التخلف األجتماعي مدخل الى سيكولوجية اإلنسان المقهور
د .مصطفى حجازي
3
الفهرس م 1 2
المحتوى المقدمة الفصل األول ( المالمح النفسية للوجود المتخلف)
رقم الصفحة 3 4
3
الفصل الثاني ( الخصائص النفسية للتخلف)
9
4
الفصل الثالث ( العقلية المتخلفة)
14
5
الفصل الرابع ( الحياة الالواعية)
24
6
الفصل الخامس ( االنكفاء على الذات)
29
7 8
الفصل السادس ( التماهي بالمتسلط) الفصل السابع ( السيطرة الخرافية على المصير )
36 39
9
الفصل الثامن ( العنف )
46
10
الفصل التاسع ( وضعية المرأة )
57
11
الخاتمة
68
2
المقدمة أصبحت الكتابات حول التخلف من أوائل الخمسينيات غزيرة نظراً لبروز ظاهرة الدول المستقلة حديثا ً اتخذت هذه الدراسات وجهات متعددة وتركزت حول اإلقتصاد والصناعة والعناية بالسكان ( صحة ،تعليم ،تغذية ،إعمار ) فنشأ علم االقتصاد وعلم وجه إلى البنى االقتصادية والسياسية واإلجتماعية . اجتماع التخلف ،ولكن اإلنسان المتخلف لم يعط االهتمام نفسه الذي ّ يعاش التخلف على المستوى اإلنساني كنمط وجود مميز ،واإلنسان المتخلف منذ أن ينشأ يصبح قوة فاعلة و مؤثر في البنية االجتماعية ،فالعالقة جدلية بين السبب والمسبب . انطلق دارسي التخلف وعلماء التنمية في مشاريع تنموية طنانة ذات بريق ووجاهة قائمة على دراسات ومخططات جزئية ، ووضعت خطط مستوردة عن نماذج طبقت ونجحت في بلدان صناعية ولكن مسيرة هذه الخطط قد أخفقت ولم تخط بعيداً ،ذلك ألن إنسان هذه المجتمعات لم ينظر إليه باعتباره عنصراً أساسيا ً ومحوريا ً في أي خطة تنموية . من هذا المنظور تنبع أهمية محاولتنا لدراسة نفسية اإلنسان المتخلف ،فظاهريا ً حياته تبدو متشتتة ولكنها تنتظم في وحدة قابلة للفهم حوليا يتلخص وجود اإلنسان . التكوين النفسي والذهني لإلنسان المتخلف بد يناميكيته الخاصة و األساليب المتنوعة التي يجابه بها مأزقه الوجودي يشكال قسمي هذا البحث ،ففي القسم األول ترسم المالمح النفسية و األساسية لإلنسان المقهور ،أما القسم الثاني نستعرض أهم األساليب الدفاعية التي يجابه بها وضعيته ويتضح من هذين القسمين أن حياة اإل نسان المتخلف أبعد ما تكون عن العشوائية والتشتت اللذان يميزانها ظاهريا ً و رغم أن الحديث يدور حول اإلنسان المتخلف بشكل عام إال أن المادة مستقاة أساسا ً من اإلنسان اللبناني خاصة و العربي عامة ،وبالطبع ال ينطبق كل ما سيقال عن كل لبناني او عربي .إن انفجار الع نف في لبنان وما يحيط به من ظروف يعتبر فرص لمناقشة ما يعمل في بيئة المجتمع المتخلف ،ويتبين لنا ما يعترض له اإلنسان في ذلك العالم من قهر هذه المحاولة بما فيها من ثغرات تطمح إلى فتح الطريق أمام أبحاث نفسية ميدانية تحاول فهم اإلنسان المتخلف . روافد المعرفة ب ادرة فريدة ومتميزة تهتم بتلخيص الكتب اإلثرائية والمعرفية بمختلف المجاالت كالتنمية البشرية وعلم النفس والكتب الثقافية المختلفة . يرنو مشروع روافد المعرفة أن يكون األول من نوعه في تلخيص الكتب المعرفية على مستوى الوطن العربي . نتمنى لكم يوما ً ممتعة ..
3
الفصل األول
المالمح النفسية للوجود المتخلف
4
المالمح النفسية للوجود المتخلف مقدمة الفصل : برز مصطلح التخلف بعد نهاية الحرب الكونية الثانية عند اإلستقالل من اإلستعمار ابتداء من الخمسينات وتجمعت حوله األبحاث والمقاالت حتى أنه صعب على الباحث تنسيقها ،إذ أن هناك خالف بين محكمات التخلف ومنظوراته وتعريفه . بسبب خوض أعداد من الباحثين فيها من مختلف التخصصات أصبح مصطلح التخلف ونظرية التنمية خاصة بوضعية بلدان العالم الثالث ،فالتخلف ليس اقتصادية محضة مرتبطة بنظرية اإلقتصاد التقليدي خارج إطار الزمان والمكان ،حيث أنه بعد اإلستقالل أخفق منطلق اللجوء الى الدينا ميات نفسها التي حركة العالم الصناعي وتأسيس األعمال والمشاريع الصناعية واإلنتاجية في بلدان العالم الثالث لكنها نجحت في البلدان الصناعية حيث ظن أنه يكفي الحصول على رؤوس األموال الكافية واألطر الفنية واإلدارة التقنية كي تبدأ التنمية لكنها عجزت عن تحريك المجتمع بأكمله ،هذا الفشل أطلق عليه ؛ دراسات التخلف والتنمية .. حيث اتضحت النوعية والخصوصية لهذه البلدان . والبد من وضع سيكولوجية خاصة للتخلف تكمل اقتصاده واجتماعه ،وقد اتضحت ضرورة التنسيق بين معطيات مختلف العلوم وتجاوز التفتت والبعثرة في دراسة الظواهر .
تمهيد الفصل : المهمة المطروحة أمامنا في هذا القسم هي رسم صوره نفسانية حية متكاملة وشاملة ما أمكن ،للوجود المتخلف إذ إن البنية اإلجتماعية المتخلفة التي تتخذ على المستوى المعاش نمطا من الوجود من النظره اليه وإلى الذات هي التي تحكم في النهاية على السلوك الفردي .وال يستقيم بحث في التخلف إال إذا أستوعب كال البعدين معا ً وهي محاولة مبدئية نجرب أن نجعلها تعكس غنى الواقع ما أمكن والقيمة األساسية في نظرنا هي شق طريق البحث النفساني في مسألة التخلف والبد أن تعكس الواقع وتعبر عنه . وينقسم حديثنا عن الوجود المتخلف إلى فصول أربعة يتكون منها هذا القسم األول . بعد فصل تمهيدي في تحديد التخلف وتعريفه ،والفصل الثاني الخصائص النفسية للتخلف ثم نتبعه بالحديث عن الخصائص العقلية للتخلف في الفصل الثالث أما الفصل الرابع فنعرض فيه بسرعه بعض ديناميات الحياة الالواعيه لإلنسان المقهور .وحتى نغطي أقصى درجة من الوضوح والبروز لخصائص الوجود المتخلف وأولياته الدفاعية البد من أن نركز حديثنا حول الفئة السكانية األكثر غبنا في سلم السيطرة والخضوع .
5
أوال ً :نظرية التخلف : انطلقت األبحاث حول التخلف من منظورات متنوعة .ولكن تقدم األبحاث يصب في أخذ الوضعية والبنية اإلجتماعية بعين االعتبار كي يصب في منظور عالئقي بين البلدان المتخلفة والمتقدمة واضعا اإلصبع على البعد السياسي الدولي والداخلي على أنها قضيه استغالل ومنبئا ًبجالء أن التخلف هو في النهاية ثمرة االستغالل واإلستبعاد والبد من اإلستعراض السريع لمختلف المنطلقات وتطورها قبل أن تحدد المنطلق النفساني لمسألة التخلف .
الطريقة السطحية في دراسة التخلف : الطريقة األكثر قدما ً وشيوعا ً لدراسة التخلف في رأي واضعي دائرة المعارف العالمية هي التعرف على الظاهرة بأغراضها ونموذج األبحاث والكتابات التي نشرتها األمم المتحدة .فمن مميزات التخلف الفقر ،حالة التغذية ،الحالة الصحية ،التعليم ، وأهمها متوسط الدخل الفردي وتنقسم البالد إلى عده فئات من األكثر تخلفا ً إلى األكثر تقدما ً بنا ًء على الدخل إال أن مؤشر الدخل القومي المقسم على عدد السكان مضلل جداً ،والدخل ال يتوزع بالتساوي مطلقا ً ،أما الكوست فيلخص المحكمات السطحية للتخلف في ثالثة ( الدخل القومي للفرد بالمتوسط ،الوحدات الحرارية المستهلكة في التغذية ،مستوى التعليم أو نسبة انتشار األمية ) لكنها ال تتوافق فيما بينها ومن رأيه أن الجوع هو أخطر أعراض التخلف ،وتزداد الخطورة بسبب التفاوت الهائل في المستوى المعيشي والغذائي للسكان فهذه الطريقة ال تشرح الظاهرة كنتاج للخصائص البنوية للعالم الثالث وال اآلليات التي أنتجت هذه البنى وتعرف الطريقة السطحية للتخلف أنها كظاهرة دونية فهو أقلّ تأمينا ً للحاجات الحيوية ومستوى انجازاته اإلقتصادية والتقنية منخفض ،ولكن هذا التعريف ال يستقيم نظراً لعدم توحيد المعايير وصعوبة المقارنة بين البلدان ولوجود بلدان غنية لكنها متخلفة اجتماعيا ً فالبد من دراسة نوعية البنى اإلقتصادية واإلجتماعية لبلد ما كي نحدد التخلف .
التخلف الصناعي والتقني : يميز فلوكو سكي بربط اإلقتصاد المتخلف بمستوى اإلنتاج وتطور أدواته أما البلد المتأخر فيتصف بالطابع السكوني لإلقتصاد وبالتالي إنخفاض مستوى القوى اإلنتاجية وبالتالي مستوى منخفض من وسائل العمل ومهارة اليد العاملة .وينتج عن هذين األمرين إنخفاض في الدافع إلى التوظيف بسبب قلة الربح ،ولقد أصبح واضحا ً لمعظم اإلختصاصيين صعوبة السير في الطريق التقليدي أي اإلكتفاء برأس المال والتقنية فالتصنيع كما يقول رستو ال تكفي وحدها لتصنيع بلد ما ،فالبلدان النامية يتصف التصنيع والتطور الزراعي بخصائص مميزه لم يسبق لها ،فالقطاع الوطني ذو إنتاج هزيل بالرغم من شغلة اليد الكبرى من العاملين المواطنين فالصناعة تظل موجهه نحو إنتاج السلع اإلستهالكية ال لتأسيس صناعة وسائل إنتاج تظل الصناعة معزولة وال يوجد تنسيق بين مختلف القطاعات الصناعية وفي الحالتين ال تؤدي إلى تحريك التصنيع بشكل عام ،أما في البالد المتقدمة فالتصنيع عكس ذلك تماما ً فهي شاملة ومتنوعة . 6
التخلف اإلقتصادي البنيوي : من وجهة النظر اإلقتصادية البنوية أبعد ما يكون عن السكون وديناميته تختلف عن دينامية البلدان المتقدمة فتتصف بنية اإلقتصاد المتخلف في رأي دائرة المعارف العالمية بمحكمات ثالث :التفاوت الهائل في التوزيع القطاعي لإلنتاج ،تفكك النظام اإلقتصادي والتبعية للخارج ويضيف إليها الكوست محكمات أخرى أهمها :تضخم قطاع الخدمات على حساب قطاع اإلنتاج .
1.2.2تفاوت التوزيع القطاعي لإلنتاج : يالحظ في البالد النامية وجود قطاعات إنتاجية متقدمة جداً في الزراعة والصناعة على حد سواء ولكنها محدودة يسيطر ويحضى بثرواتها قلة من الوجهاء المحليين فهناك غالبية ال تحضى إال بنشرة ضئيلة من الدخل تمارس أعماالً حرفية بدائية وأساليب زراعية متخلفة ذات مردود ضئيل مما يؤدي إلى التفاوت في البلدان النامية ينتج عنه تبخيس تدريجي للعمل في الريف وفي الحرف والهجرة إلى المدينة .
2.2.2تفكك الصالت في النظام اإلقتصادي : تتكامل قطاعات النشاط اإلقتصادي الثالثة في البلدان النامية ،قطاع اإلنتاج األولي ( معادن ،مواد أولية ) مرتبط بشكل وثيق ومتناسق مع القطاع الثاني (صناعة اآلالت والمواد االستهالكية ) وكالهما متوازن ومتكامل مع القطاع الثالث ( تجارة وخدمات ) أما في المجتمعات المتخلفة فتحل عكس ذلك من التفكك الذي يؤدي إلى طغيان القطاع التجاري على قطاع اإلنتاج الصناعي .
3.2.2التبعيه للخارج : يؤدي طغيان إنتاج المواد األوالية للتصدير واستيراد المواد اإلستهالكية وما يجرانه من تضخم لقطاع الخدمات والتجارة يؤدي إلى نشوء تبعية لإلقتصاد الخارجي وتستنتج دائرة المعارف العالمية من هذا األمر خالصة صريحة حوله أن التخلف من الناحية اإلقتصادية هو ألة النظام الرأس مالي العالمي إن له دوراً محدداً ووظيفة معينة في هذا النظام وكان هناك توزيعا ً دوليا ً للعمل لمصلحة الرأسمالية العالمية .
الطريقة اإلجتماعية في دراسة التخلف : بعد فشل محاوالت تطبيق نظريات علم اجتماع البلدان المتقدمة على بلدان العالم الثالث بدأت تظهر مالمح علم اجتماع خاصة بالبلدان النامية ومحكمات التخلف اإلجتماعية عديدة أهمها :المحكمات اإلقتصادية واإلنتاجية أما السكان فيتصفون بعدة
7
خصائص أولية أهمها على اإلطالق في نظر (الكوست ) اإلنفجار السكاني الذي يستهدف العالم الثالث بعد الحرب العالمية الثانية وهناك اختالالً متزايداً في التوازن بين عدد السكان والمواد المتوفرة ،ويؤدي إلى مآزق إقتصادية وإجتماعية متنوعة بسبب األمية وسوء التغذية وقلة العناية الصحية والنظافة بالتالي انتاجية أقل رغم أن هذا الباحث يؤكد على خصائص هامة للبلدان النامية من حيث تحكم المرتبة الجامدة فيها وانشار بنى التسلطية ،فإن الكثيرين يردون عليه بالتقليد والسلفية .
ثانيا :المنظور النفساني للتخلف : المنطلقات التقنية واإلقتصادية واإلجتماعية ،السطحية منها والدينامية أكدت على نوعية وتركيب البنى المختلفة وأهملت البنى الفوقية ( النفسية -العقلية -القيم الموجهة للوجود) فالبد من أن ترافقها فهي تنتج عنها وتكملها فهذه البنية تتلخص في خلق أنماط البشر وأنماط من الوجود متميزة بطابع التسلط والرضوخ ،تشكل مصدراً هاما ً لمقاومة التغيير والتخلف نفسيا ً هو من الوجود أسلوب في الحياه تنبت في كل حركة أو تصرف في كل ميل أو توجهه ونظرته إلى الهدف من حياته . هو يتجاوز إذا إلى حد بعيد مسألة التكنولوجيا واإلنتاج ليتمحور حول قيمه الحياة اإلنسانية والكرامة البشرية كل هدر لها أو تحويل إلى أداة تخلف سيكولوجية اإلنسان المقهور أو المشيأ . معيار التخلف ومستواه يبرز من خالل بحث حالة بحجم أقل فئات الناس حظا ً على مستوى كوني ذلك هو المعيار الحقيقي وأما التقدم المادي مهما بلغ مستواه ليس سوى مظهر جزئي ال يجوز أن يخفي المشكلة الحقيقية .
8
الفصل الثاني
الخصائص النفسية للتخلف
9
الخصائص النفسية للتخلف
مقدمة الفصل : تطرح علينا الدراسة النفسية المتخلفة مهمة منهجية ذات وزن ،إذا أردنا أن نعطي عنها صورة دينامية متماسكة تجمع الشتات الظاهري . لدينا منهجان ديناميان يتكامالن جدليا ً يغطي كل منهما ً وجها ً أساسيا ً من وجوهها . األ ول هو المنهج االنبنائي الذي يجمع هذا الشتات الظاهري ،في شبكة متناسقة ذات معنى ،هي نمط الوجود المتخلف . والثاني هو المنهج التاريخي الذي يتتبع خصائص هذا الوجود الغالبة في كل مرحلة من مراحل تطوره .إذ أن النفسية المتخلفة متغيرة ومتطورة زمنيا ً . ال غنى وال أسبقية ألحد المنهجين عن األخر .ينطلق كالهما من محور أساسي يؤلف لب الوجود المتخلف ،وهو عالقه التسلط والرضوخ ،عالقة السيطرة والقهر التي تجعل اإلنسان المقهور المعبر األفصح عن التخلف من الناحية النفسية .كل الخصائص النفسية التي سنتحدث عنها هي مظاهر متنوعة لهذه العالقة ،نتاج لها ،رد فعل عليها أو دفاع ازائها .هذه العالقة تخلق نمطا ً من الوجود متطوراً بدرجات مختلفة السرعة تاريخيا ً .وفي كل مرحلة تطغى على بنية هذا الوجود سمات بارزة تميزها عن غيرها من المراحل .
عالقه القهر : يعيش اإلنسان المقهور في عالم من ا لعنف ،عنف يأتي من الطبيعة وغوائلها التي ال يستطيع لها ردعا ،والتي تشكل تهديداً فعليا ً لقوته وأمنه وصحته هذا العنف يجعله يعيش في عالم الضرورة في حاله فقدان متفاوت في قدرة للسيطرة على مصيره أنه اعتباط الطبيعة عندما تقسو دون أن يجد وسيلة لحماية ذاته .يع يش اإلنسان المتخلف في حالة تهديد الطبيعة الدائم الصريح لدى اإلنسان المتخلف ميل سحري النسته الطبيعة أنه يصورها على غرار األم الرحوم المعطاة تارة وعلى صوره األب القاسي العتيق تارة أنه يعيش بشكل نكوصي كل القلق والمخاوف التي عانها في طفولته من خالل اإلحباط أو اإلهمال أو القسوة التي ألمت به .
10
اعتباط الطبيعة الراهن يحرك ويثير كل مشاعر العنف وهو عنف بدائي وطفولي مع محاوالت سحرية إلدخال بعض التنظيم هذا االعتباط للسيطرة عليه من خالل االستكانة للمكتوب أو التبرير .عالقه القهر أو الرضوخ تجاه الطبيعة عالقة العنف الكامل بينه وبينها تضاف إلى قهر من نوع أخر ،قهر إنساني . اإلنسان المتخلف هو في النهاية اإلنسان المقهور أمام القوة التي يفرضها السيد عليه أو المتسلط أوالحاكم المستبد أو غيرهم فال يجد هذا اإلنسان المقهور سوى الرضوخ والتبعية والدونية ان عالم التخلف هو عالم التسلط واال ديموقراطية فتنعدم فيه اإلنسانية لتقوم مكانها عالقة التشيؤ ف يصبح كل ما يتعلق به ( غبن – اعتداء – تسلط –استقالل – قتل – إلخ ) نجد نموذجا لذلك في التسلط االقطاعي أو التسلط االستعماري ،فالتفاهم هنا بلغة السياط بال حقوق فالحق هو حق السادة والحياة فقط فيدخالن في وعيهم أنهم ليسو بأناس إنما هم أشياء .من األمثلة البارزة نظرة االمبرالية الصهيونية إلى العرب فكل تلك األنظمة تفقده الشعور األساسي باألمن والسيطرة على مصيره وتجعله نهبا ً لالعتباط والقلق فكل هذه الخصائص تتبع من هذا الواقع المحوري :التسلط واالستك انة وانعدام األمن فإذا أخذنا بالمنهج التاريخي نجد أن واقع اإلنسان المتخلف ينظم في أنماط ثالثة من الوجود من مرحلة الرضوخ إلى مرحلة التمرد والثورة مروراً بمرحلة اضطهادية وسنجد أن لكل مرحلة بنيتها النفس إجتماعية وخصائصها المميزة التي تعكس بمجموعها جانبا ً من الوجود المتخلف .
أوال :مرحلة القهر والرضوخ : خالل هذه المرحلة التي تمتد زمنا ً طويالً نسبيا ً يكون االنحطاط والتسلط والرضوخ في أشدهم وتكون الجماهير في حالة قصور واضح في درجة التعبئة التي تؤهلها للرد والمقاومة ،انها لم تستطيع الغوص في وجدان هذه الشعوب المقهورة كي تتلمس بذور التمرد واالنتفاضة ولكن بين هذه االنتفاضة وبداية عملية القهر اإلنساني تعيش الشعوب المتخلفة ليالً طويالً تجتر خالله مأساة المعاناة الوجودية . أبرز مالمح هذه المرحلة ؛ اجتياف عملية التبخيس التي غرسها المتسلط في نفسية هذه الجماهير تنقل عدوانية وقهر ذاتي على شكل مشاعر أثم ودونية فيزدري إنسان العالم المتخلف ذاته ويخجل منها ويصيب المرأة واالتباع في عملية التحقير هذه فما يلقاه من تبخيس ومهانه وما يفرض عليه من تبعية يعود فيمارسه على زوجته ومن هم في أمرته ،فتكثر في هذه الحالة الميول االنتحاري ة فالمقهور متربص دوما ً للمتسلط كي ينال منه ،فهذه الوضعية العالئقية وما يتبعها من احساس بالعجز أمام المصير المهدد دوما ً وانعدام مشاعر األمن تجاه قوى الطبيعة تؤدي إلى بروز مجموعة من العقد تمييز حياة المقهور أهمها عقدة النقص والعار .
عقده النقص : يعيش في حاله تهديد دائم لألمنة وصحته وقوته وعياله فيفتقر إلى ذلك اإلحساس بالقوة والقدرة على المجابهة الذي يمد الحياة بنوع من العنفوان ويدفع الى اإلحترام والمجابهة وتنعدم ثقته بنفسه فعقدة النقص تجعل الخوف يتحكم باإلنسان المقهور ، الخوف من السلطة وقوى الطبيعة والمجابهة وشرور اآلخرين . 11
وتتجلى عقده النقص بوضوح ظاهر في موقف اإلنسان المقهور من العلم والتكنولوجيا فيضع نفسه في وضعية العاجز عن استيعاب التكنولوجيا الحديثة فال شك أن الفئة المتسلطة بغية استمرار تسلطها تعمل على تغذية عقدة النقص والعجز لدى هذه الجماهير حتى تظل على استكانتها وتبعيتها وليس هناك من سبيل أمام هذه الجماهير اال القبول باألمر الواقع .
عقدة العار : عقدة العار هي التتمة الطبيعية لعقدة النقص ،اإلنسان المقهور يخجل من ذاته ،يعيش وضعه كعار وجودي يصعب احتماله . هاجس الفضيحة يخيم عليه ( فضيحة العجز أو الفقر أو الشرف أو المرض ) حساسيته مفرطه جداً لكل ما يهدد المظهر الخارجي الذي يحاول أن يقدم نفسه من خالله لآلخرين ولكن الرجل المقهور يسقط العار أساسا على المرأة ليست عقده العار وفقا على الفئة المقهورة بل هي عامة في المجتمع وكما أن اإلنسان المقهور يتشفى من المرأة كي يستر عاره كذلك يشتط المتسلط في فرض سلطاته وبطشه على المستضعفين من الناس ،من خالل بطشه يحس بالمتعة والقوة ،ساتراً بذلك نقصه وعاره .
-3اضطراب الديمومة : وجود اإلنسان منغرس في المكان وصائر في الزمان .والبد للسلوك من أن يتكيف ويصل مرتبه الخلق .مع التوافق مع جدليه الزمان والمكان هذه ومالئمتها بدورها للمشروع الوجودي .والتقدم ،من حيث السيطرة على المصير ازاء قانون الطبيعة وقانون السلطة ،يتلخص في مدى السيطرة على الزمان والمكان .وبالتالي فالتخلف يبدو من هذه الزاوية كعجز متفاوت الدرجة عن هذه ا لسيطرة .عجز اإلنسان المتخلف عن التحكم بمصيره مرتبط بوثوق ،باضطراب الديمومة .ونقصد بهذا المصطلح ان الزمان جدليا ً وليس تسلسليا ً يذهب من الماضي إلى المستقبل ،مروراً بالحاضر باتجاه واحد جامد .وهي جميعها تشكل األبعاد الثالثية للديمومة أي للتجربة الوجودية المعاشة زمنيا .إن طول معاناة اإلنسان المقهور ،ومدى القهر والتسلط الذي فرض عليه ،ينعكس على تجربته الوجودية للديمومة على شكل تضخم األيام الماضية ،وتأزم في معاناة الحاضر وانسداد آفاق المستقبل .فينعدم الشعور باألمن والثقة بالنفس وتنعدم الضمانات المستمرة فيحاول الهروب للماضي ،وتتفاعل عقده النقص والعار واضطراب الديمومة فيما بينها ،مما يزيد حدتها ووطأتها لدرجه يصعب احتمالها .وهي ال تسمح لإلنسان المقهور باإلحتفاظ بالتوازن النفسي الضروري ،كيما يتمكن من اإلستمرار في العيش فالبد للتوتر أن يزداد وللعدوانية أن تتراكم .وهنا يدخل في زمن االضطهاد قبل الوصول إلى مرحلة التمرد واإلنفجار
12
ثانيا :مرحلة االضطهاد : يشكل الموقف االضطهادي من اآلخرين والطبيعة ،مرحلة وسطى بين حالة الرضوخ ومرحلة التمرد واالنتفاض ويتداخل مع كل من المرحلتين السابقة والتالية .فتالحظ هناك حاالت رضوخ اضطهادي على طرف ،يقابلها حاالت اضطهاد تمردي على الطرف االخر . وتتوقف هذه المرحلة من حيث امتدادها وشدتها على نوعية بنية المجتمع من ناحية وعلى المعادلة الشخصية للفرد تبعا لقواه النزوية وتركيبه النفسي من ناحية ثانيه . مع بروز التياراالضطهادي تكون ا لحالةالنفسية لإلنسان قد بلغت درجة عالية من التوتراالنفعالي والوجودي العام يدخل في مرحلة من الغليان الداخلي للعدوانية التي كانت مقموعة بشدة ،لب الشعور االضطهادي هو التفتيش عن مخطئ يحمل وزر العدوانية المتراكمة داخليا .فبذلك هو ال يستطيع ال يكتفي بذاته ويصاب بذعر ال يمكنه احتماله تلقى إذا عالقات االضطهاد ، مسؤوليه فشل تحقيق الذات الذي يعاني منه اإلنسان المقهور على اآلخرين خصوصا ( األقران والمشابهين ) فيصب عليهم العدوانية المتراكمة فلذلك الحل االضطهادي يظل واهيا والبد من فتره تطول أو تقصر من الوعي بمصدر المأساة الحقيقي وهو المتسلط الداخلي وحليفه الخارجي .وال بد بالتالي من توجيه العدوانية والعنف نحو هذا المصدر ،بعد فتره إعداد واختمار تنضج خاللها إمكانيه التمرد واإلنتفاضه .
ثالثا :مرحلة التمرد والمجابهة : العنف المسلح هو السبيل الوحيد ليتخلص الشعب المقهور م ن عقدة النقص والجبن والخوف التي غرسها اإلستعمار الغربي في عروقه .إنه أيضا من خالل العنف الثوري يحقق الشعب ذاته ،وينقي نفسه من الكسل والخبل واالتكالية ويتضح للشعب المقهور أن العنف المسلح هو السبيل الوحيد لكي يعبر عن نفسه وعن حقه في الوجود .إن الحاجه إلى قهر الموت هي المدخل الى عملية التحرير ففي ذلك انتصار على الخوف واالستكانة واليأس ومن خالل السالح داللة مبالغا ً فيها تكاد تكون سحرية فهو درع وحماية ،وهو رمز الوجود الجديد .ومن خالل عملية التماهي هذه تكسب الجماهير شيئا ً من الثقة و اإلمكانات الذاتية فبدل ع قدة النقص تبرز عقدة التفوق واالستعالء وبدل العجز واالستسالم تبرز عقده الجبروت لكن من األخطار التي تنتشر في هذه المرحلة نظراً لغياب األطر المرجعية الجديدة (التغيرية )وعدم حلولها محل األطر المرجعية السابقة ،استمرار هذه األطر ، وممارسة العمل المسلح من خالل مر تبية التسلط والرضوخ .فالتخلف ظاهرة كلية وعالجها يجب أن يكون شموليا ً وأشد نقاط المقاومة استعصاء على التغيير هي البنية النفسية التي يفرزها التخلف ،بما تتميز به من قيم ونظرة إلى الكون .فكما أن اآللة نتاج التقنية المتقدمة ،قد يعاد تفسيرها كي تستخدم بشكل خ رافي أو سحري في البلد النامي ،كذلك عملية التغيير الجذري (الثورة) قد يعاد تفسيرها كي تمارس من خالل األطر المتخلفة وتفقد بالتالي قدرتها التغييرية .
13
الفصل الثالث العقلية المتخلفة
14
العقلية المتخلفة
الحديث عن العقلية المتخلفة يتض من مرحلتين .األولى رصد المالمح والخصائص األساسية ،أما الثانية فهي محاولة بحث األسباب والقوى المولدة لهذه العقلية ،التي تغذيها وتعمل على استمرارها .
أوالً :الخصائص الذهنية للتخلف المالمح الذهنية للتخلف متعددة متنوعة وقابلة لالنتظام في موضوعات أساسية ،وأخرى متفرعة عنها تبعا َ للمنظور الذي يتخذه الباحث .
-1الخصائص الذهنية المنهجية تتلخص في أمرين أساسيين :اضطراب منهجية التفكير من ناحية ،وقصور الفكر الجدلي من ناحية ثانية .ويتلخص الخلل في الحالتين بصعوبة السيطرة الذهنية على الواقع .هناك عجز عند اإلنسان المتخلف ( المقهور خصوصا َ ) إزاء ظواهر الطبيعة والحياة والعالقات ،تجعله راضخا َ مستسلما َ تجاه ما يبدو عليها من غموض وتداخل .تبدو له ظواهر الحياة والمجتمع أقوى من طاقته على االستيعاب .ذلك أمر مرتبط بعقدة النص . ومن وجهة نظر التحليل النفسي يأخذ األمر على المستوى الالواعي طابع الخصاء الذهني) (Castration mentale الذي يميز حاالت الضعف العقلي الزائف. ويتلخص الخصاء الذهني بنوع من صد القدرة على الفهم ،بنوع من العجز و توكيد الذات في مواجهة العالم .أما من الناحية اإلجتماعية فيرجع األمر إلى رضوخ اإلنسان المتخلف العتبا ط قوى الطبيعة ،وتسلط الفئة المسيطرة .هذا الرضوخ هو المسؤول عن توليد حالة الخصاء الذهني والتي نحن بصددها ،والتي تشكل االمتداد النفسي لوضعية القهر االجتماعي .
اضطراب منهجية التفكير : أول ما يطالعنا في اضطراب منهجية التفكير هو سوء التنظيم الذهني في التصدي للواقع .تقترب الذهنية المتخلفة من الواقع وتتعامل معه دون خطة مسبقة ذات مراحل منطقية واضحة سلفا َ .الفوضى والعشوائية والتخبط والمحاولة شبه العمياء هي المميزة .وهكذا فبدالَ من تنظيم الواقع والسيطرة عليه تزيد من حدة ما يبدو عليه من فوضى وانعدام في التماسك . بينما نرى العقلية المنهجية تتقيد عادة بعدة خطوات في بحثها ألي مسألة ،يبدأ األمر بمحاولة تعريفها بأكثر ما يمكن من الدقة والوضوح ،ثم نحدد الهدف المطلوب الوصول إليه من هذا البحث .بعد التعرف وتحديد الهدف تأتي خطوة بحث المشكالت التي تتضمنها .وهذه تقسم إلى أ ساسية وثانوية مع تبيان العالقة بين الفئتين .الخطوة التالية هي جمع المعلومات والمعطيات المتوافرة
15
عن المسألة في مختلف جوانبها ومستوياتها .وفرز هذه المعلومات من حيث أهميتها ومدى تمثيلها للواقع .عند هذا الحد يصبح ممكنا َ طرح تصورات متعددة عن الحلول األنسب تبعا َ للهدف المقرر .هذا الطرح يتلوه مناقشة كل حل ومدى فعاليته ،وما يعترضه من صعوبات وما يتضمن من تسهيالت .وانطالقا َ من هذه المناقشة للحلول يمكن ترجيح الحل األنسب تبعا َ إلطار المشكلة وظروفها من ناحية ،وللهدف المحدد من ناحية ثانية .وأخيراَ ترسم خطوات ومراحل التنفيذ وأدواته وأساليبه .طبعا َ ال يأخذ األمر دوما َ هذا التسلسل المنهجي المتين .إنما في الذهنية المتقدة هناك باستمرار تنظم للتفكير واسترشاد بإطار منطقي يمكن للباحث من العودة إلى الطريق السليم ،إذا انجرف في اعتبارات جانبية. أما الذهنية المتخلفة فهي تغرق في التخبط عند كل مرحلة من المراحل السابقة .كما تقفز من مرحلة أولية إلى مرحلة نهائية كي يتضح لها العجز عن متابعة السير ،وتظل هكذا بين إقدام و إحجام ،ال تستطيع أن ترجح حالَ عن آخر .وهي إن فعلت فأغلب الظن نتيجة لتدخل عوامل ذاتية وانفعالية أكثر منها مراعاة العتبارات منطقية . ومن هنا ندرك مدى الهدر في الوقت والجهد الذي تتعرض له العقلية المتخلفة ،نظراَ الفتقار الحلول إلى المتانة والمنطقية. وال يتوقف هذا التخبط والمحاولة و الخطأ على بحث األمور النظرية ،بل هو النمط الشائع في التصدي للحياة بقضاياها اليومية. وإذا كان التخبط واعتباطية االلتماس يميزان أسلوب الفئات غير المتعلمة ،فإنهما ال يقتصران عليها مطلقاَ .إنهما على درجة كبيرة من االنتشار بين أغلب فئات المتعلمين ،حتى أولئك الحاصلين على الدرجات الجامعية . يمكننا القول إن العجز المنهجي هو العقبة األساسية التي يصطدم بها الراغب في القيام ببحث علمي ،يبدو القصور مذهالَ على هذا المستوى ،وهو الذي يصرف غالبية هؤالء عن متابعة مشاريعهم ،بعد نجاحهم في امتحان الدروس النظرية ،عندما نطلب إلى الواحد منهم وضع تصميم للموضوع الذي اختاره يعجز عن تحديد ماذا يريد أن يبحث وكيف . ال يقتصر األمر على الطالب ،بل نجد الكثير من المؤلفين الجامعيين يفتقرون إلى الدقة والتنظيم المنهجي في كتاباتهم .إنهم يذهبون في كل اتجاه ،ويتحدثون عما يالئم وماال يالئم الموضوع ،ويقعون في التكرار مما يجعل كتاباتهم أقرب إلى تكديس المعلومات منها إلى تنسيقها . إن تحليل الظواهر عمقا َ واتساعا َ هو الشرط األساسي للسيطرة على الواقع .وبمقدار عمق التحليل ترتقي االستنتاجات .يعجز الذهن المتخلف عن الذهاب بعيداَ في تحليله لألمور ،ألنه ال يدرك أن لكل ظاهرة مستويات متعددة من العمق واالتساع وأنها تبدو مختلفة تبعا َ لك ل مستوى .والخطر كل الخطر هو االكتفاء بالمستويات الخارجية التي تشكل عادة قناعا َ يخفي الحقيقة بقدر ما يعبر عنها .خطر هذا الموقف المتسرع ،يتلخص بإطالق األحكام القطعية والنهائية بشكل مضلل ،فالحقيقة نسبية دائم اَ وقيمتها رهن بالمستوى التحليلي الذي بنيت على أس اسه .كل حقيقة تخفي وراءها أخرى أكثر محورية منها .كل حقيقة بهذا المعنى قناع ،البد من تجاوزه عمقا َ واتساعا َ إذا أردنا االرتقاء بالمعرفة اإلنسانية للوجود. إن الذهن المتخلف العاجز عن الغوص في تحليل الظواهر عمقا َ واتساعا َ ،مصاب بنوع من الصد المعرفي ،شيء يسمى في علم النفس باسم ( الحشرية الممنوعة ). فهو أسير النقاط العمياء في عملية اإلدراك التي تظل قاصرة ومليئة بالثغرات. ال يقف األمر عند حدود العجز عن التحليل الشامل ،بل يتخذ مظهراً آخر هو صعوبة االنتقال من هذا التحليل إلى مرحلة 16
التوليف .ليس للتحليل من قيم عملية إال بالقدر الذي يسمح معه بالخروج بتصورات متماسكة عن الواقع ،تؤدي إلى قرارات ومواقف فعالة .وكما أن هناك عجزاَ في استعراض مختلف جوانب الظاهرة ،فهناك أيضا َ عجز في الربط بينها في وحدات كلية ،وعجز في إعادة ترتيبها في صيغ جديدة. العقل المتخلف يعاني من صعوبات في االنتقال من مرحلة التفصيالت ،إلى مرحلة التنسيق الكلي .ويرتبط هذا األمر بخاصية الجمود والقطعية التي يبدو أنه يتصف بها .فهو يعمل ،كما سنرى في الفقرة التالية تبعا َ لمبدأ ( إما ،أو )عاجزاَ عن جمع الطرفين معا َ. وبهذا المعنى فإن الذهن المتخلف يعا ني من قصور الفكر النقدي ،إنه متحيز بشكل تلقائي نظراَ لتدخل العوامل اإلنفعالية والعاطفية في أوالية التفكير .وهو قطعي في تحيزه ،فإما أن يكون مع أو ضد أمر ما .ويبدو قصور الفكر النقدي بالتالي من خالل العجز عن الجمع في سياق واحد بين األوجه الموجبة واألوجه السالبة لمسألة ما ،بين المميزات والعيوب. وباإلضافة إلى عمليات التحليل والتوليف ،وقصور التفكير النقدي ،يتسم الذهن المتخلف بانعدام المثابرة .التركيز على التفكير في أمر ما محدود زمنيا َ ،سرعان ما يداخله التعب والتشتت ،ينطلق بحماس كبير ولكنه يفقد حماسه بالسرعة نفسها التي بدأ فيها .إن حماسه والتزامه بال غد .ولذلك تكاد الخطط بعيدة المدى تصبح مستحيلة .وال قدرة له على الجهد الطويل النفس المركز حول المسألة نفسها . ومن السمات البارزة أيضا َ للعقلية المتخلفة في تقديرنا ،انعدام الدقة والضبط في التصدي للواقع ،وفي تقدير األمور .كل شيء يظل على مستوى التقدير اإلجمالي واالنطباع العام .الدقة الرياضية ال مجال لها في العالم النامي .كل شيء عرضة للتهاون والتراخي والتساهل حتى االستهتار. تتلخص كل الخصائص السابقة في العجز عن التخطيط ،فالذهنية المتخلفة تنظر إلى الواقع بشكل تجزيئي زمانيا َ ومكانيا َ .من الناحية الزمانية يغلب عليها التركيز على الحاضر ،االنحسار ضمن حدود آنية ،األفق المستقبلي يظل ضيقا َ وال يصل مستويات بعيدة المدى .بينما يخطط العالم المتقدم لعدة سنوات وحتى لعشرات السنين مع تقسيم للمراحل ،نجد العالم النامي يعيش ليومه. يالحظ أحيانا َ نوع من الحماس للتخطيط فتوضع خطط ولكن ندر أن تنفذ ،ومن األندر ،إذا نفذت .يالحظ هنا أن المسؤولية ال ترجع فقط إلى قصور القدرة على التخطيط ،بقدر ما ترجع إلى انعدام رغبة من هم في موقع المسؤولية في التنفيذ .توضع الخطط إليهام الجمهور بمستق بل يضع حداَ آلالمه ،وتظل النهاية من نوع اإللهام وامتصاص النقمة . إن اآلنية ،العيش في الحاضر وانسداد آفاق المستقبل ،هي إحدى الخصائص النفسية للوجود المتخلف ،إنها نتيجة تعرض اإلنسان المقهور العتباط قوى الطبيعة وقوى السلطة ،وهي أيضا ّ نتيجة انعدام الحياتية ،فاإلنسان الذي فقد السيطرة على مصيره يستحيل عليه التخطيط لهذا المصير ويظل بالتالي أسير الظروف . أما مكانيا َ ،فاإلنسان المتخلف يظل تجزيئيا َ ،يعجز عن النظر أبعد من دائرة ضيقة ،هي حدود محيطه المباشر إنه عاجز عن الشمول وعن استشفاف آفاق بعيدة ،عن وضع خصائص المحيط المباشر في أطر أكثر اتساعا َ وعمومية. يتوقف مستوى التكيف عموما َ على اتساع المدى الزماني والمكاني لإلدراك .هذا االتساع كلما كان شامالَ ساعد على التفكير
17
الخالق والسلوك الناجح المبتكر .إنه وحده الذي يسمح بسلوك االلتفاف الذي يشكل أحد الشروط األساسية للسيطرة على الواقع .ويتلخص هذا السلوك في االبتعاد اآلني عن الهدف للوصول إليه بشكل أكثر فعالية ودواما َ من خالل سلوك مسارات غير مباشرة .ذلك ما يميز إجماالَ السلوك االستراتيجي الذي يتضمن تخليا َ جزئيا َ أو خسارة مؤقتة من أجل نجاح أكبر . عندما توضع الظواهر الم حلية في إطار أعم وأشمل تأخذ حجمها الطبيعي ،ضمن نظام عام من القوى ،مما يسمح بسيطرة أكبر على الواقع. ال يقتصر األمر على المستوى الفردي ،بل إن التخطيط الرسمي يشكو في البلدان النامية من جزئية النظرة ومحدوديتها .توضع مشاريع كثيرة وتصرف عليها األموال الطائلة ،ولكنها تظل مشاريع معزولة أو قطاعية ،ال تدخل ضمن تخطيط شامل ،وال تدرس أبعادها ونتائجها انطالقا َ من حالة مختلف قطاعات المجتمع.
قصور التفكير الجدلي : قصور التفكير الجدلي هو لب الذهنية المتخلفة .فهي جامدة قطعية وحيدة الجانب ،تتبع مبدأ السببية الميكانيكية ،عاجزة عن العمل تبعا َ لمبدأ التناقض .ويالحظ هذا القصور في مختلف النشاطات وعلى مختلف األصعدة ومختلف مستويات المسؤولية. تنطلق الذهنية المتخلفة في نظرتها لألمور من مبدأ العزل والفصل .الشيء قائم بذاته منفصل عن بقية األشياء و الظواهر .على العكس من ذلك نجد المنهج الجدلي يقول بالدينامية والصيرورة من ناحية ،وبالتحديد العالئقي من ناحية ثانية .الشيء ذاته هو تجريد فارغ ال حياة فيه .كل شيء هو لذاته ولآلخرين ،كل شيء هو دوما َ في عالقة ،أو مجموعة عالقات مع أشياء أخرى . كما أن هذه الذهنية بعجزها عن النظرة الكلية ا لدينامية ،ال ترى من األمور إال جانبا َ واحداَ فقط .إنها تخفق في إدراك الترابط والتفاعل الشبكي والتاريخي بين الظواهر ،وما ينتج عنه من حركية وتغيّر . تنطلق الذهنية المتخلفة من مبدأ السببية الميكانيكية في النظر إلى األمور ،السببية ذات االتجاه الواحد :سبب معين يؤدي إلى نتيجة معينة ،التأثير يأتي من السبب ويؤدي إلى النتيجة. أما الحركة في االتجاه المعاكس ( تأثير النتيجة على السبب ) فغير متصورة .كما أنها تنطلق من السببية المبسطة :سبب واحد أو عدة أسباب مترابطة تؤدي إل نتيجة ما .وتقوم بين هذا السبب وتلك النتيجة عالقة مغلقة تعزلها عن بقية األسباب والنتائج . وهي بذلك تقصر عن اإلمساك بالواقع الذي تتفاعل فيه الظواهر زمانيا َ ومكانيا َ ،وتتبادل التحديد والتأثير . ومن أخطر أوجه القصور في الذهنية المتخلفة العجز عن رؤية قانون التناقض ،أو تكامل األضداد .األشياء واإلنسان هما دائما َ في عالقة .هذه العالقة تضم طرفين أو أكثر في حالة تفاعل دائم وتأثير متبادل .والبد لفهم أمر ما من دراسة كل من طرفي العالقة وفهم المركز الخاص الذي يحتله كل منهما ،والشكل المحدد الذي يعتمد به على اآلخر. ال تقتصر الذهنية المتخلفة في إدراك هذه الع القة فقط ،بل إنها تعجز عن تقدير دور كل من طرفي التناقض .بينما يعلمنا المنهج الجدلي أن هناك دائما َ طرفا َ أساسيا َ وطرفا َ ثانويا َ في التفاعل .كما يعلمنا أن العالقة ال تظل ثابتة على الدوام في صيغة واحدة، كما يذهب الذهن المتخلف ،بل هي متحولة.
18
باإلضافة إلى ال تناقض الخارجي بين شيء ما وغيره من األشياء ،هناك التناقض الداخلي ضمن ذلك الشيء .فالظاهرة ليست كتلة واحدة متماسكة ،بل هي نتاج تفاعل قوى داخلية متعددة في اتجاهها ومتكاملة في تعارضها .الذهنية المتخلفة ال تستطيع إدراك قوى الشد والجذب ،قوى التقدم والحركة في ع القتها الجدلية مع قوى الصد والجمود ،داخل كل ظاهرة وفي عالقة الظواهر فيما بينها. كذلك تعجز هذه الذهنية عن إدراك العالقات الجدلية بين الزمان والمكان ،بين التاريخي واالنبنائي .تبدو األمور إما متطورة تاريخيا َ ،أو محددة انبنائيا َ خارج إطار الزمن. إن قصور التف كير الجدلي الذي يميز الذهنية المتخلفة يجعلها عاجزة عن النفاذ إلى مختلف مستويات وأبعاد الظاهرة . يخلق هذا القصور الذي أشرنا إلى جوانب منه حالة من التصلب الذهني ،يجعل اإلنسان المتخلف يفتقر إلى المرونة ،وإلى القدرة على بحث األمور من جوانب متعددة ومنظورات ومس تويات شمولية .هذا التصلب يحجب رؤية النسبية في األشياء والظواهر ويميل إلى المواقف القطعية ( إما ،أو ) ،بينما هذه الظواهر هي دائما َ مزيج متفاوت من األوجه السالبة والموجبة . كما أن انخفاض درجة المرونة يعطل القدرة على التكيف للوضعيات المتخلفة ،وللخصائص النوعية لكل وضعية .ومن الواضح أن انعدام المرونة الذهنية مرتبط بحالة عامة من انعدام المرونة الوجودية في التصدي للعالم ،مما يشكل عقبات جديدة في وجه التطور والتنمية . البد من التأكيد على أن هذا القصور ليس وليد خلل عضوي أو انحطاط تطوري كما يحلو لبعض المتحيزين من علماء الغرب أن يدعوا .إنه نتاج البنية اإلجتماعية المتخلفة ،ووليد عوامل القهر واالعتباط التي يخضع لها اإلنسان المتخلف .قصور منهجية التفكير يتناسب بشدة مع درجة القهر المفروض ،وجمود البنية اإلجتماعية.
-2الخصائص الذهنية اإلنفعالية : إن طغيان اإلنفعاالت وما يرافقها من نكوص على مستوى العقالنية ،ظاهره مألوفة في األزمات ،ولكنها عند اإلنسان المتخلف تكاد تكون األسلوب األساسي في الوجود ،ألنه بالتحديد يعاني من أزمات مزمنة تتخذ طابع المأزق المعيشي ،الذي ال يرى لنفسه خالصا َ منه .هذا المأزق يجعله يعيش في حالة دائمة من التوتر اإلنفعالي الذي ينبث في حنايا شخصيته معطالَ القدرة على الحكم الموضوعي ،والنظرة العقالنية إلى األمور .وهكذا فإن التوتر اإلنفعالي ،بمقدار ما يتص ّعد يخلق عقبات معرفية متفاقمة أمام اإلنسان المقهور .إذ أن إرصان الواقع ،وما يتطلبه من حياد نفسي ( نسبي بالضرورة ) ،يستلزم ضبط االنفعاالت ضمن حدود ال تتعداها .هذه الحدود تتلخص بمد الذهن بالقوة الدافعة لإلهتمام بالعالم واتخاذ المواقف تجاهه . هذا التوازن الضروري بين المنطق والعقل ،ال يتيسر إلنسان العالم المتخلف ألسباب عديدة ،وأهمها القهر وانعدام مشاعر األمن وطغيان مشاعر الدونية .كلها عوامل تصد الذهن نظراَ لما تولده من قلق .فإذا زاد هذا القلق عن حد معين ،فإنه يشلّ القدرة على الحكم الموضوعي .كما أن حالة القمع المزمن التي يعيشها اإلنسان المتخلف تؤدي إلى تراكم مفرط لإلنفعاالت و إلى تأجيج للعواطف وتفجير للمشاعر األكثر طفلية وعنفا َ ،مما يجعله يبدو مركزاَ تماما َ حول ذاته .هذا التركيز الذي يبلغ درجة النكوص إلى األنوية في أحيان كثيرة ،يؤدي إلى انهيار القدرة على التجريد الذي يشكل أحد أرقى المظاهر الذهنية في التكيف للواقع والسيطرة عليه. 19
إن طغيان اإلنفعاالت على هذا النسق يضع اإلنسان المتخلف أمام الحاجة الملحة للتخلص من ضغطها وما تخلقه من توتر داخلي صعب اإلحتمال .ومن المعروف نفسياَ ،أن أكثر الوسائل فعالية وبدائية للتخلص من هذا التوتر ،هو اإلسقاط الذي يسمح بتصريف اإلنفعاالت من خالل صبها على الخارج .ولذلك فإن اإلن سان المتخلف يرى أعداء حوله في ظواهر الطبيعة وعقباتها، وفي مواقف اآلخرين منه .يتلون العالم بصبغة انفعالية بقدر التوتر الداخلي الذي يعاني منه ،مما يصعد من حدة انفعاالته من دوامة اإلنفعال النشط ( العدوان واإلقدام ) ،أو الفاتر ( خالل إرجاع األثر كوسيلة لمجابهة العداء الخارجي .وهذا ينجرف في ّ المعاناة واجترار اآلالم الوجودية ) ،مما يجعل العالم يبدو اعتباطي غير منطقي .ومن الحتمي ساعتئذ أن يعجز هذا اإلنسان عن إدراك القوانين الموضوعية لظواهر الوجود ،التي تتطلب إعمال العقل وضبط العاطفة . تنتجعن هذه الحالة عدة ظواه ر ،كثيرة الشيوع في العالم النامي ،أبرزها سرعة تدهور الحوار العقالني والتفكير المنطقي ، والتعصب والتحيز وسرعة إطالق األحكام القطعية واألحكام المسبقة ،وسيطرة التفكير الخرافي والسحري. ومن المظاهر التي تلفت نظر المالحظ ،السرعة الواضحة في تدهور األداء العقلي و الحوار المنطقي بين الناس في العالم المتخلف .فالنقاش الذي يبدأ موضوعيا َ واقعيا َ ال يلبث أن يفجر انفعاالت تؤدي إلى اضطرابه .ويتحول النقاش إلى صراخ وخصام يسير صعداّ نحو مزيد من تدهور العالقة وانهيار المنطق. إن طغيان اإلنفعاالت على هذه الصورة يعطل التجريد الع قلي والتكيف للواقع ،ألنه يؤدي إلى انحسار المجال الحيوي .تنحسر آفاق المستقبل ويلغي الواقع العريض الذي يعطي األشياء والظواهر حجمها الحقيقي .هذا اإلنحسار زمانيا َ ومكانيا َ يؤدي بدوره إلى التركيز حول الحاضر ،حول المشكلة اآلنية التي تبدو عندها كمسألة أزلية ،كما أنه يؤدي إلى تضخيمها بشكل مفرط فتكتسب أهمية ليست لها في الواقع. أحكام اإلنسان المتخلف على الظواهر واألشخاص يشوبها الكثير من التحيز والقطعية .إنها أحكام متسرعة ونهائية تصنف الظواهر والناس في فئات جامدة ،سالبة كلها أو إيجابية كلها ،أو هي متأثرة إلى حد ك بير باألفكار المسبقة واآلراء الشائعة التي يطغى عليها التعصب . إزاء مأزق العقالنية ،وتعطل المنطق ،وإلحاح الحاجة إلى الحل نظراَ لتأزم التوتر الداخلي ،ينجرف اإلنسان المتخلف في التفكير الخرافي الغيبي كوسيلة سحرية للخالص .ومن هنا كثرة انتشار الخرافة في أوساط الجماهير المقهورة .الخرافة ،تبعا َ للدكتور ( إبراهيم بدران) والدكتورة ( سلوى الخماش ) ،هي أفكار وممارسات وعادات ال تستند إلى تبرير عقلي ،وال تخضع ألي مفهوم علمي سواء من حيث النظرية أو التطبيق .الذهنية الخرافية هي تلك التي تحاول أن تصل إلى أهداف الفرد أو المجتمع على أسس ال تستند إلى العلم والعقل. وتتفشى الخرافة في الطبقات الفقيرة ،كوسيلة لتخفيف اآلالم من خالل األوهام .ويتناسب انتشارها مع مقدار العجز عن التصدي لمشكالت الحياة المختلفة .ولكن رغم شدة انتشارها في الطبقات المقهورة من السكان ،فإن الفئات المتعلمة ال تفلت منها .فأهم من الخرافة الواضحة هناك الخرافة المغطاة بقشور من التعليم أو بقشور من التقدم والحداثة السطحية ،ألنها تشكل عقبة فعلية في وجه التغير والتجديد واإلبداع ،عقبة في وجه العقالنية والموضوعية.
20
ثانياَ :عوامل تخلف العقلية : من رأي د.نديم البي طار أن أسباب التخلف ترجع إلى الخصائص الزراعية التي يتصف بها اإلنسان العربي وأهمها في نظره ما يلي : الشعور بالعجز عن السيطرة على الطبيعة والتاريخ. رد التغيرات والظواهر إلى قوى فردية ،ربط ما يحدث بتغيرات النفوذ والسلطة ،أي رد األمور إلى قوى ذاتية ال إلى قوانين طبيعية وتاريخية ،مما يرسخ قوالب ذاتية في التفكير والنظر إلى الحياة. انعدام التكنولوجيا واإلعتماد على وسائل بدائية من حيوانات ويد عاملة ،مما يجعل العالقة ،عالقة سلطة ذات طابع انفعالي ، أكثر مما هي عالقة علمية وموضوعية ( كما تفرضه اآلالت ،والتقنيات والعمل معها ). االعتماد في المجتمع الزراعي على الظواهر المحسوسة الملموسة في الطبيعة والعالقات ال على القوانين العلمية. تحكم التقليد في السلوك ،من خالل تجميده من ناحية ،وشده إلى الماضي من ناحية ثانية ،مما يفتح السبيل أمام الغيبيات والتفكير الخرافي. يذهب ( نديم البيطار ) في تفسيره للتخلف مذهبا َ قريبا َ من وجهة نظر ( جيرار ماندل ) ،الذي يقول بأن التكنولوجيا تلعب دور َا هاما َ في تشكيل الالوعي الجماعي ،من خالل المثل األعلى الذي تفرضه على المؤسسات اإلجتماعية ،وما يحدث من تغيير في النظرة إلى العالم وأسلوب الممارسة .ف اآللة والتقنيات المتقدمة تفرض التجرد العاطفي وتنمي العقالنية والمنطق والترتيب والدقة من أجل حسن سيرها. ذلك كله صحيح ولكنه ال يغطي كل الظاهرة وال يقدم تفسيراَ كافيا َ لمسألة التخلف الذهنية . لب تخلف العقلية يكمن في نظرنا في أسباب اجتماعية سياسية ،هي المسؤولة عن نمط اإلنتاج وأدواته وتقنياته وانعكاساتها إن ّ على الذهنية .هذه األسباب تذهب في رأينا ،في الوطن العربي على األقل ،في اتجاهين أساسيين مترابطين هما :سياسة التعليم في المجتمع ،وعالقات التسلط والقهر السائدة فيه.
-1سياسة التعليم وتخلف الذهنية الشك في أن مدى تفشي األمية في العالم النامي ،مسؤول بالدرجة األولى عن استمرار الذهنية غير العلمية التي تسيطر عليها الخرافة ،وال شك في أن تطور الذهنية يسير بشكل عام مع ارتقاء المستوى التعليمي في المجتمع وما يجره من سيطرة على الواقع والتاريخ. وتكمن العلة في الوطن العرب ي ،كما في العديد من أقطار العالم الثالث ،في نوعية التعليم ومدى تأثيره على تغيير الذهنية .يبدو أن التعليم لم يكمل في الشخصية ،بل ظل في الكثير من األحوال قشرة خارجية تنهار عند األزمات ،لتعود الشخصية إلى نظرتها الخرافية .هناك نوع من االزدواجية في شخصية اإل نسان المتخلف ،بين دور التعليم ودور اإلنسان الممارس حياتيا َ . مازال االنفصام أو االنشطار هو السائد .ففي الحياة اليومية نرى التقليد وانتشار الخرافات والنظرة المتخلفة إلى الوجود هي السائدة .أما في المناسبات العلمية فنرى الواحد من هؤالء أو بعضهم ،يحلّق في األجواء العليا ولكن للحظات. 21
أسباب هذه الظاهرة متعددة ،من أهمها تعرض الطفل منذ الصغر لتأثير األم الجاهلة معظم األحيان ،والتي نظراَ لوضعيتها المقهورة تتأثر إلى درجة خطيرة بالتفكير الخرافي والغيبي ،وتتسلط عليها معتقدات ال علمية .وموطن الخطورة في ذلك بأنها ت نقل هذه األفكار إلى طفلها مما يجعل نظرته إلى العالم منذ البداية خرافية ال علمية .ليست األم فقط هي التي تغرس هذه الذهنية المتخلفة في أعماق الطفل ،بل أيضا َ اإلطار الحياتي الذي يعيش فيه قبل سني الدراسة ،والذي تتفشى فيه األفكار البائدة والممارسات الخرافية وال نظرة الغيبية ( من غول وعفاريت أشباح ) .من النادر أن يجيب هذا المحيط على تساؤالت الطفل ،بعد الثالثة من العمر ،حول أسرار الوجود وقوانين ظواهره المختلفة إجابة رصينة .هناك ما يشبه المؤامرة المستمرة عليه من خالل الكذب والتخويف حتى ال يجشموا أنفسهم عناء الشرح أو حتى يغطوا جهلهم أو يخيفونه حتى يقيدوا حركته ويصدوا حيويته التي تزعجهم. هذا المعاش الخرافي والخوافي ،وما سيتبعه من ممارسات غير علمية يحمله الطفل معه إلى المدرسة ،وتتفاقم المشكلة الن المدرسة ببرامجها الحالية ال تستطيع أن تقتلع هذه األفكار والممارسات .هذا إذا لم يقع الطفل على معلم يتابع نهج األهل ولألسباب نفسها. وما زال التعليم في مختلف مراحله وبشكل إجمالي ،سطحيا َ في معظم البلدان النامية في طرقه وفي محتوياته .طرق التعليم ما زالت تلقينية إجماالَ ،تذهب في اتجاه واحد ،من المعلم الذي يعرف كل شيء ويقوم بالدور النشط ،إلى التلميذ الذي يجهل كل شيء ،ويفرض عليه دور التلقي الفاتر دون أن يشارك أو يناقش أو يمارس ،بالطبع ال تساعد هذه الطرق على اكتسابه التفكير النقدي الجدلي ،وبالتالي ال تكسبه الصيغ العلمية في النظرة إلى األمور .إنه في أحسن األحوال يحفظ العلم دون أن يستوعبه. تمارس عملية التلقين بالضرورة من خالل عالقة تسلطية :سلطة المعلم ال تناقش ( حتى أخطاؤه ال يسمح بإثارتها ،وليس من الوارد االعتراف بها ) بينما على الطالب أن يطيع ويمتثل .هذه العالقة الالعقالنية تعزز النظرة االنفعالية إلى الوجود ،ألنها تمنع الطالب من ال تمرس بالسيطرة على شؤونه ومصيره .أما من حيث المستويات فإن المواد الدراسية مستوردة من خارج المجتمع ( نظريات وعلوم الغرب مطبقة على ظواهره ) في المراحل العليا من التعليم ،وإما مواد ال تمتّ إلى واقع التلميذ بين الفئات الشعبية في المراحل االبتدائية والمتوسطة .و يظل العلم إذاَ مسألة نظرية ،ال يعالج واقع الطالب في العالم المتخلف ،ال يتيح له فرصة اإلرصان العقلي لهذا الواقع. ومن مشكالت التعليم الشائعة في البلدان النامية ،االنفصام بين لغة العلم لغة الحياة اليومية .ونعني بذلك دراسة العلوم المضبوطة بلغة أجنبية ،يظل غالبية الطالب ،ماعدا أبناء القلة ذات الحظوة ،عاجزين عن التعامل بها ،وال يمتلكونها إال بكل ناقص جداَ. إن مسألة تعريب العلوم المضبوطة وتدريسها باللغة األم من مسائل الساعة. وقد طرح الدكتور ( نزار الزين ) هذا الموضوع بشكل واضح في بحثه القيّم حول تعريب التعليم العالي في لبنان. فإذا كانت اللغة األم متشبعة باالنفعاالت والنظرة الالعلمية إلى الواقع ،باعتبارها تعكس الوجود المتخلف ،فإنها ستؤدي حتما َ إلى ترسيخ هذه االنفعالية الالعلمية وتشجع بالتالي النظرة الخرافية إلى الوجود .ومن هنا أتت ضرورة تعريب العلوم اإلنسانية والمضبوطة .فهذا التعريب يدخل في الصيغ العلمية على اللغة ويطورها مما يؤدي بالتالي إلى إدخال الصيغ العلمية على الذهنية العربية ،يرتقي بها إلى مستوى المنهجية المضبوطة. 22
وهكذا فإن نقل العلم بلغة الشعب تطوير له ولحياته ولهذه اللغة على حد سواء وإال فإن هناك خطراَ من تحول العلم إلى وسيلة لإلنفصال عن الشعب والتعالي عليه أو التنكر له. إن عدم تعريب العلوم المضبوطة يترك اللغة األم مقتصرة على الصيغ اإلنفعالية والوجدانية ذات الطابع الخطابي الذي يهيج المشاعر ولكنه يعجز عن التخطيط والسيطرة على الواقع .ومن رأي الدكتور الزين( أن التقصير في تعريب التعليم العالي.. يحملنا على أن نظل في ضبابية تجاه واقعنا اإلجتماعي والنفسي ،ال نستطيع أن نقدره أو نقومه تقويما َ صحيحا َ ..ولعلنا بعدم تعريب التعليم العالي نخطط لعدم تنمية مجتمعنا ) الواقع إن عدم التعريب يهدف إلى الحفاظ على امتيازات القلة المسيطرة ،التي هي وحدها تتقن اللغة األجنبية وتتعامل بها ،ألنها لغة حلفائها األجانب .وبالتالي تتيح ألبنائها فقط فرصة اكتساب العقلية العلمية ،من خالل تمثل العلوم المضبوطة وآخر مستحدثاتها .
-2عالقات التسلط والقهر وتخلف الذهنية من استعراضنا لمختلف أس باب تخلف الذهنية ،رأينا أنها جميعا َ تتضمن عنصر قهر حياتي يقع اإلنسان المتخلف ضحية له .قهر الطبيعة وغوائلها ،قهر المتسلط في المجتمع الزراعي ،قهر التقاليد العشائرية الجامدة التي تشل الفكر ،وتمنع الموقف النقدي من ظواهر المجتمع وأنظمته ،ثم القهر الذي تمارسه السلطة في المدينة على اختالف وجوهه وأشكاله وتبريراته .كل ذلك يخلق جواَ عاما َ من العنف يمارس على الشخصية ،مانعا َ تفتحها وانطالقتها وتصديها بشكل أوثق لمختلف قضاياها الوجودية. التقليد الذي يفرض جموده على المجتمع الزراعي العشائري يقيد حرية الحركة السلوكية وحرية الموقف من الحياة ،ويخلق بالتالي ذهنية متصلبة محدودة األفق ،يتحكم فيها القهر من الداخل .كل حركة فكرية تصبح إثما َ يستحق العقاب الشديد ،وكل موقف نقدي من نمط الحياة السائد الذي يصب في مصلحة العناصر المتسلطة على العشيرة ،يصبح اعتداء على المحرمات واألقداس التي ال يجوز أن تمس .
23
الفصل الرابع الحياة الالواعية
24
الحياة الالواعية
مقدمة الفصل : تشكل الحياة الالواعية الوجه الخفي للتجربة الوجودية لإلنسان .الالوعي يتغلغل في كل حركة وسكنه وتوجه ونظرة وقيمة تحيط بحياتنا أو تعطى لها .لم يعد باإلمكان حاليا ً القيام بدراسة نفسية لوجود اإلنسان دون التوقف عند نشاط حياته الالواعية. العالقة جدلية والتحديد متبادل بين االجتماعي والالواعي .فالبنية اإلجتماعية بمؤسساتها الرئيسية تشكل الشخصية اإلنسانية في قوالب خاصة .تنقش نظامها السائد في أعمق أعماق اإلنسان ،من خالل تشكيل حياته الالواعية.ولقد أصبح معروفا ً من الناحية النفسية ،أن نمط الشخصية وبنيتها هو نتاج نظام العالقات األولية الذي يظل فاعالً في الالوعي . إن شدة وعمق تأثير وطأة وضعية القهر المميزة للمجتمع المتخلف ال تتوقف على بعدها االجتماعي فقط ،بل تتعزز من خالل االنعكاسات الالواعية التي تثيرها وتصاحبها .وإن أكبر حليف للمرض اإلجتماعي هو المرض النفسي في بعده الالواعي .وإن أكبر متواطئ مع االضطراب االجتماعي هو االضطراب النفسي الذي يصاحبه ويشكل وجهه الخفي. الظاهرة نفسها قابلة للتفسير المتماسك منهجيا ً على كل من المستويين اإلجتماعي والالواعي .التفسير في الحالة األولى ال يتعارض مع الثانية بل يتكامل معها جدلياً .ولكن الداللة ليست دائما ً واحدة على المستويين. الحياة الالواعية لإلنسان المتخلف مازالت في بنيتها ودينامياتها ،غياهب مجهولة في غالبيتها العظمى لم تتناولها الدراسات ، وهناك ضرورة لبحث خصائصها النوعية .
ثانياً :الدينامية الالواعية لإلنسان المقهور اتضح لنا في الفصل الثاني أن هناك محورين أساسيين تدور حولهما الحياة النفسية لإلنسان المقهور ،هما عالقة التسلط- الرضوخ -من ناحية ،واعتباط الطبيعة من ناحية ثان ية .ويالزمهما معا ً في تفاعلهما االنعدام األساسي للشعور باألمن ،وسيطرة حالة من العجز أمام الطبيعة وأمام المتسلط ،وما يرتبط بهما من عقد نقص وعار .
-1عالقة التسلط والقهر ،السادومازوشية ،وقلق الخصاء نظام التسلط والقهر ،يأخذ على المستوى الالواعي شكل العالق ة السادومازوشية .هناك من ناحية طرف قاس ،ظالم ،مستبد، ينزل األذى والعذاب بضحيته ،ال يحس بالقوة إال من خالل التحقق من ضعف الضحية الذي كان هو سببه .هذا الطرف المتسلط ال يستقر له توازن إال حين أن يدفع المقهور إلى موقع الرضوخ العاجز المستسلم ،إلى الموقع المازوشي. السادية في األصل عدوان قبل أن تكون جنسا ً والمازوشية معاناة مادية وجسدية ومعنوية قبل أن تكون تلذذاً جنسيا ً باأللم ،كما
25
كان يشيع من آراء .وأهم من المازوشية المادية ،المازوشية المعنوية ،أي وضعية الرضوخ واالستسالم للمهانة والتسليم بالضعف الذاتي وبسطوة السادي .ويرتبط السادي والمازوشي معا ً في عالقة موقعية ،تحدد لكل منهما مكانته .وتستمد كل من السادية والمازوشية زخمها الحيويين من نزوة الموت ،بما تتخذه من أشكال العنف والعدوان ،فمصدرهما النزوي واحد دائما َ .العنف و العدوانية يتوجهان إلى الخارج ،منزلي ن األذى بالضحية عن السادي ،بينما يرتدان إلى الذات التي ترضخ لألذى ،إذا لم تستنزله ،عند المازوشي .وكل من هاتين الوضعيتين دفاع ضد األخرى. المازوشي هو إنسان يعجز عن تحمل نتائج ساديته .ومن هنا تبدو له األخطار الخارجية مضخمة ،وتبدو له سطوة التسلط دون حدود ،وال وهن يمكن التصدي لها من خالله .ويتناسب عجزه ومهانته بمقدار تضخم هذه األخطار .المازوشي يمكن أن ينقلب عدوانياً ،والراضخ يمكن أن يتحول إلى متمرد ،يحطم سطوة المتسلط حين يتجرأ على تحمل تبعات عدوانيته .وال يتم ذلك بالطبع إال بعد فترة اختمار يتم خاللها تحول داخلي في دينامية العدوانية واتجاهها .وهكذا فالمازوشية ،رضوخ اإلنسان المقهور ،ليست صفة ثابتة ودائمة ،إنما حالة قابلة للتحول تاريخياَ. تأخذ الوضعية السادومازوشية في الوعي اإلنسان داللة الخصاء ،وتفجر قلق الخصاء .الخصاء في األصل هو السمة المميزة لجنسية الطفل ،بال مقارنة بالجنسية التي تمتلكها األم ،ويفرض قانون التحريم على العالقة بينها وبين الطفل ،مما يؤدي إلى تحويل جنسيته نحو الخارج ،نحو امرأة بديلة .هذا يشكل األساس النفسي العالئقي لنشأة الثقافة. وضعية اإلنسان المقهور تفجر إذاً قلق الخصاء ،الذي يتضمن الشعور بالتهديد الدائم ،قد يأتيه في أي لحظة من الخارج (من المتسلط ،وكل أدوات السلطة) من ناحية ،ويتضمن مشاعر العجز وعدم االكتمال ،وتميز وجوده الذي يعاش تحت شعار المهانة من ناحية أخرى .فهو ال يمكن أن يقارن ذاتيه بالمتسلط .كما أنه يشعر بالدونية وانعدام الكفاءة االجتماعية ،ال يمكن أن يرتقي ، لن يستطيع أن يتعلم ،إنه ليس في مستوى التكنولوجيا ،إلخ... قلق الخصاء يزعزع كيان اإلنسان المقهور ويخل بتوازنه ،فهو يولّد اآلالم المعنوية التي ال تحتمل والتي تمس صورة الذات وقيمتها ،وتصيب االعتبار الذاتي في الصميم .ولذلك فإنه يميل إلى فقد ان االلتزام تجاه هذه الذات التي ال تحظى باالعتبار من خالل الغرق في الرضوخ والتبعية واالستسالم .ولكن هذ الحل السلبي ال يحقق التوازن الداخلي ،وال يمكن أن يستمر .فال بد إذاً من حلول إيجابية تحمل قيمة تعويضية. الحلول التعويضية كثيرة ومتنوعة وتصب جميعا ً في قناة الشعور بشيء من االعتبار الذاتي . االحتماء بالزعيم المنقذ ،التعلق باألبطال ،كاللجوء إلى األولياء ،تحمل جميعا ً الداللة ذاتها من الناحية الالواعية .إنها عملية إيجاد نوع من التوازن.
-2اعتباط الطبيعة ،صورة األم السيئة ،وقلق الهجر الطبيعة ،األرض ،الوطن ،جميعها هي األم .فهناك عالقة وثيقة على المستوى الالواعي بين الطبيعة ،النمط الحسي من الوجود ،الالعقالنية ،والصور األمومية .الغذاء ،الدفء ،االنسجام مع الطبيعة ،األرض الخيرة ،كلها تعبير عن األم الطيبة التي تعطي الحب والدفء . 26
وعلى العكس ،تمثل الط بيعة القاسية ،التي تحمل خطر الهالك ،وخطر الكوارث المختلفة صور األم القاسية .عدم القدرة على السيطرة على الطبيعة يجعلها تبدو اعتباطية في نظر اإلنسان المتخلف ،وهو يثير في الوعيه أكثر المخاوف طفيلية وبدائية ، الخوف من هجر األم له ،الخوف من الوحدة والخواء الداخلي .قلق الهجر يثير أقصى درجات العدوانية األثرية التي تتوجه إلى األم النابذة في حركة انتقامية تدميرية .ولكن هذه العدوانية غير محتملة وهي لذلك تتحول إلى الخارج .وإن أقصى تهديد يمكن أن يعيشه اإلنسان على المستوى الالواعي ،هو خطر مجابهة هذه األم القاس ية المنتقمة .وألن العدوانية البدائية للطفل ال تعرف الحدود نظراً النعدام ضوابط العقل والمنطق والواقع ،فإن صورة األم في قسوتها في هذه الحالة ال تعرف الحدود . إنها تثير قلق الفناء ليس إال ،وهكذا يتفجر الذعر الوجودي . ويتأزم األمر نظراَ لتحالف قسوة الطبيعة مع استبداد المتسلط واقعيا ً .هذا التحالف يثير تحالفا ً مقابالً له في الالوعي .فقلق الخصاء يستمد جذوره وأصوله من قلق الهجر ،كالهما يعزز اآلخر ويغذيه .هذا التعزيز يزيد من وطأة عجز اإلنسان المقهور عن المجابهة ويفجر أقصى حاالت العدوانية األثرية التي ال يمكن احتمالها ،ألنها تحمل خطر تفجير الذات .ولكن إسقاطها على الخارج كوسيلة للخالص من وطأتها ،ال يحل المشكلة ألنه يؤدي إلى اصطباغه بصبغة اضطهادية مهددة ،يعيش اإلنسان المقهور عندها في عالم عدائي يحمل له خطر الهالك في كل لحظة . وهو في البداية ال يجد وسيلة سوى ا لرضوخ إزاء هذا الوجود .وهو في رضوخه يجتاف العدوانية الخارجية كقدر محتوم مع النكوص إلى المرحلة الفمية ،مرحلة التعامل مع الوجود من خالل الفم . ولكن الرضوخ واجتياف السوء ال يشكالن حالً مقبوالً يحمل التوازن الضروري إلى الوجود .البد من حلول أخرى أهمها العالقة الدمجية مع األم ،وخلق صورة األب الحامي . وكالهما يؤمنان مقداراً مقبوالً من الحماية ومشاعر األمن .
27
القسم الثاني األساليب الدفاعية تمهيد وضعية اإلنسان المتخلف بما تتصف به من قهر ورضوخ مأزقيه تخل بالتوازن الوجودي ،وتجعل الحياة غير ممكنة دون حلول، وتولد توتراً نفسيا ً كبيراً يتجاوز طاقته على اإلحتمال ،وتبرز الحالة الماسة إلى حلول لمجابهة هذه الوضعية المأزخية. وتنقسم هذه الحلول الى فئتين أساسيتين :الفئة األولى واألكثر فعالية هي محاوالت تغيير الوضعية المأزخية من خالل محاولة تغيير األوضاع الخارجية بشكل يتالئم مع الحاجات الحيوية واألهداف الوجودية وتحقق الذات وهذه الحلول هي األضمن على المدى البعيد ولكنها ليست ممكنة دوما .وتسبق هذه الفئة فئة الحلول الدفاعية وهي عكس السابقة ال تحاول التغيير بل تهدف إلى التأقلم مع الوضعية الراهنة ،وتلبي الحاجات الحيوية على المدى الطويل ،والعالقة بين هاتين الفئتين ليست قطعية وال متتالية. وال يمكن لباحث تمهيدي أن يحيط بها جميعا ً لتعددها وتنوع مظاهرها ،ولذلك نكتفي بالحديث عن أربعة أساليب أساسية . التحرك األول :يسير في محور التقرب من المتسلط من ناحية واالبتعاد عنه والذوبان في الجماعة من ناحية أخرى ،فبمقدار ما يبتعد عن المتسلط يندمج في جماعته األصلية والعكس. التحرك الثاني :يسير على محور القتال ومجابهة المتسلط من ناحية ،والهروب واإلستسالم من ناحية أخرى. وفي كال التحركين يبدو اإلنسان المقهور متجاذبا ً دوما ً بين اإلقدام واالستسالم وبين التماهي بالمتسلط واالنكفاء على الذات، ماعدا حاالت االستسالم الرضوخي أو التمرد الثائر الذي يحطم كل شيء . هذه الحلول األربعة بما تتصف به من تذبذب وتجاذب في الحركة ،ال تغطي تماما األساليب الدفاعية الهامة التي يتوسلها اإلنسان المقهور .فعلى تناق ضها تجد توليفها في الموقف من المرأة .وضعية المرأة في مجتمع ما تلخص الصراعات األساسية لهذا المجتمع ،ولذلك سنتوج هذا القسم بفصل عن المرأة في العالم المتخلف ،بعد الفصول األربعة التي سيخصص كل منها لواحد من الحلول األربعة التي أتينا على ذكرها.
28
الفصل الخامس االنكفاء على الذات
29
االنكفاء على الذات
الحرة األولى التي يحاول االنسان المقهور من خاللها تجنب ما تفرضه عليه الطبيعة من بالء اعتباطي ،ويفرضه عليه المتسلط من قهر متعنت ،تأخذ اتجاه االنكفاء على الذات وهي كأولوية دفاعية تسير في اتجاه ا لتقوقع واالنسحاب بدال من مجابهة التحديات. وتتبع هذه األوالية كثيراً في ردود فعل اإلنسان تجاه مختلف حاالت الفشل الذي يصحبه إحساس داخلي بالعجز وقله الحيلة، وتالحظ عند الكبار والصغار في مواقف مثل( :الفشل في منافسة أخ أكبر أو أخ أصغر ،الفشل في المشاريع المهنية عند الكبار...إلخ) وفي هذه الحاالت يدير اإلنسان ظهره للعالم ويقطع الصالت بهذه الرغبة حتى ال يشعر بألم اإلحباط وانعدام القيمة. ويحد اإلنسان المقهور من طموحاته ويحاول إيهام ذاته بتقبل هذا المصير ،وبالتالي يحد من مجاالت نشاطه إلى أبعد مدى ممكن، أو يترك نفسه للظروف تسيير حياته في كل اتجاه وبدون اتجاه .وهذه الحالة تمثل رد الفعل األقصى ،وال يصل إليها إال القلة القليلة من الناس ،وأما الغالبية فيدافع عن نفسه إزاء تحديات الطبيعة والمتسلط من خالل االنكفاء على الذات ،وهو يضم حركتين متممتين لبعضها البعض . في الحركة األ ولى :يدير اإلنسان المقصود ظهره للمتسلط ويبتعد عنه ويقطع الصلة به وتتضخم عنده مشاعر الفرقة واإلختالف والعدوانية ،وهذه العالقة ال تبعده عن المتسلط فحسب بل عن كل ما يمتلكه من نمط حياة وقيم وأدوات (الشرطة ،المحاكم، القضاء...إلخ) ويعيش هذه العالقة كتهديد دائم له ولذويه ،ولكي يتجنب األذى هو ال يتجنب العالقة المباشرة فقط بل يتهرب من المشاركة في كل ما هو عام ،فيقف موقف العاجز المتفرج ال يستجيب للنداء وال ينخرط في نشاط ،فمشاعر الشك والخوف والحذر من التعرض لألذى تأصلت نتيجة للتجارب المؤلمة مع المتسلط .وال يقتصر األمر على الحذر وإنما يتعداها كي يأخذ شكل الرفض لقيمه ورموزه وأدواته وأسلوب حياته ويشكل الحركة الثانية التي تتمم األولى ،وذلك أن يصل الرفض إلى حد التمسك الشديد بالجماعة وتراثها وميل إلى الذوبان في الجماعة المرجعية لدرجة تزول معها الفردية بشكل كامل ،حيث يجد اإل نسان المقهور في هذا الذوبان حماية له وضمانه للغد . أما وسيلة الحماية التالية والتي تتبع في موقف االنكفاء على الذات فهي السلوك االتكالي تجاه الولي (المالذ) أو الزعيم المنقذ. ويتمكن اإلنسان المقهور من إدخال شيء من التوازن إلى وجوده من خالل هذه الوسائل (التمسك بالتقليد والماضي المجيد، الذوبان في الجماعة ،وعالقة االتكال).
30
أوال :التمسك بالتقليد والرجوع إلى الماضي المجيد (السلفية). اإلنسان المتخلف كالمجتمع المتخلف سلفي أساساً ،يتوجه نحو الماضي ويتمسك بالتقاليد واألعراف بدالً من التطلع للمستقبل، وتزداد السلفي ة بزيادة كال من تخلف المجتمع ودرجة القهر التي تمارس على اإلنسان. وتترسخ السلفية بشقيها ( الرضوخ للتقاليد واألعراف ،واإلحتماء بالماضي وأمجاده) من الناحية الذاتية والنفسية بمقدار الشعور بالعجز عن مجابهة تحديات الطبيعة والمتسلطين ،وهي كذلك أوالية دفاعية تجاه التحديات وتشل مبادراته في الحاضر. واألمثلة على ذلك كثيرة في المجتمع العربي أحدثها عهداً مقاومة موجة االستعمار الحديث اإلنجليزي والفرنسي .والمجتمع العربي جميعا استعانوا بالتراث والعودة للماضي لدرء تهديد الغزو الخارجي.
-1التمسك بالتقليد: المجتمع المتخلف مجتمع تقليدي جامد ومتوجه نحو الماضي ،واإلنسان المتخلف كائن تتحكم به التقاليد. وعنصر القهر واضح جداً في المجتمع التقليدي الذي يلغي مبادرة أبناءه . ويتوسل المجتمع ،وخصوصا الفئة ذات االمتياز فيه ،وسائل عديدة لتعزيز التقاليد وفرض الجمود على حركة الفرد وبنية الجماعة. المجتمع التقليدي ،بما يشيع فيه من عرف وما تتحكم في أفراده من عادات وما يفرضه على عملية التفاعل اإلجتماعي والتحرك السلوكي من جمود يخدم إذا مصالح فئة ضئيلة ،هي التي تحظى بمعظم االمتيازات وتستفيد من الحفاظ على الوضع القائم ،ذلك أمر ال يحتاج إلى جهد كبير لل تدليل عليه والبرهنة على صوابيته. إن التقاليد واألعراف لو كانت قهرية محضة لما استقرت واستمرت ألنها تتضمن في هذه الحالة التوازن الضروري بين عنصر الضبط وعنصر تحقيق الحاجات الذي ال إمكانية لالستمرار دونه. األوجه الدفاعية للتمسك بالتقاليد عديدة ومتنوعة أبرزها ا لتمسك والتحصن بتلك التقاليد للحماية من المتسلط. ويزداد هذا التشدد ويستمر اعتماداً على وطأة االستعمار الحضاري ويقل اعتماداً عليها أيضا. أما على المستوى الفردي :فالوظائف الدفاعية للتمسك بالتقاليد متعددة فهي أوالً تؤمن نوعا ً من االستقرار الحياتي ،وهي تبعد اإلنسان عن خطر مجابهة قلق المجهول وقلق التغيير. والتمسك بالتقاليد يشكل أوالية دفاعية ضد قلق مجابهة المسؤولية الذاتية ،فالتقاليد تتضمن تبريراً للعجز الذاتي عند اإلنسان المقهور ،كما انها تحمي اإلنسان المقهور من مجابهة ذاته. ويشكل التمسك بالتقاليد أوالية دفا عية بالقدر الذي يتيح تصريف العدوانية المتراكمة نتيجة للقهر المفروض على اإلنسان المقهور.
-2الرجوع إلى الماضي المجيد:
31
النكوص إلى الماضي واالحتماء بأمجاده وأيامه السعيدة أوالية شائعة في حاالت الفشل ،في هذا النكوص تحدث عملية تزيين الماضي وهكذا يتحول الماضي إلى عالم من السعادة والهناء والمجد واالعتبار ،الحياة هي الماضي وال شيء غيره أما الحاضر فهو القدر الخائن وأما المستقبل فال يدخل في الحسبان. في الحاالت الناجحة تكون العودة إلى الماضي وسيلة الستنهاض الهمة واستعادة الثقة بالنفس أو رفع للروح المعنوية بتذكر اإلنجا زات وفي هذه الحالة يتمكن اإلنسان من تحمل مرارة الفشل وفقدان االعتبار الذاتي . تلك هي حال اإلنسان المقهور فإزاء عظم قوى القهر والتسلط وإزاء العجز عن المجابهة وانعدام القدرة على التغيير يتعرض توازنه النفسي لهزات شديدة واعتباره الذاتي لالنهيار ويبدو الحاضر مؤلما يحمل المرارة والبؤس. يهرب اإلنسان المقهور من أمجاد الماضي وهو يختار من هذا الماضي الذي يشكل الخير كله على عكس الحاضر الذي يشكل الشر كله مقياسا للحياة :تلك كانت أيام وفي هذه الرجعة إلى الماضي يتماهى اإلنسان المقهور خصوصا ً بالبطوالت العسكرية بخوارق ال فروسية وبكل مظاهر األبهة في قصور الخلفاء واألمراء. البطل في القصص الشعبي أسطوري .فهو من الناحية الجسدية القوة المطلقة التي تأتي بالخوارق وتجابه كل التحديات .وهو في السالح قمة الخبرة والفروسية .يصور على درجة كبيرة من الضخامة ،فرسة نادرة وسالحه ال يتمكن سواه من حمله والقتال به ،وشجاعته تصمد أمام كل امتحان ،وهو يخرج دائما منتصراً من أقسى امتحان. إنه البطل المنقذ مبعوث العناية اإللهية كي يرفع التهديد عن اإلنسان الضعيف إنه رمز العدل واألمن الوجودي. استعراض حياة هذا البطل األسطوري كما يرويها رواة القصص الشعبي هي دائما سلسلة من األزمات وحلقات متصلة من الخطوب .ال يخرج من أزمة حتى يقع في التي تليها ،وال ينتصر على خطب حتى يقع في مأساة جديدة .حياته ملحمة دائمة من الثبات أمام أقسى اختبارات الحياة والخروج منتصراً منها .وهي إلى ذلك حلقة متصلة من التفاني من أجل اآلخرين. بطل القصص الشعبي بكل أسطوريته ،هو مجرد إسقاط ألمل اإلنسان المقهور في الخالص ،لرغبته الدفينة في امتالك القدرة على مجابهة قدرة .حياته مجرد مرآة لإلختبارات المتالحقة التي يتعرض لها اإلنسان المقهور ويعجز عن اجتيازها بينما ينجح البطل في ذلك. بالطبع يشجع المتسل ط كثيراً انتشار هذه الحلقات ،ففيها هروب من الواقع وعيش في الخيال يبعد اإلنسان المقهور عن الوعي بما يلحقه من غبن وما يجب عليه من النهوض إلى المجابهة من أجل التغيير وذلك يحفظ للمتسلط امتيازاته ويبقى اإلنسان المقهور على غبنه. باإلضافة إلى التماهي بأبطال القصص الشعبي ،يلوذ اإلنسان المقهور بتراثه وأمجاد هذا التراث ويتمسك به بشكل جامد حتى ال يعود يرى مجال للخالص من مأساة الحاضر إال بالعودة إلى التراث والسير الجامد على غراره دون مراعاة لحركة التاريخ
32
ثانيا :الذوبان في الجماعة والعالقات الدمجية التعاطف والتعاضد ب ين أعضاء الجماعة من األواليات الدفاعية الفعالة ضد األخطار الخارجية وأخطار الطبيعة .يستعيض اإلنسان المقهور عن عجزه الفردي باإلحتماء بالجماعة وبقدر تفاقم الخطر الخارجي وبقدر تعاظم اإلحساس بالتهديد للذات والمصير يميل اإلنسان إلى الذوبان في الجماعة. على المستو ى اإلنساني نجد نماذج مختلفة لهذه الظاهرة أشهرها الجماعات المغلقة واألسر الكبيرة التملكية .إنه ال يخطر ببالنا مطلقا أن نرد الظواهر واألنظمة والمؤسسات اإلجتماعية في نشأتها إلى مجد تعبيرات نفسية فهذه ال تشكل سوى جوانب منها وال يمكن بحال من األحوال أن تستوعبها .وهي تخضع باألساس إلى منهجية التفسير اإلجتماعي لكنها ليست اجتماعية محضة مطلقا ً ألنه ليس هناك ظاهرة اجتماعية محضة كما ال يوجد بالمقابل ظاهرة نفسية صافية.
-1الذوبان في الجماعة: الجماعات المغلقة من الظواهر التي حللها جيداً علم النفس اإلجتماعي .إنها وليدة اإلحساس بالتهديد الخارجي أكان مصدره بشريا ً أم طبيعيا ً .ينقسم العالم في هذه الحالة إلى عالمين متناقضين تماما الخارج والداخل .أما الخارج فهو العدو والمصدر للخطر والشر ،العالقة معه عدائية اضطهاديه والموقف منه إما انسحابي أو تهجمي .أما الداخل فهو الخير كله .وهو مصدر األمن والشعور باالنتماء .مصدر الهوية الذاتية وهو بالتالي المرجع والمالذ ويحدث في هذه الحالة نوع من االنشطار العاطفي بشكل يجعل المواقف قطعية . وبمقدار انغالق الجماعة ترتفع درجة النرجسية بين افرادها وضمنها ألن كال منها مرآة لألخر وبارتفاع النرجسية تتضخم قيمة الجماعة .وتتضخم معه قيمة الفرد .وترتفع درجة الذوبان في الجماعة عادة على المستوى الفردي بما يتناسب مع مستوى العجز والضعف .فأكثر األفراد ذوبانا ً في الجماعة أشدهم عجزاً عن االستقالل والوصول إلى المكانة الفردية والقيمة الذاتية. هذه الظاهرة تشيع كثيرا ً في المجتمعات المتخلفة حيث نجد جماعات تشد أفرادها إليها بقوة ال تقاوم وتقوم بينها وبين الجماعة األخرى عالقات صراع وعداء . ومن الواضح ان هذه العالقات العدائية بين الجماعات تشتد وتقوى بقدر تعرضها لقوة متسلطة تبسط سلطانها على الجميع وال قبل ألي منها بمقاومتها ،كما أن التعاضد بين أعضاء الجماعة الواحدة يزداد بمقدار رضوخها لمتسلط خارجي ،وهنا تبرز ظاهرة االنشطار العاطفي :المتسلط هو رمز الخطر والسوء والموقف منه هو الحذر واالبتعاد عنه ،أما الجماعة الداخلية فهي رمز للحب والحماية واألمن والشعور بالهوية الذاتية .
-2األسرة العشائرية: الجماعة المغلقة هي باألصل عشيرة وتكون أسرة عريضة تتماسك فروعها بشكل وثيق بينما تضعف هذه الروابط بين تلك الفروع في المجتمعات الصناعية المتقدمة ،كي تختزل األسرة في خلية صغيرة هي الوالدان واألبناء ذوو العدد المحدود . األسرة العريضة هي مؤسسة اجتم اعية في المقام األول ،وما يهمنا هو الحديث عن الوظيفة النفسية التي تمألها األسرة العريضة معتبرين بذلك البعد اإلجتماعي أمراً مسلما ً به.
33
األسرة العريضة تملكية والعالقات ضمنها حب تملكي ،فاألب يمتلك األم واألوالد فيؤمن حاجاتهم ،واألم تحب األبناء فترعاهم بشكل تم لكي ،ومن خصائص الحب التملكي التساهل في كل شيء عدا الرغبة في االستقالل والتوجه وتلك هي الخطيئة التي ال تساهل فيها . االنتماء إلى األسرة بشكل ذوباني يمنع االنتماء إلى المؤسسات اإلجتماعية العامة وهي تسير مع المصلحة العامة طالما خدمت نفوذها وقوتها وتقوم ضدها إذا هددت مصلحتها الخاصة. األسرة الكبيرة ال تعترف بقيم المساواة والعدالة اإلجتماعية لذلك هي عقبة فعلية أمام التنمية ،كما انها تقاوم الميول اإلستقاللية والفردية ضمنها. هذه األسرة رغم ما تشكله من عقبة أمام التغيير إال أنها تلعب أدوارا نفسية هامة ،فهي تساعد العناصر الضعيفة على التصدي لألخطار وتعويض مشاعر انعدام االمن. فهي تقدم هوية لمن ال هوية له ومن عجز عن الحول على مكانه في المؤسسات اإلجتماعية يفخر بمكانته في أسرته وعشيرته. كما أن األسرة هي المنجا والمالذ والضمانة ضد األخطار ،فمثالً اإلنسان المعدم يمكنه في ا لحالة الطارئة الرجوع إلى أسرته. كما أن لألسرة ضمان من األخطار الطبيعية من خالل كثرة العدد. االنتماء األسري الذوباني وسيلة فعالة من وسائل تصريف العدوانية.
-3النشاط الفمي: الدالالت اإلجتماعية والنفسية للطعام معروفة ،فالطعام والدعوة إليه والمشاركة فيه وسيلة للتواصل بين الناس وإلغاء للعدوانية بينهم ،ومن الناحية النفسية هو أكثر النشاطات ارتباطا بالحب. والطعام وسيلة ممتازة لتدعيم العالقات التملكية داخل األسرة .فأالم تمتلك الزوج واألبناء من خالل حشو قنواتهم الهضمية. ولذلك نجد المرأة في العالم الثالث تتخذ من الط عام وسيلة لتوكيد ذاتها وبسط سيطرتها ،ولذلك ليس مستغربا إذا عرفنا بان األم هي أداة الدمج األولى في المجتمع المتخلف. والطعام تعويض عن اإلحباطات التي يعاني منها اإلنسان في المجتمع المتخلف.
ثالثا :الوضعية االتكالية اإلنسان المقهور الذي لم يتمكن من التصدي لقدره ،يلوذ بقوى تحميه ويجد نفسه في وضعية تبعية ،خاصة التمسك بالتقاليد والرجوع إلى الماضي والتماهي بأبطال القصص الشعبي والذوبان في الجماعة واألسرة والعشيرة وكل هذه هي وضعيات اتكالية تعوض ضعفه . وأبطال اإلنسان المقهور عديدون وجميعهم يتصفون بذات الصفات :الجبروت والقدرة على تغيير الواقع المؤلم والرحمة والعطاء دون حدود ،أول هؤالء األبطال هو بطل القصص الشعبية يليه األولياء ،ويتخذ تعبيره المحسوس الواقعي في صورة الزعيم المنقذ وعالقته باإلنسان المقهور وهمية ،فهي سحرية وتمثل األمل بالخالص السحري من وضعية مأزقيه.
34
والعالق ة مع الزعيم المنقذ هوامية ونوع من التماهي اإلسقاطي ،بمعنى ان اإلنسان المقهور يسبغ على شخص الزعيم كل تصوراته الطفولية بالقوة والقدرة ويجعل منه الصورة النقيض عن نفسه والتي يجتهد للهروب منها.
إن اإلنسان المقهور ال
يعيش عالقته مع الزعيم عالقة فعلية بإنسان آخر بل بين إنسان وتصور خرافي يسقط على الزعيم. صورة الزعيم المنقذ الذي يشكل المثل األعلى ضرورة حيوية للجماعة ،فهو عنصر تماسك أفرادها فمن خالل التماهي بالزعيم يتم التماهي بين أعضاء الجماعة فتتوثق العرى ويكون الشعور باالنتماء قويا ،وهذا الزعيم هو عنصر حاسم لدفع الجماعة إلى النهوض بأعباء التغيير. الخطر الذي يقع فيه العالم المتخلف ،هو تحول الزعيم المنقذ من قائد إلى بطل أسطوري ينخرط في وهم التغيير الفردي ،الخطر هو في انتشار صوره البطل األسطوري .فالزعيم البد من أن يفشل وإذا أصر على بقاءه في سدة الزعامة رغم فشله المتكرر فإنه سيتحول إلى متسلط. أما الجماعة فبعد الشك ستكفر وتستقر في خيبة أملها وقد تكرر خطأها في أمل سحري بخالص جديد ،إلى أن تعي دورها كعامل التغيير األساسي :الخالص من خالل الجهد الذاتي .
35
الفصل السادس التماهي بالمتسلط
36
التماهي بالمتسلط
مقدمة الفصل : فاإلنسان الذي ينشى ويتربى في بيئة بها مشاكل إجتماعية أو أسرية فإنه قادر على التعايش معها ،فلكل مجتمع عاداته وتقاليده ،فأصعب شيء هو الدخول إلى عادات أي مجتمع أو بيئة ومحاولة تغير فيها ألن من نشأ بها فهو يعرف جيدا ً كيفية التعامل مع بيئته ومجتمعه ،بينما يراها اآلخرون مشكلة كبيرة .
التماهي بالمتسلط يسمى أيضا ً بالتوحد . الهدف منه :التشبه باآلخرين في السلوك والمظهر ويمثل الشخص في تصرفاته . التماهي بالمتسلط قد يكون جزئي أو كلي ،،فالكلي قد يكون نادر الحدوث ألنه يفقد الشخص ذاته .أما الجزئي فهو شائع ويكون بأخذ جزء من تصرفات وصفات الغير . واألصل في التماهي بالمتسلط المشاركة الوحدانية بين الناس. والتماهي بالمتسلط يعتبر من العمليات النفسية األساسية لبناء الشخصية أو الذاتية. ومن الناحية النفسية الالوعية ال يحدث التماهي ب شكل فاتر .وإنما هو عملية نشطة تمر بسلسلة من التفاعل كالتلميذ الذي يتأثر بتوجيهات المعلم فهو يعتبره مثله األعلى.
التماهي بالمعتدي إن ابنة فرويد من خالل عملها العالجي مع األطفال الذين يعانون من اضطربات نفسية قامت باستخالصها وعرضها بالتفصيل مؤلفتها عن األنا وأوليات الدفاع . ويعتبر التماهي بالمعتدي في رأي ابنة فرويد من الوسائل الخارجية المولدة للقلق ،فمثالً الطفل الذي يخاف من االشباح في الظالم يغلب على الخوف لديه فيقوم بلعب دور الشبح وتخويف طفل آخر فمن خالل لعب األدوار يتحول الطفل من كائن مهدد إلى كائن مخيف فهنا حدث قلب لألدوار وبهذه ا لحالة يتخلص الطفل من الخوف لديه فهذه الطريقة تودي إلى التخلص من المخاوف ومشاعر الضعف الداخلية .فإنه يتخلص من ذلك كلعب دور االم التي تحاسب وتعاقب أطفالها فهو يصب مشاعره على األخ األصغر منه لكي يتخلص منها. التماهي بالمتسلط ينتشر بشكل أوسع في المناطق النامية ولذلك توجد له ثالثة أشكال رئيسية
37
/1التماهي بأحكام المتسلط. إن اإلنسان المقهور يلوم نفسه ويوجهها إلى الذات على شكل مشاعر ذنب ويحط من قيمته الجماعة التي ينتمي إليها فاإلنسان في هذه الحالة يعاني من رفض للذات وعدم اإلعتراف بها ويصب آالم الحقد كله على الذات وقد يصل اإلنسان المقهور إلى تدمير الذات .
/2التماهي بعدوان المتسلط. فاإلنسان المقهور هنا يقوم بقلب األدوار من أجل التخلص من مشاكله فيتسلط على الضحايا األضعف منه وفِي صفة التماهي صب قدراته في جميع النواحي على الشخص األضعف منه. بالعدوان المتسلط فاإلنسان يَ ْ
/3التماهي بقيم المتسلط وأسلوبه الحياتي في هذا النمط يقوم اإلنسان المقهور بالذوبان في عالم المتسلط ويقترب من اُسلوب حياته حتى يصل إلى المرتبة التي ترضي ذاته وبهذه الطريقة يصبح إنسان مزيف .
38
الفصل السابع السيطرة الخرافية على المصير
39
السيطرة الخرافية على المصير
ال يستطيع اإلنسان أن يتحمل وضعية القهر والعجز بباسطة أو أن يتقبلها بواقعيتها المادية الخام ،فال بد له من الوصول إلى حل ما يستوعب مأساته وإال أصبحت الحياة مستحيلة فإذا لم تتتيسر له الحلول الناجعة لجأ إلى الحلول الخرافية والسحرية . السيطرة الخرافية على الواقع ،والتحكم السحري بالمصير هما آخر ما يتوسلهما عندما يعجز عن التصدي والمجابهة .وهي أحد خطوط الدفاع األخيرة له . تزدهر هذه السيطرة الخرافية بمختلف أشكالها في عصور االنحطاط وما يصاحبها من تفشي الجهل والعوز وطمس إرادة القتال من أجل الحياة . تتحول هذه الممارسات إلى تجارة رائجة تنتشر في أوساط البسطاء من الناس تسلبهم القليل الذي يمكن أن يملكوه على أمل الخالص مما يحل بهم من أرزاء الحياة .ويحيط المعوذون أنفسهم ببعض المظاهر الغريبة في الملبس والمسلك والحديث ، يتوسلون مواد وأدوات وطقوسا ً وأدعية وظيفتها إبهار صاحب الحاجة وتعطيل أفكاره ودفعه إلى االستسالم لممارساتهم وطلباتهم الكثيرة والمعجزة . يتحالف المشعوذون مع التجار وأصحاب السلطان على اإلنسان المقهور لتحقيق مآربهم المشتركة ،ويشجع الحكام في هذه المجتمعات بوسائل مخت لفة أبرزها رعاية المقامات وذوي الكرامات وهو ما يحفظ لهؤالء الحكام مكانتهم ويحول األنظار عنهم كمسؤولين أساسيين عما يصيب المجتمع من تحلف وانحطاط أو ما يلم به من كوارث وأزمات . هناك دائما محاولة إللباس الممارسات السحرية والمعتقدات الخرافية لباسا ً دينيا ً يجعلها تصل مباشرة إلى قلب اإلنسان المقهور ويربطها بإيمانه الديني مما يزيد من سطوتها عليه ويدفعه إلى التمسك بها ،وتصل الخرافة إلى مرتبة تعطيل الفكر النقدي والتحليل الموضوعي للواقع واصطناع السببية المادية في التصدي له . تقوم أساليب السيطرة الخرافية على المصير ع لى أسس نفسية نكوصية يتقهقر اإلنسان المتخلف الذي يؤمن بها من العقالنية التي يجب أن تميز حياة الراشدين إلى مرحلة التفكير الطفلي ويقع في شرك التفكير الجبروتي الذي يخلط الواقع بالخيال والحقائق بالرغبات والصعاب المادية بالمخاوف الذاتية . تأخذ السيطرة الخرافية ع لى المصير طابعا ً ثنائيا ً في محتواها ،فهي تتلخص بأزواج من األضداد :استجالب الحظ ،تجنب النحس ،الحصول على الخير وإبعاد الشر ،األمل المتفائل بالمستقبل والخوف المتشائم منه ،إثارة الحب لدى اآلخر والحرب ضد عدوانيته .كل ممارسة خرافية تهدف إلى تحقيق األمرين معا ً ،هناك رابطة وظيفية دينامية تجمع مختلف هذه الممارسات في بنية متماسكة ونستطيع أن نميز من بينها ثالث فئات رئيسية :
40
أوال ً :السيطرة على الحاضر يتوسل اإلنسان المقهور أساليب عدة للسيطرة الخرافية على حاضره وإدخال شيء من الطمأنينة إلى نفسه إنه يتعلق ببعض ر موز الخير ويتقرب منها من خالل األدعية والنذور والقرابين ،ويخشى بعض رموز الشر ويلتمس سبيله إلى تجنب أذاها من خال ل السحر والكتابة والتعاويذ والرقى . يركز الخير كله والرجاء كله والبحث عن المالذ في األولياء يسقط عليهم الصور المثالية الطيبة التي تكمن في ال وعيه ،كما أنه يركز الشر كله والسوء كله والتهديد األساسي لوجوده في الجن والعفاريت والشيطان يسقط عليهم كل العدوانية المتراكمة في نفسه نتيجة اإلحباط والعجز . وهكذا يضع اإلنسان المقهور أمله في الصور الخيرة ورموزها الخرافية ،كما يسقط مخاوفه وعجزه ومشاعر ذنبه الناتجة عن فشله الوجودي على أعداء خرافييين بدورهم . يضاف إلى رموز الشر الماوراثية ( جن وعفاريت ) تفشي ظاهرة الحسد والعالقات االضطهادية بين اإلنسان المقهور واآلخرين . هنا وسائل دفاعية تتخذ طابعا ً خرافيا ً اضطهاديا ً معظم األحيان :
– 1األولياء ومقاماتهم وكراماتهم تنتشر وبكثرة ظاهرة التعلق بهم واللجوء إليهم ،وحيث يتعرض اإلنسان ألقصى درجات االعتباط من الطبيعة يأتيه كتهديد لقوته وصحته وولده . اإلنسان المقهور بحاجة إلى ولي لشدة شعوره بعجزه وقصور إمكاناته على التصدي والمجابهة والتأثير .ويحتاج إلى حمايته نظراً لشدة إحساسه بالعزلة والوحدة في مجابهة مصيره المحفوف بالمخاطر .فالولي مالذ ومحام يتقرب إليه ويتخذه حليفا ً ونصيراً وتسقط على الولي قدرات خارقة لها عالمات هيا الكرامات التي تميزه عن سائر البشر . ينقل الدكتوران بدران والخماش عن التاج السبكي أن أهم الكرامات أر بع وعشرون (( :إحياء الموتى ،كالم الموتى ،انغالق البحر والمشي على الماء ،إنزواء األرض ،كالم الجمادات والحيوانات ،إبراء العلل ،طاعة الحيوانات ،طي الزمان ونشر الزمان ،استجابة الدعاء ،إمساك اللسان ،جذب بعض القلوب ،اإلخبار ببعض المغيبات والكشف ،الصبر على عدم الطعام والشراب ،القدرة على تناول الكثير من الغذاء ،الحفظ عن أكل الحرام ،رؤية المكان البعيد من وراء الحجب ( ، بحيث يموت المشاهد من الرؤية ) ،كفاية هللا لهم الشر ،التصور بأطوار مختلفة ،إطالع هللا إياهم ذخائر األرض ،عدم تأثير المسمومات )) . من الواضح أن هذه الكرامات تشكل النقيض تماما ً لوضعية اإلنسان المهان واقعيا ً .وهي تجسد أماني الجماهير المغلوب على أمرها . تحدث الكرامات ألناس اصطفتهم العناية اإللهية دون أن يكون لهم في ذلك فضل أو إرادة .
41
تنتشر أضرحة األولياء ومقاماتهم في كل أرجاء المجتم ع المتخلف وتشكل نواة التجمعات السكانية ،كما أنها أماكن للحماية من غوائل الطبيعة والناس. ويقوم على هذه المقامات خدام وعلماء يسهرون عليها ويلعبون دور الوساطة بين صاحب الحاجة وبين الولي ويقودون خطاه في التقرب منه والدخول عليه من خالل مجموعة من الطقوس واألدعية واالبتهاالت . واألدعية في أساسها تقوم أمل سحري في الخالص من خالل اإلعتقاد بجبروت األفكار والكلمات وماتتضمنه من رغبات .إن األدعية تشيع نفسيا ً نوعا ً من االطمئنان إلى القدر والمصير وتبث هدوءاً في وجود اإلنسان المتأزم من خالل القناعة بأن هناك جهة ما ستتولى حلّ األزمة وتخليصه منها .
– 2الجن والعفاريت والشيطان كلها كائنات خفية لعبت دوراً بارزاً في السيطرة على خيال الجماهير المقهورة وتعليليها لألحداث التي تفلت من سيطرتها والتي يستعصي عليها تفسيرها .كما انها تستخدم لتبرير ما يود اإلنسان التستر عليه من فضيحة أو عيب أو تقصير بزعم الوقوع تحت تأثير الجن مما يساعده على الحفاظ على سمعته . هذه الكائنات الخفية تسقط عليها صور إنسانية وتقوم مجموعة من الخرافات حول عالقاتها ببني اإلنسان .كما تقوم بينها وبين بعض بني اإلنسان عالقات تحالف ضد أعداء معينين .وهي أخيراً تغ طي مسؤولية األسرة والجماعة في مرض الفرد وتتستر عليه . ومن الطبيعي أن يستفحل االعتقاد بالخرافات حول الجن العفاريت بين النساء نظراً لوضعية القهر المفرط التي تفرض عليهن في المجتمع النامي ،ومن الطبيعي أن تلجأ النساء إلى مختلف أساليب الشعوذة لحل أزماتهم الزوجية والعاطفية والجنسية طالما سدت أمامهن كل سبل التأثير الفعلي في الواقع المفروض عليهن ،وطالما استلبت منهن إرادة التحكم بالمصير . وهكذا تسقط على هذه الكائنات الخفية قدرات كبيرة على تحقيق ما يعجز المرء عن تحقيقه بجهده ،كما تسقط عليها كل المصائب والشرور األخط ار .ويتخذ اإلنسان المقهور في الحالتين وسائل معينة لدرء شرورها من ناحية ،واسترضائها وجلبها إلى صفه ،حليفة له في معركته مع أعدائه وخادمة لمصالحه من ناحية ثانية .ويبرز المشعوذون الذين يتاجرون بمآسي اإلنسان المقهور كوسطاء بينه وبين هذه القوى .
42
– 3الع القات العدائية ،الحسد والسحر يمكن السيطرة على الشر واالحتياط من األذى اآلتي من الخارج بوسائل دفاعية مالئمة تبطل تأثيره وتكف فعاليته تلك هي عالقة الحسد والسالح الذي تحارب به تعاويذ وكتابات سحرية . يجد المحسود في الحسد تفسيراً لظواهر فجائية من نوع النكبات ت لم به أو بذويه أو ممتلكاته .وتصيب بالضرر أو تذهب بما يكون قد حظي به من خير أو جاه أو امتياز على اآلخرين .وهو تفسير ينال الرضى عند المحسود إذ يسمح لعدوانيته أن تفجر بدون رادع متخذه طابع الدفاع عن النفس من شر الحاسد الذي حسد .إنه إسقاط لرغبة اإلنسان المحروم في امتالك دور المحظوظ .ويقوم الحسد أساسا ً على عقدة النقص والخواء الداخلي ومشاعر المهانة المرتبطة بها ومحاوالت التنكر لها والعين هي األداة األساسية للحسد ومايقابلها من استباق شرها وعدوانيتها في كلمة (يخزي العين) أمام كل حظ أو جاه أو وفرة في الرزق والص حة والجمال .العين الشريرة تدمر ما تحسده كي تمتلكه في حالة من النظار التملكي . أما التعاويذ فشائعة االنتشار منها :حدوة الفرس ،حذاء طفل صغير ،فرسة النبي ،خمسة وخميسة ،حلى ذات نقوش دينية ، رسم العين مصابة بسهم .وقد تتخذ شكل كتابات تدرأ شر الحسد مثل :ع ين الحساد تبلى بالعمى ،الحسود ال يسود ،من راقب الناس مات هما ً ،عاشق النبي يصلي عليه . أما الرقى فمتعددة بدورها وتختلف نصوصها وطقوسها باختالف البيئات . أما السحر فمكانته خاصة بين وسائل الحرب ضد الشرور التي تأتي اإلنسان من الخارج تاريخيا ً وعالميا ً .ويستخدم السحر لردّ األذى أو إنزال األذى باآلخر وكذلك ألغراض المساعدة على نيل المراد . للسحر إذاً وظيفة نفسية هي استجالب الحظ والنجاح أو إبعاد الخطر والشر ،وله وظيفة معرفية وهي سد الثغرات في المعرفة السببية لظواهر الطبيعة وما غمض منها والعالقات بين الناس وما يعتورها من إشكال . يميز (فريزر) في كتابه المشهور (الغصن الذهبي) بين نوعين من السحر يرجع كليهما إلى تطبيق خاطئ لمبدأ ترابط األفكار :هناك السحر باإلقتران ويتلخص بالحصول على أثر من الشخص المطلوب سحره ،والسحر بالتقليد فيعتمد على مبدأ ترابط األفكار بالتشابه :الحصول على نتيجة ما من خالل تمثيلها أو تقليدها . نزوة السيطرة هي إذاً المصدر النفسي لقوة السحر ولذلك فإن عنصر القوة والبراعة هام فيه .فهناك قوة الساحر المضخمة بشكل مفرط التي تبهر طالب السحر وتحوز إعجابه وتمكنها من السيطرة على الشخص المسحور الضعيف الذي ال قبل له بمقاومة تأثير السحر والساحر .فالعالقة بين الساحر والمسحور وطالب السحر هي دائما ً عالقة قوة خارقة يقابلها رضوخ قلق عند المسحور وإعجاب مفرط وأمل كبير عند طالب السحر .
43
ثانيا ً – السيطرة على المستقبل ال يفوق معاناة الحاضر عند اإلنسان المقهور سوى ق لق المستقبل .فبمقدار عجزه عن مجابهة حاضره يفلت منه مصيره . االعتباط الذي يتحكم بواقعه ال يسد آفاق المستقبل فحسب بل إنه يضرب حولها طوقا ً من الغموض واإلبهام .وهذا ما يجعل أمله مجرد ّ تمن ال ثقة له بتحقيقه وال قدرة له على تنفيذه .ويتضخم هذه القلق حتى يكاد يقترب من القلق المرضي . ال بد إذاً من وسائل للسيطرة على المصير واالحتياط للمستقبل ،وهي وسائل خرافية بالضرورة ،طالما أن الضمانات مفقودة >والتخطيط منعدم
– 1التطير يحس اإلنسان بأنه معرض الحتماالت متناقضة ،الحظ والخير ،أو النحس والشر ،األمن والمتعة ،أو الخطر والنائبة ،يأمل في الحصول على األولى ويخشى وقوع الثانية ،ويعيش في كال الحالتين بين خفقة الرجاء وقلق الخطر ،وحتى ال يستمر هكذا منتظراً الخطب كي يقع أو السعد كي يقع فإنه يحاول استباق األمور االحتياط لها ما أمكن . ويتلمس طريقه إلى ذلك االستباق في ع المات ومؤشرات خارجية .هذه المؤشرات رموز تأخذ شكل النذائر أو البشائر .و اإلنسان المتطير هو الذي يتخذ من األحداث الخارجية عالمات يضفي عليها معنى ومغزى . من عالمات الفأل الحسن الخارجية مثالً :حدوة الحصان ،فرسة النبي ،خمسة وخميسة ،أما عالمات الفأل الرديء البومة ، الرقم ، 13المرآة المكسورة ،ومن العالمات الحسية رف العين ،طنين األذن ،أكال باطن الكف ،أما العالمات السلوكية فمنها مثالً :كنس المنزل ليالً ،صب الماء الساخن على األرض ،فتح مظلة داخل المنز ل . والرمزية هي نواة الداللة في هذه العالمات بعضها واضح وحسي واآلخر يحتاج إلى تفسير ،ويشترك التطير مع السحر في إسقاط النوازع الذاتية على الظواهر الخارجية كما يشتركان في القوة المطلقة للفكر وما وراءه من مخاوف ورغبات وهما يشتركان في المقام الثالث في الوظيفة الدفاعية .
– 2تأويل األحالم يحتل تأويل األحالم مكانة فريدة بين أساليب السيطرة الخرافية على المصير في العالم المتخلف . ويعتبر من الناحية الشعبية يشير فأل حسن أو نذير شؤم ونوائب ،يبقى أن التطير والتفاؤل هما العامالن المشتركان بين أغلب التفسيرات الشعبية لألحالم . أمثلة على أحالم الفرج :البكاء في الحلم ،الطيران ،الصعود إلى الجبل . أمثلة على أحالم الضيق :الضحك في الحالم ،النار المشتعلة ،أكل التين . هذه التفسيرات ال تمكن اإلنسان من السيطرة على مصيره أو القدرة على تغييره ، ولكن التأويل قد يكتسب قوة دافعة في نهاية األمر .
44
– 3قراءة الطالع والعرافة قراء ة الطالع وكشف البخت والتنجيم وسائل يتوسلها اإلنسان لتلقي عجزه وإدخال الطمأنينة إلى نفسه .وهي تنطبق في تأثيرها من الحاجة إلى مجابهة قلق المجهول وما يتضمنه من تهديد مصيري . تقنيات قراءة الطالع متعددة وهي أقرب إلى الشعوذة أهمها ضرب الودع ،الكتابة بالرمل ،قراءة الكف . أما المحترفون من هؤالء فهم يخلطون بين العلم والروحانيات والشعوذة ،يصحبون ممارساتهم بتالوات هي مزيج من األلفاظ المبهمة التي ال معنى لها لغويا ً والتي تدل في زعمهم على لغة التخاطب مع الجن واألرواح . والقصد من ذلك اللعب على اإليمان الديني لطالب ا لحاجة وإثارة دهشته لتمكنهم من التلفظ بمستغلق األلفاظ الغيبية في مخاطبتهم لألرواح .
ثالثا ً :القدرية يأخذ الغربيون على اإلنسان العربي خصوصا ً والشرقي عموما ً قدريته واستسالمه للظروف دون أن يحاول التأثير فيها .كما يلومونه على تخاذله وسلبيته اللذين يعتبرونهما عيبا ً خلقيا ً حضاريا ً .ولم ينبه هؤالء إلى أن اإلنسان لم يتراجع إلى هذه المواقع القدرية االستسالمية إال بعد عصور طويلة من القهر الداخلي والخارجي وبعد استفحال الحرمان واتصال المآسي .فالقدرية هنا هي محاولة الدفاع األخيرة التي توسلها هذا اإلنسان كي يتمكن من االستمرار في الحياة . القدرية هي قانون االعتباط ،اعتباط الطبيعة التي تقسو أو تعطي دون أن يدري اإلنسان متى وكيف ولماذا واعتباط المتسلط الذي يحيط بوجود اإلنسان المقهور . ثم إن القدرية بهذا المعنى تحمل العزاء إلى اإلنسان ألن االمتحان الحياتي كتفكير عن آثام ارتكابها ال بد أن يتبعه الغفران على شكل فرج . القدرية إذاً تجنب المرء الصراع العنيف الذي ال بد أن يعصف بنفسه إذا ما ُوضع أمام مصيره دون أن يتمكن من السيطرة عيه بطريقة ما . ويستعين اإلنسان المقهور على كل ذلك باألمثال الشعبية التي تأخذ معنى الحكمة الحياتية أو معنى القانون الذي ينظم الوجود والذي يقرر لكل امرئ فيه مكانته ودوره . تلك كلها وسائل للسيطرة على المصير حين يتفاقم القهر ويستفحل عجز اإلنسان وتنعدم قدرته على التأثير في األحداث ،إنها دفاعات تساعد المرء على تحمل مصيره بالحد األدنى من الصراع النفسي .ولكنها تشكل بالطبع عقبة جدية في وجه النهوض لتغيير المصير كحل وحيد فعال في نهاية األمر .إنها تدفع بالمرء إلى االستسالم واالستكانة لألمر الواقع وبالتالي تعزز هذا الواقع وتحافظ على استمراريته .ومن هنا نشجيع الحكام والمستفيدين منه على انتشار القدرية ،فليس أفضل منها للحفاظ على امتيازاتهم .
45
الفصل الثامن العنف
46
العنف
كل اآلليات الدفاعية السابقة ال تمكن اإلنسان المقهور من حل مأزقه الوجودي بشكل مالئم يرد إليه توازنه النفسي ،فهي في معظمها ال تتصدى للواقع بل تتراوح ما بين الهروب منه والهروب فيه أو العيش في وهم السيطرة عليه ،حتى و إن كانت تحمل حلوالً جزئية لذلك المأزق فإنها ال تجنب المرء تراكم التوتر النفسي و الحقد الداخلي الذي يهدد باإلندثار ،لذلك ال بدّ من أوالية إضافية تفرغ هذا التوتر ،و تلك األوالية هي العنف .يبقى العنف هو الوسيلة و السالح األخيرة في يد اإلنسان لإلفالت من مأزقه ومن خطر االندثار الداخلي الذي يتضمنه هذا المأزق ،والعنف هو لغة التخاطب األخيرة الممكنة مع الواقع ومع اآلخرين حين يشعر المرء بالعجز عن إيصال صوته بوسائل الحوار العادي أو حين تترسخ القناعة لديه بالفشل في إقناعهم باإلعتراف بكيانه وقيمته .وهكذا فقد يكون عشوائيا ً مدمراً يذهب في كل اتجاه ،أو يكون بناء يوظف في أغراض تغيير الواقع. العدوانية هي آفة البشرية الكبرى ،و هي القوة التي يخشى شرها على الذات دائما ً وعلى اآلخرين أحياناً .لم تجد البشرية بعد سبيلها إلى وضع القواعد ال تي تسمح بمكاملتها نفسيا ً واجتماعيا ً ألغراض التقدم والخير المشترك .فإذا كان الحال كذلك ،فما هو م برر الحديث عن العنف في المجتمع المتخلف وكأنه وقف عليه؟ ذلك ا ن مالحظة الواقع تبين أنه إذا كانت ظاهرة عامة في مختلف المجتمعات ،فإنها تجد في المجتمعات المتخلفة تعب يرها األوضح واألكثر انتشاراً واألشد عنفا ً و فيه يبقى أن المجتمع المتخلف يضج بالعنف ،يمارس على إنسانه ويصدر عنه في آن معا ً في أكثر المظاهر سكونا ً ودعة و استسالما.
أوال ً :مظاهر العنف العدوانية تنخر وجود اإلنسان المقهور عموما ً وتنخره أكثر فأكثر في العالم المتخلف وهي عبء وتهديد للتوازن النفسي ،ودافع لإلقدام على العديد من تصرفات تدمير الذات كما أنها في الوقت نفسه دفاع وانتفاضة ضد التهديدات التي تأتيه من الخارج . وتتعدد أشكال العدوانية و درجاتها ،فالكثير منها مشترك بينه وبين اإلنسان في وضعية مأزقية بصرف النظر عن بنية المجتمع، وبعضها خاص ومميز لإلنسان المقهور تحديداً . تأخذ عدوانية اإلنسان المتخلف مظهراً فاتراً ،أو نشطا ً ( وتسمى عندها عنفا ً ) وذلك تبعا ً للظروف التاريخية للمجتمع من ناحية و لحالة كل فرد في لحظة ما من ناحية أخرى ،ففي الحالة األولى تفعل العدوانية فعلها بشكل خفي مقنَ ع بمظهر من السكون والسكينة واالستكانة الخادعة ،أما في الحالة الثانية فهي تنفجر صريحة مذهلة في شدتها واجتياحها لكل القيود والحدود ،مفاجئة حتى ألكثر الناس توقعا ً لها ،وبين هذين النقيضين هناك العديد من اإلحتماالت التي تتفاوت شدة ووضوحا ً .فهي قد تأخذ طابعا ً
47
رمزيا ً على شكل سلوك جانح ،أو قد تتخذ طابع التوتر الوجودي العام وتفشي العالقات اإلضطهادية ،كل هذه الحاالت مظاهر لحقيقة واحدة ،كما أنها درجات متتابعة على سلم العنف ،الذي يبدأ مقنعا فاتراً (وهو العنف المقموع) وينتهي صريحا ً ،ماراً بالعنف الرمزي واإلضطهادي .
-1العنف المقن َع يشيع العنف المقنَع مع ازدياد حدة القمع المفروض من الخارج من ناحية ،وازدياد إحساس اإلنسان بالعجز عن التصدي له من ناحية أخرى ،فالعنف المقنَع قد يرتد على الذات متخذاً شكل السلوك الرضوخي والميول التدميرية الذاتية ،أو هو يتوجه إلى الخارج على شكل مقاومة سلبية.
-1.1العدوانية المرتدة على الذات هذه العدوانية ال تجد طريقها إلى الخارج إال بشكل باهت وهزيل ال يساعد على تصريفها والتحرر من وطأتها داخليا ً ،ولذلك فهي ترتد إلى الذات وتعنف بها وتقسو وتسومها سوء العذاب ،إنها وضعية الرضوخ في سيكولوجية اإلنسان المقهور الذي يلوم نفسه و يحملها مسؤولية الفشل المصاحب لوضعية القهر و يوهمه بأنه كائن منحط خلق هكذا و سيظل كذلك .ذلكم هو الكفر بالذات الذي يشيع في فترات الهزيمة والنكسات في المجتمع المتخلف. تتضمن هذه اإلدانة للذات دفاعا ً عنها بشكل خفي ف من يدين ذاته يأمل في الحفاظ عليها من إدانة أشد وطأة كما يأمل في الوقت نفسه في إثارة مشاعر صفح ضميره. المرض الجسمي هو أحد أشكال ارتداد العدوانية نحو الذات ،فاإلنسان المقهور والمقموع الذي ال يستطيع اإلحتجاج والتمرد، أو حتى ال يستطيع الجهر بالشكوى يعيش مأساته من خالل جسده ،فاإلنسان المقهور يعبر بلغة الجسد من خالل المرض عن معاناته التي ال يسمح له بالتعبير عنها أو التي ال يستطيع مجابهتها و اإلعتراف بها كواقع نفسي ،إنه هرب من الفشل والعجز والتقصير في المرض .تلك ظاهرة كثيرة التكرار ،إذ يالحظ ازدياد القابلية للمرض بعد الفشل وفي فترات الهزيمة .نحن ال نتحدث هنا عن مرض جسمي محدد األسباب ،بل عن تلك الحاالت التي يلم فيها المرض بالجسم بشكل هائم وغامض تعالج شكوى جسدية كي تبرز غيرها ،وينتقل المريض من طبيب إلى آخر ومن تشخيص للعلة إلى تشخيص مضاد ،وهكذا . . . المرض هنا وجودي ،أو بلغة الطب نفسي جسمي.
-1.2العدوانية الموجهة الى الخارج مرحلة الرضوخ للمتسلط ال تخلو من مظاهر عنف موجهة إليه و التي تأخذ شكل الحرب على نظامه وقيمه وتحاول النيل منه بشكل خفي .أبرز هذه المظاهر الكسل ،فالمتسلط المستغل يغرس في اإلنسان المقهور قيم الجهد واإلنتاج ،يحاول قولبته حتى يصبح أداة منتجة تخدم أغراضه ،ويصل في ذلك حداً يفلسف له معها العمل المضني كشقاء فرضه عليه القدر وعليه أن يتقبله. هذه المحاولة يجابهها اإلنسان المقهور من خالل الكسل ،فهو يبذل الحد األدنى من الجهد المنتج و يضيع الكثير من طاقته دون مردود .ال يلبث في عمل ما أ ياما ً معدودات يجمع خاللها شيئا من النقود حتى يترك عمله ويعود إلى بطالته المتقطعة ،ويظل
48
هكذا مبدداً حياته بين بعض العمل والكثير من البطالة والكسل .كما انه يغرق في حالة من الخمول والجمود ،يفتقد المبادرة، ويفتقر إلى اإلبداع. هذه الظاهرة لطالما أثارت حفيظة أرباب العمل في المجتمعات المتخلفة ،فهؤالء يشكون من سوء تقدير وتدبير الناس المقهورين ويتهمونهم بالكسل والتقصير عن السعي والنهوض بأعباء مصيرهم .على كل حال يشعر رب العمل بدرجات متفاوتة من اإلحباط تجاه عدم استمرار العامل في عمله ،فهو يعرق ل له مصالحه وينزل الخسارة به وهو يثير لديه جرحا ً نرجسيا ً من خالل عدم تقدير قيمته في الجهد واإلنتاج والكسب ليعيش رب العمل هذه الوضعية في دخيلة نفسه على حقيقتها كعدوان عليه وانتقام منه ومن نظامه ولو تنكر لذلك ظاهريا ً من خالل سوق االتهامات وصب المالمة على بذرة السوء والجهل عند العامل. ال شك في أن للكسل في المجتمعات المتخلفة أسبابا ً أخرى هامة ،منها سوء التغذية واعتالل الصحة الناتج عنه وانخفاض القدرة على الجهد الدائم ،ولكن يفوقها أهمية اليأس الذي يستحكم في اإلنسان المقهور من انعدام إمكانية اإلرتقاء بوضعه وتحسين مصيره من خالل جهده الخاص .ويعادل هذا اليأس في األهمية تبخيس قيمة العمل والجهد بشكل مريع في المجتمع المتخلف الذي تنتشر فيه الرشاوي وتشيع األساليب الملتوية في اإلثراء وتستحكم الحظوة التي تعطي الحظوظ جميعا ً لقلة قليلة من الناس، وينتج عن الظواهر جميعا ً اإلقتناع بأن طريق الثروة واإلرتقاء ال يمر بالجهد الفردي والكدح هزيل المردود ،إنما يمر باإلستزالم والتقرب من ذوي الحظوة وبالحظ الذي يأتي أو ال يأتي دون أن يكون لإلنسان دور حاسم فيه. إمكانية االرتقاء أمام اليأس ،من خالل الجهد المستمر يتهرب اإلنسان المقهور من مصيره القاتم من خالل التماهي بوجاهة الطبقة ذات اإلمتياز التي تعيش عالة على تعب الفئات الكادحة .وبذلك يصبح الكسل وازدراء العمل دليل وجاهة .إن الميل إلى الكسل والخمول الذي يشيع في أوساط الفئات األكثر بؤسا ً وتأخراً في المجتمع المتخلف يشكل عقبة كأداء أمام مشاريع التنمية والتطوير الذاتي ،فالقناعة راسخة عند هذه الفئات بأن ال جدوى من الجهد الذي ال يمكن أن يعود خيره عليها كما علمتها تجاربها خالل تاريخها الطويل من االستغالل. باإلضافة إلى الكسل هناك عداونية أكثر صراحة من حيث توجهها ضد المتسلط ،وهي تخريب الممتلكات العامة التي تالحظ في ظروف الفوران في المجتمع ،يقبل المواطنون على تخريب وإتالف التجهيزات العامة في الطرق (كسر إشارات الضوء، اقتالع شجيرات الزينة ،اقتالع الحواجز على األرصفة ،إلخ ). . .مع أن الفائدة المباشرة منها تعود عليهم قبل غيرهم .إنهم في عملهم هذا يهاجمون رموز المتسلط إلحساسهم بأن ما هو عام ليس ملكهم ،والواقع أن اإلنسان المقهور في المجتمع المتخلف يحس بالغربة في بلده و يحس بأنه ال يملك شيئاً ،حتى المرافق العامة يحس أنها ملك للسلطة وليست مسألة تسهيالت حياتية له هو ،ذلك أن الهوة كبيرة جداً بينه وبينها و ما من خدمات وتقديمات تقدم له (إذا قدمت) كمنة أو فضل ،ال كواجب. من أشكال العدوانية التي تشيع ضد المتسلط وتتخذ شكل التعبير المقنع هو العدوان اللفظي بالنكات والتشنيعات على اختالفها. إنها ظاهرة ال يكاد يخلو منها مجتمع يعيش أهله في حالة رضوخ ،فالتشنيع والنكتة تعبير ان رمزيان عن العداونية التي تعتمل في نفس اإلنسان المقهور حين يستحيل التعبير المباشر. على أن اإلنسان يتعامل من خالل هذه األساليب مع المتسلط باللغة نفسها التي يستخدمها هذا األخير معه :الوعود الزائفة والخداع وغيرها .فالعالقة بينهما تخلو من االعتبار اإلنساني و من االعتراف بكيان اآلخر ،و تصبح العالقة بينهما مأزقية قد 49
تتضمن صراعا ً ال بد أن يبرز في لحظة أو أخرى على شكل تمرد وتحد يقابلهما قمع وإرهاب.
-2العنف الرمزي – السلوك الجانح السلوك الجانح هو الذي يعتدي على القوانين في مجتمع ما بصرف النظر عن محتوى الموانع التي تتضمنها هذه القوانين .لذا إذا أصبح خرق القانون هو األسلوب الرئيسي للتوجه السلوكي في الحياة فإننا نكون عندها أمام حالة انحراف فعلي بصرف النظر عن خطورة ذلك السلوك و نتائجه. السلوك الجانح مادي دوماً ،يتجسد في فعل محدد و نتائج معينة ،فالسلوك الجانح في مجتمع ما هو مؤشر على مقدار العدوانية الكامنة في شبكة العالقات االجتماعية ،و ذلك يتجسد في تصرف بعض األشخاص الخارجين عن القانون للداللة على ما يعتمل باطنيا ً في بنية ذلك المجتمع من اضطراب و ما يتراكم فيها من عدوانية كامنة قابلة لالنفجار في ظروف معينة. حجم االنحراف و نوعه و شدته يدلون على مدى أزمة المجتمع مثل الجرائم ضد الملكية أو الجرائم ضد األشخاص. مفهوم االعتداء على القانون في مجتمع القهر غير واضح تماما .الضوابط الخلقية الداخلية غير فعالة دائما و ليس هناك أخالق بين الفئات المقهورة هناك فقط خوف من السلطة و بطشها .و لذلك تشيع تصرفات االحتيال و الغش و الخداع و االستغالل و السرقة و التي تعتبر السلوك الجانح األكثر شيوعا في العالم المتخلف. يأخذ هذا الواقع شكال ضمنيا ً و مستتراً في حاالت السكون و االستقرار االجتماعي تعبر عنها فقط الفئة الجانحة و التي لم تتمكن من اإلفالت من المالحقة ،و قد يحدث في تاريخ المجتمع أن تهزل السلطة و تزول المالحقة ،و في هذه الحالة سنالحظ تفجراً للعدوانية الكامنة و قد يأخذ شكل االستباحة التي ال تعرف الحدود لممتلكات اآلخرين و حياتهم ،فإنسان العالم المتخلف الذي عانى من استباحة مزمنة لحقوقه و كيانه ال يجد أمامه إال اإلقدام على استباحة حقوق اآلخرين و بقدر ما يستطيع.
-3التوتر الوجودي و العالقات االضطهادية يعيش اإلنسان المقهور في حالة من التوتر الوجودي العام ،فتراكم العدوانية المزمن يلون الحياة جميعها بصبغة متوترة ،نتيجة لذلك تميل العالقات إلى أن تتخذ طابعا ً اضطهاديا ً يجعل إمكانية تفجر العنف المتعصب كبيراً .هذا التوتر العام و ما يصاحبه من عالقات اضطهادية يشكل حالة العنف الصريح الذي يتفشى في المجتمع المتخلف على عكس الحاالت السابقة التي يتخذ فيها العنف طابعا مقنعا و رمزيا.
-3.1التوتر الوجودي العام اإلنسان المقهور في حالة تعبئة نفسية دائمة استعدادا للصراع .نالحظ ذلك من حالة التوتر العام الذي يبدو جليا ً على محياه و في حركاته .فتطغى االنفعالية العاطفية على الحوار و العالقة ،و سرعان ما تطمس العقالنية مما يقود إلى انهيار التفكير المنطقي و يحجب وضوح الرؤية و يشل القدرة على تفهم االخرين .و سرعان ما يحس بانعدام إمكانية التفاهم فتغشى بصيرته موجه من االنفعال من الكالم يتدهور الحوار إلى سباب ثم إلى تهديد ثم اشتباك .و أحيانا ينفذ التهديد باستخدام العضالت أو السالح ،و ذلك ألن هناك احساسا ً دفينا ً بانعدام فعالية اللغة الل فظية و أسلوب اإلقناع فيتحول األمر بسرعة إلى الحسم السحري
50
(العضلي أو الناري) من خالل اإلخضاع. و مما يزيد من تصعيد التوتر العام ،أن كال من الطرفين معبأ تماما ،وهكذا يكفي أقل اصطدام أو صدام حتى ينفجر الموقف بشكل يصعب ضبطه و تهدئته. جنايات القتل الفجائي إثر خصام آني ليست نادرة في المجتمع المتخلف ،خصوصا عندما يصبح على عتبة انفجار عام على العنف الكامن في بنيته .هذه الجنايات التي تثير صدمة بين المواطنين تتراوح بين الذهول و الذعر هي في الحقيقة نذائر على ارتفاع درجة التوتر العام إلى حد خطير في المجتمع ،ارتفاعا بدأ يهدد باجتياح كل الحدود و يتجاوز كل المحرمات. إن التوتر الوجودي العام و ما يصاحبه من تجرف للعنف الدموي و الغير دموي ليس وليد بدائية نفسية كما اعتقد بعض علماء الغرب الذين قالوا بعاطفية و انفعالية إنسان العالم المتخلف ،بل هو وليد وضعية مأزقية تشكل إحدى خصائص بنية القهر التي يتميز بها هذا العالم.
-3.2العالقات االضطهادية – التعصب و الفاشية إن الوضعية التي تتميز بالتوتر الوجودي العام و تتضمن أخطارا ًتتهدد أمن المواطن غير محتملة .فهي تهدد وحدة الجماعة بالتفكك و تهدد إمكانية االستمرار في االنتماء إليها مما يفجر قلق الوحدة و الهجرة في مجابهة الخطر ،و بالتالي فإن دينامية المجتمع ال بد من أن تتحرك كي تجد حالً لهذه العدوانية المتراكمة بشكل يحفظ حداً أدنى من التماسك لبنيته. الوسيلة األكثر شيوعا في العالم المتخلف هي توجيه العدوانية إلى جماعات خارجية من خالل التعصب العرقي أو الطائفي و ما يرافقه من ميول فاشية. نظرة إلى مختلف المجتمعات المتخلفة تبين بجالء انقسامات داخلية ،فينقسم السكان إلى جماعات و طوائف مختلفة االنتمائات العرقية أو القومية أو الدينية ،متصارعة فيما بينها .و قد يكون هذا الصراع صريحا متفجراً أو يظل كامنا ً يع تمل في الخفاء و ينخر بيئة المجتمع مهدداً وحدته و لكنه موجود أبداً .و بالطبع يستغل المتسلط الخارجي الذي يريد إحكام سيطرته على المجتمع هذه التناقضات مفجراً إياها ،أو مهدداً بهذا التفجير من أجل فرض رغباته التي تذهب عادة في اتجاه االستغالل. الجماهير المغبونة و المقهورة متعطشة بشكل مزمن للقوة في مختلف رموزها و عبر شكلها األساسيين :البطش و الغلبة من ناحية ،و العظمة و التعالي من ناحية ثانية .فهي مستعدة لالنقياد وراء زعيم عظامي يفجر ميولها للتشفي و العظمة و يعبر عنها، ذلك هو الزعيم الفاشي .إنها تنساق وراءه و تستسلم له بشكل رضوخي طفلي ،تتعطل فيه إرادتها و قدرتها على االختيار و النقد و ال يبقى سوى طاقة انفعالية متفجرة تفيض على كل شيء .فالجماعة المقهورة عاطفية انفعالية تعشق الرضوخ لرموزها و ابطالها و تنحرق عطشا ً لإلثارة االنفعالية و التهيج الذي يلهب حماسها. تتشبث الجما هير المقهورة بقيادة من هذا النوع تشعرها بالحياة و تعوض لها نقصها و تستبدل مشاعر العجز بأحاسيس الجبروت و السيادة.
51
اإلنسان المقهور معرض للوقوع في التعصب و االنجراف في الموجات الفاشية ،مشكالً وقودها الذي به تتأجج مع مصلحته وهي بالضبط في مقاومتها و التصدي لها ،فالعنف الفاشي و المتعصب ال يحمل سوى و هم الخالص ،إنه حل سحري و انتحاري في آن واحد.
ثانيا :النظريات النفسانية في العدوانية و العنف العدوانية مشكلة حقيقية من مشكالت البشرية األساسية .لم تعجز القوانين و القواعد وحدها عن حل هذه المشكلة ،بل إن المذاهب الف لسفية و العلمية المختلفة قد عجزت حتى اآلن عن وضع نظرية متكاملة تفسرها. النظريات التي حاولت تفسير العدوانية عديدة جداً ،كل منها يفيدنا في بعض النواحي و لكن أيا منها لم يقدم تفسيراً شامالً .إذا كان هذا شأن النظريات التي وضعت لتفسير العدوانية في المجتمعات الغربية ،فإن العدوانية و ما تتسم به من مظاهر عنف في البلدان النامية ال زالت بحاجة إلى صيغة تفسيرية تراعي خصوصية التخلف اإلجتماعي. ال بد قبل الخوض في النظريات من إزالة االلتباس حول أسطورة العدوانية الهمجية و العدوانية الحيوانية الشرسة التي يتمسك بها أفراد الم جتمعات المتحضرة ،فالعدوانية بال حدود ليست سوى أفكاراً منمطة ذات طابع تحيزي يهدف إلى إسقاط ما يخشاه هؤالء في أنفسهم على كائنات غريبة أو أدنى منهم.
-1وجهة نظر علم نفس الحيوان أما في العالم الحيواني فقد أبدع كونراد لورنز في دراسة العدوانية و خصائصها مبينا ً أن شراسة الحيوان المفترس و دمويته ليستا سوى أسطورة ،مبينا أن العالقات الدموية و العدوانية المفرطة ال تالحظ إال بين الحشرات ،أما بين الحيوانات الفقرية فللعدوانية وظيفة محددة في األمور األربعة التالية : الدفاع عن المجال الحيوي ،عن الطريدة أو عن منطقة الصيد البحث عن الغذاء المكانة المرتبية ضمن الجماعة التزاوج و أضاف لورنز :مأساة اإلنسان بعدوانيته التي تنفجر عنفا ً و شراسة و حقداً تعود إلى فقدان الكوابح الغريزية لعدوانيته التي حلت محلها الكوابح الخلقية و الحضارية .و لكن المشكلة أن هذه لم تصل بعد درجة الفعالية التي تحصنه ضد عدوانيته كما هو شأن الحيوان .و هكذا فنفس العوامل التي ارتقت باإلنسان فوق كل الكائنات الحية ،وضعته في وضعية محفوفة بالخطر. العدوانية غريزة تلقائية ،فهي ليست مجرد رد فعل على مثير خارجي محبط ،فهي تتحرك تلقائياً .و إذا لم تجد لها فرصة للتفريغ فإن عت بة إثارتها تهبط بشكل ملموس ،إذا لم تجد العدوانية لها عدواً خارجيا ً تصرف من خالل التهجم عليه ،فإنها ستتوجه إلى داخل الجماعة في تناحر شديد يقضي على حدتها متعلالً بأوهى أسباب الخالف. 52
على العكس من ذلك هناك الحماس المناضل و هو نوع من العدوان المشترك يرتبط بالحاجة إلى االنتماء و يستند الى استجابة غريزية للدفاع عن الجماعة ،و يظهر عند الحيوان و اإلنسان على حد سواء .و لكنه قابل للتعلق بموضوعات و أهداف متعددة عند اإلنسان على عكس الحيوان الذي يتخذ شكل االستجابة المقننة غريزيا ً من حيث الموضوع و الهدف. يضيف أنطونيني أن الحقد هو أهم ما يميز عدوانية اإلنسان عن عدوانية الحيوان ،فليس هناك حقد عند الحيوانات .كما أن عدوانية الحيوانات ال تصل أبدا درجة االستقاللية التي تالحظ عند اإلنسان.
-2وجهة نظر التحليل النفسي هنالك عدة وجهات نظر حول العدوانية و العنف يقول بها المحللون النفسيون على اختالف نزعاتهم ،انطالقا ً من أراء فرويد وما حدث بصددها من انشقاقات .يقول فرويد بنزوتين أساسيتين هما نزوة الحياة و نزوة الموت .أما نزوة الحياة فهي المسؤولة عن كل رباط إيجابي مع اآلخرين و عن كل عالقة عاطفية متعاطفة ،على العكس منها ،نزوة الموت و التي تهدف إلى التدمير و تفكيك الكائن الحي و العودة به إلى وضعية الجماد ،فهي إذا توجهت إلى الخارج فإنها تأخذ كل أشكال العدوانية و التدمير و العنف ،أما إذا توجهت إلى الذات فإنها تأخذ طابع مشاعر اإلثم و إدانة الذات و القسوة عليها على عكس نزوة الحياة التي إذا ما تركزت في الذات تشكل أساس و مصدر كل اعتبار ذاتي. و من رأي فرويد أن الليبيدو (وهو الطاقة الجنسية الممثلة لنزوة الحياة) في صراع مفتوح مع غريزة الموت ،فمهمة الليبيدو هي لجم نزوة الموت و منعها من تدمير المتعضي و ذلك بتوجيه القسم األكبر منها إلى الخارج .فالنزوتان تتفاعالن داخليا و خارجيا و ال توجدان إال في حاالت نادرة بشكل صاف .أمر آخر من الضروري اإلشارة إليه هو أن هاتين النزوتين ال تمارسان تأثيرهما كطاقتين حيويتين بشكل خام ،بل هما تركزان منذ الطفولة في العالقات مع األم خصوصا و الوالدين بشكل عام. تلك هي باختصار وضع ية النزوات .و لقد اختلف المحللون النفسيون حول أولويتهما ،فهناك من يتبع فرويد و يتمسك بتقسيمه و أشهر من يمثل هذا التيار ميالني كالين و مدرستها ،و هناك من ينكر أولوية نزوة الموت و ينكر وجودها و أشهر هؤالء هو رايش. طبقا لمدرسة كالين ،إذا ظلت نزوة العدوان على حالتها فإنها تهدد المتعضي بالتدمير من الداخل .و كذلك نزوة الموت باندماجها مع نزوة الحياة و توجهها إلى الموضوع األول الهتمام الطفل و هو األم تخلق صراعات عنيفة داخل الطفل ،فهو يخشى من ميوله التدميرية على ذاته و على عالقته مع أمه و على صورتها التي تكونت لديه ،و لهذا فإنه يحتمي عادة بنزوة الحب من الخطر التدميري الذي تتضمنه نزوة الموت .و لكن هذا ال يكفي ،بل ينشط الجهاز النفسي للطفل كي يتسلح بعدة أواليات دفاعية. تقول بوال هايمن (من أتباع ميالني كالين) " :إنه في حالة القسوة العمياء يحدث نوع من الكارثة النزوية ،فلسبب ما ينكسر الدمج بين النزوتين األساسيتين ،و تستيقظ نزوة الموت داخل الشخص إلى درجة قصوى ،دون إمكان تلطيفها بتدخل نزوة الحياة .الدفاع األكثر بدائية ضد نزوة الموت هو التحويل الفظ للخطر الداخلي إلى الخارج بصبه على ضحية ما" .و تقول بهذا الصدد" :إنه بسبب ضرورة تحويل الحقد و التدمير ،وفي المقام األخير نزوة الموت من الذات إلى الموضوعات ،نحن بحاجة إلى موضوعات سيئة و نحن نخلقها إذا لم نجدها في متناولنا". 53
مهما يكن من أمر نزوة العدوان هذه ،فإن ما نستطيع االستفادة منه بال جدال من وجهة نظر ميالني كالين و أتباعها هو هذه الدينامية النفسية التي توضح الصراع العالئقي :التنكر للعدوانية الذاتية و لمشاعر اإلثم الذاتية و إيجاد موضوع ضحية يجسدها و يعبر عنها في الخارج و التهجم عليه لدرجة إبادته. هناك نفر يربطون بين الميول التدميرية و إحباط تحقيق الذات عموما ً أو اإلحباط الجنسي خصوصاً ،فهؤالء ينكرون إجماال ًربط العدوانية بنزوة الموت كنزوة أولية. يقول يونج" :إن المرء يمكن أن يشعر بالذنب ال على أثر فعل ممنوع ،و لكن أيضا عندما ال يستطيع الوصول إلى تحقيق ذاته، هذا الشعور بالذنب هو الذي يولد عدوانية غير محدودة". و يذهب ماندل المذهب ذاته حين يقول" :ال جدال في أنه يوجد عند اإلنسان قوة استثنائية من النزوات العدوانية التي يمكن ارجاعها لما سميناه سابقا الجرح النرجسي األصلي الذي يتغذى فيما بعد من مجموع إحباط و قيود وتبعية الطفولة ،يجب أن تعتبر العدوانية في الواقع كجواب األنا على معاناة النرجسية". أما رايش فهو يحتج على التشويش بين مصطلحات العدوانية ،السادية ،التدمير و غريزة الموت .و يقول إنه لم يجد في أبحاثه أن أصل الحقد ،رغبة في الموت ،أو غريزة موت كنزوة أولية .من رأيه أن للعدوانية و نزوة التدمير هدفا ً دفاعيا ً هو الحفاظ على الحياة ،فالتدمير في و ضعيات الخطر ينبع من الرغبة في العيش و الرغبة في تجنب ألم القلق ،و الغريزة التدميرية تخدم هدف الرغبة في الحياة ،فالتدمير و العدوان هما في خدمة إرادة الحياة. و أيضا ال ننسى ذكر نظرية دوالر الذي يقول بأن كل توتر عدواني ينتج عن اإلحباط ،فشدة العدوانية تتناسب م ع شدة اإلحباط و قوة الحاجة المحبطة ،فتزداد العدوانية مع نمو عناصر اإلحباط. هذه اآلراء جميعا ً على ما فيها من تناقض نظري إال أنها تلتقي في نتائجها العامة فيما يمكن أن نسميه نزوة السطوة أو السيطرة، عند هذه النقطة ال بد من وقفة سريعة عند السادية. السادية في أساسها حالة نفسية عامة ،وضعية عالئقية مع اآلخر تتخذ طابعا ً مأساويا ً أكثر منها مسألة حصول على اللذة الجنسية من خالل إنزال األلم بالقرين ،السادية الجنسية هي حالة نوعية خاصة من السادية العامة بهذا المعنى تنطلق السادية مما يمكن تسميته بنزوة السطوة ،إنها سيطرة عل ى اآلخر و حط لشأنه من أجل إعالء شأن الذات بواسطة العنف.
-3وجهة نظر ظواهرية تنطلق هذه النظرية من دراسة التجربة الذاتية لإلنسان في تفاعله العالئقي مع اآلخرين .فالعنف هو نتاج مأزق عالئقي ،أما العدوانية فهي طريقة معينة للدخول في عالقة مع اآلخر حيث يقول إينار" :توكيد الذات يتم من خالل إنكار اآلخر بواسطة العنف". حللت هذه النظرية في دراستها لمسار العنف التحوالت الذاتية التي تتم عند المعتدي و كذلك التحوالت التي تصيب عالقته باآلخر ،و هي تحوالت ال يمكن دونها االعتداء على اآلخر .فليس هناك عنف مجاني أو اعتباطي أو فجا ئي أو بدائي كما يتصور
54
البعض .العنف الذي نراه هو وليد عملية تغير بطيء داخليا ً و عالئقيا ً يقضي على عواطف الحب و المشاركة ليفجر مكانها العنف. أولى خطوات السير نحو السلوك التدميري هو فك االرتباط العاطفي باآلخر لتحل مكانها مشاعر الغربة و العداء و االضطهاد مما ي ؤدي إلى ظهور األنوية و التقوقع على الذات أو الجماعة المرجعية .و يرافق فك االرتباط العاطفي سحب كل التوظيف العاطفي من اآلخر و إرجاعه إلى الذات فتتضخم أهميتها على حساب الخارج الذي تبخس قيمته ،فيطغى البرود العاطفي لدرجة قد تصل إلى حد انعدام الحساسية كليا ً تجاه الضحية ،هذا البرود هو الذي يجعل المعتدي يقدم أحيانا ً على فعل القتل أو اإلبادة ببرود كلي. فك االرتباط العاطفي و ما يرافقه من برود عاطفي يخلق غربة كبيرة بين المعتدي وضحيته ،حيث تقمع مشاعر الحب و المشاركة و تنفجر مشاعر الحقد الذي يؤدي الى العنف ،و حتى يتجسد هذا العنف في فعل تدميري فإن المعتدي يمر بتحوالت عدة تزيل عنه المسؤولية و تضعها على الضحية.
ثالثا :محاولة لفهم العنف في المجتمع المتخلف العنف في المجتمع المتخلف بحاجة إلى نظرية نوعية تنطلق من واقعه تحديداً ،إذ أن النظريات التي ذكرناها ال تحيط به و التستو عبه لحظة انفجاره و إن كانت تسلط بعض األضواء عليه .فليس من الممكن وضع نظرية كهذه إال انطالقا ً من دراسات ميدانية عدة تحتاج إلى وقت و تضافر جهود الباحثين في العلوم اإلنسانية. نحن تقترح تحليل عالقة القهر التي تستحكم باإلنسان في المجتمع المتخلف و ما تتضمنه هذه العالقة من تبخيس و هدر إلنسانيته .ففي رأينا أن العنف هو الوجه اآلخر للقهر و اإلرهاب ،أو على العكس ،اإلرهاب و القهر هما الوجه الخفي للعنف في العالم المتخلف ،فكلما تصعد اإلرهاب زاد احتمال انفجار العنف الكاسح و هذا االحتمال ال يقابل إال بمزيد من القهر و القم ع ،و ال ينتج عن هذين سوى رضوخ مشدود يتفجر عند أول بوادر تراخي السلطة ،و لذلك قلنا ليس هناك ضوابط خلقية عند اإلنسان المتخلف بل هناك خوف من القمع الخارجي و عندما يزول هذا الخوف ينفجر العدوان متخذاً شكل العنف. عالقة االنسان مع السلطة في المجتمع المتخلف عالقة خاصة جدا ،فالسلطة ال تعرف من أساليب التعامل إال سوى اإلرهاب و القمع و التضليل ،فردود فعل السلطة عنيفة و مباشرة و تأخذ طابعا ً مادياً .ليس هناك عالقة تكافؤ أو حوار بين السلطة و الجماهير في المجتمع المتخلف ،ليس هناك اعتراف متبادل تحفظ التوازن العالئقي. و هكذ ا فإن عالقة القهر بما تتضمنه من قمع و إرهاب و تضليل تخلف وضعية خاصة جداً مولدة للعنف بمختلف وجوهه و يمكن بحث هذه الوضعية من خالل حالة قطبي العالقة :صورة الذات عند اإلنسان المقهور و صورة المتسلط التي تتكون لديه. أما صورة الذات فتتلخص بشعور مثير للذعر بانعدام القيمة و بهدر إنسانية نظراً الستحالة التعبير عن الذات ،هذه الوضعية تفجر أكثر درجات العدوانية بدائية و تدميراً متخذة شكل نزوة السطوة و البد لهذه النزوة من جماعة يقودها زعيم اضطهادي ينتمي إليها كي يتمكن من التعبير عنها.
55
ما عدا القمع الخارجي و الخوف ،تبقى عدوانية اإلنسان المقهور دون توازن داخلي من قوة مضادة تكبح جماحها و تلطفها ،ذلك ألن نزوة الحياة (الجنس و الحب) الكفيلة وحدها بالقيام بهذه المهمة ال تفلت من القمع في المجتمع المتخلف ،إذ أن كل قمع ال بد له من بغية إحكام سيطرته على اإلنسان من فرض قيوده على حيا ته الجنسية .القمع الجنسي يعطل تدخل نزوة الحياة لضبط نزوة الموت و هكذا تنفجر العدوانية دون ضابط و يتسرب الجنس من خالل هذه العدوانية بتصعيد خطورتها من خالل تحويلها إلى حقد. و أما صورة المتسلط ،فهي بدورها عامل تفجير العدوانية ،فهي تعاش كسلطة مهددة ال يتمكن المرء من التماهي اإليجابي بها، انعدام التماهي يجعلها تظل خارجية و تعاش بشكل اضطهادي و هي في الحقيقة كذلك ،نظرا لما تتصف به من عدوانية و ما تحمله من تهديد ،وحده الرضوخ يظل ممكنا إزاءها ،و االحتمال اآلخر تجاهها هو التحالف ضدها ،و أما االحتمال األخير فهو التماه ي بها من خالل أوالية التماهي بالمعتدي و ذلك يفجر العدوانية التي تتوجه نحو الخارج في أفعال سيطرة و نيل من الضعفاء و اعتداء على كل ما يمكن االعتداء عليه. و طالما استحال التماهي مع صورة إيجابية متعاطفة و حامية للحاكم فإن ذلك يزعزع روابط االنتماء إلى الجماعة و اإلخاء في المواطنية .ففقدان روابط االنتماء االجتماعي يعود مباشرة إلى فقدان االلتزام تجاه اآلخرين و فقدان االحترام لما هو عام و مشترك مما يفتح السبيل أمام بروز االنوية المفرطة ،تنهار قيمة اآلخر في هذه الحالة و هكذا تسود األنانية على حساب المصلحة العامة و ت برز هذه األنانية عندما تضعف أو تغيب السلطة ،عندها ينعدم الشعور باالنتماء و يولد عند اإلنسان قلق الوحدة و قلق التهديد الذي يأتيه من اآلخرين مما يفجر عدوانيته بال حدود. باإلضافة الى انهيار االنتماء االجتماعي و المشاركة في المواطنية ،تعطي صورة المتسلط نموذجا سلبيا ً يشجع على فقدان االلتزام تجاه اآلخرين .السلطة في المجتمع المتخلف فرصة من أجل التسلط و االستغالل و هكذا فكل من تمكن من شيء من قوة أو سيطرة فإنه سيسلك النهج نفسه. و هكذا ،فإذا كان القهر من خالل اإلرهاب و القمع هو الحقيقة التي تعشش في بنية المجتمع المتخلف تنخرها و تلغمها ،فإن العنف على مختلف صوره ال بد أن يكون السلوك األكثر شيوعا ً حين تسنح الفرص .تلك هي كارثة الرباط اإلنساني طالما لم تتغير العالقة بأخرى أكثر مساواة تعيد االعتبار الى الحاكم و المحكوم.
56
الفصل التاسع وضعية المرأة
57
وضعية المرأة
المرأة هي أفصح األمثلة على وضعية القهر بكل أوجهها في المجتمع المتخلف ،ففي وضعيتها تتجمع كل تناقضات ذلك المجتمع .كل األواليات الدفاعية التي سبق الحديث عنها تتجمع عندها. تتجمع في شخصية المرأة ،أو باألحرى في النظرة إليها أقصى حاالت التجاذب الوجداني ،فهي أكثر العناصر اإلجتماعية تعرضا ً للتبخيس في قيمتها على جميع األصعدة :الجنس ،الجسد ،الفكر ،اإلنتاج ،المكانة .و يقابل هذا التبخيس مثلنة مفرطة ندر أن وجدنا لها مثيال عند الرجل ،هذه المثلنة تبدو في إعالء شأن األمومة و إغداق الصفات اإليجابية عليها .و هكذا تتفاوت مكانة المرأة في نظر الرجل و نظر المجتمع عموما ً بين أقصى إرتفاع و بين أقصى حاالت التبخيس. و من حاالت التجاذب الوجداني األخرى ،تذبذب الموقف منها ما بين التبعية و الطفلية ،فهي تابع ال حرية له و ال إرادة و ال كيان ،إنها ملكية األسرة منذ أن تولد و ح تى تموت و على العكس من ذلك نجد صورة المرأة المرجع (خصوصا األم) التي يقف منها الزوج و األبناء موقفا ً اتكالياً. على المستوى اإلجتماعي نالحظ التذبذب الهائل في الموقف من المرأة و إحاطتها بمجموعة كبيرة جداً من األساطير التي أسلبها كيانها اإلنساني بما فيه من أوج ه قوة و ضعف .و على المستوى الال واعي تتحول المرأة الحقيقية من لحم و دم وإحساس إلى مجرد سند هوامي لكل العقد و المآزم و المخاوف .ليس أكثر مثلنة و تبخسا ً للمرأة على المستوى اإلجتماعي من مكانتها في ال وعي الرجل المقهور ،فإسقاط العيب و العار و الضعف عند الرجل على المرأة إجتماعيا ً يقابله إسقاط نقص الخصاء و خجله على المستوى الالواعي .المرأة أداة المجتمع و خصوصا ً المتسلط و هي في الوقت نفسه أداة الرغبات الالواعية ،وفي كال الحالتين تحرم من االعتراف بوجودها ككائن قائم بذاته ،القوانين المدنية و الدينية التي تقيد المرأة في حريتها و قدرتها على اإلختيار و التي تخدم أغراض السيطرة اإلجتماعية عليها كأداة لإلنجاب و اإلمتاع و اإلنتاج و أغراض السيطرة الهوامية على كيانها .و في كال الحالتين تستخدم كوسيلة للتعويض عن المهانة التي يلقاها الرجل المقهور إجتماعياً ،و في الحالتين تفرض عل ى المرأة وضعية من القهر تقضي على إمكاناتها الذهنية و اإلبداعية و اإلستقاللية و المادية. تلكم هي في نظرنا أقصى حاالت الغبن و اإلستغالل اللذان يصيبان المرأة باعتبارها أكثر العناصر قهراً في المجتمع ،و لكن الواقع ان طبيعة المرأة ال عالقة لها بهذا القهر ،فالفرو ق البيولوجية و التشريحية بين الرجل و المرأة ال تبرر ما فرض على كيانها من تبخيس ،الواقع البيولوجي يذهب في اتجاه معاكس تماماً ،فالمرأة أكثر مناعة من الرجل و انبناؤها البيولوجي الوراثي أكثر متانة و كذلك فإن الرصيد العصبي الدماغي الذي تولد فيه ال يقل عن رصيد الرجل و الفرق هو في المكانة التي تعطى لكل منهما و ما فيها من فرص تنمي إمكانات الرجل و تطمس إمكانات المرأة. أما العاطفية الزائدة و سيطرة االنفعاالت و استفحال الخرافة عندها فهو ليس سوى ثمرة ما فرض عليها من تجهيل بسبب حرمانها من فرص تنمية طاقتها الذهنية التي تسمح وحدها بسيطرة العقالنية و المنطق.
58
و هكذا فنحن لسنا بصدد كيان و خصائص بيولوجية أو ما يشيع تسميته بطبيعة المرأة ،بل إننا بصدد وضعية تفرض عليها و مكانة تعطى لها.
أوال :مالمح وضعية القهر يتناسب القهر الذي يفرض على المرأة مع درجة القهر الذي يخضع له الرجل في المجتمع ،فكلما كان الرجل أكثر غبنا ً من مكانته اإلجتماعية مارس قهراً أكبر على المرأة .و يمكننا بهذا الصدد أن نميز بين حاالت عدة نختار منها مستويات ثالث أساسية منها :وضعية المرأة في الطبقة الكادحة ،وضعية المرأة في الطبقة المتوسطة و المثقفة و وضعية المرأة في الفئة ذات االمتياز .تالحظ هذه المستويات عموما ً في األوساط الحضرية أما في األوساط العشائرية المغلقة فوضع المرأة أفصح تعبيراً عن هذا الواقع حيث يختصر كيانها كله في جسدها الذي حول من مجرد أداة تتحدد قيمته بإنجاب الصبيان ،وعندما يتستنزف تهمل المرأة و يتحول ال رجل السيد عنها إلى غيرها .و المرأة في هذا الوسط تعتبر أداة للتحالف و التالحم و ال وجود لها خارج إطار هذا الدور ،قيمتها كلها تتمحور حول عفافها الجنسي المتمثل سطحيا بغشاء البكارة .إن ربط الفتاة بالبكارة وربط شرف الرجل باألمر نفسه يشير إلى مدى الركاكة التي تم يز اعتباره الذاتي و مكانته بين اآلخرين و مدى عظم األخطار التي تهدد هذه المكانة.
-1المرأة في الوسط الكادح و ما تحت الكادح هناك تحديد و توزيع لألدوار بين الرجل و المرأة في هذا الوسط ،فكل من الطرفين يتمم اآلخر وظيفيا مما يسمح بشيء من التوازن الحيوي في هذا ال وسط .هذا التوزيع يتمحور أساسا حول الدفاع ضد وضعية القهر التي يروح تحتها اإلنسان الكادح من خالل تعزيز و تضخيم مكانة الرجل بعد أن تحمل المرأة كل المهانة و تتحول إلى المعبرة عن العجز و القصور. نالحظ في هذه األوساط تعارضا ً واضحا ً لتصرفات و خصائص الذكورة و األنوثة ،فهناك مبالغة واضحة في قوة الرجل و ذكوريته و مكانته ،ومبالغة في تقدير قدرته على كسب الرزق و تدبير أحوال األسرة .فالرجل باعتباره كاسب الرزق و الطرف الذي يجابه العالم الخارجي ال بد له من أن يعبأ و يشحن بقوة ال يتمتع بها واقعيا ً في معظم األحيان ،و ال بد من إنكار مظاهر الضعف و العجز و قلة التدبير و الخوف عنده ،إذ بهذا اإلنكار وحده تتمكن األسرة من الشعور بشيء من االطمئنان و إلى وجود سند قوي .و حتى يتم شحن الرجل ال بد من إسقاط الضعف و الهوان على المرأة ،و هكذا تلعب هذه دور المبررة عن المأساة و دور التابع الذي يحتاج إلى وصي. المرأة في أوساط ما تحت الكادحة تصل أقصى درجات القهر من خالل تنكر المجتمع و األسرة لوجودها ،فهي تستقبل حين تولد بالتذمر و التبرم و الضيق إذا لم تستقبل بالرفض الصريح ،و توضع كطفلة في مرتبة ثانوية أو هامشية بالنسبة للصبي الذي يعطى كل القيمة و تتحول إلى خادمة لألب و األخوة حين تستنزف طاقة األم ،و هي تستخدم كأداة لتمرس أخوتها ببسط النفوذ الرجالي من خالل الوصاية و بزعم الحماية الوهمية لها.
59
إن قهر المرأة على هذا المستوى هو دفاع الرجل ضد القهر الذي يصبه عليه المتسلط ،ذلك أن كل قهر يصيب المرأة في عال قتها بالرجل يقابله قهر عند الرجل يصيبه به المتسلط. كل ما نود قوله هنا هو أن المرأة يفرض عليها دور مجسد للقهر و الغبن كما يتمكن الرجل المغبون من اإلحتفاظ بشيء من توازنه و كبريائه الظاهري و ما تعيشه المرأة ظاهراً من قهر و غبن و استغالل هو نفسه ما يعانيه الرجل الكادح بشكل ضمني.
-2المرأة في الطبقة المتوسطة تتميز الطبقة المتوسطة عن غيرها بالمرونة و تطور وسير في اتجاه التغيير ،فهذه الفئة هي التي تعي مشكلة المرأة على العكس من الفئتين األخريين (الفئة الكادحة و الفئة ذات االمتياز) .أتيح للمرأة في الفئة المتوسطة أن تخرج من سجنها التقليدي و أن تأخذ قسطا ً متفاوتا ً من العلم و تبدأ حياة منتجة و تشارك الرجل األعباء و المسؤوليات داخل األسرة و خارجها ،كما أن الرجل من ناحيته بدأ يعي وضعية المرأة الفعلية و أهمية مشاركتها و ضرورة نمو شخصيتها و بناء كيانها الذاتي كشرط الرتقاءه هو بدوره. على أن هذه الفئة في المجتمع النامي ما زالت تعاني الكثير من رواسب الماضي و ذلك عند كال الجنسين على حد سواء ،و الصفة المميزة هي اختالل توزيع األدوار و غموض المكانة لكل من الرجل و المرأة ،فالمرأة تتوق إلى االنطالق و تعي ضرورته لها و حقها فيه ،و ال رجل يتوق أيضا الى االنطالق له و لقرينته ،و لكن كال منهما ما زال أسير قيود تكبله من الداخل و في أساس بنية شخصيته و تحتاج للتخلص منها إلى مغالبة شديدة للنفس. إن المرأة أسيرة عملية تشريط مزمن تدفعها لتلعب دور الراضخ المقهور و هي مطمئنة لهذا الدور وقد أعدت له نفسيا و لكنه لم يعد يرضيها على مستوى الوعي بكيانها والوعي بحقوقها ،و الرجل يتحدث عن المساواة و عن تحرير المرأة و لكنه ال يستطيع التخلي عن امتيازاته بسهولة .و هكذا يعاني كل منهما من صراعات نفسية و تناقضات داخلية ،فهي ما زالت محافظة مقيدة داخليا مع تحرر ظاهر ي و هو ما زال متمسكا بوضعية السيد و امتيازاته مع ادعاء المساواة و تأييد حقوق المرأة. بين هذه الفئة هناك بالتأكيد فروق كبيرة على سلم المحافظة و التحرر عند الجنسين على حد سواء ،و الصراعات بالتالي كثيرة نظراً لعظم التناقضات الذاتية و العالئقية ،و ما زالت المر أة على كل حال تدفع الثمن األكبر ،فتحررها االقتصادي النسبي لم يحررها بعد من أعباء األسرة التي ما زالت بدون تقويم فهي تبذل جهداً مضاعفا ً كي تحصل على حقوق و مكانة ليست متوازية مع ذلك الجهد.
60
-3وضعية المرأة في الفئة ذات االمتياز ال تعاني المرأة في هذه الطبقة التي تحظى بامتيازات الثورة و المكانة من القهر بالمعنى المادي ،فهي تعزز و تحتل مكانة رفيعة الشأن تحظى بكل التسهيالت الحياتية و تتقلب في ضروب النعيم على حساب نسوة أخر يقمن بالعمل بدالً عنها ،و لكنه إذا أفلتت من القهر فهي ال تفلت مطلقا من االستالب ،فهي أداة رغم كل شيء تستلب في عالم األسرة أو الزوج الذي يحتمي وراء حقوقه التاريخية و ما تعطيه له من سلطة على شخصيتها لقاء تقديمات مادية تحظى بها. و قد تكون أداة زيادة سطوة األسرة و بسط نفوذها من خالل المصاهرة ،و الويل لها إذا أرادت أن تشذ عن هذا الدور ،فإذا قاومت ستوصم بالعقوق و جحد النعمة و يكون مصيرها النبذ. تتعرض المرأة في هذه الفئة إلى أخطر أنواع العبودية و هي االستالب العقائدي ،حيث تزين لها وضعيتها كأداة و تربط قيمتها بمقدار كلفة الجهاز و األثاث و مدى ترف و فخامة الزفاف ،و عندما تتزوج ال يتغير وضعها في قليل أو كثير. بعد الزواج تقوم المرأة بدور هام جداً تكاد حياتها تقتصر عليه و هو استعراض جاه األسرتين و ثروتهما ،فهي ببساطة أداة دعاية لزوجها و والدها من خالل استعراض ما أنفقت و دورها في أن تتبارى في الدعاية في الحفالت والمناسبات اإلجتماعية ،فتعتز بمقدار ما أنفقت و م ا تخطط إلنفاقه و بالمقابل فإن أسرتها بحاجة لتكليفها بهذه الوظيفة التي تكاد تصبح النشاط الوحيد القادرة على النجاح فيه و تحقيق ذاتها من خالله. و هكذا فإن أفلتت المرأة في هذه الفئة من القهر المادي فإنها ستعيش أسيرة قهر قد يكون أمر و أدهى و هو االستالب المعنوي لكيانها و الذي ال يقل عن كونه موتا ً نفسياً.
ثانيا :أوجه القهر ووسائله (االستالب و االختزال) وضعية القهر التي تفرض على المرأة تتخذ أوجها متعددة تجسد هذا القهر في القطاعات األساسية من حياتها و لقد لخص بعضهم هذه األوجه في استالبات ثالثة تتعرض لها المرأة بقدر متفاوت في حدته و هو االستالب االقتصادي ،االستالب الجنسي واالستالب العقائدي ،و من خالل هذه االستالبات تبتز المرأة و تستغل ،و لكن هذا االستغالل ال يتم بشكل خام و مباشر بل يتطلب تبريرا يجعله ممكنا.
-1االستالب الثالثي يتخذ استغالل المرأة شكل االعتداء على ك يانها على ثالثة أصعدة رئيسية من خالل ما يفرض عليها من وضعية إجتماعية و عالئقية و جنسية ال تتيح لها أن تصل إلى االستقالل و بالتالي إلى المساواة و الحصول على حقوق المواطنية بالشكل الكامل. االستالب االقتصادي و االستالب الجنسي من موضوعات الساعة في حركة تحرير المرأة و لكن هناك استالب أخطر من االثنين السابقين و هو االستالب العقائدي و نعني به أن تتبنى المرأة عقيدة استعبادها معتبرة ذلك جزءاً من طبيعتها األنثوية و سنرى بأن هذا التبني مسؤول إلى حد كبير عن تأخير تحرر المرأة.
61
-1.1االستالب االقتصادي تتعرض المرأة لعملية تبخيس دائم لجهدها مما يسمح للرجل باستغالل هذا الجهد دون مقابل أو بمقابل هزيل ،كما تتعرض لتبخيس إمكاناتها مما يدفع بها دوما إلى مواقع إنتاجية ثانوية بعيدة عن الخلق و االبداع ،و تتعرض في المقام الثالث إلى طمس هذه اإلمكانات و الطاقات من خالل حرمانها فرص التدريب المالئمة و بشكل متوازن مع الرجل ،و تتعرض رابعا ً لغرس عدم الثقة بنفسها و إمكاناتها مما يجعلها تكتفي بمكانة مهنية هامشية و تتوجه كي تحقق ذاتها إلى ميادين أخرى ال تعطيها سوى وهم تحقيق تلك الذات. هناك طبقية واضحة في توزيع النشاطات المهنية بين الرجل و المرأة فهي تعطى دوما ً األعمال الثانوية أو الهامشية و تظل في حالة تبعية للرجل الذي يحتكر األعمال األساسية مما يتيح له بسط نفوذه عليها ،حتى حين تتساوى الكفاءة المهنية نجد ميالً واضحا ً نحو تفضيل الرجل إذ أن القناعة بدونية المرأة المهنية متأصلة في عقل اإلنسان المتخلف المبني على نمط طبقي أساساً ،هذه القناعة تؤدي بدورها إلى فقدان المرأة للثقة بنفسها مهنيا ً مما يولد لديها عقدة انعدام الكفاءة االجتماعية. إن األمر ال يستند إلى أي أساس بيولوجي أو ذهني بقدر ما هو نتاج عملية تشريط إجتماعية تخضع لها المرأة منذ نعومة أظافرها ،فمنذ البداية حرمت المرأة كل فرص االرتقاء النفسي و الذهني و كل فرص التقدم المهني من خالل سجنها في البيت و فرض مهمات الخادم إليها ،بينما احتفظ الرجل باألعمال ذات القيمة مترفعا ً عن أعمال المنزل التي تستنزف كيان المرأة بحجة أنه كاسب القوت و معيل األسرة وأن ل ه حق الخدمة على زوجته التي ستجوع و تعرى من دونه. منذ البداية تعد المرأة لمكانة هامشية و لوضعية التبعية للرجل و هذا أدى إلى خمول المرأة و غرس في نفسها دونية ذهنية و مهنية من الصعب عالجها ،وغرس في نفسها القناعة بأن العلم و العقل أمران ثانويان و أن االهتمام المهني أمر عابر أو مستبعد ،و بعد أن يبخس كيانها على هذا الغرار نرى الرجل المتسلط يتخذ من هذا التبخيس حجة و سالحا ً يحاربها به و يطمسها أكثر فأكثر في التبعية. إضافة إلى االجحاف في نوع العمل و مستوى اإلعداد المهني ،يلحق بالمرأة حيف واضح على مستوى التقويم المادي لعملها حيث يكون هناك ميل إلى تبخيس ثمن عملها على شكل أجور زهيدة ،و لكن األخطر من ذلك و األكثر جوراً هو تجاهل تقويم الجهد المنزلي الذي يكاد يعتبر مجانيا ً أو كجزء من مهمات المرأة التي ال تدخل في نطاق التقويم.
-1.2االستالب الجنسي في االستالب الجنسي يصل ال قهر الذي يمارس على المرأة درجة صارخة أشد في تأثيره على مصير المرأة من االستالب االقتصادي و إن كانت الرابطة بينهما وثيقة ،إذ يتماشى مقدار االستالب الجنسي عادة مع درجة التبعية االقتصادية التي تفرض على المرأة. مظاهر وأوجه االستالب الجنسي عديدة ،ففي البداية هن اك اختزال للمرأة في حدود جسدها ،هذا االختزال يؤدي مباشرة إلى تضخم البعد الجنسي لجسد المرأة بشكل مفرط و على حساب بقية أبعاد حياتها ،فهو يمحور المرأة و يركزها حول المسألة 62
الجنسية .تلك هي المعضلة األولى التي تتعرض لها المرأة في االستالب الجنسي خصوصا أنها تعيش كيانها بشكل مهدد تهدده رغباتها الذاتية و تهدده رغبات الرجل خارج الزواج و تهدده الحوادث على اختالفها (تشويه ،إصابة بعاهة ،فقدان البكارة لسبب ما). يقابل التركيز الجنسي المفرط و االختزال لجسد المرأة قمع له يبلغ أقصى درجات الشطط و القسوة ،فالممنوعات التي تفرض على جسد المرأة دينيا ً و مدنيا ً أشهر من أن تعرف ،فجسد المرأة المختزل إلى بعده الجنسي هو عورة يجب أن تستر و تصان و تحمى ،و هو قبل ذلك ملكية األسرة و من ورائها المجتمع وليس للمرأة سلطة على جسدها و جنايات الشرف تشهد على ذلك. القوانين إذاً هي وسيلة الرجل و سال حه المتالك جسد المرأة و السيطرة على كيانها ،إذ من المعروف أن أقصى درجات السيطرة تتم من خالل الجسد و التحكم به ،فعندما يفلت الجسد و يعبر عن طاقاته و رغباته بحرية يفلت اإلنسان من التسلط و القهر ،و لذلك فالمرأة حين تتمرد فإنها تفعل ذلك أساسا ً من خالل إعطاء نفسها حرية التصرف بجسدها جنسيا ً في المقام األول. هذا كله يوقع المرأة في وضعية مأزقية و في حالة تناقض مذهل من اختزال كيانها إلى مجرد جسد جنسي و على إمكاناته التعبيرية ،و يزداد الموقف حدة و التناقض عنفا ً نظراً لموقف الرجل الذي تتجاذبه المرأة ،فهو ينجذب نحو الجسد الذي يضج بالحياة و الجاذبية و يتمتع بقدر من التعبير و لكنه ال يتحمل مسؤولية نتائجها بل تقع المسؤولية على المرأة ،و هو إن أصاب حظا ً في محاوالته التي ال تخلو من تغرير و خداع يزدري المرأة كي يتزوج من أخرى قد صده جسدها ،و لكنه يشكو فيما بعد من بروده الجنسي و يضع اللوم عليها لحرمانه من المتعة و قد يتوسل القانون لإلنفصال عنها .تلك هي مأساة عالقة التسلط و القهر التي تخضع لها المرأة من خالل االستالب الجنسي. نتائج هذه التناقضات كارثية بالنسبة للمرأة و الرجل على حد سواء ،أولها تزييف التعبير عندها فبدل التعبير التلقائي المتكامل مع توجه الشخصية تقع المرأة في مأزم االزدواجية التعبيرية ازدواجية الصريح الضمني ،القبول و الرفض ،االعتراف و االنكار ،القرب و البعد و هنا يعاني الرجل من هذه االزدواجية و يتهم المرأة باالحتيال و المكر أو يتهمها بأنها ال تعرف ما تريد و الحقيقة بأ نها أكثر من يعرف ما تريد و لكنها تعرف ما يتهددها من أخطار إن هي تصرفت تبعا ً لما تريد و تمردت على القمع المفروض عليها ،و هذه المعرفة يتجاهلها الرجل المستفيد من نظام القهر المفروض عليها. عندما تقمع الحياة الجنسية للمرأة كليا تتحول المرأة إلى كائن متزمت ،و تتحول الطاقة الجنسية إلى مسارب نزوة العدوان متخذة شكل الحقد و التزمت و الذي يفتح السبيل أمام التعصب على اختالف أشكاله و الذي تغرسه المرأة في أطفالها ،و هكذا فالمرأة التي قهرت في جسدها سوف تقتص دون أن تدري بتنشئة رجال فاقدين للقدرة الجنسية و القدرة على الحب و المتعة، تلك هي كارثة االستالب الجنسي ،تعطي المرأة البن الزوج البضاعة نفسها التي أخذتها منه و من أبيها قبله.
63
-1.3االستالب العقائدي و هو أخطر أنواع االستالب ،فهنا المرأة تتبنى كل األساطير و االختزاالت التي يحيطها بها الرجل ،فتتقبل مكانتها و وضعية القهر التي تعاني منها كجزء من طبيعتها ،فعليها أن ترضى بها و تكيف وجودها بحبسها .و ال شك في أن خطورة االستالب العقائدي تنبع في المقام األول من مقاومة التغيير التي يشكلها ،فهي ال تتصور لها وضعا ً غير وضعها الذي تجد نفسها فيه ،و تقاوم تغييره و كأن هذا التغيير خروج ع لى طبيعة األمور و على اعتبارات الكرامة و الشرف. االستالب العقائدي هو أن تقتنع المرأة بدونيتها تجاه الرجل و تعتقد جازمة بتفوقه و بسيطرته عليها ،و أيضا هو أن توقن المرأة بأنها كائن قاصر جاهل عاطفي ال يستطيع مجابهة أي وضعية بشيء من الجدية و المسؤولية و بالتالي ال تستطيع االستقالل و بناء كيان ذاتي لها. من خالل هذا االستالب يصل القهر أقصاه ،ألن المرأة تعتز عندها بمظاهر قهرها و تعرف نفسها من خالل استالبها و بالتالي فإن هذا االستالب يطمس إمكانات الوعي بوضعها و يطمس الرغبة في التغيير ،و هكذا تفتح أبواب استغالل المرأة على مصراعيها و تكون هي المتواطئة األولى على مصالحها الحقيقية. و الحق أن المرأة لم تصل الى االستالب العقائدي بشكل تلقائي ،بل هو نتيجة عملية تشريط منظمة و مستمرة تحيط بكيانها من كل جانب و تقوم بها األسرة منذ طفولتها من خالل ما تقسم لها من أدوار و وظائف تحاصر المرأة منذ أن تولد بشكل ال يترك لها منفذاً خارج القوالب المخصصة لها ،و ليس أمامها إال الرضوخ لما أعد لها إذا أرادت تجنب المضايقات و الضغوط التي تنوء بحملها. االستالب العقائدي للمرأة و ما يتلقاه من تعزيز دائم من الخارج و من الذات في آن واحد يحكم عليها بالبقاء رهينة وضعية القهر ،ال هي تعيها و ال هي تقبل أن تغيرها ،بل هي تتمسك بها باعتبارها طبيعة األنثى و قدرها ،و ينعكس ذلك على التغيير االجتماعي بأكمله فيكبحه ،فال تطوير دون تغيير وضعية المرأة و ال تغيير لوضعيتها دون تمزيق حجب االستالب العقائدي التي تمنع عنها رؤية ذاتها و رؤية العالم على حقيقته.
-2االختزاالت ال يمكن لالستالب أن يتم إال من خالل عملية اختزال يخضع لها كيان المرأة ،فشأن االستالب هو شأن أي عملية استغالل أو امتالك أو عدوان ،فال بد من سلب اآلخر إنسانيته و كيانه و إلحاقه بها كأداة لخدمة رغباتنا كي تتم ،االختزال عملية ضرورية كي يصبح العدوان على الغير ممكناً ،كذلك استغالله و امتالكه و بالتالي فهو موجود دائما ً في كل عملية قهر. يخضع كيان المرأة األشكال عديدة و متنوعة من االختزال و تقسم هذه االختزاالت إلى فئتين أساسيتين :األولى إيجابية تبالغ في قيمتها و تمثلنها ،و األخرى سلبية تبالغ في تبخيس هذه القيمة و النتيجة واحدة في الحالتين ،إذ أننا ال نرى من المرأة إال ما نريد و نحتاج. االختزاالت السالبة أو التبخيسية هي الغالبة ،منها :المرأة القاصر ،المرأة االنفعالية ،المرأة الغاوية ،المرأة العبء ،المرأة المظهر ،المرأة الماكرة و المرأة الخادم. 64
المرأة القاصرة و هي الطفلية العاجزة التي ال تعرف كيف تتحمل مسؤولية وجودها و البد لها من وصاية و إعالة ،و هي لقاء ذلك تدفع الثمن على شكل تبعية ك لية للرجل .يشابهها المرأة العبء ،فيعتبرها األب مصدر هم له و هي صغيرة ،و مصدر قلق عل ى عفتها حين تصبح مراهقة و مصدر هم له و ألمها حين تبلغ سن الزواج و مصدر هم آخر قبل أن تنجب لزوجها األطفال ،و الزوج أيضا يعتبرها عبء عليه و هنا تتحول المرأة إلى أسطورة المستنزفة للرجل لجهده و ماله. على العكس من ذلك هناك المرأة الخادم من خالل صورة خلق المرأة كي تسخر لخدمة الرجل ،و إذا كانت المرأة خادما ً فمن الطبيعي أن يستغلها الرجل دون تورع. أما المرأة الغاوية فهي مجرد جسد يشتهى و مجرد وعاء جنسي ،ال يهم بعد ذلك أن تتمتع بأي ذكاء أو عقل أو قدرة على العطاء اإلجتماعي ،كما يوضع عليها اللوم في أنها مصدر الشر و الفت نة و مصدر الضالل و صرف الرجل عن مهامه النبيلة. و أما المرأة الماكرة فهي األسطورة التي يسقط عليها الرجل كل تناقضاته و يحملها مسؤولية كل صراعاته العالئقية ،فهي المرأة التي ال يؤمن لها و التي يجب االحتراس لكيدها .في كل هذه الحاالت ينطلق الرجل في حربه ضد المرأة و يبرر ما يمارسه عليها من قهر من خالل النعوت التي يلصقها بها. أما االختزاالت االيجابية فهي األقل عدداً و فيها ترفع المرأة إلى مرتبة مثالية تحاط بهالة من التقدير تبلغ حد التقديس أحيانا ،و لكنه تقديس يرفض للمرأة أن تكون لها نوايا عدوانية أو تطلعات تمردية أو حاجات جسدية أو جنسية ،و بقدر حاجة الرجل إلى االختزال السلبي للمرأة فهو أيضا بحاجة إلى االختزال اإليجابي الذي يجد فيه طمأنينة ضد قلق الهجر و مالذا ضد آالم و مصاعب الحياة ،و لكن النتيجة في الحالتين واحدة و هو تسخير المرأة لخدمة غايات الرجل و عدم التعامل معها ككيان قائم بذاته. أشهر االختزاالت اإليجابية هي األم ،فقد بالغ الرجل في إعالء شأن األمومة نظراً لما يعصف بوجوده من أخطار ،و وصل به األمر حد اعتبار األمومة غريزة ال يمكن أن يتطرق إلى عطائها الشك ،وقد كادت أسطورة األم أن تحرم المرأة حقها في أن تكون غاوية أو صنواً للرجل في المه مات اإلجتماعية أو أن تستقل بذاتها عن الزوج و الولد ،فهي تسجن األم في تصورات مثالية من العطاء بال حدود و بدون مقابل. و من االختزاالت اإليجابية هناك المرأة في الوجاهة اإلجتماعية ،و هي المرأة المختزلة إلى جمالها أو حسبها و نسبها ،فهي دمي ة يستعرضها الرجل كي يتباها بملكيتها أمام اآلخرين ،فما يطلب من المرأة في هذه الحالة ليس فهم أو عاطفة أو شخصية بل مظهر براق يلفت النظر و يدلل على ما حظي به صاحبها من غنم. في جميع هذه االختزاالت السلبية منها واإليجابية ،تحرم المرأة من فرصة عيش كيانها بكل أبعاده ،يتغذى هذا االختزال من الهوامات الكثيرة الال واعية التي تحيط بكيان المرأة و هذه الهوامات تعزز االختزال اإلجتماعي ،و من خالل هذا االختزال اإلجتماعي و الهوامي يتمكن الرجل من تسخير المرأة ألغراضه و يتم له استالبها دون الشعور باألثم. إن تفشي ظاهرة االختزال في المجتمع المتخلف مسؤول عن كثرة الصراعات و التناقضات و االختالفات الزوجية ،فاالختزال ال بد أن يقود المرأة إلى التمرد على سجنها في صورة تجمد كيانها و تلغي رغباتها و إرادتها ،و هكذا فإن وضعية القهر التي تفرض على المرأة ال تترك لها من سبيل سوى التمرد أو االس تكانة التي هي أسوء من التمرد ألنها بالتحديد تتخذ طابع التوافق 65
الزائف بين الرجل و المرأة ،فكل توافق ليس معافى بالضرورة ،خصوصا توافق السيد و العبد فتلك مأساة أخرى من مآسي القهر في المجتمع المتخلف.
ثالثا :دفاع المرأة ضد وضعية القهر المرأة أكثر الكائنات غبنا ً و قهراً ،تقوم في الوقت نفسه بالنسبة للرجل بوظيفة الدفاع ضد وضعية القهر التي يخضع لها ،إنه يتنكر لقهره من خالل قلب األدوار في عالقته بالمرأة إذ يحتل دور السيد القوي ليفرض عليها دور التابع .و لكن المرأة ال تظل مستسلمة ،فكما تلعب المرأة وظيفة دفاعية ضد القه ر الذي يعاني منه الرجل فإنها بدورها تلجأ إلى أساليب دفاعية لمجابهة مأزقها تتراوح بين االعتداد بقيم األنوثة و بين السيطرة الخفية على الرجل.
-1التضخم النرجسي ينطلق التضخم النرجسي لكيان المرأة من المثلنة التي يحيطها بها الرجل و المجتمع عموما في جسدها و في بعض وظائفها األسرية و من خالل هذا التضخم تشعر المرأة بافتخار خاص بجنسها و بكبرياء يؤمن لها الرضى عن ذاتها ،فالمثلنة تضعها من الناحية العالئقية في منزلة سامية هي على النقيض تماما من وضعية القهر التي تخضع لها و ذلك مايساعدها على الوصول إلى توازن نفسي يجعلها على وفاق مع ذاتها و يمكنها من تقبل وجودها. تعيش المرأة تضخمها النفسي من خالل إحساسها بأنها كائن على درجة عالية من األهمية و بأنها مرغوب فيها و ذلك في عدة قطاعات أولها و بال جدال وظيفة األمومة ،فهذه الوظيفة تضخم اجتماعيا ً لدرجة مفرطة في المجتمع المتخلف بشكل يربط قيمة المرأة و معنى وجودها األساسي بتلك الوظيفة .و إذا كان الرجل يمتلك المرأة في عالقة السيطرة و التبعية فإنها تجد لنفسها تعويضا ً عن ذلك في امتالك األطفال ،فمن خالل تضخيم قيمة األمومة تتضخم قيمة الطفل و لكن كشيء تمتلكه األم أساسا ً كجزء من كيانها ،و هكذا تقع في العالقة التملكية و يدفع الطفل في النهاية ثمن تعويض المرأة عن الغبن الذي يلحقه بها المجتمع ،و بمقدار ما تتفانى في أمومتها فإنها تطلب من طفلها التحول إلى شيء تمتلكه هذه األمومة و لذلك من النادر أن يستقل الصبي عن أمه نفسيا ً في المجتمع المتخلف ،فمهما ك بر سيظل مرتبطا ً بروابط خفية باألم تجعله في النهاية بشكل ما تابعا ً للزوجة التي تلعب دور األم نفسه .طبعا تكون التبعية ضمنية تقتنع بستار من االستقالل و السيطرة على المرأة و تعي المرأة هذه الحقيقة تماما ً و إن لم تصرح بها. و يرتبط بوظائف هذه األمومة وظيفة هامة ترضي المرأة و هي احتالل دور المعبر عن الشرف و الكرامة ،فلعب هذه الوظيفة يعطي المرأة انطباعا ً بأهمية شأنها في شبكة العالقات األسروية و في المجتمع بشكل عام. باإلضافة إلى ذلك ،تحصل المرأة على تعويض نرجسي من خالل مثلنة جسدها كموضوع جنسي مرغوب فيه ،و تتضخم هذه المثلنة نظراً لحرمان الرجل جنسيا ً و لما يحيط بجسد المرأة من ممنوعات و كل ممنوع للرغبة يتعرض لتضخم قيمته بشكل ال
66
واقعي ،و تعتز المرأة بهذا التضخم لقيمة جسدها و تشعر بالرضى الذاتي .و تستخدم المرأة هذا كسالح كي تستمد منه أهمية و اعتباراً يعوضان لها قهرها. و أ يضا هناك تضخم نرجسي يحمل تعويضا ً هاما ً للمرأة في المجتمع االستعراضي ،من خالل المظهر ،فهي تلعب دور عارضة الجاه و الثروة من خالل ما تلبس و ما تتحلى به ،و هنا أيضا يزيف كيان المرأة و عواطفها الحقيقية من خالل تحويلها إلى آلة استعراض .
-2السيطرة غير المباشرة على الرجل يعتقد الرجل أنه يسيطر على المرأة و تعتقد هي أنها تمتلك زمام السيطرة الفعلية عليه و أن سيطرته الظاهرية ليست سوى وسيلة تو همه بقوته كي ال ينتبه إلى ما تفرضه عليه المرأة من سيطرة .هذا في الحاالت العادية ،أما في حاالت الصراع فإن األمر يتخذ طابع حرب سيطرة حقيقية ،فتشعر المرأة بأنها المنتصرة دوما ً في هذه الحرب فهي قد ترضخ و تضعف و لكنها تنتظر و تعرف كيف تصبر كي تنتصر حين تأنس من الرجل ضعفا ً أو عجزاً ،فهي تستغل ضعفها الظاهري كسالح للتمويه على قوتها الضمنية ،فهي توهم الرجل أنه هو من يمتلك زمام األمور كي تحركها هي تبعا لرغباتها بشكل خفي. أحيانا ً تعلن المرأة الحرب بشكل شبه صريح على الرجل خصوصا ً حين تأنس منه ضعفا ً أو حين يعجز هو عن القيام بخصائص دوره المتسلط ،و يتخذ األمر في هذه األحوال عدة مظاهر منها االبتزاز الذي تفعله المرأة كرد فعل على إهمال الزوج أو تسلطه. يضاف إلى األسلحة السابقة سالح التنغيص الذي تتفنن فيه بعض النساء فتطارد الرجل بال هوادة حتى تسمم حياته و تقضي على سكينته ،و إذا عجزت المرأة عن استخدام هذه األسلحة الهجومية ال تفقد المرأة القدرة على رد الفعل الدفاعي ،فقد تحتمي بالمرض أو تلجأ إلى محاوالت السي طرة الخرافية على المصير من خالل السحر والشعوذة و غيرها ،فتلك هي درع الحماية األخير يالزمه عادة الدفاع من خالل التماهي بالرجل المتسلط و إدانة األنوثة التي تلجأ إليها المرأة في وضعية القهر المفرط. دفاعات المرأة تذهب جلها في اتجاه مرضي ،ألنها وليدة عالقة مرضي ة بين الرجل و المرأة (عالقة التسلط و القهر) و هي دفاعات ال تفسح مجاال أمام بروز عالقات معافاة تحمل اإلثراء المتبادل لكل من الرجل و المرأة و ذلك مستحيل في وضعية القهر. ال يمكن أن يصل اإلنسان إلى التوازن النفسي و الشخصية المعافاة و المتوازنة و الغنية إال إذا تحرر من وضعية القهر التي تفرض عليه ،و ال يمكن للرجل أن يتحرر إال بتحرر المرأة و ال يمكن للمجتمع أن يرتقي إال بتحرر وارتقاء أكثر فئاته غبناً، فاالرتقاء إما أن يكون جماعيا ً عاما ً أو هو مجرد مظاهر وأوهام .
67
الخاتمة تعود فكرة هذا البحث الى عدة سنوات خ لت فلقد برزت الحاجة تدريجيا ثم بإلحاح الى وضع دراسات خاصة ببنية شخصية اإلنسان العربي خالل التعامل العيادي واإلرشادي مع األحداث واألطفال ممن يؤمنون مؤسسات الرعاية ومع ذويهم والراشدين عموما ً . بدت لنا شخصية اإلنسان المتخلف حين التعامل السطحي معها سكونية جامدة ،ثم اتضحت حيويتها مع التقدم في البحث فاذا بها غاية الغنى و الدينامية ،وبدت بسيطة ثم اتضح تعقيدها . موقف اإلنسان المتخلف من وضعية القهر واالعتباط هذه دينامي تاريخيا ً ،فهو يتراوح ما بين الرضوخ المستسلم مع ما يرافقه من عقد نقص وعار ومهانة واستكانة وفقد ان للثقة بالنفس والجماعة وبين العدوانية المفرطة . ما نستطيع توكيده منذ اآلن هو أن الخصائص النفسية التي تميز شخصية اإلنسان المتخلف و أولوياته الدفاعية تشكل في الكثير من الحاالت عقبات جدية في وجه التغيير االجتماعي وهنا يكمن خطرها تحديدا و تبرز أهمية اكتشافها و الوعي بها . ففي روافد المعرفة نحن نقوم بتلخيص الكتب المعرفية لكي ننقل أمة إقرأ إلى حالها سابقا ً وذلك من خالل نقل المعرفة إليهم بشكل مبسط .
وصلى هللا على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ..
68
69