77 web

Page 1

‫العدد رقم ‪ - 8‬ت�شرين الأول ‪2015‬‬

‫فـ�صـل ـيـة فـكريـة ثـقافيـة تـعنى ب�ش ـ�ؤون امل�شــرق‬

‫حيدر حاج �إ�سماعيل‬ ‫القومية هوية الع�صر‬

‫جمال واكيم‬ ‫كيف ر�أى العرب العامل؟‬

‫رجاء بن �سالمة‬ ‫نقد الثوابت يف الفكر العربي‬

‫جان دايه‬ ‫ب�صمات �أمني الريحاين‬ ‫على الرابطة القلمية وجلنتي الإعانة والتحرير‬

‫انطوان بطر�س‬ ‫معيار الف�صل الأدبي‬

‫ملف فل�سطني‪� :‬صقر �أبو فخر | جنيب ن�صري | زهري ال�صباغ | زيد قطريب | خليل نخلة | �شوقي �أبي �شقرا | �سليمان بختي‬


‫دار نل�سن‬

‫هاتف ‪01/739196:‬‬ ‫الربيد الإلكرتوين ‪darnelson@hotmail.com:‬‬


‫العدد رقم ‪ - 8‬ت�شرين الأول ‪2015‬‬

‫فـ�صـل ـيـة فـكريـة ثـقافيـة تـعنى ب�ش ـ�ؤون امل�شــرق‬

‫املحتويات‬ ‫فكر‬

‫ر�أي‬ ‫فل�سطني يف زمن التفتيت العربي ‪ ..‬لكلٍ فل�سطينه‬ ‫�سليمان بختي‬

‫فل�سطني‬

‫ال�صهيونية واحلماية‬ ‫بني �أنطون �سعاده وجنيب عازوري‬

‫‪3‬‬

‫د‪ .‬حيدر حاج �إ�سماعيل‬ ‫‪5‬‬

‫�صقر �أبو فخر‬ ‫فل�سطني الإمتحان‬ ‫فل�سطني الفر�صة‬ ‫جنيب ن�صري‬ ‫الدولة العثمانية‪ ،‬بريطانيا‪ ،‬وتطور فكرة‬ ‫الدولة اليهودية‬

‫‪15‬‬

‫‪19‬‬

‫د‪ .‬زهري ال�صباغ‬ ‫م�صطلحي "الق�ضية" و"امل�س�ألة"‪..‬‬ ‫بني‬ ‫َ‬ ‫فل�سطني م�ؤجلة حتى �صحوة �أخرى!‬

‫‪49‬‬

‫‪53‬‬

‫�شعراء فل�سطني وبريوت وال�شعر عالقة الوهج ‪83‬‬

‫�شوقي �أبي �شقرا‬

‫غياب ال�شاعر �أحمد من�صور‬ ‫�سليمان بختي‬

‫ندوة حول كتاب "الثقافة املعوملة"‬ ‫للدكتور عاطف عطيه‬ ‫د‪ .‬جان جبور‬

‫‪103‬‬

‫العرب العا َ‬ ‫مل؟‬ ‫كيف ر�أى‬ ‫ُ‬ ‫كيف �أ ّدت خ�سارة العرب لتجارة املحيط الهندي‬ ‫�إىل خروجهم من التاريخ؟‪...‬‬ ‫د‪ .‬جمال واكيم‬

‫‪109‬‬

‫العربي‬ ‫نقد ال ّثوابت يف الفكر‬ ‫ّ‬ ‫د‪.‬رجاء بن �سالمة‬ ‫الدميغرافيا يف لبنان‪ :‬قنبلة موقوتة‬ ‫د‪ .‬م�صطفى احللوة‬

‫‪129‬‬

‫‪137‬‬

‫تكرمي‬

‫زيد قطريب‬ ‫قراءة يف كتاب " الربوف�سور �إ�سرائيل �شاحاك‪:‬‬ ‫"مفكر مناه�ض للنفاق اليهودي – ال�صهيوين –‬ ‫الإ�سرائيلي"‬

‫القوم ّية هُ و ّية الع�صر‬

‫‪91‬‬

‫‪87‬‬

‫تكرمي حممد البعلبكي‬

‫‪139‬‬

‫حتوالت �أدبية‬ ‫ب�صمات �أمني الريحاين‬ ‫على الرابطة القلمية وجلنتي الإعانة والتحرير‬ ‫جان داية‬ ‫معيار الف�صل الأدبي‬ ‫بقلم انطوان بطر�س‬

‫‪153‬‬

‫‪157‬‬


‫حتوالت م�رشقية‬

‫ف�صلية‪ ،‬فكرية‪ ،‬ثقافية‪ ،‬تعنى ب�ش�ؤون امل�شرق واملنطقة‬ ‫هيئة التحرير‬

‫فاتن املر‬ ‫عاطف عطية‬ ‫ح�سن حماده‬ ‫ن�صري ال�صايغ‬

‫�سعاده م�صطفى �أر�شيد‬ ‫�سليمان بختي‬ ‫�سركي�س �أبو زيد‬

‫املدير امل�س�ؤول‪� :‬سركي�س �أبو زيد‬ ‫الربيد الإلكرتوين‪abouzeid@gmail.com :‬‬ ‫هاتف‪)00961-1( 751541 :‬‬ ‫�صندوق بريد‪ 113-7179 :‬بريوت ‪ -‬لبنان‪.‬‬ ‫�شارع احلمرا‪ ،‬بناية ر�سامني ‪ ،‬الطابق الرابع‪.‬‬ ‫الإخراج الفني‪zaid mahdi :‬‬

‫ت�صدر بالتعاون مع م�ؤ�س�سة �سعاده للثقافة‬

‫بناية ر�سامني‪� ،‬شارع احلمرا‪ ،‬ر�أ�س بريوت‪،‬‬ ‫�صندوق بريد‪ 113-5557 :‬بريوت ‪ -‬لبنان‪.‬‬ ‫هاتف‪)00961-1( 753363 :‬‬ ‫فاك�س‪)00961-1( 753364 :‬‬ ‫الربيد الإلكرتوين‪saadehcf@idm.net.lb :‬‬ ‫املوقع الإلكرتوين‪www.saadehcf.org :‬‬ ‫ت�صدر مبوجب قرار رقم ‪ 82‬تاريخ‬ ‫�صادر عن وزارة االعالم يف لبنان‬

‫‪1981/7/6‬‬

‫ت�صدر يف طبعتني من فل�سطني ولبنان‬ ‫مدير عام طبعة فل�سطني‪� :‬سعاده م�صطفى �أر�شيد‬ ‫هاتف‪0599305248 :‬‬ ‫�صندوق بريد‪ 41 :‬جنني ‪ -‬فل�سطني‬

‫اال�شرتاك ال�سنوي ‪ -‬لبنان‬

‫للأفراد‪ 50 :‬دوالراً �أمريكياً‬ ‫للم�ؤ�س�سات‪ 100 :‬دوالر �أمريكي‬

‫توزيع‪ :‬النا�رشون‬

‫اال�شرتاك ال�سنوي ‪ -‬خارج لبنان‬

‫بريوت ‪ -‬امل�شرفية‪� ،‬سنرت ف�ضل اهلل ‪ -‬طابق‬ ‫هاتف وفاك�س‪)00961-1( 277007 - 277088 :‬‬ ‫خلوي‪)00961-3( 975033 :‬‬

‫‪4‬‬

‫للأفراد‪ 100 :‬دوالر �أمريكي‬ ‫للم�ؤ�س�سات‪ 200 :‬دوالر �أمريكي‬

‫املواد املن�شورة تعرب عن ر�أي كاتبها‬


‫ر�أي‬

‫فل�سطني يف زمن التفتيت العربي‬ ‫ٍ‬ ‫لكل فل�سطينه‬ ‫�سليمان بختي ‪ -‬نارش وباحث‬

‫ُرفع العلم الفل�سطيني فوق مباين الأمم املتحدة يف نيويورك بتاريخ الإربعاء ‪ ،2015 /9/ 30‬ومل‬ ‫يرفع �أحد ال�صوت �ضد ما يجري يف فل�سطني من ممار�سات �إ�سرائيلية عن�صرية تبد�أ من تهويد‬ ‫القد�س وال تنتهي من منع الفل�سطينيني من حتقيق ا�ستقاللهم‪.‬‬ ‫ان�شغل العرب عن فل�سطني ب�أو�ضاعهم الداخلية وان�شغل الفل�سطينيني �أي�ضاً بانق�ساماتهم‬ ‫الداخلية بني ال�سلطة وحما�س‪.‬‬ ‫لكل‬ ‫ولكن فل�سطني يف زمن التفتيت العربي بعيدة وقريبة يف �آن‪ .‬حتى ميكن القول �أن ٍ‬ ‫فل�سطينه يف العامل العربي‪ .‬وال �أحد يجر�ؤ على مواجهة الواقع ووقائعه املرة‪.‬‬ ‫�إذ متثل اللحظة العربية الراهنة �أدنى درجات الرتاجع العربي يف الع�صر احلديث‪ .‬فمنذ الغزو‬ ‫الأمريكي للعراق يف العام ‪ 2003‬والأهداف الأمريكية يف تفتيت العامل العربي تتحقق يف‬ ‫املنطقة‪ .‬تفتيت العامل العربي يعني انتزاع النفط منهم كملكية ح�ضارية �أو ثروة وطنية‪.‬‬ ‫تفتيت العرب يعني �ضمان �أمن �إ�سرائيل‪ .‬تفتيت العرب يعني ت�صفية الق�ضية الفل�سطينية‪.‬‬ ‫تفتيت العرب يعني ت�ضييع حلم الوحدة‪ .‬تفتيت العربي يعني �إبادة ح�ضارة وتراث‪.‬‬ ‫عام ‪ 1948‬كتب بن غوريون‪":‬لقد حدثت الأعجوبة‪ .‬لقد اختفى الفل�سطينيون"‪ .‬ولكن هذا‬ ‫مل يحدث‪ .‬فكانت احلملة اليوم لكي يتفتت العامل العربي ويختفي العرب ومعهم فل�سطني‬ ‫وال�شعب الفل�سطيني‪ .‬واحلال‪ ،‬نحن الآن يف الربزخ‪ .‬نرى مرحلة جديدة وال نلتم�سها‪ .‬نودع‬ ‫مرحلة قدمية وال نعرف �إذا ما انتهت فعالً‪ .‬وحال ال�شعب الفل�سطيني اليوم كحال ال�شعوب‬ ‫العربية �إنهم مثل ركاب �سفينة تتقاذفها الأمواج وال مهرب من اال�صطدام العنيف بال�صخور‪.‬‬ ‫وامل�أزق يلف اجلميع و�سط دويالت متخا�صمة ال ت�سعى �إىل وحدتها بقدر ما ت�سعى �إىل حروبها‬ ‫و�أوهامها وحتالفاتها الإقليمية والدولية‪ .‬كان املفكر الراحل ه�شام �شرابي يردد ‪�" :‬إذا مل تعد‬ ‫فل�سطني اىل اهلها ونطاقها الطبيعي وحميطها العربي ف�سينهار العامل العربي برمته "‪.‬‬ ‫و�سط هذا املهب من امل�آ�سي القومية‪ ،‬من يتذكر فل�سطني والق�ضية املركزية وال�صراع العربي‬ ‫‪3‬‬


‫الإ�سرائيلي‪ ،‬فقد تغريت العناوين واالجتاهات والأهداف وامل�شاريع‪.‬‬ ‫�صحيح �أن ال �أخبار طيبة وال ت�سر ولكن ثمة حقيقة يجب �أن ال نن�ساها �أن الن�ضال مل يتوقف‬ ‫ولن‪ .‬الن�ضال لأجل �إلغاء الإجحاف والظلم الالحق بال�شعب الفل�سطيني‪ .‬ولأجل �أن يبقى‬ ‫الإن�سان واملكان يف مكانه وزمانه رغم كل �شيء‪ .‬ولأن تظل عكا هي عكا والتتحول �إىل عكو‪.‬‬ ‫وال تتحول يافا �إىل يافو‪ .‬الن�ضال هنا عالقة وجود وبرهان حياة‪ .‬قوة الإرداة والأمل‪ .‬و�إال‬ ‫ما�ض وال‬ ‫�سي�أخذنا التفتيت العربي امل�ستمر �إىل زمن الن�سيان‪ .‬عندما يتفتت الزمان �أي�ضاً فال ٍ‬ ‫حا�ضر وال م�ستقبل‪.‬‬


‫فـلـ�سـطـيـن‬

‫ال�صهيونية واحلماية‬

‫بني �أنطون �سعاده وجنيب عازوري‬ ‫�صقر �أبو فخر ‪� -‬صحايف و باحث‬ ‫�شاع يف الرويات املتداولة عن البدايات الأوىل للفكرة القومية العربية �أن جنيب عازوري هو �أحد‬ ‫رواد الفكر القومي العربي‪ ،‬وهو ُيعد واحداً من الذين �أ�سهموا يف �صوغ جانب من املفاهيم القومية‬ ‫يف كتابه الذي �أ�صدره يف �سنة ‪ ،1905‬بعنوان‪":‬يقظة الأمة العربية"‪.‬‬ ‫ولعل يف ذلك الكثري من ال�صدقية من الناحية الزمنية‪ ،‬مع �أن التنقيب يف ملفات التاريخ ي�شري‬ ‫�إىل �أن بدايات الوعي القومي العربي �شرعت بالتربعم التدريجي مع بطر�س الب�ستاين ونا�صيف‬ ‫اليازجي عندما �أ�س�سا معاً "جمعية الآداب والعلوم" يف بريوت �سنة ‪ ..1842‬ثم تبلورت �أكرث مع‬ ‫ظهور "اجلمعية العلمية ال�سورية" يف �سنة ‪ 1857‬يف بريوت �أي�ضاً‪ ،‬بجهد الفت من �سليم ابن بطر�س‬ ‫الب�ستاين وابراهيم ابن نا�صيف اليازجي‪ .‬وا�شتهرت يف تلك الفرتة كما هو معروف ق�صيدة ابراهيم‬ ‫اليازجي‪:‬‬ ‫العرب‬ ‫تنبهوا وا�ستفيقوا �أيها ُ‬ ‫الركب‬ ‫اخلطب حتى غا�صت ُ‬ ‫فقد طمى ُ‬ ‫من هو؟‬

‫ولد جنيب عازوري يف بلدة عازور القريبة من جزين يف تاريخ غري معروف على وجه الدقة‪� .‬أما ما‬ ‫هو معروف عنه فهو �أنه عمل م�ساعداً حلاكم القد�س بني �سنتي ‪ 1898‬و‪ .1904‬ويف �سنة ‪� ،1904‬أي‬ ‫يف العام نف�سه الذي ولد فيه انطون �سعاده‪ ،‬اعتزل من�صبه وغادر فل�سطني �إىل فرن�سا لي�ؤ�س�س هناك‬ ‫"جامعة الوطن العربي" وي�صدر بالفرن�سية كتابه "يقظة الأمة العربية"‪ .‬ثم يف ‪� 1907 /4/ 24‬أ�صدر‬ ‫بالفرن�سية �أي�ضاً جملة "اال�ستقالل العربي" ال�شهرية‪ .‬وقد توقفت هذه املجلة عن ال�صدور مع‬ ‫�سقوط ال�سلطان عبداحلميد الثاين و�إعالن الد�ستور العثماين يف متوز ‪.1908‬‬ ‫بعد �سقوط ال�سلطان عبداحلميد قرر جنيب عازوري العودة �إىل فل�سطني وخو�ض االنتخابات‬ ‫النيابية‪ .‬غري �أن ال�سلطة العثمانية اجلديدة حكمت عليه بالإعدام بتهمة القيام بن�شاط مي�س �أمن‬ ‫‪5‬‬


‫الدولة (�أي التج�س�س)‪ ،‬فهرب �إىل القاهرة‪ ،‬وتوىل حترير جريدة "م�صر" الناطقة با�سم "حزب م�صر‬ ‫الفتاة"‪ ،‬و�أ�س�س حمف ًال ما�سونياً على غرار حمافل "الكاربوناري" ذات الأهداف التحررية القومية‪،‬‬ ‫وتويف يف �سنة ‪.1916‬‬ ‫تقول زاهية قدورة يف تقدميها للطبعة العربية من كتاب "يقظة الأمة العربية" (بريوت‪ :‬امل�ؤ�س�سة‬ ‫العربية للدرا�سات والن�شر‪ ،‬د‪.‬ت‪� ).‬إن عازوري ا�شرتك يف تنظيم م�ؤمترات عربية منها امل�ؤمتر العربي‬ ‫الأول يف باري�س �سنة ‪ ،1905‬وامل�ؤمتر العربي ال�سوري �سنة ‪ .1913‬واحلقيقة �أن وثائق امل�ؤمتر العربي‬ ‫ال�سوري التذكر البتة ا�سم جنيب عازوري بني الذين ح�ضروا هذا امل�ؤمتر �أو الذين تخلفوا عن‬ ‫احل�ضور لأ�سباب قاهرة‪� ،‬أو حتى �أر�سلوا برقيات ت�أييد �إىل امل�ؤمتر‪.‬‬ ‫وفوق ذلك ف�إن �ألربت حوراين يف كتابه "الفكر العربي يف ع�صر النه�ضة" (بريوت‪ :‬دار‬ ‫النهار‪ )1968،‬ي�شري �إىل �أن جنيب عازوري مل يكن متحم�ساً للم�ؤمتر العربي ال�سوري يف باري�س‬ ‫�سنة ‪ .1913‬ولعلني ال �أجازف باال�ستنتاج �أن عازوري‪ ،‬وهذا مدعاة للغرابة حقاً‪ ،‬مل ي�شارك قط يف‬ ‫هذا امل�ؤمتر‪ ،‬ومل يكن من �أع�ضاء اللجنة التح�ضريية للم�ؤمتر‪ ،‬مع �أنه �أحد �أوفى الأوفياء لفرن�سا التي‬ ‫رتبت عقد هذا امل�ؤمتر‪ ،‬وتوىل خل�صا�ؤها توجيه �أعماله وحترير بياناته �أمثال‪ :‬عبداحلميد الزهراوي‬ ‫الذي انتخب نائباً للرئي�س‪ ،‬ف�ض ًال عن ا�سكندر عمون وندرة املطران ونعوم مكرزل وخرياهلل خرياهلل‬ ‫و�آخرين‪.‬‬ ‫الوعي املبكر‬

‫ال ريب يف �أن جنيب عازوري يعترب واحداً من الذين اكت�شفوا مبكراً خطر ال�صهيونية على فل�سطني‬ ‫وعلى البلدان املحيطة بها‪ .‬وهو‪� ،‬إىل جانب جنيب ن�صار (ثم خليل ال�سكاكيني وروحي اخلالدي يف‬ ‫ما بعد) ُيعد �أحد �أوائل الرواد الذين نبهوا‪ ،‬بقوة‪� ،‬إىل املخاطر املتوقعة من �صعود احلركة ال�صهيونية‪.‬‬ ‫وللأ�سف ال�شديد ف�إن كتابه "اخلطر اليهودي العاملي" مل ي�صلنا البتة‪ ،‬ومل ُيعرث على �أي ن�سخة منه‬ ‫�أو حتى على ن�صو�ص متفرقة يف بطون الكتب الأخرى‪ ،‬فقد �ضاع واندثر متاماً على الأرجح‪ .‬ويف‬ ‫�أي حال‪ ،‬مل ي�صلنا من مواقفه يف ال�صهيونية �إال بع�ض الن�صو�ص املتناثرة يف كتابه "يقظة الأمة‬ ‫العربية" وها نحن نبني على الأمر مقت�ضاه‪.‬‬ ‫يقول جنيب عازوري‪�":‬إن ظاهرتني هامتني مت�شابهتي الطبيعة‪ ،‬بيد �أنهما متعار�ضتان‪ ،‬مل جتذبا‬ ‫انتباه �أحد حتى الآن‪ ،‬تت�ضحان يف هذه الآونة يف تركيا الأ�سيوية �أعني‪ :‬يقظة الأمة العربية وجهد‬ ‫اليهود اخلفي لإعادة تكوين مملكة ا�سرائيل القدمية (‪� .)...‬إن م�صري هاتني احلركتني هو ان تت�صارعا‬ ‫با�ستمرار حتى تنت�صر �إحداهما على الأخرى" (�ص‪ .)41‬ومع حتفظنا التام على عبارة "مت�شابهتي‬ ‫الطبيعة"‪� ،‬إال �أنني �أرى �أن عازوي مل يكن جمدداً �أو نقدياً يف فهم الظاهرة اليهودية �أو احلركة‬ ‫ال�صهيونية‪� ،‬إمنا كان جمرد �شخ�ص اكت�شف خالل توليه من�صب م�ساعد حاكم القد�س حركة‬ ‫‪6‬‬


‫فـلـ�سـطـيـن‬

‫اال�ستيطان اليهودية يف فل�سطني‪ ،‬وجتلى له خطرها الداهم‪ ،‬فراح يحذر منها وينبه �إليها‪ .‬وله يف‬ ‫هذا ف�ضل كبري بال �شك‪� .‬أما طريقة تفكريه يف فهم اليهودية وال�صهيونية فكانت تقليدية على‬ ‫غرار ماهو �سائد وموروث يف ذلك احلني‪ .‬وعلى الرغم من �أن نقد الرواية التوراتية كان بد�أ يف‬ ‫�أوروبا‪ ،‬ومع ان جنيب عازوري مثقف يتقن من اللغات الأوروبية الفرن�سية على الأقل‪ ،‬فيبدو �أنه مل‬ ‫يكن مطلعاً على الدرا�سات احلديثة يف نقد التوراة ويف علم الآثار يف فل�سطني‪ ،‬بل كان ي�ستخدم‬ ‫الرواية التوراتية بحذافريها فيذكر‪ ،‬على �سبيل املثال‪�" ،‬إن اليهود مل ميتلكوا من فل�سطني �سوى‬ ‫ال�ضفة الغربية لنهر الأردن و�سل�سلة اجلبال املمتدة غربي هذا النهرمن اخلليل حتى بحرية احلولة"‬ ‫(�ص‪.)48‬‬ ‫ويف مكان �آخر يقول‪":‬كان يف فل�سطني حتت �سيطرة داوود مليون وثالثمئة �ألف حمارب ا�ستناداً‬ ‫�إىل الكتاب املقد�س" (�ص‪.)60‬‬ ‫ويف �سياق �آخر يقول‪�":‬إن حركتنا (�أي احلركة القومية العربية) تظهر يف وقت تو�شك فيه ا�سرائيل‬ ‫(يق�صد "املنظمة ال�صهيونية العاملية") على النجاح يف خططها الهادفة �إىل ال�سيطرة على العامل"‬ ‫(�ص‪ .)39‬ويف هذه العبارة يعيد ا�ستحالب نظرية "العبقرية اليهودية واخلطط اخلفية لليهود‬ ‫لل�سيطرة على العامل" كما وردت يف "بروتوكوالت حكماء �صهيون"‪.‬‬ ‫�إن �أهمية جنيب عازوي ال تكمن يف طريقة التفكري التي انتهجها‪� ،‬أو يف الأفكار التي انتهى �إليها‪،‬‬ ‫بل يف الوعي املبكر بخطر الهجرة اليهودية �إىل فل�سطني‪ ،‬ويف ف�ضح قعود احلكام الأتراك عن‬ ‫مواجهة هذا اخلطر الداهم‪ ،‬ثم يف ك�شفه عن امل�ساندة التي طاملا قدمها القنا�صل الأوروبيون لليهود‬ ‫القادمني �إىل فل�سطني‪ .‬غري ان �ألربت حوراين يف كتابه "الفكر العربي يف ع�صر النه�ضة" �أ�شار‬ ‫�إىل �أن جنيب عازوري ر�أى‪ ،‬يف وقت الحق‪�" ،‬أن �إن�شاء امل�ستعمرات وامل�صارف اليهودية ي�ؤدي �إىل‬ ‫تقوية القومية العربية بف�ضل م�صالح �أقطاب املال يف العامل"‪ .‬وهذا ما جعل حوراين ي�ستنتج �أن‬ ‫عازوري "مل يكن بذلك من�سجماً مع نف�سه" (�ص‪.)333‬‬ ‫رمبا جند تف�سري هذا االرتباك لدى عازوري يف �أنه كان يرى �أن من �أولويات م�شروعه القومي هو‬ ‫االنف�صال عن الدولة العثمانية‪ ،‬فهو يقول‪�":‬إن العرب والأكراد والأرمن يريدون االنف�صال عن‬ ‫ال�شجرة النخرة لي�شكلوا دو ًال م�ستقلة حرة م�شبعة ب�أفكار التقدم واحل�ضارة الأوروبية" (�ص‪.)134‬‬ ‫وبهذا املعنى ف�إن �أفكار جنيب عازوري كانت من�سجمة متاماً مع م�شروعات وراثة الرجل املري�ض ومع‬ ‫امل�صالح الفرن�سية بالتحديد‪.‬‬ ‫ال�صهيونية بني �سعاده وعازوري‬

‫ال �أغامر باال�ستنتاج �أبداً �إذا قلت �إن �أنطون �سعاده كان �أعمق تفكرياً و�أبعد ر�ؤية مقارنة بنجيب‬ ‫عازوري‪ .‬فهو امتلك وعياً نقدياً �شام ًال حيال احلركة ال�صهيونية واليهودية معاً‪ ،‬ومل يلتفت �إىل‬ ‫‪7‬‬


‫اخلرافات ال�شائعة عن اليهود وعبقريتهم وقواهم اخلفية لل�سيطرة على العامل‪ ،‬بل اتبع منهجاً علمياً‬ ‫مادياً تاريخياً‪� ،‬إىل حد كبري‪ ،‬يف تف�سري الظاهرة اليهودية واحلركة ال�صهيونية‪ .‬ولعل امتالك �سعاده‬ ‫هذه الر�ؤية العلمية‪ ،‬قيا�ساً على قلة العلم لدى عازوري يعود �إىل الفارق الزمني بني الإثنني‪.‬‬ ‫ف�سعاده ولد يف ال�سنة التي �أ�س�س فيها عازوري "جامعة الوطن العربي"‪ .‬واملقاالت الأوىل ل�سعاده‬ ‫عن ال�صهيونية تعود �إىل �سنة ‪ .1925‬وبني وفاة عازوري يف �سنة ‪ 1916‬وظهور كتابات �سعاده عن‬ ‫امل�س�ألة الفل�سطينية وقعت �أحداث كبرية �أزاحت اللثام عن �أمور �شتى مثل اتفاقية �سايك�س‪-‬‬ ‫بيكو(‪ )1916‬و�إعالن بلفور (‪ )1917‬وهزمية تركيا يف احلرب العاملية الأوىل (‪ )1918‬وعقد م�ؤمتر ال�صلح‬ ‫يف باري�س (‪ )1919‬و�صدور مقررات م�ؤمتر �سان رميو التي تفر�ض االنتداب على بالد ال�شام والعراق‬ ‫(‪.)1920‬‬ ‫يف �أي حال‪ ،‬ف�إن املقارنة بني ن�صو�ص عازوري و�سعاده تتيح لنا اكت�شاف الفارق يف الوعي النقدي‪،‬‬ ‫مع �إغفال عامل الزمن على �أهميته الق�صوى‪ .‬وبينما نالحظ �أن عازوي ي�شدد على فكرة �إعادة بناء‬ ‫اليهود "زطنهم القدمي" يف فل�سطني (�ص‪ ،)48‬نرى �أن �سعاده‪ ،‬وكان يف احلادية والع�شرين فقط‪،‬‬ ‫ي�ؤكد �أن "الباعث على احلركة ال�صهيونية يف الدرجة الأوىل �أفكار جماعة تريد �أن توجد من يهود‬ ‫العامل املختلفي النزعات وامل�شارب �أمة ا�سرائيلية"(�سعاده‪ ،‬مراحل امل�س�ألة الفل�سطينية"‪ ،‬بريوت‪:‬‬ ‫عمدة الثقافة‪.)1977 ،‬‬ ‫وي�ضيف‪�":‬إن اجلولة اليهودية مل تن�ش�أ بفعل املهارة اليهودية وال ب�شيء من اخللق والعقل اليهوديني‬ ‫(‪ )....‬بل بف�ضل التف�سخ الروحي الذي اجتاح الأمة ال�سورية ومزق قواها وبعرث حما�سها و�ضربها‬ ‫بع�ضها ببع�ض و�أوجدها يف حالة عجز جتاه الأخطار واملطامع الأجنبية"(�سعاده‪ :‬خطاب يف برج‬ ‫الرباجنة‪.)1949 /6 /1 ،‬‬ ‫�إن فهم �سعاده للحركة ال�صهيونية‪ ،‬كما يظهر يف ع�شرات الن�صو�ص واملقاالت والبيانات بني ‪1925‬‬ ‫و‪ ،1949‬ي�صدر عن منهج علمي وتاريخي ونقدي يف الأ�سا�س‪ ،‬فهو ال يحرتم "نظرية امل�ؤامرة" �أو‬ ‫خرافة "عبقرية اليهود"‪ ،‬ومل يلتفت �إىل حكايات "بروتوكوالت حكماء �صهيون"‪ ،‬و�إىل "قوى‬ ‫اليهود ال�شريرة"‪ ،‬بل ان�صرف �إىل حتليل ال�صهيونية ا�ستناداً �إىل التاريخ وامل�صالح اال�ستعمارية‬ ‫والوقائع اجلارية‪ ،‬ال �إىل الدين‪ ،‬فلم يذكر التوراة والتلمود يف م�صادره �إال ملاماً‪ .‬وقاده هذا املنهج �إىل‬ ‫كالم كالم قلما يرتدد‪ ،‬هنا وهناك‪ ،‬يف كتابات القوميني‪ .‬لنالحظ قوله التايل‪":‬يوجد فريق من‬ ‫اليهود الراقني يفهم العلل و�أ�سبابها ويفهم عقم دعوة ال�صهيونيني ويحاربها من �أجل اليهود كما‬ ‫من �أجل االن�سانية جمعاء‪ .‬وقد ا�شتهر من هذا الفريق مورغنثاو �سفري الواليات املتحدة ال�سابق‬ ‫يف تركيا‪ ،‬وله يف هذا املجال حمالت �صادقة �أثبت فيها ف�ساد احلركة ال�صهيونية" (�سعاده‪ ،‬جملة‬ ‫"املجلة"‪� ،‬شباط ‪.)1925‬‬ ‫كان �سعاده ثاقباً‪ ،‬بالفعل‪ ،‬يف ا�ستهزائه بفكرة "املهارة اليهودية" �أو "العبقرية اليهودية" التي ما‬ ‫‪8‬‬


‫فـلـ�سـطـيـن‬

‫برحت ترتدد هنا وهناك‪ ،‬يف بع�ض الكتابات العربية ال�ساذجة‪ .‬واحلقيقة �أن "العبقرية اليهودية"‬ ‫جمرد خرافة �شائعة‪ ،‬والدليل �أنه مل يظهر �أي عباقرة بني يهود فار�س �أو الهند �أو �إثيوبيا �أو بني يهود‬ ‫الأرجنتني وجنوب افريقيا وتركيا‪ .‬ومل يكن لليهود �أي �ش�أن يف احل�ضارات االن�سانية القدمية‪ ،‬فال‬ ‫وجود لهم يف احل�ضارة امل�صرية �أو يف احل�ضارتني الرومانية واالغريقية‪ .‬كذلك مل يظهر �أي مفكر‬ ‫يهودي مهم يف الع�صور الو�سطى الأوروبية‪ ،‬وال حتى �أي ر�سام �أو �أديب �أو �شاعر‪.‬‬ ‫�إن املهارة تظهر‪ ،‬على العموم‪ ،‬يف ن�سق ح�ضاري حمدد ومعلوم‪ .‬ولعل "مهارة اليهود" يف الع�صر‬ ‫احلديث ظهرت مع �صعود الر�أ�سمالية وترقي �أو�ضاع اليهود‪ .‬وهذا ينطبق على العديد من الأقليات‬ ‫التي عا�شت يف جمتمعات متحركة مثل الأرمن وال�صينيني واليونانيني يف الواليات املتحدة‬ ‫الأمريكية‪ .‬ومهما يكن الأمر ف�إن �أعظم �أربعة عقول بني اليهود يف الع�صر احلديث ا�شتهرت ال‬ ‫ب�صفة كونها عق ً‬ ‫وال يهودية بل لأنها حطمت اليهودية وهي‪ :‬ا�سبينوزا ومارك�س وفرويد و�آين�شتاين‪.‬‬ ‫قدم �سعاده فهماً متطوراً وحديثاً لعالقة الدولة اال�سرائيلية باال�ستعمار‪ ،‬وهو الفهم الذي �سي�صبح‬ ‫الحقاً‪ ،‬من بديهيات املعرفة و�إن ب�صياغات خمتلفة‪ .‬ف�إ�سرائيل هي يف الواقع ثروة ا�سرتاتيجية‬ ‫لال�ستعمار يف بالدنا‪ ،‬وهي ارتبطت منذ قيامها برباط وثيق مع انكلرتا وفرن�سا ثم مع الواليات‬ ‫املتحدة الأمريكية يف ما بعد‪ .‬ويف جميع الأحوال كانت‪ ،‬والزالت‪ ،‬متثل احل�ضور املبا�شر للم�صالح‬ ‫الأمريكية يف هذه املنطقة من العامل‪.‬‬ ‫مل يفهم �سعاده قيام دولة ا�سرائيل يف ‪ ،1948/ 5/ 14‬على �أنه عقاب �إلهي �أنزله الرب بامل�سلمني‬ ‫كما ّروج �سعيد رم�ضان البوطي مث ًال‪ ،‬ومل ينظر �إليه على �أنه نتيجة قا�سية خليانة اجليو�ش العربية‬ ‫كما �شاع يف املخيال الفل�سطيني بالدرجة الأوىل‪ ،‬بل ر�أى يف قيام هذه الدولة انت�صاراً ملطامع‬ ‫الدول الأجنبية �أو ًال و�أخرياً‪ ،‬و�أن مواجهة هذا احلدث يكون بالرد ال�شامل على اال�ستعمار‪ ،‬فهو‬ ‫ي�ؤكد‪�":‬إن حمق الدولة اجلديدة امل�صطنعة (ا�سرائيل) هو عملية تعرف جيداً مداها‪� .‬إنها عملية‬ ‫�صراع طويل و�شاق وعنيف يتطلب كل ذرة من ذرات قوانا‪ ،‬لأن وراء الدولة اليهودية اجلديدة‬ ‫مطامع �أجنبية كبرية تعمل وت�ساعد وتبذل املال ومتد الدولة اجلديدة بالأ�ساطيل والأ�سلحة ل ُتثبت‬ ‫وجودها‪ .‬فالأمر لي�س فقط مع تلك الدولة اليهودية اجلديدة امل�صطنعة‪� ،‬إنه مع الدولة اجلديدة ومع‬ ‫دول عظمى وراء الدولة اجلديدة"�سعاده‪ ،‬خطاب يف برج الرباجنة‪.)1949/ 6/ 1،‬‬ ‫احلماية الأجنبية‬

‫دعا جنيب عازوري �إىل قيام �أمة عربية يف اجلزء الآ�سيوي من بالد العرب فقط‪ .‬ودعا �أنطون �سعاده‬ ‫�إىل قيام �أمة �سورية يف بالد ال�شام والعراق معاً‪ .‬وعلى �أهمية هذا الفارق بني الفكرتني‪� ،‬إال �أن‬ ‫ثمة نهجاً �شديد اخلطر لدى جنيب عازوري يتمثل يف �أن قيام كيان عربي مرهون‪ ،‬بح�سب ت�صوره‪،‬‬ ‫بفكرة احلماية الأجنبية‪ ،‬وهي هنا تعني احلماية الفرن�سية‪ .‬فنجيب عازوري مل ينفك م�ؤيداً نظام‬ ‫‪9‬‬


‫احلماية الفرن�سي يف امل�شرق‪ ،‬ومدافعاً عنه بال كلل‪ .‬وطاملا و�صفه ب�أنه عمل خريي يقوم على ثالث‬ ‫ركائز‪ ،‬فهو‪:‬‬ ‫‪ - 1‬يحمي املر�سلني الفرن�سيني‪.‬‬ ‫‪ - 2‬يحمي الكنائ�س الكاثوليكية الوطنية‪.‬‬ ‫‪ - 3‬يحمي املر�سلني الكاثوليك الآخرين كالأملان وااليطاليني واالنكليز‪.‬‬ ‫كان عازوري يعتقد �أن "فرن�سا ر�سول ن�شط ومتحم�س للفكر احلر‪ ،‬وهي م�شعل احل�ضارة واحلرية‬ ‫الأ�سطع �إ�شعاعاً �إىل جانب كونها حامية املقهور (‪� .)...‬أما انكلرتا فهي املناف�سة ال�شريفة لفرن�سا‬ ‫امل�أوى ال�سخي للفكر والقيم االن�سانية"(�ص‪ .)116‬ولو عا�ش عازوري �سنة واحدة فقط‪� ،‬أي �إىل‬ ‫�سنة ‪ ،1917‬لظهرت له اتفاقية �سايك�س‪-‬بيكو‪ ،‬وخلاب �أمله يف �سيا�سة هاتني الدولتني‪ ،‬وال�سيما‬ ‫فرن�سا التي طاملا و�صفها ب�أنها "�أمة الفرو�سية التي بادرت �إىل احلمالت ال�صليبية التي عادت‬ ‫نتائجها بفوائد على العامل ب�أ�سره‪ ،‬وغزت اجلزائر ال من �أجل �إقامة م�ستعمرة �إنتاجية لها فيها‬ ‫فح�سب‪ ،‬بل وفوق ذلك من �أجل حترير املتو�سط من القر�صنة الرببرية التي كانت ت�شله وتهدد‬ ‫التجارة الدولية (‪ ،)...‬وقامت بحملة �إىل �سورية وخلقت احلكم الذاتي يف جبل لبنان دون �أن‬ ‫تتمركز يف البالد كما كان ميكن لها �أن تفعل"(�ص‪.)115‬‬ ‫من الوا�ضح �أن �أفكار جنيب عازوري كانت م�شوبة بلوثة طائفية‪ ،‬ف�ض ًال عن مقدار ال ب�أ�س به من‬ ‫الغفلة حيال امل�صالح الفرن�سية واالنكليزية يف بالدنا‪ .‬وهو عندما دعا العرب والأكراد والأرمن �إىل‬ ‫طلب الدعم واحلماية من الدول الأوروبية‪ ،‬وبالتحديد من فرن�سا وانكلرتا‪ ،‬من �أجل االنف�صال‬ ‫عن تركيا‪� ،‬إمنا كان يعرب عن �ضرب من التع�صب للكاثوليكية والكره الهائل لرو�سيا التي ما برح‬ ‫متهماً �إياها بالإمعان يف ن�شر الأرثوذك�سية يف بقاع الأر�ض‪ .‬واحلقيقة �أن دعوته "�إىل �إحالل مذهب‬ ‫كاثوليكي قومي عربي تتلى مبوجبه ال�صلوات كلها بالعربية‪ ،‬وت�أ�سي�س بطريركية خا�صة لهذه‬ ‫الكني�سة اجلديدة حتتوي املذاهب الأخرى كلها خالل �سنوات معدودة" نابعة من غرية طائفية‬ ‫ال من موقف قومي علماين‪ .‬فهو يعيب على فرن�سا الكاثوليكية تخليها عن املوارنة‪ ،‬ويحذرها‬ ‫من �أن ه�ؤالء رمبا يطلبون احلماية من انكلرتا‪ .‬وال يتورع عن معاتبة فرن�سا لأنها رف�ضت يف �سنة‬ ‫‪� 1903‬إر�سال الأ�سطول البحري �إىل بريوت ال�ستعرا�ض قوته بعد وقوع بع�ض اال�ضطرابات‪ ،‬ورف�ض‬ ‫الأ�سطول البحري الفرن�سي يف �سنة ‪� 1904‬أن يحيي مطرانني مارونيني جاءا لتهنئة الأمريال‪.‬‬ ‫ويقول �إن املوارنة اعتقدوا ان هذين الت�صرفني ي�شريان �إىل تخلي فرن�سا عن حماية الكاثوليك‪.‬‬ ‫وهنا يرفع عازوري عقيدته بالت�صريح التايل‪":‬ال ي�ستطيع امل�سيحيون العي�ش ب�أمان بعد هذا التخلي‬ ‫الر�سمي عن حمايتهم‪ ،‬ووجب عليهم التفتي�ش عن ُمدافع‪ .‬ومن الطبيعي �أن يرمتوا يف �أح�ضان‬ ‫انكلرتا"‪ .‬لكنه‪ ،‬مع ذلك‪ ،‬ي�ؤكد �أن ال �أحد"ميلك احلق يف حكمنا غري فرن�سا‪ ،‬ولن يهتف �أحد‬ ‫‪10‬‬


‫فـلـ�سـطـيـن‬

‫بحرارة لأية دولة غريها يف الأقطار العربية يوم يتقرر جتزئة الأمرباطورية الرتكية"‪.‬‬ ‫�أما �سعاده فقد كان يرى‪ ،‬منذ �سنة ‪ 1921‬ف�صاعداً �أن اال�ستعمار الفرن�سي خطر ي�ضاهي خطر‬ ‫ال�صهيونية �إذا مل يكن يفوقه‪ .‬وطاملا �أعاد �سعاده تذكري ال�سوريني بت�صريح اجلرنال غورو الذي‬ ‫�أذاعه عقب �إنزال العلم الفرن�سي عن دار احلكومة يف بريوت والذي يقول فيه‪�":‬إن فرن�سا �أتت �إىل‬ ‫�سوريا ال لرتحل عنها بل لتبقى و�ستبقى فيها �إىل الأبد"‪.‬‬ ‫مل يعتقد �سعاده‪ ،‬يف �أي حلظة‪� ،‬أن حرية ال�سوريني مرهونة باحلماية على غرار جنيب عازوري‪،‬‬ ‫بل ربط بني التجزئة التي �أ�سهمت فيها فرن�سا بالق�سط الكبري‪ ،‬و�إعالن بلفور االنكليزي ال�صنع‪،‬‬ ‫وامتلك قدرة على التحليل والرتكيب �أك�سبته معرفة دقيقة بتف�صيالت �صراع الأمم على هذه‬ ‫املنطقة‪ ،‬وفهم مبكراً �أن �إعالن بلفور �إمنا هو املح�صلة املنطقية لأتفاقية �سايك�س‪-‬بيكو‪ ،‬و�أن قيام‬ ‫دولة يهودية يف جنوب �سوريا هو نتيجة مو�ضوعية التفاق امل�صالح بني فرن�سا وانكلرتا والواليات‬ ‫املتحدة االمريكية‪ .‬ولهذا ر�أى �أن الرد على تهويد فل�سطني ال يكون �إال �سورياً �شام ًال‪ ،‬ال فل�سطينياً‬ ‫فح�سب‪ ،‬لأن اخلطر ال�صهيوين ال يطال فل�سطني وحدها بل �سوريا كلها‪ .‬و�شتان بني موقف �سعاده‬ ‫وموقف عازوري يف هذا ال�ش�أن اخلطري‪.‬‬ ‫يف �أي حال ف�إن جنيب عازوري‪� ،‬إذا جتاوزنا ق�صة عالقاته اخلا�صة واملريبة بوزراة اخلارجية الفرن�سية‪،‬‬ ‫مل يكن له‪ ،‬على الأرجح‪� ،‬أي ح�ضور �سيا�سي فاعل يف تلك الفرتة املطلوبة من تاريخ املنطقة‬ ‫العربية‪ .‬ولعل �أهميته تكمن يف اجلانب التاريخي فقط‪ ،‬متاماً كما ن�ستعيده الآن ك�أحد رواد الفكر‬ ‫القومي العربي‪ ،‬و�أحد الذين عرفوا مبكراً خطر ال�صهيونية والهجرة اليهودية �إىل فل�سطني‪� .‬أما‬ ‫جهده الفكري وال�سيا�سي الذي بذله طوال اثني ع�شرة عاماً (‪ )1916 - 1904‬فقد ظل هام�شياً‬ ‫وبال ت�أثري �أو فاعلية‪ ،‬فهو‪ ،‬كما يقول عنه �ألربت حوراين‪ ،‬وقف عند حد تعريف القرن�سيني بق�ضية‬ ‫العرب القومية من دون �أن ُيحدث �أثراً ُيذكر يف �أر�ض الواقع يف امل�شرق العربي (�ألربت حوراين‪،‬‬ ‫م�صدر �سبق ذكره)‪ .‬بينما ما �صنعه �سعاده قبل اغتياله وبعد ا�ست�شهاده كان له ت�أثري ارجتاجي يف‬ ‫املنطقة كلها‪.‬‬ ‫الأمة بني مفهومني‪:‬‬ ‫يف ت�صوره للدولة العربية املقرتحة ا�ستبعد جنيب عازوري م�صر من �إطار هذه الدولة‪.‬‬ ‫ملاذا؟‬ ‫"لأن امل�صريني (يف ر�أيه) ال ينتمون �إىل العرق العربي‪ ،‬فهم من عائلة الربابرة االفريقيني‪ ،‬واللغة‬ ‫التي كانوا يتكلمونها قبل اال�سالم ال ت�شبه العربية قط"(�ص‪.)219‬‬ ‫�إذن‪ ،‬يبني جنيب عازوري ت�صوره للأمة العربية على �أ�سا�سني‪ :‬العرق واللغة‪ .‬وهو ُيخرج امل�صريني‬ ‫‪11‬‬


‫من دائرة العروبة ا�ستناداً �إىل �أنهم من عرق غري عربي‪� ،‬أي بربري افريقي‪ ،‬ولأنهم كانوا يتكلمون‬ ‫قبل اال�سالم لغة غري عربية‪.‬‬ ‫ما باله ين�سى �أن ال�سوريني �أي�ضاً كانوا يتكلمون قبل الفتح العرب اللغة ال�سريانية‪ ،‬وهي لغة تنتمي‬ ‫مع العربية �إىل جمموعة لغوية واحدة! ويف �أي حال فقد برهنت الدرا�سات ال�صوتية احلديثة �أن‬ ‫اللغة امل�صرية القدمية ت�شرتك مع اللغة العربية القدمية يف �أبنية وتراكيب وا�شتقاقات جتعلهما ينتميان‬ ‫�إىل جمموعة لغوية واحدة تقريباً‪� ،‬أو متجاورة على الأقل‪.‬‬ ‫لنالحظ كيف �أن مفهوم الأمة لدى عازوري متخلف وغري معا�صر‪ ،‬ويقوم على عن�صر العرق‪ ،‬بينما‬ ‫مفهوم الأمة لدى �سعاده معا�صر ويقوم على مفهوم "املزيج ال�ساليل" �أو "ال�ساللة التاريخية"‪.‬‬ ‫يقول �سعاده‪�" :‬إننا �أمة لي�س لأننا نتحدر من �أ�صل واحد بل لأننا ن�شرتك يف حياة واحدة يف وطن‬ ‫واحد" (انظر خطابه يف حفل افتتاح النادي الفل�سطيني يف بريوت يف �سنة ‪ .)1933‬وي�ضيف‪�":‬أما‬ ‫�إدعاء نقاوة ال�ساللة الواحدة �أو الدم فخرافة ال �صحة لها يف �أي �أمة من الأمم على الإطالق‪ ،‬وهي‬ ‫نادرة يف اجلماعات املتوح�شة وال وجود لها �إال فيها" (�شروح يف العقيدة)‪ .‬و�أبعد من ذلك‪ ،‬ف�إن‬ ‫ت�صور عازوري للدولة العربية املوعودة ال تختلف عما هو حال العرب اليوم �إال قلي ًال‪� .‬إن هذه‬ ‫الدولة �ستن�شطر �إىل ق�سمني‪ :‬ق�سم يف احلجاز وهو دولة دينية تمُ نح ل�شريف مكة‪ ،‬وق�سم يف ال�شام‬ ‫والعراق تنف�صل فيه ال�سلطة الدينية عن ال�سلطة املدنية ويمُ نح لأحد �أبناء �ساللة حممد علي‪ .‬وفوق‬ ‫ذلك �ستن�ش�أ كيانات �أخرى متمتعة باال�ستقالل الذاتي وباحلماية الدولية معاً مثل �إمارة جند (متنح‬ ‫البن �سعود)‪ ،‬و�إمارة املحمرة (متنح ل�شيخ اخلزاعلة)‪ ،‬ولبنان والقد�س واليمن‪ ،‬وكذلك �إمارات‬ ‫"اخلليج الفار�سي" بح�سب م�صطلح عازوري نف�سه‪.‬‬ ‫�إن هذه الدولة توليفة ملفقة متاماً‪ .‬وهي جمرد خطة تراعي م�صالح �أطراف كثرية يف الوقت الذي ال‬ ‫تراعي فيه م�صالح ال�سكان �أبداً‪ .‬وهذه الفكرة �إمنا ت�ستجيب‪ ،‬بح�سب �صاحبها بالذات للم�صالح‬ ‫الفرن�سية بالدرجة الأوىل‪ ،‬وللم�صالح االنكليزية بالدرجة الثانية‪ .‬والهدف هو تفكيك الدولة‬ ‫العثمانية والوقوف �أمام التمدد الرو�سي يف ذلك الوقت‪.‬‬ ‫�إن فكرة قيام خالفة عربية يكون خديوي م�صر رئي�سها الزمني و�شريف مكة رئي�سها الروحي‬ ‫هي فكرة اخلديوي عبا�س حلمي يف الأ�صل‪ ،‬وهي ا�ستمرار لدعوة حممد علي وابنه ابراهيم‬ ‫با�شا اللذين حاوال ت�أ�سي�س امرباطورية عربية على هذا الطراز‪ .‬ثم �إن بع�ض �أفكار جنيب عازوري‬ ‫متاماً من عبدالرحمن الكواكبي (‪ )1903 - 1849‬الذي طاملا دعا يف كتابه "طبائع اال�ستبداد"‬ ‫ويف كتابه الآخر "�أم القرى" �إىل �أن يتوىل العرب ب�أنف�سهم �إدارة بالدهم‪ ،‬و�إىل نزع اخلالفة من‬ ‫الأتراك و�إعادتها �إىل العرب‪ ،‬م�شرتطاً �أن يكون اخلليفة قر�شياً و�أن ت�شمل �سلطته الروحية كافة‬ ‫امل�سلمني‪ ،‬على �أن يقت�صر �سلطانه الزمني على احلجاز‪ .‬وكانت تلك �أول مرة يتقدم فيها مفكر‬ ‫عربي م�سلم مب�شروع لأن�شاء دولة وطنية ُتف�صل فيها ال�سلطة التنفيذية عن الدين (انظر‪� :‬سليمان‬ ‫‪12‬‬


‫فـلـ�سـطـيـن‬

‫مو�سى‪:،‬احلركة العربية ‪ ،"1924 - 1908‬بريوت‪:‬دار النهار‪.)1977 ،‬‬ ‫�إنها بالفعل فكرة ملفقة متاماً‪ ،‬و�صاحبها جنيب عازوري مل يكن علمانياً حقاً‪ ،‬لأنه يدعو �إىل كيان‬ ‫عربي مزدوج الهوية‪ :‬دولة دينية يف احلجاز‪ ،‬ودولة مدنية يف ال�شام والعراق‪� .‬إنها فكرة توفيقية‬ ‫�صيغت بح�سابات "الدكنجية"‪ ،‬ف�صاحب الفكرة �أراد منها ان ُير�ضي معظم الأطراف الفاعلة يف‬ ‫تلك الفرتة‪ ،‬ولهذا جاءت لتوفق‪ ،‬يف �أحد جوانبها‪ ،‬بني مفهوم ال�سلطة الدينية وال�سلطة املدنية‪،‬‬ ‫فتعطي �أمري مكة �سلطة زمنية و�سلطة دينية على احلجاز‪ ،‬و�سلطة دينية فقط على عموم امل�سلمني‬ ‫يف العامل‪ .‬ثم توفق بني اال�ستقالل التام عن الأتراك وبقاء النفوذ الغربي قائماً‪ .‬وهي توفق �أي�ضاً‬ ‫بني دور م�صر املركزي يف املنطقة و�إخراج م�صر من اجل�سم العربي يف الوقت نف�سه‪ ،‬ك�أنها تعانق‬ ‫�أفكار علي يو�سف يف م�صر الذي كان يدعو �إىل قيام خالفة عربية تتخذ من م�صر قاعدة لها‪،‬‬ ‫وهذه الفكرة نف�سها تالم�س طموحات الأمريين في�صل بن احل�سني و�شقيقه عبداهلل اللذين طاملا‬ ‫تطلعا‪ ،‬قبل �أن يهزمهما عبدالعزيز بن �سعود‪� ،‬إىل قيام خالفة عربية تكون احلجاز قاعدة لها‪ .‬عالوة‬ ‫على ذلك‪ ،‬ف�إنها توفق بني فكرة الالمركزية عند رفيق العظم (�أي ا�ستقالل �إمارات جند واحلجاز‬ ‫والعراق واليمن واخلليج ولبنان) وفكرة الكواكبي عن وجوب قيام خالفة عربية تقود العامل‬ ‫اال�سالمي‪.‬‬

‫‪13‬‬


‫الفرات للنرش والتوزيع‬

‫لبنان – بريوت – شارع احلمرا – بناية رسامني – الطابق سفيل أول‬

‫ص‪.‬ب‪ 113 - 6432 :‬بريوت – لبنان‬

‫هاتف‪00961 - 1 - 750054 :‬‬ ‫فاكس‪00961 - 1 -1 750053 :‬‬ ‫‪E-mail: info@alfurat.com‬‬


‫فـلـ�سـطـيـن‬

‫فل�سطني الإمتحان‬ ‫فل�سطني الفر�صة‬ ‫جنيب ن�صري ‪ -‬كاتب‬ ‫وك�أنه كان ال بد من هذا الإنفجار الكارثي �أن يح�صل‪ ،‬حتى ننتبه على عقم الأجوبة بل وردائتها‪،‬‬ ‫ناهيك عن خط�أها‪ ،‬التي رددنا بها على �أ�سئلة الع�صر املاحقة فهي ال متهل وال تهمل ‪ ،‬فمن املناهج‬ ‫التعليمية‪ ،‬حتى �أ�صغر تنظري ثقايف ‪� /‬سيا�سي ‪ ،‬تهافتت �أجوبتنا اعتماداً على ارجتاالت تاريخانية‪،‬‬ ‫تقارب الفهلويات الكالمية‪ ،‬حماولني تعديل الأ�سئلة وعلى الأغلب حتريفها وتكييفها‪ ،‬لت�صبح‬ ‫قابلة للتماحك الثقافوي ‪ /‬ال�سيا�سي‪ ،‬حيث مت تلخي�صها بكب�سوالت ‪� /‬شعارات‪ ،‬ت�ؤخذ قبل‬ ‫املنا�سبات الوطنية الكربى وال�صغرى‪ ،‬من تد�شني �صنبور ماء يف قرية نائية‪ ،‬حتى " االنتخابات‬ ‫" الرئا�سية �أو الربملانية‪� ،‬أما مبا يخ�ص فل�سطني فكب�سولة " فل�سطني عربية و�ستبقى عربية " فكانت‬ ‫�شافية ووافية برفقة غريها من الكب�سوالت املغذية‪ ،‬التكتيكي منها والإ�سرتاتيجي ‪.‬‬ ‫يف يفاعتنا �أي يف �سني اجلامعة‪ ،‬يف تلك ال�سن التي ترتقب فيها الكثري من املجتمعات العفية‬ ‫توجهات وهموم وتطلعات و�أفكار�أبنائها يف "حرم "جامعاتها‪ ،‬يف تلك ال�سنني ح�صلت لنا قناعة‬ ‫فحواها ‪� :‬أنه بتحرر فل�سطني �سوف تتحرر التجمعات ال�سكانية لهذا العامل " العربي "‪ ،‬وتخرج‬ ‫اىل نور املعرفة منظمة حياتها يف جمتمعات تفرز دو ًال مبعنى الكلمة‪ ،‬وكانت وقتئذ "الق�ضية "‬ ‫الفل�سطينية ت�شكل جزءاً مركزياً من "امل�س�ألة العربية "‪ ،‬هذه امل�س�ألة التي مل يقطع �أحد بحقيقتها‬ ‫وال الزمن �أثبت �ضرورتها ‪ ،‬وال ال�شعوب �أجنزتها ب�إرادتها ‪ " ،‬فالعربية " مل تكن يف يوم من الأيام‬ ‫ق�ضية مكتملة بذاتها تت�ضمن جمموعة من امل�سائل منها امل�س�ألة الفل�سطينية (و�أي�ضاً وعلى نف�س‬ ‫ال�ضرورة واخلطورة م�سائل مثل كيليكيا‪ ،‬والإ�سكندرون‪ ،‬والأهواز)‪� ،‬أي �أنها مل تكن يف يوم من‬ ‫الأيام ق�ضية املجتمع ‪ /‬الأمة‪� ،‬أو ق�ضية وحدة املجتمع ‪ /‬وحدة الأمة‪� ،‬أو املجتمع الواحد ‪� /‬أمة‬ ‫واحدة‪� ،‬أي �أن املو�ضوع برمته كان يف تلك ال�سنني واىل يومنا هذا معكو�سا متاماً يف منظومتنا املعرفية‪،‬‬ ‫ومل ينتبه �أحد اىل �سذاجة ال�شعار ب�أن فل�سطني عربية و�ستبقى عربية ( مع �أنه تغري اليوم بطريقة‬ ‫فا�ضحة‪ ،‬ف�إما فل�سطني فتحاوية و�ستبقى فتحاوية �أو حما�سوية و�ستبقى حما�سوية ورمبا داع�شية �أو‬ ‫قاعدية‪ ،‬فال �أحد يعرف �أين �ستقف كرة الثلج هذه ) حيث يواجهنا �س�ؤال مرير م�ؤجل دائما ‪:‬‬ ‫ماذا يعني �أن تكون وتبقى فل�سطني عربية ؟! ال �شيء تقريبا ‪...‬ال �شيء‪ ،‬اللهم �إال �إذا ا�ستثنينا‬ ‫ا�ستعماالت �أخرى لفل�سطني املغت�صبة ( الحظ الفارق بالت�سمية ال�شعاراتية مع ا�سكندرون اللواء‬ ‫ال�سليب ) فجميع الأعاريب ا�ستعملوها بقليل �أو بكثري ( وحلق بهم من ا�ستطاع �إليها �سبيال من‬ ‫‪15‬‬


‫الأقارب والأباعد )ولكن فل�سطني ملا تزل تغت�صب وملا يزل امل�ستعملون " لق�ضيتها " م�ستعدون‬ ‫للحفاظ عليها على هذا الو�ضع ‪.‬‬ ‫ترى ؟ وهذا �س�ؤال �ضروري ك�س�ؤال وجودي معا�صر‪ ،‬ترى هل كان وخالل املدة التي ق�ضتها‬ ‫فل�سطني حتت الإغت�صاب امل�ستمر‪ ،‬هل كان من امل�ستحيل حتريرها ؟ و قبلها وعلى ال�صعيد املعريف‬ ‫هل كان من امل�ستحيل التنبه اىل امل�ؤمتر ال�صهيوين الأول يف بازل يف �سوي�سرا ‪ 1897‬و حماوالت‬ ‫وايزمن مع ال�سلطان عبد احلميد‪ ،‬و وعد بلفور‪ ،‬ومن ثم وثيقة في�صل وايزمن ال�شهرية‪ ،‬الوثيقة‬ ‫التي جعلت فل�سطني عربية على يد الفاحت العربي؟ لن ن�س�أل من امل�س�ؤول فهذا �س�ؤال �ساذج طاملا‬ ‫ال ميكن حما�سبة امل�س�ؤلني‪ ،‬و�إعادة ال�صواب اىل ن�صابه‪ ،‬ولكن �أومل تكن منظومتنا املعرفية م�س�ؤولة‬ ‫عن ذلك؟ �أومل ي�أت الأوان ملحا�سبة �أنف�سنا‪ ،‬عرب ت�شريح منظوتنا املعرفية التي مل تتمخ�ض عن �أي‬ ‫�شيء جمد حتى الآن‪ ،‬ففل�سطني ملا تزل تغت�صب‪ ،‬ويف �أق�صى �أحالم التحرير والتحرر هي موعودة‬ ‫ب�إغت�صاب من قبل جحافل اخلالفة‪ ،‬الذي ال يغيري من املو�ضوع �شيئاً‪ .‬فاملنظومة املعرفية التي‬ ‫�أخفقنا بها دخول ع�صر الأوطان �صارت والتي ما زالت على تراجع ملا تزل فاعلة ‪ ،‬ومن امل�ؤكد مل‬ ‫تعد �صاحلة وعلى الأغلب مل تكن كذلك �إال بالنوايا‪ ،‬ومل تعد فل�سطني ( وال غريها )‪� ،‬إال بالداً‬ ‫ال تنتظم يف ق�ضية اجتماعية حمددة املالمح‪ ،‬وا�ضحة احل�ضور بوا�سطة معايري الع�صر ‪ ،‬التي حتدد‬ ‫قوانني احل�ضور و�أ�ساليبه‪ ،‬وال تت�سامح حتى مع اللذين يعلمون ولكنهم ال يعرفون‪ ،‬هكذا حتولت‬ ‫فل�سطني اىل ق�ضية ولي�ست م�س�ألة من م�سائل ق�ضية كربى هي ق�ضية املجتمع ‪ /‬الأمة‪ ،‬يف هذه‬ ‫"الق�ضية " مل يعد ثمة فارقاً مهماً بني ما هو واجب وبني ما هو تطوع‪ ،‬وهذا ما يجعل من فل�سطني‬ ‫( وغريها ) بالداً جمرد بالد يتطوع �سكانها للذود عنها ولكنها لي�ست وطنا يتوجب على مواطنيه‬ ‫حمايته‪ ،‬فالوطن هو وطن املجتمعات‪ ،‬والبالد هي منازل اجلماعات التي ال تلبث �أن تنفجر يف‬ ‫وجهها �أ�سلحة وقنابل املتطوعني ‪.‬‬ ‫يف الع�صر احلديث مل تعد كلمات مثل جمتمع و�أمة ودولة وحزب‪...‬الخ‪ ،‬جمرد ت�صريفات لغوية‬ ‫تطلق �أ�سماء على بع�ض الأو�ضاع الدنيوية ( خ�صو�صاً �إذا كانت اللغة �شفاهية و�سائلة اىل هذا احلد‬ ‫�أو ذاك ) بل �أ�صبحت هذه املفردات م�صطلحات تقنية تعني ما تعنيه‪ ،‬من �أبعاد حقوقية وا�ضحة‬ ‫وعلنية ( ولن�أخذ ما �شئنا من تعريفات حديثة للمجتمع والأمة )‪ ،‬وفل�سطني من هذا املنظور ومن‬ ‫منظور ما هو جمرب عرب تاريخ النكبة �أي�ضاً‪ ،‬لي�ست جمتمعاً باملعنى التقني املعا�صر‪ ،‬وال هي جزءاً‬ ‫ال يتجز�أ من جمتمع ‪� /‬أمة �أي�ضاً حلد الآن‪ ،‬لي�س ب�سبب اغت�صابها فقط‪ ،‬ولكن ب�سبب اعتماد‬ ‫منظومتنا املعرفية على البدهيات ال�سطحية يف تعيني الأمة والإنتماء‪� ،‬إليها لي�س كوجود مو�ضوعي‬ ‫بل ك�شعار �سيا�سي ( طبعا قتل وعذب وقمع ب�سببه الكثري من الب�شر ) تكهني ورمبا �سحري بناء‬ ‫على ممكنات ا�ستخدام اللغة كعامل �أيديولوجي‪ ،‬يتطلب الإميان بعد التب�شري باحلقيقة البديهية‪،‬‬ ‫حيث يتم �إجناز هوية الوجود قبل الوجود ذاته ‪.‬‬ ‫‪16‬‬


‫فـلـ�سـطـيـن‬

‫يف املجتمع ‪ /‬الأمة‪ ،‬ال يجب �أن تبقى ال فل�سطني وال غريها حتت الإغت�صاب‪ ،‬لأن يف ذلك ما ينق�ض‬ ‫الوجود و�إرادة الوجود معاً‪ ،‬وجود الأمة وتعيينها كق�ضية وكم�سائل هو ما يحتم التحرر والتحرير‪،‬‬ ‫فمن واجبات املجتمع �أن يكتمل على كامل م�ساحة وجود دورته االجتماعية االقت�صادية ال�ضامن‬ ‫الأ�سا�سي لعدم الفناء‪ ،‬و�أن يحرر ما اغت�صب وما �سلب كي تكتمل هذه الدورة التي بوا�سطتها‬ ‫�أي�ضاً يتم التناف�س والدفاع عن احل�ضور الدنيوي للوطن ذي الهوية الوا�ضحة واملعلنة واملحمية‬ ‫بالإنتاج‪ ،‬وعلى هذا يظهر الإنخراط يف التحرير واجباً �شخ�صياً على كل مواطن ( يف املجتمع)‬ ‫ولي�س ( على العباد من �أهل البالد ) من �أجل منع فناء الوطن‪ ،‬ب�صفتهم �أ�صحاب م�صلحة يف‬ ‫البقاء والإ�ستمرار يف الدنيا ولي�سوا زواراً على دنيا فانية �سائرين على �أجداث من �سبقهم ‪.‬‬ ‫فل�سطني واغت�صابها لي�ست حكاية انتقام وث�أر يثلج ال�صدور ويربد القلوب‪ ،‬كما �أنها لي�ست‬ ‫حكاية غزو اعتدنا قراءتها تكراراً يف طبقات الرتاث‪ ،‬حتى �أ�صبحت ذهنية ثقافية عتيدة نقارع‬ ‫بها معرفة كونية �صنعت املعجزات‪� ،‬إنها م�س�ألة حق حقوقي دنيوي و�إن�ساين ال يت�ضح �إال بوجود‬ ‫جمتمع ‪� /‬أمة‪ ،‬ذي قوة ومنعة‪ ،‬ومل يت�ضح هذا احلق ال مع العروبية بخطاباتها املنربية‪ ،‬وال مع‬ ‫الإ�سالموية بجحافلها الدموية‪ ،‬على الرغم من هذه امل�سرية الطويلة من الن�ضال و" اجلهاد " لن‬ ‫تتبلور امل�س�ألة الفل�سطينية �إال كم�س�ألة يف ق�ضية املجتمع الأمة‪ ،‬حيث يتكثف واجب حتريرها على‬ ‫�أبناء الأمة جمعاء لأن م�صلحتهم تقت�ضي ذلك‪ ،‬ففل�سطني و (غريها ) م�صلحة جمتمعية عليا‪ ،‬لها‬ ‫عالقة ع�ضوية بالدورة االقت�صادية االجتماعية‪ ،‬و�إجناحها �ضرورة لإنتاج الهوية‪ ،‬فلي�س من هوية‬ ‫قبل الوجود الدنيوي ب�صفته املعا�صرة‪ ،‬والإنتاج هو من مينح الهوية للمجتمعات التي وجدت‬ ‫نف�سها‪� ،‬أي وجدت حقوقها ووجدت ال�سبيل اىل هذه احلقوق‪� ،‬إذ ال منا�ص من الهزائم طاملا ظل‬ ‫املجتمع ‪ /‬الأمة يف حالة غياب‪ .‬لذلك تبدو امل�س�ألة الفل�سطينية عملياً اليوم كحالة �إغاثة وتظامل‬ ‫بني فل�سطينيون �أو "عرب " وبني دولة حداثية �أفرزها "جمتمع " على الرغم من كونه م�صطنع‬ ‫وعدواين وعن�صري ومغت�صب‪ ،‬فال العروبية ا�ستطاعت �أن تعلن وحدة جمتمعها ‪� /‬أمتها وبالتايل‬ ‫حاجتها بال�ضرورة اىل جزء من �أجزائها‪ ،‬وال الإ�سالموية بكافة �أطيافها ا�ستطاعت الولوج اىل ع�صر‬ ‫املجتمعات ‪/‬الأمم‪ ،‬وفل�سطني تعت�صر بني هاتني الرحيني ‪.‬‬ ‫واليوم ماذا ميكن �أن تكون فل�سطني لو حتررت ( �إفرتا�ضاً ) على يد �أحد الطرحني العروبي‬ ‫والأ�سالمي وهما �صنوان بينهما �سوء تفاهم طفيف‪ ،‬فالإثنني لي�سا بقادرين على ت�أ�سي�س املجتمع‬ ‫احلديث بناء على ما ا�ستجد من علم ومعرفة يف هذه الدنيا‪ ،‬فهما لي�سا بقادرين على �إنتاج امل�ساواة‬ ‫ناهيك عن د�سرتتها �أو قوننتها‪ ،‬وبالتايل غري قادرين حتى على ت�صور املجتمع امل�ؤ�س�س على‬ ‫امل�صالح‪ ،‬لذلك يت�سابقان على �إعالن هوية الوجود قبل الوجود نف�سه ‪ ،‬فالهوية �ش�أن معريف معا�صر‬ ‫يحتاج اىل بنية معرفية جمتمعية ت�ستوعبة حتى يتم تفعيله‪ ،‬ف�إذا مل تكن للهوية فعالية منفعية‬ ‫مفيدة فما هي �ضرورة وجودها‪ ،‬وهنا نرنو اىل فل�سطني املحررة ( �إفرتا�ضاً )‪ ،‬ف�إما �أن تلتحق عروبياً‬ ‫بجامعة الدول العربية كقطر �شقيق ( يف كل الأحوال هي قطر �شقيق يف هذه اجلامعة العتيدة‪� ،‬أي‬ ‫‪17‬‬


‫�أنها حمررة ولكن على ال�صعيد الرمزي ) لت�صبح "دولة " يف �إطار الإ�صطالح اخلارجي عليها كما‬ ‫�سائر "الدول " العربية ‪� ،‬أو عليها �أنت تكون ف�صيل ( �أفغاين ) �آخر يغزو العامل بق�صد �إعادة العامل‬ ‫اىل ر�شده يف ظالل اخلالفة‪ ،‬وال �أظن �أن هذين امل�آلني �صاحلني " لق�ضية " حترير‪� ،‬إذ ال جمتمع ‪/‬‬ ‫�أمة جاهزة للإ�ستفادة من هذا التحرير ‪.‬‬ ‫�أين هي فل�سطني من هذه الإ�ستحقاقات املعرفية ؟ ال �أحد ي�ستطيع اجلزم‪ ،‬خ�صو�صاً يف ظل �أحوال‬ ‫كارثية و�صلت �إليها الدول ال�شقيقة‪ ،‬ولإ�سباب معرفية �أي�ضاً‪ ،‬فهل علينا �إعادة �إكت�شاف فل�سطني ؟‬ ‫نعم علينا ذلك ‪...‬نعم علينا اكت�شافها وحتديدها‪ ،‬ك�أمة‪� ،‬أو كجزء من �أمة ويف احلالني علينا ا�ستخدام‬ ‫املعارف االجتماعية املعا�صرة‪ ،‬الدنيوية بال�ضرورة‪ ،‬ففل�سطني لي�ست طريقاً للجنة ‪ ،‬بل هي �أحد‬ ‫الطرق لرفعة املجتمع ‪/‬الأمة ومنعته و�شعبه‪ ،‬وا�س�ألوا يف ذلك رجال النه�ضة فج ّلهم لديهم ر�ؤيا‬ ‫عن ت�أ�سي�س املجتمع مبا امتلكوا من علم ومعرفة عوقبوا عليها ب�شدة وجزر ا�س�ألوا �أنطون �سعادة وهو‬ ‫على من�صة �إعدامه يقدم تقريراً عن �أهوال �أمة �أ�ضاعت املعرفة‪.‬‬ ‫فل�سطني كانت الفر�صة لنتنبه اىل ق�ضية املجتمع وننجزها‪ ،‬وفل�سطني كانت الإمتحان الذي �أخفقنا‬ ‫به حتى الآن‪ ،‬ترى هل هناك من �أمل يعيد لنا الفر�صة بالتقدم لهذا الإمتحان مرة �أخرى؟ نعم‬ ‫فنحن م�ضطرون للأمل ‪.‬‬

‫‪18‬‬


‫فـلـ�سـطـيـن‬

‫الدولة العثمانية‪ ،‬بريطانيا‪ ،‬وتطور فكرة‬ ‫الدولة اليهودية‬

‫د‪ .‬زهري ال�صباغ ‪ -‬كاتب‬

‫مل تتم معاجلة منهجية ونقدية لتاريخ �سوريا الكربى يف املراحل الأخرية من احلكم اال�ستعماري‬ ‫العثماين‪ .‬كما ومل تتم معاجلة تاريخية ونقدية لتطور فكرة الدولة احلاجزة والدولة اليهودية احلاجزة‬ ‫يف ال�سياق االمربيايل الربيطاين‪ .‬ما جرى هو معاجلة �سردية وغري عميقة لفكرة اقامة الدولة‬ ‫اليهودية يف فل�سطني‪ .‬وعادة تبد�أ هذه املعاجلة بكتاب هرت�سل "دولة اليهود" ثم بامل�ؤمتر ال�صهيوين‬ ‫االول يف العام ‪ ،1897‬وبعدها بوعد بلفور‪ ،‬ثم باالنتداب الربيطاين‪ ،‬ثم بحرب ‪ .1948‬و�سوف نرى‬ ‫يف هذه الدرا�سة ان تداول فكرة ان�شاء دولة يهودية يف فل�سطني جاء من قبل الأوروبيني امل�سيحيني‬ ‫وقبل ‪� 57‬سنة من والدة احلركة ال�صهيونية‪ .‬مبعنى �آخر‪ ،‬ف�إن من بد�أ بتداول فكرة الدولة اليهودية‬ ‫كان الأوروبيني ال ال�صهاينة او اليهود الأوروبيني‪.‬‬ ‫ما يلي هو حتليل �سيا�سي ‪ -‬اقت�صادي للظروف والبيئات وال�سياقات التي تطورت داخلها فكرة‬ ‫الدولة احلاجزة والدولة اليهودية احلاجزة التي �سعى اال�ستعمار الربيطاين لإقامتها يف فل�سطني‪.‬‬ ‫وتبد�أ هذه الدرا�سة بالعالقات التجارية التي ّمت ن�سجها بني جمموعة من الدول الأوروبية الغربية‬ ‫والدولة العثمانية‪ ،‬وما جاء يف �إثرها من تطورات وتبدالت عميقة الأثر داخل الدولة العثمانية‪.‬‬ ‫‪� .1‬أهمية �أ�سواق امل�رشق العربي‬

‫�أدت مكننة ال�صناعة واكت�شاف الآلة البخارية يف �أوروبا اىل حت�سني وتطوير املوا�صالت البحرية‬ ‫و�إقامة خطوط ال�سكك احلديدية يف �أوروبا وبالتايل اىل التو�سع يف التجارة‪ .‬فبعد �إ�شباع ال�سوق‬ ‫املحلية‪ ،‬ف�إن فائ�ض الب�ضائع امل�صنعة �أنتج حاجة‪ ،‬لدى عدد من الدول الأوروبية الغربية‪ ،‬اىل‬ ‫ا�سواق خارجية جديدة وتو�سيع اال�سواق القدمية‪ .‬و�أدت هذه احلاجة بدورها اىل مرحلة من‬ ‫البحث والتناف�س اال�ستعماري ال�شديد على الأ�سواق ومناطق النفوذ‪� .‬إحدى هذه الأ�سواق التي‬ ‫جرى التناف�س عليها كانت �سوق االمرباطورية العثمانية‪ ،‬خا�صة املناطق العربية منها‪.‬‬ ‫وكانت التجارة بني �أوروبا الر�أ�سمالية واالمرباطورية العثمانية حمدودة املجال يف نهاية القرن الثامن‬ ‫ع�شر‪ .‬وتقا�سمت التجارة مع االمرباطورية العثمانية كل من بريطانيا وفرن�سا ودول �أوروبية �صناعية‬ ‫‪19‬‬


‫اخرى‪ .‬وو�صلت ال�صادرات الربيطانية يف العام ‪ 1783‬اىل ‪ 88065‬جنيهاً ا�سرتلينياً ‪1‬؛ ولكن بعد‬ ‫انتهاء حروب نابليون‪ ،‬تنامت العالقات التجارية الربيطانية ‪ -‬العثمانية وا�ستطاعت بريطانيا �أن حتل‬ ‫حمل فرن�سا لت�صبح الدولة الأوروبية االوىل يف التجارة مع الدولة العثمانية‪.‬‬ ‫وازداد حجم ال�صادرات الربيطانية للدولة العثمانية لي�صل يف العام ‪ 1825‬اىل ‪ 1079671‬جنيهاً‬ ‫ا�سرتلينياً وليقفز يف العام ‪ 1845‬اىل ‪ 7620140‬جنيهاً ا�سرتلينياً‪ .2‬ويف العام ‪ 1876‬ا�صبحت بريطانيا‬ ‫الدولة االوىل من ناحية حجم التجارة مع الدولة العثمانية‪ ،‬حيث و�صلت ح�صتها من جمموع‬ ‫واردات االمرباطورية العثمانية اىل ‪ 49‬باملئة من التجارة مع دول الغرب وتلقت ‪ 50‬باملئة من‬ ‫جمموع �صادرات االمرباطورية للغرب‪ .‬وجاءت بعد بريطانيا كل من فرن�سا‪ ،‬فالنم�سا‪ ،‬فرو�سيا‪،‬‬ ‫‪3‬‬ ‫فالواليات املتحدة‪.‬‬ ‫‪� .2‬سيا�سة بريطانيا جتاه الإمرباطورية العثمانية‬

‫ارتكزت �سيا�سة بريطانيا جتاه االمرباطورية العثمانية‪ ،‬وخالل القرن التا�سع ع�شر‪ ،‬على املحافظة‬ ‫على الوحدة الإقليمية للدولة العثمانية ومنع �أي دولة (�أوروبية او غريها) من تهديد ا�ستقرار او‬ ‫وحدة ارا�ضي االمرباطورية العثمانية‪ .‬ومتّت املحافظة على هذين الهدفني بوا�سطة ميزان قوى‬ ‫�أوروبي حافظت على ا�ستمراره القوة الع�سكرية البحرية لال�سطول الربيطاين املنت�شر يف البحر‬ ‫االبي�ض املتو�سط‪ .‬اما ال�سيا�سة اخلارجية العثمانية فقد قامت باملناورة وتخطيط طريقها حتت كنف‬ ‫هذه املظلة الواقية‪ ،‬وعند احلاجة تنازلت الدولة العثمانية للدول الأوروبية القوية‪.‬‬ ‫ونتيجة لهذه احلماية وللعالقات التجارية امل�شرتكة‪ ،‬ف�إن ال�سيا�سة اخلارجية العثمانية مالت لربيطانيا‪.‬‬ ‫تبدل يف نهاية القرن التا�سع ع�شر حيث مالت هذه ال�سيا�سة نحو املانيا‪ .‬واثر ذلك على‬ ‫ولكن الأمر ّ‬ ‫التبادل التجاري‪ ،‬فازدادت الواردات العثمانية من املانيا من ‪ 6‬ماليني مارك املاين يف العام ‪1882‬‬ ‫لت�صل اىل ‪ 35‬مليون مارك املاين يف العام ‪ .4 1895‬وباال�ضافة لذلك‪ ،‬حظيت املانيا على مناق�صة‬ ‫لإقامة خط �سكة حديد يربط م�ضيق البو�سفور مبدينة �أنقرة‪ ،‬وكان ذلك م�ؤ�شراً وا�ضحاً على النيات‬ ‫‪5‬‬ ‫اال�ستعمارية الملانيا يف ال�شرق االو�سط‪.‬‬ ‫‪1- Major J. Russell (1966) The Western World (Philadelphia and New York: J.B. Lippincott‬‬ ‫;‪Co), p. 517‬‬ ‫;‪2- Ibid., p. 518‬‬ ‫‪3- Shaw, Stanford J. and Shaw, Ezel Kural (1977) History of the Ottoman Empire and Modern‬‬ ‫;‪Turkey (Cambridge: Cambridge University Press), p. 122‬‬

‫‪ -4‬لوت�سكي‪ ،‬فالدميري (‪ )1975‬تاريخ االقطار العربية احلديث (مو�سكو‪ :‬دار التقدم) �ص‪.383 .‬‬ ‫‪ -5‬امل�صدر ذاته‪� ،‬ص‪386 .‬‬ ‫‪20‬‬


‫فـلـ�سـطـيـن‬

‫وجاء التحدي الآخر للهيمنة الربيطانية على التجارة مع الدولة العثمانية من فرن�سا والتي بد�أت‬ ‫يف ن�سج عالقات جتارية مع الدولة العثمانية‪ ،‬خا�صة مع �سوريا‪ ،‬لبنان وفل�سطني‪ .‬وقامت فرن�سا‪ ،‬يف‬ ‫بداية القرن الع�شرين‪ ،‬ب�شراء ثلث (‪ 33‬باملئة) من ال�صادرات ال�سورية مثل احلرير والتبغ والقطن‬ ‫وغريها من املنتوجات الزراعية‪ .‬كما وقام الفرن�سيون ب�إن�شاء ميناء بريوت وعدد من خطوط‬ ‫ال�سكك احلديدية مثل خط يافا ‪ -‬القد�س وبريوت ‪ -‬دم�شق‪ .‬وبالإ�ضافة لذلك‪ ،‬مت فتح فروع‬ ‫‪1‬‬ ‫لبنوك فرن�سية يف مدن فل�سطني و�سوريا‪.‬‬ ‫‪ .3‬االخرتاق الر�أ�سمايل للدولة العثمانية‬

‫وبالإ�ضافة اىل العالقات التجارية مع �أوروبا‪ ،‬ح�صل اخرتاق ر�أ�سمايل لالقت�صاد العثماين متثل يف‬ ‫ت�صدير الر�أ�سمال الأوروبي كا�ستثمارات وكقرو�ض ذات فوائد عالية‪ .‬ففي الفرتة ‪1874 - 1853‬‬ ‫زودت البنوك الربيطانية والفرن�سية الدولة العثمانية بقرو�ض و�صلت اىل ‪ 5300‬مليون فرنك فرن�سي‪.‬‬ ‫و�شكلت اخل�صومات (فوائد وعمولة) ما ي�ساوي‪ 43,2‬باملئة من جممل القرو�ض‪ .‬ومت �صرف هذه‬ ‫القرو�ض ال�ضخمة لتغطية الإنفاق الع�سكري وتكاليف ان�شاء خطوط ال�سكك احلديدية‪ .2‬وتفاقم‬ ‫الو�ضع املايل للخزينة العثمانية يف العام ‪ 1875‬عندما بلغ جمموع مداخيل الدولة العثمانية ‪380‬‬ ‫مليون فرنك وكان يتحتم عليها دفع ‪ 300‬مليون فرانك لت�سديد اق�ساط القرو�ض امل�ستعجلة‪ .‬و�أدى‬ ‫‪3‬‬ ‫هذا الو�ضع املايل املرتدي اىل قيام احلكومة العثمانية ب�إعالن افال�سها يف العام ذاته‪.‬‬ ‫ومن خالل االخرتاق الر�أ�سمايل‪ ،‬واالتفاقيات التجارية‪ ،‬واال�ستثمارات‪ ،‬والقرو�ض املجحفة‬ ‫ا�ستطاع الر�أ�سمال الأوروبي ا�ستعباد الدولة العثمانية االقطاعية‪ .‬بعدها‪ ،‬وببطء‪ ،‬مت �إدماج‬ ‫االمرباطورية العثمانية يف النظام الر�أ�سمايل العاملي‪ .‬عملية االدماج �أدت اىل �إ�ضعاف ال�سيطرة‬ ‫العثمانية على م�ستعمراتها والتي بد�أت‪ ،‬الواحدة بعد االخرى‪ ،‬يف التحول اىل مناطق نفوذ‬ ‫لإحدى الدول الأوروبية الر�أ�سمالية‪ .‬و�أ�صبحت اجلزائر و�سوريا ولبنان مناطق نفوذ فرن�سية بينما‬ ‫ا�صبحت العراق وفل�سطني وامارات اخلليج العربي وجنوب اليمن مناطق نفوذ بريطانية‪.‬‬ ‫و�أدى التحول الر�أ�سمايل املرتاكم لالقت�صاد العثماين اىل تفكك االمرباطورية‪ .‬وبد�أت الطبقات‬ ‫الربجوازية املحلية وال�صاعدة بت�أكيد ذاتها ورغبتها يف اال�ستقالل الوطني من خالل االنتفا�ضات‬ ‫الوطنية التي اندلعت يف اليونان‪ ،‬و�صربيا‪ ،‬وبلغاريا‪ ،‬ورومانيا‪ .‬اما املناطق العربية فبد�أت بع�ضها يف‬ ‫ممار�سة �شبه اال�ستقالل مثل م�صر‪ ،‬واجلزائر‪ ،‬وتون�س‪ ،‬ولبنان واجلزيرة العربية‪.‬‬ ‫‪ -1‬امل�صدر ذاته‪� ،‬ص‪389 .‬‬ ‫‪ -2‬امل�صدر ذاته‪� ،‬ص‪375 .‬‬ ‫‪ -3‬امل�صدر ذاته‪� ،‬ص‪376 .‬‬ ‫‪21‬‬


‫‪ .4‬خطوط جتارة وموا�صالت غري �آمنة وعابرة للعامل العربي‬

‫يف اواخر القرن الثامن ع�شر كان يربط �أوروبا الغربية وال�شرق طريق بحري – بري ‪-‬بحري مير يف‬ ‫م�صر‪ .‬وا�ستعمل امل�سافرون االنكليز ميناء اال�سكندرية كمحطة للنزول‪ .‬بعدها مت نقل امل�سافرين‬ ‫والربيد والب�ضائع بوا�سطة قوافل اجلمال اىل القاهرة فال�سوي�س على البحر الأحمر‪ .‬وبعدها قامت‬ ‫ال�سفن الربيطانية بنقلهم جميعاً اىل م�ستعمرة الهند‪ .‬وكان هذا اق�صر الطرق التي ربطت بريطانيا‬ ‫‪1‬‬ ‫بالهند وذلك باملقارنة مع طريق ر�أ�س الرجاء ال�صالح حول القارة االفريقية‪.‬‬ ‫ويف العام ‪ 1798‬غزت اجليو�ش الفرن�سية‪ ،‬بقيادة نابليون بونبارت‪ ،‬م�صر ليحولها م�ؤقتا مل�ستعمرة‬ ‫فرن�سية‪ .‬و�أدى الغزو الفرن�سي اىل توقف م�ؤقت حلركة التنقل يف هذا املمر كما و�أظهر عدم ح�صانته‬ ‫و�سهولة تعر�ضه للهجوم‪ .‬ويف العام ‪ 1799‬انطلقت اجليو�ش الفرن�سية لغزو فل�سطني وبد�أ نابليون‬ ‫بتهديد ا�ستقرار االمرباطورية العثمانية‪ ،‬كما و�أفقدها وحدتها الإقليمية ب�شطرها اىل ق�سمني‪� ،‬شرقي‬ ‫وغربي‪.‬‬ ‫و�أظهر‪ ،‬كل من التناف�س الفرن�سي الربيطاين يف البحر املتو�سط وغزو نابليون مل�صر وجزء من �سوريا‪،‬‬ ‫للم�ستعمرين االنكليز مدى عدم ح�صانة االمرباطورية العثمانية وطريق التجارة العابر يف م�صر‬ ‫باجتاه الهند‪ .‬و ّمت ت�أكيد عدم ح�صانة الإمرباطورية العثمانية واملمر البحري ـ الربي ـ البحري مرة‬ ‫�أخرى عندما قام حممد علي با�شا‪ ،‬وايل م�صر بغزو اجلزيرة العربية يف العام ‪ ،1811‬وال�سودان يف‬ ‫العام ‪ ،1820‬وفل�سطني يف العام ‪.1831‬‬ ‫‪ .5‬حممد علي با�شا وفل�سطني وفكرة اململكة العربية املتحدة‬

‫احتلت القوات امل�صرية بقيادة ابراهيم با�شا‪ 2‬و يف العام ‪ ،1831‬مدن فل�سطني ال�ساحلية غزة‪ ،‬يافا‪،‬‬ ‫حيفا وعكا‪ .‬وبعدها احتلت حم�ص‪ ،‬وحلب‪ ،‬وحماة ودم�شق‪ ،‬ومن ثم احتل ابراهيم با�شا ق�سما‬ ‫من االنا�ضول‪ 3‬وكاد ي�صل ا�ستانبول عا�صمة االمرباطورية العثمانية لوال تدخل رو�سيا‪ ،‬وفرن�سا‬ ‫وبريطانيا‪ 4‬وا�ستمر حكم حممد علي ل�سوريا وفل�سطني حتى العام ‪.1840‬‬ ‫ومن �أجل تربير حملته الع�سكرية‪ ،‬ا�ستخدم حممد علي كذريعة لغزو فل�سطني حقيقة هرب �ستة‬ ‫‪ -1‬امل�صدر ذاته‪� ،‬ص‪45 .‬‬

‫‪ -2‬هو اكرب �أبناء حممد علي وقائد حمالته الع�سكرية يف �سوريا واجلزيرة العربية واليونان ويعترب قائدا ع�سكريا فذا‬ ‫و�شخ�صا ذا ارادة حديدية‪ ،‬و�سيا�سياً ذا ر�ؤية ا�سرتاتيجية‪( ،‬زهري ال�صاغ)‪.‬‬ ‫‪ -3‬االنا�ضول هو اال�سم القدمي لرتكيا اليوم‪( ،‬ز‪� .‬ص‪.).‬‬ ‫‪ -4‬لوت�سكي‪ ،‬م�صدر �سبق ذكره‪� ،‬ص‪127 .‬‬ ‫‪22‬‬


‫فـلـ�سـطـيـن‬

‫�آالف فالح م�صري اىل فل�سطني لتجنب التجنيد الق�سري‪ .‬مع ذلك كان وراء احلملة امل�صرية‬ ‫على �سوريا م�صالح اقت�صادية لدولة �صناعية �صاعدة تبحث عن م�صدر للخامات و�سوق قريبة‬ ‫لت�صريف ب�ضائعها‪ .‬و�شكلت �سوريا "واحدة من �أغنى اقاليم االمرباطورية العثمانية تنتج خامات‬ ‫احلرير والقمح وال�صوف وزيت الزيتون والفواكه الثمينة ومبقدورها ان ت�صبح �سوقا مالئمة لل�صناعة‬ ‫‪1‬‬ ‫امل�صرية النامية"‪.‬‬ ‫وبعد ا�ستتباب حكمه يف فل�سطني‪� ،‬شرع ابراهيم با�شا ب�إجراء بع�ض اال�صالحات االدارية‬ ‫واالقت�صادية‪ ،‬ففر�ض �ضرائب ور�سوماً جديدة مثل �ضريبة الفردة‪ ،‬و�ضرائب غري مبا�شرة مثل‬ ‫اجلمارك ور�سوم الدخان واملوا�شي والقطن والزواج واحلمامات وال�صابون والطواحني وغريها‪.2‬‬ ‫كما وادخل ا�صالحات �ضريبية يف �صالح الفالحني و�ضد ابتزاز االقطاعيني املحليني‪ .‬كما �ألغى‬ ‫وظيفة جباة ال�ضرائب التع�سفيني من جتار وحرفيني االمر الذي حفزهم اىل اال�ستثمار والتطور‬ ‫فانتع�شت التجارة وال�صناعة‪ .‬اما يف حقل الزراعة‪ ،‬فقام ابراهيم با�شا با�ست�صالح ارا�ضي زراعية‬ ‫وزيادة امل�ساحة املزروعة‪ .‬وا�ستطاع يف غ�ضون ال�سنتني االوليني من احلكم امل�صري �أن يزيد م�ساحة‬ ‫االر�ض املزروعة من �ألفني اىل �سبعة �آالف فدان يف �سهول حوران‪� .3‬أدت جميع هذه اال�صالحات‬ ‫اىل ت�صفية التع�سف الإقطاعي والتمهيد لتطوير العالقات الر�أ�سمالية داخل املناطق املتطورة من‬ ‫االمرباطورية العثمانية‪.‬‬ ‫بالإ�ضافة لذلك‪ ،‬ادخل ابراهيم با�شا �إ�صالحات يف حقل التعليم‪ ،‬وحوله اىل نظام تربوي متطور‬ ‫ي�شبه نظام التعليم يف م�صر‪ .‬ويف العام ‪ 1834‬ان�ش�أ ابراهيم با�شا دار طباعة يف لبنان‪ ،‬كما وان�شئت‬ ‫املدار�س االبتدائية يف جميع انحاء �سوريا واملدار�س الثانوية يف دم�شق وحلب وانطاكية حيث‬ ‫ا�ستخدمت‪ ،‬ولأول مرة‪ ،‬اللغة العربية ك�أداة للتعليم‪.4‬‬ ‫ان التو�سع االقليمي ايل قام به حممد علي با�شا يف الفرتة ‪� 1831 – 1811‬أدى اىل تو�سيع مناطق‬ ‫نفوذه لت�شمل ال�شاطئ الغربي للجزيرة العربية‪ ،‬وال�سودان‪ ،‬و�سوريا‪ .‬واثناء احلكم امل�صري لهذه‬ ‫االمرباطورية النامية‪ ،‬بد�أت اال�سرتاتيجية امل�صرية يف االف�صاح عن طموحاتها االقليمية‪ .‬عرب حممد‬ ‫علي وابنه ابراهيم با�شا عن طموحهما يف �إقامة مملكة عربية موحدة مك ّونة من املناطق العربية الواقعة‬ ‫‪ -1‬امل�صدر ذاته‪� ،‬ص‪124 .‬‬

‫‪ -2‬مناع‪ ،‬عادل (‪ )1999‬تاريخ فل�سطني يف اواخر العهد العثماين ‪ ( 1918 – 1700‬بريوت ‪ .‬م�ؤ�س�سة الدرا�سات‬ ‫الفل�سطينية)‪� ،‬ص‪141 .‬‬ ‫‪ -3‬لوت�سكي‪ ،‬م�صدر �سبق ذكره‪� ،‬ص‪132 .‬‬ ‫‪ -4‬امل�صدر ذاته‪� ،‬ص‪134 .‬‬ ‫‪23‬‬


‫حتت احلكم العثماين‪ .‬ويف لقاء مع املمثل الفرن�سي‪ 1‬لدى ابراهيم ظهر ان ابراهيم با�شا "ال يخفي‬ ‫مقا�صده‪ ،‬فهو يرمي اىل بعث الوعي القومي العربي واحياء االمة العربية وغر�س �شعور وطني ا�صيل‬ ‫عند العرب والتعاون معهم اىل اق�صى حد يف ادارة االمرباطورية القادمة‪ .‬وبث ابراهيم بن�شاط فكرة‬ ‫البعث القومي ويف نداءاته كان غالبا ما يذكر مبجد ال�شعب العربي قي التاريخ القدمي‪ .‬و�أثر بحما�سة‬ ‫‪2‬‬ ‫على قواته‪ ،‬و�أحاط نف�سه ب�أنا�س ي�شاطرونه افكاره ويعملون من اجل بثها"‪.‬‬ ‫ان طرح فكرة توحيد االمة العربية يف مملكة واحدة جاء �سابقاً لأوانه فاو�ضاع العرب يف حينه مل‬ ‫تكن بعد قد تطورت يف هذا االجتاه‪ ،‬فال ال�شعور الوطني كان موجوداً وال الرغبة يف اال�ستقالل‬ ‫والتحرر الوطني كانت قد بد�أت‪ .‬كما �أن الربجوازية العربية يف املناطق العربية‪ ،‬والتي كانت من‬ ‫املمكن ان تطور الفكر القومي والوعي الوطني‪ ،‬كانت �ضعيفة جدا كونها متر يف مراحل تكوينها‬ ‫الأوىل‪ .‬وبالرغم من احلرب العنيفة التي خا�ضها ابراهيم با�شا �ضد االقطاعيني ال�سوريني‪ ،‬ولكنه‬ ‫مل يتمكن من الق�ضاء على ا�سلوب الإنتاج االقطاعي وا�ستبداله باال�سلوب الر�أ�سمايل‪ .‬ولذلك‪،‬‬ ‫حاول ابراهيم با�شا ا�ستباق االمور بالإ�سراع يف حتقيق طموحاته الوطنية الوحدوية فجاءت متقدمة‬ ‫على ع�صره‪.‬‬ ‫ان �سيطرة جيو�ش حممد علي على ال�سودان وال�شاطئ الغربي للجزيرة العربية حتى حدود اليمن‬ ‫و�سوريا‪� ،‬أدى اىل ال�سيطرة على خطوط التجارة واملوا�صالت املارة من �أوروبا الغربية اىل ال�شرق‬ ‫وحتى قطعها‪ .‬كما ان الطموحات الوطنية البراهيم با�شا ب�إن�شاء مملكة عربية موحدة يف امل�شرق‬ ‫واملغرب العربي‪� ،‬أدت اىل ا�ستنفار اال�ستعمار الربيطاين الذي عرب عن انزعاجه من خطط حممد‬ ‫‪3‬‬ ‫علي با�شا‪.‬‬ ‫‪ .6‬انتفا�ضات �سورية �ضد التجنيد وال�رضائب‬

‫�أدرك ابراهيم با�شا ان ال�سلطان العثماين لن ي�س ّلم ب�ضياع �سوريا �إال م�ؤقتاً وانه �سيحاول‬ ‫ا�سرتجاعها بالقوة‪ .‬وا�ستباقا لهذه املعركة املقبلة‪ ،‬قام ابراهيم با�شا بعدد من اال�ستعدادات‬ ‫الع�سكرية فامر ببناء القالع وحت�صني املمرات اجلبلية‪ ،‬واقتنى املدافع وو�سع �صفوف اجلي�ش‪.‬‬ ‫ومت بناء التح�صينات بف�ضل العمل الإجباري جلماهري الفالحني ال�سوريني كما �أن املدافع‬ ‫اقتنيت على ح�سابهم من خالل فر�ض �ضرائب عالية‪ .‬و�أخرياً‪ ،‬مت جتنيد الفالحني ال�سوريني‬ ‫‪ -1‬كان البارون بوالكمت �صديقا البراهيم با�شا‪( ،‬ز‪� .‬ص‪.).‬‬ ‫‪ -2‬لوت�سكي‪ ،‬م�صدر �سبق ذكره‪� ،‬ص ‪ 131-132‬و ‪Antonius, George (1965) The Arab Awakening (New‬‬

‫‪York: Capricorn Books), p. 31‬‬

‫‪24‬‬

‫;‪3- Antonius,op, cit., p. 31‬‬


‫فـلـ�سـطـيـن‬ ‫‪1‬‬

‫من اجل تو�سيع �صفوف اجلي�ش امل�صري‪.‬‬ ‫�أدت هذه اخلطوات اىل �إثارة حفيظة الإقطاعيني والفالحني و�إنهاكهم اقت�صادياً‪ ،‬االمر الذي دفعهم‬ ‫اىل القيام بانتفا�ضة يف العام ‪� 1834‬ضد الوجود الع�سكري امل�صري‪ ،‬بد�أت يف نابل�س وانت�شرت‬ ‫يف بقية ارجاء فل�سطني و�سوريا‪ .‬ويف العام ‪ 1837‬قامت يف حوران انتفا�ضة الفالحني الدروز �ضد‬ ‫التجنيد‪ .‬مل يتمكن ابراهيم با�شا الق�ضاء ب�سهولة على هذه االنتفا�ضة‪ ،‬وا�ضطر حممد علي اىل‬ ‫ار�سال جي�ش لإخماد االنتفا�ضة يف فل�سطني‪ .‬ويف العام ‪ 1840‬اندلعت انتفا�ضة اخرى يف منطقة‬ ‫لبنان‪ .‬وبالرغم من كونها اكرب هذه االنتفا�ضات‪ ،‬ولكن اجلي�ش امل�صري ا�ستطاع �إخمادها‪ ،‬وذلك‬ ‫‪2‬‬ ‫ب�سبب كونها حم�صورة باملناطق امل�سيحية وكونها �سيئة التنظيم‪.‬‬ ‫‪ .7‬هزمية حممد علي وف�شل م�شاريعه التو�سعية‬

‫قرر عدد من الدول الغربية وهي بريطانيا‪ ،‬والنم�سا ورو�سيا وبرو�سيا التدخل ع�سكريا خا�صة بعد‬ ‫ف�شل االنتفا�ضة اللبنانية‪ ،‬و�شاركتهم الدولة العثمانية التي ر�أت يف ذلك فر�صة ال�ستعادة �سوريا‬ ‫وحتجيم حممد علي‪ .‬وكانت اكرث هذه الدول حما�سة للحرب �ضد اجلي�ش امل�صري هي بريطانيا‪،‬‬ ‫والتي "اعتربت م�صر عقبة ك�أداء يف طريق فر�ض ال�سيادة االنكليزية يف �شرق البحر االبي�ض‬ ‫املتو�سط‪ .‬ور�أت يف �سطوة م�صر تهديداً ملركز بريطانيا يف اخلليج العربي‪ .‬وكان حممد علي بالن�سبة‬ ‫‪3‬‬ ‫لالنكليز املانع اال�سا�سي الذي اعاق تطور املوا�صالت والتجارة االمرباطورية ب�صورة ناجحة"‪.‬‬ ‫وكانت نتيجة احلرب هزمية اجلي�ش امل�صري وان�سحابه من �سوريا ومن ثم التوقيع على اتفاقية لندن‬ ‫املهينة يف العام ‪ .1840‬و�أدت هزمية اجلي�ش واال�سطول احلربي امل�صري اىل ف�شل برنامج اال�ستقالل‬ ‫والتنمية الذاتية امل�صرية‪ .‬كما ان الهزمية الع�سكرية و�شروط اتفاقية لندن‪� 4‬أدت اىل �سقوط م�صر‬ ‫حتت نفوذ بريطانيا الأمر الذي مهد‪ ،‬يف ما بعد‪ ،‬اىل حتويلها م�ستعمرة انكليزية‪ .‬كما ان نتائج احلرب‬ ‫ادت اىل حتويل الدولة العثمانية اىل م�صدر تابع للدول الغربية يزودها باملواد االولية الزراعية‬ ‫وببع�ض اخلامات‪.‬‬ ‫كما ان التدخل الأوروبي وا�ست�سالم حممد علي يف العام ‪ 1840‬دفع باملناطق العربية‪ ،‬يف الدولة‬ ‫العثمانية‪ ،‬اىل تغلغل الر�أ�سمال الأوروبي املتزايد بها واالندماج اكرث يف النظام الر�أ�سمايل‬ ‫الأوروبي" ‪[ ...‬و]ميكن اعتبار هذا العهد فاحتة اال�ستعباد اال�ستعماري للبلدان العربية وعهد تبعيتها‬ ‫‪ -1‬لوت�سكي‪ ،‬م�صدر �سبق ذكره‪� ،‬ص‪135 .‬‬ ‫‪ -2‬امل�صدر ذاته‪� ،‬ص‪141 - 138 .‬‬ ‫‪ -3‬امل�صدر ذاته‪� ،‬ص‪137 .‬‬

‫‪ -4‬اتفاقية لندن للعام ‪ ،1840‬موقع املعرفة‪ ، www.marefa.org ،‬بتاريخ ‪2015 - 7-29‬‬ ‫‪25‬‬


‫‪1‬‬

‫االقت�صادية‪ .‬وكانت النتيجة املنطقية لهذا العهد‪ ،‬حتويل البلدان العربية اىل م�ستعمرات‪."...‬‬ ‫‪ .8‬تطور خطوط املوا�صالت‬

‫نتيجة لتحويل م�صر اىل منطقة نفوذ بريطانية‪ ،‬متكن الربيطانيون‪ ،‬ويف الفرتة ‪ ،1857 - 1853‬من‬ ‫ّمد خط �سكة حديد يربط بني اال�سكندرية والقاهرة وال�سوي�س‪ 2‬وذلك لتق�صري املدة الزمنية‬ ‫ولتح�سني خط التجارة بني بريطانيا وم�ستعمراتها يف ال�شرق و�أهمها الهند‪ .‬وبرزت قيمة اخلط‬ ‫اال�سرتاتيجية يف العام ‪ 1857‬اثناء مترد ال�سباهيني‪ .3‬وا�ستطاع الربيطانيون نقل قوات ع�سكرية يف‬ ‫العام ‪ 1858‬عرب هذا الطريق وجنحوا يف قمع انتفا�ضة ال�سباهيني وا�ستعادة �سيطرتهم على الهند‪.‬‬ ‫ويف الفرتة ‪� 1864 - 1861‬سببت احلرب االهلية االمريكية نق�صا حادا يف القطن اخلام االمر الذي‬ ‫ادى اىل حدوث بطالة بني عمال الن�سيج يف بريطانيا‪ .‬وكحل لذلك‪ ،‬قامت بريطانيا بحث م�صر‬ ‫‪4‬‬ ‫ودفعها على زراعة القطن‪ ،‬كما ان �سوريا وفل�سطني بد�أتا يف زراعة القطن‪.‬‬ ‫يف العام ‪ 1869‬قام العمال امل�صريون حتت ا�شراف املهند�سني الفرن�سيني ب�شق قناة ال�سوي�س‪ .‬ويف‬ ‫و�صفه للمجهود الذي و�ضعه العمال امل�صريون‪ ،‬كتب امل�ست�شرق الرو�سي فالدميري لوت�سكي ما‬ ‫يلي‪:‬‬ ‫عمل يف �شق القنال ويف مو�ضع البناء دائماً ما بني ‪ 40 - 25‬الف فالح م�صري‪ .‬وعمل ه�ؤالء‬ ‫بال�سخرة وحفروا القنال بالعمل اليدوي‪ .‬وكان عملهم يبد�أ مع �شروق ال�شم�س وينتهي مع غروبها‪.‬‬ ‫ومل يكن يف طاقة كرثة منهم احتمال �شروط العمل امل�ضنية اذ ق�ضى نحبه يف ت�شييد القناة حوايل‬ ‫‪ 20‬الف عامل‪ .‬وبف�ضل العمل الإجباري ال�شبيه بعمل العبيد الذي كان يقوم به الفالحون‬ ‫امل�صريون امل�ستعبدون وعلى جماجمهم �شيد �أ�ضخم �صرح للمدنية الر�أ�سمالية يف القرن التا�سع‬ ‫‪5‬‬ ‫ع�شر‪.‬‬ ‫ادى هذا االمر اىل حدوث حتول جذري يف خط التجارة بني �أوروبا و�آ�سيا الذي انتقل من طريق‬ ‫ر�أ�س الرجاء ال�صالح اىل البحر االبي�ض املتو�سط والبحر االحمر‪ .‬وا�صبح طريق قناة ال�سوي�س‬ ‫الطريق االكرث اهمية للدول الأوروبية‪ ،‬خا�صة بريطانيا‪ .‬ا�ستعملت القناة يف العام ‪ 1870‬من قبل‬ ‫‪� 486‬سفينة ولكن يف العام ‪ 1882‬ارتفع عدد ال�سفن التي عربت قناة ال�سوي�س اىل ‪� 3000‬سفينة‪،‬‬ ‫‪ -1‬لوت�سكي‪ ،‬م�صدر �سبق ذكره‪� ،‬ص‪146 .‬‬ ‫‪ -2‬امل�صدر ذاته‪� ،‬ص‪185 .‬‬

‫‪ -3‬ال�سباهي هو هندي مت جتنيده يف اجلي�ش الربيطاين املتواجد يف م�ستعمرة الهند‪( ،‬ز‪� .‬ص‪.).‬‬

‫;‪4- Marx-Engels (1953) On Britain (Moscow: Progress Publishers) p. 492‬‬

‫‪ -5‬لوت�سكي‪ ،‬م�صدر �سبق ذكره‪� ،‬ص‪188 .‬‬ ‫‪26‬‬


‫فـلـ�سـطـيـن‬

‫�سافرت ‪ 80‬باملئة منها حتت العلم الربيطاين‪ 1.‬ويظهر هذا مدى اهمية قناة ال�سوي�س بالن�سبة‬ ‫للم�صالح الربيطانية‪ ،‬التجارية منها واال�ستعمارية‪.‬‬ ‫ويف العام ‪ 1875‬قام رئي�س الوزراء الربيطاين دزرئيلي ب�شراء ‪ 45‬باملئة من ا�سهم �شركة قناة‬ ‫ال�سوي�س وا�ستدان من اجل ذلك االموال من مالك البنوك االنكليزي اليهودي جيم�س‬ ‫روت�شيلد‪ .2‬وا�صبحت قناة ال�سوي�س م�صلحة بريطانية ا�سرتاتيجية ولكن خط التجارة واملوا�صالت‬ ‫العابر بها بقي غري ح�صني ويتطلب حماية ع�سكرية مبا�شرة‪ .‬ومن اجل حماية خط التجارة هذا‬ ‫قامت بريطانيا باحتالل عدد من املناطق فاحتلت جزيرة قرب�ص يف العام ‪ ،1878‬ثم م�صر (‪،)1882‬‬ ‫فال�صومال (‪ ،)1884‬فبيت�شواناالند (‪ ،)1885‬فكينيا (‪ ،)1888‬فال�سودان (‪ .)1889‬وهكذا "ف�إن االطماع‬ ‫االقليمية يف اوغندا‪ ،‬ال�ساحل ال�شرقي‪ ،‬ودلتا النيل‪ ،‬مل يكن ورائها البحث عن ا�سواق وجتارة‪،‬‬ ‫بل كان باالحرى البحث عن امن اكرب خلطوط املوا�صالت التي ربطت بريطانيا باالمرباطورية‬ ‫‪3‬‬ ‫الهندية"‪.‬‬ ‫‪ .9‬امل�صالح اال�ستعمارية يف فل�سطني‬

‫بحث اال�ستعمار الربيطاين عن �إقامة امل�ستعمرات ال�سباب خمتلفة‪ :‬كا�سواق‪ ،‬كم�صادر للخامات‬ ‫واملواد الغذائية‪ ،‬كمحطات للتجارة‪ ،‬كمحطات لل�سفن البخارية للتزود بالفحم احلجري ول�صيانة‬ ‫ال�سفن‪ ،‬او ب�سبب مواقع امل�ستعمرات اال�سرتاتيجية‪.‬‬ ‫كان �سوق فل�سطني �صغرياً يف بداية القرن التا�سع ع�شر وكانت فل�سطني فقرية باملواد اخلام وكان‬ ‫اقت�صادها زراعياً و�أرا�ضيها الزراعية حمدودة امل�ساحة‪ .‬ولكن االهتمام الأوروبي بفل�سطني بد�أ‬ ‫فعلياً يتك ّون بعد احتالل حممد علي با�شا ل�سوريا وفل�سطني يف العام ‪ .1831‬وخالل فرتة حكمه‬ ‫لفل�سطني �سمح حممد علي للدول الأوروبية بفتح قن�صليات لها يف القد�س كانت �أولها القن�صلية‬ ‫الربيطانية يف العام ‪ ،1839‬وتبعتها قن�صليات الملانيا وفرن�سا ورو�سيا وغريها من الدول‪.‬‬ ‫مل ي�سيطر االنكليز على ال�سوق الفل�سطينية يف بداية القرن التا�سع ع�شر‪ .‬فبالإ�ضافة لهم‪ ،‬كان‬ ‫لفرن�سا واملانيا والنم�سا ‪ -‬هنغاريا م�صالح يف ال�سوق الفل�سطينية‪ .‬ولكن فل�سطني مت ت�سليط الأنظار‬ ‫عليها ب�سبب موقعها اال�سرتاتيجي‪ .‬وكان موقع فل�سطني على البحر االبي�ض املتو�سط والبحر‬ ‫االحمر‪ ،‬بني �سوريا وم�صر وبني افريقيا و�آ�سيا‪ ،‬قد ز ّودها ب�أهمية ا�سرتاتيجية‪ .‬باال�ضافة لذلك‪،‬‬ ‫فان موقعها اال�سرتاتيجي اكت�سب اهمية متزايدة لأنه كان على طريق التجارة الآخذ يف التطور‬ ‫;‪1- Baumgart Winfried (1982) Imperialism (Oxford: Oxford University Press), p. 22‬‬ ‫‪ -2‬لوت�سكي‪ ،‬م�صدر �سبق ذكره‪� ،‬ص‪234 - 233 .‬‬

‫‪3- Baumgart Winfried , op. cit., p. 46‬‬ ‫‪27‬‬


‫بني �أوروبا و�شرق افريقيا و�آ�سيا وا�سرتاليا ونيوزلندا‪ ،‬اي بني بريطانيا وم�ستعمراتها ومناطق نفوذها‬ ‫يف ال�شرق‪ .‬وتكونت امل�ستعمرات الربيطانية يف حينه من الهند‪� ،‬سيالن‪ ،‬بورما‪ ،‬املاليو‪ ،‬ا�سرتاليا‪،‬‬ ‫نيوزيالندا‪ .‬وتكونت مناطق نفوذها من‪( :‬م�صر‪ ،‬ال�سودان‪ ،‬ال�صومال‪ ،‬اوغندا‪ ،‬العراق‪ ،‬ايران‪ ،‬ودول‬ ‫اخلليج العربي‪ ،‬جنوب اجلزيرة العربية وال�صني‪� .‬شكلت جميع هذه امل�ستعمرات ومناطق النفوذ‬ ‫مع بع�ضها �سوقا �ضخمة وحيوية للر�أ�سمالية الربيطانية‪ .‬وازداد هذا ال�سوق اهمية بعد ان خ�سر‬ ‫‪1‬‬ ‫اال�ستعمار الربيطاين ‪ 15‬م�ستعمرة يف �شمال امريكا وذلك يف العام ‪1783 .‬‬ ‫متثلت ال�سيا�سة الربيطانية جتاه االمرباطورية العثمانية يف بداية القرن التا�سع ع�شر بانها ارتكزت‬ ‫على املحافظة على حليف عثماين �ضعيف و�سوق عثمانية متنامية للمنتوجات الربيطانية‪ .‬كما ان‬ ‫اال�سرتاتيجية الربيطانية للمحافظة على ذلك تطلبت اقامة ميزان قوى �أوروبي و�إزالة متوا�صلة لأية‬ ‫تهديدات ع�سكرية ت�سعى اىل امل�س بالوحدة االقليمية للدولة العثمانية‪ .‬ولكن ال�ضعف البنيوي‬ ‫الداخلي لالمرباطورية العثمانية �أدى اىل ك�شف عدم ح�صانة هذه االمرباطورية وبالتايل عدم‬ ‫ح�صانة طريق املوا�صالت والتجارة املار داخلها‪ .‬ومت �إثبات عدم احل�صانة هذه مرتني خالل ‪32‬‬ ‫عاماً‪ ،‬يف العام ‪ 1799‬عندما احتل نابليون م�صر وفل�سطني‪ ،‬ويف العام ‪ 1831‬عندما احتل حممد‬ ‫علي فل�سطني و�سوريا‪.‬‬ ‫وبد�أ التفكري اال�سرتاتيجي الربيطاين مييل اىل �إقامة دولة ا�ستيطانية حاجزة ت�شكل قاعدة‬ ‫ع�سكرية ثابتة من �أجل حماية هذه امل�صالح اال�ستعمارية‪ .‬وجاء هذا التطور بعد ان ظهر‬ ‫ان كافة القواعد التي مت احتاللها يف �شرق افريقيا مل تكن كافية حلماية طريق املوا�صالت‬ ‫والتجارة واالمرباطورية العثمانية‪ .‬باال�ضافة لذلك‪ ،‬انتبه امل�ستعمرون الربيطانيون للطاقة‬ ‫الكامنة للوعي القومي الذي من املمكن �أن ين�ش�أ يف املناطق العربية وعليه جتب اقامة دولة‬ ‫حاجزة ا�صطناعية ‪ 2 Buffer State‬لتكون حاجزة وفا�صلة بني م�صر واالمرباطورية العثمانية‬ ‫وبني منطقة النفوذ الفرن�سية ومنطقة النفوذ الربيطانية داخل الدولة العثمانية‪ ،‬ولتف�صل بني‬ ‫�آ�سيا وافريقيا ولتمنع اقامة وحدة اقليمية قومية بني امل�شرق واملغرب العربيني‪ .‬و�أي�ضا لتكون‬ ‫حامية خلطوط املوا�صالت والتجارة بني �أوروبا وم�ستعمراتها و�شريكاتها يف التجارة يف جهة‬ ‫‪1- Major J. Russell (1966) The Western World . Philadelphia and New York: J.B. Lippincott‬‬ ‫;‪Co., p. 518‬‬

‫‪ -2‬ملزيد من التعمق يف الفكر اال�سرتاتيجي الربيطاين وفكرة اقامة الدولة احلاجزة ‪ ,‬ودورها يف املحافظة على امل�صالح‬ ‫اال�ستعمارية الربيطانية‪ ،‬انظر يف‪:‬‬ ‫‪Sidebotham, Herbert (1918) “British Interests in Palestine”, Reprinted from : England and‬‬ ‫‪Palestine: Essays Towards the Restoration of the Jewish State (London: Constable and‬‬ ‫‪Company). Republished in: Khalidi, Walid, ed. (1987) From Haven To Conquest (Washington:‬‬ ‫;)‪The Institute for Palestine Studies‬‬ ‫‪28‬‬


‫فـلـ�سـطـيـن‬

‫ال�شرق‪ .‬وكان املوقع االكرث اهمية ا�سرتاتيجية لهذه الدولة احلاجزة هو اقليم فل�سطني‪.‬‬ ‫‪ .10‬والدة فكرة الدولة اليهودية احلاجزة‬

‫كان اول �سيا�سي �أوروبي اقرتح ان�شاء دولة يهودية يف فل�سطني هو نابليون بونابارت وذلك يف العام‬ ‫‪ 17991‬وكانت هذه الدعوة قد �سبقت دعوة مماثلة اطلقها ثيودور هرتزل القامة الدولة اليهودية بـ‬ ‫‪ 97‬عاما وجاءت قبل والدة هرتزل بـ ‪ 61‬عاماً‪ .‬كما ان هذه الدعوة من قبل نابليون مل تكن الدعوة‬ ‫الوحيدة‪ ،‬بل تبعتها دعوات �أوروبية خمتلفة‪.‬‬ ‫ويف العام ‪ 1838‬اندلعت انتفا�ضة فالحية يف �سوريا الكربى �ضد ابراهيم با�شا واحلكم امل�صري‬ ‫وذلك احتجاجاً على التجنيد االجباري للفالحني والذي قام به ابراهيم با�شا‪ .2‬ويف العام ذاته‪،‬‬ ‫قدم اللورد �شافت�سربي ‪ Shaftesbury Lord‬م�شروعا لوزير اخلارجية الربيطاين اللورد باملار�ستون‬ ‫‪ Lord Palmerston‬يدعو اىل اعادة وا�سكان اليهود يف فل�سطني وان�شاء دولة يهودية فيها حتت‬ ‫احلماية الربيطانية‪ .‬وحظي هذا امل�شروع على عطف باملر�ستون الذي ر�أى فيه �ضماناً لأمن‬ ‫‪3.‬‬ ‫موا�صالت االمرباطورية الربيطانية‬ ‫ويف العام ‪ 1840‬اقرتح رئي�س الوزراء الربيطاين ووزير اخلارجية ال�سابق اللورد باملر�ستون على‬ ‫ال�سلطان العثماين ت�شجيع اليهود االثرياء على اال�ستيطان يف فل�سطني‪ .‬وكان املنطق الربيطاين‬ ‫وراء هذا االقرتاح يرتبط بفائدتني كانتا �ستخدمان امل�صالح الربيطانية ب�شكل مبا�شر‪ .‬الفائدة‬ ‫املبا�شرة كانت يف وجود جمموعة م�ؤيدة لربيطانيا يف منطقة مل يكن لربيطانيا موالون فيها والتي‬ ‫ا�صبحت حيوية ب�شكل متزايد مل�صالح بريطانيا اال�ستعمارية‪ .‬اما الفائدة غري املبا�شرة فقد كانت‬ ‫يف تدفق ر�أ�س املال اليهودي لالقت�صاد العثماين االمر الذي �سيجعل من ال�سهل على النظام‬ ‫‪4‬‬ ‫العثماين املحافظة على الوحدة االقليمية لأرا�ضي االمرباطورية‪.‬‬ ‫ويف هذه املرحلة التاريخية‪ ،‬بد�أت ال�سيا�سة الربيطانية املتمثلة يف املحافظة على وحدة االرا�ضي‬ ‫العثمانية تتغري‪ .‬وحتت وط�أة احلروب‪ ،‬والتناف�س الأوروبي ال�شديد على اال�سواق ومناطق النفوذ‪،‬‬ ‫وامل�صالح اال�ستعمارية املتنامية‪ ،‬فان الفكر اال�سرتاتيجي الربيطاين بد�أ مييل اىل اقامة دولة حاجزة‬ ‫ا�صطناعية يف فل�سطني لتكون حاجزة بني م�صر واالمرباطورية العثمانية ولت�شكل دولة حاجزة يف‬ ‫امل�ستقبل بني منطقة النفوذ الفرن�سية (�سوريا ولبنان) ومنطقة النفوذ الربيطانية (م�صر‪ ،‬وال�سودان‬ ‫;‪1- Sherif Regina (1983) Non-Jewish Zionism. London: Zed Press, p. 51‬‬ ‫‪2- Hayamson Albert M (1918) British Projects for the Restoration of Jews to Palestine.‬‬ ‫;‪Philadelphia. As quoted by Sherif, op. cit., p. 129-130‬‬ ‫‪ -3‬لوت�سكي‪ ،‬م�صدر �سبق ذكره‪� ،‬ص‪158 .‬‬

‫;‪4- Sherif Regina, op. cit., p. 131‬‬ ‫‪29‬‬


‫وجنوب اجلزيرة العربية ومنطقة اخلليج العربي والعراق)‪ .‬كما ان الدولة احلاجزة �ستمنع قيام دولة‬ ‫عربية موحدة تتكون من امل�شرق واملغرب العربيني والتي كان يخطط لها حممد علي با�شا‪.‬‬ ‫كما ان فكرة الدولة احلاجزة نادى بها امل�ستعمرون االملان اي�ضا‪ .‬ففي العام ‪ ،1841‬اقرتح مبعوث‬ ‫املاين زار االمرباطورية العثمانية حتويل فل�سطني اىل دولة حاجزة بني الدولة العثمانية وم�صر‪ .‬وانه‬ ‫‪1‬‬ ‫من املف�ضل ان تكون هذه الدولة حتت ال�سيطرة االملانية‪.‬‬ ‫ويف العام ‪ 1841‬بعث الكولونيل ت�شارلز هرني ت�شرت�شل‪ 2‬بر�سالة اىل مونتفيوري‪ 3‬دعاه فيها ان‬ ‫يقوم اليهود با�ستعادة وجودهم ك�شعب من خالل مبادرة ذاتية وان القوى الأوروبية �ستدعم‬ ‫‪4‬‬ ‫ذلك‪.‬‬ ‫ويف العام ‪ 1845‬دعا ميلفورد ‪ E.L.Milford‬وهو �صديق باملر�ستون‪ ،‬احلكومة الربيطانية على العمل‬ ‫على اعادة اقامة ال�شعب اليهودي يف فل�سطني داخل دولة حممية حتت و�صاية بريطانيا العظمى‪.‬‬ ‫و�أ�ضاف ميلفورد ب�أن الدولة اليهودية �سوف "ت�ضع ادارة خطوط املوا�صالت التجارية كليا يف ايدينا‬ ‫و�سوف ت�ضعنا يف موقع قيادي يف ال�شرق االو�سط لو�ضع حد لالعتداءات على ارا�ضي ‪5‬وحقوق‬ ‫الآخرين‪ ،‬وللتغلب على االعداء واذا تطلبت احلاجة‪ ،‬ل�صد تقدمهم"‪.‬‬ ‫كما ان عددا من ال�سيا�سيني والع�سكريني الربيطانيني راودتهم فكرة اقامة دولة يهودية يف فل�سطني‪.‬‬ ‫ففي العام ‪� 1853‬ألقى الكولونيل جورج جولر‪ ،‬احلاكم ال�سابق ملنطقة جنوب ا�سرتاليا خطاباً حتدث‬ ‫فيه عن ال�سمات اال�سرتاتيجية ملوقع فل�سطني و�ضرورة ال�سيطرة الربيطانية على هذا املوقع‪ .‬وجاء‬ ‫يف خطابه التربير التايل‪.‬‬ ‫لقد و�ضع اهلل �سوريا وم�صر يف الفجوة املوجودة بني بريطانيا واهم املناطق امل�ستعمرة والتجارة‬ ‫اخلارجية مثل الهند‪ ،‬ال�صني‪ ،‬وجزر الهند ال�شرقية وا�سرتاليا ‪ ...‬وحتتاج بريطانيا اىل اق�صر‬ ‫و�أئمن خطوط موا�صالت لهذه املناطق‪ .‬وتقع م�صر و�سوريا داخل خطوط املوا�صالت‪ .‬واذا‬ ‫�سيطرت قوة كبرية على اي منها‪ ،‬فان هذا االمر �سي�شكل خطراً على التجارة الربيطانية‬ ‫وخطوط املوا�صالت العابرة داخل املوقع الآخر‪ .‬ولذلك‪ ،‬ينادينا اهلل ان تقوم بريطانيا بالعمل‬ ‫جدياً لتغيري �شروط كلتا املنطقتني ‪ ...‬و�أ�ضاف جولر ب�أن اليهود �سي�صبحون �أح�سن خدامني‬ ‫‪6‬‬ ‫للم�صالح الربيطانية يف املنطقة‪.‬‬ ‫;‪1- Studies On Palestine During the Ottoman Period: p.426-1‬‬

‫‪ -2‬وهو احد الع�سكريني االنكليز الذين �شاركوا يف احلرب �ضد حممد علي‪( ،‬ز‪� .‬ص‪).‬‬ ‫‪� -3‬أحد االثرياء اليهود وكان ميلك بنوكا يف بريطانيا‪( ،‬ز‪� .‬ص‪).‬‬

‫;‪4- Cohen as quoted by Sherif, op. cit., p. 132‬‬ ‫;‪5- Hayamson as quoted by Sherif, op. cit., p. 131‬‬ ‫;‪6- Jabbour 1970: 22‬‬

‫‪30‬‬


‫فـلـ�سـطـيـن‬

‫يف الفرتة ‪ 1876 - 1863‬اظهر م�ؤ�س�س ال�صليب االحمر جان هرني دونانت‬ ‫اهتماماً يف ايجاد حل ان�ساين للم�شكلة اليهودية‪ 1.‬وحاول دونانت‪ ،‬عبثا‪ ،‬يف اثارة اهتمام املنظمات‬ ‫اليهودية يف غرب �أوروبا للعمل على القيام مب�شروع ا�ستيطاين يهودي يف فل�سطني‪ .‬و�أ�س�س من‬ ‫‪2‬‬ ‫اجل ذلك جمعية اال�ستيطان الكولونيايل يف فل�سطني وذلك يف العام ‪.1875‬‬ ‫باال�ضافة له�ؤالء ومنذ العام ‪ ،1840‬قام عدد من الربيطانيني‪ ،‬من �صحافيني‪ ،‬رجال دين‪� ،‬سيا�سيني‪،‬‬ ‫اداريني كولونياليني‪ ،‬و�ضباط ع�سكريني‪ ،‬باملطالبة ب�شكل مبا�شر باقامة م�ستعمرات يهودية او حتى‬ ‫دولة يهودية حتت احلماية الربيطانية‪ ،‬تنفيذا لهدفني‪" :‬عودة اليهود" وحماية امل�صالح الربيطانية‪،‬‬ ‫اال�سرتاتيجية والتجارية‪ ،‬يف املنطقة‪ 3.‬كما �أن ه�ؤالء اعتقدوا ب�أن اليهود يف فل�سطني �سي�شكلون‬ ‫حاجزاً �ضد اية طموحات م�ستقبلية ملحمد علي‪ 4‬الذي اراد ان�شاء دولة عربية من خالل �ضم‬ ‫�سوريا الكربى مل�صر‪.‬‬

‫‪Jean Henry Dunant‬‬

‫‪ .11‬هجرة يهودية غري مرغوب بها‬

‫وهنا يجب طرح �س�ؤال مهم حول الأ�سباب التي وقفت وراء يهودية الدولة التي دعا لإن�شائها عدد‬ ‫من الأوروبيني‪ .‬ملاذا دعا امل�ستعمرون الربيطانيون وغريهم اىل ان�شاء دولة ا�ستيطانية يهودية ولي�س‬ ‫دولة ا�ستيطانية انكليزية او املانية او رو�سية؟ �إن طرح هذا ال�س�ؤال امل�شروع يتطلب اجابة‪.‬‬ ‫�أدت عملية اندماج رو�سيا و�شرق �أوروبا يف النظام العاملي الر�أ�سمايل يف نهاية القرن التا�سع ع�شر اىل‬ ‫تبلور طبقات برجوازية حملية واىل تف�سخ املجتمعات الإقطاعية و�شبه الإقطاعية‪ .‬تطور الر�أ�سمالية يف‬ ‫هذه املناطق كان بطيئاً وم�ؤملاً يف الوقت ذاته و�أدى اىل �صعود القومية واىل التف�سخ االجتماعي ‪-‬‬ ‫االقت�صادي لن�سيج هذه املجتمعات‪.‬‬ ‫عملية والدة النظام الر�أ�سمايل اجلديد يف تلك املناطق تزامن مع �صعود الال�سامية والتي يف الكثري‬ ‫من املواقع تطورت اىل "جمازر" مت ت�شجيعها من قبل االنظمة احلاكمة ومت اقرتافها من قبل الرعاع‬ ‫الغا�ضبني على او�ضاعهم املعي�شية ال�صعبة‪ .‬مل يكن اليهود م�سيحيني وكانوا يرتكزون يف مواقع‬ ‫‪ -1‬متثلت امل�شكلة اليهودية يف حينه يف هجرة اعداد كبرية من فقراء اليهود من رو�سيا و�شرق �أوروبا اىل غرب �أوروبا‬ ‫وذلك نتيجة لظاهرة الال�سامبة‪ .‬واعتربت الدول الغربية بان هذه الهجرة من الفقراء غري مرغوب بها ويجب ايجاد‬ ‫حل لها خارج حدود �أوروبا الغربية‪ .‬وكان معهودا قيام دول �أوروبية غربية بت�صدبر توتراتها الداخلية اىل احدى‬ ‫م�ستعمراتها‪( ،‬ز‪� .‬ص‪.).‬‬

‫;‪2-Makachy as in: Keter Books (1973) Zionism (Jerusalem : Keter Publishing House Ltd) p. 235‬‬ ‫;‪3- Sherif Regina, op. cit., pp. 32-127‬‬ ‫‪4- Scholch, Alexander (2006) Palestine in Transformation 1856-1882 (Washington D.C.:‬‬ ‫;‪Institute for Palestine Studies) p. 54‬‬ ‫‪31‬‬


‫وجمتمعات منف�صلة �سكنت داخل املدن والبلدات متجنبة املناطق الريفية‪ .‬ولذلك كان من‬ ‫ال�سهل توجيه الغ�ضب اليهم بعد ان حتولوا يف وعي اجلماهري اىل كب�ش فداء المت�صا�ص عواقب‬ ‫وم�ؤثرات التف�سخ االجتماعي ‪ -‬االقت�صادي الذي حدث يف اال�سا�س نتيجة النهيار النظام‬ ‫االقطاعي ووالدة النظام الر�أ�سمايل‪ .‬وكان رد فعل يهود رو�سيا و�شرق �أوروبا هو الهجرة الكثيفة‬ ‫اىل اجلزء الأوروبي الر�أ�سمايل االكرث تطوراً‪� ،‬أي غرب �أوروبا‪.‬‬ ‫مع نهاية القرن التا�سع ع�شر‪ ،‬ف�إن �أعداداً كبرية من اليهود الأوروبيني �أجربوا نتيجة للتمييز‬ ‫وللمجازر اىل ترك اوطانهم يف �شرق �أوروبا والهجرة اىل الغرب‪ .‬ويف الفرتة ‪ 1914 - 1800‬هاجر‬ ‫ما ي�ساوي ‪ 3250000‬يهودي �أوروبي‪ ،‬منهم ‪ 250000‬يف الفرتة ‪ ،1880 - 1800‬ومليون يف الفرتة‬ ‫‪ ، 1881-1899‬ومليونان يف الفرتة ‪ 1.1914 - 1900‬وتوجه معظم ه�ؤالء النازحني اليهود اىل بريطانيا‬ ‫‪2‬‬ ‫والواليات املتحدة االمريكية‪.‬‬ ‫مرحباً بها على ال�صعيدين الر�سمي وال�شعبي‪ ،‬واعتربت‬ ‫ولكن الهجرة اىل بريطانيا مل يكن ّ‬ ‫امل�شكلة الداخلية الرئي�سية لربيطانيا‪ .‬و�شن ال�سيا�سيون اال�ستعماريون مثل اللوردات �شافت�سربي‪،‬‬ ‫وت�شامربلن وبلفور‪ ،‬حرباً �سيا�سية �ضد منح حريات مدنية لليهود الربيطانيني و�أيدوا �سيا�سة حتديد‬ ‫‪3‬‬ ‫الهجرة اليهودية الوافدة لربيطانيا‪.‬‬ ‫واذا نظرنا لفل�سطني‪ ،‬املقرتح حتويلها اىل كيان ا�ستيطاين ا�ستعماري‪ ،‬ف�إننا نرى انها كانت بلداً فقرياً‬ ‫باملوارد ولذلك �سيكون من ال�صعب ان جتذب م�ستوطنني بريطانيني او �أوروبيني اليها‪� .‬إنها تفتقر‬ ‫للمعادن واملواد اخلام املوجودة بوفرة يف مناطق اخرى من العامل الثالث‪ .‬وباال�ضافة لذلك‪ ،‬فهي‬ ‫ال حتوي ارا�ضي زراعية وا�سعة وم�صادر مياهها حمدودة جداً ولذلك ال ميكن حتويلها اىل م�ستعمرة‬ ‫املعد للت�صدير‪� .‬إن فقر فل�سطني باملوارد‬ ‫تعتمد على اقت�صاد املزارع ال�ضخمة وعلى الإنتاج الزراعي ّ‬ ‫‪4‬‬ ‫جعلها اقل جاذبية لال�ستيطان الكولونيايل الأوروبي‪.‬‬ ‫ولهذه اال�سباب جمتمعة بد�أ امل�ستعمرون الربيطانيون يف البحث عن م�ستوطنني �آخرين للذهاب‬ ‫اىل فل�سطني‪ .‬ومت اختيار اليهود الأوروبيني من بني الالجئني لي�صبحوا م�ستوطنني ويرجع ذلك‬ ‫النهم كانوا موجودين عندما احتاجت بريطانيا مل�ستوطنني لإقامة م�ستعمرة ا�ستيطانية يف فل�سطني‪.‬‬ ‫باال�ضافة لذلك فان عملية ار�سال م�ستوطنني يهود اىل فل�سطني �شكلت ح ًال لثالث م�شاكل‪:‬‬ ‫(‪ )1‬حال مل�شكلة الهجرة غري املرغوب بها لليهود الوافدين لربيطانيا‪ )2( ،‬تزويد بريطانيا ب�أعداد‬ ‫;‪1 - Leon Abram (1970) The Jewish Question (New York: Pathfinder Press) p. 217‬‬ ‫;‪2 - Sherif, op. cit., p. 73‬‬ ‫‪3- Ibid.‬‬ ‫‪4- Sidebotham Herbert (1918) “British Interests in Palestine” England and Palestine: Essays‬‬ ‫;‪Towards the Restoration of the Jewish State (London: Constable and Company Ltd.), p. 133‬‬ ‫‪32‬‬


‫فـلـ�سـطـيـن‬

‫هائلة من امل�ستوطنني والذين بحكم تراثهم الديني وتعا�ستهم كالجئني فقراء وغري مرغوب بهم‪،‬‬ ‫�سيكون لديهم ا�ستعداد لإر�سالهم اىل فل�سطني‪ ،‬ادخال ر�ساميل يهودية اىل داخل الدولة العثمانية‬ ‫وذلك لدعم االقت�صاد العثماين الهزيل‪.‬‬ ‫وهكذا ا�ستطاعت بريطانيا �إيجاد م�ستوطنني مر�شحني لإر�سالهم ال�ستعمار فل�سطني‪ .‬ويظهر‬ ‫بو�ضوح كيف ان احلاجة حلل م�شكلة الهجرة اليهودية غري املرغوب بها والوافدة لربيطانيا تزامنت‬ ‫مع امل�صالح واخلطط اال�ستعمارية الربيطانية يف ان�شاء دولة ا�ستيطانية حاجزة يف فل�سطني‪ .‬مع ذلك‪،‬‬ ‫فان عملية اال�ستيطان مل تبد�أ ل�سببني‪ )1( :‬معار�ضة النظام العثماين لدخول امل�ستوطنني اليهود‬ ‫ارا�ض للبيع داخل الدولة العثمانية وذلك ب�سبب القوانني‬ ‫لفل�سطني واملكوث فيها‪ )2( ،‬عدم توفر ٍ‬ ‫االقطاعية مللكية االرا�ضي والتي كانت �سائدة يف الدولة العثمانية‪.‬‬ ‫‪ .12‬ن�شوء نظام امللكية اخلا�صة‬

‫�أدى تطور التجارة مع الدول الأوروبية اىل منو املدن التجارية وحت�سن خطوط املوا�صالت الداخلية‬ ‫واىل ن�شوء الربجوازية التجارية ‪ -‬الكومربادورية‪ .1‬وجاء منو املدن العربية مغايراً لطريقة منو املدن‬ ‫الأوروبية‪ .‬منت املدينة الأوروبية نتيجة لعملية بلرتة الفالحني وانتقالهم للعمل يف امل�صانع االوىل‬ ‫التي �أن�ش�أت خارج القرى وعلى �ضفاف االنهار م�ستخدمة قوة دفع املياه الدارة ماكنات امل�صنع‪.‬‬ ‫وكانت نواة املدن الأوروبية هي م�ساكن العمال التي ان�ش�أت حول امل�صانع وبف�ضل عملية الت�صنيع‪.‬‬ ‫اما املدن الفل�سطينية فن�ش�أت وتطورت ب�شكل مغاير كنتيجة لن�شوء �شريحة التجار والذين عملوا‬ ‫يف التجارة اخلارجية مع �أوروبا‪ ،‬ولتدهور ال�صناعات احلرفية التقليدية ب�سبب مناف�سة الب�ضائع‬ ‫الأوروبية وهجرة احلرفيني للعمل يف املدن‪ ،‬ونتيجة للتح ّوالت البنوية يف االقت�صاد الزراعي وعلى‬ ‫الأخ�ص يف امللكية الزراعية‪ .‬وارتبط ن�شوء املدن الفل�سطينية باملرحلة الأوىل من ن�شوء امللكية‬ ‫اخلا�صة والنظام الر�أ�سمايل‪ ،‬بينما ارتبط ن�شوء املدن الأوروبية مبرحلة الثورة ال�صناعية والت�صنيع‪.‬‬ ‫�إن حالة من التبعية االقت�صادية بد�أت تن�ش�أ بني املحيط ممث ًال يف االقت�صاد العثماين واملركز ممث ًال‬ ‫بالدول ال�صناعية الأوروبية الغربية‪ .‬وظهرت نتائج هذه التبعية يف تطور ال�صناعة والزراعة يف‬ ‫الأقاليم العربية‪ ..." .‬و�أدى اال�سترياد املتزايد للب�ضائع الأوروبية اىل انهيار املراكز ال�صناعية القدمية‬ ‫وتخريب احلرف وال�صنائع املنزلية‪ ،‬كما �أعاق تطور املعامل اليدوية (املانيفاكتورة) الوطنية والإنتاج‬ ‫‪ -1‬الكومربادور هي كلمة �صينية اال�صل وتعني الو�سيط والربجوازية الكومربادورية هي الربجوازية التي تقوم بدور‬ ‫الو�سيط يف التجارة فهي تبيع �إنتاجاً �صناعياً غربياً لل�سوق املحلية وتبيع املنتوجات الزراعية الوطنية لل�سوق الأوروبية‪،‬‬ ‫(ز‪� .‬ص‪.).‬‬ ‫‪33‬‬


‫‪1‬‬

‫ال�صناعي التي مل ت�ستطع مقاومة مزاحمة الإنتاج امل�صنعي الأوروبي"‪.‬‬

‫�أما الزراعة املحلية فبد�أت تتناغم مع احلالة ذاتها من التبعية حيث اخت�صت يف �إنتاج املحا�صيل‬ ‫الزراعية القليلة والتي كان يطلبها ال�سوق الأوروبي‪ .‬فاخت�صت م�صر يف �إنتاج القطن وق�صب‬ ‫ال�سكر‪ ،‬وفل�سطني و�سوريا يف �إنتاج القطن واحلبوب وال�صوف ولبنان يف �إنتاج خامات احلرير‪" .‬ومع‬ ‫هذا مل يكن ن�شوء االقت�صاد الب�ضائعي م�صحوباً هنا بتط ّور االقت�صاد الر�أ�سمايل‪ .‬اذ وقع الفالح يف‬ ‫‪2‬‬ ‫حالة تبعية لل�سوق الر�أ�سمالية العاملية‪ ،‬حمافظاً يف الوقت ذاته على تبعيته للإقطاعي"‪.‬‬ ‫ّي�سرت الإ�صالحات العثمانية القانونية‪ ،‬يف الن�صف الثاين من القرن التا�سع ع�شر‪ ،‬تغلغل ر�أ�س‬ ‫املال الأوروبي يف االقت�صاد العثماين‪ .‬وح�صل الر�أ�سماليون الأوروبيون على امتيازات يف البنوك‬ ‫وال�سكك احلديدية ومت حتويل االمرباطورية العثمانية‪ ،‬من خالل عالقة من التبعية‪ ،‬اىل �شبه‬ ‫م�ستعمرة للدول الر�أ�سمالية الأوروبية‪ 3.‬وكنتيجة الرتباط ثم اندماج االقت�صاد العثماين بال�سوق‬ ‫الر�أ�سمالية العاملية الآخذة يف التو�سع‪ ،‬بد�أت العالقات االقت�صادية الإقطاعية تتفكك تدريجياً‪،‬‬ ‫لتحل حملها العالقات واملفاهيم والقيم الر�أ�سمالية‪ .‬و�أثر ذلك على نظام ملكية االر�ض الذي‬ ‫حتول من ملكية الدولة وم�شاعية الت�صرف بها اىل امللكية اخلا�صة‪.‬‬ ‫وكنتيجة لالخرتاق والإحلاق الر�أ�سمايل لالقت�صاد العثماين و�صلت الدولة العثمانية اىل مرحلة‬ ‫من الإفال�س والتبعية ادت بها‪ ،‬مع عوامل اخرى‪ ،‬اىل القيام بتغيري نظام ملكية االرا�ضي يف‬ ‫االمرباطورية العثمانية الأمر الذي اتاح خلزينة الدولة دخ ًال ا�ضافياً‪ .‬وكانت معظم ارا�ضي‬ ‫فل�سطني‪ ،‬وحتى الن�صف االول من القرن التا�سع ع�شر‪ ،‬ارا�ضي امريية �أي ملكا للدولة العثمانية‬ ‫وكان على من ي�ستعمل االر�ض ان يدفع �إيجاراً ب�شكل �ضريبة على الغلة �سميت "ال ُع�شر" وكانت‬ ‫تدفع عينا‪ 4‬او نقداً‪ 5‬ومل تتناق�ض ملكية الدولة لالر�ض مع كونها اي�ضا م�شاعاً الن امل�شاع مل يكن‬ ‫�شكال من ملكية االر�ض امل�شرتكة بل �شكل للت�صرف فقط‪ .6‬فحق امللكية يرجع للدولة وحق‬ ‫امل�شاع يرجع للمجتمع القروي الذي كان يقوم بتق�سيم االر�ض دورياً بني الفالحني‪ .‬ويف داخل‬ ‫م�شاعية الت�صرف باالر�ض مل يكن للملكية اخلا�صة لالر�ض وجود ن�سبي يذكر‪ .‬وكانت "‪...‬‬ ‫معظم االرا�ضي الزراعية ملك للدولة‪ .‬واما املمتلكات الفردية من الأرا�ضي‪ ،‬وهي املِلك‪ ،‬فكانت‬ ‫‪ -1‬لوت�سكي‪ ،‬م�صدر �سبق ذكره‪� ،‬ص‪146 .‬‬ ‫‪ -2‬امل�صدر ذاته‪� ،‬ص‪147 .‬‬ ‫‪ -3‬امل�صدر ذاته‪� ،‬ص‪161 .‬‬

‫‪ -4‬غوجان�سكي‪ ،‬متار (‪ )1987‬تطور الر�أ�سمالية يف فل�سطني ( بريوت‪ :‬دائرة الثقافة – منظمة التحرير الفل�سطينية)‪،‬‬ ‫‪ -5‬دوماين‪ ،‬ب�شارة (‪ )1998‬اعادة اكت�شاف فل�سطني‪( ،‬بريوت‪ :‬م�ؤ�س�سة الدرا�سات الفل�سطينية) �ص‪189 .‬‬ ‫‪ -6‬بار ‪ ، 1971‬كما اقتب�سته غوجان�سكي‪ ،‬م�صدر �سبق ذكره‪� ،‬ص‪18 .‬‬ ‫‪34‬‬

‫�ص‪17 .‬‬


‫فـلـ�سـطـيـن‬

‫ب�صورة عامة حمدودة يف امل�ساحات الواقعة �ضمن احلدود اجلغرافية للمناطق الآهلة – �أي داخل‬ ‫‪1‬‬ ‫املدن والبلدات والقرى ‪."...‬‬ ‫و�صدر‪ ،‬يف العام ‪ ،1858‬قانون الأرا�ضي العثماين‪" 2‬الذي �ألغى ب�صورة �شرعية نظام الإقطاعيات‬ ‫وو�سع‪ ...‬ا�صناف االرا�ضي التي ا�صبحت ملكاً خا�صاً‪ ،‬و�ساعد‬ ‫الع�سكرية وتبعية الفالحني ‪ّ ...‬‬ ‫‪3‬‬ ‫على تطوير امللكية اخلا�صة للأر�ض وجعلها ب�ضائع متداولة‪ . "...‬ويف العام ‪� 1867‬صدر قانون‬ ‫‪4‬‬ ‫ارا�ض جديد منح االجانب حق حيازة وامتالك االر�ض يف االمرباطورية العثمانية‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫تطلبت عملية تطبيق قانون االرا�ضي العثماين �أن يقوم الفالح الفل�سطيني بت�سجيل االر�ض التي‬ ‫يفلحها با�سمه بعد قيامه بدفع ر�سوم ت�سجيل عالية كالطابو‪ ،‬وبعدها دفع �ضرائب على االر�ض‪،‬‬ ‫واالبنية الزراعية واحليوانات امل�ستخدمة يف الزراعة وعلى منتوج االر�ض ك�ضريبة الويركو‪.‬‬ ‫وب�سبب اجلهل والفقر والتهرب من دفع ال�ضرائب واخلوف من التجنيد للجي�ش العثماين‪ ،‬قام‬ ‫عدد كبري من الفالحني الفل�سطينيني بت�سجيل �أرا�ضيهم با�سماء ا�شخا�ص �آخرين من �سكان‬ ‫املدن‪ ،‬بع�ضهم ا�سماء موتى وبع�ضهم ا�سماء خيالية‪ .‬والبع�ض الآخر من الفالحني كانوا ي�سجلون‬ ‫ارا�ضيهم با�سم ذوي النفوذ من املالكني الكبار وال�شيوخ والتجار من �سكان املدن الفل�سطينية‬ ‫مقابل ان يقوم ه�ؤالء بتحمل االعباء املالية‪ .‬ونتيجة لذلك فقد الفالح الفل�سطيني عالقته‬ ‫القانونية بالأر�ض وحتولت اىل عالقة ر�أ�سمالية مل�ست�أجر يعمل لدى املالك اجلديد مبوجب نظام‬ ‫حا�ص َ�صة‪ ،‬ويعاين من اال�ستغالل والفقر وي�سكن فوق �أر�ض ال ميلكها وميكن �إخال�ؤه منها اذا‬ ‫املُ َ‬ ‫رغب "املُالك اجلدد"‪ 5.‬ونتج عن ذلك تركيز عالٍ مللكية االر�ض بني مالكني قالئل‪ .‬باملقارنة مع‬ ‫ملكية منخف�ضة لأعداد كبرية من الفالحني‪ .‬ويظهر اجلدول التايل الفجوة يف ملكية االر�ض بني‬ ‫املالكني اجلدد والفالحني‪.‬‬ ‫نوعان خمتلفان من مالكي الأر�ض وامل�ساحات التي ميلكونها يف العام ‪1909‬‬ ‫عدد املالكني (�أفراد �أو عائالت)‬

‫عدد الدومنات التي ميلكونها‬

‫معدل ملكية الفرد �أو العائلة الواحدة‬

‫‪ 144‬فرداً‬ ‫‪ 16910‬عائالت‬

‫‪3131000‬‬

‫‪ 22000‬دومن للفرد‬ ‫‪ 46‬دومناً للعائلة الواحدة‬

‫‪785000‬‬

‫‪ -1‬دوماين‪ ،‬م�صدر �سبق ذكره‪� ،‬ص‪188.‬‬

‫‪ -2‬امل�سمى اي�ضا قانون �سعيد ن�سبة لل�سلطان �سعيد‪( ،‬ز‪� .‬ص‪.).‬‬ ‫‪ -3‬لوت�سكي‪ ،‬م�صدر �سبق ذكره‪� ،‬ص‪161 .‬‬ ‫‪ -4‬امل�صدر ذاته‪� ،‬ص‪161 .‬‬ ‫‪� -5‬سعد‪ ،‬احمد (‪ )1985‬التطور االقت�صادي يف فل�سطني ‪ .‬حيفا‪ .‬دار االحتاد للطباعة والن�شر‪� ،‬ص ‪35‬‬ ‫‪35‬‬


‫م�صدر الإح�صاءات‪:‬‬ ‫)‪A. Grannot (1952) The Land System In Palestine (London: Eyre and Spottiswoode‬‬ ‫‪pp.36, 38-39‬‬

‫�أدت عملية التحول يف ملكية الأر�ض �إىل ن�شوء جمموعة حمدودة من مالكي االر�ض والذين‬ ‫ي�سكنون مبعظمهم يف مدن �سورية‪ 1‬وال يعملون يف االر�ض بل ي�ست�أجرون الفالحني مقابل تقا�سم‬ ‫املنتوج الزراعي (�أي نظام املحا�ص�صة)‪� .‬إن �إلغاء نظام امللكية القدمي وتطور �شريحة من مالكي‬ ‫الأر�ض الكبار ون�شوء عالقة من التبعية واال�ستغالل بني املالكني اجلدد والفالحني ادى اىل ن�شوء‬ ‫عدد من التغريات االجتماعية ‪ -‬الطبقية والتي ميكن ايجازها بالتايل‪:‬‬ ‫‪ .1‬ن�شوء ق�سم من الفالحني الذين ال ميلكون �أر�ضاً ويعملون مبوجب نظام املحا�ص�صة‪.‬‬ ‫‪ .2‬بلرتة بع�ض الفالحني وانتقالهم من فالحني اىل عمال‪.‬‬ ‫‪ .3‬ن�شوء الهرمية الطبقية يف املجتمع الفل�سطيني نتيجة للتفاوت ال�شديد يف ملكية االرا�ضي بني‬ ‫من ميلكون ومن ال ميلكون‪.‬‬ ‫‪ .4‬فتحت القوانني اجلديدة والعالقات الدولية املجال لت�سرب االر�ض لال�ستيطانني اليهودي‬ ‫وال�صهيوين‪ .‬الأمر الذي م ّهد ال�سبيل لتطور ظاهرة اال�ستيطان اال�ستعماري‪.‬‬ ‫‪ .13‬اال�ستيطان اليهودي يف فل�سطني‬

‫بادر‪ ،‬احد االثرياء من اليهود الفرن�سيني ويدعى البارون ادموند دي روثت�شايلد‪ ،‬يف العام ‪،1853‬‬ ‫اىل �شراء ‪ 275000‬دومن‪ 2‬من ارا�ضي فل�سطني ومن ثم �أن�ش�أ عليها ‪ 19‬م�ستوطنة ا�ستعمارية ومدر�سة‬ ‫يهودية زراعية وذلك يف الفرتة ‪ .1899 - 1882‬وكان ا�شرتى هذه الأرا�ضي من مالكي الأر�ض‬ ‫الغائبني من بريوت بعد �أن قام بدفع الر�شوة اىل امل�س�ؤولني العثمانيني‪ .‬وبعد �شرائه االر�ض‪ ،‬قام‬ ‫روثت�شايلد بطرد الفالحني العرب الذين عملوا وعا�شوا عليها ليقوم بعدها با�ستئجارهم للعمل‬ ‫‪3‬‬ ‫فيها‪.‬‬ ‫ا�صطدم الن�شاط اال�ستيطاين ‪ -‬اال�ستعماري للبارون روثت�شايلد مع الفل�سطينيني العرب حول‬ ‫مو�ضوع جوهري واحد وهو ملكية الأر�ض الن امتالكه �آالف الدومنات من االر�ض الزراعية وطرد‬ ‫‪ -1‬وتقع هذه املدن يف �سوريا "ال�صغرى" وفل�سطني ولبنان‪ ،‬ز‪� .‬ص‪..‬‬ ‫‪2- Margalith 1957: 141-142 as quoted by Weinstock, Nathan (1979) Zionism: False Messiah.‬‬ ‫;‪Translated and edited by Alan Adler (London: Ink Links) p. 66‬‬ ‫;‪3- Weinstock, op. cit., p. 67‬‬ ‫‪36‬‬


‫فـلـ�سـطـيـن‬

‫الفالحني العرب عنها �أدى �إىل �إفقار الفالحني املحا�ص�صني ونهبهم‪.‬‬ ‫ويف العام ‪ 1855‬قام م�ستثمر يهودي انكليزي يدعى موز�س مونتفيوري ب�شراء االرا�ضي يف منطقة‬ ‫يافا‪ 1.‬وقام مونتفيوري بو�ضع خطط عدة من �أجل �إعادة ا�ستيطان اليهود يف فل�سطني‪ .‬ولكن‬ ‫نتيجة لعدم ّمتكنه من احل�صول على �شروط مر�ضية من ال�سلطات العثمانية قرر م�ساعدة اليهود‬ ‫الفل�سطينيني القاطنني يف فل�سطني من خالل حت�سني �شروط حياتهم بوا�سطة العمل يف الزراعة‪.‬‬ ‫‪2‬‬ ‫وبالرغم من اجلهود التي بذلها‪ ،‬ولكنه مل ي�ستطع جذب امل�ستوطنني اىل فل�سطني‪.‬‬ ‫مل يهدف البارون روثت�شايلد من وراء م�شروعه اال�ستيطاين ‪ -‬اال�ستعماري يف فل�سطني �إىل‬ ‫�إقامة دولة يهودية بل �أراد حتقيق هدفني‪ )1( :‬ت�أمني م�أوى لالجئني اليهود القادمني من �شرق‬ ‫�أوروبا واالمرباطورية الرو�سية هرباً من اال�ضطهاد واملجازر‪ )2( ،‬و�إقامة "ح ّيز نفوذ" لال�ستعمار‬ ‫الفرن�سي داخل االمرباطورية العثمانية‪ 3‬وكان كل من مونتفيوري وروثت�شايلد على ا�ستعداد‬ ‫للقيام با�ستيطان يهودي يف بالد اخرى النهما اعتربا ذلك ح ًال للم�شاكل اخلا�صة التي اثارتها‬ ‫‪4‬‬ ‫ظاهرة الال�سامية‪.‬‬ ‫ا�صطدم الن�شاط اال�ستيطاين ‪ -‬اال�ستعماري للبارون روثت�شايلد مع الفل�سطينيني العرب حول‬ ‫مو�ضوع جوهري واحد وهو ملكية االر�ض الن امتالكه �آالف الدومنات من االر�ض الزراعية وطرد‬ ‫الفالحني العرب عنها ادت اىل افقار ونهب الفالحني املحا�ص�صني‪.‬‬ ‫بد�أ اال�ستيطان اليهودي اال�ستعماري يف فل�سطني قبل ظهور االيديولوجية ال�صهيونية يف العام ‪1897‬‬ ‫ومل يهدف اىل اقامة دولة يهودية يف فل�سطني‪ ،‬بل �سعى اىل اقامة حيز نفوذ ا�ستعماري يف فل�سطني‬ ‫كخدمة لال�ستعمار الفرن�سي‪ .‬ومت تنفيذ ذلك مبوجب اال�ستيطان الكال�سيكي اال�ستعماري‪� ،‬أي‬ ‫اقامة مزارع �ضخمة‪ ،‬وا�ستخدام قوة عمل رخي�صة من بني ال�سكان الأ�صليني‪ ،‬وزرع امل�ستوطنني‬ ‫اال�ستعماريني‪ .‬ولو ا�ستم ّر هذا النوع من اال�ستيطان اال�ستعماري يف التطور لن�ش�أ يف فل�سطني كيان‬ ‫ا�ستيطاين �شبيه باجلزائر الفرن�سية‪ ،‬جنوب افريقيا ورودو�سيا‪ .‬ولكن ال�صهيونية ال�سيا�سية هي التي‬ ‫ط ّورت يف فل�سطني نوعاً مغايراً من اال�ستيطان اال�ستعماري‪ ،‬يحمل قوا�سم م�شرتكة مع غريه من‬ ‫الأنظمة اال�ستيطانية اال�ستعمارية‪ ،‬ولكنه يف الوقت ذاته ميلك خ�صو�صيات بارزة‪.‬‬ ‫‪ .14‬اليقظة القومية العربية‬

‫يف الن�صف الثاين من القرن التا�سع ع�شر ن�ش�أت يف �سوريا نه�ضة ثقافية متثلت يف زيادة عدد‬

‫‪ -1‬لوت�سكي‪ ،‬م�صدر �سبق ذكره‪� ،‬ص‪. 158 .‬‬ ‫;‪2- Parkes James (1970) Whose Land? (Middlesex: Penguin Books) p. 229‬‬ ‫‪3- Bober, Arie, editor (1972) The Other Israel (New Yourk: Doubleday & Co), p. 37‬‬ ‫‪4- Stevens, Richard P. (1972) Zionism And Palestine Before The Mandate: A Phase Of Western‬‬ ‫‪Imperialism (Beirut: The Institute for Palestine Studies), p. 7‬‬ ‫‪37‬‬


‫املدار�س واملعاهد و�إن�شاء اجلمعيات الأدبية والعلمية واملطابع وال�صحف واملجالت‪ .‬و�ساهمت هذه‬ ‫النه�ضة الثقافية يف �إر�ساء بذور اليقظة القومية العربية والتي جاءت يف ما بعد‪ .‬وتزامنت النه�ضة‬ ‫الثقافية مع �سيا�سة عثمانية جديدة عك�ست بع�ض االنفراج يف احلكم‪ .‬ومتثل ذلك بو�صول �سلطان‬ ‫م�صلح هو ال�سلطان عبد املجيد (‪ )1861 - 1839‬يف العام ‪ 1839‬والذي تبنى عدداً من الإ�صالحات‬ ‫عرفت فيما بعد بـ "التنظيمات اخلريية" و�شملت الإدارة وال�ضرائب والتجنيد و�صيانة حرمة‬ ‫ال�شخ�ص وممتلكاته‪ .‬ويف العام ‪� 1845‬صدر قانون نادى مببد�أ التعليم املجاين والإجباري‪ ،‬وبقي هذا‬ ‫القانون حرباً على ورق‪ .‬مع ذلك‪ ،‬و�ضعت املدار�س امللحقة بامل�ساجد حتت مراقبة الدولة‪ ،‬و�أن�شئت‬ ‫املدار�س الثانوية العلمانية‪ .‬وت�أ�س�ست يف ا�سطنبول مدار�س خا�صة �أعدت الأطباء والتقنيني‬ ‫‪1‬‬ ‫واحلقوقيني وال�ضباط‪ .‬و�أن�شئت وزارة املعارف العثمانية يف العام ‪.1847‬‬ ‫(�أ) النه�ضة الثقافية العربية‬ ‫متثلت الغزوة الر�أ�سمالية الأوروبية لالمرباطورية العثمانية بالغزو املايل والتجاري والثقايف‪ .‬وكانت‬ ‫الغزوة الثقافية قد �سبقت الغزوات الأخرى و�شكل جزء منها قدوم االر�ساليات التب�شريية من‬ ‫فرن�سية وانكليزية ومن�ساوية واملانية ورو�سية و�أمريكية خا�صة اىل املناطق العربية من االمرباطورية‪.‬‬ ‫وبد�أ ه�ؤالء ب�إن�شاء الكنائ�س واالديرة واملدار�س التب�شريية اخلا�صة وبع�ض املعاهد‪ .‬اوائل املب�شرين‬ ‫كانوا االمريكيني الذين جا�ؤوا اىل �سوريا يف العام ‪ ،1820‬وتبعهم الي�سوعيون الفرن�سيون يف العام‬ ‫‪ 2.1834‬وو�صل عدد املدار�س التب�شريية يف العام ‪ 1860‬اىل ‪ 33‬مدر�سة التحق بها ‪ 1000‬طالب‬ ‫وطالبة و�شكلت الطالبات خُ م�س املجموع‪ 3.‬ويف العام ‪ 1866‬قام املب�شرون االمريكيون ب�إن�شاء‬ ‫الكلية ال�سورية االجنيلية‪ 4‬يف بريوت والتي ا�ستخدمت فيها اللغة العربية للتدري�س‪.‬‬ ‫وقام الرو�س‪ ،‬من خالل "اجلمعية الرو�سية الفل�سطينية"‪ ،‬ب�إن�شاء ‪ 19‬مدر�سة يف الفرتة ‪- 1882‬‬ ‫‪ . 1914‬ونتيجة لوجود نق�ص يف كادر املعلمني واملعلمات املحليني‪ ،‬قامت اجلمعية‪ ،‬ويف العام ‪،1886‬‬ ‫ب�إن�شاء دار املعلمني "�أل�سِ مينار"‪ 5‬وفيما بعد �أن�شئت دار للمعلمات يف قرية بيت جاال‪ .‬ودر�س يف‬ ‫هذه املدار�س اكرث من ‪ 1074‬تلميذاً وتلميذة منهم ‪ 577‬تلميذاً و‪ 497‬تلميذة‪ .‬ومل ينح�صر الن�شاط‬ ‫الرو�سي الرتبوي يف فل�سطني فقط بل امتد اي�ضاً اىل لبنان حيث ان�ش�أت اجلمعية خم�س مدار�س‬ ‫‪ -1‬لوت�سكي‪ ،‬م�صدر �سبق ذكره‪151 ،‬‬ ‫‪2- Antonius, George (1965) The Arab Awakening (New York: Capricorn Books), pp. 36, 37‬‬ ‫‪3- Id., p. 42‬‬

‫‪ -4‬والتي ا�صبحت يف ما بعد اجلامعة االمريكية يف بريوت (ز‪� .‬ص‪.).‬‬ ‫‪ -5‬املعروفة بامل�سكوبية ن�سبة للم�سكوب وهو ا�سم �شعبي للرو�س م�أخوذ من لفظ مدينة مو�سكو‪ .‬وحتولت امل�سكوبية يف‬ ‫احلرب العاملية االوىل اىل مقر قيادة للجي�ش االملاين وحتولت يف فرتة اال�ستعمار الربيطاين اىل مركز لل�شرطة و�سجن‬ ‫وحتولت يف فرتة اال�ستعمار ال�صهيوين اىل مركز لل�شرطة ال زال قائما لغاية اليوم (ز‪� .‬ص‪.).‬‬ ‫‪38‬‬


‫فـلـ�سـطـيـن‬ ‫‪1‬‬

‫يف بريوت يف الفرتة ‪. 1897 - 1887‬‬

‫وكان ن�شاط الإر�ساليات الدينية طريقاً �آخر للتغلغل الأجنبي يف ال�شرق العربي‪ ،‬كما انهم �أرادوا‬ ‫ب�سط نفوذ الدولة التي ينتمون اليها‪ 2‬وخدمة م�صاحلها اال�ستعمارية‪ .‬مع ذلك‪ ،‬يجب الت�أكيد هنا‬ ‫على �أن هذه املدار�س التب�شريية امل�سيحية �ساهمت يف انت�شار ورفع م�ستوى التعليم‪ ،‬ويف بعث اللغة‬ ‫العربية والتي �أ�صابها ركود عميق لأكرث من ثالثة قرون من هيمنة النظام العثماين املتخ ّلف‪ .‬وكان‬ ‫لهذه املدار�س دور رئي�سي يف �إك�ساب العلم واملعرفة والوعي للعديد من املثقفني العرب ولذلك‬ ‫كان لها م�ساهمة مهمة يف النه�ضة الأدبية والثقافية العربية كما وكان لها دور رئي�سي يف �إذكاء‬ ‫الوعي القومي واليقظة القومية والتي بد�أت ت�ؤثر يف قطاعات مهمة من عرب امل�شرق‪.‬‬ ‫ومما �ساهم يف �إحياء اللغة العربية و�آدابها هو ان�شاء عدد من املطابع باللغة العربية‪� .‬أن�شئت املطبعة‬ ‫االوىل يف لبنان يف دير قزحيا �سنة ‪ .1601‬ويف الفرتة ‪ 1874 - 1733‬مت �إن�شاء ‪ 6‬مطابع اخرى يف‬ ‫�سوريا‪ 3‬كما و�أن�شئت مطبعة باللغة العربية يف ا�سطنبول‪ 4.‬اما يف م�صر‪ ،‬ف�أن�ش�أ الفرن�سيون يف العام‬ ‫‪� 1798‬أول مطبعة عربية ولكنها �أغلقت مع انتهاء احلملة الفرن�سية وظلت م�صر بدون مطبعة مدة‬ ‫ع�شرين عاماً‪ .‬ويف العام ‪� 1821‬أن�ش�أ حممد علي با�شا "املطبعة الأهلية" يف بوالق‪ .‬وبعدها مت �إن�شاء‬ ‫‪5‬‬ ‫مطبعتني يف م�صر وذلك يف العامني ‪ 1860‬و‪.1866‬‬ ‫و�ساهمت هذه املطابع يف ن�شر العديد من امل�ؤلفات احلديثة لكتاب عرب وكتب مرتجمة لكتاب‬ ‫�أجانب‪ ،‬كما و�ساهمت يف �إحياء الرتاث العربي القدمي من خالل طباعته وتوفريه للمثقفني‬ ‫وللأجيال ال�شابة‪ .‬كما و�ساعدت هذه املطابع يف توفري الكتب املدر�سية ويف �إن�شاء ال�صحف‬ ‫العربية‪ ،‬وبذلك‪� ،‬ساهمت يف ن�شر املعرفة‪ ،‬وتطوير التعليم وبلورة الوعي القومي العربي‪.‬‬ ‫قام بع�ض املثقفني العرب يف العام ‪ ،1847‬مثل نا�صيف اليازجي وبطر�س الب�ستاين وبع�ض‬ ‫املب�شرين الأمريكيني‪ ،‬بت�أ�سي�س جمعية "الآداب والعلوم"‪ .‬وكان ن�شاط هذه اجلمعية مقت�صراً‬ ‫على �إلقاء املحا�ضرات وقراءة الأبحاث العلمية على م�سمع من االع�ضاء‪ .‬ويف العام ‪ 1850‬ن�ش�أت‬ ‫‪ -1‬حماميد‪ ،‬عمر (‪� )1988‬صفحات من تاريخ مدار�س اجلمعية الرو�سية ‪ -‬الفل�سطينية يف فل�سطني (الطيبة‪ :‬مركز احياء‬ ‫الرثاث العربي) �ص‪� .‬ص‪53 ،52 .‬‬ ‫‪ -2‬لوت�سكي‪ ،‬م�صدر �سبق ذكره‪� ،‬ص‪157 .‬‬ ‫‪ -3‬زيدان ب‪.‬ت‪� .‬ص ‪ .55-56‬كما جاء يف‪ :‬املحافظة‪ ،‬علي (‪ )1987‬االجتاهات الفكرية عند العرب يف ع�صر النه�ضة‬ ‫‪ ( 1914 – 1798‬بريوت ‪ :‬االهلية للن�شر والتوزيع) �ص ‪.28 - 27‬‬ ‫‪Antonius, op. cit., p. 38 -4‬‬

‫‪ -5‬املحافظة‪ ،‬م�صدر �سبق ذكره‪� ،‬ص‪28 .‬‬ ‫‪39‬‬


‫"اجلمعية ال�شرقية" وكان اع�ضا�ؤها من العرب امل�سيحيني واملب�شرين االجانب‪.‬‬ ‫�أ�صدر ال�سلطان العثماين‪ ،‬ويف العام ‪ ،1856‬مر�سوماً بق�ضي مب�ساواة الطوائف الدينية كافة يف‬ ‫االمرباطورية العثمانية و�شكلت �أجواء الت�سامح التي ن�شـ�أت بني الطوائف تربة خ�صبة لن�شوء‬ ‫جمعيات عربية �أخرى‪ .‬ففي العام ‪ 1857‬ت�أ�س�ست "اجلمعية العلمية ال�سورية" والتي و�صل‬ ‫عدد �أع�ضائها اىل ‪ 150‬م�شكلني من الطوائف كافة‪ ،‬وتر�أ�سها ل�سنني عدة االمري الدرزي حممد‬ ‫‪3‬‬ ‫ار�سالن‪ 2.‬ومما جتدر اال�شارة اليه انه مل ي�سمح للمب�شرين الأجانب باالنت�ساب اىل هذه اجلمعية‪.‬‬ ‫وكان من بني اع�ضائها بطر�س الب�ستاين ونا�صيف اليازجي و�أحد اوالده ابراهيم اليازجي‪ .‬ويف‬ ‫�إحدى جل�سات اجلمعية تال ابراهيم اليازجي ق�صيدته ال�شهرية "تن ّبهوا وا�ستفيقوا �أيها العرب"‬ ‫ودعاهم للرجوع ملا�ضيهم العريق من �أجل تلم�س الإيحاء بامل�ستقبل‪ .‬و�أدان يف ق�صيدته �شر‬ ‫االحرتاب الطائفي‪ 4‬و�سوء الإدارة يف احلكومة العثمانية ودعى العرب ال�سوريني ان يوحدوا‬ ‫كلمتهم وينف�ضوا عنهم نري احلكم العثماين‪ 5.‬و�أ�صبح ال�شطر التايل من ق�صيدته "تنبهوا وا�ستفيقوا‬ ‫ايها العرب" �شعاراً حتري�ضياً للوطنيني العرب كافة‪.‬‬ ‫يف العام ‪ 1876‬تو�صل اىل �سدة احلكم ال�سلطان عبد احلميد الثاين والذي عرف عهده بعهد الظلم‬ ‫نظراً ل�سيا�سة القمع واال�ستبداد التي مار�سها �ضد رعايا االمرباطورية وحتول عبد احلميد الثاين اىل‬ ‫حاكم مطلق ذي �سلطة غري متناهية يف االمرباطورية‪ .‬ومن اجل املحافظة على بقائه يف �سدة احلكم‪،‬‬ ‫قام ال�سلطان عبد احلميد بتعطيل الد�ستور ملدة ‪ 31‬عاماً‪ .‬كما وخنق حرية التعبري عن الر�أي وحرية‬ ‫ال�صحافة وقام حتى مبنع اقتناء الكتب الأجنبية‪ .‬و�أحاط نف�سه مبجموعة من امل�ست�شارين الأتراك‬ ‫و�شجع‬ ‫والأكراد والعرب والذين ّمت جتنيدهم من بني الفئات الأكرث رجعية يف االمرباطورية‪ .‬كما ّ‬ ‫ظاهرة التج�س�س والو�شاية ون�شر املخربين بني النا�س‪ ..." .‬وكانت عيون ال�شرطة ترعى احلياة‬ ‫االجتماعية بر ّمتها يف االمرباطورية العثمانية‪ 6. "...‬ويقال �إنه يف عهد ال�سلطان عبد احلميد كان‬ ‫يتج�س�س على الن�صف الآخر من �سكان املدينة‪.‬‬ ‫ن�صف �أهايل العا�صمة ا�سطنبول ّ‬ ‫�أدى القمع وا�سلوب الو�شاية واال�ستبداد احلميدي اىل هجرة جزء من خرية املثقفني العرب اىل‬ ‫‪1‬‬

‫‪1- Antonius, op. cit., p.-51-52‬‬ ‫‪2- Ibid., pp. 53, 57‬‬ ‫‪ -3‬لوت�سكي‪ ،‬م�صدر �سبق ذكره‪� ،‬ص ‪167‬‬

‫‪ -4‬يف ايار ‪ 1845‬اندلعت انتفا�ضة فالحية من الفالحني املوارنة �ضد االقطاعيني الدروز‪ .‬و�سرعان ما انحرفت عن‬ ‫م�سارها وحتولت اىل احرتاب طائفي ارتكب فيه املوارنة مذبحة �ضد الفالحني الدروز والذين بدورهم ارتكبوا جمزرة‬ ‫�ضد الفالحني املوارنة‪ .‬ونتيجة لذلك اخليت ع�شرات من القرى الدرزية واملارونية (ز‪� .‬ص‪.).‬‬

‫‪5- Antonius, op. cit., p. 54‬‬

‫‪ -6‬لوت�سكي‪ ،‬م�صدر �سبق ذكره‪� ،‬ص‪382 .‬‬ ‫‪40‬‬


‫فـلـ�سـطـيـن‬

‫م�صر و�أوروبا وامريكا ال�شمالية‪ .‬وا�ستطاعوا وهم يف املهجر �أن يتمتعوا ن�سبياً بحرية التعبري عن‬ ‫�آرائهم ال�سيا�سية واالجتماعية وعن الطموحات الوطنية العربية‪ .‬واقاموا‪ ،‬وبالأخ�ص يف الواليات‬ ‫املتحدة االمريكية‪ ،‬اجلمعيات واملنتديات االدبية وال�صحف واملجالت وحافظوا على توا�صل مع‬ ‫الوطن وق�ضاياه‪ .‬وعرف �إنتاجهم الأدبي يف ما بعد ب�أدب املهجر‪ .‬ومع ان القمع احلميدي جنح يف‬ ‫حما�صرة وهجرة املثقفني العرب‪ ،‬وعرقل بدوره انت�شار الأفكار الوطنية‪ ،‬ولكنه مل ي�ستطع الق�ضاء‬ ‫عليها كلياً اذ بقيت جذوتها حية‪.‬‬ ‫(ب) ن�شوء اجلمعيات الوطنية العربية‬ ‫مل يكن اال�ستياء العميق من القمع احلميدي مقت�صراً على �شريحة املثقفني العرب فقط بل انت�شر‬ ‫�أي�ضاً بني طبقات وفئات ال�شعب كافة من برجوازية كومربادورية‪ ،‬وفالحني‪ ،‬وحرفيني‪ ،‬وبرجوازية‬ ‫�صغرية والطبقة العاملة النا�شئة‪ .‬وقد �أ ّدى القمع احلميدي اىل زيادة حدة اال�ستياء من احلكم‬ ‫العثماين و�إىل تبلور الوعي الوطني للمثقفني العرب‪ .‬ودفعت هذه الأو�ضاع ال�صعبة املثقفني ذوي‬ ‫املتقدم �إىل ت�أ�سي�س اجلمعيات العربية الوطنية وال�سرية‪.‬‬ ‫الوعي ال�سيا�سي ّ‬ ‫ت�أ�س�ست �أول حركة وطنية عربية يف العام ‪ 1875‬عندما قام خم�سة من املتخرجني من الكلية‬ ‫االجنيلية ال�سورية يف بريوت بت�أ�سي�س جمعية �سرية عربية وتر�أ�س اجلمعية كل من ابراهيم اليازجي‬ ‫وفار�س النمر‪ .‬وقام م�ؤ�س�سوها ب�إن�شاء فروع لها يف كل من دم�شق وطرابل�س و�صيداء وال�سويداء‪.‬‬ ‫و�ضمت بني �أع�ضائها الطوائف العربية كافة من م�سيحيني وم�سلمني ودروز‪ .‬وكانت �أهداف‬ ‫ّ‬ ‫اجلمعية ثورية وعربية وطنية‪ .‬وقام م�ؤ�س�سوها‪ ،‬ومن خالل �أدبياتهم‪ ،‬ب�إدانة احلكم اال�ستعماري‬ ‫العثماين ‪ -‬الرتكي ودعوا ال�سكان العرب �إىل التم ّرد والثورة وطرد امل�ستعمرين العثمانيني عن‬ ‫الوطن العربي‪ .‬وكانوا ين�شرون �آراءهم ال�سيا�سية عن طريق اللقاءات ال�سرية وعن طريق كتابة‬ ‫املنا�شري التي كانت تكتب يدوياً وب�شكل جماعي وتو�ضع يف ن�صو�صها الأخطاء اللغوية عمداً من‬ ‫اجل ابعاد ال�شبهات عن م�ؤلفيها ويتم �إنتاج عدد من الن�سخ باليد‪ .‬وكان ن�شطاء اجلمعية يقومون‬ ‫بالليل ب�إل�صاق هذه الن�سخ على جدران املدن يف كل من بريوت ودم�شق وطرابل�س و�صيداء‬ ‫وال�سويداء‪ .‬وكان النا�س يحت�شدون يف ال�صباح �أمام كل من�شور حيث يقوم �أحدهم بقراءة فحواه‬ ‫التجمع ويقوم بنزع املن�شور‬ ‫على م�سمع اجلميع �إىل �أن يالحظ ذلك "الدرك" العثماين فيداهم ّ‬ ‫‪1‬‬ ‫واعتقال بع�ض الأ�شخا�ص الأبرياء‪.‬‬ ‫وظهرت اوائل املنا�شري يف العام ‪ 1880‬ومتيزت بالطابع التحري�ضي ودعت ال�شعب العربي يف �سوريا‬ ‫اىل اليقظة من �سباته والوحدة الوطنية ونبذ اخلالفات والتمرد �ضد نري اال�ستبداد العثماين‪ .‬ويف‬ ‫املن�شور الذي ظهر يف ليلة ‪ ،1880/ 12/ 31‬قام �أع�ضاء اجلمعية ب�إدانة احلكم العثماين متهمينه‬ ‫‪1- Antonius, op. cit., p.79-80‬‬ ‫‪41‬‬


‫بخنق اللغة العربية‪ ،‬وباغت�صاب احلقوق العربية وبتجاوز قوانني الإ�سالم‪ .‬والول مرة طرح يف هذا‬ ‫‪1‬‬ ‫املن�شور برناجماً �سيا�سياً دعا اىل حتقيق االهداف التالية‪:‬‬ ‫‪ .1‬منح اال�ستقالل ل�سوريا موحدة مع لبنان‪.‬‬ ‫‪ .2‬االعرتاف بالعربية كلغة ر�سمية يف البالد‪.‬‬ ‫‪� .3‬إزالة الرقابة والعوائق الأخرى عن حرية التعبري ون�شر املعرفة‪.‬‬ ‫‪ .4‬جعل خدمة الوحدات املجندة حملياً �أن تتم داخل مناطق جتنيدهم فقط‪.‬‬ ‫�شكل هذا الربنامج مثا ًال يحتذى من قبل عرب وطنيني �آخرين كما ان اجلمعية كانت رائدة يف‬ ‫جمال حركة اليقظة العربية وحركة البعث القومي العربي‪ ،‬وقامت من خالل ن�شاطاتها وبرناجمها‬ ‫بو�ضع الأ�س�س االوىل جلمعيات �سرية عدة جاءت بعدها‪ .‬مع ذلك‪ ،‬فان فكرة اال�ستقالل العربي‬ ‫عن الدولة العثمانية مل تكن قد تبلورت بعد‪ .‬وكان املثقفون العرب يف حينه ال زالوا ي�ؤمنون بفكرة‬ ‫البقاء داخل االمرباطورية العثمانية وب�إمكانية التوفيق بني الوالء العثماين والقومية العربية‪ .‬ولكن‬ ‫تطورات �سيا�سية الحقة دفعت املثقفني العرب اىل نبذ فكرة العثمانية واالنحياز لفكرة القومية‬ ‫العربية و�ضرورة ا�ستقالل العرب‪.‬‬ ‫عقد يف العام ‪ 1907‬م�ؤمتر يف باري�س ح�ضرته كافة اجلمعيات التي كانت ت�سعى لإ�سقاط نظام‬ ‫ال�سلطان عبد احلميد‪ .‬وقام االع�ضاء االتراك جلمعية "تركيا الفتاة" وممثلو القوميات االخرى‪ ،‬ومن‬ ‫�ضمنهم القوميون العرب‪ ،‬بتنازالت متبادلة‪ .‬ووافق اع�ضاء "تركيا الفتاة" على منح القوميات‬ ‫الأخرى حق تقرير امل�صري ال�سيا�سي والثقايف‪ ،‬كما اكتفى ممثلو القوميات الأخرى باملطالبة باحلكم‬ ‫الذاتي والبقاء �ضمن نطاق االمرباطورية العثمانية‪ .‬كما مت االتفاق بني اجلميع على انتهاج‬ ‫�أ�ساليب كفاحية ومن �ضمنها الثورة امل�سلحة‪ 2.‬ويف العام ‪ 1908‬ا�ستطاعت "تركيا الفتاة"‪ ،‬ومن‬ ‫خالل اجلي�ش العثماين‪ ،‬اال�ستيالء على احلكم وخلع ال�سلطان عبد احلميد ون�صب ال�سلطان‬ ‫‪3‬‬ ‫حممد اخلام�س‪.‬‬ ‫ون�ش�أ‪ ،‬يف ظل الأجواء الدميوقراطية والتقارب بني نظام "تركيا الفتاة" وبني القوميني العرب‪ ،‬حزبان‪:‬‬ ‫"الإخاء العربي ‪ -‬العثماين" وحزب "الالمركزية العثماين"‪ .‬ولكن التقارب بني القوميني العرب‬ ‫تبدد عندما بد�أ اع�ضاء تركيا الفتاة باتباع �سيا�سة قمعية وقومية �ضيقة‪ .‬فبعد‬ ‫والأتراك �سرعان ما ّ‬ ‫ارتد حزب "تركيا الفتاة" عن مبادئه ووعوده وانتهج �سيا�سة توفيقية مع الأو�ساط‬ ‫ت�سلمه ال�سلطة‪ّ ،‬‬ ‫‪1- Ibid., p. 83-84‬‬ ‫‪ -2‬لوت�سكي‪ ،‬م�صدر �سبق ذكره‪� ،‬ص‪396 .‬‬ ‫‪ -3‬امل�صدر ذاته‪� ،‬ص‪401 .‬‬ ‫‪42‬‬


‫فـلـ�سـطـيـن‬

‫الرتكية الرجعية‪ .‬وبد�أوا بحملة ا�ضطهاد �سافر �ضد احلركات القومية والثورية‪ ،‬فقاموا مبوا�صلة‬ ‫املذابح �ضد الأرمن كما و�أغلقوا املنظمات العربية ومن �ضمنها حزب "الإخاء العربي ‪ -‬العثماين"‬ ‫ومنظمات قومية �أخرى‪ .‬وانتهجوا �سيا�سة الترتيك الق�سري لل�شعوب غري الرتكية‪ .‬فاغلقوا املدار�س‬ ‫القومية و�أدخلوا اللغة الرتكية كلغة الدولة الر�سمية والوحيدة يف االمرباطورية العثمانية‪ 1.‬ونتيجة‬ ‫ويتبدل ليظهر كنظام �سيا�سي تركي �ضيق‬ ‫لهذه التطورات ال�سيا�سية بد�أ احلكم العثماين يتح ّول ّ‬ ‫الأفق ال يرى القوميات الأخرى يف االمرباطورية ك�شركاء يف وطن واحد بل ك�أعداء يجب الق�ضاء‬ ‫عليهم ومنعهم‪ ،‬باحلديد والنار‪ ،‬من التعبري عن طموحاتهم الوطنية والقومية‪.‬‬ ‫�إن ف�شل التقارب والتعاون العربي ‪ -‬الرتكي ب�سبب رجعية القوميني الأتراك‪ ،‬دفع بالقوميني‬ ‫العرب اىل تبني الفكر القومي العربي والتخلي كلياً عن فكرة التعاون العربي ‪ -‬الرتكي‪ .‬وظهر‬ ‫ذلك بو�ضوح يف �أ�سماء اجلمعيات التي ان�شئت يف تلك الفرتة مثل املنتدى الأدبي (‪)1909‬‬ ‫واجلمعية القحطانية (‪ ،)1909‬واجلمعية العربية الفتاة (‪ )1911‬وحزب الالمركزية الإدارية العثماين‬ ‫(‪ )1912‬وجمعية العهد (‪ )1913‬والنه�ضة اللبنانية واجلمعية الإ�صالحية‪.‬‬ ‫�شارك يف �إن�شاء هذه اجلمعيات والأحزاب قوميون عرب من امل�شرق العربي تبنوا فكراً قومياً عربياً‬ ‫و�شمولياً بعيداً عن االقليمية والقومية املحلية ال�ضيقة‪ .‬ونبعت دوافعهم من الواقع القمعي وامل�صري‬ ‫والثقافة العربية والتاريخ العربي‪ ،‬واالهداف يف االنف�صال عن نري احلكم اال�ستعماري الرتكي‬ ‫والتحرر منه؛ وجميعها عنا�صر م�شرتكة‪ .‬وكانت يقظتهم قومية عربية ولي�ست �سورية او لبنانية او‬ ‫فل�سطينية‪ ،‬فهذه كانت يف نظر القوميني والنه�ضويني العرب مناطق جغرافية ولي�ست �سيا�سية‪.‬‬ ‫واليكم ثالثة امثلة على ذلك‪.‬‬ ‫املثل االول‪� :‬أ ّلف القوميون العرب يف القاهرة ويف العام ‪" ،1912‬حزب الالمركزية االدارية‬ ‫العثماين" وو�صل عدد اع�ضائه اىل ‪� 10‬آالف �شخ�ص وكانت له فروع يف جميع املدن ال�سورية‬ ‫والفل�سطينية ويف �أرجاء كثرية من العراق‪ .‬وعمل على االعرتاف باللغة العربية كلغة الدولة‬ ‫الر�سمية وتعليمها يف املدار�س العربية ب�صورة �إلزامية‪ ،‬كما بذل اجلهود يف انف�صال الواليات العربية‬ ‫وحت ّولها اىل �أقاليم خا�صة ذات ا�ستقالل ذاتي وحكومات حملية وجمال�س اقليمية خا�صة بها‪.‬‬ ‫و�شرع حزب الالمركزية يف القيام بن�شاطات �سيا�سية وا�سعة ون�شر �أع�ضا�ؤه االعالنات واملنا�شري‬ ‫‪2‬‬ ‫ونظموا االجتماعات والتظاهرات وا�شاعوا االغاين واال�شعار الوطنية‪.‬‬ ‫اما املثل الثاين‪ :‬فهو "اجلمعية الإ�صالحية"‪ .‬ت�أ�س�ست "اجلمعية اال�صالحية" يف بريوت يف العام‬ ‫‪ .1913‬طالبت هذه اجلمعية ب�أن تعطى ق�ضايا االدارة املحلية كلها حلكومة والية بريوت ذات‬ ‫‪ -1‬امل�صدر ذاته‪� ،‬ص‪402 .‬‬

‫‪ -2‬امل�صدر ذاته‪� ،‬ص‪408 - 407 .‬‬ ‫‪43‬‬


‫اال�ستقالل الذاتي‪ ،‬وطالبت ب�أال يخدم املجندون العرب يف والية غري واليتهم وباالعرتاف باللغة‬ ‫العربية كلغة ر�سمية ت�ستعمل يف الربملان ويف ال�سجالت الر�سمية على م�ستوى اللغة الرتكية‪.‬‬ ‫ون�شرت اجلمعية �أهدافها الإ�صالحية وكان لها �صدى ا�ستح�سان يف االجتماعات اجلماهريية التي‬ ‫عقدت يف دم�شق وحلب وعكا ونابل�س وبغداد والب�صرة‪ .‬وكان ر ّد فعل ال�سلطات الرتكية ّ‬ ‫حل‬ ‫"اجلمعية اال�صالحية" والقاء القب�ض على زعمائها‪ .‬و�أدت هذه االجراءات القمعية اىل اندالع‬ ‫موجة من اال�ضرابات والن�شاطات االحتجاجية يف بريوت و�أنحاء �أخرى من �سوريا‪ .‬ور�ضخت‬ ‫ال�سلطات الرتكية ف�أطلقت �سراح املعتقلني وا�صدرت قانوناً جديداً عن الواليات و�سع احلقوق‬ ‫ال�سابقة‪ ،‬ولكنه مل يحقق املطالب التي قدمها امل�صلحون وحزب الالمركزية‪ .‬واثار هذا القانون‬ ‫موجة كبرية من التظاهرات واالجتماعات االحتجاجية التي جرت يف كثري من مدن �سوريا‬ ‫‪1‬‬ ‫والعراق‪.‬‬ ‫املثل الثالث‪ :‬هو حملة القمع الرتكية و�إعدامات القادة القوميني العرب والتي جرت يف الفرتة‬ ‫‪ 1916 - 1915‬حيث �أعدم النظام اال�ستعماري الرتكي �ضيق الأفق ‪� 800‬شخ�صية قيادية عربية من‬ ‫اع�ضاء احلركة الوطنية التحررية من ارجاء �سوريا الكربى كافة‪ .‬وكانت التهم املوجهة �إليهم هي‬ ‫اخليانة العظمى واالت�صال باالنكليز والفرن�سيني والتحري�ض على الثورة‪ .‬كما ومت اعتقال ع�شرات‬ ‫الآالف من الوطنيني العرب من مثقفني ورجال الدين ال�شيعة وامل�سيحيني وافراد عائالت‬ ‫‪2‬‬ ‫الوطنيني القياديني‪ .‬وهلك يف املعتقالت ال�صحراوية الكثري من املعتقلني من اجلوع واملر�ض‪.‬‬ ‫عك�ست هذه اجلمعيات والأحزاب الو�ضع اجلديد الذي ن�ش�أ وهو فقدان الأمل والأوهام يف‬ ‫الهوية واالنتماء العثماين للعرب وتعزيز الفكر القومي العربي والطموح اىل اال�ستقالل التام عن‬ ‫االمرباطورية العثمانية التي ح ّولها القوميون الأتراك اىل امرباطورية تركية قمعية‪ .‬ون�ضج التيار‬ ‫القومي النه�ضوي بعد خيبة الأمل التي و�صلها القوميون العرب يف حتقيق اال�ستقالل الذاتي‬ ‫والدميقراطية وامل�ساواة �ضمن �إطار الدولة العثمانية‪ .‬كما �أن حمالت القمع ال�شديدة التي نفذها‬ ‫جمال با�شا �ضد القوميني العرب وقيامه ب�شنق قادة التيار القومي دفع ببع�ض القوميني العرب اىل‬ ‫تبني فكرة الثورة امل�سلحة �ضد نري احلكم اال�ستعماري الرتكي‪.‬‬ ‫ال �شك يف �أن م�ؤثرات �إعدام ‪ 800‬قائد وطني عربي �سوري كانت له �آثار بالغة على احلركة الوطنية‬ ‫التحررية وم�سريتها يف �سوريا الكربى‪� .‬أهم هذه االثار هو احلالة التي ن�ش�أت بعد الإعدام وهي‬ ‫انعدام وجود قيادة متمر�سة لتقود الن�ضال التحرري �ضد اال�ستعمار الرتكي ‪-‬العثماين وبعدها‬ ‫‪ -1‬امل�صدر ذاته‪� ،‬ص‪410 - 409 .‬‬

‫‪ -2‬امل�صدر ذاته‪� ،‬ص‪ 442 .‬ومناع‪ ،‬عادل (‪ )1999‬تاريخ فل�سطني يف اواخر العهد العثماين ‪ ( 1918 – 1700‬بريوت ‪.‬‬ ‫م�ؤ�س�سة الدرا�سات الفل�سطينية)‪� ،‬ص‪262 - 261 .‬‬ ‫‪44‬‬


‫فـلـ�سـطـيـن‬

‫�ضد اال�ستعمار الأوروبي الذي كان يرت ّب�ص لدخول �سوريا‪ .‬وهذا بدوره �أ�ضعف احلركة الوطنية‬ ‫و�أدى لن�شوء فراغ قيادي �سرعان ما متت تعبئته بقيادات رجعية متعاونة مع اال�ستعمارين الربيطاين‬ ‫والفرن�سي‪ .‬فقام امل�ستعمرون الربيطانيون برعاية وتعيني ال�شريف ح�سني‪ ،‬املقيم يف مكة‪ ،‬ليقود ما‬ ‫�سمي بالثورة العربية الكربى‪ ،‬والتي مت توجيهها من قبل رجل املخابرات الربيطانية لورن�س وذلك‬ ‫لكي تخدم امل�صالح اال�ستعمارية الربيطانية‪ .‬ومت تعيني اوالد ال�شريف ح�سني كملوك عمالء‬ ‫لال�ستعمار الربيطاين مثل ملك العراق‪ ،‬و�سوريا‪ .‬ومت �إن�شاء كيان �سيا�سي جديد عرف ب�إمارة‬ ‫�شرق االردن ومت تعيني االمري عبداهلل‪� ،‬أحد ابناء ال�شريف ح�سني‪ ،‬كملك على هذه الإمارة‪ .‬وكان‬ ‫الهدف من اقامة امارة �شرق االردن هو خلق دولة حاجزة �أخرى لتحمي امل�شروع اال�ستعماري‬ ‫ال�صهيوين‪ .‬ومت تعيني رجل املخابرات الربيطانية جلوب با�شا قائداً جلي�ش هذه االمارة‪ .‬وجدير‬ ‫بالذكر �أن جلوب با�شا قاد اجليو�ش العربية يف حرب ‪� 1949 - 1948‬ضد الع�صابات ال�صهيونية‪.‬‬ ‫وبقي جلوب با�شا‪ ، ،‬قائداً ع�سكرياً للجي�ش العربي الأردين حتى العام ‪.1957‬‬ ‫خال�صة‬

‫وهكذا نرى �أن فكرة �إقامة دولة يهودية يف فل�سطني ولدت كفكرة ا�ستعمارية ولي�ست كحل مل�شكلة‬ ‫اليهود �أو للم�س�ألة الال�سامية كما ّيدعي ال�صهاينة وامل�ستعمرون الأوروبيون‪ .‬كما ان فكرة الدولة‬ ‫اليهودية يف فل�سطني مل تكن وليدة احلركة ال�صهيونية او فكرة ا�صيلة للزعماء ال�صهاينة �أمثال ليو‬ ‫بين�سكر او ثيودور هرت�سل‪ .‬جاء طرح فكرة �إقامة دولة يهودية حاجزة يف فل�سطني قبل �أن يتبنى‬ ‫الفكرة ذاتها ثيودور هرتزل بـ ‪ 97‬عاماً وجاءت قبل والدة هرتزل ذاته بـ ‪ 61‬عاماً‪ .‬لقد طرحت‬ ‫فكرة �إقامة الدولة اليهودية لتكون مبثابة قاعدة ا�ستعمارية للدفاع عن خطوط التجارة غري الآمنة‬ ‫وللمحافظة على امل�صالح اال�ستعمارية الأوروبية يف العامل العربي ويف ال�شرق ب�شكل عام‪ .‬كما ان‬ ‫فكرة اقامة الدولة اليهودية يف فل�سطني جاءت لف�صل امل�شرق العربي عن املغرب العربي ولكي‬ ‫متنع وحدة العامل العربي ولكي متنع وحدة االمة العربية‪ .‬فالدولة اليهودية منذ البداية كانت وال‬ ‫زالت دولة ا�ستيطانية‪ ،‬ا�ستعمارية‪ ،‬ووظائفية تقوم بخدمة اال�ستعمار الغربي الذي يقوم بدوره‬ ‫بت�سليحها وبدعمها ع�سكرياً واقت�صادياً و�سيا�سياً و�إعالمياً‪.‬‬

‫‪45‬‬


‫املراجع‬

‫املراجع العربية‬

‫· بار‪ ،‬غربيئيل (‪ )1971‬مقدمة لتاريخ العالقات الزراعية يف ال�شرق االو�سط ‪ ،1800-1970‬املجلد املوحد‪،‬‬ ‫ال ذكر ملكان الن�شر وال للنا�شر‪.‬‬ ‫· لوت�سكي‪ ،‬فالدميري (‪ )1975‬تاريخ الأقطار العربية احلديث (مو�سكو‪ :‬دار التقدم)‪.‬‬ ‫· مناع‪ ،‬عادل (‪ )1999‬تاريخ فل�سطني يف اواخر العهد العثماين ‪( 1918 – 1700‬بريوت ‪ .‬م�ؤ�س�سة الدرا�سات‬ ‫الفل�سطينية)‪.‬‬ ‫· غوجان�سكي‪ ،‬متار (‪ )1987‬تطور الر�أ�سمالية يف فل�سطني‪( ،‬تون�س‪ :‬دائرة الثقافة – منظمة التحرير الفل�سطينية)‪.‬‬ ‫· �سعد‪ ،‬احمد (‪ )1985‬التطور االقت�صادي يف فل�سطني (حيفا‪ :‬دار االحتاد للطباعة والن�شر)‪.‬‬ ‫· دوماين‪ ،‬ب�شارة (‪� )1998‬إعادة اكت�شاف فل�سطني (بريوت‪ :‬م�ؤ�س�سة الدرا�سات الفل�سطينية)‪.‬‬ ‫· املحافظة‪ ،‬علي (‪ )1987‬االجتاهات الفكرية عند العرب يف ع�صر النه�ضة ‪ ( 1914– 1798‬بريوت‪ :‬االهلية‬ ‫للن�شر والتوزيع)‪.‬‬ ‫· زيدان‪ ،‬جرجي (بدون تاريخ) تاريخ �آداب اللغة العربية‪ ،‬اجلزء الرابع‪( ،‬القاهرة‪ :‬دار الهالل)‪.‬‬

‫‪46‬‬


‫فـلـ�سـطـيـن‬

‫املراجع االنكليزية‬ • Grannot, A. (1952) The Land System In Palestine (London: Eyre and Spottiswoode); • Antonius, George (1965) The Arab Awakening (New York: Capricorn Books); • Baumgart Winfried (1982) Imperialism (Oxford: Oxford University Press); • Hayamson Albert M (1918) British Projects for the Restoration of Jews to Palestine. Philadelphia; • (1939) The British Consulate in Jerusalem (1839-1914) 2 vols. London; • Jabbour George (1970) Settler Colonialism in Southern Africa and the Middle East (Beirut: PLO Research Center); • Leon Abram (1970) The Jewish Question (New York: Pathfinder Press); • Major J. Russell (1966) The Western World (Philadelphia and New York: J.B. Lippincott Co.); • Margalith Israel (1957) Le baron Edmond de Rotschild et la colonization juive en Palestine 1882-1889. Paris • Marx-Engels (1953) On Britain (Moscow: Progress Publishers); • Parkes James (1970) Whose Land? (Middlesex: Penguin Books); • Sherif Regina (1983) Non-Jewish Zionism (London: Zed Press); • Stevens Richard P. (1972) Zionism And Palestine Before The Mandate: A Phase Of Western Imperialism (Beirut: The Institute for Palestine Studies); • Weinstock Nathan (1979) Zionism: False Messiah. Translated and edited by Alan Adler. (London: Ink Links); • Sidebotham Herbert (1918) "British Interests in Palestine" England and Palestine: Essays Towards the Restoration of the Jewish State (London: 47


Constable and Company Ltd.) as in Khalidi, Walid (1987) From Haven To Conquest (Washington: Institute of Palestine Studies); • Scholch, Alexander (2006) Palestine in Transformation 1856-1882 (Washington D.C.: Institute for Palestine Studies); • Shaw, Stanford J. and Shaw, Ezel Kural (1977) History of the Ottoman Empire and Modern Turkey (Cambridge: Cambridge Books).

48


‫فـلـ�سـطـيـن‬

‫بني م�صطل َحي "الق�ضية" و"امل�س�ألة"‪..‬‬

‫فل�سطني م�ؤجلة حتى �صحوة �أخرى!‬

‫زيد قطريب ‪� -‬صحايف وباحث‬

‫يف موقع الويكبيديا "املو�سوعة احلرة"‪ ،‬يع ّرفون "الق�ضية الفل�سطينية" ب�أنها م�صطلح ي�شري �إىل‬ ‫"اخلالف ال�سيا�سي والتاريخي وامل�شكلة الإن�سانية يف فل�سطني بدءاً من العام ‪ 1897‬تاريخ انعقاد‬ ‫امل�ؤمتر ال�صهيوين الأول‪ ."..‬هذا ال�شرح ي�أتي يف �أ�شهر مو�سوعة يعود �إليها النا�س والباحثون وحتى‬ ‫اجلهلة‪ ،‬وبالتايل ف�إن اخت�صار ق�ضية فل�سطني على �أنها جمرد خالف �سيا�سي �أو م�شكلة �إن�سانية‬ ‫و�أي�ضاً حماولة ربطها يف �أماكن �أخرى من املو�سوعة نف�سها بالأديان‪ ،‬لهو م�ؤ�شر على ما و�صلت �إليه‬ ‫هذه الق�ضية التي �صار يعرب عنها ب�شتى الألفاظ عدا العبارة التي حتمل حقيقة هذا ال�صراع وهي‬ ‫ت�سمى فل�سطني قام فيها بالقوة �أكرب كيان �سرطاين يف العامل وذلك يف �أفظع‬ ‫�أن �أر�ضاً مغت�صبة ّ‬ ‫عملية اغت�صاب للحق القومي تجُ رى بالعنف والعن�صرية والقتل العلني حتت �شتى الذرائع!‬ ‫بالعودة �إىل بدايات الع�شرينيات و�إثر اتفاقية �سايك�س بيكو �سنة ‪ 1916‬ومن ثم والدة ابنها ال�شرعي‬ ‫وعد بلفور �سنة ‪ ،1917‬ف�إن تركيز الباحثني على دقة امل�صطلحات �أخذ مكانته من �أهمية الق�ضية‪،‬‬ ‫ومل يكن بالإمكان اال�ست�سهال بامل�صطلح �أو اللفظ كما هو احلال اليوم‪ ،‬حيث حت ّولت يف �شروحات‬ ‫ومواقف �أنطون �سعاده الباحث الأكرث اهتماماً بفل�سطني‪� ،‬إىل م�صطلح "امل�س�ألة" ومل يكن ذلك‬ ‫تخفيفاً من �ش�أنها لأن �سعاده اعتربها امل�س�ألة املحورية الأهم بالن�سبة للق�ضية ال�سورية التي ت�ضم‬ ‫خمتلف امل�سائل الأخرى املعنية بوجود الأمة ومن لواء ا�سكندرون وكيليكية و�سيناء والأحواز‬ ‫وقرب�ص‪ ،‬كلها م�سائل ت�شكل جمتمعة �أو فرادى جزءاً من ق�ضية مركزية هي الق�ضية ال�سورية‪،‬‬ ‫ح�سب م�صطلحات الفكر ال�سوري القومي االجتماعي‪ ..‬يف ذلك الوقت‪ ،‬كانت فل�سطني‬ ‫هي املقيا�س الذي ي�شرح �أخالقية الباحثني والأحزاب وال�شعراء‪ ،‬وبالتايل كان ال بد من كل‬ ‫الإمكانات والأفراد �أن ي�أخذوا براءة ذمة من امل�س�ألة الأهم والأ�شهر لأنها جوهر ال�صراع والقول‬ ‫الف�صل يف تقرير م�صري املنطقة كلها‪ ،‬وهنا خرجت �إىل ال�ضوء مقولة حرب الوجود نظراً للأهمية‬ ‫اال�سرتاتيجية التي �شكلتها فل�سطني يف الذاكرة والأدبيات واجلغرافيا‪ ،‬ونحن هنا ن�شري ب�شكل‬ ‫�أ�سا�سي �إىل الفكر القومي االجتماعي الذي تط ّوع مقاتلوه بتوجيه من املفكر �سعاده من �أجل‬ ‫القتال يف فل�سطني والدفاع عنها‪..‬‬ ‫باالنتقال �إىل مفا�صل �أخرى تخت�ص بالكتابة والإبداع‪ ،‬ف�إن ن�شوء الأدب املقاوم مرتافقاً مع �أعمال‬ ‫‪49‬‬


‫املقاومة كفعل على الأر�ض‪ ،‬حتول �إىل م�س�ألة وطنية و�أخالقية �إن�سانية ال تعفي �أحداً من دفع‬ ‫�ضريبتها املعنوية �أو املادية‪ ،‬ورمبا كان �أ�شرف النا�س و�أ�صدقهم تاريخاً وممار�سة‪� ،‬أولئك الذين هرعوا‬ ‫�إىل املعركة يف حروب الفل�سطينيني وال�سوريني �ضد �إ�سرائيل ومل يعودوا من اجلبهة �إال �شهداء‪،‬‬ ‫ففل�سطني كانت الكفّارة التي يهون لأجل عينيها كل �شيء حتى غفران تاريخ الأ�شخا�ص وعرثاتهم‬ ‫�أو �سقطاتهم يف ال�سلوك ال�سيا�سي �أو غريه‪ .‬لكن امل�شهد اليوم خمتلف للأ�سف‪ ،‬ففل�سطني مل تعد‬ ‫هي الق�ضية املحورية واملركزية يف ممار�سات النا�س وامل�ؤ�س�سات ومل تعد من اخلطوط احلمر التي‬ ‫يح ّرم جتاوزها من قبل الدول التي راحت تبني العالقات الطبيعية يف العلن ولي�س يف ال�سر مع‬ ‫الكيان ال�سرطاين الذي قطف يف العديد من املراحل ثماراً مل يكن يحلم بها يف املا�ضي‪ ،‬وكان‬ ‫ذلك نتيجة طبيعية لتحول مفهوم ال�صراع من الوجهة القومية �إىل الوجهة الدينية والطائفية بني‬ ‫دول تتبع هذا املذهب الإ�سالمي �أو ذاك‪ ،‬وبالتايل كان اليهود يف معركة امل�سلمني مع بع�ضهم �أبناء‬ ‫ومد العالقات يف ال�سر والعلن من �أجل اغتيال الأخ املفرت�ض‬ ‫عم ميكن التحالف معهم والتفاو�ض ّ‬ ‫ّ‬ ‫يف الدين والذي يتبع طائفة ثانية و�أهم مثال على ذلك هو �صراع ال�شيعة وال�سنة اليوم!‬ ‫بكل ب�ساطة‪ ،‬جنت "�إ�سرائيل" اليوم من م�صطلح "امل�س�ألة والق�ضية" و�أ�صبحت دولة �شقيقة يف‬ ‫العالقات ال�سيا�سية املرحلية واال�سرتاتيجية حتى بالن�سبة لفئات دينية حتالفت معها من �أجل‬ ‫اغتيال فئات �أخرى من الدين نف�سه‪ ،‬وبعد �أن كانت امل�شكلة يف �أن نقول "الق�ضية الفل�سطينية"‬ ‫�أم "امل�س�ألة الفل�سطينية"‪� ،‬أ�صبحت م�صيبتنا اليوم تتع ّلق بوجود فل�سطني من الأ�سا�س‪ ،‬و�أ�صبحت‬ ‫�سورية اجلنوبية ُتطرح يف حلول مل�شاريع خطرية تق�ضي بتوطني الفل�سطينيني يف الأردن و�إعطائهم‬ ‫الوطن البديل يف ال�صحراء عو�ضاً عن �أرا�ضي ‪ 1967‬التي �أ�صبح جمرد ذكرها يف التفاو�ض مدعا ًة‬ ‫لل�سخرية عند ال�سا�سة الإ�سرائيليني‪ .‬نعم‪ ،‬لقد تغيرّ امل�شهد‪ ،‬ومل تبق فل�سطني بقيمتها التاريخية‬ ‫تقدمها فيه "امل�س�ألة" و"الق�ضية"‪ ،‬موجودة نهائياً حتى يف �أذهان اجليل خارج‬ ‫التي كانت ّ‬ ‫الإقليم الفل�سطيني على نحو خا�ص‪ ،‬حيث من املمكن �أن حتافظ الرتبية التي يلقاها الفل�سطيني‬ ‫على عالقته ب�أر�ضه حتى ولو بعد مئات ال�سنني‪ ،‬لكن الأمر بالن�سبة للأخوة يف بقية الأماكن‬ ‫ال�سورية البعيدة والنائية عن التما�س مع االر�ض ال�سليبة‪ ،‬يختلف متاماً فهم يف �أقل و�صف غارقون‬ ‫يف ال�صراعات الداخلية ويف احلروب الطائفية والإثنية واملجازر والغزوات‪ ،‬ذلك الأفق املظلم كان‬ ‫من �ش�أنه �إلغاء وجود فل�سطني "الق�ضية وامل�س�ألة" عن الواجهة نهائياً تقريباً‪ ،‬ليتحول ذكرها �إىل ما‬ ‫ي�شبه مفتاح العودة الذي يحمله معهم العجائز الفل�سطينيون الذين اعتقدوا يف �سنة ‪ 1948‬و�سنة‬ ‫‪� 1967‬أنهم �سيعودون بعد �أيام �إىل �أر�ض الديار فا�ستمر نزوحهم حتى اليوم!‬ ‫من الناحية الثقافية‪ ،‬تتحمل بع�ض العقائد التي �سادت فرتات طويلة على طول امل�شهد العربي‬ ‫وكان لها خيارات التحكم بالربامج الثقافية والرتبوية‪ ،‬الكثري من م�س�ؤولية �إ�سقاط املعنى اجلوهري‬ ‫لقد�سية الق�ضية‪ ،‬وذلك ب�سبب عدم اال�شتغال على الهوية القومية ب�شكل علمي ودقيق‪ ،‬ويف‬ ‫الوقت نف�سه تو�ضيح مفهوم العالقة مع الدين والطائفة بالن�سبة لأجيال تعلمت �أن متار�س التق�سيم‬ ‫‪50‬‬


‫فـلـ�سـطـيـن‬

‫على مقاعدها املدر�سية عندما كان كل �أتباع طائفة ي�أخذون درو�س الدين منعزلني عن الفئات‬ ‫الأخرى! هكذا مت تفريغ م�صطلح الق�ضية من معناه احلقيقي ليتحول امل�صطلح الق�ضية �إىل �شعار‬ ‫ولوغو مر�سوم ومكرر ب�شكل �سطحي يف الكلي�شيهات التي تتبناها كثري من الأحزاب العربية‬ ‫التي �أغرقت يف االرجتال واملراهنة على العروبة التي مل يكن من �ش�أنها الدفاع عن فل�سطني‪،‬‬ ‫لأنها بكل ب�ساطة خارج دائرة اخلطر القومي ل�سورية‪ ،‬الأم ال�شرعية لهذه الق�ضية! تلك احلقائق‬ ‫� ّأخرت يف مو�ضوع الوعي و�أتاحت لإ�سرائيل االنت�صار يف الكثري من معارك املواجهة الالحقة‪،‬‬ ‫وخا�صة يف املعركة الثقافية ومو�ضوع التعلق بالق�ضية‪ ،‬حيث بعد جتريد امل�صطلح من قيمته الوطنية‬ ‫والتندر للأ�سف!‬ ‫والأخالقية‪� ،‬صار بكل ب�ساطة مدعاة للي�أ�س ّ‬ ‫م�س�ألة حمورية جوهرية ميكن �أن ت�ضيء على تطورت امل�س�ألة �أو الق�ضية الفل�سطينية يف اجتاهها‬ ‫اجلوهري‪ ،‬وهي �أن الأمة �ستتخلى عن الكثري من �أرا�ضيها العزيزة بعامل ال�ضعف املادي واملعنوي‪،‬‬ ‫لكنها يف حاالت احليوية �ست�ستعيد كل �أطرافها املقطعة‪ ،‬وبالتايل ف�إن تطورات الق�ضية ال ميكن‬ ‫�أن تحُ �سم �إال من خالل م�شروع حداثوي �شامل وكبري يتناول �سوريا الطبيعية وهي الأم ال�شرعية‬ ‫لفل�سطني‪ ،‬ويكون موجهاً �إىل املنتجني جميعاً يف هذه الأر�ض غال ًال و�صناع ًة وفكراً‪ ،‬فمعركة‬ ‫ا�ستعادة م�صطلح فل�سطني يف "الق�ضية وامل�س�ألة" على حد �سواء يحتاج �إىل �إعادة نظر يف كل‬ ‫امل�سلمات والأفكار التي اعتقدنا �أنها غري قابلة للجدل‪ ،‬لأن ال�س�ؤال بكل ب�ساطة يتمحور بكيفية‬ ‫جعل ابن �أبعد قرية يف �سوريا الطبيعية يعمل على قاعدة �أن فل�سطني بيته وعنوان عزته وكرامته‬ ‫وم�ستقبل �أطفاله! ما يد ّلل على �صحة هذا التحليل هو ال�سبي البابلي ال�شهري الذي قام به القائد‬ ‫نبوخذ ّن�صر الذي قدم من �أق�صى ال�شمال ال�شرقي يف العراق �أو �سوريا ال�شرقية‪� ،‬إىل فل�سطني‬ ‫حيث �أنهى وجود اململكة ال�سرطانية بالقوة و�سحب �أتباعها بال�سال�سل �إىل بابل‪ ..‬هذا الأمر مل‬ ‫يكن ليتم �إال يف فرتات احليوية الكبرية للأمة ويف حاالت القوة واالنتعا�ش والوعي‪ ،‬وبالتايل ف�إن‬ ‫ثقافة نبوخذ ن�صر كانت حتتم عليه ب�شكل ق�سري �إنهاء ذلك الكيان يف فل�سطني نظراً لوعيه �أن‬ ‫امل�س�ألة وجودية وال حتتمل الت�أجيل �أو الت�سوية لأنها لي�ست خالفاً عابراً �أو �سيا�سياً كما ورد يف‬ ‫"ويكبيديا" �أو "املو�سوعة احلرة" على �شبكة االنرتنت!‬ ‫النبوءات املتخيلة واملتوقعة للم�س�ألة الفل�سطينية م�ستقب ًال ال تب�شر باخلري للأ�سف‪ ،‬هذه الأر�ض‬ ‫التي مل تعد حتتاج الدرا�سات والأبحاث بل الربامج والعمل امليداين على �أر�ض الواقع‪� ،‬ست�صبح‬ ‫مثل �أخواتها من الق�ضايا �أو امل�سائل ال�سورية‪ ،‬ق�ضايا ت�صعد �أو تغيب عن الواجهة تبعاً لنفري احلرب‬ ‫على هذه اجلبهة �أو تلك‪ ،‬مع �أن احل�سم النهائي ال ميكن �أن يتم �إال مبا �سميناه امل�شروع املتكامل‬ ‫املعني بحيوية الأمة ككل‪ ،‬تلك احليوية التي تتطابق ب�شكل ما مع طائر الفينيق‪ ،‬حيث من �ش�أنها‬ ‫�أن ت�ستعيد �أو�صالها ّ‬ ‫املقطعة كلما رفرف هذا الطائر �إيذاناً بالتحليق نحو الف�ضاء‪ ،‬وكلما �سكن ومل‬ ‫يحرك جناحيه كما يفرت�ض‪ ،‬كان ذلك دلي ًال على التقهقر واالنك�سار وال�ضعف!‬ ‫‪51‬‬


‫�أ�سماء و�أحداث‬ ‫الدكتور خليل �سعاده‬ ‫يف لبنان و�سوريا نف ٌر بلغت مرونة �ضمائرهم حداً فاح�شاً واجتازوا �أطواراً غريبة‪ .‬ففي �أيام عبداحلميد كانوا‬ ‫ي�سبحون بحمده ويحرقون البخور �أمام عر�شه‪ .‬يف �أيام الد�ستور بلغت حريتهم درجة البيا�ض من احلرارة‪ .‬ويف‬ ‫�أيام احلركة العربية تغنوا ب�أجماد العرب‪.‬‬ ‫ويف �أيام احلرب ترمنوا مبدح �أنور وجمال‪ .‬ويف �أيام احللفاء �سجدوا لدول احلرية والعدل‪ .‬ويف �أيام في�صل عفروا‬ ‫وجوهم على �أعتاب احلجاز‪ .‬ويف �أيام احلركة ال�سورية اال�ستقاللية وقفوا حتت لواء اال�ستقالل التام املطلق‪.‬‬ ‫ويف �أيام فرن�سا ت�سابقوا �إىل متجيد دولة احلرية والإخاء وامل�ساواة وال يزالون كذلك حتى ال�ساعة‪.‬‬ ‫خليل �سعاده‬ ‫م�ؤ�س�سة �سعاده للثقافة‬ ‫بناية ر�سامني‪� ،‬شارع احلمرا‪ ،‬ر�أ�س بريوت‪ ،‬لبنان‬ ‫�صندوق بريد‪ ،113-5557 :‬بريوت ‪ -‬لبنان‪.‬‬ ‫هاتف ‪)00961-1( 753363:‬‬ ‫فاك�س ‪)00961-1( 753364:‬‬ ‫الربيد الإلكرتوين ‪saadehcf@idm.net.lb:‬‬ ‫املوقع الإلكرتوين ‪www.saadehcf.org:‬‬


‫"مفكر مناه�ض للنفاق اليهودي – ال�صهيوين – الإ�رسائيلي"‬ ‫وف�صل من الكتاب للم�ؤلف (د‪.‬خليل نخله) رام اهلل ‪ -‬دار الرعاة للدرا�سات والن�رش"‬

‫ي�سرب هذا الكتاب املكثف عمق �آراء املرحوم الربوف�سور �إ�سرائيل �شاحاك التي ركزت ب�شكل‬ ‫حثيث‪ ،‬ال يعرف الكلل‪ ،‬على �إبراز النفاق اليهودي – ال�صهيوين ‪ -‬الإ�سرائيلي يف كل ما يتعلق‬ ‫بال�سيا�سات والت�صريحات الإ�سرائيلية ال�صهيونية‪ .‬ملو�ضعة هذه الآراء يف بيئتها ال�شمولية‪ ،‬يجدر‬ ‫ا�سرتجاع "املقدمة ال�شخ�صية" التي ّ‬ ‫ا�ستهل بها امل�ؤلف هذا الكتاب‪.‬‬ ‫�أعر�ض يف هذه املقدمة ت�أمالتي ال�شخ�صية حول �شاحاك ك�إن�سان‪ ،‬وحماولة �أولية ملو�ضعة ما كتبه يف‬ ‫�سياق تطور �أفكاره تاريخياً‪ .‬ترتكز ت�أمالتي على توا�صلي ال�شخ�صي معه خالل ال�سنوات ‪،1991 – 1984‬‬ ‫هو من القد�س و�أنا يف منطقة بو�سطن يف الواليات املتحدة الأمريكية وبعدها يف جنيف‪� ،‬سوي�سرا‪�( .‬أنظر‬ ‫امللحق رقم "ج" يف نهاية هذه الدرا�سة)‪� ،‬إ�ضافة �إىل ذلك‪� ،‬أَخت ِز ُل ت�أمالتي �إىل �شبه "ر�ؤو�س �أقالم"‬ ‫حول كل ما كتب ون�شر �أو مل ين�شر (بالطبع لي�س يف جمال تخ�ص�صه العلمي) و�إر�ساء هذه الكتابات يف‬ ‫قناعاته والتزاماته العميقة‪.‬‬ ‫عالقتنا مل تكن عالقة �صداقة اجتماعية‪ ،‬نتبادل فيها الزيارات واملنا�سبات االجتماعية‪ ،‬باملفهوم‬ ‫املتداول لهذا امل�صطلح‪ .‬عالقتنا كانت عالقة "رفاقية"‪ ،‬مبنية على التزامات وقناعات ملناه�ضة‬ ‫ورغم �سياقه‪ ،‬ولكن‬ ‫التع�صب والعن�صرية وعدم امل�ساواة والف�ساد واالمتيازات والنفاق‪� ،‬أينما وجد َ‬ ‫مع �إعطاء الأولوية بالتحديد حليز هذه املمار�سات يف �إطار الهيمنة الإ�سرائيلية‪ ،‬والعجرفة املنبثقة‬ ‫من الأيديولوجيات اليهو ‪� -‬صهيونية خا�صة يف م�سارها التطبيقي يف �إ�سرائيل ‪ -‬فل�سطني‪ .‬عالقتنا‬ ‫"الرفاقية" التقت يف الدعوة للن�ضال من �أجل �ضمان احلقوق الإن�سانية الأ�سا�سية للم�ضط َهدين‬ ‫واملظلومني‪ ،‬ومن �أجل تثبيت حقهم الأ�سا�سي يف مقاومة القمع والظلم واال�ستبداد‪ .‬كانت هذه‬ ‫عالقة "روحني �شقيقني"‪ ،‬كربا على انفراد كل يف بيئته اخلا�صة‪.‬‬ ‫خالل فرتة توا�صلنا ل�سبع �سنوات‪ ،‬كان كل منا ينا�ضل بطريقته اخلا�صة‪ ،‬وي�ستفيد من الو�سائل‬ ‫والآليات املتاحة له يف حيزه اخلا�ص‪� .‬شاحاك‪ ،‬يهودي ولد يف بولندا يف العام ‪ ،1933‬وهاجر �إىل‬ ‫فل�سطني بعد اثنتي ع�شرة �سنة‪ ،‬وا�ستقر يف القد�س‪ ،‬حيث بقي هناك �إىل حني مماته يف العام ‪.2001‬‬ ‫�أنا فل�سطيني‪ ،‬ال �أنتمي لأية طائفة دينية‪ ،‬ولدت يف قرية فل�سطينية يف اجلليل العام ‪ ،1943‬وتربيت‬ ‫‪53‬‬

‫فـلـ�سـطـيـن‬

‫"للإ�ضاءة على �أزمة ا�سرائيل الوجودية نن�شر قراءة يف كتاب " الربوف�سور �إ�سرائيل �شاحاك‪:‬‬


‫وتثقفت يف بيئة م�سيحية كاثوليكية‪ ،‬و�أحمل جواز �سف ٍر �إ�سرائيلياً‪ .‬تركت اجلليل بعد ع�شرين عاماً‬ ‫لأتابع درا�ستي اجلامعية يف الواليات املتحدة الأمريكية‪ .‬وخالل فرتة توا�صلنا وتبادل املرا�سالت‬ ‫كنت �أقيم يف منطقة بو�سطن‪ ،‬ومن ثم يف جنيف‪ ،‬وبعدها يف فل�سطني ‪� -‬إ�سرائيل‪.‬‬ ‫بد�أ التعارف بيننا يف العام ‪ 1980‬عندما التقيت �شاحاك �شخ�صياً يف مدينة بو�سطن الأمريكية‪،‬‬ ‫وا�ستمر بعدها هذا التعارف من خالل ر�سائل كان ير�سلها يل بالربيد العادي (مل يكن لدينا �إمييل‬ ‫�آنذاك!)‪ ،‬بداية خمطوطة بخط يده‪ ،‬وبعدها مطبوعة على الآلة الكاتبة‪.‬‬ ‫يف بداية الثمانينيات من القرن املا�ضي‪ ،‬كنت نا�شطاً يف رابطة املتخرجني العرب من اجلامعات‬ ‫الأمريكية (‪ .)AAUG‬وقد دعت الرابطة �شاحاك يف العام ‪ 1980‬لإلقاء حما�ضرة يف م�ؤمترها ال�سنوي‬ ‫يف بو�سطن‪ .‬يف العام ‪ 1981‬انتخبت رئي�ساً للرابطة‪ .‬ويف ذلك العام كان يل دور فاعل وم�ؤثر يف‬ ‫اتخاذ القرار لن�شر "خطة ينون" (‪ )Yinon Plan‬لتجزئة الأقطار العربية �إىل دويالت (�أنظر تفا�صيل‬ ‫عن خطة ينون الحقاً‪ ،‬وخا�صة يف الف�صل الثاين)‪ ،‬كفاحتة "ل�سل�سلة الوثائق اخلا�صة" التي د�شّ نتها‬ ‫الرابطة يف العام ‪.1982‬‬ ‫يعود الف�ضل يف ذلك بالأ�سا�س ل�شاحاك الذي ترجم "اخلطة" من العربية �إىل الإجنليزية‪ ،‬واقرتح‬ ‫علينا �آنذاك ن�شرها وتعميمها ككت ّيب‪ ،‬ملا �أيقنه من التهديد املخيف والكامن يف هذا التخطيط‬ ‫اال�سرتاتيجي اليهو‪� -‬صهيوين ملنطقة ال�شرق الأو�سط برمتها‪ .‬وبالتايل‪ ،‬ن�شرت الرابطة هذه‬ ‫"اخلطة" يف كت ّيب منف�صل حتت عنوان "اخلطة ال�صهيونية لل�شرق الأو�سط"‪ ،‬يف �صيف ‪،1982‬‬ ‫�أي تزامناً مع االجتياح الع�سكري الإ�سرائيلي للبنان‪ ،‬واحتالل عا�صمته بريوت‪ ،‬ومع حماوالته‬ ‫املك�شوفة وامل�سعورة لتجزئة لبنان �إىل كيانات على �أ�سا�س طائفي ومذهبي‪.‬‬ ‫كان عملي يف الرابطة تطوعياً‪� .‬أما وظيفتي يف تلك الفرتة فكانت يف �إدارة معهد الدرا�سات العربية ‪-‬‬ ‫امل�ؤ�س�سة البنت التي �أن�شاتها الرابطة‪ .‬منذ تلك الفرتة ا�ستمر التوا�صل مع �شاحاك‪ ،‬حيث كانت‬ ‫مكتبة املعهد‪ ،‬كم�ؤ�س�سات كثرية غريها يف الغرب الأجنلو�ساك�سوين‪ ،‬تت�سلم �شهرياً منتظم رزمة من‬ ‫الرتجمات التي كان يقوم بها �شاحاك‪ ،‬من دون كلل‪ ،‬ملقاالت وتقارير تن�شر يف ال�صحافة العربية‬ ‫يف �إ�سرائيل‪ .‬مثلت تلك الرتجمات �إ�ضافة نوعية وغاية يف الأهمية لأولئك الباحثني الذين مل‬ ‫يقر�أوا �أو يجيدوا العربية‪� ،‬إذ �أطلعتهم على ما كان يحدث يف �إ�سرائيل (مناطق ‪ )1948‬ويف املناطق‬ ‫الفل�سطينية التي احتلت يف العام ‪ .1967‬وقد ركزت "�أوراق �شاحاك" (كما �أ�صبحت ُتعرف يف ما‬ ‫بعد) على التمييز العن�صري الر�سمي املمار�س �ضد "غري اليهود" �أو "الأغيار" (�أي الفل�سطينيني)‬ ‫يف �إ�سرائيل‪ ،‬وعلى اال�ضطهاد والقمع والتعذيب واال�ستالب و�سرقة الأرا�ضي الفل�سطينية لبناء‬ ‫امل�ستعمرات اليهودية عليها‪ ،‬التي متار�سه �سلطات االحتالل الع�سكري يف املناطق الفل�سطينية‬ ‫املحتلة يف العام ‪ .1967‬كما �أ�ص ّر �شاحاك‪ ،‬بانتقائية علمية حتليلية‪ ،‬على �إبراز التقارير واملخططات‬ ‫التي تظهر‪ ،‬من دون �أي التبا�س‪ ،‬التفكري اليهو ‪� -‬صهيوين اال�سرتاتيجي لفر�ض الهيمنة على‬ ‫‪54‬‬


‫فـلـ�سـطـيـن‬

‫كامل منطقة امل�شرق العربي وغربي �آ�سيا‪ .‬وغدت هذه الرتجمات م�صدراً موثوقاً وذا م�صداقية‬ ‫عالية للباحثني والأ�ساتذة الزائرين للمعهد‪.‬‬ ‫الر�سائل اخلا�صة من �شاحاك �إ َّ‬ ‫يل مع بع�ض التعليقات‬

‫جرى الرتا�سل بيني وبني �شاحاك عرب ثماين ر�سائل‪� ،‬أر�سلها �إ َّيل بالربيد العادي من القد�س‪،‬‬ ‫أ�شرت �أعاله‪� .‬أحلقت هذه الر�سائل كما هي‪� ،‬أي من دون حترير‪،‬‬ ‫خالل الفرتة ‪ ،1991 - 1984‬كما � ُ‬ ‫ولكن مع بع�ض الإي�ضاحات �إذا اقت�ضى الأمر‪ ،‬يف امللحق رقم "ج" يف نهاية هذه الدرا�سة‪.‬‬ ‫مل تتميز هذه الر�سائل ب�أ�سلوب ال�شكليات الر�سمية؛ بل مت ّيزت‪ ،‬كتم ُّي ِز �شخ�صيته هو‪ ،‬بال�صراحة‬ ‫تت�ضمن �أية تعميمات غري موثقة (ما كان يثري فيه اال�شمئزاز)‪،‬‬ ‫وال�صدق والنقد العلني املبا�شر‪ ،‬ومل ّ‬ ‫بل على العك�س‪� ،‬إذ كان توثيقه لكل ما يكتب دقيقاً وجا ّداً ور�صيناً‪ .‬هو مل يتطرق فقط للق�ضايا‬ ‫ال�سيا�سية‪ ،‬بل تطرق �أي�ضاً للق�ضايا ال�شخ�صية التي كانت تقلقه حينما كان ي�صوغ‪ .‬لقد عك�ست‬ ‫ر�سائله حالته النف�سية يف الوقت احلقيقي‪.‬‬ ‫وا�ضح �أن الر�سائل الثماين التي ت�سلمتها من �شاحاك ت�ضمنت ت�أمالته عن جمموعة ق�ضايا متعددة‪،‬‬ ‫متحورت ب�شكل �أ�سا�سي على التمييز العن�صري اليهو ‪� -‬صهيوين الر�سمي وممار�ساته �ضد العرب‬ ‫الفل�سطينيني‪ .‬كما �أظهرت هذه الر�سائل تخوفَه وقلقَه احلقيق ّيينَ من طرد �أو �إبادة الفل�سطينيني‪،‬‬ ‫ومن النفاق والكذب الذي مي ّيز رواج الدعاية الإ�سرائيلية يف الواليات املتحدة الأمريكية‪ .‬وبوجه‬ ‫التحديد‪ ،‬ففي ر�سالته الثالثة (بتاريخ ‪ )1984 /8 /11‬عبرّ عن قلقه العميق والرهيب مبا يخ�ص‬ ‫ت�صاعد التمييز العن�صري الر�سمي يف �إ�سرائيل من ناحية‪ ،‬وعدم جناعة الدعاية امل�ضادة يف الغرب‪.‬‬ ‫كتب �شاحاك يف تلك الر�سالة ما يلي‪:‬‬ ‫�أنا الآن يف �ضائقة نف�سية �سيئة وكئيبة وميكن و�صفها باالنهيار النف�سي‪ .‬هناك �أ�سباب �شخ�صية‬ ‫عدة لذلك‪ ،‬ولكن �أي�ضاً ب�سبب الو�ضع ال�سائد هنا‪ .‬من اجللي �أنّ حوايل ن�صف النا�س هنا هم‬ ‫يف عملية فقدان �سالمتهم العقلية‪ .‬مئري كاهانا هو فقط ر�أ�س اجلبل اجلليدي‪ ،‬والأخطار عظيمة‪.‬‬ ‫�أعني الأخطار الناجمة عن �إمكانية الطرد احلقيقي �أو الإبادة‪� ،‬إذا �سمح لهم الو�ضع العاملي بذلك‪.‬‬ ‫كان �شاحاك مثبط العزمية ومنزعجاً جداً من �أولئك يف اخلارج الذين كانوا يرف�ضون دائماً �أن‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -1‬احلاخام مئري كاهانا من نيويورك كان عن�صرياً بامتياز وب�شكل مف�ضوح‪ .‬فهو الذي طالب بطرد �أو �إبادة الفل�سطينيني‪.‬‬ ‫وقبل �أن هاجر �إىل �إ�سرائيل �أ�س�س‪ ،‬وهو مازال يف نيويورك‪“ ،‬رابطة الدفاع اليهودي” (‪Jewish Defense League-‬‬ ‫‪ .)JDL‬ويف �إ�سرائيل �أ�س�س حزب “الكاخ” (�أو هكذا) الذي تبنى وا�ستدخل �آراءه العن�صرية‪ ،‬ومت انتخابه للكني�ست‬ ‫الإ�سرائيلي وفق ذلك الربنامج العن�صري يف ‪.1984‬‬ ‫‪55‬‬


‫يروا حقيقة �إ�سرائيل‪� ،‬أو الذين خُ دعوا ور�أَ ْوها كنظام �سيا�سي دميقراطي متجان�س‪ .‬وعرب عن ذلك‬ ‫بالأ�سلوب التايل‪:‬‬ ‫�أنا �أي�ضاً منزعج جداً من �أولئك الذين يف اخلارج (وب�ضمنهم للأ�سف الكثري من الفل�سطينيني)‬ ‫الذين ال يرون حقيقة هذا اخلطر‪� ،‬إما لأنهم يرحبون فع ًال ب�صعود كهانا (كالذين � ّصوتوا له)‪� ،‬أو ال‬ ‫يودون �أن يروا الفرق بني العن�صريني‪ ،‬وبني �أولئك الذين ما زالوا غري داعمني للإبادة اجلماعية‪،‬‬ ‫والتي‪� ،‬أكرر و�أقول‪� ،‬إ ّنها احتمال جدي‪.‬‬ ‫�إ�ضافة �إىل ذلك‪ ،‬عرب �شاحاك عن نقده الالذع (وبحق‪ ،‬بر�أيي) للعمل الإعالمي الفل�سطيني‬ ‫�سمى "القيادة الفل�سطينية"‪ .‬وعبرّ يل عن‬ ‫والعربي يف الواليات املتحدة الأمريكية‪ ،‬ولدور ما ُي ّ‬ ‫ذلك ب�شكل �صريح يف ر�سالته ال�ساد�سة (يف ‪� ،)1989 /12 /25‬أي �سنتني بعد اندالع االنتفا�ضة‬ ‫ال�شعبية الأوىل‪ .‬كتب يقول‪:‬‬ ‫كل ما ُيقال با�سم الفل�سطينيني يف الواليات املتحدة الأمريكية هو �إما هراء عن الدبلوما�سية (والتي‬ ‫�أغلبية اجلمهور ال ترغب ب�سماعها)‪� ،‬أو تكرار ل�شعارات‪ ،‬حتى ولو كانت دقيقة (مث ًال الأرقام‬ ‫بخ�صو�ص القتلى) ال يوجد لها �أي ت�أثري‪ ،‬مقارنة على �سبيل املثال مع �أرقام القتلى خالل �أ�سبوع‬ ‫واحد يف ال�سلفادور �أو رومانيا‪ ،‬بينما ال�سمات املهمة للنظام االحتاليل‪ ،‬مثال طبيعته اال�ستبدادية‪،‬‬ ‫ال تذكر �أبداً‪.‬‬ ‫�إن �أغلب َمن يتكلم با�سم الفل�سطينيني هم (�أو كما كانوا يف �أكتوبر ‪ )1989‬منهمكون يف تعميم‬ ‫الأوهام‪ ،‬بالدرجة الأوىل حول ال�سيا�سة احلقيقية للواليات املتحدة الأمريكية‪ ،‬وبالدرجة الثانية‬ ‫حول الأغلبية يف املجتمع الإ�سرائيلي‪ ،‬والأهم حول النجاح ال�سريع واليقني الذي �ستحققه‬ ‫املعادلة الدبلوما�سية احلمقاء‪ .‬وحينما يطفو على ال�سطح كذب هذا الإدعاء‪ ،‬والذي �أتوقع ب�أن‬ ‫رغم ذلك‪ ،‬ما زال لدي بع�ض الأمل الباهت ب�أنّ‬ ‫يكون قريباً جداً‪� ،‬ستظهر فظائع هذه النتائج‪َ .‬‬ ‫العنا�صر ال�شابة �ستنه�ض جمدداً‪ .‬باخت�صار‪ ،‬خُ ِّي َبت �آمايل ب�شدة‪.‬‬ ‫�س� ِّأركز بالتف�صيل على �آراء �شاحاك النقدية يف ما يخ�ص "القيادة الفل�سطينية" و"عملية �أو�سلو"‬ ‫برمتها‪ ،‬يف الف�صل الثالث من هذه الدرا�سة‪.‬‬ ‫�آمن �شاحاك "بالقيمة التحولية" للمعلومات ال�صريحة وال�صادقة التي كانت تن�شرها ال�صحافة‬ ‫الإ�سرائيلية العربية‪ ،‬والتي كان معجباً وفخوراً بها‪� ،‬إذا مت توفريها بالإجنليزية للقارئ الغربي‪ .‬فانطالقاً‬ ‫من هذه القناعة‪ ،‬اعترب �أن ترجمة هذه املواد �إىل الإجنليزية �ستوفر "�سالحاً" ثميناً للمثقف الغربي‬ ‫(الناطق بالإجنليزية)‪ ،‬وو�سيلة جمدية لفر�ض �ضغوط على �إ�سرائيل‪ .‬لكن يجدر التنبيه هنا �إىل �أنّ‬ ‫�شاحاك (بر�أيي) ّبخ�س تقدير وزن الت�صاميم واملخططات املالية العاملية‪ ،‬والقوى ال�سيا�سية الغربية‪،‬‬ ‫وا�ستعمال ر�ؤو�س الأموال الباهظة املعدة خ�صي�صاً لإخ�ضاع "العامل الثالث" وفر�ض هيمنتها‬ ‫‪56‬‬


‫فـلـ�سـطـيـن‬

‫عليه‪ ،‬وعلى فل�سطني كجزء منه‪.‬‬ ‫فقط من موقف �شاحاك هذا‪ ،‬ميكننا تف ّهم التزامه احلثيث وجهوده الفردية املثابرة والعنيدة يف‬ ‫املد الدائم من ترجمات ملقاالت وتقارير من ال�صحافة العربية‪ ،‬وتعميمها ل�شبكة وا�سعة‬ ‫توفري هذا ّ‬ ‫من القراء يف الغرب‪ .‬كان يك ِّرر دائماً �أنّ ال�صحافة العربية يف �إ�سرائيل م�شبعة مبعلومات ُمدينة‬ ‫لإ�سرائيل‪ ،‬وقد تكون هذه املعلومات مزعزعة لو �أنّ النا�س يف اخلارج رغبوا يف بذل اجلهد املطلوب‬ ‫لقراءتها والتم ّعن يف م�ضامينها‪ .‬اعترب �شاحاك هذه مهمته الأ�سا�سية يف دعم الفل�سطينيني (�أو‬ ‫غري اليهود) امل�سلوبني من حقوقهم الإن�سانية الأ�سا�سية‪ ،‬والدفاع عنهم‪ ،‬يف ظل الت�سلط اليهو ‪-‬‬ ‫�صهيوين الإ�سرائيلي‪.‬‬ ‫با�ستثناء ر�سائله العديدة لهيئات التحرير يف ال�صحف العربية‪ ،‬خا�صة ه�آرت�س‪ ،‬وبع�ض املقاالت‬ ‫الق�صرية‪ ،‬جميع كتبه (�أنظر امللحق رقم "�أ") ن�شرت بالإجنليزية �أو ًال‪ ،‬يف بريطانيا والواليات املتحدة‬ ‫الأمريكية‪ ،‬ا�ستهدافاً للقارئ الغربي‪� .‬إن كتابه اجلوهري‪� ،‬ألتاريخ اليهودي‪ ،‬الدين اليهودي‪( ،‬ظهر‬ ‫رتجم �إىل العربية �إ ّال يف العام ‪� ،2011‬أي‬ ‫�أو ًال يف العام ‪ّ 1994‬ثم يف ثالث طبعات الحقة) مل ُي َ‬ ‫بعد �سبعة ع�شر عاماً من ن�شر الطبعة الأوىل‪ ،‬حيث �صدر يف تل �أبيب بطبعة حمدودة‪ ،‬مببادرة‬ ‫جمموعة �أ�صدقائه ‪ -‬رفاقه‪ .‬وح�سب معرفتي‪ ،‬ف�إنّ هذا هو الكتاب الوحيد من كتبه الذي ترجم �إىل‬ ‫العربية‪ .‬من الناحية الأخرى‪ ،‬ف�إنّ كتابه‪� ،‬ألأ�سرار املك�شوفة‪� :‬سيا�سات �إ�سرائيل اخلارجية والنووية‪،‬‬ ‫(ال�صادر يف العام ‪ )1997‬ترجم و�صدر باللغة العربية يف بريوت بعام واحد بعد �صدوره بالإجنليزية‪،‬‬ ‫�أي يف العام ‪.1998‬‬ ‫كان النفاق م�صدر ا�شمئزاز ل�شاحاك‪ .‬كان ي�شمه عن بعد بحا�سة مرهفة؛ وكلما �شعر بوجوده‬ ‫اندفع بت�صميم �شديد ليحلل ويوثق هذه الظاهرة وي�ضعها يف �سياقها التاريخي املقارن‪ ،‬ليعري‬ ‫وقعها املدمر على الت�صرف الإن�ساين؛ ويك�شفها بجر�أة وبدون تردد �أو اعتذار‪� ،‬أينما كان موقعها‪،‬‬ ‫وبالرغم ممن قد مت�س‪.‬‬ ‫وهكذا ركز �شاحاك على �إبراز النفاق ك�أ�سا�س للمبنى القانوين التلمودي للدين اليهودي‪� ،‬أي‬ ‫دينه‪ ،‬خا�صة مبا يتعلق بتعامله مع غري اليهود (الأغيار) ب�شكل عام‪ ،‬والفل�سطينيني على وجه‬ ‫التحديد‪ ،‬يف ال�سياق الراهن‪ .‬ومن هذه الزاوية‪� ،‬أدرك وك�شف الرتابط بني ال�صهيونية‪ ،‬والديانة‬ ‫اليهودية وخا�صة ظاهرتها اخلال�صية الكال�سيكية‪ ،‬والال�سامية‪ .‬وف�ضح �شاحاك النفاق الكامن يف‬ ‫اخلطاب الإ�سرائيلي الر�سمي حول ال�سالم وحول اجلوهر احلقيقي لل�صهيونية‪ .‬وك�شف كيف �أن‬ ‫هذا اجلوهر مم ّوه ب�شكل عميق يف اخلطط اال�سرتاتيجية ال�صهيونية التي ت�سعى لفر�ض الهيمنة‬ ‫على جميع مناطق ال�شرق الأو�سط الكبري‪ ،‬والت�سلط عليها من خالل ت�شظيتها‪ .‬ومل يحجم‬ ‫�شاحاك يف حتليالته هذه عن ذكر الأ�سماء ذات العالقة‪ ،‬ومل يرتدد �أي�ضاً يف �إظهار ا�شمئزازه‬ ‫من النفاق املت�أ�صل يف اخلطاب الفل�سطيني حول التحرر والثورة الذي يعك�س حاله يف توقيع‬ ‫‪57‬‬


‫اتفاقيات (�سالم) مع �إ�سرائيل والتي حتفزها على ا�ستمرار هيمنتها على الأر�ض الفل�سطينية‪ .‬كما‬ ‫�أبرز كيف �أن هذا النفاق ي�ؤ�س�س خلطاب "القيادات الفل�سطينية" والي�سار الفل�سطيني يف خنوعها‬ ‫للأجندات الأمريكية والغربية عامة‪.‬‬ ‫يف ا ّتباع هذا امل�سار‪� ،‬أي م�سار التجان�س وعدم التناق�ض مع ذاته‪ ،‬ع َّر�ض �شاحاك نف�سه لي�صبح‬ ‫منبوذاً يف حلقته ال�سيا�سية والأكادميية‪ ،‬وجرت حماوالت جادة وكثرية وم�ستمرة ل�شطبه وقذفه‬ ‫خارج اجلماعة اليهو ‪� -‬صهيونية الإ�سرائيلية‪ ،‬كما �سرنى يف الف�صل الرابع‪ .‬مل يتم جتنبه �أو �إزاحته‬ ‫�سمى‬ ‫جانباً من قبل زمالئه اليهود فقط‪ ،‬ولكن �أي�ضاً من قبل النخب ال�سيا�سية الفل�سطينية‪ ،‬وما ُي ّ‬ ‫باملثقفني الي�ساريني‪ .‬و�ستعر�ض هذه الق�ضية بالتف�صيل يف الف�صلني الثالث والرابع‪� .‬أما الق�ضايا‬ ‫الأخرى التي مت التطرق �إليها يف هذه املقدمة ف�ستعر�ض تف�صيليا يف ف�صول الحقة‪.‬‬ ‫ت�أمالت حول عالقتي مع �شاحاك‪ :‬ا�ستبطان ذاتي‬

‫منذ بداية االت�صال بيننا‪ ،‬كان �شاحاك يحفزين با�ستمرار‪ ،‬وك�أنه ي�ستجديني‪ ،‬لالت�صال ال�شخ�صي‬ ‫به كي ُتتاح لنا مناق�شة عميقة للق�ضايا التي يثريها يف ر�سائله �إ ّيل‪ ،‬والرتجمات التي كان ير�سلها‬ ‫يل‪� .‬أما الآن‪ ،‬و�أنا ب�صدد �صياغة هذا الكتاب‪ ،‬فقد ا�ضطررت للت�أمل يف الأ�سباب التي حالت‬ ‫دون �أن يحدث ات�صال �شخ�صي بيننا‪ .‬بكلمات �أخرى‪ ،‬ملاذا مل �أبذل من ناحيتي اجلهد الإ�ضايف‬ ‫املطلوب لتغذية هذه العالقة‪ ،‬خا�صة لأن الظروف كانت مواتية لذلك؟ ال �أملك جواباً واعياً على‬ ‫هذا ال�س�ؤال‪ ،‬ولكن رمبا هذه التخمينات ال�صريحة قد تلقي بع�ض ال�ضوء‪.‬‬ ‫خالل �إقامتي يف جنيف‪� ،‬سوي�سرا‪ ،‬ويف �إطار م�س�ؤوليتي كمدير للربامج يف م�ؤ�س�سة التعاون‪ ،‬للفرتة‬ ‫‪ ،1993 - 1984‬كنت �أزور فل�سطني ‪� -‬إ�سرائيل باملعدل مرة كل ثالثة �أ�ش ُهر وملدة ثالثة �أ�سابيع‬ ‫كل زيارة‪ .‬كنت �أر ّتب برنامج الزيارة ب�شكل م�سبق لأق�ضي �أ�سبوعاً يف القد�س‪ ،‬و�أ�سبوعاً يف قطاع‬ ‫ن�سميها "م�سرح عمليات امل�ؤ�س�سة"‪ .‬وكانت‬ ‫غزة‪ ،‬و�أ�سبوعاً يف اجلليل‪� ،‬أي يف املناطق التي ك ّنا ّ‬ ‫االت�صاالت الرئي�سية التي كنت �أجريها خالل تلك الزيارات ترتكز على تقييم الأ�شخا�ص �أو‬ ‫امل�ؤ�س�سات التي قدمت طلبات للم�ؤ�س�سة تطلب فيها التمويل‪� ،‬أو �أولئك الأ�شخا�ص �أو امل�ؤ�س�سات‬ ‫الذين �أجروا ات�صا ًال مع امل�ؤ�س�سة بهدف مناق�شة بع�ض �أفكار امل�شاريع‪.‬‬ ‫عملياً ونظرياً‪ ،‬مل يكن هناك �أي مق ّيد �أو مانع هيكلي من دفعي لالت�صال ب�شاحاك‪ .‬لكن للأ�سف‬ ‫مل �أفعل ذلك‪ .‬والآن‪ ،‬وب�أثر َرجعي‪ ،‬وبعد �أن تويف �شاحاك‪� ،‬أحاول �أن �أفهم الأ�سباب التي حالت‬ ‫دون ات�صايل معه‪.‬‬ ‫رمبا التفكري الت�أملي �أدناه قد ي�ساعد يف فهم ذلك‪ .‬كنت واثقاً على امل�ستوى ال�شخ�صي من �أن‬ ‫"زياراتي امليدانية"‪ ،‬وات�صاالتي املتك ّررة مع عدد كبري من املنظمات الأهلية املحلية‪ ،‬والتي كانت‬ ‫تنوف يف بع�ض الزيارات امليدانية على ‪ 150‬ات�صا ًال ولقاء‪ ،‬كانت متاثل "العمل الفدائي التنموي"‪.‬‬ ‫‪58‬‬


‫فـلـ�سـطـيـن‬

‫�إذ كنت �أجري هذه االت�صاالت واللقاءات ب�شكل �سري وعلى "نار خفيفة" بدون �إ�شعار‪� ،‬أو طلب‬ ‫الت�صاريح املتوقعة من �سلطات االحتالل‪ ،‬يف مناطق ‪� 1948‬أو ال�ضفة الغربية �أو قطاع غزة‪ .‬وبالفعل‪،‬‬ ‫وبعد عودتي من "مهمتي امليدانية" �إىل "حرمة" جنيف‪ ،‬كان ُينقَل �إ َّيل من "امليدان" �أنه يف بع�ض‬ ‫احلاالت كانت �أجهزة احلكم الع�سكري �أو "ال�شاباك" حت ِقّق مع بع�ض الأ�شخا�ص الذين اجتمعت‬ ‫بهم خالل زياراتي امليدانية‪ .‬وركزت هذه التحقيقات على زياراتي لتلك املنظمات الأهلية‪ ،‬و�إذا‬ ‫كنت قد وعدتهم بتوفري الدعم املايل املطلوب لتنفيذ م�شاريعهم‪ .‬ومبا �أنني كنت مدركاً �أن �شاحاك‬ ‫نف�سه‪� ،‬أو بع�ضاً من رفاقه �أو حلفائه ال�سيا�سيني‪ ،‬كانوا "مراقَبني" �أو مو�ضوعني "حتت املجهر" من‬ ‫قبل تلك العنا�صر ذاتها‪ ،‬يبدو يل الآن‪ ،‬وبعد الت�أمل‪ ،‬ب�أنني اخرتت �آنذاك ‪ -‬ولي�س بال�ضرورة على‬ ‫م�ستوى الوعي ‪� -‬أال �أبادر لأي ات�صال �شخ�صي مع �شاحاك‪ ،‬لكي ال �أجلب االنتباه للعمل الذي‬ ‫كنت �أقوم به‪.‬‬ ‫من ناحية ثانية‪ ،‬مل �أكن واثقاً‪ ،‬وكانت تراودين يف بع�ض احلاالت ال�شكوك‪ ،‬حول بع�ض‬ ‫االت�صاالت التي كنت �أقوم بها مع بع�ض الأ�شخا�ص �أو املنظمات الأهلية‪ ،‬وحول مدى التزامهم‬ ‫الوطني الرا�سخ‪ .‬مبعنى �آخر‪ ،‬مل �أكن واثقاً �إذا كان بع�ضهم "يتخابر" مع �أجهزة االحتالل �أو‬ ‫ال�شاباك‪ ،‬ويتربع مبعلومات‪ ،‬حقيقية �أو خمتلقة‪ ،‬مل�صالح ومكا�سب ذاتية‪ .‬وهذا مما ر�سخ قناعتي‬ ‫بعدم الإف�صاح عن االت�صاالت التي كنت �أجريها‪ ،‬واحلفاظ عليها‪.‬‬ ‫يجدر التنويه �أنه يف تلك الفرتة كان ا�سم "م�ؤ�س�سة التعاون" وا�سمي‪ ،‬يف ما ميكن ت�سميته‬ ‫"ذراعها امليداين"‪ ،‬يرتددان يف و�سائل الإعالم الإ�سرائيلية العربية من زاوية االتهام ب�أن الأموال‬ ‫التي كانت تقدمها "امل�ؤ�س�سة"‪ ،‬والتي كنت م�س�ؤو ًال لت�سهيل �إي�صالها لدعم �أن�شطة املنظمات‬ ‫الفل�سطينية املناه�ضة لالحتالل‪ ،‬كانت �أموا ًال "�إرهابية"‪ .‬ومبا �أن منظمة التحرير الفل�سطينية كانت‬ ‫ت�صنف �آنذاك يف �إ�سرائيل ب�أنها منظمة �إرهابية‪ ،‬لذلك نعتت �أموال م�ؤ�س�سة التعاون التي كان‬ ‫م�صدرها متمولون فل�سطينيون تربطهم بع�ض العالقات مبنظمة التحرير ب�أنها �أموال "�إرهابية"‪ .‬كان‬ ‫هذا النعت بكل ت�أكيد هرا ًء كام ًال وخمادعة‪ .‬لكن احلقيقة التي ال غبار عليها كانت �أنّ الهدف‬ ‫الوا�ضح من ر�صد تلك الأموال من قبل م�ؤ�س�سة فل�سطينية‪ ،‬غري هادفة للربح‪ ،‬وم�سجلة قانونياً يف‬ ‫�سوي�سرا‪ ،‬يف ذلك الوقت‪ ،‬تعزيز قدرة اجلمعيات الفل�سطينية الوطنية حتت االحتالل (يف داخل‬ ‫�إ�سرائيل �أو يف ال�ضفة والقطاع) على االنعتاق من التبعية املطلقة للهياكل اليهودية الإ�سرائيلية‬ ‫العن�صرية املتحكمة فيها‪ .‬كان ح�سي وقناعتي يف ذلك الوقت يدفعانني �إىل حتا�شي القيام ب�أية‬ ‫ات�صاالت قد تعر�ض هذا الهدف للخطر‪.‬‬ ‫�إ�ضافة �إىل ذلك‪ ،‬ف�إن عدداً ال ب�أ�س به من الر�أ�سماليني الفل�سطينيني‪� ،‬أ�صحاب املاليني‪ ،‬والذين‬ ‫كان لهم الدور الأ�سا�س يف �إن�شاء "م�ؤ�س�سة التعاون"‪� ،‬أ�صبحوا تدريجياً يف تقارب وحتالف وجتان�س‬ ‫مع منظمة التحرير الفل�سطينية‪ ،‬خا�صة ف�صيل فتح وعرفات‪ ،‬من حيث برناجمها ال�سيا�سي للحل‬ ‫‪59‬‬


‫ال�سلمي مع �إ�سرائيل‪ .‬ومن هذا املنطلق‪ ،‬ف�إن االت�صاالت املف�ضلة لهم و"للم�ؤ�س�سة" ‪� -‬إذا كان‬ ‫لهم جمال لالختيار ‪ -‬هي ات�صاالت مع �أ�شخا�ص وم�ؤ�س�سات من "الي�سار ال�صهيوين"‪ ،‬ولي�س مع‬ ‫�أ�شخا�ص مثل �شاحاك الذي نبذته معظم النخب ال�سيا�سية واملثقفة الفل�سطينية منذ ا ُّتخِ ذ القرار‬ ‫مبتابعة "العملية ال�سلمية"‪ ،‬وبالتحديد يف �أعقاب "عملية �أو�سلو"‪ ،‬كما �س� ِنّأبي الحقاً‪ .‬هكذا‪ ،‬ول�سوء‬ ‫احلظ‪� ،‬أعتقد ب�أنني‪ ،‬كمدير الربامج يف م�ؤ�س�سة التعاون �آنذاك‪ ،‬ا�ستدخلت هذا التوجه وقبلت به‪.‬‬ ‫والآن وبعد �سنوات على وفاة �صديقي ورفيقي‪ ،‬ما زلت �أحمل �شعوراً عميقا باخل�سارة واحلزن لأنني‬ ‫مل �أ�ستفد من �إمكانية متابعة وتطوير ومناق�شة الق�ضايا التي كان يثريها �شاحاك‪ ،‬وجهاً لوجه معه‪.‬‬ ‫ال ت�سعى هذه الدرا�سة �إىل تقدمي مراجعة تف�صيلية مل�ؤلفات �شاحاك؛ هذا �أجنزه �آخرون‪ .‬لكن‪،‬‬ ‫ومن خالل خم�سة ف�صول يف الكتاب‪� ،‬س�أركز على بع�ض الق�ضايا الرئي�سة التي �أ�شغلت �شاحاك‪،‬‬ ‫ب�شكل حثيث وب�إ�صرار‪ ،‬طوال حياته‪ .‬هذه الق�ضايا التي ت�ضطر القارئ‪ ،‬وت�ضطرين �أنا �أي�ضاً‪ ،‬لطرح‬ ‫ال�س�ؤال اجلذري‪ :‬ماذا يعني �أن يتع ّر�ض املرء لآراء و�أفكار �شاحاك يف حماولته لفهم الأيديولوجية‬ ‫اليهو ‪� -‬صهيونية واملمار�سات املنبثقة منها جتاه الأغيار‪ ،‬وخا�صة جتاهنا نحن ال�شعب الفل�سطيني‪ ،‬يف‬ ‫ن�ضالنا امل�ستدمي لنكون �أحراراً يف وطننا؟ تف�صي ًال‪ ،‬كيف ت�ساعدنا �أفكا ُره يف �أن نز ّين ون َق ِّيم العوامل‬ ‫امل�س�ؤولة عن احتالل وا�ستعمار وقمع ال�شعب الفل�سطيني النابعة من الهياكل اليهو ‪� -‬صهيونية‪،‬‬ ‫والتي جتد بع�ض ترجماتها يف اخلطط ال�صهيونية ال�ساعية لفر�ض الهيمنة على املنطقة ب�أكملها؟‬ ‫هل املنظور اليهودي التلمودي لنا ك�أغيار يوفر �شرحاً م�ستوفياً وم�صطلحاً �ضابطاً لكيف ميكن �أن‬ ‫نعي�ش �سوية‪� ،‬أو �إذا كان من املمكن �أن نعي�ش �سوية؟ الفقه اليهودي التلمودي (‪ )Halacha‬يوجه‬ ‫اليهود حول كيفية التعاي�ش مع "الأغيار" اعتماداً على عالقات القوة بني اليهود وغري اليهود‪،‬‬ ‫وفيما �إذا كان اليهود �أو الأغيار يف الأقلية �أو الأكرثية‪ ،‬وبالتحديد �إذا كانت لليهود ال�سيطرة يف‬ ‫معادلة الأقلية ‪ -‬الأكرثية هذه‪ .‬هذا ي�ضطرنا لطرح الت�سا�ؤل �إذا وجدت �أية حالة تعاي�ش فيها اليهود‬ ‫مع الأغيار بتجان�س و�سالم‪ ،‬وهم يف موقع القوة وال�سيطرة؟ ال يكفي �أن ن�ستمر بتكرار املقولة �أننا‬ ‫تعاي�شنا �سوية ب�سالم ووفاق يف فل�سطني قبل احتالل ‪� ،1948‬أو يف الأندل�س‪� ،‬إلخ‪ ،‬و�أن ن�صل‬ ‫�إىل اال�ستنتاج ب�أن هذا ممكن يف و�ضع ميلكون فيه ال�سيادة الع�سكرية واالقت�صادية وال�سيا�سية‪.‬‬ ‫بكلمات �أخرى‪ ،‬هل من املمكن �أن نعي�ش �سوية‪ ،‬يف م�ساواة مطلقة‪ ،‬كب�شر‪ ،‬من دون �أن نفكك‬ ‫ونقو�ض الهياكل وامل�ؤ�س�سات العن�صرية يف �صلبها؟ �أنا مدرك �أن طرح ت�سا�ؤالت كهذه ومناق�شتها‬ ‫لكن هذه الت�سا�ؤالت يجب �أن تواجه ب�شكل ر�أ�سي‬ ‫هي عملية �صعبة ويعرتيها قدر من اخلطورة‪ّ .‬‬ ‫ومبا�شر‪� ،‬إذا كنا فع ًال نتوق مل�ستقبل جامع لكلينا!‬ ‫عودة لل�س�ؤال اجلذري الذي طرحته �أعاله‪ ،‬بخ�صو�ص قراءة وا�ستدخال �آراء �شاحاك وحتليالته‪ ،‬فمن‬ ‫غري املمكن �أن ن�ستمر بالتمويه وخداع النف�س �أنه ميكننا التعاي�ش ب�سالم ومب�ساواة كل يف حيزه اجلغرايف‬ ‫ال�سيا�سي (حتت م�سميات خمتلفة)‪ ،‬وح ّيزنا يف حالة م�ؤبدة حتت الهيمنة اليهو ‪� -‬صهيونية الكاملة‪.‬‬ ‫‪60‬‬


‫فـلـ�سـطـيـن‬

‫ف�صول الكتاب‬

‫املوجه والذي يحدد �شاحاك يف �إطاره العالقات‬ ‫يركز الف�صل الأول على الغالف الأيديولوجي ِّ‬ ‫الرابطة بني اليهودية "اخلال�صية" �أو الأرثوذك�سية وال�صهيونية ويهودية دولة �إ�سرائيل‪ ،‬وذلك‬ ‫من خالل حتليل عميق وثاقب وملتزم جلوهر القواعد القانونية التلمودية (‪ )Halacha‬وترجماتها‬ ‫يف ال�سيا�سات الأيديولوجية التي تعك�س ذاتها يف البنى اليهو ‪� -‬صهيونية الراهنة يف �إ�سرائيل‪،‬‬ ‫وخا�صة كما تنطبق على النظرة للأغيار وعلى ت�صنيفهم وموقعهم يف النظام الإن�ساين‪.‬‬ ‫فين�صب على �إظهار جهود �شاحاك التي ال تكل يف ف�ضح اخلطط‬ ‫�أما الرتكيز يف الف�صل الثاين‬ ‫ّ‬ ‫اليهو ‪� -‬صهيونية التي ت�سعى لفر�ض الهيمنة ال�صهيونية على منطقة ال�شرق الأو�سط ب�أكملها‪.‬‬ ‫ولإبراز ذلك‪ ،‬يعود �شاحاك لك�شف اجلوهر احلقيقي لل�صهيونية منذ بدئها‪ .‬ويف هذا الإطار‪،‬‬ ‫يك�شف �شاحاك‪ ،‬بتف�صيل دقيق‪ ،‬ومعتمد على توثيق البيانات والت�صريحات لقادة وم�ؤ�س�سي‬ ‫احلركة ال�صهيونية‪ ،‬املخططات الإيديولوجية ال�صهيونية لطرد ال�سكان الفل�سطينيني الأ�صليني‬ ‫والتخل�ص منهم‪ .‬وهذا ما وثقه يف بداية ال�سبعينيات من القرن املا�ضي يف ملف طبع باللغة العربية‬ ‫(على الآلة الكاتبة) على نفقته اخلا�صة‪ ،‬ووزع ب�شكل حمدود على الطالب العرب يف اجلامعة‬ ‫العربية وعلى حلفائه النا�شطني ال�سيا�سيني‪ .‬كما يتطرق هذا الف�صل �أي�ضاً ملا ن�شره �شاحاك من‬ ‫ك�شف امل�ستور حول كيف اعتمدت دولة �إ�سرائيل على اخلداع والتمويه يف بيع الأ�سلحة لدول‬ ‫"العامل الثالث"‪ ،‬وعلى وجه التحديد‪ ،‬يف �أمريكا الالتينية وجنوب �شرق �أ�سيا و�أفريقيا‪،‬‬ ‫وا�ستخدامها كو�سيلة للقمع وللحفاظ على الطغم الديكتاتورية احلاكمة يف تلك الدول‪.‬‬ ‫يرتكز النقا�ش يف الف�صل الثالث على نظرة �شاحاك للفل�سطينيني حتت االحتالل‪ .‬تنق�سم بنية هذا‬ ‫الف�صل �إىل جزءين‪ :‬اجلزء الأول يناق�ش كيف �أن �شاحاك كان من الطالئع الذين �أبدوا اهتماماً‬ ‫وا�ضحاً لتوثيق االنتهاكات امل�ستمرة حلقوق الفل�سطينيني‪ ،‬مواطني �إ�سرائيل‪ ،‬من خالل ت�صميمه‬ ‫املثابر على ترجمة كل التقارير واملقاالت ذات العالقة‪ ،‬التي ت�صدر يف ال�صحافة العربية‪� ،‬إىل‬ ‫الإجنليزية‪ ،‬وتعميمها‪ ،‬بالأ�سا�س على نفقته اخلا�صة‪ ،‬ملراكز �أبحاث و�أفراد مهتمني بذلك يف �أوروبا‬ ‫الغربية والواليات املتحدة الأمريكية‪ ،‬وذلك يف بداية ال�سبعينيات‪.‬‬ ‫�أما اجلزء الثاين من هذا الف�صل فيك�شف نقد �شاحاك الالذع ملواقف "القيادة" الفل�سطينية‬ ‫بخ�صو�ص "عملية �أو�سلو"‪ ،‬من حيث ا�ستعدادهم للخنوع للمتطلبات الإ�سرائيلية‪ ،‬وعدم ال�صدق‬ ‫يف تفاعلهم مع �شعبهم‪ .‬كما ّ‬ ‫يركز هذا اجلزء على �إثارة عدد من الت�سا�ؤالت اجللية‪ ،‬مث ًال‪ :‬ملاذا‬ ‫�أهملت ونبذت قيادة املنظمة �آنذاك �آراءه؟ كيف ر�أى "مثقفو �أو�سلو" �شاحاك‪ ،‬يف �ضوء انتقاداته‬ ‫لعملية �أو�سلو وخلنوع املثقفني الفل�سطينيني؟‬ ‫املقدم يف الف�صل الرابع فريكز على �شاحاك ك�إن�سان؛ والتطور املف�صلي يف يقظاته‬ ‫�أما الطرح ّ‬ ‫‪61‬‬


‫ال�شخ�صية؛ وكيف �أ�صبح هدفاً لهجوم البغ�ض والكراهية‪.‬‬ ‫أختتم هذه الدرا�سة يف الف�صل اخلام�س بت�أمالت �شخ�صية تداولية حول ما �أَعتبرِ ُ ه جوهر "تعاليم"‬ ‫� ُ‬ ‫�شاحاك‪ ،‬وحول وقعها العميق على ماهية وكيفية ما نحلله يف املرحلة الراهنة يف �سياق كفاحنا‬ ‫لالنعتاق من الهيمنة اليهو ‪� -‬صهيونية‪ ،‬على �ضوء ما تعلمناه من �شاحاك حول الهيكلية العميقة‬ ‫لل�صهيونية‪ ،‬الأ�صولية اليهودية‪ ،‬و�أمور مهمة �أخرى‪.‬‬ ‫مالحظة �أخرية‬

‫ملاذا وكيف قررت �أن �أكتب هذا الكتاب‪ ،‬ويف هذا الوقت بالتحديد؟‬ ‫ب�شكل �أو ب�آخر‪ ،‬كان �إجناز هذا الكتاب �صعباً للغاية‪ .‬ميثل هذا "امل�شروع الكتابي" �أول حماولة‬ ‫جدية يل على طول جمرى حياتي الكتابي والبحثي‪� ،‬أن �أ�ؤلف كتاباً عن �آراء كاتب نقدوي �آخر‪،‬‬ ‫مل يعد موجوداً معنا‪.‬‬ ‫بد�أ هذا امل�شروع الكتابي َع َر�ضاً ومن دون �سابق ت�صميم من طريف؛ �إذ �إنّ البيئة ال�سيا�سية التي‬ ‫ابتلعتنا خالل ال�سنوات الأربع املا�ضية‪ ،‬وما زالت‪ ،‬هي التي �أملت املحفز الرئي�س لإنتاج هذا‬ ‫العمل من خالل امل�ؤ�شرات التالية‪� :‬أ ّو ًال‪ ،‬البيئة الربكانية املنتف�ضة يف وطننا العربي؛ ثانياً‪،‬‬ ‫االحتمال الوا�ضح وال�شديد‪ ،‬واملحاوالت املتكررة من قبل العامل الغربي و�إ�سرائيل لت�شظية‬ ‫الوطن العربي؛ ثالثاً‪ ،‬الدالئل امل�ستمرة والت�أ�شري املرجعي يف عدد كبري من التحليالت املن�شورة‬ ‫�إىل "خطة ينون" التي ترجمها �شاحاك من العربية �إىل الإجنليزية‪ ،‬كمخطط �صهيوين وا�ضح‬ ‫لهذه الت�شظية؛ �أخرياً‪ ،‬الإ�صرار املفربك‪ ،‬الذي �أعيد بعثه من قبل القيادات ال�سيا�سية والدينية‬ ‫الإ�سرائيلية‪ ،‬على "يهودية الدولة" ك�شرط م�سبق لنجاح "العملية ال�سلمية"‪ .‬كل هذا ح ّركني‬ ‫وحفّزين لأعيد فتح "ملف �شاحاك" املوجود يف مكتبتي‪ ،‬وقراءته من جديد‪ ،‬وبت�شجيع قوي من‬ ‫زوجتي‪ ،‬لأكتب �شيئاً لتعريف النا�س مبَن هو �شاحاك وما هي �آرا�ؤه‪ .‬بناء على هذه االعتبارات‪،‬‬ ‫التزمت مبهمة الكتابة هذه‪.‬‬ ‫ُ‬

‫‪62‬‬


‫فـلـ�سـطـيـن‬

‫الف�صل الثاين‬

‫خطط لفر�ض الهيمنة اليهو ‪� -‬صهيونية‬ ‫على منطقة امل�رشق العربي (وما بعدها)‬

‫يتك ّون هذا الف�صل من ثالثة �أجزاء‪ ،‬ويرتكز على ثمانية مراجع كتبها و�أ ّلفها �شاحاك حول‬ ‫املو�ضوع‪ ،‬وت�شمل بالأ�سا�س كت ّيبات وتقارير ذات توزيع حمدود‪ ،‬ومقاالت مقت�ضبة‪ُ ،‬وك ُتباً‪،‬‬ ‫وتعمم دولياً‪ ،‬والبع�ض الآخر بالعربية ومنه ما ُترجم حملياً �إىل‬ ‫بع�ضها �ألفه بالإجنليزية ون�شر ّ‬ ‫العربية‪ 1.‬يركز اجلزء الأول على دور �شاحاك يف الك�شف املبكر عن الطبيعة ال�شمولية لعن�صرية‬ ‫ال�صهيونية‪� .‬أما اجلزء الثاين فريكّ ز بالتحديد على حتذير �شاحاك املبكر من اخلطط ال�صهيونية‬ ‫للهيمنة والت�س ّلط على منطقة ال�شرق الأو�سط (مبفهومها العري�ض) من خالل ت�شظيتها و�إعادة‬ ‫هند�سة الدول واملجتمعات الأ�صالنية‪ .‬يتناول اجلزء الثالث املخططات الإ�سرائيلية لبيع الأ�سلحة‬ ‫الإ�سرائيلية للأنظمة القمعية يف العامل الثالث‪ ،‬وتوفري التدريب واخلدمات الأمنية لتلك الأنظمة‬ ‫كو�سيلة قمع وا�ضطهاد‪ .‬وين ّوه كيف �أن �شاحاك حذر من التهديد النووي الإ�سرائيلي امل�ضمر‬ ‫بتطوير الأ�سلحة النووية والكيماوية‪.‬‬ ‫‪ -1‬املراجع التي يرتكز عليها هذا الف�صل هي‪ )1( :‬ال�صهيونية‪ :‬احلقيقة بكاملها‪( ،‬ن�شرة داخلية لي�ست للتوزيع)‬ ‫ترجمت �إىل العربية من م�صادر عربية ومت توزيعها ب�شكل حمدود حملياً‪ ،‬كن�سخة مطبوعة على الآلة الكاتبة‪ ،‬القد�س‪،‬‬ ‫‪1975‬؛ (‪" )2‬الطبيعة العن�صرية لل�صهيونية ولدولة �إ�سرائيل ال�صهيونية»‪ ،‬ن�شرت بالعربية يف بي‪-‬ها’تون‪� ،‬صحيفة‬ ‫�أ�سبوعية لطلبة اجلامعة العربية يف القد�س‪ ،‬القد�س‪ ،1975 ،‬كما ترجمت �إىل العربية ومت توزيعها حتت عنوان "وثائق‬ ‫يف املعركة �ضد ال�صهيونية‪ ،‬حول الطبيعة العن�صرية لدولة �إ�سرائيل ال�صهيونية وال�صهيونية‪ ،‬ما هي �آرائي»‪� ،‬آذار ‪1977‬؛‬ ‫(‪" )3‬ال�صهيونية من فم قادتها»‪ ،‬مقالة منف�صلة مت تعميمها وطباعتها من امل�ؤلف‪ ،‬بالعربية‪ ،‬القد�س‪1978 ،‬؛ (‪ )4‬جمموعة‬ ‫مقاالت مقت�ضبة ن�شرت يف �صحيفة مت�سبني بالعربية‪ ،‬ت�شمل‪" :‬عن�صرية ال�صهيونية»‪� 10 ،‬شباط ‪1977‬؛ "ال�صهيونية‪،‬‬ ‫العن�صرية وحرية التعبري»‪ 10 ،‬ني�سان ‪1978‬؛ "�سيا�سة �أر�سطو وطبيعة ال�صهيونية»‪� 10 ،‬آذار ‪1979‬؛ (‪ )5‬الأيديولوجية‬ ‫كدافع مركزي لل�سيا�سة الإ�سرائيلية‪ ،‬كتيب بالعربية ن�شره امل�ؤلف‪ ،‬القد�س‪� ،‬أيار ‪ -‬حزيران ‪1995‬؛ (‪ )6‬اخلطة ال�صهيونية‬ ‫لل�شرق الأو�سط‪ ،،‬كتيب بالإجنليزية ن�شرته رابطة املتخرجني العرب يف �أمريكا‪ ،‬بلمونت‪ ،‬ما�سات�شو�ست�س‪ ،‬الواليات‬ ‫املتحدة‪ )7( :1982 ،‬دور �إ�سرائيل العاملي‪� :‬أ�سلحة للقمع‪ ،‬بلمونت‪ ،‬ما�سات�شو�ست�س‪ ،‬الواليات املتحدة‪ :‬رابطة‬ ‫املتخرجني العرب يف �أمريكا‪�( 1982 ،‬إجنليزي)؛ (‪� )8‬أ�سرار مك�شوفة‪� :‬سيا�سة �إ�سرائيل النووية واخلارجية‪ ،‬لندن‪ :‬بلوتو‬ ‫بر�س‪�( 1997 ،‬إجنليزي)‪.‬‬ ‫‪63‬‬


‫فع ًال‪ّ ،‬قدم �شاحاك فكراً ملهماً وتنب�ؤياً يف فرتة مبكرة‪ .‬وجميع الأخطار املتوقعة التي ّ‬ ‫حذر قراءه‬ ‫منها يف منت�صف ال�سبعينيات و�أواخر من القرن املا�ضي‪ ،‬حتققت على �أر�ض الواقع‪� ،‬إما �سرياً‬ ‫�أو علنياً‪ ،‬منذ الثمانينيات؛ وحتيطنا اليوم (يف العام ‪ )2014‬ب�شكل مف�ضوح وعلى ملأ البيان‬ ‫كقاعدة ثابتة لل�سيا�سة اخلارجية لدولة �إ�سرائيل اليهودية‪.‬‬ ‫اجلزء الأول‪ :‬طبيعة ال�صهيونية العن�صرية‬ ‫يف مقدمته "لدو�سيه" "ال�صهيونية‪ :‬احلقيقة الكاملة"‪ ،‬كتب �شاحاك‪:‬‬

‫�إن جمموعة امل�صادر هذه قد ُخ�ص�صت لت�ساعد على معرفة جوهر ال�صهيونية احلقيقي‪ .‬لذلك‬ ‫فهي م�ؤلفة بالأ�سا�س من اقتبا�سات لكبار احلركة ال�صهيونية ولأ�شخا�ص مركزيني فيها‪ ،‬يف جمال‬ ‫ال�سيا�سة وال�صحافة �أو يف اجلهاز الديني‪.‬‬ ‫مل �أ�ضف �شرحاً �إىل القطع املقتب�سة لعدم وجود �ضرورة لذلك‪ .‬وفقط �أريد التعقيب على‬ ‫اجلمة بنوع خا�ص للف�صل اخلام�س [من هذه "الدو�سيه"] الذي ي�صف تخطيط عملية‬ ‫الأهمية ّ‬ ‫طرد الفل�سطينيني من �أر�ضهم وتنفيذها‪ .‬فكل �شخ�ص ي�ستطيع �أن يعرف ويحكم بنف�سه لي�س‬ ‫فقط على جوهر هذا الطرد وم�ضمونه وتنفيذه اليومي والرغبة يف طرد البقية الباقية (�إىل ليبيا‬ ‫املتعمد يف جميع الإدعاءات "الر�سمية" للم�ؤ�س�سة‬ ‫�أو الأرجنتني) بل بالأخ�ص على الكذب ّ‬ ‫الإ�سرائيلية العاملية مبا يتعلق بهذا الطرد‪.‬‬ ‫�آمل �أن هذا الأمر �سيقنع القارئ ب�صحة اال�ستنتاج الأ�سا�سي الذي تو�صلت �إليه‪ :‬ال�صهاينة‬ ‫يكذبون (على وجه العموم‪ ،‬لكن �أحياناً يكونون قادرين على قول احلقيقة �صدفة‪ ). ...‬و�إذ‬ ‫يتو�صل القارئ �إىل هذه احلقيقة تكون الطريق لتحريره ومنحه تفكرياً م�ستق ًال مفتوحة‪ .‬ولي�ستنتج‬ ‫كل واحد ما �أراد‪.‬‬ ‫يتج�سد هذا التفكري يف دولة �إ�سرائيل‪ ،‬وكيف يط ّبق على مواطنيها الأغيار‪ ،‬يكتب‬ ‫ل ُيظهِ َر كيف ّ‬ ‫�شاحاك يف تقدميه ملقالته يف �صحيفة الطالب يف اجلامعة العربية يف القد�س‪ ،‬التايل‪:‬‬ ‫�أعتقد ‪ -‬بعد درا�سة م ّلية للمو�ضوع ‪� -‬أن دولة �إ�سرائيل هي دولة عن�صرية بكل ما حتمل هذه‬ ‫العبارة من معنى؛ ففي هذه الدولة يعاين املواطنون من التمييز �ضدهم‪ ،‬ب�صورة دائمة وحتت‬ ‫مظلة القانون ويف �أهم نواحي احلياة‪ ،‬ب�سبب انتمائهم الديني فقط‪ .‬وقد بد�أ هذا التمييز العن�صري‬ ‫مع ال�صهيونية‪ ،‬وهو ينفذ اليوم ب�صورة رئي�سة بالتعاون مع امل�ؤ�س�سات التابعة للحركة ال�صهيونية‪.‬‬ ‫و�س�أثبت ر�أيي هذا عن طريق الإ�شارة �إىل احلقائق والقوانني والأنظمة النافذة يف �إ�سرائيل والتي‬ ‫يعرفها كل �شخ�ص يف الواقع‪ ،‬وتنفذها احلكومة‪ ... .‬يف دولة �إ�سرائيل هناك متييز عن�صري �ضد‬ ‫كل من لي�س يهودياً ملجرد كونه غري يهودي‪ ... .‬ويظهر هذا التمييز والف�صل العن�صري بني‬ ‫‪64‬‬


‫فـلـ�سـطـيـن‬

‫اليهود والأغيار يف جميع املجاالت احليوية‪.‬‬ ‫العن�صرية املت�أ�صلة يف ال�صهيونية هي لي�ست فقط نتاجاً لطبيعة اال�ستيطان الكولونيايل يف احلركة‬ ‫ال�صهيونية؛ �إمنا هي نتاج لأيديولوجيتها اليهودية امل� ِّؤ�س�سة لها‪ ،‬والتي مت ّيز عن�صرياً �ضد الأغيار‪،‬‬ ‫والتي ترى احتالل فل�سطني جت�سيماً "للحق التاريخي" التوراتي لليهود يف هذه الأر�ض‪ .‬لذلك‬ ‫ي�شرح �شاحاك‪ ،‬ويهيب بالآخرين �أن يفهموا‪ ،‬ب�أن ال�ضغط الإ�سرائيلي ‪ -‬ال�صهيوين احلثيث‬ ‫لتو�سيع حدود احليز املحتل‪ ،‬من خالل االحتالل الزاحف للمناطق املجاورة‪ ،‬يتم يف �سياق‬ ‫حتقيق "احلق التاريخي" لليهود يف "احلدود التوراتية"‪ ،‬على الرغم من املقرتحات املتنوعة‬ ‫"حلل �سلمي" "واملعرو�ضة من جميع ال�صهاينة العتبارات عملية"‪ .‬ويف�صل �شاحاك هذا‬ ‫املوقف يف مقالة بعنوان "احلق التاريخي واملحرقة الأخرى"‪ ،‬التي ن�شرت يف "جملة الدرا�سات‬ ‫الفل�سطينية"‪ 1.‬ويجزم بالقول‪:‬‬ ‫من الوا�ضح جداً �أن جميع ال�صهاينة ‪ -‬الي�سار ال�صهيوين �أكرث من غريهم ‪ّ -‬يدعون ب�أن لليهود "احلق‬ ‫التاريخي" يف فل�سطني والأردن‪� ،‬أو كما عرب عنها لوفا �إلياف‪" ،‬الأر�ض من البحر �إىل ال�صحراء"‪ .‬و�أنا‬ ‫بعمان؟ مل‬ ‫�أ�س�أل ‪ ...‬على ماذا يعتمد هذا االدعاء ح�سب ال�صهاينة �أنف�سهم؟ ملاذا يطالب ال�صهاينة ّ‬ ‫تكن يوماً جزءاً من �أي دولة �أو جمتمع يهودي‪ ،‬يف التاريخ القدمي �أو احلديث‪ .‬وهذا ينطبق �أي�ضاً على‬ ‫بعمان وعكا وغزة‪ ،‬رغ َم‬ ‫عكا حتى [العام] ‪ ،1948‬وعلى غزة ‪ ...‬ومع ذلك‪ ،‬فجميع ال�صهاينة يطالبون ّ‬ ‫� ّأن عدداً قلي ًال منهم على ا�ستعداد �أن يتخلوا عن هذا "املطلب العادل" لكي يبدوا "معتدلني"‪ .‬ملاذا؟‬ ‫لأن �أ�سا�س هذا املطلب هو ديني‪ ،‬رغم � ّأن الذين َّيدعونه هم الدينيون يف معظم مرافق حياتهم‪ .‬بالطبع‪،‬‬ ‫كلما كان فرد �أو حركة الدينياً �أو �ضد الدين يف مرافق �أخرى من حياته‪ ،‬لكنه يعتمد على ادعاءات‬ ‫دينية ويعتقد بها فعلياً‪ ،‬كلما �أ�صبحت هذه االدعاءات فا�سدة وخطرية‪[ .‬الت�أكيد م�ضاف]‪.‬‬ ‫�أحد ه�ؤالء القادة ال�صهيونيني‪" ،‬الالدينيني" �أو "�ضد الدين"‪ ،‬كان بن ‪ -‬غوريون‪ .‬ففي العام‬ ‫ي�سميه‬ ‫‪ 1937‬ادعى �أنّ "�أر�ض �إ�سرائيل" مكونة من خم�سة �أجزاء‪ :‬جنوب لبنان (�أو ما كان ّ‬ ‫"اجلزء ال�شمايل من �إ�سرائيل الغربية")؛ جنوب �سوريا و�شرق الأردن (الأردن اليوم) وفل�سطني‬ ‫ي�سميها "�أر�ض االنتداب يف غربي �أر�ض �إ�سرائيل")‪ ،‬و�سيناء"‪ .‬ففي العام ‪ ،1956‬ويف‬ ‫(�أو ما كان ّ‬ ‫اليوم الثالث للحرب "الثالثية" على م�صر‪ ،‬واحتالل �سيناء‪ ،‬ن ّوه بن ‪ -‬غوريون يف الكني�ست ب�أن‬ ‫�سيناء جزء منف�صل عن م�صر‪ ،‬و�أنها جزء من "مملكة داود و�سليمان"‪.‬‬ ‫اجلزء الثاين‪ :‬اخلطط ال�صهيونية لفر�ض هيمنة �إقليمية (وعاملية؟)‬

‫قبل �أ�شهر قليلة من اجتياح القوات الإ�سرائيلية للبنان يف �صيف ‪ ،1982‬انتبه �شاحاك ملقالة‬ ‫‪ -1‬املجلد ‪ ،10‬الرقم ‪ ،3‬ربيع ‪.1981‬‬ ‫‪65‬‬


‫يف غاية الأهم ّية‪ ،‬ظهرت بالعربية حتت عنوان "ا�سرتاتيجية لإ�سرائيل يف الثمانينيات" لكاتبها‬ ‫عوديد ينون‪ ،‬وقرر �أن يرتجمها �إىل الإجنليزية لتعميمها على الغرب‪ ،‬لأهميتها‪ 1.‬كنت يف‬ ‫تلك الفرتة رئي�ساً لرابطة املتخرجني العرب الأمريكيني التي كان مقرها يف منطقة بو�سطن‪،‬‬ ‫وكان هدف الرابطة ن�شر وتعميم معلومات دقيقة و�صادقة حول �إ�سرائيل‪ ،‬ال�صهيونية‪ ،‬فل�سطني‬ ‫رحبنا بها بكل‬ ‫توجه �شاحاك �إلينا بهذه املقالة املرتجمة‪ ،‬لإمكانية ن�شرها‪ّ ،‬‬ ‫والفل�سطينيني‪ .‬حينما ّ‬ ‫تقدير‪ ،‬لأنه مل يكن لدينا �أي �شك يف �أنها �أتت يف وقتها املنا�سب‪ ،‬واتخذنا القرار بن�شرها لتد�شن‬ ‫"�سل�سلة الوثائق اخلا�صة"‪ .‬ومت ن�شرها �آنذاك يف كتيب‪ ،‬حتت عنوان "اخلطة ال�صهيونية لل�شرق‬ ‫الأو�سط" (يف �شهر �آب ‪.)1982‬‬ ‫كتب �شاحاك مقدمة لهذه الن�شرة (يف ‪ 13‬حزيران ‪� ،)1982‬س�أقتب�سها بالكامل لأهميتها يف‬ ‫تو�ضيح ما جاء يف هذه الوثيقة‪[ :‬جميع الت�أكيدات م�ضافة]‬ ‫تقدم هذه املقالة بر�أيي خطة دقيقة وتف�صيلية لت�صور النظام ال�صهيوين احلاكم (نظام �شارون‬ ‫و�إيتان)‪ 2‬لل�شرق الأو�سط‪ ،‬والتي تعتمد على جتزئة املنطقة ب�أكملها لدويالت �صغرية‪ ،‬وتفتيت‬ ‫جميع الدول العربية القائمة‪� .‬س�أعقب على اجلانب الع�سكري لهذه اخلطة يف مالحظة ا�ستنتاجية‪.‬‬ ‫ولكن هنا �أو ّد �أن �أجلب انتباه القراء �إىل النقاط املهمة التالية‪:‬‬ ‫‪ .1‬الفكرة ب�أنه يجب تفتيت جميع الدول العربية‪ ،‬من قبل �إ�سرائيل‪ ،‬وت�شظيتها �إىل وحدات‬ ‫تتكرر مراراً يف التفكري اال�سرتاتيجي الإ�سرائيلي‪ .‬فعلى �سبيل املثال‪ ،‬زئيف �شيف‪،‬‬ ‫�صغرية‪ّ ،‬‬ ‫املرا�سل الع�سكري ل�صحيفة ه�آرت�س (ورمبا يكون من �أكرث املرا�سلني اطالعاً على هذا املو�ضوع)‪،‬‬ ‫يكتب ب�أن "�أف�ضل" ما ميكن �أن يحدث للم�صالح الإ�سرائيلية يف العراق‪" :‬تفتيت العراق لدولة‬ ‫�شيعية‪ ،‬ودولة �سنية‪ ،‬وف�صل اجلزء الكردي منها"‪( .‬ه�آرت�س ‪� 6‬شباط ‪ .)1982‬بالفعل ف�إن هذا‬ ‫اجلانب من اخلطة هو قدمي جداً‪[ .‬هذا ما يح�صل فعلياً اليوم يف العام ‪.]2014‬‬ ‫‪� .2‬إنّ العالقة القوية مع فكر املحافظني اجلدد يف الواليات املتحدة بارز للعيان‪ ،‬خ�صو�صاً يف‬ ‫الهوام�ش‪ .‬فبينما يوجد مت ّلق كالمي نحو "الدفاع عن الغرب" من اخلطر ال�سوفياتي‪� ،‬إال‬ ‫�أنّ الهدف احلقيقي للم�ؤلف وامل�ؤ�س�سة الإ�سرائيلية الراهنة وا�ضح جداً‪ :‬تطوير �إ�سرائيل‬ ‫الإمربيالية �إىل قوة عاملية‪ .‬بكلمات �أخرى‪� ،‬إنّ هدف �شارون هو خداع الأمريكيني بعد �أن‬ ‫جنح يف خداع كل الآخرين‪.‬‬ ‫‪ -1‬ظهرت هذه املقالة بالأ�صل بالعربية يف دورية كيفونيم‪ ،‬جملة للدرا�سات اليهودية وال�صهيونية‪ ،‬العدد ‪� ،14‬شتاء‬ ‫العام العربي ‪� ،5742‬شباط ‪ ،1982‬رئي�س حترير هذه املجلة كان يورام بيك‪ ،‬وكان النا�شر‪ ،‬ق�سم الدعاية‪ /‬املنظمة‬ ‫ال�صهيونية العاملية‪ ،‬القد�س‪ .‬كان ينون �صحافياً �إ�سرائيلياً ملحقاً لوزارة اخلارجية الإ�سرائيلية‪.‬‬ ‫‪� -2‬آنذاك‪ ،‬كان �أرئيل �شارون وزير الأمن ورفائيل �إيتان رئي�س الأركان ‪.‬‬ ‫‪66‬‬


‫فـلـ�سـطـيـن‬

‫‪ .3‬من اجللي �أن معظم املعلومات ذات الأهمية‪� ،‬إما يف املنت �أو يف الهوام�ش‪ ،‬م� ّشو�شة �أو حمذوفة‪،‬‬ ‫مثل امل�ساعدات املالية الأمريكية لإ�سرائيل‪� .‬أجلزء الأكرب من اخلطة هو جمرد خيال‪ .‬ولكن‬ ‫يجب �أال ُي َنظر �إىل اخلطة ب�أنها غري م�ؤثرة‪� ،‬أو من غري املمكن تطبيقها يف وقت ق�صري‪ .‬تتبع اخلطة‬ ‫ب�صدق الأفكار اجليو�سيا�سية التي كانت �سائدة يف �أملانيا يف ‪ ،1933 - 1890‬التي التهمها بكليتها‬ ‫حددت �أهدافهما جتاه �أوروبا ال�شرقية‪ .‬ومت تنفيذ تلك الأهداف‪،‬‬ ‫هتلر واحلركة النازية‪ ،‬والتي ّ‬ ‫خا�صة تفتيت الدول القائمة‪ ،‬خالل الفرتة ‪ ،1941 - 1939‬وفقط حتالف على م�ستوى عاملي‬ ‫متكن من منع توحيدها لفرتة من الزمن‪.‬‬ ‫بدوري‪ ،‬كرئي�س للرابطة �آنذاك وممثل لها‪ ،‬ب�صفتها الهيئة النا�شرة للوثيقة‪ ،‬كتبت املقدمة التالية‬ ‫(يف ‪ 23‬متوز ‪� .)1982‬س�أقتب�سها بالكامل لوثاقة �صلتها باملو�ضوع قيد البحث‪:‬‬ ‫�إن هذه الوثيقة‪ ،‬ح�سب معلوماتنا املتوفرة‪ ،‬هي الأكرث و�ضوحاً وتف�صي ًال و�صراحة حتى الآن يف‬ ‫ما يتعلق باال�سرتاتيجية ال�صهيونية لل�شرق الأو�سط‪� .‬إ�ضافة �إىل ذلك‪ ،‬ف�إنها متثل �صورة دقيقة‬ ‫لر�ؤية النظام ال�صهيوين احلاكم حتت �إدارة بيغني و�شارون و�إيتان‪� .‬أهميتها �إذاً ال تنبع من قيمتها‬ ‫التاريخية فح�سب ولكن من الكابو�س الذي متثله‪.‬‬ ‫ترتكز هذه اخلطة على فر�ضيتني �أ�سا�سيتني‪ .‬لكي ت�ستمر يف البقاء‪ ،‬يجب على �إ�سرائيل (‪� )1‬أن‬ ‫ت�صبح قوة �إمربيالية �إقليمية‪ ،‬و (‪ )2‬و�أن جت ّز�أ املنطقة ب�أكملها لدويالت �صغرية وذلك من خالل‬ ‫تدمري الدول العربية القائمة‪ .‬ويعتمد حجم "ال�صغر" يف هذه املعادلة على الرتكيبة الإثنية �أو‬ ‫الدينية �أو الطائفية لكل دولة من هذه الدول‪ .‬وبالتايل‪ ،‬ف�إن الأمل ال�صهيوين ي�سعى لأن ت�صبح‬ ‫الدويالت الطائفية تدور يف فلك �إ�سرائيل‪ ،‬ومن ال�سخرية‪ ،‬م�صدر �شرعنتها الأخالقي‪[ .‬الت�أكيد‬ ‫م�ضاف]‪.‬‬ ‫هذه لي�ست مادة جديدة‪ ،‬وكما �أنها لي�ست املرة الأوىل التي تظهر يف التفكري اال�سرتاتيجي‬ ‫ال�صهيوين‪ .‬احلقيقة هي �أن ت�شظية جميع الدول العربية لوحدات �صغرية هو مو�ضوع متكرر‪.‬‬ ‫وقد ّمت توثيق هذا املو�ضوع‪ ،‬ولو ب�شكل متوا�ضع‪ ،‬يف �أحد الكتب من من�شورات رابطة اجلامعيني‬ ‫العرب الأمريكيني (‪ ،)AAUG‬حتت عنوان "�إرهاب �إ�سرائيل املقد�س" (‪ ،)1980‬بقلم ليفيا‬ ‫روكاخ‪ .‬لقد وثقت درا�سة روكاخ املعتمدة على مذكرات مو�شه �شاريت‪ ،‬رئي�س وزراء �إ�سرائيل‬ ‫ال�سابق‪ ،‬بتف�صيل مقنع‪ ،‬اخلطة ال�صهيونية كما تنطبق على لبنان وكما مت حت�ضريها يف منت�صف‬ ‫اخلم�سينيات‪.‬‬ ‫�إن �أول اجتياح �ضخم للبنان يف ‪ 1978‬عك�س هذه اخلطة بتفا�صيلها الدقيقة‪� .‬أما االجتياح الثاين‬ ‫والأكرث همجية‪ ،‬يف ‪ 6‬حزيران ‪ ،1982‬فهدف لتج�سيد بع�ض عنا�صر هذه اخلطة‪ ،‬والتي توقعت‬ ‫لي�س فقط جتزئة لبنان و�شرذمته‪ ،‬ولكن �أي�ضاً �سوريا والأردن‪ .‬وكان من املفرت�ض �أن ي�ضع هذا‬ ‫‪67‬‬


‫االجتياح ادعاءات �إ�سرائيل العلنية ب�أنها ت�سعى لو�ضع الأ�س�س حلكومة لبنانية مركزية‪ ،‬قوية‬ ‫وم�ستقلة‪ ،‬يف منتهى ال�سخرية‪ .‬ولكن للدقة‪ ،‬ف�إن �إ�سرائيل �أرادت �أن تخلق حكومة لبنانية مركزية‬ ‫تدعم خمططاتها الإمربيالية الإقليمية‪ ،‬وت�شرعنها من خالل توقيع اتفاقية �سالم معها‪� .‬إ�ضافة‬ ‫�إىل ذلك‪� ،‬سعت �إ�سرائيل �أي�ضاً �إىل حتقيق اخلنوع ملخططاتها من احلكومات ال�سورية والعراقية‬ ‫والأردنية وحكومات عربية �أخرى �إ�ضافة لل�شعب الفل�سطيني‪ .‬الواقع الذي رغبوا يف حتقيقه‪،‬‬ ‫وخططوا لأجله‪ ،‬هو لي�س وطناً عربياً‪ ،‬ولكنه عامل من جزيئات عربية جاهزة للخ�ضوع للهيمنة‬ ‫الإ�سرائيلية‪ .‬فبالتايل‪ ،‬يكتب عوديد ينون يف مقالته عن "�إمكانيات بعيدة املدى للمرة الأوىل‬ ‫منذ ‪."1967‬‬ ‫�إن ال�سيا�سة ال�صهيونية لطرد الفل�سطينيني من فل�سطني هي نا�شطة ب�شكل م�ستمر‪ ،‬ولكنها تفعل‬ ‫بقوة خالل فرتات ال�صراع‪ ،‬مث ًال حرب ‪ 1948 - 1947‬وحرب ‪ .1967‬وي�شمل كتاب "�إرهاب‬ ‫�إ�سرائيل املقد�س" على ملحق بعنوان "�إ�سرائيل تتكلم عن هجرة جماعية جديدة"‪ .‬ال�سبب‬ ‫ل�شمل هذا امللحق هو لإظهار ال�سيا�سات ال�صهيونية املتوا�صلة لطرد الفل�سطينيني من وطنهم‪،‬‬ ‫واملخططات ال�صهيونية الأخرى ال�ساعية لنق�ض "فل�سطينية" فل�سطني‪.‬‬ ‫تعك�س وثيقة "كيفونيم" بو�ضوح ب�أن "الإمكانيات بعيدة املدى" التي يفكر بها خمططو‬ ‫اال�سرتاتيجيات ال�صهيونية هي "الإمكانيات" ذاتها التي يحاولون �إقناع العامل ب�أن اجتياحهم‬ ‫للبنان �أوجدها‪ .‬كما يبدو جلياً �أي�ضاً ب�أن الفل�سطينيني مل يكونوا �أبداً الهدف الوحيد لهذه‬ ‫اخلطط ال�صهيونية‪ ،‬لكنهم امل�ستهدفون بالدرجة الأوىل لأن وجودهم ك�شعب م�ستقل وقابل‬ ‫توجه‬ ‫للحياة ينق�ض جوهر الدولة ال�صهيونية‪ .‬ولكن بالت�أكيد فكل دولة عربية متما�سكة ولها ّ‬ ‫قومي هي هدف حقيقي [لهذه اخلطط]‪ ،‬عاج ًال �أو �آج ًال‪.‬‬ ‫مقارنة بالو�ضوح والتف�صيل وال�سال�سة التي متيز اال�سرتاتيجية ال�صهيونية‪� ،‬إن اال�سرتاتيجية‬ ‫الفل�سطينية والعربية‪ ،‬للأ�سف‪ ،‬تفتقر للو�ضوح والتما�سك‪ .‬ال يوجد �أي م�ؤ�شر يدلل على �أن‬ ‫اال�سرتاتيجيني العرب ا�ستدخلوا كنه اخلطة ال�صهيونية بكامل �أبعادها‪ .‬فالعك�س هو ال�صحيح‪،‬‬ ‫فهم يت�صرفون بعدم الت�صديق وب�صدمة كلما يبد�أ تنفيذ مرحلة منها‪ .‬وهذا يبدو جلياً من ردة‬ ‫فعل العرب حل�صار بريوت‪ .‬احلقيقة امل�ؤملة هي �أنه ما دامت اال�سرتاتيجية ال�صهيونية لل�شرق‬ ‫الأو�سط ال ت�ؤخذ على حممل اجلد‪ ،‬ف�إن ردة الفعل العربية لأي ح�صار يف امل�ستقبل للعوا�صم‬ ‫العربية الأخرى �ستبقى كما هي‪.‬‬ ‫ويف مالحظاته اال�ستنتاجية لهذه الوثيقة (�صفحات ‪ ،)18 - 16‬ركّ ز �شاحاك على �إبراز ثالث‬ ‫نقاط مهمة "لت�ساعد يف فهم الإمكانيات الفعلية التي �ست�ؤدي لتحقيق هذه اخلطة ال�صهيونية‬ ‫لل�شرق الأو�سط‪ ،‬والدواعي التي ا�ضطرته لن�شرها"‪ .‬وجمع هذه النقاط يف املحاور التالية‪)1( :‬‬ ‫"اخللفية الع�سكرية للخطة"‪" )2( ،‬ما هو مربر ن�شرها يف �إ�سرائيل"‪ ،‬و(‪" )3‬وملاذا م�سلم به ب�أنه‬ ‫‪68‬‬


‫فـلـ�سـطـيـن‬

‫ال توجد �أية خطورة من اخلارج يف ن�شر مثل هذه اخلطط"‪ .‬من اجلدير �أن يتذكّ ر القارئ ب�أن‬ ‫الإطار الزمني لهذه الوثيقة هو �شباط ‪� ،1982‬أي �أ�ش ُهر معدودة قبل �أن اجتاحت �إ�سرائيل لبنان‬ ‫واحتلت بريوت؛ وحوايل ثالثني عاماً بعد ذلك ح�صلت الهجمة املف�ضوحة لتفتيت وتدمري‬ ‫بع�ض الدول العربية‪ ،‬وحتكمت ال�صراعات ال�شمولية والعلنية يف عالقات الدول العربية فيما‬ ‫بينها‪ ،‬والواقعة ب�شكل وا�ضح حتت وط�أة املخططات الكربى للغرب الإمربيايل وال�صهيونية‪.‬‬ ‫تو�ضيحا ً للنقطة الأوىل‪ ،‬ق ّدم �شاحاك ال�رشح التايل‪:‬‬

‫من امل�سلم به �أنّ القوات الع�سكرية الإ�سرائيلية‪ ،‬بجميع فروعها‪ ،‬لي�ست كافية للقيام باالحتالل‬ ‫الفعلي ملثل هذه املناطق ال�شا�سعة‪ ،‬كما ف�صلنا �أعاله‪ .‬احلقيقة هي حتى يف �أوقات "اال�ضطرابات"‬ ‫الفل�سطينية املكثفة يف ال�ضفة الغربية‪ ،‬كان اجلي�ش الإ�سرائيلي ممتداً �إىل �أق�صى حدوده‪ .‬واحلل‬ ‫لهذه املع�ضلة يكمن يف نهج احتالل بوا�سطة "قوات حداد" [يف جنوب لبنان] �أو من خالل‬ ‫"روابط القرى"‪� :1‬أي قوات حملية حتت قيادات معزولة كلياً من ال�سكان‪ ،‬بدون حتى �أي قاعدة‬ ‫�إقطاعية �أو هيكلية حزبية‪" ... .‬الدويالت" التي يقرتحها ينون هي "حدادالند" (‪)Haddadland‬‬ ‫ومناطق "روابط القرى"‪ ،‬و�ستكون قواتهم الع�سكرية‪ ،‬من دون �أدنى �شك‪� ،‬شبيهة لهم‪... .‬‬ ‫تقرتح "اخلطة"‪ ،‬كما مت �شرحه �شفوياً‪ ،‬ت�أ�سي�س حاميات �إ�سرائيلية يف مواقع حملية بني هذه‬ ‫متحركة ومد ّمرة ‪. ...‬‬ ‫الدويالت‪ ،‬جم ّهزة بقوات �ضرب ّ‬ ‫من الوا�ضح �أن الفر�ضيات الع�سكرية �أعاله‪ ،‬وجممل اخلطة �أي�ضاً‪ ،‬مبنية على �أ�سا�س �أن ي�صبح‬ ‫العرب جمزئني �أكرث مما هم عليه الآن [يف ‪ ،]1982‬وعلى غياب �أي حركات اجتماعية تقدمية‬ ‫بينهم‪.‬‬ ‫وبخ�صو�ص تو�ضيح النقطة الثانية‪� ،‬أي "ملاذا ن�ش ُرها يف �إ�سرائيل �ضروري؟"‪ّ ،‬قدم �شاحاك ال�شرح‬ ‫التايل‪:‬‬ ‫يعود ال�سبب يف ن�شرها �إىل ثنائية طبيعة املجتمع الإ�سرائيلي ‪ -‬اليهودي‪ :‬ق�سط كبري جداً من‬ ‫تو�سع احتاليل ومتييز عن�صري‪ .‬ويف مثل هذا‬ ‫احلرية والدميقراطية‪ ،‬خ�صو�صاً لليهود‪ ،‬مقرون مع ّ‬ ‫الو�ضع‪ ،‬النخب اليهودية الإ�سرائيلية‪ ...‬يجب �أن تقتنع‪ .‬اخلطوات الأوىل يف عملية الإقناع هذه‬ ‫‪ -1‬الإ�شارة هنا �إىل قوات �سعد حداد (‪ ،)1984 - 1939‬ال�ضابط املاروين يف اجلي�ش اللبناين‪ ،‬والذي ّن�صب كقائد‬ ‫للمناطق التي احتلتها �إ�سرائيل يف جنوب لبنان‪ ،‬وخلفه اللواء �أنطوان حلد الذي بقي يف من�صبه حتى العام ‪2000‬‬ ‫عندما ا�ضطر اجلي�ش الإ�سرائيلي لالن�سحاب من تلك املنطقة‪ ،‬حتت �ضربات املقاومة‪� .‬أما “روابط القرى” فت�شري �إىل‬ ‫اجلهاز الذي ابتدعه �شارون يف ال�ضفة الغربية يف بداية ال�سبعينيات ليت�س ّلط ويحكم تلك املناطق كوكيل لقوات‬ ‫االحتالل الإ�سرائيلية (ولكنه مل ينجح بذلك)‪[ .‬املالحظة التو�ضيحية من خليل نخلة]‪.‬‬ ‫‪69‬‬


‫هي �شفوية‪ ...‬لكن ي�أتي وقت ت�صبح فيه هذه العملية غري منا�سبة‪ .‬وحينها يجب �إنتاج مواد‬ ‫مكتوبة مل�صلحة "املقنعني" و"ال�شارحني" الأكرث غباء (فعلى �سبيل املثال‪� ،‬إن ال�ضباط يف‬ ‫الدرجات املتو�سطة هم عادة �أغبياء جداً)‪ .‬بعدها هم "يتع ّلمونها" نوعاً ما‪ ،‬وي�ستعملونها ملوعظة‬ ‫الآخرين‪ .‬جتدر املالحظة �أن �إ�سرائيل‪ ،‬وحتى حركة اال�ستيطان [الي�شوف] منذ الع�شرينيات‪،‬‬ ‫ت�صرفت بهذا ال�شكل‪� .‬شخ�صياً �أتذكر جيداً كيف (قبل �أن �أنتقل �إىل "املعار�ضة") �شرحوا‬ ‫دائماً ّ‬ ‫يل ولآخرين عن �ضرورة احلرب مع م�صر‪ ،‬عاماً واحداً قبل بدء احلرب يف ‪1956‬؛ و�ضرورة‬ ‫وقدم [�شرح النقطة الثانية] يف الأعوام‬ ‫احتالل "بقية غربي فل�سطني حاملا حتني الفر�صة لذلك" ّ‬ ‫‪.67 - 1965‬‬ ‫وتو�ضيحاً للنقطة الثالثة‪� ،‬أي "ملاذا م�سلم به �أنه ال توجد �أية خطورة من اخلارج يف ن�شر مثل‬ ‫حدد �شاحاك �أن هذه الأخطار قد ت�أتي من م�صدرين‪" :‬العامل العربي وب�ضمنه‬ ‫هذه اخلطط"‪ّ ،‬‬ ‫الفل�سطينيون‪ ،‬والواليات املتحدة الأمريكية"‪.‬‬ ‫لقد ك�شف العامل العربي نف�سه ب�أنه غري قادر باملرة على القيام بتحليل تف�صيلي ومنطقي عن‬ ‫املجتمع الإ�سرائيلي ‪ -‬اليهودي‪ ،‬والفل�سطينيون‪ ،‬ب�شكل عام‪ ،‬مل يكونوا �أح�سن من الآخرين‪.‬‬ ‫ويف حالة كهذه‪ ،‬حتى �أولئك الذين ي�صرخون وينددون بالأخطار الناجمة عن التو�سع االحتاليل‬ ‫الإ�سرائيلي (والتي هي �أخطار حقيقية)‪ ،‬يفعلون ذلك لي�س انطالقاً من قاعدة معارف حقيقية‬ ‫وتف�صيلية‪ ،‬بل انطالقاً من �إميانهم باخلرافة‪... .‬‬ ‫ويف الواليات املتحدة الأمريكية ي�سود و�ضع �شبيه‪ ،‬على الأقل حتى الآن‪ .‬املع ّلقون اجل ّيدون‬ ‫نوعاً ما ي�ستقون معلوماتهم عن �إ�سرائيل‪ ،‬و�أغلبية �آرائهم عنها‪ ،‬من م�صدرين‪ .‬الأول من مقاالت‬ ‫تن�شر يف ال�صحافة الأمريكية الليربالية‪ ،‬والتي يكتبها بكليتها يهود معجبون ب�إ�سرائيل‪ ... .‬ويف‬ ‫�إطار عبادة نقدية كهذه‪ ،‬من امل�سلم به �أنّ �إ�سرائيل دائماً متلك "نيات ح�سنة"‪ ،‬وفقط "ترتكب‬ ‫�أخطاء"؛ وبالتايل ف�إن خطة كهذه ال تخ�ضع للبحث ‪ -‬متاماً كما �أن جرائم الإبادة اجلماعية‬ ‫التوراتية التي ارتكبها اليهود‪ ،‬ال ُتذكر‪� .‬أما م�صدر املعلومات الثاين فهو �صحيفة "اجلريوزامل‬ ‫بو�ست"‪ ،‬والتي تتبع �سيا�سات مماثلة‪ .‬لذلك‪ ،‬وما دام الو�ضع القائم يف �إ�سرائيل "كمجتمع‬ ‫مغلق" عن باقي العامل‪ ،‬على حاله‪ ،‬وكون العامل يريد �أن يبقي عيونه مغلقة‪ ،‬ف�إن ن�شر وتعميم‬ ‫هذه اخلطة‪ ،‬وحتى البدء بتنفيذها‪ ،‬هو واقعي ٍ‬ ‫وجمد‪[ .‬الت�أكيد م�ضاف]‪.‬‬ ‫على �ضوء النقاط املثارة �أعاله‪ ،‬يجدر التنويه ب�أنه قبل �سنتني من ن�شر هذه "اخلطة"‪ ،‬ن�شرت‬ ‫رابطة اجلامعيني العرب (‪ )AAUG‬درا�سة �أخرى تعتمد على مذكرات مو�شه �شاريت‪ 1.‬وثقت‬ ‫هذه الدرا�سة �أنّ احلكومة الإ�سرائيلية ناق�شت ر�سمياً اخلطط الإ�سرائيلية ‪ -‬ال�صهيونية لتفتيت‬ ‫‪ -1‬روكاخ‪ ،‬ليفيا‪� ،‬إرهاب �إ�سرائيل املقد�س‪ ،‬بلمونت‪ ،‬ما�سات�شو�ست�س‪� ،AAUG :‬سل�سلة �أوراق معلوماتية‪ ،‬رقم ‪.1980 ،23‬‬ ‫‪70‬‬


‫فـلـ�سـطـيـن‬

‫وت�شظية العامل العربي‪ ،‬منذ العام ‪� ،1954‬أي فقط �سنوات قليلة بعد جتزئة الوطن الفل�سطيني‬ ‫يف العام ‪ .1948‬وبالتايل فعندما ترجم �شاحاك هذه اخلطة من العربية �إىل الإجنليزية دق ناقو�س‬ ‫اخلطر‪ ،‬وحذرنا ب�أن خطة كهذه هي جزء مت�أ�صل يف اال�سرتاتيجية ال�صهيونية لتحويل "�إ�سرائيل‬ ‫الإمربيالية �إىل قوة عظمى"‪� .‬إ�ضافة �إىل ذلك‪ ،‬ف�إن درا�سة روكاخ‪ ،‬املعتمدة على مذكرات مو�شه‬ ‫�شاريت ال�شخ�صية (التي تتك ّون من ‪� 2400‬صفحة يف ‪ 8‬جملدات)‪ ،‬ك�شفت مبنتهى الو�ضوح كيف‬ ‫ا�ستعملت احلكومة الإ�سرائيلية �آليات ال�ستنباط حوادث مفتعلة (‪ )false - flagging‬لنحت دولة‬ ‫مارونية يف لبنان‪ ،‬وللت�سلط على �أجزاء من �سوريا اجلنوبية‪� ،‬إلخ‪ .‬ومت ت�ستري كل ذلك بغطاء مزيف‬ ‫من اخلداع والكذب اليهو ‪� -‬صهيوين‪ .‬وتد ّرج هذا النهج من اخلداع يف خط �شبه مبا�شر‪ ،‬منذ‬ ‫بدايات اخلم�سينيات �إىل �أوائل الثمانينيات وحتى الو�ضع الراهن الذي ن�شهده اليوم على الأر�ض‬ ‫يف العام ‪!2014‬‬ ‫يعود الف�ضل ل�شاحاك يف نقل "خطة ينون" �إىل الإجنليزية‪ ،‬وللإحلاح على ن�شرها‪ .‬فمنذ �أن‬ ‫ن�شرت يف الغرب‪ ،‬ويف ال�سنوات الأخرية بالتحديد‪ ،‬هناك مبادرات واعية لإعادة بعثها من‬ ‫جديد باللغة العربية‪ .‬ففي العام ‪ ،2007‬ن�شر الربوف�سور ح�سن نافعة من ق�سم العلوم ال�سيا�سية يف‬ ‫جامعة القاهرة ثالث مقاالت عن "اخلطة"‪ ،1‬والتي حث فيها ال�شباب العربي �أن يكون واعياً‬ ‫لها ومدركاً ملكنونات و�أهداف اال�سرتاتيجية ال�صهيونية ال�ساعية لتفتيت املنطقة والت�سلط عليها‪.‬‬ ‫ومن الناحية الثانية‪ ،‬ويف �أعقاب بدايات الثورة االجتماعية يف تون�س‪ ،‬واخلطوات املف�ضوحة من‬ ‫امل�سمى الال�إن�ساين ال�سادي‬ ‫قبل الإمربيالية الغربية وال�صهيونية لت�شظية الوطن العربي حتت ّ‬ ‫املنعوت "بالربيع العربي"‪ ،‬برزت �إىل العلن حتليالت كثرية يف و�سائل الإعالم البديلة‪ ،‬والتي‬ ‫ت�ضمنت �إ�شارات متتابعة لهذه اخلطة‪ ،‬وحتذيرات �صريحة �إىل القوى الثورية احلقة يف العامل‬ ‫ب�أن اال�سرتاتيجية ال�صهيونية ال�ساعية لهيمنة �إ�سرائيل الإمربيالية على املنطقة ما زالت حية‪،‬‬ ‫و�أن بع�ض مراحلها �آخذة بالتنفيذ‪ .‬وبالتحديد‪ ،‬وبعد �أن �أ�صبحت �أهداف الهجمة الرببرية‬ ‫ملراكز الر�أ�سمال الغربية على ليبيا‪ ،‬وامتدادها �إىل �سوريا والعراق‪ ،‬جلية‪ ،‬من حيث م�ضمونها‬ ‫‪2‬‬ ‫التجزيئي‪ ،‬برزت بع�ض املقاالت التي �أ�شارت بدون تردد "خلطة ينون" كمرجعية ملا يحدث‪.‬‬ ‫وتباعاً لهذا النهج من التحليل‪ ،‬وبو�ضوح �أكرث يف الربط بني اال�سرتاتيجية اجليو�سيا�سية‬ ‫الأمريكية و"�إ�سرائيل الكربى"‪ ،‬ن�شرت �أولغا ت�شتفرييكوفا مقالة من جزءين‪ ،‬م�ستفيدة من‬ ‫‪ -1‬نافعة‪ ،‬ح�سن‪“ ،‬اال�سرتاتيجية ال�صهيونية لتفتيت العامل العربي‪� ”،‬صحيفة الد�ستور‪.2007 ،‬‬ ‫‪� -2‬أنظر‪/‬ي على �سبيل املثال‪ ،‬مقالة مهدي داريو�س نزميروايا‪“ ،‬انتقام ينون؟ بانوراما حلالة الفو�ضى يف العامل العربي»‪،‬‬ ‫‪� www.globalresearch.ca، 26‬آب ‪2013‬؛ ومقالة �شارمني نارواين‪" ،‬بلقنة دول رئي�سة يف ال�شرق الأو�سط»‪www. ،‬‬ ‫‪ informationclearinghouse.info، 30‬متوز ‪2013‬؛ ومقالة مي�شيل ت�شو�سدوف�سكي‪�" ،‬إ�سرائيل الكربى»‪ :‬اخلطة‬ ‫ال�صهيونية لل�شرق الأو�سط»‪� www.globalresearch.ca، 3 ،‬آذار ‪.2013‬‬ ‫‪71‬‬


‫مبادرة �شاحاك يف تعميم هذه اخلطة يف العام ‪ 1.1982‬تربط ت�شتفرييكوفا الفكرة التي طرحها‬ ‫بع�ض اال�سرتاتيجيني الأمريكيني بخ�صو�ص �إعادة هيكلة و�إعادة هند�سة "ال�شرق الأو�سط‬ ‫الكبري"‪ ،‬من خالل عملية تفتيته‪ ،‬مع ما جاء يف "خطة ينون"‪ .‬كغريها من املحللني الذين‬ ‫متت الإ�شارة �إليهم �أعاله‪ ،‬ر�أت ت�شتفرييكوفا �أنّ م�صلحة �إ�سرائيل تكمن يف عملية �إعادة‬ ‫م�سمى "الربيع العربي"‪ ،‬وكيف "�أنّ الأمر الأهم يف هذه‬ ‫الهيكلة اجليو�سيا�سية للمنطقة‪ ،‬حتت ّ‬ ‫العملية‪ ،‬والذي يبقى م�ستوراً �أو �صامتاً‪ ،‬هو م�صلحة �إ�سرائيل العميقة يف زعزعة الو�ضع يف الدول‬ ‫�صرح به‬ ‫العربية ‪ -‬الإ�سالمية املحيطة بها‪ ،‬ويف ت�أجيج احلرب يف �سوريا"‪ .‬كما ذكَرت القارئ مبا ّ‬ ‫احلاخام �أفراهام �شمولفت�ش‪� ،‬أحد م�ؤ�س�سي عقيدة "ال�صهيونية املفرطة" (‪ ،)hyperzionism‬يف‬ ‫مقابلة علنية يف العام ‪ ،2011‬ب�أن "الربيع العربي" هو "نعمة لإ�سرائيل"‪ .‬وقال‪:‬‬ ‫�إن العامل الإ�سالمي يتهور ب�سرعة يف حالة من اال�ضطراب والفو�ضى؛ وهذا تطور �إيجابي بالن�سبة‬ ‫لليهود‪ .‬حالة الفو�ضى هي الوقت الأف�ضل للتحكم بالو�ضع‪ ،‬ولتفعيل نظام احل�ضارة اليهودية‪.‬‬ ‫احلرب الدائرة الآن هي لتحديد َمن �سيكون القائد الروحاين للب�شرية ‪ -‬روما (الغرب) �أم‬ ‫نحمم [�أو نغ�سل]‬ ‫�إ�سرائيل‪ ...‬الآن هو الوقت [الأف�ضل] لو�ضع ال�سيطرة يف �أيادينا‪� ...‬سوف ال ّ‬ ‫النخب العربية فح�سب‪ ،‬ولكن �سنطعمهم و�سرنبيهم ب�أيدينا‪ ...‬الإن�سان الذي يح�صل على‬ ‫احلرية يجب �أن يح�صل يف الوقت نف�سه على توجيه لكيفية ا�ستعمال هذه احلرية‪ .‬وهذا التوجيه‬ ‫‪2‬‬ ‫للب�شرية �سنكتبه نحن‪ ،‬اليهود‪ ...‬اليهودية �ستنتع�ش يف �سعري الثورات العربية‪.‬‬ ‫اجلزء الثالث‪� :‬أ�سلحة للقمع وللتحكم العاملي‬ ‫كيف بالإمكان حتقيق هذه الهيمنة والتحكم الإمربيايل على املنطقة؟‬

‫اعتماداً على ما كتبه �شاحاك‪� ،‬سيتطرق اجلزء الثالث من هذا الف�صل‪ ،‬وب�شكل مقت�ضب‪ ،‬لق�ضية‬ ‫الأ�سلحة التي تبيعها �إ�سرائيل للأنظمة القمعية يف العامل‪ ،‬وخا�صة "العامل الثالث"‪ .‬وبالتايل‪ ،‬ف�إنّ‬ ‫املعلومات املقدمة م�ستقاة ح�صرياً من املقالة التي ن�شرها �شاحاك بالعربية �أو ًال "للجمهوراليهودي‬ ‫‪3‬‬ ‫يف �إ�سرائيل"‪ ،‬يف زو هديريخ‪ ،‬ال�صحيفة الأ�سبوعية للحزب ال�شيوعي الإ�سرائيلي (�أو راكاح)‪.‬‬ ‫وبعد عام تقريباً من ن�شرها يف �إ�سرائيل‪ ،‬ترجمها �شاحاك �إىل الإجنليزية و�صدرت يف كتيب يف‬ ‫‪ -1‬ت�شتفرييكوفا‪� ،‬أولغا‪“ ،‬يف ظل اجليو�سيا�سة الأمريكية‪� ،‬أو مرة �أخرى عن �إ�سرائيل الكربى‪www.strategic- ”،‬‬

‫‪ ،culture.org‬اجلزء الأول يف ‪ 11‬نوفمرب ‪ ،2013‬واجلزء الثاين يف ‪ 12‬نوفمرب ‪.2013‬‬ ‫‪� -2‬شمولفت�ش‪� ،‬أفراهام‪“ ،‬هل �ستتحكم �إ�سرائيل الكربى بال�شرق الأو�سط بعد الثورات العربية؟”‬ ‫‪ ،www.chechenews.com‬كما اقتب�س يف امل�صدر ال�سابق‪ ،‬اجلزء الأول‪ 11 ،‬نوفمرب ‪.2013‬‬ ‫‪ -3‬ن�شرت املقالة بالعربية يف خم�سة �أجزاء بتاريخ ‪� 25‬آذار‪ ،‬و ‪ 1‬و‪ 9‬و‪ 15‬و‪ 22‬ني�سان ‪.1981‬‬ ‫‪72‬‬


‫فـلـ�سـطـيـن‬

‫الواليات املتحدة الأمريكية‪ 1.‬يجدر التنويه هنا ب�أنّ هذه املعلومات تنطبق على ما كان متوفراً يف‬ ‫بداية الثمانينيات من القرن املا�ضي‪ ،‬حينما كتب �شاحاك مقالته‪ ،‬وما هذه املعلومات �إال "ر�أ�س‬ ‫جبل اجلليد" املتدحرج واملنك�شف بو�ضوح �أكرث راهناً!‬ ‫كمعظم كتابات �شاحاك الأخرى‪ ،‬تعتمد املعلومات يف مقالة زو َهديريخ ح�صرياً على م�صادر‬ ‫�إ�سرائيلية وبالتحديد ال�صحافة العربية يف �إ�سرائيل‪ .‬ويجدر التنبيه �أي�ضاً �إىل �أنّ الرقابة الع�سكرية‬ ‫أ�صر �شاحاك على �إبقاء الإ�شارة �إليها‬ ‫قد حذفت �أجزا ًء كثرية من املقالة يف الأ�صل العربي‪ ،‬وقد � ّ‬ ‫يف الطبعة الإجنليزية‪.‬‬ ‫لقد �شعر �شاحاك �أنه م�ضطر لإ�شعار "اجلمهور اليهودي يف �إ�سرائيل" وحتذيره من �أنّ دولته‬ ‫�آخذة‪ ،‬منذ ال�سبعينيات‪ ،‬بتزويد �أ�سلحة للأنظمة القمعية يف العامل‪ ،‬بهدف قمع �شعوبها‪ .‬فكتب‪:‬‬ ‫"انتحلت دولة �إ�سرائيل لنف�سها‪ ،‬يف ال�سنوات الأخرية‪ ،‬مهمة �إ�ضافية ذات �ش�أن خطري‪� ،‬أال وهي‬ ‫‪2‬‬ ‫�أن تتحالف مع �أكرث الأنظمة يف العامل ازدراء وكرهاً و�أن تكون م�صدراً لتزويد الأ�سلحة لها"‪.‬‬ ‫ولدعم هذا االدعاء‪ ،‬با�شر �شاحاك ب�إعالم اجلمهور اليهودي يف �إ�سرائيل ب�أدق التفا�صيل حول‬ ‫الأ�سلحة والتدريبات والأجهزة الأمنية‪� ،‬إلخ‪ ،‬التي توفّرها �إ�سرائيل لأنظمة القمع الأكرث �شهرة‬ ‫ورداءة يف العامل‪ ،‬وعلى وجه اخل�صو�ص‪ ،‬يف �أمريكا الالتينية و�آ�سيا و�أفريقيا‪ .‬تغطي مقالة �شاحاك‬ ‫الفرتة ‪ .1980 - 1979‬وعر�ض �شاحاك �أنه يف العام ‪" 1980‬و�صلت ن�سبة بيع الأ�سلحة �إىل ما‬ ‫يقارب ‪ 40‬باملئة من حجم �صادرات �إ�سرائيل‪ .‬بكلمات �أخرى‪ ،‬نعي�ش �أكرث و�أكرث على فناء‬ ‫‪3‬‬ ‫وتدمري الغري‪ ،‬الفل�سطينيني هنا و�شعوب �أخرى يف �أماكن خمتلفة من العامل"‪.‬‬ ‫وكتقدمي لهذا الكت ّيب‪� ،‬أكدت جلنة الن�شر يف الرابطة (‪ )AAUG‬ب�أنه "منذ حرب العام ‪،1967‬‬ ‫و�إ�سرائيل تقوم بدور ال�شرطي الرئي�س للواليات املتحدة يف ال�شرق الأو�سط‪ ... .‬و�أنّ انت�صار‬ ‫�إ�سرائيل يف هذه احلرب و ّفر على الواليات املتحدة عبء التدخل املبا�شر‪ ... .‬و�أق َّر الر�ؤ�ساء لندون‬ ‫جون�سون ورو َنلد ريغان بامتنان بدور �إ�سرائيل الإمربيايل ‪ -‬الفرعي‪" .‬لو مل يكن هناك �إ�سرائيل‬ ‫‪4‬‬ ‫بتلك القوة‪ ،‬لكنا ا�ضطررنا �أن نقوم بذلك ب�أنف�سنا؛ فهذا لي�س بالتحديد حب الغري من طرفنا""‪.‬‬ ‫يقدم اجلزء التايل من هذا الف�صل ع ّينة مقت�ضبة من الدول التي ا�ستغلت فيها الأ�سلحة‬ ‫ّ‬ ‫الإ�سرائيلية كو�سيلة لقمع املواطنني ال ُع َّزل يف تلك الدول‪.‬‬ ‫‪� -1‬شاحاك‪� ،‬إ�سرائيل‪ ،‬دور �إ�سرائيل العاملي‪� :‬أ�سلحة للقمع‪ ،‬بلمونت‪ ،‬ما�سات�شو�ست�س‪ :‬رابطة اجلامعيني العرب‬ ‫الأمريكيني‪.1982 ،‬‬ ‫‪ -2‬امل�صدر نف�سه‪.15 :‬‬ ‫‪ -3‬امل�صدر نف�سه‪.‬‬ ‫‪ -4‬امل�صدر نف�سه‪.5 :‬‬ ‫‪73‬‬


‫�أ ‪� -‬أمريكا الالتينية‬

‫دعماً الدعائه �أعاله‪� ،‬أظهر �شاحاك بتف�صيل م�ؤمل ومت�سل�سل‪ ،‬معلومات حول ت�سويق الأ�سلحة‬ ‫الإ�سرائيلية لأنظمة القمع يف دول �أمريكا الالتينية‪ ،‬مثل ال�سلفادور‪ ،‬غوامتاال‪ ،‬نيكاراغوا‪،‬‬ ‫الأرجنتني‪ ،‬ت�شيلي والإكوادور‪ .‬فح�سب املعطيات املتوفرة من معهد �ستوكهومل الدويل لأبحاث‬ ‫ال�سالم يف العام ‪ ،1980‬كتب �شاحاك‪�" :‬إن دولة �إ�سرائيل ز ّودت ‪ 83‬باملئة من الأ�سلحة امل�ستوردة‬ ‫من قبل هذا النظام املجرم [�إل�سلفادور]‪ .‬العامل كله (با�ستثنائنا بالطبع) �شاهد على التلفاز‬ ‫املجرمني وهم يحملون بنادق "اجلليل" والأوزي"‪ 1.‬فكان مع ّلقو التلفاز يف الغرب يعر�ضون‪،‬‬ ‫بكل و�ضوح‪�" ،‬أن ه�ؤالء الأ�شخا�ص (�أو الن�ساء �أو الأطفال �أو الراهبات �أو رهبان الكني�سة) مت‬ ‫قتلهم بر�صا�ص بنادق اجلليل �أو الأوزي‪� ،‬أو هذه القرية مت ن�سفها بالقنابل املحمولة على طائرات‬ ‫"العرفا" الإ�سرائيلية ال�صنع‪ ... .‬فقط و�سائل �إعالمنا هي التي جت ّنبت ذكر هذه احلقائق‪ .‬وبعد‬ ‫ذلك ت�صيبنا الده�شة ون�ستغرب "ملاذا ال يح ّبوننا؟" ونلقي بالتهمة على "الال�سامية" �أو على‬ ‫"الأموال العربية"‪ ،‬من دون �أن ن�س�أل �أنف�سنا ماذا نفعل بالعامل؟!"‪.2‬‬ ‫بالإ�ضافة �إىل ال�سلفادور‪" ،‬كانت �إ�سرائيل [ ُحذف من الرقابة الع�سكرية] مز ّوداً رئي�ساً للأ�سلحة‬ ‫لغوامتاال‪ ،‬والتي كان نظامها الوح�شي م�ساوياً للنظام يف ال�سلفادور‪� ،‬إن مل يفُقه وح�شية"‪ .3‬كر ّد‬ ‫فعل على القمع العنيف يف غوامتاال "عندما ّمت �سحق مئات الطالب املتظاهرين بالبنادق يف‬ ‫جمدت الواليات املتحدة م�ؤقتاً تزويد الأ�سلحة‬ ‫ال�ساحة الرئي�سية يف العا�صمة‪ ،‬غوامتاال �سيتي‪ّ ...‬‬ ‫لغوامتاال‪ .‬ولكن خالل فرتة ق�صرية‪� ،‬شوهد رئي�س قوات غوامتاال مع ماركو�س كات�س (�أهم عمالء‬ ‫الأ�سلحة الإ�سرائيليني ‪ٌ [ .")...‬حذف من الرقابة الع�سكرية]‪.‬‬ ‫كان لإ�سرائيل "تعاون وثيق وطويل املدى مع نظام �سوموزا يف نيكارغوا‪ .‬ففي ال�سنة الأخرية من‬ ‫تلك الدكتاتورية‪ ،‬ز ّودت �إ�سرائيل ‪ 98‬باملئة من واردات �أ�سلحتها‪ .‬ت�ستحوذ هذه املعلومة على‬ ‫�أهمية عظمى �إذا ما �أدركنا ب�أن نظام �سوموزا قتل يف ال�سنتني الأخريتني ما يقارب من ‪� 50‬ألف‬ ‫�شخ�ص‪ ،‬و�أنه د ّمر ون�سف �أحياء الفقراء يف ماناغوا‪� ،‬إ�ضافة �إىل جتمعات �سكانية �أخرى‪ ،‬وبالأ�سا�س‬ ‫با�ستعمال طائرات العرفا والو�ست وند �إ�سرائيلية ال�صنع"‪.‬‬ ‫ويف تعليق نهائي‪ ،‬ي�ستنتج �شاحاك التايل‪:‬‬ ‫دم النا�س‪ ،‬الن�ساء والأطفال‪ ،‬لي�س مهماً‪ ،‬كما �أن النفاق ال�سحيق لي�س حا�سماً‪� .‬إ�سرائيل التي‬ ‫ّتدعي ب�أنها "�ضد الإرهاب" تز ّود �أ�سلحة لأ�سو�أ الإرهابيني‪ .‬االعتبار الوازن الوحيد هو "ال�ضرر‬ ‫‪ -1‬امل�صدر نف�سه‪.16 :‬‬ ‫‪ -2‬امل�صدر نف�سه‪.‬‬ ‫‪ -3‬امل�صدر نف�سه‪.‬‬ ‫‪74‬‬


‫فـلـ�سـطـيـن‬

‫ال�سيا�سي"؛ �أي بكلمات �أخرى‪� ،‬إذا الدم الذي �أُهرق‪ ،‬دم الن�ساء والأطفال‪� ،‬أتى‪ ،‬وفقاً لر�أي‬ ‫خرباء امل�ؤ�س�سة‪ ،‬مبنافع �سيا�سية‪ ،‬بدل امل�ضار‪ ،‬لدولة �إ�سرائيل‪ ،‬فكل �شيء على ما ُيرام! ال ميكن‬ ‫‪1‬‬ ‫ت�صو ُر نفاق �أكرب من هذا‪.‬‬ ‫اعتماداً على تقرير يف �صحيفة "دافار"‪ ،‬الناطقة با�سم حزب العمل �آنذاك (يف ‪ 13‬نوفمرب ‪،)1979‬‬ ‫�أبرز �شاحاك بتف�صيل كامل الدائرة ال�ضيقة لتجار الأ�سلحة الإ�سرائيلية‪ ،‬والتي �أحاطت بتالحم‬ ‫وثيق مناحيم بيغن والنخب ال�سيا�سية والع�سكرية‪ ،‬التي حافظت ب�شكل حثيث على �صداقات‬ ‫وعرى‬ ‫حميمة وعميقة مع دكتاتوريات �أمريكا اجلنوبية‪� ،‬سيئي ال�سمعة‪ ،‬يف تلك الفرتة‪ .‬كما ّ‬ ‫�شاحاك‪ ،‬للجمهور الغربي الناطق بالإجنليزية‪ ،‬العالقات احلميمة التي تطورت بني بع�ض قيادات‬ ‫ال�صناعات الع�سكرية الإ�سرائيلية وبع�ض اجلرناالت الكبار املتقاعدين‪ ،‬مثل �سوموزا وبينو�شيه‬ ‫وغريهما‪ .‬و�أكد بيقني "�أنه ال توجد دولة واحدة تبيعها �إ�سرائيل �أ�سلحة بكميات كبرية ونظامها‬ ‫‪2‬‬ ‫لي�س �سيئ ال�سمعة"‪.‬‬ ‫مل تفلت الإكوادور من دائرة ا�سترياد الأ�سلحة الإ�سرائيلية‪ .‬لكي نفهم ال�سبب وراء ا�ستهداف‬ ‫الإكوادور‪ ،‬يجب �أن نعي �أنه منذ العام ‪ 1963‬ولفرتة خم�سة ع�شر عاماً وقعت الإكوادور يف‬ ‫خ�ضم حكم الطغمات الع�سكرية نتيجة انقالبات متالحقة‪ .‬كما التحقت الإكوادور خالل‬ ‫تلك الفرتة‪ ،‬مع دول �أخرى يف �أمريكا الالتينية‪ ،‬مثال الت�شيلي والأوروغواي وغريها‪ ،‬يف �شبكة‬ ‫"كوندور" الإرهابية‪ ،‬التي هدفت �إىل مالحقة املعار�ضني ال�سيا�سيني لتلك الأنظمة‪ ،‬عرب احلدود‬ ‫ال�سيا�سية القائمة‪ ،‬وت�صفيتهم بكل الو�سائل القتالية‪ .‬وهكذا‪� ،‬أوجدت هذه "ال�شبكة" (كوندور)‬ ‫البيئة احلا�ضنة للقتل والإرهاب‪ ،‬والطلب املتزايد لو�سائل القمع القتالية‪ 3.‬فها هو اجلرنال‬ ‫الإ�سرائيلي املتقاعد (واملتوفّى) رحب�آم زئيفي (واملعروف �أي�ضاً بلقب "غاندي")‪ ،‬وبال�شراكة مع‬ ‫املمثل الإ�سرائيلي حاييم طوبول (املتوفّى)‪ ،‬وبزالييل مزراحي (الذي ا�شتهر ا�سمه بعالقته مع‬ ‫الإجرام املنظم يف �إ�سرائيل)‪ ،‬يبيع حلكومة الإكوادور "معدات تقنية متقدمة وتقنيي �صيانة يف‬ ‫احلرب �ضد "الإرهاب""‪ .4‬ويف مقابلة طويلة يف �صحيفة "يديعوت �أحرونوت" (‪ 1‬ني�سان ‪،)1977‬‬ ‫دافع زئيفي عن دوره كتاجر �أ�سلحة‪ ،‬و�أعلن �إ�ضافة �إىل ذلك �أ ّنه‪" ،‬ال يرى �أي �شيء م�شني بكونه‬ ‫تاجر �أ�سلحة‪ ...‬كما �أن ذلك م�صدر دخل جيد"‪ .‬وجاء تربيره "لنياته اجلدية بت�أ�سي�س �شركة‬ ‫لال�ست�شارات الأمنية خارج �إ�سرائيل" ب�أنّ "كثريين من الذين ينهون خدمتهم يف الأجهزة‬ ‫الأمنية‪ ...‬يواجهون �صعوبات يف �إيجاد عمل مالئم خلرباتهم يف �إ�سرائيل‪ ...‬و�أن �شركة كهذه‬ ‫‪ -1‬امل�صدر نف�سه‪.17 :‬‬ ‫‪ -2‬امل�صدر نف�سه‪.19 :‬‬ ‫‪ -3‬ماك�شريي‪ ،‬باتري�س ج‪ ،www.globalpolicy.org ،.‬متوز ‪.2001‬‬ ‫‪ -4‬امل�صدر نف�سه‪.‬‬ ‫‪75‬‬


‫�ستحل م�شكلتهم"‪ .‬ويخل�ص �شاحاك �إىل اال�ستنتاج ب�أن القارة الأمريكية �أ�صبحت "م�شبعة‬ ‫بالدم والدموع نتيجة لت�صدير الأ�سلحة الإ�سرائيلية �إليها"‪1.‬ويف مقالة ظهرت م� َّؤخراً حتت عنوان‬ ‫"يد �إ�سرائيل يف �إبادة ال�شعب يف غوامتاال"‪ ،‬ي�ؤكد روبرت باري ما كتبه �شاحاك قبل ثالثني‬ ‫‪2‬‬ ‫�صر باري على �أن "الإبادة اجلماعية ل�شعب غوامتاال يف الثمانينيات ال تو ّرط الرئي�س‬ ‫عاماً‪ُ .‬ي ّ‬ ‫رونالد ريغان وم�ساعديه الكبار فح�سب بل �أي�ضاً احلكومة الإ�سرائيلية التي ز ّودت [النظام] �سراً‬ ‫مبروحيات مقاتلة و�أ�سلحة وحوا�سيب ا�ستعملت جميعها يف مالحقة و�إبادة هنود الإيك�سيل‬ ‫[‪ ]Ixil‬وباقي �أعداء الدولة الوهميني �أو املتخ َّيلني"‪ .‬وهذا ما ك�شفته ال�شهادات التي قدمت يف‬ ‫املحاكمة اجلديدة لدكتاتور غوامتاال ال�سابق‪� ،‬إفران ريو�س مونت‪ ،‬بتهمة الإبادة اجلماعية‪.‬‬ ‫يقول روبرت باري‪" :‬ويف قمة املذابح التي ارتكبها النظام يف غوامتاال يف ثمانينيات القرن املا�ضي‪،‬‬ ‫والتي �شملت الإبادة اجلماعية لهنود الإيك�سيل‪ ،‬عملت �إدارة ريغان مع م�س�ؤولني �إ�سرائيليني‬ ‫على تزويد مروحيات مقاتلة للجي�ش الغوامتايل التي ا�ستعملت ملطاردة القرويني الفارين‪ ،‬ح�سب‬ ‫معطيات موثقة وب ّينات �شهود عيان"‪.‬‬ ‫يف ذكرياته‪ ،‬غنائم احلرب‪ ،‬والتي كتبها يف العام ‪ ،1992‬تتبع �أريه بن منا�شيه‪� ،‬ضابط املخابرات‬ ‫الإ�سرائيلي ال�سابق‪ ،‬العالقة بني الأ�سلحة الإ�سرائيلية وغوامتاال‪ .‬ووفقاً للكاتب‪ ،‬ف�إن �شبكة‬ ‫بيع الأ�سلحة الإ�سرائيلية لغوامتاال تعود "�إىل �شبكة خا�صة �أ�س�سها اجلرنال �أرئيل �شارون يف‬ ‫ال�سبعينيات خالل الفجوة التي كان فيها خارج احلكومة‪ .‬كان ممثل �شارون الرئي�س يف غوامتاال‬ ‫رجل الأعمال املدعو بي�ساخ بن �أور‪ ،‬وخالل تلك القناة ز ّودت �إ�سرائيل قوات الأمن الغوامتالية‬ ‫يف الثمانينيات مبعدات ع�سكرية"‪ .‬وتابع بن منا�شيه �أن "الإ�سرائيليني ز ّودوا غوامتاال ما جمموعه‬ ‫�ست مروحيات مقاتلة مع حوا�سيب وبرامج ت�شغيل ملتابعة املخربني املزعومني‪ ،‬وحتديد مواقعهم‬ ‫و�إبادتهم"‪ .‬كما �أكد �إ�ضافة �إىل ذلك ب�أن "الإ�سرائيليني كانوا يدركون ب�أنهم ي�ساهمون يف‬ ‫مذابح جماعية للمجموعات الغوامتالية ذات الب�شرة ال�سمراء‪ ...‬وكما ر�أيناها‪ ،‬كانت ال�سلطات‬ ‫أرا�ض‬ ‫الع�سكرية الغوامتالية ت�ستهدف جميع القرويني غري البي�ض‪ ،‬الذين كانوا �ساكنني على � ٍ‬ ‫‪3‬‬ ‫خ�صبة رغب الغوامتاليون البي�ض باحل�صول عليها"‪.‬‬ ‫ب ‪ -‬القارة الإفريقية‬

‫يف هذا اجلزء من الف�صل يركز �شاحاك على تطور "الت�أثري الإ�سرائيلي القوي" على ثالثة �أنظمة‬ ‫قمعية يف القارة الإفريقية‪ ،‬وهي �ساحل العاج وجمهورية �أفريقيا الو�سطى ومالوي‪ .‬تظهر مالوي‪،‬‬ ‫‪� -1‬شاحاك‪� ،‬إ�سرائيل‪ ،‬دور �إ�سرائيل العاملي‪� :‬أ�سلحة للقمع‪.22 - 21 : 1982 ،‬‬ ‫‪ -2‬باري‪ ،‬روبرت‪� www.globalresearch.ca، 24 ،‬آذار ‪.2013‬‬ ‫‪ -3‬امل�صدر نف�سه‪.‬‬ ‫‪76‬‬


‫فـلـ�سـطـيـن‬

‫كحالة خا�صة‪" ،‬حيث �إن احلكومة الإ�سرائيلية قامت بتنفيذ مهمة �سوداء ومر ّوعة‪ ،‬على وجه‬ ‫اخل�صو�ص"‪ .‬الدكتور بندا‪� ،‬أو "الأب"‪ ،‬والذي حكم هذه الدولة منذ ا�ستقاللها‪ ،‬كان �صديقاً‬ ‫وفياً وعلى العلن لنظام الف�صل العن�صري يف جنوب �أفريقيا‪ .‬و ّمما قاله �شاحاك يف حالة مالوي‪:‬‬ ‫ولكن ما مي ّيزه [�أي نظام بندا يف مالوي] على وجه اخل�صو�ص �أن جرائم القتل والتعذيب التي‬ ‫كانت تطال معار�ضي الدكتور بندا كانت تنفذ من قبل ال�صبيان‪� .‬إن حركة ال�شباب احلكومية‪،‬‬ ‫والتي مت ت�أ�سي�سها مب�ساعدة م�ست�شارين من الغدناع والناحال (تكوينات ع�سكرية و�شبه ع�سكرية‬ ‫�إ�سرائيلية)‪ ،‬ا�ستعملت ك�آلية الطاغية اخلا�صة لقتل معار�ضيه ال�سيا�سيني‪ ،‬ولإرهاب العمال‬ ‫بوا�سطة جلدهم‪ ،‬وتعذيب �أي �شخ�ص يجر�ؤ على ال�شك باحلكمة الإلهية "لأب" ال�شعب‪،‬‬ ‫الدكتور بندا‪ .‬ما زال حتى هذا اليوم [‪ ]1981‬امل�ست�شارون الإ�سرائيليون يد ّربون "حركة‬ ‫رغم �أنه من غري املعروف ما هي طبيعة هذا التدريب‪ .‬ولكن ال�صحافة‬ ‫ال�شبيبة" يف مالوي‪َ ،‬‬ ‫‪1‬‬ ‫الإ�سرائيلية ت�صفه ب�أنه �شيء �شبيه للغدناع والناحال‪[ .‬حذف من الرقابة الع�سكرية]‪.‬‬ ‫بخ�صو�ص عالقة "التعاون" بني �إ�سرائيل ونظام الف�صل العن�صري يف جنوب �أفريقيا‪ ،‬فرتكيز‬ ‫�شاحاك هنا هو مثبت على ثالثة م�ستويات‪ .‬لقد �أظهر كيف �أنه يف البداية ويف ثالثينيات القرن‬ ‫املا�ضي "كانت جنوب �أفريقيا تقدم دعمها للفئات الأكرث تطرفاً داخل احلركة ال�صهيونية"‪.‬‬ ‫ومنذ �إقامة �إ�سرائيل كدولة ن�ش�أت �صداقة "ر�سمية" بني �إ�سرائيل ونظام الف�صل العن�صري يف‬ ‫جنوب �أفريقيا؛ وقد اعتمدت هذه العالقة على ثالثة جماالت مهمة‪" :‬التعاون االقت�صادي"‪،‬‬ ‫"التعاون ال�صناعي"‪ ،‬و"التعاون ال�سيا�سي"‪ .‬وقد وثّق �شاحاك كل واحد من هذه املجاالت‪،‬‬ ‫‪2‬‬ ‫بو�ضوح ومبنتهى التف�صيل‪� ،‬ضمن ما �سمحت به "الرقابة الع�سكرية"‪.‬‬ ‫ج ‪ -‬القارة الآ�سيوية‬

‫ا�ستعر�ض �شاحاك بيع �إ�سرائيل للأ�سلحة يف هذه القارة بالرتكيز على تايالند وتايوان و�سنغافورة‬ ‫و�إيران حتت حكم ال�شاه‪.‬‬ ‫بالن�سبة لتايالند‪ ،‬ففي العام ‪ ،1976‬وحا ًال بعد �أن قام اجلي�ش التايالندي "بانقالب بربري وثورة‬ ‫م�ضادة دموية"‪ ،‬ن ّوه �شاحاك لقرائه الإ�سرائيليني اليهود ب�أن وفداً ر�سم ّياً تايالندياً قد زار �إ�سرائيل‬ ‫لأيام عدة‪ .‬ورغم �أ ّنه مل ُي�سمح لل�صحافة الإ�سرائيلية �أن تك�شف عن زيارة هذا الوفد وعن‬ ‫�أهدافها‪� ،‬إال �أن ال�صحافة الأمريكية ك�شفت ب�أن "حوايل ‪� 20‬ألف من بنادق "اجلليل"‪ ،‬وعدداً‬ ‫غري معروف من الأوزي" �أُ ِر�سلت �إىل تايالند يف �أعقاب تلك الزيارة‪.‬‬ ‫‪ -1‬امل�صدر نف�سه‪.25 - 24 :‬‬ ‫‪ -2‬امل�صدر نف�سه‪.26 :‬‬ ‫‪77‬‬


‫"�أقرب عالقات لإ�سرائيل يف �آ�سيا ‪ ...‬هي مع تايوان"‪� ،‬إذ �إنّ هناك تقارير تفيد ببيع "�صواريخ‬ ‫الغابريل البحرية" �إ�ضافة �إىل تعاون "يف تطوير �أنواع �أخرى من الأ�سلحة"‪� .‬أما العالقات بني‬ ‫�إ�سرائيل و�سنغافورة يف هذا املجال فركزت على تدريب ع�سكري �إ�سرائيلي لوحدات من‬ ‫القوات امل�سلحة يف اجلي�ش ال�سنغافوري‪ .‬كما �أن عالقات مثيلة كانت تتط ّور مع كوريا اجلنوبية‬ ‫‪1‬‬ ‫والفليبني‪.‬‬ ‫لكن عالقات �إ�سرائيل املت�ش ّعبة ومتعددة اجلوانب كانت يف تلك الفرتة مع نظام ال�شاه يف‬ ‫�إيران‪ .‬ولقيت هذه العالقات تغطية �صحافية مف�صلة‪ ،‬كما �أن ال�صحافة الإ�سرائيلية العربية نقلت‬ ‫كثرياً من التقارير حول العالقة بني املو�ساد وال�سافاك ( جهاز املخابرات ال�سري الإيراين)‪،‬‬ ‫متخ�ص�صني يف التدريب على "الأ�ساليب النازية يف‬ ‫وحول �إر�سال "م�ست�شارين" �إ�سرائيليني ّ‬ ‫التعذيب" �إىل �إيران‪� ،‬إىل ما غري ذلك‪ .‬وعلى �ضوء انزعاج �شاحاك من املقاالت والتقارير التي‬ ‫قر�أها حول هذه العالقة "اخلا�صة" مع ال�شاه‪ ،‬كتب مت�أم ًال‪:‬‬ ‫التجمع‬ ‫تتط ّلب هذه احلالة تركيزاً وجمهوداً مم ّيزاً لفهم ما يحدث‪� .‬إ�سرائيل حتت قيادة حزب ّ‬ ‫[العمل]‪ ،‬كما حتت قيادة الليكود‪ ،‬مل تطور فقط عالقات �صداقة مع نظام التعذيب الذي‬ ‫امت�ص كل ثروات البلد واحتفظ بها يف �أيدي العائلة‬ ‫ي�ستعمل الو�سائل النازية؛ مع النظام الذي ّ‬ ‫املالكة‪ ،‬بل �إن �إ�سرائيل ا�ستغ ّلت ت�أثريها ال�سيا�سي و�سط يهود العامل لكي ت�ساعد هذا النظام يف‬ ‫‪2‬‬ ‫تكثيف التعذيب والقمع‪.‬‬ ‫لقد عبرّ �شاحاك عن ذعره وامتعا�ضه من الوقع ال�سلبي على املجتمع الإ�سرائيلي للتزايد‬ ‫املت�صاعد يف بيع الأ�سلحة الإ�سرائيلية وت�صدير "اخلرباء" �إىل الأنظمة القمعية‪ .‬ففي فرتة‬ ‫�سنتني فقط‪ ،1980 - 1978 ،‬ارتفع حجم ت�صدير الأ�سلحة الإ�سرائيل ّية بحوايل ‪ 341‬باملئة‪" .‬هذه‬ ‫املعطيات"‪ ،‬كتب �شاحاك‪" ،‬مذهلة لي�س فقط حلجمها‪ ،‬بل لأنها تدلل على عمليتني متوازيتني‪:‬‬ ‫الدور العاملي للم�ؤ�س�سة الإ�سرائيلية‪ ،‬والتغيرّ ات االجتماعية العميقة التي �سيحدثها هذا الدور‬ ‫يف املجتمع ال‬ ‫إ�سرائيلي"‪ .‬كما ردد �شاحاك �صدى الإنذار الذي حذرت منه �صحيفة ه�آرت�س‬ ‫ّ‬ ‫"حول املخاطر الناجمة من خلق طبقة من ال�ضباط"‪ .‬وا�ستنتج با�ضطراد "�أنه لي�س من ال�صعب‬ ‫الإدراك �أنّ هذه التطورات ت�سري يداً بيد لي�س فقط مع االحتالل‪ ،‬ولكن �أي�ضاً مع انغما�س‬ ‫إ�سرائيلي عميق ‪ ...‬يف بيع الأ�سلحة للأنظمة الأكرث ظغياناً‪ ... .‬ال يوجد �أي �شك ب�أن اجلرناالت‬ ‫�‬ ‫ّ‬ ‫الذين يزورون الأرجنتني وت�شيلي‪ ،‬و�أ�صدقاء رئي�س ال�سافاك يف �إيران مل يد ّربوا و ُي َع ِّلموا فقط‪ ،‬بل‬ ‫‪ -1‬امل�صدر نف�سه‪.32 - 30 :‬‬ ‫‪ -2‬امل�صدر نف�سه‪.34 :‬‬ ‫‪78‬‬


‫فـلـ�سـطـيـن‬

‫تع ّلموا الكثري‪ .‬والذي تع ّلموه �سيطبقونه �أو ًال يف املناطق املحتلة‪ ،‬ومن ثم يف �إ�سرائيل"‪.‬‬

‫‪1‬‬

‫يف "مالحظته اال�ستنتاجية ‪ 16 -‬حزيران ‪ "1981‬للطبعة الإجنليزية التي ن�شرت يف العام‬ ‫يف الواليات املتحدة (م�صدر ‪� 50‬أعاله)‪ ،‬ي�شرح �شاحاك تربيره لن�شر هذا املقال بالإجنليزية للعامل‬ ‫اخلارجي‪:‬‬ ‫املقال املرتجم هنا �إىل الإجنليزية كتب �أ�ص ًال بالعربية للجمهور اليهودي الإ�سرائيلي‪ ،‬وبالتايل‬ ‫ف�إن عدداً من الق�ضايا املهمة حذفت لأنها وا�ضحة بالن�سبة لذلك اجلمهور‪� .‬أما بالن�سبة للجمهور‬ ‫خارج �إ�سرائيل‪ ،‬ف�أو ّد �أن �أذكر ق�ضيتني رئي�سيتني ت�ساعدان يف �شرح كيف �ستحقق �إ�سرائيل‬ ‫دورها العاملي املذكور �أعاله‪ .‬هاتان الق�ضيتان هما‪ :‬الأوىل‪ ،‬دعم اليهود خارج �إ�سرائيل لها‪،‬‬ ‫والثانية‪ ،‬ال�صمت امل�شني لكثري من الأ�شخا�ص (يهوداً كانوا �أم ال) الذين يعتربون �أنف�سهم‬ ‫"تقدميني" (يف الواليات املتحدة هم "متطرفون" �أو "على ي�سار املركز")‪ ،‬ولكنهم ينقلبون‬ ‫‪2‬‬ ‫لي�صبحوا �أ�سو�أ من املحافظني يف اجلناح اليميني حينما يتعلق املو�ضوع ب�إ�سرائيل‪.‬‬

‫‪1982‬‬

‫ومن ثم تد ّرج �شاحاك ليو�ضح عن �أي يهود خارج �إ�سرائيل يتكلم‪ .‬وحدد �أنه "ب�شكل عام‪،‬‬ ‫يوجد نوعان من اليهود يف الغرب‪� :‬أولئك الذين �إىل حد ما اندجموا بنجاح يف جمتمعاتهم‬ ‫["اليهود ّ‬ ‫املنظمني"]‪ ،‬و�أولئك الذين يحافظون على "حياة يهودية" اجتماعياً‪ ... .‬يف كل‬ ‫الأحوال‪ ،‬يبدو �أن "اليهود املنظمني" يدعمون الآن دولة �إ�سرائيل يف كل �شيء ي�شمل حتقيق‬ ‫‪3‬‬ ‫�أرباح من مذابح النا�س الأبرياء"‪.‬‬ ‫يف هذا ال�سياق‪ ،‬يربز �شاحاك م�شكلة النفاق التي مت ّيز تعامل الغرب مع �إ�سرائيل و�أعمالها‪ .‬ويف‬ ‫ي�سمى "بالي�ساريني"‪:‬‬ ‫ا�ستنتاجه لهذا املقال‪ ،‬ال يرتدد �شاحاك يف توبيخ الر�أي العام الغربي وما ّ‬ ‫باخت�صار‪ ،‬يواجه الإن�سان احلقيقة اجللية كيف �أن الر�أي العام الغربي‪ ،‬بجبنه‪ ،‬يدعم تلك‬ ‫الأن�شطة؛ والأكرث من ذلك‪ ،‬التناق�ض الوا�ضح كيف �أن �أولئك الذين يدعمون الإرهاب‬ ‫واملجازر اجلماعية‪ ،‬ما دامت هذه الأعمال تنفذ من قبل دولة �إ�سرائيل‪ ،‬يتظاهرون يف الوقت‬ ‫"يكر�سون �أنف�سهم حلقوق الإن�سان"‪� ،‬أو "ليرباليني"‪� ،‬أو "ا�شرتاكيني" بينما هم يف‬ ‫ذاته ك�أنا�س ّ‬ ‫ت�صرفاتهم جتاه ال�سلفادوريني والفل�سطينيني‪ ... .‬وت�سود هذه‬ ‫احلقيقة قريبون جداً من النازية يف ّ‬ ‫�سمى "الي�سار" ‪� . ...‬إنّ معار�ضة "الي�ساريني" ملناق�شة‬ ‫الظاهرة على وجه اخل�صو�ص بني ما ُي ّ‬ ‫امل�شاكل "الإ�سرائيلية" علناً �أ�صبحت الآن برهاناً وا�ضحاً على انحطاط �أغلبية "الي�سار"؛ �إذ‬ ‫‪ -1‬امل�صدر نف�سه‪.38 - 37 :‬‬ ‫‪ -2‬امل�صدر نف�سه‪.39 :‬‬ ‫‪ -3‬امل�صدر نف�سه‪.40 - 39 :‬‬ ‫‪79‬‬


‫�إنّ البديل املثري لال�شمئزاز هو �أن يقولوا ب�شكل �شخ�صي وم�سترت‪�" ،‬أنا �آ�سف لأن هذا حدث‬ ‫لليهود (�أو �إ�سرائيل)‪ ،‬لأنني �أحبهم جداً ولهذا فال �أقولها علناً"‪� ...‬أما "الربهان" الأف�ضل‬ ‫فيكمن يف حقيقة كون �أغلبية املهنيني "املناه�ضني لل�ستالينية" هم الأ�سو�أ بهذا اخل�صو�ص‪،‬‬ ‫والذي ي�شري بالطبع �إىل �أنهم ا�ستبدلوا �ستالني ب�آخر جمعي‪ ... .‬لكن النقطة يجب �أن ُتقال‬ ‫احلر لق�ضايا �سيا�سية مهمة يهدد القاعدة الأ�سا�سية للدميقراطية‪� .‬ش�ؤون‬ ‫بو�ضوح‪ :‬غياب النقا�ش ّ‬ ‫الدولة هي "�شيء عام"‪� .‬أولئك الذين ي�سمحون لهذا املبد�أ ب�أن ينتهك هم لي�سوا "�أ�صدقاء‬ ‫لليهود"‪ ،‬كما يدعون‪ ،‬ولي�سوا �أ�صدقاء للحرية يف بالدهم‪ ،‬و�إذا كانوا من "الي�سار" فجرميتهم‬ ‫‪1‬‬ ‫�أكرب بكثري‪.‬‬ ‫بعد ب�ضع �سنوات‪ ،‬يف العام ‪ ،1992‬ن�شر �شاحاك مقالة بعنوان "�أهداف �إ�سرائيل اال�سرتاتيجية‬ ‫والأ�سلحة النووية"‪ ،‬و�أحلقها فيما بعد لت�صبح الف�صل الثاين من كتابه "�أ�سرار مك�شوفة"‪ 2.‬يف‬ ‫هذه املقالة كان �شاحاك مبا�شراً ووا�ضحاً �أكرث يف ت�شخي�صه ملا جنم عن تلك العمليات التي حللها‬ ‫يف �أواخر ال�سبعينيات وبدايات الثمانينيات‪ .‬ف�أعلن "‪ ...‬ما �أعتربه الأهداف احلقيقية لل�سيا�سات‬ ‫الإ�سرائيلية [هي] ت�أ�سي�س هيمنة على منطقة ال�شرق الأو�سط ب�أكملها‪" ،‬تر�سيخ" الأنظمة التي‬ ‫التقدم الإ�سرائيلي نحو ذلك الهدف‪ ،‬و�إمكانية ا�ستعمال الأ�سلحة النووية لهذا‬ ‫ال تزعج كثرياً ّ‬ ‫‪3‬‬ ‫الغر�ض"‪.‬‬ ‫أ�صر �شاحاك �أن ُي َذ ِّك َر �أولئك‬ ‫وعلى �ضوء هذه اال�سرتاتيجيات الإ�سرائيلية ‪ -‬ال�صهيونية املحددة‪ّ � ،‬‬ ‫الذين ال يقر�أون ال�صحافة الإ�سرائيلية‪ ،‬ب�أنه‪:‬‬ ‫بتوجهها‪ ،‬يبقى اهتمامها بالفل�سطينيني ثانوياً‪.‬‬ ‫إقليمية ّ‬ ‫مبا �أن ا�سرتاتيجيات �إ�سرائيل هي � ّ‬ ‫باملرة‪ .‬وتباعاً لذلك ما‬ ‫احلقيقة هي �أنّ قمع الفل�سطينيني ال ّ‬ ‫يهم اال�سرتاتيجيني الإ�سرائيليني ّ‬ ‫اال�سرتاتيجية‬ ‫م�سمى "حل الق�ضية الفل�سطينية" ‪ ...‬ال ميكن �أن ي�أتي بال�سالم‪ ،‬لأن‬ ‫يقع حتت ّ‬ ‫ّ‬ ‫إ�سرائيلية تهدف �إىل ت�أ�سي�س هيمنة على كامل ال�شرق الأو�سط‪ ،‬من منظور امتداده من‬ ‫ال‬ ‫ّ‬ ‫التو�سع الإ�سرائيلي يف فر�ض هيمنة‬ ‫الهند �إىل موريتانيا‪ .‬فبكل ت�أكيد‪� ،‬إن ال�ضحية الأوىل لهذا ّ‬ ‫كهذه هي ال�شعب الفل�سطيني‪� ... .‬إن فر�ض الهيمنة على منطقة ال�شرق الأو�سط ب�أكملها‬ ‫يحظى باهتمام �أكرب يف التفكري اال�سرتاتيجي الإ�سرائيلي من ت�أبيد الت�س ّلط اليهودي على‬ ‫كامل �أر�ض �إ�سرائيل‪ ،‬بالرغم من الإفراط يف تر�سيم حدودها‪[ 4.‬الت�أكيد م�ضاف]‪.‬‬ ‫‪ -1‬امل�صدر نف�سه‪.41 - 40 :‬‬ ‫‪� -2‬شاحاك‪� ،‬إ�سرائيل‪� ،‬أ�سرار مك�شوفة‪� :‬سيا�سات �إ�سرائيل النووية واخلارجية‪ ،‬لندن‪ :‬بلوتو بر�س‪.1997 ،‬‬ ‫‪ -3‬امل�صدر نف�سه‪.31 :‬‬ ‫‪ -4‬امل�صدر نف�سه‪ .32 - 31 :‬‬ ‫‪80‬‬


‫فـلـ�سـطـيـن‬

‫ت�أكيداً على حقيقة �أهداف �إ�سرائيل اال�سرتاتيجية‪ ،‬يطرح �شاحاك بكل و�ضوح نقتطني‪ :‬الأوىل‪،‬‬ ‫يف �سعيها لتحقيق الأهداف اال�سرتاتيجية الإ�سرائيلية الفعلية‪ ،‬تخ�سر الق�ضية الفل�سطينية‬ ‫�إحلاحها؛ والثانية‪� ،‬أنّ "اجلمهور الأمريكي يجب �أن ُيخدع بنجاعة مبا يخ�ص الأهداف‬ ‫‪1‬‬ ‫اال�سرتاتيجية الإ�سرائيلية احلقيقية"‪.‬‬

‫‪ -1‬امل�صدر نف�سه‪.40 :‬‬ ‫‪81‬‬



‫�شوقي �أبي �شقرا ‪� -‬شاعر و�صحايف‬ ‫(خ�ص ال�شاعر �شوقي �أبي �شقرا جملة "حتوالت م�شرقية" بهذا الن�ص عن �شعراء‬ ‫فل�سطني يف بريوت (حممود دروي�ش ومعني ب�سي�سو) وتلك العالقة التي جمعتهم‬ ‫بالوهج والثورة وال�شعر)‪.‬‬ ‫[‪]1‬‬ ‫ال�صفحة الثقافية يف جريدة "النهار" كانت يل الروح والكيان‪ ،‬وكانت على خميلتي االتكال‬ ‫والقب�ض على اجليد وعلى امل�سكني‪ ،‬ويف ما يخطر على الأر�ض وعلى �شتى الأمكنة‪ ،‬و�أنا لها‬ ‫ذلك الزارع وذلك املنجل وذلك احل�صاد الذي ال يغيب والذي يعطي نف�سه ويعطي �أفكاره‬ ‫يف الف�صول جمعاء‪.‬‬ ‫وحتى يف احلرب القائمة �آنذاك كانت القطار وال �ضرورة لل�سكة‪ ،‬لأن القلم كان القيم وكان‬ ‫ينوب عن اخلطر وعن ال�شرود‪ ،‬وكان يف املنزلة الواحدة ويف املنزلتني‪.‬‬ ‫وهي و�أنا عري�س وعرو�س ونحن ن�ضيء ال�ساحة بامل�صباح العجيب بالكلمة التي تغزل املعنى‬ ‫وتلتف اخليطان بني �أ�صابعي‪ ،‬وبني الأ�صابع الأخرى قادمة من فل�سطني ومن العراق ومن‬ ‫العروبة بعيدة �أو قريبة‪ .‬وكنا نحن احلرا�س على الباب‪ ،‬على النوافذ وعلى املقاعد التي هي‬ ‫يف ترحاب طويل مبن ي�أتي الديار‪ ،‬من ي�أتي الغرفة حيث �أجل�س وعلى الطاولة جنون الأوراق‪،‬‬ ‫وجنون الدفاتر وجنون العمل الذي ي�أخذنا �إىل فوق و�إىل كل ظالم وكل مطرح حيث الثمرة يف‬ ‫ن�سر ال�ضيوف واملتعبني الذين نحن‬ ‫�صحنها املالئم وحيث علي وعلى الآخرين من رفاقي‪� ،‬أن ّ‬ ‫ن�ساهم يف احلركة ون�سهم يف ال�شفاء ونذبح لهم العجل امل�سمن‪ ،‬وبارقة الأمل ب�أننا هكذا نحن يف‬ ‫ملء الواجب ويف املقام الطيب‪ ،‬ليكونوا يف رحابة الرجاء و�أن الأمور ال�صعبة حتلو وك�أ�س الأيام‬ ‫�أحلى‪ .‬وكان الإقبال العروبي على غرفتي وعلى قلمي وعلى امل�ساحة التي يل حتى �أن ن�صري‬ ‫�إىل الأمام و�أن نك�سر ال�صخرة وال ما يدعو �إىل �أن نحملها وندحرجها طلوعاً ونزو ًال‪.‬‬ ‫وهذه ال�صخرة هي التي نزيحها قليالً‪ ،‬والتي تتحدانا �أن نرفعها و�أن نخلدها‪ .‬لأنها العذوبة‬ ‫حيناً وامل�شكلة حيناً‪ .‬ولأنها انوجدت لكل �شاعر وكل كاتب وكل فنان‪ .‬وعلى ال�صاحلني‬ ‫‪83‬‬

‫فـلـ�سـطـيـن‬

‫�شعراء فل�سطني وبريوت وال�شعر عالقة الوهج‬


‫وعلى امللهمني �أن يح�سبوا �أنها الكرة و�أن من الأجوبة ومن احللول �أن نلبطها �أو ان تكون على‬ ‫جانب الغرفة حيث �أنا وحيث الوحي يل يدفعني �إىل �أن �أظنها �أنها احل�صان و�أنها مركبتي‪ .‬ويف‬ ‫الربنامج املزدحم‪� ،‬أنها تتيح يل القعود على ر�أ�سها على بطنها‪ ،‬و�أنا �أرك�ض من ثم من نقطة يف‬ ‫الكتاب يف ال�سطور �إىل نقطة هي يف احلياة ويف انتظاري و�أن يكون غريي مرتاحاً‪.‬‬ ‫[‪]2‬‬ ‫ويل �أن �أقول و�أن ان�صرف من �سريرة �إىل �سريرة ومن خاطرة من �س�ؤال �إىل نف�سي امل�ضطربة‪.‬‬ ‫جمرة التحديات وال�صداقات‪.‬‬ ‫وتارة هي احلزن وتارة هي الأفراح وهي ّ‬ ‫وكان حممود دروي�ش الراحل منذ �أمد من ال�سنني‪ ،‬هو ال�صديق وهو ال�صلة املديدة وامل�ستقيمة‬ ‫بالبالد‪ ،‬مبوطنه فل�سطني‪ .‬وكنا على ٍود متبادل وعلى مودة ناعمة تتبىء يف البال ويف ال�صدور‬ ‫وتثلج العالقة التي هي ما بيننا‪ ،‬نوع من التقدير ومن اللزوميات اجلميلة‪.‬‬ ‫وقال يل ذات مرة على الهاتف مرحباً وفق ذلك و�ألطف من ذلك‪ .‬وقال �أي�ضاً �أنه ميلك ق�صيدة‬ ‫جديدة‪ ،‬ت�ضاف �إىل �أمالكه و�إىل حقوله اخل�صبة‪ .‬وقال يل �أنه يريدها على ال�صفحة الأوىل من‬ ‫جريدة "النهار" يف بريوت‪.‬‬ ‫وحممود دروي�ش �شاعر البالد‪� ،‬شاعر ال�شرق والوطن اجلاثم عليه ذلك العدو‪� ،‬أمنا يربح الفائدة‬ ‫من �صوته‪ ،‬من قيثارته كلما وقف خطيباً‪ .‬وكلما كان هو يف �أ�صله ويف �أخالقه‪ ،‬ذلك الرنان‬ ‫وذلك ال�صدى وتلك اله�ضاب والأودية‪ .‬و�أمنا كل مرة يف موقعه هذا‪ ،‬كان يبلغ العلى ويبلغ‬ ‫�آخر الأدراج و�أخر الرياح‪ .‬بل كان هو الرياح والعا�صفة وكان املنطلق مع هبوب الثورة مع‬ ‫بع�ض ال�شعراء من خالنه‪ ،‬كانوا مع ُا قناديل وال�سفن التي عليها هم وق�صائدهم هي التي تبحر‬ ‫يف الذاكرة ويف القلوب ويف الأذهان العطا�ش �إىل الكلمة التي تتفوق والتي تهز املروحة‬ ‫ويهبط علينا كثري من الغذاء‪ ،‬من االنفتاح على الدرو�س التي يلقونها وت�صمد يف التاريخ‬ ‫املعا�صر‪.‬‬ ‫وال�شك �أن معني ب�سي�سو هو اي�ضاً من القافلة الثائرة‪ ،‬وحيث الغ�ضب ي�سطع يف الأطر طر�أ‪.‬‬ ‫وحيث ال احد �إال ال�شعراء من يدرون كيف ت�ؤخذ احلقوق وكيف يكون الن�ضال وكيف �أننا‬ ‫نذهب �إليهم‪� ،‬إىل نتاجهم‪ ،‬ونحن �سعيدون ب�أن املنا�سبات تنقلب من جافة �إىل عظيمة الت�أثري‪.‬‬ ‫[‪]3‬‬ ‫ونحن نرتفع معها‪ ،‬مع الن�صو�ص التي تدل على الطريق على الوجهة على الأر�ض التي هي‬ ‫يف الوح�شة الدامية‪ .‬وال �شك �أن معني ب�سي�سو ال�صديق و�أمثاله املتعددين‪ ،‬وهو كذلك من‬ ‫الذين �صرخوا وكانوا جميعاً يف �صدد النهو�ض من اخليبة‪ ،‬من اخليبات‪ .‬وهم يكادون يكونون‬ ‫‪84‬‬


‫فـلـ�سـطـيـن‬

‫الذين �سجلوا وكتبوا جلّ التاريخ ‪ ،‬جلّ امللحمة‪ .‬وازدانوا بالف�ضائل املهاجمة والتي ال تنق�ضي‬ ‫يف جب الن�سيان ويف بئر االهمال‪ .‬بل يجب �أن تكمل الأجيال طموحات �أولئك ال�شعراء‬ ‫والك ّتاب الذين واحداً واحداً زاروين وغلبوا ال�صخرة و�أزاحوها على قدر ما ا�ستطاعوا وما فتئوا‬ ‫يفعلون ويلعبون لعبة املجد‪ ،‬حتى الو�صول حتى القطاف‪.‬‬ ‫و�سوف تكون العودة التي غناها العاملون يف الكلمة ويف القافية‪ ،‬يف �صلب احلروف‪.‬‬ ‫ويف و�سط العقد كما هي الياقوتة‪ ،‬ووهج الفرادة العامرة الإيوان‪.‬‬

‫‪85‬‬



‫فـلـ�سـطـيـن‬

‫غياب ال�شاعر �أحمد من�صور‬ ‫�سليمان بختي ‪ -‬نا�شر وباحث‬ ‫غاب ال�صديق �أحمد من�صور ال�شاعر‪ ،‬ومدير مكتبة الأمري �شكيب �أر�سالن الدولية عن عاملنا‪.‬‬ ‫وقع من على منرب مكتبة بعقلني �أثناء �إلقاء كلمته‪ .‬ومثله ال ميوت �إال فوق املنرب �أو بني الكتب‪.‬‬ ‫ولد يف حا�صبيا وتابع درا�سته اجلامعية يف ق�سم الآداب بجامعة ال�سوربون‪ ،‬باري�س‪ .‬عا�ش ردحاً‬ ‫من حياته يف فنزويال ويف القاهرة ويف باري�س‪� .‬أحب �أحمد من�صور القراءة و�أهدى مكتبته‬ ‫ال�ضخمة التي ناهز عدد الكتب فيها ‪� 12‬ألفاً كتاباً �إىل مكتبة الأمري �شكيب �أر�سالن الدولية‪.‬‬ ‫كان دائم احل�ضور يف الندوات واللقاءات الثقافية‪ .‬كتب املقاالت والق�صائد للأهرام والقد�س‬ ‫العربي والنهار وال�سفري والأنباء وال�شراع‪ .‬كما خ�ص جملة "حتوالت م�شرقية" ببع�ض املقاالت‬ ‫والأبحاث‪� .‬سنفتقد حما�سته للكلمة واملوقف‪� .‬سنفتقد لهفته لأجل الإن�سان والكتابة والثقافة‪.‬‬ ‫�أو�صانا يف لقاء �أخري عندما علم �أن حمور العدد عن فل�سطني �أن يكون كتابه "حبة تراب من‬ ‫غزة" هدية مع العدد‪ .‬و�أحب �أن ق�صيدته "حبة تراب من غزة" م�ساهمته يف ملف فل�سطني‪.‬‬ ‫ل��ه العدي��د من امل�ؤلف��ات ال�شعرية والكت��ب نذكر منه��ا‪" :‬جغرافي��ا الأمل" (‪" ،1975‬وجرد‬ ‫جناح��ك" (‪ ،)1995‬و"معلق��ة ال�شم���س" (‪ ،)2000‬و"ال�سمفونية اخلال��دة" (‪ ،)2003‬و"مدار‬ ‫ال�شم�س" (‪ ،)2013‬و"حبة تراب من غزة" (‪.)2015‬‬ ‫إالم لبنان على كف‬ ‫كان يعمل يف الأيام الأخرية على جمع مقاالته يف كتاب بعنوان " � َّ‬ ‫عفريت"‪� .‬سنظل نذكر �أحمد من�صور بالكلمة واملوقف والق�صيدة والكتاب واملكتبة‬ ‫املرجوة وال�صداقة والنه�ضة والتقدم‪ .‬فقد كانت �أحالمه كلها تنب�ض وتعي�ش يف ظالل هذه‬ ‫الكلمات‪ .‬ويلي مقاطع من ق�صيدته‪:‬‬ ‫"حبة تراب من غزة"‬ ‫"�إىل غزة العني التي �صمدت �أمام خمارز الأر�ض"‬ ‫"من حوار بني فل�سطيني و�إ�سرائيلية جرى يف جامعة ال�سوربون منذ �أكرث من ربع قرن"‬ ‫‪87‬‬


‫يف �سويعات قليله‬ ‫وطويلة‬ ‫وثقيلة‬ ‫�سوف ُير�سيني ا ّجلوى فوق البال ْد‬ ‫أعطاف الأعايل‬ ‫ن�سم ًة ترتا ُد � َ‬ ‫ِ‬ ‫الربتقال‬ ‫هم�س ًة يف موج بحر‬ ‫ِ‬ ‫اجلمال‬ ‫مل�س ًة تن�ساب يف ُر�ؤيا‬ ‫بعد �أن ذاب الف�ؤا ْد‬ ‫ٍ‬ ‫ا�شتياق وابتعا ْد‬ ‫يف نيارينِ‬ ‫ما �س ُتو�صي للبال ْد؟‬ ‫‪V‬‬ ‫�شئت من ِ‬ ‫�إهزئي ما ِ‬ ‫رعد ال�س�ؤالْ‬ ‫�صاعقاً دوى ويدوي‬ ‫ال �س�ؤالْ‬ ‫يف حميطات املحالْ‬ ‫�شم�س وظاللْ‬ ‫مثلما يف الكون ٌ‬ ‫وجنو ٌم وجبالْ‬ ‫ونها ٌر وليالْ‬ ‫حوا�س‬ ‫خم�س من ْ‬ ‫مثلما يف الإن�س ٌ‬ ‫نا�س‬ ‫مثلما يف البرّ ْ‬ ‫من طنيٍ وما ْء‬ ‫مثلما الإن�سانُ ْ‬ ‫مثلما الإن�سان يحيا بالهوا ْء‬ ‫‪88‬‬


‫فـلـ�سـطـيـن‬

‫مثلما الإن�سان ينمو بال�ضيا ْء‬ ‫ني ب�صدري رئتي‬ ‫ففل�سط ُ‬ ‫وفل�سطني بعيني ر�ؤيتي‬ ‫وفل�سطني بقلبي ثورتي‬ ‫ِ‬ ‫ؤلق‬ ‫عرو�س مفرقَ‬ ‫ال�شرق ت� ْ‬ ‫وفل�سطني ٌ‬ ‫ِ‬ ‫تعملق‬ ‫ثورة‬ ‫ال�شرق ْ‬ ‫للتحدي‬ ‫وفل�سطني ٍّ‬ ‫حتد ّ‬ ‫العا�صفات‬ ‫تتحدى‬ ‫ْ‬ ‫القا�صفات‬ ‫تت�صدى للربوق‬ ‫ْ‬ ‫يف مرائيكم ت�سابيح ٍ‬ ‫مقال‬ ‫ال حقيق ْة‬ ‫يف مرائيكم تراجيع ٍ‬ ‫جدال‬ ‫لي�س بركاناً �سيجتاح اخلليق ْه‬ ‫هكذا حتيا بالدي‬ ‫يف عيوين و�ضمريي وف�ؤادي‬ ‫�أع ِل ْم ِت الآن ما تعني بالدي؟‬ ‫اجلدار‬ ‫ُعدت وحدي ال�صقاً جلد‬ ‫ْ‬ ‫نا�سياً ر�أ�سي يخطّ الي�أ�س ثلماً‬ ‫الغبار‬ ‫يف ْ‬ ‫القرار‬ ‫فج�أ ًة ج ّن ُ‬ ‫حت يف �صعق ْ‬ ‫"�سوف �أم�ضي �صوب �أر�ضي‬ ‫نار"‬ ‫َ‬ ‫�سهم ْ‬ ‫‪89‬‬


‫�س�أبيع اليو َم �أقالمي وكتبي‬ ‫وثيابي بلْ دمي ْلو �ضاقَ دربي‬ ‫لأ�شاركْ‬ ‫يف املعاركْ‬ ‫هار‬ ‫بني � ٍ‬ ‫أتراب على ِّ‬ ‫مد ال َّن ْ‬ ‫كالقمار‬ ‫وكبا ٍر يف �صغا ٍر‬ ‫ْ‬ ‫رك ُْبنا يذري دم ُه‬ ‫لنحوكَ امللحم ْه‬ ‫الثوري �أ ّال يهزم ْه‬ ‫قد ُر‬ ‫ّ‬ ‫�سادت �أمم ْه‬ ‫قو ٌة يف الأر�ض ْ‬ ‫الكفاح‬ ‫ا�شتق‬ ‫طاملا َّ‬ ‫ْ‬ ‫اجلراح‬ ‫عرب وديان‬ ‫ْ‬ ‫ْلن ي�ساو ْم‬ ‫بل يقاو ْم‬ ‫ويقاو ْم‬ ‫ويقاو ْم‬

‫‪90‬‬


‫فـكــــــــر‬

‫وية الع�رص‬ ‫القومية ُه ّ‬ ‫ّ‬ ‫د‪ .‬حيدر حاج �إ�سماعيل ‪ -‬باحث‬ ‫ال ُه ِو ّية" (ب�ضم الهاء) لي�ست ال َهو ّية (بفتح الهاء) التي راج ا�ستعمالها اخلاطئ للداللة على‬ ‫ال�شخ�ص‪ .‬والتي يفيد معناها احلقيقي البئر البعيدة القعر‪.‬‬ ‫ال ُهو ّية (ب�ضم الهاء) ِمن ُهو‪ .‬ف ُهو ّية الإن�سان الفرد تفيد‪ :‬ما هو؟ و َمن هو؟ ومعناها القامو�سي هو‪:‬‬ ‫"حقيقة ال�شيء �أو ال�شخ�ص التي مت ّيزه عن غريه"‪ 1.‬والبطاقة التي يحملها الإن�سان يف تنقّالته‪،‬‬ ‫�سواء �أكانت بطاقة عاد ّية‪ ،‬تعرف با�سم بطاقة ال ُهو ّية‪� ،‬أو كانت البطاقة التي تعرف با�سم جواز‬ ‫�سفر‪ .‬هما‪ ،‬كلتاهما‪ ،‬ق�صد منهما التعريف ب ُهوية حاملها‪ .‬و�أول التعريف‪ ،‬بل �أهم عنا�صره‪ ،‬بعد‬ ‫ا�سم �صاحب البطاقة‪ ،‬هو الدولة التي هو مواطن فيها‪ ،‬واملجتمع الذي �أ�س�س تلك الدولة‪.‬‬ ‫وملا كان الع�صر الذي نحيا فيه هو ع�صر الأمم والقوميات‪ ،‬ف�إن الهو ّية الع�صرية هي‪ ،‬وبامتياز‪ ،‬ال ُهو ّية‬ ‫القومية‪ .‬لذلك ُيقال‪ ،‬يف تعريف الإن�سان ويكتب ذلك يف بطاقته‪� ،‬إ ّنه بريطاين �أو �أمريكاين �أو‬ ‫فرن�سي �أو �سوري‪ ..‬وغري ذلك مما قارن‪.‬‬ ‫من هنا �أهمية البحث يف القومية‪ ،‬التي هي �أ�سا�س تعريف كلّ �إن�سان يف هذا الزمان‪.‬‬ ‫وجتدر الإ�شارة �إىل �أن بحثنا‪� ،‬سيتناول‪ ،‬وجهات نظر متعار�ضة يف القومية‪ ،‬وذلك حتقيقاً‬ ‫للمو�ضوعية‪ ،‬ثم لأهمية الق�ضية ذاتها‪ ،‬بخا�صة يف هذه الأ ّيام‪ ،‬التي فيها �أفكار عن العوملة‬ ‫‪ Globalization‬منها �أن ظاهرة العوملة قد زعزعت الفكر و�أ�ضعفت �سيادة الدولة القومية‬ ‫وح ّولت حدودها �إىل حدود رخوة‪ ،‬كما قال!‬ ‫العداوة للقومية‬

‫والدمار الذي �سببته يف �أوروبا ب�صورة خا�صة ن�ش�أت نزعة عند �أكرثية‬ ‫بعد احلرب العاملية الثانية ّ‬ ‫الأوروبيني �ضد القومية‪ .‬لقد فهموا القومية مذهباً �أ�صحابه م ّيالون �إىل القتال ومولعون بالعداوة‬ ‫والتو�سع والعن�صرية‪ .‬وكان مثلهم ال�صارخ‪ ،‬طبعاً‪ ،‬النازية والفا�شية العن�صريتني التو�سعيتني‪.‬‬ ‫وجاء التعبري عن االجتاه الأوروبي اجلديد قوياً يف عدد ال ُيح�صى من الكتب واملقاالت‬ ‫‪91‬‬


‫وال�سيا�سات على امل�ستوى الأوروبي والعامل‪ .‬نذكر من ذلك الأدب املعادي للقومية منوذجني‪،‬‬ ‫�أحدهما من غوالنكز ‪ Victor Gollancz‬والثاين من كري�ستيفا ‪� .Julia Kristeva‬أما غوالنكز‬ ‫الذي كان �صاحب دار ن�شر بريطانية فقد �أ�صدر كتاباً (‪ )1952‬عن �سرية حياته على �صورة ر�سالة‬ ‫موجهة �إىل حفيده تيموثي حمل عنوان‪ :‬عزيزي تيموثي‪ ،‬يقول فيه‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫"من بني جميع ال�شرور التي �أكرهها‪� ،‬أفكر ب�أين �أكره القومية الكراهية الأعظم"‪ .‬ويتابع ليقول‪:‬‬ ‫"القومية ‪ -‬الأنانية القومية‪ ،‬تفكري الإن�سان بلغة �أمته ال بلغة الإن�سانية ‪ -‬هذه القومية هي �شر‬ ‫لأنها تركز على �أمور غري جوهرية باملقارنة مع غريها‪( ،‬من مثل وطن الإن�سان‪ ،‬نوع لغته‪ ،‬منط‬ ‫ثقافته‪ ،‬و�صنف "دمه") مهملة اجلوهر الذي هو‪ ،‬بب�ساطة‪� ،‬أنه �إن�سان‪ ...‬القومية جماعة من الب�شر‬ ‫يكرهون جماعة �أخرى بدون �سبب للكراهية‪ ،‬ولو كان �أ�صغر الأ�سباب‪� :‬إنها ت�ؤدي �إىل احل�سد‪،‬‬ ‫‪2‬‬ ‫التو�سع‪ ،‬اال�ضطهاد‪ ،‬النـزاع ويف الأخري‪ ،‬احلرب"‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫النموذج الثاين للموقف ال�سلبي من القومية جنده عند كري�ستيفا ‪ Kristeva‬البلغارية الأ�صل‬ ‫والفرن�سية حالياً واملخت�صة بالتحليل النف�سي ‪ .psychoanalysis‬ففي كتابها ال�صادر العام‬ ‫‪� :1993‬أمم بال قومية‪ ،‬تدعو الكاتبة الأمم ب�صراحة �إىل نبذ القومية‪ .‬ملاذا؟ لأن القومية هي عبادة‬ ‫الأ�صل‪ .‬وعبادة الأ�صول هي ر ّد فعل كاره لأولئك الآخرين الذين ال ي�شاركونني يف �أ�صويل‬ ‫‪3‬‬ ‫علي اقت�صادياً وثقافياً"‪.‬‬ ‫علي �شخ�صياً باالحتقار والإهانة ويعتدون ّ‬ ‫ويعتدون ّ‬ ‫فتعدد الكاتبة منها‪ :‬الهوية البيولوجية‪ ،‬اللغة‪ ،‬الدين واملكان االجتماعي‪،‬‬ ‫�أما الأ�صول ّ‬ ‫‪4‬‬ ‫ال�سيا�سي‪ ،‬التاريخي‪.‬‬ ‫وا�ضح مما تقدم �أن غوالنكز‪ ،‬بعد احلروب الأوروبية‪ ،‬ر�أى �أ�سبابها يف القومية العن�صرية التي‬ ‫تتك�شف‬ ‫مثلتها النازية الأملانية والفا�شية الإيطالية‪ .‬وهذا الر�أي مفهوم وواقعي‪ .‬لكن الأغلوطة ّ‬ ‫عندما جنده مطابقاً مطابقة تامة بني القومية والعن�صرية‪ .‬فهو‪ ،‬مع تقديرنا ملعاناته ومعاناة �شعوب‬ ‫يتج�شم عناء النظر يف نظريات يف القومية مغايرة وغري عدوانية بل متناق�ضة‬ ‫قارته الأوروبية‪ ،‬مل ّ‬ ‫وراف�ضة للعن�صرية‪ .‬نعني‪ ،‬حتديداً‪ ،‬القومية االجتماعية التي و�ضع فكرتها �أنطون �سعاده والتي‬ ‫�سن�أتي على �شرحها يف ما بعد‪.‬‬ ‫نقدنا لغوالنكز ين�سحب على كري�ستيفا التي �ساوت م�ساواة تامة ما بني القومية وعقيدة الأ�صل‪.‬‬ ‫فالقومية هي عقيدة الأ�صل وعبادة الأ�صل وعقيدة الأ�صل وعبادته هي القومية‪ .‬بهذا التحديد‬ ‫اجلامع املانع للقومية �أخرجت من ح�سابها (النظري على الأقل) �إمكان وجود �أفكار قومية‬ ‫خمتلفة غري كارهة للآخرين‪.‬‬ ‫مع ذلك‪ ،‬و�إن�صافاً‪ ،‬نذكر للكاتبة قبولها الوا�ضح بواقع الأمم‪ ،‬وتب ّنيها فكرة مونتي�سكيو‬ ‫‪ Montesquieu‬عن الكونية ‪ cosmopolitanism‬التي تنافح عن حقوق الإن�سان‪ ،‬حيث‬ ‫‪92‬‬


‫فكــــــر‬

‫هو �إن�سان‪ ،‬املتجاوزة حقوق الإن�سان كمواطن‪ .‬وت�سمي هذا التوجه بالرواقية املحدثة‬ ‫‪ Stoicism.5‬وهو التوجه الذي �سنعود �إىل �شرحه يف ما‪ ،‬بعد‪ ،‬عندما نتحدث عن العوملة املناقب ّية‬ ‫عند زينون الرواقي‪.‬‬

‫‪neo‬‬

‫هايز‪ :‬القومية دين �ضد الدين!‬

‫�إن تعبري "القومية" �أول ما ورد يف كتابات الفيل�سوف الأملاين هريدر‬ ‫‪ Herder‬يف العام ‪ 1774‬ومل يبد�أ اال�ستعمال العام له حتى منت�صف القرن التا�سع ع�شر‪.‬‬

‫‪Johann Gottfried‬‬ ‫‪6‬‬

‫وامل�ؤرخ كون ‪( Hans Kohn‬الذي يعترب هو وهايز ‪ Carlton Hayes‬عميدي در�سها احلديث)‬ ‫‪7‬‬ ‫ي�صفها بالقول‪�" ،‬إنها جمرد �شعور جمعي نباتي ‪vegetative".‬‬ ‫�أما امل�ؤرخ الأمريكاين هايز ‪ Hayes‬الذي يعترب �أبرز الدار�سني امل�ؤرخني للقومية فيلفت �إىل‬ ‫حقيقة �أن الأمثلة التاريخية كلها تقريباً �صيغت مبفردات دينية‪ 8.‬ويذكر هايز‪ ،‬مما يذكر‪ ،‬حول‬ ‫عقيدة القومية امل�شابهة للعقيدة الدينية ما يلي‪:‬‬ ‫‪" .1‬القومية �صارت‪ ،‬حقاً‪ ،‬ديناً مع الثوار الفرن�سيني"‪ .‬فقد اعترب "�إعالن حقوق الإن�سان‬ ‫واملواطن"‪ٍ ،‬‬ ‫منذئذ‪ ،‬مبثابة "الكتاب التعليمي القومي" "‪ "The National catechism‬و�إعالن‬ ‫‪9‬‬ ‫ن�ص عليه د�ستور ‪1791.‬‬ ‫الإميان به ّ‬ ‫‪ .2‬ويف حزيران من العام ‪� 1792‬أعلن املجل�س الت�شريعي �أنه يجب على كل كوميونة (بلدية) �أن‬ ‫تقيم مذبحاً لوطن الآباء يحفر عليه "�إعالن احلقوق" بالإ�ضافة �إىل كتابة مفادها �أن "املواطن‬ ‫‪10‬‬ ‫يولد‪ ،‬يعي�ش وميوت من �أجل الوطن ‪La Patrie".‬‬ ‫‪ .3‬وقبل ذلك بعامني يف �سرتا�سبورغ ‪� Strasbourg‬أدخلت طقو�س "العمادة املدنية"‪� .‬أما‬ ‫"الزواج املدين" و"اجلنازات املدنية" فقد �أدخال �إىل احلياة القومية يف ما بعد‪ .‬وهكذا حتى‬ ‫‪11‬‬ ‫�صار للدين اجلديد ت�سبيحه الوطني (ن�شيد) و�صالته و�صومه و�أعياده‪.‬‬ ‫ويذكر هايز‪ ،‬فيما يذكر‪� ،‬أن ماري ‪ -‬جوزيف �شينييه ‪ Marie-Joseph Chenier‬اقرتح يف "امل�ؤمتر‬ ‫القومي" يف ‪ 5‬نوفمرب من العام ‪ 1793‬ت�أ�سي�س دين علماين (ال غريه) ب�صورة ر�سمية‪ ،‬دين‬ ‫الوطن‪ ،‬يكون امل�شرعون ّوعاظه والق�ضاة �أ�ساقفته والأ�سرة ال حترق بخورها �إ ّال على مذبح الوطن‬ ‫‪12‬‬ ‫ورب اجلميع‪.‬‬ ‫الذي هو �أم اجلميع ّ‬ ‫وجتدر الإ�شارة �إىل �أنه‪ ،‬بعد يومني‪� ،‬أعلن للم�ؤمتر مطران باري�س الد�ستوري اعتزاله من من�صبه‪،‬‬ ‫‪13‬‬ ‫كما �أعلن �أنه‪ ،‬بعد اليوم‪ ،‬يجب �أن ال تكون �صالة عامة غري �صالة احلرية وامل�ساواة املقد�سة‪.‬‬ ‫‪93‬‬


‫‪14‬‬

‫وبعد ذلك بثالثة �أيام ت ِّوجت عبادة العقل تتويجاً احتفالياً يف كاتدرائية نوتردام‪.‬‬ ‫طبعاً‪ ،‬ما يق�صده هايز من هذا املثل و�سواه هو التدليل على �أن املناخ العام كان ك�أمنا دين جديد‬ ‫قد ولد مع الثورة الفرن�سية مبد�ؤه الإن�سان ولي�س �سواه يف الأر�ض وال�سماء‪.‬‬ ‫ويعتقد هايز �أن القومية‪ ،‬من حيث هي دين لها وجوه �شبه كثرية مع �أديان املا�ضي العظمى‪،‬‬ ‫‪16‬‬ ‫بخا�صة امل�سيحية‪ 15.‬فهي‪:‬‬ ‫‪ .1‬القومية‪ ،‬مثل �أي دين‪ ،‬ال توفر دوراً للإرادة وحدها‪ ،‬بل للذكاء واخليال والعواطف �أي�ضاً‪.‬‬ ‫‪ .2‬ولأنها �أول ما ظهرت يف ال�شعوب امل�سيحية‪ ،‬لذلك تبنت تقاليد وعادات امل�سيحية‪ .‬الدولة‬ ‫القومية ت�شبه الكني�سة امل�سيحية التي وجدت يف القرون الو�سطى‪ .‬من ذلك‪:‬‬ ‫‪ .1‬مثل تلك الكني�سة‪ ،‬ين�سب للدولة القومية احلديثة مثال �أعلى ‪ ideal‬ور�سالة ‪� .mission‬أما‬ ‫الر�سالة فهي ر�سالة خال�ص ‪ .salvation‬و�أما املثال الأعلى فهو اخللود‪.‬‬ ‫‪ .2‬الأمة �أبدية (ال متوت) وما موت �أبنائها املخل�صني (الأبرار) �إال �إ�ضافة وتعزيز ل�شهرتها‬ ‫وعظمتها‪.‬‬ ‫‪ .3‬وكما يولد الإن�سان تابعاً لكني�سة‪ ،‬فهو الآن يولد تابعاً لدولة قومية‪ .‬والدولة القومية هي الآن‬ ‫التي تتع ّهده وتر ّبيه يف م�ؤ�س�ساتها‪.‬‬ ‫‪ .4‬والع�ضوية يف الدولة القومية �إلزامية ال مهرب منها‪ .‬فال �سبيل للإن�سان لأن ينف�صل عن‬ ‫دولته �إال �سبيل املوت �أو �سبيل الهجرة‪ .‬ويف احلالة الأخرية �سوف تنتهي به الهجرة �إىل الوقوع‬ ‫يف �شباك دولة قومية �أخرى‪.‬‬ ‫‪ .5‬وللدولة القومية احلديثة رموزها كما كان للكني�سة رموزها‪ .‬يذكر هايز من رموز الدولة القومية‬ ‫التي يجب الإميان بها وتقدي�سها‪ :‬العلم والن�شيد‪ .‬فعلى جميع م�ؤ�س�سات الدولة �أن ترفع العلم‬ ‫يف �أعلى �أبنيتها‪ .‬وعلى املواطنني عموماً يف املنا�سبات القومية �أن يتلوا الن�شيد وعلى الطالب‬ ‫خ�صو�صاً �أن ير ّددوه يومياً يف مدار�سهم‪ .‬ويذكر هايز �أن ال�صغار يف الواليات املتحدة الأمريكية‬ ‫ين�شدون‪�" :‬أقطع عهداً على نف�سي بالوالء لعلمنا وللبالد التي ميثلها‪( ،‬نحن) �أمة واحدة‪ ،‬ال‬ ‫‪17‬‬ ‫تتجز�أ (ون�ؤمن) باحلرية والعدالة للجميع"‪.‬‬ ‫واحلج‬ ‫‪ .6‬ومن طقو�س الدولة القومية‪ :‬اال�ستعرا�ضات الر�سمية (الع�سكرية وخالفها) واملواكب ّ‬ ‫�إىل مراكز حمددة‪ .‬كما لها �أعيادها التي حتتفل فيها الأمة كلها يف �أيام معينة من كل عام‪ .‬فهناك‬ ‫عيد اال�ستقالل وعيد احلرية وعيد التحرير وعيد ال�شهداء وعيد العمال وغري ذلك‪ .‬ويذكر‬ ‫هايز‪ ،‬يف ما يذكر‪ ،‬يوم الرابع من متوز يف الواليات املتحدة الأمريكية كمنا�سبة لعيد اال�ستقالل‬ ‫‪94‬‬


‫فكــــــر‬

‫ويرى �أنه مبثابة عيد ميالد قومي ‪.18‬‬

‫‪a nationalist Christmas‬‬

‫‪ .7‬ويرى �أن لكل دولة قومية "الهوتاً" ‪�( theology‬أو ما هو مبثابة الالهوت)‪ .‬يعتمده الأفراد‬ ‫املواطنون يف �سلوكهم‪ ،‬بل عليهم االلتزام به‪ .‬وهذا "الالهوت" م�ؤلف من حكمة الآباء‬ ‫امل�ؤ�س�سني وخطبهم وكتاباتهم ومبادئهم‪ .‬ففي الواليات املتحدة الأمريكية ي�شمل "الهوت"‬ ‫الدولة "الإعالن عن اال�ستقالل" ‪ ،The Declaration of Independence‬الد�ستور ‪The‬‬ ‫‪ ،Constitution‬وخطاب وا�شنطن الوداعي ‪ ،Washington Farewell Address‬وعقيدة مونرو‬ ‫‪19‬‬ ‫‪ The Monroe Doctrine‬وخطب لنكولن ‪Lincoln’s addresses.‬‬ ‫بعد هذا العر�ض الذي ّقدمه هايز ‪ Hayes‬والذي ي�شمل مقارنة مقاربة ما بني القومية (والدولة‬ ‫القومية) والدين (امل�سيحي بخا�صة) والكني�سة‪ ،‬ينهي الف�صل الذي عقده لذلك‪ ،‬الف�صل‬ ‫الذي حمل عنوان‪" :‬القومية كدين"‪ ،‬مب�شابهة بني القومية والقبلية‪ ،‬يقول‪" :‬بالرغم من عمومية‬ ‫املفهوم العام للقومية‪ ،‬ف�إن عبادتها مبن ّية على فكرة قبل ّية"‪ .‬ويتابع قائالً‪�" :‬إن غايتها خري �أمة‬ ‫الإن�سان ولي�س جميع النا�س (الب�شرية كلها)"‪ .‬ويزيد قائالً‪" :‬القومية‪ ،‬كدين‪ ،‬متثل رد فعل �ضد‬ ‫امل�سيحية التاريخية‪� ،‬ضد الر�سالة العاملية للم�سيح‪ .‬القومية تكتنـز الر�سالة القبلية الأوىل‪ ،‬ر�سالة‬ ‫ال�شعب املختار‪ 20"...‬ويق�صد بال�شعب املختار‪ ،‬طبعاً‪ ،‬ال�شعب اليهودي‪.‬‬ ‫�أكرث من ذلك‪ ،‬يعتقد هايز �أن القومية‪ ،‬من حيث هي دين‪ ،‬ال تلقّن الإح�سان والعدالة‪� .‬إنها‬ ‫متعجرفة ال متوا�ضعة وهي خمفقة يف تعميم �أهداف �إن�سانية‪ .‬وهي تعلن جمدداً العقيدة البدائية‪،‬‬ ‫عقيدة �أن العامل يت�أ ّلف‪ ،‬ب�صورة جوهرية �أكرث من املا�ضي‪ ،‬من يهود ويونان‪ .‬هي عقيدة تفريقية‬ ‫‪21‬‬ ‫جوهرها الأنانية القبلية والعظمة الفارغة‪ ،‬وبخا�صة عدم الت�سامح اجلاهل الطغياين واحلرب‪.‬‬ ‫مع ذلك‪ ،‬وبالرغم من نقده الالذع للقومية ودولتها‪ ،‬على النحو الذي تقدم و�صفنا له‪ ،‬ف�إن هايز‬ ‫‪ Hayes‬وجد ح ًال لهذه امل�شكلة وذلك يف خامتة كتابه‪.‬‬ ‫�أما احلل فهو ي�ضعه يف دعوته �إىل قومية خمففة‪ ،‬ملطفة ال تتناق�ض مع العاملية ‪.internationalism‬‬ ‫"احل�ض على تلطيف (النعرة) القومية ون�شر (فكرة) العاملية ال يقلالن من‬ ‫وحتديداً‪ ،‬هو يرى �أن‬ ‫ّ‬ ‫‪22‬‬ ‫تقدير الوطنية ‪ .patriotism‬ويقول‪� ،‬إن هذا (االجتاه) يعني تنقية "للوطنية احلقة ورفعاً ل�ش�أنها"‪.‬‬ ‫حب الإن�سان لوطنه‪ ،‬واعترب هذا احلب الوطني طبيعياً يف‬ ‫وقد فهم هايز من "الوطنية" ّ‬ ‫الإن�سان وتعبرياً نبي ًال عن �شعوره البدائي بالوالء‪� .‬أما القومية فهي‪ ،‬جزئياً‪ ،‬حب للوطن‪ .‬لك ّنها‬ ‫يف جانبها الآخر لعنة لأنها تعرب عن عقلية متعجرفة ومعادية‪ .‬الوطنية عك�س ذلك متاماً �إذ هي‬ ‫توا�ضع‪ .‬لذلك‪ ،‬يرى �أن "القومية‪ ،‬عندما ت�صري مرادفة مبعناها للوطنية ال�صافية‪� ،‬ستثبت �أنها‬ ‫نعمة "فريدة للإن�سانية وللعامل"‪ 23.‬ويف هذا يكمن احلل‪.‬‬ ‫‪95‬‬


‫�سعاده وهايز‬

‫الآن‪ ،‬ا�ستناداً �إىل مبد�أ مقارنة الكبري بالكبري �أمر كبري‪ ،‬لننظر‪ ،‬يف ما ميكن �أن يكون عليه ر�أي �سعاده‬ ‫يف �أفكار هايز التي ذكرناها‪ .‬ولنبد�أ من حيث انتهى‪.‬‬ ‫بالن�سبة للحل الذي ّقدمه هايز نرى �سعاده موافقاً على جانب منه وخمتلفاً يف ما عدا ذلك‪� .‬أما‬ ‫اجلانب الذي يوافق عليه �سعاده فهو اعتبار هايز للوطنية ب�أنها جزء من القومية‪� .‬سعاده‪ ،‬من جهته‪،‬‬ ‫ويف خامتة كتابه‪ :‬ن�شوء الأمم‪ ،‬يقول باحلرف الواحد‪:‬‬ ‫"�إن الوطن وب ّريته‪ ،‬حيث فتح املرء عينيه للنور وورث مزاج الطبيعة وتعلقت حياته ب�أ�سبابها‪ ،‬هما‬ ‫�أقوى عنا�صر هذه الظاهرة النف�سية االجتماعية التي هي القومية"‪ .‬ثم مي�ضي مبا�شرة ومت�سائ ًال‪:‬‬ ‫"ماذا تعني القومية لل�سوي�سري �إذا زالت جبال الألب وبحرياتها؟ وماذا تعني القومية للفرن�سي‬ ‫�إذا اختفت �سهول فرن�سا وحت ّولت �أنهرها عن جماريها؟" ويتابع قائ ًال‪" :‬وال�سوري‪ ،‬هل يخفق قلبه‬ ‫جلبال الألب �أو ل�صحارى بالد العرب على ما فيها من م�شاهد جميلة؟ �ألي�ست �سورية هي التي‬ ‫ويحن �إليها ف�ؤاده �إذا غاب عنها؟"‪.24‬‬ ‫ترتاح �إليها نف�سه ّ‬ ‫ويعتقد �سعاده‪ ،‬وفقاً لدرا�ساته التاريخية‪� ،‬أن الظاهرة الوطنية باعتبارها ظاهرة قومية كانت بدايتها‬ ‫مع الكنعانيني يف ما عرف "بالأثم الكنعاين"‪ .‬وهو يقول‪ ،‬بهذا اخل�صو�ص‪ ،‬ما يلي‪:‬‬ ‫"�إن الكنعانيني من جميع �شعوب التاريخ القدمي كانوا �أول �شعب مت�شى على قاعدة حمبة الوطن‬ ‫واالرتباط االجتماعي وفاقاً للوجدان القومي‪ ،‬لل�شعور بوحدة احلياة ووحدة امل�صري"‪ .‬ويذكر �أي�ضاً‪،‬‬ ‫�أن الفينيقيني هم كنعانيون نزلوا ال�ساحل اللبناين‪ .‬وهم �أول من �أ�س�س دولة دميقراطية هي دولة‬ ‫قومية بف�ضل نظام امللكية االنتخابية‪ ،‬حيث كان امللك ينتخب ملدة احلياة‪ .‬هذا بالن�سبة لعالقة‬ ‫‪25‬‬ ‫الوطنية بالقومية والقومية بالوطنية‪.‬‬ ‫بالن�سبة �إىل نظرة هايز ‪� Hayes‬إىل القومية واعتباره �إ ّياها ديناً �ضد الدين و�شراً‪ ،‬ا�ستناداً �إىل التجارب‬ ‫القومية التاريخية املعا�صرة ويف �أوروبا بخا�صة‪ ،‬ميكن �أن يجيب �سعاده بالقول‪� ،‬إن قومية هايز لي�ست‬ ‫م�ستمدة من �أ�صل واحد‪،‬‬ ‫كل القومية وال كل قومية‪ .‬فهناك قومية لي�ست �أ�صولية ولي�ست �أ�صلية‬ ‫ّ‬ ‫من دين واحد �أو لغة واحدة �أو �ساللة واحدة وغري ذلك من ادعاءات الأ�صل الواحد‪ .‬القومية‪،‬‬ ‫عند �سعاده‪ ،‬هي قومية اجتماعية‪ .‬هي دين لي�س �ضد الدين‪ .‬هي دين لي�س �ضد الدين‪ .‬و�إىل �شرح‬ ‫نتقدم الآن‪.‬‬ ‫ذلك ّ‬ ‫�سعاده‪ :‬القومية االجتماعية دين لي�س �ضد الدين‬

‫يف خامتة الف�صل ال�ساد�س من كتاب ن�شوء الأمم يقول �سعاده‪� :‬إنّ القومية هي الدين االجتماعي‬ ‫اجلديد الذي �أ�صبح �أ�سا�س الدولة احلديثة‪ .‬هذا بال�ضبط قول �سعاده‪:‬‬ ‫‪96‬‬


‫فكــــــر‬

‫احلد نقف يف ا�ستعرا�ضنا ن�شوء الدولة وتطورها لننتقل �إىل در�س الأمة والقومية‬ ‫"عند هذا ّ‬ ‫لنعرف حقيقة هذا امل ّتحد االجتماعي و�أهميته التي �أ�صبحت دين الب�شرية يف الع�صور احلديثة‬ ‫ّ‬ ‫مو�ضع �آخر من امل�صدر نف�سه‬ ‫وغطت �شخ�صيتها القوية الف ّعالة على �شخ�صية الدولة"‪ 26.‬ويف ٍ‬ ‫ي�صف "الوجدان القومي" الذي يعتربه �أبرز الظواهر االجتماعية العامة الع�صرية ب�أنه "الدين‬ ‫‪27‬‬ ‫االجتماعي اخل�صو�صي"‪.‬‬ ‫ال�س�ؤال الذي ين�ش�أ الآن هو التايل‪ :‬هل يق�صد �سعاده بالدين اجلديد �أن يكون بدي ًال عن الأديان‬ ‫ال�سماوية؟ ب�صورة �أكرث حتديداً‪ ،‬هل يرمي �سعاده �إىل �إلغاء الأديان ال�سماوية من حياة النا�س؟‬ ‫اجلواب هو النفي‪� .‬أو ًال‪ ،‬لأن املعنى اللغوي للدين‪ ،‬ال يفيد الأديان ال�سماوية ح�صراً‪ .‬فالدين يف‬ ‫‪28‬‬ ‫اللغة يطلق على العادة وال�سرية واحل�ساب والقهر والق�ضاء واحلكم والطاعة واحلال والر�أي‪.‬‬ ‫ثانياً‪ ،‬لأن �سعاده يو�ضح ق�صده عندما‪ ،‬بكل �شفاف ّية‪ ،‬يحدد الدين جوهرياً ب�أغرا�ض ثالثة هي‪:‬‬ ‫‪� .1‬إحالل االعتقاد باللهّ حمل عبادة الأ�صنام‪.‬‬ ‫‪ .2‬فر�ض عمل اخلري وجتنب ال�شر‪.‬‬ ‫‪29‬‬ ‫‪ .3‬تقرير خلود النف�س والعقاب والثواب (احل�شر)"‪.‬‬ ‫املعنى الوا�ضح لهذا التحديد للدين هو �إخراجه من دائرة االجتماع وال�سيا�سة‪ .‬الدين يف قراءة‬ ‫�سعاده له هو �صفة الفرد ولي�س �صفة الدولة �أو الأمة‪ .‬والفكرة عن الدين التي يبدو فيها الدين‬ ‫�ش�أناً فردياً خ�صو�صياً ي�ؤكدها �سعاده يف ر�سالته الثانية �إىل غ�سان تويني‪ .‬يقول‪ ،‬وهو كان يف معر�ض‬ ‫مناق�شة و�ضع فخري معلوف الذي انقلب كاثوليكياً متع�صباً‪ ،‬ما يلي‪:‬‬ ‫علي املواقف والنظريات فر�ضاً‪ ،‬وال ر�أيت الفر�صة منا�سبة لرتك متابعة‬ ‫"فلم َي ُرقْ يل �أن تفر�ض ّ‬ ‫ق�ضايا نه�ضتنا القومية االجتماعية وم�سائل حركتنا ال�سيا�سية واالقت�صادية واحلقوقية والإدارية‬ ‫وغريها واخلو�ض يف ق�ضايا الهوتية قررنا �أ ّنها من �ش�ؤون الوجدان الفردي اخلا�ص التي يجب �أن‬ ‫حمدداً نهجاً جديداً يف‬ ‫ال تثري و�أن ال ن�سمح ب�أن تثري ق�ضية اجتماعية �سيا�سية"‪ 30.‬ثم ي�ضيف ّ‬ ‫النظر �إىل الأمور‪ .‬فيقول‪" :‬ال ميكننا ونحن نبغي ال�صحيح �أن ننظر �إىل الدين مبنظار �سيا�سي وال‬ ‫�إىل ال�سيا�سة مبنظار ديني… يح�سن �أن يكون الإن�سان م�ؤمناً يف الدين وال يح�سن �أن يكون م�ؤمناً‬ ‫‪31‬‬ ‫يف ال�سيا�سة"‪.‬‬ ‫وبالن�سبة �إىل حرية االعتقاد تكون امل�س�ألة وا�ضحة كالب ّلور عندما يذكر �سعاده لغ�سان تويني‪ ،‬يف‬ ‫ر�سالته نف�سها �إىل تويني‪ ،‬مقطعاً من ر�سالة جوابية كان قد �أر�سلها �سعاده �إىل فخري معلوف � ّأكد‬ ‫فيها على مبد�أ حرية االعتقاد الديني وحرية التعبري عنها بالكتابة والن�شر‪ ،‬يقول‪:‬‬ ‫تن�س��وا �أي�ض��اً �أنّ احل��زب مل مين��ع �أح��داً ق��ط �إظه��ار معتقدات��ه الفل�سفي��ة م��ن �أي‬ ‫"وال َ‬ ‫‪97‬‬


‫ن��وع كان��ت يف كتابات��ه‪ ،‬فيمكنك��م �أن تن�ش��روا �أفكارك��م وا�ستنتاجاتك��م يف اخلل��ق‬ ‫والن�ش��ر واحل�ش��ر واحل�س��اب وليوافقك��م عل��ى ذل��ك َم��ن ي�ش��اء وليخالفك��م َمن ي�ش��اء"‪.‬‬ ‫خال�ص��ة ا�ستقرائن��ا ه��ي يف �أن �سعاده ح�صر الدي��ن يف امل�سائل الغيبية فدائرت��ه هناك ويجب �أن‬ ‫تبق��ى هناك‪� .‬أ ّما ال�ش�ؤون االجتماعية وال�سيا�سية واالقت�صادية واحلقوقية والق�ضائية للدولة القومية‬ ‫االجتماعية فهي من اخت�صا�ص هذه الدولة ال غريها‪ .‬يقول يف هذا ال�صدد‪:‬‬ ‫"�ضمنت العقيدة القومية االجتماعية جلميع �أفراد امل ّتحد و�أع�ضاء الدولة القومية االجتماعية‬ ‫حد العقيدة القومية االجتماعية وحرية ال�ضمري واجلهر باملعتقدات‬ ‫حرية االعتقاد اخلارج عن ّ‬ ‫تتم به �إرادة الأمة وغر�ض الدولة‪،‬‬ ‫ب�شرط املحافظة على وحدة الأمة والدولة وعلى النظام الذي ّ‬ ‫وحرية العمل االجتماعي ملمار�سة طقو�س املعتقدات املتعلقة مبا وراء املادة ب�شرط �أن تلزم‬ ‫تتعدى تلك احلدود �إىل ما هو من �ش�ؤون‬ ‫هذه الأعمال حدودها وال يكون غبار على �أ ّنها ال ّ‬ ‫الدولة االجتماعية وال�سيا�سية واالقت�صادية واحلقوقية والق�ضائية و�إىل القول بحرمان �أع�ضاء‬ ‫الدولة و�أفراد املجتمع الذين هم من معتقد خمالِف من حقوقهم املدنية وال�سيا�سية‪ ،‬و�إىل‬ ‫‪33‬‬ ‫حماولة فر�ض �أ�شكال �سيا�سية خ�صو�صية للدولة و�شروط خ�صو�صية لنظامها ال�سيا�سي"‪.‬‬ ‫ويعود �سعاده �إىل حتديد الدين حتديداً مقارناً لتحديده له يف كتاب "الإ�سالم يف ر�سالتيه" فيقول‬ ‫يف الر�سالة الثانية نف�سها لغ�سان تويني‪:‬‬ ‫التو�سع �أن يرى فخري معلوف �أ ّنه ي�سري �ضد مبادئ القومية االجتماعية‬ ‫"الق�صد من كل هذا ّ‬ ‫و�ضد قواعد دينية مقررة ب�إثارته خالفاً ال مربر له وال داعي �إليه بني العقيدة القومية االجتماعية‬ ‫التي مل تتع ّر�ض للدين وعقائده‪ ،‬والعقائد الدينية التي غر�ضها خلود النف�س بعد ارحتالها عن هذه‬ ‫الدنيا يف مقامني خمتلفني‪ :‬مقام النعيم ومقام اجلحيم"‪ 34.‬هذا بالن�سبة لر�أي �سعاده يف الدين‪.‬‬ ‫�سعاده والدولة الدينية‪ :‬بالن�سبة للدولة الدينية عموماً‪ ،‬نقول‪ ،‬منذ البداية‪� ،‬إن �سعاده يعتربها‬ ‫املتعدد املذاهب كمجتمعنا �سيكون‬ ‫"�أعظم عقبة يف �سبيل حتقيق وحدتنا القومية"‪ .‬فاملجتمع ّ‬ ‫م�صريه التمزق فاالنهيار �إذا ما اعتمد مبد�أ الدولة الدينية‪ .‬فال القومية وال الدولة القومية تت�أ�س�سان‬ ‫‪35‬‬ ‫على الدين‪.‬‬ ‫يحدد �سعاده موقفه بقوله‪� ،‬إ ّنها‬ ‫بالن�سبة للدولة الدينية الإ�سالمية املحمدية على وجه اخل�صو�ص‪ّ ،‬‬ ‫كانت وا�سطة الدين ولي�ست غايته و�أنّ دورها انتهى بتحقيق الدين‪ ،‬يقول‪:‬‬ ‫ق�صد ر�سالة حممد الدين ولي�س ال�سيا�سة �أو فل�سفة االجتماع التي ترتقي بالعلوم‬ ‫"وملا كان ْ‬ ‫االجتماعية‪ ،‬فال ّبد من الت�سليم ب�أنّ الدولة هي الوا�سطة للدين الذي هو الغاية‪ .‬و�أنّ قيمتها ال‬ ‫ميكن �أن تكون‪ ،‬من الوجهة الدينية‪� ،‬أكرث من قيمة وا�سطة وبنا ًء عليه تكون الدولة ال�شيء الثنوي‬ ‫‪36‬‬ ‫القابل للزوال عندما ال تبقى حاجة �إليه �ش�أن ّ‬ ‫كل �آل ٍة ووا�سط ٍة �أ ّدت الغر�ض من وجودها"‪.‬‬ ‫‪32‬‬

‫‪98‬‬


‫فكــــــر‬

‫ورب �سائل‪ :‬ما دام �سعاده يقر بوجود دولة �إ�سالمية حممدية‪� ،‬ألي�س يعني ذلك �إقراراً منه بوجود‬ ‫ّ‬ ‫د�ستور قر�آين لها؟ اجلواب هو النفي‪ ،‬ففي كتاب "ن�شوء الأمم" يقول �سعاده الكالم التايل الوا�ضح‬ ‫الذي ال جمجمة فيه‪:‬‬ ‫"مل يرتك حممد د�ستوراً للدولة‪ ،‬فهو قد �أ ّمت الدين ولك ّنه ترك الدولة تهتم مب�صريها"‪ 37.‬لذلك‬ ‫ف�إنّ دولة حممد مل تكن دولة باملعنى ال�سيا�سي الد�ستوري الدقيق‪ ،‬و�إنمّ ا مبعنى ب�سيط هو معنى‬ ‫القوة القادرة‪ .‬و�سعاده يكمل وجهة النظر هذه يف امل�صدر نف�سه عندما يقول‪�" :‬إنّ الف�ضل يف �إيجاد‬ ‫‪38‬‬ ‫االجتاه ال�سيا�سي الدنيوي يف الدولة الإ�سالمية يعود �إىل الدولة الإ�سالمية ال�سورية الأموية"‪.‬‬ ‫ويف تق�سيمه للدولة يف الف�صل ال�ساد�س من الكتاب ذاته (ن�شوء الأمم) ي�شري �إىل دولة �أولية تقوم‬ ‫على مبد�أ القوة الفيزيائية ودولة تاريخية �أ�سا�سها امللك والدين بالإ�ضافة �إىل القوة الفيزيائية ودولة‬ ‫حديثة قائمة على مبد�أي القومية والدميقراطية املتجان�سني‪ .‬وال يدخل �سعاده الدولة القبائلية يف‬ ‫دائرة الدولة التاريخية لأ ّنه اعتربها دولة �أول ّية‪.‬‬ ‫نخل�ص مما تقدم �إىل القول ب�أن �سعاده يرف�ض �إقامة دولة دينية لأنّ وظيفتها‪ ،‬يف ر�أيه‪ ،‬انتهت ومل‬ ‫يبق لها �سوى القيمة املتحفية للدر�س ومعرفة تطور االجتماع الب�شري ولأنّ تطبيقها يف زماننا معناه‬ ‫َ‬ ‫االنق�سام فاملوت االجتماعي‪.‬‬ ‫�سعاده والدولة القومية االجتماعية‪ :‬ما هو ت�ص ّور �سعاده للدولة الع�رصية؟‬

‫�إنّ نظرية �سعاده يف الدولة الع�صرية نقع عليها يف كتاب املبادئ وعلى وجه التحديد يف املبادئ‬ ‫الإ�صالحية اخلم�سة والتي ت�شكل املادة الثالثة من د�ستور احلزب ال�سوري القومي االجتماعي‬ ‫الذي � ّأ�س�سه وهي‪39:‬‬ ‫مبد�أ "ف�صل الدين عن الدولة"‪ ،‬وجوهره فكرة دنيوية الدولة القومية االجتماعية‪� ،‬أي �أنّ مركزها‬ ‫الإن�سان ولي�س اللهّ ‪ .‬والإن�سان عند �سعاده هو الإن�سان ‪ -‬املجتمع القومي �أو الأمة‪.‬‬ ‫ومبد�أ "منع رجال الدين من التدخل يف �ش�ؤون ال�سيا�سة والق�ضاء القوميني"‪ ،‬وجوهره اعتماد‬ ‫عل َمي ال�سيا�سة والق�ضاء مل�صلحة الأمة‪.‬‬ ‫و"�إزالة احلواجز بني خمتلف الطوائف واملذاهب" الذي جوهره امل�ساواة بني املواطنني واملواطنات‪،‬‬ ‫وهو عالقته بعلم احلقوق‪.‬‬

‫"�إلغاء الإقطاع وتنظيم االقت�صاد القومي على �أ�سا�س الإنتاج و�إن�صاف العمل و�صيانة م�صلحة‬ ‫الأمة والدولة"‪ .‬وجوهره العدل االجتماعي ‪ -‬االقت�صادي‪ .‬وعالقته بعلم االقت�صاد وعلم الإح�صاء‪.‬‬ ‫‪99‬‬


‫قوي يكون ذا قيمة فعلية يف تقرير م�صري الأمة والوطن"‪ .‬وجوهره الأمن القومي‬ ‫"�إعداد ٍ‬ ‫جي�ش ّ‬ ‫وال�سالم االجتماعي و� ْصون ال�سيادة القومية‪ .‬وهو له عالقة بعلم ال�سرتاتيجيا والدفاع‪.‬‬ ‫خال�صة ر�أي �سعاده يف الدولة القومية باملعنى ال�صحيح هي يف �أنها ال تت�أ�س�س على الدين‪ .‬وهو‬ ‫يذكر �أن �أكرب جامعتني دينيتني يف العامل‪ ،‬امل�سيحية واملحمدية مل تنجحا �سيا�سياً كما جنحتا‬ ‫‪40‬‬ ‫روحياً‪ .‬ويقول‪�" ،‬إن اجلامعة الدينية الروحية ال خطر فيها وال خوف عليها"‪.‬‬ ‫تتم على �أ�سا�س جعل الدولة الدينية دولة‬ ‫وي�ضيف قائ ًال‪�" :‬إن الوحدة القومية ال ميكن �أن ّ‬ ‫متعددة وخمتلفة‪.‬‬ ‫قومية"‪ 41‬واخلطر على املجتمع يكون �أقتل �إذا كان م�ؤلفاً من جماعات دينية ّ‬ ‫مع ذلك‪ ،‬لقد �أ�ساء بع�ض القارئني لكتابات �سعاده فهم نظرته �إىل الدين التي كانت نظرة حمددة‪،‬‬ ‫كما �أ�سلفنا‪ ،‬بخا�صة بعدما وجدوا �أن �سعاده‪ ،‬يف خطابه يف �أميون الكورة يف العام ‪ ،1937‬قال‪�" :‬إن‬ ‫العامل قد �شهد يف هذه البالد �أدياناً تهبط �إىل الأر�ض من ال�سماء‪� ،‬أما اليوم فريى ديناً جديداً من‬ ‫الأر�ض رافعاً النفو�س بزوبعة حمراء �إىل ال�سماء"‪ .‬ويع ّلق �سعاده نف�سه على هذا املقطع من خطابه‬ ‫الذي ا�ست�شهد به يف حما�ضرته ال�سابعة يف الندوة الثقافية املركزية يف العام ‪ ،1948‬قائ ًال‪" :‬نحن يف‬ ‫‪42‬‬ ‫هذا املعنى لنا نظرة دينية يجب �أن نفهمها"‪.‬‬ ‫ما هو املعنى الذي رمى �إليه �سعاده‪ ،‬يف حما�ضرته تلك؟ اجلواب نقع عليه يف �صلب املحا�ضرة‬ ‫ذاتها‪ ،‬عندما ا�ست�شهد بكالم والده الدكتور خليل �سعاده الذي و�صف الإن�سان ال�شرقي الذي‬ ‫يح�سب احلياة لت�شريف الدين ال الدين لت�شريف احلياة وال�سم ّو بها‪ 43.‬على هذا الكالم يع ّلق‬ ‫�سعاده م�ستفيداً‪ ،‬قائ ًال‪" :‬يف نظرتنا �إىل الدين من حيث ناحيته الروحية ال ال�سيا�سية‪ ،‬نحن نقول‪،‬‬ ‫‪44‬‬ ‫�إن الدين للحياة ولت�شريف احلياة ولي�ست احلياة للدين ولت�شريف الدين"‪.‬‬

‫‪100‬‬


‫فكــــــر‬

‫الهوام�ش‬

)Endnotes(

.1493 ‫ �ص‬،2001 ،‫ دار امل�شرق بريوت‬،‫ الطبعة الثانية‬.‫ املنجد يف اللغة العربية املعا�صرة‬- 1 2 - Gollancz, Victor. My Dear Timothy. An Autobiographical Letter to his Grandson, Harmondsworth, 1952, pp. 294-295. 3 - Kristeva, Julia. Nations Without Nationalism, trans. Leon S. Roudiez, Columbia University Press, New York, p.p. 2-3.

.16 ‫ �ص‬،‫ املرجع ال�سابق‬- 4 .28 - 27 ‫ �ص‬،‫ املرجع ال�سابق‬- 5 6 - Shafer, Boyd C. Faces of Nationalism: New Realities and Old Myths, New York, 1972, p. 16. 7 - Kohn, Hans. The Idea of Nationalism: A Study in its Origins and Background, New York, 1961, p. 120. 8 - Hayes, C. J. H. Essays on Nationalism, The Macmillan Company. New York, 1937, Essay IV: "Nationalism as a Religion", pp. 93-125.

.102 ‫ �ص‬،‫ املرجع ال�سابق‬- 9 .103 ‫ �ص‬،‫ املرجع ال�سابق‬- 10 .103 ‫ �ص‬،‫ املرجع ال�سابق‬- 11 .103 ‫ �ص‬،‫ املرجع ال�سابق‬- 12 .104 ‫ �ص‬،‫ املرجع ال�سابق‬- 13 .104 ‫ �ص‬،‫ املرجع ال�سابق‬- 14 .104 ‫ �ص‬،‫ املرجع ال�سابق‬- 15 .106 - 105 ‫ �ص‬،‫ املرجع ال�سابق‬- 16 .109 - 108 ‫ �ص‬،‫ املرجع ال�سابق‬- 17 .108 ‫ �ص‬،‫ املرجع ال�سابق‬- 18 .109 ‫ �ص‬،‫ املرجع ال�سابق‬- 19 .124 ‫ �ص‬،‫ املرجع ال�سابق‬- 20 .125 ‫ �ص‬،‫ املرجع ال�سابق‬- 21 101


‫‪ - 22‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.274‬‬ ‫‪ - 23‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.275‬‬ ‫‪� - 24‬أنطون �سعاده‪ ،‬ن�شوء الأمم‪ ،‬الآثار الكاملة‪� ،1 ،‬ص ‪.168‬‬ ‫‪ - 25‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.166‬‬ ‫‪� - 26‬أنطون �سعاده‪ .‬ن�شوء الأمم‪ ،‬الآثار الكاملة‪� ،1 ،‬ص ‪.131‬‬ ‫‪ - 27‬ال�سابق‪� ،‬ص ‪.166‬‬ ‫(متوفى يف القرن ‪ 12‬هـ)‪ .‬ك�شاف �إ�صطالحات الفنون‪ ،‬اجلزء ‪ ،2‬حققه‬ ‫‪ - 28‬التهانوي‪ ،‬حممد الفاروقي‬ ‫ً‬ ‫الدكتور لطفي عبد البديع‪ ،‬ترجم الن�صو�ص عن الفار�سية الدكتور عبد النعيم حممد ح�سنني‪ ،‬راجعه الأ�ستاذ‬ ‫�أمني اخلويل‪ ،‬وزارة الثقافة والإر�شاد القومي‪� ،1963 ،‬ص ‪.305‬‬ ‫‪� - 29‬أنطون �سعاده‪� ،‬سل�سلة النظام اجلديد‪ ،5 ،‬الإ�سالم يف ر�سالتيه امل�سيحية واملحمدية‪� ،‬ص ‪� ،111‬ص ‪.168‬‬ ‫‪� - 30‬أنطون �سعاده‪� ،‬شروح يف العقيدة‪ ،‬ر�سالة �سعاده الثانية �إىل غ�سان تويني‪� ،‬ص ‪.38‬‬ ‫‪ - 31‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.39‬‬ ‫‪ - 32‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.38‬‬ ‫‪ - 33‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.47‬‬ ‫‪ - 34‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.49‬‬ ‫‪� - 35‬أنطون �سعاده‪ ،‬كتاب مبادئ وتعاليم احلزب ال�سوري القومي االجتماعي‪ ،‬املبد�أ الإ�صالحي الأول‪،‬‬ ‫ف�صل الدين عن الدولة"‪.‬‬ ‫‪ - 36‬الإ�سالم يف ر�سالتيه‪� ،‬ص ‪.196‬‬ ‫‪ - 37‬ن�شوء الأمم‪� ،‬ص ‪.126‬‬ ‫‪ - 38‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.127‬‬ ‫‪� - 39‬أنطون �سعاده‪ ،‬د�ستور احلزب ال�سوري القومي االجتماعي‪ ،‬املادة الثالثة‪.‬‬ ‫‪� - 40‬أنطون �سعاده‪ ،‬املحا�ضرات الع�شر‪� ،‬سل�سلة النظام اجلديد‪ ،2 ،‬من�شورات عموة الثقافة يف احلزب ال�سوري‬ ‫القومي االجتماعي‪ ،‬املحا�ضرة ‪� ،7‬ص ‪.124‬‬ ‫‪ - 41‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.125‬‬ ‫‪ - 42‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.135‬‬ ‫‪ - 43‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.127‬‬ ‫‪ - 44‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.127‬‬ ‫‪102‬‬


‫فـكــــــــر‬

‫ندوة حول كتاب "الثقافة املعوملة"‬ ‫للدكتور عاطف عطيه‬

‫د‪ .‬جان جبور ‪ -‬مدير كلية االداب والعلوم االن�سانية يف اجلامعة اللبنانية �سابقاً‬

‫فر�ضت ظاهرة العوملة نف�سها بقوة يف العقدين الأخريين‪ُ ،‬وكتب حولها الكثري ت�أييداً �أو دح�ضاً‬ ‫يق�صر‬ ‫�أو حتلي ًال يف كل م�ستوياتها االقت�صادية وال�سيا�سية واالجتماعية والثقافية والعلمية؛ ومل ّ‬ ‫الباحثون العرب يف هذا املجال و�سال حربهم غزيراً‪ ،‬خا�صة �أ�صحاب التوجهات الإ�سالمية‪،‬‬ ‫والعناوين �أكرث من �أن حت�صى‪ ،1‬حتى ليت�ساءل املرء‪ :‬هل من جديد ُي�ضاف اىل هذا املو�ضوع؟‬ ‫�إنها حقيقة يدركها الباحث الدكتور عاطف عطيه وي�شري �إليها يف مقدمة كتابه "الثقافة املعوملة"‪،‬‬ ‫ومع ذلك �آثر املغامرة وهاج�سه حتليل عالقة الثقافة العربية بالعوملة وكيف تعامل العرب مع‬ ‫يقدم‬ ‫يقدم قراءة غري م�سبوقة‪� ،‬إمنا بالت�أكيد هو ّ‬ ‫الع�صر الذي يعي�شون فيه‪ .‬ال ّيدعي الكاتب �أنه ّ‬ ‫لنا قراءة مفيدة و�إ�ضاءة ق ّيمة على هذا املو�ضوع ال�شائك‪ .‬فهو اىل جانب مو�ضوع تعامل العرب‬ ‫مع ظاهرة العوملة‪ ،‬جل�أ اىل املقارنة ودر�س كيفية تعامل بلدين كبريين مع هذه الظاهرة حمكومني‬ ‫ب�إيديولوجيتني متقابلتني و�شموليتني يف تعاطيهما يف �أمور االجتماع وال�سيا�سة‪ :‬ال�صني‬ ‫ال�شيوعية وتركيا امل�سلمة‪ ،‬و�إن كانت ذات نظام علماين‪� .‬إنها منا�سبة للنظر اىل كيفية املواءمة‬ ‫بني العوملة والإيديولوجيات الوطنية "املحلية"‪ .‬وما مي ّيز هذا الكتاب �أي�ضاً هو بحثه يف تداعيات‬ ‫العوملة وت�أثريها يف ال�سلوك اليومي للنا�س‪ ،‬فيختار لذلك ثالثة مو�ضوعات‪ :‬العالقات داخل‬ ‫الأ�سرة العربية‪ ،‬اللبا�س‪ ،‬والتعاطي مع كبار ال�سن‪.‬‬ ‫العوملة والثقافة‬

‫يلتقي الدكتور عاطف عطيه مع معظم الباحثني يف حتديده لثقافة العوملة‪� ،‬سيما مع حممد عابد‬ ‫يعرف هذا الأخري‬ ‫اجلابري يف كتابه "العوملة والهوية الثقافية" (دار امل�ستقبل‪ )1998 ،‬حيث ّ‬ ‫‪" -1‬العرب والعوملة" (حممد علي احلوت)‪" ،‬الثقافة العربية يف ع�صر العوملة" (تركي احلمد)‪" ،‬ثقافة العوملة‪ ،‬وعوملة‬ ‫الثقافة" (برهان غليون و�سمري �أمني)‪" ،‬انهيار مزاعم العوملة" (عزت ال�سيد �أحمد)‪" ،‬العوملة واحلياة الثقافية يف‬ ‫العامل الإ�سالمي" (عبد العزيز التويجري)‪" ،‬العوملة املزعومة" (روجيه جارودي)‪" ،‬العوملة و�آليات التهمي�ش يف‬ ‫الثقافة العربية" (�أحمد جمدي حجازي)‪" ،‬اخلروج من فخ العوملة" (كمال الدين املر�سي)‪" ،‬الإ�سالم والعوملة"‬ ‫(حممد ابراهيم املربوك)‪" ،‬الإعالم العربي وحتديات العوملة الثقافية" (را�ضية ال�شرعبي)‪" ،‬الإ�سالم يف ع�صر العوملة"‬ ‫(حممود حمدي الزقزوق) الخ‪.‬‬ ‫‪103‬‬


‫العوملة بقوله‪ :‬هي "العمل على تعميم منط ح�ضاري يخ�ص بلداً بعينه هو الواليات املتحدة‬ ‫الأمريكية بالذات على بلدان العامل �أجمع" وهي �أي�ضاً �أيديولوجياً تعرب ب�صورة مبا�شرة عن‬ ‫�إرادة الهيمنة على العامل و�أمركته"‪� .‬أي حماولة الواليات املتحدة‬ ‫�إعادة ت�شكيل العامل وفق م�صاحلها االقت�صادية وال�سيا�سية‪ ،‬ويرتكز �أ�سا�ساً على عمليتي‬ ‫حتليل وتركيب للكيانات ال�سيا�سية العاملية‪ ،‬و�إعادة �صياغتها �سيا�سياً واقت�صادياً وثقافياً وب�شرياً‪،‬‬ ‫وبالطريقة التي ت�ستجيب للم�صالح اال�سرتاتيجية للواليات املتحدة الأمريكية‪� .‬إننا هنا �إذاً �أمام‬ ‫منظومة من املبادئ ال�سيا�سية واالقت�صادية‪ ،‬ومن املفاهيم االجتماعية والثقافية‪ ،‬ومن الأنظمة‬ ‫الإعالمية واملعلوماتية‪ ،‬ومن �أمناط ال�سلوك‪ُ ،‬يراد بها �إكراه العامل ك ِّله على االندماج فيها والعي�ش‬ ‫يف �إطارها‪.‬‬ ‫لكن الباحث الدكتور عطيه يت�ساءل‪� :‬إزاء هذه ال�سطوة الأمريكية‪ ،‬هل من �سبيل للعوملة‬ ‫الإن�سانية؟ باعتقاده‪ ،‬املنفذ الوحيد هو التوجه اىل العامل املتقدم ال�صناعي والتقني الذي يظهر‬ ‫اليوم‪ ،‬و�إن بكثري من عدم الو�ضوح‪ ،‬خارج �إطار الهيمنة واملنطق املعومل على الطريقة الأمريكية‪.‬‬ ‫وهذا العامل‪ ،‬وفق الكاتب "هو �أوروبا‪ ،‬والغربية بالتحديد‪ ،‬نواة االحتاد الأوروبي الذي عمل وال‬ ‫يزال يعمل على �ضم �أوروبا بكاملها دون الإف�ساح يف املجال‪ ،‬قدر الإمكان‪ ،‬للتدخل الأمريكي‬ ‫يف ظروف ّ‬ ‫الت�شكل وكيفيته‪� ،‬أو يف الدول التي عليها االن�ضمام اليه‪ .‬هذا االحتاد الذي و�صل‬ ‫اىل مرحلة متقدمة‪ ،‬حتى على امل�ستوى ال�سيا�سي‪ ،‬ال �ضرورة له – كما يقول الكاتب ‪� -‬إال‬ ‫من �أجل اختطاط م�سرية معوملة جديدة �أكرث ر�أفة بالإن�سان و�أكرث احرتاماً للدميقراطية واحلرية‬ ‫وامل�ساواة بني ال�شعوب" (�ص‪ .)43 - 42 .‬هذا هو املثال �إذاً‪ ،‬ومن هنا دعوة الباحث لتعميق‬ ‫ال�شراكة الأوروبية ‪ -‬العربية‪ .‬لكن جتدر املالحظة �أن �أوروبا هي بدورها بناء �سيا�سي معقد‪،‬‬ ‫ونقول ب�أ�سف �إن كل اخلطوات التي اتخذتها اىل الآن والرامية اىل ت�شكيل قوة قادرة مل ت�ستطع‬ ‫تكوين هوية �أوروبية م�ستقلة ب�إمكانها التخل�ص من الهيمنة الأمريكية‪� .‬أوروبا اليوم هي يف �صلب‬ ‫جمموعة الع�شرين التي ت�ستهدفها احلركات املناه�ضة للعوملة‪ .‬هل ترانا نراهن يف هذه احلال على‬ ‫�صعود ال�صني �أو الهند �أو رو�سيا؟ اجلواب عند الكاتب بغاية الو�ضوح‪ :‬تر�سيخ مكامن القوة يف‬ ‫ذواتنا‪ ،‬وذلك عرب ما ي�سميه "�أهمية التكامل العربي"‪ .‬بالن�سبة لعاطف عطية‪ ،‬ال جمال لوجود‬ ‫عربي فاعل اليوم‪� ،‬أو يف املدى املنظور‪� ،‬إذا مل ينهج نهجاً مغايراً يف �أمور ال�سيا�سة‪ ،‬ويف العالقات‬ ‫العربية ‪ -‬العربية‪ ،‬ك�أنظمة وجمتمعات‪ ،‬ويف العالقات العربية ‪ -‬الدولية‪" :‬على هذا النهج �أن‬ ‫توجه وحدوي يف �إطار البيئات الطبيعية التي يت�ألف منها العامل‬ ‫يكون‪ ،‬يف كل الأحوال‪ ،‬ذا ّ‬ ‫العربي‪� ،‬أو احتادي ‪ -‬تن�سيقي يف البداية‪� ،‬إذا �صعب التوجه الوحدوي‪ ،‬على امل�ستويات كافة‪،‬‬ ‫وخ�صو�صاً على امل�ستوى االقت�صادي‪ ،‬وم�ستوى النظر اىل الأمور الدولية وال�سيما العالقات مع‬ ‫الدول املتقدمة‪ ،‬وعلى ر�أ�سها الواليات املتحدة واالحتاد الأوروبي ودول جنوب �شرق �آ�سيا؛‬ ‫وحتديد العالقة مع هذه الدول مبا تقت�ضيه امل�صالح العربية العليا" (�ص‪ .)65 - 64 .‬ما من عاقل‬ ‫‪104‬‬


‫فكــــــر‬

‫�إال وي�ؤ ّيد هذا الكالم مع �إدراكه ب�أنه ُمغرق يف املثالية‪ ،‬خ�صو�صاً حني ننظر اىل واقع حال العامل‬ ‫العربي الذي ينحو اىل الت�شرذم وال�ضياع ال اىل التوحد‪.‬‬ ‫منوذجان مغايران‪ :‬تركيا وال�صني‬

‫ميثل النموذج الرتكي للتعاطي مع ظاهرة العوملة مثا ًال يحمل مدلوالت كثرية‪ .‬فرتكيا تنتمي‬ ‫اىل الإ�سالم ديناً وح�ضارة‪ ،‬لكنها �أي�ضاً ذات نظام علماين‪ .‬ارتكز الكاتب على درا�سة تركية‬ ‫قام بها باحثان انطلقا من فكرة �أ�سا�سية تعترب �أن العوملة لي�ست �ضد الإ�سالم وال �ضد امل�سلمني‪،‬‬ ‫بل �إنها حفّزت املجتمع الرتكي بعنا�صره احلديثة والتقليدية الإ�سالمية على الدخول يف فلكها؛‬ ‫�أو ًال لأن الإ�سالم قابل لأن يتعومل‪ ،‬واالقت�صاد كذلك؛ وثانياً‪ ،‬لأن االقت�صاد ال ّبد �أن يكون‬ ‫ذا قوة عاملية ال ميكن جلمها‪ .‬وهنا ميكن �أن تتمف�صل قوتان عامليتان لهما القابلية امل�ؤثرة يف توجه‬ ‫وتوجه عامليني‪ ،‬واقت�صاد ال مكان فيه للإقليمية �أو‬ ‫العوملة ويف م�سارها‪ ،‬هما الإ�سالم كح�ضارة ّ‬ ‫املحلية �إال بقدر ا�ستجابته للمنطق املعومل‪ .‬لكن ال�س�ؤال املحوري يبقى هو �إياه كما يف التجربة‬ ‫العربية‪ :‬ماذا ميكن �أن يح�صل نتيجة ت�صادم القيم الغربية النا�شئة من جتليات العوملة‪ ،‬مع القيم‬ ‫املجتمعية الرتكية النا�شئة من تاريخ الأتراك الطويل‪ ،‬ومن قيم احل�ضارة الإ�سالمية وامل�شرقية؟‬ ‫�إن التجربة الرتكية تتم ّتع ب�سمات خا�صة‪ ،‬فالعوملة الثقافية‪ ،‬كما م�صادر احلداثة يف تركيا لي�ست‬ ‫وليدة االقت�صاد وال العوملة االقت�صادية‪ ،‬بل هي نتيجة �سريورة ثقافية طويلة متخ�ض عنها املجتمع‬ ‫الرتكي نتيجة جتربته الطويلة مع العلمنة‪ .‬بد�أت هذه املحاولة الفريدة بنقد الفكر العلماين‬ ‫الرتكي باعتباره امل�صدر الوحيد للحداثة‪ ،‬والتفكري بالبديل الذي مل يكن �سوى الإ�سالم‬ ‫ال�سيا�سي‪� .‬إال �أن الق ّيمني على �ش�ؤون الإ�سالم "احلديث" يعتربون �أن الإ�سالم ال�سيا�سي‬ ‫ال ي�ستقيم نهجه بدون التفكري الفعلي باحلداثة والعي�ش يف قلب الع�صر؛ ما يعني البحث يف‬ ‫م�س�ألة الدميقراطية‪ ،‬فكراً وممار�سة‪ ،‬وتنمية االهتمام باملجتمع املدين وم�ؤ�س�ساته‪ ،‬والبحث يف‬ ‫فكرة املواطنة وتر�سيخها يف الذهنية العامة وتنمية الوعي باحلقوق والواجبات‪.‬‬ ‫ت�شرع‬ ‫�سر جناح التجربة الرتكية يكمن يف امل�ؤالفة بني التقليد واحلداثة‪ ،‬ذاك �أن العوملة ّ‬ ‫�إن ّ‬ ‫الأبواب لإيقاظ التقاليد ون�شر الرتاث‪ ،‬و�إظهار كل ما هو حملي با�سم العوملة‪ ،‬وبا�سم الرتاث‬ ‫الإن�ساين‪ .‬و�إذا كان على العوملة الثقافية �أن تتعاي�ش مع الثقافات الوطنية واملحلية‪ ،‬فلي�س على‬ ‫ذلك �أن ينتهي ال ب�أ�سلمة احلداثة وال بحدثنة الإ�سالم‪ ،‬على حد قول جريار لوكلري يف كتابه‬ ‫"العوملة الثقافية"‪ .‬من هنا ميكن للتفاعل املت�سامح واملنفتح �أن ينتج عاملاً "تتعاي�ش فيه ب�سالم‬ ‫تعددية التقاليد وحيث جتد العديد من احلداثات مكاناً م�شروعاً لها‪ ،‬مبا يف ذلك احلداثات‬ ‫الإ�سالمية"‪.‬‬ ‫ُتعترب التجربة الرتكية احلديثة يف النهو�ض بالدولة واملجتمع �أحد �أهم مناذج النهو�ض على‬ ‫امل�ستوى االقليمي والإ�سالمي بل والدويل‪ .‬فالت�أكيد على الهوية الرتكية وعلى اخل�صو�صية‬ ‫‪105‬‬


‫الرتكية ترافق مع خطط تنموية واقت�صادية �ضاعفت من م�ؤ�شر دخل الفرد ومن حجم الإنتاج‬ ‫ومن ت�سجيل معدل منو هائل؛ �أما الركيزة الأ�سا�سية فنه�ضة علمية وتعليمية قائمة على قناعة‬ ‫را�سخة ب�أن التعليم ي�شكل حجر الزاوية مل�شروع النهو�ض‪ ،‬ويرافق ذلك �إعالم قوي يركز جهوده‬ ‫على �إقناع النا�س بحتمية النه�ضة التعليمية لرفع م�ستوى املعي�شة وحت�سني م�ستوى ونوعية احلياة‬ ‫يف تركيا‪ .‬بعد �أن حت�صنت بقوتها الذاتية‪ ،‬متكنت تركيا من االلتفات اىل اخلارج بثقة‪ ،‬وهي‬ ‫ال تخ�شى الدخول يف االحتاد الأوروبي‪ ،‬لأنها لن تكون اجلناح الأ�ضعف وال تت�صرف كتابع‬ ‫يتلقى الأوامر يف حلف �شمال الأطل�سي‪� .‬صحيح �أن النموذج الرتكي خا�ص بالأتراك امنا ميكن‬ ‫ا�ستلهام التجربة الرتكية ال ا�ستن�ساخها‪ ،‬عرب القيام ب�إ�صالحات يف جمال التعليم‪ ،‬وحتقيق‬ ‫التقدم االقت�صادي‪ ،‬و�إر�ساء اال�ستقرار ال�سيا�سي واالجتماعي‪� .‬إنه م�شروع النهو�ض بالدولة‬ ‫واملجتمع للدخول اىل العوملة ك�شريك ال كمتلقٍ دائم‪.‬‬ ‫هذا �أي�ضاً ما �أدركته ال�صني التي مل ت�ستطع البقاء مبن�أى عن ت�أثريات العوملة فعملت على‬ ‫تنظيم العالقة بني ايديولوجيتها القائمة على ملكية و�سائل الإنتاج‪ ،‬والإميان العميق بالعقيدة‬ ‫املارك�سية اللينينية ‪ -‬املاوية‪ ،‬وبني العوملة وثقافتها اال�ستهالكية وايديولوجيتها املبنية على‬ ‫حرية التبادل يف �سوق حرة عاملية‪ .‬من هنا عملت الدولة على حماية النواة ال�صلبة للثقافة‬ ‫ال�صينية من الت�أثريات القوية للثقافة الأجنبية وتداعياتها على ال�ساحة ال�صينية‪ ،‬فقامت‬ ‫بخطوات هامة لتقوية و�سائل الإعالم الوطنية عن طريق الإدماج ملواجهة الإعالم الغربي‬ ‫بكل و�سائله‪ .‬وقد حظيت ال�سلطات ال�صينية بدعم الكثري من منظمات املجتمع املدين‬ ‫ال�صيني حلماية ال�صناعة الثقافية القومية والرتاث والهوية الوطنيني‪ .‬يف املقابل انخرطت‬ ‫يف منطق العوملة واجتهت اىل االنفتاح وجلب اال�ستثمارات‪ ،‬وكل ذلك ا�ستدعى مرونة‬ ‫متزايدة للنظام المت�صا�ص هذه التحوالت و�إدارتها مبا يتنا�سب مع ايديولوجيا الدولة القوية‪.‬‬ ‫هكذا ر�أينا ال�صني تلتزم منهجاً براغماتياً‪ ،‬فا�ستوعبت حقيقة وواقع التحوالت العاملية‬ ‫ومقت�ضياتها و�ضرورة االنفتاح والبعد عن اجلمود الفكري‪ ،‬وبالتايل خلقت لنف�سها �إطارها‬ ‫الأ�سا�سي االقت�صادي ال�سيا�سي اجلديد الذي مي ّثل موقعاً و�سطاً بني الر�أ�سمالية التقليدية‬ ‫واال�شرتاكية التقليدية‪ .‬من هنا جنح نظام الدولة ال�صيني يف التحول الهادئ من نظام هيمنة‬ ‫دولة بريوقراطية اىل نظام قادر بقيادة الدولة على االندماج يف االقت�صاد العاملي‪ .‬وتتج ّلى‬ ‫عنا�صر ال�سيا�سة اجلديدة لل�صني يف ع�صر العوملة واالنفتاح القائم على املناف�سة بت�سريع‬ ‫والتو�سع يف ا�ستخدام‬ ‫تطوير العلم والتكنولوجيا والتعليم ودعم التطوير الثقايف والأخالقي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫التكنولوجيا وتطبيقها يف الإنتاج‪ ،‬وتعزيز جهود �إ�صالح نظام الإدارة‪ ،‬وتعميق الإ�صالح‬ ‫والتو�سع يف الت�صدير‪.‬‬ ‫التعليمي‪ ،‬واالنفتاح �أكرث على العامل وا�ستخدام التمويل الأجنبي‬ ‫ّ‬ ‫اقرتن بهذا املخطط جهود حثيثة وهادئة للإ�صالح الت�شريعي والدميقراطي‪ .‬وقد حققت‬ ‫ال�صني �إجنازات ملمو�سة تدريجية يف هذا االجتاه‪ ،‬مع �إعطاء الأولوية لالقت�صاد‪ ،‬متحا�شية‬ ‫‪106‬‬


‫فكــــــر‬

‫بذلك خط�أ االحتاد ال�سوفياتي‪ ،‬كما عبرّ عنه دينغ ه�سياو بينغ ‪" :‬اخلط�أ الأكرب الذي وقع فيه‬ ‫غوربات�شيف �أنه �سمح باحلرية ال�سيا�سية قبل جتديد االقت�صاد"‪.‬‬ ‫يخل�ص الدكتور عطيه بعد حتليل هذين النموذجني اىل القول‪" :‬مثال ال�صني يبينّ �أن ال‬ ‫�إمكانية ل�شمول العوملة ومنطقها الغربي �أ�صقاع العامل كافة‪ .‬كما �أنه يبينّ ‪ ،‬كما املثال الرتكي‪،‬‬ ‫�أن العوملة قابلة للتل ّون‪ ،‬وخ�صو�صاً يف جوانبها الثقافية‪ ،‬بتلوينات املجتمعات الإقليمية التي حتط‬ ‫رحالها فيها‪ .‬كما �أنها قابلة لأن تتح ّول اىل عوملات كثرية‪ ،‬على قدر ما هو موجود من ح�ضارات‪،‬‬ ‫�أو جمتمعات وازنة‪ ،‬على �صعيد العامل كله" (�ص‪.)157 .‬‬ ‫اخليارات العربية؟‬

‫نعود اىل الهاج�س الذي �أملى بنظرنا على الدكتور عطيه م�شقة البحث‪ :‬ماذا نفعل نحن العرب؟‬ ‫تطرح حتديات العوملة على الدول العربية جتاوز منطق قبولها �أو رف�ضها فكرياً‪ ،‬لأنها‬ ‫�أ�صبحت واقعاً فعلياً يجب البحث اجلاد عن كيفية التعامل معها‪ ،‬والتفكري يف اخلطط‬ ‫واال�سرتاتيجيات التي ميتلكها العرب والتي �ستحدد موقعهم يف جمريات احلدث على‬ ‫�ضوء الأهداف والإمكانات العربية‪ .‬وهذا يعني �أنه رغم الطابع الكوين للعوملة فهي لي�ست‬ ‫قدراً حمتوماً و�إمنا تتعلّق مبا �سوف يعمل العرب‪ .‬من هنا‪ ،‬فالأجدى للعرب �أن يكونوا‬ ‫مع العوملة ولكن �شريطة التفاعل معها من خالل ر�ؤية عربية م�شرتكة للم�ستقبل‪ ،‬و�صوغ‬ ‫�آليات حمددة يف كل من االقت�صاد واملال وال�سيا�سة والتجارة‪ ،‬للو�صول �إىل درجة كافية‬ ‫من التكامل العربي‪ ،‬ت�ستطيع من خاللها الدول العربية جمتمعة �أن تتحدث بلغة م�صلحية‬ ‫واحدة‪ ،‬والعمل على حماكاة التكتالت االقت�صادية واملالية الأخرى بلغة تفاو�ضية عربية‬ ‫واحدة‪ .‬فقد �أ�صبح التكتل على امل�ستوى القومي �أو القاري يف ع�صر العوملة هو اخليار‬ ‫الأجنح على امل�ستوى اال�سرتاتيجي‪ .‬نقطة البداية للدول العربية جتب �أن تكون يف البحث‬ ‫عن قواها اال�سرتاتيجية الب�شرية واجليو�سيا�سية‪ ،‬يلي ذلك �إ�صالح الأجهزة الإدارية‬ ‫�سيح�صن الدولة وم�ؤ�س�ساتها لتكون‬ ‫واحلكومية بو�صفها الع�صب الأ�سا�سي للدولة‪ ،‬وهو ما‬ ‫ّ‬ ‫�أقدر على التكيف مع املتغريات اجلديدة‪ .‬كما �أن �إ�صالح �سيا�سات التعليم والتدريب‬ ‫والت�أهيل ميثل عن�صراً جوهرياً يف هذا الإطار‪ ،‬لأنه �سيخلق قوة عاملة مد ّربة وم�ؤهلة وقادرة‬ ‫على ا�ستيعاب التطورات املرتبطة بظاهرة العوملة‪ .‬ي�ضاف اىل ذلك تطوير �سيا�سات نقل‬ ‫يهيئ الدول لع�صر العوملة‪ .‬ف�ض ًال عن �ضرورة الإ�صالح‬ ‫التكنولوجيا وتوطينها‪ ،‬وهو ما ّ‬ ‫ال�سيا�سي بو�صفه ركيزة �أ�سا�سية يف �أية ا�سرتاتيجية �إ�صالح داخلي‪ ،‬ويتمثل يف حتقيق‬ ‫حت ّول دميقراطي حقيقي ي�ؤ ّمن حتقيق العدالة االجتماعية‪ ،‬ومكافحة ظواهر الف�ساد ال�سيا�سي‬ ‫والإداري‪ ،‬املدخل احلقيقي لبناء دولة امل�ؤ�س�سات وحتقيق �سيادة القانون‪� .‬أخرياً ال بد من‬ ‫‪107‬‬


‫الت�أكيد على الثقافة والهوية العربية دون تقوقع �أو خوف من تفاقم خماطر اال�ستالب‪،‬‬ ‫فالثقافة العربية متتلك مواطن قوة ّ‬ ‫متكنها من الفعل والت�أثري واحلد من الهيمنة‪ ،‬والتجدد‬ ‫والإبداع املتوا�صل‪ ،‬وامل�شاركة الفعلية يف التفاعل الثقايف‪.‬‬ ‫�إن مواجهة العرب لتحديات العوملة هي بالفعل معادلة �صعبة‪ ،‬وهي معركة ح�ضارية معقدة‬ ‫يجب على العرب خو�ضها بدراية وحكمة ومعرفة‪ .‬بذلك ال يكون كتاب عاطف عطيه �صرخة‬ ‫يف واد و�إمنا م�شع ًال ينري الدرب‪ ،‬ويفتح �آفاقاً جديدة مل�ستقبل زاهر وواعد‪.‬‬

‫‪108‬‬


‫فـكــــــــر‬

‫العرب العا َ‬ ‫مل؟‬ ‫كيف ر�أى‬ ‫ُ‬

‫كيف �أ ّدت خ�سارة العرب لتجارة املحيط الهندي �إىل خروجهم من التاريخ؟‪...‬‬ ‫جمال واكيم ‪ -‬دكتور يف التاريخ و العالقات الدولية‬ ‫َمن يطالع خريطة العامل املعا�صرة يجد �أن �أوروبا حتتل قلب هذا العامل م�ضافة �إليه قارة �أمريكا‬ ‫ال�شمالية اىل الغرب ورو�سيا اىل ال�شرق‪ .‬كذلك ف�إنه يجد �أن حجم القارة الأوروبية على هذه‬ ‫اخلريطة ي�ساوي حجم القارة االفريقية التي حتتل م�ساحة �أقل من م�ساحتها احلقيقية‪ ،‬كما تتمثل‬ ‫قارة امريكا اجلنوبية اىل الغرب من افريقيا بحجم �أقل من حجمها احلقيقي وهو ما ينطبق اي�ضاً‬ ‫على الهند وال�صني اىل ال�شرق من القارة االفريقية‪ .‬ويعك�س هذا نظرة يورو�سنرتية للعامل تعك�س‬ ‫الهيمنة الأوروبية – الغربية على العالقات الدولية التي حتققت قبل مئتي عام وا�ستمرت اىل‬ ‫امل�ستجد‬ ‫بدايات القرن احلادي والع�شرين‪ .‬ويحاول النمط املهيمن يف العامل الغربي ت�صوير الو�ضع‬ ‫ّ‬ ‫على ال�ش�ؤون الدولية ب�أنه �أمر متوا�صل منذ �آالف ال�سنني‪ ،‬وهو ما تناق�ضه املعطيات التاريخية‬ ‫والتي انعك�ست يف ر�ؤية اجلغرافيني العرب وامل�سلمني للعامل‪ .‬واجلدير ذكره �أن هذه الر�ؤية مل تكن‬ ‫ثابتة عرب الع�صور بل هي �شهدت تغريات وحتوالت بني القرن ال�سابع‪ ،‬تاريخ الفتوحات العربية‬ ‫اال�سالمية‪ ،‬والقرن ال�ساد�س ع�شر تاريخ �سقوط دولة املماليك يف م�صر وال�شام واحلجاز حتت‬ ‫الهيمنة العثمانية‪.‬‬ ‫واذا كان اجلغرافيون العرب وامل�سلمون قد اولوا االهمية الكربى للم�شرق العربي وحو�ض املتو�سط‬ ‫واله�ضبة االيرانية وو�سط �آ�سيا يف القرون الأوىل املمتدة بني القرن ال�سابع والقرن احلادي ع�شر‬ ‫ميالدي‪� ،‬إال �أن نظرتهم اىل العامل �شهدت حت ً‬ ‫وال لتويل االهمية الكربى الفريقيا والهند وجنوب‬ ‫تو�سعت فيها الهيمنة‬ ‫�شرق �آ�سيا ويف قلب هذه املنطقة املحيط الهندي الذي �شكل املنطقة التي ّ‬ ‫العربية اال�سالمية بني القرن الثاين ع�شر والقرن ال�ساد�س ع�شر امليالدي‪ .‬واجلدير ذكره �أن الدولة‬ ‫الأموية ومن بعدها الدولة العبا�سية وحتى منت�صف القرن احلادي ع�شر قد �سيطرت على جتارة‬ ‫البحر املتو�سط من جهة والتجارة الربية مع ال�صني والهند من جهة �أخرى‪ ،‬فيما كانت جتارة املحيط‬ ‫الهندي حتت هيمنتهم منذ زمن �سابق للإ�سالم‪ .‬لكن بدءاً من القرن الثاين ع�شر خ�سر العرب‬ ‫احتكارهم للتجارة يف البحر املتو�سط‪ ،‬ثم خ�سروا هيمنتهم للتجارة الربية مع ال�صني يف القرن‬ ‫الثالث ع�شر نتيجة �صعود الهيمنة املغولية يف الرب الأورا�سي ما جعلهم يحولون �أنظارهم ناحية‬ ‫التجارة يف املحيط الهندي‪.‬‬ ‫‪109‬‬


‫العرب واملحيط الهندي‬

‫وتعدد احل�ضارات وال�شعوب على �ضفافه وكان �شرياناً جتارياً‬ ‫يتميز املحيط الهندي بامتداده ال�شا�سع ّ‬ ‫‪1‬‬ ‫مهماً بل الأهم منذ �آالف ال�سنني ما جعل هذا املحيط يلعب دوراً حمورياً يف حركة التاريخ‪ .‬وقد‬ ‫لوحظ تناف�س الأفارقة وال�صينيون والفر�س والعرب على التجارة يف املحيط الهندي ب�شكل �سلمي‬ ‫‪2‬‬ ‫على مدار التاريخ من دون ت�سجيل حروب بينهم‪ ،‬فيما كانت الغلبة للعرب بعد ظهور الإ�سالم‪.‬‬ ‫وكانت م�صر هي الدولة الوحيدة غري املت�شاطئة للمحيط الهندي التي ا�شرتكت يف جتارة هذا‬ ‫املحيط‪ 3.‬وقد كان النت�شار اال�سالم دوره يف تدعيم ال�سيادة العربية يف املحيط الهندي وا�صبح‬ ‫العرب �سادة املحيط مالحياً وجتارياً وح ّولوه اىل بحرية عربية‪ 4.‬وقد جتلى ذلك يف ا�ستيطان العرب‬ ‫على معظم �سواحل هذا املحيط وانت�شار اللغة العربية على �ضفافه‪ ،‬وحتى اعتناق الكثري من الهنود‬ ‫والأفارقة واملاليزيني وغريهم للإ�سالم ديناً‪ 5 .‬وقد اعرتف امل�ؤرخ ال�صيني فواين جانغ ب�أن العرب‬ ‫‪6‬‬ ‫حتى القرن ال�ساد�س ع�شر ت�سيدوا التجارة الدولية‪.‬‬ ‫ويعترب عامل اجلغرافيا امل�صري الكبري جمال حمدان ب�أن "�آ�سيا بالن�سبة للإ�سالم ك�أوروبا بالن�سبة‬ ‫يتجمع ثالثة ارباع امل�سلمني"‪ 7.‬ويرى �أنه يف اواخر القرن احلادي ع�شر و�أوائل‬ ‫للم�سيحية ففيها ّ‬ ‫القرن الثاين ع�شر خ�سر الإ�سالم املتو�سط كبحرية �إ�سالمية بعدما تغلغل فيها النورمانديون والفرجن‬ ‫‪8‬‬ ‫عرب احلروب ال�صليبية‪� ،‬إال �أن اال�سالم ا�ستعا�ض عن ذلك بك�سب "افريقيا كقارة �إ�سالمية"‪.‬‬ ‫ويرى �أنه بنتيجة التو�سع الإ�سالمي يف افريقيا و�ضفاف املحيط الهندي ا�ضحى العامل اال�سالمي‬ ‫كالتايل‪:‬‬ ‫"منط قو�سي عظيم يتو�سط املثلث القاري ويتعامد عليه ب�صورة ما كمحور هيكلي �أو‬ ‫كنطاق حمدب يرتامى بعمق متفاوت ولكنه عظيم ويواكب ب�صفة تقريبية ن�صف دائرة‬ ‫املحيط الهندي ويوازيها ويكاد يحف بها‪ .‬وهذا القو�س العظيم الذي يبد�أ بجناح �أي�سر‬ ‫عميق عري�ض يف افريقيا من عرو�ض مدارية �سفلى‪ ،‬ال يلبث ان ينثني �شما ًال لينتظم غرب‬ ‫�آ�سيا وو�سطها يف عرو�ض �أعلى بكثري‪ ،‬ثم �إذا به يعود يف جناحه الأمين فينثني نحو اجلنوب‬ ‫‪� -1‬شوقي عبد القوي عثمان‪ ،‬جتارة املحيط الهندي يف ع�صر ال�سيادة اال�سالمية ‪( ،1498 – 661 :‬الكويت‪ :‬عامل‬ ‫املعرفة‪.5 )1990 ،‬‬ ‫‪ -2‬جتارة املحيط الهندي �ص ‪.7 – 6‬‬ ‫‪ - 3‬جتارة املحيط الهندي �ص ‪.36 – 35‬‬ ‫‪ - 4‬جتارة املحيط الهندي �ص‪.36 .‬‬ ‫‪ - 5‬جتارة املحيط الهندي ‪.39‬‬ ‫‪ - 6‬جتارة املحيط الهندي ‪.40‬‬ ‫‪ - 7‬جمال حمدان �ص‪17 .‬‬ ‫‪ - 8‬جمال حمدان �ص ‪.17‬‬ ‫‪110‬‬


‫فكــــــر‬ ‫‪1‬‬

‫مرة �أخرى وذلك يف جنوب �آ�سيا وجنوبها ال�شرقي"‪.‬‬ ‫وي�ضيف ب�أن "هذا يف معنى حقيقي جداً هو هالل الإ�سالم ويف قلبه ونكاد نقول جنمته ي�ستقر‬ ‫املحيط الهندي‪ .‬الذي هو منطقياً حميط الإ�سالم‪ .‬واذا كان الإ�سالم قد فقد البحر املتو�سط‬ ‫كبحرية ا�سالمية او �شبه ا�سالمية فقد ك�سب املحيط الهندي الذي ا�صبح البحر املتو�سط اجلديد‬ ‫‪2‬‬ ‫يف العامل اال�سالمي‪ .‬احل�ضارمة والعمانيون �إغريقه وبنادقته �إن مل يكونوا رومانه"‪.‬‬ ‫وهو يعرتف ب�أن الدين ي�شكل بعداً من �أبعاد ال�سيا�سة‪ 3،‬ويعترب �أن الإ�سالم لي�س ا�ستثناء "من‬ ‫حيث ا�ستغالل الدين يف ال�سيا�سة"‪ 4.‬لكنه يرى �أنه‪:‬‬ ‫"يف ما عدا الوحدة الدينية امل�ؤكدة‪ ،‬هل ميثل العامل الإ�سالمي وحدة طبيعية �أو ب�شرية؟ لقد‬ ‫حاول البع�ض ان يربط اال�سالم باجلفاف وال�صحارى ولكن احلقيقة �أبعد ما تكون عن هذا…‬ ‫وباملثل جند اال�سالم البحري على ال�سواحل بل ان ال�سواد االعظم من امل�سلمني �أقرب اىل الرتكز‬ ‫على القطاعات ال�ساحلية والبحرية‪ .‬رغم ما يبدو من قارية �شكلية يف اخلريطة التقليدية للتوزيع‬ ‫اال�سالمي‪ .‬واال�سالم كذلك يغطي ال�سهول امل�ستوية املنخف�ضة يف افريقيا ال�شمالية‪ ،‬ولكنه يطغى‬ ‫‪5‬‬ ‫بالقوة نف�سها على املناطق اجلبلية يف جنوب �شرق �آ�سيا"‪.‬‬ ‫واذا اردنا درا�سة الكيفية التي نظر بها العرب اىل العامل‪ ،‬جند �أنها حت ّولت من النظر اىل منطقة‬ ‫امل�شرق والبحر املتو�سط كمحور العامل‪ ،‬كما ورد يف كتابات اجلغرافيني العرب وامل�سلمني يف القرن‬ ‫التا�سع والعا�شر امليالدي و�أبرزهم ابن خرداذبه‪ ،‬اىل النظر اىل املحيط الهندي كالنقطة املحورية يف‬ ‫اخلريطة ابتداء من القرن الثاين ع�شر ميالدي‪ ،‬كما ورد يف كتابات اجلغرافيني العرب يف ذلك‬ ‫الزمان وابرزهم ال�شريف الإدري�سي وكتابه "نزهة امل�شتاق يف اخرتاق الآفاق"‪.‬‬ ‫ابن خرداذبه‬

‫والالفت يف كتاب ابن خرداذبه "كتاب امل�سالك واملمالك" �أن و�صفه للأر�ض يف ذلك الزمان‬ ‫�شبيه بالنتيجة التي تو�صل اليها اجلغرافيون املعا�صرون املز ّودون ب�أف�ضل التقنيات‪ .‬وهو ي�صف‬ ‫الأر�ض كالتايل‪:‬‬ ‫‪ -1‬جمال حمدان �ص ‪19 18- 19‬‬ ‫‪ -2‬جمال حمدان �ص ‪19‬‬ ‫‪ -3‬جمال حمدان �ص‪85‬‬

‫‪ -4‬جمال حمدان �ص ‪123‬‬

‫‪ -5‬جمال حمدان‪� ،‬ص ‪.125‬‬ ‫‪111‬‬


‫"�صفة الأر�ض �أنها مدورة كتدوير الكرة‪ ،‬مو�ضوعة يف جوف الفلك كاملحة يف جوف البي�ضة‪،‬‬ ‫والن�سيم حول الأر�ض‪ ،‬وهو جاذب لها من جميع حوانبها �إىل الفلك‪ ،‬وبنية اخللق على الأر�ض �أن‬ ‫الن�سيم جاذب ملا يف �أبدانهم من اخلفة‪ ،‬والأر�ض جاذبة ملا يف �أبدانهم من الثقل‪ ،‬لأن الأر�ض مبنزلة‬ ‫احلجر الذي يجتذب احلديد‪ ،‬والأر�ض مق�سومة بن�صفني بينهما خط اال�ستواء وهو من امل�شرق �إىل‬ ‫املغرب وهذا طول الأر�ض وهو �أكرب خط يف كرة الأر�ض كما �أن منطقة الربوج �أكرب خط يف الفلك‬ ‫وعر�ض الأر�ض من القطب اجلنوبي الذي يدور حوله �سهيل �إىل القطب ال�شمايل الذي يدور حوله‬ ‫بنات نع�ش‪ ،‬فا�ستدارة الأر�ض يف مو�ضع خط اال�ستواء ثالثمائة و�ستون درجة والدرجة خم�سة‬ ‫وع�شرون فر�سخاً والفر�سخ اثنا ع�شر الف ذراع والذراع اربعة وع�شرون ا�صبعا واال�صبع �ست ح ّبات‬ ‫�شعري م�صفوفة بطون بع�ضها �إىل بع�ض يكون ذلك ت�سعة �آالف فر�سخ‪ ،‬وبني خط اال�ستواء وبني كل‬ ‫واحد من القطبني ت�سعون درجة ا�صطرالبية وا�ستدارتها عر�ضاً مثل ذلك اال �أن العمارة يف الأر�ض‬ ‫بعد خط اال�ستواء �أربع وع�شرون درجة ثم الباقي قد غمره البحر الكبري‪ ،‬فنحن على الربع ال�شمايل‬ ‫من الأر�ض والربع اجلنوبي خراب ل�شدة احلر فيه والن�صف الذي حتتنا ال �ساكن فيه‪ ،‬وكل ربع من‬ ‫ال�شمايل واجلنوبي �سبعة �أقاليم وذكر بطليمو�س يف كتابه �أن مدن الأر�ض على عهده كانت �أربعة‬ ‫‪1‬‬ ‫�آالف ومئتي مدينة"‪.‬‬ ‫وهو يق�سم الأر�ض �إىل �أربعة اقاليم كالتايل‪:‬‬ ‫"وق�سمت الأر�ض املعمورة على اربعة اق�سام فمنها �أرويف وفيها الأندل�س وال�صقالب والروم وفرجنة‬ ‫وطنجة و�إىل حد م�صر‪ .‬ولوبية وفيها م�صر والقلزم واحلب�شة والرببر وما واالها والبحر اجلنوبي ولي�س‬ ‫يف هذه البالد خنزير بري وال ايل وال عري وال تيو�س‪ ،‬واتيوفيا وفيها تهامة واليمن وال�سند والهند‬ ‫‪2‬‬ ‫وال�صني‪ ،‬وا�سقوتيا وفيها �أرمينيا وخرا�سان والرتك واخلزر"‪.‬‬ ‫ويتحدث عن ال�صني وا�صفاً اياها ب�أنها بالد وا�سعة وثرية جداً فيقول‪:‬‬ ‫"وال�صني ثالثمائة مدينة عامرة كلها منها ت�سعون م�شهورة‪ ،‬وحد ال�صني من البحر �إىل التبت‬ ‫والرتك وغربا اىل الهند‪ ،‬ويف م�شارق ال�صني بالد الواقواق وهي كثرية الذهب حتى �أن �أهلها‬ ‫يتخذون �سال�سل كالبهم و�أطواق قرودهم من ذهب وي�أتون بالقم�ص املن�سوجة بالذهب للبيع‬ ‫‪3‬‬ ‫وبالواقواق الأبنو�س اجليد"‪.‬‬ ‫كذلك فهو يتحدث عن الهند وثرائها وال�شعوب وامللل التي تقطنها ب�شكل مثري للتعجب فيقول‪:‬‬ ‫‪ -1‬ابن خرداذبه‪� ،‬ص ‪.2 – 1‬‬ ‫‪ -2‬ابن خرداذبه ‪.66‬‬ ‫‪ -3‬ابن خرداذبه �ص ‪.29‬‬ ‫‪112‬‬


‫فكــــــر‬

‫"والهند ت�سعة �أجنا�س ال�شاكرية وهم �أ�شرافهم‪ ،‬فيهم امللك‪ ،‬ت�سجد لهم الأجنا�س كلها لهم‪ ،‬وال‬ ‫ي�سجدون لأحد‪ .‬والرباهمة وهم ال ي�شربون اخلمر والأنبذة‪ ،‬والك�سرتية ي�شربون ثالثة �أقداح فقط‪،‬‬ ‫ال تز ّوجهم الرباهمة ويتزوجون فيهم‪ .‬وال�شودرية وهم �أ�صحاب زراعة والبي�شية وهم �أ�صحاب �صناعة‬ ‫ومهن‪ ،‬وال�سندالية وهم �أ�صحاب لهو واللحون ويف ن�سائهم جمال‪ ،‬والذنبية وهم �سمر �أ�صحاب لهو‬ ‫ومعازف ولعب‪ .‬وملل �أهل الهند اثنتان و�أربعون ملة‪ ،‬منهم من يثبت اخلالق عز وجل والر�سل‬ ‫ومنهم من ينفي الر�سل‪ ،‬ومنهم النايف لكل ذلك‪ .‬والهند تزعم �أنها تدرك بالرقى ما �أرادوا وي�سقون‬ ‫به ال�سم ويخرجونه ممن �سقي‪ ،‬ولهم الوهم والفكر ويحلون به ويعقدون وي�ضرون وينفعون‪ ،‬ولهم‬ ‫‪1‬‬ ‫�إظهار التخاييل التي يتحري فيها الأريب ويدعون حب�س املطر والربد"‪.‬‬ ‫واجلدير ذكره �أن �أوروبا خ�صو�صاً الغربية وال�شمالية مل تكن ذات �أهمية ومل ت�أخذ حيزاً كبرياً يف‬ ‫كتاب ابن خرداذبه وهو ي�صفها كالتايل‪:‬‬ ‫"ورومية وبرجان وبلدان ال�صقالب والأبر �شمايل الأندل�س‪ .‬والذي يجيء من البحر الغربي‬ ‫اخلدم ال�صقالبة والروم والإفرجنيون واللعربديون واجلواري الروميات والأندل�سيات وجلود اخلز‬ ‫والوبر ومن الطيب امليعة ومن ال�صيدنة امل�صطكي‪ ،‬ويقلع من قعر هذا البحر بقرب فرجنة الب�سذ وهو‬ ‫الذي ت�سميه العامة املرجان‪ .‬ف�أما البحر الذي خلف ال�صقالبة وعليه مدينة تولية فلي�س يجري فيه‬ ‫ً ‪2‬‬ ‫مركب وال قارب وال يجيء منه �شيء وهو عربي �أي�ضا"‪.‬‬ ‫الإدري�سي‬

‫لكن يف منت�صف القرن الثاين ع�شر كان جلغرافيي العرب يف ذلك الزمان �أن حتولت �أنظارهم نحو‬ ‫املحيط الهندي‪ .‬وما يلفت النظر يف اخلريطة التي ر�سمها ال�شريف الإدري�سي قبل ت�سعة قرون هو‬

‫‪ -1‬ابن خرداذبه ‪.30‬‬ ‫‪ -2‬ابن خرداذبه ‪.38‬‬ ‫‪113‬‬


‫النظر اليها ب�شكل معكو�س عن الطريقة التي ننظر بها اىل اخلريطة‪ .‬فهو ي�ضع اجلنوب يف �أعلى‬ ‫اخلريطة وال�شمال يف ا�سفلها والغرب على ميني اخلريطة وال�شرق على ي�سارها‪ .‬ونرى �أن اجلزيرة‬ ‫العربية حتتل قلب هذه اخلريطة وعلى ميينها يف اعلى اخلريطة قارة افريقيا التي حتتل امل�ساحة الأكرب‬ ‫من الكرة الأر�ضية يليها املحيط الهندي الذي يحتل موقعاً حمورياً على اخلريطة‪ ،‬يف ما ّ‬ ‫حتتل ال�صني‬ ‫موقعاً مهماً على ي�سار اخلريطة‪ .‬ويبقى املوقع الأهم للمناطق العربية الإ�سالمية التي حتتل و�سط‬ ‫اخلريطة يف ما تقع �أوروبا على الهام�ش يف اق�صى الزاوية اليمنى من اخلريطة‪.‬‬ ‫وعند مراجعة كتاب ال�شريف الإدري�سي "نزهة امل�شتاق يف اخرتاق الآفاق" ال�شهري يف الغرب‬ ‫‪1‬‬ ‫بكتاب روجاير جنده يق�سم العامل اىل �سبعة اقاليم مق�سم كل واحد منها اىل ع�شرة اق�سام‪.‬‬ ‫وبالن�سبة للكتاب املطبوع يف العام ‪ 1863‬فقد متت اعادة ترتيب اق�سامه بحيث يركز الكتاب على‬ ‫االق�سام املتعلقة مب�صر وافريقيا امل�سماة ببالد ال�سودان واملغرب واالندل�س خالفاً للرتتيب الذي‬ ‫ّقدمه ال�شريف الإدري�سي يف ن�سخة الكتاب اال�صلية قبل ت�سعة قرون‪ .‬والالفت يف املو�ضوع حديث‬ ‫ال�شريف الإدري�سي عن ممالك غنية جداً يف افريقيا ازدهرت فيها التجارة‪ 2.‬وينعك�س ذلك يف‬ ‫تعداده لعدد كبري من املدن املزدهرة يف افريقيا التي ي�سميها ال�سودان‪:‬‬ ‫"ومن املدن امل�شهورة مدينة كوغة وكوكو ومتلمة وزغاوة ومانان واجنيمي ونوابية وتاجوة‪ .‬ف�أما‬ ‫مدينة كوغة ف�إنها مدينة على �ضفة البحر احللو ويف �شماله ومنه �شرب �أهلها وهي من عمالة ونقارة‬ ‫ومن ال�سودان من يجعلها من بالد كامن وهي مدينة عامرة ال �سور لها وبها جتارات و�أعمال و�صنائع‬ ‫‪3‬‬ ‫ي�صرفونها يف ما يحتاجون اليه"‪.‬‬ ‫كذلك ف�إن املالحظ اي�ضاً هو و�صف جمرى النيل وافرتاقه يف بالد احلب�شة واحلديث عن منابعه ما‬ ‫يدح�ض مقولة �إن الربيطانيني هم الذين اكت�شفوا منابع النيل يف القرن التا�سع ع�شر‪:‬‬ ‫"و�أعلى ديار م�صر مدينة �أ�سوان و�أنفو والردينى‪ ،‬ويف هذا اجلزء افرتاق النيلني �أعني نيل‬ ‫ي�شق �أر�ضها وجريه من اجلنوب �إىل ال�شمال و�أكرث مدن م�صر على �ضفتيه معاً ويف‬ ‫م�صر الذي ّ‬ ‫جزائره �أي�ضاً والق�سم الثاين من النيل ّمير من جهة امل�شرق اىل �أق�صى املغرب وعلى هذا الق�سم‬ ‫من النيل جميع بالد ال�سودان �أو �أكرثها وهذان الق�سمان خمرجهما من جبل القمر الذي اوله‬ ‫فوق خط اال�ستواء ب�ست ع�شرة درجة وذلك �أن مبد�أ النيل من هذا اجلبل من ع�شر عيون ف�أما‬ ‫اخلم�سة الأنهار منها‪ ،‬ف�إنها ت�صب وجتتمع يف بطيحة كبرية واخلم�سة الأنهار الأخرى تنزل �أي�ضاً‬ ‫‪ -1‬ال�شريف الإدري�سي‪ ،‬املغرب و�أر�ض ال�سودان وم�صر والأندل�س‪ :‬م�أخوذ من نزهة امل�شتاق يف اخرتاق الآفاق‪،‬‬ ‫(ليدن‪ :‬مطبعة بريل‪)1863 ،‬‬ ‫‪ -2‬ال�شريف الإدري�سي ‪10 - 5‬‬ ‫‪ -3‬ال�شريف الإدري�سي ‪10‬‬ ‫‪114‬‬


‫فكــــــر‬ ‫‪1‬‬

‫من اجلبل اىل بطيحة �أخرى كبرية"‪.‬‬

‫واملالحظ ت�سميته للبحر املتو�سط بالبحر ال�شامي واملحيط الأطل�سي بالبحر املظلم‪ 2،‬ومن‬ ‫املالحظ ا�ستفا�ضته يف و�صف بالد الأندل�س وهي م�سقط ر�أ�سه‪ 3.‬وهو ي�ستفي�ض يف و�صف‬ ‫البحر الهندي الذي يتوزع على الأجزاء �ستة و�سبعة وثمانية وت�سعة وع�شرة من الق�سم‬ ‫الأول‪ 4،‬فيما يقت�صر ذكر اوروبا الغربية مبا فيها انكلرتا وفرن�سا و�شمال اوروبا على الق�سمني‬ ‫الأول والثاين من االقليم ال�ساد�س‪ 5،‬والق�سمني االول والثاين من االقليم ال�سابع وهو �أ�ضيق‬ ‫االقاليم‪ .‬فيما ي�ستفي�ض الكتاب يف و�صف قارتي �آ�سيا وافريقيا ويذكر انتاجاتها الزراعية‬ ‫‪6‬‬ ‫وجتارتها املزدهرة‪.‬‬ ‫وال �شك يف �أن الغزو املغويل للم�شرق الإ�سالمي وللعراق‪ ،‬واجتياحه الرب ال�شامي مراراً وتكراراً‬ ‫�ساهم ب�شكل كبري يف حتويل انظار العرب نحو املحيط الهندي‪ .‬ويتجلى ذلك يف املقارنة بني رحلة ابن‬ ‫جبري يف القرن الثاين ع�شر والتي متحورت حول املتو�سط وامل�شرق العربي‪ ،‬ورحلة ابن بطوطة يف القرن‬ ‫الرابع ع�شر والتي كانت �أو�سع مدى و�شملت ا�ضافة اىل حو�ض املتو�سط‪ ،‬امل�شرق العربي والدولة‬ ‫البيزنطية وو�سط �آ�سيا و�إيران والهند‪ ،‬لينتقل بعدها عرب املحيط الهندي اىل ال�صني‪ .‬وفيما ينتقل ابن‬ ‫جبري على منت �سفينة جنوية من الأندل�س اىل اال�سكندرية يف م�صر‪ ،‬ما يعك�س انفتاحاً ولو ن�سبياً‬ ‫على العامل املتو�سطي يف ذلك الوقت‪ ،‬فقد انتقل ابن بطوطة براً عرب �شمال افريقيا اىل م�صر ومنها �إىل‬ ‫باقي الأ�صقاع التي و�صفناها �آنفاً ما يعك�س اغرتاباً مع العامل املتو�سطي �آنذاك وانقطاعاً عن التفاعل‬ ‫مع الدول التجارية الإيطالية وغريها‪ .‬وفيما اقت�صرت رحلة ابن جبري يف امل�شرق على التجول براً بني‬ ‫احلجاز والعراق وال�شام قبل ان يعود اىل بالده‪ ،‬من دون �أن يقرتب حتى من �شواطئ املحيط الهندي‪،‬‬ ‫فقد �أفرد ابن بطوطة م�ساحة وا�سعة من كتابه لو�صف املحيط الهندي والدول واملرافئ على �ضفافه‪ ،‬ما‬ ‫يعك�س الأهمية التي كان يوليها هو وغريه من جغرافيي ذلك الزمان لهذا املحيط‪.‬‬ ‫ابن جبري‬

‫وقد انطلق ابن جبري على منت �سفينة جنوية من غرناطة باجتاه �سردينية ف�صقلية وكريت �إىل‬ ‫‪ -1‬ال�شريف الإدري�سي ‪.14‬‬ ‫‪ -2‬ال�شريف الإدري�سي ‪165‬‬ ‫‪ -3‬ال�شريف الإدري�سي ‪214 - 173‬‬ ‫‪ -4‬ال�شريف الإدري�سي‪ ،‬نزهة امل�شتاق يف اخرتاق الآفاق‪http://al-hakawati.net/arabic/civilizations/230. ،‬‬

‫‪� pdf‬ص ‪21 - 11‬‬

‫‪ -5‬ال�شريف الإدري�سي امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص ‪212 - 208‬‬

‫‪ -6‬امل�صدر نف�سه ‪.214‬‬

‫‪115‬‬


‫اال�سكندرية ودامت رحلته اىل م�صر ثالثني يوماً‪ 1.‬وي�صف ابن جبري اال�سكندرية على �أنها مدينة‬ ‫مزدهرة كثرية الأبنية وامل�ست�شفيات واجلوامع واملدار�س كما �أن جتارتها مزدهرة ويدل على ذلك‬ ‫كرثة متاجرها‪ .‬وي�ضيف �أنه "من العجب يف و�صفه �أن بناءه حتت الأر�ض كبنائه فوقها و�أعتق‬ ‫و�أمنت‪ ،‬لأن املاء من النيل يخرتق جميع ديارها و�أزقتها حتت الأر�ض فتت�صل الآبار بع�ضها ببع�ض‬ ‫وميد بع�ضها بع�ضاً"‪ 2.‬وهو ي�صف منار اال�سكندرية التي كانت ال تزال قائمة يف عهده فيقول �إنها‬ ‫"من �أعظم ما �شدهاناه من عجائبها املنار الذي قد و�ضعه اهلل عز وجل على يدي من �سخر لذلك‬ ‫للمتو�سمني وهداية للم�سافرين‪ ،‬لواله ما اهتدوا يف البحر بر الإ�سكندرية‪ ،‬يظهر على �أزيد من‬ ‫�آية‬ ‫ّ‬ ‫�سبعني مي ًال"‪ .‬وهو ي�شيد ب�صالح الدين الأيوبي الذي كان قد �أمر مبنح احلجاج زاداً مقداره رغيفا‬ ‫‪3‬‬ ‫خبز يومياً لكل م�سافر جماناً وت�أمينه طريقهم ورعايته ال�صحية املجانية لهم‪.‬‬ ‫وي�ستفي�ض ابن جبري بو�صف القاهرة ومعاملها الأثرية والدينية‪:‬‬ ‫" فمن ذلك امل�شهد العظيم ال�ش�أن الذي مبدينة القاهرة‪ ،‬حيث ر�أ�س احل�سني بن علي بن �أبي‬ ‫طالب‪ ،‬ر�ضي اهلل عنهما‪ ،‬وهو يف تابوت ف�ضة مدفون حتت الأر�ض قد بني عليه بنيان حفيل يق�صر‬ ‫الو�صف عنه وال يحيط الإدراك به‪ ،‬جملل ب�أنواع الديباج‪ ،‬حمفوف ب�أمثال العمد الكبار �شمعاً‬ ‫�أبي�ض ومنه ما هو دون ذلك‪ ،‬قد و�ضع �أكرثها يف �أتوار ف�ضة خال�صة ومنها مذهبة‪ ،‬وعلقت عليه‬ ‫وحف �أعاله كله ب�أمثال التفافيح ذهباً يف م�صنع �شبيه الرو�ضة يقيد الأب�صار ح�سناً‬ ‫قناديل ف�ضة‪ّ ،‬‬ ‫وجما ًال‪ ...‬و�شاهدنا �أي�ضاً بنيان القلعة وهو ح�صن يت�صل بالقاهرة ح�صني املنعة‪ ،‬يريد ال�سلطان �أن‬ ‫يتخذه مو�ضع �سكناه‪ ،‬وميد �سوره حتى ينتظم باملدينتني م�صر والقاهرة‪ .‬وما منها جامع من اجلوامع‬ ‫وال م�سجد من امل�ساجد وال رو�ضة من الرو�ضات املبنية على القبور وال حمر�س من املحار�س وال‬ ‫يعم جميع من ي�أوي �إليها ويلزم ال�سكنى فيها‪،‬‬ ‫مدر�سة من املدار�س �إال وف�ضل ال�سلطان ّ‬ ‫ومن مفاخر هذا ال�سلطان و�آثاره الباقية املنفعة للم�سلمني القناطر التي �شرع يف بنائها بغربي م�صر‪،‬‬ ‫وعلى مقدار �سبعة �أميال منها‪ ،‬بعد ر�صيف ابتدئ به من حيز النيل ب�إزاء م�صر ك�أنه حبل ممدود على‬ ‫الأر�ض‪ ،‬ت�سري فيه مقدار �ستة �أميال حتى يت�صل بالقنطرة املذكورة‪ ،‬وهي نحو الأربعني قو�ساً من‬ ‫�أكرب ما يكون من ق�سي القناطر‪ .‬والقنطرة مت�صلة بال�صحراء التي يف�ضي منها الإ�سكندرية‪ ،‬له يف‬ ‫ذلك تدبري عجيب من تدابري امللوك احلزمة �إعداداً حلادثة تطر�أ من عدو يدهم جهة ثغر الإ�سكندرية‬ ‫عند في�ض النيل وانغمار الأر�ض به وامتناع �سلوك الع�ساكر ب�سببه‪ .‬ف�أعد ذلك م�سلكاً يف كل وقت‬ ‫‪ -1‬ابن جبري‪ ،‬رحلة ابن جبري‪( ،‬بريوت‪ :‬ال�شركة العاملية للكتاب) �ص ‪44‬‬ ‫‪ -2‬ابن جبري �ص ‪45‬‬ ‫‪ -3‬ابن جبري �ص ‪45‬‬ ‫‪116‬‬


‫فكــــــر‬ ‫‪1‬‬

‫�إن احتيج ذلك‪ .‬واهلل يدفع عن حوزة امل�سلمني كل متوقع وحمذور مبنه"‪..‬‬ ‫ومن القاهرة اجته اىل جنوب م�صر ثم �شما ًال ف�شرقاً نحو البحر الأحمر‪ ،‬حيث عرب اىل ال�ضفة‬ ‫الأخرى متجها اىل مكة املكرمة واملدينة املنورة الداء منا�سك احلج‪ .‬وهو ي�ستفي�ض يف و�صف‬ ‫املدينتني ومنا�سك احلج والأقوام التي ت�أتي من خمتلف �أ�صقاع الأر�ض للحج‪ .‬والالفت ا�ستنتاجه‬ ‫كرثة الفرق واملذاهب والبدع الدينية يف امل�شرق العربي‪ ،‬خال�صاً اىل ان الإ�سالم ال�صحيح هو‬ ‫�إ�سالم �أهل املغرب‪:‬‬ ‫"وليتحقق املتحقق ويعتقد ال�صحيح االعتقاد �أنه ال �إ�سالم �إال ببالد املغرب‪ ،‬لأنهم على جادة‬ ‫وا�ضحة الينيات لها‪ .‬وما �سوى ذلك مما لهذه اجلهات امل�شرقية ف�أهواء وبدع‪ ،‬وفرق �ضا ّلة و�شيع‪� ،‬إال‬ ‫من ع�صم اهلل عز وجل من �أهلها‪ .‬كما �أنه ال عدل وال حق وال دين على وجهه �إال عند املوحدين‪،‬‬ ‫�أعزهم اهلل‪ ،‬فهم �آخر �أئمة العدل يف الزمان‪ .‬وكل من �سواهم من امللوك يف هذا الأوان فعلى غري‬ ‫الطريقة يع�شرون جتار امل�سلمني ك�أنهم �أهل ذمة لديهم‪ ،‬وي�ستجلبون �أموالهم بكل حيلة و�سبب‪،‬‬ ‫ويركبون طرائق من الظلم مل �سمع مبثلها‪ ،‬اللهم �إال هذا ال�سلطان العادل �صالح الدين‪ ،‬الذي قد‬ ‫ذكرنا �سريته ومناقبه‪ ،‬لو كان له �أعوان على احلق"‪.‬‬ ‫وبعد �أداء منا�سك احلج اجته اىل الكوفة فاحللة فمدينة بغداد‪ .‬وقد الحظ تراجع املدينة عن ازدهارها‬ ‫يف الع�صور ال�سابقة‪:‬‬ ‫"هذه املدينة العتيقة‪ ،‬و�أن مل تزل ح�ضرة اخلالفة العبا�سية‪ ،‬ومثابة الدعوة الإمامية القر�شية‬ ‫الها�شمية‪ ،‬قد ذهب �أكرث ر�سمها‪ ،‬ومل يبق منا اال �شهري ا�سمها‪ .‬وهي بالإ�ضافة ما كانت عليه قبل‬ ‫�إنحاء احلوادث عليها والتفات �أعني النوائب اليها كالظل الدار�س‪ ،‬والأثر الطام�س‪� ،‬أو متثال اخليال‬ ‫ال�شاخ�ص‪ ،‬فال ح�سن فيها ي�ستوقف الب�صر وي�ستدعي من امل�ستوفز العقلة والنظر �إال دجلتها التي‬ ‫هي بني �شرقيها وغربيها منها كاملر�آة بني �صفحتني �أو العقد املنتظم بني لبتني‪ ...‬و�أما �أهلها فال تكاد‬ ‫تلقى منهم �إال من يت�ص ّنع بالتوا�ضع رياء‪ ،‬ويذهب بنف�سه عجباً وكربياء‪ ،‬يزدرون الغرباء‪ ،‬ويظهرون‬ ‫ملن دونهم الأنفة والإباء‪ ،‬وي�ست�صغرون عمن �سواهم الأحاديث والأنباء‪ ،‬قد ت�صور كل منهم يف‬ ‫‪2‬‬ ‫معتقده وخلده �أن الوجود كله ي�صغر بالإ�ضافة لبلده‪ ،‬فهم ال ي�ستكرمون يف معمور الب�سيطة"‪.‬‬ ‫ثم انتقل منها اىل مدينة تكريت فاملو�صل فحلب والتي ي�صفها ب�أنها "بلدة قدرها خطري‪ ،‬وذكرها‬ ‫يف كل زمان يطري‪ ...‬لها قلعة �شهرية االمتناع‪ ،‬بائنة االرتفاع‪ ،‬معدومة ال�شبه والنظري يف القالع‪،‬‬ ‫ترتهت ح�صانة �أن ترام �أو ت�ستطاع ‪ ...‬هذه حلب‪ ،‬كم �أدخلت من ملوكها يف خرب كان‪ ،‬ون�سخت‬ ‫‪ -1‬ابن جبري �ص ‪48‬‬

‫‪ -2‬ابن جبري �ص ‪157‬‬ ‫‪117‬‬


‫‪1‬‬

‫ظرف الزمان باملكان‪� ،‬أنث ا�سمها فتحلت بزينة الغوان‪ ،‬ودانت بالغدر يف من خان"‪.‬‬

‫ومن حلب انتقل اىل حماة فحم�ص فدم�شق والتي اعتربها جنة امل�شرق وعرو�س املدن وي�صف‬ ‫�أزقتها وحمالها وب�ساتينها وجامعها الكبري "هو من �أ�شهر جوامع الإ�سالم ح�سناً‪ ،‬و�إتقان بناء‪ ،‬وغرابة‬ ‫�صنعة‪ ،‬واحتفال تنميق وتزيني"‪ 2.‬ومن دم�شق انتقل اىل طربية فعكا التي كانت ال تزال حتت‬ ‫حكم ال�صليبيني ف�صور ومنها �أبحر عائداً اىل م�سقط ر�أ�سه‪ .‬وقد الحظ �أنه رغم حالة احلرب املعلنة‬ ‫بني ال�صليبيني وامل�سلمني �إال �أنه كانت هنالك جتارة مزدهرة بينهم‪ .‬فرتاه يقول‪:‬‬ ‫"ومن �أعجب ما يحدث به �أن نريان الفتنة ت�شتعل بني الفئتني م�سلمني ون�صارى‪ ،‬ورمبا يلتقي‬ ‫اجلمعان ويقع امل�صاف بينهم ورفاق امل�سلمني والن�صارى تختلف بينهم دون اعرتا�ض عليهم‪... .‬‬ ‫واختالف القوافل من م�صر دم�شق على بالد االفرجن غري منقطع‪ .‬واختالف امل�سلمني من دم�شق‬ ‫عكة كذلك‪ .‬وجتار الن�صارى �أي�ضاً ال مينع �أحد منهم وال يعرت�ض‪ .‬وللن�صارى على امل�سلمني �ضريبة‬ ‫ي�ؤدونها يف بالدهم‪ ،‬وهي من الآمنة على غاية‪ .‬وجتار الن�صارى �أي�ضاً ي�ؤدون يف بالد امل�سلمني على‬ ‫�سلعهم‪ ،‬واالتفاق بينهم واالعتدال يف جميع الأحوال‪ .‬و�أهل احلرب م�شتغلون بحربهم‪ ،‬والنا�س‬ ‫‪3‬‬ ‫يف عافية‪ ،‬والدنيا ملن غلب"‪.‬‬ ‫ابن بطوطة‬

‫خالفا لرحلة ابن جبري التي كانت عرب البحر املتو�سط‪ ،‬ف�إن رحلة ابن بطوطة كانت براً عرب‬ ‫بلدان �شمال افريقيا اىل اال�سكندرية والتي �أذهل بازدهارها وكرب مر�ساها‪ ،‬كما ي�شري اىل �أن منار‬ ‫اال�سكندرية كان ال يزال قائماً‪:‬‬ ‫"ولها املر�سى العظيم ال�ش�أن ومل �أ َر يف مرا�سي الدنيا مثله �إال ما كان من مر�سى كومل وقاليقوط‬ ‫ببالد الهند‪ ،‬ومر�سى الكفار ب�سرادق ببالد الأتراك ومر�سى الزيتون ببالد ال�صني‪ ...‬ق�صدت املنار‬ ‫يف هذه الوجهة فر�أيت �أحد جوانبه متهدماً‪ .‬و�صفته �أنه بناء مربع‪ ،‬ذاهب يف الهواء‪ ،‬وبابه مرتفع على‬ ‫الأر�ض و�إزاء بابه بناء بقدر ارتفاعه‪ ،‬و�ضعت بينهما �ألواح خ�شب يعرب عليها �إىل بابه‪ ،‬فاذا �أزيلت مل‬ ‫‪4‬‬ ‫يكن له �سبيل‪ .‬وداخل الباب مو�ضع جللو�س حار�س املنار وداخل املنار بيوت كثرية"‪.‬‬ ‫‪ -1‬ابن جبري �ص ‪177‬‬ ‫‪ -2‬ابن جبري �ص ‪183‬‬ ‫‪ -3‬ابن جبري �ص ‪201‬‬

‫‪ -4‬حممد بن عبد اهلل بن حممد بن ابراهيم اللواتي الطنجي‪ ،‬رحلة ابن بطوطة امل�سماة "حتفة النظار يف غرائب‬ ‫الأم�صار وعجائب الأ�سفار"‪( ،‬بريوت‪ :‬ال�شركة العاملية للكتاب‪21)1991 ،‬‬ ‫‪118‬‬


‫فكــــــر‬

‫ثم اجته اىل القاهرة �أو م�صر "�أم البالد وقرارة فرعون ذي الأوتاد‪ ،‬ذات الأقاليم العري�ضة والبالد‬ ‫الأري�ضة‪ ،‬املتناهية يف كرثة العمارة املتناهية باحل�سن والن�ضارة‪ ،‬وجممع الوارد وال�صادر"‪ 1 .‬وي�صف‬ ‫النيل واملدن والقرى على �ضفتيه وحقيقة "انه لي�س يف الأر�ض نهر ي�سمى بحراً غريه"‪ 2.‬وكان‬ ‫ال�سلطان اململوكي وقتذاك "امللك النا�صر �أبا الفتح حممد بن املن�صور �سيف الدين قالوون‬ ‫ال�صاحلي‪ .‬وكان قالوون ُيعرف بالألفي لأن امللك ال�صالح ا�شرتاه ب�ألف دينار ذهب و�أ�صله من‬ ‫قفجق"‪ 3.‬ثم اجته جنوباً وقفل عائداً �شما ًال باجتاه فل�سطني‪ .‬ويف العري�ش الحظ �أن �أحداً من‬ ‫ال�شام ال يجوز له دخول م�صر �إال برباءة من ال�شام‪ ،‬كما �أنه ال يجوز لأحد من م�صر دخول‬ ‫‪4‬‬ ‫ال�شام �إال برباءة من م�صر"‪ ،‬احتياطاً على �أموال النا�س وتوقياً من اجلوا�سي�س العراقيني"‪.‬‬ ‫وكان العراق �آنذاك حتت حكم ايلخانيي فار�س وهم على عداء مع مماليك م�صر‪ .‬بعد ذلك و�صل‬ ‫اىل القد�س وو�صف م�سجدها وقبة ال�صخرة وكني�سة القيامة‪ 5 .‬ثم انتقل �إىل عكة ف�صور ف�صيدا‬ ‫بعدها انتقل اىل مدن عدة و� ً‬ ‫صوال اىل طرابل�س ال�شام "وهي حديثة البناء‪� ،‬أما طرابل�س القدمية‬ ‫فكانت على �ضفة البحر ومتلكها الروم زماناً فلما ا�سرتجعها امللك الظاهر خربت واتخذت هذه‬ ‫احلديثة"‪ .‬ثم انتقل اىل ح�صن الأكراد متجهاً اىل حم�ص‪" ،‬وبخارج هذه املدينة قرب خالد بن‬ ‫‪6‬‬ ‫الوليد �سيف اهلل ور�سوله وعليه زاوية وم�سجد وعلى القرب ك�سوة �سوداء"‪ ،‬ومنها اىل حماة‪.‬‬ ‫ثم انتقل بعدها �إىل حلب والتي ا�ست�شهد يف و�صفها بابن جبري ليعك�س تراجع حالتها ن�سبة‬ ‫ملا�ضيها املزدهر‪ 7.‬وقد يكون ذلك ناجتاً عن حالة العداء بني املماليك يف ال�شام وم�صر من ناحية‬ ‫واملغول يف العراق وفار�س من ناحية �أخرى ما �أثر �سلباً على التجارة بني العراق و�شمال ال�شام‬ ‫حتدث عن‬ ‫والتي كانت حلب حمطتها الرئي�سية‪ .‬ثم انتقل بعدها اىل قن�سرين ف�أنطاكية حيث ّ‬ ‫"فتنة حاول الأرمن �إثارتها �ضد وايل املدينة" الويف للمماليك‪ ،‬وكيف �أن ال�سلطان اكت�شف‬ ‫ذلك وثبت الوايل يف حكمه‪ 8.‬وقد يكون ذلك ناجتاً عن مواالة الأرمن للمغول وعدم مواالتهم‬ ‫للمماليك‪ .‬ثم انتقل اىل م�صياف وجال يف مناطق ال�ساحل والحظ �أن معظم �سكان اجلبال‬ ‫هم من العلويني‪ 9.‬وكان له حمطة رئي�سية يف دم�شق حيث و�صف امل�سجد الأموي "وهو �أعظم‬ ‫‪ -1‬ابن بطوطة �ص ‪.28‬‬ ‫‪ -2‬ابن بطوطة �ص ‪.30‬‬ ‫‪ -3‬ابن بطوطة �ص ‪.31‬‬ ‫‪ -4‬ابن بطوطة �ص ‪.36‬‬ ‫‪ -5‬ابن بطوطة �ص ‪.37‬‬ ‫‪ -6‬ابن بطوطة �ص ‪39 - 38‬‬ ‫‪ -7‬ابن بطوطة ‪.41‬‬ ‫‪ -8‬ابن بطوطة ‪.42‬‬ ‫‪ -9‬ابن بطوطة ‪46 - 45‬‬ ‫‪119‬‬


‫‪1‬‬

‫م�ساجد الدنيا احتفا ًال و�أتقنها �صناعة و�أبدعها ح�سناً وبهجة وكما ًال"‪.‬‬

‫ومن هناك انتقل مرة �أخرى �إىل العراق ف�أ�صفهان‪ ،‬حيث الحظ �أن املدينىة خربت جزئياً نتيجة‬ ‫الفتنة "بني الراف�ضة و�أهل ال�سنة"‪ .‬وقد روى الطريقة التي �أ�سلم بها ملك العراق املغويل حممد‬ ‫خدابندة على "املذهب الراف�ضي" �أي ال�شيعي اجلعفري وكيف �أنه ب�إ�سالمه �أ�سلم املغول كلهم‬ ‫فيما رف�ض �أهايل بع�ض املدن و�أولهم بغداد تغيري مذهبهم من ال�سنة اىل ال�شيعة اىل �أن تدخل قا�ض‬ ‫ا�سمه جمد الدين و�أثر على ال�سلطان الذي عاد وحت ّول اىل مذهب �أهل ال�سنة‪ 2.‬وقد و�صف بغداد‬ ‫والو�ضع البائ�س الذي �آلت �إليه نتيجة اخلراب الذي تع ّر�ضت له على يد املغول‪ ،‬فيقول‪:‬‬ ‫"مدينة دار ال�سالم‪ ،‬وح�ضرة الإ�سالم‪ ،‬ذات القدر ال�شريف‪ ،‬والف�ضل املنيف‪ ،‬مثوى اخللفاء‪ ،‬ومقر‬ ‫العلماء‪ ،‬وقال �أبو احل�سن بن جبري ر�ضي اهلل عنه‪ :‬وهذه املدينة العتيقة و�إن مل تزل ح�ضرة اخلالفة‬ ‫العبا�سية‪ ،‬ومثابة الدعوة الإمامية القر�شية‪ ،‬فقد ذهب ر�سمها‪ .‬ومل يبق �إال ا�سمها‪ .‬وهي بالإ�ضافة‬ ‫�إىل ما كانت عليه قبل �إنحاء احلوادث عليها والتفات �أعني النوائب �إليها كالطلل الدار�س‪� ،‬أو متثال‬ ‫اخليال ال�شاخ�ص‪ ،‬فال ح�سن فيها ي�ستوقف الب�صر‪ ،‬وي�ستدعي من امل�ستوفز الغفلة والنظر‪� ،‬إال‬ ‫‪3‬‬ ‫دجلتها التي هي بني �شرقيها وغربيها كاملر�آة املجلوة بني �صفحتني‪� ،‬أو العقد املنتظم بني لبتني"‪.‬‬ ‫بعد ذلك اجته اىل عمان فهرمز ثم عاد �شما ًال اىل الأنا�ضول‪ ،‬حيث يذكر �أنه التقى �سلطان بر�صا‬ ‫�أورخان بن عثمان ثاين �سالطني بني عثمان‪ 4.‬ثم انتقل بعدها اىل الق�سطنطينية التي �أعجب بها‬ ‫كثرياً كما �أعجب بكني�ستها �آيا �صوفيا‪ 5.‬ومنها انتقل اىل خوارزم "وهي �أكرب مدن الأتراك و�أعظمها‬ ‫‪6‬‬ ‫و�أجملها و�أ�ضخمها‪ ،‬لها الأ�سواق املليحة وال�شوارع الف�سيحة والعمارة الكثرية واملحا�سن الأثرية"‪.‬‬ ‫ثم انتقل بعدها اىل مدينة بخارى التي كانت "قاعدة كا وراء نهر جيحون من البالد وخربها اللعني‬ ‫تنكيز الترتي" ويق�صد جنكيز خان‪ 7.‬بعدها انتقل اىل كابول ومنها اىل دلهي يف �شمال الهند‪،‬‬ ‫حيث بقي ملدة �سنتني قبل �أن يوفده �سلطانها �ضمن وفد اىل ال�صني‪ .‬فاجته اىل قندهار ومنها اجته‬ ‫اىل مرف�أ لركوب البحر‪ ،‬حيث توجه اىل مدينة كاليكوت وهي "�إحدى �أهم البنادر العظام ببالد‬ ‫املليبار‪ .‬يق�صدها �أهل ال�صني واجلاوة و�سيالن واملهل و�أهل اليمن وفار�س‪ .‬ويجتمع بها جتار الآفاق‪.‬‬ ‫‪ -1‬ابن بطوطة ‪.49‬‬ ‫‪ -2‬ابن بطوطة ‪.97‬‬ ‫‪ -3‬ابن بطوطة ‪104‬‬ ‫‪143 - 4‬ابن بطوطة‬ ‫‪ - 5‬ابن بطوطة ‪161‬‬ ‫‪ - 6‬ابن بطوطة ‪165‬‬ ‫‪ - 7‬ابن بطوطة ‪168‬‬ ‫‪120‬‬


‫فكــــــر‬ ‫‪1‬‬

‫ومر�ساها من �أعظم مرا�سي الدنيا"‪.‬‬

‫ويف طريقه �إىل ال�صني مر بجزر املالديف والتي ذكر فيها الطريقة التي دخل بها الإ�سالم اىل تلك‬ ‫اجلزر‪ ،‬فيقول‪:‬‬ ‫"حدثني الثقات من �أهلها كالفقيه عي�سى اليمني‪ ،‬والفقيه املعلم علي‪ ،‬والقا�ضي عبد اهلل‬ ‫وجماعة �سواهم‪� ،‬أن �أهل هذه اجلزائر كانوا كفاراً‪ ،‬وكان يظهر لهم يف كل �شهر عفريت من اجلن‪،‬‬ ‫ي�أتي ناحية البحر‪ ،‬ك�أنه مركب مملوء بالقناديل‪ .‬وكانت عادتهم �إذا ر�أوه‪� ،‬أخذوا جارية بكراً فز ّينوها‬ ‫و�أدخلوها �إىل بدخانة‪ .‬وهي بيت الأ�صنام‪ ،‬وكان مبنياً على �ضفة البحر‪ ،‬وله طاق ينظر �إليه‪ ،‬ويرتكونها‬ ‫هنالك ليلة‪ ،‬ثم ي�أتون عند ال�صباح فيجدونها مفت�ضة ميتة‪ .‬وال يزالون يف كل �شهر يقرتعون بينهم‪،‬‬ ‫ي�سمى ب�أبي الربكات الرببري‪ ،‬وكان‬ ‫فمن �أ�صابته القرعة �أعطى بنته‪ .‬ثم �إنهم قدم عليهم مغربي ّ‬ ‫حافظا للقر�آن العظيم‪ ،‬فنزل بدار عجوز منهم بجزيرة املهل‪ ،‬فدخل عليها يوماً‪ ،‬وقد جمعت �أهلها‪،‬‬ ‫وهن يبكني ك�أ ّنهن يف م�أمت‪ .‬فا�ستفهمهن عن �ش�أنهن‪ ،‬فلم ُيفهم َنه‪ .‬ف�أتى ترجمان ف�أخربه �أن العجوز‬ ‫ّ‬ ‫أتوجه‬ ‫كانت القرعة عليها‪ ،‬ولي�س لها �إال بنت واحدة‪ ،‬يقتلها العفريت‪ .‬فقال لها �أبو الربكات‪� :‬أنا � ّ‬ ‫عو�ضاً من بنتك بالليل‪ .‬وكان �سناطاً‪ ،‬ال حلية له‪ ،‬فاحتملوه تلك الليلة‪ ،‬و�أدخلوه �إىل بدخانة‪ ،‬وهو‬ ‫متو�ضئ‪ .‬و�أقام يتلو القر�آن‪ ،‬ثم ظهر له العفريت من الطاق‪ ،‬فداوم التالوة‪ ،‬فلما كان منه‪ ،‬بحيث‬ ‫ي�سمع القراءة غا�ص يف البحر‪ .‬و�أ�صبح املغربي‪ ،‬وهو يتلو على حاله‪ .‬فجاءت العجوز و�أهلها و�أهل‬ ‫اجلزيرة‪ ،‬لي�ستخرجوا البنت على عادتهم فيحرقوها‪ ،‬فوجدوا املغربي يتلو‪ ،‬فم�ضوا به �إىل ملكهم‪،‬‬ ‫وكان ي�سمى �شَ نورازه بفتح ال�شني املعجم و�ضم النون وواو وراء والف و زاي وهاء‪ ،‬و�أعلموه بخربه‪،‬‬ ‫فعجِ ب‪ .‬وعر�ض املغربي عليه الإ�سالم‪ ،‬ورغبه فيه‪ .‬فقال له �أقم عندنا �إىل ال�شهر الآخر‪ ،‬ف�إن فعلت‬ ‫وجنوت من العفريت �أ�سلمت‪ .‬ف�أقام عندهم‪ .‬و�شرح اهلل �صدر امللك للإ�سالم ف�أ�سلم قبل‬ ‫كفعلك‪َ ،‬‬ ‫متام ال�شهر‪ ،‬و�أ�سلم �أهله و�أوالده و�أهل دولته‪ .‬ثم حمل املغربي ملا دخل ال�شهر �إىل بدخانة‪ ،‬ومل ي�أت‬ ‫العفريت‪ ،‬فجعل يتلو حتى ال�صباح‪ .‬وجاء ال�سلطان والنا�س معه فوجدوه على حاله من التالوة‪،‬‬ ‫فك�سروا الأ�صنام‪ ،‬وهدموا بدخانة‪ ،‬و�أ�سلم �أهل اجلزيرة‪ ،‬وبعثوا �إىل �سائر اجلزائر ف�أ�سلم �أهلها‪ .‬و�أقام‬ ‫املغربي عندهم معظماً‪ ،‬ومتذهبوا مبذهبه مذهب الإمام مالك ر�ضي اهلل عنه‪ .‬وهم �إىل هذا العهد‬ ‫يعظمون املغاربة ب�سببه‪ ،‬وبنى م�سجدا هو معروف با�سمه‪ ،‬وقر�أت على مق�صورة اجلامع منقو�شاً‬ ‫يف اخل�شب �أ�سلم ال�سلطان �أحمد �شنورازه على يد �أبي الربكات الرببري املغربي‪ .‬وجعل ذلك‬ ‫‪2‬‬ ‫ال�سلطان ثلث جمابي اجلزائر �صدقة على �أبناء ال�سبيل‪� ،‬إذ كان �إ�سالمه ب�سببهم"‪.‬‬ ‫وهذه الق�صة �سمعتها �شخ�صياً من �أ�ستاذة جامعية من املالديف �أثناء زيارة يل لل�صني‪.‬‬ ‫‪ - 1‬ابن بطوطة ‪.182‬‬ ‫‪ -2‬ابن بطوطة �ص ‪259‬‬ ‫‪121‬‬


‫ومن هناك انتقل �إىل ال�صني والتي و�صفها كالتايل‪:‬‬ ‫"و�إقليم ال�صني م ّت�سع كثري اخلريات والفواكه والزرع والذهب والف�ضة ال ي�ضاهيه يف ذلك �إقليم‬ ‫من �أقاليم الأر�ض ويخرتقه النهر املعروف باب حياة ومعنى ذلك ماء احلياة‪ .‬ومنبعه من جبال‬ ‫�سمى "كوه بوزنات" ومعناه جبل القرود‪ ...‬ومير يف و�سط ال�صني م�سرية �ستة �أ�شهر اىل ان‬ ‫ُت ّ‬ ‫ينتهي اىل �صني ال�صني‪ .‬وتكتنفه القرى واملزارع والب�ساتني واال�سواق كنيل م�صر‪ .‬اال ان هذا‬ ‫اكرث عمارة‪ ،‬وعليه النواعري الكثرية‪ .‬وببالد ال�صني ال�سكر الكثري‪ ،‬مبا ي�ضاهي امل�صري بل يف�ضله‪،‬‬ ‫واالعناب واالجا�ص‪ .‬وكنت اظن ان االجا�ص العثماين الذي بدم�شق ال نظري له حتى ر�أيت‬ ‫‪1‬‬ ‫االجا�ص الذي بال�صني‪.‬‬ ‫وي�صف بع�ض اخل�صائ�ص التي الحظها يف ال�صني‪ ،‬فيقول‪:‬‬ ‫"واهل ال�صني كفار يعبدون الأ�صنام‪ ،‬ويحرقون موتاهم كما تفعل الهنود‪ .‬وملك ال�صني تتاري من‬ ‫ذرية تنكيز خان‪ .‬ويف كل مدينة من مدن ال�صني مدينة للم�سلمني ينفردون فيها ب�سكناهم‪ .‬ولهم‬ ‫فيها امل�ساجد لإقامة اجلمعات و�سواها‪ .‬وهم معظمون حمرتمون‪ .‬وكفار ال�صني ي�أكلون حلوم اخلنازير‬ ‫والكالب‪ ،‬ويبيعونها يف ا�سواقهم‪ .‬وهم اهل رفاهية و�سعة عي�ش‪ ،‬اال انهم ال يحتفلون مبطعم وال‬ ‫ملب�س وترى التاجر الكبري منهم الذي ال حت�صى �أمواله كرثة وعليه جبة قطن خ�شنة‪ .‬وجميع اهل‬ ‫ال�صني امنا يحتفلون ب�أواين الذهب والف�ضة‪ .‬ولكل واحد منهم عكاز يعتمد عليه يف امل�شي‪ .‬واحلرير‬ ‫عندهم كثري جداً الن الدود تتعلق بالثمار وت�أكل منها‪ ،‬فال حتتاج اىل كثري م�ؤونة‪ ،‬ولذلك كرث‪ .‬وهو‬ ‫لبا�س الفقراء وامل�ساكني بها‪ ،‬ولوال التجار ملا كانت له قيمة‪ .‬ويباع الثوب الواحد من القطن عندهم‬ ‫بالأثواب الكثرية من احلرير‪ .‬وعادتهم ان ي�سبك التاجر ما يكون عنده من الذهب والف�ضة قطعاً‪،‬‬ ‫‪2‬‬ ‫تكون القطعة منها من قنطار فما فوقه وما دونه‪.‬‬ ‫وهو ي�شيد بالأمن بال�صني وما يتيحه للتجار من تنقل يف �أرجائها من دون خوف على حياتهم �أو‬ ‫مالهم‪ ،‬فيقول‪:‬‬ ‫"وبالد ال�صني �آمن البالد و�أح�سنها حا ًال للم�سافرين‪ ،‬ف�إن الإن�سان ي�سافر منفرداً م�سرية ت�سعة‬ ‫�أ�شهر وتكون معه الأموال الطائلة فال يخاف عليها‪ .‬وترتيب ذلك �أن لهم يف كل منزل ببالدهم‬ ‫فندقاً‪ ،‬عليه حاكم ي�سكن به يف جماعة من الفر�سان والرجال‪ .‬ف�إذا كان بعد املغرب �أو الع�شاء‬ ‫الآخرة‪ ،‬جاء احلاكم اىل الفندق ومعه كاتبه‪ ،‬فكتب ا�سماء جميع من يبيت به من امل�سافرين‪،‬‬ ‫وختم عليها و�أقفل باب الفندق عليهم‪ .‬فاذا كان بعد ال�صبح جاء ومعه كاتبه‪ ،‬فدعا كل ان�سان‬ ‫‪ -1‬ابن بطوطة ‪279‬‬ ‫‪ -2‬ابن بطوطة ‪280‬‬ ‫‪122‬‬


‫فكــــــر‬

‫با�سمه وكتب بها تف�صي ًال‪ ،‬وبعث معهم من يو�صلهم اىل املنزل التايل له‪ ،‬وي�أتيه برباءة من حاكمه‬ ‫‪1‬‬ ‫�أن اجلميع قد و�صلوا �إليه‪ .‬وان مل يفعل طالبه بهم"‪.‬‬ ‫ابن ايا�س‬

‫و�إذا كان العرب قد ا�ستعا�ضوا عن البحر املتو�سط بالهيمنة على جتارة املحيط الهندي‪ ،‬فال �شك يف‬ ‫�أن دخول الربتغاليني على اخلط يف العام ‪ 1498‬ميالدية وحتويلهم طرق التجارة بعيداً عن اجلزيرة‬ ‫العربية والبحر االحمر قد وجه �ضربة قا�سمة لهم وهو ما ينعك�س يف تاريخ ابن ايا�س الذي يتناول‬ ‫هذه املرحلة‪.‬‬ ‫اخلطر الربتغايل يف املحيط الهندي‬

‫ويبد�أ ابن ايا�س يف هذا اجلزء الذي يتناول املرحلة من العام ‪ 1501‬تاريخ تويل قان�صوه الغوري‬ ‫ال�سلطنة وحتى العام ‪ .1515‬وهو يبد�أ يف ذكر الفرجنة‪� ،‬أي الربتغاليني‪ ،‬يف �سنة ‪ 911‬هجري ويقول‬ ‫�إن تغري بردي‪ ،‬ترجمان البالط امل�صري‪ ،‬قد �سافر يف ذي القعدة من ذلك العام اىل "نحو بالد‬ ‫الفرجن و�أخذ معه كتاباً من البرتك"‪ ،‬وقد يكون ذلك يف حماولة للو�ساطة مع الفرجن "بعدما زاد‬ ‫تعبث الفرجن بال�سواحل و�أخذ �أموال التجار"‪ 2.‬ثم يذكر احلملة التي قام بها الربتغاليون على ميناء‬ ‫ينبع على �سواحل احلجاز املطل على البحر الأحمر‪ ،‬ويذكر فيها �أن الربتغاليني تغلبوا على �أمري‬ ‫الينبع يحيى بن �سبع الذي هرب من وجههم ود ّمروا املدينة‪ 3.‬وي�ضيف ب�أن الع�سكر الذي �أر�سله‬ ‫ال�سلطان بقيادة ح�سني با�ش الع�سكر ملواجهة الربتغاليني كان قد و�صل اىل جدة و�شرعوا يف تدعيم‬ ‫ال�سواحل ببناء �أبراج‪ 4.‬وكان ح�سني با�ش الع�سكر قد بنى ا�سط ً‬ ‫وال وتهي�أ للتوجه اىل ميناء عدن يف‬ ‫اليمن‪" ،‬لكن تزايد ال�ضرر من الفرجن يف ما بعد وترادفت مراكب الفرجن ببحر احلجاز حتى بلغوا‬ ‫فرق ع�شرين مركباً‪ ،‬و�صاروا يعبثون على مراكب جتار الهند ويقطعون عليهم الطريق يف الأماكن‬ ‫املخيفة وي�أخذون ما معهم من الب�ضائع حتى ع ّز وجود ال�شا�شات والأرز من م�صر وغريها من‬ ‫البالد"‪ 5.‬ويف�سر ابن ايا�س ال�سبب الذي جعل مراكب الربتغاليني يف املحيط الهندي ب�أن "�سبب‬ ‫هذه احلادثة �أن الفرجن حت ّيلوا حتى نتئوا ال�سد الذي �صنعه اال�سكندر بن فلب�س الرومي‪ ،‬وكان‬ ‫هذا نقبا يف جبل بني بحر ال�صني وبحر الروم‪ ،‬فال زالوا الفرجن يعبثون يف ذلك النقب مدة �سنني‬ ‫‪ -1‬ابن بطوطة ‪281‬‬

‫‪ -2‬ابن ايا�س ‪ ،‬بدائع الزهور يف وقائع الدهور‪ ،‬اجلزء الرابع‪ ،‬حتقيق حممد م�صطفى‪( ،‬القاهرة‪.91 )1960 :‬‬ ‫‪ -3‬ابن ايا�س ‪.95‬‬ ‫‪ -4‬ابن ايا�س ‪.96‬‬ ‫‪ -5‬ابن ايا�س ‪109‬‬ ‫‪123‬‬


‫‪1‬‬

‫حتى انفتح و�صارت تدخل منه املراكب اىل بحر احلجاز‪ ،‬وكان هذا من �أكرب �أ�سباب الف�ساد"‪.‬‬ ‫ثم يذكر �أن ح�سني با�ش الع�سكر قد حقق ن�صراً كبرياً على الفرجن‪ ،‬لكنه طلب مزيداً من الع�سكر‬ ‫حتى يتقوى به على من بقي من الفرجن‪ 2.‬ويف �شوال وذي القعدة �سنة ‪ 914‬هجرية جاءت االخبار‬ ‫ب�أن الأمري متر باي الهندي انت�صر يف �إحدى املعارك على الفرجن "وانت�صر عليهم وا�سر منهم نحوا‬ ‫من �سبعة وع�شرين نفراً وملك مركبهم"‪ 3.‬ثم يذكر الهزمية الكربى يف معركة �ضيو قبالة ال�سواحل‬ ‫الهندية فيقول �إنه يف �صفر – ربيع الأول �سنة ‪ 915‬هجرية "جاءت الأخبار ب�أن الع�سكر الذي‬ ‫توجه اىل الهند �صحبة ح�سني امل�شرف قد ك�سروهم الفرجن ك�سرة فاح�شة وقتلوا الع�سكر عن �آخره‬ ‫ونهبوا ما يف مراكبهم �أجمعني‪ّ ،‬‬ ‫فتنكد ال�سلطان لهذا اخلرب"‪ 4.‬ثم يذكر �أنه يف �صفر �سنة ‪ 916‬هجرية‬ ‫"ح�ضر قا�صد امللك حممود �شاه �صاحب كنبالية‪ ،‬و�آخرون من ملوك الهند وعلى ايديهم مثاالت‬ ‫لل�سلطان تت�ضمن �سرعة جتهيز جتريدة اىل جهات الهند ب�سبب تعبث الفرجن هناك‪ ،‬وقد تزايد �أمرهم‬ ‫وطمعوا يف �أخذ البالد من حني ك�سروا ح�سني الذي ار�سله ال�سلطان"‪ 5.‬ويف جمادي الأول قب�ض‬ ‫ال�شريف بركات �أمري مكة على ثالثة من الفرجن ّ‬ ‫متنكرين بزي الأروام ‪� ،‬أي العثمانيني‪ ،‬وتبني �أنهم‬ ‫‪6‬‬ ‫جوا�سي�س لدى بع�ض ملوك الفرجن فقب�ض عليهم و�أر�سلهم اىل ال�سلطان اململوكي‪.‬‬ ‫اخلطر اال�سباين يف املتو�سط‬

‫ثم يذكر ابن ايا�س تعيني ال�سلطان جتريدة اىل بالد الفرجن بقيادة حممد بيك لأنه "قد تزايد فيهم‬ ‫الأذى والتعبث بالنا�س يف البحر املالح" وعني قريبه حممد بيك قائداً لهذه احلملة‪ 7.‬وكان هدف‬ ‫ال�سلطان كما ورد على ل�سان ابن ايا�س مواجهة اال�سبان يف البحر املتو�سط‪ ،‬ما زاد من الأعباء على‬ ‫الدولة امل�صرية التي �أ�صبحت تواجه الربتغاليني يف املحيط الهندي وال�صفويني يف العراق و�شرق‬ ‫الأنا�ضول واال�سبان يف البحر املتو�سط‪ .‬ويف رجب �سنة ‪ 915‬هجرية يذكر ابن ايا�س ب�أن "الأمري‬ ‫حممد بيك ملا توجه �إىل اجلون ب�سبب �إح�ضار الأخ�شاب �صادف مراكب فيها فرجن يعبثون يف البحر‬ ‫على التجار‪ ،‬فتحارب معهم وانت�صر عليهم وقتل منهم جماعة كثرية"‪ 8.‬ويف جمادى الأوىل �سنة‬ ‫‪ -1‬ابن ايا�س ‪.109‬‬ ‫‪ -2‬ابن ايا�س ‪142‬‬ ‫‪ -3‬ابن ايا�س ‪146‬‬ ‫‪ -4‬ابن ايا�س ‪.156‬‬ ‫‪ -5‬ابن ايا�س ‪.184‬‬ ‫‪ -6‬ابن ايا�س ‪191‬‬ ‫‪ -7‬ابن ايا�س ‪129‬‬ ‫‪ -8‬ابن ايا�س ‪163‬‬ ‫‪124‬‬


‫فكــــــر‬

‫‪ 916‬هجرية جاءت الأخبار ب�أن مدينة طرابل�س الغرب �سقطت يف �أيدي الفرجنة وقتلوا اربعني الفاً‬ ‫‪1‬‬ ‫من �سكانها‪.‬‬ ‫ويف جمادى الأوىل يف يوم االحد عا�شره "جاءت الأخبار من عند نائب طرابل�س ب�أن الفرجن خرجوا‬ ‫على الأمري حممد بيك قريب ال�سلطان الذي كان قد توجه �إىل اجلون ب�سبب �إح�ضار الأخ�شاب‪،‬‬ ‫فخرجوا عليه طائفة من الفرجن بالقرب من �ساحل قلعة ايا�س‪ ،‬فتحارب معهم الأمري حممد بنف�سه‬ ‫وقد ف ّر عنه َمن كان معه من الع�سكر‪ ،‬فقتل وقتل َمن كان معه من اجلند‪ ،‬و�أخذوا ما كان معه من‬ ‫املراكب امل�شحونة بال�سالح و�آلة احلرب وكانت نحواً من ثمانية ع�شر مركبا فلما بلغ ال�سلطان ذلك‬ ‫تنكد اىل الغاية وامتنع عن الأكل يومني‪ ،‬وقد تزايد �شر الفرجن وكرث تعبثهم بالنا�س يف البحر الرومي‬ ‫والبحر الهندي والأمر هلل تعاىل‪ ،‬وقد ارجت الأمر على ال�سلطان من جهات عديدة وا�ضطربت �أحواله‬ ‫جدا"‪ 2.‬ويف ال�شهر نف�سه "ار�سل ال�سلطان بالقب�ض على الرهبان الذين بالقيامة التي بالقد�س‪،‬‬ ‫وكذلك قب�ض على �سائر الفرجن الذين باال�سكندرية ودمياط وغري ذلك من ال�سواحل وهذا ب�سبب‬ ‫الفرجن الذين قتلوا الأمري حممد و�أخذوا مراكب ال�سلطان"‪ 3.‬وهو ما ّ‬ ‫يدل على قلة حيلته يف‬ ‫مواجهة اخلطر اال�سباين يف املتو�سط‪.‬‬ ‫اخلطر ال�صفوي‬

‫وقد ترافق اخلطر الربتغايل الذي �أثر �سلباً على خط التجارة امل�صري مع الهندي مع �صعود التهديد‬ ‫ال�صفوي‪ .‬فيذكر ابن ايا�س �أنه يف جمادى الأوىل �سنة ‪ 913‬هجرية قام ال�شاه ا�سماعيل ال�صويف‬ ‫بحملة على العراق ما �أدى �إىل "ا�ضطراب القاهرة"‪ ،‬وقد ترافق ذلك مع و�صول موفد من عند‬ ‫"ابن عثمان" اىل القاهرة‪ ،‬للبحث يف التطورات احلا�صلة يف املنطقة‪ 4.‬وقد ه ّي�أ ال�سلطان حملة‬ ‫ملواجهة ا�سماعيل ال�صفوي لكن ورد �إخبار عن متكن احلامية املرابطة على الفرات يف االنت�صار‬ ‫على ال�صفويني‪ 5.‬وقد تال ذلك و�صول موفد من ال�شاه ا�سماعيل اىل القاهرة ي�ؤكد لل�سلطان قان�صوه‬ ‫الغوري �أن الذي وقع على تخوم دولة املماليك يف ال�شام مل يكن ب�إذن ال�شاه‪ 6.‬ويف جمادى الأوىل‬ ‫جاءت الأخبار من عند �أمري البرية ب�أنه "قب�ض على جماعة من عند ا�سمعيل ال�صويف وعلى �أيديهم‬ ‫كتب من عند ال�صويف اىل بع�ض ملوك الفرجن ب�أن يكونوا معه عونة على �سلطان م�صر و�أنهم يجوا �إىل‬ ‫‪ -1‬ابن ايا�س ‪190‬‬

‫‪ -2‬ابن ايا�س ‪192 - 191‬‬

‫‪ -3‬ابن ايا�س ‪.192‬‬ ‫‪ -4‬ابن ايا�س ‪119‬‬ ‫‪ -5‬ابن ايا�س ‪121‬‬ ‫‪ -6‬ابن ايا�س ‪123‬‬

‫‪125‬‬


‫‪1‬‬

‫م�صر من البحر ويجي هو من الرب‪ ،‬فقب�ض نائب البرية عليهم وبعث بهم اىل ال�سلطان"‪.‬‬ ‫ويف ذي احلجة �سنة ‪ 916‬هجرية وفيه جاءت "الأخبار من حلب ب�أن ال�صويف قد انت�صر على ازبيك‬ ‫خان ملك الترت وقتله وقطع ر�أ�سه‪ ،‬فتنكد ال�سلطان لهذا اخلرب و�أقاموا عنده الأمراء اىل قريب‬ ‫الظهر وهم يف �ضرب م�شورة ب�سبب ذلك‪ ،‬وكان ازبيك خان �ضد ال�صويف وكان م�شغ ً‬ ‫وال مبحاربته‬ ‫عن ابن عثمان و�سلطان م�صر‪ ،‬فلما �أ�شيع قتل ازبيك خان خ�شي ال�سلطان من امر ال�صويف �أن ال‬ ‫يزحف على البالد"‪ 2.‬ويف يوم االثنني ع�شرين من ربيع الأول �سنة ‪ 917‬هجرية ا�ستقبل ال�سلطان‬ ‫"قا�صد ال�صفوي الذي ّقدم له هدايا و�صندوق تبني �أن فيه ر�أ�س ازبيك خان ف�أمر ال�سلطان بدفن‬ ‫الر�أ�س"‪ 3.‬وكان ال�سلطان وكل به جماعة من اخلا�صكية مينعون من يدخل اليه من النا�س قاطبة‬ ‫وال ميكنون �أحداً من جماعة القا�صد يخرج اىل اال�سواق وال يجتمع ب�أحد من النا�س"‪ 4.‬وي�ضيف‬ ‫ابن ايا�س ب�أنه "قد ا�شيع يف بالد ال�صويف ب�أن ال�سلطان قد ا�شتغل مبا �أن�ش�أه يف امليدان من غر�س‬ ‫اال�شجار و�شتول انواع االزهار والرياحني‪ ،‬فق�صدوا ينكتوا عليه بذلك وهذا نوع من التهكم على‬ ‫ال�سلطان"‪ 5.‬ما يدل على ال�ضعف الذي اعرتى �سمعة ال�سلطان امل�صري وتراجع هيبته يف مواجهة‬ ‫خ�صومه‪.‬‬ ‫خال�صة‬

‫ومما تقدم يبدو جلياً �أن جتارة املحيط الهندي كانت يف يد �أمراء وجتار كانوا يعتمدون على م�صر يف‬ ‫حماية جتارتهم‪ ،‬وهو ما يدل عليه جلوء االمراء والتجار مل�صر مل�ساعدتهم على مواجهة الربتغاليني‪.‬‬ ‫كذلك يظهر جلياً ان دخول الربتغاليني اىل املحيط الهندي وعرقلتهم للتجارة فيه وحتويلهم للتجارة‬ ‫عن م�صر وف�شل املماليك يف اخراج الربتغاليني من املحيط الهندي قد �أ�ضعف م�صر كثرياً‪،‬‬ ‫خ�صو�صاً انها كانت تواجه اي�ضاً اال�سبان يف البحر املتو�سط فيما كان ال�صفويون يف ايران قد بد�أوا‬ ‫ي�شكلون تهديدا من ال�شرق‪ .‬كل هذه العوامل جعلت قوة م�صر ترتاجع ما دفع بها اىل اللجوء‬ ‫ملعونة حليفها الوحيد يف ذلك الوقت وهو العثمانيون‪ ،‬اقله حتى العام ‪ 1514‬ميالدي‪ .‬ويزخر اجلزء‬ ‫الرابع من كتاب ابن ايا�س باحلديث عن زيارات متكررة بني موفدين عثمانيني اىل م�صر وموفدين‬ ‫م�صريني اىل الدولة العثمانية‪ ،‬ا�ضافة اىل امل�ساعدات التي تلقتها م�صر من الدولة العثمانية ومنها‬ ‫احلادثة التالية التي يوردها ابن ايا�س‪:‬‬ ‫‪ - 1‬ابن ايا�س ‪191‬‬

‫‪ -2‬ابن ايا�س ‪.207‬‬ ‫‪ -3‬ابن ايا�س ‪219‬‬ ‫‪ -4‬ابن ايا�س ‪.221 – 220‬‬ ‫‪ -5‬ابن ايا�س ‪.222‬‬ ‫‪126‬‬


‫فكــــــر‬

‫ويف �شوال �سنة ‪ 916‬هجرية "و�صلت مراكب عدة من عند ابن عثمان ملك الروم فيها زردخاناه‬ ‫لل�سلطان فو�صلت اىل بوالق عند الر�صيف و�شرعوا يحولون ما فيها اىل القلعة فكان من جملة ذلك‬ ‫مكاحل �سبقيات العدة ثالثمائة‪ ،‬ون�شاب ثالثني الف �سهم‪ ،‬وبارود مطيب �أربعون قنطاراً‪ ،‬ومقاذيف‬ ‫خ�شب العدة الفي مقذاف‪ ،‬وغري ذلك من نحا�س وحديد وعجل وحبال و�سلب ومرا�سي حديد‬ ‫وغري ذلك مما حتتاج اليه املراكب‪ ،‬ف�شكره ال�سلطان على ذلك‪ ،‬وكان ال�سلطان ار�سل ما ًال على يد‬ ‫يون�س العاديل اىل بالد ابن عثمان لي�شرتي له بها �أخ�شاباً ونحا�ساً وحديداً فلما بلغ ابن عثمان ذلك‬ ‫‪1‬‬ ‫رد اليه املال وج ّهز ما ذكرناه من عنده تقدمة لل�سلطان"‪.‬‬ ‫كذلك جت ّلت حالة ال�ضعف يف عدم قدرة ال�سلطان على توزيع العطايا على املماليك وعلى م�ؤيديه‪،‬‬ ‫�إ�ضافة اىل زيادة �شكوكه ب�أركان دولته ومنهم ترجمانه اخلا�ص الذي يورد ابن ايا�س هذه احلادثة يف‬ ‫كتابه حوله‪:‬‬ ‫"الأربعاء احلادي ع�شر من حمرم �سنة ‪ 917‬هجرية؛ قب�ض ال�سلطان على تغري بردي الرتجمان‬ ‫وو�ضعه يف احلديد ووكل به‪ ،‬وار�سل ختماً على بيته واحتاط على موجوده ور�سم على عياله و�سبب‬ ‫ذلك قد بلغ ال�سلطان ان تغري بردي كاتب ملوك الفرجن ب�أحوال مملكة م�صر‪ ،‬و�أن ال�سلطان لي�س‬ ‫له همة اىل �إر�سال جتريدة و�أن ال�سواحل خالية لي�س بها مانع‪ ،‬وقد اح�ضروا اىل ال�سلطان مكاتبات‬ ‫بخط تغري بردي مبعنى ذلك‪ ،‬ف�أح�ضر ال�سلطان تغري بردي و�أوقفه على تلك املطالعات ف�أنكر‬ ‫‪2‬‬ ‫ذلك‪ ،‬فغ�ضب عليه و�شكه يف احلديد ووكل فيه"‪.‬‬ ‫وبالتايل ف�إن كانت احلروب ال�صليبية قد جنحت يف ك�سر احتكار العرب – امل�سلمني للتجارة يف‬ ‫البحر املتو�سط يف القرن الثاين ع�شر ميالدي‪ ،‬و�إن كان الغزو املغويل قد �أدى اىل اخراج التجارة‬ ‫الربية من يد العرب امل�سلمني يف الرب الآ�سيوي اىل ال�صني عرب و�سط �آ�سيا‪ ،‬ف�إن دخول الربتغاليني‬ ‫اىل املحيط الهندي وك�سرهم للهيمنة العربية – اال�سالمية عليه يف القرن ال�ساد�س ع�شر قد �أفقدهم‬ ‫�آخر بوابة لهم على التجارة العاملية و�ساهم يف تهمي�شهم‪ ،‬وعلى ر�أ�سهم م�صر رائدة هذا العامل‬ ‫العربي اال�سالمي بني القرنني الثاين ع�شر وال�ساد�س ع�شر‪ .‬ومل يكن وقوع دولة املماليك يف م�صر‬ ‫وال�شام واحلجاز حتت الهيمنة العثمانية �إال ا�ستكما ًال لفقدان جتارة املحيط الهندي‪.‬‬

‫‪ -1‬ابن ايا�س ‪.201‬‬ ‫‪ -2‬ابن ايا�س ‪210‬‬ ‫‪127‬‬


‫الئحة املراجع‬

‫ ابن ايا�س ‪ ،‬بدائع الزهور يف وقائع الدهور‪ ،‬اجلزء الرابع‪ ،‬حتقيق حممد م�صطفى‪( ،‬القاهرة‪.)1960 :‬‬‫ �إبن جبري‪ ،‬رحلة ابن جبري‪( ،‬بريوت‪ :‬ال�شركة العاملية للكتاب)‬‫ ابن خرداذبه‪ ،‬كتاب امل�سالك واملمالك‪http://al-hakawati.net/arabic/civilizations/33.pdf ،‬‬‫ ابن بطوطة حممد بن عبد اهلل بن حممد بن ابراهيم اللواتي الطنجي‪ ،‬رحلة ابن بطوطة امل�سماة حتفة النظار‬‫يف غرائب االم�صار وعجائب اال�سفار‪( ،‬بريوت‪ :‬ال�شركة العاملية للكتاب‪)1991 ،‬‬ ‫ ال�شريف الإدري�سي‪ ،‬املغرب و�أر�ض ال�سودان وم�صر والأندل�س‪ :‬م�أخوذ من نزهة امل�شتاق يف اخرتاق الآفاق‪،‬‬‫(ليدن‪ :‬مطبعة بريل‪)1863 ،‬‬ ‫ ال�شريف الإدري�سي‪ ،‬نزهة امل�شتاق يف اخرتاق الآفاق‪http://al-hakawati.net/arabic/ ،‬‬‫‪civilizations/230.pdf‬‬

‫ حمدان جمال‪ ،‬العامل الإ�سالمي املعا�صر‪( ،‬القاهرة‪ :‬عامل الكتب‪.)1990 ،‬‬‫ عثمان �شوقي عبد القوي ‪ ،‬جتارة املحيط الهندي يف ع�صر ال�سيادة اال�سالمية ‪( ،1498 – 661 :‬الكويت‪:‬‬‫عامل املعرفة‪.)1990 ،‬‬

‫‪128‬‬


‫د‪.‬رجاء بن �سالمة ‪� -‬أ�ستاذة جامعية وباحثة‬

‫فـكــــــــر‬

‫نقد الثّوابت يف الفكر العربي*‬

‫ّ‬

‫�ضمت مقاالت ر�أي‪ .‬ون�شر يف دار ّ‬ ‫الطليعة �سنة ‪.2005‬‬ ‫"نقد الثّوابت" هو عنوان �أحد كتبي التي ّ‬ ‫�إ ّال �أ ّننا ال ن�ستحم يف ال ّنهر م ّرتني‪ ،‬ال لأنّ ال ّنهر يتغيرّ فح�سب‪ ،‬بل لأنّ‬ ‫ّ‬ ‫امل�ستحم نف�سه يتغيرّ ‪ .‬تغيرّ‬ ‫الواقع‪ ،‬وتغيرّ ت �أنا‪ ،‬وال ميكن �أن �أطرق مو�ضوع الثّوابت كما طرقته يف �سنة ‪ ،2004‬عند ت�أليف هذا‬ ‫الكت ّيب‪ .‬وترون �أن ّني هنا �أي�ضاً يف قلب مو�ضوع الثّوابت‪ ،‬ومو�ضوع االختالف‪ ،‬باعتبار �أ ّنه لي�س‬ ‫تعدد املختلفني فح�سب‪ ،‬بل اختالف الواحد عن نف�سه‪ .‬و�أ�ضع نف�سي هنا يف م�ساحة ال ّتفكيك‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وهو خمتلف عن ال ّنقد‪ .‬فال ّتفكيك‪ ،‬خالفا لل ّنقد ال يعترب نف�سه �صادراً عن �سلطة حماكمة تعمل‬ ‫وفق ّ‬ ‫خمطط م�سبق‪ .‬بعبارة �أو�ضح‪� ،‬أحاول �أنا �أي�ضاً تفكيك ثوابتي‪.‬‬ ‫ال�سيا�س ّية العرب ّية وغري‬ ‫منذ ع�شر �سنوات‪ ،‬الحظت �أنّ مفهوم "الثّوابت" متداول يف اخلطابات ّ‬ ‫الفرن�سي ال‬ ‫ال�سيا�س ّية الغربية‪� ،‬أو على ال ّأقل يف الفرن�س ّية‪ ،1‬بل �إنّ مقابله‬ ‫متداول يف اخلطابات ّ‬ ‫ّ‬ ‫ال�صحيحة‪ .‬والحظت �أنّ هذا املفهوم يف العرب ّية ي�ستعمل يف لغة‬ ‫ي�ستعمل �إ ّال يف �سياق العلوم ّ‬ ‫ال�سيا�سة والقانون‪ ،‬والحظت �أ ّنه م�شرتك بني ّ‬ ‫ال�سيا�س ّية �آنذاك‪ّ ،‬مما يعني �أ ّنه ينتمي‬ ‫كل ال ّت ّيارات ّ‬ ‫أعد هذه‬ ‫ال�سيا�س ّيني‪ .‬ما هو هذا القاع؟ حملني الف�ضول و�أنا � ّ‬ ‫�إىل قاع عميق م�شرتك للفكر واخليال ّ‬ ‫الدين‬ ‫املحا�ضرة �إىل البحث يف تاريخ هذه الكلمة "الثّوابت"‪ ،‬فتبينّ يل �أ ّنها مل تكن ت�ستعمل يف ّ‬ ‫ال�سيا�سة‪ ،‬ومل تكن ت�ستعمل مبعنى عدم ال ّتغيرّ وعدم االختالف‪ .‬ففي القر�آن ت�ستعمل الكلمة‬ ‫وال ّ‬ ‫* ‪ -‬القيت هذه املحا�ضرة بالأوني�سكو بتاريخ ‪� 9‬أيار ‪ 2015‬بدعوة من م�ؤ�س�سة �سعاده للثقافة‪ .‬وقدمها �سليمان بختي‪.‬‬ ‫‪ - 1‬كتبت يف تقدمي "نقد الثّوابت"‪ّ :‬‬ ‫االجتماعي‪ ،‬منها‬ ‫الدميقراط ّية ثوابت ينبني عليها العقد‬ ‫"لكل املجتمعات ّ‬ ‫ّ‬ ‫ال�سلط واحرتام مبادئ امل�ساواة واحل ّر ّية‪.‬‬ ‫احرتام القوانني واعتبارها تعلو وال ُيعلى عليها‪ ،‬واحرتام مبد�أ االنف�صال بني ّ‬ ‫يتحدث عنها كثرياً يف هذه املجتمعات‪ ،‬ال لأ ّنها مفروغ منها فح�سب‪ ،‬بل لأ ّنها لي�ست من الثّوابت‬ ‫وهذه الثّوابت ال ّ‬ ‫الدميقراط ّية نف�سها جلعلها ت�شارك ّية‬ ‫اجلامدة‪ ،‬فهي ال حتول دون تط ّور القوانني وحت ّرر الأفراد‪ ،‬وال حتول دون تطوير ّ‬ ‫إيجابي"‬ ‫ولتعميقها‪ ،‬وال حتول دون تطوير مبد�إ امل�ساواة نف�سه جلعله �أكرث فاعل ّية وجلعله ّ‬ ‫جم�سداً يف ال�شّ راكة و"ال ّتمييز ال ّ‬ ‫الذي ت�ستفيد منه فئات ّمت تهمي�شها لأ�سباب ّ‬ ‫متجذرة يف ال ّتاريخ ويف الأبنية الثّقاف ّية املوروثة‪ .‬بل �إ ّننا نحتار �إذا �أردنا‬ ‫ترجمة كلمة "الثّوابت" �إىل ال ّلغات الأخرى‪ ،‬لأنّ مقابالتها يف الفرن�س ّية والإنكليز ّية مث ًال لي�ست جزءاً من ال ّلغة‬ ‫ال�سيا�س ّية املتداولة‪ ،".‬دار ّ‬ ‫الطليعة ورابطة العقالنيني العرب‪ ،‬بريوت ‪� ،2005‬ص �ص ‪.6 - 5‬‬ ‫ّ‬ ‫‪129‬‬


‫ال�ص ّحة‪ٌ :‬‬ ‫ثابت‪� :‬صحيح‪ .‬ويف التنزيل العزيز‪ُ :‬ي َث ِّب ُت اللهَّ ُ الذين �آمنوا بالقول الثابت؛‬ ‫"وقول ٌ‬ ‫مبعنى ّ‬ ‫وك ُّله من الثَّبات‪�( ".‬سورة �إبراهيم‪ ،27 /‬ل�سان العرب)‪ .‬وت�ستعمل �صيغة "الثّوابت" يف جمال‬ ‫ال�سيارة‪" :‬ف�أقول‪ :‬الأجرام العالية‬ ‫الفلك للحديث عن الكواكب الثّوابت يف مقابل الكواكب ّ‬ ‫تنق�سم �إىل كواكب و�إىل �أفالك‪� :‬أما الكواكب فتنق�سم �إىل �سيارات‪ .‬و�إىل‪ ‬ثوابت‪ ،‬وال�سيارات‬ ‫�سبعة‪ ،‬والثوابت‪� ‬أكرث من �أن حت�صى‪ .‬وقد ر�صد منها �ألف ون ّيف وع�شرون كوكباً‪ ،‬والطريق �إىل‬ ‫‪1‬‬ ‫معرفة وجود الكواكب هو العيان ال غري‪ .‬و�إىل معرفة �سريها و�إثباتها هو الر�صد"‪.‬‬ ‫فمن �أين جاء اال�ستعمال احلديث لكلمة "الثّوابت" يف ّ‬ ‫ين؟‬ ‫�سجل‬ ‫وديني وقانو ّ‬ ‫�سيا�سي ّ‬ ‫ّ‬ ‫لكن املعرفة ال ّرقم ّية ت�سمح‬ ‫حد الآن معجم‬ ‫لي�س لنا �إىل ّ‬ ‫تاريخي ل ّلغة العرب ّية يبينّ تط ّور الكلمات‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫حد ما‪ .‬فقد تبينّ يل‪� ،‬إىل �أن ي�أتي ما يخالف ذلك‪� ،‬أنّ �أ ّول ا�ستعمال لها‬ ‫لنا بتدارك هذا ال ّنق�ص �إىل ّ‬ ‫�سجل غري ّ‬ ‫باملعنى اجلديد ويف ّ‬ ‫�سجل الفلك يعود �إىل �أدب ّيات تنظيم الإخوان امل�سلمني‪ ،‬و�إىل ح�سن‬ ‫الب ّنا (‪� )1949 - 1904‬أ�سا�ساً‪ ،‬ح ّتى �أنّ �أحد تالميذه اعترب ال ّتمييز بني "الثّوابت" و"املتغيرّ ات"‬ ‫�أ�سا�س "منهاجه"‪ .2‬فـ"الثوابت هي الأمور التي ينبغي �أن تظل دون تغيري �أو تبديل على مر‬ ‫الزمان واختالف املكان‪ ،‬وهي مبثابة القواعد احلاكمة على الأفراد‪ ،‬والإطار ال�ضابط ل�سلوكهم‬ ‫وت�صرفهم‪ ،‬وامليزان الدقيق الذي ال يخطئ‪ ،‬والذي يتميزون به عن غريهم‪ ،‬لهذا ف�إن الثوابت‬ ‫لي�ست جمال م�ساومة وال مراجعة‪� ...‬أما املتغيرّ ات فهي الأمور التي ميكن �أن يعرتيها التبديل‬ ‫والتغيري والت�أويل والتطوير‪ ،‬ويعترب التغيري فيها �أمراً ال يخرج الأ�صل عن ا�ستمراريته وخ�صائ�صه‬ ‫مت�س �أ�سا�سياته‪ ،‬فهي �أمور مرنة لأن تغيري الزمان واملكان يحتاج مرونة وتك ّيفاً‪ ،‬وجتاوباً‬ ‫املميزة التي ال ّ‬ ‫مع االحتفاظ بالثوابت‪ ،‬واهلل ع ّز وجل �أودع يف الإ�سالم من الثوابت ما ي�ضمن به اال�ستمرار‪ ،‬ومن‬ ‫‪3‬‬ ‫املتغيرّ ات ما يكفل له بها ال�صالحية‪ ،‬واملالءمة لكل الظروف والأزمان"‪.‬‬ ‫كيف م ّيزت ّ‬ ‫الدعوة الإخوان ّية بني الثّابت واملتغيرّ ؟ وكيف من ّيز بني الثّابت واملتغيرّ ؟ و�إذا تغيرّ املتغيرّ‬ ‫داخل الثّابت‪ ،‬فكيف يبقى ثابتاً مع ذلك؟ �إذا فر�ضنا مث ًال وجود ج�سم ما‪ ،‬وفر�ضنا �أنّ جزءاً من‬ ‫هذا اجل�سم يتغيرّ وجزءاً منه ال يتغيرّ ‪ ،‬فكيف ال ي�صيب ال ّتغيرّ كامل اجل�سم؟ �إذاً تغيرّ ات جزئ ّية‬ ‫ولو طفيفة يف اجل�سم‪� ،‬أفال يكون كامل اجل�سم قد تغيرّ ؟ وكيف ميكن علم ّياً �أن يبقى الثّابت ثابتاً‬ ‫الطو�سي‪� ،‬شرح الإ�شارات والتنبيهات البن �سينا‪� ،‬ص ‪ ،302‬موقع الوراق‪.‬‬‫‪1‬‬ ‫ّ‬ ‫‪� - 2‬أنظر كتاب جمعة �أمني‪ ،‬منهج الإمام البنا‪ ،‬الثوابت واملتغريات‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار التوزيع والن�شر الإ�سالمية‪ ،‬ط‪،1‬‬ ‫الدعو ّية ‪/http://www.daawa-info.net :‬‬ ‫‪2000‬م‪ .‬والكتاب من�شور يف مو�سوعة ال�شّ بكة ّ‬ ‫إ�سالمي عند الإمام ال�شّ هيد ح�سن الب ّنا»‪ ،‬امل� ّؤ�س�سة‬ ‫ويف �سنة ‪� 1986‬صدر كتاب د‪ .‬مازن ف ّروخ‪" ،‬ثوابت العمل ال ّ‬ ‫الإ�سالم ّية‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪.1986 /1‬‬ ‫‪ - 3‬جمعة �أمني‪ ،‬منهج الإمام الب ّنا‪ّ ،‬‬ ‫الطبعة ال ّرقم ّية نف�سها‪.‬‬ ‫‪130‬‬


‫فكــــــر‬

‫واحلال �أنّ ّ‬ ‫وال�صعوبة الأخرى يف هذا ال ّتمييز‬ ‫اخلا�صة؟ ّ‬ ‫اخلا�صة‪ ،‬ويف ظرف ّيتها ّ‬ ‫الذوات تراه بعيونها ّ‬ ‫تتمثّل يف ال ّتناق�ض ال ّتايل‪� :‬إذا كانت الثّوابت ثابتة‪ ،‬فما ّ‬ ‫الذي �أ ّدى �إىل ال ّرغبة يف حفظها وتثبيتها؟‬ ‫م�سك‬ ‫عوي الإخوا ّ‬ ‫�إذا كانت الثّوابت ثابتة حمفوظة‪ ،‬و�إذا كان اخلطاب ّ‬ ‫الد ّ‬ ‫ين يقوم على �ضرورة ال ّت ّ‬ ‫بالثّوابت‪� ،‬أفال يتناق�ض مع نف�سه‪ ،‬بحيث �إنّ و�صفه لواقع احلال هو يف الوقت نف�سه برناجمه؟‬ ‫الثّوابت كما قلت لفظة ا�ستعملت قدمياً‪ ،‬وعلى الأغلب‪ ،‬للكواكب التي اعتربت غري �س ّيارة‪.‬‬ ‫ومعلوم �أنّ القدامى اعتقدوا بعدم تغيرّ الأجرام العلو ّية‪� ،‬سواء �أكانت �س ّيارة �أم ثوابت‪ّ .‬‬ ‫كذبت‬ ‫احلداثة العلم ّية هذا ال ّت� ّصور‪ ،‬وب ّينت �أنّ الأجرام لها �أعمار وم�صائر ت�ؤ ّدي بها �إىل الفناء‪ .‬فال�شّ م�س‬ ‫ال�سنني لكي تنطفئ‪.‬‬ ‫مث ًال و�صلت �إىل منت�صف العمر‪ ،‬وبقيت �أمامها �أربعة مليارات من ّ‬ ‫ال�سماء‪� ،‬سقطت على الأر�ض‪ ،‬والتقفها م� ّؤ�س�سو‬ ‫فك�أنّ فكرة الثّبات التي �أطردتها احلداثة من ّ‬ ‫ال�سماء‪ ،‬فلم تعد الثّوابت يف العرب ّية كواكب �سماو ّية‪ ،‬بل‬ ‫ال ّتفكري الأ�صو ّيل ح ّتى يث ّبتوا ما حتت ّ‬ ‫�أ�صبحت �أفكاراً �أر�ض ّية من ّزهة عن ال ّتغيرّ والكون والف�ساد‪.‬‬ ‫ونحن نرى �أنّ "الثّوابت" هي الكلمة املفتاح التي تختزن معاين رف�ض الواقع‪ ،‬ورف�ض ال ّتغيرّ‬ ‫يا�سي الذي بد�أ يكت�سح العامل‪ .‬بد ًال من �أن يغيرّ الفكر نف�سه ليفهم الواقع اجلديد‪،‬‬ ‫االجتماعي ّ‬ ‫وال�س ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وباوي‪ .‬ولذلك �سي�أتي �س ّيد قطب (‪)1966 - 1906‬‬ ‫الط‬ ‫الفكر‬ ‫أ�سا�س‬ ‫�‬ ‫هو‬ ‫وهذا‬ ‫الواقع‪.‬‬ ‫تغيري‬ ‫ف�إ ّنه يريد‬ ‫ّ‬ ‫بعد ذلك ليعلن عن فكرة هذيان ّية هي �أنّ املجتمعات الإ�سالم ّية عادت �إىل اجلاهل ّية وجتب �أ�سلمتها‬ ‫جمدداً‪ .‬فتنظيم الإخوان الذي ن�ش�أ بعد ب�ضع �سنوات من �إلغاء اخلالفة بد�أ عن طريق ّ‬ ‫دال "الثّوابت"‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ينظم معار�ضة الواقع‪ّ ،‬‬ ‫ويف�ضل فكرته عن الواقع على الواقع نف�سه‪ .‬وما ّقدمه من �أ�س�س لهذه الفل�سفة‬ ‫هي "ثوابت" متثّل �أ�ضداداً لل ّتغيريات احلا�صلة يف العامل‪.‬‬ ‫�سماه مر�سال قو�شيه ‪ Gauchet‬ب�سريورة‬ ‫منذ حوايل خم�سة قرون‪ ،‬بد�أت يف العامل الأورو ّبي ما ّ‬ ‫الدين مل يعد ّ‬ ‫ينظم كامل‬ ‫الدين �أو الإميان‪ ،‬بل تعني �أنّ ّ‬ ‫الدين‪ ،‬وهي ال تعني زوال ّ‬ ‫اخلروج من ّ‬ ‫وال�سيا�س ّية‪� ،‬أي مل ي ُعد نظاماً �شام ًال يهيكل املجتمع طبقاً لغري ّية قدا�س ّية‬ ‫احلياة االجتماع ّية ّ‬ ‫ي�سميها قو�شيه بـ‪ .hétéronomie‬كانت هناك ّ‬ ‫الدين منها‬ ‫حمطات كربى يف هذا اخلروج من ّ‬ ‫ّ‬ ‫الثّورة الفرن�س ّية �سنة ‪ ،1789‬وقد كانت ثورة م�ساواة وانف�صال عن الكني�سة‪ ،‬ب�إلغاء االمتيازات‬ ‫ال�ضمري وامل�ساواة‪ .‬وجت ّلى ذلك‬ ‫الكن�س ّية وت�أكيد الإعالن عن حقوق الإن�سان واملواطن على ح ّر ّية ّ‬ ‫�أي�ضاً من خالل املعركة العلمان ّية‪ .‬فقد ظهرت الكلمة املرادفة للعلمان ّية بالفرن�س ّية يف �سنة ‪.1870‬‬ ‫وبعد ذلك ت�سارع ن�سق ال ّتح ّوالت العلمان ّية يف فرن�سا‪ ،‬مثل �إلغاء تهمة الكفر �أو ازدراء الأديان‬ ‫الدين ّية �سنة‬ ‫بال�صحافة �سنة ‪ ،1881‬والف�صل بني ال ّت�شريفات الع�سكر ّية واحلفالت ّ‬ ‫يف قانون متع ّلق ّ‬ ‫‪ ،1883‬و�إقرار ّ‬ ‫ال�سنة بالربملان‪،‬‬ ‫الطالق املد ّ‬ ‫ين �سنة ‪ ،1884‬و�إلغاء ّ‬ ‫ال�صلوات العا ّمة ال �س ّيما يف افتتاح ّ‬ ‫ين �سنة ‪.1887‬‬ ‫بالدفن املد ّ‬ ‫والقبول ّ‬ ‫‪131‬‬


‫ال�سلطة وا�ستقالله عنها‪ ،‬والإقرار مب�س�ؤول ّية الب�شر‬ ‫ال�سيا�س ّية انف�صال املجتمع عن ّ‬ ‫واقت�ضت احلداثة ّ‬ ‫عن �أفعالهم‪ .‬فمجال ال�سيا�سة والقانون هو جمال املمار�سات الب�شر ّية التي يجب �إخ�ضاعها �إىل‬ ‫الدين قائم على املطلقات‪ .‬ولذلك مل يعد ب�إمكان‬ ‫املحا�سبة واملراجعة وال ّنقد‪ ،‬يف حني �أنّ جمال ّ‬ ‫م�ستمدة من �إرادة ال�شّ عب‬ ‫ال�سيا�س ّية‪ ،‬بل �أ�صبحت هذه ال�شّ رع ّية‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الدين اليوم �أن ي� ّؤ�س�س ال�شّ رع ّية ّ‬ ‫كما تعبرّ عنها �صناديق االقرتاع‪ .‬ومن ال ّناحية القانون ّية اقت�ضت احلداثة �إقرار مبد�أ املواطنة الذي‬ ‫يقت�ضي �أن يكون ّ‬ ‫كل املواطنني مت�ساوين �أمام القانون ويف القانون‪ ،‬بقطع ال ّنظر عن اجلن�س واللون‬ ‫اخلا�ص‬ ‫ّ‬ ‫والدين واملذهب واملعتقد‪ .‬وكان ال ّبد من الف�صل بني الأخالق والقانون‪ ،‬وبني الف�ضاء ّ‬ ‫تتدخل يف الكثري من مظاهر حياة الإن�سان ال�شّ خ�ص ّية‪.‬‬ ‫الدولة ال ميكن �أن ّ‬ ‫والف�ضاء العا ّم‪ ،‬بحيث �إنّ ّ‬ ‫املقد�س‪ ،‬عرب �إقامة عالقة به قد تكون خمتلفة‬ ‫واقت�ضت ح ّر ّية املعتقد وال�ضمري حترير العالقة بال ّن ّ�ص ّ‬ ‫عن العالقة التي � ّأ�س�سها ال ّتقليد‪.‬‬ ‫وقد جاءت الفكرة العلمانية بعد قرون من الرعب القدا�سي‪ .‬فكانت حلاّ ً �ضرورياً للخروج من‬ ‫حماكم ال ّتفتي�ش التي ر ّوعت العلماء ّ‬ ‫واملفكرين وا ّتهمتهم بالهرطقة‪ ،‬وحرقت حوايل ‪� 50‬ألف امر�أة‬ ‫وال�سابع ع�شر‪ .‬وكانت هذه الفكرة �أي�ضاً ح ّال للخال�ص‬ ‫بال�سحر بني القرنني ال�ساد�س ع�شر ّ‬ ‫م ّتهمة ّ‬ ‫من احلروب الأهل ّية بني الربوت�ستانت والكاثوليك‪ ،‬وقد توا�صلت من �سنة ‪� 1520‬إىل ‪.1787‬‬ ‫إ�سالمي‪.‬‬ ‫واندرج �إلغاء اخلالفة يف هذه ّ‬ ‫ال�صريورة املتعلمنة نف�سها‪ ،‬و�إن كان �إطارها العامل ال ّ‬ ‫الغربي‪ ،‬بل حد�سوا‬ ‫ال�صريورة التي اكت�سحت العامل‬ ‫ّ‬ ‫لكن الإ�سالم ّيني مل يدركوا كنه هذه ّ‬ ‫ّ‬ ‫الدين يف املجموعة واملجتمع‪ .‬وربمّ ا مل ي�ساعد و�ضع اال�ستعمار على‬ ‫ال�شعور ّياً ب�أ ّنها تغيرّ منزلة ّ‬ ‫ذلك‪ ،‬وربمّ ا ترك �إلغاء �أعلى م� ّؤ�س�سة �إ�سالم ّية رمز ّية جرحاً فاغراً يف نفو�سهم‪ .‬فبنوا �أ�سطورة‬ ‫�سرد ّية قائمة على ح�صول كارثة تتط ّلب �إنقاذاً‪ .‬وهذه الكارثة هي الغزو وال ّتل ّوث‪ ،‬وهذا الإنقاذ هو‬ ‫م�سك بالثّوابت‪ .‬يقول م�ؤلف كتاب "منهج الإمام"‪" :‬فبالتم�سك بالثوابت ينجح امل�سلمون‬ ‫ال ّت ّ‬ ‫حتد �أمامهم وهو التلوث الفكري العاملي من اليهودية‬ ‫اليوم يف مواجهة �أخطر غزو لهم‪ ،‬و�أكرب ٍّ‬ ‫الغا�شمة وال�صليبية احلاقدة‪ ،‬والعلمانية املارقة‪ ،‬فهل بغري التم�سك بالثوابت ن�ستطيع �أن نواجه هذه‬ ‫الهجمة ال�شر�سة؟"‪.1‬‬ ‫ال�شريعة‪ ،‬التي �أ�صبحت‬ ‫ودعموا ال ّثوابت بفكرة خلود ّ‬ ‫إ�سالميون ال ّثوابت‪ّ ،‬‬ ‫�أمام ال ّتغيرّ طرح ال ّ‬ ‫ال�شعار ربمّ ا لأول ّمرة يف تف�سري املنار‪ ،‬كما �أ�شرف عليه‬ ‫�صاحلة لكلّ زمان ومكان‪ ،‬وقد جاء هذا ّ‬ ‫ف�سر به القر�آن على �أ ّنه هداية عا ّمة للب�شر‬ ‫و�أخرجه ر�شيد ر�ضا‪" :‬هذا هو ال ّتف�سري الوحيد الذي ّ‬ ‫ورحمة للعاملني‪ ،‬و�أ ّنه جامع لأ�صول العمران و�سنن االجتماع‪ ،‬وموافق مل�صلحة ال ّنا�س يف كلّ‬ ‫زمان ومكان بانطباق عقائده على العقل‪ ،‬و�آدابه على الفطرة‪ ،‬و�أحكامه على درء املفا�سد‬ ‫‪ - 1‬منهج الإمام الب ّنا‪ّ ،‬‬ ‫الطبعة ال ّرقم ّية نف�سها‪.‬‬ ‫‪132‬‬


‫فكــــــر‬

‫وحفظ امل�صالح‪ .‬وهذه هي ّ‬ ‫الطريقة الني جرى عليها يف درو�سه يف الأزهر حكيم الإ�سالم‬ ‫‪1‬‬ ‫وعلم الأعالم الأ�ستاذ الإمام‪. "...‬‬ ‫وال�سيا�سة والقانون �إىل احلياة ال�شّ خ�ص ّية‪ ،‬و�ضعوا �صخرة‬ ‫و�أمام تزحزح ّ‬ ‫الدين عن احلياة العا ّمة ّ‬ ‫ين�ص على ما يلي‪" :‬الإ�سالم‪ ‬نظام‪� ‬شامل‬ ‫�شمول ّية ّ‬ ‫الدين‪ .‬ف�أ ّول مبد�أ من مبادئ "ر�سالة ال ّتعاليم" ّ‬ ‫يتناول مظاهر احلياة جميعاً‪ ،‬فهو دولة ووطن‪� ،‬أو حكومة و�أ ّمة‪ ،‬وهو خلق وق ّوة‪� ،‬أو رحمة وعدالة‪،‬‬ ‫وهو‪ ‬ثقافة‪ ‬وقانون �أو علم وق�ضاء‪ ،‬وهو مادة �أو ك�سب وغنى‪ ،‬وهو جهاد ودعوة �أو جي�ش‪ ‬وفكرة‪ ،‬كما‬ ‫‪2‬‬ ‫هو عقيدة �صادقة وعبادة �صحيحة �سواء ب�سواء"‪.‬‬ ‫حممد عبده‬ ‫الدين‪ ،‬و�ضعوا لبنة "الإعجاز‬ ‫و�أمام انف�صال العلم عن ّ‬ ‫العلمي للقر�آن"‪ .‬ف�شاع منذ ّ‬ ‫ّ‬ ‫�سجيل" هي اجلراثيم‪،‬‬ ‫�إىل‬ ‫الكواكبي‪ ،‬مروراً بر�شيد ر�ضا ت�أويل �سورة الفيل على �أنّ "احلجارة من ّ‬ ‫ّ‬ ‫وبع�ضهم ذهب �إىل �أنّ ّ‬ ‫"الطري" هي نوع من ّ‬ ‫الذباب �أو احل�شرات التي حتمل بكترييا‪.‬‬ ‫العربي" �أو‬ ‫وال ّر�أي عندي �أنّ الأمر ال يتع ّلق فح�سب ب�أبنية معرف ّية تدر�س حتت يافطة نقد "العقل ّ‬ ‫الدفاع عليها غلبة �ساحقة‬ ‫إ�سالمي"‪ ،‬بل هي و�ضع ّية لذات جماع ّية ت ّت�سم بغلبة �آل ّيات ّ‬ ‫"العقل ال ّ‬ ‫الدفاع جتعل ّ‬ ‫الذات ت�ستثمر ال�شّ يء املرفو�ض –الواقع ‪ -‬ا�ستثماراً‬ ‫متنعها من الإبداع‪� .‬إنّ �آل ّيات ّ‬ ‫وت�سخر ّ‬ ‫الدفاع‬ ‫�سلب ّياً‪ّ ،‬‬ ‫كل طاقتها التي ت�صبح �سلب ّية يف هذا اال�ستثمار‪ .‬وميكن يل �أن �أ�صف �آل ّيات ّ‬ ‫كال ّتايل‪:‬‬ ‫العربي‪،‬‬ ‫ �إنكار الواقع‪ .‬وجند هذا الإنكار يف ال ّلحظة التي ي�ؤ ّرخ بها الباحثون بداية احلداثة يف العامل ّ‬‫مع حملة نابليون بونابارت على م�صر‪� .‬أ�سوق هنا واقعة تتع ّلق بهذه احلملة �أوردها امل�ؤ ّرخ هرني‬ ‫لورن�س ‪�" : Henri Laurens‬سبقت الع�شاء وعقبته �أحاديث‪ .‬وقال اجلرنال بونابارت لل�شّ يوخ �إنّ‬ ‫ال�صناعات والعلوم يف عهد اخللفاء‪ ،‬لك ّنهم الآن �أ�صبحوا يف جهالة مطبقة ومل‬ ‫العرب برعوا يف ّ‬ ‫ال�سادات �أن بقي لهم القر�آن الذي يحوي ّ‬ ‫كل‬ ‫يبق لهم �شيء من معارف �أجدادهم‪ .‬فر ّد ال�شّ يخ ّ‬ ‫عما �إذا كان القر�آن يع ّلمهم كيف ينحتون مدفعاً‪ .‬ف�أجاب ّ‬ ‫كل ال�شّ يوخ‬ ‫املعارف‪ .‬ف�س�أل اجلرنال ّ‬ ‫‪3‬‬ ‫احلا�ضرين بوقاحة‪ :‬نعم‪".‬‬ ‫وتك ّرر الإنكار بعد ذلك بحيث حت ّولت ّ‬ ‫كل الهزائم �إىل نك�سات �أو انت�صارات‪ .‬كما هو معلوم‪.‬‬ ‫الذات‪ :‬فل�سان حال هذه ّ‬ ‫ ابتالع العامل داخل ّ‬‫الذات التي تنكر الواقع هو‪ّ :‬‬ ‫كل �شيء عندنا‪،‬‬ ‫الدميقراط ّية‪ ،‬بل فيه ما هو �أف�ضل منها‪� ،‬أي ال�شورى‪.‬‬ ‫ال�صحيحة وفيه ّ‬ ‫ن�ص �شامل‪ ،‬فيه العلوم ّ‬ ‫عندنا ّ‬ ‫‪ - 1‬تف�سري املنار‪� ،‬صفحة الغالف‪.‬‬ ‫‪ - 2‬من�شورة يف "ويكبيديا الإخوان امل�سلمني»‪ ،‬موقع ح�سن الب ّنا‪.‬‬ ‫‪ - 3‬نقال عن ‪Fethi Benslama, La Guerre des subjectivités, Tunis, Cérès éditions, p30 :‬‬ ‫‪133‬‬


‫وال ب�أ�س من تخ ّيل وجود ّ‬ ‫كل االكت�شافات العلم ّية يف القر�آن‪ ،‬كما يتخ ّيل ال ّنا�سك العامل يف فولة‪،‬‬ ‫والد ّ‬ ‫وال�سياقي لإنتاج ّ‬ ‫وال ب�أ�س من اقتالع ّ‬ ‫كل �أنواع اخللط‬ ‫املفهومي‬ ‫وال من ن�سيجها‬ ‫كل املفاهيم ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫اريخي‪.‬‬ ‫ال ّت ّ‬ ‫الدين مل يعد نظاماً �شام ًال للمجتمع‪ ،‬ف�أ�صبح‬ ‫الدفاع هذه كما يلي‪ّ :‬‬ ‫وميكن �أن جنمل القول يف �آل ّية ّ‬ ‫ال ّن ّ�ص �شام ًال ّ‬ ‫لكل العامل‪.‬‬ ‫وقد ب ّينت يف بحث �سابق �أنّ لهذه البنية مالمح ماليخول ّية �أ�سا�سها عدم �إقامة احلداد على املا�ضي‪،‬‬ ‫أبدي‪ ،‬مع ا�ستثمار م�ضا ّد للواقع‪� .‬إ ّنه ال ّتع ّلق املاليخو ّيل للوهم باعتباره‬ ‫وا�ستثماره وك�أ ّنه حا�ضر � ّ‬ ‫مو�ضوعاً تا ّماً غري مثلوم‪.‬‬ ‫لكن فكر الثّوابت ال ينكر حت ّول الواقع فح�سب‪ ،‬بل يريد �إيقاف الفكر �أي�ضاً‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫�س�أ�سوق �أ ّو ًال نادرة فل�سف ّية‪ ،‬تتمثّل يف �أنّ �أحدهم �س�أل �أ�ستاذه عن عدد �أ�سنان البقرة‪ .‬فعاد الأ�ستاذ‬ ‫لكن ال ّتلميذ مل يقنع بالإجابة‪ ،‬فذهب �إىل بقرة‪ ،‬وفتح‬ ‫�إىل كتاب �أر�سطو‪ ،‬وجاء بجواب منه‪ّ .‬‬ ‫فمها ليح�صي عدد �أ�سنانها‪ .‬وعاد �إىل �أ�ستاذه بجواب خمتلف‪ ،‬فنهره الأ�ستاذ‪ .‬فمو�ضوع الفكر هو‬ ‫الواقع‪ ،‬وهناك من يحاول �أن يرى الواقع با�ستعمال �سند غري عقله و�إدراكه‪ .‬والثّوابت كما ب ّينت‬ ‫حجة �سلطة‪ .‬ميكن �أن نقول‪ :‬يوجد فكر للثّوابت‪،‬‬ ‫حجاب يحول دون ر�ؤية الواقع‪ .‬ولك ّنها �أي�ضاً ّ‬ ‫ال�سلف‪ ،‬ويوجد فكر يريد �أن يرى‪ .‬وربمّ ا يريد‬ ‫ال يريد �أن يرى �أ�سنان البقرة كما هي‪ ،‬بل يراها عرب ّ‬ ‫�أن يرى �أ�سنان البقرة بعد �أن هرمت‪ ،‬وتغيرّ ت‪ .‬الفكر الذي ال يريد �أن يرى‪ ،‬يتو ّهم ب�أنّ ال ّزمن‬ ‫واقف‪ ،‬ثابت‪ ،‬في�صادر على وجود الثّوابت‪ ،‬وهذا الفكر نف�سه‪ ،‬ينت�صب جهازاً �سلطو ّياً ي ّتهم ويكفّر‪.‬‬ ‫الدين‬ ‫ف�أر�سطو يف ال ّنادرة الفل�سف ّية تع ّو�ضه يف واقع امل�سلمني �سلطة �أكرث قدا�سة هي "املعلوم من ّ‬ ‫ال�سلف‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫بال�ضرورة"‪ .‬وقد � ّأكد مطلق �شعار الثّوابت �سلطة احلديث‪ ،‬وتوا�صل مع الو ّهاب ّيني‪ّ ،‬‬ ‫وقد�س ّ‬ ‫وكل هذه القرارات متثّل برناجماً م�ضا ّداً للتنوير‪� ،‬إذا ما اعتربنا ال ّتنوير تعوي ًال على العقل‪ ،‬وخروجاً‬ ‫ّ‬ ‫من حالة الق�صور‪ ،‬ح�سب مقال كانط املن�شور يف جم ّلة برلني ال�شّ هر ّية �سنة ‪ ،1784‬وقد كتبه ر ّداً‬ ‫ين ويدافع عن عقد‬ ‫على راهب‬ ‫بروت�ستانتي كتب يف املج ّلة نف�سها مقا ًال ينتقد فيه ال ّزواج املد ّ‬ ‫ّ‬ ‫ال ّزواج الذي ت�شرف عليه الكني�سة‪ .‬يقول كانط جواباً عن �س�ؤال "ما التنوير؟"‪:‬‬ ‫"م��ا التنوي��ر؟ ه��و خ��روج الإن�س��ان م��ن حال��ة الق�ص��ور الت��ي هو نف�س��ه م�س���ؤول عنه��ا‪ .‬ق�صور‪،‬‬ ‫�أي عج��ز ع��ن ا�ستخ��دام [ َم َلك��ة] الفهم (الق��درة عل��ى ال ّتفك�ير) دون و�صاية الآخري��ن‪ ،‬ق�صور‬ ‫ه��و نف�س��ه م�س���ؤول عن��ه مب��ا �أنّ �سبب��ه ال يع��ود �إىل عي��ب يف َم َلك��ة الفه��م‪ ،‬ب��ل �إىل نق���ص يف‬ ‫ا ّتخ��اذ الق��رار ويف ال�شّ جاع��ة الت��ي جتعل��ه ي�ستعمله��ا دون و�صاي��ة الآخرين‪ .‬جت�� ّر�أ عل��ى ال ّتفكري!‬ ‫‪134‬‬


‫فكــــــر‬ ‫‪1‬‬

‫اخلا�ص��ة‪ .‬ه��ذه ه��ي عملي��ة ال ّتنوي��ر"‪.‬‬ ‫لتك��ن ل��ك ال�شّ جاع��ة يف ا�ستخ��دام َم َلك��ة فهم��ك ّ‬ ‫ين��ي الأ�صو ّيل ف�إ ّنه‬ ‫ولك��ن ال ّالف��ت لالنتباه هو �أنّ �شع��ار الثّوابت و�إن ن�ش���أ يف حا�ضنة الفكر ّ‬ ‫ّ‬ ‫الد ّ‬ ‫الدول العرب ّية‬ ‫ا�ستعم��ل يف ما بعد يف خطابات خمتلفة منها اخلطابات ال ّر�سم ّية التي ت ّربر حتفّظات ّ‬ ‫خا�صة‪ .‬فال ّرف�ض الأ�صو ّيل للواقع مبثوث‪،‬‬ ‫على ا ّتفاق ّية مناه�ضة جميع �أ�شكال ال ّتمييز ّ‬ ‫�ضد ال ّن�ساء ّ‬ ‫وه��و لي�س حكراً على اجلماع��ات الإ�سالم ّية‪ ،‬لأ ّنه ّميكن من احلفاظ عل��ى �أبنية الهيمنة‪ ،‬ويحقّق‬ ‫مناف��ع للفئ��ة احلري�صة على الثوابت‪ ،‬وهي فئ��ة ّ‬ ‫الذكور الأقوياء الأ�سوياء بي���ض الب�شرة‪ .‬وفئة من‬ ‫املقد�س‪ .‬ولذلك كتب��ت يف تقدمي كتاب نقد‬ ‫�سماه��م كانط بالأو�صي��اء‪ ،‬ال�س ّيما الأو�صياء عل��ى ّ‬ ‫ّ‬ ‫الثّوابت‪" :‬الثّابت يف "الثّوابت" العرب ّية والإ�سالم ّية هي الوظيفة الأ�سا�س ّية التي ت�ضطلع بها‪� :‬إ ّنها‬ ‫ت�سمية ال ّالح ّر ّية وال ّالم�ساواة ب�أ�سماء بديه ّية ال حتتاج �إىل ال ّنقا�ش‪� ،‬أو تع ّر�ض من يناق�شها �إىل تهمة‬ ‫ميقراطي هي امل�س��اواة واحل ّر ّية‪� ،‬أ ّما الثّوابت عندنا‬ ‫اخليان��ة �أو الفكر واملروق‪ .‬الثّوابت يف الغرب ّ‬ ‫الد ّ‬ ‫فهي ما ي ّربر ال ّالم�ساواة وال ّالح ّر ّية‪ ،‬بل وما ي ّربر الإرهاب والعنف"‪.‬‬ ‫وميكن �أن �أقول �إجما ًال‪:‬‬ ‫الواقعي الذي يك ّر�سها قام �أو حاول القيام بوظيفتني‪:‬‬ ‫الهووي وغري‬ ‫حجة الثّوابت‪ ،‬والفكر‬ ‫ّ‬ ‫�إنّ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ وظيفة �إيقاف تط ّور املجتمعات‪ ،‬بل تنظيم �إيقاف تط ّور املجتمعات‪ ،‬ووظيفة تنظيم ال ّرقابة على‬‫حجة �سلطة‪.‬‬ ‫الفكر‬ ‫الواقعي‪ :‬قف للفكر‪ّ :‬‬ ‫ّ‬ ‫ وظيفة �إنتاج رقابة على الفكر الذي يرى الواقع‪ ،‬وحما�صرة ّ‬‫املفكرين وفر�ض ممنوع ال ّلم�س على‬ ‫الفكر‪ .‬ف�ضحايا الثّوابت �أجيال خمتلفة ّممن �صودروا ولوحقوا وقطعت �أرزاقهم وربمّ ا قتلوا ب�سبب‬ ‫خروجهم على الثّوابت‪ .‬ومل نكتب بعد تاريخ م� ّؤ�س�سات و�أجهزة ال ّرقابة على الفكر يف العامل‬ ‫العربي‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وال ّنقلة لي�ست نوع ّية بني فكر الثّوابت والإرهاب املعومل الذي نعانيه اليوم‪ .‬فالفكر الأ�صو ّيل كما‬ ‫ذكرت ال يط ّور نف�سه بل يريد ال ّت ّ‬ ‫حكم يف الواقع جلعله مطابقاً للأ�صل‪ ،‬والإرهاب �أي�ضاً ال يقبل‬ ‫الواقع‪ ،‬ولك ّنه ال ينتظر �أ�سلمة املجتمع الذي عاد �إىل اجلاهل ّية‪ ،‬بل يحاربه حماو ًال الفعل يف الواقع‬ ‫بتكرار البدايات‪ .‬ما نعي�شه اليوم هو بلوغ الهذيان الأ�صو ّيل ذروته التي يلغي بها نف�سه‪.‬‬ ‫أهم و�أقوى من الثّقافة امل�ضا ّدة لل ّتنوير يف‬ ‫العربي � ّ‬ ‫وقد تبدو لنا الثّقافة امل�ضا ّدة لل ّتنوير يف العامل ّ‬ ‫العربي ال يتعلق الأمر‪ ،‬على ال ّأقل منذ هزمية ‪� 67‬إىل اليوم‪ ،‬مبحافظة �أخالق ّية‬ ‫�أوروبا‪ .‬ففي العامل ّ‬ ‫حتل ّ‬ ‫ودين ّية تنتج رقابة على الفكر‪ ،‬بل بثقافة ب�أكملها ّ‬ ‫حمل الثّقافة ال ّنقد ّية وتب�صمها بالهام�ش ّية‪.‬‬ ‫ر�صدت لثقافة الثّوابت �أموال طائلة‪ ،‬و�أن�شئت لتثبيتها م� ّؤ�س�سات ال ح�صر لها‪ .‬ف�أ�صبح للهذيان‬

‫‪1- -Kant Emmanuel : " Qu'est‑ce que les Lumières? », trad. Wismann, in Œuvres Complètes,‬‬ ‫‪Paris, Gallimard, 1985, t. Il, p 211 sqq.‬‬ ‫‪135‬‬


‫ال ّراف�ض لل ّتاريخ �سلطة‪ ،‬و�أجهزة رقابة‪ُ ،‬تعاقب وتجُ ازي‪ .‬وربمّ ا يكون ّ‬ ‫كل هذا �صادماً لأ ّنه يقع يف و�ضح‬ ‫القرنني الع�شرين واحلادي والع�شرين‪.‬‬ ‫اريخي ّ‬ ‫بالدين �سه ًال‬ ‫الطويل‪ .‬فلم يكن م�سار تغيرّ العالقة ّ‬ ‫ومع ذلك فيجب �أن ننظر �إىل املدى ال ّت ّ‬ ‫يف �أورو ّبا‪ .‬ومل يكن الكهنة الذين يبحثون عن �ساق �ضفدع يف �أبي�ض عني املر�أة ليحكموا عليها‬ ‫ب�أ ّنها �ساحرة‪ ،‬ب� ّأقل هذياناً ّممن يرى اليوم �أ ّنه ين�صر الإ�سالم �إذا ّفجر مقهى �أو مرق�صاً �أو متحفاً‪.‬‬ ‫وعلى املدى ّ‬ ‫الطويل‪ ،‬ال ميكن �إيقاف تغيرّ املجتمعات‪ ،‬وال ميكن �إيقاف تغيرّ ها يف االتجّ اه الذي‬ ‫الدين‪ ،‬وقد �سارعت العوملة يف ن�سقها‪ .‬مل توقف �أفكار املعار�ضني‬ ‫اقت�ضته �سريورة اخلروج من ّ‬ ‫لتح ّرر املر�أة �سري ال ّتاريخ‪ ،‬فخرجت املر�أة �إىل الف�ضاء العا ّم‪ ،‬لأنّ ال ّتاريخ ال ي�سري بالفتاوى‪ .‬ورغم‬ ‫ّ‬ ‫للدين‪،‬‬ ‫ال�سو�سيولوج ّية اجلا ّدة تبينّ وجود م�سار دخلنة ّ‬ ‫كل مظاهر العنف الأ�صو ّيل ف�إنّ الأبحاث ّ‬ ‫ووجود عالقة به تخ�ضع �إىل ال ّنمط احلديث‪ .‬وقد فتح �أفق امل�ساواة واحل ّر ّية‪ ،‬فال ميكن �أن نوا�صل‬ ‫ال ّتحديق يف ه ّوة الأ�صل‪� .‬صخور الثّوابت ال توقف تدفّق ال ّنهر‪ ،‬وال تغلق الأفق‪.‬‬

‫‪136‬‬


‫فـكــــــــر‬

‫الدميغرافيا يف لبنان‪ :‬قنبلة موقوتة‬ ‫د‪ .‬م�صطفى احللوة ‪ -‬باحث‬ ‫الدميوغرافيا‪ ،‬وما �أدراك ما الدميوغرافيا يف جمتمع تعددي‪� ،‬أ�إتن ًيا كان �أن عرق ًيا �أم طائف ًيا؟! فقد تغدو‬ ‫مزعجا ملجموع ٍة ب�شرية‪ ،‬تت� َّأكل �أعداد املن�ضوين عرب الزمن‪ ،‬وقد تغدو باملقابل‬ ‫الدميوغرافيا كابو�ساً ً‬ ‫حل ًما يدغدغ جمموعة �أخرى‪ ،‬تتزايد تنا�س ًال على �إيقاع اخل�صوبة لديها‪ ،‬ومبا يحيل الدميوغرافيا‬ ‫عامل تفجري جمتمعي‪ .‬وهكذا جندنا ب�إزاء نعوت تطلق عليها‪ ،‬لعل �أبرزها "القنبلة الدميوغرافية"!‬ ‫وي�أتيك اخلرب اليقني‪ ،‬اً‬ ‫مثال فاق ًعا‪ ،‬من فل�سطني املحتلة‪ ،‬حيث باتت "القنبلة الدميوغرافية"‬ ‫الفل�سطينية مثار قلق وجودي للمجتمع الإ�سرائيلي!‬ ‫أ�سي�سا على ما �سبق نت�ساءل‪ :‬هل ثمة "قنبلة دميوغرافية �إ�سالمية" يف لبنان‪ ،‬تهدد �صيغة العي�ش‬ ‫ت� ً‬ ‫امل�شرتك التي ك ّر�سها "اتفاق الطائف" (‪ – )1989‬وقاعدتها املنا�صفة بني امل�سيحيني وامل�سلمني‪ ،‬ال‬ ‫�سيما يف جمل�س النواب واملواقع العليا يف جميع الإدارات الر�سمية؟‬ ‫هذه القنبلة‪� ،‬أحقيقية كانت �أم افرتا�ضية‪ ،‬يعمد الباحث د‪� .‬شوقي عطيه‪ ،‬يف كتابه "ال�سكان يف‬ ‫لبنان‪ :‬من الواقع ال�سيا�سي �إىل التغري االجتماعي واالقت�صادي" �إىل تلقفها بني يديه‪ ،‬يقلبها وج ًها‬ ‫على بطن ويف كل االجتاهات‪ ،‬ليتحقق من فعاليتها‪ ،‬مت�سائ ًال‪� :‬أهي قنبلة �صاحلة للتفجر �أم �أنها‬ ‫مفرغة احل�شوة ومعطل �صاعقها �إىل حني من الدهر؟ �أهي‪ ،‬وفق التعبري الفل�سفي‪ ،‬قنبلة بالقوة‬ ‫(‪� )En puissance‬أم قنبلة بالفعل (‪)En fait‬؟ �أي �أن لها قابلية االنتقال من حال الإمكان �إىل حال‬ ‫التحقق؟‬ ‫�إذا كانت اجلغرافيا هي التي ت�صنع التاريخ وت�سري عجالته‪ ،‬ف�إن الدميوغرافيا‪ ،‬ح�سبما نرى‪ ،‬تتحكم‬ ‫بطبيعة االجتماع الب�شري ويف ت�شكيل �صورته‪ ،‬بكونها �إحدى الديناميات الأ�سا�سية امل�شتغلة يف‬ ‫ميادين ال�سيا�سة واالقت�صاد والثقافة‪ ،‬و�سائر البنى املجتمعية‪ ،‬التحتية منها والفوقية‪.‬‬ ‫بيد �أن املعطى الدميوغرايف‪ ،‬وفق ما يخل�ص �إليه الباحث د‪� .‬شوقي عطيه‪ ،‬يحمل يف �أح�شائه بذور‬ ‫وعك�سا‪ ،‬فتعود‬ ‫�ضموره‪ ،‬مبعنى �أن هذا املعطى ترتاجع ت�أثرياته‪ ،‬عرب جدلية الرفاه واخل�صوبة‪ ،‬طرداً ً‬ ‫الدميوغرافيا لتتوازن‪ .‬وقد تنقلب الأدوار بني املكونات املجتمعية‪ ،‬ومبا يجعل �أكرثية اليوم �أقلية‬ ‫الغد‪ ،‬والعك�س �صحيح!‬ ‫‪137‬‬


‫لقد ذهب د‪ .‬عطيه بعيداً يف مقاربة م�س�أليته‪ .‬فهو‪� ،‬إذ يرى �أن الدميوغرافيا اللبنانية باتت ت�شكل‬ ‫حتدياً جد ًيا للعي�ش امل�شرتك‪ ،‬يطرح ال�س�ؤال الآتي‪ :‬هل قد ُر لبنان �أن يبقى يف حالة معاناة دائمة‬ ‫من الأزمات ال�سيا�سية واالقت�صادية واالجتماعية عند كل حت ّول يف دميوغرافية الطوائف‪ّ ،‬‬ ‫فتحل‬ ‫عليه امل�صائب؟‬ ‫وبهدف الو�صول �إىل �إجابة رائية ومو�ضوعية عن هذا ال�س�ؤال‪ ،‬يتطارح معنا جملة من الأ�سئلة‬ ‫يت�صدى لها بالبحث‪ ،‬و�أبرزها‪ :‬هل التفاوت‬ ‫املتممة‪ ،‬فت�شكل مبجموعها جوهر الإ�شكالية التي ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫عدديا بني امل�سيحيني وامل�سلمني يتجه �إىل مزيد على هذا ال�صعيد �أم هو �إىل تراجع؟ وما هي‬ ‫العوامل الدميوغرافية العائدة لهذه الطوائف التي ت�ساهم يف هذا التفاوت؟ وهل العامل الديني‬ ‫هو يف �أ�سا�س هذا التفاوت‪� ،‬أم ثمة عوامل اقت�صادية واجتماعية وتربوية‪ ،‬غري خمت�صة ال بامل�سلمني‬ ‫ترتجح بني طرف و�آخر؟‬ ‫وال بامل�سيحيني‪ ،‬بل هي ظرفية ّ‬ ‫يف �إجابته عن �إ�شكاليته‪ ،‬عمد الباحث‪ ،‬عرب اثني ع�شر ف�ص ًال‪ ،‬مع مقدمة وخامتة ا�ستنتاجية‪� ،‬إىل‬ ‫تعرية امل�س�ألة التي يقارب‪ ،‬ولي�صيب منها مقت ًال‪ .‬ولقد راح غائ�صاً يف ثنايا التاريخ اللبناين‪ ،‬بدءاً‬ ‫مبرحلة الإمارة‪� ،‬أي قبل العام ‪ ،1841‬و� ً‬ ‫صوال �إىل احلقبة احلديثة التي ميوقعها بني عامي ‪1990‬‬ ‫و‪.2010‬‬ ‫تو�سل الباحث املنهج التاريخي‪ ،‬ناهيك عن املنهج الإح�صائي التحليلي‪ ،‬فقد عزز درا�سته‬ ‫و�إذ ّ‬ ‫ب�آليات العلم وتقنياته‪ .‬وكان له �أن ي�ستعني بع�شرات امل�صادر واملراجع‪ ،‬باللغات الثالث‪ :‬العربية‬ ‫والفرن�سية والإنكليزية‪ .‬وقد �أفاد من م�صادر �إلكرتونية‪ :‬كتباً وجمالت‪.‬‬ ‫�إ�شارة �إىل �أن البحث �أخ�ضع ملعطيات العينة‪ ،‬وهي من مرتكزات الدرا�سة امليدانية‪.‬‬

‫ ‬

‫‪138‬‬


‫�أقامت م�ؤ�س�سة �سعاده للثقافة حفل تكرمي للنقيب ال�سابق لل�صحافة اللبنانية الأ�ستاذ حممد البعلبكي‬ ‫يف اللقاء ال�سنوي ال�سابع يف �ضهور ال�شوير ‪� 22‬أب ‪ 2015‬وقدمت له درع امل�ؤ�س�سة‪.‬‬

‫التقدمي ل�سليمان بختي ثم كلمة املكرم حممد البعلبكي ‪.‬‬

‫حليم فيا�ض‬ ‫يت�ساءل املرء ونحن يف رحاب م�ؤ�س�سة ثقافية ‪ ،‬ما اجلدوى من هكذا م�ؤ�س�سات يف خ�ضم االزمات‬ ‫الوطنية وال�سيا�سية واالجتماعية املتفاقمة‪ .‬باعتقادي ان اجلدوى تت�أكد يف مثل هذه الأجواء‬ ‫القامتة‪ .‬من �أو�صلنا اىل هذا الدرك ؟ الي�سوا هم ُ طغمة اجلهلة الذين يتحكمون بالعباد والبالد؟‬ ‫وكيف ال�سبيل اىل مكافحتهم اال بالعلم والفكر والثقافة‪.‬‬ ‫رجال الفكر والعلم والثقافة لهم من القيم التي انطبعوا عليها ومن االخالق التي ت�شربوها ما‬ ‫يع�صمهم عن ال�صغائر والكبائر‪� .‬أما اولئك اجلهلة فقد �أعمت �أب�صارهم كل مفا�سد الدنيا من‬ ‫ل�صو�صية وانتهازية وانانية ‪.‬هل ي�ستوى الذين يعلمون والذين ال يعلمون؟ ‪.‬‬ ‫لقد تنكرت هذه الطغمة المانة العمل من �أجل م�صلحة ال�شعب – هذه االمانة التي اوكلت‬ ‫لها بحكم املواقع التي احتلتها زوراً يف هيكلية املجتمع والدولة‪ .‬هذه الطغمة ال�سيا�سية‪ ،‬با�ستثناء‬ ‫عدد قليل من العاملني يف احلقلني الوطني وال�سيا�سي‪ ،‬قد لفظت �أنفا�سها االخرية بفعل �سرطان‬ ‫النفايات‪ .‬لقد ماتت هذه الطغمة ومل تدفن بعد‪ .‬ترى �ألي�س �إكرام امليت دفنه ؟ ولكنها ال‬ ‫ت�ستحق حتى االكرام او الكرامة‪.‬‬ ‫ا�ستمحيكم عذراً القحامكم يف مثل هذا القول‪ .‬ولكن الواقع ان احلالة املزرية التي نعي�ش قد‬ ‫اقحمتنا جميعاً يف جو ال�شكوى ودفعتنا اىل ت�شخي�ص الداء واالدانة القاطعة مل�سببي هذا البالء‬ ‫وكل بالء �آخر‪� .‬سرطان النفايات ‪ -‬الزبالة – يجب ان يودي بالطغمة احلاكمة اىل مزبلة التاريخ‪.‬‬ ‫وبعد‪ ،‬هذه املنا�سبة هي لتكرمي ال�صديق العزيز النقيب حممد بعلبكي الذي �أم�ضى حياته احلافلة‬ ‫عامال من �أجل قيام جمتمع معافى ودولة قادرة تقينا مما و�صلنا اليه‪ .‬ولكن على من تقر�أ مزامريك‬ ‫يا داود‪.‬‬ ‫يح�ضرين يف هذه املنا�سبة ببيت من ال�شعر من ق�صيدة نهج الربدى ‪:‬‬ ‫مدحت العاملني فزدت قدراً‬ ‫وحني مدحتك �أجتزت ال�سحابا‬ ‫بكلمةكرمت‪.‬‬ ‫مدحت‬ ‫وا�سمحوا يل �أن �أ�ستبدل كلمة‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫‪139‬‬

‫تكرمي‬

‫وكانت كلمات ندرجها هنا لأهميتها للأ�ستاذ حليم فيا�ض رئي�س م�ؤ�س�سة �سعاده للثقافة وكلمة‬


‫دار نل�سن‬

‫هاتف ‪01/739196:‬‬ ‫الربيد الإلكرتوين ‪darnelson@hotmail.com:‬‬


‫تكرمي‬

‫�سليمان بختي‬ ‫�شرف يل ان �أقدم حممد بعلبكي وهو من الكبار يف تاريخنا الفكري وال�صحايف والأدبي والثقايف‬ ‫وال�سالك من نعمة الفكر والوجود اىل نعمة املمار�سة‪ .‬وهو من الوجوه التي تعزز الأمل‪ ،‬و�أ�صعب‬ ‫انت�صار للأن�سان هو انت�صاره على الأمل لأجل الأخرين واملجتمع واحلياة‪.‬‬ ‫بي خجل التلميذ �أمام معلمه‪ .‬وبي وجل العابر اذ يفاج�ؤه �سطوع ال�ضوء‪.‬‬ ‫ي�ستحق حممد البعلبكي التكرمي ي�أتيه من م�ؤ�س�سة �سعاده للثقافة ومن جهات كثرية‪ .‬منذ‬ ‫حتى بداية هذه ال�سنة هو نقيب ال�صحافة باالجماع واجلدارة واال�ستحقاق وال�شورى والدميقراطية‬ ‫والتوافق‪ ،‬وبال منازع ‪ .‬وهو اليوم يغذ ال�سري يف ت�سعينياته غري �آبه ( �أطال اهلل عمره) ‪ .‬فالعمر‬ ‫بالنهاية تتويج لعطاءات واجنازات‪ ،‬والقيمة ال ت�أتي من عد ال�سنني بل ُتبنى يف املمار�سة ويف‬ ‫امل�سار‪ .‬كان احلار�س يف ال�صحافة ي�سهر على النور‪ ،‬والفار�س يف امليدان ي�صارع التنني‪ .‬وبه ال�ضوء‬ ‫الذي ينري الدرب ويعربه الذين يف العتمة‪ ،‬وبه نخوة املفكر ال�صاعد اىل �شم�سه وظالله واىل رحابة‬ ‫�شخ�صيته كونه البالغ يف عطائه والغني يف مرياثه‪.‬‬

‫‪1982‬‬

‫الأ�ستاذ حممد النقيب �أب للكل‪ ،‬و�صديق للجميع‪ ،‬يف �شمول ولطافة وم�ؤان�سة ورجل �صاحب‬ ‫ر�ؤية خالبة وقنطرة عالية تدخلها باحلب وتخرج بالر�ضى‪ .‬وتظفر غالباً بالطرفة املليحة او القول‬ ‫الفخم او املوقف الوقفة‪ .‬ظاهرة حممد البعلبكي جامعة‪ .‬ان�سان مرجل‪ .‬رمز من الرموز النه�ضوية‬ ‫التنويرية التي جتمع وتبني وتوحد و ُحترتم يف هذا البلد‪ .‬عم �صباحاً �إذن يا ح�ضرة النقيب حتى‬ ‫ي�أزف النهار‪ .‬و�سالم هي لياليك حتى مطلع الفجر‪.‬‬ ‫منذ بدايته طالباً يف كلية املقا�صد اال�سالمية والكلية ال�شرعية توطد لديه ح�س مناقبي رفيع لبث‬ ‫يرافقه كالظل او كالطيف‪ .‬غرف من اال�سالم معرفة عقالنية ولغوية و�إن�سانية عميقة مكنته من‬ ‫الف�صاحة ورجاحة النظر يف اال�شياء ونبذ التفرقة‪.‬‬ ‫ع ّلم يف اجلامعة االمريكية يف بريوت وتتلمذ على يديه بطريركاً (اعناطيو�س هزمي) و�صحافياً رائداً‬ ‫(غ�سان تويني) ومفكراً ثاقباً ( منح ال�صلح) وحقوقياً متنوراً ( بهيج طباره)‪.‬وكلما التقاهم تذكر‬ ‫‪141‬‬


‫الزرع الطيب‪ ،‬وكلما التقوه تذكروا الزارع – اال�ستاذ القدوة‪.‬‬ ‫يتذكر البعلبكي م�ساره يف ال�صحافة مثلما يتذكر م�ساره يف العمل احلزبي‪ .‬يتذكر ان دولة الرئي�س‬ ‫�سامي ال�صلح عر�ض عليه من�صب �سفري يف مقهى الغالييني يف الرو�شة لكنه رف�ض حباً ووفا ًء‬ ‫وع�شقاً ل�صاحبة اجلاللة ال�صحافة‪ .‬وانطلق من "الديار" اىل "ال�صياد" اىل " كل �شيء" اىل‬ ‫"�صدى لبنان" والتي جمع فيها اىل جانبه االقالم واالجتاهات التي ال جتمع مثل �سعيد تقي‬ ‫الدين و�أمني نخلة و�صالح لبكي‪ ،‬وغريهم‪.‬‬ ‫وال يزال يفاخر حتى اليوم انه كان يناق�ش انطون �سعاده يف �أفكاره قبل دفع مقاالته اىل الطبع يف‬ ‫" كل �شيء"وبعدها‪.‬وال يزال يتذكر تلك اللحظات الأثرية‪ ،‬ذهب العمر‪.‬‬ ‫يتذكر حني طلب منه "�سعاده" بح�سب كلمات البعلبكي ان ي�ضع رده يف العدد التايل قرب‬ ‫مقالته‪ .‬وامل�ستوى كالأفق نرقى اليه‪ ،‬يقول‪ .‬تلك املقاالت ال�شهرية التي بد�أت ب "العروبة‬ ‫افل�ست يا �سادة" و "االنعزالية اللبنانية افل�ست"‪ ،‬وغريها‪ .‬كانت تلك االيام فاحتة ملعنى جديد‪،‬‬ ‫لدور ال�سيا�سة يف بالدنا لنقلة كبرية يف حياته‪ .‬انتقل من حزب النداء القومي الذي اقطابه كبار‬ ‫مثل كاظم ال�صلح وتقي الدين ال�صلح وحممد �شقري اىل احلزب ال�سوري القومي االجتماعي‬ ‫الذي ا�س�سه نه�ضوي تنويري ا�صالحي كبري ا�سمه انطون �سعاده جعل من الفكر �سيا�سة ومن‬ ‫املناقب �سيا�سة ومن احالم بالده �سيا�سة ومن النه�ضة �سيا�سة ‪ .‬واجتاز قنطرة ال�شك اىل اليقني‪،‬‬ ‫و�أق�سم اليمني يف ح�ضرة الزعيم يف لقاءه االخري معه يف ال�شام‪ ،‬ويف الهزيع االخري من ايام‬ ‫�سعاده‪ .‬ي�ستذكر البعلبكي انه كان من �آخر الذين التقوه قبل ان ي�سلم نف�سه اىل ال�سلطات‪.‬‬ ‫ماذا قال له الزعيم وماذا حفظ عنه البعلبكي ‪ .‬انها ذكرياتي مع �سعاده‪ ،‬يقول ‪ :‬والذكريات هنا‬ ‫روابط الفكر والروح وا�ضطرام احلنني والأمل‪ .‬عندما �أعدم الزعيم و�ضع حممد البعلبكي �صورة‬ ‫بيت الزعيم يف ال�صفحة االوىل وكتب " و�ضع اال�سا�س وارتفعت القوائم"‪� .‬شارك البعلبكي يف‬ ‫االنقالب القومي ال�شهري ليل ‪ 61-62‬وكان بامكانه الهرب والنجاة ولكنه امل�س�ؤول االمني ال‬ ‫يتناق�ض مع نف�سه وال يخون االمانة ‪ .‬وكان له يف املحاكم وقفات وحمطات ومطالعات م�شهودة‪.‬‬ ‫و�سجن حتى العام ‪� 1967‬أي �سبع �سنوات و�ستة �أ�شهر‪ .‬واثر ذلك لبثت عالقته باحلزب متوترة‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وبالفكر را�سخة وتزداد ر�سوخا‪ ،‬وبباعث النه�ضة امال ال يغيب‪.‬‬ ‫يف �شخ�صية حممد البعلبكي يلتقي ال�صحايف باملعلم باحلزبي امللتزم ق�ضايا املجتمع وال�ش�أن العام‬ ‫بالراعي امل�س�ؤول عن ال�صحافة ودورها يف لبنان‪ .‬وعلى حد و�صف ال�شاعر �شوقي �أبي �شقرا له "هو‬ ‫جزء من الكلمة يف لبنان ولطاملا قالها هنا وهناك �صعوداً اىل احلقيقة واىل الك�شف عن �أنها �أ�سا�س‬ ‫لديه ولدى كل الطليعيني وهو جزء من الوطن ‪ ،‬من ر�سالتنا اىل العامل بدءاً من املعامل احلقيقية‬ ‫�أمثاله وك�أنه يف زورق دائم ال�سفر كي ين�شل الواقع من الغرق" ‪ .‬يحده �شغف كبري باملعرفة ال ي�أتي‬ ‫منه اال مب�سرة عابرة او فائدة عظيمة او �أمر جلل ‪.‬كثري هو حممد البعلبكي ومت�شعب‪ ،‬وال يخيب‬ ‫‪142‬‬


‫تكرمي‬

‫�آمال �سائليه‪ .‬يحتفظ يف درج مكتبه ببحثني واحد عن احلرية يف القر�آن‪ ،‬و�آخر عن مفتاح النه�ضة‬ ‫يف القر�آن الكرمي‪ .‬وما �أحوجنا اىل احلرية والعقالنية والنه�ضة يف اال�سالم اليوم ‪.‬ويحتفظ �أي�ضاً‬ ‫ب�إ�شرطة م�سجلة ل�ساعات من الذكريات �أعطاها كمقابالت لأذاعة �صوت الوطن‪ .‬متى ت�صبح هذه‬ ‫الذكريات الغنية والنادرة كتاباً ؟ رمبا‪ ،‬حني ي�أتي الوقت الذي يهبها فيه كل الوقت‪ .‬ولعله بد�أ‪.‬‬ ‫كلما زرته �آثرك بحبه و�آزرك بادبه‪ .‬عنه نقلت و�سمعت هذا البيت ‪:‬‬ ‫�أدب �أقمناه مقام الوالد‬ ‫ان نفرتق ن�سباً ي�ؤلف بيننا‬ ‫اما ما ي�صح فيه حقاً فهو ‪:‬‬ ‫وحالك واحد يف كل حال‬ ‫حاالت الزمان عليك �شتى‬ ‫عندما توفيت زوجته ماغي ن�صر جل�س يف الكني�سة يتقبل التعازي برفيقة العمر‪ ،‬وهو امل�سلم‬ ‫القومي العلماين ي�صلي على النبي ويلعن ما يفرق االن�سان عن االن�سان واحلياة عن �أبنائها ‪.‬‬ ‫روحه مل تزل يانعة وهو اليوم يف قرة عني ال�سحر ملكاً متوجاً‪ .‬يعرف ان ال�صحافة هي مر�آة الأمة‬ ‫ومقيا�س نه�ضتها بح�سب �سعاده وعلى هدي هذا القول م�شى‪ .‬ويعرف ان ال�صحافة �أوعية التاريخ‬ ‫و�سر الأدب وفهار�س الأزمنة‪ ،‬وهو ي�ؤثر كل ذلك ويالزمه‪ .‬وهو فيما ي�سعى اليه �أقرب ما يكون اىل‬ ‫ما �أ�سماه الدكتور منري خوري زميله يف �سجن القلعة " القدوة االيحائية"‪.‬‬ ‫ان تلتقي حممد البعلبكي فك�أنك ت�سرتيح قرب النبع او ت�ستظل �شجرة با�سقة خم�ضو�ضرة من‬ ‫�أ�شجار املعرفة يف بالدنا‪ .‬ريادة نادرة يف زمن التهافت‪� .‬شاهد كبري على قرن م�ضطرب من الدهر‪.‬‬ ‫قطعة �أثرية من حياة االيام ‪ .‬جوهرة حقيقية يف زمن البهتان واالبتذال‪ .‬لك التحية اليوم وغداً‬ ‫وكل يوم‪ .‬و�أ�شرح هواك وال ت�س�أل ما فعلت بك اال�شواق فكلنا ع�شاق ‪ .‬و�سالم لك و�سالم‬ ‫عليك‪ .‬وما علينا �سوى فرح املكتفني‪.‬‬

‫‪143‬‬


‫لبنان ‪ -‬بريوت ‪� -‬شارع احلمرا ‪ -‬بناية ر�سامني ‪ -‬ط‬

‫‪4‬‬

‫�ص‪.‬ب‪ 113 - 7179 :‬بريوت ‪ -‬لبنان‬

‫‪tel: 00961 -1 - 751 541‬‬ ‫‪E-mail: info@darabaad.com‬‬ ‫‪website: www.darabaad.com‬‬

‫ا�سم الكتاب‬

‫تهجري املوارنة اىل اجلزائر‬ ‫عروبة يو�سف بك كرم‬ ‫عوملتان الفو�ضى واملقاومة‬ ‫الفل�سطينيون يف لبنان‬ ‫االن�سان اوال‬ ‫الهوية وال�صراع‬ ‫رحيل يف ج�سد‬ ‫الف�ساد امل�ؤدلج‬ ‫ال�صناعة يف طرابل�س‬ ‫التحية االخرية‬ ‫لبنان يف ذاكرة العراق القدمي‬ ‫علم االجتماع ال�سيا�سي‬ ‫�أحالم املاء‬ ‫ناق�صات عقل و دين‬ ‫التطبيع ي�سري يف دمك‬ ‫اوف الين‬ ‫حي التنك‬ ‫بابل والتوراة‬ ‫ال�سيا�سة تطور املعنى وتنوع املقرتبات‬ ‫حب بطعم القهوة‬ ‫امل�سرح العاري‬ ‫التنمية يف الهالل اخل�صيب‬ ‫ال�سقف‬ ‫‪ 90‬يوما يف ال�سعودية‬ ‫جهاد النكاح‬ ‫مناي‬ ‫يف مواجهة الطائفية‬ ‫لأين مل �أكن‬ ‫مار مارون واملوارنة‬ ‫�شعر الفداء واالنبعاث‬ ‫كتب �صدرت حديثاً‪:‬‬ ‫حرب التحرير – �إنعام رعد‬ ‫كلمة (�صفحات من تاريخ ُعمان) – �سعود بن علي اخلليلي‬ ‫خيمة غزة – ن�ضال حمد‬ ‫ال�سرية – من�صور عازار‬ ‫احلرب على �آ�سيا – علوان �أمني الدين‬ ‫العوملة وال�سيادة – علوان �أمني الدين‬ ‫الفي�سبوك وت�شكيل العالقات االجتماعية – وفاء كاظم حطيط‬ ‫وال ينتهي اللعب ‪� -‬إكرام الداعوق‬

‫ا�سم الكاتب‬

‫�سركي�س �أبو زيد‬ ‫�سركي�س �أبو زيد‬ ‫�سركي�س �أبو زيد‬ ‫�شوكت �أ�شتي وغازي خلف‬ ‫�سركي�س �أبو زيد‬ ‫زهري فيا�ض‬ ‫زاهر العري�ضي‬ ‫د‪ .‬قي�س جرج�س‬ ‫منري خملوف‬ ‫من�صور عازار‬ ‫الأب �سهيل قا�شا‬ ‫�شوكت �أ�شتي‬ ‫�سوريا بدور الطويلة‬ ‫يحيى جابر‬ ‫د‪ .‬عادل �سمارة‬ ‫زاهر العري�ضي‬ ‫اكرام الداعوق‬ ‫الأب �سهيل قا�شا‬ ‫�شوكت �أ�شتي‬ ‫جومانة معالوي‬ ‫عبيدة االبراهيم‬ ‫زهري فيا�ض‬ ‫ريا�ض بيد�س‬ ‫�أ�سماء وهبة‬ ‫د‪.‬عادل �سمارة‬ ‫فايز غازي‬ ‫�سركي�س �أبو زيد‬ ‫ن�سرين كمال‬ ‫�سركي�س �أبو زيد‬ ‫زيتوين‬ ‫ل�ؤي ف�ؤاد‬ ‫ّ‬

‫الت�صنيف‬

‫تاريخ‬ ‫بيبلوغرافيا‬ ‫فكر �سيا�سي‬ ‫فكر �سيا�سي‬ ‫فكر �سيا�سي‬ ‫فكر �سيا�سي‬ ‫�أدب‬ ‫فكر �سيا�سي‬ ‫اقت�صاد‬ ‫مذكرات‬ ‫تاريخ‬ ‫علم اجتماع‬ ‫�أدب‬ ‫فكر �سيا�سي‬ ‫فكر �سيا�سي‬ ‫�شعر‬ ‫�أدب‬ ‫دين‬ ‫فكر �سيا�سي‬ ‫�أدب‬ ‫�شعر‬ ‫اقت�صاد‬ ‫�أدب‬ ‫مذكرات‬ ‫فكر �سيا�سي‬ ‫�شعر‬ ‫فكر‬ ‫�شعر‬ ‫تاريخ‬ ‫�أدب‬

‫كتب حتت الطبع‬ ‫ يو�سف بك كرم يف ال�سرية ال�شعبية ‪� -‬سركي�س �أبو زيد‬‫ درو�س يف العقيدة ‪� -‬إنعام رعد‬‫ قامات �أنثوية ‪ -‬لوي�س احلايك‬‫ منرب حتوالت – من�صور عازار‬‫‪ -‬مامل يكتب عن داع�ش ‪� -‬أحمد �صالح عثمان ‪ -‬خليل القا�ضي‬


‫تكرمي‬

‫�صدى ال�سنني‬ ‫حممد البعلبكي‬ ‫�شخ�صية ال ّزعيم �أنطوان �سعادة من خالل املقابلة الأوىل و من ّثم من خالل‬ ‫بد�أت �أكت�شف‬ ‫ّ‬ ‫املحا�ضرات ال ّتي كان يلقيها و كنت �أح�ضر معظمها ‪ .‬و كنت �أح�ضر هذه املحا�ضرات بعدما‬ ‫�ضجة ‪ ،‬و‬ ‫كنت عدت من رحلتي �إىل بريطانيا‪ ،‬و �سبق �أن ذكرت �أنيّ ن�شرت مقاال �أحدث ّ‬ ‫لكن‬ ‫�أف�سح جمال املناق�شات الكثرية ‪ .‬هذا املقال كان عنوانه‪ " :‬ه�ؤالء الأربعون مليونا "‪ّ .‬‬ ‫ما انتهى هذا ال ّنقا�ش لنتيجة حا�سمة‪ .‬و كنت ال �أزال ع�ضوا يف حزب ال ّنداء القو ّمي فعلى‬ ‫�أثر ح�ضوري ل�سل�سلة املحا�ضرات ال ّتي كان يلقيها ال ّزعيم �سعادة يف ر�أ�س بريوت و �سبق‬ ‫ال�سلطة ال ّلبنانية كانت تفر�ض‬ ‫و ذكرت �أ ّنه كان مالحقا و رفعت مذكّ رة ال ّتوقيف بح ّقه ‪ .‬و ّ‬ ‫ال�صحف و ح ّتى على ا�سمه يعني كانت توحي‬ ‫نوعا من احلظر على �أخبار �أنطوان �سعادة يف ّ‬ ‫ر�سمية و مل يكن هناك �إذاعات و ال تلفيزيونات ‪ .‬من هنا كانت‬ ‫ّ‬ ‫لل�صحف بذلك ب�صورة غري ّ‬ ‫لل�صحف �أن ال يذكروا �شيئا‬ ‫ال�سلطة ّ‬ ‫ّ‬ ‫ال�صحافة و�سيلة الإعالم الأوىل و الوحيدة فتوحي ّ‬ ‫عن �أنطوان �سعادة و ال عن ن�شاطه فكان هناك تعتيم كامل ح ّتى على �إ�سمه �إنمّ ا ب�صورة غري‬ ‫الرجل بنظري يف م�ستواه و‬ ‫ّ‬ ‫ر�سمية � ّأي ب�إيجاءات غري مبا�شرة ‪ .‬و باحلقيقة فلقد كنت احرتم ّ‬ ‫القومي ‪ .‬يعني ا�ستوقفني هذا الأمر كثريا‬ ‫ال�ش�أن‬ ‫يف �أ�سلوبه يف معاجلة املو�ضوع الفكري يف ّ‬ ‫ّ‬ ‫الرجل ‪� .‬صحيح �إ ّنه‬ ‫و ت�ساءلت بيني و بني نف�سي ‪ :‬ملاذا يكون هذا احلظر على فعل هذا ّ‬ ‫حر يف هذا‬ ‫حزبي و رئي�س احلزب ‪ ،‬و �صاحب دعوة ّ‬ ‫معينة ‪ ،‬لكن ملاذا ال يكون هناك نقا�ش ّ‬ ‫ال�ش�أن و ملاذا ال يف�سح املجال لرجل من هذا ال ّنوع و امل�ستوى �أن يديل بر�أيه بحر ّية ؟ فكان‬ ‫ّ‬ ‫الرجل يف املرة الأوىل‬ ‫�أن دعوت ال ّزعيم �سعادة �إىل ن�شر مقاالت يف" كلّ �شيء " ‪.‬فا�ستغرب ّ‬ ‫‪ ،‬و كان لقا�ؤنا الأ ّول يف منزل ركن احلزب �صديقي الأ�ستاذ عبداهلل القرب�صي ‪ .‬و ّمت ال ّلقاء‬ ‫ال ّثاين يف بريوت بينما كان �أ ّول لقاء يف �ضهور ال�شوير فا�ستغرب ال ّزعيم �سعادة �أن ي�سمع من‬ ‫ال�صحافيني رغبة ب�إف�ساح املجال له �أن يكتب مقاالت ‪ .‬فقال �أنت تعرف �أ ّنه يوجد نوع‬ ‫�أحد ّ‬ ‫م�ستعد �أن تك�سر هذا احلظر ؟ فقلت ‪� :‬أنا عم �أطلب‬ ‫ر�سمي فهل �أنت‬ ‫ّ‬ ‫من احلظر و �إن كان غري ّ‬ ‫�سري عرب هذه املحا�ضرات‬ ‫الرجل ّ‬ ‫يبث �أفكاره ب�شكل ّ‬ ‫م ّنك لأنيّ م�ؤمن بحر ّية الفكر ‪ .‬وكان ّ‬ ‫حرة عا ّمة بني النا�س ف�إذا كانت خمطئة‬ ‫علني و تكون حمل مناق�شة ّ‬ ‫فلماذا ال يب ّثها ب�شكل ّ‬ ‫ال�صواب ‪ .‬و و�سبق �أن ذكرت كم كانت كارثة‬ ‫فلت� ّصوب و �إن كان فيها �صواب فليعرف هذا ّ‬ ‫‪145‬‬


‫فل�سطني فاعلة يف نف�سي فعل ال ّزلزال فدعوت �إىل ن�شر مقاالت يف �صدى لبنان فوعدين ب�أن‬ ‫يدر�س املو�ضوع و �إذ بي �أفاج�أ يف يوم من الأيام مبقال �أر�سل �إ ّيل من قبله و ح ّتى دون توقيع‬ ‫ذي و�ضع العنوان بنف�سه و هو عنوان يلفت‬ ‫أجنبي ‪ .‬و هو ا ّل ّ‬ ‫و عنوانه ‪ :‬احلزب القومي حزب � ّ‬ ‫القومي �إنمّ ا الق�صد احلقيقي‬ ‫النظر و يجذب القارئ ‪ .‬ممكن �أن يظهر ب�أ ّنه حملة على احلزب‬ ‫ّ‬ ‫كان تربئة احلزب القومي من هذه ال ّتهمة ‪ .‬لأنّ احلزب القومي تع ّود �أن ي ّتهم ب�أ ّنه تارة حليف‬ ‫النازيني و تارة حليف الفا�شيني و ّمرة حليف الإجنليز يعني كان دائما ي ّتهم‬ ‫بانه عميل لقوة خارجية ‪ .‬ف�أراد زعيم احلزب رف�ض هذه الإتهامات من العنوان لهذا املقال‬ ‫على هذا ال�شكل ‪ ...‬غري انه ار�سله بدون توقيع وك�أنه �صادر عن اجلريدة اوما ورد من الزعيم‬ ‫انطون �سعادة �شخ�صيا ‪ .‬فن�شرنا املقال واذ بنا بعد ن�شره نتلقى �سيال من الر�سائل كلها �شتائم‬ ‫وتعري�ض للكرامة وتهديد وت�أنيب !!‬ ‫ملاذا ؟‬ ‫اتتهمون احلزب القومي ب�أنه حزب اجنبي؟ ‪ ،‬طبعا �صدرت هذه الر�سائل من حزبيني �شباب‬ ‫متحم�سني ‪ .‬ف�أخذت يومها هذه الر�سائل وعر�ضتها على انطون �سعادة ‪ .‬قلت له يا اخي ان‬ ‫هذا الأ�سلوب الذي احببت ان تتبعه �سيورطنا ب�أمر ال انت تريده وال نحن ‪ .‬وال هذا كان‬ ‫الق�صد من دعوتك للكتابة ون�شر املقاالت ‪ .‬ف�ضحك ‪ ،‬قال ‪ :‬انتم �صدركم رحب وه�ؤالء‬ ‫�شباب متحم�سني مل يدركوا ابعاد املغزى الذي يف املقال ‪ ،‬ر�أوا العنوان قبل ان يقر�أوا املقال‬ ‫فر�أ�سا حتم�سوا ‪ .‬فقلت ‪� :‬شوف ‪.‬اذا برتيد ت�ستمر يف هذا الأمر يجب ان تكون املقاالت موقعة‬ ‫ب�أ�سمك ب�شكل �صريح حتى يكون فيه حتمل امل�س�ؤولية ‪ ،‬ويعرف ان كاتب هذه املقاالت هو‬ ‫زعيم احلزب ‪ .‬فوافق على ذلك وقال يل ‪ :‬ال ميكن‪ .‬هذه املقاالت ت�ستفز النا�س لأنها عرب ما‬ ‫ي�شتهون من الأفكار‪ ،‬فكري انا غري فكرهم ‪ ،‬ومن اجلائز ان ت�ضعكم يف موقف حرج بعالقاتكم‬ ‫مع الآخرين ‪ ...‬ال �أريد ذلك ‪ .‬فقلت له ‪ :‬نحن م�ستعدون ولكن ب�شرط ان نقر�أ املقال بعد ان‬ ‫تر�سله الينا ف�إذا كان لدينا مالحظات نتناف�ش وخ�صو�صا فيما يتعلق باحكام القانون ‪.‬‬ ‫لن نتدخل يف جوهر فكرك ‪ ،‬الذي حتب ان تعر�ضه يف هذه املقاالت ‪ ،‬ولكن اذا ت�ضمن‬ ‫ما يتعر�ض للقانون ويعر�ض اجلريدة للمالحقة وللتعطيل الق�ضائي نتباحث فيه قبل ن�شره ‪.‬‬ ‫فوافق الرجل وبد�أ بر�سل لنا املقاالت ‪ .‬ومن اهم املقاالت التي �صدرت مقال عنوانه "العروبة‬ ‫افل�ست ؟" وكان يق�صد ان الفكرة القومية العربية هي ان كل هذا العامل العربي امة واحدة‬ ‫وق�ضية ق�ضية واحدة لكن هو يختلف بتفكريه ‪ ،‬اذ يعترب ان العامل العربي جمموعة امم عربية ‪،‬‬ ‫وهناك ق�ضية عربية‪� .‬صحيح‪ ،‬ولكن الق�ضية القومية خملتلفة ح�سب �أختالف االمم ‪.‬‬ ‫وتابع �سعاده كتابة مقاالته حتى ن�شر له بعد فرتة مقال ‪" :‬العروبة افل�ست" فكان له دور كبري‬ ‫‪146‬‬


‫تكرمي‬

‫واحدث �ضجة يف الأو�ساط امل�ؤمنة بالقومية العربية وخ�صو�صا او�ساط (حزب النداء) ‪ ،‬الذي‬ ‫كنت ال ازال منت�سبا اليه ‪ .‬ف�أخذ الأخوان يناف�شونني ويلمونني لفتح ٍ‬ ‫جمال من هذا النوع‬ ‫يف جريدتي‪ .‬فقلت لهم انه �صدر يل يف العدد نف�سه يف ( كل �شيء ) مقال يل يف مكان �آخر‬ ‫بعنوان ( العروبة مل تفل�س)‪.‬‬ ‫وناق�شت انطون �سعاده وحاولت ان اناق�ش تفكريه باملنطق ‪ ،‬وبطبيعة احلال ال بالتهجم وال‬ ‫بالإنفعال بل اجلدال الفكري ‪ ،‬اميانا مني ب�أين كنت ال ازال ع�ضوا يف حزب النداء وادعو اىل‬ ‫هذه املناظرة واملناق�شة وال�صراع الفكري احلر ‪ ،‬فلم ت�سوه الأمور ‪ ،‬وانتهى الأمر بانف�صايل عن‬ ‫حزب النداء وكنت �صريحا ومل ينته الأمر باخلفاء ‪ ،‬ودعوت يومئذ اىل اعادة النظر يف كل‬ ‫الأفكار لتعميقها وتبيان موا�ضع النق�ص واخللل‪ .‬وا�ستمر الأمر بن�شر مقال لأنطوان �سعاده‬ ‫ا�سبوعيا ‪ .‬و�سل�سلة هذه القاالت التي �صدرت يف (كل �شيء) هي �آخر ما كتبه انطون �سعاده‬ ‫كرجل فكر وكم�ؤ�س�س للحزب القومي ‪ .‬و�آخر ما كتبه يف حياته قبل اعدامه ‪ .‬وكذلك تعترب‬ ‫اهم املراجع الفكرية واحلزبية بتاريخ احلركة القومية الأجتماعية وجمال التعرف على حقيقة‬ ‫فكر �سعاده ‪ .‬ومقال ( العروبة افل�ست ) اعقبه �سعاده مبقال �آخر بعنوان (والإنعزالية اللبنانية‬ ‫افل�ست ) وبطبيعة احلال قامت قيامة الفريق الآخر واحدث �ضجة كربى وتابعنا نن�شر هذه‬ ‫املقاالت وملا روجعنا من قبل ا�صدقائنا الذين كانوا يف احلكم ‪ ،‬كان موقفنا وا�ضحا و�صريحا‬ ‫اذ اننا نن�شر املقاالت مت�سكاً بحرية الر�أي واف�ساح املجال امام كل ان�سان ان يقول ما ي�شاء‬ ‫ويعربعن فكره بحرية كي تت�صارع كل هذه الأفكار فيما بينها وين�ش�أ منها الفكر الأقرب‬ ‫لل�صواب خدمة للق�ضية الوطنية وب�صورة خا�صة للق�ضية القومية بعد كارثة فل�سطني عندما‬ ‫كان يفت�ش اجلميع عن ال�سبيل الأ�صوب خلدمة الق�ضية العربية وق�ضية فل�سطني ب�شكل‬ ‫خا�ص ‪...‬‬ ‫وهكذا كنت م�ؤمنا باحلوار الفكري وم�ؤمنا ب�أن هذا احلوار هو ال�سبيل احل�ضاري الأ�صح‬ ‫ملحاولة بلوغ احلقيقة‪ .‬فمن غري احلوار ال�صريح العلني احلر غري املقيد ب�أي عقد واملتنزه عن‬ ‫اي عقدة نف�سية او فكرية �سابقة ‪ ،‬ممكن تفهم الآ خرين او حماولة بلوغ احلقيقة ‪ ،‬واقول‬ ‫(حماولة) لأن بلوغ احلقيقة لي�س بالأمر الهني ‪ .‬واين اعترب احلوار �ش�أنا ا�سا�سيا يف احلياة‬ ‫‪ .‬خ�صو�صا بني اللبنانيني وهذا احلوار ممكن ان يكون مت�سعا لدرجة ي�شمل كل املوا�ضيع‬ ‫التي ميكن ان تبحث يف العامل العربي ‪ ،‬وهذا البلد تبقى له قيمة اذا بقي احلوار فيه حرا‬ ‫وبقي له مت�سع عندنا ‪ .‬وهناك بيت �شعر قدمي احب ان اذكره يف هذه املنا�سبة وهذا القول‬ ‫يعود اىل ‪� 1300‬سنة ال اذكر من قاله فهو �شاعر قدمي قال ‪ :‬لعمرك ما �ضاقت بالد ب�أهلها‬ ‫ولكن اخالق الرجال ت�ضيق ‪.‬‬ ‫فالبالد تت�سع للجميع ‪� ،‬شرط ان يحرتم املواطن حق املواطن الآخر باحلرية وحقه يف احلوار ‪.‬‬ ‫‪147‬‬


‫وكما ا�ست�شهدنا ببيت �شعر قدمي ن�ست�شهد بيت �شعر حديث وهو القائل‬ ‫�آمنت باهلل �أم �آمنت باحلجر ‪.‬‬ ‫ما دمت حمرتما حقي ف�أنت اخي‬ ‫فهذا اجلو هو الذي يوفر الأحرتام املتبادل بني املواطنني ويوفر الأجواء الدميقراطية لت�أمني‬ ‫التقدم الفعلي يف كل جماالت احلياة �سواء الفكرية اوال�سيا�سية او الأقت�صادية او الرتبوية يف‬ ‫كل جماالت احلياة واين م�ؤمن بهذا املبد�أ من ذلك الزمن ‪.‬ال �أخفي ب�أن هذا الإميان جعلني‬ ‫علي ‪ .‬وذكرت كيف �صار انف�صايل عن حزب‬ ‫احتمل بع�ض نتائج �س�ؤ الفهم من اخوان اعزاء ّ‬ ‫(النداء القومي ) علما ب�أن هذا الإنف�صال مل ي�ؤد اىل انف�صام عربي املودة والأخوة بيني وبني‬ ‫اخواين يف حزب ( النداء) ب�أعتبار ان اختالف الر�أي ال يف�سد للود ق�ضية‪ .‬فهذه املقاالت‬ ‫(مقاالت انطون �سعادة ) كان لها دور كبري واثر بالغ واف�سحت املجال ملناق�شات علنية بني‬ ‫خمتلف الفرقاء ‪ .‬واذكر انه ت�صدى للمزعيم انطون �سعاده زميلنا الكبري اال�ستاذ حممد النقا�ش‬ ‫واخذ يناق�شه يف جوهر املو�ضوع ‪ .‬كما ت�صدى له اي�ضا املرحوم الأ�ستاذ اني�س الن�صويل يف‬ ‫جريدة"بريوت" ‪ .‬وكان من نتائج هذه املقاالت ان اقدم املفكر العربي الكبري �ساطع احل�صري‬ ‫على و�ضع م�ؤلفاته يف التوعية العربية لتو�ضيح ا�س�سها ‪ .‬يعني كان لهذه امل�ساجالت نتائج‬ ‫ايجابية من الناحية العامة ‪ .‬ثم من ناحية خا�صة فيما يتعلق ب�شخ�صي ‪:‬هذا الأ�سلوب الذي اتبعناه‬ ‫مع �صاحب هذه املقاالت ‪ ،‬وهنا اريد التو�ضيح ب�أن مل يكن وحده يكتب يف ( كل �شيء)‬ ‫بل على العك�س كان هناك كتاب من خمتلف املراجع الفكرية يعني مثال كان يكتب لنا‬ ‫الدكتور جورج حنا من اقطاب احلزب ال�شيوعي ‪ ،‬واملهند�س انطوان ثابت كذلك من اركان‬ ‫احلزب ال�شيوعي ‪ .‬وكان يكتب اي�ضا العالمة ال�شيخ عبد اهلل العاليلي املعروف ب�إجتاهاته‬ ‫الفكرية وكذلك كان يكتب يف ( كل �شيء) �شباب من اجلامعة الأمريكية من ا�صحاب‬ ‫الفكرة العربية القومية ‪ .‬يعني كانت (كل �شيء) منربا فكريا حرا ‪ .‬وهذا الأ�سلوب اعتمدناه‬ ‫مع امل�ؤ�س�س احلزب القومي اذ وافق على ان ين�شر مقاله الأ�سبوعي بعد ان نعيد النظر فيه‬ ‫يف جل�سة خا�صة كما اف�سح املجال لعقد جل�سات طويلة فكرية كل ا�سبوع‪ .‬وكان هذا املقال‬ ‫منا�سبة لأعادة النظر ‪ ،‬فكانت اجلل�سة فكرية ت�ستمر �ساعات و�ساعات ويت�شعب فيها احلديث‬ ‫يف ال�ش�أن الفكري وال�ش�أن العام ‪.‬‬ ‫وكان يح�ضر هذه اجلل�سات بع�ض اركان احلزب‪ .‬مثال اذكر ال�سيد جورج عبد امل�سيح –‬ ‫املرحوم ف�ؤاد ابو عجرم‪ -‬اال�ستاذ �سامي جنار من اركان احلزب ومل يكن هناك حتديد العدد‬ ‫احلا�ضرين ‪ ،‬امنا ح�سب ما يكون عند الزعيم من زوار‪ .‬لكن مل يكن بني احل�ضور من كانت‬ ‫لهم انتماءات �أخرى ‪ .‬كال لأين كنت اق�صد الزعيم اىل منزله يف ر�أ�س بريوت حيث اليوم‬ ‫�شارع املكحول مقابل كني�سة ال�سيدة االرتوذك�سية وكنت اق�صده اىل منزله مبوعد معني‬ ‫وحمدد دائما وكان هذا يوم الأربعاء بعد الظهر ‪ ،‬لأن اجلريدة كانت ت�صدر ظهر اخلمي�س‬ ‫‪148‬‬


‫تكرمي‬

‫وكان مقاله ي�صدر يف ال�صفحة الأوىل مع �آخر ما يهيا للطبع وكانت ( كل �شيء) جريدة‬ ‫ا�سبوعية امتيازها يومي ‪ .‬فكانت هذه اجلل�سات ت�ستغرق �ساعات و�ساعات يعني تنطلق من‬ ‫عبارة واحدة وكان يل مالحظات عليها من ناحية قانونية او بع�ض اال�ستي�ضاحات من ناحية‬ ‫فكرية ‪ .‬فننطلق من هذه العبارة او من هذه الفكرة لنتناول موا�ضيع فكرية عميقة تت�شعب‬ ‫معنا‪ .‬ويف هذه اجلل�سات اكت�شفت يف انطوان �سعاده رجل فكر كبريا جدا وقديرا يف النقا�ش‬ ‫وعنده القدرة على الأقناع‪ .‬وهذا ال مينع انه كان يقتنع مني احيانا ب�ضرورة حذف بع�ض‬ ‫الفقرات او تبديل بع�ض العبارات بحيث ي�صدر املقال من غري ان ي�ؤدي اىل مالحقة قانونية او‬ ‫تطاله احكام قانون املطبوعات ‪ .‬اجلل�سات الطويلة ‪ ،‬كانت باحلقيقة ذات اثر كبري يف فكري يف‬ ‫تلك الآونة ‪ ،‬اذ اطلعتني على افكار اخرى غري الآفكار التي كانت �شائعة وغري الأفكار التي‬ ‫�آمنت بها ‪ .‬وهذا دفعني اىل ان اتبع الطريقة ( الديكارتية ) اي طريقة ( ديكارت) الذي عمل‬ ‫وانطلق من ال�شك ‪ ،‬يف كل الأفكار ال�سابقة اذ اعتمد ما ي�سمى (دابل راز ) ‪ ،‬وان تقبل على‬ ‫املوا�ضيع املطروحة بذهن متجرد ومنفتح ‪ ،‬لتفهم كل فكر �آخر ‪ .‬هذا امر مهم جدا جعلني‬ ‫بالنتيجة اتكل على درا�سة مبادئ جميع االحزاب وافكار جميع احلركات واالجتاهات لي�س‬ ‫فقط يف لبنان والعامل العربي بل يف العامل حتى اقدر ان اثقف نف�سي يف هذا املجال تثقيفا‬ ‫ا�شمل واكمل و�سعيا وراء احلقيقة التي ميكن ان تقنع فكري حتى تناول هذا الأ�سلوب‬ ‫�ش�أن املعتقدات التي تتعلق مبا وراء الطبيعة ‪ ،‬يعني رجعت ابحث حتى يف مو�ضوع االلوهة‬ ‫والوحي و�سائر االفكار ‪.‬يعني رجعت اىل الالهوت ؟ لكن مل تكن لدي الرغبة لأنكار‬ ‫الآميان امنا رغبة يف تفهم املو�ضوع ب�شكل اعمق ‪ .‬وفعال هذه املرحلة كانت ذات فائدة كبرية‬ ‫واحب يف هذه املنا�سبة ان اقول اين ا�ستمررت على هذا املنوال اىل ان ح�صل عام ‪1949‬‬ ‫حادث ا�صطدام بني احلزب القومي وحزب الكتائب‪ .‬اذ كان للحزب القومي جريدة ا�سمها‬ ‫( اجليل اجلديد ) وتطبع يف مطبعة يف جملة اجلميزة ‪ ،‬وكان �سعاده يتوجه يوميا اىل هذه املطبعة‬ ‫ليكتب مقاله الأفتتاحي يف اجلريدة من غري توقيع وكان ي�شرف على �ش�ؤون اجلريدة ويكتب‬ ‫املقال الذي يريد ان يكتبه ‪ .‬ولكن يف يوم من الأيام ح�صل الأ�صطدام بني الكتائب وبني‬ ‫احلزب القومي ووقع بع�ض اجلرحى ومتكن �سعاده يف ان يخرج من املطبعة ويعود اىل منزله‬ ‫لكن ا�صدرت احلكومة يومئذ قرارا فوريا يحل احلزب القومي ومالحقة رئي�سه واركانه ‪ ،‬مما‬ ‫جعل �سعاده يت�سلل من لبنان ويلج�أ اىل دم�شق ‪.‬‬ ‫�صدر احلكم لي�س فورا بعد احلادث‪ .‬يومها �صدر قرار من احلكومة بحل احلزب ال�سوري‬ ‫القومي الأحتماعي ومالحقة زعيمه واركانه ‪ .‬بطبيعة احلال هذه املالحقة ادت اىل توقف‬ ‫�سعاده عن ن�شر مقاالت يف كل �شيء اوال لأنه متعذر عليه عمليا لأنه �صارت تعترب مقاالته‬ ‫خمالفة للقانون‪ .‬يعني رجل مالحق قانونا واحلزب حملول ‪ ،‬وهذا �صار ي�شكل خمالفة للقانون‬ ‫يف هذه الفرتة – وهذا ح�صل يف اوائل حزيران ‪ 1949‬ويف هذه الفرتة كان ح�سني الزعيم‬ ‫‪149‬‬


‫اجرى انقالبه يف دم�شق وقب�ض على زمام احلكم وا�صبح رئي�س اجلمهورية‪ .‬وكان هناك‬ ‫�صراع بينه وبني احلكم اللبناين ب�إعتبار ان احلكم اللبناين كان على �صالت تعاون مع احلكم‬ ‫ال�سوري الذي اطاح به ح�سني الزعيم – اي حكم الرئي�س �شكري القومي ‪ .‬ففكرت بزيارة‬ ‫لدم�شق يف هذه الآونة ‪ .‬ويف احد الأيام قال يل مدير املطبوعات يف ذلك العهد – وكان‬ ‫رحمه اهلل – الدكتور �صربي قباين �صاحب ومن�شئ جملة ( طبيبك ) ‪ ..‬املجلة اتي اخذت‬ ‫دورا كبريا وانت�شارا وا�سعا – والدكتور �صربي قباين كان رجال فا�ضال ومن احاديثي معه‬ ‫ايقنت انه على �صالت ود مع احلزب القومي وقد يكون منت�سبا ف�إذ به ي�س�ألني يف احدى‬ ‫الزيارات ‪ :‬اال تريد ان تزور انطوان �سعاده فقلت له ‪ ":‬وهل بالأمكان ؟ هذا �ش�أن اعتربه‬ ‫هاما جدا ‪ .‬اوال لأن الرجل �صديقي وثانيا ممكن ان اجري معه �سبقا �صحفيا ‪ .‬ت�صور اين‬ ‫ب�صدد اجراء حديث مع زعيم حزب مالحق يف لبنان" فقال يل ‪" :‬اذا كنت تريد املقابلة‬ ‫ف�أنا م�ستعد ان ا�ؤمنها لك"‪ .‬مددت اقامتي يف ال�شام ورتب يل املو�ضوع واذ به ي�أخذين (‬ ‫اي الدكتور �صربي قباين) ومعه مدير ال�شرطة يف تلك الأيام العقيد ابراهيم احل�سنبي وكان‬ ‫موقعه مهما هناك ‪ .‬ذهبنا �آنذاك اىل احد املنازل وتبني لنا بعدئذ انه منزل مدير فندق (‬ ‫اوربان باال�س ) ال�سيد جنيب ال�شويري ‪ ،‬الذي كان من اع�ضاء احلزب وكان ي�ست�ضيف يف‬ ‫منزله الزعيم انطون �سعاده قبل انتقاله من الفندق‪ .‬فدخلنا على الزعيم م�ست�أذنني فرحب‬ ‫بنا الرجل و�شكر قدومي وحر�صي على مقابلته واخذنا نتحدث عن الو�ضع يف لبنان وعن‬ ‫املالحقات ‪ ،‬وكانت احلكومة يف البداية اوقفت اكرث من ثالثة االف �شاب من �شباب احلزب‬ ‫القومي ‪ ،‬امنا مثل كل �شيء يبد�أ يف البلد كبريا ويعود ي�صغر مع الوقت ‪ .‬فقلت له ‪" :‬طيب يا‬ ‫اخي تنزل على العدلية وي�ستجوبك النائب العام بكلمتني وبعد ذلك تلغى مذكرة التوقيف‬ ‫هكذا �سبق ان ح�صل‪ .‬واذكر ان قلت له ‪ :‬واهلل االمور تتح�سن ميكن ما عاد فيه توقيفات من‬ ‫كل ه�ؤلأ االالف الذين �أَدخلوا ال�سجن �سوى ع�شرين �شخ�صا ومع الوقت تعود الأمور لتربد‬ ‫وكل �شيء له حل‪ .‬فما عليك اال ان ت�صرب وتعطي الوقت وملجال حلل امل�شكلة ‪ .‬فقال يل‬ ‫(اهكذا مالحظ انت ؟ وان�شاء اهلل خريا واين كتري م�سرور ‪.‬‬ ‫فلم �أخذ حديثا لأنه مل يكن بالإمكان ذلك ‪.‬وتذكرت بعد ان �أعلنت الثورة وبعد عودتي‬ ‫من دم�شق بثمانية ايام فقط اننا �سمعنا ان �سعاده اعلن الثورة امل�سلحة �ضد احلكم اللبناين‬ ‫واخذ القوميون يهاجمون املخافر والتلفاز يف املناطق ‪ .‬وذكرت ان اول ما دخلت على‬ ‫�سعاده يف منزل جنيب ال�شويري الحظت يف مدخله �شبابا عاكفون على خرائط كبرية‬ ‫وعندهم حقل م�ساطر كانهم كانوا على باب قو�سني من عمل ا�سرتاتيجي فكري ‪ .‬وفهمت‬ ‫بعد اعالن الثورة انهم كانوا يدر�سون على ما بدا كيف انهم �سيتحركون ع�سكريا واين‬ ‫يجب ان يهاجموا او ان ي�شنوا املعارك ‪ .‬ويف تلك احلال مل يقل يل �شيئا الزعيم �سعاده ‪ ،‬او‬ ‫يعرب عن نية اعالن الثورة‪ .‬واعتقد انه لو كا�شفني بالأمر باعتبار اين مل اكن قد انت�سبت‬ ‫‪150‬‬


‫تكرمي‬

‫للحزب فهذا امر �سري للغاية وال ميكن حتى لأع�ضاء كثريين من احلزب االطالع عليه‪،‬‬ ‫فما اورد �شيئا على االطالق يف مو�ضوع الثورة امل�سلحة ‪ .‬ولو اطلعني على �شيء من هذا‬ ‫املو�ضوع لكنت بالت�أكيد طلبت اليه ان يعدل عن ر�أيه لأن االمور كما �سبق وذكرت كانت‬ ‫�آخذة يف احللحلة وكانت الدعوة للثورة مفاجئة‪ .‬ويف نهاية اللقاء يومئذ ح�صل انت�سابي‬ ‫للحزب امام زعيم احلزب لذلك وملا بعد ثالثة ايام اعلنت الثورة كانت مفاج�أة يل اوال‬ ‫ولكن تفهمت ملاذا مل يطلعني لأين مل اكن انت�سبت بعد اىل احلزب ‪ .‬واين اعتقد اين‬ ‫حتى فيما لو كنت انت�سبت للحزب ف�أنا ال ازال حديث العهد وع�ضوا عاديا فلي�س م�ألوف‬ ‫االمر وما ا�ستمرت الثورة اال‬ ‫ان يطلعني على مثل هذا املو�ضوع اخلطري ‪ .‬فتفهمت هذا ُ‬ ‫‪� 48‬ساعة وق�ضي عليها يف املهد لأن اال�سلحة التي زود بها ح�سني الزعيم احلزب كانت‬ ‫فا�سدة وغري ذات جدوى‪ .‬وبعد ذلك انتهى االمر بت�سوية بني ح�سني الزعيم وبني احلكومة‬ ‫اللبنانية بت�سليم انطون �سعاده للحكم اللبناين وا�شرتط ح�سني الزعيم ان يعدم انطون‬ ‫�سعاده على الفور حتى ال تنك�شف عملية الت�سليم ‪ .‬ويف الوقت الذي �سلم فيه انطون‬ ‫�سعاده كانت جريدة ( كل �شيء ) اول جريدة تن�شر اخلرب يف �صدر �صفحتها الأوىل وقد‬ ‫�سلم فجر اخلمي�س واحيل للمحاكمة الع�سكرية فورا قبل ظهر اخلمي�س وعلمنا نحن ان‬ ‫انطون �سعاده �صار يف املحكمة الع�سكرية وقيد االعتقال فن�شرنا اخلرب يف ال�صفحة االوىل‬ ‫يعني �سبقنا كل ال�صحف وكان للخرب طبعا اهمية حملية ودولية ‪ .‬وح�صل ما ح�صل بعدئذ‬ ‫يف املحاكمة العاجلة التي مل تراع فيها اال�صول الق�ضائية ‪ .‬واعتذر يومئذ املحامي الكبري‬ ‫اال�ستاذ اميل حلود الذي طلبه �سعاده ليدافع عنه‪ .‬اعتذر عن املرافعة لأنه وجد ان جو‬ ‫املحكمة ال يف�سح يف املجال حلرية الدفاع القانوين اال�صويل وان االمر مدبر وال بد من‬ ‫االنتهاء من هذا الرجل ب�شكل او ب�آخر‪ .‬وهكذا �صدر احلكم باالعدام ونفذ بالرجل يف‬ ‫فجر اليوم التايل ‪ .‬وافاق النا�س �صياح ذلك اليوم ويف ال�صحف خرب اعدام انطون �سعاده‬ ‫زعيم احلزب القومي االجتماعي‪.‬‬ ‫طبعا فعل هذا االمر الكثري يف نف�سي خ�صو�صا اين كنت قبل ب�ضعة ايام موجودا عنده‬ ‫وانت�سبت حلزبه يف ذلك الظرف‪.‬‬ ‫الآن بطبيعة احلال �صار احلزب يلقى تعاطفا من النا�س نظرا اىل طريقة اعدام �سعاده ‪ .‬اما انا‬ ‫فكنت ال ازال ع�ضوا عاديا ‪ .‬ولكني امار�س ال�صحافة يف جريدتي اىل ان ح�صلت حادثة‬ ‫اغتيال ال�ضابط ال�سوري الكبري عدنان املالكي على يد بع�ض ال�شباب القوميني يف دم�شق‪.‬‬ ‫فهذا احلادث حني ح�صل كنت يف الواليات املتحدة كما �سبق ان ذكرت واجلريدة ت�صدر‬ ‫با�شراف رفيقنا اال�ستاذ �سعيد تقي الدين للدفاع عن احلزب‪.‬‬ ‫لكن وقع احلادث مهم جدا هو حادث اغتيال ال�ضابط ال�سوري غ�سان �صربي الذي كان‬ ‫‪151‬‬


‫ع�ضوا يف احلزب القومي وبعده حادث جل�ؤ املالكي اىل بريوت ‪ ،‬واخذ ين�شط مع احلزب وطبعا‬ ‫�ضد الو�ضع القائم يف دم�شق ‪ .‬فهذا احلادث ح�صل يف �شارع ال�سادات واين ال ازال اتذكر‬ ‫ان غ�سان �شديد كان يرف�ض ان يكون معه مرافقون او حرا�س وكان يتنقل ب�صورة جد عادية‬ ‫ورمبا هذا �سهل اغتياله على يد احد اال�شخا�ص الذي انتحل �صفة بائع خ�ضار وانتظر حتى‬ ‫�صار خارجا من املكتب فاغتاله يف ال�شارع وكان للحادث ذيول لأنه ح�صل يف عهد الرئي�س‬ ‫�شمعون بعد ان انتهى عهد الرئي�س ب�شارة ‪.‬‬

‫‪152‬‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫ب�صمات �أمني الريحاين‬ ‫على الرابطة القلمية وجلنتي الإعانة والتحرير‬ ‫جان داية ‪� -‬صحايف وباحث‬

‫لن �أك ّرر ما قلته يف كتابي اجلديد عن �أمني الريحاين وك�شكول خواطره الذي �أبدعه ون�شره يف‬ ‫جريدة �صهره اللدود نعوم مكرزل‪ ،‬بني ‪ 1901‬و‪.1904‬‬ ‫لذلك‪� ،‬أ�ست�أذنكم يف قول كلمتني عن �ساخر الفريكة‪ ،‬يف �أغنى مرحلة من حياته الأدبية وال�سيا�سية‪،‬‬ ‫التي بد�أت يف زيارة العا�صمة الربيطانية عام ‪ 1910‬برفقة جربان‪ ،‬وانتهت اثر مغادرته نيويورك‬ ‫يف العام ‪ ،1920‬بعد �أن ن�شر يف �صحافتها العربية‪ ،‬ومنها "مر�آة الغرب" و"ال�سائح" و"الفنون"‬ ‫ع�شرات املقاالت‪ ،‬وا�شرتك مع �أبرز �أدبائها ومنهم جربان ووليم كان�سفلي�س الطرابل�سي اليوناين‬ ‫الأ�صل ون�سيب عري�ضة احلم�صي‪ ،‬ثالث جمعيات‪ ،‬واحدة �أدبية‪ ،‬والثانية �إغاثية‪ ،‬والثالثة �سيا�سية‪.‬‬ ‫�إذا عاد القارئ �إىل مقال "الرابطة القلمية" مليخائيل نعيمه املن�شور يف كتابه "�سبعون" يقر�أ ما‬ ‫ن�ضمه �إىل‬ ‫حرفيته‪" :‬ولدت الرابطة القلمية يف الع�شرين من ني�سان ‪� .1920‬أما �أمني الريحاين فلم ّ‬ ‫الرابطة ل�سببني‪� :‬أولهما �أنه كان متغيباً عن نيويورك عند ت�أ�سي�سها‪ ،‬وثانيهماـ وهو الأهمـ �أنه كان‬ ‫على خالف بلغ حد اجلفاء مع جربان"‪.‬‬ ‫لو �شمل كتابي الرابطة القلمية‪ ،‬ل�ضمنت مقدمته معلومة ثانية تفيد �أين عرثت بال�صدفة يف مكتبة‬ ‫الكونغر�س على وثائق عدة تعيد النظر مبا �أ ّرخه نعيمة عن الرابطة‪� ،‬أ�سوة باملعلومة الأوىل التي‬ ‫�أكدت فيها �أن عثوري على مقاالت "ك�شكول اخلواطر" يف تلك املكتبة الغنية الفتية ن�سبياً‪ ،‬كان‬ ‫�أي�ضاً بال�صدفة‪ .‬و�سر ال�صدفة املزدوجة �أين طرت من لندن �إىل وا�شنطن دي �سي لنب�ش مقاالت‬ ‫جربان غري املن�شورة يف جمموعته الناق�صة من �أجل ن�شرها يف كتابي "عقيدة جربان"‪ .‬فعرثت �إىل‬ ‫جانب املقاالت اجلربانية‪ ،‬على ع�شرات املقاالت املمهورة بتوقيع جربان واحلدادين ندره وعبد‬ ‫امل�سيح ون�سيب عري�ضة ووديع باحوط واليا�س عطاهلل ور�شيد �أيوب والأمينني الريحاين وم�شرق‪،‬‬ ‫وقد ظهرت �إىل جانب كل ا�سم عبارة "ع�ضو يف الرابطة القلمية"‪.‬‬ ‫�أما تاريخ ن�شر املقاالت‪ ،‬ومنها مقاالت الريحاين الثالث‪ ،‬فرتاوح بني �أيار ومتوز ‪.1916‬‬ ‫وعلى ذكر �أمني م�شرق‪ ،‬فقد ن�شر يف "ال�سائح" العدد ال�صادر يف ‪ 29‬حزيران ‪ 1916‬مقا ًال بعنوان‬ ‫‪153‬‬


‫�ضمنه جواباً �شبه ر�سمي على ت�سا�ؤالت القراء عن �أ�صل الرابطة وف�صلها بعد‬ ‫"الرابطة القلمية" ّ‬ ‫�أن قر�أوا ا�سمها �إىل جانب �أ�سماء فر�سانها‪.‬‬ ‫و�إذا �أجرينا مقارنة بني الرابطتني ن�ستنتج �أنهما رابطة واحدة انطالقاً من املعطيات الآتية‪:‬‬ ‫‪ 1‬ـ اجلمعيتان حتمالن ا�سماً واحداً وهو "الرابطة القلمية"‪.‬‬ ‫‪ 2‬ـ كل �أع�ضاء رابطة ‪ 1916‬بدءاً بجربان‪ ،‬هم �أع�ضاء رابطة ‪ ،1920‬با�ستثناء الريحاين‪ ،‬وكل �أع�ضاء‬ ‫رابطة ‪ 1920‬هم �أع�ضاء رابطة ‪ ،1916‬با�ستثناء نعيمة‪.‬‬ ‫‪ 3‬ـ من حيث امل�ضمون‪ ،‬يت�شابه بيان �أمني م�شرق مع بيان ميخائيل نعيمه‪.‬‬ ‫‪ 4‬ـ كان مولد الرابطتني يف �شهر ني�سان‪.‬‬ ‫وهكذا ميكن القول �إن الريحاين وجربان والآخرين �أ�س�سوا الرابطة القلمية يف العام ‪،1916‬‬ ‫ومل يكن نعيمه من امل�ؤ�س�سني‪� ،‬أو حتى من املنت�سبني ُبعيد الت�أ�سي�س‪ .‬ولكن عاملني حاال دون‬ ‫ا�ستمرار اجلمعية الأدبية‪� :‬ضراوة احلرب العاملية الأوىل‪ ،‬وت�أ�سي�س الأع�ضاء يف العام نف�سه جلمعية‬ ‫وح ّلت اجلمعية ال�سيا�سية‬ ‫�سيا�سية با�سم "جلنة حترير �سورية وجبل لبنان"‪ .‬وعندما انتهت احلرب ُ‬ ‫نف�ض جربان ورفاقه الغبار عن رابطتهم‪ ،‬فان�ضم �إليها نعيمه‪ ،‬وغاب عنها الريحاين ب�سبب تغيبه يف‬ ‫نيويورك على حد تعبري نعيمه نف�سه‪.‬‬ ‫�أما ال�سبب الثاين وهو اخلالف املزعوم بني الريحاين وجربان‪ ،‬فيندرج يف منهج ُي�شاع و ُيذاع‪ ،‬بدليل تعاون‬ ‫الرجلني يف ت�أ�سي�س الرابطة العام ‪� ،1916‬إ�ضافة �إىل تعاونهما يف م�شاريع نه�ضوية �أخرى كما �سيجيء‪.‬‬ ‫الأوبرا ال�سورية‬

‫يف العام ‪ ،1910‬انتقل جربان والريحاين من باري�س �إىل لندن‪ ،‬فزارا دار الأوبرا‪ ،‬وبقدر ما �أعجبا‬ ‫تعجبا من احتكار مقهى‬ ‫بهند�سة وعراقة املركز الفني الربيطاين الذي ّ‬ ‫يت�صدر عا�صمة الإنكليز‪ّ ،‬‬ ‫القزاز ملدينة بريوت املمتازة التي احت�ضنت �أول مدر�سة للحقوق يف الكرة الأر�ضية‪ .‬و�سرعان ما‬ ‫ر�سما ت�صميماً للأوبرا البريوتية وذ ّياله بتوقيعهما و�أطلقا عليها ا�سم "الأوبرا ال�سورية" وت ّوجاها‬ ‫بهذه العبارة الأدبية‪� :‬أول كلمة من ق�صيدة مل تنظم لفظت يف لندن يف غ ّرة متوز ‪.1910‬‬ ‫جلنة الإعانة‬

‫�إثر املجاعة التي جنمت عن احل�صار الذي �أحكمه الرتكي على طامي�ش والفريكة وديك املحدي‬

‫‪154‬‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫وعموم جبال لبنان‪ ،‬وال�شبيه بوح�شيته و�ضحاياه باحل�صار امل�ضروب على غزة يف هذه الأيام‪ ،‬اجتمع‬ ‫بع�ض �أدباء اجلالية و�صحافييها وجتارها يف نيويورك و�أ ّلفوا جمعية با�سم "جلنة �إعانة منكوبي �سوريا‬ ‫وجبل لبنان" (‪ )The Syrian-Mount Lebanon Relief committee‬وانتخبوا الهيئة امل�س�ؤولة على‬ ‫النحو التايل‪ :‬جنيب �شاهني معلوف رئي�ساً‪� ،‬أمني الريحاين نائباً للرئي�س‪ ،‬جربان خليل جربان كامت‬ ‫�أ�سرار‪ ،‬نعمه تادر�س و�أنطون �سمعان وخليل التني �أمناء �صندوق‪.‬‬ ‫وقبل �أن تتوفر امل�ساعدات لإر�سالها من العامل اجلديد �إىل ال�شرق القدمي‪ ،‬توفّر اخلالف الأيديولوجي‬ ‫وال�شخ�صي‪ ،‬ولكن لي�س بني جربان والريحاين‪ ،‬بل بني نعوم مكرزل من جهة و�سائر فر�سان اللجنة‬ ‫ويف طليعتهم جربان والريحاين‪ .‬فقد �أ�ص ّر �صاحب "الهدى" على ح�صر امل�ساعدات يف نطاق‬ ‫جبل لبنان‪ ،‬ور ّد عليه الريحاين مبقال "التعميم والتخ�صي�ص" ن�شر يف جريدة "مر�آة الغرب"‬ ‫بتاريخ ‪ 15‬متوز ‪.1916‬‬ ‫قال الكاتب رداً على ابن �ضيعته ولي�س على زميله يف قيادة اللجنة‪�" :‬أنا من قرية �صغرية يف لبنان‬ ‫ُتدعى الفريكة‪� ،‬سكانها ال يتجاوزون املئة عداً كلهم من املزارعني‪ .‬وال ريب يف �أنهم كلهم اليوم يف‬ ‫حاجة �إىل الإ�سعاف فلو قلت بالتخ�صي�ص‪ ،‬لوجب علي وحدي يف هذه البالد �إغاثة �أبناء قريتي"‪.‬‬ ‫�أ�ضاف‪" :‬التخ�صي�ص من هذه الوجهة مبد�أ فا�سد‪ .‬على �أننا �إذا قلنا بالتعميم يف �إح�ساننا‪� ،‬إذا قلنا‬ ‫أ�شد حاجة منهم فال�شديد‪ ..‬فهذا التخ�صي�ص يف التعميم �إمنا هو املبد�أ‬ ‫ب�إغاثة املنكوبني يف وطننا ال ّ‬ ‫الوطني ال�صحيح‪� .‬إن �ضعفنا ك�أمة �صغرية ملن داعي ال�شدة التي نحن فيها‪ .‬فكيف �إذا جز�أنا �أنف�سنا‬ ‫مئة جزء"‪ .‬وختم "قد جمعتنا النكبة �أيها الإخوان فقمنا ن�سعى للمنكوبني يف الوطن حيث كانوا‬ ‫يف بريوت �أو يف لبنان‪ ،‬يف ال�شام �أو يف طرابل�س‪ ،‬يف حم�ص �أو يف حلب‪ ،‬وللمنكوبني من كانوا ـــ‬ ‫م�سيحيني �أو م�سلمني‪ .‬قد جمع اجلوع بني �أبناء الوطن فليجتمع �أبناء الوطن على اجلوع"‪.‬‬ ‫جلنة التحرير‬

‫ومل يتوقف م�سل�سل حراك الريحاين امل�ؤ�س�سي خالل �سنوات احلرب التي ت�شل عادة احلراك‪.‬‬ ‫ففي ‪ 19‬ني�سان ‪ 1917‬بعث الريحاين من ا�شبيلية بر�سالة �إىل �صاحب جريدة "ال�سائح" عبد امل�سيح‬ ‫حداد قال فيها‪" :‬يف ال�سنة املا�ضية �أ�س�سنا جلنة �إعانة املنكوبني‪ ،‬ويف هذه ال�سنة يجب �أن ن�ؤ�س�س‬ ‫أهم من تلك‪� .‬إن فيها الإعانة احلقيقية ل�سوريا املنكوبة"‪ .‬وا�ستدرك "ال‬ ‫جلنة حترير �سوريا‪ .‬وهذه � ّ‬ ‫يفوتنكم �أن خال�ص �سوريا عن يدنا‪ ،‬عن يد �أبنائنا‪� ،‬إمنا هو خال�صها احلقيقي الدائم‪� .‬أما خال�صها‬ ‫عن يد �أمة �أخرى‪ ،‬فخال�ص تتبعه �سيادة �أجنبية وال�سيادة الأجنبية‪ ،‬مهما كانت عادلة �صاحلة‬ ‫مفيدة‪ ،‬ال نر�ضاها �إىل الأبد"‪ .‬و ُبعيد عودة الأمني �إىل نيويورك ت�أ�س�ست اجلمعية ال�سيا�سية حتت‬ ‫ا�سم‪" :‬جلنة حترير �سوريا وجبل لبنان" (‪.)Syria Mount Lebanon League of Liberation‬‬ ‫‪155‬‬


‫وت�ألفت هيئتها الإدارية على النحو التايل‪ :‬الدكتور �أيوب تابت رئي�ساً‪� ،‬أمني الريحاين نائباً للرئي�س‪.‬‬ ‫نعمة تادر�س �أمني �صندوق‪ .‬جربان خليل جربان �أمني �سر املرا�سالت الأجنبية‪ .‬ميخائيل نعيمه‬ ‫�أمني �س ّر املرا�سالت العربية‪.‬‬ ‫طبعاً‪ ،‬ارتفع �ضغط نعوم مكرزل �صاحب "الهدى" لأ�سباب منها والدة جمعية �سيا�سية تناق�ش‬ ‫"جمعية النه�ضة اللبنانية" التي يرت�أ�سها‪ .‬وزاد يف طني ال�ضغط بلة‪ ،‬حني تلقى ر�سالة من �سكرتري‬ ‫اللجنة للمرا�سالت العربية نعيمه يقول له فيها‪" :‬نحييكم با�سم الوطن ون�أمل �أن حت�ضروا احلفلة‬ ‫العمومية التي �ستقيمها جلنة حترير �سوريا ولبنان يف ما�سونك متبل يف بروكلني م�ساء الثالثاء الواقع‬ ‫يف ‪ 7‬اجلاري‪ ،‬و�أن ت�شريوا �إليها يف جريدتكم الغراء ليحيط العموم بها علماً حفظكم اهلل"‪ .‬ن�شر‬ ‫مكرزل ن�ص الدعوة‪ ،‬ولكنه ذيلها بالتعليق املكرزيل التايل‪" :‬وافاين كتابكم ون�شرته ليحيط‬ ‫العموم به علماً‪� .‬إال �أنني ال �أدعو �أحداً من �أحرار اللبنانيني �إىل تلبية دعوتكم لأنها دعوة تبديد‬ ‫ال توحيد"‪.‬‬

‫‪156‬‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫معيار الف�صل الأدبي‬ ‫بقلم انطوان بطر�س ‪ -‬باحث وكاتب‬ ‫فرغت للت ّو من مراجعة كتاب "ر�أي النه�ضة" ال�صادر العام املا�ضي عن "دار النه�ضة" للزميل‬ ‫ُ‬ ‫جان دايه‪ ،‬و�أعجبت مب�ستوى النقا�ش الذي عالج فيه م�شكلة "املقاالت ال�ضائعة" و�سبل معاجلتها‪.‬‬ ‫واملق�صود بها مقاالت �سعاده غري املوقعة والتي تختلف الآراء ب�ش�أنها‪.‬‬ ‫مما ال �شك فيه �أن �إ�صدار جمموعات م�ؤلفات تعود اىل ازمنة مبكرة ي�صطدم بكثري من ال�شكوك‬ ‫والت�سا�ؤالت حول �صحة تاريخ بع�ض الأعمال املجهولة و�أب ّوة ت�أليف بع�ضها الآخر‪ ،‬ويف الف�صل‬ ‫بني خالفات امللكية الأدبية والنزاعات احلقوقية والتثبت من �شتى االدعاءات التي يزدحم بها‬ ‫عامل الأدب‪ .‬ويدور جدل كبري اليوم حول عدد من املقاالت املن�سوبة اىل �سعاده متهيداً لإدراجها‬ ‫او عدم �إدراجها يف الطبعات اجلديدة �أو الإ�صدارات املزمع �إ�صدارها‪ .‬وقد اختار داية ن�شر ‪ 241‬ن�صاً‬ ‫"جمه ً‬ ‫وال" اعتماداً على ثالثة معايري �أولها وجود �إ�شارة وا�ضحة من �سعاده �إىل �أنه كاتب الن�ص‪،‬‬ ‫والثاين �أن تكون الن�صو�ص من�شورة يف واحد من ركنني من ابواب اجلريدة‪ ،‬والثالث �أن يحمل‬ ‫الن�ص ب�صمات �سعاده‪.‬‬ ‫ونظراً اىل تعقيدات الأمر و�أهميته يف �آن ف�إن املعايري الثالثة وحدها لي�ست كافية لتجيب على‬ ‫كل امل�سائل املطروحة �أو على الأقل وجوهها املتنوعة �سعياً وراء اجلواب احلا�سم‪ .‬ناهيك عن عدم‬ ‫االتفاق على ما ي�صح اعتباره ا�شارة وا�ضحة من �سعاده اىل انه الكاتب‪ .‬ومن املعروف ان �سعاده‬ ‫كثرياً ما كان يكتب بتواقيع خمتلفة‪.‬‬ ‫جوهر الأمر ان الواقع يتطلب معايري عديدة للف�صل يف مثل هذه الق�ضايا املعقدة‪ ..‬وهو ما يوفره‬ ‫نظام على غرار "علم الإح�صاء الأ�سلوبي" (‪.)stylometry‬‬ ‫وعلم الإح�صاء الأ�سلوبي‪ ،‬الذي نحن ب�صدده‪ ،‬يبحث يف اخل�صائ�ص الرتكيبية للأ�سلوب (�أدباً وفناً‬ ‫ومو�سيقى) وحتليل الأ�ساليب اللغوية و�صفات امل�ؤلفني‪ .‬من الوجهة التقنية البحتة ت�ؤخذ العنا�صر‬ ‫التالية بعني االعتبار‪� :‬أ�سلوب الكاتب‪ ،‬طول اجلمل وطول الكلمات‪� ،‬أهي متيل اىل الإيجاز �أم‬ ‫�إىل الإطالة‪ .‬ا�ستك�شاف �أي تغيري مفاجئ يف الأ�سلوب‪ ،‬معدل ا�ستخدام اال�سم والفعل والنعت‪.‬‬ ‫�إن حتديد معدالت �أطوال اجلمل قد يكون ذا �صفة عامة تكاد ت�شمل غالبية الك ّتاب‪ .‬كما و�أن‬ ‫‪157‬‬


‫طريقة توظيف اللغة (معرفية �أو توا�صلية �أو تعبريية �أو متثيلية �أو اجتماعية) تعك�س بدورها مي ً‬ ‫وال‬ ‫خف ّية لدى امل�ؤلفني تختلف بني م�ؤلِف و�آخر‪ .‬املفردات وطريقة ا�ستخدامها وهذا يحتاج بالطبع‬ ‫اىل ثقافة وا�سعة وعميقة وتكوين عينة دقيقة وا�ضحة الأطراف جتري عليها االختبارات‪ .‬وقد و�ضع‬ ‫�أ�س�س هذا النظام الفيل�سوف البولوين "لوتو�ستاو�سكي" لإعادة كتابة حماورات افالطون‪ ،‬ح�سب‬ ‫ت�سل�سلها الزمني‪.‬‬ ‫تعود �أ�شهر تطبيقات هذا الأ�سلوب اىل القرن اخلام�س ع�شر حينما ّمت بوا�سطته �أثبات �أن "مر�سوم"‬ ‫هبة "االمرباطور ق�سطنطني" التي مبوجبها تنازل (كما ّتدعي الوثيقة) عن كل الإمرباطورية‬ ‫الرومانية الغربية �إىل ملكية الكني�سة الكاثوليكية‪ ،‬مزور‪ .‬وكان مفتاح االكت�شاف العثور يف ن�ص‬ ‫الوثيقة على عبارة مل تكن قيد التداول يف الفرتة الزمنية املن�سوبة اىل الوثيقة‪.‬‬ ‫وكان الالهوتيون الأملان يف القرن التا�سع ع�شر قد �أعربوا عن اعتقادهم ب�أن حتليل م�ضمون ر�سائل‬ ‫بول�س الر�سول يوحي ب�أن الر�سائل املن�سوبة �إليه مل يكتبها �شخ�ص واحد‪ ،‬فجرى اختبار هذه‬ ‫النظرية يف منت�صف القرن الع�شرين وقد تبني �أن عدد ك ّتاب الر�سائل هم ‪� 6‬أ�شخا�ص على الأقل‬ ‫و�أن الر�سائل املن�سوبة اىل القدي�س بول�س مل يكتبها هو بل ‪� 4‬أ�شخا�ص �آخرين‪� ،‬أما ما كتبه هو فكان‬ ‫خم�س ر�سائل من الر�سائل الأربع ع�شرة املن�سوبة اليه‪ ،‬وهي الر�سالة اىل �أهل رومية والر�سالتان‬ ‫الأوىل والثانية اىل �أهل كورنثو�س والر�سالتان اىل �أهل غالطية والر�سالة اىل �أهل فلمون‪ .‬وبح�سب‬ ‫ت�صريح الدكتور ليفي�سون‪ ،‬رئي�س دائرة الكمبيوتر يف كلية بريبيك يف داترون‪ ،‬امام اجلمعية‬ ‫لتقدم العلوم‪ ،‬ف�إن كلمة "كاي" (واو العطف) اليونانية التي ا�ستخدمت كحجة دامغة‬ ‫الربيطانية ّ‬ ‫لدرا�سة الر�سائل البول�سية‪� ،‬أثبتت‪� ،‬أن القدي�س بول�س مل يكتب جميع الر�سائل املن�سوبة �إليه‪.‬‬ ‫ومن التجارب الالفتة احللقة الدرا�سية التي �أجريت يف �إطار "حلقة امل�سيح الدرا�سية" (‪The Jesus‬‬ ‫‪ )Seminar‬التابعة ملعهد (‪ )Westar Institute‬ومقره �سانتا روزا بكاليفورنيا‪ ،‬بهدف الإجابة على‬ ‫ال�س�ؤال التايل‪" :‬ما الذي قاله امل�سيح فع ًال"‪� .‬س�ؤال يقع �ضمن جمموعة الت�سا�ؤالت التي تبحث‬ ‫عن امل�سيح التاريخي وت�شغل بال علماء الالهوت‪ .‬وقد �صدرت ح�صيلة الدرا�سة العام ‪ 1993‬بعد‬ ‫بحوث ا�ستمرت �ست �سنوات يف جملد �ضخم عنوانه "الأناجيل اخلم�سة" (الأربعة التقليدية‬ ‫�إ�ضافة اىل اجنيل توما)‪.‬‬ ‫وقد قام الفريق ب�أبحاثه بطريقة مبتكرة‪ .‬بداية ثم و�ضع الئحة بجميع الن�صو�ص القدمية التي ال‬ ‫تفح�ص الن�صو�ص الأ�صلية ملا‬ ‫تزال موجودة وتت�ضمن �أقوا ًال من�سوبة اىل ال�سيد امل�سيح ثم جرى ّ‬ ‫ت�ضمنته من هذه الأقوال (وقد بلغ عددها حواىل ‪ 1500‬كلمة مفتاحية) مع ترجمة جديدة كاملة‬ ‫جلميع الأناجيل املعتمدة و�صدرت يف جملد �أطلق عليه ا�سم "ن�سخة الدار�سني" ثم جرت مناق�شة‬ ‫املرجحة‬ ‫مقدار ما ميكن ن�سبته اىل ي�سوع‪ .‬وقد مت اختيار اللون الأحمر لفئة الكلمات والأقوال ّ‬ ‫ب�شدة كونها تعود لي�سوع‪ ،‬واللون الزهري لأقواله وقد تعر�ضت للتعديل اثناء تناقلها عرب الع�صور‪،‬‬ ‫‪158‬‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫واللون اال�سود للكلمات التي وردت على ل�سان حمبيه و�أعدائه‪ ،‬واللون الرمادي للكلمات التي‬ ‫�أ�سقطت لأنها مل تن�ش�أ معها حتى لو كانت تعرب عن �أفكاره (مبعنى �أ�ضيفت يف وقت الحق)‪ .‬ثم مت‬ ‫جمع ما �صنف حتت الأحمر والزهري ب�صفتها الأقوال احلقيقية التي لفظها ال�سيد امل�سيح واطلق‬ ‫على الكتيب ا�سم ‪ Q Bible‬من ‪ Quelle‬الأملانية وتعني الينبوع الذي يت�ضمن الكلمات الأ�صلية‬ ‫التي تفوه بها امل�سيح‪.‬‬ ‫وبدخول الكمبيوتر �ساحة الأدب وميدان البحث الفكري �أ�صبح من املتناول حتليل الن�صو�ص‬ ‫كمبيوترياً‪ .‬ويف حني كانت البحوث يف املا�ضي تعتمد على توا ُفر �أدلة وا�ضحة يف ما حتمله من‬ ‫تناق�ضات خف ّية‪ ،‬فقد �أ�صبح الآن بالإمكان ا�ستخدام التقن ّيات املعا�صرة اعتماداً على �أجزاء ب�سيطة‬ ‫ون�صو�ص من الكالم ال�شائع‪ ،‬بل وقادرة على حتليل عنا�صر البحث حتى �ضمن الكالم الدارج‪.‬‬ ‫ولكن �صعوبة الأمر ال تقف عند هذا احلد فامل�صطلحات تتبدل وكذلك التعابري وتكت�سب �أحياناً‬ ‫معاين جديدة‪ ،‬كما وان الأ�ساليب الكتابية تتبدل ب�سبب تبدل الأذواق والثقافات‪.‬‬ ‫كل ذلك يجعل االختبارات هذه مهمة دقيقة جداً‪ .‬ولرياجع على �سبيل املثال املعنى الوا�سع‬ ‫والتبدالت التي حلقت مبفهومي العلمانية واال�شرتاكية‪.‬‬ ‫ت�ضم خرية علماء االخت�صا�صات الالزمة‪ ،‬متخ�ص�صة‬ ‫�أعتقد �أن اخلطوة االوىل هي يف ت�أليف جلنة ّ‬ ‫مهمتها و�ضع خمطط عام للم�شروع مبراحله املتعددة واوىل هذه املراحل و�ضع بطاقة ادبية فكرية‬ ‫مل�ؤلفات �سعاده وتطور �أ�سلوبه ومفاهيمه و�سيكون ذلك عم ًال تاريخياً الئقاً‪ .‬وعلى �أن ت�أخذ اللجنة‬ ‫بعني االعتبار احلر�ص على الأولويات التاريخية املثبتة مرجعياً و�إعطا�ؤها اولوية يف الإ�سناد‪ ،‬ومتابعة‬ ‫التطورات الأدبية واللغوية التي تلقي ال�ضوء على م�سرية الأدب وا�شتقاقاته‪ ،‬و�أخرياً متابعة‬ ‫التجان�س العقائدي للكاتب مع نظريته العامة‪.‬‬

‫‪159‬‬


‫دار نل�سن‬

‫الكتاب الأخري‬ ‫لل�شاعر الراحل خليل حاوي‬ ‫هو الكتاب الأول‬

‫هاتف ‪01/739196:‬‬ ‫الربيد الإلكرتوين ‪darnelson@hotmail.com:‬‬


‫دار نل�سن‬

‫هاتف ‪01/739196:‬‬ ‫الربيد الإلكرتوين ‪darnelson@hotmail.com:‬‬



Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.