل امرأة عام .2991وينبغي النظر إلى معدل الخصوبة "المنخفض" في سياق األوضاع الديموغرافية والصراع .وتكمن المفارقة هنا في سير معدالت الخصوبة الفلسطينية نحو الحداثة ،نتيجة انتشار التعليم والحريات الفردية ،فيما تواصل الخصوبة اإلسرائيلية اتباع العادات األبوية ،المنسوبة
عادة إلى العرب ،والتي تدعم النمو السكاني وأهمية األسرة واإلنجاب. قراءة ديموغرافية للثورات الحالية
شكل الربيع العربي ،الذي كانت تونس مهده ،مفاجئة للعالم بأسره .بيد أن هذه الثورات كانت قد ار محتوما ،وهو ما
تؤكده األوضاع الديموغرافية .إن المسار الذي شهدته أوروبا ابتداء من القرن السابع عشر امتد ليشمل العالم برمته .ولم يكن ليخطأ بلدان جنوب المتوسط التي كانت تشهد على مدى أربعة عقود نفس التحوالت الديموغرافية والثقافية واألنثربولوجية ألوروبا منذ كرومويل في إنجلت ار إلى روبسبيير قبل الثورة الفرنسية ،ثم الثورات األوروبية األخرى إلى عهد
لينين في .2722 / 2711ولم يكن العالم العربي استثناء لذلك. تطور التعليم
كان تطور التعليم والقضاء ع لى األمية بين األوالد في البداية ثم الفتيات في مرحلة الحقة من أبرز العوامل وراء التحوالت التي نعيشها في المرحلة الراهنة .وباستثناء مسيحي لبنان الذين استفادوا من تواجد البعثات المسيحية وجامعاتها
4 في القرن التاسع عشر ،بدأ العالم العربي في التحول بفضل تحسن مستوى التعليم وتراجع الخصوبة ابتداء من ستينيات هذا القرن بالنسبة للبلدان األكثر تقدما .وكما هو الحال في تونس خالل فترة حكم بورقيبة ،كانت هنالك رغبة جامحة في العالم العربي في دخول مرحلة التحديث من خالل تمكين الذكور كما اإلناث من الولوج إلى التعليم .وفي المغرب أيضا ،جعلت الحكومات األولى بعد نيل االستقالل من التعليم أولوية قصوى .وقد أدى ذلك إلى اتباع سياسة لتحديد النسل واستخدام وسائل لمنع الحمل ،التي لها مزايا اقتصادية واضحة ،والتي قد تشكل عامال مؤقتا للقلق داخل األسر .لقد أدى االنخفاض
الحاد في معدل الخصوبة إلى طفلين في المغرب إلى زعزعة أركان القيم التقليدية األبوية( .تذكر هذه الجملة ألنها تشكل المفتاح للجدل الديموغرافي). تغير الخلية األسرية أخذت ظاهرة الزواج بين األقارب ،التي تؤدي إلى انكفاء فئات المجتمع على نفسها وضعف المؤسسات ،في االنحسار والتراجع .ومع تراجع ظاهرة الزواج بين األقارب ،أصبحت المجتمعات منفتحة وأكثر قابلية للتمرد عندما يحكم بطريقة استبدادية .أيضا ،من شأن تعميم االلتحاق بالمدارس للجميع وانخفاض معدالت اإلنجاب أن يؤديا بشكل غير مباشر إلى زيادة الوعي والثورات .وتخلق التغيرات في هذين المجالين اضطرابا للخلية األسرية ،وتنجم عنهما تداعيات إيجابية وسلبية في الوقت نفسه :إيجابية من حيث إن تحديد النسل يمكن من توفير عالج وتغذية وظروف تعليم أفضل
لألبناء ولمدد أطول .ولذلك ،ففي أسرة محدودة العدد ،وهي النموذج الذي تتجه نحوه األسرة العربية والمسلمة ،فإن التفاعالت بي ن األب واألم ،واألب واألوالد ،تصبح أكثر ديمقراطية ،مما سينعكس بالضرورة إيجابا على الصعيد المجتمعي والسياسي .أما تداعياتها السلبية ،فتتجلى في أنه ابتداء من اللحظة التي يتعايش فيها طفل متعلم مع أب أمي يتمتع بسلطة مطلقة( ،نظ ار ألن النظام األبوي يغلب على هذه المجتمعات) ،فإن التعايش يصبح صعبا .ومن الممكن لهذه المشاكل األسرية أن تؤدي إلى اضطرابات على مستوى أوسع نطاقا ،وتفسر في جانب منها االضطرابات التي يشهدها العالم
اإلسالمي. ويؤدي االنتقال نحو تعميم االلتحاق بالمدارس للجميع لصالح الذكور ثم اإلناث ،ورفع درجة الوعي نتيجة تعلم
القراءة والكتابة ،إلى إضفاء نوع من التفكير العلماني ،أو "عدم الرضا" بشأن الوضع الحالي ،وانخفاض الخصوبة؛ وهي عوامل ضرورية "لالنتقال الديمقراطي".
*يوسف كرباج هو مدير األبحاث في المعهد الوطني للدراسات الديموغرافية في باريس.