التخلف الاجتماعي

Page 1


‫التخلف األجتماعي‬ ‫مدخل الى سيكولوجية اإلنسان المقهور‬

‫د‪ .‬مصطفى حجازي‬

‫‪3‬‬


‫الفهرس‬ ‫م‬ ‫‪1‬‬ ‫‪2‬‬

‫المحتوى‬ ‫المقدمة‬ ‫الفصل األول ( المالمح النفسية للوجود المتخلف)‬

‫رقم الصفحة‬ ‫‪3‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪3‬‬

‫الفصل الثاني ( الخصائص النفسية للتخلف)‬

‫‪9‬‬

‫‪4‬‬

‫الفصل الثالث ( العقلية المتخلفة)‬

‫‪14‬‬

‫‪5‬‬

‫الفصل الرابع ( الحياة الالواعية)‬

‫‪24‬‬

‫‪6‬‬

‫الفصل الخامس ( االنكفاء على الذات)‬

‫‪29‬‬

‫‪7‬‬ ‫‪8‬‬

‫الفصل السادس ( التماهي بالمتسلط)‬ ‫الفصل السابع ( السيطرة الخرافية على المصير )‬

‫‪36‬‬ ‫‪39‬‬

‫‪9‬‬

‫الفصل الثامن ( العنف )‬

‫‪46‬‬

‫‪10‬‬

‫الفصل التاسع ( وضعية المرأة )‬

‫‪57‬‬

‫‪11‬‬

‫الخاتمة‬

‫‪68‬‬

‫‪2‬‬


‫المقدمة‬ ‫أصبحت الكتابات حول التخلف من أوائل الخمسينيات غزيرة نظراً لبروز ظاهرة الدول المستقلة حديثا ً اتخذت هذه الدراسات‬ ‫وجهات متعددة وتركزت حول اإلقتصاد والصناعة والعناية بالسكان ( صحة ‪ ،‬تعليم ‪ ،‬تغذية ‪ ،‬إعمار ) فنشأ علم االقتصاد وعلم‬ ‫وجه إلى البنى االقتصادية والسياسية واإلجتماعية ‪.‬‬ ‫اجتماع التخلف ‪ ،‬ولكن اإلنسان المتخلف لم يعط االهتمام نفسه الذي ّ‬ ‫يعاش التخلف على المستوى اإلنساني كنمط وجود مميز ‪ ،‬واإلنسان المتخلف منذ أن ينشأ يصبح قوة فاعلة و مؤثر في البنية‬ ‫االجتماعية ‪ ،‬فالعالقة جدلية بين السبب والمسبب ‪.‬‬ ‫انطلق دارسي التخلف وعلماء التنمية في مشاريع تنموية طنانة ذات بريق ووجاهة قائمة على دراسات ومخططات جزئية ‪،‬‬ ‫ووضعت خطط مستوردة عن نماذج طبقت ونجحت في بلدان صناعية ولكن مسيرة هذه الخطط قد أخفقت ولم تخط بعيداً ‪ ،‬ذلك‬ ‫ألن إنسان هذه المجتمعات لم ينظر إليه باعتباره عنصراً أساسيا ً ومحوريا ً في أي خطة تنموية ‪.‬‬ ‫من هذا المنظور تنبع أهمية محاولتنا لدراسة نفسية اإلنسان المتخلف ‪ ،‬فظاهريا ً حياته تبدو متشتتة ولكنها تنتظم في وحدة قابلة‬ ‫للفهم حوليا يتلخص وجود اإلنسان ‪.‬‬ ‫التكوين النفسي والذهني لإلنسان المتخلف بد يناميكيته الخاصة و األساليب المتنوعة التي يجابه بها مأزقه الوجودي يشكال قسمي‬ ‫هذا البحث ‪ ،‬ففي القسم األول ترسم المالمح النفسية و األساسية لإلنسان المقهور ‪ ،‬أما القسم الثاني نستعرض أهم األساليب‬ ‫الدفاعية التي يجابه بها وضعيته ويتضح من هذين القسمين أن حياة اإل نسان المتخلف أبعد ما تكون عن العشوائية والتشتت اللذان‬ ‫يميزانها ظاهريا ً و رغم أن الحديث يدور حول اإلنسان المتخلف بشكل عام‬ ‫إال أن المادة مستقاة أساسا ً من اإلنسان اللبناني خاصة و العربي عامة ‪ ،‬وبالطبع ال ينطبق كل ما سيقال عن كل لبناني او عربي‬ ‫‪ .‬إن انفجار الع نف في لبنان وما يحيط به من ظروف يعتبر فرص لمناقشة ما يعمل في بيئة المجتمع المتخلف ‪ ،‬ويتبين لنا ما‬ ‫يعترض له اإلنسان في ذلك العالم من قهر هذه المحاولة بما فيها من ثغرات تطمح إلى فتح الطريق أمام أبحاث نفسية ميدانية‬ ‫تحاول فهم اإلنسان المتخلف ‪.‬‬ ‫روافد المعرفة ب ادرة فريدة ومتميزة تهتم بتلخيص الكتب اإلثرائية والمعرفية بمختلف المجاالت كالتنمية البشرية وعلم النفس‬ ‫والكتب الثقافية المختلفة ‪.‬‬ ‫يرنو مشروع روافد المعرفة أن يكون األول من نوعه في تلخيص الكتب المعرفية على مستوى الوطن العربي ‪.‬‬ ‫نتمنى لكم يوما ً ممتعة ‪..‬‬

‫‪3‬‬


‫الفصل األول‬

‫المالمح النفسية للوجود المتخلف‬

‫‪4‬‬


‫المالمح النفسية للوجود المتخلف‬ ‫مقدمة الفصل ‪:‬‬ ‫برز مصطلح التخلف بعد نهاية الحرب الكونية الثانية عند اإلستقالل من اإلستعمار ابتداء من الخمسينات وتجمعت حوله األبحاث‬ ‫والمقاالت حتى أنه صعب على الباحث تنسيقها ‪ ،‬إذ أن هناك خالف بين محكمات التخلف ومنظوراته وتعريفه ‪.‬‬ ‫بسبب خوض أعداد من الباحثين فيها من مختلف التخصصات أصبح مصطلح التخلف ونظرية التنمية خاصة بوضعية بلدان‬ ‫العالم الثالث ‪ ،‬فالتخلف ليس اقتصادية محضة مرتبطة بنظرية اإلقتصاد التقليدي خارج إطار الزمان والمكان ‪ ،‬حيث أنه بعد‬ ‫اإلستقالل أخفق منطلق اللجوء الى الدينا ميات نفسها التي حركة العالم الصناعي وتأسيس األعمال والمشاريع الصناعية‬ ‫واإلنتاجية في بلدان العالم الثالث لكنها نجحت في البلدان الصناعية حيث ظن أنه يكفي الحصول على رؤوس األموال الكافية‬ ‫واألطر الفنية واإلدارة التقنية كي تبدأ التنمية لكنها عجزت عن تحريك المجتمع بأكمله ‪ ،‬هذا الفشل أطلق عليه ؛ دراسات‬ ‫التخلف والتنمية ‪..‬‬ ‫حيث اتضحت النوعية والخصوصية لهذه البلدان ‪.‬‬ ‫والبد من وضع سيكولوجية خاصة للتخلف تكمل اقتصاده واجتماعه ‪ ،‬وقد اتضحت ضرورة التنسيق بين معطيات مختلف‬ ‫العلوم وتجاوز التفتت والبعثرة في دراسة الظواهر ‪.‬‬

‫تمهيد الفصل ‪:‬‬ ‫المهمة المطروحة أمامنا في هذا القسم هي رسم صوره نفسانية حية متكاملة وشاملة ما أمكن ‪ ،‬للوجود المتخلف إذ إن البنية‬ ‫اإلجتماعية المتخلفة التي تتخذ على المستوى المعاش نمطا من الوجود من النظره اليه وإلى الذات هي التي تحكم في النهاية‬ ‫على السلوك الفردي ‪ .‬وال يستقيم بحث في التخلف إال إذا أستوعب كال البعدين معا ً وهي محاولة مبدئية نجرب أن نجعلها تعكس‬ ‫غنى الواقع ما أمكن والقيمة األساسية في نظرنا هي شق طريق البحث النفساني في مسألة التخلف والبد أن تعكس الواقع وتعبر‬ ‫عنه ‪.‬‬ ‫وينقسم حديثنا عن الوجود المتخلف إلى فصول أربعة يتكون منها هذا القسم األول ‪.‬‬ ‫بعد فصل تمهيدي في تحديد التخلف وتعريفه ‪ ،‬والفصل الثاني الخصائص النفسية للتخلف ثم نتبعه بالحديث عن الخصائص‬ ‫العقلية للتخلف في الفصل الثالث أما الفصل الرابع فنعرض فيه بسرعه بعض ديناميات الحياة الالواعيه لإلنسان المقهور‪ .‬وحتى‬ ‫نغطي أقصى درجة من الوضوح والبروز لخصائص الوجود المتخلف وأولياته الدفاعية البد من أن نركز حديثنا حول الفئة‬ ‫السكانية األكثر غبنا في سلم السيطرة والخضوع ‪.‬‬

‫‪5‬‬


‫أوال ً ‪ :‬نظرية التخلف ‪:‬‬ ‫انطلقت األبحاث حول التخلف من منظورات متنوعة ‪ .‬ولكن تقدم األبحاث يصب في أخذ الوضعية والبنية اإلجتماعية بعين‬ ‫االعتبار كي يصب في منظور عالئقي بين البلدان المتخلفة والمتقدمة واضعا اإلصبع على البعد السياسي الدولي والداخلي على‬ ‫أنها قضيه استغالل ومنبئا ًبجالء أن التخلف هو في النهاية ثمرة االستغالل واإلستبعاد والبد من اإلستعراض السريع لمختلف‬ ‫المنطلقات وتطورها قبل أن تحدد المنطلق النفساني لمسألة التخلف ‪.‬‬

‫الطريقة السطحية في دراسة التخلف ‪:‬‬ ‫الطريقة األكثر قدما ً وشيوعا ً لدراسة التخلف في رأي واضعي دائرة المعارف العالمية هي التعرف على الظاهرة بأغراضها‬ ‫ونموذج األبحاث والكتابات التي نشرتها األمم المتحدة ‪ .‬فمن مميزات التخلف الفقر‪ ،‬حالة التغذية ‪ ،‬الحالة الصحية ‪ ،‬التعليم ‪،‬‬ ‫وأهمها متوسط الدخل الفردي وتنقسم البالد إلى عده فئات من األكثر تخلفا ً إلى األكثر تقدما ً بنا ًء على الدخل إال أن مؤشر الدخل‬ ‫القومي المقسم على عدد السكان مضلل جداً ‪ ،‬والدخل ال يتوزع بالتساوي مطلقا ً ‪ ،‬أما الكوست فيلخص المحكمات السطحية‬ ‫للتخلف في ثالثة ( الدخل القومي للفرد بالمتوسط ‪ ،‬الوحدات الحرارية المستهلكة في التغذية ‪ ،‬مستوى التعليم أو نسبة انتشار‬ ‫األمية ) لكنها ال تتوافق فيما بينها ومن رأيه أن الجوع هو أخطر أعراض التخلف ‪ ،‬وتزداد الخطورة بسبب التفاوت الهائل في‬ ‫المستوى المعيشي والغذائي للسكان فهذه الطريقة ال تشرح الظاهرة كنتاج للخصائص البنوية للعالم الثالث وال اآلليات التي‬ ‫أنتجت هذه البنى وتعرف الطريقة السطحية للتخلف أنها كظاهرة دونية فهو أقلّ تأمينا ً للحاجات الحيوية ومستوى انجازاته‬ ‫اإلقتصادية والتقنية منخفض ‪ ،‬ولكن هذا التعريف ال يستقيم نظراً لعدم توحيد المعايير وصعوبة المقارنة بين البلدان ولوجود‬ ‫بلدان غنية لكنها متخلفة اجتماعيا ً فالبد من دراسة نوعية البنى اإلقتصادية واإلجتماعية لبلد ما كي نحدد التخلف ‪.‬‬

‫التخلف الصناعي والتقني ‪:‬‬ ‫يميز فلوكو سكي بربط اإلقتصاد المتخلف بمستوى اإلنتاج وتطور أدواته أما البلد المتأخر فيتصف بالطابع السكوني لإلقتصاد‬ ‫وبالتالي إنخفاض مستوى القوى اإلنتاجية وبالتالي مستوى منخفض من وسائل العمل ومهارة اليد العاملة ‪ .‬وينتج عن هذين‬ ‫األمرين إنخفاض في الدافع إلى التوظيف بسبب قلة الربح ‪ ،‬ولقد أصبح واضحا ً لمعظم اإلختصاصيين صعوبة السير في الطريق‬ ‫التقليدي أي اإلكتفاء برأس المال والتقنية فالتصنيع كما يقول رستو ال تكفي وحدها لتصنيع بلد ما ‪ ،‬فالبلدان النامية يتصف‬ ‫التصنيع والتطور الزراعي بخصائص مميزه لم يسبق لها ‪ ،‬فالقطاع الوطني ذو إنتاج هزيل بالرغم من شغلة اليد الكبرى من‬ ‫العاملين المواطنين فالصناعة تظل موجهه نحو إنتاج السلع اإلستهالكية ال لتأسيس صناعة وسائل إنتاج تظل الصناعة معزولة‬ ‫وال يوجد تنسيق بين مختلف القطاعات الصناعية وفي الحالتين ال تؤدي إلى تحريك التصنيع بشكل عام ‪ ،‬أما في البالد المتقدمة‬ ‫فالتصنيع عكس ذلك تماما ً فهي شاملة ومتنوعة ‪.‬‬ ‫‪6‬‬


‫التخلف اإلقتصادي البنيوي ‪:‬‬ ‫من وجهة النظر اإلقتصادية البنوية أبعد ما يكون عن السكون وديناميته تختلف عن دينامية البلدان المتقدمة فتتصف بنية اإلقتصاد‬ ‫المتخلف في رأي دائرة المعارف العالمية بمحكمات ثالث ‪ :‬التفاوت الهائل في التوزيع القطاعي لإلنتاج ‪ ،‬تفكك النظام اإلقتصادي‬ ‫والتبعية للخارج ويضيف إليها الكوست محكمات أخرى أهمها ‪ :‬تضخم قطاع الخدمات على حساب قطاع اإلنتاج ‪.‬‬

‫‪ 1.2.2‬تفاوت التوزيع القطاعي لإلنتاج ‪:‬‬ ‫يالحظ في البالد النامية وجود قطاعات إنتاجية متقدمة جداً في الزراعة والصناعة على حد سواء ولكنها محدودة يسيطر ويحضى‬ ‫بثرواتها قلة من الوجهاء المحليين فهناك غالبية ال تحضى إال بنشرة ضئيلة من الدخل تمارس أعماالً حرفية بدائية وأساليب‬ ‫زراعية متخلفة ذات مردود ضئيل مما يؤدي إلى التفاوت في البلدان النامية ينتج عنه تبخيس تدريجي للعمل في الريف وفي‬ ‫الحرف والهجرة إلى المدينة ‪.‬‬

‫‪ 2.2.2‬تفكك الصالت في النظام اإلقتصادي ‪:‬‬ ‫تتكامل قطاعات النشاط اإلقتصادي الثالثة في البلدان النامية ‪ ،‬قطاع اإلنتاج األولي ( معادن ‪ ،‬مواد أولية ) مرتبط بشكل وثيق‬ ‫ومتناسق مع القطاع الثاني (صناعة اآلالت والمواد االستهالكية ) وكالهما متوازن ومتكامل مع القطاع الثالث ( تجارة وخدمات‬ ‫) أما في المجتمعات المتخلفة فتحل عكس ذلك من التفكك الذي يؤدي إلى طغيان القطاع التجاري على قطاع اإلنتاج الصناعي‬ ‫‪.‬‬

‫‪ 3.2.2‬التبعيه للخارج ‪:‬‬ ‫يؤدي طغيان إنتاج المواد األوالية للتصدير واستيراد المواد اإلستهالكية وما يجرانه من تضخم لقطاع الخدمات والتجارة يؤدي‬ ‫إلى نشوء تبعية لإلقتصاد الخارجي وتستنتج دائرة المعارف العالمية من هذا األمر خالصة صريحة حوله أن التخلف من الناحية‬ ‫اإلقتصادية هو ألة النظام الرأس مالي العالمي إن له دوراً محدداً ووظيفة معينة في هذا النظام وكان هناك توزيعا ً دوليا ً للعمل‬ ‫لمصلحة الرأسمالية العالمية ‪.‬‬

‫الطريقة اإلجتماعية في دراسة التخلف ‪:‬‬ ‫بعد فشل محاوالت تطبيق نظريات علم اجتماع البلدان المتقدمة على بلدان العالم الثالث بدأت تظهر مالمح علم اجتماع خاصة‬ ‫بالبلدان النامية ومحكمات التخلف اإلجتماعية عديدة أهمها ‪ :‬المحكمات اإلقتصادية واإلنتاجية أما السكان فيتصفون بعدة‬

‫‪7‬‬


‫خصائص أولية أهمها على اإلطالق في نظر (الكوست ) اإلنفجار السكاني الذي يستهدف العالم الثالث بعد الحرب العالمية‬ ‫الثانية وهناك اختالالً متزايداً في التوازن بين عدد السكان والمواد المتوفرة ‪ ،‬ويؤدي إلى مآزق إقتصادية وإجتماعية متنوعة‬ ‫بسبب األمية وسوء التغذية وقلة العناية الصحية والنظافة بالتالي انتاجية أقل رغم أن هذا الباحث يؤكد على خصائص هامة‬ ‫للبلدان النامية من حيث تحكم المرتبة الجامدة فيها وانشار بنى التسلطية ‪ ،‬فإن الكثيرين يردون عليه بالتقليد والسلفية ‪.‬‬

‫ثانيا ‪ :‬المنظور النفساني للتخلف ‪:‬‬ ‫المنطلقات التقنية واإلقتصادية واإلجتماعية ‪ ،‬السطحية منها والدينامية أكدت على نوعية وتركيب البنى المختلفة وأهملت البنى‬ ‫الفوقية ( النفسية ‪-‬العقلية ‪-‬القيم الموجهة للوجود) فالبد من أن ترافقها فهي تنتج عنها وتكملها فهذه البنية تتلخص في خلق أنماط‬ ‫البشر وأنماط من الوجود متميزة بطابع التسلط والرضوخ ‪ ،‬تشكل مصدراً هاما ً لمقاومة التغيير والتخلف نفسيا ً هو من الوجود‬ ‫أسلوب في الحياه تنبت في كل حركة أو تصرف في كل ميل أو توجهه ونظرته إلى الهدف من حياته ‪.‬‬ ‫هو يتجاوز إذا إلى حد بعيد مسألة التكنولوجيا واإلنتاج ليتمحور حول قيمه الحياة اإلنسانية والكرامة البشرية كل هدر لها أو‬ ‫تحويل إلى أداة تخلف سيكولوجية اإلنسان المقهور أو المشيأ ‪.‬‬ ‫معيار التخلف ومستواه يبرز من خالل بحث حالة بحجم أقل فئات الناس حظا ً على مستوى كوني ذلك هو المعيار الحقيقي وأما‬ ‫التقدم المادي مهما بلغ مستواه ليس سوى مظهر جزئي ال يجوز أن يخفي المشكلة الحقيقية ‪.‬‬

‫‪8‬‬


‫الفصل الثاني‬

‫الخصائص النفسية للتخلف‬

‫‪9‬‬


‫الخصائص النفسية للتخلف‬

‫مقدمة الفصل ‪:‬‬ ‫تطرح علينا الدراسة النفسية المتخلفة مهمة منهجية ذات وزن ‪ ،‬إذا أردنا أن نعطي عنها صورة دينامية متماسكة تجمع الشتات‬ ‫الظاهري ‪.‬‬ ‫لدينا منهجان ديناميان يتكامالن جدليا ً يغطي كل منهما ً وجها ً أساسيا ً من وجوهها ‪.‬‬ ‫األ ول هو المنهج االنبنائي الذي يجمع هذا الشتات الظاهري ‪ ،‬في شبكة متناسقة ذات معنى ‪ ،‬هي نمط الوجود المتخلف ‪.‬‬ ‫والثاني هو المنهج التاريخي الذي يتتبع خصائص هذا الوجود الغالبة في كل مرحلة من مراحل تطوره ‪ .‬إذ أن النفسية المتخلفة‬ ‫متغيرة ومتطورة زمنيا ً ‪.‬‬ ‫ال غنى وال أسبقية ألحد المنهجين عن األخر ‪ .‬ينطلق كالهما من محور أساسي يؤلف لب الوجود المتخلف ‪ ،‬وهو عالقه التسلط‬ ‫والرضوخ ‪ ،‬عالقة السيطرة والقهر التي تجعل اإلنسان المقهور المعبر األفصح عن التخلف من الناحية النفسية ‪ .‬كل الخصائص‬ ‫النفسية التي سنتحدث عنها هي مظاهر متنوعة لهذه العالقة ‪ ،‬نتاج لها ‪ ،‬رد فعل عليها أو دفاع ازائها ‪ .‬هذه العالقة تخلق نمطا ً‬ ‫من الوجود متطوراً بدرجات مختلفة السرعة تاريخيا ً ‪ .‬وفي كل مرحلة تطغى على بنية هذا الوجود سمات بارزة تميزها عن‬ ‫غيرها من المراحل ‪.‬‬

‫عالقه القهر ‪:‬‬ ‫يعيش اإلنسان المقهور في عالم من ا لعنف ‪ ،‬عنف يأتي من الطبيعة وغوائلها التي ال يستطيع لها ردعا ‪ ،‬والتي تشكل تهديداً‬ ‫فعليا ً لقوته وأمنه وصحته هذا العنف يجعله يعيش في عالم الضرورة في حاله فقدان متفاوت في قدرة للسيطرة على مصيره‬ ‫أنه اعتباط الطبيعة عندما تقسو دون أن يجد وسيلة لحماية ذاته ‪ .‬يع يش اإلنسان المتخلف في حالة تهديد الطبيعة الدائم الصريح‬ ‫لدى اإلنسان المتخلف ميل سحري النسته الطبيعة أنه يصورها على غرار األم الرحوم المعطاة تارة وعلى صوره األب القاسي‬ ‫العتيق تارة أنه يعيش بشكل نكوصي كل القلق والمخاوف التي عانها في طفولته من خالل اإلحباط أو اإلهمال أو القسوة التي‬ ‫ألمت به ‪.‬‬

‫‪10‬‬


‫اعتباط الطبيعة الراهن يحرك ويثير كل مشاعر العنف وهو عنف بدائي وطفولي مع محاوالت سحرية إلدخال بعض التنظيم‬ ‫هذا االعتباط للسيطرة عليه من خالل االستكانة للمكتوب أو التبرير ‪ .‬عالقه القهر أو الرضوخ تجاه الطبيعة عالقة العنف الكامل‬ ‫بينه وبينها تضاف إلى قهر من نوع أخر ‪ ،‬قهر إنساني ‪.‬‬ ‫اإلنسان المتخلف هو في النهاية اإلنسان المقهور أمام القوة التي يفرضها السيد عليه أو المتسلط أوالحاكم المستبد أو غيرهم فال‬ ‫يجد هذا اإلنسان المقهور سوى الرضوخ والتبعية والدونية ان عالم التخلف هو عالم التسلط واال ديموقراطية فتنعدم فيه‬ ‫اإلنسانية لتقوم مكانها عالقة التشيؤ ف يصبح كل ما يتعلق به ( غبن – اعتداء – تسلط –استقالل – قتل – إلخ ) نجد نموذجا لذلك‬ ‫في التسلط االقطاعي أو التسلط االستعماري ‪ ،‬فالتفاهم هنا بلغة السياط بال حقوق فالحق هو حق السادة والحياة فقط فيدخالن في‬ ‫وعيهم أنهم ليسو بأناس إنما هم أشياء ‪ .‬من األمثلة البارزة نظرة االمبرالية الصهيونية إلى العرب فكل تلك األنظمة تفقده‬ ‫الشعور األساسي باألمن والسيطرة على مصيره وتجعله نهبا ً لالعتباط والقلق فكل هذه الخصائص تتبع من هذا الواقع المحوري‬ ‫‪ :‬التسلط واالستك انة وانعدام األمن فإذا أخذنا بالمنهج التاريخي نجد أن واقع اإلنسان المتخلف ينظم في أنماط ثالثة من الوجود‬ ‫من مرحلة الرضوخ إلى مرحلة التمرد والثورة مروراً بمرحلة اضطهادية وسنجد أن لكل مرحلة بنيتها النفس إجتماعية‬ ‫وخصائصها المميزة التي تعكس بمجموعها جانبا ً من الوجود المتخلف ‪.‬‬

‫أوال ‪ :‬مرحلة القهر والرضوخ ‪:‬‬ ‫خالل هذه المرحلة التي تمتد زمنا ً طويالً نسبيا ً يكون االنحطاط والتسلط والرضوخ في أشدهم وتكون الجماهير في حالة قصور‬ ‫واضح في درجة التعبئة التي تؤهلها للرد والمقاومة ‪ ،‬انها لم تستطيع الغوص في وجدان هذه الشعوب المقهورة كي تتلمس بذور‬ ‫التمرد واالنتفاضة ولكن بين هذه االنتفاضة وبداية عملية القهر اإلنساني تعيش الشعوب المتخلفة ليالً طويالً تجتر خالله مأساة‬ ‫المعاناة الوجودية ‪.‬‬ ‫أبرز مالمح هذه المرحلة ؛ اجتياف عملية التبخيس التي غرسها المتسلط في نفسية هذه الجماهير تنقل عدوانية وقهر ذاتي على‬ ‫شكل مشاعر أثم ودونية فيزدري إنسان العالم المتخلف ذاته ويخجل منها ويصيب المرأة واالتباع في عملية التحقير هذه فما‬ ‫يلقاه من تبخيس ومهانه وما يفرض عليه من تبعية يعود فيمارسه على زوجته ومن هم في أمرته ‪ ،‬فتكثر في هذه الحالة الميول‬ ‫االنتحاري ة فالمقهور متربص دوما ً للمتسلط كي ينال منه ‪ ،‬فهذه الوضعية العالئقية وما يتبعها من احساس بالعجز أمام المصير‬ ‫المهدد دوما ً وانعدام مشاعر األمن تجاه قوى الطبيعة تؤدي إلى بروز مجموعة من العقد تمييز حياة المقهور أهمها عقدة النقص‬ ‫والعار ‪.‬‬

‫عقده النقص ‪:‬‬ ‫يعيش في حاله تهديد دائم لألمنة وصحته وقوته وعياله فيفتقر إلى ذلك اإلحساس بالقوة والقدرة على المجابهة الذي يمد الحياة‬ ‫بنوع من العنفوان ويدفع الى اإلحترام والمجابهة وتنعدم ثقته بنفسه فعقدة النقص تجعل الخوف يتحكم باإلنسان المقهور ‪،‬‬ ‫الخوف من السلطة وقوى الطبيعة والمجابهة وشرور اآلخرين ‪.‬‬ ‫‪11‬‬


‫وتتجلى عقده النقص بوضوح ظاهر في موقف اإلنسان المقهور من العلم والتكنولوجيا فيضع نفسه في وضعية العاجز عن‬ ‫استيعاب التكنولوجيا الحديثة فال شك أن الفئة المتسلطة بغية استمرار تسلطها تعمل على تغذية عقدة النقص والعجز لدى هذه‬ ‫الجماهير حتى تظل على استكانتها وتبعيتها وليس هناك من سبيل أمام هذه الجماهير اال القبول باألمر الواقع ‪.‬‬

‫عقدة العار ‪:‬‬ ‫عقدة العار هي التتمة الطبيعية لعقدة النقص ‪ ،‬اإلنسان المقهور يخجل من ذاته ‪ ،‬يعيش وضعه كعار وجودي يصعب احتماله ‪.‬‬ ‫هاجس الفضيحة يخيم عليه ( فضيحة العجز أو الفقر أو الشرف أو المرض ) حساسيته مفرطه جداً لكل ما يهدد المظهر الخارجي‬ ‫الذي يحاول أن يقدم نفسه من خالله لآلخرين ولكن الرجل المقهور يسقط العار أساسا على المرأة ليست عقده العار وفقا على‬ ‫الفئة المقهورة بل هي عامة في المجتمع وكما أن اإلنسان المقهور يتشفى من المرأة كي يستر عاره كذلك يشتط المتسلط في‬ ‫فرض سلطاته وبطشه على المستضعفين من الناس ‪ ،‬من خالل بطشه يحس بالمتعة والقوة ‪ ،‬ساتراً بذلك نقصه وعاره ‪.‬‬

‫‪ -3‬اضطراب الديمومة ‪:‬‬ ‫وجود اإلنسان منغرس في المكان وصائر في الزمان ‪ .‬والبد للسلوك من أن يتكيف ويصل مرتبه الخلق ‪ .‬مع التوافق مع جدليه‬ ‫الزمان والمكان هذه ومالئمتها بدورها للمشروع الوجودي ‪ .‬والتقدم ‪ ،‬من حيث السيطرة على المصير ازاء قانون الطبيعة‬ ‫وقانون السلطة ‪،‬يتلخص في مدى السيطرة على الزمان والمكان ‪ .‬وبالتالي فالتخلف يبدو من هذه الزاوية كعجز متفاوت الدرجة‬ ‫عن هذه ا لسيطرة ‪ .‬عجز اإلنسان المتخلف عن التحكم بمصيره مرتبط بوثوق ‪ ،‬باضطراب الديمومة ‪ .‬ونقصد بهذا المصطلح‬ ‫ان الزمان جدليا ً وليس تسلسليا ً يذهب من الماضي إلى المستقبل ‪ ،‬مروراً بالحاضر باتجاه واحد جامد ‪ .‬وهي جميعها تشكل‬ ‫األبعاد الثالثية للديمومة أي للتجربة الوجودية المعاشة زمنيا ‪ .‬إن طول معاناة اإلنسان المقهور ‪ ،‬ومدى القهر والتسلط الذي‬ ‫فرض عليه ‪ ،‬ينعكس على تجربته الوجودية للديمومة على شكل تضخم األيام الماضية ‪ ،‬وتأزم في معاناة الحاضر وانسداد آفاق‬ ‫المستقبل ‪ .‬فينعدم الشعور باألمن والثقة بالنفس وتنعدم الضمانات المستمرة فيحاول الهروب للماضي ‪ ،‬وتتفاعل عقده النقص‬ ‫والعار واضطراب الديمومة فيما بينها ‪ ،‬مما يزيد حدتها ووطأتها لدرجه يصعب احتمالها ‪ .‬وهي ال تسمح لإلنسان المقهور‬ ‫باإلحتفاظ بالتوازن النفسي الضروري‪ ،‬كيما يتمكن من اإلستمرار في العيش فالبد للتوتر أن يزداد وللعدوانية أن تتراكم ‪ .‬وهنا‬ ‫يدخل في زمن االضطهاد قبل الوصول إلى مرحلة التمرد واإلنفجار‬

‫‪12‬‬


‫ثانيا ‪ :‬مرحلة االضطهاد ‪:‬‬ ‫يشكل الموقف االضطهادي من اآلخرين والطبيعة ‪ ،‬مرحلة وسطى بين حالة الرضوخ ومرحلة التمرد واالنتفاض ويتداخل مع‬ ‫كل من المرحلتين السابقة والتالية ‪ .‬فتالحظ هناك حاالت رضوخ اضطهادي على طرف ‪ ،‬يقابلها حاالت اضطهاد تمردي على‬ ‫الطرف االخر ‪.‬‬ ‫وتتوقف هذه المرحلة من حيث امتدادها وشدتها على نوعية بنية المجتمع من ناحية وعلى المعادلة الشخصية للفرد تبعا لقواه‬ ‫النزوية وتركيبه النفسي من ناحية ثانيه ‪.‬‬ ‫مع بروز التياراالضطهادي تكون ا لحالةالنفسية لإلنسان قد بلغت درجة عالية من التوتراالنفعالي والوجودي العام يدخل في‬ ‫مرحلة من الغليان الداخلي للعدوانية التي كانت مقموعة بشدة ‪،‬لب الشعور االضطهادي هو التفتيش عن مخطئ يحمل وزر‬ ‫العدوانية المتراكمة داخليا ‪ .‬فبذلك هو ال يستطيع ال يكتفي بذاته ويصاب بذعر ال يمكنه احتماله تلقى إذا عالقات االضطهاد ‪،‬‬ ‫مسؤوليه فشل تحقيق الذات الذي يعاني منه اإلنسان المقهور على اآلخرين خصوصا ( األقران والمشابهين ) فيصب عليهم‬ ‫العدوانية المتراكمة فلذلك الحل االضطهادي يظل واهيا والبد من فتره تطول أو تقصر من الوعي بمصدر المأساة الحقيقي وهو‬ ‫المتسلط الداخلي وحليفه الخارجي ‪ .‬وال بد بالتالي من توجيه العدوانية والعنف نحو هذا المصدر ‪ ،‬بعد فتره إعداد واختمار تنضج‬ ‫خاللها إمكانيه التمرد واإلنتفاضه ‪.‬‬

‫ثالثا ‪ :‬مرحلة التمرد والمجابهة ‪:‬‬ ‫العنف المسلح هو السبيل الوحيد ليتخلص الشعب المقهور م ن عقدة النقص والجبن والخوف التي غرسها اإلستعمار الغربي في‬ ‫عروقه ‪ .‬إنه أيضا من خالل العنف الثوري يحقق الشعب ذاته ‪ ،‬وينقي نفسه من الكسل والخبل واالتكالية ويتضح للشعب‬ ‫المقهور أن العنف المسلح هو السبيل الوحيد لكي يعبر عن نفسه وعن حقه في الوجود ‪ .‬إن الحاجه إلى قهر الموت هي المدخل‬ ‫الى عملية التحرير ففي ذلك انتصار على الخوف واالستكانة واليأس ومن خالل السالح داللة مبالغا ً فيها تكاد تكون سحرية فهو‬ ‫درع وحماية ‪ ،‬وهو رمز الوجود الجديد ‪ .‬ومن خالل عملية التماهي هذه تكسب الجماهير شيئا ً من الثقة و اإلمكانات الذاتية فبدل‬ ‫ع قدة النقص تبرز عقدة التفوق واالستعالء وبدل العجز واالستسالم تبرز عقده الجبروت لكن من األخطار التي تنتشر في هذه‬ ‫المرحلة نظراً لغياب األطر المرجعية الجديدة (التغيرية )وعدم حلولها محل األطر المرجعية السابقة‪ ،‬استمرار هذه األطر ‪،‬‬ ‫وممارسة العمل المسلح من خالل مر تبية التسلط والرضوخ ‪ .‬فالتخلف ظاهرة كلية وعالجها يجب أن يكون شموليا ً وأشد نقاط‬ ‫المقاومة استعصاء على التغيير هي البنية النفسية التي يفرزها التخلف ‪ ،‬بما تتميز به من قيم ونظرة إلى الكون ‪ .‬فكما أن اآللة‬ ‫نتاج التقنية المتقدمة ‪ ،‬قد يعاد تفسيرها كي تستخدم بشكل خ رافي أو سحري في البلد النامي ‪ ،‬كذلك عملية التغيير الجذري‬ ‫(الثورة) قد يعاد تفسيرها كي تمارس من خالل األطر المتخلفة وتفقد بالتالي قدرتها التغييرية ‪.‬‬

‫‪13‬‬


‫الفصل الثالث‬ ‫العقلية المتخلفة‬

‫‪14‬‬


‫العقلية المتخلفة‬

‫الحديث عن العقلية المتخلفة يتض من مرحلتين ‪ .‬األولى رصد المالمح والخصائص األساسية ‪ ،‬أما الثانية فهي محاولة بحث‬ ‫األسباب والقوى المولدة لهذه العقلية‪ ،‬التي تغذيها وتعمل على استمرارها ‪.‬‬

‫أوالً‪ :‬الخصائص الذهنية للتخلف‬ ‫المالمح الذهنية للتخلف متعددة متنوعة وقابلة لالنتظام في موضوعات أساسية‪ ،‬وأخرى متفرعة عنها تبعا َ للمنظور الذي يتخذه‬ ‫الباحث ‪.‬‬

‫‪-1‬الخصائص الذهنية المنهجية‬ ‫تتلخص في أمرين أساسيين ‪ :‬اضطراب منهجية التفكير من ناحية ‪ ،‬وقصور الفكر الجدلي من ناحية ثانية‪ .‬ويتلخص الخلل في‬ ‫الحالتين بصعوبة السيطرة الذهنية على الواقع ‪ .‬هناك عجز عند اإلنسان المتخلف ( المقهور خصوصا َ ) إزاء ظواهر الطبيعة‬ ‫والحياة والعالقات ‪ ،‬تجعله راضخا َ مستسلما َ تجاه ما يبدو عليها من غموض وتداخل ‪ .‬تبدو له ظواهر الحياة والمجتمع أقوى من‬ ‫طاقته على االستيعاب ‪ .‬ذلك أمر مرتبط بعقدة النص ‪.‬‬ ‫ومن وجهة نظر التحليل النفسي يأخذ األمر على المستوى الالواعي طابع الخصاء الذهني) ‪(Castration mentale‬‬ ‫الذي يميز حاالت الضعف العقلي الزائف‪.‬‬ ‫ويتلخص الخصاء الذهني بنوع من صد القدرة على الفهم ‪ ،‬بنوع من العجز و توكيد الذات في مواجهة العالم ‪ .‬أما من الناحية‬ ‫اإلجتماعية فيرجع األمر إلى رضوخ اإلنسان المتخلف العتبا ط قوى الطبيعة ‪ ،‬وتسلط الفئة المسيطرة ‪ .‬هذا الرضوخ هو‬ ‫المسؤول عن توليد حالة الخصاء الذهني والتي نحن بصددها ‪ ،‬والتي تشكل االمتداد النفسي لوضعية القهر االجتماعي ‪.‬‬

‫اضطراب منهجية التفكير ‪:‬‬ ‫أول ما يطالعنا في اضطراب منهجية التفكير هو سوء التنظيم الذهني في التصدي للواقع ‪ .‬تقترب الذهنية المتخلفة من الواقع‬ ‫وتتعامل معه دون خطة مسبقة ذات مراحل منطقية واضحة سلفا َ ‪ .‬الفوضى والعشوائية والتخبط والمحاولة شبه العمياء هي‬ ‫المميزة ‪ .‬وهكذا فبدالَ من تنظيم الواقع والسيطرة عليه تزيد من حدة ما يبدو عليه من فوضى وانعدام في التماسك ‪.‬‬ ‫بينما نرى العقلية المنهجية تتقيد عادة بعدة خطوات في بحثها ألي مسألة ‪ ،‬يبدأ األمر بمحاولة تعريفها بأكثر ما يمكن من الدقة‬ ‫والوضوح ‪ ،‬ثم نحدد الهدف المطلوب الوصول إليه من هذا البحث‪ .‬بعد التعرف وتحديد الهدف تأتي خطوة بحث المشكالت التي‬ ‫تتضمنها‪ .‬وهذه تقسم إلى أ ساسية وثانوية مع تبيان العالقة بين الفئتين ‪.‬الخطوة التالية هي جمع المعلومات والمعطيات المتوافرة‬

‫‪15‬‬


‫عن المسألة في مختلف جوانبها ومستوياتها ‪ .‬وفرز هذه المعلومات من حيث أهميتها ومدى تمثيلها للواقع ‪ .‬عند هذا الحد يصبح‬ ‫ممكنا َ طرح تصورات متعددة عن الحلول األنسب تبعا َ للهدف المقرر ‪ .‬هذا الطرح يتلوه مناقشة كل حل ومدى‬ ‫فعاليته ‪ ،‬وما يعترضه من صعوبات وما يتضمن من تسهيالت‪ .‬وانطالقا َ من هذه المناقشة للحلول يمكن ترجيح الحل األنسب‬ ‫تبعا َ إلطار المشكلة وظروفها من ناحية ‪ ،‬وللهدف المحدد من ناحية ثانية‪ .‬وأخيراَ ترسم خطوات ومراحل التنفيذ وأدواته وأساليبه‬ ‫‪ .‬طبعا َ ال يأخذ األمر دوما َ هذا التسلسل المنهجي المتين ‪ .‬إنما في الذهنية المتقدة هناك باستمرار تنظم للتفكير واسترشاد بإطار‬ ‫منطقي يمكن للباحث من العودة إلى الطريق السليم ‪ ،‬إذا انجرف في اعتبارات جانبية‪.‬‬ ‫أما الذهنية المتخلفة فهي تغرق في التخبط عند كل مرحلة من المراحل السابقة ‪ .‬كما تقفز من مرحلة أولية إلى مرحلة نهائية كي‬ ‫يتضح لها العجز عن متابعة السير ‪ ،‬وتظل هكذا بين إقدام و إحجام ‪ ،‬ال تستطيع أن ترجح حالَ عن آخر‪ .‬وهي إن فعلت فأغلب‬ ‫الظن نتيجة لتدخل عوامل ذاتية وانفعالية أكثر منها مراعاة العتبارات منطقية ‪.‬‬ ‫ومن هنا ندرك مدى الهدر في الوقت والجهد الذي تتعرض له العقلية المتخلفة ‪ ،‬نظراَ الفتقار الحلول إلى المتانة والمنطقية‪.‬‬ ‫وال يتوقف هذا التخبط والمحاولة و الخطأ على بحث األمور النظرية ‪ ،‬بل هو النمط الشائع في التصدي للحياة بقضاياها اليومية‪.‬‬ ‫وإذا كان التخبط واعتباطية االلتماس يميزان أسلوب الفئات غير المتعلمة ‪ ،‬فإنهما ال يقتصران عليها مطلقاَ‪ .‬إنهما على درجة‬ ‫كبيرة من االنتشار بين أغلب فئات المتعلمين ‪ ،‬حتى أولئك الحاصلين على الدرجات الجامعية ‪.‬‬ ‫يمكننا القول إن العجز المنهجي هو العقبة األساسية التي يصطدم بها الراغب في القيام ببحث علمي ‪ ،‬يبدو القصور مذهالَ على‬ ‫هذا المستوى ‪ ،‬وهو الذي يصرف غالبية هؤالء عن متابعة مشاريعهم ‪ ،‬بعد نجاحهم في امتحان الدروس النظرية ‪ ،‬عندما نطلب‬ ‫إلى الواحد منهم وضع تصميم للموضوع الذي اختاره يعجز عن تحديد ماذا يريد أن يبحث وكيف ‪.‬‬ ‫ال يقتصر األمر على الطالب ‪ ،‬بل نجد الكثير من المؤلفين الجامعيين يفتقرون إلى الدقة والتنظيم المنهجي في كتاباتهم ‪ .‬إنهم‬ ‫يذهبون في كل اتجاه ‪ ،‬ويتحدثون عما يالئم وماال يالئم الموضوع‪ ،‬ويقعون في التكرار مما يجعل كتاباتهم أقرب إلى تكديس‬ ‫المعلومات منها إلى تنسيقها ‪.‬‬ ‫إن تحليل الظواهر عمقا َ واتساعا َ هو الشرط األساسي للسيطرة على الواقع ‪ .‬وبمقدار عمق التحليل ترتقي االستنتاجات ‪ .‬يعجز‬ ‫الذهن المتخلف عن الذهاب بعيداَ في تحليله لألمور ‪ ،‬ألنه ال يدرك أن لكل ظاهرة مستويات متعددة من العمق واالتساع وأنها‬ ‫تبدو مختلفة تبعا َ لك ل مستوى‪ .‬والخطر كل الخطر هو االكتفاء بالمستويات الخارجية التي تشكل عادة قناعا َ يخفي الحقيقة بقدر‬ ‫ما يعبر عنها ‪ .‬خطر هذا الموقف المتسرع ‪ ،‬يتلخص بإطالق األحكام القطعية والنهائية بشكل مضلل ‪ ،‬فالحقيقة نسبية دائم اَ‬ ‫وقيمتها رهن بالمستوى التحليلي الذي بنيت على أس اسه ‪ .‬كل حقيقة تخفي وراءها أخرى أكثر محورية منها ‪ .‬كل حقيقة بهذا‬ ‫المعنى قناع ‪ ،‬البد من تجاوزه عمقا َ واتساعا َ إذا أردنا االرتقاء بالمعرفة اإلنسانية للوجود‪.‬‬ ‫إن الذهن المتخلف العاجز عن الغوص في تحليل الظواهر عمقا َ واتساعا َ ‪ ،‬مصاب بنوع من الصد المعرفي ‪ ،‬شيء يسمى في‬ ‫علم النفس باسم ( الحشرية الممنوعة )‪.‬‬ ‫فهو أسير النقاط العمياء في عملية اإلدراك التي تظل قاصرة ومليئة بالثغرات‪.‬‬ ‫ال يقف األمر عند حدود العجز عن التحليل الشامل ‪ ،‬بل يتخذ مظهراً آخر هو صعوبة االنتقال من هذا التحليل إلى مرحلة‬ ‫‪16‬‬


‫التوليف ‪ .‬ليس للتحليل من قيم عملية إال بالقدر الذي يسمح معه بالخروج بتصورات متماسكة عن الواقع ‪ ،‬تؤدي إلى قرارات‬ ‫ومواقف فعالة ‪.‬وكما أن هناك عجزاَ في استعراض مختلف جوانب الظاهرة ‪ ،‬فهناك أيضا َ عجز في الربط بينها في وحدات كلية‬ ‫‪ ،‬وعجز في إعادة ترتيبها في صيغ جديدة‪.‬‬ ‫العقل المتخلف يعاني من صعوبات في االنتقال من مرحلة التفصيالت ‪ ،‬إلى مرحلة التنسيق الكلي ‪ .‬ويرتبط هذا األمر بخاصية‬ ‫الجمود والقطعية التي يبدو أنه يتصف بها ‪ .‬فهو يعمل ‪ ،‬كما سنرى في الفقرة التالية تبعا َ لمبدأ ( إما ‪ ،‬أو )عاجزاَ عن جمع‬ ‫الطرفين معا َ‪.‬‬ ‫وبهذا المعنى فإن الذهن المتخلف يعا ني من قصور الفكر النقدي ‪ ،‬إنه متحيز بشكل تلقائي نظراَ لتدخل العوامل اإلنفعالية‬ ‫والعاطفية في أوالية التفكير‪ .‬وهو قطعي في تحيزه ‪ ،‬فإما أن يكون مع أو ضد أمر ما ‪.‬ويبدو قصور الفكر النقدي بالتالي من‬ ‫خالل العجز عن الجمع في سياق واحد بين األوجه الموجبة واألوجه السالبة لمسألة ما ‪ ،‬بين المميزات والعيوب‪.‬‬ ‫وباإلضافة إلى عمليات التحليل والتوليف ‪ ،‬وقصور التفكير النقدي ‪ ،‬يتسم الذهن المتخلف بانعدام المثابرة ‪ .‬التركيز على التفكير‬ ‫في أمر ما محدود زمنيا َ ‪ ،‬سرعان ما يداخله التعب والتشتت ‪ ،‬ينطلق بحماس كبير ولكنه يفقد حماسه بالسرعة نفسها التي بدأ‬ ‫فيها ‪.‬إن حماسه والتزامه بال غد ‪ .‬ولذلك تكاد الخطط بعيدة المدى تصبح مستحيلة ‪ .‬وال قدرة له على الجهد الطويل النفس المركز‬ ‫حول المسألة نفسها ‪.‬‬ ‫ومن السمات البارزة أيضا َ للعقلية المتخلفة في تقديرنا‪ ،‬انعدام الدقة والضبط في التصدي للواقع ‪ ،‬وفي تقدير األمور ‪.‬كل شيء‬ ‫يظل على مستوى التقدير اإلجمالي واالنطباع العام ‪ .‬الدقة الرياضية ال مجال لها في العالم النامي ‪ .‬كل شيء عرضة للتهاون‬ ‫والتراخي والتساهل حتى االستهتار‪.‬‬ ‫تتلخص كل الخصائص السابقة في العجز عن التخطيط ‪ ،‬فالذهنية المتخلفة تنظر إلى الواقع بشكل تجزيئي زمانيا َ ومكانيا َ ‪ .‬من‬ ‫الناحية الزمانية يغلب عليها التركيز على الحاضر‪ ،‬االنحسار ضمن حدود آنية ‪ ،‬األفق المستقبلي يظل ضيقا َ وال يصل مستويات‬ ‫بعيدة المدى ‪ .‬بينما يخطط العالم المتقدم لعدة سنوات وحتى لعشرات السنين مع تقسيم للمراحل ‪ ،‬نجد العالم النامي يعيش ليومه‪.‬‬ ‫يالحظ أحيانا َ نوع من الحماس للتخطيط فتوضع خطط ولكن ندر أن تنفذ ‪ ،‬ومن األندر ‪ ،‬إذا نفذت ‪ .‬يالحظ هنا أن المسؤولية ال‬ ‫ترجع فقط إلى قصور القدرة على التخطيط ‪ ،‬بقدر ما ترجع إلى انعدام رغبة من هم في موقع المسؤولية في التنفيذ ‪ .‬توضع‬ ‫الخطط إليهام الجمهور بمستق بل يضع حداَ آلالمه ‪ ،‬وتظل النهاية من نوع اإللهام وامتصاص النقمة ‪.‬‬ ‫إن اآلنية ‪ ،‬العيش في الحاضر وانسداد آفاق المستقبل ‪ ،‬هي إحدى الخصائص النفسية للوجود المتخلف ‪ ،‬إنها نتيجة تعرض‬ ‫اإلنسان المقهور العتباط قوى الطبيعة وقوى السلطة ‪ ،‬وهي أيضا ّ نتيجة انعدام الحياتية ‪ ،‬فاإلنسان الذي فقد السيطرة على‬ ‫مصيره يستحيل عليه التخطيط لهذا المصير ويظل بالتالي أسير الظروف ‪.‬‬ ‫أما مكانيا َ ‪ ،‬فاإلنسان المتخلف يظل تجزيئيا َ ‪ ،‬يعجز عن النظر أبعد من دائرة ضيقة ‪ ،‬هي حدود محيطه المباشر إنه عاجز عن‬ ‫الشمول وعن استشفاف آفاق بعيدة ‪ ،‬عن وضع خصائص المحيط المباشر في أطر أكثر اتساعا َ وعمومية‪.‬‬ ‫يتوقف مستوى التكيف عموما َ على اتساع المدى الزماني والمكاني لإلدراك ‪ .‬هذا االتساع كلما كان شامالَ ساعد على التفكير‬

‫‪17‬‬


‫الخالق والسلوك الناجح المبتكر ‪ .‬إنه وحده الذي يسمح بسلوك االلتفاف الذي يشكل أحد الشروط األساسية للسيطرة على الواقع‬ ‫‪ .‬ويتلخص هذا السلوك في االبتعاد اآلني عن الهدف للوصول إليه بشكل أكثر فعالية ودواما َ من خالل سلوك مسارات غير‬ ‫مباشرة ‪ .‬ذلك ما يميز إجماالَ السلوك االستراتيجي الذي يتضمن تخليا َ جزئيا َ أو خسارة مؤقتة من أجل نجاح أكبر ‪.‬‬ ‫عندما توضع الظواهر الم حلية في إطار أعم وأشمل تأخذ حجمها الطبيعي ‪ ،‬ضمن نظام عام من القوى ‪ ،‬مما يسمح بسيطرة‬ ‫أكبر على الواقع‪.‬‬ ‫ال يقتصر األمر على المستوى الفردي ‪ ،‬بل إن التخطيط الرسمي يشكو في البلدان النامية من جزئية النظرة ومحدوديتها ‪ .‬توضع‬ ‫مشاريع كثيرة وتصرف عليها األموال الطائلة ‪ ،‬ولكنها تظل مشاريع معزولة أو قطاعية‪ ،‬ال تدخل ضمن تخطيط شامل ‪ ،‬وال‬ ‫تدرس أبعادها ونتائجها انطالقا َ من حالة مختلف قطاعات المجتمع‪.‬‬

‫قصور التفكير الجدلي ‪:‬‬ ‫قصور التفكير الجدلي هو لب الذهنية المتخلفة ‪ .‬فهي جامدة قطعية وحيدة الجانب ‪ ،‬تتبع مبدأ السببية الميكانيكية‪ ،‬عاجزة عن‬ ‫العمل تبعا َ لمبدأ التناقض ‪.‬ويالحظ هذا القصور في مختلف النشاطات وعلى مختلف األصعدة ومختلف مستويات المسؤولية‪.‬‬ ‫تنطلق الذهنية المتخلفة في نظرتها لألمور من مبدأ العزل والفصل ‪ .‬الشيء قائم بذاته منفصل عن بقية األشياء و الظواهر ‪ .‬على‬ ‫العكس من ذلك نجد المنهج الجدلي يقول بالدينامية والصيرورة من ناحية ‪ ،‬وبالتحديد العالئقي من ناحية ثانية ‪.‬الشيء ذاته هو‬ ‫تجريد فارغ ال حياة فيه ‪ .‬كل شيء هو لذاته ولآلخرين ‪ ،‬كل شيء هو دوما َ في عالقة ‪ ،‬أو مجموعة عالقات مع أشياء أخرى ‪.‬‬ ‫كما أن هذه الذهنية بعجزها عن النظرة الكلية ا لدينامية ‪ ،‬ال ترى من األمور إال جانبا َ واحداَ فقط ‪ .‬إنها تخفق في إدراك الترابط‬ ‫والتفاعل الشبكي والتاريخي بين الظواهر ‪ ،‬وما ينتج عنه من حركية وتغيّر ‪.‬‬ ‫تنطلق الذهنية المتخلفة من مبدأ السببية الميكانيكية في النظر إلى األمور‪ ،‬السببية ذات االتجاه الواحد ‪ :‬سبب معين يؤدي إلى‬ ‫نتيجة معينة ‪ ،‬التأثير يأتي من السبب ويؤدي إلى النتيجة‪.‬‬ ‫أما الحركة في االتجاه المعاكس ( تأثير النتيجة على السبب ) فغير متصورة ‪ .‬كما أنها تنطلق من السببية المبسطة ‪ :‬سبب واحد‬ ‫أو عدة أسباب مترابطة تؤدي إل نتيجة ما ‪ .‬وتقوم بين هذا السبب وتلك النتيجة عالقة مغلقة تعزلها عن بقية األسباب والنتائج ‪.‬‬ ‫وهي بذلك تقصر عن اإلمساك بالواقع الذي تتفاعل فيه الظواهر زمانيا َ ومكانيا َ ‪ ،‬وتتبادل التحديد والتأثير ‪.‬‬ ‫ومن أخطر أوجه القصور في الذهنية المتخلفة العجز عن رؤية قانون التناقض‪ ،‬أو تكامل األضداد ‪ .‬األشياء واإلنسان هما دائما َ‬ ‫في عالقة ‪ .‬هذه العالقة تضم طرفين أو أكثر في حالة تفاعل دائم وتأثير متبادل‪ .‬والبد لفهم أمر ما من دراسة كل من طرفي‬ ‫العالقة وفهم المركز الخاص الذي يحتله كل منهما ‪ ،‬والشكل المحدد الذي يعتمد به على اآلخر‪.‬‬ ‫ال تقتصر الذهنية المتخلفة في إدراك هذه الع القة فقط ‪ ،‬بل إنها تعجز عن تقدير دور كل من طرفي التناقض ‪ .‬بينما يعلمنا المنهج‬ ‫الجدلي أن هناك دائما َ طرفا َ أساسيا َ وطرفا َ ثانويا َ في التفاعل‪ .‬كما يعلمنا أن العالقة ال تظل ثابتة على الدوام في صيغة واحدة‪،‬‬ ‫كما يذهب الذهن المتخلف‪ ،‬بل هي متحولة‪.‬‬

‫‪18‬‬


‫باإلضافة إلى ال تناقض الخارجي بين شيء ما وغيره من األشياء ‪ ،‬هناك التناقض الداخلي ضمن ذلك الشيء‪ .‬فالظاهرة ليست‬ ‫كتلة واحدة متماسكة ‪ ،‬بل هي نتاج تفاعل قوى داخلية متعددة في اتجاهها ومتكاملة في تعارضها‪ .‬الذهنية المتخلفة ال تستطيع‬ ‫إدراك قوى الشد والجذب ‪ ،‬قوى التقدم والحركة في ع القتها الجدلية مع قوى الصد والجمود ‪ ،‬داخل كل ظاهرة وفي عالقة‬ ‫الظواهر فيما بينها‪.‬‬ ‫كذلك تعجز هذه الذهنية عن إدراك العالقات الجدلية بين الزمان والمكان‪ ،‬بين التاريخي واالنبنائي‪ .‬تبدو األمور إما متطورة‬ ‫تاريخيا َ ‪ ،‬أو محددة انبنائيا َ خارج إطار الزمن‪.‬‬ ‫إن قصور التف كير الجدلي الذي يميز الذهنية المتخلفة يجعلها عاجزة عن النفاذ إلى مختلف مستويات وأبعاد الظاهرة ‪.‬‬ ‫يخلق هذا القصور الذي أشرنا إلى جوانب منه حالة من التصلب الذهني ‪ ،‬يجعل اإلنسان المتخلف يفتقر إلى المرونة‪ ،‬وإلى‬ ‫القدرة على بحث األمور من جوانب متعددة ومنظورات ومس تويات شمولية‪ .‬هذا التصلب يحجب رؤية النسبية في األشياء‬ ‫والظواهر ويميل إلى المواقف القطعية ( إما ‪ ،‬أو ) ‪ ،‬بينما هذه الظواهر هي دائما َ مزيج متفاوت من األوجه السالبة والموجبة ‪.‬‬ ‫كما أن انخفاض درجة المرونة يعطل القدرة على التكيف للوضعيات المتخلفة ‪ ،‬وللخصائص النوعية لكل وضعية‪ .‬ومن الواضح‬ ‫أن انعدام المرونة الذهنية مرتبط بحالة عامة من انعدام المرونة الوجودية في التصدي للعالم ‪ ،‬مما يشكل عقبات جديدة في وجه‬ ‫التطور والتنمية ‪.‬‬ ‫البد من التأكيد على أن هذا القصور ليس وليد خلل عضوي أو انحطاط تطوري كما يحلو لبعض المتحيزين من علماء الغرب‬ ‫أن يدعوا ‪ .‬إنه نتاج البنية اإلجتماعية المتخلفة ‪ ،‬ووليد عوامل القهر واالعتباط التي يخضع لها اإلنسان المتخلف‪ .‬قصور منهجية‬ ‫التفكير يتناسب بشدة مع درجة القهر المفروض ‪ ،‬وجمود البنية اإلجتماعية‪.‬‬

‫‪ -2‬الخصائص الذهنية اإلنفعالية ‪:‬‬ ‫إن طغيان اإلنفعاالت وما يرافقها من نكوص على مستوى العقالنية ‪ ،‬ظاهره مألوفة في األزمات ‪ ،‬ولكنها عند اإلنسان المتخلف‬ ‫تكاد تكون األسلوب األساسي في الوجود‪ ،‬ألنه بالتحديد يعاني من أزمات مزمنة تتخذ طابع المأزق المعيشي ‪ ،‬الذي ال يرى‬ ‫لنفسه خالصا َ منه‪ .‬هذا المأزق يجعله يعيش في حالة دائمة من التوتر اإلنفعالي الذي ينبث في حنايا شخصيته معطالَ القدرة على‬ ‫الحكم الموضوعي ‪ ،‬والنظرة العقالنية إلى األمور ‪ .‬وهكذا فإن التوتر اإلنفعالي ‪ ،‬بمقدار ما يتص ّعد يخلق عقبات معرفية متفاقمة‬ ‫أمام اإلنسان المقهور‪ .‬إذ أن إرصان الواقع ‪ ،‬وما يتطلبه من حياد نفسي ( نسبي بالضرورة )‪ ،‬يستلزم ضبط االنفعاالت ضمن‬ ‫حدود ال تتعداها ‪ .‬هذه الحدود تتلخص بمد الذهن بالقوة الدافعة لإلهتمام بالعالم واتخاذ المواقف تجاهه ‪.‬‬ ‫هذا التوازن الضروري بين المنطق والعقل ‪ ،‬ال يتيسر إلنسان العالم المتخلف ألسباب عديدة ‪ ،‬وأهمها القهر وانعدام مشاعر‬ ‫األمن وطغيان مشاعر الدونية‪ .‬كلها عوامل تصد الذهن نظراَ لما تولده من قلق‪ .‬فإذا زاد هذا القلق عن حد معين‪ ،‬فإنه يشلّ القدرة‬ ‫على الحكم الموضوعي‪ .‬كما أن حالة القمع المزمن التي يعيشها اإلنسان المتخلف تؤدي إلى تراكم مفرط لإلنفعاالت و إلى‬ ‫تأجيج للعواطف وتفجير للمشاعر األكثر طفلية وعنفا َ ‪ ،‬مما يجعله يبدو مركزاَ تماما َ حول ذاته ‪ .‬هذا التركيز الذي يبلغ درجة‬ ‫النكوص إلى األنوية في أحيان كثيرة ‪ ،‬يؤدي إلى انهيار القدرة على التجريد الذي يشكل أحد أرقى المظاهر الذهنية في‬ ‫التكيف للواقع والسيطرة عليه‪.‬‬ ‫‪19‬‬


‫إن طغيان اإلنفعاالت على هذا النسق يضع اإلنسان المتخلف أمام الحاجة الملحة للتخلص من ضغطها وما تخلقه من توتر داخلي‬ ‫صعب اإلحتمال‪ .‬ومن المعروف نفسياَ‪ ،‬أن أكثر الوسائل فعالية وبدائية للتخلص من هذا التوتر ‪ ،‬هو اإلسقاط الذي يسمح‬ ‫بتصريف اإلنفعاالت من خالل صبها على الخارج ‪ .‬ولذلك فإن اإلن سان المتخلف يرى أعداء حوله في ظواهر الطبيعة وعقباتها‪،‬‬ ‫وفي مواقف اآلخرين منه ‪ .‬يتلون العالم بصبغة انفعالية بقدر التوتر الداخلي الذي يعاني منه‪ ،‬مما يصعد من حدة انفعاالته من‬ ‫دوامة اإلنفعال النشط ( العدوان واإلقدام )‪ ،‬أو الفاتر (‬ ‫خالل إرجاع األثر كوسيلة لمجابهة العداء الخارجي‪ .‬وهذا ينجرف في ّ‬ ‫المعاناة واجترار اآلالم الوجودية )‪ ،‬مما يجعل العالم يبدو اعتباطي غير منطقي ‪ .‬ومن الحتمي ساعتئذ أن يعجز هذا اإلنسان‬ ‫عن إدراك القوانين الموضوعية لظواهر الوجود ‪ ،‬التي تتطلب إعمال العقل وضبط العاطفة ‪.‬‬ ‫تنتجعن هذه الحالة عدة ظواه ر ‪ ،‬كثيرة الشيوع في العالم النامي‪ ،‬أبرزها سرعة تدهور الحوار العقالني والتفكير المنطقي ‪،‬‬ ‫والتعصب والتحيز وسرعة إطالق األحكام القطعية واألحكام المسبقة‪ ،‬وسيطرة التفكير الخرافي والسحري‪.‬‬ ‫ومن المظاهر التي تلفت نظر المالحظ‪ ،‬السرعة الواضحة في تدهور األداء العقلي و الحوار المنطقي بين الناس في العالم‬ ‫المتخلف ‪ .‬فالنقاش الذي يبدأ موضوعيا َ واقعيا َ ال يلبث أن يفجر انفعاالت تؤدي إلى اضطرابه‪ .‬ويتحول النقاش إلى صراخ‬ ‫وخصام يسير صعداّ نحو مزيد من تدهور العالقة وانهيار المنطق‪.‬‬ ‫إن طغيان اإلنفعاالت على هذه الصورة يعطل التجريد الع قلي والتكيف للواقع ‪ ،‬ألنه يؤدي إلى انحسار المجال الحيوي ‪ .‬تنحسر‬ ‫آفاق المستقبل ويلغي الواقع العريض الذي يعطي األشياء والظواهر حجمها الحقيقي ‪.‬هذا اإلنحسار زمانيا َ ومكانيا َ يؤدي بدوره‬ ‫إلى التركيز حول الحاضر‪ ،‬حول المشكلة اآلنية التي تبدو عندها كمسألة أزلية ‪ ،‬كما أنه يؤدي إلى تضخيمها بشكل مفرط‬ ‫فتكتسب أهمية ليست لها في الواقع‪.‬‬ ‫أحكام اإلنسان المتخلف على الظواهر واألشخاص يشوبها الكثير من التحيز والقطعية‪ .‬إنها أحكام متسرعة ونهائية تصنف‬ ‫الظواهر والناس في فئات جامدة ‪ ،‬سالبة كلها أو إيجابية كلها‪ ،‬أو هي متأثرة إلى حد ك بير باألفكار المسبقة واآلراء الشائعة التي‬ ‫يطغى عليها التعصب ‪.‬‬ ‫إزاء مأزق العقالنية ‪ ،‬وتعطل المنطق ‪ ،‬وإلحاح الحاجة إلى الحل نظراَ لتأزم التوتر الداخلي‪ ،‬ينجرف اإلنسان المتخلف في‬ ‫التفكير الخرافي الغيبي كوسيلة سحرية للخالص‪ .‬ومن هنا كثرة انتشار الخرافة في أوساط الجماهير المقهورة ‪ .‬الخرافة ‪ ،‬تبعا َ‬ ‫للدكتور ( إبراهيم بدران) والدكتورة ( سلوى الخماش ) ‪ ،‬هي أفكار وممارسات وعادات ال تستند إلى تبرير عقلي ‪ ،‬وال تخضع‬ ‫ألي مفهوم علمي سواء من حيث النظرية أو التطبيق ‪ .‬الذهنية الخرافية هي تلك التي تحاول أن تصل إلى أهداف الفرد أو‬ ‫المجتمع على أسس ال تستند إلى العلم والعقل‪.‬‬ ‫وتتفشى الخرافة في الطبقات الفقيرة ‪ ،‬كوسيلة لتخفيف اآلالم من خالل األوهام‪ .‬ويتناسب انتشارها مع مقدار العجز عن التصدي‬ ‫لمشكالت الحياة المختلفة‪ .‬ولكن رغم شدة انتشارها في الطبقات المقهورة من السكان‪ ،‬فإن الفئات المتعلمة ال تفلت منها‪ .‬فأهم‬ ‫من الخرافة الواضحة هناك الخرافة المغطاة بقشور من التعليم أو بقشور من التقدم والحداثة السطحية ‪ ،‬ألنها تشكل‬ ‫عقبة فعلية في وجه التغير والتجديد واإلبداع ‪ ،‬عقبة في وجه العقالنية والموضوعية‪.‬‬

‫‪20‬‬


‫ثانياَ‪ :‬عوامل تخلف العقلية ‪:‬‬ ‫من رأي د‪.‬نديم البي طار أن أسباب التخلف ترجع إلى الخصائص الزراعية التي يتصف بها اإلنسان العربي وأهمها في نظره ما‬ ‫يلي ‪:‬‬ ‫الشعور بالعجز عن السيطرة على الطبيعة والتاريخ‪.‬‬ ‫رد التغيرات والظواهر إلى قوى فردية ‪ ،‬ربط ما يحدث بتغيرات النفوذ والسلطة ‪ ،‬أي رد األمور إلى قوى ذاتية ال إلى قوانين‬ ‫طبيعية وتاريخية‪ ،‬مما يرسخ قوالب ذاتية في التفكير والنظر إلى الحياة‪.‬‬ ‫انعدام التكنولوجيا واإلعتماد على وسائل بدائية من حيوانات ويد عاملة‪ ،‬مما يجعل العالقة ‪ ،‬عالقة سلطة ذات طابع انفعالي ‪،‬‬ ‫أكثر مما هي عالقة علمية وموضوعية ( كما تفرضه اآلالت‪ ،‬والتقنيات والعمل معها )‪.‬‬ ‫االعتماد في المجتمع الزراعي على الظواهر المحسوسة الملموسة في الطبيعة والعالقات ال على القوانين العلمية‪.‬‬ ‫تحكم التقليد في السلوك‪ ،‬من خالل تجميده من ناحية‪ ،‬وشده إلى الماضي من ناحية ثانية‪ ،‬مما يفتح السبيل أمام الغيبيات والتفكير‬ ‫الخرافي‪.‬‬ ‫يذهب ( نديم البيطار ) في تفسيره للتخلف مذهبا َ قريبا َ من وجهة نظر ( جيرار ماندل )‪ ،‬الذي يقول بأن التكنولوجيا تلعب دور َا‬ ‫هاما َ في تشكيل الالوعي الجماعي ‪ ،‬من خالل المثل األعلى الذي تفرضه على المؤسسات اإلجتماعية ‪ ،‬وما يحدث من تغيير‬ ‫في النظرة إلى العالم وأسلوب الممارسة‪ .‬ف اآللة والتقنيات المتقدمة تفرض التجرد العاطفي وتنمي العقالنية والمنطق والترتيب‬ ‫والدقة من أجل حسن سيرها‪.‬‬ ‫ذلك كله صحيح ولكنه ال يغطي كل الظاهرة وال يقدم تفسيراَ كافيا َ لمسألة التخلف الذهنية ‪.‬‬ ‫لب تخلف العقلية يكمن في نظرنا في أسباب اجتماعية سياسية‪ ،‬هي المسؤولة عن نمط اإلنتاج وأدواته وتقنياته وانعكاساتها‬ ‫إن ّ‬ ‫على الذهنية‪ .‬هذه األسباب تذهب في رأينا ‪ ،‬في الوطن العربي على األقل ‪ ،‬في اتجاهين أساسيين مترابطين هما ‪ :‬سياسة التعليم‬ ‫في المجتمع ‪ ،‬وعالقات التسلط والقهر السائدة فيه‪.‬‬

‫‪-1‬سياسة التعليم وتخلف الذهنية‬ ‫الشك في أن مدى تفشي األمية في العالم النامي ‪ ،‬مسؤول بالدرجة األولى عن استمرار الذهنية غير العلمية التي تسيطر عليها‬ ‫الخرافة‪ ،‬وال شك في أن تطور الذهنية يسير بشكل عام مع ارتقاء المستوى التعليمي في المجتمع وما يجره من سيطرة على‬ ‫الواقع والتاريخ‪.‬‬ ‫وتكمن العلة في الوطن العرب ي‪ ،‬كما في العديد من أقطار العالم الثالث ‪ ،‬في نوعية التعليم ومدى تأثيره على تغيير الذهنية‪ .‬يبدو‬ ‫أن التعليم لم يكمل في الشخصية ‪ ،‬بل ظل في الكثير من األحوال قشرة خارجية تنهار عند األزمات‪ ،‬لتعود الشخصية إلى‬ ‫نظرتها الخرافية ‪ .‬هناك نوع من االزدواجية في شخصية اإل نسان المتخلف‪ ،‬بين دور التعليم ودور اإلنسان الممارس حياتيا َ ‪.‬‬ ‫مازال االنفصام أو االنشطار هو السائد ‪ .‬ففي الحياة اليومية نرى التقليد وانتشار الخرافات والنظرة المتخلفة إلى الوجود هي‬ ‫السائدة‪ .‬أما في المناسبات العلمية فنرى الواحد من هؤالء أو بعضهم ‪ ،‬يحلّق في األجواء العليا ولكن للحظات‪.‬‬ ‫‪21‬‬


‫أسباب هذه الظاهرة متعددة ‪ ،‬من أهمها تعرض الطفل منذ الصغر لتأثير األم الجاهلة معظم األحيان ‪ ،‬والتي نظراَ لوضعيتها‬ ‫المقهورة تتأثر إلى درجة خطيرة بالتفكير الخرافي والغيبي‪ ،‬وتتسلط عليها معتقدات ال علمية ‪ .‬وموطن الخطورة في ذلك بأنها‬ ‫ت نقل هذه األفكار إلى طفلها مما يجعل نظرته إلى العالم منذ البداية خرافية ال علمية‪ .‬ليست األم فقط هي التي تغرس هذه الذهنية‬ ‫المتخلفة في أعماق الطفل ‪ ،‬بل أيضا َ اإلطار الحياتي الذي يعيش فيه قبل سني الدراسة‪ ،‬والذي تتفشى فيه األفكار البائدة‬ ‫والممارسات الخرافية وال نظرة الغيبية ( من غول وعفاريت أشباح )‪ .‬من النادر أن يجيب هذا المحيط على تساؤالت الطفل‪ ،‬بعد‬ ‫الثالثة من العمر‪ ،‬حول أسرار الوجود وقوانين ظواهره المختلفة إجابة رصينة‪ .‬هناك ما يشبه المؤامرة المستمرة عليه من خالل‬ ‫الكذب والتخويف حتى ال يجشموا أنفسهم عناء الشرح أو حتى يغطوا جهلهم أو يخيفونه حتى يقيدوا حركته ويصدوا حيويته التي‬ ‫تزعجهم‪.‬‬ ‫هذا المعاش الخرافي والخوافي ‪ ،‬وما سيتبعه من ممارسات غير علمية يحمله الطفل معه إلى المدرسة ‪ ،‬وتتفاقم المشكلة الن‬ ‫المدرسة ببرامجها الحالية ال تستطيع أن تقتلع هذه األفكار والممارسات‪ .‬هذا إذا لم يقع الطفل على معلم يتابع نهج األهل ولألسباب‬ ‫نفسها‪.‬‬ ‫وما زال التعليم في مختلف مراحله وبشكل إجمالي ‪ ،‬سطحيا َ في معظم البلدان النامية في طرقه وفي محتوياته‪ .‬طرق التعليم ما‬ ‫زالت تلقينية إجماالَ ‪ ،‬تذهب في اتجاه واحد ‪ ،‬من المعلم الذي يعرف كل شيء ويقوم بالدور النشط‪ ،‬إلى التلميذ الذي يجهل كل‬ ‫شيء ‪ ،‬ويفرض عليه دور التلقي الفاتر دون أن يشارك أو يناقش أو يمارس ‪ ،‬بالطبع ال تساعد هذه الطرق على اكتسابه التفكير‬ ‫النقدي الجدلي‪ ،‬وبالتالي ال تكسبه الصيغ العلمية في النظرة إلى األمور‪ .‬إنه في أحسن األحوال يحفظ العلم دون أن يستوعبه‪.‬‬ ‫تمارس عملية التلقين بالضرورة من خالل عالقة تسلطية‪ :‬سلطة المعلم ال تناقش ( حتى أخطاؤه ال يسمح بإثارتها ‪ ،‬وليس من‬ ‫الوارد االعتراف بها ) بينما على الطالب أن يطيع ويمتثل‪ .‬هذه العالقة الالعقالنية تعزز النظرة االنفعالية إلى الوجود‪ ،‬ألنها‬ ‫تمنع الطالب من ال تمرس بالسيطرة على شؤونه ومصيره‪ .‬أما من حيث المستويات فإن المواد الدراسية مستوردة من خارج‬ ‫المجتمع ( نظريات وعلوم الغرب مطبقة على ظواهره ) في المراحل العليا من التعليم‪ ،‬وإما مواد ال تمتّ إلى واقع التلميذ بين‬ ‫الفئات الشعبية في المراحل االبتدائية والمتوسطة‪ .‬و يظل العلم إذاَ مسألة نظرية ‪ ،‬ال يعالج واقع الطالب في العالم المتخلف ‪ ،‬ال‬ ‫يتيح له فرصة اإلرصان العقلي لهذا الواقع‪.‬‬ ‫ومن مشكالت التعليم الشائعة في البلدان النامية‪ ،‬االنفصام بين لغة العلم لغة الحياة اليومية‪ .‬ونعني بذلك دراسة العلوم المضبوطة‬ ‫بلغة أجنبية ‪ ،‬يظل غالبية الطالب ‪ ،‬ماعدا أبناء القلة ذات الحظوة ‪ ،‬عاجزين عن التعامل بها‪ ،‬وال يمتلكونها إال بكل ناقص جداَ‪.‬‬ ‫إن مسألة تعريب العلوم المضبوطة وتدريسها باللغة األم من مسائل الساعة‪.‬‬ ‫وقد طرح الدكتور ( نزار الزين ) هذا الموضوع بشكل واضح في بحثه القيّم حول تعريب التعليم العالي في لبنان‪.‬‬ ‫فإذا كانت اللغة األم متشبعة باالنفعاالت والنظرة الالعلمية إلى الواقع‪ ،‬باعتبارها تعكس الوجود المتخلف ‪ ،‬فإنها ستؤدي حتما َ‬ ‫إلى ترسيخ هذه االنفعالية الالعلمية وتشجع بالتالي النظرة الخرافية إلى الوجود‪ .‬ومن هنا أتت ضرورة تعريب العلوم اإلنسانية‬ ‫والمضبوطة ‪ .‬فهذا التعريب يدخل في الصيغ العلمية على اللغة ويطورها مما يؤدي بالتالي إلى إدخال الصيغ العلمية على‬ ‫الذهنية العربية ‪ ،‬يرتقي بها إلى مستوى المنهجية المضبوطة‪.‬‬ ‫‪22‬‬


‫وهكذا فإن نقل العلم بلغة الشعب تطوير له ولحياته ولهذه اللغة على حد سواء وإال فإن هناك خطراَ من تحول العلم إلى وسيلة‬ ‫لإلنفصال عن الشعب والتعالي عليه أو التنكر له‪.‬‬ ‫إن عدم تعريب العلوم المضبوطة يترك اللغة األم مقتصرة على الصيغ اإلنفعالية والوجدانية ذات الطابع الخطابي الذي يهيج‬ ‫المشاعر ولكنه يعجز عن التخطيط والسيطرة على الواقع‪ .‬ومن رأي الدكتور الزين( أن التقصير في تعريب التعليم العالي‪..‬‬ ‫يحملنا على أن نظل في ضبابية تجاه واقعنا اإلجتماعي والنفسي‪ ،‬ال نستطيع أن نقدره أو نقومه تقويما َ صحيحا َ ‪ ..‬ولعلنا بعدم‬ ‫تعريب التعليم العالي نخطط لعدم تنمية مجتمعنا )‬ ‫الواقع إن عدم التعريب يهدف إلى الحفاظ على امتيازات القلة المسيطرة ‪ ،‬التي هي وحدها تتقن اللغة األجنبية وتتعامل بها‪ ،‬ألنها‬ ‫لغة حلفائها األجانب‪ .‬وبالتالي تتيح ألبنائها فقط فرصة اكتساب العقلية العلمية ‪ ،‬من خالل تمثل العلوم المضبوطة وآخر‬ ‫مستحدثاتها ‪.‬‬

‫‪-2‬عالقات التسلط والقهر وتخلف الذهنية‬ ‫من استعراضنا لمختلف أس باب تخلف الذهنية ‪ ،‬رأينا أنها جميعا َ تتضمن عنصر قهر حياتي يقع اإلنسان المتخلف ضحية له‪ .‬قهر‬ ‫الطبيعة وغوائلها ‪ ،‬قهر المتسلط في المجتمع الزراعي‪ ،‬قهر التقاليد العشائرية الجامدة التي تشل الفكر ‪ ،‬وتمنع الموقف النقدي‬ ‫من ظواهر المجتمع وأنظمته‪ ،‬ثم القهر الذي تمارسه السلطة في المدينة على اختالف وجوهه وأشكاله وتبريراته‪ .‬كل ذلك يخلق‬ ‫جواَ عاما َ من العنف يمارس على الشخصية ‪ ،‬مانعا َ تفتحها وانطالقتها وتصديها بشكل أوثق لمختلف قضاياها الوجودية‪.‬‬ ‫التقليد الذي يفرض جموده على المجتمع الزراعي العشائري يقيد حرية الحركة السلوكية وحرية الموقف من الحياة‪ ،‬ويخلق‬ ‫بالتالي ذهنية متصلبة محدودة األفق‪ ،‬يتحكم فيها القهر من الداخل ‪ .‬كل حركة فكرية تصبح إثما َ يستحق العقاب الشديد ‪ ،‬وكل‬ ‫موقف نقدي من نمط الحياة السائد الذي يصب في مصلحة العناصر المتسلطة على العشيرة ‪ ،‬يصبح اعتداء على المحرمات‬ ‫واألقداس التي ال يجوز أن تمس ‪.‬‬

‫‪23‬‬


‫الفصل الرابع‬ ‫الحياة الالواعية‬

‫‪24‬‬


‫الحياة الالواعية‬

‫مقدمة الفصل ‪:‬‬ ‫تشكل الحياة الالواعية الوجه الخفي للتجربة الوجودية لإلنسان ‪ .‬الالوعي يتغلغل في كل حركة وسكنه وتوجه ونظرة وقيمة‬ ‫تحيط بحياتنا أو تعطى لها ‪ .‬لم يعد باإلمكان حاليا ً القيام بدراسة نفسية لوجود اإلنسان دون التوقف عند نشاط حياته الالواعية‪.‬‬ ‫العالقة جدلية والتحديد متبادل بين االجتماعي والالواعي ‪ .‬فالبنية اإلجتماعية بمؤسساتها الرئيسية تشكل الشخصية اإلنسانية في‬ ‫قوالب خاصة‪ .‬تنقش نظامها السائد في أعمق أعماق اإلنسان ‪ ،‬من خالل تشكيل حياته الالواعية‪.‬ولقد أصبح معروفا ً من الناحية‬ ‫النفسية ‪،‬أن نمط الشخصية وبنيتها هو نتاج نظام العالقات األولية الذي يظل فاعالً في الالوعي ‪.‬‬ ‫إن شدة وعمق تأثير وطأة وضعية القهر المميزة للمجتمع المتخلف ال تتوقف على بعدها االجتماعي فقط‪ ،‬بل تتعزز من خالل‬ ‫االنعكاسات الالواعية التي تثيرها وتصاحبها‪ .‬وإن أكبر حليف للمرض اإلجتماعي هو المرض النفسي في بعده الالواعي‪ .‬وإن‬ ‫أكبر متواطئ مع االضطراب االجتماعي هو االضطراب النفسي الذي يصاحبه ويشكل وجهه الخفي‪.‬‬ ‫الظاهرة نفسها قابلة للتفسير المتماسك منهجيا ً على كل من المستويين اإلجتماعي والالواعي‪ .‬التفسير في الحالة األولى ال‬ ‫يتعارض مع الثانية بل يتكامل معها جدلياً‪ .‬ولكن الداللة ليست دائما ً واحدة على المستويين‪.‬‬ ‫الحياة الالواعية لإلنسان المتخلف مازالت في بنيتها ودينامياتها ‪ ،‬غياهب مجهولة في غالبيتها العظمى لم تتناولها الدراسات ‪،‬‬ ‫وهناك ضرورة لبحث خصائصها النوعية ‪.‬‬

‫ثانياً‪ :‬الدينامية الالواعية لإلنسان المقهور‬ ‫اتضح لنا في الفصل الثاني أن هناك محورين أساسيين تدور حولهما الحياة النفسية لإلنسان المقهور‪ ،‬هما عالقة التسلط‪-‬‬ ‫الرضوخ‪ -‬من ناحية‪ ،‬واعتباط الطبيعة من ناحية ثان ية ‪ .‬ويالزمهما معا ً في تفاعلهما االنعدام األساسي للشعور باألمن ‪ ،‬وسيطرة‬ ‫حالة من العجز أمام الطبيعة وأمام المتسلط ‪ ،‬وما يرتبط بهما من عقد نقص وعار ‪.‬‬

‫‪ -1‬عالقة التسلط والقهر ‪ ،‬السادومازوشية ‪ ،‬وقلق الخصاء‬ ‫نظام التسلط والقهر‪ ،‬يأخذ على المستوى الالواعي شكل العالق ة السادومازوشية ‪ .‬هناك من ناحية طرف قاس ‪ ،‬ظالم ‪ ،‬مستبد‪،‬‬ ‫ينزل األذى والعذاب بضحيته‪ ،‬ال يحس بالقوة إال من خالل التحقق من ضعف الضحية الذي كان هو سببه ‪ .‬هذا الطرف المتسلط‬ ‫ال يستقر له توازن إال حين أن يدفع المقهور إلى موقع الرضوخ العاجز المستسلم‪ ،‬إلى الموقع المازوشي‪.‬‬ ‫السادية في األصل عدوان قبل أن تكون جنسا ً والمازوشية معاناة مادية وجسدية ومعنوية قبل أن تكون تلذذاً جنسيا ً باأللم ‪ ،‬كما‬

‫‪25‬‬


‫كان يشيع من آراء ‪ .‬وأهم من المازوشية المادية‪ ،‬المازوشية المعنوية‪ ،‬أي وضعية الرضوخ واالستسالم للمهانة والتسليم‬ ‫بالضعف الذاتي وبسطوة السادي ‪ .‬ويرتبط السادي والمازوشي معا ً في عالقة موقعية ‪ ،‬تحدد لكل منهما مكانته ‪ .‬وتستمد كل من‬ ‫السادية والمازوشية زخمها الحيويين من نزوة الموت ‪ ،‬بما تتخذه من أشكال العنف والعدوان ‪ ،‬فمصدرهما النزوي واحد دائما َ‬ ‫‪ .‬العنف و العدوانية يتوجهان إلى الخارج ‪ ،‬منزلي ن األذى بالضحية عن السادي‪ ،‬بينما يرتدان إلى الذات التي ترضخ لألذى‪ ،‬إذا‬ ‫لم تستنزله‪ ،‬عند المازوشي‪ .‬وكل من هاتين الوضعيتين دفاع ضد األخرى‪.‬‬ ‫المازوشي هو إنسان يعجز عن تحمل نتائج ساديته‪ .‬ومن هنا تبدو له األخطار الخارجية مضخمة‪ ،‬وتبدو له سطوة التسلط دون‬ ‫حدود‪ ،‬وال وهن يمكن التصدي لها من خالله‪ .‬ويتناسب عجزه ومهانته بمقدار تضخم هذه األخطار‪ .‬المازوشي يمكن أن ينقلب‬ ‫عدوانياً‪ ،‬والراضخ يمكن أن يتحول إلى متمرد‪ ،‬يحطم سطوة المتسلط حين يتجرأ على تحمل تبعات عدوانيته‪ .‬وال يتم ذلك بالطبع‬ ‫إال بعد فترة اختمار يتم خاللها تحول داخلي في دينامية العدوانية واتجاهها‪ .‬وهكذا فالمازوشية ‪ ،‬رضوخ اإلنسان المقهور‪ ،‬ليست‬ ‫صفة ثابتة ودائمة‪ ،‬إنما حالة قابلة للتحول تاريخياَ‪.‬‬ ‫تأخذ الوضعية السادومازوشية في الوعي اإلنسان داللة الخصاء ‪ ،‬وتفجر قلق الخصاء ‪ .‬الخصاء في األصل هو السمة المميزة‬ ‫لجنسية الطفل‪ ،‬بال مقارنة بالجنسية التي تمتلكها األم‪ ،‬ويفرض قانون التحريم على العالقة بينها وبين الطفل‪ ،‬مما يؤدي إلى تحويل‬ ‫جنسيته نحو الخارج‪ ،‬نحو امرأة بديلة‪ .‬هذا يشكل األساس النفسي العالئقي لنشأة الثقافة‪.‬‬ ‫وضعية اإلنسان المقهور تفجر إذاً قلق الخصاء‪ ،‬الذي يتضمن الشعور بالتهديد الدائم‪ ،‬قد يأتيه في أي لحظة من الخارج (من‬ ‫المتسلط‪ ،‬وكل أدوات السلطة) من ناحية ‪ ،‬ويتضمن مشاعر العجز وعدم االكتمال‪ ،‬وتميز وجوده الذي يعاش تحت شعار المهانة‬ ‫من ناحية أخرى‪ .‬فهو ال يمكن أن يقارن ذاتيه بالمتسلط‪ .‬كما أنه يشعر بالدونية وانعدام الكفاءة االجتماعية‪ ،‬ال يمكن أن يرتقي ‪،‬‬ ‫لن يستطيع أن يتعلم ‪ ،‬إنه ليس في مستوى التكنولوجيا‪ ،‬إلخ‪...‬‬ ‫قلق الخصاء يزعزع كيان اإلنسان المقهور ويخل بتوازنه‪ ،‬فهو يولّد اآلالم المعنوية التي ال تحتمل والتي تمس صورة الذات‬ ‫وقيمتها‪ ،‬وتصيب االعتبار الذاتي في الصميم‪ .‬ولذلك فإنه يميل إلى فقد ان االلتزام تجاه هذه الذات التي ال تحظى باالعتبار من‬ ‫خالل الغرق في الرضوخ والتبعية واالستسالم‪ .‬ولكن هذ الحل السلبي ال يحقق التوازن الداخلي ‪ ،‬وال يمكن أن يستمر‪ .‬فال بد‬ ‫إذاً من حلول إيجابية تحمل قيمة تعويضية‪.‬‬ ‫الحلول التعويضية كثيرة ومتنوعة وتصب جميعا ً في قناة الشعور بشيء من االعتبار الذاتي ‪.‬‬ ‫االحتماء بالزعيم المنقذ ‪ ،‬التعلق باألبطال ‪ ،‬كاللجوء إلى األولياء ‪ ،‬تحمل جميعا ً الداللة ذاتها من الناحية الالواعية ‪ .‬إنها عملية‬ ‫إيجاد نوع من التوازن‪.‬‬

‫‪-2‬اعتباط الطبيعة ‪ ،‬صورة األم السيئة‪ ،‬وقلق الهجر‬ ‫الطبيعة ‪ ،‬األرض ‪ ،‬الوطن ‪ ،‬جميعها هي األم ‪ .‬فهناك عالقة وثيقة على المستوى الالواعي بين الطبيعة ‪ ،‬النمط الحسي من‬ ‫الوجود ‪ ،‬الالعقالنية ‪ ،‬والصور األمومية ‪ .‬الغذاء ‪ ،‬الدفء ‪ ،‬االنسجام مع الطبيعة ‪ ،‬األرض الخيرة ‪ ،‬كلها تعبير عن األم‬ ‫الطيبة التي تعطي الحب والدفء ‪.‬‬ ‫‪26‬‬


‫وعلى العكس ‪ ،‬تمثل الط بيعة القاسية ‪ ،‬التي تحمل خطر الهالك ‪ ،‬وخطر الكوارث المختلفة صور األم القاسية ‪ .‬عدم القدرة على‬ ‫السيطرة على الطبيعة يجعلها تبدو اعتباطية في نظر اإلنسان المتخلف ‪ ،‬وهو يثير في الوعيه أكثر المخاوف طفيلية وبدائية ‪،‬‬ ‫الخوف من هجر األم له ‪ ،‬الخوف من الوحدة والخواء الداخلي ‪ .‬قلق الهجر يثير أقصى درجات العدوانية األثرية التي تتوجه‬ ‫إلى األم النابذة في حركة انتقامية تدميرية ‪ .‬ولكن هذه العدوانية غير محتملة وهي لذلك تتحول إلى الخارج ‪ .‬وإن أقصى تهديد‬ ‫يمكن أن يعيشه اإلنسان على المستوى الالواعي ‪ ،‬هو خطر مجابهة هذه األم القاس ية المنتقمة ‪ .‬وألن العدوانية البدائية للطفل ال‬ ‫تعرف الحدود نظراً النعدام ضوابط العقل والمنطق والواقع ‪ ،‬فإن صورة األم في قسوتها في هذه الحالة ال تعرف الحدود ‪.‬‬ ‫إنها تثير قلق الفناء ليس إال‪ ،‬وهكذا يتفجر الذعر الوجودي ‪.‬‬ ‫ويتأزم األمر نظراَ لتحالف قسوة الطبيعة مع استبداد المتسلط واقعيا ً ‪ .‬هذا التحالف يثير تحالفا ً مقابالً له في الالوعي ‪ .‬فقلق‬ ‫الخصاء يستمد جذوره وأصوله من قلق الهجر ‪ ،‬كالهما يعزز اآلخر ويغذيه ‪ .‬هذا التعزيز يزيد من وطأة عجز اإلنسان المقهور‬ ‫عن المجابهة ويفجر أقصى حاالت العدوانية األثرية التي ال يمكن احتمالها ‪ ،‬ألنها تحمل خطر تفجير الذات ‪ .‬ولكن إسقاطها‬ ‫على الخارج كوسيلة للخالص من وطأتها ‪ ،‬ال يحل المشكلة ألنه يؤدي إلى اصطباغه بصبغة اضطهادية مهددة ‪ ،‬يعيش اإلنسان‬ ‫المقهور عندها في عالم عدائي يحمل له خطر الهالك في كل لحظة ‪.‬‬ ‫وهو في البداية ال يجد وسيلة سوى ا لرضوخ إزاء هذا الوجود ‪ .‬وهو في رضوخه يجتاف العدوانية الخارجية كقدر محتوم مع‬ ‫النكوص إلى المرحلة الفمية ‪ ،‬مرحلة التعامل مع الوجود من خالل الفم ‪.‬‬ ‫ولكن الرضوخ واجتياف السوء ال يشكالن حالً مقبوالً يحمل التوازن الضروري إلى الوجود ‪ .‬البد من حلول أخرى أهمها‬ ‫العالقة الدمجية مع األم ‪ ،‬وخلق صورة األب الحامي ‪.‬‬ ‫وكالهما يؤمنان مقداراً مقبوالً من الحماية ومشاعر األمن ‪.‬‬

‫‪27‬‬


‫القسم الثاني‬ ‫األساليب الدفاعية‬ ‫تمهيد‬ ‫وضعية اإلنسان المتخلف بما تتصف به من قهر ورضوخ مأزقيه تخل بالتوازن الوجودي‪ ،‬وتجعل الحياة غير ممكنة دون حلول‪،‬‬ ‫وتولد توتراً نفسيا ً كبيراً يتجاوز طاقته على اإلحتمال‪ ،‬وتبرز الحالة الماسة إلى حلول لمجابهة هذه الوضعية المأزخية‪.‬‬ ‫وتنقسم هذه الحلول الى فئتين أساسيتين‪ :‬الفئة األولى واألكثر فعالية هي محاوالت تغيير الوضعية المأزخية من خالل محاولة‬ ‫تغيير األوضاع الخارجية بشكل يتالئم مع الحاجات الحيوية واألهداف الوجودية وتحقق الذات وهذه الحلول هي األضمن على‬ ‫المدى البعيد ولكنها ليست ممكنة دوما ‪ .‬وتسبق هذه الفئة فئة الحلول الدفاعية وهي عكس السابقة ال تحاول التغيير بل تهدف إلى‬ ‫التأقلم مع الوضعية الراهنة‪ ،‬وتلبي الحاجات الحيوية على المدى الطويل‪ ،‬والعالقة بين هاتين الفئتين ليست قطعية وال متتالية‪.‬‬ ‫وال يمكن لباحث تمهيدي أن يحيط بها جميعا ً لتعددها وتنوع مظاهرها‪ ،‬ولذلك نكتفي بالحديث عن أربعة أساليب أساسية ‪.‬‬ ‫التحرك األول ‪ :‬يسير في محور التقرب من المتسلط من ناحية واالبتعاد عنه والذوبان في الجماعة من ناحية أخرى‪ ،‬فبمقدار ما‬ ‫يبتعد عن المتسلط يندمج في جماعته األصلية والعكس‪.‬‬ ‫التحرك الثاني‪ :‬يسير على محور القتال ومجابهة المتسلط من ناحية‪ ،‬والهروب واإلستسالم من ناحية أخرى‪.‬‬ ‫وفي كال التحركين يبدو اإلنسان المقهور متجاذبا ً دوما ً بين اإلقدام واالستسالم وبين التماهي بالمتسلط واالنكفاء على الذات‪،‬‬ ‫ماعدا حاالت االستسالم الرضوخي أو التمرد الثائر الذي يحطم كل شيء ‪.‬‬ ‫هذه الحلول األربعة بما تتصف به من تذبذب وتجاذب في الحركة‪ ،‬ال تغطي تماما األساليب الدفاعية الهامة التي يتوسلها‬ ‫اإلنسان المقهور‪ .‬فعلى تناق ضها تجد توليفها في الموقف من المرأة‪ .‬وضعية المرأة في مجتمع ما تلخص الصراعات األساسية‬ ‫لهذا المجتمع‪ ،‬ولذلك سنتوج هذا القسم بفصل عن المرأة في العالم المتخلف‪ ،‬بعد الفصول األربعة التي سيخصص كل منها‬ ‫لواحد من الحلول األربعة التي أتينا على ذكرها‪.‬‬

‫‪28‬‬


‫الفصل الخامس‬ ‫االنكفاء على الذات‬

‫‪29‬‬


‫االنكفاء على الذات‬

‫الحرة األولى التي يحاول االنسان المقهور من خاللها تجنب ما تفرضه عليه الطبيعة من بالء اعتباطي‪ ،‬ويفرضه عليه المتسلط‬ ‫من قهر متعنت‪ ،‬تأخذ اتجاه االنكفاء على الذات وهي كأولوية دفاعية تسير في اتجاه ا لتقوقع واالنسحاب بدال من مجابهة التحديات‪.‬‬ ‫وتتبع هذه األوالية كثيراً في ردود فعل اإلنسان تجاه مختلف حاالت الفشل الذي يصحبه إحساس داخلي بالعجز وقله الحيلة‪،‬‬ ‫وتالحظ عند الكبار والصغار في مواقف مثل‪( :‬الفشل في منافسة أخ أكبر أو أخ أصغر‪ ،‬الفشل في المشاريع المهنية عند‬ ‫الكبار‪...‬إلخ) وفي هذه الحاالت يدير اإلنسان ظهره للعالم ويقطع الصالت بهذه الرغبة حتى ال يشعر بألم اإلحباط وانعدام القيمة‪.‬‬ ‫ويحد اإلنسان المقهور من طموحاته ويحاول إيهام ذاته بتقبل هذا المصير‪ ،‬وبالتالي يحد من مجاالت نشاطه إلى أبعد مدى ممكن‪،‬‬ ‫أو يترك نفسه للظروف تسيير حياته في كل اتجاه وبدون اتجاه‪ .‬وهذه الحالة تمثل رد الفعل األقصى‪ ،‬وال يصل إليها إال القلة‬ ‫القليلة من الناس‪ ،‬وأما الغالبية فيدافع عن نفسه إزاء تحديات الطبيعة والمتسلط من خالل االنكفاء على الذات‪ ،‬وهو يضم حركتين‬ ‫متممتين لبعضها البعض ‪.‬‬ ‫في الحركة األ ولى‪ :‬يدير اإلنسان المقصود ظهره للمتسلط ويبتعد عنه ويقطع الصلة به وتتضخم عنده مشاعر الفرقة واإلختالف‬ ‫والعدوانية‪ ،‬وهذه العالقة ال تبعده عن المتسلط فحسب بل عن كل ما يمتلكه من نمط حياة وقيم وأدوات (الشرطة‪ ،‬المحاكم‪،‬‬ ‫القضاء‪...‬إلخ) ويعيش هذه العالقة كتهديد دائم له ولذويه‪ ،‬ولكي يتجنب األذى هو ال يتجنب العالقة المباشرة فقط بل يتهرب من‬ ‫المشاركة في كل ما هو عام‪ ،‬فيقف موقف العاجز المتفرج ال يستجيب للنداء وال ينخرط في نشاط ‪،‬فمشاعر الشك والخوف‬ ‫والحذر من التعرض لألذى تأصلت نتيجة للتجارب المؤلمة مع المتسلط ‪ .‬وال يقتصر األمر على الحذر وإنما يتعداها كي يأخذ‬ ‫شكل الرفض لقيمه ورموزه وأدواته وأسلوب حياته ويشكل الحركة الثانية التي تتمم األولى‪ ،‬وذلك أن يصل الرفض إلى حد‬ ‫التمسك الشديد بالجماعة وتراثها وميل إلى الذوبان في الجماعة المرجعية لدرجة تزول معها الفردية بشكل كامل‪ ،‬حيث يجد‬ ‫اإل نسان المقهور في هذا الذوبان حماية له وضمانه للغد ‪.‬‬ ‫أما وسيلة الحماية التالية والتي تتبع في موقف االنكفاء على الذات فهي السلوك االتكالي تجاه الولي (المالذ) أو الزعيم المنقذ‪.‬‬ ‫ويتمكن اإلنسان المقهور من إدخال شيء من التوازن إلى وجوده من خالل هذه الوسائل (التمسك بالتقليد والماضي المجيد‪،‬‬ ‫الذوبان في الجماعة‪ ،‬وعالقة االتكال)‪.‬‬

‫‪30‬‬


‫أوال‪ :‬التمسك بالتقليد والرجوع إلى الماضي المجيد (السلفية)‪.‬‬ ‫اإلنسان المتخلف كالمجتمع المتخلف سلفي أساساً‪ ،‬يتوجه نحو الماضي ويتمسك بالتقاليد واألعراف بدالً من التطلع للمستقبل‪،‬‬ ‫وتزداد السلفي ة بزيادة كال من تخلف المجتمع ودرجة القهر التي تمارس على اإلنسان‪.‬‬ ‫وتترسخ السلفية بشقيها ( الرضوخ للتقاليد واألعراف‪ ،‬واإلحتماء بالماضي وأمجاده) من الناحية الذاتية والنفسية بمقدار الشعور‬ ‫بالعجز عن مجابهة تحديات الطبيعة والمتسلطين‪ ،‬وهي كذلك أوالية دفاعية تجاه التحديات وتشل مبادراته في الحاضر‪.‬‬ ‫واألمثلة على ذلك كثيرة في المجتمع العربي أحدثها عهداً مقاومة موجة االستعمار الحديث اإلنجليزي والفرنسي‪ .‬والمجتمع‬ ‫العربي جميعا استعانوا بالتراث والعودة للماضي لدرء تهديد الغزو الخارجي‪.‬‬

‫‪-1‬التمسك بالتقليد‪:‬‬ ‫المجتمع المتخلف مجتمع تقليدي جامد ومتوجه نحو الماضي‪ ،‬واإلنسان المتخلف كائن تتحكم به التقاليد‪.‬‬ ‫وعنصر القهر واضح جداً في المجتمع التقليدي الذي يلغي مبادرة أبناءه ‪.‬‬ ‫ويتوسل المجتمع‪ ،‬وخصوصا الفئة ذات االمتياز فيه‪ ،‬وسائل عديدة لتعزيز التقاليد وفرض الجمود على حركة الفرد وبنية‬ ‫الجماعة‪.‬‬ ‫المجتمع التقليدي‪ ،‬بما يشيع فيه من عرف وما تتحكم في أفراده من عادات وما يفرضه على عملية التفاعل اإلجتماعي والتحرك‬ ‫السلوكي من جمود يخدم إذا مصالح فئة ضئيلة ‪ ،‬هي التي تحظى بمعظم االمتيازات وتستفيد من الحفاظ على الوضع القائم‪ ،‬ذلك‬ ‫أمر ال يحتاج إلى جهد كبير لل تدليل عليه والبرهنة على صوابيته‪.‬‬ ‫إن التقاليد واألعراف لو كانت قهرية محضة لما استقرت واستمرت ألنها تتضمن في هذه الحالة التوازن الضروري بين عنصر‬ ‫الضبط وعنصر تحقيق الحاجات الذي ال إمكانية لالستمرار دونه‪.‬‬ ‫األوجه الدفاعية للتمسك بالتقاليد عديدة ومتنوعة أبرزها ا لتمسك والتحصن بتلك التقاليد للحماية من المتسلط‪.‬‬ ‫ويزداد هذا التشدد ويستمر اعتماداً على وطأة االستعمار الحضاري ويقل اعتماداً عليها أيضا‪.‬‬ ‫أما على المستوى الفردي ‪ :‬فالوظائف الدفاعية للتمسك بالتقاليد متعددة فهي أوالً تؤمن نوعا ً من االستقرار الحياتي‪ ،‬وهي تبعد‬ ‫اإلنسان عن خطر مجابهة قلق المجهول وقلق التغيير‪.‬‬ ‫والتمسك بالتقاليد يشكل أوالية دفاعية ضد قلق مجابهة المسؤولية الذاتية ‪ ،‬فالتقاليد تتضمن تبريراً للعجز الذاتي عند اإلنسان‬ ‫المقهور‪ ،‬كما انها تحمي اإلنسان المقهور من مجابهة ذاته‪.‬‬ ‫ويشكل التمسك بالتقاليد أوالية دفا عية بالقدر الذي يتيح تصريف العدوانية المتراكمة نتيجة للقهر المفروض على اإلنسان المقهور‪.‬‬

‫‪-2‬الرجوع إلى الماضي المجيد‪:‬‬

‫‪31‬‬


‫النكوص إلى الماضي واالحتماء بأمجاده وأيامه السعيدة أوالية شائعة في حاالت الفشل‪ ،‬في هذا النكوص تحدث عملية تزيين‬ ‫الماضي وهكذا يتحول الماضي إلى عالم من السعادة والهناء والمجد واالعتبار‪ ،‬الحياة هي الماضي وال شيء غيره أما‬ ‫الحاضر فهو القدر الخائن وأما المستقبل فال يدخل في الحسبان‪.‬‬ ‫في الحاالت الناجحة تكون العودة إلى الماضي وسيلة الستنهاض الهمة واستعادة الثقة بالنفس أو رفع للروح المعنوية بتذكر‬ ‫اإلنجا زات وفي هذه الحالة يتمكن اإلنسان من تحمل مرارة الفشل وفقدان االعتبار الذاتي ‪.‬‬ ‫تلك هي حال اإلنسان المقهور فإزاء عظم قوى القهر والتسلط وإزاء العجز عن المجابهة وانعدام القدرة على التغيير يتعرض‬ ‫توازنه النفسي لهزات شديدة واعتباره الذاتي لالنهيار ويبدو الحاضر مؤلما يحمل المرارة والبؤس‪.‬‬ ‫يهرب اإلنسان المقهور من أمجاد الماضي وهو يختار من هذا الماضي الذي يشكل الخير كله على عكس الحاضر الذي يشكل‬ ‫الشر كله مقياسا للحياة ‪ :‬تلك كانت أيام وفي هذه الرجعة إلى الماضي يتماهى اإلنسان المقهور خصوصا ً بالبطوالت العسكرية‬ ‫بخوارق ال فروسية وبكل مظاهر األبهة في قصور الخلفاء واألمراء‪.‬‬ ‫البطل في القصص الشعبي أسطوري‪ .‬فهو من الناحية الجسدية القوة المطلقة التي تأتي بالخوارق وتجابه كل التحديات ‪ .‬وهو‬ ‫في السالح قمة الخبرة والفروسية‪ .‬يصور على درجة كبيرة من الضخامة‪ ،‬فرسة نادرة وسالحه ال يتمكن سواه من حمله والقتال‬ ‫به‪ ،‬وشجاعته تصمد أمام كل امتحان‪ ،‬وهو يخرج دائما منتصراً من أقسى امتحان‪.‬‬ ‫إنه البطل المنقذ مبعوث العناية اإللهية كي يرفع التهديد عن اإلنسان الضعيف إنه رمز العدل واألمن الوجودي‪.‬‬ ‫استعراض حياة هذا البطل األسطوري كما يرويها رواة القصص الشعبي هي دائما سلسلة من األزمات وحلقات متصلة من‬ ‫الخطوب‪ .‬ال يخرج من أزمة حتى يقع في التي تليها‪ ،‬وال ينتصر على خطب حتى يقع في مأساة جديدة ‪ .‬حياته ملحمة دائمة من‬ ‫الثبات أمام أقسى اختبارات الحياة والخروج منتصراً منها ‪ .‬وهي إلى ذلك حلقة متصلة من التفاني من أجل اآلخرين‪.‬‬ ‫بطل القصص الشعبي بكل أسطوريته‪ ،‬هو مجرد إسقاط ألمل اإلنسان المقهور في الخالص‪ ،‬لرغبته الدفينة في امتالك القدرة‬ ‫على مجابهة قدرة‪ .‬حياته مجرد مرآة لإلختبارات المتالحقة التي يتعرض لها اإلنسان المقهور ويعجز عن اجتيازها بينما ينجح‬ ‫البطل في ذلك‪.‬‬ ‫بالطبع يشجع المتسل ط كثيراً انتشار هذه الحلقات‪ ،‬ففيها هروب من الواقع وعيش في الخيال يبعد اإلنسان المقهور عن الوعي‬ ‫بما يلحقه من غبن وما يجب عليه من النهوض إلى المجابهة من أجل التغيير وذلك يحفظ للمتسلط امتيازاته ويبقى اإلنسان‬ ‫المقهور على غبنه‪.‬‬ ‫باإلضافة إلى التماهي بأبطال القصص الشعبي‪ ،‬يلوذ اإلنسان المقهور بتراثه وأمجاد هذا التراث ويتمسك به بشكل جامد حتى‬ ‫ال يعود يرى مجال للخالص من مأساة الحاضر إال بالعودة إلى التراث والسير الجامد على غراره دون مراعاة لحركة التاريخ‬

‫‪32‬‬


‫ثانيا‪ :‬الذوبان في الجماعة والعالقات الدمجية‬ ‫التعاطف والتعاضد ب ين أعضاء الجماعة من األواليات الدفاعية الفعالة ضد األخطار الخارجية وأخطار الطبيعة‪ .‬يستعيض‬ ‫اإلنسان المقهور عن عجزه الفردي باإلحتماء بالجماعة وبقدر تفاقم الخطر الخارجي وبقدر تعاظم اإلحساس بالتهديد للذات‬ ‫والمصير يميل اإلنسان إلى الذوبان في الجماعة‪.‬‬ ‫على المستو ى اإلنساني نجد نماذج مختلفة لهذه الظاهرة أشهرها الجماعات المغلقة واألسر الكبيرة التملكية‪ .‬إنه ال يخطر ببالنا‬ ‫مطلقا أن نرد الظواهر واألنظمة والمؤسسات اإلجتماعية في نشأتها إلى مجد تعبيرات نفسية فهذه ال تشكل سوى جوانب منها‬ ‫وال يمكن بحال من األحوال أن تستوعبها ‪ .‬وهي تخضع باألساس إلى منهجية التفسير اإلجتماعي لكنها ليست اجتماعية محضة‬ ‫مطلقا ً ألنه ليس هناك ظاهرة اجتماعية محضة كما ال يوجد بالمقابل ظاهرة نفسية صافية‪.‬‬

‫‪-1‬الذوبان في الجماعة‪:‬‬ ‫الجماعات المغلقة من الظواهر التي حللها جيداً علم النفس اإلجتماعي‪ .‬إنها وليدة اإلحساس بالتهديد الخارجي أكان مصدره‬ ‫بشريا ً أم طبيعيا ً ‪ .‬ينقسم العالم في هذه الحالة إلى عالمين متناقضين تماما الخارج والداخل‪ .‬أما الخارج فهو العدو والمصدر‬ ‫للخطر والشر‪ ،‬العالقة معه عدائية اضطهاديه والموقف منه إما انسحابي أو تهجمي‪ .‬أما الداخل فهو الخير كله‪ .‬وهو مصدر‬ ‫األمن والشعور باالنتماء‪ .‬مصدر الهوية الذاتية وهو بالتالي المرجع والمالذ ويحدث في هذه الحالة نوع من االنشطار العاطفي‬ ‫بشكل يجعل المواقف قطعية ‪.‬‬ ‫وبمقدار انغالق الجماعة ترتفع درجة النرجسية بين افرادها وضمنها ألن كال منها مرآة لألخر وبارتفاع النرجسية تتضخم قيمة‬ ‫الجماعة‪ .‬وتتضخم معه قيمة الفرد‪ .‬وترتفع درجة الذوبان في الجماعة عادة على المستوى الفردي بما يتناسب مع مستوى العجز‬ ‫والضعف‪ .‬فأكثر األفراد ذوبانا ً في الجماعة أشدهم عجزاً عن االستقالل والوصول إلى المكانة الفردية والقيمة الذاتية‪.‬‬ ‫هذه الظاهرة تشيع كثيرا ً في المجتمعات المتخلفة حيث نجد جماعات تشد أفرادها إليها بقوة ال تقاوم وتقوم بينها وبين الجماعة‬ ‫األخرى عالقات صراع وعداء ‪.‬‬ ‫ومن الواضح ان هذه العالقات العدائية بين الجماعات تشتد وتقوى بقدر تعرضها لقوة متسلطة تبسط سلطانها على الجميع وال‬ ‫قبل ألي منها بمقاومتها‪ ،‬كما أن التعاضد بين أعضاء الجماعة الواحدة يزداد بمقدار رضوخها لمتسلط خارجي‪ ،‬وهنا تبرز‬ ‫ظاهرة االنشطار العاطفي‪ :‬المتسلط هو رمز الخطر والسوء والموقف منه هو الحذر واالبتعاد عنه‪ ،‬أما الجماعة الداخلية فهي‬ ‫رمز للحب والحماية واألمن والشعور بالهوية الذاتية ‪.‬‬

‫‪-2‬األسرة العشائرية‪:‬‬ ‫الجماعة المغلقة هي باألصل عشيرة وتكون أسرة عريضة تتماسك فروعها بشكل وثيق بينما تضعف هذه الروابط بين تلك‬ ‫الفروع في المجتمعات الصناعية المتقدمة‪ ،‬كي تختزل األسرة في خلية صغيرة هي الوالدان واألبناء ذوو العدد المحدود ‪.‬‬ ‫األسرة العريضة هي مؤسسة اجتم اعية في المقام األول‪ ،‬وما يهمنا هو الحديث عن الوظيفة النفسية التي تمألها األسرة العريضة‬ ‫معتبرين بذلك البعد اإلجتماعي أمراً مسلما ً به‪.‬‬

‫‪33‬‬


‫األسرة العريضة تملكية والعالقات ضمنها حب تملكي‪ ،‬فاألب يمتلك األم واألوالد فيؤمن حاجاتهم‪ ،‬واألم تحب األبناء فترعاهم‬ ‫بشكل تم لكي‪ ،‬ومن خصائص الحب التملكي التساهل في كل شيء عدا الرغبة في االستقالل والتوجه وتلك هي الخطيئة التي ال‬ ‫تساهل فيها ‪.‬‬ ‫االنتماء إلى األسرة بشكل ذوباني يمنع االنتماء إلى المؤسسات اإلجتماعية العامة وهي تسير مع المصلحة العامة طالما خدمت‬ ‫نفوذها وقوتها وتقوم ضدها إذا هددت مصلحتها الخاصة‪.‬‬ ‫األسرة الكبيرة ال تعترف بقيم المساواة والعدالة اإلجتماعية لذلك هي عقبة فعلية أمام التنمية‪ ،‬كما انها تقاوم الميول اإلستقاللية‬ ‫والفردية ضمنها‪.‬‬ ‫هذه األسرة رغم ما تشكله من عقبة أمام التغيير إال أنها تلعب أدوارا نفسية هامة‪ ،‬فهي تساعد العناصر الضعيفة على التصدي‬ ‫لألخطار وتعويض مشاعر انعدام االمن‪.‬‬ ‫فهي تقدم هوية لمن ال هوية له ومن عجز عن الحول على مكانه في المؤسسات اإلجتماعية يفخر بمكانته في أسرته وعشيرته‪.‬‬ ‫كما أن األسرة هي المنجا والمالذ والضمانة ضد األخطار‪ ،‬فمثالً اإلنسان المعدم يمكنه في ا لحالة الطارئة الرجوع إلى أسرته‪.‬‬ ‫كما أن لألسرة ضمان من األخطار الطبيعية من خالل كثرة العدد‪.‬‬ ‫االنتماء األسري الذوباني وسيلة فعالة من وسائل تصريف العدوانية‪.‬‬

‫‪-3‬النشاط الفمي‪:‬‬ ‫الدالالت اإلجتماعية والنفسية للطعام معروفة‪ ،‬فالطعام والدعوة إليه والمشاركة فيه وسيلة للتواصل بين الناس وإلغاء للعدوانية‬ ‫بينهم‪ ،‬ومن الناحية النفسية هو أكثر النشاطات ارتباطا بالحب‪.‬‬ ‫والطعام وسيلة ممتازة لتدعيم العالقات التملكية داخل األسرة ‪ .‬فأالم تمتلك الزوج واألبناء من خالل حشو قنواتهم الهضمية‪.‬‬ ‫ولذلك نجد المرأة في العالم الثالث تتخذ من الط عام وسيلة لتوكيد ذاتها وبسط سيطرتها‪ ،‬ولذلك ليس مستغربا إذا عرفنا بان األم‬ ‫هي أداة الدمج األولى في المجتمع المتخلف‪.‬‬ ‫والطعام تعويض عن اإلحباطات التي يعاني منها اإلنسان في المجتمع المتخلف‪.‬‬

‫ثالثا‪ :‬الوضعية االتكالية‬ ‫اإلنسان المقهور الذي لم يتمكن من التصدي لقدره ‪ ،‬يلوذ بقوى تحميه ويجد نفسه في وضعية تبعية‪ ،‬خاصة التمسك بالتقاليد‬ ‫والرجوع إلى الماضي والتماهي بأبطال القصص الشعبي والذوبان في الجماعة واألسرة والعشيرة وكل هذه هي وضعيات‬ ‫اتكالية تعوض ضعفه ‪.‬‬ ‫وأبطال اإلنسان المقهور عديدون وجميعهم يتصفون بذات الصفات ‪ :‬الجبروت والقدرة على تغيير الواقع المؤلم والرحمة‬ ‫والعطاء دون حدود‪ ،‬أول هؤالء األبطال هو بطل القصص الشعبية يليه األولياء‪ ،‬ويتخذ تعبيره المحسوس الواقعي في صورة‬ ‫الزعيم المنقذ وعالقته باإلنسان المقهور وهمية‪ ،‬فهي سحرية وتمثل األمل بالخالص السحري من وضعية مأزقيه‪.‬‬

‫‪34‬‬


‫والعالق ة مع الزعيم المنقذ هوامية ونوع من التماهي اإلسقاطي‪ ،‬بمعنى ان اإلنسان المقهور يسبغ على شخص الزعيم كل‬ ‫تصوراته الطفولية بالقوة والقدرة ويجعل منه الصورة النقيض عن نفسه والتي يجتهد للهروب منها‪.‬‬

‫إن اإلنسان المقهور ال‬

‫يعيش عالقته مع الزعيم عالقة فعلية بإنسان آخر بل بين إنسان وتصور خرافي يسقط على الزعيم‪.‬‬ ‫صورة الزعيم المنقذ الذي يشكل المثل األعلى ضرورة حيوية للجماعة‪ ،‬فهو عنصر تماسك أفرادها فمن خالل التماهي بالزعيم‬ ‫يتم التماهي بين أعضاء الجماعة فتتوثق العرى ويكون الشعور باالنتماء قويا‪ ،‬وهذا الزعيم هو عنصر حاسم لدفع‬ ‫الجماعة إلى النهوض بأعباء التغيير‪.‬‬ ‫الخطر الذي يقع فيه العالم المتخلف‪ ،‬هو تحول الزعيم المنقذ من قائد إلى بطل أسطوري ينخرط في وهم التغيير الفردي‪ ،‬الخطر‬ ‫هو في انتشار صوره البطل األسطوري‪ .‬فالزعيم البد من أن يفشل وإذا أصر على بقاءه في سدة الزعامة رغم فشله المتكرر‬ ‫فإنه سيتحول إلى متسلط‪.‬‬ ‫أما الجماعة فبعد الشك ستكفر وتستقر في خيبة أملها وقد تكرر خطأها في أمل سحري بخالص جديد‪ ،‬إلى أن تعي دورها‬ ‫كعامل التغيير األساسي ‪ :‬الخالص من خالل الجهد الذاتي ‪.‬‬

‫‪35‬‬


‫الفصل السادس‬ ‫التماهي بالمتسلط‬

‫‪36‬‬


‫التماهي بالمتسلط‬

‫مقدمة الفصل ‪:‬‬ ‫فاإلنسان الذي ينشى ويتربى في بيئة بها مشاكل إجتماعية أو أسرية فإنه قادر على التعايش معها ‪ ،‬فلكل مجتمع عاداته وتقاليده‬ ‫‪ ،‬فأصعب شيء هو الدخول إلى عادات أي مجتمع أو بيئة ومحاولة تغير فيها ألن من نشأ بها فهو يعرف جيدا ً كيفية التعامل‬ ‫مع بيئته ومجتمعه ‪ ،‬بينما يراها اآلخرون مشكلة كبيرة ‪.‬‬

‫التماهي بالمتسلط‬ ‫يسمى أيضا ً بالتوحد ‪.‬‬ ‫الهدف منه ‪ :‬التشبه باآلخرين في السلوك والمظهر ويمثل الشخص في تصرفاته ‪.‬‬ ‫التماهي بالمتسلط قد يكون جزئي أو كلي ‪ ،،‬فالكلي قد يكون نادر الحدوث ألنه يفقد الشخص ذاته‪ .‬أما الجزئي فهو شائع‬ ‫ويكون بأخذ جزء من تصرفات وصفات الغير ‪.‬‬ ‫واألصل في التماهي بالمتسلط المشاركة الوحدانية بين الناس‪.‬‬ ‫والتماهي بالمتسلط يعتبر من العمليات النفسية األساسية لبناء الشخصية أو الذاتية‪.‬‬ ‫ومن الناحية النفسية الالوعية ال يحدث التماهي ب شكل فاتر‪ .‬وإنما هو عملية نشطة تمر بسلسلة من التفاعل كالتلميذ الذي يتأثر‬ ‫بتوجيهات المعلم فهو يعتبره مثله األعلى‪.‬‬

‫التماهي بالمعتدي‬ ‫إن ابنة فرويد من خالل عملها العالجي مع األطفال الذين يعانون من اضطربات نفسية قامت باستخالصها وعرضها‬ ‫بالتفصيل مؤلفتها عن األنا وأوليات الدفاع ‪.‬‬ ‫ويعتبر التماهي بالمعتدي في رأي ابنة فرويد من الوسائل الخارجية المولدة للقلق ‪ ،‬فمثالً الطفل الذي يخاف من االشباح في‬ ‫الظالم يغلب على الخوف لديه فيقوم بلعب دور الشبح وتخويف طفل آخر فمن خالل لعب األدوار يتحول الطفل من كائن مهدد‬ ‫إلى كائن مخيف فهنا حدث قلب لألدوار وبهذه ا لحالة يتخلص الطفل من الخوف لديه فهذه الطريقة تودي إلى التخلص من‬ ‫المخاوف ومشاعر الضعف الداخلية ‪ .‬فإنه يتخلص من ذلك كلعب دور االم التي تحاسب وتعاقب أطفالها فهو يصب مشاعره‬ ‫على األخ األصغر منه لكي يتخلص منها‪.‬‬ ‫التماهي بالمتسلط ينتشر بشكل أوسع في المناطق النامية ولذلك توجد له ثالثة أشكال رئيسية‬

‫‪37‬‬


‫‪/1‬التماهي بأحكام المتسلط‪.‬‬ ‫إن اإلنسان المقهور يلوم نفسه ويوجهها إلى الذات على شكل مشاعر ذنب ويحط من قيمته الجماعة التي ينتمي إليها فاإلنسان‬ ‫في هذه الحالة يعاني من رفض للذات وعدم اإلعتراف بها ويصب آالم الحقد كله على الذات وقد يصل اإلنسان المقهور إلى‬ ‫تدمير الذات ‪.‬‬

‫‪ /2‬التماهي بعدوان المتسلط‪.‬‬ ‫فاإلنسان المقهور هنا يقوم بقلب األدوار من أجل التخلص من مشاكله فيتسلط على الضحايا األضعف منه وفِي صفة التماهي‬ ‫صب قدراته في جميع النواحي على الشخص األضعف منه‪.‬‬ ‫بالعدوان المتسلط فاإلنسان يَ ْ‬

‫‪/3‬التماهي بقيم المتسلط وأسلوبه الحياتي‬ ‫في هذا النمط يقوم اإلنسان المقهور بالذوبان في عالم المتسلط ويقترب من اُسلوب حياته حتى يصل إلى المرتبة التي ترضي‬ ‫ذاته وبهذه الطريقة يصبح إنسان مزيف ‪.‬‬

‫‪38‬‬


‫الفصل السابع‬ ‫السيطرة الخرافية على المصير‬

‫‪39‬‬


‫السيطرة الخرافية على المصير‬

‫ال يستطيع اإلنسان أن يتحمل وضعية القهر والعجز بباسطة أو أن يتقبلها بواقعيتها المادية الخام ‪ ،‬فال بد له من الوصول إلى‬ ‫حل ما يستوعب مأساته وإال أصبحت الحياة مستحيلة فإذا لم تتتيسر له الحلول الناجعة لجأ إلى الحلول الخرافية والسحرية ‪.‬‬ ‫السيطرة الخرافية على الواقع ‪ ،‬والتحكم السحري بالمصير هما آخر ما يتوسلهما عندما يعجز عن التصدي والمجابهة ‪ .‬وهي‬ ‫أحد خطوط الدفاع األخيرة له ‪.‬‬ ‫تزدهر هذه السيطرة الخرافية بمختلف أشكالها في عصور االنحطاط وما يصاحبها من تفشي الجهل والعوز وطمس إرادة‬ ‫القتال من أجل الحياة ‪.‬‬ ‫تتحول هذه الممارسات إلى تجارة رائجة تنتشر في أوساط البسطاء من الناس تسلبهم القليل الذي يمكن أن يملكوه على أمل‬ ‫الخالص مما يحل بهم من أرزاء الحياة ‪ .‬ويحيط المعوذون أنفسهم ببعض المظاهر الغريبة في الملبس والمسلك والحديث ‪،‬‬ ‫يتوسلون مواد وأدوات وطقوسا ً وأدعية وظيفتها إبهار صاحب الحاجة وتعطيل أفكاره ودفعه إلى االستسالم لممارساتهم‬ ‫وطلباتهم الكثيرة والمعجزة ‪.‬‬ ‫يتحالف المشعوذون مع التجار وأصحاب السلطان على اإلنسان المقهور لتحقيق مآربهم المشتركة ‪ ،‬ويشجع الحكام في هذه‬ ‫المجتمعات بوسائل مخت لفة أبرزها رعاية المقامات وذوي الكرامات وهو ما يحفظ لهؤالء الحكام مكانتهم ويحول األنظار عنهم‬ ‫كمسؤولين أساسيين عما يصيب المجتمع من تحلف وانحطاط أو ما يلم به من كوارث وأزمات ‪.‬‬ ‫هناك دائما محاولة إللباس الممارسات السحرية والمعتقدات الخرافية لباسا ً دينيا ً يجعلها تصل مباشرة إلى قلب اإلنسان المقهور‬ ‫ويربطها بإيمانه الديني مما يزيد من سطوتها عليه ويدفعه إلى التمسك بها ‪ ،‬وتصل الخرافة إلى مرتبة تعطيل الفكر النقدي‬ ‫والتحليل الموضوعي للواقع واصطناع السببية المادية في التصدي له ‪.‬‬ ‫تقوم أساليب السيطرة الخرافية على المصير ع لى أسس نفسية نكوصية يتقهقر اإلنسان المتخلف الذي يؤمن بها من العقالنية‬ ‫التي يجب أن تميز حياة الراشدين إلى مرحلة التفكير الطفلي ويقع في شرك التفكير الجبروتي الذي يخلط الواقع بالخيال‬ ‫والحقائق بالرغبات والصعاب المادية بالمخاوف الذاتية ‪.‬‬ ‫تأخذ السيطرة الخرافية ع لى المصير طابعا ً ثنائيا ً في محتواها ‪ ،‬فهي تتلخص بأزواج من األضداد ‪ :‬استجالب الحظ ‪ ،‬تجنب‬ ‫النحس ‪ ،‬الحصول على الخير وإبعاد الشر ‪ ،‬األمل المتفائل بالمستقبل والخوف المتشائم منه ‪ ،‬إثارة الحب لدى اآلخر والحرب‬ ‫ضد عدوانيته ‪ .‬كل ممارسة خرافية تهدف إلى تحقيق األمرين معا ً ‪ ،‬هناك رابطة وظيفية دينامية تجمع مختلف هذه‬ ‫الممارسات في بنية متماسكة ونستطيع أن نميز من بينها ثالث فئات رئيسية ‪:‬‬

‫‪40‬‬


‫أوال ً ‪ :‬السيطرة على الحاضر‬ ‫يتوسل اإلنسان المقهور أساليب عدة للسيطرة الخرافية على حاضره وإدخال شيء من الطمأنينة إلى نفسه إنه يتعلق ببعض‬ ‫ر موز الخير ويتقرب منها من خالل األدعية والنذور والقرابين ‪ ،‬ويخشى بعض رموز الشر ويلتمس سبيله إلى تجنب أذاها‬ ‫من خال ل السحر والكتابة والتعاويذ والرقى ‪.‬‬ ‫يركز الخير كله والرجاء كله والبحث عن المالذ في األولياء يسقط عليهم الصور المثالية الطيبة التي تكمن في ال وعيه ‪ ،‬كما‬ ‫أنه يركز الشر كله والسوء كله والتهديد األساسي لوجوده في الجن والعفاريت والشيطان يسقط عليهم كل العدوانية المتراكمة‬ ‫في نفسه نتيجة اإلحباط والعجز ‪.‬‬ ‫وهكذا يضع اإلنسان المقهور أمله في الصور الخيرة ورموزها الخرافية ‪ ،‬كما يسقط مخاوفه وعجزه ومشاعر ذنبه الناتجة‬ ‫عن فشله الوجودي على أعداء خرافييين بدورهم ‪.‬‬ ‫يضاف إلى رموز الشر الماوراثية ( جن وعفاريت ) تفشي ظاهرة الحسد والعالقات االضطهادية بين اإلنسان المقهور‬ ‫واآلخرين ‪.‬‬ ‫هنا وسائل دفاعية تتخذ طابعا ً خرافيا ً اضطهاديا ً معظم األحيان ‪:‬‬

‫‪ – 1‬األولياء ومقاماتهم وكراماتهم‬ ‫تنتشر وبكثرة ظاهرة التعلق بهم واللجوء إليهم ‪ ،‬وحيث يتعرض اإلنسان ألقصى درجات االعتباط من الطبيعة يأتيه كتهديد‬ ‫لقوته وصحته وولده ‪.‬‬ ‫اإلنسان المقهور بحاجة إلى ولي لشدة شعوره بعجزه وقصور إمكاناته على التصدي والمجابهة والتأثير ‪ .‬ويحتاج إلى حمايته‬ ‫نظراً لشدة إحساسه بالعزلة والوحدة في مجابهة مصيره المحفوف بالمخاطر ‪ .‬فالولي مالذ ومحام يتقرب إليه ويتخذه حليفا ً‬ ‫ونصيراً وتسقط على الولي قدرات خارقة لها عالمات هيا الكرامات التي تميزه عن سائر البشر ‪.‬‬ ‫ينقل الدكتوران بدران والخماش عن التاج السبكي أن أهم الكرامات أر بع وعشرون ‪ (( :‬إحياء الموتى ‪ ،‬كالم الموتى ‪ ،‬انغالق‬ ‫البحر والمشي على الماء ‪ ،‬إنزواء األرض ‪ ،‬كالم الجمادات والحيوانات ‪ ،‬إبراء العلل ‪ ،‬طاعة الحيوانات ‪ ،‬طي الزمان ونشر‬ ‫الزمان ‪ ،‬استجابة الدعاء ‪ ،‬إمساك اللسان ‪ ،‬جذب بعض القلوب ‪ ،‬اإلخبار ببعض المغيبات والكشف ‪ ،‬الصبر على عدم‬ ‫الطعام والشراب ‪ ،‬القدرة على تناول الكثير من الغذاء ‪ ،‬الحفظ عن أكل الحرام ‪ ،‬رؤية المكان البعيد من وراء الحجب ‪( ،‬‬ ‫بحيث يموت المشاهد من الرؤية ) ‪ ،‬كفاية هللا لهم الشر ‪ ،‬التصور بأطوار مختلفة ‪ ،‬إطالع هللا إياهم ذخائر األرض ‪ ،‬عدم تأثير‬ ‫المسمومات )) ‪.‬‬ ‫من الواضح أن هذه الكرامات تشكل النقيض تماما ً لوضعية اإلنسان المهان واقعيا ً ‪ .‬وهي تجسد أماني الجماهير المغلوب على‬ ‫أمرها ‪.‬‬ ‫تحدث الكرامات ألناس اصطفتهم العناية اإللهية دون أن يكون لهم في ذلك فضل أو إرادة ‪.‬‬

‫‪41‬‬


‫تنتشر أضرحة األولياء ومقاماتهم في كل أرجاء المجتم ع المتخلف وتشكل نواة التجمعات السكانية ‪ ،‬كما أنها أماكن للحماية من‬ ‫غوائل الطبيعة والناس‪.‬‬ ‫ويقوم على هذه المقامات خدام وعلماء يسهرون عليها ويلعبون دور الوساطة بين صاحب الحاجة وبين الولي ويقودون خطاه‬ ‫في التقرب منه والدخول عليه من خالل مجموعة من الطقوس واألدعية واالبتهاالت ‪.‬‬ ‫واألدعية في أساسها تقوم أمل سحري في الخالص من خالل اإلعتقاد بجبروت األفكار والكلمات وماتتضمنه من رغبات ‪ .‬إن‬ ‫األدعية تشيع نفسيا ً نوعا ً من االطمئنان إلى القدر والمصير وتبث هدوءاً في وجود اإلنسان المتأزم من خالل القناعة بأن هناك‬ ‫جهة ما ستتولى حلّ األزمة وتخليصه منها ‪.‬‬

‫‪ – 2‬الجن والعفاريت والشيطان‬ ‫كلها كائنات خفية لعبت دوراً بارزاً في السيطرة على خيال الجماهير المقهورة وتعليليها لألحداث التي تفلت من سيطرتها‬ ‫والتي يستعصي عليها تفسيرها ‪ .‬كما انها تستخدم لتبرير ما يود اإلنسان التستر عليه من فضيحة أو عيب أو تقصير بزعم‬ ‫الوقوع تحت تأثير الجن مما يساعده على الحفاظ على سمعته ‪.‬‬ ‫هذه الكائنات الخفية تسقط عليها صور إنسانية وتقوم مجموعة من الخرافات حول عالقاتها ببني اإلنسان ‪ .‬كما تقوم بينها وبين‬ ‫بعض بني اإلنسان عالقات تحالف ضد أعداء معينين ‪ .‬وهي أخيراً تغ طي مسؤولية األسرة والجماعة في مرض الفرد وتتستر‬ ‫عليه ‪.‬‬ ‫ومن الطبيعي أن يستفحل االعتقاد بالخرافات حول الجن العفاريت بين النساء نظراً لوضعية القهر المفرط التي تفرض عليهن‬ ‫في المجتمع النامي ‪ ،‬ومن الطبيعي أن تلجأ النساء إلى مختلف أساليب الشعوذة لحل أزماتهم الزوجية والعاطفية والجنسية‬ ‫طالما سدت أمامهن كل سبل التأثير الفعلي في الواقع المفروض عليهن ‪ ،‬وطالما استلبت منهن إرادة التحكم بالمصير ‪.‬‬ ‫وهكذا تسقط على هذه الكائنات الخفية قدرات كبيرة على تحقيق ما يعجز المرء عن تحقيقه بجهده ‪ ،‬كما تسقط عليها كل‬ ‫المصائب والشرور األخط ار ‪ .‬ويتخذ اإلنسان المقهور في الحالتين وسائل معينة لدرء شرورها من ناحية ‪ ،‬واسترضائها‬ ‫وجلبها إلى صفه ‪ ،‬حليفة له في معركته مع أعدائه وخادمة لمصالحه من ناحية ثانية ‪ .‬ويبرز المشعوذون الذين يتاجرون‬ ‫بمآسي اإلنسان المقهور كوسطاء بينه وبين هذه القوى ‪.‬‬

‫‪42‬‬


‫‪ – 3‬الع القات العدائية ‪ ،‬الحسد والسحر‬ ‫يمكن السيطرة على الشر واالحتياط من األذى اآلتي من الخارج بوسائل دفاعية مالئمة تبطل تأثيره وتكف فعاليته تلك هي‬ ‫عالقة الحسد والسالح الذي تحارب به تعاويذ وكتابات سحرية ‪.‬‬ ‫يجد المحسود في الحسد تفسيراً لظواهر فجائية من نوع النكبات ت لم به أو بذويه أو ممتلكاته ‪ .‬وتصيب بالضرر أو تذهب بما‬ ‫يكون قد حظي به من خير أو جاه أو امتياز على اآلخرين ‪ .‬وهو تفسير ينال الرضى عند المحسود إذ يسمح لعدوانيته أن تفجر‬ ‫بدون رادع متخذه طابع الدفاع عن النفس من شر الحاسد الذي حسد ‪ .‬إنه إسقاط لرغبة اإلنسان المحروم في امتالك دور‬ ‫المحظوظ ‪ .‬ويقوم الحسد أساسا ً على عقدة النقص والخواء الداخلي ومشاعر المهانة المرتبطة بها ومحاوالت التنكر لها‬ ‫والعين هي األداة األساسية للحسد ومايقابلها من استباق شرها وعدوانيتها في كلمة (يخزي العين) أمام كل حظ أو جاه أو وفرة‬ ‫في الرزق والص حة والجمال ‪ .‬العين الشريرة تدمر ما تحسده كي تمتلكه في حالة من النظار التملكي ‪.‬‬ ‫أما التعاويذ فشائعة االنتشار منها ‪ :‬حدوة الفرس ‪ ،‬حذاء طفل صغير ‪ ،‬فرسة النبي ‪ ،‬خمسة وخميسة ‪ ،‬حلى ذات نقوش دينية ‪،‬‬ ‫رسم العين مصابة بسهم ‪ .‬وقد تتخذ شكل كتابات تدرأ شر الحسد مثل ‪ :‬ع ين الحساد تبلى بالعمى ‪ ،‬الحسود ال يسود ‪ ،‬من راقب‬ ‫الناس مات هما ً ‪ ،‬عاشق النبي يصلي عليه ‪.‬‬ ‫أما الرقى فمتعددة بدورها وتختلف نصوصها وطقوسها باختالف البيئات ‪.‬‬ ‫أما السحر فمكانته خاصة بين وسائل الحرب ضد الشرور التي تأتي اإلنسان من الخارج تاريخيا ً وعالميا ً ‪ .‬ويستخدم السحر‬ ‫لردّ األذى أو إنزال األذى باآلخر وكذلك ألغراض المساعدة على نيل المراد ‪.‬‬ ‫للسحر إذاً وظيفة نفسية هي استجالب الحظ والنجاح أو إبعاد الخطر والشر ‪ ،‬وله وظيفة معرفية وهي سد الثغرات في المعرفة‬ ‫السببية لظواهر الطبيعة وما غمض منها والعالقات بين الناس وما يعتورها من إشكال ‪.‬‬ ‫يميز (فريزر) في كتابه المشهور (الغصن الذهبي) بين نوعين من السحر يرجع كليهما إلى تطبيق خاطئ لمبدأ ترابط األفكار‬ ‫‪ :‬هناك السحر باإلقتران ويتلخص بالحصول على أثر من الشخص المطلوب سحره ‪ ،‬والسحر بالتقليد فيعتمد على مبدأ ترابط‬ ‫األفكار بالتشابه ‪ :‬الحصول على نتيجة ما من خالل تمثيلها أو تقليدها ‪.‬‬ ‫نزوة السيطرة هي إذاً المصدر النفسي لقوة السحر ولذلك فإن عنصر القوة والبراعة هام فيه ‪ .‬فهناك قوة الساحر المضخمة‬ ‫بشكل مفرط التي تبهر طالب السحر وتحوز إعجابه وتمكنها من السيطرة على الشخص المسحور الضعيف الذي ال قبل له‬ ‫بمقاومة تأثير السحر والساحر ‪ .‬فالعالقة بين الساحر والمسحور وطالب السحر هي دائما ً عالقة قوة خارقة يقابلها رضوخ قلق‬ ‫عند المسحور وإعجاب مفرط وأمل كبير عند طالب السحر ‪.‬‬

‫‪43‬‬


‫ثانيا ً – السيطرة على المستقبل‬ ‫ال يفوق معاناة الحاضر عند اإلنسان المقهور سوى ق لق المستقبل ‪ .‬فبمقدار عجزه عن مجابهة حاضره يفلت منه مصيره ‪.‬‬ ‫االعتباط الذي يتحكم بواقعه ال يسد آفاق المستقبل فحسب بل إنه يضرب حولها طوقا ً من الغموض واإلبهام ‪ .‬وهذا ما يجعل‬ ‫أمله مجرد ّ‬ ‫تمن ال ثقة له بتحقيقه وال قدرة له على تنفيذه ‪ .‬ويتضخم هذه القلق حتى يكاد يقترب من القلق المرضي ‪.‬‬ ‫ال بد إذاً من وسائل للسيطرة على المصير واالحتياط للمستقبل ‪ ،‬وهي وسائل خرافية بالضرورة ‪ ،‬طالما أن الضمانات مفقودة‬ ‫>والتخطيط منعدم‬

‫‪ – 1‬التطير‬ ‫يحس اإلنسان بأنه معرض الحتماالت متناقضة ‪ ،‬الحظ والخير ‪ ،‬أو النحس والشر ‪ ،‬األمن والمتعة ‪ ،‬أو الخطر والنائبة ‪ ،‬يأمل‬ ‫في الحصول على األولى ويخشى وقوع الثانية ‪ ،‬ويعيش في كال الحالتين بين خفقة الرجاء وقلق الخطر ‪ ،‬وحتى ال يستمر‬ ‫هكذا منتظراً الخطب كي يقع أو السعد كي يقع فإنه يحاول استباق األمور االحتياط لها ما أمكن ‪.‬‬ ‫ويتلمس طريقه إلى ذلك االستباق في ع المات ومؤشرات خارجية ‪ .‬هذه المؤشرات رموز تأخذ شكل النذائر أو البشائر ‪ .‬و‬ ‫اإلنسان المتطير هو الذي يتخذ من األحداث الخارجية عالمات يضفي عليها معنى ومغزى ‪.‬‬ ‫من عالمات الفأل الحسن الخارجية مثالً ‪ :‬حدوة الحصان ‪ ،‬فرسة النبي ‪ ،‬خمسة وخميسة ‪ ،‬أما عالمات الفأل الرديء البومة ‪،‬‬ ‫الرقم ‪ ، 13‬المرآة المكسورة ‪ ،‬ومن العالمات الحسية رف العين ‪ ،‬طنين األذن ‪ ،‬أكال باطن الكف ‪ ،‬أما العالمات السلوكية‬ ‫فمنها مثالً ‪ :‬كنس المنزل ليالً ‪ ،‬صب الماء الساخن على األرض ‪ ،‬فتح مظلة داخل المنز ل ‪.‬‬ ‫والرمزية هي نواة الداللة في هذه العالمات بعضها واضح وحسي واآلخر يحتاج إلى تفسير ‪ ،‬ويشترك التطير مع السحر في‬ ‫إسقاط النوازع الذاتية على الظواهر الخارجية كما يشتركان في القوة المطلقة للفكر وما وراءه من مخاوف ورغبات وهما‬ ‫يشتركان في المقام الثالث في الوظيفة الدفاعية ‪.‬‬

‫‪ – 2‬تأويل األحالم‬ ‫يحتل تأويل األحالم مكانة فريدة بين أساليب السيطرة الخرافية على المصير في العالم المتخلف ‪.‬‬ ‫ويعتبر من الناحية الشعبية يشير فأل حسن أو نذير شؤم ونوائب ‪ ،‬يبقى أن التطير والتفاؤل هما العامالن المشتركان بين أغلب‬ ‫التفسيرات الشعبية لألحالم ‪.‬‬ ‫أمثلة على أحالم الفرج ‪ :‬البكاء في الحلم ‪ ،‬الطيران ‪ ،‬الصعود إلى الجبل ‪.‬‬ ‫أمثلة على أحالم الضيق ‪ :‬الضحك في الحالم ‪ ،‬النار المشتعلة ‪ ،‬أكل التين ‪.‬‬ ‫هذه التفسيرات ال تمكن اإلنسان من السيطرة على مصيره أو القدرة على تغييره ‪،‬‬ ‫ولكن التأويل قد يكتسب قوة دافعة في نهاية األمر ‪.‬‬

‫‪44‬‬


‫‪ – 3‬قراءة الطالع والعرافة‬ ‫قراء ة الطالع وكشف البخت والتنجيم وسائل يتوسلها اإلنسان لتلقي عجزه وإدخال الطمأنينة إلى نفسه ‪ .‬وهي تنطبق في تأثيرها‬ ‫من الحاجة إلى مجابهة قلق المجهول وما يتضمنه من تهديد مصيري ‪.‬‬ ‫تقنيات قراءة الطالع متعددة وهي أقرب إلى الشعوذة أهمها ضرب الودع ‪ ،‬الكتابة بالرمل ‪ ،‬قراءة الكف ‪.‬‬ ‫أما المحترفون من هؤالء فهم يخلطون بين العلم والروحانيات والشعوذة ‪ ،‬يصحبون ممارساتهم بتالوات هي مزيج من األلفاظ‬ ‫المبهمة التي ال معنى لها لغويا ً والتي تدل في زعمهم على لغة التخاطب مع الجن واألرواح ‪.‬‬ ‫والقصد من ذلك اللعب على‬ ‫اإليمان الديني لطالب ا لحاجة وإثارة دهشته لتمكنهم من التلفظ بمستغلق األلفاظ الغيبية في مخاطبتهم لألرواح ‪.‬‬

‫ثالثا ً ‪ :‬القدرية‬ ‫يأخذ الغربيون على اإلنسان العربي خصوصا ً والشرقي عموما ً قدريته واستسالمه للظروف دون أن يحاول التأثير فيها ‪ .‬كما‬ ‫يلومونه على تخاذله وسلبيته اللذين يعتبرونهما عيبا ً خلقيا ً حضاريا ً ‪ .‬ولم ينبه هؤالء إلى أن اإلنسان لم يتراجع إلى هذه المواقع‬ ‫القدرية االستسالمية إال بعد عصور طويلة من القهر الداخلي والخارجي وبعد استفحال الحرمان واتصال المآسي ‪ .‬فالقدرية‬ ‫هنا هي محاولة الدفاع األخيرة التي توسلها هذا اإلنسان كي يتمكن من االستمرار في الحياة ‪.‬‬ ‫القدرية هي قانون االعتباط ‪ ،‬اعتباط الطبيعة التي تقسو أو تعطي دون أن يدري اإلنسان متى وكيف ولماذا واعتباط المتسلط‬ ‫الذي يحيط بوجود اإلنسان المقهور ‪.‬‬ ‫ثم إن القدرية بهذا المعنى تحمل العزاء إلى اإلنسان ألن االمتحان الحياتي كتفكير عن آثام ارتكابها ال بد أن يتبعه الغفران على‬ ‫شكل فرج ‪.‬‬ ‫القدرية إذاً تجنب المرء الصراع العنيف الذي ال بد أن يعصف بنفسه إذا ما ُوضع أمام مصيره دون أن يتمكن من السيطرة‬ ‫عيه بطريقة ما ‪.‬‬ ‫ويستعين اإلنسان المقهور على كل ذلك باألمثال الشعبية التي تأخذ معنى الحكمة الحياتية أو معنى القانون الذي ينظم الوجود‬ ‫والذي يقرر لكل امرئ فيه مكانته ودوره ‪.‬‬ ‫تلك كلها وسائل للسيطرة على المصير حين يتفاقم القهر ويستفحل عجز اإلنسان وتنعدم قدرته على التأثير في األحداث ‪ ،‬إنها‬ ‫دفاعات تساعد المرء على تحمل مصيره بالحد األدنى من الصراع النفسي ‪ .‬ولكنها تشكل بالطبع عقبة جدية في وجه النهوض‬ ‫لتغيير المصير كحل وحيد فعال في نهاية األمر ‪ .‬إنها تدفع بالمرء إلى االستسالم واالستكانة لألمر الواقع وبالتالي تعزز هذا‬ ‫الواقع وتحافظ على استمراريته ‪ .‬ومن هنا نشجيع الحكام والمستفيدين منه على انتشار القدرية ‪ ،‬فليس أفضل منها للحفاظ على‬ ‫امتيازاتهم ‪.‬‬

‫‪45‬‬


‫الفصل الثامن‬ ‫العنف‬

‫‪46‬‬


‫العنف‬

‫كل اآلليات الدفاعية السابقة ال تمكن اإلنسان المقهور من حل مأزقه الوجودي بشكل مالئم يرد إليه توازنه النفسي‪ ،‬فهي في‬ ‫معظمها ال تتصدى للواقع بل تتراوح ما بين الهروب منه والهروب فيه أو العيش في وهم السيطرة عليه‪ ،‬حتى و إن كانت تحمل‬ ‫حلوالً جزئية لذلك المأزق فإنها ال تجنب المرء تراكم التوتر النفسي و الحقد الداخلي الذي يهدد باإلندثار‪ ،‬لذلك ال بدّ من أوالية‬ ‫إضافية تفرغ هذا التوتر‪ ،‬و تلك األوالية هي العنف‪ .‬يبقى العنف هو الوسيلة و السالح األخيرة في يد اإلنسان لإلفالت من مأزقه‬ ‫ومن خطر االندثار الداخلي الذي يتضمنه هذا المأزق‪ ،‬والعنف هو لغة التخاطب األخيرة الممكنة مع الواقع ومع اآلخرين حين‬ ‫يشعر المرء بالعجز عن إيصال صوته بوسائل الحوار العادي أو حين تترسخ القناعة لديه بالفشل في إقناعهم باإلعتراف بكيانه‬ ‫وقيمته‪ .‬وهكذا فقد يكون عشوائيا ً مدمراً يذهب في كل اتجاه‪ ،‬أو يكون بناء يوظف في أغراض تغيير الواقع‪.‬‬ ‫العدوانية هي آفة البشرية الكبرى‪ ،‬و هي القوة التي يخشى شرها على الذات دائما ً وعلى اآلخرين أحياناً‪ .‬لم تجد البشرية بعد‬ ‫سبيلها إلى وضع القواعد ال تي تسمح بمكاملتها نفسيا ً واجتماعيا ً ألغراض التقدم والخير المشترك‪ .‬فإذا كان الحال كذلك‪ ،‬فما هو‬ ‫م برر الحديث عن العنف في المجتمع المتخلف وكأنه وقف عليه؟ ذلك ا ن مالحظة الواقع تبين أنه إذا كانت ظاهرة عامة في‬ ‫مختلف المجتمعات‪ ،‬فإنها تجد في المجتمعات المتخلفة تعب يرها األوضح واألكثر انتشاراً واألشد عنفا ً و فيه يبقى أن المجتمع‬ ‫المتخلف يضج بالعنف‪ ،‬يمارس على إنسانه ويصدر عنه في آن معا ً في أكثر المظاهر سكونا ً ودعة و استسالما‪.‬‬

‫أوال ً ‪ :‬مظاهر العنف‬ ‫العدوانية تنخر وجود اإلنسان المقهور عموما ً وتنخره أكثر فأكثر في العالم المتخلف وهي عبء وتهديد للتوازن النفسي‪ ،‬ودافع‬ ‫لإلقدام على العديد من تصرفات تدمير الذات كما أنها في الوقت نفسه دفاع وانتفاضة ضد التهديدات التي تأتيه من الخارج ‪.‬‬ ‫وتتعدد أشكال العدوانية و درجاتها‪ ،‬فالكثير منها مشترك بينه وبين اإلنسان في وضعية مأزقية بصرف النظر عن بنية المجتمع‪،‬‬ ‫وبعضها خاص ومميز لإلنسان المقهور تحديداً ‪.‬‬ ‫تأخذ عدوانية اإلنسان المتخلف مظهراً فاتراً‪ ،‬أو نشطا ً ( وتسمى عندها عنفا ً ) وذلك تبعا ً للظروف التاريخية للمجتمع من ناحية‬ ‫و لحالة كل فرد في لحظة ما من ناحية أخرى‪ ،‬ففي الحالة األولى تفعل العدوانية فعلها بشكل خفي مقنَ ع بمظهر من السكون‬ ‫والسكينة واالستكانة الخادعة‪ ،‬أما في الحالة الثانية فهي تنفجر صريحة مذهلة في شدتها واجتياحها لكل القيود والحدود‪ ،‬مفاجئة‬ ‫حتى ألكثر الناس توقعا ً لها‪ ،‬وبين هذين النقيضين هناك العديد من اإلحتماالت التي تتفاوت شدة ووضوحا ً ‪ .‬فهي قد تأخذ طابعا ً‬

‫‪47‬‬


‫رمزيا ً على شكل سلوك جانح‪ ،‬أو قد تتخذ طابع التوتر الوجودي العام وتفشي العالقات اإلضطهادية‪ ،‬كل هذه الحاالت مظاهر‬ ‫لحقيقة واحدة ‪ ،‬كما أنها درجات متتابعة على سلم العنف‪ ،‬الذي يبدأ مقنعا فاتراً (وهو العنف المقموع)‬ ‫وينتهي صريحا ً ‪ ،‬ماراً بالعنف الرمزي واإلضطهادي ‪.‬‬

‫‪-1‬العنف المقن َع‬ ‫يشيع العنف المقنَع مع ازدياد حدة القمع المفروض من الخارج من ناحية‪ ،‬وازدياد إحساس اإلنسان بالعجز عن التصدي له من‬ ‫ناحية أخرى‪ ،‬فالعنف المقنَع قد يرتد على الذات متخذاً شكل السلوك الرضوخي والميول التدميرية الذاتية‪ ،‬أو هو يتوجه إلى‬ ‫الخارج على شكل مقاومة سلبية‪.‬‬

‫‪-1.1‬العدوانية المرتدة على الذات‬ ‫هذه العدوانية ال تجد طريقها إلى الخارج إال بشكل باهت وهزيل ال يساعد على تصريفها والتحرر من وطأتها داخليا ً‪ ،‬ولذلك‬ ‫فهي ترتد إلى الذات وتعنف بها وتقسو وتسومها سوء العذاب‪ ،‬إنها وضعية الرضوخ في سيكولوجية اإلنسان المقهور الذي يلوم‬ ‫نفسه و يحملها مسؤولية الفشل المصاحب لوضعية القهر و يوهمه بأنه كائن منحط خلق هكذا و سيظل كذلك‪ .‬ذلكم هو الكفر‬ ‫بالذات الذي يشيع في فترات الهزيمة والنكسات في المجتمع المتخلف‪.‬‬ ‫تتضمن هذه اإلدانة للذات دفاعا ً عنها بشكل خفي ف من يدين ذاته يأمل في الحفاظ عليها من إدانة أشد وطأة كما يأمل في الوقت‬ ‫نفسه في إثارة مشاعر صفح ضميره‪.‬‬ ‫المرض الجسمي هو أحد أشكال ارتداد العدوانية نحو الذات‪ ،‬فاإلنسان المقهور والمقموع الذي ال يستطيع اإلحتجاج والتمرد‪،‬‬ ‫أو حتى ال يستطيع الجهر بالشكوى يعيش مأساته من خالل جسده‪ ،‬فاإلنسان المقهور يعبر بلغة الجسد من خالل المرض عن‬ ‫معاناته التي ال يسمح له بالتعبير عنها أو التي ال يستطيع مجابهتها و اإلعتراف بها كواقع نفسي‪ ،‬إنه هرب من الفشل والعجز‬ ‫والتقصير في المرض‪ .‬تلك ظاهرة كثيرة التكرار‪ ،‬إذ يالحظ ازدياد القابلية للمرض بعد الفشل وفي فترات الهزيمة‪ .‬نحن ال‬ ‫نتحدث هنا عن مرض جسمي محدد األسباب‪ ،‬بل عن تلك الحاالت التي يلم فيها المرض بالجسم بشكل هائم وغامض تعالج‬ ‫شكوى جسدية كي تبرز غيرها ‪ ،‬وينتقل المريض من طبيب إلى آخر ومن تشخيص للعلة إلى تشخيص مضاد ‪ ،‬وهكذا ‪. . .‬‬ ‫المرض هنا وجودي ‪ ،‬أو بلغة الطب نفسي جسمي‪.‬‬

‫‪ -1.2‬العدوانية الموجهة الى الخارج‬ ‫مرحلة الرضوخ للمتسلط ال تخلو من مظاهر عنف موجهة إليه و التي تأخذ شكل الحرب على نظامه وقيمه وتحاول النيل منه‬ ‫بشكل خفي‪ .‬أبرز هذه المظاهر الكسل‪ ،‬فالمتسلط المستغل يغرس في اإلنسان المقهور قيم الجهد واإلنتاج‪ ،‬يحاول قولبته حتى‬ ‫يصبح أداة منتجة تخدم أغراضه‪ ،‬ويصل في ذلك حداً يفلسف له معها العمل المضني كشقاء فرضه عليه القدر وعليه أن يتقبله‪.‬‬ ‫هذه المحاولة يجابهها اإلنسان المقهور من خالل الكسل‪ ،‬فهو يبذل الحد األدنى من الجهد المنتج و يضيع الكثير من طاقته دون‬ ‫مردود ‪ .‬ال يلبث في عمل ما أ ياما ً معدودات يجمع خاللها شيئا من النقود حتى يترك عمله ويعود إلى بطالته المتقطعة‪ ،‬ويظل‬

‫‪48‬‬


‫هكذا مبدداً حياته بين بعض العمل والكثير من البطالة والكسل‪ .‬كما انه يغرق في حالة من الخمول والجمود‪ ،‬يفتقد المبادرة‪،‬‬ ‫ويفتقر إلى اإلبداع‪.‬‬ ‫هذه الظاهرة لطالما أثارت حفيظة أرباب العمل في المجتمعات المتخلفة‪ ،‬فهؤالء يشكون من سوء تقدير وتدبير الناس المقهورين‬ ‫ويتهمونهم بالكسل والتقصير عن السعي والنهوض بأعباء مصيرهم‪ .‬على كل حال يشعر رب العمل بدرجات متفاوتة من اإلحباط‬ ‫تجاه عدم استمرار العامل في عمله‪ ،‬فهو يعرق ل له مصالحه وينزل الخسارة به وهو يثير لديه جرحا ً نرجسيا ً من خالل عدم‬ ‫تقدير قيمته في الجهد واإلنتاج والكسب ليعيش رب العمل هذه الوضعية في دخيلة نفسه على حقيقتها كعدوان عليه وانتقام منه‬ ‫ومن نظامه ولو تنكر لذلك ظاهريا ً من خالل سوق االتهامات وصب المالمة على بذرة السوء والجهل عند العامل‪.‬‬ ‫ال شك في أن للكسل في المجتمعات المتخلفة أسبابا ً أخرى هامة‪ ،‬منها سوء التغذية واعتالل الصحة الناتج عنه وانخفاض القدرة‬ ‫على الجهد الدائم‪ ،‬ولكن يفوقها أهمية اليأس الذي يستحكم في اإلنسان المقهور من انعدام إمكانية اإلرتقاء بوضعه وتحسين‬ ‫مصيره من خالل جهده الخاص‪ .‬ويعادل هذا اليأس في األهمية تبخيس قيمة العمل والجهد بشكل مريع في المجتمع المتخلف‬ ‫الذي تنتشر فيه الرشاوي وتشيع األساليب الملتوية في اإلثراء وتستحكم الحظوة التي تعطي الحظوظ جميعا ً لقلة قليلة من الناس‪،‬‬ ‫وينتج عن الظواهر جميعا ً اإلقتناع بأن طريق الثروة واإلرتقاء ال يمر بالجهد الفردي والكدح هزيل المردود‪ ،‬إنما يمر باإلستزالم‬ ‫والتقرب من ذوي الحظوة وبالحظ الذي يأتي أو ال يأتي دون أن يكون لإلنسان دور حاسم فيه‪.‬‬ ‫إمكانية االرتقاء أمام اليأس ‪ ،‬من خالل الجهد المستمر يتهرب اإلنسان المقهور من مصيره القاتم من خالل التماهي بوجاهة‬ ‫الطبقة ذات اإلمتياز التي تعيش عالة على تعب الفئات الكادحة‪ .‬وبذلك يصبح الكسل وازدراء العمل دليل وجاهة‪ .‬إن الميل إلى‬ ‫الكسل والخمول الذي يشيع في أوساط الفئات األكثر بؤسا ً وتأخراً في المجتمع المتخلف يشكل عقبة كأداء أمام مشاريع التنمية‬ ‫والتطوير الذاتي‪ ،‬فالقناعة راسخة عند هذه الفئات بأن ال جدوى من الجهد الذي ال يمكن أن يعود خيره عليها كما علمتها تجاربها‬ ‫خالل تاريخها الطويل من االستغالل‪.‬‬ ‫باإلضافة إلى الكسل هناك عداونية أكثر صراحة من حيث توجهها ضد المتسلط ‪ ،‬وهي تخريب الممتلكات العامة التي تالحظ‬ ‫في ظروف الفوران في المجتمع‪ ،‬يقبل المواطنون على تخريب وإتالف التجهيزات العامة في الطرق (كسر إشارات الضوء‪،‬‬ ‫اقتالع شجيرات الزينة‪ ،‬اقتالع الحواجز على األرصفة‪ ،‬إلخ ‪ ). . .‬مع أن الفائدة المباشرة منها تعود عليهم قبل غيرهم‪ .‬إنهم في‬ ‫عملهم هذا يهاجمون رموز المتسلط إلحساسهم بأن ما هو عام ليس ملكهم‪ ،‬والواقع أن اإلنسان المقهور في المجتمع المتخلف‬ ‫يحس بالغربة في بلده و يحس بأنه ال يملك شيئاً‪ ،‬حتى المرافق العامة يحس أنها ملك للسلطة وليست مسألة تسهيالت حياتية له‬ ‫هو‪ ،‬ذلك أن الهوة كبيرة جداً بينه وبينها و ما من خدمات وتقديمات تقدم له (إذا قدمت) كمنة أو فضل‪ ،‬ال كواجب‪.‬‬ ‫من أشكال العدوانية التي تشيع ضد المتسلط وتتخذ شكل التعبير المقنع هو العدوان اللفظي بالنكات والتشنيعات على اختالفها‪.‬‬ ‫إنها ظاهرة ال يكاد يخلو منها مجتمع يعيش أهله في حالة رضوخ‪ ،‬فالتشنيع والنكتة تعبير ان رمزيان عن العداونية التي تعتمل‬ ‫في نفس اإلنسان المقهور حين يستحيل التعبير المباشر‪.‬‬ ‫على أن اإلنسان يتعامل من خالل هذه األساليب مع المتسلط باللغة نفسها التي يستخدمها هذا األخير معه‪ :‬الوعود الزائفة والخداع‬ ‫وغيرها‪ .‬فالعالقة بينهما تخلو من االعتبار اإلنساني و من االعتراف بكيان اآلخر‪ ،‬و تصبح العالقة بينهما مأزقية قد‬ ‫‪49‬‬


‫تتضمن صراعا ً ال بد أن يبرز في لحظة أو أخرى على شكل تمرد وتحد يقابلهما قمع وإرهاب‪.‬‬

‫‪-2‬العنف الرمزي – السلوك الجانح‬ ‫السلوك الجانح هو الذي يعتدي على القوانين في مجتمع ما بصرف النظر عن محتوى الموانع التي تتضمنها هذه القوانين‪ .‬لذا‬ ‫إذا أصبح خرق القانون هو األسلوب الرئيسي للتوجه السلوكي في الحياة فإننا نكون عندها أمام حالة انحراف فعلي بصرف‬ ‫النظر عن خطورة ذلك السلوك و نتائجه‪.‬‬ ‫السلوك الجانح مادي دوماً‪ ،‬يتجسد في فعل محدد و نتائج معينة‪ ،‬فالسلوك الجانح في مجتمع ما هو مؤشر على مقدار العدوانية‬ ‫الكامنة في شبكة العالقات االجتماعية‪ ،‬و ذلك يتجسد في تصرف بعض األشخاص الخارجين عن القانون للداللة على ما يعتمل‬ ‫باطنيا ً في بنية ذلك المجتمع من اضطراب و ما يتراكم فيها من عدوانية كامنة قابلة لالنفجار في ظروف معينة‪.‬‬ ‫حجم االنحراف و نوعه و شدته يدلون على مدى أزمة المجتمع مثل الجرائم ضد الملكية أو الجرائم ضد األشخاص‪.‬‬ ‫مفهوم االعتداء على القانون في مجتمع القهر غير واضح تماما‪ .‬الضوابط الخلقية الداخلية غير فعالة دائما و ليس هناك أخالق‬ ‫بين الفئات المقهورة هناك فقط خوف من السلطة و بطشها‪ .‬و لذلك تشيع تصرفات االحتيال و الغش و الخداع و االستغالل و‬ ‫السرقة و التي تعتبر السلوك الجانح األكثر شيوعا في العالم المتخلف‪.‬‬ ‫يأخذ هذا الواقع شكال ضمنيا ً و مستتراً في حاالت السكون و االستقرار االجتماعي تعبر عنها فقط الفئة الجانحة و التي لم تتمكن‬ ‫من اإلفالت من المالحقة‪ ،‬و قد يحدث في تاريخ المجتمع أن تهزل السلطة و تزول المالحقة‪ ،‬و في هذه الحالة سنالحظ تفجراً‬ ‫للعدوانية الكامنة و قد يأخذ شكل االستباحة التي ال تعرف الحدود لممتلكات اآلخرين و حياتهم‪ ،‬فإنسان العالم المتخلف الذي‬ ‫عانى من استباحة مزمنة لحقوقه و كيانه ال يجد أمامه إال اإلقدام على استباحة حقوق اآلخرين و بقدر ما يستطيع‪.‬‬

‫‪-3‬التوتر الوجودي و العالقات االضطهادية‬ ‫يعيش اإلنسان المقهور في حالة من التوتر الوجودي العام‪ ،‬فتراكم العدوانية المزمن يلون الحياة جميعها بصبغة متوترة‪ ،‬نتيجة‬ ‫لذلك تميل العالقات إلى أن تتخذ طابعا ً اضطهاديا ً يجعل إمكانية تفجر العنف المتعصب كبيراً‪ .‬هذا التوتر العام و ما يصاحبه من‬ ‫عالقات اضطهادية يشكل حالة العنف الصريح الذي يتفشى في المجتمع المتخلف على عكس الحاالت السابقة التي يتخذ فيها‬ ‫العنف طابعا مقنعا و رمزيا‪.‬‬

‫‪ -3.1‬التوتر الوجودي العام‬ ‫اإلنسان المقهور في حالة تعبئة نفسية دائمة استعدادا للصراع‪ .‬نالحظ ذلك من حالة التوتر العام الذي يبدو جليا ً على محياه و في‬ ‫حركاته‪ .‬فتطغى االنفعالية العاطفية على الحوار و العالقة‪ ،‬و سرعان ما تطمس العقالنية مما يقود إلى انهيار التفكير المنطقي‬ ‫و يحجب وضوح الرؤية و يشل القدرة على تفهم االخرين‪ .‬و سرعان ما يحس بانعدام إمكانية التفاهم فتغشى بصيرته موجه من‬ ‫االنفعال من الكالم يتدهور الحوار إلى سباب ثم إلى تهديد ثم اشتباك‪ .‬و أحيانا ينفذ التهديد باستخدام العضالت أو السالح‪ ،‬و ذلك‬ ‫ألن هناك احساسا ً دفينا ً بانعدام فعالية اللغة الل فظية و أسلوب اإلقناع فيتحول األمر بسرعة إلى الحسم السحري‬

‫‪50‬‬


‫(العضلي أو الناري) من خالل اإلخضاع‪.‬‬ ‫و مما يزيد من تصعيد التوتر العام‪ ،‬أن كال من الطرفين معبأ تماما‪ ،‬وهكذا يكفي أقل اصطدام أو صدام حتى ينفجر الموقف‬ ‫بشكل يصعب ضبطه و تهدئته‪.‬‬ ‫جنايات القتل الفجائي إثر خصام آني ليست نادرة في المجتمع المتخلف‪ ،‬خصوصا عندما يصبح على عتبة انفجار عام على‬ ‫العنف الكامن في بنيته‪ .‬هذه الجنايات التي تثير صدمة بين المواطنين تتراوح بين الذهول و الذعر هي في الحقيقة نذائر على‬ ‫ارتفاع درجة التوتر العام إلى حد خطير في المجتمع‪ ،‬ارتفاعا بدأ يهدد باجتياح كل الحدود و يتجاوز كل المحرمات‪.‬‬ ‫إن التوتر الوجودي العام و ما يصاحبه من تجرف للعنف الدموي و الغير دموي ليس وليد بدائية نفسية كما اعتقد بعض علماء‬ ‫الغرب الذين قالوا بعاطفية و انفعالية إنسان العالم المتخلف‪ ،‬بل هو وليد وضعية مأزقية تشكل إحدى خصائص بنية القهر التي‬ ‫يتميز بها هذا العالم‪.‬‬

‫‪ -3.2‬العالقات االضطهادية – التعصب و الفاشية‬ ‫إن الوضعية التي تتميز بالتوتر الوجودي العام و تتضمن أخطارا ًتتهدد أمن المواطن غير محتملة‪ .‬فهي تهدد وحدة الجماعة‬ ‫بالتفكك و تهدد إمكانية االستمرار في االنتماء إليها مما يفجر قلق الوحدة و الهجرة في مجابهة الخطر‪ ،‬و بالتالي فإن دينامية‬ ‫المجتمع ال بد من أن تتحرك كي تجد حالً لهذه العدوانية المتراكمة بشكل يحفظ حداً أدنى من التماسك لبنيته‪.‬‬ ‫الوسيلة األكثر شيوعا في العالم المتخلف هي توجيه العدوانية إلى جماعات خارجية من خالل التعصب العرقي أو الطائفي و ما‬ ‫يرافقه من ميول فاشية‪.‬‬ ‫نظرة إلى مختلف المجتمعات المتخلفة تبين بجالء انقسامات داخلية‪ ،‬فينقسم السكان إلى جماعات و طوائف مختلفة االنتمائات‬ ‫العرقية أو القومية أو الدينية‪ ،‬متصارعة فيما بينها‪ .‬و قد يكون هذا الصراع صريحا متفجراً أو يظل كامنا ً يع تمل في الخفاء و‬ ‫ينخر بيئة المجتمع مهدداً وحدته و لكنه موجود أبداً‪ .‬و بالطبع يستغل المتسلط الخارجي الذي يريد إحكام سيطرته على المجتمع‬ ‫هذه التناقضات مفجراً إياها‪ ،‬أو مهدداً بهذا التفجير من أجل فرض رغباته التي تذهب عادة في اتجاه االستغالل‪.‬‬ ‫الجماهير المغبونة و المقهورة متعطشة بشكل مزمن للقوة في مختلف رموزها و عبر شكلها األساسيين‪ :‬البطش و الغلبة من‬ ‫ناحية‪ ،‬و العظمة و التعالي من ناحية ثانية‪ .‬فهي مستعدة لالنقياد وراء زعيم عظامي يفجر ميولها للتشفي و العظمة و يعبر عنها‪،‬‬ ‫ذلك هو الزعيم الفاشي‪ .‬إنها تنساق وراءه و تستسلم له بشكل رضوخي طفلي‪ ،‬تتعطل فيه إرادتها و قدرتها على االختيار و النقد‬ ‫و ال يبقى سوى طاقة انفعالية متفجرة تفيض على كل شيء‪ .‬فالجماعة المقهورة عاطفية انفعالية تعشق الرضوخ لرموزها و‬ ‫ابطالها و تنحرق عطشا ً لإلثارة االنفعالية و التهيج الذي يلهب حماسها‪.‬‬ ‫تتشبث الجما هير المقهورة بقيادة من هذا النوع تشعرها بالحياة و تعوض لها نقصها و تستبدل مشاعر العجز بأحاسيس الجبروت‬ ‫و السيادة‪.‬‬

‫‪51‬‬


‫اإلنسان المقهور معرض للوقوع في التعصب و االنجراف في الموجات الفاشية‪ ،‬مشكالً وقودها الذي به تتأجج مع مصلحته‬ ‫وهي بالضبط في مقاومتها و التصدي لها‪ ،‬فالعنف الفاشي و المتعصب ال يحمل سوى و هم الخالص‪ ،‬إنه حل سحري و انتحاري‬ ‫في آن واحد‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬النظريات النفسانية في العدوانية و العنف‬ ‫العدوانية مشكلة حقيقية من مشكالت البشرية األساسية‪ .‬لم تعجز القوانين و القواعد وحدها عن حل هذه المشكلة‪ ،‬بل إن المذاهب‬ ‫الف لسفية و العلمية المختلفة قد عجزت حتى اآلن عن وضع نظرية متكاملة تفسرها‪.‬‬ ‫النظريات التي حاولت تفسير العدوانية عديدة جداً‪ ،‬كل منها يفيدنا في بعض النواحي و لكن أيا منها لم يقدم تفسيراً شامالً ‪ .‬إذا‬ ‫كان هذا شأن النظريات التي وضعت لتفسير العدوانية في المجتمعات الغربية‪ ،‬فإن العدوانية و ما تتسم به من مظاهر عنف في‬ ‫البلدان النامية ال زالت بحاجة إلى صيغة تفسيرية تراعي خصوصية التخلف اإلجتماعي‪.‬‬ ‫ال بد قبل الخوض في النظريات من إزالة االلتباس حول أسطورة العدوانية الهمجية و العدوانية الحيوانية الشرسة التي يتمسك‬ ‫بها أفراد الم جتمعات المتحضرة‪ ،‬فالعدوانية بال حدود ليست سوى أفكاراً منمطة ذات طابع تحيزي يهدف إلى إسقاط ما يخشاه‬ ‫هؤالء في أنفسهم على كائنات غريبة أو أدنى منهم‪.‬‬

‫‪-1‬وجهة نظر علم نفس الحيوان‬ ‫أما في العالم الحيواني فقد أبدع كونراد لورنز في دراسة العدوانية و خصائصها مبينا ً أن شراسة الحيوان المفترس و دمويته‬ ‫ليستا سوى أسطورة‪ ،‬مبينا أن العالقات الدموية و العدوانية المفرطة ال تالحظ إال بين الحشرات‪ ،‬أما بين الحيوانات الفقرية‬ ‫فللعدوانية وظيفة محددة في األمور األربعة التالية ‪:‬‬ ‫الدفاع عن المجال الحيوي‪ ،‬عن الطريدة أو عن منطقة الصيد‬ ‫البحث عن الغذاء‬ ‫المكانة المرتبية ضمن الجماعة‬ ‫التزاوج‬ ‫و أضاف لورنز‪ :‬مأساة اإلنسان بعدوانيته التي تنفجر عنفا ً و شراسة و حقداً تعود إلى فقدان الكوابح الغريزية لعدوانيته التي‬ ‫حلت محلها الكوابح الخلقية و الحضارية‪ .‬و لكن المشكلة أن هذه لم تصل بعد درجة الفعالية التي تحصنه ضد عدوانيته كما هو‬ ‫شأن الحيوان‪ .‬و هكذا فنفس العوامل التي ارتقت باإلنسان فوق كل الكائنات الحية‪ ،‬وضعته في وضعية محفوفة بالخطر‪.‬‬ ‫العدوانية غريزة تلقائية‪ ،‬فهي ليست مجرد رد فعل على مثير خارجي محبط‪ ،‬فهي تتحرك تلقائياً‪ .‬و إذا لم تجد لها فرصة للتفريغ‬ ‫فإن عت بة إثارتها تهبط بشكل ملموس‪ ،‬إذا لم تجد العدوانية لها عدواً خارجيا ً تصرف من خالل التهجم عليه‪ ،‬فإنها ستتوجه إلى‬ ‫داخل الجماعة في تناحر شديد يقضي على حدتها متعلالً بأوهى أسباب الخالف‪.‬‬ ‫‪52‬‬


‫على العكس من ذلك هناك الحماس المناضل و هو نوع من العدوان المشترك يرتبط بالحاجة إلى االنتماء و يستند الى استجابة‬ ‫غريزية للدفاع عن الجماعة‪ ،‬و يظهر عند الحيوان و اإلنسان على حد سواء‪ .‬و لكنه قابل للتعلق بموضوعات و أهداف متعددة‬ ‫عند اإلنسان على عكس الحيوان الذي يتخذ شكل االستجابة المقننة غريزيا ً من حيث الموضوع و الهدف‪.‬‬ ‫يضيف أنطونيني أن الحقد هو أهم ما يميز عدوانية اإلنسان عن عدوانية الحيوان‪ ،‬فليس هناك حقد عند الحيوانات‪ .‬كما أن‬ ‫عدوانية الحيوانات ال تصل أبدا درجة االستقاللية التي تالحظ عند اإلنسان‪.‬‬

‫‪-2‬وجهة نظر التحليل النفسي‬ ‫هنالك عدة وجهات نظر حول العدوانية و العنف يقول بها المحللون النفسيون على اختالف نزعاتهم‪ ،‬انطالقا ً من أراء فرويد‬ ‫وما حدث بصددها من انشقاقات‪ .‬يقول فرويد بنزوتين أساسيتين هما نزوة الحياة و نزوة الموت‪ .‬أما نزوة الحياة فهي المسؤولة‬ ‫عن كل رباط إيجابي مع اآلخرين و عن كل عالقة عاطفية متعاطفة‪ ،‬على العكس منها‪ ،‬نزوة الموت و التي تهدف إلى التدمير‬ ‫و تفكيك الكائن الحي و العودة به إلى وضعية الجماد‪ ،‬فهي إذا توجهت إلى الخارج فإنها تأخذ كل أشكال العدوانية و التدمير و‬ ‫العنف‪ ،‬أما إذا توجهت إلى الذات فإنها تأخذ طابع مشاعر اإلثم و إدانة الذات و القسوة عليها على عكس نزوة الحياة التي إذا ما‬ ‫تركزت في الذات تشكل أساس و مصدر كل اعتبار ذاتي‪.‬‬ ‫و من رأي فرويد أن الليبيدو (وهو الطاقة الجنسية الممثلة لنزوة الحياة) في صراع مفتوح مع غريزة الموت‪ ،‬فمهمة الليبيدو هي‬ ‫لجم نزوة الموت و منعها من تدمير المتعضي و ذلك بتوجيه القسم األكبر منها إلى الخارج‪ .‬فالنزوتان تتفاعالن داخليا و خارجيا‬ ‫و ال توجدان إال في حاالت نادرة بشكل صاف‪ .‬أمر آخر من الضروري اإلشارة إليه هو أن هاتين النزوتين ال تمارسان تأثيرهما‬ ‫كطاقتين حيويتين بشكل خام‪ ،‬بل هما تركزان منذ الطفولة في العالقات مع األم خصوصا و الوالدين بشكل عام‪.‬‬ ‫تلك هي باختصار وضع ية النزوات‪ .‬و لقد اختلف المحللون النفسيون حول أولويتهما‪ ،‬فهناك من يتبع فرويد و يتمسك بتقسيمه و‬ ‫أشهر من يمثل هذا التيار ميالني كالين و مدرستها‪ ،‬و هناك من ينكر أولوية نزوة الموت و ينكر وجودها و أشهر هؤالء هو‬ ‫رايش‪.‬‬ ‫طبقا لمدرسة كالين‪ ،‬إذا ظلت نزوة العدوان على حالتها فإنها تهدد المتعضي بالتدمير من الداخل‪ .‬و كذلك نزوة الموت باندماجها‬ ‫مع نزوة الحياة و توجهها إلى الموضوع األول الهتمام الطفل و هو األم تخلق صراعات عنيفة داخل الطفل‪ ،‬فهو يخشى من‬ ‫ميوله التدميرية على ذاته و على عالقته مع أمه و على صورتها التي تكونت لديه‪ ،‬و لهذا فإنه يحتمي عادة بنزوة الحب من‬ ‫الخطر التدميري الذي تتضمنه نزوة الموت‪ .‬و لكن هذا ال يكفي‪ ،‬بل ينشط الجهاز النفسي للطفل كي يتسلح بعدة أواليات دفاعية‪.‬‬ ‫تقول بوال هايمن (من أتباع ميالني كالين) ‪ " :‬إنه في حالة القسوة العمياء يحدث نوع من الكارثة النزوية‪ ،‬فلسبب ما ينكسر‬ ‫الدمج بين النزوتين األساسيتين‪ ،‬و تستيقظ نزوة الموت داخل الشخص إلى درجة قصوى‪ ،‬دون إمكان تلطيفها بتدخل نزوة‬ ‫الحياة‪ .‬الدفاع األكثر بدائية ضد نزوة الموت هو التحويل الفظ للخطر الداخلي إلى الخارج بصبه على ضحية ما"‪ .‬و تقول بهذا‬ ‫الصدد‪" :‬إنه بسبب ضرورة تحويل الحقد و التدمير ‪ ،‬وفي المقام األخير نزوة الموت من الذات إلى الموضوعات‪ ،‬نحن بحاجة‬ ‫إلى موضوعات سيئة و نحن نخلقها إذا لم نجدها في متناولنا"‪.‬‬ ‫‪53‬‬


‫مهما يكن من أمر نزوة العدوان هذه‪ ،‬فإن ما نستطيع االستفادة منه بال جدال من وجهة نظر ميالني كالين و أتباعها هو هذه‬ ‫الدينامية النفسية التي توضح الصراع العالئقي‪ :‬التنكر للعدوانية الذاتية و لمشاعر اإلثم الذاتية و إيجاد موضوع ضحية يجسدها‬ ‫و يعبر عنها في الخارج و التهجم عليه لدرجة إبادته‪.‬‬ ‫هناك نفر يربطون بين الميول التدميرية و إحباط تحقيق الذات عموما ً أو اإلحباط الجنسي خصوصاً‪ ،‬فهؤالء ينكرون إجماال ًربط‬ ‫العدوانية بنزوة الموت كنزوة أولية‪.‬‬ ‫يقول يونج‪" :‬إن المرء يمكن أن يشعر بالذنب ال على أثر فعل ممنوع‪ ،‬و لكن أيضا عندما ال يستطيع الوصول إلى تحقيق ذاته‪،‬‬ ‫هذا الشعور بالذنب هو الذي يولد عدوانية غير محدودة"‪.‬‬ ‫و يذهب ماندل المذهب ذاته حين يقول‪" :‬ال جدال في أنه يوجد عند اإلنسان قوة استثنائية من النزوات العدوانية التي يمكن‬ ‫ارجاعها لما سميناه سابقا الجرح النرجسي األصلي الذي يتغذى فيما بعد من مجموع إحباط و قيود وتبعية الطفولة‪ ،‬يجب أن‬ ‫تعتبر العدوانية في الواقع كجواب األنا على معاناة النرجسية"‪.‬‬ ‫أما رايش فهو يحتج على التشويش بين مصطلحات العدوانية‪ ،‬السادية‪ ،‬التدمير و غريزة الموت‪ .‬و يقول إنه لم يجد في أبحاثه‬ ‫أن أصل الحقد‪ ،‬رغبة في الموت‪ ،‬أو غريزة موت كنزوة أولية‪ .‬من رأيه أن للعدوانية و نزوة التدمير هدفا ً دفاعيا ً هو الحفاظ‬ ‫على الحياة‪ ،‬فالتدمير في و ضعيات الخطر ينبع من الرغبة في العيش و الرغبة في تجنب ألم القلق‪ ،‬و الغريزة التدميرية تخدم‬ ‫هدف الرغبة في الحياة‪ ،‬فالتدمير و العدوان هما في خدمة إرادة الحياة‪.‬‬ ‫و أيضا ال ننسى ذكر نظرية دوالر الذي يقول بأن كل توتر عدواني ينتج عن اإلحباط‪ ،‬فشدة العدوانية تتناسب م ع شدة اإلحباط‬ ‫و قوة الحاجة المحبطة‪ ،‬فتزداد العدوانية مع نمو عناصر اإلحباط‪.‬‬ ‫هذه اآلراء جميعا ً على ما فيها من تناقض نظري إال أنها تلتقي في نتائجها العامة فيما يمكن أن نسميه نزوة السطوة أو السيطرة‪،‬‬ ‫عند هذه النقطة ال بد من وقفة سريعة عند السادية‪.‬‬ ‫السادية في أساسها حالة نفسية عامة‪ ،‬وضعية عالئقية مع اآلخر تتخذ طابعا ً مأساويا ً أكثر منها مسألة حصول على اللذة الجنسية‬ ‫من خالل إنزال األلم بالقرين‪ ،‬السادية الجنسية هي حالة نوعية خاصة من السادية العامة بهذا المعنى تنطلق السادية مما يمكن‬ ‫تسميته بنزوة السطوة‪ ،‬إنها سيطرة عل ى اآلخر و حط لشأنه من أجل إعالء شأن الذات بواسطة العنف‪.‬‬

‫‪-3‬وجهة نظر ظواهرية‬ ‫تنطلق هذه النظرية من دراسة التجربة الذاتية لإلنسان في تفاعله العالئقي مع اآلخرين‪ .‬فالعنف هو نتاج مأزق عالئقي‪ ،‬أما‬ ‫العدوانية فهي طريقة معينة للدخول في عالقة مع اآلخر حيث يقول إينار‪" :‬توكيد الذات يتم من خالل إنكار اآلخر بواسطة‬ ‫العنف"‪.‬‬ ‫حللت هذه النظرية في دراستها لمسار العنف التحوالت الذاتية التي تتم عند المعتدي و كذلك التحوالت التي تصيب عالقته‬ ‫باآلخر‪ ،‬و هي تحوالت ال يمكن دونها االعتداء على اآلخر‪ .‬فليس هناك عنف مجاني أو اعتباطي أو فجا ئي أو بدائي كما يتصور‬

‫‪54‬‬


‫البعض‪ .‬العنف الذي نراه هو وليد عملية تغير بطيء داخليا ً و عالئقيا ً يقضي على عواطف الحب و المشاركة ليفجر مكانها‬ ‫العنف‪.‬‬ ‫أولى خطوات السير نحو السلوك التدميري هو فك االرتباط العاطفي باآلخر لتحل مكانها مشاعر الغربة و العداء و االضطهاد‬ ‫مما ي ؤدي إلى ظهور األنوية و التقوقع على الذات أو الجماعة المرجعية‪ .‬و يرافق فك االرتباط العاطفي سحب كل التوظيف‬ ‫العاطفي من اآلخر و إرجاعه إلى الذات فتتضخم أهميتها على حساب الخارج الذي تبخس قيمته‪ ،‬فيطغى البرود العاطفي لدرجة‬ ‫قد تصل إلى حد انعدام الحساسية كليا ً تجاه الضحية‪ ،‬هذا البرود هو الذي يجعل المعتدي يقدم أحيانا ً على فعل القتل أو اإلبادة‬ ‫ببرود كلي‪.‬‬ ‫فك االرتباط العاطفي و ما يرافقه من برود عاطفي يخلق غربة كبيرة بين المعتدي وضحيته‪ ،‬حيث تقمع مشاعر الحب و‬ ‫المشاركة و تنفجر مشاعر الحقد الذي يؤدي الى العنف‪ ،‬و حتى يتجسد هذا العنف في فعل تدميري فإن المعتدي يمر بتحوالت‬ ‫عدة تزيل عنه المسؤولية و تضعها على الضحية‪.‬‬

‫ثالثا‪ :‬محاولة لفهم العنف في المجتمع المتخلف‬ ‫العنف في المجتمع المتخلف بحاجة إلى نظرية نوعية تنطلق من واقعه تحديداً‪ ،‬إذ أن النظريات التي ذكرناها ال تحيط به و‬ ‫التستو عبه لحظة انفجاره و إن كانت تسلط بعض األضواء عليه‪ .‬فليس من الممكن وضع نظرية كهذه إال انطالقا ً من دراسات‬ ‫ميدانية عدة تحتاج إلى وقت و تضافر جهود الباحثين في العلوم اإلنسانية‪.‬‬ ‫نحن تقترح تحليل عالقة القهر التي تستحكم باإلنسان في المجتمع المتخلف و ما تتضمنه هذه العالقة من تبخيس و هدر إلنسانيته‬ ‫‪ .‬ففي رأينا أن العنف هو الوجه اآلخر للقهر و اإلرهاب‪ ،‬أو على العكس‪ ،‬اإلرهاب و القهر هما الوجه الخفي للعنف في العالم‬ ‫المتخلف‪ ،‬فكلما تصعد اإلرهاب زاد احتمال انفجار العنف الكاسح و هذا االحتمال ال يقابل إال بمزيد من القهر و القم ع‪ ،‬و ال ينتج‬ ‫عن هذين سوى رضوخ مشدود يتفجر عند أول بوادر تراخي السلطة‪ ،‬و لذلك قلنا ليس هناك ضوابط خلقية عند اإلنسان المتخلف‬ ‫بل هناك خوف من القمع الخارجي و عندما يزول هذا الخوف ينفجر العدوان متخذاً شكل العنف‪.‬‬ ‫عالقة االنسان مع السلطة في المجتمع المتخلف عالقة خاصة جدا‪ ،‬فالسلطة ال تعرف من أساليب التعامل إال سوى اإلرهاب و‬ ‫القمع و التضليل‪ ،‬فردود فعل السلطة عنيفة و مباشرة و تأخذ طابعا ً مادياً‪ .‬ليس هناك عالقة تكافؤ أو حوار بين السلطة و‬ ‫الجماهير في المجتمع المتخلف‪ ،‬ليس هناك اعتراف متبادل تحفظ التوازن العالئقي‪.‬‬ ‫و هكذ ا فإن عالقة القهر بما تتضمنه من قمع و إرهاب و تضليل تخلف وضعية خاصة جداً مولدة للعنف بمختلف وجوهه و‬ ‫يمكن بحث هذه الوضعية من خالل حالة قطبي العالقة‪ :‬صورة الذات عند اإلنسان المقهور و صورة المتسلط التي تتكون لديه‪.‬‬ ‫أما صورة الذات فتتلخص بشعور مثير للذعر بانعدام القيمة و بهدر إنسانية نظراً الستحالة التعبير عن الذات‪ ،‬هذه الوضعية‬ ‫تفجر أكثر درجات العدوانية بدائية و تدميراً متخذة شكل نزوة السطوة و البد لهذه النزوة من جماعة يقودها زعيم اضطهادي‬ ‫ينتمي إليها كي يتمكن من التعبير عنها‪.‬‬

‫‪55‬‬


‫ما عدا القمع الخارجي و الخوف‪ ،‬تبقى عدوانية اإلنسان المقهور دون توازن داخلي من قوة مضادة تكبح جماحها و تلطفها‪ ،‬ذلك‬ ‫ألن نزوة الحياة (الجنس و الحب) الكفيلة وحدها بالقيام بهذه المهمة ال تفلت من القمع في المجتمع المتخلف‪ ،‬إذ أن كل قمع ال بد‬ ‫له من بغية إحكام سيطرته على اإلنسان من فرض قيوده على حيا ته الجنسية‪ .‬القمع الجنسي يعطل تدخل نزوة الحياة لضبط‬ ‫نزوة الموت و هكذا تنفجر العدوانية دون ضابط و يتسرب الجنس من خالل هذه العدوانية بتصعيد خطورتها من خالل تحويلها‬ ‫إلى حقد‪.‬‬ ‫و أما صورة المتسلط‪ ،‬فهي بدورها عامل تفجير العدوانية‪ ،‬فهي تعاش كسلطة مهددة ال يتمكن المرء من التماهي اإليجابي بها‪،‬‬ ‫انعدام التماهي يجعلها تظل خارجية و تعاش بشكل اضطهادي و هي في الحقيقة كذلك‪ ،‬نظرا لما تتصف به من عدوانية و ما‬ ‫تحمله من تهديد‪ ،‬وحده الرضوخ يظل ممكنا إزاءها‪ ،‬و االحتمال اآلخر تجاهها هو التحالف ضدها‪ ،‬و أما االحتمال األخير فهو‬ ‫التماه ي بها من خالل أوالية التماهي بالمعتدي و ذلك يفجر العدوانية التي تتوجه نحو الخارج في أفعال سيطرة و نيل من‬ ‫الضعفاء و اعتداء على كل ما يمكن االعتداء عليه‪.‬‬ ‫و طالما استحال التماهي مع صورة إيجابية متعاطفة و حامية للحاكم فإن ذلك يزعزع روابط االنتماء إلى الجماعة و اإلخاء في‬ ‫المواطنية‪ .‬ففقدان روابط االنتماء االجتماعي يعود مباشرة إلى فقدان االلتزام تجاه اآلخرين و فقدان االحترام لما هو عام و‬ ‫مشترك مما يفتح السبيل أمام بروز االنوية المفرطة‪ ،‬تنهار قيمة اآلخر في هذه الحالة و هكذا تسود األنانية على حساب المصلحة‬ ‫العامة و ت برز هذه األنانية عندما تضعف أو تغيب السلطة‪ ،‬عندها ينعدم الشعور باالنتماء و يولد عند اإلنسان قلق الوحدة و قلق‬ ‫التهديد الذي يأتيه من اآلخرين مما يفجر عدوانيته بال حدود‪.‬‬ ‫باإلضافة الى انهيار االنتماء االجتماعي و المشاركة في المواطنية‪ ،‬تعطي صورة المتسلط نموذجا سلبيا ً يشجع على فقدان‬ ‫االلتزام تجاه اآلخرين‪ .‬السلطة في المجتمع المتخلف فرصة من أجل التسلط و االستغالل و هكذا فكل من تمكن من شيء من‬ ‫قوة أو سيطرة فإنه سيسلك النهج نفسه‪.‬‬ ‫و هكذا‪ ،‬فإذا كان القهر من خالل اإلرهاب و القمع هو الحقيقة التي تعشش في بنية المجتمع المتخلف تنخرها و تلغمها‪ ،‬فإن‬ ‫العنف على مختلف صوره ال بد أن يكون السلوك األكثر شيوعا ً حين تسنح الفرص‪ .‬تلك هي كارثة الرباط اإلنساني طالما لم‬ ‫تتغير العالقة بأخرى أكثر مساواة تعيد االعتبار الى الحاكم و المحكوم‪.‬‬

‫‪56‬‬


‫الفصل التاسع‬ ‫وضعية المرأة‬

‫‪57‬‬


‫وضعية المرأة‬

‫المرأة هي أفصح األمثلة على وضعية القهر بكل أوجهها في المجتمع المتخلف‪ ،‬ففي وضعيتها تتجمع كل تناقضات ذلك‬ ‫المجتمع‪ .‬كل األواليات الدفاعية التي سبق الحديث عنها تتجمع عندها‪.‬‬ ‫تتجمع في شخصية المرأة‪ ،‬أو باألحرى في النظرة إليها أقصى حاالت التجاذب الوجداني‪ ،‬فهي أكثر العناصر اإلجتماعية‬ ‫تعرضا ً للتبخيس في قيمتها على جميع األصعدة‪ :‬الجنس‪ ،‬الجسد‪ ،‬الفكر‪ ،‬اإلنتاج‪ ،‬المكانة‪ .‬و يقابل هذا التبخيس مثلنة مفرطة‬ ‫ندر أن وجدنا لها مثيال عند الرجل‪ ،‬هذه المثلنة تبدو في إعالء شأن األمومة و إغداق الصفات اإليجابية عليها‪ .‬و هكذا تتفاوت‬ ‫مكانة المرأة في نظر الرجل و نظر المجتمع عموما ً بين أقصى إرتفاع و بين أقصى حاالت التبخيس‪.‬‬ ‫و من حاالت التجاذب الوجداني األخرى‪ ،‬تذبذب الموقف منها ما بين التبعية و الطفلية‪ ،‬فهي تابع ال حرية له و ال إرادة و ال‬ ‫كيان‪ ،‬إنها ملكية األسرة منذ أن تولد و ح تى تموت و على العكس من ذلك نجد صورة المرأة المرجع (خصوصا األم) التي‬ ‫يقف منها الزوج و األبناء موقفا ً اتكالياً‪.‬‬ ‫على المستوى اإلجتماعي نالحظ التذبذب الهائل في الموقف من المرأة و إحاطتها بمجموعة كبيرة جداً من األساطير التي‬ ‫أسلبها كيانها اإلنساني بما فيه من أوج ه قوة و ضعف‪ .‬و على المستوى الال واعي تتحول المرأة الحقيقية من لحم و دم‬ ‫وإحساس إلى مجرد سند هوامي لكل العقد و المآزم و المخاوف‪ .‬ليس أكثر مثلنة و تبخسا ً للمرأة على المستوى اإلجتماعي من‬ ‫مكانتها في ال وعي الرجل المقهور‪ ،‬فإسقاط العيب و العار و الضعف عند الرجل على المرأة إجتماعيا ً يقابله إسقاط نقص‬ ‫الخصاء و خجله على المستوى الالواعي‪ .‬المرأة أداة المجتمع و خصوصا ً المتسلط و هي في الوقت نفسه أداة الرغبات‬ ‫الالواعية‪ ،‬وفي كال الحالتين تحرم من االعتراف بوجودها ككائن قائم بذاته‪ ،‬القوانين المدنية و الدينية التي تقيد المرأة في‬ ‫حريتها و قدرتها على اإلختيار و التي تخدم أغراض السيطرة اإلجتماعية عليها كأداة لإلنجاب و اإلمتاع و اإلنتاج و أغراض‬ ‫السيطرة الهوامية على كيانها‪ .‬و في كال الحالتين تستخدم كوسيلة للتعويض عن المهانة التي يلقاها الرجل المقهور إجتماعياً‪ ،‬و‬ ‫في الحالتين تفرض عل ى المرأة وضعية من القهر تقضي على إمكاناتها الذهنية و اإلبداعية و اإلستقاللية و المادية‪.‬‬ ‫تلكم هي في نظرنا أقصى حاالت الغبن و اإلستغالل اللذان يصيبان المرأة باعتبارها أكثر العناصر قهراً في المجتمع‪ ،‬و لكن‬ ‫الواقع ان طبيعة المرأة ال عالقة لها بهذا القهر‪ ،‬فالفرو ق البيولوجية و التشريحية بين الرجل و المرأة ال تبرر ما فرض على‬ ‫كيانها من تبخيس‪ ،‬الواقع البيولوجي يذهب في اتجاه معاكس تماماً‪ ،‬فالمرأة أكثر مناعة من الرجل و انبناؤها البيولوجي‬ ‫الوراثي أكثر متانة و كذلك فإن الرصيد العصبي الدماغي الذي تولد فيه ال يقل عن رصيد الرجل و الفرق هو في المكانة التي‬ ‫تعطى لكل منهما و ما فيها من فرص تنمي إمكانات الرجل و تطمس إمكانات المرأة‪.‬‬ ‫أما العاطفية الزائدة و سيطرة االنفعاالت و استفحال الخرافة عندها فهو ليس سوى ثمرة ما فرض عليها من تجهيل بسبب‬ ‫حرمانها من فرص تنمية طاقتها الذهنية التي تسمح وحدها بسيطرة العقالنية و المنطق‪.‬‬

‫‪58‬‬


‫و هكذا فنحن لسنا بصدد كيان و خصائص بيولوجية أو ما يشيع تسميته بطبيعة المرأة‪ ،‬بل إننا بصدد وضعية تفرض عليها و‬ ‫مكانة تعطى لها‪.‬‬

‫أوال‪ :‬مالمح وضعية القهر‬ ‫يتناسب القهر الذي يفرض على المرأة مع درجة القهر الذي يخضع له الرجل في المجتمع‪ ،‬فكلما كان الرجل أكثر غبنا ً من‬ ‫مكانته اإلجتماعية مارس قهراً أكبر على المرأة‪ .‬و يمكننا بهذا الصدد أن نميز بين حاالت عدة نختار منها مستويات ثالث‬ ‫أساسية منها‪ :‬وضعية المرأة في الطبقة الكادحة‪ ،‬وضعية المرأة في الطبقة المتوسطة و المثقفة و وضعية المرأة في الفئة ذات‬ ‫االمتياز‪ .‬تالحظ هذه المستويات عموما ً في األوساط الحضرية أما في األوساط العشائرية المغلقة فوضع المرأة أفصح تعبيراً‬ ‫عن هذا الواقع حيث يختصر كيانها كله في جسدها الذي حول من مجرد أداة تتحدد قيمته بإنجاب الصبيان‪ ،‬وعندما يتستنزف‬ ‫تهمل المرأة و يتحول ال رجل السيد عنها إلى غيرها‪ .‬و المرأة في هذا الوسط تعتبر أداة للتحالف و التالحم و ال وجود لها‬ ‫خارج إطار هذا الدور‪ ،‬قيمتها كلها تتمحور حول عفافها الجنسي المتمثل سطحيا بغشاء البكارة‪ .‬إن ربط الفتاة بالبكارة وربط‬ ‫شرف الرجل باألمر نفسه يشير إلى مدى الركاكة التي تم يز اعتباره الذاتي و مكانته بين اآلخرين و مدى عظم األخطار التي‬ ‫تهدد هذه المكانة‪.‬‬

‫‪-1‬المرأة في الوسط الكادح و ما تحت الكادح‬ ‫هناك تحديد و توزيع لألدوار بين الرجل و المرأة في هذا الوسط‪ ،‬فكل من الطرفين يتمم اآلخر وظيفيا مما يسمح بشيء من‬ ‫التوازن الحيوي في هذا ال وسط‪ .‬هذا التوزيع يتمحور أساسا حول الدفاع ضد وضعية القهر التي يروح تحتها اإلنسان الكادح‬ ‫من خالل تعزيز و تضخيم مكانة الرجل بعد أن تحمل المرأة كل المهانة و تتحول إلى المعبرة عن العجز و القصور‪.‬‬ ‫نالحظ في هذه األوساط تعارضا ً واضحا ً لتصرفات و خصائص الذكورة و األنوثة‪ ،‬فهناك مبالغة واضحة في قوة الرجل و‬ ‫ذكوريته و مكانته‪ ،‬ومبالغة في تقدير قدرته على كسب الرزق و تدبير أحوال األسرة‪ .‬فالرجل باعتباره كاسب الرزق و‬ ‫الطرف الذي يجابه العالم الخارجي ال بد له من أن يعبأ و يشحن بقوة ال يتمتع بها واقعيا ً في معظم األحيان‪ ،‬و ال بد من إنكار‬ ‫مظاهر الضعف و العجز و قلة التدبير و الخوف عنده ‪ ،‬إذ بهذا اإلنكار وحده تتمكن األسرة من الشعور بشيء من االطمئنان‬ ‫و إلى وجود سند قوي‪ .‬و حتى يتم شحن الرجل ال بد من إسقاط الضعف و الهوان على المرأة‪ ،‬و هكذا تلعب هذه دور المبررة‬ ‫عن المأساة و دور التابع الذي يحتاج إلى وصي‪.‬‬ ‫المرأة في أوساط ما تحت الكادحة تصل أقصى درجات القهر من خالل تنكر المجتمع و األسرة لوجودها‪ ،‬فهي تستقبل حين‬ ‫تولد بالتذمر و التبرم و الضيق إذا لم تستقبل بالرفض الصريح‪ ،‬و توضع كطفلة في مرتبة ثانوية أو هامشية بالنسبة للصبي‬ ‫الذي يعطى كل القيمة و تتحول إلى خادمة لألب و األخوة حين تستنزف طاقة األم‪ ،‬و هي تستخدم كأداة لتمرس أخوتها ببسط‬ ‫النفوذ الرجالي من خالل الوصاية و بزعم الحماية الوهمية لها‪.‬‬

‫‪59‬‬


‫إن قهر المرأة على هذا المستوى هو دفاع الرجل ضد القهر الذي يصبه عليه المتسلط‪ ،‬ذلك أن كل قهر يصيب المرأة في‬ ‫عال قتها بالرجل يقابله قهر عند الرجل يصيبه به المتسلط‪.‬‬ ‫كل ما نود قوله هنا هو أن المرأة يفرض عليها دور مجسد للقهر و الغبن كما يتمكن الرجل المغبون من اإلحتفاظ بشيء من‬ ‫توازنه و كبريائه الظاهري و ما تعيشه المرأة ظاهراً من قهر و غبن و استغالل هو نفسه ما يعانيه الرجل الكادح بشكل‬ ‫ضمني‪.‬‬

‫‪-2‬المرأة في الطبقة المتوسطة‬ ‫تتميز الطبقة المتوسطة عن غيرها بالمرونة و تطور وسير في اتجاه التغيير‪ ،‬فهذه الفئة هي التي تعي مشكلة المرأة على‬ ‫العكس من الفئتين األخريين (الفئة الكادحة و الفئة ذات االمتياز)‪ .‬أتيح للمرأة في الفئة المتوسطة أن تخرج من سجنها التقليدي‬ ‫و أن تأخذ قسطا ً متفاوتا ً من العلم و تبدأ حياة منتجة و تشارك الرجل األعباء و المسؤوليات داخل األسرة و خارجها‪ ،‬كما أن‬ ‫الرجل من ناحيته بدأ يعي وضعية المرأة الفعلية و أهمية مشاركتها و ضرورة نمو شخصيتها و بناء كيانها الذاتي كشرط‬ ‫الرتقاءه هو بدوره‪.‬‬ ‫على أن هذه الفئة في المجتمع النامي ما زالت تعاني الكثير من رواسب الماضي و ذلك عند كال الجنسين على حد سواء‪ ،‬و‬ ‫الصفة المميزة هي اختالل توزيع األدوار و غموض المكانة لكل من الرجل و المرأة‪ ،‬فالمرأة تتوق إلى االنطالق و تعي‬ ‫ضرورته لها و حقها فيه‪ ،‬و ال رجل يتوق أيضا الى االنطالق له و لقرينته‪ ،‬و لكن كال منهما ما زال أسير قيود تكبله من‬ ‫الداخل و في أساس بنية شخصيته و تحتاج للتخلص منها إلى مغالبة شديدة للنفس‪.‬‬ ‫إن المرأة أسيرة عملية تشريط مزمن تدفعها لتلعب دور الراضخ المقهور و هي مطمئنة لهذا الدور وقد أعدت له نفسيا و لكنه‬ ‫لم يعد يرضيها على مستوى الوعي بكيانها والوعي بحقوقها‪ ،‬و الرجل يتحدث عن المساواة و عن تحرير المرأة و لكنه ال‬ ‫يستطيع التخلي عن امتيازاته بسهولة‪ .‬و هكذا يعاني كل منهما من صراعات نفسية و تناقضات داخلية‪ ،‬فهي ما زالت محافظة‬ ‫مقيدة داخليا مع تحرر ظاهر ي و هو ما زال متمسكا بوضعية السيد و امتيازاته مع ادعاء المساواة و تأييد حقوق المرأة‪.‬‬ ‫بين هذه الفئة هناك بالتأكيد فروق كبيرة على سلم المحافظة و التحرر عند الجنسين على حد سواء‪ ،‬و الصراعات بالتالي كثيرة‬ ‫نظراً لعظم التناقضات الذاتية و العالئقية‪ ،‬و ما زالت المر أة على كل حال تدفع الثمن األكبر‪ ،‬فتحررها االقتصادي النسبي لم‬ ‫يحررها بعد من أعباء األسرة التي ما زالت بدون تقويم فهي تبذل جهداً مضاعفا ً كي تحصل على حقوق و مكانة ليست‬ ‫متوازية مع ذلك الجهد‪.‬‬

‫‪60‬‬


‫‪-3‬وضعية المرأة في الفئة ذات االمتياز‬ ‫ال تعاني المرأة في هذه الطبقة التي تحظى بامتيازات الثورة و المكانة من القهر بالمعنى المادي‪ ،‬فهي تعزز و تحتل مكانة‬ ‫رفيعة الشأن تحظى بكل التسهيالت الحياتية و تتقلب في ضروب النعيم على حساب نسوة أخر يقمن بالعمل بدالً عنها‪ ،‬و لكنه‬ ‫إذا أفلتت من القهر فهي ال تفلت مطلقا من االستالب‪ ،‬فهي أداة رغم كل شيء تستلب في عالم األسرة أو الزوج الذي يحتمي‬ ‫وراء حقوقه التاريخية و ما تعطيه له من سلطة على شخصيتها لقاء تقديمات مادية تحظى بها‪.‬‬ ‫و قد تكون أداة زيادة سطوة األسرة و بسط نفوذها من خالل المصاهرة‪ ،‬و الويل لها إذا أرادت أن تشذ عن هذا الدور‪ ،‬فإذا‬ ‫قاومت ستوصم بالعقوق و جحد النعمة و يكون مصيرها النبذ‪.‬‬ ‫تتعرض المرأة في هذه الفئة إلى أخطر أنواع العبودية و هي االستالب العقائدي‪ ،‬حيث تزين لها وضعيتها كأداة و تربط قيمتها‬ ‫بمقدار كلفة الجهاز و األثاث و مدى ترف و فخامة الزفاف‪ ،‬و عندما تتزوج ال يتغير وضعها في قليل أو كثير‪.‬‬ ‫بعد الزواج تقوم المرأة بدور هام جداً تكاد حياتها تقتصر عليه و هو استعراض جاه األسرتين و ثروتهما‪ ،‬فهي ببساطة أداة‬ ‫دعاية لزوجها و والدها من خالل استعراض ما أنفقت و دورها في أن تتبارى في الدعاية في الحفالت والمناسبات‬ ‫اإلجتماعية‪ ،‬فتعتز بمقدار ما أنفقت و م ا تخطط إلنفاقه و بالمقابل فإن أسرتها بحاجة لتكليفها بهذه الوظيفة التي تكاد تصبح‬ ‫النشاط الوحيد القادرة على النجاح فيه و تحقيق ذاتها من خالله‪.‬‬ ‫و هكذا فإن أفلتت المرأة في هذه الفئة من القهر المادي فإنها ستعيش أسيرة قهر قد يكون أمر و أدهى و هو االستالب المعنوي‬ ‫لكيانها و الذي ال يقل عن كونه موتا ً نفسياً‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬أوجه القهر ووسائله (االستالب و االختزال)‬ ‫وضعية القهر التي تفرض على المرأة تتخذ أوجها متعددة تجسد هذا القهر في القطاعات األساسية من حياتها و لقد لخص‬ ‫بعضهم هذه األوجه في استالبات ثالثة تتعرض لها المرأة بقدر متفاوت في حدته و هو االستالب االقتصادي‪ ،‬االستالب‬ ‫الجنسي واالستالب العقائدي‪ ،‬و من خالل هذه االستالبات تبتز المرأة و تستغل‪ ،‬و لكن هذا االستغالل ال يتم بشكل خام و‬ ‫مباشر بل يتطلب تبريرا يجعله ممكنا‪.‬‬

‫‪-1‬االستالب الثالثي‬ ‫يتخذ استغالل المرأة شكل االعتداء على ك يانها على ثالثة أصعدة رئيسية من خالل ما يفرض عليها من وضعية إجتماعية و‬ ‫عالئقية و جنسية ال تتيح لها أن تصل إلى االستقالل و بالتالي إلى المساواة و الحصول على حقوق المواطنية بالشكل الكامل‪.‬‬ ‫االستالب االقتصادي و االستالب الجنسي من موضوعات الساعة في حركة تحرير المرأة و لكن هناك استالب أخطر من‬ ‫االثنين السابقين و هو االستالب العقائدي و نعني به أن تتبنى المرأة عقيدة استعبادها معتبرة ذلك جزءاً من طبيعتها األنثوية و‬ ‫سنرى بأن هذا التبني مسؤول إلى حد كبير عن تأخير تحرر المرأة‪.‬‬

‫‪61‬‬


‫‪-1.1‬االستالب االقتصادي‬ ‫تتعرض المرأة لعملية تبخيس دائم لجهدها مما يسمح للرجل باستغالل هذا الجهد دون مقابل أو بمقابل هزيل‪ ،‬كما تتعرض‬ ‫لتبخيس إمكاناتها مما يدفع بها دوما إلى مواقع إنتاجية ثانوية بعيدة عن الخلق و االبداع‪ ،‬و تتعرض في المقام الثالث إلى طمس‬ ‫هذه اإلمكانات و الطاقات من خالل حرمانها فرص التدريب المالئمة و بشكل متوازن مع الرجل‪ ،‬و تتعرض رابعا ً لغرس‬ ‫عدم الثقة بنفسها و إمكاناتها مما يجعلها تكتفي بمكانة مهنية هامشية و تتوجه كي تحقق ذاتها إلى ميادين أخرى ال تعطيها‬ ‫سوى وهم تحقيق تلك الذات‪.‬‬ ‫هناك طبقية واضحة في توزيع النشاطات المهنية بين الرجل و المرأة فهي تعطى دوما ً األعمال الثانوية أو الهامشية و تظل في‬ ‫حالة تبعية للرجل الذي يحتكر األعمال األساسية مما يتيح له بسط نفوذه عليها‪ ،‬حتى حين تتساوى الكفاءة المهنية نجد ميالً‬ ‫واضحا ً نحو تفضيل الرجل إذ أن القناعة بدونية المرأة المهنية متأصلة في عقل اإلنسان المتخلف المبني على نمط طبقي‬ ‫أساساً‪ ،‬هذه القناعة تؤدي بدورها إلى فقدان المرأة للثقة بنفسها مهنيا ً مما يولد لديها عقدة انعدام الكفاءة االجتماعية‪.‬‬ ‫إن األمر ال يستند إلى أي أساس بيولوجي أو ذهني بقدر ما هو نتاج عملية تشريط إجتماعية تخضع لها المرأة منذ نعومة‬ ‫أظافرها ‪ ،‬فمنذ البداية حرمت المرأة كل فرص االرتقاء النفسي و الذهني و كل فرص التقدم المهني من خالل سجنها في البيت‬ ‫و فرض مهمات الخادم إليها‪ ،‬بينما احتفظ الرجل باألعمال ذات القيمة مترفعا ً عن أعمال المنزل التي تستنزف كيان المرأة‬ ‫بحجة أنه كاسب القوت و معيل األسرة وأن ل ه حق الخدمة على زوجته التي ستجوع و تعرى من دونه‪.‬‬ ‫منذ البداية تعد المرأة لمكانة هامشية و لوضعية التبعية للرجل و هذا أدى إلى خمول المرأة و غرس في نفسها دونية ذهنية و‬ ‫مهنية من الصعب عالجها‪ ،‬وغرس في نفسها القناعة بأن العلم و العقل أمران ثانويان و أن االهتمام المهني أمر عابر أو‬ ‫مستبعد‪ ،‬و بعد أن يبخس كيانها على هذا الغرار نرى الرجل المتسلط يتخذ من هذا التبخيس حجة و سالحا ً يحاربها به و‬ ‫يطمسها أكثر فأكثر في التبعية‪.‬‬ ‫إضافة إلى االجحاف في نوع العمل و مستوى اإلعداد المهني‪ ،‬يلحق بالمرأة حيف واضح على مستوى التقويم المادي لعملها‬ ‫حيث يكون هناك ميل إلى تبخيس ثمن عملها على شكل أجور زهيدة‪ ،‬و لكن األخطر من ذلك و األكثر جوراً هو تجاهل تقويم‬ ‫الجهد المنزلي الذي يكاد يعتبر مجانيا ً أو كجزء من مهمات المرأة التي ال تدخل في نطاق التقويم‪.‬‬

‫‪ -1.2‬االستالب الجنسي‬ ‫في االستالب الجنسي يصل ال قهر الذي يمارس على المرأة درجة صارخة أشد في تأثيره على مصير المرأة من االستالب‬ ‫االقتصادي و إن كانت الرابطة بينهما وثيقة‪ ،‬إذ يتماشى مقدار االستالب الجنسي عادة مع درجة التبعية االقتصادية التي‬ ‫تفرض على المرأة‪.‬‬ ‫مظاهر وأوجه االستالب الجنسي عديدة‪ ،‬ففي البداية هن اك اختزال للمرأة في حدود جسدها‪ ،‬هذا االختزال يؤدي مباشرة إلى‬ ‫تضخم البعد الجنسي لجسد المرأة بشكل مفرط و على حساب بقية أبعاد حياتها‪ ،‬فهو يمحور المرأة و يركزها حول المسألة‬ ‫‪62‬‬


‫الجنسية‪ .‬تلك هي المعضلة األولى التي تتعرض لها المرأة في االستالب الجنسي خصوصا أنها تعيش كيانها بشكل مهدد تهدده‬ ‫رغباتها الذاتية و تهدده رغبات الرجل خارج الزواج و تهدده الحوادث على اختالفها (تشويه‪ ،‬إصابة بعاهة‪ ،‬فقدان البكارة‬ ‫لسبب ما)‪.‬‬ ‫يقابل التركيز الجنسي المفرط و االختزال لجسد المرأة قمع له يبلغ أقصى درجات الشطط و القسوة‪ ،‬فالممنوعات التي تفرض‬ ‫على جسد المرأة دينيا ً و مدنيا ً أشهر من أن تعرف‪ ،‬فجسد المرأة المختزل إلى بعده الجنسي هو عورة يجب أن تستر و تصان‬ ‫و تحمى‪ ،‬و هو قبل ذلك ملكية األسرة و من ورائها المجتمع وليس للمرأة سلطة على جسدها و جنايات الشرف تشهد على‬ ‫ذلك‪.‬‬ ‫القوانين إذاً هي وسيلة الرجل و سال حه المتالك جسد المرأة و السيطرة على كيانها‪ ،‬إذ من المعروف أن أقصى درجات‬ ‫السيطرة تتم من خالل الجسد و التحكم به‪ ،‬فعندما يفلت الجسد و يعبر عن طاقاته و رغباته بحرية يفلت اإلنسان من التسلط و‬ ‫القهر‪ ،‬و لذلك فالمرأة حين تتمرد فإنها تفعل ذلك أساسا ً من خالل إعطاء نفسها حرية التصرف بجسدها جنسيا ً في المقام‬ ‫األول‪.‬‬ ‫هذا كله يوقع المرأة في وضعية مأزقية و في حالة تناقض مذهل من اختزال كيانها إلى مجرد جسد جنسي و على إمكاناته‬ ‫التعبيرية‪ ،‬و يزداد الموقف حدة و التناقض عنفا ً نظراً لموقف الرجل الذي تتجاذبه المرأة‪ ،‬فهو ينجذب نحو الجسد الذي يضج‬ ‫بالحياة و الجاذبية و يتمتع بقدر من التعبير و لكنه ال يتحمل مسؤولية نتائجها بل تقع المسؤولية على المرأة‪ ،‬و هو إن أصاب‬ ‫حظا ً في محاوالته التي ال تخلو من تغرير و خداع يزدري المرأة كي يتزوج من أخرى قد صده جسدها‪ ،‬و لكنه يشكو فيما بعد‬ ‫من بروده الجنسي و يضع اللوم عليها لحرمانه من المتعة و قد يتوسل القانون لإلنفصال عنها‪ .‬تلك هي مأساة عالقة التسلط و‬ ‫القهر التي تخضع لها المرأة من خالل االستالب الجنسي‪.‬‬ ‫نتائج هذه التناقضات كارثية بالنسبة للمرأة و الرجل على حد سواء‪ ،‬أولها تزييف التعبير عندها فبدل التعبير التلقائي المتكامل‬ ‫مع توجه الشخصية تقع المرأة في مأزم االزدواجية التعبيرية ازدواجية الصريح الضمني‪ ،‬القبول و الرفض‪ ،‬االعتراف و‬ ‫االنكار‪ ،‬القرب و البعد و هنا يعاني الرجل من هذه االزدواجية و يتهم المرأة باالحتيال و المكر أو يتهمها بأنها ال تعرف ما‬ ‫تريد و الحقيقة بأ نها أكثر من يعرف ما تريد و لكنها تعرف ما يتهددها من أخطار إن هي تصرفت تبعا ً لما تريد و تمردت على‬ ‫القمع المفروض عليها‪ ،‬و هذه المعرفة يتجاهلها الرجل المستفيد من نظام القهر المفروض عليها‪.‬‬ ‫عندما تقمع الحياة الجنسية للمرأة كليا تتحول المرأة إلى كائن متزمت‪ ،‬و تتحول الطاقة الجنسية إلى مسارب نزوة العدوان‬ ‫متخذة شكل الحقد و التزمت و الذي يفتح السبيل أمام التعصب على اختالف أشكاله و الذي تغرسه المرأة في أطفالها‪ ،‬و هكذا‬ ‫فالمرأة التي قهرت في جسدها سوف تقتص دون أن تدري بتنشئة رجال فاقدين للقدرة الجنسية و القدرة على الحب و المتعة‪،‬‬ ‫تلك هي كارثة االستالب الجنسي‪ ،‬تعطي المرأة البن الزوج البضاعة نفسها التي أخذتها منه و من أبيها قبله‪.‬‬

‫‪63‬‬


‫‪ -1.3‬االستالب العقائدي‬ ‫و هو أخطر أنواع االستالب‪ ،‬فهنا المرأة تتبنى كل األساطير و االختزاالت التي يحيطها بها الرجل‪ ،‬فتتقبل مكانتها و وضعية‬ ‫القهر التي تعاني منها كجزء من طبيعتها‪ ،‬فعليها أن ترضى بها و تكيف وجودها بحبسها‪ .‬و ال شك في أن خطورة االستالب‬ ‫العقائدي تنبع في المقام األول من مقاومة التغيير التي يشكلها‪ ،‬فهي ال تتصور لها وضعا ً غير وضعها الذي تجد نفسها فيه‪ ،‬و‬ ‫تقاوم تغييره و كأن هذا التغيير خروج ع لى طبيعة األمور و على اعتبارات الكرامة و الشرف‪.‬‬ ‫االستالب العقائدي هو أن تقتنع المرأة بدونيتها تجاه الرجل و تعتقد جازمة بتفوقه و بسيطرته عليها‪ ،‬و أيضا هو أن توقن‬ ‫المرأة بأنها كائن قاصر جاهل عاطفي ال يستطيع مجابهة أي وضعية بشيء من الجدية و المسؤولية و بالتالي ال تستطيع‬ ‫االستقالل و بناء كيان ذاتي لها‪.‬‬ ‫من خالل هذا االستالب يصل القهر أقصاه‪ ،‬ألن المرأة تعتز عندها بمظاهر قهرها و تعرف نفسها من خالل استالبها و بالتالي‬ ‫فإن هذا االستالب يطمس إمكانات الوعي بوضعها و يطمس الرغبة في التغيير‪ ،‬و هكذا تفتح أبواب استغالل المرأة على‬ ‫مصراعيها و تكون هي المتواطئة األولى على مصالحها الحقيقية‪.‬‬ ‫و الحق أن المرأة لم تصل الى االستالب العقائدي بشكل تلقائي‪ ،‬بل هو نتيجة عملية تشريط منظمة و مستمرة تحيط بكيانها من‬ ‫كل جانب و تقوم بها األسرة منذ طفولتها من خالل ما تقسم لها من أدوار و وظائف تحاصر المرأة منذ أن تولد بشكل ال يترك‬ ‫لها منفذاً خارج القوالب المخصصة لها‪ ،‬و ليس أمامها إال الرضوخ لما أعد لها إذا أرادت تجنب المضايقات و الضغوط التي‬ ‫تنوء بحملها‪.‬‬ ‫االستالب العقائدي للمرأة و ما يتلقاه من تعزيز دائم من الخارج و من الذات في آن واحد يحكم عليها بالبقاء رهينة وضعية‬ ‫القهر‪ ،‬ال هي تعيها و ال هي تقبل أن تغيرها‪ ،‬بل هي تتمسك بها باعتبارها طبيعة األنثى و قدرها‪ ،‬و ينعكس ذلك على التغيير‬ ‫االجتماعي بأكمله فيكبحه‪ ،‬فال تطوير دون تغيير وضعية المرأة و ال تغيير لوضعيتها دون تمزيق حجب االستالب العقائدي‬ ‫التي تمنع عنها رؤية ذاتها و رؤية العالم على حقيقته‪.‬‬

‫‪-2‬االختزاالت‬ ‫ال يمكن لالستالب أن يتم إال من خالل عملية اختزال يخضع لها كيان المرأة‪ ،‬فشأن االستالب هو شأن أي عملية استغالل أو‬ ‫امتالك أو عدوان‪ ،‬فال بد من سلب اآلخر إنسانيته و كيانه و إلحاقه بها كأداة لخدمة رغباتنا كي تتم‪ ،‬االختزال عملية ضرورية‬ ‫كي يصبح العدوان على الغير ممكناً‪ ،‬كذلك استغالله و امتالكه و بالتالي فهو موجود دائما ً في كل عملية قهر‪.‬‬ ‫يخضع كيان المرأة األشكال عديدة و متنوعة من االختزال و تقسم هذه االختزاالت إلى فئتين أساسيتين‪ :‬األولى إيجابية تبالغ‬ ‫في قيمتها و تمثلنها‪ ،‬و األخرى سلبية تبالغ في تبخيس هذه القيمة و النتيجة واحدة في الحالتين‪ ،‬إذ أننا ال نرى من المرأة إال ما‬ ‫نريد و نحتاج‪.‬‬ ‫االختزاالت السالبة أو التبخيسية هي الغالبة‪ ،‬منها‪ :‬المرأة القاصر‪ ،‬المرأة االنفعالية‪ ،‬المرأة الغاوية‪ ،‬المرأة العبء‪ ،‬المرأة‬ ‫المظهر‪ ،‬المرأة الماكرة و المرأة الخادم‪.‬‬ ‫‪64‬‬


‫المرأة القاصرة و هي الطفلية العاجزة التي ال تعرف كيف تتحمل مسؤولية وجودها و البد لها من وصاية و إعالة‪ ،‬و هي لقاء‬ ‫ذلك تدفع الثمن على شكل تبعية ك لية للرجل‪ .‬يشابهها المرأة العبء‪ ،‬فيعتبرها األب مصدر هم له و هي صغيرة‪ ،‬و مصدر قلق‬ ‫عل ى عفتها حين تصبح مراهقة و مصدر هم له و ألمها حين تبلغ سن الزواج و مصدر هم آخر قبل أن تنجب لزوجها‬ ‫األطفال‪ ،‬و الزوج أيضا يعتبرها عبء عليه و هنا تتحول المرأة إلى أسطورة المستنزفة للرجل لجهده و ماله‪.‬‬ ‫على العكس من ذلك هناك المرأة الخادم من خالل صورة خلق المرأة كي تسخر لخدمة الرجل‪ ،‬و إذا كانت المرأة خادما ً فمن‬ ‫الطبيعي أن يستغلها الرجل دون تورع‪.‬‬ ‫أما المرأة الغاوية فهي مجرد جسد يشتهى و مجرد وعاء جنسي‪ ،‬ال يهم بعد ذلك أن تتمتع بأي ذكاء أو عقل أو قدرة على‬ ‫العطاء اإلجتماعي‪ ،‬كما يوضع عليها اللوم في أنها مصدر الشر و الفت نة و مصدر الضالل و صرف الرجل عن مهامه النبيلة‪.‬‬ ‫و أما المرأة الماكرة فهي األسطورة التي يسقط عليها الرجل كل تناقضاته و يحملها مسؤولية كل صراعاته العالئقية‪ ،‬فهي‬ ‫المرأة التي ال يؤمن لها و التي يجب االحتراس لكيدها‪ .‬في كل هذه الحاالت ينطلق الرجل في حربه ضد المرأة و يبرر ما‬ ‫يمارسه عليها من قهر من خالل النعوت التي يلصقها بها‪.‬‬ ‫أما االختزاالت االيجابية فهي األقل عدداً و فيها ترفع المرأة إلى مرتبة مثالية تحاط بهالة من التقدير تبلغ حد التقديس أحيانا‪ ،‬و‬ ‫لكنه تقديس يرفض للمرأة أن تكون لها نوايا عدوانية أو تطلعات تمردية أو حاجات جسدية أو جنسية‪ ،‬و بقدر حاجة الرجل إلى‬ ‫االختزال السلبي للمرأة فهو أيضا بحاجة إلى االختزال اإليجابي الذي يجد فيه طمأنينة ضد قلق الهجر و مالذا ضد آالم و‬ ‫مصاعب الحياة‪ ،‬و لكن النتيجة في الحالتين واحدة و هو تسخير المرأة لخدمة غايات الرجل و عدم التعامل معها ككيان قائم‬ ‫بذاته‪.‬‬ ‫أشهر االختزاالت اإليجابية هي األم‪ ،‬فقد بالغ الرجل في إعالء شأن األمومة نظراً لما يعصف بوجوده من أخطار‪ ،‬و وصل به‬ ‫األمر حد اعتبار األمومة غريزة ال يمكن أن يتطرق إلى عطائها الشك‪ ،‬وقد كادت أسطورة األم أن تحرم المرأة حقها في أن‬ ‫تكون غاوية أو صنواً للرجل في المه مات اإلجتماعية أو أن تستقل بذاتها عن الزوج و الولد‪ ،‬فهي تسجن األم في تصورات‬ ‫مثالية من العطاء بال حدود و بدون مقابل‪.‬‬ ‫و من االختزاالت اإليجابية هناك المرأة في الوجاهة اإلجتماعية‪ ،‬و هي المرأة المختزلة إلى جمالها أو حسبها و نسبها‪ ،‬فهي‬ ‫دمي ة يستعرضها الرجل كي يتباها بملكيتها أمام اآلخرين‪ ،‬فما يطلب من المرأة في هذه الحالة ليس فهم أو عاطفة أو شخصية‬ ‫بل مظهر براق يلفت النظر و يدلل على ما حظي به صاحبها من غنم‪.‬‬ ‫في جميع هذه االختزاالت السلبية منها واإليجابية‪ ،‬تحرم المرأة من فرصة عيش كيانها بكل أبعاده‪ ،‬يتغذى هذا االختزال من‬ ‫الهوامات الكثيرة الال واعية التي تحيط بكيان المرأة و هذه الهوامات تعزز االختزال اإلجتماعي‪ ،‬و من خالل هذا االختزال‬ ‫اإلجتماعي و الهوامي يتمكن الرجل من تسخير المرأة ألغراضه و يتم له استالبها دون الشعور باألثم‪.‬‬ ‫إن تفشي ظاهرة االختزال في المجتمع المتخلف مسؤول عن كثرة الصراعات و التناقضات و االختالفات الزوجية‪ ،‬فاالختزال‬ ‫ال بد أن يقود المرأة إلى التمرد على سجنها في صورة تجمد كيانها و تلغي رغباتها و إرادتها‪ ،‬و هكذا فإن وضعية القهر التي‬ ‫تفرض على المرأة ال تترك لها من سبيل سوى التمرد أو االس تكانة التي هي أسوء من التمرد ألنها بالتحديد تتخذ طابع التوافق‬ ‫‪65‬‬


‫الزائف بين الرجل و المرأة‪ ،‬فكل توافق ليس معافى بالضرورة‪ ،‬خصوصا توافق السيد و العبد فتلك مأساة أخرى من مآسي‬ ‫القهر في المجتمع المتخلف‪.‬‬

‫ثالثا‪ :‬دفاع المرأة ضد وضعية القهر‬ ‫المرأة أكثر الكائنات غبنا ً و قهراً‪ ،‬تقوم في الوقت نفسه بالنسبة للرجل بوظيفة الدفاع ضد وضعية القهر التي يخضع لها‪ ،‬إنه‬ ‫يتنكر لقهره من خالل قلب األدوار في عالقته بالمرأة إذ يحتل دور السيد القوي ليفرض عليها دور التابع‪ .‬و لكن المرأة ال تظل‬ ‫مستسلمة‪ ،‬فكما تلعب المرأة وظيفة دفاعية ضد القه ر الذي يعاني منه الرجل فإنها بدورها تلجأ إلى أساليب دفاعية لمجابهة‬ ‫مأزقها تتراوح بين االعتداد بقيم األنوثة و بين السيطرة الخفية على الرجل‪.‬‬

‫‪-1‬التضخم النرجسي‬ ‫ينطلق التضخم النرجسي لكيان المرأة من المثلنة التي يحيطها بها الرجل و المجتمع عموما في جسدها و في بعض وظائفها‬ ‫األسرية و من خالل هذا التضخم تشعر المرأة بافتخار خاص بجنسها و بكبرياء يؤمن لها الرضى عن ذاتها‪ ،‬فالمثلنة تضعها‬ ‫من الناحية العالئقية في منزلة سامية هي على النقيض تماما من وضعية القهر التي تخضع لها و ذلك مايساعدها على‬ ‫الوصول إلى توازن نفسي يجعلها على وفاق مع ذاتها و يمكنها من تقبل وجودها‪.‬‬ ‫تعيش المرأة تضخمها النفسي من خالل إحساسها بأنها كائن على درجة عالية من األهمية و بأنها مرغوب فيها و ذلك في عدة‬ ‫قطاعات أولها و بال جدال وظيفة األمومة‪ ،‬فهذه الوظيفة تضخم اجتماعيا ً لدرجة مفرطة في المجتمع المتخلف بشكل يربط‬ ‫قيمة المرأة و معنى وجودها األساسي بتلك الوظيفة‪ .‬و إذا كان الرجل يمتلك المرأة في عالقة السيطرة و التبعية فإنها تجد‬ ‫لنفسها تعويضا ً عن ذلك في امتالك األطفال‪ ،‬فمن خالل تضخيم قيمة األمومة تتضخم قيمة الطفل و لكن كشيء تمتلكه األم‬ ‫أساسا ً كجزء من كيانها‪ ،‬و هكذا تقع في العالقة التملكية و يدفع الطفل في النهاية ثمن تعويض المرأة عن الغبن الذي يلحقه بها‬ ‫المجتمع‪ ،‬و بمقدار ما تتفانى في أمومتها فإنها تطلب من طفلها التحول إلى شيء تمتلكه هذه األمومة و لذلك من النادر أن‬ ‫يستقل الصبي عن أمه نفسيا ً في المجتمع المتخلف‪ ،‬فمهما ك بر سيظل مرتبطا ً بروابط خفية باألم تجعله في النهاية بشكل ما‬ ‫تابعا ً للزوجة التي تلعب دور األم نفسه‪ .‬طبعا تكون التبعية ضمنية تقتنع بستار من االستقالل و السيطرة على المرأة و تعي‬ ‫المرأة هذه الحقيقة تماما ً و إن لم تصرح بها‪.‬‬ ‫و يرتبط بوظائف هذه األمومة وظيفة هامة ترضي المرأة و هي احتالل دور المعبر عن الشرف و الكرامة‪ ،‬فلعب هذه‬ ‫الوظيفة يعطي المرأة انطباعا ً بأهمية شأنها في شبكة العالقات األسروية و في المجتمع بشكل عام‪.‬‬ ‫باإلضافة إلى ذلك‪ ،‬تحصل المرأة على تعويض نرجسي من خالل مثلنة جسدها كموضوع جنسي مرغوب فيه‪ ،‬و تتضخم هذه‬ ‫المثلنة نظراً لحرمان الرجل جنسيا ً و لما يحيط بجسد المرأة من ممنوعات و كل ممنوع للرغبة يتعرض لتضخم قيمته بشكل ال‬

‫‪66‬‬


‫واقعي‪ ،‬و تعتز المرأة بهذا التضخم لقيمة جسدها و تشعر بالرضى الذاتي‪ .‬و تستخدم المرأة هذا كسالح كي تستمد منه أهمية و‬ ‫اعتباراً يعوضان لها قهرها‪.‬‬ ‫و أ يضا هناك تضخم نرجسي يحمل تعويضا ً هاما ً للمرأة في المجتمع االستعراضي‪ ،‬من خالل المظهر‪ ،‬فهي تلعب دور‬ ‫عارضة الجاه و الثروة من خالل ما تلبس و ما تتحلى به‪ ،‬و هنا أيضا يزيف كيان المرأة و عواطفها الحقيقية من خالل‬ ‫تحويلها إلى آلة استعراض‬ ‫‪.‬‬

‫‪-2‬السيطرة غير المباشرة على الرجل‬ ‫يعتقد الرجل أنه يسيطر على المرأة و تعتقد هي أنها تمتلك زمام السيطرة الفعلية عليه و أن سيطرته الظاهرية ليست سوى‬ ‫وسيلة تو همه بقوته كي ال ينتبه إلى ما تفرضه عليه المرأة من سيطرة‪ .‬هذا في الحاالت العادية‪ ،‬أما في حاالت الصراع فإن‬ ‫األمر يتخذ طابع حرب سيطرة حقيقية‪ ،‬فتشعر المرأة بأنها المنتصرة دوما ً في هذه الحرب فهي قد ترضخ و تضعف و لكنها‬ ‫تنتظر و تعرف كيف تصبر كي تنتصر حين تأنس من الرجل ضعفا ً أو عجزاً‪ ،‬فهي تستغل ضعفها الظاهري كسالح للتمويه‬ ‫على قوتها الضمنية‪ ،‬فهي توهم الرجل أنه هو من يمتلك زمام األمور كي تحركها هي تبعا لرغباتها بشكل خفي‪.‬‬ ‫أحيانا ً تعلن المرأة الحرب بشكل شبه صريح على الرجل خصوصا ً حين تأنس منه ضعفا ً أو حين يعجز هو عن القيام‬ ‫بخصائص دوره المتسلط‪ ،‬و يتخذ األمر في هذه األحوال عدة مظاهر منها االبتزاز الذي تفعله المرأة كرد فعل على إهمال‬ ‫الزوج أو تسلطه‪.‬‬ ‫يضاف إلى األسلحة السابقة سالح التنغيص الذي تتفنن فيه بعض النساء فتطارد الرجل بال هوادة حتى تسمم حياته و تقضي‬ ‫على سكينته‪ ،‬و إذا عجزت المرأة عن استخدام هذه األسلحة الهجومية ال تفقد المرأة القدرة على رد الفعل الدفاعي‪ ،‬فقد تحتمي‬ ‫بالمرض أو تلجأ إلى محاوالت السي طرة الخرافية على المصير من خالل السحر والشعوذة و غيرها‪ ،‬فتلك هي درع الحماية‬ ‫األخير يالزمه عادة الدفاع من خالل التماهي بالرجل المتسلط و إدانة األنوثة التي تلجأ إليها المرأة في وضعية القهر المفرط‪.‬‬ ‫دفاعات المرأة تذهب جلها في اتجاه مرضي‪ ،‬ألنها وليدة عالقة مرضي ة بين الرجل و المرأة (عالقة التسلط و القهر) و هي‬ ‫دفاعات ال تفسح مجاال أمام بروز عالقات معافاة تحمل اإلثراء المتبادل لكل من الرجل و المرأة و ذلك مستحيل في وضعية‬ ‫القهر‪.‬‬ ‫ال يمكن أن يصل اإلنسان إلى التوازن النفسي و الشخصية المعافاة و المتوازنة و الغنية إال إذا تحرر من وضعية القهر التي‬ ‫تفرض عليه‪ ،‬و ال يمكن للرجل أن يتحرر إال بتحرر المرأة و ال يمكن للمجتمع أن يرتقي إال بتحرر وارتقاء أكثر فئاته غبناً‪،‬‬ ‫فاالرتقاء إما أن يكون جماعيا ً عاما ً أو هو مجرد مظاهر وأوهام ‪.‬‬

‫‪67‬‬


‫الخاتمة‬ ‫تعود فكرة هذا البحث الى عدة سنوات خ لت فلقد برزت الحاجة تدريجيا ثم بإلحاح الى وضع دراسات خاصة ببنية شخصية‬ ‫اإلنسان العربي خالل التعامل العيادي واإلرشادي مع األحداث واألطفال ممن يؤمنون مؤسسات الرعاية ومع ذويهم والراشدين‬ ‫عموما ً ‪.‬‬ ‫بدت لنا شخصية اإلنسان المتخلف حين التعامل السطحي معها سكونية جامدة ‪ ،‬ثم اتضحت حيويتها مع التقدم في البحث فاذا بها‬ ‫غاية الغنى و الدينامية ‪ ،‬وبدت بسيطة ثم اتضح تعقيدها ‪.‬‬ ‫موقف اإلنسان المتخلف من وضعية القهر واالعتباط هذه دينامي تاريخيا ً ‪ ،‬فهو يتراوح ما بين الرضوخ المستسلم مع ما يرافقه‬ ‫من عقد نقص وعار ومهانة واستكانة وفقد ان للثقة بالنفس والجماعة وبين العدوانية المفرطة ‪.‬‬ ‫ما نستطيع توكيده منذ اآلن هو أن الخصائص النفسية التي تميز شخصية اإلنسان المتخلف و أولوياته الدفاعية تشكل في الكثير‬ ‫من الحاالت عقبات جدية في وجه التغيير االجتماعي وهنا يكمن خطرها تحديدا و تبرز أهمية اكتشافها و الوعي بها ‪.‬‬ ‫ففي روافد المعرفة نحن نقوم بتلخيص الكتب المعرفية لكي ننقل أمة إقرأ إلى حالها سابقا ً وذلك من خالل نقل المعرفة إليهم‬ ‫بشكل مبسط ‪.‬‬

‫وصلى هللا على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ‪..‬‬

‫‪68‬‬


69


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.