تحولات مشرقية 15 نسخة الطباعة تاريخ 27 2 2018

Page 1

‫العدد رقم ‪� - 15‬آذار ‪2018‬‬

‫فـ�صـل ـيـة فـكريـة ثـقافيـة تـعنى ب�ش ـ�ؤون امل�شــرق‬

‫�صفية �سعاده – ن�صري ال�صايغ – حممود حيدر – �أ�سامة �سمعان – ريا�ض �صوما – با�سل عبداهلل ‪ -‬ر�شيد زعرتي‬

‫ُكتاب العدد‪ :‬مجال واكيم – حسن عجمي – كامل منذر – إكرام عيل قاسم – نوال مراد – رامز عوض‬



‫ال���ع���دد رق����م ‪� - 15‬آذار‬

‫‪2018‬‬

‫فـ�صـل ـيـة فـكريـة ثـقافيـة تـعنى ب�ش ـ�ؤون امل�شــرق‬

‫الفهر�س‬ ‫ر�أي‬ ‫وحدها العلمانية ت�صون الدين‬ ‫ومتنع الإجتار به‬

‫‪3‬‬

‫ح�سن حمادة‬

‫�صفية �سعاده‬ ‫نُبل العلمانية وب�ؤ�س العلمانيني‬ ‫ن�صري ال�صايغ‬ ‫�إميانُ "ما بعد العلمانية"‬ ‫حممود حيدر‬ ‫العلمانية يف الواقع العربي املعا�صر‬

‫‪63‬‬

‫فكر‬

‫ملف العلمانية‪ /‬درا�سات‬ ‫العلمنة و�سوراقيا‬

‫با�سل عبداهلل‪ :‬العلمانية هي نظام حياة‬ ‫ونظام دولة‬ ‫ر�شيد زعرتي‪ :‬العلمانية يف لبنان‬ ‫ُتلغي النظام الطائفي‬

‫‪53‬‬

‫الربيع العربي من منظار التناف�س اجليو�سيا�سي‬ ‫‪11‬‬

‫جمال واكيم‬

‫‪25‬‬

‫فل�سفة التوا�صل واملعلومات‬ ‫ح�سن عجمي‬

‫‪33‬‬

‫�صراع حممد علي با�شا و�أوروبا على بالد ال�شام‬ ‫كمال منذر‬

‫‪73‬‬

‫‪101‬‬

‫‪111‬‬

‫�أدب‬ ‫‪39‬‬

‫الإبداع حركة جدلية �صراع اللغة والاللغة‬ ‫�إكرام علي قا�سم‬

‫‪123‬‬

‫ملى عطوي ‪ /‬تقدمي‬

‫‪49‬‬

‫البيئة الثقافية والإبداع الأدبي‬ ‫قراءة يف ملحمة جلجام�ش‬ ‫نوال مراد‬

‫‪151‬‬

‫ريا�ض �صوما‪ :‬العلمانية هي بناء دولة حترتم‬ ‫جميع الأديان‬

‫‪51‬‬

‫الإيطاء عند حميي الدين بن عربي‬ ‫رامز عو�ض‬

‫‪167‬‬

‫�أ�سامة �سمعان‬

‫ملف العلمانية‪ /‬مقابالت‬


‫حتوالت م�رشقية‬

‫ف�صلية‪ ،‬فكرية‪ ،‬ثقافية‪ ،‬تعنى ب�ش�ؤون امل�شرق واملنطقة‬ ‫هيئة التحرير‬

‫فاتن املر‬ ‫عاطف عطية‬ ‫ح�سن حماده‬ ‫ن�صري ال�صايغ‬ ‫علوان �أمني الدين‬ ‫جنيب ن�صري‬

‫اليا�س فرحات‬ ‫جمال واكيم‬ ‫حممود حيدر‬ ‫ل�ؤي زيتوين‬ ‫�سعاده م�صطفى �أر�شيد‬ ‫�سليمان بختي‬

‫املدير امل�س�ؤول‪� :‬سركي�س �أبو زيد‬ ‫‪abouzeid@gmail.com‬‬

‫مدير العالقات العامة‪ :‬زاهر العري�ضي‬ ‫�سكرتري التحرير التنفيذي ‪ :‬هنادي �شموط‬ ‫‪info@tahawolat.net‬‬

‫هاتف‪:‬‬ ‫�صندوق بريد‪ 113-7179 :‬بريوت ‪ -‬لبنان‪.‬‬ ‫احلمرا ‪� -‬شارع الب�صرة ‪ -‬ال�شارع املواجه لفندق نابليون‬ ‫‪00961-1 - 751541 / 00961-1 - 740495‬‬

‫الإخراج الفني‪zaid mahdi :‬‬

‫ت�صدر يف طبعتني من فل�سطني ولبنان‬

‫مدير عام طبعة فل�سطني‪� :‬سعاده م�صطفى �أر�شيد‬ ‫هاتف‪0599305248 :‬‬ ‫�صندوق بريد‪ 41 :‬جنني ‪ -‬فل�سطني‬ ‫توزيع‪� :‬رشكة الأوائل‬ ‫لتوزيع ال�صحف واملطبوعات‬

‫بريوت – لبنان‬ ‫هاتف‪00961 - 1 - 666668 - 666314 :‬‬ ‫فاك�س‪00961 - 1 - 653260 :‬‬

‫اال�شرتاك ال�سنوي ‪ -‬لبنان‬

‫للأفراد‪ 50 :‬دوالراً �أمريكياً‬ ‫للم�ؤ�س�سات‪ 100 :‬دوالر �أمريكي‬ ‫اال�شرتاك ال�سنوي ‪ -‬خارج لبنان‬

‫للأفراد‪ 100 :‬دوالر �أمريكي‬ ‫للم�ؤ�س�سات‪ 200 :‬دوالر �أمريكي‬

‫املواد املن�شورة تعرب عن ر�أي كاتبها‬


‫ر�أي‬

‫وحدها العلمانية‬ ‫ت�صون الدين ومتنع الإجتار به‬ ‫ح�سن حمادة‬ ‫ارتياح لل ُنظم احلاكمة يف الدول العربية وكلها ُنظ ٌم تتباهى‬ ‫ال ميكن لأي �إن�سانٍ ٍ‬ ‫عاقل �أن ي�شعر ب�أي ٍ‬ ‫باحرتام الدين فيما هي �أبعد ما تكون عن الدين‪.‬‬ ‫ُكلها ُنظ ٌم حُتاول �إعطاء نف�سها م�شروعيةً‪ ،‬وبراءة ذم ٍة �إميانية ل ُتربر وجودها و ِل َتجعل النا�س يغ�ضون‬ ‫النظر عن �إخفاقاتها الفظيعة بحق ُ�شعوبها و�أوطانها‪ ...‬حتى بات من املمكن بل من الواجب‬ ‫اعتبارها م�ضرب َمث ٍَل ملا ميكن �أن تكون عليه الدول الفا�شلة‪.‬‬ ‫إثنني هنا‬ ‫نحن يف الواقع �أمام ُن ُظ ٍم تتماهى مع "ال�ش�أن الديني" ولي�س مع الدين‪ ،‬والفارق بني ال ِ‬ ‫إثنني �سحيقة وال ميكن ردمها‪.‬‬ ‫كب ٌري جداً والهوة التي تف�صل بني ال ِ‬ ‫نقول "ال�ش�أن الديني" بق�صد الداللة على عدم ال�صدق يف احلديث عن التدين‪� ،‬أي الإكتفاء‬ ‫بال�شكليات وت�صويرها على �أنها تقي ٌد بالأحكام الدينية حيث الإنتقائية املعتمدة يف تناول‬ ‫الن�صو�ص الواردة يف الكتابني‪ ،‬الإجنيل املقد�س والقر�آن الكرمي‪ ،‬والإنتقاء هنا ٌ‬ ‫عمل يخدم التزوير‬ ‫للتربير‪ .‬و�ش�أن النظم على هذا ال�صعيد ك�ش�أن الهيئات واملنظومات والأ�شخا�ص الذين ّيدعون‬ ‫التقيد ب�أحكام الدين‪ .‬وعليه نالحظ �أن الأوطان وق�ضايا �شُ عوبها ُ‬ ‫�سخر مل�صلحة الأنظمة‬ ‫الكربى ُت َّ‬ ‫احلاكمة و�أ�شخا�صها احلاكمني بحيث ُت�صبح النظم يف خدمة �شخ�ص احلاكم‪ ...‬وتكرث ال�شعارات‬ ‫التي ُترفع و ُتنق�ض يف الواقع العملي من خالل �سلوك الأنظمة ور�ؤو�سها يف �آن‪.‬‬ ‫ففي مرحلة ما قبل قيام الدول الوطنية يف العامل العربي‪ ،‬وخ�صو�صاً �إبان حقبة االحتالل العثماين‪،‬‬ ‫جند �أن "ال�ش�أن الديني" كان ُي�ستخدم لتكري�س هيمنة الباب العايل على امتداد البلدان التي كان‬ ‫العثمانيون ي�سيطرون عليها ويعتربونها من ممتلكاتهم‪ .‬ويف الوقت نف�سه جند �أن "ال�ش�أن الديني"‬ ‫‪3‬‬


‫ا�ستخدم كبو�صلة وكمربر لتدخُ الت االمرباطوريات واملمالك الغربية يف العامل العربي املرتامي‬ ‫الأطراف لتقوي�ض ال�سيطرة العثمانية وح�صر �إرثها‪ .‬ويف هذا ال�سياق متكنت تلك القوى الغربية‬ ‫من انتزاع ما ُ�سمي بـ"الإمتيازات" من الباب العايل العثماين‪ .‬هذه الإمتيازات �شكلت ر�أ�س‬ ‫ج�س ٍر للمزيد من التدخل الغربي الذي راح يتمادى بتوظيف "ال�ش�أن الديني" لتدعيم ح�ضوره‬ ‫وتناميه‪� ،‬إدراكاً من الغرب حلجم ت�أثري "ال�ش�أن الديني" على �شُ عوب العامل العربي وبالتايل‬ ‫مبثل واحدٍ بليغ‬ ‫�إمكانية ت�سخري هذه ال�شعوب‪ .‬والأمثلة على ذلك ال حُت�صى وال ُتعد و�سنخت�صرها ٍ‬ ‫التعبري وهو ما حدث يف اجلزائر يف القرن التا�سع ع�شر‪..‬‬ ‫فحني احتل الفرن�سيون اجلزائر وبد�أت تتكون مقاومة �شعبية يف وجههم‪� ،‬آثروا العمل بن�صيحة‬ ‫�شخ�ص يدعى ليون رو�ش‪ ،‬كان يعمل ل�صالح املخابرات‬ ‫بع�ض خربائهم من امل�ست�شرقني‪ ،‬و�أبرزهم ٌ‬ ‫الفرن�سية‪ ،‬هذه الن�صيحة التي كانت تق�ضي بانتزاع فتاوى من املرجعيات الإ�سالمية حُتظر مقاومة �أو‬ ‫حماربة اجلي�ش الفرن�سي الذي يحتل اجلزائر‪ .‬وهكذا كان‪ ،‬فجرى تكليف ليون رو�ش للقيام برحلة‬ ‫لزيارة املرجعيات يف القريوان والأزهر ودم�شق وبغداد و�صو ًال �إىل �شريف مكة‪ .‬وبالفعل نفذ هذا‬ ‫امل�ست�شرق اجلا�سو�س املهمة على �أكمل وجه وانتزع فتوى من القريوان و�أخرى من الأزهر ال�شريف‬ ‫متاماً كما يريد الفرن�سيون‪ .‬و�إذ تزامن ذلك مع مو�سم احلج �إىل بيت اهلل احلرام ف�آثر رو�ش التوجه‬ ‫مبا�شر ًة من القاهرة �إىل مكة املكرمة حيث التقى باملرجعيتني الدم�شقية والبغدادية ونال منهما‬ ‫مبتغاه بالتمام والكمال‪ .‬ثم حمل هذه الفتاوى الأربع �إىل �شريف مكة الذي قدر هذه الفتاوى‬ ‫و�صدق عليها با�سم الإ�سالم‪ ،‬وبا�سم امل�سلمني طبعاً‪ ،‬وعاد �إىل اجلزائر وراح‬ ‫"الكرمية" كل تقدير ّ‬ ‫اجلي�ش الفرن�سي يوزع هذه الفتاوى وين�شرها بوا�سطة �أعداد من املعممني‪ .‬وكان من ح�صيلة ذلك‬ ‫�أن مكنت هذه الفتاوى القوات الفرن�سية من ا�ستغالل اجلزائر مدة ‪ 130‬عاماً‪� .‬صحيح �أن العديد‬ ‫من اجلزائريني ت�أثروا بتلك الفتاوى "الدينية" لكن العديد منهم ا�ستمروا يف مقاومة امل�ستعمرين‬ ‫حتى �أخرجوهم مهزومني‪ ،‬خمذولني‪� ،‬أذالء من اجلزائر‪ ،‬م�صحوبني بالعدد من عمالئهم‪ .‬هذه‬ ‫احلادثة التاريخية جند ما ُي�شبهها اليوم يف احلرب التي نعي�شها حيث ُي�سخر "ال�ش�أن الديني" ل�صالح‬ ‫احللف الأطل�سي و"�إ�سرائيل"‪ ،‬دائماً با�سم الإ�سالم‪ ،‬ودائماً عرب ما ُي�سمى بـ"علماء امل�سلمني"‪.‬‬ ‫مثل عن ا�ستخدام اال�ستعمار لـ"ال�ش�أن الدين" اليوم وقيام ّمدعي‬ ‫وهنا �أي�ضاً �سنكتفي ب�إعطاء ٍ‬ ‫‪4‬‬


‫ر�أي‬ ‫التدين بتوظيف �أنف�سهم يف خدمته بحجة ن�صرة دينهم‪..‬‬ ‫قام اال�ستعمار الأمريكي‪ ،‬الأطل�سي‪ ،‬بت�شكيل منظمات �إرهابية‪ ،‬مذهلة بدمويتها‪ ،‬ودفعها باجتاه‬ ‫�سورية والعراق واليمن وليبيا‪ ،‬و�ش ّي َد مع�سكرات لها �أبرزها �ستة مع�سكرات‪ ،‬ثالثة منها يف تركيا‬ ‫الأطل�سية‪ ،‬وثالثة يف منطقة ف ّزان يف ليبيا‪ .‬ونتائج ذلك معروفة‪ ،‬بينما ت�ستمر الدول الأطل�سية برفع‬ ‫عنوان احلرب على الإرهاب وهو عنوانٌ بات ُي�شكل �أ�ضخم و�أخبث �أكذوبة عرفتها العالقات‬ ‫الدولية يف الع�صور احلديثة‪ .‬و�إىل جانب ذلك يقوم ما ُي�سمى بـ"االحتاد العاملي لعلماء امل�سلمني"‪،‬‬ ‫وعلى ر�أ�سه احلاخام ال�شيخ يو�سف القر�ضاوي الذي يتخذ من قاعدة قطر الع�سكرية الأمريكية مقراً‬ ‫له‪ ،‬ب�إ�صدار الفتاوى لتربير وجود تلك املنظمات الإرهابية و�إعطاء �أعمالها م�شروعي ًة "دينية" مع‬ ‫ما يتفرع عن ذلك من فنتٍ مذهبية مل ي�سبق �أن عرف املحيط "الإ�سالمي" مثي ًال لها �إذ جتاوزت‬ ‫بخطورتها كل ما �سبق للإ�ستعمار �أن افتعله من فنتٍ يف ال�سابق‪.‬‬ ‫�إن الواقع الفظيع الذي تعي�شه بالدنا يف هذه احلقبة من الزمن ُي�شكل الرتجمة امليدانية ملا ميكن �أن‬ ‫ٍ‬ ‫وتكري�س لهيمنة اال�ستعمار‪.‬‬ ‫ت�شوهات ودمار وانتحار‪،‬‬ ‫ُيحدثه التالعب بـ"ال�ش�أن الديني" من‬ ‫ٍ‬ ‫ويتبني مما تقدم �أن ُطروحات الطائفية واملذهبية‪ ،‬ومزاعم التدين ال�سيا�سي‪ ،‬ال ُتو�صل �إال �إىل اخلراب‬ ‫ال�شامل‪� .‬إنها �أخطر �أنواع �أ�سلحة الدمار ال�شامل التي يمُ كن �أن تفتك مبجتمعاتنا‪ .‬وهي ولاّ د ُة �أزمات‬ ‫مفتوحة ال نهاية لها‪ ،‬مما ُيعطل امل�ستقبل تعطي ًال كام ًال‪ ،‬و ُيعمم العبودية‪ ،‬و ُيلغي �أية �إمكاني ٍة لبناء‬ ‫احلرية والتنمية واال�ستقالل‪ .‬فهذا النوع من احلروب هي حروب املجتمعات على ذاتها‪ ،‬وحروب‬ ‫اال�ستعمار على هذه املجتمعات‪� .‬إنها تمُ ثل النوع اجلديد من احلروب والذي تبناه الإ�سرائيليون‪،‬‬ ‫ومن خلفهم قوى ا�ستعمارية على ر�أ�سها الواليات املتحدة الأمريكية‪ ،‬منذ حرب ‪ .1967‬وهذا ما‬ ‫كان قد الحظه وحذر منه املفكر يو�سف الأ�شقر على مدى ع�شرات ال�سنني‪.‬‬ ‫احلروب على الذات‬

‫هذا امل�شهد العام جند تطبيقاته حملياً و�سن�أخذ مث ًال واحداً هو لبنان‪� .‬إن الواقع امل�أ�ساوي الذي‬ ‫يعي�شه ال�شعب اللبناين هو جت�سي ٌد حملي لل�صورة العامة �آنفة الذكر‪ .‬فالطائفية واملذهبية ت�ؤديان‬ ‫‪5‬‬


‫ق�سطيهما كام ًال على �صعيد الت�شرذم الداخلي والتخلف والفقر ومتزيق الهوية املجتمعية �إىل حدِ‬ ‫�سقوط اللبنانيني �إىل ما دون م�ستوى الت�شكل االجتماعي حيث بات �سكان لبنان جمرد رعايا‬ ‫طوائف ومذاهب‪ ،‬بل قطعان طوائف ومذاهب ولي�سوا مواطنني‪ .‬ويف الت�شكيلة املعيبة هذه جند �أن‬ ‫الطوائف واملذاهب باتت جمرد معتقالت لي�س �إال‪ .‬و�أ�سو�أ ما فيها �أنها تعترب املعتقالت الوحيدة‬ ‫التي يدخل �إليها الكائن الب�شري اللبناين بكامل �إرادته ويظن نف�سه حراً �إذ يف تخيالته �أن هذه‬ ‫املعتقالت حتميه من "الآخر"‪ .‬وبني هذه الطوائف واملعتقالت �شُ يدت جدران من الف�صل �أخطر‬ ‫من جدران الف�صل العن�صري التي �أقامها الإ�سرائيليون على �أر�ض فل�سطني‪ .‬وال�سبب ب�سيط وهو �أن‬ ‫جدران الف�صل اللبنانية ال ُترى بالعني املجردة لأنها ت�سكن يف عقلية ُ�سكان ونزالء تلك املعتقالت‪.‬‬ ‫�إن حال قطعان الطوائف واملذاهب تعي�سة �إىل حد �أن ُرعاتها‪ ،‬من �سيا�سيني وحلفائهم مرتدي الأزياء‬ ‫التي ُدر َِج على ت�سميتها �أزياء دينية‪ ،‬تمُ ثل نوعاً من �أنواع العبودية املقنعة‪ .‬وكما يقول الفيل�سوف‬ ‫نوع من العبودية التي ي�ستحيل الإنعتاق منها‪� .‬إنها العبودية التي يعي�شها الإن�سان‬ ‫غوته‪" ..‬ثمة ٌ‬ ‫وهو يظن نف�سه ُحراً"‪ .‬هذا يخت�صر العنوان الكبري الذي ُي�سمى احلريات العامة واحلقوق الفردية‬ ‫يف لبنان والذي هو جمرد عنوان ال تطبيق فعلي له يف ظل املعتقالت الطائفية ‪ -‬املذهبية وجدران‬ ‫الف�صل العن�صري "‪ ،"APARTHEID‬وهي عناوين ين�ص عليها الد�ستور اللبناين يف ن�صو�صه‬ ‫ذات ال�صلة بامل�ساوات بني اللبنانيني فيما الواقع العملي عك�س ذلك‪.‬‬ ‫وح�سبنا الإ�شارة �إىل �أن رعاة القطعان الطائفية واملذهبية‪ ،‬من ال�سيا�سيني وحلفائهم املُر َتدِ ين يحمل‬ ‫ٌ‬ ‫كل منهم �سوطاً لت�سيري قطيعه‪ .‬وال�سوط هذا يحمل ا�سماً �آخراً هو حقوق الطوائف واملحا�ص�صة‬ ‫الطائفية‪ .‬و�أما املعتقالت فلها �أي�ضاً ا�سم �آخر وهو "العائالت الروحية" وذلك بق�صد الداللة‬ ‫�إىل االرتباط بالدين فيما الدين‪ ،‬كدين‪ ،‬برا ٌء بالكامل من هذه ال�سلوكيات التي تجُ يز كل �أنواع‬ ‫التدخالت اخلارجية‪ ،‬ال بل ُتربرها‪ ،‬ال بل ُتعطيها م�شروعيةً‪ ،‬و�أولها تدخل الو�صايات الإ�ستعمارية‬ ‫التي باتت ُتخت�صر اليوم بالو�صاي ِة الأمريكية‪ ،‬مبا�شر ًة تار ًة �أو عرب وكالئها الإقليميني‪ .‬هكذا ال‬ ‫ن�ستغرب �إن اختفى‪� ،‬أو يكاد يختفي‪ ،‬من اخلطاب ال�سيا�سي الرائج ا�سم لبنان �أو عبارة وطن‪.‬‬ ‫فالن�صو�ص الد�ستورية يتم التقيد بها ب�صورة انتقائية متاماً‪� .‬أي �أن الن�ص الذي يتالءم يف ظرف معني‬ ‫مع امل�صالح املادية وال�سلطوية لرعاة القطعان الطائفية واملذهبية يتم اعتماده‪ ،‬و�أما ما يتعار�ض مع هذه‬ ‫‪6‬‬


‫ر�أي‬ ‫امل�صالح فيتم جتاهله بالكامل‪� .‬إنها جمرد "وجهة نظر"‪ .‬جمرد مزاج‪ .‬والأمثلة عديدة حول جتاهل‬ ‫ٌ‬ ‫حا�صل يف �ش�أن‬ ‫بع�ض الن�صو�ص الد�ستورية ولعل �أبرزها‪ ،‬و�أكرثها فظاعة وق�سوة وتوح�ش‪ ،‬ما هو‬ ‫املادتني ‪ 7‬و‪ 95‬من الد�ستور �إذ يتم جتاهلهما بالكامل‪.‬‬ ‫فاملادة ‪ 7‬من الد�ستور تقول‪" :‬كل اللبنانيني �سِ واء لدى القانون وهم يتمتعون بال�سِ واء باحلقوق املدنية‬ ‫وال�سيا�سية ويتحملون الفرائ�ض والواجبات العامة دون ما فرقٍ بينهم"‪ .‬و�أما املادة ‪ 95‬من الد�ستور‬ ‫والتي ُت�شكل النافذة الفعلية للبدء باخلروج‪ ،‬ولو بعد حني‪ ،‬ولو بعد �سنوات‪ ،‬من املعتقالت الطائفية‬ ‫واملذهبية‪ .‬فتن�ص على ت�شكيل هيئة وطنية لإلغاء الطائفية تعمل وفق م�سا ٍر تدرجي ومرحلي‪ .‬فهذه‬ ‫املادة ُعمرها من ُعمر التعديالت الد�ستورية التي �أقرت يف الطائف‪� ،‬أي منذ �أكرث من ربع قرنٍ من‬ ‫الزمن‪ ،‬ومع ذلك يتم جتاهل وجودها كما لو �أنها غري واردة �أ� ً‬ ‫صال‪ .‬هذه الإنتقائية هي من اخلطورة‬ ‫مبكان بحيث �أنها تنزع عن الدولة ال�صفة الد�ستورية باملفهوم احلقوقي وال�سيا�سي ما ي�ؤكد �أن مزاعم‬ ‫"التعددية ال�سيا�سية" التي يتباهى بها املتم�سكون بهذا النظام العن�صري املعتمد �إمنا هي يف الواقع‬ ‫تعددية دكتاتوريات قزمة‪ُ ،‬مز ِّورة وم َز َّورة‪.‬‬ ‫و�أكرث من ذلك ف�إن النهج املعتمد يف ت�سيري احلياة العامة ُي�شكل نظاماً موازياً للنظام املتمثل يف‬ ‫الد�ستور‪ُ ،‬يجيز كل �أنواع الإ�ستبداد والف�ساد والإف�ساد والنهب امل�ستدام خلريات البالد الطبيعية‬ ‫واالقت�صادية و ُيهجر الرثوات العقلية – الإن�سانية و ُيقفل �آفاق امل�ستقبل �أمام الأجيال اجلديدة‬ ‫ويدفع بها دفعاً �إىل الهجرة عن الوطن وبالتايل ُيعمم الي�أ�س يف �صفوفها‪.‬‬ ‫�إن مرور �أكرث من ربع قرنٍ من الزمن على اخلروج املتوا�صل عن الد�ستور خلق �أعرافاً وجعل‬ ‫الدولة ممزقة بني د�ستورين‪ ..‬د�ستور مكتوب وغري حمرتم ود�ستور عريف قائم على اال�ستباحة الكاملة‬ ‫لقدرات الدولة اللبنانية و�شعبها‪ ،‬مع كل ما يتوالد عن هذا الواقع امل�ؤمل من �سلبيات متعددة الأوجه‬ ‫حُتتم دميومة االنهيار‪ .‬فهذا النظام العريف‪ ،‬غري الد�ستوري‪ ،‬هو يف حدِ ذاته انقالب على الد�ستور‪.‬‬ ‫و�أي دولة تعي�ش واقعاً كهذا الواقع تكون عدمية االحرتام و�ألعوبة يف يدِ الإرادات اخلارجية‪.‬‬ ‫رج على ت�سمية هذا النظام العريف املناق�ض للنظام الد�ستوري بـ"الرتكيبة املاف َياوية"‪ .‬لكن‬ ‫لقد ُد َ‬ ‫هذه الت�سمية ال تعك�س خطورة الواقع القائم �إذ ثمة ما يتجاوز الواقع املافياوي‪ .‬فاملافيا موجود ٌة يف‬ ‫العديد من الدول التي حُترتم د�ساتريها‪� .‬إنها حالة خروج عن القوانني‪� .‬أما يف لبنان فاملو�ضوع �أخطر‬ ‫‪7‬‬


‫بكثري‪ .‬النظام العريف الذي ُيناق�ض بالكامل النظام الد�ستوري هو نظام متييز عن�صري بكل معنى‬ ‫الكلمة �إذ يقيم تراتبية يف املواطنة‪ ،‬على درجات‪ .‬فعلى �صعيد املثال ولي�س احل�صر �إن كاتب هذه‬ ‫ال�سطور‪ ،‬وهو علماين من ر�أ�سه حتى �أخم�ص قدميه‪ ،‬م�صنف وفق النظام العريف مواطن من الدرجة‬ ‫اخلام�سة وبالتايل ال ُي�ؤمتن على ما ُي�ؤمتن عليه من هم من الدرجات الأربع التي ت�سبقه‪ .‬وهكذا‬ ‫دواليك بالن�سبة ملن هم من الدرجة ال�ساد�سة وال�سابعة والثامنة‪ .‬هذا نظا ٌم عن�صري على قاعدة‬ ‫طائفية‪ .‬واملعروف �أن التمييز العن�صري ُيلغي متاماً مبد�أ امل�ساواة بني املواطنني املن�صو�ص عنه يف‬ ‫املادة ‪ 7‬من الد�ستور املكتوب الذي هو �أم القوانني الو�ضعية‪ .‬لذلك نقول �أن الطائفية واملذهبية هي‬ ‫نقي�ض الدولة الد�ستورية‪ ،‬وهي بالتايل منفتحة بالكامل على امل�شروع ال�صهيوين املعادي لوجودنا‬ ‫يف الأ�سا�س‪.‬‬ ‫الطائفية – املذهبية وال�صهيونية العربية‬

‫ثمة خط�أ �شائع يقول �أن التنوع يف لبنان هو نقي�ض للأحادية اليهودية العن�صرية القائمة يف "�إ�سرائيل"‪.‬‬ ‫نعم �إنه خط�أ �شائع �إذ �أن حقيقة الأمر تتمثل يف كون هذا النظام يتماهى مع العن�صرية ال�صهيونية‬ ‫مما ُيعطي م�شروعية لل�صهيونية وي�ضع لبنان يف م�صاف مع�سكر ال�صهيونية العربية‪ .‬فح�سب جتاربنا‬ ‫كلبنانيني يتبني �أن كل حالة طائفية ومذهبية تختزن عن�صري ًة �شبيه ًة بالعن�صرية الإ�سرائيلية‪ .‬من هنا‬ ‫حر�ص الإ�ستعمار على "النموذج اللبناين"‪ .‬ومن هنا �أي�ضاً نالحظ �أن طروحات الغرب حول ما‬ ‫ُي�سمى بـ "الت�سوية ال�سيا�سية" يف �سورية والعراق تطمح �إىل تعميم هذا "النموذج اللبناين" لأنه‬ ‫يكفل التدمري الذاتي وبالتايل ُيدخل �سورية والعراق يف حالة من االنتحار عرب دميومة الإنهيار‪.‬‬ ‫�إن ا�ستلهام "النموذج اللبناين" يف �صياغة "احلل ال�سيا�سي" يف �سورية والعراق‪ ،‬وتزيني �صورة‬ ‫"املكونات الطائفية والإثنية"‪ ،‬ي�ؤديان مبا�شرة �إىل تبعية هذه "املكونات" للخارج بحيث ُي�صبح كل‬ ‫"مكون" منها تابعاً لدولة ما‪ ،‬الأمر الذي ُيدمر الدولة من الداخل ويق�ضي نهائياً على �سيادتها‬ ‫و ُيكر�س حتولها �إىل �ساح ٍة من �ساحات املواجهات بني الدول واملع�سكرات الدولية‪ .‬و ُيكر�س نظام‬ ‫التمييز العن�صري فيها‪.‬‬ ‫توح�ش‪ ،‬وال �إن�سانية يوازيان توح�ش وال �إن�سانية التمييز العن�صري بني النا�س؟؟؟‪ ...‬و�أي‬ ‫وهل ثمة ٌ‬ ‫خ ٍري ممكن �أن ي�أتي من التوح�ش واللإن�سانية؟؟؟‪...!!!...‬‬ ‫‪8‬‬


‫ر�أي‬ ‫خطايا العلمانيني املتوا�صلة‬

‫لقد بلغ توح�ش وال �إن�سانية النظام العريف اللعني هذا‪ ،‬واملعمول به يف لبنان‪ ،‬حداً من املفرت�ض �أن‬ ‫ي�ستنه�ض عقول وهمم العلمانيني كافة‪� ،‬أكانوا �أفراداً �أو جمموعات‪ ،‬لكننا ويا للأ�سف نرى َمن مِن‬ ‫العلمانيني‪� ،‬أفراداً وجماعات‪ ،‬يتماهون يف �سلوكهم مع التيارات الطائفية واملذهبية التي هي جز ٌء‬ ‫اليتجز�أ من منظومة التمييز العن�صري وم�شتقاتها من جرائم وف�ساد‪.‬‬ ‫�إن الت�أمل مب�سار التيارات التي ترفع العلمانية �شعاراً لها يدفعنا دفعاً �إىل اتخاذ موقف انتقادي‬ ‫ونقدي منها‪ .‬فما قيمة الطرح العلماين حني ُيغ َّيب‪ ،‬و ُيعمل بنقي�ضه‪ ،‬من خالل التماهي مع �سلوك‬ ‫ونق�ص يف فهم‬ ‫الطائفيني واملذهبيني با�سم "الواقعية ال�سيا�سية"‪ .‬وهنا �أي�ضاً مفهوم خاطىء‪ ،‬بل ٌ‬ ‫معنى الواقعية ال�سيا�سية‪ .‬فـ "الواقعية ال�سيا�سية" هي �أم ٌر ن�سبي يفرت�ض به �أن يكون م�شتقاً من‬ ‫القناعات ال�سيا�سية واالجتماعية ال �أن يكون و�سيلة لتربير الإلتحاق مبنظومة املعتقالت الطائفية‬ ‫وال�سيا�سية‪ .‬لهذه الأ�سباب جند مث ًال �أن العلمانيني‪ ،‬ك�أفراد وجمموعات‪ ،‬ال يقيمون حتالفاً مبدئياً‪،‬‬ ‫وا�ضحاً‪� ،‬صلباً‪ ،‬مقداماً‪ ،‬يف ما بينهم بل يحول البع�ض منهم نف�سه �إىل ٍ‬ ‫رديف للمنظومة اللعينة و ُي�ؤثر‬ ‫التحالف معها على التحالف مع من ُي�شاركونه الطرح العلماين‪ ،‬الوطني‪ ،‬الذي هو خ�شبة اخلال�ص‬ ‫الوحيدة لل�شعب وللدولة للخروج من حتت الركام احلا�صل‪� .‬إنهم ُي�ؤثرون‪ ،‬ويا للعيب‪ ،‬ويا للعار‪،‬‬ ‫جذري مع‬ ‫التماهي مع ما ُي�سمى بـ"املرجعيات" الطائفية واملذهبية ويدخلون بالتايل يف ٍ‬ ‫تناق�ض ٍ‬ ‫املبادىء العلمانية التي يرفعونها �أ�سا�ساً‪.‬‬ ‫من املق�صود بـ"باملرجعيات" ؟‪ ...‬املق�صود من ذلك �أ�صحاب ومديرو �ش�ؤون املعتقالت الطائفية‬ ‫واملذهبية‪ .‬وهذا امل�صطلح هو من مواليد احلروب اللبنانية الداخلية وحتديداً تلك التي بد�أت بالظهور‬ ‫منذ �أوا�سط ال�سبعينات �إذ خرجت من رحم الفنت التي تتوالد وتجُ دد �شبابها يوماً بعد يوم وتزداد‬ ‫تنوعاً‪.‬‬ ‫�إن الدول القائمة يف حو�ضنا القومي هي كالأوعية املت�صلة‪ .‬وما من مرة يف التاريخ املعا�صر �شهد‬ ‫هذا احلو�ض �إهان ًة للدين كما ي�شهد اليوم با�سم الدين زوراً وبهتاناً‪ ،‬ما ي�ؤكد واقع التناق�ض اجلذري‬ ‫القائم ما بني الطائفية – املذهبية من جهة والدين من جه ٍة �أخرى‪ .‬فما مر يو ٌم �إال وحمل معه‬ ‫�إثباتاً على حقيقة هذا التناق�ض‪� ،‬سواء من خالل ال�سلوك املتوح�ش �أو من خالل اخلطاب ال�شرير‪.‬‬ ‫فكما �أن الطائفيات واملذهبيات يف حال ا�شتباكٍ ٍ‬ ‫عنيف مع الدين الذي ّتدعي اعتناقه‪ ،‬كذلك‬ ‫العديد من التيارات العلمانية تعي�ش حالة من اال�شتباك املتوا�صل مع مبادئها‪ .‬ومن �أ�سو�أ ما ميكن‬ ‫رديفة للمعتقالت‬ ‫معتقالت‬ ‫�أن نلحظه يف �سلوكيات بع�ض التيارات العلمانية �أنها حتولت �إىل‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫�سخر يف‬ ‫الطائفية واملذهبية بحيث �أن ال�شباب الذي يفلت من هذه يقع يف �شباك ِت ْلك ثم ُي َّ‬ ‫‪9‬‬


‫�سياق التماهي مع النظام اللعني ورموزه‪ .‬وهنا الطامة الكربى‪� ،‬أن ُت�صبح الأحزاب املعتربة خ�شبة‬ ‫ٍ‬ ‫معتقالت لهم تجُيرّ هم‪ ،‬با�سم الواقعية ال�سيا�سية املغلوطة‪� ،‬إىل خدمة �أرباب‬ ‫خال�ص لل�شباب جمرد‬ ‫املعتقالت املذهبية‪ .‬وهذه لي�ست اخلطيئة الوحيدة‪� ،‬أو اخلطيئة الأفظع من خطايا بع�ض التيارات‬ ‫العلمانية‪ .‬فثمة خطيئة رهيبة ارتكبها العديد من العلمانيني‪ ،‬بدءاً من بع�ض كبار منظريهم‪ ،‬يف‬ ‫�شتى تياراتهم ال�سيا�سية‪ ،‬وهي االنطالق يف حمالتهم �ضد الطائفية واملذهبية بالتهجم على الدين‪،‬‬ ‫كدين‪ ،‬ما قدم على طبقٍ من ف�ضة الذريعة لتجار الطوائف واملذاهب وبالتايل جعل ه�ؤالء ُيحر�ضون‬ ‫قواعدهم �أو بالأحرى القواعد التي يخدعونها‪� ،‬ضد التيارات العلمانية وتن�صيب �أنف�سهم مدافعني‬ ‫ٍ‬ ‫لع�شرات من ال�سنني ودخلت التيارات‬ ‫عن الدين وعن رب العاملني‪ .‬وا�ستمرت هذه اخلطيئة‬ ‫العلمانية بالتايل يف �إ�شكاالت وم�شاكل هي يف غنى عنها‪.‬‬ ‫وحده الفيل�سوف �أنطون �سعاده جتنب الدخول يف هذا ال�سبيل العقيم‪ ،‬بل و�أكرث من ذلك هو طرحه‬ ‫طرح ا�ستبق فيه كل املقاربات احلديثة‬ ‫املتقدم والريادي للعالقة بني الر�سالتني امل�سيحية واملحمدية وهو ٌ‬ ‫ملا ُدرج على ت�سميته باحلوار امل�سكوين من دون �أن يحيد قيد �أمنلة عن موقفه العلماين – العلمي‬ ‫املبد�أي‪ُ ،‬م�سلطاً ال�ضوء على �أجمل ما يف التوحيد على ال�صعيد الديني‪ .‬وكتاباته يف هذا املجال هادي ٌة‬ ‫للعلمانيني كافة وت�صلح اليوم لأن تكون عالجاً للأزمات والت�أزميات احلا�صلة با�سم الدين‪.‬‬ ‫وحدها العلمانية‪ ،‬يف زماننا احلا�ضر‪ ،‬حترتم الدين وت�ضع حداً لظاهرة الإجتار به كما متنع اال�ستعمار‬ ‫من ا�ستخدام "ال�ش�أن الديني" يف �سياق حملة التدمري ال�شامل لوجودنا الإن�ساين واملجتمعي‬ ‫والثقايف واحل�ضاري‪.‬‬ ‫باخت�صار‪ ،‬ويف �ضوء جتاربنا‪� ،‬أن الطائفية – املذهبية هي �سالح الدمار ال�شامل الوحيد الذي‬ ‫ين�صحنا الإ�ستعمار باقتنائه والتم�سك به‪� ،‬إذ �إن هذا ال�سالح ال ُيدمر �أحداً �سوانا نحن‪� .‬إنه مبثابة‬ ‫الغذاء امل�سموم نقتات منه كل يوم وبكامل �إرادتنا بحيث ال نفلت من القدر املحتوم‪ ..‬الزوال‪.‬‬

‫*‬

‫يف هذا العدد ملف حول "عر�س الطائفية وب�ؤ�س العلمانيني" من �أجل الإ�ضاءة على‬

‫حتديات العلمنة يف مواجهة الطائفية ال�سائدة املزدهرة وك�أنها يف عر�س‪.‬‬ ‫‪10‬‬


‫ملف العلمانية‪ /‬درا�سات‬

‫العلمنة و�سوراقيا‬

‫‪1‬‬

‫�صفية �سعاده ‪ -‬دكتوراه يف التاريخ وباحثة‬

‫لقد و�صل التيار العلماين �إىل �أدنى م�ستوياته يف ال�سنوات الأخرية يف جميع كيانات �سوراقيا‪.‬‬ ‫أعدد �أ�سباب هذا الرتاجع املريع و�س�أتناول �أي�ضاً احللول املمكنة‪.‬‬ ‫لذا �س�أحاول �أن � ّ‬ ‫العلمانية‪:‬‬ ‫�أ�سباب �أفول ال ّتيارات‬ ‫ّ‬

‫منذ بداية القرن الع�شرين ر�أى �أنطون �سعاده �أن العلمنة غري ممكنة دون �إعادة توحيد املنطقة‬ ‫التي متت جتزئتها من ِقبل اال�ستعمار الغربي بناء على اتفاقيات �سايك�س‪ ‬ـ‪ ‬بيكو عام ‪،1916‬‬ ‫ذلك �أن حتديد العلمنة على �أ�سا�س "ف�صل الدين عن الدولة" ي�ستتبع بال�ضرورة وجود دولة‬ ‫قومية �أو دولة – �أمة (‪.)nation-state‬‬ ‫ين يف ّ‬ ‫كل كيانات �سوراقيا من‬ ‫ثمة �أ�سباب داخلية و�أخرى خارجية النح�سار التيار العلما ّ‬ ‫تر�سخُ نظام امل ّلة العثماين‬ ‫فل�سطني �إىل لبنان والأردن و�سورية والعراق‪ .‬ال�سبب الداخلي هو ّ‬ ‫يف �سوراقيا عرب خم�سة قرون ما �أدى �إىل االنتماء والوالء للهو ّية الطائف ّية‪/‬الدينية‪� .‬أما ال�سبب‬ ‫اخلارجي فهو جلوء اال�ستعمار الغربي �إىل التق�سيم الطائفي لل�سيطرة على املنطقة من جهة‪،‬‬ ‫ولإ�ضفاء �شرعية على الكيان ال�صهيوين الذي يريد �إن�شاء دولة يهودية �صرف من جهة �أخرى‪.‬‬ ‫وكان اال�ستعمار الغربي قد ا�ستعمل نظام امللل بدءاً من منت�صف القرن التا�سع ع�شر حيث‬ ‫عمد القنا�صل الأوروبيون �إىل اال ّدعاء ب�أنهم يحمون الأقليات الدينية يف ال�شرق‪ ،‬فبادرت‬ ‫فرن�سا عرب قنا�صلها �إىل حماية املوارنة (اقر�أ‪� :‬سيطرة للفرن�سيني �ضمن امل�شرق العربي)‪ ،‬فيما‬ ‫�سعت بريطانيا مل�ؤازرة الدروز‪ .‬ويف احلقيقة مل تكن هاتان الدولتان امل�ستعمرتان ت�أبهان ال‬ ‫مؤسسة ال ّدراسات العلميّة)‪.‬‬ ‫‪( - 1‬محارضة ألقيت يف ‪ 29‬أيلول ‪ 2016‬بدعوة من ّ‬ ‫‪11‬‬


‫للدروز وال للموارنة املوجودين فيما كان ي�سمى �آنذاك "جبل لبنان"‪ ،‬بل مل�صاحلهما يف‬ ‫اال�ستيالء على مناطق نفوذ عرب وكالئهما وقنا�صلهما يف �أرجاء ال�سلطنة العثمانية‪ .‬وال يجب‬ ‫�أن يغرب عن بالنا �أن هذه الهجمة ترافقت مع الثورة ال�صناعية يف هذين البلدين وحاجتهما‬ ‫لت�صريف الفائ�ض من ب�ضاعتهما خارج بلديهما ملراكمة الأرباح‪.‬‬ ‫لقد ا ّتكل الغرب اال�ستعماري على نظام امللل الطائفي العثماين لل ّتغلغل �ضمن الإمرباطورية‬ ‫العثمانية‪ ،‬لذلك ومع انت�صاره يف نهاية احلرب العاملية الأوىل تابع ال�سيا�سة نف�سها لتقطيع‬ ‫تقدماً وح�ضارة‬ ‫�أو�صال �سوراقيا‪ .‬واملالحظ �أن �سوراقيا‪ ،‬عدا م�صر‪ ،‬هي املنطقة العربية الأكرث ّ‬ ‫وحداثة من بني جميع الأقاليم العربية املوجودة يف اجلزيرة العربية و�شمال �إفريقيا‪ ،‬لذلك‬ ‫ان�صب اهتمام اال�ستعمار على تق�سيمها لل�سيطرة عليها‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫على الأقل اعرتفت بريطانيا وفرن�سا عرب اتفاقية �سايك�س‪ ‬ـ‪ ‬بيكو �أنهما فع ًال عمدتا �إىل تق�سيم‬ ‫املنطقة‪ ،‬بينما ُتتحفنا الواليات امل ّتحدة الأمريكية ببدعة اخرتاع كلمات تعني عك�س ما هو‬ ‫�سمت ذلك "حتريراً"‪ ،‬وبعد "حتريره"‬ ‫حا�صل على الأر�ض‪ .‬ففي ‪ 2003‬حني احت ّلت العراق ّ‬ ‫حتول العراق �إىل "دميقراطي توافقي"‪ .‬ويف �سورية‪� ،‬أ�صبح انف�صال الأكراد يف قامو�سها املخادع‬ ‫ّ‬ ‫"فدرالية"‪ ،‬بينما احلقيقة هي �أن الفدرالية نقي�ض االنف�صال‪ ،‬لأن الفدرالية بح�سب القامو�س‬ ‫هي حّ‬ ‫"اتاد وحدات �سيا�سية قررت التنازل عن �سيادتها ل�صالح دولة مركزية"‪ .‬ن�ستطيع القول‬ ‫مث ًال �إن وحدة �سورية والعراق ممكنة عرب نظام فدرايل‪ ،‬لك ّننا قطعاً ال ن�ستطيع القول ب�أنّ‬ ‫ح�صول الأكراد على دولة يف العراق �أو �سورية هو فدرالية‪ ،‬لأن الأكراد هم �ضمن الدولة‬ ‫ال�سورية والعراقية وبالتايل مطالبتهم‪� ،‬أو مطالبة الواليات املتحدة الأمريكية بالفدرالية لي�س‬ ‫�سوى تغطية حلقيقة االنف�صال‪.‬‬ ‫والربهان على ذلك �أنه حني حاولت ا�سكتلندا االن�سحاب من "اململكة الربيطانية املتحدة"‬ ‫�صب �أوباما جهوده يف‬ ‫هذا العام‪�ُ ،‬س ّمي ذلك انف�صا ًال ال فدرالية!! لي�س هذا فقط ال بل ّ‬ ‫دعم الوحدة ال االنف�صال لأنه يعرف متاماً �أن بريطانيا �ستكون �أ�ضعف بكثري فيما لو انف�صلت‬ ‫عنها ا�سكتلندا‪ .‬الدول القومية تتعامل مع غريها بح�سب م�صاحلها وال ت�ستعمل معياراً واحداً‬ ‫لنف�س احلالة‪ .‬فالواليات امل ّتحدة الأمريكية مع التق�سيم واالنف�صال يف �سورية والعراق لأن‬ ‫‪12‬‬


‫ملف العلمانية ‪ /‬درا�سات‬

‫م�صلحتها من م�صلحة "�إ�سرائيل"‪ ،‬بينما هي مع الوحدة وعدم االنف�صال يف بريطانيا و�أوروبا‬ ‫لأن وحدة �أوروبا مفيدة جداً للواليات امل ّتحدة الأمريكية التي ت�ضع �أوروبا يف مواجهة رو�سيا‪،‬‬ ‫و� ّأي �إ�ضعاف لأوروبا يعني ازدياد قوة رو�سيا‪� .‬أفهم موقف الواليات املتحدة الأمريكية التي‬ ‫تريد احلفاظ على م�صاحلها يف العامل‪ ،‬لك ّنني ال �أ�ستطيع �أن �أتف ّهم �أن يطالب �أحمد �أبو الغيظ‪،‬‬ ‫م�سمى‬ ‫الأمني العام للجامعة العربية‪ ،‬ومن على هام�ش منرب الأمم املتحدة‪ ،‬بتق�سيم �سورية حتت ّ‬ ‫�إقامة نظام فدرايل! (راجع جريدة «احلياة»‪� 28 ،‬أيلول ‪�": 2016‬أبو الغيظ للحياة‪ :‬الفدرالية‬ ‫هي احلل لإنقاذ �سورية")‪.‬‬ ‫امل�ؤ�سف �أن العديد من ال�صحافيني العرب يتبنون امل�صطلحات الأمريكية املغلوطة فتنت�شر‬ ‫املقاالت حول "فدرالية" الأكراد‪ ،‬وهذا خطري لأننا �إذا ا�ستعملنا كلمة فدرالية فذلك يعني‬ ‫�أننا �س ّلمنا ب�أن للكرد دولتهم امل�ستقلة‪ ،‬و�أنهم عرب الفدرلة ق ّرروا االحتاد مع �سورية!‬ ‫ن�ستطيع القول �إن جتربة الدولة ال�سورية ما قبل عام ‪ ،2011‬كانت الأقرب �إىل تطبيق ف�صل‬ ‫الدين عن الدولة من بني الدول العربية‪ ،‬ورمبا ذلك ناجت عن عقيدتها القومية‪ ،‬لذلك مل‬ ‫ت�ستطع الواليات املتحدة الأمريكية وبعد مرور خم�س �سنوات على حربها‪ ،‬على دحر الدولة‬ ‫ال�سورية بالرغم من �إ�شعالها ناراً طائفية مذهبية تكفريية مل ن َر مثي ًال لها من قبل‪� ،‬إذ كانت‬ ‫الواليات املتحدة الأمريكية ت�ستخدم طريقة االنقالبات الع�سكرية للإطاحة بالأنظمة‪ .‬تغيري‬ ‫اخلطة باجتاه �إثارة نار الفتنة املذهبية بد ًال من االنقالب الع�سكري يعني �أنها تريد تفتيت‬ ‫حد كبري خالل ‪ 15‬عاماً من احلرب‬ ‫�سوراقيا وحموها من الوجود‪ ،‬فهي ف ّتتت لبنان �إىل ٍّ‬ ‫الأهلية‪ ،‬وهذا التفتيت ال يعني �إال �شيئاً واحداً‪ :‬انهيار التيار العلماين الذي كان �صاعداً‬ ‫قبل احلرب وا�ستبداله بالت ّيارات املذهبية املتطرفة وال�سلفية التي تقود �إىل حروب داخلية‬ ‫م�ستدامة‪.‬‬ ‫ظ ّنت �أمريكا �أن نهاية �سورية لن تطول �أكرث من ب�ضعة �أ�شهر‪� ،‬إلاّ �أنّ املفاج�أة ال�سارة كانت‬ ‫بتوحد جبهات القتال‪ ،‬فه ّبت املقاومة اللبنانية لنجدة �سورية كما �سارع من ا�ستطاع من‬ ‫ّ‬ ‫العراقيني الوطنيني �إىل الوقوف يف وجه الإرهاب الذي يريد تدمري ح�ضارة هذه املنطقة‬ ‫الغن ّية بانفتاحها وتالوينها الفكرية والدينية‪ .‬نحن اليوم نعي�ش مرحلة جديدة مرحلة ما بعد‬ ‫‪13‬‬


‫�سايك�س‪-‬بيكو لأن مقاومتنا ّ‬ ‫تخطت احلدود اال�صطناعية التي و�ضعها الغرب لإ�ضعافنا‬ ‫و�إذاللنا‪ .‬هذه املقاومة تخ ّلت عن "العروبة الوهمية"‪ ،‬وبح�سب �سعاده العروبة الوهمية‬ ‫هي حني يتقاع�س ال�سوراقيون عن الدفاع عن �أر�ضهم وي ّتكلون على العرب �أو امل�سلمني‬ ‫لإنقاذهم‪ ،‬والنتيجة يف هذه احلالة فقدان الأر�ض كما �سلبت م ّنا يف الإ�سكندرون وكيليكيا‬ ‫وفل�سطني‪� ،‬أ ّما ا ّتكالنا على �أنف�سنا كما فعلت املقاومة دفاعاً عن �أر�ضنا‪ ،‬وكما يفعل اجلي�ش‬ ‫ال�سوري وقوات الدفاع الوطني‪ ،‬فهو طريق االنت�صار‪.‬‬ ‫(راجع �أنطون �سعاده‪ ،‬الأعمال الكاملة‪ ،‬اجلزء الثامن‪" ،‬حاربنا العروبة الوهمية لنقيم العروبة‬ ‫الواقعية"‪� ،‬صفحة ‪ .271 - 267‬بريوت‪ :‬م�ؤ�س�سة �سعاده للثقافة‪.)2001 ،‬‬ ‫لقد ظهر جلياً خالل ال�سنوات اخلم�س الأخرية‪� ،‬أن العديد من الدول العربية تتعار�ض‬ ‫م�صاحلها مع م�صلحة �سوراقيا‪ ،‬فوزير اململكة العربية ال�سعودية ال�سابق‪� ،‬سعود الفي�صل مث ًال‪،‬‬ ‫� ّأكد �أن �أمن ال�سعودية هو يف ال�سيطرة على ّ‬ ‫كل كيانات �سوراقيا وعدم ال�سماح با�ستقاللها‬ ‫و�سيادتها‪ ،‬ومن �أجل ذلك ت�ؤازر ال�سعودية التق�سيم املذهبي‪ ،‬وتبعث باملال وال�سالح والرجال‬ ‫ومنهم ال�شيخ عبداهلل املحي�سني ال�سعودي‪ ،‬والقا�ضي ال�شرعي جلبهة الن�صرة (القاعدة)‪،‬‬ ‫الذي ال يخجل �أن يقول �صراحة �إنه دخل �سورية ملحاربة الن�صرييني العلويني! (راجع جريدة‬ ‫«الأخبار»‪ ،‬عبداهلل املحي�سني‪" ،‬يف حلب معركة وجود"‪�21 ،‬أيلول ‪.)2016‬‬ ‫احلديث �إذاً عن "�أمة عربية"‪� ،‬أو "�أمة �إ�سالمية"‪� ،‬أو حتى "�أمة م�سيحية" هو نوع من �أنواع‬ ‫القنابل ال�صوتية التي ال تعني �شيئاً‪� ،‬إذ �أن ال�س�ؤال احلقيقي هو‪ :‬من �سيمثّل هذه "الأمة‬ ‫العربية"؟ هل هي م�صر‪� ،‬أو ال�سعودية‪� ،‬أو �سوراقيا؟ وال�س�ؤال نف�سه ُيطرح على من ينادون‬ ‫بـ"الأمة الإ�سالمية"‪ٌّ ،‬‬ ‫فكل من باك�ستان و�إيران ي�ؤمن بالأ ّمة الإ�سالمية‪ ،‬فهل يعني ذلك �أن‬ ‫�إيران �ستقبل ب�أن حتكمها باك�ستان با�سم هذه الأمة؟ �أو العك�س؟‬ ‫امل�شكلة يف �إطالق مواقف من هذا النوع �أن �أعداداً كبرية من النخبة املثقفة ال ت�ستطيع‬ ‫التمييز بني الدولة القومية والدولة الدينية‪ ،‬فتخلط بينهما‪ .‬مثال ذلك ترداد �أ�ساتذة جامعيني‬ ‫ي�صح ذلك وكيف ميكن تف�سريه‪،‬‬ ‫"�أن العروبة هي الإ�سالم‪ ،‬والإ�سالم هو العروبة"‪ ،‬فكيف ّ‬ ‫و�إذا كانت العروبة هي الإ�سالم‪ ،‬فما الفرق بني االثنني؟‬ ‫‪14‬‬


‫ملف العلمانية ‪ /‬درا�سات‬

‫الفكري �أ ّدى بالكثري من القوميني العرب �إىل التماهي مع ال�سلفيني والإخوان‬ ‫هذا الت� ّشو�ش‬ ‫ّ‬ ‫فارتد ه�ؤالء عن حماربة الكيان‬ ‫امل�سلمني يف جميع دول العامل العربي من دون ا�ستثناء‪ّ ،‬‬ ‫ال�صهيوين �إىل حماربة �سورية لأن رئي�سها علوي‪ ،‬وحماربة �إيران لأنها �شيعية‪ .‬هذا ال ينطبق‬ ‫فقط على ال�سعودية التي تقود حرباً ال هوادة فيها على الدولتني‪ ،‬بل ينطبق �أي�ضاً على‬ ‫تون�سيني وم�صريني وخليجيني يحاربون يف �سورية لإ�سقاط نظام "علوي"‪ .‬واملخجل وغري‬ ‫املفهوم م�سارعة بع�ض الفل�سطينيني �إىل ترك ق�ضيتهم الوطنية‪ ،‬وق�ضية ا�ستعادة �أر�ضهم‪،‬‬ ‫وحملهم ال�سالح ملحاربة النظام الوحيد الذي دعم مقاومتهم �ضد "�إ�سرائيل"‪� ،‬أال وهو‬ ‫�سورية‪.‬‬ ‫�أحد �أ�سباب انح�سار التيار العلماين �أي�ضاً يف منطقتنا �سقوط االحتاد ال�سوفياتي عام ‪1990‬‬

‫الذي مثّل كارثة للدول ال�صغرية ككيانات �سوراقيا التي ا�ستفادت من النزاع الأمريكي‬ ‫حد �أدنى من البقاء وعدم ال ّتفتت‪،‬‬ ‫ال�سوفياتي خالل حقبة احلرب الباردة للمحافظة على ٍّ‬ ‫فبعد عام ‪ 1990‬قررت الواليات املتحدة الأمريكية �أن ال�سيادة العاملية لها وال منازع لقوتها‬ ‫و�ضمها �إىل حلف الناتو‬ ‫و�سطوتها‪ ،‬فبد�أت �أو ًال ب�سلب دول �أوروبا ال�شرقية من جمال رو�سيا ّ‬ ‫و�أوروبا الغربية التي تهيمن على قراراتها ب�صورة كل ّية‪ ،‬وهكذا �ضيقت اخلناق على رو�سيا‬ ‫االحتادية‪ ،‬ثم بادرت الإدارة الأمريكية برئا�سة بيل كلنتون �إىل تق�سيم يوغو�سالفيا تق�سيماً‬ ‫دينياً بني م�سلمني وم�سيحيني‪� ،‬أي�ضاً لإ�ضعاف رو�سيا‪ ،‬و�سارع العديد من الأحزاب الدينية‬ ‫يف �أرجاء �سوراقيا �إىل �إر�سال قوات حتارب مع امل�سلمني �ضد امل�سيحيني كما فعلت دول‬ ‫اخلليج �أي�ضاً‪ ،‬وهذا خط�أ كبري لأنّ ه�ؤالء حاربوا اىل جانب الواليات املتحدة الأمريكية‬ ‫�ضد رو�سيا وهم ينظرون �إليها على �أنها ملحدة يجب قطع ر�أ�سها!‬ ‫والكيان ال�صهيوين ّ‬ ‫بعد �أن �ضمنت الواليات املتحدة الأمريكية �أوروبا كاملة لها اتجّ هت نحو ال�شرق الأو�سط‬ ‫ملتابعة حتطيم الدولة الوطنية العلمانية التي تقف عائقاً �أمام هيمنتها الكلية على العامل‪،‬‬ ‫فا�ستعملت ذريعة هجمات احلادي ع�شر من �أيلول لت�شن حرباً ظاملة‪ ،‬ال �شرعية على العراق‬ ‫عام ‪.2002‬‬ ‫تو�صلت الواليات املتحدة الأمريكية �إىل نتيجة �أن النظام اللبناين الطائفي هو الأمثل لل�سيطرة‬ ‫ّ‬ ‫‪15‬‬


‫الكاملة‪ ،‬لأن الطوائف متنع وحدة املجتمع‪ ،‬وتتناف�س فيما بينها �إىل حد القتل والدمار‪ ،‬لذلك‬ ‫عمد برمير‪ ،‬املندوب ال�سامي الأمريكي يف العراق‪� ،‬إىل و�ضع د�ستور جديد يق�سم الدولة اىل‬ ‫ثالثة �أق�سام‪� :‬شيعية و�سنية وكردية‪.‬‬ ‫�أما يف حربها على �سورية بدءاً من عام ‪ ،2011‬فلقد ا�ستعملت الواليات املتحدة الأمريكية‬ ‫التيار ال�سلفي الوهابي التكفريي والتيار الإخواين املتز ّمت لتدمري الدولة ال�سورية‪ ،‬و�إثارة‬ ‫ومدها باملال وال�سالح‪ ،‬ما‬ ‫التناق�ضات الداخلية من �إثنية وطائفية‪ ،‬ودعم فئة �ضد �أخرى‪ّ ،‬‬ ‫ي�سمح لها بال�سيطرة على امل�شرق العربي �أو �سوراقيا من دون �أن تتك ّبد � ّأي خ�سائر مادية �أو‬ ‫ب�شرية‪.‬‬ ‫ما بني الطائفية والعلمنة‬

‫لنقارن كيفية �إدارة الدولة الطائفية‪/‬الدينية واختالفها عن الدولة العلمانية‪:‬‬ ‫�أو ًال‪ ،‬يف دولة الطوائف ّ‬ ‫يتحكم رجال الدين ّ‬ ‫بكل �أفراد املجتمع يف ال�ش�أن العام كما اخلا�ص‬ ‫تتدخل يف �ش�ؤون املواطن اخلا�صة فترتك له حرية ممار�سة‬ ‫�أي�ضاً‪ ،‬بينما الدولة العلمانية ال ّ‬ ‫معتقداته‪ .‬ي�أمر رجال الدين النا�س با ّتباع نظام واحد �شمويل يف امل�أكل وامللب�س والعبادة‬ ‫والفكر �إلخ‪ .‬ويق ّرر رجال الدين طريقة الت�صرف يف كل مناحي احلياة والدخول يف �أتفه‬ ‫التفا�صيل ما مينع � ّأي حرية �أو مبادرة من ِقبل الأفراد‪.‬‬ ‫ثانياً‪ ،‬لأن دولة الطوائف الدينية ال تف�صل بني ال�ش�أن العام واخلا�ص‪ ،‬ي�ستتبع ذلك انت�شار‬ ‫تخت�ص‬ ‫الف�ساد واملح�سوبيات واملحا�ص�صات والقفز فوق القانون‪ .‬فالطوائف يف النهاية‪ ،‬م�س�ألة ّ‬ ‫مب�صالح كل طائفة على حدة ال ّ‬ ‫بالكل املك ّون للوطن‪/‬الأمة‪ .‬فقط �ضمن نطاق الدولة القومية‬ ‫العلمانية ن�ستطيع �أن نتك ّلم عن ال�ش�أن العام‪� ،‬أي �ش�ؤون عامة ال�شعب ب�شكل مت�ساوٍ‪ ،‬وبدون‬ ‫متييز �أو حت ّيز‪.‬‬ ‫ثالثاً‪ ،‬تفر�ض الدولة الدينية الطائفية الأحوال ال�شخ�صية الدينية على اجلميع بالوالدة‪ ،‬فال‬ ‫خيار �أمام الفرد‪ ،‬تع ّلبه ومتلي عليه القيود الواجب ا ّتباعها وجتربه على البقاء �ضمن الطائفة‬ ‫والوالء لها‪ ،‬وال ت�سمح له بالتغيري والتقدم‪ ،‬فيما تتبع الدولة العلمانية القانون الوطني‪ -‬املدين‬ ‫‪16‬‬


‫ملف العلمانية ‪ /‬درا�سات‬

‫املتحرك والذي يتغري بناء على �إرادة ال�شعب‪.‬‬ ‫يخ�ضع جميع املواطنني للقانون املدين من دون � ّأي ا�ستثناء يف الدولة العلمانية بينما قانون‬ ‫الأحوال ال�شخ�صية يف ّرق بني املواطنني فت�صبح ّ‬ ‫كل فئة تتبع قانوناً مغايراً لفئة �أخرى وقد‬ ‫يكون مناق�ضاً لها‪ ،‬ويتال�شى مفهوم املواطنة‪ .‬ثم �إن القوانني الدينية تفتح الباب �أمام رجال‬ ‫الدين لل�سيطرة على الدولة‪ ،‬فبد ًال من �أن يكون الزواج والطالق والإرث والوفاة يف يد‬ ‫الدولة يتحكم رجال الدين ب�أفراد املجتمع‪ ،‬وهم يتحكمون �أي�ضاً باملدار�س التي هي طائفية‬ ‫يف غالبيتها املطلقة مبا فيها الإر�ساليات الأجنبية‪ ،‬وامل�ست�شفيات‪ ،‬واجلمعيات اخلريية‪ ،‬واملقابر‪،‬‬ ‫ولرجال الدين احلق يف و�ضع املناهج املدر�سية واملوافقة عليها‪ ،‬كما �أنهم يقررون َم ْن ِمن‬ ‫تهدد‬ ‫الأ�ساتذة ُيقبلون يف املدار�س واجلامعات‪ .‬وت�صبح الدولة �ألعوب ًة يف يد الطوائف التي ّ‬ ‫تن�صع لإرادتها‪.‬‬ ‫احلكومات ب�إثارة النا�س عليها �إذا مل َ‬ ‫خا�صاً بينما ُتعلي من �ش�أن الدولة‬ ‫على عك�س ذلك‪ ،‬الدولة العلمانية حت ّيد الدين وجتعله �ش�أناً ّ‬ ‫القومية واملواطن لأن العلمنة تبغي توحيد املواطنني وجعل حياتهم وقوانينهم واحدة كي‬ ‫يج�سدوا جمتمعاً متجان�ساً من�سجماً مع بع�ضه‪.‬‬ ‫رابعاً‪ ،‬دولة الطوائف تعطي الأولوية للدين واملذهب وبالتايل هي تابع لأوامر خارجية بح�سب‬ ‫انتماءاتها الدينية‪ ،‬فانحاز املوارنة تاريخياً لفرن�سا‪ ،‬وانحاز ال�سنة لل�سعودية‪ .‬بينما ت�ؤازر الدولة‬ ‫العلمانية مفهوم اال�ستقالل القومي وال�سيادة القومية‪ ،‬فرجل الدين الفرن�سي ولو كان‬ ‫كاردينا ًال هو فرن�سي قبل كل �شيء وين�صاع للقوانني الفرن�سية ال لقوانني روما‪ ،‬ويحاكم‬ ‫بتهمة اخليانة �إذا ع�صى القانون الفرن�سي‪ .‬هذا الو�ضع لي�س حا� ً‬ ‫صال يف �سوراقيا حيث يتبع‬ ‫ال�سكان قوانني وافتاءات رجال الدين يح ّر�ضونهم على القتل كما ح�صل لل�شهيد ناه�ض‬ ‫حرت وال يلتزمون بقانون دولتهم‪.‬‬ ‫خام�ساً‪ ،‬قوانني الأحوال ال�شخ�صية هي قوانني دينية تفر�ض على التابعني لها التق ّيد بها‬ ‫خمت�صة بكل دولة على حدة‪ ،‬وينتج عن‬ ‫حيثما كانوا �شرقاً �أو غرباً‪ ،‬بينما القوانني الو�ضعية ّ‬ ‫ذلك �أن كل طائفة �أو م ّلة تتبع قرارات مرجعياتها الدينية املوجودة خارج حدود كيانات‬ ‫�سوراقيا ما ي�شكل عائقاً �أ�سا�سياً يف توحيد املجتمع و�صياغة دولة القانون‪.‬‬ ‫‪17‬‬


‫ين وجمتمع طوائف دينية‪ ،‬فيما يخت�ص‬ ‫�ساد�ساً‪ ،‬يختلف الو�ضع دراماتيكياً بني جمتمع علما ّ‬ ‫بحر ّية الفكر والعلم واملعرفة‪ ،‬فال حرية للفكر حيث ُتهيمن الدولة الدينية‪ ،‬ون�صبح يف و�ضع‬ ‫جند فيه رجال دين �شبه �أميني وال اخت�صا�ص لديهم يقررون احلقائق املعرفية‪ ،‬في�صعد �أحدهم‬ ‫على منرب امل�سجد لي�ؤكد �أن الأر�ض م�سطحة‪ ،‬وي�صدقه امل�ؤمنون لأن عدم ت�صديقه يعني‬ ‫الكفر بدينهم!‬ ‫يقودنا ذلك �إىل تقهقر العقل واملعرفة كما هو حا�صل يف �سوراقيا التي تراجعت فيها املعرفة‬ ‫عما كانت عليه منذ ن�صف قرن! لقد انهار امل�ستوى الفكري‬ ‫وحرية التفكري تراجعاً خميفاً ّ‬ ‫العلمي املبتكر واملحلل وامل�ستنبط لقواعد الكون ب�سبب تدخل الدين يف العلوم الو�ضعية‪،‬‬ ‫وهذا ما مل يح�صل يف الدولة الأموية وبداية الدولة العبا�سية حيث كان الدين مف�صو ًال‬ ‫ف� ً‬ ‫صال تا ّماً عن العلوم‪ .‬لقد تب ّنت ال�سلفية الوهابية جتربة الإمرباطورية الكاثوليكية يف القرون‬ ‫الو�سطى والتي كانت حتتكر العلم وت�ضطهد العلماء‪ ،‬بينما حافظت �إيران الإ�سالمية على‬ ‫الرتاث احل�ضاري القائم على ف�صل الدين عن العلوم الو�ضعية ما �أدى اىل تط ّورها ال�سريع يف‬ ‫يهدد وجودها العائم على‬ ‫التكنولوجيا‪ ،‬هذا التطور هو بال�ضبط ما تريد "�إ�سرائيل" و�أده لأنه ّ‬ ‫بحر من التخ ّلف‪�" .‬إ�سرائيل" ت�ستعمل الفالق املذهبي ال�سني‪-‬ال�شيعي لت�سعري النار �ضد‬ ‫تقدمها العلمي والقومي ال من توجهها الديني‪ ،‬والربهان على ذلك‬ ‫�إيران لأنها تخاف من ّ‬ ‫�أنها تتحالف مع �أ�شد الدول يف تط ّرفها الديني التكفريي �أال وهو ال�سعودية الوهابية‪.‬‬ ‫�سابعاً‪ ،‬تراجع و�ضع املر�أة نتيجة ا�ضمحالل القوانني الو�ضعية التي تواكب التطور وا�ستبدالها‬ ‫بالقوانني الدينية التي تعتمد على النظام البطريركي املُ ّ‬ ‫ذل للمر�أة كما كان �سائداً يف‬ ‫املجتمعات التي تولدت فيها الأديان منذ قرون بعيدة‪ .‬ما يح�صل اليوم هو قمع املر�أة ومنعها‬ ‫من احل�صول على حقوقها كمواطنة �أ�سوة بالرجل‪ّ ،‬‬ ‫وتتحكم بها قوانني الأحوال ال�شخ�صية‬ ‫الدينية التي تعطي الأف�ضلية للرجل يف الزواج والطالق والإرث وح�ضانة الأطفال‪.‬‬ ‫�أما يف ال�سيا�سة‪ ،‬فالتمثيل النيابي ال ميثّل ال�شعب بل الطوائف يف لبنان وكذلك يف العراق‬ ‫بعد االحتالل الأمريكي عام ‪ ،2003‬ونرجو �أال يتح ّول نظام �سورية �إىل طائف لبناين �آخر‬ ‫�شن الواليات املتحدة الأمريكية احلرب عليها‪ .‬فالرت�شّ ح لالنتخابات �أ�سا�سه ديني ال‬ ‫بفعل ّ‬ ‫‪18‬‬


‫ملف العلمانية ‪ /‬درا�سات‬

‫وطني‪ ،‬والناخب يذهب �إىل �صناديق اقرتاع خمتلفة ح�سب انتمائه الديني كما يظهر على‬ ‫�سمى زورا هوية وطنية‪� ،‬إذ �إنها يف احلقيقة هوية طائفية مبنية على قوانني الأحوال‬ ‫هويته التي ُت ّ‬ ‫ال�شخ�صية الدينية‪ .‬و�إخفاء الطائفة عن الهوية يف لبنان ما بعد احلرب الإهلية ال يعني �إلغاءها‬ ‫�إذ �إن قانون االنتخاب والتق�سيمات الإدارية ال تزال قائمة على املذهب الديني‪.‬‬ ‫االنتقال من الطائفي‪/‬الديني �إىل العلماين يف �سوراقيا‬

‫دول امل�شرق العربي ال تزال تعي�ش يف نظام امللل الديني الذي و�ضعه العثمانيون منذ ما يناهز‬ ‫ال�ستة قرون‪ّ .‬‬ ‫جل ما حدث حني ق�سمنا الربيطاين والفرن�سي يف �سايك�س‪-‬بيكو �إىل دويالت‬ ‫هو ت�صغري الإطار اجلغرايف لكن �إبقاء ال�صراعات الطائفية من �ضمنه لدميومة ال�سيطرة الغربية‪.‬‬ ‫ما هي احللول املمكنة لتغيري الأنظمة الطائفية؟‬ ‫ببث الي�أ�س يف قلوب النا�س م�ؤكدين �أنّ التغيري م�ستحيل‪ .‬بالطبع‬ ‫غالباً ما يقوم املثقفون ّ‬ ‫التغيري م�ستحيل �إذا رف�ضنا العمل باجتاه التغيري واكتفينا باملقاالت والديباجات‪ .‬الهدف من‬ ‫�إن�شاء الأحزاب العلمانية هو تطبيق هذا الفكر وحتويله �إىل عمل د�ؤوب وت�ضحيات يف اجتاه‬ ‫التغيري‪ ،‬و�إلاّ لي�س من �سبب لإن�شاء الأحزاب‪ ،‬فلقد �أر�سى �أنطون �سعاده مث ًال يف املادة الأوىل‬ ‫من د�ستوره �أن غاية احلزب هي بعث نه�ضة يف �سورية الطبيعية �أو �سوراقيا‪ .‬فهل ن�ستطيع بعث‬ ‫نه�ضة؟‬ ‫غالباً ما ي�ؤكد كرث �أنّ الولوج يف الدولة العلمانية لن يح�صل قبل قرن �أو قرون‪ ،‬وها قد م�ضى‬ ‫نتقدم خطوة واحدة ال بل �أ�صبحنا �أ�شد طائفية و�أكرث تخ ّلفاً مما‬ ‫قرن على �سايك�س‪-‬بيكو ومل ّ‬ ‫ك ّنا‪ .‬هذا يدل على �أن الزمن لي�س كفي ًال بتغيري الظروف‪ ،‬و�إننا �إذا مل نبادر نحن �إىل العمل‬ ‫باجتاه العلمنة فلن يتحول الو�ضع �إلاّ �إىل عك�س ما ن�شتهي لأنّ غرينا يعمل باالجتاه املعاك�س‪.‬‬ ‫لقد تو�صلت ال�سعودية �إىل �إجناز كبري عرب عملها املتوا�صل ملدة ثالثني عاماً‪� ،‬إن مل يكن‬ ‫�أكرث‪ ،‬يف ن�شر التعاليم الوهابية املتطرفة والتكفريية والراف�ضة للعلم واملنطق وللتط ّور الإن�ساين‬ ‫ب�شكل خا�ص يف دول �سوراقيا‪ ،‬لأن �سوراقيا �أ�صبحت لقم ًة �سائغة بعد تق�سيمها �إىل دويالت‬ ‫�سايك�س‪-‬بيكو‪ .‬داع�ش والن�صرة لي�سا �إال نقطة النهاية يف �سل�سلة طويلة من العمل اليومي‬ ‫‪19‬‬


‫الحتواء املجتمع ال�سوراقي وتدجينه و�إحلاقه بامل�شيئة ال�سعودية عرب التب�شري الديني‪� .‬أذكر‬ ‫هنا كيف انت�شر الدعاة بالآالف يف لبنان‪ ،‬ويف �سورية‪ ،‬ويف العراق والأردن وفل�سطني‪ ،‬يف‬ ‫ثمانينيات القرن املا�ضي‪ ،‬يزورون البيوت لي ًال‪ ،‬ويب�شرون يف امل�ساجد واملدار�س بالدين‬ ‫الوهابي‪ ،‬فهل فعل القوميون العلمانيون الأمر ذاته؟‬ ‫ماذا كانت النتيجة؟ حتولت كل كيانات �سوراقيا من ال�سري يف مفاهيم القومية والوطنية‬ ‫والعلمانية والتطور احل�ضاري‪ ،‬والبناء على �أ�س�س علمية‪� ،‬إىل نبذ العلم واملنطق بكل �أ�شكاله‪،‬‬ ‫ف�أول ما ا�ستهدفته الوهابية هو �إلغاء الرتبية الوطنية من املدار�س وا�ستبدالها بالدين (الوهابي)‪.‬‬ ‫لقد ا�ستوىل الوهابيون على عقول الأطفال واملراهقني يف �سورية والعراق ولبنان والأردن‬ ‫وفل�سطني وجندوهم لأيديولوجيتهم عرب التدري�س الديني يف املدار�س واجلامعات ولي�س‬ ‫فقط امل�ساجد‪.‬‬ ‫يتفاج�أ كثريون ومنهم من كان وزيراً يف رئا�سة �سليم احل�ص للوزارة عام ‪ 1998‬حني �أخربهم‬ ‫�أنه هو الذي �ألغى مادة الرتبية الوطنية من املدار�س الر�سمية وا�ستبدلها بالرتبية الدينية! مل‬ ‫ي�ستطع احلريري �أن يفعل ذلك‪ ،‬لكنه ّمت على �أيدي من ُيعترب وطنياً قومياً عربياً‪ ،‬وكان �آنذاك‬ ‫وزير الرتبية حممد يو�سف بي�ضون الذي ُينظر �إليه �أي�ضاً على �أ�سا�س �أنه معتدل ووطني‪.‬‬ ‫فكيف يح�صل ذلك منذ ‪ 17‬عاماً ومل يتح ّرك وطني علماين واحد لال�ستنكار‪ ،‬ومل يتحرك‬ ‫�أي من الأحزاب الوطنية العلمانية لهذه الكارثة املحققة والتي �ستخرج يف ب�ضع �سنوات‬ ‫ال�سلفيني الإرهابيني الذين يدمروننا اليوم؟‬ ‫الأمر نف�سه ح�صل يف العراق و�سورية والأردن وحتى فل�سطني‪ ،‬ففيها جميعها �أُلغيت الرتبية‬ ‫الوطنية ل�صالح الدين‪ ،‬وطالب الإخوان امل�سلمون بحقيبة واحدة �أال وهي وزارة الرتبية‬ ‫نتعجب اليوم ملا نراه من �أعمال لداع�ش والن�صرة وغريهما‪ ،‬وملئات‬ ‫والتعليم العايل‪ .‬فهل ّ‬ ‫حتولوا �إىل متطرفني دينيني همهم �إقامة الدولة الإ�سالمية على‬ ‫الألوف من ال�سوراقيني الذين ّ‬ ‫الطريقة الوهابية؟‬ ‫ال ّ‬ ‫نرب جي ًال جديداً على القيم الوطنية‪ /‬العلمانية‪ ،‬فهنا يكمن التغيري‬ ‫حل �أمامنا �إذا مل ِّ‬ ‫‪20‬‬


‫ملف العلمانية ‪ /‬درا�سات‬

‫احلقيقي‪ ،‬وللداللة على ذلك �س�أعطي مثلني من لبنان‪ :‬ففي خم�سينيات القرن املا�ضي‬ ‫�أُن�شئت مدر�ستان قوميتان واحدة بناها يو�سف الأ�شقر يف ديك املحدي والثانية �أني�س �أبي‬ ‫رافع يف عاليه‪ .‬خ ّرجت هاتان املدر�ستان جي ًال وطنياً قومياً من جميع الطوائف من دون‬ ‫حتول اجليل اجلديد‬ ‫ا�ستثناء‪ .‬وما �إن توقف عمل هاتني املدر�ستني حتى تال�شى هذا الوجود و ّ‬ ‫�إىل تع�صب طائفي ج ّراء املدار�س الدينية امل�سيحية والإ�سالمية‪ .‬الأمر نف�سه ح�صل يف �سورية‬ ‫حيث �أن�شئت مدار�س قومية يف �صافيتا وطرطو�س‪ ،‬وعمد العديد من القوميني �إىل التدري�س‬ ‫يف تلك املدار�س قبل �أن تغلق �أبوابها �أي�ضاً ب�سبب اغتيال عدنان املالكي‪.‬‬ ‫لقد تن ّبهت الواليات املتحدة الأمريكية لهذا املو�ضوع الأ�سا�سي لوجودها فمنعت املدار�س‬ ‫اخلا�صة يف البدء‪ ،‬ثم �سمحت لبع�ضها بالوجود ب�سبب وجود جاليات �أجنبية وهي قليلة جداً‬ ‫بالن�سبة �إىل عدد ال�سكان الذي يتجاوز الثالثمئة مليون ن�سمة‪ .‬ركزت �أمريكا كل تعليمها‬ ‫االبتدائي الر�سمي على تر�سيخ فكرة الوالء لأمريكا‪ ،‬هذه هي املهمة الأوىل للتعليم يف‬ ‫املدر�سة االبتدائية‪.‬‬ ‫التعليم الديني يف املدار�س ال�سوراقية �أدى �إىل �إر�ساء التطرف الديني يف اجلامعات �أي�ضاً التي‬ ‫لي�ست �إال التكملة املنطقية لتعليم املدار�س‪ ،‬حيث ّمت اللجوء �إىل التف�سري الديني بد ًال من‬ ‫التنقيب العلمي‪ ،‬فرنى مث ًال �أن الأ�ساتذة يف العلوم ال�سيا�سية يف اجلامعة اللبنانية �أ�صبحوا‬ ‫يب�شرون يف �صفوفهم بالأيديولوجية الدينية ف ُيلقّن الطالب "�أن االحتاد ال�سوفياتي �سقط لأنه‬ ‫�ش ّرع الكحول والرق�ص وامل�سرح واملو�سيقى"‪ ،‬و"�أن االقت�صاد الأوروبي فا�شل لأنه غري ملتزم‬ ‫باالقت�صاد الإ�سالمي"‪ ،‬وتمُ نع درا�سة النظريات ال�سيا�سية الي�سارية على �أنها تدعو �إىل الإحلاد‪،‬‬ ‫حُوتجب النظريات القومية لأنها تتعار�ض والدين الإ�سالمي ال�شمويل‪( .‬راجع ماهر اخل�شن‪،‬‬ ‫"يف اجلامعة اللبنانية �إن ُ�سئلت عن مارك�س حتدث عن �أفالطون"‪ ،‬جريدة «الأخبار» يف ‪16‬‬ ‫�آب ‪.)2016‬‬ ‫هذا الو�ضع ي�ؤدي �إىل ا�ستالب املجتمع وحتويله �إىل تع�صب ديني قاتل خا�صة �أن ذلك ال‬ ‫يتطلب علماً �أو جهداً بل على العك�س من ذلك‪ ،‬ف�أيديولوجية داع�ش والن�صرة تعترب �أن ال‬ ‫لزوم للعلم وللدر�س والتمحي�ص فالأجوبة حا�ضرة جميعها يف الدين‪ ،‬وي�صبح رجال الدين‬ ‫‪21‬‬


‫هم �أولياء املجتمع‪ ،‬وهذا ما يح�صل اليوم‪ ،‬فهم الذين يقررون عنا � ّأي كتاب نقر�أ‪ ،‬و� ّأي فيلم‬ ‫ُيعر�ض �أو ال ُيعر�ض‪ ،‬و� ّأي لبا�س بحري نرتدي‪ :‬البوركيني �أو غريه‪ ،‬و� ّأي طعام ن�أكل (حرام �أو‬ ‫حالل)‪ ،‬و�إن مل نفعل فتهديد بالتكفري والقتل‪.‬‬ ‫تر�سيخ مفهوم الدولة القومية العلمانية ممكن على ال�صعيد الرتبوي �إذا ما ان�ص ّبت جهودنا‬ ‫يف هذا امل�ضمار ملواجهة التعليم الديني ال�سلفي‪ ،‬كما هو ممكن على ال�صعيد ال�سيا�سي عرب‬ ‫الت�شديد على �أن طرح ف�صل الدين عن الدولة يجمع كيانات �سوراقيا‪ ،‬بينما ال ت�ؤدي املطالبة‬ ‫بالدولة الدينية �إال �إىل حروب ال نهاية لها �ضمن دول �سوراقيا لأن هذه الأخرية تت�شكل من‬ ‫تتوحد داخلياً �إال اذا كانت دولة‬ ‫�أديان ومذاهب خمتلفة ومتنوعة‪ .‬ال ت�ستطيع �سوراقيا �أن ّ‬ ‫علمانية‪ ،‬ومن �أجل ذلك على كياناتها �أن تقف بوجه اخلطط اال�ستعمارية الغربية التي تريد‬ ‫الق�ضاء على الدولة القومية‪ ،‬لأن هذه الأخرية ت�ؤ ّمن اال�ستقالل ال�سيا�سي واالقت�صادي‬ ‫واالجتماعي ل�شعبها مبعزل عن �أهواء الدول اخلارجية‪.‬‬ ‫مع بدء الألفية الثالثة‪ ،‬هدفت خمططات الواليات املتحدة الأمريكية بالن�سبة �إىل امل�شرق‬ ‫العربي دعم الدولة الدينية‪� :‬إما �إخوانية �أو �سلفية‪ ،‬فالإخوانية مرجعيتها تركيا احلليف‬ ‫املوثوق يف حلف �شمال الأطل�سي‪ ،‬وال�سلفية مرجعها ال�سعودية‪ ،‬و�آل �سعود عائلة ال حتيد عن‬ ‫ال�سيا�سة الأمريكية قيد �أمنلة‪� ،‬إذ �إن وجودها منوط بالإرادة الأمريكية‪ ،‬ويف احلالني كليهما متنع‬ ‫الواليات املتحدة الأمريكية � ّأي تقارب �أو تن�سيق بني كيانات �سوراقيا لأن تفاهمها وتعاونها‬ ‫يعني الق�ضاء املربم على "�إ�سرائيل" التي هي ر�أ�س احلربة الأمريكية يف املنطقة‪ .‬الطريقة‬ ‫الوحيدة ملنع كيانات �سوراقيا من التعاون هو �إدخالها يف حرب طائفية دينية مذهبية واثنية‪.‬‬ ‫ال�صراع بني املبد�أ القومي العلماين من جهة‪ ،‬ومبد�أ الدولة الدينية من جهة �أخرى لن‬ ‫يخت�ص بدول �سوراقيا فقط بل �ستعمد الواليات املتحدة الأمريكية �إىل تطبيقه يف دول �آ�سيا‬ ‫وخا�صة يف ال�صني ورو�سيا حيث توجد �أعداد كبرية من ال�سنة عب�أتها‬ ‫التي ّ‬ ‫�ستهدد هيمنتها‪ّ ،‬‬ ‫اململكة ال�سعودية وحولتها �إىل املذهب الوهابي التكفريي احلا�ضر لإلغاء الآخر بقوة ال�سالح‪.‬‬ ‫تدور احلرب �إذاً بني اجتاهني ومقولتني‪ :‬مقولة العوملة الأمريكية التي تريد �إلغاء الدول الوطنية‪/‬‬ ‫القومية التي تقف عائقاً �أمام الإمرباطورية الأمريكية‪ ،‬ومن �أجل ذلك تدعم التيارات الدينية‬ ‫‪22‬‬


‫ملف العلمانية ‪ /‬درا�سات‬

‫ال�سنية املتطرفة‪ ،‬واالجتاه املعاك�س الذي يدافع عن مبد�أ ا�ستقالل الأمم وحقها يف الوجود‬ ‫ويف حتقيق م�صالح �شعبها‪ ،‬واملكون من الدولة ال�سورية و�إيران ورو�سيا وحزب اهلل‪ ،‬واملقاومة‬ ‫ال�شعبية يف العراق و�سورية ولبنان وفل�سطني‪.‬‬ ‫نخل�ص للقول �إن ال علمنة �إلاّ بوحدة �سوراقيا لأن الذي ّ‬ ‫يعطل الوحدة داخلياً وخارجياً هو‬ ‫النظام الطائفي‪/‬الديني‪ ،‬والعك�س �صحيح �أي�ضاً‪� :‬سوراقيا ال ت�ستطيع �أن تكون موجودة فعلياً‬ ‫�إال �إذا كانت علمانية‪.‬‬

‫‪23‬‬



‫ملف العلمانية‪ /‬درا�سات‬

‫ُنبل العلمانية وب�ؤ�س العلمانيني‬ ‫ن�صري ال�صايغ ‪� -‬صحايف وكاتب‬

‫‪ I‬ـ فاحتة الف�شل‬

‫ما العلمانية؟ ال تعريف لها‪ّ ،‬‬ ‫لكل مدر�سة تعريف خا�ص ُتط ّبقه‪ ،‬لفرن�سا تعريفها املتز ّمت‪،‬‬ ‫لربيطانيا تعريف �آخر منفتح‪ ،‬للواليات املتحدة تطبيقات علمانية �أقرها الد�ستور‪ ،‬من دون اللجوء‬ ‫�إىل ا�ستعمال مفردة العلمانية‪ ...‬امل�ؤ�سف عندنا‪� ،‬أننا يف حروب حول املفهوم‪ ،‬وهذا دليل عجز‬ ‫ولي�س م�صدر غنى‪ ،‬عندما تظل الفكرة �أو يبقى املفهوم �أ�سري الفكر‪ ،‬ي�صاب بالبيزنطية‪� ،‬أي‬ ‫باللغو‪ .‬العلمانية ممار�سة واحلكم عليها هو يف جناحها �أو يف ف�شلها‪ ،‬لي�س كنموذج ُيحتذى‪ ،‬بل‬ ‫كطريقة خا�صة ّمت ابتكارها يف جمتمع ما باال�ستجابة ل�شروطه الثقافية والبيئية ودرجة تقدمه‬ ‫يف م�ضمار احلداثة‪ ،‬ال علمانية يف جمتمع متخلف‪ .‬ال �سالمة ملفهومها يف جمتمع ا�ستبدادي‪.‬‬ ‫ال �إمكانية لتج�سدها يف جمتمع ما قبل الدولة‪ ،‬حيث تهيمن االنتماءات القبلية‪ ،‬الإثنية‪،‬‬ ‫العن�صرية‪ ،‬الدينية‪ ،‬املذهبية �إلخ‪...‬‬ ‫ما بني العلمانية وهذه املجتمعات واجلماعات‪ ،‬طالق‪ ...‬هل هذا يعني �أن العلمانية ُيفرت�ض‬ ‫ت�أجيلها �إىل ما بعد ت�أهيل اجلماعات؟ هل العلمانية قادرة وحدها على تغيري املجتمع‪ ،‬من دون‬ ‫بروز ال�شخ�صية الفردية احلرة‪ ،‬التي تتخذ قراراتها وت�سلك يف خياراتها مبعزل عن � ّأي انتماء؟‬ ‫حمدداً للعلمانية‪ ،‬هل هي ف�صل الدين عن الدولة؟ �أم ف�صل الدين عن ال�سيا�سة؟‬ ‫ال تعريف ّ‬ ‫�أم ف�صل الدين عن املجتمع؟ �أم حتديد احل ّيز الديني امل�ستقل عن احليز املدين؟ هل هناك‬ ‫ن�صف علمانية �أم علمانية متد ّرجة؟ �أ�سئلة حتتاج �إىل �أجوبة واقعية‪ .‬الأجوبة النظرية تغني‬ ‫�شح يف التجربة‪ .‬جتاربنا العلمانية بائ�سة جداً‪ .‬جتاربنا املجتمعية الأخرى‬ ‫الفكر ولك ّنها تدل على ّ‬ ‫أ�شد ب�ؤ�ساً و�أكرث حراجة‪ ،‬بحيث ميكن تربير ما ينعت البع�ض فيه العرب‪ ،‬من �أنهم‬ ‫الالعلمانية‪ّ � ،‬‬ ‫‪25‬‬


‫ا�ستثناء ح�ضاري‪ ،‬حيث �أن العلمانية ت�سجل يف جمتمعات كثرية تقدماً‪ ،‬بينما هي بالكاد ترى‬ ‫لها ظ ًال يف هذه ال�صحراء العربية الغارقة يف العن�صرية والطائفية واملذهبية والإثنية واجلهوية‪.‬‬ ‫عدد الهويات يف املجتمعات العلمانية �ضئيل جداً‪ ،‬الفرن�سي فرن�سي‪ ،‬الأملاين �أملاين‪ ،‬وهكذا‪.‬‬ ‫يعد‪� ،‬أو بالأحرى‪ ،‬هي بعد الطوائف واملذاهب والفرق‬ ‫�أما عندنا‪ ،‬فلدينا من الهويات ما ال ّ‬ ‫واجلماعات ل�سنا دولة بعد‪� .‬إذاً ال علمانية بعد‪.‬‬ ‫العلمانية خادمة غري خمدومة‬

‫ال ُتنكر اجلهود التي بذلها الرواد يف ع�صر النه�ضة‪ ،‬لو�ضع املجتمعات العربية على �سكة‬ ‫متحدية‪ ،‬ر�ؤيوية وحقيقية‪ .‬تن�ضح كتاباتهم ب�أمل التغيري‬ ‫احلداثة‪ .‬كتابات ه�ؤالء جريئة‪ّ ،‬‬ ‫واالنتقال من مرحلة التخلف �إىل �أفق احلداثة‪� .‬أخفقت هذه الكتابات يف خلخلة البناء‬ ‫التاريخي للجماعات يف العامل العربي‪� ،‬أ�صابت الأفكار النخب‪ ،‬مع تبني بع�ض الأنظمة‬ ‫الأفكار القومية‪ ،‬مل تكن العلمانية عنوان زمن ال�صعود القومي‪ .‬كان الهاج�س‪ ،‬التخل�ص من‬ ‫اال�ستعمار والتحرر االجتماعي‪ .‬كانت العلمانية �ضيفاً ه�شّ اً على هذه الأنظمة التي �سرعان‬ ‫ما حتولت �إىل ديكتاتورية ا�ستبدادية كان من نتائج حقبتها‪ ،‬تفجري املجتمع �إىل اثنيات وفرق‬ ‫دينية وتكفريية‪ .‬تنمو العلمانية يف مناخ احلرية والدميوقراطية‪ .‬العلمانية اال�ستبدادية عاقبتها‬ ‫وخيمة‪ .‬بها تل�صق تهمة مهادنة اال�ستبداد‪ ،‬واالغرتاب عن البيئة‪ ،‬ولقد ح�صل ما هو �أفدح من‬ ‫ذلك حيث جل�أت هذه الأنظمة �إىل �سجن ومالحقة ومطاردة وتعذيب القوى احلزبية امل�ؤمنة‬ ‫بالعلمانية والدميوقراطية واحلداثة‪ .‬ال وجود حلزب �سيا�سي خارج ال�سجن‪� ،‬إلاّ �إذا كان حمظياً‬ ‫ومطيعاً للقوة امل�ستبدة‪ ...‬وهذا ما ت�ؤكده لوائح ال�سجون يف ّ‬ ‫كل من م�صر العلمانية و�سوريا‬ ‫العلمانية والعراق العلماين وليبيا العلمانية واجلزائر العلمانية‪.‬‬ ‫لقد غامرت الأحزاب العلمانية مغامرة خميبة للأمل‪ ،‬حتديداً يف لبنان‪ ،‬عندما اختارت �أن ت�ؤجل‬ ‫علمانيتها ل�صالح مواقع لها يف ال�سلطة‪ ،‬فتحالفت مع قوى الإقطاع الطائفي وتيارات املذاهب‪...‬‬ ‫�ألغت نف�سها ومربر وجودها‪ ،‬عندما انحرفت عن ن�ضالها العلماين ّ‬ ‫مف�ضلة املكا�سب ال�سيا�سية‪،‬‬ ‫والتي ال تد ّر عليها غري التك ّل�س‪ .‬يف �أيام ال�سلم الطائفي ف�ضلت �أن تكون يف القافلة االنتخابية‬ ‫مقطورة بقادة طوائفيني و�إقطاعيني‪ ،‬ويف �أيام احلرب‪ ،‬برهنت على جدارة قتالية يف �صفوف قوى‬ ‫‪26‬‬


‫ملف العلمانية ‪ /‬درا�سات‬

‫محُ ت�ضنة طائفياً‪ .‬تت�شابه هنا الأحزاب القومية وتيارات العروبة وجماعات الي�سار‪ .‬لذا‪ ،‬مل تكن‬ ‫العلمانية خمدومة من �أحزابها‪ ،‬بل كانت خادمة �أمينة للأحزاب والتيارات العلمانية‪.‬‬ ‫املجتمع املدين رخو جداً‪ّ ،‬‬ ‫مقطع الأو�صال‪ ،‬ذو نزوة ال ترقى �إىل مرتبة الن�ضال‪ .‬وعليه‪ ،‬فقد‬ ‫كانت العلمانية �أ�صيلة يف منابعها‪ ،‬معتكرة يف معرتك احلياة ال�سيا�سية‪ ،‬من�سية بحكم التقادم‬ ‫االجتماعي والإن�ساين‪ .‬ما تزال العلمانية �صاحلة‪ ،‬ولكن العلمانيني عاطلون عن تب ّنيها‪ .‬ويف‬ ‫معادلة الوقائع‪ ،‬برهنت الطائفية على حيوية منقطعة النظري‪ ،‬و�أنها خمدومة بجدارة وتكافئ‬ ‫املنا�ضلني فيها ب�أرقى املراكز وب�أكرثيات جماهريية ال حت�صى‪ .‬الغلبة للطائفية واملذهبية واخل�سارة‬ ‫للعلمانية‪ .‬هي نتيجة حتمية ومربمة‪.‬‬ ‫يطبقه؟‬ ‫‪ III‬ـ الطائف علماين من ّ‬

‫مل ّ‬ ‫يت�سن للعلمانية �أن تكون مكان اختبار حتى ُي ّربر ف�شلها‪ .‬هي مل تف�شل لأنها مل ُتختبرَ‬ ‫على مدار قرن‪ُ .‬ت�ستثنى تون�س التي جتر�أت على املوروث بقرار من �صلب العامل احلديث‪.‬‬ ‫�أ�ضحت العلمانية يف تون�س يف قلب ال�صراع‪ ،‬عندما فر�ضت على الدولة وعلى املجتمع‪ .‬رف�ض‬ ‫الإ�سالميون هذه العلمانية ودافع عنها وطنيون وي�ساريون ومواطنون م�ستنريون‪ .‬جنحت التجربة‬ ‫بن�سبة عالية‪ .‬لكن عدم جتديد احلياة ال�سيا�سية وا�ستكانة ال�سلطة يف مواقعها وتداولها بالقوة‪،‬‬ ‫منح الإ�سالميني فر�صة الدفاع عن الدميوقراطية التي ال ي�ؤمنون بها‪ ،‬و�أ�صابوا ب�سهامهم العلمانية‬ ‫التي �صمدت ب�صمود جماهريها ونخبها والأحزاب التي تدافع عنها‪ ...‬جتربة جديرة باالحرتام‪.‬‬ ‫لبنان‪ ،‬منحته فرن�سا د�ستوراً علمانياً‪ ،‬ال دين للدولة يف لبنان‪ ،‬الدولة لي�ست دينية‪ ،‬حتمي الدين‬ ‫كما هو وال تتدخل يف معتقداته‪� .‬شابته مادة وحيدة‪ ،‬دعت �إىل توزيع احلقائب يف الدولة على‬ ‫الطوائف‪ ،‬التما�ساً للعدل‪ ،‬وبطريقة ال ت�ض ّر بامل�صلحة العامة‪ ،‬على �أن يكون هذا التدبري م�ؤقتاً‪.‬‬ ‫�إنها املادة اخلام�سة والت�سعون من الد�ستور القدمي قبل تعديله ُبعيد اتفاق الطائف‪.‬‬ ‫�شاب احلياة القانونية �صدور القرار ‪ 60‬ل‪.‬ر‪ .‬من قبل املندوب ال�سامي يف �سوريا ولبنان والتي‬ ‫نظم عربها املحاكم املذهبية ال�شرعية والراعية للطوائف‪ ،‬م�ستثنياً من ذلك «العلمانيني»‬ ‫�أ�صحاب احلق يف �أال يكونوا طائفيني‪ .‬اكتفت ال�سلطات اللبنانية ب�إقرار مرا�سيم املحاكم الروحية‬ ‫‪27‬‬


‫وال�شرعية لكل الطوائف واملذاهب‪ ،‬وجتاهلت ما يخ�ص املواطنني غري املنتمني �إىل �أي طائفة‪،‬‬ ‫بحكم علمانيتهم‪ .‬الفرن�سي م�ستعمراً‪� ،‬أعطى اللبنانيني وال�سوريني حقاً علمانياً مل يطالب به‬ ‫ن�ص عليه‬ ‫�أحد‪ .‬العلمانيون طن�شوا‪ ،‬رمبا عرفوا ون�سوا‪ .‬يف كل الأحوال‪ ،‬فقد العلمانيون حقاً ّ‬ ‫القرار ‪ 60‬ل‪.‬ر‪ ...‬فهل ه�ؤالء العلمانيون علمانيون حقاً؟‬ ‫�ألف ال‪ ،‬اجلعجعة ب�صوت مرتفع الداعية �إىل العلمانية مف�ضوحة «لي�س كل من يقول يا رب يا‬ ‫رب يدخل ملكوت ال�سموات» الطريق �إىل العلمانية هي التدرج باملطالب ال �إلغاء املكا�سب‪.‬‬ ‫مل ن�سمع �أحداً من الأحزاب العلمانية‪ ،‬با�ستثناء بع�ض احلقوقيني الذين �أثاروا يف عدد من‬ ‫امل�ؤمترات هذه احلالة‪ ،‬وملا انق�ضى امل�ؤمتر‪ ،‬م�سحت الكلمات عن الطاوالت كما مي�سح الغبار‪ .‬هذا‬ ‫غي�ض من في�ض‪.‬‬ ‫انفجر لبنان يف عام ‪ .1975‬دخل اجلميع كرنفال الدم‪ .‬تقدمت الطائفية ال�سيا�سية واحتلت‬ ‫املواقع وحفرت اخلنادق‪ .‬انت�شرت الأحزاب العلمانية يف اجلبهات �إىل جانب الطوائفية املتقاتلة‪،‬‬ ‫كان حظها بعد القتال �أن �أق�صيت عن احللول‪ .‬وبعدما برهنت على جدارة يف القتال ذهب‬ ‫اجلميع �إىل الطائف �إال ه�ؤالء‪ .‬مل يدعوا �إليه‪ ،‬وال دعوا مرة �إىل مفاو�ضات‪ .‬عوملوا ك�إجراء عند‬ ‫الطوائف‪.‬‬ ‫�إن �آليات تغيري النظام الطائفي يف لبنان موجودة يف الد�ستور‪ ،‬ن�ص اتفاق الطائف على �آلية‬ ‫التغيري‪� ،‬أو االنتقال من النظام الطائفي �إىل النظام املدين‪.‬‬ ‫الطائف و�ضع اللبنانيني �أمام طريق اخلروج من احلرب عرب جمع الأ�سلحة ومنع االنق�سام‬ ‫و�إعادة تكوين ال�سلطة بعد التعديالت التي �أ�صابت مركز املارونية ال�سيا�سية بال�ضعف‪،‬‬ ‫و ُنقلت بع�ض �صالحيات الرئا�سة �إىل احلكومة جمتمعة‪ ،‬ب�صيغة امل�شاركة املتنا�سبة يف‬ ‫احلكم‪ .‬وكان من املفرت�ض‪ ،‬بعد ت�أمني املنا�صفة الطائفية بني امل�سيحيني وامل�سلمني‪� ،‬أن‬ ‫ُي�صار‪ ،‬بعد �أول انتخابات على قاعدة املنا�صفة‪� ،‬إىل ت�شكيل الهيئة الوطنية العليا لإلغاء‬ ‫الطائفية ال�سيا�سية‪ ،‬و�إقرار قانون انتخابي خارج القيد الطائفي‪ ،‬و�إن�شاء جمل�س �شيوخ متثل‬ ‫فيه العائالت الروحية‪.‬‬ ‫ماذا فعل العلمانيون لتطبيق �أو لدفع القوى املهيمنة �إىل تطبيق هذه املواد الد�ستورية املُلزمة؟ ال‬ ‫‪28‬‬


‫ملف العلمانية ‪ /‬درا�سات‬

‫مهدداً بهذه املواد الد�ستورية لالبتزاز‬ ‫�شيء على الإطالق‪ .‬وحده الرئي�س نبيه بري‪ ،‬جل�أ مرتني ّ‬ ‫ال�سيا�سي‪ .‬كما حاولت ال�سلطة ال�سورية �أن ت�ستعمله للتخويف �أو تدفنه للطم�أنة‪ ...‬العلمانيون‬ ‫هباء منثور ال عالقة لهم بالعلمانية‪.‬‬ ‫لي�س املطلوب عملياً اخرتاع البارود‪ ،‬الطائف موجود‪� .‬إنه الطريق �إىل علمنة حقيقية للدولة‬ ‫وم�ؤ�س�ساتها‪ ،‬املادة اخلام�سة والت�سعون وا�ضحة‪ ،‬حتتاج �إىل من يلتزم بها‪.‬‬ ‫حاول املطران غريغوار حداد �أن يخو�ض معركة العلمانية ال�شاملة‪ .‬جمع حوله علمانيني من‬ ‫املجتمع املدين‪ .‬كان �صادقاً ووفياً لعلمانيته ال�شاملة‪ ،‬حتى النف�س الأخري‪ .‬كان �صوتاً �صارخاً‬ ‫يف الربية‪ .‬مل يقف معه �إال قلة من امل�ؤمنني بالعلمانية عن جد‪ ،‬لكن احلرب اللبنانية‪ ،‬ق�صمت‬ ‫م�شروعه‪ .‬الطائفية تنني بر�ؤو�س متعددة‪ .‬غلبت املطران الذي مل تغلبه كني�سته‪ ،‬برغم �أنها �شنت‬ ‫عليه حروبها و�أق�صته عن مطرانيته‪.‬‬ ‫وال حزب من الأحزاب «العلمانية»‪ ،‬له من ن�ضال املطران ما يوازي �سطراً من جهاده‪.‬‬ ‫‪ IV‬ـ الطائفة جتمع والعلمانية ال‬

‫من هو العلماين؟ هو ذاك الذي خرج على طائفته يف ال�سيا�سة واالجتماع والأخالق‪ ،‬هو الذي‬ ‫بات متحرراً‪ ،‬انتزع �أمرة نف�سه من الطائفة التي ولد يف �أح�ضانها وتربى على ثقافتها‪ .‬حريته‬ ‫متنحه اال�ستقالل وتعزز فرديته‪ .‬الأفراد يف الطوائف قطعان‪.‬‬ ‫الروابط الطائفية متينة جداً‪ .‬الطائفي كائن ٍ‬ ‫مكتف بطائفته‪ .‬ال ي�شعر بتمام وجوده �إال يف انتمائه‬ ‫�إىل جماعته‪ .‬يرثها فكراً وممار�سة‪ .‬ي�ساهم يف الدفاع عن طائفيته‪� ،‬سيا�سياً و�إدارياً واجتماعياً‬ ‫وثقافياً‪ ،‬ويتج ّند للذود عن طائفته كلما دعت احلاجة‪ ،‬وهو ال يجتهد يف تنفيذ القرارات‬ ‫وم�سالك االجتاهات التي يتخذها القادة‪ .‬قد يتذمر ولكنه يطيع‪ .‬قد ينتقد ولكنه ميتثل‪� .‬إن‬ ‫منتم وجودي وعن جد‪ .‬ي�ساهم يف‬ ‫خرج عن �أو من طائفته‪ ،‬وجد نف�سه عارياً يف عراء‪� .‬إنه ٍ‬ ‫تقوية طائفته وين�صرها على غريها‪ .‬ال يقيم وزناً لالعتبارات الأخالقية �أو للقيم‪ .‬هو مع طائفته‬ ‫ظاملة �أو مظلومة‪ .‬الأزعر عنده يف طائفته �أف�ضل �ألف مرة من الآدمي يف غري طائفته‪ ،‬وهو ي�شعر‬ ‫باالن�سجام مع نف�سه وحميطه‪ ،‬ويدافع عن التزامه من دون �أن ي�شعر بعقدة نق�ص‪ .‬هذا هو‬ ‫الطائفي عن جد‪ .‬الطائفيون االنتهازيون هم امل�ستفيدون من الطائفية ي�ستخدمون الطائفية‬ ‫‪29‬‬


‫عندما تنا�سب م�صاحلهم وال يخدمونها �إذا �أ�ض ّرت مب�صاحلهم‪.‬‬ ‫ف�ضيلة العلماين نقاوة من هذه اللوثة‪� .‬أناة بريئة‪ .‬متحرر ونقدي وقلق‪ .‬لكنه يحتاج �إىل انتماء‬ ‫عرب رابط بجماعة‪ .‬البديل عن الرابطة الطائفية هي الروابط االجتماعية املفتوحة �أو االنتماء‬ ‫�إىل اجلماعة العلمانية‪.‬‬ ‫ق ّلما جند هذه الرابطة عند العلمانيني الأحرار‪ .‬يكتفون بفرديتهم العلمانية وال يلتزمون �إال‬ ‫نادراً بجماعات علمانية‪ .‬و�إن التزموا ما �أطاعوا‪ .‬مل تعد الأحزاب العلمانية جذابة بل هي‬ ‫منفرة‪ .‬ف�ضيلة العلماين فرادته يف جمتمع التجمعات الطائفية وا�ستقالل قراره‪ .‬خطيئته �أنه‬ ‫ي�أبى االلتزام الذي فر�ض عليه الت�أليف مع جماعة‪ ،‬لذلك‪ ،‬جند يف لبنان �شك ًال من العلمانيني‬ ‫الذين يختلفون على تفا�صيل التفا�صيل‪ ،‬وهم لي�سوا دميقراطيني �إال بالكالم‪.‬‬ ‫‪ V‬ـ لبنان خملوق طائفي فقط‬

‫لكيان لبنان م ّربر مفرد لوجوده‪ .‬هو ملج�أ للطوائف يف البدء‪ .‬كان مالذاً للم�سيحيني اخلائفني من‬ ‫حميطهم‪ ،‬اخلارجني من حرب مدمرة وفتنة قا�سية‪� :‬إبان القائمقاميتني التقت طموحات ومطامع‬ ‫الفرن�سيني يف �أن يكون لهم موقع قدم يف ال�شرق‪ ،‬مع امل�سيحيني اخلائفني واملطالبني بعناد بجبل‬ ‫ّ‬ ‫م�ستقل وماروين‪ .‬لوال ذلك‪ ،‬لكان لبنان هذا مقاطعة من املقاطعات العثمانية‪ ،‬فالعربية‪.‬‬ ‫لبنان‬ ‫نا�ضل الطائفيون بدعوى �أن لبنان الفينيقي ما زال موجوداً‪ ،‬برغم التبدالت واالنقالبات‬ ‫والغزوات‪ ...‬هم اقتنعوا بهذا و�سعوا �إليه‪ .‬لبنان هذا كان ب�سبب امل�سيحيني املوارنة‪ .‬هم طالبوا‬ ‫به‪ ،‬فيما كان الآخرون غائبني �أو مطمئنني �إىل �أنهم �إما مع الإ�سالم‪� ،‬أو مع العروبة‪� ،‬أو مع‬ ‫�ضم الأق�ضية الأربعة‬ ‫الوحدة‪ .‬انت�صر املوارنة ب�إقامة كيان‪� ،‬أكرب من حجم طائفتهم‪ ،‬وذلك عرب ّ‬ ‫وعدد من مدن ال�ساحل‪.‬‬ ‫لبنان ال �شبيه له يف حميطه حتى اندالع احلروب يف امل�شرق العربي يف الع�شرية الثانية من‬ ‫القرن الع�شرين‪ .‬الطائفية لي�ست فيه بل يف �أ�سا�سه وال �أ�سا�س للبنان من دونها‪.‬‬ ‫ولأنه كذلك‪ ،‬ف�إن ح ّرا�س الهيكل حري�صون جداً على ح�صر ال�سيا�سة والإدارة يف �أنحاء �أن�شطته‪.‬‬ ‫ال �سيا�سة خارج الطائفية‪ ،‬وال �إدارة كذلك‪ .‬لقد كانت الطائفية �أقل وط�أة يف ما قبل اال�ستقالل‪،‬‬ ‫بعده انتظمت وهد�أت‪� ،‬إىل �أن حترك الإقليم حول ق�ضايا قومية وحتديداً بعد العدوان الثالثي‬ ‫‪30‬‬


‫ملف العلمانية ‪ /‬درا�سات‬

‫على م�صر وانتهاج كميل �شمعون �سيا�سة معادية لعبد النا�صر‪ ،‬فاختلت «الال�آن»‪ :‬ال للغرب‬ ‫وال للوحدة‪� .‬أما ع�شية احلرب يف ‪ 1975‬فقد كانت الطائفية على �سالحها‪ ،‬وكل �سالح يدافع‬ ‫عن طائفته‪ ،‬لقد بلغت الطائفية بعد احلرب مرتبة غري م�سبوقة يف املمار�سة ف�أ�ضحت هي الآمر‬ ‫الناهي‪ ،‬وانتظمت احلياة ال�سيا�سية بني تكتالت طائفية نقية‪ ،‬ما �أدى �إىل بدعة «الأرثوذك�سي»‬ ‫حيث يكون لكل طائفة ا�ستقاللها االنتخابي وما يتفرع عن ذلك من ح�صرية التمثيل ونقاوته‪،‬‬ ‫مانعة يف ذلك �أي ت�س ّرب وطني �أو علماين �أو الطائفي‪.‬‬ ‫من الأ�سا�س‪ ،‬مل يكن لبنان �إال طائفياً‪� ،‬إمنا كانت طائفيته ملرحلة م�ؤقتة ي�صار �إىل �إلغائها‬ ‫بعد فرتة‪ .‬كان ذلك وهماً‪ .‬ال ميكن الركون �إىل الطائفية الطائفيني وال يقبل �أبداً �أن يلغي‬ ‫الطائفي ذاته بقرار منه‪ .‬لذا‪ ،‬تقدمت الطائفية ال�صفوف‪ ،‬نابذة غريها‪ ،‬والغية �أية �إمكانية‬ ‫لتطوير النظام باجتاهات غري طائفية‪ .‬ومل يكن الالطائفيون والعلمانيون بقوة احتاد الطوائف‬ ‫املتنازعة‪ ،‬لذلك مل يكونوا ذوي ت�أثري يف امل�سار اللبناين‪ .‬وملا �شعروا بتق�صريهم اختاروا‬ ‫االلتحاق بالركب الطائفي‪.‬‬ ‫لي�س للعلمانيني حلفاء �إقليميون �أو دوليون بينما حتظى الطوائف برعايات ودعم وت�أييد ون�صرة‬ ‫عدد من الدول العربية والأجنبية‪ .‬لل�سنة امتدادات عابرة للحدود‪ :‬م�صرية‪ ،‬فل�سطينية‪،‬‬ ‫�سعودية‪ .‬لل�شيعة �أذرع متتد �إىل �إيران وال�شام والعراق و�سواها‪ .‬للم�سيحيني امتدادات تقل�صت‬ ‫مع الزمن مع �أوروبا وفرن�سا �سابقاً و�سواها الحقاً‪ .‬تبدو الطائفة امل�سيحية مت�ش ّبثة بح�صنها يف‬ ‫الكيان وم�ص ّرة على بقائها الركيزة الأ�سا�س نظراً �إىل فقدانها الدعم املطلق الذي حتظى به‬ ‫الطوائف الإ�سالمية‪ .‬وعليه‪ ،‬ف�إن التغيري يف لبنان حماولة عقيمة جداً‪ّ ،‬‬ ‫جل ما يرقى �إليه ال�صراع‬ ‫الواقعي‪ ،‬هو حت�سني الأداء الطائفي‪ ،‬وملثل هذا الطموح املتوا�ضع ما ال ُيح�صى من التعقيدات‪.‬‬ ‫املرحلة الراهنة هي مرحلة ا�ستفحال املذهبية والطائفية يف لبنان وحميطه الذي فتح �أبواب‬ ‫اجلحيم عليه‪ ،‬عرب تب ّنيه العنف‪.‬‬ ‫هل هذا يدعو �إىل الي�أ�س؟‬

‫ال�سلوك العلماين يدعو �إىل �أكرث من الي�أ�س ال مف ّر �أمام العلمانيني �سوى �أن يكونوا علمانيني‪،‬‬ ‫ب�شرط �أن ت�أتي علمانيتهم واقعية ومتدرجة وقابلة ب�أن تخطو خطوات �صغرية‪� ،‬إن �إجنازاً مثل �إجناز‬ ‫‪31‬‬


‫االعرتاف بالهوية العلمانية للعلمانيني‪� ،‬أي بحذف الإ�شارة �إىل الطائفة يف �سجل النفو�س‪ ،‬يفتح‬ ‫الطريق �أمام تكاثر العلمانيني احلقيقيني امل�ستقيلني من طوائفهم وعنها‪ ،‬ويفر�ض عليهم و�ضع‬ ‫برنامج لتحقيق موجبات تطبيق علمانيتهم‪ ،‬من داخل النظام الطائفي‪� ،‬إمنا �ضده وعرب معار�ضته‬ ‫لإلغائه‪ .‬العلمانية خطوة خطوة‪ .‬هي الطريق الواقعية للح�ضور العلماين الفعلي وامليداين‪.‬‬ ‫كل حماوالت قلب النظام الطائفي بهدف �إقامة نظام علماين فا�شلة ال بل كاذبة‪ .‬الوقائع ت�صدق‬ ‫على ذلك‪ .‬مل يحدث �أبداً �أن قامت حركة بهذا االجتاه‪ .‬حماولة احلركة الوطنية ثم اغتيالها‬ ‫عربياً‪ .‬لبنان هذا الطائفي جداً �ضرورة عربية‪ .‬دائماً كانت اجليو�ش من كل االجتاهات‪ ،‬حت�ضر‬ ‫�إىل لبنان ل�صيانة نظامه‪ .‬حتى �إبان احلرب اللبنانية‪ ،‬كانت تعقد حوارات يف الداخل وجلان يف‬ ‫اخلارج‪ ،‬واتفاقات متعددة‪ ،‬ال ُيدعى �إليها �أي فريق �أو حزب علماين‪ .‬الطائف منوذج‪ .‬االتفاق‬ ‫ق�صون عن امل�سرح ال�سيا�سي‪ .‬يلزم �أن يح�ضروا كماً‬ ‫الثالثي منوذج برعاية �سورية‪ .‬العلمانيون ُم َ‬ ‫ونوعاً‪ ،‬با�ستقالل تام عن الطائفية‪.‬‬ ‫ال بد من القطيعة مع النظام و�أهله ومطالبة هذا النظام بحقوق الوجود احلر‪ .‬عندما ي�صبح‬ ‫العلمانيون كماً ونوعاً كتلة مرتا�صة ب�أحزاب �أو من دونها‪� ،‬ستكون رحلة الألف ميل قد بد�أت‪.‬‬ ‫ال�سيا�سة ت�أخذ بعني االعتبار القوى املوجودة‪ .‬من لي�س موجوداً ال قيمة له‪ ،‬ولأن العلمانيني‬ ‫غري موجودين‪ ،‬ف�إنهم فرادى يائ�سون‪ ،‬وجتمعات يائ�سة و�أن�شطة تدعو للرثاء‪.‬‬ ‫هذا النظام ّ‬ ‫يدك من �أ�سا�سه‪� .‬أ�سا�سه االلتزام الطائفي‪ .‬ودك هذا الأ�سا�س يبد�أ باالن�سحاب‬ ‫من الطائفية واعتبارها خ�صماً تلزم هزميته يف مناحي احلياة كافة‪ ،‬ت�أ�سي�ساً على لوائح حقوق‬ ‫الإن�سان‪ ،‬التي هي دين املجتمع اجلديد‪.‬‬ ‫�إىل �أن يح�صل �شيء من ذلك‪� ،‬أمامنا فر�صة التفكري والعمل بطرق جديدة و�أ�ساليب جديدة‪.‬‬ ‫الأ�ساليب الدعائية واخلطابية والكتابية القدمية بائدة وفا�شلة‪ .‬املطلوب خطوة قبل الفكرة‪،‬‬ ‫واخلطوة تليها خطوات‪� .‬إننا حمكومون بهذا الأمل‪ .‬و�إن احلياة العلمانية ت�ستحق �إبداع و�سائل‬ ‫جديدة للبدء مب�سريتها‪.‬‬ ‫ع�سى!‬ ‫‪32‬‬


‫ملف العلمانية‪ /‬درا�سات‬

‫إميان "ما بعد العلمانية‪"...‬‬ ‫� ُ‬

‫حممود حيدر ‪ -‬مفكر وباحث يف الفل�سفة ال�سيا�سية – رئي�س مركز دلتا للأبحاث املعمقة – بريوت‬

‫م َّر تاريخ كامل ا�ستح َّلت فيه عبار ُة "�إزالة ال�سحر عن العامل" (‪َ )désenchantement‬‬ ‫عقل‬ ‫حتولت مع‬ ‫احلداثة الغرب ّية برمته‪ .‬كان الدين على وجه احل�صر هو املق�صود من العبارة التي ّ‬ ‫تقادم الزمن �إىل ما ي�شبه الأيقونة الأيديولوجية‪.‬‬ ‫مل يكد القرن الع�شرون يطوي �سج ّله َّ‬ ‫املكتظ بالأفكار والأحداث واحلروب الكربى‪ ،‬حتى‬ ‫َقفَل الغرب عائداً �إىل �أ�سئلة بدئية طواها �سحر احلداثة و�ضجيجها‪ .‬من �أظهر تلك الأ�سئلة‬ ‫الديني"‪ .‬وما كان الق�صدُ من‬ ‫ما عك�سته مناخات اجلدل امل�ستحدث يف ما �أُ�سمي "رجوع‬ ‫ّ‬ ‫"رجوع‬ ‫الديني" هنا‪� ،‬إال الإعراب عما ّي�سفر عنه �س�ؤال الدين من �أث ٍر مبني يف ثقافة الغرب‬ ‫ِّ‬ ‫ال�صماء‪ .‬مل يفارق الدين �أر�ض احلداثة �سحابة القرون اخلم�سة من عمرها‬ ‫املُثقلة ب َعلمانيتها َّ‬ ‫املديد‪ .‬كذلك مل يغادر هواج�س الغرب وتعقُّالته‪ ،‬ال يف حداثته الأوىل‪ ،‬وال يف �أطواره ما بعد‬ ‫احلداثية‪ .‬ك�أمنا قد ٌر ق�ضى �أن ّ‬ ‫يظل الدين باعث احلراك يف الفل�سفة والفكر والثقافة واالجتماع‪.‬‬ ‫حتى لقد بدا �أ�شب َه مبر�آة �صقيل ٍة َيظهر على �صفحتها املل�ساء ُح�سن احلداثة املزعوم‪ .‬فالدين ـ‬ ‫على ما يبينّ فال�سفة التنويرـ مل ُيك ّف عن كونه وظيفة �أبدية للروح الإن�ساين‪ .‬لهذا راحوا‬ ‫ين ّبهون �إىل �ضرورة �ألاَّ تتنازل الفل�سفة يوماً عن حقّها يف بحث امل�شكالت الدينية الأ�سا�سية‬ ‫وح ِّلها‪.‬‬ ‫كان فيل�سوف الدين الرو�سي نيقوال برديائيف يرى �أن لليقظات الفل�سفية دائماً م�صدراً‬ ‫دين ّياً‪ .‬ولقد نال من كالمه هذا الكثري من النعوت املذمومة ممن جا َي َلهم من علماء املارك�سية‬ ‫ظل على قناعته ب�أن جه ًال مطبقاً‬ ‫وفال�سفتها‪ .‬لكنه رغم َ�س ْي ِل االنتقادات التي انهمرت عليه‪ّ ،‬‬ ‫�ضرب العقل الأوروبي حيال الدين‪ .‬كان برديائيف يدعو على الدوام �إىل التب�صر بالإميان‬ ‫الديني مبا هو حالة فوق تاريخية ال ي�ستطيع العقل العلماين �أن ُيقاربها بي�سر‪ .‬بل �إنه �سيم�ضي‬ ‫‪33‬‬


‫يف مطارح كثرية من م�ساجالته �إىل ما هو �أبعد من ذلك‪ .‬فقد �أعرب عن اعتقاده ب�أنّ الفل�سفة‬ ‫أ�شد م�سيحية يف جوهرها من فل�سفة الع�صر الو�سيط‪.‬‬ ‫احلديثة عموماً‪ ،‬والأملانية خ�صو�صاً‪ ،‬هي � ّ‬ ‫حيث نفَذت امل�سيحية ـ بر�أيه ـ �إىل ماهية الفكر نف�سه ابتدا ًء من فجر ع�صور احلداثة‪.‬‬ ‫***‬ ‫"رجوع الديني"‪ ،‬هو بال ريب‪ ،‬عنوان �إ�شكا ّيل له تداعياته العميقة على املفاهيم والأفكار‬ ‫والقيم التي جتتاح املجتمعات الغربية اليوم‪ .‬من التداعيات ما ينربي �إىل تداوله جم ٌع من‬ ‫فال�سفة ومفكري الغرب �سعياً للعثور على منظور معر ّيف ُينهي االخت�صام املديد بني الدين‬ ‫والعلمنة‪ .‬الذي ت�سالمَ َ عليه اجلم ُع يف ما ُعرف بنظرية "ما بعد العلمانية"‪ ،‬هو �أحد �أكرث النوافذ‬ ‫املُقرتحة ح�سا�سية يف هذا االجتاه‪ .‬ما يع ّزز �آمال القائلني بهذه النظرية �أن �أوروبا الغنية باملرياثني‬ ‫العلماين والديني قادر ٌة على �إبداع �صيغة تناظر تجَ م ُع املرياثني معاً بعد فِرقة طال �أمدها‪ .‬رمبا هذا‬ ‫هو ال�سبب الذي لأجله ذهب بع�ض ِّ‬ ‫منظري "ما بعد العلمانية" ـ ومنهم الفيل�سوف الأملاين‬ ‫مرجعي يح�ضن �أهل الديانات و�أتباع العلمنة‬ ‫يورغن هابرما�س ـ �إىل وجوب تخ�صي�ص �إطار‬ ‫ّ‬ ‫�سواء ب�سواء‪ ،‬بغية العي�ش املتناغم يف �أوروبا تعددية‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫�شغف الت�سا�ؤل حول �صريورة االحتدام الديني العلماين وم�آالته‪ ،‬مل يتوقف عند هذا املفرق‪.‬‬ ‫كان ثمة منحى �آخر ترتجمه امللتقيات احلميمة بني اَّاللهوت والفل�سفة‪ .‬واللقاء املثري الذي‬ ‫جمع قبل ب�ضعة �أعوام البابا بينيدكتو�س ال�ساد�س ع�شر �إىل الفيل�سوف هابرما�س‪َّ ،‬‬ ‫�شكل يف‬ ‫العمق �أحد �أبرز منعطفات التحاور اّ‬ ‫اخللق بني الإميان الديني والعلمنة يف �أوروبا‪ .‬ومع �أن‬ ‫عما ميكن اعتبا ُره ميثاقاً �أول ّياً للم�صاحلة بني التفكري الالهوتي والتفكري‬ ‫اللقاء مل ُي�سفر يومئذٍ ّ‬ ‫العلماين‪� ،‬إلاّ �أنه �أطلق جد ًال قد ال ينتهي �إىل م�ستق ّر يف الأمد املنظور‪.‬‬ ‫اللقاء الفريد بني الرجلني‪ ،‬ظ ّهر امل�س َّلمات التي ينبغي ال ُ‬ ‫أخذ بها لتح�صني كرامة الإن�سان يف‬ ‫حد التهافت‪ .‬وجد هابرما�س يف العقل العملي لـ"الفكر ما‬ ‫زمن بلغت فيه اختبارات احلداثة َّ‬ ‫بعد امليتافيزيقي العلماين" نافذة جناة‪ .‬بينما وجده البابا بنيديكتو�س يف الإن�سان كمخلوق‬ ‫�إلهي‪ .‬يومها اعرتف هابرما�س با�ستعداد الفل�سفة التع ُّلم من الدين‪ .‬كان ل�سان حاله يقول‪:‬‬ ‫‪34‬‬


‫ملف العلمانية ‪ /‬درا�سات‬

‫فليهتم الفيل�سوف بالإميان‬ ‫ما دام العقل مل ي�ستطع الق�ضاء على الوحي يف ف�ضاء علماين‪ّ ،‬‬ ‫عو�ض اال�ستمرار يف احلرب معه‪ .‬ثم �أ�ص َّر على �ضرورة �أن تو َيل الدولة امل�ش ِّرعة للقوانني كل‬ ‫الثقافات والتمثُّالت الدينية عنايتها‪ ،‬و�أن َ‬ ‫�سماه بالوعي‬ ‫تعرتف لها بف�ضاء خا�ص يف �إطار ما ّ‬ ‫ين" للمجتمع‪� .‬أما �إجمايل ما ذهب �إليه البابا فهو دعوته �إىل حت�صني احل�ضارة‬ ‫"ما بعد العلما ّ‬ ‫الغربية املعا�صرة عرب خم�س ركائز‪ :‬التعاون بني العقل والإميان‪ ،‬مواجهة التحديات اجلديدة‬ ‫التعدد الثقايف كف�ضاء الرتباط العقل‬ ‫احلق‬ ‫الطبيعي ّ‬ ‫التي تواجه الإن�سان‪ ،‬فكرة ّ‬ ‫عقلي‪ّ ،‬‬ ‫كحق ّ‬ ‫ّ‬ ‫والإميان‪ ،‬العقل والإميان مدع ّوان لتنظيف و�إ�شفاء بع�ضهما البع�ض‪.‬‬ ‫لو كان لنا من عرب ٍة ُت�ستخ َل ُ�ص مما �أبداه الرجالن‪ ،‬لقلنا �إن ما ح�صل هو �أ�شبه ب�إعالن ينبئ‬ ‫غربي كامل من اجلدل املزمن حول "بِدعة" االخت�صام بني الوحي والعقل‪.‬‬ ‫بان�صرام تاريخ ّ‬ ‫***‬ ‫م�ستجدة يف التفكري الغربي ب�شق ّيه العلماين والالهوتي‪ .‬جترب ٌة تتغ َّيا‬ ‫ما بعد العلمانية �إذاً‪ ،‬جتربة‬ ‫ّ‬ ‫حد لالحرتاب املديد بني ّ‬ ‫خطني متعاك�سني‪� :‬إما الإميان املطلق بقوانني اّاللهوت و�سلطاته‬ ‫و�ضع ّ‬ ‫املعرفية‪ ،‬و�إما الإميان مبطلق العقل املح�ض وما يقرره من �أحكام الدينية لفهم العامل‪.‬‬ ‫لئن َّ‬ ‫دل ّ‬ ‫حتول غري م�سبوق يف التفكري "املا بعد حداثي" بجناحيه‬ ‫كل ذلك على �شيء‪ ،‬فعلى ّ‬ ‫الديني والدنيوي‪ .‬مثلما ي�شري �إىل وجود منف�سحات معرفية ذات وزن داخل البيئة الغربية‬ ‫كانت وال تزال ترى بهدوء موقعية الإميان احلا�سمة يف وجدان الأفراد واحل�ضارات‪ .‬لقد‬ ‫�أ�سفرت هذه املنف�سحات عن �أم ٍر ذي داللة جوهرية يف التحول امل�شار �إليه‪� :‬أن لي�س ثمة‬ ‫من ت�ضاد بني الإميان يف طبيعته احلقيقية‪ ،‬والعقل يف طبيعته احلقيقية‪ .‬و�أن لي�س ثمة �صراع‬ ‫جوهري بني الإميان بالوحي والوظيفة الإدراكية للعقل‪ .‬ومتى ُف ِه َم ذلك على النحو الأ ّمت‪،‬‬ ‫ظهرت ال�صراعات ال�سابقة بني الإميان والعلم يف �ضو ٍء خمتلف متاماً‪ .‬فال�صراع يف حقيقته مل‬ ‫بعده احلقيقي‪ .‬من قبيل املثال‬ ‫وعلم ال يعي كل منهما َ‬ ‫يكن بني الإميان والعلم‪ ،‬بل بني �إميانٍ ٍ‬ ‫غري احل�صري‪ :‬مل يكن ال�صراع ال�شهري بني نظرية التطور الداروينية‪ ،‬والهوت بع�ض الطوائف‬ ‫علم يجرد �إميان الإن�سان من �إن�سانيته‪ ،‬و�إميان‬ ‫امل�سيحية �صراعاً بني العلم والإميان‪ ،‬بل �صراعاً بني ٍ‬ ‫‪35‬‬


‫ح ّوله الهوت ال�سلطة �إىل �أيديولوجيا‪ ،‬ومن ث ََّم �إىل حرب مفتوحة على العقل‪.‬‬ ‫مبتدئِها �إىل خربها‪ .‬فلو عاي َّنا‬ ‫لقد �سرى �س�ؤال الدين يف الغرب م�سرى خطبة احلداثة من َ‬ ‫قلي ًال منها‪ ،‬ال �سيما الفل�سفي وال�سو�سيولوجي‪ ،‬لعرثنا بي�سر على �أ�صلها الديني‪ .‬كما لو كان‬ ‫من �أمر احلداثة حني �أرادت تظهري غايتها الكربى‪� ،‬أن تتخذ لنف�سها �صف ًة متعالية‪ .‬رمبا هذا‬ ‫هو ال�سبب الذي ُنظِ َر فيه �إىل احلداثة وما بعدها‪ ،‬كظاهرة ميتافيزيق ّية رغم دنيويتها ال�صارمة‪.‬‬ ‫فاحلداثة من قبل �أن ت�ش َرع �سيوفها �ش َرعت �أ�سئل َتها‪ .‬وهي �أول ما �س�ألت‪� ،‬سا َء َلت الكني�سة‬ ‫امل�سيحية كخ�صيم لها بال هوادة‪ .‬لكنها حني م�ضت يف ال�س�ؤال لتمنح نف�سها بع�ض اليقني‪،‬‬ ‫هبطت �إىل عمق الزمان الديني‪ .‬مل تفعل احلداثة ما فعلت �إال عن �أمر مت� ِّأ�صل يف ذاتها‪ .‬فقد‬ ‫ال�ضاجة بالكامن الديني‪ .‬وغالباً ما ان�صرفت �إىل امل�سيحية‬ ‫يعرب عن �سريتها ّ‬ ‫"ا�ستفرغت" ما ُ‬ ‫القد�سي ومزاياه‪� ...‬أو رمبا لأنها بحثت عن‬ ‫حلاجتها �إىل متعالٍ ُي�ضفي على �أزمنتها ف�ضائل‬ ‫ِّ‬ ‫اعتالئها الأر�ضي فلم جتده �إال يف ف�ضاء الدين‪ .‬لذا كان عليها �أن تهيمن على معنى امل�سيحية‬ ‫لتقوم مقامه‪� ،‬أو لرتتدي بوا�سطته لبو�س الف�ضيلة‪ .‬لهذا الداعي ـ على غالب الظن ـ تناهى لنا‬ ‫كيف بدت �أ�سئلة احلداثة و�أفعالها حممولة على �أجنحة امليتافيزيقيا‪.‬‬ ‫من�ش�أ املفارقة �أن �س�ؤال احلداثة‪ ،‬جاءنا بالأ�صل من حقول امل�سيحية الوا�سعة؛ ف�إنه بهذه الداللة‬ ‫وليدها ال�شرعي‪ .‬بل �إن �سرية احلداثة مع امل�سيحية كانت �أ�شبه بديانة خرجت من ديانة‬ ‫عا�صرتها‪ ،‬ثم �سبقتها‪ ،‬ثم من بعد �أن ارتوت من عداوتها لها عادت لتحاورها ولو على كيدٍ‬ ‫ُم�ضْ مرٍ‪.‬‬ ‫ت�صدت الفل�سفة املعا�صرة لتجيب على ال�س�ؤال ال�صعب حول امل�آل الذي ميكن �أن ُي�سفر‬ ‫حني ّ‬ ‫عنه اللقاء احلذر بني الإميان الديني والعلمنة‪ ،‬مل ت�ستطع الف�صل بني خ�صمني انحكم �إليهما‬ ‫الغرب جي ًال �إثر جيل‪ .‬مع ذلك مل ت�ستيئ�س الفل�سفة من متاخمة الف�ضاءات الق�صوى لأ�سئلة‬ ‫الدين‪ .‬فمن خ�صائ�ص التفل�سف ـ على حدِّ درايتنا ـ �أن كل �س�ؤال يولد نتيجة عالقة بني‬ ‫ال�ضدين معاً‪ .‬و�أن كل �س�ؤال يحيط دائماً مبجمل‬ ‫�ضدين‪ ،‬و�أن عنا�صره تت�شكل من هذين َّ‬ ‫َّ‬ ‫�إ�شكالية الف�ضاء الذي منه جاء‪ ،‬ويكون يف ّ‬ ‫كل مرة هو هذا املجمل نف�سه‪ .‬وعلى هذا النحو ال‬ ‫ميكن ل ّأي �س�ؤال ميتافيزيقي �أن ُيطرح ـ كما يبينّ مارتن هايدغر ـ من دون �أن يكون ال�سائل‬ ‫‪36‬‬


‫ملف العلمانية ‪ /‬درا�سات‬

‫�ضمناً ـ يف ال�س�ؤال‪� ،‬أي عالقاً يف هذا ال�س�ؤال‪.‬‬ ‫نف�سه ـ ُم َت َّ‬ ‫***‬ ‫لقد َّ‬ ‫حطت املنازع ُة بني احلداثة والكني�سة على �أر�ض الف�صل بني "دنيوية العلمنة" وجوهر‬ ‫امل�سيحية‪ .‬مل تتوقف "العلمانية احلادة" ملّا نازعت الكني�سة مقامها‪ ،‬على احتكار قيم ال�سيا�سة‬ ‫واالجتماع وو�ضع نظريات الدولة‪ .‬ف�إذا بها‪ ،‬مت�ضي �إىل نهاية الرحلة لتنقلب على الكني�سة‪،‬‬ ‫و ُتطيح الهوتها ال�سيا�سي‪ ،‬وحتكم على ادعائه احلقيقة بالبطالن‪ .‬بل �إنها �ستذهب م�سافة �أبعد‬ ‫يف املواجهة‪ ،‬لتفتح باب امل�ساءلة‪ ،‬جممل ما �أجنزته الفل�سفة احلديثة يف �صعيديها القيمي‬ ‫حتولت مقولة الواجب عند كانط �إىل جم ّرد طاعة مطلقة لنظام‬ ‫والأخالقي‪ .‬مثال ال ح�صر‪ّ :‬‬ ‫الدولة‪ /‬الأمة و"�أمريها احلديث"‪ .‬ذاك الذي نزع من احلداثة �أخالقها حني �أفرغها من جوهرها‬ ‫امل�سيحي‪ ،‬ثم وا�صل "�ضراوته" حتى �أو�شك على �ألاّ يبقي من الكني�سة �سوى حجارتها‬ ‫ال�صماء‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫كانط نف�سه مل تو ِّفره �سيوف احلداثة‪ .‬فقد جاء �شغفُه بالتفكري النقدي ليفتح على ممار�سة فل�سفية‬ ‫ال ُتبقي منجزات التنوير يف من�أى من النقد‪ .‬كانت غاية "ناقد العقل اخلال�ص"‪ ،‬موقوفة على‬ ‫كائن ٌ‬ ‫عاقل‪ ،‬ومبا‬ ‫�سعيه حلفظ الأنوار العقلية بالأخالق العملية‪ .‬وكذلك على ر�ؤيته ب�أن الإن�سان ٌ‬ ‫�أنه ٌ‬ ‫أخالقي فهو كائن د ِّي ٌن‪.‬‬ ‫عاقل فهو ٌ‬ ‫كائن � ٌّ‬ ‫أخالقي‪ ،‬ومبا �أنه � ّ‬ ‫ملا انت�صرت احلداثة على ال ّالهوت‪ ،‬وابتنت علمانيتها احلا ّدة بعقل بارد‪ ،‬راحت تنظر �إىل‬ ‫الكني�سة بو�صفها ناب�ض �إرجاع للزمن‪ ،‬و�إىل امل�ؤمنني بو�صفهم كائنات �أ�سطورية ُتغ ِر ُق العا َمل‬ ‫بالظلمات‪ .‬لكن يبدو �أن تلك النظرة طفقت تته َّي�أ ملنقلب �آخر‪� .‬صحيح �أن احلداثة انت�صرت‬ ‫على ال ّالهوت‪ ،‬لكنها مل ت�ستيقظ من نوام انت�صارها بعد‪ .‬كان الفرن�سيون يقولون �إن جمهوريتهم‬ ‫مل تنت�صر �إال بدحر الكني�سة‪ ،‬لكنهم مل يلبثوا �أن �أدركوا �أن هذا الن�صر كان �أ�شبه بانت�صار فرن�سا‬ ‫على ن�صفها الآخر‪.‬‬ ‫ثمة من �ش َّبه م�آالت ما بعد احلداثة بتلك ال�صورة املن�سوبة �إىل جاهلية القرون الو�سطى‪ .‬وقد‬ ‫حداثي"‪ .‬وهذا بال�ضبط‬ ‫عنى بها تلك اجلاهلية امل�ست�أنفة هذه امل ّرة بردا ٍء‬ ‫تكنولوجي "ما بعد‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫‪37‬‬


‫�صب جام نقده على حداث ٍة باتت مهوو�سة‬ ‫ما ق�صده الالهوتي الأملاين ديرتي�ش بونهوفر حني َّ‬ ‫حتول فيها �س ّيدُ الآلة �إىل عبدٍ لها‪ ،‬وانتهى حت ّرر اجلماهري‬ ‫بعا ٍمل �صار عبداً لأهوائه و�أ�شيائه‪ .‬حداثة ّ‬ ‫�إىل رعب املق�صلة‪ .‬والقومية انتهت �إىل احلرب‪ ...‬وتف َّتحت مع احلداثة �أبواب العدمية"‪.‬‬ ‫***‬ ‫عما �إذا كان الغرب �سيتحول �إىل جمتمع بال دين‪ .‬ت�سا�ؤل‬ ‫لزمن لي�س ببعيد كان ثمة ت�سا�ؤل ّ‬ ‫مرير ملأ تاريخ الكني�سة الكاثوليكية املعا�صرة‪ ،‬من البابا بول�س ال�ساد�س يف ال�ستينيات‪� ،‬إىل‬ ‫يوحنا بول�س الثاين يف الثمانينيات والت�سعينيات‪ ،‬و�صو ًال �إىل البابا امل�ستقيل بنديكت ال�ساد�س‬ ‫ع�شر فالبابا احلايل فران�سي�س‪.‬‬ ‫ال�صورة الراهنة للت�سا�ؤل املذكور َتظهر يف �أكرث حلظاتها غ�شاوة‪ .‬مل يعد العقل الذي ابتنت‬ ‫عليه احلداثة منجزاتها العظمى على امتداد قرون مت�صلة‪ ،‬قادراً وب�أدواته املعرفية امل�ألوفة‪ ،‬على‬ ‫"قد�ست" م�سالكها‬ ‫مواجهة عامل ممتلئ بال�ضجر واخل�شية وا ّلاليقني‪ .‬وما عادت العلمنة التي َّ‬ ‫ونعوتها و�أ�سما َءها قادرة على موا�صلة م�شروعها التاريخي عرب ا�ستئناف عداوتها للإميان الديني‪.‬‬ ‫�أما حني انتهى ما بعد احلداثة �إىل احلديث عن الإن�سان الأخري وعن موته‪ ،‬ف�إنها مل تكن لتفعل‬ ‫بيوم ُت�ستعاد فيه الإن�سانية على ن�ش�أة اجلمع بني �أفق الألوهة‬ ‫ذلك �إال لتك�شف عن رغبة كامنة ٍ‬ ‫و�أفق الأن�سنة على ن�صاب واحد‪.‬‬

‫‪38‬‬


‫ملف العلمانية‪ /‬درا�سات‬

‫العربي املعا�رص‬ ‫العلمانية يف الواقع‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫د‪�.‬أ�سامة �سمعان ‪ -‬باحث وحما�ضر جامعي‬

‫مق ّدمة‪:‬‬

‫ّ‬ ‫متعددة‪،‬‬ ‫ت�شكلت يف العامل العربي �أقل ّيات دين ّية وطائف ّية و�أثن ّية‪ ،‬عرب ظروف تاريخ ّية يف مراحل ّ‬ ‫ذاتي يعود �إىل ظروف ن�شوء املذاهب الإ�سالم ّية وال�صراعات ا ّلتي رافقتها‪ ،‬ومنها ما‬ ‫منها ما هو ّ‬ ‫العربي طلباً للأمن‪ .‬وقد ا�ستوعبت ال�شّ عوب العرب ّية‬ ‫هو‬ ‫خارجي ن�ش�أ بفعل الهجرات �إىل العامل ّ‬ ‫ّ‬ ‫ومدت يدها مل�ساعدتها‪ ،‬واعتربتها جزءاً منها با�ستثناء الهجرة اليهود ّية‬ ‫جميع هذه الهجرات‪ّ ،‬‬ ‫بخا�صة وال�شعوب العربية بر ّمتها بعا ّمة‪،‬‬ ‫ال�س ّ‬ ‫وري ّ‬ ‫املعا�صرة‪ ،‬التي �شكلت اعتدا ًء على ال�شعب ّ‬ ‫الفل�سطيني من وطنه‪،‬‬ ‫العربي‬ ‫بنهجها اال�ستيطا ّ‬ ‫ال�س ّ‬ ‫ين الذي يقوم على تهجري ال�شّ عب ّ‬ ‫ّ‬ ‫وري ّ‬ ‫اليهودي مكانه ب�سيا�سة ال ّتوطني‪ ،‬وهي هجرة رف�ضها �شعبنا وال يزال يقاومها‪.‬‬ ‫وزرع‬ ‫ّ‬ ‫ال�سور ّية ‪ -‬امل�صر ّية ‪ ،1961‬وتنامي الت ّيارات‬ ‫�إزاء تراجع الفكرة القوم ّية غداة �سقوط الوحدة ّ‬ ‫املذهب ّية والطائفية والإثنية يف العامل العربي‪ ،‬وما رافقها من حروب �أهل ّية ال تزال نا ُرها م�شتعلة‬ ‫يحدث يف ليبيا‬ ‫عما ُ‬ ‫أمريكي عام ‪ ،2003‬ويف �سوريا منذ ‪ ،2011‬ناهيك ّ‬ ‫يف العراق بعد الغزو ال ّ‬ ‫اليوم‪ ،‬واحلرب ّ‬ ‫ال�سعود ّية عليه بخلف ّية طائف ّية – �سيا�س ّية‪،‬‬ ‫ال�ضرو�س على اليمن التي ت�ش ّنها ّ‬ ‫ف�إنّ بحث مو�ضوع العلمانية ي�أتي يف غاية الأهمية‪ ،‬كونه ال�سبيل ملعاجلة خمتلف الأو�ضاع‬ ‫ال�صهيون ّية والإمربيال ّية‪.‬‬ ‫املت�أ ّزمة بهدف �إقامة وحدة قومية‪ ،‬ومواجهة التحد ّيات اخلارج ّية ّ‬ ‫رئي�س من �أقطاب الفكرة القوم ّية‪� ،‬إذ بدونها ال ي�ستقيم واقع‬ ‫وملّا كانت العلمان ّية هي ٌ‬ ‫قطب ٌ‬ ‫قومي‪ ،‬وملّا كانت الأمم العربية قد بلغت حالة اخلطر احلقيقي‪ ،‬الأمر الذي ي�ستدعي و�ضع‬ ‫ّ‬ ‫نه�ضوي للعامل العربي‪ ،‬مما دفع الباحث �إىل تبيان م�ستوى العلمانية يف الواقع العربي‬ ‫م�شروع‬ ‫ّ‬ ‫الر�سمي‪.‬‬ ‫العربي‬ ‫املعا�صر ملعرفة الواقع‬ ‫ّ‬ ‫القومي على م�ستوى النظام ّ‬ ‫ّ‬ ‫‪39‬‬


‫حليلي‪ ،‬مبتعداً قدر الإمكان‬ ‫اريخي ب�شقيه‬ ‫الو�صفي وال ّت ّ‬ ‫ّ‬ ‫وقد اعتمد الباحث منهج البحث ال ّت ّ‬ ‫اريخي‪� ،‬إلاّ يف حاالت ال�ضرورة الق�صوى‪ ،‬م�ستخدماً امل�صادر واملراجع العرب ّية‬ ‫عن ّ‬ ‫ال�سرد ال ّت ّ‬ ‫والأجنب ّية‪.‬‬ ‫العربي املعا�رص‬ ‫العلمانية يف الواقع‬ ‫�أوالً‪ :‬مفهوم‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫ُت�ش ّتق عبارة العلمانية من ال َعلم ( بفتح العني) والعامل الدنيوي (‪ ،)1‬الذي ي�صنع تاريخ‬ ‫الب�شر ب�أنف�سهم‪ ،‬الب�شر املع ّرفني بالعمل‪ ،‬والإنتاج بالعقل واملعرفة واحلر ّية‪ .‬الذين "يدخلون‬ ‫حمددة و�ضرورية وم�ستقلة عن �إرادتهم‪ ،‬وهي عالقات �إنتاج تطابق درجة معينة‬ ‫يف عالقات ّ‬ ‫من تطور قواهم الإنتاجية املادية‪ّ ،‬‬ ‫االقت�صادي‬ ‫وي�شكل جمموع عالقات الإنتاج هذا البنيان‬ ‫ّ‬ ‫و�سيا�سي و�أ�شكال‬ ‫ين‬ ‫علوي قانو ّ‬ ‫ملجتمع‪ّ � ،‬أي ي�شكل الأ�سا�س احلقيقي الذي يقوم فوقه �صرح ّ‬ ‫ّ‬ ‫اجتماعية‪ ،‬ف�أ�سلوب �إنتاج احلياة املادية هو �شرط العمل ّية االجتماع ّية وال�سيا�س ّية والعقلية‬ ‫يحدد وجودهم‪ ،‬ولكن وجودهم االجتماعي هو‬ ‫للحياة بوجه عام‪ ،‬لي�س وعي النا�س بالذي ّ‬ ‫الذي يحدد وعيهم"(‪.)2‬‬ ‫وت�ستمد العلمان ّية م�شروعيتها من التناق�ض بني رجال العلم واملفكرين العقالنيني من جهة‬ ‫ّ‬ ‫وبني الالهوتيني واملدافعني عن التقدي�س وعن الدين‪� ،‬سدنة احلقيقة املطلقة من جهة ثانية‪،‬‬ ‫كتعبري عن ال�صراع االجتماعي ال�سيا�سي‪ ،‬الذي يخرتق التاريخ الب�شري‪.‬‬ ‫‪1‬ـ العلمانية يف املفهوم ال�سيا�سي الإ�سالمي‪ -‬العربي‪:‬‬

‫يرى الإ�سالم ال�سيا�سي املعا�صر بجميع فروعه يف العلمانية فكرة �أوروبية‪ ،‬من حيث املن�ش�أ‬ ‫التاريخي واحلل ال�سيا�سي واالجتماعي‪� ،‬إذ �أنها مل تكن فقط الرد الطبيعي الأوروبي على‬ ‫ا�ستبداد الكني�سة‪ ،‬بل �أي�ضاً ّ‬ ‫احلل ال�صحيح والطبيعي يف �إطار احل�ضارة امل�سيحية‪ ،‬وحيث �أن‬ ‫‪ -1‬يرى الدكتور عزيز العظمة أن اشتقاق عبارة علامنية (بفتح العني)‪ ،‬اشتقاق غري سليم‪ ،‬ولذلك اعتمد يف كتابه املعنون‬ ‫العلامنية من منظور مختلف‪ ،‬عبارة العلامنية (بكرس العني)‪ .‬راجع‪ :‬العظمة‪ ،‬عزيز‪ .‬العلامنية من منظور مختلف‪ ،‬مركز‬ ‫دراسات الوحدة العربية‪ ،‬بريوت‪ ،2008 ،‬ص ‪18‬‬ ‫‪ -2‬ماركس‪ ،‬كارل‪ .‬نقد االقتصاد السيايس ‪ ،‬ترجمة راشد الرباوي ‪ ،‬دار النهضة العربية ‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ‪. 8 - 7‬‬ ‫‪40‬‬


‫ملف العلمانية ‪ /‬درا�سات‬

‫امل�سيحية هي ديانة روحية لي�س بها ت�شريع مدين‪ ،‬حلكم الدولة و�سيا�سة املجتمع‪ ،‬ف�إن الدولة‬ ‫يف ظل الديانة امل�سيحية ال ّبد من �أن تكون علمانية تف�صل الدين عن الدولة‪.‬‬ ‫�أما احل�ضارة الإ�سالمية فال تعترب فقط الدعوة �إىل العلمانية تقليداً للغرب وتبعية حل�ضارته‪،‬‬ ‫بل هي عدوان على الدين الإ�سالمي‪ .‬لأن الدين الإ�سالمي هو عقيدة و�شريعة ودين ودولة‪،‬‬ ‫ولي�س جم ّرد ر�سالة توحيدية‪ ،‬فالدولة يف الإ�سالم عك�س امل�سيحية ال ي�ستقيم لها �أن تكون‬ ‫علمانية ب�أي حال من الأحوال (‪.)1‬‬ ‫توحد ال�سلطة ال�سيا�سية مع ال�سلطة الدينية �ضد الإن�سان‪،‬‬ ‫ي�ستند هذا املفهوم �إىل عقلية ّ‬ ‫كونهما تعتمدان على التنزيل‪ ،‬تنزيل الأمر من ال�سلطة �إىل ال�شعب‪ ،‬وتنزيل املعرفة من‬ ‫ال�سماء �إىل الأر�ض مع ت�ضمني �إلغاء حق املراجعة واملناق�شة واحلوار‪ .‬كما ت�ستند �إىل عقلية‬ ‫وخا�صة الأحاديث‬ ‫املوجهة لل�سلوك والأذهان‪ّ ،‬‬ ‫تكفري املعار�ضة الذي �شاع بفعل الأحاديث ّ‬ ‫املو�ضوعة لغايات �سيا�سية و�أيديولوجية واجتماعية‪ ،‬كحديث "امللة الناجية" ف�أ�صبحت‬ ‫"كل الفرق ال�ضالة هي ّ‬ ‫كل �أنواع املعار�ضة لل�سلطة القائمة‪ ،‬كما �أ�صبحت الفرقة الناجية‬ ‫هي حزب احلكومة" (‪.)2‬‬ ‫فيتج�سد هذا‬ ‫ويعود املفهوم الإ�سالمي للعلمانية �إىل �سلطوية الت� ّصور‪ ،‬ومركزيته‪ ،‬و�إطالقه‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الت�صور بالزعيم الأوحد‪ ،‬واملنقذ الأعظم‪ ،‬والقائد املُلهم‪ ،‬واحلاكم الفرد‪ ،‬الذي ك ّلما زاد �صلفاً‬ ‫وكرباً وغطر�سة وبط�شاً‪ ،‬ازداد املحكومون ذلاّ ً وهواناً‪� .‬إنه الت� ّصور الذي يعطي القمة كل �شيء‬ ‫وي�سلب القاعدة كل �شيء‪ ،‬فينق�سم الب�شر �إىل عل ّية القوم و�إىل عوام‪ ،‬وه�ؤالء العوام بنظر‬ ‫الكواكبي "‪ ..‬هم قوت امل�ستبد وقوته‪ ،‬بهم عليهم ي�صول وبهم على غريهم يطول‪ ،‬ي�أ�سرهم‬ ‫فيته ّللون ل�شوكته‪ ،‬ويغ�صب �أموالهم فيحمدونه على �إبقاء احلياة ويهينهم فيثنون على رفعته‪،‬‬ ‫ويغري بع�ضهم على بع�ض فيفتخرون ب�سيا�سته‪ ،‬و�إذا �أ�سرف �أموالهم يقولون عنه كرمي‪ ،‬و�إذا‬ ‫‪ -1‬عامرة‪ ،‬محمد‪ .‬يف‪ :‬الشوميل‪ ،‬جربا‪ .‬العلامنية يف الفكرة العريب املعارص‪ ،‬دراسة حالة فلسطني‪ ،‬مركز دراسات الوحدة‬ ‫العربية‪ ،‬بريوت‪ ،2008 ،‬ص‪. 20 :‬‬ ‫‪ -2‬حنفي‪ ،‬حسن‪ .‬يف‪ :‬مجموعة من الباحثني‪ ،‬الدميقراطية وحقوق اإلنسان يف الوطن العريب‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العربية‪،‬‬ ‫ط‪ ،4‬بريوت‪ ، 1998 ،‬ص ‪.176‬‬ ‫‪41‬‬


‫قتل ومل ميثل يعتربونه رحيماً‪ ،‬وي�سوقهم �إىل خطر املوت فيطيعونه حذر الت�أديب‪ ،‬و�إن نقم‬ ‫عليهم منهم بع�ض الأباة قاتلوهم ك�أنهم بغاة"‪.‬‬ ‫هذا املفهوم ّ‬ ‫متجذر يف الإ�سالم منذ كان هجوم الغزايل على العلوم العقلية يف القرن اخلام�س‬ ‫ين‪ّ ،‬‬ ‫الهجري وق�ضا�ؤه على الفل�سفة وعدا�ؤه ّ‬ ‫وتنكره للعلوم الإ�سالمية‬ ‫لكل اجتاه‬ ‫ح�ضاري عقال ّ‬ ‫ّ‬ ‫مبا فيها علوم الكالم والفقه واحلكمة‪ ،‬با�ستثناء علوم الت� ّصوف‪ ،‬وتكفريه الفال�سفة كونهم �أنزلوا‬ ‫العلم الإلهي �إىل م�ستوى العلم والفل�سفة ومنهج اجلدل‪ ،‬انطالقاً من كون العلوم الدينية متثّل‬ ‫بالن�سبة له الأولوية على العلوم الطبيعية والفل�سفية‪ ،‬وهدفه منهج النظر ودعوته ملنهج الذوق‪،‬‬ ‫ين‪ ..‬ومنذ ذلك‬ ‫وتركه احلقيقة و�سلوكه الطريقة‪ ،‬ونقده للعلم الإن�ساين وانتظاره العلم اللد ّ‬ ‫احلني �أ�صبح اهلل‪ ،‬ال�سلطة‪ ،‬واجلن�س‪ ،‬مقد�سات وم�صادر للتحرمي "فاهلل يح ّرم �أكرث مما يحلل‪،‬‬ ‫وال�سلطة تعاقب �أكرث مما تثيب‪ ،‬واجلن�س للحرمان �أكرث منه للإ�شباع" (‪.)1‬‬ ‫ين �آخر يف الرتاث العربي‪-‬‬ ‫فكري‬ ‫و�سيا�سي علما ّ‬ ‫وعلى الرغم من كل ذلك‪ ،‬فثمة خمزون ٌّ‬ ‫ّ‬ ‫الإ�سالمي‪ ،‬يف نظرية املعرفة يف القر�آن التي تدعو �إىل التدبري والتفكري‪ ،‬ويف �س ّنة الر�سول‬ ‫يحث على التجربة والت�أويل‪ ،‬ويف الرتاث ال�سيا�سي العروبي لتجربة معاوية‬ ‫العربي الذي كان ّ‬ ‫بن �أبي �سفيان‪ ،‬ويف الرتاث الفكري ملدر�سة املعتزلة التي رفعت من �ش�أن العقل وحررته‬ ‫من قيود الن�ص الديني‪ ،‬و�أ�ضافت �إليه معاين احلرية والإدارة واالختيار‪ ،‬ويف فل�سفة الكندي‬ ‫ونزعته العقلية الربهانية‪ ،‬ونزعته الإن�سانية التي عللت الأعراق والأديان والأجنا�س‪ ،‬ويف مدينة‬ ‫الفارابي الفا�ضلة التي قامت على العقل والعدل‪ ،‬ولدى ابن �سينا الذي اعترب العقل �أعلى‬ ‫قوى النف�س الب�شرية‪ ،‬ولدى ابن ر�شد الذي �أقام �أول ف�صل منهاجي بني الفل�سفة والدين‪،‬‬ ‫ولدى ابن خلدون الذي حرر علم التاريخ من الو�صفيات والغيبيات‪ ،‬ولدى الطهطاوي‬ ‫وحممد عبده‪ ،‬اللذين َد َع َوا �إىل �إعادة تف�سري ال�شريعة انطالقاً من حاجات الع�صر‪.‬‬ ‫من هذا الإرث ال�سيا�سي الثقايف تن�ش�أ احلركات الإ�سالمية املعا�صرة‪ ،‬ال�سلفية والتكفريية‬ ‫الإرهابية‪ ،‬لتقتل كل معاين احلياة الكرمية وما تكتنزه من �إن�سانية‪ ،‬ويف املقلب الآخر تن�ش�أ‬ ‫‪ -1‬راجع‪ :‬الجابري‪ ،‬محمد عابد‪ .‬ابن رشد‪ :‬سرية وفكر‪ ،‬دراسة ونصوص‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العربية‪ ،‬بريوت‪ ،1998 ،‬ص‬ ‫‪ .141‬والجباعي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.131‬‬ ‫‪42‬‬


‫ملف العلمانية ‪ /‬درا�سات‬

‫حركات �سيا�سية جهادية معا�صرة‪ ،‬يف فل�سطني ولبنان والعراق ّ‬ ‫تتنكب مهمة مقاومة االحتالل‬ ‫ال�صهيوين والإمربيايل �إىل جانب القوى القومية مبدر�ستيها ال�سورية والعربية‪.‬‬ ‫‪ 2‬ـ العلمانية يف املفهوم العربي املعا�رص‪:‬‬

‫القومي �أن العلمانية لي�ست ظاهرة ل�صيقة ب�أوروبا‪ ،‬و�إن كان من�ش�أها يف‬ ‫يرى التيار العلماين‬ ‫ّ‬ ‫الغرب‪ ،‬كون العلمانية ن�ش�أت يف كنف علوم املجتمع واالقت�صاد وال�سيا�سة والتاريخ وهي علوم‬ ‫عاملية‪ ،‬العلمانية بهذا املعنى‪ ،‬ت�ستند �إىل تقدمي العقل على النقل يف �أمور الت�شريع والتنظيم‬ ‫ال�سيا�سي واالجتماعي‪.‬‬ ‫فالعلمانية هي عملية تاريخية مو�ضوعية ت�ضافرت مع الر�أ�سمالية وحترير املجتمع واالنتقال من‬ ‫اجلماعات الأهلية املغلقة �إىل املجتمع القائم على املواطنة واملجان�سة القانونية‪ .‬وهي ّ‬ ‫جتذرت‬ ‫يف البالد العربية يف القرن التا�سع ع�شر‪ ،‬منذ �أدركت الدولة العثمانية �أن الإ�صالح الداخلي‬ ‫وتوطيد مناذج التنظيم ال�سيا�سي والإداري واالقت�صادي املدنية ومكمالتها القانونية والرتبوية‬ ‫والثقافية هي �ش�أن �ضروري للبقاء‪ .‬فالعلمانية هي ف�صل الدين عن الدولة دون �إهمال القيم‬ ‫الإن�سانية واملعنوية‪ ،‬وهي معن ّي ٌة يف املقام الأول بت�أكيد ا�ستقاللية العقل الإن�ساين ودور الإن�سان‬ ‫يف العامل م�شتم ًال على اكت�شافه با�ستقاللية عن الدين‪.‬‬ ‫وحتد من حرية التفكري‪ ،‬بل ّ‬ ‫ترتكز بالإحلاح على‬ ‫والعلمانية بذلك لي�ست عقيدة ت�ضبط الأمور ّ‬ ‫حاجة الفهم والنقد داخل توتر عام يف الإن�سان من �أجل اكت�ساب ا�ستقاللية الفكر‪ .‬وهي‬ ‫ن�سبي يرتبط تعريفه بالزمان واملكان‪،‬‬ ‫لي�ست مبد�أ ينطوي على الإطالق والتعميم بل مفهوم ّ‬ ‫وهي يف ّ‬ ‫كل الأحوال لي�ست تقن ّية جاهزة كونها ح�صيلة تاريخ خا�ص من التط ّور ال�سيا�سي‬ ‫والثقايف يف كل جمتمع (‪.)1‬‬ ‫ثانيا ً‪-‬العلمانية والدولة يف العامل العربي‬

‫متقدم كما يف �سوريا وتون�س‬ ‫تفاوتت ن�سبة انت�شار العلمانية يف الدول العربية‪ ،‬بني م�ستوى ّ‬ ‫‪ -1‬الشوميل‪ .‬مرجع سابق‪ 21 ،‬ـ ‪. 23‬‬ ‫‪43‬‬


‫واملغرب‪ ،‬ومنعدم كما يف اجلزيرة العربية‪ ،‬ومتذبذب كما يف م�صر ولبنان وال�سودان‪� ،‬إذ �أن‬ ‫امل�ستوى حتقّقه القيادات ال�سيا�سية الر�سمية بقدر قناعتها الفكرية بالعلمانية‪.‬‬ ‫‪-1‬موطن الفكر العلماينّ‪:‬‬

‫عملت الدولة التون�سية على تر�سيخ �أ�س�س علمانية بعد اال�ستقالل‪ ،‬فا�ستندت ال�سيا�سة‬ ‫التعليمية �إىل �إحلاق املعاهد "الزيتونية" بوزارة الرتبية حتى �أُزيلت عام ‪ 1965‬و�أُ ّ�س�ست‬ ‫اجلامعة "الزيتونية" التي حتولت �إىل جامعة تون�سية عام ‪ 1960‬كمرفق رئي�سي للتعليم العايل‬ ‫يف البالد(‪.)1‬‬ ‫وجارى هذا التهمي�ش �أ�صحاب الثقافة الإ�سالمية لعدم �إملامهم باللغة الفرن�سية‪ .‬وعلى‬ ‫ال�صورة نف�سها حدث يف املغرب الأق�صى‪ ،‬حيث قامت الدولة ب�إجراءات مماثلة كتحويل جامع‬ ‫القرويني �إىل جامعة عام ‪ ،1963‬وت�أ�سي�س مدر�سة خا�صة لتجهيز الكوادر الدينية التي بقيت‬ ‫دون ازدهارها (‪ .)2‬فبقيت امل�ؤ�س�سة الدينية حتت ال�سلطة �شبه التامة يف تون�س وكذلك يف‬ ‫املغرب حيث ميار�س امللك دور �أمري امل�ؤمنني (‪.)3‬‬ ‫كان موقف الدولة التون�سية من �أجر�أ املواقف بل �أو�ضحها‪ ،‬فمجلة فكر التي � ّأ�س�سها حممد‬ ‫مزايل عام ‪ ،1955‬وجمالت عربية �أخرى‪ ،‬كان اهتمامها بالدين �ضئي ًال‪ ،‬و�إن مل تطلب منه‬ ‫ن�صو�صاً‪ ،‬فقد جعلت القر�آن فوق التاريخ و�أولت على نحو جريء‪ ،‬و�شجعت النظرة التاريخية‬ ‫التي ت�سمح بن�سخ م�ضامينها‪ ،‬فجرى الت�شديد على �أهمية مراعاة التطور االجتماعي و�ضرورات‬ ‫الواقعي للتاريخ �ضد‬ ‫التاريخ وجتاوز ال�صيغ اخلارجية �إىل "الروح واملعنى" ودعت �إىل االعتبار‬ ‫ّ‬ ‫"الرومان�سية"‪ ،‬كالإ�شارة �إىل ثالثة من اخللفاء الرا�شدين ماتوا مقتولني‪ ،‬مما يطعن يف رومان�سية‬ ‫النظرة �إىل ال�سلف كما دعت �إىل �إنقاذ الإ�سالم من اجلمود (‪.)4‬‬ ‫‪1 -Abdel moula, Mahmoud. Ľ université et la société Tunisienne, Tunis1971, pp176-183,208-211‬‬ ‫‪ -2‬العظمة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.287‬‬ ‫‪ -3‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.288‬‬ ‫‪ -4‬غديرة‪ ،‬عامر‪ ،‬ملاذا أنا مسلم وكيف أنا مسلم؟ يف‪ :‬فكر‪ ،‬السنة ‪ ، 5‬العدد ‪ ، 9‬تونس‪.1960 ،‬‬ ‫‪44‬‬


‫ملف العلمانية ‪ /‬درا�سات‬

‫ويف امل�شرق العربي‪ ،‬عملت �سورية على تعميق الأ�س�س العلمانية على �صورة منهجية وتر�سيخها‬ ‫تربوي وثقايف‪ .‬فكان �أول مهام النظام اال�ستقاليل يف �سوريا �إلغاء التمثيل الن�سبي‬ ‫يف نظام ّ‬ ‫الطائفي يف جمل�س النواب‪ ،‬ويف عهد ال�شي�شكلي ّمت �إلغاء ق�ضاء الأحوال ال�شخ�صية للطوائف‬ ‫الإ�سالمية املختلفة ودجمها يف قانون واحد‪ .‬ومنع كل التنظيمات والتجمعات القائمة على‬ ‫�أ�س�س طائفية �أو �إثنيه �أو جغرافية‪ ،‬وا�ستمرت يف �سيا�سة ثقافية عروبية كانت عنوان ال�سيا�سات‬ ‫الثقافية ملختلف الأنظمة ال�سورية التي �أتت بعده‪ ،‬وبعد عام ‪ُ 1965‬و ِ�ض َع ّ‬ ‫كل املدار�س الطائفية‬ ‫حتت رقابة الدولة املبا�شرة‪ .‬وا�ستمرت الد�ساتري ال�سورية (‪-1966 -1964 -1954 1950‬‬ ‫‪ )-1973‬على عدم ال ّن ّ�ص على دين الدولة على الرغم من ّن�صها على �أن الإ�سالم دين رئي�س‬ ‫الدولة‪ ،‬فكانت الدولة العربية الوحيدة دون دين ر�سمي‪� ،‬إ�ضافة �إىل لبنان وتون�س‪ ،‬والد�ستور‬ ‫امل�ؤقت للجمهورية العربية امل ّتحدة الذي مل ي�أت على ذكر الدين‪ ،‬و�سجلت الد�ساتري ال�سورية‬ ‫واقع كون ال�شريعة م�صدراً رئي�ساً للت�شريع‪ ،‬ومنذ نظام �شباط ‪ ،1965‬ا�ستمر العمل بتجذير‬ ‫العلمانية ر�سمياً‪ ،‬عندما �أ�صبح الق�سم الرئا�سي منذ عام ‪ 1966‬ق�سماً بال�شرف بد ًال من الق�سم‬ ‫باهلل‪� .‬إىل �أن �أًعيد الق�سم باهلل بعد تويل الرئي�س حافظ الأ�سد رئا�سة اجلمهورية‪ ،‬نزو ًال عند رغبة‬ ‫قطاعات من ال�شعب‪ ،‬وبعد ا�ضطرابات �أثارها الإ�سالميون حول هذه الق�ضية(‪.)1‬‬ ‫جاء الد�ستور ال�سوري علمانياً ب�شكل عام‪ ،‬مع �إمياءات باجتاه املتدينني كان منها �إقامة كلية‬ ‫خا�صة بال�شريعة يف جامعة دم�شق‪ ،‬بعد �أن كانت ُتد َّر�س يف �إطار درا�سة القانون‪ ،‬والقانون‬ ‫املقارن‪ ،‬ورمبا رغبت الدولة بذلك �إنتاج كوادر دينية خا�صة بها وخارجة عن ت�أثري الأزهر(‪.)2‬‬ ‫وبذلك اقت�صرت مهام امل�ؤ�س�سة الدينية على ال�ش�ؤون الدينية البحت‪ ،‬وكان جمال ا�ستقاللها‬ ‫بالر�أي عن الدولة �أمراً �شبه معدوم‪ ،‬ومل َّ‬ ‫تول وزارة الأوقاف �إىل الدينيني(‪.)3‬‬ ‫‪1 -Carré, Olivier. La Légitimation Islamique des socialismes Arabes : Analyse conceptuelle‬‬ ‫‪combinatoire des manuels scolaires Egyptiens Syriens,et Iraqiens (presses de la fondation nationale‬‬ ‫‪des sciences politique) paris,1979 pp 110ff, 161ff, chaps, 9 et 10 passim‬‬ ‫‪ -2‬ياسني‪ ،‬بو عيل‪ .‬الثالوث املحرم‪ ،‬دراسة يف الدين والجنس والرصاع الطبقي‪ ،‬دار الطليعة‪ ،‬ط‪ ،2‬بريوت‪ ،1985 ،‬ص‬ ‫‪.120 - 119‬‬ ‫‪ - 3‬العظمة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.286‬‬ ‫‪45‬‬


‫وت�ضمنت املناهج ال�سورية الرتبوية متييزاً بني العروبة والإ�سالم‪ ،‬وهذا غري موجود يف الكتب‬ ‫ّ‬ ‫امل�صرية والعراقية‪ ،‬وت�شجيعاً للمر�أة مما ال ين�ضوي حتت لواء ما ُيعرف باملهام التقليدية للمر�أة‪،‬‬ ‫وكانت الكتب ال�سورية هي الوحيدة التي نظرت يف الرباهني على وجود اهلل‪ ،‬التي غابت عن‬ ‫املناهج الأخرى(‪.)1‬‬ ‫الديني‪:‬‬ ‫‪- 2‬موطن الفكر‬ ‫ّ‬

‫�أما يف اجلزيرة العربية‪ ،‬فقد رافق التحوالت االجتماعية التي �أتت بفعل الإثراء النفطي‪ ،‬هجوم‬ ‫�أيديولوجي من قبل �إ�سالميي ال�ضفة ال�شرقية للبحر الأحمر‪ ،‬وتنامى هذا التيار بعد نك�سة‬ ‫‪ ،1976‬عندما �أخذت الأجهزة الرتبوية والإعالمية والثقافية برعاية �أعداد كبرية من املثقفني‬ ‫املقيمني يف اخلليج وغري املقيمني فيه‪ ،‬وببثّها ثقافة �أ�صولية �صرفاً كما يف ال�سعودية‪ ،‬وخطاباً‬ ‫�إ�سالمياً �إ�صالحياً ب�أثر من املدر�سني امل�صريني مع هوام�ش علمانية يف الكويت‪ ،‬وت�صديرها‬ ‫�أعداداً كبرية من املقيمني واملقيمني ال�سابقني املت�أثرين بنمط حياة �شديد املحافظة‪� ،‬صائغاً‬ ‫حمافظته بلغة �إ�سالمية‪ ،‬وقارِناً بني هذه الأمور والرخاء املادي يف جمتمعات فقرية‪ .‬وبذلك‬ ‫�أ�صبح لل�صياغة الإ�سالمية يف �أمور الثقافة و�أمور املجتمع �شرعية مكت�سبة كانت غائبة يف‬ ‫اخلم�سينيات وال�ستينيات‪ .‬بل طالبت ب�شرعية ت�ساويها مع �شرعية الثقافة التاريخية والعملية‬ ‫التي بثتها الدولة على مدى قرن كامل يف �أرجاء وا�سعة من العامل العربي(‪.)2‬‬ ‫‪- 3‬موطن التجاذب العلما ّ‬ ‫يني‪:‬‬ ‫ين وال ّد ّ‬

‫ح�صلت يف اجلزائر بعد اال�ستقالل‪ ،‬حالة من التماهي بني "اجلزائري" و"امل�سلم" يف مواجهة‬ ‫امل�ستعمر يف الفرتة اال�ستعمارية على الرغم من كون قيادة جبهة التحرير و�أيديولوجيتها‬ ‫العلمانية مل يكن الإ�سالم فيها �إال عالقة مبنية على التمايز والتما�سك‪ .‬كان لهذا نتائج‬ ‫بعيدة املدى �أدت �إىل تقوية الإ�سالميني على ح�ساب اجلبهة‪ ،‬دون �أن يخرجوا خروجاً تاماً‬ ‫على العنا�صر الأيديولوجية الأ�سا�سية للجبهة حتى الثمانينيات‪ ،‬وحتولت معطيات الرمزية‬ ‫‪-1‬املرجع نفسه ص ‪.288‬‬ ‫‪ -2‬العظمة‪ .‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.292‬‬ ‫‪46‬‬


‫ملف العلمانية ‪ /‬درا�سات‬

‫الثقافية‪� ،‬إذا �أ�ضحت الثقافة العلمانية بعد فرتة مقرتنة بالثقافة "الفرنكفونية"‪ ،‬ف�أ�صبح من‬ ‫املمكن بالن�سبة �إىل عنا�صر اجتماعية �إدخال طابع �إ�سالمي على التعريب الثقايف‪� ،‬أو على‬ ‫الأقل‪� ،‬صفة �إ�سالمية لها �إدخا ًال منفتحاً على ت�أويالت �إ�صالحية و�أ�صولية يف �آن‪� .‬أف�ضى‬ ‫هذا الو�ضع يف نهاية الأمر وبعد الأزمات االجتماعية واالقت�صادية التي رعتها جبهة التحرير‬ ‫خ�صو�صاً بعد وفاة الرئي�س بومدين‪� ،‬إىل اتخاذ ال�صراع داخل نظام الرتاتب املهني يف �أجهزة‬ ‫الدولة �صراعاً بني "الفرانكفونية" املقرتنة بالعلمانية الثقافية وبالإمكانية املادية لل�سلوك على‬ ‫طريقة غربية‪ ،‬وبني العروبة املقرتنة باحلرمان وان�سداد الأفق االجتماعي و�أفق العلم امل�صاغة‬ ‫بلغة �أخالقية �إ�سالمية‪ ،‬كما جاء ال�صراع م�ضافاً �إليه حتديدات �إثنية يف كثري من الأحيان‪،‬‬ ‫ف�أ�صبح ممكناً اال ّدعاء �أن العروبة ترادف الإ�سالم و�أن االثنني مرادفان للموقف الوطني‪ ،‬وذلك‬ ‫أ�سا�س‬ ‫على عك�س حقيقة الأو�ضاع التاريخية التي � ّأ�س�س لها "املتطورون" وهي �أنّ العلمانية � ٌ‬ ‫يتم بقيادتها (‪.)1‬‬ ‫يف �صياغة فكرة التحرر الوطني الذي ّ‬ ‫�أما يف م�صر‪ ،‬فقد ا�ستم ّر قيام الدولة �إبان العهد النا�صري‪ ،‬على نهجها العلماين �ضمناً‪ ،‬على‬ ‫الرغم من تو�سيع �سلطات وم�س�ؤوليات الأزهر عن ال�سابق‪ ،‬ولعل يف ذلك �شيئاً ذا �صلة‬ ‫بال�صدام بني النظام والإخوان امل�سلمني‪ ،‬ف�أنيطت بالأزهر مبوجب قانون ‪ 1961‬وظيفة قومية‬ ‫�إ�سالمية وتربوية واجتماعية عامة‪ ،‬و�أ�صبحت امل�ؤ�س�سة الأزهرية جامعة على الطراز احلديث‬ ‫تتبعها �شبكة وا�سعة من املعاهد الدينية‪ .‬و ُع ِّدل القانون يف عهد ال�سادات عام ‪ ،1975‬ف�أنيطت‬ ‫مبوجب التعديالت �سلطات عقائدية �شبه مطلقة ب�شيخ الأزهر‪ ،‬كما �أ�صبحت لوزارة الأوقاف‬ ‫�شبكة ال كابح لها‪ ،‬وك�أنها دولة داخل الدولة(‪.)2‬‬ ‫وقد انعك�ست هذه ال�صالحيات املعطاة للأزهر على احلياة الفكرية يف م�صر‪ ،‬فقامت ال�سلطات‬ ‫املمثلة باجلامعة الأزهرية‪ ،‬مبهمة ت�أديب �أحد �أ�ساتذتها يف الأدب الإ�سباين‪ ،‬لرتجمة رواية‪،‬‬ ‫لفارغا�س يوزا‪ ،‬ترجمة نزيهة ر�أت فيها ال�سلطات الأزهرية‪ ،‬ب�ضغط من جريدة "ال�شعب"‬ ‫(ل�سان التحالف الإ�سالمي) مف�سدة لأخالق النا�س والنا�شئة‪ ،‬مما دعا املرتجم �إىل التعليق‬ ‫‪ -1‬العظمة‪ .‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪. 290‬‬ ‫‪ -2‬البرشي‪ ،‬طارق‪ .‬املسلمون واألقباط يف إطار الجامعة الوطنية‪ ،‬دار الوحدة‪ ،‬القاهرة‪ ،1982 .‬ص ‪.283 - 282‬‬ ‫‪47‬‬


‫بقوله‪� :‬إن منطق امل�صادرة هذا ين�سحب على الكثري من الكتب الرتاثية(‪ .)1‬و�إدارة البحوث‬ ‫والن�شر بالأزهر هي التي قررت م�صادرة كتاب لوي�س عو�ض املعنون‪ :‬مقدمة يف فقه اللغة‬ ‫العربية(‪ .)2‬التخاذه بع�ض املواقف االعتزالية اخلا�صة ب�أ�صل اللغات وبخلق القر�آن(‪.)3‬‬ ‫يف عهد ال�سادات �شجع النظام احلركات الأ�صولية الراديكالية‪� ،‬أم ًال منه يف الق�ضاء على‬ ‫النفوذ الي�ساري يف الأو�ساط الطالبية وال�شعبية‪ ،‬والإبراز التلفزيوين لبع�ض رجال الدين ذوي‬ ‫الآراء املغرقة يف الرجعية‪ ،‬ف�أدت �إىل حما�صرة العلمانية (‪ )4‬وكان من نتائج ذلك تراجع االجتاه‬ ‫الإ�صالحي الإ�سالمي على طريقة ال�شيخ حممد عبده‪ ،‬ف�صارت قلة فقط من الإ�سالميني‬ ‫يجر�ؤون على دفع ثمن الإ�شادة بعبد الرزاق وطه ح�سني‪.‬‬ ‫اخلامتة‪:‬‬

‫�أظهرت الدرا�سة �أن ثمة دالئل على وجود العلمانية يف النظام العربي الر�سمي يف تون�س‬ ‫و�سوريا‪ ،‬فيما هي يف اجلزيرة العربية ومعظم الأقطار العربية خافتة ومعدومة‪ ،‬وهي مت�أرجحة‬ ‫املد واجلزر يف م�صر واجلزائر والعراق‪.‬‬ ‫بني ّ‬ ‫ف�إذا كان املفكرون القوميون يولون االهتمام الزائد لدر�س �أ�سباب تعثرّ الدميقراطية يف العامل‬ ‫العربي‪ ،‬ف�إنّ تراجع العلمانية هو �أحد �أهم امل�ؤ�شرات املانعة النت�شار الدميقراطية كونها الأ�سا�س‬ ‫لت�شييد ح�صن الدميقراطية‪� .‬إذ �إنّ العلمانية هي ال�سبيل ملعاجلة االنق�سام العمودي يف املجتمع‬ ‫املتمثّل بالطائفية واملذهبية والعرقية وغري ذلك من االنق�سام االجتماعي العمودي‪.‬‬ ‫ومن جهة ثانية‪ ،‬ك�شفت الدرا�سة ال�ضعف الوا�ضح لواقع الأحزاب القومية‪ ،‬يف الأقطار العربية‪،‬‬ ‫بعدم وجود انعكا�سات م�ؤثرة لها يف بنية النظام العربي الر�سمي‪.‬‬ ‫‪ -1‬القدس العريب‪. 1990 /01/ 17 .‬‬ ‫‪ -2‬فرج‪ ،‬نبيل‪ .‬لويس عوض أمام محاكم التفتيش‪ ،‬الناقد‪ ،‬السنة ‪ 21‬العدد ‪ 9‬آذار ‪ ،1989‬ص ‪38‬‬ ‫‪ -3‬عوض‪ ،‬لويس‪ .‬مقدمة يف فقه اللغة العربية‪ ،‬الهيئة املرصية العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة ‪ 1980‬ص‪ 69‬و‪.86 - 85‬‬ ‫‪ -4‬أمني‪ ،‬حسني أحمد‪ .‬دليل املسلم الحزين إىل مقتىض السلوك يف القرن العرشين‪ ،‬ط‪ 2‬دار الرشوق‪ ،‬القاهرة‪ ،1983 ،‬ص‬ ‫‪.127 - 113‬‬ ‫‪48‬‬


‫ملف العلمانية ‪ -‬مقابالت‬

‫تقدمي‬ ‫ملى عطوي‬

‫العلمانيون يف لبنان ‪ :‬من هم وماذا يريدون؟ �أ�سئلة يطرحها مواطنون يف جمتمعنا وال‬ ‫يح�صلون على جواب �شامل ووايف‪ .‬رغم �أن هذا املو�ضوع مطروح بقوة وال ميكن �إنكاره وال‬ ‫جتاهل فئة وا�سعة تعرب عنه ولو �أن �صوتها مازال �ضعيفاً‪ .‬فالعلمانيون لهم �أهدافاً م�شرتكة منها‬ ‫ف�صل الدين عن الدولة‪ ،‬لكن توجد اختالفات يف �أفكارهم و�أهدافهم‪ .‬فهنالك من يهتم‬ ‫�أكرث بامل�سائل املطلبية االجتماعية واالقت�صادية والرتبوية منها �ش�ؤون املر�أة وهموم العمل‬ ‫والعمال‪...‬بينما �آخرون يركزون مطالبهم ون�ضالهم على التغيري ال�سيا�سي ال�شامل‪ .‬كما �إن‬ ‫كل فئة تختلف بقوتها عن الأخرى يف توزعها‪ ،‬طريقة عملها ون�شاطاتها‪ .‬وقد يجتمع العلمانيون‬ ‫للقيام بعمل م�شرتك معني‪ .‬لكن غالباً لكل فئة لها برناجمها اخلا�ص املعرب عنها‪.‬‬ ‫حالياً‪ ،‬مو�ضوع "العلمانية" مطروح بقوة‪ ،‬لكن هناك �شريحة كثرية من النا�س التعرف كثرياً‬ ‫عنها وخا�صة يف و�سط ال�شباب الذين يطرحون العديد من الأ�سئلة حول هوية العلمانيني وما‬ ‫هي العلمنة؟ وال يح�صلون على جواب �شامل ووايف‪ ،‬فامل�س�ألة هنا لي�س �إن كنت مع العلمانية‬ ‫�أو �ضدها‪ ،‬بل ماذا تعرف حقاً عن العلمانني و دورهم واجتاهاتهم‪ ،‬خا�صة �أنهم غري ممثلني‬ ‫مب�ؤ�س�سة واحدة �أو �ضمن جتم ٌع واحد كما �أن افكارهم متنوعة ومتعددة‪.‬‬ ‫انطالقاً من هذه الت�سا�ؤالت الكثرية وغريها‪ ،‬خ�ص�صت "جملة حتوالت م�شرقية" هذا املحور‬ ‫حول مو�ضوع "العلمانية"‪ ،‬وا�ستطاعت �أن جتمع يف هذا امللف عدداً من التيارات واحلركات‬ ‫والتجمعات العلمانية و�شخ�صياتها‪ ،‬وذلك من �أجل التعريف بهم ووجهة نظر ٍّ‬ ‫كل منهم‪ ،‬وما‬ ‫يواجهونه من حتديات وتطلعاتهم‪ ،‬و ن�شر الوعي احلقيقي باملو�ضوعات التي يطرحونها‪.‬‬ ‫وقد �شارك يف الإجابة عن �أ�سئلتنا ُك ٍل من ريا�ض �صوما الكاتب ال�سيا�سي‪ ،‬واملحامي والكاتب‬ ‫‪49‬‬


‫با�سل عبداهلل وهو �أي�ضاً من�سق وم�س�ؤول �إعالمي لتيار املجتمع املدين‪ ،‬ور�شيد الزعرتي وهو‬ ‫ع�ضو بالهيئة الإدارية للتجمع الدميقراطي العلماين يف لبنان‪.‬‬ ‫يف النهاية‪ ....‬هذا امللف هو �أي�ضا دعوة الحتاد العلمانيني من �أجل وطن حر يوفر جلميع‬ ‫املواطنني حقوقهم و يحفظ كرامتهم‪.‬‬

‫‪50‬‬


‫ملف العلمانية‪ /‬درا�سات‬

‫ريا�ض �صوما‪ :‬العلمانية هي بناء دولة‬ ‫حترتم جميع الأديان‬ ‫‪ - 1‬ماهي العلمانية؟‬

‫اخلا�صة‪ ،‬العلمان ّية‬ ‫لي�س هناك مفهوم واحد يقبل به جميع اللبنانيني‪ .‬ولكن وفق وجهة نظري ّ‬ ‫هي ف�صل ال�سيا�سة عن الدين‪ ،‬مبعنى بناء دولة حترتم جميع الأديان ولكن ُتبقي ال�ش�ؤون‬ ‫االقت�صادية وال�سيا�سية واالجتماعية والرتبوية بعيداً عن ال ّتدخل املبا�شر مب�ؤ�س�سات الدولة‪.‬‬ ‫‪ - 2‬هل العلمانية كافية لتغيري النظام؟‬

‫ال ت�ستطيع العلمانية حتى بعد تطبيقها ت�أمني تغيري عميق وكامل للنظام لأنها ال تفر�ض من‬ ‫حيث طبيعتها توجهاً واحداً يف امليادين االقت�صادية وال�سيا�سية واالجتماعية‪ .‬ويف ال ّتجربة‬ ‫التاريخية الواقعية تب ّنت ومار�ست القوى العلمانية �سيا�سات متعار�ضة كلياً يف �أحيان كثرية‪.‬‬ ‫‪ - 3‬كيف ميكن تطبيقها؟‬

‫ميكن تطبيقها بعد تغيري موازين القوى داخل املجتمع ل�صالح القوى العلمانية‪ ،‬وبالتايل‬ ‫من خالل ت�س ّلم هذه القوى ال�سلطة كل ّياً �أو ب�صورة راجحة‪ ،‬ثم �إجراء التغيريات القانونية‬ ‫والإدارية املتوافقة مع مفهوم العلمنة‪ .‬ومن املمكن حتقيق ذلك ب�صورة تدريجية عرب ن�ضال‬ ‫فكري وثقايف و�سيا�سي طويل النف�س‪.‬‬ ‫يتوحد العلمانيون يف لبنان؟‬ ‫‪ - 4‬ملاذا ال‬ ‫ّ‬

‫بحد ذاتها‪ .‬ولأنّ‬ ‫يتوحد العلمانيون ن�سبياً يف لبنان لأن لهم مفاهيم خمتلفة ب�ش�أن العلمانية ّ‬ ‫ال ّ‬ ‫توجهات فكرية واقت�صادية واجتماعية و�سيا�سية متباينة‪ .‬فال يكفي املوقف من العلمانية‬ ‫لهم ّ‬ ‫‪51‬‬


‫كي ّ‬ ‫ي�شكل �أ�سا�ساً لوحدة را�سخة وتا ّمة‪.‬‬ ‫‪ - 5‬ما هي ال�صعوبات التي تواجههم؟‬

‫هناك ال�صعوبات املو�ضوعية الناجتة عن ّ‬ ‫والطائفي يف املجتمع وغياب � ّأي‬ ‫الديني‬ ‫ّ‬ ‫جتذر الوعي ّ‬ ‫قوة حملية �أو �إقليمية وازنة لها م�صلحة بدعمهم‪ُ .‬ي�ضاف �إىل ذلك ال�صعوبات الذات ّية ال ّناجتة‬ ‫عن �ضعف القيادات احلاملة لهذا امل�شروع‪.‬‬ ‫اجلمعيات العلمانية لتحقيق �أهدافها؟‬ ‫‪ - 6‬كيف يجب �أن تعمل‬ ‫ّ‬

‫�أرى �أن عليها بداية �إدارة حوار فيما بينها لتقريب وجهات النظر‪ ،‬ثم املثابرة على �إقامة‬ ‫تقاطعات ون�شاطات م�شرتكة‪ ،‬على طريق بناء وحدة �أقوى و�أكرث ثباتاً‪.‬‬ ‫‪ - 7‬كيف ميكن بناء دولة علمانية يف لبنان؟‬

‫يبدو �أن بناء دولة علمانية يف لبنان‪� ،‬سي�أخذ وقتاً‪ ،‬رغم �أن الق�سم الأكرب من قوانيننا علمانية‪.‬‬ ‫ولكن ق ّوة امل�ؤ�س�سات الطائفية الدينية وال�سيا�سية ُتفرِغ القانون من م�ضمونه وتفر�ض �سطوتها‬ ‫الثقافية وال�سيا�سية على الدولة واملجتمع‪ .‬لذلك �ست�أخذ عملية بناء دولة علمانية يف لبنان‬ ‫فرتة زمنية طويلة ن�سبياً‪ .‬ولن يتحقق ذلك �إال ارتباطاً بالتحوالت الذاهبة باجتاه تخفيف دور‬ ‫الدين يف املجتمع والدولة يف املحيطني الدويل والإقليمي‪.‬‬

‫‪52‬‬


‫ملف العلمانية ‪ -‬مقابالت‬

‫با�سل عبداهلل‪:‬‬

‫العلمانية هي نظام حياة ونظام دولة‬

‫‪ -‬ما هي وجهة نظركم عن العلمانية؟ كيف تفهمونها وتعرفونها؟‬

‫�سنُقدِّ م يف ما يلي التعريف الذي نراه ملفهوم العلمان ّية من ُمنطلق ما ُي ّقدمه هذا املفهوم من‬ ‫مبادئ تطويرية للإن�سان واملجتمع‪ ،‬دون �أن نربط الكلمة ب�أ�صلها التاريخي �أو با�شتقاقها‪� ،‬أي دون‬ ‫�أن نُف ِّرق بني لفظ الكلمة بفتح �أو بِك�سر ال َعني‪� ،‬إمياناً منا بوحدة الغايات التي ت�سعى العلمانية‬ ‫(مبختلف �أ�صولها التاريخية املفرت�ضة) �إىل حتقيقها‪.‬‬ ‫العـلـمـانـ ّيـة (�سواء ُلفظت بِفتح العني �أو بِك�سرها) هي نظام حياة ونظام دولة‪.‬‬ ‫فعلى ال�صعيد الفردي‪ ،‬هي نظام حياة ومفهوم �إن�ساين و�أ�سلوب تعامل مع النا�س‪ ،‬ي�أخذ‬ ‫�صاحبه �إىل تق ّبل كل ر�أي واحرتام حرية كل �إن�سان من منطلق قيمته الإن�سان ّية وهويته املدن ّية‪،‬‬ ‫ِغ�ض النظر عن انتماء هذا الإن�سان ال�شخ�صي (الفكري �أو الديني) وب ّ‬ ‫ب ّ‬ ‫ِغ�ض النظر عن موقفه‬ ‫ال�سيا�سي �أو حالته االجتماعية‪.‬‬ ‫وهي على �صعيد املجتمع‪ ،‬نظام ومفهوم �سيا�سي يدعوان �إىل بناء هوية الأفراد املدن ّية والإن�سان ّية‬ ‫يف املجتمع مبا َي�ضمن ُم�ساواتهم �أمام قوانني الدولة‪ ،‬وبالتايل فالعلمان ّية ت� ّؤكد ا�ستقالل الدولة‬ ‫(بقوانينها و ُم�ؤ�س�ساتها) يف عالقتها باملواطن عن �أية عالقة �أخرى تربط هذا الأخري ب� ّأي مذهب‬ ‫فكري �أو ديني �أو ب�أية جمموعة عرق ّية �أو �سيا�س ّية‪.‬‬ ‫والهوية املدن ّية ال ُتق�صي الهوية الدين ّية بل حتميها من خالل حياد الدولة الذي يعني ب�شكل‬ ‫وا�ضح عدم حت ُّيز ال�سلطة احلاكمة �أو ارتهانها مل�صلحة �أو �ضد م�صلحة �أي ُمعتقد خا�ص تعتنقه‬ ‫جمموعة من الأفراد فيها‪ ،‬لأنّ عالقتها بالأفراد يف املجتمع هي عالقة دولة بمِ ُواطنيها املُت�ساوين‬ ‫يف نظرها و�أمام قوانينها‪.‬‬ ‫‪53‬‬


‫تتعدى حرية وحقوق الغري وال ُتو ّلد �أذي ًة‬ ‫واحلرية املق�صودة يف ما �سبق هي احلرية التي ال ّ‬ ‫ج�سدي ًة �أو معنوي ًة ل�صاحبها �أو للغري �أو للمجتمع‪.‬‬ ‫هذا وتمُ ِّهد العلمانية الطريق ُحل�سن تطبيق النظام الدميقراطي على �أر�ض الواقع‪ ،‬من خالل ما‬ ‫ُت�ؤ�س�س له من م�ساواة بني الأفراد يف املجتمع وما ُت ّقدمه وت�ضمنه له�ؤالء من حريات تمُ ِّك ُنهم من‬ ‫ممُ ار�سة حقوقهم يف االقرتاع وانتخاب ممثليهم ال�سيا�سيني‪.‬‬ ‫وما هي ال�سبل والو�سائل لتطبيقها؟‬

‫�إنّ العمل من �أجل بناء الدولة العلمانية يتط ّلب تطبيق �إ�صالحات �أ�سا�س ّية‪ ،‬ن�ستطيع باملقارنة‬ ‫معها ا�ستخال�ص ثغرات �أنظمتنا ومدى اقرتابها �أو ابتعادها من النظام العلماين‪.‬‬ ‫وهذه الإ�صالحات هي‪:‬‬ ‫�أو ًال‪ :‬ت�أكيد د�ستور الدولة مبد�أ حرية الفرد يف التفكري والتعبري على ال�صعيد ال�سيا�سي‬ ‫تعدى بحريته على حرية الآخرين �أو ُي�ض ّر بها �أو بدولته‪.‬‬ ‫والفكري والديني‪ ،‬على �أن ال َي ّ‬ ‫وهذا يعني تب ّني الد�ستور يف بنوده املبادئ واحلقوق الإن�سانية التي ّن�صت عليها ال�شرعة‬ ‫العاملية حلقوق الإن�سان‪.‬‬ ‫ثانياً‪ :‬اعتماد قوانني مدن ّية تعتمد امل�ساواة بني الأفراد يف املجتمع يف احلقوق والواجبات‬ ‫�ضمن �إطار العالقة مع ال�سلطة‪ ،‬ال التم ُّيز على الأ�سا�س الديني �أو الطائفي �أو العرقي‪.‬‬ ‫وينطبق هذا التو�صيف �أي�ضاً ب�شكل مبا�شر على قوانني االنتخابات وقوانني الأحوال‬ ‫ال�شخ�ص ّية والقوانني املدنية واجلزائية والعقارية والإدارية والرتبوية والإعالمية‪.‬‬ ‫ين ُي ّر�سخ فكر املواطنة وحرية الر�أي والتعبري ّ‬ ‫واالطالع الثقايف‬ ‫ثالثاً‪ :‬وجود نظام تربوي مد ّ‬ ‫جلميع �أبنائه دون متييز لطالب عن �آخر‪ ،‬يتيح يف �إطاره جلميع �أبنائه �إمكانية تلقّي العلم يف‬ ‫جمانية يف املرحلتني االبتدائية واملتو�سطة‪.‬‬ ‫مدار�س ّ‬ ‫عن�صري �أو مبني يف خطابه وبراجمه الإعالمية �أو يف توظيف‬ ‫رابعاً‪ :‬وجود �إعالم حر‪ ،‬غري‬ ‫ّ‬ ‫العاملِني لديه على التمييز بني الأفراد‪.‬‬ ‫خام�ساً‪ :‬حرية ت�شكيل �أحزاب تعبرِّ عن توجهات ال�شرائح املُتنوعة داخل الن�سيج‬ ‫‪54‬‬


‫ملف العلمانية ‪ -‬مقابالت‬

‫توجهات عن�صرية �أو عرقية �أو مذهب ّية‬ ‫االجتماعي للدولة‪ ،‬على �أن ال تتخذ هذه ال�شرائح ُّ‬ ‫تدعو �إىل التمييز بني الأفراد يف الدولة‪.‬‬ ‫�أ ّما بالن�سبة �إىل الإ�صالحات الأ�سا�س ّية التي يمُ كن من خاللها بناء الدولة العلمان ّية يف لبنان‪،‬‬ ‫فال �شك �أنّ الد�ستور اللبناين ُيناق�ض نف�سه بنف�سه حني يتبنى نُ�صو�صاً طائف ّية ُت ّعطل طابعه‬ ‫املدين‪ ،‬و َتد ُعو �إىل ت�صنيف الأفراد يف املجتمع على �أ�سا�س طائفي‪.‬‬ ‫فبع�ض املواد القليلة الواردة يف الد�ستور ُتعطل املبادئ املدن ّية فيه وت ِّحُول النظام اللبناين �إىل‬ ‫نظام طائفي بكل ما للكلمة من معنى‪.‬‬ ‫ُحدد يف ما يلي الإ�صالحات الأ�سا�س ّية التي ميكن من خاللها بناء الدولة العلمان ّية‬ ‫ويمُ كننا �أن ن ّ‬ ‫يف لبنان‪ ،‬وهي تتوزع على خم�سة محَ اور هي التالية‪:‬‬ ‫‪ - 1‬تعديل بع�ض مواد الد�ستور وتطبيق بع�ض مواده الأخرى‪:‬‬

‫ّن�صت الفقرة (ب) من مقدمة الد�ستور اللبناين على �أنّ لبنان هو ع�ضو م� ّؤ�س�س وعامل يف‬ ‫وجت�سد الدولة اللبنانية‬ ‫منظمة الأمم املتحدة وملتزم مبيثاقها‪ .‬وهو ع�ضو يف حركة عدم االنحياز‪ّ .‬‬ ‫هذه املبادئ يف جميع احلقول واملجاالت من دون ا�ستثناء‪.‬‬ ‫�إنّ هذه الفقرة ت�ؤكد التزام لبنان بالإعالن العاملي حلقوق الإن�سان‪ ،‬علماً �أنّ لبنان ملتزم �أي�ضاً‬ ‫تن�ص على امل�ساواة بني الأفراد يف املجتمع‪.‬‬ ‫مبجموعة من املواثيق الدولية الأخرى التي ّ‬ ‫وفوري يف النظام القانوين‬ ‫وتطبيق معايري حقوق الإن�سان الدولية ُمل ِزمة قانوناً على نحو ُمبا�شر ّ‬ ‫املحلي‪ .‬فلدى تعار�ض م�ضمون ما يف القانون اللبناين مع م�ضمونها‪ُ ،‬ت ْل َز ُم الدولة بتطبيق ما ورد‬ ‫املحلي‪.‬‬ ‫عاملياً ومن دون انتظار تعديل ّ‬ ‫الن�ص ّ‬ ‫فلالتفاقيات العاملية �أولوية على القانون املحلي ال �سيما �أنّ الد�ستور اللبناين‪ ،‬كما �سبق و�أ�شرنا‪،‬‬ ‫التزم يف مقدمته بالإعالن العاملي حلقوق الإن�سان‪ ،‬وبالتايل ّ‬ ‫فكل ن�ص وارد يف الإعالن له قوة‬ ‫الن�ص الد�ستوري‪.‬‬ ‫من هذا املنطلق‪ ،‬يلتزم لبنان باملادة ال�سابعة من الإعالن العاملي حلقوق الإن�سان التي ّن�صت‬ ‫على �أنّ كل النا�س �سوا�سية �أمام القانون‪ ،‬وباملادة ال�ساد�سة ع�شرة منه والتي ن�صت على �أنّ‬ ‫‪55‬‬


‫للرجل واملر�أة‪ ،‬متى �أدركا �سن البلوغ‪ ،‬حق الزواج وت�أ�سي�س �أ�سرة من دون �أي قيد ب�سبب‬ ‫العرق �أو اجلن�سية �أو الدين‪ ،‬وباملادة الواحدة والع�شرين منه التي ن�صت على �أنّ لكل فرد احلق‬ ‫يف اال�شرتاك يف �إدارة ال�ش�ؤون العامة لبالده �إما مبا�شرة و�إما بوا�سطة ممثلني ُيختارون اختياراً‬ ‫حراً‪ ،‬ولكل �شخ�ص نف�س احلق الذي لغريه يف تق ّلد الوظائف العامة يف البالد‪ ،‬وعلى �أنّ �إرادة‬ ‫ال�شعب هي م�صدر �سلطة احلكومة‪ ،‬ويعبرّ عن هذه الإرادة بانتخابات نزيهة دورية جتري على‬ ‫�أ�سا�س االقرتاع ال�سري وعلى قدم امل�ساواة بني اجلميع �أو ح�سب �أي �إجراء مماثل ي�ضمن حرية‬ ‫الت�صويت‪.‬‬ ‫كما يلتزم لبنان باملادة الثالثة والع�شرين من العهد الدويل للحقوق املدنية وال�سيا�سية ال�صادر‬ ‫عام ‪ 1966‬التي ن�صت على �أنّ للرجل واملر�أة‪ ،‬متى بلغا �سن الر�شد‪ ،‬حق الزواج وت�أ�سي�س‬ ‫�أ�سرة من دون �أي قيد ب�سبب اجلن�س �أو الدين‪ ،‬ولهما حقوق مت�ساوية عند الزواج و�أثناء قيامه‬ ‫حق التمتع بحماية املجتمع والدولة‪ ،‬وبالفقرتني الأوىل‬ ‫وعند انحالله‪ ،‬و�أ�ضا َفت �أنّ للأ�سرة َّ‬ ‫والثانية من املادة الثامنة ع�شرة منه اللتني ن�صتا على حرية املعتقد والتعبري‪ ،‬وعلى عدم �إخ�ضاع‬ ‫�أحد لإكراه من �ش�أنه �أن ُي ّعطل حر ّيته يف االنتماء �إىل �إحدى العقائد التي يختارها‪.‬‬ ‫مقدمته �أنّ لبنان جمهورية‬ ‫�إ�ضافة �إىل ذلك‪ ،‬فقد � ّأكد الد�ستور اللبناين يف الفقرة (ج) من ّ‬ ‫دميقراطية برملانية تقوم على احرتام احلريات العامة‪ ،‬ويف طليعتها حرية الر�أي واملعتقد‪ .‬ون�ص‬ ‫يف الفقرة (ط) من مقدمته على �أنّ ال فرز لل�شعب على �أ�سا�س �أي انتماء كان وال جتزئة وال‬ ‫تق�سيم‪ ،‬ويف املادة ال�سابعة منه على �أنّ اللبنانيني �سواء لدى القانون وهم يتمتعون على ال�سواء‬ ‫باحلقوق املدنية وال�سيا�سية ويتحملون الفرائ�ض والواجبات العامة دومنا فرق بينهم‪ .‬و�أ�شارت‬ ‫املادة التا�سعة منه �إىل �أنّ حرية االعتقاد ُمطلقة‪ ،‬كما �أ�شارت املادة الثانية ع�شرة منه �إىل �أنّ لكل‬ ‫احلق يف تويل الوظائف العامة ال ميزة لأحد على الآخر �إال من حيث اال�ستحقاق‬ ‫لبناين َّ‬ ‫واجلدارة ح�سب ال�شروط التي ين�ص عليها القانون‪ .‬ون�صت املادة الثالثة ع�شرة منه على �أنّ‬ ‫حرية �إبداء الر�أي قو ًال وكتابة وحرية الطباع وحرية االجتماع وحرية ت�أليف اجلمعيات ك ّلها‬ ‫مكفولة �ضمن دائرة القانون‪.‬‬ ‫لكن غري املُطلع على الد�ستور يتفاج�أ عندما يعرف �أنّ‬ ‫�إنّ هذه املواد جميعها واجبة التطبيق؛ َّ‬ ‫هذه املواد ال تحُترَ َ م و�أنّ هنالك مواد �أخرى يف الد�ستور نف�سه ُتناق�ض كلياً هذه املبادئ الآنفة‬ ‫‪56‬‬


‫ملف العلمانية ‪ -‬مقابالت‬

‫الذكر‪ ،‬وبالتايل جند �أنّ تطبيق املواد املدنية ُم ّعطل بفعل مواد �أخرى طائف ّية‪.‬‬ ‫فعلى �سبيل املثال‪ ،‬ن�صت املادة الرابعة والع�شرون من الد�ستور على �أن يت�ألف جمل�س النواب‬ ‫من نواب ُمنتخبني منا�صفة بني امل�سيحيني وامل�سلمني‪ ،‬ون�سبياً بني طوائف كل من الفئتني‪.‬‬ ‫ون�صت املادة اخلام�سة والت�سعون منه على �أنه ويف املرحلة االنتقالية تمُ ثَّل الطوائف ب�صورة عادلة‬ ‫يف ت�شكيل الوزارة ويف وظائف الفئة الأوىل فيها ويف ما يعادل الفئة الأوىل فيها‪ ،‬وتكون هذه‬ ‫الوظائف ُمنا�صفة بني امل�سيحيني وامل�سلمني‪.‬‬ ‫�إن هاتني املادتني ك ّر�ستا ب�شكل وا�ضح التق�سيم الطائفي يف جمل�س النواب ويف وظائف الفئة‬ ‫الأوىل‪ ،‬وبالتايل يتوجب �إلغا�ؤهما‪.‬‬ ‫وقد حاول الد�ستور التخفيف من وط�أة املواد الطائف ّية ب�أن �أ�شار يف املادة الثانية والع�شرين‬ ‫�ستحدث جمل�س‬ ‫منه‪ ‬على �أنه مع انتخاب �أول جمل�س نواب على �أ�سا�س وطني ال طائفي ُي َ‬ ‫لل�شيوخ تتمثّل فيه جميع العائالت الروحية وتنح�صر �صالحياته يف الق�ضايا امل�صريية‪ ،‬كما‬ ‫�أ�شار يف املادة اخلام�سة والت�سعني منه �إىل �أنّ على جمل�س النواب املُنتخب على �أ�سا�س املنا�صفة‬ ‫بني امل�سلمني وامل�سيحيني اتخاذ الإجراءات املالئمة لتحقيق �إلغاء الطائفية ال�سيا�سية وفق خطة‬ ‫مرحل ّية وت�شكيل هيئة وطنية برئا�سة رئي�س اجلمهورية‪ ،‬ت�ضم بالإ�ضافة �إىل رئي�س جمل�س النواب‬ ‫ورئي�س جمل�س الوزراء �شخ�صيات �سيا�سية وفكرية واجتماعية مهمتها درا�سة واقرتاح الطرق‬ ‫الكفيلة ب�إلغاء الطائفية وتقدميها �إىل جمل�سي النواب والوزراء ومتابعة تنفيذ اخلطة املرحلية‪.‬‬ ‫ومع �أنه كان يقت�ضي تطبيق الفقرة التي ن�صت على انتخاب �أول جمل�س نواب على �أ�سا�س‬ ‫وطني ال طائفي‪ ،‬غري �أنه رغم مرور �أكرث من خم�سة وع�شرين عاماً على "اتفاق ّية الطائف"‬ ‫والد�ستور اجلديد الذي �أنهى احلرب الأهل ّية يف لبنان‪ ،‬فهذا البند مل ي�أخذ طريقه �إىل التطبيق‬ ‫بعد‪ ،‬وهذه الهيئة ما زالت حرباً على ورق‪ ،‬ومل يج ِر العمل حتى الآن على ت�شكيلها‪.‬‬ ‫‪ - 2‬الأحوال ال�شخ�صية‪:‬‬

‫بتعدد الطوائف اللبنان ّية املُعرتف بها ر�سمياً يف‬ ‫تعددة ّ‬ ‫يوجد يف لبنان قوانني �أحوال �شخ�ص ّية ُم ّ‬ ‫الدولة‪.‬‬ ‫‪57‬‬


‫�إنّ ُوجود هذا العدد من قوانني الأحوال ال�شخ�ص ّية ُي�ساهم يف تق�سيم اللبنانيني قانونياً واجتماعياً‬ ‫�إىل جمموعات طائف ّية‪ ،‬بحكم خ�ضوع كل منهم بح�سب انتمائه الطائفي يف �سجالت النفو�س‬ ‫�إىل قانون الأحوال ال�شخ�صية التابع لطائفته‪.‬‬ ‫املطلوب يف لبنان على �صعيد مو�ضوع الأحوال ال�شخ�صية‪ ،‬حتويل نظرة الدولة �إىل مواطنيها‬ ‫من الت�صنيف الطائفي �إىل الت�صنيف املُواطني‪ ،‬واخلطوة الأوىل يف هذا االجتاه تتمثّل ب�إزالة‬ ‫الإ�شارة �إىل القيد الطائفي من �سجالت نفو�س عا ّمة اللبنانيني‪ ،‬وتطبيق عقود الزواج املدين‬ ‫يف لبنان على جميع اللبنانيني وفقاً لن�ص املادة ال�سابعة ع�شرة من القرار ‪ 60‬ل‪.‬ر‪ .‬ال�ساري‬ ‫املفعول يف لبنان‪ ،‬وحتديث قانون الإرث الوحيد املدين يف لبنان واملُ�سمى حالياً بقانون الإرث‬ ‫لغري املحمديني‪ ،‬ل ُيط َّبق كنظام �أحوال �شخ�ص ّية على الأفراد املُتزوجني مدنياً يف لبنان‪� ،‬أو‬ ‫ا�ستحداث قانون مدين جديد وع�صري للأحوال ال�شخ�صية ي�شمل �إجراءات و�شروط الزواج‬ ‫ويطال جميع املواطنني‪.‬‬ ‫�إنّ تطبيق قانون مدين للأحوال ال�شخ�ص ّية على عامة اللبنانيني اختيارياً ‪ -‬يف املرحلة الأوىل‪،‬‬ ‫َي�سمح لأي لبناين مهما كانت ّ‬ ‫الدولة‬ ‫الطائفة التي ينتمي �إليها‪ ،‬ب�أن يتزوج مدنياً برعاية ّ‬ ‫واملحاكم املدن ّية‪ ،‬وتبقى له حرية عقد الزواج الديني اختيارياً يف حال رغب بذلك‪.‬‬ ‫‪ - 3‬قانون االنتخابات‪:‬‬

‫�إنّ تقلي�ص الطائف ّية يف لبنان يتطلب �إقرار قانون انتخابات خارج القيد الطائفي يعتمد الن�سبية‬ ‫على �أ�سا�س الدائرة الواحدة‪ ،‬ويعتمد نظام اللوائح املقفلة التي تمُ ّكن الناخبني من انتخاب‬ ‫الالئحة ب�أ�سماء مر�شّ حيهم �أي برناجمهم‪ ،‬بد ًال من انتخاب النائب الفرد‪.‬‬ ‫وال �شك �أنّ اخلطوة الأوىل مرحلياً يف هذا االجتاه قد تكون يف ما ن�صت عليه وثيقة الوفاق‬ ‫الوطني من اعتماد قانون انتخابات على �صعيد املحافظة (�أي على �صعيد الدائرة الكبرية)‪،‬‬ ‫لكن ذلك يجب �أن يرتافق مع اعتماد نظام االنتخابات الن�سبي الذي ي�ضمن التمثيل الأكرث‬ ‫ّ‬ ‫عدالة لأ�صوات الناخبني و ُيح ّول الناخب من ُم�ؤ ّيد للمر�شح كفرد تربطه به م�صالح خا�صة‪� ،‬إىل‬ ‫ُم�ؤ ّيد للق�ضايا التي يحملها املُر�شحون يف برناجمهم االنتخابي‪.‬‬ ‫‪58‬‬


‫ملف العلمانية ‪ -‬مقابالت‬

‫‪ - 4‬الرتبية‪:‬‬

‫كث ٌري من امل�ؤ�س�سات الرتبو ّية يف لبنان لها طابع املدار�س الدين ّية �أو الطائف ّية‪ ،‬حتى �أنّ املدار�س‬ ‫�صب يف دائرة هذا التق�سيم من خالل نوع مادة التعليم الديني التي ُتد َّر�س يف‬ ‫الر�سم ّية َت ُّ‬ ‫�صفوفها ومن خالل يوم التعطيل الأ�سبوعي الذي ُيعتمد فيها‪.‬‬ ‫�إنّ �أية �سيا�سة تربو ّية وطن ّية غري طائف ّية يف لبنان تهدف �إىل تدعيم فكر املواطنة يف نفو�س‬ ‫التالمذة والطالب ال ميكن �أن تنفّذ �إال من خالل تطبيق �سل�سلة من الإ�صالحات الرتبوية‬ ‫الأ�سا�س ّية ومنها‪:‬‬ ‫ دمج مواد التعليم الديني اخلا�صة بكل طائفة واملُط ّبقة يف كثري من املدار�س يف لبنان يف‬‫للدينني امل�سيحي والإ�سالمي‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل عر�ض‬ ‫مادة واحدة تت�ضمن املبادئ الأ�سا�س ّية ّ‬ ‫موجز ملختلف ديانات العامل وثقافاتها وح�ضاراتها‪.‬‬ ‫ تفعيل تطبيق مادة الرتبية الوطنية والتن�شئة املدن ّية يف املدار�س من خالل برامج تعتمد‬‫البحث والعمل امليداين بني النا�س‪ ،‬تمُ ّكن الطالب من ال َت َع ُّرف ب�شكل عملي مبا�شر على‬ ‫دوره كمواطن داخل الدولة ولعب هذا الدور‪.‬‬ ‫وحد يعر�ض تاريخ لبنان القدمي واجلديد وي�شمل تاريخ احلرب الأهل ّية‬ ‫ اعتما ُد ٍ‬‫كتاب ُم ّ‬ ‫اللبنان ّية‪.‬‬ ‫‪ - 5‬الإعالم‪:‬‬

‫�إذا كانت عمل ّية �إنتاج الربامج الإعالمية الرتبو ّية الهادفة �إىل بث مفهوم املواطن ّية بني النا�س‬ ‫واجب على و�سائل الإعالم يف �أي دولة يف العامل‪ ،‬غري �أنّ كثرياً من و�سائل‬ ‫ونبذ الطائفية هو ٌ‬ ‫الإعالم اللبنان ّية (من �صحف و�إذاعات وتلفزة) تغرق يف دوامة ال�سيا�سة الطائف ّية اللبنان ّية‪،‬‬ ‫وتلعب دوراً �أ�سا�سياً يف احلمالت الإعالم ّية التي يقودها ال�سيا�سيون يف �إطار اال�صطفاف‬ ‫حتم�سها لها‪.‬‬ ‫الطائفي ال�سيا�سي‪ ،‬وذلك بحكم تبعيتها ملجموعات طائف ّية �أو ُّ‬ ‫حتى �أنّ َّ‬ ‫تابع للحالة ال�سيا�س ّية اللبنان ّية يعلم متام املعرفة �أنّ بع�ض و�سائل الإعالم ُيجاهر‬ ‫كل ُم ٍ‬ ‫علناً بانتمائه ال�سيا�سي الطائفي‪ ،‬رغم �أنّ هذا الأمر ٌ‬ ‫مرفو�ض من الناحية القانونية والأخالقية‪.‬‬ ‫‪59‬‬


‫من هذا املُنطلق‪ ،‬ال ميكن تقلي�ص الطائفية يف لبنان �إال من خالل �إعادة و�سائل الإعالم �إىل‬ ‫دورها الرتبوي املدين البعيد من التحري�ض الطائفي‪ .‬وهذا الأمر يتطلب كفالة حرية امل�ؤ�س�سات‬ ‫الإعالم ّية وعدم تبع ّيتها للمجموعات ال�سيا�س ّية الطائف ّية وعدم ا�ستعمالها يف املعارك ال�سيا�س ّية‬ ‫الطائف ّية التي تخو�ضها زعامات هذه الطوائف‪� ،‬إ�ضافة �إىل �إمكانية تطبيق مبد�أ ال�شفافية املالية‬ ‫عليها‪.‬‬ ‫وو�صو ًال �إىل هذا الهدف‪ ،‬ينبغي على النا�شطني يف العمل املدين يف لبنان �أن ُيبادروا �إىل ر�صد‬ ‫الإعالم الطائفي والر ّد عليه‪ ،‬واال�ستعانة بو�سائل التوا�صل االجتماعي كو�سيلة �إعالم ّية بديلة‬ ‫ميكن ا�ستعمالها لعر�ض �سيئات الطائف ّية وخطرها على املجتمع‪.‬‬ ‫‪ -‬هل العلمانية كافية لتغيري النظام الطائفي؟‬

‫طبعاً‪ ،‬لكن العمل لبناء الدولة التي نطمح �إليها وهي الدولة احلا�ضنة واحلامية جلميع �أبنائها‬ ‫يتطلب العمل على �صعيدين‪� ،‬أ ّو ٌل هو الذي �أ�شرنا �إليه �أعاله والذي يتمثل ب�سلة الإ�صالحات‬ ‫املطلوبة لعلمنة النظام‪ ،‬وثانٍ يتمثل ب�سلة َمطالب اجتماع ّية‪ ،‬منها املطالبة باعتماد نظام �ضمان‬ ‫�صحي �شامل يطال جميع اللبنانيني‪ ،‬واملطالبة بتح�سني املرافق احليو ّية العامة كقطاعي الكهرباء‬ ‫واملاء وخف�ض �أ�سعار املحروقات‪ ،‬وبالتايل ف�إن الن�ضال يجب �أن يتو ّزع ب�شكل متوا ٍز على هاتني‬ ‫ال�سلتني‪.‬‬ ‫توحد العلمانيني يف لبنان؟‬ ‫‪ -‬ما �سبب عدم ّ‬

‫ال �شك �أنّ �أ�سباباً عديدة قد حتول دون توحد العلمانيني يف لبنان‪ ،‬يف ّ‬ ‫ظل جميع التقاطعات‬ ‫الإقليمية والدولية التي يعي�شها هذا البلد ال�صغري‪ .‬و�إن �أردنا اخت�صارها نقول �إنّ بع�ض القوى‬ ‫العلمانية تعترب �أن �أولوية عملها من منظارها هي حل�سابات �سيا�سية و�إقليمية ت�سبق �أولوية ت�ضافر‬ ‫جهود القوى العلمانية املتنوعة لتقدمي جهد م�شرتك يف بناء الدولة العلمانية‪ .‬وغالباً ما يختلف‬ ‫هذا البع�ض مع باقي القوى العلمانية يف الق�ضية التي �أعطاها الأولوية‪ ،‬في�صبح يف حالة مواجهة‬ ‫مع قوى علمانية �أخرى ال تتفق معه على �أولويته التي اختارها‪.‬‬ ‫للم وتوحيد �صفوف القوى ال�شبابية العلمانية التي واجهت‬ ‫�أما املحاوالت التي جرت ِّ‬ ‫‪60‬‬


‫ملف العلمانية ‪ -‬مقابالت‬

‫اال�صطفاف ال�سيا�سي الطائفي م�ؤخراً يف لبنان‪ ،‬على مبادئ ون�ضاالت وحتركات م�شرتكة‪ ،‬فقد‬ ‫ا�صطدمت بواقع تدنيّ م�ستوى الوعي لدى هذه املجموعات على �أهمية و�ضع مبادئ وخطة‬ ‫طريق م�شرتكة جتمع هذه القوى‪ ،‬وانح�صرت لقاءاتها على مبادرات وحتركات �ضاغطة م�شرتكة‬ ‫عديدة �شهدها لبنان‪ ،‬مل ترتقِ �إىل م�ستوى التحالفات‪.‬‬ ‫غري �أن حماوالت جمع القوى العلمانية اخلارجة عن اال�صطفاف الطائفي يف لبنان‪ ،‬تبقى‬ ‫م�ستمرة‪ ،‬وال بد �أن تثمر نتائج عملية يف ال�سنوات املقبلة نتيجة املجهود الذي �أ�صبح ُي َعطى لها‪،‬‬ ‫ونتيجة اخلربة وازدياد الوعي الذي اكت�سبته وتكت�سبه القوى املدنية والعلمانية النا�شطة على‬ ‫�أهمية تعا�ضدها وتك ّتلها يف مواجهة الواقع ال�سيا�سي الطائفي املفرو�ض على البالد‪.‬‬ ‫‪ -‬ما العوائق وال�صعوبات التي ُيعاين منها العلمانيون يف لبنان؟‬

‫من �أهم العوائق التي تواجه القوى العلمانية يف لبنان‪:‬‬

‫ عـدم نـجـاح هذه القوى العلمانية يف حتقيق انت�صارات كبرية يف مواجهة ال�سلطة‬‫ال�سيا�سية الطائفية يف لبنان‪.‬‬ ‫ جناح ال�سلطة يف رمي ُ‬‫الكرة يف ملعب القوى العلمانية وال�ضغط عليها �أمام الر�أي العام يف‬ ‫�أثناء التحركات الكبرية التي نظمتها هذه القوى‪.‬‬ ‫ دور بع�ض و�سائل الإعالم ال�سلبي‪ٌ ،‬‬‫كل من منطلق الفريق ال�سيا�سي الذي يمُ ثّله يف‬ ‫ت�صوير حتركات القوى العلمانية واملدنية ب�صورة �سلبية‪ ،‬منها الزعم �أن بع�ضها مم ّول من دول‬ ‫عربية �أو �أجنبية‪� ،‬أو �أنها �صنيعة بع�ض القوى ال�سيا�سية اللبنانية املتواجهة‪ ،‬ما �ساهم يف‬ ‫ت�شويه �صورة بع�ضها لدى عامة النا�س‪.‬‬ ‫ ظهور ُمناف�سة بني القوى العلمانية‪ ،‬و َت�سا ُبق على الظهور الإعالمي يف عدة منا�سبات‬‫وحتركات‪.‬‬ ‫ التجاذب يف وجهات النظر لدى منظمي التحركات يف و�سائل املواجهة يف حتركات كبرية‬‫�شهدها لبنان يف الفرتة الأخرية‪.‬‬ ‫ ف�شل املجموعات املُتن ِّوعة املُ�شاركة يف احلراكات الكبرية يف التوافق على مبادئ م�شرتكة‬‫‪61‬‬


‫جتمعها يف �إطار ائتالف عام ويف ت�شكيل عمل م�شرتك ُم ّنظم وم�ستمر‪.‬‬ ‫ اختالف بع�ض القوى ال�سيا�سية يف وجهات النظر حول كيفية التعاطي �أو التوا�صل مع‬‫ال�سلطة ال�سيا�سية احلاكمة وحول مدى ا�ستعمال الو�سائل الالعنفية يف مواجهة ال�سلطة‪.‬‬ ‫ وجود بع�ض املواقف املتناق�ضة بني القوى العلمانية النا�شطة يف لبنان من بع�ض الق�ضايا‬‫ال�سيا�سية املحلية والإقليمية والدولية‪.‬‬ ‫ بر�أيكم كيف يجب �أن تعمل احلركات واجلمعيات العلمانية لتحقيق �أهدافها؟‬‫وما ال�سبيل لتحقيق دولة علمانية يف لبنان؟‬

‫رغم �أنّ املجموعات ال�شبابية النا�شطة تباينت يف ما بينها جلهة و�سائل تعبريها (العنفية �أو‬ ‫الالعنفية)‪ ،‬واملوقف والعالقة التي تربطها مب�ؤ�س�سات الدولة ال�سيا�سية (كمجل�س النواب‬ ‫املُمدِّ د لنف�سه وجمل�س الوزراء) ومدى التوا�صل مع هذه امل�ؤ�س�سات (وجود توا�صل �أو عدمه)‪،‬‬ ‫وكيفية ترتيب �أولويات برناجمها وكيفية طرحه‪� ،‬إال �أنها ما زالت ُت�شكل الأر�ضية الوحيدة غري‬ ‫املُرتهنة ل�سيا�سة امل�صالح الفئو ّية اللبنان ّية وغري املُطيفة �أو املُوجهة �إقليمياً‪ ،‬التي ميكن االعتماد‬ ‫عليها ل�صنع التغيري يف لبنان‪.‬‬ ‫والتوحد‬ ‫�إنّ تطور عمل هذه املجموعات امل�شرتك يبقى َمرهوناً مبدى قدرتها على التن�سيق ُّ‬ ‫حول خطة عمل حتمل برناجماً وا�ضحاً ميكن �أن ُي� ّؤ�س�س مع الوقت لبناء حالة �سيا�س ّية الطائف ّية‬ ‫علمان ّية‪ ،‬يطمح العلمانيون يف لبنان �إىل ت�شكيلها‪ ،‬ب�شرط �أن ين�ش�أ هذا التن�سيق بعمل تدعو �إليه‬ ‫قوى من خارج اال�صطفاف ال�سيا�سي الطائفي يف لبنان‪.‬‬ ‫وال �شك �أنّ عام َلي تط ُّور الوعي وتراكم اخلربات �سيلعب دوره الإيجابي يف متكني النا�شطني يف‬ ‫التن�سيقي يف امل�ستقبل‪.‬‬ ‫هذه املجموعات من ت�شكيل هذا العمل‬ ‫ّ‬

‫‪62‬‬


‫ملف العلمانية ‪ -‬مقابالت‬

‫ر�شيد زعرتي‪ :‬العلمانية يف لبنان‬

‫ُتلغي النظام الطائفي‬ ‫بداية‪ ،‬من نحن؟‬

‫نحن مواطنات ومواطنون من العامة نعمل على خال�ص لبنان من احلروب وال�صراعات‬ ‫الطائفية‪ ،‬ومن الأزمات االجتماعية واملعي�شية‪ ،‬ويف �سائر جماالت احلياة التي ي�سببها النظام‬ ‫الطائفي‪ ،‬وتتحمل الطبقة ال�سيا�سية احلاكمة ب�أجنحتها كافة امل�س�ؤولية الرئي�سية عنها‪.‬‬ ‫نحن نرى �أن خال�ص لبنان يكون ب�إقامة الدولة الدميقراطية العلمانية‪ ،‬دولة املواطنة والعدالة‬ ‫االجتماعية وامل�ساواة بني املر�أة والرجل‪ ،‬دولة الوحدة الوطنية واالندماج االجتماعي بني‬ ‫اللبنانيني وال�سلم الأهلي الدائم‪ ،‬والقادرة على حماية حدودها ب ّراً وبحراً وج ّواً‪.‬‬ ‫دولة االقت�صاد احلديث القائم على تطوير وتنمية الإنتاج ال�صناعي والزراعي‪ ،‬والتكنولوجيا‬ ‫واخلدمات الع�صرية وت�أمني فر�ص العمل وحق ال�سكن‪.‬‬ ‫دولة حرية الر�أي واملعتقد والإبداع والتعبري والإعالم احلر‪ ،‬دولة القانون وامل�ؤ�س�سات والق�ضاء‬ ‫الفاعل النزيه وامل�ستقل‪ ،‬دولة الع�صرنة واحلداثة والتعليم الإلزامي املجاين وال�ضمانات‬ ‫ال�صحية واالجتماعية‪.‬‬ ‫نحن لبنانيات ولبنانيون من العامة‪ ،‬حت ّررت الأنف�س لدينا من الطائفية و�سائر الع�صبيات‪،‬‬ ‫واخرتنا �أن يكون انتما�ؤنا �إىل لبنان �أو ًال و�أخرياً م�شروع وطن مل ينجزه اللبنانيون بعد‪.‬‬ ‫النقطة الأوىل‪ :‬العلمانية ب�إيجاز‬

‫م�سار تطور اجتماعي‪� -‬أي مرحلة يف التطور االجتماعي للب�شرية‪ -‬دخلته �أوروبا و�أمريكا‬ ‫‪63‬‬


‫ال�شمالية و�أ�سرتاليا بداية‪ ،‬وك ّون بف�صله بني الروحي والزمني‪ُ ،‬نظماً عامة للحياة امل�شرتكة‬ ‫بني الب�شر‪ ،‬ال مت ّيز النا�س ح�سب �أديانهم ومعتقداتهم الفكرية والدينية والفل�سفية‪ ،‬وترتكز‬ ‫حراً يت�ساوى مع كل �آخر يختلف عنه‬ ‫�إىل مركزية الإن�سان يف احلياة باعتباره قيمة وفرداً ّ‬ ‫ومعه يف الدين واملعتقد الفل�سفي ويف الفكر ويحرتم معتقده‪ ،‬ومع كل �آخر ي�ؤمن باملعتقدات‬ ‫ذاتها من ناحية‪ ،‬وتقوم هذه النظم من ناحية �أخرى على‪:‬‬ ‫ــ حياد الدولة جتاه الأديان والعقائد الفكرية والفل�سفية وحيادها جتاه جميع اجلماعات‬ ‫التي تعتقد بها‪ ،‬وذلك يعني �أن ال دين للدولة و�أنها ال تف�ضل جماعة �أو طائفة دينية‬ ‫مع ّينة على بقية اجلماعات الدينية الأخرى يف الدولة (الف�صل بني الدين والدولة‪-‬‬ ‫الدين واملعتقد خا�ص بالفرد واجلماعة التي ت�ؤمن به والدولة للجميع)‪.‬‬ ‫ــ احرتام الدولة جلميع اجلماعات الدينية وحمايتها ومتكينها من ممار�سة �شعائر معتقدها‬ ‫كما واحرتام جميع االجتاهات الفكرية والفل�سفية‪� ،‬ضمن �إطار احلفاظ على النظام‬ ‫العام للحياة امل�شرتكة بني جميع املواطنني واجلماعات يف املجتمع‪.‬‬ ‫ــ الف�صل بني ال�سلطة الروحية (امل�ؤ�س�سة الدينية) وال�سلطة الزمنية – الدولة‪ -‬والف�صل‬ ‫بني ال�سلطة الروحية وال�سيا�سية‪ .‬وذلك يعني �أنه ال يحق للم�ؤ�س�سة الدينية �أن تتدخل‬ ‫يحق لرجل الدين كفرد ومواطن �أن يعمل يف ال�سيا�سة‪ -‬ال يحق له‬ ‫يف ال�سيا�سة‪ ،‬ولكن ّ‬ ‫�أن ينطق با�سم الدين يف ال�ش�أن ال�سيا�سي‪ ،‬بل ينطق با�سمه ال�شخ�صي كفرد ومواطن‪.‬‬ ‫العلمنة يف لبنان‪:‬‬

‫• م�سرية تطور اجتماعي مل يدخله املجتمع اللبناين بعد‪ ،‬وتن�شد �إزالة نظام احلياة‬ ‫الطائفي الذي � ّأ�س�س منذ تق�سيم الإمارة ال�شهابية �إىل قائمقاميتني‪ :‬درزية وم�سيحية‪،‬‬ ‫حراً‬ ‫وحجز تطور البلد وحال دون دخوله م�ساراً يف�ضي �إىل تكوين اللبناين‪ ،‬مواطناً ّ‬ ‫بحيث ي�ساوي كل مواطن (يف الوعي والنظرة االجتماعية) بني ذاته والآخر من غري‬ ‫طائفته من ناحية‪ ،‬و�إىل بلوغ م�ستوى من االندماج الوطني واالجتماعي بني الأفراد‬ ‫موحداً‪ ،‬من ناحية ثانية‪.‬‬ ‫واجلماعات اللبنانية يتحقق معه كون اللبنانيني �شعباً ّ‬

‫‪64‬‬


‫ملف العلمانية ‪ -‬مقابالت‬

‫• تهدف العلمنة �إىل بناء نظام حياة حديثاً م�شرتكاً وجديداً جلميع اللبنانيني‬ ‫التع�صب واحلقد الطائف ّيني وتعترب �أن االنتماء اللبناين يجب‬ ‫يرتكز �إىل مواطنة تنبذ ّ‬ ‫�أن يكون �أ�سا�ساً �إىل لبنان الوطن وال�شعب الواحد �أو ًال‪ ،‬وت�ساوي بني جميع املواطنني‬ ‫على اختالف �أديانهم و�أفكارهم ومعتقداتهم الفل�سفية ثانياً‪ ،‬وحتقق اندماجهم �أفراداً �أو‬ ‫موحد يحرتم كلّ فرد منه الآخر ومعتقداته �سواء كان هذا الآخر‬ ‫جماعات يف �شعب ّ‬ ‫فرداً �أم جماعة‪.‬‬ ‫بحد‬ ‫• الدولة الدميقراطية العلمانية التي نطمح �إليها ترتكز �إىل الإن�سان كقيمة ّ‬ ‫ذاته‪� .‬إنها دولة حيادية يف عالقتها بالأديان املختلفة وبالتايل عليها �أن تعامل على قدم‬ ‫امل�ساواة جميع املواطنني املنتمني �إليها‪ ،‬وحتى �أولئك الذين ال ينتمون �إىل � ّأي دين �أو‬ ‫طائفة‪.‬‬ ‫حراً يت�ساوى‬ ‫• �إذ ترتكز العلمنة �إىل مركزية الإن�سان يف احلياة باعتباره قيمة وفرداً ّ‬ ‫مع كل �آخر‪� ،‬إن تك ّون اللبناين مواطناً وفرداً حراً هو �أ�سا�س بناء علمنة لبنانية ت�ضمن‬ ‫حرية ال�ضمري املنجدلة مع حرية التعبري عن الر�أي واملعتقد �أ�سا�ساً لكل حرية �إن�سانية‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ي�ستقل كل منهم عن‬ ‫�إن املجتمع اجلديد الذي نتطلع �إىل بنائه يتك ّون من �أفراد �أحرار‬ ‫كل �سلطة �أو طائفية �أو معتقد‪ ،‬قناعته وم�سريته يف احلياة خيار �شخ�صي ح ّر وفق �ضمريه‪.‬‬ ‫فالإن�سان ح ّر يف �أن ي�ؤمن �أو ال ي�ؤمن‪ ،‬و�أن ميار�س �إميانه على حدة �أو باال�شرتاك مع جماعة‪،‬‬ ‫ب�شكل علني �أو على انفراد‪ ،‬وب�أن يغري دينه بح�سب �ضمريه وقناعته وحكم عقله‪ ،‬وال‬ ‫ميكن �أن يكون الفرد ملكاً ل ّأي عقيدة �أو مذهب �أو طائفة �أو دين �أو قيادة �سيا�سية �أو زعيم‬ ‫�سيا�سي �أو جماعة معينة‪ .‬الإن�سان ملك نف�سه وال قيد وال �سلطة على خياره �أو حياته غري‬ ‫�سلطة القانون الو�ضعي والنظام العام‪.‬‬ ‫• الدولة الدميقراطية العلمانية ت�ضمن للفرد �أو للجماعة حرية ال�ضمري كما حرية التعبري‬ ‫عن الر�أي واملعتقد وحترره من كلّ قيد مايل �أو �سلطوي �أو اجتماعي ومن كل �ضابط‬ ‫عقائدي �أو طائفي‪.‬‬ ‫‪65‬‬


‫• �إن العلمنة يف لبنان تف�صل ما بني العام (و�ضمنه ال�سيا�سة والدولة)‪ .‬والطائفيات‬ ‫ال�سيا�سية اللبنانية‪ ،‬وتف�صل بني املواطن والطائفية (ولي�س الطائفة كمذهب ديني) يف‬ ‫جميع ال�ش�ؤون الزمنية واحلياتية امل�شرتكة بني جميع املواطنني بحيث تنح�صر عالقة‬ ‫املواطن بطائفته يف الإطار الروحي والديني ال�صرف‪ ،‬وبهذا املعنى ف�إنّ العلمنة حترر‬ ‫الدين من كلّ ا�ستغالل لأغرا�ض وم�صالح �سيا�سية �أو طبقية �أو �شخ�صية‪.‬‬ ‫• �إن الدولة الدميقراطية العلمانية تقوم �أي�ضاً على مبد�أ املواطنة بحيث يت�ساوى كل‬ ‫بغ�ض النظر عن انتماءاتهم الدينية والثقافية والعرقية واللغوية‬ ‫اللبنانيني يف ما بينهم ّ‬ ‫والقومية واملناطقية‪ ،‬كما تقوم على مبد�أ العدالة االجتماعية بهدف �إحقاق الفر�ص‬ ‫املتكافئة لكلّ مواطن لبناين للح�صول على حياة كرمية من خالل �ضمان احلق‬ ‫وحق كل مواطن بال�سكن‬ ‫املت�ساوي بالعلم والعمل وبالتح�صيل الأكادميي �أو الفني‪ّ ،‬‬ ‫وال�ضمان االجتماعي وال�ضمان ال�صحي و�ضمان ال�شيخوخة ب�شكل كامل واحلق‬ ‫بدخل يعادل احلد الأدنى لكلفة املعي�شة‪.‬‬ ‫• تنا�ضل الدميقراطية العلمانية يف لبنان من �أجل �إ�سقاط النظام الطائفي اللبناين‬ ‫ورموزه‪ ،‬وهو نظام حروب و�صراعات طائفية تتنا�سل �إىل ما ال نهاية‪ ،‬ويقوم على �إلغاء‬ ‫املواطنة والإن�سان فينا‪ ،‬وا�ستالب العقل عندنا‪ ،‬ويحولنا �إىل طائفيني متع�صبني نت�صارع‬ ‫ونتقاتل بو�سائل وح�شية‪ ،‬ونتكاذب يف ما بيننا يف فرتات ال�سلم الأهلي‪.‬‬ ‫�إن نظام احلياة الدميقراطي العلماين يلغي الطائفية من حياتنا �إىل الأبد‪ ،‬وينهي معها‬ ‫حروبها‪ ،‬ويبعث يف اللبناين �إن�سانيته ومواطنته‪ ،‬ويحقق االندماج الوطني واالجتماعي بني‬ ‫موحد ومواطنة لبنانية ووطن ووحدة‬ ‫اللبنانيني يف �إطار م�سار يقودنا �إىل بناء �شعب لبناين ّ‬ ‫وطنية لبنانية حقيقية‪.‬‬ ‫النقطة الثانية ‪ :‬هل العلمانية كافية لتغيري النظام الطائفي؟‬

‫ العلمانية كما نفهم ونن�شد هي النقي�ض للنظام الطائفي اللبناين‪ ،‬فمن البديهي‬‫�أن حتققها كاملة يكون بزوال النظام الطائفي يف البلد �إىل الأبد‪ ،‬ونق�صد‪ ،‬حتققها يف‬ ‫‪66‬‬


‫ملف العلمانية ‪ -‬مقابالت‬

‫جميع جماالت احلياة اللبنانية امل�شرتكة‪ :‬ال�سيا�سية واالجتماعية والثقافية والرتبوية‬ ‫واالقت�صادية والريا�ضية‪� ...‬إلخ‪ .‬وخالفاً للنظام الطائفي اللبناين الذي يقوم على �إلغاء‬ ‫املواطن احلر واختزال كل طائفية للأفراد وحتويلهم �إىل رعايا‪ ،‬وت�أبيد االنق�سام والفرقة‬ ‫بني اللبنانيني‪ ،‬ويحجز تطور املجتمعات الأهلية الطائفية ويحول دون اندماجها وحتولها‬ ‫�إىل مواطنني و�شعب موحد‪ ،‬ف�إنّ العلمنة‪ ،‬النقي�ض لهذا النظام الطائفي‪ ،‬حتقّق االندماج‬ ‫الوطني‪ -‬االجتماعي بني اللبنانيني وتنتقل بهم نحو �إجناز تكونهم مواطنني �أحراراً‬ ‫يتوحد يف وطن على قاعدة االنتماء لهوية وطنية لبنانية جامعة من دون احلاجة‬ ‫و�شعباً ّ‬ ‫�إىل تو�سط �أية طائفية‪ .‬بهذا املعنى نعم �إن حتقق العلمنة كاملة يلغي من حياتنا النظام‬ ‫الطائفي �إىل الأبد‪.‬‬ ‫توحد العلمانيني يف لبنان؟‬ ‫النقطة الثالثة‪ :‬ما �سبب عدم ّ‬

‫بداية‪ ،‬من هم العلمانيون حقيقة؟ نحن �إزاء �إ�شكاليات عديدة �أبرزها‪:‬‬ ‫‪� .1‬إ�شكالية �أوىل‪ :‬بني العلمانية واملدنية‪ :‬حيث تتمظهر هذه مبجموعات عديدة و�أحزاب‬ ‫تن�سب نف�سها �إىل املدنية مع رف�ض اعتماد م�صطلح العلمانية يف التعريف عن نف�سها‬ ‫وبرناجمها‪.‬‬ ‫‪� .2‬إ�شكالية ثانية‪ :‬تتعلق باالرتباك الذي ي�شهده البع�ض ويتمظهر برت ّدد وعدم احل�سم‬ ‫واحلجة �أن اجلماهري تعترب العلمانية �ضد الدين‪.‬‬ ‫‪� .3‬إ�شكالية ثالثة‪ :‬ق ّلة عدد اجلمعيات التي تعلن انتماءها �إىل خيار العلمانية مع وجود‬ ‫�أندية جامعية علمانية ولكن ينح�صر عملها يف الإطار اجلامعي هذا من جهة‪ .‬ومن جهة‬ ‫توحد العلمانيني يف لبنان يعود �إىل واقع �أن العمل‬ ‫ثانية نرى �أن ال�سبب الرئي�سي لعدم ّ‬ ‫العلماين ما يزال يف طور جنيني حتى الآن‪ ،‬ن�ش�أته حديثة‪ ،‬ومل يرتقِ بعد �إىل م�ستوى‬ ‫العمل احلزبي (للتذكري‪ :‬انطالقته كانت يف عام ‪ 2010‬ومع �أول مظاهرة علمانية يف‬ ‫تاريخ لبنان)‪� .‬إن مثل هذا االرتقاء �شرط �ضروري‪ ،‬ذلك �أن وجود حزب علماين �أو �أكرث‬ ‫ّ‬ ‫ي�شكل حالة ا�ستقطاب ميكن �أن تف�ضي �إىل توحيد العلمانيني يف �إطار جبهوي على قاعدة‬ ‫‪67‬‬


‫برنامج ن�ضال م�شرتك‪� .‬إن تطوير العمل العلماين باجتاه جتاوز احللقية وال�شللية ذات الطبيعة‬ ‫الفئوية احلادة يف التنظيم هو ال�سبيل �إىل بناء منظمات علمانية حزبية تتجه نحو الوحدة‪.‬‬ ‫ومبعنى �آخر‪� ،‬إن ال�شرط ال�ضروري لتحقيق وحدة العلمانيني هو النجاح يف العبور من حالة‬ ‫تبعرث املجموعات ال�صغرية وجتاذباتها �إىل بناء منظمات حزبية وازنة وفاعلة على قاعدة من‬ ‫الو�ضوح الفكري وال�سيا�سي والربناجمي‪.‬‬ ‫النقطة الرابعة‪ :‬ما هي العوائق وال�صعوبات التي يعاين منها العلمانيون‬ ‫يف لبنان؟‬

‫هذه كثرية‪ ،‬والأهم يف املو�ضوعي منها‪� ،‬سيادة ثقافة البنى االجتماعية الطائفية‪-‬القبلية‬ ‫املتخ ّلفة واملهيمنة على العقل والوعي لدى �أكرثية اللبنانيني �صغاراً و�شباباً وكباراً‪ ،‬وهذه‬ ‫ت�شبه الثقافة الأكرث رجعية وتخلفاً وانغالقاً والتي �سادت زمن القرون الو�سطى واحلروب‬ ‫الدينية ويف ممالك اال�ستبداد املطلق يف �أوروبا وال�سلطنة العثمانية‪.‬‬ ‫الأخطر يف هذه الثقافة‪ ،‬وهي ثقافة �شعبية‪� ،‬أنها تعطل العقل لدى الإن�سان‪ ،‬فتحوله �إىل‬ ‫�شخ�ص مربمج يتوقف عن التفكري ويحيل �أمر تفكريه �إىل زعماء الطوائف و�أمرائها ونخبة‬ ‫من رجال الدين‪ ،‬يتوىل ه�ؤالء �ش�ؤون التفكري يف كل �شيء عن �أكرثية اللبنانيني‪ ،‬ويقرر‬ ‫الزعماء والأمراء عنا يف جميع ال�ش�ؤون املتعلقة بحياتنا وخا�صة يف تلك امل�صريية‪� .‬أما يف‬ ‫الذاتي فلقد تناولت يف النقطة ال�سابقة الأهم يف املعوقات وال�صعوبات التي تتعلق بالو�ضع‬ ‫الذاتي للعمل العلماين يف لبنان‪.‬‬ ‫النقطة اخلام�سة‪ :‬بر�أيكم كيف يجب �أن تعمل احلركات واجلمعيات‬ ‫العلمانية لتحقيق �أهدافها؟ وما ال�سبيل لتحقيق دولة علمانية يف لبنان؟‬

‫ن�سجل بداية �أن �شرط حتقق العلمنة يف لبنان هو انحياز �أكرثية اللبنانيني لهذا اخليار‪.‬‬ ‫فالتغيري ال ي�صنعه حزب �أو جبهة �أحزاب فقط‪ ،‬بل ت�صنعه �أكرثية كبرية من ال�شعب‪ .‬هذا‬ ‫يعني �أنه �إذا مل ينجح العمل العلماين يف ا�ستقطاب �أكرثية وازنة لهذا اخليار وبناء حركة‬ ‫�شعبية جديدة ونا�شطة ومنا�ضلة يف هذا ال�سبيل من مادة هذه الأكرثية‪ ،‬ي�ستحيل انتقال‬ ‫‪68‬‬


‫ملف العلمانية ‪ -‬مقابالت‬

‫البلد �إىل نظام دميقراطي علماين‪� .‬إن ذلك يطرح مهمة ت�أ�سي�س وبناء حركة �شعبية جديدة‬ ‫لتدق �أبواب التغيري الدميقراطي العلماين ك�أولوية راهنة‪.‬‬ ‫لقد ثبت يف جتارب الع�صر احلديث �أن ت�أ�سي�س حركة �شعبية جديدة للتغيري هو نتاج عمل‬ ‫حزبي �أو جبهة �أحزاب ن�ضال يف هذا ال�سبيل (مع وعي دور العن�صر املو�ضوعي)‪ .‬واملفارقة‬ ‫القائمة يف واقعنا الراهن‪� ،‬أن مثل حزب كهذا �أو جبهة �أحزاب علمانية مل تت�أ�س�س بعد‬ ‫يف البلد‪( .‬وجود احلزب ال�شيوعي اللبناين على �أهميته وتاريخه‪ ،‬دوره ال يكفي – هذا‬ ‫مو�ضوع نقا�ش �آخر)‪ .‬كما ذكرنا �سابقاً‪ ،‬العمل العلماين يف لبنان ما يزال يف طور جنيني‬ ‫ومل يرتق �إىل م�ستوى العمل احلزبي بعد‪ .‬فالعفوية والتجريبية والتجاذبات الفئوية هي‬ ‫التي حتكم ن�شاط وممار�سة �أكرثية املجموعات وي�ستحيل ت�أ�سي�س وبناء حركة ن�ضال �شعبي‬ ‫جديدة بعمل جمموعات �صغرية غري موحدة ومبعرثة وغري قابلة لالرتقاء يف عملها نحو‬ ‫البناء التنظيمي القابل للنمو على قاعدة من الو�ضوح الفكري وال�سيا�سي والربناجمي‬ ‫والقدر ال�ضروري من االنتظام واالن�ضباط والتما�سك احلزبي‪ .‬لذلك‪ ،‬نحن يف"التجمع"‬ ‫نرى �أن البدء يف عمل العلمانيني يف لبنان يكون بت�أ�سي�س وبناء منظمات حزبية دميقراطية‬ ‫علمانية تتوحد يف �إطار جبهوي م�شرتك‪.‬‬ ‫�أنتقل �إىل ال�س�ؤال الثاين يف هذه النقطة لأقول‪� ،‬إن حتقق الدولة الدميقراطية العلمانية يف‬ ‫ونرجح �أن تكون هذه متدرجة‬ ‫لبنان هو نتاج عملية �صراعية مع النظام الطائفي اللبناين‪ّ .‬‬ ‫نرجح �أن ال يتحقق االنتقال �إىل العلمنة الكاملة يف البلد بعملية ثورية‬ ‫ومديدة‪ .‬مبعنى �آخر‪ّ ،‬‬ ‫�سريعة و�أن تنجز دفعة واحدة‪ .‬وقد ي�شهد انتقال البلد �إىل العلمنة املرور بحقبات حت�صل‬ ‫فيها ازدواجية يف نظامه جتمع بني العلمنة والطائفية‪ .‬ال ن�ستطيع �أن جنزم من الآن‪ ،‬فامل�سار‬ ‫ال�صراعي قد يطول‪ ،‬و�أ�شكال وو�سائل االنتقال �إىل الدولة الدميقراطية العلمانية تتحدد يف‬ ‫�إطار تطورات العملية ال�صراعية نف�سها بني قوى العلمنة وقوى الطائفية يف البلد‪.‬‬ ‫من جهتنا نحن نتوخى �سبل االنتقال ال�سلمي الدميقراطي �إىل العلمانية يف البلد‪ .‬لكن هذا‬ ‫الأمر ال يتوقف على رغبتنا نحن فقط‪ ،‬بل يحدده يف الغالب النهج الذي �ستعتمده الطبقة‬ ‫تتوحد دائماً‬ ‫ال�سيا�سية امل�سيطرة متحدة يف العملية ال�صراعية يف ما بيننا‪ .‬وهذه الطبقة ّ‬ ‫‪69‬‬


‫بكل �أجنحتها الطائفية‪ ،‬وخا�صة يف مواجهة التحركات ال�شعبية وقوى التغيري الدميقراطي‬ ‫على الرغم من انق�ساماتها و�صراعاتها والأمثلة كثرية‪.‬‬ ‫وال�س�ؤال هو‪ ،‬هل �ستلج�أ الطبقة ال�سيا�سية امل�سيطرة وقواها الطائفية �إىل منع عملية االنتقال‬ ‫ال�سلمي بالقوة‪ ،‬وذلك عندما يرجح ميزان االنحياز ال�شعبي ل�صالح التغيري الدميقراطي‬ ‫العلماين؟‬ ‫هذا ما نق�صد عندما نقول �أن النهج الذي �ستعتمده الطبقة ال�سيا�سية و�أحزابها الطائفية‬ ‫يحدد �إىل حد كبري �سبل االنتقال �إىل العلمانية يف البلد‪ .‬وهذه ال�سبل ال تقررها الأحزاب‬ ‫العلمانية لوحدها �أي�ضاً‪ ،‬وبقدر ما يتدخل املزاج اجلماهريي يف تلك اللحظة‪ ،‬ليح�سم يف‬ ‫اختيار ال�سبيل الذي �ستلج�أ �إليه احلركة ال�شعبية يف م�سرية العملية ال�صراعية بني العلمنة‬ ‫والطائفية‪.‬‬ ‫�أختم‪ ،‬يف البدء‪ ،‬الذي هو الآن‪ ،‬علينا �أن ننجز الراهن وهذا �سي�ستغرق ب�ضع �سنوات‪.‬‬ ‫والراهن الآن هو الت�أ�سي�س والعمل على بناء حزب علماين جديد �أو �أكرث مبني على‬ ‫قاعدة و�ضوح فكري و�سيا�سي وبرناجمي كما ذكرت‪ ،‬والعمل على ن�شر ثقافة الدميقراطية‬ ‫والعلمنة مهمة دائمة يتوا�صل القيام بها يف جميع احلقبات‪.‬‬ ‫اخلال�صة‪ :‬العلمنة التي نن�شد يف لبنان تعريفا ً هي‪:‬‬

‫نظام حياة مواطنة دميقراطية ي�ساوي بني اللبنانيني على اختالف معتقداتهم ويلغي الطائفية‬ ‫من حياتهم �إىل الأبد‪ ،‬ويف�صل بني املواطن كفرد حر والطائفية وال يف�صله عن الطائفة‬ ‫كجماعة ت�ؤمن مبذهب ديني‪ ،‬ويف�صل بني الدولة والطائفية‪ ،‬ويقوم على حياد الدولة جتاه‬ ‫املعتقدات الدينية والفل�سفية والفكرية كافة وحيادها جتاه اجلماعات التي تعتقد بها‪،‬‬ ‫واحرتام اجلماعات الدينية وحمايتها ومتكني كل جماعة من ممار�سة �شعائر معتقداتها‪ ،‬كما‬ ‫واحرتام جميع االجتاهات الفل�سفية والفكرية‪.‬‬ ‫ويف تعريف العلمنة التي نن�شد حتقيقها يف لبنان ن�شدد على امل�ضمون الدميقراطي لها مقابل‬ ‫مناذج علمنة ا�ستبدادية غري دميقراطية متحقّقة يف عدد من البلدان‪.‬‬ ‫‪70‬‬


‫ملف العلمانية ‪ -‬مقابالت‬

‫ما هي ال�سبل والو�سائل لتطبيقها؟‬

‫يف االنتقال من النظام الطائفي �إىل النظام العلماين �سنعتمد ال�سبل والو�سائل الدميقراطية‬ ‫ال�سلمية غري القمعية ومن دون جري �أو فر�ض‪� ،‬إذ �أن ا�ستعمال القوة والقمع يف حتقيق‬ ‫هذا االنتقال ي�ؤدي بالبلد �إىل بناء نظام علمنة ا�ستبدادية‪ ،‬مع حلظ �أن هذه امل�س�ألة لي�ست‬ ‫مطروحة على جدول العمل العلماين الآن‪� ،‬إذ ال يزال هذا العمل يف طوره الت�أ�سي�سي‬ ‫وبالتايل ف�إن الأولوية الآن للم�سائل املتعلقة مبهام ت�أ�سي�سية‪.‬‬

‫‪71‬‬



‫فـــــكـــــر‬

‫الربيع العربي من منظار التناف�س اجليو�سيا�سي‬ ‫بني ال�صني ورو�سيا و�إيران من جهة‪ ،‬والواليات املتحدة و�أوروبا وتركيا من جهة �أخرى‬

‫د‪ .‬جمال واكيم ‪ -‬دكتور يف التاريخ والعالقات الدولية‬

‫يف كانون الأول ‪ ،2010‬اندلعت تظاهرات �صاخبة يف تون�س �ضد الرئي�س ال�سابق زين‬ ‫العابدين بن علي‪� ،‬سرعان ما انتقلت �إىل ليبيا وم�صر واليمن وحتى �سورية‪ ،‬معلنة ربيعاً عربياً‬ ‫قال كثريون �إنه �سي�ؤدي �إىل انت�شار الدميقراطية يف العامل العربي‪ .‬وقد �أ ّدت التظاهرات �إىل‬ ‫الإطاحة بكل من بن علي يف تون�س والعقيد معمر القذايف يف ليبيا‪ ،‬والرئي�س ح�سني مبارك‬ ‫يف م�صر‪ ،‬والرئي�س علي عبد اهلل �صالح يف اليمن‪ ،‬فيما اندلع �صراع ال يزال جارياً �إىل الآن‬ ‫يف �سورية‪ .‬ومع مرور الوقت تبني �أن الربيع العربي مل يجر مبعزل عن تغريات دولية و�إقليمية‬ ‫مل تبق حم�صورة يف املنطقة العربية‪ ،‬بل انتقلت عدواها جنوباً �إىل القرن الأفريقي و�شما ًال �إىل‬ ‫�أوكرانيا‪ .‬وبالتايل فقد تبني �أن الربيع العربي هو يف جانب كبري منه ما هو �إال �صراع ب�أ�شكال‬ ‫�أخرى بني القوى الكربى يف الوقت الذي يتحول فيه النظام الدويل من نظام يهيمن عليه‬ ‫الغرب بقيادة الواليات املتحدة �إىل نظام متعدد الأقطاب‪.‬‬ ‫ال�رشق الأو�سط املعا�رص‬

‫جتدر الإ�شارة �إىل �أن النظام الإقليمي الذي �ساد يف املنطقة العربية نتج ب�شكل كبري عن‬ ‫احلرب العاملية الأوىل وانهيار الدولة العثمانية التي كانت حتكم هذه الأقطار‪ .‬فقد �أدى‬ ‫هذا االنهيار عقب هزمية العثمانيني يف احلرب العاملية الأوىل �إىل اقت�سام احلليفني الفرن�سي‬ ‫والربيطاين ممتلكات هذه الدولة يف امل�شرق العربي‪ .‬فهيمن الربيطانيون على جممل اجلزيرة‬ ‫العربية ب�شكل مبا�شر �أو غري مبا�شر‪ ،‬فيما فر�ضوا انتدابهم على العراق والأردن وفل�سطني وفقاً‬ ‫‪1‬‬ ‫التفاقية �سايك�س بيكو مع الفرن�سيني التي �أعطت ه�ؤالء الآخرين انتداباً على �سورية ولبنان‪.‬‬ ‫وكان املغرب واجلزائر وتون�س قد وقعت حتت اال�ستعمار الفرن�سي منذ الن�صف الثاين من‬ ‫‪73‬‬


‫القرن التا�سع ع�شر‪ ،‬فيما وقعت م�صر وال�سودان حتت اال�ستعمار الربيطاين‪ .‬واجلدير ذكره �أن‬ ‫النظام الإقليمي مل يكن انعكا�ساً فقط للإرادة اال�ستعمارية الربيطانية والفرن�سية بل كان‬ ‫ناجتاً عن ا�صطدام امل�شاريع اال�ستعمارية لهاتني الدولتني ب�إرادات وطنية ظهرت يف البلدان‬ ‫التي وقعت حتت اال�ستعمار‪ .‬فقد كانت ال�سيا�سة الربيطانية يف العراق تق�ضي بتق�سيمه �إىل‬ ‫ثالث مناطق‪ ،‬كردية يف ال�شمال و�سنية يف الأو�سط و�شيعية يف اجلنوب‪ ،‬فيما كانت ال�سيا�سة‬ ‫الفرن�سية يف �سورية تق�ضي بتق�سيمها �إىل �أربع دويالت‪ ،‬علوية على ال�ساحل‪ ،‬ودرزية يف جبل‬ ‫الدروز‪ ،‬ودولتني �سنيتني يف دم�شق وحلب‪� 2.‬إال �أن ن�ضال قوى وطنية عراقية و�سورية حال‬ ‫دون هذا الأمر‪.‬‬ ‫يف العام ‪ ،1948‬قامت دولة �إ�سرائيل على �أر�ض فل�سطني بعد تهجري الكثري من �شعبها منها يف‬ ‫الوقت الذي كانت الدول العربية قد بد�أت تتح ّرر فيه من اال�ستعمار‪ .‬وقد قادت م�صر حركة‬ ‫التحرر هذه لي�س فقط يف املنطقة العربية بل �أي�ضاً يف �أفريقيا ما �أدى �إىل حترر معظم �أقطارها‬ ‫من اال�ستعمار‪ .‬لكن ا�صطدام حركة التحرر هذه ب�صعود امل�شروع االمرباطوري الأمريكي‪،‬‬ ‫خ�صو�صاً بعد اغتيال الرئي�س جون كينيدي يف العام ‪� 1963‬أدى �إىل تراجع هذه احلركة‬ ‫ووقوع معظم هذه الأقطار حتت النفوذ الأمريكي‪ ،‬فيما جنت بع�ض هذه الدول كليبيا واليمن‬ ‫اجلنوبي و�سورية بانحيازها �إىل املع�سكر اال�شرتاكي خالل احلرب الباردة‪ .‬لكن مع انهيار‬ ‫كتلة الدول اال�شرتاكية واالحتاد ال�سوفياتي يف العام ‪ 1991‬بعد هزميتهما يف احلرب الباردة‬ ‫�أ�ضحت الواليات املتحدة زعيمة العامل بال منازع‪ ،‬لكن �إىل حني‪ .‬فقد كانت وا�شنطن تعرف‬ ‫حق املعرفة �أن عدداً من القوى من بينها ال�صني ورو�سيا و�أوروبا واليابان والهند والربازيل‬ ‫كانت يف طريقها لتبوء دور عاملي‪ ،‬وكان هم القادة الأمريكيني هو يف �ضمان �أن تبقى بالدهم‬ ‫القوة الأوىل يف العامل‪ .‬واجلدير ذكره �أن التفكري اجليو�سا�سي الأمريكي كان مت�أثراً باعتبار‬ ‫الواليات املتحدة قوة بحرية وريثة لربيطانيا العظمى يف �سيادة البحار‪ ،‬والتي هي املفتاح‬ ‫‪3‬‬ ‫الرئي�سي لفر�ض ال�سيادة العاملية كما يعترب الأدمريال الأمريكي ال�شهري �ألفريد ثاير ماهان‪.‬‬ ‫وقد ت�أثر التفكري الأمريكي �أكرث ما ت�أثر بالنظريات اجليو�سيا�سية للعامل الربيطاين ال�شهري‬ ‫هالفورد ماكيندر الذي اعترب �أن ال�سيطرة على �أورا�سيا هي مفتاح ال�سيطرة على العامل‪ .‬ويف‬ ‫‪74‬‬


‫فـــــكـــــر‬

‫مقالته ال�شهرية حول املحور اجلغرايف للتاريخ اعترب ماكيندر �أن قلب �أورا�سيا الذي ي�ضم‬ ‫رو�سيا كان دائماً منطلقاً ل�صعود امرباطوريات برية كربى كانت تهدد بفر�ض �سيطرتها على‬ ‫جممل �أورا�سيا وبالتايل تهدد بعزل القوى البحرية و�آخرها بريطانيا متهيداً الحتاللها‪ .‬وقد‬ ‫اعتقد ماكيندر �أن من م�صلحة بريطانيا عدم توحد �أورا�سيا حتت مظلة قوة وحيدة‪ ،‬كما �آمن‬ ‫ب�ضرورة منع �أي قوة برية يف �أورا�سيا من اخلروج بحرية �إىل طرق املوا�صالت البحرية‪ 4.‬وقد‬ ‫�أثر ماكيندر باملفكرين اجليو�سيا�سيني الأمريكيني وعلى ر�أ�سهم نيكوال�س �سبيكمان الذي‬ ‫كتب خالل احلرب العاملية الثانية عن اخلطر الذي يتهدد الواليات املتحدة يف حال احتدت‬ ‫�أورا�سيا حتت مظلة قوة واحدة‪ ،‬لأنه يف هذه احلالة �ستنعزل الواليات املتحدة يف �شمال �أمريكا‬ ‫و�ست�صبح حما�صرة من ال�شرق والغرب بقوة معادية‪� .‬إال �أن �سبيكمان ر�أى �أن التهديد‬ ‫بتوحيد �أورا�سيا ميكن �أن ين�ش�أ لي�س انطالقاً من قلب �أورا�سيا وهي رو�سيا بل من املناطق‬ ‫املحاذية لها والتي ي�سميها مناطق الأطراف‪ 5.‬وقد ت�أثر زبغنيو بريجن�سكي‪ ،‬امل�ست�شار ال�سابق‬ ‫للأمن القومي الأمريكي يف عهد الرئي�س جيمي كارتر‪ ،‬والذي اعترب �أنه لكي تبقي الواليات‬ ‫املتحدة على زعامتها للعامل ف�إن عليها �أن تبقي �أوروبا الغربية حتت مظلتها‪ ،‬لأنها ت�شكل ج�سر‬ ‫عبور لوا�شنطن �إىل الرب الأوروا�سي‪ .‬كذلك فهو �أ�شار �إىل �ضرورة �أن ال يقع ال�شرق الأو�سط‬ ‫وو�سط �آ�سيا حتت �سيطرة �أي من القوى الأورا�سية و�أال تخرج الواليات املتحدة من تلك‬ ‫‪6‬‬ ‫املنطقة و�أن تبقى حمكمة للتناق�ضات فيها‪.‬‬ ‫�صعود ال�صني‬

‫منذ القدم عندما كانت ال�صني تنه�ض وتزدهر‪ ،‬كانت ترنو ب�أنظارها ناحية بحر جنوب ال�صني‬ ‫�إىل اجلنوب ال�شرق من ال�صني‪ ،‬وناحية و�سط �آ�سيا التي كانت تعترب عقدة املوا�صالت‬ ‫التجارية الربية عرب �آ�سيا والتي ا�صطلح على ت�سميتها بطريق احلرير‪ .‬وقد كان هذا ديدن‬ ‫ال�صني منذ توحيدها يف القرن الثالث قبل امليالد وحتى يومنا هذا‪ .‬و ُيعترب �صعود القوة‬ ‫املغولية يف القرن الثالث ع�شر والرابع ع�شر يف جانب منه �صعوداً للهيمنة العاملية لل�صني‪.‬‬ ‫توحد �أورا�سيا �إىل تلك احلقبة التي �شهدت تهديداً مغولياً لأوروبا‬ ‫وتعود اخل�شية الغربية من ّ‬ ‫الغربية مل يتوقف �إال يف املجر‪ .‬وبعد الإطاحة باحلكم املغويل يف ال�صني على يد م�ؤ�س�س �أ�سرة‬ ‫‪75‬‬


‫مينغ عادت ال�صني �إىل عزلتها يف ظل �أ�سرتي مينغ وت�شني حتى بداية القرن التا�سع ع�شر‪.‬‬ ‫وقد بقيت ال�صني معزولة عن العامل ب�شكل كبري حتى منت�صف القرن الثامن ع�شر‪ ،‬حني‬ ‫�شنت بريطانيا عليها حرباً لإجبارها على فتح �أ�سواقها �أما جتارة الأفيون املنتج بامل�ستعمرات‬ ‫الربيطانية وذلك يف العام ‪ 1840‬ما �أدى �إىل بدء وقوع ال�صني يف ظل الهيمنة الغربية يف ما‬ ‫�سيعرف بقرن الذل‪ 7.‬قرن الذل هذا قدر له �أن ينتهي مع انت�صار الثورة ال�صينية بقيادة ماو‬ ‫ت�سي تونغ يف العام ‪ 1949‬و�إقامة جمهورية ال�صني ال�شعبية‪ .‬وقد ّمتكن جيل ماو من �إعادة‬ ‫و�ضع ال�صني على اخلريطة العاملية‪ ،‬لكن خروج ال�صني �إىل العامل مل يح�صل ب�شكل كبري‬ ‫�إال بعد وفاة ماو يف العام ‪ 1976‬وو�صول دينغ ك�سياو بينغ �إىل ال�سلطة يف العام ‪ .1978‬وقد‬ ‫�سارع دينغ لالنفتاح على الواليات املتحدة‪� 8.‬أما على ال�صعيد االقت�صادي فقد عمد لتطبيق‬ ‫خطة اقت�صادية مبنية على الت�صور الذي و�ضعه �شوين الي يف العام ‪ ،1975‬والتي تقوم على‬ ‫الرتكيز على الت�صنيع ثم االنتقال �إىل التنمية املتوازنة يف القطاعات االقت�صادية الأربعة وهي‬ ‫‪9‬‬ ‫الزراعة وال�صناعة والدفاع والتكنولوجيا‪.‬‬ ‫ا�ضافة �إىل ذلك بد�أت ال�صني ب�إقامة مناطق اقت�صادية حرة لالنفتاح على االقت�صاد العاملي‪،‬‬ ‫وبناء على ذلك منا االقت�صاد ال�صيني يف الثمانينيات والت�سعينيات من القرن املا�ضي مبعدالت‬ ‫ترتاوح بني ‪ 8‬و ‪ 10‬باملئة �سنوياً‪ ،‬فيما ارتفعت م�ستويات املعي�شة للأفراد بن�سبة ثمانني باملئة‬ ‫وارتفعت ح�صة ال�صناعة من الناجت املحلي �إىل ‪ 50‬باملئة‪ 10.‬ومع حلول العام ‪ 1992‬بد�أت‬ ‫ال�صني بتحقيق فائ�ض يف التبادل التجاري مع الواليات املتحدة ما جعلها تراكم احتياطات‬ ‫‪11‬‬ ‫بالعمالت الأجنبية بنحو �أربعني مليار دوالر‪ ،‬لرتتفع بعد ذلك �إىل �أ�ضعاف ذلك املبلغ‪.‬‬ ‫وقد ّ‬ ‫مكن هذا ال�صني من جتاوز الأزمة التي �ضربت كتلة الدول اال�شرتاكية والتي �أ ّدت �إىل‬ ‫انهيارها وانهيار االحتاد ال�سوفياتي يف العام ‪.1991‬‬ ‫ما �إن انطلقت ال�صني اقت�صادياً حتى بد�أت ت�سعى لتدعيم هذه االنطالقة �سيا�سياً‪ .‬وقد كان‬ ‫لدى ال�صني تاريخياً قلق من منطقة و�سط �آ�سيا التي كانت م�صدر معظم الغزوات التي‬ ‫تع ّر�ضت لها ال�صني‪ ،‬كما �أنها كانت املنطقة التي تنطلق منها ال�صني لتدعيم التجارة يف الرب‬ ‫م�سمى طريق احلرير‪ .‬لذا فقد قامت ال�صني وبالتعاون مع رو�سيا وكازاخ�ستان‬ ‫الآ�سيوي‪ ،‬حتت ّ‬ ‫‪76‬‬


‫فـــــكـــــر‬

‫وقرغيز�ستان وطاجيك�ستان ب�إن�شاء جمموعة اخلم�سة يف العام ‪ 1996‬والتي حتولت يف حزيران‬ ‫من العام ‪� 2001‬إىل منظمة �شنغهاي للتعاون بعد ان�ضمام �أوزبك�ستان �إليها‪ .‬ووفقاً لد�ستور‬ ‫املنظمة ف�إن هدفها الرئي�سي هو حفظ الأمن واال�ستقرار يف منطقة و�سط �آ�سيا ومكافحة‬ ‫احلركات االنف�صالية املنطلقة منها‪ 12.‬و�أهمية منظمة �شنغهاي للتعاون تكمن يف �أنها حتتل‬ ‫وت�ضم ربع �سكان العامل‪ .‬و�إذا �أخذنا يف االعتبار الدول التي‬ ‫�ستني باملئة من م�ساحة �أورا�سيا ّ‬ ‫تتمتع ب�صفة مراقب وهي �أفغان�ستان والهند و�إيران ومنغوليا وباك�ستان ف�إن منظمة �شنغهاي‬ ‫للتعاون ت�ضم ثمانني باملئة من م�ساحة �أورا�سيا ون�صف �سكان العامل‪ .‬وقد �أر�ست املنظمة هيئة‬ ‫خا�صة ُتعنى مبكافحة الإرهاب‪ 13 .‬واجلدير ذكره �أن طلب الواليات املتحدة باالن�ضمام �إىل‬ ‫املنظمة رف�ض يف العام ‪ ،2006‬كما رف�ض طلبها يف �أن تكون ع�ضواً مراقباً‪ .‬وقد ّف�سر املحللون‬ ‫ذلك خل�شية ال�صني ورو�سيا من متدد نفوذ وا�شنطن �إىل و�سط �آ�سيا‪� 14.‬أما املنطقة الأخرى‬ ‫التي حتظى باهتمام ال�صني فهي منطقة جنوب بحر ال�صني لأهميتها يف الربط بني املحيط‬ ‫الهندي واملحيط الهادئ من جهة‪ ،‬ولدورها كمنفذ لل�صني على طرق املالحة البحرية‪ .‬ويرى‬ ‫حمللون �أن الواليات املتحدة ت�سعى ملنع ال�صني من ب�سط نفوذها على تلك املنطقة وذلك‬ ‫بتدعيم عالقاتها مع الدول امل�شاطئة لتلك املنطقة‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل اليابان وكوريا اجلنوبية وذلك‬ ‫‪15‬‬ ‫ملنع ال�صني من اخلروج �إىل طرق املالحة البحرية‪.‬‬ ‫يف مواجهة احتماالت �صعود ال�صني كقوة �أوىل يف العامل‪ ،‬حاولت الواليات املتحدة اختالق‬ ‫�أزمات لها عرب ت�شجيع احلركات االنف�صالية يف منطقة التيبت ويف منطقة جينجيناغ ذات‬ ‫الغالبية امل�سلمة يف �شمال غرب ال�صني‪ .‬ففي متوز ‪ 2009‬اندلعت مواجهات عنيفة بني‬ ‫امل�سلمني الويغور والبوذيني الهان‪ .‬وقد اعتربت احلكومة ال�صينية �أن هذه املواجهات ت�سببت‬ ‫بها حركات �سلفية متطرفة القت ت�شجيعاً من �أفغانيني وباك�ستانيني‪ .‬و�أ�صدر احلزب ال�شيوعي‬ ‫ال�صيني بياناً اعترب فيه �أن اال�ستقرار يف جينجيانغ هو �أمر حيوي جداً بالن�سبة لل�صني و�أن‬ ‫الأحداث نتجت عن ن�شاط قوى �إرهابية وانف�صالية متطرفة‪ 16.‬وقد واجهت ال�صني حملة‬ ‫غربية متثلت باالنتقادات التي وجهت لها من قبل الأمني العام للأمم املتحدة بان كي مون‬ ‫ورئي�س الوزراء الأ�سرتايل كيفني رود وامل�ست�شارة الأملانية �أجنيال مريكل والناطق با�سم‬ ‫‪77‬‬


‫اخلارجية الأمريكية �إيان كيلي‪ 17.‬كذلك فقد ا�ستهدفت الواليات املتحدة ال�صني يف منطقة‬ ‫�أخرى ذات �أهمية كربى بالن�سبة لها وهي منطقة جنوب بحر ال�صني‪ .‬ويعترب امل�س�ؤولون‬ ‫ال�صينيون �أن الواليات املتحدة حتاول خلق امل�شاكل بني الدول امل�شاطئة جلنوب بحر ال�صني‪.‬‬ ‫ففي �شباط ‪ 2014‬انتقد الناطق با�سم اخلارجية ال�صينية هونغ يل االتهامات الأمريكية لبالده‬ ‫ب�أنها حتاول ب�سط �سيطرتها على مناطق متنازع عليها يف منطقة جنوب بحر ال�صني واتهم‬ ‫الواليات املتحدة بالعمل على زيادة التوتر يف تلك املنطقة‪ 18.‬ويف �آب املا�ضي وخالل قمة‬ ‫�آ�سيان �أعلن بيان �صادر عن مكتب وزير اخلارجية ال�صيني وانغ يي �أن على الواليات املتحدة‬ ‫تكف عن التدخل يف �ش�ؤون منطقة جنوب بحر ال�صني‪ .‬واعترب البيان �أنه ال ميكن له �أن‬ ‫�أن ّ‬ ‫يفهم ملاذا ت�سعى دول "غريبة عن املنطقة �أن تثري امل�شكالت فيها"‪ ،‬و�أنه ال يفهم ملاذا حتاول‬ ‫وا�شنطن �إثارة القالقل والفو�ضى كما فعلت يف العراق و�سورية وليبيا‪ 19.‬بعد ذلك‪ ،‬خالل‬ ‫�شهر ني�سان ‪ 2015‬اتهم قائد مدمرة �أمريكية ال�صني ب�إقامة حواجز وعوائق يف مناطق متنازع‬ ‫‪20‬‬ ‫عليها يف جنوب بحر ال�صني لتعزز مطالبها يف �ضم تلك املناطق‪.‬‬ ‫�صعود رو�سيا‬

‫يف مواجهة حماوالت الهيمنة الأمريكية‪� ،‬سعت ال�صني لإقامة حتالف مع رو�سيا‪ ،‬والتي تعترب‬ ‫نف�سها م�ستهدفة من الواليات املتحدة والغرب عموماً‪ .‬واجلدير ذكره �أنه منذ حت ّرر الرو�س من‬ ‫الهيمنة املغولية عليهم بعد معركة كوليكوفو يف العام ‪ 1380‬فقد حكمهم هاج�سان‪ ،‬الأول‬ ‫�ضمان �أمنهم يف منطقة و�سط �آ�سيا‪ ،‬منطلق الغزوة املغولية التي تعر�ضت لها رو�سيا‪ ،‬و�ضمان‬ ‫مقعد لهم يف نادي الدول الأوروبية‪ .‬مع حلول منت�صف القرن ال�سابع ع�شر كانت رو�سيا قد‬ ‫�أمنت نف�سها يف منطقة و�سط �آ�سيا بعد و�صولها �إىل املحيط الهادئ �شرقاً وتوقيعها معاهدة‬ ‫نري�شين�سك يف العام ‪ 1648‬لتقا�سم النفوذ مع ال�صني يف منطقة و�سط �آ�سيا‪ .‬هذا �أ ّهلها لتوجيه‬ ‫�أنظارها غرباً نحو �أوروبا ال�شرقية‪ .‬هذا ما دفع ببطر�س الأكرب �إىل �إقامة حتالف مع الدمنارك‬ ‫وبولندا ل�شن حرب تهدف �إىل ك�سر الهيمنة ال�سويدية على بحر البلطيق‪ .‬وقد دامت احلرب‬ ‫لن ّيف وع�شرين عاماً وانتهت يف العام ‪ 1722‬بانت�صار رو�سيا وح�صولها على مناطق على‬ ‫�سواحل بحر البلطيق من �ضمنها التفيا وا�ستونيا وليتوانيا‪ 21.‬يف الن�صف الثاين من القرن‬ ‫‪78‬‬


‫فـــــكـــــر‬

‫الثامن ع�شر وجهت رو�سيا �أنظارها جنوباً نحو البحر الأ�سود الذي كان بحرية عثمانية منذ‬ ‫تو�سعت رو�سيا غرباً لت�ضم‬ ‫القرن اخلام�س ع�شر‪ .‬وخالل عهد الأمرباطورة كاثرين الثانية ّ‬ ‫ليتوانيا ورو�سيا البي�ضاء ورو�سيا اجلديدة و�أوكرانيا على ح�ساب بولندة التي ق�سمت الحقاً‬ ‫بينها وبني برو�سيا‪ 22.‬هذا �أ ّهل رو�سيا لتكون يف موقع �أف�ضل ل�شن احلرب �ضد ال�سلطنة‬ ‫العثمانية‪ .‬ففي العام ‪� 1768‬شنت رو�سيا احلرب يف القرم �ضد ال�سلطنة العثمانية وجنحت‬ ‫يف االنت�صار عليها بعد �ست �سنوات لتنال مبوجبها �شبه جزيرة القرم التي �أعلنت يف البداية‬ ‫ت�ضم الحقاً �إىل رو�سيا‪ .‬وبذلك ح�صلت رو�سيا على منفذ‬ ‫منطقة ذات حكم ذاتي قبل �أن ّ‬ ‫‪23‬‬ ‫على البحر الأ�سود والذي �أ�صبح �أول منفذ لها على املياه الدافئة‪.‬‬ ‫بعد ذلك واجهت رو�سيا خطر الغزو من قبل نابوليون بونابارت يف العام ‪ ،1812‬وكان �سبب‬ ‫الغزو يكمن يف خرق الرو�س للمقاطعة االقت�صادية التي فر�ضها نابوليون على الب�ضائع‬ ‫الربيطانية‪ ،‬وللخالف على النفوذ يف �شرق �أوروبا‪ ،‬خ�صو�صاً يف بولندة‪ 24.‬وقد ف�شل نابوليون‬ ‫يف غزو رو�سيا وبنتيجة هذا الف�شل متكنت القوات الرو�سية مع حتالف عري�ض من النم�سا‬ ‫وبرو�سيا وبريطانيا من الإطاحة به يف العام ‪ .1815‬وبنتيجة مقررات قمة فيينا يف ذلك العام‬ ‫باتت رو�سيا القوة الأوىل يف منطقة �شرق �أوروبا‪ ،‬وبالتايل �أ�صبحت رو�سيا قوة �أوروبية معرتفاً‬ ‫بها من باقي القوى‪ .‬يف هذا الوقت تابعت رو�سيا م�سعاها يف الو�صول �إىل املياه الدافئة عرب‬ ‫التو�سع يف منطقتي و�سط �آ�سيا والقوقاز‪ .‬وقد �أقلق هذا الربيطانني الذين حاولوا ا�ستخدام‬ ‫ّ‬ ‫�أفغان�ستان وفار�س والدولة العثمانية كمناطق عازلة حتول دون و�صول الرو�س �إىل الهند التي‬ ‫كانت قد �أ�ضحت م�ستعمرة بريطانية‪ ،‬ودون الو�صول �إىل املحيط الهندي الواقع حتت النفوذ‬ ‫الربيطاين‪ 25.‬وقد كان �سعي رو�سيا �إىل الدفاع عن نفوذها يف �شرق �أوروبا‪ ،‬هو ال�سبب الرئي�س‬ ‫يف اندالع احلرب العاملية الأوىل‪ .‬فقد �أ ّدى �سعي حليفتها �صربيا �إىل �إقامة احتاد لل�سالف‬ ‫اجلنوبيني �إىل ت�شجيع حركات اال�ستقالل يف البلقان‪ ،‬خ�صو�صاً يف منطقة البو�سنة والهر�سك‬ ‫التي كانت حتتلها النم�سا واملجر‪ 26.‬وبعد اغتيال قوميني �صرب لويل العهد النم�ساوي‬ ‫وزوجته يف �سراييفو‪ ،‬هاجمت النم�سا �صربيا‪ ،‬فتدخلت رو�سيا �إىل جانب حليفتها بلغراد ما‬ ‫�شن احلرب �ضد الرو�س‪ .‬وبنتيجة اخل�سائر التي تعر�ضت لها رو�سيا يف احلرب‬ ‫دفع باالملان �إىل ّ‬ ‫‪79‬‬


‫اندلعت الثورة البول�شفية يف ت�شرين الأول ‪ 1917‬وتتالت الأحداث ليوقع ال�شيوعيون على‬ ‫اتفاقية بري�ست ليتوف�سك يف �آذار ‪ 1918‬مع الأملان خرجوا بها من احلرب وخ�سروا فنلندا‬ ‫‪27‬‬ ‫وبولندة و�أوكرانيا ورو�سيا البي�ضاء وغريها من الأرا�ضي يف �شرق �أوروبا‪.‬‬ ‫بعد انتهاء احلرب العاملية الأوىل كان على رو�سيا �أن تعيد بناء اقت�صادها وجمتمعها الذي‬ ‫د ّمرته احلروب‪ ،‬كما كان عليها �أن تواجه خطر ت�صاعد الفا�شية يف �أوروبا بقيادة �أدولف هتلر‬ ‫يف �أملانيا وبنيتو مو�سوليني يف �إيطاليا‪ .‬لذا فقد قاد �ستالني‪ ،‬خليفة لينني يف قيادة االحتاد‬ ‫‪28‬‬ ‫ال�سوفياتي‪ ،‬حتدي حتويل رو�سيا �إىل قوة �صناعية بغية التح�ضري ملواجهة هذه التحديات‪.‬‬ ‫وب�سبب رف�ض بريطانيا وفرن�سا حماوالت �ستالني التقرب منهما ملواجهة اخلطر النازي‪ ،‬اختار‬ ‫الزعيم ال�سوفياتي عقد اتفاق مع هتلر بغية ك�سب الوقت للتح�ضري للحرب احلتمية‪ .‬وبنتيجة‬ ‫اتفاق مولوتوف ريبنرتوب بني رو�سيا و�أملانيا يف �آب ‪� 1939‬أعطيت رو�سيا حق الهيمنة على‬ ‫دول البلطيق باال�ضافة �إىل بولندة ال�شرقية و�أوكرانيا ورو�سيا البي�ضاء‪ ،‬فيما �أطلقت يد هتلر‬ ‫يف بولندة الغربية و�أوروبا ب�شكل عام‪ .‬لكن اخلالف مع هتلر كان حتمياً لأن الأخري مل‬ ‫يكن را�ضياً عن النفوذ ال�سوفياتي يف �شرق �أوروبا‪ ،‬لذا‪ ،‬بعد اجتياحه فرن�سا وهولندة وبلجيكا‬ ‫ي�ستعد الجتياح االحتاد ال�سوفياتي‪ .‬يف ‪ 22‬حزيران ‪1941‬‬ ‫والرنوج يف ربيع عام ‪ ،1940‬بد�أ ّ‬ ‫بد�أت القوات الأملانية هذا االجتياح الوا�سع النطاق الذي �أدى �إىل حما�صرة لينينغراد‬ ‫واجتياح �أوكرانيا والو�صول �إىل تخوم القوقاز‪ 30.‬واجلدير ذكره �أن هتلر كان قد تعلم الدر�س‬ ‫من نابوليون فلم يكن يهمه اجتياح مو�سكو لأنه يعرف ان هذا مل يكن لينهي احلرب‪ ،‬لذا‬ ‫حاول توجيه �ضربة �إىل اخلا�صرة الرخوة لرو�سيا يف و�سط �آ�سيا‪ .‬هذا ما يف�سر توجيهه جلهوده‬ ‫نحو �ستالينغراد يف خريف و�شتاء ‪ .1943 – 1942‬فهذه املدينة كانت هي املنطلق نحو و�سط‬ ‫�آ�سيا‪ 31.‬وقد �أدى ف�شل هتلر يف هذه املعركة �إىل هزميته يف احلرب العاملية الثانية والتي خرج‬ ‫‪32‬‬ ‫منها االحتاد ال�سوفياتي قوة عظمى‪.‬‬ ‫‪29‬‬

‫خالل احلرب الباردة تواجهت الواليات املتحدة والغرب مع االحتاد ال�سوفياتي وكتلة الدول‬ ‫اال�شرتاكية‪ .‬وقد �سعت الواليات املتحدة �إىل تطويق ال�سوفيات ب�سل�سلة من الأحالف‬ ‫الع�سكرية يف الوقت الذي كانت ت�سعى فيه �إىل ا�ستهدافهم يف �شرق �أوروبا من ناحية ويف‬ ‫‪80‬‬


‫فـــــكـــــر‬

‫و�سط �آ�سيا من ناحية �أخرى‪ .‬يف املقابل حاول ال�سوفيات فق الطوق عنهم‪ ،‬خ�صو�صاً عرب‬ ‫ن�سج عالقات قوية مع الزعيم امل�صري جمال عبد النا�صر والذي ّ‬ ‫مكنهم من الدخول �إىل‬ ‫�أفريقيا‪ .‬وقد �شكل انقالب ال�سيا�سة امل�صرية بعد وفاة عبد النا�صر �ضربة قوية للنفوذ الرو�سي‬ ‫يف ال�شرق الأو�سط‪ 33.‬هذا جعل الأمريكيني طليقني يف توجيه �سيا�سات معادية للرو�س يف‬ ‫بولندة ويف �أفغان�ستان‪ 34.‬وقد �أدت هاتان الأزمتان �إ�ضافة �إىل عوامل �أخرى �إىل �إنهاك االحتاد‬ ‫‪35‬‬ ‫ال�سوفياتي ثم انهياره يف العام ‪ 1991‬تاركاً ال�ساحة الدولية للأمريكيني وحدهم‪.‬‬ ‫رغم ان�سحاب رو�سيا من املواجهة مع الواليات املتحدة‪� ،‬إال �أن الأمريكيني ومعهم الغرب‬ ‫ظلوا يوجهون �سيا�سات يعتربها الرو�س مهددة لأمنهم القومي‪ .‬فقد �أبقى الغربيون على‬ ‫حلف الناتو رغم انتهاء احلرب الباردة وو�سعوا ع�ضويته لت�شمل دو ًال يف �أوروبا ال�شرقية قريبة‬ ‫من الأرا�ضي الرو�سية‪ .‬كذلك فقد �سعوا ّملد نفوذهم يف القوقاز وو�سط �آ�سيا‪ ،‬ما جعل رو�سيا‬ ‫ت�سعى للتقارب مع ال�صني و�إيران املت�ضررتني من هذه ال�سيا�سات‪ .‬يف العام ‪� 1999‬أ�صبح‬ ‫فالدميري بوتني رئي�ساً للوزراء يف رو�سيا ليتوىل الرئا�سة يف �أول العام ‪ 2000‬خلفاً للرئي�س بوري�س‬ ‫يلت�سني الذي ا�ستقال من من�صبه لأ�سباب �صحية‪ 36.‬ويف عهده‪ ،‬تقرب الرو�س من ال�صينيني‬ ‫و�أ�س�سوا معهم منظمة �شنغهاي للتعاون‪ .‬وقد عار�ض بوتني الغزو الأمريكي للعراق يف العام‬ ‫‪ .2003‬وكان الأمريكيون قد دعموا انقالبات يف كل من �أوكرانيا وجورجيا وقرغيز�ستان‬ ‫بني عامي ‪ 2003‬و‪ .2005‬وما لبث الرئي�س الأوكراين املوايل للغرب يوت�شينكو �أن طلب‬ ‫االن�ضمام �إىل حلف الناتو ما �أثار حفيظة الرو�س ملا فيه من تهديد لأمنهم القومي‪ .‬فقاموا‬ ‫بالرد يف العام ‪ 2008‬ووجهوا �ضربة ع�سكرية �ضد جورجيا �أدت �إىل حتييدها يف التناف�س‬ ‫الأمريكي الرو�سي يف القوقاز‪ .‬كذلك قام الرو�س بدعم انتخاب حليفهم يف �أوكرانيا ميخاييل‬ ‫يانوكوفيت�ش يف العام ‪ 2010‬ما عرقل ان�ضمام �أوكرانيا �إىل حلف الناتو واالحتاد الأوروبي‪.‬‬ ‫وقد رد الأمريكيون وحلفا�ؤهم الغربيون يف العام ‪ 2014‬بدعم انقالب على يانوكوفيت�ش ما‬ ‫�أدى �إىل اندالع �أزمة يف �أوكرانيا‪ ،‬خ�صو�صاً بعد مطالبة �أركان النظام اجلديد فيها ت�سريع‬ ‫االن�ضمام �إىل االحتاد الأوروبي والناتو‪ .‬فرد الرو�س بدعم املعار�ضني للحكم اجلديد يف �شرق‬ ‫البالد‪ ،‬كما دعموا مطلب الإ�ستقالل الذي تقدمت به جمهورية القرم والتي طالب �سكانها‬ ‫‪81‬‬


‫بعد ذلك باالن�ضمام �إىل رو�سيا‪ .‬ويف حماولة عزلها تقاربت رو�سيا مع ال�صني و�إيران يف �إطار‬ ‫منظمة �شنغهاي للتعاون‪ .‬وملنع الواليات املتحدة من ح�صر رو�سيا وال�صني و�إيران يف الرب‬ ‫الأورا�سي قامت مو�سكو وبكني باالن�ضمام مع نيو دلهي وجنوب �أفريقيا والربازيل يف �إطار‬ ‫دول منظمة الربيك�س‪ .‬ويلعب تكتل دول الربيك�س دوراً يف مواجهة الهيمنة الأمريكية‬ ‫الغربية على العامل‪ .‬فحقيقة وقوع الهند وجنوب �أفريقيا والربازيل على الطريق الذي �سلكه‬ ‫ماجالن قبل خم�سة قرون يجعلنا ن�ستنتج ان رو�سيا وال�صني‪ ،‬ويف الوقت الذي تواجهان‬ ‫فيه الهيمنة الغربية يف �أورا�سيا ف�إنهما تقومان بحركة التفاف كبرية عرب طريق ماجالن على‬ ‫القواعد الع�سكرية ومناطق النفوذ الأمريكية لتقوم بعملية تطويق من ناحية‪ ،‬ويف الوقت نف�سه‬ ‫ت�صالن �إىل طرق املالحة البحرية‪.‬‬ ‫�صعود �إيران‬

‫�أما القوة الآ�سيوية الثالثة التي �صعدت يف العقدين املا�ضيني فقد كانت �إيران‪ .‬ومنذ �أيام‬ ‫الأخمينيني كان الإمرباطوريات التي ت�سيطر على اله�ضبة الفار�سية تنزع للعب دور �صلة‬ ‫الو�صل بني �شرق �آ�سيا و�شرق املتو�سط‪ ،‬وبالتايل كانت فار�س او �إيران تزدهر حني تنجح يف‬ ‫لعب هذا الدول‪ ،‬فيما كانت ت�ضمر وتتع ّر�ض لأزمات داخلية حني ال تنجح يف ذلك‪ .‬وقد‬ ‫كان هذا هو احلال زمن الأخمينيني والبارثيني وال�سا�سانيني‪ ،‬ثم زمن البويهيني وال�سالجقة‬ ‫وحد جنكيز خان املغول وانطلق بهم لي�سيطر‬ ‫قبل ظهور املغول على ال�ساحة الدولية‪ .‬وقد ّ‬ ‫على �شمال ال�صني وو�سط �آ�سيا‪ .‬وقد وا�صل �أبنا�ؤه و�أحفاده فتوحاتهم لي�سيطروا على معظم‬ ‫الرب الأورا�سي‪ .‬وقد �أ�س�س هوالكو‪ ،‬حفيد جنكيز خان دولته اخلا�صة يف �إيران والتي كانت‬ ‫تابعة للخان الكبري الذي نقل مقره �إىل ال�صني زمن قوبالي خان‪ .‬وبدا وك�أن حلم جنكيز‬ ‫بال�سيطرة على العامل يكاد �أن يتحقق لوال جناح املماليك يف م�صر يف وقف ّمتدد املغول‬ ‫غرباً بعد انت�صارهم عليهم يف معركة عني جالوت يف فل�سطني يف العام ‪ .1260‬وبات املغول‬ ‫ي�سيطرون على طرق التجارة الربية بني املحيط الهادئ �شرقاً والفرات غرباً‪ .‬وكان على اجلميع‬ ‫ً ‪37‬‬ ‫مبن فيهم من مل يقع حتت ال�سيطرة املغولية املبا�شرة �أن يتعامل معهم اقت�صاديا‪.‬‬ ‫‪82‬‬


‫فـــــكـــــر‬

‫وقد �شكلت �إيران خالل هذه الفرتة ج�سر عبور لل�صني املغولية �إىل �شرق املتو�سط‪ ،‬خ�صو�صاً‬ ‫بعد �إقامتها لتحالف مع مملكة �أرمينيا ال�صغرى يف كيليكيا �شمال �سوريا‪ .‬لكن كان هذا‬ ‫التحالف يعاين من مناف�سة من قبل مغول ال�شغتاي يف و�سط �آ�سيا ومغول اجلحافل الذهبية‬ ‫يف جنوب رو�سيا‪ ،‬والذين �أقاموا حتالفاً اقت�صادياً مع مماليك م�صر �ضد �أبناء جلدتهم مغول‬ ‫ال�صني و�إيران‪ 38.‬وكانت م�صر عقدة التجارة البحرية املو�صلة بني البحر الأ�سود و�شرق‬ ‫املتو�سط من ناحية‪ ،‬والبحر الأحمر واملحيط الهندي وجنوب �شرق �آ�سيا من ناحية �أخرى‪.‬‬ ‫وكانت بالد ال�شام هي نقطة التقاطع بني الطريق البحري هذا والطريق الربي الذي ت�سيطر‬ ‫املد الذي دار بني مماليك م�صر‬ ‫عليه ال�صني و�إيران من ناحية �أخرى‪ ،‬ما يف�سر ال�صراع الطويل ّ‬ ‫وتتار �إيران على بالد ال�شام والذي ا�ستم ّر لقرن من الزمن‪ 39.‬وقد كانت نقطة �ضعف الطريق‬ ‫الربي هي يف ه�شا�شة و�ضع منافذه البحرية‪ .‬لذا حاول اخلان الكبري قوبالي خان �أن ي�صحح‬ ‫هذا اخللل مبحاولة اجتياح اليابان يف العام ‪ ،1274‬ولكنه ف�شل‪ 40.‬وقد �أعاد الكرة مرة �أخرى‬ ‫من دون طائل‪ .‬يف املقابل‪ ،‬متكن املماليك يف م�صر من قطع املنفذ الوحيد لتتار �إيران يف‬ ‫مر�سني بعدما ّمتكنوا من تدمري مملكة �أرمينيا ال�صغرى �أواخر القرن الثالث ع�شر والتي كانت‬ ‫حليفة لتتار �إيران‪ .‬وقد وقع تتار �إيران ومماليك م�صر اتفاقية يف العام ‪� 1304‬شكلت خامتة‬ ‫ال�صراعات بينهما‪ 41.‬بعد ذلك تراجع و�ضع املغول يف القرن الرابع ع�شر لينهار كلياً يف �أواخر‬ ‫هذا القرن‪.‬‬ ‫لقرن من الزمن عا�شت فار�س يف حال من الفو�ضى حتى العام الذي متكن فيه ال�شاه‬ ‫ا�سماعيل ال�صفوي من اال�ستيالء على تربيز ثم باقي اله�ضبة الإيرانية ليوجه بعدها �أنظاره‬ ‫غرباً بغية الو�صول �إىل �شرق املتو�سط عرب �شرق الأنا�ضول‪ .‬لكن حظه العاثر و�ضعه يف مواجهة‬ ‫ال�سلطان العثماين �سليم الأول الذي هزمه يف معركة ت�شالديران وانتزع منه تربيز و�أذربيجان‬ ‫ومنطقة قزوين عاز ًال له عن طريق التجارة الربية يف �شمال �إيران واملو�صل بني �شرق �آ�سيا‬ ‫وو�سطها مع �شرق املتو�سط‪ .‬ولعقود تلت عا�ش ال�صفويون يف حال من ال�شظف حتى �صعود‬ ‫جنم ال�شاه عبا�س يف العام ‪ .1580‬ويف العام ‪ّ 1599‬متكن ال�شاه عبا�س من االنت�صار على‬ ‫الأوزبيك وانتزاع منطقة خرا�سان منهم‪ 42.‬ويف العام ‪ 1603‬هزم ال�شاه عبا�س العثمانيني‬ ‫‪83‬‬


‫لينتزع منهم تربيز و�أذربيجان و�أجزاء من �شرق الأنا�ضول وو�سط العراق‪ 43.‬وقد حاول �إقامة‬ ‫حتالف مع الإ�سبان لينتزعوا بالد ال�شام منهم وبالتايل انتزاع جتارة املتو�سط من العثمانيني‪،‬‬ ‫لكن اال�سبان يف النهاية مل يتجاوبوا معه وخيبوا �آماله يف اي�صال جتارة الرب الأورا�سي �إىل‬ ‫�شرق املتو�سط‪ 44.‬وبعد ال�شاه عبا�س عادت �إيران �إىل حال العزلة وال�ضعف التي ميزتها‬ ‫خالل القرنني الثامن ع�شر والتا�سع ع�شر و�صو ًال �إىل وقوعها حتت النفوذ الربيطاين والرو�سي‬ ‫خالل الن�صف الأول من القرن الع�شرين‪.‬‬ ‫خالل عهد ال�شاه حممد ر�ضا بهلوي‪ ،‬حاولت �إيران لعب دور �إقليمي من خالل ع�ضويتها‬ ‫يف حلف بغداد‪ ،‬لكن حتت مظلة غربية‪ .‬لكن كان عليها �أن تنتظر الثورة الإ�سالمية يف العام‬ ‫‪ 1979‬لتحاول ا�ستعادة دورها الإقليمي ولعب دور �صلة الو�صل بني �شرق �آ�سيا و�شرق‬ ‫املتو�سط‪ .‬والالفت هنا �أن الثورة الإ�سالمية يف �إيران تزامنت مع و�صول دينغ ك�سياو بينغ‬ ‫�إىل ال�سلطة يف ال�صني و�إخراجه لها من عزلتها‪ .‬ومنذ اليوم الأول للثورة الإ�سالمية حاولت‬ ‫الواليات املتحدة ح�صارها عرب و�سائل عدة منها ت�شجيع الرئي�س العراقي �صدام ح�سني على‬ ‫�شن حرب �ضدها دامت ثماين �سنوات �أنهكت �إيران والعراق‪ .‬يف مواجهة احل�صار عليها‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫متكنت �إيران من عقد عالقة حتالف مع �سورية بقيادة الرئي�س حافظ الأ�سد‪ .‬وبعد انهيار‬ ‫االحتاد ال�سوفياتي تقاربت �إيران مع ال�صني ورو�سيا ملواجهة م�ساعي الهيمنة الأمريكية يف‬ ‫العامل‪.‬‬ ‫الواليات املتحدة والألفية اجلديدة‬

‫مع بزوغ فجر الألفية اجلديدة كان على الأمريكيني �أن يتخذوا قرارات م�صريية جلهة ح�سم‬ ‫مو�ضوع زعامتهم للعامل من دون منازع‪ .‬وكما كانت احلرب العاملية الثانية �ضرورة خللق‬ ‫جماالت حيوية للزيادة ال�سكانية ولل�صناعة الأملانية‪ ،‬فقد �شكلت احلرب على الإرهاب �ضرورة‬ ‫لكي تتمكن الواليات املتحدة من ال�سيطرة على ال�شرق الأو�سط‪ .‬وكما ا�صطنعت �أملانيا يف‬ ‫�أيلول‪�/‬سبتمرب ‪« 1939‬هجمات بولندية» قام بها جنود �أملان بلبا�س جنود بولنديني على قرى‬ ‫�أملانية حدودية ذريعة خلو�ض احلرب‪ ،‬فقد اتخذت الواليات املتحدة من هجمات احلادي‬ ‫‪84‬‬


‫فـــــكـــــر‬

‫ع�شر من �أيلول‪�/‬سبتمرب ‪ 2001‬على برجي التجارة يف نيويورك ذريعة الجتياح �أفغان�ستان‬ ‫لتحدد الواليات املتحدة‬ ‫والعراق‪ .‬لقد كانت احلرب على �أفغان�ستان يف خريف ‪ 2001‬فر�صة ّ‬ ‫املدى الأق�صى الذي تطمح لل�سيطرة عليه يف هذا ال�شرق الأو�سط‪ .‬وكان من �ش�أن احلرب‬ ‫على العراق �أن تعطي الواليات املتحدة فر�صة �إعطاء عمق لهذا ال�شرق الأو�سط �إ�ضافة‬ ‫�إىل ال�سيطرة على النفط‪ .‬وكانت اخلطوة التالية هي �إ�سقاط النظام يف �إيران ويف �سوريا �أو‬ ‫تطويعهما حتى ت�ستكمل ال�سيطرة على ال�شرق الأو�سط‪ .‬وكانت االنقالبات التي دعمتها‬ ‫يف جورجيا و�أوكرانيا حلماية �أجنحة جبهتها يف ال�شرق الأو�سط‪.‬‬ ‫وكان امل�شروع الأمريكي يبغي ال�سيطرة على ال�شرق الأو�سط من املحيط الأطل�سي �إىل حدود‬ ‫ال�صني لتحقيق جملة �أهداف‪ .‬فعرب ال�سيطرة على هذه املنطقة احليوية كان الأمريكيون‬ ‫يريدون عزل �أوروبا عن �أفريقيا‪ ،‬ومنع تقارب حمتمل بني �أوروبا ورو�سيا‪ ،‬ومنع رو�سيا من‬ ‫الو�صول �إىل اخلليج العربي واملحيط‪ .‬وكانت خريطة املنطقة قد ُطرحت للمراجعة وكان غزوا‬ ‫العراق وافغان�ستان قد تقررا‪ ،‬ومل تكن احداث ‪� 11‬سبتمرب ‪� 2001‬إال الذريعة التي اتخذت‬ ‫ل�شن هذين االجتياحني‪ .‬قبل تلك الأحداث بعام ونيف ان�سحبت �إ�سرائيل من جنوب‬ ‫لبنان بغية �إغالق �آخر جبهة عربية مفتوحة �ضدها‪ .‬كان هدفها من االن�سحاب �سحب الذريعة‬ ‫التي تربر وجود املقاومة يف �إطار التح�ضري للقرار ‪ 1559‬الذي �صدر بعد �أربعة �أعوام مطالبا‬ ‫ب�سحب �سورية لقواتها من لبنان‪.‬‬ ‫حتولت من قوة حتاول مواجهة الواليات املتحدة يف ال�شرق الأو�سط قبل‬ ‫وكانت فرن�سا قد ّ‬ ‫العام ‪� 2004‬إىل قوة رديفة للواليات املتحدة بعد حزيران ‪ .2004‬وال�سبب يعود �إىل �أن فرن�سا‬ ‫حني عار�ضت الغزو الأمريكي للعراق يف العام ‪ 2003‬كانت تراهن على �أن العراق �سي�صمد‬ ‫ل�شهور عدة ما �س ُيحرج الواليات املتحدة ويجعلها تلج�أ لفرن�سا للخروج من حمام الدم يف‬ ‫العراق‪� .45‬إال �أن الأمريكيني ّمتكنوا من ح�سم املعركة ب�سرعة‪ ،‬وبات الرئي�س الأمريكي جورج‬ ‫بو�ش يقاطع �شرياك وي�سعى لعزله دولياً‪ .46‬لكن ما �أفاد �شرياك كان ت�صاعد املقاومة العراقية‬ ‫�ضد االحتالل الأمريكي ما جعل بو�ش يلج�أ �إىل �شرياك بغية تو�سيع التحالف الدويل لإعطاء‬ ‫الغطاء لالحتالل الأمريكي‪ .‬وقد اقتنعت الواليات املتحدة ب�أنها ميكن �أن ت�ستفيد من فرن�سا‬ ‫‪85‬‬


‫ب�إ�شراكها يف خمططاتها يف ال�شرق الأو�سط يف مقابل �إعطائها ح�صة يف �سورية ولبنان‪.47‬‬ ‫وكان �شرياك قد دعم و�صول ب�شار اال�سد �إىل ال�سلطة يف العام ‪ 2000‬ظناً منه �أنه با�ستطاعته‬ ‫فر�ض و�صاية عليه و�إقناعه برفع الو�صاية ال�سورية عن لبنان‪ .‬كما ان �شرياك كان ي�سعى لإقناع‬ ‫�سورية بفك حتالفها مع �إيران‪ .48‬وقد حاولت �سورية الرد بفر�ض التمديد للرئي�س اميل حلود‬ ‫لثالث �سنوات وب�إف�شال جهود احلريري لت�أليف حكومة ودعم الرئي�س عمر كرامي لت�شكيل‬ ‫احلكومة‪ .‬لكن ما اطلق العنان للحملة على �سورية كان اغتيال احلريري يف ‪� 14‬شباط ‪.2005‬‬ ‫وقد و�صل امل�شروع الأمريكي يف املنطقة �إىل ذروته يف العام ‪ 2006‬مع العدوان الإ�سرائيلي‬ ‫على لبنان يف متوز من ذلك العام‪ .‬لكن ما مل يكن يف احل�سبان هو جاهزية املقاومة الكبرية‬ ‫ل�صد العدوان الإ�سرائيلي وهزميته‪.‬‬ ‫ مل يكن الن�صر الأمريكي يف �أفغان�ستان‪ ،‬خ�صو�صاً يف العراق‪ ،‬حا�سماً‪ .‬فالنمط اجلديد‬‫من احلرب الالمتكافئة الذي اعتمدته الواليات املتحدة خالل احلرب الباردة �ضد االحتاد‬ ‫ال�سوفياتي تع ّلمته القوى الأخرى واعتمدته لعرقلة امل�شروع الأمريكي‪ .‬ف�إذا ب�إيران و�سوريا‬ ‫تدعمان املقاومة العراقية وجتعالن االحتالل مكلفاً لوا�شنطن‪ .‬و�إذا برو�سيا تدعم انقالبات‬ ‫م�ضادة حتا�صر الرئي�س ميخائيل �ساكا�شفيلي يف جورجيا وتزيح فيكتور يو�شينكو عن ال�سلطة‬ ‫يف �أوكرانيا‪ .‬وقد ترافق ذلك مع �أزمة اقت�صادية يف الواليات املتحدة كانت العامل الأبرز‬ ‫يف انتخاب باراك �أوباما ك�أول رئي�س �أ�سود يف التاريخ الأمريكي‪ .‬مع �أوباما بات الأمريكيون‬ ‫واعني ملحدودية قدرتهم ف�إذا بهم ي�ضغطون لفر�ض اتفاق �سيا�سي مع حكومة عراقية موالية‬ ‫لهم تخفف عن كاهل قواتهم حتى يتاح لهم الرتكيز على �شد قب�ضتهم على �أفغان�ستان‪.‬‬ ‫مالمح التوجه الأمريكي يف املنطقة عرب عنها بالدرجة الأوىل التقرير ال�صادر عن جمل�س‬ ‫الأمن القومي الأمريكي والذي �أ�سقط الإ�سالم من دائرة ا�ستهدافاته (وهو ما كان قائماً‬ ‫منذ ‪� 11‬أيلول‪�/‬سبتمرب ‪ ،)2001‬برغم �أنه �أبقى على اعتباره لتنظيم القاعدة عدواً جتب‬ ‫موا�صلة حماربته‪ .‬مرة جديدة الواليات املتحدة ت�ستفيد من التاريخ‪ .‬منذ القرن ال�ساد�س‬ ‫ع�شر وحتى �أوائل القرن التا�سع ع�شر كانت �إيران ال�شيعية حتتوي الدولة العثمانية ال�س ّنية‬ ‫والعك�س بالعك�س‪ .‬كانت هذه الفرتة هي التي �شهدت �صعود دور املهيمن على العامل‪� .‬إذاً‬ ‫‪86‬‬


‫فـــــكـــــر‬

‫مل ال حتتوي تركيا الإ�سالمية الثورة الإ�سالمية يف �إيران يف املرحلة املقبلة؟ بالن�سبة للواليات‬ ‫املتحدة‪ ،‬ف�إن دور تركيا يف املنطقة �سيجعل يف مواجهة «�إ�سالم» �إيران «�إ�سالماً» ال يقل عراقة‬ ‫يغرف من �إرث الدولة العثمانية‪� ،‬أقوى دولة يف العامل حتى �أوا�سط القرن الثامن ع�شر‪.‬‬ ‫و�سيكون لرتكيا هذه جاذبية كبرية بني امل�سلمني ال�س ّنة يف �سوريا‪� ،‬آخر دولة عربية تخرج من‬ ‫حتت مظلة العثمانيني يف العام ‪ ،1918‬وهو ما مل تتمكن من حتقيقه ال�سعودية‪ .‬كما �ستكون‬ ‫تركيا القوة اجلاذبة للإ�سالميني يف م�صر (الذين يعتربون �أنف�سهم �أكرث عراقة من �إ�سالميي‬ ‫ال�سعودية لكن �أقل عراقة من �إ�سالميي تركيا والإ�سالميني يف ال�سودان‪ .‬هنا بيت الق�صيد‪،‬‬ ‫فال�سودان حتولت م�ؤخراً �إىل القاعدة التي تنطلق منها ال�صني لتحقيق اخرتاقات يف القارة‬ ‫الأفريقية‪ .‬وكان الدعم ال�صيني املبطن للرئي�س عمر ح�سن الب�شري هو الذي ّ‬ ‫مكنه حتى الآن‬ ‫من مواجهة ال�ضغوط الغربية‪ .‬و�إذا كانت وا�شنطن قد ف�شلت حتى الآن يف الإطاحة بالنظام‬ ‫ال�سوداين عرب احل�صار الدويل فلم ال تتم اال�ستعانة ب�إ�سالميي ال�سودان بزعامة ح�سن الرتابي‬ ‫لإقفال الطريق �أمام ال�صني؟‬ ‫دور تركيا الإ�سالمية‬

‫يف تركيا كان حزب العدالة والتنمية الإ�سالمي قد و�صل �إىل ال�سلطة يف العام ‪ 2002‬م�ؤذناً‬ ‫بنهج جديد يف ال�سيا�سة الرتكية‪ .‬وقد كان وزير اخلارجية الرتكي �أحمد داود �أوغلو الذي‬ ‫�أ�صبح الحقاً رئي�ساً للوزراء‪� ،‬أهم من ر�سم معامل ال�سيا�سة اجلديدة لرتكيا يف مرحلة ما بعد‬ ‫احلرب الباردة‪ .‬وهو يعترب �أن هنالك ثالث دوائر ت�شكل عنا�صر �أ�سا�سية من عنا�صر االمن‬ ‫القومي الرتكي‪ .‬فهو يعترب انه يف الع�صر احلايل يجب على تركيا ان تخرج من ال�سيا�سة‬ ‫التقليدية التي اتبعتها عقب �إن�شاء اجلمهورية باالنكفاء وراء حدودها و�أن عليها لعب �سيا�سة‬ ‫خارجية اكرث دينامية‪ .49‬وهو يعترب ان على تركيا ان تدافع عن وجودها يف تراقيا للدفاع عن‬ ‫ا�سطنبول‪ ،‬وان هذا ال يبد�أ باحلدود مع اليونان وبلغاريا بل ميتد �إىل االدرياتيكي‪ ،‬وبالتايل ف�إن‬ ‫على تركيا ان توثق عالقاتها مع البانيا وكو�سوفو والبو�سنة مع اعتماد البانيا كقاعدة لإطالق‬ ‫النفوذ الرتكي يف البلقان‪ .50‬كذلك يعترب �أوغلو ان الدفاع عن �شرق الأنا�ضول ال يكون‬ ‫بالوقوف على احلدود مع �أرمينيا و�إيران بل يبد�أ بال�شواطئ الغربية لبحر قزوين‪ ،‬وبالتايل ف�إن‬ ‫‪87‬‬


‫اذربيجان ت�شكل قاعدة االنطالق للت�أثري الرتكي يف منطقة القوقاز‪ .51‬كذلك فهو يرى �أن‬ ‫الدفع عن �شرق الأنا�ضول ال يتوقف عند احلدود مع �سورية والعراق بل يتعداه �إىل اخلط‬ ‫املمتد من كركوك واملو�صل يف �شمال العراق ويف �شمال �سورية‪ .‬وهو يرى ان ال�شرق الأو�سط‬ ‫ي�شكل احلديقة اخللفية لرتكيا ويدعو بالده �إىل لعب دور يف هذه املنطقة‪ .52‬وهو يقر ب�أن‬ ‫هنالك توافقاً تاماً يف كل هذه الأمور مع امل�صالح اجليو�سرتاتيجية الأمريكية‪ .‬وكانت �سورية‬ ‫هي املدخل الذي ميكن لرتكيا �أن تعود عربه �إىل ال�شرق الأو�سط‪.‬‬ ‫خالل �شتاء العام ‪ 2009 - 2008‬تع ّر�ض قطاع غزة �إىل حملة ع�سكرية �إ�سرائيلية كانت‬ ‫تهدف للق�ضاء على حركة حما�س‪ .‬كانت �إ�سرائيل قلقة من الدعم الذي تلقاه حركة حما�س‬ ‫من �إيران ومن حالة املقاومة التي متثلها هذه احلركة على ال�ساحة الفل�سطينية ما يعرقل جهود‬ ‫�إ�سرائيل لفر�ض �شروطها لل�سالم على الفل�سطينيني‪ .‬وكان الأمريكيون يدعمون هذا العدوان‬ ‫الإ�سرائيلي على غزة‪ ،‬لأنهم كانوا يعتربون �أن الدعم الذي كانت تلقاه حركة حما�س من‬ ‫�إيران كان ي�شكل اخرتاقاً �إيرانياً جدياً للجبهة التي كانت الواليات املتحدة حتاول �إقامتها‬ ‫عرب منع ت�سلل رو�سيا او ال�صني عرب �إيران �إىل البحر املتو�سط‪ .‬فبالن�سبة للجيو�سرتاتيجيا‬ ‫الأمريكية مل يكن من امل�سموح لآ�سيا املمثلة بال�صني ورو�سيا �أن ت�صال �إىل البحر املتو�سط‬ ‫�أو املياه الدافئة‪ .‬وكانت �إيران قد حققت اخرتاقات مهمة على ال�صعيد اال�سرتاتيجي عرب‬ ‫ثالثة حماور جعلتها تطل على البحرين املتو�سط والأحمر‪ .‬فعالقتها مع �سورية وحزب اهلل‬ ‫قد جعلتها ّ‬ ‫تطل منذ الثمانينات على البحر املتو�سط‪ .‬وعالقتها مع حما�س و�سيطرة الأخرية‬ ‫على قطاع غزة قد جعال �إيران تدعم موقعها على املتو�سط وتدق �إ�سفيناً بني �إ�سرائيل وم�صر‪.‬‬ ‫بالإ�ضافة �إىل ذلك ف�إن مترد احلوثيني على الرئي�س علي عبد اهلل �صالح يف اليمن وعدم قدرة‬ ‫ال�سلطات اليمنية واململكة العربية ال�سعودية على قمع هذا احلراك قد جعال الواليات املتحدة‬ ‫تقلق على نفوذها يف البحر املتو�سط والأحمر‪ .‬فمن هناك كان ب�إمكان �إيران ومن ورائها‬ ‫ال�صني �أن تدعما عالقتهما بال�سودان وان تنطلقا �إىل عمق القارة الأفريقية‪.‬‬ ‫كانت م�صر مبارك قلقة من هذا التمدد الإيراين مبقدار قلق الواليات املتحدة‪ .‬وخالل ثالثني‬ ‫عاماً من حكم ح�سني مبارك منذ العام ‪ 1981‬وحتى العام ‪ .2011‬ففي خالل هذه الفرتة‬ ‫‪88‬‬


‫فـــــكـــــر‬

‫تقل�ص النفوذ امل�صري �إىل حده الأدنى يف امل�شرق العربي‪ ،‬وخالل الت�سعينيات فقدت م�صر‬ ‫عن�صراً �آخر من عنا�صر �أمنها بعد اندالع احلرب االهلية يف ال�صومال ما هدد امن القرن‬ ‫الأفريقي الذي يعترب �أحد عنا�صر الأمن امل�صري‪ .‬وقد تبع ذلك تهديد منابع النيل بعد‬ ‫املجازر التي حدثت يف رواندا وبروندي على �ضفاف بحرية فيكتوريا ما �أفقد الهوتو‪ ،‬حلفاء‬ ‫امل�صريني والفرن�سيني نفوذهم حل�ساب التوت�سي‪ ،‬حلفاء الأمريكيني والإ�سرائيليني‪ .‬وقد تال‬ ‫ذلك احتالل اريرتيا جلزيرة حني�ش الكربى اليمنية ب�إيعاز من �إ�سرائيل ما �شكل تهديداً �آخر‬ ‫لأمن البحر الأحمر‪� .‬أ�ضيف ذلك �إىل احل�صار الذي �ضرب على ليبيا خالل الت�سعينيات ما‬ ‫�شكل تهديداً المتداد الأمن القومي غرباً باجتاه �شمال �أفريقيا‪.‬‬ ‫يف التا�سع من يناير ‪� 2011‬أجري اال�ستفتاء على انف�صال جنوب ال�سودان‪ ،‬وقد ّمت التو�صيت‬ ‫بغالبية �ساحقة على هذا القرار‪ .‬لقد �أتى القرار ب�ضغط من الواليات املتحدة بغية تقلي�ص‬ ‫الدور امل�صري والف�صل بني �شمال �أفريقيا والبلدان الواقعة جنوب ال�صحراء الكربى‪ .‬وكانت‬ ‫اخلطوة التالية هي ف�صل دارفور الغني بالنفط عن ال�سودان على �أن تليه منطقة �شرق ال�سودان‬ ‫والتي ت�شكل امتداداً للمنطقة اجلنوبية ال�شرقية من م�صر‪ .‬لقد �شكل هذا التطور حدثاً خطرياً‪،‬‬ ‫خ�صو�صاً �أنه ترافق مع عزم الدول امل�شاطئة للنيل على املطالبة بح�صة �أكرب من مياهه من دون‬ ‫الرجوع �إىل م�صر �أو ال�سودان‪ .‬ترافق هذا الت�آكل يف الأمن القومي امل�صري مع تراجع خطري يف‬ ‫م�ستوى املعي�شة ملعظم امل�صريني نتيجة ال�سيا�سات االقت�صادية النيوليربالية التي قادها الفريق‬ ‫املق ّرب من جمال مبارك‪ ،‬جنل الرئي�س امل�صري‪ .‬هذه العوامل اجتمعت لت�ؤدي �إىل االنفجار‬ ‫الذي حدث يف اخلام�س والع�شرين من كانون الثاين ‪ .2011‬وقد �أدت الإطاحة بالرئي�س‬ ‫التون�سي زين العابدين بن علي يف ‪ 14‬كانون الثاين �إىل ت�شجيع ال�شباب امل�صريني على‬ ‫املثابرة على تنظيم �أنف�سهم للنزول �إىل ال�شارع ومن ثم الإ�صرار على ازاحة الرئي�س ح�سني‬ ‫مبارك عن احلكم‪ .‬لقد �شكلت الثورة امل�صرية حدثاً غري متوقع من قبل معظم املراقبني وقد‬ ‫�أُخذت الواليات املتحدة على حني غرة وجعلتها ترتبك وحت�س بالقلق لأ�سابيع‪ .‬كان على‬ ‫الواليات املتحدة ان تتحرك �سريعاً لئال تخرج م�صر عن طوعها عرب القيام بخطوات عدة‬ ‫الحتواء موجة االحتجاجات‪ .‬ففي احلادي ع�شر من �شباط �أجرب املجل�س الع�سكري امل�صري‬ ‫‪89‬‬


‫نائب الرئي�س عمر �سليمان على قراءة بيان يعلن فيه تخ ّلي الرئي�س ح�سني مبارك عن احلكم‪،‬‬ ‫وهو الأمر الذي فاج�أ مبارك نف�سه‪ .‬بعد ذلك ت�س ّلم املجل�س الع�سكري احلكم وبد�أ بالتن�سيق‬ ‫مع جماعة الإخوان امل�سلمني واجلماعات ال�سلفية لإعادة الإم�ساك بال�شارع امل�صري‪ .‬وقد‬ ‫دخلت اململكة العربية ال�سعودية على اخلط عرب متويل جماعة الإخوان امل�سلمني واحلركات‬ ‫ال�سلفية مببالغ طائلة‪ .‬وكان على الواليات املتحدة �أن تتح ّرك �سريعاً على امل�ستوى الإقليمي‬ ‫لكي ال ميتد "احلريق امل�صري" �إىل غريه من الدول املوالية لها‪ .‬فقد كانت االحتجاجات‬ ‫قد بد�أت تندلع يف اململكة العربية ال�سعودية و�سلطنة عمان ومملكة البحرين والأردن ما بات‬ ‫يهدد النفوذ الأمريكي يف كل منطقة ال�شرق الأو�سط‪ .‬لذا فقد �سارعت الواليات املتحدة �إىل‬ ‫ا�سرتاتيجية �إ�شعال حرائق حول احلريق الحتوائه عرب ت�شجيع "الثورات" يف النطاقات التي‬ ‫ت�شكل امتداداً للأمن القومي امل�صري وهي ليبيا واليمن و�سورية‪ .‬ففي اليوم نف�سه الذي متت‬ ‫الإطاحة فيه مببارك بد�أت االحتجاجات يف اليمن للمطالبة برحيل الرئي�س اليمني علي عبد‬ ‫اهلل �صالح‪ .‬وبعد ثالثة ايام بد�أت االحتجاجات يف ليبيا والتي تبعها تدخل حلف �شمال‬ ‫الأطل�سي يف الأحداث الليبية‪ .‬وبعدها ب�أيام قليلة بد�أت االحتجاجات يف �سورية انطالقاً‬ ‫من درعا‪ .‬وكان البارز يف هذا املو�ضوع الدور الذي لعبته قناة اجلزيرة القطرية يف "دعم هذه‬ ‫الثورات"‪ .‬واملعروف �أن القناة واقعة حتت نفوذ جماعة الإخوان امل�سلمني‪ ،‬خ�صو�صاً �أن �أبرز‬ ‫وجوهها ومدرائها بعد العام ‪ 2003‬معروفون بانتمائهم �إىل هذه اجلماعة‪.‬‬ ‫احتجاجات �سورية‬

‫يف �أوائل �شهر �شباط اندلعت االحتجاجات يف مدينة درعا �ضد النظام يف �سورية‪ .‬لقد دفعت‬ ‫يحد من ال�ضرر‬ ‫الأحداث يف م�صر بالواليات املتحدة �إىل �إعادة ترتيب الأوراق يف املنطقة مبا ّ‬ ‫الذي ميكن �أن يلحق مب�صاحلها اال�سرتاتيجية يف املنطقة‪ .‬يف مقابل املواقف الدولية الأمريكية‬ ‫والأوروبية والإقليمية الرتكية وال�سعودية التي لعبت دوراً يف دعم االحتجاجات التي‬ ‫انطلقت �ضد الرئي�س ب�شار الأ�سد ف�إن عدداً من القوى الإقليمية والدولية قد �أعلنت �صراحة‬ ‫وقوفها معه‪ .‬ولقد كانت �إيران القوة الأوىل التي دعمت الرئي�س ب�شار الأ�سد �سيا�سياً ب�شكل‬ ‫مطلق‪ .‬فلقد �أثبت التحالف مع دم�شق منذ �أيام الرئي�س حافظ الأ�سد �أنه ر�صيد كبري لإيران‬ ‫‪90‬‬


‫فـــــكـــــر‬

‫يف املنطقة‪ .‬وقد �أعلنت وزارة اخلارجية الإيرانية �أن الأحداث يف �سورية "ت�أتي يف �إطار م�ؤامرة‬ ‫غربية لزعزعة حكومة ت�ؤيد املقاومة �ضد �إ�سرائيل"‪ .53‬وقد �أعربت طهران عن معار�ضتها �أي‬ ‫تدخل خارجي يف ال�ش�ؤون ال�سورية‪ 54.‬وقد اعرت�ض امل�س�ؤولون الإيرانيون على االتهامات‬ ‫الغربية التي تتهم �إيران مب�ساعدة �أجهزة الأمن ال�سورية على قمع التظاهرات‪ .55‬كما جتلى‬ ‫هذا الأمر يف املوقف الداعم للأ�سد الذي اتخذه حزب اهلل على ل�سان �أمينه العام ال�سيد‬ ‫ح�سن ن�صر اهلل‪ ،56‬لأن خ�سارة الدعم ال�سوري تعني ق�صم ظهر املقاومة الإ�سالمية التي‬ ‫�ست�ضحي حما�صرة من الرب بعدما مت فر�ض ح�صار بحري على لبنان من قبل القوى الغربية‬ ‫عقب العدوان الإ�سرائيلي على لبنان يف العام ‪.2006‬‬ ‫كذلك الأمر فقد كان قلب النظام الذي نادى به ق�سم كبري من املتظاهرين يف �سورية يعني �أن‬ ‫تخ�سر رو�سيا حليفاً مهماً لها يف ال�شرق الأو�سط‪ .‬لقد �شكلت العالقة مع �سورية لبنة ا�سا�سية‬ ‫يف اال�سرتاتيجية الرو�سية يف ال�شرق الأو�سط منذ ما قبل عهد الرئي�س حافظ اال�سد‪ .‬وقد‬ ‫اتاحت لها هذه العالقة قاعدة را�سخة على �ضفاف �شرق املتو�سط؛ وهو ما كانت تطمح اليه‬ ‫منذ ايام بطر�س الأكرب‪ .‬وكانت رو�سيا قد �أعلنت عن ا�ستيائها من "اخلديعة" التي تعر�ضت‬ ‫لها على يد الناتو يف ما يتعلق ب�إ�صدار قرار دويل بحجة حماية املدنيني من العقيد معمر‬ ‫القذايف ليتحول هذا القرار �إىل ذريعة للتدخل الع�سكري لفر�ض و�صاية غربية على ليبيا ما‬ ‫�شكل �ضربة لرو�سيا وم�صاحلها احليوية يف ما يتعلق ب�إطاللتها على غرب املتو�سط عرب طرابل�س‬ ‫الغرب‪ .‬وبالتايل فهي �أعلنت بقوة عزمها على معار�ضة �أي قرار دويل ي�صدر بحق �سورية‪ ،‬وهي‬ ‫جنحت حتى الآن يف عرقلة �صدور �أي قرار يف هذا ال�ش�أن‪ .‬كما اعلنت لوفود من املعار�ضة‬ ‫ال�سورية زارت مو�سكو عن معار�ضتها �أي تدخل دويل و�أي زعزعة للنظام‪ ،‬ودعت �أع�ضاء‬ ‫الوفود املعار�ضة �إىل التحاور مع النظام‪.‬‬ ‫وتبقى ال�صني الداعم الثالث ل�سورية وللرئي�س ب�شار اال�سد‪ .‬وحتى الآن كانت مواقف ال�صني‬ ‫معار�ضة التخاذ �أي موقف دويل ميكن �أن ي�صدر بحق النظام ال�سوري‪ .‬فلل�صني اعتباراتها‬ ‫وهي متلك جتربة وا�سعة يف ال�صراعات الدولية‪ .‬وتاريخياً كانت ال�صني تنزع �إىل االنعزال‬ ‫والتقوقع داخل حدودها "لأنه ما من �شيء �إال وكانت متلكه" و"هي مل تكن بحاجة ل�شيء‬ ‫‪91‬‬


‫من اخلارج"‪ .‬لقد كان التجار العرب والفر�س هم َمن ذهب �إىل ال�صني منذ ما قبل امليالد‬ ‫لالجتار معها ومل تكن ال�صني هي التي خرجت �إىل العامل با�ستثناء مرتني‪ .‬املرة الأوىل كانت‬ ‫حني وقعت حتت �سيطرة املغول‪ .‬فكان املغول ورغبتهم باالجتار مع العامل هي التي دفعتهم‬ ‫�إىل �إخراج ال�صني من عزلتها‪ .‬وكانت �إمكانات ال�صني الهائلة هي التي �ساعدت املغول على‬ ‫اجتياح �آ�سيا بغية ت�أمني طريق التجارة من ال�صني وحتى و�سط �أوروبا‪ .‬لقد كان �أول توحيد‬ ‫للقارة الأورا�سية قد ّمت على يد املغول انطالقاً من ال�صني‪ .‬وقد ادى �ضمور التجارة �إىل تفكك‬ ‫االمرباطورية املغولية وانفراط عقدها �إىل دويالت عدة �ضعيفة بعد قرن ون�صف القرن من‬ ‫ت�أ�سي�سها‪ .‬بعد انهيار احلكم املغويل يف ال�صني �سيطرت �أ�سرة مينغ على ال�سلطة بعد مترد قادته‬ ‫�ضد �آخر حاكم مغويل‪ .‬وقد ار�سل االمرباطور زو دي ب�أ�سطول طاف ارجاء العامل يف العام‬ ‫‪ 1422‬ليعود بعدها �إىل ال�صني‪ .‬وبناء لأوامر االمرباطور مت تفكيك اال�سطول "النه لي�س‬ ‫هنالك يف العامل ما حتتاجه ال�صني"‪ .‬وعادت ال�صني �إىل عزلتها‪ .57‬هذه العزلة هي التي‬ ‫�أدت بالقوى الغربية �إىل االلتفاف على �أقوى قوة يف �آ�سيا حمولة �إياها يف القرن التا�سع ع�شر‬ ‫�إىل رجل �آ�سيا املري�ض‪ .‬ويف الع�صر احلديث مل تعد ال�صني متلك رفاهية اتخاذ قرار باالنعزال‬ ‫عن العامل‪ ،‬فبنيتها ال�صناعية حتتم عليها احل�صول على النفط‪ ،‬كما حتتم عليها �إيجاد �أ�سواق‬ ‫لت�صريف منتجاتها‪ .‬وا�سقاط النظام يف �سورية يعني حما�صرة �إيران متهيداً لإ�سقاط النظام‬ ‫فيها‪ .‬وهذا يعني بالتايل �إغالق ال�شرق الأو�سط يف وجه ال�صني‪ .‬ويف ظل حما�صرة ال�صني‬ ‫بحرياً عرب اليابان وكوريا اجلنوبية‪ ،‬وتايوان ودول جنوب �شرق �آ�سيا ف�إن خروج ال�صني �إىل‬ ‫البحار بات �صعباً من دون ر�ضى �أمريكي‪ .‬وال ميكن الي قوة تطمح �إىل دور عاملي �أن تقبل‬ ‫ب�أن تكون طرق موا�صالتها حتت رحمة قوة اخرى‪ ،‬خ�صو�صا �أنها قوة مناف�سة لها‪.‬‬ ‫وبالتايل فقد بات خروج ال�صني �إىل العامل مير عرب ال�شرق الأو�سط‪ ،‬متاماً كما ح�صل مع‬ ‫املغول قبل ثمانية قرون بعدما �سيطروا على ال�صني‪ .‬فعرب ال�شرق الأو�سط ميكن الو�صول �إىل‬ ‫�أفريقيا‪ ،‬وهي املنطقة التي حتاول ال�صني االنفتاح عليها لغناها باملوارد الطبيعية‪ .‬وهذا يف�سر‬ ‫�سر العالقة الطيبة مع ال�سودان الذي بات البوابة ال�صينية �إىل �أفريقيا‪ .‬واجلدير ذكره ان‬ ‫امرباطور ال�صني املغويل قوبالي خان كان �أول من حاول �إخراج ال�صني �إىل البحار الوا�سعة‬ ‫‪92‬‬


‫فـــــكـــــر‬

‫�إال �أنه ا�صطدم بعقبة اليابان التي تغطي معظم ال�سواحل ال�صينية وحت�صرها يف البحر الأ�صفر‬ ‫مانعة �إياها من اخلروج �إىل املحيط الهادئ‪ .‬ويف الع�صر احلايل ف�إن اليابان ال تزال تلعب هذا‬ ‫الدور‪ .‬وبالتايل ف�إن ال�شرق الأو�سط يجب �أن يبقى مفتوحاً �أمام ال�صني لذا ف�إن على �إيران‬ ‫ان ت�صمد يف مواجهة ال�ضغوط الغربية‪ ،‬كما �أن على �سورية �أن ت�صمد يف مواجهة حماوالت‬ ‫فر�ض الو�صاية الغربية عليها‪ .‬وقد ادى و�صول الأمريكيني �إىل حدود ال�صني الغربية بعد‬ ‫اجتياح افغان�ستان يف العام ‪� 2002‬إىل اثارة م�شكلة االقليات امل�سلمة يف منطقة غرب ال�صني‬ ‫ما يعطي مث ًال �إ�ضافياً على �أهمية اال يكون ال�شرق الأو�سط حتت ال�سيطرة الكاملة للواليات‬ ‫املتحدة النه من هذا ال�شرق الأو�سط ميكن للأمريكيني االنطالق ملد نفوذهم داخل املناطق‬ ‫الغربية لل�صني ذات الغالبية امل�سلمة‪ .‬وهذا يعطي ا�ستقالل �سورية عن الغرب �أهمية م�ضاعفة‬ ‫لل�صني‪ .‬وهذا ما يف�سر اعالن وزارة اخلارجية ال�صينية �أن "�سورية دولة مهمة جداً يف ال�شرق‬ ‫الأو�سط ويجب �أن تبقى م�ستقرة و�أن حل امل�شكالت فيها يجب �أن يبقى داخلياً و�أال يح�صل‬ ‫تدخل خارجي يف ال�ش�ؤون الداخلية ال�سورية ي�ؤدي �إىل تعقيد الأمور"‪.58‬‬ ‫خامتة‬

‫خال�صة املو�ضوع �أن الأزمة التي ن�شهدها حالياً يف منطقة ال�شرق الأو�سط ناجمة عن حتوالت‬ ‫يف موازين القوى العاملية التي ت�ؤذن بتحول النظام الدويل �إىل نظام متعدد الأقطاب �سي�شهد‬ ‫للمرة الأوىل منذ مئتي عام نهاية الهيمنة الغربية املطلقة على املقدرات العاملية‪ .‬ويخ�شى‬ ‫الغرب وعلى ر�أ�سه الواليات املتحدة من �صعود قوة �أورا�سية تتمثل هذه املرة يف ال�صني‬ ‫ورو�سيا اللتني �أ�س�ستا منظمة �شنغهاي للتعاون‪ ،‬والتي قد ت�شهد قريباً ان�ضمام �إيران ب�شكل‬ ‫كامل لع�ضوية هذه املنظمة‪ .‬ولأن هذه املنظمة �ست�سيطر على قلب �أورا�سيا‪ ،‬ومتتلك �إمكانيات‬ ‫احلد من �إمكانياتها عرب منعها من‬ ‫اقت�صادية وب�شرية هائلة‪ ،‬ف�إن الواليات املتحدة حتاول ّ‬ ‫الو�صول بحرية �إىل طرق املالحة البحرية‪ .‬هذا ما يف�سر ال�سيا�سات التي تتبعها الواليات‬ ‫املتحدة يف �شرق �آ�سيا عرب التحالف مع اليابان وكوريا اجلنوبية والدول امل�شاطئة جلنوب‬ ‫بحر ال�صني �ضد ال�صني‪ ،‬وهذا ما يف�سر الأزمة الأوكرانية بني رو�سيا والغرب‪ ،‬كما ان هذا ما‬ ‫يف�سر الأحداث يف منطقة ال�شرق الأو�سط والتي ت�أخذ �شكل حروب غري متوازنة �أو حروب‬ ‫‪93‬‬


‫بالوكالة تقودها جماعات ت�صنف على �أنها �إرهابية‪.‬‬ ‫لكن التكتالت التي ن�ش�أت يف مواجهة الواليات املتحدة وحلفائها الغربيني �أخذت تفر�ض‬ ‫نف�سها على ال�ساحة‪ ،‬من منظمة �شنغهاي للتعاون بزعامة ال�صني ورو�سيا وقريباً �إيران‪� ،‬إىل‬ ‫منظمة دول الربيك�س بع�ضوية رو�سيا و�إيران ومعها الهند والربازيل وجنوب �أفريقيا‪ .‬وي�أتي‬ ‫هذا يف ظل انتقال مركز الثقل االقت�صادي �إىل املحيط الهندي لأول مرة منذ القرن ال�ساد�س‬ ‫ع�شر مع حماوالت القوى الآنفة الذكر النفاذ �إىل طرق املوا�صالت البحرية وحتويلها بعيداً‬ ‫عن الهيمنة الأمريكية‪ .‬ومع تراجع الثقل الأقت�صادي تدريجياً لأوروبا والواليات املتحدة ف�إن‬ ‫هذا ميكن �أن ي�س ّرع عملية االنتقال هذه‪ .‬لكن تبقى امل�شكلة يف الهيمنة الأمريكية على طرق‬ ‫املوا�صالت هذه عرب �سيطرتها على منطقتي املتو�سط وال�شرق الأو�سط بن�سبة ثمانني باملئة‪.‬‬ ‫لكن ما قد يك�سر هذه الهيمنة هو ال�صعود املرتقب مل�صر بدور م�ستقل �سيكون حكماً على‬ ‫ح�ساب امل�صالح الأمريكية‪ .‬فلقد �شكلت الهيمنة الأمريكية على م�صر منذ عهد الرئي�س �أنور‬ ‫ال�سادات قاعدة النفوذ الأمريكي يف ال�شرق الأو�سط‪ ،‬و�إن خروج م�صر من حتت هذه الهيمنة‬ ‫يف ظل تقاربها مع رو�سيا �سي�ؤدي �إىل ا�ضعاف الهيمنة الأمريكية على ال�شرق الأو�سط وعلى‬ ‫طرق املوا�صالت البحرية وخ�صو�صاً يف املحيط الهندي ويعطي زخماً للتكتالت املعار�ضة‬ ‫للهيمنة الأمريكية‪.‬‬

‫‪94‬‬


‫فـــــكـــــر‬

(Endnotes) 1-Zeine Zeine, TheStruggle for Arab Independence (Beirut: Khayat, 1960). 2-Michael Province, The Great Syrian Revolt, and the Rise of Arab Nationalism (Austin: University of Texas Press, 2005), 17. 3-Alfred Thayer Mahan, The Influence of Sea Power Upon History: 1660 – 1783, (Boston: Brown and Company, 1918), P iii. 4- Halford Mackinder: The Geographical Pivot of History, the geographical journal, vol 170, no 4, december 1904, 298 - 300 5- Nicholas Spykman, America’s Strategy in World Politics-The United States and the Balance of Power, (New Brunswick, Transaction Publishers, 2008) 59 6- Zbegnew Brzezinski, The Grand Chessboard, American Primacy and its Geostrategic Imperatives XIV. 7- William T. Rowe, China’s Last Empire: the Great Qing, (Cambridge: Harvard University Press,2009), 172. 8- Chi Kwan Mark, China and the world since 1945, (London: Routledge, 2011), , 96. 9- Alfred K. Ho, China’s Reforms and Reformers, (Westport: Praeger, 2004), 81. 10- Chi Kwan Mark, 97. 95


11- Alfred K. Ho, 82. 12- Website of Shanghai Cooperation Organization at http://www.sectsco. org/EN123/brief.asp accessed on 23 - 2 - 2015. 13- Website of Shanghai Cooperation Organization at http://www.sectsco.org/EN123/AntiTerrorism.asp accessed on 23 - 2 2015 14-Norling, Nicklas and Niklas Swanström. “The Shanghai Cooperation Organization, Trade, and the Roles of Iran, India and Pakistan.” Central Asian Survey Volume 26. Issue 3 (2007): 429-444 (429-432). 15- Robert D. Kaplan, Asia' Cauldron: The South China Sea and the End of a Stable Pacific, (New York: Random House, 2014) 16- “Xínjiang protesters to be punished 'with utmost severity”, TIBETAN review AUGUST 2009, 28. 17- UN Chief urges respect for right to protest, others follow suit, TIBETAN REVIEW AUGUST 2009, 26. 18- China accuses US of adding to regional tensions, The Guardian, February 9 - 2014, at http://www.theguardian.com/world/2014/feb/09/ china-accuses-us-south-china-sea accessed on April 7, 2015. 19- US accused of inciting South China Sea tensions, RT, August 11, 2014, at http://rt.com/usa/179512-asean-kerry-wang-tensions/ accessed on April 7, 2015. 96


‫فـــــكـــــر‬

20-Saibal Dasgupta, US commander accuses China of creating artificial landmass in South China Sea, The Times of India, April 3, 2015. At http://timesofindia.indiatimes.com/world/china/US-commanderaccuses-China-of-creating-artificial-landmass-in-South-China-Sea/ articleshow/46790380.cms accessed on April 7, 2015. 21-R. Van Bergen, The Story of Russia, (New York: American Book Company, 1905), 160. 22-R. Van Bergen, 183. 23-Simon Dixon, Catherine the Great, (Harper Collins Ebooks, 2009), 288. 24- General Count Philip de Segur, HISTORY OF THE EXPEDITION TO RUSSIA, UNDERTAKEN BY THE EMPEROR NAPOLEON in the year 1812, (London: TREUTTEL AND WURTZ, TREUTTEL, jun. AND RICHTER, 1825), Book I Chap I. 25- Marie Platt Parmele, A Short History of Russia, (New York: CHARLES SCRIBNER'S SONS, 1907), Chap XXI. 26- A. F. Pollard, A Short History of the Great War, (London: Methuen & Co Ltd, 1919), Chap I. 27- Leon Trotsky, From October to Brest-Litovsk, at Project Guttenburg. org 28- Adolf Hitler, Mein Kampf. 97


29- Gerhad L. Weinberg, A World At Arms: A Global History of World War II, (New York: Cambridge University Press, 1995), 35 – 37. 30- Gerhard L. Weiberg, Chap 3 – 4. 31- Weinberg, 421. 32- Weinberg, 600 – 622. 33- Steven A. Cook, The Struggle for Egypt: From Nasser to Tahrir Square, (Oxford: Oxford University Press, 2012), 132. 34- See Robert Lacey, Inside the Kingdom: Clerics, Modernists, Terrorists, and the Struggle for Saudi Arabia, (London: Penguin Books, 2009), 63 68. 35- Vladislav M. Zubok, A Failed Empire: The Soviet Union in the Cold War from Stalin to Gorbachev, (Chapel Hill: The University of North Carolina Press, 2007), 304. 36- Charles J. Shields, Vladimir Putin, (New York: Chelsea House Publishers,2007), 50 – 59. 37- roxann prazniak, Siena on the Silk Roads: Ambrogio Lorenzetti and the Mongol Global Century, 1250–1350,J ournal of World History, Vol. 21, No. 2 © 2010 by University of Hawai‘i Press P 177. 38- Spuler, The Mongol Period. (New York: markus Weiner Pub, 1994) 23. 39- Ibid, 26-27. 40- See See The Travels of Marco Polo the Venetian, edited by Thomas 98


‫فـــــكـــــر‬

‫‪Wright, Chap XLIV.‬‬ ‫‪41- Bertold SPuller, 35 – 37.‬‬ ‫‪42- David Blow, Shah Abbas, the Ruthless King Who Became an Iranian‬‬ ‫‪Legend, (London: I.B. Tauris, 2009), 47.‬‬ ‫‪43- Ibid, 75 - 84‬‬ ‫‪44- Ibid, 103.‬‬ ‫‪45- Vincent Nouzille, Dans le Secret Des Presidents, (Paris: Fayard, 2010),‬‬ ‫‪395-408.‬‬ ‫‪46- Vincent Nouzille, 409-419.‬‬ ‫‪47- Vincent Nouzille, 444-449.‬‬ ‫‪48- Vincent Nouzille, 450-451.‬‬ ‫‪ - 49‬أحمد داوود أوغلو‪ ،‬العمق االسرتاتيجي‪ ،‬موقع تركيا ودورها يف الساحة الدولية‪،‬‬ ‫ترجمة محمد ثلجي وطارق عبد الجليل‪ ،‬الدوحة‪ :‬الدار العربية للعلوم نارشون‪،2010 ،‬‬ ‫ص‪.‬ص‪.81 - 75 .‬‬ ‫‪ - 50‬أحمد داود أوغلو‪ ،‬العمق االسرتاتيجي‪ ،‬ص‪.‬ص‪. 150 - 146 .‬‬ ‫‪ - 51‬أحمد داود أوغلو‪ ،‬العمق االسرتاتيجي‪ ،‬ص‪.‬ص‪. 155 - 150 .‬‬ ‫‪- 52‬أحمد داود أوغلو‪ ،‬العمق االسرتاتيجي‪ ،‬ص‪.‬ص‪.158 - 155 .‬‬ ‫‪ - 53‬السفري ‪ 13‬نيسان ‪.2011‬‬ ‫‪ - 54‬السفري ‪ 10‬حزيران ‪. 2011‬‬ ‫‪99‬‬


. 2011 ‫ حزيران‬15 ‫ السفري‬- 55 . 2011 ‫ ايار‬26 ‫ السفري‬- 56 57- Gavin Menzies, 1421, The Year China Discovered the World, London: Bantam Press, 2003. . 2011 ‫ ايار‬13 ‫ السفري‬- 58

100


‫فـــــكـــــر‬

‫فل�سفة التوا�صل واملعلومات‬ ‫ح�سن عجمي ‪ -‬كاتب وباحث‬

‫تختلف نظريات التوا�صل وتت�صارع‪ .‬نرحتل يف هذه املقالة �إىل عوامل فل�سفات التوا�صل‬ ‫لرن�صد منو ال�سوبر توا�صلية كمذهب فل�سفي يتجاوز املذاهب التقليدية يف علوم التوا�صل‪.‬‬ ‫العامل اليوم عامل توا�صلي بامتياز‪ .‬لكنه ينق�سم �إىل عامل توا�صلي ما�ضوي وعامل توا�صلي‬ ‫م�ستقبلي‪.‬‬ ‫الفيزيائي الكبري جون ويلر �أر�سى املبادئ العامة لنموذج علمي جديد‪ .‬بالن�سبة �إىل ويلر‪،‬‬ ‫كل �شيء يف الكون عبارة عن معلومة؛ فالكون يتك َّون من معلومات‪� ،‬أما العالقات بني‬ ‫الظواهر الطبيعية كالعالقات ال�سببية فهي جمرد تدفق للمعلومات من ظاهرة �إىل �أخرى‪.‬‬ ‫هكذا الكون نظام توا�صلي بحيث يتوا�صل من خالل تبادل املعلومات‪ .‬فكما يقول العالمِ‬ ‫الفيزيائي �سيث لويد‪ ،‬الكون كمبيوتر متطور يقوم بح�ساب وقيا�س معلوماته بالذات‪ .‬من‬ ‫هذا املنطلق‪ ،‬من املمكن اعتبار �أن املجتمع نظام توا�صلي و�أن الإن�سان نظام توا�صلي �أي�ضاً‪.‬‬ ‫فاملجتمع نظام توا�صلي مبعنى �أنه ّ‬ ‫يت�شكل من تبادل املعلومات؛ التفاعل بني الأفراد لي�س‬ ‫�سوى نقل معلومات من فرد �إىل �آخر‪� .‬أما الإن�سان فهو نظام توا�صلي مبعنى �أن الإن�سان‬ ‫يكمن يف �إنتاج املعلومات و�إر�سالها �إىل الآخرين‪ .‬فلو مل يكن كذلك ما متكن من بناء‬ ‫جمتمع وتطوير حميطه و�أدوات معا�شه‪ .‬كل هذا يرينا االرتباط احلتمي بني التوا�صل‬ ‫واملعلومات‪ .‬لقد �أو�ضح عالمِ الريا�ضيات كلود �شانون العالقة بني التوا�صل واملعلومات‪.‬‬ ‫ُيعتبرَ كلود �شانون م�ؤ�س�س نظرية املعلومات؛ فلقد در�س املعلومات على �ضوء الأنظمة‬ ‫‪101‬‬


‫التوا�صلية ف�أنتج النموذج الريا�ضي الأول يف علوم التوا�صل‪.1‬‬ ‫يقول �شانون �إن التوا�صل عملية نقل للمعلومات من م�صدر �إىل متلقٍ ‪ .‬بالن�سبة �إليه‪ ،‬يتك ّون‬ ‫النظام التوا�صلي من ُم ِر�سل وو�سيلة نقل للمعلومات ومتلقٍ ‪ .‬املُ ِر�سل هو م�صدر املعلومات‪،‬‬ ‫وو�سائل نقل املعلومات تتنوع وتختلف فقد تكون و�سائل الإعالم كالتلفزيون �أو الراديو �أو‬ ‫ر�سلة وفهمها‪ .‬كما ّقدم‬ ‫التخاطب اللغوي اليومي‪ ،‬بينما املتلقي فهدفه �إعادة بناء الر�سائل املُ َ‬ ‫�شانون معادلة تقي�س كمية املعلومات يف �أية ر�سالة مفادها �أن �أية ر�سالة متلك معلومات �أكرث‬ ‫يف حال كان احتمال ظهورها �أو تك ّونها �ضعيفاً بينما �إذا كان احتمال وجودها �أكرب حينها‬ ‫حتتوي الر�سالة على معلومات �أقل‪.‬‬ ‫هذا يعني �أن املعلومات‪ ،‬بالن�سبة �إىل �شانون‪ ،‬هي عمليات قيا�س االحتماالت‪ ،‬وكمية‬ ‫املعلومات هي قيا�س االندها�ش �أو املفاج�أة‪ .‬فعندما تده�شنا ر�سالة ما‪ ،‬حينها حتتوي‬ ‫الر�سالة على معلومات �أكرث‪� .‬أما �إذا مل نتفاج�أ بر�سالة ما فحينها تكون درجة احتمال‬ ‫�إ�صدار الر�سالة عالية وبذلك تكون الر�سالة حاوية على معلومات قليلة‪ .‬بكالم �آخر‪،‬‬ ‫�إذا كان من املمكن التنب�ؤ بر�سالة معينة حينها متلك الر�سالة معلومات �أقل‪ .‬هكذا كمية‬ ‫املعلومات يف ر�سالة ما مرتبطة بقيا�س االندها�ش بتلك الر�سالة وبدرجة احتمال �صدور‬ ‫الر�سالة‪ .‬مثل ذلك �أن الر�سالة التي تقول "�إن ال�شم�س �ست�شرق غداً" ال تده�شنا �أبداً‬ ‫ولذا احتمال �صدور هذه الر�سالة كبري‪ ،‬وبذلك هذه الر�سالة حتتوي على معلومات قليلة‬ ‫جداً؛ فنحن نعلم ُم�س َبقاً �أن ال�شم�س �ست�شرق غداً‪� .‬أما الر�سالة التي تقول "�إن درجة‬ ‫حتدد‬ ‫احلرارة غداً �ستكون حتديداً �أربعني درجة مئوية"‪ ،‬فهي متلك معلومات �أكرث لكونها ِّ‬ ‫بال�ضبط درجة احلرارة غداً ما يت�ضمن املفاج�أة وقلة درجة احتمال �صدور تلك الر�سالة‪.‬‬ ‫فمن دون �صدور الر�سالة ال�سابقة ال نعلم حتديداً ما هي درجة احلرارة غداً‪ ،‬وبذلك حتتوي‬ ‫تلك الر�سالة على معلومات �أكرث‪ .‬باخت�صار‪ ،‬بالن�سبة �إىل كلود �شانون‪ ،‬النظام التوا�صلي‬ ‫ر�سلة من‬ ‫هو نظام �إر�سال املعلومات وبذلك هو نظام معلوماتي َّ‬ ‫تتحدد كمية معلوماته املُ َ‬ ‫‪1- Craig and Editors : Robert Heidi Muller : Theorizing Communication. 2007. Sage Publications.‬‬ ‫‪102‬‬


‫فـــــكـــــر‬

‫خالل درجة احتمال ن�شوء الر�سائل املت�ضمنة للمعلومات‪.1‬‬ ‫بالإ�ضافة �إىل ذلك‪� ،‬شرح فيل�سوف التوا�صل روبرت كريغ امل�أزق املعريف الكامن يف حقول‬ ‫الدرا�سات التوا�صلية‪ .‬ففي مقاله ال�شهري "نظرية التوا�صل كحقل" �أو�ضح التعار�ض القاتل‬ ‫بني النظريات يف درا�سة التوا�صل‪ .‬فالنظريات التوا�صلية باتت تختلف جذرياً عن بع�ضها‬ ‫البع�ض؛ فكل نظرية تع ِّرف التوا�صل ب�شكل خمتلف عن النظريات الأخرى ما �أدى �إىل‬ ‫انقطاع التفاهم بني �أ�صحاب النظريات التوا�صلية املتنوعة‪ .‬من هنا‪ ،‬ي�ستنتج كريغ �أن درا�سات‬ ‫التوا�صل ب�شكلها احلايل ال ّ‬ ‫ت�شكل حق ًال معرفياً وا�ضح الق�ضايا وامل�ضامني‪ .‬يقول كريغ �إن‬ ‫توحد بني كل نظريات التوا�صل؛ فهذا يق�ضي على غنى‬ ‫احلل ال يكمن يف �إنتاج نظرية ّ‬ ‫وحدة‪ .‬بل احلل قائم يف خلق حوار بني النماذج‬ ‫هذه احلقول من جراء اختزالها �إىل نظرية ُم َّ‬ ‫املتعار�ضة يف علوم التوا�صل من �أجل �إنتاج نظريات جديدة قادرة على �شرح العمليات‬ ‫التوا�صلية ب�شكل �أو�ضح‪ .‬ي�ضيف كريغ قائ ًال �إنه من املمكن �إن�شاء حقل علمي ُيعنى‬ ‫بالتوا�صل من خالل بناء ميتانظرية مهمتها درا�سة النماذج املختلفة يف التوا�صل وحتليلها‬ ‫وحتديد العالقات التي تربط بينها ما يجعل ك ًال من احلوار والتفاهم بني �أتباع النظريات‬ ‫التوا�صلية املختلفة ممكناً‪.2‬‬ ‫ُيح�صي كريغ �سبع نظريات توا�صلية متعار�ضة وهي‪� :‬أو ًال‪ ،‬النظرية البيانية التي تعترب �أن‬ ‫التوا�صل هو فن املحادثة‪ .‬ثانياً‪ ،‬النظرية ال�سيميائية التي حت ِّلل التوا�صل على �أنه و�سيلة‬ ‫ارتباط بني �أطراف من خالل عالمات و�إ�شارات ذات دالالت‪ .‬ثالثاً‪ ،‬النظرية الفينومولوجية‬ ‫التي تقول �إن التوا�صل هو اختبار احلوار مع الآخرين‪ .‬رابعاً‪ ،‬النموذج ال�سرباين وهو امليدان‬ ‫املعريف الذي يدر�س الأنظمة ذات الأهداف وامل�ؤثرة يف حميطها واملت�أثرة مبحيطها كالأنظمة‬ ‫االجتماعية والنظام ال�سيكولوجي للفرد‪ .‬واملذهب ال�سرباين ي�ؤكد �أن التوا�صل هو عملية‬ ‫‪ - 1‬املرجع السابق‪.‬‬ ‫‪ - 2‬املرجع السابق‪.‬‬ ‫‪103‬‬


‫تدفق املعلومات متاماً كما �أو�ضح كلود �شانون‪ .‬خام�ساً‪ ،‬النموذج ال�سو�سيو�سيكولوجي الذي‬ ‫ُي�ص ّر على �أن التوا�صل تفاعل بني الأفراد‪� .‬ساد�ساً‪ ،‬النظرية ال�سو�سيوثقافية التي تقول �إن‬ ‫التوا�صل عملية �إعادة �إنتاج النظام االجتماعي‪ .‬و�سابعاً‪ ،‬االجتاه النقدي الذي يعترب �أن‬ ‫حتد للم�س ّلمات كافة‪ .‬لكن رغم �أن كريغ �أح�صى هذه املذاهب التوا�صلية‬ ‫التوا�صل عملية ٍّ‬ ‫املت�صارعة‪� ،‬أبقى الباب مفتوحاً �أمام ن�شوء نظريات توا�صلية م�ستقبلية خمتلفة عن النظريات‬ ‫الأوىل كالنظرية االقت�صادية يف التوا�صل التي تقرتح �أن التوا�صل هو تبادل اقت�صادي‪.1‬‬ ‫من املمكن اعتبار �أن هذه املذاهب املختلفة يف التوا�صل تدر�س �أنواعاً متنوعة من التوا�صل‪.‬‬ ‫فكل مذهب من هذه املذاهب يو�ضح نوعاً من التوا�صل خمتلفاً عن الأنواع الأخرى يف‬ ‫التوا�صل التي تو�ضحها املذاهب التوا�صلية الأخرى‪ .‬وبذلك ال تتعار�ض هذه املدار�س‬ ‫املختلفة يف التوا�صل لكونها تدر�س �أنواعاً خمتلفة من التوا�صل ما يحل م�شكلة تعار�ضها‪.‬‬ ‫فمن الطبيعي �أن تختلف ب�سبب درا�ستها لأنواع توا�صلية خمتلفة‪ ،‬لكنها ال تتعار�ض بف�ضل‬ ‫�إي�ضاحها لأجنا�س توا�صلية خمتلفة‪ .‬فمث ًال التوا�صل كنقل معلومات نوع من التوا�صل‬ ‫خمتلف عن التوا�صل ٍ‬ ‫كتحد للم�س ّلمات‪ .‬ولذا كل هذه الدرا�سات مقبولة لكونها ت�شرح‬ ‫�أجنا�ساً خمتلفة من التوا�صل وبذلك ال يوجد تعار�ض حقيقي بينها‪.‬‬ ‫يقدم �أريك مكلوهن ومار�شل مكلوهن نظرية مغايرة يف التوا�صل؛ ف ُهما‬ ‫من جهة �أخرى‪ِّ ،‬‬ ‫يع ِّرفان التوا�صل من خالل مفهوم التغيري‪ .‬بالن�سبة �إليهما‪ ،‬التوا�صل يت�ضمن التغيري؛ فمن‬ ‫دون �إحداث تغيري ما يف املتلقني ال يوجد ٍ‬ ‫حينئذ �أي توا�صل‪ .‬فمث ًال‪ ،‬النتيجة التي يريد‬ ‫كاتب ما �إحداثها يف املتلقني هي التي ّ‬ ‫ت�شكل وجهة نظر الكاتب يف التوا�صل‪ .‬الكاتب‬ ‫يكتب على �ضوء نظريته يف التوا�صل‪ ،‬وبذلك الر�سائل التي يبثها �أي كاتب حتتوي على‬ ‫نظريته يف التوا�صل وتهدف �إىل �إحداث تغيري معني يف املتلقي‪.‬‬ ‫يتلق �أية ر�سالة‪ .‬هذا لأنه �إذا مل‬ ‫�إذا مل يحدث �أي تغري يف املتلقي‪ ،‬هذا يعني �أن املتلقي مل َ‬ ‫‪ - 1‬املرجع السابق‪.‬‬ ‫‪104‬‬


‫فـــــكـــــر‬

‫يحدث تغري يف املتلقي من خالل هذا التوا�صل �أو ذاك‪ٍ ،‬‬ ‫حينئذ ال يوجد دليل على �أنه يوجد‬ ‫توا�صل �أ� ً‬ ‫صال‪ ،‬وذلك من جراء فقدان التوا�صل املفرت�ض لقدرة �سببية �أو لدور �سببي م�ؤثر‪.‬‬ ‫فنحن ن�ستنتج وجود ما ال نرى �أمامنا بف�ضل الأدوار �أو العالقات ال�سببية التي متلكها تلك‬ ‫الأ�شياء �أو الظواهر التي ال نراها مبا�شرة‪ .‬هكذا‪ ،‬بالن�سبة �إىل منوذجهما التوا�صلي‪ ،‬وظيفة‬ ‫التوا�صل قائمة يف حتويل املتلقني وتغيريهم كتغيري ر�أي َمن ال يريد �شراء هذه الب�ضائع �أو‬ ‫تلك ودفعهم �إىل �شرائها‪ .‬وتكمن هذه الوظيفة �أي�ضاً يف الق�صائد والروايات‪ .‬فمث ًال‪ ،‬ت�صطاد‬ ‫الق�صائد والروايات اجلمهور من خالل جمالياتها كي ِ‬ ‫حتدث تغرياً �أو حتو ًال ما يف املتلقي ك�أن‬ ‫تدفعه �إىل الثورة �أو اخلنوع‪.1‬‬ ‫�أما النظرية التقليدية يف التوا�صل فتعترب �أن التوا�صل نقل معلومات من فرد �إىل �آخر‪ .‬لكن‬ ‫كما يقول �أريك ومار�شل مكلوهن تف�شل هذه النظرية التقليدية يف التعبري عن حقيقة �أن‬ ‫و�سائل الإعالم تغيرّ م�ستخدميها وتفر�ض على متلقي معلوماتها ثقافة جديدة بينما نظرية‬ ‫التوا�صل ك�إحداث تغيري تنجح يف التعبري عن تلك احلقيقة‪ .‬فبما �أن التوا�صل هو �إحداث‬ ‫تغيري يف املتلقني‪� ،‬إذن فمن الطبيعي �أن ُي ِ‬ ‫حدث الإعالم تغرياً يف جمتمعه‪ .‬هكذا تتمكن‬ ‫نظرية التوا�صل ك�إحداث تغيري من تف�سري حقيقة ت�أثري الإعالم يف الفرد واملجتمع ما يدعم‬ ‫مقبوليتها‪ .‬كما �أن الإعالم ينتج ثقافة جديدة ّ‬ ‫تت�شكل من وظائف و�أهداف امل�ؤ�س�سات‬ ‫الإعالمية وكيفية ا�ستخدام و�سائل الإعالم‪ .‬من هنا‪ ،‬التوا�صل �إحداث تغيري‪.‬‬ ‫كما يعر�ض مار�شل مكلوهن �أفكاراً مثرية حول طبيعة التوا�صل‪ .‬بالن�سبة �إليه‪ ،‬و�سيلة‬ ‫التوا�صل هي الر�سالة‪ ،‬وم�ضمون الو�سيلة التوا�صلية هو الفرد املُ ِ‬ ‫حتوله �إىل‬ ‫�ستخدم لها لأنها ّ‬ ‫فرد خمتلف من جراء ا�ستخدامه لها‪ .‬ومبا �أن هدف التوا�صل هو التغيري‪ ،‬وعلماً ب�أنه من خالل‬ ‫و�سيلة التوا�صل يحدث التغيري‪� ،‬إذن هدف التوا�صل هو ن�شر و�سيلة التوا�صل وبذلك و�سيلة‬ ‫التوا�صل هي ر�سالة التوا�صل‪ .‬باخت�صار‪ ،‬ي�ؤكد مار�شل مكلوهن على �أن التوا�صل يعني‬ ‫التغيري‪ .‬ومبا �أن التغيري هو تغيري يف اجلماهري املتلقية لر�سائل التوا�صل‪� ،‬إذن تت�أقلم الأنظمة‬ ‫‪1- Eric Mcluhan and Marshall Mcluhan : Theories of Communication. 2011. Peter Lang .‬‬ ‫‪105‬‬


‫التوا�صلية مع املتلقني لر�سائلها بهدف �إجناح عملية تغيريهم‪ .‬هكذا املتلقي ي�شرتك �أي�ضاً يف‬ ‫�إنتاج ر�سائل التوا�صل ‪.1‬‬ ‫لكن ال بد من التمييز بني التوا�صلية وال�سوبر توا�صلية‪ .‬التوا�صلية التقليدية تدر�س التوا�صل‬ ‫على �أنه عملية نقل معلومات من م�صدر معني �إىل متلقٍ بينما ال�سوبر توا�صلية تعترب �أن‬ ‫التوا�صل عملية خلق قدرات على �إنتاج معلومات جديدة‪ .‬هكذا تختلف ال�سوبر توا�صلية‬ ‫عن التوا�صلية‪ .‬بالن�سبة �إىل التوا�صلية‪ ،‬التوا�صل �إر�سال معلومات وتلقٍ لها‪ .‬لكن بالن�سبة‬ ‫�إىل ال�سوبر توا�صلية‪ ،‬التوا�صل عملية ت�شكيل مبتكر للمعلومات وخلق جديد لها‪ .‬هكذا‬ ‫ال�سوبر توا�صلية جتعل ك ًال من املُ ِر�سل واملتلقي منتجاً للمعلومات بينما التوا�صلية تبقي‬ ‫املُ ِر�سل ناق ًال للمعلومات واملتلقي جمرد متلقٍ لها‪ .‬فبينما التوا�صلية التقليدية تق�ضي على‬ ‫املبدع يف املتلقي‪ ،‬ال�سوبر توا�صلية ت�ستدعي املبدع يف املتلقي بل تدفع باملتلقي لي�صبح مبدعاً‬ ‫للمعلومات‪ .‬الآن‪ ،‬لو كان التوا�صل �إحداث تغيري يف املتلقي‪ ،‬فخلق قدرات على �صياغة‬ ‫معلومات جديدة �أف�ضل و�أقوى تغيري من املمكن �إنتاجه يف املتلقني‪ .‬من هنا تكت�سب ال�سوبر‬ ‫توا�صلية م�صداقيتها؛ فهي قادرة على احتواء التوا�صل كعملية تغيري‪ .‬ولو كان التوا�صل‬ ‫�إي�صال املعلومات �إىل متلقٍ ‪ ،‬ومبا �أن �أف�ضل �إي�صال للمعلومات كامن يف خلق قدرات على‬ ‫ر�سلة‪� ،‬إذن التوا�صل قائم يف تزويد املتلقي‬ ‫�إنتاج معلومات جديدة على �ضوء املعلومات املُ َ‬ ‫بقدرات على �صياغة معلومات جديدة متاماً كما تقول ال�سوبر توا�صلية‪ .‬على هذا الأ�سا�س‪،‬‬ ‫ت�صدق ال�سوبر توا�صلية �أي�ضاً‪.‬‬ ‫ت�صل املعلومات �إىل متلقٍ ما فقط يف حال �أنه متكن من فهمها‪ .‬ولكي يفهم تلك املعلومات‬ ‫ال بد �أن يتمكن من معرفة �أدوارها اال�ستنتاجية �أي الأ�س�س التي بف�ضلها تكت�سب م�صداقية‬ ‫معينة والنتائج التي تت�ضمنها‪ .‬من هنا‪ ،‬ت�صل املعلومات �إىل متلقٍ معني يف حال جنح املتلقي‬ ‫يف ا�ستنتاج النتائج املرتتبة عن تلك املعلومات و�إال يكون قد ف�شل يف فهم م�ضامينها‪ .‬لكن‬ ‫ر�سلة لي�س �سوى اكت�ساب قدرات على �إنتاج‬ ‫ا�ستنتاج النتائج املرتتبة عن املعلومات املُ َ‬ ‫‪ - 1‬املرجع السابق‪.‬‬ ‫‪106‬‬


‫فـــــكـــــر‬

‫ر�سلة‪ .‬بذلك �إي�صال املعلومات يت�ضمن خلق‬ ‫معلومات جديدة على �ضوء املعلومات املُ َ‬ ‫قدرات على �صياغة معلومات مبتكرة ما يعني �أي�ضاً �أن �أف�ضل �إي�صال للمعلومات كامن يف‬ ‫خلق قدرات على �إنتاج معلومات جديدة‪ .‬هكذا ت�صدق ال�سوبر توا�صلية‪ .‬ف�إن مل يتمكن‬ ‫التوا�صل من بناء قدرات على �صياغة معلومات جديدة‪ ،‬حينها يف�شل التوا�صل يف �إي�صال‬ ‫�أية معلومات لأن �إي�صال املعلومات يت�ضمن بال�ضرورة خلق قدرات على �إنتاج معلومات مل‬ ‫نعهدها من قبل‪ .‬هكذا يزول الفارق بني �إي�صال املعلومات و�إنتاجها‪ .‬وهذه ف�ضيلة كربى‬ ‫لل�سوبر توا�صلية‪.‬‬ ‫ال�سوبر توا�صلية ت�ؤ�س�س لن�شوء الأنظمة التوا�صلية ال�سوبر م�ستقبلية‪ .‬فالنظام التوا�صلي‬ ‫ال�سوبر م�ستقبلي ير�سل �إىل املتلقي ر�سائل �أ�سا�سية مفادها �أن املعلومات التي يريد �إر�سالها‬ ‫ر�سلة‬ ‫�إليه هي النتائج اجلديدة التي �سوف ينتجها املتلقي يف امل�ستقبل على �ضوء الر�سائل املُ َ‬ ‫�إليه‪ .‬وبذلك النظام التوا�صلي ال�سوبر م�ستقبلي يجعل من املتلقي ُم ِر�س ًال �أو م�صدراً‬ ‫للمعلومات يف امل�ستقبل‪ .‬وهو بذلك يح ّول املتلقني �إىل مبدعني ملعلومات جديدة‪ .‬تتميز‬ ‫ال�سوبر م�ستقبلية مبوقفها القائل ب�أن املعلومات هي تلك التي ّ‬ ‫تت�شكل يف امل�ستقبل‪ ،‬ولذا‬ ‫ت�ؤكد ال�سوبر م�ستقبلية على �أن التوا�صل احلق هو الكامن يف �إر�سال م�ضامني تدعو �إىل خلق‬ ‫املعلومات امل�ستقبلية‪ .‬ولكي تقوم ال�سوبر م�ستقبلية مبهمتها هذه ت�ستعني بال�سوبر حداثة التي‬ ‫حتدد �أية معلومات هي املعلومات ال�صادقة دون �سواها‪ ،‬بل ترتك للمتلقي �أمر اكت�شاف‬ ‫ال ِّ‬ ‫احلقائق وبذلك حترره من �سلطة املعلومة وطغيانها‪ .‬من هنا‪ ،‬املعلومات التي تر�سلها الأنظمة‬ ‫ال�سوبر توا�صلية املعتمدة على ال�سوبر م�ستقبلية وال�سوبر حداثة هي معلومات غري محُ َّددة‬ ‫ر�سلة‬ ‫النتائج؛ فنتائجها معتمدة على املتلقي الذي من املفرت�ض �أن ُيعيد �صياغة الر�سائل املُ َ‬ ‫�إليه وينتج ر�سائل �أخرى خمتلفة‪ .‬هذا نقي�ض النظام التوا�صلي يف املجتمعات ال�سوبر متخلفة‬ ‫التي تبث معلومات محُ َّددة ومت�ضمنة ال�ستحالة تغيريها‪ .‬هكذا‪ ،‬بينما معلومات الأنظمة‬ ‫التوا�صلية ال�سوبر متخلفة محُ َّددة �سلفاً‪ ،‬معلومات الأنظمة التوا�صلية ال�سوبر حداثية غري‬ ‫محُ َّددة امل�ضامني ما يجعل ال�صراع بني ال�سوبر تخلف وال�سوبر حداثة �صراعاً حتمياً‪ .‬فالنظام‬ ‫‪107‬‬


‫املحددة ُم�س َبقاً بينما النظام التوا�صلي‬ ‫التوا�صلي ال�سوبر متخ ّلف ي�سجن العقل يف معلوماته َّ‬ ‫حددة يف م�ضامينها ونتائجها‪.‬‬ ‫ال�سوبر حداثي يحرر العقل من خالل معلوماته غري املُ َّ‬ ‫يف ع�صر ال�سوبر تخلف يتح ّول النظام التوا�صلي �أداة �صناعة ملعلومات كاذبة وخالية من املعنى‬ ‫بينما يتميز التخلف بانهيار النظام التوا�صلي‪ .‬هكذا يختلف ال�سوبر تخلف عن التخلف‬ ‫التقليدي‪ .‬فاملجتمع املتخلف غري قادر على التوا�صل ب�سبب قلة معلوماته ودونية قيمة املعلومة‬ ‫فيه‪ .‬لكن املجتمع ال�سوبر متخ ّلف ميتلك نظاماً توا�صلياً معقداً يحتوي على معلومات كثرية‬ ‫ومتكاثرة دوماً كما لديه و�سائل نقل متطورة للمعلومات وقادرة على �إي�صالها �إىل �أي متلقٍ‬ ‫و�إقناعه مب�صداقيتها‪ .‬لكنه ي�ستخدم الأنظمة التوا�صلية املتطورة لكي ين�شر معلومات فاقدة‬ ‫لأية قيمة علمية �أو فكرية �أو �سلوكية‪ ،‬وهو بذلك يقوم بوظيفته الأ�سا�سية �أال وهي التجهيل‪.‬‬ ‫النظام التوا�صلي يف زمن ال�سوبر تخلف ُيط ِّور التخلف من خالل ن�شر اجلهل والتع�صب‬ ‫بو�سائل تكنولوجية متقدمة‪ .‬فحني ي�ستخدم النظام التوا�صلي ال�سوبر متخلف التكنولوجيات‬ ‫املتطورة يقنع املتلقي ب�صدق ر�سائله الكاذبة‪ .‬ال�سوبر تخلف �آلية �أبدعتها ال�سوبر ما�ضوية التي‬ ‫تقول �إن احلقائق واملعارف كامنة يف املا�ضي و�إن التاريخ يتجه نحو املا�ضي بد ًال من �أن يتجه‬ ‫نحو امل�ستقبل‪ .‬ف�أف�ضل منهج لإعادة �صياغة املا�ضي يف امل�ستقبل قائم يف تطوير التخلف ما‬ ‫ي�ضمن ا�ستحالة االنطالق �إىل م�ستقبل جديد ف�ضرورة العودة �إىل املا�ضي‪.‬‬ ‫ما�ض ُم�شرِق‪.‬‬ ‫يتميز النظام التوا�صلي ال�سوبر ما�ضوي ب�صفة ت�صوير امل�ستقبل على �أنه ٍ‬ ‫فاملا�ضي‪ ،‬بالن�سبة �إىل الأنظمة التوا�صلية ال�سوبر ما�ضوية‪ ،‬محُ َّدد يف �أدق التفا�صيل فوا�ضح‬ ‫املاهية واملعامل ما ي�سبب الر�ضى يف قلوب ال�سوبر ما�ضويني ويدفعهم نحو عدم �إنتاج ما هو‬ ‫حمدد يف �صفاته‬ ‫جديد‪ ،‬بينما املا�ضي بالن�سبة �إىل النظام التوا�صلي ال�سوبر حداثي فهو غري َّ‬ ‫ما�ض متجدد با�ستمرار و�صياغة م�ستقبليات‬ ‫وماهيته ما يدفع ال�سوبر حداثويني �إىل ابتكار ٍ‬ ‫جديدة ومتعددة‪ .‬هكذا تواجه ال�سوبر حداثة الأنظمة التوا�صلية ال�سوبر ما�ضوية وال�سوبر‬ ‫متخلفة ب�سالحها الفكري القائل ب�أن الال محُ َّدد يحكم الكون والتاريخ‪.‬‬ ‫بالن�سبة �إىل ال�سوبر حداثة‪ ،‬كل حقيقة �أو ظاهرة غري محُ َّددة ما هي‪ ،‬ولذا تتج�سد يف جت�سدات‬ ‫‪108‬‬


‫فـــــكـــــر‬

‫خمتلفة ما يرفع درجة احتمال معرفتها لكونها متجلية يف حقائق وظواهر متنوعة‪ .‬من هنا‪ ،‬تعترب‬ ‫املحدد ما هو التوا�صل‪ ،‬ولذا يغدو التوا�صل ظواهر عدة وخمتلفة‬ ‫ال�سوبر حداثة �أنه من غري َّ‬ ‫فيكون نق ًال للمعلومات �أو �إحداث تغيري يف املتلقني �أو تفاع ًال بني �أفراد �أو �إعادة �صياغة‬ ‫حتدياً للم�س ّلمات التقليدية‪ .‬هكذا تتمكن ال�سوبر حداثة من تف�سري‬ ‫للواقع االجتماعي �أو ّ‬ ‫جت�سدات متنوعة‪ ،‬وبذلك تكت�سب ال�سوبر حداثة ف�ضيلتها املعرفية‪.‬‬ ‫ملاذا يتجلى التوا�صل يف ّ‬ ‫بالإ�ضافة �إىل ذلك تن�سجم ال�سوبر حداثة مع ال�سوبر توا�صلية‪ .‬فبما �أن ال�سوبر توا�صلية عملية‬ ‫خلق قدرات على �صياغة معلومات جديدة‪ ،‬ومبا �أن �أية معلومات مبتكرة حتتاج �إىل �أنظمة‬ ‫توا�صلية جديدة لكي تتمكن من حمل املعلومات اجلديدة‪� ،‬إذن ال�سوبر توا�صلية ت�ستلزم‬ ‫ن�شوء �أنظمة توا�صلية جديدة ما يت�ضمن جت�سدات خمتلفة للتوا�صل مل نعهدها من قبل‪.‬‬ ‫لكن ال�سوبر حداثة ت�ؤكد �أن للتوا�صل جت�سدات متنوعة‪ .‬من هنا‪ ،‬ال�سوبر توا�صلية تت�ضمن‬ ‫املحدد امل�ضامني والنتائج توا�صل‬ ‫موقف ال�سوبر حداثة ما ي�شري �إىل ان�سجامهما‪ .‬التوا�صل َّ‬ ‫الالحمدد يف م�ضامينه ونتائجه توا�صل �سوبر حداثوي‪ .‬توا�صل‬ ‫�سوبر ما�ضوي بينما التوا�صل‬ ‫َّ‬ ‫من دون �إنتاج معارف م�ستقبلية جديدة توا�صل �أعمى‪َ .‬من ال ي�ستطيع �إنتاج املعلومات ال‬ ‫ي�ستطيع �إي�صالها‪.‬‬

‫‪109‬‬


‫الطبعة الفرنسية الثانية من كتاب "سوريا" (‪ ،)La Syrie‬وهو كتاب نادر أصدره الصحفي والنارش الفرنيس شارل الملان‬ ‫"‪ "Charles Lallemand" "1826-1926‬يف العام ‪ 1865‬يف طبعة أوىل محدودة مرقَّمة بستني نسخة يف إطار مرشوع حمل‬ ‫عنوان "املعرض العاملي للشعوب" (‪.)La Galerie Universelle des Peuples‬‬ ‫وهذا الكتاب هو األول من نوعه يف القرن التاسع العرش يف حقل الكتب املوجهة نحو نرش صور األزياء الوطنية السورية‬ ‫بواسطة الصور الفوتوغرافية‪.‬‬


‫فـــــكـــــر‬

‫�رصاع حممد علي با�شا و�أوروبا على بالد ّ‬ ‫ال�شام‬ ‫�إعداد‪ :‬د‪.‬كمال منذر ‪ -‬باحث و�أ�ستاذ م�ساعد يف اجلامعة اللبنانية‬

‫منذ عام ‪1805‬م‪ ،‬دانت م�صر حلكم الوايل الألباين حممد علي با�شا‪ ،‬الذي دخل م�صر مع فرقة‬ ‫�ألبانية �أر�سلها ال�سلطان العثماين لإخراج الفرن�سيني من بالد النيل‪ ،‬ومع خروج الفرن�سيني‪،‬‬ ‫ا�ستطاع حممد علي اللعب على تناق�ضات القوى املت�صارعة داخل م�صر‪ :‬املماليك والألبان‬ ‫وعمر مكرم وحجاج اخل�ضري وحممد الدواخلي والوايل العثماين‪ ،‬فا�ستطاع بذلك احل�صول‬ ‫على فرمان ال ّتعيني من ال�سلطان ب�صفته والياً على م�صر يف حزيران من عام ‪1805‬م‪.‬‬ ‫ومع و�صوله �إىل ال�سلطة �أخذ يتخ ّل�ص من خمتلف القوى داخل م�صر‪ ،‬لينفرد يف حكم م�صر‬ ‫هو و�أوالده ع�شرات ال�سنني‪.‬‬

‫‪1‬‬

‫بنى حممد علي دولة قوية كان �أركانها الألبان والأتراك وال�شراك�سة والأوروبيون‪� ،‬إلاّ �أ ّنه‬ ‫كان يطمع يف ال�سيطرة على بالد احلجاز وبالد ال�شام‪ ،‬و�إ�سقاط احلكم العثماين واحللول‬ ‫مكانه‪ ،‬راغباً بذلك ببناء دولة قوية‪ .‬وما دفعه �إىل ذلك هو‪ :‬ارتباط بالد ال�شام مب�صر‬ ‫جغرافياً وتاريخياً‪ ،‬و�أهميتها كي تبعد � ّأي خطر عن م�صر � ٍآت من ال�شرق‪ ،‬كما �أ ّنها متتلك‬ ‫ق ّوة اقت�صادية داعم ّة مل�صر واقت�صادها و�صناعتها (احلبوب‪ ،‬املعادن‪ ،‬املوانئ‪ ،‬الأ�سطول‬ ‫التجاري‪� ...‬إلخ)‪ .‬هذا عدا اليد العاملة والعنا�صر ال�ضرورية للجي�ش‪ .2‬كما عرفت بالد‬ ‫‪ - 1‬ليىل صبّاغ‪ ،‬تاريخ العرب الحديث واملعارص‪ ،‬دمشق‪ :‬مطبعة ابن حيان‪ ،1982 - 1981 ،‬ص ‪.63‬‬ ‫‪ - 2‬عبد الرحمن الرافعي‪ ،‬عرص محمد عيل‪ ،‬القاهرة‪ ،1947 :‬ص ‪.189 - 188‬‬ ‫‪111‬‬


‫ال�شام الطرق التجارية التي ربطت �شرق �آ�سيا بغربها‪.‬‬ ‫هذا ما دفع مبحمد علي با�شا �إىل التدخل يف �ش�ؤون بالد ال�شام الداخلية‪ ،‬وقد �ساعده يف‬ ‫ذلك ا�ضطراب الأو�ضاع فيها‪ ،‬ما فتح الباب �أمامه للعمل على اال�ستفادة من ال�صراع الدائر‬ ‫بني وايل ال�شام كنج يو�سف با�شا ووايل �صيدا �سليمان با�شا‪ ،‬ومع فرار كنج با�شا �إىل م�صر �أواه‬ ‫حممد علي ووقف �إىل جانبه بهدف ك�سبه �إىل جانبه عندما حتني الفر�صة لغزو بالد ال�شام‪.‬‬

‫‪1‬‬

‫وجنح حممد علي يف احل�صول على العفو من الباب العايل لوايل دم�شق كنج با�شا‪ ،‬و�أعاده �إىل‬ ‫واليته لي�صبح هذا �أحد اخلا�ضعني لنفوذ حممد علي و�إرادته‪.‬‬ ‫موقف حممد علي با�شا احلامي للفا ّرين من وجه ال�سلطة العثمانية ازداد ب�شكل ملحوظ‪،‬‬ ‫وخ�صو�صاً مع �إيواء �أمري لبنان ب�شري ال�شهابي الذي التج�أ مل�صر عام ‪1822‬م‪ ،‬بعد �أن انحاز �إىل‬ ‫وايل �صيدا عبداللهّ با�شا يف �صراعه مع دروي�ش با�شا وايل ال�شام‪.‬‬ ‫عندها �أ�صدر ال�سلطان العثماين �أمراً بعزل وايل �صيدا و�أمري لبنان‪ ،‬فهرب الأمري �إىل م�صر‬ ‫والتج�أ ملحمد علي با�شا الذي �أواه وك�سب و ّده‪ ،‬ومن ّثم تو�سط له و�أعاده �إىل �إمارته‪ ،‬كما‬ ‫تو�سط لوايل �صيدا عبداللهّ با�شا الذي و�صلت �سلطته �إىل قلعة عكا‪ ،‬وهي القلعة الأبرز على‬ ‫طريق ال�شام – م�صر‪.‬‬ ‫وبذلك يكون حممد علي قد �سيطر معنوياً و�سيا�س ّياً على بالد ال�شام من خالل وجود والة‬ ‫و�أمراء موالني له‪.‬‬

‫‪2‬‬

‫كانت كل ال�سيا�سات التي ا ّتخذها حممد علي با�شا تظهر ميله وعمله لل�سيطرة على بالد‬ ‫‪ - 1‬طنوس الشدياق‪ ،‬أخبار األعيان‪ ،‬بريوت‪ ،1859 :‬ص ‪.565 - 563 - 562‬‬ ‫‪ - 2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.541 - 540‬‬ ‫‪112‬‬


‫فـــــكـــــر‬

‫ال�شام‪ ،‬فكان يربط دعمه لل�سلطان العثماين‪� ،‬إن كان من خالل حملة احلجاز وجند �ضد‬ ‫الوهابية‪� ،‬أو حملة اليونان التي ا�ستغ ّلها �أح�سن ا�ستغالل‪ ،‬ليح�صل من �أوروبا على وعد بعدم‬ ‫ل�ضمه بالد ال�شام مقابل ان�سحابه من اليونان‪ ،‬فغ�ضت �أوروبا النظر عن هذا املطلب ال‬ ‫رف�ضها ّ‬ ‫�سلباً وال �إيجاباً‪ ،‬وهو ما فهمه حممد علي باملوافقة ال�ضمنية‪.‬‬

‫‪1‬‬

‫ويف عام ‪ 1831‬م‪ ،‬جاءت الفر�صة املنا�سبة‪ ،‬التي كان ينتظرها حممد علي‪ ،‬عندما هرب �ستة‬ ‫�آالف اّفلح م�صري �إىل والية �صيدا و�أقاموا يف غزة قرب احلدود امل�صرية‪.‬‬ ‫ومع رف�ض وايل �صيدا عبداللهّ با�شا �إعادة ه�ؤالء الفالحني‪� ،‬أمر حممد علي با�شا جي�شه‬ ‫باجتياز احلدود حتت عنوان‪ :‬ت�أديب وايل �صيدا‪.‬‬

‫‪2‬‬

‫عدة عناوين تخفي حقيقة مطامعه وهي‪:‬‬ ‫لقد حت ّرك حممد علي با�شا باجتاه بالد ال�شام حتت ّ‬ ‫‪� - 1‬إ ّنه املحرر العربي للعرب من احلكم العثماين‪.‬‬ ‫‪ - 2‬ا�ستعادة الف ّالحني امل�صريني املنقلبني عليه وت�أديبهم‪.‬‬ ‫‪ - 3‬ا�ستعادة هيبة ال�سلطنة العثمانية‪.‬‬ ‫�إ ّال �أنّ �شعار العروبة كان جم ّرد �شعار رفعه ليك�سب العرب �إىل جانبه يف معركته مع ال�سلطان‬ ‫العثماين‪ ،‬فمحمد علي با�شا الذي جعل من اجلنود العرب م�ست�ضعفني يف جي�شه حتت قيادة‬ ‫�ضباط من الأتراك واملماليك والألبان‪ ،‬وللعرب دور واحد فقط هو العمل بو�صفهم اّفلحني‬ ‫والتح ّول �إىل جنود يف اجلي�ش‪.‬‬

‫‪3‬‬

‫‪ - 1‬فندي ابوفخر‪ ،‬سوريا والرصاعات الدولية‪ ،‬سورية‪ :‬دار الحصار‪ ،‬ط‪ ،2000 ،1‬ص ‪.19 - 18‬‬ ‫‪ - 2‬املرجع نفسه‪.‬‬ ‫‪ - 3‬فندي آبو فخر‪ ،‬سوريا والرصاعات الدولية‪ ،‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.25‬‬ ‫‪113‬‬


‫لذلك ال ميكننا اعتبار احلرب التي قامت بني حممد علي والعثمانيني‪ ،‬هي حرب عربية‬ ‫تركية‪ ،‬بل هي �أطماع والٍ تركي على حكومته‪ ،‬و�صراع �أوروبي‪� -‬أوروبي على �سوريا‪ 1.‬و�سعي‬ ‫وايل م�صر �إىل ّمد نفوذه نحو بالد ال�شام‪ ،‬و�إعالن قيام حكم جديد يت�أ ّلف من حممد علي‬ ‫وعائلته‪ ،‬على �أنقا�ض الدولة العثمانية املنهارة‪ ،‬وبناء دولة واحدة لها اقت�صاد قوي‪.‬‬ ‫هذه الأطماع تلقفتها �أوروبا للأهداف الآتية‪:‬‬ ‫‪ - 1‬دعم �أوروبا ملحمد علي يف البداية‪ ،‬كان بهدف �إ�ضعاف الطرفني‪ :‬م�صر – ال�سلطنة‬ ‫يعجل من �سقوطهما لل�سيطرة عليهما فيما بعد‪.‬‬ ‫العثمانية‪ ،‬وهذا ما ّ‬ ‫‪� - 2‬سعي فرن�سا لتعود �إىل م�صر ولل�سيطرة على بالد ال�شام من خالل م�شروع حممد‬ ‫التو�سعي‪ ،‬فدعمت هذا الأخري باخلرباء وال�سالح‪ ،‬منهم كلوت بك‪.‬‬ ‫علي‬ ‫ّ‬

‫‪2‬‬

‫كما �أنّ بريطانيا كانت تطمع بالدخول �إىل بالد ال�شام وم�صر من خالل ك�سب حممد علي‬ ‫�إىل جانبها‪ ،‬لت�ؤ ّمن طريق التجارة مع الهند‪ ،‬ولتخ�ضع القبائل التي تعيق �سالمة هذه التجارة‪.‬‬

‫‪3‬‬

‫وبالتايل ال ميكننا �أن نعترب �أنّ انقالب حممد علي با�شا على ال�سلطان العثماين هو نزعة قومية‪،‬‬ ‫لاّ ‪4‬‬ ‫فال عالقة للقومية العربية بها‪ ،‬بل هي جم ّرد انقالب والٍ على �سلطانه لي�س �إ ‪.‬‬ ‫حكم حممد علي يف بالد ال�شام‪:‬‬ ‫اعتمدت �سيا�سة حممد علي على الأقارب واملق ّربني يف املنا�صب والوظائف العليا داخل‬ ‫‪ - 1‬محمد فؤاد شكري وآخرون‪ ،‬بناء دولة مرص‪ ،‬القاهرة‪ :‬دار الفكر العريب‪ ،1948 ،‬ص‪266 - 241‬‬ ‫‪ - 2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.268‬‬ ‫‪ - 3‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.380‬‬ ‫‪ - 4‬فندي أبو فخر‪ ،‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.40‬‬ ‫‪114‬‬


‫فـــــكـــــر‬

‫اجلهاز الإداري وال�سيا�سي والع�سكري‪ ،‬وعلى ر�أ�س ه�ؤالء ابراهيم با�شا ابن حممد علي‪،‬‬ ‫من هنا يظهر لنا وبو�ضوح نوع احلكم الفردي اال�ستبدادي الذي اعتمد عليه احلكم امل�صري‬ ‫يف بالد ال�شام‪� .‬صحيح ترك احلكم امل�صري بع�ض م�شايخ فل�سطني وب�شري ال�شهابي الأمري‬ ‫اللبناين يف احلكم‪� ،‬إلاّ �أنّ ه�ؤالء كانوا جم ّرد موظفني كبار هدفهم جمع ال�ضرائب وتنفيذ‬ ‫‪1.‬‬

‫�سيا�سة احلكم امل�صري‬

‫مع الإبقاء على طبقة املوظفني الفا�سدين من العهد العثماين ال�سابق‪ ،‬وه�ؤالء ا�ستمروا على‬ ‫ف�سادهم املعهود رغم تغري الوالء من احلاكم الرتكي �إىل احلاكم امل�صري‪ ،‬فاملوظف الفا�سد‬ ‫املكروه من ِقبل العامة كان هو املوظف الأن�سب للحكم امل�صري‪ ،‬حيث �أنّ النظام لن يجد‬ ‫�أف�ضل من املوظف الفا�سد الذي يحتمي به �أو يحقق غاياته �أو ي�ستم ّر يف عمله وف�ساده يف‬ ‫الوقت نف�سه‪.‬‬ ‫وهو ما �أثار ده�شة العامة يف بالد ال�شام‪ ،‬الذين انتظروا من النظام امل�صري �أن يخ ّل�صهم من‬ ‫ه�ؤالء‪ ،‬ف�إذا هو يبقيهم ويدعمهم ويق ّويهم داخل مراكزهم‪.‬‬

‫‪2‬‬

‫�أما بالن�سبة �إىل ال�سكان املحليني فقد عوملوا معاملة �سيئة جداً‪ ،‬وهذا ما �أ�ضعف احلكم‬ ‫امل�صري يف بالد ال�شام‪ .‬لقد كانت �سيا�سة النهب والتدمري وحرق املنازل وقتل الآالف من‬ ‫ال�سكان �سيا�سة مت ّبعة يف قمع � ّأي انتفا�ضة �شعبية �ضد احلكم امل�صري‪ ،‬كما ح�صل يف جبال‬ ‫الالذقية مع قمع االنتفا�ضات ال�شعبية حيث ُدم ّرت القرى و�أحرقت املنازل‪ ،‬و ُنهبت املوا�شي‬ ‫واحلبوب وقطعت الأ�شجار‪ ...‬وهذا �شمل �أي�ضاً �سكان جبل لبنان من م�سيحني ودروز‪ ،‬ما‬ ‫�أثار نقمة امل�شايخ والأمراء وكراهيتهم جتاه امل�صريني و�سيا�ستهم‪ ،‬خ�صو�صاً مع تعامل النظام‬ ‫‪ - 1‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.69 - 68‬‬ ‫‪ - 2‬أسد رستم‪ ،‬األصول العربية لتاريخ سورية يف عهد محمد عيل‪ ،‬بريوت‪ :‬الجامعة األمريكية‪ 1934 - 1930 ،‬ج‪ 3‬ص‪.245‬‬ ‫‪115‬‬


‫امل�صري معهم بو�صفهم الرعية التابعة لهم متاماً‪ ،‬ما دفعهم �إىل احلقد على النظام و�سيا�سته‪،‬‬ ‫والتح�سر على احلكم الرتكي ال�سابق‪ 1.‬هذا الأ�سلوب يف التعامل مع العامة كان لغري م�صلحة‬ ‫ّ‬ ‫امل�صريني‪ ،‬حيث �أنّ �أهايل بالد ال�شام مت ّنوا التخ ّل�ص من حكم ابراهيم با�شا ورجاله‪ ،‬فكانوا‬ ‫داعمي الثورة على هذا النظام ال�سيئ والفا�سد‪ ،‬خ�صو�صاً مع رفع ال�ضرائب التي يحتاج �إليها‬ ‫النظام ب�شكل دائم‪ ،‬و�أعمال ال�سخرة التي مور�ست جتاه املواطنني ال�شاميني‪ ،‬ح ّتى �ضاقت‬ ‫بالد ال�شام ذرعاً باحلكم امل�صري ال�سيئ‬

‫‪2.‬‬

‫ا�ستمرار التخلّف الثقايف والعلمي‪:‬‬ ‫مو�ضوع التعليم وتراجع امل�ستوى الرتبوي مل يكن بال�شيء اجلديد خالل الع�صر العثماين‪،‬‬ ‫فالإدارة العثمانية مل تهتم �إلاّ بفر�ض ال�ضرائب والأمن‪ ،3‬فبقيت احلياة العلم ّية على حالها‬ ‫تراث قاد ٌر على االحتكاك بالرتاث‬ ‫دون � ّأي تقدم يذكر‪ ،‬كما �أنّ العثمانيني مل يكن لديهم ٌ‬ ‫العربي‪ ،‬والتفاعل معه والت�أثري به‪� ،‬أو ح ّتى لغة قادرة على فر�ض نف�سها على اللغة العربية‪ ،‬ما‬ ‫التعليمي وتخلفه ب�شكل كبري‪ .‬وما كان منت�شراً حينها هو الكتاتيب‬ ‫�ساهم يف تراجع الواقع‬ ‫ّ‬ ‫وتعليم الدين وحفظ القر�آن للأطفال دعماً للمذهب الر�سمي للدولة‪ .4‬ومع حكم حممد‬ ‫علي با�شا ا�ستم ّر الواقع العلمي خالل ال�سنوات الثالث الأوىل ‪ 1834 - 1831‬على ما‬ ‫هو عليه يف العهد العثماين‪� ،‬إىل �أن ق ّرر ابراهيم با�شا و�ضع نظام تعليمي يق ّلد �أوروبا لت�أمني‬ ‫الكوادر التي يحتاج �إليها اجلي�ش والإدارة امل�صرية‪ ،‬كما �أح�ضر ابراهيم با�شا معه مطبعة‬ ‫‪ - 1‬فندي أبو فخر‪ ،‬سورية والرصاعات الدولية‪ ،‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.70‬‬ ‫‪ - 2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.71 - 70‬‬ ‫‪ - 3‬فيليب حتي‪ ،‬تاريخ سورية ولبنان وفلسطني‪ ،‬ترجمة كامل اليازجي‪ ،‬بريوت‪ :‬دار الثقافة ‪ ،1959‬ج‪ 2‬ص‪.317 - 316‬‬ ‫‪ - 4‬فندي أبو فخر‪ ،‬سورية والرصاعات الدولية‪ ،‬املرجع السابق ص‪.104 - 103‬‬ ‫‪116‬‬


‫فـــــكـــــر‬

‫حجرية لطباعة املن�شورات والأوامر الع�سكرية‪ ،‬و�أدخلت مطبعة �أخرى كان دورهما ن�شر‬ ‫الأوامر الع�سكرية والتب�شري الديني‪.‬‬ ‫واعتمد النظام امل�صري على خربة كلوت بك الفرن�سي لتجهيز هذه املدار�س وتنظيمها وو�ضع‬ ‫نظامها التعليمي يف خمتلف �أنحاء بالد ال�شام وكربى مدنها‪ ،‬كدم�شق وحلب و�أنطاكية‬ ‫وغريها‪.‬‬

‫‪1‬‬

‫وتو ّزعت هذه املدار�س على الدرجات الآتية‪:‬‬ ‫‪ - 1‬املدار�س االبتدائية‪ :‬مدة الدرا�سة فيها متتد �إىل ثالث �سنوات‪ ،‬وتقوم املدر�سة‬ ‫بتقدمي الطعام والك�ساء وال�سكن‪ ،‬يتع ّلم فيها القراءة والكتابة واللغة العربية و�أ�صول‬ ‫الدين‪.‬‬ ‫‪ - 2‬املدار�س التجهيزية‪ :‬ت�ستقبل خريجي املدار�س االبتدائية ومدة الدرا�سة فيها �أربع‬ ‫�سنوات‪ ،‬وتع ّلم العربية والرتكية والفار�سية‪ ،‬واحل�ساب واجلرب والتاريخ واجلغرافيا‪.‬‬ ‫‪ - 3‬الكليات‪ :‬اع ُتربت دم�شق وحلب مركزين للكليات يف بالد ال�شام‪ ،‬وهما �شبيهتان‬ ‫موحداً‬ ‫بتلك التي �أن�شئت يف م�صر‪ ،‬يتع ّلم طالبهما الفنون الع�سكرية‪ ،‬ويرتدون لبا�ساً ّ‬ ‫ويح�صلون على مراتب معينة‪ ،‬كما يقيمون داخل الكلية‪� .‬إلاّ �أنّ هاتني الكليتني مل‬ ‫تخ ّرجا �أحداً كون احلكم امل�صري لبالد ال�شام ا�ستم ّر حواىل الع�شر �سنوات وعمر التجربة‬ ‫التعليمية كان �سبع �سنوات فقط‪.‬‬

‫‪2‬‬

‫هذا النظام التعليمي مل ي�ساعد يف بناء كوادر مثقّفة قادرة على النهو�ض بالأ ّمة‪ ،‬فلم تعرف‬ ‫‪ - 1‬فندي أبو فخر‪ ،‬سورية والرصاعات الدولية‪ ،‬املرجع السابق ص ‪.105‬‬ ‫‪ - 2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.106‬‬ ‫‪117‬‬


‫البالد حركة ترجمة من الأوروبية كما ح�صل يف م�صر‪ ،‬ومل ترتجم الكتب‬ ‫العلمية والثقافية‪ ،‬فكان هنالك نق�ص يف الثقافة والتعليم‪ ،‬والإقبال على القراءة �ضعيف‬ ‫جداً‪ ،‬ح ّتى �أ ّنه نادراً ما ظهر باعة كتب يف دم�شق وحلب وغريهما من بالد ال�شام‪.‬‬

‫‪1‬‬

‫هذا امل�شروع التعليمي مل يكن من م�صلحة النظام تطويره وتخريج ال�شباب املثقف الواعي‬ ‫الذي �سي�شكل خطراً على النظام نف�سه‪ ،‬وهو ما ظهر من خالل كتاب �أر�سله حممد علي‬ ‫�إىل ولده ابراهيم ّ‬ ‫يحذره فيه ويعرب عن خماوفه ويثري انتباهه �إىل خماطر تعليم العامة‪" :‬ما‬ ‫تعانيه �أوروبا عهد ٍئذ من نتائج تعميم التعليم بني �أبناء العامة‪ ...‬فمن الواجب �أن تتف�ضلوا‬ ‫فتك�شفوا بتعليم القراءة والكتابة لعدد ٍ‬ ‫واف ب�أعمال الريا�سة غري مولعني بتعميم ذلك‬ ‫التعليم‪.‬‬

‫‪2‬‬

‫عندها بد�أ ابراهيم با�شا بتحجيم م�شروع التعليم وحتديد دوره‪ ،‬رغم ظهور بع�ض املدار�س‬ ‫مهم‪...‬‬ ‫ّ‬ ‫املهمة‪� ،‬إال �أ ّنها مل تكن لتخ ّرج كوادر ذات �ش�أن ّ‬ ‫�إال �أنّ حممد علي وولده ابراهيم مل ي�ستطيعا منع الن�شاط التب�شريي للإر�ساليات الأوروبية‬ ‫وخ�صو�صاً يف لبنان‪.‬‬ ‫هذه الإر�ساليات التي �أن�ش�أت املدار�س‪ ،‬كمدر�سة عينطورة عام ‪1834‬م‪ ،‬ومدار�س �أن�شئت‬ ‫على يد مب�شّ ر �أمريكي‪ ،‬ونقل مطبعة البعثة التب�شريية الأمريكية من مالطة �إىل لبنان‪.‬‬ ‫وقد �ساهمت هذه املدار�س يف التعليم وحمو الأم ّية‪ ،‬ولكن بخلفية دينية بحت‪.3‬‬ ‫‪ - 1‬عبد الكريم غرايبة‪ ،‬تاريخ العرب الحديث‪ ،‬بريوت‪ :‬األهلية للنرش ‪ ،1984‬ص ‪.80 - 79 - 78‬‬ ‫‪ - 2‬فندي أبو فخر‪ ،‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.107‬‬ ‫‪ - 3‬جورج انطونيوس‪ ،‬يقظة العرب‪ ،‬ترجمة إحسان عباس ونارص الدين األسدي‪ ،‬بريوت‪ :‬دار العلم للماليني – ط ‪،1980 ،6‬‬ ‫ص ‪.100‬‬ ‫‪118‬‬


‫فـــــكـــــر‬

‫خروج حممد علي من �سوريا وف�شل ال�سيا�سة امل�رصية‪:‬‬ ‫كان لدخول قوات حممد علي با�شا �إىل بالد ال�شام ردات فعل خمتلفة عند الدول الأوروبية‪.‬‬ ‫�إال �أنّ جممل �سيا�سة معظم هذه الدول كان عرب التخ ّوف من �سقوط بالد ال�شام بيد ق ّوة‬ ‫وبيد حاكم قوي يعرف كيف يدير احلياة ال�سيا�سية واالقت�صادية للبالد‪ ،‬وهو ما ال تريده �أوروبا‬ ‫ّ‬ ‫والتحكم ب�سيا�سة ال�شرق‪.‬‬ ‫التي تف�ضل وجود الرجل العثماين املري�ض‪،‬‬ ‫وهذا ظهر من خالل رف�ض ٍّ‬ ‫كل من بريطانيا والنم�سا ورو�سيا وتخ ّوفها من حممد علي ونهاية‬ ‫ال�سلطنة العثمانية‪ ،‬وت�أييد فرن�سا التي كانت قوية يف بالط حاكم م�صر‪.‬‬ ‫ورجالها ي�ساهمون يف تدريب اجلي�ش امل�صري وتوجيه ال�سيا�سة امل�صرية للم�صالح الفرن�سية‪.‬‬

‫‪1‬‬

‫وعلى الرغم من ذلك ف�إنّ بريطانيا والنم�سا ورو�سيا مل تتح ّرك لإيقاف تقدم اجلي�ش امل�صري‬ ‫باجتاه بالد ال�شام‪ ،‬ومل تتخذ موقفاً حا�سماً �إال بعد �أن خ�شيت من �سقوط ا�سطنبول العا�صمة‬ ‫العثمانية‪ ،‬بعد �أن ُهزمت كافة اجليو�ش العثمانية �أمام امل�صرية‪ ،‬فقامت بال�ضغط على‬ ‫حممد علي لإيقاف جي�شه‪ ،‬وعلى ال�سلطان العثماين للح�صول على االمتيازات ال�سيا�سية‬ ‫واالقت�صادية املختلفة داخل ال�سلطنة‪.‬‬

‫‪2‬‬

‫لقد تعاظم النفوذ الأوروبي داخل ال�سلطنة العثمانية �أثناء وجود حممد علي يف بالد‬ ‫ال�شام‪ ،‬حيث �أن ال�سلطان العثماين تنازل كثرياً لقاء بقائه على عر�ش ال�سلطنة وعدم‬ ‫�سقوط ا�سطنبول‪ ،‬ح ّتى �أ ّنه �سمح لرو�سيا ب�إر�سال �أ�سطولها �إىل العا�صمة العثمانية حلمايتها‬ ‫وعقد معها اتفاقاً �أعطى للقي�صر الرو�سي العديد من االمتيازات داخل ال�سلطنة وهو ما‬ ‫‪ - 1‬فندي أبو فخر‪ ،‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.123‬‬ ‫‪ - 2‬زين نورالدين زين‪ ،‬الرصاع الدويل يف الرشق األوسط‪ ،‬بريوت‪ :‬دار النهار للنرش ‪ 1971‬ص‪.25‬‬ ‫‪119‬‬


‫�أرعب بريطانيا وفرن�سا‪.‬‬

‫‪1‬‬

‫وكان لكل اتفاق �أو امتياز يعقده ال�سلطان مع دولة من هذه الدول‪ ،‬حت�صل الدولة الثانية‬ ‫على امتيازات مماثلة‪ ،‬وهكذا ا�ستطاعت الدول الأوروبية حتقيق ما عجزت عنه طوال �سنوات‬ ‫�سابقة‪ ،‬لت�صبح ال�سلطنة العثمانية �أ�سرية ال�سيا�سات الأوروبية‪ ،‬ولي�صبح اقت�صادها تابعاً‬ ‫ومرتبطاً باالقت�صاد وال�سيا�سة الأوروبيني‪.‬‬ ‫لذلك كانت االتفاقيات كافة التي تعقد بني حممد علي وال�سلطان تف�شل طاملا �أوروبا قادرة‬ ‫على حتقيق م�صاحلها من خالل احلرب واالحتالل وال�صراع بني القاهرة وا�سطنبول‪.‬‬ ‫وبعد �أن ح�صلت هذه الدول على غاياتها‪ ،‬ومع فرار الأ�سطول العثماين وانتقاله �إىل م�صر‪،‬‬ ‫�شعرت �أوروبا بخطورة بقاء حممد علي يف بالد ال�شام وعلى مقربة من العا�صمة العثمانية‪،‬‬ ‫‪2‬‬ ‫فكانت اتفاقية لندن ‪ 5‬متوز ‪.1840‬‬ ‫�ضد فرن�سا‬ ‫لقد كانت اتفاقية لندن التي �سعى �إليها باملر�ستون رئي�س وزراء بريطانيا موجهة ّ‬ ‫وحممد علي وحرية ال�شعوب العربية كافّة‪ ،‬وح ّتى الأتراك‪ ،‬للتحكم مبقدرات البالد العربية‬ ‫‪3‬‬ ‫والرتكية االقت�صادية‪ ،‬ولفرتة زمنية طويلة مل تنته �إىل اليوم‪.‬‬ ‫وهي خطوة يف طريق اال�ستعمار الأوروبي لبالدنا‪ ،‬خ�صو�صاً مع �أهم ّية ٍّ‬ ‫كل من �سوريا وم�صر‬ ‫على الطريق التجاري مع الهند عرب البحر الأحمر واخلليج العربي‪.‬‬ ‫لذلك �سعت بريطانيا �إىل �إنهاء حكم حممد علي على �سوريا وتطويقه داخل م�صر و�إخ�ضاع‬ ‫‪ - 1‬فندي ابو فخر‪ ،‬سوريا والرصاعات الدولية‪ ،‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.139‬‬ ‫‪ - 2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.186 - 184‬‬ ‫‪ - 3‬عمر عبد العزيز عمر‪ ،‬دراسات يف تاريخ العرب الحديث واملعارص‪ ،‬بريوت‪ :‬دار النهضة العربية‪ ،1975 ،‬ص ‪.181‬‬ ‫‪120‬‬


‫فـــــكـــــر‬

‫اقت�صاد املنطقة �إىل نفوذها‪ ،‬و�إن كان بال�شراكة مع فرن�سا يف بع�ض احلاالت‪.‬‬ ‫فمحمد علي كان يريد �أن يكون �شريكاً يف جتارة �أوروبا‪ ،‬ويف نهب موارد بالد ال�شام‪.‬‬ ‫وهذا ما لن تر�ضاه بريطانيا‪ ،‬لذلك كانت معاهدة لندن ا ّلتي ق ّوت هيمنة القنا�صل والتجار‬ ‫الأوروبيني على ال�شرق العربي‪ 1.‬لذا �سارعت بريطانيا �إىل �إنهاء حالة حممد علي با�شا يف‬ ‫�سوريا وفر�ضت عليه اتفاقية �أخ�ضعت من خاللها اقت�صاد دولته لهيمنة الدول الأوروبية‬ ‫وملراقبتها حتى داخل م�صر نف�سها‪.‬‬ ‫وكانت هذه اخلطوة هي الأوىل على طريق �إخ�ضاع م�صر بالكامل عام ‪1881‬م و�إ�سقاط ثورة‬ ‫�أحمد عرابي ومن معه فيما بعد‪ ،‬وا�ستمرار حكم �أبناء حممد علي و�أحفاده حتى �سقوط‬ ‫امللك فاروق عام ‪ 1953‬و�إعالن اجلمهورية‪.‬‬

‫‪ - 1‬فندي أبو فخر‪ ،‬سورية والرصاعات الدولية‪ ،‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.190‬‬ ‫‪121‬‬


‫امل�صادر واملراجع‬ ‫‪� - 1‬أ�سد ر�ستم‪ ،‬الأ�صول العربية لتاريخ �سورية يف عهد حممد علي‪ ،‬بريوت‪ :‬اجلامعة‬ ‫الأمريكية‪ 1934 - 1930 ،‬ج‪.3‬‬ ‫‪ - 2‬جورج انطونيو�س‪ ،‬يقظة العرب‪ ،‬ترجمة �إح�سان عبا�س ونا�صر الدين الأ�سدي‪ ،‬بريوت‪:‬‬ ‫دار العلم للماليني – ط ‪.1980 ،6‬‬ ‫‪ - 3‬زين نورالدين زين‪ ،‬ال�صراع الدويل يف ال�شرق الأو�سط‪ ،‬بريوت‪ :‬دار النهار للن�شر ‪.1971‬‬ ‫‪ - 4‬طنو�س ال�شدياق‪� ،‬أخبار الأعيان‪ ،‬بريوت‪.1959 :‬‬ ‫‪ - 5‬عبدالرحمن الرافعي‪ ،‬ع�صر حممد علي‪ ،‬القاهرة‪.1947 :‬‬ ‫‪ - 6‬عبد الكرمي غرايبة‪ ،‬تاريخ العرب احلديث‪ ،‬بريوت‪ :‬الأهلية للن�شر ‪.1984‬‬ ‫‪ - 7‬عمر عبد العزيز عمر‪ ،‬درا�سات يف تاريخ العرب احلديث واملعا�صر‪ ،‬بريوت‪ :‬دار النه�ضة‬ ‫العربية‪.1975 ،‬‬ ‫‪ - 8‬فندي �أبو فخر‪� ،‬سوريا وال�صراعات الدولية‪� ،‬سورية‪ :‬دار احل�صار‪ ،‬ط‪.2000 ،1‬‬ ‫‪ - 9‬فيليب حتي‪ ،‬تاريخ �سورية ولبنان وفل�سطني‪ ،‬ترجمة كمال اليازجي‪ ،‬بريوت‪ :‬دار الثقافة‪،‬‬ ‫‪ ،1959‬ج‪.2‬‬ ‫‪ -10‬ليلى �صباغ‪ ،‬تاريخ العرب احلديث واملعا�صر‪ ،‬دم�شق‪ :‬مطبعة ابن حيان‪.1982 - 1981 ،‬‬

‫‪122‬‬


‫د‪� .‬إكرام علي قا�سم ‪ -‬باحثة يف الأدب‬

‫بد�أت تبا�شري احلداثة العربية يف الأدب مع التطلعات الأوىل النتزاع التعبري من �أ�سر املطلق‬ ‫والنظر �إليه كفاعلية تاريخية‪ .‬فالنظر التقليدي �إىل التعبري ال�شعري‪ ،‬يجعله الزمانياً وال تاريخياً‪.‬‬ ‫من هنا الإحلاح على �إنقاذ ما ي�شكل القيم الأ�سا�سية من براثن الزمن‪ .‬هكذا ف�إن ارتباط اللغة‬ ‫العربية بالقر�آن الكرمي �أوجب جتريدها و�إدخالها يف م�ستوى الدهر والأبدي و�إنقاذها من الزمن‬ ‫التاريخي(‪.)1‬‬ ‫الدهر فال دور للإن�سان يف تكييفه؛ دور الإن�سان حم�صور يف الزمن‬ ‫والتاريخ �إن�ساين‪� ،‬أما ّ‬ ‫التاريخي‪.‬‬ ‫لذا �إن هذه العربية ُبنيت على �أ�صل �سحري يجعل �شبابها خالداً عليها فال تهرم وال متوت‪،‬‬ ‫لأنها �أعدت من الأزل فلكاً دائراً للنريين الأر�ضيني‪ :‬كتاب اهلل و�سنة ر�سول اهلل �صلى اهلل‬ ‫عليه و�س ّلم‪ ،‬ومن ثم كانت فيها قوة عجيبة من اال�ستهواء ك�أنها �أخذة ال�سحر‪ ،‬ال ميلك معها‬ ‫البليغ �أن ي�أخذ ويدع(‪ ،)2‬ف�أ�صبح العربي ي�سكن لغته‪ ،‬و�إنها يف الواعية‪ ،‬اجل�سد الوالدي‪،‬‬ ‫ال الأر�ض كما كانت احلال لدى �شعوب ما بني النهرين القدماء‪ ،‬ولدى بع�ض ال�شعراء‬ ‫مي�س مبا ارتبط بها من �أ�شكال‪ ،‬ي�شكل �صدمة ويثري ردود‬ ‫املعا�صرين‪ .‬لذلك ف�إن كل تطور ّ‬ ‫فعل عنيفة(‪.)3‬‬ ‫‪ -1‬خالدة سعيد‪ ،‬حركية اإلبداع‪ ،‬دراسات يف األدب العريب الحديث‪ ،‬دار العودة بريوت‪ ،‬ص ‪.10 – 9‬‬ ‫‪ -2‬مصطفى صادق الرافعي‪ ،‬تحت راية القرآن‪ ،‬القاهرة‪ ،‬طبعة ‪ ،1963‬ص ‪.29‬‬ ‫‪ -3‬خالدة سعيد‪ ،‬حركية اإلبداع‪ ،‬ص ‪.11‬‬ ‫‪123‬‬

‫�أدب‬

‫الإبداع حركة جدلية �رصاع اللغة والاللغة‬


‫لأن الإبداع هو رف�ض التفكري‪ ،‬وهذا الرف�ض يعني �إعادة االعتبار للإبداعية الإن�سانية والنظر‬ ‫�إىل الإبداع على �أنه فاعلية �أ�سا�سية‪ .‬من هنا �إن كل عمل �إبداعي باملعنى العميق واحلديث‬ ‫هو حماولة بداية‪ ،‬لأن اللغة العربية ت�ؤكد على الرتادف بني البدء والإبداع؛ فلو �أخذنا مادة‬ ‫بدع من معجم "مقايي�س اللغة" لأحمد بن فار�س بن زكريا لوجدنا‪" :‬الباء والدال والعني‬ ‫�أ�صالن‪� :‬أحدهما ابتداء(‪ )1‬ال�شيء و�ضعه ال عن مثال‪ ،‬والآخر االنقطاع والكالل‪ .‬فالأول‬ ‫قولهم �أبدعت ال�شيء قو ًال �أو فعله‪� ،‬إذا ابتد�أته ال عن �سابق مثال"(‪.)2‬‬ ‫والإبداع انطالقاً هو نتيجة تعار�ض وانقطاع بني الواقع القائم وطموح الذات (الفردية‬ ‫واجلماعية) �إىل واقع غري حمقق‪ .‬لذلك‪ ،‬ف�إن كل تعبري فني هو حركة توتر بني راهن وحمتمل‪،‬‬ ‫بني قدمي وجديد‪ .‬لكن‪ ،‬ما دام العمل الفني ح�صيلة التفاعل بني امل�شروع الأ�سا�سي للقول‬ ‫(�أي طموح املبدع �إىل التمو�ضع يف �شكل تعبريي قابل لالت�صال مع بقائه بدءاً) (‪.)3‬‬ ‫وبني املادة التاريخية (اللغة من حيث هي موروث فكري فني) ف�إنه ال يحقق طموحه �إىل البدء‬ ‫من عدم وينتهي �إىل �إنتاج عالقة جديدة‪� ،‬صيغة جديدة تتجاوز النماذج امل�ألوفة‪ .‬لأن م�شروع‬ ‫املبدع هو التفرد‪ ،‬لكن حتقيق التفرد يبقى نظرية‪� ،‬إذ مبجرد �أن يتحقق تنتفي �إمكانية التوا�صل‪،‬‬ ‫يخرج من اللغة‪ ،‬وال ّبد من حماولة التفرد عرب اللغة امل�شرتكة‪ .‬واللغة قوانني و�أ�صول وتراث‬ ‫ثقايف يحمل موقفاً من الكون ويعك�س عالقات �إن�سانية مع ّينة وت�صنيفاً للأ�شياء‪ .‬لذلك ف�إن‬ ‫الإبداع معركة داخل �ساحة اللغة واملوروث‪ ،‬حماولة تتوقف‪� .‬إ ّنها عذاب املبدع‪ ،‬لكنها غزا�ؤه‪.‬‬ ‫هي تاريخه اخلا�ص يف الإبداع‪ .‬واملبدع هو البطل امل�أ�ساوي الذي ي�سابق هذا القدر‪ .‬هذه‬ ‫املجابهة هي التي ت�شكل حركة ومنواً داخل اللغة‪ -‬الثقافة اجلماعية‪.‬‬ ‫لأنّ املجددين هم الذين يهيئون للرتاث اال�ستمرار واحليوية‪� ،‬إال �أولئك الذين يحنطونه‬ ‫‪ -1‬م‪ .‬ن‪ ،‬ص ‪.13 - 12‬‬ ‫‪ -2‬معجم مقاييس اللغة‪ ،‬الجزء األول‪ ،‬ص ‪ ،209‬مادة "بدع"‪.‬‬ ‫‪ -3‬خالدة سعيد‪ ،‬حركة اإلبداع‪ ،‬دراسات يف األدب العريب الحديث‪ ،‬دار العودة‪ -‬بريوت‪ ،‬ص ‪.13‬‬ ‫‪124‬‬


‫�أدب‬

‫بالتكرار والتقليدي فيحكمون عليه بالعقم(‪.)1‬‬ ‫لأن �أجمل الأ�شياء و�أنبل العواطف و�أعظم املواقف ال ت�شكل �أثراً فنياً �إذا نقلت نق ًال‪ ،‬فالفن‬ ‫هو �إبداع عالقة لل�صورة احللمية للإن�سان ملحاورة العامل‪ .‬فلن�أخذ مثا ًال ق�صيدة �أدوني�س "�صقر‬ ‫قري�ش" تكمن يف ابتداع حالة التداخل بني �صقر قري�ش التاريخي و�شاعر عربي يف القرن‬ ‫الع�شرين غارق يف هواج�س ع�صره(‪.)2‬‬ ‫فيحمل‬ ‫ومند ال�شاعر حممود دروي�ش يف ق�صيدته "�سرحان ي�شرب القهوة يف الكافترييا"(‪ِّ .)3‬‬ ‫ال�شاعر هذه ال�شخ�صية هواج�س �شعب ويجعلها �شاهداً على ما يف عامله من تناق�ضات‬ ‫و�صدوع وما يبطن هذا ك ّله من حنني و�أ�شواق وح�سرات‪ ،‬وما يخرتق اللحظات من ر�ؤى‪،‬‬ ‫لأن اللغة الك�شف هي التي ت�ضيء التجربة التاريخية للجماعة‪ ،‬تطرح الأ�سئلة‪ ،‬تبتكر الرموز‬ ‫وت�ست�شرف امل�ستقبل(‪.)4‬‬ ‫وتتبلور الر�ؤى جلية يف �آثار جربان‪ ،‬من خالل قراءته غوام�ض الأمواج يف ع�صره ووعى ذلك‬ ‫"اجلوع الغريب‪ ،‬الذي يكاد يكون دينياً" والذي �سيكون "احللقة املتوهجة ما بني �إن�سان‬ ‫اليوم و�سوبرمان الغد"(‪.)5‬‬ ‫هذا الإن�سان ذو القامة الكونية‪ ،‬املتوهج بالألوهة‪� ،‬إن�سان احللم وال�سفر والتطلعات‪ ،‬هو كذلك‬ ‫�إن�سان الإبداع‪.‬‬ ‫الإبداع يف نظر جربان هو الذي ي�شكل مغامرة الإن�سان مع املجهول واملده�ش واخلارق‪� .‬أهمية‬ ‫هذا التيار اجلرباين �أنه انبج�س و�سط الركود واملفاهيم ال�سلفية التي ر�أت النموذج الأمثل‬ ‫‪ -1‬م‪ .‬ن‪ ،‬ص ‪.14‬‬ ‫‪ -2‬قصيدة الصقر‪ ،‬من كتاب التحوالت والهجرة يف أقاليم النهار والليل‪.‬‬ ‫‪ -3‬من مجموعة "أحبك أو ال أحبك"‪.‬‬ ‫‪ -4‬خالدة سعيدة‪ ،‬حركية اإلبداع‪ ،‬دراسات يف األدب العريب الحديث‪ ،‬ص ‪.18 – 16‬‬ ‫‪ -5‬م‪ .‬ن‪ ،‬ص ‪.37 – 36‬‬ ‫‪125‬‬


‫يهدم قد�سية النماذح املا�ضية‪ ،‬لأن‬ ‫قائماً يف املا�ضي‪ .‬هكذا كان ال بد للتيار اجلرباين من �أن ّ‬ ‫الإن�سان يف ر�ؤيا جربان �إن�سان �إبداع وتنوع ال �إن�سان تكرار‪� ،‬إن�سان حركة ال �سكون‪ ،‬ومن هنا‬ ‫كان املجنون هو البطل اجلرباين بامتياز‪.‬‬ ‫فاملجنون هو "املختلف"‪ ،‬هو �إن�سان اخليال الذي يناق�ض �إن�سان الذاكرة‪ ،‬هو الفو�ضى و�سط‬ ‫النظام‪ ،‬ويرغم اللغة املتكل�سة على احلياة‪� ،‬إنه االخرتاع الدائم‪ ،‬لأنه امللل القلق الذي‬ ‫يقتل ال�صرب والتقليدي‪ ،‬فتك�شف ر�ؤياه �صورة عامل مدفوع بال�شوق‪ ،‬بالعط�ش �إىل الك�شف‬ ‫والإبداع‪ّ .‬‬ ‫وتخطي الذات والعناق‪ ،‬و�أطياف عامل عربي النهائي يف الروح(‪.)1‬‬ ‫�رصع اللغة والاللغة(‪.)2‬‬ ‫ما طبيعة ال�رصاع بني اللغة والاللغة �أو بني الك�شف وال�صمت؟‬

‫�صراع اللغة والاللغة جنده متلألئاً يف ف�ضاء كتابات �أن�سي احلاج �إنها املخا�ض الذي ال ينتهي‪،‬‬ ‫�أو بح�سب تعبري بول ريكري ‪" Paul Riceur‬م�شروع تدمري للذات"(‪ .)3‬هو �صراع مت�أزم بني‬ ‫الك�شف والتمويه‪ ،‬ففي جمموعاته ير�سم التجربة ال�شعرية‪ ،‬فالق�صيدة تبدو عذاباً �أكرث مما تبدو‬ ‫خال�صاً‪ ،‬ويف جمموعته "ماذا �صنعت بالذهب‪ ،‬ماذا فعلت بالوردة"‪.‬‬ ‫يبدو هذا ال�صراع بني اللغة والاللغة عنيف لأنه يقدم بني دافعني متعاديل القوة‪ ،‬وهذا ما‬ ‫�شحن �شعر �أن�سي احلاج بالنزق والتمزق والتوتر؛ وكان من نتيجة هذا ال�صراع ما �سميته منذ‬ ‫ع�شر �سنوات‪ ،‬يوم �صدور "لن" باللعثمة‪ .‬هذه "اللعثمة" التي حجبت �شعره ال�سابق عن‬ ‫عامة الق ّراء الذين اعتادوا الفكرة املقولبة املكب�سلة‪ ،‬هي نف�سها جعلت له يف نظر ق ّرائه جاذبية‬ ‫حد قول فرويد �إنّ يف الذات دافعني حمركني‪ :‬دافع احلياة‪ ،‬ودافع املوت‪ .‬ويرى‬ ‫خا�صة‪ .‬وعلى ّ‬ ‫‪ - 1‬خالدة سعيدة‪ ،‬حركية اإلبداع‪ ،‬دراسات يف األدب العريب الحديث‪ ،‬ص ‪.40 – 39 – 38‬‬ ‫‪ - 2‬مجموعة أنيس الحاج‪" :‬ماذا صنعت بالذهب‪ ،‬ماذا فعلت بالوردة"‪.‬‬ ‫‪ - 3‬خالدة سعيدة‪ ،‬حركية اإلبداع‪ ،‬دراسات يف األدب العريب الحديث‪ ،‬ص ‪.79‬‬ ‫‪126‬‬


‫�أدب‬

‫�أن كل حياة ت�سري نحو املوت‪ ،‬ح ّتى ك�أن املوت هو هدف احلياة‪ .‬لكن احلياة ال تتجه نحو‬ ‫املوت بهذا االنقياد ال�سهل‪ .‬فهي تقاوم املوت بااليرو�س �أو اجلن�سية‪.‬‬ ‫اجلن�سية التي هي دافع احلياة‪ ،‬تتمتاز "بال�صخب" والنزوع اىل احلياة �أو اجلن�سية لي�ست قوة‬ ‫كامنة يف الإن�سان كنوع من �إرادة احلياة‪ ،‬بل تتجلى يف البحث عن الآخر‪ ،‬يف االندفاع نحو‬ ‫الآخر (�أي اجلن�س الآخر)‪ ،‬ويف هذه احلركة �أو يف الآخر تتفوق احلياة على املوت‪ ،‬لأن املوت‬ ‫هو الوحدة(‪.)1‬‬ ‫والتحرك نحو الآخر يعني التوا�صل ومن ثم اللغة‪ .‬لأن الوحدة تعني املوت وبالتايل ال�صمت‬ ‫�أو الاللغة‪ .‬وقد بدا وا�ضحاً منذ ق�صائد �أن�سي احلاج الأوىل او م�شكلته الكربى هو يف‬ ‫التوا�صل‪ ،‬يف الو�صول �إىل الآخر‪ .‬لكن كان وا�ضحاً �أن هذا التوا�صل يبقى كحلم‪ ،‬ك�أمل‬ ‫وا ٍه‪ ،‬رمبا �شبه م�ستحيل‪ ،‬و�أ ّنه حمكوم على ال�شاعر بالوحدة وباللغة العاجزة التي ال ت�صل‪� ،‬أي‬ ‫باملوت‪ .‬يقول بول ريكري ‪� ،Paul Riceur‬شارحاً فرويد‪" :‬ين�شط الدافع اجلن�سي حيثما كان‬ ‫دافع املوت نا�شطاً" وهذا ما يجعل �شعر �أن�سي احلاج ال�سابق م�شرحاً ل�صداع املوت واحلياة‪،‬‬ ‫من هنا كانت اللوعة التي تظهر ال�شاعر مت�أرجحاً م�شدوداً �أبداً بني حافتني‪ ،‬ال يهبط من قب�ضة‬ ‫ال�صمت والي�أ�س في�سكن‪ ،‬وال ي�صل الآخر فتنت�صر بذلك احلياة‪ .‬يقول �أن�سي يف "لن"‪:‬‬ ‫"�أرخيتني يا ق�شة البحر الوحيدة‪ ،‬مل ترخيني‪"...‬‬

‫(‪)2‬‬

‫وكان من �أثر هذه اللوعة‪ ،‬هذا ال�صراع بني اللغة والاللغة‪� ،‬أن اّ ً‬ ‫كل من الدافعني جل�أ �إىل حيل‬ ‫غريبة معذبة‪ ،‬هذا وجدناه يراوح بني اال�ستبطان الذاتي وا�ستنطاق الروا�سب الالواعية‪ ،‬وبني‬ ‫يف�سر لغته ال�شعرية‬ ‫ا�ستق�صاء �إمكانات النفي والهدم على ال�صعيد التعبريي خا�صة‪ .‬ما ّ‬ ‫التي كانت حتى املجموعة الأخرية عارية عن املح�سنات اجلمالية‪ .‬ويف حمى مقاومة دافع‬ ‫املوت ال�صامت يرتك نف�سه يف ما ي�شبه الكتابة االتوماتيكية �أو الهذيان‪ -‬لتيار الكلمات ذات‬ ‫‪ - 1‬خالدة سعيدة‪ ،‬حركية اإلبداع‪ ،‬دراسات يف األدب العريب الحديث‪ ،‬ص ‪.80 – 79‬‬ ‫‪- 2‬م‪ .‬ن‪ ،‬ص ‪.81 – 80‬‬ ‫‪127‬‬


‫التوالد الذاتي‪ ،‬فتبدو الق�صيدة �أ�شبه بربكان (من حيث م�سار احلركة ال من حيث درجة‬ ‫القوة)‪ ،‬لكن ما �إن بد�أت احلمم يف االنطالق حتى بوغتت و�أوقفت‪ ،‬يف املرحلة الأوىل من‬ ‫االنفجار‪ ،‬لكنها احتفظت مع ذلك بالزخم الذي ين�صرف فلم يتباط�أ �أو يربد‪ .‬فخلقت نوعاً‬ ‫من ح�سرة الالو�صول املعذب(‪.)1‬‬ ‫هذا ما يجعل لعبارة �أن�سي احلاج يف �آثاره ال�سابقة تلك البنية اخلا�صة‪ ،‬فهي دوماً بداية‪،‬‬ ‫م�شروع‪ ،‬مد مقاطع‪ ،‬يحرم القارئ ن�شوة املعني يف ال�شوط حتى النهاية‪ .‬ففي قوله‪" :‬تنزاح‬ ‫�أغ�صاين لأكون �شعلتك املهجورة ههنا ا�شعلت املوكب امليت‪ ...‬ا�ستحم على ذروتي وحافياً‬ ‫ت�ضمني ب�سري‪� .‬ساحر يورق يف املاء‪� ،‬ساحر ي�ستجوب احلرية‪� ،‬ساحر يذهل احلنني‪� ،‬ساحر‬ ‫مير‪� ...‬أ�سري فيك‪� ،‬أ�سري فيك‪� ...‬أنا اجللو�س اتلفظ �أفكار الدوار‪ ...‬من احليل التي جل�أ �إليها‬ ‫دافع احلياة يف �صراعه مع دافع املوت‪ ،‬حماولة الت�سرب من طبقات �أكرث �إغراقاً يف اجلن�سية‪.‬‬ ‫هكذا ر�أيناه يرجع يف بع�ض �صوره �إىل البدائية‪� ،‬إىل الزمن ما قبل الإن�ساين فيقول يف "ما�ضي‬ ‫الأيام الآتية"‪�" :‬أتودد �إليك يف �أ�شكال زواحف خال�صة النية‪ /‬وال �أريد منك غري الإح�سا�س‬ ‫بحبي‪ /‬و�أنا �أعانق جميع ما فيك من �أوبئة"‪ .‬هذا يذكر مبغامرة "مالدورو للوتريامون و�إن كان‬ ‫�أن�سي احلاج مل يبلغ ما بلغه لوتريامون من نقل حلمه احليواين �إىل �ساحة الواقع‪ ،‬بل بقي يف‬ ‫جمال املقارنة والت�شبيه‪.‬‬ ‫وكما يلج�أ دافع احلياة �إىل احليلة واملداورة‪ ،‬يلج�أ دافع املوت �إىل مثل ذلك و�إن كان �صامتاً‬ ‫�سلبياً‪ ،‬و�إذا كانت احلركة يف اجتاه املر�أة هي احلياة ف�إن املوت يعرف �أن ي�سكن املر�أة‪� .‬أمل تكن‬ ‫املر�أة بدي ًال للموت �أو قرينة له يف �آثار كبار املبدعني‪ :‬عند هومريو�س يف الإلياذة‪ ،‬و�سوفوكل‬ ‫يف "�أوديب ملكاً" و�شك�سبري يف "امللك لري" ويف "عطيل" ويف "هاملت"‪ ،‬وعند ال�شعراء‬ ‫(‪)2‬‬ ‫العذريني‪ ،‬بل ويف حكايات �ألف ليلة وليلة؟‬ ‫‪ - 1‬م‪ .‬ن‪ ،‬ص ‪.81‬‬ ‫‪ -2‬خالدة سعيد‪ ،‬حركية اإلبداع‪ ،‬دراسات يف دراسات الشعر العريب‪ ،‬دار العودة بريوت‪ ،‬ص ‪.82‬‬ ‫‪128‬‬


‫�أدب‬

‫املوت هو الوجه الثالث للمر�أة باعتبار �أن الأمومة وجهها الأول واحلب وجهها الثاين واملوت‬ ‫�أو العودة �إىل رحم الأر�ض وجهها الثالث‪ .‬هذا ال�صراع بني دافعي املوت واحلياة‪ ،‬وال�صمت‬ ‫والكالم‪ ،‬و�صل ب�شعر �أن�سي احلاج �إىل موقع لغوي خا�ص‪ ،‬هو املوقع الذي يتداخل فيه‬ ‫الك�شف والتمويه‪ ،‬هو املوقع الذي يلتقى‪ ،‬ح�سب ت�صوره‪ ،‬مبنابع اللغة‪.‬‬ ‫فكيف يبدو لنا �شعر �أن�سي احلاج يف "ماذا �صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة"؟‬ ‫�أول ما يلفت قارئ �أن�سي احلاج يف هذه املجموعة غنائيتها ونزعة الإف�صاح فيها‪ .‬بها يخاطب‬ ‫ال�شاعر املر�أة يف مكا�شفة واثقة و�إن كانت عنيفة تقل فيها العبارات املخنوقة باللوعة‪ ،‬وتغلب‬ ‫عليها الطالقة‪ ،‬بل والعذوبة‪.‬‬ ‫لذا انطالقة �أن�سي احلاج تبد�أ من التجربة يف مرحلتها احللمية حيث تقف الدوافع الغريزية‬ ‫وجهاً لوجه مع معركة ال�صمت‪ -‬الكالم‪ ،‬تلك املعركة التي هي منبع الرمز والإملاح عند‬ ‫الإن�سان‪ ،‬وم�صدر اللوعة واللعثمة يف ال�شعر وكل �أثر فني وهيام ديني ويتجلى اغرتاب �شعر‬ ‫�أن�سي احلاج يف هذه املجموعة باقرتابه من "�شعر املر�أة" وتباعده عن �شعر احلب‪ ،‬والفارق‬ ‫كبري بني االثنني‪ ،‬لأن �شعر احلب بعامة‪ ،‬وعند �أن�سي احلاج بالذات‪ ،‬هو يف �أبرز خ�صائ�صه‪،‬‬ ‫ذلك العذاب الأزيل للخروج من الذات و�إ�صابة الآخر والتحقق يف الآخر‪.‬‬ ‫�أما �شعر املر�أة‪ ،‬الذي ميتاز خا�صة بو�صف احلبيبة (حقيقية كانت �أم مثالية فيدخل نطاق‬ ‫الغزل)‪.‬‬ ‫ومهما جاء هذا الو�صف بارعاً �أو طريفاً فال ميكن �أن ُيغني جتربة �أن�سي احلاج‪ ،‬يقول يف ق�صيدة‬ ‫"ماذا �صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة"(‪.)1‬‬ ‫"جميلة كمع�صية وجميلة‬ ‫كجميلة عارية يف مر�آة‬ ‫‪ -1‬خالدة سعيدة‪ ،‬حركية اإلبداع‪ ،‬ص ‪.83‬‬ ‫‪129‬‬


‫وك�أمرية �شاردة وخممرة يف الكرم"‬ ‫ثم "جميلة كمركب وحيد يقدم نف�سه"‬ ‫ك�سرير �أجده فيذكرين �سريراً ن�سيته‬ ‫جميلة كنبوءة تر�سل �إىل املا�ضي‬ ‫كغمر الأغنية‬ ‫جميلة ك�أزهار حتت ندى العينني‪"...‬‬ ‫يف مثل هذه الواحات اجلمالية ت�سرتيح �شاعرية �أن�سي احلاج‪ ،‬وهي كرثة يف املجموعة الأخرية‪.‬‬ ‫ويف مثل هذه الواحات بل حتى يف املقاطع التي تك�شف عن �أبعاد جتربته جنده ي�صل بالعبارة‬ ‫ال�شعرية �إىل نهاية ال�شرط عابراً امل�سافة كلها بني النار والرماد‪ ،‬بني اللوعة وراحة ما بعد‬ ‫ال�صراخ‪:‬‬ ‫كان �صوتك ه�ضبة تغطيها املياه‬ ‫وكانت مراكبنا �سوداً‬ ‫�أرا�ضينا بوراً‬ ‫�شموعنا �صخوراً‬ ‫"‪ ...‬وكنا نحفظ الأوراق لنحفظ‬ ‫ونعبد الآثار لنعبد‬ ‫ونخبئ لنخ ّبئ"‪،‬‬ ‫حتى جئت‬ ‫‪130‬‬


‫�أدب‬

‫فلم ننظر �إىل ما كان غري نظرة!‬

‫(‪)1‬‬

‫وملا البحار ت�شققت‪ /‬و�ش َّع ِ‬ ‫�صوتك‬ ‫هوينا �إليه كمياه‬ ‫�صرت املياه‪� /‬صرت املطر‬ ‫ونزل الوقت‬ ‫نزول الرعاة من اله�ضبة"‬

‫(‪)2‬‬

‫فكيف بعد مغامرة الوقوف على احلافة امل�سنونة بني اللغة والاللغة وبعد �سحب �أوراق الظهور‬ ‫بعد هذه "االدغالية" ال�صميمية‪ ،‬جتيء املكا�شفة واللغة التي ال ت�أنف من لهجة امللك �سليمان‬ ‫دون �أن تدخل هذه اللهجة �إدخا ًال �سمفونياً يذوبها يف لهجة ال�شاعر الإجمالية‪ .‬وكيف بعد‬ ‫العري تلب�س �شاعريته تعابري ذات خ�صائ�ص غنائية م�سبقة �أو جاهزة وبالتايل م�ستنفدة‪،‬‬ ‫كالوردة والذهب‪ ،‬الأمرية‪ ،‬جميلة عارية‪ ،‬قمر‪� ،‬أزهار‪ ،‬ندى‪ ...‬ف� ً‬ ‫ضال عن اعتماده الت�سبيه‬ ‫بكرثة وجلوئه �إىل التكرار الغنائي‪ .‬وكيف تتحول بنية عباراته فت�صري طويلة م�سرتيحة وا�ضحة‬ ‫بعد �أن كانت مزقة مقطوعة متمنعة ومباغته؟ هل تراجع دافع املوت �أمام �سطوة االيرو�سية �أو‬ ‫دافع احلياة ونزعتها ال�صاخبة املعربة‪ ،‬فكان �أن ا�سرتاح دافع احلياة من ا�ستق�صاءاته وعذاباته‬ ‫وخرج من مطهر ال�صمت �إىل فردو�س املطارحة؟ مع ذلك ف�إن يف هذه املجموعة ما يدفعني‬ ‫اىل القول �إنها خلطة ا�سرتاحة تنتقم من �صمت ال�سنني(‪.)3‬‬ ‫ن�صل من هذا اىل نتيجة وا�ضحة‪ ،‬هي �أن ال�شعر ال يعرف اال�ستقرار وال ميكن �أن ي�سرتيح‬ ‫حد معني‪ ،‬و�أن ال�شاعر هو الرائي �أو الرائد الذي ي�ضيء ويوحي ويك�شف‪ ،‬ويرتك‬ ‫عند ٍّ‬ ‫‪ - 1‬خالدة سعيدة‪ ،‬حركية اإلبداع‪ ،‬ص ‪.4 – 83‬‬ ‫‪ - 2‬م‪ .‬ن‪ ،‬ص ‪.85‬‬ ‫‪ -3‬خالدة سعيدة‪ ،‬حركية اإلبداع‪ ،‬ص ‪.85‬‬ ‫‪131‬‬


‫امليدان جليو�ش العلم والفل�سفة والأخالق والدول وال�سيا�سة والزخرفة‪ ،‬وك ّلما ا ّت�سمت هذه‬ ‫الفاعليات بالتط ّلع ال�شعري �أي ك َّلما جاءت خارقة �شبيهة باخليال كانت �أروع و�أعظم‪...‬‬ ‫تقدم من قول عن عالقة الفل�سفة والعلم بال�شعر �شاعرية ال�شاعر �أدوني�س‬ ‫وخري مثال على ما ّ‬ ‫الذي ي�أخذ القارئ �إىل احلرية‪� ،‬أي طريق ي�سلك �أهي طريق الذاتي �أم طريق املو�ضوعي؟ هل‬ ‫الق�صيدة ق�صيدة حب �أم ق�صيدة ثورة؟‬ ‫ففي ق�صيدته "قتلوه‪ ...‬ال لني �أحدث عن موت �صديقي"؟‬ ‫هل نحن حتت �سقف واملنطق �أم يف ف�ضاء الالمعقول؟ هل نحن يف عامل الوعي �أم يف عامل‬ ‫الالوعي؟ من هذه امل�سائل يظهر مفهوم اجلمال والقيم اجلمالية‪ ،‬ومعنى التجديد واحلدود‬ ‫التي ينبغي �أن يقف عندها التجديد‪ ،‬ودور ال�شاعر‪ ،‬وم�س�ألة الغمو‪� -‬ض‪ ،‬والعالقة بني ال�شاعر‬ ‫والقارئ‪ .‬نت�ساءل هنا ما دور الفل�سفة والعلم يف كينونة ال�شعر؟‬ ‫بعد الك�شوف ال�شعرية جتيء الفل�سفة لتف�سر وتنظم‪ ،‬ويجيء العلم ليك�شف النوامي�س ويطبق‪،‬‬ ‫ليف�سر تف�سريه وير�سم الطقو�س وينظم العالقات‪ .‬فقبل فرويد غزا دانتي‪ ،‬عامل‬ ‫ويجيء الدين ِّ‬ ‫الالوعي‪ ،‬وبتعبري �آخر‪ ،‬يف كل فيل�سوف �شاعر‪ ،‬ويف كل �شاعر ويف كل بني �أو قدي�س �شاعر‪،‬‬ ‫ويف كل قائد لل�شعوب �شاعر‪ .‬و�إذا كان ال بد للفيل�سوف‪ ،‬والعامل‪ ،‬والنبي‪ ،‬والقائد من ال�شعر‪،‬‬ ‫ف�إن ال�شاعر متى �أدخل الفل�سفة‪� ،‬أو العلم‪� ،‬أو التعليم الأخالقي‪� ،‬أو الديني‪� ،‬أو ال�سيا�سي يف‬ ‫ال�شعر ف�سد �شعره(‪.)1‬‬ ‫فعلى ال�شاعر �أن يظل �سابقاً ليظل �شاعراً‪ .‬ف�إذا �سبقته الفل�سفة �أو �سبقه العلم �صار وا�ضعاً ال‬ ‫واجلدة‪ ،‬والنمو‪ ،‬واحلركة الروحية‪� .‬أظن هذا ما عناه‬ ‫�شاعراً بهذا يبقى ال�شعر مرادفاً للإبداع‪ّ ،‬‬ ‫�أدوني�س يف حديث له‪" :‬الفاعلية ال�شعرية متجهة �إىل امل�ستقبل ال �إىل املا�ضي‪� .‬أي �أن ال�شعر‬ ‫ال ينح�صر فيما هو كائن بل يتجاوزه �إىل ما يكون"(‪.)2‬‬ ‫‪-1‬م‪ .‬ن‪ .‬ص ‪.90 -89 -88 -87‬‬ ‫‪ -2‬ملحق األنوار‪ 18 ،‬شباط ‪ ،1968‬العدد ‪.2635‬‬ ‫‪132‬‬


‫�أدب‬

‫ال�شعر �إذن فاعلية جدلية بامتياز‪ ،‬يف �ضوء هذا �أختار مث ًال يف ال�شعر العربي �شاعرين (من‬ ‫حيث الإح�سا�س بالزمن)‪ :‬امر�ؤ القي�س بكلمتيه "قفا نبك" لأنه خرق العادة ور ّد على‬ ‫احلركة البدوية التي تنزلق يف فعل املكان‪ ،‬و�أقام احلوار الأول مع هذا املكان‪ ،‬واجتاز امل�سافة‬ ‫ال�سمت متحركاً‬ ‫الزمنية يف فعل احلنني‪ ،‬ال�شاعر الآخر املتنبي الذي ه ّز القعود‪ ،‬واخرتق ّ‬ ‫يف اجتاه املطلق‪ .‬وال معنى بعد ذلك لأي �شاعر ي�سري يف �أثر هذا �أو ذاك مهما تفوق عليهما‬ ‫يف ال�صياغة �أو القدرة على التعبري ومهما جدد يف ال�شكل اخلارجي ما دام مل يفتح �أر�ضاً‬ ‫جديدة ومل يجِ ئ بلهجة جديدة‪ ،‬ومل يخرتق الأفق الذي بلغه ال�شاعران‪ .‬وال يكفي �أن‬ ‫يتجاوز الذي �سبقوه‪ ،‬بل ال بد من �أن يتجاوز نف�سه با�ستمرار‪ ،‬من �أن يظل يف حركة �شوق‬ ‫نحو الأبعد‪ .‬و�إذا كان ال�شعر جدلياً بات من غري املفهوم وغري املقبول �أن يكون الإن�سان ثورياً‬ ‫على ال�صعيد ال�شخ�صي والعام‪ ،‬وحمافظاً على ال�صعيد ال�شعري‪ .‬واملحافظة هنا ال تعني‬ ‫التم�سك بالأدوات التعبريية وح�سب‪ ،‬بل تعني كذلك يف الدرجة الأوىل التم�سك مببد�أ‬ ‫التقنني واال�ستقرار والقعود يف م�ستنقع املفهومات(‪.)1‬‬ ‫ما معنى التجديد وما حدوده؟‬

‫بد�أ التجديد‪ ،‬يف املرحلة احلديثة‪ ،‬منذ وقف ال�شاعر يف ع�صر النه�ضة لي�ضع حداً لالنحراف‬ ‫الذي اجنرف فيه ال�شعر العربي قروناً طويلة‪ ،‬و�أعني املدح وما يتفرع منه‪ ،‬كي يو�سع �أبعاد‬ ‫العقل مبا فيه �أ�شواقاً نائمة‪ ،‬يثري الت�صور الب�شري با�ستدراجه �إىل عوامل جديدة وغريبة‪� ،‬أو يزرع‬ ‫يف �أحداقه واقعاً يختبئ وراء الواقع‪ ،‬فلي�س للتجديد حد يقف عنده‪ .‬هذا يبيح لل�شاعر �أن‬ ‫ين�سف املنطق الأر�سطي‪� ،‬أن ينق�ض البدهيات العقلية‪� :‬أن ينق�ض �أ�س�س الكالم واجلمال‪� ،‬أن‬ ‫يتحرك يف م�سار اجلنون‪ .‬وال �أقول يدرك اجلنون‪ ،‬لأن ما نراه اليوم تفوقاً كان �سيبدو للقدامى‬ ‫ونق�ض امل�صطلحات و"خرق العادة" وجتاوز دائرة‬ ‫جنوناً‪ .‬بهذا املعنى ي�صري اجلنون ال�سبق َ‬ ‫املعقول‪.‬‬ ‫‪ -1‬خالدة سعيد‪ ،‬دراسات يف األدب الحديث‪ ،‬ص ‪.91‬‬ ‫‪133‬‬


‫ففي ق�صيدة �أدوني�س "هذا هو ا�سمي" ي�ستمر يف جتاوز نف�سه‪ ،‬فيثبت يف موقف ال�شعر ويظل‬ ‫من�سجماً يف ثوريته ومواقفه اجلذورية الناقدة نف�سها املتجاوزة نف�سها‪ ،‬فهذه الق�صيدة هدم‬ ‫ملبد�أ اال�ستقرار ال�شعري‪ ،‬ملبد�أ الأ�سلوبية ولكل اتباع ّية‪ .‬هي �إعالن �شرعة التغيرّ ‪ :‬ينبغي �أن‬ ‫تتجاوز كل ق�صيدة ما �سبق من منجزات ال�شعر وما حققه ال�شاعر نف�سه‪ ،‬بحيث تكون كل‬ ‫ق�صيدة �أر�ضاً جديدة ت�ضاف �إىل العامل املعروف‪ .‬لذا ال ا�سرتاحة وال توقف وال �صيغة نهائية‪،‬‬ ‫بل االبتكار املتوا�صل املتجدد واملغامرة الدائمة واالنطالق الدائم بدءاً من الرباءة‪ .‬وكل‬ ‫قولبة وتقنني وموقف جاهز �أو معاد يناق�ض احرتام الطاقة الإبداعية يف ال�شاعر والقارئ على‬ ‫ال�سواء‪ ،‬و ُي�سهم يف حتجري احلياة(‪.)1‬‬ ‫فالإبداعية تكمن يف الق�صيدة اخلالقة �أر�ض بكر يلتقي عليها ال�شاعر والقارئ الق�صيدة �إثارة‬ ‫دعوة �إىل املغامرة والإبداع‪ ،‬والقارئ جزء ال ينف�صل عنها‪� ،‬إنها تفاعل ُمع ّلق‪ ،‬طموحها �أن حتيا‬ ‫بالقارئ‪ .‬مبثل هذا تنادي جماعة ‪ Tel Quel‬التي تقول �إن الكاتب وا�ضع ن�ص (‪)Script‬‬ ‫وكل قارئ يخلق هذا الن�ص من جديد‪� ،‬أي ميل�ؤه ب�أبعاده و�شخ�صه‪ .‬وهذه الق�صيدة �إعالنُ‬ ‫حتد للقارئ املثقف‪ .‬هي بهذا املعنى ق�صيدة‬ ‫وحتد‪ .‬هي ثورة على كل �سكون وتقليد‪� ،‬إنها ٍّ‬ ‫ثورة ٍّ‬ ‫عدائية �ضارية لأنها تلغي احلكم القدمية‪ :‬حكم ال�صرب والرت ّوي والتحمل واالنتظار وامل�ساملة‪.‬‬ ‫عدائية لأنها تهاجم القارئ يف عقر طم�أنينته وك�سله‪.‬‬ ‫فيبدو الفارق بني القارئ املبدع الذي يواكب ال�شاعر الرائد والقارئ‪ ،‬والك�سول الذي ينتظر‬ ‫من ال�شاعر �أن يطربه عن طريق �إعادة تنظيم امل�ألوف من الأقوال والأفكار‪ ،‬كالفارق بني‬ ‫�شخ�ص يرافق كولومبو�س املجنون يف مغامرته‪ ،‬و�شخ�ص يواكب �سائحاً �أمريكياً يلتقط ال�صور‬ ‫التي طاملا �سمع عنها و�سبقه غريه �إىل ت�صويرها‪ ،‬فال�سلطان الوحيد هو لقوى احلياة‪ -‬ال�شعر‬ ‫املتقدمة الباحثة املت�سائلة الفاعلة املغيرّ ة‪.‬‬ ‫توحد‬ ‫ويف هذا �إحلاح على مبد�أ الإبداع املتكامل‪� ،‬أي �إبداع ال�شكل وامل�ضمون‪ .‬وهذا يفرت�ض ّ‬ ‫‪-1‬خالدة سعيد‪ ،‬ص ‪.93 -92 -91‬‬ ‫‪134‬‬


‫�أدب‬

‫ال�شكل بامل�ضمون توحداً تاماً �أو ما ي�سمى الكتابة ال�شعرية‪ ،‬وال جتيء الر�ؤى �أو الأفكار جمردة‬ ‫ثم تنزل يف قالب مه ّي�أ م�سبقاً وفقاً للنظرة القدمية التي كانت ترى ال�شكل ك�سوة املعنى‪ ،‬لأنه‬ ‫ال وجود لل�شكل امل�سبق فطبيعي بعد ذلك �أن جند ق�صيدة "هذا هو ا�سمي" تعي�ش يف‬ ‫مناخ اجلنون �أو النار‪ .‬هذه الق�صيدة متحو احلكمة وتب�شّ ر باجلنون‪ ،‬بال�س�ؤال‪ ،‬باملواقف العفوية‪،‬‬ ‫باملواقف املبتكرة‪ ،‬باملواقف املتجاوزة املتخطية الناق�ضة‪ ،‬الراف�ضة حدود العقل‪ ،‬وحدود ال�صرب‬ ‫والرتوي‪ ،‬وحدود القيم والنظم وحدود املرئي واملعروف‪ ،‬وحدود اللغة والفن وحدود‬ ‫والقناعة‬ ‫ّ‬ ‫الرتاث واحلب‪ ،‬وحدود الإميان والدين‪ .‬تب�شّ ر باجلنون الذي �أدين به اّ‬ ‫احللج‪ ،‬والذي �أدين به‬ ‫غاليليو وليوناردو دافن�شي ونيت�شه وبليك ومي�شو‪ ،‬اجلنون الذي عقله احللم‪ -‬العقل‪ -‬ال�شوق‪،‬‬ ‫�شرعته‬ ‫اجلنون الذي هو �إعادة �سلطان(‪ )1‬طبقات الوعي جميعاً ونق�ض للقوالب العقلية‪ ،‬الذي ُ‬ ‫الهدم‪ ،‬احللم‪ ،‬ال�شوق‪ ،‬املوت‪ ،‬التحول‪ ،‬املتاه‪ ،‬اخلزق‪ ،‬االبتكار‪ .‬اجلنون الذي هو نظافة الذاكرة‬ ‫من القوالب ونظافة الأعماق‪.‬‬ ‫تبدو يل كلمة هيدغر "الق�صيدة لقاء" منا�سبة جداً لتعريف هذه الق�صيدة‪ .‬وهذه الق�صيدة‬ ‫لقاء يف مناخ النور واجلنون‪ ،‬يف حلظة متحركة هي احلا�ضر‪ ،‬يف ممرق هو �أعماق ال�شاعر‪ .‬يف‬ ‫هذا املحرق يتالقى الذاتي باملو�ضوعي والكوين‪ ،‬والآين باملطلق‪ .‬تتقاطع �شخ�صيات متعددة‬ ‫عرب �شخ�صية ال�شاعر‪ ،‬وتخرتق �صوته �أ�صوات كثرية‪ .‬تبينّ ذلك متى عرفنا هوية املتكلم يف‬ ‫الق�صيدة‪ .‬نقر�أ يف املقطع الأول‪ ..." :‬ماحياً ّ‬ ‫كل حكمة‪ /‬هذه ناري‪ /‬مل تبق �آيةٌ‪ /‬دمتي‬ ‫الآية‪."....‬‬ ‫من هذا الذي يجيء ماحياً كل حكمة ود ُمه الآية‪ ،‬الذي دخل �إىل حو�ض املر�أة‪ -‬الأر�ض؟‬ ‫�أهو �أدوني�س �شخ�صياً؟ �أهو ال�شاعر �أدوني�س؟ �أهو الثائر العربي �أي "الفدائي" �أم هو الثائر‬ ‫�إطالقاً‪ ،‬الإن�سان العربي ثائراً �شاعراً غ�ضبه وتطلعاته و�أ�شواقه؟ ال�صوت الذي ينقل هذا �إلينا‬ ‫هو �صوت �أدوني�س‪ ،‬والقرائن الظاهرة تك�شف مبا�شرة عن �شخ�صني‪ :‬الثائر الفدائي الذي‬ ‫�أعلن "ناره" يف الثورة الفل�سطينية وجعل دمه "�آية" احلب واحلركة يف اجتاه الأر�ض‪ ،‬ومن ّثم‬ ‫‪ -1‬خالدة سعيد‪ ،‬حركية اإلبداع‪ ،‬دار العودة‪ ،‬بريوت‪ ،‬ص ‪.97 -96 -95 -94‬‬ ‫‪135‬‬


‫توحد احلب واملوت والوالدة يف فعل واحد ت�سم ّيه لغة ال�صحافة "الفداء"‪.‬‬ ‫�آية ّ‬ ‫الق�صيدة تنت�شل هذا الفعل وفاعله من �إطار املوقّت واحلادثة لتعطيه �أبعاده املتعددة‪ ،‬في�صري‬ ‫جتربة �شخ�صية وموقفاً �إن�سانياً تاريخياً هو الثورة على الظلم ّ‬ ‫والذل والتاريخ الذي �أتاح هذا‬ ‫الذل‪ ،‬وي�صري �إىل ذلك‪ ،‬فع ًال كونياً ير�سم دورة احلب‪ -‬املوت‪ -‬الوالدة‪ .‬ويجيء الثائر‪ -‬ال�شاعر‬ ‫على امل�ستويات الثالثة "ماحياً كل حكمة" بادئاً من املنطلق الأول‪ ،‬عائداً �إىل حو�ض املر�أة‪-‬‬ ‫نعم‬ ‫الأم‪ -‬الأر�ض يف فعل يغ�سل كل ٍ‬ ‫ما�ض‪ ،‬ي�ستح�ضر "الطوفان"‪ .‬ي�صرخ‪" :‬قاد ٌر �أن �أغ ّري‪ُ :‬‬ ‫احل�ضارة‪ ،‬هذا هو ا�سمي"(‪.)1‬‬ ‫لذا فق�صيدة "هذا هو ا�سمي" مدخل �إىل عامل �أدوني�س اجل ّواين‪ .‬و�إذ نلج هذا العامل جند‬ ‫املو�ضوعي وقد اخرتق �أعماق ال�شاعر وقبع هناك لكن يف حالة نارية �أو �سيميائية‪ .‬ففي هذه‬ ‫ّ‬ ‫الق�صيدة‪ -‬اال�ستدراج‪ ،‬الق�صيدة‪ -‬املفتاح الغام�ض الذي ينزل نبا الأدراج يف �أح�شاء �أدوني�س‬ ‫لنجو "مدينة حتت �أحزانه"‪ ،‬مدينه فيما وراء زبد االنفعاالت وبراقع الزخرفة‪ .‬جند الهموم‬ ‫احلقيقية التي تت�آك ّله والر�ؤئ التي ت�سكن �أعماقه(‪ .)2‬كما ميكن النظر �إليها كمجموعة من‬ ‫التفجرات حتدث يف املدن ال�سفلى القابعة حتت الأحزان‪ ،‬حتت اجللد‪ ...‬هذا التفجر لي�س من‬ ‫نوع التداعي املعروف بل يرجع �إىل طبيعة نظام العالقات الداخلية (‪)correspondances‬‬ ‫يف لغة �أدوني�س ال�شعرية‪ .‬فتنطلق الت�أثريات مث ًال يف كلمة "قتلوه"‪ ،‬ومنها �س�أبكي لأمة ُولدت‬ ‫خر�ساء‪ ،"...‬فك�أمنا ي�ستح�ضر ال�شاعر �صورة جرحة لها طاقة التحري�ض والتفكيك‪" .‬ماذا؟‬ ‫نفو ُه �أو قتلوه؟" من هذا املنفي �أو القتيل؟ ال�صديق الثائر؟ ال�شاعر الثائر يف "�أم ٍة ولدت‬ ‫طفل على �شاعرٍ"‪.‬‬ ‫خر�ساء"؟ يو�ضح هوية هذا املنفي ما �سيجيء من قوله" َمل البكاء على ٍ‬ ‫اجلدة ونظافة الأعماق‪ .‬بفعل هذا املح ّر�ض ت�شتعل املدينة‬ ‫هو الثائر �إذن‪ ،‬لأن الطفولة متثل ّ‬ ‫ال�سفلى‪ ،‬تتطاي ُر �صور اجلمود واال�ستالم وال�سيوف التي تطيح بالر�ؤو�س املفكرة املت�سائلة‬ ‫الراف�ضة‪" :‬و�ضع ال�س ّي ُد اخلليفة قانوناً من املاء �شعب ُه ُ‬ ‫�سيوف م�صهورة"‪ ،‬هكذا‬ ‫ٌ‬ ‫املرق الطينّ ُ‬ ‫‪ -1‬م‪ .‬ن‪ .‬ص ‪.99 -98 -97‬‬ ‫‪ -2‬م‪ .‬ن‪ .‬ص ‪.107 -106 -100‬‬ ‫‪136‬‬


‫�أدب‬

‫مر�صعاً بعيون النا�س"‪ .‬هذا ي�ستنه�ض‬ ‫ي�سقط التمويه وتعرى احلقائق "و�ضع ال�س ّيد تاجاً ّ‬ ‫املجدفة "هل هذه املدين ُة � ٌآي؟ هل ثياب الن�ساء‪ ."...‬و�إذ يخرتق‬ ‫الت�سا�ؤالت الهذيانية ِّ‬ ‫م�ضيق الزمن الذي يجتازه �شعبه ويرى �ضياعه وعبثية حت ّركه ي�صرخ بلوعة‪" :‬من‬ ‫بب�صره‬ ‫َ‬ ‫م�صب؟"‪ .‬بدءاً من هذه ال�صرخة يبد�أ التفجر الهذياين الأكرب يف الق�صيدة‪:‬‬ ‫�شعبي نه ٌر بال ٍّ‬ ‫الده ُر وطاحت جدرانه(‪.)1‬‬ ‫إنتقب ّ‬ ‫"�أغني لغة ال ّن�صل �أ�صرخُ � َ‬ ‫تاريخ وال حا�ضر‪� .‬أنا ال ُ‬ ‫ال�شم�سي والفوه ُة اخلطيئة‬ ‫أرق‬ ‫بني �أح�شائي تقي�أت‪ ،‬مل يعد يل ٌ‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫والفعل‪ ."...‬يتخلل هذه ال�صيحة املزلزلة اجلنونية التي تتقي�أُ احلا�ضر الفاج َع واملا�ضي امليت‬ ‫�أ�صوت ملتاعة جتيء كالأ�صداء فيما وراء هذه ال�صيحة‪�" :‬أنا الغ�صن الجئاً" وهذه حت ّرم‬ ‫واح يف ِ‬ ‫كبد العامل؟"‪.‬‬ ‫العبارة التالية‪ْ �" :‬أ�ص ِغ‪ :‬هل ت�سم ُع هذا ال ّن َ‬ ‫و�إذا يبلغ هذا الغ�ضب الذروة يرمتي يف ح�ضن املر�أة‪ -‬الأر�ض‪ ،‬ينزرع يف �أح�شاء الأر�ض‪ -‬املر�أة‬ ‫�سدميي هذياين‪ ،‬ذاتي‪ -‬كوين‪ .‬فيه يتجاوز ال�شاعر اللغة مبعنى َمو�ضعة النار الداخلية‬ ‫يف مناخ ّ‬ ‫�أي نقلها �إىل احليز اخلارجي املف�صح‪� .‬أما الإيقاع لغة معربة وهو ال يقت�صر على ال�صوت‪� ،‬إنه‬ ‫النظام الذي يتواىل �أو يتناوب مبوجبه م�ؤثر ما (�صوتي �أو �شكلي) �أو ج ٌّو ما (ح�سي‪ ،‬فكري‪،‬‬ ‫�سحري‪ ،‬روحي) وهو كذلك �صيغة للعالقات (التناغم‪ ،‬التعار�ض‪ ،‬التوازي‪ ،‬التداخل) فهو‬ ‫�إذن نظام �أمواج �صوتية ومعنوية و�شكلية‪ ،‬ذلك �أن لل�صورة �إيقاعها كما �سرنى عند درا�سة‬ ‫بع�ض �صور الق�صيدة‪ .‬فعلى �سبيل املثال الإيقاع ال�صوتي عند �أدوني�س يف ق�صيدته‬ ‫"‪ ...‬و�صوتي‬ ‫هذيان املُغري‬ ‫يك�سر ّ‬ ‫عكاز الأغاين‬ ‫ويقلع الأبجدية"‬ ‫‪ -1‬م‪ .‬ن‪ .‬ص ‪.107 -106 -100‬‬ ‫‪137‬‬


‫متعددة وينظمها‬ ‫هنا �أدوني�س ي�أخذ التفعيلة ويتخلى عن البحر كلياً‪ .‬ي�أخذ تفعيالت من بحور ّ‬ ‫تنظيماً جديداً مطابقاً للإيقاع املعنوي يف الق�صيدة‪.‬‬ ‫ففي الق�صيدة تتواىل املقاطع الهذيانية والغنائية‪� ،‬أو �أمواج التوتر ف�أمواج االنب�ساط‪ .‬ويحدث‬ ‫االنتقال بني هذا وذاك بحركة التفافية حلزونية متغ ّورة‪ ،‬هابطة يف غور الهذيان‪� ،‬أو التفافية‬ ‫�إ�شراقية �صاعدة نحو املقطع الغنائي(‪.)1‬‬ ‫ويف قوله "م�ساء اخلري يا وردة ال ّرماد" �أكتفي بالإ�شارة �إىل تناق�ض الورد والرماد تناق�ضات‬ ‫عديدة‪ .‬الوردة تعبري الغ�صن عن الفرح واحلياة �أي الفعل احلي احلا�ضر‪ ،‬والرماد ذكرى‬ ‫النار التي كانت‪ ،‬جثة نار كانت‪ .‬يف العالقة بني هذين احلديث ت�صبح الوالدة عزاء الرماد‪،‬‬ ‫حنني الرماد‪ ،‬والرماد م�ستقبل الوردة‪ ،‬رعب الوردة‪ ،‬موت الوردة‪ .‬هذه العالقة تغري اخليال‬ ‫باحلركة الدائمة بني الو�ضعني‪ ،‬فهو ما يزال يبني االحتمال ويهدم ليبنيه ويهدمه‪ .‬مثل ذلك‬ ‫ال�صورتان "�أري ورقاً قيل ا�سرتاحت فيه احل�ضارات‪ /‬هل تعرف ناراً تبكي؟" يقوم ال�صراع‬ ‫حدي القطب الأول نف�سه‪ ،‬بني "ح�ضارات" و"ا�سرتاحت" لأن احل�ضارة‬ ‫الداخلي بني ّ‬ ‫حركة وقابلية �شعب ما على احلركة‪ .‬هذه احلركة التي متى ا�سرتاحت ماتت فوق ذلك كل‬ ‫حركة ت�شتهي الراقة‪ ،‬كل راحة تت�ضمن حركة �سابقة‪ .‬التناق�ض الثاين يقوم بني النار والورق‬ ‫الذي ا�ستاحت فيه احل�ضارات‪ .‬وعالقة ال�شوق هنا وا�ضحة ما دامت النار التي تبكي �شهوة‬ ‫غائبة حا�ضرة‪ ،‬جعلها ال�س�ؤال تراوح بني احل�ضور والغياب‪ ،‬مطيتها �شوق �آخر هو �شوق ال�شاعر‬ ‫نف�سه‪.‬‬ ‫هذا ال�شوق �أو النزوع �إىل الت�أليف والعناق بني احلدود املتقابلة املتناق�ضة عن�صر بارز من‬ ‫عنا�صر اللهجة الأدوني�سية �أو الإيقاع الأدوني�سي‪ ،‬ف�سيم�ضي ال�شاعر يف اكت�شاف عامل‬ ‫اجلنون‪ ،‬كل عوامل اجلنون‪ ،‬عوامل التغيرّ والوحدة‪ ،‬عوامل االن�شطار‪ ،‬قبل �أن تلوح نافذة‬ ‫اخلال�ص عرب جدار ال�صمت‪.‬‬ ‫‪ -1‬م‪ .‬ن‪ .‬ص ‪.116 -113 -112 -111 -110‬‬ ‫‪138‬‬


‫�أدب‬

‫فيبتكر �أدوني�س يف "�أغاين مهيار الدم�شقي" �شخ�صية �أ�سطورية خا�صة به‪ ،‬وكان فيما �سبق‬ ‫من �آثاره ال�شعرية‪ ،‬يلج�أ �إىل �صيغ �أ�سطورية معروفة ينتزعها من حركيتها التاريخية ويعيد‬ ‫�إحياءها بالرموز والدالالت املعا�صرة رابطاً بذلك بني املف�صالت الإن�سانية الأزلية ومواجهات‬ ‫الإن�سان املعا�صر‪.‬‬ ‫�أما �شخ�صية "مهيار" فهي �أ�سطورة تنطلق بدءاً من �أزمة ال�شاعر كفرد يعي�ش يف القرن‬ ‫الع�شرين ويعاين على م�ستوى ثان جتربة التحول والتحرك التي يعي�شها العربي‪ ،‬كما يعاين‪،‬‬ ‫على م�ستوى ثالث‪� ،‬أزمة الإن�سان �إذ يواجه املف�صالت الكونية كاملوت واحلياة واحلب(‪.)1‬‬ ‫هكذا ينقل �أدوني�س التجربة ال�شخ�صية والقومية �إىل امل�سرح الكوين‪ ،‬و�إذ تتالقى هذه‬ ‫امل�ستويات املتعددة لأزمة الإن�سان عرب �شخ�صية "مهيار" التي تتخذ �أبعاداً الأ�سطورة‪ ،‬ف�إنها‬ ‫تغني ب�أ�صداء الأ�ساطري القدمية حمركة بذلك تاريخ القلق الب�شري هكذا يدخل �سيزيف‬ ‫وفينيق ونوح و�أدوني�س وا�سكار واخل�ضر وب�شار واحلالج يف ن�سيج �شخ�صية مهيار‪.‬‬ ‫لكن كيف ذلك وب�شار نقي�ض احلالج‪ ،‬وايكار غري نوح؟ هل يعني ذلك �أن مهيار بال هوية‬ ‫�أم �أنه كائن متناق�ض؟ لكن �أال متثل مواقف هذه الأ�ساطري �أو هذه ال�شخو�ص التي دخلت‬ ‫ح ّيز الدالالت الأ�سطورية وجوهاً و�أو�ضاعاً متعددة للإن�سان الواحد املتحرك الباحث الواقف‬ ‫�أمام الأ�سرار؟ هنا يكمن �س ّر هوية مهيار‪ .‬فمهيار ذو هوية متحركة م�سافرة‪ ،‬خ�صي�صة لأنها‬ ‫البحث الدائم‪ ،‬لأنها هوية تتكامل‪ ،‬ت�صري‪ .‬وهنا تكمن خ�صائ�ص احلداثة يف �شعر �أدوني�س‪.‬‬ ‫�إذ �إنّ كل والدة جتدد‪ ،‬وكل جتدد نق�ض‪ ،‬وكل بحث عن احلقيقة رف�ض للقبول باحلقائق يف‬ ‫و�ضعها الراهن‪.‬‬ ‫وهذا ال�سفر الأبدي بني ال�شكل وال�سدمي‪ ،‬هذا الر�صد للتكون‪ ،‬رف�ض للعامل يف �أ�شكاله‬ ‫و�صيغه وقيمه الراهنة الثابتة‪ .‬فالرف�ض �أو "الهدم" كما يقول هيدغر "هو حلظة بناء جديد"‬ ‫"‪� "La destruction est un moment de toute nouvelle fondation‬أو كما يقول‬ ‫‪ -1‬م‪ .‬ن‪ .‬ص ‪.121 -119 -118 -117‬‬ ‫‪139‬‬


‫بول ريكري ‪�" Paul Ricoeur‬إن م�س�ألة املعرفة ال تطرح �إال يف ما وراء الهدم وهذا �أي�ضاً ما يدل‬ ‫عليه الفكر والعقل والإميان"‪ .‬منذ �أغاين مهيار الدم�شقي بد�أت كلمة الرف�ض �سريورتها يف‬ ‫ال�شعر العربي املعا�صر ويف النقد املعا�صر‪ .‬والرف�ض هو الن�سخ الذي ينتظم الق�صائد جميعها‪،‬‬ ‫ويتجلى ب�صورة خا�صة يف "�إرم ذات العماد" ويف التاريخ‪ ،‬هذا الإله النيت�شوي الذي يعريه‬ ‫يف "املراثي" يف الهاالت حني يجعله "يغت�سل يف عينيه"‪ .‬وهو يف رف�ضه هذا يتجاوز احلدود‬ ‫املر�سومة‪ّ ،‬‬ ‫يتخطى �شرعة املنطق‪ ،‬ي�ؤلف بني التناق�ضات ويرف�ض التق�سيم القدمي للعامل(‪.)1‬‬ ‫موقف الرف�ض هذا موقف م�أ�ساوي‪ ،‬لأن ال�شاعر يقف يف م�ضيق بني ما يرف�ض وما ينتظر‪ ،‬بني‬ ‫ما�ض و�آت‪ ،‬ومن هنا كان الإح�سا�س بالنفي والغربة‪.‬‬ ‫فمهيار مغرتب �أبداً عما كان ليبني ما يكون‪ .‬يقول يف �أحد املزامري‪�" :‬أنا ال�صباح الآتي‬ ‫واخلريطة التي تر�سم نف�سها" ويقول يف مزمور �آخر را�سماً �شخ�صية مهيار‪�" :‬إنه الريح ال ترجع‬ ‫القهقرى واملاء ال يعود �إىل منبعه‪ .‬نخلق نوعه بدءاً من نف�سه‪ -‬ال �أ�سالف له ويف خطواته‬ ‫جذوره"‪ .‬واحلنني يف "�أغاين مهيار الدم�شقي" لي�س رجوعاً �إىل ما�ض تاريخي‪� ،‬إنه احلنني‬ ‫�إىل زمن غائب‪ ،‬و�شهوة للقب�ض على حقيقة فاتنة معذبة �أبدية احلركة والتحول‪ ،‬لتج�سيدها يف‬ ‫حلظة ّ‬ ‫جتل �إلهي �أو يف حلظة �إبداع‪ ،‬يف حلظة معاينة للمطلق‪ .‬هذه اللحظة هي تالقي الإن�سان‬ ‫وذاته الغائبة �أو "بالده الثانية" وهي لذلك حلظة ال�شعر‪.‬‬ ‫كم قلت يف بالدي الثانية‬ ‫وامتلأت كفّاك بالدموع‬ ‫وامتلأت عيناك‬ ‫بالربق يف تخومها الآتية‪.‬‬ ‫اجلو الذي يولد احلنني وال�سفر الدائم يف �أثر احلقيقة‪ ،‬والر�صد الدائم للتفتحات والوالدة هو‬ ‫‪ -1‬م‪ .‬ن‪ .‬ص ‪.124 -123 -122 -121‬‬ ‫‪140‬‬


‫�أدب‬

‫جو الده�شة‪ .‬والده�شة �سداه كل خلق فني‪ .‬فاالندها�ش هو حالة احلركة والت�صدع‪ ،‬حالة‬ ‫الهزة واملفاج�أة وفقدان التوازن وا�ستجماع التما�سك يف �آن‪ ،‬حلظة اجلرح‪ ،‬حلظة اللقاء الأول‬ ‫واالن�صعاق باجلديد الغريب ولوع الإح�سا�س به�شا�شة الغرابة و�آنيتها‪.‬‬ ‫اللغة هي الطق�س الذي ي�ستح�ضر ال�شاعر عربه هذه املعاينة‪ .‬اللغة هنا تطرح ق�ضية العالقة‬ ‫بني الكلمة‪ -‬الك�شف وبني نعمة احللم‪ .‬فهي هنا مظل و�إيحاء‪� ،‬إنها لغة هيولية لألفة نهائية‪.‬‬ ‫هذه اخلا�صة الهيولية ناجتة عن بنية الرمز عند �أدوني�س‪ .‬ذلك �أن �ساحة الإيحاء يف الرمز قد‬ ‫ات�سعت اىل حد ا�ستيعاب الدالالت املتقابلة �أو املتناق�ضة‪ ،‬وهذا ما مينح اللغة القدرة على‬ ‫اللحاق مبوجات احللم‪.‬‬ ‫�آخذ كمثال رمزاً مفرداً من �أب�سط رموز �أدوني�س يف "�أغاين مهيار الدم�شقي" دالالت‬ ‫بيولوجية جزئية وكلية‪ ،‬و�أعني بالكلية اعتبار اجلرح م�شروع موت ودليل حياة يف �آن(‪.)1‬‬ ‫ولن�سم دالالت احلد الظاهر (�أ‪� ،‬أَ‪� ،‬أً‪ ...‬الخ) لكن �إذا �أمكن ح�صر دالالت احلد الظاهر ف�إن‬ ‫ِّ‬ ‫مثل ذلك غري ممكن بالن�سبة �إىل احلد الباطن الذي هو جانب الإبداع يف الرمز‪ .‬احلد الباطن‬ ‫موطن الوعد يف الرمز وكلما كان هذا احلد غنياً بالوعود كلما ازدادت دينامية الرمز وقدرته‬ ‫على خماطبة الأجيال املختلفة‪ .‬من وعود احلد الباطن يف رمز اجلرح مث ًال‪ ،‬داللة الده�شة‬ ‫واالنفراج عن اخلفي يف حلظة التزعزع (ولن�سم ذلك بـ ب‪ ...‬الخ)‪ .‬واجلرح حنني ال�ضفة‬ ‫اىل ال�ضفة‪ ،‬وهو االنف�صال والتقارب والتنافر ورف�ضت اال�ستمرار (وليكن ج‪َ ،‬ج‪ً ،‬ج‪ ...‬الخ)‬ ‫واجلرح اندمة ال ت�شفى ونافذة على �أعماق مغلقة ومطل على االنعتاق (�أو د‪َ ،‬د‪ً ،‬د‪ ...‬الخ)‬ ‫وكل دالالت هذا الرمز مت�أثرة بغريها وفاعلة فيه حتى ينتج من هذا التفاعل ما ذكرته من‬ ‫غنى �ساحة الدالالت‪.‬‬ ‫والواقع �أن غنى �ساحة الدالالت هذه هو ما ينقذ رموز �أدوني�س التاريخية من كثافتها املادية‪،‬‬ ‫ذلك �أن �إ�شعاعية احلد الباطن وديناميته ترفعانه من التاريخية اىل الكونية �أو حتيالنه �شيئاً �آخر‪.‬‬ ‫‪ - 1‬م‪ .‬ن‪ .‬ص ‪.125 -124‬‬ ‫‪141‬‬


‫�ألي�س الفن حتويل املادة الأوىل (اخلام) �إىل �شيء غريها؟ �ألي�س حركة هذه املادة التاريخية �أو‬ ‫الأر�ضية يف اجتاه املعقول والالحم�سو�س ويف النتيجة �صراع املادة الأوىل واملثال؟ �إن ال�شاعر‪،‬‬ ‫حيث ينتزع الكلمة من دورها العملي اليومي ليجعلها ملتقى لإ�شراقات فكره‪ ،‬يكون قد‬ ‫�أقام فيها �صراعاً بني مادتها الأولية وطبيعتها الغنية‪ .‬وهذا التحول وهذا ال�صراع هما ما نعنيه‬ ‫بعبارة "لغة ال�شاعر اخلا�صة"‪ .‬هذه اللغة هي طق�س ال�شاعر اخلا�ص‪ ،‬مغامرته اخلا�صة يف‬ ‫البحث عن احلقيقة‪ .‬لذلك تكون لها خ�صو�صية احللم والتجربة‪ ،‬ومن هنا كان �سقوط كل‬ ‫نتاج يحمل لغة �شاعر �آخر‪ .‬فاحلقيقة ال�شعرية هي يف النهاية حقيقة داخلية و�إن كانت متتلك‬ ‫خا�صة البث واال�ستقبال وتطمح اىل �أن تكون حقيقة مو�ضوعية‪.‬‬ ‫هكذا فالرمز عند �أدوني�س ح�ضور ي�ستجلي غياباً‪� ،‬إنه ا�ستدعاء حل�ضور غائب ب�إ�شارة رهن‬ ‫الغياب‪ .‬لعبة احل�ضور والغياب هذه ميزة "اللغات البعيدة" لغات امل�ستبطنني الذين‬ ‫ير�صدون مراوحني بني احللم والواقع‪ ،‬م�سقطني احللم احلميم على الزمن الآتي(‪.)1‬‬ ‫ولنك�شف عن مرحلة التطلع �إىل الفعل الثوري وما ميثله ال�شاعر العراقي بدر �شاكر ال�س ّياب‪،‬‬ ‫و ُموقعه من احلركة ال�شعرية احلديثة؟‬ ‫لنبد�أ بق�ضية العالقة بني ال�شعر والثورة‪� ،‬إذ كيف يت�صل ال�شعر وهو املنبعث عن احللم‪،‬‬ ‫بالفعل الثوري الذي يقت�ضي نظراً مو�ضوعاً يقيم الواقع والتزاماً عملياً وج�سدياً بنق�ضه‬ ‫وتغيريه(‪)2‬؟‬ ‫يقول �أدوني�س "ال�شعر ر�ؤيا بفعل والثورة فعل بر�ؤيا"‪ ،‬مو�ضحاً بذلك اجلدل بني ال�شعر‬ ‫والثورة وما يف ال�شعر من �شوق �إىل احلياة املتحركة املتغرية املت�صاعدة وما يف الثورة من نار‬ ‫الإلهام ال�شعري‪ .‬ولقد كانت‪ ،‬دائماً‪ ،‬القفزة من الر�ؤيا �إىل الفعل بهذه الر�ؤيا‪ ،‬طموح ال�شعراء‬ ‫الكبار‪ ،‬كما كان كبار الثوار حاملني كباراً‪ .‬فالر�ؤيا هنا‪� ،‬أو احللم الإبداعي‪ ،‬ت�صور للعامل ينطلق‬ ‫‪ - 1‬م‪ .‬ن‪ .‬ص ‪.127 -16 -125‬‬ ‫‪ -2‬األعامل الشعرية لبدر شاكر السياب‪ ،‬دار العودة‪ -‬بريوت‪.1971 ،‬‬ ‫‪142‬‬


‫�أدب‬

‫من رغبات الإن�سان العميقة الأ�صلية يف غياب كل �شكل من �أ�شكال الت�سلط والظلم‬ ‫واال�ستغالل والتنازل والإذعان للأمر الواقع‪ .‬وال�شعر‪ -‬الر�ؤيا �أو احللم‪ ،‬احتجاج م�ستمر على‬ ‫واقع بات واقع قهر‪ ،‬وهو لذلك ت�صحيح �سلبي لهذا الواقع الفا�سد‪ ،‬وما الثورة �إال �صورته‬ ‫الإيجابية‪ .‬بل �إن هذا احللم ال�ضمان هو الأ�صلي �ضد عمليات التغريب املرتاكبة التي ميار�سها‬ ‫املجتمع بفئاته املت�سلطة‪.‬‬ ‫يلتقي هذا مع ال�شعار الذي كتبه الطالب الثائرون بباري�س يف �أيار ‪ 1968‬على �أحد جدران‬ ‫ال�سوربون‪" :‬ان�سوا كل ما تعلمتموه‪ ،‬ابد�أوا من احللم"‪oubliez tout ce que vous" .‬‬ ‫‪"avez appris, commencez par le rêve‬‬

‫العودة للبدء من م�ستوى احللم ذلك هو ملتقى ال�شعراء والثائرين‪ .‬ومن �أبرز �أدوار ال�شعراء‬ ‫تهجئة الأحالم وا�ستقراء �أعمقها و�أكرثها الت�صاقاً بالطبيعة الإن�سانية‪ .‬حيث يتالقى احللم‬ ‫امل�صحح للواقع �أو ال�شعر الطامح اىل التغيري واالبتكار و�إعادة خلق العامل بالدعوات الثورية‬ ‫اىل "تغيري العامل" كما عند مارك�س‪� ،‬أو كما يف الطموح غري املهج�أ دائماً‪ ،‬الذي ي�شكل‬ ‫جوهر املقاومة كحركة‪ ،‬ونب�ض الثورات الطالبية‪ ،‬كما ي�شكل حافز احلركات الغنية‪ .‬فال�شعر‪،‬‬ ‫ل�صدوره عن الالوعي �أو منطقة احللم‪ ،‬يقوم بدور مزدوج(‪:)1‬‬ ‫�أ‪ -‬يلتقط حركة الالوعي اجلماعي ويك�شف عن �أ�سطورة الع�صر غري املتبلورة يف �صيغة‪.‬‬ ‫ب‪ -‬وهو من جهة ثانية يبث حركة جديدة باعتبار اجتاهه نحو الالوعي‪� ،‬أي باعتباره‬ ‫التوا�صل الب�شري على م�ستوى اجلذور واملاهيات‪ ،‬وعلى م�ستوى الرباءة الإن�سانية‪.‬‬ ‫احلركة اجلديدة التي يثبتها ال�شعر هي ر�سالته �إىل زمانه‪ ،‬ور�سالة ال�شعر العظيم ثورية دوماً لأن‬ ‫هذا ال�شعر هو �أبداً هدم‪� ،‬أو بناء لعامل جديد‪.‬‬ ‫هكذا يكون ال�شعر ثورياً حني ي�سهم يف خلق "احلالة ال�شعرية" �أي حني ميلك طاقة على حتري�ض‬ ‫‪ -1‬خالدة سعيد‪ ،‬حركية اإلبداع‪ ،‬دار العودة بريوت‪ ،‬ص ‪.131 -130 -129‬‬ ‫‪143‬‬


‫احللم ون�شر مناخ الأهواء اجلاحمة وبعث "حالة الغ�ضب" وعبور م�سافة االختيار والقرار(‪.)1‬‬ ‫من هذا املنظور تبدو يل �أهمية بدر �شاكر ال�سياب كواحد من �أبرز ر ّواد احلركة ال�شعرية‬ ‫املعا�صرة بوجهها الثوري‪ .‬فقد حمل �شعره املالمح الأوىل ملا نلم�سه يف هذه احلركة من طموح‬ ‫لتغيري "احل�سا�سية العامة" والر�ؤية ال�شائعة‪ ،‬و"خللخلة" القيم ال�سائدة واملنطق القائم‪،‬‬ ‫ونقل "حالة الغ�ضب" من الغمو�ض وال�صمت �إىل الو�ضوح والتعبري‪ .‬مما جعله يت�ألف و�سط‬ ‫الركود الذي �أعقب احلرب العاملية الثانية يوم كان ال�شعر الحقاً بالأحداث ينقلها وي�ضعها �أو‬ ‫جدي‬ ‫يطريها وي�شرحها بلهجة ال�شكوى �أو احلما�سة اخلطابية من دون �أي ا�صطدام �أو م�سا�س ّ‬ ‫بالت�صورات القدمية �أو ب�أ�س�س التفكري التقليدي‪ .‬وقد جاء ال�سياب �شهادة على زمانه ال مبعنى‬ ‫ت�سجيل التحركات بل مبعنى الوعي العميق للخطة التاريخية وا�ستكناء جذورها وا�ست�شراف‬ ‫�آمادها‪ ،‬مبعنى االت�صال بروح ال�شعب‪ ،‬بال وعي الإن�سان يف حميطه‪ ،‬ومعانيه الأ�سطورة التي‬ ‫متثل �أ�شواق الإن�سان يف هذا املحيط‪ .‬وميكن القول �إن ر�سالته ال�شعرية هي ر�سالة ك�شف �أكرث‬ ‫بث‪ .‬ر�سالة الك�شف هذه برزت خا�صة‪ ،‬يف مرحلة من مراحل تاريخ ال�سياب‬ ‫مما هي ر�سالة ّ‬ ‫ال�شعري‪� .‬إذ ال ّبد من الإ�شارة اىل �أن �شاعريته مل تر�سم خطاً ا�ستمرارياً ت�صاعدي االجتاه‪،‬‬ ‫لأن هذا اخلط �أ�صيب يف �أواخر حياة ال�شاعر باالنعطاف نحو ال�شخ�صي‪ -‬البيولوجي‪ ،‬فانقطع‬ ‫ات�صاله بالكوين وغرق �شعره يف ما ي�سميه كارل جو�ستاف يون غ "االعرا�ضي" "‪sym p‬‬ ‫‪ "tomatique‬مرتاجعاً عن "الرمز"(‪.)2‬‬ ‫كما �أن بدايته الذاتية‪ -‬الرومنطيقية ال ترق �إىل ما حققه يف املرحلة الرمزية‪ -‬التموزية(‪� )3‬أو‬ ‫الرتاجيدية‪ .‬ذلك �أن جوهر الأثر الفني ال يكمن يف اخل�صو�صيات ال�شخ�صية وال يف ظواهر‬ ‫الأحداث‪ ،‬ما مل يتمكن ال�شاعر من و�ضعها يف مدارها الكوين‪ .‬ولقد �أثقلت الأحداث‬ ‫‪ -1‬خالدة سعيد‪ ،‬حركية اإلبداع‪ ،‬ص ‪.133 -132 -131‬‬ ‫‪ -2‬الرمزي ال تعني هنا املدرسة الرمزية الفرنسية الشهرية بل االتصال بالرموز الكونية‪" .‬أعرايض نسبة اىل أعراض أو العصاب"‪.‬‬ ‫املصطلحات ليونج يف مجال كالمه عىل اإلبداع ‪problème de l’AmeModerne, Edit. Buchet-chastel 1963 Paris p.‬‬ ‫‪.373‬‬ ‫‪ -3‬جربا إبراهيم جربا أول من أطلق تسمية "الشعراء التموزيني"‪.‬‬ ‫‪144‬‬


‫�أدب‬

‫ال�شخ�صية �أو االجتماعية �شعر املرحلتني الأوىل والأخرية‪.‬‬ ‫�شف �شعره‬ ‫بني هاتني املرحلتني تنه�ض �شاعرية ال�سياب لتجعل منه �شاعر اخلم�سينات الذي ّ‬ ‫عن التطورات والتناق�ضات الكربى يف احلياة العربية‪.‬‬ ‫كانت مرحلة اخلم�سينات مرحلة تفتح الهوية العربية‪ ،‬كما كانت‪ ،‬من جهة ثانية‪ ،‬مرحلة الهوية‬ ‫املطعونة املهددة‪ ،‬حني قوطعت احلركة العربية ال�صاعدة بخيبة �صاعقة وبحركة هابطة عام‬ ‫‪ ،1948‬زعزعت حركة ال�صعود وتقاطعت معها وا�ضعة الوجدان العربي يف مركز االرجتاج‪.‬‬ ‫من هذه ال�صدوع ت�سربت �شاعرية ال�سياب عميقاً‪ .‬ج�سدت الفاجعة وجاءت جواباً عن‬ ‫زمانها‪ .‬فكما قب�ض غوته‪ ،‬يف "ناو�ست" على �أ�سطورة ع�صره وجاءت م�سرحيته ت�شخي�صاً‬ ‫النتقال الإن�سان من الإميان بالغيب وطلب املعرفة عن طريق ال�سحر �أو الإلهام‪� ،‬إىل التخلي‬ ‫بنهم وعط�ش ال‬ ‫عن ال�سماء وطلب املعرفة عن طريق الأر�ض‪ ،‬والغرق يف اخل�س والتجريب ٍ‬ ‫يعرفان حدوداً‪ ،‬وعربت بذلك عن توثب الروح الأوروبية والأملانية خا�صةً‪ ،‬يف ع�صر �آخذ‬ ‫بالتقدم العلمي م�أخوذ ب�شهوة اال�ستك�شاف والتخطي‪ .‬هكذا جاء �شعر ال�سياب يف حتركه‬ ‫بني املوت والوالدة‪ ،‬را�سماً الطريق التي تبد�أ بالأر�ض وتنتهي بالأر�ض‪ ،‬م�ستجلياً ما يف �أعماق‬ ‫الروح العربية من تعاطف مع املوت وانفتاح على املاوراء ومتزق ما بني الزمني والأزيل‪ ،‬تعاطفاً‬ ‫يك�شف عن �شهوة احلركة والتحول عرب املوت املحيي‪ ،‬ف�أ�صالة �شاعرية ال�سياب تتجلى يف‬ ‫ما ي�سمى "وحدة اخليال"‪ ،‬فلقد ك�شف حد�سه ال�شعري املحور الذي تلتقي حوله الرموز‬ ‫ال�شخ�صية ال�صميمية والرموز اجلماعية الوطنية والرموز الكونية‪ .‬تتمثل "وحدة اخليال" عند‬ ‫ال�سياب يف دوائر الرمز املتكاملة‪ .‬ن�أخذ مث ًال رمز املاء‪� .‬إنه رمز �إ�شعاعي يبد�أ مبحور ذاتي‬ ‫وينتقل اىل م�ستوى اجتماعي فكوين(‪.)1‬‬ ‫ذلك �أن املاء هو الأم �أو الرحم وهو من ثم والدة وانبعاث‪ ،‬واملاء دعوة اىل "احللم وال�سفر"‬

‫(‪)2‬‬

‫‪ - 1‬م‪ .‬ن‪ .‬ص ‪.135 -134 -133‬‬ ‫‪ - 2‬غاستون باشالر‪" ،‬املاء واألحالم"‪ ،‬ص ‪.74 -73‬‬

‫‪.L’Eau et les Rêves, Edit, Libr. José grti Paris 1964‬‬ ‫‪145‬‬


‫ورمز للموت(‪ )1‬خلا�صة العبور واجلريان فيه‪ ،‬وعبوره عبور للموت وانتقال �إىل الأزيل‪ .‬واملاء نوع‬ ‫ما�ض‪ ،‬و�صريورة مبا هو حركة‪،‬‬ ‫من "الوطن الكوين" كما يرى با�شالر‪ ،‬وهو احلنني(‪ )2‬مبا هو ٍ‬ ‫فيكون بذلك �صورة لوحدة الزمن‪.‬‬ ‫وال�سياب يف عودته �إىل البدايات الأ�سطورية‪ ،‬ويف �صعوده من الأنا وات�ساعها حتى االندماج‬ ‫بالكوين‪� ،‬إمنا زود ال�شعر العربي بدفعة �أ�سرارية مبعنى امل�سار اجلديد للروحي يف الزمني �أو كما‬ ‫يقول عزرا باوند‪ ،‬لعامل "�أزيل و�إلهي ينج�س يف العامل اليومي"‪.‬‬ ‫تنفذ الدفعة اال�سرارية من ارجتاج الوعي العربي‪ ،‬من �صدوع ت�صوره للعامل‪ ،‬وحتاول �أن تلأم‬ ‫ال�صدع مبيتافيزيا املوت والبعث‪ ،‬معار�ضة بذلك الدين مبا هو عزاء وتعوي�ض وتربير للتناق�ض‬ ‫والعبث‪ .‬ويف هذه املعار�ضة ينبغي �أن نلتم�س املوقف امل�أ�ساوي عند ال�سياب‪ ،‬وال بد من‬ ‫معاناة خا�صة وتيارات الواعية تق ّو�ض الأ�س�س القائمة وتبحث عن لغة جديدة‪ .‬لذا بد�أ‬ ‫ال�سياب بالبحث عن ينابيع لغوية عذراء‪ ،‬وجتلى هذا يف ق�صائده كالنهر واملوت و�شنا�شيل‬ ‫بنت اجللبي‪ ،‬وما ر�أيناه عنده من "وحدة اخليال"‪ .‬قدمت �صوراً ذات حركة �إ�شعاعية بطنت‬ ‫حركة ال�سرد‪ ،‬وهي�أت للمحتوى ال�شعري القدرة على احلياة وتوليد دالالت تخاطب �أجيا ًال‬ ‫خمتلفة‪ ،‬وهو بالتايل ما �أنقذ �شعره من ال�سقوط يف الواقعية الو�ضعية النقلية و�إ�ضاءاتها املوقتة‬ ‫التي وقع فيها �شعراء الواقعية‪.‬‬ ‫هكذا يبدو ال�سياب ظاهرة خا�صة‪� ،‬إنه خال�صة الأ�صوات ال�شعرية التقليدية يف بحثها ويف‬ ‫احت�ضانها بذرة الثورة‪� ،‬أو هو طموح لغة �شعرية �إىل التحول‪� ،‬أي �إىل العي�ش يف الغد(‪.)3‬‬ ‫و�صفوة القول �إن املبدع يبلور عرب نتاجه لغة جديدة ب�صياغة فريدة تتجاوز امل�ألوف بقوانني‬ ‫وثقافة حتمل موقفاً يقفز بعيداً لي�ستولد اجلديد‪.‬‬ ‫‪ - 1‬هرياقليطس يف قوله "أن تصري النفوس ماء هو أن متون"‪ ،‬الفقرة ‪.68‬‬ ‫‪ - 2‬أعتقد أن تحليالً عميقاً للصيغة العربية التقليدية املعربة عن الحنني "سقى الله عهدا ً‪ "...‬ال بد أن يكشف بعدا ً آخر غري بعد‬ ‫الدعاء‪ ،‬كام ميكن أن يكشف عالقة بني املاء وحس املايض‪.‬‬ ‫‪ -3‬خالدة سعيد‪ ،‬حركية اإلبداع‪ ،‬ص ‪.139 -138 -137 -136 -135‬‬ ‫‪146‬‬


‫�أدب‬

‫�سنلقي ال�ضوء على ق�صيدة لبدر �شاكر ال�سياب من جمموعة "�أن�شودة املطر" املعنونة "النهر‬ ‫واملوت"‪.‬‬ ‫ب َويب‪....‬‬ ‫ب َويب‪...‬‬ ‫�أجرا�س برج �ضاع يف قرار ال َب ْحر‬ ‫املاء يف اجلرار‪ ،‬والغروب يف ال�شّ جر‬ ‫وتن�ضح اجلرار �أجرا�ساً من املطر‬ ‫ب ّلورها يذوب يف �أنني‪:‬‬ ‫"بويب‪ ....‬يا بويب!"‬ ‫فيدلهم يف دمي حنني‬ ‫ّ‬ ‫�إليك يا ب َو ْيب‬ ‫نهري كاملطر‬ ‫يا َ‬ ‫بويب‪ ...‬يا بويب‪،‬‬ ‫ع�شرون قد م�ضى كالدهور كل عام‬ ‫واليوم حني ُيطبقُ الظالم‬ ‫و�أ�ستق ّر يف ال�سرير دون �أن �أنام‬ ‫فيدلهم يف دمي حنني‬ ‫ّ‬ ‫�إىل ر�صا�صة ي�شق ثلجها الز�ؤام‬ ‫‪147‬‬


‫�أعماق �صدري‪ ،‬كاجلحيم ي�شعل العظام‬ ‫لأجعل العبء مع الب�شر‬ ‫موتي انت�صار‪.‬‬ ‫و�أبعث احلياة‪� ،‬إنّ َ‬ ‫ن�ست�شف من الن�ص الهمهمات البدائية ال�ساكنة يف نب�ض الهموم املعا�صرة‪� .‬أول ما يلفت هو‬ ‫تكرار لفظة بويب‪ ،‬كعن�صر نغمي �ضمري حيث نح�س انعطافاً يف اللهجة �أو الداللة ويف امل�سار‪.‬‬ ‫فهذا التكرار املنظم لكلمة بويب عرب �صيغة النداء يوحي بجو طقو�سي‪ .‬فال�شاعر يناديي‬ ‫النهر‪ ،‬والطابع الغالب على كلمات الق�صيدة هو طابع املاء(‪.)1‬‬ ‫�إذن تتحرك الق�صيدة بني قطبني‪ :‬بني �سيادة املاء‪ ،‬و�سيادة الإن�سان‪� .‬إذ تبدو الق�صيدة‬ ‫يف مطلعها خارجة عن �سدمي مائي‪ ،‬ومن هذا ال�سدمي يتحرك �ضمري املتكلم جعلنا والدة‬ ‫الإن�سان(‪.)2‬‬ ‫ويف �آخر الق�صيدة ي�شكل البيت الأخري مرحلة متميزة يف ت�صاعد الوجه الإن�ساين يتمحور‬ ‫البيت حول فعل واحد "ال بعث احلياة" به يتجاوز املتكلم‪ -‬الإن�سان احلد الب�شري ويبلغ‬ ‫امليتافيزيقي‪.‬‬ ‫�أما م�صدر فعلي املوت واالنت�صار في�أتيان نتيجة لعملية بعث احلياة فعل ال�شهادة اخلارق‬ ‫بخرق القوانني واملفاهيم وبدل �أن يعني االنت�صار احلياة ي�صبح املوت انت�صاراً‪ ،‬وبذلك يعك�س‬ ‫يف هذه الدفعة الأخرية العالقة التي �أوحى بها العنوان‪ :‬النهر (احلياة) واملوت املوت حياة‪.‬‬ ‫والتعبري يخ�ص�ص املوت ويحدده بربطه بياء املتكلم بينما يرتك االنت�صار مطلقاً بال زمن وال‬ ‫حدود(‪.)3‬‬ ‫‪ -1‬خالدة سعيد‪ ،‬حركية اإلبداع‪ ،‬ص ‪.145 -144 -143 -142 -141‬‬ ‫‪ -2‬خالدة سعيد‪ ،‬حركية اإلبداع‪ ،‬ص ‪.147‬‬ ‫‪ -3‬م‪ .‬ن‪ .‬ص ‪.154 -153‬‬ ‫‪148‬‬


‫�أدب‬

‫لذا فالق�صيدة حت�ضع لنظام داخلي دقيق من العالقات يربط بني حماورها وم�ستوياتها ربطاً‬ ‫تتولد منه الدالالت �أو تتكامل بف�ضله الدالالت‪ ،‬ويبطن بع�ضها بع�ضاً وقد تك�شف لنا عن‬ ‫وجود حمورين �أ�سا�سيني يف الق�صيدة هما‪ :‬حمور النهر‪ ،‬وحمور الإن�سان‪ .‬كما �أن الق�صيدة‬ ‫تتحرك يف م�ستويني‪ :‬م�ستوى احللم والأ�سطورة‪� ،‬أو م�ستوى الالوعي‪ ،‬وامل�ستوى االجتماعي‬ ‫الواقعي �أو م�ستوى الوعي(‪.)1‬‬ ‫فنالحظ كيف تطالعنا ق�ضية املوت والوالدة �أو البعث حتى يف ثنايا ال�صور وكيف يبدو املوت‬ ‫والوالدة ثمرة لتداخل البعدين الإن�ساين والطبيعي الكوين‪ ،‬ثم كيف �أن الق�ضية تتبع م�ساراً‬ ‫دائرياً يتطابق مع احلركة العامة للق�صيدة(‪.)2‬‬ ‫وميكننا �أن نبني بع�ض اال�ستنتاجات‪ ،‬تكمن اخل�صو�صية الغنية لهذه الق�صيدة يف كونها عاملاً‬ ‫متكام ًال من العالقات‪ ،‬تبدعها‪� ،‬أو تك�شف عنها‪ .‬وهي تقدم هذه العالقات يف بنية �شبكية‬ ‫دينامية‪ ،‬تتمثل يف ما م ّر معنا �أثناء التحليل من �إ�ضاءات متبادلة (نظام البدائل) وعالقات‬ ‫تداخل وتواز‪ ،‬ومن خ�صائ�ص هذه البنية الدينامية كون الق�صيدة مبجموعها وب�أجزائها �أو‬ ‫عنا�صرها حركة جدلية بني احلياة واملوت واحلركة الدائرية الأكرث تعقيداً‪ ،‬التي تدخل ال�صور‬ ‫يف بنيتها‪ ،‬ومتثل دورة احلياة واملوت يف م�سار �آيل قدري‪� ،‬أو م�سار �صراعي م�أ�ساوي(‪.)3‬‬ ‫و�أن متتاز الق�صيدة بالوحدة الع�ضوية يعني �أن تكون ن�سيجاً حياً متنامياً هي الق�صيدة الر�ؤيا‬ ‫قراءة جديدة لتاريخ الإن�سان يف الكون‪ ،‬تفرت�ض �إبداع منظومة من القيم والعالقات عن‬ ‫طريق خلق رموز �أو �صور‪ ،‬وتربط الق�ضايا الراهنة‪ ،‬بجذورها النف�سية والتاريخية والكونية‪� ،‬إنها‬ ‫نوع من اكت�شاف العامل ومن فتح �آفاق جديدة‪ ،‬ومن ر�سم طرق جديدة للقب�ض على امل�صري‪.‬‬ ‫فالق�صيدة – الر�ؤيا خلق‪ .‬وكما �أن العلم ال يخرتع الطبيعة‪� ،‬أو يخلق خ�صائ�ص العنا�صر من‬ ‫عدم‪ ،‬ولي�س‪ ،‬من جهة ثانية‪ ،‬جمرد و�صف وت�سجيل و�إح�صاء‪ ،‬و�إمنا ت�أويل وتنظيم واكت�شاف‬ ‫‪ -1‬م‪ .‬ن‪ .‬ص ‪.163‬‬ ‫‪ -2‬م‪ .‬ن‪ .‬ص ‪.174‬‬ ‫‪ -3‬م‪ .‬ن‪ .‬ص ‪.189‬‬ ‫‪149‬‬


‫عالقات‪ ،‬ينتج عنها �إبداع عالقات‪.‬‬ ‫وقد ر�أينا يف هذه الق�صيدة‪ ،‬كيف بلور ال�شاعر حلم اجلماعة يف مرحلة معينة‪ ،‬ونقله يف حالة‬ ‫احلد�س والتطلع املبهم‪ ،‬اىل حالة اجلواب عن مف�صالت احلا�ضر‪ ،‬وكيف بعث‪ ،‬يف �أثناء‬ ‫ذلك‪ ،‬النماذج الأوىل الغافية يف الوعي اجلماعة‪ ،‬والتي تكون جذوراً تغذي هذا احللم‪ .‬كما‬ ‫توحد هذه الق�صيدة الأبعاد الذاتية‪ ،‬واجلماعية‪ ،‬والكونية‪ ،‬ال توحيد ذوبان‪ ،‬بل توحيد ت�آ�صر‬ ‫وتفاعل‪ ،‬و�شراكة يف املحور‪ .‬هذا التوحيد يتحقق عن طريق �إبداع الرمز‪ .‬وهو لذلك عالج‬ ‫لنق�ص املنطق‪ ،‬كما �أنه عالج جلمود املعطيات واملفهومات الثابتة‪ .‬الرمز �إ�شارة اىل احتماالت‬ ‫تفلت من التعبري املعقلن‪ ،‬و�إىل غائب ال يحيط به التعبري املبا�شر‪.‬‬ ‫والرمز الرئي�س يف هذه الق�صيدة هو رمز النهر فيحمل دالالت تتدرج من امل�ستوى الطبيعي‬ ‫الواقعي اىل امل�ستوى الكوين امليتافيزيقي‪ ،‬حيث ي�صبح مر�آة ومعبوداً ثم اىل امل�ستوى الذاتي‬ ‫ال�صميمي حيث نراه رحماً‪ .‬فلغة الق�صيدة وبنيتها احلركية‪ ،‬هي التي حتفّز �آلية احلركة الكونية‬ ‫طريقاً حلركة �إن�سانية خارقة(‪.)1‬‬

‫‪ -1‬م‪ .‬ن‪ .‬ص ‪.192 -191 -190‬‬ ‫‪150‬‬


‫�أدب‬

‫البيئة الثقافية والإبداع الأدبي قراءة‬ ‫يف ملحمة جلجام�ش‬ ‫‪1‬‬

‫د‪ .‬نوال مراد ‪� -‬أ�ستاذ م�ساعد‪ /‬رئي�س ق�سم اللغة الإنكليز َّية �سابقا‬

‫‪Abstract:‬‬ ‫‪This study is about the importance of the natural environment in‬‬ ‫‪the narrative epic text. The epic of Gilgamesh is an example, re‬‬‫‪garding that nature adds to the literary narrative text symbolic and‬‬ ‫‪artistic value. The study also deals with the symbols of nature as‬‬ ‫‪they occur in the chronological sequence of events in the epic of Gil‬‬‫‪gamesh. In addition, the study indicates that the significance given to‬‬ ‫‪the natural environment in the epic is a result of man’s awareness‬‬ ‫‪to nature in his world.‬‬

‫امللخَّ�ص‪:‬‬

‫ال�سردي امللحمي املتمثل‬ ‫حُتاول هذه ِّ‬ ‫الدرا�سة الوقوف على �أهم َّية البيئة الطبيعية يف ال َّن�ص َّ‬ ‫مبلحمة جلجام�ش‪ ،‬باعتبار �أن الطبيعة ُت�ضيف �إىل ال َّن�ص امللحمي رمز َّية ور�ؤى فن َّية‪ .‬وقد‬ ‫تناولت عنا�صر رمز َّية الطبيعة يف ن�ص هذه امللحمة كما ورد بت�سل�سل الأحداث‪ .‬كما ُتبينِّ �أن‬ ‫دور الطبيعة يف امللحمة ناتجِ عن وعي الإن�سان لأهم َّية الطبيعة يف عامله‪.‬‬ ‫‪ -1‬ورقة أُل ِق َيت يف مؤمتر «البيئة الطبيع َّية‪ :‬إشكال َّيات وآفاق» الذي نظَّمته كل َّية اآلداب والعلوم اإلنسان َّية – الفرع ال َّرابع – يف‬ ‫الجامعة اللبنانيَّة‪ ،‬يومي ‪ 2‬و ‪ 3‬ترشين الثاين ‪.2017‬‬ ‫‪151‬‬


‫جدلية الإن�سان والبيئة‪:‬‬‫َّ‬

‫ُتعد البيئة من �أهم العنا�صر املُلهِمة التي ت�ؤثِّر بالف َّنان منذ ال ِقدم‪ .‬فهي املُحيط الذي ُيع ِّزز‬ ‫الإمكان َّيات الفكر َّية والإدراكات احل�س َّية للكاتب‪ ،‬وهي املُلهِ م واملُثري التي تز ِّود الإن�سان‬ ‫بحوافز و�أفكار للتجربة والعمل‪.‬‬ ‫�إن عالقة الإن�سان ببيئته – املُحيط اخلارجي الذي يعي�ش فيه – جت�سيد لفكرة التكامل بني‬ ‫الإن�سان والطبيعة‪ .‬فقد «تكون الطبيعة ممُ ا ِثلة يف ج�سم الإن�سان وعاداته وغرائزه‪ ،‬فالإن�سان‬ ‫نف�سه ظاهرة طبيع َّية من ظواهر هذا الكون الذي خلقه»(‪.)1‬‬ ‫تنعك�س الطبيعة على الوجود الإن�ساين كما تنعك�س يف كافة الأعمال الفن َّية التي ُينتجها‬ ‫ال�سياق‪ ،‬ن�ش�أت مدر�سة نقد َّية جديدة هي مدر�سة ال َّنقد البيئي‪،‬‬ ‫الفكر الإن�ساين‪ .‬ويف هذا ِّ‬ ‫وذلك لدرا�سة الأعمال الأدب َّية من منظور بيئي ُيربز امل�ضمون الذي نتج من ثقافة بيئ َّية ودور‬ ‫عنا�صر البيئة الطبيع َّية يف الأدب‪.‬‬ ‫‪ -‬يف النقد البيئي‪ :‬تعريفا ً ومنهجا ً‪:‬‬

‫ال َّنقد البيئي �أو الإيكولوجي هو الذي يهتم بدرا�سة املكان‪ ،‬والبيئة‪ ،‬والطبيعة‪ ،‬والأر�ض‪ ،‬يف‬ ‫الدرا�سات‬ ‫بعدة مفاهيم �أخرى‪ ،‬منها‪ِّ :‬‬ ‫ال ُّن�صو�ص الأدب َّية والثقاف َّية‪ .‬كما و ُيع َرف هذا النقد َّ‬ ‫الثقاف َّية اخل�ضراء (‪ ،)Cultural Green Studies‬وال�شِّ عر َّية البيئ َّية (‪،)Ecopoetics‬‬ ‫وال َّنقد البيئي الأدبي (‪ ،)Environmental Literary Criticism‬وال َّنقد الإيكولوجي‬ ‫(‪ .)Ecocriticism‬ومن املهم للباحث يف ال َّنقد البيئي الأدبي معرفة مفهوم ال َّنقد البيئي‬ ‫وحتديد القواعد وال ُأ�س�س املُرتبِطة بالنظر َّية والتطبيق يف هذا احلقل‪.‬‬ ‫يهتم ال َّنقد البيئي‪� ،‬إذاً‪ ،‬بدرا�سة ال ُّن�صو�ص الأدب َّية‪ ،‬يف �ضوء نظر َّية بيئ َّية تبحث عن �أثر البيئة‬ ‫�أو املكان �أو الطبيعة �أو الأر�ض يف ال َّن�ص الأدبي‪ ،‬وذلك َعبرْ َ القراءة والتحليل ودرا�سة عنا�صر‬ ‫الدالة‪.‬‬ ‫ال َّن�ص من كلمات ورموز وم�صطلحات‪ ،‬لتحديد دالالتها البيئ َّية ورموزها َّ‬ ‫وهكذا‪ ،‬يقول دايفيد كارتر "‪ "David Carter‬يف كتابه «النظر َّية الأدب َّية» �أنَّ ال َّنقد البيئي هو‬ ‫�إ�ضافة وجهة نظر لتحليل الأدب من منظور بيئي‪� ،‬إ�ضافة �إىل فئات ال َّنقد الأدبي التي �سبقته‪.‬‬ ‫‪152‬‬


‫�أدب‬

‫وقد تكون ال َّنظر َّية الأدب َّية هي َّ‬ ‫الدقيقة‪.‬‬ ‫الطريق �إىل ردم اله َّوة بني العلوم الإن�سان َّية والعلوم َّ‬ ‫و ُي�شري كارتر ‪� Carter‬إىل �أنَّ نظر َّيات �إدوارد �سعيد هي ذات ِ�صلة بدرا�سة البيئة التي ُت َع ّد‪ ،‬يف‬ ‫حد ذاتها‪ ،‬بناء ثقاف َّياً(‪ .)2‬من هنا ن�ستنتج �أن ال َّنقد البيئي هو الذي يعمل على �إيجاد عالقة‬ ‫ِّ‬ ‫ُمرتابِطة بني ال َّن�ص الأدبي والف ِّني من جهة‪ ،‬وبني الطبيعة والأر�ض واملكان كعنا�صر بيئ َّية‬ ‫الدرا�سة التحليل َّية والتفكيك َّية والنف�س َّية‪،‬‬ ‫تت�ضمن ِّ‬ ‫من جهة ثانية‪ ،‬وذلك َعبرْ َ قراءة متن ِّوعة َّ‬ ‫والفل�سف َّية‪ ،‬واجلمال َّية‪ ،‬وال َّن�سو َّية وغريها‪.‬‬ ‫هذا وجند تعريف «جريغوري جراد» «لل َّنقد البيئي» على �أ َّنه ُيع َنى بعالقة ما هو �إن�ساين مبحيطه‬ ‫على مدى التاريخ الثقايف الب�شري(‪ .)3‬فهو (�أي جراد) يعترب البيئة لي�ست ق�ض َّية علم َّية فقط‪،‬‬ ‫�إنمَّ ا هي ق�ض َّية ثقاف َّية �أي�ضاً‪ ،‬فهي ُتعنى بواجبات الفرد واجلماعة نحو البيئة التي يعي�شون‬ ‫فيها‪ ،‬واالهتمام مبواردها وعنا�صرها املُحيطة بالإن�سان‪َّ .‬‬ ‫ال�ضوء على �ضرورة‬ ‫لعل هذا ُي�س ِّلط َّ‬ ‫واحلد من ظاهرة التل ُّوث‬ ‫ن�شر الوعي البيئي الثقايف لي�صبح �ضمن ثقافة املجتمع واجلماعة‪ّ ،‬‬ ‫ال�شَّ ا ِمل الذي ِّ‬ ‫ي�شكل خطراً مبا�شراً على الإن�سان والطبيعة معاً‪.‬‬ ‫ومنهج ال َّنقد البيئي جديد‪/‬حديث؛ فهو يتط َّلب ُمقا َربة َّ‬ ‫الظواهر البيئ َّية ودرا�سة عنا�صرها‬ ‫الن�صي والبنية اخلارج َّية‪ ،‬وذلك‬ ‫يف ال ُّن�صو�ص الأدب َّية بالرتكيز على اجلانبني معاً‪َّ :‬‬ ‫الداخل ِّ‬ ‫ُّ‬ ‫الرموز الطبيع َّية للداللة على �أهم َّية البيئة‬ ‫للتمكن من حتليل وحتديد كيف َّية ا�ستعمال ُّ‬ ‫اخلارج َّية‪.‬‬ ‫ُتعترب البيئة من �أهم العنا�صر املُحيطة التي ت�ؤثر بالف َّنان ب�شكل �أو ب�آخر‪ ،‬وهي م�صدر الإلهام‬ ‫الف ِّني الذي يع ِّزز �أفكار الكاتب ِّ‬ ‫وميكنه من �إدراك الأ�شياء والأحداث‪ .‬والأدب امللحمي‪،‬‬ ‫ك� ِّأي نوع �أدب �آخر‪ ،‬هو �أدب يتناول الإن�سان وتفاعالته مع حميطه اخلارجي الطبيعي‬ ‫والبيئي‪ ،‬ويعك�س ال ِق َيم والتقاليد واملرياث الثقايف‪ ،‬كما اخل�صائ�ص الفن َّية واجلمال َّية لزمان‬ ‫ومكان ن�شوئه‪/‬كتابته‪.‬‬ ‫وملحمة جلجام�ش‪ ،‬هي ملحمة �شعر َّية ُمرتبِطة ببيئتها الطبيع َّية «العراق (‪ ،»)Ur uk‬وزمانها‬ ‫«ال�سومر ِّيون»‪.‬‬ ‫وتاريخ �إنتاجها ُّ‬ ‫‪153‬‬


‫ الأ�سطورة معتقد ِ‬‫را�سخ‪:‬‬

‫يهدف هذا البحث �إىل درا�سة البيئة والطبيعة‪ ،‬و�أهم َّية املكان يف هذه امللحمة التاريخ َّية يف‬ ‫ال�ضوء على الرتابط التاريخي‬ ‫الدرا�سة �أهدف �إىل �إلقاء َّ‬ ‫�ضوء ال َّنقد البيئي‪ .‬فمن خالل هذه ِّ‬ ‫للعالقة بني الأدب والطبيعة‪ ،‬فالأدب كما �سبقت الإ�شارة‪ ،‬يعك�س بيئته وتاريخه‪.‬‬ ‫ق�صة الكون الأوىل‪ ،‬ون�ش�أته وتاريخه من خالل‬ ‫ُتع َرف الأ�سطورة ب�أنها �سرد �شفاهي يحكي َّ‬ ‫حكايات عن كائنات تتجاوز العقل املو�ضوعي‪ ،‬وتخرق الت� ُّصور العادي‪ ،‬كما �أنها �أ�سلوب يف‬ ‫التفكري واملعرفة والك�شف‪ ،‬وحماولة للو�صول �إىل احلقائق‪ ،‬وهي ن�سق فكري وفل�سفي ت�شتق‬ ‫من التفكري امليتافيزيقي وجودها و�أ�سلوبها(‪.)4‬‬ ‫ُتعترب الأ�سطورة "‪ "Myth‬تراكماً لنتاج الفكر الإن�ساين املُبدع يف جمال الأدب(‪ .)5‬وترجع‬ ‫الأ�ساطري‪ ،‬يف مو�ضوعها و�أحداثها و�أبطالها‪� ،‬إىل من�ش�أ طبيعي يت�صل بعنا�صر الطبيعة(‪،)6‬‬ ‫ك�أ�سطورة الطوفان �أو الدمار ال�شامل بالنار ال�سماوية �أو الأعا�صري(‪ .)7‬وهي لي�ست نتاج اخليال‬ ‫املجرد‪ ،‬بل ترجمة لأحوال ال�شعوب عرب التاريخ‪ .‬الأ�سطورة‪� ،‬إذاً‪ ،‬جتد تف�سرياً لها يف الطبيعة‪،‬‬ ‫وهي لذلك نظام فكري متكامل‪ ،‬ا�ستوعب قلق الإن�سان الوجودي‪ ،‬وتوقه الأبدي لك�شف‬ ‫الغوام�ض التي يطرحها حميطه‪ ،‬ليجد مكانه يف �إيقاعات الطبيعة(‪.)8‬‬ ‫كما متثِّل الأ�سطورة وعي الإن�سان و�إدراكه للعامل املُحيط به وكيف َّية تعا ُمله مع هذا املُحيط‬ ‫ملعرفة مدى قدرته على هذا التعامل‪ .‬وبهذا ي�صبح العامل يف ال َّن�ص امللحمي مقيا�ساً لقدرة‬ ‫الإن�سان على الوعي والفعل من حيث قدرته على التعامل مع حميطه‪/‬عامله وقهر ِ�صعابه‪.‬‬ ‫حتدي الإن�سان للطبيعة‪ ،‬كما ورد يف ملحمة‬ ‫جت�سد بداية ِّ‬ ‫وهكذا‪ ،‬ميكن القول‪� ،‬إن امللحمة ِّ‬ ‫جلجام�ش‪.‬‬ ‫تت�ضمن ق�ص�ص �آلهة ت�شبه الب�شر من حيث ِ�سماتهم و�صفاتهم وجمتمعهم‪ ،‬وما‬ ‫والأ�سطورة َّ‬ ‫على الإن�سان �إال الطاعة والوالء لهذه الآلهة‪ .‬وهي تعك�س تط ُّور الوعي الإن�ساين لقدراته‬ ‫املحدودة وعجزه �أمام هذا العامل مبا فيه من �آلهة ت�أمر وتفعل ما ت�شاء والإن�سان جم َّرد متلقي‪،‬‬ ‫كما ورد يف ملحمة جلجام�ش‪.‬‬ ‫مقد�سة تقليد َّية‪ ،‬يلعب �أدوارها الآلهة و�أن�صاف الآلهة‪� ،‬أحداثها وقائع‬ ‫والأ�سطورة‪ ،‬حكاية َّ‬ ‫‪154‬‬


‫�أدب‬

‫ح�صلت يف الأزمنة الغابرة‪ ،‬فهي ُمعتقد را�سخ وهي قيم وثقافة ال�شُّ عوب‪َّ ،‬مما يجعلها ذاكرة‬ ‫اجلماعة(‪.)9‬‬ ‫وهكذا‪ ،‬ميكننا القول �إن الأ�سطورة ذات طبيعة �أدب َّية خالدة ودالالت ت� ِّؤكد على �إمكان َّية‬ ‫تتحدى ال َّزمان واملكان بحيث �أ َّنها َّ‬ ‫تتخطى جِ دار‬ ‫عدة زوايا‪ .‬كما �أن الأ�سطورة َّ‬ ‫قراءتها من َّ‬ ‫زمانها وثقافتها لت�صل �إىل العامل َّية (عامل َّية الأدب)‪.‬‬ ‫‪ -‬ملحمة جلجام�ش‪ :‬من امل�شاع �إىل االجتماع‪:‬‬

‫ازدهرت الثقافة ال�سومر َّية الأكادية يف حو�ض دجلة والفرات‪ ،‬وحول ال�شواطئ العليا للخليج‬ ‫العربي‪ ،‬منذ مطلع الألف ال َّرابع قبل امليالد(‪ .)10‬ومل تكن �أفكار ال�سومر ِّيني ونظرائهم من‬ ‫العراقيني القدامى عن اخللق والتكوين‪� ،‬أفكاراً بدائ َّية‪ ،‬بل �أفكاراً نا�ضجة بالدرجة التي‬ ‫تتيحها معارف تلك الفرتة من بداية اخللق والتكوين(‪.)11‬‬ ‫وملحمة جلجام�ش‪ ،‬مو�ضوع ُمداخلتي‪ ،‬يف ن�سختها ال�سومر َّية الأكاد َّية البابل َّية‪ ،‬هي ن�ص �أدبي‬ ‫رائع حمل الكثري من ت� ُّصورات ثقافة تلك املنطقة‪ ،‬الدين َّية والفكر َّية والفل�سف َّية‪ ،‬ويعود نظمها‬ ‫�إىل �أكرث من �أربعة �آالف �سنة(‪.)12‬‬ ‫ُتعترب ملحمة جلجام�ش َّن�صاً �شعر َّياً �سرد َّياً تدور �أحداثه حول جلجام�ش (امللك) ومغامراته‬ ‫تدخل الآلهة ب�سري الأحداث بطريقة عجيبة وغريبة‬ ‫املُده�شة والبطول َّية‪ .‬كما تروي امللحمة ُّ‬ ‫عن امل�ألوف‪ ،‬ويكون جلجام�ش هو حمور هذه الأحداث على �أنواعها‪ .‬ومتثل امللحمة مر�آة‬ ‫جت�سد امللحمة بداية احل�ضارة‬ ‫حياة وثقافة الإن�سان يف ذلك الوقت من التاريخ‪ ،‬وبهذا ِّ‬ ‫والدولة‪ ،‬كما ورد يف‬ ‫الإن�سان َّية واالنتقال من طور احلياة املُ�شاع �إىل احلياة االجتماع َّية َّ‬ ‫ملحمة جلجام�ش‪ ،‬التي ت�ؤ ِّرخ فرتة حكم امللك جلجام�ش ملدينة �أوروك‪ ،‬وبنائه الأ�سوار‬ ‫حولها لتخليد نف�سه‪.‬‬ ‫تت�ألف امللحمة من ثالثة ف�صول‪� ،‬سنعمل من خالل عر�ضنا لها على حتديد عنا�صر الطبيعة‬ ‫فيها‪ ،‬والأدوار التي اتخذتها‪ ،‬والإيحاءات وال ُّرموز واملعاين التي حملتها‪.‬‬ ‫‪155‬‬


‫�أ‪ -‬الف�صل الأول‪ :‬جلجام�ش و�إنكيدو‪:‬‬

‫تبد�أ �أحداث ملحمة جلجام�ش عندما �ضاق ال�شَّ عب ذرعاً بظلم وق�سوة جلجام�ش‪ ،‬مت�ض ِّرعني‬ ‫بتدخل الآلهة‪ .‬وهنا ُتظهر امللحمة جمتمعاً‬ ‫�إىل الآلهة طالبني املُ�ساعدة‪ ،‬حيث يبد�أ احلدث ُّ‬ ‫�إن�سانياً ي�شهد �صراع الإن�سان مع الآخر‪ ،‬وجمتمعاً للآلهة التي ت�شبه الإن�سان بانفعاالتها‬ ‫وانتقامها ودوافعها‪ .‬وت�سيطر على ملحمة جلجام�ش فكرة َّ‬ ‫ال�ضرورة القدر َّية التي ُت َ�سيرِّ‬ ‫الأحداث فيها‪ ،‬لتنهي احلدث با�ست�سالم امللك جلجام�ش لقدره وقبوله بحتم َّية املوت‬ ‫والفناء‪.‬‬ ‫ويقدم لنا املكان حيث‬ ‫يفتتح الكاتب امللحمة بو�صفه جلجام�ش «هو الذي ر�أى كل �شيء»‪ِّ .‬‬ ‫توجد �أوروك‪ ،‬مملكة جلجام�ش (الوركاء اليوم) ب�أنه‪� ،‬أي املكان‪« ،‬مدينة»‪ .‬وهذا يعني وجود‬ ‫قوانني «مدن َّية» على الإن�سان التق ُّيد بها(‪ .)13‬وي�صف جلجام�ش بـ«موجة طوفان» عاتية حتطم‬ ‫ال�صعاب‪ .‬ويرمز الكاتب �إىل‬ ‫حتى جدران احلجر وذلك للإيحاء بقوته وعنفوانه يف ِّ‬ ‫حتدي ِّ‬ ‫حب جلجام�ش للمغامرة و�إ�صراره على التغلب على احلواجز الطبيع َّية بقوله‪:‬‬ ‫«�إنه هو الذي فتح جمازات اجلبال‬ ‫وحفر الآبار يف �أعايل اجلبال‬ ‫(‪)14‬‬

‫وعرب املحيط �إىل حيث تطلع ال�شم�س»‬

‫كما يرمز الكاتب �إىل جموح جلجام�ش لل�سلطة والطغيان بقوله «‪ ...‬هيئة ج�سمه خميفة‬ ‫(‪)15‬‬ ‫كالثور الوح�شي»‬ ‫للت�صدي جللجام�ش بهذه العبارة‪:‬‬ ‫وي�صف الكاتب ا�ستجابة «�أورورو» لدعوة �أهايل �أوروك ِّ‬ ‫«وغ�سلت (�أورورو) يديها و�أخذت قب�ض ًة من طني‬ ‫(‪)16‬‬

‫ورمتها يف الربية‪ ،‬ويف الربية خلقت (�إنكيدو)‪»...‬‬

‫وترمز الربية �إىل الطبيعة العذراء و�إىل القوة واحلر َّية‪:‬‬ ‫(‪)17‬‬

‫«ومع الظباء ي�أكل الع�شب»‬ ‫‪156‬‬


‫�أدب‬

‫يرمز الع�شب �إىل اخل�صب‪ ،‬االزدهار واحلياة‪.‬‬ ‫ويتك َّرر رمز املاء يف �أربعة �سطور متتالية كداللة لعن�صر احلياة واملوت وللبيئة اخل�ضراء التي‬ ‫تتمتع بها منطقة العراق‪.‬‬ ‫«يتدافع مع الوح�ش عند مورد املاء‬ ‫ويطيب لبه عند ازدحام احليوان يف مورد املاء‬ ‫(يحدث) �أن �ص َّياداً قا ِن�صاً التقى به عند مورد املاء‬ ‫و�أب�صره يوماً ثانياً وثالثاً عند م�سقى املاء»‬

‫(‪)18‬‬

‫�أما رف�ض حيوانات الغابة لإنكيدو بعد �إغراء البغي له فريمز �إىل قيود احلياة املدن َّية وما ت�س ِّببه‬ ‫للإن�سان من �أ�سر وجتريد من طاقاته الطبيعية‪ .‬فرنى �إنكيدو بعدما رف�ضته حيوانات الغابة‪،‬‬ ‫جم َّرداً من قوته وخائر القوى‪ .‬يقول الن�ص‪:‬‬ ‫ال�صحراء‬ ‫«‪ ...‬و َه َر َب ْت من قربه‬ ‫ُ‬ ‫حيوانات َّ‬ ‫ُذ ِع َر (�إنكيدو) وخارت قواه»‬

‫(‪)19‬‬

‫وهذه داللة للتناق�ض ال َّرمزي بني مفهوم الربية ومفهوم املدينة‪ .‬يقول �إنكيدو‪:‬‬ ‫«�أنا الأقوى‪� ...‬أجل �أنا �س�أبدل امل�صائر‪...‬‬ ‫(‪)20‬‬

‫ال�صحراء هو الأ�شد والأقوى‪»...‬‬ ‫�إن الذي ولد يف َّ‬

‫ال�صحراء بدالالتها ترمز �إىل احلر َّية والع�صيان على عك�س الو�صف الذي جاء به الكاتب‬ ‫َّ‬ ‫للمدينة ذات الأ�سوار العالية التي حتدها وحتد من حرية �سكانها‪.‬‬ ‫ليق�ص على �أمه ر�ؤياه قائ ًال لها‪:‬‬ ‫�أما جلجام�ش العظيم الب�أ�س املُبتهج باحلياة‪ ،‬في�ستيقظ من نومه ّ‬ ‫«يا �أمي لقد ر�أيت الليلة املا�ضية حلماً‬ ‫‪.......‬‬ ‫‪157‬‬


‫فظهرت كواكب ال�سماء‬ ‫(‪)21‬‬ ‫ال�سماء (�آنو)‪»...‬‬ ‫وقد �سقط �إحداها �إ َّيل ك�أنه �شهاب َّ‬ ‫تف�سره له �أمه يرمز �إىل لقائه «�إنكيدو» نظريه هو (�أي جلجام�ش)‪� ،‬صاحب‬ ‫وهذا احللم كما ِّ‬ ‫قوي‪ ،‬يعني ال�صديق (عند ال�ضيق)(‪.)22‬‬ ‫ب‪ -‬الف�صل الثاين‪� :‬أ�سفار جلجام�ش و�إنكيدو‪:‬‬

‫ال�صراع الذي قام بني جلجام�ش و�إنكيدو بقيام �صداقة حميمة بني البطلني‪ ،‬وق َّررا‬ ‫انتهى ِّ‬ ‫القيام برحلة طويلة �إىل غابة الأرز يف �أعايل جبال طورو�س(‪ .)23‬يرى القارئ يف هذا الف�صل‬ ‫متدة‬ ‫وال�صور‬ ‫امل�ستمدة من الطبيعة‪ ،‬كالغابة املُ َّ‬ ‫َّ‬ ‫«�أن بيئة الكاتب هي التي �ألهمته رمز َّية امللحمة ُّ‬ ‫م�سافة ع�شرة �آالف �ساعة يف كل جهة‪ ،‬و(خمبابا) زئريه عباب الطوفان تنبعث من فمه النار‪،‬‬ ‫(‪)24‬‬ ‫ونَف َُ�س ُه املوت ال ُّز�ؤام‪»...‬‬ ‫يرى القارئ ج َّواً م�شحوناً بالتوتر واخلوف الناجِ م عن ا�ستعمال امل�ؤلف رموز ال�شَّ ر واخلري يف‬ ‫الطبيعة‪ .‬فاملاء وال�شَّ جر يرمزان �إىل اخلري واخل�صب والعطاء بينما يرمز الوح�ش «خمبابا» �إىل‬ ‫املوت وال�شَّ ر‪.‬‬ ‫حني �شارف البطالن مدخل الغابة‪ ،‬بعد �أن قطعا م�سافة طويلة‪ُ ،‬ذ ِهال و�أبهرهما م�شهد املدخل‬ ‫العجيب للغابة ومنظر �أ�شجار الأرز الغريب‪ ،‬فكان علوها اثنتني و�سبعني ذراعاً‪ ،‬وعر�ض‬ ‫املدخل �أربعاً وع�شرين ذراعاً(‪.)25‬‬ ‫بعدها ا�ستطاع البطالن �أن يجتازا مدخل الغابة ف�أب�صرا اجلبال اخل�ضر‪ ،‬و ُذ ِهال من م�شهد غابة‬ ‫الأرز و�سحر جمالها(‪.)26‬‬ ‫هنا يتناول الكاتب جمال الغابة و�سحرها لريمز �إىل الطبيعة اخل�ضراء املعطاء التي تدل على‬ ‫وال�سالم‪ ،‬على عك�س هدف رحلة جلجام�ش التي تهدف �إىل قتل خمبابا وح َّرا�س‬ ‫اخل�صب َّ‬ ‫الغابة َّ‬ ‫ليتمكنوا من الو�صول �إليها‪.‬‬ ‫يك ِّرر الكاتب كلمة «الغابة» مراراً وتكراراً‪ ،‬وكذلك كلمة «املاء» و«البئر»‪ ،‬كدالالت للخري‬ ‫‪158‬‬


‫�أدب‬

‫واالزدهار‪ ،‬وتربز هذه الكلمات مبدلوالتها احليوية‪ ،‬بالتناق�ض مع فكرة املوت التي تتمثل بقتل‬ ‫خمبابا والدخول �إىل غابة الأرز‪ .‬وا�ستطاع البطالن الو�صول �إىل جبل خا�ص بالآلهة حيث‬ ‫عر�ش الإلهة «�أورنيني» ‪« /‬ع�شتار» وو�صفاه ب�أنه جبل تتعاىل فيه �أ�شجار الأرز بظاللها الوارفة‬ ‫وال�سرور(‪.)27‬‬ ‫التي تبعث البهجة ُّ‬ ‫خا�صة عندما تكون يف �أوج اخ�ضرارها‪ ،‬وحتكي عن م�شاعر ال�شُّ عوب‬ ‫تتحلى الطبيعة بحرك َّية َّ‬ ‫من حيث حاجاتهم �إليها‪ .‬لذا نرى الكاتب‪ ،‬ب�صفته ال َّراوي واملر�آة للمجتمع‪ ،‬يرمز بالطبيعة �إىل‬ ‫احلياة‪ ،‬من ماء ونبات وحيوان‪ ،‬والفرح والبهجة التي ُتعترب حاجات نف�س َّية وماد َّية للإن�سان‪.‬‬ ‫املتحدث عن �ش�ؤون «�أوروك» كرمز لثقافة املجتمع يف ذلك الوقت‪ ،‬والطبيعة هي‬ ‫فال َّراوي هو ِّ‬ ‫املكان الذي يليق بنف�س َّية الإن�سان املت�أملة‪ ،‬والتي متنحه احلر َّية وال َّراحة النف�س َّية‪.‬‬ ‫تنتهي مغامرة غابة الأرز بنجاح البطلني وعودتهما �إىل �أوروك‪.‬‬ ‫ج‪ -‬الف�صل الثالث‪ :‬موت �إنكيدو و�سعي جلجام�ش وراء اخللود‪:‬‬

‫يف الف�صل الثالث الذي يتناول موت �إنكيدو و�سعي جلجام�ش وراء اخللود‪ ،‬يتناول ال َّراوي‬ ‫كيف �أن �إنكيدو‪ ،‬بعد مر�ضه‪ ،‬و�إدراكه قرب نهايته‪ ،‬يتمنى لو �أنه ما جاء �إىل حياة احل�ضارة‪،‬‬ ‫بل ظل يف ب ِّر َّيته �سعيداً مرتاح البال يرعى مع الظباء واحليوان(‪ .)28‬كما �أنه لعن كل من ز َّين‬ ‫له املجيء �إىل حياة املدينة‪.‬‬ ‫وال�صحارى‪ .‬ثم قرر‬ ‫بعد فرتة من املر�ض مات �إنكيدو‪ ،‬وهام جلجام�ش‪ ،‬حزناً عليه‪ ،‬يف الرباري َّ‬ ‫القيام برحلة البحث عن «�أوتو‪ -‬نب�شتم»(‪ )29‬لي�س�أله عن �سر اخللود‪.‬‬ ‫وانطلق جلجام�ش يف رحلته حتى بلغ جمازات اجلبال يف ال�سماء(‪ .)30‬وهذه الأعايل التي‬ ‫ي�صفها الكاتب ترمز �إىل عنفوان الطبيعة وتتمثل بجلجام�ش ي�سري نحو املجهول ويواجه �صيغاً‬ ‫حتديات الطبيعة له‪ .‬فتارة يرى نف�سه �سائراً يف طريق م�سدودة وحريته تقول له‬ ‫خمتلفة من ِّ‬ ‫�إن جهوده و�سعيه ال ي�ص َّبان يف املجرى احلقيقي لنهر احلياة‪ ،‬وطوراً ي�صادف‪ ،‬خالل مغامرته‬ ‫للبحث عن «�أوتو‪ -‬نب�شتم»‪� ،‬أ�شجاراً حتمل الأحجار الكرمية‪:‬‬ ‫‪159‬‬


‫«‪ ...‬فوجد الأ�شجار التي �أثمارها العقيق‬ ‫وتتدىل الأعناب منها ومر�آها ي�سر الناظر‬ ‫‪ ...‬ر�أى ال�شوك والو�سج الذي يحمل‬ ‫(‪)31‬‬

‫الأحجار الكرمية والل�ؤل�ؤ البحري‪»...‬‬

‫وبعد مرور جلجام�ش ب�سيدوري (�سيدة احلانة)‪ ،‬يلتقي «�أور –�شنابي» الذي رافقه للقاء‬ ‫«�أوتو–نب�شتم»‪ .‬يخاطب «�أوتو–نب�شتم» جلجام�ش عن املوت قائ ًال‪:‬‬ ‫قا�س ال يرحم‬ ‫«�إن املوت ٍ‬ ‫‪ ...‬وهل تبقى البغ�ضاء يف الأر�ض �إىل الأبد؟‬ ‫وهل يرتفع النهر وي�أتي بالطوفان على الدوام؟‬ ‫والفرا�شة ال تكاد تخرج من �شرنقتها فتب�صر وجه ال�شم�س‬ ‫حتى ّ‬ ‫يحل �أجلها‪»...‬‬

‫(‪)32‬‬

‫ق�صة الطوفان يف جلجام�ش ح ِّيزاً كبرياً‪ ،‬ويرمز �إىل املياه التي ت�أتي باحلياة واملوت معاً‪،‬‬ ‫ت�أخذ َّ‬ ‫فيقول ال َّراوي‪:‬‬ ‫«‪َّ ...‬ثم هد�أ البحر و�سكنت العا�صفة وغي�ض عباب الطوفان‬ ‫‪ ...‬ور�أيت الب�شر وقد عادوا جميعاً �إىل طني»‬

‫(‪)33‬‬

‫الطوفان الذي تتداعى فيه احلياة‪ ،‬ويتح َّول الب�شر �إىل جم َّرد طني‪ ،‬مينح احلياة �إىل «�أوتو–‬ ‫نب�شتم» وبذور كل ذي حياة(‪ .)34‬فاملاء‪ ،‬عن�صر احلياة الأ�سا�سي‪ ،‬كما هو عن�صر املوت يف‬ ‫�آن‪ ،‬مينح احلياة واالزدهار تارة‪ ،‬وينزل اخليبة واملوت واجلفاف تارة �أخرى‪ .‬فال َّراوي يعك�س‬ ‫لنا كق َّراء‪ ،‬التوتر النف�سي‪ ،‬واخلوف‪ ،‬واحلزن الذي ُيعانيه الإن�سان على وقع �أحداث الطبيعة‪.‬‬ ‫وال�سرور من جهة‪ ،‬واملوت‬ ‫فاملطر وال َّرعد اللذان �أ َّديا �إىل الطوفان يحمالن رمز َّية احلياة والبهجة ُّ‬ ‫والفناء من جهة ثانية‪.‬‬ ‫‪160‬‬


‫�أدب‬

‫ول�شدة �شقاء‬ ‫وتوقف الكاتب �أي�ضاً عند م�شهد �شروق ال�شَّ م�س وغروبها كرمز ملرور الوقت َّ‬ ‫جلجام�ش يف رحلة البحث عن اخللود‪ .‬مع كل �شروق وغروب‪ ،‬كان جلجام�ش يت�أمل باخللود‪،‬‬ ‫ويت�أمل لعدم يقينه باحل�صول عليه‪ .‬فالعالقة ال َّرا�سخة بني الطبيعة واملياه ُتنتج تكام ًال للحياة‬ ‫يحمل اخلري والأمل‪.‬‬ ‫فالطبيعة غن َّية بالتناق�ضات من ليل ونهار‪� ،‬شتاء و�صيف‪� ،‬شروق وغروب‪ ،‬حياة وقحل‪ ،‬تتمثل‬ ‫فيها قوى اخلري وال�شَّ ر‪ ،‬واملاء والنار‪ ،‬واحلر َّية والطغيان‪.‬‬ ‫وتبقى الطبيعة‪ ،‬يف �أي عمل �أدبي‪ ،‬رمزاً للمجتمع‪ .‬وهي‪ ،‬بعنا�صرها كافة‪ ،‬ذات طابع �أزيل‪ ،‬كما‬ ‫اهتم الراوي بت�سليط‬ ‫�أنها ت�شكل يف جلجام�ش احل ِّيز البيئي الطبيعي ل�سري الأحداث‪ .‬لقد َّ‬ ‫ال�ضوء على الطبيعة وعنا�صر حيويتها عرب رمز َّية الأ�شجار والرب َّية والف�ضاءات املفتوحة �إىل‬ ‫َّ‬ ‫الغابات والأنهار‪ ،‬املياه كرمز للخري والنظافة واحلياة‪ ،‬رمز َّية ال ِّريح‪ ،‬فهي ُمد ِّمرة حيناً‪ ،‬وذات‬ ‫حتدها �أ�سوار املدينة‪.‬‬ ‫دفع �إيجابي حيناً �آخر‪ .‬فهي ترمز �إىل احلر َّية والف�ضاءات الوا�سعة التي ال ّ‬ ‫فرحلة جلجام�ش يف البحث عن اخللود هي رحلة عظيمة‪ ،‬تنتهي بعودته �إىل مدينته‪ ،‬را�ضياً‬ ‫مب�صريه ك�إن�سان‪ ،‬ولكنها فعلياً‪ ،‬رحلة نحو املوت‪ ،‬الآتي ال حمالة‪.‬‬ ‫كما �أن جلجام�ش �أيقن خ�سارته امل� َّؤكدة يف هذه ال ِّرحلة‪ ،‬و�أنه لي�س بو�سعه �أن يحتفظ مبكانه‬ ‫ال�صراع النف�سي الذي عانى منه بني املوت واحلياة‪.‬‬ ‫�إىل الأبد‪ ،‬وهذا ما �ساعده على تخطي ِّ‬ ‫ويالحظ القارئ تكرار كلمة «املاء» يف جميع مراحل امللحمة وذلك للإيحاء مبدى �أهم َّية املاء‪.‬‬ ‫فعندما منحت الآلهة «�أوتو–نب�شتم» �سر اخللود‪ ،‬ق َّرروا �أن يعي�ش عند «فم الأنهار»(‪ .)35‬هذا‬ ‫ربط وا�ضح بني احلياة واملاء‪ ،‬بني الإن�سان والأنهار‪ ،‬فال حياة بدون مياه‪ ،‬و�أن املياه هي رمز‬ ‫للوجود ب�أنهارها ومطرها‪ .‬وترمز املياه‪ ،‬يف عبارة «�أوتو–نب�شتم» �إىل النظافة واجلمال‪:‬‬ ‫«خذه يا (�أور –�شنابي) ‪ ...‬ليغ�سل يف املاء �أو�ساخه حتى ي�صبح نظيفاً كالثلج»‬

‫(‪)36‬‬

‫ولي�س غريباً‪� ،‬أن �سر اخللود‪ ،‬كما يقول «�أور –�شنابي» جللجام�ش‪ ،‬هو نبات ينبت يف املياه‪ .‬فهو‬ ‫مينح الإن�سان ن�شاط احلياة(‪.)37‬‬ ‫ولي�س بالغريب �أن تناق�ضات احلياة و�سخريتها‪ ،‬جتعل جلجام�ش الذي تعب من عنائه الطويل‪،‬‬ ‫‪161‬‬


‫يف �أ�سفاره وال�صعوبات التي تكبدها للو�صول �إىل نبات اخللود‪ ،‬يخ�سر النبات خالل حماولته‬ ‫ف�شمت احل َّية �شذى (نف�س) النبات واختطفتها(‪.)38‬‬ ‫النزول �إىل ماء بئر ليغت�سل‪َّ ،‬‬ ‫فالنبات‪� ،‬سر اخللود‪ ،‬يعي�ش يف �أعماق املياه‪ .‬وجلجام�ش خالل وروده املياه‪ ،‬اختطفت احل َّية‬ ‫النبات‪ .‬وهذا ما �س ّبب جللجام�ش خيبة وحزناً كبريين‪.‬‬ ‫كال�سحابة البعيدة بني دموع جلجام�ش‪ ،‬والوجود واخللود �أ�صبحا‬ ‫فالنبات امل�سروق �أ�صبح َّ‬ ‫�أبعد ما يكون و�أو�سع من متناوله‪ .‬فعامل الطبيعة هو عامل ُمطلق‪� ،‬إ َّنه عامل ُمرتبط بالوجود‪،‬‬ ‫حيث عنا�صر املياه والأ�شجار ترمزان للم�صاعب التي يواجهها الإن�سان يف �سبيل احلياة‪.‬‬ ‫كما �أعطى ال َّراوي لل ِّريح التي �ساعدت جلجام�ش و�إنكيدو يف التغلب على «خمبابا»‪ ،‬دوراً‬ ‫�إيجابياً‪ ،‬يف حني �أن العمل الذي قاما به‪« ،‬قتل خمبابا»‪ ،‬كان عنيفاً و�سلبياً‪.‬‬ ‫تلعب ال ِّريح دوراً مهماً يف جلجام�ش‪ ،‬ولكن املياه تبقى العن�صر املُ َه ْيمِ ن املُ ِ‬ ‫نا�سب للعطاء‬ ‫واخلري‪.‬‬ ‫ال�سفينة‪،‬‬ ‫�إن امللحمة تنتزع من جلجام�ش �أمل اخللود الذي يطفئ الأمل يف روحه وقلبه‪� .‬أما َّ‬ ‫فهي رمز امل�صري املت�أرجح بني �أمواج القدر‪ ،‬الذي تع�صف فيه ال ِّرياح‪ .‬ف�سفينة احلياة‪ ،‬ال‬ ‫حمالة‪ ،‬متجهة �إىل الظالم والفناء‪ .‬لكن «�أوتو–نب�شتم» الذي ُم ِن َح الأبد َّية‪ ،‬مل يحتفظ بحيو َّية‬ ‫ال�شَّ باب‪ ،‬بل بدا كه ًال ُم�ستلقياً على فرا�شه‪ ،‬بال حياة وال حيو َّية(‪.)39‬‬ ‫ففي نهاية امللحمة‪ ،‬جند جلجام�ش «امللك» الذي كان بعيداً عن هموم جمتمعه ومنغم�ساً‬ ‫يف نزعاته ال�شَّ خ�ص َّية واملاد َّية‪ ،‬حتول �إىل �إن�سان حكيم وحزين ُم�ست�سلماً للقدر‪ ،‬وذلك نتيجة‬ ‫الدر�س الذي تعلمه من الطبيعة‪ .‬الطبيعة هي َم ْن ُيلهِم الإن�سان الإميان واال�ستمرار‪ .‬ف�أخذت‬ ‫و�شدة املعاناة‪ ،‬املرتبطة‬ ‫خا�صة‪ ،‬تتعلق بالعذاب و�صالبة الإرادة َّ‬ ‫امللحمة تعطي جلجام�ش �أهم َّية َّ‬ ‫يتم�سك ب�أمل اخللود‪ ،‬عرب‬ ‫جميعها مب�صري ال�شَّ ر ولي�س الآلهة‪ .‬ولكن جلجام�ش‪ ،‬يف النهاية‪َّ ،‬‬ ‫�أعماله و�سريته احل�سنة مع �أهل �أوروك‪ ،‬يهبه احلياة واخل�صب بعد املوت‪.‬‬ ‫هكذا‪ ،‬تبقى ملحمة جلجام�ش‪� ،‬أثراً �أدب َّياً تاريخ َّياً‪ ،‬يحمل قيمتني �أ�سا�س َّيتني‪ :‬الأوىل تاريخ َّية‪،‬‬ ‫كونه يعود �إىل �أربعة �آالف �سنة‪ ،‬والثانية �أدب َّية ثقافية لأنه يعك�س ثقافة �شعوب املنطقة وارتباطها‬ ‫‪162‬‬


‫�أدب‬

‫باملحيط الطبيعي يف العراق‪ ،‬وقد �أثرت امللحمة ت�أثرياً كبرياً يف الأدب الكال�سيكي العاملي‪،‬‬ ‫خا�صة اليوناين منه‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫خال�صة‪:‬‬

‫ُتعترب ملحمة جلجام�ش من �أقدم املالحم و�أكرثها �أهم َّية‪ ،‬وتتم َّيز ب�سرد �أحداث يتداخل‬ ‫ويتم �سرد‬ ‫فيها الإن�سان والآلهة‪ ،‬وي�ستعمل‪ ،‬غالباً‪ ،‬فيها التكرار لت�أكيد �أهم َّية الأحداث‪ّ .‬‬ ‫ال�سرد املُتد ِّرج املُط َّول‪� .‬إ َّنها ملحمة درام َّية‬ ‫الأحداث مط َّو ًال بحيث �أنَّ حرك َّية احلدث تتط َّلب َّ‬ ‫بامتياز‪َّ ،‬‬ ‫ترتكز �أحداثها حول بطل واحد‪ ،‬يتم َّيز عن باقي الب�شر‪ ،‬فثلثاه من عن�صر �إلهي (من‬ ‫ال�صعاب‬ ‫ناحية الأم)‪ ،‬والثلث الآخر من الب�شر (من جهة الأب)‪ .‬فالبطل جلجام�ش يخو�ض ِّ‬ ‫خا�ضعاً‬ ‫واملُغامرات ليح�صل على اخللود‪ ،‬وعندما ي�ستحيل ذلك‪ ،‬يعود �إىل مدينته �أوروك ِ‬ ‫لقانون احلياة واملوت (الذي هو نهاية كل �إن�سان على هذه الأر�ض)‪.‬‬ ‫�أما يف ما يتعلق باللغة والأ�سلوب‪ ،‬ح�سب ما يلم�س القارئ يف ترجمة ملحمة جلجام�ش لطه‬ ‫باقر من �أ�صلها القدمي‪ ،‬فهي تتم َّيز بالب�ساطة واعتمادها اللغة البالغ َّية الغن َّية بالت�شبيهات‬ ‫الدقيق‪� ،‬سواء من جهة الو�صف اخلارجي‬ ‫واال�ستعارات‪ ،‬كما تعتمد الأ�سلوب الو�صفي َّ‬ ‫الداخلي (كما ورد يف و�صف حالة اخلوف‬ ‫(كما ورد يف و�صف البطل اجل�سدي)‪� ،‬أو الو�صف َّ‬ ‫والأحالم التي يراها �إنكيدو وجلجام�ش)‪.‬‬ ‫وتبقى ملحمة جلجام�ش امللحمة التاريخ َّية الأوىل وحا ِفظة تراث بالد ما بني ال َّنهرين‪،‬‬ ‫ُم�ستلهِ مة �أحداثها من ثقافة هذه املنطقة‪ ،‬وطبيعتها التي هي م�صدر الإلهام الف ِّني للكاتب‪.‬‬ ‫وبهذه امللحمة‪ ،‬ا�ستخدم الكاتب �أ�سلوباً خيال َّياً وبنى عليه الواقع يف عمل ف ِّني درامي ُمتكا ِمل‬ ‫احللقات‪.‬‬

‫‪163‬‬


‫الهوام�ش‬

‫(‪ )1‬رياض‪ ،‬عبد الفتاح‪« ،‬التكوين يف الفنون التشكيلية»‪ ،‬دار النهضة العربية‪ ،‬الطبعة األوىل‪،‬‬ ‫مرص‪ ،‬القاهرة‪.1986 ،‬‬ ‫(‪ )2‬كارتر‪ ،‬ديفيد‪« ،‬النظرية األدبية»‪ ،‬ترجمة د‪ .‬باسل املساملة‪ ،‬دار التكوين‪ ،‬دمشق‪ ،‬سوريا‪،‬‬ ‫الطبعة األوىل‪.2010 ،‬‬ ‫(‪ )3‬جراد‪ ،‬جورج‪« ،‬النقد البيئي»‪ ،‬ترجمة عزيز صبحي جابر‪ ،‬هيئة أبو ظبي للثقافة والرتاث‪،‬‬ ‫الطبعة األوىل‪.2009 ،‬‬ ‫‪)4(FirasSawah,”First Mind Adventure”, A Study in Myth, Syria, The Land of‬‬ ‫‪Two Rivers “Ard Al-Rafidayn”, ed. 11. Damascus, 1976.‬‬ ‫‪(5) Philip Freund, “Myths of Creation”, W. H. Allen, London, 1964. Quoted‬‬ ‫‪inFirasSawah,”First Mind Adventure”.‬‬ ‫‪(6) G. S. Kirk, “Greek Myths”, Pelican Book, 1977.‬‬ ‫‪(7) FirasSawah,”First Mind Adventure”.‬‬ ‫‪(8) Ibid.‬‬ ‫‪(9) Ibid.‬‬ ‫‪(10) Ibid.‬‬ ‫‪(11) Ibid.‬‬ ‫(‪ )12‬باقر‪ ،‬طه‪« ،‬ملحمة جلجامش»‪ ،‬ط ‪.1‬‬ ‫(‪ )13‬باقر‪ ،‬طه‪« ،‬ملحمة جلجامش»‪ ،‬الطبعة الرابعة‪ ،‬الوراق‪.2017 ،‬‬ ‫(‪ )14‬املصدر السابق‪.‬‬ ‫(‪)15‬املصدر السابق‪.‬‬ ‫(‪ )16‬إحدى اآللهات الخالقات‪.‬‬ ‫(‪)17‬باقر‪ ،‬طه‪« ،‬ملحمة جلجامش»‪ ،‬الطبعة الرابعة‪ ،‬الوراق‪.2017 ،‬‬ ‫‪164‬‬


‫�أدب‬

‫(‪ )18‬املصدر السابق‪.‬‬ ‫(‪ )19‬املصدر السابق‪.‬‬ ‫(‪ )20‬املصدر السابق‪.‬‬ ‫(‪ )21‬أم جلجامش‪ ،‬اآللهة «ننسون»‪.‬‬ ‫(‪ )22‬باقر‪ ،‬طه‪« ،‬ملحمة جلجامش»‪ ،‬الطبعة الرابعة‪ ،‬الوراق‪.2017 ،‬‬ ‫(‪ )23‬يختلف ال ُّنقاد حول املكان الذي ق َ​َص َد ُه البطالن يف مغامرتهام‪ ،‬فمنهم َم ْن يقول إنَّهام‬ ‫ق َ​َص َدا غابة األرز يف جبال لبنان‪ ،‬ومنهم َم ْن يقول إنَّهام ق َ​َص َدا األمانوس يف شامل سورية‪ ،‬ومنهم‬ ‫َم ْن يقول إنَّهام ق َ​َص َدا جبال طوروس‪ ،‬املألى بغابات األرز‪ ،‬فاقتىض التنويه‪.‬‬ ‫(‪ )24‬باقر‪ ،‬طه‪« ،‬ملحمة جلجامش»‪ ،‬الطبعة الرابعة‪ ،‬الوراق‪.2017 ،‬‬ ‫(‪ )25‬املصدر السابق‪.‬‬ ‫(‪ )26‬املصدر السابق‪.‬‬ ‫(‪ )27‬املصدر السابق‪.‬‬ ‫(‪ )28‬املصدر السابق‪.‬‬ ‫(‪ )29‬اسم بطل الطوفان البابيل الذي يحتمل أن يكون اسمه يعني بالبابلية‪« :‬الذي أدرك‬ ‫الحياة»‪.‬‬ ‫(‪ )30‬باقر‪ ،‬طه‪« ،‬ملحمة جلجامش»‪ ،‬الطبعة الرابعة‪ ،‬الوراق‪.2017 ،‬‬ ‫(‪ )31‬املصدر السابق‪.‬‬ ‫(‪ )32‬املصدر السابق‪.‬‬ ‫(‪ )33‬املصدر السابق‪.‬‬ ‫(‪ )34‬املصدر السابق‪.‬‬ ‫(‪ )35‬املصدر السابق‪.‬‬ ‫(‪ )36‬املصدر السابق‪.‬‬ ‫(‪ )37‬املصدر السابق‪.‬‬ ‫‪165‬‬


‫(‪ )38‬املصدر السابق‪.‬‬ ‫(‪ )39‬املصدر السابق‪.‬‬ ‫امل�صادر واملراجع‬ ‫أ‪ -‬املراجع العربية‪:‬‬ ‫(‪ )1‬باقر‪ ،‬طه‪« ،‬ملحمة جلجامش»‪ ،‬الطبعة الرابعة‪ ،‬الوراق ‪.2017‬‬ ‫(‪ )2‬جراد‪ ،‬جورج‪« ،‬النقد البيئي»‪ ،‬ترجمة عزيز صبحي جابر‪ ،‬هيئة أبو ظبي للثقافة والرتاث‪،‬‬ ‫الطبعة األوىل‪.2009 ،‬‬ ‫(‪ )3‬رياض‪ ،‬عبد الفتاح‪« ،‬التكوين يف الفنون التشكيلية»‪ ،‬دار النهضة العربية‪ ،‬ط ‪ ،1‬مرص‪،‬‬ ‫القاهرة‪.1986 ،‬‬ ‫(‪ )4‬كارتر‪ ،‬ديفيد‪« ،‬النظرية األدبية»‪ ،‬ترجمة باسل املساملة‪ ،‬دار التكوين‪ ،‬دمشق‪ ،‬سوريا‪،‬‬ ‫الطبعة األوىل‪.2010 ،‬‬ ‫(‪ )5‬السواح‪ ،‬فراس‪« ،‬مدخل إىل تاريخ الرشق القديم»‪،‬‬ ‫‪- http: // aleftoday. Info/article.‬‬ ‫ب‪ -‬املراجع األجنبية‪:‬‬ ‫‪(1) G. S. Kirk, “Greek Myths”, Pelican Books, 1977.‬‬ ‫‪(2) Kroeber, Karl, “Ecological Literary Criticism, Romantic Imagining and the‬‬ ‫‪Biology of Mind”, Colombia University Press, 1994.‬‬ ‫‪(3) Freund, Philip, “Myths of Creation”, W. H. Allen, London, 1964. (Quoted‬‬ ‫‪in FirasSawah, “First Mind Adventure”, A Study in Myth, Syria, The Land of‬‬ ‫‪Two Rivers, “Ard Al Rafidayn”, ed. 11, Damascus, 1976.‬‬ ‫ج‪ -‬الدوريات‪:‬‬ ‫(‪ )1‬السعد‪ ،‬أحمد‪« ،‬جدلية اإلنسان والطبيعة يف أدب البحار»‪ ،‬الحياة‪.2015 ،‬‬ ‫‪166‬‬


‫�أدب‬

‫الإيطاء عند حميي الدين بن عربي‬ ‫رامز عو�ض ‪ -‬طالب دكتوراه‬

‫جدا باملقارنة مع العدد الهائل من‬ ‫من املعلوم �أن ما �ألفه القطب الأكرب من ال�شعر كان حمدوداً ّ‬ ‫م�ؤلفاته املنثورة‪ .‬وتنح�صر �أعماله ال�شعرية يف اثنني‪" :‬ترجمان الأ�شواق" والديوان‪.‬‬ ‫الغنائي‪ ،‬ان�صب الرتكيز يف اجلزء الأكرب من‬ ‫وبخالف كتاب "ترجمان الأ�شواق" ذي الطابع‬ ‫ّ‬ ‫الديوان على تناول م�سائل غيبية‪.‬‬ ‫ويف هذا البحث �سيتم تناول مزايا �شكلية غري م�ألوفة ت�شكل انعكا�ساً �أ�سلوب ّياً لبع�ض �أفكار ابن‬ ‫عربي‪ .‬واملق�صود بذلك ظاهرة الق�صيدة الأحادية القافية �أو الإيطاء املتك ّرر على امتداد ق�صيدة‬ ‫ب�أكملها‪.‬‬ ‫تعمد ذلك‪ .‬ومن‬ ‫وبنظمه ق�صائد من هذا النوع‪ ،‬ك�سر ابن عربي قواعد النظم التقليدية‪ .‬ولقد ّ‬ ‫�أجل معرفة الأ�سباب وراء ذلك‪ ،‬يح ّلل هذا البحث ق�صيدة من هذا النوع البن عربي ويقارنها‬ ‫القرو�سطي‪.‬‬ ‫ب�أمثلة �أخرى من الأدب العربي ومن الأدب الأوروبي‬ ‫ّ‬ ‫قبل االنتقال �إىل حتليل ق�صيدة ال�شيخ الأكرب‪ ،‬من املفيد الإ�شارة �إىل �أن هذا امللمح الأ�سلوبي‬ ‫الإيقاعي الذي ي�شكل انزياحاً ب ّيناً ظهر قبل ابن عربي ولكنه مل يكن منت�شراً‪ ،‬بل اقت�صر على‬ ‫بع�ض ال�شعراء الذين جت ّر�أوا وعمدوا �إىل الإيطاء يف القافية‪ ،‬ومنهم اّ‬ ‫احللج كما �سرنى‪ .‬كما �أن‬ ‫هذه الظاهرة الأ�سلوبية انتقلت �إىل ال�شعر الأوروبي بت�أثري من الثقافة العربية الإ�سالمية‪ .‬وهذا‬ ‫ومعمقاً‪ .‬ن�أمل يف امل�ستقبل �أن يتج�شّ م عناءه الباحثون نظراً لأهميته‪.‬‬ ‫وحده ي�ستحق بحثاً ّ‬ ‫مف�ص ًال ّ‬ ‫وقبل ال�شروع يف معاجلة الق�صيدة مو�ضوع البحث‪ ،‬ال بد من مدخل �إيقاعي يلقي ال�ضوء على‬ ‫الإيطاء يف القافية‪.‬‬ ‫‪167‬‬


‫وا�شتق من املواط�أة مبعنى املوافقة‪.1‬‬ ‫الروي‪ّ .‬‬ ‫يعني الإيطاء تكرار كلمة ّ‬ ‫ويفي�ض ح�سني ن�صار يف ا�ستعرا�ض �آراء النقاد يف املو�ضوع لي�صل �إىل خال�صة مفادها �أن الإيطاء‬ ‫لي�س بالعيب املو�سيقي‪ ،‬فال ن�شاز فيه على ال�صوت املو�سيقي‪ ،‬بل �إنه يحقّق التماثل ال�صوتي‬ ‫التا ّم‪ ،‬و�إمنا هو عيب يف القدرة التعبريية عند ال�شاعر‪.2‬‬ ‫ولكن الإيطاء عند ال�شيخ الأكرب لي�س عيباً يف قدرته التعبريية بل هو نظر لأمر �آخر قد يكون‬ ‫يف ما ذهب �إليه �شكري ع ّياد �إلقاء لل�ضوء على مقا�صد الإيطاء الأخرى‪ .‬قال‪" :‬ال�شاعر يزيد‬ ‫يوجه الذهن �إىل متاثل املعنى ي�صرفه عن‬ ‫نغمه خفوتاً بلجوئه املتكرر �إىل الإيطاء‪ ..‬فالإيطاء‪� ،‬إذ ّ‬ ‫متاثل النغم"‪.3‬‬ ‫ولعل هذا ما رمى �إليه ابن عربي بالإيطاء يف ق�صيدته‪� :‬صرف الذهن عن متاثل النغم وتوجيهه‬ ‫�إىل متاثل املعنى‪ ..‬فلنذهب �إىل مقطوعته‪:‬‬ ‫نبي �ســـــ ّره ُ‬ ‫اهلل‬ ‫اهلل �أنزل نوراً ي�ست�ضـــــــاء بــــــــه على فــــــ�ؤاد ًّ‬ ‫�أتى بــــه روحه مـن فوق �أرقعة‬

‫�سبع �إىل قلبه وال�ســـــامع ُ‬ ‫اهلل‬

‫منه �إليه بـــــه كان النزول لـــــه‬

‫فلي�س يف الكون �إال الواحد ُ‬ ‫اهلل‬

‫واجل�سم وال َع َر�ض امل�شهود فيه ومـا يف الغيب مــــــــــا مل تراه ذلك ُ‬ ‫اهلل‬ ‫وال تناق�ض يف مـــــا قلته ف�أنـــــــ عني الكثري وعيني الواحــــــد ُ‬ ‫اهلل‬ ‫حيث يقول �إن املعرفة الربانية ح ّلت يف قلب النبي‪ ،‬وهي معرفة قر�آنية عند النبي وقر�آنية‬ ‫وعرفانية عند ابن عربي‪ .‬والقلب باملفهوم القر�آين هو الوعاء الذي ير�سل �إليه اهلل قب�ساته‪ .‬ولكن‬ ‫ما يلفت هنا هو �أن ابن عربي يعترب �أن القلب وال�سمع وال�شهادة هي تلك التي هلل‪ ..‬فال�سامع‬ ‫اهلل‪ ،‬والنزول منه وبه و�إليه‪ .‬وكالم ال�شاعر يعك�س ر�ؤية توحيدية هلل‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬ف�إن الق�صد ّية‬ ‫‪1‬ـــ حسني نصار‪ ،‬القافية يف العروض واألدب‪ ،‬مكتبة الثقافة الدينية‪ ،‬بور سعيد‪ ،‬ط‪ ،2001 ،1‬ص ‪.110‬‬ ‫‪ 2‬ـــ حسني نصار‪ ،‬ص ‪.113‬‬ ‫‪ 3‬ـــ إبراهيم أنيس‪ ،‬موسيقى الشعر‪ ،‬ص ‪.130‬‬ ‫‪168‬‬


‫�أدب‬

‫الكامنة يف �أعمال القطب الأكرب لي�ست التعبري عن فكرة توحيدية وا�سعة االنت�شار بقدر ما هي‬ ‫نوع من التوتر اخلالق بني هذه الفكرة والثنائية التقليدية بني اهلل وخلقه‪.‬‬ ‫وميثل البيت اخلام�س منوذجاً للتكتيك الذي يتبعه ابن عربي يف مفاج�أة القارئ �أو �إرباكه‪ ،‬مبزجه‬ ‫عبارة حتمل تناق�ضاً بت�أكيده �أن "ال تناق�ض يف ما قلته‪ ".‬وميتد هذا التكتيك يف الأبيات التالية‪.‬‬ ‫‪1‬‬ ‫ففي �أحدها يقول‪:‬‬ ‫له اليمني له العينانِ يف خ ٍرب �أتى به منه والآتي هو ُ‬ ‫اهلل‬ ‫مقرتحاً فهماً �أكرث جر�أة من املعهود لعي َني اهلل ويديه‪ .‬وقد �أورد �آنفاً �أن متلقي ر�سالة اهلل هو اهلل‬ ‫نف�سه‪ ،‬معيداً �إىل الأذهان فكرة �أن اهلل ي�صبح ب�صر امل�ؤمن و�سمعه‪.‬‬ ‫ويف بيتني �آخرين يقول‪ :‬ودائماً يف �سياق التعبري عن وحدانية اهلل‪:2‬‬ ‫فانظره يف �شج ٍر وانظره يف حج ٍر‬ ‫كل الأ�سامي له �إن كنت تعقلـــــه‬

‫كل �شيء ذلك ُ‬ ‫وانظره يف ّ‬ ‫اهلل‬ ‫امل�سمى بها فك ّلهــــــــــــا اهلل‬ ‫هو ّ‬

‫وامل�سمى معاً‪.‬‬ ‫رابطاً كل �شيء باهلل‪ ،‬فهو يف ال�شجرة واحلجر وكل �شيء‪ ..‬وهو الأ�سماء كلها ّ‬ ‫ومثل هذه الر�ؤية ت ّتفق مع املو�ضوع‪� :‬أ�سماء اهلل وا�سطة وحدان ّيته يف العامل‪.‬‬ ‫ويف الأبيات الأربعة الأخرية يقول‪:‬‬

‫‪3‬‬

‫ما ّثم واهلل �إال حرية ظهرت‬ ‫لو كان ّثم وجود ما هـو اهلل‬

‫وبي حلفت و�إن املق�سم ُ‬ ‫اهلل‬ ‫مل ينفرد بالوجود الواحد ُ‬ ‫اهلل‬

‫بل احلدوث لنا وما يتابعـــــه وهذه ن َِ�سب والثـــــــــــابت ُ‬ ‫اهلل‬ ‫ينوب عنا و�إ ّنا منه يف عدم‪ - -‬ونحن ن�شهد وال�شــــــــاهد ُ‬ ‫اهلل‬ ‫‪1‬ـــ ديوان ابن عريب‪ ،‬ص ‪.415‬‬ ‫‪2‬ـــ م‪.‬ن‪ ،‬املوضع نفسه‪.‬‬ ‫‪3‬ـــ م‪.‬ن‪ ،‬ص ‪.416‬‬ ‫‪169‬‬


‫وي�ؤكد الوحدانية الإلهية و�أن املن�سوب �إلينا هو الوجود (احلدوث) الذي �أعطاه لنا اهلل‪ .‬ولكن‬ ‫كل هذا طارئ ولي�س موجوداً �إال يف ما يتعلق ب�شيء �آخر‪ .‬واهلل وحده دائم‪ .‬وبهذا املعنى �إن‬ ‫اهلل هو م�صدرنا‪ .‬وحني ن�شهده‪ ،‬ف�إنه بالتايل ي�شهد نف�سه‪.‬‬ ‫ويف هذا اال�ستنتاج‪ ،‬يعيدنا ابن عربي �إىل مو�ضوع ورد يف كتاباته‪ :‬فكرة �أن اهلل يرى نف�سه من‬ ‫خالل العامل الذي خلقه‪� .‬إن املو�ضوع املثبوت يف �أرجاء الق�صيدة هو �أن ّ‬ ‫كل �شيء مرجعه اهلل‪.‬‬ ‫وما الإيطاء املتكرر يف كل �أبياتها �إال و�سيلة مفيدة لإبراز الفكرة‪ .‬فالأبيات تت�شابه يف تكرارها‬ ‫هذه الالزمة‪ :‬الرجوع الدائم �إىل امل�صدر الإلهي‪ .‬ويف كل مرة يخو�ض فيها ابن عربي جما ًال‬ ‫فكرياً جديداً يعيده ال�شطر الثاين من البيت �إىل اهلل‪.‬‬ ‫ويف هذه املجاالت الفكرية ُتالعب الق�صيدة ال�سال�سل املنطقية من �أجل اال�ستمتاع بها ولي�س‬ ‫من �أجل ّ‬ ‫حل التناق�ضات‪ .‬وهي �أي�ضاً مهتمة بنقل املعلومات‪ ،‬ولكنها لي�ست ّن�صاً تعليمياً‪.‬‬ ‫والوزن ال�شعري يتطلب �صياغة احلجج على نحو دقيق‪ .‬والرابط بني البيت وما يليه لي�س‬ ‫�ضمني‪ ..‬ويرتك للقارئ ا�ستخدام خياله لفهم الق�صيدة‪.‬‬ ‫مك�شوفاً �أو ب ّيناً بل هو ّ‬ ‫للحجة �أن ت�سلك م�سارها املتع ّرج وهو ي�ؤوب دائماً �إىل اهلل‪.‬‬ ‫واللجوء �إىل الإيطاء هو ما يتيح ّ‬ ‫الإيطاء التام يف الأدب العربي‬ ‫مل يكن ابن عربي �أ ّول من كتب ق�صيدة ذات �إيطاء تا ّم �أو متكرر على امتداد الق�صيدة كلها‪.‬‬ ‫هذه الظاهرة الإيقاعية كانت موجودة على هام�ش التقليد ال�شعري ويف ق�صائد جمهولة و�شظايا‬ ‫معزولة من ب�ضعة �أ�سطر‪ .‬والالفت �أن معظم م�ؤ ّلفيها من ال�صوفية والإيطاء يف كلمة "اهلل" �أو‬ ‫ما �شابهها‪.‬‬ ‫من هذه الن�صو�ص ق�صيدة للمت�صوف "ذو النون امل�صري" ُذكرت يف "كتاب اللمع يف‬ ‫الت�صوف" لل�س ّراج الطو�سي‪:1‬‬ ‫مــــــــــن الذ باهلل جنــــــــــــــا باهلل‪ - -‬و�س ّره مــــــــــ ُّر ق�ضــــــــــاء اهلل‬ ‫‪ 1‬ـــ ابو نرص الرساج الطويس‪ ،‬اللمع‪ ،‬حققه عبد الحليم محمود وضه عبد الباقي رسور‪ ،‬دار الكتب الحديثة مبرص ومكتبة‬ ‫املثنى ببغداد‪ ،1960 ،‬ص‪.317‬‬ ‫‪170‬‬


‫�أدب‬

‫�إن مل تكن نف�سي بكف اهلل‪ - -‬فكيف �أنقاد حلكــــــــم اهلل‬ ‫هلل �أنفــــــــــــــــا�س جـــــــــــرت هلل‪ - -‬ال حول يل فيها بغري اهلل‬ ‫واملالحظ يف هذه املقطوعة �أنها‪ ،‬ب�صورة عامة‪ ،‬ب�سيطة من الناحية البالغية وباملقارنة مع مقطوعات‬ ‫ابن عربي ذات الإيطاء املتكرر يربز‪ ،‬ب�شكل خا�ص‪ ،‬غياب البعد املاورائي‪.‬‬ ‫عما يريد اهلل‬ ‫وما معنى "حكم" اهلل يف هذا ال�سياق‪ ،‬الوارد عند "ذو النون" �سوى التعبري ّ‬ ‫بكل ب�ساطة‪ .‬ولي�س احلكم الوجودي ال�شامل‪� .‬إنّ غاية الق�صيدة‪ ،‬مرة �أخرى‪ ،‬هي الت�أثري يف‬ ‫امل�ستمعني‪ .‬وتركيز اهتمامهم على اهلل‪ .‬واللجوء �إىل الإيطاء املتكرر هو ربط كل بيت باملو�ضوع‬ ‫ربطاً �صوت ّياً �إيقاع ّياً ي�ؤدي هذه الوظيفة الدالل ّية‪ .‬وتتجلى الوظيفة الداللية نف�سها لهذه الظاهرة‬ ‫الأ�سلوبية الإيقاعية عند كثري من ال�صوفية‪ .‬نذكر منهم على �سبيل املثال‪ ،‬ال احل�صر‪�" ،‬أبو‬ ‫احل�سن حمرز بن جعفر"‪ 1‬الذي نظم ق�صيدة من ‪ 24‬بيتاً يكرر يف نهاية كل بيت منها الزمة‬ ‫"فاطل ْبني جتدين"‪ .‬وت�شرتك مع ق�صائد �صوفية لآخرين كـ "ذو النون" يف �أن الر�سالة الأ�سا�سية‬ ‫املراد �إي�صالها هي �أن اهلل ي�ساعد من يطلب منه امل�ساعدة‪ .‬ويف خل ّوها من الأبعاد املاورائ ّية‬ ‫املوجودة عند ابن عربي‪ ،‬ويف الوظيفة الداللية للإيطاء وهي تركيز االنتباه على اهلل‪ ،‬نقتطف‬ ‫منها هذه الأبيات‪:‬‬ ‫جتدين راحما بـــــــــــ ّراً ر�ؤوفــــــا‬ ‫جتدين ماجداً �صمداً كرميا‬ ‫جتدين م�ستغيثاً بي مغيثــــــــاً‬

‫�أنا الرحمن فــــاطلبني جتدين‬ ‫كثري ال ّرب فــــاطلبني جتدين‬ ‫�أنـــــــا اجل ّبار فاطلبني جتدين‬

‫�إذا اللهفان ناداين كظيما‬

‫� ْ‬ ‫أقـــل ل ّبيك فاطلبني جتدين‬

‫�إذا امل�ضطر قال �أال تراين‬

‫نظرت �إليه فاطلبني جتدين‬

‫تتو�سل‬ ‫ويف هذا اخلط �أي�ضاً تندرج بع�ض ق�صائد ال�صويف �أحمد بن م�صطفى العلوي التي ّ‬ ‫‪ 1‬ـــ ابو القاسم حمزة السهمي الجرجاين‪ ،‬تاريخ جرجان‪ ،‬حققه محمد عبد املعيد خان‪ ،‬عامل الكتب‪ ،‬بريوت‪ ،1987 ،‬ص ‪.563 – 562‬‬ ‫‪171‬‬


‫املو�سيقى لإحداث الت�أثري االنت�شائي املطلوب يف امل�ستمعني‪ .‬يقول‪:1‬‬ ‫مريداً بــــــــــاد ْر بقلب حا�ضر ل�سانٍ ذاكـــ ْر‬ ‫ّ‬ ‫أماجد‬ ‫كل‬ ‫ت�شاهد‬ ‫الفوائــــــد �س ّر ال ْ‬ ‫ْ‬ ‫جاهد ْ‬ ‫ْ‬

‫بقــــــــولك اهلل‬ ‫يف ذكرك اهلل‬

‫�شو�س يل بايل‬

‫حب املوايل‬ ‫ّ‬

‫�أهل الكمال‬

‫عرفوين اهلل‬

‫َر َّوح يا حادي‬

‫بذكر �أ�سيادي‬

‫جذبوا ف�ؤادي‬

‫حل�ضرة اهلل‬

‫وال يقت�صر يف ذكر كلمة اهلل مكررة يف القافية بل يختم بها ال�شطر الأول من كل بيت كذلك‪،‬‬ ‫كما يف هذا املثل من هذه الق�صيدة‪:2‬‬ ‫يا رجال غابوا يف ح�ضرة اهلل‬

‫كالثليج ذابــــــــــــــــــوا واهلل وا ِهلل‬

‫تراهــــم حيارى يف �شهود اهلل‬

‫تراهــــــــــــــم �سكارى واهلل وا ِهلل‬

‫تراهم ن�شاوى عند ذكر اهلل‬ ‫�إن غ ّنى املغ ّني بجمــــــــــال اهلل‬

‫عليهم طالوة من ح�ضرة اهلل‬ ‫فقامـــــــــــوا للمغني طرباً باهلل‬

‫يف ظاهرة �أ�سلوبية تكرارية �إيقاعية غايتها الداللية التعبري عن حمور حياة ال�صويف وو�سيلته‬ ‫وغايته وكل وجوده وهو اهلل‪.‬‬ ‫معدة للغناء �أو للإن�شاد ولي�س للغو�ص يف الغيبيات كما هي احلال عند القطب‬ ‫�إن ق�صائد كهذه ّ‬ ‫الأكرب‪.‬‬ ‫ويف الإطار الغنائي الإن�شادي نف�سه ُتفهم بع�ض �أبيات مت�صوف �آخر‪ ،‬من ُعمان‪ ،‬هو �أبو م�سلم‬ ‫البهالين الذي قال‪ ،‬على �سبيل املثال‪:3‬‬ ‫‪ 1‬ـــ ديوان أحمد بن مصطفى العلوي‪ ،‬املطبعة العلوية مبستغانم‪ ،‬الطبعة الرابعة (د‪.‬ت‪ ،).‬ص ‪.66‬‬ ‫‪ 2‬ـــ ديوان احمد بن مصطفى العلوي‪ ،‬ص ‪.66‬‬ ‫‪ 3‬ـــ ديوان أبو مسلم البهالين‪ ،‬وزارة الرتاث القومي والثقافة‪ ،‬مسقط‪ ،1980 ،‬ص ‪.241‬‬ ‫‪172‬‬


‫�أدب‬

‫مبــــــــا يقــــوم بحق احلمد هلل‬

‫احلمد هلل حق احلمــد هلل‬

‫احلمد هلل �إطالقاً بال �أمــــــــــــــدٍ‬ ‫احلمد هلل �أهل احلمد يف �أزل‬

‫قبل الوجود وجوب احلمد هلل‬ ‫قبل الإ�ضافات منـ ّـا احلمد هلل‬

‫وال �شك �أن ابن عربي كان ّمطلعاً على هذه النماذج من الق�صائد ال�صوفية ذات الإيطاء‬ ‫املتكرر‪ ،‬ذلك �أنها توالت على مدى مئات ال�سنني قبله‪ .‬ولكن ما مي ّيز جتربته الإيطائية عن غريها‬ ‫�أنه لقّحها بتجربته الغيبية اخلا�صة‪ .‬فهو �إذاً ا�ستعان ب�إطار �إيقاعي كان موجوداً قبله و�أخ�ضعه‬ ‫لأ�سئلته الغيبية مبا�شرة‪.‬‬ ‫ولكن ابن عربي مل يكن يف ذلك الأول‪ ..‬فهناك من �سبقه �إىل اختبار الأغوار الغيبية الروحية‬ ‫احللج‪ ،‬جند تطويراً �أو تنامياً‬ ‫مبثل هذا امل�ستوى من العمق واالبتكار‪ .‬ففي �إحدى مقطوعات اّ‬ ‫ل�سل�سلة ق�صرية من اال�ستنتاجات والرباهني بد ًال من ا�ستخدام كل بيت للعودة �إىل النقطة‬ ‫الرئي�سية و�إبراز �أهميتها يقول‪:1‬‬ ‫ر�أيت ربـــــــــي بعني قلبي‬ ‫فلي�س للأين منك �أيـــــــــــن‬ ‫� َأنت الذي حزت كل �أين‬

‫فقلت‪ :‬ال �شك �أنت‪َ � ،‬أنت‬ ‫ولي�س �أيـــــــــــــــــــن بحيث � َأنت‬

‫فحيث ال �أيــــــــــــــــــن ّثم � َأنت‬ ‫الوهم �أيــــن � َأنت‬ ‫فيعلم ُ‬

‫ولي�س للوهم منك وهـــــ ٌم‬ ‫ففي البيت الأول يطالعنا غمو�ض وجتاوز اعتماداً على الطريقة التي ُي�ؤَ َّول بها وتنتهي املقطوعة‬ ‫ب�س�ؤال مفتوح‪ .‬وهي تدور حول التفاعل بني كلمتي "�أين" و"�أنت" تفاع ًال حمكم البناء‪.‬‬ ‫والإيطاء هنا مل ي�ستخدم لربط الق�صيدة فقط‪ ،‬بل للتعبري عن هاج�س ال�شاعر يف البحث و�سرب‬ ‫�أغوار جتربته ال�صوفية‪ .‬وعند هذه النقطة‪ ،‬يبدو احلالج �أقرب �إىل �شعر ابن عربي‪ .‬وال ريب يف‬ ‫�أن الأخري اطلع على الق�صيدة احلالجية‪ .‬ففي الفتوحات املكية‪ ،‬يقول‪:2‬‬ ‫‪ 1‬ـــ كامل مصطفى الشيبي‪ ،‬رشح ديوان الحالج‪ ،‬منشورات الجمل‪ ،‬بغداد – بريوت‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،2012 ،‬ص ‪.190 – 189‬‬ ‫‪ -2‬محيي الدين بن عريب‪ ،‬الفتوحات املكية‪ ،‬تحقيق عثامن يحيى‪ ،‬الهيئة املرصية العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪ ،1983 ،‬السفر الثامن‪ ،‬ص ‪.392‬‬ ‫‪173‬‬


‫ر�أيت ربي بعني ر ّبي‬

‫فقلت‪ :‬ربي! فقال‪َ � :‬أنت!‬

‫وتو�سلها الإيطاء‬ ‫وتلتقي ق�صيدة احلالج مع ق�صيدة ابن عربي يف بنيتها القائمة على التناق�ض‪ّ ،‬‬ ‫ملح‪ .‬ولكن ابن عربي يرفع الفكرة �إىل م�ستوى �أعلى وا� ً‬ ‫صال بها �إىل مدى‬ ‫تعبرياً عن هاج�س ّ‬ ‫فكري �أبعد و�أكرث تطوراً‪.‬‬ ‫ويف اخلال�صة ورد يف كثري من �شعراء ال�صوفية ق�صائد ذات �إيطاء متكرر‪ .‬والغاية منه كانت ذكر‬ ‫اهلل لأغرا�ض عباد ّية‪ .‬ولكن الإيطاء ا�س ُتخدم عند �شعراء �صوفية �آخرين لغر�ض خمتلف هو‬ ‫الو�صول باملفارقات يف التجربة ال�صوفية �إىل مدى بعيد ومتطور‪.‬‬ ‫وهذه هي حال ابن عربي الذي ا�ستك�شف خطوطاً فكرية متعرجة خمتلفة‪ .‬وبدت الدالالت‬ ‫اجلدلية يف ق�صيدته متجهة نحو �أفق �أبعد من الق�صيدة‪ ،‬بينما كانت كلمة القافية الوحيدة‬ ‫املتكررة (اهلل) تبقيها �ضمن حدودها يف �آن معاً‪.‬‬ ‫وبهذا املعنى تلتقي مع ق�صيدة قادمة من مقلب جغرايف �آخر‪ ،‬يف �أوروبا‪ ،‬حيث برزت ظاهرة‬ ‫�شعرية قريبة جداً من التجربة ال�شعرية العربية الإ�سالمية التي ت�ستخدم الإيطاء املتكرر‪ .‬وهذه‬ ‫‪2‬‬ ‫الظاهرة ُعرفت با�سم ق�صيدة "ال�س�ستينا"‪ 1‬التي ابتكرها الفرن�سي �أرنو دانيال"‪Arnaut‬‬ ‫‪ .Daniel‬ولقد �أُعجب "دانتي" به وبهذا النمط من الت�أليف ال�شعري‪ .‬وكال الرجلني ت�أثّر‬ ‫بالثقافة الإ�سالمية وفق اعتقاد كثري من الباحثني‪.‬‬ ‫وعند هذا احلد‪ ،‬ينتهي بحثنا طارحاً �أفقاً بحثياً هو م�س�ألة االت�صال �أو الت�أثري الذي مار�سته‬ ‫الق�صيدة العربية الإ�سالمية ذات الإيطاء املتكرر يف "�أرنو" و"دانتي"‪ .‬والقيود الر�سمية‬ ‫والت�أثريات االجتماعية والثقافية املت�شابهة التي ظهرت عند ه�ؤالء ال�شعراء يف اجلهتني‬ ‫املتقابلتني من البحر املتو�سط‪.‬‬ ‫‪1- Etudes sur Bertrand de Born, sa vie, ses œuvres et son siècle, Richard de Boysson, SLATKIN‬‬ ‫‪Reprints, Genève, 1973, p. 42.‬‬ ‫‪-2‬أرنو دانيال (‪1180‬م – ‪1200‬م) شاعر غنايئ فرنيس متج ّول‪ .‬انتهج يف شعره أسلوب تروبار كلوس “‪ ، ”Trobar Clus‬املؤلف‬ ‫من موازين وإيقاعات شعرية معقدة‪ ،‬تركز عىل النطق أكرث من املعنى‪ .‬وهو الذي ابتكر قصيدة السستينا "‪ "sextine‬القامئة‬ ‫عىل ستة مقاطع شعرية يُكتب كل منها يف ستة أسطر‪ .‬وقد مدحه برتارك ودانتي وعدّاه أعظم شاعر يف عرصه‪( .‬م‪ ،‬ن‪ ،‬ص ‪)389‬‬ ‫‪174‬‬


‫�أدب‬

‫امل�صادر واملراجع‬

‫‪ - 1‬ديوان الشيخ األكرب‪ ،‬محيي الدين بن عريب‪ ،‬راجعه وقدم له محمد ق ّجة‪ ،‬دار الرشق‬ ‫العريب‪ ،‬بريوت‪ ،‬د‪.‬ت‪.‬‬ ‫‪ - 2‬محيي الدين بن عريب‪ ،‬الفتوحات املك ّية‪ ،‬تحقيق عثامن يحيى‪ ،‬الهيئة املرصية العامة‬ ‫للكتاب‪ ،‬القاهرة‪ ،1983 ،‬الجزء الثامن‪.‬‬ ‫‪ - 3‬أبو نرص الرساج الطويس‪ ،‬اللمع‪ ،‬حققه عبد الحليم محمود وطه عبد الباقي رسور‪،‬‬ ‫دار الكتب الحديثة مبرص ومكتبة املثنى ببغداد‪.1960 ،‬‬ ‫السهمي الجرجا ّين‪ ،‬تاريخ جرجان‪ ،‬حققه محمد عبد املعيد خان‪ ،‬عامل‬ ‫‪ - 4‬أبو القاسم‬ ‫ّ‬ ‫الكتب‪ ،‬بريوت‪.1987 ،‬‬ ‫‪ - 5‬ديوان أحمد بن مصطفى العلوي‪ ،‬املطبعة العلوية مبستغانم‪ ،‬ط‪ ،4‬د‪.‬ت‪.‬‬ ‫‪ - 6‬ديوان أبو مسلم البهالين‪ ،‬وزارة الرتاث القومي والثقافة‪ ،‬مسقط‪.1980 ،‬‬ ‫‪ - 7‬كامل مصطفى الشيبي‪ ،‬رشح ديوان الحالج‪ ،‬منشورات الجمل‪ ،‬بغداد – بريوت‪ ،‬ط‪،2‬‬ ‫‪.2012‬‬ ‫‪8- Etudes sur Bertrand de Born, sa vie, ses œuvres et son siècle, Richard‬‬ ‫‪de Boysson, SLATKIN Reprints, Genève, 1973.‬‬

‫‪175‬‬




‫لبنان ‪ 10000‬لرية | الأردن‪ 4 :‬دينار | �سوريا‪ 200 :‬لرية | م�صر‪ 20 :‬جنيه | تون�س ‪ 3 :‬دينار | املغرب‪ 40 :‬درهم | م�سقط‪ 2 :‬ريال‬ ‫ال�سعودية‪ 20 :‬ريال | البحرين‪ 3 :‬دينار | الكويت‪ 3 :‬دينار | قطر‪ 20 :‬ريال | الإمارات‪ 20 :‬درهم‬


‫العدد‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.