( عباس العقاد ( عبقرية محمد

Page 1


‫‪ |2‬الصفحة‬


‫تدقيق ‪ :‬شهد سعد مقبل ‪.‬‬ ‫تنسيق وإخراج ‪ :‬ضحى محمد أبوتاكي ‪.‬‬

‫‪ |3‬الصفحة‬


‫الفهرس‪:‬‬

‫المقدمة‬ ‫الفصل األول ‪ :‬عالم محتاج‬ ‫األب‬ ‫رجل‬ ‫بشائر الرسالة‬ ‫عبقرية الداعي‬ ‫الفصل الثاني ‪ :‬عبقرية محمد العسكرية‬ ‫حروب الدفاع‬ ‫لقائد البصير‬ ‫ألوامر المختومة‬ ‫غرضان‬ ‫قائد بغير نظير‬ ‫خصائص العظمة‬ ‫أسري غزوة بدر‬ ‫بعد معركة األحزاب‬ ‫الفصل الثالث ‪:‬عبقرية محمد السياسية‬ ‫سياسة الخصوم ة األتباع‬ ‫الفتح المبين‬ ‫الفصل الرابع ‪:‬عبقرية محمد االدارية‬ ‫ملكات شخصية‬ ‫تدبير الشئون العامة‬ ‫البليغ‬ ‫المعاهدات و المواثيق‬ ‫سجع كحيلة الذهب‬ ‫أسلوب عصري‬ ‫رأي النبي في الشعر‬ ‫جوامع الكالم‬ ‫الفصل الخامس ‪ :‬محمد الصديق‬ ‫عطوف ودود‬ ‫ذو ذوق سليم‬ ‫عظمة العظمات‬ ‫الرئيس الصديق‬ ‫حق المرأة‬ ‫معاملته لزوجاته‬ ‫سماحة الكريم‬ ‫أسباب تعدد زوجاته‬ ‫الوجهة الخلقية‬ ‫رأي نابليون‬ ‫رأي لينين‬ ‫‪ |4‬الصفحة‬

‫‪6‬‬ ‫‪7‬‬ ‫‪10‬‬ ‫‪11‬‬ ‫‪12‬‬ ‫‪13‬‬ ‫‪16‬‬ ‫‪17‬‬ ‫‪20‬‬ ‫‪21‬‬ ‫‪22‬‬ ‫‪23‬‬ ‫‪24‬‬ ‫‪25‬‬ ‫‪26‬‬ ‫‪27‬‬ ‫‪28‬‬ ‫‪30‬‬ ‫‪31‬‬ ‫‪32‬‬ ‫‪33‬‬ ‫‪34‬‬ ‫‪35‬‬ ‫‪36‬‬ ‫‪37‬‬ ‫‪38‬‬ ‫‪39‬‬ ‫‪40‬‬ ‫‪41‬‬ ‫‪42‬‬ ‫‪43‬‬ ‫‪45‬‬ ‫‪47‬‬ ‫‪48‬‬ ‫‪50‬‬ ‫‪51‬‬ ‫‪53‬‬ ‫‪54‬‬ ‫‪55‬‬


‫عقوبة الزوجات‬ ‫الفصل السادس ‪:‬األب‬ ‫األبوة الروحية و األبوية النوعية‬ ‫األب الثكول‬ ‫حزن األبوة‬ ‫أكرام اإلباء‬ ‫الخاتمة‬ ‫نبذة المؤلف‬

‫‪ |5‬الصفحة‬

‫‪56‬‬ ‫‪57‬‬ ‫‪58‬‬ ‫‪59‬‬ ‫‪60‬‬ ‫‪61‬‬ ‫‪62‬‬ ‫‪63‬‬


‫املقدمة‪:‬‬ ‫عبقرية محمد صلى هللا عليه وسلم ‪.‬‬ ‫رسول هللا وصاحب ال ُمعجزات الذي أمر ب اقرأ ‪ ،‬إنه خير عبدا ً و خير زوجا ً و أبا ً و‬ ‫صديقا ً ‪.‬‬ ‫تأثروا به غير المسلمين فكانت سيرته سبب اعتناقهم لهذا الدين إذا ً كيف بنا نحن كمسلمين‪ ،‬فهو‬ ‫خير البشر وعظيم األثر‪.‬‬ ‫إن هذا الكتاب بمثابة دروس حياة تحكي ُجهده واجتهاد وإنسانيته و أخالقة وعدله واعتداله‪.‬‬ ‫ال تستطيع المرور من هنا دون أن تخجل أمام هذه السيرة العَ ِطرة أن ت ُحب وتعمل فهذا هو‬ ‫االقتداء فعالً‪.‬‬ ‫مواقف تحكي تاريخ يوثق عبقرية وإعجاز منحها هللا لعبده الذي بلغنا رسالته وعلمنا أن الدين‬ ‫أخالق كريمة‪.‬‬

‫‪ |6‬الصفحة‬


‫الفصل األول ‪:‬عامل حمتاج‪.‬‬

‫‪ |7‬الصفحة‬


‫فقد طمأنينة الباطن التي تنشأ من قوة في الغيب‪ ،‬تبسط العدل وتحمي الضعف وتجزي‬ ‫الظلم وتختار األصلح األكمل من جميع األمور‪ ،‬ولقد فقد أيضا ً على حد سواء طمأنينة‬ ‫الظاهر التي تنشأ من وجود دولة تقضي بالشريعة وتفصل بين البغاة واألبرياء‬ ‫وتحرس الطريق وتخيف المفسدين‪.‬‬ ‫ومثال ذلك الدول الكبرى التي كانت تحكم في هذا العالم وهي‪ :‬بيزنطة وفارس‬ ‫والحبشة‪.‬‬ ‫فبيزنطة خرجت من الدين إلى الجدل العقيم فتضاءلت سطوتها حتى طمع فيها من كان يحتمي‬ ‫بجوارها وفارس سخر فيها المجوس من دينهم وكمنت حول عرشها كوامن الغيلة وبواعث الفتن‬ ‫والحبشة ضائعة بين األوثان والهمجية‪ ،‬عالوة على هذا التشويه في الدين فهي ليست بذات‬ ‫رسالة في الدنيا عالم يتطلع إلى حال غير حاله‪ ،‬يتهيأ للتبديل أو للهدم ثم للبناء‪.‬‬ ‫أمة العرب وحالها قبل بعثة النبي محمد صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬ ‫أمة العرب هي أمة ليست ذات دولة وقد تيقظت لوجودها وشعرت بمكانتها والخطر عليها‪ ،‬في‬ ‫أيديها تجارة العالمين كلها‪ ،‬فإذا سارت القوافل من خليج فارس إلى بحر الروم تتصل األرزاق‬ ‫بين المشرق والمغرب وإذا غضبت أمة العرب تبور التجارة وينضب المورد وتكسد األسواق‬ ‫فهي في جيرة األعراب من كلتا الطريقين‪.‬‬ ‫أمة تيقظت لوجودها وعرفت شأنها ثم رأت هؤالء المحيطين بها يجورون عليها‪ ،‬ويريدون‬ ‫إخضاعها وابتالعها‪.‬‬ ‫خطر من خارجها‪ ،‬فهرقل الرومي يرسل من يحكمها‪ ،‬وأبرهة الحبشي يزحف إلى مكة بمن‬ ‫يهدم كعبتها‪ ،‬وفارس تطغى على شرق البالد وعلى جنوبها‪.‬‬ ‫وخطر من داخلها‪ ،‬يدفع بها إلى الزوال أو إلى استكمال النقص المستشري في حياتها ومن هنا‬ ‫الفاقة والحسرة والشك في صالح األمور ولكنه شك يبحث وليس بالشك الذي يستكين‪ ،‬حيث‬ ‫اجتمع أناس من أولي الرأي ثم تفرقوا‪ ،‬فمنهم من تنصر ومنهم من اعتزل األوثان‪ ،‬ومنهم من‬ ‫انتظر حتى سمع دعوة اإلسالم فلباها‪.‬‬

‫‪ |8‬الصفحة‬


‫هؤالء بحثوا عن العقيدة وغيرهم بحثوا عن وازع من الضمير ووازع من السلطان‬ ‫وذلك في حلف الفضول الذي شهده النبي صلى هللا عليه وسلم في شبابه‪.‬‬ ‫حالة ال تستقر وأمة يقظى وقلما تزول أمة يقظى في أوان انتباهها‪ ،‬فتلك إذا ً حالة‬ ‫التبديل والتجديد‪.‬‬

‫القبيلة والبيت الذي نشأ فيها رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪:‬‬ ‫وقبيلة في تلك األمة لها شعبتان‪ :‬إحداهما من أصحاب الترف والطمع واستبقاء ما هو قائم على‬ ‫هواها‪ ..‬واألخرى من أصحاب التقوى والسماحة والتوسط‪ .‬وبيت من تلك الشعبة الوسطى له‬ ‫كرم النسب العريق وليس له لؤم الثروة الجامحة والقسوة على من دونه من المحرومين ذلك هو‬ ‫بيت عبد المطلب من صميم قريش‪.‬‬ ‫وهو رجل قوي الخلق‪ ،‬قوي اإليمان فيما آمن به‪ ،‬حكيم وخليق أن ينجب العقب الذي يبشر‬ ‫بدعوة الدين‪.‬‬ ‫نذر لئن عاش له عشرة بنين لينحرن أحدهم عند الكعبة‪ ،‬ثم أحله قومه وأحلته العرافة فأبى حتى‬ ‫يستوثق عن رضا الرب ورضا ضميره‪ ،‬ففدوه بمائة من اإلبل‪.‬‬

‫‪ |9‬الصفحة‬


‫األب‪:‬‬ ‫عبد هللا نعم األب لذلك النبي الكريم‪ ،‬فهو الفتى الذي اختير للفداء فجاشت له شفقة قومه‬ ‫حتى تركه لهم القدر إلى حين‪ ،‬وهو الفتى الذي تحدثت الفتيات بوسامته وودت مئات‬ ‫منهن لو نعمن منه بنعمة الزواج وهو الفتى الذي أقام مع عروسه ثالثة أيام ثم سافر‬ ‫ومات وهو غريب وولد له نسله الكريم وهو دفين‪.‬‬

‫‪ | 10‬ا ل ص ف ح ة‬


‫رجل‪:‬‬ ‫رجل ال يشركه رجل آخر في صفاته ومقدماته‪ ،‬نبيل عريق النسب‪ ،‬فقير وليس بالغني‬ ‫المترف فيطغيه بأس األغنياء‪ .‬يتيم بين رحماء فليس هو بالمدلل الذي يقتل فيه التدليل‬ ‫ملكة الجد واإلرادة‪.‬‬ ‫وليس بالمهجور الذي تقتل فيه القسوة روح األمل والعزة‪.‬‬ ‫خبير بكل ما يختبره العرب من ضروب العيش في البادية والحاضرة‪ .‬فهو خالصة الكفاية‬ ‫العربية في خير ما تكون عليه الكفاية العربية‪.‬‬ ‫أصلح رجل من أصلح بيت في أصلح زمان لرسالة النجاة المرقوبة‪ ،‬على غير علم من الدنيا‬ ‫التي ترقبها‪.‬‬ ‫ذلك محمد بن عبد هللا صلى هللا عليه وسلم‪ .‬خلق محمد بن عبد هللا ليكون رسوالً مبشرا ً بدين‪،‬‬ ‫وإال فألي شيء خلق‪.‬‬

‫‪ | 11‬ا ل ص ف ح ة‬


‫بشائر الرسالة‪:‬‬ ‫والمؤرخون يجهدون أقالمهم غاية الجهد في استقصاء بشائر الرسالة المحمدية‪.‬‬ ‫فما من بشارة من تلك البشائر كان لها أثر في إقناع أحد بالرسالة يوم صدع النبي‬ ‫بالرسالة‪ ،‬أو كان ثبوت اإلسالم متوقفا ً عليها‪.‬‬ ‫وألن الذين سمعوا بالدعوة وأصاخوا إلى الرسالة بعد البشائر بأربعين سنة‪ ،‬لم يشهدوا بشارة‬ ‫واحدة منها‪.‬‬

‫ولم يحتاجوا إلى شهودها ليؤمنوا بصدق ما سمعوه واحتاجوا إليه‪.‬‬

‫أما العالقة التي ال التباس فيها وال سبيل إلى إنكارها‪ ،‬فهي عالمة الكون وعالمة التاريخ‪ ،‬وال‬ ‫كلمة لقائل بعد عالمة الكون وعالمة التاريخ‪.‬‬

‫‪ | 12‬ا ل ص ف ح ة‬


‫عبقرية الداعي‪:‬‬ ‫الذي اتفق في رسالة محمد صلى هللا عليه وسلم قد كان أعجب أعاجيب االتفاق‪ ،‬ألنها‬ ‫مع ضخامتها وتعدد أجزائها وتوافق تلك األجزاء جميعها مما يقبله العقل قبوالً سائغا ً‬ ‫بغير عنت وال استكراه‪.‬‬ ‫فكان محمد مستكمالً للصفات التي ال غنى عنها في إنجاح كل رسالة عظيمة من رساالت‬ ‫التاريخ‪.‬‬ ‫كانت له فصاحة اللسان واللغة وكانت له القدرة على تأليف القلوب وجمع الثقة وكانت له قوة‬ ‫اإليمان بدعوته وغيرته البالغة على نجاحها ففصاحة محمد صلى هللا عليه وسلم تكاملت له في‬ ‫كالمه وفي هيئة نطقه بكالمه وفي موضوع كالمه‪.‬‬ ‫واتفقت الروايات على تنزيه نطقه من عيوب الحروف ومخارجها وقدرته على إيقاعها في‬ ‫أحسن مواقعها‪ ،‬فهو صاحب كالم سليم في نطق سليم‪.‬‬ ‫وكانت له مع الفصاحة صباحة ودماثة تحببانه إلى كل من رآه وتجمعان إليه قلوب من عاشروه‬ ‫وهي صفة لم يختلف فيها صديق وال عدو‪.‬‬ ‫وحسبك من حب الضعفاء أن فتى مستعبدا ً يفقد أباه وأسرته كزيد بن حارثة رضي هللا عنه ثم‬ ‫يظهر له أبوه بعد طول الغيبة فيؤثر البقاء مع محمد صلى هللا عليه وسلم على الذهاب مع أبيه‪.‬‬ ‫وحسبك من حب األقوياء إياه أنه جمع على محبته أناسا ً بينهم من التفاوت في المزاج والخصال‬ ‫ما بين أبي بكر وعمر وعثمان وخالد وأبي عبيدة وهم جميعا ً من عظماء الرجال‪.‬‬ ‫ولكن الرجل قد يكون صحيحا ُ دمثا ً محبوباً‪ ،‬وال يكون له من ثقة الناس وائتمانهم إياه نصيب‬ ‫كبير‪.‬‬ ‫أما محمد صلى هللا عليه وسلم كان جامعا ً للمحبة والثقة كأفضل ما تجمعان‪ ،‬فلم يكن ما بالقوم‬ ‫أنهم ال يصدقون محمدا ً صلى هللا عليه وسلم وال يعلمون فيه الشرف واألمانة وإنما كان بهم أنهم‬ ‫ينفرون من التصديق كما ينفر المرء من خبر صادق بسوءه فيمن يحب وهو مفتوح العينين‬ ‫ناظر إلى صدق ما يلقى إليه‪.‬‬ ‫‪ | 13‬ا ل ص ف ح ة‬


‫ومن المحقق أن هذه الموافقات على كثرتها وهذه الشمائل على ندرتها ال تزال تتوقف‬ ‫على صفة أخرى يحتاج إليها الداعي وهي إيمانه بدعوته وغيرته على نجاحها‪ ،‬ولما‬ ‫آمن برسالته هو ودعوة ربه إياه إلى القيام بتلك الرسالة‪ ،‬صدع بما أمر ورضى‬ ‫ضميره بما أوتى من الهداية على النحو الذي رضي به ضمائر األنبياء وأصحاب‬ ‫الفطرة الدينية‪.‬‬ ‫ما من حركة كبرى في التاريخ تتضح للفهم إن لم يكن نجاح الدعوة المحمدية مفهوما ً‬ ‫بأسبابه الواضحة المستقيمة التي ال عوج في تأويلها‪.‬‬ ‫وما من شيء غير الغرض األعوج يذهل صاحبه ثم يخيل إليه أن الدعوة اإلسالمية كانت‬ ‫فضوالً غير مطلوب في هذه الدنيا‪ ،‬وأن نجاحها مصطنع ال سببا ً له غير اإلرهاب بالسيف‬ ‫واإلغراء بلذات النعيم ومتعة الخمر والحور العين‪ .‬فهم لم يسلموا على حد السيف خوفا ً من‬ ‫النبي األعزل المفرد بين قومه الغاضبين عليه‪ ،‬بل أسلموا على الرغم من سوف المشركين‬ ‫ووعيد األقوياء المتحكمين‪ .‬فلم تكن حرب من الحروب النبوية كلها حرب هجوم ولم تكن كلها‬ ‫إال حروب دفاع وامتناع‪.‬‬ ‫أما اإلغراء بلذات النعيم ومتعة الخمر والحور العين‪ ،‬فلم يكن أبو لهب أزهد في اللذة من عمر‪.‬‬

‫ولم يكن السابقون بينهم أظهر من كل فارق‪.‬‬ ‫ذلك هو الفارق الواضح بين من سبقوا ومن تخلفوا‪ ،‬وليس هو الفارق بين طالب لذة وزاهد فيها‪،‬‬ ‫أو بين مخدوع في النعيم وغير مخدوع‪ .‬ولعلنا ال نستبين هذه الحقيقة من مثال واحد كما نستبينها‬ ‫من مثال عمر رضي هللا عنه في إسالمه فقصته في ذلك نموذج لتلبية الدعوة المحمدية ينفي كل‬ ‫كالم يقال عن الوعيد واإلغراء وأثرهما في إقناع األقوياء أو الضعفاء‪.‬‬ ‫في قصة إسالم عمر بن الخطاب خرج بالسيف ليقتل محمدا ً صلى هللا عليه وسلم ولم يخرج‬ ‫عليه أحد من المسلمين بسيف‪ ،‬وقرأ صدرا ً من ((سورة طه)) ليس فيه ذكر للخمور والنعيم‪ .‬فال‬ ‫جبن إذا ً وال طمع في إسالم عمر بن الخطاب رضي هللا عنه بل رحمة وإنابة واعتذار‪ ،‬ولم يكن‬ ‫في إسالم الفقراء الذين هم أقل من عمر ناصراً‪ ،‬وأضعف منه بأسا ً جبن وال طمع ألنهم‬ ‫تعرضوا بإسالمهم للسيف ولم يخضعوا للسيف حين أسلموا هلل ورسوله صلى هللا عليه وسلم‪،‬‬ ‫وما كفى الذين كفروا لزهد وال شجاعة فيقال إن الذين سبقوهم إلى اإلسالم قد فعلوا ذلك لشغف‬ ‫بلذات الجنة‪ ،‬وجبن عن مواجهة القوة‪.‬‬ ‫‪ | 14‬ا ل ص ف ح ة‬


‫ولكنهم اختلفوا حيث تطلب طهارة السيرة وصالح األمور‪.‬‬ ‫فمن كان أقرب إلى هذه الطلبة من غني أو فقير ومن سيد أو مستعبد فقد أسلم ومن‬ ‫كان به زيغ عنها فقد أبى وهذا هو الفيصل‪.‬‬ ‫إنما نجحت دعوة اإلسالم ألنها دعوة طلبتها الدنيا ومهدت لها الحوادث وقام بها داع‬ ‫تهيأ لها بعناية ربه وموافقا ً أحواله وصفاته‪.‬‬ ‫فهي أوضح شيء فهما ً لمن أحب أن يفهم‪ ،‬وهي أقوم شيء سبيالً لمن استقام‪.‬‬

‫‪ | 15‬ا ل ص ف ح ة‬


‫الفصل الثاني ‪ :‬عبقرية حممد العسكرية‪.‬‬

‫‪ | 16‬ا ل ص ف ح ة‬


‫حروب الدفاع‪:‬‬ ‫كما قيل سابقاً‪ ،‬بأن اإلسالم لم ينجح ألنه دين قتال كما يردد أعداؤه المغرضون‪ ،‬ولكنه‬ ‫نجح؛ ألنه دعوة الزمة يقوم بها داعٍ موفق‪.‬‬ ‫كان الرسول عليه الصالة والسالم على اجتنابه العدوان يحسن من فنون القتال‬ ‫والحرب مالم يكن يحسنه أعداؤه المعتدين عليه‪ ،‬ولم يكن يجتنب الهجوم والمبادأة‬ ‫بالقتل لعجز أو خوف‪ ،‬ولكنه كان يجتنبه ألنه ينظر إلى الحرب نظرته إلى ضرورة بغيضة يلجأ‬ ‫إليها وال حيلة له في اجتنابها حيثما تيسرت له الحيلة الناجحة‪.‬‬

‫هناك بعض الحقائق التي تظهر لنا االختالف بين الدين اإلسالمي وغيره من األديان‬

‫في مسألة القتال‪ ،‬وهي كالتالي‪:‬‬ ‫✓ الحقيقة األولي‪:‬‬ ‫اعتاد أعداء الدين أن يطعنوا في اإلسالم بقولهم أنه دين قتال‪ ،‬ولكن الحقيقة هي أن اإلسالم في‬ ‫بداية عهده كان هو المعتدى عليه‪ .‬ولم يكن من قِبله اعتداء على أحد‪ ،‬وظل كذلك حتى بعد تلبية‬ ‫الدعوة المحمدية‪ ،‬فكان المسلمون يقاتلون من قاتلهم وال يزيدون على ذلك‪ ،‬كما قال تعالى‪:‬‬ ‫َّللاَ ال ي ُِحبُّ ْال ُم ْعتَدِينَ } البقرة ‪.١٩٠‬‬ ‫َّللاِ الهذِينَ يُقَاتِلُونَ ُك ْم َوال ت َ ْعتَدُوا ِإ هن ه‬ ‫سبِي ِل ه‬ ‫{وقَاتِلُوا فِي َ‬ ‫َ‬

‫كما أنهم كانوا يحاربون من ال يؤمن عهده وال يتقى شره بالحلف والمسالمة‪ ،‬كما في قوله تعالى‪:‬‬ ‫ع ْه ِد ِه ْم َو َ‬ ‫ط َعنُوا ِفي دِي ِن ُك ْم فَقَا ِتلُوا أ َ ِئ همةَ ْال ُك ْف ِر ۙ ِإنه ُه ْم َال أ َ ْي َمانَ لَ ُه ْم لَ َعله ُه ْم‬ ‫{و ِإ ْن نَ َكثُوا أ َ ْي َمانَ ُه ْم ِم ْن َب ْع ِد َ‬ ‫َ‬ ‫َي ْنت َ ُهونَ } التوبة ‪.١١‬‬

‫✓ الحقيقة الثانية‪:‬‬ ‫لم يكن اإلسالم يحارب بالسيف فكرة يمكن أن تحارب بالبرهان واإلقناع‪ ،‬ولكنه حارب بالسيف‬ ‫"سلطة" كانت تقف في طريقه وتحول بينه وبين أسماع المستعدين لإلصغاء إليه‪ ،‬ألن السلطة‬

‫تزال بالسلطة‪ ،‬وال غنى عن إخضاعها بالقوة‪.‬‬

‫‪ | 17‬ا ل ص ف ح ة‬


‫✓ الحقيقة الثالثة‪:‬‬ ‫أن اإلسالم لم يحتكم إلى السيف قط إال في األحوال التي أجمعت شرائع اإلنسان على‬ ‫تحكيم السيف فيها‪ ،‬كالدولة التي يثور عليها من يخالفها بين ظهرانيها‪ ،‬والدولة التي‬ ‫يحمل أناس من أبنائها السالح على أناس آخرين من أبنائها‪ ،‬بماذا تفض الخالف إن لم‬ ‫تفضه بقوة السلطان؟‬ ‫وفي كلتا الحالتين يكون السالح آخر الحيل‪ ،‬وتكون نهاية الظلم واالعتداء نهاية االعتماد على‬ ‫السالح‪ ،‬ثم يأتي الصلح والتوفيق‪ ،‬أو التفاهم بالرضا واالختيار‪.‬‬

‫✓ الحقيقة الرابعة‪:‬‬ ‫أن األديان الكتابية بينها فروق موضعية‪ ،‬فاليهودية أو اإلسرائيلية كانت أشبه بالعصبية‬ ‫المحصورة في أبناء إسرائيل منها بالدعوة العامة لجميع الناس‪.‬‬

‫أما المسيحية فكانت تعنى أوالً باآلداب واألخالق‪ ،‬ثم ظهرت ثانيا ً في بالد للمعامالت والنظم‬ ‫الحكومية‪ ،‬وقد ظهرت ثالثا ً في دولة أجنبية ذات قوة وليس للوطن الذي ظهرت فيه طاقة‬ ‫بمصادمة تلك الدولة في ميدان القتال‪.‬‬

‫أما اإلسالم فقد ظهر في وطن ال سيطرة لألجنبي عليه‪ ،‬وكان ظهوره إلصالح المعيشة وتقويم‬ ‫المعامالت وتقرير األمن والنظام‪.‬‬

‫✓ الحقيقة الخامسة‪:‬‬ ‫ض‬ ‫سبِي ِل ه‬ ‫سكَ ۚ َو َح ِ ِّر ِ‬ ‫َّللاِ َال ت ُ َكله ُ‬ ‫ف إِ هال نَ ْف َ‬ ‫أن اإلسالم شرع الجهاد‪ ،‬كما في قوله تعالى‪{ :‬فَقَاتِ ْل فِي َ‬ ‫ش ُّد ت َ ْن ِك ً‬ ‫يال} النساء ‪.٨٤‬‬ ‫سا َوأ َ َ‬ ‫َّللاُ أ َ َ‬ ‫س الهذِينَ َكفَ ُروا ۚ َو ه‬ ‫سى ه‬ ‫ش ُّد بَأ ْ ً‬ ‫َّللاُ أ َ ْن يَ ُك ه‬ ‫ْال ُمؤْ ِمنِينَ ۖ َ‬ ‫ع َ‬ ‫ف بَأ ْ َ‬ ‫وحدث فعالً أن المسلمين فتحوا بالدا ً غير بالد العرب‪ ،‬ولم يفتحوها ولم يكن يتأتى لهم فتحها‬ ‫بغير السالح‪.‬‬

‫‪ | 18‬ا ل ص ف ح ة‬


‫هذا إلى أن اإلسالم قد أجاز لألمم أن تبقى على دينها مع أداء الجزية والطاعة‬ ‫للحكومة القائمة‪ ،‬وهو أهون ما يطلبه غالب على مغلوب‪.‬‬

‫✓ الحقيقة السادسة‪:‬‬ ‫أن المقابلة بين ما كانت عليه شعوب العالم يومئذ قبل إسالمها وبعد إسالمها تدل على‬ ‫أن جانب اإلقناع لمن أراد اإلقناع‪.‬‬ ‫المدعوين إلى اإلسالم لم يقتنعوا بفضله سابقين‪ ،‬فال ينفي هذا القول أنهم اقتنعوا به‬ ‫فإذا قيل إن‬ ‫ِّ ِ‬ ‫متأخرين‪ ،‬وأن اإلسالم مقنع لمن يختار ويحسن االختيار‪ ،‬إلى جانب قدرته على إكراه من يركب‬ ‫رأسه ويقف في طريق اإلصالح‪.‬‬

‫‪ | 19‬ا ل ص ف ح ة‬


‫لقائد البصير‪:‬‬ ‫لم يكن اإلسالم إذا ً دين قتال‪ ،‬ولم يكن النبي رجالً مقاتالً يتخذ الحرب صناعة‪ ،‬ولكنه‬ ‫مع هذا كان نعم القائد البصير إذا وجبت الحرب ودعته إليها المصلحة الالزمة‪ ،‬يعلم‬ ‫من فنونها باإللهام ما لم يعلمه غيره بالدرس والتمرن‪ ،‬ويصيب في اختيار وقته‬ ‫وتسيير جيشه وترسيم خططه إصابة التوفيق وإصابة الحساب‪ ،‬وإصابة االستشارة‪.‬‬ ‫كما وأن الرسول لم يكن يحاصر موقعا ً إال أن يكون الحصار هو الوسيلة الوحيدة العاجلة‬ ‫لمبادرة القوة التي عسى أن تخرج من الموقع قبل استعدادها‪ ،‬أو قبل نجاحها في الغدر والوقيعة‪.‬‬ ‫ومع ذلك كان محمد عليه الصالة والسالم على رجاحة رأيه يستشير صحبة في خطط القتال‬ ‫وحيل الدفاع ويقبل مشورتهم أحسن قبول‪.‬‬

‫‪ | 20‬ا ل ص ف ح ة‬


‫ألوامر المختومة‪:‬‬ ‫صدر إلى قواد السرايا والسفن‬ ‫في الحروب الحديثة يتردد ذكر األوامر المختومة التي ت ُ ِّ‬ ‫ليفتحوها عند مدينة معلومة‪ ،‬أو بعد مسيرة ساعات‪ ،‬أو في عرض البحر على درجة‬ ‫معينة من درجات الطول والعرض‪ ،‬إلى ذلك من العالمات التي تعين بها الجهات‪،‬‬ ‫ولكن هذه األوامر المختومة ليست بحديثة‪.‬‬ ‫فقد عرفت من المأثورات النبوية على أتم أصولها التي تالحظ في أمثالها‪ ،‬ومن ذلك أنه عليه‬ ‫الصالة والسالم بعث عبد هللا بن جحش ومعه كتاب وأمره أال ينظر فيه حتى يسير يومين‪ ،‬فكان‬ ‫محتواه أن " ِسر حتى تأتي بطن نخلة على اسم هللا وبركاته‪ ،‬ال تكره هِن أحدا ً من أصحابك على‬ ‫وامض فيمن تبعك حتى تأتي بطن نخلة‪ ،‬فترصد بها عير قريش وتعلم لنا من‬ ‫المسير معك‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫اخبارهم‪".‬‬ ‫وهذا نموذج من األوامر المختومة جامع لكل ما يالحظ فيها حديثا ً وقديما ً وعند بداية الدعوة‬ ‫بالخصوص‪ ،‬فنالحظ من ذلك حكمة النبي عليه الصالة والسالم في اشتراط الرغبة والطواعية‬ ‫واجتناب القسر واإلكراه‪ ،‬فهذه أوالً بعثة منفردة ال سبيل إلى اإلكراه الفعال بين رجالها‪ ،‬وهي‬ ‫ثانيا ً بعثة استطالع ال يغني فيها عمل الكاره القسري‪ ،‬فإن ألزم ما في هذا العملية أن يكون‬ ‫العامل فيها لديه إيمان وصدق نية وحسن مودة لمن أرسلوه‪ ،‬فإن أعوزته هذه الصفة فقد أعوزه‬ ‫كل شيء‪.‬‬

‫‪ | 21‬ا ل ص ف ح ة‬


‫غرضان‪:‬‬ ‫كان هذا القائد الملهم الخبير بتجنيد بعوث الحرب وبعوث االستطالع خبيرا ً كذلك‬ ‫بتجنيد كل قوة في يديه متى وجب القتال‪ ،‬إن قوة رأي‪ ،‬وإن قوة لسان‪ ،‬وإن قوة نفوذ‪،‬‬ ‫فما نعرف أن أحدا ً وجه قوة الدعوة توجيها ً أس هد وال أنفع في بلوغ الغاية من توجيهه‬ ‫عليه الصالة والسالم‪.‬‬ ‫والدعوة في الحرب لها غرضان أصيالن بين أغراضها العديدة‪:‬‬ ‫األول هو إقناع خصمك والناس بحقك‪ ،‬وهذا قد تكفل به القرآن والحديث ودعاة اإلسالم جميعاً‪،‬‬

‫فالدين كله دعوة من هذا القبيل‪.‬‬ ‫والثاني هو إضعاف عدوك عن قتالك بإضعاف عزمه وإيقاع الشتات بين صفوفه‪.‬‬

‫‪ | 22‬ا ل ص ف ح ة‬


‫قائد بغير نظير‪:‬‬ ‫عندما تنعقد المقارنات بين المعارك القديمة والحديثة ينبغي أن ننظر إلى فكرة القائد‬ ‫قبل أن ننظر إلى ظواهر المعارك وأشكالها وأحجامها‪ ،‬ألن الظروف المختلفة‬ ‫والتطورات التي بين األزمنة من أدوات وأعداد هائلة من المقاتلين وحتى األجهزة‬ ‫القتالية الفتاكة تجعل من المقارنة أمرا ً ال معنى له وغير عادل أيضاً‪ ،‬أما إذا نظرنا إلى‬ ‫فكرة القائد أمكننا أن نعرف كيف أن توجيه ألف رجل قد يدل على براعة في القيادة ال‬ ‫نراها في توجيه مليون من الرجال‪ ،‬فبينهم الراجل والراكب‪ ،‬ومنهم من يركبون كل ما يركب‬ ‫من مخلوقات حية أو آالت مخترعة‪.‬‬ ‫وهذه الفكرة هي التي ترينا أن محمدا ً عليه الصالة والسالم قائدا ً حربيا ً بين أهل زمانه بغير‬ ‫نظير في رأيه وفي االنتفاع بمشورة صحبه‪ ،‬وتبرز لنا قدرته النادرة بين القادة والعصور‬ ‫المختلفة في توجيه كل ما يتوجه على يدي قائد من قوى الرأي والسالح والكالم‪.‬‬

‫‪ | 23‬ا ل ص ف ح ة‬


‫خصائص العظمة‪:‬‬ ‫للعظمة خصائص تدعو إلى العجب‪ ،‬وإن كانت معروفة األسباب‪ ،‬وناهيك بالعظمة التي‬ ‫ترتقي هذا المرتقى‪.‬‬ ‫فمن تلك الخصائص أنها قد توصف بالنقيضين في وقت واحد ألنها متعددة الجوانب‪،‬‬ ‫فيراها أناس على صورة ويراها غيرهم على صورة أخرى‪ ،‬وربما تراها العين‬ ‫الواحدة على اختالف في الوقتين المختلفين‪.‬‬ ‫ومن خصائص العظمة النبوية في محمد عليه السالم أنه وصف بالنقيضين على ألسنة‬ ‫المتعصبين من أعداء دينه فهو عند أناس منهم صاحب رقة تحرمه القدرة على القتال‪ ،‬وهو عند‬ ‫أناس آخرين صاحب قسوة تُضْري ِه بالقتل وإهدار الدماء البشرية في غير جريرة‪ ،‬وتنزه محمد‬ ‫عليه الصالة والسالم من هذا وذاك ‪ ،‬فإذا كانت شجاعته عليه الصالة والسالم تنفي الشبهة في‬ ‫رقة الضعف والخوف المعيب ‪ ،‬فحياته كلها من طفولته الباكرة تنفي الشبهة في القسوة والجفاء‪،‬‬ ‫إذ كان في كل صلة من صالته بأهله أو بمرضعاته أو بصحبه أو بزوجاته أو بخدمه مثاالً‬ ‫للرحمة يحتذى به والتي ه‬ ‫عز نظيرها في األنبياء ‪.‬‬

‫‪ | 24‬ا ل ص ف ح ة‬


‫أسرى غزوة بدر‪:‬‬ ‫اعتاد المستشرقين على توجيه الكثير من االنتقادات من قتل بعض األسرى بعد غزوة‬ ‫بدر وخروج النبي عليه السالم إلى ساحة الحرب لرؤية صرعى المعركة وغنائمها‬ ‫بعد انتهائها‪.‬‬ ‫هذا األمر ال يصح فيه الحكم إال بالنظر إلى موضعه وموقعه وأشخاصه‪ ،‬ألنه ليس‬ ‫بالحكم العام الذي اتبعه اإلسالم في جميع األسرى وجميع الحروب‪ ،‬وإنما هي حالة أفراد كانوا‬ ‫معروفين بتعذيب المسلمين والتنكيل بهم في غير مباالة وال نخوة‪.‬‬ ‫فكان قتل األسرى بعد معركة بدر إن هو إال قصاص كقصاص المتهمين بالتعذيب وقد وقعوا في‬ ‫أيدي من يتولى عقابهم من الغالبين‪ ،‬جاز هذا في كل قانون‪ ،‬وجاز أن يحاسب المغلوب على‬ ‫جرائمه التي ليست هي من فروض القتال أو من مباحاته في شيء‪.‬‬

‫‪ | 25‬ا ل ص ف ح ة‬


‫بعد معركة األحزاب‪:‬‬ ‫وباإلضافة إلى المستشرقين‪ ،‬فقد نقد المؤرخون األوربيون أيضا ً مسألة قتل المقاتلين‬ ‫من بني قريظة بعد معركة األحزاب‪.‬‬ ‫فإن أولئك المؤرخين يستعظمون قتلهم ويحسبونه مخالفا ً للعرف المتبع في الحروب‪،‬‬ ‫وينسون أمورا ً ال يصدق الحكم في هذه المسألة مالم يذكروها ويستحضروها أتم استحضار‪،‬‬ ‫وهي أن بني قريظة حنثوا في أيمانهم مرات عديدة؛ فال يجدي معهم أخذ المواثيق من جديد‪،‬‬ ‫وأنهم قبلوا حكم سعد بن معاذ وهم الذين اختاروه‪.‬‬ ‫وينبغي أن يسأل الناقدون أنفسهم بعد هذا‪ ،‬ماذا كان مصير المسلمين لو ظفرت بهم األحزاب؟‬ ‫فالقضاء الذي قضاه النبي عليه السالم في بني قريظة عدل وحكمة وصواب‪ ،‬وما من أحد‬ ‫يقضي غير ذلك القضاء وهو مؤتمن على مصير أمة يرحمها من غدر أعدائها‪ ،‬ومن لددهم في‬ ‫خصومتها‪ ،‬ومن استباحتهم كل منكر في التربص والوثبة بعد الوثبة عليها‪.‬‬ ‫وأخيرا إن عبقرية محمد في قيادته لعبقرية ترضاها فنون الحرب‪ ،‬وترضاها المروءة‪،‬‬ ‫وترضاها شريعة هللا والناس‪ ،‬وترضاها الحضارة في أحدث عصورها‪ ،‬ويرضاها المنصفون‬ ‫من األصدقاء واألعداء‪.‬‬

‫‪ | 26‬ا ل ص ف ح ة‬


‫م‬ ‫الفصل الثالث ‪ :‬عبق يرة حمد السثاسية‪:‬‬

‫‪ | 27‬ا ل ص ف ح ة‬


‫سياسة الخصوم واألتباع‪:‬‬ ‫معان كثيرة في العرف الحديث‪ ،‬وقد تولى النبي عليه السالم أعماالً كثيرة‬ ‫السياسة على‬ ‫ٍ‬ ‫مما يطلق عليها لفظ سياسة‪ ،‬عمالً واحدا ً أدخل في أبواب السياسة‪ ،‬وأجمع لضروبها‪،‬‬ ‫وهو عهد الحديبية منذ بداية الدعوة إلى الحج ونهايةً بنقض الميثاق من قريش‪.‬‬ ‫ففي عهد الحديبية تدبير محمد في سياسة خصومه وأتباعه‪ ،‬وفي االعتماد على السلم‬ ‫حيث يحسنان ويصلحان‪ ،‬وفي الحرب حيث ال تحسن المسالمة وال تصلح العهود‪.‬‬ ‫بدأ بالدعوة إلى الحج‪ ،‬شمل بدعوته كل من أراد الحج من الذين يشاركون المسلمين في تعظيم‬ ‫البيت‪ ،‬فجعل لهم قضية وحدة في وجه قريش‪ ،‬ومصلحة واحدة مقابل مصلحتها‪ ،‬وفصل بين‬ ‫دعواها ودعوى القبائل األخرى‪ ،‬وأفسد عليهم ما تعمدوه من إثارة نخوة العرب وتوجيههم‬ ‫لمناوأة محمد والرسالة اإلسالمية‪.‬‬ ‫وأفسد على قريش من جهة أخرى ما تعمدوه من إغضاب العرب على اإلسالم‪ ،‬بما ادعوا من‬ ‫قطعه لألرزاق وتهديده لألسواق‪ ،‬فهذا محمد يأخذ معه من شاء مصاحبته من المسلمين وغيرهم‬ ‫قصاد البيت الحرام‪ ،‬فإن حال بينهم وبين ما يقصدونه حائل فذلك وزره على نفسه وقومه‪ ،‬وال‬ ‫وزر فيما أصاب األرزاق واألسواق على المسلمين‪.‬‬ ‫وقد سمعنا في العصور الحديثة عن المقاومة السلبية وقيل إن غاندي قد تتلمذ على المصلح‬ ‫الروسي ليو تولستري في الحركة الهندية التي قام بها‪ ،‬وقيل هو أحرى أن يعرفها من آداب‬ ‫البوذيين التي تحرم إيذاء الحيوان فضالً عن اإلنسان‪ ،‬مستبعدين أن يتفق المسلمين على حركة‬ ‫غاندي العتقادهم أن اإلسالم قد شرع القتل فال يعجبهم اجتناب القوة والتزام السلم‪.‬‬ ‫ناسين المثل الذي قدمه النبي صلى هللا عليه وسلم في رحلة الحديبية ينقض ما توهموه‪ ،‬فاإلسالم‬ ‫ال يركن إلى السيف وحده وال إلى السلم وحده‪ ،‬بل يدفع بكليمهما حيث ينبغي أن يدفع‪.‬‬ ‫وقد خرج النبي صلى هللا عليه وسلم حاجا ً ال غازياً‪ ،‬ويثبت نيته بالسلم بتجرده من األسلحة‪ ،‬إال‬ ‫ما يؤذن به لغير المقاتلين‪.‬‬

‫‪ | 28‬ا ل ص ف ح ة‬


‫فصل بهذه الخطة بين قريش والعرب وبين قريش ومن معهم من األحابيش‪ ،‬وجعل‬ ‫الزعماء وذوي الرأي يختلفون فيما بينهم على ما يسلكون من مسلك‪ ،‬وهو عليه‬ ‫السالم يكرر الوصاة ألتباعه بالمسالمة منعا ً لالتفاق بين خصومه على قرار واحد‪.‬‬ ‫ولما اتفق الطرفان ‪-‬المسلمون و قريش‪ -‬على التعاهد كانت سياسة النبي في القبول‬ ‫غاية في الحكمة والقدرة الدبلوماسية‪.‬‬ ‫تعاهدوا على أن من أتى محمدا ً من قريش بدون إذنهم رده عليهم‪ ،‬ومن جاء قريشا ً من رجال‬ ‫محمد لم يردوه عليه‪ ،‬ومن أحب من العرب محالفة محمد أو قريش فال جناح عليه‪ ،‬و يرجع‬ ‫محمد و أصحابه عن مكة عامهم هذا و يعودا العام الذي يليه وهذا عهد مهادنة‪.‬‬ ‫وما انقضت فترة وجيزة حتى علمت قريش أنها خاسرة بذلك الشرط الذي حسبته مغنما ً لها‬ ‫وخذالنًا لمحمد صلوات هللا عليه‪ ،‬فالمسلمين الذين نفروا من قريش ولم يقبلهم محمد قد خرجوا‬ ‫إلى طريق القوافل على تجارة قريش يأخذونها‪ ،‬وما استطاع المشركين أن يشكونهم إلى النبي‬ ‫ألنهم خارجون من واليته‪ ،‬وما استطاعوا أن يحجزونهم في مكة‪.‬‬ ‫وفي هذه الفترة استراح النبي من قريش ففرغ ليهود خيبر وللممالك األجنبية يرسل الرسل‬ ‫بالدعوة إلى دين هللا‪ ،‬وفتح األبواب لمن يفيدون إليه ممن أمنوا أن تكون نصرتهم حرباً‪.‬‬ ‫وأنزل هللا على أثر اتفاق الحديبية – آية ‪ ١,2‬سورة الفتح‪ -‬ولم يفقه الكثير معناها‪ ،‬ولكن فهموا‬ ‫أي فتح بعد سنتين‪.‬‬

‫‪ | 29‬ا ل ص ف ح ة‬


‫الفتح المبين‪:‬‬ ‫في السنة التالية نادى الرسول أصحابه أن يتجهزوا للحج وال يتخلف أحد ممن شهد‬ ‫الحديبية‪ ،‬وخرج معه جمع كبير‪ ،‬وأمامهم ستين بدنة‪ ،‬وحملوا السالح وعلى رأسهم‬ ‫مائة فارس يقودهم محمد بن سلمة‪ ،‬حمل الرسول السالح للحيطة‪.‬‬ ‫وكان الفتح الذي بصر به عيانا ً من لم يره يوم الحديبية بنور البصيرة‪ ،‬وأسلم من‬ ‫الضعفاء واألقوياء من كان عصيا ً على اإلسالم‪.‬‬ ‫وهكذا تجلت عبقرية محمد في سياسة األمور كما تجلت في قيادة الجيوش‪ ،‬فكان على أحسن‬ ‫نجاح في سياسته‪.‬‬

‫‪ | 30‬ا ل ص ف ح ة‬


‫م‬ ‫الفصل الرابع ‪:‬عبق يرة حمد الإدا يرة‪:‬‬

‫‪ | 31‬ا ل ص ف ح ة‬


‫ملكات شخصية‪:‬‬ ‫في اإلسالم أحكام كثيرة مما يدخل في تصرف رجال اإلدارة وفيه وصايا كثيرة عن‬ ‫المعامالت يقتدي بها المشرعون في كل العصور‪.‬‬ ‫ولكننا ال نريد بما نكتب عن النبي أن نسرد أحكام الفقه‪ ،‬وإنما نريد أن نعرض أعماله‬ ‫ووصاياه من حيث هي ملكات شخصية وسالئق نفسية‪.‬‬ ‫نعني باإلدارة الملكة اإلدارية من حيث هي أساس في التفكير؛ من اعتمد عليه استطاع أن يقيم‬ ‫بناء اإلدارة على أسس قوية‪ ،‬فليس بوسع رجل فوضوي أن يؤسس إدارة نافعة‪ ،‬أما السليقة‬ ‫المطبوعة على إنشاء اإلدارة النافعة هي التي تعرف النظام‪ ،‬وقد كانت هذه السليقة في محمد‬ ‫على أتم ما تكون‪.‬‬ ‫كان يوصي بالرياسة حيثما وجد العمل االجتماعي‪ ،‬واعتنى بإسناد األمر إلى المدير القادر‪،‬‬ ‫وكانت أوامر اإلسالم ونواهيه معروفة لطائفة كبيرة‪ ،‬ولكنه لم يترك أحدا ً يدعى لنفسه إقامة‬ ‫الحدود وإكراه الناس على طاعة األوامر واجتناب النواهي‪ ،‬غير من لهم والية األمر‪.‬‬ ‫المسألة هنا مسألة إدارة في مجتمع حافل‪ ،‬وال يصاب ببالء هو أضر عليه من بالء الفوضى‪.‬‬ ‫نظام وفوق النظام سلطان‪ ،‬وفوق السلطان برهان من الشرع والعقل ال شك فيه‪ ،‬هذا اإللهام‬ ‫السديد في تدبير المصالح العامة‪ ،‬هو الذي أوحي إلى الرسول األمي قبل العصر الحديث‬ ‫بعشرات القرون‪.‬‬

‫‪ | 32‬ا ل ص ف ح ة‬


‫تدبير الشئون العامة‪:‬‬ ‫ليست اإلدارة كلها نصوصا ً وقواعد يجري الحاكم تنفيذها مجرى اآلالت والموازين‬ ‫التي تصرف الشؤون على نسق واحد‪ ،‬ولكنها عالج نفوس وقيادة أخطار ال أمان فيها‬ ‫من االنحراف‪.‬‬ ‫وهذا المجال تمت فيه عبقرية محمد في حلول التوفيق واتقاء الشرور‪ ،‬فهو مدير حين‬ ‫تكون اإلدارة تدبير أمور‪ ،‬وهو كفيل أال يلي مصلحة تعتريها الفوضى‪ ،‬ألنه يسوسها بالنظام‪.‬‬

‫‪ | 33‬ا ل ص ف ح ة‬


‫البليغ‪:‬‬ ‫"اللهم هل بلغت" هذه الالزمة التي كررها النبي في خطبة الوداع‪ ،‬لخصت حياة كاملة‬ ‫في ألفاظ معدودات‪ ،‬فما كانت حياة النبي كلها إال حياة تبليغ وبالغ‪.‬‬ ‫ولصدق الداللة ترى أن السمة الغالبة على أسلوب النبي في كالمه المحفوظ بين أيدينا‬ ‫هي سمة البالغ قبل كل سمة أخرى‪.‬‬ ‫توجيه األمراء والوالة كان أسلوبه عليه الصالة والسالم في توجيه األمراء والوالة وتعليمهم‬

‫باألوامر والوصايا‪.‬‬

‫‪ | 34‬ا ل ص ف ح ة‬


‫المعاهدات والمواثيق‪:‬‬ ‫أسلوبه في المعاهدات والمواثيق كلها مرسومة بسمة اإلبالغ المبين‪ ،‬لم يكن في كالمه‬

‫كله غريب يجهله السامع أو يحتاج إلى تبيانه‪.‬‬

‫‪ | 35‬ا ل ص ف ح ة‬


‫سجع كحيلة الذهب‪:‬‬ ‫وكان عليه السالم يكره "سجع الكهان" الذي يخدعون به السامع‪ ،‬ولكنه لم يكن يأبى‬ ‫السجع بته وال يخلو كالمه من سجع يأتي على السجية‪.‬‬ ‫فسجعه عليه السالم كحلية الذهب التي يليق بالرجل التحلي بها‪.‬‬ ‫وقد أعانه عليه السالم على أسلوب اإلبالغ أن الذين يستمعون إليه كانوا يستمعون‬ ‫لكالم نبي محبوب مطاع‪.‬‬

‫‪ | 36‬ا ل ص ف ح ة‬


‫أسلوب عصري‪:‬‬ ‫أسلوب النبي كان فطرياً‪ ،‬واألسلوب الذي يخرج من الفطرة هو أسلوب عصري في‬ ‫جميع العصور‪.‬‬

‫‪ | 37‬ا ل ص ف ح ة‬


‫رأي النبي في الشعر‪:‬‬ ‫نفى النبي ما استطاع أنه شاعر ينظم القصيد وأن سور القرآن قصائد مرتالت كما‬ ‫زعم المشركين‪.‬‬ ‫وقد استحسن ما قيل في الشعر عن اإلسالم والذود عنه‪ ،‬فكانت آراؤه شبيهه بآراء‬ ‫األنبياء‪ ،‬ألنهم بعثوا لتعليم الناس دروس الخير والصالح‪ ،‬لم يبعثوا ليلقنوهم دروس‬ ‫في قواعد النقد واإلنشاء‪.‬‬

‫‪ | 38‬ا ل ص ف ح ة‬


‫جوامع الكالم‪:‬‬ ‫أقوى اإلبالغ في كالم النبي هو اجتماع المعاني الكبار في الكلمات الصغار‪ ،‬وكان‬ ‫محمد فصيح اللغة فصيح اللسان‪ ،‬وكان بليغا ً مبلغا ً على أسلس ما تكون بالغة الكرامة‬ ‫والكفاية‪.‬‬

‫‪ | 39‬ا ل ص ف ح ة‬


‫م‬ ‫الفصل الخامس ‪ :‬حمد الصدبق ‪..‬‬

‫‪ | 40‬ا ل ص ف ح ة‬


‫عطوف ودود‪:‬‬ ‫تتم أداة الصداقة بالعاطفة الحية‪ ،‬والذوق السليم‪ ،‬والخلق المتين‪ ،‬وقد كان محمد صلى‬ ‫هللا عليه وسلم في هذه الخصال مثالً عالياً‪ ،‬كان عطوفا ً يرأم من حوله ويودهم ويدوم‬ ‫لهم على المودة طول حياته‪.‬‬ ‫كان من أضحك الناس وأطيبهم نفساً‪ ،‬صافي القلب إذا كره شيئا ً رؤى ذلك في وجهه‪،‬‬ ‫وإذا رضي عرف من حوله رضاه‪.‬‬ ‫و قد اتسع عطفه حتى بسطه لألحياء كافة و لم يقصره على ذوي الرحم من الناس‪ ،‬بل شمل‬ ‫عطفه الجماد كأنه من األحياء‪،‬‬ ‫كان له سيف محلى يسمى ذا القفار وفي تسميته بهذا االسم معنى األلفة التي تجعلها أشبه‬ ‫باألحياء المعروفة‪.‬‬

‫‪ | 41‬ا ل ص ف ح ة‬


‫ذو ذوق سليم‪:‬‬ ‫هذه العاطفة اإلنسانية التي شملت كل ما أحاطت به وأحاط بها‪ ،‬لم تكن هي كل أداة في‬ ‫الصداقة‪ ،‬بل يضارعها ذوق سليم ويتمثل في رعاية شعورهم أتم رعاية‪.‬‬ ‫ومع العاطفة اإلنسانية والذوق السليم سمت جميل‪ ،‬ونظافة بالغه‪ ،‬وحرص أن يراه‬ ‫الناس في أجمل صورة‪.‬‬ ‫ومع هذا كله أمانه يثق بها العدو فما بال الصديق؟‬ ‫واشتهر باألمانة في صباه حتى سمي األمين قبل أن يتجرد لدعوة تنبغي لداعيها أمثال هذه‬ ‫الصفات‬

‫‪ | 42‬ا ل ص ف ح ة‬


‫عظمة العظمات‪:‬‬ ‫وهنا أيضا ً قد تمت لمحمد معجزته التي لم يضارعه فيها أحد من ذوي الصداقات‬ ‫النادرة‪ .‬فأحدقت به نخبة من ذوي األقدار تجمع بين عظمة الحسب وعظمة الثروة‬ ‫وعظمة الرأي وعظمة الهمة وكل منهم ذو شأن في عظمته تقوم عليه دولة وتنهض به‬ ‫أمة‪.‬‬ ‫ولقد كان صاحب الفضل على أصفيائه جميعا ً بما هداهم إليه من نور العقل ونور البصيرة وهما‬ ‫أشرف من نور البصر ألنه نعمة يشترك فيها اإلنسان والعجماوات ونور العقل ونور البصيرة‬ ‫نعمتان يختص بهما اإلنسان ومع هذا كان يذكر فضلهم ويشيد بذكرهم كما قال عن أبي بكر (ما‬ ‫أجد أعظم عندي يدا ً من أبي بكر‪ :‬واساني بنفسه وأنكحني ابنته)‪.‬‬ ‫على أننا نلمس دالئل هذا الفؤاد الرحب وهذا العطف اإلنساني الشامل في معاملته ألعدائه‬ ‫وشانئيه فضالً عن معاملته لألصفياء ومن ليس بينهم وبينه عداء وال صفاء‪.‬‬ ‫فما ثأر من أحد أساء إليه في شخصه وقد عفى عن رجل هم بقتله وهو نائم ورفع السيف‬ ‫ليهوي به فسقط من يده على كره منه وما حارب قط أحدا ً كان في وسعه أن يسالمه ويحاسنه‬ ‫ويتقي شره ومعاملته لعبد هللا بن أبي الذي كان المسلمون يسمونه برأس النفاق مثل من أمثلة‬ ‫اإلغضاء والصفح الجميل‪ :‬فقد عاهد وغدر ثم عاهد وغدر وعاش ما عاش وهو يكيد للنبي في‬ ‫سره ويمالي عليه أعداءه وشاع أن النبي عليه الصالة قضى بقتله فتقدم ابنه وقال له‪( :‬يا رسول‬ ‫هللا إنه بلغني أنك تريد قتل عبد هللا بن أبي فيما بلغك عنه فإن كنت فاعالً فأمرني به فأنا أحمل‬ ‫إليك رأسه فوهللا لقد علمت الخزرج ما كان بها رجل أبر بوالده مني وإني أخشى أن تأمر به‬ ‫غيري فيقتله فال تدعني نفسي أنظر إلى قاتل أبي يمشي في الناس فأقتله فأقتل رجل مؤمن بكافر‬ ‫فأدخل النار)‪.‬‬ ‫فأبى النبي أن يقتله وآثر الرفق به وزاد في أفضاله وإجماله فكافئ الولد خير مكافأة على‬ ‫خلوص نيته وإيثاره والبر بدينه على البر بأبيه فأعطاه قميصه الزلهر يكفن به أباه وصلى عليه‬ ‫ميتا ً ووقف على قبره حتى فرغ دفنه وقد حاول عمر أن يثنيه عن الصالة على ذلك العدو الذي‬ ‫آذاه جهد اإليذاء فذكر اآلية (استغفر لهم أو ال تستغفر لهم أن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر‬ ‫هللا لهم) فقال‪( :‬لو أعلم إن زدت على السبعين غفر له زدت)‪.‬‬ ‫هذه النفس المطبوعة على الصداقة والرحمة ما أعجب اتهامها بالقسوة ألنها دانت أناسا ً بالموت‬ ‫كما يدين القاضي مجرما ً بذنبه وهو أرحم الرحماء‪.‬‬ ‫‪ | 43‬ا ل ص ف ح ة‬


‫ما أعجبهم إذ يذكرون العقوبة وينسون الذنب الذي استوجب العقوبة كما يستوجب‬ ‫السبب النتيجة‪.‬‬ ‫أنهارا من الدماء وله حجة من‬ ‫وأي ذنب؟ ذنب لو قوبل به غير محمد ألراق فيها‬ ‫ً‬ ‫سلطان الدنيا واآلخرة‪ .‬فال تذكر استهزاء المشركين به وإعانتهم إياه وإلقاءهم عليه‬ ‫القذر والحجارة وائتمارهم بحياته وحياة أصحابه وإخراجهم المسلمين من ديارهم إلى‬ ‫أقصى الديار وال نذكر العناد واإلغاظة واالستثارة لغير جريرة إال أنهم دعوا إلى‬ ‫عبادة هللا وللتحلي بمكارم األخالق وترك عبادة األصنام وترك الرذيلة‪.‬‬ ‫ال نذكر شيئا ً من هذا فهو أطوب من أن يحصيه الكتاب ولكننا نذكر حادثا ً واحدا ً تجمع في اللؤم‬ ‫ما تفرق في كثير غيره حين نشير إلى غدر قبيلة هذيل بتلرسا الستة الذين ذهبوا إليهم ليعلِّموا‬ ‫من شاء أن يتعلم أحكام الدين وهو آمن في داره ال إكراه له وال بغي عليه فقتلوا جميعا ً وجاء‬ ‫بأحدهم زيد بن الدثنة أسيرا ً ليباع فاشتراه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه ونصب للقتل فسأله أبو‬ ‫سفيان مستهزئا ً ‪(:‬أنشدك هللا يا زيد أتحب أن محمدا ً اآلن عندنا في مكانك تضرب عنقه وأنت في‬ ‫أهلك؟) فأجابه زيد‪( :‬وهللا ما أحب أن محمد اآلن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأنا‬ ‫جالس في أهلي)‪ ،‬فصاح أبو سفيان دهشا ً ‪(:‬ما رأيت من الناس أحدا ً يحبه أصحابه ما يحب‬ ‫أصحاب محمد محمد)‪.‬‬ ‫من فعلة كهذه تعلم مدى ما استحقه محمد من حب األصدقاء ومدى ما استحقه أعداءه من جزاء‬ ‫فقد أحب أصدقاءه وأحبوه ألنه طبع على الصداقة أما أعداؤه فقد لقو جزاءهم ألنهم هم طبعوا‬ ‫على العداء واالعتداء‪.‬‬

‫‪ | 44‬ا ل ص ف ح ة‬


‫الرئيس الصديق‪:‬‬ ‫من الحسن أن نكتب عن محمد الرئيس بعد كتابتنا عن محمد الصديق ألنه هو الذي‬ ‫جعل للرئاسة معنى الصداقة مع استطاعته أن يعتز بكل ذريعة من ذرائع السلطان‪.‬‬ ‫كان له من سلطان الدنيا كل ما لألمير المطلق اليدين في رعاياه وكان له من سلطان‬ ‫اآلخرة كل ما للنبي الذي يعلم من الغيب ما ليس يعلم المحكومون وكان له من سلطان‬ ‫الكفاءة والمهابة ما يعترف به بين أتباعه أكفأ كفؤ وأوقر مهيب‪.‬‬ ‫ولكنه لم يشأ إال أن يكون الرئيس األكبر بسلطان الحب والرضا واالختيار‪ .‬فكان أكثر رجل‬ ‫مشاورة للرجال وكان حب التابعين شرطا ً عنده من شروط اإلمامة بل من العبادة فاإلمام‬ ‫المكروه ال ترضى له صالة وكان يدين نفسه بما يدين به أصغر أتباعه فروى أنه كان في سفر‬ ‫ي ذبحها وقال آخر‪ :‬علي سلخها وقال‬ ‫وأمر أصحابه بإصالح شاة فقال رجل‪ :‬يا رسول هللا! عل ِّ‬ ‫آخر‪ :‬علي طبخها‪ ،‬فقال عليه السالم‪ :‬علي جمع الحطب‪ ،‬فقالوا‪ :‬يا رسول هللا نكفيك العمل‪ ،‬قال‪:‬‬ ‫علمت أنكم تكفونني ولكن أكره أن أتميز عليكم‪ ،‬إن هللا سبحانه وتعالى يكره من عبده أن يراه‬ ‫متميزا بين أصحابه (وقد كان أعلم الناس أن األعمال بالنيات ولكنه علم كذلك أن األمير إذا‬ ‫ابتغى الريبة في الناس أفسدهم) فوكل الضمائر إلى أصحابها وإلى هللا وحاسب الناس لما يجدي‬ ‫فيه الحساب‪.‬‬ ‫واليوم يكثر الالغطون حرية الفكر ويحسبونها كشفا ً من كشوف الثروة الفرنسية ويحرمون على‬ ‫الحاكم أن يؤاخذ الناس بما فكروا ما لم يتكلموا أو يعملوا ويكن في كالمهم وعملهم ما يخالف‬ ‫الشريعة‪.‬‬ ‫فهذا الذي يحسبونه كشف من كشوف العصر األخير قد جرى عليه حكم النبي قبل أربعة عشر‬ ‫قرنا ً وشرعه ألمته في أحاديثه حيث قال عليه السالم (إن هللا تجاوز ألمتي عما حدثت به نفسها‬ ‫ما لم تتكلم به أو تعممه)‪.‬‬ ‫وزعموا كذلك أن تقديم الرحمة على العدل في تطبيق الشريعة دعوة من دعوات المحدثين لم‬ ‫يسبقوا إليها وهي دعوة النبي العربي التي كررها ولم يدع قط إلى غيرها فقال (إن هللا تعالى لما‬ ‫خلق الخلق كتب بيده على نفسه أن رحمتي غلبت غضبي‪ ،‬وأن هللا تعالى رفيق يحب الرفق)‪.‬‬ ‫وكان النبي الرئيس يعلم أن الرئاسة لجميع المرؤوسين وليست للموافقين منهم دون المخالفين‬ ‫فيأمر قومه‪( :‬أن اتقوا دعوة المظلوم وإن كان كافرا ً فإنها ليس دونها حجاب) لقد كانت سنة‬ ‫‪ | 45‬ا ل ص ف ح ة‬


‫الرئاسة عند محمد هي سنة الصداقة فلو استغنى حكم الشريعة الستغنى عنها حكم هذا‬ ‫الرئيس الذي جاء بالشريعة لجميع متبعيه‪.‬‬

‫‪ | 46‬ا ل ص ف ح ة‬


‫حق المرأة‪:‬‬ ‫الكالم عن الزوج يستدعي الكالم عن مكانة امرأة عند رجل وعن مكانة النساء عامة‬ ‫عند الرجال عامة‪.‬‬ ‫وإنما تعرف مكانة المرأة التي وصلت إليها بفضل محمد ودينه متى عرفت مكانة‬ ‫المرأة التي استقرت عليها في الجاهلية ومكانة المرأة التي استقرت عليها في عصره‬ ‫وبعد عصره وبين أمم أخرى غير األمة العربية‪.‬‬ ‫كانت متاعا ً يورث ويقسم تقسيم السوائم بين الوارثين فأصبحت بفضل اإلسالم صاحبة حق‬ ‫مشروع ترث وتورث وال يمنعها الزواج أن تتصرف في مالها وهي في عصمته كما تشاء‪.‬‬ ‫وكانت تدفن في مهدها فرارا ً من عار وجودها أو عبئا ً تدفن في مهدها فرارا ً من نفقة طعامها‬ ‫فأصبحت إنسانا ً مرعي الحياة ينال العقاب من ينالها بمكروه‪.‬‬ ‫ولم تكن في البالد األخرى أكثر حظا ً منها في البالد العربية‪.‬‬ ‫فال نذكر شرائع الرومان واستعبادها النساء وال نذكر المتنا سطين في صدر المسيحية وتسجيلهم‬ ‫عليها النجاسة وتجريدهم إياها وكفى أن نذكر عصر الفروسية الذي قيل أنه عصر المرأة الذهبي‬ ‫بين األمم األوروبية وأن الفرسان كانوا يفدون النساء بالدم والمال‪.‬‬ ‫فهذا العصر كان كما قبل الدارسون له‪ :‬عصر الحصان قبل أن يكون عصر المرأة (السيدة‬ ‫المفداة)‪.‬‬ ‫إلى القارئ محادثة من كتاب أغاني اآلداب والتحيات يروى فيها‪ :‬أن ابنة أوسيس جلست في‬ ‫نافذتها ذات يوم فعبر بها فتيان ‪-‬جاران جربرت‪ -‬وقال أحدهما (انظر انظر جربرت‪ :‬وحق‬ ‫العذراء ما أجملها من فتاة! دون أن يلتفت بوجهه وعاد صاحبه يقول مرة أخرى (ما أحسبني‬ ‫رأيت قط فتاة بهذه المالحة ما أجمل هاتين العينين السوداوين) وانطلق جربرت يقول (ما احسب‬ ‫أن جوادا ً قط يماثل هذا الجواد) وهذه حادثة صغيرة ولكنها واضحة الداللة إذ قلة ورث‬ ‫االزدراء‪.‬‬ ‫(ومتى كانت المرأة تزف إلى زوجها عفو الساعة وكثيرا ً ما تزف إلى رجل لم تره قبل ذلك إما‬ ‫لتسهيل المحالفات الحربية والمدد العسكري أو لتسهيل صفقة من صفقات الضياع)‬

‫‪ | 47‬ا ل ص ف ح ة‬


‫ولقد تقدم الزمن من العصور الفروسية إلى ما بعدها من العصر الحديث ولم تتقدم‬ ‫المرأة فيه تقدما ً يرفعها من المراغة التي استقرت فيها من قبل الجاهلية العربية‪.‬‬ ‫فماذا صنع محمد؟ وماذا صنعت رسالة محمد؟‬ ‫حكم واحد من القرآن الكريم أعطى المرأة من الحقوق كفاء ما فرض عليها (ولهن‬ ‫مثل الذي عليهن بالمعروف) وحكم آخر من أحكامه العالية أمر المسلم بإحسان‬ ‫معاشرتها ولو مكروهة غير ذات حظوة عند زوجها (وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن‬ ‫فعسى أن تكرهوا شيئا ً ويجعل هللا فيه خيرا ً كثيراً) وأباح لها الدين في الجهاد أن تكسب كما‬ ‫يكسب الرجال‪( :‬للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن) ولم يفضل الرجل‬ ‫عليها إال بما كفله من واجب كفالتها وإقامة أودها والسهر عليها‪ ،‬أما محمد فقد جعل خيار‬ ‫المسلمين خيارهم لنسائهم (أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا ً وخياركم خياركم لنسائهم) وأمر‬ ‫بمداراة ضعفها ونقصها ألن (المرأة خلقت من ضلع لن تستقيم لك على طريقة فإن استمتعت بها‬ ‫استمتعت بها وبها عوج وإن ذهبت تقيمها كسرتها وكسرها طالقها)‪.‬‬ ‫وأوجب على الرجل أن يتجمل المرأته وأوجب على الرجل إذا خطب امرأة أن يظهرها على‬ ‫عيبه إن كان به عيب مستور (إذا خطب أحدكم المرأة وهو يخضب بالسواد فليعلمها أنه‬ ‫يخضب)‪.‬‬ ‫وكان تأديبه المسلمين في هذه الصلة غاية في الكياسة والترفق فقال مما قال في هذا المعنى (إذا‬ ‫دخلت ليالً فال تدخل على أهلك حتى تستحد المغيبة وتمتشط الشعثة الكيس الكيس)‪.‬‬

‫‪ | 48‬ا ل ص ف ح ة‬


‫معاملته لزوجاته‪:‬‬ ‫وإنما نلخص ما أوجبه النبي على المسلمين عامة في معامالتهم لزوجاتهم وهو دون ما‬ ‫أوجبه على نفسه في معاملة زوجاته بكثير فكان يشفق أن يروه غير باسم في وجوههن‬ ‫ويزورهن جميعا ً في الصباح والمساء وإن خال بهن (كان ألين الناس ضاحكا ً بساماً)‬ ‫كما قالت عائشة رضي هللا عنها‪ .‬ولم يجعل من هيبة النبي سدا ً وال ردعا ً بينه وبين‬ ‫نسائه بل أنساهن برفقه وقد كان يتولى خدمة البيت معهن أو كما قال‪( :‬خدمتك زوجتك‬ ‫صدقة)‪.‬‬ ‫وكان يستغفر هللا فيما ال يملك من التسوية بين إحداهن وسائرهن ولما أقعده مرض الوفاة‬ ‫يزورهن كل يوم كما عودهن بعث إليهن فتلطف في سؤالها (أين أنا غداً؟ أين أنا غداً؟)‬ ‫إال أن الخلق الذي يشق فهمه على األكثرين هو طيب المعاملة عندما تتعرض الحياة الزوجية‬ ‫ألخطر ما يمسها من خطر وهو المساس بالوفاة في هذه الخصلة تتسامى الحضارة الحديثة ما‬ ‫تتسامى فال نخالها تحلم بمعاملة أطيب وال أكرم من المعاملة التي أثرت عن النبي في قصة‬ ‫عائشة بنت الصديق وهي أحظى نسائه إليه‪.‬‬

‫‪ | 49‬ا ل ص ف ح ة‬


‫سماحة الكريم‪:‬‬ ‫ولقد علمنا من رواية السيدة عائشة كما علمنا من روايات شتى أن عبد هللا بن أبي‬ ‫مسلول كان أكبر الالغطين بحديث اإلفك عن سوء نية وكيد مبيت للنبي ودينه وكان‬ ‫هذا الرجل كما تقدم في بعض فصول هذا الكتاب بغيضا ً إلى المسلمين متهما ً عندهم‬ ‫يتوجسون منه ويسمونه رأس المنافقين وال يكفون عن طلب دمه واستئذان النبي في‬ ‫قتله فما ضر النبي لو خلى بين المسلمين وبينه يحاسبونه على فريته ويحاسبونه على‬ ‫كيده إنما هي سماحة الكريم‪ .‬إنما هي السماحة التي شملت مسطحا ً كما شملت كبير المنافقين‬ ‫وخرجت من حديث اإلفك كله بالعفو عن جميع المسيئين مخلصين في الرأي وغير مخلصين ‪.‬‬

‫‪ | 50‬ا ل ص ف ح ة‬


‫أسباب تعدد زوجاته‪:‬‬ ‫ولو كان لذات الحس هي التي سيطرت على زواج النبي بعد وفاة خديجة لكان األحجى‬ ‫بإرضاء اللذات أن يجمع النبي إليه تسعًا من الفتيات األبكار الالتي اشتهرن بفتنة‬ ‫الجمال‪.‬‬ ‫سودة كانت هي أولى النساء الالتي بنى بهن بعد وفاة خديجة وكانت هي من أسبق‬ ‫فرارا من إعنات‬ ‫النساء إلى اإلسالم‪ ،‬آمنت وهجرت أهلها ونجى بها زوجها إلى الحبشة‬ ‫ً‬ ‫المشركين له ولها‪ ،‬فلما مات‪ ،‬لم يعد لها إال أن تعود إلى أهلها فتصبأ وتؤذى‪ ،‬فضمها النبي إليه‬ ‫حماية لها‪ ،‬وكان غير هذا الزواج أولى به لو نظر إلى لذات الحس ومال إلى متاع‪.‬‬ ‫وكانت للنبي زوجة أخرى وسمت بالوضاءة والفتاء وهي زينت بنت جحش ابنة عمته ‪-‬عليه‬ ‫السالم‪ -‬التي زوجها زيد بن حارثة بأمره وعلى غير رضا منها‪ ،‬وقد تعذر التوفيق بينهما‪ ،‬وهذا‬ ‫ضا لم يكن لذات الحس المزعومة سلطان في بناء النبي بها بعد تطليق زيد إياها‪ ،‬كان زواج‬ ‫أي ً‬ ‫النبي ً‬ ‫حال لمشكلة بين ربيب في منزلة االبن وابنة عمه أطاعته في زواج لم يقرن بالتوفيق‪.‬‬ ‫أما سائر زوجاته عليه السالم فما من واحدة منهن إال كان لزواجه بها سبب من المصلحة العامة‬ ‫أو من المروءة والنخوة دون ما يهذر به المرجفون من لذات الحس المزعومة‪.‬‬ ‫فأم سلمة كانت كهلة مسنة يوم خطبها الرسول بعد وفاة زوجها عبد هللا المخزومي ولما برح بها‬ ‫الحزن لوفاته وأتاها رسول هللا ً‬ ‫خيرا منها "‪،‬‬ ‫قائال‪" :‬سلي هللا أن يؤجرك في مصيبتك ويخلفك ً‬ ‫خيرا من أبي سلمة؟" فأوجب على نفسه خطبتها ألنه يعلم أنه خير من أبي‬ ‫فقالت‪" :‬ومن يكون ً‬ ‫سلمة‪.‬‬ ‫وجويرية بنت الحارث كانت إحدى السبايا في غزوة بني المصطلق فتزوجها النبي ليعتقها‬ ‫ويحض المسلمين على عتق أسراهم وسباياهم تفري ًجا عنهم وتألفًا لقلوبهم‪.‬‬ ‫وحفصة بنت عمر بن الخطاب‪ ،‬مات زوجها فعرضها أبوها على أبي بكر فسكت وعلى عثمان‬ ‫فسكت وبث عمر أسفه للنبي فلم يكن عليه السالم أن يضن على وليه وصديقه بالمصاهرة التي‬ ‫شرف بها أبا بكر من قبله‪.‬‬ ‫ورملة بنت أبي سفيان تركت أباها لتسلم وتركت وطنها لتهاجر مع زوجها إلى الحبشة ثم تنصر‬ ‫زوجها وفارقها وهي غريبة فأرسل النبي إلي النجاشي في طلبها لينقذها من ضياع الغربة‬ ‫وضياع األهل‪ ،‬فكانت النجدة اإلنسانية باعث هذا الزواج‪ ،‬وكان للنبي مقصد جليل من ورى هذا‬ ‫‪ | 51‬ا ل ص ف ح ة‬


‫الزواج الذي لم يفكر فيه حتى ألجأته النجدة إلى التفكير فيه وهو أن يصل بينه وبين‬ ‫أبي سفيان بأصرة النسب‪ ،‬عسى أن يهديه ذلك إلى الدين‪.‬‬ ‫تنكشف لنا مراجعة الحياة الزوجية لمحمد عليه السالم عن هذه األسباب وشبيهاتها‬ ‫من دواعي اختياره لنسائه واستجماعه لهذا العدد من الزوجات في حين واحد‪.‬‬ ‫وال حرج على رجل قويم الفطرة أن يلتمس المتعة في زواجه‪ ،‬ولكن الذي حدث ً‬ ‫فعال‬ ‫أن المتعة لم تكن قط مقدمة في االعتبار عند نظر النبي في اختيار واحدة من زوجاته‪.‬‬ ‫إال أن المشهرين المتقولين نسوا كل حقيقة من حقائق الحياة الزوجية ولم يذكروا إال شيئًا واحدًا‬ ‫حرفوه عن معناه وداللته‪ ،‬وذلك أن جمع في وقت واحد ‪ ٩‬زوجات‪.‬‬ ‫نسوا أنه اتسم بالطهر والعفة في شبابه فلم يستبح لنفسه من اللهو المطروق لكل طارق‪ ،‬نسوا أنه‬ ‫لما تزوج في سن نحو الخامسة والعشرين كان زواجه بسيدة باألربعين اكتفى بها إلى أن توفيت‪،‬‬ ‫ونسوا أن الرجل الذي وصفوه بما وصفوا من تغليب لذات الحس لم يكن يشبع في بعض أيامه‬ ‫من خبز الشعير ولم يجاوز حياة القناعة فقط إلرضاء نسائه وإرضاء نفسه‪ ،‬ولو شاء لما كلفه‬ ‫إرضاء نفسه غير القليل بالقياس إلى ما لديه‪.‬‬ ‫نسوا كل هذا وهو ثابت في التاريخ ثبوت عدد النساء الالتي جمع بينهن عليه السالم‪ ،‬نسوه ألنهم‬ ‫أرادوا أن ينحرفوا عن الحقيقة‪ ،‬وكانت رؤية الحقيقة أيسر لهم من اإلغضاء عنها لو أنهم أرادوا‬ ‫وتعمدوا ذكرها ولم يتعمدوا نسيانها‪.‬‬

‫‪ | 52‬ا ل ص ف ح ة‬


‫الوجهة الخلقية‪:‬‬ ‫نوجز ما نقوله عن تعدد الزوجات من الوجهة الخلقية أو األدبية أن النبي عليه السالم‬ ‫لم يجعله حسنة مطلوبة لذاتها أو مبا ًحا يختاره من يختاره وله مندوحة عنه‪ ،‬وإنما جعله‬ ‫ضرورة يعترف بها الرجل وتعترف بها األمة في بعض األحوال ألنها خير من‬ ‫ضرورات‪.‬‬ ‫خيرا من اإلخالء بينهن وبين التأيم والمذلة والرجعة‬ ‫ال ينكر أحد أن بناء الرسول بنسائه قد كان ً‬ ‫خيرا من قطع تلك األصرة التي وصلت بينه وبين العشائر‪.‬‬ ‫إلى الكفر والضاللة‪ ،‬وكان ً‬ ‫أما الضرورة االجتماعية العامة فقد اعترفت بها الشرائع المدنية الحديثة جميعًا‪ ،‬ثم تحللت منها‬ ‫بإباحة الزنى وعالج مشكلة الزواج بحل خارج عن نطاق الزواج أو خارج عن نطاق البيت أو‬ ‫األسرة‪.‬‬ ‫ومن السهل أن يسوس العالم في خياله بالفضائل التي تروقه وترضيه‪ ،‬وليس من السهل عليه أن‬ ‫يخلق العالم الذي يساس له ويرضى بما ارتضاه‪.‬‬

‫‪ | 53‬ا ل ص ف ح ة‬


‫رأي نابليون‪:‬‬ ‫إنما نضرب المثل بنابليون ألنه حضر انقالبًا في األطوار والعادات يشبه‬ ‫نشأة الدين في أيام الدعوة المحمدية ونعني به الثورة الفرنسية‪ ،‬وحضر‬ ‫انحدارا في األخالق واآلداب يشبه االنحدار الذي أصيب به العرب في‬ ‫ً‬ ‫أواخر عهد الجاهلية‪ ،‬وأسس دولة ونظر في سن قوانين وحاول ضروبًا من‬ ‫اإلصالح‪.‬‬ ‫نابليون قد طلق امرأته وقد اشتهرت له عالقات بخليالت متعددات وكان يقول عن المرأة " لقد‬ ‫صنعت كل ما وسعني أن أصنع لتحسين حال أولئك المساكين األبرياء أبناء الزنى‪ ،‬إال أنك ال‬ ‫تستطيع أن تصنع لهم الشيء الكثير دون مساس بقواعد الزواج‪ ،‬وإال أحجم الناس عن الزواج‬ ‫إال القليل"‪.‬‬ ‫إن الطالق ألضر بالمرأة دون مراء‪ ،‬فالرجل الذي يجمع بين الزوجات ال يبدو عليه من ذلك أثر‬ ‫كاألثر الذي يبدو على المرأة بعد التزوج بعدة رجال‪ ،‬إنها تضمحل إذا ً كل االضمحالل‪.‬‬

‫‪ | 54‬ا ل ص ف ح ة‬


‫رأي لينـــــين‪:‬‬ ‫حل مشكلة الزواج بحل رابطة الزواج‪ ،‬فال رابطة بين الزوجين أوثق من رابطة‬ ‫الرفيقين‪ ،‬وليس أعجب ممن جعل الزواج شريعة مالئكة إال الذي جعله على هذا النحو‬ ‫شريعة عجماوات‪.‬‬

‫‪ | 55‬ا ل ص ف ح ة‬


‫عقوبة الزوجات‪:‬‬ ‫عقوبة الرجل المرأته في حالة الغضب كمحسنته لها في حالة الرضا كالهما ميزان‬ ‫صادق لمكانتها عنده ومكانة المرأة عامة في تقديره‪.‬‬ ‫والقرآن ينص على العقوبات السائغة في حالة النشوز وهي العظة‪ ،‬والهجر في‬ ‫المضاجع والضرب والتسريح بإحسان‪.‬‬ ‫والنبي عليه السالم لم يطلق زوجة من زوجاته دخل بها وعاشرها‪ ،‬ولم يضرب قط واحدة‬ ‫منهن‪ ،‬بل كان عليه السالم يكره ضرب النساء ويعيبه كما قال" أما يستحى أحدكم أن يضرب‬ ‫امرأته ضرب العبد؟ يضربها أول النهار ثم يجامعها آخره!"‬ ‫عقوبة الضرب التي نص عليها القرآن هي لعالج النشوز الذي ال يستقيم بغيره‪ ،‬والعقوبة التي‬ ‫آثرها النبي هي الهجر الطويل أو القصير بعد العظة والعتاب الجميل‪.‬‬ ‫وإنما العقوبة إبطال العصيان‪ ،‬ولن يبطل بشيء كما يبطل بإحساس العاصي غاية ضعفه وغاية‬ ‫قوة من يعصيه‪ ،‬والهجر في المضاجع هو مثابة الرجوع إلى هذا اإلحساس‪.‬‬

‫‪ | 56‬ا ل ص ف ح ة‬


‫الفصل السادس ‪ :‬الإب‪.‬‬

‫‪ | 57‬ا ل ص ف ح ة‬


‫األبوة الروحية واألبوة النوعية‪:‬‬ ‫زيادة النسل هي الوسيلة الوحيدة التي يستطيع الفرد لخدمة نوعه‪ ،‬كأنما‬ ‫خدمة النوع ضريبة مفروضة على كل فرد في صورة من الصور‪ ،‬فإذا‬ ‫أداها في صورة أعفى عنها في صورة أخرى‪.‬‬ ‫فهل يجوز لنا أن نقول أن العظماء الذين حرموا النسل قد أدوا ضريبتهم بإصالح‬ ‫شئون الناس فلم يبق من الالزم المفروض عليهم أن يؤدوا هذه الضريبة من طريق الذرية؟ إنما‬ ‫نقوله على سبيل المالحظة التقريبية‪.‬‬ ‫إذا جاز لنا أن نفهم أن إصالح شؤون النوع اإلنساني ضريبة تغني عن ضريبة الذرية في بعض‬ ‫األحوال – فأين ترانا نجد تلك الضريبة في أرفع حالة وأغلى قيمة إن لم نجدها في رسالة نبوية‬ ‫تتناول األجيال بعد األجيال‪.‬‬

‫‪ | 58‬ا ل ص ف ح ة‬


‫األب الثكول‪:‬‬ ‫محمد كان أصلح اآلباء‪ ،‬ثم فجع في بيته فجيعة ال يدارى فيها ألم اإلنسان إال صبر‬ ‫األنبياء‪ ،‬كيف تكون تلك األبوة في نفس صلحت للصداقة وصلحت للسيادة وصلحت‬ ‫للزوجية‪ ،‬ألنها تصلح للعطف الذي يعم القريب والغريب ويشمل القوي والضعيف‪.‬‬ ‫ذلك أب نعلم كيف يفرح بأبنائه وكيف يحزن حين يفجع في أولئك األبناء؟‬ ‫لقد مضى نيف وعشرون سنة لم تلد خاللها زوجة من زوجاته ومات في هذه الفترة كل أوالده‬ ‫ماعدا فاطمة رضى هللا عنها ماتت بعده بقليل‪ ،‬فجيعة تضاعف الشوق إلى الوليد المأمول‪.‬‬ ‫ولسنا ندري لما طالت الفترة التي مضت على أزواج النبي جميعًا بغير عقب‪ ،‬ولكن ال نستعبد‬ ‫تعليها باجتماع المصادفات التي ال يندر أن تجتمع في أمثال هذه األحوال‪ ،‬اجتماع هذه المصادفة‬ ‫ليست بالعجيبة المعضلة التي يصعب تعليلها إذا تذكرنا أن النبي قد توخى في اختيارهن تلك‬ ‫األغراض العامة – وهي اإليواء الشريف والمصاهرة ‪ -‬ولم يتحرى منها النسل خاصة‪ ،‬بعضهن‬ ‫– بل معظمهن – قد لقين من الشدائد والمخاوف وعناء الهجرة البعيدة‪ ،‬ما يعقم الولود‪.‬‬ ‫وإذا أضفنا إلى ذلك معيشة الكفاف وضريبة العظمة النبوية واشتغال النبي بتعزيز الدين وقمع‬ ‫الفتن ودرء األخطار – لم يكن فهم تلك الظاهرة الحيوية باألمر العصي على التعليل‪.‬‬

‫‪ | 59‬ا ل ص ف ح ة‬


‫حزن األبوة‪:‬‬ ‫طال اشتياق النبي إلى الوليد المأمول‪ ،‬وتجدد اشتياقه في أثر كل زواج حتى‬ ‫جاءته مارية القبطية من قطر بعيد‪ ،‬فبشرت النبي بعقب لعله غالم‪ ،‬واجتمع‬ ‫في هذه البشارة اشتياق نيف وعشرين سنة ورجاء ال ينتهي بانتهاء الزمان‪.‬‬ ‫وولد إبراهيم‪.‬‬ ‫ولد الطفل الذي نظر أبوه إليه يوم مولده فامتد به األمل مئات السنين‪ ،‬وتخير له االسم الذي‬ ‫وراءه أعقاب كأعقاب جده األعلى‪.‬‬ ‫ومات ذلك الطفل الصغير‪ ،‬ومات ذلك األمل الكبير‪.‬‬ ‫مات كالهما واألب في الستين‪ ،‬أي صدمة في ختام العٌمر؟‬ ‫ما تخيلت محمدًا في موقف أدنى إلى القلوب اإلنسانية من موقفه على قبر الوليد الصغير ذارف‬ ‫عا هلل‪.‬‬ ‫العينين مكظوم الوجه ضار ً‬ ‫وفضل النبي في نبوته وفي أبوته أنه حزن وبكى وتلك هي الصلة بينه وبين قلب اإلنسان‪،‬‬ ‫وبمقدار الفرح الطهور يوم االستقبال كان الحزن الوجيع يوم الوداع‪ ،‬خرج يتوكأ على صديق‬ ‫عطوف إلى حيث يحمل الوليد في حجره األبوي قبل أن يودعه حجر التراب‪ ،‬وكان يستقبل‬ ‫الجبل بوجهه وقال‪ :‬يا جبل! لوكان بك مثل ما بي لهدك‪ ،‬ولكن إن هلل وإن إليه راجعون‪.‬‬ ‫وصرخ أسامة حين بكى رسول هللا‪ ،‬فنهاه الرسول وقال‪ :‬البكاء من الرحمة والصراخ من‬ ‫الشيطان‪.‬‬ ‫حزن كما ينبغي أن يحزن‪ ،‬اما الحزن الذي ال ينبغي له فهو الصراخ الذي نهى عنه‪.‬‬

‫‪ | 60‬ا ل ص ف ح ة‬


‫أكرم اآلباء‪:‬‬ ‫رأينا محمدًا مثال األب يوم ولد له إبراهيم‪ ،‬ومثال األب يوم ذهب عنه إبراهيم‪ ،‬أرأيت‬ ‫إلى الحسن بن فاطمة وقد دخل عليه وركب ظهره وهو ساجد في صالته؟ ويسأله‬ ‫الصحابة‪ :‬لقد أطلت سجودك؟ فيقول‪ :‬إن ابني ارتحلني فكرهت أعجله!‬ ‫أرأيت إلى حنان يفيض على القلب كحنانه حين يرى فتاة تشبه أباها في مشيته وسمته!‬ ‫تلك فاطمة التي خصها بمناجاته في غشية وفاته‪ ،‬إني مفارق الدنيا – فتبكي – إنك الحقة بي‬ ‫فتضحك‪ ،‬في هذا الضحك وفي ذلك البكاء على برزخ الفراق بين الدنيا واآلخرة أخلص الود‬ ‫والحنان بين اآلباء واألبناء‪ ،‬سرها بنبوته وسرها بأبوته‪ ،‬فضحكت ساعة الفراق ألنها ساعة‬ ‫الوعد باللقاء‪.‬‬ ‫وكذلك فارق الدنيا أكرم األنبياء وأكرم اآلباء‪.‬‬

‫‪ | 61‬ا ل ص ف ح ة‬


‫في الخثام‪:‬‬ ‫قد تكون وجدت ضالتك في هذا الكتاب أو معلومة قد سرقت لب قلبك وربما اقتبست‬ ‫منه نورا يشع بك‪ ،‬فهل تشارك اآلخرين هذا النور عبر حسابنا فنضيء جميعا؟‬

‫‪ | 62‬ا ل ص ف ح ة‬


‫‪ | 63‬ا ل ص ف ح ة‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.