الب ّوابة التّاسعة
رسد :كتابات عرب ّية وروس ّية معارصة العدد الثالث ،خريف
2013
مقاالت املدينة وأخبارها
افتتاحية ّ
تبدأ الب ّوابة التاسعة يف عددها الثالث هذا اختبا ًرا جدي ًدا ميكن تلخيصه باآليت :ت َ َق ُّد ٌم من تفصيل وقُربًا ،إىل ً إطار الثيمة الواسعة ،التي ك ّنا بدأناها يف عددينا األ َّولني ،إىل ما هو أكرث النمط اإلبداعي الذي يواكب اهتامماتنا الثقاف ّية املدين ّية ويُغنيها (كتابة كان هذا النمط أم إنتاجات أخرى) .وهذا يعني وضع إيقاع لتسلسل أعداد الب ّوابة التّاسعة الصادرة م ّرتني كل إصدار ،قوامه عد ُد ثيم ٍة ُمعتاد كل خريف وربيع .إيقا ٌع يسري متن ّو ًعا مع ّ يف العام ،مع ّ واسع ،يليه عدد “منط”ُ ،متك ّيف يف شكله مع موضوعه ...وهكذا. إىل هذا االختبار يف الشكل الجديد ،امل ُتك ّيف مع النمط املطروح ،ق ّررنا البدء مبا ارتأيناه ِ متقاط ًعا مع ما ك ّنا بدأنا به عددنا األ ّول – “امل ُتخ َّيل” – الذي استكتب باحثني وأكادمييني السد ،ملا فيه من أبواب ُمرشعة وكتّابُ ،مستطل ًعا رؤاهم يف املدن .فاخرتنا اآلن منط َ ْ لالختبار بالكلمة املكتوبة والخيال الخالص. وما قمنا به يف الحقيقة مثّل مغامرة استثنائ ّية ت ُشعرنا بيشء من الرضا .فها نحن س ّباقون كمجلّة ت ُعنى بشؤون املدن والعمران واألمكنة ،يف حثّ الروايئ حسن داوود عىل كتابة رواية كاملة باللغة العرب ّية ،وس ّباقون يف ترجمتها بالتوازي مع كتابتها ،ومن ث ّم نرشها يف وقت واحد بلغتني ،العرب ّية واإلنكليزيّة ،وذلك ضمن مهلة ُمح ّددة ال تتع ّدى األشهر قيايس. وقت الستّة .وهذا للعارفني ٌ ّ وما أغنى تجربتنا يف هذا السياق ،كان اختبارنا التواصل مع روا ّيئ يف وقت زامن كتابته فصل .فك ّنا نقرأ الفصول توال ًيا ،ومن ّررها فصل ً لنصه وهندسته إيّاه ،ومرافقتنا ملا يكتبً ، ّ إىل امل ُصممني وإىل املرتجمة ،لينا ُمنذر ،ملبارشة العمل عليها بالتنسيق مع املح ّرر العام للمجلّة. الرواية لكاتب لبنا ّين كان افتتح يف مطلع الثامنينيات موجة “رواية املكان” يف األدب اللبناين الحديث بعمله املشهود “بناية ماتيلد” ،تلك الرواية التي دفعت بصوت الحرب والقضايا الكربى ،املد ّوية يف بريوت آنذاك ،إىل الخلف ّية يك ت ُص ّدر صوت املكان ونبض كائناته الحيّة من برش وأبنية .وهو تابع هجسه مبا تؤول إليه املدينة بكتب أخرى نصا يوحي جزء كبري بينها “نزهة املالك” و”غناء البطريق” .الروايئ نفسه اليوم يكتب ًّ من أجوائه بوسط مدينة بريوت الجديد ،الناشئ بعد الحرب ،والذي ما زالت ِج ّدت ُه ُمستعصية عىل الخيال الكتايب لكثريين.
5
افتتاحية ّ
وقائع شديدة التقاطع مع وقائع منطقتنا .فروسيا الجديدة هذه ،التي اختربنا يف األشهر املاضية مقدار تأثريها يف الجغرافيا السياسيّة ملنطقتنا ،رغم حضورها الثقايف الصامت وامللتبس مقارنة بالحضور الغريب امل ُتعدد ،هي روسيا أزمات تكاد تحايك أزمات عاملنا، من أوليغارشيات التحكّم بالغاز والنفط ،إىل مظاهر الدولة البوليس ّية واغتيال الصحافيني واختفاء املعارضني واضطهاد املثليني ،وصولً إىل السؤال القوقازي – اإلسالمي واإلثني. كام أنّها بالد كبرية ُمتن ّوعة شهدت ،خالل العقدين األخريين ،بروز حيويّات جديدة مل تعد ُمقترصة عىل املدن املركزيّة الكربى ،كموسكو وسان بطرسربغ ،بل تع ّدت يف حراكها إىل مدن أخرى ،مثل كازان (حيث ولدت إيرينا بوغاترييفا) يف تتارستان ،وسوتيش عىل ساحل البحر األسود. الكاتبان اللذان نق ّدمهام يف عددنا هذا ،هام بالضبط من هذه الروسيا الجديدة (أرسالن خسافوف هو متا ًما مثل بطله الرتاجيدي أرتور ،من إثنية الكوميك املسلمة) ،وهام يعكسان تلك النزعة الروسية القامئة عىل املزيد من البحث والحراك والتنقّل إثر انهيار الستار الحديدي يف مطلع تسعينيات القرن العرشين. والواقع إننا نضع تجربة هذين الكاتبني الروسيني الجديدين ،بالتامس مع تجربة جيل كتايب – ف ّني عريب متن ّوع ،هاجسه اخرتاق عبث الوقائع املتيبّس ومداعبته تهك ًّم (يزن خلييل) ،والعبور يف طبقات العيش واملكان املرتاكمة للوصول إىل “التفاصيل الصغرية املعامري، املخف ّية” ،عىل ما تكتب منصورة ع ّز الدين يف “طيف الصقيل” عىل لسان بطلها ّ “الذي ترافقه القاهرة الفاطميّة كهوس قديم”. ونحن يف هذا السياق ال ننرش رواية ومجموعة من القصص وحسب ،بل إننا نتسبب يف إيجاد روايتني اثنتني .فإىل “نَق ِّْل فؤاد ََك” لحسن داوود ،ها هي الكاتبة املرصيّة منصورة خصته للب ّوابة التّاسعة ،إىل كتابة رواية كاملة بطلها النص الذي ّ ع ّز الدين تنطلق من ّ ِ القاهري ذاك ،الذي يظهر يف األحالم ُمط ًّل من نافذة يف “رمسيس هيلتون” معامريّها ّ شهب تنطفئ مبالمستها األرض. لريمي أوراقًا مثل ٍ
فادي طفييل 7
البوابة التّاسعة :مقاالت المدينة وأخبارها ّ
إىل حسن داوود ،املهجوس يف “نَق ِّْل فؤاد ََك” بالعمر والبحث عن حب مستحيل ضائع، وباملكان والبدايات التي ال ّ نصوصا تنفك تتناسلُ ،مطلّة برأسها من هنا وهناك ،اخرتنا ً لكتّاب من جيل كتا ّيب – ف ّني ُمختلف و ُمتف ّرق ،لكن ُمتفاعل ومتواصل يف خيط حساس ّيات “صغرية” ،نابضة من الداخل يف كوامنها .وهذا االختيار ت ّم عىل نحو تلقايئ ،اعتامدًا عىل االنحياز لهذه الحساسيّات التي ال ت ِ ُقص استعراضها عند القرشة الخارجيّة ويستهويها كل يشء ،بد ًءا من الذات واآلخر ،وصولً إىل املكان البقاء هناك ،بل تبدأ بالحفر يف ّ الذي يُحيطهام .فتُق ّدم هذه النصوص املختارة اختبارات ُملفتة توغل يف لغة الجسد والتفاصيل (حسن داوود) ،ويف املدينة املحجوبة امل ُكتنفة باألرسار (منصورة ع ّز الدين)، كام يف مالمسة األغراض الحميمة واللفتات واألنفاس والرعشات (إيرينا بوغاترييفا) والرقّة اإلنسانيّة والرباءة وهشاشة الفرد امل ُنكشف (أرسالن خسافوف ويزن خلييل) .إذ أ ّن الجميع يحيا يف زمن خفتت فيه الشعارات الهادرة ،امل ُن ّمقة ،والقرشويّة ،والفرد أصبح هو “ذاته” فقط من دون تنميق“ .مل تعد الشعارات القدمية عن كرامة العمل ط ّنانة العرشيني، كام يف السابق” ،يكتب أرسالن خسافوف ،عىل لسان بطله أرتور ،الشاب ّ ربا يق ّربه موسكو “الرويس” املسلم الداغستاين ،امل ُطارد األب ،والباحث عن عمل يف ّ ً قليل من حلمه املثايل عن نفسه ككاتب موهوبٌّ . رصفاته” ،تكتب إيرينا و“كل ح ٌّر بت ّ ِّ نصها، بوغاترييفا وتك ّرر جملتها هذه كمحط كالم بني الفينة واألخرى عىل لسان بطل ّ ذاك الدليل السياحي الرصني الذي يحاول تأدية وظيفته بانفصال عن مشاعره الشخص ّية كل م ّرة ،والتي يقودها ذهابًا وإيابًا من روسيا عرب تجاه مجموعات السيّاح املتب ّدلة يف ّ علم أ ّن “حريّة الترصف” تلك قد تتض ّمن ،يف بعض األحيان ،اختفا ًء البلدان اإلسكندنافيةً . طوع ًيا أبديًا (انتحا ًرا؟). والواقع أن الجهد الذي بذلته الب ّوابة التاسعة للوصول إىل كتّاب من خارج الفضاء الثقايف العريبُ ،يثّل أيضً ا مغامرة تعلّمنا منها .فبالرغم من الجهد امل ُضاعف يف هذه امل ُه ّمة، وامل ُتمثّل يف الرتجمة من الروس ّية إىل اإلنكليزيّة فالعرب ّية ،فإننا عىل األقل طرقنا بابًا يُهمل طرقه يف العادة ،ليس فقط من ِقبل املتكلّمني بالعربية ،بل أيضً ا من قبل الغربيني التاريخي امل ُطم ّنئ إىل الحضور الراسخ للرتاث الكالسييك وسواهم .إذ مث ّة ما يشبه الخدر ّ الرويس العاملي (بوشكني ،دوستويوفسيك ،تورغينيف ،تولستوي ،)... ،وذلك عىل حساب روسيا الجديدة ،أو روسيا ما بعد االتحاد السوفييتي .وهذه بحسبنا ،عىل األقل بالنسبة لنا يف العامل العريب ،بات اكتشافها أكرث إلحا ًحا من ذي قَبلٍ ،ملا أظهرته أحوالها املستج ّدة من 6
أيرينا بوغاتيريفا
8
طيف الصقلي
هززت رأيس باإليجاب ،فعاود التحديق يف الشجرة ،قبل أن يقول إنه مل قبل بيشء مامثل .مل أكن مهت ّمة فعل ًيا باملسألة ،أقنعت نفيس أنها يسمع ً تهيؤات عقل مرهق .تسكّعت أمس يف “قرص النيل” لساعتني ،ومع كل خطوة كانت ظالل الطريق املتع ّرج شبه املعتم تذوي ح ّد التاليش. لدهشتي كانت أجوبته عىل أسئلتي حول القاهرة وعامرتها مختلفة عنها يف لقائنا األول ،أسهب يف الحديث عن قاهرة الخديوي إسامعيل باعتبارها “توق املدينة إىل التحديث واللحاق بركب العامل املتحرض” ،وعن حي هليوبوليس حيث قىض طفولته وصباه .ومرشوعه الهادف إىل مضاعفة املساحات الخرضاء يف القاهرة الكربى .لربهة شككت يف أنه الشخص نفسه الذي تحدثت معه من قبل .كان أكرث اتزانًا وارتباطًا بالواقع .مل يأت عىل ذكر عاصمة الفاطميني إلّ عندما سألته عن خططه املستقبلية فقال إنه يحلم ببناء نسخة أخرى من قاهرة جوهر الصقيل باستخدام مواد البناء نفسها والتصميم ذاته مؤكّ ًدا أن مغامرة كهذه سوف تحظى باهتامم عاملي. ***
ليل باألوراق املشتعلة تتساقط من “رمسيس هيلتون” .كانت أشد حلمت ً بريقًا وتأج ًجا مام عاينته يف الواقع .قطع نار عىل خلفية معتمة وقفت رفعت رأيس .عىل الرغم من بعد املسافة رأيت آدم أتابعها بانبهار وقد ُ خليفة يطل من إحدى النوافذ ويرمي مزي ًدا من األوراق الشبيهة بشهب تنطفئ مبالمستها لألرض .بعد لحظات وجدتني يف غرفة الفندق بحثاً عنه. 19
طيف الصقلي
أمام صيدلية “يرثب” وقف آدم خليفة يرشح لجمهور متحمس خطته لبناء “قاهرة جديدة” .مع كل كلمة يضيفها كان جزء من مدينته املشتهاة يتوسطها قرص هائل بسور عا ٍل ميثل يف الفراغ أمامي ،حتى تشكلت ساحة ّ تدور حوله فرقة موسيقية تعزف موسيقى صاخبة .استيقظت واللحن يرتدد يف رأيس بال توقف. عىل هاتفي الج ّوال كانت هناك رسالة قصرية من خليفة يلفت نظري فيها لفقرة بعثها عىل بريدي اإللكرتوين ويرغب يف إضافتها للحوار. مل أكن أفقت متا ًما من أثر النوم حني قرأت ما كتب: “مدينتي هي تلك التي تنطبع خريطتها يف ذهني وتسكن أزقتها أحالمي .هي ما أحمله معي أينام رحلت ،وأجعل منه معيا ًرا أقيس عليه مدين العابرة. أينام حللت صاحبتني القاهرة الفاطمية كهوس لكل مكان عربته ،كأنها مايض مقيم .كانت مرجعية ّ األماكن وفكرة املدينة عن نفسها .مثَّل شارع املعز نواة العامل بالنسبة يل .كان محو ًرا تتفرع منه بقية الشوارع ،وتتوزع حوله األحياء والبلدان. مل أضع يدي عىل هذا إلّ بسفري للدراسة يف أملانيا. يف ميونيخ الصامتة ملست صخب القاهرة .هناك، تالىش رشيط الصوت املصاحب لحيايت فيها .كدت أجن ،كأن الضجيج وحده كان الجوهر الذي يكفل متاسيك ومينع تح ّويل إىل غبار متطاير يف هواء مدينتي العتيقة .مل أعرف أين شفيت من اعتيادي الصخب ّإل
21
منصورة عزّ الدين
كانت مرتبة وخالية وتشبه غرفة رأيتها يف فيلم أمرييك ذبلت تفاصيله األخرى يف ذاكريت .بجوار مرآة الحائط الطولية ،كان مثة باب موارب أسلمني إىل رسداب ض ّيق ،جدرانه مصقولة والمعة كأمنا بُنيت من أحجار كرمية .ومنه انتقلت إىل طريق مبانيه تشبه القالع ،خطوت فيه بألفة كام لو كان بيتي .بنهايته بان يل شارع “العطور” حيث سكنت لخمس سنوات، فعاودين اختناقي القديم. مل يكن لـ“العطور” من اسمه نصيب. كنت أدخله فأكاد ال أرى السامء وال أشم إلّ روائح كريهة تنبعث من محل “فرارجي” اعتدت أن أعربه بقفزات رسيعة هربًا من مجال رائحته. شوارع “فيصل” الجانبية املحيطة بـ“العطور” واملوصلة منه وإليه كانت أقرب ألمعاء متداخلة وملتفّة حول بعضها البعض منها إىل طرقات ُخطت لتأسيس حي صالح لسكنى البرش .لسنوات خمس الزمني شعور أين أقيم تحت األرض ،حيث ال سامء وال هواء وال ضوء .مل أكن أسرتد إحسايس بأين يف عامل األحياء ،إلّ بخروجي من “فيصل” وعشوائيته. كنت أشرتي منتجات األلبان من “الخري والربكة” ،والبقالة من سوبر ماركت “الحرمني الرشيفني” ،واألدوية من صيدلية “يرثب” ،فأشعر أن آلة الزمن نقلتني إىل القرن السابع امليالدي. يف منامي بدوت أكرث تسام ًحا مع “العطور” ،باألحرى مل يكن قبي ًحا كصورته يف ذهني ،أو كان كذلك بشكل فني ،ج ّمله الحلم وأزال شوائبه.
20
منصورة عزّ الدين
حني انزعجت من ضجة خلفتها سيارة مرسعة رسعان ما ابتلعها سكون الليل ألواصل نومي. قبل مغادرة مرص حىك يل أستاذي أنه درس يف الجامعة نفسها عقب الحرب مبارشة ،حينها كانت أملانيا ورشة معامر مفتوحة إلعادة بناء ما تدمر .حسدته ومتنيت لو رجع الزمن ثالثة عقود يك أرافقه وأرى ما رآه. سافرت ويف ذهني ما رواه يل .كنت أدقق يف طبقات املعامر وبصامت التح ّوالت التاريخية عليه ،فيتضاعف شوقي لـ“قاهريت”. لكن املدن ليست أحجا ًرا فقط .أستعيد ميونيخ اآلن، فأهجس بأنها الجميلة الشقراء بفستان من حرير أخرض التي رافقتني يف القطار إىل النمسا ،بل ميونيخ هي الثوب األخرض نفسه .بينام نعرب الحدود بني بافاريا وإقليم التريول ،أصيبت رفيقتي بلوثة حنني. بجزل طفويل؛ راحت تشدو بأغنية شعبية تسخر من أهايل التريول ،ثم استدارت نحوي شارح ًة أن لألغنية عالقة بالرصاعات القدمية بني اإلقليمني .من دون أن تقصد دلتني عىل منهجي يف العامرة :املشاعر والتاريخ الشفاهي بتفاصيله الصغرية املخفية .لحظتها ،تجسد يخصه من شارع املع ّز يف رأيس ،وقررت جمع كل ما ّ حكايات منسية”.
للبوابة التّاسعة أوحى للمؤلّفة بفكرة رواية هي االن قيد الكتابة. النص تأليف هذا ّ ّ
22
منصورة عز الدين ،كاتبة وصحافية مرصية .ت ُرجمت نصوصها إىل لغات أجنبية عدة .العام ،2009اختريت من جانب مرشوع بريوت 39ضمن أفضل الكتاب العرب تحت سن األربعني .يف العام ،2010وصلت روايتها الثانية إىل القامئة القصرية لجائزة “البوكر العربية” .روايتها الثالثة “جبل الزمرد” سوف تصدر قريبًا عن دار التنوير للنرش.
رسد :كتابات عربيّة وروسيّة معارصة
طيف الصقيل منصورة ع ّز الدين
منصورة ع ّز الدين
ُخيِّل يل أن القاهرة تهمس ساخر ًة أين لن أعرفها ،سأعيش فيها كعابرة سبيل ،كمخمورة لن تستفيق أبدًا.
الب ّوابة التّاسعة :مقاالت املدينة وأخبارها العدد الثالث ،خريف 2013
نصها تكتب منصورة ع ّز الدين يف ّ قاهري ،يُدعى آدم معامري هذا عن ّ ّ خليفة ،ه ّمه رصد املدينة املحجوبة امل ُكتنفة باألرسار .ويرتاءى خليفة يف طل من نافذة يف “رمسيس األحالم ُم ًّ هيلتون” لريمي أوراقًا مثل شهب تنطفئ مبالمستها األرض.
منصورة عز الدين ،كاتبة وصحافية مرصية .تُرجمت نصوصها إىل لغات أجنبية عدة .العام ،2009اختريت من جانب مرشوع بريوت 39ضمن أفضل الكتاب العرب تحت سن األربعني .يف العام ،2010وصلت روايتها الثانية إىل القامئة القصرية لجائزة “البوكر العربية” .روايتها الثالثة “جبل الزمرد” سوف تصدر قري ًبا عن دار التنوير للنرش.
خرج الم َ َ
-8-
غادر سافا دون أن يب ّدل ثيابه ،بالروب الذي كان يرتديه .مل يب ّدل ثيابه مخافة إيقاظها .مل يكن ليغادر لو مل تكن نامئة .أدرك هذا .هو لن يكون استقل املصعد إىل طابق السفينة العلوي .القاعة حيث ّ راغبًا يف ذلك. كنتوار االستقبال كانت خالية .الديسكو كان هاد ًرا يف األعىل .استدار سافا حول النافورة وانحرف يسا ًرا يف املم ّر الضيق حيث رأى الالفتة وعليها عبارة “ َم ْخ َرج”. وقف كورنيف عند الباب الزجاجي ،متف ّح ًصا إطار الباب ومحاولً خلخلة الرشيط الكاوتشوك بني الباب واإلطار .التفت ومل يُفاجأ برؤية سافا. “أرأيت؟ لقد أقفلوه” ،قال شا ًّدا مسكة الباب كدليل عىل ما يقول“ .إنّه وقت الليل” ،قال“ .إنّهم يقفلونه يك يبقى الثملون يف الداخل”. اقرتب سافا من كورنيف ،وم ًعا ضغطا برأسيهام عىل الزجاج ونظرا .يف منصة معدنية رماديّة رطبة ،وخلفها ظالم دامس عميم“ .ال الخارج شاهدا ّ أي يشء ،انظر إىل هذا” ،قال كورنيف“ .حتّى لو كان هناك ميكنك رؤية ّ يشء ،فلن يكون بوسعك رؤيته”. ضوء من السفينة اخرتق الفضاء خلف هيكلها ،شعاعات بطول نصف مرت، رطبة وبيضاء وامضة تتألأل يف السواد الحالك وهي تتطاير من اليسار إىل اليمني .هكذا أدركوا أن الرياح كانت ناشطة يف الجهة األخرى من الزجاج. ومل يالحظوا حركة السفينة ّإل من خالل التم ّوجات. 31
أيرينا بوغاتيريفا
تق ّدم يف املم ّر بني املقاعد عا ًّدا رؤوس الحارضين وفيه إحساس أنّه يقوم بإجراء شكيل .هو لن يقوم حتّى باللحاق بهم الصطيادهم .قد يذهب ويغيب خلف بناء ليلتقط أنفاسه مدخ ًنا سيكارة ،ثم يعود إىل الباص، ويقول أن ال أحد عىل السفينة يعرف شيئًا .وهذا سيكون حقيق ًيا .ما الذي ميكن لهم أن يعرفوه؟ الذين يهربون يف العادة ُهم بأعامر يافعة ،ولن رصفاته. يصيبهم مكروهٌّ . كل ح ٌّر بت ّ لك ّنه بلغ مؤ ّخرة الباص ،وقال عبارة “تسعة عرش” بصوت عال ،وتوقّف، ُمح ِّدقًا بالفتيات. وهم برصيًا .ك ّن أشبه بدعائم مرسح .مثل متاثيل شمع. كان ذلك ً نظرن إليه باستخفاف. “من الذي نسيناه؟” قال موج ًها سؤاله للركاب يف الباص. “كورنيف” ،سمع الجواب. غدا متنب ًها .فكّر يف نفسه :ال بأس إن كان الغائب هو كورنيف .كورنيف سيعود ويظهر .لكن الفتيات هنا .اكتشف أنّه اآلن بات عاج ًزا عن معرفة وأحس أنّه تأكّد ما سيتوقّعه .ما الذي ميكن توقّعه من هؤالء األشخاص؟ ّ كل واحد منهم يف الحال. من حضور ّ عاد برسعة إىل السائق ،مال نحوه ،وقال“ ،أنت إبحث هنا ،وأنا سأبحث يف السفينة” .وإىل الركّاب تو ّجه يف القول“ ،أرجوكم ال تبتعدوا .لن نتأ ّخر كث ًريا”. 30
خرج الم َ َ
صوتها صاد ًرا بالقرب من النافورة. خرج شابان من املصعد برفقة فتايت الباص“ .لك ّني أخىش أن نكون يف بلد آخر غ ًدا .غري أنّنا سنفكّر باملوضوع ،أليس كذلك يا سفيتا؟” “نعم بالتأكيد” ،قالت سفيتا وضحكا م ًعا .صعدا الدرج وغابا خلف باب يف الديسكو. سافا ،غائب الذهن ،رضب يده عىل جيب روبه .ربت كورنيف عىل كتفه وأخرج علبة سجائر .د ّخنا صامتني ،ومل ينظر واحدهام إىل اآلخر. ربا هذا ليس املخرج الذي ك ّنا نبحث عنه”. “إنّه مغلق ً فعل ،سافا .أو ّ “بل إنّه هو”. محمحم لسبب غري واضح .قذف عقب “إذن هو ال يناسبنا” ،قال كورنيف ً سيجارته نحو سلّة املهمالت عىل بعد خمس خطوات من حيث يقفان، كل يشء سيكون عىل ما يرام”. وأصابها“ .هيا عد إىل زوجتكّ . يف املصعد خطرت لسافا فكرة أن األمور قد تسري عىل نحو مختلف. -9-
أي شخص ،أفضل ما ميكن فعله هو التو ّجه إىل قيل له ،ويف حالة اختفاء ّ الرشطة .لو كانت األمور عائدة إليه .نظر الدليل إىل آلة الحالقة الكهربائيّة، فرشاة األسنان الحمراء ،الباهتة اللون ،وإىل أنبوب معجون األسنان .مل 33
أيرينا بوغاتيريفا
كل يوم هنا؟” سأل كورنيف فجأة ،مركّ ًزا برصه يف “أتعرف مباذا أفكّر يف ّ الظالم املتثائب“ .أفكّر كيف علّمني ج ّدي استخدام املنجل .كان يأخذين معه ونعمل من الصباح حتّى وقت اسرتاحة الغداء .أذكر هذا ،متق ّد ًما حريصا عىل إبقاء ج ّدي أمامي يف واملنجل يف يدي ،وال أفكار يف رأيس، ً مرمى نظري ،إىل ميني عيني .ومركّ ًزا عىل املنجل يف األثناء”. “عليك أن تكون خفيف الحركة ،ومتيض بانتظام يف خ ّط مستقيم .وش. وش .وش .برقّة كام تقطع الزبدة .محافظًا عىل موقع الشفرة فوق األرض قصته. مبارشة” ،أكمل سافا ّ التفتا إىل بعضهام البعض .كان كورنيف هادئًا .انتبه سافا إىل هذا. “ث ّم كنا ننتقل إىل مساحة ظليلة” ،قال كورنيف“ .ونحتيس الكفاس .كان يستلقي عىل األرقطيون تحت سيقان البتوال”. “كنا نأكل السندويتشات والبصل األخرض”. “الدجاج املح ّمر والبطاطا املسلوقة .باردة وملساء”. “مملّحة”. “ث ّم كنا نستلقي عىل األرض .ال نتكلّم ،فقط نح ّدق بالسامء”. “أمل الجسد .أحلم بنهر”. “هذا الذي تتكلّم عنه مغ ٍر ج ّدا” ،قالت امرأة باللغة اإلنكليزيّة سمعا 32
خرج الم َ َ
إىل فوق ركبتيه بقليل .ويبدو مضحكًا ج ًّدا. املوسيقى استم ّرت .باتت اآلن أكرث بطئًا وخفوت ًا .نس ّمي هذا تحمية بطيئة .ميكنك أن تعانق وترقص دامئًا يف غاية البطء .إن سألك أحد أن تفعل .معظمهم كانوا خجولني ج ًّدا ليسألوا .أصوات البحر اختلطت أيضً ا يف األجواء .موسيقى وبحر .مع خرمشات الجليد املتساقط وزبد املاء عىل هيكل السفينة .موسيقى يف أعامق الظالم. ه ّيا نرقص. ربا قال ذلك بصوت عال ،لك ّنها كانت نامئة وسمعته عىل نحو مختلف ّ وكأنّه داخل رأسها .جاءت أيضً ا .وكان مي ّد يده إليها. وقفا م ًعا ،راحة يدها عىل كتفه ،ويده عىل خرصها .متايال إىل الوراء وإىل رسة. األمام ،من القدم إىل القدم ،وراحا يدوران يف املساحة الضيّقة بني األ ّ قليل. كان يرتدي خفّيه وروبه األصفر الذي يصل إىل أعىل من ركبتيه ً كانت حافية القدمني عىل املوكيت الرمادي الرديء والخشن وجسدها يغل األبيض يش ّع من خالل ثوب النوم الطويل الذي ترتديه .وجهها كان ّ يف املساحة فوق كتفه. كم من الوقت مىض ،كم من الوقت ...ال ميكنني أن أذكر. “هل تبكني؟” “أنا؟ ال .يوجد ماء عىل كتف روبك .من أين هذا املاء؟” 35
أيرينا بوغاتيريفا
أي كلمة روسيّة ال عىل الفرشاة وال عىل أنبوب معجون األسنان. يكن مث ّة ّ وحدها آلة الحالقة الكهربائ ّية كانت الدليل املبارش عىل أنّها تعود إىل الحقبة السوفيات ّية .لكن كيف لهم أن يعرفوا ذلك؟ “أنا لست متأك ًدا من أن هذه األشياء هي أغراضه” ،قال. “ال بأس ،إذن ليكن بعلمكم أنّها ستكون هنا يف قسم املوجودات يف حال عاد يبحث عنها ،وأنتم تؤكّدون أنّها أغراضه”. قال“ ،حس ًنا” باللغة الفنلنديّة وغادر وهو متأكّد أنّه لن يرى كورنيف م ّرة أخرى .كان لديه شعور أن ذلك مل يكن مج ّرد تأ ّخر عن الباص .وبأنّه اختفى حني كان عىل منت السفينة .وبأن ذلك كان متع ّم ًدا .لكن ملاذا، كل هذا التعقيد؟ لغ ٌز هو قلب اإلنسان ،فكّر الدليل .لو أخذ فقط ملاذا ّ أغراضه معه عىل األقل .يك ال يرتك أث ًرا .لكن ما حاجة املرء إىل آلة الحالقة يف حياته األخرى؟ كان ذلك يف أثناء مغادرته السفينة حني وضع يده يف جيبه واكتشف فرشاة األسنان. أي كتابة. الفرشاة التي ال كلامت روسيّة عليها .الفرشاة التي ال تحوي ّ - 10 -
“هل خرجت؟ يبدو أنني غفوت؟” ،قالت ميال .كان سافا صامتًا .كان جالسا عىل رسيره مرتديًا روبه األصفر .اشرتياه السنة الفائتة ،وهو يصل ً 34
أيرينا بوغاتيريفا
البحر البارد كان يهدر قريبًا منهام ،غري مر ٍّيئ ،لكن بإيقاع ماىش حركاتهام. - 11 -
واح ًدا إثر اآلخر ،تق ّدم الس ّياح منه يك يو ّدعوه .كان الدليل ير ّد عليهم بابتسامة .وصلوا إىل سان بطرسربغ متا ًما يف الوقت املح ّدد ،عند الساعة الرابعة والنصف فج ًرا ،رغم تأ ّخر ساعة ونصف الساعة إثر نزولهم من السفينة .منهكان وشاحبان بعد الرحلة طوال الليل ،جمعا أغراضهام وغابا عىل مهل يف الظالم ،حيث يحتشد سائقو التاكيس وترتاءى أضواء فوانيس الشوارع الصفراء كأنّها يف مستنقع .آخرون عربوا الشارع نحو محطّة قطار موسكوفسيك .شاهدهم كيف وصلوا إىل هناك واح ًدا إثر آخر كام كانوا يفعلون خالل رحلة سفرهم .كأنّهم اعتادوا ذلك .وهي عادة ستزول. “إىل اللقاء” ،قالت ميال مقرتبة منه“ .شك ًرا”. “حظًا سعي ًدا” ،صافحها سافا قائالً“ .كانت رحلة عظيمة .كام أردناها”. كلامت لطيفة وجوفاء وبالغة الشكل ّية .ابتسم الدليل ،قال شك ًرا وفكّر، خصيصا لكم. كل يشء كان مع ًّدا بالتأكيدّ ، ً متا ًما كام فكّرت ،أجاب سافا يف عينيه فقط.
36
إيرينا بوغاترييفا ،ولدت يف كازان ،تاتارستان ،يف روسيا .كاتبة حازت جوائز عدّة وبلغت الالئحة القصرية لجائزة .Debut Prizeأصدرت كتابني، AutoSTOPو.Comrade Anna
رسد :كتابات عربيّة وروسيّة معارصة
املَخ َرج
إيرينا بوغاترييفا
إيرينا بوغاترييفا
ناد ًرا ما حفظ أسامء .بالنسبة إليه ،كانوا جمي ًعا ميثّلون تنويعة صفات ومقاعد يشغلونها.
الب ّوابة التّاسعة :مقاالت املدينة وأخبارها العدد الثالث ،خريف 2013
رصفاته” ،تكتب إيرينا ٌّ “كل ح ٌّر بت ّ بوغاترييفا وت ُك ّرر جملتها هذه كمح ِّط كالم بني الفينة واألخرى عىل لسان نصها ،ذاك الدليل السياحي بطل ّ الرصني الذي يحاول تأدية وظيفته بانفصال عن مشاعره الشخصيّة تجاه كل مجموعات الس ّياح املتب ّدلة يف ّ م ّرة ،والتي يقودها ذهابًا وإيابًا من علم روسيا عرب البلدان اإلسكندنافيةً . رصف” تلك قد تتض ّمن، أ ّن “حرية الت ّ يف بعض األحيان ،اختفا ًء طوع ًّيا أبديًّا (انتحا ًرا؟).
إيرينا بوغاترييفا ،ولدت يف كازان ،تاتارستان ،يف روسيا .كاتبة حازت جوائز عدّة وبلغت الالئحة القصرية لجائزة .Debut Prizeأصدرت كتابني، AutoSTOPو.Comrade Anna
حسن داوود
أرجف رأسه عالمة عىل أنّه مل يفهم. كل يوم بينباعوا كل الغاتويات اليل تحت بال ّرباد؟ ـ ..قصدي ّ فهم ،وجعل يفكّر مباذا يجيب ،ثم بدلً من ذلك أعاد سؤايل إ ّيل: كل يوم؟ ـ ّ ـ نعم ..كل يوم. ـ أنا ما بعرف ،ب ّدك إسأل الشب اليل تحت؟ ـ مش رضوري. ظل واقفًا يف مكانه ،إذ رأى أ ّن جوايب ال يكفيه ليعرف ماذا عليه أن يفعل. ّ ـ إذا ب ّدك اسأله ،قلت ما بدا أنّه سيبقيه واقفًا أمامي منتظ ًرا. ـ إليل بيبقوا بينباعوا تاين يوم ،قال الصوت الذي طلع من طاولة الصب ّيتني. كانتا تسمعانني متابعتني ذلك الحوار الذي بدوت به كأنّني أستجوب النادل .ثم استدارت تلك التي مل أكن أرى منها إلّ شعرها وأعىل ظهرها لتقول يل ،غري مهتمة بوجود النادل قريبًا م ّني: ـ وإذا ما انباعوا بكرا بينباعوا بعد بكرا. معني مبا سمعه ،ثم أدار ومل يعلّق النادل بيشء ،بل ومل يب ُد عليه أنّه ّ ُ وجهه إ ّيل بعد ذلك لريى إن كنت سأسأله شيئًا بعد .وأنا ،من أجل أن أبقي 156
فؤاد َ ك نقّ ْل َ
عىل الدرج مستبقًا النادل يف النزول ،تن ّحيت ليك مت ّر الصبيتّان الصاعدتان إىل األعىل .ستجلسان قري ًبا من طاولتي فكّرت ،طاملا أ ّن الطاوالت األخرى تطل عىل يشء .يف األسفل املتاحة للجلوس ،باتت يف الوسط فقط وال ّ رحت أقلّب نظري بني القطع املصطفّة مرت ّبة ،كام هي ،كام كانت يف امل ّرة السابقة ،ومل يشملها قرار اإلهامل الذي ات ّخذه أصحاب املقهى .فكّرت أن أي طعم لذلك اللون أشري إىل اثنتني من القطع املل ّونة ،راغ ًبا يف أن أعرف ّ خصوصا ،الداكن الخرضة وامللتمع .لك ّنني أحجمت عن ذلك ،ظانًّا األخرض ً رسهام ،إن شاهدتا تلك األلوان يف أ ّن الصب ّيتني يف األعىل ستتضاحكان يف ّ الصحن أمامي. ـ آخذ هذه ..وهذه. كانت القطعتان متجاورتني ومغطّاتني بطبقة من الشوكوال مختلفة الكثافة. يف األعىل كانت الصبيتان قد جلستا تاركتني بيني وبينهام طاولة خالية واحدة ،مبتعدتني هكذا ما أمكنهام عن الطاولة التي يشغلها فنجان قهويت حامل عىل صين ّيته صحن املمتلئ ما زال حتى منتصفه .حني عاد النادل ً الغاتو ،قلت له بصوت ميكن للصبيّتني سامعه: ـ ب ّدي إسألك يش؟ ـ نعم ،قالها لتبدو مثل “ب ّدك تسألني أنا؟”. ـ قطع الغاتو التي تحت بال ّرباد رح يخلصوا كلهن اليوم؟
155
حسن داوود
والشوكوال الذي ُحشيت به كان طيّبًا وبار ًدا ما يزال .عندما جاء النادل لسؤالهام عن طلبهام مل يلتفت إ ّيل ،بل بدا أنّه يتع ّمد تجاهيل .هناك عىل طاولتهام رفع الورقة أمام عينيه كأنّه يستعجلهام الطلب .وهام مل متتثال، بل راحتا تتشاوران تاركتني إيّاه متأه ًبا مستع ًّدا مع ورقته. ـ راح نطلب متلك ،قالت األوىل ،التي التفتت نصف التفاتة لتفهمني أنّها تكلّمني أنا .ثم قالت للنادل الواقف: ـ متل األستاذ ،غاتو. ـ بتحبّوا إنتو تنزلوا تنقّوهن؟ ات ّفقتا عىل أن تنزل هي ،تلك األوىل ،تاركة رفيقتها الجالسة يف مواجهتي. يل أن أكلّمها ،لكن مبج ّرد أن وطأت رفيقتها الدرجات النازلة كان ً سهل ع ّ إىل األسفل ،رفعت أمامها تلفونها وبدأت تح ّدق يف شاشته. ***
جالسا منتظ ًرا أن تأتيني كلمة منهام ثم مل يكن يفيد يف يشء أن ّ أظل ً تعودان بعدها إىل ما كانتا تتكلّامن فيه .كنت أر ّد عىل ما تقوالنه يل، بكلمة مقابل كلمتهام ،أو بكلمتني إن كان ما قالتاه كلمتني ،ثم أعود إىل جلويس الذي بدا يل محر ًجا يف ح ّد ذاته ،طاملا أنّني ال أفعل شيئًا وال أحد معي أكلّمه .مل نكن نتق ّدم إىل يشء ،ونحن نتبادل تلك الكلامت التي ال ترتك أث ًرا ،وال تستدعي كال ًما بيننا يأيت من بعدها .ثم إنني أدركت وأنا
158
فؤاد َ ك نقّ ْل َ
الصبية معنا ،مديرة وجهها نحونا ،سألتُه ،بصوت حرصت عىل أن يكون مسمو ًعا منها ومن رفيقتها: ـ صحيح هيك متل ما قالت؟ مل يعجبه سؤايل األخري هذا .رمبا بدا له أنّني منذ البداية كنت أتل ّهى بإحراجه والتمسخر عليه .أخفض الصينية الفارغة لتصري إىل جانب ساقه، نزول إىل األسفل ،من دون أن واستدار ليذهب مبتع ًدا عن الطاوالتً ، يسأل الصبيتني عن طلبهام. ـ ز ّعلناه ،قلت جام ًعا هكذا ما بيني وبينهام. ـ ك ّنا عم منزح ،قالت ملتفتة بوجهها إ ّيل ،كأنّ ا من أجل أن تراين رؤية كاملة. يل أن أخترب ذلك ،أن أخترب ماذا رأت: كان ع ّ ـ ط ّيب هالقطعتني قدامي شغل مبارح أو أ ّول مبارح؟ ـ إنت وحظّك ،قالت رفيقتها املواجهة يل يف جلوسها. محيا .هل ما قالته يعني رغبتهام بالعودة إىل ما كانتا تتكلّامن كان ذلك ّ ً فيه؟ هل يعني أنهام تضعان ح ًّدا للحوار الرسيع الذي جمع بيننا .كان يل أن أسكت إذن .أن أعود إىل القطعتني يف صحني ،وأنتظر. ع ّ وقد رحت أقسم الغاتو قط ًعا صغرية ألطيل وقت أكلها .كان طعمها لذيذًا، 157
حسن داوود
سياريت .مل يجب أيضً ا .ال يه ّم .يف وقت الحق أقول له إنني كنت هنا يف املقهى وحدي ،وإنّه قري ًبا سيقفل ،مبلّغًا إياه ،أنا هذه امل ّرة ،شيئًا عن هذه املدينة. ***
ليك أصري متآلفًا مع املحالت املحيطة بالساحة حيث ألتقي البنات الثالث، رحت أدخل من طريق متف ّرع وأخرج من آخر .يف م ّرات أميش الطريق الواحدة م ّرتني ،ذهابًا وإيابًا ،ناظ ًرا عىل الدوام إىل الواجهات عىل الجانبني. أي حال ،كنت أدخل إىل بل إنّني ،وقد حدث ذلك يف م ّرات قليلة عىل ّ املحلت وأصري أتج ّول بني الرفوف التي اصطفّت عليها الثياب ،أو أحد ّ أنظر إىل الثياب املعلّقة ظاهرة كام ستكون حني يرتديها من سيشرتونها. رصف كأنني واحد من هؤالء املشرتين .ال أملس القامش بيدي ،بل وأنا أت ّ أق ّرب إليه نظري كأنني أتحقّق هكذا من جودته .بل وأسأل املوظّفة التي تالزمني يف تنقّيل عن البلد الذي صنع فيه هذا الثوب .وحني يعجبني ،أو أ ّدعي أنّه أعجبني ،أقول للموظّفة إنني سأعود ألشرتيه بعد أن أتحقّق من قياس من أفكّر يف إهدائه لها. ومل أتأ ّخر عن الدخول حتى إىل املحالت التي تبيع ثياب األطفال ،وأيضً ا تلك التي تفوح منها روائح الصابون والعطور التي تستخدمها النساء يف تعي حدود الحاممات .وقد ابتعدت يف تج ّويل إىل ما بعد الدرجات التي ّ الساحة ،هناك حيث املحالت التي تبيع الجواهر والساعات التي أعرف، حني أسأل الرجل الواقف هناك عن سعر إحداها ،أنّه سيذكر مبلغًا صعب 160
فؤاد َ ك نقّ ْل َ
وإن سأبدأ أبحث عن جالس منتظ ًرا أن تكلّامينّ ،إن ال أريد منهام شيئًاّ ، مخرج يل من لحظة ما يوصل الكالم بيننا إىل أبعد من الكلامت الطائرة كل ما انشغلت به قبل قيامي ،هو التي يزول وقعها مبج ّرد أن أر ّد عليهاّ . رشفنا ،أو أقول “باي”، ماذا أقول لهام حني تريانني وقد وقفت .هل أقول ت ّ رصا ذلك ،ليسهل خروجي فيام هام تقوالن “باي” بدورهام .هل أقوم مخت ً وأغادر من دون أن أكلّمهام .أقوم هكذا كأنني ذاهب إىل الحامم وسأعود منه بعد قليل ،ومن هناك أرسع إىل الخروج. لكنني مع ذلك كنت مرسو ًرا ،ليس ألنّني حقّقت شيئًا ،فأنا مل أكن أريد أن يحصل يشء .كان كافيًا يل أن أعرف أ ّن من املمكن يل التع ّرف إىل من مل أكن قد عرفتهم من قبل .وأن أذهب رمبا يف الكالم معهم إىل أبعد مام وصلت إليه .ليس يف هذا املقهى الذي ،بحسب ما بدا يل ،سيزيل يف اليومني املقبلني األغطية عن مزيد من الطاوالت .كام أنّه سيهمل ذلك الرتتيب ،ال ب ّد ،الرتتيب املنهك ،والذي ال معنى له مع ذلك ،والذي استغرقه كل واحدة عىل حدة ،ثم تصفيفها هكذا يف واجهة صنع حبات الغاتو ّ ال ّرباد. وأنا عىل الطريق ،سائ ًرا نحو مرآب السيارات ،أخرجت تلفوين من جيبي وطلبت رقم وائل .أردت أن أخربه عن زياريت املقهى وعن البنتني اللتني كانتا هناك ،وأيضً ا عن الطاوالت التي رفعوا األغطية عنها“ .هذا املقهى سيقفل يا وائل ..بعد أسبوع أو أسبوعني سيقفل ”...لك ّنه مل ير ّد عىل الرنني .ج ّربت م ّرة ثانية وأنا أقف عند الدرج الكهربايئ مؤ ّج ًل نزويل إىل
159
حسن داوود
عام وضع يف داخلها ،كام من التأ ّمل يف الواجهات التي تحيط به ّن فيام ه ّن محل تلك املرأة التي ظننت أنّهن يقضني يقمن بشغله ّن .مل يك ّن يعملن يف ّ وقت الصباح يف انتظار وصولها .ال أكرث من أنّها كانت تستعني به ّن لرفع الغبار وكنس األرضية ،وأيضً ا لتسلّم ما يصل من بريدها يف أثناء غيابها .ما يل أن كنت أظ ّنه من سطوة املرأة عليه ّن مل يكن صحي ًحا .املرأة التي كان ع ّ أعرفها هي أيضً ا ،وأن أعرف محلّها كيف هو من الداخل ،لكنني مل أفعل، جالسا مع البناتّ ،أن مل أكن إذ سيتبي لها بعد يوم أو يومني ،حني تراين ً ّ ّإل م ّدع ًيا ومتطف ًّل. جالسا وحدي عىل ذلك حني أجيء وال أجده ّن أروح أنتظر عودته ّن ً تغي يف ما املقعد .أو أتل ّهى بأن أسري يف الطرقات املتف ّرعة ألرى ماذا ّ تعرضه الواجهات .أو أذهب إىل ذلك البناء الضخم يف آخر الساحة ،يف طرفها األخري ،ألرى إ ّن كانوا قد بدأوا بوضع ما قد ّ يدل عىل شكله من الخارج كيف سيكون. ***
يف أيام ،حني ينتهني من شغله ّن وأكون أنا هناك معه ّن ،نتّجه م ًعا إىل املرآب ليك أوصلهن إىل البيت الذي يسك ّن فيه .آيتون ،التي ال أعرف إن كانت رفيقتاها قد سلّمتا لها قيادتهام يف أمورهام األخرى ،تنتظر ركوبه ّن يف الخلف حتى تصعد هي إىل املقعد بجانبي .يف امل ّرات األوىل كانت تظل مبتعدة ملتصقة بالباب وأنا أروح أبالغ يف إعالء صويت مامز ًحا إيّاها، ّ فتضحك ،وتلتفت إىل رفيقتيها لتشاركاها الضحك .اآلن باتت أكرث راحة يف 162
فؤاد َ ك نقّ ْل َ
كل تقدير كنت قد انتظرت سامعه .لك ّنني ال أترك التصديق ،ويفوق ّ للدهشة أن تظهر عىل وجهي ،بل أبدو طبيع ًّيا حني أسمع ما أسمعه وأقول للرجل البائع ،متّخذًا هيئة التفكري“ ،سأعود ...سأعود عىل األرجح”. ذلك من أجل أن أكون متآلفًا مع الساحة التي سأقيض فيها الكثري من الوقت .أنتظر معه ّن ،أو بينه ّن ،ه ّن البنات الثالث ،يف أوقات اسرتاحتهن من الشغل .أو حتى أقعد منتظ ًرا عودته ّن من شغله ّن الذي يبقني مرتافقات فيه متنقّالت م ًعا من املكان الذي ينظّفنه إىل مكان آخر سينظّفنه .ما كنت ظننت ،يف األيام الكثرية التي سبقت ،أنه وقت انتظاره ّن لبدء عمله ّن كان وقت راحته ّن ،أو وقت اسرتاحته ّن الطويل ،إىل حني معاودته ّن تنظيف ما ك ّن قد نظّفنه يف الصباح .ك ّن يأتني مب ّكرات إذن ،قبل أن يأيت أ ّول قاصد إىل هنا .ذاك القادم األ ّول ،حتى لو كان زائ ًرا عاب ًرا مل يأت إلّ لقضاء كل يشء الم ًعا هنا .ال ورقة مجعلكة عىل الطريق حاجته ،ينتظر أن يجد ّ املبلّطة رمتها يد واحدة من متس ّوقات األمس ،ال بصامت ثقيلة دامغة عىل لوحات املصاعد ،وال أثر ّ يدل عىل أ ّن أبواب املراحيض املوزّعة هنا وهناك قد فُتحت قبله لدخول أحد. كل يشء ،لك ّنهن عرفن كيف يبقني نظيفات ه ّن كان عليه ّن أن ينظّفن ّ املحل املواجه ملقعده ّن ،من أنفسه ّن .ما كنت ظننته عن املرأة صاحبة ّ أنّها هي التي جعلته ّن مختلفات عن البنات األخريات اللوايت قدمن معه ّن حصلنه من النظر إىل حصلن ما ّ عىل الطائرة ،مل يكن صحي ًحا إذن .لقد ّ تقل رهافة النساء العابرات اللوايت يرحن ويجنئ حامالت األكياس التي ال ّ
161
حسن داوود
عىل ما يجري بيني وبينها .وهي تبتسم حني تراين أُرجع يدي يك تصافحها، مبا يشبه الصفع املامزح ،ي ُد تلك الجالسة عىل املقعد خلفي. وال أتأ ّخر عن أن أقول كلمة عابرة ،أو كلمة هامسة ،لهذه أو لتلك أجعلها رس بيننا يجب أن ترتكه لنفسها .ذاك ألين تتساءل من بعدها هل هذا ّ لن أكون هكذا معه ّن ،مصاحبًا واحدة منه ّن ومبقيًا رفيقتيها مثل أختني مباركتني ملا يجري أمام أعينهام .من أجل ذلك مل أقم بحركة واحدة ّ تدل عىل أنني اخرتت آيتون من بينه ّن .مل أم ّد يدي إىل يدها حني أراها قريبة من يدي ،هناك عىل طرف مقعدها .ومل أدعها م ّرة إىل أن تبقى معي من دونهام ،ومل أقل لها أن نذهب سويًا لرشاء ما قد نأكله يف وقت اسرتاحته ّن. أريدها أن تبقى مثلام هي ،تجلس عىل املقعد األمامي وتق ّرر أين يجب أن أوقف السيارة لنزولهن .لكن ما أريده أيضً ا هو أن تتقدم رفيقتاها عام هام فيه لتصريا مثلام هي ،قريبتني إ ّيل قربها ذاته. رسقه وال أعرف كيف سأكون معه ّن ه ّن الثالث بعد ذلك .ذاك أن ما يت ّ أظل حافظًا له إىل حني نظري من هذه وتلك ،كام من آيتون نفسهاّ ، يأيت وقت أعرف فيه ماذا أفعل به .اآلن ال أق ّرب يدي من يد آيتون، رسق النظر إليها تاركًا مالمستها إىل وقت سيأيت .هكذا أفعل مع لكني أت ّ الجالستني خلفي حني تكونان هنا يف السيارة معي .وهكذا أفعل حني أكون أنتظر أن يبتعدن ماشيات ،ه ّن الثالث ،من أ ّول السهل الرميل ،منق ًّل نظري بينه ّن ،من واحدة إىل أخرى ،حتى ال أعود قاد ًرا عىل رؤيته ّن رؤية واضحة.
164
فؤاد َ ك نقّ ْل َ
جلوسها ،أقصد أنّها ترتك جسمها يسرتخي عىل املقعد ثم تستدير بجسمها كلّه إىل الخلف لتخرب رفيقتيها عن يشء .كام أنّها ،وهي يف جلوسها املسرتخي ذاك ،مت ّد يدها لتدير الراديو ولتقلّب محطاته وتسألني ،عندما تقف عند إحدى محطّاته“ ،أويك؟” ،فأجيبها بحركة من رأيس تفهم منها أنّها ح ّرة يف أن تفعل ما تشاء. “ننزل هنا” تقول يل حني نصري عند مدخل السهل الرميل الذي تج ّمعت فيه هياكل سيارات وبقايا عربات محطّمة وكوم زبالة أُخرجت من البيوت يل .كنت أستطيع أن أتق ّدم بسيّاريت التي هناك ،بادئة من آخر السهل الرم ّ رص عىل أن أتوقّف حيث تقول. عاب ًرا السهل من طرفه ،غري أ ّن آيتون ت ّ ال تريدين أن أقرتب من تج ّمع البيوت ذاك ،الذي يخجلها ال ب ّد اكتظاظه وفقره .وهي تقول لرفيقتيها ،حني أوقف السيارة ،أن تنزال ،آمرة هكذا كأنهام ترغبان بأن أكمل سريي حتى أصل به ّن إىل أ ّول البيوت. غري أنّني أبقى وقتًا ناظ ًرا إليه ّن ه ّن الثالث يعربن السهل .ويف أحيان أطلق الزمور ليسمعنه وليعرفن ّأن ما زلت واقفًا هنا أنتظره ّن .ال أعرف إن كانت قيادتها لهام مقترصة عىل العالقة يب .يف م ّرات أروح أمازح واحدة أخصها بالكالم .يف م ّرات أخرى أتجاهل منهام ألعرف كيف تستجيب حني ّ آيتون فأسألهام ،مقلّ ًبا نظري بينهام ،إن كانتا ترغبان يف أن أجيء بفطور نأكله ونحن هناك عند املقعد ،أو أقول لواحدة منهام إنّني ال ب ّد سأجد مكانًا عىل الشاطئ يستطعن أن يسبحن فيه .رمبا تظ ّن هي ،آيتون ،أنّني أتع ّمد القيام بتلك االلتفاتات العابرة نحوهام يك ال تبقيا مج ّرد شاهدتني
163
فؤاد َ ك نقّ ْل َ
***
يف أحيان يخطر يل أ ّن ما أنا فيه لن يوصلني إىل يشء معه ّن .فجأة ،يف يوم ما أو يف لحظة ما ،سأتوقّف عن النزول إىل هناك ،حيث ألتقيه ّن .هذا كل يشء أقوله له عنه ّن .يف املقهى سيحدث أكيد ،يقول يل وائل مستغربًا ّ الجديد الذي انتقل إليه بعد أن عاف مقهانا ذاك ،ال حرص لعدد امل ّرات تعب عن مدى استهجانه ،ال عن التي قال فيها “أكيد” ،تلك الكلمة التي ّ كل منها رغبته يف أن يص ّدق ما أصفه له .وهو ،يف تعليقاته التي يبدو ّ مستخف به ّن ،وأن ال أقرب إىل كلمة الختام يف كالمنا عنه ّن ،يقول يل إنّني ّ سبب لتعلّقي به ّن إال أنّه ّن ال يطالبنني بيشء .هل تعرف أسامءه ّن ،هل تناديه ّن بأسامئه ّن ،يسألني .وإذ أذكر له تلك األسامء ،مامز ًحا يف نطقها، يروح يقول يل ،فيام هو يضحك :أعدها ،قلها م ّرة ثانية .وأنا أعيدها عليه أحب أن ألفظها ،بل ّإن أخرتع شيئًا أقوله ليك أذكرها معه. ً قائل له إين ّ كنت أقول لهازارا إنّني يف يوم قريب سأ ّع ِ لمك عىل سواقة الس ّيارة ياهازارا، أو أقول لرنجيس أنت تح ّبني السباحة يا نرجيس وأنا سأجد مكانًا تسبحني فيه ،بل نسبح كلّنا فيه ،أنا وأنت وهازارا وآيتون.
165
حسن داوود ،روايئ لبناين .صدرت له روايات عدّة كانت أوالها “بناية ماتيلد” ،كام أصدر ثالث مجموعات قصص ّية. ت ُرجمت أعامله إىل لغات عدّة.
حسن داوود ،روايئ لبناين .صدرت له روايات عدّة كانت أوالها “بناية ماتيلد” ،كام أصدر ثالث مجموعات قصصيّة .تُرجمت أعامله إىل لغات عدّة.
رسد :كتابات عربيّة وروسيّة معارصة
نق ّْل فؤا َد َك حسن داوود
حسن داوود
الحب يا وائل ،أن ننتظر أن يحصل يشء من تلقائه. هكذا كان ّ
رواية الب ّوابة التّاسعة :مقاالت املدينة وأخبارها العدد الثالث ،خريف 2013
نصا يوحي يكتب الروايئ حسن داوود ًّ جزء كبري من أجوائه بوسط مدينة بريوت الجديد ،الناشئ بعد الحرب، والذي ما زالت ِج ّدت ُه ُمستعصية عىل الخيال الكتايب لكثريين .ويبدو الكاتب مهجوسا بالعمر يف روايته هذه ً حب مستحيل ضائع، والبحث عن ّ وباملكان والبدايات التي ال ّ تنفك تتناسلُ ،مطلّة برأسها من هنا وهناك.
مساعد ستيفن سيغال
كانت ظرويف عسرية .حتى ميزانية األرسة املتواضعة التي بقيت بعد رحيل والدي املتع ّجل إثر التهم التي وجهت إليه ،وجدتها يف منأى عن يدي ،إذ كانت يف عهدة والديت. استنسبَ ْت الوالدة متريرها يل ،كانت مجرد فواتري األوراق الوحيدة التي َ ترتاكم بال هوادة عىل املنضدة قرب الرسير .فواتري الكهرباء ،واالشرتاك الثابت للهاتف ،وأجر املساحة التي ك ّنا ته ّورنا واشرتيناها يف موقف سيارات تحت األرض قبل أن تسري األمور عىل نحو خاطئ .وهذه كلّها تستطيع االنتظار .أما التأ ّخر يف تسديد إيجار املنزل ،فكان يشري بوضوح إىل اقرتاب دخولنا يف معرتك اإلجراءات القانونية. بدأت تصلني بالربيد ،وعىل نحو شديد التواتر ،مغلفات تض ّم صو ًرا باألسود واألبيض التقطتها كامريات املراقبة عىل الطرقات الرسيعة يف موسكو .ومن دون أي اعتبار لظرويف الراهنة ،قاموا بضبط مخالفات تجاوز الرسعة التي ارتكبتهاُ ،مصدرين بحقّي ما بدا أنّه غرامات بسيطة ،لك ّنها رسعان ما بدأت ترتاكم .سياريت املتواضعة مثّلت يل رفاهيتي الوحيدة وملكيتي األوحد .وعىل الرغم من املعاناة التي كنت أتك ّبدها لالستمرار يف تزويدها مستعجل يف التخيل عنها. ً بالوقود الباهظ الثمن ،مل أكن الكحول الرخيصة والوقود باهظ الثمن ،كانا آنذاك الدعامتني السائلتني اللتني تقومان بعاملي املتزعزع .هذا ،وتوقّف بغتة الدخل الذي كنت أتلقاه من متجر بيع يف التجزئة ،كان قد افتتح قبل بضع سنوات يف القوقاز .إذ إن األفراد الذين يحملون اسم عائلتنا ،وجدوا أنفسهم فجأة ممنوعني من 11
مساعد ستيفن سيغال
األليفة .حتى إنني لعبت لفرتة دور الرومانيس السطحي لسائق سيارة أجرة غري مر ّخص لها يف شوارع موسكو. ربا توافقونني مجموعة أعامل ال بأس بها لسليل عائلة معروفة إىل ح ّد ماّ . يف ذلك. أي حال فإنني رسعان ما أدركت مقدار الوقت الثمني الذي أضعته عىل ّ أج ًريا لصال ِح أصحاب مشاريع أثرياء ،من دون أن مينحني تعوييض يف أي إحساس بالرضا. مقابل ذلك ّ رحت أفكر والحزن يعترص يف قلبي “آه ،لو كانت يل القدرة طوال هذا الوقت عىل التف ّرغ للتأليف ،من دون مغادرة طاولة الكتابة أب ًدا ،لكنت رسعة، اآلن مليون ًريا بالتأكيد” .وألنقذ نفيس من تلك الفكرة الط ّنانة املت ّ واملجافية للواقع ،قمت بتخفيض طموحي من صاحب ماليني إىل امرئ قاد ٍر عىل إعالة نفسه. حتى الكتابة ،املجال الذي أتقنته مبج ّرد اتباع ميويل الطبيعية ،فقد رحت أتراجع فيها .إذ إنني مل أكن قاد ًرا عىل إمتام روايتي الثانية ،الرواية الطويلة التي أعلن عنها قبل صدورها ،فيام راحت ترتاكم عىل القرص الصلب لجهاز الكومبيوتر مس ّودات الروايات القصرية والقصص ،من دون أن أشعر برغبة بلورتها وتطويرها. أخذت األدلة ترتاكم بال هوادةُ ،مشرية إىل فشيل يف امتحان كتايب الثاين.
13
أرسالن خسافوف
مامرسة األعامل يف تلك املنطقة. أي يشء ،وعىل الرغم أي متجر لبيع ّ يف الحقيقة ،أنا أكذب .مل أملك يو ًما ّ من كوين راش ًدا باعرتاف الجميع ،إلّ أنني ما زلت أعيش عىل حساب أهيل، كل عام. واألمر يزداد تكلفة ،أكرث فأكرث ،مبرور ّ يبق يل دخل أعيش منه سوى ما يردين من الكتابات األدبية ،أو ما فجأة مل َ يشبهها .يف حني أن مجرد ذكر الدخل ذاك ،املتأيت من تلك املصادر ،أثار عىل الدوام ضحك السامعني ،أو يف أحسن األحوال رسم عىل وجوههم ابتسامة أي حال ،فقد متكنت يف السنوات املاضية من بناء العارف مبا يجري .عىل ّ يش ٍء من السمعة الحسنة خالل مثابريت يف صقل موهبتي اإلبداعية .وذاك أم ّدين بح ٍّد أدىن من املال أبقاين عىل قيد الحياة. منط حيايت املنفتح الذي قادين بانتظام إىل أشهر مقاهي موسكو ومطاعمها تقلّص عىل نحو حاد .أما قلبي الكبري الذي طاملا سخى يف كرم الضيافة كل من شاركني املائدة ومع ندماء الرشاب ،فقد أضحى ذاب ًال ُمتع ًبا مع ّ يُحايك حال شحيح ِ اليد الذي أضحيته .وما أذهلني أن أولئك الذين سبق وأوملت عىل رشفهم ،مل يكونوا اآلن مستعجلني لر ّد الجميل ،حتى اتضح يل أن هؤالء الفتية والفتيات تع ّودوا كفاف العيش ،مثلام هي حايل اآلن. يل لتحميل رحت ،عىل نحو تدريجي ،أقبل القيام ّ بأي عمل أجده :دوام لي ّ ّ محل ،بعض الغزوات املته ّورة للصق اإلعالنات البضائع يف سوبرماركت ّ ّ عىل أعمدة اإلنارة ،مساعد مص ّور ،كمبارس ،وحارس يف متجر للحيوانات
12
مساعد ستيفن سيغال
“هل ميكنك الوثوق مبا يقوم به اآلن! ،”...ويتبع ذلك موجة من الرثثرة بني مستعجل يف منحهم هكذا ورقة ً أفراد هذه الزمرة الفظّة أو تلك .مل أكن رابحة ،حتى لو كانت تافهة إىل هذا الح ّد. ال ّ شك يف أ ّن مستواي العلمي وسعة معرفتي بالكاد تالءما مع فرتة العمل اليدوي التي أنزلت يب آالم الظهر وتش ّنج العضالت .لكن حتى هنا ،فقد تب ّينت األىس يف ابتسامة القدر الذي دفعني يف اتجاهات شتّى مل أكن أجرؤ عىل استكشافها مبحض إراديت. أذكر أنّني يف ربيع العمر ،ويف ذروة إحسايس بالرضا عن نفيس (حتى لو التخل يو ًما عن تأنّقي املكلف ،فأمتشق وهم) ،كنت ألهو بفكرة ّ كان ذلك ً كيس التقشّ ف شبه فارغٍ ،وال يشء فيه سوى طقم مالبس داخلية ،ذاه ًبا من دون مواربة يف عمق الحياة لالنضامم إىل عامة الناس. كانت فكريت يف االندماج مع “الناس” بسيطة ،الناس العاديني األقرب إىل قلبي ،والذين كنت أعتقد أ ّن الوصول إليهم ال يت ّم إال عرب السفر يف عربة علوي يف إحدى مقصوراته ،حيث قطار من الدرجة الثانية والنوم يف رسير ّ ميكنني رؤيتهم ميشون متثاقلني بأحذية بالية أمام بيوت متداعية عند أطراف القرى البائسة. وذاك تخلّلته لحظات من املرح .كأن أنتقل إىل وظيفة الحارس اللييل فأقذف عىل الطاولة ،بني الحني واآلخر ،صحيفة تضم مقالة كتبتها تناقش حال السياسة الدوليّة ،أو أن أسمع ،خالل إنزايل حمولة صناديق برية قذرة
15
أرسالن خسافوف
وعىل الرغم من جميع األزمات يف هذا الجانب من حيايت ،مل أهمل الدور يل تأديته يف املجتمع .رحت أحرص عىل اختيار كلاميت بعناية، الذي كان ع ّ ألعب عن آرايئ برصاحة .وأثناء تناويل الطعام يف املطاعم الفاخرة ،كنت ّ يدي الخشنتني ،املوسومتني بالعمل اليدوي ،محاولً تصحيح الرضر أخفي ّ الالحق بوالدي ،ذاك الرضر البادي غري قابل للتصحيح. عند التقدم للوظائف ،كنت أتق ّيد بأصول القواعد املتّبعة لتعبئة الطلب. يف االستامرات ،اختار “املرحلة الثانوية” يف املربع املخصص لـ “التحصيل العلمي” ،وال آيت أب ًدا عىل ذكر شهاديت من إحدى الكليات املرموقة يف املخصص للـ“خربة” .ويف إحدى جامعة موسكو .أضع إشارة يف املربّع ّ امل ّرات ،وبلحظة المباالة تا ّمة ،وضعت عالمة إكس عوضً ا عن توقيعي. كنت مستع ًدا للمبارشة يف أيّة وظيفة .وليك أوفّر املزيد من االطمئنان ألرباب العمل رحت أطلب دامئًا الحصول عىل وظيفة غري مسجلة رسميًا. مل يكن السبب الوحيد يف ذلك تج ّنب جهد تأمني األوراق املطلوبة ،بل أردت عدم إظهار اسم عائلتي يف سياق غري مالئم يلفت انتباه األعداء. إذ مل تعد الشعارات القدمية عن كرامة العمل ط ّنانة كام يف السابق .وأنا كنت عىل يقني بأن من يناوئونني سياسيًا (هؤالء موجودون أيضً ا ،وهم مثيل جاهروا ،م ّرة إثر أخرى ،بآرائهم عالنية عرب وسائل اإلعالم) سيجدون طريقة لالستفادة من هذه املعلومات ،وإن مل يكن عىل نحو مبارش فمن خالل األساليب املواربة يف إطالق الشائعات.
14
مساعد ستيفن سيغال
التي كانت هامئة يف أثري اإلنرتنت منذ نحو ستة أشهر .أجريت املقابالت ونظرت مرعوبًا إىل مكاتب الصحف الرئيسية فيام كنت أخضع المتحاناتها الزائفة .غرف فسيحة تزدحم بأثاث بسيط يض ّم أجهزة كومبيوتر مث ّبتة فيه ،يكت ّظ يف مواجهتها مراسلون ومح ّررون ومص ّححون ومدقّقون لغويّون ومص ّممون ،والله يعلم من غريهم ،محشورين ببعضهم بعضً ا بقرب يصعب تخ ّيله ،ومنهالني عىل لوحات مفاتيح الكومبيوتر أمامهم. ٍ عاجل يوم من األيّامً ، تخ ّيلت جميع أولئك األفراد املبدعني يُستبدلون يف ٍ أقل نجا ًحا يف إنتاج تقل إبدا ًعا ،وهذه األخرية ال تكون ّ آجل ،بآالت ال ّ أم ً ما ّدة متأل البوابات الرقميّة .إذ من الواضح أ ّن البرش بقلوبهم النابضة هم مك ّونات آيلة إىل الزوال يف هذه البيئات ذات التقنيات العالية. انسحبت مذعو ًرا ،مدركًا يف قرارة نفيس أنّني امرؤ بعادات عملٍ عفا عنها الزمن .كيف ميكنني الرتكيز من دون حيزي الشخيص؟ وأرباب العمل املحتملون مل يزيدوا إىل ذلك سوى الريبة .أمكنني القول إنّهم كانوا قد ٍ لشخص مق ّر ٍب أوكلوا النشاط الفكري الذي تتطلّبه وظيفتهم املريحة منهم .الوضع كان مناس ًبا يل ولهم :وعدوين بالتفكري باألمر ،وأنا هربت النقي ،متخل ًّصا من قيود خفيّة كانت تكبّلني. ألتنشّ ق الهواء ّ كنت مضط ًّرا آلالف املرات عىل عدم اختيار الحياة التي أريد ،شا ًّدا أحزمتي أكرث فأكرث ،معاو ًدا االتصال بأرباب عمل محتملني ،معربًا عن استعدادي بأي عمل ينقذين من هذا البؤس الذي ال يُطاق. للقيام ّ
17
أرسالن خسافوف
من شاحنة قذرة ،صويت منبعثًا من الراديو يف مقابلة أجريت معي يف وقت سابق من النهار ،ويُعاد إذ ذاك بثّها. بالطبع ،مل أكن ألكرتث إىل األمر كث ًريا ،فلم أرضب يدي عىل صدري مطال ًبا خاصة لن يكون مردودها سوى إبعاد رشكايئ يف الح ّظ العاثر ع ّني، مبعاملة ّ تحسس نبض لك ّنني يف الصميم كنت منتشيًا .إذ يف النهاية كان بوسعي ّ الحياة ،خافقًا يف داخيل وحويل. مل يكن بوسعي التفكري بعظيم من العظامء مل يُثمله كأس العوز واملعاناة، وذاك أم ّدين بالطأمنينة .وما جعل هؤالء العظامء حقًّا عظامء ،كان تصميمهم الذي ال يلني عىل مواجهة أقدارهم القصوى وإنجاز الهدف صنت إمياين اليقني برسالتي يف الحياة ،عىل الذي ولدوا من أجله .هكذا ُ عام مي ّر. الرغم من ازدياد غموضها مع ّ كل ٍ بعد تأميني حصص املياه للحيوانات التي يض ّمها متجر الحيوانات األليفة فإن إذا استلقيت يف الغرفة الخلفية عىل أريكة بالية وفكّرت حيث أعملّ ، بأ ّن الرتجمة اإلنكليزيّة لباكورة أعاميل الروائ ّية باتت اآلن منذ أشهر عىل رفوف جميع املكتبات الرئيسيّة ومتاجر بيع الكتب يف الواليات املتّحدة وبريطانيا ،فقد تأرسين الغبطة .عامل من األضواء الزاهية يصطخب أمام عيني ويرتاقص عىل خلف ّية من الظالم املباغت .أنثني ،م ّرة واثنتني وثالث ًا، ّ من الضحك ،كممثّل يبالغ يف دوره مبرسح ّية كوميديا سوداء رديئة. انتعش سوق العمل أخ ًريا وجاءين ر ّد من بعض الرشكات عىل سرييت الذاتية
16
مساعد ستيفن سيغال
مل أكن محر ًجا البتة .بل كنت جائ ًعا .عندما بدأت مناوبتي الثانية ،ذات محاول املزاح يف املوضوع: ً املتدن ،راسلتها من هاتفي النقّال ّ األجر “سريتفع مثنه إن كنت تريدينه مع توقيعي ،لكن سيكون بوسع أحفادك بيعه وبناء منزل من مثنه”. “سأشرتيه! وأنا ال أبايل مبقاسه حتّى” ،كتبت الشابة بحامسة“ .إىل هذا الح ّد أريده!” ولتأكيد مدى حامستها املفرطة تلك ،أردفت قائلة“ :يا الله!” ال اهتاممها بشخيص وال حامستها حاال دون اختفائها التام والفوري من حيايت إىل األبد. متكّنت مرتني من الحصول عىل وظيفة يف محطات تلفزيونية جديدة تبث عىل اإلنرتنت ،وذلك لزيادة خربيت املهنيّة .طُردت من إحداهام بعد بضعة أيام لعدم قدريت عىل تليني حرف الـ“ر” بالطريقة التي تُريض املح ّرر الشاب. “كام ترى يا أرتور” ،قال امل ُح ّرر ،شابكًا يديه أمامه عىل املكتب بتأ ّن تام، “عيوب النطق عند بعض الناس جذّابة ج ًّدا ،لكن عند آخرين فإنّها ليست قليل يك مينحني وقتًا للتفكري مبا قال قبل أن جذّابة عىل اإلطالق” .سكت ً يختم ،وكأنّه يُطلق حبل مقصلة حا ّدة: “لسوء الحظ ،أنت تنتمي إىل الفئة الثانية”.
19
أرسالن خسافوف
تكب ،حني يت ّم إعالمي ومع ذلك مل أكن ألغفر ملا أبديته يف السابق من ّ بفتور أ ّن الوظيفة التي كانت شاغرة مل تعد موجودة ،وأنّهم سيبقونني يف جداولهم ،وما إن تشغر وظيفة جديدة يبلغونني يف الحال .بالطبع سيفعلون. لدي خالل سنوات ولتدعيم دخيل غري املنتظم ،رحت أبيع أغراضً ا تراكمت ّ اليرس .مل أست ِنث شيئًا :ثياب مستعملة ،أجهزة إلكرتونية غري مستخدمة، وكتب نادرة ،ما لبثت أن وجدت طريقها إىل مطحنة اإلنرتنت .جرت مبايض ،ثم أتلقّى بدله املايل، الصفقات ببساطة :أسلّم غرضً ا يربطني ّ فأمتكّن من تناول الطعام عىل نحو مقبول مل ّدة يومني ،قبل أن يعود الوضع إىل ما كان عليه. وكانت األمور أحيانًا تجري عىل نحو مضحك .املشرتون املحتملون الذين استطلعوا معلومايت الشخصيّة من خالل عنوان بريدي اإللكرتوين الذي استخدمته لهذا العمل كانت تتملّكهم الدهشة: حب للبطولة ،أو هكذا “مرحبا ،أرى أنّك ثوري حقيقي ،رجل رومنيسُ ،م ٌ يبدو!” ،كتبت يل إحدى الفتيات يف رسالة إلكرتونيّة .كانت تسعى للحصول عىل حزام إيطايل مل ِ ارتده منذ فرتة طويلة“ .أنا أشاهد فقط أخبار العامل وال أكرتث أب ًدا مبا يجري يف روسيا ،لكن يبدو أ ّن مروحة اهتامماتك واسعة كل هذه األمور! أال يحرجك عرض حزامك للبيع؟” كتبت يل يف رسالتها. يف ّ
18
مساعد ستيفن سيغال
كريس ،مف ّك ًرا بالطريقة امل ُثىل إلنهاء هذا املشهد. متلملت عىل ّ “نحن نقوم بعلميات بث مبارش ،ونتلقى مكاملات عرب الهواء ،وميكنك فهم أن ،”...راح يرشح ما كان جل ًّيا للعيان“ .ال أريد ملحطتنا الدخول يف متاهة بأي شكل من األشكال”. أمور كهذه ّ “هل لديك سيكارة؟” سألته ،وأنا أع ّدل جلستي ببساطة عىل الكريس. أخرج علبة سجائر معدن ّية قدمية الطراز ،أخذ سيكارة رفيعة وق ّدم يل الش ّعالة .أخذت م ّجتني ،وببطء نفثت غاممات كثيفة من الدخان ،مراقبًا تعابري الدهشة التي بدت عليه ،وعيناه الغائرتان الصغريتان تطرفان فوق اصطنعت ابتسامة ُمتعجرفة وجنتني أشبه بفطريتني مدهونتني بالزبدة. ُ عصبي ،يطرق عىل الطاولة بأصابعه شبيهة النقانق. فيام راح ،عىل نحو ّ نهضت ومشيت نحو الباب .يف الرواق نزعت من رقبتي رشيط برت ٍّو تام ُ ُ بطاقة إذن الزيارة التي أصدرت قبل قليل ورميتها. ويف ما كان قد صار تقلي ًدا ،صافحت املرافقني اللذين كانا ينتظرانه عند املدخل ،أنهيت سيكاريت ،بصقت من خالل أسناين ،وغادرت .باب آخر يف حيايت أقفل يف وجهي. ***
اشرتيت علبة برية باردة من كشك قريب ،وذهبت يف جولة يف املتن ّزه الغريب املحيط باملركز الوطني للفنون ،مقتفيًا صوت شخص يؤ ّدي عىل 21
أرسالن خسافوف
الغصة املتض ّخمة يف حنجريت ج ّراء تصنيفه املفاجئ هذا ،ودمع وحدها ّ عيني ،منعاين من إنزال املزيد من األذى الطفويل الذي كاد ينهمر من ّ التشويه يف أسنانه غري املتناسقة ،الشبيهة بأسنان القرش. “لكن ُعد غ ًدا ...احرص عىل ذلك” ،نطق كلامته هذ ًرا فيام أدرت ظهري ُمغاد ًرا ومتو ًّجها نحو الباب. مدير محطّة إلكرتون ّية أخرى استدعاين ملقابلته يف لحظة زامنت اللغط امل ُثار حول والدي. “إنني أتلقّى معلومات” ،قال يل ،وهو يرتشف الشاي من كوب زجاجي طويل يف حاملة أكواب عليها شعار سكك الحديد الروس ّية“ ،تفيد أ ّن والدك سوف يُطارد ويُغتال .القرار ات ُِّخذ”. همهمت. ُ “سوف يُقتل بالتأكيد .إنهم يبحثون عنه اآلن .هذه معلومات موثوقة من صديق مق ّرب يل يعمل يف األمن الفدرايل لالتحاد الرويس”. “أيب غادر روسيا” ،أجبته باختصار“ .أح ٌد لن يعرث عليه”. قائل“ .إن مل يعرثوا عليه فسوف “هذه هي املشكلة بالتحديد” ،تابع ً يالحقون ابنه ،أنت .ووالدك س ُيذعن إىل حيث يريدونُ ،م ِق ًّرا كالحمل الوديع .هذا ما سيحدث”.
20
أرسالن خسافوف
املرسح .جلست عىل مقعد خشبي يف الصف الخلفي ،أخذت ارتشافة كبرية من البرية ،وشاهدت يف الواقع شابًا بدي ًنا يرقص يف املكان .بدا مستمت ًعا بوقته ،مداع ًبا أوتار غيتاره الكهربايئ ،راف ًعا ساقًا سمينة عال ًيا يف الهواء ومح ّركًا رأسه لتهت ّز خصل شعره كثرية الطبقات .بدا وجهه مألوفًا بالنسبة يل يشبه ابن أحد رجال األعامل املعروفني .أحدهم كان قد أخربين أ ّن االبن هذا زير نساء. مثلت برسعة ورحت أنقّل نظري ض ِج ًرا بني الناس املوجودين هناك .بعض الفتيات اللوايت جلسن أمامي بصفني أو ثالثة ك ّن يلتفنت إىل الخلف ،حيث أي اهتامم. أثار انتباهه ّن أم ٌر ما ،ويتهامسن .مل أعر ذلك ّ متّع شبابك بالرقص ،أيّها الفتى. أنهيت علبة برية ثانية ،سحقت العلبة يف قبضة يدي ورميتها يف برميل ُت صوت املوسيقى وتالىش أخ ًريا النفايات القريب وغادرت املتن ّزهَ .خف َ يف الهواءُ ،مفس ًحا املجال ألصوات حيايت اليوم ّية االعتياديّة :ضجيج حركة السري عىل الطرقات والرصير املعد ّين ألفكاري. تعب كاد مينعني كنت أسري بال وجهة ،متنق ًّل بال هدف ،وفجأة أدركني ٌ ذاهب طو ًعا نحو اختطايف وما سيعقبه من نقل قدم أمام األخرى ،وأنا ٌ من جرمية قتل والدي ،إن كان يل أن أص ّدق ما أُ ِ خبت َه .غري أنّني مل أص ّدق، وبالتايل فإنني مل أستسلم. ***
22
أرسالن خسافوف ،كاتب وصحايف ولد يف آغغابات، تركامنستان .روايته Senseالتي حازت جائزة تقدير، نُرشت يف روسيا والواليات املتّحدة األمريكيّة.
رسد :كتابات عربيّة وروسيّة معارصة
مساعد ستيفن سيغال أرسالن خسافوف
أرسالن خسافوف
مل يكن بوسعي التفكري بعظيم من العظامء مل يُثمله كأس العوز واملعاناة ،وذاك أمدّين بالطأمنينة.
الب ّوابة التّاسعة :مقاالت املدينة وأخبارها العدد الثالث ،خريف 2013
يحيا الجميع يف زمن خفتت فيه الشعارات الهادرة ،امل ُن ّمقة، والقرشويّة ،والفرد أصبح هو “ذاته” فقط من دون تنميق“ .مل تعد الشعارات القدمية عن كرامة العمل ط ّنانة كام يف السابق” ،يكتب أرسالن خسافوف ،عىل لسان بطله أرتور، العرشيني“ ،الرويس” املسلم الشاب ّ الداغستاين ،امل ُطارد األب ،والباحث قليل ربا يق ّربه ً عن عمل يف موسكو ّ من حلمه املثايل عن نفسه ككاتب موهوب.
أرسالن خسافوف ،كاتب وصحايف ولد يف آغغابات، تركامنستان .روايته Senseالتي حازت جائزة تقدير، نُرشت يف روسيا والواليات املتّحدة األمريك ّية.
الشارة
ُغلق يف مواقيت محدّدة ،تنتمي إىل حقبة آفلة .الكالم عن “بوابة” للمدينة ُفتح وت ُ جدران املدن وأسوارها والبوابات التي كانت تتخلّلها ،فتُحرس وت ُ كل سبيل لدخولها .لبريوت األسوار كان مث ّة أبواب سبعة ،مع ميل من قبل بعض املؤ ّرخني إىل التشديد عىل الرقم اليوم هو كالم يف املجاز يصيب ّ تتول حراسة مداخل املدينة .ث ّم أضيفت إىل تلك البوابات ،يف مرحلة متأخّرة من املذكور ،باعتباره رم ًزا لالكتامل ،والرتباطه بعائالت بريوتيّة سبع ،كانت ّ عمر السور ،بوابة ثامنة“ .البوابة التاسعة” هي البوابة امل ُتخ َّيلة التي مل تكن .وهي البوابة التي مضت خانة إضاف ّية يف تخطّي رمزيّة الرقم واكتامله، فغدت مفتوحة عىل احتامالت كثرية ،عىل ما يفرتض الخيال. املديني وآدابه وفنونه وتواريخه لتواكب العمران مبضمون معريف يتناول أفكار العيش البوابة التاسعة ،مجلّة ثقافة مدينيّة ،تصدر من وسط بريوت، َ ّ املديني تحديدًا ،املكان الذي شهد سجاالت بدت مهدورة يف معظم األحيان ،تارة بسبب حدّتها واقرتاحاته املستقبل ّية .موقعها يف بريوت ،يف الوسط ّ أو مغاالتها وقلّة حذاقتها ،وطو ًرا بسبب هامشيّتها وانسحابها وافتقارها إىل سياق نرشي مثابر مخصص لها وساع إىل ترويج اإلقبال عىل نوعها الثقايف، مديني عريب -دويل مت ّيزت به بريوت دامئًا ،وتتنبه إىل وجوب االبتعاد عن املغاالة والحدّة الضا ّجة وقلّة االتّزان .كام يجعلها يجعلها تطمح إىل تواصل ّ كل عام ،متيحة أمام كتّابها واملشاركني يف صناعتها ،الوقت املالئم لنتاج يدمج تقدّم بديلها يف إصدار مثابر متمحور حول ثيمة واحدة ،يتك ّرر م ّرتني يف ّ البحث األكادميي املع ّمق بالكتابة اإلبداع ّية والنقديّة والصحاف ّية والغوص عميقاً يف عصب املدينة وطبقاتها .هذا ،وتأيت البوابة التاسعة ،لتتب ّنى زمنها كل مكان ،متقاطعة يف كثري من الوجوه واملظاهر .من هنا تأيت جهودها األوسع الذي دخل فيه العامل حقبته املدينيّة ،وباتت ثقافات املدن وقضاياها يف ّ نصه األصيل (روحه األصل ّية)، يف الرتجمة التي ت ُنتج ثنائ ّيتها اللغويّة الهادفة إىل تعريف ما يؤلّف “هنا” عن املدينة ،مع املحافظة عىل نضارته عرب نرش ّ يل (ة) أيضً ا ،وإخراج هذا كلّه يف هويّة متداخلة واحدة ت ُصاغ عرب أفكار تصميميّة مبتكرة. عىل ما يؤلّف “هناك” عن مدن أخرىّ ، بنصه (روحه) األص ّ مؤسس ورئيس التحرير فادي طفييل ِّ مؤسسة ومديرة اإلخراج الف ّني ناتايل املري ِّ امل ُح ّرر العام إياد حسامي التصميم أنطوان غانم االنتاج دينا بستاين ،زينة نقاش ،ماريو رزّوق إدارة العمل ليامسول ذوق شؤون مال ّية سمية بارودي تنسيق وتوزيع محمد رحيمي مح ّرر خُطط تود رايس ُمحرر مساهم هشام عوض مراجعة لغوية مح ّمد حمدان ،تراييس داندو تدقيق لغوي مح ّمد حمدان ،جوديت ريوتو رسومات األغلفة هبة ف ّران
تنرش مجلّة البوابة )ISSN 2305 - 5219( 9 مرتني يف السنة يف بريوت ،لبنان، من قبل رشكة سوليدير مانجمنت سريفيسز ش.م.ل.
وسط بريوت ،مبنى ،149شارع سعد زغلول صندوق بريد 119493بريوت 2012 7305لبنان هاتف00961 1 980 650 / 60 :
شكر خاص عمر خليف ،سمر عواضة ،رايتشل كروز ،مالو هلسا
ترخيص رقم 465 املدير املسؤول جورج علم حقوق النرش والتأليف عائدة لرشكة سوليدير مانجمنت سريفيسيز ش.م.ل .جميع الحقوق محفوظة © .2013
مينع نسخ أو استعامل أي جزء من هذه املطبوعة بأي وسيلة تصويريّة أو إلكرتونيّة أو ميكانيكيّة مبا فيها التسجيل الفوتوغرايف والتسجيل عىل أرشطة أو أقراص مقروءة أو أي وسيلة نرش أخرى مبا فيها حفظ املعلومات واسرتجاعها من دون إذن خطّي من النارش.
التوزيع يف الرشق األوسط
Compagnie libanaise de distribution de la presse et des imprimés s.a.l. - Lebanon
تعب عن آراء أصحابها وحدهم وال توافق بالرضورة آراء هيئة املقاالت املنشورة ّ التحرير ومواقفها .النارش غري مسؤول عن ص ّحة املعلومات الواردة يف املقاالت أي أخطاء أو هفوات ترد .يشرتط يف وهو ال يتح ّمل أي مسؤوليّة قانونيّة عن ّ قبل يف أي مجلّة أو كتاب. املساهامت التي تردنا أن ال تكون قد نرشت ً
التوزيع الدويل Idea Books
ال تراجع املجلّة يف شأن املساهامت التي تردها طوعًا ،من دون طلب منها. وهذه املساهامت ال تُردّ.
البوابة التاسعة طبعت وطويت يف لبنان
42
خاص لـ portal9journal.org
كتابات نقديّة :تود رايسُ ،مح ِّرر خُطط يف الب ّوابة التّاسعة ،يُراجع العدد األخري من Comparative Studies of South Asia, Africa and the Middle Eastالذي ح ّررته نيليدا فوكارو ،الباحثة واملختصة يف عمران الخليج العريب .هذا ويراجع عمر خُليف الدورة ّ الرابعة لبينايل مراكش الذي انعقد تحت ثيمة “أين نحن اآلن؟” مراجعة خليف تأيت قبيل االستعداد النطالق الدورة الخامسة من هذا البينايل. مرويّات :من حمص يكتب جابر غصن عن ساحة الساعة وليلة الفجر املؤ ّجل. زوروا موقعنا اإللكرتوين portal9journal.org
الب ّوابة التّاسعة عىل فايس بوك
facebook.com/portal9journal
الب ّوابة التّاسعة عىل تويرت
twitter.com/portal9journal
41