|2الصفحة
تدقيق :شهد سعد مقبل . تنسيق وإخراج :ضحى محمد أبوتاكي .
|3الصفحة
الفهرس:
المقدمة الفصل األول :عالم محتاج األب رجل بشائر الرسالة عبقرية الداعي الفصل الثاني :عبقرية محمد العسكرية حروب الدفاع لقائد البصير ألوامر المختومة غرضان قائد بغير نظير خصائص العظمة أسري غزوة بدر بعد معركة األحزاب الفصل الثالث :عبقرية محمد السياسية سياسة الخصوم ة األتباع الفتح المبين الفصل الرابع :عبقرية محمد االدارية ملكات شخصية تدبير الشئون العامة البليغ المعاهدات و المواثيق سجع كحيلة الذهب أسلوب عصري رأي النبي في الشعر جوامع الكالم الفصل الخامس :محمد الصديق عطوف ودود ذو ذوق سليم عظمة العظمات الرئيس الصديق حق المرأة معاملته لزوجاته سماحة الكريم أسباب تعدد زوجاته الوجهة الخلقية رأي نابليون رأي لينين |4الصفحة
6 7 10 11 12 13 16 17 20 21 22 23 24 25 26 27 28 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 45 47 48 50 51 53 54 55
عقوبة الزوجات الفصل السادس :األب األبوة الروحية و األبوية النوعية األب الثكول حزن األبوة أكرام اإلباء الخاتمة نبذة المؤلف
|5الصفحة
56 57 58 59 60 61 62 63
املقدمة: عبقرية محمد صلى هللا عليه وسلم . رسول هللا وصاحب ال ُمعجزات الذي أمر ب اقرأ ،إنه خير عبدا ً و خير زوجا ً و أبا ً و صديقا ً . تأثروا به غير المسلمين فكانت سيرته سبب اعتناقهم لهذا الدين إذا ً كيف بنا نحن كمسلمين ،فهو خير البشر وعظيم األثر. إن هذا الكتاب بمثابة دروس حياة تحكي ُجهده واجتهاد وإنسانيته و أخالقة وعدله واعتداله. ال تستطيع المرور من هنا دون أن تخجل أمام هذه السيرة العَ ِطرة أن ت ُحب وتعمل فهذا هو االقتداء فعالً. مواقف تحكي تاريخ يوثق عبقرية وإعجاز منحها هللا لعبده الذي بلغنا رسالته وعلمنا أن الدين أخالق كريمة.
|6الصفحة
الفصل األول :عامل حمتاج.
|7الصفحة
فقد طمأنينة الباطن التي تنشأ من قوة في الغيب ،تبسط العدل وتحمي الضعف وتجزي الظلم وتختار األصلح األكمل من جميع األمور ،ولقد فقد أيضا ً على حد سواء طمأنينة الظاهر التي تنشأ من وجود دولة تقضي بالشريعة وتفصل بين البغاة واألبرياء وتحرس الطريق وتخيف المفسدين. ومثال ذلك الدول الكبرى التي كانت تحكم في هذا العالم وهي :بيزنطة وفارس والحبشة. فبيزنطة خرجت من الدين إلى الجدل العقيم فتضاءلت سطوتها حتى طمع فيها من كان يحتمي بجوارها وفارس سخر فيها المجوس من دينهم وكمنت حول عرشها كوامن الغيلة وبواعث الفتن والحبشة ضائعة بين األوثان والهمجية ،عالوة على هذا التشويه في الدين فهي ليست بذات رسالة في الدنيا عالم يتطلع إلى حال غير حاله ،يتهيأ للتبديل أو للهدم ثم للبناء. أمة العرب وحالها قبل بعثة النبي محمد صلى هللا عليه وسلم. أمة العرب هي أمة ليست ذات دولة وقد تيقظت لوجودها وشعرت بمكانتها والخطر عليها ،في أيديها تجارة العالمين كلها ،فإذا سارت القوافل من خليج فارس إلى بحر الروم تتصل األرزاق بين المشرق والمغرب وإذا غضبت أمة العرب تبور التجارة وينضب المورد وتكسد األسواق فهي في جيرة األعراب من كلتا الطريقين. أمة تيقظت لوجودها وعرفت شأنها ثم رأت هؤالء المحيطين بها يجورون عليها ،ويريدون إخضاعها وابتالعها. خطر من خارجها ،فهرقل الرومي يرسل من يحكمها ،وأبرهة الحبشي يزحف إلى مكة بمن يهدم كعبتها ،وفارس تطغى على شرق البالد وعلى جنوبها. وخطر من داخلها ،يدفع بها إلى الزوال أو إلى استكمال النقص المستشري في حياتها ومن هنا الفاقة والحسرة والشك في صالح األمور ولكنه شك يبحث وليس بالشك الذي يستكين ،حيث اجتمع أناس من أولي الرأي ثم تفرقوا ،فمنهم من تنصر ومنهم من اعتزل األوثان ،ومنهم من انتظر حتى سمع دعوة اإلسالم فلباها.
|8الصفحة
هؤالء بحثوا عن العقيدة وغيرهم بحثوا عن وازع من الضمير ووازع من السلطان وذلك في حلف الفضول الذي شهده النبي صلى هللا عليه وسلم في شبابه. حالة ال تستقر وأمة يقظى وقلما تزول أمة يقظى في أوان انتباهها ،فتلك إذا ً حالة التبديل والتجديد.
القبيلة والبيت الذي نشأ فيها رسول هللا صلى هللا عليه وسلم: وقبيلة في تلك األمة لها شعبتان :إحداهما من أصحاب الترف والطمع واستبقاء ما هو قائم على هواها ..واألخرى من أصحاب التقوى والسماحة والتوسط .وبيت من تلك الشعبة الوسطى له كرم النسب العريق وليس له لؤم الثروة الجامحة والقسوة على من دونه من المحرومين ذلك هو بيت عبد المطلب من صميم قريش. وهو رجل قوي الخلق ،قوي اإليمان فيما آمن به ،حكيم وخليق أن ينجب العقب الذي يبشر بدعوة الدين. نذر لئن عاش له عشرة بنين لينحرن أحدهم عند الكعبة ،ثم أحله قومه وأحلته العرافة فأبى حتى يستوثق عن رضا الرب ورضا ضميره ،ففدوه بمائة من اإلبل.
|9الصفحة
األب: عبد هللا نعم األب لذلك النبي الكريم ،فهو الفتى الذي اختير للفداء فجاشت له شفقة قومه حتى تركه لهم القدر إلى حين ،وهو الفتى الذي تحدثت الفتيات بوسامته وودت مئات منهن لو نعمن منه بنعمة الزواج وهو الفتى الذي أقام مع عروسه ثالثة أيام ثم سافر ومات وهو غريب وولد له نسله الكريم وهو دفين.
| 10ا ل ص ف ح ة
رجل: رجل ال يشركه رجل آخر في صفاته ومقدماته ،نبيل عريق النسب ،فقير وليس بالغني المترف فيطغيه بأس األغنياء .يتيم بين رحماء فليس هو بالمدلل الذي يقتل فيه التدليل ملكة الجد واإلرادة. وليس بالمهجور الذي تقتل فيه القسوة روح األمل والعزة. خبير بكل ما يختبره العرب من ضروب العيش في البادية والحاضرة .فهو خالصة الكفاية العربية في خير ما تكون عليه الكفاية العربية. أصلح رجل من أصلح بيت في أصلح زمان لرسالة النجاة المرقوبة ،على غير علم من الدنيا التي ترقبها. ذلك محمد بن عبد هللا صلى هللا عليه وسلم .خلق محمد بن عبد هللا ليكون رسوالً مبشرا ً بدين، وإال فألي شيء خلق.
| 11ا ل ص ف ح ة
بشائر الرسالة: والمؤرخون يجهدون أقالمهم غاية الجهد في استقصاء بشائر الرسالة المحمدية. فما من بشارة من تلك البشائر كان لها أثر في إقناع أحد بالرسالة يوم صدع النبي بالرسالة ،أو كان ثبوت اإلسالم متوقفا ً عليها. وألن الذين سمعوا بالدعوة وأصاخوا إلى الرسالة بعد البشائر بأربعين سنة ،لم يشهدوا بشارة واحدة منها.
ولم يحتاجوا إلى شهودها ليؤمنوا بصدق ما سمعوه واحتاجوا إليه.
أما العالقة التي ال التباس فيها وال سبيل إلى إنكارها ،فهي عالمة الكون وعالمة التاريخ ،وال كلمة لقائل بعد عالمة الكون وعالمة التاريخ.
| 12ا ل ص ف ح ة
عبقرية الداعي: الذي اتفق في رسالة محمد صلى هللا عليه وسلم قد كان أعجب أعاجيب االتفاق ،ألنها مع ضخامتها وتعدد أجزائها وتوافق تلك األجزاء جميعها مما يقبله العقل قبوالً سائغا ً بغير عنت وال استكراه. فكان محمد مستكمالً للصفات التي ال غنى عنها في إنجاح كل رسالة عظيمة من رساالت التاريخ. كانت له فصاحة اللسان واللغة وكانت له القدرة على تأليف القلوب وجمع الثقة وكانت له قوة اإليمان بدعوته وغيرته البالغة على نجاحها ففصاحة محمد صلى هللا عليه وسلم تكاملت له في كالمه وفي هيئة نطقه بكالمه وفي موضوع كالمه. واتفقت الروايات على تنزيه نطقه من عيوب الحروف ومخارجها وقدرته على إيقاعها في أحسن مواقعها ،فهو صاحب كالم سليم في نطق سليم. وكانت له مع الفصاحة صباحة ودماثة تحببانه إلى كل من رآه وتجمعان إليه قلوب من عاشروه وهي صفة لم يختلف فيها صديق وال عدو. وحسبك من حب الضعفاء أن فتى مستعبدا ً يفقد أباه وأسرته كزيد بن حارثة رضي هللا عنه ثم يظهر له أبوه بعد طول الغيبة فيؤثر البقاء مع محمد صلى هللا عليه وسلم على الذهاب مع أبيه. وحسبك من حب األقوياء إياه أنه جمع على محبته أناسا ً بينهم من التفاوت في المزاج والخصال ما بين أبي بكر وعمر وعثمان وخالد وأبي عبيدة وهم جميعا ً من عظماء الرجال. ولكن الرجل قد يكون صحيحا ُ دمثا ً محبوباً ،وال يكون له من ثقة الناس وائتمانهم إياه نصيب كبير. أما محمد صلى هللا عليه وسلم كان جامعا ً للمحبة والثقة كأفضل ما تجمعان ،فلم يكن ما بالقوم أنهم ال يصدقون محمدا ً صلى هللا عليه وسلم وال يعلمون فيه الشرف واألمانة وإنما كان بهم أنهم ينفرون من التصديق كما ينفر المرء من خبر صادق بسوءه فيمن يحب وهو مفتوح العينين ناظر إلى صدق ما يلقى إليه. | 13ا ل ص ف ح ة
ومن المحقق أن هذه الموافقات على كثرتها وهذه الشمائل على ندرتها ال تزال تتوقف على صفة أخرى يحتاج إليها الداعي وهي إيمانه بدعوته وغيرته على نجاحها ،ولما آمن برسالته هو ودعوة ربه إياه إلى القيام بتلك الرسالة ،صدع بما أمر ورضى ضميره بما أوتى من الهداية على النحو الذي رضي به ضمائر األنبياء وأصحاب الفطرة الدينية. ما من حركة كبرى في التاريخ تتضح للفهم إن لم يكن نجاح الدعوة المحمدية مفهوما ً بأسبابه الواضحة المستقيمة التي ال عوج في تأويلها. وما من شيء غير الغرض األعوج يذهل صاحبه ثم يخيل إليه أن الدعوة اإلسالمية كانت فضوالً غير مطلوب في هذه الدنيا ،وأن نجاحها مصطنع ال سببا ً له غير اإلرهاب بالسيف واإلغراء بلذات النعيم ومتعة الخمر والحور العين .فهم لم يسلموا على حد السيف خوفا ً من النبي األعزل المفرد بين قومه الغاضبين عليه ،بل أسلموا على الرغم من سوف المشركين ووعيد األقوياء المتحكمين .فلم تكن حرب من الحروب النبوية كلها حرب هجوم ولم تكن كلها إال حروب دفاع وامتناع. أما اإلغراء بلذات النعيم ومتعة الخمر والحور العين ،فلم يكن أبو لهب أزهد في اللذة من عمر.
ولم يكن السابقون بينهم أظهر من كل فارق. ذلك هو الفارق الواضح بين من سبقوا ومن تخلفوا ،وليس هو الفارق بين طالب لذة وزاهد فيها، أو بين مخدوع في النعيم وغير مخدوع .ولعلنا ال نستبين هذه الحقيقة من مثال واحد كما نستبينها من مثال عمر رضي هللا عنه في إسالمه فقصته في ذلك نموذج لتلبية الدعوة المحمدية ينفي كل كالم يقال عن الوعيد واإلغراء وأثرهما في إقناع األقوياء أو الضعفاء. في قصة إسالم عمر بن الخطاب خرج بالسيف ليقتل محمدا ً صلى هللا عليه وسلم ولم يخرج عليه أحد من المسلمين بسيف ،وقرأ صدرا ً من ((سورة طه)) ليس فيه ذكر للخمور والنعيم .فال جبن إذا ً وال طمع في إسالم عمر بن الخطاب رضي هللا عنه بل رحمة وإنابة واعتذار ،ولم يكن في إسالم الفقراء الذين هم أقل من عمر ناصراً ،وأضعف منه بأسا ً جبن وال طمع ألنهم تعرضوا بإسالمهم للسيف ولم يخضعوا للسيف حين أسلموا هلل ورسوله صلى هللا عليه وسلم، وما كفى الذين كفروا لزهد وال شجاعة فيقال إن الذين سبقوهم إلى اإلسالم قد فعلوا ذلك لشغف بلذات الجنة ،وجبن عن مواجهة القوة. | 14ا ل ص ف ح ة
ولكنهم اختلفوا حيث تطلب طهارة السيرة وصالح األمور. فمن كان أقرب إلى هذه الطلبة من غني أو فقير ومن سيد أو مستعبد فقد أسلم ومن كان به زيغ عنها فقد أبى وهذا هو الفيصل. إنما نجحت دعوة اإلسالم ألنها دعوة طلبتها الدنيا ومهدت لها الحوادث وقام بها داع تهيأ لها بعناية ربه وموافقا ً أحواله وصفاته. فهي أوضح شيء فهما ً لمن أحب أن يفهم ،وهي أقوم شيء سبيالً لمن استقام.
| 15ا ل ص ف ح ة
الفصل الثاني :عبقرية حممد العسكرية.
| 16ا ل ص ف ح ة
حروب الدفاع: كما قيل سابقاً ،بأن اإلسالم لم ينجح ألنه دين قتال كما يردد أعداؤه المغرضون ،ولكنه نجح؛ ألنه دعوة الزمة يقوم بها داعٍ موفق. كان الرسول عليه الصالة والسالم على اجتنابه العدوان يحسن من فنون القتال والحرب مالم يكن يحسنه أعداؤه المعتدين عليه ،ولم يكن يجتنب الهجوم والمبادأة بالقتل لعجز أو خوف ،ولكنه كان يجتنبه ألنه ينظر إلى الحرب نظرته إلى ضرورة بغيضة يلجأ إليها وال حيلة له في اجتنابها حيثما تيسرت له الحيلة الناجحة.
هناك بعض الحقائق التي تظهر لنا االختالف بين الدين اإلسالمي وغيره من األديان
في مسألة القتال ،وهي كالتالي: ✓ الحقيقة األولي: اعتاد أعداء الدين أن يطعنوا في اإلسالم بقولهم أنه دين قتال ،ولكن الحقيقة هي أن اإلسالم في بداية عهده كان هو المعتدى عليه .ولم يكن من قِبله اعتداء على أحد ،وظل كذلك حتى بعد تلبية الدعوة المحمدية ،فكان المسلمون يقاتلون من قاتلهم وال يزيدون على ذلك ،كما قال تعالى: َّللاَ ال ي ُِحبُّ ْال ُم ْعتَدِينَ } البقرة .١٩٠ َّللاِ الهذِينَ يُقَاتِلُونَ ُك ْم َوال ت َ ْعتَدُوا ِإ هن ه سبِي ِل ه {وقَاتِلُوا فِي َ َ
كما أنهم كانوا يحاربون من ال يؤمن عهده وال يتقى شره بالحلف والمسالمة ،كما في قوله تعالى: ع ْه ِد ِه ْم َو َ ط َعنُوا ِفي دِي ِن ُك ْم فَقَا ِتلُوا أ َ ِئ همةَ ْال ُك ْف ِر ۙ ِإنه ُه ْم َال أ َ ْي َمانَ لَ ُه ْم لَ َعله ُه ْم {و ِإ ْن نَ َكثُوا أ َ ْي َمانَ ُه ْم ِم ْن َب ْع ِد َ َ َي ْنت َ ُهونَ } التوبة .١١
✓ الحقيقة الثانية: لم يكن اإلسالم يحارب بالسيف فكرة يمكن أن تحارب بالبرهان واإلقناع ،ولكنه حارب بالسيف "سلطة" كانت تقف في طريقه وتحول بينه وبين أسماع المستعدين لإلصغاء إليه ،ألن السلطة
تزال بالسلطة ،وال غنى عن إخضاعها بالقوة.
| 17ا ل ص ف ح ة
✓ الحقيقة الثالثة: أن اإلسالم لم يحتكم إلى السيف قط إال في األحوال التي أجمعت شرائع اإلنسان على تحكيم السيف فيها ،كالدولة التي يثور عليها من يخالفها بين ظهرانيها ،والدولة التي يحمل أناس من أبنائها السالح على أناس آخرين من أبنائها ،بماذا تفض الخالف إن لم تفضه بقوة السلطان؟ وفي كلتا الحالتين يكون السالح آخر الحيل ،وتكون نهاية الظلم واالعتداء نهاية االعتماد على السالح ،ثم يأتي الصلح والتوفيق ،أو التفاهم بالرضا واالختيار.
✓ الحقيقة الرابعة: أن األديان الكتابية بينها فروق موضعية ،فاليهودية أو اإلسرائيلية كانت أشبه بالعصبية المحصورة في أبناء إسرائيل منها بالدعوة العامة لجميع الناس.
أما المسيحية فكانت تعنى أوالً باآلداب واألخالق ،ثم ظهرت ثانيا ً في بالد للمعامالت والنظم الحكومية ،وقد ظهرت ثالثا ً في دولة أجنبية ذات قوة وليس للوطن الذي ظهرت فيه طاقة بمصادمة تلك الدولة في ميدان القتال.
أما اإلسالم فقد ظهر في وطن ال سيطرة لألجنبي عليه ،وكان ظهوره إلصالح المعيشة وتقويم المعامالت وتقرير األمن والنظام.
✓ الحقيقة الخامسة: ض سبِي ِل ه سكَ ۚ َو َح ِ ِّر ِ َّللاِ َال ت ُ َكله ُ ف إِ هال نَ ْف َ أن اإلسالم شرع الجهاد ،كما في قوله تعالى{ :فَقَاتِ ْل فِي َ ش ُّد ت َ ْن ِك ً يال} النساء .٨٤ سا َوأ َ َ َّللاُ أ َ َ س الهذِينَ َكفَ ُروا ۚ َو ه سى ه ش ُّد بَأ ْ ً َّللاُ أ َ ْن يَ ُك ه ْال ُمؤْ ِمنِينَ ۖ َ ع َ ف بَأ ْ َ وحدث فعالً أن المسلمين فتحوا بالدا ً غير بالد العرب ،ولم يفتحوها ولم يكن يتأتى لهم فتحها بغير السالح.
| 18ا ل ص ف ح ة
هذا إلى أن اإلسالم قد أجاز لألمم أن تبقى على دينها مع أداء الجزية والطاعة للحكومة القائمة ،وهو أهون ما يطلبه غالب على مغلوب.
✓ الحقيقة السادسة: أن المقابلة بين ما كانت عليه شعوب العالم يومئذ قبل إسالمها وبعد إسالمها تدل على أن جانب اإلقناع لمن أراد اإلقناع. المدعوين إلى اإلسالم لم يقتنعوا بفضله سابقين ،فال ينفي هذا القول أنهم اقتنعوا به فإذا قيل إن ِّ ِ متأخرين ،وأن اإلسالم مقنع لمن يختار ويحسن االختيار ،إلى جانب قدرته على إكراه من يركب رأسه ويقف في طريق اإلصالح.
| 19ا ل ص ف ح ة
لقائد البصير: لم يكن اإلسالم إذا ً دين قتال ،ولم يكن النبي رجالً مقاتالً يتخذ الحرب صناعة ،ولكنه مع هذا كان نعم القائد البصير إذا وجبت الحرب ودعته إليها المصلحة الالزمة ،يعلم من فنونها باإللهام ما لم يعلمه غيره بالدرس والتمرن ،ويصيب في اختيار وقته وتسيير جيشه وترسيم خططه إصابة التوفيق وإصابة الحساب ،وإصابة االستشارة. كما وأن الرسول لم يكن يحاصر موقعا ً إال أن يكون الحصار هو الوسيلة الوحيدة العاجلة لمبادرة القوة التي عسى أن تخرج من الموقع قبل استعدادها ،أو قبل نجاحها في الغدر والوقيعة. ومع ذلك كان محمد عليه الصالة والسالم على رجاحة رأيه يستشير صحبة في خطط القتال وحيل الدفاع ويقبل مشورتهم أحسن قبول.
| 20ا ل ص ف ح ة
ألوامر المختومة: صدر إلى قواد السرايا والسفن في الحروب الحديثة يتردد ذكر األوامر المختومة التي ت ُ ِّ ليفتحوها عند مدينة معلومة ،أو بعد مسيرة ساعات ،أو في عرض البحر على درجة معينة من درجات الطول والعرض ،إلى ذلك من العالمات التي تعين بها الجهات، ولكن هذه األوامر المختومة ليست بحديثة. فقد عرفت من المأثورات النبوية على أتم أصولها التي تالحظ في أمثالها ،ومن ذلك أنه عليه الصالة والسالم بعث عبد هللا بن جحش ومعه كتاب وأمره أال ينظر فيه حتى يسير يومين ،فكان محتواه أن " ِسر حتى تأتي بطن نخلة على اسم هللا وبركاته ،ال تكره هِن أحدا ً من أصحابك على وامض فيمن تبعك حتى تأتي بطن نخلة ،فترصد بها عير قريش وتعلم لنا من المسير معك، ِ اخبارهم". وهذا نموذج من األوامر المختومة جامع لكل ما يالحظ فيها حديثا ً وقديما ً وعند بداية الدعوة بالخصوص ،فنالحظ من ذلك حكمة النبي عليه الصالة والسالم في اشتراط الرغبة والطواعية واجتناب القسر واإلكراه ،فهذه أوالً بعثة منفردة ال سبيل إلى اإلكراه الفعال بين رجالها ،وهي ثانيا ً بعثة استطالع ال يغني فيها عمل الكاره القسري ،فإن ألزم ما في هذا العملية أن يكون العامل فيها لديه إيمان وصدق نية وحسن مودة لمن أرسلوه ،فإن أعوزته هذه الصفة فقد أعوزه كل شيء.
| 21ا ل ص ف ح ة
غرضان: كان هذا القائد الملهم الخبير بتجنيد بعوث الحرب وبعوث االستطالع خبيرا ً كذلك بتجنيد كل قوة في يديه متى وجب القتال ،إن قوة رأي ،وإن قوة لسان ،وإن قوة نفوذ، فما نعرف أن أحدا ً وجه قوة الدعوة توجيها ً أس هد وال أنفع في بلوغ الغاية من توجيهه عليه الصالة والسالم. والدعوة في الحرب لها غرضان أصيالن بين أغراضها العديدة: األول هو إقناع خصمك والناس بحقك ،وهذا قد تكفل به القرآن والحديث ودعاة اإلسالم جميعاً،
فالدين كله دعوة من هذا القبيل. والثاني هو إضعاف عدوك عن قتالك بإضعاف عزمه وإيقاع الشتات بين صفوفه.
| 22ا ل ص ف ح ة
قائد بغير نظير: عندما تنعقد المقارنات بين المعارك القديمة والحديثة ينبغي أن ننظر إلى فكرة القائد قبل أن ننظر إلى ظواهر المعارك وأشكالها وأحجامها ،ألن الظروف المختلفة والتطورات التي بين األزمنة من أدوات وأعداد هائلة من المقاتلين وحتى األجهزة القتالية الفتاكة تجعل من المقارنة أمرا ً ال معنى له وغير عادل أيضاً ،أما إذا نظرنا إلى فكرة القائد أمكننا أن نعرف كيف أن توجيه ألف رجل قد يدل على براعة في القيادة ال نراها في توجيه مليون من الرجال ،فبينهم الراجل والراكب ،ومنهم من يركبون كل ما يركب من مخلوقات حية أو آالت مخترعة. وهذه الفكرة هي التي ترينا أن محمدا ً عليه الصالة والسالم قائدا ً حربيا ً بين أهل زمانه بغير نظير في رأيه وفي االنتفاع بمشورة صحبه ،وتبرز لنا قدرته النادرة بين القادة والعصور المختلفة في توجيه كل ما يتوجه على يدي قائد من قوى الرأي والسالح والكالم.
| 23ا ل ص ف ح ة
خصائص العظمة: للعظمة خصائص تدعو إلى العجب ،وإن كانت معروفة األسباب ،وناهيك بالعظمة التي ترتقي هذا المرتقى. فمن تلك الخصائص أنها قد توصف بالنقيضين في وقت واحد ألنها متعددة الجوانب، فيراها أناس على صورة ويراها غيرهم على صورة أخرى ،وربما تراها العين الواحدة على اختالف في الوقتين المختلفين. ومن خصائص العظمة النبوية في محمد عليه السالم أنه وصف بالنقيضين على ألسنة المتعصبين من أعداء دينه فهو عند أناس منهم صاحب رقة تحرمه القدرة على القتال ،وهو عند أناس آخرين صاحب قسوة تُضْري ِه بالقتل وإهدار الدماء البشرية في غير جريرة ،وتنزه محمد عليه الصالة والسالم من هذا وذاك ،فإذا كانت شجاعته عليه الصالة والسالم تنفي الشبهة في رقة الضعف والخوف المعيب ،فحياته كلها من طفولته الباكرة تنفي الشبهة في القسوة والجفاء، إذ كان في كل صلة من صالته بأهله أو بمرضعاته أو بصحبه أو بزوجاته أو بخدمه مثاالً للرحمة يحتذى به والتي ه عز نظيرها في األنبياء .
| 24ا ل ص ف ح ة
أسرى غزوة بدر: اعتاد المستشرقين على توجيه الكثير من االنتقادات من قتل بعض األسرى بعد غزوة بدر وخروج النبي عليه السالم إلى ساحة الحرب لرؤية صرعى المعركة وغنائمها بعد انتهائها. هذا األمر ال يصح فيه الحكم إال بالنظر إلى موضعه وموقعه وأشخاصه ،ألنه ليس بالحكم العام الذي اتبعه اإلسالم في جميع األسرى وجميع الحروب ،وإنما هي حالة أفراد كانوا معروفين بتعذيب المسلمين والتنكيل بهم في غير مباالة وال نخوة. فكان قتل األسرى بعد معركة بدر إن هو إال قصاص كقصاص المتهمين بالتعذيب وقد وقعوا في أيدي من يتولى عقابهم من الغالبين ،جاز هذا في كل قانون ،وجاز أن يحاسب المغلوب على جرائمه التي ليست هي من فروض القتال أو من مباحاته في شيء.
| 25ا ل ص ف ح ة
بعد معركة األحزاب: وباإلضافة إلى المستشرقين ،فقد نقد المؤرخون األوربيون أيضا ً مسألة قتل المقاتلين من بني قريظة بعد معركة األحزاب. فإن أولئك المؤرخين يستعظمون قتلهم ويحسبونه مخالفا ً للعرف المتبع في الحروب، وينسون أمورا ً ال يصدق الحكم في هذه المسألة مالم يذكروها ويستحضروها أتم استحضار، وهي أن بني قريظة حنثوا في أيمانهم مرات عديدة؛ فال يجدي معهم أخذ المواثيق من جديد، وأنهم قبلوا حكم سعد بن معاذ وهم الذين اختاروه. وينبغي أن يسأل الناقدون أنفسهم بعد هذا ،ماذا كان مصير المسلمين لو ظفرت بهم األحزاب؟ فالقضاء الذي قضاه النبي عليه السالم في بني قريظة عدل وحكمة وصواب ،وما من أحد يقضي غير ذلك القضاء وهو مؤتمن على مصير أمة يرحمها من غدر أعدائها ،ومن لددهم في خصومتها ،ومن استباحتهم كل منكر في التربص والوثبة بعد الوثبة عليها. وأخيرا إن عبقرية محمد في قيادته لعبقرية ترضاها فنون الحرب ،وترضاها المروءة، وترضاها شريعة هللا والناس ،وترضاها الحضارة في أحدث عصورها ،ويرضاها المنصفون من األصدقاء واألعداء.
| 26ا ل ص ف ح ة
م الفصل الثالث :عبق يرة حمد السثاسية:
| 27ا ل ص ف ح ة
سياسة الخصوم واألتباع: معان كثيرة في العرف الحديث ،وقد تولى النبي عليه السالم أعماالً كثيرة السياسة على ٍ مما يطلق عليها لفظ سياسة ،عمالً واحدا ً أدخل في أبواب السياسة ،وأجمع لضروبها، وهو عهد الحديبية منذ بداية الدعوة إلى الحج ونهايةً بنقض الميثاق من قريش. ففي عهد الحديبية تدبير محمد في سياسة خصومه وأتباعه ،وفي االعتماد على السلم حيث يحسنان ويصلحان ،وفي الحرب حيث ال تحسن المسالمة وال تصلح العهود. بدأ بالدعوة إلى الحج ،شمل بدعوته كل من أراد الحج من الذين يشاركون المسلمين في تعظيم البيت ،فجعل لهم قضية وحدة في وجه قريش ،ومصلحة واحدة مقابل مصلحتها ،وفصل بين دعواها ودعوى القبائل األخرى ،وأفسد عليهم ما تعمدوه من إثارة نخوة العرب وتوجيههم لمناوأة محمد والرسالة اإلسالمية. وأفسد على قريش من جهة أخرى ما تعمدوه من إغضاب العرب على اإلسالم ،بما ادعوا من قطعه لألرزاق وتهديده لألسواق ،فهذا محمد يأخذ معه من شاء مصاحبته من المسلمين وغيرهم قصاد البيت الحرام ،فإن حال بينهم وبين ما يقصدونه حائل فذلك وزره على نفسه وقومه ،وال وزر فيما أصاب األرزاق واألسواق على المسلمين. وقد سمعنا في العصور الحديثة عن المقاومة السلبية وقيل إن غاندي قد تتلمذ على المصلح الروسي ليو تولستري في الحركة الهندية التي قام بها ،وقيل هو أحرى أن يعرفها من آداب البوذيين التي تحرم إيذاء الحيوان فضالً عن اإلنسان ،مستبعدين أن يتفق المسلمين على حركة غاندي العتقادهم أن اإلسالم قد شرع القتل فال يعجبهم اجتناب القوة والتزام السلم. ناسين المثل الذي قدمه النبي صلى هللا عليه وسلم في رحلة الحديبية ينقض ما توهموه ،فاإلسالم ال يركن إلى السيف وحده وال إلى السلم وحده ،بل يدفع بكليمهما حيث ينبغي أن يدفع. وقد خرج النبي صلى هللا عليه وسلم حاجا ً ال غازياً ،ويثبت نيته بالسلم بتجرده من األسلحة ،إال ما يؤذن به لغير المقاتلين.
| 28ا ل ص ف ح ة
فصل بهذه الخطة بين قريش والعرب وبين قريش ومن معهم من األحابيش ،وجعل الزعماء وذوي الرأي يختلفون فيما بينهم على ما يسلكون من مسلك ،وهو عليه السالم يكرر الوصاة ألتباعه بالمسالمة منعا ً لالتفاق بين خصومه على قرار واحد. ولما اتفق الطرفان -المسلمون و قريش -على التعاهد كانت سياسة النبي في القبول غاية في الحكمة والقدرة الدبلوماسية. تعاهدوا على أن من أتى محمدا ً من قريش بدون إذنهم رده عليهم ،ومن جاء قريشا ً من رجال محمد لم يردوه عليه ،ومن أحب من العرب محالفة محمد أو قريش فال جناح عليه ،و يرجع محمد و أصحابه عن مكة عامهم هذا و يعودا العام الذي يليه وهذا عهد مهادنة. وما انقضت فترة وجيزة حتى علمت قريش أنها خاسرة بذلك الشرط الذي حسبته مغنما ً لها وخذالنًا لمحمد صلوات هللا عليه ،فالمسلمين الذين نفروا من قريش ولم يقبلهم محمد قد خرجوا إلى طريق القوافل على تجارة قريش يأخذونها ،وما استطاع المشركين أن يشكونهم إلى النبي ألنهم خارجون من واليته ،وما استطاعوا أن يحجزونهم في مكة. وفي هذه الفترة استراح النبي من قريش ففرغ ليهود خيبر وللممالك األجنبية يرسل الرسل بالدعوة إلى دين هللا ،وفتح األبواب لمن يفيدون إليه ممن أمنوا أن تكون نصرتهم حرباً. وأنزل هللا على أثر اتفاق الحديبية – آية ١,2سورة الفتح -ولم يفقه الكثير معناها ،ولكن فهموا أي فتح بعد سنتين.
| 29ا ل ص ف ح ة
الفتح المبين: في السنة التالية نادى الرسول أصحابه أن يتجهزوا للحج وال يتخلف أحد ممن شهد الحديبية ،وخرج معه جمع كبير ،وأمامهم ستين بدنة ،وحملوا السالح وعلى رأسهم مائة فارس يقودهم محمد بن سلمة ،حمل الرسول السالح للحيطة. وكان الفتح الذي بصر به عيانا ً من لم يره يوم الحديبية بنور البصيرة ،وأسلم من الضعفاء واألقوياء من كان عصيا ً على اإلسالم. وهكذا تجلت عبقرية محمد في سياسة األمور كما تجلت في قيادة الجيوش ،فكان على أحسن نجاح في سياسته.
| 30ا ل ص ف ح ة
م الفصل الرابع :عبق يرة حمد الإدا يرة:
| 31ا ل ص ف ح ة
ملكات شخصية: في اإلسالم أحكام كثيرة مما يدخل في تصرف رجال اإلدارة وفيه وصايا كثيرة عن المعامالت يقتدي بها المشرعون في كل العصور. ولكننا ال نريد بما نكتب عن النبي أن نسرد أحكام الفقه ،وإنما نريد أن نعرض أعماله ووصاياه من حيث هي ملكات شخصية وسالئق نفسية. نعني باإلدارة الملكة اإلدارية من حيث هي أساس في التفكير؛ من اعتمد عليه استطاع أن يقيم بناء اإلدارة على أسس قوية ،فليس بوسع رجل فوضوي أن يؤسس إدارة نافعة ،أما السليقة المطبوعة على إنشاء اإلدارة النافعة هي التي تعرف النظام ،وقد كانت هذه السليقة في محمد على أتم ما تكون. كان يوصي بالرياسة حيثما وجد العمل االجتماعي ،واعتنى بإسناد األمر إلى المدير القادر، وكانت أوامر اإلسالم ونواهيه معروفة لطائفة كبيرة ،ولكنه لم يترك أحدا ً يدعى لنفسه إقامة الحدود وإكراه الناس على طاعة األوامر واجتناب النواهي ،غير من لهم والية األمر. المسألة هنا مسألة إدارة في مجتمع حافل ،وال يصاب ببالء هو أضر عليه من بالء الفوضى. نظام وفوق النظام سلطان ،وفوق السلطان برهان من الشرع والعقل ال شك فيه ،هذا اإللهام السديد في تدبير المصالح العامة ،هو الذي أوحي إلى الرسول األمي قبل العصر الحديث بعشرات القرون.
| 32ا ل ص ف ح ة
تدبير الشئون العامة: ليست اإلدارة كلها نصوصا ً وقواعد يجري الحاكم تنفيذها مجرى اآلالت والموازين التي تصرف الشؤون على نسق واحد ،ولكنها عالج نفوس وقيادة أخطار ال أمان فيها من االنحراف. وهذا المجال تمت فيه عبقرية محمد في حلول التوفيق واتقاء الشرور ،فهو مدير حين تكون اإلدارة تدبير أمور ،وهو كفيل أال يلي مصلحة تعتريها الفوضى ،ألنه يسوسها بالنظام.
| 33ا ل ص ف ح ة
البليغ: "اللهم هل بلغت" هذه الالزمة التي كررها النبي في خطبة الوداع ،لخصت حياة كاملة في ألفاظ معدودات ،فما كانت حياة النبي كلها إال حياة تبليغ وبالغ. ولصدق الداللة ترى أن السمة الغالبة على أسلوب النبي في كالمه المحفوظ بين أيدينا هي سمة البالغ قبل كل سمة أخرى. توجيه األمراء والوالة كان أسلوبه عليه الصالة والسالم في توجيه األمراء والوالة وتعليمهم
باألوامر والوصايا.
| 34ا ل ص ف ح ة
المعاهدات والمواثيق: أسلوبه في المعاهدات والمواثيق كلها مرسومة بسمة اإلبالغ المبين ،لم يكن في كالمه
كله غريب يجهله السامع أو يحتاج إلى تبيانه.
| 35ا ل ص ف ح ة
سجع كحيلة الذهب: وكان عليه السالم يكره "سجع الكهان" الذي يخدعون به السامع ،ولكنه لم يكن يأبى السجع بته وال يخلو كالمه من سجع يأتي على السجية. فسجعه عليه السالم كحلية الذهب التي يليق بالرجل التحلي بها. وقد أعانه عليه السالم على أسلوب اإلبالغ أن الذين يستمعون إليه كانوا يستمعون لكالم نبي محبوب مطاع.
| 36ا ل ص ف ح ة
أسلوب عصري: أسلوب النبي كان فطرياً ،واألسلوب الذي يخرج من الفطرة هو أسلوب عصري في جميع العصور.
| 37ا ل ص ف ح ة
رأي النبي في الشعر: نفى النبي ما استطاع أنه شاعر ينظم القصيد وأن سور القرآن قصائد مرتالت كما زعم المشركين. وقد استحسن ما قيل في الشعر عن اإلسالم والذود عنه ،فكانت آراؤه شبيهه بآراء األنبياء ،ألنهم بعثوا لتعليم الناس دروس الخير والصالح ،لم يبعثوا ليلقنوهم دروس في قواعد النقد واإلنشاء.
| 38ا ل ص ف ح ة
جوامع الكالم: أقوى اإلبالغ في كالم النبي هو اجتماع المعاني الكبار في الكلمات الصغار ،وكان محمد فصيح اللغة فصيح اللسان ،وكان بليغا ً مبلغا ً على أسلس ما تكون بالغة الكرامة والكفاية.
| 39ا ل ص ف ح ة
م الفصل الخامس :حمد الصدبق ..
| 40ا ل ص ف ح ة
عطوف ودود: تتم أداة الصداقة بالعاطفة الحية ،والذوق السليم ،والخلق المتين ،وقد كان محمد صلى هللا عليه وسلم في هذه الخصال مثالً عالياً ،كان عطوفا ً يرأم من حوله ويودهم ويدوم لهم على المودة طول حياته. كان من أضحك الناس وأطيبهم نفساً ،صافي القلب إذا كره شيئا ً رؤى ذلك في وجهه، وإذا رضي عرف من حوله رضاه. و قد اتسع عطفه حتى بسطه لألحياء كافة و لم يقصره على ذوي الرحم من الناس ،بل شمل عطفه الجماد كأنه من األحياء، كان له سيف محلى يسمى ذا القفار وفي تسميته بهذا االسم معنى األلفة التي تجعلها أشبه باألحياء المعروفة.
| 41ا ل ص ف ح ة
ذو ذوق سليم: هذه العاطفة اإلنسانية التي شملت كل ما أحاطت به وأحاط بها ،لم تكن هي كل أداة في الصداقة ،بل يضارعها ذوق سليم ويتمثل في رعاية شعورهم أتم رعاية. ومع العاطفة اإلنسانية والذوق السليم سمت جميل ،ونظافة بالغه ،وحرص أن يراه الناس في أجمل صورة. ومع هذا كله أمانه يثق بها العدو فما بال الصديق؟ واشتهر باألمانة في صباه حتى سمي األمين قبل أن يتجرد لدعوة تنبغي لداعيها أمثال هذه الصفات
| 42ا ل ص ف ح ة
عظمة العظمات: وهنا أيضا ً قد تمت لمحمد معجزته التي لم يضارعه فيها أحد من ذوي الصداقات النادرة .فأحدقت به نخبة من ذوي األقدار تجمع بين عظمة الحسب وعظمة الثروة وعظمة الرأي وعظمة الهمة وكل منهم ذو شأن في عظمته تقوم عليه دولة وتنهض به أمة. ولقد كان صاحب الفضل على أصفيائه جميعا ً بما هداهم إليه من نور العقل ونور البصيرة وهما أشرف من نور البصر ألنه نعمة يشترك فيها اإلنسان والعجماوات ونور العقل ونور البصيرة نعمتان يختص بهما اإلنسان ومع هذا كان يذكر فضلهم ويشيد بذكرهم كما قال عن أبي بكر (ما أجد أعظم عندي يدا ً من أبي بكر :واساني بنفسه وأنكحني ابنته). على أننا نلمس دالئل هذا الفؤاد الرحب وهذا العطف اإلنساني الشامل في معاملته ألعدائه وشانئيه فضالً عن معاملته لألصفياء ومن ليس بينهم وبينه عداء وال صفاء. فما ثأر من أحد أساء إليه في شخصه وقد عفى عن رجل هم بقتله وهو نائم ورفع السيف ليهوي به فسقط من يده على كره منه وما حارب قط أحدا ً كان في وسعه أن يسالمه ويحاسنه ويتقي شره ومعاملته لعبد هللا بن أبي الذي كان المسلمون يسمونه برأس النفاق مثل من أمثلة اإلغضاء والصفح الجميل :فقد عاهد وغدر ثم عاهد وغدر وعاش ما عاش وهو يكيد للنبي في سره ويمالي عليه أعداءه وشاع أن النبي عليه الصالة قضى بقتله فتقدم ابنه وقال له( :يا رسول هللا إنه بلغني أنك تريد قتل عبد هللا بن أبي فيما بلغك عنه فإن كنت فاعالً فأمرني به فأنا أحمل إليك رأسه فوهللا لقد علمت الخزرج ما كان بها رجل أبر بوالده مني وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله فال تدعني نفسي أنظر إلى قاتل أبي يمشي في الناس فأقتله فأقتل رجل مؤمن بكافر فأدخل النار). فأبى النبي أن يقتله وآثر الرفق به وزاد في أفضاله وإجماله فكافئ الولد خير مكافأة على خلوص نيته وإيثاره والبر بدينه على البر بأبيه فأعطاه قميصه الزلهر يكفن به أباه وصلى عليه ميتا ً ووقف على قبره حتى فرغ دفنه وقد حاول عمر أن يثنيه عن الصالة على ذلك العدو الذي آذاه جهد اإليذاء فذكر اآلية (استغفر لهم أو ال تستغفر لهم أن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر هللا لهم) فقال( :لو أعلم إن زدت على السبعين غفر له زدت). هذه النفس المطبوعة على الصداقة والرحمة ما أعجب اتهامها بالقسوة ألنها دانت أناسا ً بالموت كما يدين القاضي مجرما ً بذنبه وهو أرحم الرحماء. | 43ا ل ص ف ح ة
ما أعجبهم إذ يذكرون العقوبة وينسون الذنب الذي استوجب العقوبة كما يستوجب السبب النتيجة. أنهارا من الدماء وله حجة من وأي ذنب؟ ذنب لو قوبل به غير محمد ألراق فيها ً سلطان الدنيا واآلخرة .فال تذكر استهزاء المشركين به وإعانتهم إياه وإلقاءهم عليه القذر والحجارة وائتمارهم بحياته وحياة أصحابه وإخراجهم المسلمين من ديارهم إلى أقصى الديار وال نذكر العناد واإلغاظة واالستثارة لغير جريرة إال أنهم دعوا إلى عبادة هللا وللتحلي بمكارم األخالق وترك عبادة األصنام وترك الرذيلة. ال نذكر شيئا ً من هذا فهو أطوب من أن يحصيه الكتاب ولكننا نذكر حادثا ً واحدا ً تجمع في اللؤم ما تفرق في كثير غيره حين نشير إلى غدر قبيلة هذيل بتلرسا الستة الذين ذهبوا إليهم ليعلِّموا من شاء أن يتعلم أحكام الدين وهو آمن في داره ال إكراه له وال بغي عليه فقتلوا جميعا ً وجاء بأحدهم زيد بن الدثنة أسيرا ً ليباع فاشتراه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه ونصب للقتل فسأله أبو سفيان مستهزئا ً (:أنشدك هللا يا زيد أتحب أن محمدا ً اآلن عندنا في مكانك تضرب عنقه وأنت في أهلك؟) فأجابه زيد( :وهللا ما أحب أن محمد اآلن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأنا جالس في أهلي) ،فصاح أبو سفيان دهشا ً (:ما رأيت من الناس أحدا ً يحبه أصحابه ما يحب أصحاب محمد محمد). من فعلة كهذه تعلم مدى ما استحقه محمد من حب األصدقاء ومدى ما استحقه أعداءه من جزاء فقد أحب أصدقاءه وأحبوه ألنه طبع على الصداقة أما أعداؤه فقد لقو جزاءهم ألنهم هم طبعوا على العداء واالعتداء.
| 44ا ل ص ف ح ة
الرئيس الصديق: من الحسن أن نكتب عن محمد الرئيس بعد كتابتنا عن محمد الصديق ألنه هو الذي جعل للرئاسة معنى الصداقة مع استطاعته أن يعتز بكل ذريعة من ذرائع السلطان. كان له من سلطان الدنيا كل ما لألمير المطلق اليدين في رعاياه وكان له من سلطان اآلخرة كل ما للنبي الذي يعلم من الغيب ما ليس يعلم المحكومون وكان له من سلطان الكفاءة والمهابة ما يعترف به بين أتباعه أكفأ كفؤ وأوقر مهيب. ولكنه لم يشأ إال أن يكون الرئيس األكبر بسلطان الحب والرضا واالختيار .فكان أكثر رجل مشاورة للرجال وكان حب التابعين شرطا ً عنده من شروط اإلمامة بل من العبادة فاإلمام المكروه ال ترضى له صالة وكان يدين نفسه بما يدين به أصغر أتباعه فروى أنه كان في سفر ي ذبحها وقال آخر :علي سلخها وقال وأمر أصحابه بإصالح شاة فقال رجل :يا رسول هللا! عل ِّ آخر :علي طبخها ،فقال عليه السالم :علي جمع الحطب ،فقالوا :يا رسول هللا نكفيك العمل ،قال: علمت أنكم تكفونني ولكن أكره أن أتميز عليكم ،إن هللا سبحانه وتعالى يكره من عبده أن يراه متميزا بين أصحابه (وقد كان أعلم الناس أن األعمال بالنيات ولكنه علم كذلك أن األمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم) فوكل الضمائر إلى أصحابها وإلى هللا وحاسب الناس لما يجدي فيه الحساب. واليوم يكثر الالغطون حرية الفكر ويحسبونها كشفا ً من كشوف الثروة الفرنسية ويحرمون على الحاكم أن يؤاخذ الناس بما فكروا ما لم يتكلموا أو يعملوا ويكن في كالمهم وعملهم ما يخالف الشريعة. فهذا الذي يحسبونه كشف من كشوف العصر األخير قد جرى عليه حكم النبي قبل أربعة عشر قرنا ً وشرعه ألمته في أحاديثه حيث قال عليه السالم (إن هللا تجاوز ألمتي عما حدثت به نفسها ما لم تتكلم به أو تعممه). وزعموا كذلك أن تقديم الرحمة على العدل في تطبيق الشريعة دعوة من دعوات المحدثين لم يسبقوا إليها وهي دعوة النبي العربي التي كررها ولم يدع قط إلى غيرها فقال (إن هللا تعالى لما خلق الخلق كتب بيده على نفسه أن رحمتي غلبت غضبي ،وأن هللا تعالى رفيق يحب الرفق). وكان النبي الرئيس يعلم أن الرئاسة لجميع المرؤوسين وليست للموافقين منهم دون المخالفين فيأمر قومه( :أن اتقوا دعوة المظلوم وإن كان كافرا ً فإنها ليس دونها حجاب) لقد كانت سنة | 45ا ل ص ف ح ة
الرئاسة عند محمد هي سنة الصداقة فلو استغنى حكم الشريعة الستغنى عنها حكم هذا الرئيس الذي جاء بالشريعة لجميع متبعيه.
| 46ا ل ص ف ح ة
حق المرأة: الكالم عن الزوج يستدعي الكالم عن مكانة امرأة عند رجل وعن مكانة النساء عامة عند الرجال عامة. وإنما تعرف مكانة المرأة التي وصلت إليها بفضل محمد ودينه متى عرفت مكانة المرأة التي استقرت عليها في الجاهلية ومكانة المرأة التي استقرت عليها في عصره وبعد عصره وبين أمم أخرى غير األمة العربية. كانت متاعا ً يورث ويقسم تقسيم السوائم بين الوارثين فأصبحت بفضل اإلسالم صاحبة حق مشروع ترث وتورث وال يمنعها الزواج أن تتصرف في مالها وهي في عصمته كما تشاء. وكانت تدفن في مهدها فرارا ً من عار وجودها أو عبئا ً تدفن في مهدها فرارا ً من نفقة طعامها فأصبحت إنسانا ً مرعي الحياة ينال العقاب من ينالها بمكروه. ولم تكن في البالد األخرى أكثر حظا ً منها في البالد العربية. فال نذكر شرائع الرومان واستعبادها النساء وال نذكر المتنا سطين في صدر المسيحية وتسجيلهم عليها النجاسة وتجريدهم إياها وكفى أن نذكر عصر الفروسية الذي قيل أنه عصر المرأة الذهبي بين األمم األوروبية وأن الفرسان كانوا يفدون النساء بالدم والمال. فهذا العصر كان كما قبل الدارسون له :عصر الحصان قبل أن يكون عصر المرأة (السيدة المفداة). إلى القارئ محادثة من كتاب أغاني اآلداب والتحيات يروى فيها :أن ابنة أوسيس جلست في نافذتها ذات يوم فعبر بها فتيان -جاران جربرت -وقال أحدهما (انظر انظر جربرت :وحق العذراء ما أجملها من فتاة! دون أن يلتفت بوجهه وعاد صاحبه يقول مرة أخرى (ما أحسبني رأيت قط فتاة بهذه المالحة ما أجمل هاتين العينين السوداوين) وانطلق جربرت يقول (ما احسب أن جوادا ً قط يماثل هذا الجواد) وهذه حادثة صغيرة ولكنها واضحة الداللة إذ قلة ورث االزدراء. (ومتى كانت المرأة تزف إلى زوجها عفو الساعة وكثيرا ً ما تزف إلى رجل لم تره قبل ذلك إما لتسهيل المحالفات الحربية والمدد العسكري أو لتسهيل صفقة من صفقات الضياع)
| 47ا ل ص ف ح ة
ولقد تقدم الزمن من العصور الفروسية إلى ما بعدها من العصر الحديث ولم تتقدم المرأة فيه تقدما ً يرفعها من المراغة التي استقرت فيها من قبل الجاهلية العربية. فماذا صنع محمد؟ وماذا صنعت رسالة محمد؟ حكم واحد من القرآن الكريم أعطى المرأة من الحقوق كفاء ما فرض عليها (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف) وحكم آخر من أحكامه العالية أمر المسلم بإحسان معاشرتها ولو مكروهة غير ذات حظوة عند زوجها (وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ً ويجعل هللا فيه خيرا ً كثيراً) وأباح لها الدين في الجهاد أن تكسب كما يكسب الرجال( :للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن) ولم يفضل الرجل عليها إال بما كفله من واجب كفالتها وإقامة أودها والسهر عليها ،أما محمد فقد جعل خيار المسلمين خيارهم لنسائهم (أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا ً وخياركم خياركم لنسائهم) وأمر بمداراة ضعفها ونقصها ألن (المرأة خلقت من ضلع لن تستقيم لك على طريقة فإن استمتعت بها استمتعت بها وبها عوج وإن ذهبت تقيمها كسرتها وكسرها طالقها). وأوجب على الرجل أن يتجمل المرأته وأوجب على الرجل إذا خطب امرأة أن يظهرها على عيبه إن كان به عيب مستور (إذا خطب أحدكم المرأة وهو يخضب بالسواد فليعلمها أنه يخضب). وكان تأديبه المسلمين في هذه الصلة غاية في الكياسة والترفق فقال مما قال في هذا المعنى (إذا دخلت ليالً فال تدخل على أهلك حتى تستحد المغيبة وتمتشط الشعثة الكيس الكيس).
| 48ا ل ص ف ح ة
معاملته لزوجاته: وإنما نلخص ما أوجبه النبي على المسلمين عامة في معامالتهم لزوجاتهم وهو دون ما أوجبه على نفسه في معاملة زوجاته بكثير فكان يشفق أن يروه غير باسم في وجوههن ويزورهن جميعا ً في الصباح والمساء وإن خال بهن (كان ألين الناس ضاحكا ً بساماً) كما قالت عائشة رضي هللا عنها .ولم يجعل من هيبة النبي سدا ً وال ردعا ً بينه وبين نسائه بل أنساهن برفقه وقد كان يتولى خدمة البيت معهن أو كما قال( :خدمتك زوجتك صدقة). وكان يستغفر هللا فيما ال يملك من التسوية بين إحداهن وسائرهن ولما أقعده مرض الوفاة يزورهن كل يوم كما عودهن بعث إليهن فتلطف في سؤالها (أين أنا غداً؟ أين أنا غداً؟) إال أن الخلق الذي يشق فهمه على األكثرين هو طيب المعاملة عندما تتعرض الحياة الزوجية ألخطر ما يمسها من خطر وهو المساس بالوفاة في هذه الخصلة تتسامى الحضارة الحديثة ما تتسامى فال نخالها تحلم بمعاملة أطيب وال أكرم من المعاملة التي أثرت عن النبي في قصة عائشة بنت الصديق وهي أحظى نسائه إليه.
| 49ا ل ص ف ح ة
سماحة الكريم: ولقد علمنا من رواية السيدة عائشة كما علمنا من روايات شتى أن عبد هللا بن أبي مسلول كان أكبر الالغطين بحديث اإلفك عن سوء نية وكيد مبيت للنبي ودينه وكان هذا الرجل كما تقدم في بعض فصول هذا الكتاب بغيضا ً إلى المسلمين متهما ً عندهم يتوجسون منه ويسمونه رأس المنافقين وال يكفون عن طلب دمه واستئذان النبي في قتله فما ضر النبي لو خلى بين المسلمين وبينه يحاسبونه على فريته ويحاسبونه على كيده إنما هي سماحة الكريم .إنما هي السماحة التي شملت مسطحا ً كما شملت كبير المنافقين وخرجت من حديث اإلفك كله بالعفو عن جميع المسيئين مخلصين في الرأي وغير مخلصين .
| 50ا ل ص ف ح ة
أسباب تعدد زوجاته: ولو كان لذات الحس هي التي سيطرت على زواج النبي بعد وفاة خديجة لكان األحجى بإرضاء اللذات أن يجمع النبي إليه تسعًا من الفتيات األبكار الالتي اشتهرن بفتنة الجمال. سودة كانت هي أولى النساء الالتي بنى بهن بعد وفاة خديجة وكانت هي من أسبق فرارا من إعنات النساء إلى اإلسالم ،آمنت وهجرت أهلها ونجى بها زوجها إلى الحبشة ً المشركين له ولها ،فلما مات ،لم يعد لها إال أن تعود إلى أهلها فتصبأ وتؤذى ،فضمها النبي إليه حماية لها ،وكان غير هذا الزواج أولى به لو نظر إلى لذات الحس ومال إلى متاع. وكانت للنبي زوجة أخرى وسمت بالوضاءة والفتاء وهي زينت بنت جحش ابنة عمته -عليه السالم -التي زوجها زيد بن حارثة بأمره وعلى غير رضا منها ،وقد تعذر التوفيق بينهما ،وهذا ضا لم يكن لذات الحس المزعومة سلطان في بناء النبي بها بعد تطليق زيد إياها ،كان زواج أي ً النبي ً حال لمشكلة بين ربيب في منزلة االبن وابنة عمه أطاعته في زواج لم يقرن بالتوفيق. أما سائر زوجاته عليه السالم فما من واحدة منهن إال كان لزواجه بها سبب من المصلحة العامة أو من المروءة والنخوة دون ما يهذر به المرجفون من لذات الحس المزعومة. فأم سلمة كانت كهلة مسنة يوم خطبها الرسول بعد وفاة زوجها عبد هللا المخزومي ولما برح بها الحزن لوفاته وأتاها رسول هللا ً خيرا منها "، قائال" :سلي هللا أن يؤجرك في مصيبتك ويخلفك ً خيرا من أبي سلمة؟" فأوجب على نفسه خطبتها ألنه يعلم أنه خير من أبي فقالت" :ومن يكون ً سلمة. وجويرية بنت الحارث كانت إحدى السبايا في غزوة بني المصطلق فتزوجها النبي ليعتقها ويحض المسلمين على عتق أسراهم وسباياهم تفري ًجا عنهم وتألفًا لقلوبهم. وحفصة بنت عمر بن الخطاب ،مات زوجها فعرضها أبوها على أبي بكر فسكت وعلى عثمان فسكت وبث عمر أسفه للنبي فلم يكن عليه السالم أن يضن على وليه وصديقه بالمصاهرة التي شرف بها أبا بكر من قبله. ورملة بنت أبي سفيان تركت أباها لتسلم وتركت وطنها لتهاجر مع زوجها إلى الحبشة ثم تنصر زوجها وفارقها وهي غريبة فأرسل النبي إلي النجاشي في طلبها لينقذها من ضياع الغربة وضياع األهل ،فكانت النجدة اإلنسانية باعث هذا الزواج ،وكان للنبي مقصد جليل من ورى هذا | 51ا ل ص ف ح ة
الزواج الذي لم يفكر فيه حتى ألجأته النجدة إلى التفكير فيه وهو أن يصل بينه وبين أبي سفيان بأصرة النسب ،عسى أن يهديه ذلك إلى الدين. تنكشف لنا مراجعة الحياة الزوجية لمحمد عليه السالم عن هذه األسباب وشبيهاتها من دواعي اختياره لنسائه واستجماعه لهذا العدد من الزوجات في حين واحد. وال حرج على رجل قويم الفطرة أن يلتمس المتعة في زواجه ،ولكن الذي حدث ً فعال أن المتعة لم تكن قط مقدمة في االعتبار عند نظر النبي في اختيار واحدة من زوجاته. إال أن المشهرين المتقولين نسوا كل حقيقة من حقائق الحياة الزوجية ولم يذكروا إال شيئًا واحدًا حرفوه عن معناه وداللته ،وذلك أن جمع في وقت واحد ٩زوجات. نسوا أنه اتسم بالطهر والعفة في شبابه فلم يستبح لنفسه من اللهو المطروق لكل طارق ،نسوا أنه لما تزوج في سن نحو الخامسة والعشرين كان زواجه بسيدة باألربعين اكتفى بها إلى أن توفيت، ونسوا أن الرجل الذي وصفوه بما وصفوا من تغليب لذات الحس لم يكن يشبع في بعض أيامه من خبز الشعير ولم يجاوز حياة القناعة فقط إلرضاء نسائه وإرضاء نفسه ،ولو شاء لما كلفه إرضاء نفسه غير القليل بالقياس إلى ما لديه. نسوا كل هذا وهو ثابت في التاريخ ثبوت عدد النساء الالتي جمع بينهن عليه السالم ،نسوه ألنهم أرادوا أن ينحرفوا عن الحقيقة ،وكانت رؤية الحقيقة أيسر لهم من اإلغضاء عنها لو أنهم أرادوا وتعمدوا ذكرها ولم يتعمدوا نسيانها.
| 52ا ل ص ف ح ة
الوجهة الخلقية: نوجز ما نقوله عن تعدد الزوجات من الوجهة الخلقية أو األدبية أن النبي عليه السالم لم يجعله حسنة مطلوبة لذاتها أو مبا ًحا يختاره من يختاره وله مندوحة عنه ،وإنما جعله ضرورة يعترف بها الرجل وتعترف بها األمة في بعض األحوال ألنها خير من ضرورات. خيرا من اإلخالء بينهن وبين التأيم والمذلة والرجعة ال ينكر أحد أن بناء الرسول بنسائه قد كان ً خيرا من قطع تلك األصرة التي وصلت بينه وبين العشائر. إلى الكفر والضاللة ،وكان ً أما الضرورة االجتماعية العامة فقد اعترفت بها الشرائع المدنية الحديثة جميعًا ،ثم تحللت منها بإباحة الزنى وعالج مشكلة الزواج بحل خارج عن نطاق الزواج أو خارج عن نطاق البيت أو األسرة. ومن السهل أن يسوس العالم في خياله بالفضائل التي تروقه وترضيه ،وليس من السهل عليه أن يخلق العالم الذي يساس له ويرضى بما ارتضاه.
| 53ا ل ص ف ح ة
رأي نابليون: إنما نضرب المثل بنابليون ألنه حضر انقالبًا في األطوار والعادات يشبه نشأة الدين في أيام الدعوة المحمدية ونعني به الثورة الفرنسية ،وحضر انحدارا في األخالق واآلداب يشبه االنحدار الذي أصيب به العرب في ً أواخر عهد الجاهلية ،وأسس دولة ونظر في سن قوانين وحاول ضروبًا من اإلصالح. نابليون قد طلق امرأته وقد اشتهرت له عالقات بخليالت متعددات وكان يقول عن المرأة " لقد صنعت كل ما وسعني أن أصنع لتحسين حال أولئك المساكين األبرياء أبناء الزنى ،إال أنك ال تستطيع أن تصنع لهم الشيء الكثير دون مساس بقواعد الزواج ،وإال أحجم الناس عن الزواج إال القليل". إن الطالق ألضر بالمرأة دون مراء ،فالرجل الذي يجمع بين الزوجات ال يبدو عليه من ذلك أثر كاألثر الذي يبدو على المرأة بعد التزوج بعدة رجال ،إنها تضمحل إذا ً كل االضمحالل.
| 54ا ل ص ف ح ة
رأي لينـــــين: حل مشكلة الزواج بحل رابطة الزواج ،فال رابطة بين الزوجين أوثق من رابطة الرفيقين ،وليس أعجب ممن جعل الزواج شريعة مالئكة إال الذي جعله على هذا النحو شريعة عجماوات.
| 55ا ل ص ف ح ة
عقوبة الزوجات: عقوبة الرجل المرأته في حالة الغضب كمحسنته لها في حالة الرضا كالهما ميزان صادق لمكانتها عنده ومكانة المرأة عامة في تقديره. والقرآن ينص على العقوبات السائغة في حالة النشوز وهي العظة ،والهجر في المضاجع والضرب والتسريح بإحسان. والنبي عليه السالم لم يطلق زوجة من زوجاته دخل بها وعاشرها ،ولم يضرب قط واحدة منهن ،بل كان عليه السالم يكره ضرب النساء ويعيبه كما قال" أما يستحى أحدكم أن يضرب امرأته ضرب العبد؟ يضربها أول النهار ثم يجامعها آخره!" عقوبة الضرب التي نص عليها القرآن هي لعالج النشوز الذي ال يستقيم بغيره ،والعقوبة التي آثرها النبي هي الهجر الطويل أو القصير بعد العظة والعتاب الجميل. وإنما العقوبة إبطال العصيان ،ولن يبطل بشيء كما يبطل بإحساس العاصي غاية ضعفه وغاية قوة من يعصيه ،والهجر في المضاجع هو مثابة الرجوع إلى هذا اإلحساس.
| 56ا ل ص ف ح ة
الفصل السادس :الإب.
| 57ا ل ص ف ح ة
األبوة الروحية واألبوة النوعية: زيادة النسل هي الوسيلة الوحيدة التي يستطيع الفرد لخدمة نوعه ،كأنما خدمة النوع ضريبة مفروضة على كل فرد في صورة من الصور ،فإذا أداها في صورة أعفى عنها في صورة أخرى. فهل يجوز لنا أن نقول أن العظماء الذين حرموا النسل قد أدوا ضريبتهم بإصالح شئون الناس فلم يبق من الالزم المفروض عليهم أن يؤدوا هذه الضريبة من طريق الذرية؟ إنما نقوله على سبيل المالحظة التقريبية. إذا جاز لنا أن نفهم أن إصالح شؤون النوع اإلنساني ضريبة تغني عن ضريبة الذرية في بعض األحوال – فأين ترانا نجد تلك الضريبة في أرفع حالة وأغلى قيمة إن لم نجدها في رسالة نبوية تتناول األجيال بعد األجيال.
| 58ا ل ص ف ح ة
األب الثكول: محمد كان أصلح اآلباء ،ثم فجع في بيته فجيعة ال يدارى فيها ألم اإلنسان إال صبر األنبياء ،كيف تكون تلك األبوة في نفس صلحت للصداقة وصلحت للسيادة وصلحت للزوجية ،ألنها تصلح للعطف الذي يعم القريب والغريب ويشمل القوي والضعيف. ذلك أب نعلم كيف يفرح بأبنائه وكيف يحزن حين يفجع في أولئك األبناء؟ لقد مضى نيف وعشرون سنة لم تلد خاللها زوجة من زوجاته ومات في هذه الفترة كل أوالده ماعدا فاطمة رضى هللا عنها ماتت بعده بقليل ،فجيعة تضاعف الشوق إلى الوليد المأمول. ولسنا ندري لما طالت الفترة التي مضت على أزواج النبي جميعًا بغير عقب ،ولكن ال نستعبد تعليها باجتماع المصادفات التي ال يندر أن تجتمع في أمثال هذه األحوال ،اجتماع هذه المصادفة ليست بالعجيبة المعضلة التي يصعب تعليلها إذا تذكرنا أن النبي قد توخى في اختيارهن تلك األغراض العامة – وهي اإليواء الشريف والمصاهرة -ولم يتحرى منها النسل خاصة ،بعضهن – بل معظمهن – قد لقين من الشدائد والمخاوف وعناء الهجرة البعيدة ،ما يعقم الولود. وإذا أضفنا إلى ذلك معيشة الكفاف وضريبة العظمة النبوية واشتغال النبي بتعزيز الدين وقمع الفتن ودرء األخطار – لم يكن فهم تلك الظاهرة الحيوية باألمر العصي على التعليل.
| 59ا ل ص ف ح ة
حزن األبوة: طال اشتياق النبي إلى الوليد المأمول ،وتجدد اشتياقه في أثر كل زواج حتى جاءته مارية القبطية من قطر بعيد ،فبشرت النبي بعقب لعله غالم ،واجتمع في هذه البشارة اشتياق نيف وعشرين سنة ورجاء ال ينتهي بانتهاء الزمان. وولد إبراهيم. ولد الطفل الذي نظر أبوه إليه يوم مولده فامتد به األمل مئات السنين ،وتخير له االسم الذي وراءه أعقاب كأعقاب جده األعلى. ومات ذلك الطفل الصغير ،ومات ذلك األمل الكبير. مات كالهما واألب في الستين ،أي صدمة في ختام العٌمر؟ ما تخيلت محمدًا في موقف أدنى إلى القلوب اإلنسانية من موقفه على قبر الوليد الصغير ذارف عا هلل. العينين مكظوم الوجه ضار ً وفضل النبي في نبوته وفي أبوته أنه حزن وبكى وتلك هي الصلة بينه وبين قلب اإلنسان، وبمقدار الفرح الطهور يوم االستقبال كان الحزن الوجيع يوم الوداع ،خرج يتوكأ على صديق عطوف إلى حيث يحمل الوليد في حجره األبوي قبل أن يودعه حجر التراب ،وكان يستقبل الجبل بوجهه وقال :يا جبل! لوكان بك مثل ما بي لهدك ،ولكن إن هلل وإن إليه راجعون. وصرخ أسامة حين بكى رسول هللا ،فنهاه الرسول وقال :البكاء من الرحمة والصراخ من الشيطان. حزن كما ينبغي أن يحزن ،اما الحزن الذي ال ينبغي له فهو الصراخ الذي نهى عنه.
| 60ا ل ص ف ح ة
أكرم اآلباء: رأينا محمدًا مثال األب يوم ولد له إبراهيم ،ومثال األب يوم ذهب عنه إبراهيم ،أرأيت إلى الحسن بن فاطمة وقد دخل عليه وركب ظهره وهو ساجد في صالته؟ ويسأله الصحابة :لقد أطلت سجودك؟ فيقول :إن ابني ارتحلني فكرهت أعجله! أرأيت إلى حنان يفيض على القلب كحنانه حين يرى فتاة تشبه أباها في مشيته وسمته! تلك فاطمة التي خصها بمناجاته في غشية وفاته ،إني مفارق الدنيا – فتبكي – إنك الحقة بي فتضحك ،في هذا الضحك وفي ذلك البكاء على برزخ الفراق بين الدنيا واآلخرة أخلص الود والحنان بين اآلباء واألبناء ،سرها بنبوته وسرها بأبوته ،فضحكت ساعة الفراق ألنها ساعة الوعد باللقاء. وكذلك فارق الدنيا أكرم األنبياء وأكرم اآلباء.
| 61ا ل ص ف ح ة
في الخثام: قد تكون وجدت ضالتك في هذا الكتاب أو معلومة قد سرقت لب قلبك وربما اقتبست منه نورا يشع بك ،فهل تشارك اآلخرين هذا النور عبر حسابنا فنضيء جميعا؟
| 62ا ل ص ف ح ة
| 63ا ل ص ف ح ة