العدد رقم � - 15آذار 2018
فـ�صـل ـيـة فـكريـة ثـقافيـة تـعنى ب�ش ـ�ؤون امل�شــرق
�صفية �سعاده – ن�صري ال�صايغ – حممود حيدر – �أ�سامة �سمعان – ريا�ض �صوما – با�سل عبداهلل -ر�شيد زعرتي
ُكتاب العدد :مجال واكيم – حسن عجمي – كامل منذر – إكرام عيل قاسم – نوال مراد – رامز عوض
ال���ع���دد رق����م � - 15آذار
2018
فـ�صـل ـيـة فـكريـة ثـقافيـة تـعنى ب�ش ـ�ؤون امل�شــرق
الفهر�س ر�أي وحدها العلمانية ت�صون الدين ومتنع الإجتار به
3
ح�سن حمادة
�صفية �سعاده نُبل العلمانية وب�ؤ�س العلمانيني ن�صري ال�صايغ �إميانُ "ما بعد العلمانية" حممود حيدر العلمانية يف الواقع العربي املعا�صر
63
فكر
ملف العلمانية /درا�سات العلمنة و�سوراقيا
با�سل عبداهلل :العلمانية هي نظام حياة ونظام دولة ر�شيد زعرتي :العلمانية يف لبنان ُتلغي النظام الطائفي
53
الربيع العربي من منظار التناف�س اجليو�سيا�سي 11
جمال واكيم
25
فل�سفة التوا�صل واملعلومات ح�سن عجمي
33
�صراع حممد علي با�شا و�أوروبا على بالد ال�شام كمال منذر
73
101
111
�أدب 39
الإبداع حركة جدلية �صراع اللغة والاللغة �إكرام علي قا�سم
123
ملى عطوي /تقدمي
49
البيئة الثقافية والإبداع الأدبي قراءة يف ملحمة جلجام�ش نوال مراد
151
ريا�ض �صوما :العلمانية هي بناء دولة حترتم جميع الأديان
51
الإيطاء عند حميي الدين بن عربي رامز عو�ض
167
�أ�سامة �سمعان
ملف العلمانية /مقابالت
حتوالت م�رشقية
ف�صلية ،فكرية ،ثقافية ،تعنى ب�ش�ؤون امل�شرق واملنطقة هيئة التحرير
فاتن املر عاطف عطية ح�سن حماده ن�صري ال�صايغ علوان �أمني الدين جنيب ن�صري
اليا�س فرحات جمال واكيم حممود حيدر ل�ؤي زيتوين �سعاده م�صطفى �أر�شيد �سليمان بختي
املدير امل�س�ؤول� :سركي�س �أبو زيد abouzeid@gmail.com
مدير العالقات العامة :زاهر العري�ضي �سكرتري التحرير التنفيذي :هنادي �شموط info@tahawolat.net
هاتف: �صندوق بريد 113-7179 :بريوت -لبنان. احلمرا � -شارع الب�صرة -ال�شارع املواجه لفندق نابليون 00961-1 - 751541 / 00961-1 - 740495
الإخراج الفنيzaid mahdi :
ت�صدر يف طبعتني من فل�سطني ولبنان
مدير عام طبعة فل�سطني� :سعاده م�صطفى �أر�شيد هاتف0599305248 : �صندوق بريد 41 :جنني -فل�سطني توزيع� :رشكة الأوائل لتوزيع ال�صحف واملطبوعات
بريوت – لبنان هاتف00961 - 1 - 666668 - 666314 : فاك�س00961 - 1 - 653260 :
اال�شرتاك ال�سنوي -لبنان
للأفراد 50 :دوالراً �أمريكياً للم�ؤ�س�سات 100 :دوالر �أمريكي اال�شرتاك ال�سنوي -خارج لبنان
للأفراد 100 :دوالر �أمريكي للم�ؤ�س�سات 200 :دوالر �أمريكي
املواد املن�شورة تعرب عن ر�أي كاتبها
ر�أي
وحدها العلمانية ت�صون الدين ومتنع الإجتار به ح�سن حمادة ارتياح لل ُنظم احلاكمة يف الدول العربية وكلها ُنظ ٌم تتباهى ال ميكن لأي �إن�سانٍ ٍ عاقل �أن ي�شعر ب�أي ٍ باحرتام الدين فيما هي �أبعد ما تكون عن الدين. ُكلها ُنظ ٌم حُتاول �إعطاء نف�سها م�شروعيةً ،وبراءة ذم ٍة �إميانية ل ُتربر وجودها و ِل َتجعل النا�س يغ�ضون النظر عن �إخفاقاتها الفظيعة بحق ُ�شعوبها و�أوطانها ...حتى بات من املمكن بل من الواجب اعتبارها م�ضرب َمث ٍَل ملا ميكن �أن تكون عليه الدول الفا�شلة. إثنني هنا نحن يف الواقع �أمام ُن ُظ ٍم تتماهى مع "ال�ش�أن الديني" ولي�س مع الدين ،والفارق بني ال ِ إثنني �سحيقة وال ميكن ردمها. كب ٌري جداً والهوة التي تف�صل بني ال ِ نقول "ال�ش�أن الديني" بق�صد الداللة على عدم ال�صدق يف احلديث عن التدين� ،أي الإكتفاء بال�شكليات وت�صويرها على �أنها تقي ٌد بالأحكام الدينية حيث الإنتقائية املعتمدة يف تناول الن�صو�ص الواردة يف الكتابني ،الإجنيل املقد�س والقر�آن الكرمي ،والإنتقاء هنا ٌ عمل يخدم التزوير للتربير .و�ش�أن النظم على هذا ال�صعيد ك�ش�أن الهيئات واملنظومات والأ�شخا�ص الذين ّيدعون التقيد ب�أحكام الدين .وعليه نالحظ �أن الأوطان وق�ضايا �شُ عوبها ُ �سخر مل�صلحة الأنظمة الكربى ُت َّ احلاكمة و�أ�شخا�صها احلاكمني بحيث ُت�صبح النظم يف خدمة �شخ�ص احلاكم ...وتكرث ال�شعارات التي ُترفع و ُتنق�ض يف الواقع العملي من خالل �سلوك الأنظمة ور�ؤو�سها يف �آن. ففي مرحلة ما قبل قيام الدول الوطنية يف العامل العربي ،وخ�صو�صاً �إبان حقبة االحتالل العثماين، جند �أن "ال�ش�أن الديني" كان ُي�ستخدم لتكري�س هيمنة الباب العايل على امتداد البلدان التي كان العثمانيون ي�سيطرون عليها ويعتربونها من ممتلكاتهم .ويف الوقت نف�سه جند �أن "ال�ش�أن الديني" 3
ا�ستخدم كبو�صلة وكمربر لتدخُ الت االمرباطوريات واملمالك الغربية يف العامل العربي املرتامي الأطراف لتقوي�ض ال�سيطرة العثمانية وح�صر �إرثها .ويف هذا ال�سياق متكنت تلك القوى الغربية من انتزاع ما ُ�سمي بـ"الإمتيازات" من الباب العايل العثماين .هذه الإمتيازات �شكلت ر�أ�س ج�س ٍر للمزيد من التدخل الغربي الذي راح يتمادى بتوظيف "ال�ش�أن الديني" لتدعيم ح�ضوره وتناميه� ،إدراكاً من الغرب حلجم ت�أثري "ال�ش�أن الديني" على �شُ عوب العامل العربي وبالتايل مبثل واحدٍ بليغ �إمكانية ت�سخري هذه ال�شعوب .والأمثلة على ذلك ال حُت�صى وال ُتعد و�سنخت�صرها ٍ التعبري وهو ما حدث يف اجلزائر يف القرن التا�سع ع�شر.. فحني احتل الفرن�سيون اجلزائر وبد�أت تتكون مقاومة �شعبية يف وجههم� ،آثروا العمل بن�صيحة �شخ�ص يدعى ليون رو�ش ،كان يعمل ل�صالح املخابرات بع�ض خربائهم من امل�ست�شرقني ،و�أبرزهم ٌ الفرن�سية ،هذه الن�صيحة التي كانت تق�ضي بانتزاع فتاوى من املرجعيات الإ�سالمية حُتظر مقاومة �أو حماربة اجلي�ش الفرن�سي الذي يحتل اجلزائر .وهكذا كان ،فجرى تكليف ليون رو�ش للقيام برحلة لزيارة املرجعيات يف القريوان والأزهر ودم�شق وبغداد و�صو ًال �إىل �شريف مكة .وبالفعل نفذ هذا امل�ست�شرق اجلا�سو�س املهمة على �أكمل وجه وانتزع فتوى من القريوان و�أخرى من الأزهر ال�شريف متاماً كما يريد الفرن�سيون .و�إذ تزامن ذلك مع مو�سم احلج �إىل بيت اهلل احلرام ف�آثر رو�ش التوجه مبا�شر ًة من القاهرة �إىل مكة املكرمة حيث التقى باملرجعيتني الدم�شقية والبغدادية ونال منهما مبتغاه بالتمام والكمال .ثم حمل هذه الفتاوى الأربع �إىل �شريف مكة الذي قدر هذه الفتاوى و�صدق عليها با�سم الإ�سالم ،وبا�سم امل�سلمني طبعاً ،وعاد �إىل اجلزائر وراح "الكرمية" كل تقدير ّ اجلي�ش الفرن�سي يوزع هذه الفتاوى وين�شرها بوا�سطة �أعداد من املعممني .وكان من ح�صيلة ذلك �أن مكنت هذه الفتاوى القوات الفرن�سية من ا�ستغالل اجلزائر مدة 130عاماً� .صحيح �أن العديد من اجلزائريني ت�أثروا بتلك الفتاوى "الدينية" لكن العديد منهم ا�ستمروا يف مقاومة امل�ستعمرين حتى �أخرجوهم مهزومني ،خمذولني� ،أذالء من اجلزائر ،م�صحوبني بالعدد من عمالئهم .هذه احلادثة التاريخية جند ما ُي�شبهها اليوم يف احلرب التي نعي�شها حيث ُي�سخر "ال�ش�أن الديني" ل�صالح احللف الأطل�سي و"�إ�سرائيل" ،دائماً با�سم الإ�سالم ،ودائماً عرب ما ُي�سمى بـ"علماء امل�سلمني". مثل عن ا�ستخدام اال�ستعمار لـ"ال�ش�أن الدين" اليوم وقيام ّمدعي وهنا �أي�ضاً �سنكتفي ب�إعطاء ٍ 4
ر�أي التدين بتوظيف �أنف�سهم يف خدمته بحجة ن�صرة دينهم.. قام اال�ستعمار الأمريكي ،الأطل�سي ،بت�شكيل منظمات �إرهابية ،مذهلة بدمويتها ،ودفعها باجتاه �سورية والعراق واليمن وليبيا ،و�ش ّي َد مع�سكرات لها �أبرزها �ستة مع�سكرات ،ثالثة منها يف تركيا الأطل�سية ،وثالثة يف منطقة ف ّزان يف ليبيا .ونتائج ذلك معروفة ،بينما ت�ستمر الدول الأطل�سية برفع عنوان احلرب على الإرهاب وهو عنوانٌ بات ُي�شكل �أ�ضخم و�أخبث �أكذوبة عرفتها العالقات الدولية يف الع�صور احلديثة .و�إىل جانب ذلك يقوم ما ُي�سمى بـ"االحتاد العاملي لعلماء امل�سلمني"، وعلى ر�أ�سه احلاخام ال�شيخ يو�سف القر�ضاوي الذي يتخذ من قاعدة قطر الع�سكرية الأمريكية مقراً له ،ب�إ�صدار الفتاوى لتربير وجود تلك املنظمات الإرهابية و�إعطاء �أعمالها م�شروعي ًة "دينية" مع ما يتفرع عن ذلك من فنتٍ مذهبية مل ي�سبق �أن عرف املحيط "الإ�سالمي" مثي ًال لها �إذ جتاوزت بخطورتها كل ما �سبق للإ�ستعمار �أن افتعله من فنتٍ يف ال�سابق. �إن الواقع الفظيع الذي تعي�شه بالدنا يف هذه احلقبة من الزمن ُي�شكل الرتجمة امليدانية ملا ميكن �أن ٍ وتكري�س لهيمنة اال�ستعمار. ت�شوهات ودمار وانتحار، ُيحدثه التالعب بـ"ال�ش�أن الديني" من ٍ ويتبني مما تقدم �أن ُطروحات الطائفية واملذهبية ،ومزاعم التدين ال�سيا�سي ،ال ُتو�صل �إال �إىل اخلراب ال�شامل� .إنها �أخطر �أنواع �أ�سلحة الدمار ال�شامل التي يمُ كن �أن تفتك مبجتمعاتنا .وهي ولاّ د ُة �أزمات مفتوحة ال نهاية لها ،مما ُيعطل امل�ستقبل تعطي ًال كام ًال ،و ُيعمم العبودية ،و ُيلغي �أية �إمكاني ٍة لبناء احلرية والتنمية واال�ستقالل .فهذا النوع من احلروب هي حروب املجتمعات على ذاتها ،وحروب اال�ستعمار على هذه املجتمعات� .إنها تمُ ثل النوع اجلديد من احلروب والذي تبناه الإ�سرائيليون، ومن خلفهم قوى ا�ستعمارية على ر�أ�سها الواليات املتحدة الأمريكية ،منذ حرب .1967وهذا ما كان قد الحظه وحذر منه املفكر يو�سف الأ�شقر على مدى ع�شرات ال�سنني. احلروب على الذات
هذا امل�شهد العام جند تطبيقاته حملياً و�سن�أخذ مث ًال واحداً هو لبنان� .إن الواقع امل�أ�ساوي الذي يعي�شه ال�شعب اللبناين هو جت�سي ٌد حملي لل�صورة العامة �آنفة الذكر .فالطائفية واملذهبية ت�ؤديان 5
ق�سطيهما كام ًال على �صعيد الت�شرذم الداخلي والتخلف والفقر ومتزيق الهوية املجتمعية �إىل حدِ �سقوط اللبنانيني �إىل ما دون م�ستوى الت�شكل االجتماعي حيث بات �سكان لبنان جمرد رعايا طوائف ومذاهب ،بل قطعان طوائف ومذاهب ولي�سوا مواطنني .ويف الت�شكيلة املعيبة هذه جند �أن الطوائف واملذاهب باتت جمرد معتقالت لي�س �إال .و�أ�سو�أ ما فيها �أنها تعترب املعتقالت الوحيدة التي يدخل �إليها الكائن الب�شري اللبناين بكامل �إرادته ويظن نف�سه حراً �إذ يف تخيالته �أن هذه املعتقالت حتميه من "الآخر" .وبني هذه الطوائف واملعتقالت �شُ يدت جدران من الف�صل �أخطر من جدران الف�صل العن�صري التي �أقامها الإ�سرائيليون على �أر�ض فل�سطني .وال�سبب ب�سيط وهو �أن جدران الف�صل اللبنانية ال ُترى بالعني املجردة لأنها ت�سكن يف عقلية ُ�سكان ونزالء تلك املعتقالت. �إن حال قطعان الطوائف واملذاهب تعي�سة �إىل حد �أن ُرعاتها ،من �سيا�سيني وحلفائهم مرتدي الأزياء التي ُدر َِج على ت�سميتها �أزياء دينية ،تمُ ثل نوعاً من �أنواع العبودية املقنعة .وكما يقول الفيل�سوف نوع من العبودية التي ي�ستحيل الإنعتاق منها� .إنها العبودية التي يعي�شها الإن�سان غوته" ..ثمة ٌ وهو يظن نف�سه ُحراً" .هذا يخت�صر العنوان الكبري الذي ُي�سمى احلريات العامة واحلقوق الفردية يف لبنان والذي هو جمرد عنوان ال تطبيق فعلي له يف ظل املعتقالت الطائفية -املذهبية وجدران الف�صل العن�صري " ،"APARTHEIDوهي عناوين ين�ص عليها الد�ستور اللبناين يف ن�صو�صه ذات ال�صلة بامل�ساوات بني اللبنانيني فيما الواقع العملي عك�س ذلك. وح�سبنا الإ�شارة �إىل �أن رعاة القطعان الطائفية واملذهبية ،من ال�سيا�سيني وحلفائهم املُر َتدِ ين يحمل ٌ كل منهم �سوطاً لت�سيري قطيعه .وال�سوط هذا يحمل ا�سماً �آخراً هو حقوق الطوائف واملحا�ص�صة الطائفية .و�أما املعتقالت فلها �أي�ضاً ا�سم �آخر وهو "العائالت الروحية" وذلك بق�صد الداللة �إىل االرتباط بالدين فيما الدين ،كدين ،برا ٌء بالكامل من هذه ال�سلوكيات التي تجُ يز كل �أنواع التدخالت اخلارجية ،ال بل ُتربرها ،ال بل ُتعطيها م�شروعيةً ،و�أولها تدخل الو�صايات الإ�ستعمارية التي باتت ُتخت�صر اليوم بالو�صاي ِة الأمريكية ،مبا�شر ًة تار ًة �أو عرب وكالئها الإقليميني .هكذا ال ن�ستغرب �إن اختفى� ،أو يكاد يختفي ،من اخلطاب ال�سيا�سي الرائج ا�سم لبنان �أو عبارة وطن. فالن�صو�ص الد�ستورية يتم التقيد بها ب�صورة انتقائية متاماً� .أي �أن الن�ص الذي يتالءم يف ظرف معني مع امل�صالح املادية وال�سلطوية لرعاة القطعان الطائفية واملذهبية يتم اعتماده ،و�أما ما يتعار�ض مع هذه 6
ر�أي امل�صالح فيتم جتاهله بالكامل� .إنها جمرد "وجهة نظر" .جمرد مزاج .والأمثلة عديدة حول جتاهل ٌ حا�صل يف �ش�أن بع�ض الن�صو�ص الد�ستورية ولعل �أبرزها ،و�أكرثها فظاعة وق�سوة وتوح�ش ،ما هو املادتني 7و 95من الد�ستور �إذ يتم جتاهلهما بالكامل. فاملادة 7من الد�ستور تقول" :كل اللبنانيني �سِ واء لدى القانون وهم يتمتعون بال�سِ واء باحلقوق املدنية وال�سيا�سية ويتحملون الفرائ�ض والواجبات العامة دون ما فرقٍ بينهم" .و�أما املادة 95من الد�ستور والتي ُت�شكل النافذة الفعلية للبدء باخلروج ،ولو بعد حني ،ولو بعد �سنوات ،من املعتقالت الطائفية واملذهبية .فتن�ص على ت�شكيل هيئة وطنية لإلغاء الطائفية تعمل وفق م�سا ٍر تدرجي ومرحلي .فهذه املادة ُعمرها من ُعمر التعديالت الد�ستورية التي �أقرت يف الطائف� ،أي منذ �أكرث من ربع قرنٍ من الزمن ،ومع ذلك يتم جتاهل وجودها كما لو �أنها غري واردة �أ� ً صال .هذه الإنتقائية هي من اخلطورة مبكان بحيث �أنها تنزع عن الدولة ال�صفة الد�ستورية باملفهوم احلقوقي وال�سيا�سي ما ي�ؤكد �أن مزاعم "التعددية ال�سيا�سية" التي يتباهى بها املتم�سكون بهذا النظام العن�صري املعتمد �إمنا هي يف الواقع تعددية دكتاتوريات قزمةُ ،مز ِّورة وم َز َّورة. و�أكرث من ذلك ف�إن النهج املعتمد يف ت�سيري احلياة العامة ُي�شكل نظاماً موازياً للنظام املتمثل يف الد�ستورُ ،يجيز كل �أنواع الإ�ستبداد والف�ساد والإف�ساد والنهب امل�ستدام خلريات البالد الطبيعية واالقت�صادية و ُيهجر الرثوات العقلية – الإن�سانية و ُيقفل �آفاق امل�ستقبل �أمام الأجيال اجلديدة ويدفع بها دفعاً �إىل الهجرة عن الوطن وبالتايل ُيعمم الي�أ�س يف �صفوفها. �إن مرور �أكرث من ربع قرنٍ من الزمن على اخلروج املتوا�صل عن الد�ستور خلق �أعرافاً وجعل الدولة ممزقة بني د�ستورين ..د�ستور مكتوب وغري حمرتم ود�ستور عريف قائم على اال�ستباحة الكاملة لقدرات الدولة اللبنانية و�شعبها ،مع كل ما يتوالد عن هذا الواقع امل�ؤمل من �سلبيات متعددة الأوجه حُتتم دميومة االنهيار .فهذا النظام العريف ،غري الد�ستوري ،هو يف حدِ ذاته انقالب على الد�ستور. و�أي دولة تعي�ش واقعاً كهذا الواقع تكون عدمية االحرتام و�ألعوبة يف يدِ الإرادات اخلارجية. رج على ت�سمية هذا النظام العريف املناق�ض للنظام الد�ستوري بـ"الرتكيبة املاف َياوية" .لكن لقد ُد َ هذه الت�سمية ال تعك�س خطورة الواقع القائم �إذ ثمة ما يتجاوز الواقع املافياوي .فاملافيا موجود ٌة يف العديد من الدول التي حُترتم د�ساتريها� .إنها حالة خروج عن القوانني� .أما يف لبنان فاملو�ضوع �أخطر 7
بكثري .النظام العريف الذي ُيناق�ض بالكامل النظام الد�ستوري هو نظام متييز عن�صري بكل معنى الكلمة �إذ يقيم تراتبية يف املواطنة ،على درجات .فعلى �صعيد املثال ولي�س احل�صر �إن كاتب هذه ال�سطور ،وهو علماين من ر�أ�سه حتى �أخم�ص قدميه ،م�صنف وفق النظام العريف مواطن من الدرجة اخلام�سة وبالتايل ال ُي�ؤمتن على ما ُي�ؤمتن عليه من هم من الدرجات الأربع التي ت�سبقه .وهكذا دواليك بالن�سبة ملن هم من الدرجة ال�ساد�سة وال�سابعة والثامنة .هذا نظا ٌم عن�صري على قاعدة طائفية .واملعروف �أن التمييز العن�صري ُيلغي متاماً مبد�أ امل�ساواة بني املواطنني املن�صو�ص عنه يف املادة 7من الد�ستور املكتوب الذي هو �أم القوانني الو�ضعية .لذلك نقول �أن الطائفية واملذهبية هي نقي�ض الدولة الد�ستورية ،وهي بالتايل منفتحة بالكامل على امل�شروع ال�صهيوين املعادي لوجودنا يف الأ�سا�س. الطائفية – املذهبية وال�صهيونية العربية
ثمة خط�أ �شائع يقول �أن التنوع يف لبنان هو نقي�ض للأحادية اليهودية العن�صرية القائمة يف "�إ�سرائيل". نعم �إنه خط�أ �شائع �إذ �أن حقيقة الأمر تتمثل يف كون هذا النظام يتماهى مع العن�صرية ال�صهيونية مما ُيعطي م�شروعية لل�صهيونية وي�ضع لبنان يف م�صاف مع�سكر ال�صهيونية العربية .فح�سب جتاربنا كلبنانيني يتبني �أن كل حالة طائفية ومذهبية تختزن عن�صري ًة �شبيه ًة بالعن�صرية الإ�سرائيلية .من هنا حر�ص الإ�ستعمار على "النموذج اللبناين" .ومن هنا �أي�ضاً نالحظ �أن طروحات الغرب حول ما ُي�سمى بـ "الت�سوية ال�سيا�سية" يف �سورية والعراق تطمح �إىل تعميم هذا "النموذج اللبناين" لأنه يكفل التدمري الذاتي وبالتايل ُيدخل �سورية والعراق يف حالة من االنتحار عرب دميومة الإنهيار. �إن ا�ستلهام "النموذج اللبناين" يف �صياغة "احلل ال�سيا�سي" يف �سورية والعراق ،وتزيني �صورة "املكونات الطائفية والإثنية" ،ي�ؤديان مبا�شرة �إىل تبعية هذه "املكونات" للخارج بحيث ُي�صبح كل "مكون" منها تابعاً لدولة ما ،الأمر الذي ُيدمر الدولة من الداخل ويق�ضي نهائياً على �سيادتها و ُيكر�س حتولها �إىل �ساح ٍة من �ساحات املواجهات بني الدول واملع�سكرات الدولية .و ُيكر�س نظام التمييز العن�صري فيها. توح�ش ،وال �إن�سانية يوازيان توح�ش وال �إن�سانية التمييز العن�صري بني النا�س؟؟؟ ...و�أي وهل ثمة ٌ خ ٍري ممكن �أن ي�أتي من التوح�ش واللإن�سانية؟؟؟...!!!... 8
ر�أي خطايا العلمانيني املتوا�صلة
لقد بلغ توح�ش وال �إن�سانية النظام العريف اللعني هذا ،واملعمول به يف لبنان ،حداً من املفرت�ض �أن ي�ستنه�ض عقول وهمم العلمانيني كافة� ،أكانوا �أفراداً �أو جمموعات ،لكننا ويا للأ�سف نرى َمن مِن العلمانيني� ،أفراداً وجماعات ،يتماهون يف �سلوكهم مع التيارات الطائفية واملذهبية التي هي جز ٌء اليتجز�أ من منظومة التمييز العن�صري وم�شتقاتها من جرائم وف�ساد. �إن الت�أمل مب�سار التيارات التي ترفع العلمانية �شعاراً لها يدفعنا دفعاً �إىل اتخاذ موقف انتقادي ونقدي منها .فما قيمة الطرح العلماين حني ُيغ َّيب ،و ُيعمل بنقي�ضه ،من خالل التماهي مع �سلوك ونق�ص يف فهم الطائفيني واملذهبيني با�سم "الواقعية ال�سيا�سية" .وهنا �أي�ضاً مفهوم خاطىء ،بل ٌ معنى الواقعية ال�سيا�سية .فـ "الواقعية ال�سيا�سية" هي �أم ٌر ن�سبي يفرت�ض به �أن يكون م�شتقاً من القناعات ال�سيا�سية واالجتماعية ال �أن يكون و�سيلة لتربير الإلتحاق مبنظومة املعتقالت الطائفية وال�سيا�سية .لهذه الأ�سباب جند مث ًال �أن العلمانيني ،ك�أفراد وجمموعات ،ال يقيمون حتالفاً مبدئياً، وا�ضحاً� ،صلباً ،مقداماً ،يف ما بينهم بل يحول البع�ض منهم نف�سه �إىل ٍ رديف للمنظومة اللعينة و ُي�ؤثر التحالف معها على التحالف مع من ُي�شاركونه الطرح العلماين ،الوطني ،الذي هو خ�شبة اخلال�ص الوحيدة لل�شعب وللدولة للخروج من حتت الركام احلا�صل� .إنهم ُي�ؤثرون ،ويا للعيب ،ويا للعار، جذري مع التماهي مع ما ُي�سمى بـ"املرجعيات" الطائفية واملذهبية ويدخلون بالتايل يف ٍ تناق�ض ٍ املبادىء العلمانية التي يرفعونها �أ�سا�ساً. من املق�صود بـ"باملرجعيات" ؟ ...املق�صود من ذلك �أ�صحاب ومديرو �ش�ؤون املعتقالت الطائفية واملذهبية .وهذا امل�صطلح هو من مواليد احلروب اللبنانية الداخلية وحتديداً تلك التي بد�أت بالظهور منذ �أوا�سط ال�سبعينات �إذ خرجت من رحم الفنت التي تتوالد وتجُ دد �شبابها يوماً بعد يوم وتزداد تنوعاً. �إن الدول القائمة يف حو�ضنا القومي هي كالأوعية املت�صلة .وما من مرة يف التاريخ املعا�صر �شهد هذا احلو�ض �إهان ًة للدين كما ي�شهد اليوم با�سم الدين زوراً وبهتاناً ،ما ي�ؤكد واقع التناق�ض اجلذري القائم ما بني الطائفية – املذهبية من جهة والدين من جه ٍة �أخرى .فما مر يو ٌم �إال وحمل معه �إثباتاً على حقيقة هذا التناق�ض� ،سواء من خالل ال�سلوك املتوح�ش �أو من خالل اخلطاب ال�شرير. فكما �أن الطائفيات واملذهبيات يف حال ا�شتباكٍ ٍ عنيف مع الدين الذي ّتدعي اعتناقه ،كذلك العديد من التيارات العلمانية تعي�ش حالة من اال�شتباك املتوا�صل مع مبادئها .ومن �أ�سو�أ ما ميكن رديفة للمعتقالت معتقالت �أن نلحظه يف �سلوكيات بع�ض التيارات العلمانية �أنها حتولت �إىل ٍ ٍ �سخر يف الطائفية واملذهبية بحيث �أن ال�شباب الذي يفلت من هذه يقع يف �شباك ِت ْلك ثم ُي َّ 9
�سياق التماهي مع النظام اللعني ورموزه .وهنا الطامة الكربى� ،أن ُت�صبح الأحزاب املعتربة خ�شبة ٍ معتقالت لهم تجُيرّ هم ،با�سم الواقعية ال�سيا�سية املغلوطة� ،إىل خدمة �أرباب خال�ص لل�شباب جمرد املعتقالت املذهبية .وهذه لي�ست اخلطيئة الوحيدة� ،أو اخلطيئة الأفظع من خطايا بع�ض التيارات العلمانية .فثمة خطيئة رهيبة ارتكبها العديد من العلمانيني ،بدءاً من بع�ض كبار منظريهم ،يف �شتى تياراتهم ال�سيا�سية ،وهي االنطالق يف حمالتهم �ضد الطائفية واملذهبية بالتهجم على الدين، كدين ،ما قدم على طبقٍ من ف�ضة الذريعة لتجار الطوائف واملذاهب وبالتايل جعل ه�ؤالء ُيحر�ضون قواعدهم �أو بالأحرى القواعد التي يخدعونها� ،ضد التيارات العلمانية وتن�صيب �أنف�سهم مدافعني ٍ لع�شرات من ال�سنني ودخلت التيارات عن الدين وعن رب العاملني .وا�ستمرت هذه اخلطيئة العلمانية بالتايل يف �إ�شكاالت وم�شاكل هي يف غنى عنها. وحده الفيل�سوف �أنطون �سعاده جتنب الدخول يف هذا ال�سبيل العقيم ،بل و�أكرث من ذلك هو طرحه طرح ا�ستبق فيه كل املقاربات احلديثة املتقدم والريادي للعالقة بني الر�سالتني امل�سيحية واملحمدية وهو ٌ ملا ُدرج على ت�سميته باحلوار امل�سكوين من دون �أن يحيد قيد �أمنلة عن موقفه العلماين – العلمي املبد�أيُ ،م�سلطاً ال�ضوء على �أجمل ما يف التوحيد على ال�صعيد الديني .وكتاباته يف هذا املجال هادي ٌة للعلمانيني كافة وت�صلح اليوم لأن تكون عالجاً للأزمات والت�أزميات احلا�صلة با�سم الدين. وحدها العلمانية ،يف زماننا احلا�ضر ،حترتم الدين وت�ضع حداً لظاهرة الإجتار به كما متنع اال�ستعمار من ا�ستخدام "ال�ش�أن الديني" يف �سياق حملة التدمري ال�شامل لوجودنا الإن�ساين واملجتمعي والثقايف واحل�ضاري. باخت�صار ،ويف �ضوء جتاربنا� ،أن الطائفية – املذهبية هي �سالح الدمار ال�شامل الوحيد الذي ين�صحنا الإ�ستعمار باقتنائه والتم�سك به� ،إذ �إن هذا ال�سالح ال ُيدمر �أحداً �سوانا نحن� .إنه مبثابة الغذاء امل�سموم نقتات منه كل يوم وبكامل �إرادتنا بحيث ال نفلت من القدر املحتوم ..الزوال.
*
يف هذا العدد ملف حول "عر�س الطائفية وب�ؤ�س العلمانيني" من �أجل الإ�ضاءة على
حتديات العلمنة يف مواجهة الطائفية ال�سائدة املزدهرة وك�أنها يف عر�س. 10
ملف العلمانية /درا�سات
العلمنة و�سوراقيا
1
�صفية �سعاده -دكتوراه يف التاريخ وباحثة
لقد و�صل التيار العلماين �إىل �أدنى م�ستوياته يف ال�سنوات الأخرية يف جميع كيانات �سوراقيا. أعدد �أ�سباب هذا الرتاجع املريع و�س�أتناول �أي�ضاً احللول املمكنة. لذا �س�أحاول �أن � ّ العلمانية: �أ�سباب �أفول ال ّتيارات ّ
منذ بداية القرن الع�شرين ر�أى �أنطون �سعاده �أن العلمنة غري ممكنة دون �إعادة توحيد املنطقة التي متت جتزئتها من ِقبل اال�ستعمار الغربي بناء على اتفاقيات �سايك�س ـ بيكو عام ،1916 ذلك �أن حتديد العلمنة على �أ�سا�س "ف�صل الدين عن الدولة" ي�ستتبع بال�ضرورة وجود دولة قومية �أو دولة – �أمة (.)nation-state ين يف ّ كل كيانات �سوراقيا من ثمة �أ�سباب داخلية و�أخرى خارجية النح�سار التيار العلما ّ تر�سخُ نظام امل ّلة العثماين فل�سطني �إىل لبنان والأردن و�سورية والعراق .ال�سبب الداخلي هو ّ يف �سوراقيا عرب خم�سة قرون ما �أدى �إىل االنتماء والوالء للهو ّية الطائف ّية/الدينية� .أما ال�سبب اخلارجي فهو جلوء اال�ستعمار الغربي �إىل التق�سيم الطائفي لل�سيطرة على املنطقة من جهة، ولإ�ضفاء �شرعية على الكيان ال�صهيوين الذي يريد �إن�شاء دولة يهودية �صرف من جهة �أخرى. وكان اال�ستعمار الغربي قد ا�ستعمل نظام امللل بدءاً من منت�صف القرن التا�سع ع�شر حيث عمد القنا�صل الأوروبيون �إىل اال ّدعاء ب�أنهم يحمون الأقليات الدينية يف ال�شرق ،فبادرت فرن�سا عرب قنا�صلها �إىل حماية املوارنة (اقر�أ� :سيطرة للفرن�سيني �ضمن امل�شرق العربي) ،فيما �سعت بريطانيا مل�ؤازرة الدروز .ويف احلقيقة مل تكن هاتان الدولتان امل�ستعمرتان ت�أبهان ال مؤسسة ال ّدراسات العلميّة). ( - 1محارضة ألقيت يف 29أيلول 2016بدعوة من ّ 11
للدروز وال للموارنة املوجودين فيما كان ي�سمى �آنذاك "جبل لبنان" ،بل مل�صاحلهما يف اال�ستيالء على مناطق نفوذ عرب وكالئهما وقنا�صلهما يف �أرجاء ال�سلطنة العثمانية .وال يجب �أن يغرب عن بالنا �أن هذه الهجمة ترافقت مع الثورة ال�صناعية يف هذين البلدين وحاجتهما لت�صريف الفائ�ض من ب�ضاعتهما خارج بلديهما ملراكمة الأرباح. لقد ا ّتكل الغرب اال�ستعماري على نظام امللل الطائفي العثماين لل ّتغلغل �ضمن الإمرباطورية العثمانية ،لذلك ومع انت�صاره يف نهاية احلرب العاملية الأوىل تابع ال�سيا�سة نف�سها لتقطيع تقدماً وح�ضارة �أو�صال �سوراقيا .واملالحظ �أن �سوراقيا ،عدا م�صر ،هي املنطقة العربية الأكرث ّ وحداثة من بني جميع الأقاليم العربية املوجودة يف اجلزيرة العربية و�شمال �إفريقيا ،لذلك ان�صب اهتمام اال�ستعمار على تق�سيمها لل�سيطرة عليها. ّ على الأقل اعرتفت بريطانيا وفرن�سا عرب اتفاقية �سايك�س ـ بيكو �أنهما فع ًال عمدتا �إىل تق�سيم املنطقة ،بينما ُتتحفنا الواليات امل ّتحدة الأمريكية ببدعة اخرتاع كلمات تعني عك�س ما هو �سمت ذلك "حتريراً" ،وبعد "حتريره" حا�صل على الأر�ض .ففي 2003حني احت ّلت العراق ّ حتول العراق �إىل "دميقراطي توافقي" .ويف �سورية� ،أ�صبح انف�صال الأكراد يف قامو�سها املخادع ّ "فدرالية" ،بينما احلقيقة هي �أن الفدرالية نقي�ض االنف�صال ،لأن الفدرالية بح�سب القامو�س هي حّ "اتاد وحدات �سيا�سية قررت التنازل عن �سيادتها ل�صالح دولة مركزية" .ن�ستطيع القول مث ًال �إن وحدة �سورية والعراق ممكنة عرب نظام فدرايل ،لك ّننا قطعاً ال ن�ستطيع القول ب�أنّ ح�صول الأكراد على دولة يف العراق �أو �سورية هو فدرالية ،لأن الأكراد هم �ضمن الدولة ال�سورية والعراقية وبالتايل مطالبتهم� ،أو مطالبة الواليات املتحدة الأمريكية بالفدرالية لي�س �سوى تغطية حلقيقة االنف�صال. والربهان على ذلك �أنه حني حاولت ا�سكتلندا االن�سحاب من "اململكة الربيطانية املتحدة" �صب �أوباما جهوده يف هذا العام�ُ ،س ّمي ذلك انف�صا ًال ال فدرالية!! لي�س هذا فقط ال بل ّ دعم الوحدة ال االنف�صال لأنه يعرف متاماً �أن بريطانيا �ستكون �أ�ضعف بكثري فيما لو انف�صلت عنها ا�سكتلندا .الدول القومية تتعامل مع غريها بح�سب م�صاحلها وال ت�ستعمل معياراً واحداً لنف�س احلالة .فالواليات امل ّتحدة الأمريكية مع التق�سيم واالنف�صال يف �سورية والعراق لأن 12
ملف العلمانية /درا�سات
م�صلحتها من م�صلحة "�إ�سرائيل" ،بينما هي مع الوحدة وعدم االنف�صال يف بريطانيا و�أوروبا لأن وحدة �أوروبا مفيدة جداً للواليات امل ّتحدة الأمريكية التي ت�ضع �أوروبا يف مواجهة رو�سيا، و� ّأي �إ�ضعاف لأوروبا يعني ازدياد قوة رو�سيا� .أفهم موقف الواليات املتحدة الأمريكية التي تريد احلفاظ على م�صاحلها يف العامل ،لك ّنني ال �أ�ستطيع �أن �أتف ّهم �أن يطالب �أحمد �أبو الغيظ، م�سمى الأمني العام للجامعة العربية ،ومن على هام�ش منرب الأمم املتحدة ،بتق�سيم �سورية حتت ّ �إقامة نظام فدرايل! (راجع جريدة «احلياة»� 28 ،أيلول �": 2016أبو الغيظ للحياة :الفدرالية هي احلل لإنقاذ �سورية"). امل�ؤ�سف �أن العديد من ال�صحافيني العرب يتبنون امل�صطلحات الأمريكية املغلوطة فتنت�شر املقاالت حول "فدرالية" الأكراد ،وهذا خطري لأننا �إذا ا�ستعملنا كلمة فدرالية فذلك يعني �أننا �س ّلمنا ب�أن للكرد دولتهم امل�ستقلة ،و�أنهم عرب الفدرلة ق ّرروا االحتاد مع �سورية! ن�ستطيع القول �إن جتربة الدولة ال�سورية ما قبل عام ،2011كانت الأقرب �إىل تطبيق ف�صل الدين عن الدولة من بني الدول العربية ،ورمبا ذلك ناجت عن عقيدتها القومية ،لذلك مل ت�ستطع الواليات املتحدة الأمريكية وبعد مرور خم�س �سنوات على حربها ،على دحر الدولة ال�سورية بالرغم من �إ�شعالها ناراً طائفية مذهبية تكفريية مل ن َر مثي ًال لها من قبل� ،إذ كانت الواليات املتحدة الأمريكية ت�ستخدم طريقة االنقالبات الع�سكرية للإطاحة بالأنظمة .تغيري اخلطة باجتاه �إثارة نار الفتنة املذهبية بد ًال من االنقالب الع�سكري يعني �أنها تريد تفتيت حد كبري خالل 15عاماً من احلرب �سوراقيا وحموها من الوجود ،فهي ف ّتتت لبنان �إىل ٍّ الأهلية ،وهذا التفتيت ال يعني �إال �شيئاً واحداً :انهيار التيار العلماين الذي كان �صاعداً قبل احلرب وا�ستبداله بالت ّيارات املذهبية املتطرفة وال�سلفية التي تقود �إىل حروب داخلية م�ستدامة. ظ ّنت �أمريكا �أن نهاية �سورية لن تطول �أكرث من ب�ضعة �أ�شهر� ،إلاّ �أنّ املفاج�أة ال�سارة كانت بتوحد جبهات القتال ،فه ّبت املقاومة اللبنانية لنجدة �سورية كما �سارع من ا�ستطاع من ّ العراقيني الوطنيني �إىل الوقوف يف وجه الإرهاب الذي يريد تدمري ح�ضارة هذه املنطقة الغن ّية بانفتاحها وتالوينها الفكرية والدينية .نحن اليوم نعي�ش مرحلة جديدة مرحلة ما بعد 13
�سايك�س-بيكو لأن مقاومتنا ّ تخطت احلدود اال�صطناعية التي و�ضعها الغرب لإ�ضعافنا و�إذاللنا .هذه املقاومة تخ ّلت عن "العروبة الوهمية" ،وبح�سب �سعاده العروبة الوهمية هي حني يتقاع�س ال�سوراقيون عن الدفاع عن �أر�ضهم وي ّتكلون على العرب �أو امل�سلمني لإنقاذهم ،والنتيجة يف هذه احلالة فقدان الأر�ض كما �سلبت م ّنا يف الإ�سكندرون وكيليكيا وفل�سطني� ،أ ّما ا ّتكالنا على �أنف�سنا كما فعلت املقاومة دفاعاً عن �أر�ضنا ،وكما يفعل اجلي�ش ال�سوري وقوات الدفاع الوطني ،فهو طريق االنت�صار. (راجع �أنطون �سعاده ،الأعمال الكاملة ،اجلزء الثامن" ،حاربنا العروبة الوهمية لنقيم العروبة الواقعية"� ،صفحة .271 - 267بريوت :م�ؤ�س�سة �سعاده للثقافة.)2001 ، لقد ظهر جلياً خالل ال�سنوات اخلم�س الأخرية� ،أن العديد من الدول العربية تتعار�ض م�صاحلها مع م�صلحة �سوراقيا ،فوزير اململكة العربية ال�سعودية ال�سابق� ،سعود الفي�صل مث ًال، � ّأكد �أن �أمن ال�سعودية هو يف ال�سيطرة على ّ كل كيانات �سوراقيا وعدم ال�سماح با�ستقاللها و�سيادتها ،ومن �أجل ذلك ت�ؤازر ال�سعودية التق�سيم املذهبي ،وتبعث باملال وال�سالح والرجال ومنهم ال�شيخ عبداهلل املحي�سني ال�سعودي ،والقا�ضي ال�شرعي جلبهة الن�صرة (القاعدة)، الذي ال يخجل �أن يقول �صراحة �إنه دخل �سورية ملحاربة الن�صرييني العلويني! (راجع جريدة «الأخبار» ،عبداهلل املحي�سني" ،يف حلب معركة وجود"�21 ،أيلول .)2016 احلديث �إذاً عن "�أمة عربية"� ،أو "�أمة �إ�سالمية"� ،أو حتى "�أمة م�سيحية" هو نوع من �أنواع القنابل ال�صوتية التي ال تعني �شيئاً� ،إذ �أن ال�س�ؤال احلقيقي هو :من �سيمثّل هذه "الأمة العربية"؟ هل هي م�صر� ،أو ال�سعودية� ،أو �سوراقيا؟ وال�س�ؤال نف�سه ُيطرح على من ينادون بـ"الأمة الإ�سالمية"ٌّ ، فكل من باك�ستان و�إيران ي�ؤمن بالأ ّمة الإ�سالمية ،فهل يعني ذلك �أن �إيران �ستقبل ب�أن حتكمها باك�ستان با�سم هذه الأمة؟ �أو العك�س؟ امل�شكلة يف �إطالق مواقف من هذا النوع �أن �أعداداً كبرية من النخبة املثقفة ال ت�ستطيع التمييز بني الدولة القومية والدولة الدينية ،فتخلط بينهما .مثال ذلك ترداد �أ�ساتذة جامعيني ي�صح ذلك وكيف ميكن تف�سريه، "�أن العروبة هي الإ�سالم ،والإ�سالم هو العروبة" ،فكيف ّ و�إذا كانت العروبة هي الإ�سالم ،فما الفرق بني االثنني؟ 14
ملف العلمانية /درا�سات
الفكري �أ ّدى بالكثري من القوميني العرب �إىل التماهي مع ال�سلفيني والإخوان هذا الت� ّشو�ش ّ فارتد ه�ؤالء عن حماربة الكيان امل�سلمني يف جميع دول العامل العربي من دون ا�ستثناءّ ، ال�صهيوين �إىل حماربة �سورية لأن رئي�سها علوي ،وحماربة �إيران لأنها �شيعية .هذا ال ينطبق فقط على ال�سعودية التي تقود حرباً ال هوادة فيها على الدولتني ،بل ينطبق �أي�ضاً على تون�سيني وم�صريني وخليجيني يحاربون يف �سورية لإ�سقاط نظام "علوي" .واملخجل وغري املفهوم م�سارعة بع�ض الفل�سطينيني �إىل ترك ق�ضيتهم الوطنية ،وق�ضية ا�ستعادة �أر�ضهم، وحملهم ال�سالح ملحاربة النظام الوحيد الذي دعم مقاومتهم �ضد "�إ�سرائيل"� ،أال وهو �سورية. �أحد �أ�سباب انح�سار التيار العلماين �أي�ضاً يف منطقتنا �سقوط االحتاد ال�سوفياتي عام 1990
الذي مثّل كارثة للدول ال�صغرية ككيانات �سوراقيا التي ا�ستفادت من النزاع الأمريكي حد �أدنى من البقاء وعدم ال ّتفتت، ال�سوفياتي خالل حقبة احلرب الباردة للمحافظة على ٍّ فبعد عام 1990قررت الواليات املتحدة الأمريكية �أن ال�سيادة العاملية لها وال منازع لقوتها و�ضمها �إىل حلف الناتو و�سطوتها ،فبد�أت �أو ًال ب�سلب دول �أوروبا ال�شرقية من جمال رو�سيا ّ و�أوروبا الغربية التي تهيمن على قراراتها ب�صورة كل ّية ،وهكذا �ضيقت اخلناق على رو�سيا االحتادية ،ثم بادرت الإدارة الأمريكية برئا�سة بيل كلنتون �إىل تق�سيم يوغو�سالفيا تق�سيماً دينياً بني م�سلمني وم�سيحيني� ،أي�ضاً لإ�ضعاف رو�سيا ،و�سارع العديد من الأحزاب الدينية يف �أرجاء �سوراقيا �إىل �إر�سال قوات حتارب مع امل�سلمني �ضد امل�سيحيني كما فعلت دول اخلليج �أي�ضاً ،وهذا خط�أ كبري لأنّ ه�ؤالء حاربوا اىل جانب الواليات املتحدة الأمريكية �ضد رو�سيا وهم ينظرون �إليها على �أنها ملحدة يجب قطع ر�أ�سها! والكيان ال�صهيوين ّ بعد �أن �ضمنت الواليات املتحدة الأمريكية �أوروبا كاملة لها اتجّ هت نحو ال�شرق الأو�سط ملتابعة حتطيم الدولة الوطنية العلمانية التي تقف عائقاً �أمام هيمنتها الكلية على العامل، فا�ستعملت ذريعة هجمات احلادي ع�شر من �أيلول لت�شن حرباً ظاملة ،ال �شرعية على العراق عام .2002 تو�صلت الواليات املتحدة الأمريكية �إىل نتيجة �أن النظام اللبناين الطائفي هو الأمثل لل�سيطرة ّ 15
الكاملة ،لأن الطوائف متنع وحدة املجتمع ،وتتناف�س فيما بينها �إىل حد القتل والدمار ،لذلك عمد برمير ،املندوب ال�سامي الأمريكي يف العراق� ،إىل و�ضع د�ستور جديد يق�سم الدولة اىل ثالثة �أق�سام� :شيعية و�سنية وكردية. �أما يف حربها على �سورية بدءاً من عام ،2011فلقد ا�ستعملت الواليات املتحدة الأمريكية التيار ال�سلفي الوهابي التكفريي والتيار الإخواين املتز ّمت لتدمري الدولة ال�سورية ،و�إثارة ومدها باملال وال�سالح ،ما التناق�ضات الداخلية من �إثنية وطائفية ،ودعم فئة �ضد �أخرىّ ، ي�سمح لها بال�سيطرة على امل�شرق العربي �أو �سوراقيا من دون �أن تتك ّبد � ّأي خ�سائر مادية �أو ب�شرية. ما بني الطائفية والعلمنة
لنقارن كيفية �إدارة الدولة الطائفية/الدينية واختالفها عن الدولة العلمانية: �أو ًال ،يف دولة الطوائف ّ يتحكم رجال الدين ّ بكل �أفراد املجتمع يف ال�ش�أن العام كما اخلا�ص تتدخل يف �ش�ؤون املواطن اخلا�صة فترتك له حرية ممار�سة �أي�ضاً ،بينما الدولة العلمانية ال ّ معتقداته .ي�أمر رجال الدين النا�س با ّتباع نظام واحد �شمويل يف امل�أكل وامللب�س والعبادة والفكر �إلخ .ويق ّرر رجال الدين طريقة الت�صرف يف كل مناحي احلياة والدخول يف �أتفه التفا�صيل ما مينع � ّأي حرية �أو مبادرة من ِقبل الأفراد. ثانياً ،لأن دولة الطوائف الدينية ال تف�صل بني ال�ش�أن العام واخلا�ص ،ي�ستتبع ذلك انت�شار تخت�ص الف�ساد واملح�سوبيات واملحا�ص�صات والقفز فوق القانون .فالطوائف يف النهاية ،م�س�ألة ّ مب�صالح كل طائفة على حدة ال ّ بالكل املك ّون للوطن/الأمة .فقط �ضمن نطاق الدولة القومية العلمانية ن�ستطيع �أن نتك ّلم عن ال�ش�أن العام� ،أي �ش�ؤون عامة ال�شعب ب�شكل مت�ساوٍ ،وبدون متييز �أو حت ّيز. ثالثاً ،تفر�ض الدولة الدينية الطائفية الأحوال ال�شخ�صية الدينية على اجلميع بالوالدة ،فال خيار �أمام الفرد ،تع ّلبه ومتلي عليه القيود الواجب ا ّتباعها وجتربه على البقاء �ضمن الطائفة والوالء لها ،وال ت�سمح له بالتغيري والتقدم ،فيما تتبع الدولة العلمانية القانون الوطني -املدين 16
ملف العلمانية /درا�سات
املتحرك والذي يتغري بناء على �إرادة ال�شعب. يخ�ضع جميع املواطنني للقانون املدين من دون � ّأي ا�ستثناء يف الدولة العلمانية بينما قانون الأحوال ال�شخ�صية يف ّرق بني املواطنني فت�صبح ّ كل فئة تتبع قانوناً مغايراً لفئة �أخرى وقد يكون مناق�ضاً لها ،ويتال�شى مفهوم املواطنة .ثم �إن القوانني الدينية تفتح الباب �أمام رجال الدين لل�سيطرة على الدولة ،فبد ًال من �أن يكون الزواج والطالق والإرث والوفاة يف يد الدولة يتحكم رجال الدين ب�أفراد املجتمع ،وهم يتحكمون �أي�ضاً باملدار�س التي هي طائفية يف غالبيتها املطلقة مبا فيها الإر�ساليات الأجنبية ،وامل�ست�شفيات ،واجلمعيات اخلريية ،واملقابر، ولرجال الدين احلق يف و�ضع املناهج املدر�سية واملوافقة عليها ،كما �أنهم يقررون َم ْن ِمن تهدد الأ�ساتذة ُيقبلون يف املدار�س واجلامعات .وت�صبح الدولة �ألعوب ًة يف يد الطوائف التي ّ تن�صع لإرادتها. احلكومات ب�إثارة النا�س عليها �إذا مل َ خا�صاً بينما ُتعلي من �ش�أن الدولة على عك�س ذلك ،الدولة العلمانية حت ّيد الدين وجتعله �ش�أناً ّ القومية واملواطن لأن العلمنة تبغي توحيد املواطنني وجعل حياتهم وقوانينهم واحدة كي يج�سدوا جمتمعاً متجان�ساً من�سجماً مع بع�ضه. رابعاً ،دولة الطوائف تعطي الأولوية للدين واملذهب وبالتايل هي تابع لأوامر خارجية بح�سب انتماءاتها الدينية ،فانحاز املوارنة تاريخياً لفرن�سا ،وانحاز ال�سنة لل�سعودية .بينما ت�ؤازر الدولة العلمانية مفهوم اال�ستقالل القومي وال�سيادة القومية ،فرجل الدين الفرن�سي ولو كان كاردينا ًال هو فرن�سي قبل كل �شيء وين�صاع للقوانني الفرن�سية ال لقوانني روما ،ويحاكم بتهمة اخليانة �إذا ع�صى القانون الفرن�سي .هذا الو�ضع لي�س حا� ً صال يف �سوراقيا حيث يتبع ال�سكان قوانني وافتاءات رجال الدين يح ّر�ضونهم على القتل كما ح�صل لل�شهيد ناه�ض حرت وال يلتزمون بقانون دولتهم. خام�ساً ،قوانني الأحوال ال�شخ�صية هي قوانني دينية تفر�ض على التابعني لها التق ّيد بها خمت�صة بكل دولة على حدة ،وينتج عن حيثما كانوا �شرقاً �أو غرباً ،بينما القوانني الو�ضعية ّ ذلك �أن كل طائفة �أو م ّلة تتبع قرارات مرجعياتها الدينية املوجودة خارج حدود كيانات �سوراقيا ما ي�شكل عائقاً �أ�سا�سياً يف توحيد املجتمع و�صياغة دولة القانون. 17
ين وجمتمع طوائف دينية ،فيما يخت�ص �ساد�ساً ،يختلف الو�ضع دراماتيكياً بني جمتمع علما ّ بحر ّية الفكر والعلم واملعرفة ،فال حرية للفكر حيث ُتهيمن الدولة الدينية ،ون�صبح يف و�ضع جند فيه رجال دين �شبه �أميني وال اخت�صا�ص لديهم يقررون احلقائق املعرفية ،في�صعد �أحدهم على منرب امل�سجد لي�ؤكد �أن الأر�ض م�سطحة ،وي�صدقه امل�ؤمنون لأن عدم ت�صديقه يعني الكفر بدينهم! يقودنا ذلك �إىل تقهقر العقل واملعرفة كما هو حا�صل يف �سوراقيا التي تراجعت فيها املعرفة عما كانت عليه منذ ن�صف قرن! لقد انهار امل�ستوى الفكري وحرية التفكري تراجعاً خميفاً ّ العلمي املبتكر واملحلل وامل�ستنبط لقواعد الكون ب�سبب تدخل الدين يف العلوم الو�ضعية، وهذا ما مل يح�صل يف الدولة الأموية وبداية الدولة العبا�سية حيث كان الدين مف�صو ًال ف� ً صال تا ّماً عن العلوم .لقد تب ّنت ال�سلفية الوهابية جتربة الإمرباطورية الكاثوليكية يف القرون الو�سطى والتي كانت حتتكر العلم وت�ضطهد العلماء ،بينما حافظت �إيران الإ�سالمية على الرتاث احل�ضاري القائم على ف�صل الدين عن العلوم الو�ضعية ما �أدى اىل تط ّورها ال�سريع يف يهدد وجودها العائم على التكنولوجيا ،هذا التطور هو بال�ضبط ما تريد "�إ�سرائيل" و�أده لأنه ّ بحر من التخ ّلف�" .إ�سرائيل" ت�ستعمل الفالق املذهبي ال�سني-ال�شيعي لت�سعري النار �ضد تقدمها العلمي والقومي ال من توجهها الديني ،والربهان على ذلك �إيران لأنها تخاف من ّ �أنها تتحالف مع �أ�شد الدول يف تط ّرفها الديني التكفريي �أال وهو ال�سعودية الوهابية. �سابعاً ،تراجع و�ضع املر�أة نتيجة ا�ضمحالل القوانني الو�ضعية التي تواكب التطور وا�ستبدالها بالقوانني الدينية التي تعتمد على النظام البطريركي املُ ّ ذل للمر�أة كما كان �سائداً يف املجتمعات التي تولدت فيها الأديان منذ قرون بعيدة .ما يح�صل اليوم هو قمع املر�أة ومنعها من احل�صول على حقوقها كمواطنة �أ�سوة بالرجلّ ، وتتحكم بها قوانني الأحوال ال�شخ�صية الدينية التي تعطي الأف�ضلية للرجل يف الزواج والطالق والإرث وح�ضانة الأطفال. �أما يف ال�سيا�سة ،فالتمثيل النيابي ال ميثّل ال�شعب بل الطوائف يف لبنان وكذلك يف العراق بعد االحتالل الأمريكي عام ،2003ونرجو �أال يتح ّول نظام �سورية �إىل طائف لبناين �آخر �شن الواليات املتحدة الأمريكية احلرب عليها .فالرت�شّ ح لالنتخابات �أ�سا�سه ديني ال بفعل ّ 18
ملف العلمانية /درا�سات
وطني ،والناخب يذهب �إىل �صناديق اقرتاع خمتلفة ح�سب انتمائه الديني كما يظهر على �سمى زورا هوية وطنية� ،إذ �إنها يف احلقيقة هوية طائفية مبنية على قوانني الأحوال هويته التي ُت ّ ال�شخ�صية الدينية .و�إخفاء الطائفة عن الهوية يف لبنان ما بعد احلرب الإهلية ال يعني �إلغاءها �إذ �إن قانون االنتخاب والتق�سيمات الإدارية ال تزال قائمة على املذهب الديني. االنتقال من الطائفي/الديني �إىل العلماين يف �سوراقيا
دول امل�شرق العربي ال تزال تعي�ش يف نظام امللل الديني الذي و�ضعه العثمانيون منذ ما يناهز ال�ستة قرونّ . جل ما حدث حني ق�سمنا الربيطاين والفرن�سي يف �سايك�س-بيكو �إىل دويالت هو ت�صغري الإطار اجلغرايف لكن �إبقاء ال�صراعات الطائفية من �ضمنه لدميومة ال�سيطرة الغربية. ما هي احللول املمكنة لتغيري الأنظمة الطائفية؟ ببث الي�أ�س يف قلوب النا�س م�ؤكدين �أنّ التغيري م�ستحيل .بالطبع غالباً ما يقوم املثقفون ّ التغيري م�ستحيل �إذا رف�ضنا العمل باجتاه التغيري واكتفينا باملقاالت والديباجات .الهدف من �إن�شاء الأحزاب العلمانية هو تطبيق هذا الفكر وحتويله �إىل عمل د�ؤوب وت�ضحيات يف اجتاه التغيري ،و�إلاّ لي�س من �سبب لإن�شاء الأحزاب ،فلقد �أر�سى �أنطون �سعاده مث ًال يف املادة الأوىل من د�ستوره �أن غاية احلزب هي بعث نه�ضة يف �سورية الطبيعية �أو �سوراقيا .فهل ن�ستطيع بعث نه�ضة؟ غالباً ما ي�ؤكد كرث �أنّ الولوج يف الدولة العلمانية لن يح�صل قبل قرن �أو قرون ،وها قد م�ضى نتقدم خطوة واحدة ال بل �أ�صبحنا �أ�شد طائفية و�أكرث تخ ّلفاً مما قرن على �سايك�س-بيكو ومل ّ ك ّنا .هذا يدل على �أن الزمن لي�س كفي ًال بتغيري الظروف ،و�إننا �إذا مل نبادر نحن �إىل العمل باجتاه العلمنة فلن يتحول الو�ضع �إلاّ �إىل عك�س ما ن�شتهي لأنّ غرينا يعمل باالجتاه املعاك�س. لقد تو�صلت ال�سعودية �إىل �إجناز كبري عرب عملها املتوا�صل ملدة ثالثني عاماً� ،إن مل يكن �أكرث ،يف ن�شر التعاليم الوهابية املتطرفة والتكفريية والراف�ضة للعلم واملنطق وللتط ّور الإن�ساين ب�شكل خا�ص يف دول �سوراقيا ،لأن �سوراقيا �أ�صبحت لقم ًة �سائغة بعد تق�سيمها �إىل دويالت �سايك�س-بيكو .داع�ش والن�صرة لي�سا �إال نقطة النهاية يف �سل�سلة طويلة من العمل اليومي 19
الحتواء املجتمع ال�سوراقي وتدجينه و�إحلاقه بامل�شيئة ال�سعودية عرب التب�شري الديني� .أذكر هنا كيف انت�شر الدعاة بالآالف يف لبنان ،ويف �سورية ،ويف العراق والأردن وفل�سطني ،يف ثمانينيات القرن املا�ضي ،يزورون البيوت لي ًال ،ويب�شرون يف امل�ساجد واملدار�س بالدين الوهابي ،فهل فعل القوميون العلمانيون الأمر ذاته؟ ماذا كانت النتيجة؟ حتولت كل كيانات �سوراقيا من ال�سري يف مفاهيم القومية والوطنية والعلمانية والتطور احل�ضاري ،والبناء على �أ�س�س علمية� ،إىل نبذ العلم واملنطق بكل �أ�شكاله، ف�أول ما ا�ستهدفته الوهابية هو �إلغاء الرتبية الوطنية من املدار�س وا�ستبدالها بالدين (الوهابي). لقد ا�ستوىل الوهابيون على عقول الأطفال واملراهقني يف �سورية والعراق ولبنان والأردن وفل�سطني وجندوهم لأيديولوجيتهم عرب التدري�س الديني يف املدار�س واجلامعات ولي�س فقط امل�ساجد. يتفاج�أ كثريون ومنهم من كان وزيراً يف رئا�سة �سليم احل�ص للوزارة عام 1998حني �أخربهم �أنه هو الذي �ألغى مادة الرتبية الوطنية من املدار�س الر�سمية وا�ستبدلها بالرتبية الدينية! مل ي�ستطع احلريري �أن يفعل ذلك ،لكنه ّمت على �أيدي من ُيعترب وطنياً قومياً عربياً ،وكان �آنذاك وزير الرتبية حممد يو�سف بي�ضون الذي ُينظر �إليه �أي�ضاً على �أ�سا�س �أنه معتدل ووطني. فكيف يح�صل ذلك منذ 17عاماً ومل يتح ّرك وطني علماين واحد لال�ستنكار ،ومل يتحرك �أي من الأحزاب الوطنية العلمانية لهذه الكارثة املحققة والتي �ستخرج يف ب�ضع �سنوات ال�سلفيني الإرهابيني الذين يدمروننا اليوم؟ الأمر نف�سه ح�صل يف العراق و�سورية والأردن وحتى فل�سطني ،ففيها جميعها �أُلغيت الرتبية الوطنية ل�صالح الدين ،وطالب الإخوان امل�سلمون بحقيبة واحدة �أال وهي وزارة الرتبية نتعجب اليوم ملا نراه من �أعمال لداع�ش والن�صرة وغريهما ،وملئات والتعليم العايل .فهل ّ حتولوا �إىل متطرفني دينيني همهم �إقامة الدولة الإ�سالمية على الألوف من ال�سوراقيني الذين ّ الطريقة الوهابية؟ ال ّ نرب جي ًال جديداً على القيم الوطنية /العلمانية ،فهنا يكمن التغيري حل �أمامنا �إذا مل ِّ 20
ملف العلمانية /درا�سات
احلقيقي ،وللداللة على ذلك �س�أعطي مثلني من لبنان :ففي خم�سينيات القرن املا�ضي �أُن�شئت مدر�ستان قوميتان واحدة بناها يو�سف الأ�شقر يف ديك املحدي والثانية �أني�س �أبي رافع يف عاليه .خ ّرجت هاتان املدر�ستان جي ًال وطنياً قومياً من جميع الطوائف من دون حتول اجليل اجلديد ا�ستثناء .وما �إن توقف عمل هاتني املدر�ستني حتى تال�شى هذا الوجود و ّ �إىل تع�صب طائفي ج ّراء املدار�س الدينية امل�سيحية والإ�سالمية .الأمر نف�سه ح�صل يف �سورية حيث �أن�شئت مدار�س قومية يف �صافيتا وطرطو�س ،وعمد العديد من القوميني �إىل التدري�س يف تلك املدار�س قبل �أن تغلق �أبوابها �أي�ضاً ب�سبب اغتيال عدنان املالكي. لقد تن ّبهت الواليات املتحدة الأمريكية لهذا املو�ضوع الأ�سا�سي لوجودها فمنعت املدار�س اخلا�صة يف البدء ،ثم �سمحت لبع�ضها بالوجود ب�سبب وجود جاليات �أجنبية وهي قليلة جداً بالن�سبة �إىل عدد ال�سكان الذي يتجاوز الثالثمئة مليون ن�سمة .ركزت �أمريكا كل تعليمها االبتدائي الر�سمي على تر�سيخ فكرة الوالء لأمريكا ،هذه هي املهمة الأوىل للتعليم يف املدر�سة االبتدائية. التعليم الديني يف املدار�س ال�سوراقية �أدى �إىل �إر�ساء التطرف الديني يف اجلامعات �أي�ضاً التي لي�ست �إال التكملة املنطقية لتعليم املدار�س ،حيث ّمت اللجوء �إىل التف�سري الديني بد ًال من التنقيب العلمي ،فرنى مث ًال �أن الأ�ساتذة يف العلوم ال�سيا�سية يف اجلامعة اللبنانية �أ�صبحوا يب�شرون يف �صفوفهم بالأيديولوجية الدينية ف ُيلقّن الطالب "�أن االحتاد ال�سوفياتي �سقط لأنه �ش ّرع الكحول والرق�ص وامل�سرح واملو�سيقى" ،و"�أن االقت�صاد الأوروبي فا�شل لأنه غري ملتزم باالقت�صاد الإ�سالمي" ،وتمُ نع درا�سة النظريات ال�سيا�سية الي�سارية على �أنها تدعو �إىل الإحلاد، حُوتجب النظريات القومية لأنها تتعار�ض والدين الإ�سالمي ال�شمويل( .راجع ماهر اخل�شن، "يف اجلامعة اللبنانية �إن ُ�سئلت عن مارك�س حتدث عن �أفالطون" ،جريدة «الأخبار» يف 16 �آب .)2016 هذا الو�ضع ي�ؤدي �إىل ا�ستالب املجتمع وحتويله �إىل تع�صب ديني قاتل خا�صة �أن ذلك ال يتطلب علماً �أو جهداً بل على العك�س من ذلك ،ف�أيديولوجية داع�ش والن�صرة تعترب �أن ال لزوم للعلم وللدر�س والتمحي�ص فالأجوبة حا�ضرة جميعها يف الدين ،وي�صبح رجال الدين 21
هم �أولياء املجتمع ،وهذا ما يح�صل اليوم ،فهم الذين يقررون عنا � ّأي كتاب نقر�أ ،و� ّأي فيلم ُيعر�ض �أو ال ُيعر�ض ،و� ّأي لبا�س بحري نرتدي :البوركيني �أو غريه ،و� ّأي طعام ن�أكل (حرام �أو حالل) ،و�إن مل نفعل فتهديد بالتكفري والقتل. تر�سيخ مفهوم الدولة القومية العلمانية ممكن على ال�صعيد الرتبوي �إذا ما ان�ص ّبت جهودنا يف هذا امل�ضمار ملواجهة التعليم الديني ال�سلفي ،كما هو ممكن على ال�صعيد ال�سيا�سي عرب الت�شديد على �أن طرح ف�صل الدين عن الدولة يجمع كيانات �سوراقيا ،بينما ال ت�ؤدي املطالبة بالدولة الدينية �إال �إىل حروب ال نهاية لها �ضمن دول �سوراقيا لأن هذه الأخرية تت�شكل من تتوحد داخلياً �إال اذا كانت دولة �أديان ومذاهب خمتلفة ومتنوعة .ال ت�ستطيع �سوراقيا �أن ّ علمانية ،ومن �أجل ذلك على كياناتها �أن تقف بوجه اخلطط اال�ستعمارية الغربية التي تريد الق�ضاء على الدولة القومية ،لأن هذه الأخرية ت�ؤ ّمن اال�ستقالل ال�سيا�سي واالقت�صادي واالجتماعي ل�شعبها مبعزل عن �أهواء الدول اخلارجية. مع بدء الألفية الثالثة ،هدفت خمططات الواليات املتحدة الأمريكية بالن�سبة �إىل امل�شرق العربي دعم الدولة الدينية� :إما �إخوانية �أو �سلفية ،فالإخوانية مرجعيتها تركيا احلليف املوثوق يف حلف �شمال الأطل�سي ،وال�سلفية مرجعها ال�سعودية ،و�آل �سعود عائلة ال حتيد عن ال�سيا�سة الأمريكية قيد �أمنلة� ،إذ �إن وجودها منوط بالإرادة الأمريكية ،ويف احلالني كليهما متنع الواليات املتحدة الأمريكية � ّأي تقارب �أو تن�سيق بني كيانات �سوراقيا لأن تفاهمها وتعاونها يعني الق�ضاء املربم على "�إ�سرائيل" التي هي ر�أ�س احلربة الأمريكية يف املنطقة .الطريقة الوحيدة ملنع كيانات �سوراقيا من التعاون هو �إدخالها يف حرب طائفية دينية مذهبية واثنية. ال�صراع بني املبد�أ القومي العلماين من جهة ،ومبد�أ الدولة الدينية من جهة �أخرى لن يخت�ص بدول �سوراقيا فقط بل �ستعمد الواليات املتحدة الأمريكية �إىل تطبيقه يف دول �آ�سيا وخا�صة يف ال�صني ورو�سيا حيث توجد �أعداد كبرية من ال�سنة عب�أتها التي ّ �ستهدد هيمنتهاّ ، اململكة ال�سعودية وحولتها �إىل املذهب الوهابي التكفريي احلا�ضر لإلغاء الآخر بقوة ال�سالح. تدور احلرب �إذاً بني اجتاهني ومقولتني :مقولة العوملة الأمريكية التي تريد �إلغاء الدول الوطنية/ القومية التي تقف عائقاً �أمام الإمرباطورية الأمريكية ،ومن �أجل ذلك تدعم التيارات الدينية 22
ملف العلمانية /درا�سات
ال�سنية املتطرفة ،واالجتاه املعاك�س الذي يدافع عن مبد�أ ا�ستقالل الأمم وحقها يف الوجود ويف حتقيق م�صالح �شعبها ،واملكون من الدولة ال�سورية و�إيران ورو�سيا وحزب اهلل ،واملقاومة ال�شعبية يف العراق و�سورية ولبنان وفل�سطني. نخل�ص للقول �إن ال علمنة �إلاّ بوحدة �سوراقيا لأن الذي ّ يعطل الوحدة داخلياً وخارجياً هو النظام الطائفي/الديني ،والعك�س �صحيح �أي�ضاً� :سوراقيا ال ت�ستطيع �أن تكون موجودة فعلياً �إال �إذا كانت علمانية.
23
ملف العلمانية /درا�سات
ُنبل العلمانية وب�ؤ�س العلمانيني ن�صري ال�صايغ � -صحايف وكاتب
Iـ فاحتة الف�شل
ما العلمانية؟ ال تعريف لهاّ ، لكل مدر�سة تعريف خا�ص ُتط ّبقه ،لفرن�سا تعريفها املتز ّمت، لربيطانيا تعريف �آخر منفتح ،للواليات املتحدة تطبيقات علمانية �أقرها الد�ستور ،من دون اللجوء �إىل ا�ستعمال مفردة العلمانية ...امل�ؤ�سف عندنا� ،أننا يف حروب حول املفهوم ،وهذا دليل عجز ولي�س م�صدر غنى ،عندما تظل الفكرة �أو يبقى املفهوم �أ�سري الفكر ،ي�صاب بالبيزنطية� ،أي باللغو .العلمانية ممار�سة واحلكم عليها هو يف جناحها �أو يف ف�شلها ،لي�س كنموذج ُيحتذى ،بل كطريقة خا�صة ّمت ابتكارها يف جمتمع ما باال�ستجابة ل�شروطه الثقافية والبيئية ودرجة تقدمه يف م�ضمار احلداثة ،ال علمانية يف جمتمع متخلف .ال �سالمة ملفهومها يف جمتمع ا�ستبدادي. ال �إمكانية لتج�سدها يف جمتمع ما قبل الدولة ،حيث تهيمن االنتماءات القبلية ،الإثنية، العن�صرية ،الدينية ،املذهبية �إلخ... ما بني العلمانية وهذه املجتمعات واجلماعات ،طالق ...هل هذا يعني �أن العلمانية ُيفرت�ض ت�أجيلها �إىل ما بعد ت�أهيل اجلماعات؟ هل العلمانية قادرة وحدها على تغيري املجتمع ،من دون بروز ال�شخ�صية الفردية احلرة ،التي تتخذ قراراتها وت�سلك يف خياراتها مبعزل عن � ّأي انتماء؟ حمدداً للعلمانية ،هل هي ف�صل الدين عن الدولة؟ �أم ف�صل الدين عن ال�سيا�سة؟ ال تعريف ّ �أم ف�صل الدين عن املجتمع؟ �أم حتديد احل ّيز الديني امل�ستقل عن احليز املدين؟ هل هناك ن�صف علمانية �أم علمانية متد ّرجة؟ �أ�سئلة حتتاج �إىل �أجوبة واقعية .الأجوبة النظرية تغني �شح يف التجربة .جتاربنا العلمانية بائ�سة جداً .جتاربنا املجتمعية الأخرى الفكر ولك ّنها تدل على ّ أ�شد ب�ؤ�ساً و�أكرث حراجة ،بحيث ميكن تربير ما ينعت البع�ض فيه العرب ،من �أنهم الالعلمانيةّ � ، 25
ا�ستثناء ح�ضاري ،حيث �أن العلمانية ت�سجل يف جمتمعات كثرية تقدماً ،بينما هي بالكاد ترى لها ظ ًال يف هذه ال�صحراء العربية الغارقة يف العن�صرية والطائفية واملذهبية والإثنية واجلهوية. عدد الهويات يف املجتمعات العلمانية �ضئيل جداً ،الفرن�سي فرن�سي ،الأملاين �أملاين ،وهكذا. يعد� ،أو بالأحرى ،هي بعد الطوائف واملذاهب والفرق �أما عندنا ،فلدينا من الهويات ما ال ّ واجلماعات ل�سنا دولة بعد� .إذاً ال علمانية بعد. العلمانية خادمة غري خمدومة
ال ُتنكر اجلهود التي بذلها الرواد يف ع�صر النه�ضة ،لو�ضع املجتمعات العربية على �سكة متحدية ،ر�ؤيوية وحقيقية .تن�ضح كتاباتهم ب�أمل التغيري احلداثة .كتابات ه�ؤالء جريئةّ ، واالنتقال من مرحلة التخلف �إىل �أفق احلداثة� .أخفقت هذه الكتابات يف خلخلة البناء التاريخي للجماعات يف العامل العربي� ،أ�صابت الأفكار النخب ،مع تبني بع�ض الأنظمة الأفكار القومية ،مل تكن العلمانية عنوان زمن ال�صعود القومي .كان الهاج�س ،التخل�ص من اال�ستعمار والتحرر االجتماعي .كانت العلمانية �ضيفاً ه�شّ اً على هذه الأنظمة التي �سرعان ما حتولت �إىل ديكتاتورية ا�ستبدادية كان من نتائج حقبتها ،تفجري املجتمع �إىل اثنيات وفرق دينية وتكفريية .تنمو العلمانية يف مناخ احلرية والدميوقراطية .العلمانية اال�ستبدادية عاقبتها وخيمة .بها تل�صق تهمة مهادنة اال�ستبداد ،واالغرتاب عن البيئة ،ولقد ح�صل ما هو �أفدح من ذلك حيث جل�أت هذه الأنظمة �إىل �سجن ومالحقة ومطاردة وتعذيب القوى احلزبية امل�ؤمنة بالعلمانية والدميوقراطية واحلداثة .ال وجود حلزب �سيا�سي خارج ال�سجن� ،إلاّ �إذا كان حمظياً ومطيعاً للقوة امل�ستبدة ...وهذا ما ت�ؤكده لوائح ال�سجون يف ّ كل من م�صر العلمانية و�سوريا العلمانية والعراق العلماين وليبيا العلمانية واجلزائر العلمانية. لقد غامرت الأحزاب العلمانية مغامرة خميبة للأمل ،حتديداً يف لبنان ،عندما اختارت �أن ت�ؤجل علمانيتها ل�صالح مواقع لها يف ال�سلطة ،فتحالفت مع قوى الإقطاع الطائفي وتيارات املذاهب... �ألغت نف�سها ومربر وجودها ،عندما انحرفت عن ن�ضالها العلماين ّ مف�ضلة املكا�سب ال�سيا�سية، والتي ال تد ّر عليها غري التك ّل�س .يف �أيام ال�سلم الطائفي ف�ضلت �أن تكون يف القافلة االنتخابية مقطورة بقادة طوائفيني و�إقطاعيني ،ويف �أيام احلرب ،برهنت على جدارة قتالية يف �صفوف قوى 26
ملف العلمانية /درا�سات
محُ ت�ضنة طائفياً .تت�شابه هنا الأحزاب القومية وتيارات العروبة وجماعات الي�سار .لذا ،مل تكن العلمانية خمدومة من �أحزابها ،بل كانت خادمة �أمينة للأحزاب والتيارات العلمانية. املجتمع املدين رخو جداًّ ، مقطع الأو�صال ،ذو نزوة ال ترقى �إىل مرتبة الن�ضال .وعليه ،فقد كانت العلمانية �أ�صيلة يف منابعها ،معتكرة يف معرتك احلياة ال�سيا�سية ،من�سية بحكم التقادم االجتماعي والإن�ساين .ما تزال العلمانية �صاحلة ،ولكن العلمانيني عاطلون عن تب ّنيها .ويف معادلة الوقائع ،برهنت الطائفية على حيوية منقطعة النظري ،و�أنها خمدومة بجدارة وتكافئ املنا�ضلني فيها ب�أرقى املراكز وب�أكرثيات جماهريية ال حت�صى .الغلبة للطائفية واملذهبية واخل�سارة للعلمانية .هي نتيجة حتمية ومربمة. يطبقه؟ IIIـ الطائف علماين من ّ
مل ّ يت�سن للعلمانية �أن تكون مكان اختبار حتى ُي ّربر ف�شلها .هي مل تف�شل لأنها مل ُتختبرَ على مدار قرنُ .ت�ستثنى تون�س التي جتر�أت على املوروث بقرار من �صلب العامل احلديث. �أ�ضحت العلمانية يف تون�س يف قلب ال�صراع ،عندما فر�ضت على الدولة وعلى املجتمع .رف�ض الإ�سالميون هذه العلمانية ودافع عنها وطنيون وي�ساريون ومواطنون م�ستنريون .جنحت التجربة بن�سبة عالية .لكن عدم جتديد احلياة ال�سيا�سية وا�ستكانة ال�سلطة يف مواقعها وتداولها بالقوة، منح الإ�سالميني فر�صة الدفاع عن الدميوقراطية التي ال ي�ؤمنون بها ،و�أ�صابوا ب�سهامهم العلمانية التي �صمدت ب�صمود جماهريها ونخبها والأحزاب التي تدافع عنها ...جتربة جديرة باالحرتام. لبنان ،منحته فرن�سا د�ستوراً علمانياً ،ال دين للدولة يف لبنان ،الدولة لي�ست دينية ،حتمي الدين كما هو وال تتدخل يف معتقداته� .شابته مادة وحيدة ،دعت �إىل توزيع احلقائب يف الدولة على الطوائف ،التما�ساً للعدل ،وبطريقة ال ت�ض ّر بامل�صلحة العامة ،على �أن يكون هذا التدبري م�ؤقتاً. �إنها املادة اخلام�سة والت�سعون من الد�ستور القدمي قبل تعديله ُبعيد اتفاق الطائف. �شاب احلياة القانونية �صدور القرار 60ل.ر .من قبل املندوب ال�سامي يف �سوريا ولبنان والتي نظم عربها املحاكم املذهبية ال�شرعية والراعية للطوائف ،م�ستثنياً من ذلك «العلمانيني» �أ�صحاب احلق يف �أال يكونوا طائفيني .اكتفت ال�سلطات اللبنانية ب�إقرار مرا�سيم املحاكم الروحية 27
وال�شرعية لكل الطوائف واملذاهب ،وجتاهلت ما يخ�ص املواطنني غري املنتمني �إىل �أي طائفة، بحكم علمانيتهم .الفرن�سي م�ستعمراً� ،أعطى اللبنانيني وال�سوريني حقاً علمانياً مل يطالب به ن�ص عليه �أحد .العلمانيون طن�شوا ،رمبا عرفوا ون�سوا .يف كل الأحوال ،فقد العلمانيون حقاً ّ القرار 60ل.ر ...فهل ه�ؤالء العلمانيون علمانيون حقاً؟ �ألف ال ،اجلعجعة ب�صوت مرتفع الداعية �إىل العلمانية مف�ضوحة «لي�س كل من يقول يا رب يا رب يدخل ملكوت ال�سموات» الطريق �إىل العلمانية هي التدرج باملطالب ال �إلغاء املكا�سب. مل ن�سمع �أحداً من الأحزاب العلمانية ،با�ستثناء بع�ض احلقوقيني الذين �أثاروا يف عدد من امل�ؤمترات هذه احلالة ،وملا انق�ضى امل�ؤمتر ،م�سحت الكلمات عن الطاوالت كما مي�سح الغبار .هذا غي�ض من في�ض. انفجر لبنان يف عام .1975دخل اجلميع كرنفال الدم .تقدمت الطائفية ال�سيا�سية واحتلت املواقع وحفرت اخلنادق .انت�شرت الأحزاب العلمانية يف اجلبهات �إىل جانب الطوائفية املتقاتلة، كان حظها بعد القتال �أن �أق�صيت عن احللول .وبعدما برهنت على جدارة يف القتال ذهب اجلميع �إىل الطائف �إال ه�ؤالء .مل يدعوا �إليه ،وال دعوا مرة �إىل مفاو�ضات .عوملوا ك�إجراء عند الطوائف. �إن �آليات تغيري النظام الطائفي يف لبنان موجودة يف الد�ستور ،ن�ص اتفاق الطائف على �آلية التغيري� ،أو االنتقال من النظام الطائفي �إىل النظام املدين. الطائف و�ضع اللبنانيني �أمام طريق اخلروج من احلرب عرب جمع الأ�سلحة ومنع االنق�سام و�إعادة تكوين ال�سلطة بعد التعديالت التي �أ�صابت مركز املارونية ال�سيا�سية بال�ضعف، و ُنقلت بع�ض �صالحيات الرئا�سة �إىل احلكومة جمتمعة ،ب�صيغة امل�شاركة املتنا�سبة يف احلكم .وكان من املفرت�ض ،بعد ت�أمني املنا�صفة الطائفية بني امل�سيحيني وامل�سلمني� ،أن ُي�صار ،بعد �أول انتخابات على قاعدة املنا�صفة� ،إىل ت�شكيل الهيئة الوطنية العليا لإلغاء الطائفية ال�سيا�سية ،و�إقرار قانون انتخابي خارج القيد الطائفي ،و�إن�شاء جمل�س �شيوخ متثل فيه العائالت الروحية. ماذا فعل العلمانيون لتطبيق �أو لدفع القوى املهيمنة �إىل تطبيق هذه املواد الد�ستورية املُلزمة؟ ال 28
ملف العلمانية /درا�سات
مهدداً بهذه املواد الد�ستورية لالبتزاز �شيء على الإطالق .وحده الرئي�س نبيه بري ،جل�أ مرتني ّ ال�سيا�سي .كما حاولت ال�سلطة ال�سورية �أن ت�ستعمله للتخويف �أو تدفنه للطم�أنة ...العلمانيون هباء منثور ال عالقة لهم بالعلمانية. لي�س املطلوب عملياً اخرتاع البارود ،الطائف موجود� .إنه الطريق �إىل علمنة حقيقية للدولة وم�ؤ�س�ساتها ،املادة اخلام�سة والت�سعون وا�ضحة ،حتتاج �إىل من يلتزم بها. حاول املطران غريغوار حداد �أن يخو�ض معركة العلمانية ال�شاملة .جمع حوله علمانيني من املجتمع املدين .كان �صادقاً ووفياً لعلمانيته ال�شاملة ،حتى النف�س الأخري .كان �صوتاً �صارخاً يف الربية .مل يقف معه �إال قلة من امل�ؤمنني بالعلمانية عن جد ،لكن احلرب اللبنانية ،ق�صمت م�شروعه .الطائفية تنني بر�ؤو�س متعددة .غلبت املطران الذي مل تغلبه كني�سته ،برغم �أنها �شنت عليه حروبها و�أق�صته عن مطرانيته. وال حزب من الأحزاب «العلمانية» ،له من ن�ضال املطران ما يوازي �سطراً من جهاده. IVـ الطائفة جتمع والعلمانية ال
من هو العلماين؟ هو ذاك الذي خرج على طائفته يف ال�سيا�سة واالجتماع والأخالق ،هو الذي بات متحرراً ،انتزع �أمرة نف�سه من الطائفة التي ولد يف �أح�ضانها وتربى على ثقافتها .حريته متنحه اال�ستقالل وتعزز فرديته .الأفراد يف الطوائف قطعان. الروابط الطائفية متينة جداً .الطائفي كائن ٍ مكتف بطائفته .ال ي�شعر بتمام وجوده �إال يف انتمائه �إىل جماعته .يرثها فكراً وممار�سة .ي�ساهم يف الدفاع عن طائفيته� ،سيا�سياً و�إدارياً واجتماعياً وثقافياً ،ويتج ّند للذود عن طائفته كلما دعت احلاجة ،وهو ال يجتهد يف تنفيذ القرارات وم�سالك االجتاهات التي يتخذها القادة .قد يتذمر ولكنه يطيع .قد ينتقد ولكنه ميتثل� .إن منتم وجودي وعن جد .ي�ساهم يف خرج عن �أو من طائفته ،وجد نف�سه عارياً يف عراء� .إنه ٍ تقوية طائفته وين�صرها على غريها .ال يقيم وزناً لالعتبارات الأخالقية �أو للقيم .هو مع طائفته ظاملة �أو مظلومة .الأزعر عنده يف طائفته �أف�ضل �ألف مرة من الآدمي يف غري طائفته ،وهو ي�شعر باالن�سجام مع نف�سه وحميطه ،ويدافع عن التزامه من دون �أن ي�شعر بعقدة نق�ص .هذا هو الطائفي عن جد .الطائفيون االنتهازيون هم امل�ستفيدون من الطائفية ي�ستخدمون الطائفية 29
عندما تنا�سب م�صاحلهم وال يخدمونها �إذا �أ�ض ّرت مب�صاحلهم. ف�ضيلة العلماين نقاوة من هذه اللوثة� .أناة بريئة .متحرر ونقدي وقلق .لكنه يحتاج �إىل انتماء عرب رابط بجماعة .البديل عن الرابطة الطائفية هي الروابط االجتماعية املفتوحة �أو االنتماء �إىل اجلماعة العلمانية. ق ّلما جند هذه الرابطة عند العلمانيني الأحرار .يكتفون بفرديتهم العلمانية وال يلتزمون �إال نادراً بجماعات علمانية .و�إن التزموا ما �أطاعوا .مل تعد الأحزاب العلمانية جذابة بل هي منفرة .ف�ضيلة العلماين فرادته يف جمتمع التجمعات الطائفية وا�ستقالل قراره .خطيئته �أنه ي�أبى االلتزام الذي فر�ض عليه الت�أليف مع جماعة ،لذلك ،جند يف لبنان �شك ًال من العلمانيني الذين يختلفون على تفا�صيل التفا�صيل ،وهم لي�سوا دميقراطيني �إال بالكالم. Vـ لبنان خملوق طائفي فقط
لكيان لبنان م ّربر مفرد لوجوده .هو ملج�أ للطوائف يف البدء .كان مالذاً للم�سيحيني اخلائفني من حميطهم ،اخلارجني من حرب مدمرة وفتنة قا�سية� :إبان القائمقاميتني التقت طموحات ومطامع الفرن�سيني يف �أن يكون لهم موقع قدم يف ال�شرق ،مع امل�سيحيني اخلائفني واملطالبني بعناد بجبل ّ م�ستقل وماروين .لوال ذلك ،لكان لبنان هذا مقاطعة من املقاطعات العثمانية ،فالعربية. لبنان نا�ضل الطائفيون بدعوى �أن لبنان الفينيقي ما زال موجوداً ،برغم التبدالت واالنقالبات والغزوات ...هم اقتنعوا بهذا و�سعوا �إليه .لبنان هذا كان ب�سبب امل�سيحيني املوارنة .هم طالبوا به ،فيما كان الآخرون غائبني �أو مطمئنني �إىل �أنهم �إما مع الإ�سالم� ،أو مع العروبة� ،أو مع �ضم الأق�ضية الأربعة الوحدة .انت�صر املوارنة ب�إقامة كيان� ،أكرب من حجم طائفتهم ،وذلك عرب ّ وعدد من مدن ال�ساحل. لبنان ال �شبيه له يف حميطه حتى اندالع احلروب يف امل�شرق العربي يف الع�شرية الثانية من القرن الع�شرين .الطائفية لي�ست فيه بل يف �أ�سا�سه وال �أ�سا�س للبنان من دونها. ولأنه كذلك ،ف�إن ح ّرا�س الهيكل حري�صون جداً على ح�صر ال�سيا�سة والإدارة يف �أنحاء �أن�شطته. ال �سيا�سة خارج الطائفية ،وال �إدارة كذلك .لقد كانت الطائفية �أقل وط�أة يف ما قبل اال�ستقالل، بعده انتظمت وهد�أت� ،إىل �أن حترك الإقليم حول ق�ضايا قومية وحتديداً بعد العدوان الثالثي 30
ملف العلمانية /درا�سات
على م�صر وانتهاج كميل �شمعون �سيا�سة معادية لعبد النا�صر ،فاختلت «الال�آن» :ال للغرب وال للوحدة� .أما ع�شية احلرب يف 1975فقد كانت الطائفية على �سالحها ،وكل �سالح يدافع عن طائفته ،لقد بلغت الطائفية بعد احلرب مرتبة غري م�سبوقة يف املمار�سة ف�أ�ضحت هي الآمر الناهي ،وانتظمت احلياة ال�سيا�سية بني تكتالت طائفية نقية ،ما �أدى �إىل بدعة «الأرثوذك�سي» حيث يكون لكل طائفة ا�ستقاللها االنتخابي وما يتفرع عن ذلك من ح�صرية التمثيل ونقاوته، مانعة يف ذلك �أي ت�س ّرب وطني �أو علماين �أو الطائفي. من الأ�سا�س ،مل يكن لبنان �إال طائفياً� ،إمنا كانت طائفيته ملرحلة م�ؤقتة ي�صار �إىل �إلغائها بعد فرتة .كان ذلك وهماً .ال ميكن الركون �إىل الطائفية الطائفيني وال يقبل �أبداً �أن يلغي الطائفي ذاته بقرار منه .لذا ،تقدمت الطائفية ال�صفوف ،نابذة غريها ،والغية �أية �إمكانية لتطوير النظام باجتاهات غري طائفية .ومل يكن الالطائفيون والعلمانيون بقوة احتاد الطوائف املتنازعة ،لذلك مل يكونوا ذوي ت�أثري يف امل�سار اللبناين .وملا �شعروا بتق�صريهم اختاروا االلتحاق بالركب الطائفي. لي�س للعلمانيني حلفاء �إقليميون �أو دوليون بينما حتظى الطوائف برعايات ودعم وت�أييد ون�صرة عدد من الدول العربية والأجنبية .لل�سنة امتدادات عابرة للحدود :م�صرية ،فل�سطينية، �سعودية .لل�شيعة �أذرع متتد �إىل �إيران وال�شام والعراق و�سواها .للم�سيحيني امتدادات تقل�صت مع الزمن مع �أوروبا وفرن�سا �سابقاً و�سواها الحقاً .تبدو الطائفة امل�سيحية مت�ش ّبثة بح�صنها يف الكيان وم�ص ّرة على بقائها الركيزة الأ�سا�س نظراً �إىل فقدانها الدعم املطلق الذي حتظى به الطوائف الإ�سالمية .وعليه ،ف�إن التغيري يف لبنان حماولة عقيمة جداًّ ، جل ما يرقى �إليه ال�صراع الواقعي ،هو حت�سني الأداء الطائفي ،وملثل هذا الطموح املتوا�ضع ما ال ُيح�صى من التعقيدات. املرحلة الراهنة هي مرحلة ا�ستفحال املذهبية والطائفية يف لبنان وحميطه الذي فتح �أبواب اجلحيم عليه ،عرب تب ّنيه العنف. هل هذا يدعو �إىل الي�أ�س؟
ال�سلوك العلماين يدعو �إىل �أكرث من الي�أ�س ال مف ّر �أمام العلمانيني �سوى �أن يكونوا علمانيني، ب�شرط �أن ت�أتي علمانيتهم واقعية ومتدرجة وقابلة ب�أن تخطو خطوات �صغرية� ،إن �إجنازاً مثل �إجناز 31
االعرتاف بالهوية العلمانية للعلمانيني� ،أي بحذف الإ�شارة �إىل الطائفة يف �سجل النفو�س ،يفتح الطريق �أمام تكاثر العلمانيني احلقيقيني امل�ستقيلني من طوائفهم وعنها ،ويفر�ض عليهم و�ضع برنامج لتحقيق موجبات تطبيق علمانيتهم ،من داخل النظام الطائفي� ،إمنا �ضده وعرب معار�ضته لإلغائه .العلمانية خطوة خطوة .هي الطريق الواقعية للح�ضور العلماين الفعلي وامليداين. كل حماوالت قلب النظام الطائفي بهدف �إقامة نظام علماين فا�شلة ال بل كاذبة .الوقائع ت�صدق على ذلك .مل يحدث �أبداً �أن قامت حركة بهذا االجتاه .حماولة احلركة الوطنية ثم اغتيالها عربياً .لبنان هذا الطائفي جداً �ضرورة عربية .دائماً كانت اجليو�ش من كل االجتاهات ،حت�ضر �إىل لبنان ل�صيانة نظامه .حتى �إبان احلرب اللبنانية ،كانت تعقد حوارات يف الداخل وجلان يف اخلارج ،واتفاقات متعددة ،ال ُيدعى �إليها �أي فريق �أو حزب علماين .الطائف منوذج .االتفاق ق�صون عن امل�سرح ال�سيا�سي .يلزم �أن يح�ضروا كماً الثالثي منوذج برعاية �سورية .العلمانيون ُم َ ونوعاً ،با�ستقالل تام عن الطائفية. ال بد من القطيعة مع النظام و�أهله ومطالبة هذا النظام بحقوق الوجود احلر .عندما ي�صبح العلمانيون كماً ونوعاً كتلة مرتا�صة ب�أحزاب �أو من دونها� ،ستكون رحلة الألف ميل قد بد�أت. ال�سيا�سة ت�أخذ بعني االعتبار القوى املوجودة .من لي�س موجوداً ال قيمة له ،ولأن العلمانيني غري موجودين ،ف�إنهم فرادى يائ�سون ،وجتمعات يائ�سة و�أن�شطة تدعو للرثاء. هذا النظام ّ يدك من �أ�سا�سه� .أ�سا�سه االلتزام الطائفي .ودك هذا الأ�سا�س يبد�أ باالن�سحاب من الطائفية واعتبارها خ�صماً تلزم هزميته يف مناحي احلياة كافة ،ت�أ�سي�ساً على لوائح حقوق الإن�سان ،التي هي دين املجتمع اجلديد. �إىل �أن يح�صل �شيء من ذلك� ،أمامنا فر�صة التفكري والعمل بطرق جديدة و�أ�ساليب جديدة. الأ�ساليب الدعائية واخلطابية والكتابية القدمية بائدة وفا�شلة .املطلوب خطوة قبل الفكرة، واخلطوة تليها خطوات� .إننا حمكومون بهذا الأمل .و�إن احلياة العلمانية ت�ستحق �إبداع و�سائل جديدة للبدء مب�سريتها. ع�سى! 32
ملف العلمانية /درا�سات
إميان "ما بعد العلمانية"... � ُ
حممود حيدر -مفكر وباحث يف الفل�سفة ال�سيا�سية – رئي�س مركز دلتا للأبحاث املعمقة – بريوت
م َّر تاريخ كامل ا�ستح َّلت فيه عبار ُة "�إزالة ال�سحر عن العامل" (َ )désenchantement عقل حتولت مع احلداثة الغرب ّية برمته .كان الدين على وجه احل�صر هو املق�صود من العبارة التي ّ تقادم الزمن �إىل ما ي�شبه الأيقونة الأيديولوجية. مل يكد القرن الع�شرون يطوي �سج ّله َّ املكتظ بالأفكار والأحداث واحلروب الكربى ،حتى َقفَل الغرب عائداً �إىل �أ�سئلة بدئية طواها �سحر احلداثة و�ضجيجها .من �أظهر تلك الأ�سئلة الديني" .وما كان الق�صدُ من ما عك�سته مناخات اجلدل امل�ستحدث يف ما �أُ�سمي "رجوع ّ "رجوع الديني" هنا� ،إال الإعراب عما ّي�سفر عنه �س�ؤال الدين من �أث ٍر مبني يف ثقافة الغرب ِّ ال�صماء .مل يفارق الدين �أر�ض احلداثة �سحابة القرون اخلم�سة من عمرها املُثقلة ب َعلمانيتها َّ املديد .كذلك مل يغادر هواج�س الغرب وتعقُّالته ،ال يف حداثته الأوىل ،وال يف �أطواره ما بعد احلداثية .ك�أمنا قد ٌر ق�ضى �أن ّ يظل الدين باعث احلراك يف الفل�سفة والفكر والثقافة واالجتماع. حتى لقد بدا �أ�شب َه مبر�آة �صقيل ٍة َيظهر على �صفحتها املل�ساء ُح�سن احلداثة املزعوم .فالدين ـ على ما يبينّ فال�سفة التنويرـ مل ُيك ّف عن كونه وظيفة �أبدية للروح الإن�ساين .لهذا راحوا ين ّبهون �إىل �ضرورة �ألاَّ تتنازل الفل�سفة يوماً عن حقّها يف بحث امل�شكالت الدينية الأ�سا�سية وح ِّلها. كان فيل�سوف الدين الرو�سي نيقوال برديائيف يرى �أن لليقظات الفل�سفية دائماً م�صدراً دين ّياً .ولقد نال من كالمه هذا الكثري من النعوت املذمومة ممن جا َي َلهم من علماء املارك�سية ظل على قناعته ب�أن جه ًال مطبقاً وفال�سفتها .لكنه رغم َ�س ْي ِل االنتقادات التي انهمرت عليهّ ، �ضرب العقل الأوروبي حيال الدين .كان برديائيف يدعو على الدوام �إىل التب�صر بالإميان الديني مبا هو حالة فوق تاريخية ال ي�ستطيع العقل العلماين �أن ُيقاربها بي�سر .بل �إنه �سيم�ضي 33
يف مطارح كثرية من م�ساجالته �إىل ما هو �أبعد من ذلك .فقد �أعرب عن اعتقاده ب�أنّ الفل�سفة أ�شد م�سيحية يف جوهرها من فل�سفة الع�صر الو�سيط. احلديثة عموماً ،والأملانية خ�صو�صاً ،هي � ّ حيث نفَذت امل�سيحية ـ بر�أيه ـ �إىل ماهية الفكر نف�سه ابتدا ًء من فجر ع�صور احلداثة. *** "رجوع الديني" ،هو بال ريب ،عنوان �إ�شكا ّيل له تداعياته العميقة على املفاهيم والأفكار والقيم التي جتتاح املجتمعات الغربية اليوم .من التداعيات ما ينربي �إىل تداوله جم ٌع من فال�سفة ومفكري الغرب �سعياً للعثور على منظور معر ّيف ُينهي االخت�صام املديد بني الدين والعلمنة .الذي ت�سالمَ َ عليه اجلم ُع يف ما ُعرف بنظرية "ما بعد العلمانية" ،هو �أحد �أكرث النوافذ املُقرتحة ح�سا�سية يف هذا االجتاه .ما يع ّزز �آمال القائلني بهذه النظرية �أن �أوروبا الغنية باملرياثني العلماين والديني قادر ٌة على �إبداع �صيغة تناظر تجَ م ُع املرياثني معاً بعد فِرقة طال �أمدها .رمبا هذا هو ال�سبب الذي لأجله ذهب بع�ض ِّ منظري "ما بعد العلمانية" ـ ومنهم الفيل�سوف الأملاين مرجعي يح�ضن �أهل الديانات و�أتباع العلمنة يورغن هابرما�س ـ �إىل وجوب تخ�صي�ص �إطار ّ �سواء ب�سواء ،بغية العي�ش املتناغم يف �أوروبا تعددية. ُ �شغف الت�سا�ؤل حول �صريورة االحتدام الديني العلماين وم�آالته ،مل يتوقف عند هذا املفرق. كان ثمة منحى �آخر ترتجمه امللتقيات احلميمة بني اَّاللهوت والفل�سفة .واللقاء املثري الذي جمع قبل ب�ضعة �أعوام البابا بينيدكتو�س ال�ساد�س ع�شر �إىل الفيل�سوف هابرما�سَّ ، �شكل يف العمق �أحد �أبرز منعطفات التحاور اّ اخللق بني الإميان الديني والعلمنة يف �أوروبا .ومع �أن عما ميكن اعتبا ُره ميثاقاً �أول ّياً للم�صاحلة بني التفكري الالهوتي والتفكري اللقاء مل ُي�سفر يومئذٍ ّ العلماين� ،إلاّ �أنه �أطلق جد ًال قد ال ينتهي �إىل م�ستق ّر يف الأمد املنظور. اللقاء الفريد بني الرجلني ،ظ ّهر امل�س َّلمات التي ينبغي ال ُ أخذ بها لتح�صني كرامة الإن�سان يف حد التهافت .وجد هابرما�س يف العقل العملي لـ"الفكر ما زمن بلغت فيه اختبارات احلداثة َّ بعد امليتافيزيقي العلماين" نافذة جناة .بينما وجده البابا بنيديكتو�س يف الإن�سان كمخلوق �إلهي .يومها اعرتف هابرما�س با�ستعداد الفل�سفة التع ُّلم من الدين .كان ل�سان حاله يقول: 34
ملف العلمانية /درا�سات
فليهتم الفيل�سوف بالإميان ما دام العقل مل ي�ستطع الق�ضاء على الوحي يف ف�ضاء علماينّ ، عو�ض اال�ستمرار يف احلرب معه .ثم �أ�ص َّر على �ضرورة �أن تو َيل الدولة امل�ش ِّرعة للقوانني كل الثقافات والتمثُّالت الدينية عنايتها ،و�أن َ �سماه بالوعي تعرتف لها بف�ضاء خا�ص يف �إطار ما ّ ين" للمجتمع� .أما �إجمايل ما ذهب �إليه البابا فهو دعوته �إىل حت�صني احل�ضارة "ما بعد العلما ّ الغربية املعا�صرة عرب خم�س ركائز :التعاون بني العقل والإميان ،مواجهة التحديات اجلديدة التعدد الثقايف كف�ضاء الرتباط العقل احلق الطبيعي ّ التي تواجه الإن�سان ،فكرة ّ عقليّ ، كحق ّ ّ والإميان ،العقل والإميان مدع ّوان لتنظيف و�إ�شفاء بع�ضهما البع�ض. لو كان لنا من عرب ٍة ُت�ستخ َل ُ�ص مما �أبداه الرجالن ،لقلنا �إن ما ح�صل هو �أ�شبه ب�إعالن ينبئ غربي كامل من اجلدل املزمن حول "بِدعة" االخت�صام بني الوحي والعقل. بان�صرام تاريخ ّ *** م�ستجدة يف التفكري الغربي ب�شق ّيه العلماين والالهوتي .جترب ٌة تتغ َّيا ما بعد العلمانية �إذاً ،جتربة ّ حد لالحرتاب املديد بني ّ خطني متعاك�سني� :إما الإميان املطلق بقوانني اّاللهوت و�سلطاته و�ضع ّ املعرفية ،و�إما الإميان مبطلق العقل املح�ض وما يقرره من �أحكام الدينية لفهم العامل. لئن َّ دل ّ حتول غري م�سبوق يف التفكري "املا بعد حداثي" بجناحيه كل ذلك على �شيء ،فعلى ّ الديني والدنيوي .مثلما ي�شري �إىل وجود منف�سحات معرفية ذات وزن داخل البيئة الغربية كانت وال تزال ترى بهدوء موقعية الإميان احلا�سمة يف وجدان الأفراد واحل�ضارات .لقد �أ�سفرت هذه املنف�سحات عن �أم ٍر ذي داللة جوهرية يف التحول امل�شار �إليه� :أن لي�س ثمة من ت�ضاد بني الإميان يف طبيعته احلقيقية ،والعقل يف طبيعته احلقيقية .و�أن لي�س ثمة �صراع جوهري بني الإميان بالوحي والوظيفة الإدراكية للعقل .ومتى ُف ِه َم ذلك على النحو الأ ّمت، ظهرت ال�صراعات ال�سابقة بني الإميان والعلم يف �ضو ٍء خمتلف متاماً .فال�صراع يف حقيقته مل بعده احلقيقي .من قبيل املثال وعلم ال يعي كل منهما َ يكن بني الإميان والعلم ،بل بني �إميانٍ ٍ غري احل�صري :مل يكن ال�صراع ال�شهري بني نظرية التطور الداروينية ،والهوت بع�ض الطوائف علم يجرد �إميان الإن�سان من �إن�سانيته ،و�إميان امل�سيحية �صراعاً بني العلم والإميان ،بل �صراعاً بني ٍ 35
ح ّوله الهوت ال�سلطة �إىل �أيديولوجيا ،ومن ث ََّم �إىل حرب مفتوحة على العقل. مبتدئِها �إىل خربها .فلو عاي َّنا لقد �سرى �س�ؤال الدين يف الغرب م�سرى خطبة احلداثة من َ قلي ًال منها ،ال �سيما الفل�سفي وال�سو�سيولوجي ،لعرثنا بي�سر على �أ�صلها الديني .كما لو كان من �أمر احلداثة حني �أرادت تظهري غايتها الكربى� ،أن تتخذ لنف�سها �صف ًة متعالية .رمبا هذا هو ال�سبب الذي ُنظِ َر فيه �إىل احلداثة وما بعدها ،كظاهرة ميتافيزيق ّية رغم دنيويتها ال�صارمة. فاحلداثة من قبل �أن ت�ش َرع �سيوفها �ش َرعت �أ�سئل َتها .وهي �أول ما �س�ألت� ،سا َء َلت الكني�سة امل�سيحية كخ�صيم لها بال هوادة .لكنها حني م�ضت يف ال�س�ؤال لتمنح نف�سها بع�ض اليقني، هبطت �إىل عمق الزمان الديني .مل تفعل احلداثة ما فعلت �إال عن �أمر مت� ِّأ�صل يف ذاتها .فقد ال�ضاجة بالكامن الديني .وغالباً ما ان�صرفت �إىل امل�سيحية يعرب عن �سريتها ّ "ا�ستفرغت" ما ُ القد�سي ومزاياه� ...أو رمبا لأنها بحثت عن حلاجتها �إىل متعالٍ ُي�ضفي على �أزمنتها ف�ضائل ِّ اعتالئها الأر�ضي فلم جتده �إال يف ف�ضاء الدين .لذا كان عليها �أن تهيمن على معنى امل�سيحية لتقوم مقامه� ،أو لرتتدي بوا�سطته لبو�س الف�ضيلة .لهذا الداعي ـ على غالب الظن ـ تناهى لنا كيف بدت �أ�سئلة احلداثة و�أفعالها حممولة على �أجنحة امليتافيزيقيا. من�ش�أ املفارقة �أن �س�ؤال احلداثة ،جاءنا بالأ�صل من حقول امل�سيحية الوا�سعة؛ ف�إنه بهذه الداللة وليدها ال�شرعي .بل �إن �سرية احلداثة مع امل�سيحية كانت �أ�شبه بديانة خرجت من ديانة عا�صرتها ،ثم �سبقتها ،ثم من بعد �أن ارتوت من عداوتها لها عادت لتحاورها ولو على كيدٍ ُم�ضْ مرٍ. ت�صدت الفل�سفة املعا�صرة لتجيب على ال�س�ؤال ال�صعب حول امل�آل الذي ميكن �أن ُي�سفر حني ّ عنه اللقاء احلذر بني الإميان الديني والعلمنة ،مل ت�ستطع الف�صل بني خ�صمني انحكم �إليهما الغرب جي ًال �إثر جيل .مع ذلك مل ت�ستيئ�س الفل�سفة من متاخمة الف�ضاءات الق�صوى لأ�سئلة الدين .فمن خ�صائ�ص التفل�سف ـ على حدِّ درايتنا ـ �أن كل �س�ؤال يولد نتيجة عالقة بني ال�ضدين معاً .و�أن كل �س�ؤال يحيط دائماً مبجمل �ضدين ،و�أن عنا�صره تت�شكل من هذين َّ َّ �إ�شكالية الف�ضاء الذي منه جاء ،ويكون يف ّ كل مرة هو هذا املجمل نف�سه .وعلى هذا النحو ال ميكن ل ّأي �س�ؤال ميتافيزيقي �أن ُيطرح ـ كما يبينّ مارتن هايدغر ـ من دون �أن يكون ال�سائل 36
ملف العلمانية /درا�سات
�ضمناً ـ يف ال�س�ؤال� ،أي عالقاً يف هذا ال�س�ؤال. نف�سه ـ ُم َت َّ *** لقد َّ حطت املنازع ُة بني احلداثة والكني�سة على �أر�ض الف�صل بني "دنيوية العلمنة" وجوهر امل�سيحية .مل تتوقف "العلمانية احلادة" ملّا نازعت الكني�سة مقامها ،على احتكار قيم ال�سيا�سة واالجتماع وو�ضع نظريات الدولة .ف�إذا بها ،مت�ضي �إىل نهاية الرحلة لتنقلب على الكني�سة، و ُتطيح الهوتها ال�سيا�سي ،وحتكم على ادعائه احلقيقة بالبطالن .بل �إنها �ستذهب م�سافة �أبعد يف املواجهة ،لتفتح باب امل�ساءلة ،جممل ما �أجنزته الفل�سفة احلديثة يف �صعيديها القيمي حتولت مقولة الواجب عند كانط �إىل جم ّرد طاعة مطلقة لنظام والأخالقي .مثال ال ح�صرّ : الدولة /الأمة و"�أمريها احلديث" .ذاك الذي نزع من احلداثة �أخالقها حني �أفرغها من جوهرها امل�سيحي ،ثم وا�صل "�ضراوته" حتى �أو�شك على �ألاّ يبقي من الكني�سة �سوى حجارتها ال�صماء. ّ كانط نف�سه مل تو ِّفره �سيوف احلداثة .فقد جاء �شغفُه بالتفكري النقدي ليفتح على ممار�سة فل�سفية ال ُتبقي منجزات التنوير يف من�أى من النقد .كانت غاية "ناقد العقل اخلال�ص" ،موقوفة على كائن ٌ عاقل ،ومبا �سعيه حلفظ الأنوار العقلية بالأخالق العملية .وكذلك على ر�ؤيته ب�أن الإن�سان ٌ �أنه ٌ أخالقي فهو كائن د ِّي ٌن. عاقل فهو ٌ كائن � ٌّ أخالقي ،ومبا �أنه � ّ ملا انت�صرت احلداثة على ال ّالهوت ،وابتنت علمانيتها احلا ّدة بعقل بارد ،راحت تنظر �إىل الكني�سة بو�صفها ناب�ض �إرجاع للزمن ،و�إىل امل�ؤمنني بو�صفهم كائنات �أ�سطورية ُتغ ِر ُق العا َمل بالظلمات .لكن يبدو �أن تلك النظرة طفقت تته َّي�أ ملنقلب �آخر� .صحيح �أن احلداثة انت�صرت على ال ّالهوت ،لكنها مل ت�ستيقظ من نوام انت�صارها بعد .كان الفرن�سيون يقولون �إن جمهوريتهم مل تنت�صر �إال بدحر الكني�سة ،لكنهم مل يلبثوا �أن �أدركوا �أن هذا الن�صر كان �أ�شبه بانت�صار فرن�سا على ن�صفها الآخر. ثمة من �ش َّبه م�آالت ما بعد احلداثة بتلك ال�صورة املن�سوبة �إىل جاهلية القرون الو�سطى .وقد حداثي" .وهذا بال�ضبط عنى بها تلك اجلاهلية امل�ست�أنفة هذه امل ّرة بردا ٍء تكنولوجي "ما بعد ّ ّ 37
�صب جام نقده على حداث ٍة باتت مهوو�سة ما ق�صده الالهوتي الأملاين ديرتي�ش بونهوفر حني َّ حتول فيها �س ّيدُ الآلة �إىل عبدٍ لها ،وانتهى حت ّرر اجلماهري بعا ٍمل �صار عبداً لأهوائه و�أ�شيائه .حداثة ّ �إىل رعب املق�صلة .والقومية انتهت �إىل احلرب ...وتف َّتحت مع احلداثة �أبواب العدمية". *** عما �إذا كان الغرب �سيتحول �إىل جمتمع بال دين .ت�سا�ؤل لزمن لي�س ببعيد كان ثمة ت�سا�ؤل ّ مرير ملأ تاريخ الكني�سة الكاثوليكية املعا�صرة ،من البابا بول�س ال�ساد�س يف ال�ستينيات� ،إىل يوحنا بول�س الثاين يف الثمانينيات والت�سعينيات ،و�صو ًال �إىل البابا امل�ستقيل بنديكت ال�ساد�س ع�شر فالبابا احلايل فران�سي�س. ال�صورة الراهنة للت�سا�ؤل املذكور َتظهر يف �أكرث حلظاتها غ�شاوة .مل يعد العقل الذي ابتنت عليه احلداثة منجزاتها العظمى على امتداد قرون مت�صلة ،قادراً وب�أدواته املعرفية امل�ألوفة ،على "قد�ست" م�سالكها مواجهة عامل ممتلئ بال�ضجر واخل�شية وا ّلاليقني .وما عادت العلمنة التي َّ ونعوتها و�أ�سما َءها قادرة على موا�صلة م�شروعها التاريخي عرب ا�ستئناف عداوتها للإميان الديني. �أما حني انتهى ما بعد احلداثة �إىل احلديث عن الإن�سان الأخري وعن موته ،ف�إنها مل تكن لتفعل بيوم ُت�ستعاد فيه الإن�سانية على ن�ش�أة اجلمع بني �أفق الألوهة ذلك �إال لتك�شف عن رغبة كامنة ٍ و�أفق الأن�سنة على ن�صاب واحد.
38
ملف العلمانية /درا�سات
العربي املعا�رص العلمانية يف الواقع ّ ّ د�.أ�سامة �سمعان -باحث وحما�ضر جامعي
مق ّدمة:
ّ متعددة، ت�شكلت يف العامل العربي �أقل ّيات دين ّية وطائف ّية و�أثن ّية ،عرب ظروف تاريخ ّية يف مراحل ّ ذاتي يعود �إىل ظروف ن�شوء املذاهب الإ�سالم ّية وال�صراعات ا ّلتي رافقتها ،ومنها ما منها ما هو ّ العربي طلباً للأمن .وقد ا�ستوعبت ال�شّ عوب العرب ّية هو خارجي ن�ش�أ بفعل الهجرات �إىل العامل ّ ّ ومدت يدها مل�ساعدتها ،واعتربتها جزءاً منها با�ستثناء الهجرة اليهود ّية جميع هذه الهجراتّ ، بخا�صة وال�شعوب العربية بر ّمتها بعا ّمة، ال�س ّ وري ّ املعا�صرة ،التي �شكلت اعتدا ًء على ال�شعب ّ الفل�سطيني من وطنه، العربي بنهجها اال�ستيطا ّ ال�س ّ ين الذي يقوم على تهجري ال�شّ عب ّ ّ وري ّ اليهودي مكانه ب�سيا�سة ال ّتوطني ،وهي هجرة رف�ضها �شعبنا وال يزال يقاومها. وزرع ّ ال�سور ّية -امل�صر ّية ،1961وتنامي الت ّيارات �إزاء تراجع الفكرة القوم ّية غداة �سقوط الوحدة ّ املذهب ّية والطائفية والإثنية يف العامل العربي ،وما رافقها من حروب �أهل ّية ال تزال نا ُرها م�شتعلة يحدث يف ليبيا عما ُ أمريكي عام ،2003ويف �سوريا منذ ،2011ناهيك ّ يف العراق بعد الغزو ال ّ اليوم ،واحلرب ّ ال�سعود ّية عليه بخلف ّية طائف ّية – �سيا�س ّية، ال�ضرو�س على اليمن التي ت�ش ّنها ّ ف�إنّ بحث مو�ضوع العلمانية ي�أتي يف غاية الأهمية ،كونه ال�سبيل ملعاجلة خمتلف الأو�ضاع ال�صهيون ّية والإمربيال ّية. املت�أ ّزمة بهدف �إقامة وحدة قومية ،ومواجهة التحد ّيات اخلارج ّية ّ رئي�س من �أقطاب الفكرة القوم ّية� ،إذ بدونها ال ي�ستقيم واقع وملّا كانت العلمان ّية هي ٌ قطب ٌ قومي ،وملّا كانت الأمم العربية قد بلغت حالة اخلطر احلقيقي ،الأمر الذي ي�ستدعي و�ضع ّ نه�ضوي للعامل العربي ،مما دفع الباحث �إىل تبيان م�ستوى العلمانية يف الواقع العربي م�شروع ّ الر�سمي. العربي املعا�صر ملعرفة الواقع ّ القومي على م�ستوى النظام ّ ّ 39
حليلي ،مبتعداً قدر الإمكان اريخي ب�شقيه الو�صفي وال ّت ّ ّ وقد اعتمد الباحث منهج البحث ال ّت ّ اريخي� ،إلاّ يف حاالت ال�ضرورة الق�صوى ،م�ستخدماً امل�صادر واملراجع العرب ّية عن ّ ال�سرد ال ّت ّ والأجنب ّية. العربي املعا�رص العلمانية يف الواقع �أوالً :مفهوم ّ ّ
ُت�ش ّتق عبارة العلمانية من ال َعلم ( بفتح العني) والعامل الدنيوي ( ،)1الذي ي�صنع تاريخ الب�شر ب�أنف�سهم ،الب�شر املع ّرفني بالعمل ،والإنتاج بالعقل واملعرفة واحلر ّية .الذين "يدخلون حمددة و�ضرورية وم�ستقلة عن �إرادتهم ،وهي عالقات �إنتاج تطابق درجة معينة يف عالقات ّ من تطور قواهم الإنتاجية املاديةّ ، االقت�صادي وي�شكل جمموع عالقات الإنتاج هذا البنيان ّ و�سيا�سي و�أ�شكال ين علوي قانو ّ ملجتمعّ � ،أي ي�شكل الأ�سا�س احلقيقي الذي يقوم فوقه �صرح ّ ّ اجتماعية ،ف�أ�سلوب �إنتاج احلياة املادية هو �شرط العمل ّية االجتماع ّية وال�سيا�س ّية والعقلية يحدد وجودهم ،ولكن وجودهم االجتماعي هو للحياة بوجه عام ،لي�س وعي النا�س بالذي ّ الذي يحدد وعيهم"(.)2 وت�ستمد العلمان ّية م�شروعيتها من التناق�ض بني رجال العلم واملفكرين العقالنيني من جهة ّ وبني الالهوتيني واملدافعني عن التقدي�س وعن الدين� ،سدنة احلقيقة املطلقة من جهة ثانية، كتعبري عن ال�صراع االجتماعي ال�سيا�سي ،الذي يخرتق التاريخ الب�شري. 1ـ العلمانية يف املفهوم ال�سيا�سي الإ�سالمي -العربي:
يرى الإ�سالم ال�سيا�سي املعا�صر بجميع فروعه يف العلمانية فكرة �أوروبية ،من حيث املن�ش�أ التاريخي واحلل ال�سيا�سي واالجتماعي� ،إذ �أنها مل تكن فقط الرد الطبيعي الأوروبي على ا�ستبداد الكني�سة ،بل �أي�ضاً ّ احلل ال�صحيح والطبيعي يف �إطار احل�ضارة امل�سيحية ،وحيث �أن -1يرى الدكتور عزيز العظمة أن اشتقاق عبارة علامنية (بفتح العني) ،اشتقاق غري سليم ،ولذلك اعتمد يف كتابه املعنون العلامنية من منظور مختلف ،عبارة العلامنية (بكرس العني) .راجع :العظمة ،عزيز .العلامنية من منظور مختلف ،مركز دراسات الوحدة العربية ،بريوت ،2008 ،ص 18 -2ماركس ،كارل .نقد االقتصاد السيايس ،ترجمة راشد الرباوي ،دار النهضة العربية ،القاهرة ،ص . 8 - 7 40
ملف العلمانية /درا�سات
امل�سيحية هي ديانة روحية لي�س بها ت�شريع مدين ،حلكم الدولة و�سيا�سة املجتمع ،ف�إن الدولة يف ظل الديانة امل�سيحية ال ّبد من �أن تكون علمانية تف�صل الدين عن الدولة. �أما احل�ضارة الإ�سالمية فال تعترب فقط الدعوة �إىل العلمانية تقليداً للغرب وتبعية حل�ضارته، بل هي عدوان على الدين الإ�سالمي .لأن الدين الإ�سالمي هو عقيدة و�شريعة ودين ودولة، ولي�س جم ّرد ر�سالة توحيدية ،فالدولة يف الإ�سالم عك�س امل�سيحية ال ي�ستقيم لها �أن تكون علمانية ب�أي حال من الأحوال (.)1 توحد ال�سلطة ال�سيا�سية مع ال�سلطة الدينية �ضد الإن�سان، ي�ستند هذا املفهوم �إىل عقلية ّ كونهما تعتمدان على التنزيل ،تنزيل الأمر من ال�سلطة �إىل ال�شعب ،وتنزيل املعرفة من ال�سماء �إىل الأر�ض مع ت�ضمني �إلغاء حق املراجعة واملناق�شة واحلوار .كما ت�ستند �إىل عقلية وخا�صة الأحاديث املوجهة لل�سلوك والأذهانّ ، تكفري املعار�ضة الذي �شاع بفعل الأحاديث ّ املو�ضوعة لغايات �سيا�سية و�أيديولوجية واجتماعية ،كحديث "امللة الناجية" ف�أ�صبحت "كل الفرق ال�ضالة هي ّ كل �أنواع املعار�ضة لل�سلطة القائمة ،كما �أ�صبحت الفرقة الناجية هي حزب احلكومة" (.)2 فيتج�سد هذا ويعود املفهوم الإ�سالمي للعلمانية �إىل �سلطوية الت� ّصور ،ومركزيته ،و�إطالقه، ّ الت�صور بالزعيم الأوحد ،واملنقذ الأعظم ،والقائد املُلهم ،واحلاكم الفرد ،الذي ك ّلما زاد �صلفاً وكرباً وغطر�سة وبط�شاً ،ازداد املحكومون ذلاّ ً وهواناً� .إنه الت� ّصور الذي يعطي القمة كل �شيء وي�سلب القاعدة كل �شيء ،فينق�سم الب�شر �إىل عل ّية القوم و�إىل عوام ،وه�ؤالء العوام بنظر الكواكبي " ..هم قوت امل�ستبد وقوته ،بهم عليهم ي�صول وبهم على غريهم يطول ،ي�أ�سرهم فيته ّللون ل�شوكته ،ويغ�صب �أموالهم فيحمدونه على �إبقاء احلياة ويهينهم فيثنون على رفعته، ويغري بع�ضهم على بع�ض فيفتخرون ب�سيا�سته ،و�إذا �أ�سرف �أموالهم يقولون عنه كرمي ،و�إذا -1عامرة ،محمد .يف :الشوميل ،جربا .العلامنية يف الفكرة العريب املعارص ،دراسة حالة فلسطني ،مركز دراسات الوحدة العربية ،بريوت ،2008 ،ص. 20 : -2حنفي ،حسن .يف :مجموعة من الباحثني ،الدميقراطية وحقوق اإلنسان يف الوطن العريب ،مركز دراسات الوحدة العربية، ط ،4بريوت ، 1998 ،ص .176 41
قتل ومل ميثل يعتربونه رحيماً ،وي�سوقهم �إىل خطر املوت فيطيعونه حذر الت�أديب ،و�إن نقم عليهم منهم بع�ض الأباة قاتلوهم ك�أنهم بغاة". هذا املفهوم ّ متجذر يف الإ�سالم منذ كان هجوم الغزايل على العلوم العقلية يف القرن اخلام�س ينّ ، الهجري وق�ضا�ؤه على الفل�سفة وعدا�ؤه ّ وتنكره للعلوم الإ�سالمية لكل اجتاه ح�ضاري عقال ّ ّ مبا فيها علوم الكالم والفقه واحلكمة ،با�ستثناء علوم الت� ّصوف ،وتكفريه الفال�سفة كونهم �أنزلوا العلم الإلهي �إىل م�ستوى العلم والفل�سفة ومنهج اجلدل ،انطالقاً من كون العلوم الدينية متثّل بالن�سبة له الأولوية على العلوم الطبيعية والفل�سفية ،وهدفه منهج النظر ودعوته ملنهج الذوق، ين ..ومنذ ذلك وتركه احلقيقة و�سلوكه الطريقة ،ونقده للعلم الإن�ساين وانتظاره العلم اللد ّ احلني �أ�صبح اهلل ،ال�سلطة ،واجلن�س ،مقد�سات وم�صادر للتحرمي "فاهلل يح ّرم �أكرث مما يحلل، وال�سلطة تعاقب �أكرث مما تثيب ،واجلن�س للحرمان �أكرث منه للإ�شباع" (.)1 ين �آخر يف الرتاث العربي- فكري و�سيا�سي علما ّ وعلى الرغم من كل ذلك ،فثمة خمزون ٌّ ّ الإ�سالمي ،يف نظرية املعرفة يف القر�آن التي تدعو �إىل التدبري والتفكري ،ويف �س ّنة الر�سول يحث على التجربة والت�أويل ،ويف الرتاث ال�سيا�سي العروبي لتجربة معاوية العربي الذي كان ّ بن �أبي �سفيان ،ويف الرتاث الفكري ملدر�سة املعتزلة التي رفعت من �ش�أن العقل وحررته من قيود الن�ص الديني ،و�أ�ضافت �إليه معاين احلرية والإدارة واالختيار ،ويف فل�سفة الكندي ونزعته العقلية الربهانية ،ونزعته الإن�سانية التي عللت الأعراق والأديان والأجنا�س ،ويف مدينة الفارابي الفا�ضلة التي قامت على العقل والعدل ،ولدى ابن �سينا الذي اعترب العقل �أعلى قوى النف�س الب�شرية ،ولدى ابن ر�شد الذي �أقام �أول ف�صل منهاجي بني الفل�سفة والدين، ولدى ابن خلدون الذي حرر علم التاريخ من الو�صفيات والغيبيات ،ولدى الطهطاوي وحممد عبده ،اللذين َد َع َوا �إىل �إعادة تف�سري ال�شريعة انطالقاً من حاجات الع�صر. من هذا الإرث ال�سيا�سي الثقايف تن�ش�أ احلركات الإ�سالمية املعا�صرة ،ال�سلفية والتكفريية الإرهابية ،لتقتل كل معاين احلياة الكرمية وما تكتنزه من �إن�سانية ،ويف املقلب الآخر تن�ش�أ -1راجع :الجابري ،محمد عابد .ابن رشد :سرية وفكر ،دراسة ونصوص ،مركز دراسات الوحدة العربية ،بريوت ،1998 ،ص .141والجباعي ،مرجع سابق ،ص .131 42
ملف العلمانية /درا�سات
حركات �سيا�سية جهادية معا�صرة ،يف فل�سطني ولبنان والعراق ّ تتنكب مهمة مقاومة االحتالل ال�صهيوين والإمربيايل �إىل جانب القوى القومية مبدر�ستيها ال�سورية والعربية. 2ـ العلمانية يف املفهوم العربي املعا�رص:
القومي �أن العلمانية لي�ست ظاهرة ل�صيقة ب�أوروبا ،و�إن كان من�ش�أها يف يرى التيار العلماين ّ الغرب ،كون العلمانية ن�ش�أت يف كنف علوم املجتمع واالقت�صاد وال�سيا�سة والتاريخ وهي علوم عاملية ،العلمانية بهذا املعنى ،ت�ستند �إىل تقدمي العقل على النقل يف �أمور الت�شريع والتنظيم ال�سيا�سي واالجتماعي. فالعلمانية هي عملية تاريخية مو�ضوعية ت�ضافرت مع الر�أ�سمالية وحترير املجتمع واالنتقال من اجلماعات الأهلية املغلقة �إىل املجتمع القائم على املواطنة واملجان�سة القانونية .وهي ّ جتذرت يف البالد العربية يف القرن التا�سع ع�شر ،منذ �أدركت الدولة العثمانية �أن الإ�صالح الداخلي وتوطيد مناذج التنظيم ال�سيا�سي والإداري واالقت�صادي املدنية ومكمالتها القانونية والرتبوية والثقافية هي �ش�أن �ضروري للبقاء .فالعلمانية هي ف�صل الدين عن الدولة دون �إهمال القيم الإن�سانية واملعنوية ،وهي معن ّي ٌة يف املقام الأول بت�أكيد ا�ستقاللية العقل الإن�ساين ودور الإن�سان يف العامل م�شتم ًال على اكت�شافه با�ستقاللية عن الدين. وحتد من حرية التفكري ،بل ّ ترتكز بالإحلاح على والعلمانية بذلك لي�ست عقيدة ت�ضبط الأمور ّ حاجة الفهم والنقد داخل توتر عام يف الإن�سان من �أجل اكت�ساب ا�ستقاللية الفكر .وهي ن�سبي يرتبط تعريفه بالزمان واملكان، لي�ست مبد�أ ينطوي على الإطالق والتعميم بل مفهوم ّ وهي يف ّ كل الأحوال لي�ست تقن ّية جاهزة كونها ح�صيلة تاريخ خا�ص من التط ّور ال�سيا�سي والثقايف يف كل جمتمع (.)1 ثانيا ً-العلمانية والدولة يف العامل العربي
متقدم كما يف �سوريا وتون�س تفاوتت ن�سبة انت�شار العلمانية يف الدول العربية ،بني م�ستوى ّ -1الشوميل .مرجع سابق 21 ،ـ . 23 43
واملغرب ،ومنعدم كما يف اجلزيرة العربية ،ومتذبذب كما يف م�صر ولبنان وال�سودان� ،إذ �أن امل�ستوى حتقّقه القيادات ال�سيا�سية الر�سمية بقدر قناعتها الفكرية بالعلمانية. -1موطن الفكر العلماينّ:
عملت الدولة التون�سية على تر�سيخ �أ�س�س علمانية بعد اال�ستقالل ،فا�ستندت ال�سيا�سة التعليمية �إىل �إحلاق املعاهد "الزيتونية" بوزارة الرتبية حتى �أُزيلت عام 1965و�أُ ّ�س�ست اجلامعة "الزيتونية" التي حتولت �إىل جامعة تون�سية عام 1960كمرفق رئي�سي للتعليم العايل يف البالد(.)1 وجارى هذا التهمي�ش �أ�صحاب الثقافة الإ�سالمية لعدم �إملامهم باللغة الفرن�سية .وعلى ال�صورة نف�سها حدث يف املغرب الأق�صى ،حيث قامت الدولة ب�إجراءات مماثلة كتحويل جامع القرويني �إىل جامعة عام ،1963وت�أ�سي�س مدر�سة خا�صة لتجهيز الكوادر الدينية التي بقيت دون ازدهارها ( .)2فبقيت امل�ؤ�س�سة الدينية حتت ال�سلطة �شبه التامة يف تون�س وكذلك يف املغرب حيث ميار�س امللك دور �أمري امل�ؤمنني (.)3 كان موقف الدولة التون�سية من �أجر�أ املواقف بل �أو�ضحها ،فمجلة فكر التي � ّأ�س�سها حممد مزايل عام ،1955وجمالت عربية �أخرى ،كان اهتمامها بالدين �ضئي ًال ،و�إن مل تطلب منه ن�صو�صاً ،فقد جعلت القر�آن فوق التاريخ و�أولت على نحو جريء ،و�شجعت النظرة التاريخية التي ت�سمح بن�سخ م�ضامينها ،فجرى الت�شديد على �أهمية مراعاة التطور االجتماعي و�ضرورات الواقعي للتاريخ �ضد التاريخ وجتاوز ال�صيغ اخلارجية �إىل "الروح واملعنى" ودعت �إىل االعتبار ّ "الرومان�سية" ،كالإ�شارة �إىل ثالثة من اخللفاء الرا�شدين ماتوا مقتولني ،مما يطعن يف رومان�سية النظرة �إىل ال�سلف كما دعت �إىل �إنقاذ الإ�سالم من اجلمود (.)4 1 -Abdel moula, Mahmoud. Ľ université et la société Tunisienne, Tunis1971, pp176-183,208-211 -2العظمة ،مرجع سابق ،ص.287 -3املرجع نفسه ،ص .288 -4غديرة ،عامر ،ملاذا أنا مسلم وكيف أنا مسلم؟ يف :فكر ،السنة ، 5العدد ، 9تونس.1960 ، 44
ملف العلمانية /درا�سات
ويف امل�شرق العربي ،عملت �سورية على تعميق الأ�س�س العلمانية على �صورة منهجية وتر�سيخها تربوي وثقايف .فكان �أول مهام النظام اال�ستقاليل يف �سوريا �إلغاء التمثيل الن�سبي يف نظام ّ الطائفي يف جمل�س النواب ،ويف عهد ال�شي�شكلي ّمت �إلغاء ق�ضاء الأحوال ال�شخ�صية للطوائف الإ�سالمية املختلفة ودجمها يف قانون واحد .ومنع كل التنظيمات والتجمعات القائمة على �أ�س�س طائفية �أو �إثنيه �أو جغرافية ،وا�ستمرت يف �سيا�سة ثقافية عروبية كانت عنوان ال�سيا�سات الثقافية ملختلف الأنظمة ال�سورية التي �أتت بعده ،وبعد عام ُ 1965و ِ�ض َع ّ كل املدار�س الطائفية حتت رقابة الدولة املبا�شرة .وا�ستمرت الد�ساتري ال�سورية (-1966 -1964 -1954 1950 )-1973على عدم ال ّن ّ�ص على دين الدولة على الرغم من ّن�صها على �أن الإ�سالم دين رئي�س الدولة ،فكانت الدولة العربية الوحيدة دون دين ر�سمي� ،إ�ضافة �إىل لبنان وتون�س ،والد�ستور امل�ؤقت للجمهورية العربية امل ّتحدة الذي مل ي�أت على ذكر الدين ،و�سجلت الد�ساتري ال�سورية واقع كون ال�شريعة م�صدراً رئي�ساً للت�شريع ،ومنذ نظام �شباط ،1965ا�ستمر العمل بتجذير العلمانية ر�سمياً ،عندما �أ�صبح الق�سم الرئا�سي منذ عام 1966ق�سماً بال�شرف بد ًال من الق�سم باهلل� .إىل �أن �أًعيد الق�سم باهلل بعد تويل الرئي�س حافظ الأ�سد رئا�سة اجلمهورية ،نزو ًال عند رغبة قطاعات من ال�شعب ،وبعد ا�ضطرابات �أثارها الإ�سالميون حول هذه الق�ضية(.)1 جاء الد�ستور ال�سوري علمانياً ب�شكل عام ،مع �إمياءات باجتاه املتدينني كان منها �إقامة كلية خا�صة بال�شريعة يف جامعة دم�شق ،بعد �أن كانت ُتد َّر�س يف �إطار درا�سة القانون ،والقانون املقارن ،ورمبا رغبت الدولة بذلك �إنتاج كوادر دينية خا�صة بها وخارجة عن ت�أثري الأزهر(.)2 وبذلك اقت�صرت مهام امل�ؤ�س�سة الدينية على ال�ش�ؤون الدينية البحت ،وكان جمال ا�ستقاللها بالر�أي عن الدولة �أمراً �شبه معدوم ،ومل َّ تول وزارة الأوقاف �إىل الدينيني(.)3 1 -Carré, Olivier. La Légitimation Islamique des socialismes Arabes : Analyse conceptuelle combinatoire des manuels scolaires Egyptiens Syriens,et Iraqiens (presses de la fondation nationale des sciences politique) paris,1979 pp 110ff, 161ff, chaps, 9 et 10 passim -2ياسني ،بو عيل .الثالوث املحرم ،دراسة يف الدين والجنس والرصاع الطبقي ،دار الطليعة ،ط ،2بريوت ،1985 ،ص .120 - 119 - 3العظمة ،مرجع سابق ،ص .286 45
وت�ضمنت املناهج ال�سورية الرتبوية متييزاً بني العروبة والإ�سالم ،وهذا غري موجود يف الكتب ّ امل�صرية والعراقية ،وت�شجيعاً للمر�أة مما ال ين�ضوي حتت لواء ما ُيعرف باملهام التقليدية للمر�أة، وكانت الكتب ال�سورية هي الوحيدة التي نظرت يف الرباهني على وجود اهلل ،التي غابت عن املناهج الأخرى(.)1 الديني: - 2موطن الفكر ّ
�أما يف اجلزيرة العربية ،فقد رافق التحوالت االجتماعية التي �أتت بفعل الإثراء النفطي ،هجوم �أيديولوجي من قبل �إ�سالميي ال�ضفة ال�شرقية للبحر الأحمر ،وتنامى هذا التيار بعد نك�سة ،1976عندما �أخذت الأجهزة الرتبوية والإعالمية والثقافية برعاية �أعداد كبرية من املثقفني املقيمني يف اخلليج وغري املقيمني فيه ،وببثّها ثقافة �أ�صولية �صرفاً كما يف ال�سعودية ،وخطاباً �إ�سالمياً �إ�صالحياً ب�أثر من املدر�سني امل�صريني مع هوام�ش علمانية يف الكويت ،وت�صديرها �أعداداً كبرية من املقيمني واملقيمني ال�سابقني املت�أثرين بنمط حياة �شديد املحافظة� ،صائغاً حمافظته بلغة �إ�سالمية ،وقارِناً بني هذه الأمور والرخاء املادي يف جمتمعات فقرية .وبذلك �أ�صبح لل�صياغة الإ�سالمية يف �أمور الثقافة و�أمور املجتمع �شرعية مكت�سبة كانت غائبة يف اخلم�سينيات وال�ستينيات .بل طالبت ب�شرعية ت�ساويها مع �شرعية الثقافة التاريخية والعملية التي بثتها الدولة على مدى قرن كامل يف �أرجاء وا�سعة من العامل العربي(.)2 - 3موطن التجاذب العلما ّ يني: ين وال ّد ّ
ح�صلت يف اجلزائر بعد اال�ستقالل ،حالة من التماهي بني "اجلزائري" و"امل�سلم" يف مواجهة امل�ستعمر يف الفرتة اال�ستعمارية على الرغم من كون قيادة جبهة التحرير و�أيديولوجيتها العلمانية مل يكن الإ�سالم فيها �إال عالقة مبنية على التمايز والتما�سك .كان لهذا نتائج بعيدة املدى �أدت �إىل تقوية الإ�سالميني على ح�ساب اجلبهة ،دون �أن يخرجوا خروجاً تاماً على العنا�صر الأيديولوجية الأ�سا�سية للجبهة حتى الثمانينيات ،وحتولت معطيات الرمزية -1املرجع نفسه ص .288 -2العظمة .مرجع سابق ،ص .292 46
ملف العلمانية /درا�سات
الثقافية� ،إذا �أ�ضحت الثقافة العلمانية بعد فرتة مقرتنة بالثقافة "الفرنكفونية" ،ف�أ�صبح من املمكن بالن�سبة �إىل عنا�صر اجتماعية �إدخال طابع �إ�سالمي على التعريب الثقايف� ،أو على الأقل� ،صفة �إ�سالمية لها �إدخا ًال منفتحاً على ت�أويالت �إ�صالحية و�أ�صولية يف �آن� .أف�ضى هذا الو�ضع يف نهاية الأمر وبعد الأزمات االجتماعية واالقت�صادية التي رعتها جبهة التحرير خ�صو�صاً بعد وفاة الرئي�س بومدين� ،إىل اتخاذ ال�صراع داخل نظام الرتاتب املهني يف �أجهزة الدولة �صراعاً بني "الفرانكفونية" املقرتنة بالعلمانية الثقافية وبالإمكانية املادية لل�سلوك على طريقة غربية ،وبني العروبة املقرتنة باحلرمان وان�سداد الأفق االجتماعي و�أفق العلم امل�صاغة بلغة �أخالقية �إ�سالمية ،كما جاء ال�صراع م�ضافاً �إليه حتديدات �إثنية يف كثري من الأحيان، ف�أ�صبح ممكناً اال ّدعاء �أن العروبة ترادف الإ�سالم و�أن االثنني مرادفان للموقف الوطني ،وذلك أ�سا�س على عك�س حقيقة الأو�ضاع التاريخية التي � ّأ�س�س لها "املتطورون" وهي �أنّ العلمانية � ٌ يتم بقيادتها (.)1 يف �صياغة فكرة التحرر الوطني الذي ّ �أما يف م�صر ،فقد ا�ستم ّر قيام الدولة �إبان العهد النا�صري ،على نهجها العلماين �ضمناً ،على الرغم من تو�سيع �سلطات وم�س�ؤوليات الأزهر عن ال�سابق ،ولعل يف ذلك �شيئاً ذا �صلة بال�صدام بني النظام والإخوان امل�سلمني ،ف�أنيطت بالأزهر مبوجب قانون 1961وظيفة قومية �إ�سالمية وتربوية واجتماعية عامة ،و�أ�صبحت امل�ؤ�س�سة الأزهرية جامعة على الطراز احلديث تتبعها �شبكة وا�سعة من املعاهد الدينية .و ُع ِّدل القانون يف عهد ال�سادات عام ،1975ف�أنيطت مبوجب التعديالت �سلطات عقائدية �شبه مطلقة ب�شيخ الأزهر ،كما �أ�صبحت لوزارة الأوقاف �شبكة ال كابح لها ،وك�أنها دولة داخل الدولة(.)2 وقد انعك�ست هذه ال�صالحيات املعطاة للأزهر على احلياة الفكرية يف م�صر ،فقامت ال�سلطات املمثلة باجلامعة الأزهرية ،مبهمة ت�أديب �أحد �أ�ساتذتها يف الأدب الإ�سباين ،لرتجمة رواية، لفارغا�س يوزا ،ترجمة نزيهة ر�أت فيها ال�سلطات الأزهرية ،ب�ضغط من جريدة "ال�شعب" (ل�سان التحالف الإ�سالمي) مف�سدة لأخالق النا�س والنا�شئة ،مما دعا املرتجم �إىل التعليق -1العظمة .مرجع سابق ،ص . 290 -2البرشي ،طارق .املسلمون واألقباط يف إطار الجامعة الوطنية ،دار الوحدة ،القاهرة ،1982 .ص .283 - 282 47
بقوله� :إن منطق امل�صادرة هذا ين�سحب على الكثري من الكتب الرتاثية( .)1و�إدارة البحوث والن�شر بالأزهر هي التي قررت م�صادرة كتاب لوي�س عو�ض املعنون :مقدمة يف فقه اللغة العربية( .)2التخاذه بع�ض املواقف االعتزالية اخلا�صة ب�أ�صل اللغات وبخلق القر�آن(.)3 يف عهد ال�سادات �شجع النظام احلركات الأ�صولية الراديكالية� ،أم ًال منه يف الق�ضاء على النفوذ الي�ساري يف الأو�ساط الطالبية وال�شعبية ،والإبراز التلفزيوين لبع�ض رجال الدين ذوي الآراء املغرقة يف الرجعية ،ف�أدت �إىل حما�صرة العلمانية ( )4وكان من نتائج ذلك تراجع االجتاه الإ�صالحي الإ�سالمي على طريقة ال�شيخ حممد عبده ،ف�صارت قلة فقط من الإ�سالميني يجر�ؤون على دفع ثمن الإ�شادة بعبد الرزاق وطه ح�سني. اخلامتة:
�أظهرت الدرا�سة �أن ثمة دالئل على وجود العلمانية يف النظام العربي الر�سمي يف تون�س و�سوريا ،فيما هي يف اجلزيرة العربية ومعظم الأقطار العربية خافتة ومعدومة ،وهي مت�أرجحة املد واجلزر يف م�صر واجلزائر والعراق. بني ّ ف�إذا كان املفكرون القوميون يولون االهتمام الزائد لدر�س �أ�سباب تعثرّ الدميقراطية يف العامل العربي ،ف�إنّ تراجع العلمانية هو �أحد �أهم امل�ؤ�شرات املانعة النت�شار الدميقراطية كونها الأ�سا�س لت�شييد ح�صن الدميقراطية� .إذ �إنّ العلمانية هي ال�سبيل ملعاجلة االنق�سام العمودي يف املجتمع املتمثّل بالطائفية واملذهبية والعرقية وغري ذلك من االنق�سام االجتماعي العمودي. ومن جهة ثانية ،ك�شفت الدرا�سة ال�ضعف الوا�ضح لواقع الأحزاب القومية ،يف الأقطار العربية، بعدم وجود انعكا�سات م�ؤثرة لها يف بنية النظام العربي الر�سمي. -1القدس العريب. 1990 /01/ 17 . -2فرج ،نبيل .لويس عوض أمام محاكم التفتيش ،الناقد ،السنة 21العدد 9آذار ،1989ص 38 -3عوض ،لويس .مقدمة يف فقه اللغة العربية ،الهيئة املرصية العامة للكتاب ،القاهرة 1980ص 69و.86 - 85 -4أمني ،حسني أحمد .دليل املسلم الحزين إىل مقتىض السلوك يف القرن العرشين ،ط 2دار الرشوق ،القاهرة ،1983 ،ص .127 - 113 48
ملف العلمانية -مقابالت
تقدمي ملى عطوي
العلمانيون يف لبنان :من هم وماذا يريدون؟ �أ�سئلة يطرحها مواطنون يف جمتمعنا وال يح�صلون على جواب �شامل ووايف .رغم �أن هذا املو�ضوع مطروح بقوة وال ميكن �إنكاره وال جتاهل فئة وا�سعة تعرب عنه ولو �أن �صوتها مازال �ضعيفاً .فالعلمانيون لهم �أهدافاً م�شرتكة منها ف�صل الدين عن الدولة ،لكن توجد اختالفات يف �أفكارهم و�أهدافهم .فهنالك من يهتم �أكرث بامل�سائل املطلبية االجتماعية واالقت�صادية والرتبوية منها �ش�ؤون املر�أة وهموم العمل والعمال...بينما �آخرون يركزون مطالبهم ون�ضالهم على التغيري ال�سيا�سي ال�شامل .كما �إن كل فئة تختلف بقوتها عن الأخرى يف توزعها ،طريقة عملها ون�شاطاتها .وقد يجتمع العلمانيون للقيام بعمل م�شرتك معني .لكن غالباً لكل فئة لها برناجمها اخلا�ص املعرب عنها. حالياً ،مو�ضوع "العلمانية" مطروح بقوة ،لكن هناك �شريحة كثرية من النا�س التعرف كثرياً عنها وخا�صة يف و�سط ال�شباب الذين يطرحون العديد من الأ�سئلة حول هوية العلمانيني وما هي العلمنة؟ وال يح�صلون على جواب �شامل ووايف ،فامل�س�ألة هنا لي�س �إن كنت مع العلمانية �أو �ضدها ،بل ماذا تعرف حقاً عن العلمانني و دورهم واجتاهاتهم ،خا�صة �أنهم غري ممثلني مب�ؤ�س�سة واحدة �أو �ضمن جتم ٌع واحد كما �أن افكارهم متنوعة ومتعددة. انطالقاً من هذه الت�سا�ؤالت الكثرية وغريها ،خ�ص�صت "جملة حتوالت م�شرقية" هذا املحور حول مو�ضوع "العلمانية" ،وا�ستطاعت �أن جتمع يف هذا امللف عدداً من التيارات واحلركات والتجمعات العلمانية و�شخ�صياتها ،وذلك من �أجل التعريف بهم ووجهة نظر ٍّ كل منهم ،وما يواجهونه من حتديات وتطلعاتهم ،و ن�شر الوعي احلقيقي باملو�ضوعات التي يطرحونها. وقد �شارك يف الإجابة عن �أ�سئلتنا ُك ٍل من ريا�ض �صوما الكاتب ال�سيا�سي ،واملحامي والكاتب 49
با�سل عبداهلل وهو �أي�ضاً من�سق وم�س�ؤول �إعالمي لتيار املجتمع املدين ،ور�شيد الزعرتي وهو ع�ضو بالهيئة الإدارية للتجمع الدميقراطي العلماين يف لبنان. يف النهاية ....هذا امللف هو �أي�ضا دعوة الحتاد العلمانيني من �أجل وطن حر يوفر جلميع املواطنني حقوقهم و يحفظ كرامتهم.
50
ملف العلمانية /درا�سات
ريا�ض �صوما :العلمانية هي بناء دولة حترتم جميع الأديان - 1ماهي العلمانية؟
اخلا�صة ،العلمان ّية لي�س هناك مفهوم واحد يقبل به جميع اللبنانيني .ولكن وفق وجهة نظري ّ هي ف�صل ال�سيا�سة عن الدين ،مبعنى بناء دولة حترتم جميع الأديان ولكن ُتبقي ال�ش�ؤون االقت�صادية وال�سيا�سية واالجتماعية والرتبوية بعيداً عن ال ّتدخل املبا�شر مب�ؤ�س�سات الدولة. - 2هل العلمانية كافية لتغيري النظام؟
ال ت�ستطيع العلمانية حتى بعد تطبيقها ت�أمني تغيري عميق وكامل للنظام لأنها ال تفر�ض من حيث طبيعتها توجهاً واحداً يف امليادين االقت�صادية وال�سيا�سية واالجتماعية .ويف ال ّتجربة التاريخية الواقعية تب ّنت ومار�ست القوى العلمانية �سيا�سات متعار�ضة كلياً يف �أحيان كثرية. - 3كيف ميكن تطبيقها؟
ميكن تطبيقها بعد تغيري موازين القوى داخل املجتمع ل�صالح القوى العلمانية ،وبالتايل من خالل ت�س ّلم هذه القوى ال�سلطة كل ّياً �أو ب�صورة راجحة ،ثم �إجراء التغيريات القانونية والإدارية املتوافقة مع مفهوم العلمنة .ومن املمكن حتقيق ذلك ب�صورة تدريجية عرب ن�ضال فكري وثقايف و�سيا�سي طويل النف�س. يتوحد العلمانيون يف لبنان؟ - 4ملاذا ال ّ
بحد ذاتها .ولأنّ يتوحد العلمانيون ن�سبياً يف لبنان لأن لهم مفاهيم خمتلفة ب�ش�أن العلمانية ّ ال ّ توجهات فكرية واقت�صادية واجتماعية و�سيا�سية متباينة .فال يكفي املوقف من العلمانية لهم ّ 51
كي ّ ي�شكل �أ�سا�ساً لوحدة را�سخة وتا ّمة. - 5ما هي ال�صعوبات التي تواجههم؟
هناك ال�صعوبات املو�ضوعية الناجتة عن ّ والطائفي يف املجتمع وغياب � ّأي الديني ّ جتذر الوعي ّ قوة حملية �أو �إقليمية وازنة لها م�صلحة بدعمهمُ .ي�ضاف �إىل ذلك ال�صعوبات الذات ّية ال ّناجتة عن �ضعف القيادات احلاملة لهذا امل�شروع. اجلمعيات العلمانية لتحقيق �أهدافها؟ - 6كيف يجب �أن تعمل ّ
�أرى �أن عليها بداية �إدارة حوار فيما بينها لتقريب وجهات النظر ،ثم املثابرة على �إقامة تقاطعات ون�شاطات م�شرتكة ،على طريق بناء وحدة �أقوى و�أكرث ثباتاً. - 7كيف ميكن بناء دولة علمانية يف لبنان؟
يبدو �أن بناء دولة علمانية يف لبنان� ،سي�أخذ وقتاً ،رغم �أن الق�سم الأكرب من قوانيننا علمانية. ولكن ق ّوة امل�ؤ�س�سات الطائفية الدينية وال�سيا�سية ُتفرِغ القانون من م�ضمونه وتفر�ض �سطوتها الثقافية وال�سيا�سية على الدولة واملجتمع .لذلك �ست�أخذ عملية بناء دولة علمانية يف لبنان فرتة زمنية طويلة ن�سبياً .ولن يتحقق ذلك �إال ارتباطاً بالتحوالت الذاهبة باجتاه تخفيف دور الدين يف املجتمع والدولة يف املحيطني الدويل والإقليمي.
52
ملف العلمانية -مقابالت
با�سل عبداهلل:
العلمانية هي نظام حياة ونظام دولة
-ما هي وجهة نظركم عن العلمانية؟ كيف تفهمونها وتعرفونها؟
�سنُقدِّ م يف ما يلي التعريف الذي نراه ملفهوم العلمان ّية من ُمنطلق ما ُي ّقدمه هذا املفهوم من مبادئ تطويرية للإن�سان واملجتمع ،دون �أن نربط الكلمة ب�أ�صلها التاريخي �أو با�شتقاقها� ،أي دون �أن نُف ِّرق بني لفظ الكلمة بفتح �أو بِك�سر ال َعني� ،إمياناً منا بوحدة الغايات التي ت�سعى العلمانية (مبختلف �أ�صولها التاريخية املفرت�ضة) �إىل حتقيقها. العـلـمـانـ ّيـة (�سواء ُلفظت بِفتح العني �أو بِك�سرها) هي نظام حياة ونظام دولة. فعلى ال�صعيد الفردي ،هي نظام حياة ومفهوم �إن�ساين و�أ�سلوب تعامل مع النا�س ،ي�أخذ �صاحبه �إىل تق ّبل كل ر�أي واحرتام حرية كل �إن�سان من منطلق قيمته الإن�سان ّية وهويته املدن ّية، ِغ�ض النظر عن انتماء هذا الإن�سان ال�شخ�صي (الفكري �أو الديني) وب ّ ب ّ ِغ�ض النظر عن موقفه ال�سيا�سي �أو حالته االجتماعية. وهي على �صعيد املجتمع ،نظام ومفهوم �سيا�سي يدعوان �إىل بناء هوية الأفراد املدن ّية والإن�سان ّية يف املجتمع مبا َي�ضمن ُم�ساواتهم �أمام قوانني الدولة ،وبالتايل فالعلمان ّية ت� ّؤكد ا�ستقالل الدولة (بقوانينها و ُم�ؤ�س�ساتها) يف عالقتها باملواطن عن �أية عالقة �أخرى تربط هذا الأخري ب� ّأي مذهب فكري �أو ديني �أو ب�أية جمموعة عرق ّية �أو �سيا�س ّية. والهوية املدن ّية ال ُتق�صي الهوية الدين ّية بل حتميها من خالل حياد الدولة الذي يعني ب�شكل وا�ضح عدم حت ُّيز ال�سلطة احلاكمة �أو ارتهانها مل�صلحة �أو �ضد م�صلحة �أي ُمعتقد خا�ص تعتنقه جمموعة من الأفراد فيها ،لأنّ عالقتها بالأفراد يف املجتمع هي عالقة دولة بمِ ُواطنيها املُت�ساوين يف نظرها و�أمام قوانينها. 53
تتعدى حرية وحقوق الغري وال ُتو ّلد �أذي ًة واحلرية املق�صودة يف ما �سبق هي احلرية التي ال ّ ج�سدي ًة �أو معنوي ًة ل�صاحبها �أو للغري �أو للمجتمع. هذا وتمُ ِّهد العلمانية الطريق ُحل�سن تطبيق النظام الدميقراطي على �أر�ض الواقع ،من خالل ما ُت�ؤ�س�س له من م�ساواة بني الأفراد يف املجتمع وما ُت ّقدمه وت�ضمنه له�ؤالء من حريات تمُ ِّك ُنهم من ممُ ار�سة حقوقهم يف االقرتاع وانتخاب ممثليهم ال�سيا�سيني. وما هي ال�سبل والو�سائل لتطبيقها؟
�إنّ العمل من �أجل بناء الدولة العلمانية يتط ّلب تطبيق �إ�صالحات �أ�سا�س ّية ،ن�ستطيع باملقارنة معها ا�ستخال�ص ثغرات �أنظمتنا ومدى اقرتابها �أو ابتعادها من النظام العلماين. وهذه الإ�صالحات هي: �أو ًال :ت�أكيد د�ستور الدولة مبد�أ حرية الفرد يف التفكري والتعبري على ال�صعيد ال�سيا�سي تعدى بحريته على حرية الآخرين �أو ُي�ض ّر بها �أو بدولته. والفكري والديني ،على �أن ال َي ّ وهذا يعني تب ّني الد�ستور يف بنوده املبادئ واحلقوق الإن�سانية التي ّن�صت عليها ال�شرعة العاملية حلقوق الإن�سان. ثانياً :اعتماد قوانني مدن ّية تعتمد امل�ساواة بني الأفراد يف املجتمع يف احلقوق والواجبات �ضمن �إطار العالقة مع ال�سلطة ،ال التم ُّيز على الأ�سا�س الديني �أو الطائفي �أو العرقي. وينطبق هذا التو�صيف �أي�ضاً ب�شكل مبا�شر على قوانني االنتخابات وقوانني الأحوال ال�شخ�ص ّية والقوانني املدنية واجلزائية والعقارية والإدارية والرتبوية والإعالمية. ين ُي ّر�سخ فكر املواطنة وحرية الر�أي والتعبري ّ واالطالع الثقايف ثالثاً :وجود نظام تربوي مد ّ جلميع �أبنائه دون متييز لطالب عن �آخر ،يتيح يف �إطاره جلميع �أبنائه �إمكانية تلقّي العلم يف جمانية يف املرحلتني االبتدائية واملتو�سطة. مدار�س ّ عن�صري �أو مبني يف خطابه وبراجمه الإعالمية �أو يف توظيف رابعاً :وجود �إعالم حر ،غري ّ العاملِني لديه على التمييز بني الأفراد. خام�ساً :حرية ت�شكيل �أحزاب تعبرِّ عن توجهات ال�شرائح املُتنوعة داخل الن�سيج 54
ملف العلمانية -مقابالت
توجهات عن�صرية �أو عرقية �أو مذهب ّية االجتماعي للدولة ،على �أن ال تتخذ هذه ال�شرائح ُّ تدعو �إىل التمييز بني الأفراد يف الدولة. �أ ّما بالن�سبة �إىل الإ�صالحات الأ�سا�س ّية التي يمُ كن من خاللها بناء الدولة العلمان ّية يف لبنان، فال �شك �أنّ الد�ستور اللبناين ُيناق�ض نف�سه بنف�سه حني يتبنى نُ�صو�صاً طائف ّية ُت ّعطل طابعه املدين ،و َتد ُعو �إىل ت�صنيف الأفراد يف املجتمع على �أ�سا�س طائفي. فبع�ض املواد القليلة الواردة يف الد�ستور ُتعطل املبادئ املدن ّية فيه وت ِّحُول النظام اللبناين �إىل نظام طائفي بكل ما للكلمة من معنى. ُحدد يف ما يلي الإ�صالحات الأ�سا�س ّية التي ميكن من خاللها بناء الدولة العلمان ّية ويمُ كننا �أن ن ّ يف لبنان ،وهي تتوزع على خم�سة محَ اور هي التالية: - 1تعديل بع�ض مواد الد�ستور وتطبيق بع�ض مواده الأخرى:
ّن�صت الفقرة (ب) من مقدمة الد�ستور اللبناين على �أنّ لبنان هو ع�ضو م� ّؤ�س�س وعامل يف وجت�سد الدولة اللبنانية منظمة الأمم املتحدة وملتزم مبيثاقها .وهو ع�ضو يف حركة عدم االنحيازّ . هذه املبادئ يف جميع احلقول واملجاالت من دون ا�ستثناء. �إنّ هذه الفقرة ت�ؤكد التزام لبنان بالإعالن العاملي حلقوق الإن�سان ،علماً �أنّ لبنان ملتزم �أي�ضاً تن�ص على امل�ساواة بني الأفراد يف املجتمع. مبجموعة من املواثيق الدولية الأخرى التي ّ وفوري يف النظام القانوين وتطبيق معايري حقوق الإن�سان الدولية ُمل ِزمة قانوناً على نحو ُمبا�شر ّ املحلي .فلدى تعار�ض م�ضمون ما يف القانون اللبناين مع م�ضمونهاُ ،ت ْل َز ُم الدولة بتطبيق ما ورد املحلي. عاملياً ومن دون انتظار تعديل ّ الن�ص ّ فلالتفاقيات العاملية �أولوية على القانون املحلي ال �سيما �أنّ الد�ستور اللبناين ،كما �سبق و�أ�شرنا، التزم يف مقدمته بالإعالن العاملي حلقوق الإن�سان ،وبالتايل ّ فكل ن�ص وارد يف الإعالن له قوة الن�ص الد�ستوري. من هذا املنطلق ،يلتزم لبنان باملادة ال�سابعة من الإعالن العاملي حلقوق الإن�سان التي ّن�صت على �أنّ كل النا�س �سوا�سية �أمام القانون ،وباملادة ال�ساد�سة ع�شرة منه والتي ن�صت على �أنّ 55
للرجل واملر�أة ،متى �أدركا �سن البلوغ ،حق الزواج وت�أ�سي�س �أ�سرة من دون �أي قيد ب�سبب العرق �أو اجلن�سية �أو الدين ،وباملادة الواحدة والع�شرين منه التي ن�صت على �أنّ لكل فرد احلق يف اال�شرتاك يف �إدارة ال�ش�ؤون العامة لبالده �إما مبا�شرة و�إما بوا�سطة ممثلني ُيختارون اختياراً حراً ،ولكل �شخ�ص نف�س احلق الذي لغريه يف تق ّلد الوظائف العامة يف البالد ،وعلى �أنّ �إرادة ال�شعب هي م�صدر �سلطة احلكومة ،ويعبرّ عن هذه الإرادة بانتخابات نزيهة دورية جتري على �أ�سا�س االقرتاع ال�سري وعلى قدم امل�ساواة بني اجلميع �أو ح�سب �أي �إجراء مماثل ي�ضمن حرية الت�صويت. كما يلتزم لبنان باملادة الثالثة والع�شرين من العهد الدويل للحقوق املدنية وال�سيا�سية ال�صادر عام 1966التي ن�صت على �أنّ للرجل واملر�أة ،متى بلغا �سن الر�شد ،حق الزواج وت�أ�سي�س �أ�سرة من دون �أي قيد ب�سبب اجلن�س �أو الدين ،ولهما حقوق مت�ساوية عند الزواج و�أثناء قيامه حق التمتع بحماية املجتمع والدولة ،وبالفقرتني الأوىل وعند انحالله ،و�أ�ضا َفت �أنّ للأ�سرة َّ والثانية من املادة الثامنة ع�شرة منه اللتني ن�صتا على حرية املعتقد والتعبري ،وعلى عدم �إخ�ضاع �أحد لإكراه من �ش�أنه �أن ُي ّعطل حر ّيته يف االنتماء �إىل �إحدى العقائد التي يختارها. مقدمته �أنّ لبنان جمهورية �إ�ضافة �إىل ذلك ،فقد � ّأكد الد�ستور اللبناين يف الفقرة (ج) من ّ دميقراطية برملانية تقوم على احرتام احلريات العامة ،ويف طليعتها حرية الر�أي واملعتقد .ون�ص يف الفقرة (ط) من مقدمته على �أنّ ال فرز لل�شعب على �أ�سا�س �أي انتماء كان وال جتزئة وال تق�سيم ،ويف املادة ال�سابعة منه على �أنّ اللبنانيني �سواء لدى القانون وهم يتمتعون على ال�سواء باحلقوق املدنية وال�سيا�سية ويتحملون الفرائ�ض والواجبات العامة دومنا فرق بينهم .و�أ�شارت املادة التا�سعة منه �إىل �أنّ حرية االعتقاد ُمطلقة ،كما �أ�شارت املادة الثانية ع�شرة منه �إىل �أنّ لكل احلق يف تويل الوظائف العامة ال ميزة لأحد على الآخر �إال من حيث اال�ستحقاق لبناين َّ واجلدارة ح�سب ال�شروط التي ين�ص عليها القانون .ون�صت املادة الثالثة ع�شرة منه على �أنّ حرية �إبداء الر�أي قو ًال وكتابة وحرية الطباع وحرية االجتماع وحرية ت�أليف اجلمعيات ك ّلها مكفولة �ضمن دائرة القانون. لكن غري املُطلع على الد�ستور يتفاج�أ عندما يعرف �أنّ �إنّ هذه املواد جميعها واجبة التطبيق؛ َّ هذه املواد ال تحُترَ َ م و�أنّ هنالك مواد �أخرى يف الد�ستور نف�سه ُتناق�ض كلياً هذه املبادئ الآنفة 56
ملف العلمانية -مقابالت
الذكر ،وبالتايل جند �أنّ تطبيق املواد املدنية ُم ّعطل بفعل مواد �أخرى طائف ّية. فعلى �سبيل املثال ،ن�صت املادة الرابعة والع�شرون من الد�ستور على �أن يت�ألف جمل�س النواب من نواب ُمنتخبني منا�صفة بني امل�سيحيني وامل�سلمني ،ون�سبياً بني طوائف كل من الفئتني. ون�صت املادة اخلام�سة والت�سعون منه على �أنه ويف املرحلة االنتقالية تمُ ثَّل الطوائف ب�صورة عادلة يف ت�شكيل الوزارة ويف وظائف الفئة الأوىل فيها ويف ما يعادل الفئة الأوىل فيها ،وتكون هذه الوظائف ُمنا�صفة بني امل�سيحيني وامل�سلمني. �إن هاتني املادتني ك ّر�ستا ب�شكل وا�ضح التق�سيم الطائفي يف جمل�س النواب ويف وظائف الفئة الأوىل ،وبالتايل يتوجب �إلغا�ؤهما. وقد حاول الد�ستور التخفيف من وط�أة املواد الطائف ّية ب�أن �أ�شار يف املادة الثانية والع�شرين �ستحدث جمل�س منه على �أنه مع انتخاب �أول جمل�س نواب على �أ�سا�س وطني ال طائفي ُي َ لل�شيوخ تتمثّل فيه جميع العائالت الروحية وتنح�صر �صالحياته يف الق�ضايا امل�صريية ،كما �أ�شار يف املادة اخلام�سة والت�سعني منه �إىل �أنّ على جمل�س النواب املُنتخب على �أ�سا�س املنا�صفة بني امل�سلمني وامل�سيحيني اتخاذ الإجراءات املالئمة لتحقيق �إلغاء الطائفية ال�سيا�سية وفق خطة مرحل ّية وت�شكيل هيئة وطنية برئا�سة رئي�س اجلمهورية ،ت�ضم بالإ�ضافة �إىل رئي�س جمل�س النواب ورئي�س جمل�س الوزراء �شخ�صيات �سيا�سية وفكرية واجتماعية مهمتها درا�سة واقرتاح الطرق الكفيلة ب�إلغاء الطائفية وتقدميها �إىل جمل�سي النواب والوزراء ومتابعة تنفيذ اخلطة املرحلية. ومع �أنه كان يقت�ضي تطبيق الفقرة التي ن�صت على انتخاب �أول جمل�س نواب على �أ�سا�س وطني ال طائفي ،غري �أنه رغم مرور �أكرث من خم�سة وع�شرين عاماً على "اتفاق ّية الطائف" والد�ستور اجلديد الذي �أنهى احلرب الأهل ّية يف لبنان ،فهذا البند مل ي�أخذ طريقه �إىل التطبيق بعد ،وهذه الهيئة ما زالت حرباً على ورق ،ومل يج ِر العمل حتى الآن على ت�شكيلها. - 2الأحوال ال�شخ�صية:
بتعدد الطوائف اللبنان ّية املُعرتف بها ر�سمياً يف تعددة ّ يوجد يف لبنان قوانني �أحوال �شخ�ص ّية ُم ّ الدولة. 57
�إنّ ُوجود هذا العدد من قوانني الأحوال ال�شخ�ص ّية ُي�ساهم يف تق�سيم اللبنانيني قانونياً واجتماعياً �إىل جمموعات طائف ّية ،بحكم خ�ضوع كل منهم بح�سب انتمائه الطائفي يف �سجالت النفو�س �إىل قانون الأحوال ال�شخ�صية التابع لطائفته. املطلوب يف لبنان على �صعيد مو�ضوع الأحوال ال�شخ�صية ،حتويل نظرة الدولة �إىل مواطنيها من الت�صنيف الطائفي �إىل الت�صنيف املُواطني ،واخلطوة الأوىل يف هذا االجتاه تتمثّل ب�إزالة الإ�شارة �إىل القيد الطائفي من �سجالت نفو�س عا ّمة اللبنانيني ،وتطبيق عقود الزواج املدين يف لبنان على جميع اللبنانيني وفقاً لن�ص املادة ال�سابعة ع�شرة من القرار 60ل.ر .ال�ساري املفعول يف لبنان ،وحتديث قانون الإرث الوحيد املدين يف لبنان واملُ�سمى حالياً بقانون الإرث لغري املحمديني ،ل ُيط َّبق كنظام �أحوال �شخ�ص ّية على الأفراد املُتزوجني مدنياً يف لبنان� ،أو ا�ستحداث قانون مدين جديد وع�صري للأحوال ال�شخ�صية ي�شمل �إجراءات و�شروط الزواج ويطال جميع املواطنني. �إنّ تطبيق قانون مدين للأحوال ال�شخ�ص ّية على عامة اللبنانيني اختيارياً -يف املرحلة الأوىل، َي�سمح لأي لبناين مهما كانت ّ الدولة الطائفة التي ينتمي �إليها ،ب�أن يتزوج مدنياً برعاية ّ واملحاكم املدن ّية ،وتبقى له حرية عقد الزواج الديني اختيارياً يف حال رغب بذلك. - 3قانون االنتخابات:
�إنّ تقلي�ص الطائف ّية يف لبنان يتطلب �إقرار قانون انتخابات خارج القيد الطائفي يعتمد الن�سبية على �أ�سا�س الدائرة الواحدة ،ويعتمد نظام اللوائح املقفلة التي تمُ ّكن الناخبني من انتخاب الالئحة ب�أ�سماء مر�شّ حيهم �أي برناجمهم ،بد ًال من انتخاب النائب الفرد. وال �شك �أنّ اخلطوة الأوىل مرحلياً يف هذا االجتاه قد تكون يف ما ن�صت عليه وثيقة الوفاق الوطني من اعتماد قانون انتخابات على �صعيد املحافظة (�أي على �صعيد الدائرة الكبرية)، لكن ذلك يجب �أن يرتافق مع اعتماد نظام االنتخابات الن�سبي الذي ي�ضمن التمثيل الأكرث ّ عدالة لأ�صوات الناخبني و ُيح ّول الناخب من ُم�ؤ ّيد للمر�شح كفرد تربطه به م�صالح خا�صة� ،إىل ُم�ؤ ّيد للق�ضايا التي يحملها املُر�شحون يف برناجمهم االنتخابي. 58
ملف العلمانية -مقابالت
- 4الرتبية:
كث ٌري من امل�ؤ�س�سات الرتبو ّية يف لبنان لها طابع املدار�س الدين ّية �أو الطائف ّية ،حتى �أنّ املدار�س �صب يف دائرة هذا التق�سيم من خالل نوع مادة التعليم الديني التي ُتد َّر�س يف الر�سم ّية َت ُّ �صفوفها ومن خالل يوم التعطيل الأ�سبوعي الذي ُيعتمد فيها. �إنّ �أية �سيا�سة تربو ّية وطن ّية غري طائف ّية يف لبنان تهدف �إىل تدعيم فكر املواطنة يف نفو�س التالمذة والطالب ال ميكن �أن تنفّذ �إال من خالل تطبيق �سل�سلة من الإ�صالحات الرتبوية الأ�سا�س ّية ومنها: دمج مواد التعليم الديني اخلا�صة بكل طائفة واملُط ّبقة يف كثري من املدار�س يف لبنان يفللدينني امل�سيحي والإ�سالمي ،بالإ�ضافة �إىل عر�ض مادة واحدة تت�ضمن املبادئ الأ�سا�س ّية ّ موجز ملختلف ديانات العامل وثقافاتها وح�ضاراتها. تفعيل تطبيق مادة الرتبية الوطنية والتن�شئة املدن ّية يف املدار�س من خالل برامج تعتمدالبحث والعمل امليداين بني النا�س ،تمُ ّكن الطالب من ال َت َع ُّرف ب�شكل عملي مبا�شر على دوره كمواطن داخل الدولة ولعب هذا الدور. وحد يعر�ض تاريخ لبنان القدمي واجلديد وي�شمل تاريخ احلرب الأهل ّية اعتما ُد ٍكتاب ُم ّ اللبنان ّية. - 5الإعالم:
�إذا كانت عمل ّية �إنتاج الربامج الإعالمية الرتبو ّية الهادفة �إىل بث مفهوم املواطن ّية بني النا�س واجب على و�سائل الإعالم يف �أي دولة يف العامل ،غري �أنّ كثرياً من و�سائل ونبذ الطائفية هو ٌ الإعالم اللبنان ّية (من �صحف و�إذاعات وتلفزة) تغرق يف دوامة ال�سيا�سة الطائف ّية اللبنان ّية، وتلعب دوراً �أ�سا�سياً يف احلمالت الإعالم ّية التي يقودها ال�سيا�سيون يف �إطار اال�صطفاف حتم�سها لها. الطائفي ال�سيا�سي ،وذلك بحكم تبعيتها ملجموعات طائف ّية �أو ُّ حتى �أنّ َّ تابع للحالة ال�سيا�س ّية اللبنان ّية يعلم متام املعرفة �أنّ بع�ض و�سائل الإعالم ُيجاهر كل ُم ٍ علناً بانتمائه ال�سيا�سي الطائفي ،رغم �أنّ هذا الأمر ٌ مرفو�ض من الناحية القانونية والأخالقية. 59
من هذا املُنطلق ،ال ميكن تقلي�ص الطائفية يف لبنان �إال من خالل �إعادة و�سائل الإعالم �إىل دورها الرتبوي املدين البعيد من التحري�ض الطائفي .وهذا الأمر يتطلب كفالة حرية امل�ؤ�س�سات الإعالم ّية وعدم تبع ّيتها للمجموعات ال�سيا�س ّية الطائف ّية وعدم ا�ستعمالها يف املعارك ال�سيا�س ّية الطائف ّية التي تخو�ضها زعامات هذه الطوائف� ،إ�ضافة �إىل �إمكانية تطبيق مبد�أ ال�شفافية املالية عليها. وو�صو ًال �إىل هذا الهدف ،ينبغي على النا�شطني يف العمل املدين يف لبنان �أن ُيبادروا �إىل ر�صد الإعالم الطائفي والر ّد عليه ،واال�ستعانة بو�سائل التوا�صل االجتماعي كو�سيلة �إعالم ّية بديلة ميكن ا�ستعمالها لعر�ض �سيئات الطائف ّية وخطرها على املجتمع. -هل العلمانية كافية لتغيري النظام الطائفي؟
طبعاً ،لكن العمل لبناء الدولة التي نطمح �إليها وهي الدولة احلا�ضنة واحلامية جلميع �أبنائها يتطلب العمل على �صعيدين� ،أ ّو ٌل هو الذي �أ�شرنا �إليه �أعاله والذي يتمثل ب�سلة الإ�صالحات املطلوبة لعلمنة النظام ،وثانٍ يتمثل ب�سلة َمطالب اجتماع ّية ،منها املطالبة باعتماد نظام �ضمان �صحي �شامل يطال جميع اللبنانيني ،واملطالبة بتح�سني املرافق احليو ّية العامة كقطاعي الكهرباء واملاء وخف�ض �أ�سعار املحروقات ،وبالتايل ف�إن الن�ضال يجب �أن يتو ّزع ب�شكل متوا ٍز على هاتني ال�سلتني. توحد العلمانيني يف لبنان؟ -ما �سبب عدم ّ
ال �شك �أنّ �أ�سباباً عديدة قد حتول دون توحد العلمانيني يف لبنان ،يف ّ ظل جميع التقاطعات الإقليمية والدولية التي يعي�شها هذا البلد ال�صغري .و�إن �أردنا اخت�صارها نقول �إنّ بع�ض القوى العلمانية تعترب �أن �أولوية عملها من منظارها هي حل�سابات �سيا�سية و�إقليمية ت�سبق �أولوية ت�ضافر جهود القوى العلمانية املتنوعة لتقدمي جهد م�شرتك يف بناء الدولة العلمانية .وغالباً ما يختلف هذا البع�ض مع باقي القوى العلمانية يف الق�ضية التي �أعطاها الأولوية ،في�صبح يف حالة مواجهة مع قوى علمانية �أخرى ال تتفق معه على �أولويته التي اختارها. للم وتوحيد �صفوف القوى ال�شبابية العلمانية التي واجهت �أما املحاوالت التي جرت ِّ 60
ملف العلمانية -مقابالت
اال�صطفاف ال�سيا�سي الطائفي م�ؤخراً يف لبنان ،على مبادئ ون�ضاالت وحتركات م�شرتكة ،فقد ا�صطدمت بواقع تدنيّ م�ستوى الوعي لدى هذه املجموعات على �أهمية و�ضع مبادئ وخطة طريق م�شرتكة جتمع هذه القوى ،وانح�صرت لقاءاتها على مبادرات وحتركات �ضاغطة م�شرتكة عديدة �شهدها لبنان ،مل ترتقِ �إىل م�ستوى التحالفات. غري �أن حماوالت جمع القوى العلمانية اخلارجة عن اال�صطفاف الطائفي يف لبنان ،تبقى م�ستمرة ،وال بد �أن تثمر نتائج عملية يف ال�سنوات املقبلة نتيجة املجهود الذي �أ�صبح ُي َعطى لها، ونتيجة اخلربة وازدياد الوعي الذي اكت�سبته وتكت�سبه القوى املدنية والعلمانية النا�شطة على �أهمية تعا�ضدها وتك ّتلها يف مواجهة الواقع ال�سيا�سي الطائفي املفرو�ض على البالد. -ما العوائق وال�صعوبات التي ُيعاين منها العلمانيون يف لبنان؟
من �أهم العوائق التي تواجه القوى العلمانية يف لبنان:
عـدم نـجـاح هذه القوى العلمانية يف حتقيق انت�صارات كبرية يف مواجهة ال�سلطةال�سيا�سية الطائفية يف لبنان. جناح ال�سلطة يف رمي ُالكرة يف ملعب القوى العلمانية وال�ضغط عليها �أمام الر�أي العام يف �أثناء التحركات الكبرية التي نظمتها هذه القوى. دور بع�ض و�سائل الإعالم ال�سلبيٌ ،كل من منطلق الفريق ال�سيا�سي الذي يمُ ثّله يف ت�صوير حتركات القوى العلمانية واملدنية ب�صورة �سلبية ،منها الزعم �أن بع�ضها مم ّول من دول عربية �أو �أجنبية� ،أو �أنها �صنيعة بع�ض القوى ال�سيا�سية اللبنانية املتواجهة ،ما �ساهم يف ت�شويه �صورة بع�ضها لدى عامة النا�س. ظهور ُمناف�سة بني القوى العلمانية ،و َت�سا ُبق على الظهور الإعالمي يف عدة منا�سباتوحتركات. التجاذب يف وجهات النظر لدى منظمي التحركات يف و�سائل املواجهة يف حتركات كبرية�شهدها لبنان يف الفرتة الأخرية. ف�شل املجموعات املُتن ِّوعة املُ�شاركة يف احلراكات الكبرية يف التوافق على مبادئ م�شرتكة61
جتمعها يف �إطار ائتالف عام ويف ت�شكيل عمل م�شرتك ُم ّنظم وم�ستمر. اختالف بع�ض القوى ال�سيا�سية يف وجهات النظر حول كيفية التعاطي �أو التوا�صل معال�سلطة ال�سيا�سية احلاكمة وحول مدى ا�ستعمال الو�سائل الالعنفية يف مواجهة ال�سلطة. وجود بع�ض املواقف املتناق�ضة بني القوى العلمانية النا�شطة يف لبنان من بع�ض الق�ضاياال�سيا�سية املحلية والإقليمية والدولية. بر�أيكم كيف يجب �أن تعمل احلركات واجلمعيات العلمانية لتحقيق �أهدافها؟وما ال�سبيل لتحقيق دولة علمانية يف لبنان؟
رغم �أنّ املجموعات ال�شبابية النا�شطة تباينت يف ما بينها جلهة و�سائل تعبريها (العنفية �أو الالعنفية) ،واملوقف والعالقة التي تربطها مب�ؤ�س�سات الدولة ال�سيا�سية (كمجل�س النواب املُمدِّ د لنف�سه وجمل�س الوزراء) ومدى التوا�صل مع هذه امل�ؤ�س�سات (وجود توا�صل �أو عدمه)، وكيفية ترتيب �أولويات برناجمها وكيفية طرحه� ،إال �أنها ما زالت ُت�شكل الأر�ضية الوحيدة غري املُرتهنة ل�سيا�سة امل�صالح الفئو ّية اللبنان ّية وغري املُطيفة �أو املُوجهة �إقليمياً ،التي ميكن االعتماد عليها ل�صنع التغيري يف لبنان. والتوحد �إنّ تطور عمل هذه املجموعات امل�شرتك يبقى َمرهوناً مبدى قدرتها على التن�سيق ُّ حول خطة عمل حتمل برناجماً وا�ضحاً ميكن �أن ُي� ّؤ�س�س مع الوقت لبناء حالة �سيا�س ّية الطائف ّية علمان ّية ،يطمح العلمانيون يف لبنان �إىل ت�شكيلها ،ب�شرط �أن ين�ش�أ هذا التن�سيق بعمل تدعو �إليه قوى من خارج اال�صطفاف ال�سيا�سي الطائفي يف لبنان. وال �شك �أنّ عام َلي تط ُّور الوعي وتراكم اخلربات �سيلعب دوره الإيجابي يف متكني النا�شطني يف التن�سيقي يف امل�ستقبل. هذه املجموعات من ت�شكيل هذا العمل ّ
62
ملف العلمانية -مقابالت
ر�شيد زعرتي :العلمانية يف لبنان
ُتلغي النظام الطائفي بداية ،من نحن؟
نحن مواطنات ومواطنون من العامة نعمل على خال�ص لبنان من احلروب وال�صراعات الطائفية ،ومن الأزمات االجتماعية واملعي�شية ،ويف �سائر جماالت احلياة التي ي�سببها النظام الطائفي ،وتتحمل الطبقة ال�سيا�سية احلاكمة ب�أجنحتها كافة امل�س�ؤولية الرئي�سية عنها. نحن نرى �أن خال�ص لبنان يكون ب�إقامة الدولة الدميقراطية العلمانية ،دولة املواطنة والعدالة االجتماعية وامل�ساواة بني املر�أة والرجل ،دولة الوحدة الوطنية واالندماج االجتماعي بني اللبنانيني وال�سلم الأهلي الدائم ،والقادرة على حماية حدودها ب ّراً وبحراً وج ّواً. دولة االقت�صاد احلديث القائم على تطوير وتنمية الإنتاج ال�صناعي والزراعي ،والتكنولوجيا واخلدمات الع�صرية وت�أمني فر�ص العمل وحق ال�سكن. دولة حرية الر�أي واملعتقد والإبداع والتعبري والإعالم احلر ،دولة القانون وامل�ؤ�س�سات والق�ضاء الفاعل النزيه وامل�ستقل ،دولة الع�صرنة واحلداثة والتعليم الإلزامي املجاين وال�ضمانات ال�صحية واالجتماعية. نحن لبنانيات ولبنانيون من العامة ،حت ّررت الأنف�س لدينا من الطائفية و�سائر الع�صبيات، واخرتنا �أن يكون انتما�ؤنا �إىل لبنان �أو ًال و�أخرياً م�شروع وطن مل ينجزه اللبنانيون بعد. النقطة الأوىل :العلمانية ب�إيجاز
م�سار تطور اجتماعي� -أي مرحلة يف التطور االجتماعي للب�شرية -دخلته �أوروبا و�أمريكا 63
ال�شمالية و�أ�سرتاليا بداية ،وك ّون بف�صله بني الروحي والزمنيُ ،نظماً عامة للحياة امل�شرتكة بني الب�شر ،ال مت ّيز النا�س ح�سب �أديانهم ومعتقداتهم الفكرية والدينية والفل�سفية ،وترتكز حراً يت�ساوى مع كل �آخر يختلف عنه �إىل مركزية الإن�سان يف احلياة باعتباره قيمة وفرداً ّ ومعه يف الدين واملعتقد الفل�سفي ويف الفكر ويحرتم معتقده ،ومع كل �آخر ي�ؤمن باملعتقدات ذاتها من ناحية ،وتقوم هذه النظم من ناحية �أخرى على: ــ حياد الدولة جتاه الأديان والعقائد الفكرية والفل�سفية وحيادها جتاه جميع اجلماعات التي تعتقد بها ،وذلك يعني �أن ال دين للدولة و�أنها ال تف�ضل جماعة �أو طائفة دينية مع ّينة على بقية اجلماعات الدينية الأخرى يف الدولة (الف�صل بني الدين والدولة- الدين واملعتقد خا�ص بالفرد واجلماعة التي ت�ؤمن به والدولة للجميع). ــ احرتام الدولة جلميع اجلماعات الدينية وحمايتها ومتكينها من ممار�سة �شعائر معتقدها كما واحرتام جميع االجتاهات الفكرية والفل�سفية� ،ضمن �إطار احلفاظ على النظام العام للحياة امل�شرتكة بني جميع املواطنني واجلماعات يف املجتمع. ــ الف�صل بني ال�سلطة الروحية (امل�ؤ�س�سة الدينية) وال�سلطة الزمنية – الدولة -والف�صل بني ال�سلطة الروحية وال�سيا�سية .وذلك يعني �أنه ال يحق للم�ؤ�س�سة الدينية �أن تتدخل يحق لرجل الدين كفرد ومواطن �أن يعمل يف ال�سيا�سة -ال يحق له يف ال�سيا�سة ،ولكن ّ �أن ينطق با�سم الدين يف ال�ش�أن ال�سيا�سي ،بل ينطق با�سمه ال�شخ�صي كفرد ومواطن. العلمنة يف لبنان:
• م�سرية تطور اجتماعي مل يدخله املجتمع اللبناين بعد ،وتن�شد �إزالة نظام احلياة الطائفي الذي � ّأ�س�س منذ تق�سيم الإمارة ال�شهابية �إىل قائمقاميتني :درزية وم�سيحية، حراً وحجز تطور البلد وحال دون دخوله م�ساراً يف�ضي �إىل تكوين اللبناين ،مواطناً ّ بحيث ي�ساوي كل مواطن (يف الوعي والنظرة االجتماعية) بني ذاته والآخر من غري طائفته من ناحية ،و�إىل بلوغ م�ستوى من االندماج الوطني واالجتماعي بني الأفراد موحداً ،من ناحية ثانية. واجلماعات اللبنانية يتحقق معه كون اللبنانيني �شعباً ّ
64
ملف العلمانية -مقابالت
• تهدف العلمنة �إىل بناء نظام حياة حديثاً م�شرتكاً وجديداً جلميع اللبنانيني التع�صب واحلقد الطائف ّيني وتعترب �أن االنتماء اللبناين يجب يرتكز �إىل مواطنة تنبذ ّ �أن يكون �أ�سا�ساً �إىل لبنان الوطن وال�شعب الواحد �أو ًال ،وت�ساوي بني جميع املواطنني على اختالف �أديانهم و�أفكارهم ومعتقداتهم الفل�سفية ثانياً ،وحتقق اندماجهم �أفراداً �أو موحد يحرتم كلّ فرد منه الآخر ومعتقداته �سواء كان هذا الآخر جماعات يف �شعب ّ فرداً �أم جماعة. بحد • الدولة الدميقراطية العلمانية التي نطمح �إليها ترتكز �إىل الإن�سان كقيمة ّ ذاته� .إنها دولة حيادية يف عالقتها بالأديان املختلفة وبالتايل عليها �أن تعامل على قدم امل�ساواة جميع املواطنني املنتمني �إليها ،وحتى �أولئك الذين ال ينتمون �إىل � ّأي دين �أو طائفة. حراً يت�ساوى • �إذ ترتكز العلمنة �إىل مركزية الإن�سان يف احلياة باعتباره قيمة وفرداً ّ مع كل �آخر� ،إن تك ّون اللبناين مواطناً وفرداً حراً هو �أ�سا�س بناء علمنة لبنانية ت�ضمن حرية ال�ضمري املنجدلة مع حرية التعبري عن الر�أي واملعتقد �أ�سا�ساً لكل حرية �إن�سانية. ّ ي�ستقل كل منهم عن �إن املجتمع اجلديد الذي نتطلع �إىل بنائه يتك ّون من �أفراد �أحرار كل �سلطة �أو طائفية �أو معتقد ،قناعته وم�سريته يف احلياة خيار �شخ�صي ح ّر وفق �ضمريه. فالإن�سان ح ّر يف �أن ي�ؤمن �أو ال ي�ؤمن ،و�أن ميار�س �إميانه على حدة �أو باال�شرتاك مع جماعة، ب�شكل علني �أو على انفراد ،وب�أن يغري دينه بح�سب �ضمريه وقناعته وحكم عقله ،وال ميكن �أن يكون الفرد ملكاً ل ّأي عقيدة �أو مذهب �أو طائفة �أو دين �أو قيادة �سيا�سية �أو زعيم �سيا�سي �أو جماعة معينة .الإن�سان ملك نف�سه وال قيد وال �سلطة على خياره �أو حياته غري �سلطة القانون الو�ضعي والنظام العام. • الدولة الدميقراطية العلمانية ت�ضمن للفرد �أو للجماعة حرية ال�ضمري كما حرية التعبري عن الر�أي واملعتقد وحترره من كلّ قيد مايل �أو �سلطوي �أو اجتماعي ومن كل �ضابط عقائدي �أو طائفي. 65
• �إن العلمنة يف لبنان تف�صل ما بني العام (و�ضمنه ال�سيا�سة والدولة) .والطائفيات ال�سيا�سية اللبنانية ،وتف�صل بني املواطن والطائفية (ولي�س الطائفة كمذهب ديني) يف جميع ال�ش�ؤون الزمنية واحلياتية امل�شرتكة بني جميع املواطنني بحيث تنح�صر عالقة املواطن بطائفته يف الإطار الروحي والديني ال�صرف ،وبهذا املعنى ف�إنّ العلمنة حترر الدين من كلّ ا�ستغالل لأغرا�ض وم�صالح �سيا�سية �أو طبقية �أو �شخ�صية. • �إن الدولة الدميقراطية العلمانية تقوم �أي�ضاً على مبد�أ املواطنة بحيث يت�ساوى كل بغ�ض النظر عن انتماءاتهم الدينية والثقافية والعرقية واللغوية اللبنانيني يف ما بينهم ّ والقومية واملناطقية ،كما تقوم على مبد�أ العدالة االجتماعية بهدف �إحقاق الفر�ص املتكافئة لكلّ مواطن لبناين للح�صول على حياة كرمية من خالل �ضمان احلق وحق كل مواطن بال�سكن املت�ساوي بالعلم والعمل وبالتح�صيل الأكادميي �أو الفنيّ ، وال�ضمان االجتماعي وال�ضمان ال�صحي و�ضمان ال�شيخوخة ب�شكل كامل واحلق بدخل يعادل احلد الأدنى لكلفة املعي�شة. • تنا�ضل الدميقراطية العلمانية يف لبنان من �أجل �إ�سقاط النظام الطائفي اللبناين ورموزه ،وهو نظام حروب و�صراعات طائفية تتنا�سل �إىل ما ال نهاية ،ويقوم على �إلغاء املواطنة والإن�سان فينا ،وا�ستالب العقل عندنا ،ويحولنا �إىل طائفيني متع�صبني نت�صارع ونتقاتل بو�سائل وح�شية ،ونتكاذب يف ما بيننا يف فرتات ال�سلم الأهلي. �إن نظام احلياة الدميقراطي العلماين يلغي الطائفية من حياتنا �إىل الأبد ،وينهي معها حروبها ،ويبعث يف اللبناين �إن�سانيته ومواطنته ،ويحقق االندماج الوطني واالجتماعي بني موحد ومواطنة لبنانية ووطن ووحدة اللبنانيني يف �إطار م�سار يقودنا �إىل بناء �شعب لبناين ّ وطنية لبنانية حقيقية. النقطة الثانية :هل العلمانية كافية لتغيري النظام الطائفي؟
العلمانية كما نفهم ونن�شد هي النقي�ض للنظام الطائفي اللبناين ،فمن البديهي�أن حتققها كاملة يكون بزوال النظام الطائفي يف البلد �إىل الأبد ،ونق�صد ،حتققها يف 66
ملف العلمانية -مقابالت
جميع جماالت احلياة اللبنانية امل�شرتكة :ال�سيا�سية واالجتماعية والثقافية والرتبوية واالقت�صادية والريا�ضية� ...إلخ .وخالفاً للنظام الطائفي اللبناين الذي يقوم على �إلغاء املواطن احلر واختزال كل طائفية للأفراد وحتويلهم �إىل رعايا ،وت�أبيد االنق�سام والفرقة بني اللبنانيني ،ويحجز تطور املجتمعات الأهلية الطائفية ويحول دون اندماجها وحتولها �إىل مواطنني و�شعب موحد ،ف�إنّ العلمنة ،النقي�ض لهذا النظام الطائفي ،حتقّق االندماج الوطني -االجتماعي بني اللبنانيني وتنتقل بهم نحو �إجناز تكونهم مواطنني �أحراراً يتوحد يف وطن على قاعدة االنتماء لهوية وطنية لبنانية جامعة من دون احلاجة و�شعباً ّ �إىل تو�سط �أية طائفية .بهذا املعنى نعم �إن حتقق العلمنة كاملة يلغي من حياتنا النظام الطائفي �إىل الأبد. توحد العلمانيني يف لبنان؟ النقطة الثالثة :ما �سبب عدم ّ
بداية ،من هم العلمانيون حقيقة؟ نحن �إزاء �إ�شكاليات عديدة �أبرزها: � .1إ�شكالية �أوىل :بني العلمانية واملدنية :حيث تتمظهر هذه مبجموعات عديدة و�أحزاب تن�سب نف�سها �إىل املدنية مع رف�ض اعتماد م�صطلح العلمانية يف التعريف عن نف�سها وبرناجمها. � .2إ�شكالية ثانية :تتعلق باالرتباك الذي ي�شهده البع�ض ويتمظهر برت ّدد وعدم احل�سم واحلجة �أن اجلماهري تعترب العلمانية �ضد الدين. � .3إ�شكالية ثالثة :ق ّلة عدد اجلمعيات التي تعلن انتماءها �إىل خيار العلمانية مع وجود �أندية جامعية علمانية ولكن ينح�صر عملها يف الإطار اجلامعي هذا من جهة .ومن جهة توحد العلمانيني يف لبنان يعود �إىل واقع �أن العمل ثانية نرى �أن ال�سبب الرئي�سي لعدم ّ العلماين ما يزال يف طور جنيني حتى الآن ،ن�ش�أته حديثة ،ومل يرتقِ بعد �إىل م�ستوى العمل احلزبي (للتذكري :انطالقته كانت يف عام 2010ومع �أول مظاهرة علمانية يف تاريخ لبنان)� .إن مثل هذا االرتقاء �شرط �ضروري ،ذلك �أن وجود حزب علماين �أو �أكرث ّ ي�شكل حالة ا�ستقطاب ميكن �أن تف�ضي �إىل توحيد العلمانيني يف �إطار جبهوي على قاعدة 67
برنامج ن�ضال م�شرتك� .إن تطوير العمل العلماين باجتاه جتاوز احللقية وال�شللية ذات الطبيعة الفئوية احلادة يف التنظيم هو ال�سبيل �إىل بناء منظمات علمانية حزبية تتجه نحو الوحدة. ومبعنى �آخر� ،إن ال�شرط ال�ضروري لتحقيق وحدة العلمانيني هو النجاح يف العبور من حالة تبعرث املجموعات ال�صغرية وجتاذباتها �إىل بناء منظمات حزبية وازنة وفاعلة على قاعدة من الو�ضوح الفكري وال�سيا�سي والربناجمي. النقطة الرابعة :ما هي العوائق وال�صعوبات التي يعاين منها العلمانيون يف لبنان؟
هذه كثرية ،والأهم يف املو�ضوعي منها� ،سيادة ثقافة البنى االجتماعية الطائفية-القبلية املتخ ّلفة واملهيمنة على العقل والوعي لدى �أكرثية اللبنانيني �صغاراً و�شباباً وكباراً ،وهذه ت�شبه الثقافة الأكرث رجعية وتخلفاً وانغالقاً والتي �سادت زمن القرون الو�سطى واحلروب الدينية ويف ممالك اال�ستبداد املطلق يف �أوروبا وال�سلطنة العثمانية. الأخطر يف هذه الثقافة ،وهي ثقافة �شعبية� ،أنها تعطل العقل لدى الإن�سان ،فتحوله �إىل �شخ�ص مربمج يتوقف عن التفكري ويحيل �أمر تفكريه �إىل زعماء الطوائف و�أمرائها ونخبة من رجال الدين ،يتوىل ه�ؤالء �ش�ؤون التفكري يف كل �شيء عن �أكرثية اللبنانيني ،ويقرر الزعماء والأمراء عنا يف جميع ال�ش�ؤون املتعلقة بحياتنا وخا�صة يف تلك امل�صريية� .أما يف الذاتي فلقد تناولت يف النقطة ال�سابقة الأهم يف املعوقات وال�صعوبات التي تتعلق بالو�ضع الذاتي للعمل العلماين يف لبنان. النقطة اخلام�سة :بر�أيكم كيف يجب �أن تعمل احلركات واجلمعيات العلمانية لتحقيق �أهدافها؟ وما ال�سبيل لتحقيق دولة علمانية يف لبنان؟
ن�سجل بداية �أن �شرط حتقق العلمنة يف لبنان هو انحياز �أكرثية اللبنانيني لهذا اخليار. فالتغيري ال ي�صنعه حزب �أو جبهة �أحزاب فقط ،بل ت�صنعه �أكرثية كبرية من ال�شعب .هذا يعني �أنه �إذا مل ينجح العمل العلماين يف ا�ستقطاب �أكرثية وازنة لهذا اخليار وبناء حركة �شعبية جديدة ونا�شطة ومنا�ضلة يف هذا ال�سبيل من مادة هذه الأكرثية ،ي�ستحيل انتقال 68
ملف العلمانية -مقابالت
البلد �إىل نظام دميقراطي علماين� .إن ذلك يطرح مهمة ت�أ�سي�س وبناء حركة �شعبية جديدة لتدق �أبواب التغيري الدميقراطي العلماين ك�أولوية راهنة. لقد ثبت يف جتارب الع�صر احلديث �أن ت�أ�سي�س حركة �شعبية جديدة للتغيري هو نتاج عمل حزبي �أو جبهة �أحزاب ن�ضال يف هذا ال�سبيل (مع وعي دور العن�صر املو�ضوعي) .واملفارقة القائمة يف واقعنا الراهن� ،أن مثل حزب كهذا �أو جبهة �أحزاب علمانية مل تت�أ�س�س بعد يف البلد( .وجود احلزب ال�شيوعي اللبناين على �أهميته وتاريخه ،دوره ال يكفي – هذا مو�ضوع نقا�ش �آخر) .كما ذكرنا �سابقاً ،العمل العلماين يف لبنان ما يزال يف طور جنيني ومل يرتق �إىل م�ستوى العمل احلزبي بعد .فالعفوية والتجريبية والتجاذبات الفئوية هي التي حتكم ن�شاط وممار�سة �أكرثية املجموعات وي�ستحيل ت�أ�سي�س وبناء حركة ن�ضال �شعبي جديدة بعمل جمموعات �صغرية غري موحدة ومبعرثة وغري قابلة لالرتقاء يف عملها نحو البناء التنظيمي القابل للنمو على قاعدة من الو�ضوح الفكري وال�سيا�سي والربناجمي والقدر ال�ضروري من االنتظام واالن�ضباط والتما�سك احلزبي .لذلك ،نحن يف"التجمع" نرى �أن البدء يف عمل العلمانيني يف لبنان يكون بت�أ�سي�س وبناء منظمات حزبية دميقراطية علمانية تتوحد يف �إطار جبهوي م�شرتك. �أنتقل �إىل ال�س�ؤال الثاين يف هذه النقطة لأقول� ،إن حتقق الدولة الدميقراطية العلمانية يف ونرجح �أن تكون هذه متدرجة لبنان هو نتاج عملية �صراعية مع النظام الطائفي اللبناينّ . نرجح �أن ال يتحقق االنتقال �إىل العلمنة الكاملة يف البلد بعملية ثورية ومديدة .مبعنى �آخرّ ، �سريعة و�أن تنجز دفعة واحدة .وقد ي�شهد انتقال البلد �إىل العلمنة املرور بحقبات حت�صل فيها ازدواجية يف نظامه جتمع بني العلمنة والطائفية .ال ن�ستطيع �أن جنزم من الآن ،فامل�سار ال�صراعي قد يطول ،و�أ�شكال وو�سائل االنتقال �إىل الدولة الدميقراطية العلمانية تتحدد يف �إطار تطورات العملية ال�صراعية نف�سها بني قوى العلمنة وقوى الطائفية يف البلد. من جهتنا نحن نتوخى �سبل االنتقال ال�سلمي الدميقراطي �إىل العلمانية يف البلد .لكن هذا الأمر ال يتوقف على رغبتنا نحن فقط ،بل يحدده يف الغالب النهج الذي �ستعتمده الطبقة تتوحد دائماً ال�سيا�سية امل�سيطرة متحدة يف العملية ال�صراعية يف ما بيننا .وهذه الطبقة ّ 69
بكل �أجنحتها الطائفية ،وخا�صة يف مواجهة التحركات ال�شعبية وقوى التغيري الدميقراطي على الرغم من انق�ساماتها و�صراعاتها والأمثلة كثرية. وال�س�ؤال هو ،هل �ستلج�أ الطبقة ال�سيا�سية امل�سيطرة وقواها الطائفية �إىل منع عملية االنتقال ال�سلمي بالقوة ،وذلك عندما يرجح ميزان االنحياز ال�شعبي ل�صالح التغيري الدميقراطي العلماين؟ هذا ما نق�صد عندما نقول �أن النهج الذي �ستعتمده الطبقة ال�سيا�سية و�أحزابها الطائفية يحدد �إىل حد كبري �سبل االنتقال �إىل العلمانية يف البلد .وهذه ال�سبل ال تقررها الأحزاب العلمانية لوحدها �أي�ضاً ،وبقدر ما يتدخل املزاج اجلماهريي يف تلك اللحظة ،ليح�سم يف اختيار ال�سبيل الذي �ستلج�أ �إليه احلركة ال�شعبية يف م�سرية العملية ال�صراعية بني العلمنة والطائفية. �أختم ،يف البدء ،الذي هو الآن ،علينا �أن ننجز الراهن وهذا �سي�ستغرق ب�ضع �سنوات. والراهن الآن هو الت�أ�سي�س والعمل على بناء حزب علماين جديد �أو �أكرث مبني على قاعدة و�ضوح فكري و�سيا�سي وبرناجمي كما ذكرت ،والعمل على ن�شر ثقافة الدميقراطية والعلمنة مهمة دائمة يتوا�صل القيام بها يف جميع احلقبات. اخلال�صة :العلمنة التي نن�شد يف لبنان تعريفا ً هي:
نظام حياة مواطنة دميقراطية ي�ساوي بني اللبنانيني على اختالف معتقداتهم ويلغي الطائفية من حياتهم �إىل الأبد ،ويف�صل بني املواطن كفرد حر والطائفية وال يف�صله عن الطائفة كجماعة ت�ؤمن مبذهب ديني ،ويف�صل بني الدولة والطائفية ،ويقوم على حياد الدولة جتاه املعتقدات الدينية والفل�سفية والفكرية كافة وحيادها جتاه اجلماعات التي تعتقد بها، واحرتام اجلماعات الدينية وحمايتها ومتكني كل جماعة من ممار�سة �شعائر معتقداتها ،كما واحرتام جميع االجتاهات الفل�سفية والفكرية. ويف تعريف العلمنة التي نن�شد حتقيقها يف لبنان ن�شدد على امل�ضمون الدميقراطي لها مقابل مناذج علمنة ا�ستبدادية غري دميقراطية متحقّقة يف عدد من البلدان. 70
ملف العلمانية -مقابالت
ما هي ال�سبل والو�سائل لتطبيقها؟
يف االنتقال من النظام الطائفي �إىل النظام العلماين �سنعتمد ال�سبل والو�سائل الدميقراطية ال�سلمية غري القمعية ومن دون جري �أو فر�ض� ،إذ �أن ا�ستعمال القوة والقمع يف حتقيق هذا االنتقال ي�ؤدي بالبلد �إىل بناء نظام علمنة ا�ستبدادية ،مع حلظ �أن هذه امل�س�ألة لي�ست مطروحة على جدول العمل العلماين الآن� ،إذ ال يزال هذا العمل يف طوره الت�أ�سي�سي وبالتايل ف�إن الأولوية الآن للم�سائل املتعلقة مبهام ت�أ�سي�سية.
71
فـــــكـــــر
الربيع العربي من منظار التناف�س اجليو�سيا�سي بني ال�صني ورو�سيا و�إيران من جهة ،والواليات املتحدة و�أوروبا وتركيا من جهة �أخرى
د .جمال واكيم -دكتور يف التاريخ والعالقات الدولية
يف كانون الأول ،2010اندلعت تظاهرات �صاخبة يف تون�س �ضد الرئي�س ال�سابق زين العابدين بن علي� ،سرعان ما انتقلت �إىل ليبيا وم�صر واليمن وحتى �سورية ،معلنة ربيعاً عربياً قال كثريون �إنه �سي�ؤدي �إىل انت�شار الدميقراطية يف العامل العربي .وقد �أ ّدت التظاهرات �إىل الإطاحة بكل من بن علي يف تون�س والعقيد معمر القذايف يف ليبيا ،والرئي�س ح�سني مبارك يف م�صر ،والرئي�س علي عبد اهلل �صالح يف اليمن ،فيما اندلع �صراع ال يزال جارياً �إىل الآن يف �سورية .ومع مرور الوقت تبني �أن الربيع العربي مل يجر مبعزل عن تغريات دولية و�إقليمية مل تبق حم�صورة يف املنطقة العربية ،بل انتقلت عدواها جنوباً �إىل القرن الأفريقي و�شما ًال �إىل �أوكرانيا .وبالتايل فقد تبني �أن الربيع العربي هو يف جانب كبري منه ما هو �إال �صراع ب�أ�شكال �أخرى بني القوى الكربى يف الوقت الذي يتحول فيه النظام الدويل من نظام يهيمن عليه الغرب بقيادة الواليات املتحدة �إىل نظام متعدد الأقطاب. ال�رشق الأو�سط املعا�رص
جتدر الإ�شارة �إىل �أن النظام الإقليمي الذي �ساد يف املنطقة العربية نتج ب�شكل كبري عن احلرب العاملية الأوىل وانهيار الدولة العثمانية التي كانت حتكم هذه الأقطار .فقد �أدى هذا االنهيار عقب هزمية العثمانيني يف احلرب العاملية الأوىل �إىل اقت�سام احلليفني الفرن�سي والربيطاين ممتلكات هذه الدولة يف امل�شرق العربي .فهيمن الربيطانيون على جممل اجلزيرة العربية ب�شكل مبا�شر �أو غري مبا�شر ،فيما فر�ضوا انتدابهم على العراق والأردن وفل�سطني وفقاً 1 التفاقية �سايك�س بيكو مع الفرن�سيني التي �أعطت ه�ؤالء الآخرين انتداباً على �سورية ولبنان. وكان املغرب واجلزائر وتون�س قد وقعت حتت اال�ستعمار الفرن�سي منذ الن�صف الثاين من 73
القرن التا�سع ع�شر ،فيما وقعت م�صر وال�سودان حتت اال�ستعمار الربيطاين .واجلدير ذكره �أن النظام الإقليمي مل يكن انعكا�ساً فقط للإرادة اال�ستعمارية الربيطانية والفرن�سية بل كان ناجتاً عن ا�صطدام امل�شاريع اال�ستعمارية لهاتني الدولتني ب�إرادات وطنية ظهرت يف البلدان التي وقعت حتت اال�ستعمار .فقد كانت ال�سيا�سة الربيطانية يف العراق تق�ضي بتق�سيمه �إىل ثالث مناطق ،كردية يف ال�شمال و�سنية يف الأو�سط و�شيعية يف اجلنوب ،فيما كانت ال�سيا�سة الفرن�سية يف �سورية تق�ضي بتق�سيمها �إىل �أربع دويالت ،علوية على ال�ساحل ،ودرزية يف جبل الدروز ،ودولتني �سنيتني يف دم�شق وحلب� 2.إال �أن ن�ضال قوى وطنية عراقية و�سورية حال دون هذا الأمر. يف العام ،1948قامت دولة �إ�سرائيل على �أر�ض فل�سطني بعد تهجري الكثري من �شعبها منها يف الوقت الذي كانت الدول العربية قد بد�أت تتح ّرر فيه من اال�ستعمار .وقد قادت م�صر حركة التحرر هذه لي�س فقط يف املنطقة العربية بل �أي�ضاً يف �أفريقيا ما �أدى �إىل حترر معظم �أقطارها من اال�ستعمار .لكن ا�صطدام حركة التحرر هذه ب�صعود امل�شروع االمرباطوري الأمريكي، خ�صو�صاً بعد اغتيال الرئي�س جون كينيدي يف العام � 1963أدى �إىل تراجع هذه احلركة ووقوع معظم هذه الأقطار حتت النفوذ الأمريكي ،فيما جنت بع�ض هذه الدول كليبيا واليمن اجلنوبي و�سورية بانحيازها �إىل املع�سكر اال�شرتاكي خالل احلرب الباردة .لكن مع انهيار كتلة الدول اال�شرتاكية واالحتاد ال�سوفياتي يف العام 1991بعد هزميتهما يف احلرب الباردة �أ�ضحت الواليات املتحدة زعيمة العامل بال منازع ،لكن �إىل حني .فقد كانت وا�شنطن تعرف حق املعرفة �أن عدداً من القوى من بينها ال�صني ورو�سيا و�أوروبا واليابان والهند والربازيل كانت يف طريقها لتبوء دور عاملي ،وكان هم القادة الأمريكيني هو يف �ضمان �أن تبقى بالدهم القوة الأوىل يف العامل .واجلدير ذكره �أن التفكري اجليو�سا�سي الأمريكي كان مت�أثراً باعتبار الواليات املتحدة قوة بحرية وريثة لربيطانيا العظمى يف �سيادة البحار ،والتي هي املفتاح 3 الرئي�سي لفر�ض ال�سيادة العاملية كما يعترب الأدمريال الأمريكي ال�شهري �ألفريد ثاير ماهان. وقد ت�أثر التفكري الأمريكي �أكرث ما ت�أثر بالنظريات اجليو�سيا�سية للعامل الربيطاين ال�شهري هالفورد ماكيندر الذي اعترب �أن ال�سيطرة على �أورا�سيا هي مفتاح ال�سيطرة على العامل .ويف 74
فـــــكـــــر
مقالته ال�شهرية حول املحور اجلغرايف للتاريخ اعترب ماكيندر �أن قلب �أورا�سيا الذي ي�ضم رو�سيا كان دائماً منطلقاً ل�صعود امرباطوريات برية كربى كانت تهدد بفر�ض �سيطرتها على جممل �أورا�سيا وبالتايل تهدد بعزل القوى البحرية و�آخرها بريطانيا متهيداً الحتاللها .وقد اعتقد ماكيندر �أن من م�صلحة بريطانيا عدم توحد �أورا�سيا حتت مظلة قوة وحيدة ،كما �آمن ب�ضرورة منع �أي قوة برية يف �أورا�سيا من اخلروج بحرية �إىل طرق املوا�صالت البحرية 4.وقد �أثر ماكيندر باملفكرين اجليو�سيا�سيني الأمريكيني وعلى ر�أ�سهم نيكوال�س �سبيكمان الذي كتب خالل احلرب العاملية الثانية عن اخلطر الذي يتهدد الواليات املتحدة يف حال احتدت �أورا�سيا حتت مظلة قوة واحدة ،لأنه يف هذه احلالة �ستنعزل الواليات املتحدة يف �شمال �أمريكا و�ست�صبح حما�صرة من ال�شرق والغرب بقوة معادية� .إال �أن �سبيكمان ر�أى �أن التهديد بتوحيد �أورا�سيا ميكن �أن ين�ش�أ لي�س انطالقاً من قلب �أورا�سيا وهي رو�سيا بل من املناطق املحاذية لها والتي ي�سميها مناطق الأطراف 5.وقد ت�أثر زبغنيو بريجن�سكي ،امل�ست�شار ال�سابق للأمن القومي الأمريكي يف عهد الرئي�س جيمي كارتر ،والذي اعترب �أنه لكي تبقي الواليات املتحدة على زعامتها للعامل ف�إن عليها �أن تبقي �أوروبا الغربية حتت مظلتها ،لأنها ت�شكل ج�سر عبور لوا�شنطن �إىل الرب الأوروا�سي .كذلك فهو �أ�شار �إىل �ضرورة �أن ال يقع ال�شرق الأو�سط وو�سط �آ�سيا حتت �سيطرة �أي من القوى الأورا�سية و�أال تخرج الواليات املتحدة من تلك 6 املنطقة و�أن تبقى حمكمة للتناق�ضات فيها. �صعود ال�صني
منذ القدم عندما كانت ال�صني تنه�ض وتزدهر ،كانت ترنو ب�أنظارها ناحية بحر جنوب ال�صني �إىل اجلنوب ال�شرق من ال�صني ،وناحية و�سط �آ�سيا التي كانت تعترب عقدة املوا�صالت التجارية الربية عرب �آ�سيا والتي ا�صطلح على ت�سميتها بطريق احلرير .وقد كان هذا ديدن ال�صني منذ توحيدها يف القرن الثالث قبل امليالد وحتى يومنا هذا .و ُيعترب �صعود القوة املغولية يف القرن الثالث ع�شر والرابع ع�شر يف جانب منه �صعوداً للهيمنة العاملية لل�صني. توحد �أورا�سيا �إىل تلك احلقبة التي �شهدت تهديداً مغولياً لأوروبا وتعود اخل�شية الغربية من ّ الغربية مل يتوقف �إال يف املجر .وبعد الإطاحة باحلكم املغويل يف ال�صني على يد م�ؤ�س�س �أ�سرة 75
مينغ عادت ال�صني �إىل عزلتها يف ظل �أ�سرتي مينغ وت�شني حتى بداية القرن التا�سع ع�شر. وقد بقيت ال�صني معزولة عن العامل ب�شكل كبري حتى منت�صف القرن الثامن ع�شر ،حني �شنت بريطانيا عليها حرباً لإجبارها على فتح �أ�سواقها �أما جتارة الأفيون املنتج بامل�ستعمرات الربيطانية وذلك يف العام 1840ما �أدى �إىل بدء وقوع ال�صني يف ظل الهيمنة الغربية يف ما �سيعرف بقرن الذل 7.قرن الذل هذا قدر له �أن ينتهي مع انت�صار الثورة ال�صينية بقيادة ماو ت�سي تونغ يف العام 1949و�إقامة جمهورية ال�صني ال�شعبية .وقد ّمتكن جيل ماو من �إعادة و�ضع ال�صني على اخلريطة العاملية ،لكن خروج ال�صني �إىل العامل مل يح�صل ب�شكل كبري �إال بعد وفاة ماو يف العام 1976وو�صول دينغ ك�سياو بينغ �إىل ال�سلطة يف العام .1978وقد �سارع دينغ لالنفتاح على الواليات املتحدة� 8.أما على ال�صعيد االقت�صادي فقد عمد لتطبيق خطة اقت�صادية مبنية على الت�صور الذي و�ضعه �شوين الي يف العام ،1975والتي تقوم على الرتكيز على الت�صنيع ثم االنتقال �إىل التنمية املتوازنة يف القطاعات االقت�صادية الأربعة وهي 9 الزراعة وال�صناعة والدفاع والتكنولوجيا. ا�ضافة �إىل ذلك بد�أت ال�صني ب�إقامة مناطق اقت�صادية حرة لالنفتاح على االقت�صاد العاملي، وبناء على ذلك منا االقت�صاد ال�صيني يف الثمانينيات والت�سعينيات من القرن املا�ضي مبعدالت ترتاوح بني 8و 10باملئة �سنوياً ،فيما ارتفعت م�ستويات املعي�شة للأفراد بن�سبة ثمانني باملئة وارتفعت ح�صة ال�صناعة من الناجت املحلي �إىل 50باملئة 10.ومع حلول العام 1992بد�أت ال�صني بتحقيق فائ�ض يف التبادل التجاري مع الواليات املتحدة ما جعلها تراكم احتياطات 11 بالعمالت الأجنبية بنحو �أربعني مليار دوالر ،لرتتفع بعد ذلك �إىل �أ�ضعاف ذلك املبلغ. وقد ّ مكن هذا ال�صني من جتاوز الأزمة التي �ضربت كتلة الدول اال�شرتاكية والتي �أ ّدت �إىل انهيارها وانهيار االحتاد ال�سوفياتي يف العام .1991 ما �إن انطلقت ال�صني اقت�صادياً حتى بد�أت ت�سعى لتدعيم هذه االنطالقة �سيا�سياً .وقد كان لدى ال�صني تاريخياً قلق من منطقة و�سط �آ�سيا التي كانت م�صدر معظم الغزوات التي تع ّر�ضت لها ال�صني ،كما �أنها كانت املنطقة التي تنطلق منها ال�صني لتدعيم التجارة يف الرب م�سمى طريق احلرير .لذا فقد قامت ال�صني وبالتعاون مع رو�سيا وكازاخ�ستان الآ�سيوي ،حتت ّ 76
فـــــكـــــر
وقرغيز�ستان وطاجيك�ستان ب�إن�شاء جمموعة اخلم�سة يف العام 1996والتي حتولت يف حزيران من العام � 2001إىل منظمة �شنغهاي للتعاون بعد ان�ضمام �أوزبك�ستان �إليها .ووفقاً لد�ستور املنظمة ف�إن هدفها الرئي�سي هو حفظ الأمن واال�ستقرار يف منطقة و�سط �آ�سيا ومكافحة احلركات االنف�صالية املنطلقة منها 12.و�أهمية منظمة �شنغهاي للتعاون تكمن يف �أنها حتتل وت�ضم ربع �سكان العامل .و�إذا �أخذنا يف االعتبار الدول التي �ستني باملئة من م�ساحة �أورا�سيا ّ تتمتع ب�صفة مراقب وهي �أفغان�ستان والهند و�إيران ومنغوليا وباك�ستان ف�إن منظمة �شنغهاي للتعاون ت�ضم ثمانني باملئة من م�ساحة �أورا�سيا ون�صف �سكان العامل .وقد �أر�ست املنظمة هيئة خا�صة ُتعنى مبكافحة الإرهاب 13 .واجلدير ذكره �أن طلب الواليات املتحدة باالن�ضمام �إىل املنظمة رف�ض يف العام ،2006كما رف�ض طلبها يف �أن تكون ع�ضواً مراقباً .وقد ّف�سر املحللون ذلك خل�شية ال�صني ورو�سيا من متدد نفوذ وا�شنطن �إىل و�سط �آ�سيا� 14.أما املنطقة الأخرى التي حتظى باهتمام ال�صني فهي منطقة جنوب بحر ال�صني لأهميتها يف الربط بني املحيط الهندي واملحيط الهادئ من جهة ،ولدورها كمنفذ لل�صني على طرق املالحة البحرية .ويرى حمللون �أن الواليات املتحدة ت�سعى ملنع ال�صني من ب�سط نفوذها على تلك املنطقة وذلك بتدعيم عالقاتها مع الدول امل�شاطئة لتلك املنطقة ،بالإ�ضافة �إىل اليابان وكوريا اجلنوبية وذلك 15 ملنع ال�صني من اخلروج �إىل طرق املالحة البحرية. يف مواجهة احتماالت �صعود ال�صني كقوة �أوىل يف العامل ،حاولت الواليات املتحدة اختالق �أزمات لها عرب ت�شجيع احلركات االنف�صالية يف منطقة التيبت ويف منطقة جينجيناغ ذات الغالبية امل�سلمة يف �شمال غرب ال�صني .ففي متوز 2009اندلعت مواجهات عنيفة بني امل�سلمني الويغور والبوذيني الهان .وقد اعتربت احلكومة ال�صينية �أن هذه املواجهات ت�سببت بها حركات �سلفية متطرفة القت ت�شجيعاً من �أفغانيني وباك�ستانيني .و�أ�صدر احلزب ال�شيوعي ال�صيني بياناً اعترب فيه �أن اال�ستقرار يف جينجيانغ هو �أمر حيوي جداً بالن�سبة لل�صني و�أن الأحداث نتجت عن ن�شاط قوى �إرهابية وانف�صالية متطرفة 16.وقد واجهت ال�صني حملة غربية متثلت باالنتقادات التي وجهت لها من قبل الأمني العام للأمم املتحدة بان كي مون ورئي�س الوزراء الأ�سرتايل كيفني رود وامل�ست�شارة الأملانية �أجنيال مريكل والناطق با�سم 77
اخلارجية الأمريكية �إيان كيلي 17.كذلك فقد ا�ستهدفت الواليات املتحدة ال�صني يف منطقة �أخرى ذات �أهمية كربى بالن�سبة لها وهي منطقة جنوب بحر ال�صني .ويعترب امل�س�ؤولون ال�صينيون �أن الواليات املتحدة حتاول خلق امل�شاكل بني الدول امل�شاطئة جلنوب بحر ال�صني. ففي �شباط 2014انتقد الناطق با�سم اخلارجية ال�صينية هونغ يل االتهامات الأمريكية لبالده ب�أنها حتاول ب�سط �سيطرتها على مناطق متنازع عليها يف منطقة جنوب بحر ال�صني واتهم الواليات املتحدة بالعمل على زيادة التوتر يف تلك املنطقة 18.ويف �آب املا�ضي وخالل قمة �آ�سيان �أعلن بيان �صادر عن مكتب وزير اخلارجية ال�صيني وانغ يي �أن على الواليات املتحدة تكف عن التدخل يف �ش�ؤون منطقة جنوب بحر ال�صني .واعترب البيان �أنه ال ميكن له �أن �أن ّ يفهم ملاذا ت�سعى دول "غريبة عن املنطقة �أن تثري امل�شكالت فيها" ،و�أنه ال يفهم ملاذا حتاول وا�شنطن �إثارة القالقل والفو�ضى كما فعلت يف العراق و�سورية وليبيا 19.بعد ذلك ،خالل �شهر ني�سان 2015اتهم قائد مدمرة �أمريكية ال�صني ب�إقامة حواجز وعوائق يف مناطق متنازع 20 عليها يف جنوب بحر ال�صني لتعزز مطالبها يف �ضم تلك املناطق. �صعود رو�سيا
يف مواجهة حماوالت الهيمنة الأمريكية� ،سعت ال�صني لإقامة حتالف مع رو�سيا ،والتي تعترب نف�سها م�ستهدفة من الواليات املتحدة والغرب عموماً .واجلدير ذكره �أنه منذ حت ّرر الرو�س من الهيمنة املغولية عليهم بعد معركة كوليكوفو يف العام 1380فقد حكمهم هاج�سان ،الأول �ضمان �أمنهم يف منطقة و�سط �آ�سيا ،منطلق الغزوة املغولية التي تعر�ضت لها رو�سيا ،و�ضمان مقعد لهم يف نادي الدول الأوروبية .مع حلول منت�صف القرن ال�سابع ع�شر كانت رو�سيا قد �أمنت نف�سها يف منطقة و�سط �آ�سيا بعد و�صولها �إىل املحيط الهادئ �شرقاً وتوقيعها معاهدة نري�شين�سك يف العام 1648لتقا�سم النفوذ مع ال�صني يف منطقة و�سط �آ�سيا .هذا �أ ّهلها لتوجيه �أنظارها غرباً نحو �أوروبا ال�شرقية .هذا ما دفع ببطر�س الأكرب �إىل �إقامة حتالف مع الدمنارك وبولندا ل�شن حرب تهدف �إىل ك�سر الهيمنة ال�سويدية على بحر البلطيق .وقد دامت احلرب لن ّيف وع�شرين عاماً وانتهت يف العام 1722بانت�صار رو�سيا وح�صولها على مناطق على �سواحل بحر البلطيق من �ضمنها التفيا وا�ستونيا وليتوانيا 21.يف الن�صف الثاين من القرن 78
فـــــكـــــر
الثامن ع�شر وجهت رو�سيا �أنظارها جنوباً نحو البحر الأ�سود الذي كان بحرية عثمانية منذ تو�سعت رو�سيا غرباً لت�ضم القرن اخلام�س ع�شر .وخالل عهد الأمرباطورة كاثرين الثانية ّ ليتوانيا ورو�سيا البي�ضاء ورو�سيا اجلديدة و�أوكرانيا على ح�ساب بولندة التي ق�سمت الحقاً بينها وبني برو�سيا 22.هذا �أ ّهل رو�سيا لتكون يف موقع �أف�ضل ل�شن احلرب �ضد ال�سلطنة العثمانية .ففي العام � 1768شنت رو�سيا احلرب يف القرم �ضد ال�سلطنة العثمانية وجنحت يف االنت�صار عليها بعد �ست �سنوات لتنال مبوجبها �شبه جزيرة القرم التي �أعلنت يف البداية ت�ضم الحقاً �إىل رو�سيا .وبذلك ح�صلت رو�سيا على منفذ منطقة ذات حكم ذاتي قبل �أن ّ 23 على البحر الأ�سود والذي �أ�صبح �أول منفذ لها على املياه الدافئة. بعد ذلك واجهت رو�سيا خطر الغزو من قبل نابوليون بونابارت يف العام ،1812وكان �سبب الغزو يكمن يف خرق الرو�س للمقاطعة االقت�صادية التي فر�ضها نابوليون على الب�ضائع الربيطانية ،وللخالف على النفوذ يف �شرق �أوروبا ،خ�صو�صاً يف بولندة 24.وقد ف�شل نابوليون يف غزو رو�سيا وبنتيجة هذا الف�شل متكنت القوات الرو�سية مع حتالف عري�ض من النم�سا وبرو�سيا وبريطانيا من الإطاحة به يف العام .1815وبنتيجة مقررات قمة فيينا يف ذلك العام باتت رو�سيا القوة الأوىل يف منطقة �شرق �أوروبا ،وبالتايل �أ�صبحت رو�سيا قوة �أوروبية معرتفاً بها من باقي القوى .يف هذا الوقت تابعت رو�سيا م�سعاها يف الو�صول �إىل املياه الدافئة عرب التو�سع يف منطقتي و�سط �آ�سيا والقوقاز .وقد �أقلق هذا الربيطانني الذين حاولوا ا�ستخدام ّ �أفغان�ستان وفار�س والدولة العثمانية كمناطق عازلة حتول دون و�صول الرو�س �إىل الهند التي كانت قد �أ�ضحت م�ستعمرة بريطانية ،ودون الو�صول �إىل املحيط الهندي الواقع حتت النفوذ الربيطاين 25.وقد كان �سعي رو�سيا �إىل الدفاع عن نفوذها يف �شرق �أوروبا ،هو ال�سبب الرئي�س يف اندالع احلرب العاملية الأوىل .فقد �أ ّدى �سعي حليفتها �صربيا �إىل �إقامة احتاد لل�سالف اجلنوبيني �إىل ت�شجيع حركات اال�ستقالل يف البلقان ،خ�صو�صاً يف منطقة البو�سنة والهر�سك التي كانت حتتلها النم�سا واملجر 26.وبعد اغتيال قوميني �صرب لويل العهد النم�ساوي وزوجته يف �سراييفو ،هاجمت النم�سا �صربيا ،فتدخلت رو�سيا �إىل جانب حليفتها بلغراد ما �شن احلرب �ضد الرو�س .وبنتيجة اخل�سائر التي تعر�ضت لها رو�سيا يف احلرب دفع باالملان �إىل ّ 79
اندلعت الثورة البول�شفية يف ت�شرين الأول 1917وتتالت الأحداث ليوقع ال�شيوعيون على اتفاقية بري�ست ليتوف�سك يف �آذار 1918مع الأملان خرجوا بها من احلرب وخ�سروا فنلندا 27 وبولندة و�أوكرانيا ورو�سيا البي�ضاء وغريها من الأرا�ضي يف �شرق �أوروبا. بعد انتهاء احلرب العاملية الأوىل كان على رو�سيا �أن تعيد بناء اقت�صادها وجمتمعها الذي د ّمرته احلروب ،كما كان عليها �أن تواجه خطر ت�صاعد الفا�شية يف �أوروبا بقيادة �أدولف هتلر يف �أملانيا وبنيتو مو�سوليني يف �إيطاليا .لذا فقد قاد �ستالني ،خليفة لينني يف قيادة االحتاد 28 ال�سوفياتي ،حتدي حتويل رو�سيا �إىل قوة �صناعية بغية التح�ضري ملواجهة هذه التحديات. وب�سبب رف�ض بريطانيا وفرن�سا حماوالت �ستالني التقرب منهما ملواجهة اخلطر النازي ،اختار الزعيم ال�سوفياتي عقد اتفاق مع هتلر بغية ك�سب الوقت للتح�ضري للحرب احلتمية .وبنتيجة اتفاق مولوتوف ريبنرتوب بني رو�سيا و�أملانيا يف �آب � 1939أعطيت رو�سيا حق الهيمنة على دول البلطيق باال�ضافة �إىل بولندة ال�شرقية و�أوكرانيا ورو�سيا البي�ضاء ،فيما �أطلقت يد هتلر يف بولندة الغربية و�أوروبا ب�شكل عام .لكن اخلالف مع هتلر كان حتمياً لأن الأخري مل يكن را�ضياً عن النفوذ ال�سوفياتي يف �شرق �أوروبا ،لذا ،بعد اجتياحه فرن�سا وهولندة وبلجيكا ي�ستعد الجتياح االحتاد ال�سوفياتي .يف 22حزيران 1941 والرنوج يف ربيع عام ،1940بد�أ ّ بد�أت القوات الأملانية هذا االجتياح الوا�سع النطاق الذي �أدى �إىل حما�صرة لينينغراد واجتياح �أوكرانيا والو�صول �إىل تخوم القوقاز 30.واجلدير ذكره �أن هتلر كان قد تعلم الدر�س من نابوليون فلم يكن يهمه اجتياح مو�سكو لأنه يعرف ان هذا مل يكن لينهي احلرب ،لذا حاول توجيه �ضربة �إىل اخلا�صرة الرخوة لرو�سيا يف و�سط �آ�سيا .هذا ما يف�سر توجيهه جلهوده نحو �ستالينغراد يف خريف و�شتاء .1943 – 1942فهذه املدينة كانت هي املنطلق نحو و�سط �آ�سيا 31.وقد �أدى ف�شل هتلر يف هذه املعركة �إىل هزميته يف احلرب العاملية الثانية والتي خرج 32 منها االحتاد ال�سوفياتي قوة عظمى. 29
خالل احلرب الباردة تواجهت الواليات املتحدة والغرب مع االحتاد ال�سوفياتي وكتلة الدول اال�شرتاكية .وقد �سعت الواليات املتحدة �إىل تطويق ال�سوفيات ب�سل�سلة من الأحالف الع�سكرية يف الوقت الذي كانت ت�سعى فيه �إىل ا�ستهدافهم يف �شرق �أوروبا من ناحية ويف 80
فـــــكـــــر
و�سط �آ�سيا من ناحية �أخرى .يف املقابل حاول ال�سوفيات فق الطوق عنهم ،خ�صو�صاً عرب ن�سج عالقات قوية مع الزعيم امل�صري جمال عبد النا�صر والذي ّ مكنهم من الدخول �إىل �أفريقيا .وقد �شكل انقالب ال�سيا�سة امل�صرية بعد وفاة عبد النا�صر �ضربة قوية للنفوذ الرو�سي يف ال�شرق الأو�سط 33.هذا جعل الأمريكيني طليقني يف توجيه �سيا�سات معادية للرو�س يف بولندة ويف �أفغان�ستان 34.وقد �أدت هاتان الأزمتان �إ�ضافة �إىل عوامل �أخرى �إىل �إنهاك االحتاد 35 ال�سوفياتي ثم انهياره يف العام 1991تاركاً ال�ساحة الدولية للأمريكيني وحدهم. رغم ان�سحاب رو�سيا من املواجهة مع الواليات املتحدة� ،إال �أن الأمريكيني ومعهم الغرب ظلوا يوجهون �سيا�سات يعتربها الرو�س مهددة لأمنهم القومي .فقد �أبقى الغربيون على حلف الناتو رغم انتهاء احلرب الباردة وو�سعوا ع�ضويته لت�شمل دو ًال يف �أوروبا ال�شرقية قريبة من الأرا�ضي الرو�سية .كذلك فقد �سعوا ّملد نفوذهم يف القوقاز وو�سط �آ�سيا ،ما جعل رو�سيا ت�سعى للتقارب مع ال�صني و�إيران املت�ضررتني من هذه ال�سيا�سات .يف العام � 1999أ�صبح فالدميري بوتني رئي�ساً للوزراء يف رو�سيا ليتوىل الرئا�سة يف �أول العام 2000خلفاً للرئي�س بوري�س يلت�سني الذي ا�ستقال من من�صبه لأ�سباب �صحية 36.ويف عهده ،تقرب الرو�س من ال�صينيني و�أ�س�سوا معهم منظمة �شنغهاي للتعاون .وقد عار�ض بوتني الغزو الأمريكي للعراق يف العام .2003وكان الأمريكيون قد دعموا انقالبات يف كل من �أوكرانيا وجورجيا وقرغيز�ستان بني عامي 2003و .2005وما لبث الرئي�س الأوكراين املوايل للغرب يوت�شينكو �أن طلب االن�ضمام �إىل حلف الناتو ما �أثار حفيظة الرو�س ملا فيه من تهديد لأمنهم القومي .فقاموا بالرد يف العام 2008ووجهوا �ضربة ع�سكرية �ضد جورجيا �أدت �إىل حتييدها يف التناف�س الأمريكي الرو�سي يف القوقاز .كذلك قام الرو�س بدعم انتخاب حليفهم يف �أوكرانيا ميخاييل يانوكوفيت�ش يف العام 2010ما عرقل ان�ضمام �أوكرانيا �إىل حلف الناتو واالحتاد الأوروبي. وقد رد الأمريكيون وحلفا�ؤهم الغربيون يف العام 2014بدعم انقالب على يانوكوفيت�ش ما �أدى �إىل اندالع �أزمة يف �أوكرانيا ،خ�صو�صاً بعد مطالبة �أركان النظام اجلديد فيها ت�سريع االن�ضمام �إىل االحتاد الأوروبي والناتو .فرد الرو�س بدعم املعار�ضني للحكم اجلديد يف �شرق البالد ،كما دعموا مطلب الإ�ستقالل الذي تقدمت به جمهورية القرم والتي طالب �سكانها 81
بعد ذلك باالن�ضمام �إىل رو�سيا .ويف حماولة عزلها تقاربت رو�سيا مع ال�صني و�إيران يف �إطار منظمة �شنغهاي للتعاون .وملنع الواليات املتحدة من ح�صر رو�سيا وال�صني و�إيران يف الرب الأورا�سي قامت مو�سكو وبكني باالن�ضمام مع نيو دلهي وجنوب �أفريقيا والربازيل يف �إطار دول منظمة الربيك�س .ويلعب تكتل دول الربيك�س دوراً يف مواجهة الهيمنة الأمريكية الغربية على العامل .فحقيقة وقوع الهند وجنوب �أفريقيا والربازيل على الطريق الذي �سلكه ماجالن قبل خم�سة قرون يجعلنا ن�ستنتج ان رو�سيا وال�صني ،ويف الوقت الذي تواجهان فيه الهيمنة الغربية يف �أورا�سيا ف�إنهما تقومان بحركة التفاف كبرية عرب طريق ماجالن على القواعد الع�سكرية ومناطق النفوذ الأمريكية لتقوم بعملية تطويق من ناحية ،ويف الوقت نف�سه ت�صالن �إىل طرق املالحة البحرية. �صعود �إيران
�أما القوة الآ�سيوية الثالثة التي �صعدت يف العقدين املا�ضيني فقد كانت �إيران .ومنذ �أيام الأخمينيني كان الإمرباطوريات التي ت�سيطر على اله�ضبة الفار�سية تنزع للعب دور �صلة الو�صل بني �شرق �آ�سيا و�شرق املتو�سط ،وبالتايل كانت فار�س او �إيران تزدهر حني تنجح يف لعب هذا الدول ،فيما كانت ت�ضمر وتتع ّر�ض لأزمات داخلية حني ال تنجح يف ذلك .وقد كان هذا هو احلال زمن الأخمينيني والبارثيني وال�سا�سانيني ،ثم زمن البويهيني وال�سالجقة وحد جنكيز خان املغول وانطلق بهم لي�سيطر قبل ظهور املغول على ال�ساحة الدولية .وقد ّ على �شمال ال�صني وو�سط �آ�سيا .وقد وا�صل �أبنا�ؤه و�أحفاده فتوحاتهم لي�سيطروا على معظم الرب الأورا�سي .وقد �أ�س�س هوالكو ،حفيد جنكيز خان دولته اخلا�صة يف �إيران والتي كانت تابعة للخان الكبري الذي نقل مقره �إىل ال�صني زمن قوبالي خان .وبدا وك�أن حلم جنكيز بال�سيطرة على العامل يكاد �أن يتحقق لوال جناح املماليك يف م�صر يف وقف ّمتدد املغول غرباً بعد انت�صارهم عليهم يف معركة عني جالوت يف فل�سطني يف العام .1260وبات املغول ي�سيطرون على طرق التجارة الربية بني املحيط الهادئ �شرقاً والفرات غرباً .وكان على اجلميع ً 37 مبن فيهم من مل يقع حتت ال�سيطرة املغولية املبا�شرة �أن يتعامل معهم اقت�صاديا. 82
فـــــكـــــر
وقد �شكلت �إيران خالل هذه الفرتة ج�سر عبور لل�صني املغولية �إىل �شرق املتو�سط ،خ�صو�صاً بعد �إقامتها لتحالف مع مملكة �أرمينيا ال�صغرى يف كيليكيا �شمال �سوريا .لكن كان هذا التحالف يعاين من مناف�سة من قبل مغول ال�شغتاي يف و�سط �آ�سيا ومغول اجلحافل الذهبية يف جنوب رو�سيا ،والذين �أقاموا حتالفاً اقت�صادياً مع مماليك م�صر �ضد �أبناء جلدتهم مغول ال�صني و�إيران 38.وكانت م�صر عقدة التجارة البحرية املو�صلة بني البحر الأ�سود و�شرق املتو�سط من ناحية ،والبحر الأحمر واملحيط الهندي وجنوب �شرق �آ�سيا من ناحية �أخرى. وكانت بالد ال�شام هي نقطة التقاطع بني الطريق البحري هذا والطريق الربي الذي ت�سيطر املد الذي دار بني مماليك م�صر عليه ال�صني و�إيران من ناحية �أخرى ،ما يف�سر ال�صراع الطويل ّ وتتار �إيران على بالد ال�شام والذي ا�ستم ّر لقرن من الزمن 39.وقد كانت نقطة �ضعف الطريق الربي هي يف ه�شا�شة و�ضع منافذه البحرية .لذا حاول اخلان الكبري قوبالي خان �أن ي�صحح هذا اخللل مبحاولة اجتياح اليابان يف العام ،1274ولكنه ف�شل 40.وقد �أعاد الكرة مرة �أخرى من دون طائل .يف املقابل ،متكن املماليك يف م�صر من قطع املنفذ الوحيد لتتار �إيران يف مر�سني بعدما ّمتكنوا من تدمري مملكة �أرمينيا ال�صغرى �أواخر القرن الثالث ع�شر والتي كانت حليفة لتتار �إيران .وقد وقع تتار �إيران ومماليك م�صر اتفاقية يف العام � 1304شكلت خامتة ال�صراعات بينهما 41.بعد ذلك تراجع و�ضع املغول يف القرن الرابع ع�شر لينهار كلياً يف �أواخر هذا القرن. لقرن من الزمن عا�شت فار�س يف حال من الفو�ضى حتى العام الذي متكن فيه ال�شاه ا�سماعيل ال�صفوي من اال�ستيالء على تربيز ثم باقي اله�ضبة الإيرانية ليوجه بعدها �أنظاره غرباً بغية الو�صول �إىل �شرق املتو�سط عرب �شرق الأنا�ضول .لكن حظه العاثر و�ضعه يف مواجهة ال�سلطان العثماين �سليم الأول الذي هزمه يف معركة ت�شالديران وانتزع منه تربيز و�أذربيجان ومنطقة قزوين عاز ًال له عن طريق التجارة الربية يف �شمال �إيران واملو�صل بني �شرق �آ�سيا وو�سطها مع �شرق املتو�سط .ولعقود تلت عا�ش ال�صفويون يف حال من ال�شظف حتى �صعود جنم ال�شاه عبا�س يف العام .1580ويف العام ّ 1599متكن ال�شاه عبا�س من االنت�صار على الأوزبيك وانتزاع منطقة خرا�سان منهم 42.ويف العام 1603هزم ال�شاه عبا�س العثمانيني 83
لينتزع منهم تربيز و�أذربيجان و�أجزاء من �شرق الأنا�ضول وو�سط العراق 43.وقد حاول �إقامة حتالف مع الإ�سبان لينتزعوا بالد ال�شام منهم وبالتايل انتزاع جتارة املتو�سط من العثمانيني، لكن اال�سبان يف النهاية مل يتجاوبوا معه وخيبوا �آماله يف اي�صال جتارة الرب الأورا�سي �إىل �شرق املتو�سط 44.وبعد ال�شاه عبا�س عادت �إيران �إىل حال العزلة وال�ضعف التي ميزتها خالل القرنني الثامن ع�شر والتا�سع ع�شر و�صو ًال �إىل وقوعها حتت النفوذ الربيطاين والرو�سي خالل الن�صف الأول من القرن الع�شرين. خالل عهد ال�شاه حممد ر�ضا بهلوي ،حاولت �إيران لعب دور �إقليمي من خالل ع�ضويتها يف حلف بغداد ،لكن حتت مظلة غربية .لكن كان عليها �أن تنتظر الثورة الإ�سالمية يف العام 1979لتحاول ا�ستعادة دورها الإقليمي ولعب دور �صلة الو�صل بني �شرق �آ�سيا و�شرق املتو�سط .والالفت هنا �أن الثورة الإ�سالمية يف �إيران تزامنت مع و�صول دينغ ك�سياو بينغ �إىل ال�سلطة يف ال�صني و�إخراجه لها من عزلتها .ومنذ اليوم الأول للثورة الإ�سالمية حاولت الواليات املتحدة ح�صارها عرب و�سائل عدة منها ت�شجيع الرئي�س العراقي �صدام ح�سني على �شن حرب �ضدها دامت ثماين �سنوات �أنهكت �إيران والعراق .يف مواجهة احل�صار عليها، ّ متكنت �إيران من عقد عالقة حتالف مع �سورية بقيادة الرئي�س حافظ الأ�سد .وبعد انهيار االحتاد ال�سوفياتي تقاربت �إيران مع ال�صني ورو�سيا ملواجهة م�ساعي الهيمنة الأمريكية يف العامل. الواليات املتحدة والألفية اجلديدة
مع بزوغ فجر الألفية اجلديدة كان على الأمريكيني �أن يتخذوا قرارات م�صريية جلهة ح�سم مو�ضوع زعامتهم للعامل من دون منازع .وكما كانت احلرب العاملية الثانية �ضرورة خللق جماالت حيوية للزيادة ال�سكانية ولل�صناعة الأملانية ،فقد �شكلت احلرب على الإرهاب �ضرورة لكي تتمكن الواليات املتحدة من ال�سيطرة على ال�شرق الأو�سط .وكما ا�صطنعت �أملانيا يف �أيلول�/سبتمرب « 1939هجمات بولندية» قام بها جنود �أملان بلبا�س جنود بولنديني على قرى �أملانية حدودية ذريعة خلو�ض احلرب ،فقد اتخذت الواليات املتحدة من هجمات احلادي 84
فـــــكـــــر
ع�شر من �أيلول�/سبتمرب 2001على برجي التجارة يف نيويورك ذريعة الجتياح �أفغان�ستان لتحدد الواليات املتحدة والعراق .لقد كانت احلرب على �أفغان�ستان يف خريف 2001فر�صة ّ املدى الأق�صى الذي تطمح لل�سيطرة عليه يف هذا ال�شرق الأو�سط .وكان من �ش�أن احلرب على العراق �أن تعطي الواليات املتحدة فر�صة �إعطاء عمق لهذا ال�شرق الأو�سط �إ�ضافة �إىل ال�سيطرة على النفط .وكانت اخلطوة التالية هي �إ�سقاط النظام يف �إيران ويف �سوريا �أو تطويعهما حتى ت�ستكمل ال�سيطرة على ال�شرق الأو�سط .وكانت االنقالبات التي دعمتها يف جورجيا و�أوكرانيا حلماية �أجنحة جبهتها يف ال�شرق الأو�سط. وكان امل�شروع الأمريكي يبغي ال�سيطرة على ال�شرق الأو�سط من املحيط الأطل�سي �إىل حدود ال�صني لتحقيق جملة �أهداف .فعرب ال�سيطرة على هذه املنطقة احليوية كان الأمريكيون يريدون عزل �أوروبا عن �أفريقيا ،ومنع تقارب حمتمل بني �أوروبا ورو�سيا ،ومنع رو�سيا من الو�صول �إىل اخلليج العربي واملحيط .وكانت خريطة املنطقة قد ُطرحت للمراجعة وكان غزوا العراق وافغان�ستان قد تقررا ،ومل تكن احداث � 11سبتمرب � 2001إال الذريعة التي اتخذت ل�شن هذين االجتياحني .قبل تلك الأحداث بعام ونيف ان�سحبت �إ�سرائيل من جنوب لبنان بغية �إغالق �آخر جبهة عربية مفتوحة �ضدها .كان هدفها من االن�سحاب �سحب الذريعة التي تربر وجود املقاومة يف �إطار التح�ضري للقرار 1559الذي �صدر بعد �أربعة �أعوام مطالبا ب�سحب �سورية لقواتها من لبنان. حتولت من قوة حتاول مواجهة الواليات املتحدة يف ال�شرق الأو�سط قبل وكانت فرن�سا قد ّ العام � 2004إىل قوة رديفة للواليات املتحدة بعد حزيران .2004وال�سبب يعود �إىل �أن فرن�سا حني عار�ضت الغزو الأمريكي للعراق يف العام 2003كانت تراهن على �أن العراق �سي�صمد ل�شهور عدة ما �س ُيحرج الواليات املتحدة ويجعلها تلج�أ لفرن�سا للخروج من حمام الدم يف العراق� .45إال �أن الأمريكيني ّمتكنوا من ح�سم املعركة ب�سرعة ،وبات الرئي�س الأمريكي جورج بو�ش يقاطع �شرياك وي�سعى لعزله دولياً .46لكن ما �أفاد �شرياك كان ت�صاعد املقاومة العراقية �ضد االحتالل الأمريكي ما جعل بو�ش يلج�أ �إىل �شرياك بغية تو�سيع التحالف الدويل لإعطاء الغطاء لالحتالل الأمريكي .وقد اقتنعت الواليات املتحدة ب�أنها ميكن �أن ت�ستفيد من فرن�سا 85
ب�إ�شراكها يف خمططاتها يف ال�شرق الأو�سط يف مقابل �إعطائها ح�صة يف �سورية ولبنان.47 وكان �شرياك قد دعم و�صول ب�شار اال�سد �إىل ال�سلطة يف العام 2000ظناً منه �أنه با�ستطاعته فر�ض و�صاية عليه و�إقناعه برفع الو�صاية ال�سورية عن لبنان .كما ان �شرياك كان ي�سعى لإقناع �سورية بفك حتالفها مع �إيران .48وقد حاولت �سورية الرد بفر�ض التمديد للرئي�س اميل حلود لثالث �سنوات وب�إف�شال جهود احلريري لت�أليف حكومة ودعم الرئي�س عمر كرامي لت�شكيل احلكومة .لكن ما اطلق العنان للحملة على �سورية كان اغتيال احلريري يف � 14شباط .2005 وقد و�صل امل�شروع الأمريكي يف املنطقة �إىل ذروته يف العام 2006مع العدوان الإ�سرائيلي على لبنان يف متوز من ذلك العام .لكن ما مل يكن يف احل�سبان هو جاهزية املقاومة الكبرية ل�صد العدوان الإ�سرائيلي وهزميته. مل يكن الن�صر الأمريكي يف �أفغان�ستان ،خ�صو�صاً يف العراق ،حا�سماً .فالنمط اجلديدمن احلرب الالمتكافئة الذي اعتمدته الواليات املتحدة خالل احلرب الباردة �ضد االحتاد ال�سوفياتي تع ّلمته القوى الأخرى واعتمدته لعرقلة امل�شروع الأمريكي .ف�إذا ب�إيران و�سوريا تدعمان املقاومة العراقية وجتعالن االحتالل مكلفاً لوا�شنطن .و�إذا برو�سيا تدعم انقالبات م�ضادة حتا�صر الرئي�س ميخائيل �ساكا�شفيلي يف جورجيا وتزيح فيكتور يو�شينكو عن ال�سلطة يف �أوكرانيا .وقد ترافق ذلك مع �أزمة اقت�صادية يف الواليات املتحدة كانت العامل الأبرز يف انتخاب باراك �أوباما ك�أول رئي�س �أ�سود يف التاريخ الأمريكي .مع �أوباما بات الأمريكيون واعني ملحدودية قدرتهم ف�إذا بهم ي�ضغطون لفر�ض اتفاق �سيا�سي مع حكومة عراقية موالية لهم تخفف عن كاهل قواتهم حتى يتاح لهم الرتكيز على �شد قب�ضتهم على �أفغان�ستان. مالمح التوجه الأمريكي يف املنطقة عرب عنها بالدرجة الأوىل التقرير ال�صادر عن جمل�س الأمن القومي الأمريكي والذي �أ�سقط الإ�سالم من دائرة ا�ستهدافاته (وهو ما كان قائماً منذ � 11أيلول�/سبتمرب ،)2001برغم �أنه �أبقى على اعتباره لتنظيم القاعدة عدواً جتب موا�صلة حماربته .مرة جديدة الواليات املتحدة ت�ستفيد من التاريخ .منذ القرن ال�ساد�س ع�شر وحتى �أوائل القرن التا�سع ع�شر كانت �إيران ال�شيعية حتتوي الدولة العثمانية ال�س ّنية والعك�س بالعك�س .كانت هذه الفرتة هي التي �شهدت �صعود دور املهيمن على العامل� .إذاً 86
فـــــكـــــر
مل ال حتتوي تركيا الإ�سالمية الثورة الإ�سالمية يف �إيران يف املرحلة املقبلة؟ بالن�سبة للواليات املتحدة ،ف�إن دور تركيا يف املنطقة �سيجعل يف مواجهة «�إ�سالم» �إيران «�إ�سالماً» ال يقل عراقة يغرف من �إرث الدولة العثمانية� ،أقوى دولة يف العامل حتى �أوا�سط القرن الثامن ع�شر. و�سيكون لرتكيا هذه جاذبية كبرية بني امل�سلمني ال�س ّنة يف �سوريا� ،آخر دولة عربية تخرج من حتت مظلة العثمانيني يف العام ،1918وهو ما مل تتمكن من حتقيقه ال�سعودية .كما �ستكون تركيا القوة اجلاذبة للإ�سالميني يف م�صر (الذين يعتربون �أنف�سهم �أكرث عراقة من �إ�سالميي ال�سعودية لكن �أقل عراقة من �إ�سالميي تركيا والإ�سالميني يف ال�سودان .هنا بيت الق�صيد، فال�سودان حتولت م�ؤخراً �إىل القاعدة التي تنطلق منها ال�صني لتحقيق اخرتاقات يف القارة الأفريقية .وكان الدعم ال�صيني املبطن للرئي�س عمر ح�سن الب�شري هو الذي ّ مكنه حتى الآن من مواجهة ال�ضغوط الغربية .و�إذا كانت وا�شنطن قد ف�شلت حتى الآن يف الإطاحة بالنظام ال�سوداين عرب احل�صار الدويل فلم ال تتم اال�ستعانة ب�إ�سالميي ال�سودان بزعامة ح�سن الرتابي لإقفال الطريق �أمام ال�صني؟ دور تركيا الإ�سالمية
يف تركيا كان حزب العدالة والتنمية الإ�سالمي قد و�صل �إىل ال�سلطة يف العام 2002م�ؤذناً بنهج جديد يف ال�سيا�سة الرتكية .وقد كان وزير اخلارجية الرتكي �أحمد داود �أوغلو الذي �أ�صبح الحقاً رئي�ساً للوزراء� ،أهم من ر�سم معامل ال�سيا�سة اجلديدة لرتكيا يف مرحلة ما بعد احلرب الباردة .وهو يعترب �أن هنالك ثالث دوائر ت�شكل عنا�صر �أ�سا�سية من عنا�صر االمن القومي الرتكي .فهو يعترب انه يف الع�صر احلايل يجب على تركيا ان تخرج من ال�سيا�سة التقليدية التي اتبعتها عقب �إن�شاء اجلمهورية باالنكفاء وراء حدودها و�أن عليها لعب �سيا�سة خارجية اكرث دينامية .49وهو يعترب ان على تركيا ان تدافع عن وجودها يف تراقيا للدفاع عن ا�سطنبول ،وان هذا ال يبد�أ باحلدود مع اليونان وبلغاريا بل ميتد �إىل االدرياتيكي ،وبالتايل ف�إن على تركيا ان توثق عالقاتها مع البانيا وكو�سوفو والبو�سنة مع اعتماد البانيا كقاعدة لإطالق النفوذ الرتكي يف البلقان .50كذلك يعترب �أوغلو ان الدفاع عن �شرق الأنا�ضول ال يكون بالوقوف على احلدود مع �أرمينيا و�إيران بل يبد�أ بال�شواطئ الغربية لبحر قزوين ،وبالتايل ف�إن 87
اذربيجان ت�شكل قاعدة االنطالق للت�أثري الرتكي يف منطقة القوقاز .51كذلك فهو يرى �أن الدفع عن �شرق الأنا�ضول ال يتوقف عند احلدود مع �سورية والعراق بل يتعداه �إىل اخلط املمتد من كركوك واملو�صل يف �شمال العراق ويف �شمال �سورية .وهو يرى ان ال�شرق الأو�سط ي�شكل احلديقة اخللفية لرتكيا ويدعو بالده �إىل لعب دور يف هذه املنطقة .52وهو يقر ب�أن هنالك توافقاً تاماً يف كل هذه الأمور مع امل�صالح اجليو�سرتاتيجية الأمريكية .وكانت �سورية هي املدخل الذي ميكن لرتكيا �أن تعود عربه �إىل ال�شرق الأو�سط. خالل �شتاء العام 2009 - 2008تع ّر�ض قطاع غزة �إىل حملة ع�سكرية �إ�سرائيلية كانت تهدف للق�ضاء على حركة حما�س .كانت �إ�سرائيل قلقة من الدعم الذي تلقاه حركة حما�س من �إيران ومن حالة املقاومة التي متثلها هذه احلركة على ال�ساحة الفل�سطينية ما يعرقل جهود �إ�سرائيل لفر�ض �شروطها لل�سالم على الفل�سطينيني .وكان الأمريكيون يدعمون هذا العدوان الإ�سرائيلي على غزة ،لأنهم كانوا يعتربون �أن الدعم الذي كانت تلقاه حركة حما�س من �إيران كان ي�شكل اخرتاقاً �إيرانياً جدياً للجبهة التي كانت الواليات املتحدة حتاول �إقامتها عرب منع ت�سلل رو�سيا او ال�صني عرب �إيران �إىل البحر املتو�سط .فبالن�سبة للجيو�سرتاتيجيا الأمريكية مل يكن من امل�سموح لآ�سيا املمثلة بال�صني ورو�سيا �أن ت�صال �إىل البحر املتو�سط �أو املياه الدافئة .وكانت �إيران قد حققت اخرتاقات مهمة على ال�صعيد اال�سرتاتيجي عرب ثالثة حماور جعلتها تطل على البحرين املتو�سط والأحمر .فعالقتها مع �سورية وحزب اهلل قد جعلتها ّ تطل منذ الثمانينات على البحر املتو�سط .وعالقتها مع حما�س و�سيطرة الأخرية على قطاع غزة قد جعال �إيران تدعم موقعها على املتو�سط وتدق �إ�سفيناً بني �إ�سرائيل وم�صر. بالإ�ضافة �إىل ذلك ف�إن مترد احلوثيني على الرئي�س علي عبد اهلل �صالح يف اليمن وعدم قدرة ال�سلطات اليمنية واململكة العربية ال�سعودية على قمع هذا احلراك قد جعال الواليات املتحدة تقلق على نفوذها يف البحر املتو�سط والأحمر .فمن هناك كان ب�إمكان �إيران ومن ورائها ال�صني �أن تدعما عالقتهما بال�سودان وان تنطلقا �إىل عمق القارة الأفريقية. كانت م�صر مبارك قلقة من هذا التمدد الإيراين مبقدار قلق الواليات املتحدة .وخالل ثالثني عاماً من حكم ح�سني مبارك منذ العام 1981وحتى العام .2011ففي خالل هذه الفرتة 88
فـــــكـــــر
تقل�ص النفوذ امل�صري �إىل حده الأدنى يف امل�شرق العربي ،وخالل الت�سعينيات فقدت م�صر عن�صراً �آخر من عنا�صر �أمنها بعد اندالع احلرب االهلية يف ال�صومال ما هدد امن القرن الأفريقي الذي يعترب �أحد عنا�صر الأمن امل�صري .وقد تبع ذلك تهديد منابع النيل بعد املجازر التي حدثت يف رواندا وبروندي على �ضفاف بحرية فيكتوريا ما �أفقد الهوتو ،حلفاء امل�صريني والفرن�سيني نفوذهم حل�ساب التوت�سي ،حلفاء الأمريكيني والإ�سرائيليني .وقد تال ذلك احتالل اريرتيا جلزيرة حني�ش الكربى اليمنية ب�إيعاز من �إ�سرائيل ما �شكل تهديداً �آخر لأمن البحر الأحمر� .أ�ضيف ذلك �إىل احل�صار الذي �ضرب على ليبيا خالل الت�سعينيات ما �شكل تهديداً المتداد الأمن القومي غرباً باجتاه �شمال �أفريقيا. يف التا�سع من يناير � 2011أجري اال�ستفتاء على انف�صال جنوب ال�سودان ،وقد ّمت التو�صيت بغالبية �ساحقة على هذا القرار .لقد �أتى القرار ب�ضغط من الواليات املتحدة بغية تقلي�ص الدور امل�صري والف�صل بني �شمال �أفريقيا والبلدان الواقعة جنوب ال�صحراء الكربى .وكانت اخلطوة التالية هي ف�صل دارفور الغني بالنفط عن ال�سودان على �أن تليه منطقة �شرق ال�سودان والتي ت�شكل امتداداً للمنطقة اجلنوبية ال�شرقية من م�صر .لقد �شكل هذا التطور حدثاً خطرياً، خ�صو�صاً �أنه ترافق مع عزم الدول امل�شاطئة للنيل على املطالبة بح�صة �أكرب من مياهه من دون الرجوع �إىل م�صر �أو ال�سودان .ترافق هذا الت�آكل يف الأمن القومي امل�صري مع تراجع خطري يف م�ستوى املعي�شة ملعظم امل�صريني نتيجة ال�سيا�سات االقت�صادية النيوليربالية التي قادها الفريق املق ّرب من جمال مبارك ،جنل الرئي�س امل�صري .هذه العوامل اجتمعت لت�ؤدي �إىل االنفجار الذي حدث يف اخلام�س والع�شرين من كانون الثاين .2011وقد �أدت الإطاحة بالرئي�س التون�سي زين العابدين بن علي يف 14كانون الثاين �إىل ت�شجيع ال�شباب امل�صريني على املثابرة على تنظيم �أنف�سهم للنزول �إىل ال�شارع ومن ثم الإ�صرار على ازاحة الرئي�س ح�سني مبارك عن احلكم .لقد �شكلت الثورة امل�صرية حدثاً غري متوقع من قبل معظم املراقبني وقد �أُخذت الواليات املتحدة على حني غرة وجعلتها ترتبك وحت�س بالقلق لأ�سابيع .كان على الواليات املتحدة ان تتحرك �سريعاً لئال تخرج م�صر عن طوعها عرب القيام بخطوات عدة الحتواء موجة االحتجاجات .ففي احلادي ع�شر من �شباط �أجرب املجل�س الع�سكري امل�صري 89
نائب الرئي�س عمر �سليمان على قراءة بيان يعلن فيه تخ ّلي الرئي�س ح�سني مبارك عن احلكم، وهو الأمر الذي فاج�أ مبارك نف�سه .بعد ذلك ت�س ّلم املجل�س الع�سكري احلكم وبد�أ بالتن�سيق مع جماعة الإخوان امل�سلمني واجلماعات ال�سلفية لإعادة الإم�ساك بال�شارع امل�صري .وقد دخلت اململكة العربية ال�سعودية على اخلط عرب متويل جماعة الإخوان امل�سلمني واحلركات ال�سلفية مببالغ طائلة .وكان على الواليات املتحدة �أن تتح ّرك �سريعاً على امل�ستوى الإقليمي لكي ال ميتد "احلريق امل�صري" �إىل غريه من الدول املوالية لها .فقد كانت االحتجاجات قد بد�أت تندلع يف اململكة العربية ال�سعودية و�سلطنة عمان ومملكة البحرين والأردن ما بات يهدد النفوذ الأمريكي يف كل منطقة ال�شرق الأو�سط .لذا فقد �سارعت الواليات املتحدة �إىل ا�سرتاتيجية �إ�شعال حرائق حول احلريق الحتوائه عرب ت�شجيع "الثورات" يف النطاقات التي ت�شكل امتداداً للأمن القومي امل�صري وهي ليبيا واليمن و�سورية .ففي اليوم نف�سه الذي متت الإطاحة فيه مببارك بد�أت االحتجاجات يف اليمن للمطالبة برحيل الرئي�س اليمني علي عبد اهلل �صالح .وبعد ثالثة ايام بد�أت االحتجاجات يف ليبيا والتي تبعها تدخل حلف �شمال الأطل�سي يف الأحداث الليبية .وبعدها ب�أيام قليلة بد�أت االحتجاجات يف �سورية انطالقاً من درعا .وكان البارز يف هذا املو�ضوع الدور الذي لعبته قناة اجلزيرة القطرية يف "دعم هذه الثورات" .واملعروف �أن القناة واقعة حتت نفوذ جماعة الإخوان امل�سلمني ،خ�صو�صاً �أن �أبرز وجوهها ومدرائها بعد العام 2003معروفون بانتمائهم �إىل هذه اجلماعة. احتجاجات �سورية
يف �أوائل �شهر �شباط اندلعت االحتجاجات يف مدينة درعا �ضد النظام يف �سورية .لقد دفعت يحد من ال�ضرر الأحداث يف م�صر بالواليات املتحدة �إىل �إعادة ترتيب الأوراق يف املنطقة مبا ّ الذي ميكن �أن يلحق مب�صاحلها اال�سرتاتيجية يف املنطقة .يف مقابل املواقف الدولية الأمريكية والأوروبية والإقليمية الرتكية وال�سعودية التي لعبت دوراً يف دعم االحتجاجات التي انطلقت �ضد الرئي�س ب�شار الأ�سد ف�إن عدداً من القوى الإقليمية والدولية قد �أعلنت �صراحة وقوفها معه .ولقد كانت �إيران القوة الأوىل التي دعمت الرئي�س ب�شار الأ�سد �سيا�سياً ب�شكل مطلق .فلقد �أثبت التحالف مع دم�شق منذ �أيام الرئي�س حافظ الأ�سد �أنه ر�صيد كبري لإيران 90
فـــــكـــــر
يف املنطقة .وقد �أعلنت وزارة اخلارجية الإيرانية �أن الأحداث يف �سورية "ت�أتي يف �إطار م�ؤامرة غربية لزعزعة حكومة ت�ؤيد املقاومة �ضد �إ�سرائيل" .53وقد �أعربت طهران عن معار�ضتها �أي تدخل خارجي يف ال�ش�ؤون ال�سورية 54.وقد اعرت�ض امل�س�ؤولون الإيرانيون على االتهامات الغربية التي تتهم �إيران مب�ساعدة �أجهزة الأمن ال�سورية على قمع التظاهرات .55كما جتلى هذا الأمر يف املوقف الداعم للأ�سد الذي اتخذه حزب اهلل على ل�سان �أمينه العام ال�سيد ح�سن ن�صر اهلل ،56لأن خ�سارة الدعم ال�سوري تعني ق�صم ظهر املقاومة الإ�سالمية التي �ست�ضحي حما�صرة من الرب بعدما مت فر�ض ح�صار بحري على لبنان من قبل القوى الغربية عقب العدوان الإ�سرائيلي على لبنان يف العام .2006 كذلك الأمر فقد كان قلب النظام الذي نادى به ق�سم كبري من املتظاهرين يف �سورية يعني �أن تخ�سر رو�سيا حليفاً مهماً لها يف ال�شرق الأو�سط .لقد �شكلت العالقة مع �سورية لبنة ا�سا�سية يف اال�سرتاتيجية الرو�سية يف ال�شرق الأو�سط منذ ما قبل عهد الرئي�س حافظ اال�سد .وقد اتاحت لها هذه العالقة قاعدة را�سخة على �ضفاف �شرق املتو�سط؛ وهو ما كانت تطمح اليه منذ ايام بطر�س الأكرب .وكانت رو�سيا قد �أعلنت عن ا�ستيائها من "اخلديعة" التي تعر�ضت لها على يد الناتو يف ما يتعلق ب�إ�صدار قرار دويل بحجة حماية املدنيني من العقيد معمر القذايف ليتحول هذا القرار �إىل ذريعة للتدخل الع�سكري لفر�ض و�صاية غربية على ليبيا ما �شكل �ضربة لرو�سيا وم�صاحلها احليوية يف ما يتعلق ب�إطاللتها على غرب املتو�سط عرب طرابل�س الغرب .وبالتايل فهي �أعلنت بقوة عزمها على معار�ضة �أي قرار دويل ي�صدر بحق �سورية ،وهي جنحت حتى الآن يف عرقلة �صدور �أي قرار يف هذا ال�ش�أن .كما اعلنت لوفود من املعار�ضة ال�سورية زارت مو�سكو عن معار�ضتها �أي تدخل دويل و�أي زعزعة للنظام ،ودعت �أع�ضاء الوفود املعار�ضة �إىل التحاور مع النظام. وتبقى ال�صني الداعم الثالث ل�سورية وللرئي�س ب�شار اال�سد .وحتى الآن كانت مواقف ال�صني معار�ضة التخاذ �أي موقف دويل ميكن �أن ي�صدر بحق النظام ال�سوري .فلل�صني اعتباراتها وهي متلك جتربة وا�سعة يف ال�صراعات الدولية .وتاريخياً كانت ال�صني تنزع �إىل االنعزال والتقوقع داخل حدودها "لأنه ما من �شيء �إال وكانت متلكه" و"هي مل تكن بحاجة ل�شيء 91
من اخلارج" .لقد كان التجار العرب والفر�س هم َمن ذهب �إىل ال�صني منذ ما قبل امليالد لالجتار معها ومل تكن ال�صني هي التي خرجت �إىل العامل با�ستثناء مرتني .املرة الأوىل كانت حني وقعت حتت �سيطرة املغول .فكان املغول ورغبتهم باالجتار مع العامل هي التي دفعتهم �إىل �إخراج ال�صني من عزلتها .وكانت �إمكانات ال�صني الهائلة هي التي �ساعدت املغول على اجتياح �آ�سيا بغية ت�أمني طريق التجارة من ال�صني وحتى و�سط �أوروبا .لقد كان �أول توحيد للقارة الأورا�سية قد ّمت على يد املغول انطالقاً من ال�صني .وقد ادى �ضمور التجارة �إىل تفكك االمرباطورية املغولية وانفراط عقدها �إىل دويالت عدة �ضعيفة بعد قرن ون�صف القرن من ت�أ�سي�سها .بعد انهيار احلكم املغويل يف ال�صني �سيطرت �أ�سرة مينغ على ال�سلطة بعد مترد قادته �ضد �آخر حاكم مغويل .وقد ار�سل االمرباطور زو دي ب�أ�سطول طاف ارجاء العامل يف العام 1422ليعود بعدها �إىل ال�صني .وبناء لأوامر االمرباطور مت تفكيك اال�سطول "النه لي�س هنالك يف العامل ما حتتاجه ال�صني" .وعادت ال�صني �إىل عزلتها .57هذه العزلة هي التي �أدت بالقوى الغربية �إىل االلتفاف على �أقوى قوة يف �آ�سيا حمولة �إياها يف القرن التا�سع ع�شر �إىل رجل �آ�سيا املري�ض .ويف الع�صر احلديث مل تعد ال�صني متلك رفاهية اتخاذ قرار باالنعزال عن العامل ،فبنيتها ال�صناعية حتتم عليها احل�صول على النفط ،كما حتتم عليها �إيجاد �أ�سواق لت�صريف منتجاتها .وا�سقاط النظام يف �سورية يعني حما�صرة �إيران متهيداً لإ�سقاط النظام فيها .وهذا يعني بالتايل �إغالق ال�شرق الأو�سط يف وجه ال�صني .ويف ظل حما�صرة ال�صني بحرياً عرب اليابان وكوريا اجلنوبية ،وتايوان ودول جنوب �شرق �آ�سيا ف�إن خروج ال�صني �إىل البحار بات �صعباً من دون ر�ضى �أمريكي .وال ميكن الي قوة تطمح �إىل دور عاملي �أن تقبل ب�أن تكون طرق موا�صالتها حتت رحمة قوة اخرى ،خ�صو�صا �أنها قوة مناف�سة لها. وبالتايل فقد بات خروج ال�صني �إىل العامل مير عرب ال�شرق الأو�سط ،متاماً كما ح�صل مع املغول قبل ثمانية قرون بعدما �سيطروا على ال�صني .فعرب ال�شرق الأو�سط ميكن الو�صول �إىل �أفريقيا ،وهي املنطقة التي حتاول ال�صني االنفتاح عليها لغناها باملوارد الطبيعية .وهذا يف�سر �سر العالقة الطيبة مع ال�سودان الذي بات البوابة ال�صينية �إىل �أفريقيا .واجلدير ذكره ان امرباطور ال�صني املغويل قوبالي خان كان �أول من حاول �إخراج ال�صني �إىل البحار الوا�سعة 92
فـــــكـــــر
�إال �أنه ا�صطدم بعقبة اليابان التي تغطي معظم ال�سواحل ال�صينية وحت�صرها يف البحر الأ�صفر مانعة �إياها من اخلروج �إىل املحيط الهادئ .ويف الع�صر احلايل ف�إن اليابان ال تزال تلعب هذا الدور .وبالتايل ف�إن ال�شرق الأو�سط يجب �أن يبقى مفتوحاً �أمام ال�صني لذا ف�إن على �إيران ان ت�صمد يف مواجهة ال�ضغوط الغربية ،كما �أن على �سورية �أن ت�صمد يف مواجهة حماوالت فر�ض الو�صاية الغربية عليها .وقد ادى و�صول الأمريكيني �إىل حدود ال�صني الغربية بعد اجتياح افغان�ستان يف العام � 2002إىل اثارة م�شكلة االقليات امل�سلمة يف منطقة غرب ال�صني ما يعطي مث ًال �إ�ضافياً على �أهمية اال يكون ال�شرق الأو�سط حتت ال�سيطرة الكاملة للواليات املتحدة النه من هذا ال�شرق الأو�سط ميكن للأمريكيني االنطالق ملد نفوذهم داخل املناطق الغربية لل�صني ذات الغالبية امل�سلمة .وهذا يعطي ا�ستقالل �سورية عن الغرب �أهمية م�ضاعفة لل�صني .وهذا ما يف�سر اعالن وزارة اخلارجية ال�صينية �أن "�سورية دولة مهمة جداً يف ال�شرق الأو�سط ويجب �أن تبقى م�ستقرة و�أن حل امل�شكالت فيها يجب �أن يبقى داخلياً و�أال يح�صل تدخل خارجي يف ال�ش�ؤون الداخلية ال�سورية ي�ؤدي �إىل تعقيد الأمور".58 خامتة
خال�صة املو�ضوع �أن الأزمة التي ن�شهدها حالياً يف منطقة ال�شرق الأو�سط ناجمة عن حتوالت يف موازين القوى العاملية التي ت�ؤذن بتحول النظام الدويل �إىل نظام متعدد الأقطاب �سي�شهد للمرة الأوىل منذ مئتي عام نهاية الهيمنة الغربية املطلقة على املقدرات العاملية .ويخ�شى الغرب وعلى ر�أ�سه الواليات املتحدة من �صعود قوة �أورا�سية تتمثل هذه املرة يف ال�صني ورو�سيا اللتني �أ�س�ستا منظمة �شنغهاي للتعاون ،والتي قد ت�شهد قريباً ان�ضمام �إيران ب�شكل كامل لع�ضوية هذه املنظمة .ولأن هذه املنظمة �ست�سيطر على قلب �أورا�سيا ،ومتتلك �إمكانيات احلد من �إمكانياتها عرب منعها من اقت�صادية وب�شرية هائلة ،ف�إن الواليات املتحدة حتاول ّ الو�صول بحرية �إىل طرق املالحة البحرية .هذا ما يف�سر ال�سيا�سات التي تتبعها الواليات املتحدة يف �شرق �آ�سيا عرب التحالف مع اليابان وكوريا اجلنوبية والدول امل�شاطئة جلنوب بحر ال�صني �ضد ال�صني ،وهذا ما يف�سر الأزمة الأوكرانية بني رو�سيا والغرب ،كما ان هذا ما يف�سر الأحداث يف منطقة ال�شرق الأو�سط والتي ت�أخذ �شكل حروب غري متوازنة �أو حروب 93
بالوكالة تقودها جماعات ت�صنف على �أنها �إرهابية. لكن التكتالت التي ن�ش�أت يف مواجهة الواليات املتحدة وحلفائها الغربيني �أخذت تفر�ض نف�سها على ال�ساحة ،من منظمة �شنغهاي للتعاون بزعامة ال�صني ورو�سيا وقريباً �إيران� ،إىل منظمة دول الربيك�س بع�ضوية رو�سيا و�إيران ومعها الهند والربازيل وجنوب �أفريقيا .وي�أتي هذا يف ظل انتقال مركز الثقل االقت�صادي �إىل املحيط الهندي لأول مرة منذ القرن ال�ساد�س ع�شر مع حماوالت القوى الآنفة الذكر النفاذ �إىل طرق املوا�صالت البحرية وحتويلها بعيداً عن الهيمنة الأمريكية .ومع تراجع الثقل الأقت�صادي تدريجياً لأوروبا والواليات املتحدة ف�إن هذا ميكن �أن ي�س ّرع عملية االنتقال هذه .لكن تبقى امل�شكلة يف الهيمنة الأمريكية على طرق املوا�صالت هذه عرب �سيطرتها على منطقتي املتو�سط وال�شرق الأو�سط بن�سبة ثمانني باملئة. لكن ما قد يك�سر هذه الهيمنة هو ال�صعود املرتقب مل�صر بدور م�ستقل �سيكون حكماً على ح�ساب امل�صالح الأمريكية .فلقد �شكلت الهيمنة الأمريكية على م�صر منذ عهد الرئي�س �أنور ال�سادات قاعدة النفوذ الأمريكي يف ال�شرق الأو�سط ،و�إن خروج م�صر من حتت هذه الهيمنة يف ظل تقاربها مع رو�سيا �سي�ؤدي �إىل ا�ضعاف الهيمنة الأمريكية على ال�شرق الأو�سط وعلى طرق املوا�صالت البحرية وخ�صو�صاً يف املحيط الهندي ويعطي زخماً للتكتالت املعار�ضة للهيمنة الأمريكية.
94
فـــــكـــــر
(Endnotes) 1-Zeine Zeine, TheStruggle for Arab Independence (Beirut: Khayat, 1960). 2-Michael Province, The Great Syrian Revolt, and the Rise of Arab Nationalism (Austin: University of Texas Press, 2005), 17. 3-Alfred Thayer Mahan, The Influence of Sea Power Upon History: 1660 – 1783, (Boston: Brown and Company, 1918), P iii. 4- Halford Mackinder: The Geographical Pivot of History, the geographical journal, vol 170, no 4, december 1904, 298 - 300 5- Nicholas Spykman, America’s Strategy in World Politics-The United States and the Balance of Power, (New Brunswick, Transaction Publishers, 2008) 59 6- Zbegnew Brzezinski, The Grand Chessboard, American Primacy and its Geostrategic Imperatives XIV. 7- William T. Rowe, China’s Last Empire: the Great Qing, (Cambridge: Harvard University Press,2009), 172. 8- Chi Kwan Mark, China and the world since 1945, (London: Routledge, 2011), , 96. 9- Alfred K. Ho, China’s Reforms and Reformers, (Westport: Praeger, 2004), 81. 10- Chi Kwan Mark, 97. 95
11- Alfred K. Ho, 82. 12- Website of Shanghai Cooperation Organization at http://www.sectsco. org/EN123/brief.asp accessed on 23 - 2 - 2015. 13- Website of Shanghai Cooperation Organization at http://www.sectsco.org/EN123/AntiTerrorism.asp accessed on 23 - 2 2015 14-Norling, Nicklas and Niklas Swanström. “The Shanghai Cooperation Organization, Trade, and the Roles of Iran, India and Pakistan.” Central Asian Survey Volume 26. Issue 3 (2007): 429-444 (429-432). 15- Robert D. Kaplan, Asia' Cauldron: The South China Sea and the End of a Stable Pacific, (New York: Random House, 2014) 16- “Xínjiang protesters to be punished 'with utmost severity”, TIBETAN review AUGUST 2009, 28. 17- UN Chief urges respect for right to protest, others follow suit, TIBETAN REVIEW AUGUST 2009, 26. 18- China accuses US of adding to regional tensions, The Guardian, February 9 - 2014, at http://www.theguardian.com/world/2014/feb/09/ china-accuses-us-south-china-sea accessed on April 7, 2015. 19- US accused of inciting South China Sea tensions, RT, August 11, 2014, at http://rt.com/usa/179512-asean-kerry-wang-tensions/ accessed on April 7, 2015. 96
فـــــكـــــر
20-Saibal Dasgupta, US commander accuses China of creating artificial landmass in South China Sea, The Times of India, April 3, 2015. At http://timesofindia.indiatimes.com/world/china/US-commanderaccuses-China-of-creating-artificial-landmass-in-South-China-Sea/ articleshow/46790380.cms accessed on April 7, 2015. 21-R. Van Bergen, The Story of Russia, (New York: American Book Company, 1905), 160. 22-R. Van Bergen, 183. 23-Simon Dixon, Catherine the Great, (Harper Collins Ebooks, 2009), 288. 24- General Count Philip de Segur, HISTORY OF THE EXPEDITION TO RUSSIA, UNDERTAKEN BY THE EMPEROR NAPOLEON in the year 1812, (London: TREUTTEL AND WURTZ, TREUTTEL, jun. AND RICHTER, 1825), Book I Chap I. 25- Marie Platt Parmele, A Short History of Russia, (New York: CHARLES SCRIBNER'S SONS, 1907), Chap XXI. 26- A. F. Pollard, A Short History of the Great War, (London: Methuen & Co Ltd, 1919), Chap I. 27- Leon Trotsky, From October to Brest-Litovsk, at Project Guttenburg. org 28- Adolf Hitler, Mein Kampf. 97
29- Gerhad L. Weinberg, A World At Arms: A Global History of World War II, (New York: Cambridge University Press, 1995), 35 – 37. 30- Gerhard L. Weiberg, Chap 3 – 4. 31- Weinberg, 421. 32- Weinberg, 600 – 622. 33- Steven A. Cook, The Struggle for Egypt: From Nasser to Tahrir Square, (Oxford: Oxford University Press, 2012), 132. 34- See Robert Lacey, Inside the Kingdom: Clerics, Modernists, Terrorists, and the Struggle for Saudi Arabia, (London: Penguin Books, 2009), 63 68. 35- Vladislav M. Zubok, A Failed Empire: The Soviet Union in the Cold War from Stalin to Gorbachev, (Chapel Hill: The University of North Carolina Press, 2007), 304. 36- Charles J. Shields, Vladimir Putin, (New York: Chelsea House Publishers,2007), 50 – 59. 37- roxann prazniak, Siena on the Silk Roads: Ambrogio Lorenzetti and the Mongol Global Century, 1250–1350,J ournal of World History, Vol. 21, No. 2 © 2010 by University of Hawai‘i Press P 177. 38- Spuler, The Mongol Period. (New York: markus Weiner Pub, 1994) 23. 39- Ibid, 26-27. 40- See See The Travels of Marco Polo the Venetian, edited by Thomas 98
فـــــكـــــر
Wright, Chap XLIV. 41- Bertold SPuller, 35 – 37. 42- David Blow, Shah Abbas, the Ruthless King Who Became an Iranian Legend, (London: I.B. Tauris, 2009), 47. 43- Ibid, 75 - 84 44- Ibid, 103. 45- Vincent Nouzille, Dans le Secret Des Presidents, (Paris: Fayard, 2010), 395-408. 46- Vincent Nouzille, 409-419. 47- Vincent Nouzille, 444-449. 48- Vincent Nouzille, 450-451. - 49أحمد داوود أوغلو ،العمق االسرتاتيجي ،موقع تركيا ودورها يف الساحة الدولية، ترجمة محمد ثلجي وطارق عبد الجليل ،الدوحة :الدار العربية للعلوم نارشون،2010 ، ص.ص.81 - 75 . - 50أحمد داود أوغلو ،العمق االسرتاتيجي ،ص.ص. 150 - 146 . - 51أحمد داود أوغلو ،العمق االسرتاتيجي ،ص.ص. 155 - 150 . - 52أحمد داود أوغلو ،العمق االسرتاتيجي ،ص.ص.158 - 155 . - 53السفري 13نيسان .2011 - 54السفري 10حزيران . 2011 99
. 2011 حزيران15 السفري- 55 . 2011 ايار26 السفري- 56 57- Gavin Menzies, 1421, The Year China Discovered the World, London: Bantam Press, 2003. . 2011 ايار13 السفري- 58
100
فـــــكـــــر
فل�سفة التوا�صل واملعلومات ح�سن عجمي -كاتب وباحث
تختلف نظريات التوا�صل وتت�صارع .نرحتل يف هذه املقالة �إىل عوامل فل�سفات التوا�صل لرن�صد منو ال�سوبر توا�صلية كمذهب فل�سفي يتجاوز املذاهب التقليدية يف علوم التوا�صل. العامل اليوم عامل توا�صلي بامتياز .لكنه ينق�سم �إىل عامل توا�صلي ما�ضوي وعامل توا�صلي م�ستقبلي. الفيزيائي الكبري جون ويلر �أر�سى املبادئ العامة لنموذج علمي جديد .بالن�سبة �إىل ويلر، كل �شيء يف الكون عبارة عن معلومة؛ فالكون يتك َّون من معلومات� ،أما العالقات بني الظواهر الطبيعية كالعالقات ال�سببية فهي جمرد تدفق للمعلومات من ظاهرة �إىل �أخرى. هكذا الكون نظام توا�صلي بحيث يتوا�صل من خالل تبادل املعلومات .فكما يقول العالمِ الفيزيائي �سيث لويد ،الكون كمبيوتر متطور يقوم بح�ساب وقيا�س معلوماته بالذات .من هذا املنطلق ،من املمكن اعتبار �أن املجتمع نظام توا�صلي و�أن الإن�سان نظام توا�صلي �أي�ضاً. فاملجتمع نظام توا�صلي مبعنى �أنه ّ يت�شكل من تبادل املعلومات؛ التفاعل بني الأفراد لي�س �سوى نقل معلومات من فرد �إىل �آخر� .أما الإن�سان فهو نظام توا�صلي مبعنى �أن الإن�سان يكمن يف �إنتاج املعلومات و�إر�سالها �إىل الآخرين .فلو مل يكن كذلك ما متكن من بناء جمتمع وتطوير حميطه و�أدوات معا�شه .كل هذا يرينا االرتباط احلتمي بني التوا�صل واملعلومات .لقد �أو�ضح عالمِ الريا�ضيات كلود �شانون العالقة بني التوا�صل واملعلومات. ُيعتبرَ كلود �شانون م�ؤ�س�س نظرية املعلومات؛ فلقد در�س املعلومات على �ضوء الأنظمة 101
التوا�صلية ف�أنتج النموذج الريا�ضي الأول يف علوم التوا�صل.1 يقول �شانون �إن التوا�صل عملية نقل للمعلومات من م�صدر �إىل متلقٍ .بالن�سبة �إليه ،يتك ّون النظام التوا�صلي من ُم ِر�سل وو�سيلة نقل للمعلومات ومتلقٍ .املُ ِر�سل هو م�صدر املعلومات، وو�سائل نقل املعلومات تتنوع وتختلف فقد تكون و�سائل الإعالم كالتلفزيون �أو الراديو �أو ر�سلة وفهمها .كما ّقدم التخاطب اللغوي اليومي ،بينما املتلقي فهدفه �إعادة بناء الر�سائل املُ َ �شانون معادلة تقي�س كمية املعلومات يف �أية ر�سالة مفادها �أن �أية ر�سالة متلك معلومات �أكرث يف حال كان احتمال ظهورها �أو تك ّونها �ضعيفاً بينما �إذا كان احتمال وجودها �أكرب حينها حتتوي الر�سالة على معلومات �أقل. هذا يعني �أن املعلومات ،بالن�سبة �إىل �شانون ،هي عمليات قيا�س االحتماالت ،وكمية املعلومات هي قيا�س االندها�ش �أو املفاج�أة .فعندما تده�شنا ر�سالة ما ،حينها حتتوي الر�سالة على معلومات �أكرث� .أما �إذا مل نتفاج�أ بر�سالة ما فحينها تكون درجة احتمال �إ�صدار الر�سالة عالية وبذلك تكون الر�سالة حاوية على معلومات قليلة .بكالم �آخر، �إذا كان من املمكن التنب�ؤ بر�سالة معينة حينها متلك الر�سالة معلومات �أقل .هكذا كمية املعلومات يف ر�سالة ما مرتبطة بقيا�س االندها�ش بتلك الر�سالة وبدرجة احتمال �صدور الر�سالة .مثل ذلك �أن الر�سالة التي تقول "�إن ال�شم�س �ست�شرق غداً" ال تده�شنا �أبداً ولذا احتمال �صدور هذه الر�سالة كبري ،وبذلك هذه الر�سالة حتتوي على معلومات قليلة جداً؛ فنحن نعلم ُم�س َبقاً �أن ال�شم�س �ست�شرق غداً� .أما الر�سالة التي تقول "�إن درجة حتدد احلرارة غداً �ستكون حتديداً �أربعني درجة مئوية" ،فهي متلك معلومات �أكرث لكونها ِّ بال�ضبط درجة احلرارة غداً ما يت�ضمن املفاج�أة وقلة درجة احتمال �صدور تلك الر�سالة. فمن دون �صدور الر�سالة ال�سابقة ال نعلم حتديداً ما هي درجة احلرارة غداً ،وبذلك حتتوي تلك الر�سالة على معلومات �أكرث .باخت�صار ،بالن�سبة �إىل كلود �شانون ،النظام التوا�صلي ر�سلة من هو نظام �إر�سال املعلومات وبذلك هو نظام معلوماتي َّ تتحدد كمية معلوماته املُ َ 1- Craig and Editors : Robert Heidi Muller : Theorizing Communication. 2007. Sage Publications. 102
فـــــكـــــر
خالل درجة احتمال ن�شوء الر�سائل املت�ضمنة للمعلومات.1 بالإ�ضافة �إىل ذلك� ،شرح فيل�سوف التوا�صل روبرت كريغ امل�أزق املعريف الكامن يف حقول الدرا�سات التوا�صلية .ففي مقاله ال�شهري "نظرية التوا�صل كحقل" �أو�ضح التعار�ض القاتل بني النظريات يف درا�سة التوا�صل .فالنظريات التوا�صلية باتت تختلف جذرياً عن بع�ضها البع�ض؛ فكل نظرية تع ِّرف التوا�صل ب�شكل خمتلف عن النظريات الأخرى ما �أدى �إىل انقطاع التفاهم بني �أ�صحاب النظريات التوا�صلية املتنوعة .من هنا ،ي�ستنتج كريغ �أن درا�سات التوا�صل ب�شكلها احلايل ال ّ ت�شكل حق ًال معرفياً وا�ضح الق�ضايا وامل�ضامني .يقول كريغ �إن توحد بني كل نظريات التوا�صل؛ فهذا يق�ضي على غنى احلل ال يكمن يف �إنتاج نظرية ّ وحدة .بل احلل قائم يف خلق حوار بني النماذج هذه احلقول من جراء اختزالها �إىل نظرية ُم َّ املتعار�ضة يف علوم التوا�صل من �أجل �إنتاج نظريات جديدة قادرة على �شرح العمليات التوا�صلية ب�شكل �أو�ضح .ي�ضيف كريغ قائ ًال �إنه من املمكن �إن�شاء حقل علمي ُيعنى بالتوا�صل من خالل بناء ميتانظرية مهمتها درا�سة النماذج املختلفة يف التوا�صل وحتليلها وحتديد العالقات التي تربط بينها ما يجعل ك ًال من احلوار والتفاهم بني �أتباع النظريات التوا�صلية املختلفة ممكناً.2 ُيح�صي كريغ �سبع نظريات توا�صلية متعار�ضة وهي� :أو ًال ،النظرية البيانية التي تعترب �أن التوا�صل هو فن املحادثة .ثانياً ،النظرية ال�سيميائية التي حت ِّلل التوا�صل على �أنه و�سيلة ارتباط بني �أطراف من خالل عالمات و�إ�شارات ذات دالالت .ثالثاً ،النظرية الفينومولوجية التي تقول �إن التوا�صل هو اختبار احلوار مع الآخرين .رابعاً ،النموذج ال�سرباين وهو امليدان املعريف الذي يدر�س الأنظمة ذات الأهداف وامل�ؤثرة يف حميطها واملت�أثرة مبحيطها كالأنظمة االجتماعية والنظام ال�سيكولوجي للفرد .واملذهب ال�سرباين ي�ؤكد �أن التوا�صل هو عملية - 1املرجع السابق. - 2املرجع السابق. 103
تدفق املعلومات متاماً كما �أو�ضح كلود �شانون .خام�ساً ،النموذج ال�سو�سيو�سيكولوجي الذي ُي�ص ّر على �أن التوا�صل تفاعل بني الأفراد� .ساد�ساً ،النظرية ال�سو�سيوثقافية التي تقول �إن التوا�صل عملية �إعادة �إنتاج النظام االجتماعي .و�سابعاً ،االجتاه النقدي الذي يعترب �أن حتد للم�س ّلمات كافة .لكن رغم �أن كريغ �أح�صى هذه املذاهب التوا�صلية التوا�صل عملية ٍّ املت�صارعة� ،أبقى الباب مفتوحاً �أمام ن�شوء نظريات توا�صلية م�ستقبلية خمتلفة عن النظريات الأوىل كالنظرية االقت�صادية يف التوا�صل التي تقرتح �أن التوا�صل هو تبادل اقت�صادي.1 من املمكن اعتبار �أن هذه املذاهب املختلفة يف التوا�صل تدر�س �أنواعاً متنوعة من التوا�صل. فكل مذهب من هذه املذاهب يو�ضح نوعاً من التوا�صل خمتلفاً عن الأنواع الأخرى يف التوا�صل التي تو�ضحها املذاهب التوا�صلية الأخرى .وبذلك ال تتعار�ض هذه املدار�س املختلفة يف التوا�صل لكونها تدر�س �أنواعاً خمتلفة من التوا�صل ما يحل م�شكلة تعار�ضها. فمن الطبيعي �أن تختلف ب�سبب درا�ستها لأنواع توا�صلية خمتلفة ،لكنها ال تتعار�ض بف�ضل �إي�ضاحها لأجنا�س توا�صلية خمتلفة .فمث ًال التوا�صل كنقل معلومات نوع من التوا�صل خمتلف عن التوا�صل ٍ كتحد للم�س ّلمات .ولذا كل هذه الدرا�سات مقبولة لكونها ت�شرح �أجنا�ساً خمتلفة من التوا�صل وبذلك ال يوجد تعار�ض حقيقي بينها. يقدم �أريك مكلوهن ومار�شل مكلوهن نظرية مغايرة يف التوا�صل؛ ف ُهما من جهة �أخرىِّ ، يع ِّرفان التوا�صل من خالل مفهوم التغيري .بالن�سبة �إليهما ،التوا�صل يت�ضمن التغيري؛ فمن دون �إحداث تغيري ما يف املتلقني ال يوجد ٍ حينئذ �أي توا�صل .فمث ًال ،النتيجة التي يريد كاتب ما �إحداثها يف املتلقني هي التي ّ ت�شكل وجهة نظر الكاتب يف التوا�صل .الكاتب يكتب على �ضوء نظريته يف التوا�صل ،وبذلك الر�سائل التي يبثها �أي كاتب حتتوي على نظريته يف التوا�صل وتهدف �إىل �إحداث تغيري معني يف املتلقي. يتلق �أية ر�سالة .هذا لأنه �إذا مل �إذا مل يحدث �أي تغري يف املتلقي ،هذا يعني �أن املتلقي مل َ - 1املرجع السابق. 104
فـــــكـــــر
يحدث تغري يف املتلقي من خالل هذا التوا�صل �أو ذاكٍ ، حينئذ ال يوجد دليل على �أنه يوجد توا�صل �أ� ً صال ،وذلك من جراء فقدان التوا�صل املفرت�ض لقدرة �سببية �أو لدور �سببي م�ؤثر. فنحن ن�ستنتج وجود ما ال نرى �أمامنا بف�ضل الأدوار �أو العالقات ال�سببية التي متلكها تلك الأ�شياء �أو الظواهر التي ال نراها مبا�شرة .هكذا ،بالن�سبة �إىل منوذجهما التوا�صلي ،وظيفة التوا�صل قائمة يف حتويل املتلقني وتغيريهم كتغيري ر�أي َمن ال يريد �شراء هذه الب�ضائع �أو تلك ودفعهم �إىل �شرائها .وتكمن هذه الوظيفة �أي�ضاً يف الق�صائد والروايات .فمث ًال ،ت�صطاد الق�صائد والروايات اجلمهور من خالل جمالياتها كي ِ حتدث تغرياً �أو حتو ًال ما يف املتلقي ك�أن تدفعه �إىل الثورة �أو اخلنوع.1 �أما النظرية التقليدية يف التوا�صل فتعترب �أن التوا�صل نقل معلومات من فرد �إىل �آخر .لكن كما يقول �أريك ومار�شل مكلوهن تف�شل هذه النظرية التقليدية يف التعبري عن حقيقة �أن و�سائل الإعالم تغيرّ م�ستخدميها وتفر�ض على متلقي معلوماتها ثقافة جديدة بينما نظرية التوا�صل ك�إحداث تغيري تنجح يف التعبري عن تلك احلقيقة .فبما �أن التوا�صل هو �إحداث تغيري يف املتلقني� ،إذن فمن الطبيعي �أن ُي ِ حدث الإعالم تغرياً يف جمتمعه .هكذا تتمكن نظرية التوا�صل ك�إحداث تغيري من تف�سري حقيقة ت�أثري الإعالم يف الفرد واملجتمع ما يدعم مقبوليتها .كما �أن الإعالم ينتج ثقافة جديدة ّ تت�شكل من وظائف و�أهداف امل�ؤ�س�سات الإعالمية وكيفية ا�ستخدام و�سائل الإعالم .من هنا ،التوا�صل �إحداث تغيري. كما يعر�ض مار�شل مكلوهن �أفكاراً مثرية حول طبيعة التوا�صل .بالن�سبة �إليه ،و�سيلة التوا�صل هي الر�سالة ،وم�ضمون الو�سيلة التوا�صلية هو الفرد املُ ِ حتوله �إىل �ستخدم لها لأنها ّ فرد خمتلف من جراء ا�ستخدامه لها .ومبا �أن هدف التوا�صل هو التغيري ،وعلماً ب�أنه من خالل و�سيلة التوا�صل يحدث التغيري� ،إذن هدف التوا�صل هو ن�شر و�سيلة التوا�صل وبذلك و�سيلة التوا�صل هي ر�سالة التوا�صل .باخت�صار ،ي�ؤكد مار�شل مكلوهن على �أن التوا�صل يعني التغيري .ومبا �أن التغيري هو تغيري يف اجلماهري املتلقية لر�سائل التوا�صل� ،إذن تت�أقلم الأنظمة 1- Eric Mcluhan and Marshall Mcluhan : Theories of Communication. 2011. Peter Lang . 105
التوا�صلية مع املتلقني لر�سائلها بهدف �إجناح عملية تغيريهم .هكذا املتلقي ي�شرتك �أي�ضاً يف �إنتاج ر�سائل التوا�صل .1 لكن ال بد من التمييز بني التوا�صلية وال�سوبر توا�صلية .التوا�صلية التقليدية تدر�س التوا�صل على �أنه عملية نقل معلومات من م�صدر معني �إىل متلقٍ بينما ال�سوبر توا�صلية تعترب �أن التوا�صل عملية خلق قدرات على �إنتاج معلومات جديدة .هكذا تختلف ال�سوبر توا�صلية عن التوا�صلية .بالن�سبة �إىل التوا�صلية ،التوا�صل �إر�سال معلومات وتلقٍ لها .لكن بالن�سبة �إىل ال�سوبر توا�صلية ،التوا�صل عملية ت�شكيل مبتكر للمعلومات وخلق جديد لها .هكذا ال�سوبر توا�صلية جتعل ك ًال من املُ ِر�سل واملتلقي منتجاً للمعلومات بينما التوا�صلية تبقي املُ ِر�سل ناق ًال للمعلومات واملتلقي جمرد متلقٍ لها .فبينما التوا�صلية التقليدية تق�ضي على املبدع يف املتلقي ،ال�سوبر توا�صلية ت�ستدعي املبدع يف املتلقي بل تدفع باملتلقي لي�صبح مبدعاً للمعلومات .الآن ،لو كان التوا�صل �إحداث تغيري يف املتلقي ،فخلق قدرات على �صياغة معلومات جديدة �أف�ضل و�أقوى تغيري من املمكن �إنتاجه يف املتلقني .من هنا تكت�سب ال�سوبر توا�صلية م�صداقيتها؛ فهي قادرة على احتواء التوا�صل كعملية تغيري .ولو كان التوا�صل �إي�صال املعلومات �إىل متلقٍ ،ومبا �أن �أف�ضل �إي�صال للمعلومات كامن يف خلق قدرات على ر�سلة� ،إذن التوا�صل قائم يف تزويد املتلقي �إنتاج معلومات جديدة على �ضوء املعلومات املُ َ بقدرات على �صياغة معلومات جديدة متاماً كما تقول ال�سوبر توا�صلية .على هذا الأ�سا�س، ت�صدق ال�سوبر توا�صلية �أي�ضاً. ت�صل املعلومات �إىل متلقٍ ما فقط يف حال �أنه متكن من فهمها .ولكي يفهم تلك املعلومات ال بد �أن يتمكن من معرفة �أدوارها اال�ستنتاجية �أي الأ�س�س التي بف�ضلها تكت�سب م�صداقية معينة والنتائج التي تت�ضمنها .من هنا ،ت�صل املعلومات �إىل متلقٍ معني يف حال جنح املتلقي يف ا�ستنتاج النتائج املرتتبة عن تلك املعلومات و�إال يكون قد ف�شل يف فهم م�ضامينها .لكن ر�سلة لي�س �سوى اكت�ساب قدرات على �إنتاج ا�ستنتاج النتائج املرتتبة عن املعلومات املُ َ - 1املرجع السابق. 106
فـــــكـــــر
ر�سلة .بذلك �إي�صال املعلومات يت�ضمن خلق معلومات جديدة على �ضوء املعلومات املُ َ قدرات على �صياغة معلومات مبتكرة ما يعني �أي�ضاً �أن �أف�ضل �إي�صال للمعلومات كامن يف خلق قدرات على �إنتاج معلومات جديدة .هكذا ت�صدق ال�سوبر توا�صلية .ف�إن مل يتمكن التوا�صل من بناء قدرات على �صياغة معلومات جديدة ،حينها يف�شل التوا�صل يف �إي�صال �أية معلومات لأن �إي�صال املعلومات يت�ضمن بال�ضرورة خلق قدرات على �إنتاج معلومات مل نعهدها من قبل .هكذا يزول الفارق بني �إي�صال املعلومات و�إنتاجها .وهذه ف�ضيلة كربى لل�سوبر توا�صلية. ال�سوبر توا�صلية ت�ؤ�س�س لن�شوء الأنظمة التوا�صلية ال�سوبر م�ستقبلية .فالنظام التوا�صلي ال�سوبر م�ستقبلي ير�سل �إىل املتلقي ر�سائل �أ�سا�سية مفادها �أن املعلومات التي يريد �إر�سالها ر�سلة �إليه هي النتائج اجلديدة التي �سوف ينتجها املتلقي يف امل�ستقبل على �ضوء الر�سائل املُ َ �إليه .وبذلك النظام التوا�صلي ال�سوبر م�ستقبلي يجعل من املتلقي ُم ِر�س ًال �أو م�صدراً للمعلومات يف امل�ستقبل .وهو بذلك يح ّول املتلقني �إىل مبدعني ملعلومات جديدة .تتميز ال�سوبر م�ستقبلية مبوقفها القائل ب�أن املعلومات هي تلك التي ّ تت�شكل يف امل�ستقبل ،ولذا ت�ؤكد ال�سوبر م�ستقبلية على �أن التوا�صل احلق هو الكامن يف �إر�سال م�ضامني تدعو �إىل خلق املعلومات امل�ستقبلية .ولكي تقوم ال�سوبر م�ستقبلية مبهمتها هذه ت�ستعني بال�سوبر حداثة التي حتدد �أية معلومات هي املعلومات ال�صادقة دون �سواها ،بل ترتك للمتلقي �أمر اكت�شاف ال ِّ احلقائق وبذلك حترره من �سلطة املعلومة وطغيانها .من هنا ،املعلومات التي تر�سلها الأنظمة ال�سوبر توا�صلية املعتمدة على ال�سوبر م�ستقبلية وال�سوبر حداثة هي معلومات غري محُ َّددة ر�سلة النتائج؛ فنتائجها معتمدة على املتلقي الذي من املفرت�ض �أن ُيعيد �صياغة الر�سائل املُ َ �إليه وينتج ر�سائل �أخرى خمتلفة .هذا نقي�ض النظام التوا�صلي يف املجتمعات ال�سوبر متخلفة التي تبث معلومات محُ َّددة ومت�ضمنة ال�ستحالة تغيريها .هكذا ،بينما معلومات الأنظمة التوا�صلية ال�سوبر متخلفة محُ َّددة �سلفاً ،معلومات الأنظمة التوا�صلية ال�سوبر حداثية غري محُ َّددة امل�ضامني ما يجعل ال�صراع بني ال�سوبر تخلف وال�سوبر حداثة �صراعاً حتمياً .فالنظام 107
املحددة ُم�س َبقاً بينما النظام التوا�صلي التوا�صلي ال�سوبر متخ ّلف ي�سجن العقل يف معلوماته َّ حددة يف م�ضامينها ونتائجها. ال�سوبر حداثي يحرر العقل من خالل معلوماته غري املُ َّ يف ع�صر ال�سوبر تخلف يتح ّول النظام التوا�صلي �أداة �صناعة ملعلومات كاذبة وخالية من املعنى بينما يتميز التخلف بانهيار النظام التوا�صلي .هكذا يختلف ال�سوبر تخلف عن التخلف التقليدي .فاملجتمع املتخلف غري قادر على التوا�صل ب�سبب قلة معلوماته ودونية قيمة املعلومة فيه .لكن املجتمع ال�سوبر متخ ّلف ميتلك نظاماً توا�صلياً معقداً يحتوي على معلومات كثرية ومتكاثرة دوماً كما لديه و�سائل نقل متطورة للمعلومات وقادرة على �إي�صالها �إىل �أي متلقٍ و�إقناعه مب�صداقيتها .لكنه ي�ستخدم الأنظمة التوا�صلية املتطورة لكي ين�شر معلومات فاقدة لأية قيمة علمية �أو فكرية �أو �سلوكية ،وهو بذلك يقوم بوظيفته الأ�سا�سية �أال وهي التجهيل. النظام التوا�صلي يف زمن ال�سوبر تخلف ُيط ِّور التخلف من خالل ن�شر اجلهل والتع�صب بو�سائل تكنولوجية متقدمة .فحني ي�ستخدم النظام التوا�صلي ال�سوبر متخلف التكنولوجيات املتطورة يقنع املتلقي ب�صدق ر�سائله الكاذبة .ال�سوبر تخلف �آلية �أبدعتها ال�سوبر ما�ضوية التي تقول �إن احلقائق واملعارف كامنة يف املا�ضي و�إن التاريخ يتجه نحو املا�ضي بد ًال من �أن يتجه نحو امل�ستقبل .ف�أف�ضل منهج لإعادة �صياغة املا�ضي يف امل�ستقبل قائم يف تطوير التخلف ما ي�ضمن ا�ستحالة االنطالق �إىل م�ستقبل جديد ف�ضرورة العودة �إىل املا�ضي. ما�ض ُم�شرِق. يتميز النظام التوا�صلي ال�سوبر ما�ضوي ب�صفة ت�صوير امل�ستقبل على �أنه ٍ فاملا�ضي ،بالن�سبة �إىل الأنظمة التوا�صلية ال�سوبر ما�ضوية ،محُ َّدد يف �أدق التفا�صيل فوا�ضح املاهية واملعامل ما ي�سبب الر�ضى يف قلوب ال�سوبر ما�ضويني ويدفعهم نحو عدم �إنتاج ما هو حمدد يف �صفاته جديد ،بينما املا�ضي بالن�سبة �إىل النظام التوا�صلي ال�سوبر حداثي فهو غري َّ ما�ض متجدد با�ستمرار و�صياغة م�ستقبليات وماهيته ما يدفع ال�سوبر حداثويني �إىل ابتكار ٍ جديدة ومتعددة .هكذا تواجه ال�سوبر حداثة الأنظمة التوا�صلية ال�سوبر ما�ضوية وال�سوبر متخلفة ب�سالحها الفكري القائل ب�أن الال محُ َّدد يحكم الكون والتاريخ. بالن�سبة �إىل ال�سوبر حداثة ،كل حقيقة �أو ظاهرة غري محُ َّددة ما هي ،ولذا تتج�سد يف جت�سدات 108
فـــــكـــــر
خمتلفة ما يرفع درجة احتمال معرفتها لكونها متجلية يف حقائق وظواهر متنوعة .من هنا ،تعترب املحدد ما هو التوا�صل ،ولذا يغدو التوا�صل ظواهر عدة وخمتلفة ال�سوبر حداثة �أنه من غري َّ فيكون نق ًال للمعلومات �أو �إحداث تغيري يف املتلقني �أو تفاع ًال بني �أفراد �أو �إعادة �صياغة حتدياً للم�س ّلمات التقليدية .هكذا تتمكن ال�سوبر حداثة من تف�سري للواقع االجتماعي �أو ّ جت�سدات متنوعة ،وبذلك تكت�سب ال�سوبر حداثة ف�ضيلتها املعرفية. ملاذا يتجلى التوا�صل يف ّ بالإ�ضافة �إىل ذلك تن�سجم ال�سوبر حداثة مع ال�سوبر توا�صلية .فبما �أن ال�سوبر توا�صلية عملية خلق قدرات على �صياغة معلومات جديدة ،ومبا �أن �أية معلومات مبتكرة حتتاج �إىل �أنظمة توا�صلية جديدة لكي تتمكن من حمل املعلومات اجلديدة� ،إذن ال�سوبر توا�صلية ت�ستلزم ن�شوء �أنظمة توا�صلية جديدة ما يت�ضمن جت�سدات خمتلفة للتوا�صل مل نعهدها من قبل. لكن ال�سوبر حداثة ت�ؤكد �أن للتوا�صل جت�سدات متنوعة .من هنا ،ال�سوبر توا�صلية تت�ضمن املحدد امل�ضامني والنتائج توا�صل موقف ال�سوبر حداثة ما ي�شري �إىل ان�سجامهما .التوا�صل َّ الالحمدد يف م�ضامينه ونتائجه توا�صل �سوبر حداثوي .توا�صل �سوبر ما�ضوي بينما التوا�صل َّ من دون �إنتاج معارف م�ستقبلية جديدة توا�صل �أعمىَ .من ال ي�ستطيع �إنتاج املعلومات ال ي�ستطيع �إي�صالها.
109
الطبعة الفرنسية الثانية من كتاب "سوريا" ( ،)La Syrieوهو كتاب نادر أصدره الصحفي والنارش الفرنيس شارل الملان " "Charles Lallemand" "1826-1926يف العام 1865يف طبعة أوىل محدودة مرقَّمة بستني نسخة يف إطار مرشوع حمل عنوان "املعرض العاملي للشعوب" (.)La Galerie Universelle des Peuples وهذا الكتاب هو األول من نوعه يف القرن التاسع العرش يف حقل الكتب املوجهة نحو نرش صور األزياء الوطنية السورية بواسطة الصور الفوتوغرافية.
فـــــكـــــر
�رصاع حممد علي با�شا و�أوروبا على بالد ّ ال�شام �إعداد :د.كمال منذر -باحث و�أ�ستاذ م�ساعد يف اجلامعة اللبنانية
منذ عام 1805م ،دانت م�صر حلكم الوايل الألباين حممد علي با�شا ،الذي دخل م�صر مع فرقة �ألبانية �أر�سلها ال�سلطان العثماين لإخراج الفرن�سيني من بالد النيل ،ومع خروج الفرن�سيني، ا�ستطاع حممد علي اللعب على تناق�ضات القوى املت�صارعة داخل م�صر :املماليك والألبان وعمر مكرم وحجاج اخل�ضري وحممد الدواخلي والوايل العثماين ،فا�ستطاع بذلك احل�صول على فرمان ال ّتعيني من ال�سلطان ب�صفته والياً على م�صر يف حزيران من عام 1805م. ومع و�صوله �إىل ال�سلطة �أخذ يتخ ّل�ص من خمتلف القوى داخل م�صر ،لينفرد يف حكم م�صر هو و�أوالده ع�شرات ال�سنني.
1
بنى حممد علي دولة قوية كان �أركانها الألبان والأتراك وال�شراك�سة والأوروبيون� ،إلاّ �أ ّنه كان يطمع يف ال�سيطرة على بالد احلجاز وبالد ال�شام ،و�إ�سقاط احلكم العثماين واحللول مكانه ،راغباً بذلك ببناء دولة قوية .وما دفعه �إىل ذلك هو :ارتباط بالد ال�شام مب�صر جغرافياً وتاريخياً ،و�أهميتها كي تبعد � ّأي خطر عن م�صر � ٍآت من ال�شرق ،كما �أ ّنها متتلك ق ّوة اقت�صادية داعم ّة مل�صر واقت�صادها و�صناعتها (احلبوب ،املعادن ،املوانئ ،الأ�سطول التجاري� ...إلخ) .هذا عدا اليد العاملة والعنا�صر ال�ضرورية للجي�ش .2كما عرفت بالد - 1ليىل صبّاغ ،تاريخ العرب الحديث واملعارص ،دمشق :مطبعة ابن حيان ،1982 - 1981 ،ص .63 - 2عبد الرحمن الرافعي ،عرص محمد عيل ،القاهرة ،1947 :ص .189 - 188 111
ال�شام الطرق التجارية التي ربطت �شرق �آ�سيا بغربها. هذا ما دفع مبحمد علي با�شا �إىل التدخل يف �ش�ؤون بالد ال�شام الداخلية ،وقد �ساعده يف ذلك ا�ضطراب الأو�ضاع فيها ،ما فتح الباب �أمامه للعمل على اال�ستفادة من ال�صراع الدائر بني وايل ال�شام كنج يو�سف با�شا ووايل �صيدا �سليمان با�شا ،ومع فرار كنج با�شا �إىل م�صر �أواه حممد علي ووقف �إىل جانبه بهدف ك�سبه �إىل جانبه عندما حتني الفر�صة لغزو بالد ال�شام.
1
وجنح حممد علي يف احل�صول على العفو من الباب العايل لوايل دم�شق كنج با�شا ،و�أعاده �إىل واليته لي�صبح هذا �أحد اخلا�ضعني لنفوذ حممد علي و�إرادته. موقف حممد علي با�شا احلامي للفا ّرين من وجه ال�سلطة العثمانية ازداد ب�شكل ملحوظ، وخ�صو�صاً مع �إيواء �أمري لبنان ب�شري ال�شهابي الذي التج�أ مل�صر عام 1822م ،بعد �أن انحاز �إىل وايل �صيدا عبداللهّ با�شا يف �صراعه مع دروي�ش با�شا وايل ال�شام. عندها �أ�صدر ال�سلطان العثماين �أمراً بعزل وايل �صيدا و�أمري لبنان ،فهرب الأمري �إىل م�صر والتج�أ ملحمد علي با�شا الذي �أواه وك�سب و ّده ،ومن ّثم تو�سط له و�أعاده �إىل �إمارته ،كما تو�سط لوايل �صيدا عبداللهّ با�شا الذي و�صلت �سلطته �إىل قلعة عكا ،وهي القلعة الأبرز على طريق ال�شام – م�صر. وبذلك يكون حممد علي قد �سيطر معنوياً و�سيا�س ّياً على بالد ال�شام من خالل وجود والة و�أمراء موالني له.
2
كانت كل ال�سيا�سات التي ا ّتخذها حممد علي با�شا تظهر ميله وعمله لل�سيطرة على بالد - 1طنوس الشدياق ،أخبار األعيان ،بريوت ،1859 :ص .565 - 563 - 562 - 2املرجع نفسه ،ص .541 - 540 112
فـــــكـــــر
ال�شام ،فكان يربط دعمه لل�سلطان العثماين� ،إن كان من خالل حملة احلجاز وجند �ضد الوهابية� ،أو حملة اليونان التي ا�ستغ ّلها �أح�سن ا�ستغالل ،ليح�صل من �أوروبا على وعد بعدم ل�ضمه بالد ال�شام مقابل ان�سحابه من اليونان ،فغ�ضت �أوروبا النظر عن هذا املطلب ال رف�ضها ّ �سلباً وال �إيجاباً ،وهو ما فهمه حممد علي باملوافقة ال�ضمنية.
1
ويف عام 1831م ،جاءت الفر�صة املنا�سبة ،التي كان ينتظرها حممد علي ،عندما هرب �ستة �آالف اّفلح م�صري �إىل والية �صيدا و�أقاموا يف غزة قرب احلدود امل�صرية. ومع رف�ض وايل �صيدا عبداللهّ با�شا �إعادة ه�ؤالء الفالحني� ،أمر حممد علي با�شا جي�شه باجتياز احلدود حتت عنوان :ت�أديب وايل �صيدا.
2
عدة عناوين تخفي حقيقة مطامعه وهي: لقد حت ّرك حممد علي با�شا باجتاه بالد ال�شام حتت ّ � - 1إ ّنه املحرر العربي للعرب من احلكم العثماين. - 2ا�ستعادة الف ّالحني امل�صريني املنقلبني عليه وت�أديبهم. - 3ا�ستعادة هيبة ال�سلطنة العثمانية. �إ ّال �أنّ �شعار العروبة كان جم ّرد �شعار رفعه ليك�سب العرب �إىل جانبه يف معركته مع ال�سلطان العثماين ،فمحمد علي با�شا الذي جعل من اجلنود العرب م�ست�ضعفني يف جي�شه حتت قيادة �ضباط من الأتراك واملماليك والألبان ،وللعرب دور واحد فقط هو العمل بو�صفهم اّفلحني والتح ّول �إىل جنود يف اجلي�ش.
3
- 1فندي ابوفخر ،سوريا والرصاعات الدولية ،سورية :دار الحصار ،ط ،2000 ،1ص .19 - 18 - 2املرجع نفسه. - 3فندي آبو فخر ،سوريا والرصاعات الدولية ،املرجع السابق ،ص .25 113
لذلك ال ميكننا اعتبار احلرب التي قامت بني حممد علي والعثمانيني ،هي حرب عربية تركية ،بل هي �أطماع والٍ تركي على حكومته ،و�صراع �أوروبي� -أوروبي على �سوريا 1.و�سعي وايل م�صر �إىل ّمد نفوذه نحو بالد ال�شام ،و�إعالن قيام حكم جديد يت�أ ّلف من حممد علي وعائلته ،على �أنقا�ض الدولة العثمانية املنهارة ،وبناء دولة واحدة لها اقت�صاد قوي. هذه الأطماع تلقفتها �أوروبا للأهداف الآتية: - 1دعم �أوروبا ملحمد علي يف البداية ،كان بهدف �إ�ضعاف الطرفني :م�صر – ال�سلطنة يعجل من �سقوطهما لل�سيطرة عليهما فيما بعد. العثمانية ،وهذا ما ّ � - 2سعي فرن�سا لتعود �إىل م�صر ولل�سيطرة على بالد ال�شام من خالل م�شروع حممد التو�سعي ،فدعمت هذا الأخري باخلرباء وال�سالح ،منهم كلوت بك. علي ّ
2
كما �أنّ بريطانيا كانت تطمع بالدخول �إىل بالد ال�شام وم�صر من خالل ك�سب حممد علي �إىل جانبها ،لت�ؤ ّمن طريق التجارة مع الهند ،ولتخ�ضع القبائل التي تعيق �سالمة هذه التجارة.
3
وبالتايل ال ميكننا �أن نعترب �أنّ انقالب حممد علي با�شا على ال�سلطان العثماين هو نزعة قومية، لاّ 4 فال عالقة للقومية العربية بها ،بل هي جم ّرد انقالب والٍ على �سلطانه لي�س �إ . حكم حممد علي يف بالد ال�شام: اعتمدت �سيا�سة حممد علي على الأقارب واملق ّربني يف املنا�صب والوظائف العليا داخل - 1محمد فؤاد شكري وآخرون ،بناء دولة مرص ،القاهرة :دار الفكر العريب ،1948 ،ص266 - 241 - 2املرجع نفسه ،ص .268 - 3املرجع نفسه ،ص.380 - 4فندي أبو فخر ،املرجع السابق ،ص .40 114
فـــــكـــــر
اجلهاز الإداري وال�سيا�سي والع�سكري ،وعلى ر�أ�س ه�ؤالء ابراهيم با�شا ابن حممد علي، من هنا يظهر لنا وبو�ضوح نوع احلكم الفردي اال�ستبدادي الذي اعتمد عليه احلكم امل�صري يف بالد ال�شام� .صحيح ترك احلكم امل�صري بع�ض م�شايخ فل�سطني وب�شري ال�شهابي الأمري اللبناين يف احلكم� ،إلاّ �أنّ ه�ؤالء كانوا جم ّرد موظفني كبار هدفهم جمع ال�ضرائب وتنفيذ 1.
�سيا�سة احلكم امل�صري
مع الإبقاء على طبقة املوظفني الفا�سدين من العهد العثماين ال�سابق ،وه�ؤالء ا�ستمروا على ف�سادهم املعهود رغم تغري الوالء من احلاكم الرتكي �إىل احلاكم امل�صري ،فاملوظف الفا�سد املكروه من ِقبل العامة كان هو املوظف الأن�سب للحكم امل�صري ،حيث �أنّ النظام لن يجد �أف�ضل من املوظف الفا�سد الذي يحتمي به �أو يحقق غاياته �أو ي�ستم ّر يف عمله وف�ساده يف الوقت نف�سه. وهو ما �أثار ده�شة العامة يف بالد ال�شام ،الذين انتظروا من النظام امل�صري �أن يخ ّل�صهم من ه�ؤالء ،ف�إذا هو يبقيهم ويدعمهم ويق ّويهم داخل مراكزهم.
2
�أما بالن�سبة �إىل ال�سكان املحليني فقد عوملوا معاملة �سيئة جداً ،وهذا ما �أ�ضعف احلكم امل�صري يف بالد ال�شام .لقد كانت �سيا�سة النهب والتدمري وحرق املنازل وقتل الآالف من ال�سكان �سيا�سة مت ّبعة يف قمع � ّأي انتفا�ضة �شعبية �ضد احلكم امل�صري ،كما ح�صل يف جبال الالذقية مع قمع االنتفا�ضات ال�شعبية حيث ُدم ّرت القرى و�أحرقت املنازل ،و ُنهبت املوا�شي واحلبوب وقطعت الأ�شجار ...وهذا �شمل �أي�ضاً �سكان جبل لبنان من م�سيحني ودروز ،ما �أثار نقمة امل�شايخ والأمراء وكراهيتهم جتاه امل�صريني و�سيا�ستهم ،خ�صو�صاً مع تعامل النظام - 1املرجع نفسه ،ص.69 - 68 - 2أسد رستم ،األصول العربية لتاريخ سورية يف عهد محمد عيل ،بريوت :الجامعة األمريكية 1934 - 1930 ،ج 3ص.245 115
امل�صري معهم بو�صفهم الرعية التابعة لهم متاماً ،ما دفعهم �إىل احلقد على النظام و�سيا�سته، والتح�سر على احلكم الرتكي ال�سابق 1.هذا الأ�سلوب يف التعامل مع العامة كان لغري م�صلحة ّ امل�صريني ،حيث �أنّ �أهايل بالد ال�شام مت ّنوا التخ ّل�ص من حكم ابراهيم با�شا ورجاله ،فكانوا داعمي الثورة على هذا النظام ال�سيئ والفا�سد ،خ�صو�صاً مع رفع ال�ضرائب التي يحتاج �إليها النظام ب�شكل دائم ،و�أعمال ال�سخرة التي مور�ست جتاه املواطنني ال�شاميني ،ح ّتى �ضاقت بالد ال�شام ذرعاً باحلكم امل�صري ال�سيئ
2.
ا�ستمرار التخلّف الثقايف والعلمي: مو�ضوع التعليم وتراجع امل�ستوى الرتبوي مل يكن بال�شيء اجلديد خالل الع�صر العثماين، فالإدارة العثمانية مل تهتم �إلاّ بفر�ض ال�ضرائب والأمن ،3فبقيت احلياة العلم ّية على حالها تراث قاد ٌر على االحتكاك بالرتاث دون � ّأي تقدم يذكر ،كما �أنّ العثمانيني مل يكن لديهم ٌ العربي ،والتفاعل معه والت�أثري به� ،أو ح ّتى لغة قادرة على فر�ض نف�سها على اللغة العربية ،ما التعليمي وتخلفه ب�شكل كبري .وما كان منت�شراً حينها هو الكتاتيب �ساهم يف تراجع الواقع ّ وتعليم الدين وحفظ القر�آن للأطفال دعماً للمذهب الر�سمي للدولة .4ومع حكم حممد علي با�شا ا�ستم ّر الواقع العلمي خالل ال�سنوات الثالث الأوىل 1834 - 1831على ما هو عليه يف العهد العثماين� ،إىل �أن ق ّرر ابراهيم با�شا و�ضع نظام تعليمي يق ّلد �أوروبا لت�أمني الكوادر التي يحتاج �إليها اجلي�ش والإدارة امل�صرية ،كما �أح�ضر ابراهيم با�شا معه مطبعة - 1فندي أبو فخر ،سورية والرصاعات الدولية ،املرجع السابق ،ص.70 - 2املرجع نفسه ،ص.71 - 70 - 3فيليب حتي ،تاريخ سورية ولبنان وفلسطني ،ترجمة كامل اليازجي ،بريوت :دار الثقافة ،1959ج 2ص.317 - 316 - 4فندي أبو فخر ،سورية والرصاعات الدولية ،املرجع السابق ص.104 - 103 116
فـــــكـــــر
حجرية لطباعة املن�شورات والأوامر الع�سكرية ،و�أدخلت مطبعة �أخرى كان دورهما ن�شر الأوامر الع�سكرية والتب�شري الديني. واعتمد النظام امل�صري على خربة كلوت بك الفرن�سي لتجهيز هذه املدار�س وتنظيمها وو�ضع نظامها التعليمي يف خمتلف �أنحاء بالد ال�شام وكربى مدنها ،كدم�شق وحلب و�أنطاكية وغريها.
1
وتو ّزعت هذه املدار�س على الدرجات الآتية: - 1املدار�س االبتدائية :مدة الدرا�سة فيها متتد �إىل ثالث �سنوات ،وتقوم املدر�سة بتقدمي الطعام والك�ساء وال�سكن ،يتع ّلم فيها القراءة والكتابة واللغة العربية و�أ�صول الدين. - 2املدار�س التجهيزية :ت�ستقبل خريجي املدار�س االبتدائية ومدة الدرا�سة فيها �أربع �سنوات ،وتع ّلم العربية والرتكية والفار�سية ،واحل�ساب واجلرب والتاريخ واجلغرافيا. - 3الكليات :اع ُتربت دم�شق وحلب مركزين للكليات يف بالد ال�شام ،وهما �شبيهتان موحداً بتلك التي �أن�شئت يف م�صر ،يتع ّلم طالبهما الفنون الع�سكرية ،ويرتدون لبا�ساً ّ ويح�صلون على مراتب معينة ،كما يقيمون داخل الكلية� .إلاّ �أنّ هاتني الكليتني مل تخ ّرجا �أحداً كون احلكم امل�صري لبالد ال�شام ا�ستم ّر حواىل الع�شر �سنوات وعمر التجربة التعليمية كان �سبع �سنوات فقط.
2
هذا النظام التعليمي مل ي�ساعد يف بناء كوادر مثقّفة قادرة على النهو�ض بالأ ّمة ،فلم تعرف - 1فندي أبو فخر ،سورية والرصاعات الدولية ،املرجع السابق ص .105 - 2املرجع نفسه ،ص .106 117
البالد حركة ترجمة من الأوروبية كما ح�صل يف م�صر ،ومل ترتجم الكتب العلمية والثقافية ،فكان هنالك نق�ص يف الثقافة والتعليم ،والإقبال على القراءة �ضعيف جداً ،ح ّتى �أ ّنه نادراً ما ظهر باعة كتب يف دم�شق وحلب وغريهما من بالد ال�شام.
1
هذا امل�شروع التعليمي مل يكن من م�صلحة النظام تطويره وتخريج ال�شباب املثقف الواعي الذي �سي�شكل خطراً على النظام نف�سه ،وهو ما ظهر من خالل كتاب �أر�سله حممد علي �إىل ولده ابراهيم ّ يحذره فيه ويعرب عن خماوفه ويثري انتباهه �إىل خماطر تعليم العامة" :ما تعانيه �أوروبا عهد ٍئذ من نتائج تعميم التعليم بني �أبناء العامة ...فمن الواجب �أن تتف�ضلوا فتك�شفوا بتعليم القراءة والكتابة لعدد ٍ واف ب�أعمال الريا�سة غري مولعني بتعميم ذلك التعليم.
2
عندها بد�أ ابراهيم با�شا بتحجيم م�شروع التعليم وحتديد دوره ،رغم ظهور بع�ض املدار�س مهم... ّ املهمة� ،إال �أ ّنها مل تكن لتخ ّرج كوادر ذات �ش�أن ّ �إال �أنّ حممد علي وولده ابراهيم مل ي�ستطيعا منع الن�شاط التب�شريي للإر�ساليات الأوروبية وخ�صو�صاً يف لبنان. هذه الإر�ساليات التي �أن�ش�أت املدار�س ،كمدر�سة عينطورة عام 1834م ،ومدار�س �أن�شئت على يد مب�شّ ر �أمريكي ،ونقل مطبعة البعثة التب�شريية الأمريكية من مالطة �إىل لبنان. وقد �ساهمت هذه املدار�س يف التعليم وحمو الأم ّية ،ولكن بخلفية دينية بحت.3 - 1عبد الكريم غرايبة ،تاريخ العرب الحديث ،بريوت :األهلية للنرش ،1984ص .80 - 79 - 78 - 2فندي أبو فخر ،املرجع السابق ،ص.107 - 3جورج انطونيوس ،يقظة العرب ،ترجمة إحسان عباس ونارص الدين األسدي ،بريوت :دار العلم للماليني – ط ،1980 ،6 ص .100 118
فـــــكـــــر
خروج حممد علي من �سوريا وف�شل ال�سيا�سة امل�رصية: كان لدخول قوات حممد علي با�شا �إىل بالد ال�شام ردات فعل خمتلفة عند الدول الأوروبية. �إال �أنّ جممل �سيا�سة معظم هذه الدول كان عرب التخ ّوف من �سقوط بالد ال�شام بيد ق ّوة وبيد حاكم قوي يعرف كيف يدير احلياة ال�سيا�سية واالقت�صادية للبالد ،وهو ما ال تريده �أوروبا ّ والتحكم ب�سيا�سة ال�شرق. التي تف�ضل وجود الرجل العثماين املري�ض، وهذا ظهر من خالل رف�ض ٍّ كل من بريطانيا والنم�سا ورو�سيا وتخ ّوفها من حممد علي ونهاية ال�سلطنة العثمانية ،وت�أييد فرن�سا التي كانت قوية يف بالط حاكم م�صر. ورجالها ي�ساهمون يف تدريب اجلي�ش امل�صري وتوجيه ال�سيا�سة امل�صرية للم�صالح الفرن�سية.
1
وعلى الرغم من ذلك ف�إنّ بريطانيا والنم�سا ورو�سيا مل تتح ّرك لإيقاف تقدم اجلي�ش امل�صري باجتاه بالد ال�شام ،ومل تتخذ موقفاً حا�سماً �إال بعد �أن خ�شيت من �سقوط ا�سطنبول العا�صمة العثمانية ،بعد �أن ُهزمت كافة اجليو�ش العثمانية �أمام امل�صرية ،فقامت بال�ضغط على حممد علي لإيقاف جي�شه ،وعلى ال�سلطان العثماين للح�صول على االمتيازات ال�سيا�سية واالقت�صادية املختلفة داخل ال�سلطنة.
2
لقد تعاظم النفوذ الأوروبي داخل ال�سلطنة العثمانية �أثناء وجود حممد علي يف بالد ال�شام ،حيث �أن ال�سلطان العثماين تنازل كثرياً لقاء بقائه على عر�ش ال�سلطنة وعدم �سقوط ا�سطنبول ،ح ّتى �أ ّنه �سمح لرو�سيا ب�إر�سال �أ�سطولها �إىل العا�صمة العثمانية حلمايتها وعقد معها اتفاقاً �أعطى للقي�صر الرو�سي العديد من االمتيازات داخل ال�سلطنة وهو ما - 1فندي أبو فخر ،املرجع السابق ،ص .123 - 2زين نورالدين زين ،الرصاع الدويل يف الرشق األوسط ،بريوت :دار النهار للنرش 1971ص.25 119
�أرعب بريطانيا وفرن�سا.
1
وكان لكل اتفاق �أو امتياز يعقده ال�سلطان مع دولة من هذه الدول ،حت�صل الدولة الثانية على امتيازات مماثلة ،وهكذا ا�ستطاعت الدول الأوروبية حتقيق ما عجزت عنه طوال �سنوات �سابقة ،لت�صبح ال�سلطنة العثمانية �أ�سرية ال�سيا�سات الأوروبية ،ولي�صبح اقت�صادها تابعاً ومرتبطاً باالقت�صاد وال�سيا�سة الأوروبيني. لذلك كانت االتفاقيات كافة التي تعقد بني حممد علي وال�سلطان تف�شل طاملا �أوروبا قادرة على حتقيق م�صاحلها من خالل احلرب واالحتالل وال�صراع بني القاهرة وا�سطنبول. وبعد �أن ح�صلت هذه الدول على غاياتها ،ومع فرار الأ�سطول العثماين وانتقاله �إىل م�صر، �شعرت �أوروبا بخطورة بقاء حممد علي يف بالد ال�شام وعلى مقربة من العا�صمة العثمانية، 2 فكانت اتفاقية لندن 5متوز .1840 �ضد فرن�سا لقد كانت اتفاقية لندن التي �سعى �إليها باملر�ستون رئي�س وزراء بريطانيا موجهة ّ وحممد علي وحرية ال�شعوب العربية كافّة ،وح ّتى الأتراك ،للتحكم مبقدرات البالد العربية 3 والرتكية االقت�صادية ،ولفرتة زمنية طويلة مل تنته �إىل اليوم. وهي خطوة يف طريق اال�ستعمار الأوروبي لبالدنا ،خ�صو�صاً مع �أهم ّية ٍّ كل من �سوريا وم�صر على الطريق التجاري مع الهند عرب البحر الأحمر واخلليج العربي. لذلك �سعت بريطانيا �إىل �إنهاء حكم حممد علي على �سوريا وتطويقه داخل م�صر و�إخ�ضاع - 1فندي ابو فخر ،سوريا والرصاعات الدولية ،املرجع السابق ،ص.139 - 2املرجع نفسه ،ص .186 - 184 - 3عمر عبد العزيز عمر ،دراسات يف تاريخ العرب الحديث واملعارص ،بريوت :دار النهضة العربية ،1975 ،ص .181 120
فـــــكـــــر
اقت�صاد املنطقة �إىل نفوذها ،و�إن كان بال�شراكة مع فرن�سا يف بع�ض احلاالت. فمحمد علي كان يريد �أن يكون �شريكاً يف جتارة �أوروبا ،ويف نهب موارد بالد ال�شام. وهذا ما لن تر�ضاه بريطانيا ،لذلك كانت معاهدة لندن ا ّلتي ق ّوت هيمنة القنا�صل والتجار الأوروبيني على ال�شرق العربي 1.لذا �سارعت بريطانيا �إىل �إنهاء حالة حممد علي با�شا يف �سوريا وفر�ضت عليه اتفاقية �أخ�ضعت من خاللها اقت�صاد دولته لهيمنة الدول الأوروبية وملراقبتها حتى داخل م�صر نف�سها. وكانت هذه اخلطوة هي الأوىل على طريق �إخ�ضاع م�صر بالكامل عام 1881م و�إ�سقاط ثورة �أحمد عرابي ومن معه فيما بعد ،وا�ستمرار حكم �أبناء حممد علي و�أحفاده حتى �سقوط امللك فاروق عام 1953و�إعالن اجلمهورية.
- 1فندي أبو فخر ،سورية والرصاعات الدولية ،املرجع السابق ،ص .190 121
امل�صادر واملراجع � - 1أ�سد ر�ستم ،الأ�صول العربية لتاريخ �سورية يف عهد حممد علي ،بريوت :اجلامعة الأمريكية 1934 - 1930 ،ج.3 - 2جورج انطونيو�س ،يقظة العرب ،ترجمة �إح�سان عبا�س ونا�صر الدين الأ�سدي ،بريوت: دار العلم للماليني – ط .1980 ،6 - 3زين نورالدين زين ،ال�صراع الدويل يف ال�شرق الأو�سط ،بريوت :دار النهار للن�شر .1971 - 4طنو�س ال�شدياق� ،أخبار الأعيان ،بريوت.1959 : - 5عبدالرحمن الرافعي ،ع�صر حممد علي ،القاهرة.1947 : - 6عبد الكرمي غرايبة ،تاريخ العرب احلديث ،بريوت :الأهلية للن�شر .1984 - 7عمر عبد العزيز عمر ،درا�سات يف تاريخ العرب احلديث واملعا�صر ،بريوت :دار النه�ضة العربية.1975 ، - 8فندي �أبو فخر� ،سوريا وال�صراعات الدولية� ،سورية :دار احل�صار ،ط.2000 ،1 - 9فيليب حتي ،تاريخ �سورية ولبنان وفل�سطني ،ترجمة كمال اليازجي ،بريوت :دار الثقافة، ،1959ج.2 -10ليلى �صباغ ،تاريخ العرب احلديث واملعا�صر ،دم�شق :مطبعة ابن حيان.1982 - 1981 ،
122
د� .إكرام علي قا�سم -باحثة يف الأدب
بد�أت تبا�شري احلداثة العربية يف الأدب مع التطلعات الأوىل النتزاع التعبري من �أ�سر املطلق والنظر �إليه كفاعلية تاريخية .فالنظر التقليدي �إىل التعبري ال�شعري ،يجعله الزمانياً وال تاريخياً. من هنا الإحلاح على �إنقاذ ما ي�شكل القيم الأ�سا�سية من براثن الزمن .هكذا ف�إن ارتباط اللغة العربية بالقر�آن الكرمي �أوجب جتريدها و�إدخالها يف م�ستوى الدهر والأبدي و�إنقاذها من الزمن التاريخي(.)1 الدهر فال دور للإن�سان يف تكييفه؛ دور الإن�سان حم�صور يف الزمن والتاريخ �إن�ساين� ،أما ّ التاريخي. لذا �إن هذه العربية ُبنيت على �أ�صل �سحري يجعل �شبابها خالداً عليها فال تهرم وال متوت، لأنها �أعدت من الأزل فلكاً دائراً للنريين الأر�ضيني :كتاب اهلل و�سنة ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�س ّلم ،ومن ثم كانت فيها قوة عجيبة من اال�ستهواء ك�أنها �أخذة ال�سحر ،ال ميلك معها البليغ �أن ي�أخذ ويدع( ،)2ف�أ�صبح العربي ي�سكن لغته ،و�إنها يف الواعية ،اجل�سد الوالدي، ال الأر�ض كما كانت احلال لدى �شعوب ما بني النهرين القدماء ،ولدى بع�ض ال�شعراء مي�س مبا ارتبط بها من �أ�شكال ،ي�شكل �صدمة ويثري ردود املعا�صرين .لذلك ف�إن كل تطور ّ فعل عنيفة(.)3 -1خالدة سعيد ،حركية اإلبداع ،دراسات يف األدب العريب الحديث ،دار العودة بريوت ،ص .10 – 9 -2مصطفى صادق الرافعي ،تحت راية القرآن ،القاهرة ،طبعة ،1963ص .29 -3خالدة سعيد ،حركية اإلبداع ،ص .11 123
�أدب
الإبداع حركة جدلية �رصاع اللغة والاللغة
لأن الإبداع هو رف�ض التفكري ،وهذا الرف�ض يعني �إعادة االعتبار للإبداعية الإن�سانية والنظر �إىل الإبداع على �أنه فاعلية �أ�سا�سية .من هنا �إن كل عمل �إبداعي باملعنى العميق واحلديث هو حماولة بداية ،لأن اللغة العربية ت�ؤكد على الرتادف بني البدء والإبداع؛ فلو �أخذنا مادة بدع من معجم "مقايي�س اللغة" لأحمد بن فار�س بن زكريا لوجدنا" :الباء والدال والعني �أ�صالن� :أحدهما ابتداء( )1ال�شيء و�ضعه ال عن مثال ،والآخر االنقطاع والكالل .فالأول قولهم �أبدعت ال�شيء قو ًال �أو فعله� ،إذا ابتد�أته ال عن �سابق مثال"(.)2 والإبداع انطالقاً هو نتيجة تعار�ض وانقطاع بني الواقع القائم وطموح الذات (الفردية واجلماعية) �إىل واقع غري حمقق .لذلك ،ف�إن كل تعبري فني هو حركة توتر بني راهن وحمتمل، بني قدمي وجديد .لكن ،ما دام العمل الفني ح�صيلة التفاعل بني امل�شروع الأ�سا�سي للقول (�أي طموح املبدع �إىل التمو�ضع يف �شكل تعبريي قابل لالت�صال مع بقائه بدءاً) (.)3 وبني املادة التاريخية (اللغة من حيث هي موروث فكري فني) ف�إنه ال يحقق طموحه �إىل البدء من عدم وينتهي �إىل �إنتاج عالقة جديدة� ،صيغة جديدة تتجاوز النماذج امل�ألوفة .لأن م�شروع املبدع هو التفرد ،لكن حتقيق التفرد يبقى نظرية� ،إذ مبجرد �أن يتحقق تنتفي �إمكانية التوا�صل، يخرج من اللغة ،وال ّبد من حماولة التفرد عرب اللغة امل�شرتكة .واللغة قوانني و�أ�صول وتراث ثقايف يحمل موقفاً من الكون ويعك�س عالقات �إن�سانية مع ّينة وت�صنيفاً للأ�شياء .لذلك ف�إن الإبداع معركة داخل �ساحة اللغة واملوروث ،حماولة تتوقف� .إ ّنها عذاب املبدع ،لكنها غزا�ؤه. هي تاريخه اخلا�ص يف الإبداع .واملبدع هو البطل امل�أ�ساوي الذي ي�سابق هذا القدر .هذه املجابهة هي التي ت�شكل حركة ومنواً داخل اللغة -الثقافة اجلماعية. لأنّ املجددين هم الذين يهيئون للرتاث اال�ستمرار واحليوية� ،إال �أولئك الذين يحنطونه -1م .ن ،ص .13 - 12 -2معجم مقاييس اللغة ،الجزء األول ،ص ،209مادة "بدع". -3خالدة سعيد ،حركة اإلبداع ،دراسات يف األدب العريب الحديث ،دار العودة -بريوت ،ص .13 124
�أدب
بالتكرار والتقليدي فيحكمون عليه بالعقم(.)1 لأن �أجمل الأ�شياء و�أنبل العواطف و�أعظم املواقف ال ت�شكل �أثراً فنياً �إذا نقلت نق ًال ،فالفن هو �إبداع عالقة لل�صورة احللمية للإن�سان ملحاورة العامل .فلن�أخذ مثا ًال ق�صيدة �أدوني�س "�صقر قري�ش" تكمن يف ابتداع حالة التداخل بني �صقر قري�ش التاريخي و�شاعر عربي يف القرن الع�شرين غارق يف هواج�س ع�صره(.)2 فيحمل ومند ال�شاعر حممود دروي�ش يف ق�صيدته "�سرحان ي�شرب القهوة يف الكافترييا"(ِّ .)3 ال�شاعر هذه ال�شخ�صية هواج�س �شعب ويجعلها �شاهداً على ما يف عامله من تناق�ضات و�صدوع وما يبطن هذا ك ّله من حنني و�أ�شواق وح�سرات ،وما يخرتق اللحظات من ر�ؤى، لأن اللغة الك�شف هي التي ت�ضيء التجربة التاريخية للجماعة ،تطرح الأ�سئلة ،تبتكر الرموز وت�ست�شرف امل�ستقبل(.)4 وتتبلور الر�ؤى جلية يف �آثار جربان ،من خالل قراءته غوام�ض الأمواج يف ع�صره ووعى ذلك "اجلوع الغريب ،الذي يكاد يكون دينياً" والذي �سيكون "احللقة املتوهجة ما بني �إن�سان اليوم و�سوبرمان الغد"(.)5 هذا الإن�سان ذو القامة الكونية ،املتوهج بالألوهة� ،إن�سان احللم وال�سفر والتطلعات ،هو كذلك �إن�سان الإبداع. الإبداع يف نظر جربان هو الذي ي�شكل مغامرة الإن�سان مع املجهول واملده�ش واخلارق� .أهمية هذا التيار اجلرباين �أنه انبج�س و�سط الركود واملفاهيم ال�سلفية التي ر�أت النموذج الأمثل -1م .ن ،ص .14 -2قصيدة الصقر ،من كتاب التحوالت والهجرة يف أقاليم النهار والليل. -3من مجموعة "أحبك أو ال أحبك". -4خالدة سعيدة ،حركية اإلبداع ،دراسات يف األدب العريب الحديث ،ص .18 – 16 -5م .ن ،ص .37 – 36 125
يهدم قد�سية النماذح املا�ضية ،لأن قائماً يف املا�ضي .هكذا كان ال بد للتيار اجلرباين من �أن ّ الإن�سان يف ر�ؤيا جربان �إن�سان �إبداع وتنوع ال �إن�سان تكرار� ،إن�سان حركة ال �سكون ،ومن هنا كان املجنون هو البطل اجلرباين بامتياز. فاملجنون هو "املختلف" ،هو �إن�سان اخليال الذي يناق�ض �إن�سان الذاكرة ،هو الفو�ضى و�سط النظام ،ويرغم اللغة املتكل�سة على احلياة� ،إنه االخرتاع الدائم ،لأنه امللل القلق الذي يقتل ال�صرب والتقليدي ،فتك�شف ر�ؤياه �صورة عامل مدفوع بال�شوق ،بالعط�ش �إىل الك�شف والإبداعّ . وتخطي الذات والعناق ،و�أطياف عامل عربي النهائي يف الروح(.)1 �رصع اللغة والاللغة(.)2 ما طبيعة ال�رصاع بني اللغة والاللغة �أو بني الك�شف وال�صمت؟
�صراع اللغة والاللغة جنده متلألئاً يف ف�ضاء كتابات �أن�سي احلاج �إنها املخا�ض الذي ال ينتهي، �أو بح�سب تعبري بول ريكري " Paul Riceurم�شروع تدمري للذات"( .)3هو �صراع مت�أزم بني الك�شف والتمويه ،ففي جمموعاته ير�سم التجربة ال�شعرية ،فالق�صيدة تبدو عذاباً �أكرث مما تبدو خال�صاً ،ويف جمموعته "ماذا �صنعت بالذهب ،ماذا فعلت بالوردة". يبدو هذا ال�صراع بني اللغة والاللغة عنيف لأنه يقدم بني دافعني متعاديل القوة ،وهذا ما �شحن �شعر �أن�سي احلاج بالنزق والتمزق والتوتر؛ وكان من نتيجة هذا ال�صراع ما �سميته منذ ع�شر �سنوات ،يوم �صدور "لن" باللعثمة .هذه "اللعثمة" التي حجبت �شعره ال�سابق عن عامة الق ّراء الذين اعتادوا الفكرة املقولبة املكب�سلة ،هي نف�سها جعلت له يف نظر ق ّرائه جاذبية حد قول فرويد �إنّ يف الذات دافعني حمركني :دافع احلياة ،ودافع املوت .ويرى خا�صة .وعلى ّ - 1خالدة سعيدة ،حركية اإلبداع ،دراسات يف األدب العريب الحديث ،ص .40 – 39 – 38 - 2مجموعة أنيس الحاج" :ماذا صنعت بالذهب ،ماذا فعلت بالوردة". - 3خالدة سعيدة ،حركية اإلبداع ،دراسات يف األدب العريب الحديث ،ص .79 126
�أدب
�أن كل حياة ت�سري نحو املوت ،ح ّتى ك�أن املوت هو هدف احلياة .لكن احلياة ال تتجه نحو املوت بهذا االنقياد ال�سهل .فهي تقاوم املوت بااليرو�س �أو اجلن�سية. اجلن�سية التي هي دافع احلياة ،تتمتاز "بال�صخب" والنزوع اىل احلياة �أو اجلن�سية لي�ست قوة كامنة يف الإن�سان كنوع من �إرادة احلياة ،بل تتجلى يف البحث عن الآخر ،يف االندفاع نحو الآخر (�أي اجلن�س الآخر) ،ويف هذه احلركة �أو يف الآخر تتفوق احلياة على املوت ،لأن املوت هو الوحدة(.)1 والتحرك نحو الآخر يعني التوا�صل ومن ثم اللغة .لأن الوحدة تعني املوت وبالتايل ال�صمت �أو الاللغة .وقد بدا وا�ضحاً منذ ق�صائد �أن�سي احلاج الأوىل او م�شكلته الكربى هو يف التوا�صل ،يف الو�صول �إىل الآخر .لكن كان وا�ضحاً �أن هذا التوا�صل يبقى كحلم ،ك�أمل وا ٍه ،رمبا �شبه م�ستحيل ،و�أ ّنه حمكوم على ال�شاعر بالوحدة وباللغة العاجزة التي ال ت�صل� ،أي باملوت .يقول بول ريكري � ،Paul Riceurشارحاً فرويد" :ين�شط الدافع اجلن�سي حيثما كان دافع املوت نا�شطاً" وهذا ما يجعل �شعر �أن�سي احلاج ال�سابق م�شرحاً ل�صداع املوت واحلياة، من هنا كانت اللوعة التي تظهر ال�شاعر مت�أرجحاً م�شدوداً �أبداً بني حافتني ،ال يهبط من قب�ضة ال�صمت والي�أ�س في�سكن ،وال ي�صل الآخر فتنت�صر بذلك احلياة .يقول �أن�سي يف "لن": "�أرخيتني يا ق�شة البحر الوحيدة ،مل ترخيني"...
()2
وكان من �أثر هذه اللوعة ،هذا ال�صراع بني اللغة والاللغة� ،أن اّ ً كل من الدافعني جل�أ �إىل حيل غريبة معذبة ،هذا وجدناه يراوح بني اال�ستبطان الذاتي وا�ستنطاق الروا�سب الالواعية ،وبني يف�سر لغته ال�شعرية ا�ستق�صاء �إمكانات النفي والهدم على ال�صعيد التعبريي خا�صة .ما ّ التي كانت حتى املجموعة الأخرية عارية عن املح�سنات اجلمالية .ويف حمى مقاومة دافع املوت ال�صامت يرتك نف�سه يف ما ي�شبه الكتابة االتوماتيكية �أو الهذيان -لتيار الكلمات ذات - 1خالدة سعيدة ،حركية اإلبداع ،دراسات يف األدب العريب الحديث ،ص .80 – 79 - 2م .ن ،ص .81 – 80 127
التوالد الذاتي ،فتبدو الق�صيدة �أ�شبه بربكان (من حيث م�سار احلركة ال من حيث درجة القوة) ،لكن ما �إن بد�أت احلمم يف االنطالق حتى بوغتت و�أوقفت ،يف املرحلة الأوىل من االنفجار ،لكنها احتفظت مع ذلك بالزخم الذي ين�صرف فلم يتباط�أ �أو يربد .فخلقت نوعاً من ح�سرة الالو�صول املعذب(.)1 هذا ما يجعل لعبارة �أن�سي احلاج يف �آثاره ال�سابقة تلك البنية اخلا�صة ،فهي دوماً بداية، م�شروع ،مد مقاطع ،يحرم القارئ ن�شوة املعني يف ال�شوط حتى النهاية .ففي قوله" :تنزاح �أغ�صاين لأكون �شعلتك املهجورة ههنا ا�شعلت املوكب امليت ...ا�ستحم على ذروتي وحافياً ت�ضمني ب�سري� .ساحر يورق يف املاء� ،ساحر ي�ستجوب احلرية� ،ساحر يذهل احلنني� ،ساحر مير� ...أ�سري فيك� ،أ�سري فيك� ...أنا اجللو�س اتلفظ �أفكار الدوار ...من احليل التي جل�أ �إليها دافع احلياة يف �صراعه مع دافع املوت ،حماولة الت�سرب من طبقات �أكرث �إغراقاً يف اجلن�سية. هكذا ر�أيناه يرجع يف بع�ض �صوره �إىل البدائية� ،إىل الزمن ما قبل الإن�ساين فيقول يف "ما�ضي الأيام الآتية"�" :أتودد �إليك يف �أ�شكال زواحف خال�صة النية /وال �أريد منك غري الإح�سا�س بحبي /و�أنا �أعانق جميع ما فيك من �أوبئة" .هذا يذكر مبغامرة "مالدورو للوتريامون و�إن كان �أن�سي احلاج مل يبلغ ما بلغه لوتريامون من نقل حلمه احليواين �إىل �ساحة الواقع ،بل بقي يف جمال املقارنة والت�شبيه. وكما يلج�أ دافع احلياة �إىل احليلة واملداورة ،يلج�أ دافع املوت �إىل مثل ذلك و�إن كان �صامتاً �سلبياً ،و�إذا كانت احلركة يف اجتاه املر�أة هي احلياة ف�إن املوت يعرف �أن ي�سكن املر�أة� .أمل تكن املر�أة بدي ًال للموت �أو قرينة له يف �آثار كبار املبدعني :عند هومريو�س يف الإلياذة ،و�سوفوكل يف "�أوديب ملكاً" و�شك�سبري يف "امللك لري" ويف "عطيل" ويف "هاملت" ،وعند ال�شعراء ()2 العذريني ،بل ويف حكايات �ألف ليلة وليلة؟ - 1م .ن ،ص .81 -2خالدة سعيد ،حركية اإلبداع ،دراسات يف دراسات الشعر العريب ،دار العودة بريوت ،ص .82 128
�أدب
املوت هو الوجه الثالث للمر�أة باعتبار �أن الأمومة وجهها الأول واحلب وجهها الثاين واملوت �أو العودة �إىل رحم الأر�ض وجهها الثالث .هذا ال�صراع بني دافعي املوت واحلياة ،وال�صمت والكالم ،و�صل ب�شعر �أن�سي احلاج �إىل موقع لغوي خا�ص ،هو املوقع الذي يتداخل فيه الك�شف والتمويه ،هو املوقع الذي يلتقى ،ح�سب ت�صوره ،مبنابع اللغة. فكيف يبدو لنا �شعر �أن�سي احلاج يف "ماذا �صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة"؟ �أول ما يلفت قارئ �أن�سي احلاج يف هذه املجموعة غنائيتها ونزعة الإف�صاح فيها .بها يخاطب ال�شاعر املر�أة يف مكا�شفة واثقة و�إن كانت عنيفة تقل فيها العبارات املخنوقة باللوعة ،وتغلب عليها الطالقة ،بل والعذوبة. لذا انطالقة �أن�سي احلاج تبد�أ من التجربة يف مرحلتها احللمية حيث تقف الدوافع الغريزية وجهاً لوجه مع معركة ال�صمت -الكالم ،تلك املعركة التي هي منبع الرمز والإملاح عند الإن�سان ،وم�صدر اللوعة واللعثمة يف ال�شعر وكل �أثر فني وهيام ديني ويتجلى اغرتاب �شعر �أن�سي احلاج يف هذه املجموعة باقرتابه من "�شعر املر�أة" وتباعده عن �شعر احلب ،والفارق كبري بني االثنني ،لأن �شعر احلب بعامة ،وعند �أن�سي احلاج بالذات ،هو يف �أبرز خ�صائ�صه، ذلك العذاب الأزيل للخروج من الذات و�إ�صابة الآخر والتحقق يف الآخر. �أما �شعر املر�أة ،الذي ميتاز خا�صة بو�صف احلبيبة (حقيقية كانت �أم مثالية فيدخل نطاق الغزل). ومهما جاء هذا الو�صف بارعاً �أو طريفاً فال ميكن �أن ُيغني جتربة �أن�سي احلاج ،يقول يف ق�صيدة "ماذا �صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة"(.)1 "جميلة كمع�صية وجميلة كجميلة عارية يف مر�آة -1خالدة سعيدة ،حركية اإلبداع ،ص .83 129
وك�أمرية �شاردة وخممرة يف الكرم" ثم "جميلة كمركب وحيد يقدم نف�سه" ك�سرير �أجده فيذكرين �سريراً ن�سيته جميلة كنبوءة تر�سل �إىل املا�ضي كغمر الأغنية جميلة ك�أزهار حتت ندى العينني"... يف مثل هذه الواحات اجلمالية ت�سرتيح �شاعرية �أن�سي احلاج ،وهي كرثة يف املجموعة الأخرية. ويف مثل هذه الواحات بل حتى يف املقاطع التي تك�شف عن �أبعاد جتربته جنده ي�صل بالعبارة ال�شعرية �إىل نهاية ال�شرط عابراً امل�سافة كلها بني النار والرماد ،بني اللوعة وراحة ما بعد ال�صراخ: كان �صوتك ه�ضبة تغطيها املياه وكانت مراكبنا �سوداً �أرا�ضينا بوراً �شموعنا �صخوراً " ...وكنا نحفظ الأوراق لنحفظ ونعبد الآثار لنعبد ونخبئ لنخ ّبئ"، حتى جئت 130
�أدب
فلم ننظر �إىل ما كان غري نظرة!
()1
وملا البحار ت�شققت /و�ش َّع ِ �صوتك هوينا �إليه كمياه �صرت املياه� /صرت املطر ونزل الوقت نزول الرعاة من اله�ضبة"
()2
فكيف بعد مغامرة الوقوف على احلافة امل�سنونة بني اللغة والاللغة وبعد �سحب �أوراق الظهور بعد هذه "االدغالية" ال�صميمية ،جتيء املكا�شفة واللغة التي ال ت�أنف من لهجة امللك �سليمان دون �أن تدخل هذه اللهجة �إدخا ًال �سمفونياً يذوبها يف لهجة ال�شاعر الإجمالية .وكيف بعد العري تلب�س �شاعريته تعابري ذات خ�صائ�ص غنائية م�سبقة �أو جاهزة وبالتايل م�ستنفدة، كالوردة والذهب ،الأمرية ،جميلة عارية ،قمر� ،أزهار ،ندى ...ف� ً ضال عن اعتماده الت�سبيه بكرثة وجلوئه �إىل التكرار الغنائي .وكيف تتحول بنية عباراته فت�صري طويلة م�سرتيحة وا�ضحة بعد �أن كانت مزقة مقطوعة متمنعة ومباغته؟ هل تراجع دافع املوت �أمام �سطوة االيرو�سية �أو دافع احلياة ونزعتها ال�صاخبة املعربة ،فكان �أن ا�سرتاح دافع احلياة من ا�ستق�صاءاته وعذاباته وخرج من مطهر ال�صمت �إىل فردو�س املطارحة؟ مع ذلك ف�إن يف هذه املجموعة ما يدفعني اىل القول �إنها خلطة ا�سرتاحة تنتقم من �صمت ال�سنني(.)3 ن�صل من هذا اىل نتيجة وا�ضحة ،هي �أن ال�شعر ال يعرف اال�ستقرار وال ميكن �أن ي�سرتيح حد معني ،و�أن ال�شاعر هو الرائي �أو الرائد الذي ي�ضيء ويوحي ويك�شف ،ويرتك عند ٍّ - 1خالدة سعيدة ،حركية اإلبداع ،ص .4 – 83 - 2م .ن ،ص .85 -3خالدة سعيدة ،حركية اإلبداع ،ص .85 131
امليدان جليو�ش العلم والفل�سفة والأخالق والدول وال�سيا�سة والزخرفة ،وك ّلما ا ّت�سمت هذه الفاعليات بالتط ّلع ال�شعري �أي ك َّلما جاءت خارقة �شبيهة باخليال كانت �أروع و�أعظم... تقدم من قول عن عالقة الفل�سفة والعلم بال�شعر �شاعرية ال�شاعر �أدوني�س وخري مثال على ما ّ الذي ي�أخذ القارئ �إىل احلرية� ،أي طريق ي�سلك �أهي طريق الذاتي �أم طريق املو�ضوعي؟ هل الق�صيدة ق�صيدة حب �أم ق�صيدة ثورة؟ ففي ق�صيدته "قتلوه ...ال لني �أحدث عن موت �صديقي"؟ هل نحن حتت �سقف واملنطق �أم يف ف�ضاء الالمعقول؟ هل نحن يف عامل الوعي �أم يف عامل الالوعي؟ من هذه امل�سائل يظهر مفهوم اجلمال والقيم اجلمالية ،ومعنى التجديد واحلدود التي ينبغي �أن يقف عندها التجديد ،ودور ال�شاعر ،وم�س�ألة الغمو� -ض ،والعالقة بني ال�شاعر والقارئ .نت�ساءل هنا ما دور الفل�سفة والعلم يف كينونة ال�شعر؟ بعد الك�شوف ال�شعرية جتيء الفل�سفة لتف�سر وتنظم ،ويجيء العلم ليك�شف النوامي�س ويطبق، ليف�سر تف�سريه وير�سم الطقو�س وينظم العالقات .فقبل فرويد غزا دانتي ،عامل ويجيء الدين ِّ الالوعي ،وبتعبري �آخر ،يف كل فيل�سوف �شاعر ،ويف كل �شاعر ويف كل بني �أو قدي�س �شاعر، ويف كل قائد لل�شعوب �شاعر .و�إذا كان ال بد للفيل�سوف ،والعامل ،والنبي ،والقائد من ال�شعر، ف�إن ال�شاعر متى �أدخل الفل�سفة� ،أو العلم� ،أو التعليم الأخالقي� ،أو الديني� ،أو ال�سيا�سي يف ال�شعر ف�سد �شعره(.)1 فعلى ال�شاعر �أن يظل �سابقاً ليظل �شاعراً .ف�إذا �سبقته الفل�سفة �أو �سبقه العلم �صار وا�ضعاً ال واجلدة ،والنمو ،واحلركة الروحية� .أظن هذا ما عناه �شاعراً بهذا يبقى ال�شعر مرادفاً للإبداعّ ، �أدوني�س يف حديث له" :الفاعلية ال�شعرية متجهة �إىل امل�ستقبل ال �إىل املا�ضي� .أي �أن ال�شعر ال ينح�صر فيما هو كائن بل يتجاوزه �إىل ما يكون"(.)2 -1م .ن .ص .90 -89 -88 -87 -2ملحق األنوار 18 ،شباط ،1968العدد .2635 132
�أدب
ال�شعر �إذن فاعلية جدلية بامتياز ،يف �ضوء هذا �أختار مث ًال يف ال�شعر العربي �شاعرين (من حيث الإح�سا�س بالزمن) :امر�ؤ القي�س بكلمتيه "قفا نبك" لأنه خرق العادة ور ّد على احلركة البدوية التي تنزلق يف فعل املكان ،و�أقام احلوار الأول مع هذا املكان ،واجتاز امل�سافة ال�سمت متحركاً الزمنية يف فعل احلنني ،ال�شاعر الآخر املتنبي الذي ه ّز القعود ،واخرتق ّ يف اجتاه املطلق .وال معنى بعد ذلك لأي �شاعر ي�سري يف �أثر هذا �أو ذاك مهما تفوق عليهما يف ال�صياغة �أو القدرة على التعبري ومهما جدد يف ال�شكل اخلارجي ما دام مل يفتح �أر�ضاً جديدة ومل يجِ ئ بلهجة جديدة ،ومل يخرتق الأفق الذي بلغه ال�شاعران .وال يكفي �أن يتجاوز الذي �سبقوه ،بل ال بد من �أن يتجاوز نف�سه با�ستمرار ،من �أن يظل يف حركة �شوق نحو الأبعد .و�إذا كان ال�شعر جدلياً بات من غري املفهوم وغري املقبول �أن يكون الإن�سان ثورياً على ال�صعيد ال�شخ�صي والعام ،وحمافظاً على ال�صعيد ال�شعري .واملحافظة هنا ال تعني التم�سك بالأدوات التعبريية وح�سب ،بل تعني كذلك يف الدرجة الأوىل التم�سك مببد�أ التقنني واال�ستقرار والقعود يف م�ستنقع املفهومات(.)1 ما معنى التجديد وما حدوده؟
بد�أ التجديد ،يف املرحلة احلديثة ،منذ وقف ال�شاعر يف ع�صر النه�ضة لي�ضع حداً لالنحراف الذي اجنرف فيه ال�شعر العربي قروناً طويلة ،و�أعني املدح وما يتفرع منه ،كي يو�سع �أبعاد العقل مبا فيه �أ�شواقاً نائمة ،يثري الت�صور الب�شري با�ستدراجه �إىل عوامل جديدة وغريبة� ،أو يزرع يف �أحداقه واقعاً يختبئ وراء الواقع ،فلي�س للتجديد حد يقف عنده .هذا يبيح لل�شاعر �أن ين�سف املنطق الأر�سطي� ،أن ينق�ض البدهيات العقلية� :أن ينق�ض �أ�س�س الكالم واجلمال� ،أن يتحرك يف م�سار اجلنون .وال �أقول يدرك اجلنون ،لأن ما نراه اليوم تفوقاً كان �سيبدو للقدامى ونق�ض امل�صطلحات و"خرق العادة" وجتاوز دائرة جنوناً .بهذا املعنى ي�صري اجلنون ال�سبق َ املعقول. -1خالدة سعيد ،دراسات يف األدب الحديث ،ص .91 133
ففي ق�صيدة �أدوني�س "هذا هو ا�سمي" ي�ستمر يف جتاوز نف�سه ،فيثبت يف موقف ال�شعر ويظل من�سجماً يف ثوريته ومواقفه اجلذورية الناقدة نف�سها املتجاوزة نف�سها ،فهذه الق�صيدة هدم ملبد�أ اال�ستقرار ال�شعري ،ملبد�أ الأ�سلوبية ولكل اتباع ّية .هي �إعالن �شرعة التغيرّ :ينبغي �أن تتجاوز كل ق�صيدة ما �سبق من منجزات ال�شعر وما حققه ال�شاعر نف�سه ،بحيث تكون كل ق�صيدة �أر�ضاً جديدة ت�ضاف �إىل العامل املعروف .لذا ال ا�سرتاحة وال توقف وال �صيغة نهائية، بل االبتكار املتوا�صل املتجدد واملغامرة الدائمة واالنطالق الدائم بدءاً من الرباءة .وكل قولبة وتقنني وموقف جاهز �أو معاد يناق�ض احرتام الطاقة الإبداعية يف ال�شاعر والقارئ على ال�سواء ،و ُي�سهم يف حتجري احلياة(.)1 فالإبداعية تكمن يف الق�صيدة اخلالقة �أر�ض بكر يلتقي عليها ال�شاعر والقارئ الق�صيدة �إثارة دعوة �إىل املغامرة والإبداع ،والقارئ جزء ال ينف�صل عنها� ،إنها تفاعل ُمع ّلق ،طموحها �أن حتيا بالقارئ .مبثل هذا تنادي جماعة Tel Quelالتي تقول �إن الكاتب وا�ضع ن�ص ()Script وكل قارئ يخلق هذا الن�ص من جديد� ،أي ميل�ؤه ب�أبعاده و�شخ�صه .وهذه الق�صيدة �إعالنُ حتد للقارئ املثقف .هي بهذا املعنى ق�صيدة وحتد .هي ثورة على كل �سكون وتقليد� ،إنها ٍّ ثورة ٍّ عدائية �ضارية لأنها تلغي احلكم القدمية :حكم ال�صرب والرت ّوي والتحمل واالنتظار وامل�ساملة. عدائية لأنها تهاجم القارئ يف عقر طم�أنينته وك�سله. فيبدو الفارق بني القارئ املبدع الذي يواكب ال�شاعر الرائد والقارئ ،والك�سول الذي ينتظر من ال�شاعر �أن يطربه عن طريق �إعادة تنظيم امل�ألوف من الأقوال والأفكار ،كالفارق بني �شخ�ص يرافق كولومبو�س املجنون يف مغامرته ،و�شخ�ص يواكب �سائحاً �أمريكياً يلتقط ال�صور التي طاملا �سمع عنها و�سبقه غريه �إىل ت�صويرها ،فال�سلطان الوحيد هو لقوى احلياة -ال�شعر املتقدمة الباحثة املت�سائلة الفاعلة املغيرّ ة. توحد ويف هذا �إحلاح على مبد�أ الإبداع املتكامل� ،أي �إبداع ال�شكل وامل�ضمون .وهذا يفرت�ض ّ -1خالدة سعيد ،ص .93 -92 -91 134
�أدب
ال�شكل بامل�ضمون توحداً تاماً �أو ما ي�سمى الكتابة ال�شعرية ،وال جتيء الر�ؤى �أو الأفكار جمردة ثم تنزل يف قالب مه ّي�أ م�سبقاً وفقاً للنظرة القدمية التي كانت ترى ال�شكل ك�سوة املعنى ،لأنه ال وجود لل�شكل امل�سبق فطبيعي بعد ذلك �أن جند ق�صيدة "هذا هو ا�سمي" تعي�ش يف مناخ اجلنون �أو النار .هذه الق�صيدة متحو احلكمة وتب�شّ ر باجلنون ،بال�س�ؤال ،باملواقف العفوية، باملواقف املبتكرة ،باملواقف املتجاوزة املتخطية الناق�ضة ،الراف�ضة حدود العقل ،وحدود ال�صرب والرتوي ،وحدود القيم والنظم وحدود املرئي واملعروف ،وحدود اللغة والفن وحدود والقناعة ّ الرتاث واحلب ،وحدود الإميان والدين .تب�شّ ر باجلنون الذي �أدين به اّ احللج ،والذي �أدين به غاليليو وليوناردو دافن�شي ونيت�شه وبليك ومي�شو ،اجلنون الذي عقله احللم -العقل -ال�شوق، �شرعته اجلنون الذي هو �إعادة �سلطان( )1طبقات الوعي جميعاً ونق�ض للقوالب العقلية ،الذي ُ الهدم ،احللم ،ال�شوق ،املوت ،التحول ،املتاه ،اخلزق ،االبتكار .اجلنون الذي هو نظافة الذاكرة من القوالب ونظافة الأعماق. تبدو يل كلمة هيدغر "الق�صيدة لقاء" منا�سبة جداً لتعريف هذه الق�صيدة .وهذه الق�صيدة لقاء يف مناخ النور واجلنون ،يف حلظة متحركة هي احلا�ضر ،يف ممرق هو �أعماق ال�شاعر .يف هذا املحرق يتالقى الذاتي باملو�ضوعي والكوين ،والآين باملطلق .تتقاطع �شخ�صيات متعددة عرب �شخ�صية ال�شاعر ،وتخرتق �صوته �أ�صوات كثرية .تبينّ ذلك متى عرفنا هوية املتكلم يف الق�صيدة .نقر�أ يف املقطع الأول ..." :ماحياً ّ كل حكمة /هذه ناري /مل تبق �آيةٌ /دمتي الآية.".... من هذا الذي يجيء ماحياً كل حكمة ود ُمه الآية ،الذي دخل �إىل حو�ض املر�أة -الأر�ض؟ �أهو �أدوني�س �شخ�صياً؟ �أهو ال�شاعر �أدوني�س؟ �أهو الثائر العربي �أي "الفدائي" �أم هو الثائر �إطالقاً ،الإن�سان العربي ثائراً �شاعراً غ�ضبه وتطلعاته و�أ�شواقه؟ ال�صوت الذي ينقل هذا �إلينا هو �صوت �أدوني�س ،والقرائن الظاهرة تك�شف مبا�شرة عن �شخ�صني :الثائر الفدائي الذي �أعلن "ناره" يف الثورة الفل�سطينية وجعل دمه "�آية" احلب واحلركة يف اجتاه الأر�ض ،ومن ّثم -1خالدة سعيد ،حركية اإلبداع ،دار العودة ،بريوت ،ص .97 -96 -95 -94 135
توحد احلب واملوت والوالدة يف فعل واحد ت�سم ّيه لغة ال�صحافة "الفداء". �آية ّ الق�صيدة تنت�شل هذا الفعل وفاعله من �إطار املوقّت واحلادثة لتعطيه �أبعاده املتعددة ،في�صري جتربة �شخ�صية وموقفاً �إن�سانياً تاريخياً هو الثورة على الظلم ّ والذل والتاريخ الذي �أتاح هذا الذل ،وي�صري �إىل ذلك ،فع ًال كونياً ير�سم دورة احلب -املوت -الوالدة .ويجيء الثائر -ال�شاعر على امل�ستويات الثالثة "ماحياً كل حكمة" بادئاً من املنطلق الأول ،عائداً �إىل حو�ض املر�أة- نعم الأم -الأر�ض يف فعل يغ�سل كل ٍ ما�ض ،ي�ستح�ضر "الطوفان" .ي�صرخ" :قاد ٌر �أن �أغ ّريُ : احل�ضارة ،هذا هو ا�سمي"(.)1 لذا فق�صيدة "هذا هو ا�سمي" مدخل �إىل عامل �أدوني�س اجل ّواين .و�إذ نلج هذا العامل جند املو�ضوعي وقد اخرتق �أعماق ال�شاعر وقبع هناك لكن يف حالة نارية �أو �سيميائية .ففي هذه ّ الق�صيدة -اال�ستدراج ،الق�صيدة -املفتاح الغام�ض الذي ينزل نبا الأدراج يف �أح�شاء �أدوني�س لنجو "مدينة حتت �أحزانه" ،مدينه فيما وراء زبد االنفعاالت وبراقع الزخرفة .جند الهموم احلقيقية التي تت�آك ّله والر�ؤئ التي ت�سكن �أعماقه( .)2كما ميكن النظر �إليها كمجموعة من التفجرات حتدث يف املدن ال�سفلى القابعة حتت الأحزان ،حتت اجللد ...هذا التفجر لي�س من نوع التداعي املعروف بل يرجع �إىل طبيعة نظام العالقات الداخلية ()correspondances يف لغة �أدوني�س ال�شعرية .فتنطلق الت�أثريات مث ًال يف كلمة "قتلوه" ،ومنها �س�أبكي لأمة ُولدت خر�ساء ،"...فك�أمنا ي�ستح�ضر ال�شاعر �صورة جرحة لها طاقة التحري�ض والتفكيك" .ماذا؟ نفو ُه �أو قتلوه؟" من هذا املنفي �أو القتيل؟ ال�صديق الثائر؟ ال�شاعر الثائر يف "�أم ٍة ولدت طفل على �شاعرٍ". خر�ساء"؟ يو�ضح هوية هذا املنفي ما �سيجيء من قوله" َمل البكاء على ٍ اجلدة ونظافة الأعماق .بفعل هذا املح ّر�ض ت�شتعل املدينة هو الثائر �إذن ،لأن الطفولة متثل ّ ال�سفلى ،تتطاي ُر �صور اجلمود واال�ستالم وال�سيوف التي تطيح بالر�ؤو�س املفكرة املت�سائلة الراف�ضة" :و�ضع ال�س ّي ُد اخلليفة قانوناً من املاء �شعب ُه ُ �سيوف م�صهورة" ،هكذا ٌ املرق الطينّ ُ -1م .ن .ص .99 -98 -97 -2م .ن .ص .107 -106 -100 136
�أدب
مر�صعاً بعيون النا�س" .هذا ي�ستنه�ض ي�سقط التمويه وتعرى احلقائق "و�ضع ال�س ّيد تاجاً ّ املجدفة "هل هذه املدين ُة � ٌآي؟ هل ثياب الن�ساء ."...و�إذ يخرتق الت�سا�ؤالت الهذيانية ِّ م�ضيق الزمن الذي يجتازه �شعبه ويرى �ضياعه وعبثية حت ّركه ي�صرخ بلوعة" :من بب�صره َ م�صب؟" .بدءاً من هذه ال�صرخة يبد�أ التفجر الهذياين الأكرب يف الق�صيدة: �شعبي نه ٌر بال ٍّ الده ُر وطاحت جدرانه(.)1 إنتقب ّ "�أغني لغة ال ّن�صل �أ�صرخُ � َ تاريخ وال حا�ضر� .أنا ال ُ ال�شم�سي والفوه ُة اخلطيئة أرق بني �أح�شائي تقي�أت ،مل يعد يل ٌ ُّ ُ والفعل ."...يتخلل هذه ال�صيحة املزلزلة اجلنونية التي تتقي�أُ احلا�ضر الفاج َع واملا�ضي امليت �أ�صوت ملتاعة جتيء كالأ�صداء فيما وراء هذه ال�صيحة�" :أنا الغ�صن الجئاً" وهذه حت ّرم واح يف ِ كبد العامل؟". العبارة التاليةْ �" :أ�ص ِغ :هل ت�سم ُع هذا ال ّن َ و�إذا يبلغ هذا الغ�ضب الذروة يرمتي يف ح�ضن املر�أة -الأر�ض ،ينزرع يف �أح�شاء الأر�ض -املر�أة �سدميي هذياين ،ذاتي -كوين .فيه يتجاوز ال�شاعر اللغة مبعنى َمو�ضعة النار الداخلية يف مناخ ّ �أي نقلها �إىل احليز اخلارجي املف�صح� .أما الإيقاع لغة معربة وهو ال يقت�صر على ال�صوت� ،إنه النظام الذي يتواىل �أو يتناوب مبوجبه م�ؤثر ما (�صوتي �أو �شكلي) �أو ج ٌّو ما (ح�سي ،فكري، �سحري ،روحي) وهو كذلك �صيغة للعالقات (التناغم ،التعار�ض ،التوازي ،التداخل) فهو �إذن نظام �أمواج �صوتية ومعنوية و�شكلية ،ذلك �أن لل�صورة �إيقاعها كما �سرنى عند درا�سة بع�ض �صور الق�صيدة .فعلى �سبيل املثال الإيقاع ال�صوتي عند �أدوني�س يف ق�صيدته " ...و�صوتي هذيان املُغري يك�سر ّ عكاز الأغاين ويقلع الأبجدية" -1م .ن .ص .107 -106 -100 137
متعددة وينظمها هنا �أدوني�س ي�أخذ التفعيلة ويتخلى عن البحر كلياً .ي�أخذ تفعيالت من بحور ّ تنظيماً جديداً مطابقاً للإيقاع املعنوي يف الق�صيدة. ففي الق�صيدة تتواىل املقاطع الهذيانية والغنائية� ،أو �أمواج التوتر ف�أمواج االنب�ساط .ويحدث االنتقال بني هذا وذاك بحركة التفافية حلزونية متغ ّورة ،هابطة يف غور الهذيان� ،أو التفافية �إ�شراقية �صاعدة نحو املقطع الغنائي(.)1 ويف قوله "م�ساء اخلري يا وردة ال ّرماد" �أكتفي بالإ�شارة �إىل تناق�ض الورد والرماد تناق�ضات عديدة .الوردة تعبري الغ�صن عن الفرح واحلياة �أي الفعل احلي احلا�ضر ،والرماد ذكرى النار التي كانت ،جثة نار كانت .يف العالقة بني هذين احلديث ت�صبح الوالدة عزاء الرماد، حنني الرماد ،والرماد م�ستقبل الوردة ،رعب الوردة ،موت الوردة .هذه العالقة تغري اخليال باحلركة الدائمة بني الو�ضعني ،فهو ما يزال يبني االحتمال ويهدم ليبنيه ويهدمه .مثل ذلك ال�صورتان "�أري ورقاً قيل ا�سرتاحت فيه احل�ضارات /هل تعرف ناراً تبكي؟" يقوم ال�صراع حدي القطب الأول نف�سه ،بني "ح�ضارات" و"ا�سرتاحت" لأن احل�ضارة الداخلي بني ّ حركة وقابلية �شعب ما على احلركة .هذه احلركة التي متى ا�سرتاحت ماتت فوق ذلك كل حركة ت�شتهي الراقة ،كل راحة تت�ضمن حركة �سابقة .التناق�ض الثاين يقوم بني النار والورق الذي ا�ستاحت فيه احل�ضارات .وعالقة ال�شوق هنا وا�ضحة ما دامت النار التي تبكي �شهوة غائبة حا�ضرة ،جعلها ال�س�ؤال تراوح بني احل�ضور والغياب ،مطيتها �شوق �آخر هو �شوق ال�شاعر نف�سه. هذا ال�شوق �أو النزوع �إىل الت�أليف والعناق بني احلدود املتقابلة املتناق�ضة عن�صر بارز من عنا�صر اللهجة الأدوني�سية �أو الإيقاع الأدوني�سي ،ف�سيم�ضي ال�شاعر يف اكت�شاف عامل اجلنون ،كل عوامل اجلنون ،عوامل التغيرّ والوحدة ،عوامل االن�شطار ،قبل �أن تلوح نافذة اخلال�ص عرب جدار ال�صمت. -1م .ن .ص .116 -113 -112 -111 -110 138
�أدب
فيبتكر �أدوني�س يف "�أغاين مهيار الدم�شقي" �شخ�صية �أ�سطورية خا�صة به ،وكان فيما �سبق من �آثاره ال�شعرية ،يلج�أ �إىل �صيغ �أ�سطورية معروفة ينتزعها من حركيتها التاريخية ويعيد �إحياءها بالرموز والدالالت املعا�صرة رابطاً بذلك بني املف�صالت الإن�سانية الأزلية ومواجهات الإن�سان املعا�صر. �أما �شخ�صية "مهيار" فهي �أ�سطورة تنطلق بدءاً من �أزمة ال�شاعر كفرد يعي�ش يف القرن الع�شرين ويعاين على م�ستوى ثان جتربة التحول والتحرك التي يعي�شها العربي ،كما يعاين، على م�ستوى ثالث� ،أزمة الإن�سان �إذ يواجه املف�صالت الكونية كاملوت واحلياة واحلب(.)1 هكذا ينقل �أدوني�س التجربة ال�شخ�صية والقومية �إىل امل�سرح الكوين ،و�إذ تتالقى هذه امل�ستويات املتعددة لأزمة الإن�سان عرب �شخ�صية "مهيار" التي تتخذ �أبعاداً الأ�سطورة ،ف�إنها تغني ب�أ�صداء الأ�ساطري القدمية حمركة بذلك تاريخ القلق الب�شري هكذا يدخل �سيزيف وفينيق ونوح و�أدوني�س وا�سكار واخل�ضر وب�شار واحلالج يف ن�سيج �شخ�صية مهيار. لكن كيف ذلك وب�شار نقي�ض احلالج ،وايكار غري نوح؟ هل يعني ذلك �أن مهيار بال هوية �أم �أنه كائن متناق�ض؟ لكن �أال متثل مواقف هذه الأ�ساطري �أو هذه ال�شخو�ص التي دخلت ح ّيز الدالالت الأ�سطورية وجوهاً و�أو�ضاعاً متعددة للإن�سان الواحد املتحرك الباحث الواقف �أمام الأ�سرار؟ هنا يكمن �س ّر هوية مهيار .فمهيار ذو هوية متحركة م�سافرة ،خ�صي�صة لأنها البحث الدائم ،لأنها هوية تتكامل ،ت�صري .وهنا تكمن خ�صائ�ص احلداثة يف �شعر �أدوني�س. �إذ �إنّ كل والدة جتدد ،وكل جتدد نق�ض ،وكل بحث عن احلقيقة رف�ض للقبول باحلقائق يف و�ضعها الراهن. وهذا ال�سفر الأبدي بني ال�شكل وال�سدمي ،هذا الر�صد للتكون ،رف�ض للعامل يف �أ�شكاله و�صيغه وقيمه الراهنة الثابتة .فالرف�ض �أو "الهدم" كما يقول هيدغر "هو حلظة بناء جديد" "� "La destruction est un moment de toute nouvelle fondationأو كما يقول -1م .ن .ص .121 -119 -118 -117 139
بول ريكري �" Paul Ricoeurإن م�س�ألة املعرفة ال تطرح �إال يف ما وراء الهدم وهذا �أي�ضاً ما يدل عليه الفكر والعقل والإميان" .منذ �أغاين مهيار الدم�شقي بد�أت كلمة الرف�ض �سريورتها يف ال�شعر العربي املعا�صر ويف النقد املعا�صر .والرف�ض هو الن�سخ الذي ينتظم الق�صائد جميعها، ويتجلى ب�صورة خا�صة يف "�إرم ذات العماد" ويف التاريخ ،هذا الإله النيت�شوي الذي يعريه يف "املراثي" يف الهاالت حني يجعله "يغت�سل يف عينيه" .وهو يف رف�ضه هذا يتجاوز احلدود املر�سومةّ ، يتخطى �شرعة املنطق ،ي�ؤلف بني التناق�ضات ويرف�ض التق�سيم القدمي للعامل(.)1 موقف الرف�ض هذا موقف م�أ�ساوي ،لأن ال�شاعر يقف يف م�ضيق بني ما يرف�ض وما ينتظر ،بني ما�ض و�آت ،ومن هنا كان الإح�سا�س بالنفي والغربة. فمهيار مغرتب �أبداً عما كان ليبني ما يكون .يقول يف �أحد املزامري�" :أنا ال�صباح الآتي واخلريطة التي تر�سم نف�سها" ويقول يف مزمور �آخر را�سماً �شخ�صية مهيار�" :إنه الريح ال ترجع القهقرى واملاء ال يعود �إىل منبعه .نخلق نوعه بدءاً من نف�سه -ال �أ�سالف له ويف خطواته جذوره" .واحلنني يف "�أغاين مهيار الدم�شقي" لي�س رجوعاً �إىل ما�ض تاريخي� ،إنه احلنني �إىل زمن غائب ،و�شهوة للقب�ض على حقيقة فاتنة معذبة �أبدية احلركة والتحول ،لتج�سيدها يف حلظة ّ جتل �إلهي �أو يف حلظة �إبداع ،يف حلظة معاينة للمطلق .هذه اللحظة هي تالقي الإن�سان وذاته الغائبة �أو "بالده الثانية" وهي لذلك حلظة ال�شعر. كم قلت يف بالدي الثانية وامتلأت كفّاك بالدموع وامتلأت عيناك بالربق يف تخومها الآتية. اجلو الذي يولد احلنني وال�سفر الدائم يف �أثر احلقيقة ،والر�صد الدائم للتفتحات والوالدة هو -1م .ن .ص .124 -123 -122 -121 140
�أدب
جو الده�شة .والده�شة �سداه كل خلق فني .فاالندها�ش هو حالة احلركة والت�صدع ،حالة الهزة واملفاج�أة وفقدان التوازن وا�ستجماع التما�سك يف �آن ،حلظة اجلرح ،حلظة اللقاء الأول واالن�صعاق باجلديد الغريب ولوع الإح�سا�س به�شا�شة الغرابة و�آنيتها. اللغة هي الطق�س الذي ي�ستح�ضر ال�شاعر عربه هذه املعاينة .اللغة هنا تطرح ق�ضية العالقة بني الكلمة -الك�شف وبني نعمة احللم .فهي هنا مظل و�إيحاء� ،إنها لغة هيولية لألفة نهائية. هذه اخلا�صة الهيولية ناجتة عن بنية الرمز عند �أدوني�س .ذلك �أن �ساحة الإيحاء يف الرمز قد ات�سعت اىل حد ا�ستيعاب الدالالت املتقابلة �أو املتناق�ضة ،وهذا ما مينح اللغة القدرة على اللحاق مبوجات احللم. �آخذ كمثال رمزاً مفرداً من �أب�سط رموز �أدوني�س يف "�أغاين مهيار الدم�شقي" دالالت بيولوجية جزئية وكلية ،و�أعني بالكلية اعتبار اجلرح م�شروع موت ودليل حياة يف �آن(.)1 ولن�سم دالالت احلد الظاهر (�أ� ،أَ� ،أً ...الخ) لكن �إذا �أمكن ح�صر دالالت احلد الظاهر ف�إن ِّ مثل ذلك غري ممكن بالن�سبة �إىل احلد الباطن الذي هو جانب الإبداع يف الرمز .احلد الباطن موطن الوعد يف الرمز وكلما كان هذا احلد غنياً بالوعود كلما ازدادت دينامية الرمز وقدرته على خماطبة الأجيال املختلفة .من وعود احلد الباطن يف رمز اجلرح مث ًال ،داللة الده�شة واالنفراج عن اخلفي يف حلظة التزعزع (ولن�سم ذلك بـ ب ...الخ) .واجلرح حنني ال�ضفة اىل ال�ضفة ،وهو االنف�صال والتقارب والتنافر ورف�ضت اال�ستمرار (وليكن جَ ،جً ،ج ...الخ) واجلرح اندمة ال ت�شفى ونافذة على �أعماق مغلقة ومطل على االنعتاق (�أو دَ ،دً ،د ...الخ) وكل دالالت هذا الرمز مت�أثرة بغريها وفاعلة فيه حتى ينتج من هذا التفاعل ما ذكرته من غنى �ساحة الدالالت. والواقع �أن غنى �ساحة الدالالت هذه هو ما ينقذ رموز �أدوني�س التاريخية من كثافتها املادية، ذلك �أن �إ�شعاعية احلد الباطن وديناميته ترفعانه من التاريخية اىل الكونية �أو حتيالنه �شيئاً �آخر. - 1م .ن .ص .125 -124 141
�ألي�س الفن حتويل املادة الأوىل (اخلام) �إىل �شيء غريها؟ �ألي�س حركة هذه املادة التاريخية �أو الأر�ضية يف اجتاه املعقول والالحم�سو�س ويف النتيجة �صراع املادة الأوىل واملثال؟ �إن ال�شاعر، حيث ينتزع الكلمة من دورها العملي اليومي ليجعلها ملتقى لإ�شراقات فكره ،يكون قد �أقام فيها �صراعاً بني مادتها الأولية وطبيعتها الغنية .وهذا التحول وهذا ال�صراع هما ما نعنيه بعبارة "لغة ال�شاعر اخلا�صة" .هذه اللغة هي طق�س ال�شاعر اخلا�ص ،مغامرته اخلا�صة يف البحث عن احلقيقة .لذلك تكون لها خ�صو�صية احللم والتجربة ،ومن هنا كان �سقوط كل نتاج يحمل لغة �شاعر �آخر .فاحلقيقة ال�شعرية هي يف النهاية حقيقة داخلية و�إن كانت متتلك خا�صة البث واال�ستقبال وتطمح اىل �أن تكون حقيقة مو�ضوعية. هكذا فالرمز عند �أدوني�س ح�ضور ي�ستجلي غياباً� ،إنه ا�ستدعاء حل�ضور غائب ب�إ�شارة رهن الغياب .لعبة احل�ضور والغياب هذه ميزة "اللغات البعيدة" لغات امل�ستبطنني الذين ير�صدون مراوحني بني احللم والواقع ،م�سقطني احللم احلميم على الزمن الآتي(.)1 ولنك�شف عن مرحلة التطلع �إىل الفعل الثوري وما ميثله ال�شاعر العراقي بدر �شاكر ال�س ّياب، و ُموقعه من احلركة ال�شعرية احلديثة؟ لنبد�أ بق�ضية العالقة بني ال�شعر والثورة� ،إذ كيف يت�صل ال�شعر وهو املنبعث عن احللم، بالفعل الثوري الذي يقت�ضي نظراً مو�ضوعاً يقيم الواقع والتزاماً عملياً وج�سدياً بنق�ضه وتغيريه()2؟ يقول �أدوني�س "ال�شعر ر�ؤيا بفعل والثورة فعل بر�ؤيا" ،مو�ضحاً بذلك اجلدل بني ال�شعر والثورة وما يف ال�شعر من �شوق �إىل احلياة املتحركة املتغرية املت�صاعدة وما يف الثورة من نار الإلهام ال�شعري .ولقد كانت ،دائماً ،القفزة من الر�ؤيا �إىل الفعل بهذه الر�ؤيا ،طموح ال�شعراء الكبار ،كما كان كبار الثوار حاملني كباراً .فالر�ؤيا هنا� ،أو احللم الإبداعي ،ت�صور للعامل ينطلق - 1م .ن .ص .127 -16 -125 -2األعامل الشعرية لبدر شاكر السياب ،دار العودة -بريوت.1971 ، 142
�أدب
من رغبات الإن�سان العميقة الأ�صلية يف غياب كل �شكل من �أ�شكال الت�سلط والظلم واال�ستغالل والتنازل والإذعان للأمر الواقع .وال�شعر -الر�ؤيا �أو احللم ،احتجاج م�ستمر على واقع بات واقع قهر ،وهو لذلك ت�صحيح �سلبي لهذا الواقع الفا�سد ،وما الثورة �إال �صورته الإيجابية .بل �إن هذا احللم ال�ضمان هو الأ�صلي �ضد عمليات التغريب املرتاكبة التي ميار�سها املجتمع بفئاته املت�سلطة. يلتقي هذا مع ال�شعار الذي كتبه الطالب الثائرون بباري�س يف �أيار 1968على �أحد جدران ال�سوربون" :ان�سوا كل ما تعلمتموه ،ابد�أوا من احللم"oubliez tout ce que vous" . "avez appris, commencez par le rêve
العودة للبدء من م�ستوى احللم ذلك هو ملتقى ال�شعراء والثائرين .ومن �أبرز �أدوار ال�شعراء تهجئة الأحالم وا�ستقراء �أعمقها و�أكرثها الت�صاقاً بالطبيعة الإن�سانية .حيث يتالقى احللم امل�صحح للواقع �أو ال�شعر الطامح اىل التغيري واالبتكار و�إعادة خلق العامل بالدعوات الثورية اىل "تغيري العامل" كما عند مارك�س� ،أو كما يف الطموح غري املهج�أ دائماً ،الذي ي�شكل جوهر املقاومة كحركة ،ونب�ض الثورات الطالبية ،كما ي�شكل حافز احلركات الغنية .فال�شعر، ل�صدوره عن الالوعي �أو منطقة احللم ،يقوم بدور مزدوج(:)1 �أ -يلتقط حركة الالوعي اجلماعي ويك�شف عن �أ�سطورة الع�صر غري املتبلورة يف �صيغة. ب -وهو من جهة ثانية يبث حركة جديدة باعتبار اجتاهه نحو الالوعي� ،أي باعتباره التوا�صل الب�شري على م�ستوى اجلذور واملاهيات ،وعلى م�ستوى الرباءة الإن�سانية. احلركة اجلديدة التي يثبتها ال�شعر هي ر�سالته �إىل زمانه ،ور�سالة ال�شعر العظيم ثورية دوماً لأن هذا ال�شعر هو �أبداً هدم� ،أو بناء لعامل جديد. هكذا يكون ال�شعر ثورياً حني ي�سهم يف خلق "احلالة ال�شعرية" �أي حني ميلك طاقة على حتري�ض -1خالدة سعيد ،حركية اإلبداع ،دار العودة بريوت ،ص .131 -130 -129 143
احللم ون�شر مناخ الأهواء اجلاحمة وبعث "حالة الغ�ضب" وعبور م�سافة االختيار والقرار(.)1 من هذا املنظور تبدو يل �أهمية بدر �شاكر ال�سياب كواحد من �أبرز ر ّواد احلركة ال�شعرية املعا�صرة بوجهها الثوري .فقد حمل �شعره املالمح الأوىل ملا نلم�سه يف هذه احلركة من طموح لتغيري "احل�سا�سية العامة" والر�ؤية ال�شائعة ،و"خللخلة" القيم ال�سائدة واملنطق القائم، ونقل "حالة الغ�ضب" من الغمو�ض وال�صمت �إىل الو�ضوح والتعبري .مما جعله يت�ألف و�سط الركود الذي �أعقب احلرب العاملية الثانية يوم كان ال�شعر الحقاً بالأحداث ينقلها وي�ضعها �أو جدي يطريها وي�شرحها بلهجة ال�شكوى �أو احلما�سة اخلطابية من دون �أي ا�صطدام �أو م�سا�س ّ بالت�صورات القدمية �أو ب�أ�س�س التفكري التقليدي .وقد جاء ال�سياب �شهادة على زمانه ال مبعنى ت�سجيل التحركات بل مبعنى الوعي العميق للخطة التاريخية وا�ستكناء جذورها وا�ست�شراف �آمادها ،مبعنى االت�صال بروح ال�شعب ،بال وعي الإن�سان يف حميطه ،ومعانيه الأ�سطورة التي متثل �أ�شواق الإن�سان يف هذا املحيط .وميكن القول �إن ر�سالته ال�شعرية هي ر�سالة ك�شف �أكرث بث .ر�سالة الك�شف هذه برزت خا�صة ،يف مرحلة من مراحل تاريخ ال�سياب مما هي ر�سالة ّ ال�شعري� .إذ ال ّبد من الإ�شارة اىل �أن �شاعريته مل تر�سم خطاً ا�ستمرارياً ت�صاعدي االجتاه، لأن هذا اخلط �أ�صيب يف �أواخر حياة ال�شاعر باالنعطاف نحو ال�شخ�صي -البيولوجي ،فانقطع ات�صاله بالكوين وغرق �شعره يف ما ي�سميه كارل جو�ستاف يون غ "االعرا�ضي" "sym p "tomatiqueمرتاجعاً عن "الرمز"(.)2 كما �أن بدايته الذاتية -الرومنطيقية ال ترق �إىل ما حققه يف املرحلة الرمزية -التموزية(� )3أو الرتاجيدية .ذلك �أن جوهر الأثر الفني ال يكمن يف اخل�صو�صيات ال�شخ�صية وال يف ظواهر الأحداث ،ما مل يتمكن ال�شاعر من و�ضعها يف مدارها الكوين .ولقد �أثقلت الأحداث -1خالدة سعيد ،حركية اإلبداع ،ص .133 -132 -131 -2الرمزي ال تعني هنا املدرسة الرمزية الفرنسية الشهرية بل االتصال بالرموز الكونية" .أعرايض نسبة اىل أعراض أو العصاب". املصطلحات ليونج يف مجال كالمه عىل اإلبداع problème de l’AmeModerne, Edit. Buchet-chastel 1963 Paris p. .373 -3جربا إبراهيم جربا أول من أطلق تسمية "الشعراء التموزيني". 144
�أدب
ال�شخ�صية �أو االجتماعية �شعر املرحلتني الأوىل والأخرية. �شف �شعره بني هاتني املرحلتني تنه�ض �شاعرية ال�سياب لتجعل منه �شاعر اخلم�سينات الذي ّ عن التطورات والتناق�ضات الكربى يف احلياة العربية. كانت مرحلة اخلم�سينات مرحلة تفتح الهوية العربية ،كما كانت ،من جهة ثانية ،مرحلة الهوية املطعونة املهددة ،حني قوطعت احلركة العربية ال�صاعدة بخيبة �صاعقة وبحركة هابطة عام ،1948زعزعت حركة ال�صعود وتقاطعت معها وا�ضعة الوجدان العربي يف مركز االرجتاج. من هذه ال�صدوع ت�سربت �شاعرية ال�سياب عميقاً .ج�سدت الفاجعة وجاءت جواباً عن زمانها .فكما قب�ض غوته ،يف "ناو�ست" على �أ�سطورة ع�صره وجاءت م�سرحيته ت�شخي�صاً النتقال الإن�سان من الإميان بالغيب وطلب املعرفة عن طريق ال�سحر �أو الإلهام� ،إىل التخلي بنهم وعط�ش ال عن ال�سماء وطلب املعرفة عن طريق الأر�ض ،والغرق يف اخل�س والتجريب ٍ يعرفان حدوداً ،وعربت بذلك عن توثب الروح الأوروبية والأملانية خا�صةً ،يف ع�صر �آخذ بالتقدم العلمي م�أخوذ ب�شهوة اال�ستك�شاف والتخطي .هكذا جاء �شعر ال�سياب يف حتركه بني املوت والوالدة ،را�سماً الطريق التي تبد�أ بالأر�ض وتنتهي بالأر�ض ،م�ستجلياً ما يف �أعماق الروح العربية من تعاطف مع املوت وانفتاح على املاوراء ومتزق ما بني الزمني والأزيل ،تعاطفاً يك�شف عن �شهوة احلركة والتحول عرب املوت املحيي ،ف�أ�صالة �شاعرية ال�سياب تتجلى يف ما ي�سمى "وحدة اخليال" ،فلقد ك�شف حد�سه ال�شعري املحور الذي تلتقي حوله الرموز ال�شخ�صية ال�صميمية والرموز اجلماعية الوطنية والرموز الكونية .تتمثل "وحدة اخليال" عند ال�سياب يف دوائر الرمز املتكاملة .ن�أخذ مث ًال رمز املاء� .إنه رمز �إ�شعاعي يبد�أ مبحور ذاتي وينتقل اىل م�ستوى اجتماعي فكوين(.)1 ذلك �أن املاء هو الأم �أو الرحم وهو من ثم والدة وانبعاث ،واملاء دعوة اىل "احللم وال�سفر"
()2
- 1م .ن .ص .135 -134 -133 - 2غاستون باشالر" ،املاء واألحالم" ،ص .74 -73
.L’Eau et les Rêves, Edit, Libr. José grti Paris 1964 145
ورمز للموت( )1خلا�صة العبور واجلريان فيه ،وعبوره عبور للموت وانتقال �إىل الأزيل .واملاء نوع ما�ض ،و�صريورة مبا هو حركة، من "الوطن الكوين" كما يرى با�شالر ،وهو احلنني( )2مبا هو ٍ فيكون بذلك �صورة لوحدة الزمن. وال�سياب يف عودته �إىل البدايات الأ�سطورية ،ويف �صعوده من الأنا وات�ساعها حتى االندماج بالكوين� ،إمنا زود ال�شعر العربي بدفعة �أ�سرارية مبعنى امل�سار اجلديد للروحي يف الزمني �أو كما يقول عزرا باوند ،لعامل "�أزيل و�إلهي ينج�س يف العامل اليومي". تنفذ الدفعة اال�سرارية من ارجتاج الوعي العربي ،من �صدوع ت�صوره للعامل ،وحتاول �أن تلأم ال�صدع مبيتافيزيا املوت والبعث ،معار�ضة بذلك الدين مبا هو عزاء وتعوي�ض وتربير للتناق�ض والعبث .ويف هذه املعار�ضة ينبغي �أن نلتم�س املوقف امل�أ�ساوي عند ال�سياب ،وال بد من معاناة خا�صة وتيارات الواعية تق ّو�ض الأ�س�س القائمة وتبحث عن لغة جديدة .لذا بد�أ ال�سياب بالبحث عن ينابيع لغوية عذراء ،وجتلى هذا يف ق�صائده كالنهر واملوت و�شنا�شيل بنت اجللبي ،وما ر�أيناه عنده من "وحدة اخليال" .قدمت �صوراً ذات حركة �إ�شعاعية بطنت حركة ال�سرد ،وهي�أت للمحتوى ال�شعري القدرة على احلياة وتوليد دالالت تخاطب �أجيا ًال خمتلفة ،وهو بالتايل ما �أنقذ �شعره من ال�سقوط يف الواقعية الو�ضعية النقلية و�إ�ضاءاتها املوقتة التي وقع فيها �شعراء الواقعية. هكذا يبدو ال�سياب ظاهرة خا�صة� ،إنه خال�صة الأ�صوات ال�شعرية التقليدية يف بحثها ويف احت�ضانها بذرة الثورة� ،أو هو طموح لغة �شعرية �إىل التحول� ،أي �إىل العي�ش يف الغد(.)3 و�صفوة القول �إن املبدع يبلور عرب نتاجه لغة جديدة ب�صياغة فريدة تتجاوز امل�ألوف بقوانني وثقافة حتمل موقفاً يقفز بعيداً لي�ستولد اجلديد. - 1هرياقليطس يف قوله "أن تصري النفوس ماء هو أن متون" ،الفقرة .68 - 2أعتقد أن تحليالً عميقاً للصيغة العربية التقليدية املعربة عن الحنني "سقى الله عهدا ً "...ال بد أن يكشف بعدا ً آخر غري بعد الدعاء ،كام ميكن أن يكشف عالقة بني املاء وحس املايض. -3خالدة سعيد ،حركية اإلبداع ،ص .139 -138 -137 -136 -135 146
�أدب
�سنلقي ال�ضوء على ق�صيدة لبدر �شاكر ال�سياب من جمموعة "�أن�شودة املطر" املعنونة "النهر واملوت". ب َويب.... ب َويب... �أجرا�س برج �ضاع يف قرار ال َب ْحر املاء يف اجلرار ،والغروب يف ال�شّ جر وتن�ضح اجلرار �أجرا�ساً من املطر ب ّلورها يذوب يف �أنني: "بويب ....يا بويب!" فيدلهم يف دمي حنني ّ �إليك يا ب َو ْيب نهري كاملطر يا َ بويب ...يا بويب، ع�شرون قد م�ضى كالدهور كل عام واليوم حني ُيطبقُ الظالم و�أ�ستق ّر يف ال�سرير دون �أن �أنام فيدلهم يف دمي حنني ّ �إىل ر�صا�صة ي�شق ثلجها الز�ؤام 147
�أعماق �صدري ،كاجلحيم ي�شعل العظام لأجعل العبء مع الب�شر موتي انت�صار. و�أبعث احلياة� ،إنّ َ ن�ست�شف من الن�ص الهمهمات البدائية ال�ساكنة يف نب�ض الهموم املعا�صرة� .أول ما يلفت هو تكرار لفظة بويب ،كعن�صر نغمي �ضمري حيث نح�س انعطافاً يف اللهجة �أو الداللة ويف امل�سار. فهذا التكرار املنظم لكلمة بويب عرب �صيغة النداء يوحي بجو طقو�سي .فال�شاعر يناديي النهر ،والطابع الغالب على كلمات الق�صيدة هو طابع املاء(.)1 �إذن تتحرك الق�صيدة بني قطبني :بني �سيادة املاء ،و�سيادة الإن�سان� .إذ تبدو الق�صيدة يف مطلعها خارجة عن �سدمي مائي ،ومن هذا ال�سدمي يتحرك �ضمري املتكلم جعلنا والدة الإن�سان(.)2 ويف �آخر الق�صيدة ي�شكل البيت الأخري مرحلة متميزة يف ت�صاعد الوجه الإن�ساين يتمحور البيت حول فعل واحد "ال بعث احلياة" به يتجاوز املتكلم -الإن�سان احلد الب�شري ويبلغ امليتافيزيقي. �أما م�صدر فعلي املوت واالنت�صار في�أتيان نتيجة لعملية بعث احلياة فعل ال�شهادة اخلارق بخرق القوانني واملفاهيم وبدل �أن يعني االنت�صار احلياة ي�صبح املوت انت�صاراً ،وبذلك يعك�س يف هذه الدفعة الأخرية العالقة التي �أوحى بها العنوان :النهر (احلياة) واملوت املوت حياة. والتعبري يخ�ص�ص املوت ويحدده بربطه بياء املتكلم بينما يرتك االنت�صار مطلقاً بال زمن وال حدود(.)3 -1خالدة سعيد ،حركية اإلبداع ،ص .145 -144 -143 -142 -141 -2خالدة سعيد ،حركية اإلبداع ،ص .147 -3م .ن .ص .154 -153 148
�أدب
لذا فالق�صيدة حت�ضع لنظام داخلي دقيق من العالقات يربط بني حماورها وم�ستوياتها ربطاً تتولد منه الدالالت �أو تتكامل بف�ضله الدالالت ،ويبطن بع�ضها بع�ضاً وقد تك�شف لنا عن وجود حمورين �أ�سا�سيني يف الق�صيدة هما :حمور النهر ،وحمور الإن�سان .كما �أن الق�صيدة تتحرك يف م�ستويني :م�ستوى احللم والأ�سطورة� ،أو م�ستوى الالوعي ،وامل�ستوى االجتماعي الواقعي �أو م�ستوى الوعي(.)1 فنالحظ كيف تطالعنا ق�ضية املوت والوالدة �أو البعث حتى يف ثنايا ال�صور وكيف يبدو املوت والوالدة ثمرة لتداخل البعدين الإن�ساين والطبيعي الكوين ،ثم كيف �أن الق�ضية تتبع م�ساراً دائرياً يتطابق مع احلركة العامة للق�صيدة(.)2 وميكننا �أن نبني بع�ض اال�ستنتاجات ،تكمن اخل�صو�صية الغنية لهذه الق�صيدة يف كونها عاملاً متكام ًال من العالقات ،تبدعها� ،أو تك�شف عنها .وهي تقدم هذه العالقات يف بنية �شبكية دينامية ،تتمثل يف ما م ّر معنا �أثناء التحليل من �إ�ضاءات متبادلة (نظام البدائل) وعالقات تداخل وتواز ،ومن خ�صائ�ص هذه البنية الدينامية كون الق�صيدة مبجموعها وب�أجزائها �أو عنا�صرها حركة جدلية بني احلياة واملوت واحلركة الدائرية الأكرث تعقيداً ،التي تدخل ال�صور يف بنيتها ،ومتثل دورة احلياة واملوت يف م�سار �آيل قدري� ،أو م�سار �صراعي م�أ�ساوي(.)3 و�أن متتاز الق�صيدة بالوحدة الع�ضوية يعني �أن تكون ن�سيجاً حياً متنامياً هي الق�صيدة الر�ؤيا قراءة جديدة لتاريخ الإن�سان يف الكون ،تفرت�ض �إبداع منظومة من القيم والعالقات عن طريق خلق رموز �أو �صور ،وتربط الق�ضايا الراهنة ،بجذورها النف�سية والتاريخية والكونية� ،إنها نوع من اكت�شاف العامل ومن فتح �آفاق جديدة ،ومن ر�سم طرق جديدة للقب�ض على امل�صري. فالق�صيدة – الر�ؤيا خلق .وكما �أن العلم ال يخرتع الطبيعة� ،أو يخلق خ�صائ�ص العنا�صر من عدم ،ولي�س ،من جهة ثانية ،جمرد و�صف وت�سجيل و�إح�صاء ،و�إمنا ت�أويل وتنظيم واكت�شاف -1م .ن .ص .163 -2م .ن .ص .174 -3م .ن .ص .189 149
عالقات ،ينتج عنها �إبداع عالقات. وقد ر�أينا يف هذه الق�صيدة ،كيف بلور ال�شاعر حلم اجلماعة يف مرحلة معينة ،ونقله يف حالة احلد�س والتطلع املبهم ،اىل حالة اجلواب عن مف�صالت احلا�ضر ،وكيف بعث ،يف �أثناء ذلك ،النماذج الأوىل الغافية يف الوعي اجلماعة ،والتي تكون جذوراً تغذي هذا احللم .كما توحد هذه الق�صيدة الأبعاد الذاتية ،واجلماعية ،والكونية ،ال توحيد ذوبان ،بل توحيد ت�آ�صر وتفاعل ،و�شراكة يف املحور .هذا التوحيد يتحقق عن طريق �إبداع الرمز .وهو لذلك عالج لنق�ص املنطق ،كما �أنه عالج جلمود املعطيات واملفهومات الثابتة .الرمز �إ�شارة اىل احتماالت تفلت من التعبري املعقلن ،و�إىل غائب ال يحيط به التعبري املبا�شر. والرمز الرئي�س يف هذه الق�صيدة هو رمز النهر فيحمل دالالت تتدرج من امل�ستوى الطبيعي الواقعي اىل امل�ستوى الكوين امليتافيزيقي ،حيث ي�صبح مر�آة ومعبوداً ثم اىل امل�ستوى الذاتي ال�صميمي حيث نراه رحماً .فلغة الق�صيدة وبنيتها احلركية ،هي التي حتفّز �آلية احلركة الكونية طريقاً حلركة �إن�سانية خارقة(.)1
-1م .ن .ص .192 -191 -190 150
�أدب
البيئة الثقافية والإبداع الأدبي قراءة يف ملحمة جلجام�ش 1
د .نوال مراد � -أ�ستاذ م�ساعد /رئي�س ق�سم اللغة الإنكليز َّية �سابقا
Abstract: This study is about the importance of the natural environment in the narrative epic text. The epic of Gilgamesh is an example, regarding that nature adds to the literary narrative text symbolic and artistic value. The study also deals with the symbols of nature as they occur in the chronological sequence of events in the epic of Gilgamesh. In addition, the study indicates that the significance given to the natural environment in the epic is a result of man’s awareness to nature in his world.
امللخَّ�ص:
ال�سردي امللحمي املتمثل حُتاول هذه ِّ الدرا�سة الوقوف على �أهم َّية البيئة الطبيعية يف ال َّن�ص َّ مبلحمة جلجام�ش ،باعتبار �أن الطبيعة ُت�ضيف �إىل ال َّن�ص امللحمي رمز َّية ور�ؤى فن َّية .وقد تناولت عنا�صر رمز َّية الطبيعة يف ن�ص هذه امللحمة كما ورد بت�سل�سل الأحداث .كما ُتبينِّ �أن دور الطبيعة يف امللحمة ناتجِ عن وعي الإن�سان لأهم َّية الطبيعة يف عامله. -1ورقة أُل ِق َيت يف مؤمتر «البيئة الطبيع َّية :إشكال َّيات وآفاق» الذي نظَّمته كل َّية اآلداب والعلوم اإلنسان َّية – الفرع ال َّرابع – يف الجامعة اللبنانيَّة ،يومي 2و 3ترشين الثاين .2017 151
جدلية الإن�سان والبيئة:َّ
ُتعد البيئة من �أهم العنا�صر املُلهِمة التي ت�ؤثِّر بالف َّنان منذ ال ِقدم .فهي املُحيط الذي ُيع ِّزز الإمكان َّيات الفكر َّية والإدراكات احل�س َّية للكاتب ،وهي املُلهِ م واملُثري التي تز ِّود الإن�سان بحوافز و�أفكار للتجربة والعمل. �إن عالقة الإن�سان ببيئته – املُحيط اخلارجي الذي يعي�ش فيه – جت�سيد لفكرة التكامل بني الإن�سان والطبيعة .فقد «تكون الطبيعة ممُ ا ِثلة يف ج�سم الإن�سان وعاداته وغرائزه ،فالإن�سان نف�سه ظاهرة طبيع َّية من ظواهر هذا الكون الذي خلقه»(.)1 تنعك�س الطبيعة على الوجود الإن�ساين كما تنعك�س يف كافة الأعمال الفن َّية التي ُينتجها ال�سياق ،ن�ش�أت مدر�سة نقد َّية جديدة هي مدر�سة ال َّنقد البيئي، الفكر الإن�ساين .ويف هذا ِّ وذلك لدرا�سة الأعمال الأدب َّية من منظور بيئي ُيربز امل�ضمون الذي نتج من ثقافة بيئ َّية ودور عنا�صر البيئة الطبيع َّية يف الأدب. -يف النقد البيئي :تعريفا ً ومنهجا ً:
ال َّنقد البيئي �أو الإيكولوجي هو الذي يهتم بدرا�سة املكان ،والبيئة ،والطبيعة ،والأر�ض ،يف الدرا�سات بعدة مفاهيم �أخرى ،منهاِّ : ال ُّن�صو�ص الأدب َّية والثقاف َّية .كما و ُيع َرف هذا النقد َّ الثقاف َّية اخل�ضراء ( ،)Cultural Green Studiesوال�شِّ عر َّية البيئ َّية (،)Ecopoetics وال َّنقد البيئي الأدبي ( ،)Environmental Literary Criticismوال َّنقد الإيكولوجي ( .)Ecocriticismومن املهم للباحث يف ال َّنقد البيئي الأدبي معرفة مفهوم ال َّنقد البيئي وحتديد القواعد وال ُأ�س�س املُرتبِطة بالنظر َّية والتطبيق يف هذا احلقل. يهتم ال َّنقد البيئي� ،إذاً ،بدرا�سة ال ُّن�صو�ص الأدب َّية ،يف �ضوء نظر َّية بيئ َّية تبحث عن �أثر البيئة �أو املكان �أو الطبيعة �أو الأر�ض يف ال َّن�ص الأدبي ،وذلك َعبرْ َ القراءة والتحليل ودرا�سة عنا�صر الدالة. ال َّن�ص من كلمات ورموز وم�صطلحات ،لتحديد دالالتها البيئ َّية ورموزها َّ وهكذا ،يقول دايفيد كارتر " "David Carterيف كتابه «النظر َّية الأدب َّية» �أنَّ ال َّنقد البيئي هو �إ�ضافة وجهة نظر لتحليل الأدب من منظور بيئي� ،إ�ضافة �إىل فئات ال َّنقد الأدبي التي �سبقته. 152
�أدب
وقد تكون ال َّنظر َّية الأدب َّية هي َّ الدقيقة. الطريق �إىل ردم اله َّوة بني العلوم الإن�سان َّية والعلوم َّ و ُي�شري كارتر � Carterإىل �أنَّ نظر َّيات �إدوارد �سعيد هي ذات ِ�صلة بدرا�سة البيئة التي ُت َع ّد ،يف حد ذاتها ،بناء ثقاف َّياً( .)2من هنا ن�ستنتج �أن ال َّنقد البيئي هو الذي يعمل على �إيجاد عالقة ِّ ُمرتابِطة بني ال َّن�ص الأدبي والف ِّني من جهة ،وبني الطبيعة والأر�ض واملكان كعنا�صر بيئ َّية الدرا�سة التحليل َّية والتفكيك َّية والنف�س َّية، تت�ضمن ِّ من جهة ثانية ،وذلك َعبرْ َ قراءة متن ِّوعة َّ والفل�سف َّية ،واجلمال َّية ،وال َّن�سو َّية وغريها. هذا وجند تعريف «جريغوري جراد» «لل َّنقد البيئي» على �أ َّنه ُيع َنى بعالقة ما هو �إن�ساين مبحيطه على مدى التاريخ الثقايف الب�شري( .)3فهو (�أي جراد) يعترب البيئة لي�ست ق�ض َّية علم َّية فقط، �إنمَّ ا هي ق�ض َّية ثقاف َّية �أي�ضاً ،فهي ُتعنى بواجبات الفرد واجلماعة نحو البيئة التي يعي�شون فيها ،واالهتمام مبواردها وعنا�صرها املُحيطة بالإن�سانَّ . ال�ضوء على �ضرورة لعل هذا ُي�س ِّلط َّ واحلد من ظاهرة التل ُّوث ن�شر الوعي البيئي الثقايف لي�صبح �ضمن ثقافة املجتمع واجلماعةّ ، ال�شَّ ا ِمل الذي ِّ ي�شكل خطراً مبا�شراً على الإن�سان والطبيعة معاً. ومنهج ال َّنقد البيئي جديد/حديث؛ فهو يتط َّلب ُمقا َربة َّ الظواهر البيئ َّية ودرا�سة عنا�صرها الن�صي والبنية اخلارج َّية ،وذلك يف ال ُّن�صو�ص الأدب َّية بالرتكيز على اجلانبني معاًَّ : الداخل ِّ ُّ الرموز الطبيع َّية للداللة على �أهم َّية البيئة للتمكن من حتليل وحتديد كيف َّية ا�ستعمال ُّ اخلارج َّية. ُتعترب البيئة من �أهم العنا�صر املُحيطة التي ت�ؤثر بالف َّنان ب�شكل �أو ب�آخر ،وهي م�صدر الإلهام الف ِّني الذي يع ِّزز �أفكار الكاتب ِّ وميكنه من �إدراك الأ�شياء والأحداث .والأدب امللحمي، ك� ِّأي نوع �أدب �آخر ،هو �أدب يتناول الإن�سان وتفاعالته مع حميطه اخلارجي الطبيعي والبيئي ،ويعك�س ال ِق َيم والتقاليد واملرياث الثقايف ،كما اخل�صائ�ص الفن َّية واجلمال َّية لزمان ومكان ن�شوئه/كتابته. وملحمة جلجام�ش ،هي ملحمة �شعر َّية ُمرتبِطة ببيئتها الطبيع َّية «العراق ( ،»)Ur ukوزمانها «ال�سومر ِّيون». وتاريخ �إنتاجها ُّ 153
الأ�سطورة معتقد ِرا�سخ:
يهدف هذا البحث �إىل درا�سة البيئة والطبيعة ،و�أهم َّية املكان يف هذه امللحمة التاريخ َّية يف ال�ضوء على الرتابط التاريخي الدرا�سة �أهدف �إىل �إلقاء َّ �ضوء ال َّنقد البيئي .فمن خالل هذه ِّ للعالقة بني الأدب والطبيعة ،فالأدب كما �سبقت الإ�شارة ،يعك�س بيئته وتاريخه. ق�صة الكون الأوىل ،ون�ش�أته وتاريخه من خالل ُتع َرف الأ�سطورة ب�أنها �سرد �شفاهي يحكي َّ حكايات عن كائنات تتجاوز العقل املو�ضوعي ،وتخرق الت� ُّصور العادي ،كما �أنها �أ�سلوب يف التفكري واملعرفة والك�شف ،وحماولة للو�صول �إىل احلقائق ،وهي ن�سق فكري وفل�سفي ت�شتق من التفكري امليتافيزيقي وجودها و�أ�سلوبها(.)4 ُتعترب الأ�سطورة " "Mythتراكماً لنتاج الفكر الإن�ساين املُبدع يف جمال الأدب( .)5وترجع الأ�ساطري ،يف مو�ضوعها و�أحداثها و�أبطالها� ،إىل من�ش�أ طبيعي يت�صل بعنا�صر الطبيعة(،)6 ك�أ�سطورة الطوفان �أو الدمار ال�شامل بالنار ال�سماوية �أو الأعا�صري( .)7وهي لي�ست نتاج اخليال املجرد ،بل ترجمة لأحوال ال�شعوب عرب التاريخ .الأ�سطورة� ،إذاً ،جتد تف�سرياً لها يف الطبيعة، وهي لذلك نظام فكري متكامل ،ا�ستوعب قلق الإن�سان الوجودي ،وتوقه الأبدي لك�شف الغوام�ض التي يطرحها حميطه ،ليجد مكانه يف �إيقاعات الطبيعة(.)8 كما متثِّل الأ�سطورة وعي الإن�سان و�إدراكه للعامل املُحيط به وكيف َّية تعا ُمله مع هذا املُحيط ملعرفة مدى قدرته على هذا التعامل .وبهذا ي�صبح العامل يف ال َّن�ص امللحمي مقيا�ساً لقدرة الإن�سان على الوعي والفعل من حيث قدرته على التعامل مع حميطه/عامله وقهر ِ�صعابه. حتدي الإن�سان للطبيعة ،كما ورد يف ملحمة جت�سد بداية ِّ وهكذا ،ميكن القول� ،إن امللحمة ِّ جلجام�ش. تت�ضمن ق�ص�ص �آلهة ت�شبه الب�شر من حيث ِ�سماتهم و�صفاتهم وجمتمعهم ،وما والأ�سطورة َّ على الإن�سان �إال الطاعة والوالء لهذه الآلهة .وهي تعك�س تط ُّور الوعي الإن�ساين لقدراته املحدودة وعجزه �أمام هذا العامل مبا فيه من �آلهة ت�أمر وتفعل ما ت�شاء والإن�سان جم َّرد متلقي، كما ورد يف ملحمة جلجام�ش. مقد�سة تقليد َّية ،يلعب �أدوارها الآلهة و�أن�صاف الآلهة� ،أحداثها وقائع والأ�سطورة ،حكاية َّ 154
�أدب
ح�صلت يف الأزمنة الغابرة ،فهي ُمعتقد را�سخ وهي قيم وثقافة ال�شُّ عوبَّ ،مما يجعلها ذاكرة اجلماعة(.)9 وهكذا ،ميكننا القول �إن الأ�سطورة ذات طبيعة �أدب َّية خالدة ودالالت ت� ِّؤكد على �إمكان َّية تتحدى ال َّزمان واملكان بحيث �أ َّنها َّ تتخطى جِ دار عدة زوايا .كما �أن الأ�سطورة َّ قراءتها من َّ زمانها وثقافتها لت�صل �إىل العامل َّية (عامل َّية الأدب). -ملحمة جلجام�ش :من امل�شاع �إىل االجتماع:
ازدهرت الثقافة ال�سومر َّية الأكادية يف حو�ض دجلة والفرات ،وحول ال�شواطئ العليا للخليج العربي ،منذ مطلع الألف ال َّرابع قبل امليالد( .)10ومل تكن �أفكار ال�سومر ِّيني ونظرائهم من العراقيني القدامى عن اخللق والتكوين� ،أفكاراً بدائ َّية ،بل �أفكاراً نا�ضجة بالدرجة التي تتيحها معارف تلك الفرتة من بداية اخللق والتكوين(.)11 وملحمة جلجام�ش ،مو�ضوع ُمداخلتي ،يف ن�سختها ال�سومر َّية الأكاد َّية البابل َّية ،هي ن�ص �أدبي رائع حمل الكثري من ت� ُّصورات ثقافة تلك املنطقة ،الدين َّية والفكر َّية والفل�سف َّية ،ويعود نظمها �إىل �أكرث من �أربعة �آالف �سنة(.)12 ُتعترب ملحمة جلجام�ش َّن�صاً �شعر َّياً �سرد َّياً تدور �أحداثه حول جلجام�ش (امللك) ومغامراته تدخل الآلهة ب�سري الأحداث بطريقة عجيبة وغريبة املُده�شة والبطول َّية .كما تروي امللحمة ُّ عن امل�ألوف ،ويكون جلجام�ش هو حمور هذه الأحداث على �أنواعها .ومتثل امللحمة مر�آة جت�سد امللحمة بداية احل�ضارة حياة وثقافة الإن�سان يف ذلك الوقت من التاريخ ،وبهذا ِّ والدولة ،كما ورد يف الإن�سان َّية واالنتقال من طور احلياة املُ�شاع �إىل احلياة االجتماع َّية َّ ملحمة جلجام�ش ،التي ت�ؤ ِّرخ فرتة حكم امللك جلجام�ش ملدينة �أوروك ،وبنائه الأ�سوار حولها لتخليد نف�سه. تت�ألف امللحمة من ثالثة ف�صول� ،سنعمل من خالل عر�ضنا لها على حتديد عنا�صر الطبيعة فيها ،والأدوار التي اتخذتها ،والإيحاءات وال ُّرموز واملعاين التي حملتها. 155
�أ -الف�صل الأول :جلجام�ش و�إنكيدو:
تبد�أ �أحداث ملحمة جلجام�ش عندما �ضاق ال�شَّ عب ذرعاً بظلم وق�سوة جلجام�ش ،مت�ض ِّرعني بتدخل الآلهة .وهنا ُتظهر امللحمة جمتمعاً �إىل الآلهة طالبني املُ�ساعدة ،حيث يبد�أ احلدث ُّ �إن�سانياً ي�شهد �صراع الإن�سان مع الآخر ،وجمتمعاً للآلهة التي ت�شبه الإن�سان بانفعاالتها وانتقامها ودوافعها .وت�سيطر على ملحمة جلجام�ش فكرة َّ ال�ضرورة القدر َّية التي ُت َ�سيرِّ الأحداث فيها ،لتنهي احلدث با�ست�سالم امللك جلجام�ش لقدره وقبوله بحتم َّية املوت والفناء. ويقدم لنا املكان حيث يفتتح الكاتب امللحمة بو�صفه جلجام�ش «هو الذي ر�أى كل �شيء»ِّ . توجد �أوروك ،مملكة جلجام�ش (الوركاء اليوم) ب�أنه� ،أي املكان« ،مدينة» .وهذا يعني وجود قوانني «مدن َّية» على الإن�سان التق ُّيد بها( .)13وي�صف جلجام�ش بـ«موجة طوفان» عاتية حتطم ال�صعاب .ويرمز الكاتب �إىل حتى جدران احلجر وذلك للإيحاء بقوته وعنفوانه يف ِّ حتدي ِّ حب جلجام�ش للمغامرة و�إ�صراره على التغلب على احلواجز الطبيع َّية بقوله: «�إنه هو الذي فتح جمازات اجلبال وحفر الآبار يف �أعايل اجلبال ()14
وعرب املحيط �إىل حيث تطلع ال�شم�س»
كما يرمز الكاتب �إىل جموح جلجام�ش لل�سلطة والطغيان بقوله « ...هيئة ج�سمه خميفة ()15 كالثور الوح�شي» للت�صدي جللجام�ش بهذه العبارة: وي�صف الكاتب ا�ستجابة «�أورورو» لدعوة �أهايل �أوروك ِّ «وغ�سلت (�أورورو) يديها و�أخذت قب�ض ًة من طني ()16
ورمتها يف الربية ،ويف الربية خلقت (�إنكيدو)»...
وترمز الربية �إىل الطبيعة العذراء و�إىل القوة واحلر َّية: ()17
«ومع الظباء ي�أكل الع�شب» 156
�أدب
يرمز الع�شب �إىل اخل�صب ،االزدهار واحلياة. ويتك َّرر رمز املاء يف �أربعة �سطور متتالية كداللة لعن�صر احلياة واملوت وللبيئة اخل�ضراء التي تتمتع بها منطقة العراق. «يتدافع مع الوح�ش عند مورد املاء ويطيب لبه عند ازدحام احليوان يف مورد املاء (يحدث) �أن �ص َّياداً قا ِن�صاً التقى به عند مورد املاء و�أب�صره يوماً ثانياً وثالثاً عند م�سقى املاء»
()18
�أما رف�ض حيوانات الغابة لإنكيدو بعد �إغراء البغي له فريمز �إىل قيود احلياة املدن َّية وما ت�س ِّببه للإن�سان من �أ�سر وجتريد من طاقاته الطبيعية .فرنى �إنكيدو بعدما رف�ضته حيوانات الغابة، جم َّرداً من قوته وخائر القوى .يقول الن�ص: ال�صحراء « ...و َه َر َب ْت من قربه ُ حيوانات َّ ُذ ِع َر (�إنكيدو) وخارت قواه»
()19
وهذه داللة للتناق�ض ال َّرمزي بني مفهوم الربية ومفهوم املدينة .يقول �إنكيدو: «�أنا الأقوى� ...أجل �أنا �س�أبدل امل�صائر... ()20
ال�صحراء هو الأ�شد والأقوى»... �إن الذي ولد يف َّ
ال�صحراء بدالالتها ترمز �إىل احلر َّية والع�صيان على عك�س الو�صف الذي جاء به الكاتب َّ للمدينة ذات الأ�سوار العالية التي حتدها وحتد من حرية �سكانها. ليق�ص على �أمه ر�ؤياه قائ ًال لها: �أما جلجام�ش العظيم الب�أ�س املُبتهج باحلياة ،في�ستيقظ من نومه ّ «يا �أمي لقد ر�أيت الليلة املا�ضية حلماً ....... 157
فظهرت كواكب ال�سماء ()21 ال�سماء (�آنو)»... وقد �سقط �إحداها �إ َّيل ك�أنه �شهاب َّ تف�سره له �أمه يرمز �إىل لقائه «�إنكيدو» نظريه هو (�أي جلجام�ش)� ،صاحب وهذا احللم كما ِّ قوي ،يعني ال�صديق (عند ال�ضيق)(.)22 ب -الف�صل الثاين� :أ�سفار جلجام�ش و�إنكيدو:
ال�صراع الذي قام بني جلجام�ش و�إنكيدو بقيام �صداقة حميمة بني البطلني ،وق َّررا انتهى ِّ القيام برحلة طويلة �إىل غابة الأرز يف �أعايل جبال طورو�س( .)23يرى القارئ يف هذا الف�صل متدة وال�صور امل�ستمدة من الطبيعة ،كالغابة املُ َّ َّ «�أن بيئة الكاتب هي التي �ألهمته رمز َّية امللحمة ُّ م�سافة ع�شرة �آالف �ساعة يف كل جهة ،و(خمبابا) زئريه عباب الطوفان تنبعث من فمه النار، ()24 ونَف َُ�س ُه املوت ال ُّز�ؤام»... يرى القارئ ج َّواً م�شحوناً بالتوتر واخلوف الناجِ م عن ا�ستعمال امل�ؤلف رموز ال�شَّ ر واخلري يف الطبيعة .فاملاء وال�شَّ جر يرمزان �إىل اخلري واخل�صب والعطاء بينما يرمز الوح�ش «خمبابا» �إىل املوت وال�شَّ ر. حني �شارف البطالن مدخل الغابة ،بعد �أن قطعا م�سافة طويلةُ ،ذ ِهال و�أبهرهما م�شهد املدخل العجيب للغابة ومنظر �أ�شجار الأرز الغريب ،فكان علوها اثنتني و�سبعني ذراعاً ،وعر�ض املدخل �أربعاً وع�شرين ذراعاً(.)25 بعدها ا�ستطاع البطالن �أن يجتازا مدخل الغابة ف�أب�صرا اجلبال اخل�ضر ،و ُذ ِهال من م�شهد غابة الأرز و�سحر جمالها(.)26 هنا يتناول الكاتب جمال الغابة و�سحرها لريمز �إىل الطبيعة اخل�ضراء املعطاء التي تدل على وال�سالم ،على عك�س هدف رحلة جلجام�ش التي تهدف �إىل قتل خمبابا وح َّرا�س اخل�صب َّ الغابة َّ ليتمكنوا من الو�صول �إليها. يك ِّرر الكاتب كلمة «الغابة» مراراً وتكراراً ،وكذلك كلمة «املاء» و«البئر» ،كدالالت للخري 158
�أدب
واالزدهار ،وتربز هذه الكلمات مبدلوالتها احليوية ،بالتناق�ض مع فكرة املوت التي تتمثل بقتل خمبابا والدخول �إىل غابة الأرز .وا�ستطاع البطالن الو�صول �إىل جبل خا�ص بالآلهة حيث عر�ش الإلهة «�أورنيني» « /ع�شتار» وو�صفاه ب�أنه جبل تتعاىل فيه �أ�شجار الأرز بظاللها الوارفة وال�سرور(.)27 التي تبعث البهجة ُّ خا�صة عندما تكون يف �أوج اخ�ضرارها ،وحتكي عن م�شاعر ال�شُّ عوب تتحلى الطبيعة بحرك َّية َّ من حيث حاجاتهم �إليها .لذا نرى الكاتب ،ب�صفته ال َّراوي واملر�آة للمجتمع ،يرمز بالطبيعة �إىل احلياة ،من ماء ونبات وحيوان ،والفرح والبهجة التي ُتعترب حاجات نف�س َّية وماد َّية للإن�سان. املتحدث عن �ش�ؤون «�أوروك» كرمز لثقافة املجتمع يف ذلك الوقت ،والطبيعة هي فال َّراوي هو ِّ املكان الذي يليق بنف�س َّية الإن�سان املت�أملة ،والتي متنحه احلر َّية وال َّراحة النف�س َّية. تنتهي مغامرة غابة الأرز بنجاح البطلني وعودتهما �إىل �أوروك. ج -الف�صل الثالث :موت �إنكيدو و�سعي جلجام�ش وراء اخللود:
يف الف�صل الثالث الذي يتناول موت �إنكيدو و�سعي جلجام�ش وراء اخللود ،يتناول ال َّراوي كيف �أن �إنكيدو ،بعد مر�ضه ،و�إدراكه قرب نهايته ،يتمنى لو �أنه ما جاء �إىل حياة احل�ضارة، بل ظل يف ب ِّر َّيته �سعيداً مرتاح البال يرعى مع الظباء واحليوان( .)28كما �أنه لعن كل من ز َّين له املجيء �إىل حياة املدينة. وال�صحارى .ثم قرر بعد فرتة من املر�ض مات �إنكيدو ،وهام جلجام�ش ،حزناً عليه ،يف الرباري َّ القيام برحلة البحث عن «�أوتو -نب�شتم»( )29لي�س�أله عن �سر اخللود. وانطلق جلجام�ش يف رحلته حتى بلغ جمازات اجلبال يف ال�سماء( .)30وهذه الأعايل التي ي�صفها الكاتب ترمز �إىل عنفوان الطبيعة وتتمثل بجلجام�ش ي�سري نحو املجهول ويواجه �صيغاً حتديات الطبيعة له .فتارة يرى نف�سه �سائراً يف طريق م�سدودة وحريته تقول له خمتلفة من ِّ �إن جهوده و�سعيه ال ي�ص َّبان يف املجرى احلقيقي لنهر احلياة ،وطوراً ي�صادف ،خالل مغامرته للبحث عن «�أوتو -نب�شتم»� ،أ�شجاراً حتمل الأحجار الكرمية: 159
« ...فوجد الأ�شجار التي �أثمارها العقيق وتتدىل الأعناب منها ومر�آها ي�سر الناظر ...ر�أى ال�شوك والو�سج الذي يحمل ()31
الأحجار الكرمية والل�ؤل�ؤ البحري»...
وبعد مرور جلجام�ش ب�سيدوري (�سيدة احلانة) ،يلتقي «�أور –�شنابي» الذي رافقه للقاء «�أوتو–نب�شتم» .يخاطب «�أوتو–نب�شتم» جلجام�ش عن املوت قائ ًال: قا�س ال يرحم «�إن املوت ٍ ...وهل تبقى البغ�ضاء يف الأر�ض �إىل الأبد؟ وهل يرتفع النهر وي�أتي بالطوفان على الدوام؟ والفرا�شة ال تكاد تخرج من �شرنقتها فتب�صر وجه ال�شم�س حتى ّ يحل �أجلها»...
()32
ق�صة الطوفان يف جلجام�ش ح ِّيزاً كبرياً ،ويرمز �إىل املياه التي ت�أتي باحلياة واملوت معاً، ت�أخذ َّ فيقول ال َّراوي: «َّ ...ثم هد�أ البحر و�سكنت العا�صفة وغي�ض عباب الطوفان ...ور�أيت الب�شر وقد عادوا جميعاً �إىل طني»
()33
الطوفان الذي تتداعى فيه احلياة ،ويتح َّول الب�شر �إىل جم َّرد طني ،مينح احلياة �إىل «�أوتو– نب�شتم» وبذور كل ذي حياة( .)34فاملاء ،عن�صر احلياة الأ�سا�سي ،كما هو عن�صر املوت يف �آن ،مينح احلياة واالزدهار تارة ،وينزل اخليبة واملوت واجلفاف تارة �أخرى .فال َّراوي يعك�س لنا كق َّراء ،التوتر النف�سي ،واخلوف ،واحلزن الذي ُيعانيه الإن�سان على وقع �أحداث الطبيعة. وال�سرور من جهة ،واملوت فاملطر وال َّرعد اللذان �أ َّديا �إىل الطوفان يحمالن رمز َّية احلياة والبهجة ُّ والفناء من جهة ثانية. 160
�أدب
ول�شدة �شقاء وتوقف الكاتب �أي�ضاً عند م�شهد �شروق ال�شَّ م�س وغروبها كرمز ملرور الوقت َّ جلجام�ش يف رحلة البحث عن اخللود .مع كل �شروق وغروب ،كان جلجام�ش يت�أمل باخللود، ويت�أمل لعدم يقينه باحل�صول عليه .فالعالقة ال َّرا�سخة بني الطبيعة واملياه ُتنتج تكام ًال للحياة يحمل اخلري والأمل. فالطبيعة غن َّية بالتناق�ضات من ليل ونهار� ،شتاء و�صيف� ،شروق وغروب ،حياة وقحل ،تتمثل فيها قوى اخلري وال�شَّ ر ،واملاء والنار ،واحلر َّية والطغيان. وتبقى الطبيعة ،يف �أي عمل �أدبي ،رمزاً للمجتمع .وهي ،بعنا�صرها كافة ،ذات طابع �أزيل ،كما اهتم الراوي بت�سليط �أنها ت�شكل يف جلجام�ش احل ِّيز البيئي الطبيعي ل�سري الأحداث .لقد َّ ال�ضوء على الطبيعة وعنا�صر حيويتها عرب رمز َّية الأ�شجار والرب َّية والف�ضاءات املفتوحة �إىل َّ الغابات والأنهار ،املياه كرمز للخري والنظافة واحلياة ،رمز َّية ال ِّريح ،فهي ُمد ِّمرة حيناً ،وذات حتدها �أ�سوار املدينة. دفع �إيجابي حيناً �آخر .فهي ترمز �إىل احلر َّية والف�ضاءات الوا�سعة التي ال ّ فرحلة جلجام�ش يف البحث عن اخللود هي رحلة عظيمة ،تنتهي بعودته �إىل مدينته ،را�ضياً مب�صريه ك�إن�سان ،ولكنها فعلياً ،رحلة نحو املوت ،الآتي ال حمالة. كما �أن جلجام�ش �أيقن خ�سارته امل� َّؤكدة يف هذه ال ِّرحلة ،و�أنه لي�س بو�سعه �أن يحتفظ مبكانه ال�صراع النف�سي الذي عانى منه بني املوت واحلياة. �إىل الأبد ،وهذا ما �ساعده على تخطي ِّ ويالحظ القارئ تكرار كلمة «املاء» يف جميع مراحل امللحمة وذلك للإيحاء مبدى �أهم َّية املاء. فعندما منحت الآلهة «�أوتو–نب�شتم» �سر اخللود ،ق َّرروا �أن يعي�ش عند «فم الأنهار»( .)35هذا ربط وا�ضح بني احلياة واملاء ،بني الإن�سان والأنهار ،فال حياة بدون مياه ،و�أن املياه هي رمز للوجود ب�أنهارها ومطرها .وترمز املياه ،يف عبارة «�أوتو–نب�شتم» �إىل النظافة واجلمال: «خذه يا (�أور –�شنابي) ...ليغ�سل يف املاء �أو�ساخه حتى ي�صبح نظيفاً كالثلج»
()36
ولي�س غريباً� ،أن �سر اخللود ،كما يقول «�أور –�شنابي» جللجام�ش ،هو نبات ينبت يف املياه .فهو مينح الإن�سان ن�شاط احلياة(.)37 ولي�س بالغريب �أن تناق�ضات احلياة و�سخريتها ،جتعل جلجام�ش الذي تعب من عنائه الطويل، 161
يف �أ�سفاره وال�صعوبات التي تكبدها للو�صول �إىل نبات اخللود ،يخ�سر النبات خالل حماولته ف�شمت احل َّية �شذى (نف�س) النبات واختطفتها(.)38 النزول �إىل ماء بئر ليغت�سلَّ ، فالنبات� ،سر اخللود ،يعي�ش يف �أعماق املياه .وجلجام�ش خالل وروده املياه ،اختطفت احل َّية النبات .وهذا ما �س ّبب جللجام�ش خيبة وحزناً كبريين. كال�سحابة البعيدة بني دموع جلجام�ش ،والوجود واخللود �أ�صبحا فالنبات امل�سروق �أ�صبح َّ �أبعد ما يكون و�أو�سع من متناوله .فعامل الطبيعة هو عامل ُمطلق� ،إ َّنه عامل ُمرتبط بالوجود، حيث عنا�صر املياه والأ�شجار ترمزان للم�صاعب التي يواجهها الإن�سان يف �سبيل احلياة. كما �أعطى ال َّراوي لل ِّريح التي �ساعدت جلجام�ش و�إنكيدو يف التغلب على «خمبابا» ،دوراً �إيجابياً ،يف حني �أن العمل الذي قاما به« ،قتل خمبابا» ،كان عنيفاً و�سلبياً. تلعب ال ِّريح دوراً مهماً يف جلجام�ش ،ولكن املياه تبقى العن�صر املُ َه ْيمِ ن املُ ِ نا�سب للعطاء واخلري. ال�سفينة، �إن امللحمة تنتزع من جلجام�ش �أمل اخللود الذي يطفئ الأمل يف روحه وقلبه� .أما َّ فهي رمز امل�صري املت�أرجح بني �أمواج القدر ،الذي تع�صف فيه ال ِّرياح .ف�سفينة احلياة ،ال حمالة ،متجهة �إىل الظالم والفناء .لكن «�أوتو–نب�شتم» الذي ُم ِن َح الأبد َّية ،مل يحتفظ بحيو َّية ال�شَّ باب ،بل بدا كه ًال ُم�ستلقياً على فرا�شه ،بال حياة وال حيو َّية(.)39 ففي نهاية امللحمة ،جند جلجام�ش «امللك» الذي كان بعيداً عن هموم جمتمعه ومنغم�ساً يف نزعاته ال�شَّ خ�ص َّية واملاد َّية ،حتول �إىل �إن�سان حكيم وحزين ُم�ست�سلماً للقدر ،وذلك نتيجة الدر�س الذي تعلمه من الطبيعة .الطبيعة هي َم ْن ُيلهِم الإن�سان الإميان واال�ستمرار .ف�أخذت و�شدة املعاناة ،املرتبطة خا�صة ،تتعلق بالعذاب و�صالبة الإرادة َّ امللحمة تعطي جلجام�ش �أهم َّية َّ يتم�سك ب�أمل اخللود ،عرب جميعها مب�صري ال�شَّ ر ولي�س الآلهة .ولكن جلجام�ش ،يف النهايةَّ ، �أعماله و�سريته احل�سنة مع �أهل �أوروك ،يهبه احلياة واخل�صب بعد املوت. هكذا ،تبقى ملحمة جلجام�ش� ،أثراً �أدب َّياً تاريخ َّياً ،يحمل قيمتني �أ�سا�س َّيتني :الأوىل تاريخ َّية، كونه يعود �إىل �أربعة �آالف �سنة ،والثانية �أدب َّية ثقافية لأنه يعك�س ثقافة �شعوب املنطقة وارتباطها 162
�أدب
باملحيط الطبيعي يف العراق ،وقد �أثرت امللحمة ت�أثرياً كبرياً يف الأدب الكال�سيكي العاملي، خا�صة اليوناين منه. َّ خال�صة:
ُتعترب ملحمة جلجام�ش من �أقدم املالحم و�أكرثها �أهم َّية ،وتتم َّيز ب�سرد �أحداث يتداخل ويتم �سرد فيها الإن�سان والآلهة ،وي�ستعمل ،غالباً ،فيها التكرار لت�أكيد �أهم َّية الأحداثّ . ال�سرد املُتد ِّرج املُط َّول� .إ َّنها ملحمة درام َّية الأحداث مط َّو ًال بحيث �أنَّ حرك َّية احلدث تتط َّلب َّ بامتيازَّ ، ترتكز �أحداثها حول بطل واحد ،يتم َّيز عن باقي الب�شر ،فثلثاه من عن�صر �إلهي (من ال�صعاب ناحية الأم) ،والثلث الآخر من الب�شر (من جهة الأب) .فالبطل جلجام�ش يخو�ض ِّ خا�ضعاً واملُغامرات ليح�صل على اخللود ،وعندما ي�ستحيل ذلك ،يعود �إىل مدينته �أوروك ِ لقانون احلياة واملوت (الذي هو نهاية كل �إن�سان على هذه الأر�ض). �أما يف ما يتعلق باللغة والأ�سلوب ،ح�سب ما يلم�س القارئ يف ترجمة ملحمة جلجام�ش لطه باقر من �أ�صلها القدمي ،فهي تتم َّيز بالب�ساطة واعتمادها اللغة البالغ َّية الغن َّية بالت�شبيهات الدقيق� ،سواء من جهة الو�صف اخلارجي واال�ستعارات ،كما تعتمد الأ�سلوب الو�صفي َّ الداخلي (كما ورد يف و�صف حالة اخلوف (كما ورد يف و�صف البطل اجل�سدي)� ،أو الو�صف َّ والأحالم التي يراها �إنكيدو وجلجام�ش). وتبقى ملحمة جلجام�ش امللحمة التاريخ َّية الأوىل وحا ِفظة تراث بالد ما بني ال َّنهرين، ُم�ستلهِ مة �أحداثها من ثقافة هذه املنطقة ،وطبيعتها التي هي م�صدر الإلهام الف ِّني للكاتب. وبهذه امللحمة ،ا�ستخدم الكاتب �أ�سلوباً خيال َّياً وبنى عليه الواقع يف عمل ف ِّني درامي ُمتكا ِمل احللقات.
163
الهوام�ش
( )1رياض ،عبد الفتاح« ،التكوين يف الفنون التشكيلية» ،دار النهضة العربية ،الطبعة األوىل، مرص ،القاهرة.1986 ، ( )2كارتر ،ديفيد« ،النظرية األدبية» ،ترجمة د .باسل املساملة ،دار التكوين ،دمشق ،سوريا، الطبعة األوىل.2010 ، ( )3جراد ،جورج« ،النقد البيئي» ،ترجمة عزيز صبحي جابر ،هيئة أبو ظبي للثقافة والرتاث، الطبعة األوىل.2009 ، )4(FirasSawah,”First Mind Adventure”, A Study in Myth, Syria, The Land of Two Rivers “Ard Al-Rafidayn”, ed. 11. Damascus, 1976. (5) Philip Freund, “Myths of Creation”, W. H. Allen, London, 1964. Quoted inFirasSawah,”First Mind Adventure”. (6) G. S. Kirk, “Greek Myths”, Pelican Book, 1977. (7) FirasSawah,”First Mind Adventure”. (8) Ibid. (9) Ibid. (10) Ibid. (11) Ibid. ( )12باقر ،طه« ،ملحمة جلجامش» ،ط .1 ( )13باقر ،طه« ،ملحمة جلجامش» ،الطبعة الرابعة ،الوراق.2017 ، ( )14املصدر السابق. ()15املصدر السابق. ( )16إحدى اآللهات الخالقات. ()17باقر ،طه« ،ملحمة جلجامش» ،الطبعة الرابعة ،الوراق.2017 ، 164
�أدب
( )18املصدر السابق. ( )19املصدر السابق. ( )20املصدر السابق. ( )21أم جلجامش ،اآللهة «ننسون». ( )22باقر ،طه« ،ملحمة جلجامش» ،الطبعة الرابعة ،الوراق.2017 ، ( )23يختلف ال ُّنقاد حول املكان الذي ق ََص َد ُه البطالن يف مغامرتهام ،فمنهم َم ْن يقول إنَّهام ق ََص َدا غابة األرز يف جبال لبنان ،ومنهم َم ْن يقول إنَّهام ق ََص َدا األمانوس يف شامل سورية ،ومنهم َم ْن يقول إنَّهام ق ََص َدا جبال طوروس ،املألى بغابات األرز ،فاقتىض التنويه. ( )24باقر ،طه« ،ملحمة جلجامش» ،الطبعة الرابعة ،الوراق.2017 ، ( )25املصدر السابق. ( )26املصدر السابق. ( )27املصدر السابق. ( )28املصدر السابق. ( )29اسم بطل الطوفان البابيل الذي يحتمل أن يكون اسمه يعني بالبابلية« :الذي أدرك الحياة». ( )30باقر ،طه« ،ملحمة جلجامش» ،الطبعة الرابعة ،الوراق.2017 ، ( )31املصدر السابق. ( )32املصدر السابق. ( )33املصدر السابق. ( )34املصدر السابق. ( )35املصدر السابق. ( )36املصدر السابق. ( )37املصدر السابق. 165
( )38املصدر السابق. ( )39املصدر السابق. امل�صادر واملراجع أ -املراجع العربية: ( )1باقر ،طه« ،ملحمة جلجامش» ،الطبعة الرابعة ،الوراق .2017 ( )2جراد ،جورج« ،النقد البيئي» ،ترجمة عزيز صبحي جابر ،هيئة أبو ظبي للثقافة والرتاث، الطبعة األوىل.2009 ، ( )3رياض ،عبد الفتاح« ،التكوين يف الفنون التشكيلية» ،دار النهضة العربية ،ط ،1مرص، القاهرة.1986 ، ( )4كارتر ،ديفيد« ،النظرية األدبية» ،ترجمة باسل املساملة ،دار التكوين ،دمشق ،سوريا، الطبعة األوىل.2010 ، ( )5السواح ،فراس« ،مدخل إىل تاريخ الرشق القديم»، - http: // aleftoday. Info/article. ب -املراجع األجنبية: (1) G. S. Kirk, “Greek Myths”, Pelican Books, 1977. (2) Kroeber, Karl, “Ecological Literary Criticism, Romantic Imagining and the Biology of Mind”, Colombia University Press, 1994. (3) Freund, Philip, “Myths of Creation”, W. H. Allen, London, 1964. (Quoted in FirasSawah, “First Mind Adventure”, A Study in Myth, Syria, The Land of Two Rivers, “Ard Al Rafidayn”, ed. 11, Damascus, 1976. ج -الدوريات: ( )1السعد ،أحمد« ،جدلية اإلنسان والطبيعة يف أدب البحار» ،الحياة.2015 ، 166
�أدب
الإيطاء عند حميي الدين بن عربي رامز عو�ض -طالب دكتوراه
جدا باملقارنة مع العدد الهائل من من املعلوم �أن ما �ألفه القطب الأكرب من ال�شعر كان حمدوداً ّ م�ؤلفاته املنثورة .وتنح�صر �أعماله ال�شعرية يف اثنني" :ترجمان الأ�شواق" والديوان. الغنائي ،ان�صب الرتكيز يف اجلزء الأكرب من وبخالف كتاب "ترجمان الأ�شواق" ذي الطابع ّ الديوان على تناول م�سائل غيبية. ويف هذا البحث �سيتم تناول مزايا �شكلية غري م�ألوفة ت�شكل انعكا�ساً �أ�سلوب ّياً لبع�ض �أفكار ابن عربي .واملق�صود بذلك ظاهرة الق�صيدة الأحادية القافية �أو الإيطاء املتك ّرر على امتداد ق�صيدة ب�أكملها. تعمد ذلك .ومن وبنظمه ق�صائد من هذا النوع ،ك�سر ابن عربي قواعد النظم التقليدية .ولقد ّ �أجل معرفة الأ�سباب وراء ذلك ،يح ّلل هذا البحث ق�صيدة من هذا النوع البن عربي ويقارنها القرو�سطي. ب�أمثلة �أخرى من الأدب العربي ومن الأدب الأوروبي ّ قبل االنتقال �إىل حتليل ق�صيدة ال�شيخ الأكرب ،من املفيد الإ�شارة �إىل �أن هذا امللمح الأ�سلوبي الإيقاعي الذي ي�شكل انزياحاً ب ّيناً ظهر قبل ابن عربي ولكنه مل يكن منت�شراً ،بل اقت�صر على بع�ض ال�شعراء الذين جت ّر�أوا وعمدوا �إىل الإيطاء يف القافية ،ومنهم اّ احللج كما �سرنى .كما �أن هذه الظاهرة الأ�سلوبية انتقلت �إىل ال�شعر الأوروبي بت�أثري من الثقافة العربية الإ�سالمية .وهذا ومعمقاً .ن�أمل يف امل�ستقبل �أن يتج�شّ م عناءه الباحثون نظراً لأهميته. وحده ي�ستحق بحثاً ّ مف�ص ًال ّ وقبل ال�شروع يف معاجلة الق�صيدة مو�ضوع البحث ،ال بد من مدخل �إيقاعي يلقي ال�ضوء على الإيطاء يف القافية. 167
وا�شتق من املواط�أة مبعنى املوافقة.1 الرويّ . يعني الإيطاء تكرار كلمة ّ ويفي�ض ح�سني ن�صار يف ا�ستعرا�ض �آراء النقاد يف املو�ضوع لي�صل �إىل خال�صة مفادها �أن الإيطاء لي�س بالعيب املو�سيقي ،فال ن�شاز فيه على ال�صوت املو�سيقي ،بل �إنه يحقّق التماثل ال�صوتي التا ّم ،و�إمنا هو عيب يف القدرة التعبريية عند ال�شاعر.2 ولكن الإيطاء عند ال�شيخ الأكرب لي�س عيباً يف قدرته التعبريية بل هو نظر لأمر �آخر قد يكون يف ما ذهب �إليه �شكري ع ّياد �إلقاء لل�ضوء على مقا�صد الإيطاء الأخرى .قال" :ال�شاعر يزيد يوجه الذهن �إىل متاثل املعنى ي�صرفه عن نغمه خفوتاً بلجوئه املتكرر �إىل الإيطاء ..فالإيطاء� ،إذ ّ متاثل النغم".3 ولعل هذا ما رمى �إليه ابن عربي بالإيطاء يف ق�صيدته� :صرف الذهن عن متاثل النغم وتوجيهه �إىل متاثل املعنى ..فلنذهب �إىل مقطوعته: نبي �ســـــ ّره ُ اهلل اهلل �أنزل نوراً ي�ست�ضـــــــاء بــــــــه على فــــــ�ؤاد ًّ �أتى بــــه روحه مـن فوق �أرقعة
�سبع �إىل قلبه وال�ســـــامع ُ اهلل
منه �إليه بـــــه كان النزول لـــــه
فلي�س يف الكون �إال الواحد ُ اهلل
واجل�سم وال َع َر�ض امل�شهود فيه ومـا يف الغيب مــــــــــا مل تراه ذلك ُ اهلل وال تناق�ض يف مـــــا قلته ف�أنـــــــ عني الكثري وعيني الواحــــــد ُ اهلل حيث يقول �إن املعرفة الربانية ح ّلت يف قلب النبي ،وهي معرفة قر�آنية عند النبي وقر�آنية وعرفانية عند ابن عربي .والقلب باملفهوم القر�آين هو الوعاء الذي ير�سل �إليه اهلل قب�ساته .ولكن ما يلفت هنا هو �أن ابن عربي يعترب �أن القلب وال�سمع وال�شهادة هي تلك التي هلل ..فال�سامع اهلل ،والنزول منه وبه و�إليه .وكالم ال�شاعر يعك�س ر�ؤية توحيدية هلل .ومع ذلك ،ف�إن الق�صد ّية 1ـــ حسني نصار ،القافية يف العروض واألدب ،مكتبة الثقافة الدينية ،بور سعيد ،ط ،2001 ،1ص .110 2ـــ حسني نصار ،ص .113 3ـــ إبراهيم أنيس ،موسيقى الشعر ،ص .130 168
�أدب
الكامنة يف �أعمال القطب الأكرب لي�ست التعبري عن فكرة توحيدية وا�سعة االنت�شار بقدر ما هي نوع من التوتر اخلالق بني هذه الفكرة والثنائية التقليدية بني اهلل وخلقه. وميثل البيت اخلام�س منوذجاً للتكتيك الذي يتبعه ابن عربي يف مفاج�أة القارئ �أو �إرباكه ،مبزجه عبارة حتمل تناق�ضاً بت�أكيده �أن "ال تناق�ض يف ما قلته ".وميتد هذا التكتيك يف الأبيات التالية. 1 ففي �أحدها يقول: له اليمني له العينانِ يف خ ٍرب �أتى به منه والآتي هو ُ اهلل مقرتحاً فهماً �أكرث جر�أة من املعهود لعي َني اهلل ويديه .وقد �أورد �آنفاً �أن متلقي ر�سالة اهلل هو اهلل نف�سه ،معيداً �إىل الأذهان فكرة �أن اهلل ي�صبح ب�صر امل�ؤمن و�سمعه. ويف بيتني �آخرين يقول :ودائماً يف �سياق التعبري عن وحدانية اهلل:2 فانظره يف �شج ٍر وانظره يف حج ٍر كل الأ�سامي له �إن كنت تعقلـــــه
كل �شيء ذلك ُ وانظره يف ّ اهلل امل�سمى بها فك ّلهــــــــــــا اهلل هو ّ
وامل�سمى معاً. رابطاً كل �شيء باهلل ،فهو يف ال�شجرة واحلجر وكل �شيء ..وهو الأ�سماء كلها ّ ومثل هذه الر�ؤية ت ّتفق مع املو�ضوع� :أ�سماء اهلل وا�سطة وحدان ّيته يف العامل. ويف الأبيات الأربعة الأخرية يقول:
3
ما ّثم واهلل �إال حرية ظهرت لو كان ّثم وجود ما هـو اهلل
وبي حلفت و�إن املق�سم ُ اهلل مل ينفرد بالوجود الواحد ُ اهلل
بل احلدوث لنا وما يتابعـــــه وهذه ن َِ�سب والثـــــــــــابت ُ اهلل ينوب عنا و�إ ّنا منه يف عدم - -ونحن ن�شهد وال�شــــــــاهد ُ اهلل 1ـــ ديوان ابن عريب ،ص .415 2ـــ م.ن ،املوضع نفسه. 3ـــ م.ن ،ص .416 169
وي�ؤكد الوحدانية الإلهية و�أن املن�سوب �إلينا هو الوجود (احلدوث) الذي �أعطاه لنا اهلل .ولكن كل هذا طارئ ولي�س موجوداً �إال يف ما يتعلق ب�شيء �آخر .واهلل وحده دائم .وبهذا املعنى �إن اهلل هو م�صدرنا .وحني ن�شهده ،ف�إنه بالتايل ي�شهد نف�سه. ويف هذا اال�ستنتاج ،يعيدنا ابن عربي �إىل مو�ضوع ورد يف كتاباته :فكرة �أن اهلل يرى نف�سه من خالل العامل الذي خلقه� .إن املو�ضوع املثبوت يف �أرجاء الق�صيدة هو �أن ّ كل �شيء مرجعه اهلل. وما الإيطاء املتكرر يف كل �أبياتها �إال و�سيلة مفيدة لإبراز الفكرة .فالأبيات تت�شابه يف تكرارها هذه الالزمة :الرجوع الدائم �إىل امل�صدر الإلهي .ويف كل مرة يخو�ض فيها ابن عربي جما ًال فكرياً جديداً يعيده ال�شطر الثاين من البيت �إىل اهلل. ويف هذه املجاالت الفكرية ُتالعب الق�صيدة ال�سال�سل املنطقية من �أجل اال�ستمتاع بها ولي�س من �أجل ّ حل التناق�ضات .وهي �أي�ضاً مهتمة بنقل املعلومات ،ولكنها لي�ست ّن�صاً تعليمياً. والوزن ال�شعري يتطلب �صياغة احلجج على نحو دقيق .والرابط بني البيت وما يليه لي�س �ضمني ..ويرتك للقارئ ا�ستخدام خياله لفهم الق�صيدة. مك�شوفاً �أو ب ّيناً بل هو ّ للحجة �أن ت�سلك م�سارها املتع ّرج وهو ي�ؤوب دائماً �إىل اهلل. واللجوء �إىل الإيطاء هو ما يتيح ّ الإيطاء التام يف الأدب العربي مل يكن ابن عربي �أ ّول من كتب ق�صيدة ذات �إيطاء تا ّم �أو متكرر على امتداد الق�صيدة كلها. هذه الظاهرة الإيقاعية كانت موجودة على هام�ش التقليد ال�شعري ويف ق�صائد جمهولة و�شظايا معزولة من ب�ضعة �أ�سطر .والالفت �أن معظم م�ؤ ّلفيها من ال�صوفية والإيطاء يف كلمة "اهلل" �أو ما �شابهها. من هذه الن�صو�ص ق�صيدة للمت�صوف "ذو النون امل�صري" ُذكرت يف "كتاب اللمع يف الت�صوف" لل�س ّراج الطو�سي:1 مــــــــــن الذ باهلل جنــــــــــــــا باهلل - -و�س ّره مــــــــــ ُّر ق�ضــــــــــاء اهلل 1ـــ ابو نرص الرساج الطويس ،اللمع ،حققه عبد الحليم محمود وضه عبد الباقي رسور ،دار الكتب الحديثة مبرص ومكتبة املثنى ببغداد ،1960 ،ص.317 170
�أدب
�إن مل تكن نف�سي بكف اهلل - -فكيف �أنقاد حلكــــــــم اهلل هلل �أنفــــــــــــــــا�س جـــــــــــرت هلل - -ال حول يل فيها بغري اهلل واملالحظ يف هذه املقطوعة �أنها ،ب�صورة عامة ،ب�سيطة من الناحية البالغية وباملقارنة مع مقطوعات ابن عربي ذات الإيطاء املتكرر يربز ،ب�شكل خا�ص ،غياب البعد املاورائي. عما يريد اهلل وما معنى "حكم" اهلل يف هذا ال�سياق ،الوارد عند "ذو النون" �سوى التعبري ّ بكل ب�ساطة .ولي�س احلكم الوجودي ال�شامل� .إنّ غاية الق�صيدة ،مرة �أخرى ،هي الت�أثري يف امل�ستمعني .وتركيز اهتمامهم على اهلل .واللجوء �إىل الإيطاء املتكرر هو ربط كل بيت باملو�ضوع ربطاً �صوت ّياً �إيقاع ّياً ي�ؤدي هذه الوظيفة الدالل ّية .وتتجلى الوظيفة الداللية نف�سها لهذه الظاهرة الأ�سلوبية الإيقاعية عند كثري من ال�صوفية .نذكر منهم على �سبيل املثال ،ال احل�صر�" ،أبو احل�سن حمرز بن جعفر" 1الذي نظم ق�صيدة من 24بيتاً يكرر يف نهاية كل بيت منها الزمة "فاطل ْبني جتدين" .وت�شرتك مع ق�صائد �صوفية لآخرين كـ "ذو النون" يف �أن الر�سالة الأ�سا�سية املراد �إي�صالها هي �أن اهلل ي�ساعد من يطلب منه امل�ساعدة .ويف خل ّوها من الأبعاد املاورائ ّية املوجودة عند ابن عربي ،ويف الوظيفة الداللية للإيطاء وهي تركيز االنتباه على اهلل ،نقتطف منها هذه الأبيات: جتدين راحما بـــــــــــ ّراً ر�ؤوفــــــا جتدين ماجداً �صمداً كرميا جتدين م�ستغيثاً بي مغيثــــــــاً
�أنا الرحمن فــــاطلبني جتدين كثري ال ّرب فــــاطلبني جتدين �أنـــــــا اجل ّبار فاطلبني جتدين
�إذا اللهفان ناداين كظيما
� ْ أقـــل ل ّبيك فاطلبني جتدين
�إذا امل�ضطر قال �أال تراين
نظرت �إليه فاطلبني جتدين
تتو�سل ويف هذا اخلط �أي�ضاً تندرج بع�ض ق�صائد ال�صويف �أحمد بن م�صطفى العلوي التي ّ 1ـــ ابو القاسم حمزة السهمي الجرجاين ،تاريخ جرجان ،حققه محمد عبد املعيد خان ،عامل الكتب ،بريوت ،1987 ،ص .563 – 562 171
املو�سيقى لإحداث الت�أثري االنت�شائي املطلوب يف امل�ستمعني .يقول:1 مريداً بــــــــــاد ْر بقلب حا�ضر ل�سانٍ ذاكـــ ْر ّ أماجد كل ت�شاهد الفوائــــــد �س ّر ال ْ ْ جاهد ْ ْ
بقــــــــولك اهلل يف ذكرك اهلل
�شو�س يل بايل
حب املوايل ّ
�أهل الكمال
عرفوين اهلل
َر َّوح يا حادي
بذكر �أ�سيادي
جذبوا ف�ؤادي
حل�ضرة اهلل
وال يقت�صر يف ذكر كلمة اهلل مكررة يف القافية بل يختم بها ال�شطر الأول من كل بيت كذلك، كما يف هذا املثل من هذه الق�صيدة:2 يا رجال غابوا يف ح�ضرة اهلل
كالثليج ذابــــــــــــــــــوا واهلل وا ِهلل
تراهــــم حيارى يف �شهود اهلل
تراهــــــــــــــم �سكارى واهلل وا ِهلل
تراهم ن�شاوى عند ذكر اهلل �إن غ ّنى املغ ّني بجمــــــــــال اهلل
عليهم طالوة من ح�ضرة اهلل فقامـــــــــــوا للمغني طرباً باهلل
يف ظاهرة �أ�سلوبية تكرارية �إيقاعية غايتها الداللية التعبري عن حمور حياة ال�صويف وو�سيلته وغايته وكل وجوده وهو اهلل. معدة للغناء �أو للإن�شاد ولي�س للغو�ص يف الغيبيات كما هي احلال عند القطب �إن ق�صائد كهذه ّ الأكرب. ويف الإطار الغنائي الإن�شادي نف�سه ُتفهم بع�ض �أبيات مت�صوف �آخر ،من ُعمان ،هو �أبو م�سلم البهالين الذي قال ،على �سبيل املثال:3 1ـــ ديوان أحمد بن مصطفى العلوي ،املطبعة العلوية مبستغانم ،الطبعة الرابعة (د.ت ،).ص .66 2ـــ ديوان احمد بن مصطفى العلوي ،ص .66 3ـــ ديوان أبو مسلم البهالين ،وزارة الرتاث القومي والثقافة ،مسقط ،1980 ،ص .241 172
�أدب
مبــــــــا يقــــوم بحق احلمد هلل
احلمد هلل حق احلمــد هلل
احلمد هلل �إطالقاً بال �أمــــــــــــــدٍ احلمد هلل �أهل احلمد يف �أزل
قبل الوجود وجوب احلمد هلل قبل الإ�ضافات منـ ّـا احلمد هلل
وال �شك �أن ابن عربي كان ّمطلعاً على هذه النماذج من الق�صائد ال�صوفية ذات الإيطاء املتكرر ،ذلك �أنها توالت على مدى مئات ال�سنني قبله .ولكن ما مي ّيز جتربته الإيطائية عن غريها �أنه لقّحها بتجربته الغيبية اخلا�صة .فهو �إذاً ا�ستعان ب�إطار �إيقاعي كان موجوداً قبله و�أخ�ضعه لأ�سئلته الغيبية مبا�شرة. ولكن ابن عربي مل يكن يف ذلك الأول ..فهناك من �سبقه �إىل اختبار الأغوار الغيبية الروحية احللج ،جند تطويراً �أو تنامياً مبثل هذا امل�ستوى من العمق واالبتكار .ففي �إحدى مقطوعات اّ ل�سل�سلة ق�صرية من اال�ستنتاجات والرباهني بد ًال من ا�ستخدام كل بيت للعودة �إىل النقطة الرئي�سية و�إبراز �أهميتها يقول:1 ر�أيت ربـــــــــي بعني قلبي فلي�س للأين منك �أيـــــــــــن � َأنت الذي حزت كل �أين
فقلت :ال �شك �أنتَ � ،أنت ولي�س �أيـــــــــــــــــــن بحيث � َأنت
فحيث ال �أيــــــــــــــــــن ّثم � َأنت الوهم �أيــــن � َأنت فيعلم ُ
ولي�س للوهم منك وهـــــ ٌم ففي البيت الأول يطالعنا غمو�ض وجتاوز اعتماداً على الطريقة التي ُي�ؤَ َّول بها وتنتهي املقطوعة ب�س�ؤال مفتوح .وهي تدور حول التفاعل بني كلمتي "�أين" و"�أنت" تفاع ًال حمكم البناء. والإيطاء هنا مل ي�ستخدم لربط الق�صيدة فقط ،بل للتعبري عن هاج�س ال�شاعر يف البحث و�سرب �أغوار جتربته ال�صوفية .وعند هذه النقطة ،يبدو احلالج �أقرب �إىل �شعر ابن عربي .وال ريب يف �أن الأخري اطلع على الق�صيدة احلالجية .ففي الفتوحات املكية ،يقول:2 1ـــ كامل مصطفى الشيبي ،رشح ديوان الحالج ،منشورات الجمل ،بغداد – بريوت ،الطبعة الثانية ،2012 ،ص .190 – 189 -2محيي الدين بن عريب ،الفتوحات املكية ،تحقيق عثامن يحيى ،الهيئة املرصية العامة للكتاب ،القاهرة ،1983 ،السفر الثامن ،ص .392 173
ر�أيت ربي بعني ر ّبي
فقلت :ربي! فقالَ � :أنت!
وتو�سلها الإيطاء وتلتقي ق�صيدة احلالج مع ق�صيدة ابن عربي يف بنيتها القائمة على التناق�ضّ ، ملح .ولكن ابن عربي يرفع الفكرة �إىل م�ستوى �أعلى وا� ً صال بها �إىل مدى تعبرياً عن هاج�س ّ فكري �أبعد و�أكرث تطوراً. ويف اخلال�صة ورد يف كثري من �شعراء ال�صوفية ق�صائد ذات �إيطاء متكرر .والغاية منه كانت ذكر اهلل لأغرا�ض عباد ّية .ولكن الإيطاء ا�س ُتخدم عند �شعراء �صوفية �آخرين لغر�ض خمتلف هو الو�صول باملفارقات يف التجربة ال�صوفية �إىل مدى بعيد ومتطور. وهذه هي حال ابن عربي الذي ا�ستك�شف خطوطاً فكرية متعرجة خمتلفة .وبدت الدالالت اجلدلية يف ق�صيدته متجهة نحو �أفق �أبعد من الق�صيدة ،بينما كانت كلمة القافية الوحيدة املتكررة (اهلل) تبقيها �ضمن حدودها يف �آن معاً. وبهذا املعنى تلتقي مع ق�صيدة قادمة من مقلب جغرايف �آخر ،يف �أوروبا ،حيث برزت ظاهرة �شعرية قريبة جداً من التجربة ال�شعرية العربية الإ�سالمية التي ت�ستخدم الإيطاء املتكرر .وهذه 2 الظاهرة ُعرفت با�سم ق�صيدة "ال�س�ستينا" 1التي ابتكرها الفرن�سي �أرنو دانيال"Arnaut .Danielولقد �أُعجب "دانتي" به وبهذا النمط من الت�أليف ال�شعري .وكال الرجلني ت�أثّر بالثقافة الإ�سالمية وفق اعتقاد كثري من الباحثني. وعند هذا احلد ،ينتهي بحثنا طارحاً �أفقاً بحثياً هو م�س�ألة االت�صال �أو الت�أثري الذي مار�سته الق�صيدة العربية الإ�سالمية ذات الإيطاء املتكرر يف "�أرنو" و"دانتي" .والقيود الر�سمية والت�أثريات االجتماعية والثقافية املت�شابهة التي ظهرت عند ه�ؤالء ال�شعراء يف اجلهتني املتقابلتني من البحر املتو�سط. 1- Etudes sur Bertrand de Born, sa vie, ses œuvres et son siècle, Richard de Boysson, SLATKIN Reprints, Genève, 1973, p. 42. -2أرنو دانيال (1180م – 1200م) شاعر غنايئ فرنيس متج ّول .انتهج يف شعره أسلوب تروبار كلوس “ ، ”Trobar Clusاملؤلف من موازين وإيقاعات شعرية معقدة ،تركز عىل النطق أكرث من املعنى .وهو الذي ابتكر قصيدة السستينا " "sextineالقامئة عىل ستة مقاطع شعرية يُكتب كل منها يف ستة أسطر .وقد مدحه برتارك ودانتي وعدّاه أعظم شاعر يف عرصه( .م ،ن ،ص )389 174
�أدب
امل�صادر واملراجع
- 1ديوان الشيخ األكرب ،محيي الدين بن عريب ،راجعه وقدم له محمد ق ّجة ،دار الرشق العريب ،بريوت ،د.ت. - 2محيي الدين بن عريب ،الفتوحات املك ّية ،تحقيق عثامن يحيى ،الهيئة املرصية العامة للكتاب ،القاهرة ،1983 ،الجزء الثامن. - 3أبو نرص الرساج الطويس ،اللمع ،حققه عبد الحليم محمود وطه عبد الباقي رسور، دار الكتب الحديثة مبرص ومكتبة املثنى ببغداد.1960 ، السهمي الجرجا ّين ،تاريخ جرجان ،حققه محمد عبد املعيد خان ،عامل - 4أبو القاسم ّ الكتب ،بريوت.1987 ، - 5ديوان أحمد بن مصطفى العلوي ،املطبعة العلوية مبستغانم ،ط ،4د.ت. - 6ديوان أبو مسلم البهالين ،وزارة الرتاث القومي والثقافة ،مسقط.1980 ، - 7كامل مصطفى الشيبي ،رشح ديوان الحالج ،منشورات الجمل ،بغداد – بريوت ،ط،2 .2012 8- Etudes sur Bertrand de Born, sa vie, ses œuvres et son siècle, Richard de Boysson, SLATKIN Reprints, Genève, 1973.
175
لبنان 10000لرية | الأردن 4 :دينار | �سوريا 200 :لرية | م�صر 20 :جنيه | تون�س 3 :دينار | املغرب 40 :درهم | م�سقط 2 :ريال ال�سعودية 20 :ريال | البحرين 3 :دينار | الكويت 3 :دينار | قطر 20 :ريال | الإمارات 20 :درهم
العدد