Portal 9 Issue #1 The Imagined Arabic

Page 1

‫‪9‬‬

‫البوابة التاسعة‬ ‫مقاﻻت اﳌدينة وأخبارها‬

‫الخروج من البوابات الثامين إﱃ عمران اﳌدينة‬ ‫إعادة إعامر بور‪ -‬أو ‪ -‬برنس‬ ‫جنوب السودان وعاصمته الجديدة‬ ‫الرثاء اﳌستجد ﰲ مدن منور اﻷناضول‬ ‫بغداد ﰲ أفكار اﳌعامري قحطان اﳌدفعي‬

‫اﳌتخيﱠل‬

‫العدد اﻷّول خريف ‪2012‬‬


‫العدد األ ّول‬

‫خريف ‪2012‬‬

‫‪3‬‬

‫ذلك أ ّن املكان عند بيسووا‪ ،‬املكان القائم واملحسوس‪ ،‬هو مدخل إىل الـ"المكان"‪ ،‬والواقع أمامه هو نقطة بداي ٍة لرحلة‬ ‫أي ميناء كان ذلك‪ ،‬كوين مل‬ ‫غري مح ّددة ال تُبلغ خواتيمها‪ّ .‬‬ ‫أي ميناء أدركته‪ .‬حتّى إنّني اليوم ال أعرف ّ‬ ‫"إن مل أبحر من ّ‬ ‫أبلغه بعد"‪ .‬كتب الشاعر تحت عنوان "الرحلة التي مل أرتحلها" يف كتاب القلق‪ .‬قدرة التخيّل تلك‪ ،‬حسب بيسووا‪ ،‬هي‬ ‫رس العميق للعيش عىل أرض صلبة‪ ،‬أو يف مكان محسوس‪ .‬إنّها الجانب اآلخر لذلك العيش‪ ،‬وهي املدخل والدليل‬ ‫ال ّ‬ ‫إىل نواحي املعاين وعوامل املطلق‪ .‬التخ ّيل‪ ،‬عنده‪ ،‬مضا ٌد للجمود ونق ٌد للتي ّبس‪ ،‬وهو العمل ّية الذهن ّية األمثل ملقاربة‬ ‫احتامالت الحياة الكثرية والالمحدودة‪.‬‬ ‫يف مجلّة تُعنى بشؤون املكان‬ ‫املديني ومبستج ّداته املختلفة واملتش ّعبة‪ ،‬مجلّة تصدر من وسط بريوت العائد من‬ ‫ّ‬ ‫تجارب كثرية‪ ،‬فإ ّن استحضار بيسووا واستلهامه جاءا من كون األخري مثّل عالمة فارقة يف ات ّخاذ املدينة‪ ،‬بأمكنتها‬ ‫وفضاءاتها‪ ،‬مجاالً الختبارات املخ ّيلة الجامحة‪ .‬إذ إ ّن املدينة‪ ،‬عىل عكس املكان الفطري‪ ،‬أو الريفي‪ ،‬امل ُشاد يف الغالب‬ ‫وفاقاً لحاجات العيش العضويّة األوىل واستجابة ملتطلّباته املل ّحة‪ ،‬احتملت وتحتمل عىل الدوام ح ّيزا ً يتجاوز الكتل‬ ‫الفطريّة والتحاماتها ويسعى إىل التح ّرر منها‪ .‬التجاوز‬ ‫يتجسد‬ ‫املديني املذكور‪ ،‬امل ُتق ّدم إىل رحابة الرؤى واالفرتاضات‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫حركة غنيّة باملظاهر تشمل العمران وثقافات العيش واألهواء واألنشطة الفكريّة والف ّنيّة‪ .‬فاملدينة انطالقًا من‬ ‫نقيض ّيتها املوصوفة لألمكنة الفطريّة‪ ،‬طاملا اتّسمت مبا يستحثّ التخ ّيل والتفكري املسبق والتجربة الذهن ّية‪ ،‬بوسائلها‬ ‫املديني الكامن‪.‬‬ ‫املتع ّددة‪ ،‬وذلك كتأكيد ٍعىل جوهرها‬ ‫ّ‬ ‫تكف عن التك ّون‪ .‬وهي‪ ،‬يف الوعيها‬ ‫والحال‪ ،‬يف هذا السياق‪ ،‬فإ ّن املدن تبدو كمثل كائنات عمرانيّة – اجتامعيّة ال ّ‬ ‫ُعب عنه بحركة صريورتها‪ ،‬ال تني تتج ّنب االكتامل مخافة مفارقة التك ّون واالقرتاب من الجمود‪ .‬من هنا فإ ّن‬ ‫امل َّ‬ ‫املدن التي شهدت تح ّوالت عميقة يف تجاربها التاريخ ّية‪ ،‬كحالة بريوت مثالً‪ ،‬قد تُقرن بامتيا ٍز من شأنه‪ ،‬رغم مساره‬ ‫ربا‪ ،‬لك ّنه‬ ‫الدراماتييك وصدماته املتالحقة‪ ،‬تعميق املعاين املدين ّية وزيادتها اتسا ًعا‪ .‬إنّه امتياز ال يخلو من القسوة ّ‬ ‫امتياز‪ .‬ث ّم من قال إ ّن القسوة غريبة عن املدن؟‬ ‫املتخيّل يف املدينة‪ ،‬عىل امتداد الزمن‪ ،‬هو مقاربة الحتامالتها ولوقائعها املفرتضة‪ ،‬كام ملنطقها الداخيل املتح ّرر‪ .‬هو‬ ‫مسار مفتوح نحو منافذها غري التقليديّة ومداخلها التي ال تُحىص‪.‬‬ ‫ال غاية للتخ ّيل وال حدود أو ميناء وصول‪ .‬إنّه معنى ال يسعى إىل التامم‪ ،‬وهو إن أُنزل عىل املكان فإن األخري ينطلق‬ ‫معه يف رحلة استكشاف ذاتية ال تنتهي فصوالً‪.‬‬ ‫أن نتخيّل مدينة‪ ،‬يعني أن نتّجه نحو األكرث تعب ًريا يف كينونتها الحيّة التي عامدها تن ّوع التجارب وحركة التك ّون‬ ‫وتوسع‬ ‫املستم ّرة‪ .‬املتخ ّيل يف املكان هو مكان إضايف‪ ،‬أو ح ّيز احتياط‪ ،‬وبالتايل هو قدرة عيش مضاعفة تتجاوز املتحقّق ّ‬ ‫آفاقه‪ .‬العالقة بني ما جرى تخ ّيله يف املدينة وبني املوجود واملحسوس فيها واقع ًّيا‪ ،‬هي عالقة جوهريّة تصل املكان‬ ‫باحتامالته‪ ،‬وت ُبقي لهذه األخرية – االحتامالت – دو ًرا حني يجري الكالم عن هويّة للمكان‪ ،‬أو صفة‪ .‬ث ّم إن للعالقة‬ ‫كل طرف من طرفيها يف املبادرة تجاه اآلخر‪ .‬فإن سلّمنا‬ ‫خص أسبقيّة ّ‬ ‫املذكورة بع ٌد جد ّيل يتعذّر معه الحسم فيام ّ‬ ‫جدالً بوجود عامل حد ّيث ما‪ ،‬يف زمن مح ّدد‪ ،‬استدعى قيام مدينة‪ ،‬فإن السؤال حول من جاء قبالً الخيال أم العمران‬ ‫سيبقى عىل األرجح سؤاالً بال جواب‪.‬‬ ‫هل الخيال يستدعي املدينة؟ أم املدينة تستدعي الخيال؟ ذلك سيبقى أمامنا متري ًنا جدليًّا‪ .‬إنّه جدل قد يستم ّر‬ ‫ويصيب عالقتنا باملدينة ذاتها‪ ،‬إذ كلّام ظننا أ ّن األخرية اكتملت‪ ،‬يأيت املتخيّل يك ينقض ظ ّننا ويعيد املدينة إىل حركيّتها‬ ‫– إىل فكرتها الكامنة‪.‬‬ ‫أن نتخ ّيل مدينة إذن هو أن نبدأ فيها من حيث يستحسن أن نبدأ‪ .‬من املنافذ املوزّعة التي ال نهاية من بعدها‪ .‬إذّاك‬ ‫تكف عن التك ّون وال تبلغ االكتامل‪.‬‬ ‫نكون قد بدأنا املدينة من طبيعتها املثىل‪ ،‬كحال ٍة ال ّ‬ ‫مجلّتنا هذه‪ ،‬إذ تستوحي بيسووا يف اخرتاعه أمكنة وشخصيات وحيوات وميتات "جديدة" أضيفت عىل ما هو واقعي‬ ‫وموجود‪ ،‬فإنّها تطمح يف أن تكون ب ّوابة إضاف ّية لبريوت‪ ،‬ندعوكم إىل دخولها والتفكّر باحتامالتها الكثرية‪.‬‬ ‫"‪"The Imagined‬‬ ‫‪Portal 9 page 2‬‬


‫‪2‬‬

‫البوابة التاسعة‬

‫إفتتاح ّية‬

‫املُتخ َّيل‬ ‫فادي طفييل‬

‫ُعب عن يشء ما فإنّك تحفظ فضيلته وتستبعد رعبه‪ .‬الحقول أكرث اخرضارا ً يف‬ ‫أن ت ّ‬ ‫وصفها من خرضتها الحقيقية‪ .‬األزهار‪ ،‬إذ توصف بالكلامت التي ترفعها إىل فضاء‬ ‫الخيال‪ ،‬فإنّها تكتيس ألواناً ال وجود لها يف حياة الخاليا‪.‬‬ ‫مم أطنب يف وصفه‪ .‬النقّاد‬ ‫املتح ّرك يحيا‪ .‬ما يقال يَخلدُ‪ .‬ال يشء يف الحياة ّ‬ ‫أقل واقعيّة ّ‬ ‫ض ّيقو األفق يرون يف هذي القصيدة أو تلك‪ ،‬بإيقاعاتها املمتدّة‪ ،‬تعبريا ً ال يعدو كونه‬ ‫وصفاً ليوم جميل‪ .‬لك ّن القول إ ّن اليوم جميل لهو ٌ‬ ‫قول محفوف باملشقّة‪ .‬ث ّم إ ّن اليوم‬ ‫الجميل ذاك سوف مييض‪.‬‬ ‫يعود لنا نحن أمر أن نحفظ اليوم الجميل يف ذاكرة عبارات زاهية‪ ،‬تنرثُ فوق حقول‬ ‫العامل الخارجي الزائل ويف سامواته الخالية‪ ،‬أزهارا ً ونجوماً جديدة‪.‬‬ ‫املشه ُد امللطّخ الواسع والكبري للتاريخ‪ ،‬بحسبي‪ ،‬يعادل دفق تأويالت وتوافقات‬ ‫ملتبسة لقصص شهود عيان غري موثوقة‪.‬‬ ‫الروايئ هو نحن جميعاً‪ ،‬فرنوي كلّام رأينا‪ ،‬أل ّن فعل الرؤية موصوف بالرتكيب‪ ،‬مثله‬ ‫كل يشء يف العامل‪.‬‬ ‫مثل ّ‬ ‫فريناندو بيسووا‬ ‫"كتاب القلق"‬

‫‪The Book of Disquiet, trans. Richard Zenith‬‬ ‫‪(Harmondsworth: Penguin, 2001), 30.‬‬

‫يف عرشينات القرن املايض‪ ،‬كان الشاعر الربتغايل فريناندو بيسووا (‪ ،)1935 – 1888‬املشهور بابتداعه وتأليفه شخص ّيات‬ ‫خص األشخاص واألمكنة عىل ح ّد‬ ‫خياليّة ومفرتضة عديدة‪ ،‬كام املعروف مبيله الجامح إىل دمج الواقع بالخيال يف ما ّ‬ ‫سواء‪ ،‬وضع دليالً سياحيًّا ملدينته األثرية بعنوان "لشبونة ‪ -‬ما ينبغي عىل السائح رؤيته"‪ .‬الدليل هذا الذي كُتب باللغة‬ ‫اإلنكليزيّة‪ ،‬والذي ُوجد بني أوراق صاحب "كتاب القلق" بعد موته بعقود‪ ،‬نُرش للم ّرة األوىل يف العام ‪ .1992‬ث ّم عاد‬ ‫نصه بتنقيحات طاولت أسامء األمكنة واملواقع حسب لفظها‬ ‫إثر ذلك ونُرش باللغتني اإلنكليزيّة والربتغال ّية حيث ُز ِّود ّ‬ ‫وكتابتها باللغة الربتغاليّة‪ .‬هذا وأضيف إىل الدليل صور وخرائط للشبونة من حقبة العرشينات‪ ،‬تنقل للسائحني‪ ،‬رغم‬ ‫عدم مطابقتها الدقيقة لواقع األمكنة الراهن‪ ،‬بعض األجواء واملالمح التي تس ّهل مه ّمة اقتفاء أثر الشاعر ومساره بعد‬ ‫نحو سبعة عقود عىل وفاته‪.‬‬ ‫إنّه ألمر ُمثري فعالً أن يتبع املرء‪ ،‬الساعي يف املدينة‪ ،‬أثر بيسووا ومساره "القلق" يف أمكنة حقيق ّية‪ .‬إنّها لفكرة ملهمة‪.‬‬ ‫إذ إ ّن الشاعر‪ ،‬صاحب "كتاب القلق"‪ ،‬واملهجوس الدائم باألمكنة والرتحال يف ما بينها كفعلٍ غايته‪ ،‬عىل ما ارتأى‪،‬‬ ‫استكشاف الـ"المكان" والتجوال يف فضاءات الحياة الذهنيّة‪ ،‬كان قد وضع توليفة مبتكرة لعامله الكتايب يتآلف فيها‬ ‫الخيايل مع الواقعي عىل نح ٍو يصعب فصل فوارقهام وتبيانها‪.‬‬


‫امل ُتخ َّيل العدد األ ّول خريف ‪2012‬‬

‫محتويات العدد‬

‫كتابات‬ ‫‪ 112‬‬

‫ ‬

‫ سرية أل ّول الخيال‬

‫حازم صاغيّة‬

‫ حني كنت صغريًا‪ ،‬بدت طرابلس ومن بعدها بريوت‪ ،‬املكان الذي‬ ‫ينشأ وينهض‪ ،‬ضدًّا عىل القرى التي تولد م ّرة واحدة ث ّم تؤخذ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫حاصل‪.‬‬ ‫تحصيل‬ ‫‪ 118‬‬

‫ ‬

‫ الرسالة الح ّيان ّية‬

‫يوسف رخّا‬

‫ ربا املر ّجح أن تبدو القاهرة ملصطفى‪ً ،‬‬ ‫بدل من طغرى‪ ،‬عىل هيئة‬ ‫ّ‬ ‫هالل وصليب يختزالن منطقة ماسبريو وما حولها‪ ،‬حيث الهالل‬ ‫كورنيش النهر والصليب مساحة قتل األبرياء‪.‬‬ ‫‪ 136‬‬

‫ ‬

‫بأسا‬ ‫ بال أمل‪ ...‬الجنود أش ّد ً‬

‫عيل رضا محمودي إيرامنهر‬

‫ يف عمر السادسة عرشة‪ ،‬كانت الرحلة يف الحافلة إىل مدينة‬ ‫مل أشاهدها ً‬ ‫قبل تبدو كمثل مغامرة آرسة‪.‬‬

‫دفرت‬ ‫ ‬ ‫‪141‬‬

‫ مدينة املجنون‬

‫ ‬

‫تص ّورات ألمكنة املجنون يف مدينة معارصة‪.‬‬

‫ ‬

‫حاتم إمام‬

‫‪ 167‬‬

‫ ‬

‫‪5‬‬

‫ الخدمة الرسيعة لثورات العرب‬

‫براين ويتيكر‬

‫ كم من هذه الكتب سيبقى جدي ًرا بالقراءة بعد خمس سنوات‬ ‫من اآلن؟‬ ‫ ‬ ‫‪171‬‬

‫ ‬

‫ مرسح بريوت لحنان الحاج عيل‬ ‫مح ّمد الحجريي‬

‫ فضاء املرسح الكائن يف عني املريسة كان أكرث من مرآة لتح ّوالت‬ ‫مدينة بريوت‪.‬‬

‫مالحق مرفقة بالنسخة اإلنكليزيّة‬

‫‪ 174‬إطاللة لبنان األوىل يف عامل الغد‬

‫قصة الجناح اللبناين يف‬ ‫وثائق من أرشيف شارل قرم تروي ّ‬ ‫املعرض الدويل بنيويورك عام ‪.1939‬‬

‫‪ 174‬قراءة غ ّزة يف ديب‬

‫مدينتي ديب وغ ّزة من خالل املعلومات‬ ‫مقاربة تقارن بني‬ ‫ّ‬ ‫واملعطيات الرقم ّية‪.‬‬

‫‪ 174‬مبادرات لتبديل ال ّزمن‬

‫املدينة تحيا من غري أن تضطر إىل إثبات حقها يف الحياة‬ ‫واكتساب حقها يف الوجود‪ .‬هي العب يف دراما من إخراجها‬ ‫وإنتاجها‪.‬‬

‫مراجعات ونقد‬

‫‪ 143‬مؤسسة التوثيق والبحث يف املوسيقى العرب ّية‬

‫ ‬

‫منال ن ّحاس‬

‫ ‬

‫قصار‪.‬‬ ‫عن‪ AMAR‬يف مقابلة مع مديرها كامل ّ‬

‫‪ 153‬‬

‫ دار األوبرا السلطانيّة يف مسقط‬

‫ ‬

‫كاثرين هينييس‬

‫‪ 159‬‬

‫ حكايات القاهرة لجوديت باري‬

‫ هل هي مركز ُعامين عاملي لفنون العرض‪ ،‬أم مج ّرد مركز عاملي‬ ‫موجود يف ُعامن؟‬ ‫عمر خُليف‬

‫ ‬

‫ عندما تالمس الفنون البرص ّية القضايا املعارصة من هذا القرب‬ ‫الشّ ديد‪.‬‬

‫‪" 163‬بال عنوان" (بينايل اسطنبول الثاين عرش)‬

‫ ‬

‫سام ثورن‬

‫ البينايل هذا استند إىل االختزال ال إىل االختبار‪ ،‬متج ّن ًبا االسرتاتيج ّيات‬ ‫االستطراد ّية التي وسمت معارض البينايل خالل العقد االخري‪.‬‬

‫عىل موقع البوابة التاسعة اإللكرتوين‬ ‫نص فوتوغرايف من أثينا لجورجيوس موتافيس‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ومقاالت ليوسف ب ّزي وأحمد مكيّة وجون جريفيس‪،‬‬ ‫ومورغان كوينتانس‪ ،‬إضافة إىل قراءة بصوت الشاعر‬ ‫حسن عبد الله ملقاطع من قصيدته "صيدا"‪.‬‬ ‫‪Portal 9 journal.org‬‬


‫البوابة التاسعة‬

‫‪4‬‬

‫مقاالت املدينة وأخبارها‬

‫العدد األ ّول‬

‫املُتخ َّيل‬ ‫خريف ‪2012‬‬

‫إفتتاح ّية‬ ‫‪2‬‬ ‫ ‬

‫ ‬

‫امل ُتخ َّيل‬

‫فادي طفييل‬

‫ال غاية للتخ ّيل وال حدود أو ميناء وصول‪.‬‬

‫ ‬

‫مرو ّيات‬ ‫‪ 9‬‬

‫ املقهى و"األهوي" يف اللفظ والصور‬

‫ ‬

‫مح ّمد أيب سمرا‬

‫ ‬ ‫‪17‬‬

‫ أمريكا الصغرى‬

‫ هل هو لفظ الحروف ووقعها ما يصنعان هذا الفرق ما بني‬ ‫اللفظتني واملكانني اللذين ينبعثان من املخ ّيلة اللفظ ّية ّ‬ ‫لكل منهام؟‬ ‫ ‬

‫مح ّمد سويد‬

‫‪ 25‬‬

‫ بور ‪ -‬أو ‪ -‬برنس عىل فالق الصدع‬

‫ سينامت بريوت ومسارحها كانت جز ًءا ُم ّتم ًم للواقع وليست‬ ‫فردوسا للحاملني‪ .‬مذ دنت من انهيارها دن ّو البالد من حروبها‬ ‫ً‬ ‫وفاتحتها "حرب السنتني"‪ ،‬كانت جزيرة مقتلعة من مكان ما‪.‬‬ ‫ ‬

‫بوجيا باتيا‬

‫‪ 33‬‬

‫ تَخيّل الدولة الفلسطينيّة يف عامئرها‬

‫ ‬

‫ ‬

‫ "هايتي ستصبح قري ًبا ج ّنة العامل كلّه‪ .‬ال ّ‬ ‫أنفك أتخ ّيلها عىل هذه‬ ‫الحال‪ .‬وتراودين صورها يف الليل‪ ،‬أثناء نومي"‪.‬‬ ‫مالو هلسا‬

‫ فلسطني الجديدة النابضة عىل إيقاع تط ّورات اقتصاد ّية وسياس ّية‬ ‫أي وقت مىض‪ ،‬م ّتجهة إىل داخلها‪ ،‬تزام ًنا‬ ‫عديدة‪ ،‬تبدو‪ ،‬أكرث من ّ‬ ‫مع اتجاهها نحو العامل العريب األوسع وما يتخطّاه أيضً ا‪.‬‬ ‫‪ 41‬‬

‫ ‬

‫ قبل هدم السور‪ ،‬املادي والعمراين واملعنوي االجتامعي‪ ،‬كانت‬ ‫البوابات رقيباً عىل حارات املدينة وطرقها وأسواقها‪ ،‬وعىل ليلها‬ ‫ونهارها‪ ،‬وعالقات داخلها بخارجها‪ ،‬أهالً وسلعاً‪.‬‬

‫خُطط‬ ‫ ‬

‫ ‬

‫ ‬

‫ أوردوس‪ :‬مدينة صينيّة عىل املسار الرسيع‬

‫‪ 63‬‬

‫ ‬

‫بكل ما يلزم"‪:‬‬ ‫ "شاسعة ومؤاتية‪ ،‬ومحاطة ّ‬

‫ليبني نيلسون مورو‬

‫ بعد نحو أسبوعني عىل إعالن دولة جنوب السودان أعلن قادتها‬ ‫أ ّول اقرتاحاتهم للوحدة الداخل ّية‪ :‬بناء عاصمة جديدة عىل ما يبدو‬ ‫أنّه مساحة نظيفة‪ .‬وأُعلن أن جوبا ستقوم مقام عاصمة موقّتة إىل‬ ‫أن تكتمل املدينة الجديدة‪ ،‬رامسيال‪.‬‬ ‫‪ 71‬‬

‫ ‬

‫ بور سعيد ‪ :1957‬مركز الحداثة املرصيّة‬

‫مح ّمد الشاهد‬

‫ ص َور بور سعيد املقصوفة ج ّراء العدوان‪ ،‬ع ّرفت مرصيني كرثا ً إىل‬ ‫ُ‬ ‫تلك املدينة‪ .‬وضمن التوليفة التي ُصنعت بإتقان للصدمة املدين ّية‬ ‫التي حلّت‪ ،‬قدّم نظام عبد النارص نفسه للمرصيني عىل أنّه باين‬ ‫املستقبل‪.‬‬

‫محاورة‬ ‫‪ 81‬‬

‫ ‬

‫ ‬

‫ بغداد يف أفكار أحد ر ّواد حداثتها‬

‫شاكر األنباري‬

‫مقابلة مع املعامري العراقي قحطان املدفعي‪.‬‬

‫املط ِّوف‬ ‫‪ 91‬‬

‫ ‬

‫ جِنيّة‪ ،‬ومنشار‪ ،‬وأموات رومانسيون‬

‫رشا األطرش‬

‫قصها مراهق من مجلّة ليلصقها‬ ‫ من كالمه تخرج املدينة صور ًة ّ‬ ‫عىل باب خزانته‪ .‬امرأة جميلة‪ ،‬وقد أنقذها من رصاصري الورق‪،‬‬ ‫ليدخلها أحالم يقظته‪.‬‬

‫مراسالت‬ ‫‪ 99‬‬

‫مايكل أولفسترينه وبرت دو ميونك‬

‫ يزعم قادة أوردوس احتضانهم التنمية مبفردات الرتبية األمثل‬ ‫والوقاية الصح ّية والرفاه االجتامعي واملزيد من املؤسسات‬ ‫املتل ّهفة للعمل يف الثقافة والتجديد والحفاظ عىل البيئة‪ .‬وعىل‬ ‫الرغم من األقوال هذه‪ ،‬ص ّنفت الصحافة العاملية أوردوس كربهان‬ ‫عىل الفقاعة العقار ّية يف الصني‪ ،‬وعىل خروج ثقافة البناء عن‬ ‫السيطرة‪.‬‬

‫تاهري إرمان‬

‫ بغض النظر عن السجال الدائر يف صواب ّية سياسات التمدين‬ ‫ّ‬ ‫امل ّتبعة يف تلك املدن أو عدمها‪ ،‬فإ ّن مدن "منور األناضول" تواجه‬ ‫عواقب ّربا تتهدّد يف النهاية الحال املايل املستدام الذي جهدت يف‬ ‫تحقيقه‪.‬‬

‫ الخروج من البوابات الثامين إىل عمران املدينة‬

‫وضّ اح رشارة‬

‫‪ 43‬‬

‫‪ 51‬‬

‫ صورة الداخل‪ :‬الرثاء املستجد‬ ‫يف مدن "منور األناضول"‬

‫ ‬

‫ َع ّمن املتخيّلة والغريبة غربة‬ ‫غلوب باشا يف إمارة رشق األردن‬

‫حازم األمني‬

‫ للبيوت تواريخ يف املدينة وليس للشوارع واألحياء‪ ،‬ذاك أن الغرباء‬ ‫الذين أقاموا فيها بتحفّظ جعلوا يبثون فيها حيواتهم الخاصة‬ ‫مكيفني أنفسهم مع ما متليه حياتهم الجديدة فيها من صمت‬ ‫وبطء وانكفاء‪.‬‬


‫البوابة التاسعة‪ ،‬مقاالت املدينة وأخبارها‪ ،‬امل ُتخيَّل‪ ،‬العدد األ ّول‪ ،‬خريف ‪2012‬‬


‫‪6‬‬

‫البوابة التاسعة‬

‫الشارة‬

‫املديني وآدابه وفنونه وتواريخه واقرتاحاته املستقبليّة‪.‬‬ ‫البوابة التاسعة‪ ،‬مجلّة ثقافة مدينيّة‪ ،‬تصدر من وسط بريوت‪،‬‬ ‫لتواكب العمران مبضمون معريف يتناول أفكار العيش‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫املديني تحديدا ً‪ ،‬املكان الذي شهد سجاالت بدت مهدورة يف معظم األحيان‪ ،‬تارة بسبب حدّتها أو مغاالتها وقلّة حذاقتها‪ ،‬وطورا ً بسبب‬ ‫موقعها يف بريوت‪ ،‬يف الوسط‬ ‫ّ‬ ‫مديني عريب ‪ -‬دويل متيّزت به‬ ‫هامشيّتها وانسحابها وافتقارها إىل سياق نرشي مثابر مخصص لها وساع إىل ترويج اإلقبال عىل نوعها الثقايف‪ ،‬يجعلها تطمح إىل تواصل‬ ‫ّ‬ ‫بريوت دامئاً‪ ،‬وتتنبه إىل وجوب االبتعاد عن املغاالة والحدّة الضا ّجة وقلّة االتّزان‪ .‬كام يجعلها تقدّم بديلها يف إصدار مثابر متمحور حول ثيمة واحدة يتك ّرر م ّرتني يف‬ ‫كل عام‪ ،‬متيحة أمام كتّابها واملشاركني يف صناعتها الوقت املالئم لنتاج يدمج البحث األكادميي املع ّمق بالكتابة اإلبداعيّة والنقديّة والصحافيّة والغوص عميقاً يف عصب‬ ‫ّ‬ ‫املدينة وطبقاتها‪.‬‬ ‫كل مكان متقاطعة يف كثري من الوجوه‬ ‫هذا‪ ،‬وتأيت البوابة التاسعة‪ ،‬لتتب ّنى زمنها األوسع الذي دخل فيه العامل حقبته املدين ّية‪ ،‬وباتت ثقافات املدن وقضاياها يف ّ‬ ‫نصه األصيل‬ ‫نرش‬ ‫عرب‬ ‫نضارته‬ ‫عىل‬ ‫املحافظة‬ ‫واملظاهر‪ .‬من هنا تأيت جهودها يف الرتجمة التي ت ُنتج ثنائ ّيتها اللغويّة الهادفة إىل تعريف ما يؤلّف "هنا" عن املدينة‪ ،‬مع‬ ‫ّ‬ ‫يل (ة) أيضاً‪ ،‬وإخراج هذا كلّه يف هويّة متداخلة واحدة ت ُصاغ عرب أفكار تصميم ّية مبتكرة‪.‬‬ ‫(روحه األصل ّية)‪ ،‬عىل ما يؤلّف "هناك" عن مدن أخرى‪ّ ،‬‬ ‫بنصه (روحه) األص ّ‬ ‫تنرش مجلّة البوابة ‪ )ISSN 2305 - 5219( 9‬مرتني يف السنة يف بريوت‪ ،‬لبنان‪،‬‬ ‫من قبل رشكة سوليدير مانجمنت سريفيسز ش‪.‬م‪.‬ل‪.‬‬

‫‪Solidere‬‬ ‫‪Multidisciplinary‬‬ ‫‪Design Department‬‬

‫رئيس التحرير‬

‫امل ّحرر العام‬

‫وسط بريوت‪ ،‬مبنى ‪ ،149‬شارع سعد زغلول‬ ‫صندوق بريد ‪ 119493‬بريوت ‪ 2012 7305‬لبنان‬ ‫هاتف‪00961 1 980 650 / 60 :‬‬

‫مدير اإلبداع‬

‫مح ّرر خُطط‬

‫ترخيص رقم‪465 :‬‬ ‫املدير املسؤول‪ :‬جورج علم‬

‫مدير التحرير‬

‫مح ّرر مراجعات ونقد‬

‫فريق التصميم‬

‫املح ّرر الفوتوغرايف‬

‫حقوق النرش والتأليف عائدة لرشكة سوليدير مانجمنت سريفيسيز ش‪.‬م‪.‬ل‪.‬‬ ‫جميع الحقوق محفوظة © ‪.2012‬‬ ‫مينع نسخ أو استعامل أي جزء من هذه املطبوعة بأي وسيلة تصويريّة أو‬ ‫إلكرتونيّة أو ميكانيكيّة مبا فيها التسجيل الفوتوغرايف والتسجيل عىل أرشطة‬ ‫أو أقراص مقروءة أو أي وسيلة نرش أخرى مبا فيها حفظ املعلومات واسرتجاعها‬ ‫من دون إذن خطّي من النارش‪.‬‬ ‫تعب عن آراء أصحابها وحدهم وال توافق بالرضورة آراء هيئة‬ ‫املقاالت املنشورة ّ‬ ‫التحرير ومواقفها‪ .‬النارش غري مسؤول عن ص ّحة املعلومات الواردة يف املقاالت‬ ‫أي أخطاء أو هفوات ترد‪ .‬يشرتط يف‬ ‫وهو ال يتح ّمل أي مسؤوليّة قانونيّة عن ّ‬ ‫قبل يف أي مجلّة أو كتاب‪.‬‬ ‫املساهامت التي تردنا أن ال تكون قد نرشت ً‬ ‫ال تراجع املجلّة يف شأن املساهامت التي تردها طو ًعا‪ ،‬من دون طلب منها‪.‬‬ ‫وهذه املساهامت ال تُردّ‪.‬‬

‫فادي طفييل‬

‫ناتايل املري‬

‫إياد حسامي‬

‫أنطوان غانم‬ ‫كارين وهبي‬ ‫ليامسول ذوق‬

‫فريق االنتاج‬

‫مالو هلسا‬

‫تود رايس‬

‫عمر خُليف‬

‫داليا خمييس‬

‫تدقيق لغوي‬ ‫مح ّمد حمدان‬ ‫صويف بريل‬

‫دينا بستاين‬ ‫زينة نقاش‬ ‫ماريو رزّوق‬

‫شؤون إدارية‬

‫سمية بارودي‬ ‫محمد رحيمي‬

‫شكر خاص‬

‫البوابة التاسعة عىل فايس بوك‬ ‫البوابة التاسعة عىل تويرت‬ ‫‪Portal 9 journal.org‬‬

‫البوابة التاسعة طبعت وطويت يف لبنان‬

‫نورين أبو عون‪ ،‬خالد أدهم‪ ،‬مروى أرسانيوس‪ ،‬باسم الداعوق‪ ،‬منرية الصلح‪ ،‬أمرية‬ ‫العمري‪ ،‬مكرم القايض‪ ،‬باتريسيا إلياس‪ ،‬إليزابيث إينجيل‪ ،‬جوديث‬ ‫الصلح‪ ،‬خالد ّ‬ ‫باري‪ ،‬كونستانتينوس بانتازيس‪ ،‬ندين توما‪ ،‬آنا تيتاس‪ ،‬عيل حامد‪ ،‬مايا خوري‪،‬‬ ‫حسن داوود‪ ،‬منري دويدي‪ ،‬تابيثا ديكر‪ ،‬دانييال روز كينغ‪ ،‬كرستيل سامل‪ ،‬غاليا‬ ‫شمع‪ ،‬روبريت صليبا‪ ،‬تامارا صوايا‪،‬‬ ‫غسان سلهب‪ ،‬وضّ اح رشارة‪ ،‬نارص ّ‬ ‫سعداوي‪ّ ،‬‬ ‫شريين صيقيل‪ ،‬حسن عبدالله‪ ،‬ريم عسقالن‪ ،‬جان عقل‪ ،‬صبا ع ّناب‪ ،‬أنغوس‬ ‫غافني‪ ،‬سيلفا غوردوغان‪ ،‬بييرت ف‪ .‬ماي‪ ،‬أدريان فريكيه‪ ،‬ألبريت فريي‪ ،‬جان فيرش‪،‬‬ ‫كارول قرم‪ ،‬رامي قرم‪ ،‬ديفيد كريكباتريك‪ ،‬بشري مجاعص‪ ،‬غالب محمصاين‪ ،‬نديم‬ ‫مشالوي وستديو دي يب‪ ،‬زاهي نعامين‪ ،‬رابيكا هاميلتون‪ ،‬غادة واكد‪ ،‬فولونغ وو‪.‬‬


‫البوابة التاسعة‬

‫مرويّات‬

‫املقهى و"األهوي" يف اللفظ والصور‬

‫"العني باب النفس الشارع"‪ ،‬كتب إبن حزم األندليس يف "طوق الحاممة"‪ .‬لكن الحواس الخمس كلها – وليس البرص وحده – مرشعة عىل‬ ‫النفس البرشية عواملَ أخرى موازية‪ ،‬يشتبك فيها الواقعي باملتخيل‪ ،‬الحيس واملادي بالهوامي‪ ،‬اشتباكاً‬ ‫العامل الحيس أو املادي‪ ،‬فتصنع منه ُ‬ ‫عضوياً ال تنفصم عراه يف الحياة البرشية‪.‬‬

‫محمد أيب سمرا‬ ‫ودور الكلامت واللغة‪ ،‬أسايس يف هذا اإلشتباك‪ .‬فهي‬ ‫الفضاء األرحب للتواصل بني البرش‪ ،‬ومللكاتهم الفنية‬ ‫التعبريية عن النفس والوجود‪ ،‬وعن حضورهم وأفاعيلهم‬ ‫يف العامل‪ .‬لكن اللغة وكلامتها‪ ،‬صنيعة التاريخ واالجتامع‬ ‫والعامل املادي‪ ،‬قدر ما هي صنيعة التخييل واملخيلة‬ ‫واألحاسيس الجامعية والفردية‪ ،‬وتتدخل يف هندسة‬ ‫العامل والوجود‪ .‬فاأللفاظ حني تسمي األشياء واألماكن‬ ‫واألفعال‪ ،‬إمنا تغري من سمتها ومالمحها وأشكالها‪ ،‬وتضفي‬ ‫عليها إيحاءات وأخيلة وتهاويم‪ ،‬غالباً ما يسكت البرش‬ ‫عنها‪ ،‬أو يكتمونها يف "الالوعي اللغوي" الذي يتدخل يف‬ ‫صناعة صور العامل‪ ،‬ويف تصوراتنا عن العامل‪.‬‬ ‫هل نقول إن لأللفاظ يف مخيالت البرش إيحاءات وصورا ً‬ ‫لفظية‬ ‫يصعب إحصاء مصادرها؟ هنا مترين عىل محاولة‬ ‫ُ‬ ‫اكتشاف ٍ‬ ‫بعض من اإليحاءات والصور اللفظية التي‬ ‫قد تحف بكلمتي "املقهى" يف اللغة العربية الفصحى‪،‬‬ ‫و"األهوي" يف العامية الشفوية الدارجة‪ .‬مترين عىل كتابة‬ ‫يشء ما عن الروح املتخيلة للمكانني اللذين توحي بهام‬ ‫اللفظتني‪ ،‬الفصيحة والعامية‪.‬‬ ‫‪-1‬‬‫ضئيلة هي االيحاءات املشرتكة التي تبعثها يف املخيلة كل‬ ‫من لفظتي "مقهى" الفصيحة و"أهوي" العام ّية‪ ،‬فيخيل‬ ‫للمرء أن اللفظتني ال تدالن عىل املرفق أو املكان نفسه‪.‬‬ ‫فحرف الـ"ق" الحلقي العميق واملمتلئ‪ ،‬برغم سكونه‪،‬‬ ‫يكسب اللفظة االوىل‪ ،‬إسامً ومسمى‪ ،‬ثقالً وكثافة‬ ‫جوفيني يحفهام ضباب حار‪ .‬وهذا يغيب عن اللفظة‬ ‫الثانية التي يشعر سامعها أو يتخيل ان خفة هوائية‬ ‫باردة ومعابثة تكتنفها وتنبعث منها‪ .‬وفيام توحي لفظة‬ ‫املقهى مبكان منخفض‪ ،‬داخيل ومنفصل عن الخارج‪،‬‬ ‫وينبعث منه صخب كثيف ومكتوم‪ ،‬ومن يدخل إليه‬ ‫تأخذه الكثافة الجوفية وتالشيه يف لجتها‪ ،‬فإن لفظة‬ ‫األهوي توحي مبكان أعىل من سطح األرض‪ ،‬ومرتفع عىل‬ ‫حروف األلف والهاء والواو‪ ،‬وت ُسمع فيه أصوات متقطعة‬

‫ووشوشات خافتة يف هواء شفيف‪ ،‬فيام الخارج حارض‬ ‫ومريئ وقريب‪.‬‬ ‫هل هو لفظ الحروف ووقعها ما يصنعان هذا الفرق‬ ‫ما بني اللفظتني واملكانني اللذين ينبعثان من املخيلة‬ ‫اللفظية لكل منهام؟ وهل هو حرف القاف الساكن‬ ‫الذي يتوسط حرف امليم الرخيم‪ ،‬املتامدي واملفتوح‪،‬‬ ‫وحرف الهاء الهوايئ الطويل‪ ،‬ما يشد املقهى إىل األسفل‬ ‫والداخل‪ ،‬فيرتاءى أن رواده وأثاثاته بال ألوان‪ ،‬ويكسوهم‬ ‫اغربار ال ِقدم؟‬ ‫الرواد يف األهوي مائيون‪ ،‬والكرايس والطاوالت نحيلة‬ ‫وملونة‪ ،‬وإ ْن داخلها من أفاعيل الزمن واألوقات يشء ما‪،‬‬ ‫فإمنا يداخلها عتق وتلف جراء استخدام البرش وارتيادهم‬ ‫إياها‪ ،‬وكأنها مسكونة بحيوات البرش وأحوالهم الرخية‬ ‫الهادئة‪ .‬أما الزمن الذي توحي به لفظة مقهى‪ ،‬فمجرد أو‬ ‫واقف ومنقطع عن األوقات‪ ،‬وعام تبعث عليه األوقات‬ ‫من تحول وتبدل وتقطع‪ .‬زمن واقف ومكتمل‪ ،‬ال يقبل‬ ‫اإلضافة والفرق والتنوع‪ ،‬وال التخصيص والتفاوت‪.‬‬ ‫والبرش الذين يحمل إيحاء لفظة مقهى عىل تخيلهم‬ ‫أو استحضارهم‪ ،‬مغفلون او مجهولون‪ ،‬ومجردون من‬ ‫الخصائص واملزايا والسامت واملالمح‪ ،‬ومن األعامر‬ ‫واالوقات‪ .‬وهذا عىل خالف الحال الذي توحي به‬ ‫األهوي‪ ،‬وتبعث عىل تخيله‪ ،‬إذ يصعب تجريده أو‬ ‫إخالؤه من وتائر العيش وأوقاته املتباينة‪ ،‬ومن الناس‬ ‫املتباينني‪ .‬ذلك أنه زمن مفتوح عىل العابر واملتغري‬ ‫واملتعاقب واملتقطع‪ ،‬وعىل تبدل الطقس والفصول‬ ‫واختالف األماكن‪ .‬العامل الخارجي متصل اتصاالً وثيقاً‬ ‫بفضاء األهوي الداخيل‪ ،‬ومنكشف عليه‪ ،‬كأنها رشفة‬ ‫ومطل وحيز من رصيف وشارع‪ ،‬ومسكونة بالصيف‬ ‫والربيع والخريف‪ .‬أما املقهى فال يتقيد بروزنامة الفصول‬ ‫والطقس واملناخ‪ ،‬ويبعث عىل التخيل بأنه مغلّف بشتاء‬ ‫خارجي دائم‪ ،‬ومسكون بحرارة ودفء دامئني‪ .‬كأنه رحم‬ ‫يتامثل رواده ويتساوون يف انقطاعهم عن الخارج الذي‬

‫‪9‬‬


‫‪8‬‬

‫مقهى يف بريوت ‪.2012 -‬‬ ‫تصوير داليا خمييس‬


‫املقهى و"األهوي" يف اللفظ والصور‬

‫محمد أيب سمرا‬

‫مقهى يف بريوت ‪.2012 -‬‬ ‫تصوير داليا خمييس‬

‫‪11‬‬


‫‪10‬‬

‫البوابة التاسعة‬

‫مرويّات‬

‫"الرواد يف األهوي مائيون‪ ،‬والكرايس والطاوالت نحيلة وملونة‪ ،‬وإ ْن داخلها‬ ‫من أفاعيل الزمن واألوقات يشء ما‪ ،‬فإمنا يداخلها عتق وتلف جراء استخدام‬ ‫البرش وارتيادهم إياها‪ ،‬وكأنها مسكونة بحيوات البرش وأحوالهم الرخية‬ ‫الهادئة‪".‬‬ ‫ال يشاهده الرواد‪ ،‬وال يسمعون منه صوتاً‪ ،‬كأنهم ب ّحارة‬ ‫يف جوف غواصة‪ ،‬الضوء فيها – واألصح القول اإلضاءة‬ ‫– جويف وكثيف ولزج‪ ،‬كأنه مادة زئبقية‪ ،‬كام الوقت‪.‬‬ ‫إضاءة مكتومة ومتقشفة‪ ،‬برغم قوتها يف انهامرها عىل‬ ‫املكان الذي تلطخ بالتساوي أشياءه ورواده يف الليل كام‬ ‫يف النهار‪.‬‬ ‫الوقت يف األهوي نهاري كله‪ ،‬وتبلل أطرافه صباحات‬ ‫متأخرة ومساءات تسبق السهرة‪ .‬قبيل الظهرية يتسارع‬ ‫الوقت يف األهوي‪ ،‬وعند العرص يرتاخى ويتباطأ‪ ،‬فيبلله‬ ‫بعض من الضجر والرتابة واالنتظار حتى الغروب‪ .‬يا‬ ‫لرخاء الغروب يف األهوي! حيث الضوء كالوقت نهاري‬ ‫وطبيعي‪ ،‬وإن كان اصطناعياً فهو ال يلطخ األشياء والناس‪،‬‬ ‫كام يف املقهى‪ ،‬بل يبلل‪ ،‬وال ينرسب إىل صلب املادة‪ ،‬بل‬ ‫يوشحها او يوشيها بالنور والظالل‪.‬‬ ‫األهاوي (جمع أهوي) يتجاذبها البرش واألوقات‪،‬‬ ‫ويتجاذبونها‪ ،‬فتشدهم إليها ويشدونها إليهم‪ .‬ذلك أنها‬ ‫حيز للتعارف والتبادل واالختالط‪ ،‬وللعابر واآلين‪ .‬للشتاء‬ ‫والصيف‪ ،‬للبحر والجبل‪ ،‬للرصيف والشارع‪ ،‬للكالم‬ ‫والصمت‪ ،‬للمريئ واملتوهم واملتخيل‪ ،‬للمدينة والريف‬ ‫اآلخذ يف التمدن‪ ،‬والقريب من املدينة‪ .‬هذا كله وغريه‬ ‫حارض يف األهوي التي تشكل حلقة يف سلسلة طويلة‬ ‫من األدوار املتنوعة‪ ،‬املركبة واملضطربة‪ .‬اما املقاهي‬ ‫فترتاءى كأنها حيز للمكوث الخالص الذي ال يداخله‬ ‫فعل آخر يفارقه ويختلف عنه‪ .‬مكوث ال انتظار فيه‪،‬‬ ‫ما دام غري مرشوع عىل التوقع واالحتامل‪ .‬مكوث يبدأ‬ ‫وينتهي‪ ،‬لكنه يف انغالقه ال يستدخل مام يسبقه ويليه‬ ‫شيئاً أو فعالً او دورا ً أو صورة‪ .‬كأمنا الداخل إىل املقهى –‬ ‫وال تجوز هنا صيغة الجمع‪ ،‬كأن نقول‪ :‬الداخلون إىل‬ ‫املقاهي‪ ،‬ألن كلمة مقاهي ت ُنزل الكلمة املفردة واملعرفة‬ ‫من علياء وحدانيتها‪ ،‬أو تخرجها عىل ما توحي به من‬ ‫جوفية ورحمية إىل رحابة التعدد واالختالف والتنوع‪،‬‬ ‫فتصري أقرب إىل األهوي – كأمنا الداخل إىل املقهى‪ ،‬إذا ً‪،‬‬

‫يتوارى فيه وينقطع‪ ،‬وينزع عن حضوره كل صلة له‬ ‫سابقة بالخارج‪ .‬أما الخارج منه‪ ،‬فيستقبل العامل ويبارشه‬ ‫كمن يخرج من عدم‪ .‬فعامل املقهى والحضور فيه‪ ،‬بال‬ ‫ضفاف‪ ،‬فيام األهوي ضفاف كلها‪ ،‬وال قوام لها بغري‬ ‫الضفاف الكثرية‪.‬‬ ‫رمبا ليس من قبيل املصادفة أن كلمة أهوي مونثة‪ ،‬وكلمة‬ ‫مقهى مذكرة‪ .‬ففي األهوي ما يشبه الغواية‪ ،‬ويشء من‬ ‫املشهدية واالستعراض واللعب وتسجية الوقت‪ .‬اما يف‬ ‫املقهى فال غواية وال مشهدية‪ ،‬كأمنا املذكر والرجولة‬ ‫تهيمنان عىل الحقل التخيييل للفظة‪ .‬وإذا ما البس لعب‬ ‫وغواية عامل املقهى‪ ،‬فغالباً ما يكونان محفوفني بيشء‬ ‫من الخروج عىل حد وطبع تفرتضهام مخيلة اللفظة‪.‬‬ ‫كأمنا املقهى طالع من أغاين كوكب الرشق وصوتها‪ ،‬فيام‬ ‫األهوي مسكونة بأغاين سفرية لبنان إىل النجوم وصوتها‬ ‫الطيفي‪.‬‬ ‫‪-2‬‬‫يف كالم كل يوم ووقت‪ ،‬الوظائفي العابر‪ ،‬تستخدم كلمة‬ ‫أهوي العامية الشفهية‪ .‬وهي تستخدم عىل وجه العموم‪،‬‬ ‫مقرونة باسم العلم إلحدى األهاوي (أو املقاهي) املراد‬ ‫ارتيادها أو التواعد عىل لقاء فيها‪ .‬ويف هذا يجري إخراج‬ ‫اللفظة من إسم الجنس العمومي املغفل‪ ،‬إىل اسم العلم‬ ‫والتعريف والتخصيص واالختيار‪ .‬هناك من يستخدم‬ ‫إسم العلم وحده لتعيني أهوي محددة‪ ،‬فال يسبقه إسم‬ ‫الجنس املضاف‪ ،‬فيصري‪ ،‬بذلك‪ ،‬إسم العلم (الهورس شو‪،‬‬ ‫ستارباكس‪ ،‬صليبا‪ ،‬دوغان‪ ،‬الروضة‪ ...‬مثالً) إسم جنس‬ ‫يف دائرة تعارف وتداول وتبادل‪ ،‬خاصة ومحددة‪ .‬يشيع‬ ‫هذا بني رواد يداومون عىل ارتياد هذا "املقهى" أو ذاك‪،‬‬ ‫كأنهم من جالّسه املياومني‪ .‬أحياناً يقول شخص آلخر‪:‬‬ ‫نلتقي يف األهوي أو يف املقهى‪ ،‬من دون ان يأيت القائل‬ ‫عىل ذكر اإلسم العلم لألهوي أو للمقهى الذي يلتقيان‬ ‫فيه عادة‪ ،‬ما دام أنهام ال يعنيان غريه كلام تواعدا‬ ‫عىل لقاء‪.‬‬


‫البوابة التاسعة‬

‫مرويّات‬

‫‪25‬‬

‫بور ‪ -‬أو ‪ -‬برنس عىل فالق الصدع‬

‫الطريق إىل بوتييه يقطعها املسافر يف ساعة‪ .‬املدينة تقع عىل مقربة من سلسلة جبال تس ِّورها‪ .‬وإذا نظر القادم إىل بور‪-‬أو‪-‬برنس ألفاها‬ ‫إىل غرب الجبل‪ .‬عىل املنحدرات منازل وأكواخ تزينها‪ ،‬تفيض إىل وسط املدينة املعلقة عىل حافة الخليج ومياهه املتأللئة‪ .‬غالباً ما ترسو‬ ‫فيه سفينة أو اثنتان للشحن محملة بالغاز أو األرز‪ .‬وإىل الشامل‪ ،‬يسع الناظر أن يلم بالطريق املفضية إىل مدرج الطائرات التي تقلع‬ ‫من مطار توسان لوفريتور‪ .‬ويرى الطاقم املتلهف لإلقالع قبل هبوط الظالم سع ًيا لتجنب املبيت يف هايتي‪.‬‬

‫بوجا باتيا‬ ‫فيام مىض‪ ،‬كانت بوتييه مقصد السياح ومحطة ال تفوت‬ ‫زيارتها‪ .‬لكن اليوم مل يعد يقصدها سوى سياح قالئل‪،‬‬ ‫ويخيّم الهدوء عىل الجبل ويلفه‪ .‬وال تبدو املدينة يف‬ ‫أسفل املطل أليفة‪ .‬فهي ترتاءى أشد خرضة‪ ،‬وتفوق‬ ‫تنظيامً وجامالً ما هي عليه حقيقة‪ .‬وأينام قلبت‬ ‫نظري وتجولت‪ ،‬تذكرتُ الرسام الهايتي‪ ،‬بريفيت دوفو‪،‬‬ ‫ومشاهد مدينة مليئة باألشجار مرتفعة عن البؤس‬ ‫واملعاناة رسمها من قبل‪.‬‬ ‫قلام يقصد املواطنون بوتييه للتمتع بإطاللتها‪ .‬فهي شأن‬ ‫غريها من األماكن الرئيسية‪ ،‬تُعرف من غري زيارة‪ .‬ويدور‬ ‫عىل هذه الفكرة كتاب ال ينىس للمؤلف الهايتي ليونيل‬ ‫ترويو‪ ،‬عنوانه "أوالد األبطال"‪ .‬يبلغ راوي القصة العارشة‬ ‫من العمر‪ .‬ويعيش مع أخته البكر‪ ،‬يف كوخ متداع يتألّف‬ ‫من غرفة واحدة بائسة يف املدينة‪ .‬واألخ مت ّيم بأخته‪.‬‬ ‫ويلف الكوخ دخان مواقد الطبخ يف النهار‪ ،‬ويرزح تحت‬ ‫وطأة جو خانق يف الليل‪ ،‬حني يسدل الولدان ستارة‬ ‫صغرية تفصل فراشهام عن فراش والديهام‪ .‬ومتأل الجوار‬ ‫الهياكل االسمنتية الصغرية والضيقة‪ ،‬ويكاد بعضها‬ ‫يالصق بعضها اآلخر ويعلوه‪ .‬ورسعان ما ينقلب املشهد‪،‬‬ ‫ويتكشف عن وجه كئيب ومحبط‪ .‬فيجتمع الجريان عىل‬ ‫باب الولدين ليشاهدوا والدهام منهاالً بالرضب عىل‬ ‫زوجته‪ .‬ويف الختام يقتل الولدان أباهام‪ ،‬ويتورطان يف‬ ‫مشكلة عسرية‪ .‬وينجيهام حدسهام من الهالك‪ ،‬فيقتنصا‬ ‫فرصتهام األخرية لالستمتاع واللهو‪ ،‬ويبلغا الجبل‪.‬‬ ‫ويدهش الراوي مبناخ الجبال الصحي‪ :‬فاملنازل غري‬ ‫متالصقة‪ ،‬والصحون الالقطة تعلو االسطح الصخرية‪،‬‬ ‫والكالب تلوح بأذيالها مر ًحا‪ .‬وال يعىص الراوي وشقيقته‬ ‫التعرف عىل بعض معامل وسط املدينة الرئيسية‪ ،‬مثل‬ ‫املقربة والكاتدرائية وملعب كرة القدم‪ .‬ولكنهام يعجزان‬ ‫عن تعيني موضع الحي الذي ِ‬ ‫قدما منه‪ .‬فهو واحد من‬ ‫سلسلة أحياء بؤس متشابهة ومتصلة‪.‬‬

‫"ومن املطل‪ ،‬مل يب ُد املكان مخيفاً"‪ ،‬عىل قول الراوي‪.‬‬ ‫"بل يسع الناظر من األعىل أن يتخيل رمال الجبال وهي‬ ‫تنفطر وتتداعى‪ .‬والجبل يهوي عىل املدينة‪ ،‬فتسحقها‬ ‫أزهاره"‪.‬‬ ‫وأنا قرأت هذه الفقرات من الرواية مرات‪ ،‬وحاولت‬ ‫سرب خيالها املقلق وفهمه‪ .‬وتهيأ يل أن الراوي يتمنى‬ ‫طمس قباحة املدينة وعنفها بأزهار الجبل‪ .‬وبعد أعوام‬ ‫طويلة عىل تأليف ترويو كتابه‪ُ ،‬سحقت املدينة يف اسفل‬ ‫املنحدر‪ .‬وزلزال كانون الثاين (يناير) ‪ 2010‬غطى املدينة‬ ‫بالحىص واألنقاض والغبار‪ ،‬ومل يكللها باألزهار‪ .‬واألكواخ‬ ‫القامئة عىل منحدر التل تهاوت كوخاً بعد كوخ كأحجار‬ ‫الدومينو‪ ،‬فانزلقت عن الجبل‪ .‬وبدا كأن مساحة مورن‬ ‫لوبيتال‪ ،‬سلسة الجبال من بوتييه إىل جنوب وسط‬ ‫املدينة‪ ،‬تقلصت بضعة أمتار‪.‬‬ ‫***‬

‫وعشية الزلزال‪ ،‬متتعت مبشهد رومانيس من مطل منطقة‬ ‫غري بعيدة من وسط املدينة‪ .‬وال شك يف أن مطل بوتييه‬ ‫رائع وغري عادي‪ .‬وهو من الشقة التي نزلت فيها أقرب‬ ‫وأوضح‪ .‬ويومها كان مىض عىل إقامتي يف بور ‪ -‬أو ‪ -‬برنس‬ ‫عامان ونصف العام‪ .‬ولكنني مل أبدأ التعرف إىل "سنرت‬ ‫فيل" (وسط املدينة) إال أخريا ً‪ ،‬أي قبيل الزلزال‪ .‬والوسط‬ ‫ذائع الصيت‪ ،‬ويقال إنه مكان خطر‪ ،‬وفيه ا لـ"رد زون"‬ ‫(املنطقة الحمراء) التي يحظر عىل عامل اإلغاثة قصدها‬ ‫بعد غياب الشمس‪ .‬وهو حرم من املوارد االقتصادية‬ ‫طوال عقود‪ .‬وأفضل الفنادق واملطاعم ونوادي املغرتبني‬ ‫الليلية نزحت إىل رشق املدينة‪ ،‬وانتخبت ضاحية‬ ‫بِتيونفيل مقرا ً لها‪.‬‬ ‫ومع تواتر ترددي عىل وسط املدينة لكتابة التقارير‪،‬‬ ‫أخذين افتتان مل يلبث أن انطوى عىل عاطفة حارة‪.‬‬


‫‪24‬‬

‫بور ‪ -‬أو ‪ -‬برنس‬ ‫تصوير باولو وودز‬


‫بور ‪ -‬أو ‪ -‬برنس عىل فالق الصدع‬

‫بوجا باتيا‬

‫"تاب ‪ -‬تابس" امللونة‪ ،‬واملليئة بلوحات جميلة وجامحة‬ ‫تصور جنباً إىل جنب نجوماً من عامل املوسيقى ورياضيني‬ ‫مشهورين ونساء شبه عاريات شعورهن طويلة ومنسدلة‬ ‫وصور امل ُخلِّص‪.‬‬ ‫***‬

‫وبعد شهرين من هذا وقع الزلزال‪ .‬ويف اثناء ‪ 35‬ثانية‬ ‫دهريّة‪ ،‬قلب املدينة رأساً عىل عقب‪ ،‬وجعلها أشبه‬ ‫بقاطرة يف مدينة املالهي تهوي من منحدر عال‪ ،‬وتتلوى‬ ‫واحتميت‬ ‫منقلبة قبل أن تسقط‪ .‬هي قاطرة الجحيم‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫تحت طاولة الطعام‪ ،‬وحني توقفت زلزلة األرض‪ ،‬فتحت‬ ‫باب املنزل‪ ،‬وتسلقت تالً من الحجار كان قبل لحظات‬ ‫واجم بصمت مل‬ ‫حائطاً ذ ّرره الزلزال‪ .‬كان حارس األمن ً‬ ‫يألفه من قبل‪ ،‬وبدا سليامً غري مصاب‪ .‬أمسكت ذراعه‪،‬‬ ‫ومشينا يف اتجاه فضاء واسع ومفتوح ال تس ّوره األبنية‬ ‫بعيدا ً من اإلسمنت والكتل الصلبة التي قد تسقطها‬ ‫هزة ارتدادية‪ .‬والغبار املنترش وحلول الغسق حجبا‬ ‫قبب القرص الوطني املنهارة‪،‬‬ ‫والجناح املنهار من "آيرينغ‬ ‫َ‬ ‫ماركت" والكاتدرائية الوطنية املتداعية‪ .‬وهذا ما رأيته‬ ‫من الرشفة صباح اليوم التايل‪ .‬وعىل الحال هذه شاهدنا‬ ‫املدينة‪ ،‬سواء من الرشفة أو من كثب‪ ،‬يف األشهر واألعوام‬ ‫الالحقة‪ .‬سمعنا أصوات انفجارات قليلة‪ ،‬رمبا مصدرها‬ ‫محطات الوقود القريبة‪ .‬ويف دقائق قليلة سادها اإلرباك‪،‬‬ ‫ظن ّنا للوهلة األوىل أن بور ‪ -‬أو ‪ -‬برنس تُقصف‪.‬‬ ‫الزلزال رضب وسط املدينة وأصابها يف الصميم‪ .‬ودمر أو‬ ‫مبنى حكومياً وأحال معظم شارع‬ ‫كاد نحو ‪ 28‬أو ‪ً 29‬‬ ‫"غران رو" إىل أنقاض‪ .‬ومحا سلسلة متصلة من املنازل يف‬ ‫شوارع صغرية مثل رو سان نيكوال‪ .‬وهدمت هذه املنازل‪،‬‬ ‫ومحقت‪ ،‬واقتلعت من جذورها وأساساتها‪ .‬وتدلت‬ ‫أجزاء من بعضها وكأنها سن من أسنان حليب متخلخلة‪،‬‬ ‫ربا تبقى معلقة ومتدلية عىل هذا النحو طوال أعوام‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وبني ليلة وضحاها‪ ،‬أصبح "شان دو مارس"‪ ،‬وامللعب‪،‬‬ ‫وغريهام من الساحات العامة‪ ،‬مخيامت ملئات آالف‬ ‫املرشدين‪ .‬وبدا كأن املدينة خلفت وراءها الرتفيه‬ ‫ومرافقه‪.‬‬ ‫ومل يغري الزلزال وجه املدينة املادي فحسب‪ ،‬بل غري‬ ‫وجهها السيايس كذلك‪ .‬ففي األشهر الالحقة‪ ،‬حفل وسط‬ ‫املدينة باملعاين والدالالت‪ .‬ورأى الهايتيون من مختلف‬ ‫التيارات السياسية بعدا ً رمزياً الستهداف الزلزال املباين‬ ‫الحكومية‪ .‬وقال بعضهم إنه جزاء إلهي عىل الجرائم‬ ‫الحكومية والفساد‪ .‬وانتصب القرص املتداعي رم َز دولة‬ ‫غائبة‪ .‬واليوم‪ ،‬يحرس ثوار شان دو مارس عرشات آالف‬

‫‪27‬‬

‫املرشدين‪ .‬ومع تعاظم عدد سكان املخيامت‪ ،‬وبلوغه‬ ‫يل األمور‪،‬‬ ‫نحو مليون ونصف املليون نسمة‪ ،‬اختلطت ع ّ‬ ‫ومل يعد يف مقدوري التمييز بني امليادين والحدائق وبني‬ ‫أوىل الصور التي شاهدتها عن املقربة‪ .‬فالخيم واملالجئ‬ ‫املوقتة أوسع قليالً من األرضحة‪.‬‬ ‫ووسط املدينة أحبط محاواليت تفسري ما حصل‪ ،‬شأن‬ ‫انشغايل الذي يشبه الهوس باملعاين املؤثرة والحادة‪.‬‬ ‫فسكان بور ‪ -‬أو ‪ -‬برنس يالبسون مدينتهم‪ ،‬ويحلونها‬ ‫كام يحلون جلدهم‪ .‬فهي مدينتهم‪ ،‬مهام اختلفت‬ ‫أحوالها‪ ،‬يف الرساء والرضاء‪ ،‬راعت رشوط السالمة الصحية‬ ‫أو كانت قذرة‪ .‬وغداة أيام قليلة عىل الزلزال‪ ،‬متشيت‬ ‫يف شارع غراند رو‪ .‬والدمار يع ّم بور ‪ -‬أو ‪ -‬برنس التي‬ ‫انقلبت إىل ما يشبه ساحة حرب‪ .‬وبدت غراند رو‪ ،‬وكأنها‬ ‫قصفت‪ .‬فآثار النريان الخامدة‪ ،‬وهي نريان ال أعرف‬ ‫مصدرها عىل وجه التأكيد‪ ،‬انترشت بني األنقاض وقضبان‬ ‫الحديد املقوى امللتوية‪ .‬ورأيت كذلك أقداماً وسيقاناً‬ ‫وأيادي ظاهرة تحت كتل االسمنت الصلبة‪ ،‬وبعضها‬ ‫اآلخر مطمورا ً‪.‬‬ ‫ورأيت رجاالً يج ّرون عربات مليئة مبعادن‬ ‫ُ‬ ‫غي الزلزال شكلها‪ .‬ووزعت مجموعة من الهايتيني أقراصاً‬ ‫ّ‬ ‫ضخمة من السمن النبايت انتشلها أحدهم من أنقاض‬ ‫مخبز‪ .‬وخارج سوق الحديد‪ ،‬انرصف مصففو الشعر‬ ‫إىل لصق وصالت شعر لزبائن بقوا أوفياء لقاء خمسة‬ ‫وعرشين دوالرا ً‪ .‬وأمر هؤالء الزبائن غريب‪ .‬ويف الجهة‬ ‫املقابلة من الشارع‪ ،‬جلست أرضاً امرأة مرتهلة غزت‬ ‫التجاعيد وجهها‪ ،‬وبسطت أمامها أهرامات صغرية من‬ ‫الـ‪ ،chadeque‬وهو نوع من الحمضيات العابقة برائحة‬ ‫الزهر‪ ،‬وشكت يل غياب زبائنها املعتادين‪ .‬ويف أعىل‬ ‫الشارع‪ ،‬انرصف نحو ستة إسكافيني إىل تخييط الصنادل‬ ‫بآالت تعمل بالدفع اليدوي والدواسات‪ .‬والحقني‬ ‫بائع هوت دوغ مروجاً بضاعته ومنادياً‪Saucisse! :‬‬ ‫‪( !Sauscisse! Achetetez saucisse‬نقانق! نقانق!‬ ‫اشرتوا نقانق!)‪ .‬ويقال أن أندري بروتون قال عن هايتي‪،‬‬ ‫و"أخريا ً وجدت السوريالية موطناً لها"‪.‬‬ ‫***‬

‫وعىل الرغم من الفوىض والقذارة‪ ،‬كان "سنرت فيل" قلب‬ ‫املدينة ووسطها‪ ،‬وهو املنطقة الوحيدة التي تحمل‬ ‫بصمة تاريخ ٍ‬ ‫وماض‪ ،‬وتخطه شبكة من الطرق املتوازية‬ ‫واملتقاطعة‪ .‬وهو كان سابقاً مقر الحكومة‪ .‬ولذا‪ ،‬وعىل‬ ‫الرغم من توسع املدينة خارج مركزها‪ ،‬انصبت خطط ما‬ ‫بعد الزلزال عىل إعامر الوسط‪ .‬ويف ربيع ‪ ،2010‬وقفت‬ ‫الحكومة حيزا ً من الوسط عىل االستخدام العام‪ ،‬وأجازت‬


‫‪26‬‬

‫البوابة التاسعة‬

‫مرويّات‬

‫"الوعود اصطدمت بالواقع االجتامعي والسيايس‪ .‬والعقبة األوىل كانت بقاء‬ ‫املرشدين يف املدينة‪ .‬فالحياة يف األرياف مل تب ُد أفضل مام هي عليه يف بور –‬ ‫أو – برنس الرابضة فوق فالق أريض أو خط صدع زلزايل‪".‬‬ ‫ويبدأ وسط املدينة يف ساحة شان دو مارس الواسعة‬ ‫والخرضاء‪ .‬وتنتصب متاثيل القادة الثوريني‪ ،‬لوفريتور‬ ‫وديسالني وكريستوف وبيتون‪ ،‬يف وسطها‪ ،‬مح ّدقة يف‬ ‫الطالب املتنزهني واألرس واملراهقني املنرصفني إىل تبادل‬ ‫الغزل‪.‬‬ ‫ويف زوايا امللعب‪ ،‬يعرض البائعون املتجولون الكتب‬ ‫املستعملة عىل زبائن الجامعة الحكومية‪" ،‬ستايت‬ ‫يونيفرستي"‪ ،‬القريبة‪ .‬وترابط سيدات يغطني رؤوسهن‬ ‫عىل الرصيف حامالت سالالً مليئة بأكياس بالستيكية‬ ‫صغرية تغلف الـ"البابن" ‪ ،labapen‬وهو نوع من‬ ‫الكستناء املسلوقة‪ ،‬وكرسات سميكة من الكاجو املجفف‬ ‫ومقشا ً‪ .‬وإىل جنوب‬ ‫كثري التوابل‪ ،‬وبرتقاالً حلو املذاق‬ ‫ّ‬ ‫شان دو مارس‪ ،‬يلوح قرص املرمر املتأللئ يف الشمس‪،‬‬ ‫ويحوطه مرج ملعب الغولف األخرض‪ .‬وتنترش املباين‬ ‫الحكومية يف معظم الزوايا‪ ،‬بيضاء ومرتفعة ومهيبة‬ ‫عىل الرغم من تداعيها‪ .‬ويف هذا املكان يقوم املستشفى‬ ‫الحكومي القذر‪ .‬وهو نادرا ً ما يعمل فيه األطباء‪ ،‬وال‬ ‫تنفك ممرضاته مرضبات عن العمل‪ .‬وعىل الجدار‪ ،‬رسم‬ ‫صديق يل بواسطة رذاذ الدهان "غرافيتي" ملريض يهرب‬ ‫ٌ‬ ‫من نافذة املستشفى‪ .‬وعىل بعد مبنيني‪ ،‬يقع قرص العدل‪.‬‬ ‫وهناك شاهدت ذات يوم زعيامً يسارياً يندد باالضطهاد‬ ‫السيايس‪ ،‬ويدافع عن نفسه‪ .‬ويف نهاية املطاف‪ ،‬قضت‬ ‫عليه اللوكيميا (رسطان الدم)‪ ،‬ومل تكن الدولة من قتله‪.‬‬ ‫وبعيدا ً‪ ،‬إىل الغرب‪ ،‬يقع شارع سان نيكوال‪ .‬وهو كتلة‬ ‫واحدة فيها منازل كثرية متداعية يتآكلها الخراب‪ .‬وبعض‬ ‫هذه املنازل يسكنه طيف فخامة مندثرة‪ .‬وبعض من‬ ‫أبرع مغني الـ"هيب هوب" الهايتيني نشأ يف سان نيكوال‪.‬‬ ‫وتزين الشارع أزقة مزدحمة تخفي يف طياتها أكرث من‬ ‫استوديو تسجيل متطور ومجهز بزجاج عازل للصوت‪،‬‬ ‫ومزود بأجهزة كمبيوتر "ماكينتوش"‪ .‬ويفيض شارع سان‬ ‫نيكوال إىل مقربة يجتمع فيها سنوياً يف ترشين الثاين‬ ‫(نوفمرب) محتفلون يرتدون أثواباً بيضاً يف ذكرى املوىت‬ ‫و"بارون سامدي"‪ ،‬وهو روح الفودو التي تحرس باباً‬ ‫يفصل عاملنا عن العامل اآلخر‪ .‬واملقربة فرنسية الطراز‪،‬‬

‫يطلو أرضحتَها طال ٌء شاحب قد مييل إىل األزرق أو األبيض‬ ‫أو اللون الزهري أو الرمادي‪ .‬وشاهدت صورا ً التقطتها‬ ‫أقامر صناعية للمقربة قبل مجيئي إىل هايتي‪ .‬وتساءلت‬ ‫عن ماهية هذا املكان‪ .‬ومل أعرف يومها أنه مقربة‪ .‬وبدت‬ ‫املنشآت فيه أصغر من املنازل‪ ،‬ولكنها أقرب إىل أن تكون‬ ‫منازل من أن تكون أبنية معدة لغري السكن‪.‬‬ ‫وعىل بعد نصف كيلومرت من املقربة‪ ،‬يقوم ملعب سيلفيو‬ ‫كاتور‪ .‬وهو ميدان ريايض ُج ِّهز باألضواء‪ ،‬وأُعد للمباريات‬ ‫مسه شغف كرة القدم‪ .‬وإىل الغرب‪،‬‬ ‫املسائية يف بلد ّ‬ ‫عىل بعد أحياء قليلة من البحر‪ ،‬تقع جادة جان – جاك‬ ‫ديسالني‪ .‬وقبل أقل من جيل كانت الجادة هذه رشيان‬ ‫املدينة األسايس‪ ،‬املعروف بـ"ال غراند رو" (الشارع الكبري‬ ‫أو العريض)‪ .‬وقبل جيلني‪ ،‬درجت السفن السياحية عىل‬ ‫نقل السياح إىل الخليج‪ .‬وكان هؤالء يقصدون يف نزهاتهم‬ ‫"آيرون ماركت" (سوق الحديد أو السوق الحديدي)‬ ‫الذي يعود إنشاؤه إىل القرن التاسع عرش‪ ،‬وخصص لبيع‬ ‫اللوحات والتذكارات الصغرية‪.‬‬ ‫وغمرتني سعادة اكتشاف آثار تلك الحقبة وبقاياها مثل‬ ‫الفتات متاجر خطت عليها الحروف عىل ما كانت تخط‬ ‫يف الخمسينات‪ ،‬فتحرش يف زاوية الالفتة عوض بسطها‬ ‫يف املنت‪ .‬وبينام أتجنب مزراب املياه وأقفز بعيدا ً من‬ ‫وتخيلت‬ ‫مائه‪ ،‬الحظت بقايا سكة حديد (ترام أو قطار)‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫املتنزهني وهم يخطون خطوات متأنية‪ ،‬ويتنقلون يف‬ ‫أروقة املباين ذات الواجهات الزجاجية العريضة‪ ،‬املبنية‬ ‫بحجار تزدان بالقصص والذكريات‪.‬‬ ‫وفعل "‪( "flaneur‬التطواف) أثري عىل قلوب الهايتيني‪.‬‬ ‫فهم يعشقون التجول بعد الظهر قبيل املساء حني تخف‬ ‫حرارة الشمس الالهبة‪ ،‬ويفرت قيظها‪ .‬ويف أول زيارة يل‬ ‫إىل هايتي يف ‪ ،2009‬مل يكن التجول يف شارع "غراند رو"‬ ‫يسريا ً‪ .‬فالبائعات أو الـ"‪ "commercantes‬غزون األرصفة‬ ‫الواسعة‪ ،‬وأنشأن متاجر تحت يفء املظالت‪ .‬وحالهن‬ ‫ال يُحسدن عليها‪ ،‬وه ّن يعملن بكد مرهق‪ .‬والحق أن‬ ‫الجادة اتسعت لتتكيف معهن‪ .‬واصطفت طوابري باصات‬


‫بور ‪ -‬أو ‪ -‬برنس عىل فالق الصدع‬

‫بوجا باتيا‬

‫‪31‬‬

‫بور ‪ -‬أو ‪ -‬برنس‬ ‫تصوير باولو وودز‬

‫بعد أيام قليلة‪ ،‬زرت بريفيت دوفو‪ .‬وهو الرسام الذي‬ ‫يخطر يف بايل حني أزور بوتييه‪ .‬وهو يعيش عىل أطراف‬ ‫املدينة‪ ،‬ويكره بور ‪ -‬أو ‪ -‬برنس كرهاً شديدا ً‪ .‬لكن شاغله‬ ‫الوحيد هو مشاهد املدينة التي مل يتوقف عن رسمها‬ ‫طوال عقود‪ .‬وشاغله هذا أقرب إىل الهوس‪ .‬وأعامله‬ ‫تحمل بصمة خاصة تُعرف فور إلقاء نظرة عليها‪ .‬فهي‬ ‫مميزة ومتشابهة يف آن‪ .‬واللوحات كلها تظهر مدينة‬ ‫تحتفل ويع ّمها الفرح‪ ،‬وأشكال هندسية يحيط بها‬ ‫املحيط‪ ،‬وتكللها الجبال‪ .‬واملدن يف لوحاته مزدحمة‬ ‫بحشود السياح واملحتفلني من اصحاب األثواب البيضاء‪.‬‬ ‫ودوفو هو رجل بطني (له كرش كبري يف العامية اللبنانية)‬ ‫يف التاسعة والثامنني من العمر‪ .‬لكنه يبدو أصغر‬ ‫بثالثة عقود‪ .‬وبدأ مسريته املهنية بصنع منمنامت‬ ‫مراكب بحرية‪ .‬والرسم مل يكن أكرث من هواية‪ .‬لكن‬ ‫يف الخمسينات‪ ،‬وقع نظر تاجر أعامل فنية نافذ عىل‬ ‫عدد من لوحات زيتية تظهر مدينة من عامل األحالم‪،‬‬ ‫واقرتح عىل دوفو أن ينتخب "املدينة املتخيلة" هذه‬ ‫مدارا ً ملهنته ونواة لها‪ .‬ومذذاك‪ ،‬صار ينتج يف عقد واحد‬ ‫آالف اللوحات الزيتية املتشابهة‪ .‬وال شك يف أن حاديه إىل‬ ‫فني‪ .‬لكن ما يحمله‬ ‫املبالغة يف االنشغال مبوضوع واحد‪ٌ ،‬‬ ‫عىل مثل هذه الغزارة يف االنتاج هو داع اقتصادي‪ :‬فمع‬ ‫رواج لوحات دوفو عن املدينة‪ ،‬صارت (اللوحات هذه)‬ ‫"ماركة" أو عالمة تجارية الطلب عليها كبري‪.‬‬

‫جلسنا أرضاً‪ ،‬وأطلعني دوفو عىل لوحة مل تنجز انجازا ً‬ ‫كامالً بعد‪ .‬ويف وسطها جذع شجرة مانغو عمالقة – مل‬ ‫يكن ل ّون أوراقها بَعد – يعلوها علم هايتي‪ .‬ودرجات‬ ‫تتفرع من فروع الشجرة تظلل الخليج وكأنها جسور‪.‬‬ ‫"ففي املايض‪ ،‬كان يف هايتي مثل هذه الجسور"‪ ،‬قال‬ ‫دوفو‪ .‬والجبال تكلل خلفية اللوحة‪ .‬وأبلغني أنه سريسم‬ ‫املحتفلني يف وقت الحق‪ .‬واألبنية يف اللوحة مستطيلة‬ ‫ملونة وغري متداعية‪ .‬وسألته عن مصدر وحي اللوحة‬ ‫هذه‪.‬‬ ‫فأجاب‪ ":‬هايتي ستصبح قريباً جنة العامل كله"‪ ،‬وكرر ما‬ ‫قاله مرات عديدة‪ .‬سألته‪" :‬لكن ما أدراك بذلك ومن‬ ‫أين لك هذه املعرفة؟" قال‪ ":‬ال أنفك أتخيلها عىل هذه‬ ‫الحال‪ .‬وتراودين (صورها) يف الليل‪ ،‬أثناء نومي‪ .‬هي رؤية‬ ‫أبلغني الرب بها‪ ،‬وأبلغتني بها سيدة لورد‪ .‬وحينها تصبح‬ ‫هايتي جنة تنتفي منها الخطيئة‪ .‬وكل يشء فيها يكرس‬ ‫لله"‪" .‬هل رأيت هذه األشياء يف املنام؟"‪ ،‬سألته‪" .‬نعم‪،‬‬ ‫هو حلم‪ ،‬حلم جميل‪ .‬لكنه رؤية كذلك‪ ،‬قال وهو يضع‬ ‫يده عىل رأسه‪ .‬وابتسم ابتسامة عريضة‪ ،‬ابتسامة طيب‬ ‫الح فيها طيف الوهم والخيال‪ ،‬وقال‪ " :‬أؤمن برؤيتي"‪.‬‬ ‫ترجمة منال ن ّحاس‬ ‫"‪"Port-Au-Prince Astride the Fault Line‬‬ ‫‪Portal 9 page 21‬‬


‫‪30‬‬

‫البوابة التاسعة‬

‫مرويّات‬

‫بدت ساحة سان بيار يف حال أسوأ قليالً من حالها قبل‬ ‫عامني‪ :‬العشب كان متناثرا ً ومتقطعاً كأنه ثوب مرقط‪،‬‬ ‫وحجم النفايات بدا أكرب مام أذكر‪ .‬اشرتيت خبزي الهايتي‬ ‫املفضل‪ .‬وهو حلو املذاق‪ ،‬فيه موز الذع الطعم وبيض‬ ‫مسلوق مبلل مبرقة (صلصة) ساخنة‪ .‬وعىل الرغم من‬ ‫خويف من عدوى الكولريا‪ ،‬دللت نفيس ورشبت كوباً صغريا ً‬ ‫من الشوكوال الساخن العابق بعطر القرفة‪ .‬وجلست عىل‬ ‫مقعد ليتسنى يل تناوله‪ ،‬ودردشت مع البائع أثناء سكبه‬ ‫"الخلطة" حلوة املذاق يف أكواب الزبائن‪ .‬وأشار البائع‬ ‫إىل نافورتني جديدتني عىل مستويات متدرجة ومرصعتني‬ ‫بفسيفساء من بالط أزرق عىل جانبي امليدان‪ .‬واملياه مل‬ ‫تتدفق بعد يف النافورتني‪" .‬هذا أمر عجيب‪ ،‬نافورة يف بلد‬ ‫ال مياه نقية فيه"‪ ،‬قال البائع‪.‬‬ ‫ومقر "رشاد" عىل بعد مبان قليلة‪ .‬واملبنى الرحب كان‬ ‫مليئاً بقطع من األثاث مثل كر ٍاس بيضاوية الشكل مزينة‬ ‫بصور ملساء ملجسامت مشاريع مكربة (مشاريع "رشاد")‬ ‫البلدية‪ :‬مراكب راسية يف الخليج‪ ،‬ومرفأ سياحي لسفن‬ ‫أو قوارب األحالم‪ ،‬وجادات عريضة وسيارات المعة‬ ‫براقة‪ ،‬و"جزر" صغرية مزروعة بالعشب تفصل خطوط‬ ‫السيارات‪ ،‬وسكة ترامٍ بطيء السري‪ .‬ويف صور املجسامت‬ ‫هذه‪ ،‬استبدلت باصات هايتي ذائعة الصيت‪ ،‬الـ"تاب‬ ‫– تابس"‪ ،‬بباصات عادية حديثة الطرز وسوداء اللون‪.‬‬ ‫وأعلنت املنظمة خطتها يف آب (اغسطس) املايض‪ ،‬يف‬ ‫الفندق نفسه‪" ،‬كاريبي"‪ .‬وقدرت كلفة تنفيذها بـ‪3.3‬‬ ‫باليني دوالر‪.‬‬ ‫دخل مدير املرشوع‪ ،‬جان لوسيان ليغوندي‪ ،‬مستعجالً‬ ‫معتذرا ً عن تأخره ساعة "بسبب حركة السري املتجهة‬ ‫نزوالً من الجبل"‪ ،‬عىل قوله‪ .‬ودخلنا إىل مكتبه‪ ،‬وهو‬ ‫يبقي حرارته منخفضة وباردة بردا ً بعث ّيف القشعريرة‬ ‫خالل املقابلة‪ .‬انتزع سرتته‪ ،‬وعلقها عىل مشجب خشبي‬ ‫فخم‪ .‬وبدا أن لوسيان يألف تكييف الهواء القارص‬ ‫والعنيف‪.‬‬ ‫سألته أن يخربين عن مخطط "رشاد" بور ‪ -‬أو ‪ -‬برنس‪.‬‬ ‫فرشع مبقدمة وجدتها غريبة يومها‪.‬‬ ‫"ال أستسيغ ذكر هذا األمر"‪ ،‬قال لوسيان‪" ،‬لكني أحمل‬ ‫‪ 5‬شهادات‪ 5 .‬شهادات جامعية‪ .‬وال أحبذ الكالم يف‬ ‫املوضوع ألن مثة ميالً إىل القول أين أحب االستعراض"‪.‬‬ ‫فسألته عن موضوع اختصاصات الشهادات هذه‪ .‬فقال‪:‬‬ ‫أحمل شهادة يف الهندسة‪ ،‬وأخرى يف الالهوت‪ ،‬وشهادة‬ ‫ثالثة يف الخدمات املرصفية واملالية‪ ،‬ورابعة يف االقتصاد‬ ‫املايل‪ ،‬وخامسة يف السياسات العامة‪ .‬أنا حائز عىل خمس‬

‫(شهادات)"‪" .‬أهي شهادات ماجستري؟" سألته‪.‬‬ ‫"نلت شهاديت ماجستري"‪ ،‬أجاب‪" .‬لكن لب املسألة ليس‬ ‫حيازيت هذه الشهادات‪ .‬ويوم بدأت املرشوع أردت أن‬ ‫أثبت لهم أن الرشكات الهايتية املحرتفة تخولها خرباتها‬ ‫وقدراتها التنافسية املشاركة يف تطوير املدينة وتنميتها‪.‬‬ ‫ويف الوقت نفسه‪ ،‬يفهم الهايتيون حقيقة مدينتهم‬ ‫وثقافتهم أكرث من أي كان‪ ،‬وهم أدرى بها"‪ ،‬أردف قائالً‪.‬‬ ‫واملقابلة استمرت عىل املنوال هذا طوال أكرث من ساعة‪.‬‬ ‫وأسئلتي عن ماهية مخطط "رشاد" اصطدمت بإرصاره‬ ‫عىل توكيده (ليغوندي) مرشوعية "رشاد"‪ .‬وهو يرى أن‬ ‫الرشكة تستمد مرشوعيتها من هويتها الوطنية املحلية‬ ‫واستقاللها عن املجتمع الدويل‪ .‬فـ"األمم املتحدة تأيت إىل‬ ‫هايتي وترسق األموال – يأتون للرسقة ويرسقون دوماً‪.‬‬ ‫والسبيل األنسب والوحيد إلعادة اإلعامر هو تصدي‬ ‫أشخاص مثلنا للمهمة والقول بصوت عال‪ :‬حسناً لنقرتح‬ ‫أمورا ً جيدة‪ .‬وحني بادرنا إىل االقرتاح‪ ،‬استساغ املحافظ‬ ‫اقرتاحنا‪ ،‬وفوضنا إنجازه‪ .‬وهكذا خلعنا األمري تشارلز‬ ‫وأبعدناه عن املرشوع"‪.‬‬ ‫وحني استعدتُ تفاصيل املقابلة ورويتها عند الغداء يف‬ ‫وقت الحق من ذلك اليوم‪ ،‬فكرت يف أن ماهية مخطط‬ ‫"رشاد"‪ ،‬أو أي مخطط‪ ،‬غري مهمة يف ميزان الرشكة هذه‪.‬‬ ‫فإعداد املشاريع من غري تنفيذها يدر مقدارا ً كافياً من‬ ‫الربح‪ ،‬ويقترص عىل عقد عدد ال متناه من املنتديات‬ ‫واملؤمترات ودعوات الغداء الجاهز وإعداد املطبوعات‬ ‫اللامعة‪ ،‬وتقايض املخططني الرواتب وبدل العمل اليومي‪،‬‬ ‫والوعود بإبرام عقود لن تنفذ‪ ،‬وتوزيع العموالت "للسيد‬ ‫عرشة يف املئة" و"السيد خمسة عرش يف املئة"‪" .‬هي‬ ‫مهزلة"‪ ،‬قالت رفيقتي‪ُ ،‬مخطّطة عمران مديني فرنسية‬ ‫تعمل يف بور ‪ -‬أو ‪ -‬برنس منذ أربع سنوات‪ .‬وإذا أقرت‬ ‫مشاريع يف "سنرت فيل"‪ ،‬يجد االعرتاض عليها طريقه إىل‬ ‫املحاكم‪ ،‬عىل قولها‪ .‬فالتخطيط املديني يفرتض حيازة‬ ‫مرشوعية قانونية‪ .‬ويف غياب مثل هذا الضامن‪ ،‬وهي‬ ‫الحال يف الدول املتعرثة‪ ،‬يصري التخطيط املديني رهن‬ ‫سلطة أمر واقع تكتسب من طريق االستثامر طويل‬ ‫األمد يف املجتمعات املحلية‪.‬‬ ‫صديقتي مخططة العمران املديني وصفت ما يحصل‬ ‫باملهزلة‪ .‬أما أنا فأستسيغ الوصف بـ"عربدة األحالم"‪.‬‬ ‫والهايتيون يتوسلون عبارات أدق‪ .‬وأؤثر عبارة هايتية‬ ‫أكرث من غريها وهي "‪ ،"w ap pale, m ap travay‬أي‬ ‫"أنت (تكتفي بالكالم) تتكلم‪ ،‬وأنا أعمل"‪.‬‬ ‫***‬


‫البوابة التاسعة‬

‫مرويّات‬

‫تخ ّيل الدولة الفلسطين ّية يف عامئرها‬ ‫مالمح أ ّمة متخ ّيلة يف طور التك ّون‪.‬‬

‫مالو هلسا‬

‫كل السيناريوات املعتادة املتعلّقة‬ ‫عىل عكس ما توحي به ّ‬ ‫ببيوت الضفّة الغرب ّية وأراضيها الواقعة فريسة الجرافات‬ ‫املخصصة للمستوطنات‪،‬‬ ‫اإلرسائيليّة والطرق الرسيعة‬ ‫ّ‬ ‫فإ ّن خرب تكريس عضويّة فلسطني يف منظّمة اليونيسكو‬ ‫قبل أشهر مثّل إشارة تح ّو ٍل قد تتخطّى يف وقعها‬ ‫سياسات االحتالل الظاهرة‪ .‬رمبا يسهل االعتقاد من‬ ‫الخارج أن الرصاع الذي كان متمحورا ً حول األرض‬ ‫متحورا ً كلّياً‪ ،‬قد رسا اليوم يف كنف مشهد عامرة مأزومة‪:‬‬ ‫الرتاث يف الجانب‬ ‫الفلسطيني يف مواجهة املستعمرات يف‬ ‫ّ‬ ‫يل‪ .‬غري أن السيناريو املتب ّدي بالفعل عىل‬ ‫الجانب اإلرسائي ّ‬ ‫أرض الواقع يظهر أكرث تعقيدا ً من هذا‪ .‬فبدالً من حرص‬ ‫الرتكيز يف العالقة العدوانيّة القامئة بني فلسطني والدولة‬ ‫العربيّة‪ ،‬فإ ّن فلسطني الجديدة النابضة عىل إيقاع‬ ‫أي‬ ‫تط ّورات اقتصاديّة وسياس ّية عديدة‪ ،‬تبدو‪ ،‬أكرث من ّ‬ ‫وقت مىض‪ ،‬متّجهة إىل داخلها‪ ،‬تزام ًنا مع اتجاهها نحو‬ ‫العامل العر ّيب األوسع وما يتخطّاه أيضاً‪ .‬ففي الوقت الذي‬ ‫الرسمي‬ ‫يزداد فيه ويتن ّوع‪ ،‬أكرث فأكرث‪ ،‬التعاطي الدو ّيل‬ ‫ّ‬ ‫مع هذه األرايض‪ ،‬فإ ّن القديم والجديد من العامرة ومن‬ ‫املديني لرام الله‪ ،‬كام مشاريع بناء اآلالف‬ ‫مظاهر التم ّدد‬ ‫ّ‬ ‫امليسة يف الضفّة الغربيّة‪ ،‬تحمل يف‬ ‫من وحدات املنازل ّ‬ ‫ط ّياتها مالمح أ ّمة متخ ّيلة يف طور التك ّون‪.‬‬ ‫بانوبتيكون‬ ‫الطريق التي تقود من الساحة الرئيسة يف رام الله‬ ‫إىل "املقاطعة"‪ ،‬مج ّمع املباين الذي يض ّم اليوم مكاتب‬ ‫السلطة الوطن ّية الفلسطين ّية ومراكز إدارتها‪ُ ،‬جعلت‬ ‫طريقًا عريضة واسعة ليسهل عىل دبابات االنتداب‬ ‫كل مت ّرد‬ ‫الربيطاين وعرباته املد ّرعة عبورها بغية قمع ّ‬ ‫أو اقتتال أهيل فور وقوعه‪ .‬و"للمقاطعة" هذه‪ ،‬تاريخ‬ ‫طويل يكتنفه القلق‪ .‬كانت سج ًنا بُني يف العام ‪،1936‬‬ ‫وظل يستخدم لفرتة طويلة بعد انسحاب سلطات‬ ‫ّ‬ ‫االنتداب الربيطا ّين‪ ،‬حيث انتقلت إىل إدارة األردنيني بعد‬

‫العام ‪ ،1948‬ثم ورثها اإلرسائيليون يف العام ‪ 1967‬قبل‬ ‫جسدت‬ ‫أن يتسلّمها الفلسطين ّيون يف العام ‪ .1993‬وقد ّ‬ ‫"املقاطعة" من خالل عامرتها عىل مدى تاريخها "تف ّوق‬ ‫السلطات االستعامريّة وسطوتها"‪ ،‬عىل ما يرى املعامري‬ ‫الفلسطيني يزيد عناين‪ .‬ويستعيد عناين من ذاكرة طفولته‬ ‫ذلك املنشأ ذي اللون الرتايب املرمد بنوافذه الصغرية‬ ‫يل‬ ‫املشقوقة‪ ،‬والذي كان مق ّرا ً رئيساً للجيش اإلرسائي ّ‬ ‫وإلدارته املدنيّة‪ ،‬ومق ّرا ً الحتجاز املوقوفني وتعذيبهم‪،‬‬ ‫عىل ما كان يُحىك‪" .‬لقد كان عىل الدوام مكاناً صادماً‬ ‫تنقل عامرته رسائل األمل واملعاناة‪ .‬إنّه بالفعل مكانًا‬ ‫مرعباً"‪ ،‬يقول الرجل‪.‬‬ ‫يل‬ ‫ُد ّمر السجن يف العام ‪ 2002‬خالل الحصار اإلرسائي ّ‬ ‫املط ّول ملج ّمع قيادة يارس عرفات‪ ،‬ضمن عملية للجيش‬ ‫اإلرسائييل أطلق عليها اسم "الدرع الواقي"‪ .‬رضيح ما‬ ‫بعد حدا ّيث ومتحف أقيام تخلي ًدا لذكرى أ ّول رئيس‬ ‫أمني تحيط‬ ‫لفلسطني‪ ،‬يشكالن اليوم جزءا ً من مج ّمع ّ‬ ‫به الجدران السميكة ويرزح تحت حراسة مش ّددة‪.‬‬ ‫هذا ويض ّم املج ّمع مب ًنى براقاً ميثّل مقر قيادة السلطة‬ ‫الفلسطينيّة‪.‬‬ ‫يزيد عناين‪ ،‬الرئيس الحايل للدائرة األكادمييّة يف األكادمييّة‬ ‫الدول ّية للفنون يف فلسطني‪ ،‬يقول شار ًحا يف مكاملة عرب‬ ‫الهاتف من مكتبه يف كلّية العامرة بجامعة بري زيت‪،‬‬ ‫إن "هذا الذي يحصل اليوم يف فلسطني ميثّل أشكاالً‬ ‫جديدة‪ ،‬وقد حلّت مكان مامرسات قدمية‪ .‬أبراج املراقبة‪،‬‬ ‫والجدران‪ ،‬والبوابات‪ ،‬ومظاهر الحراسة والتحصني‪ ،‬تشري‬ ‫كلّها إىل قيام السلطة الفلسطين ّية بتب ّني السياسات‬ ‫(سياسات إرسائيل) ذاتها بغية التحكّم بالناس‪.‬‬ ‫إذ إن مراجعة تواريخ الجيوش واالحتالل‪ ،‬تحديدا ً‬ ‫البانوبتيكون‪ ،1‬تقود إىل اكتشاف وسائل احتالل مختلفة‬ ‫من دون تك ّبد الخسائر وتبديد املصادر‪ .‬األمر ينطبق‬ ‫متا ًما عىل مبنى "املقاطعة" هذا الذي كان سج ًنا‪ .‬فهو‬ ‫يعب عن‬ ‫اليوم يتّخذ ً‬ ‫شكل "نظيفًا ومحبّبًا"‪ ،‬لك ّنه ما زال ّ‬

‫‪33‬‬


‫‪32‬‬

‫املخطّط العام ملرشوع "الروايب"‪ ،‬أ ّول مدينة فلسطين ّية ُمخطّطة ت ُبنى يف الضّ فة آلغرب ّية‪.‬‬ ‫حقوق الصورة لرشكة بيتي لالستثامر العقاري‬


‫تخ ّيل الدولة الفلسطين ّية يف عامئرها‬

‫مالو هلسا‬

‫الذي رأى يف مقابلة أخرية مع صحيفة هآرتس أ ّن عىل‬ ‫السلطة الفلسطينيّة "إخراج جامعتها من سيّارات األودي‬ ‫واملرسيدس الفخمة ومن الفقاعة التي يحيون بها يف رام‬ ‫الله حيث يتن ّعم الجميع برغد العيش وتنعدم البطالة"‪.2‬‬ ‫رغم هذا الربيق الظاهر‪ ،‬فإن الواقع السيايس العام‬ ‫معبا عام يبتكره األشخاص‪ ،‬عىل ما‬ ‫يقرتب أكرث ليكون ّ ً‬ ‫يكشف أحد معامريي الضفّة الغرب ّية الذي طلب عدم‬ ‫اإلفصاح عن هويّته‪" :‬طاملا أظهرت إرسائيل حذاقتها يف‬ ‫املديني كوسيلة متارس سيطرتها من‬ ‫استخدام التخطيط‬ ‫ّ‬ ‫خاللها‪ .‬عندما نأيت عىل ذكر املستوطنات‪ ،‬فإننا نعتربها‬ ‫مج ّرد قطع ليغو تفكّك بني ليلة وضحاها‪ .‬لك ّن هذه‬ ‫املستعمرات يف الواقع هي مدن خلقت يف أذهاننا‬ ‫وعياً يفيد باستحالة إزالتها‪ .‬هنا تكمن املشكلة مع‬ ‫التخطيط‬ ‫يل ومع اتفاقيّة أوسلو‪ .‬فهام‬ ‫املديني اإلرسائي ّ‬ ‫ّ‬ ‫حقيقي‬ ‫جدار‬ ‫يحارصك‬ ‫عندما‬ ‫الناس‪.‬‬ ‫تفكري‬ ‫من‬ ‫يح ّدان‬ ‫ّ‬ ‫وتحيط بك نقاط تفتيش حقيق ّية‪ ،‬فاألمر ال يعيق حركتك‬ ‫وحسب‪ ،‬بل أيضً ا مخ ّيلتك التي تحتاج إليها خالل‬ ‫إعدادك املخططات"‪.‬‬ ‫"رواق"‬ ‫ال ينبغي التقليل من أه ّم ّية عضوية فلسطني يف منظّمة‬ ‫اليونيسكو‪ .3‬صحيح أن هذا االعرتاف يبدو للوهلة األوىل‬ ‫بديل ال يرقى إىل مستوى الهدف األكرب املتمثّل بتطوير‬ ‫ً‬ ‫موقع فلسطني يف األمم املتّحدة من مج ّرد عضو مراقب‬ ‫إىل دولة‪ .‬لك ّن عضويّة اليونيسكو تساهم يف وضع‬ ‫فلسطني رسم ّياً عىل خارطة العامل الثقاف ّية‪ .‬كام ميكن‬ ‫الزعم أ ّن العضويّة يف هذه املنظّمة تساهم يف تدعيم‬ ‫موقف الفلسطينيني يف مه ّمة الحفاظ عىل إرثهم الثقايف‪،‬‬ ‫وهي قد متنحهم أيضً ا نفوذا ً سياس ّياً أكرب يف مسرية بناء‬ ‫دولتهم املقبلة‪.‬‬ ‫النقاش يف الرتاث املعامري ومه ّمة املحافظة عليه يف‬ ‫ينصب مبجمله عىل األمور التقن ّية‬ ‫الدول الغرب ّية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫املتعلّقة بوسائل املحافظة تلك‪ .‬أ ّما يف البلدان التي مت ّزقها‬ ‫الحروب‪ ،‬فإن قضايا العنف الطائفي والنهب والفساد‬ ‫تدخل عىل نحو جذري يف صلب هذا النقاش‪ .‬ث ّم إن‬ ‫الحال يف األرايض املحتلّة اقرتن بحملة إرسائيل ّية غاشمة‬ ‫هدفت إىل طمس حضور الشعب الفلسطيني‪ ،‬ليس‬ ‫فقط يف أرضه‪ ،‬بل أيضاً عىل مرسح العالقات الدول ّية‪.‬‬ ‫الرتاث يف هذا السياق بوسعه أن مينح الفلسطينيني فرصة‬ ‫استكشاف وجودهم اإلنساين مبجمل أوجهه – املرتبطة‬

‫تبي فرادتهم‪.‬‬ ‫بالثقافة والهويّة – التي ّ‬ ‫"مسلّمة االحتالل األوىل هي شعار أرض بال شعب‬ ‫لشعب بال أرض"‪ ،‬تقول فدا توما‪ ،‬إحدى املرشفات عىل‬ ‫مركز "رواق" للحفاظ عىل العامرة يف مدينة البرية‪ .‬قضايا‬ ‫الرتاث يف الضفّة الغرب ّية شكّلت وسيلة ناجحة للوقوف‬ ‫يف وجه الظاهرة غري الرشعيّة املتمثّلة مبصادرة األرايض‪.‬‬ ‫يف العام ‪ّ 1995‬أسس مرسوم رئايس صادر من يارس‬ ‫عرفات وحد ًة إلعادة إحياء الرتاث يف الخليل ولدعم‬ ‫العائالت الفلسطين ّية التي تتع ّرض منازلها للمصادرة من‬ ‫قبل املستوطنني اليهود‪ .‬هذا وبعد الهجوم العسكري‬ ‫اإلرسائييل عىل كنيسة املهد خالل االنتفاضة الثانية‪،4‬‬ ‫ث ّم مج ّددا ً وعىل أثر عمل ّية "الدرع الواقي" العام ‪،2002‬‬ ‫بارشت هيئة الرتاث العاملي يف منظّمة اليونيسكو بإقامة‬ ‫ورش عمل والتعاون مع مستشارين محليني ودوليني‬ ‫بهدف تحديد ستني موق ًعا تراث ًّيا فلسطين ًّيا ينبغي‬ ‫املحافظة عليها‪ .‬وقد تص ّدرت كنيسة املهد يف املدينة‬ ‫القدمية ببيت لحم القامئة النهائ ّية ملواقع الرتاث الثقايف‬ ‫والطبيعي يف فلسطني املتض ّمنة قيامً عامليّة كبرية‪ ،‬والتي‬ ‫سيلحظ ترشيحها لتكون ضمن مواقع الرتاث العاملي التي‬ ‫تختارها اليونيسكو‪.‬‬ ‫يقع املكتب الذي تعمل فيه توما يف بيت من الحجر‬ ‫الصخري‬ ‫مبني العام ‪ ،1932‬له مطلع درج خارجي‬ ‫ّ‬ ‫يقود إىل رواق يُع ّد من العنارص املعامريّة الشائعة‬ ‫والتقليدية يف دور السكن الفلسطين ّية يف حقبة ما قبل‬ ‫الحرب العامل ّية األوىل‪ .‬ورشحت توما‪ ،‬يف حديث عرب‬ ‫السكايب‪ ،‬بأن املباين املوجودة يف األرايض الفلسطينيّة‬ ‫املحتلّة والتي يشملها قانون الحامية يف الترشيع العائد‬ ‫إىل مرحلة االنتداب الربيطاين‪ ،‬امل ُعترب أساس القانون‬ ‫الفلسطيني الراهن‪ ،‬هي فقط املباين املنشأة قبل العام‬ ‫‪ .1700‬ما يعني‪ ،‬حسب توما‪ ،‬أن "بيوتاً تاريخيّة ومساكن‬ ‫ريفيّة وعامئر محلّيّة يف القرى‪ ،‬والتي هي مبعظمها‬ ‫مبانٍ عثامن ّية قامئة عىل أساسات رومان ّية" كلّها غري‬ ‫مشمولة بالحامية‪.‬‬ ‫بني العامني ‪ 1994‬و‪ 2007‬وضعت "رواق" الئحة تُعرف‬ ‫بـ"السجل الوطني للمباين التاريخيّة"‪ ،‬ت ُح ّدد فيها ‪50320‬‬ ‫موقعاً يف ‪ 422‬ح ّياً يف ‪ 16‬مدينة فلسطين ّية بينها القدس‬ ‫الرشق ّية‪ ،‬إضافة إىل ‪ 406‬قرى يف أنحاء الضفّة الغرب ّية‬ ‫وقطاع غ ّزة‪ .‬وحسب التقديرات فإنّه لو ت ّم إنقاذ خمسني‬ ‫قرية من خطر االندثار العمرا ّين‪ ،‬فإن النتيجة ستكون‬ ‫تاريخي‪.‬‬ ‫إنقاذ ما يفوق الخمسة وعرشين ألف مب ًنى‬ ‫ّ‬ ‫عىل أ ّن الزمن مل يكن م ّرة حليفاً لقض ّية حامية املباين‪.‬‬

‫‪35‬‬


‫‪34‬‬

‫البوابة التاسعة‬

‫مرويّات‬

‫سياسات القمع ذاتها التي كان ميثّلها يف املايض"‪.‬‬ ‫وما يزيد من حنق عناين‪ ،‬املهندس املعامري الذي يعترب‬ ‫نفسه "ناشطاً ثقاف ّياً" أيضً ا‪ ،‬هي تلك التبادالت التي‬ ‫جرت بني فلسطني املستج ّدة وبني غرميتها القدمية‬ ‫إرسائيل‪ .‬حيث غدت‪ ،‬حسب ما يقول‪ ،‬مناذج مصغّرة‬ ‫ألشياء يستخدمها الجيش اإلرسائييل‪ ،‬كأبراج املراقبة‬ ‫وجدران الفصل‪ ،‬مبثابة عنارص مك ّملة ضمن جهاز األمن‬ ‫الداخيل واملراقبة املعتمد من قبل السلطة الفلسيطين ّية‬ ‫يف األرايض التي ترشف عليها‪" .‬عندما متلك وسائل‬ ‫يتجسد‪ ،‬حسب‬ ‫القمع فإنّك تسعى الستخدامها"‪ ،‬وهذا ّ‬ ‫ما يالحظ عناين‪ ،‬يف شوارع رام الله‪" .‬فنحن ال منيش يف‬ ‫الشوارع كام ك ّنا نفعل قبل مجيء السلطة الفلسطين ّية"‪.‬‬ ‫املثال عىل هذا "فإن أبا مازن يعيش يف منزله الذي يع ّد‬ ‫حصناً كبريا ً تحيط به الدشم‪ .‬وعندما يخرج يُفرض نوع‬ ‫من حظر التجوال ويت ّم ضبط الشوارع وحركة املواصالت‪،‬‬ ‫فال يُسمح ألحد بالحركة وتتوقف السيارات‪ .‬ومن منزله‬ ‫مقره الرئايس‪،‬‬ ‫يعرب ُ‬ ‫رئيس السلطة الشوار َع الخالية نحو ّ‬ ‫الذي هو أيضاً مج ّمع مقفل يخضع للحراسة املش ّددة‪.‬‬ ‫يعب عن انقطاع الصالت بني الشعب وحكّامه‬ ‫إنّه مشهد ّ‬ ‫وطرائق عيشه يف املدينة الحقيق ّية"‪.‬‬ ‫قوى فاعلة أخرى غري السلطة الفلسطين ّية ساهمت أيضاً‬ ‫يف إظهار الشكل املا ّدي لفلسطني وبلورته‪ .‬فخالل الحقبة‬ ‫الذهبيّة التفاق أوسلو‪ ،‬بني العامني ‪ 1995‬و‪،1998‬‬ ‫شهدت رام الله موجة بناء فاقت ما شهدته عىل مدى‬ ‫تاريخها‪ ،‬وقد حفّزتها استثامرات فلسطين ّية جلّها من‬ ‫األرياف حول رام الله‪ ،‬كام دفعتها قدماً أموال فلسطينيّي‬ ‫الشتات املح ّولة إىل عائالتهم‪ .‬وقد متّت يف سياق هذه‬ ‫املوجة العمرانية التضحية ببيوت املدينة العريقة‬ ‫الكبرية العائدة ألعوام العرشينات والثالثينات من القرن‬ ‫العرشين‪ ،‬كام أزيلت صاالت السينام التاريخيّة تحت‬ ‫التوسع‬ ‫املديني‪ .‬موجة ثانية من البناء سادت رام‬ ‫ضغط ّ‬ ‫ّ‬ ‫الله مع قيام العائدين إليها من الخارج بتطبيق أفكارهم‬ ‫يف التمدين وافتتاح املطاعم الجديدة واملقاهي ومشاريع‬ ‫البزنس‪ .‬ثم يف العام ‪ ،2003‬قادت الرشاكة املعقودة بني‬ ‫السلطة ومجموعة من املستثمرين الفلسطينيني‪ ،‬أو‬ ‫ما عرف بـ"صندوق االستثامر الفلسطيني"‪ ،‬إىل متهيد‬ ‫الطريق أمام املستثمرين األجانب‪ ،‬من الخليج العريب‬ ‫خاصة عىل‬ ‫بالدرجة األوىل‪ ،‬إلقامة مشاريع استثامرية ّ‬ ‫أمالك عا ّمة‪ .‬وعناين يف هذا السياق ال يستطيع إالّ أن‬ ‫يبدي قلقه تجاه "املوقع املتناقض للسلطة الفلسطين ّية‬ ‫يف تب ّني هذه السياسات النيوليربال ّية كوسيلة تثبت فيها‬

‫للعامل بأننا بتنا جاهزين من الناحية األمنية‪ ،‬أل ّن معظم‬ ‫األموال املق ّررة يف امليزانيّة تذهب للمخابرات والرشطة‪.‬‬ ‫رسب من رام الله قصص تثري السخرية حول املزيد‬ ‫وتت ّ‬ ‫من املامرسات املخابرات ّية وعمليات استجواب الناس من‬ ‫رسيّة‪ .‬إن ّنا يف الحقيقة نسلك الطريق ذاتها‬ ‫قبل الرشطة ال ّ‬ ‫التي سلكتها باقي الدول العربيّة"‪.‬‬ ‫رغم مخاوف عناين هذه‪ ،‬يبدي كثريون‪ ،‬يف املقابل‪،‬‬ ‫ارتياحهم لحركة البناء وسيولة نقل األموال النقديّة‪،‬‬ ‫ويعتربونها دليالً عىل اقتصاد أقوى وأكرث ثقة عىل الرغم‬ ‫املحل يف األرايض‬ ‫من الرتاجع الحاد يف مع ّدل منو الناتج ّ‬ ‫املحتلّة من ‪ 9‬يف املئة العام ‪ 2010‬إىل ‪ 5.3‬يف املئة العام‬ ‫املنرصم‪ .‬فغ ّزة التي شهدت تعاف ًيا بطيئًا نتيجة تخفيف‬ ‫يل عليها وتزايد فرص العمل يف السوق‬ ‫الحصار اإلرسائي ّ‬ ‫الزراعي‪ ،‬ترزح تحت مع ّدل بطالة مرتفع يف هذا القطاع‬ ‫األخري ما زال يس ّجل نسبة ‪ 40‬يف املئة‪ ،‬مقابل ‪ 16.5‬يف‬ ‫املئة يف الضفّة الغرب ّية‪ .‬قطاعات اقتصاديّة أخرى مثل‬ ‫تكنولوجيا املعلومات وبرمجة الكومبيوتر شهدت ازدهارا ً‬ ‫الفتاً‪ ،‬كون العمل فيها ال يتطلّب أكرث من جهاز كومبيوتر‬ ‫ونظر سليم يُعتمد عليه‪ .‬فمهندسو تكنولوجيا املعلومات‬ ‫بوسعهم العمل ساعات طويلة من دون أن يقطع عملهم‬ ‫غري بعض كؤوس البرية‪ ،‬حيث هم‪ ،‬يف املقاهي واألندية‬ ‫التي تخدم سكّان رام الله الكوزموبوليتيني‪ .‬والحق يقال‬ ‫فإ ّن العائدين إىل رام الله من الفلسطينيني والعاملني يف‬ ‫املنظامت غري الحكوم ّية قاموا بتحويل تلك البلدة التي‬ ‫كانت هامدة إىل "بريوت" الضفّة الغرب ّية‪.‬‬ ‫إلّ أن االقتصاد الفلسطيني ما زال معتمدا ً عىل‬ ‫تقدميات الغرباء – التي متثّلها املساعدات – وعىل‬ ‫إرسائيل امل ُتحكّمة باملياه والكهرباء الواصلة إىل األرايض‬ ‫الفلسطين ّية‪ ،‬حيث تقوم السلطات اإلرسائيل ّية عىل نحو‬ ‫دوري‪ ،‬ووفق جرعات مدروسة‪ ،‬بحقن عائدات الرضائب‬ ‫الفلسطينيّة التي تشكّل حاجة مل ّحة لالقتصاد يف جسد‬ ‫السلطة الفلسطين ّية‪ .‬حال التحكّم الضمني من هنا‪ ،‬أو‬ ‫أي ح ّي ٍز‬ ‫غياب التحكّمٍ من هناك‪ ،‬ال ترتك للدولة املوعودة ّ‬ ‫ولو صغري للنمو سوى االتجاه صعودا ً نحو السامء‪ ،‬عىل‬ ‫ما يشهد أفق رام الله‪ .‬مراكز التس ّوق الجديدة (املوالت)‬ ‫وما يطرأ من مشاريع األبنية السكن ّية‪ ،‬كام املشهد‬ ‫الصادم للبنايات الجديدة املرتفعة‪ ،‬تعطي فكرة وصورة‬ ‫املخصصة للتس ّوق‬ ‫واضحة عن الفضاءات املتزايدة‬ ‫ّ‬ ‫يف اقتصاد استهالك يشهد ازدهارا ً‪ .‬لقد غدت رام الله‬ ‫ذهبي ونيوليربايل"‪ ،‬عىل‬ ‫بفعل هذه الحركة أشبه "بغيتو‬ ‫ّ‬ ‫ما يصف املؤ ّرخ واألكادميي الفلسطيني رشيد الخالدي‬


‫البوابة التاسعة‬

‫كت ّيب‬

‫قبل هدم السور‪ ،‬املادي والعمراين واملعنوي االجتامعي‪،‬‬ ‫كانت البوابات رقيباً عىل حارات املدينة وطرقها وأسواقها‪،‬‬ ‫وعىل ليلها ونهارها‪ ،‬وعالقات داخلها بخارجها‪ ،‬أهالً وسلعاً‪.‬‬

‫‪41‬‬


40


‫خُطط‬

‫البوابة التاسعة‬

‫ﺑﻜني‬

‫أوردوس‬

‫أوردوس‪ :‬مدينة صينية بُنيت عىل املسار الرسيع‬ ‫يبدو ان هذه املنطقة مخصصة الستقبال الصحافيني الذين تذهلهم فيدينون ما يظهر من خوائها مفرط االعتداد بالذات‪.1‬‬

‫مايكل أولفسترينه وبرت دو ميونك‬ ‫"نظرنا يف الثامنينات إىل مقاطعة شنجن كنموذج للتطوير عىل الفقاعة العقارية يف الصني‪ ،‬وعىل خروج ثقافة البناء‬ ‫املديني‪ ،‬ويف التسعينات نظرنا كذلك إىل شنغهاي‪ .‬ونأمل‪ ،‬عن السيطرة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫عن‬ ‫املقبلة‬ ‫العرشين‬ ‫األعوام‬ ‫يف‬ ‫الناس‬ ‫يبحث‬ ‫عندما‬ ‫وباالستناد إىل بحث يف علم اإلناسة (‪)Anthropology‬‬ ‫‪2‬‬ ‫منوذج جديد‪ ،‬أن ينظروا إىل أوردوس" ‪.‬‬ ‫ويف العامرة‪ ،‬أجري يف املدينة أثناء رحالت عدة إليها بني‬

‫واحدة من أرسع البيئات املدين ّية تطورا ً يف الصني هي‬ ‫بلدية أوردوس الواقعة يف منغوليا الداخلية ذات الحكم‬ ‫الذايت‪ .‬أوردوس التي تأسست قبل عرش سنوات وحسب‪،‬‬ ‫أصبحت منوذجاً للتنمية االقتصادية واملدنية املحاط‬ ‫بجدال واسع‪ .‬ويسعى إىل التقدم بقفزات صغرية نحو‬ ‫املراحل املتقدمة من التحديث‪ .‬وعىل الرغم من ارتباط‬ ‫النمو أساساً بالصناعات املنجمية‪ ،‬فإن حديث مسؤويل‬ ‫البلدية يصور اسرتاتجيات تنمية أوردوس عىل املدى‬ ‫الطويل كنموذج يحتذى به‪ ،‬وليس فقط مبصطلحات‬ ‫النمو االقتصادي‪ .‬ويزعم قادة أوردوس احتضانهم‬ ‫التنمية مبفردات الرتبية األفضل والوقاية الصحية والرفاه‬ ‫االجتامعي واملزيد من املؤسسات املتلهفة للعمل يف‬ ‫الثقافة والتجديد والحفاظ عىل البيئة‪ .‬وعىل الرغم من‬ ‫األقوال هذه‪ ،‬ص ّنفت الصحافة العاملية أوردوس كربهان‬

‫العامني ‪ 2008‬و‪ ،2011‬اختار املؤلفان فهم أوردوس عرب‬ ‫منظور سيطرة ثقافة السيارة‪ .‬وقد يلقي تعبري أوردوس‬ ‫املحيل عن ثقافة السيارة الضوء عىل اتجاهات أكرث‬ ‫عمومية تربز يف مدن الصني املبنية حديثاً‪ ،‬وتحديدا ً مبا‬ ‫هي نتيجة فائض االستثامرات وليست كمدن مخصصة‬ ‫للسكن‪ .‬وليس الهدف من املقال هذا صوغ نظرية عامة‬ ‫عن ثقافة السيارة يف الصني‪ ،‬بل باألحرى االعرتاف بها‬ ‫كعنرص رئيس لقي اهتامماً ضئيالً يف مساعي كشف‬ ‫ديناميات الصني املدنية‪ .‬واستنتج املؤلفان أن السيارة‬ ‫تتكامل مع الكيفية التي بُنيت البيئة املدنية وجرى‬ ‫عيشها وتخيلها يف أوردوس‪.‬‬

‫‪43‬‬


‫‪42‬‬

‫الصورة من مجموعة برت دو ميونك‬


‫أوردوس‪ :‬مدينة صينية عىل املسار الرسيع‬

‫‪ –1‬انظر عىل سبيل املثال‪ ،‬بيرت هتشنز "بُنيت املدينة‬ ‫هذه ملليون إنسان – لكن أحدا ً ال يسكن هنا‪ :‬اندفاع‬ ‫حارضة منغولية إىل القرن الحادي والعرشين وسط‬ ‫عاصفة من الفوالذ واإلسمنت املسلح"‪ ،‬صحيفة "دييل‬ ‫ميل" (لندن)‪ 29 ،‬أيار (مايو) ‪،2011‬‬ ‫‪http://www.dailymail.co.uk/news/‬‬ ‫‪article-1391868/This-city-built-million‬‬‫‪.people--lives-here.html‬‬ ‫‪ –2‬نائب رئيس بلدية أوردوس‪ ،‬باو تشونغمنغ‪ ،‬يف‬ ‫كانون الثاين (يناير) ‪ ،2008‬بحسب ما نقل عنه برت‬ ‫دو مينوك يف "بابل أصحاب املليارات" يف مجلة "مارك"‬ ‫‪( 15‬آب (أغسطس)‪ /‬أيلول (سبتمرب)‪126. / 126 :‬‬ ‫‪Bert de Muynck, "Babel for billionaires,”:‬‬ ‫‪MARK Magazine 15 (August/September‬‬ ‫)‪2008‬‬ ‫‪ –3‬يواردين بوالغ‪" ،‬من رابطة ييك‪-‬جو اىل بلدية‬ ‫أوردوس‪ :‬االستعامر االستيطاين والتمدين البديل يف‬ ‫منغوليا الداخلية"‪ ،‬مجلة "بروفنسال تشاينا" (ترشين‬ ‫االول (أكتوبر) ‪208 :)2002‬‬ ‫‪ –4‬بوالغ‪ " ،‬رابطة ييك – جو"‪.199 ،‬‬ ‫‪ –5‬فانغ رونغ وديفيد جي‪ .‬فيكتور‪" ،‬سياسة تسييل‬ ‫الفحم الحجري يف الصني‪ :‬رشح سياسة االنقالب منذ‬ ‫‪/ ،"2006‬‬ ‫‪." Energy Policy” 39 (2011): 8, http://ilar.‬‬ ‫‪.ucsd.edu/assets/001/503026.pdf‬‬ ‫‪ 6‬ماكس دي‪ .‬وودورث‪" ،‬السمة املدينية يف بلدة‬ ‫الطفرة االقتصادية الحدودية‪ ،‬منطقة منغوليا الداخلية‬ ‫ذاتية الحكم"‪،‬‬ ‫‪Cross-Currents E-Journal 1 (December‬‬ ‫‪2011): 6, http://cross-currents.berkeley.‬‬ ‫‪edu/sites/default/files/e-journal/articles/‬‬ ‫‪woodworth.pdf.‬‬ ‫‪ –7‬رونغ وفيكتور‪Frontier Boomtown," 8" ،‬‬

‫مايكل أولفسترينه وبرت دو ميونك‬

‫‪ –12‬ماكس وودورث‪"Ghosts in the Shell Game: ،‬‬ ‫‪Gaolidai and City Building in Ordos." Paper‬‬ ‫‪presented at "Placing East Asia:‬‬ ‫‪A Graduate Student Conference on‬‬ ‫‪Urbanism and the Production of Space." UC‬‬ ‫‪Berkeley, California, March 3, 2012.‬‬ ‫‪ –13‬راجع عىل سبيل املثال‪ ،‬بيرت هيتشنز‪" ،‬هذه‬ ‫مدينة بنيت ملليون إنسان‪ -‬لكن ما من أحد يسكن‬ ‫هنا‪ :‬اندفاع مدن منغولية‬ ‫اىل القرن الحادي والعرشين يف عاصفة من اإلسمنت‬ ‫والفوالذ"‪Daily Mail (London), May 29, 2011 ،‬‬ ‫‪http://www.dailymail.co.uk/news/‬‬ ‫‪article-1391868/This-city-built-million‬‬‫‪people--lives-here.html‬‬ ‫‪ –14‬للتغطيات الصحافية للتطورات الصينية املشابهة‬ ‫ألوردوس‪ ،‬انظر "مدن الصني الخالية‪ :‬صور مدهشة‬ ‫ملتقطة من االقامر الصناعية ورمت إىل إيواء املاليني‬ ‫وهي تقبع اآلن مهجورة"‪Mail Online, December ،‬‬ ‫‪18, 2010‬‬ ‫‪http://www.dailymail.co.uk/news/‬‬ ‫‪article-1339536/Ghost-towns-China-Satellite‬‬‫‪images-cities-lying-completely-deserted.‬‬ ‫‪html#ixzz1oWyopYOM.‬‬ ‫‪ –15‬لويس هورنبي والنغي تشاينغ‪" ،‬عالمات مقلقة‬ ‫عىل فقاعة امللكية العقارية يف أوردوس الصينية"‪،‬‬ ‫‪Reuters, December 2, 201‬‬ ‫‪http://in.reuters.com/article/2011/12/02/‬‬ ‫‪china-property-bubble‬‬‫‪idINDEE7B10EL20111202‬‬ ‫‪ –16‬اليكس ستاينربغر‪" ،‬أوردوس‪ :‬املدينة الصينية‬ ‫الفارغة"‪Google Sightseeing (blog), September ،‬‬ ‫‪7, 2010‬‬ ‫‪http://googlesightseeing.com/2010/09/ordos‬‬‫‪chinas-vacant-city‬‬

‫‪ –8‬مايكل فورسيث‪" ،‬التحول اىل األخرض يف الصني‪ ،‬كل‬ ‫حالة مبفردها"‪،‬‬ ‫‪New York Times, November 17, 2009,‬‬ ‫‪http://www.nytimes.com/2009/11/18/world/‬‬ ‫‪asia/18iht-letter.html‬‬

‫‪ –17‬مليسا تشان‪" ،‬من بلدة الفقاعة إىل مدينة‬ ‫األشباح"‪Asia (blog), Al Jazeera, September ،‬‬ ‫‪9, 2011,‬‬ ‫‪http://blogs.aljazeera.net/asia/2011/09/09/‬‬ ‫‪ordos-boom-town-ghost-town.‬‬

‫‪" –9‬املدينة الصينية الخاوية تبدي "جنوناً" مستمرا ً‬ ‫يف [قيمة] امللكيات" ‪Bloomberg News, June‬‬ ‫‪23, 2010,‬‬ ‫‪http://www.bloomberg.com/news/2010-06‬‬‫‪23/china-s-desert-ghost-city-shows-property‬‬‫‪madness-as-buyers-pay-in-cash.html.‬‬

‫‪ –18‬أندرو باتسون‪" ،‬زيارة جديدة اىل مدينة الصني‬ ‫الخاوية"‪China Real Time Report (blog), Wall ،‬‬ ‫‪Street Journal, May 12, 2010‬‬ ‫‪http://blogs.wsj.com/‬‬ ‫‪chinarealtime/2010/05/12/revisiting-chinas‬‬‫‪empty-city-of-ordos‬‬

‫‪ –10‬يل كسيانغ‪" ،‬ما بعد طفرة أوردوس" ‪China‬‬ ‫‪،Daily (Beijing), June 10, 2011‬‬

‫‪ –19‬بحلول ترشين األول (اكتوبر) ‪ ،2010‬أحصت‬ ‫الحكومة ‪ 28‬ألف مقيم‪ .‬أنظر ديفيد بربوزا‪" ،‬مدينة‬ ‫صينية مببان كثرية وسكان قالئل"‪New York Times, ،‬‬ ‫‪October 19, 2010‬‬ ‫‪http://www.nytimes.com/2010/10/20/‬‬

‫‪ –11‬مايكل اولفسترينه‪Livet i Kinas tomme ،‬‬ ‫‪byer,” KINABLADET (Søborg, Denmark),‬‬ ‫‪March, 2012‬‬

‫‪49‬‬

‫‪business/global/20ghost.‬‬ ‫‪html?pagewanted=all.‬‬ ‫‪ –20‬موقع "حلقة أوردوس الدولية" وجرى االطالع‬ ‫عليه يف ‪ 28‬شباط (فرباير)‪http://www.. .2012‬‬ ‫‪oic2010.cn/English/1_About_OIC.aspx.‬‬ ‫‪ –21‬يل زياوشو "جنون رياضة املحركات" ‪Global‬‬ ‫‪Times (Beijing), June 11, 2011‬‬ ‫‪http://www.globaltimes.cn/DesktopModules/‬‬ ‫‪DnnForge%20-%20NewsArticles/Print.aspx?t‬‬ ‫‪abid=99&tabmoduleid=94&articleId=661032‬‬ ‫‪&moduleId=405&PortalID=0‬‬ ‫‪ –22‬هناك سبب خاص لرتجيح اختيار رشكات‬ ‫السيارات أوردوس كمق ّر تتمركز فيه‪ :‬بتاميز عن‬ ‫مناطق صين ّية أخرى يعترب الفحم الحجري يف أوردوس‬ ‫فحم عايل الجودة بسبب مستويات الكربيت املنخفضة‬ ‫ً‬ ‫فيه (‪ 0,5 – 0,35‬يف املئة)‪ ،‬كام أنّه يحتوي عىل مقدار‬ ‫قليل من الرماد (‪ 8 – 6‬يف املئة)‪ ،‬ونقطة اختالط‬ ‫املتوسطة من السعرات‬ ‫رمادي منخفضة‪ ،‬وأيضً ا قيمته‬ ‫ّ‬ ‫الحراريّة العالية (قيمة السعرات املنخفضة‪5800- :‬‬ ‫‪ (.6299 kcal‬هذا يجعل الفحم الحجري يف أوردوس‬ ‫مناس ًبا ملجاالت واسعة من االستخدامات مثل توليد‬ ‫الكهرباء‪ ،‬وهندسة املعادن‪ ،‬وصناعة السيارات‪ ،‬وغريها‬ ‫من األمور التي تتطلّب طاقة كبرية"‪ .‬أنظر‪:‬‬ ‫‪Chreod Ltd., "Ordos Urban Region‬‬ ‫‪Development Strategy – A Report to The‬‬ ‫"‪Municipal People's Government of Ordos,‬‬ ‫‪March 30, 2005.‬‬ ‫‪ –23‬اإلحصاءات وفرها مكتب أوردوس لإلحصاءات‬ ‫يف معرض حول تطوير أوردوس منذ تبني "اسرتاتيجية‬ ‫التطوير الغربية الكربى" (‪ )2000‬يف متحف الربونز يف‬ ‫أوردوس‪.2011 ،‬‬ ‫‪" –24‬مكتب أوردوس البلدي لألمن العام وإدارة‬ ‫السري"‪" -‬التقرير السنوي ‪ 31 "2010‬كانون األول‬ ‫(ديسمرب)‪2010،‬‬ ‫‪http://www.ordosgajj.gov.cn/news_details.‬‬ ‫‪aspx?ID=71.‬‬ ‫‪ –25‬البنك الدويل‪" -‬كشاف املعلومات‪ :‬التنمية‬ ‫املدنية"‪ ،‬جرى الدخول إليها يف ‪ 8‬آذار (مارس) ‪.2012‬‬ ‫‪http://data.worldbank.org/topic/urban‬‬‫‪development‬‬ ‫‪ –26‬مقابلة مع املؤلف‪.‬‬ ‫‪Alfred Gell, Art and Agency: An –27‬‬ ‫‪Anthropological Theory (Oxford: Oxford‬‬ ‫‪University Press, 1998), 18‬‬ ‫‪Daniel Miller, "Driven Societies,” in Car –28‬‬ ‫‪Cultures, ed. Daniel Miller (Oxford: Berg,‬‬ ‫‪2001), 18‬‬


‫‪44‬‬

‫البوابة التاسعة‬

‫خُطط‬

‫"هي مزيج من التفكري يف كيفية استغالل املوقع عىل نطاق واسع‬ ‫واسرتاتيجيات التخطيط ِ‬ ‫الشعري املزعوم‪".‬‬ ‫والدة مدينة طفرة اقتصادية‬ ‫ضُ ّمت مجموعة مستوطنات أكرثها ريفي تسمى "رابطة‬ ‫ييك – جو"‪ ،‬وتك ّون واحدة من أفقر مناطق منغوليا‬ ‫الداخلية‪ ،‬يف العام ‪ ،2001‬لتشكل مدينة عىل مستوى‬ ‫املحافظة‪ .‬وأطلق اسم أوردوس عىل املدينة الجديدة‪.‬‬ ‫وعىل ما يشري عامل اإلناسة االجتامعية يوردين أي‪ .‬بوالغ‬ ‫فإن التغري جلب تبعات عدة‪:‬يُفرتض أن "أوردوس" هو‬ ‫إحياء لإلسم القبيل األكرث أصالة الذي يستخدمه املغول‬ ‫املحليون‪ ،‬وهو اسم متصل مبقامات جنكيز خان‪ ،‬وحل‬ ‫مكانه اسم ييك – جو وهو اسم إداري فرضته ساللة‬ ‫منغ ويعني "الدير الكبري"‪ .‬وبتحويلها إىل بلدية‪ ...‬تبدو‬ ‫أوردوس كمغولية أصيلة وكمدينة عرصية يف آن‪.3‬‬

‫الصناعات املنجمية خطط التوسع املدين الرسيع‪ ،‬ما‬ ‫أسفر عن مضاربات عقارية متأرجحة رفعت معدل منو‬ ‫أوردوس االقتصادي فوق أفضل معدالت النمو املعروفة‬ ‫للمناطق املدنية عىل طول ساحل الصني الرشقي الرثي‪.‬‬ ‫ويأيت أكرث من نصف عائدات البلدية من الرضائب‬ ‫والرسوم املفروضة عىل رشكات استخراج الفحم وحدها‪.‬‬ ‫واملظهر األبرز للرتاكم هذا كان يف الخطط الطموحة‬ ‫للتعمري والسيناريوات العقارية التي تبنتها االستثامرات‬ ‫الخاصة‪ .‬وبعدما كانوا مصدرا ً لليد العاملة الرخيصة يف‬ ‫الخارج‪ ،‬يعترب سكان أوردوس اليوم من بني األغنى يف‬ ‫الصني‪ .‬ويأيت مهاجرون من الخارج إىل أوردوس بحثا‬ ‫عن العمل‪ .‬وتوجد أوردوس اليوم يف ظل صيغة "مدينة‬ ‫واحدة‪ ،‬ثالث مناطق"‪ .‬هي منطقتا دونغشنغ وآجن‬ ‫و"منطقة كانغبايش الجديدة" التي تؤدي وظيفة مقر‬ ‫الحكومة املحلية‪ .‬ورصح امني الحزب الشيوعي املحيل‬ ‫يف املدينة أن الهدف من "منطقة كانغبايش الجديدة"‬ ‫هو "بناء أسلوب عيش متحرض"‪ .8‬وتقع املنطقة عىل‬ ‫بعد ‪ 27‬كيلومرتا يف اتجاه الجنوب الغريب من منطقة‬ ‫دنغشنغ املبنية سابقاً‪ ،‬وقبل أقل من عرش سنوات كان‬ ‫أكرثها أرضاً صحراوية مع بعض املراكز السكنية املتناثرة‪.‬‬ ‫وقد باتت الخطط جاهزة لتستقبل املنطقة ‪ 300‬ألف‬ ‫من السكان‪ .9‬وتعكس األحياء ذات الفيالت األوروبية‬ ‫الطراز والحدائق الخاصة طموح مطوري كانغبايش‬ ‫وظروف عمل وعيش "مثالية"‪ ،‬وإن كانت ملجموعة من‬ ‫السكان األعىل دخالً‪ .‬وراء الفيالت تقع األبراج السكنية‬ ‫والجادات العريضة وساحة ضخمة األبعاد باتت متيز‬ ‫املنطقة‪ .‬وفوق ذلك كله‪ ،‬حدد قادة أوردوس كأولوية‬ ‫لهم توفري حلول دامئة للطاقة متعهدين بجعل كانغبايش‬ ‫"مدينة خرضاء"‪ .‬واحتوى تخطيط كانغبايش وتصميمها‬ ‫عىل السامت الطاغية يف التخطيط املدين يف الصني‪ :‬مزيج‬ ‫من التفكري الشاسع والناظم لالستغالل العمراين لألرض‪،‬‬ ‫واسرتاتيجيات التخطيط ِ‬ ‫الشعري املزعوم‪.‬‬

‫ويوضح بوالغ أن "العرصي" يف الحالة هذه يشري إىل‬ ‫إعادة تنظيم املنطقة عىل نحو يعكس "التناغم اإلداري"‬ ‫للحكم الصيني‪ .4‬ووسم أماكن معينة بأنها "مدن" كان‬ ‫جزءا ً من الوسائل التي اعتمدتها الصني للترسيع يف‬ ‫عملية التمدين والتحديث عىل امتداد أراضيها‪ .‬وبحسب‬ ‫رؤية بوالغ‪ ،‬فالتمدين ليس نتيجة بل "هدف" لسياسات‬ ‫الصني االقتصادية‪ .‬وتبدو أوردوس مالمئة للنموذج هذا‪،‬‬ ‫حيث إن تسميتها مدينة ت َوافق مع زيادة رهيبة يف الرثوة‬ ‫املحلية التي جلبت معها األبراج والبنى التحتية لتمأل‬ ‫ما أطلق عليه اسم مدينة‪ .‬وخالل عرش سنوات‪ ،‬انتقل‬ ‫املقيمون يف أوردوس من استخدام بنية تحتية هزيلة‬ ‫إىل اختبار طرق وتطور مبعايري مقبولة دولياً‪ .‬ويف العقد‬ ‫املنرصم‪ ،‬كان منو أوردوس االقتصادي واملناطق املحيطة‬ ‫بها مدهشاً‪ ،‬السبب األهم وراء ذلك هو وجود احتياطي‬ ‫هائل من الوقود األحفوري الذي جذب ألواناً شتى من‬ ‫االستثامرات‪ .‬وتحتوي أوردوس عىل ‪ 149.6‬مليار طن من‬ ‫احتياطات الفحم املؤكدة‪ ،‬ما يعادل نصف االحتياطات‬ ‫املؤكدة يف منغوليا الداخلية وقرابة سدس احتياطات‬ ‫الصني‪ .5‬ويف األعوام العرشة املاضية‪ ،‬زادت أوردوس‬ ‫انتاج الفحم من ‪ 25‬مليون طن إىل ‪ 433‬مليون طن‪،6‬‬ ‫يف قفزة صناعية توازت مع ارتفاع اإلنتاج املحيل من ويلجأ املخطط العام إىل منوذج من الحلقات ذات املركز‬ ‫‪ 1.9‬مليار دوالر يف العام ‪ 2000‬إىل ‪ 40.6‬مليار دوالر يف املشرتك‪ ،‬بتأثري "داكسيس بالنرز إند كونسولتانتس‬ ‫‪ ،2010‬مبعدل زيادة سنوي يبلغ ‪ 33.3‬يف املئة‪ .7‬وغذت (‪( )D'Axis Planners and Consultants‬برعاية رشكة‬


‫خُطط‬

‫البوابة التاسعة‬

‫‪51‬‬

‫ﺗﺸﻮرم‬ ‫ﻣﻼﻃﻴﺔ‬

‫ﻗﻴﴫي‬

‫ﻏﺎزي ﻋﻨﺘﺎب‬

‫أﻧﻘﺮة‬

‫ﻗﻮﻧﻴﺎ‬

‫صورة الداخل‪ :‬الرثاء املستجد‬ ‫يف مدن "منور األناضول"‬

‫قصة نجاح لرتكيا‪ .‬لكن معاينتها‬ ‫مثّلت مدن "منور األناضول" من وجهة النظر االقتصاد ّية ّ‬ ‫املديني يشري إىل أ ّن النجاح ذاك ّربا ال يدوم‪.‬‬ ‫مبنظار التخطيط‬ ‫ّ‬

‫تاهري إرمان‬ ‫حقّقت كوكبة من املدن الرتك ّية يف إقليم األناضول‬ ‫حضو ًرا وطنيًّا تركيًّا وعامليّا متميّ ًزا باعتبارها ظاهرة يف‬ ‫كل مدينة من هذه املدن الداخليّة‬ ‫مجال االقتصاد‪ِ .‬ذك ُر ّ‬ ‫عىل حدة (دينزييل‪ ،‬قيرصي‪ ،‬قونيا‪ ،‬غازي عنتاب‪،‬‬ ‫مالطية‪ ،‬وتشورم) ال يعطي صورة كاملة عن وقائعها‪.‬‬ ‫لك ّن لقب "منور األناضول" الذي يُطلق عليها مجتمعة‬ ‫كفيل باستحضار روابط مبارشة بينها وبني الصعود الرتيك‬ ‫يف االقتصاد العاملي‪ .1‬منذ أعوام الثامنينات أثبتت مدن‬ ‫األناضول تعملقها يف تصدير الصناعات‪ .‬وشهد عقد‬ ‫السنوات األخري تح ّولها منوذ ًجا للسياسات الليرباليّة‬ ‫الرتكيّة التي أشبعت نقاشً ا ‪ .‬ووظيفة مدن "النمور"‪ ،‬التي‬ ‫مل ِ‬ ‫تأت مثرة تخطيط ضمن اسرتاتيج ّية وطن ّية مدروسة‪ ،‬ال‬ ‫تُقترص يف تأليفها عىل شبكة من املدن الداخل ّية املكتفية‬ ‫ذاتيًّا‪ ،‬بل هي عىل األرجح مراكز يتمحور الداخل حولها‬ ‫وتتشارك يف تظهري صورة مو ّجهة إىل الخارج تُربز سعيها‬ ‫لالنخراط يف شبكات التجارة العاملية خارج تركيا‪ ،‬تلك‬ ‫الشبكات املمت ّدة غربًا ونحو الرشق األوسط وآسيا‬ ‫وأفريقيا‪ .‬كام تتشارك منور األناضول رو ًحا صناعيّة حيويّة‬

‫صادرة من كونها مرك ًزا ألكرث من نصف الرشكات األلف‬ ‫األكرب يف تركيا‪ .2‬هذا الرثاء الجديد يحمل كل واحدة منها‬ ‫املديني املتطابقة‪ .‬النجاح‬ ‫عىل مواجهة تح ّديات التطور‬ ‫ّ‬ ‫املحل وسب ًبا للثناء العاملي‬ ‫التجاري مثّل مصدر زهوها ّ‬ ‫كل مدينة منها‪ ،‬ومن منظور‬ ‫عليها‪ .‬لك ّن النجاح قاد ّ‬ ‫تط ّوراتها املاديّة‪ ،‬إىل اعتامد النامذج املتّبعة واألكرث‬ ‫شيو ًعا يف سياق التط ّور املديني والتي يسهل ر ّدها إىل‬ ‫منط النمو الرأساميل‪ .‬وبغض النظر عن السجال الدائر‬ ‫يف صواب ّية سياسات التمدين هذه أو سوئها‪ ،‬فإ ّن املدن‬ ‫ربا تته ّدد يف النهاية الحال املايل‬ ‫"النمور" تواجه عواقب ّ‬ ‫املستدام الذي جهدت يف تحقيقه‪.‬‬ ‫منور التجارة الح ّرة‬ ‫بدأت حكاية "منور األناضول" يف أعوام الثامنينات من‬ ‫القرن العرشين مع سياسات التحرير األوىل التي انتهجها‬ ‫حزب الوطن األم (‪ )ANAP‬الحاكم آنذاك يف تركيا‪.‬‬ ‫نجاح تلك املدن استُ ِم ّد من التصنيع‪ ،‬الذي نتج بالدرجة‬


‫‪50‬‬

‫إزالة عشوائيات يف غازي عنتاب‪.‬‬ ‫تصوير تاهري إرمان‬


‫الرثاء املستجد يف مدن "منور األناضول"‬

‫تاهري إرمان‬

‫يف داخل تركيا كام يف خارجها‪ ،‬يط ّنب املديح لنجاحات‬ ‫واملتوسطة (‪ )SME‬يف األناضول‪،‬‬ ‫االستثامر الصغرية‬ ‫ّ‬ ‫لتمكّنها من إرساء بيئة اقتصاديّة مريحة يف املنطقة‪،‬‬ ‫تُديرها ومتلكها أطراف محلّ ّية فال تكلّف الدولة سوى‬ ‫املحل رم ًزا‬ ‫القليل من األعباء‪ .‬وبهذا غدا رجل األعامل ّ‬ ‫للنجاح يف األناضول‪ ،‬يُحتفى به كامرئ "صنع نفسه‬ ‫بنفسه"‪ .‬واألمر يشري إىل متكّن الكثريين من تحقيق‬ ‫أنفسهم عىل هذا النحو‪ .‬يأيت املثال واض ًحا من قونيا‪،‬‬ ‫التي يبلغ عدد سكانها مليون نسمة تقري ًبا‪ ،‬إذ تستضيف‬ ‫ومتوسط‪ ،‬تساهم يف‬ ‫املدينة نحو ‪ 32‬ألف استثامر صغري‬ ‫ّ‬ ‫تأمني ‪ 99‬يف املئة من ناتج املدينة ّ‬ ‫املحل‪ .11‬وتُص ّنف غازي‬ ‫عنتاب وقيرصي ودينزييل ضمن الئحة املدن الرتك ّية التي‬ ‫واملتوسطة‪،‬‬ ‫تض ّم العدد األعظم من االستثامرات الصغرية‬ ‫ّ‬ ‫حتّى لو قورنت تلك املدن الصغرية بالحارضات الرتكيّة‬ ‫األكرب‪ .12‬ويف تشورم‪ ،‬امللتحقة األحدث بفريق "املدن‬ ‫النمور"‪ ،‬ارتفع عدد املصانع اململوكة محلّ ًيا من خمسة‬ ‫وخمسني يف ‪ 2002‬إىل خمسة ومثانني يف ‪ .13 2011‬وترافق‬ ‫منو القطاع الصناعي يف تشورم مع تصاعد نسبة الدول‬ ‫املستوردة‪ ،‬هذه األخرية التي ارتفع عددها من دولتني ال‬ ‫أكرث قبل عرشة أعوام‪ ،‬إىل ستّة ومثانني دولة يف ‪ ،2011‬ما‬ ‫أ ّدى إىل ارتفاع عائدات التصدير بنسبة ‪ 2000‬يف املئة‪.‬‬ ‫تسبب التسارع الصناعي بتصاعد مظاهر التمدين‪،‬‬ ‫حيث وصلت من أنحاء تركيا أعدا ٌد كبرية من الباحثني‬ ‫عن فرص العمل‪ ،‬فيام كانت "املدن النمور" تتكيّف مع‬ ‫تنامي ثرائها العام‪ .‬وتطلّب األمر من القيادات املحل ّية‬ ‫االستجابة للتوقعات املحتملة وللتحوالت الدميوغراف ّية‬ ‫يف املدن‪ .‬وتزامنت سياسات التحرير االقتصاديّة التي‬ ‫اعتمدتها الحكومة الرتكية مع تب ّني سياسة الالمركزيّة يف‬ ‫اإلدارة‪ ،‬ما ش ّجع مسؤويل املدن املحليني عىل أن يقرروا‬ ‫بأنفسهم ردود الفعل املناسبة عىل تح ّوالت املشهد‬ ‫االقتصادي خالل العقد األخري‪.‬‬ ‫كل مدينة من مدن "منور األناضول"‬ ‫عىل مقدار متايز ّ‬ ‫عن األخرى‪ُ ،‬س ّجلت محاوالت تسعى من خاللها‬ ‫عم يفرتضه النسق االقتصادي‬ ‫مجتمعة إىل إظهار متايزها ّ‬ ‫الرأسام ّيل‪ .‬وسعت الدراسات والكتابات التي نرشتها‬ ‫الصحافة الدول ّية يف معرض إظهار كفاءة اإلسالم يف‬ ‫منافسة الرأسامليّة‪ ،‬إىل الرتكيز عىل الشخصيّة الدينيّة‬ ‫لهذه املدن‪ .14‬قيرصي وقونيا قد تشكّالن النموذج األمثل‬ ‫عم أطلق عليه البعض مصطلح "الكالفين ّية‬ ‫للتعبري ّ‬ ‫اإلسالم ّية"‪ .‬فاملدينتان‪ ،‬اللتان ال يبلغ عدد سكانهام‬ ‫مليوين نسمة‪ ،‬و ّحدتا مصادرهام يك تر ّوجان لنسق‬

‫الرشكات املساهمة التي تتخطّى حدودهام‪ .‬وحققت‬ ‫هاتان املدينتان‪ ،‬بفضل القيم الدينيّة‪ ،‬ال عىل الرغم منها‪،‬‬ ‫مكاسب مشهودة‪ ،‬حيث أ ّدى التكافل األهيل الداخيل‬ ‫القائم عىل الثقة املتبادلة إىل متهيد الطريق نحو النجاح‬ ‫االقتصادي‪ .‬متثّل اليوم "الزيارات املنزل ّية" يف قيرصي‬ ‫ظاهرة شائعة يف أوساط النخب الصناعيّة والعائالت‬ ‫السياس ّية‪ ،‬فيتبادل أفراد تلك النخب الزيارات عىل‬ ‫إيقاع منتظم‪ ،‬مك ّونني بذلك بيئة اجتامع ّية خالية من‬ ‫الرصاعات السياس ّية والنزاعات بني الصناعيني‪.15‬‬ ‫إىل هذا‪ ،‬ال تعترب جميع "منور األناضول" مدناً محافظة أو‬ ‫مثل‪ ،‬ويف تجربتها‬ ‫حتّى إسالميّة يف مظهرها‪ .‬غازي عنتاب ً‬ ‫التاريخيّة‪ ،‬ليست متديّنة‪ ،‬وهي يف املعنى الثقايف ليست‬ ‫محافظة‪ .‬إىل جانب شهرتها الصناع ّية تشتهر املدينة‬ ‫أيضً ا بحياتها الليل ّية وبوفرة حاناتها ومقاهيها وت ُباهي‬ ‫متنزه ترفيهي يف الرشق األوسط‪ .‬وتفرتق‬ ‫بامتالك أكرب ّ‬ ‫تشورم عن هذه الفكرة التعميميّة أيضً ا‪ ،‬حيث يتقاسم‬ ‫وسطها أبناء الطائفتني العلويّة والسن ّية الذين احتفظوا‬ ‫مبواقعهم املح ّددة يف املدينة‪ .16‬الجزء ال َعلَوي من املدينة‬ ‫أقل تط ّو ًرا من ناحية‬ ‫الذي يض ّم الحانات واملقاهي يُع ّد ّ‬ ‫البنى التحتيّة والخدمات البلديّة باملقارنة مع الجزء‬ ‫الس ّني األكرث محافظة‪ .‬عىل أن الحديث عن الدين هنا يف‬ ‫مم يستحرض التكافل‪.‬‬ ‫تشورم يستحرض النزاع أكرث ّ‬ ‫الصورة واملتخ ّيل‬

‫يف حني يسهل تعيني الفوارق بني مدن "النمور"‪ ،‬يبقى‬ ‫عامل مهم تتشاركه يف ما بينها فيقودها إىل تشابهات‬ ‫أكرب‪ :‬الطبقة الوسطى الناهضة التي يُعترب موقعها املايل‬ ‫واالجتامعي الجديد مثرة مبارشة لالستثامرات االقتصاديّة‪.‬‬ ‫وأ ّدى الرثاء الناشئ إىل زيادة االستهالك عىل سلع عامليّة‬ ‫معروفة‪ ،‬حيث تسعى الطبقة الوسطى الجديدة إىل‬ ‫التامهي مع املجتمع العاملي‪ .‬األمر استدعى صياغة‬ ‫جديدة ملدن الطبقة الناشئة هذه‪ ،‬يك تتض ّمن مظاهر‬ ‫العيش الجديدة وامتيازاتها وتوحي بها‪ .‬وباتت مظاهر‬ ‫التنمية يف هذه املدن‪ ،‬املتض ّمنة بنى تحت ّية متط ّورة‬ ‫للعيش املرفّه‪ ،‬مك ّونًا متم ّي ًزا يف هذا الفضاء االستهاليك‬ ‫الجديد‪.‬‬ ‫أ ّدت األنشطة االستهالك ّية للطبقة الوسطى إىل إطالق‬ ‫طفرة يف قطاع البناء مبدن "النمور"‪ ،‬وساهمت السلطات‬ ‫البلديّة املحلّية يف دعم حركة االستهالك‪ .‬ومع صعود‬ ‫حزب العدالة والتنمية إىل الحكم متكّن قطاع البناء‬

‫‪53‬‬


‫‪52‬‬

‫البوابة التاسعة‬

‫خُطط‬

‫املديني‪ ،‬تواجه هذه املدن عواقب ته ّدد‬ ‫"بعي ًدا عن مناقشة التخطيط‬ ‫ّ‬ ‫استقرارها املايل الذي جهدت يف تحقيقه‪".‬‬ ‫األوىل من تح ّول حارضات تركيا الكربى (اسطنبول‪ ،‬أنقرة‪،‬‬ ‫وأزمري) إىل اقتصاد ما بعد الصناعة‪ .‬وجاءت السياسات‬ ‫الوطنية املُتّبعة واتفاقات التجارة الدوليّة لتمه ّد الطريق‬ ‫أيضً ا أمام منو صناعات هذه املدن‪ .‬كام حثّ التو ّجه الذي‬ ‫انتهجته تركيا ضمن "مرشوع جنوب رشق األناضول"‬ ‫(‪ )Guneydogu Anadolu Projesi, GAP‬يف مأسسة‬ ‫عدد من مشاريع تنمية قطا َعي املاء والطاقة‪ ،‬ما أدى‬ ‫إىل دعم التنمية والزراعة يف املنطقة‪ .3‬إىل هذا‪ ،‬ساهمت‬ ‫السياسات الرتك ّية اآليلة إىل بناء الثقة رشقًا وغربًا يف‬ ‫العمل ملصلحة مدن "النمور"‪ :‬انهيار الكتلة السوفياتيّة‬ ‫مثل‪ ،‬قاد إىل روابط جديدة مع‬ ‫يف أعوام التسعينات‪ً ،‬‬ ‫بلدان وسط آسيا‪ ،4‬وأ ّدى توقيع تركيا عىل اتفاق ّية‬ ‫القوانني االتحاديّة مع االتحاد األورويب يف العام ‪ 1995‬إىل‬ ‫خفض التعرفات الجمركيّة يف التبادل التجاري‪.5‬‬

‫قبل عقود النمو األخرية‪ ،‬مل تكن مدن "منور األناضول"‬ ‫مدنًا رازحة يف الفقر‪ .‬كانت أحوالها مقبولة مع اقرتابها‬ ‫من تحقيق الكفاية الذاتيّة‪ .‬تقليد صناعة الس ّجاد العائد‬ ‫إىل القرن الخامس عرش‪ ،‬شكّل‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬القاعدة‬ ‫التاريخ ّية ملا تشهده دينزييل هذه األيّام من انتاج‬ ‫مكثّف لصناعة النسيجيّات‪ .‬واستفادت غازي عنتاب‬ ‫من موقعها التاريخي بني األناضول والحدود السوريّة‬ ‫للحفاظ عىل العالقات التجاريّة القدمية مع الرشق‬ ‫األوسط‪ .‬سكّان قيرصي بدورهم‪ ،‬وأمام عجز مدينتهم‬ ‫عن االعتامد الكامل عىل الزراعة وعىل استخراج الرثوات‬ ‫الطبيعيّة‪ ،‬ميّموا شطر التجارة وراكموا يف عملهم فيها‬ ‫رسخها وق ّواها حرصهم عىل صالبة بنية‬ ‫سمعة حسنة ّ‬ ‫النسيج العائيل‪ .6‬وتعرف هذه املدن عمو ًما من خالل‬ ‫روابط األعامل ذات النفوذ الكبري‪ ،‬املعروفة بـ ‪SIAD‬‬ ‫(روابط الصناعيني ورجال األعامل ‪Associations of‬‬ ‫‪ ،)Industrialists and Businessmen‬وهي الروابط‬ ‫التي زاد نفوذ بعضها من خالل دعمه لحزب العدالة‬ ‫والتنمية (‪ ،)AKP‬الصاعد إىل السلطة يف العام ‪.7 2002‬‬ ‫بهذا‪ ،‬مثّلت نوازع االجتهاد املحليّة و"القدرات املرتاكمة"‬ ‫مساندة معنوية لسياسات التجارة الدوليّة ومشاريع‬ ‫البنى التحت ّية التي اعتمدتها الحكومة الوطن ّية‪ .8‬وشكّل‬

‫بعض املدن مق ًّرا ملصانع كبرية متلكها الدولة (مصانع‬ ‫سومربانك ‪ Sumerbank‬لألنسجة يف دينزييل ومالطية‬ ‫ومصنع السكّر يف قيرصي‪ ،‬وهي مصانع أقفلت أبوابها)‪.‬‬ ‫أ ّما بعضها اآلخر‪ ،‬مثل تشورم‪ ،‬فلم يح َظ سوى مبقدار‬ ‫قليل من هذه املصانع الرسم ّية‪ .‬ويرى عدد من الباحثني‬ ‫أن االعتامد عىل املصانع الحكوم ّية أ ّدى خالل املراحل‬ ‫األوىل من سياسات التحرير‪ ،‬إىل تعويق السكان املحليني‬ ‫قوي‪ .‬املثال عىل هذا يتوضّ ح‬ ‫عن تطوير قطاع خاص ّ‬ ‫يف سيفاس‪ ،‬حيث يتمركز العديد من االستثامرات‬ ‫الحكوم ّية‪ .‬وقد حلّت األزمات االقتصاديّة يف املدينة‪،‬‬ ‫فيام تشورم القريبة‪ ،‬التي تستثمر فيها الحكومة مبقدار‬ ‫أقل‪ ،‬شهدت ازدها ًرا‪ .9‬وكانت مدن "منور األناضول"‪،‬‬ ‫خاصة تلك األكرث ارتباطًا سياس ًّيا بحزب العدالة والتنمية‪،‬‬ ‫بارشت تعافيها الرسيع مع صعود هذا الحزب إىل‬ ‫السلطة العام ‪ 2002‬إثر االضطراب االقتصادي العاملي يف‬ ‫العام ‪ .2001‬واكتسبت قيرصي عىل األرجح امتيازًا أكرب‬ ‫يف كونها مدينة الرئيس الرتيك‪ ،‬وهي افتتحت أخ ًريا رص ًحا‬ ‫تربويًّا يحمل اسمه‪ ،‬جامعة عبدالله غول‪.‬‬ ‫املتوسطة (‪ )SME‬يف مدن‬ ‫تُع ّد االستثامرات الصغرية و ّ‬ ‫األناضول الرابح األكرب من سياسات التحرير االقتصادية‬ ‫الرتكيّة‪ .‬ومن وجهة نظر أخرى‪ ،‬فإن االزدهار الذي حققته‬ ‫هذه املدن الصغرية جاء يف أعقاب أنشطة واستثامرات‬ ‫متلكها وتديرها أطراف محلّية تبقى استثامرات الدولة يف‬ ‫‪10‬‬ ‫وجسدت قطاعات صناعة النسيج التي‬ ‫ظلّها محدودة ‪ّ .‬‬ ‫تجتذب سوق عمل كبريا ً‪ ،‬مظهر النهوض الصناعي يف عدد‬ ‫من هذه املدن‪ .‬إذ متكّنت صناعة النسيج‪ ،‬نتيجة لسياسات‬ ‫االنفتاح املتزايد التي انتهجها االقتصاد الوطني تجاه األسواق‬ ‫الدول ّية‪ ،‬من بلوغ قواعد زبائن أوسع بعد أن كان تركيزها‬ ‫مو ّج ًها إىل األسواق املحلّيّة‪ .‬وحظيت أسامء بعض الرشكات‬ ‫بسمعة إقليميّة حسنة‪ ،‬مثل رشكة مفروشات "إستقبال"‬ ‫امل ُتمركزة يف قيرصي‪ ،‬والتي تُباع منتجاتها يف مثانية وسبعني‬ ‫بلدا ً‪ .‬إىل هذا‪ ،‬تُحقّق املنتجات املص ّنعة يف األناضول انتشا ًرا‬ ‫مم ّو ًها يف مئات الدول عرب العامل‪ ،‬وتدخل يف ماركات وسلع‬ ‫مثل‪ ،‬تُنتج خيوط‬ ‫عامليّة شهرية‪ .‬مصانع النسيج يف قيرصي ً‬ ‫القطن املستخدمة يف صناعة مقاعد سيارات املرسيدس‪.‬‬


‫الرثاء املستجد يف مدن "منور األناضول"‬

‫تاهري إرمان‬

‫مرشوع سكني جديد يف غازي عنتاب‪.‬‬ ‫تصوير تاهري إرمان‬

‫‪61‬‬


‫‪60‬‬

‫البوابة التاسعة‬

‫خُطط‬

‫أبنية جديدة كام تبدو من منطقة عشوائيّة يف غازي عنتاب‪.‬‬ ‫تصوير تاهري إرمان‬

‫‪ –29‬متحف مدينة قيرصي‪" ،‬الصفحة الرئيسيّة"‪،‬‬

‫الدخول يف ‪ 15‬آذار (مارس) ‪http://www. ،2012‬‬ ‫‪kayseri-kentmuzesi.gov.tr/online.htm.‬‬

‫‪" –30‬متحف تشورم"‪Aktüel 23 (November/(, ،‬‬ ‫‪December 2007‬‬ ‫_‪www.serfed.com/content_files/dergi/23/10‬‬ ‫‪aktuel.pdf.‬‬ ‫‪ –31‬سرييف غينيس وأمني بايك أداس‪Gaziantep ،‬‬ ‫‪Kent Nüfusunun Demografik Ve Sosyo‬‬‫‪Ekonomic Yapisi: Saha Araştirmasindan‬‬ ‫‪( Notlar‬البنى السكانيّة املدينيّة واالجتامعيّة‬

‫تقل‬ ‫‪ –33‬يتقاىض معظم العامل املهاجرين أجو ًرا ّ‬ ‫عن الح ّد األدىن للرواتب‪ .‬يتقاىض بعضهم أج ًرا يوميًا‬ ‫وال يحصل عىل عقد عمل‪.‬‬ ‫‪.Yavuzçehre, Kentsel, 293 –34‬‬ ‫‪ –35‬أوزليم أونسال وتونا كويوتشو‪" ،‬مواجهة‬ ‫املديني النيوليربايل‪ :‬التجديد واملقاومة‬ ‫النظام‬ ‫ّ‬ ‫يف بايش بويوك وتارالبيش"‪ ،‬يف "وجهة اسطنبول‪:‬‬ ‫العاصمة الثقاف ّية ألوروبا؟‪ ،‬تحرير دينيز غوكتورك‬ ‫توريل (لندن‪ ،‬روتليدج‪،‬‬ ‫وليفينت سويسال‪ ،‬وإيبيك ّ‬ ‫‪.54 ،)2010‬‬

‫االقتصاديّة يف غازي عنتاب‪ :‬مالحظات من دراسة‬ ‫ميدان ّية)‪ ،‬مجلّة العلوم االجتامع ّية يف جامعة غازي‬ ‫عنتاب ‪ ،10‬رقم ‪،293 -321 :)2011( 1‬‬

‫‪"Gecekondulari temizlemek lazim " –36‬‬ ‫("بحاجة لعشوائيات نظيفة")‪Mynet Haber ،‬‬ ‫‪ (Istanbul)، 11‬شباط (فرباير) ‪http://haber. ،2006‬‬ ‫‪mynet.com/gecekondulari-temizlemek-lazim‬‬‫‪217604-finans.‬‬

‫‪ –32‬حسن قره‪" ،‬تاليف احتالل البيوت وعقارات‬ ‫اإلسكان االجتامعي يف دينزييل"‪ ،‬نرشة الجغرافيا‬ ‫الرشقية يف جامعة أوتشاك ‪ ،15‬العدد ‪:)2010( 23‬‬ ‫‪.103-118‬‬

‫‪( ,Şahinbey'de toplu konut sevinci –37‬بهجة‬ ‫اإلسكان العام يف شاهني باي)‪Gaziantep27 ،‬‬ ‫‪ 11،Gazetesi‬شباط (فرباير) ‪http://www. ،2011‬‬ ‫‪gaziantep27.net/root.vol?title=sahinbey-39de‬‬‫‪toplu-konut-sevinci&exec=page&nid=87096.‬‬

‫‪http://www1.gantep.edu.tr/~sbd/index.php/‬‬ ‫‪sbd/article/view/207.‬‬

‫‪Sahinbey' de kentsel donusum calismasi –38‬‬ ‫املديني يف شاهني باي)‪Olay Medya، ،‬‬ ‫(التح ّول‬ ‫ّ‬ ‫‪ 22‬كانون الثاين ‪http://www.olaymedya. ،2012‬‬ ‫‪vol?title=sahinbey-39de-kentsel- com/root.‬‬ ‫‪donusum-calismasi&exec=page&nid=347713‬‬ ‫‪TOKI›den Corm› a buyuk kentsel« –39‬‬ ‫مديني كبري الحجم من ‪TOKI‬‬ ‫‪( »donusum‬تح ّول‬ ‫ّ‬

‫إىل تشورم)‪ ،‬كانال د‪ .‬إمالك (اسطنبول)‪ 6 ،‬شباط‬ ‫‪http://emlak.kanald.com.tr/haber/،2011‬‬ ‫_‪kentsel_donusum/TOKIden_Corumda‬‬ ‫‪buyuk_donusum/7780.aspx.‬‬


‫خُطط‬

‫البوابة التاسعة‬

‫ﺑﻮر ﺳﻌﻴﺪ‬ ‫اﻟﻘﺎﻫﺮة‬

‫بور سعيد ‪ :1957‬إعالن الحداثة املرصيّة‬

‫ُص َور بور سعيد املقصوفة ج ّراء العدوان‪ ،‬ع ّرفت مرصيني كرثا ً إىل تلك املدينة‪ .‬وضمن التوليفة التي ُصنعت بإتقان‬ ‫والتحديثي املؤهّل‪.‬‬ ‫للصدمة املدين ّية التي حلّت‪ ،‬قدّم نظام عبد النارص نفسه للمرصيني عىل أنّه الباين واملخلّص‬ ‫ّ‬

‫مح ّمد الشاهد‬ ‫يف ‪ 28‬ترشين األ ّول (أوكتوبر) ‪ ،1964‬نرشت مجلّة‬ ‫"آخر ساعة" املرصيّة املعروفة عىل غالفها صورة توحي‬ ‫بالتفاؤل‪ ،‬تض ّم أربع فتيات مبتسامت يركنب الدراجات‬ ‫الهوائ ّية عىل طريق سهلة وآمنة ومع ّبدة بجري الرتمك‪.‬‬ ‫يظهر يف خلفية الصورة مبنى لكابينات بحريّة مؤل ٌّف‬ ‫من طابق واحد‪ .‬وأضيفت عىل الغالف يف األسفل صورة‬ ‫طفل واقفة أمام مساحة شاسعة من األبنية‬ ‫لفتاة تحمل ً‬ ‫كالمي يقول‬ ‫تعليق‬ ‫الغالف‬ ‫عىل‬ ‫ويقرأ‬ ‫املد ّمرة والركام‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫"بور سعيد ‪ 1956‬واليوم ‪ ،"1964‬يف إشارة إىل الذكرى‬ ‫السنويّة ألزمة السويس‪ ،‬املتطابقة من حيث األهميّة‬ ‫ملدينة بور سعيد كام لعموم السياسة املرصيّة وعالقتها‬ ‫بالتخطيط‬ ‫املديني‪ .1‬وكانت الهجامت الحرب ّية للقوات‬ ‫ّ‬ ‫الربيطان ّية والفرنس ّية د ّمرت مناطق كاملة يف املدينة‪،‬‬ ‫رشدين‪ .‬ومثّلت عمليات‬ ‫وخلّفت مئات القتىل وآالف امل ّ‬ ‫إعادة اإلعامر التي تلت يف بور سعيد‪ ،‬من ‪ 1957‬إىل‬ ‫املرصي الجديد‬ ‫‪ ،1958‬املحاولة األوىل للنظام العسكري‬ ‫ّ‬ ‫يف مجال التخطيط‬ ‫املديني الشامل‪ ،‬وامتحان دقيق له‬ ‫ّ‬ ‫إلثبات قدرته يف إعادة إعامر وتحديث املدن املرصيّة‬

‫وتنميتها‪ .‬كام س ّجلت عمليات إعادة إعامر بور سعيد‬ ‫التي جرت برسعة ونجاح يف عام ‪ 1957‬نقطة تح ّول يف‬ ‫حجم مشاريع البناء الحكوميّة‪ ،‬إذ غدت الدولة راعيًا أ ّول‬ ‫للعامرة والتخطيط يف مرص‪.‬‬ ‫أُسست مدينة بور سعيد يف العام ‪ 1859‬عند الثغر‬ ‫الشاميل لقناة السويس البالغ طولها ‪ 160‬كيلوم ًرتا‪ ،‬والتي‬ ‫كانت عمليات حفرها آنذاك ال تزال جارية‪ .2‬وس ّميت‬ ‫املدينة الجديدة تي ّم ًنا مبحمد سعيد باشا حاكم مرص‬ ‫الذي منح فريديناند دي ليسيبس امتياز اإلرشاف عىل‬ ‫حفر قناة السويس‪ .3‬ومع ترؤس املخططني املدينيني‬ ‫الفرنسيني عمليات التصميم‪ ،‬فإ ّن املخططات التي‬ ‫أُع ّدت‪َ ،‬عك َ​َست النامذج الفرنسيّة املعارصة للمدن‬ ‫الجديدة‪ُ .‬ص ّمم املخطّط عىل مساحة أرض مثلّثة بني‬ ‫املتوسط من الشامل‪،‬‬ ‫القناة من الرشق‪ ،‬والبحر األبيض‬ ‫ّ‬ ‫وبحرية املنزلة من الجنوب‪ .4‬واعتربت املدينة التي يُجرى‬ ‫التخطيط لها مدينة مرفأ لإلداريني والت ّجار الذين كانوا‬ ‫يف الغالب فرنسيني وبريطانيني وسويرسيني‪ .‬وعىل مثال‬

‫‪71‬‬


‫‪70‬‬

‫جامل عبد النارص وقناة السويس عىل غالف "املصور"‪ ،‬آب (أغسطس) ‪.1956‬‬ ‫حقوق الصور للمؤلّف‬


‫بور سعيد ‪ :1957‬إعالن الحداثة املرصيّة‬

‫مح ّمد الشاهد‬

‫غالف مجلة "آخر ساعة" عدد ترشين األول (أوكتوبر) ‪.1964‬‬

‫يك تحظى األحوال املدينيّة يف بور سعيد باالهتامم‬ ‫ميكنها متويل إنشاء مبنى البلديّة الذي يقوم يف موقع أخرى ل ّ‬ ‫الوطني من جديد‪.‬‬ ‫مركزي يف ميدان عبّاس‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ث ّم قام فرج بنقل اهتاممه إىل املستوى‬ ‫املديني‪ ،‬وتناول الفوز ببور سعيد كأرض مرصيّة‬ ‫ّ‬ ‫بالتحديد عشوائيّات املناخني‪ .‬وبحسب ما أشار فإنه فيام مل يوقف املرصيّون محاوالتهم غري املثمرة لتخليص‬ ‫وعىل مدى عرشين عا ًما‪ ،‬ظلّت ظروف حياة املرصيني بالدهم من االحتالل الربيطاين‪ ،‬شهد رصاعهم ذاك‬ ‫الذين يعيشون هناك دون املستوى‪ ،‬ومل تقدم البلديّة تصاع ًدا يف الفرتة الفاصلة بني الحربني العامليتني‪ .‬وقام‬ ‫عىل أيّة خطوة فعليّة بغية تحسني األوضاع‪ .‬وكان فرج النضال ض ّد االستعامر يف قلب املراكز املدين ّية املرصيّة‬ ‫أشار إىل هذا عندما ت ّم نقاش املسألة من قبل مجلس املك ّرسة مثل اإلسكندريّة‪ ،‬وطنطا‪ ،‬واملنصورة‪ ،‬والقاهرة‪.‬‬ ‫الوزراء املرصي قبل نحو عقد‪ ،‬يف ‪ 2‬ترشين الثاين بعد اإلنقالب العسكري يف مرص عام ‪ ،1952‬انسحبت‬ ‫(نوفمرب) ‪ ،1932‬حيث أمثر النقاش إقرار خطّة شاملة القوات الربيطان ّية أخ ًريا من القاهرة ومن مدن مرصيّة‬ ‫إلعادة تنظيم مجمل مناطق املدينة‪ .‬اقرتحت‪ 11‬الخطّة رئيسية أخرى‪ .‬لك ّن القوات العسكريّة الربيطان ّية بقيت‬ ‫إنشاء مناطق سكنيّة جديدة لقاطني املناخني ‪ .‬إذذاك إىل جانب إداريي رشكة القناة‪ ،‬الربيطانيني والفرنسيني‪،‬‬ ‫ستقوم البلديّة بإزالة املناخني القدمية وتُعيد تخطيط الذين استم ّروا يف اإلرشاف عىل منطقة قناة السويس‪.‬‬ ‫املنطقة مبساحات إنشاء تغطّي فقط ‪ 40‬يف املئة من كانت بور سعيد بالنسبة للمرصيني واقعة عند التخوم‬ ‫مجمل املساحة العا ّمة‪ .‬غري أن الخطّة هذه مل تحشد الوطن ّية‪ ،‬وال يصل من أخبار الحياة املدين ّية فيها إىل باقي‬ ‫الدعم املايل املناسب‪ .‬فالقاهرة ق ّدمت لبور سعيد ما املدن الرئيسة يف مرص سوى القليل‪ .‬انتظر األمر حتّى‬ ‫ال يزيد عن ‪ 5‬آالف جنيه مرصي ّ‬ ‫مخصصة للمرشوع‪ ،‬العام ‪ 1956‬لتغدو بور سعيد مركز الرصاع الستقالل‬ ‫والخطّة مل تنفّذ أب ًدا‪ .12‬تطلّب األمر خمسة عرش عا ًما‬

‫‪73‬‬


‫‪72‬‬

‫البوابة التاسعة‬

‫خُطط‬

‫بطل مت ّو ًجا‪ .‬أ ّما بور سعيد‬ ‫"خرج الرئيس عبدالنارص من أزمة السويس ً‬ ‫فخرجت مدينة مد ّمرة تعاين أزمة إسكان حا ّدة‪".‬‬ ‫املديني الكولونيال ّية‪،‬‬ ‫ما كان يتّبع يف عمليات التطوير‬ ‫ّ‬ ‫لحظ التخطيط منطقة منفصلة يف الغرب‪ ،‬ذات كتل أكرث‬ ‫كثافة‪ ،‬تُسكن فيها الرشيحة العامليّة الكبرية املؤلّفة من‬ ‫وسمها األوروبيون‬ ‫اليونانيني واملرصيني بالدرجة األوىل‪ّ ،‬‬ ‫"الحي العريب"‪.5‬‬ ‫ّ‬ ‫أوجدت قناة السويس عندما افتتحت‪ ،‬يف العام ‪،1869‬‬ ‫املتوسط‪،‬‬ ‫صلة وصل بني البحر األحمر والبحر األبيض‬ ‫ّ‬ ‫مخترصة زمن السفر بني أوروبا والهند من ستّة أشهر‬ ‫إىل ستّة أسابيع‪ .‬وتط ّورت بور سعيد نتيجة لذلك كمركز‬ ‫عاملي للمواصالت والتجارة والتح ّركات العسكريّة‪.6‬‬ ‫ّ‬ ‫وساهمت منزلتها أيضً ا‪ ،‬كمركز يضم املق ّر الرئييس لرشكة‬ ‫قناة السويس‪ ،‬يف زيادة أهميتها‪ .‬لكن من وجهة نظر‬ ‫باقي املناطق املرصيّة‪ ،‬فإن بور سعيد كانت تقوم يف‬ ‫موقع نا ٍء وطريف‪ .‬ومل ترتكز عمليات اختيار موضعها‬ ‫عىل املعطيات التقليديّة لتأسيس املدن‪ :‬إذ إنّها ال‬ ‫تتصل مبصادر مياه الشفة‪ ،‬وال مبواد البناء‪ ،‬وال حتّى‬ ‫كل‬ ‫مبواد الغذاء‪ ،‬فينبغي‪ ،‬إلعامرها واستدامتها‪ ،‬استرياد ّ‬ ‫يشء من الخارج‪ .‬وإىل أن ت ّم حفر قناة مياه الشفة التي‬ ‫أوصلت مياه النيل إىل املنطقة‪ ،‬كان ينبغي حفظ املياه يف‬ ‫خ ّزانات كبرية‪ .‬ويف النهاية حظيت املدينة يف العام ‪1904‬‬ ‫بخ ّط قطار يصلها بالقاهرة‪.‬‬ ‫ومسألة السيادة فوق القناة منذ أن ُحفرت كانت أم ًرا‬ ‫مع ّق ًدا‪ ،‬وهي أضفت عىل وجود مدينة بور سعيد مزي ًدا‬ ‫من التعقيد‪ .7‬ولنئ كانت القناة أنشئت مبال مرصي وبأيد‬ ‫عاملة مرصيّة وحفرت عرب أرض مرص‪ ،‬فإ ّن تأثريها عىل‬ ‫االقتصادين الفرنيس والربيطاين جعال أمر السيطرة عليها‬ ‫هدفًا مرغوبًا لكال البلدين‪ .‬والحكومة الربيطان ّية التي‬ ‫أقلقها يف العام ‪ 1881‬أمر االنتفاضات املرصيّة ضد نظام‬ ‫الحكم‪ ،‬تلقّفت الفرصة املؤاتية وأرسلت جنو ًدا للتدخّل‪،‬‬ ‫فانتزعت السيطرة عىل قناة السويس يف العام ‪1882‬‬ ‫وحافظت عىل هذا الحال حتّى صعود جامل عبد النارص‬ ‫إىل السلطة‪.‬‬ ‫من مدينة مقسومة إىل مدينة مقصوفة‬ ‫توسطت الحربني العامليّتني األوىل‬ ‫خالل الحقبة التي ّ‬

‫والثانية‪ ،‬ازداد انقسام املدينة مع ازدياد غنى الرشيحة‬ ‫السكانيّة األجنبيّة املرتبطة برشكة قناة السويس‪ ،‬كام‬ ‫مع ارتفاع أسعار األرايض‪ .‬هذا ويف األثناء شهدت أعداد‬ ‫من هم أكرث فق ًرا‪ ،‬الذين جلّهم من املرصيني العامل‪،‬‬ ‫ارتفا ًعا ملحوظًا بعد الحرب العامل ّية األوىل حني اجتذبت‬ ‫بور سعيد القادمني من األرياف‪ ،‬وغدت مالذًا آم ًنا‬ ‫للناجني من اإلبادة األرمنيّة‪ .8‬مل تتكيّف املدينة عىل‬ ‫النحو املطلوب مع النمو السكاين‪ ،‬إذ كان الدعم املايل‬ ‫من الدولة محدو ًدا‪ ،‬واستثامرات رشكة القناة محصورة‬ ‫يف أمالكها ومرافقها‪ ،‬فرتكت األغلبيّة السكانيّة تبني‬ ‫من دون عون من أحد ومبصادر محدودة‪ .‬أحد نتائج‬ ‫بحي‬ ‫هذا األمر تب ّدى يف منطقة العشوائ ّيات املعروفة ّ‬ ‫"حي العرب"‪.‬‬ ‫"املناخني"‪ ،‬إىل الغرب من ّ‬ ‫يف مقالة الذعة نرشت يف العام ‪ 1941‬مبجلّة "العامرة"‪،‬‬ ‫عب املعامري فؤاد فرج عن مخاوفه املتعلّقة مبا تؤول‬ ‫ّ‬ ‫إليه التط ّورات يف بور سعيد‪ .9‬اليوم‪ ،‬بعد اثنني ومثانني‬ ‫عا ًما من تأسيس املدينة‪ ،‬تع ّد هذه املقالة من أوىل‬ ‫املقاالت التي تناولت أحوال بور سعيد املدين ّية يف‬ ‫الصحافة املرصيّة‪ .‬و ّجه فرج املسؤول ّية إىل كيف ّية تعامل‬ ‫رشكة قناة السويس مع أحوال الفقر والالمساواة يف‬ ‫األحياء املرصيّة من املدينة‪ ،‬وذلك عىل نقيض ما تفعل‬ ‫يف األحياء األوروب ّية‪ .10‬إضافة إىل هذا‪ ،‬انتقد فرج واقع‬ ‫السلطة الواهية لبلديّة بور سعيد عىل املدينة واقتصار‬ ‫الخاصة باألحياء املرتبطة بها دون‬ ‫اهتامم رشكة القناة‬ ‫ّ‬ ‫غريها‪ .‬والحظ فرج‪" :‬تبقى بور سعيد بال مب ًنى لبلديّتها‬ ‫(دار املدينة) عىل الرغم من قيام رشكة قناة السويس‬ ‫ربا عىل الرشكة‬ ‫ببناء رصح أنيق كمق ّر‬ ‫رئييس ملكاتبها‪ّ .‬‬ ‫ّ‬ ‫منح الرصح للمدينة فيكون مبنى للبلديّة"‪ .‬دعوة فرج‬ ‫قومي يدعو‬ ‫إىل إيجاد مبنى للبلديّة أتت مبثابة خطاب ّ‬ ‫املرصي" وملعادلة‬ ‫إىل "محافظة املدينة عىل طابعها‬ ‫ّ‬ ‫حضور املق ّر الرئييس لرشكة القناة‪ .‬واقرتح فرج إيجاد بناء‬ ‫للبلديّة يضم األقسام اآلتية‪ :‬مرسح‪ ،‬صالة لالحتفاالت‪،‬‬ ‫غرف اجتامعات‪ ،‬قاعة استقبال‪ ،‬مكتبة‪ ،‬متحف‪ ،‬مكاتب‪،‬‬ ‫رسمي‪ ،‬برج ساعة ومتثال للملك فاروق أمام‬ ‫مدخل‬ ‫ّ‬ ‫املبنى‪ .‬وبحسب اقرتاح فرج‪ ،‬فإن رشكة قناة السويس‬


‫البوابة التاسعة‬

‫محاورة‬

‫مقابلة مع املعامري العراقي قحطان املدفعي‬

‫بغداد يف أفكار أحد ر ّواد حداثتها‬ ‫الدخول من ذلك الباب الصغري‪ ،‬باب منزل قحطان املدفعي‪،‬‬ ‫ميثّل ً‬ ‫دخول إىل تاريخ بغداد املعارص‪ ،‬إىل هو ّيتها‪،‬‬ ‫وروحها وتاريخها القريب‪.‬‬

‫شاكر األنباري‬

‫ليس من السهل العثور عىل بيت قحطان املدفعي‪ ،‬الواقع يف شارع املغرب‪ ،‬وسط بغداد‪ .‬الباب الحديد الصغري‪،‬‬ ‫يختفي وراء صخرة عمالقة عليها آثار نحت قديم‪ .‬وخلف الصخرة قنطرة حجرية زرقاء لها بعد صويف‪ .‬لكن ليس‬ ‫الباب وحده الذي يصعب العثور عليه‪ ،‬البيت أيضاً‪ ،‬اذ تخفيه عن األنظار ٌّ‬ ‫محال عديدة متناثرة أمامه وعىل جانبيه‪،‬‬ ‫مطاعم وصيدليات ودكاكني وعربات صغرية تقف عىل الرصيف تبيع كل يشء‪ .‬يطغى عىل كل ذلك ضجيج السيارات‪،‬‬ ‫ونداءات لصبية يالحقون الحامم الداجن وهو يطري يف سامء بغداد‪ .‬وهذا ما يعطي انطباعاً أن بيت قحطان املدفعي‪،‬‬ ‫أشهر معامريي بغداد‪ ،‬قد فات أوانه‪ .‬العاصمة تعيش يف زمن آخر‪ ،‬وتعيش إيقاعاً يختلف عن ذلك الذي خربه‬ ‫املدفعي منذ الخمسينات وحتى اآلن‪ .‬تغريت بغداد كثريا ً‪ ،‬وكذلك تغري املدفعي بعد أن عرب عتبة الثامنني‪ .‬الحقيقة‬ ‫التي ال تُخفى هي أن الدخول من ذلك الباب الصغري‪ ،‬باب قحطان املدفعي‪ ،‬ميثّل دخوالً إىل تاريخ بغداد املعارص‪ ،‬إىل‬ ‫هويتها‪ ،‬وروحها وتاريخها القريب‪ .‬الحديقة األمامية تشكّل حاجزا ً بني ضجيج الشارع وهدوء البيت بواجهته الزجاج‬ ‫وممراته الضيقة‪ .‬الرجل الضخم‪ ،‬مبالبسه العادية‪ ،‬ترتسم عىل وجهه دامئاً ابتسامة صغرية‪ .‬عادة ما تكون أشبه بعتبة‬ ‫دخول إىل املكان‪ .‬األبهاء والصاالت مزينة بلوحات لرواد الحداثة التشكيلية يف العراق‪ ،‬كنزيهة سليم وشاكر حسن آل‬ ‫سعيد وجواد سليم‪ .‬وميتلك املدفعي لوحات رسمها هو بنفسه خالل سنواته املاضية وتجاوز عددها الثامنني لوحة‪،‬‬ ‫يف حني تكتظ املكتبة مبئات الكتب‪ ،‬وبلغات عديدة‪ ،‬منها الرتكية واإلنكليزية واألملانية إضافة إىل العربية‪.‬‬

‫‪81‬‬


‫‪80‬‬

‫املدفعي يف مكتبته مع شاكر األنباري‪.‬‬ ‫تصوير متارا عبد الهادي‬



‫داخل منزل قحطان املدفعي يف بغداد‪.‬‬ ‫تصوير متارا عبد الهادي‬


‫‪89‬‬

‫األنباري محاو ًرا املدفعي‪.‬‬ ‫تصوير متارا عبد الهادي‬


‫‪88‬‬

‫البوابة التاسعة‬

‫محاورة‬

‫ربا هو تصميم أعمدة حديقة األوبرا يف الحديقة املقابلة‬ ‫"أكرث ما ميثّلني ّ‬ ‫للمرسح القومي‪ .‬أعت ّز كثريا ً بهذا التصميم ألنّني نفذت فيه حركة يف العمود‬ ‫تع ّد يف أساس الحداثة‪".‬‬ ‫بنايتي‪ ،‬فلم يصدق‪ .‬قلت له اذهب إىل املدير املسؤول‬ ‫هنا وقل له إن قحطان املدفعي يريد تفقّد البناية‪ ،‬فجاء‬ ‫املدير بكل احرتام ودعاين للدخول وأوىص الرشطي بتلبية‬ ‫كل طلب أحتاج إليه‪.‬‬ ‫مبنى وزارة املالية هذا يشعرين وكأنك أردت من خالله‬ ‫رضب مركزية البناء‪ .‬هناك كتلتان تتصالن مبمرات‪ ،‬فهل‬ ‫خطرت لك فكرة رضب مركزية العامرة أثناء التصميم؟‬

‫للكون التي قدمها أينشتاين متثّل الرؤية التي كان لها‬ ‫األثر الكبري يف تغري النظرة الكلية من قبل املجتمع‬ ‫والعامل إىل الكون ورفض ما كان سائدا ً قبله‪ .‬أثر هذا عىل‬ ‫تطبيقات العامرة متثّل برفض الزوايا القامئة والسطوح‬ ‫املتعامدة‪ .‬سطح كنيسة رونشامب شكّل مق ّدمة ملرحلة‬ ‫أشمل‪ .‬إنّها الحداثة التي بدأها أينشتاين‪.‬‬

‫بني التصميم وقرار الحكومة بالبناء هناك خمس سنوات‪،‬‬ ‫أوشكت خاللها عىل الهجرة من البلد‪ .‬يتكون املبنى من‬ ‫برجني مزدوجني‪ ،‬يتصالن ببعضهام البعض عرب جسور‬ ‫خرسانية معلّقة عىل ارتفاعات مختلفة‪ .‬العامرة تتألف‬ ‫من ‪ 14‬طابقاً‪ .‬ما فعلته يف هذا التصميم ملبنى املال ّية هو‬ ‫أنني شققت الزقورة السومرية إىل نصفني‪ ،‬كام لو قمت‬ ‫بذلك بواسطة سكني حادة‪.‬‬ ‫تقول يف إحدى مقابالتك إن ما هو مؤثر يف الكون هو‬ ‫الشدّ وليس الجذب‪ ،‬وهذا طبعاً له عالقة رمبا بنظرية‬ ‫االنفجار العظيم "البيغ بانغ"‪ .‬ما هي انعكاسات هذا‬ ‫التصور عىل فن العامرة؟‬ ‫هذا ما نفذته مبتحف التاريخ الطبيعي وكذلك ببناية‬ ‫معهد االتصاالت‪ .‬منذ وقت طويل شغلت بالنظرية‬ ‫النسبية‪ ،‬وهذه النظرية ترفض السطح الساكن‪ ،‬فالكون‬ ‫كله متحرك‪ ،‬عند أيّة لحظة أو مكان ويف كل يشء‪.‬‬ ‫الحركة أساس الكون‪ ،‬والحركة هي الش ّد‪ .‬بني كل جسمني‬ ‫مسافة‪ ،‬وهذه املسافة تولد الجذب والشد‪ .‬إن النظرية‬ ‫النسبية أث ّرت عىل العامل وعىل العامرة‪ ،‬وبذلك كانت‬ ‫بداية العامرة الحديثة‪ .‬وميثل املعامر لوكربوزيه ومدرسة‬ ‫الباوهاوس الحدث األهم يف التأثري عىل مسار العامرة‪.‬‬ ‫فكنيسة رونشامب كانت املرجع الرئييس الستلهامات‬ ‫عامرة ما بعد الحداثة‪ .‬فحسب نظرية أينشتاين إن العامل‬ ‫مك ّون من شكل رسجي منحنٍ ‪ ،‬وعليه فان املثلث املرسوم‬ ‫عىل سطح هذا الشكل ال تكون زواياه ‪ 180‬درجة إذا‬ ‫جمعت تبعاً للهندسة اإلقليدية‪ .‬هذه النظرة املختلفة‬

‫‪"Kahtan Al Madfai: Baghdad Visionary,‬‬ ‫"‪Octogenarian Architect‬‬ ‫‪Portal 9 page 117‬‬


‫البوابة التاسعة‬

‫املط ِّوف‬

‫جِ ّنية‪ ،‬ومنشار‪ ،‬وأموات رومانسيون‬

‫ينرش فاروق بريوته كل يوم‪ .‬يغافل شوارعها الرئيسية‪ ،‬مفضالً األزقّة‪ ،‬حتى املخردق منها بالحفر‪.‬‬ ‫ال ينتمي إليها إال بالتحايل عىل مخططها الرسمي‪ .‬فهو الذي يعرف رأس بريوت كباطن كفّه‪،‬‬ ‫ُشق طرقات عريضة وتُع ّبد بالزفت‪.‬‬ ‫من قبل أن ت ّ‬

‫رشا األطرش‬

‫‪91‬‬


‫‪90‬‬

‫الصور من فيديو لبشّ ار خطّار‬


‫ِج ّنية‪ ،‬ومنشار‪ ،‬وأموات رومانسيون‬

‫رشا األطرش‬

‫قامتة أشجار بريوت‪ ،‬خصوصاً يف "كاراكاس" فاروق‪ .‬عند كل غروب خلف البحر البنفسجي القريب‪ ،‬تتمدد‬ ‫ظاللها كطرحة أرملة غافلها هواء متوسطي‪ ،‬كيام تبلغ الرصيف املقابل‪ ،‬حيث ركن الخال سيارته يوم مقتله‪.‬‬ ‫قىض خال فاروق بالرصاص‪ .‬وغطّى كيس داكن رأس أيب فاروق مل ّا أعدموه ُمداناً بالجرمية‪" .‬نزلة اإلعدام"‬ ‫هي إذا ً‪ ،‬طيورا ً وشمساً وخاالً رصيعاً‪ .‬رمبا "نزلة الحكايات"‪.‬‬ ‫يف رأس فاروق رواية مل ينجزها بعد‪ .‬أوروبا قامت عىل الرواية‪ ،‬يقول‪ .‬ليت العرب ترتك الشِّ عر لشأنه‪ .‬يف‬ ‫الخيال‪ ،‬ينتصب برج إيفل‪ ،‬أسفل املنحدر‪ ،‬قوامئه املعدنية مثبّتة عىل كتاب سميك كالذي تُسند به أبواب‬ ‫الغرف‪ .‬سينتصب مثل هذا الربج لو أن الرسد يسود‪ ،‬بدل الصفحات الخاوية إال من حرب قليل وتُس ّمى‬ ‫دواوين‪.‬‬ ‫إىل اليسار اآلن "بناية يعقوبيان" التي انتقل إليها "عمر مد ّور"‪ ،‬ذو األصول األندلسية‪ ،‬مع زوجته اليهودية‬ ‫نصاً‪ ،‬نرشه يف الجريدة‪ ،‬عن قصتهام التي يزعم أنها حقيقية‪ ،‬وال‬ ‫يوجني‪ ،‬من بيتهام يف الحمراء‪ .‬كتب فاروق ّ‬ ‫يزعم أنه سينهي الرواية يف وقت وشيك‪ .‬قال له كاتب لبناين معروف إنه يف حاجة إىل "شوية تزييت" قبل‬ ‫أن ينطلق يف عامل الكتابة‪ .‬فتشجع‪ ،‬وأطلق مد ّونته اإللكرتونية التي زارها ستة آالف شخص خالل الشهرين‬ ‫األولني‪.‬‬ ‫يروي فاروق تعارف عمر ويوجني يف حيفا‪ ،‬وال ينقصه الستكامل حامسته سوى أن يه ّم بتلقّف الربتقال‬ ‫املتساقط نديّاً من رشفة شقتهام‪ .‬برتقال حيفا‪ .‬عاقر يوجني‪ ،‬واستبقاها عمر زوج ًة مل يجربها عىل اعتناق‬ ‫نص فاروق‪ ،‬يقيض الثنايئ يف انفجار السان جورج الذي استهدف رفيق الحريري‪ ،‬ومعه َس َريهام‬ ‫اإلسالم‪ .‬يف ّ‬ ‫النارصي مرة يف "الحركة الوطنية" والعنرص تالياً يف‬ ‫العجائزي عىل صفحة البحر املرصوف‪ .‬ويخرب فاروق –‬ ‫ّ‬ ‫"املرابطون" – عن "ملهى فينوس" تحت البناية نفسها "وكانت أشهر من فندق الكارلتون"‪ .‬ما زال الوقت‬ ‫مبكرا ً عىل ضحكات األشباح الساهرة‪ ،‬لكن الراوي يسمعها يف عبوره من هنا‪ ،‬كل يوم‪ ،‬كَ َمن يفي نذرا ً قطعه‬ ‫عىل طول العمر وعرضه‪ .‬ويرى الرواد أيضاً‪ :‬بنطلونات الرجال الواسعة عند القدمني‪ ،‬فساتني النساء املزركشة‬ ‫القصرية تعلوها رؤوسهن بترسيحاتها العالية‪.‬‬ ‫مجسم فلسطيني‬ ‫آوت "يعقوبيان" أيضاً قيادات فلسطينية‪ ،‬وما زالت مق ّر وكالة األنباء الفلسطينية‪ّ .‬‬ ‫"يعقوبيان"‪ ،‬املهلهلة اآلن‪ ،‬يف بريوت ال تَنىس‪.‬‬ ‫وفاروق‪ ،‬ملن ال يعلم‪ ،‬مرشوع مليونري‪ ...‬أفلس قبل أن يحصد ماليينه‪" .‬شارع أبو خليل"‪ ،‬عىل ضفاف الروشة‪،‬‬ ‫مبنى‬ ‫وحيش الفخامة‪ ،‬تزيّنت يف املايض لبطلنا السائق بأوراق خرضاء‬ ‫ّ‬ ‫يَشهد‪ .‬قطعة األرض‪ ،‬التي أنبتت أخريا ً ً‬ ‫مختومة من املرصف املركزي األمرييك‪ ...‬ثم فسدت الحفلة‪ .‬كان محمد عيتاين قد باع األرض‪ ،‬العام ‪،1923‬‬ ‫ألستاذ يف الجامعة األمريكية عاد إىل بالده بعد سنتني وانقطعت أخباره‪ .‬جاءت عائلة من آل الفاخوري‬ ‫وطلبت من العيتاين ُسكنى األرض‪ .‬بنت بيتاً صغريا ً‪ ،‬من غرفة واحدة‪ ،‬وزرعت األرض حوله‪ .‬قبل هجرة‬

‫‪93‬‬


‫‪92‬‬

‫البوابة التاسعة‬

‫املط ِّوف‬

‫يوقف فاروق عيتاين سيارة األجرة التي يعتاش من قيادتها يف شوارع بريوت‪ ،‬ليشري بإصبعه إىل َم ْسكَن‬ ‫الجن ّية‪ .‬مييل بجذعه عىل املقعد املحاذي ملقعد السائق الذي ميأله بجسمه الضخم‪ ،‬وتبدو طويلة س ّبابته‬ ‫املندفعة من النافذة نصف املفتوحة‪ ،‬دالّ ًة إىل شجرة صنوبر منها اتخذت منطقة "الصنوبرة" اسمها‪.‬‬ ‫هنا‪ ،‬كانت ترخي شعرها األسود الطويل عىل أغصان نصف عارية‪ ،‬وتجزل ثدييها من بني األكواز الصلبة‪.‬‬ ‫يكون الصبح يف أ ّوله‪ ،‬واملصلّون يتقاطرون عىل الجامع القريب‪ .‬هدفها أن تلهيهم عن صالتهم‪ .‬تناديهم إىل‬ ‫خطيئة صباح مل تكتمل خيوطه‪ ،‬ألن عينيها الخرضاوين خري من النوم والصالة معاً‪ ،‬تقول‪ ،‬وترفع خرقاً أثريية‬ ‫بيضاء‪ ،‬فتنكشف ساقاها البضّ تان‪ .‬عفريتة طائشة هي التي جلبت عىل ظهر رفيق عيتاين قضيب خيزران‬ ‫استلّه أبوه فجأة وركض خلف الصبي يف الشارع‪ ،‬بعدما أخربه إمام الجامع‪ ،‬عبدالله عيتاين الذي انتهى يف‬ ‫آخر أيامه بائع فحم‪ ،‬أنه ضبط رفيقاً فجرا ً‪ ،‬يضاجع الشجرة‪ ،‬يضاجعها بكل قوته‪ .‬كان ذلك يف العام ‪،1955‬‬ ‫وخاف األب كثريا ً أن يجد نفسه‪ ،‬يف وقت قريب‪ ،‬ج َّدا ً لطفل مسخ‪ .‬فهذه الثمرة املعروفة لتالقي اإلنس‬ ‫والجن‪.‬‬ ‫مل تفرج األكواز عن مسخ‪ ،‬بل إن البلدية هي التي خانت الصنوبرة‪ ،‬فذوت‪ .‬أما فاروق‪ ،‬فيلقي عىل ج ّنيتها‬ ‫رسه ‪ ،‬ويضحك لصورة أخيه يف ذاكرته‪ ،‬كلام م ّر بسيارته مصطحباً ركّاباً‪ ...‬لكن‪ ،‬كيف تبقى‬ ‫تحية املساء يف ّ‬ ‫صب ّية هكذا؟‬ ‫رشيرة أشجار بريوت‪ ،‬واليوم قَلَّت‪ .‬كانت أكرث وفرة‪ ،‬لكنها مل تتسم يوماً بالطيبة‪ .‬لذلك هي أشهى‪ ،‬وساحراتها‬ ‫مثريات‪ .‬ال تلعب الخرضة الشحيحة يف املدينة مع نسمة صيفية‪ .‬بل تنادم‪ ،‬منذ قرون‪ ،‬غبارا ً‪ ،‬وطيورا ً ميتة‬ ‫سلفاً‪ ،‬ومع ذلك تزقزق قدر ما يعينها الله عىل الزقزقة‪ .‬مثل تلك العصافري‪ ،‬كان فاروق ذات زمن‪ :‬شاب سليم‬ ‫قص أظافره‪،‬‬ ‫األسنان‪ ،‬يعلو الشعر رأسه‪ ،‬خريج قسم األدب العريب يف جامعة بريوت العربية ‪ ،1971‬ال يهمل ّ‬ ‫ويراقص قَ َدره‪ ،‬حتى أر َدته األيام سائقاً متنورا ً‪.‬‬ ‫مجددا ً‪ ،‬يف "نزلة كاراكاس"‪ ،‬يوقف سيارته ذات األسالك املتمردة عىل "التابلو"‪ ،‬لتسرتخي عىل سجيّتها‪،‬‬ ‫كأخطبوط معد ّين سعيد‪ ،‬يف فجوة املس ّجلة املفقودة‪ .‬مجددا ً‪ ،‬س ّبابته‪ :‬شجرة "أم قصيص" واحدة من شجريات‬ ‫ثالث يف "حي الثالث قمحات"‪ ،‬يقول‪ .‬ورغم الفرامل املشدودة يف املرسيدس التي مل يُذبها متاماً رماد السجائر‪،‬‬ ‫وإن نالت من مقاعدها أوزان الركاب وسائقهم‪ ،‬تنزلق السيارة ببطء غري خطري عىل املنحدر اإلسفلتي‪ ،‬كأنها‬ ‫تستعد لجولة تزلّج‪ .‬من شجرة "أم قصيص" هذه‪ ،‬كانت تستخرج "قضبان الدبق" الصطياد الطيور‪ ...‬هواية‬ ‫البيارتة وعملهم اإلضايف إىل جانب صيد السمك وصناعة الفخار‪.‬‬ ‫تعيش "أم قصيص" كام صنوبرة "الصنوبرة"‪ .‬مييزها فاروق‪ ،‬حتى يومنا هذا‪ ،‬يف ذهابه وإيابه‪ .‬ذراعه اليرسى‬ ‫التي س ّودتها شمس األجرة‪ ،‬تتدىل من ناحية "أم قصيص"‪ ،‬يف إشارة إىل سائق السيارة خلفه أن‪ :‬مت ّهل‪،‬‬ ‫سأصطاد زبوناً اآلن‪.‬‬


‫ِج ّنية‪ ،‬ومنشار‪ ،‬وأموات رومانسيون‬

‫رشا األطرش‬

‫‪95‬‬

‫يف كل مساء‪ ،‬يبصق أبو فاروق تراب حرش بريوت‪ ،‬ويخرج إىل ُرخامته‪ .‬لعله ال يبيك‪ .‬من الصعب التفكري يف‬ ‫أيب فاروق باكياً‪ .‬األدق أنه يتأمل السامء السوداء من ثقب يف سقف التنك‪ ،‬منصتاً إىل النجمة الوحيدة التي‬ ‫لري القرب الخاوي‪.‬‬ ‫يتب ّينها‪ .‬مي ّد يده متلقفاً قطرات املطر يف الشتاء‪ ،‬فتخرتق ّ‬ ‫الكف الهوايئ مكمل ًة طريقها ّ‬ ‫ابنه يويص بأن يدفن معه‪ .‬ال يتخيل نفسه جثة تعسة يف مكان آخر‪ .‬يف حفرة أخرى رمبا يصبح جيفة! أما‬ ‫كل منهم يف مكان إقامته‪ .‬هم الذين تركوه‪ .‬سافروا يف اتجاهات الكوكب‬ ‫أوالده‪ ،‬أحفاد رجل النجمة‪ ،‬فليُدفن ٌّ‬ ‫األربعة‪ .‬من اآلن يشرتط فاروق‪" :‬ال أريد أن يزور قربي أحد"‪ .‬يكتفي بالعشب العشوايئ نهارا ً‪ ،‬وبالعجوز‬ ‫تشف يده عن املطر ليالً‪ .‬ويتوعد أبناءه بروحه تطاردهم إن مل ينفذوا وصيته‪.‬‬ ‫الذي ّ‬ ‫‪ ...Wall Against War‬يقولها السائق باإلنكليزية‪ .‬يجب أن تقتنع املدينة بنصيحته الح ّبية ووصاياه‪ .‬فهو‬ ‫الروايئ وهي روايته العزيزة‪ .‬ال يعرف املرء من أين تأتيه الرضبة‪ ،‬لذلك يجدر بكل مواطن أن يس ّور بيته‬ ‫بجدار مضاد للحرب‪ .‬هذا منطقه‪ .‬نعم‪ ،‬مثل جدار برلني‪" .‬برلينات" مستَذكَرة‪ ،‬بريوت‪ .‬فإذا اخرتت رشاء‬ ‫بيت أو بناءه يف منطقة رأس النبع مثالً‪ ،‬عليك أن تحسب حساب املعارك وتحمي نفسك‪ .‬اليوم رأس النبع‪،‬‬ ‫وغدا ً رمبا "كركول الدروز" أو "الحدث" أو حتى شارع الحمراء‪ .‬ال بد للبيوت أن تشبه أصحابها‪ .‬كيف تكون‬ ‫كل يف‬ ‫مفتوحة والناس منطوون عىل هوياتهم؟ أقفاص مؤ َّمنة يجب أن تكون‪ ،‬والجدار جدران‪ .‬فليعش ٌّ‬ ‫سيارته املصفّحة‪ ،‬أفضل‪ .‬هكذا‪ ،‬يأخذها معه إن اضطر إىل الرحيل‪.‬‬ ‫يقود فاروق سيارة األجرة باتجاه مبيتها يف موقف عىل أطراف منطقة الحمراء‪ .‬أتر ّجل شاكرة‪ .‬ال حاجة إىل‬ ‫إيصايل إىل البيت‪ ،‬لكن كيف تذهب أنت إىل بيتك يا فاروق إن كنت سترتك السيارة هنا؟ لن يفعل‪ .‬سيجلس‬ ‫مع ناطور املوقف يف كُشكه‪ .‬ترك عنده الكومبيوتر املحمول‪ .‬سيدخّن معه نارجيلة ويستعرض صفحته عىل‬ ‫"فايسبوك" أو رمبا يكتب شيئاً عىل مد ّونته التي مل يقتصد يف الشعار الذي دبّجه لها‪" :‬لبنان وطن نهايئ‬ ‫ملواطنيه‪ ،‬ال جرس وال رسالة‪ ...‬مدونتي مرآيت‪ ،‬قلقي‪ ،‬أحالمي‪ ،‬ذاك اإلنسان بداخيل"‪.‬‬

‫"‪"The Wizard of Caracas‬‬ ‫‪Portal 9 page 141‬‬


‫‪94‬‬

‫البوابة التاسعة‬

‫املط ِّوف‬

‫العائلة إىل ليبيا‪ ،‬العام ‪ ،1975‬أُعطي البيت إىل رفيق عيتاين‪ ،‬عشيق الجنيّة‪ ،‬وهو أخو فاروق من غري أ ّمه‪.‬‬ ‫رغبت شخصية لبنانية مرموقة يف رشاء األرض‪ ،‬وكشف السؤال هنا وهناك أنها "بال صاحب"‪ .‬نائب أرمني يف‬ ‫الربملان قال للشاري الولهان‪ :‬مرادك عندي‪ّ .‬لف ودار‪ ،‬راح وجاء‪ ،‬حتى استحصل عىل ورقة من ورثة أستاذ‬ ‫الجامعة بتجيري األرض إىل الرشيكني‪ :‬النائب ورئيسه‪ .‬لكن مالعني "األحداث األهلية" ش ّموا الخرب‪ ،‬فغرسوا‬ ‫يف املكان تاجر سيارات مستعملة‪ ،‬قبل أن يؤول الكنز املرصود إىل شقيقة سيايس ما زال فتّاكاً‪ ،‬منذ الحرب‪،‬‬ ‫وبكامل أناقته‪ .‬ف َن َمت برسعة بناية دولوكس‪ ،‬سعر الشقة الواحدة فيها مباليني الدوالرات‪.‬‬ ‫ما زال فاروق ينتعل جزمة الحرب األهلية‪ .‬يفكر بها‪ .‬كان يف وسعه جلب "الطابو"‪ ،‬تزويره إن اقتىض األمر‪.‬‬ ‫"لست قديساً" يقول‪" ،‬أنا أيضاً كان عندي معارف‪ ،‬وكانت الدنيا فوىض‪ ،‬لكنني أهملت املوضوع ومل أستمع‬ ‫إىل أخي"‪ .‬تباً للحظ‪ .‬اللعنة عىل المباالة الشباب‪ .‬يرضب فاروق الضخم رأسه باملقود‪" :‬كنت أصبحت غنياً‪..‬‬ ‫كنت أصبحت غنياً!"‪ .‬ال تني أوراق "البنك نوت" تحوم حول البناية الفقيدة‪ ،‬كإعصار مكتوم يف أنفاس‬ ‫السائق العمومي‪ ،‬زلزال مشتهى كاد يرضب حياته فيقلبها رأساً عىل عقب‪ ،‬لكن الرتاب الذي ينبت ذهباً‬ ‫ابتلع الزلزال‪.‬‬ ‫بريوت يف حاجة إىل منشار كبري‪ ،‬يفصلها عن الجمهورية اللبنانية التي مل تتصالح يوماً مع عاصمتها‪ .‬هكذا‬ ‫يتص ّورها املتج ّول الدؤوب يف سيارته الهرمة‪ .‬لو أن عندنا دولة‪ ،‬وأرادت هذه الدولة بريوتَها‪ ،‬لو ّحدت بلديات‬ ‫العاصمة‪.‬‬ ‫قصها مراهق من مجلّة ليلصقها عىل باب خزانته‪ .‬امرأة جميلة‪ ،‬وقد أنقذها‬ ‫من كالمه تخرج املدينة صور ًة ّ‬ ‫من رصاصري الورق‪ ،‬ليدخلها أحالم يقظته‪.‬‬ ‫ينرش فاروق بريوته كل يوم‪ .‬يغافل شوارعها الرئيسية‪ ،‬مفضالً األزقّة‪ ،‬حتى املخردق منها بالحفر‪ .‬ال ينتمي‬ ‫ُشق طرقات‬ ‫إليها إال بالتحايل عىل مخططها الرسمي‪ .‬فهو الذي يعرف رأس بريوت كباطن كفّه‪ ،‬من قبل أن ت ّ‬ ‫عريضة وت ُعبّد بالزفت‪.‬‬

‫يف "الطريق الجديدة" عاش فاروق من العام ‪ 1957‬وحتى العام ‪" .1973‬الطريق الجديدة‪ :‬أولها دار لأليتام‬ ‫وآخرها دار للعجزة"‪ ...‬وما بينهام تعايش يندثر فوق األرض‪ ،‬ويكمل مساره تحتها‪ .‬أول ِ‬ ‫وآخر‪ ،‬والوسط‬ ‫غابة يافطات وسيارات ومحالت تبيع الحلويات وساندويشات "ك ُْل و ُم ْت"‪ .‬األرجح أن لألمكنة وشخوصها‬ ‫واألشياء‪ ،‬صورتان‪ .‬واحدة أمام العني‪ .‬وأخرى خلفها‪ ،‬يف مؤخرة الجمجمة‪ .‬الطريق الجديدة‪ ،‬تحت صلعة‬ ‫فاروق‪" ،‬جبّانة" كبرية‪ ،‬مختلطة‪ .‬فيها مقابر للبنانيني الس ّنة والشيعة‪ ،‬ومقابر للفلسطينيني أيضاً‪ .‬خلف عيني‬ ‫فاروق‪ ،‬املقابر مسقوفة بألواح التوتيا‪ ،‬إذ لطاملا اعتقد األحياء بأنها تحمي األموات من الح ّر واملطر‪ .‬فامليت‬ ‫يخرج من قربه ليالً‪ ،‬يجلس قرب الشاهد الرخامي‪ ،‬ويبيك عىل نفسه‪.‬‬


‫ِج ّنية‪ ،‬ومنشار‪ ،‬وأموات رومانسيون‬

‫رشا األطرش‬

‫الصور من فيديو لبشّ ار خطّار‬

‫‪97‬‬


‫‪96‬‬

‫البوابة التاسعة‬

‫املط ِّوف‬

‫الصور من فيديو لبشّ ار خطّار‬


‫البوابة التاسعة‬

‫مراسالت‬

‫َع ّمن املتخ َّيلة والغريبة غربة غلوب باشا‬ ‫يف إمارة رشق األردن‬ ‫إنها املدينة التي ما إن نهم بزيارتها حتى تقول لنا السياسة إنها مضجرة ورتيبة‪.‬‬ ‫هكذا من دون مقدمات وال أسباب‪.‬‬

‫حازم األمني‬

‫‪99‬‬


‫‪98‬‬

‫عمن‪.‬‬ ‫درج بني البيوت يف جبل ّ‬

‫تصوير متارا عبد الهادي‬


105


‫‪104‬‬

‫عمن‪.‬‬ ‫جانب من منطقة جبل ّ‬ ‫تصوير متارا عبد الهادي‬


107


‫‪106‬‬

‫عمن‪.‬‬ ‫مخيم الوحدات لالجئني الفلسطينيني يف ّ‬

‫تصوير متارا عبد الهادي‬


111


‫‪110‬‬

‫الد ّوار الخامس كام يظهر من فندق الشرياتون‪.‬‬ ‫تصوير متارا عبد الهادي‬


‫البوابة التاسعة‬

‫مراجعات و نقد‬

‫‪143‬‬

‫بعث نهضة املوسيقى العرب ّية‬

‫مؤسسة ‪ AMAR‬ومرشوعها يف مقابلة مع كامل قصار‬

‫منال ن ّحاس‬

‫عىل هضبة عالية يف بلدة القرنة الحمراء (منطقة املنت‪ -‬جبل لبنان) مطلّة عىل بريوت وبحرها‪ ،‬ويف باحة منزل كبري‬ ‫من منازل الجبل التقليديّة‪ ،‬يقع مركز مؤسسة التوثيق والبحث يف املوسيقى العربية (‪ .)AMAR‬املركز هذا هو‬ ‫مبنى بسيط يشبه البيت الذي يرسمه األوالد يف صفوف الحضانة‪ :‬بناء شبه مستطيل يعلوه مثلث ونافذته مطلة‬ ‫عىل األشجار واملنحدر املفيض إىل بريوت وبحرها الشاسع‪ .‬بساطة األثاث طاغية‪ :‬طاولتان وصندوق تغفله العني عىل‬ ‫مقربة من الباب يتضح يف وقت الحق أنه مسجل أسطوانات قديم عمره أكرث من ‪ 80‬عاماً وجوفه ميلء باألصوات‬ ‫الساحرة‪ .‬إضافة إىل خزانات تحمل يف طياتها مئات املغلفات البيض منزوعة اآلسيد التي تشبه امللفات الطبية‪ .‬هنا‬ ‫ت ُحفظ أسطوانات موسيقية قدمية‪ ،‬وتنقل إىل أقراص مدمجة حديثة‪ ،‬وتَحرض أسامء غابت عن ذاكرة أجيال اليوم مثل‬ ‫منرية املهدية وعيل القصبجي وعبد الرحيم املسلوب وعبد الحي حلمي ويوسف املنيالوي ومحمد عثامن‪.‬‬ ‫مؤسس املركز هذا هو كامل كريم قصار‪ ،‬الذي يسعى يف مرشوعه األرشيفي واإلحيايئ إىل تسليط الضوء عىل جانب‬ ‫منيس من مرحلة النهضة العربية‪ ،‬ذلك الجانب الذي يُهمل ذكره أو حتى اإلشارة إليه يف مناهج التدريس الثانوية‬ ‫التي تقرص عرضها للنهضة عىل أعالم مثل محمد عبده وجامل الدين األفغاين وجربان خليل جربان‪ .‬وال تشري كتب‬ ‫هذه املناهج‪ ،‬ولو ملاماً‪ ،‬إىل مكانة املوسيقى يف النهضة العربية‪ ،‬عىل الرغم من أن كالً من توفيق الحكيم ونجيب‬ ‫محفوظ مل ِ‬ ‫قصار مبرشوعه‬ ‫يخف تأثره‪ ،‬يف تلك املرحلة‪ ،‬باملسارح الغنائية وبعوامل املغنيات واملوسيقيني‪ .‬وينفض ّ‬ ‫انرصم‬ ‫أنه‬ ‫كثريون‬ ‫يحسب‬ ‫الذي‬ ‫املايض‬ ‫من‬ ‫جزء‬ ‫هذا‪ ،‬الغبار عن‬ ‫وطوي و َد َر َس من غري أثر أو طلل‪ ،‬وذوى مع الثقافة‬ ‫َ‬ ‫الشفهية غري املحفوظة‪.‬‬

‫أي نوع من املحفوظات املوسيقية "تُوثق" يف أرشيف‬ ‫مؤسسة ‪AMAR‬؟‬

‫ما بني حملة نابوليون والخديوي‬

‫ما الصلة بني موسيقى مطلع القرن التاسع عرش وحملة‬ ‫يف جعبة مؤسسة التوثيق والبحث يف املوسيقى العربية نابوليون عىل مرص وبداية عرص النهضة؟‬ ‫أكرب مجموعة من موسيقى الرشق األوسط يف العامل‪.‬‬ ‫الشطر الراجح من هذا األرشيف يعود إىل بداية يف بداية القرن التاسع عرش‪ ،‬إثر حملة نابوليون عىل‬ ‫التسجيل املوسيقي يف العام ‪ 1903‬وصوالً إىل ثالثينيات مرص ودخول الرشكات األجنبيّة إىل السوق املرصيّة‪،‬‬ ‫القرن العرشين‪ .‬يتألّف قوام هذا األرشيف من أكرث من برزت حركة فنية ال يستهان بأهميتها‪ .‬وقد رغب خديوي‬ ‫‪ 7‬آالف أسطوانة ‪ 78‬لفة ( ُعرفت األسطوانات برسعة مرص يف تحويل القاهرة إىل مدينة يضاهي جاملها جامل‬ ‫دورانها عىل الجهاز وهي ‪ 78‬لفة يف الدقيقة)‪ .‬وكان اسطنبول وتحظى مبكانتها الرفيعة‪ .‬اهتم الخديوي‬ ‫التسجيل عىل مثل هذه األسطوانات قد بدأ يف مرص بتمويل الفن واملسارح وإنشاء صاالت العرض واالحتفال‬ ‫العام ‪ ،1903‬ث ّم انترش منها‪ ،‬يف مرحلة الحقة‪ ،‬إىل سوريا والحفالت الغنائية‪ ،‬وق ّدم دعمه للف ّنانني‪ .‬وقد سار ملوك‬ ‫ولبنان‪ .‬األمر تزامن مع بلوغ املوسيقى الرشقية العربية مرص من بعده عىل خطاه يف رعاية الفن‪ ،‬فربزت أشكال‬ ‫جديدة من املوسيقى وتطورت‪ .‬أحد هذه األشكال‬ ‫أو ّجها وعرصها الذهبي‪.‬‬


‫‪142‬‬

‫يف مركز "مؤسسة التوثيق والبحث يف املوسيقى العربيّة" – قرنة الحمرا‪ ،‬املنت‪ ،‬لبنان‪.‬‬ ‫تصوير تانيا طرابليس‬



‫مؤسسة التوثيق والبحث يف املوسيقى العربيّة‪.‬‬ ‫أرشيف موسيقي يف مركز ّ‬

‫تصوير تانيا طرابليس‬


‫بعث نهضة املوسيقى العربية‬

‫منال ن ّحاس‬

‫أ ّما الباحث العريب األ ّول الذي اهت ّم بهذا النوع من‬ ‫املوسيقى فهو عيل جهاد الرايس (استاذ علم موسيقى‬ ‫الشعوب يف جامعة كاليفورنيا وهو معروف باسمه‬ ‫الثاليث)‪ .‬وكانت الدراسات قد كرثت عن هذه املرحلة‬ ‫من تاريخ املوسيقى (‪ ،)1930-1903‬أبرزها دراسات‬ ‫فريديريك الغرانج وفرجينيا دانيلسون‪ .‬شخصيًّا التقيت‬ ‫بعض هؤالء الباحثني‪ ،‬ومنهم فريديرك الغرانج الذي‬ ‫اتصل يب ذات يوم ليبلغني أن أكرب مجموعة موسيقية‬ ‫قدمية يف مرص‪ ،‬وهي مجموعة عبد العزيز العناين املؤلفة‬ ‫من نحو ‪ 3500‬أسطوانة و‪ 600‬ساعة تسجيل‪ ،‬معروضة‬ ‫للبيع‪ .‬حاولت إذاعة إرسائيل رشاء املجموعة املذكورة‪،‬‬ ‫إلّ أن الصحافة املرصية أفشلت الصفقة‪ .‬كام حاولت‬ ‫دار األوبرا املرصية رشاءها لكن االعتامدات املالية مل‬ ‫تتوفر‪ .‬فقررت أرسة العناين بيعها للتجار باملف ّرق‪ ،‬األمر‬ ‫الذي كان سيؤ ّدي لو حصل إىل اندثار تلك املجموعة وإىل‬ ‫تقويض قيمتها‪ .‬عندها تدخّلت واشرتيتها‪.‬‬ ‫تحديات "هجرة" املوسيقى وحفظها‬ ‫تواجه مكتبات عاملية مثل مكتبة الكونغرس مشكلة‬ ‫شائكة هي مشكلة حفظ "محفوظاتها" الكرتون ًيا‬ ‫وتحدي نقل هذه املحفوظات اىل وسائط الكرتونية‬ ‫جديدة عند اندثار الوسائط التي كانت مستعملة قبل‬ ‫عقد مثالً‪ .‬فهل تواجه مؤسستكم مثل هذه املشكلة‬ ‫وكيف تتصدى لتحدياتها؟‬ ‫األسطوانات املحفوظة يف "مؤسسة التوثيق والبحث‬ ‫يف املوسيقى العربية" (‪ )AMAR‬يبلغ عمرها أكرث من‬ ‫‪ 100‬عام‪ .‬املشكلة التي تربز هنا تتمثّل يف أن أرشطة‬ ‫األسطوانات تفقد مادتها مع الوقت‪ .‬لهذا‪ ،‬وأمام هذا‬ ‫التح ّدي‪ ،‬يتوىل املركز نقلها إىل التكنولوجيا الرقمية‪.‬‬ ‫وتح ّديات نقل املحفوظات من وسيلة حفظ إىل أخرى‬ ‫تقرتن مبشكلة ج ّديّة واجهتها كربى املكتبات يف العامل‪،‬‬ ‫أي مكتبة الكونغرس‪ .‬املشكلة هذه‪ ،‬التي تُعرف بالهجرة‬ ‫‪ ،migration‬تشبه إىل ح ّد ما عمليّة نقل أفالم محفوظة‬ ‫عىل نظام ‪ VHS‬الذي تجاوزه الزمن إىل وسائط‬ ‫تكنولوجية جديدة‪ .‬ومؤسستنا يف هذا السياق تلتزم‬ ‫توصيات املنظمة العاملية لألرشفة الصوتية ‪ IASA‬التي‬ ‫تعتمد أفضل طرق الرتميم وسبله‪ .‬والتزام التوصيات‬ ‫ييس عملية النقل‪ ،‬إذا دعت الحاجة إىل ذلك يف وقت‬ ‫ّ‬ ‫الحق‪ ،‬من األقراص املدمجة‪" ،‬يس دي"‪ ،‬إىل نوع جديد‬ ‫من وسائط حفظ املوسيقى‪ .‬لذا‪ ،‬ترقّم امللفات املوسيقية‬ ‫أثناء نقلها إىل األقراص الصلبة‪ ،‬وتُض َّمن معلومات‬

‫‪147‬‬

‫تقنية‪ ،‬كام يت ّم توصيف النظام املستعمل لقراءة امللف‬ ‫ومفصل‪ .‬فنحن يف هذا اإلطار نعتمد نظاماً‬ ‫ً‬ ‫توصيفًا دقيقًا‬ ‫مشابهاً لنظام حفظ املوسيقى األمريكية امللتزم يف هارفرد‬ ‫وإنديانا‪.‬‬ ‫كيف تنقل املوسيقى من االسطوانة القدمية اىل الـ"يس‬ ‫دي" واىل "وثائق" املؤسسة الرقمي؟‬ ‫عملية نقل املوسيقى من األسطوانة القدمية إىل ملف‬ ‫رقمي هي عمل ّية بالغة الدقة‪ .‬ونستورد من إنكلرتا‬ ‫لقراءة األسطوانة ستة أنواع من اإلبر تتناسب مع أنواع‬ ‫األسطونات وأحوالها ومستويات تلفها‪ .‬اإلبر املذكورة‬ ‫مسطحة الرأس وتعمل بواسطة الليزر‪ ،‬فال تخدش‬ ‫األسطوانة‪ ،‬املصنوعة من مواد هشة‪ ،‬عىل ما تفعل اإلبر‬ ‫القدمية التي تخلِّف مع الوقت نوعاً من التآكل‪ .‬واإلبر‬ ‫الحديثة تقرأ سطح األسطوانة وليس عمقها الذي خربته‬ ‫اإلبرة الحديديّة القدمية‪ .‬ومثة آالت تنظيف دقيقة تنقي‬ ‫الصوت املنبعث من األسطوانة من التأثريات الخارجية‬ ‫والقرقعة مثل صوت "كليك وكالك وهيس"‪.‬‬ ‫ميكن القول إن شاغلنا األول هو حفظ مادة األسطوانات‬ ‫عن طريق الرتقيم عىل الكمبيوتر‪ ،‬ثم نقلها إىل وسيلة‬ ‫دعم (‪ )backup‬بواسطة خادم إلكرتوين(‪ )server‬آخر‪.‬‬ ‫لكن ال يخفى عىل أحد أن خري وسيلة لحفظ اإلرث‬ ‫هي نرشه عىل "يس دي" وطرحه يف األسواق‪ ،‬يف مرحلة‬ ‫أوىل‪ ،‬ثم نرشه عىل األنرتنت‪ ،‬يف مرحلة ثانية‪ .‬وتعمل‬ ‫مؤسسة ‪ AMAR‬يف هذا السياق عىل اإلعداد ملرشوع‬ ‫راديو إلكرتوين (عىل اإلنرتنت) يبث املوسيقى القدمية‬ ‫ٍ‬ ‫وتعريف لها‪ .‬ويف الذكرى السنويّة املئة‬ ‫مع تقديمٍ‬ ‫لوفاة املطرب الكبري يوسف املنيالوي‪ ،‬وهو أول مطرب‬ ‫املؤسسة بنرش أعامله الكاملة عىل‬ ‫ُسجلت أغانيه‪ ،‬قامت ّ‬ ‫مجموعة من األقراص املدمجة‪ ،‬كام أع ّدت كتابًا عنه‬ ‫شارك فيه موسيق ّيون وباحثون‪ .‬هذا وتقيم ‪AMAR‬‬ ‫عالقات أكادميية مع جامعات يف لبنان‪ ،‬منها جامعتا‬ ‫الكسليك واألنطونية‪ ،‬وعالقات صداقة مع الجامعة‬ ‫األمريكية‪.‬‬ ‫أهداف ‪AMAR‬‬ ‫ما هي أهداف "مؤسسة التويثق والبحث يف املوسيقى‬ ‫العربية"؟ وما السبيل اىل "إنعاش" ذاكرة الناس‬ ‫وتعريفهم عىل إرثهم املوسيقي؟ وهل نسيان الشعوب‬ ‫"موسيقاها" أمر شائع؟‬


‫‪146‬‬

‫البوابة التاسعة‬

‫مراجعات و نقد‬

‫املوسيق ّية الجديدة كان "الدور" الغنايئ الذي أبرص النور "غراموفون" املحفوظ يف انكلرتا‪ .‬وتعود اليوم ملكية هذا‬ ‫يف بدايات القرن التاسع عرش‪ ،‬ث ّم طُ ّور عىل أيدي محمد األرشيف (أرشيف غراموفون) إىل رشكة "‪ "EMI‬بإنكلرتا‪.‬‬ ‫عثامن وعبده الحمويل يف الجزء الثاين من القرن املذكور‪ .‬وتغرف بعض رشكات التسجيل اليوم من هذا األخري‪،‬‬ ‫اصا مدمجة لتسجيالت غري معروفة لفنانني‬ ‫فتُصدر أقر ً‬ ‫ازدهار الفن وترك العاممة‬ ‫عرب من أمثال مح ّمد عبد الوهاب‪ ،‬أو أتراك بارزين‪ ،‬أو‬ ‫عدد من أغاين النساء املرصيات بني ‪ 1920‬و‪.1930‬‬ ‫يجد املرء عىل "يوتيوب" تسجيالت غنائية لشيوخ‬ ‫"يجودون" آيات قرآنية تجويداً غنائياً يراعي الدور هل انعقدت مثار املوسيقى العربية وهل خلفت إرثاً‬ ‫املوسيقي‪ .‬هل خلف بعض رجال الدين "بصمة" يف يعتد به؟ وهل لون املوسيقي يف الدول العربية واحد‬ ‫وهل االرث هذا متجانس؟‬ ‫موسيقى عرص النهضة؟‬ ‫يف بداية القرن العرشين‪ ،‬ويف حمى اإلنتاج الفني‪ ،‬استحدث اإلرث الكبري للموسيقى العربية أشكاالً جديدة‬ ‫بادرت الرشكات األجنبية‪ ،‬األملانية واإلنكليزية من الجمل املوسيقية‪ ،‬عىل الرغم مام واجهه هذا اإلرث‬ ‫والفرنسية واللبنانية‪ ،‬إىل تسجيل أسطوانات لكبار املهم من مظاهر النسيان‪ .‬يرى علامء املوسيقى يف العامل‬ ‫الفنانني وصغارهم‪ ،‬حيث راكمت الرشكات املذكورة أن املرحلة املمتدة بني العامني ‪ 1903‬و‪ 1930‬شهدت‬ ‫الفني آنذاك مزدهرا ً بروز املوسيقى الكالسيكية العربية والرشق أوسطية يف‬ ‫آالف التسجيالت‪ .‬كان جو العطاء ّ‬ ‫وصاخباً‪ .‬وقد حمل نجاح الفنانني عددا ً من مشايخ مرص وفلسطني واألردن وسوريا ولبنان‪ .‬اللون املوسيقي‬ ‫الطرق الصوفية عىل ترك العاممة إىل الطرب والغناء‪ .‬يف هذه الدول املذكورة يكاد يكون متطابقاً‪ ،‬بينام يخرج‬ ‫لهذا فإنّنا نرى أثر الغناء الصويف بالغًا وكب ًريا يف قالب إرث العراق املوسيقي عن هذا اللون عىل الرغم من‬ ‫أوجه الشبه الكثرية بينه وبني اإلرث الرشق أوسطي‪.‬‬ ‫"الدور" املوسيقي‪.‬‬ ‫فاملوسيقى العراقية الكالسيكية تأثرت أكرث باملوسيقى‬ ‫ما هي الظروف التي أفضت اىل أفول عرص املوسيقى الفارسية والرتكية (والهندية)‪ ،‬وصاغت لنفسها لوناً‬ ‫هذه؟‬ ‫خاصاً‪ .‬هذا ويهت ّم العراقيون خالفاً لغريهم من العرب‬ ‫مرحلة ازدهار التسجيالت الغنائ ّية والفنون املوسيقية مبوسيقاهم كثريا ً‪ ،‬إذ يسعون إىل جمع التسجيالت القدمية‬ ‫بدأت باألفول يف ثالثينيات القرن العرشين مع بداية بث ونرشها يف املواقع اإللكرتونية عىل شبكة اإلنرتنت‪.‬‬ ‫الراديو وانتشار السينام‪ .‬إذ أخذت األعامل املوسيقية‬ ‫الهواية واملؤسسة‬ ‫تتكيف مع متطلبات السينام الغنائية وأفالمها‪ .‬وبرز‬ ‫ميل إىل تقليد الغرب وفنونه‪ .‬إذ ذاك صارت املوسيقى‬ ‫العربية هجينة تحاول الجمع بني أصوات اآلالت الغربية كيف انتقلت من هواية جمع املوسيقى اىل أرشفتها‪،‬‬ ‫والرشقية‪ .‬لكنها عىل الرغم من تأثرها باملوسيقى وما دور االنرتنت يف توثيق املوسيقى العربية ويف‬ ‫ّ‬ ‫اإليرانية والبيزنطية يف وقت أول‪ ،‬وتأثرها يف وقت الحق التواصل مع الباحثني يف اصول املوسيقى هذه؟‬ ‫رسا تواصل ًّيا مع غريي من‬ ‫باملوسيقى الغربية‪ ،‬تبقى هذه املوسيقى عربية الطابع الحق أن االنرتنت كان ج ً‬ ‫املهتمني باملوسيقى العربية الرشق أوسطية القدمية‪ .‬منذ‬ ‫والصفة‪.‬‬ ‫شبايب إىل اليوم‪ ،‬مل أتوقف عن البحث عن تسجيالت هذا‬ ‫بداية األفول‬ ‫النوع من املوسيقى‪ ،‬فأجمعها وأعمل عىل أرشفتها‪ .‬وقد‬ ‫راكمت منذ مطلع السبعينات أرشيفاً خاصاً وسعيت إىل‬ ‫هل كان للحربني العامليتني أو االزمة ‪ 1929‬االقتصادية تطويره‪ .‬جمع أسطوانات املوسيقى القدمية كان مبثابة‬ ‫الكربى دور يف طي فصل من فصول املوسيقى العربية؟ هواي ًة يل‪ .‬يف العام ‪ ،2006‬انتقلت للعمل يف ديب جراء ما‬ ‫أزمة العام ‪ 1929‬الكبرية زعزعت االقتصاد العاملي‪ ،‬يُسمى يف لبنان بـ"النرص اإللهي"‪ .‬هناك‬ ‫تعرفت عىل أكرث‬ ‫ُ‬ ‫فرتاجعت وترية اإلنتاج املوسيقي‪ .‬رشكات التسجيل من منتدى للموسيقى العربية‪ ،‬ووقعت عىل أشخاص‬ ‫كم أ ّدت الحرب العاملية الثانية لديهم اهتاممات مشابهة‪ ،‬كام نسجت عالقات مع هواة‬ ‫واجهت صعوبات كبرية‪ّ ،‬‬ ‫إىل ضياع أرشيف "بيضافون" و"غراموفون" يف أملانيا‪ .‬مل املوسيقى القدمية ومع باحثني وموسيقيني يعملون يف‬ ‫ينج من هذا األرشيف القديم سوى قسم من أرشيف هذا املضامر‪ .‬أبرز الباحثني يف هذا املجال هم فرنسيون‪.‬‬ ‫ُ‬



‫مؤسسة التوثيق والبحث يف املوسيقى العربيّة‪.‬‬ ‫جانب من األرشيف يف مركز ّ‬ ‫تصوير تانيا طرابليس‬


‫البوابة التاسعة‬

‫مراجعات و نقد‬

‫جوديت باري و"حكايا القاهرة"‬

‫هذه الحكايا ال متنح صوتاً للنساء القاهريات وحسب بل لألفراد‬ ‫كل مكان من العامل‪.‬‬ ‫يتمسكون بهويّتهم ويصارعون من أجلها يف ّ‬ ‫الذين ّ‬

‫عمر ُخليف‬ ‫جوديت باري فنانة أمريك ّية تستخدم امليديا (وسائل‬ ‫اإلعالم) لتناول املجتمع ولتقدميه وإعادة تقدميه –‬ ‫بأفراده وأحواله وبُناه‪ .‬يف عملها "األ ّول والثالث" (‪)1987‬‬ ‫عالجت موضوع الهجرة والعالقات بني األعراق عىل نحو‬ ‫نقدي‪ ،‬وفكّكت الهيمنة الرأسامل ّية والثقاف ّية يف ع ّدة‬ ‫أعامل فيديو كمثل "املتس ّوق العريض" (‪ ،)1981‬كام‬ ‫عالجت يف عملها األخري "حكايا القاهرة" (‪ )2011‬القضايا‬ ‫السجاليّة التي تنشغل بها دراسات الرتجمة‪.‬‬

‫إثر تخ ّرجها بشهادة يف الهندسة املعامريّة‪ ،‬وما نتج عن‬ ‫خاصة بالفن والتكنولوجيا‪ ،‬عملت باري‬ ‫ذلك من عالقة ّ‬ ‫عىل بلورة هويّتها كف ّنانة وكاتبة يف نيويورك يف وقت‬ ‫كانت فيه سجاالت ما بعد الحداثة قد أطلّت برأسها‪.‬‬ ‫وقد عملت كمساعدة يف محرتف قديس وشفيع فنون‬ ‫الفيديو نام جوون بايك وط ّورت ع ّملها إىل جانب فنانني‬ ‫معارصين لها أمثال سيندي شريمان وجيني هولزر‬ ‫وهانس هايك وكريستوف ووديتشكو‪ .‬عمل باري‪ ،‬غري‬ ‫املعروف عىل نحو كاف يف الرشق األوسط مقارنة بأعامل‬ ‫أقرانها من الفنانني األمريكيني‪ ،‬طفى أخريا ً عىل سطح‬ ‫الوعي العام والفضل يعود لـ"حكايا القاهرة"‪ ،‬الذي‬ ‫عرض للم ّرة األوىل يف بينايل الشارقة ‪.2011‬‬ ‫يتمحور املرشوع حول حكايا شخص ّية قُدمت سامعياً‬ ‫وبرصيّاً من قبل بطالتها وه ّن مجموعة من نساء‬ ‫القاهرة‪ ،‬ث ّم جرى تسجيل هذه الحكايا ومنتجتها‬ ‫وأداؤها من خالل ممثّلني‪ .‬املرشوع يُع ّد تكملة لسلسلة‬ ‫أعامل حققتها جوديت باري حملت عنوان "مل تت ّم‬ ‫املصالحة" وكان أ ّولها "األ ّول والثالث" الذي عرض يف‬ ‫عام ‪ 1987‬ضمن بينايل ويتني‪ .‬العمل األخري استخدم‬ ‫صيغة "كام ُحيك لفالن" القصص ّية يك يستعرض أفكارا ً‬ ‫يك بالنسبة ملهاجرين حلّو حديثاً يف‬ ‫تتناول الحلم األمري ٍ‬ ‫الواليات املتّحدة‪ ،‬وذلك يف وقت ندر فيه حضور صوت‬ ‫األقليات العرقيّة يف متحف ويتني للفن األمرييك‪ .‬يف عام‬ ‫‪ 1991‬وأمام ركاب النقل املشرتك اللندنيني‪ ،‬املنتظرين‬

‫عربات امليرتو يف محطّة هامرسميث‪ُ ،‬عرض الفصل الثاين‬ ‫من "مل تت ّم املصالحة"‪ .‬وهنا‪ ،‬يف هذا املكان‪ ،‬من خالل‬ ‫منصة امليرتو‪ ،‬روت مجموعة كبرية من‬ ‫نوافذ أحد أكشاك ّ‬ ‫الرؤوس التي بال أجسادها‪ ،‬عرب صيغة "كام ُحيك لفالن"‪،‬‬ ‫قصص االقتالع والفصل العنرصي‪ .‬وقد حيكت عىل نحو‬ ‫حاذق املوضوعات املرتابطة التي تجمع هذه األعامل –‬ ‫رسديات التواريخ املحجوبة وغري املرويّة وأخبارها – يف‬ ‫قلب النسيج املك ّون آلخر قطعة حققتها باري‪.‬‬ ‫حكايا القاهرة التي تشكّل أيضاً جزءا ً من "مل تت ّم‬ ‫املصالحة"‪ ،‬بدأت عىل نحو غري رسمي يف عام ‪2001‬‬ ‫وبلغت خالصتها يف ربيع العام ‪ .2011‬يف تجهيزها األ ّويل‬ ‫الذي ق ّدم يف الشارقة ق ّدمت هذه الحكايا عىل شكل‬ ‫رؤوس متح ّدثة تتداخل عىل شاشات كبرية يف أمكنة‬ ‫عا ّمة‪ .‬السياق الذي متوضع فيه باري عملها‪ ،‬عىل ما‬ ‫تؤكّد‪ ،‬يرتبط برغبة يف إنتاج معنى أو بنائه‪ .‬فهي مشغولة‬ ‫بالعالقة بني املتلقي والعمل حيث ميكن لأل ّول بناء تلك‬ ‫العالقة من خالل تفاعله مع ما يشاهد‪ .‬هذه املوضوعة‬ ‫ميكن تعقّبها عىل مدى تجربة الفنانة‪ ،‬كام هو الحال‬ ‫يف تجهيزها الذي نفّذته عام ‪ 1985‬بعنوان "يف ظالل‬ ‫مدينة فامب ر ي"‪ .‬يف العمل املذكور تستخدم باري‬ ‫شاشة تعرض من الجهتني يك تخلق عمالً برصيّاً متشظّياً‬ ‫املديني والضواحوي‪ .‬عرب إقحام مقطوعة‬ ‫للفضاءين‬ ‫ّ‬ ‫صوت ّية مفكّكة مع فواصل أفالم تال تني تُعاد وعروض‬ ‫تبي الفنانة أن‬ ‫رشائح للموضوعات التي اختارتها باري‪ّ ،‬‬ ‫كل موضوع متّت موضعته عىل نحو تلقايئ كوسيط فاعل‬ ‫ّ‬ ‫الكل االستهالك‪.‬‬ ‫وكغرض أمام املشاهد ّ‬ ‫كل تجهيز من‬ ‫هذا التفصيل الدقيق يبدو واضحاً يف ّ‬ ‫تجهيزات الف ّنانة‪ .‬كام أن باري تعتاد عىل إعادة تشكيل‬ ‫تجهيزاتها بحسب املوقع الذي يستضيفها‪ .‬ففي العرض‬ ‫األورو ّيب األ ّول لحكايا القاهرة يف غالريي كارين ساكس‬ ‫الخاصة للشخصيّات عىل‬ ‫مبدينة ميونيخ‪ ،‬ق ّدمت الحكايا‬ ‫ّ‬ ‫شاشات تلفزة أتش دي حيث دمجت يف هذه األخرية‬

‫‪159‬‬


‫‪158‬‬

‫جوديت باري‪" ...‬حكايا القاهرة"‪ ،2011 – 2010 ،‬تجهيز فيديو متعدد املواقع واألبعاد‪.‬‬ ‫حقوق الصورة للفنانة ولغالريي كارين ساكس‪ ،‬ميونيخ وروزاموند‪.‬‬


‫حكايا القاهرة لجوديت باري‬

‫عمر خُليف‬

‫مرشوع باري هذا واجه صعوبات زمن ّية ع ّدة‪ ،‬إحداها‬ ‫كان بداية اجتياح العراق عام ‪ ،2003‬وقد وجدت الفنانة‬ ‫نفسها تُجىل عن القاهرة من قبل القوات األمريك ّية‪.‬‬ ‫كنتيجة لذلك كان عىل عمل ّية التصوير التي رشعت بها‬ ‫أن تنتقل إىل نيويورك من خالل املنشق األ ّول الذي قاد‬ ‫إىل الثورة املرصيّة عام ‪.2011‬‬ ‫عندما تالمس الفنون البرصيّة القضايا املعارصة من‬ ‫متأصالً يطرح إذّاك‬ ‫هذا القرب الشديد‪ ،‬فإن احتامالً ّ‬ ‫تخصصها)‪ُ .‬ر ّب شكّاك قد‬ ‫تخصصها (أو ال ّ‬ ‫عنوانه مدى ّ‬ ‫يسأل‪ :‬عدسة من تُشهدنا عىل هذا العامل؟ لك ّن‪ ...‬حكايا‬ ‫القاهرة تتجاوز هموم باري الف ّنيّة‪ .‬من جهة فإن حركة‬ ‫باري األكرث جرأة كانت يف خلق الرتكيب الذي من خالله‬ ‫تُعرض هذه الصور وترتّب‪ ،‬تاركة إيّاها تنوجد يف هذا‬ ‫حس التفسري الداخيل‬ ‫العامل فيمكنها إذّاك أن تتالعب يف ّ‬ ‫كل مشاهد‪ ...‬حكايا القاهرة تستكشف نزعة‬ ‫لدى ّ‬ ‫الذاتيّة يف التاريخ – بناؤها وعرضها والنحو الذي تتّصل‬ ‫معه طبقاتها املتع ّددة بزمن ومكان مح ّددين‪ّ .‬‬ ‫كل حكاية‬ ‫قامئة بذاتها هي مركّب للغز أكرب‪ :‬من خالل تع ّدديّة‬ ‫تقدميها هذه الحكايا ال متنح صوتاً للنساء القاهريات‬ ‫يتمسكون بهويّتهم ويصارعون‬ ‫وحسب بل لألفراد الذين ّ‬ ‫كل مكان من العامل‪.‬‬ ‫من أجلها يف ّ‬ ‫‪ ...‬حكايا القاهرة هو أكرث من مج ّرد قطعة من عمل‬ ‫املرسح التوثيقي والكالمي‪ ،‬رغم ما قد يزعم من مجاز‬ ‫مشرتك يتمثّل بفعل القص‪ .‬بل انه اختبار قائم عىل‬ ‫بحث يضع خارطة للهرميّة اإليديولوجيّة والسياسيّة التي‬ ‫تُحيط بحيوات النساء يف الرشق األوسط‪ ،‬عىل النحوين‬ ‫املبارش وغري املبارش‪ .‬إنّه مسعى لبناء الرسد وتكوينه‬ ‫قصة س ّيالة ذات شكل متب ّدل تُروى‬ ‫من الشذرات‪ّ ،‬‬ ‫أمام األبواب ومن خلفها عىل ح ّد سواء‪ .‬بلغة الشارع‬ ‫ولهجته – بأصوات باعة األرصفة‪ ،‬أصحاب محال الشاي‪،‬‬ ‫والج ّوالني بني األمكنة‪ ،‬هؤالء الذين يك ّونون باجتامعهم‬ ‫النسيج االجتامعي للقاهرة – فإن حكايا القاهرة‬ ‫تستعرض مدى قدرة الحكايا التي نتداولها فيام بيننا عىل‬ ‫مساعدتنا يف تعريف ما هو شخيص وما هو موضوعي‬ ‫يف التاريخ‪" .‬إذ أن القصص التي يرويها بعضنا لبعضنا‬ ‫اآلخر"‪ ،‬تقول باري‪" ،‬تنعكس علينا بدقّة أكرب مام تنعكس‬ ‫عىل حقائق عيشنا"‪.‬‬ ‫ترجمة فادي طفييل‬ ‫"‪"…Cairo stories by Judith Barry‬‬ ‫‪Portal 9 page 175‬‬

‫‪161‬‬


‫‪160‬‬

‫البوابة التاسعة‬

‫مراجعات و نقد‬

‫متباعدا ً من املرويات وتحويله إىل تجربة حكائ ّية‬ ‫متع ّددة اللغات وتتميّز بالتامسك والحميميّة‪ .‬يف واحد‬ ‫من املقاطع األكرث حزناً‪ ،‬فإ ّن املرتجمة التي ت ُدعى منى‪،‬‬ ‫املولودة يف باريس والتي تعيش يف مكان ما من القاهرة‪،‬‬ ‫تنوح أمام أعيننا مستعيدة واقعة هجرها من قبل زوجها‬ ‫وأبنائها عىل ح ّد سواء‪ .‬مع اقرتاب مونولغها من نهايته‬ ‫تبدأ باإلنهيار‪" ،‬ابنتي التي تقول أنني اسلفتها ثقتي وهي‬ ‫مل ّا تزل يف عمر صغري‪ ،‬تقول أيضاً أ ّن ليس لها أ ّماً‪ ،‬رغم‬ ‫تدريجي‬ ‫أنني صديقتها األقرب"‪ .‬دموعها تبدأ عىل نحو‬ ‫ّ‬ ‫بالفوران لونيّاً قبل تب ّددها رويدا ً يف لوحة باري املعتمة‪.‬‬ ‫يل‪،‬‬ ‫ويف هذه اللحظات تتب ّدا عزلتها املطلقة عىل نحو ج ّ‬ ‫"لست مرتجمة ج ّيدة بالنسبة البني أيضاً عىل ما أعتقد"‪،‬‬ ‫تقول لنا‪" .‬هو يعيش معي يف البيت لك ّنه كوالده‪ ،‬ال‬ ‫يكلّمني"‪.‬‬

‫عىل نسق عمودي ووفاقاً لنظام اإلعادة املستمر‪ُ .‬سدت‬ ‫كل واحدة من الحكايا عىل لسان ممثّلة وق ّدم معظمها‬ ‫مبزيج من اللهجة القاهريّة للغتني العرب ّية واإلنكليزيّة‪،‬‬ ‫وذلك إىل جانب صورة بورتريه تطابق الحجم الطبيعي‬ ‫للمؤ ّدية‪ .‬الدمج بني الصور الثابتة واملتح ّركة أثار أسئلة‬ ‫فكل‬ ‫ذات صلة حول سياسات صنع الصورة املعارصة‪ّ .‬‬ ‫واحدة من حكايا األفراد املق ّدمة كانت تنتهي بخفوت‬ ‫كهفي مظلم‪ .‬واألمر ع ّزز يف‬ ‫تدريجي يف "ال مكان"‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫كل حكاية‬ ‫الجمهور إحساس االرتباك تجاه الزمن‪ .‬تبدأ ّ‬ ‫مبشهد ظالم لنحو ثالثني ثانية‪ ،‬ث ّم تتشكّل ببطء يك‬ ‫تغدو صورة‪ ،‬وجهاً‪ ،‬قبل إلقاء كل واحدة من املرويّات‪.‬‬ ‫كل واحدة من صور الفيديو الثابتة بالتداخل عىل‬ ‫وتبدأ ّ‬ ‫نحو ضبايب وانسيايب متزامنة مع الصورة الفوتوغراف ّية‬ ‫منطي‬ ‫املجاورة لها‪ .‬فيصل املشاهد إىل االعتقاد بأن‬ ‫ّ‬ ‫إىل‬ ‫التصوير املق ّدمني هام ثابتان يف الفضاء والزمن‪،‬‬ ‫أن‬ ‫القصة األخرية من‪ ...‬حكايا القاهرة‪ ،‬تخربنا ندين‪،‬‬ ‫يف ّ‬ ‫تبدأ إحدى النساء بالتح ّدث إىل املشاهد‪.‬‬ ‫الشابّة الحامل‪ ،‬عن االنتفاضة يف ميدان التحرير يف‬ ‫خيار االستعانة مبمثّلني يف عملها هذا مل يكن بالنسبة القاهرة يف األيام األوىل من الثورة املرصيّة عام ‪.2011‬‬ ‫لباري مج ّرد خيار براغاميت‪ .‬بل أنّه وسيلة تستخدمها تبدو متح ّمسة‪ ،‬تتخ ّيل البنها الذي مل يولد بعد مستقبالً‬ ‫لتبيان سياسات صناعة الصورة الراهنة‪ .‬متى تعمل تح ّرر من أيدي الطغاة‪ .‬تخربنا "عندما أجول يف امليدان‬ ‫"الصورة" عىل تقديم "حقيقة مطلقة"؟ هل ينبغي أسمع بعض األحاديث‪ ،‬وأسمع صوت رجل يدعى‬ ‫مم قد تراه‬ ‫من صورة "صادقة" أن تكون ب ّراقة و"استعراض ّية"‪ ،‬أم عبدالله‪ ،‬أسمعه يقول‪ :‬أحالمي تذهب أبعد ّ‬ ‫ينبغي حرص وظيفتها يف إطار تح ّدده حرفة التوثيق؟ عيناي"‪ .‬حكايتها تنتهي عىل نحو تن ّبؤي عندما تروي‬ ‫قصة‪ ،‬ندين "األمر مضحك أل ّن ال أحد يريد االستسالم ولو‬ ‫يف حكايا القاهرة جمعت باري أكرث من مئتي ّ‬ ‫وقامت مبنتجتها ووضع سيناريواتها مبعاونة فريق من للحظة واحدة قد تكون فكرة املواجهة فيها بلغت ح ّد‬ ‫املرتجمني واملمثلني املحرتفني الذين يجيدون اللغة االشباع‪ .‬ونعم‪ ،‬قد نكون مرهقني‪ ،‬لكن عندما يأيت الصباح‬ ‫العرب ّية‪ .‬والعمل ّية قادت الف ّنانة إىل دمج التقنيات التي فإننا سنتنشّ ق الح ّريّة"‪.‬‬ ‫تتطلّبها املادة الخياليّة الروائيّة بتقنيّات املا ّدة التوثيقيّة‪ ،‬تشري باري أن هذه الحكايا طفت فوق صفحة وعيها يف‬ ‫متب ّنية طريقة التعليق عىل الطبيعة الوسيطة ملا يق ّدم عام ‪ 2001‬عندما كانت متثّل الواليات املتّحدة يف بينايل‬ ‫من قضايا الرشق األوسط املعارصة‪ .‬وباري‪ ،‬باألسلوب القاهرة‪ .‬خالل زيارتها اكتشفت الفنانة أن العديد من‬ ‫عينه‪ ،‬ال تسمح لهذه الرغبة يف أن تبقى "صادقة" فتعري‬ ‫ربا ألنّها‪،‬‬ ‫ّ النساء قد يبحن لها بقصصه ّن الشخصيّة – ّ‬ ‫املرشوع من مزاياه األكرث مرسحيّة‪ .‬هي تدرك بالتأكيد عىل ما تقول‪" ،‬أجنب ّية" فيمكن له ّن الحديث معي‬ ‫أ ّن اإلظهار األمثل للحياة اليوميّة املضاعفة يأيت من‬ ‫مم قد يفعلنه مع شخص أقرب منه ّن‬ ‫بح ّريّة أكرب ّ‬ ‫خالل األداء ذي البنية الدرام ّية‪ ،‬وهذا واضح من خالل ثقافيّاً"‪ .‬وعندما طلب منها فيام بعد سكوت باييل يف‬ ‫املونتاج الذي أجري عىل املونولوغات املركّبة واملتزامنة غالريي الجامعة األمريكيّة يف القاهرة أن تعمل عىل‬ ‫ّ‬ ‫لكل من الشخصيات‪ .‬واألسلوب هذا ليس غريباً عىل تحقيق مرشوع‪ ،‬عادت باري إىل تلك القصص املبكرة‬ ‫نحو ّ‬ ‫كل‪ .‬فالفنان البولوين – الكندي املعروف كريستوف ورشعت يف بناء مادة أرشيف ّية تشمل طبقات متع ّددة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫عىل‬ ‫يعتمد‬ ‫ا‬ ‫ر‬ ‫مبتك‬ ‫ا‬ ‫أسلوب‬ ‫م‬ ‫م‬ ‫ص‬ ‫قد‬ ‫كان‬ ‫ووديتشكو‬ ‫ّ‬ ‫يف الحياة القاهريّة‪ .‬من خالل العرض الذي يق ّدمه هذا‬ ‫الحريف‬ ‫االجتامعي‬ ‫الوعي‬ ‫من‬ ‫الصادرة‬ ‫تحويل املرويات‬ ‫األرشيف وعرب تن ّوع شخصيّاته فإنّه يفصح عن املرأة‬ ‫إىل تجارب ملحميّة أنتجت كامدة سمعيّة برصيّة‪.‬‬ ‫العاملة املرصيّة كمعيلة قادرة لعائلتها‪ .‬يف جهة الطيف‬ ‫إىل هذا تبقى القيمة املذهلة لحكايا القاهرة كامنة املعاكسة‪ ،‬نجد الطبقة النخبويّة العليا معزولة بني‬ ‫كمً هويّتني‪ ،‬الهويّة املحلّيّة وهويّة الشتات‪.‬‬ ‫يف الكيفيّة التي متكّنت الفنانة عربها من تجميع ّ‬


‫البوابة التاسعة‬

‫مراجعات و نقد‬

‫"بال عنوان" (بينايل اسطنبول الثاين عرش)‬ ‫سعى املنظّامن وعىل نحو واعٍ‪ ،‬إىل التح ّرر من األمناط الشائعة يف صناعة البينايل‬ ‫التي تط ّورت عىل مدى السنوات الخمس عرشة املاض ّية‪.‬‬

‫سام ثورن‬

‫إحساس من الشك تسلّل عىل مدى السنوات القليلة‬ ‫املاضية إىل األحاديث الدائرة حول مامرسات معارض‬ ‫البينايل ومستقبلها‪ .‬تب ّدى واض ًحا مزاج ّ‬ ‫الشك هذا يف‬ ‫عنوان مؤمتر عقد لثالثة أيّام يف بريغن بشهر أيلول‬ ‫‪" :2009‬يكون البينايل أو ال يكون؟" (يف لعب عىل لفظة‬ ‫"يكون" ‪ Be‬وعىل السؤال الشكسبريي الوجودي الشهري)‪.‬‬ ‫هذا السؤال‪ ،‬ومبا يتض ّمن من تلميح إىل مناجاة هاملت‬ ‫الفلسفيّة‪ ،‬يذهب بالسجال حول معارض البينايل ومي ّدده‬ ‫إىل ما يتخطّى األولويّات التنظيم ّية والف ّن ّية أو املال ّية‪ ،‬يك‬ ‫يبلغ ح ّي ًزا وجوديّا يف التفكّر مبامرساتها‪.‬‬ ‫جينس هوفامن‪ ،‬مدير غالريي ‪ CCA Wattis‬يف سان‬ ‫فرانسيسكو والرشيك يف تنظيم بينايل اسطنبول الثاين‬ ‫عرش األخري‪ ،‬أبدى موقفاً نقديًّا متش ّد ًدا تجاه املامرسات‬ ‫األخرية ملعارض البينايل‪ .‬كام نشط هوفامن يف محاوالته‬ ‫مواجهة ما اعتربه هانس أولريش أوبريست م ّرة‬ ‫"معرض فقدان الذاكرة"‪ .‬أبرز مساعيه يف هذا السياق‬ ‫متثّل مبشاركته يف تأسيس "ذا إكزيبشنيست" ‪The‬‬ ‫‪ Exhibitionist‬العام ‪ ،2010‬املجلّة نصف السنويّة‬ ‫"التي تُعنى بشؤون تنظيم املعارض" والتي ض ّم عددها‬ ‫األ ّول أربعة مقاالت تناولت بينايل اسطنبول الحادي‬ ‫عرش (‪ .)2009‬وأكّد هوفامن إملامه بالتاريخ األقرب‬ ‫لبينايل اسطنبول من خالل كاتالوغ املقاالت الذي شارك‬ ‫يف إعداده‪ ،‬واض ًعا عنوانه مع رشيكه يف التنظيم أدريانو‬ ‫بيدروسا عىل نحو يتج ّنب اال ّدعاء‪" :‬بال عنوان" (بينايل‬ ‫اسطنبول الثاين عرش)‪ .‬بهذا الكاتالوغ ت ّم االبتعاد عام‬ ‫حقّقه هوو هانرو لدورة ‪( 2007‬تحت عنوان‪" :‬ليس‬ ‫ممكناً فقط‪ ،‬بل‬ ‫رضوري أيضاً‪ :‬التفاؤل يف زمن الحرب‬ ‫ّ‬ ‫سعي ملالمسة خطاب تشارلز‬ ‫املتعوملة")‪ ،‬فيام ظهر‬ ‫ٌ‬ ‫إيتيش وفاسيف كورتون املتمحور حول املدينة يف دورة‬ ‫‪( 2005‬املعنون ببساطة "اسطنبول")‪ .‬وتركّز الكثري من‬ ‫ر ّدات الفعل عىل كاتالوغ "بال عنوان" حول استخدامه‬ ‫(أو سوء استخدامه) للفنان فيلكس غونزاليس توريس‪.‬‬

‫إذ إن عمل الفنان الكويب – األمرييك املذكور اعتُرب مثابة‬ ‫"نقطة انطالق" من قبل املنظِّمني‪ ،‬حيث ت ّم تقليد صيغة‬ ‫عناوين أعامله واستلهامها يف كاتالوغ "بال عنوان" (بينايل‬ ‫اسطنبول الثاين عرش)‪ .‬عىل أن اقتصار املوقع الجغرايف‬ ‫يبي العيب األبرز يف البينايل‬ ‫للبينايل وحرصه بني قوسني‪ّ ،‬‬ ‫هذا‪ :‬إغفال املدينة بح ّد ذاتها‪ ،‬كام املميزات املحل ّية‬ ‫للدورات السابقة‪.‬‬ ‫توسع‬ ‫منذ الدورة التي نظّمها دان كامريون العام ‪ّ ،2003‬‬ ‫املديني‬ ‫بينايل اسطنبول وبات أكرث انتشا ًرا يف النسيج‬ ‫ّ‬ ‫لحارضة البوسفور‪ ،‬شاغالً مواقع تاريخ ّية بعينها ومتخطّياً‪،‬‬ ‫يف أغلب األحيان‪ ،‬مساحة املك ّعب األبيض الذي كان‬ ‫يشغلها يف السابق‪ .‬لك ّنه يف العام ‪ 2011‬عاد وانكمش‬ ‫لينحرص كام يف املايض بني حيّزين رئيسني‪ ،‬األنرتيبو‬ ‫رقم ‪ 3‬واألنرتيبو رقم ‪ ،5‬مبنيي التخزين واملالعامالت‬ ‫كل بينايل‬ ‫املرفئ ّية عىل ضفّة البوسفور وامل ُستخدمني يف ّ‬ ‫منذ دورة رينيه بلوك العام ‪ 1995‬كمساحتني لعرض‬ ‫األعامل الف ّنيّة‪ .‬بالتعاون مع املعامري ريو نيشيزاوا‪،‬‬ ‫قام هوفامن وبيدروسا بتقسيم الح ّيزين املذكورين إىل‬ ‫خمسة فضاءات تحايك العقد‪ ،‬فتضم يف أرجائها معارض‬ ‫جامع ّية إضافة إىل خمسة وخمسني معرضاً فرديّاً‪ .‬ومتت ّد‬ ‫بني هذه األجنحة املكشوفة ممرات ضيّقة من املعدن‬ ‫املتم ّوج متثّل مساحات م ّيتة تؤدي‪ ،‬بالدرجة األوىل‪ ،‬إىل‬ ‫التامسات بني شبكة املكعبات البيضاء املحاكية‬ ‫متزيق‬ ‫ّ‬ ‫لصاالت العرض‪.‬‬ ‫دار الكثري من الكالم عند االفتتاح حول تصميم مساحة‬ ‫العرض‪ :‬ماذا يعني أن يبدو البينايل مبظهر املتحف؟ هل‬ ‫مثّل األمر نقدا ً ضمنيّاً لربنامج متناقض يُق ّدم يف "اسطنبول‬ ‫موديرن"‪ ،‬ذلك املعرض املالصق الذي يع ّد مثابة متحف‬ ‫مؤقّت ذي سمعة عامل ّية؟ أم أنّها ببساطة حركة َع َر ِض ّية‬ ‫تشري إىل مدى سعي معارض البينايل التق ّدميّة ومنظّميها‬ ‫للتعلّق بالصيغ السائدة والصامدة يف وجه امتحان‬ ‫الزمن‪ ،‬بغض النظر عن موقعها ومضمونها؟ إدخال‬

‫‪163‬‬


‫‪162‬‬

‫دورا مورير‪ ،‬سبعة التواءات‪ 23x23 ،1979 ،‬سم‪ ،‬حفر عىل الفضّ ة‪.‬‬ ‫حقوق الصورة لغالريي فينتيج‪ ،‬بودابست‪.‬‬


‫"بال عنوان" (بينايل اسطنبول الثاين عرش)‬

‫سام ثورن‬

‫غونزاليس توريس وتركته‪ .‬يف مقالتهام املع ّدة للكاتالوغ‬ ‫كل من هوفامن وبيدروسا قائلني بأ ّن االنتامء‬ ‫يجادل ّ‬ ‫الجغرايف الحائر لغونزاليس توريس (كان كوبيّاً بالوالدة‬ ‫ث ّم عاش يف بورتو ريكو قبل انتقاله إىل نيويورك) كام‬ ‫أعامله املبهمة‪ ،‬ساعدا يف توجيه القرارات التنظيم ّية‬ ‫للبينا ّيل‪ .‬لكن يف واحد من عروض املجموعات األكرث‬ ‫إشكاليّة – "بال عنوان" (روس) – كان من املتعذّر‬ ‫اجتناب التفكري يف جنسانيّة الف ّنان التي كأنّها مثّلت‪،‬‬ ‫بالنسبة للمنظّمني‪ ،‬التجسيد األهم النتامئه الحائر‪.‬‬ ‫األمر ترافق مع وجود عدد كبري من الفنانني‪ ،‬الذكور ما‬ ‫عدا اثنني‪ ،‬واألمريكيني مبعظمهم – أمثال توم بور‪ ،‬كولرت‬ ‫جاكوبسون‪ ،‬إيرا ساكس‪ ،‬كولري شور وتامي راي كارالند‬ ‫يل الجنس‪ .‬الدقّة‬ ‫– حيث صودف أن بعضهم كان مث ّ‬ ‫املتناهية يف أعامل غونزاليس توريس واستثارته ملواضيع‬ ‫الحضور والغياب الجسدي والوالء والفقدان‪ ،‬ت ّم تحويلها‬ ‫رسة الخالية وإىل أجساد (ذكور) عارية‬ ‫إىل ما يحايك األ ّ‬ ‫يف الغالب‪.‬‬ ‫بعيدا ً من هذه املجموعة‪ ،‬كان حضور الفنانني األمريكيني‬ ‫قليل نسب ًّيا‪ ،‬يف مقابل غالب ّية قادمة‬ ‫الشامليني يف البينايل ً‬ ‫من (أو مقيمة يف) أمريكا الالتين ّية‪ ،‬الرشق األوسط‪ ،‬أو‬ ‫أوروبا الرشقيّة‪ .‬األمر مثّل ما ميكن اعتباره تح ّوالً من‬ ‫الرتكيز عىل أوروبا‪ ،‬عىل عكس ما هو حاصل يف الدورة‬ ‫الحال ّية املتزامنة لبينا ّيل البندق ّية الذي ينظّمه بايس‬ ‫كوريغر (يف الحقيقة ينبغي ألّ يكون منظّم بينايل‬ ‫البندقيّة هذا غربيًّا)‪ .‬أمر التح ّول الحاصل مر ّحب به‪ .‬إىل‬ ‫هذا‪ ،‬وعىل نحو ذي داللة يف معناه‪ ،‬فإ ّن الفنانني األمريكيني‬ ‫الذين ض ّمهم بينا ّيل اسطنبول انحرصت أغلبية مشاركتهم‬ ‫يف "بال عنوان" (روس) و"بال عنوان" (املوت باملس ّدس)‪.‬‬ ‫األكرث إشكاليّة بني عروض املجموعات الخمس بال ّ‬ ‫شك‪،‬‬ ‫هو األخري (املوت باملس ّدس) الذي بدا استعراضً ا للجثث‬ ‫واألسلحة‪ ،‬متض ّمناً صورا ً صحاف ّية إليدي أدامس‪ ،‬ووي‬ ‫جي‪ ،‬وماتيو برادي وأعامالً أيقون ّية لكريس بريدن وروي‬ ‫ربا يبدي البعض موقفاً‬ ‫ليشتنشتاين ورميوند بيتيبون‪ّ .‬‬ ‫نقديّاً تجاه مقاربة هوفامن وبيدروسا يف تقديم املنطقة‪،‬‬ ‫لك ّن رؤيتهام للعامل تبقى أكرث إغراقًا يف المباالتها ويف‬ ‫اختصارها قضايا كبرية وشاسعة‪ ،‬مثل اإليدز والعنف‬ ‫املرتبط بالسالح يف الواليات املتّحدة األمريكيّة‪.‬‬ ‫تدريجي‪،‬‬ ‫عىل مدى السنوات الخمس األخرية‪ ،‬وعىل نحو‬ ‫ّ‬ ‫انتقال‬ ‫ميكن القول إن صناعة املعارض اإلبداعيّة شهدت ً‬ ‫من البينايل إىل املتحف‪ .‬مؤسسات مثل "فان آيب ميوزييم"‬ ‫يف إيندهوفن (هولندا)‪ ،‬ومن خالل تعاونها العام ‪2011‬‬

‫‪165‬‬

‫مع األكادمي ّية الدول ّية للفن يف رام الله‪ ،‬فلسطني‪ ،‬أو مع‬ ‫االفتتاحني اللذين حققتهام مؤسسة "سولت" (‪)SALT‬‬ ‫يف اسطنبول‪ ،‬باتت تلحظ عىل نحو متزايد سبل جديدة‬ ‫للتعامل مع األرشيف واملجموعات والجمهور‪ .‬هوفامن‬ ‫وبيدروسا من جهتهام‪ ،‬سعيا يف األثناء وعىل نحو واعٍ‪،‬‬ ‫إىل التح ّرر من األمناط الشائعة يف صناعة البينايل التي‬ ‫تط ّورت عىل مدى السنوات الخمس عرشة املاضيّة‪.‬‬ ‫وهام حققا هذا عرب االستعانة باإلمكانيات املتميّزة التي‬ ‫متلكها املتاحف‪ .‬إىل هذا‪ ،‬وإن عنى األمر تب ّني البينايل‬ ‫مؤسسة بَطُل استخدامه‪ .‬بيان‬ ‫مظهر املتحف‪ ،‬فإنّه مظهر ّ‬ ‫هوفامن وبيدروسا حول أهدافهام تح ّدث عن – إعارة‬ ‫"اهتامم متج ّدد إىل أه ّميّة املعرض بح ّد ذاته" – علينا‬ ‫ّأل نتج ّنب األشياء التي تنكّرت لذاتها‪ ،‬مثل االنخراط‬ ‫املحل مبامرسات املعارض وابتكارها‪ .‬من خالل تخلّيهام‬ ‫ّ‬ ‫عن نوافل املامرسات يف معارض البينايل األخرية‪ ،‬فإنهام‬ ‫ال يسائالن األمناط التي وصلتنا جاهزة‪ ،‬بقدر ما يسعيان‬ ‫إىل تفكيك ما يجعل معارض البينايل مح ّددة وذات صلة‪،‬‬ ‫يف الدرجة األوىل‪.‬‬

‫ترجمة فادي طفييل‬ ‫")‪"Untitled (12th Istanbul Biennale‬‬ ‫‪Portal 9 page 179‬‬


‫‪164‬‬

‫البوابة التاسعة‬

‫مراجعات و نقد‬

‫األعامل الف ّن ّية إىل مواقع إكزوتيك ّية تتع ّرض لالنهيار هو‬ ‫بالتأكيد ر ّدة فعل تستدعي السؤال‪ ،‬لكن هل مثّل األمر‬ ‫خطوة ما إىل األمام؟‬ ‫مهمل‪ ،‬أو سياقًا‬ ‫بلغ بينايل اسطنبول الثاين عرش موق ًعا ً‬ ‫مح ّد ًدا مرتوكًا‪ .‬هو مل يهدف إىل حثّ املشاهدين عىل‬ ‫مساءلة املوقع أو إىل التنبّه بالنسبة للوقائع التي قادت‬ ‫ستيفن كينزر إىل اال ّدعاء – يف مقالة نرشت يف "نيويورك‬ ‫ريفيو أوف بوكس" قبل شهر واحد من افتتاح املعرض –‬ ‫أنّ‪" :‬تركيا‪ ،‬ومن الناحية السياسيّة‪ ،‬شهدت يف السنوات‬ ‫مم شهدته طوال مثانني سنة‬ ‫العرش األخرية تغي ًريا أكرب ّ‬ ‫مضت"‪ .‬بالتأكيد ما من معرض ينبغي أن يضطر للشهادة‪،‬‬ ‫أو يُنتظر منه كذلك‪ ،‬تجاه ظروف تاريخ ّية ذات تأثريات‬ ‫معارصة‪ .‬لكن‪ ،‬كام ساجلت إلينا فيليبوفيتش يف "ذا‬ ‫بيانيال ريدير"‪ ،‬فإ ّن ما مييّز معارض البينايل "هو بالضبط‬ ‫قدرتها عىل أن تكون مح ّددة"‪ .‬عىل الرغم من رشوع‬ ‫التفكري بالبينايل وانطالق البحوث املتعلّقة بإعداده‬ ‫بالتزامن مع الربيع العريب‪ ،‬حيث افتُتح يف وقت تتأرجح‬ ‫فيه الجارة سوريا عند حافة الحرب األهليّة وتنترش‬ ‫مخ ّيامت الالجئني السوريني عند جنوب الحدود الرتك ّية‪،‬‬ ‫فإن سياق املعرض مل يشتمل عىل أكرث من بعض اللوحات‬ ‫التي تناولت الحدث (أعامل ملنى فاتامانو وفلورين‬ ‫تيودور)‪ .‬هذا ومثّلت الثورة اإليرانيّة التي قامت العام‬ ‫‪ 1979‬موضوعاً أكرث مرجع ّية يف حضوره‪ ،‬وأش ّد داللة يف‬ ‫اللهفة التي ّبي البينايل عربها صلته بنزاعات أيّامٍ خلت‬ ‫وحساسيّته الشديدة يف تناول انتفاضات وقعت عند‬ ‫املتوسط‪ ،‬دون ذكر تنامي‬ ‫الحدود الرتكيّة وعرب البحر‬ ‫ّ‬ ‫الحضور الدبلومايس لرتكيا يف املنطقة‪.‬‬

‫يف عدد أيلول املايض من مجلّة "فريز" ‪ frieze‬بـ"اللحظة‬ ‫الحاسمة يف مسار تط ّور العمل التنظيمي"‪.‬‬ ‫لقد ركّز بينايل اسطنبول الفكرة السجال ّية القائلة إن‬ ‫الوضوح والسالسة البنيويّة اليوم هام أمران جوهريّان –‬ ‫ما يشكّل رهاناً ُمحبِطاً بعض اليشء‪ ،‬عىل الرغم من عدم‬ ‫الرتحيب به‪ .‬إلّ أن هذا أ ّدى يف الوقت عينه إىل عدد من‬ ‫النجاحات األكيدة‪ :‬فالكاتالوغ جاء غاية يف الوضوح‪ .‬كام‬ ‫أحيا املعرض اتجاه التبسيط يف العنوان وفكرة إقامة عدد‬ ‫من املعارض الفرديّة املبارشة ضمنه ملجموعة مح ّددة‬ ‫قابلة للتنظيم‪ .‬األفضل بني هذه كانت عروض لدورا‬ ‫مورير‪ ،‬غريتا براتيسكو‪ ،‬زارينا هاشمي وفوسون أونور‪.‬‬ ‫وتض ّمنت هذه املعارض مالحظات مكثّفة حول أعامل‬ ‫نساء تق ّدمن يف العمر‪ .‬وجاء اعتبارغونزاليس توريس‬ ‫مثابة قديس راعٍ‪ ،‬يف هذا السياق‪ ،‬اعتبا ًرا مقبولً يف نوا ٍح‬ ‫كل معرض من معارض املجموعات‬ ‫عديدة‪ .‬إذ تب ّنى ّ‬ ‫ستل من أعامل‬ ‫الخمس الرئيسة عنواناً‪ ،‬أو موضو ًعا‪ُ ،‬م ً‬ ‫ّ‬ ‫املتوف مبرض اإليدز العام ‪ 1996‬بعد سنتني‬ ‫هذا الفنان‬ ‫من غياب رفيقته وموضوعه الف ّني املتك ّرر روز اليكوك‪.‬‬ ‫أي من أعامل غونزاليس توريس‪ ،‬بل‬ ‫مل يعرض يف البينايل ّ‬ ‫أُعيد إنتاج بعض أعامله يف الكاتالوغ وق ّدم وصفاً لها يف‬ ‫نص عىل جدار‪ ،‬حيث اعتربها املنظّمون مصد ًرا لإللهام‬ ‫ّ‬ ‫"مثل قصيدة‪ ،‬أو قطعة من املوسيقى‪ ،‬أو مثل حدث‬ ‫سيايس‪ ،‬أو مفهوم‬ ‫نظري يصلح ألن يكون منطلقاً ملسعى‬ ‫ّ‬ ‫تنظيمي"‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫هذا كلّه أُ ِع ّد لهيكلة معرض واضح يسهل استكشافه‪.‬‬ ‫لك ّن النتيجة مل ُ‬ ‫تخل أيضاً من اإلحساس باحتشاد الثيامت‬ ‫(املواضيع)‪ .‬بالطبع ميكن للمنظّمني دامئًا اختيار شخصيّة‬ ‫معيّنة يستوحون منها أفكارهم‪ .‬بينايل دو ليون الحادي‬ ‫عرش (الذي نظّمته فيكتوريا نورثورن) املتزامن مع بينايل‬ ‫اسطنبول الثاين عرش‪ ،‬كام "دبلن املعارص" (تنظيم جوتا‬ ‫مثل نسخة‬ ‫كاسرتو وكريستيان فيفريوس – فاوين)‪ ،‬ت َب ّنيا ً‬ ‫متباينة من دعاوى دبليو ب ييتس املتط ّرفة (هذا دون‬ ‫املخصصة‬ ‫ذكر األخذ بخطّه الشعري يف اختيار العناوين‬ ‫ّ‬ ‫لألعامل)‪ .‬هذا وأظهرت الدورة السابقة لبينايل اسطنبول‬ ‫التي نظّمتها الجامعة الكرواتيّة ‪What, How, & for‬‬ ‫‪( Whom‬ماذا‪ ،‬كيف وملن)‪ ،‬اعتام ًدا كبريا ً عىل بريتولد‬ ‫بريخت‪ .‬لكن مل يحصل أبدا ً أن حيك عمل شخص ّية‬ ‫مع ّينة‪ ،‬واألهم من هذا‪ ،‬تجربتها الحيات ّية‪ ،‬يف نسيج‬ ‫البينايل عىل نحو كامل‪.‬‬

‫البينايل هذا استند إىل االختزال ال إىل االختبار‪ .‬قام‬ ‫هوفامن وبيدروسا بتج ّنب االسرتاتيجيات االستطراديّة‬ ‫مثل‪ ،‬فإ ّن‬ ‫التي وسمت معارض البينايل خالل العقد األخري‪ً .‬‬ ‫برنامج املحارضات املكثّف املقرتن باملعارض كبرية الحجم‬ ‫منذ "دوكيومينتا" الذي أع ّدته كاثرين دافيد العام ‪،1997‬‬ ‫اختُرص يك ال يتجاوز مؤمترا ً ينعقد يف يوم واحد‪ .‬هذا‬ ‫وجاء اهتامم "بال عنوان" مركّ ًزا عىل التوثيق الفوتوغرايف‬ ‫وعىل األشغال النسيجيّة واألعامل املستندة إىل األرشيف‬ ‫والنصوص املكتوبة‪ ،‬يف سياق تج ّنب األفالم الوثائقيّة‬ ‫وما هو منغمس يف الوقائع االجتامع ّية‪ .‬ويبدو واضحاً‬ ‫بهذا أنّنا بلغنا ختام مرحلة نهاية األلف ّية‪ ،‬تلك املرحلة‬ ‫التي شهدت معارض بينايل متميّزة باالتساع والتكلفة‬ ‫العالية وأحياناً باالختبار‪ ،‬مثل بينايل البندقيّة الذي ّ‬ ‫أعده التص ّور التنظيمي األخري لبينايل اسطنبول‪ ،‬بلغ أدىن‬ ‫فرانسيسكو بونامي العام ‪ – 2003‬والذي وصفه هوفامن لحظاته يف النزعة البليدة املتمثّلة بتوسيط تراث‬


‫البوابة التاسعة‬

‫‪175‬‬

‫كتّاب العدد‬

‫مح ّمد أيب سمرا‪ ،‬روايئ وصحايف لبناين‪ .‬صدر له أخ ًريا‬ ‫"طرابلس‪ :‬ساحة الله وميناء الحداثة" (دار الساقي‪،‬‬ ‫بريوت‪.)2011 ،‬‬ ‫تاهري إرمان‪ ،‬أستاذة مساعدة يف قسم الدراسات‬ ‫املدينيّة بدائرة العلوم السياسيّة يف جامعة بيلكنت‪،‬‬ ‫أنقرة‪ ،‬تركيا‪.‬‬ ‫حازم األمني‪ ،‬صحايف وكاتب لبناين‪ .‬آخر إصداراته‬ ‫"السلفي اليتيم" (دار الساقي‪ ،‬بريوت‪.)2010 ،‬‬ ‫شاكر األنباري‪ ،‬روايئ عراقي يعيش ويعمل يف بغداد‪.‬‬ ‫أصدر أخ ًريا رواية "نجمة البتاوين" (دار املدى‪،‬‬ ‫‪.)2010‬‬ ‫رشا األطرش‪ ،‬صحافية وكاتبة لبنانيّة‪ .‬صدر لها‬ ‫"صابون " (دار الساقي‪ ،‬بريوت ‪.)2010‬‬ ‫مايكل أولفسترينه‪ ،‬عامل أنرتوبولوجيا ومرشّ ح لنيل‬ ‫شهادة دكتوراه يف "معهد الدراسات الثقاف ّية املقارنة"‬ ‫التابع لجامعة كوبنهاغن‪ .‬يشمل بحثه التخطيط‬ ‫املديني يف املناطق ذات معدل النمو املرتفع وإنتاج‬ ‫ّ‬ ‫الفن الصيني املعارص‪ ،‬إضافة إىل عالقته بتنمية‬ ‫الصناعات الثقاف ّية‪.‬‬ ‫عيل رضا محمودي إيرامنهر‪ ،‬كاتب وناقد أديب يعيش‬ ‫يف طهران‪.‬‬ ‫بوجا باتيا‪ ،‬كاتبة عاشت يف هايتي من العام ‪2007‬‬ ‫حتّى العام ‪.2011‬‬ ‫يوسف ب ّزي‪ ،‬شاعر وكاتب لبناين‪ .‬آخر كتبه "نظر إ ّيل‬ ‫يارس عرفات وابتسم" (أشكال ألوان‪ ،‬بريوت‪.)2005 ،‬‬ ‫شومون برص‪ ،‬كاتب ومح ّرر ومنظّم ف ّني‪.‬‬ ‫سام ثورن‪ ،‬مح ّرر يف مجلّة فريز ‪ .frieze‬يعيش يف‬ ‫لندن‪ ،‬بريطانيا‪.‬‬ ‫جامنة الجابري‪ ،‬شاركت يف عدد من املشاريع‬ ‫الهادفة إىل تطوير الحوار يف املنطقة العربية منها‬ ‫"تيدإكس رام الله ‪" ،"2011‬خطّ" دراسات الخ ّط‬ ‫العريب يف املدينة‪ ،‬و"املناخ"‪ :‬حول الخليج العريب‪.‬‬ ‫كريم الجندي‪ ،‬مهندس معامري ومستشار مشاريع‬ ‫استدامة يعيش يف لندن‪ .‬أسس "كاربون"‪ ،‬املبادرة‬ ‫التي تر ّوج ملشاريع االستدامة يف الرشق األوسط‪.‬‬ ‫جون جريفس‪ُ ،‬محرر يف "آرت آجيا باسيفيك"‪ ،‬ويكتب‬ ‫يف الوقت الراهن عن املدن يف حقبة الستينات من‬ ‫القرن العرشين‪.‬‬

‫مح ّمد الحجريي‪ ،‬كاتب وصحايف لبناين‪ .‬صدر له‬ ‫"منامات هيفا" (دار النهضة‪ ،‬بريوت‪،)2009 ،‬‬ ‫وسيصدر له قري ًبا "الرقص الرشقي والسياسة" ورواية‬ ‫"سأم بريوت"‪.‬‬ ‫عمر خُليف‪ ،‬كاتب ومنظّم ف ّني‪ ،‬ولد يف مرص ويعيش‬ ‫يف بريطانيا‪ .‬مح ّرر قسم "مراجعات ونقد" يف "البوابة‬ ‫التاسعة"‪.‬‬ ‫بريت دو ميونك‪ ،‬كاتب ومهندس معامري ومشارك‬ ‫يف إخراج "مدن متح ّركة" ‪ .MovingCities‬أستاذ‬ ‫مساعد يف معهد دراسات شانغهاي يف كلّيّة العامرة‬ ‫التابعة لجامعة هونغ كونغ‪ .‬يعيش ويعمل يف‬ ‫شانغهاي‪ ،‬الصني‪.‬‬ ‫يوسف رخا‪ ،‬كاتب ومص ّور مقيم يف القاهرة‪ ،‬يشتغل‬ ‫بالصحافة الثقاف ّية منذ ‪ .1998‬صدرت آخر رواياته‪،‬‬ ‫"التامسيح "‪( ،‬دار الساقي‪ ،‬بريوت‪ ،‬ترشين األ ّول‬ ‫(أكتوبر) ‪.)2012‬‬ ‫مح ّمد سويد‪ ،‬كاتب ومخرج سيناميئ لبناين‪.‬‬ ‫مح ّمد الشاهد‪ ،‬مرشّ ح لنيل شهادة الدكتوراه‬ ‫بدراسات الرشق األوسط يف جامعة نيويورك‪ .‬يتناول‬ ‫بحثه التطورات املدين ّية والعمران ّية يف مرص يف‬ ‫أواسط القرن العرشين‪.‬‬ ‫مد ِّون يف ‪.Cairobserver.com‬‬ ‫وضّ اح رشارة‪ ،‬كاتب وعامل اجتامع لبناين‪ .‬آخر‬ ‫إصداراته "أهواء بريوت ومسارحها" (دار النهار‪،‬‬ ‫بريوت‪.)2009 ،‬‬ ‫حازم صاغ ّية‪ ،‬كاتب وصحايف لبناين‪ .‬صدر له أخ ًريا‬ ‫"البعث السوري‪ :‬تاريخ موجز" (دار الساقي‪ ،‬بريوت‪،‬‬ ‫‪.)2011‬‬ ‫صافية املاريا‪ ،‬تعيش يف الدوحة ـ قطر وتكتب يف‬ ‫تتول تنظيم املجموعة الخليجيّة‬ ‫مجلّة "بدون"‪ .‬كام ّ‬ ‫يف "املتحف"‪ :‬املتحف العريب للفن الحديث‪.‬‬ ‫أحمد مك ّية‪ ،‬كاتب وباحث ومح ّرر يف "ذا ستايت"‬ ‫(الحالة)‪.‬‬ ‫خالد ملص‪ ،‬مهندس معامري يعمل بني اسطنبول‬ ‫ودمشق‪.‬‬ ‫جورجيوس موتافيس‪ ،‬مص ّور صحايف يعيش يف أثينا‪.‬‬ ‫ليبني نيلسون مورو‪ ،‬مدير العالقات الخارج ّية وأستاذ‬ ‫مساعد يف جامعة جوبا‪ ،‬جنوب السودان‪.‬‬

‫نات مولر‪ ،‬ناقدة ومنظمة ف ّن ّية مستقلّة تعيش يف‬ ‫روتردام‪ .‬نظّمت أخ ًريا األنشطة الفن ّية املرافقة لجائزة‬ ‫"أبراج كابيتول"‬ ‫منال ن ّحاس‪ ،‬صحافيّة لبنانيّة تعيش وتعمل يف‬ ‫بريوت‪.‬‬ ‫تول مهام عدّة يف مجلّة الغارديان‪،‬‬ ‫براين ويتيكر‪ّ ،‬‬ ‫منها يف اآلونة األخرية مراسل الرشق األوسط‪ .‬له‬ ‫"الحب املمنوع‪ :‬حياة املثليني يف الرشق األوسط"‬ ‫(دار الساقي)‪ ،‬و‪What's Really Wrong With‬‬ ‫‪the Middle East (Saqi).‬‬ ‫جاميس ويستكوت‪ ،‬كاتب يعيش يف روتردام‪ .‬له‬ ‫"عندما ماتت مارينا أبراموفيتش‪ :‬سرية حياة" (أم‬ ‫آي يت برس)‪ .‬كام شارك يف تأليف "مرشوع اليابان‪:‬‬ ‫األيض يتكلّم"‪.‬‬ ‫مالو هلسا‪ ،‬لها كتب تتناول الرشق األوسط‪ .‬مح ّررة‬ ‫عا ّمة يف "البوابة التاسعة"‪.‬‬ ‫كاثرين هينييس‪ ،‬تحمل شهادة الدكتوراه يف اللغة‬ ‫تخصص يف املرسح اإليرلندي يف جامعة‬ ‫اإلنكليزيّة مع ّ‬ ‫نوتردام يف الواليات املتّحدة‪ .‬تعيش يف صنعاء منذ‬ ‫العام ‪.2009‬‬ ‫سارة ياسني‪ُ ،‬مخططة مدينيّة ومستشارة بيئيّة‬ ‫عملت يف لندن وبريوت‪.‬‬


‫‪174‬‬

‫البوابة التاسعة‬

‫مالحق مرفقة بالنسخة اإلنكليزيّة‬

‫وثائق‬

‫إطاللة لبنان األوىل يف عامل الغد‬ ‫إياد حسامي‬

‫قصة الجناح اللبناين يف املعرض الدويل‬ ‫وثائق من أرشيف شارل قرم تروي ّ‬ ‫بنيويورك عام ‪.1939‬‬

‫"‪"Lebanon’s Debut in the World of Tomorrow‬‬ ‫‪Portal 9 Insert page 48‬‬

‫أرقام‬

‫قراءة غ ّزة يف ديب‬

‫جامنة الجابري وكريم الجندي‬ ‫مدينتي ديب وغ ّزة من خالل املعلومات واملعطيات الرقميّة‪.‬‬ ‫مقاربة تقارن بني‬ ‫ّ‬

‫"‪"Reading Gaza through Dubai‬‬ ‫‪Portal 9 Insert page 64‬‬

‫أرصاد‬

‫مبادرات لتبديل ال ّزمن‬ ‫إعداد‪ :‬جاميس ويستكوت‬

‫املدينة تحيا من غري أن تضطر إىل إثبات حقها يف الحياة واكتساب حقها يف‬ ‫الوجود‪ .‬هي العب يف دراما من إخراجها وإنتاجها‪.‬‬ ‫(الرتجمة العرب ّية للنصوص ‪)http://www.Portal 9 journal.org‬‬

‫"‪"Hubristic Fantasy and Earthmoving Megaprojects‬‬ ‫‪Portal 9 Insert page 152‬‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.