تحولات مشرقية for web حجم صغير 25 4 2017

Page 1

‫العدد رقم ‪ - 13‬ني�سان ‪2017‬‬

‫فـ�صـل ـيـة فـكريـة ثـقافيـة تـعنى ب�ش ـ�ؤون امل�شــرق‬

‫"وعد بلفور"‬

‫ً‬ ‫راهنًا‬ ‫مئة عام‪ ...‬وال يزال‬ ‫دعاء ال�شريف ‪ -‬حافظ الزين ‪ -‬جنيب ن�صري ‪ -‬ح�سني علي احلاج ح�سن‬ ‫حممود حيدر ‪� -‬سايد فرجنيه ‪� -‬صفية �سعاده ‪ -‬مي�شال �أبوجودة‬

‫رحلة الأبدية‬

‫�سورية يف �ستة �آالف عام‬

‫انطوان بطر�س‬

‫كمال ديب‬


‫لبنان ‪ -‬بريوت ‪� -‬شارع احلمرا ‪ -‬بناية ر�سامني ‪ -‬ط‬ ‫�ص‪.‬ب‪ 113 - 7179 :‬بريوت ‪ -‬لبنان‬

‫‪3‬‬

‫‪tel: 00961 -1 - 751 541‬‬ ‫‪E-mail: info@darabaad.com‬‬


‫العدد رقم ‪ - 13‬ني�سان ‪2017‬‬

‫فـ�صـل ـيـة فـكريـة ثـقافيـة تـعنى ب�ش ـ�ؤون امل�شــرق‬

‫"وعد بلفور"‬

‫مئة عام‪...‬وال يزال راهنًا‬

‫الفهر�س‬ ‫ر�أي‬ ‫حقيقة والدة وعد بلفور‬ ‫ح�سن حمادة‬

‫‪3‬‬

‫ملف العدد‪" :‬وعد بلفور"‬ ‫من الوعد التوراتي‪� ..‬إىل وعد بلفور‪..‬‬ ‫للم�ؤامرة الكربى‬ ‫دعاء ال�شريف‬ ‫من وعد بلفور �إىل التطرف الإ�سالمي اجلهادي‬ ‫بريطانيا‪ :‬الوجه الب�شع للإ�ستعمار‬

‫‪15‬‬

‫�سايك�س‪ -‬بيكو‪� :‬سيا�سة التجزئة‬ ‫وفري�ضة احللول يف العامل العربي‬

‫�سورية يف �ستة �آالف عام‬ ‫كمال ديب‬

‫‪123‬‬

‫‪129‬‬

‫‪141‬‬

‫جنان �أ�سامة ال�سلوادي – حمزة العقرباوي‬

‫‪63‬‬

‫�أدب‬ ‫‪79‬‬

‫‪89‬‬

‫ح�سني علي احلاج ح�سن‬ ‫جيوبوليتيك الت�شظي‬ ‫وعد بلفور مبا هو لعنة جيو– ا�سرتاتيجية راهنة‬ ‫حممود حيدر‬

‫رحلة الأبدية‬ ‫انطوان بطر�س‬

‫مهمة فتح يف �أوغندا‬

‫حافظ الزين‬ ‫الكتابة عن وعد بلفور‪..‬الر�ؤية بعني واحدة كليلة‬ ‫جنيب ن�صري‬

‫فكر‬

‫‪109‬‬

‫قراءة تاريخية لوقائع "وعد بلفور"‬ ‫�سايد فرجنيه‬

‫‪117‬‬

‫فل�سطني يف مواجهة "وعد بلفور"‬ ‫�صفية �سعاده‬

‫‪119‬‬

‫خم�سون �سنة و�أكرث‬ ‫مي�شال �أبوجودة‬

‫‪121‬‬

‫قراءات �سيميائية يف "مهيار" �أدوني�س‬ ‫عمل م�شرتك لثالث طالبات يف الأدب العربي‬ ‫اجلامعة اللبنانية‪ -‬ب�إ�شراف د‪.‬ل�ؤي زيتوين‬

‫‪149‬‬


‫حتوالت م�رشقية‬

‫ف�صلية‪ ،‬فكرية‪ ،‬ثقافية‪ ،‬تعنى ب�ش�ؤون امل�شرق واملنطقة‬ ‫هيئة التحرير‬

‫فاتن املر‬ ‫عاطف عطية‬ ‫ح�سن حماده‬ ‫ن�صري ال�صايغ‬ ‫علوان �أمني الدين‬ ‫جنيب ن�صري‬

‫�أر�شيد‬ ‫فرحات‬ ‫اليا�س‬ ‫�سليمان بختي‬ ‫واكيم‬ ‫جمالفرحات‬ ‫اليا�س‬ ‫حممودواكيم‬ ‫جمال‬ ‫حيدر‬ ‫حممود حيدر‬ ‫زيتوين‬ ‫ل�ؤي‬ ‫زيتوين‬ ‫ل�ؤي�سعاده م�صطفى �أر�شيد‬ ‫زيد‬ ‫�سركي�س‬ ‫�سليمان�أبوبختي‬ ‫�سركي�س �أبو زيد‬

‫�سكرتري التحرير التنفيذي ‪ :‬هنادي �شموط‬ ‫املدير امل�س�ؤول‪� :‬سركي�س �أبو زيد‬ ‫الربيد الإلكرتوين‪abouzeid@gmail.com :‬‬ ‫هاتف‪)00961-1( 751541 :‬‬ ‫�صندوق بريد‪ 113-7179 :‬بريوت ‪ -‬لبنان‪.‬‬ ‫�شارع احلمرا‪ ،‬بناية ر�سامني ‪ ،‬الطابق الثالث‪.‬‬ ‫الإخراج الفني‪zaid mahdi :‬‬ ‫ت�صدر يف طبعتني من فل�سطني ولبنان‬ ‫مدير عام طبعة فل�سطني‪� :‬سعاده م�صطفى �أر�شيد‬ ‫هاتف‪0599305248 :‬‬ ‫�صندوق بريد‪ 41 :‬جنني ‪ -‬فل�سطني‬ ‫توزيع‪� :‬رشكة الأوائل‬ ‫لتوزيع ال�صحف واملطبوعات‬

‫بريوت – لبنان‬

‫هاتف‪:‬‬ ‫فاك�س‪00961 - 1 - 653260 :‬‬

‫‪00961 - 1 - 666668 - 666314‬‬

‫ت�صدر بالتعاون مع م�ؤ�س�سة �سعاده للثقافة‬

‫بناية ر�سامني‪� ،‬شارع احلمرا‪ ،‬ر�أ�س بريوت‪،‬‬ ‫�صندوق بريد‪ 113-5557 :‬بريوت ‪ -‬لبنان‪.‬‬ ‫هاتف‪)00961-1( 753363 :‬‬ ‫فاك�س‪)00961-1( 753364 :‬‬ ‫الربيد الإلكرتوين‪saadehcf@idm.net.lb :‬‬ ‫املوقع الإلكرتوين‪www.saadehcf.org :‬‬ ‫ت�صدر مبوجب قرار رقم ‪ 82‬تاريخ ‪1981/7/6‬‬

‫�صادر عن وزارة االعالم يف لبنان‬ ‫اال�شرتاك ال�سنوي ‪ -‬لبنان‬

‫للأفراد‪ 50 :‬دوالراً �أمريكياً‬ ‫للم�ؤ�س�سات‪ 100 :‬دوالر �أمريكي‬ ‫اال�شرتاك ال�سنوي ‪ -‬خارج لبنان‬ ‫للأفراد‪ 100 :‬دوالر �أمريكي‬ ‫للم�ؤ�س�سات‪ 200 :‬دوالر �أمريكي‬

‫املواد املن�شورة تعرب عن ر�أي كاتبها‬


‫ر�أي‬

‫حقيقة والدة وعد بلفور‬ ‫ح�سن حمادة‬ ‫نُ�سميه الوعد امل�ش�ؤوم‪� .‬إنه الوعد الإ�ستعماري الذي قطعته بريطانية لل�صهاينة ب�أن تعطيهم‬ ‫أر�ض من فل�سطني ليقيموا فيها "وطناً لهم"‪.‬‬ ‫احلق يف اقتطاع � ٍ‬ ‫حدث هذا يوم الثاين من ت�شرين الثاين عام ‪� .1917‬أول ما ُيلفت النظر يف هذا الوعد كونه‬ ‫حق فيها‪.‬‬ ‫ي�صدر عن �سلط ٍة �إ�ستعمارية ال متلك احلق يف �إعطاء بال ٍد لي�ست لها وال متلك �أي ٍ‬ ‫عمل �إجرائي �إجرامي لإغت�صاب فل�سطني‪ ،‬جنم‬ ‫ومن الناحية احلقوقية ُي�شكل هذا الوعد �أول ٍ‬ ‫عنه "الكيان الغا�صب"‪ .‬هو وعد متوح�ش ُيعرب عن ثقاف ٍة متوح�شة تقوم على �سرقة ال�شعوب‬ ‫وممتلكاتها بدءاً من حقها يف احلياة على �أر�ضها‪ُ .‬ي�ضاف �إىل ذلك �أن فل�سطني يومها كانت‬ ‫رازحة حتت احتالل متوح�ش �آخر هو االحتالل العثماين الذي جعل منها جزءاً ال يتجز�أ من‬ ‫املقاطعات والأم�صار التابعة‪ ،‬ظلماً وبهتاناً‪ ،‬لل�سلطنة العثمانية‪.‬‬ ‫امل�شهد يف حدِ ذاته ُيعرب بو�ضوح عن �شريعة الغاب التي تطبع العالقات الدولية القائمة بني‬ ‫حق بامللكية‪ .‬ي�صدر كل ذلك‬ ‫�سلب‪� ،‬إجرا ٌم‪ ،‬انتحال �صفة‪ ،‬وانتهاك ٍ‬ ‫الأقوياء وامل�ست�ضعفني‪ٌ .‬‬ ‫عن دولة امرباطورية تزعم �أنها دولة قانون ودميقراطية تقوم على احرتام مبد�أي احلريات العامة‬ ‫واحلقوق الفردية‪ .‬مزاعم تعك�س هول التوح�ش والكذب وانعدام الأخالق‪.‬‬ ‫بعام واحد‪� ،‬أي يف �سنة ‪ 1916‬كان الإنكليز والفرن�سييون قد �أبرموا فيما بينهم اتفاقاً‬ ‫قبل ذلك ٍ‬ ‫�سرياً يق�ضي باقت�سام �سورية الطبيعية �إىل مناطق نفوذ انكليزية وفرن�سية ُعرفت فيما بعد ب�إ�سم‬ ‫اتفاقية �سايك�س – بيكو تيمناً ب�إ�سميي رئي�سيي الوفدين الربيطاين والفرن�سي‪ ،‬مارك �سايك�س‬ ‫وفرن�سوا جورج بيكو‪ .‬مت ذلك ب�سرية كاملة يف �سياق التح�ضري ملرحلة ما بعد احلرب العاملية‬ ‫الأوىل بق�صد الإ�ستيالء على "�أمالك ال�سلطنة العثمانية"‪.‬‬ ‫‪3‬‬


‫والواقع التاريخي ُيثبت �أن هذه املفاو�ضات‪ ،‬واالقت�سام‪ ،‬مل جت ِر بني الفرن�سيني والربيطانيني‬ ‫فقط بل كانت مفاو�ضات ثالثية بني االمرباطورية الربيطانية و"اجلمهورية الثالثة" الفرن�سية‬ ‫والقي�صرية الرو�سية التي كان ير�أ�س وفدها �آنذاك ٌ‬ ‫رجل ُيدعى �سازونوف‪.‬‬ ‫و�إذا كان الإنكليز والفرن�سييون قد و�ضعوا هذا الربنامج بق�صد اقت�سام بالدنا فيما بينهم عند‬ ‫هزمية االمرباطورية العثمانية يف احلرب ف�إن ال�شريك الرو�سي القي�صري يف املفاو�ضات كانت‬ ‫ح�صته تنح�صر بجز ٍء من �أرا�ضي تركيا‪ ،‬مب�ساحتها املعروفة الآن‪ ،‬ويف البلقان والقوقاز‪.‬‬ ‫وكانت هذه التق�سيمات الثالثية حتمل ا�سم �سايك�س – بيكو – �سازونوف وكانت الدول‬ ‫الثالث تحُ يط هذا الإتفاق الثالثي ب�سري ٍة تامة بهدف خداع �شعوب هذه املناطق التي كانت‬ ‫ٍ‬ ‫كحليف لها يف معركة حتررها من ن رِّي الإ�ستعمار العثماين املتوح�ش‪ .‬وبالتايل‬ ‫تنظر �إىل الغرب‬ ‫كان على هذه الدول الثالث املت�آمرة‪ ،‬وخ�صو�صاً بريطانيا وفرن�سا‪� ،‬أن ت�ستمر يف زرع الأوهام‬ ‫عند �أهل هذه البالد ب�أنها �ستحمل �إليهم ُب�شرى احلرية والتحرر والإ�ستقالل والدميقراطية‬ ‫وحقوق الإن�سان‪ ،‬ورمبا احليوان �أي�ضاً‪ ،‬وبالتايل �أن لي�س لها �أطماع يف �أرا�ضيهم فيما هي تُعد‬ ‫العدة للإ�ستيالء عليهم والفتك بهم ونهب خرياتهم وا�ستعبادهم بطرقها اخلا�صة‪.‬‬ ‫وال�س�ؤال املطروح‪ ،‬خ�صو�صاً بر�سم الأجيال ال�شابة‪ ،‬هو‪ :‬كيف حتولت الإتفاقية الثالثية‪،‬‬ ‫الربيطانية – الفرن�سية – الرو�سية‪� ،‬إىل اتفاقي ٍة ثنائية حتمل ا�سم �سايك�س – بيكو فقط!!!‪...‬‬ ‫هنا البد من �سرد الرواية احلقيقية لذلك لأنها رواية مليئة باملعاين وتعك�س �صورة عن طبيعة‬ ‫لعبة الأمم و�أهوالها‪.‬‬ ‫تروت�سكي ينفذ �أوامر وا�شنطن‬

‫الرواية احلقيقية هي الآتية‪:‬‬ ‫من املعروف �أن دولة االحتاد ال�سوفيتي التي قامت على �أنقا�ض القي�صرية الرو�سية ك�شفت �أمر‬ ‫هذه االتفاقية معلن ًة االن�سحاب منها‪ .‬ولكن‪ ،‬ما ال ُي�شري �إليه امل�ؤرخون عاد ًة هو ال�سبب الذي‬ ‫دفع بالدولة ال�سوفيتية النا�شئة �إىل ك�شف النقاب عن هذه االتفاقية‪.‬‬ ‫‪4‬‬


‫ر�أي‬ ‫ال�سبب يعود �إىل قرا ٍر اتخذته �إدارة الرئي�س الأمريكي وودرو ويل�سون وتبنته‪� ،‬أو بالأحرى‬ ‫التزمت بتنفيذه‪ ،‬القيادة ال�سوفيتية ويق�ضي بف�ضح االتفاقات ال�سرية التي كانت تربمها‬ ‫احلكومات الإ�ستعمارية الغربية‪ .‬يا للمفارقة‪ .‬ها �أن �أول نظام �شيوعي يقوم يف العامل ي�أمتر بقرا ٍر‬ ‫تتخذه الإمرباطورية التي تجُ �سد الر�أ�سمالية الفاقعة ويتوىل تنفيذ القرار ليون تروت�سكي‪ ،‬قائد‬ ‫التيار املتطرف يف الثورة البول�شيفية و�أحد الرموز الأوائل للنظام ال�شيوعي النا�شىء‪.‬‬ ‫�صاحب نظرية ف�ضح الإتفاقات ال�سرية هذه كان العقيد يف اجلي�ش الأمريكي �إدوارد هاوز وهو‬ ‫من �أقرب املقربني من الرئي�س ويل�سون ودوره ي�شبه الدور الذي لعبه فيما بعد هرني كي�سنجر‬ ‫على �صعيد �صياغة ا�سرتاتيجية دولة الواليات املتحدة الأمريكية ما يجعل من هذا الأخري‬ ‫تلميذاً‪ ،‬ولو مع فارقٍ زمني‪ ،‬للعقيد هاوز‪ .‬وانطالقاً من مكانته هذه‪ ،‬كان هاوز الرجل الوحيد‬ ‫الذي �شارك الرئي�س ويل�سون يف �صياغة املبادىء الـ ‪ 14‬ال�شهرية التي ُعرفت بـ "مبادىء‬ ‫الرئي�س ويل�سون"‪ .‬حتى �أن هاوز كتب عن �ضرورة ك�شف �أمر هذه الإتفاقيات و�شارك رئي�سه‬ ‫يف "ر�سم خارطة جديدة للعامل"‪ .‬ويذكر يف هذا اخل�صو�ص �أن اجلل�سة التي عقدها مع ويل�سون‬ ‫لر�سم هذه اخلريطة مل تدم �أكرث من �ساعتني‪� .‬أي �أنهما‪ ،‬وخالل �ساعتني فقط‪ ،‬ر�سما خمططاً‬ ‫متكام ًال‪ ،‬م�ستقبلياً ِ‬ ‫لن�سف املكا�سب التي �سيحققها الربيطانيون والفرن�سييون من خالل‬ ‫اتفاقية �سايك�س – بيكو‪� .‬إنها �صورة عن املناف�سة ال�شر�سة بني احللفاء �أنف�سهم وعن امل�ؤمرات‬ ‫التي ُيحيكها احللفاء على بع�ضهم البع�ض ولي�س فقط على الدول وال�شعوب ال�ضحايا‪.‬‬ ‫وقبل تف�صيل هذا الأمر‪ ،‬ح�سبنا الإ�شارة ب�شكل �سريع �إىل �سبب التزام القيادي ال�شيوعي‬ ‫الأكرث تطرفاً‪� ،‬أي ليون تروت�سكي‪ ،‬بالقرار الأمريكي‪.‬‬ ‫ُت�ؤكد الوثائق املتعلقة بتاريخ احلركة ال�شيوعية الرو�سية �أن بع�ض قادة البال�شفة امل�ؤثرين كانوا‬ ‫على ٍ‬ ‫�صالت وثيق ٍة بعد ٍد من حكومات الغرب‪ ،‬املهتمة بتدمري القي�صرية الرو�سية‪ ،‬ويف مقدمتها‬ ‫َ‬ ‫جمموعات من‬ ‫وانخرط يف هذا الربنامج‬ ‫حكومات �أملانيا وبريطانيا وفرن�سا والواليات املتحدة‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫بيوت املال ُ‬ ‫والكتل ال�ضاغطة يف هذه الدول‪ .‬وكان تروت�سكي من ذوي احلظوة عند بيوت املال‬ ‫وال�شبكات ال�صهيونية يف الواليات املتحدة‪� ،‬إذ كان املعنيون هناك قد ر�صدوا كفاءات تروت�سكي‬ ‫‪5‬‬


‫القيادية وميزاته اخلطابية الهائلة التي كان يتفوق فيها على الكثري من رفاقه الثوريني‪ ،‬ناهيك‬ ‫عن �أ�صوله اليهودية وبع�ض الأوا�صر العائلية التي كانت ت�شدُ �أُ�سرت ُه برون�شتاين �إىل �أُ�س ٍر يهودي ٍة‬ ‫مليئ ٍة و ُم�ؤثر ٍة يف الأو�ساط االقت�صادية واملالية‪ ،‬وبالتايل ال�سيا�سية‪ .‬هذه ال�شبكات احت�ضنت‬ ‫تروت�سكي ووفرت له ظروفاً معي�شية مرفه ٍة خالل فرتة �إقامته يف برلني وباري�س ولندن ونيويورك‬ ‫خالل فرتة التح�ضري للثورة �ضد احلكم القي�صري يف رو�سيا‪ .‬كما �أن جزءاً ال ب�أ�س به من‬ ‫امل�ساعدات املالية واللوج�ستية والإعالمية التي قدمتها تلك العوا�صم الغربية �إىل البال�شفة‬ ‫كان من �ش�أنها �أن تُعزز مكانة تروت�سكي يف الأو�ساط ال�شيوعية الإنقالبية‪ .‬فما �أن انت�صرت‬ ‫الثورة حتى توىل تروت�سكي مبا�شر ًة م�س� ٍ‬ ‫ؤوليات ُعليا �إىل جانب لينني كان �أبرزها وزارة الدفاع‬ ‫على الرغم من كونه مدنياً وقليل اخلربة يف ال�ش�ؤون الع�سكرية‪ .‬ف�أ�سهم من موقعه احلكومي‬ ‫هذا بفعالي ٍة يف تدمري بنية اجلي�ش القي�صري ويف تفريغ خزائن االحتياطي من الذهب و�شحنها‬ ‫�إىل الواليات املتحدة و�أملانيا ونهب ٍ‬ ‫كميات هائلة من حمتويات املتاحف الوطنية الرو�سية‪ .‬ويف‬ ‫هذا املجال حتديداً �أمر تروت�سكي بتعيني زوجته م�شرف ٍة عام ٍة على املتاحف وجموهرات الأ�سرة‬ ‫القي�صرية من دون �أن يكون لها �أي خربة يف هذا املجال‪ .‬و�شارك يف عملية النهب هذه زوجة‬ ‫�سفري الواليات املتحدة يف رو�سيا ال�سيدة بو�ست‪ .‬كانت هذه مرحلة النهب الكبري وال�سريع‬ ‫لبع�ض ممتلكات رو�سيا مبا ي�شبه ما ح�صل خالل فرتة الت�سعينات من القرن املا�ضي �أيام حكم‬ ‫رئي�س لدولة االحتاد الرو�سي بعد انهيار االحتاد ال�سوفيتي‪ .‬ويف الفرتتني‬ ‫بوري�س يلت�سن‪� ،‬أول ٍ‬ ‫ال�سالفتي الذكر جرى بيع التحف‪ ،‬ومنها الأيقونات العظيمة ب�أ�سعار �أقل من بخ�سة‪.‬‬ ‫طبعاً كان الإجراء الأول الذي اتخذه تروت�سكي هو الك�شف عن االتفاقية الثالثية‬ ‫مو�ضوع بحثنا �أي اتفاقية �سازونوف – �سايك�س – بيكو‪ ،‬وبالتايل �إعالن ان�سحاب رو�سيا‬ ‫من هذه االتفاقية ف�صارت ُتعرف باتفاقية �سايك�س – بيكو معطوفاً عليها وعد بلفور‬ ‫الذي تزامن مع الثورة البول�شيفية‪ .‬هذه ُعرفت بثورة �أكتوبر ‪ ،1917‬وذاك �أي الوعد‪ ،‬يف‬ ‫ٌ‬ ‫كذلك؟!‪...‬عقول‬ ‫مده�ش هذا التزامن �ألي�س‬ ‫الثاين من ت�شرين الثاين نوفمرب ‪ٌ .1917‬‬ ‫مب�ضع يق�ص ويمُ زق يف اخلرائط واحلدود‬ ‫�شيطانية متوح�شة ُتخطط ويف �أيديها �أكرث من ٍ‬ ‫‪6‬‬


‫ر�أي‬ ‫وال�شعوب‪ .‬بالإذن من الذين ال يتقبلون وجود نظرية امل�ؤامرة‪.‬‬ ‫الوعد الرو�سي القي�رصي‬

‫ويف العودة �إىل وعد بلفور امل�ش�ؤوم‪ ،‬فلقد �سبق لنا �أن �أ�شرنا �إىل �أن هذا الوعد مل يكن بريطانياً‬ ‫ِ�صرفاً بل كان بريطانياً – فرن�سياً – �أمريكياً "راجع حتوالت م�شرقية العدد رقم ‪ 10‬تاريخ �أيار‬ ‫‪ 2016‬مبنا�سبة الذكرى املئوية لإتفاقية �سايك�س – بيكو"‪� .‬إن جذور الوعد معقد ٌة جداً‪ ،‬منها‬ ‫ما هو �سيا�سي ومنها ما هو ثقايف – ديني – �سيا�سي‪ .‬اجلذور ال�سيا�سية رو�سية قي�صرية تعود �إىل‬ ‫�أوا�سط القرن الثامن ع�شر‪ .‬حدث هذا يف زمن االمرباطورة الرو�سية ال�شهرية كاترين الثانية‪،‬‬ ‫وهي من �أبرز ٍ‬ ‫ثالث اعتلوا العر�ش القي�صري يف تاريخ رو�سيا قبلها كان �إيفان الرهيب وبطر�س‬ ‫الأكرب‪ .‬لقد �شعرت الإمرباطورة كاترين الثانية‪ ،‬امللقبة بكاترين العظمى‪� ،‬أن اليهود يعيثون‬ ‫ف�ساداً يف مملكتها وقد يت�سببون لها مب�شاكل داخلية رمبا تُهدد مناعة دولتها �أو حتى تق�ضي‬ ‫عليها‪ .‬فطلبت �إىل الرجل الوحيد الذي كان يحظى بثقتها املطلقة‪ ،‬وهو املاري�شال بومتكني‪ ،‬ب�أن‬ ‫يجد و�سيل ًة للق�ضاء عليهم �أو يف �أح�سن الأحوال للإجهاز على قوتهم املتنامية‪ .‬واملعروف �أن‬ ‫بومتكني الذي عرفته وهي يف ريعان �صباها وكان �شاباً يف مقتبل العمر فع�شقته وع�شقها ومنت‬ ‫بينهما ثق ٌة ال حدود لها‪ .‬ويف الوقت نف�سه كانت كاترين تُبدل الع�شاق كما تُبدل �أزياءها مثلما‬ ‫هو كان يبدل الن�ساء وال يرف له جفن‪ .‬كانت مزاجية �إىل �أق�صى احلدود وكان هو كذلك‬ ‫كل منهما احلياة اخلا�صة للآخر‪� .‬صار‬ ‫وتو�صال �إىل اتفاق ب�أن يكونا �صديقني حميمني يحرتم ٍ‬ ‫هو �صديقها الوحيد و�أمني �سِ رها وكذلك هي بالن�سبة �إليه ال�صديقة الوحيدة و�أمينة �سره‪ .‬تلج�أ‬ ‫�إليه حني يتطلب الأمر قراراً دقيقاً وح�سا�ساً وخطرياً‪ .‬وكان َي ْ�صدِ َقها‪.‬‬ ‫بعد ٍ‬ ‫بحث وتدقيق ودرا�سة مت�أنية تو�صل بومتكني �إىل قناعة مفادها �أن اليهود يف رو�سيا‬ ‫باتوا متجذرين وم�ؤثرين لدى القيادات وحكام املناطق والأقاليم يف اململكة بحيث‬ ‫�أن �أي �ضربة توجه �إليهم قد تعطي مفعو ًال عك�سياً لي�س ل�صالح ملكها‪ .‬فاقرتح عليها‬ ‫�إغراءهم بالرحيل �إىل فل�سطني‪ ،‬بهدوء وتفاهم بحيث ي�شكلون م�ستقب ًال ر�أ�س ج�س ٍر‬ ‫أحداث عدة‬ ‫للنفوذ القي�صري الطامح باحل�ضور امل�ؤثر يف "املياه الدافئة"‪ .‬طبعاً وقعت � ٌ‬ ‫‪7‬‬


‫حالت دون حتقيق امل�شروع هذا ب�شكل متكامل‪.‬‬ ‫ويف الن�صف الأول من القرن التا�سع ع�شر وعلى �أثر اجتياح ابراهيم با�شا امل�صري لأجزاء‬ ‫وا�سعة من بالد ال�شام وو�ضوح نوياه بالو�صول �إىل الآ�ستانة دخلت معاهدة الدفاع امل�شرتك‬ ‫التي كانت مربمة ما بني ال�سلطنة العثمانية والقي�صرية الرو�سية حيز التنفيذ وتقدم الأ�سطول‬ ‫الرو�سي �إىل م�ضائق البو�سفور والدر َدنيل للم�شاركة يف حماية عا�صمة ال�سلطنة‪� .‬شكل ذلك‬ ‫نذير خط ٍر بالن�سبة �إىل بريطانيا التي كانت حتذر من و�صول الرو�س �إىل "املياه الدافئة" ودعوا‬ ‫كل من رو�سيا وبرو�سيا والنم�سا‬ ‫رباعي يف لندن �ضم �إىل جانب اململكة املتحدة ٍ‬ ‫�إىل م�ؤمت ٍر ٍ‬ ‫حل لهذه الأزمة يق�ضي برتاجع جي�ش ابراهيم با�شا وعودته �إىل م�صر مقابل‬ ‫حيث تو�صلوا �إىل ٍ‬ ‫ان�سحاب الأ�سطول الرو�سي من امل�ضائق العثمانية على �أن حت�صل رو�سيا من ال�سلطنة على‬ ‫امتيازات حلماية الكني�سة الأورثوذك�سية يف الأرا�ضي املقد�سة يف فل�سطني ويح�صل عر�ش‬ ‫حممد علي يف م�صر على املُلك بالوراثة‪ .‬وهذا االجتماع الرباعي الذي ُعقد يف لندن ا�ستثنى‬ ‫فرن�سا التي كانت م�ؤيدة لـ حممد علي وجنله ابراهيم‪ .‬وثمة تزامن ذا دالالت ا�سرتاتيجية‬ ‫خطرية بني هذا احلدث وحدث �آخر ح�صل يف تلك ال�سنة وهو افتتاح قناة ال�سوي�س يف ‪15‬‬ ‫متوز ‪ 1940‬على يد الفرن�سيني الذين كانوا قد جمعوا املال ومولوا �شق قناة ال�سوي�س و�أ�شرف‬ ‫املهند�س الفرن�سي ال�شهري فرديناند دي ل�سب�س على تنفيذ امل�شروع‪ .‬وبالن�سبة �إىل الإنكليز‬ ‫�أتى �شق القناة مبثابة فر�صة عظيمة لهم تُ�سهل التوا�صل مع البالد التي �شكلت امل�صدر الأكرب‬ ‫لرثوتهم بحيث �أ�سموها "درة التاج الربيطاين"‪..‬بالد الهند‪ .‬فكيف ال يحاولون امل�ستحيل‬ ‫لتاليف و�صول الرو�س �إىل "املياه الدافئة"؟‪...‬‬ ‫هرتزل الأنغليكاين‬

‫و�أما اجلذور الثقافية – الدينية – ال�سيا�سية للوعد فهي انكليزية‪ ،‬بد�أت يف القرن ال�سابع ع�شر‬ ‫أ�صل يهودي‪ ،‬جون بنيان الذي �شكل جميئه �إىل فل�سطني‬ ‫مع كتابات الق�س الأنغليكاين‪ ،‬من � ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫رحالت متتالية �إىل الأرا�ضي املقد�سة‪ .‬ومن �أبرز‬ ‫ومكوثه فرتة من الزمن يف القد�س طليعة‬ ‫نتاج بنيان يف هذا املجال كتابه الذي َدون خمطوطته الأوىل �أثناء �إقامته يف القد�س وعنوانه‬ ‫‪8‬‬


‫ر�أي‬ ‫"رحلة احلاج" وتال ذلك عدد من امل�ؤلفات لـ بنيان ان�صب معظمها على وجوب اهتمام‬ ‫الإنكليز بفل�سطني كبالد حتتوي على جذور اليهود‪ .‬وكتاب "رحلة احلاج" �سرعان ما انت�شر‬ ‫ُوطبع ٍ‬ ‫مرات عدة و�صار الأكرث مبيعاً يف بريطانيا بعد كتاب العهدين القدمي واجلديد‪ .‬و�صارت‬ ‫امل�ؤلفات ت�صدر يف هذا االجتاه م�ستلهمة من الدرب الروائي والتنظريي الذي �شقه هذا الق�س‬ ‫الأنغليكاين‪ .‬فن�ش�أ ما ي�شبه التيار الديني الثقايف على خطى بنيان‪ .‬وراح بع�ض الوجهاء اليهود‬ ‫الإنكليز‪� ،‬أو من هم من �أ�صل يهودي و�صاروا �أنغليكان‪ ،‬يتحركون يف اجتاه احلديث عن �أهمية‬ ‫�إقامة مملكة "�إ�سرائيل" على �أر�ض فل�سطني‪ ،‬وملع يف هذا امل�ضمار ا�سم منظ ٍر‪� ،‬أنغليكاين من‬ ‫�أ�صل يهودي‪ُ ،‬يدعى �إدوارد بيكر �ستيث الذي راح يكتب وين�شر وين�شط داعياً �إىل ت�شجيع‬ ‫الرحالت �إىل ال�شرق ملن �أ�سماهم بـ "بني �إ�سرائيل" بق�صد ت�شييد "مملكة �إ�سرائيل" على‬ ‫�أر�ض فل�سطني معترباً �أن ذلك �سيمهد الطريق للم�سيح بالعودة �إىل الأر�ض وجعل العامل كله‬ ‫يعتنق امل�سيحية على املذهب الأنغليكاين‪� ،‬أي امل�سيحية التي يتزعمها العر�ش الربيطاين‪� ،‬أي‬ ‫االمرباطورية‪ .‬هنا بد�أت طالئع الو�صل ما بني الكتابة الثقافية الدينية مع ال�سيا�سة‪� .‬إن دور‬ ‫بيكر �ستيث هذا كان فاع ًال جداً يف �شق درب االجتهاد ال�سيا�سي يف ال�ش�أنني الثقايف والديني‬ ‫الأنغليكاين وبث �سمومه بدها ٍء �شديد م�ستقوياً‬ ‫انكليزي بارز‪ ،‬ذي جذور يهودية‬ ‫ب�سيا�سي‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫قدمية‪ ،‬هو اللورد �شافت�سبريي ذي املكانة املرموقة يف العهد الفكتوري‪ .‬وكان بيكر �ستيث‬ ‫يعمل كم�ست�شار عند اللورد‪ .‬كان هو العقل املفكر لـ اللورد و�أقنع معلمه بالفكرة ال�صهيونية‬ ‫بحيث �أن الأو�ساط ال�سيا�سية يف بريطانيا يف �آخر القرن التا�سع ع�شر و�أول القرن الع�شرين‬ ‫�أطلقت عليه لقب هرتزل الأنغليكاين‪� .‬أي حني يذكرون ا�سمه يقولون �أنه هرتزل الأنغليكاين‬ ‫تيمناً بثيودور هرتزل م�ؤ�س�س احلركة ال�صهيونية احلديثة‪ .‬فاللورد هذا هو رجل �سيا�سة وعزز‬ ‫الرتابط ما بني ال�ش�أنني الديني وال�سيا�سي بحيث يكون ال�ش�أن الديني بو�صلة تُربر املخطط‬ ‫ال�سيا�سي وتعطيه بعداً "�إميانياً" و ُيروى �أن ذاك امل�ست�شار هو الذي كان يكتب املقاالت التي‬ ‫تُن�شر يف ال�صحافة الإنكليزية با�سم اللورد وت�شرح الأهمية االقت�صادية التي ميكن لربيطانيا �أن‬ ‫حتققها من خالل الإ�ستيالء على الأرا�ضي املقد�سة يف فل�سطني‪ .‬ويعود �إىل اللورد هذا الف�ضل‬ ‫‪9‬‬


‫الكبري يف �إعطاء م�شروعية للدعوات التي كان ُيطلقها يف هذا االجتاه‪ ،‬يف �أواخر القرن الثامن‬ ‫ع�شر و�أوائل القرن التا�سع ع�شر املتمول اليهودي القوي مو�سى مونتيفيوري ذي ال�صلة الوثيقة‬ ‫جداً بعائلة روت�شيلد‪ .‬ه�ؤالء و�أتباعهم كانوا ميلئون ال�صحافة يف القرن التا�سع ع�شربكتابات يف‬ ‫هذا امل�ضمار فالتحق بهم عد ٌد من ُ‬ ‫الك ُّتاب الرحالة �إىل فل�سطني مثل الكاتب ال�شهري مارك‬ ‫توين وغريه‪ .‬وبذلك يكون الطرح ال�سيا�سي قد ت�سلل عرب الأدب والطرح الديني ت�سلل �إىل‬ ‫ال�سيا�سة دائماً من بوابة الأدب‪.‬‬ ‫�أُكذوبة وعد بونابرت‬

‫ثمة جذور �سيا�سية �أخرى م�صطنعة وغري �صحيحة تتعلق ب�إعطاء اليهود وعداً بوطن لهم يف‬ ‫فل�سطني قبل وعد بلفور‪ .‬يرجع هذا �إىل �أكرث من مئ ٍة وثمانِ ع�شر �سنة من وعد بلفور �أي �إىل‬ ‫العام ‪ .1799‬يف ذلك العام ُيقال �أن نابليون بونابرت بعد �أن احتل م�صر وتوجه �شرقاً م�ستهدفاً‬ ‫احتالل بالد ال�شام والو�صول �إىل الآ�ستانة وحا�صر اجلزار يف عكا‪ ،‬يقال �أنه را�سل اليهود فيها‬ ‫وكانوا ق ّلة قليلة و�أعطاهم وعداً مفاده �أن انت�صار فرن�سا و�سيادتها على �سوريا الطبيعية �سي�سمح‬ ‫لها ب�إقامة مملكة "�إ�سرائيل" على �أر�ض فل�سطني‪ .‬ولكن ال يوجد �أي �أثر يثبت �أن هذا الوعد‬ ‫قد �صدر فع ًال عن بونابرت‪ .‬ويف اعتقادي �أن الإنكليز كانوا خلف هذه الرواية املختلقة‪ .‬كيف؟‬ ‫عندما قام بونابرت مبحا�صرة عكا �سارع الإ�سطول الإنكليزي �إىل م�ساندة العثمانيني �ضد‬ ‫بونابرت لأنهم كانوا يريدون التخل�ص من هذا اجلرنال الفرن�سي‪ ،‬ابن الثورة الفرن�سية‪ ،‬املعادي‬ ‫للعر�ش الربيطاين و�صاحب الطموح الذي ال يعرف حدوداً‪ .‬فهم من جهة �ساندوا ال�سلطنة‬ ‫العثمانية واختلقوا رواية الوعد البونابارتي لليهود �إمعاناً منهم يف حتري�ض ال�سلطنة العثمانية �ضد‬ ‫الفرن�سيني على اعتبار �أن بونابرت كان يهدد الباب العايل ويريد �أن ي�ستويل على الأرا�ضي‬ ‫التي كان يعتربها ال�سلطان من ممتلكاته وخ�صو�صاً �أرا�ضي فل�سطني التي حتت�ضن القد�س‬ ‫التي بدورها حتت�ضن امل�سجد الأق�صى كيف ال وال�سلطان هو �أمري امل�ؤمنني وخليفة امل�سلمني‪.‬‬ ‫الرتويج لهذا الوعد ال يعني مطلقاً ب�أن هذا الوعد قد �صدر فع ًال �إذ ال يوجد �أي �أثر له‪.‬‬ ‫وعلى الرغم من �أن من جممل هذه التعقيدات ومن قوة الدفع نحو �إ�صدار الوعد امل�ش�ؤوم‬ ‫‪10‬‬


‫ر�أي‬ ‫غري �أن ثمة عقبة كانت تقف يف �سبيل �إ�صداره متثلت مبنابر يهودية انكليزية قوية ذات ت�أثري‬ ‫داخل دوائرالقرار يف احلكومة الربيطانية كانت ترف�ض الفكرة و�سبق لنا �أن �أ�شرنا �إىل ذلك‬ ‫يف العدد العا�شر من حتوالت م�شرقية‪ .‬وهنا املفارقة الكربى والأ�سا�سية‪ .‬من هذه املنابر القوية‬ ‫ال�سي �إدوين مونتاجو الذي كان وزيراً يف‬ ‫الب�أ�س وامل�سموعة الكلمة �شخ�صيات من �أمثال رّ‬ ‫احلكومة الربيطانية م�س�ؤو ًال عن �إدارة بالد الهند املحتلة من الإنكليز‪ ،‬والذي قام بن�شاط كبري‬ ‫لقطع الطريق �أمام �إ�صدار الوعد ذاهباً �إىل حد اعتبار �أن هذا الوعد يعك�س توجهاً عن�صرياً‬ ‫معادياً لل�سامية من قبل احلكومة الربيطانية التي �ستجعل من اليهود حمرقة �إن هي �شكلت‬ ‫منهم القاعدة الع�سكرية املنوي �إقامتها يف فل�سطني با�سم دولة "�إ�سرائيل"‪ .‬ثم ن�شر بتاريخ ‪23‬‬ ‫�آب (�أغ�سط�س) من العام ‪ 1917‬مذكرة حتمل عنوان "مذكرة تتناول العداء لل�سامية التي‬ ‫تت�سم بها احلكومة الربيطانية"‪ .‬و�إىل جانب مونتاجو وقف يهودي �آخر يدعى لو�شيان وولف‬ ‫وهو امل�ست�شار الر�سمي للحكومة الربيطانية لل�ش�ؤون اليهودية �أي �أنه الرجل املفرت�ض به �أن‬ ‫يكون �صاحب الكلمة الف�صل يف كل ما له عالقة بال�ش�ؤون اليهودية يف ال�سيا�سة الإمرباطورية‬ ‫الربيطانية‪ .‬و�إىل جانب هذين املنربين وقف رجل �أعمال بارز يدعى كلود مونتيفيوري وهو ابن‬ ‫�شقيق مو�سى مونتيفيوري �سالف الذكر‪ .‬ه�ؤالء اليهود الثالثة قادوا‪ ،‬من مواقعهم احلكومية‬ ‫واالقت�صادية القوية‪ ،‬حملة التنديد باحلركة ال�صهيونية وبتجاوب احلكومة الربيطانية مع طلبات‬ ‫هذه احلركة‪.‬‬ ‫بطبيعة احلال‪� ،‬إن هذا التيار اليهودي‪ ،‬وخ�صو�صاً قادته الثالثة �آنفي الذكر‪ ،‬يدركون جيداً �أن‬ ‫ثمة قناعة يف �شرائح وا�سعة داخل مراكز القرار الربيطاين تريد �إن�شاء هذه القاعدة الع�سكرية‬ ‫ل ٍ‬ ‫أهداف تخدم ا�سرتاتيجية الإمرباطورية الربيطانية مبعزلٍ عن الطموحات العقائدية لل�صهيونية‬ ‫وبالتايل ف�إن هذه الطموحات هي التي ت�ستخدم "الق�ضية ال�صهيونية" ولي�س العك�س هذا على‬ ‫الرغم من التزاوج الذي ح�صل ما بني م�صلحتي ال�صهيونية والإمرباطورية الربيطانية‪ .‬فعلى‬ ‫حما�س‬ ‫هذا ال�صعيد يعترب قادة التيار املعار�ض �أن احلما�س اليهودي مل�شروع "مملكة �إ�سرائيل" ٌ‬ ‫غري عاقل و ُيحول اليهود �إىل �أداة حربية تُهدد وجودهم‪ .‬مبعنى �آخر �إن ه�ؤالء القادة رف�ضوا‬ ‫‪11‬‬


‫كل الأدبيات التي ذكرناها �آنفاً كما رف�ضوا كل الطموحات التي كان قد تقدم بها �سيا�سيون‬ ‫بريطانيون مثل دي�سرائيلي واللورد بارملر�ستون وغريهما خ�صو�صاً و�أن الأخري �أي بارملر�ستون مل‬ ‫يكن ُيخفي �أمام �أو�ساط القرار يف لندن همه يف �أن يكون لربيطانيا " ْملكية ا�سرتاتيجية" يف‬ ‫هذه املنطقة من العامل و�أن ت�شجيعه لل�صهيونية ال يعدو كونه �إجرا ٌء يخدم م�صالح الإمرباطورية‬ ‫وبالتايل ف�إن �آخر اهتماماته هو البعد العقائدي الذي يتم الرتويج له‪ .‬رمبا كان بارملر�ستون يهدف‬ ‫من خالل هذا البوح تربير املغاالة التي �أظهرها بخ�صو�ص �ضرورة هجرة اليهود �إىل فل�سطني‬ ‫والتي بلغ �أوجها يف تلك الر�سالة ال�شهرية‪ ،‬التوجيهية‪ ،‬التي كان قد بعث بها �إىل �سفريه يف‬ ‫ا�سطنبول جون بون�سنبي بتاريخ ‪� 11‬آب(�أغ�سط�س) ‪ 1840‬والتي جاء فيها‪:‬‬ ‫"�إنه من الأهمية مبكان بالن�سبة �إىل ال�سلطان �أن ُيقدم على ت�شجيع اليهود على العودة‬ ‫والإ�ستقرار يف فل�سطني خ�صو�صاً و�أن الرثوات التي �سيحملونها معهم معد ٌة لأن تزيد من‬ ‫مداخيل ممتلكات ال�سلطان‪ .‬كما �أن ال�شعب اليهودي يف حال عودته حتت �إ�شراف وحماية‬ ‫ال�سلطان‪ ،‬وبنا ًء على رغبته‪� ،‬سوف ي�سهر على مراقبة كل التحركات املعادية التي من املمكن‬ ‫ان ُيقدم عليها حممد علي �أو خليفته (‪ )...‬ومن واجبي �أن �أُعطي �سعادتكم التوجيهات‬ ‫ال�صارمة القا�ضية ب�أن تقنعوا احلكومة العثمانية بوجود م�صلحة لها يف تبني الوعد املقطوع �إىل‬ ‫يهود �أوروبا بالعودة �إىل فل�سطني"‪ .‬هذه الر�سالة تُعترب من �أقوى و�أو�ضح التوجيهات ال�سيا�سية‬ ‫ال�صادرة عن ال�سلطات الربيطانية والتي لقيت على ما يبدو اعرتا�ضات من بع�ض الأو�ساط‬ ‫الإنكليزية املعادية لليهود مما ا�ضطر اللورد بارملر�ستون ب�أن يبوح مبا باح به �أمام دوائر مغلقة كما‬ ‫ذكرنا يف ال�سابق‪.‬‬ ‫بن غوريون‪�":‬رسقنا �أر�ض فل�سطني"‬

‫كل من وا�شنطن‬ ‫و�سط هذا اجلو العام ظهر �شيء من الرتدد عند احلكومة الربيطانية‪ .‬و�شعرت ٍ‬ ‫وباري�س بهذا الرتدد‪� .‬صارت باري�س ت�ضغط دبلوما�سياً على لندن ب�شكل مزايد ٍة �صهيونية‪� .‬أما‬ ‫وا�شنطن فاتخذت �ضغوطها طابعاً �أكرث خطورة بكثري �إذ راحت بيوت املال ت�ستهدف اجلنيه‬ ‫الإ�سرتليني مما ا�ضطر بلفور لل�سفر �إىل العا�صمة الأمريكية‪ .‬وخالل �إقامته هناك ومباحثاته مع‬ ‫‪12‬‬


‫ر�أي‬ ‫�إدارة الرئي�س ويل�سون ُلوحظ تزايد يف هذه ال�ضغوط و�أفهمه امل�س�ؤولون الأمريكيون ب�أن �إ�صدار‬ ‫الوعد �أم ٌر ُملح وب�أن م�صري االقت�صاد الربيطاين بات ٌ‬ ‫مرهون بهذا الأمر‪ .‬وكان �أكرث امل�س�ؤوليني‬ ‫الأمريكيني و�ضوحاً القا�ضي برانديز‪ ،‬ال�صهيوين املت�شدد والقريب جداً من الرئي�س ويل�سون‬ ‫الذي كان قد عينه قا�ضياً يف املحكمة العليا‪ .‬لقد اجتمع بلفور مرتني مع برانديز وتبلغ الر�سالة‬ ‫بو�ضوح ُمطلق‪ .‬فقفل عائداً �إىل لندن وعر�ض التفا�صيل كلها يف ٍ‬ ‫وقت كان فيه االقت�صاد‬ ‫ٍ‬ ‫الربيطاين مير ٍ‬ ‫بظروف �صعبة جداً ال ت�سمح بتعري�ض العملة الوطنية ملزيدٍ من الأهوال بل‬ ‫لكارثة حقيقية‪ .‬فحزمت احلكومة �أمرها و�أعطت تكليفاً لبلفور مبرا�سلة اللورد روت�شيلد و�إ�صدار‬ ‫الوعد‪.‬‬ ‫بلفور‪ ،‬كما بارملر�ستون كان قومياً انكليزياً واهتمامه باملو�ضوع ال�صهيوين كان من منطلق ما يراه‬ ‫م�صلحة لربيطانية‪� .‬إنه �شخ�صية ا�ستعمارية متوح�شة ككل الإ�ستعماريني املتوح�شني ولعل‬ ‫من �أبلغ ما يعك�س توح�شه ت�صريح �شهري له �صدر بتاريخ ‪� 11‬آب (�أغ�سط�س) ‪ 1919‬جاء فيه‪:‬‬ ‫"نحن‪ ،‬يف فل�سطني‪ ،‬ل�سنا يف �صدد �أو يف وارد اللجوء �إىل ا�ستجماع �أماين ورغبات‬ ‫ال�سكان احلاليني للبالد‪� ...‬إن ال�صهيونية‪� ،‬سواء �أكانت حمقة �أم خمطئة‪ ،‬جيدة �أم �سيئة‪،‬‬ ‫ف�إنها جمزرة يف التقاليد القدمية‪ ،‬ويف االحتياجات الراهنة‪ ،‬ويف الآمال امل�ستقبلية التي تفوق‬ ‫ب�أهميتها رغبات و�أماين ال�سكان العرب املقيميني على هذه الأر�ض القدمية والذين يبلغ‬ ‫عددهم ‪� 700‬ألف‪ ،‬كما تفوق ب�أهميتها الأ�ضرار التي تلحق بهم"‪.‬‬ ‫ويدور الزمن دورته وت�ستقر فل�سطني ال�ضحية ال�شهيدة يف النكبات املتتالية‪ .‬ولعل �أو�ضح‬ ‫و�أن�صع ما ي�شهد على اجلرمية ذاك البوح – الإعرتاف الذي نطق به املجرم الوح�ش بن غوريون‬ ‫�أمام �صديقه نحوم غولدمان م�ؤ�س�س امل�ؤمتر اليهودي العاملي و�أحد الآباء الثالثة لـ"�إ�سرائيل"‬ ‫احلالية مع بن غوريون ووايزمن والذي �أورد هذا البوح يف كتابه ال�شهري بعنوان "املفارقة‬ ‫كنت فل�سطينياً لرف�ضت كل احللول‪ .‬لقد �سرقنا �أر�ضهم"‪.‬‬ ‫اليهودية‪ "..‬لو ُ‬

‫‪13‬‬


‫لبنان ‪ -‬بريوت ‪� -‬شارع احلمرا ‪ -‬بناية ر�سامني ‪ -‬ط‬ ‫�ص‪.‬ب‪ 113 - 7179 :‬بريوت ‪ -‬لبنان‬

‫‪3‬‬

‫‪tel: 00961 -1 - 751 541‬‬ ‫‪E-mail: info@darabaad.com‬‬


‫ملف العدد "وعد بلفور"‬

‫مبنا�سبة مرور مائة عام على وعد بلفور‬

‫من الوعد التوراتي‪� ..‬إىل وعد بلفور‪ ..‬للم�ؤامرة الكربى‬ ‫دعاء ال�شريف ‪ -‬باحثة متخ�ص�صة بالدرا�سات الإ�سرائيلية‬

‫من منا مل ينتظر �أمام �شا�شة التلفاز بال�ساعات ليتابع مباراة كرة قدم‪� ،‬سواء كانت حملية �أو‬ ‫دولية‪ ..‬من منا مل يتع�صب �أو يغ�ضب �أو يت�شاجر لأن فريقه الذي ي�شجعه خ�سر املباراة؟‪..‬‬ ‫من منا مل يلقِ باللوم لهزمية فريقه على الالعبني �أو املدرب �أو حتى حكم املباراة‪ ،‬رغم �أن‬ ‫ن�سبة اخلط�أ يف املباريات تكاد تنعدم لوجود �أكرث من حكم ومراقب‪ ،‬فهناك عند كل جانب‬ ‫من جوانب امللعب حكم م�ساعد للحكم الأ�سا�سي حتى يتم ت�أمني كل خطوط وزوايا امللعب‬ ‫من اجلوانب الأربعة‪..‬‬ ‫فالقانون البد �أن يطبق داخل امللعب ومبنتهى الدقة‪ ،‬فال جمال للغ�ش �أو التالعب‪ ،‬الكل‬ ‫ي�أخذ ما ي�ستحقه فاحلياد والعدل هو الأ�سا�س داخل امللعب‪� ..‬أما حول امللعب ف�ستجد كل‬ ‫االحتياطات الالزمة لت�أمني املباريات الكروية‪ ،‬فهناك ت�أمني طبي عايل امل�ستوى معه �أدواته‬ ‫ومعداته‪ ،‬وهناك �أي�ضاً ت�أمني �أمني ومراقبون والعبون يجل�سون كاحتياطي فال جمال لتعطيل‬ ‫املباراة‪.‬‬ ‫داخل امللعب البد من حما�سبة كل خمطئ وعقابه‪ ،‬بل وطرده �أحياناً وحرمانه من اللعب �إذا‬ ‫جتاوز احلد‪ ،‬بل قد يطول العقاب جماهري �أحد الفرق بحرمانها من ح�ضور مباريات فريقهم‪..‬‬ ‫فاحلق هو ال�سيد‪ ،‬والعدل والقانون البد �أن ي�سريا داخل امللعب‪ ..‬ولأهمية اللعب يف حياتنا مت‬ ‫�إن�شاء احتاد الفيفا عام ‪ 1904‬للحفاظ على حقوق الالعبني والأندية وحقوق اللعبة ال�شهرية‪.‬‬ ‫كل ذلك يحدث داخل امللعب‪� ،‬أما بالن�سبة حلياتنا اجلادة خارج امللعب على �أر�ض الواقع فال‬ ‫جمال للعدل �أو لتطبيق القوانني �أو ملحا�سبة املخطئ �أو لرد احلق لأ�صحابه �أو عقاب املغت�صب‬ ‫�أو الت�صدي له رغم �أن اجلماهري يف مباراة حياتنا احلقيقية اجلادة هو العامل ب�أ�سره لكن رد‬ ‫احلقوق وتطبيق القوانني و�إقامة العدل ال يكون �إال يف �ألعاب الأوملبياد فقط‪.‬‬ ‫‪15‬‬


‫فح�سب امل�شهد الأممي و�أر�شيف القرارات الدولية املتعلقة بال�شعب الفل�سطيني وحقوقه‬ ‫املغت�صبة‪ ،‬ف�إن هناك فوق رفوف الأمم املتحدة حتى اليوم نحو ‪ 845‬قراراً دولياً �صادراً عن‬ ‫م�ؤ�س�ساتها وجلانها املختلفة‪ ..‬غري �أن كل هذه القرارات حتى امللزمة منها ال تعدو �أن تكون‬ ‫حرباً على ورق بعد �أن رف�ضها االحتالل الإ�سرائيلي و�ضرب بها عر�ض احلائط‪� ،‬أو بعد �أن‬ ‫ا�ستخدمت الواليات املتحدة "فيتو" الظلم والطغيان �ضدها‪.‬‬ ‫فقانون العنف والقتل والإرهاب والوح�شية و�سرطان اال�ستيطان و�سرقة الأر�ض هي التوراة‬ ‫اجلديدة لأر�ض �إ�سرائيل وقد �شهد على ذلك الربوفي�سور الإ�سرائيلي "يهوذا جمن�س" الذي‬ ‫�صرح قائ ًال‪:‬‬ ‫"�إن الطريق اليهودي اجلديد يتكلم بفم البندقية‪ ..‬هذه هي التوراة اجلديدة لأر�ض‬ ‫�إ�سرائيل"‬ ‫(‪)i‬‬

‫وهذا ما ج�سدته على �سبيل املثال ال احل�صر ال�ساعات الأوىل حلرب �إ�سرائيل التي �شنتها‬ ‫على قطاع غزة يف يناير �سنة ‪ ،2009‬وما تلتها من حروب على القطاع‪� ،‬سواء يف عام ‪2012‬‬ ‫�أو يف عام ‪ 2014‬وهناك حالة من املباركة التي حاول بثها احلاخامات ال�صهاينة لرفع الروح‬ ‫االنتقامية والوح�شية لدى اجلنود الإ�سرائيليني حلثهم على حرق الفل�سطينيني وقتلهم‬ ‫وتقطيعهم �إرباً لينفذوا م�شيئة الرب‪.‬‬ ‫(‪)ii‬‬

‫ففي ت�صريح لرجل الدين الأول يف �إ�سرائيل‪ ،‬ومفتي الديار اليهودية احلاخام "مردخاي‬ ‫�إلياهو"(‪ )iii‬ن�شر يف �صحيفة "يديعوت �أحرونوت" يقول‪:‬‬ ‫"اقتلوهم وال ترحموا �صغريهم قبل كبريهم‪ ..‬انظروا يا �أبناء اهلل �إىل دموع �إلهكم‬ ‫و�أبيكم التي ال تتوقف من �أجلكم‪ ..‬انظروا �إىل دموع التكفري عن الذنب والتوبة من الإثم‬ ‫الذي ارتكبه اهلل يف حقكم"‪( iv..‬تعاىل اهلل عما ي�صفون)‬

‫ثم تال احلاخام فقرات من التلمود( )‪:‬‬ ‫"يقف القمر معاتباً للرب (حا�شا هلل وتعاىل اهلل عما ي�صفون) فيقول‪ ..‬ملاذا خلقتني �أ�صغر‬ ‫من ال�شم�س؟ ويكررها حتى يبكي الرب ويجمع املالئكة قائ ًال لهم‪ :‬كيف �أكفر عن خطيئتي‬ ‫يف حق القمر؟‬ ‫‪v‬‬

‫فتقول له املالئكة‪� :‬أكرم اليهود‪.‬‬ ‫‪16‬‬


‫ملف العدد "وعد بلفور"‬

‫فيقول لهم‪ :‬هم �شعبي املختار‪.‬‬ ‫فتقول املالئكة‪� :‬أكرم اليهود‪.‬‬ ‫فيقول‪ :‬هم �أ�سياد الب�شر‪.‬‬ ‫فيقولون له‪� :‬أكرم اليهود‪.‬‬ ‫فيقول‪ :‬هم �أبنائي ال �إثم عليهم يف الدنيا والآخرة يفعلون ما يريدون"‪.‬‬ ‫هكذا ينتهي كالم مفتي الديار اليهودية‪ ،‬وهو كما يبدو نعم رجل الدين الرحيم احلكيم‬ ‫ولكن رمبا حدث خط�أ مطبعي ب�سيط يف ال�صحيفة‪ ،‬ف�أفعالهم على مر التاريخ ال تدل على‬ ‫�أنهم كما يقول تلمودهم املقد�س �أ�سياد للب�شر و�إمنا واحلق يقال "�أ�سياد لل�شر" واالفرتاء على‬ ‫اهلل ومالئكته والنا�س �أجمعني‪.‬‬ ‫وهذا لي�س مب�ستغرب‪ ،‬فعلى مدى ع�شرات ال�سنوات التي م�ضت ملأ ال�صهاينة الدنيا �ضجيجاً‬ ‫و�صخباً مبنا�سبة ودون منا�سبة بالوعد الإلهي وبالأر�ض املقد�سة واتخذ حاخاماتهم املتطرفون‬ ‫�آيات الكتاب املقد�س كحجة لهم رغم �أنها يف حقيقة الأمر حجة عليهم كما �سيت�ضح لنا فيما‬ ‫بعد‪ ،‬وحاول زعما�ؤهم تربير احتاللهم لأر�ض فل�سطني العربية وكذلك تربير كل جرائمهم‪.‬‬ ‫�أمل تقر�أ ت�صريح اجلرنال ال�صهيوين "مو�شي ديان" يف "جريوزاليم بو�ست" عقب حرب ‪67‬‬ ‫ب�أ�شهر قليلة �إذ قال‪:‬‬ ‫"�إذا كنا منلك التوراة‪ ،‬و�إذا كنا نعترب �أنف�سنا �شعب التوراة‪ ،‬فمن الواجب علينا �أن منتلك‬ ‫جميع الأرا�ضي التوراتية �أر�ض الق�ضاة والكهنة‪� ،‬أر�ض �أور�شليم وحربون‪ ،‬و�أريحا و�أرا�ضي‬ ‫ً (‪)vi‬‬ ‫�أخرى �أي�ضا"‬

‫والأرا�ضي التوراتية التي يق�صدها "ديان" هنا لي�ست فل�سطني فح�سب‪ ،‬بل هي متتد من‬ ‫النيل �إىل الفرات كما ورد يف �آيات الكتاب املقد�س‪ ،‬وهناك مئات الت�صريحات والتربيرات‬ ‫والتف�سريات التي �ساقها ال�صهاينة م�ستندين فيها �إىل الكتاب املقد�س وك�أن الأمر لي�س‬ ‫بيدهم فهم ينفذون �أمراً �إلهياً علوياً‪ ،‬ففي ِ�سفر التثنية ال يطلب منهم الرب اغت�صاب الأر�ض‬ ‫وطرد �أ�صحابها فقط‪ ،‬بل ويطلب منهم �أال ي�شفقوا عليهم‪:‬‬ ‫(ּכִי יְבִ יאֲךָ‪ ،‬יְהוָה אֱֹלהֶ יךָ‪ ،‬אֶ ל‪-‬הָ אָ ֶרץ‪ ،‬אֲׁשֶ ר‪-‬אַ ּתָ ה בָא‪ׁ-‬שָ ּמָ ה לְ ִרׁשְ ּתָ ּה;‬ ‫‪17‬‬


‫ִים‪-‬רּבִים מִ ָּפנֶיךָ הַ חִ ִּתי ְוהַ ּגִ ְרּגָׁשִ י ְוהָ ֱאמ ִֹרי ְוהַ ּכְנַ עֲנִ י ְוהַ ּפְ ִרּזִ י‪ְ ،‬והַ חִ ּוִ י‬ ‫ְונָ ׁשַ ל ּגֹו ַ‬ ‫ְוהַ יְבּוסִ י‪ׁ--‬שִ בְ עָ ה גֹוִים‪ַ ،‬רּבִים וַעֲצּומִ ים מִ ּמֶ ּךָ‪ .‬ב ּונְ תָ נָ ם יְהוָה אֱֹלהֶ יךָ‪ ،‬לְ ָפנֶיךָ‪-‬‬ ‫ִ‬ ‫ֹלא‪-‬ת ְכרֹת לָהֶ ם ּבְ ִרית וְֹלא ְתחָ ּנֵם)(‪.)vii‬‬ ‫ ְוהִ ּכִיתָ ם‪ :‬הַ ח ֲֵרם ּתַ ח ֲִרים אֹתָ ם‪،‬‬‫"متى �أتى بك الرب �إلهك �إىل الأر�ض التي �أنت داخل �إليها لتمتلكها‪ ،‬وطرد �شعوباً كثرية‬ ‫من �أمامك‪ :‬احلثيني واجلرجا�شيني والأموريني والكنعانيني والفرزيني واحلويني واليبو�سيني‪،‬‬ ‫�سبع �شعوب �أكرث و�أعظم منك‪ .‬ودفعهم الرب �إلهك �أمامك‪ ،‬و�ضربتهم‪ ،‬ف�إنك حترمهم‪ .‬ال‬ ‫تقطع لهم عهداً‪ ،‬وال ت�شفق عليهم"‬ ‫كما تو�صيهم التوراة يف ال�سفر نف�سه بقتل �سكان الأر�ض "فل�سطني" التي �سيدخلونها‪:‬‬ ‫( ְונָ תַ ן מַ לְ כֵיהֶ ם‪ּ ،‬בְ ָידֶ ךָ‪ְ ،‬והַ ֲאב ְַדּתָ אֶ ת‪ׁ-‬שְ מָ ם‪ ،‬מִ ּתַ חַ ת הַ ּׁשָ מָ ִים‪ֹ :‬לא‪ְִ -‬יתיַּצֵ ב‬ ‫אִ יׁש ּבְ ָפנֶיךָ‪ ،‬עַ ד הִ ׁשְ מִ ְדךָ אֹתָ ם) (‪.)viii‬‬ ‫"ويدفع ملوكهم �إىل يدك‪ ،‬فتمحو ا�سمهم من حتت ال�سماء‪ .‬ال يقف �إن�سان يف وجهك‬ ‫حتى تفنيهم"‬ ‫و�ستجد يف �سفر ي�شوع تف�صي ًال دقيقاً لأوامر الرب يف ارتكاب املذابح‪:‬‬ ‫( ַו ַּיח ֲִרימּו‪ ،‬אֶ ת‪ּ-‬כָל‪-‬אֲׁשֶ ר ּבָעִ יר‪ ،‬מֵ אִ יׁש וְעַ ד‪-‬אִ ּׁשָ ה‪ ،‬מִ ּנַעַ ר וְעַ ד‪-‬ז ֵָקן; וְעַ ד ׁשֹור‬ ‫וָׂשֶ ה ַו ֲחמֹור‪ ،‬לְ פִ י‪-‬חָ ֶרב) (‪.)ix‬‬ ‫"وحرموا كل ما يف املدينة من رجل وامر�أة من طفل و�شيخ حتى البقر والغنم واحلمري بحد‬ ‫ال�سيف"‬ ‫واملدينة التي ت�شري �إليها الآيات ال�سابقة هي مدينة "�أريحا"‪ ،‬حيث يطلب منهم الرب عند‬ ‫ي�ستثن من الذبح والإبادة‬ ‫دخولهم للمدينة �أن يقتلوا كل رجل وامر�أة وكل طفل و�شيخ ومل ِ‬ ‫حتى احليوانات التي ال ذنب لها والتي ال هي فل�سطينية وال يهودية(‪.)x‬‬ ‫ثم ت�صف لنا الآيات بعد ذلك كيفية تلقيهم �أوامر الرب لكي يحرقوا املدينة بكل ما فيها‬ ‫من ب�شر وحياة‪:‬‬ ‫( ְוהָ עִ יר ׂשָ ְרפּו בָאֵ ׁש‪ְ ،‬וכָל‪-‬אֲׁשֶ ר‪ּ-‬בָּה‪ַ :‬רק הַ ּכֶסֶ ף ְוהַ ּזָהָ ב‪ּ ،‬ו ְכלֵי הַ ּנְ חֹׁשֶ ת‬ ‫ְוהַ ּב ְַרזֶל‪--‬נָ ְתנּו‪ ،‬אֹוצַ ר ּבֵית‪-‬יְהוָה)(‪.)xi‬‬ ‫‪18‬‬


‫ملف العدد "وعد بلفور"‬

‫"و�أحرقوا املدينة بالنار مع كل ما بها‪� ،‬إمنا الف�ضة والذهب و�آنية النحا�س واحلديد اجعلوها يف‬ ‫خزانة بيت الرب"‬ ‫كل ذلك قتلهم وحرقهم مباح‪� ،‬أما الف�ضة والذهب فعليهم �أن ي�أخذوها وي�ضعوها يف خزانة‬ ‫الرب وتلك اخلزانة ال توجد طبعاً يف ال�سماء و�إمنا يف جيوبهم‪.‬‬ ‫من �أجل ذلك فهم يحيكون امل�ؤامرات ويذبحون الأطفال ويقتلون ال�شيوخ ويطردون �شعباً‬ ‫من �أر�ضه ويحرمونه من وطنه من �أجل الوعد التوراتي الرباين لهم وعلينا نحن العرب بل‬ ‫وعلى العامل �أجمع �أن يعذرهم يف تلك املذابح الب�شعة التي اقرتفوها على مدار ع�شرات‬ ‫ال�سنوات �إذ �إنه واجب مقد�س و�أمر �إلهي ال مفر منه‪.‬‬ ‫وي�ست�شهد بنو �صهيون بالعهد الذي تلقاه النبي �إبراهيم يف حران ب�أن يخرج من �صلبه �شعب‬ ‫قوي يرث �أر�ض كنعان "فل�سطني"‪:‬‬ ‫(ה ֲִקמ ִֹתי אֶ ת‪ּ-‬בְ ִר ִיתי ּבֵינִ י ּובֵינֶךָ‪ּ ،‬ובֵין ז ְַרעֲךָ אַ ח ֲֶריךָ לְ דֹרֹתָ ם‪--‬לִ בְ ִרית עֹולָם‪:‬‬ ‫לִ הְ יֹות לְ ךָ לֵאֹלהִ ים‪ּ ،‬ולְ ז ְַרעֲךָ אַ ח ֲֶריךָ‪ .‬ח ְונָ תַ ִּתי לְ ךָ ּולְ ז ְַרעֲךָ אַ ח ֲֶריךָ אֵ ת אֶ ֶרץ‬ ‫(‪)xii‬‬ ‫מְ ג ֶֻריךָ‪ ،‬אֵ ת ּכָל‪-‬אֶ ֶרץ ּכְנַ עַ ן‪ַ ،‬לאֲחֻ ּזַת‪ ،‬עֹולָם; ְוהָ ִ‬ ‫ִייתי לָהֶ ם‪ ،‬לֵאֹלהִ ים)‬ ‫"و�أقيم عهدي بيني وبينك‪ ،‬وبني ن�سلك من بعدك يف �أجيالهم‪ ،‬عهداً �أبدياً‪ ،‬لأكون �إلهاً لك‬ ‫ولن�سلك من بعدك‪ ،‬و�أعطي لك ولن�سلك من بعدك �أر�ض غربتك‪ ،‬كل �أر�ض كنعان ملكاً‬ ‫�أبدياً‪ .‬و�أكون �إلههم"‬ ‫‪.‬‬

‫وحتى يكتمل وعد الرب نراه يحدد يف التوراة ويف ال�سفر نف�سه م�ساحة الأر�ض املقد�سة‬ ‫هديته التي يعد بها ن�سل النبي �إبراهيم والتي متتد من نهر النيل مب�صر‪ ،‬وحتى نهر الفرات‬ ‫بالعراق‪:‬‬ ‫(יח ַּבּיֹום הַ הּוא‪ּ ،‬כ ַָרת יְהוָה אֶ ת‪-‬אַ בְ ָרם‪ּ--‬בְ ִרית לֵאמֹר‪ :‬לְ ז ְַרעֲךָ‪ ،‬נָ תַ ִּתי אֶ ת‪-‬‬ ‫הָ אָ ֶרץ הַ ּזֹאת‪ ،‬מִ ּנְ הַ ר מִ צְ ַרִים‪ ،‬עַ ד‪-‬הַ ּנָהָ ר הַ ָּגדֹל נְ הַ ר‪ּ-‬פְ ָרת‪ .‬יט אֶ ת‪-‬הַ ֵּקינִ י‪،‬‬ ‫ְואֶ ת‪-‬הַ ְּקנִ ּזִ י‪ְ ،‬ואֵ ת‪ ،‬הַ ַּק ְדמֹנִ י‪ .‬כ ְואֶ ת‪-‬הַ חִ ִּתי ְואֶ ת‪-‬הַ ּפְ ִרּזִ י‪ְ ،‬ואֶ ת‪-‬הָ ְרפָאִ ים‪ .‬כא‬ ‫ְואֶ ת‪-‬הָ ֱאמ ִֹרי‪ְ ،‬ואֶ ת‪-‬הַ ּכְנַ עֲנִ י‪ְ ،‬ואֶ ת‪-‬הַ ּגִ ְרּגָׁשִ י‪ְ ،‬ואֶ ת‪-‬הַ יְבּוסִ י)‪.)xiii(..‬‬ ‫"يف ذلك اليوم قطع الرب مع �أبرام ميثاقاً قائ ًال‪ :‬لن�سلك �أعطي هذه الأر�ض‪ ،‬من نهر م�صر‬ ‫�إىل النهر الكبري‪ ،‬نهر الفرات‪ .‬القينيني والقنزيني والقدمونيني واحلثيني والفرزيني والرفائيني‬ ‫‪19‬‬


‫والأموريني والكنعانيني واجلرجا�شيني واليبو�سيني"‬ ‫لكن و�إن كان الرب قد وعد النبي �إبراهيم ون�سله كما تخربنا الآيات ال�سابقة ف�سن�صطدم يف‬ ‫تف�سري هذا الوعد مب�شكلتني �أ�سا�سيتني‪ ،‬امل�شكلة الأوىل هي �أن النبي �إبراهيم ال ميكن اعتباره‬ ‫رج ًال يهودياً وذلك مبوجب ال�شريعة الإ�سرائيلية الراهنة التي تقول �إن الإن�سان ال يكون‬ ‫يهودياً �إال �إذا كان مولوداً من �أم يهودية يف الأ�سا�س‪ ،‬و�إذا ما طبقنا هذا ال�شرط الذي و�ضعوه‬ ‫ب�أيديهم فلن يكون للنبي �إبراهيم حظ كبري يف �أن يكون يهودياً لأنه مل يولد من �أم يهودية كما‬ ‫�سيت�ضح لنا‪ ،‬لذلك فلزاماً عليهم �أن يدخلوا تعدي ًال جوهرياً على �شريعتهم الراهنة ما داموا‬ ‫يتحججون بذلك الوعد الإلهي وال �ضري يف ذلك فقد عدلوا وبدلوا على مدار قرون خلت‬ ‫حتى يف ن�صو�صهم املقد�سة‪ ،‬انظر كيف طلب "مناحم بيجن" �أثناء مباحثات كامب ديفيد‬ ‫من "ال�سادات" �أن يحذف �آيات القر�آن التي تتحدث ب�شكل غري الئق عن اليهود! هكذا‬ ‫يرون احلذف والإ�ضافة يف كالم اهلل ويف الكتب ال�سماوية املقد�سة �أمراً يف غاية الب�ساطة‬ ‫ولزاماً علينا �أن نحذف تلك الآيات من القر�آن الكرمي �أو ن�ستبدلها بكلمات �أكرث وداً �إذا �أردنا‬ ‫ال�سالم مع بني �صهيون!‬ ‫�أما امل�شكلة الثانية فتتعلق بذلك الوعد التوراتي الذي وعد به ن�سل النبي �إبراهيم‪ ،‬فبناء على‬ ‫ذلك يكون العرب �أي�ضاً �شركاء لليهود يف هذا الوعد املقد�س مبوجب �آيات التوراة نف�سها‬ ‫لأنهم خرجوا من ن�سل �إ�سماعيل ابن النبي �إبراهيم‪.‬‬ ‫وجه �أي�ضاً لنبيهم مو�سى‪ ،‬فقد جاء يف التوراة يف �سفر‬ ‫لكنهم رمبا �سيقولون �إن الوعد التوراتي ّ‬ ‫اخلروج �أن الرب وعد نبيه مو�سى ب�أن ّ‬ ‫يفك �أ�سر بني �إ�سرائيل من �أيدي امل�صريني‪ ،‬و�أن يهبهم‬ ‫�أر�ض كنعان التي متتلئ باخلري والربكة وتدر لبناً وع�س ًال‪:‬‬ ‫“ ָואֹמַ ר‪ ،‬אַ עֲלֶה אֶ ְתכֶם מֵ עֳנִ י מִ צְ ַרִים‪ ،‬אֶ ל‪-‬אֶ ֶרץ הַ ּכְנַ עֲנִ י ְוהַ חִ ִּתי‪ְ ،‬והָ ֱאמ ִֹרי‬ ‫(‪)xiv‬‬ ‫ְוהַ ּפְ ִרּזִ י ְוהַ חִ ּוִ י ְוהַ יְבּוסִ י‪--‬אֶ ל‪-‬אֶ ֶרץ ָזבַת חָ לָב‪ְּ ،‬ודבָׁש‪”.‬‬ ‫"فقلت �أ�صعدكم من مذلة م�صر �إىل �أر�ض الكنعانيني واحلثيني والأموريني والفرزيني‬ ‫واحلويني واليبو�سيني �إىل �أر�ض تفي�ض لبناً وع�سال‪".‬‬ ‫لكن �إذا كان هذا الوعد الإلهي هو الدافع احلقيقي واجلوهري الذي حرك اليهود من خمتلف‬ ‫�أنحاء العامل للهجرة واال�ستيالء على فل�سطني‪ ،‬فكيف لنا �أن ن�صدق ذلك وخالل الع�صور‬ ‫الطويلة التي كانت فيها �أر�ض فل�سطني مفتوحة لهم ولغريهم مل يظهر �أحد من يهود العامل‬ ‫‪20‬‬


‫ملف العدد "وعد بلفور"‬

‫رغبته يف املجيء �إليها واال�ستقرار فيها‪ ،‬وعلى �سبيل املثال مل تكن هناك �أي عقبة �أمام‬ ‫دخول اليهود �إىل فل�سطني قبل احلروب ال�صليبية(‪ )xv‬ومع ذلك فنجد �أن "بنيامني دوتوليد"‬ ‫وهو حاج يهودي يذكر �أنه مل يجد يف فل�سطني وقتها �سوى ‪ 1440‬يهودياً فقط(‪ )xvi‬وحاج �آخر‬ ‫يهودي هو "ناحوم جريوندي" مل يجد يف القد�س �سوى �أ�سرتني يهوديتني عام ‪1257‬م‪.‬‬ ‫وعندما ا�ستوىل ال�صليبيون على القد�س عام ‪1099‬م‪ ،‬فقد �أحرقوا اليهود يف معبدهم‪ ،‬فيما‬ ‫(�صالح الدين الأيوبي)(‪ ،)xvii‬الذي كان وقتها ي�ستعيد القد�س عام ‪1187‬م‪� ،‬أذن لليهود‬ ‫بالعودة �إىل املدينة املقد�سة ومل يفد وقتها �إىل �أر�ض فل�سطني ولو حتى يهودي واحد‪.‬‬ ‫ف�أين كان وقتها الوعد الإلهي املقد�س؟ �أمل يكن موجوداً يف �آيات الكتاب املقد�س �أم يف هذه‬ ‫(‪)xviii‬‬ ‫الفرتة مل يكن قد ذكر يف التوراة؟!‬ ‫حتى يف فرتات اال�ضطهاد التي تعر�ض لها اليهود وعندما كان الذهاب �إىل فل�سطني متاحاً‬ ‫لهم مل يلج�ؤوا �إليها بل كانوا يرتكون البلد الذي ي�ضطهدهم ويذهبون �إىل بلد �آخر غري‬ ‫فل�سطني‪ ،‬ومهما تنقلت بني �صفحات التاريخ فلن جتد �أن ذلك الوعد التوراتي بالأر�ض كان‬ ‫حمركاً لهجرة اليهود �إىل فل�سطني ففي عام ‪1492‬م عندما طرد العرب من �إ�سبانيا كان امللوك‬ ‫الكاثوليك يخريون اليهود بني التحول �إىل الن�صرانية �أو الذبح والقتل‪ ،‬ورغم ذلك فقد‬ ‫هاجرت الأغلبية ال�ساحقة من اليهود متجهة �إما �إىل فرن�سا و�إما �إىل هولندا �أو �إيطاليا‪ ،‬يف حني‬ ‫اجته البع�ض الآخر منهم �إىل جنوب مراك�ش يف املغرب و�إىل قرب�ص وم�صر ومل يذهب �إىل‬ ‫فل�سطني �إال النذر القليل‪.‬‬ ‫وكذلك عقب املذابح التي تعر�ض لها اليهود يف �أوكرانيا والتي وقعت بني عامي (‪1658‬م‬ ‫و‪1845‬م) مل يدفعهم العهد املقد�س للذهاب للجوء �إىل �أر�ض امليعاد‪ ،‬وعندما كان عدد‬ ‫اليهود يف العامل ع�شرة ماليني مل يكن على �أر�ض فل�سطني �سوى اثني ع�شر �ألفاً فقط رغم‬ ‫(‪)xix‬‬ ‫�أنهم كانوا يرددون يف العامل �أجمع يف كل يوم دعاءهم "�إىل �أور�شليم يف العام القادم"‬ ‫لكن ذلك العام القادم مل ي� ِأت �إال بعد قرون‪.‬‬ ‫ومهما تنقلت بني �صفحات التاريخ فلن جتد �أن الوعد التوراتي بالأر�ض املقد�سة كان حمركاً‬ ‫لهجرة اليهود �إىل فل�سطني(‪ .)xx‬حتى بعد احلمالت املدوية ال�صاخبة التي �شنها "هريت�سل"‬ ‫على الوحدة العاملية لل�شعب اليهودي مل يفد �إىل فل�سطني للإقامة بها خالل ال�سنوات‬ ‫اخلم�س التالية (‪1922 –7191‬م) �سوى ‪� 28‬ألف يهودي فقط(‪.)xxi‬‬ ‫‪21‬‬


‫ونحن ال ننكر الوعد الإلهي بل تو�ضح �آيات القر�آن الكرمي �أنه كان حثاً على اجلهاد يف �سبيل‬ ‫اهلل‪ ،‬فاهلل تعاىل �أمر نبيه مو�سى "عليه ال�سالم" وقومه باجلهاد ومقاتلة �أعدائه الذين يقطنون‬ ‫�أر�ض فل�سطني فيقول اهلل تعاىل يف �سورة "املائدة"‪:‬‬ ‫" َيا َق ْو ِم ا ْدخُ ُلوا ا َلأ ْر َ�ض املُق ََّد َ�س َة ا َّل ِت ْي َك َت َب ُ‬ ‫اهلل َل ُك ْم َو َال َت ْر َت ُّد ْوا َع َلى َ�أ ْد َبار ُِك ْم َف َت ْن َق ِل ُب ْوا‬ ‫(‪)xxii‬‬ ‫َخ ِا�س ِر ْي َن"‪.‬‬ ‫على كل حال مل يهتم م�ؤ�س�س احلركة ال�صهيونية "ثيودور هريت�سل"(‪ )xxiii‬كثرياً ال بالوعد‬ ‫التوراتي وال بالأر�ض املقد�سة؛ فعندما �أ�س�س احلركة ال�صهيونية عام ‪1896‬م كان �أكرث �صدقاً‬ ‫من الحقيه‪ ،‬والكذبة الكربى ُ�صدرت لنا نحن فقط‪ ،‬فعندما يعلن �أحد زعماء ال�صهيونية �أن‬ ‫�أر�ض فل�سطني مرتبطة بالوعد الإلهي الذي وعده الرب لأجداده فهو يعرف متاماً �أن م�ؤامرة‬ ‫احتالل �أر�ض فل�سطني كانت بالن�سبة لهريت�سل فكرة ا�ستعمارية بالدرجة الأوىل‪ ،‬فلم يكن‬ ‫يهتم بالأر�ض املقد�سة ومل ت� ِأت يف بادئ الأمر فكرة �إقامة وطن قومي لليهود على �أر�ض‬ ‫فل�سطني يف ر�أ�سه‪ ..‬فيذكر "هريت�سل" يف يومياته( )‪:‬‬ ‫‪xxiv‬‬

‫"�أن �أهدافه القومية ال ترتبط ب�أر�ض فل�سطني بل ميكن �إقامتها يف �أوغندا �أو غريها من‬ ‫الأرا�ضي‪".‬‬ ‫فهو مل يكن مييل �إىل الدين ومل تكن حتركه �آيات الكتاب املقد�س �إذ يقول �صراحة يف‬ ‫اليوميات نف�سها‪:‬‬ ‫"�إنني ال �أنقاد لأي دافع ديني‪".‬‬ ‫والغريب �أن فكرة �إقامة وطن قومي لليهود على �أر�ض فل�سطني منت يف ر�أ�س رجل فرن�سي‬ ‫مل يكن يهودياً وال توراتياً و�إمنا كان �سيا�سياً بارعاً وا�ستعمارياً خادعاً هو الإمرباطور "نابليون‬ ‫بونابارت" الذي كان يتلون ويت�شكل تبعاً ملقت�ضيات الظروف ففي الوقت الذي �أعلن فيه‬ ‫�إ�سالمه يف م�صر و�أ�سمى نف�سه "عبد اهلل" دعا يف بيان له عام ‪1798‬م يهود �آ�سيا و�إفريقيا �إىل‬ ‫التوجه نحو �أر�ض �أجدادهم يف فل�سطني التي �سلبت منهم و�إقامة دولة لهم هناك‪� ..‬إذ يقول‪:‬‬ ‫"�إىل ورثة فل�سطني ال�شرعيني‪� .‬أيها الإ�سرائيليون‪� ،‬أيها ال�شعب الفريد‪ ،‬الذي مل ت�ستطع‬ ‫قوى الفتح والطغيان �أن ت�سلبه ن�سبه ووجوده القومي‪ ،‬و�إن كانت قد �سلبته �أر�ض الأجداد‬ ‫(‪)xxv‬‬ ‫فقط"‪.‬‬ ‫‪22‬‬


‫ملف العدد "وعد بلفور"‬

‫ومل ِ‬ ‫يكتف بونابارت بذلك بل يعر�ض خدماته عليهم وم�ساعدتهم يف �إقامة دولتهم في�ستطرد‬ ‫يف بيانه قائ ًال‪:‬‬ ‫"انه�ضوا بقوة �أيها امل�شردون يف التيه‪� .‬إن �أمامكم حرباً مهولة يخو�ضها �شعبكم بعد �أن‬ ‫اعترب �أعدا�ؤه �أن �أر�ضه التي ورثها عن الأجداد غنيمة تق�سم بينهم ح�سب �أهوائهم‪...‬‬ ‫البد من ن�سيان ذلك العار الذي �أوقعكم حتت نري العبودية‪ ،‬وذلك اخلزي الذي �شل‬ ‫�إرادتكم لألفي �سنة‪� .‬إن الظروف مل تكن ت�سمح ب�إعالن مطالبكم �أو التعبري عنها‪ ،‬بل �إن‬ ‫هذه الظروف �أرغمتكم بالق�سر على التخلي عن حقكم‪ .‬ولهذا ف�إن فرن�سا تقدم لكم يدها‬ ‫الآن حاملة �إرث �إ�سرائيل‪ ،‬وهي تفعل ذلك يف هذا الوقت بالذات‪ ،‬ورغم �شواهد الي�أ�س‬ ‫(‪)xxvi‬‬ ‫والعجز"‪.‬‬ ‫كانت هذه هي ال�صيحة الأوىل التي حاولت حث اليهود لإقامة وطن قومي لهم على �أر�ض‬ ‫فل�سطني‪ .‬وهي مل ت� ِأت من حاخام يهودي متطرف �أو حتى من رجل دين يهودي عادي �إمنا‬ ‫جاءت من �إمرباطور فرن�سا الداهية‪.‬‬ ‫�أما الدعوات ال�سابقة لدعوة "بونابارت" فكانت كلها تنادي بتوطني اليهود يف م�صر ولي�س يف‬ ‫فل�سطني‪ ،‬فقد نادى "�شبتاي زيفي"(‪ )xxvii‬عام ‪1666‬م عندما ذهب �إىل الق�سطنطينية للهجرة‬ ‫�إىل �إقليم الوجه البحري من م�صر و�إقامة وطن قومي لليهود(‪ ،)xxviii‬كما جتددت دعوة �أخرى‬ ‫مماثلة عام ‪1798‬م يف ر�سالة بعث بها يهودي �إيطايل(‪� )xxix‬إىل �إخوانه يدعوهم فيها للهجرة‬ ‫ولإقامة وطن لليهود يف م�صر ال�سفلى‪.‬‬ ‫وكما �أو�ضحنا �سابقاً ف�إن حركة "ثيودور هريت�سل" كانت تعتمد يف الأ�سا�س على عقيدة �سيا�سية‬ ‫بالدرجة الأوىل‪ ،‬ولي�ست دينية وال روحية فهو يقول يف كتابه "الدولة اليهودية" �ص ‪:209‬‬ ‫"امل�س�ألة اليهودية لي�ست بالن�سبة يل م�س�ألة اجتماعية وال دينية‪� ..‬إنها م�س�ألة قومية‪".‬‬ ‫كان "هريت�سل" يرى �أن العقائد الدينية ن�سيج يحيط بالأر�ض املقد�سة‪ ،‬مل يكن لها من‬ ‫نفع‪ ،‬وكان يرى كذلك �أن امل�شكلة احلقيقية تتمثل يف خلق دولة قومية قوية يف �أي مكان يف‬ ‫العامل‪ .‬ومل يطر�أ يف عقل م�ؤ�س�س احلركة ال�صهيونية يف بادئ الأمر �أن تقام دولة �إ�سرائيل‬ ‫التي يحلم بها على �أر�ض فل�سطني بل اقرتح �أن تكون يف الأرجنتني(‪ ،)xxx‬ثم ا�ستبدل فكرته‬ ‫وحاول �أن يغري �إنكلرتا قائ ًال لها‪:‬‬ ‫‪23‬‬


‫"�سوف �أحاول �أن �أح�صل على الأرا�ضي ال�ضرورية ال�ستعمارنا يف �أحد املمتلكات‬ ‫الربيطانية‪".‬‬ ‫لذلك فقد طلب من �إنكلرتا �أرا�ضي العري�ش التي تقع يف �شبه جزيرة �سيناء (‪ )xxxi‬ثم طلب‬ ‫من احلكومة الإنكليزية �إقامة دولته املزعومة يف قرب�ص لكن "ت�شمربلند" وزير اخلارجية‬ ‫الإنكليزي وقتها مل يجد هذا الر�أي �صائباً لذلك وبعد �أن ا�ستطلع "هريت�سل" اخلرائط توجه‬ ‫ليطلب �أر�ضاً من الربتغال يف م�ستعمراتها مبوزامبيق‪ ،‬ومن بلجيكا يف الكونغو(‪ )xxxii‬ويف مرحلة‬ ‫الحقة اقرتحت عليه احلكومة الربيطانية �إقامة وطن قومي لليهود يف �أوغندا‪.‬‬ ‫وكما يبدو لنا �أن هريت�سل مل يكن يهتم بالوعد الإلهي كثرياً‪ ،‬فلم يذكر يف الكتاب املقد�س‬ ‫�أن اهلل "عز وجل" وعد بني �إ�سرائيل بدخول �أوغندا وال الأرجنتني (‪.)xxxiii‬‬ ‫و�سنجد "هريت�سل" �أكرث �صراحة يف اخلطاب الذي �أر�سله يف ‪ 11‬يناير ‪� 1902‬إىل "�سي�سيل‬ ‫رود�س" التاجر اال�ستعماري يف دولة جنوب �إفريقيا وفيه يعرتف هريت�سل �صراحة ب�أن حركته‬ ‫حركة ا�ستعمارية فيقول‪:‬‬ ‫"قد تت�ساءل ملاذا �أكتب �إليك يا �سيد رود�س‪ .‬ذلك �أن برناجمي هو برنامج ا�ستعماري"‬

‫(‪)xxxiv‬‬

‫لقد كان هريت�سل يكره �أي �إن�سان يدعي تعريف اليهودية على �أنها دين ال قومية لدرجة �أنه‬ ‫اعترب من باب ال�شذوذ �أن يعظ رباين بالإميان يهودياً خارج بلده الأ�صلي وي�سوق يف ذلك‬ ‫(‪)xxxv‬‬ ‫براهني ال ينطق بها �إال �أكرث النا�س املعادين لل�سامية‬ ‫لكن �أحالم هريت�سل كادت �أن تنهار‪ ،‬ففي نف�س وقت انعقاد "م�ؤمتر بازل"(‪ )xxxvi‬الذي مل‬ ‫يعقد يف ميونخ (كما كان يتوقعه هريت�سل) ب�سبب معار�ضة اجلالية اليهودية الأملانية‪ ،‬انعقد‬ ‫م�ؤمتر مونرتيال يف �أمريكا (‪1897‬م)(‪ )xxxvii‬حيث مت الت�صويت وباقرتاح من احلاخام "�إ�سحق‬ ‫مايرويز"‪ ،‬على قرار تعار�ضت فيه تعار�ضاً جذرياً قراءتان للتوراة‪ ،‬وهما القراءة ال�سيا�سية‬ ‫والقبلية لل�صهيونية والقراءة الروحانية والدينية للأنبياء‪:‬‬ ‫"لأننا ن�شجب متاماً �أي مبادرة تهدف �إىل �إن�شاء دولة يهودية‪ .‬و�أن �أي حماوالت من ذلك‬ ‫تك�شف مفهوماً خاطئاً لر�سالة �إ�سرائيل التي كان الأنبياء اليهود هم �أول من نادى بها‪..‬‬ ‫(‪)xxxviii‬‬ ‫وي�ؤكد �أن هدف اليهودية لي�س �سيا�سياً وال قومياً و�إمنا روحي"‬ ‫لقد كان هريت�سل يعرف �أن القوة التي �ستحرك اليهود �إىل العودة لي�س الوازع الديني وال‬ ‫‪24‬‬


‫ملف العدد "وعد بلفور"‬

‫احلنني الروحي و�إمنا قوة اال�ضطهاد املعادية لل�سامية التي �ستدفع باليهود �إىل الهجرة �إىل‬ ‫فل�سطني "و�إن�شاء �إ�سرائيل الكربى"(‪ ،)xxxix‬ففي كتابه "الدولة اليهودية" �ص ‪ 23‬يقول‪:‬‬ ‫"هناك اعرتا�ض جاد يعمد �إىل القول ب�أننا حني نعترب �شعباً واحداً ف�إنني �أ�ساعد املعادين‬ ‫لل�سامية‪".‬‬ ‫كما قال �أي�ضاً يف يومياته‪:‬‬ ‫"�سوف ي�صبح املعادون لل�سامية �أ�صدقاءنا اخلل�ص‪ ،‬و�سوف ت�صبح البالد املعادية لل�سامية‬ ‫حلفاءنا‪".‬‬ ‫وهكذا يف غاية الدهاء واخلبث مت ربط ال�سيا�سة بالتاريخ الذي ي�ستمدونه من �آيات التوراة‬ ‫كي ي�ضفوا �شرعية على احتالل فل�سطني فهم �أتوا ال لكي يحتلوا وال لكي يقيموا وطناً‬ ‫قومياً لليهود بل لكي يعيدوا "�إن�شاء الدولة اليهودية" كما ورد ن�صاً يف �إعالن اال�ستقالل‬ ‫الإ�سرائيلي وكلمة "�إعادة" تختلف متاماً عن كلمة "�إن�شاء" فهم ال ين�شئونها من العدم على‬ ‫�أر�ض الغري و�إال اعترب ذلك ا�ستعماراً بل يعيدون �إن�شاء ما قد كان قائماً قبل ذلك يف التاريخ‬ ‫القدمي لأنهم يعتربون فل�سطني "�أر�ض �إ�سرائيل التاريخية" و�أنها "حق ديني وتاريخي لليهود"‪،‬‬ ‫كان هذا هو التوجه الذي خاطبت به ال�صهيونية العقلية الغربية امل�سيحية والذي �سعى لأن‬ ‫(‪)xl‬‬ ‫يثبت يف الوجدان الغربي �أن تاريخ املنطقة ال ميكن فهمه �إال من خالل "التاريخ التوراتي"‪.‬‬ ‫من الوعد التوراتي‪� ..‬إىل وعد بلفور‬

‫متكن "حاييم وايزمان" الزعيم ال�صهيوين خالل احلرب العاملية الأوىل من ك�سب تعاطف‬ ‫بريطانيا وا�ستطاع �أن يح�صل على وعد من وزير خارجيتها اللورد "جيم�س �آرثر بلفور" يف ‪2‬‬ ‫فرباير ‪ 1917‬يف خطاب م�ضمونه �أن حكومة بريطانيا تبذل اجلهد لإقامة وطن قومي لليهود‬ ‫يف فل�سطني‪.‬‬ ‫وقد �أ�صدر اللورد "بلفور" وزير خارجية بريطانيا �آنذاك ت�صريحاً �سيا�سياً خطرياً قدمه على‬ ‫�شكل كتاب �إىل املليونري اليهودي اللورد "روت�شلد" جاء فيه‪:‬‬ ‫"�إن حكومة �صاحب اجلاللة تنظر بعني العطف �إىل ت�أ�سي�س وطن قومي لل�شعب اليهودي‬ ‫يف فل�سطني‪ ،‬و�ستبذل غاية جهدها لت�سهيل حتقيق هذه الغاية‪ ،‬على �أن يفهم جلياً �أنه لن ي�ؤتى‬ ‫بعمل من �ش�أنه �أن ينتق�ص من احلقوق املدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غري اليهودية‬ ‫‪25‬‬


‫املقيمة الآن يف فل�سطني وال احلقوق �أو الو�ضع ال�سيا�سي الذي يتمتع به اليهود يف البلدان‬ ‫(‪)xli‬‬ ‫الأخرى"‪.‬‬ ‫وع�شية �إ�صدار وعد بلفور‪ ،‬نوفمرب ‪ ،1917‬ارتفع عدد امل�ستوطنات �إىل "‪ 41‬م�ستوطنة بلغ عدد‬ ‫�سكانها ‪� 56‬ألف ن�سمة‪ .‬ميلكون ‪ % 2.5‬من �أرا�ضي فل�سطني‪ ،‬بني ‪� 700‬ألف من الفل�سطينيني‬ ‫العرب" (‪.)xlii‬‬ ‫و�شهد �شاهد من �أهلها‬

‫ورغم زيادة عدد امل�ستوطنات يف فل�سطني ب�سبب وعد بلفور �إال �أنها ازدادت يف هذه الفرتة‬ ‫االعرتا�ضات واال�ستياء من هذا الوعد من جمموعة �أخرى من اليهود‪ ..‬على �سبيل املثال‪:‬‬ ‫وجه اللورد "مونتاجو"(‪ )xliii‬يف ‪� 23‬أغ�سط�س عام ‪1917‬م وهو الع�ضو اليهودي الوحيد يف‬ ‫احلكومة الربيطانية مذكرة �إىل زمالئه يف الوزارة ب�سبب �إعالن بلفور قائ ًال‪:‬‬

‫"�إن ال�صهيونية عقيدة �سيا�سية م�ش�ؤومة‪ ..‬يبدو يل من غري املعقول �أن تتلقى ال�صهيونية من‬ ‫احلكومة الربيطانية اعرتافاً ر�سمياً و�أن تكون لل�سيد بلفور �سلطة �أن يقول �إن وطناً قومياً يهودياً‬ ‫�سوف يقام يف فل�سطني‪ .‬ل�ست �أدري ما �سوف يرتتب على هذا‪ ،‬ولكن يبدو يل �أن ذلك يعني‬ ‫�أن امل�سلمني والن�صارى يجب �أن يتخلوا عن مكانهم لليهود و�أن اليهود يتمتعون بو�ضع متميز‬ ‫بحيث �إن الرتك وامل�سلمني الآخرين يف فل�سطني �سوف يعدون غرباء‪� .‬إين �أ�ؤكد �أنه ال توجد‬ ‫(‪)xliv‬‬ ‫قومية يهودية"‬ ‫ثم ي�ستطرد "مونتاجو" قائ ًال �إنه يرف�ض ال�صهيونية �صراحة ويطالب احلكومة الربيطانية برف�ضها‬ ‫باعتبارها نظاماً غري م�شروع‪ ،‬وي�ضيف قائ ًال‪:‬‬ ‫"�إنني �أنكر �أن يوجد اليوم �أي رباط بني اليهود وفل�سطني‪ ،‬وكما من احلق ال�صراح �أن‬ ‫لفل�سطني دوراً كبرياً يف التاريخ اليهودي‪ ،‬فكذلك هي �أي�ضاً بالن�سبة للتاريخ الإ�سالمي‪،‬‬ ‫كما لعبت دوراً �أكرث من �أي بلد �آخر يف التاريخ امل�سيحي‪ ،‬فقد كان املعبد يف فل�سطني و�أي�ضاً‬ ‫الق�سم على اجلبل وال�صلب‪".‬‬ ‫وي�ضيف �أي�ضاً‪:‬‬ ‫"�إن اليهودية ديانة‪ ،‬والواجب احلتمي على جميع اليهود ‪-‬مثلهم يف ذلك مثل الكاثوليك‬ ‫‪26‬‬


‫ملف العدد "وعد بلفور"‬

‫والربوت�ستانت والأرثوذك�س‪ -‬هو �أن يخدموا دولتهم كمواطنني �صاحلني وجنود خمل�صني‪.‬‬ ‫(‪)xlv‬‬ ‫لقد كانت ال�صهيونية حلماً وغداً لن تكون �أكرث من م�صيدة �أثرية "‪.‬‬ ‫ثم �أ�شار مونتاجو �إىل �أن العودة التي يتحدث عنها الدين اليهودي ال ميكن �أن تتم �إال حتت‬ ‫�إ�شراف العناية الإلهية‪ .‬متهكماً ب�أن بلفور وروت�شيلد لي�سا هما امل�سيح املخ ِّل�ص‪ .‬ويعرتف مونتاجو‬ ‫ب�أن فل�سطني حتتل مكانة خا�صة يف قلوب اليهود‪ ،‬ولكن هذا ينطبق �أي�ضاً على امل�سيحيني‪ ،‬بل �إن‬ ‫املقد�سة (ح�سب ت�ص ُّوره) تلعب دوراً �أكرث مركزية يف الر�ؤية امل�سيحية‪.‬‬ ‫الأرا�ضي َّ‬ ‫كما بينَّ �أن �أع�ضاء الوزارة الربيطانية وال�صهاينة ينظرون �إىل فل�سطني من زاوية �ضيقـة تركز‬ ‫على حقبة واحدة من تاريخ فل�سطني‪ ،‬مبعنى �أنها تتجاهل احلقب غري اليهودية املختلفة والتي‬ ‫ت�شمل اجلزء الأكرب من تاريخها (وي�شري مونتاجو يف مذكرة �أخرى �إىل عروبة فل�سطني و�إىل‬ ‫تاريخها العربي الطويل)‪ .‬يف نهاية املذكرة‪ ،‬ي�ضع مونتاجو النقاط على الأحرف فيقول‪:‬‬ ‫"حينما يكون لليهودي وطن قومي‪ ،‬ف�سوف َين ُتج عن ذلك على وجه اليقني �أن يزداد االجتاه‬ ‫نحو حرماننا من حقوق املواطنة الإنكليزية‪� .‬ستتحول فل�سطني �إىل جيتو العامل‪ .‬ومعنى ذلك‬ ‫و�سع‪ ،‬ولكنه جيتو‬ ‫�أن من يعادون اليهود وال�صهاينة يحاولون َح ْ�صر اليهود داخل جيتو قومي ُم َّ‬ ‫(‪)xlvi‬‬ ‫حماط ب�أ�سوار عالية تف�صل احل�ضارة وال�شخ�صية اليهودية عن عامل الأغيار‪".‬‬ ‫واقرتح مونتاجو حرمان كل �صهيوين من حق الت�صويت بد ًال من حرمان اليهود الربيطانيني‬ ‫من جن�سيتهم‪ ،‬و�أ�ضاف �أنه مييل �إىل التعامل مع املنظمة ال�صهيونية بو�صفها منظمة غري �شرعية‬ ‫تعمل �ضد امل�صلحة الغربية الإنكليزية‪.‬‬ ‫وقد �أ َّدت �ضغوط �إدوين مونتاجو (وغريه) على الوزارة الربيطانية �إىل تعديل الن�ص الأ�صلي‬ ‫لوعد بلفور‪ ،‬بحيث ال ت�صبح الدولة اليهودية املزمع �إن�شا�ؤها دولة كل يهود العامل و�إمنا دولة‬ ‫من يرغبون يف الهجرة �إليها‪ .‬كما �أعرب �شقيقه عن �أنه ال يعترب اليهودية �أكرث من ديانة‪ .‬و ُيعترب‬ ‫موقف عائلة مونتاجو من احلركة ال�صهيونية تعبرياً عن بع�ض االجتاهات بني �أع�ضاء اجلماعات‬ ‫اليهودية املندجمني التي رف�ضت ال�صهيونية واعتربتها تعبرياً عن عقلية اجليتو يف خلطها‬ ‫بني الدين والقومية‪ .‬كما ر�أت �أن اليهود ال ي�شكلون �سوى �أقليات دينية يعتنق �أع�ضا�ؤها‬ ‫الديانة اليهودية وينتمون‪ ،‬مثلهم مثل غريهم من املواطنني‪� ،‬إىل دولتهم القومية التي هي‬ ‫م�صدر ثقافتهم ومركز والئهم‪ .‬وقد ر�أى ه�ؤالء �أن ال�صهيونية ت�شكل عقبة يف طريق االندماج‬ ‫ال�سوي‪.‬‬ ‫‪27‬‬


‫ويف عام ‪� 1938‬أدان العامل اليهودي الكبري "�ألربت �آين�شتني" فكرة �إقامة دولة لليهود‬ ‫فكتب يقول‪:‬‬ ‫"يف ر�أيي‪ ،‬يف�ضل �أن ن�صل �إىل اتفاق مع العرب على �أ�سا�س حياة م�شرتكة �سلمية من �أن‬ ‫نن�شئ دولة يهودية‪ ..‬ف�شعوري بالطبيعة اجلوهرية لليهود ت�صطدم بفكرة دولة يهودية ذات حدود‬ ‫وجي�ش‪ ،‬وم�شروع �سلطة زمنية بهذا القدر من التوا�ضع و�إين لأخ�شى اخل�سائر التي �سيتعر�ض‬ ‫لها اليهود ب�سبب تطورها يف طبقاتنا �إىل قومية �ضيقة‪ .‬فنحن مل نعد يهود مرحلة املكابيني‪ .‬ولئن‬ ‫(‪)xlvii‬‬ ‫عدنا قومية فذلك يعدل �أن نحيد عن روحنة جمتمعنا التي تدين بها لعبقرية �أنبيائنا"‬ ‫وهناك �أي�ضاً احلاخام "هري�ش" الذي �أو�ضح وجهة نظره يف ال�صهيونية قائ ًال‪:‬‬ ‫"�إن ال�صهيونية ق�ضت ب�أن ي�صبح ال�شعب اليهودي كياناً قومياً‪ ..‬وتلك هي الهرطقة‪".‬‬ ‫وهذا كان �أي�ضاً هو نف�س رد الفعل الأول للمنظمات اليهودية مثل‪" :‬رابطة حاخامات �أملانيا"‬ ‫و"االحتاد الإ�سرائيلي العاملي لفرن�سا"‪" ،‬واالحتاد الإ�سرائيلي" يف النم�سا‪ ،‬وكذلك الرابطات‬ ‫اليهودية يف لندن‪.‬‬

‫(‪)xlviii‬‬

‫كذلك مل يتوقف "مارتن بوبر" طوال حياته وهو �أحد �أهم الأ�صوات اليهودية الكربى يف‬ ‫هذا القرن‪ ،‬وحتى وفاته يف �إ�سرائيل عن �شجب انحالل ال�صهيونية الدينية �إىل �صهيونية‬ ‫�سيا�سية‪ ،‬فقد ذكر بوبر يف الن�شرة ال�صادرة يف ‪ 2‬يونيه ‪:1958‬‬ ‫"�إن ال�شعور الذي اعرتاين منذ �ستني عاماً‪ ،‬عندما ان�ضممت �إىل احلركة ال�صهيونية هو‬ ‫يف جوهره نف�س ال�شعور الذي يعرتيني اليوم؛ لقد كان �أملي �أال تتبع هذه القومية طريق‬ ‫الآخرين و�أن تبد�أ ب�آمال عري�ضة لكي ال ترتدى بعد ذلك حتى ت�صبح نزعه �أنانية مقد�سة‪".‬‬ ‫ومن �أقواله �أي�ضاً‪:‬‬ ‫"كنا ن�أمل يف �إنقاذ القومية اليهودية من خط�أ حتويل �شعب �إىل �صنم معبود ولكننا قد‬ ‫(‪)xlix‬‬ ‫�أخفقنا‪".‬‬ ‫االنتداب الربيطاين على فل�سطني عام ‪1922‬‬

‫ويف �سنة ‪� 1922‬أعلن �صك االنتداب الفل�سطيني الذي وافقت عليه ع�صبة الأمم ح�سب‬ ‫املادة (‪ )22‬ونذكر من تلك املواد‪:‬‬ ‫‪28‬‬


‫ملف العدد "وعد بلفور"‬

‫البند الثاين‬

‫تكون الدولة املنتدبة م�س�ؤولة عن و�ضع البالد يف �أحوال �سيا�سية و�إدارية واقت�صادية‬ ‫ت�ضمن �إن�شاء الوطن القومي اليهودي‪.‬‬ ‫البند الثالث‬

‫يعرتف بوكالة يهودية �صاحلة كهيئة عمومية لإ�سداء امل�شورة واملعونة �إىل �إدارة فل�سطني مع‬ ‫�ضمان عدم �إحلاق ال�ضرر بحقوق وو�ضع جميع فئات الأهايل الأخرى و�أن ت�سهل هجرة‬ ‫اليهود يف �أحوال مالئمة‪..‬‬ ‫البند رقم (‪)22‬‬

‫يجب �أن تكون الإنكليزية والعربية والعربية لغات فل�سطني الر�سمية‪.‬‬ ‫الهجرة اليهودية �إىل فل�سطني يف زمن االنتداب الربيطاين‬

‫يف هذه املرحلة التي متتد من �سنة ‪� 1919‬إىل ‪ ،1948‬فتحت �آفاق جديدة �أمام حركة الهجرة‬ ‫ال�صهيونية �إىل فل�سطني‪ ،‬فقد �أدمج وعد بلفور ب�صك االنتداب الربيطاين على فل�سطني‪،‬‬ ‫الذي ن�صت املادة ال�ساد�سة منه على �أن الإدارة الربيطانية �سوف تلتزم بت�سهيل الهجرة‬ ‫اليهودية ب�شروط منا�سبة‪ ،‬و�سوف ت�شجع ‪-‬بالتعاون مع الوكالة اليهودية‪ -‬ا�ستيطان اليهود يف‬ ‫الأرا�ضي مبا يف ذلك الأرا�ضي احلكومية والأرا�ضي اخلالية وغري الالزمة لال�ستعمال العام‪.‬‬ ‫كما ن�صت املادة ال�سابعة على �ضرورة ت�سهيل �إعطاء املهاجرين اليهود اجلن�سية الفل�سطينية‪.‬‬ ‫ويف ‪� ،1920 /8 /26‬أ�صدرت ال�سلطات الربيطانية نظاماً للهجرة‪ ،‬وت�سهيل عودة اليهود الذين‬ ‫كانوا قد خرجوا من فل�سطني �أثناء احلرب‪ ،‬ومل ي�ضع هذا النظام �أي قيود على دخول اليهود‬ ‫الذين يريدون الهجرة �إىل فل�سطني لغايات دينية‪ ،‬وال على دخول عائالت اليهود و�أقاربهم‬ ‫املقيمني يف فل�سطني‪ ،‬وقد خولت املنظمة ال�صهيونية مبوجبه �صالحية �إح�ضار ‪ 16500‬يهودي‬ ‫�آخر �سنوياً �شريطة �أن تكون م�س�ؤولة عن �إعالتهم ملدة �سنة‪.‬‬ ‫ثم �صدر يف يونيو �سنة ‪ 1921‬نظام جديد للهجرة‪ ،‬وعدل �أكرث من مرة يف �سنوات‬ ‫و‪ 1926‬و‪ 1927‬و‪ ،1929‬و�أخذ �شكله النهائي يف �سنة ‪ ،1932‬وكان املق�صود بالتعديالت التي‬

‫‪1925‬‬

‫‪29‬‬


‫�أدخلت و�ضع بع�ض القيود على الهجرة ب�سبب ت�صاعد املقاومة العربية لالنتداب‪ ،‬و�سيا�سته‬ ‫يف فتح �أبواب فل�سطني على م�صراعيها �أمام املهاجرين اليهود‪ ،‬فلقد كان تدفق ال�صهيونية من‬ ‫الأ�سباب املبا�شرة لثورات الثالثينيات العربية (ثورة �سنة ‪ 1935‬وثورة ‪1936‬ـ‪ ،)1939‬ولكن‬ ‫هذه التعديالت كانت �شكلية فلم تغري �شيئاً يف جوهر نظام الهجرة‪.‬‬ ‫وللم�ساعدة يف �إجناح امل�شروع ال�صهيوين عمدت الواليات املتحدة وبع�ض الدول الغربية‬ ‫الأخرى يف هذه املرحلة �إىل و�ضع قيود على هجرة اليهود �إىل �أرا�ضيها لدفعهم �إىل الهجرة‬ ‫�إىل فل�سطني‪ ،‬وتق�سم امل�صادر ال�صهيونية الهجرة التي متت يف فرتة االنتداب الربيطاين‬ ‫�إىل‪:‬‬ ‫الهجرة الثالثة (‪ 1919‬ـ ‪)1923‬‬

‫وقد بلغ عدد املهاجرين فيها حوايل ‪� 35‬ألف ن�سمة‪� ،‬أي مبعدل ثمانية �آالف مهاجر �سنوياً‪،‬‬ ‫جا�ؤوا يف معظمهم من رو�سيا ورومانيا وبولونيا‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل �أعداد �صغرية من لتوانيا و�أملانيا‬ ‫والواليات املتحدة‪ ،‬والهجرة الثالثة م�شابهة يف تركيبها للهجرة الثانية من حيث كون معظم‬ ‫�أفرادها �شباباً و�شابات مفل�سني ومغامرين‪ ،‬وقد تقل�صت هذه الهجرة نتيجة الإجراءات والقيود‬ ‫التي و�ضعها االحتاد ال�سوفيتي على هجرة اليهود من �أرا�ضيه‪.‬‬ ‫الهجرة الرابعة (‪ 1924‬ـ ‪)1932‬‬

‫جاء �إىل فل�سطني يف هذه املوجة نحو ‪� 89‬ألف مهاجر يهودي‪ ،‬معظمهم من �أبناء الطبقة‬ ‫الو�سطى و�أكرث من ن�صفهم من بولونيا‪ ،‬وا�ستغل مهاجرو هذه املوجة ر�ؤو�س الأموال اخلا�صة‬ ‫التي �أح�ضروها معهم يف �إقامة بع�ض امل�شاريع ال�صغرية اخلا�صة‪.‬‬ ‫وقد بلغ تدفق املهاجرين ال�صهيونيني ذروته يف عام ‪ 1925‬فو�صل عددهم �إىل حوايل ‪� 33‬ألفاً‬ ‫مقابل ‪� 13‬ألفاً يف عام ‪ ،1924‬وبعد ذلك انخف�ض العدد مرة �أخرى �إىل حدود ‪� 13‬ألفاً يف عام‬ ‫‪ .1926‬ثم بد�أت الهجرة باالنح�سار منذ عام ‪ 1927‬ب�سبب ال�صعوبات االقت�صادية يف البالد‬ ‫�آنذاك‪ ،‬ففي عام ‪ 1927‬انخف�ض عدد املهاجرين �إىل ثالثة �آالف‪ ،‬ثم �إىل �ألفني فقط يف عام‬ ‫‪.1928‬‬ ‫ويف هاتني ال�سنتني زاد عدد النازحني عن عدد املهاجرين وا�ضطرت الوكالة اليهودية �إىل دفع‬ ‫‪30‬‬


‫ملف العدد "وعد بلفور"‬

‫تعوي�ضات بطالة لليهود العاطلني عن العمل و�أقامت بع�ض امل�شاريع لت�شغيل املهاجرين اجلدد‬ ‫مب�ساعدة �أموال جمعت من بريطانيا والواليات املتحدة‪ ،‬وقد ظل عدد املهاجرين منخف�ضاً بني‬ ‫‪ 1929‬و‪ 1931‬فبلغ حوايل خم�سة �آالف ن�سمة يف كل من عامي ‪ 1929‬و‪ 1930‬ثم انخف�ض‬ ‫�إىل نحو �أربعة �آالف مهاجر عام ‪ ،1931‬ويف عام ‪ 1932‬بد�أت الهجرة بالت�صاعد ثانية فبلغ‬ ‫عدد املهاجرين ‪.9553‬‬ ‫ويف هذه الفرتة و�صل نحو ‪ 2500‬مهاجر من يهود اليمن �إىل فل�سطني‪ ،‬وبلغ عدد اليهود‬ ‫يف فل�سطني يف نهاية هذه املرحلة حوايل ‪� 175‬ألفاً عا�ش ‪� 136‬ألفاً منهم يف ‪ 19‬م�ستعمرة‬ ‫بلدية وعا�ش الباقون يف نحو ‪ 110‬م�ستعمرات زراعية‪.‬‬ ‫الهجرة اخلام�سة (‪ 1933‬ـ ‪)1939‬‬

‫وقد بلغ عدد املهاجرين الذين قدموا يف هذه الهجرة �إىل فل�سطني نحو ‪� 215‬ألفاً‪ ،‬جاء معظمهم‬ ‫من �أقطار و�سط �أوروبا التي ت�أثرت بو�صول النازية �إىل احلكم يف �أملانيا فهاجر منها وحدها‬ ‫خالل هذه الفرتة نحو ‪� 45‬ألف مهاجر‪.‬‬ ‫وقد بلغت الهجرة ذروتها يف عام ‪ 1935‬فبلغ عدد املهاجرين حوايل ‪� 62‬ألفاً‪ ،‬ثم �أخذت‬ ‫بالهبوط ب�سبب ا�شتعال ثورة ‪ 1936‬يف فل�سطني‪ ،‬ومن اجلدير بالذكر �أن املنظمة ال�صهيونية‬ ‫والوكالة اليهودية عقدتا اتفاقاً مع احلكم النازي يف �أملانيا لت�سهيل عملية هجرة اليهود من‬ ‫�أملانيا وتنظيم �إخراج �أموالهم‪.‬‬ ‫ومبوجب هذا االتفاق �أمكن �إخراج حوايل ‪� 32‬ألف مليون جنيه‪� ،‬أو ما يعادل ع�شرة �أ�ضعاف‬ ‫ما جمعته اجلباية اليهودية حتى ذلك الوقت‪.‬‬ ‫وو�صل �إىل فل�سطني �أي�ضاً حوايل ‪ 4500‬يهودي ميني‪ ،‬وقد بد�أت احلركة ال�صهيونية يف هذه‬ ‫املرحلة بتنظيم هجرة من نوع خا�ص عرفت با�سم "هجرة ال�شباب"‪ ،‬وذلك بجمع الأطفال‬ ‫اليهود من �أوروبا ونقلهم �إىل فل�سطني‪ ،‬و�أن�شئت يف الوكالة اليهودية دائرة خا�صة بهجرة‬ ‫ال�شباب‪ ،‬ومتكنت احلركة ال�صهيونية من نقل حوايل ‪� 30‬ألف طفل يهودي �إىل فل�سطني من‬ ‫عام ‪� 1933‬إىل �شهر مايو من عام ‪.1948‬‬ ‫وظهر يف هذه املرحلة �أي�ضاً ما عرف با�سم الهجرة "غري ال�شرعية"‪ ،‬فقد جنحت يف‬ ‫الو�صول �إىل ال�شواطئ الفل�سطينية بني يوليو من عام ‪ 1934‬وبداية احلرب العاملية الثانية‬ ‫‪31‬‬


‫‪� 43‬سفينة حتمل ‪� 15‬ألف مهاجر "غري �شرعي"‪.‬‬

‫(‪)l‬‬

‫الهجرة ال�ساد�سة (‪ 1939‬ـ مايو ‪)1948‬‬

‫والتي متت خالل احلرب العاملية الثانية حتى قيام (�إ�سرائيل)‪ ،‬وقد ا�ستمرت ب�أ�شكالها املختلفة‬ ‫�إما عن طريق الإبحار مبا�شرة �إىل فل�سطني‪ ،‬و�إما بالإبحار �إىل موانئ حمايدة يف تركيا والبلقان‬ ‫ثم االنتقال �إىل فل�سطني بحراً �أو ب ّراً‪ ،‬وقد و�صل �إىل �شواطئ فل�سطني يف �سنوات احلرب‬ ‫‪ 21‬مركباً نقلت نحو ‪� 15‬ألف مهاجر "غري �شرعي"‪ ،‬وك�شفت الوثائق ال�سرية الربيطانية‬ ‫النقاب عن �أن الأ�سطول الربيطاين الذي كان مكلفاً مبراقبة �شواطئ فل�سطني ملقاومة الهجرة‬ ‫"غري ال�شرعية" ‪-‬ح�سب ادعاء احلكومة الربيطانية �آنذاك‪ -‬كان يقوم ب�إر�شاد �سفن املهاجرين‬ ‫ال�صهيونيني و�إمدادها باملاء وامل�ؤن والوقود وقيادتها �إىل ال�سواحل الفل�سطينية‪ ،‬حيث جتري‬ ‫عملية ا�ستيالء وهمية عليها‪.‬‬ ‫ثورات فل�سطني �ضد االحتالل وامل�ستوطنات‬

‫بد�أت هذه الثورات من (‪� )4‬إىل (‪� )8‬أبريل �سنة ‪ 1920‬حيث ن�شبت �أول �إ�ضرابات يف‬ ‫فل�سطني �أثناء مو�سم النبي مو�سى‪ ،‬حيث انقلب املو�سم �إىل �صدامات م�سلحة مع البولي�س‬ ‫�أدت �إىل وقوع قتلى وجرحى من العرب واليهود‪.‬‬ ‫■ اندلعت يف مدينة يافا البا�سلة ثورة جديدة ا�ستمرت من (‪� )1‬إىل (‪ )15‬مايو �سنة‬ ‫‪ - 1921‬ثورة الرباق يف (‪� )15‬أغ�سط�س �سنة ‪ 1929‬عندما تقدمت ح�شود يهودية نحو‬ ‫حائط الرباق بجوار امل�سجد الأق�صى املبارك ملحاولة احتالل احلائط‪ ،‬حيث هز القد�س‬ ‫�أول هجوم وا�سع النطاق ي�شنه العرب على اليهود‪ ،‬ففي �أعمال ال�شغب قتل العرب ‪133‬‬ ‫يهودياً وقتل منهم ‪ ،116‬وتعود جذور العنف �إىل خماوف العرب من �أهداف احلركة‬ ‫ال�صهيونية التي تهدف لإقامة وطن قومي لليهود يف فل�سطني‪.‬‬ ‫وكانت بريطانيا قد وعدت اليهود ب�إن�شاء وطن قومي لهم يف فل�سطني‪ ،‬على �أال جتحف بحق‬ ‫ال�سكان الأ�صليني يف البالد‪ ،‬ولكن حتى الآن مل تقم بريطانيا بتنفيذ وعدها للعرب بحماية‬ ‫حقوقهم املدنية والدينية‪.‬‬ ‫■ ثورة ال�شيخ عز الدين الق�سام �سنة ‪ 1935‬وهي احلافز الأول للثورة الفل�سطينية الكربى‪.‬‬ ‫‪32‬‬


‫ملف العدد "وعد بلفور"‬

‫�إ�رضاب ال�ستة �أ�شهر ‪1936‬‬

‫قام الفل�سطينيون ب�إ�ضراب عام �شامل ملدة �ستة �أ�شهر احتجاجاً على م�صادرة الأرا�ضي‬ ‫والهجرة اليهودية‪.‬‬ ‫جلنة بيل ‪1937‬‬

‫منذ وعد بلفور كانت بريطانيا حتاول ت�سوية اخلالف بني اليهود والعرب دون جناح‪ ،‬ففي عام‬ ‫‪ 1937‬قدم اللورد روبرت بيل التقرير الذي خل�صت له اللجنة التي كان ير�أ�سها‪ ،‬حيث ورد‬ ‫يف التقرير �أن ا�ستمرار العمل بنظام االنتداب على فل�سطني غري ممكن عملياً و�إنه لي�س هناك‬ ‫�أمل يف قيام كيان م�شرتك بني العرب واليهود‪ ،‬فكان من دواعي تكوين هذه اللجنة تزايد‬ ‫�أعمال االحتجاج من قبل العرب يف فرتة الع�شرينيات والثالثينيات ب�سبب الهجرة اليهودية‬ ‫وم�صادرة الأرا�ضي‪ ،‬فما كان من العرب �إال ت�شكيل اللجنة العربية العليا للدفاع عن �أنف�سهم‬ ‫وقاموا بتنظيم �إ�ضراب ال�ستة �أ�شهر يف عام ‪.1936‬‬ ‫ويف حماولة للخروج من تلك الأزمة قامت بريطانيا بتكليف اللورد روبرت بيل بدرا�سة الو�ضع‬ ‫وتقدمي احللول‪ ،‬ولكن العرب قاطعوا اللجنة ورف�ضوا التقرير‪.‬‬ ‫بعد ت�أكيد التقرير على ا�ستحالة قيام كيان م�شرتك لليهود والعرب‪ ،‬مت اقرتاح تق�سيم فل�سطني‬ ‫�إىل دولتني �أحدهما عربية والأخرى يهودية وتو�ضع الأماكن املقد�سة حتت الإدارة الدولية‪،‬‬ ‫وبعد �سنتني من التقرير وجدت بريطانيا يف حالة ال فوز وال خ�سارة وقررت و�ضع قيود على‬ ‫هجرة اليهود لفل�سطني حلني �إيجاد حل للمع�ضلة‪.‬‬ ‫املع�ضلة الفل�سطينية‪ -‬الربيطانية ‪1945‬‬

‫بعد انتهاء احلرب العاملية الثانية وفتح مع�سكرات االعتقال النازية‪ ،‬عاد زعماء احلركة‬ ‫ال�صهيونية للمطالبة بفتح باب الهجرة لليهود �إىل فل�سطني‪.‬‬ ‫واحلركات ال�صهيونية امل�سلحة مثل الهاجانا والأرجون وال�سترين جاجن �صعدت هجومها‬ ‫امل�سلح على جنود االنتداب الربيطاين لل�ضغط على بريطانيا لفتح باب الهجرة‪ ،‬وعار�ض‬ ‫العرب ال�ضغوط اليهودية‪ ،‬ولكن مل يكن هناك قيادة موحدة للعرب‪ ،‬ففي عام ‪ 1945‬قامت‬ ‫ال�سعودية و�سوريا ولبنان والعراق والأردن واليمن وم�صر بت�أ�سي�س جامعة الدول العربية‬ ‫‪33‬‬


‫لل�ضغط على بريطانيا من اجلانب الآخر من �أجل حقوق الفل�سطينيني‪ ،‬احلكومة العمالية‬ ‫اجلديدة يف بريطانيا كانت تدعم ب�شدة �أهداف وم�شاريع احلركة ال�صهيونية‪ ،‬مع رغبتها بالإبقاء‬ ‫على �صداقتها للعرب‪.‬‬ ‫وبال�ضغط من الرئي�س الأمريكي ترومن ذي امليول ال�صهيونية الوا�ضحة �أر�سلت بريطانيا‬ ‫جلنة جديدة لدرا�سة الو�ضع‪ ،‬اللجنة الإنكليزية الأمريكية �أو�صت بالتهجري الفوري‬ ‫لعدد ‪ 100000‬يهودي �أوروبي لفل�سطني‪ ،‬كما �أو�صت برفع القيود على بيع الأرا�ضي‬ ‫الفل�سطينية لليهود مع �إقامة الكيان امل�شرتك حتت رعاية الأمم املتحدة‪.‬‬ ‫حتت �ضغط التكاليف العالية للجي�ش الربيطاين يف فل�سطني‪ ،‬قررت بريطانيا �إحالة ق�ضية‬ ‫فل�سطني �إىل الأمم املتحدة‪.‬‬ ‫مت �إر�سال جلنة من الأمم املتحدة لتقييم الو�ضع يف فل�سطني وتقدمي االقرتاحات وبناء على‬ ‫تقريرها مت اتخاذ قرار تق�سيم فل�سطني رقم ‪.242‬‬ ‫وقد طالب الرئي�س الأمريكي ترومان بعد احلرب مبا�شرة‪ ،‬وتنفيذاً ملقررات برنامج بلتمور‪،‬‬ ‫ب�إدخال مائة �ألف يهودي فوراً �إىل فل�سطني‪ ،‬وت�شكلت جلنة حتقيق �أنكلو‪� -‬أمريكية" لبحث‬ ‫مدى قدرة فل�سطني على ا�ستيعاب اليهود امل�شردين يف �أوروبا‪ ،‬ويف الأول من مايو عام ‪1946‬‬ ‫ن�شرت جلنة التحقيق املذكورة تو�صياتها ف�أيدت فيها مطلب الرئي�س ترومان‪.‬‬ ‫مل تنفذ حكومة االنتداب ر�سمياً تو�صيات اللجنة‪ ،‬ولكنها فتحت عملياً �أبواب فل�سطني‬ ‫للهجرة ال�صهيونية "ب�شتى �أ�شكالها" فقد و�صلت �إىل �سواحل فل�سطني بعد احلرب (‪1945-‬‬ ‫‪� 65 )1948‬سفينة مهاجرين "غري �شرعيني" تقل نحو ‪� 70‬ألف مهاجر ت�سلل ق�سم منهم �إىل‬ ‫البالد‪ ،‬وا�ضطرت احلكومة الربيطانية �إىل احتجاز نحو ‪� 50‬ألفاً منهم يف مع�سكرات خا�صة‬ ‫يف قرب�ص‪ ،‬ثم �أخذت تدخلهم �إىل فل�سطني على دفعات مبعدل ‪ 750‬مهاجراً �شهرياً‪ ،‬وهكذا‬ ‫دخل فل�سطني بني عام ‪ 1940‬وعام ‪ 1948‬نحو ‪� 120‬ألف مهاجر يهودي‪.‬‬ ‫ان�سحاب بريطانيا وقرار تق�سيم فل�سطني ‪1947‬‬

‫بعد �سبع �سنني من احلروب ورغبة بريطانيا يف االن�سحاب من م�ستعمراتها‪ ،‬يف عام ‪1947‬‬

‫قررت بريطانيا ترك فل�سطني وطلبت من الأمم املتحدة تقدمي تو�صياتها‪ ،‬مت عقد �أول جل�سة طارئة‬ ‫للأمم املتحدة يف ‪ 1947‬ومت اقرتاح م�شروع تق�سيم فل�سطني �إىل دولتني فل�سطينية ويهودية على‬

‫‪34‬‬


‫ملف العدد "وعد بلفور"‬

‫�أن تبقى القد�س دولية‪ ،‬و�أن ت�سود عالقات ح�سن اجلوار والتعاون االقت�صادي بني الدولتني‪.‬‬ ‫ومتت املوافقة على االقرتاح من ‪ 33‬ع�ضواً مقابل رف�ض ‪ 13‬ع�ضواً وبدعم من االحتاد ال�سوفييتي‬ ‫والواليات املتحدة الأمريكية وبامتناع بريطانيا عن الت�صويت‪.‬‬ ‫كان قرار تق�سيم فل�سطني‪ ..‬ال�صادر يف ‪ 1947 /11 /29‬والذي وافقت عليه هيئة الأمم املتحدة‬ ‫يت�ضمن ما يلي‪:‬‬ ‫■ انتهاء االنتداب يف موعد ال يتجاوز اليوم الأول من �أغ�سط�س ‪.1948‬‬ ‫■ ت�أ�سي�س دولتني يف فل�سطني‪� :‬إحداهما عربية والأخرى يهودية‪.‬‬ ‫■ �إقامة �إدارة دولية خا�صة يف القد�س‪.‬‬ ‫■ يتم ت�أليف الدولتني اليهودية والعربية والإدارة الدولية يف القد�س يف موعد ال يتجاوز‬ ‫اليوم الأول من �شهر �أكتوبر ‪.1948‬‬ ‫ومن هنا بد�أت وا�ستمرت خيوط امل�ؤامرة الكربى يف احتالل �أر�ض فل�سطني‪ ،‬فكل ما �سبق‬ ‫يلخ�ص �أن فكرة احتالل فل�سطني و�إقامة دولة قومية لليهود على �أر�ضها هي فكرة �سيا�سية‬ ‫ا�ستعمارية قومية‪ ،‬ومل تكن تنطلق �أبداً من �أي �أفكار توراتية‪ ،‬ولكن رغم ذلك مت ا�ستخدام‬ ‫التوراة يف خدمة امل�شروع ال�صهيوين اال�ستعماري فلي�س هناك حافز �أقوى من الدين يجذب‬ ‫النا�س لكي يهاجروا من خمتلف دول العامل ويتوجهوا نحو م�صري جمهول مرتكز على الوعود‬ ‫التوراتية التي وعد بها الرب ال�شعب اليهودي و�أنبياءه‪ ..‬و�إذا كانت الأمم املتحدة املنوطة برد‬ ‫احلقوق والف�صل بني النزاعات والق�ضايا الدولية لي�س لها �أي ت�أثري يذكر على مدار خم�سني‬ ‫عاماً‪ ..‬و�إذا كان تطبيق العدل كما ذكرنا �سابقاً يف بداية هذه الدرا�سة ال يتحقق �إال داخل‬ ‫مالعب كرة القدم والدورات الأوليمبية فهل نلج�أ �إىل الفيفا؟‬

‫‪35‬‬


‫جدول يو�ضح عدد املهاجرين اليهود القادمني �إىل فل�سطني‬ ‫(‪)1‬‬ ‫يف �أواخر الع�صر العثماين‬ ‫الفرتة الزمنية‬

‫جمموع املهاجرين‬ ‫اليهود �إىل فل�سطني‬ ‫(بالآالف)‬

‫املتو�سط ال�سنوي‬ ‫للهجرة اليهودية‬ ‫(بالآالف)‬

‫عدد اليهود‬ ‫الأ�شكيناز‬ ‫(بالآالف)‬

‫ن�سبة اال�شكناز‬ ‫املئوية‬

‫‪1880 - 1850‬‬

‫‪25‬‬

‫‪0.8‬‬

‫‪-‬‬

‫‪-‬‬

‫‪1903 - 1881‬‬

‫‪25‬‬

‫‪1‬‬

‫‪24‬‬

‫‪% 96‬‬

‫‪1910 - 1904‬‬

‫‪20‬‬

‫‪2.9‬‬

‫‪19‬‬

‫‪% 95‬‬

‫‪1914 - 1911‬‬

‫‪14‬‬

‫‪3.5‬‬

‫‪-‬‬

‫‪-‬‬

‫‪1914 - 1850‬‬

‫‪84.3‬‬

‫‪1.3‬‬

‫‪-‬‬

‫‪-‬‬

‫‪ ‬‬ ‫جدول يو�ضح الهجرة اليهودية �إىل فل�سطني‬ ‫ومقارنتها بالهجرة اليهودية العاملية من عام ‪1840‬‬

‫(‪)2‬‬

‫‪ -1‬املو�سوعة الفل�سطينية‪ ،‬الق�سم العام‪ ،‬املجلد الأول ‪ ،‬دم�شق‪ ،‬هيئة املو�سوعة الفل�سطينية‪.1984 ،‬‬ ‫‪2-Finkelstein, L., OP. cit, VOI.2, Table 3 A,P. 1554, and Table 3BP. 1555‬‬ ‫‪36‬‬


‫ملف العدد "وعد بلفور"‬

‫جدول يو�ضح موجات الهجرة اليهودية �إىل فل�سطني من عام ‪1948 - 1882‬‬

‫(‪)1‬‬

‫‪ -1‬د‪ /‬يو�سف عبد اهلل �صايغ ‪ ،‬االقت�صاد الإ�سرائيلي ‪ ،‬جدول (‪� )3‬ص ‪. 50‬‬ ‫‪37‬‬


‫وثيقة‪ ..‬نداء "نابليون" �إىل يهود العامل �سنة ‪1798‬م‬

‫(‪)1‬‬

‫"من نابليون بونابرت القائد الأعلى للقوات امل�سلحة للجمهورية‬ ‫الفرن�سية يف �إفريقيا و�آ�سيا �إىل ورثة فل�سطني ال�شرعيني‪.‬‬ ‫�أيها الإ�سرائيليون‪� ،‬أيها ال�شعب الفريد‪ ،‬الذي مل ت�ستطع قوى الفتح‬ ‫والطغيان �أن ت�سلبه ن�سبه ووجوده القومي‪ ،‬و�إن كانت قد �سلبته �أر�ض‬ ‫الأجداد فقط‪.‬‬ ‫�إن مراقبي م�صائر ال�شعوب الواعني املحايدين‪ ،‬و�إن مل تكن لهم مقدرة‬ ‫الأنبياء مثل �أ�شعياء ويوئيل‪ ،‬قد �أدركوا ما تنب�أ به ه�ؤالء ب�إميانهم الرفيع‬ ‫�أن عبيد اهلل (كلمة �إ�سرائيل يف اللغة العربية تعني �أ�سري اهلل �أو عبد‬ ‫اهلل) �سيعودون �إىل �صهيون وهم ين�شدون‪ ،‬و�سوف تعمهم ال�سعادة حني‬ ‫ي�ستعيدون مملكتهم دون خوف‪.‬‬ ‫انه�ضوا بقوة �أيها امل�شردون يف التيه‪� ،‬إن �أمامكم حرب ًا مهولة يخو�ضها‬ ‫�شعبكم بعد �أن اعترب �أعدا�ؤه �أن �أر�ضه التي ورثها عن الأجداد غنيمة‬ ‫تق�سم بينهم ح�سب �أهوائهم‪ ...‬البد من ن�سيان ذلك العار الذي �أوقعكم‬ ‫حتت نري العبودية‪ ،‬وذلك اخلزي الذي �شل �إرادتكم لألفي �سنة‪� ،‬إن‬ ‫الظروف مل تكن ت�سمح ب�إعالن مطالبكم �أو التعبري عنها‪ ،‬بل �إن هذه‬ ‫الظروف �أرغمتكم بالق�سر على التخلي عن حقكم‪ ،‬ولهذا ف�إن فرن�سا‬ ‫تقدم لكم يدها الآن حاملة �إرث �إ�سرائيل‪ ،‬وهي تفعل ذلك يف هذا‬ ‫الوقت بالذات‪ ،‬ورغم �شواهد الي�أ�س والعجز‪.‬‬ ‫�إن اجلي�ش الذي �أر�سلتني العناية الإلهية به‪ ،‬ومي�شي بالن�صر �أمامه‬ ‫وبالعدل وراءه‪ ،‬قد اختار القد�س مقر ًا لقيادته‪ ،‬وخالل ب�ضعة �أيام‬ ‫�سينتقل �إىل دم�شق املجاورة التي مل تعد ُترهب مدينة داود‪.‬‬ ‫‪ -1‬حممد ح�سنني هيكل‪ :‬املفاو�ضات ال�سرية بني العرب و�إ�سرائيل ‪( .‬اجلزء الأول) ‪.‬‬ ‫‪38‬‬


‫ملف العدد "وعد بلفور"‬

‫يا ورثة فل�سطني ال�شرعيني‪..‬‬ ‫�إن الأمة الفرن�سية التي ال تتاجر بالرجال والأوطان كما فعل غريها‪،‬‬ ‫تدعوكم �إىل �إرثكم ب�ضمانها وت�أييدها �ضد كل الدخالء‪.‬‬ ‫انه�ضوا و�أظهروا �أن قوة الطغاة القاهرة مل تخمد �شجاعة �أحفاد‬ ‫ه�ؤالء الأبطال الذين كان حتالفهم الأخوي �شرف ًا لإ�سربطة وروما‪ ،‬و�أن‬ ‫معاملة العبيد التي طالت �ألفي �سنة مل تفلح يف قتل هذه ال�شجاعة‪.‬‬ ‫�سارعوا �إن هذه هي اللحظة املنا�سبة ‪-‬التي قد ال تتكرر لآالف ال�سنني‪-‬‬ ‫للمطالبة با�ستعادة حقوقكم ومكانتكم بني �شعوب العامل‪ ،‬تلك احلقوق‬ ‫التي �سلبت منكم لآالف ال�سنني وهي وجودكم ال�سيا�سي ك�أمة بني‬ ‫الأمم‪ ،‬وحقكم الطبيعي املطلق يف عبادة �إلهكم يهوه‪ ،‬طبق ًا لعقيدتكم‪،‬‬ ‫وافعلوا ذلك يف العلن وافعلوه �إىل الأبد‪.‬‬ ‫" بونابرت "‬

‫‪39‬‬


‫وثيقة ‪ ..‬نداء �شبتاي زيف �إىل اليهود ‪1666‬‬

‫(‪)1‬‬

‫�أيها الإخوان‪ :‬ال يغربن عن ذهنكم �أن زفراتكم وتنهداتكم �صعدت يف‬ ‫خالل الع�صور �إىل عنان ال�سماء ل�شدة ما رزحتم حتت �أثقال اجلور‬ ‫واال�ضطهاد فهال تنوون �أن تتخل�صوا نهائ ّي ًا من احلالة املقرونة بالإذالل‬ ‫واالنحطاط التي و�ضعكم فيها �أنا�س من الهمج‪� ،‬إننا نرى االزدراء‬ ‫مرافق ًا لنا يف كل مكان فالبدار البدار‪ ،‬فقد حان الوقت لتحطيم‬ ‫�سال�سل اخل�سف والإهانة التي طوق العدو بها �أعناقكم‪ ،‬وخلع النري‬ ‫الذي ال يطاق احتماله‪ ،‬نعم قد �آن الأوان لنهو�ضنا واحتالل املركز‬ ‫الالئق بنا بني �أمم العامل فهيا بنا �أيها الإخوان لتجديد هيكل �أور�شليم‪،‬‬ ‫�إن عددنا يبلغ �ستة ماليني منت�شرين يف جميع �أقطار العامل‪ ،‬ويف حوزتنا‬ ‫ثروات طائلة وا�سعة وممتلكات عظيمة �شا�سعة فيجب �أن نتذرع بكل ما‬ ‫لدينا من الو�سائل ال�ستعادة بالدنا‪.‬‬ ‫�إن الفر�صة ل�سانحة ومن واجبنا �أن نغتنمها‪.‬‬ ‫�إنه يجب العمل بالو�سائل التالية لتحقق هذا امل�شروع املقد�س وهي‬ ‫�إقامة جمل�س ينتخبه اليهود املقيمون يف اخلم�سة ع�شر بلد ًا التالية‬ ‫وهي‪� :‬إيطاليا‪� ،‬سوي�سرا‪ ،‬املجر‪ ،‬بولونيا‪ ،‬رو�سيا‪ ،‬بالد ال�شمال‪ ،‬بريطانيا‬ ‫العظمى‪� ،‬إ�سبانيا‪ ،‬بالد ول�س‪ ،‬ال�سويد �أملانيا‪ ،‬تركيا‪� ،‬آ�سيا‪ ،‬و�إفريقيا‪.‬‬ ‫فاللجنة املمثلة لليهود املقيمني يف هذه البلدان كلها ميكنها �أن تبحث‬ ‫يف مهمتها لتتخذ ما تراه من القرارات ب�صددها ويكون من الواجب‬ ‫على جميع اليهود �أن يقبلوا هذه القرارات ويجعلوها مبثابة قانون ال‬ ‫مندوحة لهم من اخل�ضوع له‪.‬‬

‫‪�" -1‬إيلي ليقي �أبو ع�سل " ‪ ،‬كتاب يقظة يهود العامل ‪ ،‬القاهرة‪1934 ،‬م‪� ،‬ص ‪. 104 - 101‬‬ ‫‪40‬‬


‫ملف العدد "وعد بلفور"‬

‫وثيقة‪ ..‬ر�سالة يهودي �إيطايل �إىل (الإخوان يف الدين �سنة ‪)1798‬‬

‫(‪)1‬‬

‫�إن البالد التي نقرتح احتاللها �سوف ت�ضم (وذلك يخ�ضع للرتتيبات‬ ‫التي تراها فرن�سا منا�سبة) م�صر ال�سفلى‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل منطقة‬ ‫متتد حدودها على خط ي�سري من عكا �إىل البحر امليت‪ ،‬ومن الطرف‬ ‫اجلنوبي للبحر امليت �إىل البحر الأحمر‪.‬‬ ‫�إن هذا املوقع املتفوق على ما عداه‪ ،‬واملتميز عن �سائر املواقع يف العامل‬ ‫�سوف يجعل منا حني منخر عباب البحر الأحمر �أ�سياد جتارة الهند‬ ‫واجلزيرة العربية �أو جنوب �إفريقيا و�شرقها واحلب�شة و(�إثيوبيا)‪...‬‬ ‫�إن قرب حلب ودم�شق �سوف ي�سهل جتارتنا مع بالد فار�س‪ ،‬وعن طريق‬ ‫البحر الأبي�ض املتو�سط ن�ستطيع �إقامة االت�صاالت مع فرن�سا و�إ�سبانيا‬ ‫و�إيطاليا و�سائر �أنحاء القارة الأوروبية‪.‬‬ ‫�إن بالدنا الواقعة يف مركز الو�سط يف العامل �سوف ت�صبح مركز ًا‬ ‫جتاري ًا لتوزيع ال�سلع من كل املنتجات الفنية والثمينة على �سطح الكرة‬ ‫الأر�ضية‪.‬‬ ‫�إيه‪� ،‬إخواين‪� ،‬أال تت�ضاءل قيمة الت�ضحيات �أمام حتقيق هذا الهدف؟‬ ‫�سوف نعود �إىل بالدنا ونعي�ش يف ظل قوانيننا‪ ،‬ثم ن�شاهد تلك الأماكن‬ ‫املقد�سة �أيها الإ�سرائيليون! ها قد دنت نهاية ب�ؤ�سكم وم�صائبكم‪،‬‬ ‫فالفر�صة مواتية‪ ،‬واحذروا كي ال تدعوها تفوتكم‪.‬‬

‫)‪1 - Albert Hyawson : «Palestine. The Rebirth of An ancient People» (London 1916‬‬ ‫‪41‬‬


‫وثيقة ‪" ..‬ت�شمربلني يعر�ض م�شروع �أوغندا على هريت�سل"‬

‫(‪)1‬‬

‫‪ -1‬ملف وثائق فل�سطني من عام ‪� 637‬إىل عام ‪ ،1949‬وزارة الإر�شاد القومي ‪،‬ج‪� ، 1‬ص‪. 146 - 145‬‬ ‫‪42‬‬


‫ملف العدد "وعد بلفور"‬

‫وثيقة‪" ..‬ر�سالة ت�شمربلني �إىل هريت�سل لتوطني اليهود يف �سيناء"‬

‫(‪)1‬‬

‫‪ -1‬ملف وثائق فل�سطني من عام ‪� 637‬إىل عام ‪ ،1949‬وزارة الإر�شاد القومي ‪،‬ج‪� ، 1‬ص‪. 142 - 141‬‬ ‫‪43‬‬


‫وثيقه‪ ..‬م�ؤمتر بازل عام ‪1897‬‬

‫(‪)1‬‬

‫‪ ‬بد�أ التح�ضري اجلدي لعقد م�ؤمتر �صهيوين مع مطلع �سنة ‪،1897‬‬ ‫وكان مقرر ًا عقده يف ميونخ ب�أملانيا‪ ،‬لكن عندما �أر�سلت الدعوات‬ ‫الر�سمية غ�ضب اليهود الغربيون و�أعلنوا �سخطهم على امل�ؤمتر‪،‬‬ ‫واعتربته ال�صحافة الأملانية اليهودية خيانة‪ ،‬كما رف�ضت رابطة رجال‬ ‫الدين اليهود يف �أملانيا هذا امل�ؤمتر ب�شدة‪.‬‬ ‫و�أدت هذه احلملة �إىل نقل مكان امل�ؤمتر �إىل بازل يف �سوي�سرا‪ ،‬وان�صرف‬ ‫هريت�سل �إىل مرا�سلة زعماء اليهود قاطبة‪ ،‬يحثهم على انتخاب النخبة‬ ‫البارزة بينهم‪.‬‬ ‫‪ ‬عقد امل�ؤمتر �أخري ًا يف بازل (‪� 31 - 29‬أغ�سط�س ‪ ،)1897‬وح�ضره‬ ‫‪� 204‬أع�ضاء من اليهود‪ ،‬ميثلون ‪ 15‬دولة‪ ،‬وتر�أ�س هريت�سل امل�ؤمتر‪.‬‬ ‫‪ ‬وو�ضع امل�ؤمتر ما عرف فيما بعد با�سم "برنامج بازل" ال�صهيوين‪،‬‬ ‫والقرار الأ�سا�س الذي اتخذه امل�ؤمتر هو‪�" :‬إن غاية ال�صهيونية هي خلق‬ ‫وطن لل�شعب اليهودي يف فل�سطني ي�ضمنه القانون العام"‪.‬‬ ‫وحدد امل�ؤمتر الو�سائل الكفيلة بتحقيق هذه الغاية مبا يلي‪:‬‬ ‫‪1‬ـ تعزيز اال�ستيطان يف فل�سطني باليهود املزارعني‪ ،‬واحلرفيني‪،‬‬ ‫واملهنيني‪ ،‬وبناء على قواعد �صاحلة‪.‬‬ ‫‪2‬ـ تنظيم اليهود كافة‪ ،‬وتوحيدهم بوا�سطة �إن�شاء امل�ؤ�س�سات املحلية‬ ‫والعامة املالئمة‪ ،‬وفق ًا للقوانني ال�سارية يف كل بلد‪.‬‬ ‫‪ - 1‬بيان نويه�ض احلوت‪ ،‬فل�سطني (الق�ضية ـ ال�شعب ـ احل�ضارة)‪ ،‬التاريخ ال�سيا�سي من عهد الكنعانيني حتى‬ ‫‪ ،1917‬بريوت‪ ،‬دار اال�ستقالل للدرا�سات والن�شر‪1991 ،‬‬ ‫‪44‬‬


‫ملف العدد "وعد بلفور"‬

‫‪3‬ـ تقوية ال�شعور اليهودي القومي وال�ضمري القومي‪.‬‬ ‫‪4‬ـ اتخاذ اخلطوات التح�ضريية للح�صول على موافقة احلكومات التي‬ ‫يجب احل�صول عليها‪ ،‬لتحقيق هدف ال�صهيونية‪.‬‬ ‫ومن الناحية التنفيذية‪� ،‬أ�س�س امل�ؤمتر "املنظمة ال�صهيونية العاملية"‪،‬‬ ‫وانتخب هريت�سل رئي�س ًا للمنظمة ال�صهيونية‪ ،‬ومت �إقرار النظام الداخلي‬ ‫للمنظمة وهيكلها التنظيمي و�شروط الع�ضوية‪ ،‬فمنح حق الع�ضوية لكل‬ ‫يهودي يف العامل يلتزم بربنامج بازل‪ ،‬ويدفع ا�شرتاك ًا �سنو ّي ًا ي�سمى "�شيقل"‬ ‫وهو وحدة العملة التي كان يتداولها العربانيون القدامى‪ .-‬وللمنظمة‬‫رئي�س وجلنة تنفيذية وجمل�س عام يتمتع ب�صالحياته امل�ؤمتر ما بني دورات‬ ‫انعقاده‪ ،‬كما �أقر امل�ؤمتر �شكل العلم ال�صهيوين (تر�س داود) ون�شيد ًا قوم ّي ًا‪.‬‬ ‫وجدير بالذكر �أن م�ؤمتر بازل قد تعمد �أن ي�ستعمل يف قراره الرئي�س‬ ‫تعبري "وطن"‬ ‫‪� )hermstaeete( ‬أو (‪ )Home‬لأ�سباب دبلوما�سية‪ ،‬بينما كان‬ ‫الق�صد احلقيقي للم�ؤمتر منذ البداية هو "دولة يهودية"‪ .‬وقد �أكد‬ ‫هريت�سل نف�سه هذه احلقيقة يف مذكراته بقوله‪" :‬لو �أردت �أن �أخل�ص‬ ‫م�ؤمتر بازل بكلمة واحدة‪ ،‬وهي كلمة �س�أحر�ص على �أال �أتلفظ بها علن ًا‪،‬‬ ‫لقلت‪" :‬يف م�ؤمتر بازل �أر�سيت �أ�س�س الدولة اليهودية"‪.‬‬ ‫كان م�ؤمتر بازل انعطاف ًا �أ�سا�س ّي ًا يف تاريخ احلركة ال�صهيونية‪ ،‬ولكنه‬ ‫رغم ذلك جمرد خطوة على طريق طويل‪ ،‬وهكذا توجهت احلركة‬ ‫ال�صهيونية‪ ،‬بعد ذلك امل�ؤمتر‪ ،‬للعمل على جبهتني بوقت واحد‪ :‬اجلبهة‬ ‫الداخلية بهدف ا�ستكمال تنظيماتها وك�سب ول‬ ‫واجلبهة اخلارجية بهدف ك�سب ت�أييد حركة اال�ستعمار الأوروبي العاملي‪.‬‬ ‫‪45‬‬


‫وثيقة‪ ..‬نظام عمل امل�ؤمتر ال�صهيوين‬

‫(‪)1‬‬

‫‪ -1‬ملف وثائق فل�سطني من عام ‪� 637‬إىل عام ‪ ،1949‬وزارة الإر�شاد القومي ‪،‬ج‪� ، 1‬ص‪.108 - 103‬‬ ‫‪46‬‬


‫ملف العدد "وعد بلفور"‬

‫الن�ص الأ�صلي لوعد بلفور‬

‫(‪)1‬‬

‫‪ -1‬الوعد وترجمته من كتاب وثائق الق�ضية الفل�سطينيه ا�صدار جامعه الدول العربية ‪.‬‬ ‫‪47‬‬


‫ترجمة ن�ص وعد بلفور‬

‫ت�صريح بلفور‪ -‬وزارة اخلارجية‬ ‫الثاين من نوفمرب �سنة ‪1917‬‬

‫عزيزي اللورد روت�شلد‬ ‫ي�سرين ج ّد ًا �أن �أبلغكم بالنيابة عن حكومة جاللته‪ ،‬الت�صريح التايل‬ ‫الذي ينطوي على العطف على �أماين اليهود وال�صهيونية‪ ،‬وقد عر�ض‬ ‫على الوزارة و�أقرته‪:‬‬ ‫"�إن حكومة �صاحب اجلاللة تنظر بعني العطف �إىل ت�أ�سي�س وطن‬ ‫قومي لل�شعب اليهودي يف فل�سطني و�ستبذل غاية جهدها لت�سهيل‬ ‫حتقيق هذه الغاية‪ ،‬على �أن يفهم جل ّي ًا �أنه لن ي�ؤتى بعمل من �ش�أنه‬ ‫�أن ينتق�ص من احلقوق املدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غري‬ ‫اليهودية املقيمة الآن يف فل�سطني وال احلقوق �أو الو�ضع ال�سيا�سي الذي‬ ‫يتمتع به اليهود يف البلدان الأخرى"‪.‬‬ ‫و�س�أكون ممت ّن ًا �إذا ما �أحطتم االحتاد ال�صهيوين علم ًا بهذا الت�صريح‪.‬‬ ‫املخل�ص‬

‫‪48‬‬


‫ملف العدد "وعد بلفور"‬

‫مقتطفات من وثيقة �أدوين مونتاجو حتت عنوان "ال�صهيونية"‬

‫(‪)1‬‬

‫�أكتوبر �سنة ‪ 1917‬جمل�س الوزراء ‪28 /24‬‬

‫ال�سجالت الر�سمية للحكومة الربيطانية‬ ‫وزعت مبعرفة وزير الدولة للهند‬ ‫�إنه لي�ؤ�سفني �أن �أ�شغل جمل�س الوزراء ببحث �آخر عن هذا املو�ضوع‪،‬‬ ‫ولكني ح�صلت على مزيد من املعلومات التي �أود �أن �أعر�ضها على‬ ‫�أع�ضاء املجل�س‪.‬‬ ‫لقد تلقينا يف وزارة الهند �سل�سلة من الأبحاث القيمة عن تركيا و�آ�سيا‬ ‫بقلم الآن�سة جري ترود لوثيان بل‪ ،‬املر�أة املرموقة التي بعد �أعوام من‬ ‫املعرفة التي جنتها يف �أثناء رحالت فريدة قامت بها يف تلك املناطق‬ ‫تعمل ك�ضابط �سيا�سي م�ساعد يف بغداد وقد كتبت تقول‪:‬‬ ‫"وثمة عامل ال يقل �أهمية عن غريه من العوامل املقو�ضة للقومية‬ ‫وهو احلقيقة املاثلة يف �أن �شعب ًا غري عربي يعترب جزء ًا من �سوريا ‪-‬‬ ‫رغم �أنه كبقية �أجزاء �سوريا ت�سكنه غالبية من العرب ‪ -‬مبثابة مرياث‬ ‫مو�صى به له وبلغ تعداد اليهود يف فل�سطني على �أح�سن تقدير حوايل‬ ‫ربع ال�سكان وامل�سيحيني اخلم�س والباقي من العرب امل�سلمني‪ .‬ولقد‬ ‫دعمت الهجرة اليهودية بطريقة م�صطنعة بالإعانات والتربعات من‬ ‫�أ�صحاب املاليني من اليهود الأوروبيني‪.‬‬ ‫ولقد كان اللورد كرومر يجد متعة يف رواية حديث كان قد دار بينه‬ ‫وبني �أحد م�شاهري اليهود الإنكليز الذي قال له‪�" :‬إذا ما قامت مملكة‬ ‫يهودية يف القد�س فلن �أتوانى عن تقدمي طلب للعمل ك�سفري لها يف‬ ‫‪ -1‬ملف وثائق و و�أوراق الق�ضية الفل�سطينية – اجلزء الأول – على حممد على – من �صفحة ‪ 264‬ل�صفحة ‪. 273‬‬ ‫‪49‬‬


‫لندن"‪ .‬ولكن رغم مثل هذه امل�شاعر ال�سائدة فهناك عامالن يلغيان‬ ‫فكرة فل�سطني اليهودية امل�ستقلة من واقع ال�سيا�سة العملية وهما‪:‬‬ ‫�أو ًال‪� :‬أن الإقليم كما نعلم لي�س يهود ّي ًا و�أنه ما من م�سلم �أو عربي يقبل‬ ‫�سلطة يهودية‪ ،‬وال�سبب الثاين هو �أن العا�صمة القد�س هي مدينة‬ ‫مقد�سة بالت�ساوي بالن�سبة للأديان الثالثة‪ :‬اليهودية وامل�سيحية‬ ‫والإ�سالم وال يجب �أن تو�ضع �أبد ًا ‪ -‬طاملا كان يف اال�ستطاعة جتنب‬ ‫ذلك ‪ -‬حتت ال�سلطان املنفرد لأي طائفة من الطوائف املحلية مهما‬ ‫كانت دقة ال�ضمانات التي ميكن �إعطا�ؤها حلماية حقوق الطائفتني‬ ‫الأخريني‪".‬‬ ‫�إن هذه النبذة تو�ضح متام ًا مدى حجم ال�سكان اليهود يف فل�سطني‬ ‫حالي ًا‪ ،‬و�إين لأت�ساءل مرة �أخرى‪ :‬هل ميكن لأي �شخ�ص يعرف هذه‬ ‫البالد �أن يت�صور �أن ثمة مكان ًا يف فل�سطني ال�ستيعاب زيادة �أكيدة‬ ‫يف عدد ال�سكان؟ و�إذا مل يخطر ذلك ببال �أحد و�أي فئة من ال�سكان‬ ‫يقرتح �سلبها �أمالكها؟ و�إذا ما �أخذنا بعني االعتبار الأحوال اجلغرافية‬ ‫واجليولوجية واملناخية لفل�سطني‪ ،‬فهل ي�ستحق الأمر �أن يهدد و�ضع‬ ‫جميع اليهود الذين يبقون يف البالد الأخرى من �أجل ذلك الق�سم‬ ‫ال�ضئيل من اليهود الذي ميكنه عق ًال �أن يجد لنف�سه وطن ًا يف فل�سطني؟‪.‬‬ ‫�إنني ال �أخ�ضع لت�أثري �أي �شخ�ص يف �إعجابي بالربوف�سور وايزمان‬ ‫الرو�سي البارز الذي له �ش�أن كبري يف مناق�شاتنا‪ ،‬و�إن خدماته لق�ضية‬ ‫احللفاء كانت عظيمة وهو عامل ذائع ال�صيت ولكنه يف هذا الأمر �أقرب‬ ‫ما يكون �إىل املتع�صب الديني؛ ذلك �أن حما�سه لهذه الق�ضية كان هو‬ ‫املبد�أ الذي �ألهمه خالل جزء كبري من حياته‪ ،‬على الأقل‪ ،‬بل �إن هذه‬ ‫‪50‬‬


‫ملف العدد "وعد بلفور"‬

‫الق�ضية هي مبعث حما�سه الطاغي وكم �أدى مثل هذا احلما�س �إىل‬ ‫جتاهل الإمكانات العملية جتاه ًال تا ّم ًا‪.‬‬ ‫لقد ح�صلت على قائمة ت�ضم بع�ض ال�شخ�صيات البارزة املناه�ضة‬ ‫لل�صهيونية – نذكر هنا جمموعة من الأ�سماء فقط على �سبيل املثال ‪-‬‬ ‫ويالحظ �أنها ت�ضم كل يهودي ذي �ش�أن يف احلياة العامة با�ستثناء لورد‬ ‫روت�شيلد احلايل وم�سرت هريبرت �صمويل وقلة �أخرى منهم‪:‬‬ ‫‪Dr. Israel Abrahams. M.A..‬‬ ‫‪University of Cambridge.‬‬ ‫‪C.G. Montefiore Esq.. M.A.‬‬ ‫‪A.R.Moro. Esq‬‬ ‫‪Sir Lionel Abrahams. K.C.B.‬‬ ‫‪Sir Mattew Nathan. G.C.M.G.‬‬ ‫‪Professor S. Alexander. M.A..‬‬ ‫‪University of Manchester.‬‬ ‫‪J.Prag. Eaq.. M.p.‬‬ ‫‪The Right Hon. Viscount Reading‬‬ ‫‪G.C.B.K. C.V.O‬‬ ‫‪D.I Alexander. Esq.. K.C.M.P‬‬ ‫‪Captain O.E. d’Avigdor- Goldsmid.‬‬ ‫‪51‬‬


‫‪‘Leonard L. Cohen. Esq.‬‬ ‫‪Captain Anthony de Rothschild‬‬ ‫‪New Court. St. Swithin’s Lane‬‬ ‫‪E.C.‬‬ ‫‪Robert Waley Cohen. Esq‬‬ ‫‪Dr. A. Eichholz.‬‬

‫وه�ؤالء جميع ًا من الرجال الذين يحيون حياة �إنكليزية يف الوقت‬ ‫الذي يعرتفون فيه ب�إخوانهم يف الدين ويقدمون لهم اخلدمات �سواء‬ ‫يف هذه البالد �أو خارجها‪ .‬وي�ضم ه�ؤالء بينهم يهود ًا من املغالني يف‬ ‫الأرثوذك�سية وبع�ض اليهود املبدعني على ال�سواء‪.‬‬ ‫�إن واجب جمل�س الوزراء الأول هو جتاه الإنكليز مواطني الإمرباطورية‬ ‫الربيطانية من �أ�صحاب التقاليد الربيطانية‪ ،‬و�إين �أتقدم بكل‬ ‫احرتام بالقول �إنه لي�س من �ش�أنهم تبني ق�ضية الأمريكيني والرو�س‬ ‫والنم�ساويني والأملان‪ ،‬و�إن كانوا قد جتن�سوا باجلن�سية الربيطانية‬ ‫على ح�ساب �أولئك الذين عا�شوا �أجيا ًال يف هذه البالد وي�شعرون �أنهم‬ ‫�إنكليز‪� .‬إن اليهود يهاجمون الآن با�ستمرار لبقائهم مبن�أى عن امل�شاعر‬ ‫الوطنية العظيمة التي �أ�شعلتها احلرب ولكونهم غري �أميني يف عاطفتهم‬ ‫ودوليني يف �أمانيهم‪ .‬وهذه �سبة ج�سيمة لليهودي الربيطاين و�إن كانت‬ ‫�صحيحة بالن�سبة لل�صهيوين‪ .‬و�آمل �أن ترتيث احلكومة الربيطانية التي‬ ‫�أ�شرتك يف ع�ضويتها قبل �أن تتجاهل ال�شعور الربيطاين الذي �أمثله يف‬ ‫هذا املو�ضوع ل�صالح تلك الفئة من �أبناء الطائفة �صاحبة النزاعات‬ ‫الدولية‪.‬‬ ‫‪52‬‬


‫ملف العدد "وعد بلفور"‬

‫خريطة �إ�سرائيل‬ ‫لدى ثيودور هريت�سل واحلاخام في�شمان‬

‫(‪)1‬‬

‫‪1- in his Complete Dialers, vole 11. P 711.‬‬ ‫‪53‬‬


‫)‪(Endnotes‬‬

‫‪ - i‬الربوف�سور ليون يهوذا ماغن�س ( ‪ 5‬يوليو ‪� 27 – 1877‬أكتوبر ‪ 1948‬م)‪ :‬حاخام �إ�صالحي‬ ‫يف كل من الواليات املتحدة الأمريكية وفل�سطني‪ ،‬وكانت وجهات النظر التي اعتنقها غري‬ ‫تقليدية للغاية‪ ،‬ال �سيما فيما يتعلق بالتقاليد وال�صهيونية‪ .‬ماغن�س دعا �إىل نهج �أكرث تقليدية‬ ‫�إىل اليهودية‪ ،‬خوفاً من النزعات‪ .‬وكان اخلالف حول هذه الق�ضية التي دفعته �إىل اال�ستقالة‬ ‫من معبد "�إمانو �إيل "يف عام ‪ .1910‬ماغن�س �أي�ضاً ان�شق ملزيد من الإ�صالح العام نحو موقف‬ ‫ال�صهيونية من الرف�ض بقوة من التجريد من اجلن�سية اليهودية‪� .‬أ�سهم يف ت�أ�سي�س اجلامعة‬ ‫العربية يف القد�س‪ ‬يف عام ‪ 1918‬جنبا �إىل جنب مع‪� ‬ألربت �آين�شتاين‪ ‬وحاييم وايزمان‪.. ‬‬ ‫�شغل من�صب امل�ست�شار وفيما بعد رئي�س اجلامعة‪ .‬ور�أى �أن اجلامعة كانت املكان املثايل‬ ‫لتعاون اليهود والعرب‪ ،‬وعمل بال كلل لتحقيق هذا الهدف‪.‬كان ملاغن�س تاريخ طويل من‬ ‫الن�شاط نيابة عن امل�صاحلة مع العرب‪ .‬خالل فرتة ما قبل الدولة‪ ،‬اعرت�ض ماغن�س على دولة‬ ‫يهودية ب�شكل خا�ص‪ .‬ويف ر�أيه‪ ،‬ف�إن فل�سطني ال تكون يهودية �أو عربية‪ .‬بد ًال من ذلك‪ ،‬وقال‬ ‫�إنه دعا دولة ثنائية القومية التي �سيتم تقا�سم حقوق مت�ساوية للجميع‪ .‬وهذا القول الذي‬ ‫تروج له جمموعة برييت �شالوم‪ ،‬الذي �أ�سهم يف ت�أ�سي�سها ماغن�س يف عام ‪ .1925‬وكان‬ ‫�شالوم برييت يف املقام الأول حركة املثقفني‪ ،‬وتفتقر �إىل قاعدة جماهريية كبرية‪ .‬كما كان‬ ‫من دعاة ال�سالم ‪ ،‬ومبادئ التوافق والتفاهم وا�ستمر يف العمل نحو حتقيق هذه الأهداف‬ ‫حتى وفاته يف عام ‪.1948‬‬ ‫‪ - ii‬احلاخام هو ال َر ّباينّ‪ ‬يف‪ ‬اليهودية‪ ،‬وي�سمى‪ ‬احلرب‪ ‬والراب‪ ‬واحلاخام‪ ،‬هو زعيم ديني‪ .‬كلمة‬ ‫حاخام‪ ‬العربية‪ ‬ترجع �إىل الكلمة‪ ‬العربية‪ ‬حاخام �أي "حكيم" وهي اللقب الذي �أطلق على‬ ‫زعماء اليهود يف البلدان العربية‪ ‬والإ�سالمية‪� .‬أما اللقب الأكرث انت�شاراً لدى اليهود وباللغة‬ ‫العربية فهو‪ ‬رب (�أو‪ ‬ربي‪) ‬ويعني بالعربية القدمية "�سيد" �أو "معلم" وهناك �أنواع للحاخامني‪.‬‬ ‫ اجلا�ؤون ‪ -‬حاخام قراراته مقبولة لدى يهود كثريين‪.‬‬‫ ال�صديق �أو البار ‪ -‬حاخام خمت�ص ب�ش�ؤون �أخالقية‪� ،‬أو مفت�ش يف‪ ‬ي�شيفا‪" ‬املدر�سة الدينية)‬‫ املرن ‪ -‬رئي�س ي�شيفا �أو حاخام يعلم حاخامني �آخرين �أو رئي�س جمتمع يهودية كبرية‪.‬‬‫ الأدمور وهي اخت�صار‪� ( ‬أدوننو مورنو وربنو‪ " ‬ومعلمنا وحاخامنا") زعيم جمتمع يهودية‬‫ح�سيدية‬ ‫‪54‬‬


‫ملف العدد "وعد بلفور"‬

‫‪ - iii‬كبري احلاخامات ال�سابق يف �إ�سرائيل والزعيم الروحي للحركة ال�صهيونية الدينية‪،‬‬ ‫دعا احلاخام الرئي�سي ال�سابق يف �إ�سرائيل مردخاي �إلياهو احلكومة �إىل �شن حملة ع�سكرية‬ ‫على غزة‪ ،‬معترباً �أن "امل�س باملواطنني الفل�سطينيني الأبرياء �أمر �شرعي"‪.‬‬ ‫وكان �إلياهو قد بعث بر�سالة قبيل جل�سة احلكومة الإ�سرائيلية التي خ�ص�صت لل�ش�أن‬ ‫الفل�سطيني �ضمنها فتوى توجب التحرك �ضد قطاع غزة حتى لو �أدى ذلك ل�سفك‬ ‫دماء الأبرياء‪ ،‬الفتاً �إىل قول تاريخي من�سوب للملك داود دعا فيه ملالحقة الأعداء وعدم‬ ‫العودة قبل قتلهم‪.‬‬ ‫و�أ�ضافت الفتوى "�أن �أقوال امللك داود ت�ستبطن ت�صريحاً لقادة �إ�سرائيل بعدم �إبداء‬ ‫الرحمة جتاه من ي�ستهدف املدنيني لدينا بوا�سطة �إطالق �صواريخ من داخل مناطق م�أهولة‬ ‫بال�سكان"‪ .‬وقال احلاخام يف فتواه �إنه ال يجوز االمتناع عن امل�سا�س مبن �سماهم املخربني‬ ‫املختبئني بني املدنيني "فيما يعي�ش �سكان مدينة �سديروت يف خطر دائم"‪ .‬وحث �إلياهو‬ ‫رئي�س الوزراء �إيهود �أوملرت على اخلروج بحملة ع�سكرية حقيقية �ضد الفل�سطينيني دون‬ ‫االكرتاث باحتمال �إ�صابة املدنيني الأبرياء‪ ،‬ولفت �إىل �أن ه�ؤالء �أي�ضاً "غري نظيفني من‬ ‫اخلطيئة" مقتب�ساً �أقوا ًال لرجال دين يهود تاريخيني‪� ،‬أمثال �ألرمبام‪ ،‬ت�ؤيد وجهة نظره‪.‬‬ ‫و�أ�ضاف "املواطنون الفل�سطينيون الذين يغطون على قتلة لي�سوا طاهرين من اخلط�أ وهم‬ ‫�شركاء باجلرمية امل�ستمرة املتمثلة با�ستهداف مدنيينا‪ ،‬ولذا ال يجوز تعري�ض حياة مواطن‬ ‫�أو جندي �إ�سرائيلي واحد للخطر خوفاً من امل�س به�ؤالء املدنيني امل�ساندين للإرهاب"‪.‬‬ ‫‪ - iv‬جملة فل�سطني يف �شهر‪ ،‬عدد ح�صري عن احلرب على غزة‪ ،‬جامعة الدول العربية‬ ‫قطاع فل�سطني والأرا�ضي العربية املحتلة ‪.2014‬‬ ‫‪- v‬التلمود (وجمعها‪ :‬تلمودمي)‪ ،‬تعني الدرا�سة‪ ،‬ويحتل التلمود مكانة هامة داخل الديانة‬ ‫اليهودية‪ ،‬فاليهودية الر ّبانية لي�ست �سوى تلك اليهودية التلمودية‪ ،‬وهي التي توطدت‬ ‫دعائمها بني يهود العامل �أجمع ‪.‬‏ والتلمود هو جمموعة قواعد وو�صايا و�شرائع دينية و�أدبية‬ ‫ومدنية و�شروح وتفا�سري وتعاليم وروايات كانت تتناقل وتد ّر�س �شفه ًّيا من حني �إىل �آخر ‪.‬‬ ‫‪ - vi‬جريدة جريو �ساليم بو�ست – ‪� 10‬أغ�سط�س ‪1967‬‬ ‫‪�- vii‬سفر التثنية – الإ�صحاح ال�سابع – الآيات ( ‪. ) 2 - 1‬‬ ‫‪55‬‬


‫‪� - viii‬سفر التثنية – الإ�صحاح ال�سابع – الآية رقم (‪. )24‬‬ ‫‪� - ix‬سفر يو�شع – الإ�صحاح ال�ساد�س – االية رقم (‪. )20‬‬ ‫‪ - x‬دعاء ال�شريف‪ ،‬كتاب حتطيم الأ�ساطري التوراتية‪ ،‬حتطيم �أ�سطورة �أريحا‪ ،‬الدار الثقافية‬ ‫للن�شر والتوزيع‪ ،‬القاهرة‪.2015 ،‬‬ ‫‪� - xi‬سفر ي�شوع – الإ�صحاح ال�ساد�س – الآية رقم ( ‪. ) 24‬‬ ‫‪� - xii‬سفر التكوين – الإ�صحاح ال�سابع ع�شر – الآيات (‪. )8 - 7‬‬ ‫‪� - xiii‬سفر التكوين – الإ�صحاح اخلام�س ع�شر – الآيات ( ‪. ) 21 - 18‬‬ ‫‪�- xiv‬سفر اخلروج ‪ -‬الإ�صحاح الثالث – الآية رقم (‪. )17‬‬ ‫‪ - xv‬حتركت يف �أغ�سط�س عام ‪ 1096‬من اللورين ‪ ,‬طوابري قادها غودفري دي بويون‬ ‫الرابع‪ ,‬وان�ضم �إليها �أتباعه (�أخوه الأكرب الكونت يفت�سايف من بولون و�أخوه اال�صغر‬ ‫بودوان من بولون �أي�ضاً ‪ ،‬كما ان�ضم بودوان له بورغ ابن عم غودفري ‪ ،‬والكونت بودوان‬ ‫من اينو والكونت رينو من تول) على اثر الدعوة التي انطلقت لها حملة الفقراء ‪ ،‬م�شت‬ ‫هذه الف�صائل على طريق الراين‪-‬الدانوب التي �سارت عليها قبلهم ف�صائل الفالحني‬ ‫الفقراء‪ .‬حتى و�صلت الق�سطنطينية نهاية عام ‪. 1096‬‬ ‫و�أ�سفرت احلملة الأوىل عن احتالل القد�س عام ‪ 1099‬وقيام مملكة القد�س الالتينية‬ ‫عدة مناطق حكم �صليبية �أخرى ‪,‬كالرها(ادي�سا) و�إمارة انطاكية وطرابل�س‬ ‫بالإ�ضافة �إىل ّ‬ ‫بال�شام ‪.‬ولعبت اخلالفات بني حكام امل�سلمني املحليني دوراً كبرياً يف الهزمية التي تعر�ضوا‬ ‫لها ‪ ،‬كاخلالفات بني الفاطميني بالقاهرة ‪,‬وال�سالجقة الأتراك بنيقية بالأنا�ضول وقتها‬ ‫وباءت املحاوالت لطرد ال�صليبيني بالف�شل كمحاولة الوزير الأف�ضل الفاطمي الذي و�صل‬ ‫ع�سقالن ولكنه فر بعدها �إمام اجلحافل ال�صليبية التي ا�ستكملت ال�سيطرة على بع�ض‬ ‫البالد ال�شامية والفل�سطينية بعدها‪.‬‬ ‫‪ - xvi‬روجيه جاروديه ‪ -‬فل�سطني �أر�ض الر�ساالت الإلهية– ترجمة وتعليق الدكتور عبد‬ ‫ال�صبور �شاهني ‪ -‬دار الرتاث – ‪� - 1986‬ص ‪. 362‬‬ ‫‪ - xvii‬النا�صر �صالح الدين يو�سف بن �أيوب بن �شاذي بن مروان‪� ،‬أبو املظفر الأيوبي‬ ‫‪56‬‬


‫ملف العدد "وعد بلفور"‬

‫(‪ 1193 - 1138‬م) عرف يف كتب التاريخ يف ال�شرق والغرب ب�أنه فار�س نبيل وبطل‬ ‫�شجاع وقائد من �أف�ضل من عرفتهم الب�شرية و�شهد ب�أخالقه �أعدا�ؤه من ال�صليبيني قبل‬ ‫�أ�صدقائه وكاتبو �سريته‪� ،‬إنه منوذج فذ ل�شخ�صية عمالقة من �صنع الإ�سالم‪� ،‬إنه البطل‬ ‫�صالح الدين الأيوبي حمرر القد�س من ال�صليبيني وبطل معركة حطني وقد �أزال �صالح‬ ‫الدين ال�صليب عن قبة ال�صخرة‪ ،‬ورفع فيها امل�صاحف وعني لها الأئمة وو�ضع يف امل�سجد‬ ‫الأق�صى املنرب الذي كان قد �أمر نور الدين حممود بن زنكي ب�صنعه ود�شن �إن�شاءات‬ ‫�إ�سالمية كثرية يف القد�س �أهمها مدر�سة ال�شافعية (ال�صالحية) وخانقاه لل�صوفية‬ ‫وم�ست�شفى كبري (البيمار�ستان)‪ ،‬و�أ�شرف بنف�سه على تلك الإن�شاءات‪ ،‬بل �شارك بيديه‬ ‫يف بناء �سور القد�س وحت�صينه‪ ،‬وعقد يف املدينة جمال�س العلم ‪.‬‬ ‫توىل حكم القد�س بعد �صالح الدين ابنه امللك الأف�ضل الذي وقف املنطقة الواقعة‬ ‫�إىل اجلنوب ال�شرقي من احلرم على املغاربة‪ ،‬حماية ملنطقة الرباق املقد�سة‪ ،‬و�أن�ش�أ فيها‬ ‫مدر�سة‪ ،‬وممن حكم القد�س من الأيوبيني بعد الأف�ضل امللك املعظم عي�سى بن حتمد‬ ‫بن �أيوب‪ ،‬الذي �أجرى تعمريات يف كل من امل�سجد الأق�صى وال�صخرة و�أن�ش�أ ثالث‬ ‫مدار�س للحنفية (وكان احلنفي الوحيد من الأ�سرة الأيوبية)‪ ،‬ولكن املعظم عاد فدمر‬ ‫�أ�سوار القد�س خوفاً من ا�ستيالء ال�صليبيني عليها و�ضرب املدينة فا�ضطر �أهلها �إىل الهجرة‬ ‫يف �أ�سو�أ الظروف وتال املعظم بعد فرتة وجيزة �أخوه امللك الكامل الذي عقد اتفاقاً مع‬ ‫الإمرباطور فردريك الثاين ملك الفرجنة‪� ،‬سلمه مبوجبه القد�س عدا احلرم ال�شريف‪،‬‬ ‫و�سلمت املدينة و�سط مظاهر احلزن وال�سخط واال�ستنكار �سنة ‪626‬هـ‪ 1229/‬م وبقيت‬ ‫يف �أيديهم حتى ‪ 637‬هـ ‪1239 /‬م عندما ا�سرتدها امللك النا�صر داود بن �أخي الكامل‪،‬‬ ‫ثم عادت �إىل امل�سلمني نهائياً �سنة ‪ 642‬هـ ‪ 1244 /‬م عندما ا�سرتدها اخلوارزمية ل�صالح‬ ‫جنم الدين �أيوب ملك م�صر‪.‬‬ ‫‪ - xviii‬ملزيد من التفا�صيل عن الوعد االلهي ‪ :‬دعاء ال�شريف‪ ،‬كتاب التوراة تثبت �أن‬ ‫فل�سطني �أر�ض عربيه‪ ،‬دار �أبعاد للطباعة والن�شر بريوت‪.2017 ،‬‬ ‫‪� - xix‬أعداد اليهود املهاجرين �إىل فل�سطني ابتداء من عام ‪ 1850‬وحتى عام ‪. 1914‬‬ ‫‪ - xx‬الهجرة اليهودية �إىل فل�سطني ومقارنتها بالهجرة اليهودية العاملية من عام ‪1942 - 1840‬‬ ‫‪ - xxi‬الهجرة اليهودية �إىل فل�سطني ومقارنتها بالهجرة اليهودية العاملية من عام ‪1942 .1840‬‬ ‫‪57‬‬


‫‪� - xxii‬سورة املائدة – الآية رقم (‪. )21‬‬ ‫‪ - xxiii‬بنيامني زئيف هرت�سل (تيودور) ولد يف مدينة بوداب�ست باملجر �سنة ‪،1860‬‬ ‫لأ�سرة يهودية ثرية‪ ،‬التحق ب�إحدى املدار�س اليهودية لكنه مل يكمل تعليمه‪ ،‬بعد ذلك‬ ‫التحق مبدر�سة ثانوية فنية‪ ،‬ثم بالكلية الإجنيلية‪ ،‬و�أكمل درا�سته بجامعة فيينا وح�صل على‬ ‫الدكتوراه يف القانون الروماين‪ .‬ا�شتغل ملدة عام يف املحاكم النم�ساوية‪ ،‬لكنه ترك العمل‪،‬‬ ‫وتفرغ للكتابة يف الق�ضية اليهودية ووهب لها حياته‪ .‬عمل مرا�س ًال ل�صحيفة باري�سية من‬ ‫�سنة ‪� 1891‬إىل �سنة ‪ ،1895‬حيث كتب عن �ضرورة وجود دولة ع�صرية يهودية كحل‬ ‫مل�شكلة اليهود يف العامل‪ ،‬و�أ�صدر يف ذلك كتابه ال�شهري "دولة اليهود‪ ...‬حماولة حلل‬ ‫ع�صري للم�س�ألة اليهودية"‪ .‬دعا �إىل عقد م�ؤمتر ي�ضم ممثلني لليهودية مبدينة بازل ب�سوي�سرا‬ ‫وعقد امل�ؤمتر �سنة ‪ ،1897‬وانتخب هريت�سل رئي�ساً للم�ؤمتر‪ ،‬ثم رئي�ساً للمنظمة ال�صهيونية‬ ‫التي �أعلن امل�ؤمتر عن تكوينها‪ ،‬وظل يرت�أ�س املنظمة حتى وفاته �سنة ‪ .1904‬وقرر امل�ؤمتر‬ ‫ال�صهيوين الأول ال�سعي على موافقة دولية للح�صول على ت�أييد لهجرة اليهود �إىل‬ ‫فل�سطني متهيداً لإقامة دولة يهودية هناك‪ .‬عمل على �إقامة ات�صال مع ال�سلطان العثماين‬ ‫عبد احلميد‪ ،‬ملدة �ستة �أعوام‪ ،‬كان ي�أمل خاللها يف احل�صول على وعد بفل�سطني من‬ ‫ال�سلطان‪ ،‬وكان الإغراء باملال و�سيلته الوحيدة‪� ،‬أما ال�سلطان عبد احلميد فكان يريد‬ ‫الأخذ دون عطاء‪ ،‬فهو مل يكن على ا�ستعداد للتنازل عن �شرب من فل�سطني‪ ،‬لذلك ا�ضطر‬ ‫هريت�سل �سنة ‪� 1902‬إىل التحول من �إ�ستانبول �إىل لندن‪ ،‬بعد وثوقه با�ستحالة احل�صول‬ ‫على �أي وعد �أو ت�شريع بفل�سطني‪� ،‬أو حتى بجزء منها‪ .‬‬ ‫وجه هريت�سل �أنظاره نحو امل�ستعمرات الربيطانية‪ ،‬وفكر يف �إقامة �إحدى امل�ستوطنات‬ ‫اليهودية يف �أوغندا لتحويل الأنظار عن م�ساعي اليهود يف فل�سطني‪ ،‬لكن املنظمة‬ ‫ال�صهيونية رف�ضت اقرتاحه هذا‪ .‬مات هريت�سل �سنة ‪ 1904‬يف بلدة �أوالخ باملجر‪ ،‬ونقلت‬ ‫رفاته �إىل فل�سطني �سنة ‪ ،1949‬ومل يرتك هريت�سل‪ ،‬بعد وفاته‪ ،‬الكثريين من املعجبني‬ ‫به‪� ،‬أو حزباً ملتزماً بخطه ال�سيا�سي ومت�أثراً ب�آرائه‪ ،‬ومل حترز ال�صهيونية خالل عهده �أي‬ ‫�إجناز �سيا�سي عملي‪ ،‬غري �أن امل�ؤ�س�سات ال�صهيونية‪ ،‬التي كان ظهوره العامل الأول يف‬ ‫�إقامتها من جهة‪ ،‬ثم تبلور نظريات و�سيا�سات �صهيونية �أخرى‪� ،‬سرعان ما �أفرزت تنظيمات‬ ‫م�ستقلة تلتف حولها من جهة �أخرى‪ ،‬خلقت �أو�ضاعاً جديدة‪ ،‬وفجرت طاقات �صهيونية‪،‬‬ ‫ال�شك �أنها مل تخطر على بال هريتزل عندما �أعلن عن افتتاح م�شروعه ال�صهيوين‪ ،‬وقد‬ ‫‪58‬‬


‫ملف العدد "وعد بلفور"‬

‫منت تلك امل�ؤ�س�سات‪ ،‬وتطورت وت�شعبت ولعبت �أدواراً مهمة‪ ،‬ب�شكل ي�صعب معه ت�صور‬ ‫قيام �أي ن�شاط �صهيوين بعد وفاة هريت�سل‪� ،‬أو ا�ستمراره دون وجود تلك امل�ؤ�س�سات‪،‬‬ ‫ب�صيغتها املختلفة‪.‬‬ ‫‪ - xxiv‬يوميات هريتزل‪ ،‬مركز الأبحاث منظمة التحرير الفل�سطينية‪ .،‬ال�سل�سلة‪ :‬كتب‬ ‫فل�سطينية يوميات هريتت�سل �إعداد �أني�س �صايغ‪ ،‬ترجمة هلدا �شعبان �صايغ ‪ ،‬بريوت ‪. 1968 ،‬‬ ‫‪- xxv‬حممد ح�سنني هيكل‪ :‬املفاو�ضات ال�سرية بني العرب و�إ�سرائيل ‪ ،‬الكتاب الأول‪،‬‬ ‫دار ال�شروق‪. 1996 ،‬‬ ‫‪ - xxvi‬كامل الوثيقه �آخر الف�صل نداء نابليون بونابرت‪.‬‬ ‫‪� - xxvii‬شبتاي زيف (‪1626‬م‪1676 -‬م ) م�سيح دجال‪ ،‬ولد يف �أزمريوت�أثر بالقبااله يف‬ ‫�شبابه وبعد مذابح �شميلن�سكي ( ‪ )1649 - 1648‬وقع حتت ت�أثري مفهوم ونداء املخل�ص‬ ‫من ال�سماء ب�أنه �سوف يخل�ص �إ�سرائيل ‪ .‬و�أعلن الغاء ال�صوم ويف �سنة ‪ 1654‬توجه �إىل‬ ‫�سالونيكا حيث �أعلن �أنه النبي املنتظر ‪ .‬ويف �سنة ‪ 1662‬ذهب �إىل رود�س وطرابل�س‬ ‫وم�صر وفل�سطني‪ ،‬ويف �سنة ‪ 1666‬ذهب �إىل الق�سطنطينية ليعزل ال�سلطان ولكن �ألقي‬ ‫القب�ض عليه و�سجن يف قلعة جاليبويل‪ ،‬وخ�شي �شبتاي من غ�ضب ال�سلطات الدينية‬ ‫ف�أعلن �إ�سالمه و�صدمت جماهري اليهود من �إ�سالمه لذلك ظل ميار�س الطقو�س الدينية‬ ‫اليهودية ‪ .‬ملزيد من التفا�صيل يرجى مراجعة كتاب – يقظة العامل اليهودي – لإيلي‬ ‫ليفي �أبو ع�سل – طبعة القاهرة ‪� – 1934‬ص ‪. 104 - 101‬‬ ‫‪ - xxviii‬وثيقه نداء �شبتاي زيفي لليهود عام ‪ 1666‬م ‪.‬‬ ‫‪ - xxix‬وثيقه ر�سالة يهودي �إيطايل �إىل " ( الإخوان يف الدين " �سنة ‪.)1798‬‬ ‫‪ - xxx‬يوميات هريت�سل‪ -‬امل�صدر ال�سابق �ص ‪375‬‬

‫‪ - xxxi‬وثيقه ر�سالة هريتزل اىل ت�شمربلني مت�ضمنه توطني اليهود يف �سيناء ‪. 1902‬‬ ‫‪ - xxxii‬يوميات هريت�سل �ص ‪386‬‬

‫‪ - xxxiii‬وثيقة ت�شمربلني يعر�ض �أوغندا على هريتزل ‪..‬‬ ‫‪- xxxiv‬هريتزل – اليوميات‪ -‬اجلزء الثالث ‪�-‬ص ‪.105‬‬ ‫‪59‬‬


‫‪ - xxxv‬روجيه جاروديه – فل�سطني �أر�ض الر�ساالت – م�صدر �سابق ‪-‬‬

‫�ص ‪368‬‬

‫‪ - xxxvi‬وثيقه م�ؤمتر بازل‪.‬‬ ‫‪ - xxxvii‬وثيقه نظام عمل امل�ؤمتر ال�صهيوين‬ ‫‪ - xxxviii‬امل�ؤمتر املركزي للحاخامات الأمريكيني ‪ ،‬الكتاب ال�سنوي ال�سابع‬ ‫�صفحة ‪. 12‬‬

‫‪1897‬‬

‫‪ - xxxix‬خريطة تو�ضح حدود ا�سرائيلي كما تخيلها ثيودور هريت�سل عام ‪ 1904‬واي�ضا‬ ‫احلاخام في�شمان عام ‪.1947‬‬ ‫‪ - xl‬ملزيد من امللعومات ميكن مراجعه كتاب العربانيني وبنو ا�سرائيل يف الع�صور القدمية‬ ‫�ص‪.25.‬‬ ‫‪ - xli‬وثيقة وعد بلفور وترجمته ‪.‬‬ ‫‪ - xlii‬د‪.‬جورجي كنعان – �سقوط الإمرباطورية الإ�سرائيلية – دار النهار للن�شر –‬ ‫الطبعة الثانية –‪� – 1982‬صفحة ‪. 113‬‬ ‫‪- xliii‬مونتاجو ‪:‬عائلة يهودية �إنكليزية وهو من رجال املال وال�سيا�سة‪ ،‬من �أ�صل �سفاردي‪.‬‬ ‫وقد كانت عائلة مونتاجو تعار�ض احلركة ال�صهيونية من منظور اندماجي‪ .‬ويف عام ‪،1853‬‬ ‫� َّأ�س�س �صمويل مونتاجو (‪ )1911 - 1832‬البنك التجاري‪� :‬صمويل مونتاجو و�شركاه‬ ‫الذي �أ�سهم من خالل ن�شاطه يف جمال املبادالت املالية يف جعل لندن املركز الرئي�سي‬ ‫للمقا�صة يف �سوق املال العاملي‪ .‬وقد ظلت اخلزانة ت�ست�شريه يف العديد من ال�ش�ؤون املالية‪.‬‬ ‫وقد ح�صل �صمويل عام ‪ 1907‬على لقب "بارون"‪ ،‬وكان ع�ضواً يف الربملان‪ .‬واهتم‬ ‫�صمويل مونتاجو بال�ش�ؤون اليهودية‪ ،‬ف�سافر �إىل فل�سطني ورو�سيا والواليات املتحدة‪� ،‬إال‬ ‫�أنه ظل معار�ضاً لل�صهيونية ب�شدة‪ .‬وقد كان ولداه االثنان لوي�س �صمويل مونتاجو (‪1869‬‬ ‫ ‪ )1927‬و�إدوين �صمويل مونتاجو (‪ )1924 – 1879‬من معار�ضي ال�صهيونية �أي�ضاً‪.‬‬‫وقد عار�ض �إدوين‪ ،‬الذي احـتل عـدة منا�صـب �ســيا�سية مهمة‪ ،‬وعد بلفور‪ .‬وقبل �صدور‬ ‫الوعد ب�أ�سابيع قليلة‪ ،‬كتب �إدوين مذكرة نبه فيها �إىل ما ينطوي عليه وعد بلفور من كراهية‬ ‫لليهود وعداء لهم‪ ،‬وبينَّ �أنه ال ميكن احلديث عن �أمة يهودية �أو جي�ش يهودي‪ .‬وقد كانت‬ ‫احلركة ال�صهيونية يف ذلك الوقت قد بد�أت حماولتها‪ ،‬التي ُكللت بالنجاح يف نهاية الأمر‪،‬‬ ‫‪60‬‬


‫ملف العدد "وعد بلفور"‬

‫من �أجل �إن�شاء فيلق يهودي ي�ضم املهاجرين اليهود من �شرق �أوروبا‪ ،‬حتارب �إىل جانب‬ ‫القوات الربيطانية لت�أكيد الوجود اليهودي امل�ستقل‪ .‬وقد قال مونتاجو �إن ت�أ�سي�س مثل‬ ‫هذه الفرقة يعني �أن �أخاه وابن �أخيه �سي�ضطران �إىل اخلدمة الع�سكرية جنباً �إىل جنب مع‬ ‫�أنا�س ال يفهمون اللغة الوحيدة التي يتكلمانها (الإنكليزية)‪.‬‬ ‫‪� - xliv‬إيدوين مونتاجو ‪ :‬جل�سه (رقم ‪� 2‬أ ) بتاريخ ‪� 13‬أغ�سط�س ‪ 1917‬م ‪.‬‬ ‫�إيدوين مونتاجويف الوثيقه التي قدمها ملجل�س الوزراء الربيطاين (رقم ‪24‬‬

‫‪ - xlv‬وثيقة‬ ‫‪ ) 28/‬بتاريخ ‪� 9‬أكتوبر ‪. 1917‬‬

‫‪46 -http://www.elmessiri.com/encyclopedia/JEWISH/ENCYCLOPID/‬‬ ‫‪MG6/GZ4/BA4/MD01.HTM‬‬

‫‪ - xlvii‬مو�شي مينوحني ‪ -‬انحطاط اليهودية يف ع�صرنا ‪ -‬امل�ؤ�س�سة العربية للدرا�سات‬ ‫والن�شر ‪.‬بريوت عام ‪� 1980.‬ص ‪. 324‬‬ ‫‪ - xlviii‬جريدة الوا�شنطن بو�ست ال�صادرة يف ‪� 3‬أكتوبر ‪. 1978‬‬ ‫‪ - xlix‬مارتن بوبر ‪� ،‬إ�سرائيل والعامل ‪ .‬نيويورك ‪� ، 1948 ،‬ص ‪. 263‬‬ ‫‪ - l‬ملزيد من التفا�صيل عن الهجرات اليهودية‪ :‬دعاء ال�شريف ‪،‬درا�سة �صورة العربي يف‬ ‫الأدب العربي جملة خمتارات �إ�سرائيلية مركز الأهرام للدرا�سات اال�سرتاتيجية‪.1999 ،‬‬

‫‪61‬‬


11 - 4353


‫ملف العدد "وعد بلفور"‬

‫من وعد بلفور �إىل التطرف الإ�سالمي اجلهادي‬

‫بريطانيا‪ :‬الوجه الب�شع لال�ستعمار‬ ‫د‪ .‬حافظ الزين ‪ -‬كاتب م�ستقل‬

‫يف �أوائل القرن الع�شرين‪ ،‬كانت بريطانيا تب�سط �سيطرتها على معظم �شبه اجلزيرة العربية‪ ،‬يف‬ ‫حني كانت م�صر ال تزال حتت ال�سيطرة العثمانية‪ .‬تغري الو�ضع مع انتهاء احلرب العاملية الأوىل‬ ‫بهزمية ال�سلطنة العثمانية‪ ،‬و�ساد االنتداب الربيطاين معظم امل�شرق‪.‬‬ ‫امل�ؤامرة الربيطانية التاريخية الأوىل يف امل�رشق‬

‫اتفاقية �سايك�س‪ -‬بيكو‬

‫بني نوفمرب ‪ 1915‬و�أيار ‪ُ ،1916‬عقدت مفاو�ضات �سرية بني الدبلوما�سي الفرن�سي "فرن�سوا‬ ‫جورج بيكو" والربيطاين "مارك �سايك�س" (ب ِع ْلم الإمرباطورية الرو�سية وقتها) بهدف تق�سيم‬ ‫دول امل�شرق �إىل مناطق نفوذ لها‪ ،‬ليتم تنفيذها يف �أعقاب انتهاء احلرب العاملية الأوىل‪ ،‬والتي‬ ‫كان وا�ضحاً يف حينه‪ ،‬هزمية ال�سلطنة العثمانية فيها‪.‬‬ ‫مت الك�شف عن االتفاق يف �أعقاب و�صول ال�شيوعيني �إىل احلكم يف رو�سيا عام‬ ‫على جناحي الثورة البول�شفية‪ .‬لكن بنود االتفاق مل ُتنفّذ �إالّ بعد انتهاء احلرب الأوىل‪،‬‬ ‫ومت تثبيتها يف م�ؤمتر �سان رميو عام ‪ ،1920‬و�أقرت "ع�صبة الأمم" وثائق االنتداب يف ‪24‬‬ ‫حزيران ‪.1922‬‬ ‫تال ذلك توافق املُن َت ِدبني مع تركيا بعد قيام ثورة �أتاتورك يف �إطار "معاهدة لوزان" عام ‪1923‬‬ ‫بالتنازل عن الأقاليم ال�سورية ال�شمالية لرتكيا‪ ،‬مقابل اعرتاف تركيا باالنتداب الفرن�سي‬ ‫على �سوريا‪.‬‬ ‫‪1917‬‬

‫وهكذا مت �ضم املناطق ال�سورية �شمال اخلط احلديدي بني ا�سطنبول وبغداد �إىل تركيا وت�ضم‪:‬‬ ‫مر�سني‪ ،‬طر�سو�س‪ ،‬قيليقية‪� ،‬أ�ضنة‪ ،‬مرع�ش‪ ،‬عينتاب‪ ،‬كيلي�س‪ ،‬البرية‪� ،‬أورفة‪ ،‬حران‪ ،‬ديار بكر‪،‬‬ ‫‪63‬‬


‫ماردين‪ ،‬ن�صيبني‪ ،‬وجزيرة ابن عمر‪ ،‬كما ُق�سمت مدينتا جرابل�س ور�أ�س العني بني تركيا‬ ‫و�سوريا‪ .‬جمموع هذه الأرا�ضي حوايل ‪� 18‬ألف كلم مربع‪.‬‬ ‫امل�ؤامرة الربيطانية التاريخية الثانية يف امل�رشق‪:‬‬ ‫دولة قومية لل�صهيونية العاملية‬

‫مع انتهاء احلرب العاملية الأوىل‪� ،‬أ�صبحت بريطانيا الدولة املُ ِ‬ ‫نتدبة يف م�صر‪� ،‬إ�ضافة �إىل الأردن‪،‬‬ ‫فل�سطني والعراق‪.‬‬ ‫مل تت�أخر بريطانيا يف و�ضع �أ�س�س امل�ؤامرة امل�ستقبلية الأكرب �ضد امل�شرق‪ ،‬حتى قبل انتهاء‬ ‫تلك احلرب‪ :‬الإعالن عن دعم بريطانيا لإن�شاء "وطن قومي" لليهود على �أر�ض فل�سطني‬ ‫التاريخية‪ ،‬والذي ُعرف بوعد بلفور‪ .‬وقد مت توثيق الإعالن يف مراحل متتالية‪ ،‬منها مرحلتان‬ ‫موثقتان باخلرائط‪.‬‬ ‫‪ .1‬يف ‪ 2‬نوفمرب ‪ُ ،1917‬ك ِ�شف النقاب عن الوعد امل�ش�ؤوم يف ر�سالة خطية �أر�سلها �آرثر‬ ‫جيم�س بلفور �إىل اللورد ليونيل وولرت دي روت�شيلد ي�ؤكد دعم "حكومة اجلاللة" �إن�شاء‬ ‫وطن قومي لليهود يف فل�سطني‪:‬‬ ‫"�إن حكومة �صاحب اجلاللة تنظر بعني العطف �إىل �إقامة مقام قومي يف فل�سطني لل�شعب‬ ‫اليهودي‪ ،‬و�ستبذل غاية جهدها لت�سهيل حتقيق هذه الغاية‪ ،‬على �أن يفهم جلياً �أنه لن‬ ‫ي�ؤتى بعمل من �ش�أنه �أن ينتق�ص من احلقوق املدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غري‬ ‫اليهودية املقيمة يف فل�سطني‪ ،‬وال احلقوق �أو الو�ضع ال�سيا�سي الذي يتمتع به اليهود يف �أي‬ ‫بلد �آخر‪ .‬و�س�أكون ممتناً �إذا ما �أحطتم االحتاد ال�صهيوين علماً بهذا الت�صريح"‪.‬‬ ‫‪ .2‬يف ‪ 24‬ني�سان ‪ ،1920‬ن�شرت احلكومة الربيطانية خارطة "االنتداب الربيطاين‬ ‫لفل�سطني" بالتزامن مع عقد م�ؤمتر �سان رميو‪( .‬اخلارطة رقم – ‪ .)1‬هذه اخلارطة تقرتح‬ ‫�أن التفكري الأويل لربيطانيا واحلركة ال�صهيونية هو �شمول فل�سطني والأردن بوعد بلفور‬ ‫مب�ساحة تبلغ ‪� 120.466‬ألف كلم مربع‪.‬‬

‫‪64‬‬


‫ملف العدد "وعد بلفور"‬

‫خارطة رقم (‪)1‬‬

‫‪ .3‬يف ‪ 23‬متوز ‪ ،1922‬ومع ن�شر اخلرائط الر�سمية ملعاهدة �سايك�س‪ -‬بيكو‪ ،‬ن�شرت احلكومة‬ ‫الربيطانية خارطة جديدة (خارطة رقم – ‪ ،)2‬تظهِ ر االنتداب الربيطاين لفل�سطني‪ ،‬لكن هذه‬ ‫املرة بعد ف�صلها عن الأردن‪ ،‬لت�شمل م�ساحة ‪ 28.166‬كلم مربع‪ .‬الفارق الثاين عن اخلارطة‬ ‫ال�سابقة هو �إطالق الت�سمية ال�صريحة‪" :‬فل�سطني اليهودية"‪.‬‬ ‫خارطة رقم (‪)2‬‬

‫‪65‬‬


‫بعد تلك املراحل التي ُتع ِلن و ُتث ّبت تبني بريطانيا لإن�شاء "فل�سطني اليهودية"‪ ،‬ا�ستخدمت‬ ‫بريطانيا وجودها الع�سكري يف فل�سطني لت�سهيل اخلطوات التنفيذية لذلك الإعالن عرب‬ ‫م�سارين �أ�سا�سيني‪ :‬ت�سهيل هجرة اليهود �إىل فل�سطني املُن َت َدبة‪ ،‬وتكوين التنظيمات اليهودية‬ ‫الع�سكرية مم ّوهة �ضمن القوات الربيطانية‪.‬‬ ‫�أ‪ .‬ت�سهيل هجرة ‪� 570‬ألف يهودي من �أنحاء العامل بني ‪ 1922‬و‪1948‬‬ ‫�سكان فل�سطني ‪ -‬عرب ويهود بني ‪ 1922‬و‪1948‬‬

‫ال�سنة‬

‫عرب‬

‫عرب ‪%‬‬

‫يهود‬

‫يهود ‪%‬‬

‫‪1922‬‬

‫‪668258‬‬

‫‪88.8‬‬

‫‪83790‬‬

‫‪11.2‬‬

‫‪1922‬‬

‫‪725513‬‬

‫‪85.6‬‬

‫‪120725‬‬

‫‪14.4‬‬

‫‪1928‬‬

‫‪784295‬‬

‫‪83.8‬‬

‫‪151656‬‬

‫‪16.2‬‬

‫‪1931‬‬

‫‪858708‬‬

‫‪83.1‬‬

‫‪174106‬‬

‫‪16.9‬‬

‫‪1935‬‬

‫‪952955‬‬

‫‪72.8‬‬

‫‪355157‬‬

‫‪27.2‬‬

‫‪1940‬‬

‫‪1080995‬‬

‫‪69.9‬‬

‫‪463535‬‬

‫‪30.1‬‬

‫‪1945‬‬

‫‪1255708‬‬

‫‪68.4‬‬

‫‪579227‬‬

‫‪31.6‬‬

‫‪1948‬‬

‫‪1508400‬‬

‫‪69.8‬‬

‫‪650000‬‬

‫‪30.2‬‬

‫ب‪ .‬تدريب بع�ض امليلي�شيات ال�صهيونية والتغا�ضي عن ن�شاط غريها‪:‬‬

‫الفيلق اليهودي يف القوات الربيطانية �أثناء احلرب العاملية الأوىل‪ :‬ت�ألف من خم�سة كتائب‪،‬‬ ‫جمموع تعدادها ‪ 6400‬جندي‪ .‬ان�ضم عدد كبري منهم �إىل �صفوف الهاغاناه عند ت�أ�سي�سها‪.‬‬ ‫الهاغاناه‪ :‬ت�أ�س�ست عام ‪ .1920‬عملت يف داخل فل�سطني بني ‪ 1921‬و‪1948‬‬

‫الآرغون‪ :‬ان�شقت عن الهاغاناه عام ‪.1931‬‬ ‫�شترين‪ :‬ان�شقت عن الآرغون عام ‪1940‬‬ ‫‪66‬‬


‫ملف العدد "وعد بلفور"‬

‫و�صل تعداد هذه امليلي�شيات �أكرث من ‪ 50.000‬مقاتل عام ‪ ،1947‬يف ظل االنتداب الربيطاين‬ ‫لفل�سطني‪ ،‬يف الوقت الذي كانت ُتقمع فيه انتفا�ضات وثورات ال�شعب الفل�سطيني احتجاجاً‬ ‫تو�سع اال�ستيطان اليهودي‪ ،‬من قبل قوات االنتداب مب�ساعدة تلك امليلي�شيات‪.‬‬ ‫على ّ‬ ‫امل�ؤامرة الربيطانية التاريخية الثالثة يف امل�رشق‪:‬‬

‫�إن�شاء اململكة العربية ال�سعودية‬

‫يف ‪ 15‬يناير ‪ ،1902‬بد�أ حراك �إن�شاء الدولة ال�سعودية الثالثة بعد �أن جنح الأمري عبد العزيز‬ ‫بن عبد الرحمن �آل �سعود يف احتالل الريا�ض‪ ،‬ثم �شرع يف توحيد مناطق جند ومتكن من‬ ‫بتغا�ض �إذا‬ ‫�إجناز ذلك يف ‪ 2‬نوفمرب ‪ ،1921‬حني �أعلن قيام "�سلطنة جند"‪ .‬ح�صل كل ذلك ٍ‬ ‫مل يكن بت�سهيل من املندوب ال�سامي الربيطاين‪.‬‬ ‫يف �صيف ‪� ،1921‬أعلن علماء الوهابية مبايعة الأمري على �أنه "�سلطان جند"‪ ،‬واعرتف املندوب‬ ‫ال�سامي الربيطاين بهذه املبايعة للأمري ومن يخلفه من ذريته يف ‪� 2‬سبتمرب ‪.1921‬‬ ‫امللفت هو �أن املقاتلني الذين قادهم الأمري عبد العزيز يف ‪ 1902‬كانوا ُيعرفون بـ"املجاهدين"‪،‬‬ ‫ويف ‪ 1911‬اندمج ه�ؤالء مع مقاتلي قبائل �أخرى‪� .‬أُطلق على القوة اجلديدة ا�سم "الإخوان"‪،‬‬ ‫وو�صل عددهم يف ‪� 1925‬إىل ‪ 76.500‬مقاتل‪.‬‬ ‫كانت هذه بداية امل�ؤامرة التاريخية الثالثة لال�ستعمار الربيطاين‪ .‬ه�ؤالء "الإخوان" كانوا‬ ‫نواة متدد حكم "�سلطان جند" ليتمكن الأمري عبد العزيز من �إمتام احتالل احلجاز ودخول‬ ‫مكة واملدينة‪ ،‬ومن ثم �إعالن �إن�شاء اململكة العربية ال�سعودية يف ‪� 23‬سبتمرب ‪ ...1932‬ف�أعلن‬ ‫�سلطان جند نف�سه "جاللة ملك اململكة العربية ال�سعودية"‪ ...‬طبعاً مببايعة م�شايخ الوهابية‬ ‫ومباركة املندوب ال�سامي الربيطاين ورعايته‪.‬‬ ‫و�صل حجم قوات "الإخوان" عند �إعالن اململكة‪ ،‬ما يزيد على ‪ 400.000‬مقاتل‪.‬‬ ‫امل�ؤامرة الربيطانية التاريخية الرابعة يف امل�رشق‬ ‫الإخوان امل�سلمون‬

‫‪ ...‬و�أي�ضاً يف تلك الأثناء وبعد �أن ثبتت بريطانيا انتدابها يف م�صر‪ ،‬كانت ن�ش�أة تنظيم الإخوان‬ ‫‪67‬‬


‫امل�سلمني يف ‪� 22‬آذار ‪ .1928‬الت�شابه يف اال�سم مع "�إخوان" ال�سعودية كان ملفتاً‪ ،‬وي�ضاف‬ ‫�إىل اال�سم �أي�ضاً املحتوى العقائدي‪ :‬العمل على ت�أ�سي�س اخلالفة الإ�سالمية عن طريق‬ ‫"اجلهاد"‪.‬‬ ‫"�إخوان" ال�سعودية اعتربوا �أنهم الفرقة الوحيدة املُحقّة يف الإ�سالم‪ ،‬والباقون – مبن فيهم‬ ‫�أ�صحاب املذاهب ال�سنية الأربعة الذين ي�شكلون ‪ % 95‬من امل�سلمني ال�سنة – هي �إما‬ ‫مرتدون �إال �إذا بايعوا اخلليفة الوهابي (ابن �سعود)‪� ،‬أو رواف�ض كفرة �إذا كانوا من املذهب‬ ‫ال�شيعي �أو م�شتقاته‪ .‬بذلك تكون غزواتهم جهاداً يف �سبيل اهلل‪ ،‬وقتل امل�سلمني الآخرين‬ ‫"واجب" لأنهم ُي َح ّرفون الإ�سالم و ُي�سيئون �إليه‪ ،‬وال يرتددون يف التعاون مع �أعداء الإ�سالم‬ ‫�ضده‪.‬‬ ‫�أي �إن امل�سار العقائدي وامليداين الذي اتبعه "املجاهدون" ثم "الإخوان" يف ال�سعودية‬ ‫لإي�صال "خليفة" �إىل احلكم يف ال�سعودية عام ‪ ...1932‬وكل ذلك برعاية بريطانية عرب‬ ‫مندوبها ال�سامي و"م�ست�شاريها"‪ ،‬هو نف�سه امل�سار والعقيدة التي قال بها الإخوان امل�سلمون‪،‬‬ ‫مع تخفيف النظرة �إىل اعتبار املذاهب ال�سنية الأخرى "مرتدة"‪.‬‬ ‫و�صول الإخوان امل�سلمني �إىل احلكم يف �أعقاب انتفا�ضات "الربيع العربي" يف تون�س‪ ،‬م�صر‪،‬‬ ‫ليبيا‪ ،‬واليمن كان الربهان القاطع على الت�شابه والتناغم العقائدي مع فحوى العقيدة الوهابية‪،‬‬ ‫�إذ مت ّيزت ممار�ستهم باال�ستئثار و�إبعاد القوى الأخرى – حتى الإ�سالمية منها ‪ -‬عن امل�شاركة‬ ‫يف احلكم‪ ،‬وتعيني معظم املراكز احل�سا�سة يف الدولة من الإخوان على ح�ساب الكفاءة‪.‬‬ ‫هذا امل�سار اال�ستئثاري يف احلكم كان ال�سبب الأ�سا�سي يف تعرثهم يف كل البلدان‬ ‫التي ا�ستلموا حكمها وتراجع نفوذهم وا�صطدامهم العنفي مع القوى الأخرى يف تلك‬ ‫البلدان‪.‬‬ ‫�صعود القومية العربية – غيبوبة الإ�سالم ال�سيا�سي ‪ /‬اجلهادي‬

‫تب ّني اال�ستعمار الربيطاين لن�شاط احلركة ال�صهيونية يف ا�ستح�ضار املهاجرين اليهود �إىل‬ ‫فل�سطني كان الدافع القوي النت�شار الفكر القومي العربي الذي جتاوز الأديان‪ ،‬واتخذ هوية‬ ‫م�شرقية �شاملة‪.‬‬ ‫قيادات احلركات القومية العربية تكونت من رجال دين كبار ومثقفني م�سلمني وم�سيحيني‪ ،‬و�شمل‬ ‫‪68‬‬


‫ملف العدد "وعد بلفور"‬

‫ن�شاطها العراق‪� ،‬سوريا‪ ،‬لبنان‪ ،‬فل�سطني‪ ،‬الأردن‪ ،‬م�صر‪ ،‬اليمن‪ ،‬ودول املغرب العربي الأخرى‪.‬‬ ‫قامت ثورات وحراكات ذات طابع قومي‪ ،‬يف وجه االنتدابات الغربية يف املنطقة‪ ،‬يف الوقت‬ ‫الذي ذهبت القوى الإ�سالمية التي ابتدعها اال�ستعمار الربيطاين يف �سبات منهجي‪� ،‬شمل‬ ‫ب�شكل خا�ص �شبه اجلزيرة العربية (ما عدا اليمن)‪ ،‬الأردن‪ ،‬وتنظيم الإخوان امل�سلمني الذي‬ ‫�أظهر عدا ًء علنياً للوجود الربيطاين (لكن مع تن�سيق وثيق معه‪ ،‬على الأقل مع عدد من‬ ‫القيادات)‪ .‬لكن موقف الإخوان من احلركات القومية العربية‪ ،‬كان �أكرث عدائية وعلنية‪.‬‬ ‫وهكذا ا�ستقل العراق عام ‪ ،1932‬لبنان عام ‪� ،1943‬سوريا والأردن عام ‪ ،1946‬وقامت‬ ‫الثورة امل�صرية عام ‪ ،1952‬وانطلقت الثورة اجلزائرية عام ‪ 1954‬ل ُتت ّوج بالن�صر والتحرير من‬ ‫فرن�سا عام ‪.1962‬‬ ‫يف حني مت ت�سليم فل�سطني لقب�ضة امليلي�شيات ال�صهيونية بعد �أن �س ّهل االنتداب الربيطاين‬ ‫هجرة �أكرث من ن�صف مليون يهودي من �أوروبا‪ ،‬وانتظمت القوات اليهودية التي كانت تقاتل‬ ‫يف �صفوف اجلي�ش الربيطاين يف قوات �صهيونية زاد تعدادها على ‪ 60.000‬جندي يف‬ ‫الهاغاناه‪� ،‬إ�ضافة لأكرث من ‪� 15‬ألف م�سلح يف ع�صابات الآرغون و�شترين وغريهما‪.‬‬ ‫مع �إعالن الكيان ال�صهيوين عام ‪ ،1948‬قويت �شوكة احلركات القومية‪ ،‬ومتكنت خالل ع�شر‬ ‫�سنوات‪ ،‬من انتزاع احلكم يف عدد من الدول العربية‪ :‬م�صر‪� ،‬سوريا‪ ،‬العراق‪ ،‬اليمن‪ ،‬واجلزائر‪.‬‬ ‫لكن ال�ضرر التاريخي كان قد جتذر‪:‬‬ ‫ تق�سيم �سوريا الكربى �إىل دول متعددة‪ ،‬وت�سليم �شمال �سوريا �إىل تركيا‬‫ زرع بذور عميقة للإ�سالم املتطرف يف ال�سعودية التي �أ�سهمت الرثوة النفطية ومردوداتها‬‫الهائلة يف �إعادتها �إىل واجهة ال�سيا�سة العربية خا�صة بعد وفاة جمال عبد النا�صر‬ ‫ حتول �إ�سرائيل برعاية غربية �إىل قوة ع�سكرية �إقليمية كبرية متكنت من هزمية جيو�ش‬‫م�صر‪ ،‬العراق و�سوريا يف ثالث حروب كبرية بني ‪ 1948‬و‪.1973‬‬ ‫ تبلور تنظيم الإخوان امل�سلمني �إىل قوة يف داخل الدول التي حتكمها التنظيمات القومية‬‫العربية‪ ،‬و�ساعدهم يف ذلك‪ ،‬عدم متكن تلك الدول من بلورة حركات جماهريية وا�سعة‬ ‫ومتما�سكة‪.‬‬ ‫‪69‬‬


‫مع انتهاء حرب �أكتوبر عام ‪ ،1973‬كان توقيع معاهدة ال�صلح بني م�صر و�إ�سرائيل يف ‪1976‬‬

‫نقطة حتول رئي�سية يف تاريخ املنطقة‪ ،‬والتي �أنذرت ببدء �سقوط احلركات القومية العربية‪،‬‬ ‫و�صعود جنم التطرف الإ�سالمي من جديد يف �إطار ورعاية امل�شروع الغربي‪.‬‬ ‫انطالقة هذا احللف الغربي مع الإ�سالم املتطرف كانت مدوية يف رعايته حلركة "املجاهدين"‬ ‫يف �أفغان�ستان �ضد الدخول ال�سوفياتي (‪ )1988 – 1980‬وجناحه يف دفع �صدام ح�سني يف‬ ‫خو�ض حرب دامية �ضد �إيران (‪ ،)1988 - 1981‬ثم يف ا�ستخدامه الدول احلا�ضنة للإ�سالم‬ ‫املتطرف كمن�صة ملهاجمة العراق يف ‪ 1991‬ثم الجتياحه بالكامل يف ‪.2003‬‬

‫االحتالل الأمريكي– الأطل�سي للعراق‪ ،‬فكك بالكامل �أحد �أقوى اجليو�ش العربية ذات‬ ‫العقيدة املعادية لإ�سرائيل‪ ،‬وا�ستخدم الرتكيبة الدميغرافية للعراق لإطالق املرحلة التالية من‬ ‫م�سار دفن احلراكات القومية العربية‪ ،‬وا�ستغالل الفوالق املذهبية يف الإ�سالم لتفعيل الفنت‬ ‫ال�سنية‪ -‬ال�شيعية يف كامل امل�شرق‪ ،‬من خالل دو ٍر بارز للحركة الإ�سالمية املتطرفة التي منت‬ ‫وتثبتت برعايته‪ :‬الوهابية‪ ،‬وواجهتها ال�سيا�سية املتمثلة بحكم �آل �سعود‪.‬‬ ‫جتمعت قوى التطرف الوهابي وركزت اهتمامها على حماربة‬ ‫داخل �أتون احتالل العراق‪ّ ،‬‬ ‫ال�شيعة بداللة املقولة ال�شهرية لأبي م�صعب الزرقاوي‪ ،‬امل�ؤ�س�س والأب الروحي لـ"الدولة‬ ‫الإ�سالمية يف العراق"‪:‬‬ ‫"عملنا يجب �أن يرتكز �ضد ال�شيعة‪ ،‬فهكذا ن�شد ع�صب �أن�صارنا‪ ،‬ون�ضع �أهل ال�سنة �أمام‬ ‫خيار وحيد‪ :‬االحتماء بنا وااللتفاف حولنا‪ .‬وكلما ازداد ال�شقاق املذهبي‪ ،‬قويت حركتنا"‪.‬‬ ‫�أولي�س هذا الكالم مطابقاً لأدبيات املحافظني اجلدد وا�سرائيل؟ �إنها العن�صرية والتطرف يف‬ ‫كل الأديان‪ ،‬تتوحد يف العقيدة التكفريية‪ ،‬املمار�سة العن�صرية‪ ،‬والأ�سلوب الال�إن�ساين يف‬ ‫التعاطي مع باقي الب�شر‪.‬‬ ‫وهكذا‪ ،‬كربت كرة التطرف الإ�سالمي وتعاظمت‪ ...‬لن�شهد ما نعي�شه اليوم‪.‬‬ ‫لإعطاء املزيد من التفا�صيل حول ذلك الن�شاط الربيطاين‪ ،‬نورد مقتطفات من مقدمة كتاب‬ ‫للكاتب الربيطاين مارك كريت�س‪" :‬عمليات �سرية‪ :‬التواط�ؤ الربيطاين مع الإ�سالم املتطرف"‪.‬‬ ‫ما يتم �سرده يف تلك املقدمة هو اال�ستنتاجات املبنية على الوثائق واملراجع الواردة يف ف�صول‬ ‫الكتاب‪ ،‬والتي ال جمال للخو�ض فيها هنا‪ .‬املهم هو �أن ما يقوله الكاتب يف مقدمته لي�س‬ ‫‪70‬‬


‫ملف العدد "وعد بلفور"‬

‫جمرد ر�أي �شخ�صي‪� ،‬إنه وقائع مبنية على حقائق موثقة واردة يف كتب ودرا�سات ر�سمية مت‬ ‫الك�شف عنها بحكم مرور الزمن (ك�شف كامل عند ‪ 50‬عاماً وجزئي عند ‪ 25‬عاماً)‪.‬‬ ‫عمليات �رسية‪ :‬التواط�ؤ الربيطاين مع الإ�سالم املتطرف‬

‫‪1‬‬

‫‪Secret Affairs: Britain’s Collusion with Radical Islam‬‬ ‫)‪By Mark Curtis – May 2011 (Paperback Mar 2012‬‬

‫�أثناء االنتفا�ضات الأخرية يف ال�شرق الأو�سط‪ ،‬التي ُعرفت بـ"الربيع العربي"‪ ،‬جتاهلت‬ ‫ال�صحافة الرئي�سية ناحية هامة يف ال�سيا�سة اخلارجية الربيطانية‪ :‬تواط�ؤها مع ممثلي الإ�سالم‬ ‫املتطرف خلدمة �أهدافها اال�سرتاتيجية النفطية وغريها من الأهداف التجارية‪.‬‬ ‫هذه ال�سيا�سة ال�سائدة منذ زمن طويل‪� ،‬ساهمت لي�س فقط يف �صعود الإ�سالم املتطرف‪ ،‬لكن‬ ‫�أي�ضاً الإرهاب العاملي الذي ت�ص ّنفه ا�سرتاتيجية الأمن الوطني للحكومة الربيطانية ك�أكرب‬ ‫املخاطر التي تتهدد البالد‪.‬‬ ‫بريطانيا‪ ،‬مثل دول �أخرى كثرية‪ ،‬تواجه خطر املجموعات الإ�سالمية املتطرفة‪ .‬تفجريات متوز‬ ‫‪ 2005‬يف لندن التي قتلت ‪� 52‬شخ�صاً‪ ،‬كانت �أول هجوم ناجح للإ�سالميني يف بريطانيا‪ ،‬كما‬ ‫حكمت املحاكم الربيطانية على ‪� 80‬شخ�صاً بتهم التخطيط لقتل مواطنني بريطانيني‪.‬‬ ‫كيف و�صلنا �إىل هنا؟ ملاذا يتحول مواطنون بريطانيون �إىل العنف الإرهابي ويتكون لديهم‬ ‫اال�ستعداد لتفجري �أنف�سهم؟‬ ‫عن�صريو اليمني عادة يلومون الثقافة الليربالية وغياب القوانني ال�صارمة التي تقتلع التطرف‪،‬‬ ‫�أو ُيلقون اللوم على التعددية احل�ضارية التي منعت حتدي �أ�صحاب الديانات املختلفة‪.‬‬ ‫�أما الآخرون‪ ،‬خا�صة من الي�سار ال�سيا�سي‪ ،‬فريون ب�أن التهديد الإرهابي �أوقدت �شرارته‬ ‫التدخالت الع�سكرية الربيطانية يف العراق و�أفغان�ستان‪� ،‬إ�ضافة لالنحياز التام �إىل جانب‬ ‫�إ�سرائيل يف احتاللها للأرا�ضي الفل�سطينية‪.‬‬ ‫هذه بالت�أكيد كانت عوامل �أ�سا�سية‪ :‬يف ني�سان ‪ .2005‬هذا ما قالته اللجنة الأمنية امل�شرتكة‬ ‫‪- 1‬ترمجة‪ :‬د‪ .‬حافظ الزين‪ 18 ،‬نوفمرب ‪ “2015‬مقتطفات من مقدمة كتاب لـ”مارك كريتس” – صدر يف أاير ‪2011‬‬ ‫‪71‬‬


‫يف تقرير مت ت�سريبه يف ‪� ،2006‬أن "حرب العراق فاقمت خطر الإرهاب العاملي‪ ،‬وهذا‬ ‫التهديد �سي�ستمر لزمن طويل‪ .‬الإرهابيون الذين ارتكبوا تلك االعتداءات �ضد الغرب تعزز‬ ‫ت�صميمهم وقدراتهم‪ ،‬كما حفّزوا �آخرين جدد"‪.‬‬ ‫هذا التحليل‪ ،‬ي� ّؤكد ما قالته اللجنة يف تقارير �سابقة ب�أن م�سلمي بريطانيا يعتقدون ب�أن �سيا�سة‬ ‫بريطانيا اخلارجية يف �أماكن مثل العراق‪� ،‬أفغان�ستان‪ ،‬ك�شمري‪ ،‬وال�شي�شان‪ ،‬هي بالطبع "معادية‬ ‫للإ�سالم"‪.‬‬ ‫لكن ما ينق�ص تلك التقارير هي فكرة مركزية‪ :‬هل �ساهمت بريطانيا ب�شكل مبا�شر يف �صعود‬ ‫هذا اخلطر الإرهابي؟ هنا تكمن احلقيقة ال�صادمة‪ :‬احلكومات الربيطانية‪ ،‬عمال ّية �أو حمافظة‪،‬‬ ‫بهدف ت�أمني ما �أ�سمته "امل�صلحة العليا"‪ ،‬تواط�أت لعقود مع قوى الإ�سالم املتطرف‪ ،‬مبا فيها‬ ‫التنظيمات الإرهابية‪.‬‬ ‫لقد ت�آمرت معهم‪ ،‬عملت معهم جنباً �إىل جنب‪ ،‬و�أحياناً دربتهم وم ّولتهم‪ ،‬بهدف ترويج‬ ‫�أهداف حمددة يف ال�سيا�سة اخلارجية‪ .‬احلكومات قامت بذلك يف حماولة يائ�سة للحفاظ على‬ ‫نفوذ بريطانيا الدويل‪ ،‬والذي كان يت�آكل يف �أنحاء عدة من العامل‪ .‬امل�س�ألة يف النهاية تتعلق‬ ‫بالنزعة الإمربيالية لربيطانيا و�سعيها لن�شر نفوذها‪.‬‬ ‫مع بع�ض تلك القوى الإ�سالمية املتطرفة‪ ،‬عقدت بريطانيا حتالفات ا�سرتاتيجية ثابتة لت�أمني‬ ‫�أهداف حمورية طويلة الأمد يف �سيا�ستها اخلارجية‪ .‬مع �آخرين‪ ،‬كانت تقاطع م�صالح م�ؤقت‬ ‫للح�صول على مكا�سب ق�صرية الأمد‪.‬‬ ‫العديد من املراقبني �أظهروا كيف �ساهمت الواليات املتحدة يف ن�ش�أة ومنو �أ�سامة بن الدن‬ ‫والقاعدة‪ ،‬لكن دور بريطانيا يف رعاية الإرهاب الإ�سالمي مل يتناوله �أحد يف حيثيات ن�شاة‬ ‫هذا الإرهاب‪.‬‬ ‫بع�ض التقارير املتفرقة التي ُن�شرت يف ال�صحف الرئي�سية حتدثت عن الروابط بني اال�ستخبارات‬ ‫الربيطانية وامل�سلحني الإ�سالميني املقيمني يف لندن‪ .‬بع�ض ه�ؤالء يعملون كمخربين �أو عمالء‬ ‫بريطانيني �أثناء انخراطهم بالإرهاب يف اخلارج‪ ،‬وتقوم املخابرات يف حمايتهم من مالحقة‬ ‫�أجهزة خمابرات الدول الأخرى‪.‬‬ ‫هكذا ن�شاط‪ ،‬مع �أهميته‪ ،‬لي�س �سوى جزء �صغري من ال�صورة الكبرية املتعلقة بال�سيا�سة‬ ‫‪72‬‬


‫ملف العدد "وعد بلفور"‬

‫اخلارجية الربيطانية‪ .‬جهاز املخابرات تعامل تاريخياً مع نوعني من النا�شطني الإ�سالميني‪،‬‬ ‫وهذان يتمتعان بعالقات وثيقة فيما بينهما‪.‬‬ ‫التب ّني الربيطاين الأول‪ :‬الدول احلا�ضنة لإرهاب الإ�سالم املتطرف‬

‫النوع الأول هم الدول احلا�ضنة للإرهاب الإ�سالمي‪ ،‬والدولتان الأبرز من بني ه�ؤالء هما‬ ‫حليفان ا�سرتاتيجيان �أ�سا�سيان لربيطانيا منذ زمن بعيد‪ :‬باك�ستان وال�سعودية‪ .‬خمططا ال�سيا�سة‬ ‫اخلارجية تعاونا دائماً يف اخلفاء مع ال�سعودية وباك�ستان على �أنهما حلفاء فيما يو�صف اليوم‬ ‫ب�أنه "حرب على الإرهاب"‪.‬‬ ‫هذا يف الوقت الذي يبلغ دعم هاتني الدولتني للإ�سالم املتطرف يف �أنحاء العامل يفوق‬ ‫ب�أ�شواط بعيدة دو ًال �أخرى هي ر�سمياً "�أعداء" مثل �إيران �أو �سوريا‪.‬‬ ‫ال�سعودية‪ ،‬خا�صة بعد ال�صعود الكبري يف �أ�سعار النفط‪ ،‬وفّرت لها �إمكانات مالية �سمحت‬ ‫ف�ضخت مليارات الدوالرات لن�شر الفكر الإ�سالمي املتطرف‪،‬‬ ‫لها مبد ت�أثريها يف كل العامل‪ّ ،‬‬ ‫ومنه املنظم وامل�سلح‪ ،‬يف �أنحاء العامل‪ .‬تنظيم القاعدة‪ ،‬هو على الأقل جزئياً‪ ،‬ربيب ال�سعودية‬ ‫حليفة بريطانيا‪ ،‬وعالقته مع املخابرات ال�سعودية تعود �إىل الثمانينيات‪ ،‬مع بدايات اجلهاد �ضد‬ ‫ال�سوفيات يف �أفغان�ستان‪.‬‬ ‫�أما باك�ستان‪ ،‬فكانت الراعي الكبري ملجموعات �إرهابية عدة منذ ا�ستالم اجلرنال �ضياء احلق‬ ‫ال�سلطة يف انقالب ع�سكري عام ‪ ،1977‬وهذا ت�ضمن التدريب‪ ،‬والتزويد بال�سالح وتوفري‬ ‫امللج�أ الآمن‪ .‬الكثريون من �إرهابيي بريطانيا هم نتاج عقود من التب ّني الباك�ستاين لهذه‬ ‫املجموعات‪ .‬اليوم‪ ،‬ال�شبكات الإرهابية التي تتخذ من باك�ستان مركز�أ لها‪ُ ،‬ت ّ‬ ‫�شكل �أكرب خطر‬ ‫لربيطانيا‪ ،‬وبع�ضها يتبلور ليكون �أكرث تهديداً من القاعدة نف�سها‪.‬‬ ‫ال�سعودية وباك�ستان‪ ،‬هما �أنظمة �أنتجتها بريطانيا‪ :‬ال�سعودية يف الع�شرينيات مع الغزو الدموي‬ ‫الوهابي املدعوم من بريطانيا بال�سالح وال�سيا�سة؛ وباك�ستان التي انف�صلت عن الهند يف‬ ‫‪ 1947‬مب�ساعدة املخططني الربيطانيني‪.‬‬ ‫هذه الدول‪ ،‬مع �أنها خمتلفة يف جماالت كثرية‪ ،‬ال �شرعية لها �سوى �أنها "دول �إ�سالمية"‪.‬‬ ‫والثمن الذي يدفعه العامل لتب ّنيهما للإرهاب الإ�سالمي – والدعم الربيطاين لهذا الدور‬ ‫– كان �ضخماً بالت�أكيد‪.‬‬ ‫‪73‬‬


‫يف ظل حتالفهما مع بريطانيا‪ ،‬لي�س م�ستغرباً �أن القادة الربيطانيني مل ينادوا بق�صف �إ�سالم �أباد‬ ‫�أو الريا�ض‪ ،‬مثلما فعلوا مع كابول وبغداد‪ .‬هذا يعني �أن "احلرب �ضد الإرهاب" لي�ست حرباً‬ ‫فعلية‪ ،‬بل هي يف الواقع حرباً �ضد �أعداء تقوم وا�شنطن ولندن بتحديد هوياتهم‪.‬‬ ‫هذا هو بال�ضبط ما جعل الت�شكيلة العاملية للإرهاب متما�سكة وفاعلة‪ ،‬وبالتايل ّ‬ ‫ت�شكل �أخطاراً‬ ‫ج�سيمة �ضد بريطانيا والعامل‪.‬‬ ‫التب ّني الربيطاين الثاين‬

‫التنظيمات الإرهابية بلبا�س الإ�سالم املتطرف‬

‫املجموعة الثانية من النا�شطني الإ�سالميني التي تواط�أت معها بريطانيا هي احلركات‬ ‫واملنظمات املتطرفة‪� .‬أهم تلك املجموعات هي الإخوان امل�سلمني التي �أوجِ دت يف م�صر عام‬ ‫‪ ،1928‬و"اجلامعة الإ�سالمية" التي �أوجدت يف الهند الربيطانية عام ‪ ،1941‬وحتولت �إىل قوة‬ ‫�سيا�سية وايديولوجية �أ�سا�سية يف باك�ستان‪.‬‬ ‫كما عملت بريطانيا �س ّراً مع حركة "دار الإ�سالم" يف �إندوني�سيا‪ ،‬التي ترعى معظم الن�شاطات‬ ‫الإرهابية يف ذلك البلد‪.‬‬ ‫على الرغم �أن بريطانيا تعاونت يف الغالب مع منظمات �إ�سالمية �س ّنية‪ ،‬لكنها دعمت �أي�ضاً‬ ‫قوى �شيعية متطرفة يف �إيران يف اخلم�سينيات‪ ،‬وبعد ا�ستالم الثورة الإ�سالمية احلكم يف‬ ‫‪.1979‬‬ ‫التنظيمات املتطرفة اجلهادية التي دعمتها بريطانيا هي من �أكرثها تخ ّلفاً دينياً و�سيا�سياً‪ ،‬وغالباً‬ ‫ما ا�ستهدفوا املدنيني يف عملياتهم الإجرامية‪ .‬البداية كانت يف �أفغان�ستان عام ‪ 1980‬بالتعاون‬ ‫مع الواليات املتحدة‪ ،‬ال�سعودية وباك�ستان‪ ،‬بهدف هزمية االحتالل ال�سوفياتي للبالد‪.‬‬ ‫بعد �أفغان�ستان‪ ،‬تابعت بريطانيا التعاون مع حركات �إرهابية م�سلحة مثل "حركة الأن�صار"‬ ‫يف باك�ستان‪ ،‬احلركة املجاهدة الإ�سالمية يف ليبيا‪ ،‬وجي�ش حترير كو�سوفو‪� ،‬إ�ضافة لتنظيمات‬ ‫�أخرى يف �آ�سيا الو�سطى‪� ،‬شمال �أفريقيا و�أوروبا ال�شرقية‪ ...‬وجميعها ترتبط وثيقاً ب�أ�سامة بن‬ ‫الدن‪.‬‬ ‫هذا التعاون اال�ستخباري الربيطاين مع الإ�سالم املتطرف ال يزال م�ستمراً حتى اليوم يف‬ ‫‪74‬‬


‫ملف العدد "وعد بلفور"‬

‫ال�شرق الأو�سط‪ .‬املخططون مل يقت�صر جمهودهم على التن�سيق اخلا�ص مع الريا�ض و�إ�سالم‬ ‫�أباد‪ ،‬فهم يوا�صلون ت�آمرهم مع الإخوان امل�سلمني يف م�صر و�إ�سالميي ليبيا‪.‬‬ ‫جذور هذا التواط�ؤ الربيطاين مع الإ�سالم املتطرف يف ال�شرق الأو�سط تعود ل�سيا�سة "ف ّرق‬ ‫ت�سد" التي اعتمدتها يف �أيام امرباطوريتها‪ ،‬حني �ساندت احلركات الإ�سالمية ملواجهة املد‬ ‫الوطني والقومي التحرري الهادف �إىل مواجهة الهيمنة الربيطانية يف املنطقة‪.‬‬ ‫املخططون الربيطانيون �ساعدوا يف خلق ال�شرق الأو�سط احلديث �أثناء وبعد احلرب العاملية‬ ‫الأوىل بفر�ض التق�سيمات الإدارية على القوى احلاكمة‪ .‬كما عملوا على �إعادة "اخلالفة"‬ ‫�إىل ال�سعودية لت�ستلم قيادة العامل الإ�سالمي‪ ،‬يف ظل ال�سيطرة الربيطانية‪ ...‬وكان لهذه‬ ‫اال�سرتاتيجية �أهمية فائقة يف تبلور الأحداث امل�ستقبلية يف ال�سعودية وباقي العامل‪.‬‬ ‫بعد احلرب العاملية الثانية‪ ،‬واجه املخططون الربيطانيون و�ضعاً جديداً ت�سوده قوتان عظيمتان‪،‬‬ ‫لكنهم كانوا م�صممني على احلفاظ على ما �أمكن من نفوذ بريطانيا ال�سيا�سي والتجاري‬ ‫يف العامل‪ .‬على الرغم من �أهمية جنوب �شرق �آ�سيا كم�صدر للمواد الأولية‪ ،‬لكن الأهمية‬ ‫الكربى كانت لل�شرق الأو�سط وخمزونه الهائل من النفط‪ ،‬فكان مو�ضع تركيز ال�سيا�سة‬ ‫الربيطانية‪.‬‬ ‫يف هذا الوقت‪ ،‬برز عدو رئي�سي متثّل ب�صعود القومية العربية بقيادة جمال عبد النا�صر يف‬ ‫م�صر‪ ،‬الذي عمل على �سيا�سة خارجية م�ستقلة وعلى �إنهاء اعتماد دول ال�شرق الأو�سط‬ ‫على الغرب‪.‬‬ ‫ملواجهة هذا اخلطر‪ ،‬عمل الغرب‪ ،‬وخا�صة الواليات املتحدة وبريطانيا‪ ،‬على م�ساندة امللكيات‬ ‫والقيادات الإقطاعية‪ ،‬وتعاونوا مع احلراكات الإ�سالمية‪ ،‬خا�صة الإخوان امل�سلمني‪ ،‬لزعزعة‬ ‫ا�ستقرار احلكومات القومية والإطاحة بها‪.‬‬ ‫مع �سحب بريطانيا لقواتها من ال�شرق الأو�سط يف �أواخر ال�ستينيات‪ ،‬ا�ستندت �إىل النظام‬ ‫ال�سعودي والإخوان امل�سلمني ك�أدوات للحفاظ على امل�صالح الربيطانية يف املنطقة‪ ،‬يعمالن‬ ‫على �إ�ضعاف وحماربة الأنظمة القومية‪ ،‬ويكونان مبثابة "ع�ضالت" م�ساندة للحكومات‬ ‫اليمينية املتعاونة مع بريطانيا‪.‬‬ ‫مع حلول ال�سبعينيات‪ ،‬كانت القومية العربية قد ُهزِمت كقوة �سيا�سية بف�ضل املواجهة‬ ‫‪75‬‬


‫الإجنلو‪� -‬أمريكية‪ ،‬لتحل مكانها قوى الإ�سالم املتطرف‪ ،‬خا�صة يف م�صر والأردن‪.‬‬ ‫بعد حرب �أفغان�ستان يف الثمانينيات‪ ،‬ت�صاعدت العمليات العنفية للإ�سالم املتطرف‪ ،‬مبا فيه‬ ‫القاعدة‪ ،‬يف الدول الإ�سالمية بداية‪ ،‬ثم لينتقل بعدها �إىل الدول الغربية يف الت�سعينيات‪.‬‬ ‫لكن بريطانيا تابعت عالقتها ودعمها لتلك احلراكات يف مناطق مثل بو�سنيا‪ ،‬ليبيا‪� ،‬آذربيجان‬ ‫وكو�سوفو‪.‬‬ ‫يف هذه الفرتة‪ ،‬وجدت العديد من تلك التنظيمات اجلهادية مالذاً �آمناً لها يف بريطانيا‪،‬‬ ‫وبع�ضها �أعطي حق اللجوء ال�سيا�سي‪ ،‬فيما هم م�ستمرون يف ن�شاطهم الإرهابي يف اخلارج‪.‬‬ ‫املخابرات الربيطانية مل َ‬ ‫تتغا�ض فقط‪ ،‬بل �شجعت على ن�ش�أة "لندن‪� -‬ستان "كمركز تخطيط‬ ‫وجتميع للمجموعات اجلهادية‪ ،‬وبهذا �أعطت ال�ضوء الأخ�ضر لتلك التنظيمات‪ ،‬وقامت عمل ّياً‬ ‫بت�شجيع ن�شاطها الإرهابي‬ ‫هذه املجموعات املتمركزة يف لندن‪ ،‬كانت م�صدر معلومات للمخابرات‪ ،‬و ُن ِظر �إليها على �أنها‬ ‫مفيدة لل�سيا�سة اخلارجية الربيطانية‪ ،‬خا�صة يف �إدامة وبلورة النزاعات يف ال�شرق الأو�سط‪،‬‬ ‫وكو�سيلة �ضغط للت�أثري على �سيا�سات احلكومات اخلارجية‪.‬‬ ‫قوى الإ�سالم املتطرف �أفادت اال�ستخبارات الربيطانية يف خم�سة جماالت‪:‬‬ ‫‪ .1‬كقوة دولية م�ضادة لاليديولوجيات القومية العلمانية وال�شيوعية‬ ‫‪ .2‬كقوى حاكمة حمافظة يف باك�ستان وال�سعودية لقمع احلراكات الوطنية‬ ‫‪ .3‬كقوة �ضاربة ت�ستخدم يف �إ�ضعاف حكومات م�ستهدفة والإطاحة بها‬ ‫‪ .4‬ك�أداة قتالية بـ"الإنابة" تخو�ض معارك ل�صالح الغرب‬ ‫‪ .5‬ك�أدوات �ضغط �سيا�سي لفر�ض مواقف م�ؤاتية لربيطانيا على احلكومات‬ ‫عالقة بريطانيا مع ال�سعودية وباك�ستان كانت ا�سرتاتيجية وطويلة الأمد‪ .‬لكن عالقتها مع‬ ‫التنظيمات املتطرفة مل تكن كذلك‪ .‬تعاونها مع تلك القوى الإ�سالمية كان م�س�ألة م�صلحية‬ ‫م�ؤاتية‪ ،‬لكنها توا�صلت لتكون �شبه دائمة‪.‬‬ ‫بريطانيا كانت على دراية كاملة ب�أدبيات تلك القوى املعادية للإمربيالية والغرب‪ ،‬وخل ّو‬ ‫‪76‬‬


‫ملف العدد "وعد بلفور"‬

‫مبادئها االجتماعية من الفكر احلر والدميقراطي‪ .‬اال�ستخبارات الربيطانية مل تعمل مع هذه‬ ‫التنظيمات لأنها تتفق معها يف املبادئ‪ ...‬بل فقط لأنها كانت مفيدة لها يف ظرف حمدد‪.‬‬ ‫والوا�ضح �أن تلك التنظيمات تعاونت مع بريطانيا لنف�س الأ�سباب‪ :‬ت�سهيل حركتها ون�شاطها‪،‬‬ ‫وكراهية القومية العلمانية‪.‬‬ ‫الأهم هو �أن التواط�ؤ الربيطاين مع الإ�سالم املتطرف‪� ،‬ساهم يف حتقيق هدفني �أ�سا�سيني‬ ‫لل�سيا�سة اخلارجية‪ .‬الأول هو فر�ض ال�سيطرة والت�أثري على م�صادر الطاقة الرئي�سية التي حتتل‬ ‫الأولوية يف �سيا�ستها ال�شرق �أو�سطية‪ .‬الثاين هو احلفاظ على دور �أ�سا�سي لربيطانيا يف النظام‬ ‫املايل الدويل امل�ساند للغرب‪.‬‬ ‫ال�سعودية قامت بتوظيفات �ضخمة يف امل�ؤ�س�سات االقت�صادية وامل�صرفية يف الواليات املتحدة‬ ‫وبريطانيا‪ ،‬وباملقابل‪ ،‬لدى الدولتني الغربيتني ا�ستثمارات وجتارة �ضخمة مع ال�سعودية‪ .‬هذا ما‬ ‫حتميه العالقة اال�سرتاتيجية مع الريا�ض‪.‬‬ ‫منذ مرحلة ‪� ،75-1973‬أقام امل�س�ؤولون الربيطانيون جمموعة �صفقات �سرية مع ال�سعودية‪،‬‬ ‫لتوظيف مردودات النفط يف بريطانيا‪ .‬وكما �سرنى (يف �أحد ف�صول الكتاب)‪ ،‬كان هناك عهد‬ ‫�إنكليزي‪� -‬أمريكي‪� -‬سعودي للحفاظ على هذا النظام املايل‪ .‬باملقابل‪ ،‬تغ�ض لندن ووا�شنطن‬ ‫النظر‪ ،‬عن �أي �شيء �آخر ت�صرف ال�سعودية املال فيه‪.‬‬ ‫وهكذا‪� ،‬ضخت ال�سعودية �أموا ًال �ضخمة �إىل الإ�سالميني وق�ضاياهم اجلهادية‪ ،‬ورافقتها �سيا�سة‬ ‫خارجية غربية تقوم على ا�ستمرارية حكم العائلة ال�سعودية‪ ،‬بغ�ض النظر عن ن�شاطاتها تلك‪.‬‬ ‫التعاون بني الواليات املتحدة وبريطانيا كان ثابتاً يف دعم هذه اال�سرتاتيجية نحو ال�سعودية‪.‬‬ ‫لكن مع تقل�ص القوة الربيطانية‪ ،‬حتولت هذه اخلطة امل�شرتكة من �شراكة حقيقية‪� ،‬إىل كون‬ ‫بريطانيا �شريكاً ثانوياً‪ ،‬حيث تقوم اال�ستخبارات الربيطانية والقوات اخلا�صة ال�سرية التابعة‬ ‫لها‪ ،‬مبهام حتددها وا�شنطن‪.‬‬ ‫يف بع�ض الأحيان‪ ،‬حتركت بريطانيا كذراع ميداين للحكومة الأمريكية‪ ،‬تقوم باملهام القذرة‬ ‫التي مل تكن وا�شنطن قادرة على تنفيذها (�أو ال تريد ذلك!)‪.‬‬ ‫ا�ستخدام بريطانيا للقوى الإ�سالمية يعود لأيام الإمرباطورية‪� ،‬أي ملا قبل هذا التعاون مع‬ ‫الواليات املتحدة‪ .‬وبعد احلرب العاملية الثانية‪ ،‬حتركت اال�ستخبارات الربيطانية ب�شكل‬ ‫‪77‬‬


‫م�ستقل �أحياناً‪ ،‬كمثل حماولة انقالب �ضد عبد النا�صر يف اخلم�سينيات‪ ،‬ورعاية "لندن‪-‬‬ ‫�ستان" يف الت�سعينيات‪.‬‬ ‫�أنا ال �أقول �إن الإ�سالم املتطرف والعنف اجلهادي هما �صنيعة بريطانيا �أو الغرب‪ ،‬ففي ذلك‬ ‫ت�ضخيم للنفوذ الغربي يف مناطق مثل ال�شرق الأو�سط �أو جنوب‪�-‬شرق �آ�سيا‪ ،‬حيث عوامل‬ ‫كثرية حملية وعاملية �ساهمت‪ ،‬ولأمد طويل‪ ،‬يف تك ّون هذه القوى‪.‬‬ ‫لكن ال�سيا�سة الربيطانية �ساهمت يف تك ّون اخلطر احلايل للإرهاب‪ ،‬على الرغم من �إنكار‬ ‫البيئة الربيطانية العامة لذلك‪ .‬يف �أفغان�ستان‪ ،‬هناك تركيز �أكرب على الدور الأمريكي ولي�س‬ ‫الربيطاين (مع �أنه كان كبرياً)‪ .‬وبعد �أفغان�ستان‪ ،‬ف�إن الإعالم ي�سوده �صمت كامل حول الدور‬ ‫الربيطاين‪� ،‬شبيه بالتعتيم حول امل�شاركات الربيطانية احلديثة يف العراق وليبيا‪.‬‬ ‫يف هذا الكتاب‪" ،‬اجلهاديون" هم من ي�ستخدمون العنف للتو�صل �إىل �إحقاق الدولة‬ ‫الإ�سالمية‪ .‬اعتمدت يف هذا الكتاب على عدد كبري من الوثائق ال�سرية التي ُك�شفت مبرور‬ ‫الزمن‪ ،‬واملخت�صة بال�سيا�سة الربيطانية نحو بلدان العامل الإ�سالمي‪.‬‬

‫‪78‬‬


‫ملف العدد "وعد بلفور"‬

‫الكتابة عن وعد بلفور‬

‫الر�ؤية بعني واحدة كليلة‬ ‫جنيب ن�صري‪ -‬كاتب‬

‫يف �سياق احلديث عن وعد بلفور ‪ ،1917‬علينا �سوق ب�ضع مالحظات ا�ستفهامية‪ /‬ت�أ�سي�سية‬ ‫ال بد منها حتى نتفهم �أبعاد احلا�صل وتداعياته‪� ،‬إذ ال بد �أن ن�س�أل �أو ًال ما املق�صود بفل�سطني‬ ‫�آنئذ من وجهة نظرنا ك�سكان لهذه البالد �أو ًال‪ ،‬هل هي �أرا�ضي الفتح العربي؟ �أم الأرا�ضي‬ ‫التي حتررت من الفرجنة (ال�صليبيني) و�آلت �إىل املماليك فيما بعد‪� ،‬أم هي �أرا�ضي �أيالة‬ ‫عثمانية فتحها �سليم الأول وتنازع عليها الحقاً العثمانيون و�إبراهيم با�شا وبونابارت �إلخ؟‬ ‫�أم هي كنعانية فينيقية يونانية رومانية بيزنطية؟‪ ،‬فما دمنا عدنا �إىل املا�ضي فعلينا معرفة ما‬ ‫هي فل�سطني �أ�ص ًال وفرعاً‪ ،‬وما هي الهيئة اخل�صو�صية املحددة لها يف التناف�س الدويل بعيد‬ ‫احلرب العاملية الأوىل ونتائجها مبعنى البحث والت�أكد من عائديتها الدولية‪ ،‬ما هي فل�سطني‬ ‫وقتذاك؟ �أو من هي؟ خ�صو�صاً �أننا نتكلم عن قيام كيان غا�صب "الناجت " عن الوعد (ندعي‬ ‫�أنه �سبب مبا�شر �أو �أ�سا�سي) بعد احلرب العاملية الثانية ونتائجها املختلفة متاماً عن احلرب‬ ‫العاملية الأوىل �أي زمن الوعد امل�ش�ؤوم؟‪ .‬ثانياً من �أين جاءت الأهمية احلقوقية لهذا الوعد‪،‬‬ ‫وما هي حمددات فعاليته ونتائجها؟ �إذ ال نرى ذكراً لبلفور يف كل الإجراءات العمالنية التي‬ ‫�أدت �إىل قيام الكيان الغا�صب‪� ،‬إذاً البد من �أهمية ما له‪ ،‬على الأقل يف �أذهاننا نحن؟‪ ،‬ثالثاً‬ ‫�أن املنطقة وفل�سطني منها هي ومنذ الفتح العربي لها هي نهب لالحتالالت مهما كانت‬ ‫�صفتها ال�سيا�سية القبلية الدينية الأثنية‪ ،‬وعلى ر�أ�سها املغول والتتار (املغيبون ثقافياً) والفرجنة‬ ‫(ال�صليبيون) الذين يحتلون �أولوية ثقافية يف املواجهة‪ ،‬ناهيك عن العثمانيني‪ ،‬وامل�صريني ومن‬ ‫ثم العرب مرة �أخرى (الثورة العربية الكربى) و�أخرياً الأوربيون ومن بعدهم ال�صهاينة‪ ،‬ف�أية‬ ‫ميزة ميكن �أن يحملها بلفور كي تكون لوعده هذه املكانة امل�ؤثرة هذه؟‪ ،‬فهو وعد ال يلزم الدولة‬ ‫الربيطانية العظمى ب�شيء عملي؟ رمبا مع �إجابة القارئ على هذه الأ�سئلة‪ ،‬ميكنه تقدير الوجهة‬ ‫االحتفالية بوعد بلفور التي تبدو كهمروجة ذرائعية لتحميل الذنب للآخرين على طريقة‬ ‫‪79‬‬


‫امل�ؤامرة‪ ،‬على ما يحتمل �أن يكون هذا الوعد الفارغ �إنذاراً م�سبقاً �أو جر�س حتذير من خطر‬ ‫ال�صهيونية الداهم‪ ،‬وحت�ضري ما يلزم لتالفيه‪ ،‬ولكن الذي ح�صل �أن هذا الوعد �أخذ �أهميته‬ ‫عندنا بعد النكبة ال قبلها كما جرت العادة!‪ ،‬م�ؤ�س�ساً ملا ميكن ت�سميته الأداء البولفوري يف‬ ‫�شتى �أمور املنطقة وم�صائرها‪.‬‬ ‫لي�س مرجحاً �أن يكون للتذكري بوعد بلفور تلك الأهمية الن�ضالية �أو التوعوية‪ ،‬بغ�ض النظر‬ ‫�إذا كان بلفور �أفندي قد بر بوعده �أم نكث‪ ،‬وبغ�ض النظر �إذا كانت �إنكلرتة الدولة التزمت‬ ‫بهذا الوعد �أم �أنها تعاطفت �أو �ساعدت ب�أكرث منه‪ ،‬ال ندري‪ ..‬ولكن للتاريخ املكتوب واملوثق‬ ‫مفاج�آت قد حتبط هذا امل�سعى االحتفايل الذي يحاول ت�سويق عقدة ا�ضطهاد �إىل من يفرت�ض‬ ‫�أنهم ت�سببوا بها‪ ،‬ورمبا حملت تلك الوثائق ما هو �أخطر و�أب�شع بكثري من وعد بلفور نف�سه‪،‬‬ ‫جتدر الإ�ضاءة عليها هي �أي�ضاً من �أجل الثقة العلمية على الأقل‪ ،‬فالوعد نف�سه �أ�صبح يف‬ ‫مركز كرة الثلج التي ت�ضخمت وباتت قادرة على هر�سنا جميعاً‪ ،‬ويجب �إيقاف تدحرجها‬ ‫بوا�سطة مواجهة احلقائق جميعها‪ ،‬و�أولها هو ف�شلنا املدوي يف حترير فل�سطني‪ ،‬املت�سبب يف‬ ‫جميع الكوارث التي نعي�شها‪ ،‬فتحريرها هو البو�صلة احلقيقية لوجهتنا‪ ،‬وهذا ال يعني باملطلق‬ ‫�أن بقاء املناطق ال�سليبة الأخرى (كيليكيا والإ�سكندرون والأحواز) حمتلة هو �أقل كارثية من‬ ‫فل�سطني‪� ،‬إذ ي�ستبطن هذا التفريق بني احتالل واحتالل نزعة طائفية عن�صرية �أ�شد فتكاً من‬ ‫االحتالالت‪ ،‬ومن هنا يبدو ت�أثري وعد بلفور ثقافياً عدمي القيمة‪� ،‬إال من حيث مقدرته على‬ ‫تذكرينا ب�أننا ل�سنا جمتمعاً باملعنى احلديث املعرتف به عاملياً‪ ،‬ول�سنا �أ�صحاب �شخ�صية قومية‬ ‫(هوية) ناجزة ومعلنة ميكن فهمها �أو التفاهم معها‪ ،‬فبلفور وح�سب تفكريه هو وعد �أن ي�ساعد‬ ‫"�شعباً" بال �أر�ض ب�أن يقيم دولة على �أر�ض بال "�شعب"‪ ،‬و�سكان املنطقة ال يعتربون �شعباً‬ ‫على ما قي�س يف هنود �أمريكا احلمر‪ ،‬ما مل يكونوا جمتمعاً حداثياً ناجزاً‪ ،‬هذه هي املع�ضلة‬ ‫الكربى يف مواجهة بلفور ووعده �إذا كان هذا الوعد مهماً يف ت�أ�سي�س الكيان الغا�صب �أم‬ ‫�أنه جر�س �إنذار لينتبه �سكان املنطقة ونخبهم لهذه احلقيقة وكان �أمامهم ثالثون عاماً كي‬ ‫يتداركوه‪ ،‬وف�شلوا يف ذلك على الرغم من الثورات والت�ضحيات التي توجتها "اجليو�ش"‬ ‫العربية بهزائم وان�سحابات منكرة �أمام ع�صابات �سخيفة باملعنى الع�سكري‪ ،‬حيث جتدر مقارنة‬ ‫ما فعله بلفور وما فعلته "العرب"‪ ،‬قبل ومع وبعد ثالثني عاماً من الوعد "امل�ش�ؤوم" ومالحظة‬ ‫�أيهما �أخطر‪ .‬ويف كل الأحوال مل تعد الكتابة التاريخية والتفنيد لهذا الوعد بذات طائل‪،‬‬ ‫وخ�صو�صاً �أنه يتم تناوله مبعزل عن �أحوال العامل وقتذاك‪ ،‬وكذلك مبعزل عن املكانة املعرفية‬ ‫‪80‬‬


‫ملف العدد "وعد بلفور"‬

‫ل�سكان املنطقة‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل ما كان عليه الواقع ال�سيا�سي لها‪ ،‬حيث كانت ب�صدد �إطالق‬ ‫الثورة العربية الكربى برعاية �إنكليزية �صرفة وواعية معرفياً مل�صاحلها‪ ،‬وهي متتلك الدالة على‬ ‫ه�ؤالء العرب كي تتربع (ب�شقفة �أر�ض) من الأرا�ضي املزمع غزوها ثورياً لأي كان‪ ،‬وهنا ال بد‬ ‫من التذكري مبرا�سالت ال�شريف ح�سني حاكم مكة املكرمة‪ ،‬وال�سري هرني مكماهون نائب‬ ‫امللك الإنكليزي يف م�صر وغريها (مثل وثيقة في�صل وايزمن‪ ،‬مرا�سالت اخلليفة العثماين‬ ‫عبد احلميد وثيودور هرتزل الخ) كمو�ضوعات قابلة للدر�س والتمحي�ص لي�س لأهميتها‬ ‫التاريخية ولكن للإ�ضاءة على واقع احلال االجتماعي واملعريف الذي كان �سائداً وتفح�ص �إذا‬ ‫كان ملا يزل م�ستمراً حتى يومنا هذا‪.‬‬ ‫رمبا جتدر الإطاللة على املنتوج الثقايف "العربي" الذي �شكل الثقافة املتداولة‪ ،‬التي �سعت �إىل‬ ‫االنت�صار على الفكر التنويري الأنواري العربي وترثيب منتجاته‪ ،‬حيث �شكلت هذه الثقافة‬ ‫معاي َري متخلفة ملفهوم املحتل‪ ،‬انطالقاً من جتاهل الغزو املغويل والترتي ومن ثم العثماين‬ ‫والرتكيز على �سقوط الأندل�س والغزو الفرجني (ال�صليبي)‪ ،‬وانتها ًء بتجاهل االغت�صابات‬ ‫الأخرى (كيليكيا وا�سكندرون والأحواز الخ) والرتكيز على االنتدابات‪ /‬االحتالالت‬ ‫الغربية‪ ،‬وتقبع خطورة تلك املقاي�سات (مع الت�أكيد على ت�ساوي جميع �أنواع االحتالل‬ ‫واالغت�صاب مهما كان م�صدرها) يف االبتعاد عن مفهوم املجتمع‪ /‬الأمة التي متثل �أرا�ضيها‬ ‫م�صلحة عليا ل�سكانها‪ ،‬والركون �إىل مفهوم الأمة باملعنى الديني الطائفي (املذهبي يف �أيامنا‬ ‫هذه‪ ،‬وهذا ما حفر تالياً �أخاديد ثقافية عميقة يف بنية التجمعات الب�شرية الناطقة بالعربية)‪،‬‬ ‫هذا االبتعاد جعل ال�صراع على فل�سطني (وقبلها االنتدابات واالحتالالت) �صراعاً تب�شريياً‪،‬‬ ‫ولي�س �صراعاً قومياً تفهمه وتتعاطف معه الأمم م�صلحياً‪ ،‬ومن هنا تبدو خطورة تلبي�س بلفور‬ ‫وحده هذه اخلطيئة يف حقنا النزياحها عن احلقيقة‪ ،‬وهو ما يجعله مبقام الغازي الفرجني‬ ‫(ال�صليبي)‪ ،‬مدخلني من حيث ندري �أو ال ندري قوم �صاحب الوعد يف ف�سطاط الكفار‬ ‫املحتلني لفل�سطني‪ ،‬وبالتغا�ضي عن العوامل وال�شخ�صيات والوعود الأخرى ذات اخلطايا‬ ‫الأفدح‪ ،‬نكون قد ح�شرنا ثقافياً بلفور وكل �أقوامه يف دوامة الإرهاب الديني املعا�صر املعادل‬ ‫االنتقامي لل�شعور بال�صغار املجتمعي ‪/‬القومي يف هذا العامل‪ ،‬وهذا يف حد ذاته تلخي�ص‬ ‫وتكثيف ملظاهر �ضياع البو�صلة‪ ،‬واتباع الطريق اخلط�أ �إىل فل�سطني وغريها من �أرا�ضي الأمة‬ ‫املنهوبة‪.‬‬ ‫‪81‬‬


‫عملياً تبدو �إعادة قراءة الوعد وحده منفرداً وبعد مئة عام من الزمن "احلديث"‪ ،‬ال تقود‬ ‫�إال �إىل دالالت ظنية‪ ،‬ال تنفع يف �شيء �إال "التذكري" مبا هو جاثم �أمام عيوننا ليل نهار وهو‬ ‫كارثة فل�سطني امل�ستمرة‪ ،‬ولكنها ومن جهة �أخرى تفتح الباب ملقاربة العملية التاريخية التي‬ ‫ن�سكن جلة دوامتها وملا تزل تفتعل فينا �إن �شاءت‪( ،‬وهي وبالتكثيف)‪ ،‬حماوالت اخل�صم‬ ‫منع خ�صمه من امتالك �أ�سباب القوة‪ ،‬والقوة يف الزمن احلديث هي املعرفة‪ ،‬و�سبب فعلها هو‬ ‫االلتزام بها‪ ،‬وهو ما ف�شل �سكان هذه املنطقة يف امتالك نا�صيته وبالتايل عليهم دفع الثمن‪،‬‬ ‫لتبدو مفاعيل هذا الوعد ال�سخيف عبارة عن �إ�ضاءة قوية م�سلطة على كل �أنواع التخلف‬ ‫واجلهالة التي نتمتع بها‪ ،‬ونلم�س �آثارها ومنتجاتها ومفاعيلها بكل زهو وانت�صار‪ ،‬ليبدو الوعد‬ ‫امل�ش�ؤوم �أنه كان على �صواب �سيا�سي تكتيكي وا�سرتاتيجي م�صلحي‪ ،‬و�إن مل يكن على‬ ‫حق‪� ،‬إذ لي�س مطلوباً يف معمعة التناف�س الأممي على امل�صالح �أن تكون على حق بل على‬ ‫معرفة‪ ،‬فالدهاء ال�سيا�سي (�أو الذكاء) غادر منذ مدة طويلة جداً ذهنية حادثة الأ�شعري وابن‬ ‫العا�ص كتكتيك �سيا�سي م�أثور‪ ،‬التي ك�سب فيها من ك�سب‪ ،‬وملا تزل النا�س تدفع ثمناً باهظاً‬ ‫لذهنية هذا الأداء ال�سيا�سي غري املجتمعي‪ ،‬هذه املغادرة تعني ح�ضور ذهنية جديدة ملعنى‬ ‫ال�سيا�سة‪� ،‬أال وهي خدمة امل�صالح القومية التي مل تو�ضع وال مرة يف تاريخنا "احلديث" يف‬ ‫مو�ضع معريف منا�سب ملا �آلت �إليه املعرفة يف هذا الع�صر‪ ،‬ليبدو وعد بلفور وحا�ضنته ال�سيا�سية‬ ‫يف تلك املرحلة عبارة عن حادثة غ�ش عابرة وجمزية بالن�سبة للم�ستعمر وكارثة ت�ستدعي‬ ‫النواح والنقيق بالن�سبة لنا‪.‬‬ ‫تبدو كل جمريات املرحلة التاريخية لتح�ضري �سقوط و�سقوط وما بعد �سقوط الرجل املري�ض‪،‬‬ ‫مت�ضافرة وجمدولة بحكم انتمائها �إىل منظومة معرفية معلنة وممار�سة على �أر�ض الواقع‪ ،‬حيث‬ ‫من غري املفيد وال ينفع يف �شيء‪ ،‬رف�ض هذه املنظومة و�إحلاقها بف�سطاط الكفر �أو حتى الإميان‪،‬‬ ‫فاملعرفة حمايدة معلوماتياً ولكنها بالقطع منحازة �إىل �أخالقيات حتقيق امل�صالح املجتمعية‪� ،‬إن‬ ‫كان بالت�سامل الداخلي بوا�سطة امل�ساواة والعدالة‪� ،‬أو بالإنتاج‪ ،‬وكذلك بتحقيق املنعة جتاه‬ ‫اخلارج‪ ،‬وحتقيق املنعة هذا‪ ،‬قاد �إىل حربني عامليتني م�شهودتني وحرب باردة �أ�شد �شرا�سة‬ ‫خي�ضت بذكاء ودهاء على ح�ساب دماء الذين هم �أقل معرفة مبعناها العاملي املتداول‪ ،‬وعليه‬ ‫ابتنى بلفور جر�أته بوعد هو يعرف متاماً �أن ال حق له بقطعه‪ ،‬ولكن �أية حال معرفية ميكنها‬ ‫منعه؟ ف�سكان املنطقة مل يتمايزوا مبجتمع �أو حتى جمتمعات قائمة على املفاهيم املحدثة‬ ‫لع�صر الأنوار‪ ،‬وال هم ب�صدد تطوير �أي منها للحاق بع�صر املجتمعات‪ /‬الأمم‪ ،‬ومعلومات‬ ‫‪82‬‬


‫ملف العدد "وعد بلفور"‬

‫امل�ست�شرقني جميعها بالإ�ضافة �إىل الواقع املعريف املزري‪ ،‬تفيد ب�أن هناك رف�ضاً ع�ضوياً �أكرثياً‬ ‫ال�ستحقاقات املعرفة احلداثية املختلفة جوهرياً عن ثقافة اجلهالة املعرتف بها بني ظهرانينا‪،‬‬ ‫والدليل هو ا�ضطهاد الكال�سيكيني له�ؤالء التنويريني الذين نادوا باحلداثة و�إخمادهم‪ ،‬حيث‬ ‫يت�ضاعف الفارق املعريف كمتوالية ح�سابية ال تعرف للح�ضي�ض قعراً‪ ،‬فثقافة اجلهل املعرفية‬ ‫تقود حتماً �إىل ثقافة االنهزام احلتمي‪ ،‬وثقافة الت�شكي والث�أر والتي ميكن �إدارة فعاليتها على‬ ‫ح�ساب �أ�صحابها �أنف�سهم‪ ،‬لدرجة ميكن معها الت�سلي ب�إلقاء القنابل عليهم على ح�سابهم‪،‬‬ ‫وهذا ما ح�صل بالفعل ويح�صل الآن‪ ،‬بفعل فائ�ض قوة ثقافة اجلهل املعرفية‪ ،‬وهذا ما اعتمده‬ ‫بلفور ك�أمنوذج من مناذج الت�صرف اال�ستعماري الذي يحتاج يف رف�ضه ومقاومته �إىل تلك القوة‬ ‫املعرفية املوازية يف النوع وال�شدة‪ ،‬وهي قوة ميكن بنا�ؤها ولي�ست م�ستحيلة �إال مع ا�ستحالة‬ ‫اال�ستغناء عن ثقافة اجلهل املعرفية وفوائ�ض قوتها البلهاء‪.‬‬ ‫من ي�ستطيع �أن يكذب �أو يت�صدى لبلفور (الأمنوذج) معرفياً؟ فالن�صف الأول من زمن‬ ‫القرن الع�شرين احلا�ضن لوعوده (ك�أمنوذج) كانت مليئة بدعوات اخلروج عن املعرفة احلداثية‬ ‫والتنوير‪ ،‬حيث بدت هذه الدعوات ك�إزاحة عن درب التطور املعريف الأنواري (تغري �شكل‬ ‫هذه الإزاحات بعد يالطا)‪ ،‬وكل جمريات ذاك الزمان كانت ت�صب يف هذه الغاية �إن كان‬ ‫من ناحية اغتيال حتركات الأنواريني و�إعالن �أفكارهم‪� ،‬أو من ناحية الت�أ�سي�س ملنظومات‬ ‫ومنظمات ثقافة اجلهالة املعرفية‪ ،‬ال بل �سورع لإطالق �صفات النه�ضويني على م�ؤ�س�سي‬ ‫تلك املنظومات وملا يزالوا �إىل يومنا هذا يحملون هذا اللقب على الرغم من كل الكوارث‬ ‫التي ت�سببوا بها مبا يتجاوز (�أمنوذج) وعد بلفور بكثري‪ ،‬يف املقابل مت �إحباط و�إخماد ال بل‬ ‫واغتيال كل داعية �أنواري ي�سعى �إىل نه�ضة جمتمعية بوا�سطة املعرفة احلداثية‪ ،‬فنحن حتى‬ ‫يومنا هذا ال نتمايز ب�صفات جمتمعية قابلة للقيا�س حا�ضراً‪� ،‬أو قابلة لإطالق ت�سمية على‬ ‫�شخ�صية املجتمع (الهوية) املتمايز الذي هي عليه‪ ،‬فالواقع يخربنا ومن دون �أدنى �شك �أننا‬ ‫طوائف متناحرة‪ ،‬واتنيات ذات م�صالح بالفلكلور �أو كيان بدهي كبري يطلق عليه باملجاز‬ ‫اللغوي لقب �أمة‪ ،‬هذه الأ�شكال الواقعية ال تلحمها م�صلحة جمتمعية وا�ضحة معرفياً �أو‬ ‫حمققة �إرادياً‪ ،‬بل تقودها �شعارات فو�ضوية عمياء عن النقطة الت�أ�سي�سية املناق�ضة لوعد‬ ‫بلفور ومعناه ال�سيا�سي واال�ستعماري‪� ،‬أال وهو املجتمع ‪/‬الأمة الذي يجعل للوطن تعريفاً‬ ‫ولل�شعب �شخ�صية وهوية‪ ،‬وهو الأمر احلقوقي الذي ميكن من خالله فقط معاك�سة الأمنوذج‬ ‫اجلمال) كما يقال‪ ،‬فالأمنوذج البولفوري هو‬ ‫البولفوري ولي�س وعد بلفور وحده‪ ،‬وهنا (حطنا ّ‬ ‫‪83‬‬


‫�أمنوذج جمتمعي يعرب عن فائ�ض حيوية "ا�ستعمارية"‪ ،‬يحتاج �إىل مناه�ضته �إىل �أمنوذج معريف‬ ‫مقابل له يف ال�شكل واجلوهر‪ ،‬ميتلك املوا�صفات املعرفية لرده على �أعقابه‪ ،‬وكذلك هزمية‬ ‫مفاعيله ربطاً باملجتمع وم�صاحله الدنيوية املفهومة واملتفاهم عليها يف كل �أ�صقاع الأر�ض‪.‬‬ ‫وهنا يتجاوز معنى التحرير (حترير الأرا�ضي) فكرة العودة �إىل ما كانت عليه قبل االحتالل‪،‬‬ ‫وهذا ما يخت�ص بفل�سطني مو�ضوع الوعد وكذلك الأرا�ضي ال�سليبة الأخرى‪ ،‬فالعودة �إىل‬ ‫ما قبل االغت�صاب تعني متاماً العودة �إىل �أنها �أيالة عثمانية �أو �أيالة عربية فيما ا�ستجد بعد‬ ‫الثورة العربية الكربى حيث �أفرزت �شعار (فل�سطني عربية و�ستبقى عربية) على الرغم من‬ ‫وثيقة "في�صل وايزمن" التي ال تبدو مهتمة بالعروبة �إال ك�شعار �سيا�سي تكتيكي يف�ضي �إىل‬ ‫زيادة عدد الأياالت‪ ،‬والت�صرف ب�إحداها كهدية ال يعني �إال ت�صرف املالك يف ملكه‪ ،‬حيث‬ ‫يتجاوز الكرم العربي ال�صلف اال�ستعماري‪ ،‬كما تتجاوز ثقافة اجلهالة املعرفية ب�أدائها‪ ،‬كل‬ ‫الت�صرفات اال�ستعمارية ليتم الت�صديق على ال�شعار عرب جتاوز �س�ؤال من نحن بخفة ال تطاق‪،‬‬ ‫لتتحول فل�سطني يف هذا ال�شعار الهوامي �إىل �أمكنة دينية فقط‪( ،‬رمبا كان هذا هو ال�سبب يف‬ ‫�أف�ضليتها عن بقية الأرا�ضي امل�سلوبة) ينا�ضل امل�ؤمن يف �سبيل ا�ستعادة حقوقه يف العبادة‪،‬‬ ‫ولي�س يف �سبيل اكتمال جمتمعه الذي يبدو له كتح�صيل حا�صل ا�ستعادة حقوق العبادة‪،‬‬ ‫ولكنه �شتان بني الأمرين يف العملية التي ت�سمى حتريراً‪ ،‬فالأر�ض التي اغت�صبت ب�سبب واقع‬ ‫التخلف املعريف امل�ستمر‪ ،‬لن يحررها واقع معريف م�شغول عليه لي�صبح �أكرث تخلفاً‪ ،‬وبلفور‬ ‫(الأمنوذج) ا�ست�شرف هذا الواقع متاماً واعتمد عليه‪ .‬وعليه �أي�ضاً مل يعط بلفور ال�صهاينة �أكرث‬ ‫مما �أعطاهم "العرب" العائدون �إىل فتوح ال�شام‪.‬‬ ‫يف كل الأزمات "العربية" يتم التالعب بالألفاظ‪ ،‬ثم تلحق بها جمموعة تف�سريات وت�أويالت‬ ‫ت�سمى تفكرياً �أو حتلي ًال‪ ،‬ولكن الأكرث خطورة من هذه الألفاظ تلك التي ت�ضفي على‬ ‫امل�سائل ما لي�س فيها‪ ،‬وال يحتمل �أن يكون فيها مما يق�صد من هذه الألفاظ‪ ،‬ولعل تو�صيف‬ ‫جنوم النه�ضة التفكريية العربية‪ ،‬كوا�ضعني لـ"ديناميات" احلداثة التي ملا تزل ترجمنا‬ ‫بانت�صاراتها الفخمة منذ عبد النا�صر على الأقل‪ ...‬حتى اليوم‪ ،‬هو من �أخطر التو�صيفات‬ ‫الداللية والدالة على عمق الت�شويه والت�شوه الذي �أ�صاب هذه الثقافة و�أ�صحابها‪ ،‬ليقدم هذا‬ ‫التالعب بالألفاظ‪ ،‬طعام الثقافة امل�سمومة على طبق من ذهب �إىل النا�س امل�شدودين بالعاطفة‬ ‫�إىل وجود مو�ضوعي ي�ؤ ّمه مفكروها "املوازون" ملفكري الغرب اال�ستعماري افرتا�ضياً‪ ،‬وهكذا‬ ‫مت ترفيع ثلل من م�شاهري املنابر ال�شفاهيني �إىل مراتب التحديثيني واحلداثويني يف �صفقة لغوية‬ ‫‪84‬‬


‫ملف العدد "وعد بلفور"‬

‫مريبة عملت على تزيني ثقافة اجلهل وتقدميها بو�صف منتجيها بحاملي ديناميات احلداثة‪،‬‬ ‫ولكن الواقع العملي والتفكريي ك�شفا �أنه لي�س هناك �إال حماوالت لتغيري تكنولوجيات‬ ‫ثقافة اجلهل (امل�سماة اخت�صاراً تخلف)‪ ،‬ولعل قارئ مرا�سالت ال�شريف ح�سني ومكماهون‬ ‫يكت�شف من تقنيات الكتابة والربوتوكول املعمول به يف الر�سائل فقط‪ ،‬الفارق احلا�سم على‬ ‫تطبيق ب�سيط من تطبيقات املعرفة احلداثية‪ ،‬وهذا ما ينطبق على "وعد" بلفور الذي هو‬ ‫جمرد ر�سالة‪ ،‬ولي�س وعد احلر دين كما فهمنا ونفهم الوعد يف �أدبياتنا‪ ،‬ر�سالة متمل�صة من‬ ‫كل واجباتها احلقوقية التي ميكن �أن حتا�سب عليها دولياً �أو حملياً‪ ،‬وهذا بحد ذاته �ش�أن مغفل‬ ‫يف �أدبياتنا ال�سيا�سية‪� ،‬إن كان على �صعيد التعاطي احلداثي مع م�ستجدات املهارة ال�سيا�سية‪،‬‬ ‫�أو على �صعيد الن�سيج احلقوقي للتفكري ال�سيا�سي‪ ،‬حيث وقف الذكاء ال�سيا�سي املحلي‬ ‫عاجزاً عن الرد عليه عملياً‪� ،‬أو حتى ا�ستيعابه يف فعاليات قومية رادعة‪ ،‬لنكت�شف حالياً �أنه‬ ‫ال دور حقيقي لهذا الوعد يف �إقامة الكيان الغا�صب‪ ،‬فهذا الوعد مل يدخل حيز التمثيل‬ ‫ال�سيا�سي واحلقوقي خ�صو�صاً مع قيام هيئة الأمم املتحدة احلالية التي تختلف بنوعية تقا�سم‬ ‫امل�صالح عن �سلفها ع�صبة الأمم‪ ،‬فالعملية املوازية واملكملة خلروجنا من قب�ضة الرجل املري�ض‪،‬‬ ‫ق�ضت على �س�ؤال من نحن وجوابه‪ ،‬فاجلواب املنطقي هو �إعالن �شخ�صية �أمة (هوية)‪ ،‬لها‬ ‫مرت�سماتها الثقافية من حقوقية و�سيا�سية‪ ،‬حيث يت�ضح متاماً ما ي�صادر حقها و�أرا�ضيها‪ ،‬ولعل‬ ‫رواج هذه الر�سالة (الوعد) قد �شجع �آخرين على ق�ضم �أرا�ض �أخرى من �أمة غري موجودة‬ ‫باملعاين املعا�صرة وقتذاك (وحالياً �أي�ضاً)‪ ،‬وهنا تبدو ر�سالة بلفور هذه كجر�س �إنذار �أكرث‬ ‫منها لتحقيق رغبة على ح�ساب الغري‪ ،‬ومل يحا�سب بلفور وال حكومة �صاحبة اجلاللة على‬ ‫هذا (التخبي�ص على الأقل) لأنه وبب�ساطة مل تكن هناك هيئة دولية قومية باملعنى املعا�صر‪،‬‬ ‫وحقيقية ميكنها متثيل �أ�صحاب احلق متثي ًال قومياً حقوقياً معرتفاً به‪ ،‬والذي ظهر فيما بعد‬ ‫عما ميكن �أن يكون عليه‬ ‫�أنهم متعددون ومتناق�ضون نتيجة ت�ضخم وهوامية تف�سريات احلداثة ّ‬ ‫ه�ؤالء‪ ،‬فهل هم امل�سلمون يخو�ضون حرباً �ضد "�صليبية جديدة "؟‪ ،‬هل هم العرب الذين‬ ‫مثلوا املنطقة و�أ�صحابها يف م�ؤمتر باري�س ‪ 1918‬الذي تبعته مفاعيل معاهدة (�سيفر)؟‪� ،‬أم هم‬ ‫ال�سوريون (ال�شوام) على اعتبار �أن فل�سطني �أيالة �شامية على مر الع�صور؟ �أم هم العثمانيون‬ ‫�أ�صحاب ال�سيادة الآفلة؟ ومع هذا ف�إن كل ه�ؤالء ال ي�ستطيعون �أن يكونوا املمثلني لهذا احلق‬ ‫لأنهم لي�سوا حداثيني على الأقل‪� ،‬أو لي�سوا حداثييني كفاية‪ ،‬حيث على الفل�سطينيني �أن‬ ‫يكونوا جمتمعاً و�أمة باملعنى التقني املعا�صر للكلمة �أو ًال‪� ،‬أو جزء من جمتمع �أمة وا�ضحة جلية‬ ‫‪85‬‬


‫ذات �شخ�صية (هوية) معلنة‪ ،‬لها من احلقوق والواجبات الأممية ما ال يختلف عليه �أحد‪ .‬هنا‬ ‫تقع الطامة الكربى يف التعامل مع هذا الوعد الأخرق الذي �شكل عقدة كربى مع �أنه ال‬ ‫ي�ساوي ثمن احلرب الذي كتب به لو كانت الأمور القومية �سليمة‪.‬‬ ‫واليوم لو �أردنا البحث يف مفاعيل وعد بلفور‪ ،‬ف�إنه علينا الدخول يف عملية نقدية تاريخية ملا‬ ‫�صدر �ضده من �أفعال "مقاومة"‪ ،‬مبعنى �إعادة قراءة التاريخ قراءة نقدية معرفية جمتمعية غري‬ ‫م�ؤدجلة‪ ،‬فالتاريخ لي�س مقد�ساً‪ ،‬وال الأفعال التي متت خالله جميعها �صائبة‪ ،‬وال النوايا التي‬ ‫كان يفرت�ض �أن تكون الدافع لهذه الأفعال ت�شفع عند ظهور نتائجها‪ ،‬فال�سردية التاريخية‬ ‫مهما تعددت من حيث الروي �أو التف�سري ال تعرب متاماً عما وقع‪ ،‬خ�صو�صاً �إذا كانت هناك‬ ‫ثقافة �شفاهية تقدم م�سرودات من خارج املعايري الت�أريخية‪ ،‬وكذلك من خارج املعايري املقررة‬ ‫حلياة الأمم واملجتمعات‪ ،‬ويف كلتا احلالتني ن�صبح �أمام تاريخ وت�أريخ موهوم ال يقدم �إال دعاوى‬ ‫حتمي�سية للث�أر واالنتقام‪ ،‬وال يدعو �إىل معايرة الوجود اجلمعي من خالل املنظومة احلقوقية‬ ‫املعمول بها يف ذلك الع�صر‪ ،‬وعليه ف�إن احلقيقة مهما كان ميلها لي�س لها من دور �أو فعل‪،‬‬ ‫طاملا هناك انعدام وجود املعايري لقيا�سها‪ ،‬فبلفور ا�ستباح حقوق وم�صالح قومية ال ميكن‬ ‫معايرتها �آنذاك وال الحقاً‪ ،‬ولي�س من هيئة جمتمعية مهيكلة قابلة للقيا�س مبقايي�س الع�صر‬ ‫ميكن لها متثيل احلق القومي مبا هو معمول به بني الأمم الناه�ضة ذات ال�شخ�صية املتمايزة‬ ‫بهيكليات حقوقية مفهومة‪ ،‬ومنها وعلى �سبيل املثال "ال�سيادة" التي مل تكن متوفرة يف يوم‬ ‫من الأيام‪ ،‬نظراً لفقدان ثقافة املجتمع ‪/‬الأمة الأنواري والذي على �أ�سا�س فقدانه مت �إطالق‬ ‫"الوعد البولفوري" وغريه من الوعود واملعاهدات ما ي�صنع واقعياً ما ميكن ت�سميته "الظرف‬ ‫البولفوري"‪ ،‬وامل�شكلة امل�ستع�صية حتى يومنا هذا‪ ،‬هي عدم وجود ذاك الكيان املعاير معرفياً‬ ‫للتعبري ولتمثيل الكتلة الب�شرية ل�سكان هذه البالد وتغيري الظرف البولفوري امل�ستمر‪ ،‬وعلى‬ ‫هذا ال ميكننا جتاوز �س�ؤال �إىل �أين �أو �إىل متى ميكننا ا�ستعادة فل�سطني؟‪.‬‬ ‫ي�شكل وعد بلفور داللة تاريخية على وجود فل�سطني ما‪ ،‬هذه الداللة التي مل ي�ستطع �أحد‬ ‫ترجمتها وجوداً حقوقياً معايراً‪ ،‬حتى يف "دولة فل�سطني" ذات الكيانني (رام اهلل وغزة) ال‬ ‫يعرفان ماذا يفعالن ب�أرا�ضي هذين الكيانني وال �إىل �أية �أمة ين�سبانها‪� ،‬إذ لي�س هناك من معيار‬ ‫وا�ضح ومفهوم ميكن مقاي�سة وجودهما عليه‪ ،‬بالتايل و�ضوح املجال احليوي الذي ي�شكل حدود‬ ‫املجتمع‪ /‬الأمة‪ ،‬حيث تت�ضح م�شكلة بنيوية لدى �سكانيات املنطقة يف عالقتها مع املعرفة‪،‬‬ ‫‪86‬‬


‫ملف العدد "وعد بلفور"‬

‫ما يعيد �إنتاج الظرف البولفوري مرات كثرية �أخرى‪ ،‬فت�أ�سي�س ال�سيادات على التق�سيمات‬ ‫ال�سايك�سبيكوية هو ظرف بلفوري بامتياز وكذلك الت�أ�سي�س للممار�سات ال�سيا�سية والثقافية‬ ‫االنتدابية الالحقة‪ ،‬وغريها من املمار�سات احلقوقية االجتماعية‪ ،‬جتعل من فقدان الإرادة‬ ‫املجتمعية �صفة دائمة احل�ضور يف ثنايا ال�سكانيات الناطقة بالعربية وخ�صو�صاً البالد امل�سماة‬ ‫بالد �آ�شور‪ ،‬وفقدان الإرادة هذا هو ممار�سة ثقافة عدم االلتزام باملعرفة‪ ،‬لأ�سباب �شتى �أهمها‬ ‫القناعة التامة باالكتمال املعريف‪ ،‬وبذلك تتحول البولفورية وظرفها �إىل مرجعية واهية تثبت‬ ‫احلق املغت�صب ولكنها ال ت�ستطيع فعل �أي �شيء حياله‪ ،‬لإنه الأ�صل يف وجود امل�س�ألة برمتها‪.‬‬ ‫الأر�ض وال�شعب م�س�ألتان مرتبطتان بوجود املجتمع‪ /‬الأمة‪ ،‬وهي ق�ضية ثقافية مل جتد لها‬ ‫ح ًال على الرغم من كل هذا الكم من الرتاكم املعريف املتجدد للب�شرية‪ ،‬وعليه �سوف يبقى‬ ‫الظرف البولفوري �سارياً‪ ،‬لي�س يف امل�سائل املعلنة كم�س�ألة فل�سطني �أو غريها‪ ،‬بل يف ق�ضية‬ ‫الوجود برمتها‪ ،‬وطرح م�سائل الهوية والهويات كبديل �إلهائي عن م�س�ألة �شخ�صية املجتمع‪/‬‬ ‫الأمة هي ممار�سة بلفورية قادرة على اللعب مب�صري املنطقة ب�أيدي �أبنائها وعلى م�س�ؤوليتهم‬ ‫وح�سابهم‪ ،‬فهم من يرف�ض املعرفة احلداثية القادرة على ت�سيري �أمورهم احلياتية مبا هو مفهوم‬ ‫ووا�ضح ومتفق عليه‪.‬‬

‫‪87‬‬


‫لبنان ‪ -‬بريوت ‪� -‬شارع احلمرا ‪ -‬بناية ر�سامني ‪ -‬ط‬

‫‪3‬‬

‫�ص‪.‬ب‪ 113 - 7179 :‬بريوت ‪ -‬لبنان‬

‫‪tel: 00961 -1 - 751 541‬‬ ‫‪E-mail: info@darabaad.com‬‬

‫ا�سم الكتاب‬

‫عوملتان الفو�ضى واملقاومة‬ ‫الهوية وال�صراع‬ ‫رحيل يف ج�سد‬ ‫ال�صناعة يف طرابل�س‬ ‫التحية االخرية‬ ‫�أحالم املاء‬ ‫ناق�صات عقل و دين‬ ‫التطبيع ي�سري يف دمك‬ ‫اوف الين‬ ‫حي التنك‬ ‫بابل والتوراة‬ ‫ال�سيا�سة تطور املعنى وتنوع املقرتبات‬ ‫حب بطعم القهوة‬ ‫امل�سرح العاري‬ ‫التنمية يف الهالل اخل�صيب‬ ‫ال�سقف‬ ‫‪ 90‬يوما يف ال�سعودية‬ ‫جهاد النكاح‬ ‫مناي‬ ‫يف مواجهة الطائفية‬ ‫لأين مل �أكن‬ ‫مار مارون واملوارنة‬ ‫�شعر الفداء واالنبعاث‬ ‫حرب التحرير القومية‬

‫خيمة غزة‬

‫ال�سرية‬ ‫احلرب على �آ�سيا‬ ‫العوملة وال�سيادة‬ ‫الفي�سبوك وت�شكيل العالقات االجتماعية‬ ‫وال ينتهي اللعب‬ ‫ما مل يكتب عن داع�ش‬ ‫منرب حتوالت‬ ‫قامات �أنثوية‬ ‫الأ�شجار العلفية واال�سرتاتيجية يف بالدنا‬ ‫‪The Oak Tree‬‬

‫مواد للبناء‬ ‫ق�صائد افرتا�ضية‬ ‫كانت ال�ضيعة ب�ألف خري‬ ‫من �أجل غد واعد‬ ‫�أورا�سيا والغرب‬ ‫�أمل بردان‬ ‫فرا�شة التوت‬ ‫درو�س يف العقيدة‬ ‫التوراة تثبت �أن فل�سطني �أر�ض عربية‬ ‫يف �شواطي الريح والغبار‬ ‫امل�سيحية امل�شرقية املعنى والر�سالة‬ ‫وطن مبالمح ع�شق‬ ‫ما مل يقله اهلل‬ ‫حكاية حرب‪�..‬سورية ‪2016 - 2011‬‬

‫ا�سم الكاتب‬

‫الت�صنيف‬

‫فكر �سيا�سي‬ ‫�سركي�س �أبو زيد‬ ‫فكر �سيا�سي‬ ‫زهري فيا�ض‬ ‫�أدب‬ ‫زاهر العري�ضي‬ ‫اقت�صاد‬ ‫منري خملوف‬ ‫مذكرات‬ ‫من�صور عازار‬ ‫�أدب‬ ‫�سوريا بدور الطويلة‬ ‫فكر �سيا�سي‬ ‫يحيى جابر‬ ‫فكر �سيا�سي‬ ‫د‪ .‬عادل �سمارة‬ ‫�شعر‬ ‫زاهر العري�ضي‬ ‫�أدب‬ ‫اكرام الداعوق‬ ‫دين‬ ‫الأب �سهيل قا�شا‬ ‫فكر �سيا�سي‬ ‫�شوكت �أ�شتي‬ ‫�أدب‬ ‫جومانة معالوي‬ ‫�شعر‬ ‫عبيدة االبراهيم‬ ‫اقت�صاد‬ ‫زهري فيا�ض‬ ‫�أدب‬ ‫ريا�ض بيد�س‬ ‫مذكرات‬ ‫�أ�سماء وهبة‬ ‫فكر �سيا�سي‬ ‫د‪.‬عادل �سمارة‬ ‫�شعر‬ ‫فايز غازي‬ ‫فكر‬ ‫�سركي�س �أبو زيد‬ ‫�شعر‬ ‫ن�سرين كمال‬ ‫تاريخ‬ ‫�سركي�س �أبو زيد‬ ‫�أدب‬ ‫زيتوين‬ ‫ل�ؤي ف�ؤاد‬ ‫ّ‬ ‫فكر �سيا�سي‬ ‫انعام رعد‬ ‫رواية‬ ‫ن�ضال حمد‬ ‫مذكرات‬ ‫من�صور عازار‬ ‫فكر �سيا�سي‬ ‫علوان �أمني الدين‬ ‫فكر �سيا�سي‬ ‫علوان �أمني الدين‬ ‫اجتماع‬ ‫وفاء كاظم حطيط‬ ‫رواية‬ ‫اكرام الداعوق‬ ‫�أحمد �صالح عثمان – خليل القا�ضي فكر �سيا�سي‬ ‫فكر �سيا�سي‬ ‫من�صور عازار‬ ‫�أدب‬ ‫لوي�س احلايك‬ ‫علوم‬ ‫ف�ؤاد �سروجي و�أحمد �سرحان‬ ‫‪Fuad Srouji‬‬

‫فهد البا�شا‬ ‫�أمني الذيب‬ ‫غازي اخلوري‬ ‫داود خرياهلل‬ ‫د‪ .‬جمال واكيم‬ ‫ملحم احلايك‬ ‫لونا ق�صري‬ ‫�إنعام رعد‬ ‫دعاء ال�شريف‬ ‫د‪.‬ل�ؤي زيتوين‬ ‫�سركي�س �أبوزيد‬ ‫حممد ماجد �صوان‬ ‫كميل حمادة‬ ‫ثريا عا�صي‬

‫كتب حتت الطبع‬ ‫ يو�سف بك كرم (�سرية بطل) ‪� -‬سركي�س �أبو زيد‬‫ �شارع املتنبي‪� ..‬أعرا�س �شيطانية – يحيى جابر‬‫ التيارات ال�سيا�سية �ضمن الطائفة املارونية يف لبنان من ‪� 1918‬إىل ‪� – 1936‬سايد فرجنيه‬‫ التاريخ ال ينتظر – �سايد فرجنيه‬‫ �ضياع الهوية القومية وامل�شروع النه�ضوي البديل – وليد زيتوين‬‫‪ -‬عندما ت�ستيقظ احلروف – مي�ساء ماجد‬

‫‪Sciences‬‬

‫فكر �سيا�سي‬ ‫�شعر‬ ‫رواية‬ ‫فكر �سيا�سي‬ ‫فكر �سيا�سي‬ ‫�شعر‬ ‫رواية‬ ‫فكر �سيا�سي‬ ‫فكر �سيا�سي‬ ‫رواية‬ ‫فكر �سيا�سي‬ ‫�شعر‬ ‫�شعر‬ ‫فكر �سيا�سي‬


‫ملف العدد "وعد بلفور"‬

‫�سايك�س‪ -‬بيكو‬

‫�سيا�سة التجزئة وفري�ضة احللول يف العامل العربي‬ ‫د‪ .‬ح�سني علي احلاج ح�سن ‪ -‬باحث تاريخي‪� ،‬أ�ستاذ م�ساعد يف اجلامعة اللبنانية‪ -‬الفرع الرابع‬

‫�إن �أحد املفا�صل التاريخية يف العامل العربي املعا�صر‪ ،‬كان فيما �أفرزته الوقائع ال�سيا�سية‬ ‫والتاريخية حول اتفاقية �سايك�س– بيكو على بنية املجتمع العربي والإ�سالمي خالل احلقبة‬ ‫الزمانية املا�ضية‪� ،‬إذ كانت الأ�صابع اليهودية تعمل يف اخلفاء وال�سر‪ ،‬وبخطوات متالحقة يف‬ ‫ظل وجود الدولة العلية العثمانية‪ .‬حيث �سعت لإحداث �شروخ بني �أبناء الأمة العربية‪،‬‬ ‫كمقدمة لتطبيق اتفاقية �سايك�س‪ -‬بيكو على ال�شام‪ ،‬ال�سيما بعد �أن ُفر�ض االنتداب الفرن�سي‬ ‫على �شمالها‪ ،‬فق�سم تلك البالد �إىل كيانني‪� :‬سوريا ولبنان‪ ،‬فيما ُفر�ض االنتداب الربيطاين‬ ‫على جنوبها وق�سمها �إىل كيانني‪ :‬الأردن وفل�سطني‪ .‬يف حني كانت قد �سبقت تلك الفرتة‬ ‫التاريخية التح�ضريات الأولية‪ ،‬التي �أدت �إىل الإقرار بوعد بلفور عام ‪ ، 1917‬الذي يق�ضي‬ ‫ب�إن�شاء وطن قومي لليهود يف فل�سطني‪ ،‬بعدما �أر�سلت هربرت �صموئيل اليهودي ال�صهيوين‬ ‫مندوباً �سامياً �إىل فل�سطني ليح ّولها �إىل "�إ�سرائيل" عام ‪ ،1948‬فيما كانت الأحداث املتالحقة‬ ‫و�صو ًال �إىل عام ‪ ،1967‬تهدف �إىل ب�سط اليهود �أيديهم على الأرا�ضي الفل�سطينية وجوارها‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫يف املقابل‪ ،‬فقد كانت امل�ؤ�شرات التاريخية التفاقية �سايك�س– بيكو‪ ،‬تكمن مبحاربة "�أ�شراف‬ ‫احلجاز" بكل الو�سائل املمكنة‪ ،‬و�ضرب الوحدة الإ�سالمية‪ ،‬يف حماولة لتقطيع �أو�صال الدولة‬ ‫العربية التي �سعى لها ال�شريف ح�سني‪ ،‬من �أجل حتويلها �إىل كيانات م�صطنعة ودول متناحرة‪،‬‬ ‫ما �أدى �إىل الفرقة بني الأنظمة العربية �سيا�سياً و�أيديولوجياً‪ ،‬ف�أ�صبحت فكرة الوحدة العربية‬ ‫غري واقعية وذات جتارب متعرثة‪ ،‬كما هو احلال بالوحدة العربية بني م�صر و�سوريا يف عهد‬ ‫الرئي�س جمال عبد النا�صر خالل القرن املن�صرم‪.‬‬ ‫‪ - 1‬حامد ربيع‪ ،‬قراءة فى فكر علماء اال�سرتاتيجية‪ ،‬م�صر واحلرب القادمة‪ ،‬طبعة دار الوفاء‪ ،1998 ،‬ج‪� ،1‬ص ‪.235‬‬ ‫‪89‬‬


‫ومن املفيد ذكره يف هذا املجال‪� ،‬أن الواقع ال�سيا�سي العربي‪ -‬الإ�سالمي‪ ،‬كان يرتبط بالقوى‬ ‫اال�ستعمارية‪ ،‬حيث جتر�أت القوى الأوروبية على اقتطاع الأجزاء الأ�سا�سية منه‪ ،‬وال�سيما �أن‬ ‫البدايات كانت يف دخول فرن�سا �إىل اجلزائر عام ‪ ،)1(1830‬ومن ثم تون�س واملغرب واقت�سامها‬ ‫مع �إ�سبانيا‪ ،‬بالإ�ضافة لدخول �إيطاليا �إىل ليبيا‪ ،‬وبريطانيا �إىل عدن وعمان وم�صر وال�سودان‬ ‫والكويت‪� ،‬إىل �أن ن�شبت احلرب العاملية الأوىل والتي كان من �أ�سبابها الرئي�سية‪ ،‬تنازع الدول‬ ‫الغربية على اقت�سام تركة الدولة الرتكية‪.‬‬ ‫�إن هذا الواقع ال�سيا�سي‪ ،‬كان قد انتهى �إىل �صدور اتفاقيات متالحقة منها‪� :‬سايك�س‪ -‬بيكو‪،‬‬ ‫و�سان رميو‪ ،‬واتفاقيات باري�س‪ ،‬والتي مت مبوجبها تق�سيم البالد العربية والإ�سالمية �إىل مناطق‬ ‫نفوذ وا�ستعمار بني الدول الأوروبية‪ .‬ف�أدى ذلك التق�سيم لقيام هذه الكيانات والدول‬ ‫املتعددة يف العامل العربي والإ�سالمي‪ ،‬وال�سيما �أن الدول الأوروبية‪ ،‬كانت م�ضطرة �إىل‬ ‫االن�سحاب ع�سكرياً من البالد العربية‪ ،‬حتت �ضغط ثورات ال�شعوب وانتفا�ضاتها التحررية‪،‬‬ ‫فعملت على تكري�س حالة التجزئة‪ ،‬وتثبيت الكيانات القطرية‪ ،‬كما و�شجعت التيارات‬ ‫املتنافرة على ال�صراعات الع�سكرية وال�سيا�سية واالقت�صادية فيما بينها‪ .‬خا�صة يف النزاعات‬ ‫املتعلقة باحلدود ال�سيا�سية الكيانية املر�سومة بني الدول العربية والإ�سالمية‪ ،‬فو�ضعت يف‬ ‫غالبها برتتيب من الدول اال�ستعمارية نف�سها‪ ،‬وب�شكل ي�ستبطن �إثارة النزاع وال�صراع‬ ‫الإقليمي بكل الو�سائل املتاحة‪.‬‬ ‫ومع هذا مل ِ‬ ‫تكتف الدول الأوروبية بهذا الأمر‪ ،‬بل فر�ضت تق�سيم املنطقة العربية‪ ،‬عرب اتفاقية‬ ‫�سايك�س‪ -‬بيكو‪ ،‬وفر�ضت بالتايل جمموعة من َّ‬ ‫احلكام‪ ،‬الذين �أمعنوا بالتن�سيق مع الغربيني‬ ‫يف هدر الرثوات الوطنية‪ ،‬وقهر ال�شعوب العربية و�سلخها عن دينها و�أ�صالتها وتاريخها‪ .‬مبا‬ ‫�أن توقيع اتفاقية �سايك�س‪ -‬بيكو‪ ،‬كانت مرتافقة مع انهيار الدولة العثمانية املتهالكة‪ ،‬من‬ ‫ال�سيطرة الرتكية منذ ‪ 1516‬و�صو ًال لعام ‪ ،1918‬طاملا كانت ال�شعوب املنهكة من ق�ساوة‬ ‫الأتراك تن�شد اخلال�ص ب�أية طريقة متوفرة‪ ،‬فلم حت�صد من جراء ذلك‪� ،‬إ َّال الف�شل ب�سبب‬ ‫‪� - 1‬أ�سعد حومد‪ ،‬املف�صل يف �أحكام الهجرة‪ ،‬ج‪� ،4‬ص ‪.329‬‬ ‫ �أحمد اخلن�ساء‪ ،‬تاريخ العالقات الدولية منذ الثورة الفرن�سية حتى احلرب العاملية الأوىل‪ ،‬الطبعة الأوىل‪،1986 ،‬‬‫�ص‪.182 - 179‬‬ ‫‪90‬‬


‫ملف العدد "وعد بلفور"‬

‫فقدان القيادة الر�شيدة الواعية �صاحبة الب�صرية النافذة‪.‬‬ ‫لقد �أبرمت اتفاقية �سايك�س‪ -‬بيكو �سراً‪ ،‬من �أجل تق�سيم البلدان الإ�سالمية يف ال�شرق‬ ‫الأو�سط‪ ،‬فما كان من ع�صبة الأمم �إال �أن �أناطت الو�صاية على فل�سطني لربيطانيا‪ ،‬التي �سبقت‬ ‫وقدمت وعودها بامل�ساعدة للحركة ال�صهيونية‪ .‬من خالل ا�ستقدام اليهود �إىل فل�سطني‬ ‫وت�شريد �أهلها من ديارهم‪ ،‬فكان العامل العربي‪ -‬الإ�سالمي‪� ،‬أمام مواجهة طويلة مع �أحد‬ ‫طرفيها‪ :‬الغرب وال�صهاينة‪ ،‬يف حني �سعت و�سائل الإعالم واملحافل الر�سمية واملجامع‬ ‫الدولية‪ ،‬ال�ستخدام و�سائل الإعالم العاملية بدمياغوجية اخلطاب ال�سيا�سي للعامل العربي‬ ‫والإ�سالمي‪ ،‬ودعوته �إىل ال�صرب و�ضبط النف�س‪ ،‬واال�شرتاك يف حمادثات ال�سالم املزعومة‪،‬‬ ‫مقابل ذلك عملت الواليات املتحدة الأمريكية بعد ال�ستينيات من القرن املن�صرم‪ ،‬ب�إغداق‬ ‫ال�سالح على الكيان الإ�سرائيلي وم�ساندته يف املحافل الدولية‪ ،‬لتربير ال�سيا�سة ال�صهيونية‬ ‫وتر�سيخها �أمام العامل‪ .‬فالواليات املتحدة الأمريكية‪ ،‬كانت قد ا�ستخدمت �سيا�ستها يف حق‬ ‫النق�ض الفيتو مل�صلحة ت�أييد امل�شاريع ال�صهيوينة يف اال�ستيالء على فل�سطني‪ ،‬منذ احلرب‬ ‫العاملية الثانية و�صو ًال �إىل الأزمة العربية التي ع�صفت باملجتمع العربي منذ مطلع عام ‪.2010‬‬ ‫�إن التفاعل ال�صهيو‪� -‬أمريكي‪ ،‬الذي بد�أ منذ مطلع ال�ستينيات من القرن املن�صرم‪ ،‬بعد انح�سار‬ ‫الدور الفرن�سي ب�ش�أن مفاعل دميونا‪ ،‬من �أجل بناء القدرات النووية والع�سكرية النوعية‪ ،‬كانت‬ ‫تبني عن مدى ا�ستجرار بنود اتفاقية �سايك�س‪ -‬بيكو عام ‪ ،1916‬بعد احلرب العاملية الأوىل‬ ‫وما تالها و�صو ًال �إىل نهاية القرن املن�صرم‪ ،‬وخا�صة �أن ال�شعارات ال�سيا�سية التي �صاحبت‬ ‫تلك الفرتة التاريخية‪ ،‬كانت تدعو �إىل احلماية والو�صاية وحق تقرير امل�صري‪ .‬و�أكرث ما ن�شرته‬ ‫تلك الدول الأوروبية عن العامل العربي‪� ،‬أنه ال ي�ستطيع تقرير م�صريه‪ ،‬فهو ال قدرة لديه يف‬ ‫هذا املجال‪ ،‬وهذه ال�شعوب ‪-‬وفقاً للزعم الغربي‪ -‬قا�صرة عن �إدارة نف�سها‪ ،‬ومل تبلغ �سن‬ ‫الر�شد بعد‪ ،‬ولذا فهي بحاجة �إىل احلماية والدعم من كل الأ�شكال‪.‬‬ ‫�إن الهجمة اال�ستعمارية مزقت ج�سم العامل العربي‪ -‬الإ�سالمي‪ ،‬و�أقامت بينها احلدود‬ ‫امل�صطنعة باتفاقية �سايك�س‪ -‬بيكو‪ ،‬فتحولت الأمة الواحدة �إىل دول متناحرة‪ ،‬لتنفق �أموالها‬ ‫بغية �شراء ال�سالح يف ال�صراع فيما بينها دون �أن ت�ستعد به لعدوها اخلارجي‪ ،‬فتوالت الهزائم‬ ‫يف جميع امليادين وب�صور خمتلفة‪ .‬ومن مفارقات الغزو اال�ستيطاين اليهودي اال�ستعماري‬ ‫‪91‬‬


‫لفل�سطني‪� ،‬أنه �أحاط نف�سه ب�أنظمة ه�شة و�ضعيفة حتميه �أكرث مما ت�شكل عليه خطراً‪ ،‬فيما كان‬ ‫الهدف من قيام الكيان ال�صهيوين لدولته عام ‪ 1948‬بجمع �شتاته من العامل‪.‬‬ ‫�إن ال�صراعات العربية الداخلية كانت قد �أدت �إىل متزيق املنطقة برمتها من خالل عمالئه‬ ‫وم�ؤامراته‪ ،‬التي ت�ستنزف �إمكانات دوله االقت�صادية والب�شرية من خالل ا�ستمرار احلروب‬ ‫املتنقلة واالنقالبات ال�سيا�سية وال�صراعات الع�سكرية‪ ،‬التي كان يدبرها من خالل عمالئه‬ ‫بالوكالة عنه‪ ،‬وهذا ما �أظهرته �سيا�سة الواليات املتحدة الأمريكية ومن قبلها ال�سيا�سة‬ ‫الربيطانية والغرب عموماً‪.‬‬ ‫لقد كانت الأنظمة ال�سيا�سية يف العامل العربي‪ ،‬ترتبط بال�سيا�سة ال�صهيو‪� -‬أمريكية املفرو�ضة‬ ‫على الأمة واجلاثمة على �صدرها من بدايات القرن الع�شرين‪ ،‬حيث ا�ستنزفت ب�سيا�ستها‬ ‫خريات الأمة وطاقاتها‪ ،‬فعملت على تر�سيخ منطقها ال�سيا�سي من خالل فر�ض هيبتها وبناء‬ ‫ال�سجون واملعتقالت و�شن احلروب على اجلريان وبناء الق�صور وتكدي�س الأموال يف امل�صارف‬ ‫العاملية و�إنفاقها على ال�شهوات واملوبقات وبناء الأجهزة الأمنية الكثرية‪.‬‬ ‫امل�ستقبل‪� :‬رصاع وتق�سيم‬

‫يقول امل�ست�شرق اليهودي برنارد لوي�س‪�" :‬إن املنطقة املمتدة من باك�ستان حتى املغرب �ستبقى‬ ‫يف حالة ا�ضطراب �إىل �أن يعاد النظر يف اخلريطة ال�سيا�سية لدولها"(‪ .)1‬لهذا ف�إن التق�سيمات‬ ‫اجلغرافية التي تلت اتفاقية �سايك�س‪ -‬بيكو مرحلة متقدمة يف جتزئة املنطقة العربية كمقدمة‬ ‫البد منها ت�ستهدف الطوائف واالثنيات املتواجدة فيها‪ ،‬مما �شجع على تزكية ال�صراعات‬ ‫املتالحقة فيما بينها خالل الفرتات التاريخية ال�سابقة‪ ،‬وعليه ف�إن اتفاق ّية �سايك�س‪ -‬بيكو‪،‬‬ ‫الدولة العثمان ّية‪ ،‬ويف "هذه االتفاق ّية‬ ‫هي اتفاق ّية القت�سام الأجزاء الكبرية من �أرا�ضي ّ‬ ‫احتفظت فرن�سا لنف�سها مب�ساحة كبرية من �أرا�ضي الأنا�ضول اجلنوب ّية واجلزء ال�شّ مايل من‬ ‫�سوريا ّ‬ ‫الطبيع ّية ولواء املو�صل‪ ،‬واحتفظت بريطانيا لنف�سها بواليتي الب�صرة وبغداد ولواء‬ ‫كركوك‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل اجلزء اجلنوبي من �سوريا ّ‬ ‫الطبيع ّية‪ ،‬ابتداء من غ ّزة والعقبة يف اجلنوب‬ ‫‪�- 1‬أمني �سعيد‪ ،‬الثّورة العرب ّية الكربى‪ ،‬م�صر‪ ،‬مطبعة عي�سى البابي احللبي و�شركاه‪ ،‬د‪.‬ت‪.40 ،2 ،‬انظر �أي�ضاً‪ :‬علي‬ ‫�سلطان‪ ،‬تاريخ �سوريا‪1908 ،‬ـ ‪1918‬م‪� ،‬ص‪.510‬‬ ‫‪92‬‬


‫ملف العدد "وعد بلفور"‬

‫الدولتان على جعل فل�سطني‬ ‫الغربي‪ ،‬على �أن تلتقي بحدود العراق يف و�سط البادية‪ ،‬وا ّتفقت ّ‬ ‫خا�ص"(‪ )1‬على �أن يلي هذه املرحلة‬ ‫با�ستثناء اجلزء املعروف بال ّنقب منطقة تخ�ضع حلكم دو ّيل ّ‬ ‫تق�سيمات �صغرية داخل الكيان القطري يف �سبيل ت�سويغ وجود دولة الكيان الإ�سرائيلي يف‬ ‫العامل العربي‪.‬‬ ‫واجلدير قوله يف هذا ال�سياق‪ ،‬لقد �سبق هذه التق�سيمات جتاذبات عربية‪ -‬تركية يف مطلع‬ ‫الع�شرينيات من القرن املن�صرم‪ ،‬حيث كان الواقع العربي الذي رافق الدولة العثمانية منذ‬ ‫�أواخر القرن التا�سع ع�شر‪ ،‬مت�أرجحاً على نف�سه‪ ،‬وت�سوده التوترات الدائمة و�سيا�سة املراوغة‪،‬‬ ‫خا�صة بعدما اعتلى ال�سلطان عبد احلميد الثاين عر�ش ال�سلطنة �سنة ‪� ،1876‬إذ كانت البالد‬ ‫العربية خا�ضعة حلكم العثمانيني‪ ،‬ما خال بع�ض املناطق من �شبه اجلزيرة العربية‪ ،‬فيما كانت‬ ‫ال�سيطرة على �إفريقيا العربية‪� ،‬أي على م�صر‪ -‬ليبيا‪ -‬تون�س‪ ،‬ا�سمياً ال وزن لها‪ .‬ففي �أواخر‬ ‫العهد احلميدي‪� ،‬سيطرت فرن�سا على تون�س من عام ‪ ،1881‬وبريطانيا على م�صر ‪،1882‬‬ ‫ومع هذا مل تكن العالقات العربية‪ -‬الرتكية زمن عبد احلميد �سيئة‪ ،‬بل �ساءت بت�سلم‬ ‫االحتاديني ال�سلطة عام ‪ ،1909‬فكانت عوامل التباعد بني الأتراك والعرب تزداد ب�سبب‬ ‫�سيا�سة "الترتيك"‪ ،‬ف�أدت ردود الفعل يف العامل العربي �إىل يقظة بهدف احلكم الذاتي‪،‬‬ ‫و�شعور العرب بنزعتهم القومية والتي �أ�س�ست لت�أليف اجلمعيات العربية ال�سرية والعلنية‪،‬‬ ‫وعقد امل�ؤمترات واالت�صاالت مع الإنكليز‪ ،‬حيث �أ�سفرت كل تلك احلركة عن الثورة العربية‬ ‫عام ‪.1916‬‬ ‫لقد بلغ ال�شّ عور القومي ذروته‪ ،‬عندما ق ّرر العرب القيام بثّورتهم على الأتراك ‪ ،1916‬لنيل‬ ‫املوحد‪ ،‬بعدما دفعهم االحتاد ّيون‬ ‫اال�ستقالل ال�سيا�سي وت�شكيل الكيان الوطني‬ ‫والقومي ّ‬ ‫ّ‬ ‫يج�سد طموحاتهم‬ ‫لذلك‪ ،‬و�شعر العرب لأ ّول م ّرة بتاريخهم املعا�صر �أنّ لهم كياناً م�ستقلاّ ً ّ‬ ‫و�إرادتهم الوطنية‪ ،‬ويجمعهم على ذلك االنتماء لقوميتهم العربية‪ � .‬اّإل �أنّ هذه التجربة مل تدم‬ ‫طوي ًال‪ ،‬فقد كانت خيبتهم كبرية عندما ا�ستطاع امل�ستعمرون الأوروب ّيون االنق�ضا�ض على هذا‬ ‫الكيان ال�سيا�سي ومتزيقه‪ ،‬بل واقت�سامه‪ ،‬ال�سيما بعد �إيجاد احلدود امل�صطنعة‪ .‬فيما كان طمع‬ ‫ال�سلطنة العثمان ّية‪ ،‬من �أبرز العوامل ا ّلتي �أ�س�ست للعالقة ال�سيئة بني العرب‬ ‫الأوروبيني يف ّ‬ ‫‪ - 1‬خري ّية قا�سم ّية‪ ،‬احلكومة العرب ّية يف دم�شق‪ ،‬د‪.‬ت‪� ،‬ص ‪.37‬‬ ‫‪93‬‬


‫والأتراك‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل ال�سيا�سة الرتكية التي انتهجتها ال�سلطنة يف العامل العربي‪ ،‬فجاءت‬ ‫النتائج ل�صالح الأوروبيني باال�ستيالء على البالد العرب ّية‪ ،‬من خالل اتفاق ّية �سايك�س‪ -‬بيكو‬ ‫من جهة‪ ،‬ووعد بلفور الذي رافق تلك احلقبة التاريخية من جهة ثانية‪ ،‬والتي �أدت �إىل‬ ‫ال�سيطرة على البالد العربية بت�شجيع العرب على االنف�صال ال�سيا�سي‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫�إن اتفاقية �سايك�س‪ -‬بيكو �أدت وظيفتها الأمنية جتاه �أي خطر تو�سعي م�ستقبلي للعامل‬ ‫العربي‪ ،‬بل جعلت تلك املنطقة رهينة التخلف يف كل املجاالت‪ ،‬وفاقدة لال�ستقالل‬ ‫احلقيقي من �أجل ت�سهيل حكمها من خالل بناء الدولة القطرية بد ًال عن الدولة العربية‬ ‫املوحدة التي جرت عدة حماوالت ب�ش�أنها يف هذا ال�صدد‪ ،‬كتجربة ال�شريف ح�سني‬ ‫خالل فرتة احلكم العربي ‪� ،1920 1918-‬أو من خالل التجربة الثنائية بني م�صر و�سوريا‬ ‫‪ 1961 1958‬يف عهد الرئي�س جمال عبد النا�صر‪ .‬لذا ف�إن تكوين الأحالف ال�سيا�سية يف‬‫العالقات الدولية الأوروبية‪ ،‬كان يهدف �إىل �ضمان �إرادتها وجمتمعها اال�ستيطاين‪ ،‬وذلك‬ ‫من خالل تكوين حلف (عام ‪ )1792‬املقد�س بني ال�صرب والبو�شناق واملجر وبلغاريا‬ ‫ون�صارى �ألبانيا لقتال العثمانيني و�إزالة اخلالفة‪ ،‬وتقطيع �أو�صال العامل الإ�سالمي �إىل‬ ‫دويالت �صغرية‪.‬‬ ‫ومن الوا�ضح �أن القراءة التحليلية لهذا املعطى التاريخي‪ ،‬يبني �إىل �أي مدى كان االن�سجام‬ ‫الفكري والديني الأوروبي الدافع الأ�سا�سي يف تكوين احللف بني تلك القوى ملواجهة ال�صراع‬ ‫ال�سيا�سي‪ -‬الع�سكري‪ ،‬ولهذا ف�إن مثل هذه الأمور‪ ،‬كانت تتوافق مع املبادئ الأ�سا�سية يف‬ ‫التق�سيمات ال�سيا�سية التفاقية �سايك�س‪ -‬بيكو‪ ،‬التي تتجلى خطورتها يف العامل العربي على‬ ‫ال�شكل الآتي‪:‬‬ ‫‪� - 1‬إيجاد ال�شروخ الدائمة يف ا�ستمرار اخلالفات العربية‪ -‬العربية على احلدود امل�صطنعة‪،‬‬ ‫وااللتجاء يف نهاية املطاف �إىل املنظمات الدولية حلل النزاعات‪.‬‬ ‫‪ - 2‬ن�شر امللحقيات الثقافية‪ ،‬التي تقوم مبهمة ر�صد احلركات الثقافية والرتبوية الوطنية من‬ ‫خالل املتابعات امليدانية عرب البعثات املختلفة التي تدخل �إىل العامل العربي بعناوين متعددة‪.‬‬ ‫‪ - 3‬ت�أثري الغرب ال�سيا�سي يف احلركات االنف�صالية على الكيان العربي امل�صطنع‪ ،‬تارة‬ ‫‪94‬‬


‫ملف العدد "وعد بلفور"‬

‫بدافع ن�شر الدميوقراطية‪ ،‬و�أخرى من خالل املناداة باحلقوق وخالفها‪ .‬مع العلم �أن التخلف‬ ‫الذي ي�سيطر على العامل العربي يعود �سببه �إىل الواقع ال�سيا�سي القائم‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل‬ ‫التبعية للغرب ال�سيا�سي‪.‬‬ ‫‪� - 4‬إيجاد الكيان ال�صهيوين يف قلب العامل العربي منعاً من قيام وحدته ال�سيا�سية‪،‬‬ ‫عرب وعد بلفور الذي جاء بعد املرحلة التمهيدية التفاقية �سايك�س‪ -‬بيكو‪ ،‬ليكون قاعدة‬ ‫للم�شروع ال�سيا�سي الغربي التو�سعي‪.‬‬ ‫بنود اتفاقية �سايك�س‪ -‬بيكو‬

‫كانت بنود اتفاقية �سايك�س‪ -‬بيكو‪ ،‬قد ق�سمت �أمالك الدولة العثمانية بني دول ثالث على‬ ‫ال�شكل التايل‪:‬‬ ‫�أ‪�-‬أن يكون لفرن�سا اجلزء الأكرب من �سوريا‪ ،‬وجانب كبري من جنوب الأنا�ضول‪ ،‬ومنطقة‬ ‫املو�صل يف العراق‪.‬‬ ‫ب‪� -‬أن يكون لإنكلرتا البالد الواقعة بني اخلليج واملنطقة الفرن�سية (العراق و�شرق الأردن‬ ‫ثم حيفا وعكا)‪.‬‬ ‫جـ‪� -‬إن�شاء �إدارة دولية يف فل�سطني ب�سبب وجود الأماكن املقد�سة فيها‪.‬‬ ‫د‪ -‬حقوق لرو�سيا يف الأنا�ضول وامل�ضايق‪.‬‬ ‫يف املقابل‪ ،‬يف �سنة ‪ ،1917‬كانت �إنكلرتا قد �أعلنت على ل�سان وزير خارجيتها اللورد بلفور‬ ‫وعداً ب�إن�شاء وطن قومي لل�شعب اليهودي يف فل�سطني‪ ،‬فيما تال ذلك يف عام ‪ ،1920‬مقررات‬ ‫م�ؤمتر �سان رميو مبا يلي‪:‬‬ ‫�أ‪ -‬جعل منطقة �شرقي الأردن من ن�صيب بريطانيا‪ ،‬كجزء من دائرة الو�صاية على فل�سطني‪.‬‬ ‫ب‪ -‬فر�ض االنتداب الفرن�سي على كل من �سوريا ولبنان‪.‬‬ ‫‪95‬‬


‫جـ‪ -‬فر�ض االنتداب الربيطاين على العراق وفل�سطني(‪.)1‬‬ ‫ويف عام ‪ 1918‬وبينما كان ال�شريف ح�سني يتهي�أ للجلو�س على عر�ش �إمرباطوريته‪ ،‬كان اجلرنال‬ ‫اللنبي قائد القوات امل�شرتكة للحلفاء قد دخل القد�س‪ ،‬و�أعلن على ر�ؤو�س الأ�شهاد انتهاء‬ ‫احلروب ال�صليبية‪ .‬وقال‪ :‬مل تنته هذه احلروب يوم �أعاد �صالح الدين القد�س �إىل هويتها‬ ‫الإ�سالمية؛ بل انتهت اليوم عندما �أعادها اللنبي �إىل هويتها ال�صليبية‪ ،‬وفعل مثل فعله اجلرنال‬ ‫غورو الفرن�سي وهو يدخل دم�شق‪ ،‬وقال مثل قوله‪ ،‬وهو يقف على قرب �صالح الدين‪ :‬ها قد عدنا‬ ‫يا �صالح الدين(‪!..)2‬‬ ‫مراحل قيام "�إ�رسائيل"‬

‫�إن التخطيط اليهودي لقيام الكيان ال�سيا�سي‪ ،‬والت�آمر مع املجتمع الدويل بالأ�صالة عن‬ ‫نف�سه وبالوكالة عن غريه‪ ،‬ف�ض ًال عن انق�سام العامل العربي جراء احلركات الثورية املناوئة لها‬ ‫ال�ضالعة بالوالء لل�شرق والغرب‪ .‬كانت قد هي�أت الظروف لل�صهاينة ب�سبب �ضعف العامل‬ ‫العربي وتفرقه وتناحره‪ ،‬ويمُ كن �أن تخت�صر مراحل قيام "�إ�سرائيل" بخم�س مراحل وهي‪:‬‬ ‫‪ - 1‬قيام م�ؤمتر بازال اليهودي يف �سوي�سرا من عام ‪ ،1897‬الذي �أق ّر قيام و�إن�شاء وطن‬ ‫قومي لليهود‪.‬‬ ‫‪ - 2‬وعد وزير اخلارجية الربيطانية بلفور عام ‪ ،1917‬اليهود ب�إن�شاء وطن قومي لهم يف‬ ‫فل�سطني‪.‬‬ ‫‪ - 3‬قرار ع�صبة الأمم عام ‪ ،1922‬بو�ضع فل�سطني حتت االنتداب الربيطاين‪ ،‬ما �أعطى‬ ‫لربيطانيا قدرة بالوفاء بوعدها ب�إن�شاء وطن قومي لليهود يف فل�سطني‪.‬‬ ‫‪ - 4‬م�ؤمتر �سايك�س‪ -‬بيكو وتق�سيم العامل العربي �إىل مناطق ا�ستعمارية للدول الكربى‬ ‫بعد احلرب العاملية‪.‬‬ ‫‪ - 1‬عبد الرحمن ح�سن حبنكة امليداين‪� ،‬أجنحة املكر الثالثة وخوافيها‪ :‬التب�شري‪ ،‬اال�ست�شراق‪ ،‬اال�ستعمار‪ ،‬دار‬ ‫القلم‪ ،‬دم�شق‪ -‬بريوت‪ ،‬الطبعة ‪ 1400 ،2‬هـ‪ ،‬ج‪� ،1‬ص‪.155‬‬ ‫‪ - 2‬حممد حامد النا�صر‪ ،‬بدع االعتقاد و�أخطارها على املجتمعات الإ�سالمية‪ ،‬ج‪ ،2‬د‪.‬ت‪� ،‬ص ‪.216‬‬ ‫‪96‬‬


‫ملف العدد "وعد بلفور"‬

‫‪ - 5‬قيام "دولة �إ�سرائيل" عام ‪.1948‬‬ ‫االرتهان ال�سيا�سي يف العامل العربي‬

‫�إن الآثار التي ترتبت على اتفاقية �سايك�س‪ -‬بيكو‪ ،‬من خالل التجربة ال�سيا�سية ال�سالفة‪،‬‬ ‫كانت قد بينت �أن العامل العربي‪ ،‬كان يعاين من فقدان �صناعة القرار الوطني جراء ال�سيا�سات‬ ‫املتبعة‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل عدم اجلزم يف الق�ضايا الأ�سا�سية وامل�صريية‪ ،‬حيث بقيت فيها امللفات‬ ‫على لوائح االنتظار‪ ،‬ويف موقع االرتهان ال�سيا�سي للواقع الإقليمي والدويل‪ ،‬جراء العديد من‬ ‫الأ�سباب‪ ،‬لي�س �أقلها اال�ستدانة والقرو�ض التي كانت ت�ؤدي �إىل فر�ض ال�سيا�سات الأجنبية‬ ‫مقابل الدين يف الكثري من دول العامل العربي‪.‬‬ ‫ويبدو وا�ضحاً �أن اال�ستقالل ال�سيا�سي يف العامل العربي‪ ،‬كان رهيناً للتجربة ال�سيا�سية‬ ‫واملواجهة املفرت�ضة يف العالقات الدولية‪ ،‬بدءاً من قيام الكيان ال�صهيوين "لدولته"‪ ،‬و�صو ًال‬ ‫�إىل الأزمات الداخلية التي �شهدتها املنطقة العربية‪ ،‬منذ خم�سينيات القرن املن�صرم‪ ،‬كحاالت‬ ‫ارتدادية لأحداث تاريخية متاهت فيها الدول العربية باال�ستقالل ال�سيا�سي‪� .‬إال �أن هذه‬ ‫الأوطان‪ ،‬كانت يف الظاهر تنادي باال�ستقالل �أمام �أتباعها ويف حميطها الإقليمي‪ ،‬بينما كانت‬ ‫يف حقيقتها تخ�ضع للوالء ال�سيا�سي اخلارجي‪ ،‬وترتبط مبعاهدات �سرية يف �شتى املجاالت‬ ‫ال�سيا�سية واالقت�صادية والثقافية والأمنية‪ .‬ما يعني �أن هذه الدول كانت ترتهن للقوى‬ ‫التي ا�ستعمرتها ردحاً زمنياً‪ .‬وعليه؛ ف�إذا كانت اتفاقية �سايك�س‪ -‬بيكو قد جرت بني فرن�سا‬ ‫وبريطانيا‪ ،‬ف�إن الت�أثري ال�سيا�سي لذلك‪ ،‬كان قد دخل يف بنية احلكم و�شكل النظام ال�سيا�سي‬ ‫يف العامل العربي‪ ،‬ون�سخاً للتجارب الأوروبية يف �سن الد�ساتري التي حتاكي د�ساتريه(‪ .)1‬فيما‬ ‫حاول العامل العربي يف �سيا�سته التم�سك مببد�أ ويل�سون‪ ،‬الذي ركز فيه الرئي�س الأمريكي‬ ‫على مبد�أ االهتمام ب�صورة �أكرب مب�ستقبل ال�سلم والأمن يف ال�شرق الأو�سط‪ ،‬وكان هذا املبد�أ‬ ‫ين�ص على علنية االتفاقيات ال�سيا�سية ك�أ�سا�س مل�شروعيتها الدولية‪ .‬مبعنى �آخر �شكل مبد�أ‬ ‫ويل�سون‪� ،‬إدانة �صريحة التفاقية �سايك�س‪ -‬بيكو‪ ،‬التي �سبقت �إعالنه ب�سنتني‪ ،‬ومل يكن‬ ‫�إال حلقة متقدمة يف العالقات الدولية‪ ،‬مبواجهة القوى اال�ستعمارية املتمثلة �آنذاك بفرن�سا‬ ‫‪ -1‬موسوعة الرد على املذاهب‪ ،‬أوهام االستقالل‪ ،‬ج‪ ،29‬ص ‪.129‬‬ ‫‪97‬‬


‫وبريطانيا‪ ،‬بغية التمهيد خلروج �أمريكا من عزلتها ال�سيا�سية‪ .‬فكان للمبد�أ امل�شار �إليه ممار�سات‬ ‫دبلوما�سية‪ ،‬حيث دعا فيها الرئي�س الأمريكي يف بع�ض بنوده �إىل منح القوميات لل�شعوب‬ ‫التي كانت تخ�ضع ل�سلطة الدولة العثمانية‪ ،‬مع �إعطاء كل ال�ضمانات التي ت�ؤكد حقها يف‬ ‫الأمن والتقدم واال�ستقالل وحقها يف تقرير م�صريها(‪ .)1‬يف حني كان اليهود الذين ا�ستوطنوا‬ ‫فل�سطني �آنذاك خارج حدودها وال ي�شكلون قومية خا�صة بهم‪ ،‬فيما كان ال�شعب الفل�سطيني‬ ‫يرزح كغريه من ال�شعوب العربية حتت نري الأتراك ومن ثم �أخ�ضع الحقاً كغريه لتق�سيمات‬ ‫�سايك�س‪ -‬بيكو واالنتدابات الأوروبية‪.‬‬ ‫االنق�سامات ال�سيا�سية العربية‬

‫كانت النتائج التي �آلت �إليها الوقائع ال�سيا�سية‪ ،‬جراء انهزام تركيا يف احلرب العاملية الأوىل‪،‬‬ ‫وما ترتب عليه احلال بعد جتزئة العامل العربي وفقاً لتق�سيمات �سايك�س‪ -‬بيكو‪ ،‬انق�سامات‬ ‫�سيا�سية متعددة يف الرتكة العثمانية‪ ،‬ما جعل الأمة الإ�سالمية‪ ،‬تنق�سم �إىل �أمتني؛ واحدة‬ ‫عربية والثانية تركية‪ ،‬ف�ض ًال عن تعدد يف القوميات التي دخلت يف نطاقها ال�سيا�سي‪ ،‬خا�صة‬ ‫بعدما مهدت لذلك دولة االحتاد والرتقي يف عام ‪ 1908‬من اجلهة الرتكية‪ ،‬وما جنم من وقائع‬ ‫ميدانية للثورة العربية الكربى عام ‪ 1916‬من اجلهة العربية‪.‬‬ ‫جتمع ما كان‬ ‫�إ�ضافة �إىل ما �سبق ذكره‪ ،‬ف�إن الواقع التاريخي يبني �أن الثورة العربية مل ت�ستطع �أن ّ‬ ‫متفرقاً‪ ،‬فاندفع دعاة القومية لرت�سيخ مفهوم القطرية‪ ،‬باالعتماد على عن�صري اللغة والتاريخ‪،‬‬ ‫وا�ستبعاد الدين من جمتمع تكوين الأمة‪ ،‬مع العلم �أن فهم العامل العربي والإ�سالمي‪ ،‬كان‬ ‫يقت�ضي الإملام بالدين الإ�سالمي‪ ،‬لأن الإ�سالم دخل يف كل التفا�صيل احلياتية والفكرية‬ ‫واالجتماعية واالقت�صادية وال�سيا�سية‪ ،‬التي عك�ست الر�أي الديني جتاه التق�سيم ال�سيا�سي‬ ‫واال�ستيالء على مقدرات امل�سلمني فيما بني فرن�سا وبريطانيا‪ ،‬فيما كانت جمعية االحتاد‬ ‫والرتقي قد م ّهدت للحكم‪ ،‬بخطوات �سيا�سية من �أجل تغيري واقع الدولة العلية العثمانية‪،‬‬ ‫‪ - 1‬انظر يف جلنة كينغ – كراين اليت شكلت للبحث يف حق الشعوب بتقرير مصريها‪ ،‬فجالت تلك اللجنة يف فلسطني‬ ‫ولبنان وسوراي يف عملية استمزاج اآلراء حول الواقع السياسي الذي كانت تعيشه واملرجتى الذي تتوخاه ابلوصول إليه بعد‬ ‫هناية احلرب العاملية األوىل‪.‬‬ ‫‪98‬‬


‫ملف العدد "وعد بلفور"‬

‫ال�سيما بعد جتربتها يف تركيا‪� ،‬إذ ميكن تلخي�ص �أهم خطواتها مبا يلي‪:‬‬ ‫‪ - 1‬تق�سيم العامل الإ�سالمي اخلا�ضع للدولة العثمانية بني احللفاء‪ ،‬وفقاً التفاقية �سايك�س‪-‬‬ ‫بيكو‪.‬‬ ‫‪ - 2‬املوافقة على وعد بلفور الذي �أ�صدرته بريطانيا بتاريخ ‪ ،1917 /11 /2‬القا�ضي ب�أن تكون‬ ‫فل�سطني وطناً قومياً لليهود‪.‬‬ ‫‪ - 3‬تغريب تركيا وحتويلها لدولة علمانية بعد �سقوط نظام اخلالفة على يد م�صطفى كمال‬ ‫�أتاتورك‪.‬‬ ‫مقابل ذلك ف�إن التق�سيمات ال�سيا�سية‪ ،‬كانت تكمن يف الت�أ�سي�س الثقايف امل�ستقل لكل قطر‬ ‫عربي مبعزل عن غريه‪ ،‬ما �شجع على احلركات االنف�صالية‪ ،‬وعدم الدعوة للوحدة ال�سيا�سية‪،‬‬ ‫بل اعتبارها خيا ًال ووهماً‪ ،‬وال تتقاطع مع الوحدة الثقافية القطرية‪� ،‬إال باالنتماء الديني الذي‬ ‫عرفته املجتمعات على مدار تاريخها ال�سابق‪.‬‬ ‫الفدرالية(‪ )1‬والفدراليات العربية‬

‫لرمبا كانت الفدرالية حتاكي ال�شعور الأثني والطائفي واملذهبي معاً‪ ،‬خا�صة فيما عك�سته‬ ‫الأزمات العربية املرتاكمة خالل التاريخ املعا�صر‪� ،‬إذ كان من ال�ضروري البحث عن خمارج‬ ‫لها‪ ،‬وفقاً لنظرتها القا�ضية بتق�سيم وجتزئة الدول التي تعي�ش يف كنفها‪ ،‬يف حماولة لفدرلة‬ ‫احلكم ب�أ�شكال خمتلفة‪ ،‬مغايرة للبناء الوطني الدميوقراطي‪ ،‬نحو الدويالت املذهبية واحلكم‬ ‫الذاتي‪ ،‬وقد ظهر �أثر ذلك ب�شكل جلي‪ ،‬يف الأحداث ال�سيا�سية والأمنية يف لبنان و�سوريا‬ ‫والعراق‪ .‬وال�سيما �أن طرح م�شروع الفيدرالية يف العراق‪ ،‬كان قد �أدى �إىل حروب �أهلية‪،‬‬ ‫تتالقى فيها مع اتفاقية �سايك�س‪ -‬بيكو‪ ،‬التي مزقت العامل العربي لقوميات متنافرة‪ ،‬خم�ضعة‬ ‫�إياها ملواالة وتبعية �سيا�سية خارجية‪ ،‬فعانى املجتمع العربي يف غالبيته من الوعي ال�سيا�سي‬ ‫بني �أفراده‪ ،‬فيما خ�ضع العامل العربي الختباراته يف معرفة �أثر الرتبية القومية على املجتمع‬ ‫ب�شكل عام‪ ،‬وعلى وجه اخل�صو�ص املجتمع ال�سوري خالل �أزمته ال�سيا�سية ما بعد عام‬ ‫‪- 1‬ريتشارد بوسنر‪ ،‬احملاكم الفدرالية‪،‬مطبعة جامعة هارفارد‪ ،‬بوسطن‪،1985 ،‬ج‪ ،12‬ص ‪.9‬‬ ‫‪99‬‬


‫‪ ،2010‬وعما �إذا كان قد ا�ستطاع املجتمع ال�سوري �أن يج�سد �إرادته الوطنية وحده مبعزل‬ ‫عن املحيط العربي‪ -‬الإ�سالمي؟‪ .‬وهل كان الوعي الوطني مب�ستوى التحديات التي �شهدتها‬ ‫�سوريا؟‪ .‬ولرمبا كانت ال�شواهد التاريخية تفرت�ض و�ضوح الر�ؤية للإجابة بكل �صراحة عن‬ ‫التجارب ال�سيا�سية العربية‪.‬‬ ‫�إن معاجلة الواقع يف العامل العربي‪ ،‬كان قد حدد امل�شكلة التي تعر�ض لها‪ ،‬والتي تنح�صر يف‬ ‫الأ�س�س الثالثة التالية‪:‬‬ ‫‪1‬ـ مفهوم الدميقراطية يف الأقطار العربية‪.‬‬ ‫‪2‬ـ بيان حول مفهوم الفدرالية والأنظمة ال�سيا�سية‪.‬‬ ‫‪� .3‬إلغاء �سيا�سة التمييز الطائفي‪.‬‬ ‫وهذه الأمور كانت �إحدى �إ�شكاالت العامل العربي‪ ،‬ما جعله غري قادر على بناء الوحدة‬ ‫الوطنية لعدة �أ�سباب منها‪:‬‬ ‫ حلم الأكراد بقيام دولتهم على �أجزاء من الأرا�ضي ال�سورية والعراقية والإيرانية‬‫والرتكية‪.‬‬ ‫ حماولة فدرلة النظام ال�سيا�سي العربي بعد االنق�سامات الداخلية جراء االرتباطات‬‫باملحاور الإقليمية والدولية‪.‬‬ ‫ انت�شار النفوذ الطائفي يف العراق و�سوريا ما بعد عام ‪.2010‬‬‫ اعتبار احلكم الذاتي الفل�سطيني يف قطاع غزة وال�ضفة الغربية منوذجاً م�ستحدثاً يف العامل‬‫العربي‪ ،‬والذي هو دون م�ستوى الدولة‪ ،‬وي�شكل �ضابطة �أمنية للمجتمع الفل�سطيني يف‬ ‫مناطق نفوذه ال�سيا�سي واالجتماعي‪.‬‬ ‫ انق�سام العامل العربي جتاه الق�ضايا الأ�سا�سية يف �أولوية ال�صراع ال�سيا�سي والع�سكري‬‫والأمني‪ ،‬خا�صة ما بعد عام ‪ 2016‬جراء الأحداث التي �شهدتها ليبيا و�سوريا والعراق‪،‬‬ ‫ما جعل الآراء العربية متباينة حول الق�ضية الفل�سطينية والواقع الذي �آلت �إليه الوقائع‬ ‫‪100‬‬


‫ملف العدد "وعد بلفور"‬

‫الأمنية بني العامل العربي والكيان ال�صهيوين‪.‬‬ ‫اجلغرافيا ال�سيا�سية يف العامل العربي‬

‫�إ�ضافة �إىل ما �سبق الإ�شارة �إليه‪ ،‬فقد كانت الوقائع التاريخية‪ ،‬تظهر مدى التجاهل الأوروبي‬ ‫يف حتليله للجغرافية ال�سيا�سية العربية‪ ،‬وعدم اهتمامه باحلدود امل�شرتكة فيما بني العراق‬ ‫وال�شام من جهة‪ ،‬وال بينهما معاً وبني تركيا من جهة �أخرى‪ ،‬فربزت امل�شكلة احلدودية بني‬ ‫دول امل�شرق العربي جميعها؛ بعد اتفاقية �سايك�س‪ -‬بيكو عام ‪ ،1916‬يف حني اعتربت‬ ‫النظرة الأوروبية �أن هذه املنطقة‪ ،‬م�شرعة الأبواب على م�صاريعها‪ ،‬وال�سيما �أنها كانت عر�ضة‬ ‫لالحتالالت والغزوات الع�سكرية من جهاتها الأربع‪ ،‬وكانت �سيا�ساتها متنافرة االجتاهات‪ ،‬ما‬ ‫جعلها جما ًال وا�سعاً ومرتقباً لل�صراعات امل�ستقبلية‪ ،‬حول الكثري من الق�ضايا ال�شائكة والعالقة‬ ‫بني الكيانات ال�سيا�سية‪ ،‬لي�س �أقلها ب�سبب امل�س�ألة احلدودية(‪ )1‬واحلاجة �إىل املياه‪.‬‬ ‫مل يكن الت�صور ال�سيا�سي للمنطقة العربية وا�ضحاً �أمام جمتمعاتها‪ ،‬رغم الت�أثريات الدينية‬ ‫القائمة على �أ�سا�س االعتقاد بالديانة الإ�سالمية‪ ،‬ولهذا كثرياً ما كانت ال�سلطة العربية ت�سري‬ ‫على هدي الدول الغربية يف غياب �شبه كامل للق�ضية الفل�سطينية‪ ،‬رغم التجارب الع�سكرية‬ ‫املمتدة ما بني ‪ 1956‬و‪ 1967‬و‪ 1973‬و‪ 1982‬و‪ 1996‬و‪ 2000‬و‪ ،2006‬و‪ ،2008‬وما جنم‬ ‫من �أحداث متالحقة تناولت ال�ش�أن ال�سيا�سي والأمني‪ .‬فيما �شكلت امل�س�ألة الفل�سطينة‬ ‫اختباراً للعامل العربي‪ ،‬وخا�صة منه دول جمل�س التعاون اخلليجي‪ .‬فكانت �أبرز املحطات‬ ‫التي �شهدتها املنطقة العربية‪ ،‬احلرب الأهلية اللبنانية عام ‪ ،1975‬والتي �شكلت حلقة يف‬ ‫هذا املجال‪ ،‬جراء تربير الفعل ال�سيا�سي يف طرح �أمن املجتمعات الطائفية التي ان�سحبت‬ ‫الحقاً على العامل العربي‪ ،‬كما هو حال الغيتو ال�صهيوين ما قبل قيام دولة الكيان على �أر�ض‬ ‫فل�سطني‪ ،‬بحيث �أ�صبحت هذه التجربة ال�سيا�سية معتمدة يف ال�شرق الأو�سط‪ ،‬والتي كان‬ ‫يراد منها ت�شكيل الكانتونات ال�سيا�سية يف ظل غياب �شبه كامل جلامعة الدول العربية عن‬ ‫دورها الإقليمي‪ ،‬ليحل حملها طرح البديل واملرتقب‪ ،‬يف قيام جامعة دول ال�شرق الأو�سط‬ ‫التي جتمع العامل العربي بدوله الطائفية‪ -‬الكانتونية و�إىل جانبه "�إ�سرائيل"‪.‬‬ ‫‪ - 1‬املشكلة احلدودية بني السعودية واليمن‪ ،‬واحلدود فيما بني لبنان وفلسطني وسوراي مبا له عالقة يف ترسيمها ومزارع شبعا‪.‬‬ ‫‪101‬‬


‫�إن ت�أثر العامل العربي بالتجربة القومية واالقت�صادية‪ ،‬كان مرتبطاً مع الغرب ال�سيا�سي الذي‬ ‫بقي معزو ًال عن الق�ضايا النف�سية والتاريخية‪ ،‬التي توجه ال�شعوب العربية يف الأقطار املتعددة‪،‬‬ ‫وكانت �إحدى هذه الق�ضايا تكمن يف ت�شويه العقائد واملبادئ الدينية الإ�سالمية من قبل‬ ‫الأنظمة ال�سيا�سية املرتهنة بقرارها الوطني‪ ،‬ونظرتها الت�سويغية التفاقية �سايك�س‪ -‬بيكو‪ .‬فيما‬ ‫كان اال�ستعمار ال�سيا�سي قد عمد �إىل تكري�س اخلالفات العربية فيما بينها‪ ،‬ففر�ض نف�سه‬ ‫حكماً يف �صراعاتها‪ ،‬ما دفع العامل العربي رغم قدراته االقت�صادية‪ ،‬لأن يت�سول القرو�ض من‬ ‫الغرب تارة بهدف التنمية و�أخرى ل�شراء الأ�سلحة‪ .‬وال�سيما �أن تق�سيم العامل العربي �إىل‬ ‫دويالت متنافرة‪ ،‬وقيام الدولة القطرية‪ ،‬وفقاً التفاقية �سايك�س‪ -‬بيكو‪ ،‬كانت تتجلى يف تكوين‬ ‫�إرادة جمتز�أة‪ ،‬حيث تبدت خطورتها بتغييب الذات‪ ،‬وبا�ستهداف هوية الأمتني العربية‬ ‫والإ�سالمية‪ ،‬ف�ض ًال عن �شرعية وجودها العقدي وال�سيا�سي واحل�ضاري بالتهديد والإلغاء‪.‬‬ ‫فكانت �أحد االختبارات التي تعر�ض لها العامل العربي‪ ،‬بعد �شياع القوميات ال�سيا�سية‬ ‫يف بدايات القرن املن�صرم‪ ،‬تكمن يف جتفيف ينابيع الأمة العقدية وال�سيا�سية واحل�ضارية من‬ ‫م�ضامينها التحررية‪ ،‬خا�صة بعد احلكم الرتكي الذي ا�ستمر جاثماً على العامل العربي با�سم‬ ‫الإ�سالم منذ عام ‪ 1516‬حتى احلرب العاملية الأوىل‪.‬‬ ‫كانت �شعوب العامل العربي والإ�سالمي‪ ،‬تواقة �إىل احلرية واال�ستقالل ال�سيا�سي‪� ،‬إال‬ ‫�أن ال�صراع الداخلي كان قد �ساهم يف �إ�ضعاف البنية االجتماعية ال�سيا�سية‪ ،‬جراء تعدد‬ ‫املرجعيات ال�سيا�سية‪ ،‬واحلدود امل�صطنعة‪ ،‬وتبعية امللحقات الثقافية‪ ،‬التي كانت قد �أدت‬ ‫�إىل درا�سة املجتمع العربي وجذوره‪ ،‬فزرعت ال�شكوك العقدية وال�سيا�سة‪ ،‬حيث �أدت‬ ‫�إىل احلركات االنف�صالية‪ ،‬كمقدمة لوجود الكيان ال�صهيوين داخل العامل العربي‪ ،‬ووفقاً‬ ‫التفاقية �سايك�س‪ -‬بيكو بالأ�صالة عن نف�سه وبالوكالة عن غريه كقاعدة تو�سعية‪ .‬فاالحتالل‬ ‫ال�صهيوين لفل�سطني من خالل التربير الديني ون�شر مزاعمه وفكره ومقولته بـ"�شعب اهلل‬ ‫املختار"‪ ،‬كانت قد ارتكزت على �أ�سا�سني‪:‬‬ ‫‪ - 1‬اغت�صاب الأر�ض الفل�سطينية وجوارها كمقدمة لبناء �إمرباطورية داوود بالقوة‪ ،‬وفقاً‬ ‫ال�سرتاتيجيات مرحلية يف حتقيق �أهدافها‪.‬‬ ‫‪ - 2‬الق�ضاء على �أ�صحاب الأر�ض بالقتل والتهجري‪.‬‬ ‫‪102‬‬


‫ملف العدد "وعد بلفور"‬

‫من هنا‪ ،‬ميكن متابعة الوقائع والأحداث التي عا�شها العامل العربي ما بعد الثورة العربية‬ ‫‪ ،1916‬والتي كانت قد �شهدت خالل ال�سنة اجلارية نف�سها معاهدة �سايك�س‪ -‬بيكو‪،‬‬ ‫القت�سام البلدان العربية‪ ،‬وترقية م�صطفى كمال �أتاتورك �إىل رتبة لواء‪ ،‬ومنحه لقب البا�شوية‪.‬‬ ‫فيما قامت بريطانيا عام ‪ 1917‬باحتالل بغداد والقد�س‪ ،‬حيث ترافق ذلك مع وعد بلفور‪،‬‬ ‫ب�إن�شاء وطن قومي لليهود على �أر�ض فل�سطني‪ .‬مقابل ذلك كان احلكم العربي قد بد�أ منذ‬ ‫عام ‪ 1918‬بدخول لوران�س �إىل دم�شق مع في�صل بن احل�سني‪ ،‬بعد اندثار اخلالفة العثمانية‬ ‫من كل البلدان العربية‪ ،‬والتي ا�ستمرت حتى عام ‪ ،1920‬حيث �أبعدت فرن�سا في�صل عن‬ ‫�سوريا ولبنان وانتدبتهما‪ ،‬فيما انتدبت بريطانيا فل�سطني و�شرق الأردن والعراق‪.‬‬ ‫اال�سرتاتيجيات ال�سيا�سية التفاقية �سايك�س‪ -‬بيكو‬

‫بات من املعلوم �أن العامل العربي‪ ،‬خالل الفرتة التي عقبت اتفاقية �سايك�س‪ -‬بيكو‪ ،‬كان‬ ‫قد وقع حتت ت�أثري العائدات البرتولية‪ ،‬التي وظفت خارج �إطار ال�صراع العربي‪ -‬الإ�سرائيلي‪،‬‬ ‫ف�ض ًال عن ت�أثريات �أخرى ال تقل �أهمية عما ذكرنا‪ ،‬وذلك عرب ن�شر الفكر الديني امل�ستورد‬ ‫من خالل املعاهد الإ�سالمية الأوروبية‪ ،‬بهدف ت�سويغ الدين وفقاً لإرادتها ال�سيا�سية‪ ،‬وذلك‬ ‫عرب �إخماد جذوة املقاومة يف البناء الوطني امل�ستقل‪.‬‬ ‫لقد �شهد العامل العربي بعد اتفاقية �سايك�س‪ -‬بيكو‪ ،‬حماوالت يف تر�سيخ املنطق ال�سيا�سي‬ ‫الأوروبي على املنطقة العربية‪ ،‬بالرغم من املعوقات االجتماعية وال�سيا�سية‪ ،‬جراء فقدان‬ ‫الكيان ال�صهيوين ل�شرعيته الوجودية يف العامل العربي‪ ،‬واعتباره ا�ستعماراً حديثاً‪ .‬وتظهر‬ ‫هذه امل�س�ألة يف الإخفاقات التي رافقت العامل العربي خالل تلك املرحلة التاريخية‪� ،‬إذ‬ ‫مل تتفاعل ال�شعوب العربية مع "التطبيع"‪ ،‬رغم حماوالت الأنظمة العربية التي خا�ضت‬ ‫هذه التجربة يف هذا ال�ش�أن‪ ،‬ف�ض ًال من �أن تربيرات بع�ض الأنظمة لواقعها ال�سيا�سي يف بناء‬ ‫اال�سرتاتيجية بهدف مواجهة الكيان ال�صهيوين‪ .‬فقد كان الواقع التاريخي يبني عن عدم‬ ‫وجود القدرات الع�سكرية والآليات ال�سيا�سية الفاعلة التي تعنى ب�ش�أن املواجهة‪ ،‬فيما برر‬ ‫بع�ضها الآخر �إخفاقه ال�سيا�سي وجتربته يف احلكم‪ ،‬يف �ش�ؤون التنمية على كل امل�ستويات‪،‬‬ ‫بحجة ال�ضرورات ملواجهة "�إ�سرائيل"‪ .‬فالتعبري عن اخلطاب ال�سيا�سي واللهجة اال�ستقاللية‪،‬‬ ‫‪103‬‬


‫كان ي�شتد يف �أوقات حمددة‪ ،‬وعند املفا�صل التاريخية التي تخ�ص تلك الأنظمة وحدها‪،‬‬ ‫حيث كانت املجتمعات العربية تن�أى عن مراقبتها ال�سيا�سية حلكوماتها �أو للقيام بامل�س�ؤوليات‬ ‫الوطنية الداخلية‪.‬‬ ‫مقابل هذه الوقائع التاريخية‪ ،‬ظهر تنافر الفكر احلزبي يف العامل العربي‪ ،‬جراء تباين‬ ‫الأيديولوجيات ال�سيا�سية والأهداف التي قامت لأجلها‪ ،‬وال�سيما �أنها خ�ضعت الختبارات‬ ‫الأنظمة العربية التاريخية‪ ،‬التي مرت مبحاولة "التطبيع" بعد معاهدة كامب دافيد مع م�صر‪،‬‬ ‫وجتزئة العامل العربي‪ .‬وهذا ما �أدى الحقاً �إىل الفرز االجتماعي والطائفي واملذهبي داخل‬ ‫الكيانات ال�سيا�سية العربية‪ ،‬كعملية متهيدية للفدراليات غري املعلنة‪ .‬فيما كانت املعاناة التي‬ ‫�شهدتها الق�ضية الفل�سطينية ت�أتي �أي�ضاً من املنظمات الدولية‪ ،‬فحق االعرتا�ض �أو الفيتو‬ ‫داخل جمل�س الأمن‪ ،‬كان قد �أثار �إرباكاً كبرياً للم�س�ألة الفل�سطينية‪ ،‬ب�سبب ا�ستخدامه‬ ‫مل�صلحة "�إ�سرائيل"‪ ،‬ما ق ّيد من فاعليته ال�سيا�سية يف العامل العربي‪ ،‬يف ظل غياب �شبه‬ ‫كامل جلامعة الدول العربية‪ ،‬و�أهدافها التي تكمن باملحافظة على ا�ستقالل الدول الأع�ضاء‪،‬‬ ‫و�صيانة الأمن العربي(‪.)1‬‬ ‫اخللق الهجني‬

‫�شكلت ال�سيا�سة الأمريكية يف العامل العربي ا�سرتاتيجية نافذة للمناداة باحلرية‪ ،‬حيث بد�أت‬ ‫تلقى قبو ًال يف �أو�ساط الأطل�سي‪ ،‬وتتمدد مظلتها الع�سكرية نحو اجلنوب لت�شمل كامل‬ ‫املنطقة العربية من املغرب وحتى البحرين(‪ .)2‬فكانت حموراً معتمداً لل�سيا�سات الأمريكية‬ ‫جتاه ال�شرق الأو�سط والإ�سالم‪ ،‬من خالل بناء اال�سرتاتيجيات التي اعتمدتها يف عملها‬ ‫‪ - 1‬راجع أهداف جامعة الدول العربية الداعية إىل‪:‬‬ ‫ احملافظة على استقالل الدول األعضاء‬‫ صيانة األمن العريب وعدم اللجوء إىل القوة لفض املنازعات وحيق جمللس اجلامعة التوسط لفض اخلالفات‬‫ حتقيق التعاون بني الدول العربية يف شىت اجملاالت (االقتصادية‪ ،‬السياسية‪ ،‬االجتماعية‪ ،‬الثقافية‪)...‬‬‫ العمل على حتقيق مزيد من الوحدة واالنصهار بني الدول العربية‬‫ إقامة عالقات وطيدة مع دول العامل واملنظمات الدولية‪.‬‬‫‪ - 2‬ذكر وزير الدفاع األمريكي رامسفيلد هذه االسرتاتيجية يف العديد من التصرحيات التلفزيونية‪.‬‬ ‫‪104‬‬


‫ملف العدد "وعد بلفور"‬

‫ال�سيا�سي والع�سكري لتلك املنطقة‪.‬‬ ‫ويف هذا ال�صدد ن�شرت �صحيفة النيويورك تاميز الإ�سرتاتيجية التي كانت معتمدة يف عهد‬ ‫الرئي�س جورج دبليو‪ ،‬والتي متاهت مع ر�أي ناتان �شاران�سكي(‪ )1‬يف ال�سيا�سة اخلارجية‪،‬‬ ‫التي �أعجب بها الرئي�س الأمريكي جورج بو�ش‪ ،‬حيث �شرح فيها �شاران�سكي نظريته حول‬ ‫"الفو�ضى اخلالقة" التي دعا فيها �أمريكا �إىل ا�ستخدام "الطائفية" يف العامل العربي كو�سيلة‬ ‫للق�ضاء على "حماور ال�شر" وفقاً لزعمه من �أجل حتقيق الدميقراطية‪� .‬إذ �إن �شاران�سكي مل‬ ‫يخف ر�ؤيته ال�صدام ّية والعن�صرية؛ فهو كان يعترب �أن الإ�سالم يهدد "�إ�سرائيل" والعامل‬ ‫الغربي ب�أكمله‪ ،‬لذا مل يتوان عن فكرة ا�ستئ�صال احلركات الإ�سالمية احلزبية وال�سيا�سية‬ ‫من العامل بعد �أن نعتها بالإرهاب‪ ،‬معترباً �أن ذلك ال يتم �إال با�ستخدام القوة الع�سكرية من‬ ‫�أجل جتفيف املنابع التي ت�ستفيد منها هذه احلركات‪ .‬ولهذا ف�إن النظرة الغربية‪ -‬الأمريكية‪،‬‬ ‫كانت تعترب �أن معاجلة الأ�سباب املرتبطة مبفهوم الإرهاب‪ ،‬م�صدرها �سيا�سات الأنظمة العربية‬ ‫اال�ستبدادية الفا�سدة‪ ،‬وبالتايل ف�إن مقولة �شاران�سكي تتوافق مع ما طرحه هانتنغتون‪ ،‬من �أن‬ ‫الإ�سالم عدو ح�ضاري للغرب‪.‬‬ ‫ومن الوا�ضح �أن املواجهة للإ�سالم كانت هي اخلطوة ال�سيا�سية املرتقبة‪ ،‬وهي احلرب العاملية‪،‬‬ ‫التي ت�ؤكد �أن هدف الواليات املتحدة الأمريكية‪ ،‬االنت�صار يف احلرب على الإ�سالم الأ�صويل‬ ‫من خالل زرع الفو�ضى الطائفية داخل املجتمع العربي(‪ .)2‬مبعنى �أن هذه التطلعات تهدف‬ ‫�إىل ت�شكيل املنطقة �سيا�سياً وجغرافياً بـ"م�شروع ال�شرق الأو�سط اجلديد"‪ ،‬عرب القوى امل�ؤثرة‬ ‫يف املنطقة العربية‪ ،‬ووفقاً لتجزئة جديدة يف تق�سيمات اتفاقية �سايك�س‪ -‬بيكو‪ ،‬التي تهدف‬ ‫�إىل هيمنة القوى العظمى اخلارجية على ال�سيا�سات واالقت�صاديات والرثوات العربية‪.‬‬ ‫لقد ا�ستمر ال�صراع بني فرن�سا وبريطانيا حول مناطق النفوذ‪ ،‬حتى اتفقتا يف معاهدة �سايك�س‪-‬‬ ‫‪- 1‬انظر يف كتاب (قضية الدميقراطية) لنااتن شارانسكي‪ ،‬يهودي مهاجر من روسيا إىل إسرائيل‪ ،‬أصبح وزيراً لفرتة واحدة‬ ‫يف عهد شارون‪.‬‬ ‫‪ - 2‬دعت وزيرة اخلارجية األمريكية «كوندوليزا رايس» يف مصر إىل تغيريات دميوقراطية يف الشرق األوسط‪ ،‬مبحاضرة ألقتها‬ ‫يف اجلامعة األمريكية ابلقاهرة فقالت‪« :‬إن الوالايت املتحدة سعت على مدى ستني عاماً إىل حتقيق االستقرار يف املنطقة‬ ‫على حساب الدميقراطية‪ ،‬ولكنها ستتبىن اآلن هنجاً يدعم «التطلعات الدميوقراطية لكل الشعوب»‪.‬‬ ‫‪105‬‬


‫بيكو على اقت�سام العامل العربي‪ -‬الإ�سالمي‪ ،‬وقيام كل منهما يف منطقة نفوذهما بالق�ضاء‬ ‫على الإ�سالم‪ .‬فيما �شهد التاريخ املعا�صر‪ ،‬دوراً لالحتالل اجلديد املتمثل يف الواليات‬ ‫املتحدة الأمريكية‪ ،‬باحتالل �أفعان�ستان والعراق و�إدارة الأزمة يف احلرب اللبنانية‪ ،‬بالتمهيد‬ ‫مل�شروعها امل�سمى بـ"ال�شرق الأو�سط اجلديد"‪ ،‬الذي ي�ؤدي �إىل الفرقة والت�شرذم القومي‬ ‫والوطني‪ .‬يف الوقت الذي �أخ�ضع العامل العربي �إىل عدة اجتاهات �سيا�سية متنافرة‪ ،‬ما �أدى‬ ‫�إىل فقدان االنتماء نحو الق�ضايا الأ�سا�سية يف فرتات الأزمات العربية‪ -‬العربية جراء اختالف‬ ‫مفاهيم حولها‪.‬‬ ‫من هنا �شكل "م�شروع ال�شرق الأو�سط اجلديد"‪ ،‬دعوة �صريحة لتجزئة املنطقة العربية‬ ‫ا�ستكما ًال التفاقية �سايك�س‪ -‬بيكو‪ ،‬بهدف ر�سم م�ستقبل املنطقة العربية‪ ،‬بـ"�إعادة هيكلة‬ ‫ال�شرق الأو�سط"‪ ،‬وتق�سيم العراق و�سوريا وال�سعودية‪� ،‬إىل دويالت طائفية متنازعة‪ ،‬حيث‬ ‫حتافظ "�إ�سرائيل" فيها على �سيطرتها ال�سيا�سية والع�سكرية على جميع الأرا�ضي العربية‬ ‫والفل�سطينية املحتلة‪ ،‬ليكون "ال�سالم" املزعوم من قبلها قائماً على �أ�سا�س قوة الردع‬ ‫"الإ�سرائيلية" من جهتها‪ ،‬ومتزق الدول العربية �إىل كيانات م�صطنعة من جهة �أخرى‪.‬‬ ‫�إن اخلارطة ال�سيا�سية وفقاً ملفهوم "ال�شرق الأو�سط اجلديد"‪ ،‬هي التي ر�سمتها اتفاقية‬ ‫�سايك�س‪ -‬بيكو‪ ،‬يف ا�ستحداث الكيانات الطائفية‪� ،‬إذ �إن �أحد الأهداف التي ت�سعى لها‬ ‫الواليات املتحدة الأمريكية يف هذا امل�ضمار‪ ،‬داخل العامل العربي تكمن بو�ضع اخلطط‬ ‫حول �شكل البيئة الإقليمية املنا�سبة التي تعي�ش فيها "�إ�سرائيل" ب�أمن و�سالم‪ ،‬وهذا ما‬ ‫يدفع �إىل �إيجاد التكتالت الطائفية يف الكيانات ال�سيا�سية التي تربر وجود دولة يهودية‬ ‫مقابلها‪ ،‬تكون لديها القدرة على التعامل مع املنطقة العربية كمرجعية حمورية‪ .‬بالإ�ضافة‬ ‫�إىل ذلك ف�إن الوقائع التاريخية التي �شهدها العامل العربي يف الفرتات ال�سابقة‪ ،‬تبني مدى‬ ‫�أهمية املكان اجلغرايف وال�سيا�سي بالن�سبة لبقية العامل الأوروبي الغربي والأمريكي‪ .‬فبناء‬ ‫"م�شروع ال�شرق الأو�سط اجلديد" يكت�سب �أولوية ا�سرتاتيجية‪ ،‬ال تقل �ش�أناً عن التاريخ‬ ‫ال�سالف للعامل العربي‪ ،‬رغم التقنية احلديثة التي �شملت كل امل�ستجدات امليدانية والعلمية‪.‬‬ ‫فاملنطقة العربية تقع على خطوط املمرات اجلوية والربية والبحرية‪ ،‬ذات الأهمية الكربى‬ ‫مل�صالح الواليات املتحدة الأمريكية‪ ،‬وقد �شكلت املجال احليوي وال�شريان الأ�سا�سي للطاقة‬ ‫‪106‬‬


‫ملف العدد "وعد بلفور"‬

‫العاملية عرب التاريخ ال�سالف‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل ذلك‪ ،‬ف�إن الدافع لذلك كان املرحلة املقبلة التي‬ ‫تتح�ضر لها املجتمعات الغربية جمتمعة‪ ،‬جراء دور املنطقة العربية املرتقب‪ ،‬بالرغم من رف�ض‬ ‫�شعوب املنطقة العربية للم�شروع الأمريكي‪ ،‬وذلك من خالل تعاظم دول ال�شرق الأق�صى‪،‬‬ ‫�أي ال�صني‪ ،‬والهند‪ .‬لذا ف�إن افتعال الأزمات العربية الداخلية‪ ،‬كان من �ش�أنه تهدمي العالقة‬ ‫الع�ضوية للعامل العربي‪ ،‬كمقدمة لته�شيم �أكرث الهويات التاريخية جتذراً وممانعة يف تاريخ‬ ‫هذه املنطقة‪ ،‬وهذا يعني �أن تهدمي املفاهيم الداعية كانت ت�ستهدف الهوية يف بعدها القومي‬ ‫والثقايف‪ ،‬بهدف هيمنة الثقافة الواحدة والنظام ال�سيا�سي‪.‬‬ ‫الإرث والرتكة يف العامل العربي‬

‫�إن احلركات التنظيمية التي ن�ش�أت يف مواجهة ال�سلطة يف العامل العربي‪ ،‬جراء الأحداث‬ ‫التي ع�صفت به خالل مرحلة ما �سمي بـ"الربيع العربي"‪ ،‬والتي انطلقت من مفاهيم تربيرية‬ ‫لفعلها العنفي‪ ،‬مل تكن يف واقع الأمر حركات جهادية باملعنى الديني الإ�سالمي‪� ،‬أو حركات‬ ‫قومية تنطلق من البعد القومي العربي‪ ،‬بل كانت عبارة عن تربيرات �سيا�سية‪ ،‬بهدف �إلغاء‬ ‫الآخر وفقاً لأيديولوجية "اخلالفة الإ�سالمية"‪ ،‬ولآراء متعددة حول م�س�ألة "التكفري"‪.‬‬ ‫�إن هذا املفهوم‪ ،‬مل يكن له �أي جذور �شرائعية تاريخية ميكن البناء عليها‪ ،‬وخا�صة �أنها كانت‬ ‫ت�صدر عن بع�ض الفرق الدينية املتزمتة‪ ،‬جراء انت�شار قرابة ‪� 24‬ألف مدر�سة فكرية دينية يف‬ ‫باك�ستان والعامل العربي‪ ،‬حيث �أفرزت تلك املدار�س فكرها ال�سلفي على العامل العربي‪-‬‬ ‫الإ�سالمي‪ ،‬نتيجة ملنظومة فكرية تربيرية تنطلق من مفهوم "اخلالفة" والعودة �إىل الإ�سالم‬ ‫الرا�شدي‪ .‬فتجارب العامل العربي والإ�سالمي ما بعد احلرب العاملية الثانية‪ ،‬كانت قد �أدت‬ ‫�إىل تنافر الآراء الفكرية الإ�سالمية حول الكيان والدولة‪ ،‬وانت�شار العديد من الأفكار‪ ،‬حول‬ ‫الوعي ال�سيا�سي ون�شر الإ�سالم املعتدل النابع من التاريخ‪.‬‬

‫‪107‬‬


11 - 4353


‫ملف العدد "وعد بلفور"‬

‫جيوبوليتيك الت�شظي‬

‫وعد بلفور مبا هو لعنة جيو– ا�سرتاتيجية راهنة‬ ‫املعمقة – بريوت‬ ‫حممود حيدر ‪ -‬مفكر وباحث يف الفل�سفة ال�سيا�سية ‪ -‬رئي�س مركز دلتا للأبحاث ّ‬

‫تتوخى هذه الأملية الإحاطة الإجمالية بالتحوالت التي �أطلقتها اتفاقية �سايك�س– بيكو على‬ ‫اجلغرافيا العربية امل�شرقية �سحابة مائة عام م�ضت‪ .‬كما تويل عناية خا�صة بالآثار املرتتبة عليها‪،‬‬ ‫وخ�صو�صاً جلهة النظر �إىل وعد بلفور (‪ )1917‬مبا هو مبتد�أ اخلطب اجللل الذي �سي�صيب‬ ‫علي ‪-‬تبعاً لذلك‪-‬‬ ‫املنطقة العربية من القلب يف منت�صف القرن الع�شرين املن�صرم‪ .‬ولقد كان ّ‬ ‫�أن �أقارب م�ضامني و�أبعاد االتفاقية من وجهني متالزمني‪� :‬أو ًال‪ ،‬بو�صفها حادثاً تاريخياً فتح‬ ‫وخ َت َم على �آخر‪ ،‬وثانياً‪ ،‬بو�صفها �أطروحة م� ِّؤ�س�سة لثقافة �سيا�سية حكمت وعي‬ ‫على زمن َ‬ ‫نخب امل�شرق العربي وجماهريه على امتداد �أجيال متعاقبة‪.‬‬ ‫‪ - 1‬من جهة كونها حادثاً تاريخياً �شكلت منظومة �سايك�س– بيكو حلظة انتقال تاريخي من‬ ‫ح ِّيز ما ا�صطلح عليه بالوطن الإ�سالمي حتت رعاية الدولة العثمانية املرتامية الأطراف‪� ،‬إىل‬ ‫ح ِّيز مغاير �أملته رغبات وم�صالح �إمربياليات احلداثة ال�صاعدة يف الغرب‪ .‬كانت احل�صيلة‬ ‫�أن جرى حتويل الوطن الواحد �إىل ٍ‬ ‫رهط من الأوطان‪ ،‬و�صارت احلدود فيما بينها �أ�شبه‬ ‫بـ"ج ُدر مقد�سة"‪� ،‬أطلقت منازعات وحروباً وفتناً ال تني تداعياتها تع�صف بتلك الأوطان‬ ‫ُ‬ ‫من كل جانب‪.‬‬ ‫‪� - 2‬أما من جهة كونها �أطروحة يف الثقافة ال�سيا�سية التاريخية‪ ،‬فقد �أن�ش�أت �سايك�س‪-‬‬ ‫بيكو حق ًال خ�صباً لوالدة الأ�سئلة الكربى حول ماهية وهوية وثقافات الدول النا�شئة‬ ‫وم�ستقبل �شعوبها‪.‬‬ ‫يف كال هذين الوجهني املتالزمني جندنا �أمام هند�سة جيو‪ -‬ا�سرتاتيجية وثقافية ت�شاركت‬ ‫يف �صياغتها فرن�سا وبريطانيا لتفتتحا معاً تاريخاً مفارقاً يف �شبه القارة العربية– الإ�سالمية‪.‬‬ ‫‪109‬‬


‫�أما خال�صة هذه الهند�سة‪ ،‬ف�سنجدها يف ال�صورة الإ�سرائيلية كوليد غري طبيعي يف الفيزياء‬ ‫الطبيعية للم�شرق العربي‪ ،‬وبالأخ�ص كتمثيل بينِّ للوعد الإمربيايل بوطن قومي يهودي على‬ ‫�أر�ض فل�سطني‪.‬‬ ‫لكن ماذا لو ا�ستقر�أنا م�آالت الوعد االمربيايل امل�شار �إليه كما يبدو يف حا�ضر املنطقة ومقبلها‬ ‫املنظور؟‬ ‫‪- 1‬اجليوبوليتيك العربي يف مقام التو�صيف‬

‫�صورة اجليوبوليتيك العربي– الإ�سالمي اليوم‪ ،‬وال�سيما يف ناحيته امل�شرقية هي امتداد‬ ‫لل�صورة الأ�صلية قبل مائة عام‪ .‬ف�إنها ال تفارقها �إال يف تقنيات الظهور والتظهري‪.‬‬ ‫قد يقول قائل �إن تو�صيفاً كهذا قد ينقل �إىل الأذهان انطباعاً م�ؤداه‪� :‬أن تبدي ًال جوهرياً فيما‬ ‫انعقدت عليه هند�سة �سايك�س– بيكو بات ال وجوب له ما دام كل حدث يجري الآن ال‬ ‫يناق�ض احلادث امل�ؤ�س�س وال ينفيه‪ .‬ولكن‪ ،‬قد يكون لهذا التو�صيف حظ من ال�صواب لو‬ ‫انت�أينا قلي ًال من زحام التحوالت الذي يطوي املنطقة حتت �أجنحته الدموية منذ العام ‪.2011‬‬ ‫حالئذ �سوف يظهر لنا ٌ‬ ‫جوهري بني منطق �سايك�س‪ -‬بيكو يف بدايات القرن الع�شرين‪،‬‬ ‫و�صل‬ ‫ٌ‬ ‫وما ينبني عليه امل�شهد املتمادي يف م�ستهل القرن احلادي والع�شرين‪ .‬فاحلا�صل هو �أدنى �إىل‬ ‫اال�ستئناف املتجدد لهذا املنطق‪ .‬حتى اجليولوجيا ال�سيا�سية الأمنية التي تع�صف باملنطقة‬ ‫منذ نحو �ست �سنني ال تخرج عن الف�ضاء املمتد ملنطق �سايك�س‪ -‬بيكو‪ .‬فما ُعرف بربيع‬ ‫العرب كان �أدنى �إىل ثورات وثورات م�ضادة‪ ،‬وحروب �أهلية تغذيها حماور �إقليمية ودولية‪..‬‬ ‫وكل ذلك يجري يف منازل اجليوبوليتيك العربي على نحوين متوازيني‪:‬‬ ‫النحو الأول‪ :‬ا�ضطراب يف التحول الداخلي‪� ،‬أدى �إىل و�ضع اجليوبوليتيك ال�سيا�سي‬ ‫وحد‬ ‫حد اال�ستغراق يف الفو�ضى والعنف‪ّ ..‬‬ ‫حدين �سالبني‪ّ :‬‬ ‫واالجتماعي العربي �أمام ّ‬ ‫امل�صادرة واالحتواء‪ .‬وهو ما �ألفيناه جلياً يف اختبارات م�صر وتون�س واليمن وليبيا‪ ،‬ف�ض ًال‬ ‫عن �سوريا ولو بوقائع و�صور متباينة‪.‬‬ ‫النحو الثاين‪ :‬احتدام يف ف�ضاء الإقليم‪ ،‬بلغ ذروته مع ترتيبات دولية م�ست�أنفة‪ ،‬غايتها‬ ‫‪110‬‬


‫ملف العدد "وعد بلفور"‬

‫�إعادة ت�شكيل مظ ّلة �أمنية �إ�سرتاتيجية‪ ،‬تغطي �شبه القارة ال�شرق �أو�سطية‪ ،‬وتركز ب�صفة‬ ‫خا�صة على البلدان العربية املحيطة بالدولة اليهودية يف فل�سطني‪ .‬وما كان تدمري �سوريا‬ ‫ودفعها باجتاه التف ّتت والت�آكل �سوى التمثيل الأ�شد ق�سوة لنظرية الفو�ضى التي ال تفارق‬ ‫جيوبوليتيك �سايك�س– بيكو روحاً و�شك ًال‪.‬‬ ‫بني هذين النحوين‪� ،‬ستظهر �إرها�صات زمن رمادي من عالماته الفارقة‪ ،‬ع�سر الوالدة‬ ‫الطبيعية لربيع ثوري عربي‪ ،‬ميلك َّ‬ ‫حظ اال�ستقالل عن املداخالت اجليوبوليتيكية والتح ّرر‬ ‫من م�ؤثراتها‪.‬‬ ‫لو كان لنا من ر�ؤية و�صفية �إجمال ّية ملحركات الثقافة ال�سيا�سية العربية بعد مائة عام على‬ ‫�سايك�س‪ -‬بيكو‪ ،‬لوجدنا ما ي�شهد على توا�صل وطيد مع احلدث الت�أ�سي�سي الكبري يف العام‬ ‫‪ ،1916‬حت�ضرنا اليوم ثالثة �سياقات ي�سابق الفاعلون فيها بع�ضهم بع�ضاً‪ّ ،‬‬ ‫وكل فاعل‪ ،‬يبدو‬ ‫حممو ًال على �شغف امل�شاركة يف �صناعة حقائق الزمن اجلديد‪:‬‬ ‫الأول‪� :‬سياق اال�ستتباع‪ ،‬ويقوم على الر�ضى بتوقيعات املوجة النيوليربالية املتمادية‪ ،‬مع‬ ‫ما ُيفرت�ض باملنخرطني يف هذا ال�سياق من قبول مب�شروعية الدولة اليهودية‪ ،‬وهي تقطع �آخر‬ ‫�أطوارها يف رحلة اال�ستيالء على فل�سطني‪ ،‬وتبديل هويتها الأ�صلية‪.‬‬ ‫الثاين‪� :‬سياق الت�ضحية واملواجهة‪ ،‬وهو �سياق ينبغي �أن ُيقر�أ انطالقاً مما ظهر من اختبارات‬ ‫املقاومة املعا�صرة يف فل�سطني ولبنان‪� ،‬أي النظر �إليها كمنظومة ِ‬ ‫كفاح ّية ونه�ضو ّية و�أخالق ّية‪،‬‬ ‫على الرغم مما طر�أ على هذه القراءة من ن�صو�ص وخطب قلبت الر�ؤية يف بع�ض الأحيان‬ ‫ر�أ�ساً على عقب‪ ،‬وعليه ف�إن هذا ال�سياق هو �سياق بديهي وواقعي ما دامت املواجهات مع‬ ‫الأطروحة الإ�سرائيلية �سارية يف �أزمنة املنطقة‪.‬‬ ‫الثالثة �سياق التغيري امللتب�س‪ ،‬وهو ما وجد �صورته فيما �سمي ا�شتباهاً بـ"ربيع العرب"‪،‬‬ ‫ويجري نحو ما جرت وقائعه يف ظل حالة رمادية تغ�شى الو�ضع العربي امل�ضطرب وتطبعه‬ ‫بطبائعها‪ .‬وهو �سياقٌ يك�شف عن نف�سه يف الغالب الأعم‪ ،‬بقول �سيا�سي �إجمايل قوامه‪ ،‬الرغبة‬ ‫املحمومة يف تغيري �أنظمة احلكم‪.‬‬ ‫‪111‬‬


‫من مفارقات هذا ال�سياق �أنه يبدو خُ لواً من الأبنية الفكرية التي ك ّنا �أ ِلفناها يف الثورات‬ ‫الوطنية واال�شرتاكية والدينية املُن�صرمة‪ .‬ويف الآن عينه‪ ،‬يفتقر �إىل �إ�سرتاتيجيات وا�ضحة‬ ‫املعامل‪ ،‬تف�صح عن الت�صورات املفرت�ضة حول طبيعة ال�سلطة‪ ،‬ونظام الدولة املن�شود‪...‬‬ ‫مل ت� ِأت حتوّالت اجليوبوليتيك العربي الأخري‪� ،‬إالّ ٍّ‬ ‫كتجل �صريح الحتدام هذا املثلث من‬ ‫ال�سياقات‪ .‬لكنه ُيف�ضي على وجه الإجمال‪� ،‬إىل ن�شوء وعي جديد من � ٍ‬ ‫أخذ بهمّينْ تاريخ َّيني‬ ‫وهم اال�ستبداد الداخلي‪.‬‬ ‫هم ال�سيطرة اال�ستعمارية‪ّ ،‬‬ ‫متالزمني‪ّ :‬‬ ‫أ�شد خطراً يف امل�شهد‪ ،‬ذاك الذي يتواله اجلهاز الإيديولوجي النيوليربايل‪ ،‬يف �سياق‬ ‫الوجه ال ّ‬ ‫ما ن�سميه بـ"احلرب على املعنى"‪ .‬وهو �سياق يعمل على اغتيال الوالء للهويات الوطنية‪،‬‬ ‫وتفكيك منظومات القيم الفكرية الدينية والأخالقية‪ ،‬خ�صو�صاً تلك التي �أ�س�ست لتلك‬ ‫الهويات‪ ،‬ومنحتها الت�سديد والت�أييد على امتداد �أجيالٍ كاملة‪ .‬فلئن كانت الغاية االبتدائية‬ ‫من وراء هذه املوجة‪� ،‬صناعة وعي عام قابل للإذعان‪ ،‬ف�إن غايتها الق�صوى تتمثّل يف جعل‬ ‫�ستهدف را�ضياً مبا هو عليه‪ ،‬وممتنعاً ب�إرادته عن الت�سا�ؤل والنقد واالعرتا�ض‪ .‬و�أما‬ ‫اجلمهور املُ َ‬ ‫حا�صل ما تن�شده‪ ،‬هو �أن حتيل املهي َمن عليه �إىل و�ضعية جتعله غاف ًال عما هو فيه‪ ،‬وتدفعه نحو‬ ‫قناعات ُتف�ضي به �إىل اال�ست�سالم والإ�صغاء والتمثّل‪.‬‬ ‫‪- 2‬اال�ستئناف املتجدد للأطروحة‬

‫يف الو�ضع ّية العربية‪ ،‬تتحرك وقائع "احلرب على املعنى" يف ال�سياق التاريخي املمتد‬ ‫لأطروحة �سايك�س‪ -‬بيكو‪ .‬وميكن معاينة ذلك �ضمن ثالثة حماور‪:‬‬ ‫الأ ّول‪ :‬م�صادر ُة � ّأي احتمال للتغيري‪ ،‬من �ش�أنه �أن ي�ضع �شعوب املنطقة على �صراط ال�سيادة‬ ‫الكاملة‪.‬‬ ‫الثاين‪ :‬ا�ستئناف العقل النيو‪� -‬إمربيايل‪ ،‬ممار�سة "لعبة الفو�ضى والتفكيك" كا�ستمرار‬ ‫للمرياث ال�سيا�سي والع�سكري الذي ظهر بقوة يف حقبة املحافظني الأمريكيني اجلدد‪ .‬لكن‬ ‫هذه اللعبة‪� ،‬سوف تتح ّرك جمدداً على �شكل حروب متالزمة من االحتالل والغزو املبا�شر‪،‬‬ ‫�إىل تغذية املنازعات الطائفية واملذهبية‪ ،‬وبالتايل �إىل الدفع باحلروب الأهلية املفتوحة‪.‬‬ ‫‪112‬‬


‫ملف العدد "وعد بلفور"‬

‫و�أ ّما املحور الثالث‪ :‬فيق�صد ال�ساعون �إليه‪ ،‬احتواء م�شاعر التفا�ؤل بالن�صر لدى �شعوب‬ ‫املنطقة؛ وذلك ما يظهر ب�صورة جلية يف تبهيت ال ُبعد الوطني والأخالقي والإمياين لثقافة‬ ‫مقاومة االحتالل‪ .‬ويف مناخ االنت�صارات التي حقّقتها املقاومة يف لبنان عام ‪ ،2006‬ويف‬ ‫فل�سطني عام ‪� ،2009‬سرنى كيف ت�ضاعفت وتائر االحتواء حتى بلغت اليوم ذروتها‪ .‬يف‬ ‫ِ‬ ‫امل�ستهدفة معنى العداء لإ�سرائيل ومغزى‬ ‫النموذج املد ّوي الذي �أظهرته احلمالت الإعالمية‬ ‫االنت�صار عليه‪� .‬سوف ن�شهد تدفقاً ل�سيل هائل من اخلطب وال�صياغات تتغيّ�أ �إجراء حتويالت‬ ‫عميقة يف الوعي العربي والإ�سالمي العام ي�صل مداه �إىل "عقلنة" الأطروحة الإ�سرائيلية‪،‬‬ ‫ويهدف �إىل جعلها جزءاً من اجليوبوليتيكا احل�ضارية‪ ،‬والدينية‪ ،‬وال�سيا�سية ل�شعوب املنطقة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ولعل ما ن�شهده من تداعيات‪� ،‬إن جلهة تعميم القيم الليربالية‪ ،‬والأخذ بثقافة املجتمع‬ ‫املفتوح‪� ،‬أو لناحية تفعيل عمل ّيات التطبيع‪� ،‬إمنا ُيظهر املقا�صد احلقيق ّية ملا ُ‬ ‫ا�صطلح عليه بـ"ربيع‬ ‫العرب"‪ .‬حيث احتلت ثقافته م�شاغل التفكري يف عاملنا العربي والإ�سالمي‪ ،‬حتت عناوين‬ ‫احلرية والدميقراطية وحقوق الإن�سان‪ .‬وملّا كانت قيم كهذه ذات قابل ّية ا�ستثنائية لل�ستخدام يف‬ ‫لعبة التوظيف‪ ،‬كانت النتيجة �إ�سباغ ال�شرع ّية على ما ال �شرعية لوجوده‪ ،‬بحيث ال ي�ؤدي �أي‬ ‫تغيري ثوري �إىل و�ضع املجتمعات العربية والإ�سالمية‪ ،‬ومراكز القرار فيها‪ ،‬يف مواجهة تاريخية‬ ‫مع ال�سيطرة الثقافية اال�ستعمارية‪ ،‬وبالتايل مع الدولة اليهودية يف فل�سطني‪.‬‬ ‫�إذا كانت هذه هي ِ‬ ‫ال�سمات الإجمال ّية للتح ّول العربي‪ ،‬فالذي يبدو من �صورته امل�ستخل�صة‬ ‫هو الإنباء عن زمن ا�ستثنائي وجديد من املواجهات‪.‬‬ ‫اال�ستثنائية واجلدة‪ ،‬ك�صفتني مالزمتني للزمن اجلديد‪ ،‬جتعالنه زمناً انتقالياً هو �أ�شبه برحلة‬ ‫والتقدم والت� ّأخر‪ ،‬وال ّن�صر والهزمية‪ .‬ذاك �أن ال�سمة الالفتة‬ ‫قلقة يت�ساوى فيها اخلوف والرجاء‪ّ ،‬‬ ‫فيه �أنه زمن مركب ومتح ّول‪ ،‬و�أن جالء �صورته النهائية‪� ،‬أمر متع ّلق باحل�صاد الإجمايل‬ ‫لالحتدام بني عنا�صره ومكوناته وقواه‪ .‬ومثلما يحمل زمناً كهذا وعوداً ب�آمال كربى‪ ،‬ف�إنه‬ ‫ينطوي يف الآن عينه‪ ،‬على روح مت�شائمة قد حتجب طول الأمل بثقافة الإحياء احل�ضاري‬ ‫لدى نخب الأمة وجماهريها‪.1‬‬ ‫‪ - 1‬انظر يف هذا الصدد الفصل األول من كتاب "ثورات قلقة – إشراف وتقدمي حممود حيدر‪ -‬مركز احلضارة لتنمية الفكر‬ ‫اإلسالمي – بريوت ‪.2013‬‬ ‫‪113‬‬


‫تاريخي رخو‬ ‫منف�سح‬ ‫ترتيباً على �صفات الزمن امل�ستحدث هذا‪� ،‬سوف ينك�شف �أمامنا‬ ‫ٌ‬ ‫ٌّ‬ ‫تتعادل فيه رهانات النه�ضة مع هواج�س النكو�ص والإحباط‪ .1‬ولنا �أن نالحظ ظهورات هذا‬ ‫املنف�سح من زاويتني‪:‬‬ ‫�أو ًال‪� :‬إن �س�ؤال النه�ضة‪ ،‬ما عاد بالن�سبة لل ّنخب‪ ،‬جمرد خطبة افرتا�ضية �شكلت على مدى‬ ‫�أحقاب طويلة منعقداً لفظياً ال طائل منه‪ ..‬ف�إن املز ّية الأبرز للحراك اجلاري تكمن يف تنبيه‬ ‫التقدم‬ ‫الفكر العربي املثقل بالت�شا�ؤم‪� ،‬إىل وجود �إ�ضاءات تدفعه نحو �إعادة �صياغة بيان ّ‬ ‫على قاعدة التفا�ؤل‪ .‬ومثل هذا التنبيه �سيكون له �أثر حا�سم يف �إمداد التح ّيزات والوالءات‬ ‫الوطنية ب�آمال اخلروج من اخلوف وعدم الثقة وعقدة الهزمية‪.‬‬ ‫الثانية‪�" :‬أن من ب ّينات هذا املنف�سح‪ ،‬ا�ستئناف ال�شعور بعدم قابلية البيئة العربية لإجناز‬ ‫التقدم احل�ضاري العربي �أطروحة‬ ‫والدات فكرية و�سيا�سية وثقافية‪ُ ،‬تف�ضي �إىل جعل فكرة ّ‬ ‫راهنة‪ .‬مر ُّد هذا ال�صدع‪ ،‬الذي �ضرب البنية املفاهيمية التقليدية ال�سائدة‪ ،‬مل يكن وليد‬ ‫اللحظة الراهنة‪ ،‬و�إمنا ح�صيلة �سل�سلة من االحتقانات والإحباطات املرتاكمة‪ ،‬لعل �أكرثها‬ ‫مدعاة للنقا�ش ما تع ّلق منها بالهويات ال�ضائعة‪ ،‬والوالءات املم ّزقة على مدار املنطقة‬ ‫والعامل‪.‬‬ ‫‪� - 3‬سايك�س‪ -‬بيكو و�سريورة االن�سداد احل�ضاري‬

‫ما فعله �سايك�س‪ -‬بيكو كان �أ�شد عمقاً وجتذراً وخطورة على املا�ضي والراهن واملقبل من‬ ‫جمرد تقا�سم نفوذ على جغرافيات االمرباطورية العثمانية املنهارة‪ .‬فل�سفته العظمى �إطالق‬ ‫�سريورة طويلة الأمد من االن�سداد احل�ضاري‪ .‬ولو عاي َّنا البيانات الإجمالية لهذه ال�سريورة‬ ‫�سنالحظ جريانها على ثالثة خطوط متالزمة‪:‬‬ ‫اخلط الأول‪� :‬إقامة جدار �إ�سمنتي �سميك �أمام �سريان قيم احلداثة �إىل الدول واملجتمعات‬ ‫امل�شمولة بجيوبولتيك التجزئة‪ :‬التحرر من التبعية– �إقامة بناء الدولة الأمة– ت�أ�سي�ساً‬ ‫‪ -1‬قد تكون والدة هذا املنفسح الرمادي يف مناخ اترخيي عريب ممتلئ ابملتناقضات الداخلية واملؤثرات اخلارجية‪ ،‬هي اليت‬ ‫جعلت القلق عنواانً مهيمناً تدور حتت سطوته جممل حتوالت الشارع العريب‪.‬‬ ‫‪114‬‬


‫ملف العدد "وعد بلفور"‬

‫على العدل االجتماعي والدميوقراطية والف�صل ال�سلبي بني الدين وموجبات بناء املجتمع‬ ‫وم�ؤ�س�سات الدولة‪.‬‬ ‫اخلط الثاين‪� :‬إن�شاء جيوبوليتيك ع�سكري ا�ستيطاين يتوىل حفظ التمو�ضع الإمربيايل‬ ‫امل�ستحدث وي�ضبط �أي خرق ثوري ا�سرتاتيجي ملثل هذا التمو�ضع‪ .‬ودليلنا الب�سيط هنا‪� ،‬أن‬ ‫الوعد الربيطاين بوطن قومي لليهود يف فل�سطني مل يكن �سوى التجلي الأ�صيل لأطروحة‬ ‫�سايك�س‪ -‬بيكو ومقا�صدها الكربى‪.‬‬ ‫اخلط الثالث‪ :‬الت�أ�سي�س الحرتاب �أهلي ال قرار يف الأمد املنظور‪ .‬وذلك عرب جعل مقولة التجزئة‬ ‫ا�سرتاتيجية على احلروب يف كل االجتاهات‪ .‬حيث تتحول اجلغرافيا العربية �أر�ضاً ال تهد�أ وال‬ ‫يكون ل�شعوبها منف�سح للبناء والتقدم‪ .‬واحل�صيلة الإجمالية لهذا اخلط‪ ،‬ال تف�ضي يف جوهرها‬ ‫مبا يتعدى منطق �سايك�س‪ -‬بيكو ومقا�صده– بل �إىل جتددها نحو ي�ساوق ال�شروط املو�ضوعية‬ ‫لأحوال املنطقة والعامل‪ .‬على امتداد مائة عام ظهر امل�شهد الإجمايل وفق التدرج التايل‪:‬‬ ‫الأول‪- :‬نزاع االمربياليات الغربية يف احلرب العاملية الثانية‪ ،‬بداية الأربعينيات‪.‬‬ ‫ حرب احتالل فل�سطني نهاية الأربعينيات‪.‬‬‫ حرب العدوان الثالثي على م�صر ‪.1956‬‬‫ حرب احتالل ما تبقى من فل�سطني وما تبعها من تو�سع �إىل الأرا�ضي العربية ‪.1967‬‬‫ احلروب املتتالية التي ُ�ش َّنت على احلركة الوطنية الفل�سطينية منذ العام ‪ 69‬و�إىل يومنا هذا‪.‬‬‫الثاين‪ :‬راهن وهو ما ن�سميه بـ"حروب الت�آكل" �أو حرب اجلميع على اجلميع‪ ،‬حيث انفجر‬ ‫اجليوبوليتيك العربي من داخل‪ ،‬بعدما بلغت اختبارات احلروب املبا�شرة عليه درجات غري‬ ‫م�سبوقة يف تاريخنا احلديث‪.‬‬ ‫هذا املنف�سح الدموي الذي نعربه اليوم يدخل دخو ًال �أ�صي ًال يف املقا�صد املعا�صرة ملرياث‬ ‫�سايك�س‪ -‬بيكو‪ .‬مل تكن فل�سفة الفو�ضى اخلالقة التي اقرتفها عقل املحافظني الأمريكيني‬ ‫اجلدد �سوى تظهري م�ست�أنف لفل�سفة التجزئة التي �سرت مفاعيلها يف العام ‪ ،1916‬وها هي‬ ‫‪115‬‬


‫اليوم تتمدد �إىل كل ناحية يف �أ�صقاع اجليوبوليتيك العربي املعا�صر‪.‬‬ ‫التفاتاً �إىل عمق �أطروحة �سايك�س‪ -‬بيكو و�أ�صالة ح�ضورها يف التكوين التاريخي للجيوبوليتيك‬ ‫العربي‪� ،‬أنها ا�ستطاعت �أن ت�ستولد مقولة الإرهاب ثقافة وفع ًال وامتداداً جغرافياً‪ ،‬لتزيد من‬ ‫فاعليات االن�سداد احل�ضاري‪ ،‬ثم لتدفع ب�سيل هائل من التفجري حفظاً ملا �أُ ِ‬ ‫�سك َنت فيه املنطقة‬ ‫قبل قرن خال‪.‬‬ ‫لقد ت�ضافرت �إدارة الفو�ضى اخل ّالقة مع �إدارة التوح�ش‪� ،‬سواء �أدرك ذلك املت�ضافرون �أم مل‬ ‫يدركوا‪ .‬والأ�صح �أن الذين ّنظروا للإرهاب فقهاً وعم ًال ميدانياً كانوا على يقني مما �صنعوا‪ ،‬ولو‬ ‫كان لكل منهم غاياته ومراميه‪.‬‬ ‫�إن ما يبدو اليوم على ن�ش�أة التفتيت بعد مائة عام على التجزئة‪ ،‬هو �ضرب من ح�ضور بينّ‬ ‫للما�ضي يف احلا�ضر‪ .‬بل هو �أدنى �إىل تراجيديا دامية تدار بعقل �صارم ونف�س باردة‪ .‬وما ذاك‬ ‫�إال للحفاظ على �أ�سوار مدينة �سايك�س‪ -‬بيكو غري الفا�ضلة‪.‬‬ ‫ال يرتاءى يل يف واقع احلال ذاك‪� ،‬أن هذه الرتاجيديا �سوف تتعدى حدود ما �ش ّرعه‬ ‫الدبلوما�سيان الفرن�سي والربيطاين‪ .‬فما دام كل �شيء يجري يف ال�سيا�سة واحلرب ولعبة‬ ‫الدم باقٍ داخل ال�سور املحفوظ مب�صالح املنخرطني‪ ،‬فكل �شيء يجري وفق َ�سيرْ َّ َي ٍة محُ كمة‬ ‫الإيقاع‪ .‬وما ذاك �إال لأن املواجهات احلاكمة اليوم على اجليوبوليتيك العربي– الإ�سالمي‪،‬‬ ‫�سيكون م�آلها العودة �إىل موائد الت�سويات‪.‬‬

‫‪116‬‬


‫ملف العدد "وعد بلفور"‬

‫قراءة تاريخية لوقائع "وعد بلفور‪"1‬‬ ‫�سايد فرجنيه ‪ -‬كاتب‬

‫مع مرور قرن على �إعالن وعد بلفور امل�ش�ؤوم الذي قدم املدخل ال�صهيوين الغت�صاب �أر�ض‬ ‫فل�سطني واقتالع �شعبها وطرده من وطنه‪ ،‬ويف �سياق اجلرائم التاريخية التي ارتكبتها حكومات‬ ‫ودول اال�ستعمار الربيطاين والفرن�سي‪ ،‬ال بد من قراءة لت�سل�سل الأحداث والوقائع التي‬ ‫�سبقت �إعالن وعد بلفور‪ ،‬والتي �ساهمت بت�أ�سي�س الكيان ال�صهيوين يف فل�سطني‪.‬‬ ‫يف العام ‪ 1807‬دعا نابوليون بونابرت �إىل عقد جممع يهودي بح�ضور كل الطوائف اليهودية‬ ‫يف �أوروبا جلمع �شمل الأمة اليهودية‪ ،‬وبعد دخوله القد�س وجه نابوليون ر�سالة �إىل القادة‬ ‫اليهود قائ ًال‪" :‬يا ورثة فل�سطني ال�شرعيني"‪.‬‬ ‫يف العام ‪� 1838‬أ ّيد رئي�س وزراء بريطانيا اللورد باملر�ستون موقف الزعيم اليهودي الرثي‬ ‫روت�شيلد يف �إر�سال جمموعات من يهود �أوروبا �إىل فل�سطني لإن�شاء �شبكة م�ستعمرات لكي‬ ‫ت�شكل حاجزاً يف�صل م�صر عن �سوريا‪.‬‬ ‫يف نهاية القرن التا�سع ع�شر يف العام ‪ 1897‬كانت والدة احلركة ال�صهيونية يف "بازل" �سوي�سرا‪،‬‬ ‫حيث �أعلن م�ؤ�س�سها "هرتزل" �أن النجاح يف حتقيق �إقامة "الدولة اليهودية" مرتبط بتبني‬ ‫الدول العظمى هذا امل�شروع لكونه يتوافق مع م�صاحلها يف ال�شرق الأو�سط‪.‬‬ ‫يف ت�شرين الأول ‪� 1917‬أ�صدر الرئي�س الأمريكي ول�سون بياناً �إىل ال�شعب الأمريكي �أعلن فيه‬ ‫‪1‬‬ ‫موافقته على �إر�ساء "كمونولث يهودي يف فل�سطني"‪.‬‬ ‫بعد انتهاء احلرب العاملية الأوىل وتفكك االمرباطورية العثمانية واكت�شاف اتفاقية �سايك�س‪-‬‬ ‫بيكو يف ‪� 25‬أيار من عام ‪ 1916‬التي تق�سم املنطقة العربية �إىل كيانات �سيا�سية‪� ،‬أعلن وزير‬ ‫خارجية بريطانيا �آرثر بلفور يف ‪ 2‬ت�شرين الثاين عام ‪ 1917‬وعداً‪�" :‬أن حكومة جاللته تنظر‬ ‫بعني العطف �إىل ت�أ�سي�س وطن قومي لليهود يف فل�سطني"‪ .‬عرف فيما بعد بوعد بلفور‪.‬‬ ‫‪ُ -1‬كتب املقال بتاريخ ‪.2016 - 11 – 2‬‬ ‫‪117‬‬


‫هذا الوعد الذي منح الأر�ض ملن ال ميلكها ملن ال ي�ستحقها‪ .‬هذا الوعد الذي �أدى �إىل �أكرب‬ ‫كارثة �إن�سانية عرفها التاريخ الب�شري‪.‬‬ ‫ب�إعالن بلفور دق اال�ستعمار الربيطاين الإ�سفني ال�صهيوين يف منطقة ال�شرق الأو�سط‪،‬‬ ‫وبعد ‪ 30‬عاماً على الوعد وفت بريطانيا بوعدها و�ساهمت باغت�صاب فل�سطني ب�إقامة الكيان‬ ‫ال�صهيوين على �أر�ض فل�سطني يف العام ‪.1948‬‬ ‫لقد �شكل وعد بلفور حجر الأ�سا�س يف ال�صراع العربي ال�صهيوين الذي مل تتوقف الدول‬ ‫اال�ستعمارية عن رعاية امل�شروع ال�صهيوين‪.‬‬ ‫الهدف الوحيد لتنفيذ وعد بلفور هو اغت�صاب فل�سطني وطرد �شعبها و�إحالل اليهود مكانهم‪.‬‬ ‫لقد وفت بريطانيا بوعدها ونفذت وعد بلفور بزرع الكيان ال�صهيوين يف فل�سطني ولكنها‬ ‫خانت حليفها ال�شريف ح�سني ومل تنفذ وعدها له الذي �أطلقه الربيطاين هرني مكماهون‬ ‫يف العام ‪ 1916‬لل�شريف عرب مرا�سالت ح�سني‪ -‬مكماهون والتعهد بقيام مملكة عربية ت�ضم‬ ‫املناطق العربية اخلا�ضعة للحكم العثماين يف �شرق البحر املتو�سط مقابل التحالف مع بريطانيا‬ ‫�ضد تركيا يف احلرب العاملية الأوىل‪.‬‬ ‫يف الذكرة املئوية لوعد بلفور ت�ستمر االعتداءات الإ�سرائيلية على الفل�سطينيني وهدم منازلهم‬ ‫واغتيال �شبابهم وتنفيذ خمطط تهويد القد�س وتو�سيع امل�ستوطنات يف ال�ضفة الغربية و�سط‬ ‫�صمت عربي �أ�سود وتهافت عربي ر�سمي نحو التطبيع مع الكيان ال�صهيوين املحتل‪ ،‬الأمر‬ ‫الذي �أدى برئي�س وزراء الكيان املغت�صب للإعالن ب�أن العديد من الدول العربية مل تعد ترى‬ ‫يف �إ�سرائيل عدواً لها‪.‬‬ ‫بعد قرن على وعد بلفور مل تعد فل�سطني البو�صلة عند �أنظمة العار العربي‪ ،‬وال اغت�صابها‬ ‫وت�شريد �شعبها كارثة �إن�سانية وال القد�س عنواناً عربياً �إ�سالمياً‪.‬‬ ‫على امتداد قرن من وعد بلفور ال يزال ال�شعب الفل�سطيني والعربي يقدم الت�ضحيات‬ ‫والبطوالت من �أجل حترير فل�سطني‪.‬‬ ‫�إن املقاومة وثقافتها هي الرد على وعد بلفور واغت�صاب فل�سطني واملخططات ال�صهيو�أمريكية‪،‬‬ ‫وما انتفا�ضة ال�سكاكني الثالثة وبطوالت �شباب فل�سطني �إال ت�أكيد على �أن ال�شعب الفل�سطيني‬ ‫ع�صي على الإخ�ضاع والتطويع واال�ست�سالم‪.‬‬ ‫‪118‬‬


‫ملف العدد "وعد بلفور"‬

‫فل�سطني يف مواجهة "وعد بلفور"‬ ‫�صفية �سعاده ‪ -‬دكتورة يف التاريخ وباحثة‬

‫الهدف الأول من �إقامة هذه الن�شاطات والتي يجب �أن ت�ستمر طوال ال�سنة حتى ‪ 2‬نوفمرب‬ ‫‪ 2017‬هو تر�سيخ الوعي‪ ،‬خا�صة بني ال�شبان وال�شابات حول خ�سارة فل�سطني التي هي جزء‬ ‫من بالد ال�شام‪.‬‬ ‫�أما الهدف الثاين‪ ،‬والذي بر�أيي هو الأهم‪ ،‬ف�إن الرتكيز على الق�ضية الفل�سطينية هو جامع‬ ‫م�شرتك لكل الطوائف واملذاهب واالثنيات املتواجدة يف �سوراقيا‪ .‬فل�سطني م�صغر جلميع‬ ‫مكونات �سوراقيا‪ ،‬وبالتايل خ�سارتها ت�صيب اجلميع يف ال�صميم‪ .‬الت�صويب على وعد‬ ‫بلفور‪ ،‬هذه ال�سنة ويف ال�سنني القادمة يعني �إخراجنا من متاهات التق�سيم والتفرقة والفنت‬ ‫الطائفية‪.‬‬ ‫لقد درج املنظمون على �إلقاء اخلطابات واملحا�ضرات يف املنا�سبات بالرغم من �أن هذا‬ ‫الأ�سلوب ال ي�شجع ال�شباب على امل�شاركة‪ ،‬كما �أنه يخت�ص بنخبة مثقفة ويهمل تثقيف عامة‬ ‫ال�شعب‪ ،‬لذلك �أقرتح طرقاً جديدة للتوا�صل مع جميع �أفراد املجتمع‪.‬‬ ‫‪ .1‬يف الثاين من نوفمرب القادم‪� ،‬أي يف ‪ 2017‬ي�صار �إىل حتديد ال�ساعة الثانية ع�شرة ظهراً‬ ‫لتوقف كل ن�شاط يف لبنان ملدة خم�س دقائق‪ ،‬و�إذا �أمكن التوا�صل مع كل الدول العربية‬ ‫من �أجل هذا الهدف امل�شرتك‪ .‬على امل�ؤ�س�سات كافة التوقف عن العمل‪ :‬املدار�س‬ ‫واجلامعات‪ ،‬امل�ؤ�س�سات العامة واخلا�صة‪ ،‬حركة ال�سري‪ ،‬الإعالم املرئي وامل�سموع‪ ،‬الخ‪.‬‬ ‫‪ .2‬ت�صدر اجلرائد يف دول العامل العربي بالأ�سود والأبي�ض يوم ‪ 2‬نوفمرب للتذكري‬ ‫باال�ستيطان ال�صهيوين‪.‬‬ ‫‪119‬‬


‫‪ .3‬ينت�شر الك�شافة وال�شبان يف الطرقات ويوزعون الأعالم الفل�سطينية مع الفتات تطالب‬ ‫بحق العودة‪.‬‬ ‫‪ .4‬يتطوع �شبان و�شابات فل�سطينيون‪ ،‬يحمل كل واحد منهم الفتة حتدد القرية �أو املدينة‬ ‫الفل�سطينية التي يتحدر منها ومرادفها باللغة العربية اليوم‪ .‬ت�ستطيع هذه املجموعة التنقل‬ ‫من مكان �إىل �آخر‪� ،‬أمام املدار�س وامل�صارف وامل�شايف ومقار الأمم املتحدة وال�سفارات‪.‬‬ ‫‪ .5‬تخ�صي�ص ‪ 2‬نوفمرب ‪ 2017‬للنقا�ش ملدة �ساعة يف املدار�س حول نتائج وعد بلفور‬ ‫والق�ضية الفل�سطينية‪.‬‬ ‫‪ .6‬الت�شديد على �أن فل�سطني هي املكان الذي ولد فيه امل�سيح ومنه انبثق الدين امل�سيحي‬ ‫ليعم العامل فيما بعد‪.‬‬ ‫‪ .7‬توزيع خرائط لفل�سطني مع الأ�سماء الفل�سطينية ال العربية وتوزيعها على و�سائل‬ ‫الإعالم واملدار�س ب�شكل خا�ص‪.‬‬ ‫‪� .8‬إطالق بالونات حتمل ا�سم فل�سطني باجتاه الكيان ال�صهيوين يف جنوب لبنان واجلوالن‬ ‫والأردن و�سيناء‪.‬‬ ‫‪ .9‬و�ضع الأعالم الفل�سطينية على كامل احلدود مع الكيان ال�صهيوين (لبنان‪� ،‬سوريا‪،‬‬ ‫الأردن‪� ،‬سيناء)‪.‬‬ ‫‪� .10‬إحياء �أم�سيات مو�سيقية لفل�سطني على مدار ال�سنة يف املنتزهات وال�شوارع واملوالت‬ ‫على �أن تكون جمانية‪.‬‬ ‫‪� .11‬إقامة م�سارح دمى للأطفال �أيام الآحاد يت�ضمن ق�ص�صاً عن فل�سطني‪.‬‬ ‫‪ .12‬عر�ض �أفالم ت�سجيلية حول فل�سطني يف �صاالت ال�سينما‪.‬‬ ‫مالحظة‪ :‬يو�ضع رقم �أو �أرقام هاتف لكل من يريد �أن ي�ساهم �أو يتطوع يف هذه الن�شاطات‬ ‫و�إقامة جلنة تنظم املتطوعني‪.‬‬ ‫‪120‬‬


‫ملف العدد "وعد بلفور"‬

‫خم�سون �سنة و�أكرث‬

‫‪1‬‬

‫مي�شال �أبوجودة‬

‫وعد بلفور خم�سون �سنة‪ .‬ثورة �أكتوبر البول�شفية خم�سون �سنة‪ .‬ك�شف حكومة لينني التفاق‬ ‫�سايك�س – بيكو الذي قرر بني ما قرر م�صري فل�سطني خم�سون �سنة‪.‬‬ ‫و�أم�س وبينما الكني�ست الإ�سرائيلي يحتفل يف القد�س وبح�ضور وزير بريطاين بالذكرى اخلم�سني‬ ‫لوعد بلفور كان امللك ح�سني يتحادث يف لندن مع امل�سرت جورج براون الذي هو مبثابة خليفة‬ ‫�صاحب الوعد ويدعوه رمبا للم�ساعدة على حترير العرب ال من االحتالل العثماين بل من‬ ‫احتالل ورثة وعد بلفور‪ .‬ويف هذا الوقت كان ي�صل �إىل لندن الرئي�س الرتكي جودت �صوناي �أول‬ ‫رئي�س دولة تركي يزور بريطانيا منذ مئة عام كخليفة خللفاء بني عثمان الذين حتالف اجلد الأعلى‬ ‫للملك ح�سني‪� ،‬سميه ال�شريف ح�سني‪ ،‬مع بريطانيا لتحرير العرب من حكمهم بعدما �أ�صبحت‬ ‫االمرباطورية العثمانية "الرجل املري�ض"‪.‬‬ ‫وخليفة االمرباطورية العثمانية الآن يف دور "الرجل املري�ض" هي بريطانيا التي يزورها خليفة‬ ‫ال�سالطني‪ ،‬واقفة على باب ديغول تريد الدخول �إىل �أوروبا فتو�صد لها الباب‪ ،‬مع فرن�سا‪� ،‬أملانيا‬ ‫– �أو ماتبقى منها – والتي كانت يف النهاية‪ ،‬وبعد ابتعاد احلرب وتاريخها‪� ،‬سبب "االحتالل‬ ‫الأمريكي" لبالد االنكليز التي يذهب �إليها خليفة ال�شريف ح�سني بن علي يطلب �سالحاً‬ ‫فتخاف الت�صرف اتقاء لغ�ضب البي�ض الأبي�ض ورمبا لغ�ضب ورثة وعد بلفور‪.‬‬ ‫و�أملانيا التي تو�صد باب �أوروبا مع فرن�سا يف وجه بريطانيا هي خليفة �أملانيا حليفة االمرباطورية‬ ‫العثمانية �أيام وعد بلفور وثورة لينني واتفاق �سايك�س – بيكو‪.‬‬ ‫‪ - 1‬هذا املقال‪ ،‬كتبه الصحايف الكبري ميشال أبوجودة ونُشر يف جريدة النهار بتاريخ ‪ ،1967 - 11 - 2‬مبناسبة مرور‬ ‫‪ 50‬سنة على وعد بلفور‪ .‬وقد أعدان نشر املقال مبناسبة مرور ‪ 25‬سنة على وفاة ميشال أبوجودة‪.‬‬ ‫‪121‬‬


‫و�أملانيا التي تخاف الآن من ورثة لينني يف حال �إقدام بريطانيا على �سحب قواتها من الراين هي‬ ‫خليفة �أملانيا التي �سحبت الثورة البول�شفية مبا ي�شبه الهزمية وعلى ح�ساب ق�سم من الوطن الرو�سي‪.‬‬ ‫و�أملانيا التي ت�سببت يف �إر�سال ق�سم كبري من اليهود �إىل فل�سطني والتي اعتذرت للملك ح�سني‬ ‫عن �إعطائه ال�سالح �أو حتى عن التو�سط بني العرب و�إ�سرائيل – بعدما تولت ت�سليح ومتويل‬ ‫�إ�سرائيل فرتة من الزمن – تر�سل م�ست�شارها ال�سابق‪ ،‬خليفة �أدولف هتلر‪ ،‬الدكتور لودفينغ ارهارد‬ ‫اىل �إ�سرائيل ليقول عند و�صوله �إليها "�شالوم" ك�أنه جاء للتهنئة باحلرب‪ ،‬وك�أن قوات مو�شي دايان‬ ‫ال تذكره بقوات النازي‪ ،‬وك�أن كالم ليفي �أ�شكول عن "�إ�سرائيل الكربى" ال يعيد �إىل ذاكرته ما‬ ‫جره على �أملانيا و�أوروبا كالم �آخر عن "الوطن الأملاين الكبري"‪.‬‬ ‫وامللك ح�سني يهدد بريطانيا بالت�سلح من رو�سيا التي تر�سل �إ�سطولها الآن اىل بور�سعيد بعد مئة‬ ‫عام تقريبا على �شق قناة ال�سوي�س التي كانت �سبب االحتالل االنكليزي مل�صر‪.....‬‬ ‫بينما بريطانيا ت�صرخ عالياً طالبة فتح القناة كي ال تخ�سر كل ما ربحته طيلة قرن كامل‪....‬‬ ‫و�سبب �شق القناة تق�صري طريق الهند التي تتوىل الآن يف الأمم املتحدة حماولة �إنقاذ م�صر وبريطانيا‬ ‫مما جرته عليهما قناة ال�سوي�س‪.‬‬ ‫ورو�سيا التي يهدد امللك ح�سني بريطانيا بالت�سلح منها ت�ستعد ال�ستقبال مدعو �آخر الحتفاالت‬ ‫ثورة �أكتوبر هو الرئي�س ال�سالل خليفة الإمام يحيى �أول رئي�س دولة يف العامل اعرتف بحكومة‬ ‫لينني وبدولة االحتاد ال�سوفياتي‪.‬‬ ‫يف هذا الوقت ت�ستعد بريطانيا للجالء عن عدن و"جنوب اليمن املحتل" وتعجز عن جندة خليفة‬ ‫احل�سني بن علي وت�صرخ عالياً طالبة فتح قناة ال�سوي�س‪.‬‬ ‫‪...‬ووعد بلفور خم�سون �سنة‪ .‬وثورة لينني خم�سون �سنة‪....‬‬ ‫وك�شف اتفاقية �سايك�س – بيكو خم�سون �سنة‪ .‬وم�صري فل�سطني خم�سون �سنة‪.‬‬ ‫وخليفة ال�شريف ح�سني مع خليفة ال�سالطني يف لندن‪ .‬ولندن عند ورثة وعد بلفور يف القد�س‪.‬‬ ‫ورئي�س حكومة ورثة وعد بلفور يدعو امللك ح�سني للتفاو�ض يف القد�س ال�شريف‪.‬‬ ‫‪122‬‬


‫ف��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ك��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ر‬

‫رحلة الأبدية‬

‫انطوان بطر�س‪ - 1‬باحث وم�ؤرخ‬

‫خفف الوطء ما �أظن �أدمي الأر�ض �إال من هذه الأج�ساد (املعري)‬

‫لهذا املقال خلفية قدمية تعود اىل الزمن الذي وقف فيه الإن�سان حائراً �أمام ظاهرتي احلياة‬ ‫واملوت‪ .‬يوم �أدرك‪ ،‬بعد فرتة ال ي�ستهان بها من ع�صور ما قبل التاريخ‪� ،‬أنه بت�أثري حركة‬ ‫ال�شم�س وانتظامها بني ليل ونهار‪ ،‬ي�ستطيع �أن ينظم حياته وفقاً لإيقاعها ويخرج يف نظام‬ ‫جماعي لل�صيد نهاراً والإحتماء يف املغاور ليال ً ‪ ،‬والتنعم بالدفء حول النار التي تهبط‬ ‫عليه‪ ،‬بني احلني والآخر‪ ،‬ب�شكل كرات نارية من ال�سماء فيحمل جمراتها يف وعاء من الطني‬ ‫املحمى وي�صطنع لنف�سه الأدوات كاملدي واحلراب امل�سننة ويرتدي فراء احليوان ومي�سك‬ ‫ب�شظايا عظمية �صلبة وين�سق ا�سرتاتيجيات بدائية لغزوات �أهلية ‪.‬‬ ‫وقلما جتاوز �إن�ساننا هذا العقد الثالث من العمر قبل ان ي�سقط فري�سة مر�ض �أوعراك �أو رحلة‬ ‫�صيد وحو�ش كا�سرة كونه احللقة ال�ضعيفة يف توازن القوى مقارنة بال�ضواري �إىل �أن حتققت‬ ‫له الغلبة با�ستعمال الرماح والهراوات‪.‬‬ ‫وكان يقف حائراً �أمام بني جن�سه الذين ي�سقطون وال ميلك �أكرث من �أن يهيل عليهم الرتاب‬ ‫لإبعاد ال�ضواري وطرد الروائح‪ .‬وكان تارة يدفن قتاله وتارة �أخرى يحرقها و�سط �شعائر‬ ‫وطقو�س كطلي الأموات و�صبغهم بلون �أحمر لإ�ضفاء �شيء من مظاهر احلياة عليهم‪ ،‬داللة‬ ‫على �إلإميان ب�أن ثمة �شيء وراء الوجود‪.‬‬ ‫ويقول العلماء �أن �أ�صل العادات لي�س الأ�ساطري و�إمنا هو عبادة الإن�سان القدمي لأجداده‬ ‫‪- 1‬هذه الدراسة آخر ما كتبه املؤلف‪ ،‬وقد خص هبا جملة “حتوالت مشرقية” قبل وفاته‪ .‬تويف الكاتب يف ‪ 23‬شباط ‪ .2017‬من‬ ‫مؤلفاته‪ :‬كتاب “‪ 8‬متوز” وكتاب “أنطون سعاده حياته وفكره” وسيصدر له قريباً قاموس لكتاب “نشوء األمم”‪ -‬وله العديد‬ ‫من الكتاابت واحملاضرات‪.‬‬ ‫‪123‬‬


‫املوتى‪ .‬و�أن هذا الإن�سان �آمن بـ"حياة " املوتى ب�سبب �أحالمه التي كان يراهم فيها‪ .‬وكان‬ ‫الإن�سان القدمي يخ�شى جثث �أحداده املوتى ويحفر القبور ويدفنها �أو يقيدها ويبرت بع�ض‬ ‫�أع�ضائها قبل الدفن ب�سبب اخلوف منها‪ .‬ويقدر العلماء �أن حرق اجلثث يعود على الأقل‬ ‫ع�شرين �ألف �سنة �إىل الوراء مقابل مائة �ألف �سنة للدفن‪.‬‬ ‫ويف رحلة احل�ضارة الب�شرية مل تتخل امل�ؤ�س�سات الروحية يوماً عن ممار�سة الطقو�س التي تدعم‬ ‫كيانها كونها �سالحها الأم�ضى يف �ضمان ال�سيطرة على املجتمع ‪ .‬وحرمت الكني�سة حرق‬ ‫الأموات واعتربته خطيئة دينية كربى‪ .‬ويف ع�صورنا احلديثة �أ�صبح احلرق خيار �أ�صحاب‬ ‫الفكر احلر من علماء وفنانني ومفكرين وتقدميني العتبارات �شخ�صية ت�سمو بر�أيهم على‬ ‫ما يف الأديان من تقاليد‪ .‬و�أعطت بع�ض املجتمعات احلرق تعبرياً ملحمياً تكرم به �أعمال‬ ‫البطولة ‪.‬‬ ‫ومن �أ�شد العراقيل التي كانت وال تزال تقف �أمام الرتميد التعلق بالطقو�س الدينية مت�سكاً‬ ‫بالقول‪ ":‬من تراب واىل تراب تعود"‪ .‬ولكن لبع�ض امل�ؤمنني امل�صلحني ردهم " �إذا كان اهلل‬ ‫�سبحانه ي�ستطيع �أن ُيحيي حفنة تراب فهو لن يعجزعن �إحياء حفنة رماد"‪.‬‬ ‫واجه �أ�سلوب احلرق �صعوداً وهبوطاً‪ .‬وقلما يوجد اليوم بلد غربي ال تتوفر فيه خدمة حرق‬ ‫املوتى‪ .‬و�سي�أتي اليوم الذي ي�صبح فيه احلرق القاعدة لأن املقابر �ستحتل كل مرتين مكعب‬ ‫من الأر�ض‪.‬‬ ‫الذي يراجع �أ�سماء بع�ض الذين اختاروا �أن ُيحرق جثمانهم بعد املوت يجد �أمثال‪:‬‬ ‫�سيغموند فرويد‪� ،‬أبو التحليل النف�سي وابنته �آنا‪ ،‬وهي بدورها حمللة نف�سية‪ ،‬وهربرت ج‬ ‫ويلز‪ ،‬الكاتب الأملعي و�أحد م�ؤ�س�سي الق�ص�ص العلمية‪ ،‬والكاتب برنارد �شو‪ ،‬وفريديك‬ ‫اجنلز‪� ،‬شريك كارل مارك�س يف ت�أ�سي�س الفكر املارك�سي‪ ،‬وت�شارلز لندبرج‪� ،‬أول عابر‬ ‫للمحيط بالطائرة‪ ،‬وفن�سنت براي�س‪ ،‬ا�شتهر يف متثيل �أفالم الرعب‪ ،‬وبيرت �سلرز‪� ،‬صاحب‬ ‫�شخ�صية املفت�ش كلوزو‪ ،‬وفيفيان يل‪ ،‬بطلة فلم "ذهب مع الريح"‪ ،‬وماريا كاال�س‪ ،‬مغنية‬ ‫الأوبرا ال�شهرية‪ ،‬وبول تيبت�س‪ ،‬قائد الطائرة التي �أ�سقطت القنبلة الذرية على هريو�شيما‪،‬‬ ‫جميع ه�ؤالء والألوف غريهم‪ ،‬الجامع م�شرتكاً بال�ضرورة بينهم اللهم با�ستثناء النزعة‬ ‫‪124‬‬


‫فـــــكـــــر‬

‫العقلية والذوق اخلا�ص للخروج عن طقو�س تعود اىل �ألوف ال�سنني‪.‬‬ ‫وهناك عامل رئي�سي يدفع باملرء اىل تف�ضيل الرتميد‪ ،‬وقد يكون عام ًال مبدئياً عقالنياً ظاهرياً‬ ‫وعاماً‪ ،‬كما قد يكون عام ًال نف�سياً خُ ُلقياً مزاجياً وم�سترتاً‪.‬‬ ‫وال�صفة امل�شرتكة هي النظرة ال�شخ�صية املتحررة جتاه الطقو�س عامة‪ .‬قد يقول قائل وما هي‬ ‫قيمة خيارات ما بعد املوت �إن كنا ال نعي منها �شيئاً؟ واجلواب �أولي�س البديل (الدفن) خياراً‬ ‫مفرو�ضاً ملا بعد املوت؟‬ ‫ومن العوامل الهامة الأخرى يف اختيار طقو�س الدينية احرتام الإن�سان لكيانه ولذاته وطريقة‬ ‫موته ونفوره مما ي�صيبه من �صور تقزز لها النف�س؟ ملثل هذا ال�سبب �أو�صى الكاتب امل�صري‬ ‫التقدمي �سالمة مو�سى �أن يحرق جثمانه بعد وفاته‪.‬‬ ‫من �أ�سباب تف�ضيل احلرق على الدفن ب�ساطته ب�صورة عامة وانخفا�ض كلفته و�صداقته للبيئة‬ ‫و�سرعة �إجراءاته ( ال ي�ستغرق احلرق �أكرث من �ساعة لكل ‪ 50‬كيلوغرام)‪ .‬و�إمكان �إ�ضفاء‬ ‫الطابع ال�شخ�صي على هذه الإجراءات‪ .‬كتحويل الرماد اىل بلورات من الكري�ستال‪ .‬ي�ضاف‬ ‫اىل ذلك �أ�سباباً �أخرى �أبرزها اخلوف من الأماكن ال�ضيقة (الكلو�سرتوفوبيا) و �سرقة اجلثث‬ ‫وبيعها ملعاهد الت�شريح الطبى ‪.‬‬ ‫ومن امل�شاهري الذين جاهرو باخلوف من الأماكن ال�ضيقة واختاروا احلرق بديال من الدفن‬ ‫�شبلي �شم ّيل‪ ،‬الطبيب والكاتب النه�ضوي اللبناين الأ�صل الذي �أو�صى ب�أن ُيحرق‬ ‫جثمانه خوفاً مما �أ�سماه بـ"يقظة" القرب‪ .‬وقال �شميل �إن العالمات املعروفة التي ترافق املوت‬ ‫ويعول عليها النا�س حتى اليوم ك�أدلة على املوت‪ ،‬همود اجل�سم وبرده‪ ،‬وانقطاع التنف�س‪،‬‬ ‫وانقطاع النب�ض ووقوف دقات القلب‪ ،‬وهي عالمات تخطيء �أحيانا فيدفن املرء حياً بالواقع‬ ‫وميت ظاهري ُا‪ .‬ويختتم �شم ّيل بالقول " ال �أخاف املوت وال �أخاف ما بعد املوت وال يهمني‬ ‫�أ�أحرقت يف النار �أم دفنت يف الرتاب‪...‬ال �أخاف �إال "يقظة " القرب"‪ .‬والواقع �أنه لهذه‬ ‫الأ�سباب �سنت بع�ض الدول الغربية ت�شريعات متنع الدفن �أو احلرق قبل مرور حواىل يومني‬ ‫بانتظار ح�صول تعفن ‪.‬‬ ‫‪125‬‬


‫�أما بالن�سبة اىل كلفة احلرق مقارنة بكلفة �شراء �أو ا�ستئجار قطعة �أر�ض للدفن‪ .‬ففي الرتميد‬ ‫ي�ستغنى عن اخل�شب املتني واجليد وتعتمد �صناديق من الكرتون املقوى �أو �أ�شباه اخل�شب �إذا‬ ‫لزم الأمر‪ .‬وب�صورة عامة ترتاوح كلفة الرتميد ما بني خم�سمائة اىل ثالثة �آالف دوالر مبا فيه‬ ‫ثمن الإناء حلفظ الرماد‪ .‬وقد يكتفى بذر الرماد يف البحر �أو النهر �أو احلديقة �أو منزل الفقيد‬ ‫�أو حتويله كما �أ�شرنا اىل كري�ستال‪.‬‬ ‫وتكمن امل�شكلة يف عدم معرفة النا�س مبا يح�صل لهم بعد موتهم من تغيريات وب�شاعات‪.‬‬ ‫وقد ال يعلمون �أي�ضا �أنهم ميار�سون مع املوت مفاهيم و�شعائر تعود اىل االن�سان القدمي قبل‬ ‫مئات �ألوف ال�سنني‪ .‬ملاذا ال ندعهم ير�سمون �صورة بهية قائمة على الب�ساطة والنظافة يف‬ ‫مواجهة املوت؟ ملاذا نرتك الإن�سانية فري�سة �صورة مرعبة لتطوره‪ ،‬عو�ضاً عن هذه املرحلة‬ ‫الب�شعة من كيانها حتى و�إن كان يجهلها يف هذه املرحلة من ح�ضارته‪� .‬أو لي�س من الأن�سب‬ ‫جملة وتف�صيال جتنيب اجلن�س الب�شري هذه ال�صورة املرعبة ملفهوم الكيان واحل�ضارة‪.‬‬ ‫وفيما يلي �صورتني افرتا�ضيتني واحدة ل�سيناريو الدفن والآخر ل�سيناريو الرتميد حت�ضري ُا‬ ‫مل�سرح الأبدية‪:‬‬ ‫امل�شهد الأول ( الدفن)‪:‬‬

‫�صندوق خ�شبي مغلق على �إن�سان حتول فج�أة من ج�سد حي لطيف امللم�س خالل حلظات‬ ‫اىل كائن بارد التعابري له يخيفك �إن �أطلت النظر �إليه‪ .‬وخالل �أيام ي�صبح من املتعذر‬ ‫الإقرتاب منه لذا يوارى الرثى حتت الأر�ض �أو يف جارور م�ستطيل من الإ�سمنت امل�سلح‬ ‫ويو�صد عليه بوا�سطة لوح من احلديد‪ .‬و ابتداء من هذه اللحظة �أ�صبح غري ذي وجود فيزيائي‬ ‫وال نعرف �شيئا عنه‪� .‬إال �إذا ا�ستيقظ و�أمكن �إخراجه و�إعادته اىل الوجود‪ .‬كثريون ممن مروا‬ ‫يف جتربة م�شابهة ذكروا �أنهم وقفوا �أمام دهليز م�شع بال�ضوء لكنهم مل يكملوا عبوره وا�ستفاقوا‬ ‫وعادوا اىل احلياة‪� .‬إنها حاالت نادرة جداً وغام�ضة والعلم ال يعرتف ب�أن �أحداً عاد من املوت‬ ‫(با�ستثناء ال�سيد امل�سيح ومن كان حوله مثل �أليعازار وطابيثا التي قيل �إن اهلل �أقامها على يد‬ ‫بطر�س بعد موتها)‪.‬‬ ‫‪126‬‬


‫فـــــكـــــر‬

‫يف جميع الأحوال �أهيل الرتاب فوق فقيدنا وم�ضى يف رحلته اىل ما ي�سمى بالأبدية‪.‬‬ ‫وت�سود املكان رائحة كريهة جداً ناجتة عن ماليني البكرتيا والديدان التي تنه�ش ج�سد‬ ‫الفقيد (�أو الفقيدة) عم ًال بقول ال�سيد امل�سيح " لأنكم ت�شبهون قبوراً مبي�ضة تظهر من‬ ‫خارج جميلة وهي من داخل مملوءة عظام �أموات وكل جنا�سة (متى ‪ )27:23‬اىل �أن ي�صبح‬ ‫املدفون هيكال عظميا �أين منه ذلك الرجل الو�سيم �أو تلك ال�صبية احللوة‪.‬‬ ‫امل�شهد الثاين (و�صية طالب احلرق)‪:‬‬

‫�أما بالن�سبة للإجراءات ال�شخ�صية فقد اخرتت �أن يحرق جثماين �صباح غد اً مع �إنبالج‬ ‫الفجر فوق روابي بلدتي (‪ )...‬حيث ع�شت و�أ�سرتي ال�سنوات اخلم�سون الأخرية من عمري‪.‬‬ ‫�إنها بلدة ال�صوت ال�ساحر واملو�سيقى والثقافة والعامية الأوىل‪.‬‬ ‫�أطلب �أن يذر رمادي يف الف�ضاء الف�سيح وفوق �أ�شجار ال�صنوبر الأخ�ضر وب�ساتني الربتقال‬ ‫العطر‪ ،‬حتت �سماء �صافية والهواء الندي الذي عرب اجلبال والوديان بن�سيمه العليل ونقاوته‬ ‫ال�شافية‪.‬‬ ‫وح�سبي �أن �أ�شارك يف ا�ستقبال ال�شم�س يف بداية يومها وهي تغمر الأر�ض �شيئاً ف�شيئاً‬ ‫وحتت�ضنني �أ�شعتها وتدب احلياة على �صنوفها‪ .‬فتتفتح الزهور وتزقزق الع�صافري ويبا�شر النحل‬ ‫غزواته فوق م�ساكب الورود ويراكم ال�شهد على نوافذ احل�سناوات‪.‬‬ ‫وحتملني الطبيعة على كفيها وتطري بي على ب�ساط �سحري‪ .‬و�أرى طيفي يف احلقول و�أ�سمع‬ ‫نف�سي يف �أنغام الطبيعة و�أحلق مع الطيور املهاجرة اىل كل مكان وكل زمان حتى �أ�صبح‬ ‫جزء من عمارة الكون ف�أعيد للوجود ما �سبق و�أخذته من خري وبركة‪.‬‬ ‫وح�سبي �أن يظل االن�سان نظيفاً و�إن تعفى دورة وجوده من الب�شاعة فيذهب اىل حيث‬ ‫اختارت العوامل �أن مي�ضي فال �أبواب مو�صدة وال �أزهار ياب�سة‪...‬‬ ‫ويف امل�ساء ي�سحرين الغروب مثلما ي�سحرين ال�شروق‪ .‬و�أمتاهى مع عبور القمر وحركة النجوم‬ ‫ودوران الزوابع واملجرات التي تدور ك�ساعة عمالقة تنظم الكون على وقع �أنغام خفيفة متنح‬ ‫الكون حركته وجيويته‪.‬‬ ‫‪127‬‬


‫دار نل�سن‬

‫هاتف ‪01/739196:‬‬ ‫الربيد الإلكرتوين ‪darnelson@hotmail.com:‬‬


‫ف��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ك��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ر‬

‫�سورية يف �ستة �آالف عام‬

‫‪1‬‬

‫كمال ديب ‪ -‬باحث وم�ؤرخ‬

‫بالد ال�شام منذ فجر التاريخ‬

‫ب ّر ال�شام بالد قدمية تعود ح�ضارتها �إىل �آالف ال�سنني وتقع بني بالد ما بني النهرين من جهة‬ ‫ووادي النيل من جهة �أخرى‪� ،‬شاملة ما كان يعرف بال�ساحل الفينيقي ال�سوري‪ -‬اللبناين‪-‬‬ ‫الفل�سطيني‪ ،‬من �أوغاريت �شما ًال وحتى عكا جنوباً‪ ،‬والق�سم الداخلي من اجلمهورية العربية‬ ‫ال�سورية احلالية‪ ،‬وفل�سطني التاريخية‪.‬‬ ‫ولي�س يف الأمر مبالغة � ّأن بالد ال�شام‪ ،‬على �صغر م�ساحتها اجلغرافية قد ّقدمت للب�شرية منفردة‬ ‫�أكرث مما ّقدمته �أي منطقة �أخرى يف العامل‪ -‬من معارف وعلوم و�آداب وحياة روحية‪ .‬وال غرو يف‬ ‫مقد�سة للديانات التوحيدية الثالثة الإ�سالم وامل�سيحية واليهودية‪ ،‬ويف قلب‬ ‫ذلك‪ ،‬فهي �أر�ض ّ‬ ‫ت�شده �إىل مكانٍ ما من هذه البقعة‪:‬‬ ‫كل م� ٍؤمن بواحدة من هذه الديانات يف العامل‪ ،‬بو�صل ٌة ّ‬ ‫القد�س‪ ،‬النا�صرة‪ ،‬بيت حلم‪� ،‬أنطاكيا‪ ،‬امل�سجد الأق�صى‪ ،‬كني�سة املهد‪ ،‬كني�سة القيامة‪ ،‬اجلامع‬ ‫الأموي‪ ،‬مقام ال�سيدة زينب‪ ،‬وادي قادي�شا‪ ،‬الخ‪ .‬فبالد ال�شام هي مهد امل�سيحية واليهودية ومنها‬ ‫انطلق الإ�سالم يف القرن ال�سابع امليالدي لي�ؤ�س�س �أكرب امرباطورية يف التاريخ وعا�صمتها دم�شق‪.2‬‬ ‫‪ -1‬صدر عن املكتبة الشرقية ‪ -‬بريوت ‪ -‬كتاب كمال ديب األخري "سورية يف التاريخ من أقدم العصور إىل‬ ‫‪ ،"2016‬هذا جزء من الفصل األول ننشره مبوافقة املؤلف‪.‬‬ ‫‪2 - The first three chapters of this book rely on the following works: Hitti,‬‬ ‫;‪Philip, Syria A Short History, New York, The MacMillan Company, 1959‬‬ ‫‪Petran, Tabitha, Syria: Nations of the Modern World, New York, Praeger‬‬ ‫‪Publishers, 1972; Tibawi, Abdul-Latif, A Modern History of Syria including‬‬ ‫‪Lebanon and Palestine, New York, Mcmillan St. Martin’s Press, 1969.‬‬ ‫‪129‬‬


‫�سورية هي اجل�سر الذي ربط القارات القدمية الثالثة عرب التاريخ‪� :‬آ�سيا و�أوروبا و�إفريقيا‪.‬‬ ‫تتو�سط مناطق �صحراوية‬ ‫فهي جز ٌء من منطقة الهالل اخل�صيب ال�صالح للمعي�شة واحل�ضارة‪ّ ،‬‬ ‫وجرداء �إجما ًال‪ .‬ولذلك جذبت �سورية الهجرات الب�شرية منذ ما قبل التاريخ اجللي‪ ،‬وكانت‬ ‫متعددة نظراً لأهميتها اال�سرتاتيجية وثرواتها الطبيعية‪ .‬وال�صراع على‬ ‫هدفاً لغزوات ع�سكرية ّ‬ ‫�سورية لي�س وليد القرن الع�شرين كما عنونَ باتريك �سيل كتابه (‪ ،)Struggle for Syria‬بل‬ ‫هذا ال�صراع لو�ضع اليد على �سورية عمره �آالف ال�سنني وهو ثيمة مركزية يف تاريخ �سورية‪.1‬‬ ‫فقد ت�صارعت جيو�ش قادمة من بر الأنا�ضول واله�ضبة الإيرانية ومن وادي النيل وبالد ما‬ ‫بني النهرين‪ ،‬و�أخرياً من اجلزيرة العربية بعد ظهور الإ�سالم‪ ،‬لت�ضع يدها على �سورية‪ ،‬لأنّ‬ ‫وباب الهيمنة الإقليمية‪ .‬وكان موقع‬ ‫ال�سيطرة على �سورية كانت َ‬ ‫مفتاح بناء االمرباطوريات َ‬ ‫�سورية كج�سر لي�س فقط لتنقّل ال�شعوب واجليو�ش بل كنقطة تالقٍ ح�ضاري لت�أثريات ثقافية‬ ‫متن ّوعة‪ .‬كما �أنّ موقعها كج�سر جعلها تقاطع طرق التجارة الدولية من قوافل و�سفن فجاءتها‬ ‫ال�صناعات والتقنيات والأفكار‪ ،‬فكانت �سورية و�سيطاً جتارياً وح�ضارياً بني االمرباطوريات‪.‬‬ ‫حتى �إنّ �شعب �سورية قد امت�ص هذه الت�أثريات على �أنواعها وقولبها وفق حاجاته و�صنع‬ ‫ح�ضارة ّقدمت الكثري من الإجنازات يف تاريخ الب�شرية‪.‬‬ ‫وتربز �أمام الباحث �صعوبة يف ت�أريخ هذه البالد يف فرتة ما قبل احلرب العاملية الأوىل‪ .‬ففي‬ ‫كل ما ُكتـب عن �سورية‪ّ ،‬‬ ‫يذكر امل�ؤ ّرخون دائماً ب�أنّ ا�ستعمال عبارتي "بر ال�شام" و"�سورية"‬ ‫هو داللة على منطقة تت�شارك يف تاريخها العام الكيانات التي ظهرت بعد العام ‪�( 1920‬أي‬ ‫لبنان وفل�سطني واجلمهورية ال�سورية احلالية ومناطق �أخرى كاال�سكندرون وكيليكيا)‪ ،‬ثم‬ ‫ي�صبح لكل كيان تاريخه املنف�صل بعد ‪.1920‬‬ ‫فا�سم �سورية قدمي يف التاريخ ا�ستعمله الإغريق‪ ،‬وحتى احلرب العاملية الأوىل (‪- 1914‬‬ ‫‪ )1918‬كتعبري جغرايف لبالد تقع �شرق البحر املتو�سط‪ ،‬ومتتد من جبال طورو�س �شما ًال‬ ‫وحتى �سيناء جنوباً و�أطراف ال�صحراء �شرقاً‪� .‬أو كتعبري �إداري �سيا�سي لهذه البالد �أو جلزء‬ ‫منها‪ .‬فيما ا�ستعمل العرب ت�سمية "بالد ال�شام" �أي املنطقة الواقعة �شمال (�ش�آم) احلجاز‬ ‫‪1-Petran, Tabitha, Syria: Nations of the Modern World, p. 31.‬‬ ‫‪130‬‬


‫فـــــكـــــر‬

‫مقارنة باليمن الواقعة �إىل ميني احلجاز‪ .‬و�إذ يغلب على املناطق ال�ساحلية �سل�سلة جبلية متتد‬ ‫ت�شق هذه ال�سل�سلة‪ :‬الأول‬ ‫من �أق�صى ال�شمال وحتى جنوب لبنان‪ ،‬ف�إنّ ّثمة ثالثة ّممرات ّ‬ ‫يقع مبا�شرة جنوب جبال طورو�س وي�ستمر حتى جبال الن�صريية وي�سمح بالعبور �إىل حلب‬ ‫واملو�صل و�صو ًال �إىل بالد ما بني النهرين واله�ضبة الإيرانية وو�سط �آ�سيا‪ .‬ولقد ا�ستعمل‬ ‫هذا املم ّر لآالف ال�سنني للتجارة بني �أوروبا و�آ�سيا وكطريق للجيو�ش والغزاة وامل�سافرين‪.‬‬ ‫والثاين هو مم ّر طرابل�س‪ -‬حم�ص ولك ّنه ينتهي ببادية ال�شام‪ .‬والثالث يقع مبا�شرة �إىل اجلنوب‬ ‫من جبل لبنان ّ‬ ‫و�شكل املمر الرئي�سي للغزوات امل�صرية والتجارية ال ّربية مع وادي النيل‪،‬‬ ‫جمدو ثم وادي الأردن فوادي الريموك ليت�صل بدم�شق والداخل‬ ‫عرب وادي الكرمل و�سهل ّ‬ ‫ال�سوري‪� .‬أ ّما املناطق اجلبلية ‪-‬لبنان والن�صريية‪ -‬فقد مثّلت عرب التاريخ مالجئ طبيعية‬ ‫للأقليات الدينية‪.1‬‬ ‫و�إذ ي�سيطر املناخ املتو�سطي املعتدل على كامل ال�ساحل‪ ،‬مع من�سوب جيد من الأمطار والثلوج‪،‬‬ ‫ما ي�سمح بتجميع املياه اجلوفية وتدفق الأنهر ال�ساحلية‪ ،‬ف�إنّ اجلبال التي ي�صل ارتفاع قممها‬ ‫�إىل ‪� 11‬ألف قدم ّ‬ ‫ت�شكل حاجزاً �ضخماً �أمام انت�شار املناخ املتو�سطي يف الداخل ال�سوري‪،‬‬ ‫بالتمدد �شرقاً يف منطقة الالذقية ووادي العا�صي‬ ‫با�ستثناء املمرات التي جتعل املناخ املتو�سطي ّ‬ ‫�شما ًال‪ ،‬ويف طرابل�س وعكار وحمافظة حم�ص يف الو�سط‪ ،‬ويف �ساحل �شمال فل�سطني حتى‬ ‫وادي الأردن ووادي الريموك و�صو ًال �إىل حوران ودرعا‪ .‬و�إذا �أ�ضفنا وادي البقاع الذي يعربه‬ ‫نهر الليطاين ونهر العا�صي‪ ،‬وغوطة دم�شق جلمعنا كل مناطق �سورية التي ن�ش�أت فيها احل�ضارة‪.‬‬ ‫عام و�آخر‬ ‫ولكن الأمطار يف الداخل بعيداً عن ال�ساحل قليلة الهطول وتختلف كمياتها بني ٍ‬ ‫و�أحياناً مت ّر �سنوات جفاف فيتدهور النتاج الزراعي‪ .‬ولقد تك ّررت �سنوات اجلفاف عرب �آالف‬ ‫املقد�س‪ -‬العهد القدمي "ال�سنوات ال�سبع العجاف" وما ج ّرته من جماعة‬ ‫ال�سنني وذكر الكتاب ّ‬ ‫وم�شقات‪ .‬وحتى اليوم ف�إنّ �أكرث من ‪ 60‬باملئة من �أرا�ضي اجلمهورية العربية ال�سورية يتلقى‬ ‫‪ 250‬ملم من الأمطار‪ ،‬فيما يتلقى ‪ 30‬باملئة من الأرا�ضي ‪� 300‬إىل ‪ 500‬ملم‪ ،‬وفقط ‪ 10‬باملئة من‬ ‫البالد يتلقى من�سوباً معقو ًال هو ‪� 500‬إىل �ألف ملم من الأمطار �سنوياً‪( .‬وم�شكلة اجلفاف كانت‬ ‫من �أ�سباب احلرب التي ا�شتعلت يف �سورية عام ‪.)2011‬‬ ‫‪1- Petran, Tabitha, Syria: Nations of the Modern World, p. 18.‬‬ ‫‪131‬‬


‫وراء هذا ال�شريط املمتد من البحر وحتى عمق ‪ 100‬كلم تقريباً ّثمة بادية كربى غري �صحراوية‬ ‫تغطيها احل�شائ�ش والنباتات املو�سمية متتد من اجلنوب جوار وادي الأردن يف قو�س �شمال‬ ‫ال�صحراء ال�سورية �أو ال�شامية لتنتهي عند اخلليج العربي‪ .1‬ولذلك فقد �أطلق امل�ؤرخ الأمريكي‬ ‫جيم�س هرني بر�ستيد على جميع الأرا�ضي اخل�صبة التي تقع �إىل ال�شمال من هذا القو�س‬ ‫ا�سم الهالل اخل�صيب‪� ،‬سورية ذراعه الغربي وبالد ما بني النهرين ذراعه ال�شرقي‪ .‬وجند يف‬ ‫الذراع ال�سوري من اجلنوب �إىل ال�شمال �سهل حوران وغوطة دم�شق و�سهول حم�ص وحماه‬ ‫وحلب ثم اجلزيرة ال�سورية الواقعة بني دجلة والفرات‪ .2‬ورغم �أنّ اجلزيرة هي جزء من بالد ما‬ ‫بني النهرين جغرافياً �إال �أ ّنها كانت دائماً �سورية ح�ضارياً وثقافياً وتاريخياً‪.‬‬ ‫وعادة ما يكتفي الك ّتاب بالإ�شارة �إىل املنحى اجلغرايف لال�سم فقط دون �أن يتوقفوا على ما‬ ‫� ّأكده امل�ؤرخون وعلماء الآثار من �أنّ هذه امل�ساحة ّ‬ ‫�شكلت ب�ؤرة ح�ضارية متوا�صلة ومم ّيزة عن‬ ‫جوارها لأكرث من �س ّتة �آالف �سنة‪ .‬في�ؤّول كثريون وخا�صة ك ّتاب غربيون‪ ،‬نظرتهم �إىل �سورية‬ ‫�أ ّنها مل ّ‬ ‫ت�شكل وحدة �إثنية �أو �سيا�سية ذاتية عرب التاريخ‪ .‬وبهذا الإغفال ال�سطحي �أو املق�صود‪،‬‬ ‫يبني الك ّتاب تو�صيفهم لبالد ال�شام �أ ّنها مل تكن يوماً بالداً واحدة‪ ،‬انطالقاً من واقع القرن‬ ‫الع�شرين‪� .‬أي �أنّ �سورية اجلغرافية هي جمموعة دول ظهرت عام ‪ 1920‬بعد �أربعمائة عام من‬ ‫احلكم الرتكي‪ .‬وي�ضيفون �أنّ التجزئة اال�ستعمارية عام ‪ 1920‬قد م�ضى عليها ما يناهز القرن‬ ‫ولي�س �أمامنا اليوم �سوى تاريخ للبنان وتاريخ لفل�سطني وتاريخ للجمهورية العربية ال�سورية‬ ‫التي مل تكن موجودة �سابقاً‪ ،‬وتواريخ للمناطق الأخرى‪.‬‬ ‫ولكن �أي درا�سة وافية ال ميكنها تفكيك التاريخ واجلغرافيا ودرا�سة حقبات منعزلة عن‬ ‫واحدها الآخر �أو عن منطقة دون �أخرى‪ .‬ولذلك فالف�صول التالية ت�ستعر�ض تاريخ �سورية‬ ‫التاريخية واجلغرافية من �أقدم الع�صور وحتى العام ‪ 1920‬على �أن ّ‬ ‫تركز بعد ذلك على الدولة‬ ‫ال�سورية التي ُولدت يف القرن الع�شرين‪ .‬فالت�أويل الذي يهمل ال�صورة الأكرب �سوا ًء كان‬ ‫بداع �إيديولوجي‪� ،‬أو �سطحياً ال ينظر �إىل التاريخ خارج احلدود اجلغرافية احلالية‪� ،‬إنمّ ا‬ ‫مق�صوداً ٍ‬ ‫‪1- Grant, Christina, The Syrian Desert, London, 1937, p. 50.‬‬ ‫‪2- Petran, Tabitha, Syria: Nations of the Modern World, p. 19.‬‬ ‫‪132‬‬


‫فـــــكـــــر‬

‫يغفل حقائق جوهرية هذه بع�ضها‪:‬‬ ‫ •�إنّ بالد ال�شام كانت منطقة ح�ضارية جغرافية واحدة منذ �آالف ال�سنني‪ ،‬حتى لو وقعت‬ ‫حتت احلكم الأجنبي يف تاريخها الطويل (الفراعنة والإغريق والفر�س والرومان‪ )...‬و�إ ّنها‬ ‫موحدة ب�سلطة مركزية يف ظل الدولة ال�سلوقية اله ّلينية‪ ،‬وعا�صمتها مدينة �أنطاكية‬ ‫كانت ّ‬ ‫موحدة �أي�ضاً كمرك ٍز للخالفة الأموية وعا�صمتها‬ ‫من العام ‪� 301‬إىل ‪ 141‬ق‪.‬م‪ .‬كما كانت ّ‬ ‫دم�شق من العام ‪� 661‬إىل ‪ 750‬م‪.‬‬ ‫ •يقول فيليب ح ّتي �إنّ ا�سم �سورية قد �أُطلق بعد احلرب العاملية الثانية على جزء من‬ ‫الكل‪ ،‬بعد قيام "اجلمهورية العربية ال�سورية" ولذلك اقت�صر ا�سم "�سوري" و"�سور ّية"‬ ‫كا�ستعمال �سيا�سي على مواطني ومواطنات هذه الدولة‪ ،‬بعدما كان معمماً كا�سم‬ ‫اجتماعي ح�ضاري على �سائر �سكان بر ال�شام‪.‬‬ ‫ •كما �أنّ ا�سم �سورية توا�صل مع الع�صر احلايل يف لغة حملية هي اللغة ال�سورية ال�سريانية‬ ‫�إىل اليوم‪ ،‬وا�ستمر كا�سم ملذاهب دينية �سورية �سريانية م�سيحية تتخذ �أنطاكية كر�سياً‬ ‫لها‪.1‬‬ ‫وثمة ا�ستمرارية دميغرافية يف �سورية‪� .‬إذ خالفاً ملا يقال و ُيكتب �إنّ ّ‬ ‫�سكان �سورية هم‬ ‫ • ّ‬ ‫خليط �شعوب تنتمي لأ�صول �إثنية ولغوية كثرية جداً عرب التاريخ (حثيون‪ ،‬فراعنة‪،‬‬ ‫فر�س‪ ،‬فل�سطو‪� ،‬إغريق‪ ،‬رومان‪� ،‬صليبيون‪ ،‬مغول‪� ،‬أتراك‪� ،‬أوروبيون) فاحلقيقة �أنّ العن�صر‬ ‫الطاغي �أبداً ودائماً وحتى اليوم ‪�-‬إثنياً ولغوياً‪ -‬هو العن�صر ال�سامي‪ .‬فالغزوات الأجنبية‬ ‫مهما طالت مل ت�ؤ ّد �إىل تغي ٍري عميقٍ يف الدميغرافيا ال�سورية‪.‬‬ ‫ •و ُيقال و ُيكتب �إنّ اجلزيرة العربية هي املوطن الأ�سا�سي لل�شعوب ال�سامية التي انطلقت‬ ‫�إىل �سورية قبل �آالف ال�سنني‪ ،‬و�إنّ اللغات ال�سامية م�شتقة من اللغة العربية‪ .‬ولكن هذين‬ ‫الر�أيني مل ُيثبتا علمياً‪� .‬أو ًال‪ ،‬مل يكن ممكناً عملياً نزوح ب�شري ب�أعداد هائلة دون و�سيلة‬ ‫نقل تعرب مئات الكيلومرتات عرب ال�صحراء من اجلزيرة العربية �إىل �سورية‪ .‬فاجلمل مل‬ ‫‪1- Hitti, Philip, Syria A Short History, p. 15.‬‬ ‫‪133‬‬


‫عام قبل امليالد‪ .1‬كما مل ي� ِأت ذك ٌر للغة‬ ‫ي�صبح حيواناً �أليفاً وو�سيلة لل�سفر �إال قبل �ألف ٍ‬ ‫العربية قبل ‪ 856‬ق‪.‬م‪ ،.‬يف حني كانت اللغات ال�سامية منت�شرة يف �أنحاء �سورية حتى يف‬ ‫الألفية الثالثة قبل امليالد‪ .‬ولكن ومنذ القرن ال�سابع قبل امليالد بد�أت هجرات عربية‬ ‫كربى نحو �سورية �أخذت تطبع �شعب �سورية �إثنياً ولغوياً خا�صة منذ ظهور الإ�سالم يف‬ ‫القرن ال�سابع امليالدي‪ .‬وهكذا ف�إنّ اختالط العرب ال�ساميني مع �سكان �سورية ال�ساميني‬ ‫حمددة‪ ،‬ال يزال هو‬ ‫هو الذي �أوجد �شعباً �سورياً متجان�ساً ب�شخ�صية اجتماعية و�إثنية ّ‬ ‫ال�سائد حتى اليوم‪.2‬‬ ‫ •انق�سم �سكان �سورية �إىل قبائل ومذاهب دينية يف البداية‪ ،‬ثم اتخذ هذا االنق�سام �أ�شكا ًال‬ ‫ثقافية واجتماعية ويف مناطق جغرافية متجاورة ولكن منف�صلة‪ .‬فالهجرات ال�سامية �إىل‬ ‫�سورية قبل �آالف ال�سنني اتخذت �شكل جمموعات قبلية ومل تكن هجرات �أفراد‪.‬‬ ‫حمددة وجتاور قبائل �أخرى ب�صفة م�ستقلة‪ .‬و�إذ‬ ‫وكل قبيلة وافدة كانت تنزل يف منطقة ّ‬ ‫كان الأ�سا�س قبلياً وعائلياً‪ ،‬ف�إنّ كل جماعة ك ّونت زاويتها �أو ركنها اخلا�ص على �أر�ض‬ ‫�سورية ومع مرور الزمن ط ّورت تقاليدها وعاداتها وفولكلورها و�أزياءها و�أحياناً لهجاتها‪.‬‬ ‫وا�ستمر هذا االنق�سام �إىل اليوم حيث يغلب االنتماء العائلي والقبلي واملناطقي و�أحياناً‬ ‫ولعدة قرونٍ برز االنق�سام القبلي يف �سورية بني‬ ‫املذهبي على االنتماءات الأكرث �سمواً‪ّ .‬‬ ‫قي�سية (عرب ال�شمال) ومينية (عرب اجلنوب)‪ .‬ذلك �أنّ اليمنيني قد نزلوا �سورية �أو ًال‬ ‫ومنذ القرن ال�سابع قبل امليالد‪ ،‬ومل تلحقهم قبائل �شمال اجلزيرة وب�أعداد كبرية �إال بعد‬ ‫الفتح الإ�سالمي يف القرن ال�سابع امليالدي‪ .‬وحتى القرن التا�سع ع�شر‪ ،‬كانت النزاعات‬ ‫القي�سية اليمنية ال تزال تظهر يف جبل لبنان بني يزبكية وجنبالطية‪.‬‬ ‫ •االنق�سام يف �سورية �إذاً ومنذ القدم هو قبلي اجتماعي ولكن خا�صة ديني مذهبي‪،‬‬ ‫ومل يكن �إثنياً‪/‬عن�صرياً �أو لغوياً‪ .‬ويف القرن الع�شرين �ساهمت الثقافة العربية واللغة‬ ‫العربية يف توحيد ال�شعب ال�سوري‪ ،‬ولذلك فالقول �إنّ �سورية هي موزاييك �أقليات‬ ‫‪1- Petran, Tabitha, Syria: Nations of the World, p. 24.‬‬ ‫‪2- Petran, Tabitha, Syria: Nations of the World, p. 25.‬‬ ‫‪134‬‬


‫فـــــكـــــر‬

‫هو �أبعد ما يكون عن احلقيقة‪ .‬ومل ّ‬ ‫ت�شكل الأقليات العرقية واللغوية �أكرث من ن�سبة‬ ‫�صغرية من ال�سكان‪ .‬و�أهم هذه الأقليات الإثنية كان الأكراد وخا�صة يف �شمال‬ ‫�سورية‪ ،‬بعدما جا�ؤوا من كرد�ستان‪ ،‬موطنهم الأ�صلي بتاريخه العريق والذي يتو�سط‬ ‫�شرق تركيا و�شمال العراق وغرب �إيران‪ .‬لقد اندجمت الهجرات الكردية ال�سابقة يف‬ ‫جمتمع �سورية منذ قرون ومعظمهم �أ�صبح ناطقاً بالعربية‪ .‬ولكن يف القرن الع�شرين بعد‬ ‫قيام اجلمهورية الرتكية‪ ،‬مار�س الرتك اال�ضطهاد املفرط �ضد الكرد يف �شرق البالد‪،‬‬ ‫فهاجرت �أعداد منهم �إىل �سورية ولبنان يف زمن االنتداب الفرن�سي وتلك املوجة هي‬ ‫التي احتفظت بهويتها ولغتها‪ .‬ويقيم الكرد اليوم يف منطقة اجلزيرة ال�سورية وجبال كرد‬ ‫داغ �شمال غرب حلب وجرابل�س �شرق حلب‪� .1‬أ ّما حي ال�صاحلية يف دم�شق ف�أكراده‬ ‫نزلوا فيه يف القرن الثاين ع�شر �أيام �صالح الدين الأيوبي الذي كان كردياً من تكريت‪.‬‬ ‫�أ ّما ال�شرك�س فهم جل�ؤوا من جبال القفقا�س �إىل �سورية هرباً من احلرب الرتكية الرو�سية‬ ‫التي دارت جزئياً يف ديارهم عامي ‪ 1877‬و‪ .1878‬وكانوا من امل�سلمني ال�سنة وتزاوجوا‬ ‫من العرب حتى �أ�صبحوا ناطقني بالعربية‪� .‬أ ّما �أرمن �سورية فمعظمهم جل�أ �إليها هرباً من‬ ‫اال�ضطهاد الرتكي خا�صة بعد احلرب العاملية الأوىل‪.‬‬ ‫�أي �إن�سان مثقف �أو حا�صل على �شهادة مدر�سية �أو جامعية لأي بلد انتمى يف العامل‪ ،‬يدرك‬ ‫متاماً �أنّ الكثري من مفاهيمه وقيمه العليا �إنمّ ا جاءت من بالد ال�شام‪ .‬فمن هنا انطلقت مقولة‬ ‫وحدانية اخلالق و�أنّ الإن�سان ُ�صنع على �صورة اهلل و�أنّ كل �إن�سان هو �أخ لكل �إن�سان يف ظل‬ ‫الرعاية الأبوية الإلهية‪ ،‬و�أنّ الب�شرية ُولدت من �أم و�أب هما �آدم وحواء‪ .‬وهذه الأفكار على‬ ‫ب�ساطتها اخرتقت �أُ�س�س النظرية الدميقراطية يف الفل�سفة اليونانية حول جوهر الإن�سانية‪ .‬كما‬ ‫انطلقت من �سورية �أي�ضاً القيم الإخالقية واملبادئ الروحانية اال�سمية وفكرة انت�صار قوى‬ ‫اخلري على ال�شر‪ .‬وبهذا يكون �أهل بالد ال�شام هم معلمو العامل منذ القدم‪.‬‬ ‫وعدا عن الأفكار الروحية ال�سامية‪ّ ،‬قدمت هذه البالد الأحرف الأبجدية للعامل وعددها‬ ‫‪ 22‬حرفاً‪ .‬فاعتمدتها معظم لغات العامل تقريباً (با�ستثناء بلدان �شرق وجنوب �آ�سيا كال�صني‬ ‫‪1- Petran, Tabitha, Syria: Nations of the World, p. 29.‬‬ ‫‪135‬‬


‫واليابان وكوريا‪ ،‬الخ)‪ .‬وانت�شار هذه الأحرف حافظ على تراث الب�شرية العلمي والأدبي من‬ ‫ال�ضياع بكتابته وتدوينه منذ �آالف ال�سنني بالأحرف الفينيقية وما ا�شتق عنها من حروف‬ ‫كالالتينية والإغريقية والرو�سية‪ .‬ولذلك لي�س ّثمة اخرتاع يف كوكب الأر�ض يفوق قيمة هذا‬ ‫االخرتاع‪ .‬فقد تع ّلم الإغريق الأحرف من الكنعانيني (الفينيقيني) ونقلوها �إىل ال�شعوب‬ ‫ال�سالفية يف �شرق �أوروبا‪ ،‬و�إىل الرومان الذين ن�شروها يف غرب �أوروبا وباتت ُتعرف بالأحرف‬ ‫الالتينية‪ .‬ومن �سورية �أي�ضاً قام الآراميون بنقل حروف الأبجدية هذه �إىل اجلزيرة العربية‬ ‫و�إىل مناطق انت�شار الناطقني بالعربية‪ ،‬الذين بدورهم نقلوها �إىل بالد الفر�س والهند وال�سند‬ ‫يف فتوحاتهم الإ�سالمية‪.‬‬ ‫لقد �سبق كتابة الأحرف الأبجدية الكتابة امل�سمارية‪ ،‬حيث ُعرث على �أقدم لوحات منقو�شة‬ ‫على حجر ال ُآجر تعود �إىل ‪ 3500‬قبل امليالد من حقبة �سومر يف جنوب العراق‪ .‬وتوا�صل‬ ‫تط ّورها وانت�شارها على ال�ساحل ال�سوري خالل مئات ال�سنني وخا�صة منذ ‪ 2500‬ق‪.‬م‪ ،‬مع‬ ‫احل�ضارات ال�سامية الفينيقية الكنعانية على ال�ساحل‪ ،‬ومع �شقيقتيها احل�ضارتني العمورية‬ ‫الكنعانية يف �شمال �سورية والآرامية يف دم�شق‪ .1‬و�أول م ّرة ظهرت الألفباء ب�شكلها املتط ّور‬ ‫كانت يف �شمال �سورية‪ ،‬حيث عرث علماء الآثار على لوحات يف �أوغاريت عليها �أحرف تعود‬ ‫�إىل القرن الرابع ع�شر قبل امليالد‪.2‬‬ ‫�شهدت حفريات �أركيولوجية �أنّ الثورة الزراعية الأوىل يف العامل قد بد�أت �أ�ص ًال يف �سورية‬ ‫مع تدجني القمح لي�صبح نبتة يزرعها ويح�صدها الإن�سان بانتظام مو�سمي قبل �آالف ال�سنني‪،‬‬ ‫حيث عرث علماء الآثار على بقايا قمح يف �أريحا تعود �إىل �سبعة �آالف �سنة‪ .‬ويف �سورية‬ ‫بزغ الع�صر الربونزي حيث اكت�شف �صب النحا�س واحلديد معاً يف تطوير �أدوات ال�صناعة‬ ‫واحلرب‪ ،‬وظهرت �صناعة اخلزف والفخار‪ .‬وهذه الثورات االقت�صادية �أ ّدت �إىل ظهور املدن‬ ‫وا�ستقرار الإن�سان يف �سورية القدمية �سوا ًء على طول ال�ساحل �أم يف اجلبال �أو يف ال�سهول‬ ‫وت�شهد على ذلك �آثار مدن دم�شق‬ ‫الوا�سعة يف الداخل‪ ،‬قبل �أي مكان �آخر يف العامل‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫‪1- Hitti, Philip, Syria A Short History, p. 36.‬‬ ‫‪2- Petran, Tabitha, Syria: Nations of the World, p. 32.‬‬ ‫‪136‬‬


‫فـــــكـــــر‬

‫وحلب وجبيل على �سبيل املثال التي بد�أ �سكناها ومل يتوقّف منذ ما قبل �أكرث من �سبعة‬ ‫�آالف �سنة‪.‬‬ ‫تقدم �سورية �أي خدمة �أخرى للب�شرية �سوى القيم الروحية‬ ‫ويقول فيليب ح ّتي‪" :‬حتى لو مل ّ‬ ‫واحلروف الأبجدية‪ ،‬فهذا ٍ‬ ‫كاف ليجعلها �أعظم بال ٍد �أفادت الب�شرية"‪.1‬‬ ‫وم�ساهمة �سورية مل تتوقف عند هذا احلد‪ ،‬بل �إنّ �أعما ًال ح�ضارية وتاريخية مهمة وقعت يف‬ ‫هذه الرقعة من العامل ال مثيل لها يف �أي رقعة م�ساوية لها بامل�ساحة يف العامل‪ .‬وهذا جعل‬ ‫�سورية بوتقة م�صغّرة لتاريخ ح�ضارة العامل‪ .‬وحتى يف �أعظم ح�ضارتني غربيتني ‪-‬الإغريقية‬ ‫أ�سا�س العامل الغربي‪ ،‬جند مفكرين وم�ؤرخني ومعلمني وفال�سفة‬ ‫والرومانية‪ -‬اللتني كانتا � َ‬ ‫وعلماء من هذه البالد‪ ،‬و�أوىل معاهد احلقوق الرومانية كانت يف بريوت‪.‬‬ ‫وبعد انطالق الإ�سالم من اجلزيرة العربية �إىل بالد ال�شام‪� ،‬سرعان ما �أ�صبحت دم�شق هي‬ ‫قاعدة اخلالفة وعا�صمة االمرباطورية العربية الأموية التي امتدت من �إ�سبانيا وفرن�سا غرباً‬ ‫وبالد ال�سند والهند �شرقاً وحتى حدود ال�صني‪ .‬ما جعل �سورية �أكرب من االمرباطورية‬ ‫الرومانية يف �أوجها‪ .‬ثم كان ا�ستمر دور �سورية �أ�سا�سياً يف ع�صر العرب الذهبي حتى بعدما‬ ‫انتقل كر�سي احلكم �إىل بغداد يف الع�صر العبا�سي عام ‪ 750‬ميالدياً‪ .‬فقد كانت بالد ال�شام‬ ‫جزءاً من االمرباطورية البيزنطية قبل الفتح العربي‪ ،‬ولذلك �ساهم امل�سيحيون ال�سوريون‬ ‫ب�شكل رئي�سي برتجمة �آالف الن�صو�ص اليونانية القدمية �إىل لغتهم ال�سورية الأم‪ -‬ال�سريانية‬ ‫وثم �إىل اللغة العربية‪ ،‬وخا�صة يف �أكادميية بيت احلكمة يف بغداد‪ .‬وبذلك حفظ ال�سوريون‬ ‫تراث اليونان من علوم وريا�ضيات وفل�سفة ومو�سيقى و�سائر حقول املعرفة من ال�ضياع بنقله‬ ‫�إىل العربية‪ .‬وبذلك كانوا ج�سراً ح�ضارياً �أثناء ع�صر الظلمات يف �أوروبا‪ّ ،‬‬ ‫لتتمكن �أوروبا من‬ ‫اال�ستناد �إليه يف حتقيق نه�ضتها املعروفة‪.‬‬ ‫ومنذ القرن الثاين ع�شر ميالدي‪� ،‬أ�صبحت �سورية م�سرح �أحداث عاملية ّ‬ ‫�شكلت نواة �صراع‬ ‫لعدة قرون‪ .‬فقد جاءتها غزوات الفرجنة من فرن�سا و�أملانيا و�إنكلرتا ب�شكل‬ ‫ال�شرق والغرب ّ‬ ‫رئي�س منذ العام ‪ 1099‬وحتى مطلع القرن الرابع ع�شر‪ ،‬واحتلت ال�ساحل ال�سوري وه�ضاب‬ ‫‪1- Hitti, Philip, Syria A Short History, p. 12.‬‬ ‫‪137‬‬


‫فل�سطني ومدنها الداخلية لفرتة فاقت املائتي �سنة‪ .‬ومنذ ذلك احلني �أ�صبحت �سورية ميداناً‬ ‫رئي�سياً للمواجهة الع�سكرية بني ال�شرق والغرب ب�سبب موقعها اال�سرتاتيجي الو�سيط بني‬ ‫قارات �أوروبا و�آ�سيا و�إفريقيا‪ ،‬وكذلك معرباً �إلزامياً لطرق التجارة الدولية بني هذه القارات‬ ‫ومركزاً النطالق الفكر واملعرفة‪.‬‬ ‫ثم �إنّ تاريخ �سورية القدمي ال ميكن �أن ُيدر�س كم�ساحة منعزلة بل كجزء من منطقة �أكرب‪.‬‬ ‫ف�صحيح �أنّ الغزوات كانت ت�أتي �سورية من االمرباطوريتني النهريتني على جانبيها ‪-‬وادي‬ ‫النيل غرباً وبالد ما بني النهرين �شرقاً‪ ،‬مع حتومت�س و�سرجون الأكادي مث ًال‪ -‬ثم يف املرحلة‬ ‫العربية مع خالد بن الوليد و�صالح الدين الأيوبي وبيرب�س‪ .‬ولكن هذه الغزوات اختلفت‬ ‫عن الغزوات الهلينية والرومانية وال�صليبية‪ .‬فطبيعة ال�صراعات الإقليمية بني �شعوب املنطقة‬ ‫ومنذ فجر التاريخ ال تنفي �أنّ �سورية ووادي النيل وبالد ما بني النهرين جمتمع ًة ّ‬ ‫�شكلت �أهم‬ ‫كتلة ح�ضارية �أ�ش ّعت على العامل‪ .‬فال ميكن نكران �أنّ ح�ضارة �سورية القدمية قد توا�صلت مع‬ ‫بالد ما بني النهرين �سوا ًء عرب التوا�صل ال�سكاين العمراين من حلب �إىل املو�صل‪� ،‬أو عرب‬ ‫انتقال الثقافة الكتابية من �سومر يف جنوب العراق �إىل ال�ساحل ال�سوري قبل ‪ 5500‬عام‪.‬‬ ‫و�أنّ �سورية كانت لقرونٍ عديدة غري منقطعة جزءاً من املمالك امل�صرية والأكادية وما تالها‬ ‫من ممالك بالد ما بني النهرين‪.‬‬ ‫ومنذ فجر التاريخ‪ ،‬احتاجت م�صر الفرعونية �إىل اخل�شب حل�ضارة وادي النيل‪ ،‬وكانت‬ ‫الأ�شجار متوفرة بكرثة يف جبال يف �سورية‪ -‬يف جبال الآمانو�س وجبال لبنان‪ ،‬كالأرز وال�صنوبر‬ ‫وال�شربني وال�سنديان واحلور وكذلك الذهب والف�ضة من كيليكيا يف �شمال �سورية‪ .‬وبد�أ‬ ‫ا�سترياد م�صر للأخ�شاب واملعادن من �سورية يف منت�صف الألف الرابع قبل امليالد‪ ،‬فيما‬ ‫بد�أت املدن ال�سومرية با�سترياد الأخ�شاب ال�سورية يف الألفية الثالثة‪ .‬وكانت جبيل هي مرف�أ‬ ‫التجارة ال�سورية الرئي�سي ابتدا ًء من الألف الثالث‪ .‬فكانت ال�سفن تنطلق من جبيل �إىل‬ ‫حمملة بالب�ضائع وخا�صة الأخ�شاب ومواد التحنيط ومنتجات ا�شرتاها الفينيقيون من‬ ‫م�صر ّ‬ ‫بالد ما بني النهرين حل�ساب م�صر‪ .1‬ولقد طمع الفراعنة برثوات �سورية وغزوها مراراً‪ ،‬فكانت‬ ‫‪1- Petran, Tabitha, Syria: Nations of the World, p. 31.‬‬ ‫‪138‬‬


‫فـــــكـــــر‬

‫�سورية جما ًال حيوياً مل�صر لفرتات زمنية طويلة‪ .‬يف العام ‪ 1479‬قبل امليالد‪ ،‬انت�صر الفرعون‬ ‫حتومت�س الثالث على حتالف �سوري �ضم قوات ع�سكرية من املدن الرئي�سية‪ ،‬وذلك يف معركة‬ ‫جمدو يف فل�سطني‪ .‬فنهب جي�شه كنوزاً كبرية د ّلت على م�ستوى الرفاهية والغنى‪.‬‬ ‫ومنذ ‪ 1099‬توالت الغزوات الأوروبية‪ ،‬بدءاً بحروب الفرجنة على �سورية‪ .‬ف�شهد بر ال�شام‬ ‫هبوط الأ�سطول الرو�سي مث ًال يف القرن الثامن ع�شر وقدوم جيو�ش فرن�سا بقيادة نابليون‬ ‫بونابرت عام ‪ .1799‬ثم ومنذ الثورة الفرن�سية ُولد التحدي احل�ضاري والع�سكري الأوروبي‪.‬‬ ‫فعاد بر ال�شام �إىل االزدهار و�أعطى العامل العربي قيادة نه�ضته الأدبية والعلمية والثقافية‪،‬‬ ‫انطالقاً من حلب وبريوت وحم�ص‪ .‬فقد ّمتكن �أبناء �سورية ولبنان وفل�سطني يف القرن التا�سع‬ ‫ع�شر وعرب احتكاكهم العميق ب�أوروبا الغربية وبالدرا�سة الأكادميية وال�سفر‪ ،‬من حت�صيل‬ ‫املعارف اجلديدة ونقلها �إىل بلدان ال�شرق الأدنى‪ .‬ما ّفجر حركة اجتماعية ثورية يف م�صر‬ ‫ويف بر ال�شام يف ال�صحافة والأدب وامل�سرح ويف ت�أ�سي�س اجلامعات واملعاهد وحترير املر�أة‪.‬‬ ‫ولعبت الهجرة من بالد ال�شام دورها يف هذه النه�ضة احلديثة التي رفدتها جاليات ال�سوريني‬ ‫واللبنانيني من بلدان االنت�شار‪� ،‬سوا ًء من القاهرة واال�سكندرية �أو من نيويورك وبو�سطن و�ساو‬ ‫باولو وبوين�س �آيري�س و�سيدين‪ .‬ما �أعطى منوذجاً متوا�ص ًال عن ديناميكية و�إقدام �سكان هذه‬ ‫البالد يف املجاالت احل�ضارية منذ فجر التاريخ �إىل اليوم‪.‬‬ ‫وهكذا ف�إننا ن�شهد حياة ح�ضارية يف بر ال�شام ب�شكل متوا�صل ومن نف�س ال�شعب لفرتة �س ّتة‬ ‫�آالف �سنة يف عر�ض تاريخي متوا�صل‪ .‬ف�إذا قورنت ب�أوروبا منذ القرن الرابع قبل امليالد وحتى‬ ‫القرن اخلام�س ع�شر ميالدي‪ ،‬جند ح�ضارة �سورية �شم�ساً �ساطعة مل تكن �أمامها �أوروبا �سوى‬ ‫منطقة مظلمة ومتخ ّلفة ا�ستفادت من نور هذه ال�شم�س‪.‬‬ ‫ولي�س غريباً �أن تبد�أ الديانات التوحيدية من �سورية‪ .‬فقد �سبق ذلك عبادة �آلهة متعددة رافقت‬ ‫حقبة انت�شار الثورة الزراعية قبل �آالف ال�سنني وتدجني احليونات الأليفة‪ .‬فقد ابتكر قدماء‬ ‫عدة �آلهة كقوى خارقة حتر�س احلقول والقطيع‪ .‬وتط ّورت �شعائر تقدمي الأ�ضحية‬ ‫ال�سوريني ّ‬ ‫الزراعية واحليوانية عند مذابح هذه الألهة ل�شكرها يف موا�سم احل�صاد‪ .‬وكذلك انت�شر الإميان‬ ‫�أنّ ّثمة حياة �أخرى بعد املوت‪ ،‬فيرتك ذوو امل ّيت الأطعمة واحلبوب داخل التابوت‪.‬‬ ‫‪139‬‬


‫مقدم هذه الآلهة ال�شم�س ب�سبب‬ ‫لقد تك ّونت مفاهيم �آلهة �سورية يف الع�صر الزراعي ويف ّ‬ ‫الأهمية الق�صوى حلرارة ال�شم�س ونورها للزراعة‪ .‬وباتت ال�شم�س �إلهاً حمورياً‪ ،‬حتى �إنّ �أحد‬ ‫معاين كلمة �سورية هي "بالد ال�شم�س ال�ساطعة‪ .1‬يليها الأر�ض وهي الأم التي ينبت منها‬ ‫كل �شيء وميوت يف ح�ضنها كل �شيء‪ .‬فظهرت �آلهة اخل�صوبة ومنها ثنائي �آدوني�س‪ -‬ع�شتار‬ ‫جتدد الطبيعة كل عام �أي االنبعاث بعد املوت‪ .‬ويعادل هذه الآلهة‬ ‫(�أو ع�شرتوت) ومفهوم ّ‬ ‫�إيزي�س و�أوزيري�س يف م�صر الفرعونية‪.‬‬ ‫وثمة �أ�سرة لغات �سامية م�شرتكة‪ ،‬انت�شر بع�ضها وب�شكل وا�سع يف �أنحاء �سورية وبالد ما بني‬ ‫ّ‬ ‫النهرين منذ الألف الثالث قبل امليالد‪ .‬فكان االنت�شار ال�سامي الأول والأهم حوايل ‪3000‬‬ ‫�سنة قبل امليالد هو للعموريني يف �شمال �سورية وللكنعانيني على ال�ساحل‪ .‬يليهم الآراميون‬ ‫والعربانيون يف الألفية الثانية قبل امليالد‪ ،‬ثم الأنباط (عرب) يف الن�صف الثاين من الألفية‬ ‫الأوىل قبل امليالد‪ .‬ومنذ القرن ال�سابع �أو الثامن قبل امليالد مل تتوقف الهجرات العربية �إىل‬ ‫بلدان الهالل اخل�صيب‪.2‬‬ ‫واللغات ال�سامية يف �سورية هي‪ :‬الأكادية (الآ�شورية �أو الآثورية البابلية) يف ال�شمال ال�شرقي‪،‬‬ ‫والكنعانية (الفينيقية والعمورية) يف ال�شمال والغرب‪ ،‬والآرامية (ال�سريانية �أو ال�سورية) يف‬ ‫الو�سط‪ ،‬والعربية والعربية يف مناطق اجلنوب‪ .‬وي� ّؤكد امل�ؤرخون �أنّ الت�شابه بني هذه اللغات‬ ‫يف املفردات والقواعد هو كبري‪ ،‬حيث ميكن متييزها كعائلة لغوية واحدة ب�سهولة عن �أي عائلة‬ ‫لغوية �أخرى‪ .‬كما ي�شري امل�ؤرخ الأملاين غرهارد هيلم �إىل �أنّ الناطق بالعربية الذي ي�سافر �إىل‬ ‫�ساحل لبنان قبل ‪ 3000‬عام لن يجد �صعوبة يف التفاهم مع الناطقني باللغة الفينيقية‪.3‬‬

‫‪ -1‬وقيل أيضاً هي مشتقة من اسم مدينة صور على قاعدة إطالق اجلزء على الكل‪.‬‬ ‫‪2- Petran, Tabitha, Syria: Nations of the World, p. 24.‬‬ ‫‪3- Gerhard Helm, The Phoenicians: The Purple Empire of the Ancient World, New‬‬ ‫‪York, William Morrow Publishers, 1975m pp. 11-27.‬‬ ‫‪140‬‬


‫ف��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ك��ـ��ـ��ـ��ـ��ـ��ر‬

‫مهمة َفتح يف �أوغندا‬ ‫ّ‬

‫جنان �أ�سامة ال�سلوادي ‪ /‬حمزة العقرباوي ‪ -‬كاتب وباحث‬

‫‪ - 1‬عيدي �أمني والثّورة الفل�سطينية‬

‫رقي �إفريقيا‪َ ،‬تق ُع‬ ‫على ِ�ضفاف ُبحرية فيكتوريا؛ ثاين �أكرب البحيرْ ات املائية ال َعذبة يف العامل �شَ ّ‬ ‫�أوغندا‪ُ ،‬م ّ‬ ‫�شكل ًة ُعمقاً ُمهماً ملنابع ال ّنيل‪.‬‬ ‫�أوغندا؛ التي ُت�شّ كِ ُل ال ُبحريات ُ�سد�س َم�ساحتها‪ ،‬تُو�صف مبناخها الفَريد وب�أ ّنها � ٌ‬ ‫أر�ض زراع ّية‬ ‫بري‪ ،‬وب�أ ّنها غني ٌة باملعادن واخلريات كالنحا�س‬ ‫خَ �صبة‪ ،‬تكرث فيها الغابات اال�ستوائية‪ ،‬ومتتاز ب َتن ّوع ّ‬ ‫اجلريي وامللح‪ ،‬ما َجعلها تحَ ظى ِب َلقَب" ُل�ؤ ُل�ؤَة �إفريقيا"‪.‬‬ ‫والذهب واحلجر ّ‬ ‫‪1‬‬

‫ٌ‬ ‫ا�ستقالل انتزع ل َبلدٍ �أَنهكت ُه‬ ‫ين دام �سبعني عاماً‪،‬‬ ‫وا�س َتق ّلت �أوغندا عام ‪َ 1962‬ب َعد احتالل بريطا ّ‬ ‫الداخلية بني اجلماعات العرق ّية املُختلفة‪.‬‬ ‫�سيا�سة اال�ستعمار وال�صّ راعات اخلارجية وال ّنزاعات ّ‬ ‫ربي املُعا�صر يف‬ ‫عامي ‪ ،1979 - 1971‬الأكرث الت�صاقاً بالتاريخ ال َع ّ‬ ‫َوتُع َتبرَ ُ �أعوا ُم �أوغندا ما بني ْ‬ ‫أوغندي "عيدي �أمني الدادا" (‪،)2003 - 1925‬‬ ‫�إفريقيا‪ ،‬وذلك من حلظة توليّ قائد اجلي�ش ال ّ‬ ‫انقالب َع�سكري نَف َ​َّذ ُه َب َعد محُ اولة اغتياله الفا�شِ لة واملُد َّبرة من‬ ‫ُ‬ ‫للحكم يف ‪� ،1971 /12 /25‬إثر ٍ‬ ‫َرئي�س البالد ميلتون �أوبوتي‪ ،‬وحتى الإطاحة به على َيد املعار�ضة يف‪ 11‬ني�سان ‪.1979‬‬ ‫‪2‬‬

‫و�شَ ه َِدت �سنوات عيدي �أمني يف ا ُحلكم َت رّغيات كثرية و�أحداثاً َمف�صل ّية يف تاريخ �أوغندا‪ ،‬فهو من‬ ‫ف�س ُه �ألقاباً مل َي ُحزها �سِ واه؛ مثل فخامة ال ّرئي�س للأبد‪ ،‬واملُ�شري‪ ،‬ومار�شال املَيدان‪ ،‬واحلاج‬ ‫َح ّم َل نَ َ‬ ‫َ�س ّيدُ ُك ّل وحو�ش الأر�ض و�أ�سماك البحار‪ ،‬وقاهر الإمرباطور ّية الربيطان ّية يف �إفريقيا عامة و�أوغندا‬ ‫خا�صة‪.‬‬ ‫‪141‬‬


‫و َغ رّ َي عيدي �أمني خارطة التحالفات يف �إفريقيا بعد تو ّليه ُحكم �أوغندا‪ ،‬وحاول تجَ �سيد مكانته‬ ‫�سطوري قا ِهر لال�ستعمار َو ُحلفائِه‪ ،‬وجل�أ ل�سيا�سة �صارمة ال َتعرف ال ّرحمة جتاه خُ �صومه‬ ‫كزعيم �أُ ّ‬ ‫لتعزيز ُحكمه يف البالد‪.‬‬ ‫ومن امللفت يف امل�سرية ال�سيا�سية حلكمه للبالد؛ �إعالنه العداء لربيطانيا‪ ،‬و�سعيه ا َحلثيث ال�سرتداد‬ ‫الأمالك اخلا�صّ ة باال�ستعمار يف منطقة بحرية فيكتوريا‪ ،‬وطرده للآ�سيويني ال ُهنود الذين َجلبتهم‬ ‫ال�سيطرة على االقت�صاد‬ ‫بريطانيا يف �سنوات ا�ستعمارها لأوغندا (‪ ،)1962 - 1894‬فكانت َل ُهم ّ‬ ‫َو�شَ ّكلوا ُقوة َتخ ّل َ�ص منها عيدي �أمني و�أجربهم على ُمغادرة البالد‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫الدول العرب ّية والثّورة الفل�سطين ّية‪،‬‬ ‫كما �أعاد ترتيب عالقاته وحتالفاته يف املنطقة ُمع ّززاً العالقة مع ّ‬ ‫ال�سفارة الإ�سرائيلية َو ُق َّوتها‬ ‫وجت ّلى ذلك بو�ضوح يف َقطع ال َعالقات الدبلوما�سية مع بريطانيا وطرد َّ‬ ‫ا َجلوية من �أوغندا؛ ُم�ستبد ًال �إ ّياها ب�سفارة للثّورة الفل�سطينية عام ‪.1973‬‬ ‫وقد نَ َ�س َج تحَ ا ُل َفاً َقوياً مع الثورة الفل�سطين ّية‪ ،‬والتي كانت َت َبح ُث عن ُحلفاء تُع ّزز من خاللهم‬ ‫ُقوتها وتعمل َمعهم على َعزل االحتالل و� ِ‬ ‫والدولية‪ ،‬فكانت �أوغندا‬ ‫إ�ضعاف مكانته الإقليمية ُّ‬ ‫�شجعت َب ُ‬ ‫الدول َب َعد قرار عيدي �أمني‪،‬‬ ‫ع�ض ّ‬ ‫محَ ّطة االنطالق وال َّتحول الأ ّول يف �إفريقيا؛ َبحيث َت َّ‬ ‫جمدت َعالقاتها مع االحتالل الإ�سرائيلي الذي َ�سبقَ َل ُه‬ ‫وفتحت �أبوابها للثورة الفل�سطين ّية َو ّ‬ ‫ال ّتو ُغل دبلوما�سياً يف �إفريقيا‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫وكانت َ�سفارة الثورة الفل�سطين ّية يف �أوغندا من � ّأهم ال�سفارات و�أقربها �إىل الرئي�س عيدي �أمني‪،‬‬ ‫الفل�سطيني خالد ال�شيخ ا�س ُت�شري يف �أمور �سيا�س ّية كثرية وربمُ ا يف َتعيني بع�ض‬ ‫لدرجة � ّأن ال�سفري‬ ‫ّ‬ ‫ال ُوزراء يف البالد‪.‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪6‬‬

‫ال�سفارة كام ًال ُيد َعى يف االحتفاالت واملُنا�سبات ال ّر�سمية املُهمة‪ ،‬حيث كان عيدي‬ ‫وكان طاقم َ‬ ‫�أمني ُي�سارع للرتحيب ب�أفراد الطاقم َو ُ�س�ؤالهم عن "�أخيه" يا�سر عرفات‪.‬‬ ‫ويف العام ‪1975‬؛ ُعق َ​َد ُم�ؤمتر منظمة الوحدة الإفريق ّية يف كمباال عا�صمة �أوغندا‪ ،‬و ُدعي رئي�س‬ ‫ُمنظمة ال ّتحرير الفل�سطين ّية يا�سر عرفات لحِ ُ �ضوره؛ و�أُ�صدر على �إثره قرا ٌر اعترب � َأن "الأنظمة‬ ‫ال ُعن�صر ّية احلاكمة يف ٍّ‬ ‫كل من فل�سطني املُحتلة‪ ،‬وزميبابوي‪ ،‬وجنوبي �إفريقيا‪ ،‬جميعها َترجع �إىل‬ ‫‪142‬‬


‫فـــــكـــــر‬

‫ا�ستعماري ُم�شرتك‪َ ،‬وت ّ‬ ‫عن�صري واحد‪ ،‬وترتبط ارتباطاً ع�ضو ّياً‬ ‫ُ�شك ُل َكياناً كلياً‪ ،‬ولها َه ٌ‬ ‫يكل‬ ‫أ�صل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫� ٍ‬ ‫يف �سيا�ستها الرامية �إىل �إهدار كرامة الإن�سان وحرمته‪".‬‬ ‫‪7‬‬

‫َوي�س َتذكِ ُر ال َعميد ناجح عثمان‪َ ،‬م�س�ؤول الإ�شارة يف �سفارة فل�سطني يف كمباال حينذاك‪ّ � ،‬أن َ�سفارة‬ ‫املُ ّنظمة �سارعت لتعليق َعدد من املل�صقات واملن�شورات يف العا�صمة‪ ،‬ا�ستقبا ًال لقائد الثّورة يا�سر‬ ‫عرفات‪ ،‬و�أثناء قيامهم بذلك َم َّر بهم الرئي�س الأوغندي عيدي �أمني‪َ ،‬ي ُ‬ ‫تجول وحيداً دون ُمرافقني‬ ‫خ�صي ال�ساعة الثانية بعد منت�صف الليل‪َ ،‬فو َقف و�أ ّدى لهم ال َّتحية و�س�ألهم �إن كانوا‬ ‫وال َحر�س �شَ ّ‬ ‫و�س�ألهم عن عرفات قبل �أن ُي َ‬ ‫كمل طريقه‪.‬‬ ‫يحتاجون � ّأي م�ساعدة‪َ ،‬‬ ‫أوغندي‬ ‫لل�سفارة الفل�سطينية بعثات طب ّية وتعليم ّية يف �أوغندا‪ ،‬كما َم َنحهم الرئي�س ال ّ‬ ‫ْ‬ ‫وكانت ّ‬ ‫َمعر�ضاً ملُ� َؤ�س�سة "�صامد"‪َ ،‬و�أَر�ضَ اً زراع ّية‪َ ،‬ومكاناً لإن�شاء َم�صنع �أدوية؛ وذلك يف العام ‪1975‬‬ ‫�إثر زيارة قام بها وفد من الثّورة الفل�سطينية �ضَ َّم �أحمد قريع‪ ،‬وفتحي عرفات‪ ،‬و�إبراهيم �صهيون ‪.‬‬ ‫‪8‬‬

‫ّ‬ ‫ولعل حادثة مطار َعنتيبي يف �صيف عام ‪ 1976‬كانت محَ طة فا�صلة يف َم�سرية عيدي �أمني‬ ‫الفدائي خا�صّ ًة‪-‬‬ ‫ال�سيا�سية‪ ،‬وذلك حني مل ي�شهد موقفه جتاه الق�ض ّية الفل�سطين ّية‪ -‬والعمل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َتراجعاً‪ ،‬بعد خَ طف طائرة ال ُّركاب املُ ّتجهة من مطار ّ‬ ‫"تل �أبيب" �إىل باري�س م ِْن ِق َبل ا َجلبهة‬ ‫الدويل يف �أوغندا‪.‬‬ ‫ال�شعب ّية لتحرير فل�سطني‪ ،‬والهبوط بها يف َمطار َعنتيبي ّ‬ ‫الداعم للثورة الفل�سطين ّية ُم ّربراً للقوى اال�ستعمارية والغَربية للعمل‬ ‫�شَ َّك َل َموق ُِف عيدي �أمني ّ‬ ‫على َدعم املُعار�ضة الأوغند ّية (اجلبهة الوطن ّية لتحرير �أوغندا)‪َ ،‬وخَ لقِ َم�شاكل و�صراعات دائمة‬ ‫داخل �أوغندا َو َم َع دول اجلوار‪َ ،‬و َف ِتح َجبهات ُمت َعددة لترُ ِهقَ البالد َوتُ�سه ُِم يف �إ�سقاط ا ُحلكم‪،‬‬ ‫ين َدوراً َكبرياً يف �شَ ي َط َن ِة عيدي �أمني و�إظهار َجرائِمِ ه و�أخطائِه‬ ‫وال�صهيو ّ‬ ‫َربي ُ‬ ‫كما َلع َِب الإعالم الغ ّ‬ ‫ٍ‬ ‫�صراعات َكثرية‪.‬‬ ‫بالد ّمو ّية و� ّأن ّفرت ّة ُحكمِ ه �شَ هِدت َجرا ِئ َم َق ٍتل َو‬ ‫و�إخفاقاتِه‪ ،‬وا ّتهامِه ّ‬ ‫الدعم والغِطاء واملَوقِع‬ ‫َو َوجدت املُعا َر�ضة الأوغندية َ�سنداً لها من اجلي�ش التنزا ّ‬ ‫ين‪ ،‬الذي َو َّف َر لها َّ‬ ‫وال�سيطرة على البالد‪َ .‬و َقد ُنف َِّذت‬ ‫ا ُجلغرا ّيف لالنطالق من �أرا�ضيها؛ لإ�سقاط ُحكم عيدي �أمني َّ‬ ‫عِ ّد ُة محُ اوالت فا�شلة لالنقالب على عيدي �أمني طوال َفرتة ُحكمِ ه للبالد‪َ ،‬غ َري �أ ّنه نجَ ا مِنها؛ على‬ ‫بال�سيا�سي َغري املُح ّنك ‪.‬‬ ‫ال ُّرغم م ِْن َو�صفِه‬ ‫ّ‬ ‫‪9‬‬

‫‪143‬‬


‫طاحت بعيدي �أمني‪َ ،‬و�أُ ْ�سدِ َل ال�ستار على َفرتة ُحكمِ ه‪،‬‬ ‫غ َري � ّأن املَعركة الأخرية عام ‪� ،1979‬أَ َ‬ ‫وانتهى َمعها َف ٌ‬ ‫�صل ُمهم م ِْن ال َعالقة مع الثّورة الفل�سطين ّية التي قاتلت على ا ُحلدود الأوغند ّية‬ ‫وا�ستب�سلت يف القتال على تُخوم ِ‬ ‫إفريقي‪.‬‬ ‫التنزان ّية‬ ‫َ‬ ‫العا�صمة َكمباال دِفاعاً عن َحليفِها ال ّ‬ ‫مهمة فتح يف �أوغندا‬ ‫ّ‬

‫‪ - 2‬فتح َتقود املعارك يف �أوغندا‬

‫اند َل َعت �شَ رار ُة الأحداث الأخرية يف �أوغندا حني �أقد َمت "ا َجلبهة ال َوطن ّية لتحرير �أوغندا"‪َ ،‬مع‬ ‫اجلي�ش التنزاين عام ‪ ،1978‬على محُ اولة احتالل َمنطِ قَة كاجريا ا ُحلدودية‪.‬‬ ‫للم�شا َركة يف املَعركة‪َ ،‬و َترتيب َجبهة القتال يف‬ ‫و ُهنا َت ّقدمت َحركة ال َّتحرير‬ ‫الفل�سطيني (فتح) ُ‬ ‫ّ‬ ‫الدبلوما�س ّية‬ ‫�أوغندا؛ لأ َّنها خ�شيت �أن ُي�ؤدي �سقوط نظام "عيدي �أمني" يف �أوغندا �إىل �سقوط ّ‬ ‫ال َعربية‪ ،‬التي ا�ستطاعت َتقليل تحَ ا ُلفات "�إ�سرائيل" يف �إفريقيا‪.‬‬ ‫‪10‬‬

‫ِعدة َمراحل‪َ ،‬و َتط َّل َبت درا�سة لل َموقف‬ ‫م ّرت ُم�شاركة َحركة فتح ال َع�سكر ّية يف َحرب �أوغندا ب َّ‬ ‫ا َحل ّ�سا�س‪� ،‬إ ْذ َ‬ ‫�صو�صاً ب� ّأن لها‬ ‫"مهم ٌة لل َموت"؛ خُ َ‬ ‫كان عليها �أن ُت ْقدِ م على خُ طوة و�صفَت ب�أ َّنها َّ‬ ‫َعالقات دبلوما�س ّية َم َع َدولة تنزانيا ا َخل�صم الأ�سا�سي لحِ َ ليفها عيدي �أمني‪.‬‬ ‫�سكري يف �أوغندا قبل ا َحلرب الأخرية‪ ،‬ممث ٌّل بالقوة اجلو ّية‬ ‫كان للثورة الفل�سطين ّية تواج ٌد َع ّ‬ ‫الفل�سطين ّية؛ فقد �أَر�سلت َحركة فتح‪ -‬بعد افتتاح َ�سفارة ّ‬ ‫املنظمة يف �أوغندا‪ -‬مجَ موعة من ط ّياري‬ ‫الطوافات (‪ )Helicopters‬نَزلوا يف ُم َع�سكر " َعنتيبي"‪ ،‬وَمجَ موعة من الطيارين ا َحلربيني‪ ،‬نزلوا‬ ‫يف ُمع�سكر "جوال" ‪.‬‬ ‫‪11‬‬

‫و َق َّد َمت الق ّوة عدداً من طياريها ُ�شهداء �أثناء املَ ّهمات والطلعات التدريب ّية‪ ،‬كالط ّيار يو�سف‬ ‫براغيث‪ ،‬الذي ا�ست�شهد عام ‪ ،1975‬والطيار حم�سن �أبو النور الذي ا�ست�شهد يف العام ‪.1976‬‬ ‫َومع َد ّق ُطبول احلرب َو َت�سا ُرع الأحداث؛ �سارعت قيادة فتح لإر�سال موفد لل َبحث و�إجراء‬ ‫درا�سة �شا ِم َلة لل َو�ضع يف �أوغندا‪ ،‬ولتقييم �ضَ رورة ُم�شا َركة الثّورة يف املَعركة من َعدمه‪ ،‬و َتوىل تلك‬ ‫املهمة املُف ّو�ض ال�سيا�سي العام عزت �أبو الرب ّ‬ ‫"خطاب"‪َ ،‬ح ُ‬ ‫يث التقى بالرئي�س عيدي �أمني‬ ‫ّ‬ ‫‪144‬‬


‫فـــــكـــــر‬

‫و�أركان نظامه‪ ،‬قا ِئ َماً بجوالت َميدانية لالطالع على ال َو�ضع بِدقة‪.‬‬

‫‪12‬‬

‫وعا َد ّ‬ ‫تلحقُ بالثّورة الفل�سطينية َوم�صالحِ ها يف‬ ‫"خطاب" َيحمِ ُل َت�صوراً بحجم الأ�ضرار التي َ�س َ‬ ‫ِحاجة �إىل ُم�سا َعدة َع َ‬ ‫�أوغندا‪ ،‬يف حال �سقوط نظام عيدي �أمني؛ ُم ِ‬ ‫�سكرية‬ ‫و�صياً ب� ّأن الأخري ب َ‬ ‫عاجلة‪ .‬وعلى �إث ِر ذلك؛ َق ّررت قيادة فتح‪ ،‬بعد اجتماع �ضَ َّم يا�سر عرفات وخليل الوزير و�سعد‬ ‫�صايل‪ ،‬ا�ستدعاء قائد الكل ّية الع�سكر ّية ال َعقيد مطلق حمدان (�أبو فواز) ؛ لرتتيب �آلية ُم�ساعدة‬ ‫الدول الأوروب ّية و�إ�سرائيل َتد َعم باجتاه �إ�سقاط‬ ‫عيدي �أمني وطرقها‪ ،‬وذلك لإدراك الثّورة � ّأن َبع�ض ّ‬ ‫نظام َح ِ‬ ‫ليف الثورة‪.‬‬ ‫‪13‬‬

‫تحَ َّرك ال َعقيد حمدان �إىل �أوغندا مع َوفد َع�سكري �ضَ ّم قائد �سِ الح املَدفعية الفل�سطينية الرائد‬ ‫وا�صف عريقات‪ ،‬وال ّنقيب ُجمعه ح�سن حمد اهلل‪ ،‬وال ّنقيب �إبراهيم عو�ض‪ ،‬واجتمعوا َم َع‬ ‫ال ّرئي�س عيدي �أمني وقائِد العمليات ووزير الدفاع ورئي�س َهيئة الأركان‪ ،‬بهدف ّ‬ ‫االطالع على‬ ‫�آخر الأو�ضاع ال َع�سكر ّية ‪.‬‬ ‫للمعا َر�ضة يف اجلي�ش الأوغندي‬ ‫كانت الأمور ال َت�س ُري ل�صالح عيدي �أمني لوجود اخرتاقات �أَمنية ُ‬ ‫َكما َتبني مِن خِ الل ُمتا َبعة الأحداث َعن َكثَب؛ ولذا ا ُّتخذ القَرار با َحل َذر يف ال َّتعا ُمل َمع اجلي�ش‬ ‫الأوغندي‪ ،‬وال ّنزول لل َميدان لو�ضع ّ‬ ‫خطة َع�سكر ّية لل َمع َركة ‪.‬‬ ‫‪14‬‬

‫‪15‬‬

‫ويف تلك الفَرتة؛ َو َ�ص َل �إىل �أوغندا ‪ُ 40‬مقات ًال م َِن الثّورة الفل�سطين ّية‪َ ،‬حملتهم الطائرات الليب ّية‬ ‫للم�شا َركة يف املَعارك‪ ،‬بنا ًء على ا ُخل ّطة التي َر�سمتها‬ ‫َم َع كتيبة مدفع ّية ووحدة �صواريخ ليب ّية ُ‬ ‫القيادة ال َع�سكرية يف املَيدان ‪.‬‬ ‫‪16‬‬

‫ِلك املَع َركة‪َ ،‬فقد تمَ َّ َو�ضع ّ‬ ‫َو َح�سب ال ّلواء وا�صف عريقات‪ ،‬الذي �شارك يف قيادة ت َ‬ ‫خطة �س ّر ّية مل‬ ‫يتم �إبالغ القيادة ال َع َ‬ ‫ال�ساعة الثالثة‬ ‫�سكرية الأوغندية َعنها‪ � ،‬اّإل بعد �أن حانت �ساعة ال�صّ فر؛ متام َ‬ ‫وكان ذلك موعداً َغري َباً َغري ُمتو ّقع؛ فحققت ّ‬ ‫َب َعد الظهر‪َ ،‬‬ ‫عن�صري املُباغتة واملُفاج�أة‪.‬‬ ‫اخلطة‬ ‫ْ‬ ‫واخت َري املُقاتلون الأوغند ّيون من َب ِني الكتائب الأوغند ّية ا َخلم�سة املَوجودة يف ا َحلرب‪ ،‬ليكونوا‬ ‫يف الطليعة مع املُقاتلني الفل�سطينيني‪ .‬وبعد �إنهاء القوات الفل�سطين ّية التح�ضريات امليدان ّية؛‬ ‫تحَ َّركت مع الق ّوات الأوغند ّية �إىل اخلطوط الأمام ّية‪ ،‬وبادرت بالهجوم بالدبابات واملُ�شاة املَحمولة‬ ‫‪145‬‬


‫مدفعي‪َ ،‬ر�سم خ َططه وبنك �أهدافه قائد املدفعية‬ ‫بقيادة حمدان وعريقات؛ يف ظل �إ�سناد ّ‬ ‫ناري ّ‬ ‫الفل�سطينية عريقات‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫تقدم �سريع على الأر�ض‪ ،‬ودحر القوات التنزانية �إىل الوراء‪،‬‬ ‫ومتكنوا على �إثر ذلك من �إحراز ّ‬ ‫وا�ستمر القتال حتى منت�صف ال ّليل َح ُ‬ ‫يث �أعطيت القوات وقتاً لل ّراحة واال�ستعداد لهجوم‬ ‫املرحلة الثانية‪.‬‬ ‫ويف �صباح اليوم التايل‪� ،‬أثناء التح�ضري لهجوم املرحلة الثانية‪ ،‬بادرت القوات التنزان ّية بهجومها‬ ‫ت�صديها‪َ ،‬ح ُ‬ ‫يث بادرت مجَ موعة تحَ مل‬ ‫املُعاك�س‪ ،‬فنجحت القوات الفل�سطين ّية الأوغند ّية يف ّ‬ ‫للدروع بعطب َد ّبابة َتنزانية ُمتقدِ َمة و�إيقاف ال ّتقدم ال َع�سكري‪ ،‬ويف تلك‬ ‫"مدفع ‪ُ "75‬م�ضا ّداً ّ‬ ‫�صدى لها �أحد الفدائيني و�ضَ ربها َقبل �أن َتطو َل ُه‬ ‫الأثناء َحاولت َد ّبابة ال ّتقدم من اجتاه �آخر َف َت ّ‬ ‫�شَ ظ َّي ُتها َف ُت�صي ُبه َو ُيفقد ‪.‬‬ ‫‪17‬‬

‫كما �أ�صيب حمدان وعريقات لك ّنهما وا�صال القتال حتى تو ّقفت املعركة ُكلياً‪ ،‬دون �أن تحُ قق‬ ‫تقدم على الأر�ض‪ ،‬تارك ًة خلفها عدداً كبرياً من القتلى والد ّبابات والآل ّيات‬ ‫القوات التنزان ّية � ّأي ّ‬ ‫املُعطلة‪.‬‬ ‫ال�صمود يعود ِل َب�سا َلة الفل�سطين ّيني الذين التحموا مع القوات‬ ‫َوي�ستذك ُر ال ّلواء عريقات �أنَّ هذا ُّ‬ ‫التنزان ّية بال�سالح الأبي�ض يف الأدغال وامل�ستنقعات كثرية التما�سيح واحليوانات املُفرت�سة‪ ،‬ومل‬ ‫َين�سحبوا على غِ رار ا ُجلنود الأوغنديني الذين ال خِ َرب َة لهم باحلرب وال َج َل َد لدي ُهم على القتال‪.‬‬ ‫وانتهت املعركة با�ست�شهاد �أحد الفدائيني وفقدان خَ م�س ٍة �آخرين‪� ،‬إ�ضاف ًة �إىل �إ�صابة القادة‬ ‫الفل�سطين ّيني يف املَعركة؛ حمدان وعريقات وعو�ض‪ ،‬والذين نُقلوا �إىل امل�شفى لتلقّي العالج ّثم‬ ‫نَقلتهم طائرة �إىل �أثينا بقرا ٍر من القيادة الفل�سطين ّية‪.‬‬ ‫املهمة‬ ‫َك َّلفَت القيادة الفل�سطينية‪ ،‬الحقاً‪ ،‬العقيد محَ مود َد ّعا�س بال ّت ّوجه �إىل �أوغندا ال�ستكمال ّ‬ ‫و�إنقاذ املُقاتلني؛ لأنَّ َمعركة عيدي �أمني �أَو�شَ َكت على االنتهاء‪ ،‬وقام العقيد دعا�س لحَ َظة و�صوله‬ ‫بتق�سيم املُقاتلني الفل�سطينيني‪ ،‬البالغ عددهم ‪ 75‬مقات ًال (دون الط ّيارين)‪� ،‬إىل ق�سمني‪ :‬ق�سم توىل‬ ‫الدفاع عن العا�صمة َكمباال التي دارت املَ ُ‬ ‫عارك على َم�شارفها‪ ،‬وق�سم �آخر �أُ َ‬ ‫ر�سل َبعيداً عن‬ ‫مهمة ّ‬ ‫ّ‬ ‫‪18‬‬

‫‪146‬‬


‫فـــــكـــــر‬

‫ال�سودان ‪.‬‬ ‫املَعركة �إىل ا ُحلدود َمع ّ‬ ‫‪19‬‬

‫رغم قتال الفدائيني ِب َب�سالة يف محُ يط َكمباال‪َ ،‬و َبذلهم ُجهداً عظيماً يف القتال َعك�س َعقارِب‬ ‫العا�ص َمة ِب َيدِ املُعار�ضة املُ�س ّلحة‪ � ،‬اّإل � ّأن َ‬ ‫ال َّز َمن‪َ ،‬كي َيحولوا ُد َون �سقوط ِ‬ ‫الكرثة واخليانة َوعدم‬ ‫َرغ َبة الأوغنديني بالقتال َه َز َمت �شَ جاعة الفل�سطينيني؛ لِين َتهي نَها ُر َمع َركة َكمباال ب�سقوط ُحكم‬ ‫عيدي �أمني‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ذكريات َو ُبطوالت‬ ‫َوع َرب طريقٍ َطويل َو ُمغا َمرات قا�سِ ية؛ َرحل الفدائيون مِن �أوغندا َتارك َني خَ ل َف ُهم‬ ‫واثني َع�شر �شَ هيداً َب ُ‬ ‫ع�ض ُهم مل ُيعرف َك َ‬ ‫يف ماتوا يف املَعارك‪ ،‬وال �أين ترقد ُجثثهم؛ �أَعانَقها الثرَّ ى‬ ‫ْ‬ ‫ا�سيح الأَدغال و�أ�سودها على ُحدود �أوغندا؟‬ ‫�أَ ْم َتنا َولتها تمَ ُ‬ ‫املراجع‬

‫‪ - 1‬اللواء الركن وا�صف عريقات‪� ،‬أحد الذين قادوا معركة �أوغندا على احلدود مع تنزانيا يف‬ ‫العام ‪ 1979‬وتعر�ض لإ�صابتني يف تلك املعارك‪ .‬مقابلة يف مكتبه يف رام اهلل ‪2016 /7 /30‬‬ ‫‪ - 2‬العميد متقاعد ناجح عثمان‪ ،‬م�س�ؤول الإ�شارة يف �سفارة منظمة التحرير الفل�سطينية يف‬ ‫�أوغندا (‪ .)1975 - 1974‬وهو يحمل جواز �سفر �أوغندياً‪ ،‬مقابلة يف منزله يف رام اهلل ‪/18‬‬ ‫‪.2016 /12‬‬ ‫‪ - 3‬اللواء الركن وا�صف عريقات‪ ،‬م�صدر �سابق‪.‬‬ ‫‪ - 4‬عمالقة القتال‪ ،‬الع�سكرية الفل�سطينية ‪ .1994 - 1973‬اللواء �سالمة زيدان �أبو قا�سم‬ ‫(مازن عز الدين)‪ .‬الهيئة الوطنية للمتقاعدين الع�سكريني ‪.2013‬‬ ‫‪ - 5‬اللواء الركن وا�صف عريقات‪ ،‬م�صدر �سابق‪.‬‬ ‫‪ - 6‬اللواء الركن وا�صف عريقات‪ ،‬م�صدر �سابق‪.‬‬ ‫‪ - 7‬عمالقة القتال‪ ،‬الع�سكرية الفل�سطينية ‪ ،1994 - 1973‬م�صدر �سابق‪.‬‬ ‫‪ - 8‬اللواء الركن وا�صف عريقات‪ ،‬م�صدر �سابق‪.‬‬ ‫‪ - 9‬الفريق حممود دعا�س‪ :‬قائد قوات الريموك بعد ا�ست�شهاد �سعد �صايل‪ ،‬توىل م�س�ؤولية‬ ‫‪147‬‬


‫الإن�شاءات والتح�صينات يف الثورة الفل�سطينية‪ ،‬وكان قائداً للقوات الفل�سطينية يف اليمن‬ ‫وال�سودان‪ .‬قبل عودته للبالد‪.‬‬ ‫‪ - 10‬عمالقة القتال‪ ،‬الع�سكرية الفل�سطينية ‪ ،1994 - 1973‬م�صدر �سابق‪.‬‬ ‫‪ - 11‬للمزيد انظر‪� :‬أوغندا من اال�ستعمار الربيطاين �إىل جي�ش الرب ‪ ،2000 - 1952‬عبد‬ ‫القادر �إ�سماعيل‪ -‬الإفريقية الدولية للن�شر والطبع ‪2014‬‬ ‫‪ - 12‬العميد املتقاعد ناجح عثمان‪ :‬توىل امل�س�ؤولية عن الإ�شارة يف �سفارة منظمة التحرير يف‬ ‫�أوغندا (‪ )1975 - 1974‬وهو يحمل جواز �سفر �أوغندياً‪ ،‬وقد روى بذاكره حديدية مواقف‬ ‫كثرية ومهمة يف حياة عيدي �أمني وعالقته بالثورة الفل�سطينية‪� .‬أجريت املقابلة يف بيته يف رام‬ ‫اهلل ‪2016 /12 /18‬‬ ‫‪ - 13‬العميد ناجح عثمان م�صدر �سابق‪.‬‬ ‫‪ - 14‬مقابلة مع ال ّلواء الركن وا�صف عريقات‪ ،‬الذي كان من �ضمن القيادة الفل�سطينية التي‬ ‫توجهت �إىل �أوغندا يف العام ‪ 1979‬لتقييم الو�ضع‪ ،‬و�شارك يف املعارك احلدودية و�أ�صيب يف‬ ‫تلك املعارك‪ .‬مقابلة يف مكتبه يف رام اهلل ‪.2016 /7 /30‬‬ ‫‪ - 15‬د‪.‬خالد ح�سن ال�شيخ عميد ال�سلك الدبلوما�سي الفل�سطيني (‪)2011 - 1945‬‬ ‫توىل �سفارة املنظمة يف �أوغندا يف عهد الرئي�س عيدي �أمني‪ .‬وكانت �آخر �سفاراته لل�سلطة‬ ‫الفل�سطينية يف الهند واليمن‪ .‬وتويف يف طولكرم عام‪.2011‬‬ ‫‪ - 16‬العميد ناجح عثمان م�صدر �سابق‪.‬‬ ‫‪ - 17‬الأمن اجلماعي الإفريقي‪ ،‬امل�ستويات القاري والإقليمي‪ ،‬حممود �أبو العينني – معهد‬ ‫الدرا�سات الإفريقية‪ ،‬جامعة القاهرة ‪.1994‬‬ ‫‪ - 18‬العميد ناجح عثمان م�صدر �سابق‪.‬‬ ‫‪ - 19‬العميد ناجح عثمان م�صدر �سابق‪.‬‬ ‫‪148‬‬


‫�أدب‬

‫قراءات �سيميائية يف "مهيار" �أدوني�س‬

‫‪1‬‬

‫ّ‬ ‫املتقدمة منها‪ ،‬كما املت�أخّ رة‪ ،‬مناذج جدل ّي ًة حم ّر�ض ًة على �إعمال الفكر‬ ‫ت�شكل �أعمال �أدوني�س ّ‬ ‫جيل عا�صره �أو ّاطلع على‬ ‫وعلى فتح �آفاقٍ متن ّوع ٍة للبحث ّ‬ ‫والدرا�سة‪ .‬غري �أنّ هذا لي�س وقفاً على ٍ‬ ‫�شعره‪� ،‬أو ح ّتى ا�ستف ّزته الآراء ال�صّ ادرة عنه‪ .‬فقد حت ّول نتاجه‪ ،‬كما نتاج غريه من �شعراء جم ّلة‬ ‫"�شعر"‪� ،‬إىل وج ٍه من وجوه رّالتاث الثّقا ّيف يف بالدنا؛ لذلك وجب �أن يكون تراثاً للأجيال‪.‬‬ ‫للدرا�سة ال ّنقد ّية على يد اجليل‬ ‫عري ما ّد ًة ّ‬ ‫ومن هذا الباب‪ ،‬وجب علينا �أن جنعل من عمله ال�شّ ّ‬ ‫اخلا�ص بها‪،‬‬ ‫حيادي‪ ،‬بل على �سبيل �إبداء الرّ�أي ال ّن ّ‬ ‫الآتي‪ ،‬لي�س على �سبيل تناولها مبنحى ّ‬ ‫قدي ّ‬ ‫مبعزلٍ عن �أي �ضغوطات اجتماع ّية �أو �سيا�س ّية �أو غريها‪ ،‬وما �أكرثها يف جمتمعنا‪ ...‬كما مبعزلٍ عن‬ ‫إعالمي‪ ،‬وما �أكرث‬ ‫الآراء امل�سبقة التي قد ت�صدر �أحكاماً �أبعد ما تكون عن ّ‬ ‫الدقة بفعل التّ�أثري ال ّ‬ ‫‪1‬‬ ‫خا�ص‪.‬‬ ‫ما ُيعمِ ل هذا امل�ؤثّر �سلطته يف �أذهان املتلقّني عموماً‪ ،‬واملنتمني منهم �إىل بيئتنا على نح ٍو ّ‬ ‫يميائي الذي يعمد �إىل مقاربة‬ ‫طبيقي على املنهج ّ‬ ‫ويف هذا ّ‬ ‫ال�س ّ‬ ‫ال�سياق‪ ،‬و�ضمن �إطار العمل ال ّت ّ‬ ‫ال ّن�صو�ص الأدب ّية وفق درا�س ٍة حديثة منطلقها العالمات ال ّن�صّ ّية نف�سها ال امل�ؤثّرات اخلارج ّية‪،‬‬ ‫م�شروع‬ ‫العربي يف اجلامعة ال ّلبنان ّية‪-‬الفرع الرابع بالعمل على‬ ‫ٍ‬ ‫قامت جمموعة من طلبة الأدب ّ‬ ‫م�شقي" لل�شّ اعر �أدوني�س ح�سب‬ ‫ن�صو�ص �شعر ّي ٍة من ديوان "�أغاين مهيار ّ‬ ‫يهدف �إىل درا�سة ٍ‬ ‫الد ّ‬ ‫الدكتور ل�ؤي زيتوين‪ .‬وفيما ي�أتي‪ ،‬قد ّمت اختيار‬ ‫ال�سيميائ ّية‪ ،‬وذلك حتت �إ�شراف ّ‬ ‫الوجهة البنيو ّية ّ‬ ‫منطقي‪،‬‬ ‫ثالث درا�سات منها لثالث طالبات‪ ،‬كانت الأكرث قدر ًة على مقاربة ال ّن�صو�ص من نح ٍو ّ‬ ‫�إذ ا�ستطاعت �أن ت�صل �إىل ر�ؤي ٍة عميق ٍة وخا�صّ ة يف ال ّتحليل واال�ستنتاج‪ ،‬وبال ّتايل الو�صول �إىل‬ ‫‪-1‬عمل مشرتك لثالث طالبات يف األدب العريب – اجلامعة اللبنانية‪ -‬إبشراف د‪.‬لؤي زيتوين‪ (.‬الطالبة‪ :‬ريتا وديع‬ ‫التنوري"الشاعر ادونيس واحلجر‪..‬األرض‪ ،‬الوعي‪ ،‬واالنتماء" ‪ -‬الطالبة‪ :‬إميان برو" دعوة أدونيس إىل القراءة‬ ‫اجلديدة للحياة يف قصيدة "رؤاي" – الطالبة‪ :‬عبري خليل ""مرآة احلجر" الوعي والبحث عن احلقيقة"‪.‬‬ ‫‪149‬‬


‫أدوني�سي‪ ،‬مع ما فيه من غمو�ض‪.‬‬ ‫بواطن ال�شّ عر ال‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ال�شاعر �أدوني�س واحلجر‬ ‫الأر�ض‪ ،‬الوعي واالنتماء‬ ‫"حجر"‬ ‫�أع�شقُ هذا احلج َر الوداعا‬ ‫أيت وجهي يف تقاطي ِع ِه‬ ‫ر� ُ‬ ‫أيت في ِه �شع ِر َي ال�ضّ ائ َعا‬ ‫ور� ُ‬ ‫�ص‪:‬‬ ‫�أ ّوالً‪� :‬إ�ضاءة على ال ّن ّ‬

‫ال�سوري "علي �أحمد �سعيد ا�سرب"‪،‬‬ ‫"�أغاين مهيار ّ‬ ‫م�شقي" عنوان ديوان �شع ٍر لل�شّ اعر ّ‬ ‫الد ّ‬ ‫املعروف با�سمه امل�ستعار �أدوني�س‪ ،‬ا ّلذي خرج به على تقاليد ال ّت�سمية العرب ّية منذ العام ‪1948‬‬ ‫تيمناً ب�أ�سطورة �أدوني�س الفينيق ّية‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫منهج‬ ‫فتح هذا ّ‬ ‫الديوان الباب على م�صراعيه لل�شّ عر احلديث‪ ،‬فقد ا�ستطاع �أدوني�س بلورة ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫العربي يقوم على توظيف ال ّلغة على نح ٍو فيه قدر كبري من الإبداع‪ ،‬ي�سمو‬ ‫جديد يف ال�شّ عر ّ‬ ‫على اال�ستخدامات ال ّتقليد ّية دون �أن يخرج �أبداً عن ال ّلغة العرب ّية الف�صحى ومقايي�سها‬ ‫ال ّنحو ّية‪.‬‬ ‫ج�سد من خاللها مفاهيم ور�ؤى جديد ًة انطلق‬ ‫�شاعر احلداثة �أ�ضفى ميز ًة رمز ّي ًة �إىل ق�صائده‪ّ ،‬‬ ‫وا�سع‪ .‬وقد اقتطف ثمار هذه املفاهيم من �أر�ض الواقع‪ ،‬حام ًال �إ ّياها �إىل بحر اخليال‬ ‫منها بخيالٍ ٍ‬ ‫ي�صي احلياة زبداً ويغو�ص فيه‪ ،‬يح ّول الغد طريد ًة ويعدو وراءها‪ّ ،‬‬ ‫وكل ذلك‬ ‫وحلم الق�صيدة‪ .‬فهو رّ‬ ‫بهدف عبور حدود ال ّتقليد �إىل ال ّرمز يف �شعره‪.‬‬ ‫م�شقي" غريبةٌ‪ ،‬حائرةٌ‪ ،‬يائ�سةٌ‪ ،‬ثائر ٌة وراف�ضةٌ‪ ،‬متاماً ك�شخ�ص ّية ال�شّ اعر ا ّلذي‬ ‫�شخ�ص ّية "مهيار ّ‬ ‫الد ّ‬ ‫أ�سلوب‬ ‫يج�سد �أفكاره ب� ٍ‬ ‫يتم ّرد على الأ�شكال ال ّتقليد ّية و�صو ًال �إىل مرحلة اخللق والإبداع‪ ،‬حيث ّ‬ ‫إبداعي جديدٍ يتم ّيز برمز ّيته الإيحائ ّية‪.‬‬ ‫� ٍّ‬ ‫‪150‬‬


‫�أدب‬

‫�سيميائية العنوان‪:‬‬ ‫ثانيا ً‪:‬‬ ‫ّ‬

‫ي�ستوقفنا ال�شّ اعر �أدوني�س‪ ،‬من خالل ق�صيدته "حجر"‪ ،‬ا ّلذي يحمل �صور ًة ملخّ �ص ًة عن‬ ‫مو�ضوع ال ّن ّ�ص‪.‬‬ ‫عدة معانٍ ‪ ،‬منها‪:‬‬ ‫فاحلجر لغ ًة يحمل ّ‬ ‫ ا َحل َج ُر الأ ّول على وزن ( َف َعل) قد يعني ك�سارة ال�صّ خور �أو ال�صّ خور ال�صّ لبة املك ّونة‬‫جتمع الك�سارة والفتات وت�ص ّلبهما‪ ،‬كما �أ ّنه يعني الأحجار الكرمية �أي ال ّنفي�سة‬ ‫من ّ‬ ‫والثّمينة كالياقوت‪.‬‬ ‫ ا َحلجِ ُر الثّاين على وزن ( َفعِل) ي�ستخدم للأماكن الكثرية احلجارة‪.‬‬‫ ا َحل ْج ُر الثّالث على وزن ( َف ْعل) له دالالت عديدة‪ ،‬منها‪:‬‬‫احلجر يف ال�شّ رع �أي املنع من ال ّت�صرف ل�صغ ٍر �أو �سف ٍه �أو جنونٍ ‪.‬‬

‫احلجر من الإن�سان يعني ح�ضنه‪.‬‬ ‫ويقال‪ :‬هو يف حجره �أي يف كنفه وحمايته‪.‬‬ ‫كما ت�ستعمل ب�صيغة "حجر العني" �أي ما يدور بها‪.‬‬ ‫ ا ُحل ُج ُر ال ّرابع على وزن ( ُف ُع ُل) يعني ما يحيط ّ‬‫بالظفر من ال ّلحم‪.‬‬

‫ احل ِْج ُر الأخري على وزن ( ِف ْعل) يعني القرابة‪ ،‬وقد ّ‬‫يدل على العقل‪.‬‬ ‫�أ ّما "احلجر" يف اال�صطالح‪ ،‬فال يبتعد كثرياً عن بع�ض معانيه ال ّلغو ّية‪ ،‬وقد اكت�سب دالل ًة‬ ‫ليعب عن الأر�ض والوطن احلا�ضن واالنتماء‪.‬‬ ‫ت�ضمين ّي ًة رّ‬ ‫وي�ضمه ويك�سبه‬ ‫الإن�سان ينتمي �إىل � ٍ‬ ‫أر�ض‪ ،‬ال تلبث �أن ت�صبح وطنه وملج�أه ا ّلذي يحميه ّ‬ ‫والدفاع عن ا�ستقالله و�صموده ودميومته‪ .‬وال ّ‬ ‫�شك‬ ‫هو ّيةً‪� ،‬إ�ضاف ًة �إىل ال ّتع ّلق بهذا الوطن ّ‬ ‫يتوجه �إىل "�سوريا ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ذكريات له بني‬ ‫الطبيع ّية" ا ّلتي ولد وعا�ش فيها وخ�صّ �ص‬ ‫�أن �أدوني�س ّ‬ ‫�أح�ضانها‪ .‬فكيف له �أن يهمل وطناً �أك�سبه هو ّي ًة وانتما ًء وقوم ّيةً‪ ،‬وهو ا ّلذي ينتمي �إىل فكر‬ ‫ال�سوري القومي االجتماعي‪ ،‬وقد �ساهمت جميعها يف تعزيز‬ ‫"�أنطون �سعاده" �أي الفكر ّ‬ ‫�شخ�ص ّيته ومعتقداته؟!‬ ‫‪151‬‬


‫والتبة‪ ،‬وقد �ساهم العلم يف اكت�شاف حقيقة حت ّول ج�سد‬ ‫كما �أنّ "احلجر" جز ٌء من الأر�ض رّ‬ ‫نف�س منه‪ .‬فالدّاللة ال ّت�ضمين ّية الثّانية ا ّلتي تكت�سبها مفردة‬ ‫تراب بعد زوال �آخر ٍ‬ ‫الإن�سان �إىل ٍ‬ ‫ال�سمة امل�شرتكة‬ ‫"حجر" هي تع ّلق الإن�سان ب�أر�ضه‪ ،‬وطبيعة العالقة القائمة بينهما ب�سبب ّ‬ ‫بينهما وال ّرابط ا ّلذي يجمعهما‪ .‬وطبعاً‪ ،‬عالقة "�أدوني�س" ب�أر�ضه تتجاوز حدود �سوريا اليوم‬ ‫لت�ضم �سوريا ّ‬ ‫الطبيع ّية ك ّلها‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫فما هي الإ�شكال ّية ا ّلتي يطرحها ويعاجلها �أدوني�س يف هذه الق�صيدة؟ وما هي الفكرة ا ّلتي �أراد‬ ‫�إي�صالها لنا من خالل هذا العنوان؟‬ ‫ال�سائدة‪:‬‬ ‫ثالثا ً‪ :‬حركة ت�شكّ ل ال ّن ّ‬ ‫�ص والأمناط ّ‬

‫ميكن تق�سيم هذه الق�صيدة ال�شّ عر ّية �إىل ثالث ٍ‬ ‫فقرات‪:‬‬ ‫الفقرة الأوىل‪�" :‬أع�شقُ ‪ ...‬الوداعا"‪.‬‬

‫أيت‪ ...‬تقاطيعه"‪.‬‬ ‫الفقرة الثّانية‪" :‬ر� ُ‬ ‫أيت‪ ...‬ال�ضّ ائعا"‪.‬‬ ‫الفقرة الثّالثة‪" :‬ور� ُ‬ ‫ٍ‬ ‫عما يتخ ّبط بداخله‬ ‫افتتح �أدوني�س ق�صيدته‬ ‫باعرتاف وجدا ٍّ‬ ‫ يف الفقرة الأوىل‪َ ،‬‬‫ين يك�شف ّ‬ ‫ٍ‬ ‫درجات رفيعةٍ‪ ،‬يحمله على‬ ‫أحا�سي�س ج ّيا�شةٍ‪ .‬فالع�شق ي�سمو بالإن�سان �إىل‬ ‫من م�شاعر و�‬ ‫ٍ‬ ‫جناحيه ويعرب به حدود الواقع‪� .‬أ ّما ّ‬ ‫الطرف الآخر ا ّلذي يبادله هذا ال�شّ عور‪ ،‬فهو احلجر �أي‬ ‫الوطن �أو الأر�ض ا ّلتي �ضاعت وفارقت �أبناءها‪� ،‬أو بالأحرى ا ّلتي خ�سرها �أبنا�ؤها مت�أ ّملني‬ ‫ّ‬ ‫كلل‪.‬‬ ‫ملل وال ٍ‬ ‫تفككها دون ٍ‬ ‫ يف الفقرة الثّانية‪ ،‬ي�ؤ ّكد ال�شّ اعر فكرة انتمائه �إىل هذه الأر�ض‪ ،‬لأ ّنه �أينما دار فيها وجد‬‫نف�سه بني زواياها ويف �شوارعها وداخل بيوتها ومع �أهلها وح ّتى يف جميع حلظاتها الفرحة‬ ‫ال�س ّيئة‪.‬‬ ‫اجل ّيدة واحلزينة ّ‬ ‫ و�أخرياً‪ ،‬يف الفقرة الثّالثة‪ ،‬جم ّرد ذكر �شعره ي�ؤ ّكد على �أنّه � ٌ‬‫يحن �إىل‬ ‫ا�س‬ ‫وعاطفي‪ّ ،‬‬ ‫ح�س ٌ‬ ‫إن�سان ّ‬ ‫ٌّ‬ ‫وطنه ويغرق يف دهاليزه ح ّتى يولد ال�شّ عر �ضائعاً تائهاً يتيماً‪ ،‬متاماً كالوطن ا ّلذي ُف ِق َد �شيئاً ف�شيئاً‬ ‫وا ّلتي �ساهمت عوامل كثري ٌة يف �إ�ضالله‪ ،‬ما يعك�س حالة ال�شّ اعر ال ّنف�س ّية وال�صّ راع ا ّلذي ين�ش�أ‬ ‫لكن هذه الأر�ض ما عادت موجودةً‪.‬‬ ‫يف داخله‪� ،‬إذ ي�شعر �أنّه يجب �أن ينتمي �إىل � ٍ‬ ‫أر�ض ّ‬ ‫‪152‬‬


‫�أدب‬

‫يف الفقرتني الثّانية والثّالثة‪ ،‬نقع على ظاهرة االنحالل‪� ،‬أكرث منها انعكا�ساً‪ ،‬ك�أنّ ال�شّ اعر والوطن‬ ‫وال�شّ عر غدوا كياناً واحداً ونف�ساً واحدةً‪� .‬أ ّما نقطة االختالف بينهما‪ ،‬فهي ّ‬ ‫الطبيعة املا ّد ّية ا ّلتي‬ ‫أيت"‬ ‫تربز يف الفقرة الثّانية‪ ،‬ما تلبث �أن تتح ّول �إىل وجدان ّي ٍة جم ّرد ٍة يف الفقرة الثّالثة‪ ،‬والفعل "ر� ُ‬ ‫�ساهم يف �إبراز هذه الثّنائية لأ ّنه يحمل بذاته معنى ال ّنظر بالعني والقلب والعقل‪ .‬فالإن�سان ذو‬ ‫طبيعتني كما الوطن كما ال�شّ عر‪.‬‬ ‫ال�سم ّو‬ ‫والعالقة ا ّلتي جتمع ال�شّ اعر ب�أر�ضه ّ‬ ‫تتعدى احلدود اجلغراف ّية وامل�ساحات �إىل مراكز ّ‬ ‫وطن‬ ‫والعالء‪ .‬ف�أدوني�س يفتح باباً على الأر�ض‪ ،‬ي�شعل نار احل�ضور‪ ،‬خالقاً وطناً من رماد اجلذور‪ٌ ،‬‬ ‫ت�سكنه ق�صائد حروفها ٌ‬ ‫حلن‪ ،‬ومعانيها دوائر زمان ّي ٌة تتجاوز املكان والإن�سان‪.‬‬ ‫خيال‪� ،‬سطورها ٌ‬ ‫الو�صفي لأن ال�شّ اعر ي�صف‬ ‫بال ّن�سبة �إىل ال ّنمطني املوجودين يف هذه الق�صيدة‪ ،‬ف�أبرزهما هو ال ّنمط‬ ‫ّ‬ ‫أ�سلوب غري مبا�شر‪ .‬فقد ا�ستعمل بع�ض ال�صّ فات بهدف �إغناء و�صفه‬ ‫لنا م�شاعره وحالته ال ّنف�س ّية ب� ٍ‬ ‫أ�ساوي املت�شائم �إىل حال ٍة‬ ‫معباً عن و�ضع �أر�ضه ال ّتائهة املفقودة‪ ،‬حمو ًّال هذا الو�ضع امل� ّ‬ ‫ودعم �صوره‪ ،‬رّ‬ ‫ال�سعي من‬ ‫نف�س ّي ٍة واجتماع ّي ٍة وثقاف ّي ٍة متفائلةٍ‪ ،‬بهدف �إنعا�ش الطم�أنينة يف ال ّنفو�س وحثّها على ّ‬ ‫�أجل الو�صول �إىل ما ت�صبو �إليه‪ ،‬فتطري وحت ّلق يف الف�ضاء ال ّرحب ح ّتى ت�سمو الب�شر ّية‪.‬‬ ‫أيت"‪� ،‬أي وجود �إحدى احلوا�س اخلم�س‪ُ ،‬يعترب م�ؤ�شّ راً من م�ؤ�شرات ال ّنمط‬ ‫كما �أنّ الفعل "ر� ُ‬ ‫الو�صفي‪ ،‬وكما ذكرنا �سابقاً‪ ،‬الرّ�ؤية يف هذه الق�صيدة هي بالعني والقلب والعقل‪ .‬فال�شّ اعر‬ ‫ّ‬ ‫الب�شري وال ّتح ّرر‬ ‫جمعها لتكون ر�ؤيته كامل ًة‪ ،‬ال ينق�صها �أدنى ال ّتفا�صيل‪ ،‬بهدف ا�ستنارة العقل‬ ‫ّ‬ ‫من املوروثات واملعتقدات وال ّتقاليد‪.‬‬ ‫ردي‪ ،‬لأنّ ال�شّ اعر ي�سرد لنا‬ ‫�إ�ضاف ًة �إىل ال ّنمط‬ ‫ال�س ّ‬ ‫الو�صفي‪ ،‬نقع على بع�ض م�ؤ�شّ رات ال ّنمط ّ‬ ‫ّ‬ ‫املراحل ا ّلتي م ّر بها وا ّلتي تتخابط يف داخله‪ ،‬بدءاً من انتمائه وتع ّلقه وع�شقه لوطنه‪ ،‬فانعكا�س‬ ‫وانحالل هذا الوطن مع ذات ال�شّ اعر‪ ،‬و�صو ًال �إىل ت�أثريه عليه وبال ّتايل على �شعره‪.‬‬ ‫رابعا ً‪ :‬امل�ستوى اللّغوي‪:‬‬

‫حوي‪.‬‬ ‫ويت�ضمن امل�ستويات الثّالثة‪:‬‬ ‫املعجمي‪ ،‬ال�صّ ر ّيف وال ّن ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫املعجمي والدّ ال ّ‬ ‫يل‪:‬‬ ‫�أ ‪ -‬امل�ستوى‬ ‫ّ‬

‫أيت"‪� ،‬أي ال ّنظر بالعني والقلب والعقل‪.‬‬ ‫ي�ستوقفنا يف هذه الق�صيدة تكرا ٌر للفعل "ر� ُ‬ ‫‪153‬‬


‫كما �أ ّنه قد يكت�سب معنى االعتقاد والب�صرية‪.‬‬ ‫�أدوني�س ينظر �إىل وطنه نظر ًة عاطف ّي ًة نابع ًة من �أعماقه‪ ،‬حيث ذكريات طفولته و�شبابه‬ ‫�شعب مرغ ٌم على‬ ‫لواقع يعي�شه ٌ‬ ‫وال ّلحظات ا ّلتي تحُ فر يف القلب‪ ،‬وينظر �إليه نظرة قلقٍ وت�أ ّم ٍل ٍ‬ ‫احتماله واالن�صياع له‪ ،‬كما ينظر له نظر ًة حكيم ًة نقد ّي ًة ت�سعى �إىل الإ�صالح واالنقالب على‬ ‫الواقع امل�ش�ؤوم ا ّلذي ُفر�ض علينا‪ .‬فال�شّ اعر ي�سعى �إىل تغيري هذا الواقع وازدهاره‪ ،‬بالإ�ضافة‬ ‫حتد من و�سع �آفاقنا و�آمالنا‪.‬‬ ‫�إىل ال ّتخ ّلي عن املعتقدات واملوروثات ا ّلتي تر ّبينا عليها وا ّلتي ّ‬ ‫ونالحظ ورود حقلني معجم ّيني ودالل ّيني‪:‬‬

‫احل�سا�س (�أع�شق– الوداعا– �شعري)‪ ،‬والثّاين‬ ‫احلقل الأول يندرج حتت املج ّرد اللّينّ ّ‬ ‫نف�س‬ ‫باحل�س ّي امللمو�س ال�صّ لب (احلجر– وجهي– تقا�سيمه)‪ .‬فالإن�سان م� ٌ‬ ‫ؤلف من ٍ‬ ‫ّ‬ ‫يخت�ص ّ‬ ‫وج�سد ٍ‪ ،‬والعالقة بينهما هي عالق ٌة جوهر ّيةٌ‪ .‬كما �أنّ عالقة الفرد بوطنه هي كذلك‪ ،‬فغياب‬ ‫�أحد الطرفني يفر�ض غياب الآخر ووجود �أحدهما يفر�ض وجود الآخر‪ .‬لذا‪ ،‬العالقة بني‬ ‫الأفراد و�أر�ضهم يجب �أن تكون �صلب ًة متين ًة للحفاظ عليها‪ ،‬وهذه العالقة ت�ساهم يف خلق‬ ‫والدفاع عن ا�ستقالله‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل الوعي‬ ‫عاطف ٍة جماع ّي ٍة ت�سهم يف تع ّلق ال�شّ عب بوطنه ّ‬ ‫ال ّناجت عن ب�صري ٍة حكيم ٍة تتلقّى فتح ّلل وتعالج‪.‬‬ ‫ي�ساوي بني عقله وعاطفته فال يطغى‬ ‫فاحلقالن مت�ساويان‪ ،‬ما يعني �أنّ على الإن�سان �أن‬ ‫َ‬ ‫�أحدهما على الآخر‪.‬‬ ‫ال�صر ّ‬ ‫يف‪:‬‬ ‫ب ‪ -‬امل�ستوى ّ‬

‫أيت" مك ّرر م ّرتني‪ .‬الفعل‬ ‫يطالعنا يف الق�صيدة ح�ضو ٌر لثالثة �أفعالٍ ‪ ،‬وهي‪�" :‬أع�شقُ " و"ر� ُ‬ ‫الأ ّول منها هو يف �صيغة امل�ضارع ا ّلذي ّ‬ ‫يحب‬ ‫يدل على اال�ستمرار ّية واللاّ زمن ّية‪ .‬ف�أدوني�س ّ‬ ‫ولكن هذا‬ ‫ال�سابقة‪ّ ،‬‬ ‫�أر�ضه ا ّلتي ينتمي �إليها‪ ،‬ويف�ضّ ل لو �أ ّنها حافظت على حدودها اجلغراف ّية ّ‬ ‫ال�سابق‪،‬‬ ‫الع�شق مل ي�ضع‪� ،‬إنمّ ا ما زال موجوداً ربمّ ا لأ ّنه يعطيه ف�سحة � ٍ‬ ‫أمل بعودة وطنه �إىل ع ّزه ّ‬ ‫ّ‬ ‫ال�سليمة‪.‬‬ ‫و�إن مل يرجع‬ ‫ف�سيظل ميدح ذاك املا�ضي متم ّنياً له العودة ّ‬ ‫أيت"‪ ،‬فتك ّرر م ّرتني وجاء ب�صيغة املا�ضي للدّاللة على تف�ضيل ال�شّ اعر‬ ‫�أ ّما الفعل الثّاين "ر� ُ‬ ‫ال�سابق ا ّلذي كان مزدهراً‪.‬‬ ‫وطنه ّ‬ ‫من ناحي ٍة �أخرى‪ ،‬فقد برزت �صفتان‪ ،‬وهما‪" :‬الوداعا– ال�ضّ ائعا"‪ ،‬وكلتاهما اّ‬ ‫تدلن على‬ ‫‪154‬‬


‫�أدب‬

‫وجت�سدان الواقع ا ّلذي يحياه ال�شّ اعر ب�سبب ّ‬ ‫تفكك �سوريا ّ‬ ‫الطبيع ّية وتق�سيمها �إىل‬ ‫الفراق ّ‬ ‫متعددةٍ‪ ،‬ك�أ ّنها بهذا ال ّتق�سيم تاهت وفقدت‪.‬‬ ‫دولٍ ّ‬ ‫ت ‪ -‬امل�ستوى النّحوي‪:‬‬

‫غائب وهو "�أنا"‪� ،‬أي الكاتب نف�سه‪ ،‬وقد برز هذا‬ ‫من الوا�ضح �أنّ الفاعل يف هذا ال ّن ّ�ص ٌ‬ ‫الغياب من خالل الأفعال امل�ستخدمة‪ ،‬وهذا ي�صف واقع ال�شّ اعر ا ّلذي يحياه وغياب الفرد‬ ‫الفاعل ا ّلذي يحدث تغيرياً ملحوظاً‪.‬‬ ‫كما نلحظ ا�ستتار الفاعل‪ّ ،‬مما �أعطى للفعل ق ّوة ال ّلمح‪ ،‬للدّاللة على �أهم ّية عمل الفعل ولي�س‬ ‫من يقوم بالفعل‪ .‬وبرز حرف اجل ّر "يف" للدّاللة على املكان‪.‬‬ ‫عما موجود يف‬ ‫نلمح �أي�ضاً حتريك �أوخر الكلمات‪� ،‬إ ّما بالفتح �أو بالك�سر‪ :‬فالفتحة للك�شف ّ‬ ‫الداخل وال ّتخ ّل�ص منه بهدف ال ّراحة ّ‬ ‫نوع من �صرخ ٍة يطول �صداها‬ ‫ّ‬ ‫والطم�أنينة‪ ،‬كما �أ ّنها ٌ‬ ‫العربي‪ ،‬فترتك �أثراً فيه ح ّتى يثور على هذا الواقع وهذه ال ّتقاليد واملعتقدات‬ ‫لتعرب ال�شّ عب ّ‬ ‫والطاعة‪ ،‬وتوحي ّ‬ ‫ال�سكينة والهدوء ّ‬ ‫بالطم�أنينة‬ ‫تعب عن ّ‬ ‫ا ّلتي ورثها عن �أجداده‪ .‬والك�سرة رّ‬ ‫لأنّ ال�شّ اعر ي�شعر بالفرح وال ّراحة �إذ ما يزال يحافظ على ق�ض ّيته وي�سعى �إىل تطبيقها‪ ،‬وهو‬ ‫عارف �أنّ الوطن موجو ٌد يف داخله و�أ ّنه حا�ض ٌر يف ّ‬ ‫ٌ‬ ‫كل زاوي ٍة من زواياه‪.‬‬ ‫الثقافية‪:‬‬ ‫الرموز وال�شّ يفرات‬ ‫ّ‬ ‫خام�سا ً‪ّ :‬‬

‫يت�ضمن هذا ال ّن ّ�ص بع�ض الإ�شارات املرتبطة باجلذور احل�ضار ّية والثقاف ّية والقوم ّية‪ ،‬املتع ّلقة بر�ؤى‬ ‫ّ‬ ‫ال�شّ اعر و�أحالمه‪ .‬فهو ي�سعى �إىل عودة �سوريا ّ‬ ‫الطبيع ّية ا ّلتي فقدت‪ ،‬وقد ا�ستخدم املفردتني‬ ‫"الوداعا– ال�ضّ ائعا" للدّاللة على ذلك‪.‬‬ ‫كما برزت بع�ض ال�شّ يفرات الثّقاف ّية من خالل العبارتني الآتيتني‪" :‬احلجر الوداعا– �شعري‬ ‫ال�ضّ ائعا"‪ .‬فاحلجر هو الأر�ض والوطن ا ّلذي ي�ؤ ّمن لنا االنتماء والهو ّية‪ ،‬ولوالهما لعا�ش الفرد‬ ‫دائم‪ .‬و"ال�شّ عر" يعترب ظاهر ًة من ظواهر احل�ضارة‪ ،‬يجمع بني العاطفة واخليال‪،‬‬ ‫ب�ضياع‬ ‫ٍ‬ ‫وعذاب ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ال�سم ّو والعالء‪� .‬أ ّما "ال�ضّ ائعا" فتمثّل عدم اال�ستقرار واللاّ وجود‪،‬‬ ‫ويعلو بالإن�سان نحو درجات ّ‬ ‫كل �إن�سانٍ ّ‬ ‫ما يعاك�س الثّبات واالنتماء ا ّللذين يحتاج �إليهما ّ‬ ‫وطن كي ال يزوال يف �آخر‬ ‫وكل ٍ‬ ‫املطاف‪.‬‬ ‫‪155‬‬


‫ا�ستنتاج‪:‬‬

‫حب الوطن يخرج �أدوني�س‪� ،‬شاعراً ممتطياً عتبة الكلمة‪ ،‬ممت�شقاً �سيف املعنى‪� ،‬سابحاً يف عمق‬ ‫من ّ‬ ‫املبنى‪ ،‬ومفتتحاً مدائن ال�شّ عر ا ّلتي متوج عرائ�سها ب�ألوانٍ �ش ّتى‪ ،‬وت�صرخ من داخلها مو�سيقى‬ ‫ت�سيل �أنغامها وتن�ساب معانيها �إىل الأعماق‪ ،‬م�ؤتلف ًة مع م�شاعر القارئ‪ ،‬متناغم ًة مع �أحا�سي�سه‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫خياالت و�أ�ساطري‪� .‬إبداعات �أدوني�س ال�شّ عر ّية هذه تك ّر�س �شهاد ًة للعطاء‬ ‫موقظ ًة ما كان غافياً من‬ ‫املتجدد يف م�ساحات معاين ومباين الكلمة العرب ّية‪� .‬أدوني�س القادم من املا�ضي‪،‬‬ ‫الإن�سا ّ‬ ‫ين ّ‬ ‫م�شقي ا ّلذي يحيا يف ملكوت ال ّريح وميلك يف �أر�ض الأ�سرار‪.‬‬ ‫امل ّت�شح باحلا�ضر‪ ،‬هو مهيار ّ‬ ‫الد ّ‬ ‫دعوة �أدوني�س �إىل القراءة اجلديدة للحياة‬ ‫يف ق�صيدة "ر�ؤيا"‬ ‫"ر�ؤيا"‬ ‫�أملح بني الكتب الذليله‬ ‫يف الق ّبة ال�صفراء‬ ‫مدينة مثقوبة تطري‬ ‫�أملح جدراناً من احلرير‬ ‫وجنم ًة قتيله‬ ‫ت�سبح يف قارورة خ�ضراء‬ ‫من خزف الأ�شالء وال ّركوع‬ ‫يف ح�ضرة الأمري‬ ‫�ص‪:‬‬ ‫�أوالً‪� :‬إ�ضاءة على ال ّن ّ‬

‫هذه الق�صيدة هي لل�شاعر "�أدوني�س"‪ ،‬وهو �شاعر احلداثة ا ّلذي يحاول �أن يعطي �صفة خا�صّ ة‬ ‫مهماً من عنا�صر الق�صيدة يف ال�شكل وامل�ضمون‪ ،‬وقد‬ ‫لق�صائده‪ ،‬وقد ا�ستعمل يف �صوره عن�صراً ّ‬ ‫جتاوز ال�شّ اعر ليعرب حدودها وي�صل �إىل �أوج ال�صورة ال ّرمز ّية �أو الإيحائ ّية‪.‬‬ ‫‪156‬‬


‫�أدب‬

‫يج�سد ال�شاعر مفاهيم ور�ؤى جديدة ينطلق منها ب�أخيلة وا�سعة‬ ‫ومن خالل هذه ال�صور الرمز ّية‪ّ ،‬‬ ‫عرب الواقع ا ّلذي يعي�شه �إىل اخليال متجاوزاً ال ّتقليد‪ ،‬ليمثّل ال ّرمز والإيحاء‪ ،‬ولأنّ ال�شّ عر عند‬ ‫بث‬ ‫"�أدوني�س" هو ال ّرحيل الدائم �إىل املجهول‪ .‬فهو يحاول �أن يرحل �إىل �أفق جديد جمازفاً يف ّ‬ ‫املعاين والألفاظ ال ّرمز ّية ا ّلتي يقتطف ثمارها من �شجرة احلياة‪ ،‬لي�صل بها �إىل بحر اخليال �أو �إىل‬ ‫حلم الق�صيدة ا ّلتي يكتبها‪ ،‬فهو يقول‪� ":‬أنا مع احللم‪ ،‬و�أريد �أن تكون الق�صيدة حلماً"‪� ،‬أي �إ ّنه‬ ‫يجعل من الق�صيدة حلماً ي�سافر �إليه عرب �ألفاظها ومعانيها‪.‬‬ ‫فهو �إذاً يحاول �أن يعرب حدود ال ّتقليد �إىل ال ّرمز يف ال�شّ عر‪ ،‬لأنّ ال�شاعر عليه �أن يتم ّرد على‬ ‫وليدي‪ ،‬فيكتب حينها‬ ‫الأ�شكال ال ّتقليد ّية‪ ،‬وهو بذلك ي�صل �إىل مرحلة اخللق �أو الإبداع ال ّت ّ‬ ‫الأ�شياء بطبيعة �إبداع ّية جديدة‪ ،‬وت�أخذ منحى ت�صوير ّياً رمز ّياً �إيحائ ّياً‪.‬‬ ‫�سيميائية العنوان‪:‬‬ ‫ثانيا ً‪:‬‬ ‫ّ‬

‫ي�ستوقفنا ال�شاعر "�أدوني�س" من خالل العنوان "ر�ؤيا"‪ ،‬وا ّلذي يحمل �صورة ملخّ �صة عن‬ ‫يحدد "�أدوني�س" ال�شّ عر اجلديد على �أ ّنه ر�ؤيا‪ ،‬وهذه الر�ؤيا هي قفزة خارج‬ ‫طبيعة ال ّن ّ�ص‪ ،‬وبهذا ّ‬ ‫املفاهيم املعهودة واملعروفة‪.‬‬ ‫تت�ضمن معنيني‪ :‬الر�ؤيا الأوىل وا ّلتي هي على وزن "فعلى" �أي ما يراه الإن�سان يف‬ ‫فالر�ؤيا لغة ّ‬ ‫منامه وحلمه‪ ،‬بينما الر�ؤية بالهاء فهي تعني العني ومعاينتها لل�شيء‪ ،‬وت�أتي �أي�ضاً مبعنى العلم‪.‬‬ ‫يت�ضمنان معنى الفعل" ر�أى"‪ ،‬ا ّلذي يفيد معنى ال ّنظر بالعني والقلب‪ ،‬فالر�ؤية‬ ‫فهذان املعنيان ّ‬ ‫بالعني ب�صر ّية‪� ،‬أ ّما الر�ؤية بالقلب فهي يقين ّية معرف ّية‪�( .‬أي الب�صرية والتب�صّ ر)‪.‬‬ ‫غوي‪ ،‬وحتمل معاين �أخرى منها‪ :‬احللم‪،‬‬ ‫�أما الر�ؤيا يف اال�صطالح فال تخرج عن املعنى ال ّل ّ‬ ‫والإلهام‪ ،‬والوحي وغريها‪ .‬فالإلهام يكون يف اليقظة بينما الر�ؤيا تكون يف النوم‪� ،‬أ ّما يف احللم‬ ‫ليكدر عي�شه ويحزنه‪،‬‬ ‫والر�ؤيا‪� ،‬أنّ احللم هو ذلك الأمر الفظيع ا ّلذي يريه ال�شيطان للم�ؤمن ّ‬ ‫بينما الر�ؤيا هي ر�ؤية الأمر ا ّلذي ي�س ّر‪ .‬بينما يف الر�ؤيا والوحي وا ّلذي يقول عنه" ابن فار�س"‪:‬‬ ‫"�إ ّنه �إ�شارة ور�سالة وكتابة ّ‬ ‫كل ما �ألقيته �إىل غريك ليعلمه"‪ ،‬فالوحي هو باب الوعد ويلقى �إىل‬ ‫الأنبياء من عند اهلل تعاىل‪ ،‬والفرق بينه وبني الر�ؤيا وا�ضح‪ ،‬ور�ؤيا الأنبياء وحي‪ .‬ولكن الر�ؤيا مع‬ ‫"�أدوني�س" هنا �أخذت �أبعاداً �أخرى �أال وهي ال ّنظرة امل�ستقبل ّية‪ ،‬فال�شاعر بر�أيه ال ميكن �أن يكتب‬ ‫التاريخ و�أن يكتب ما اليراه الآخرون‪.‬‬ ‫‪157‬‬


‫فما هي الإ�شكال ّية ا ّلتي يعاجلها "�أدوني�س" يف هذا ال ّن ّ�ص؟ وما هي الفكرة ا ّلتي �أراد �إي�صالها‬ ‫�إلينا من خالل هذا العنوان؟‪.‬‬ ‫�ص والأمناط ال�سائدة‪:‬‬ ‫ثالثا ً‪ :‬حركة ت�شكّ ل ال ّن ّ‬

‫ميكن تق�سيم هذه الق�صيدة ال�شّ عر ّية �إىل ثالث فقرات‪:‬‬ ‫الفقرة الأوىل‪�" :‬أملح بني‪ ...‬تطري"‪.‬‬ ‫الفقرة الثانية‪� ":‬أملح جدراناً‪ ...‬خ�ضراء"‪.‬‬ ‫الفقرة الثالثة‪� ":‬أملح متثا ًال‪ ...‬الأمري"‪.‬‬

‫تغي يف نظام الأ�شياء‪� ،‬أ ّما يف الفقرة الثانية‬ ‫ففي الفقرة الأوىل‪ ،‬يع ّرف ال�شّ عر اجلديد على �أ ّنه ر�ؤيا رّ‬ ‫تن�ص على معرفة القوانني اخلا�صّ ة بال�شّ عر اجلديد‪ ،‬وا ّلتي تك�شف عن جوهر الإن�سان‬ ‫وا ّلتي ّ‬ ‫وذلك ك ّله عن طريق احللم واخليال‪� .‬أ ّما فيما يتع ّلق بالفقرة الثالثة والأخرية‪ ،‬وهي تخ ّلي ال�شّ عر‬ ‫اجلديد عن الر�ؤية الأفق ّية‪ ،‬والك�شف عن ّ‬ ‫كل ما هو غري م�ألوف‪� ،‬أي �أن يبتعد عن اجلزئ ّية �إىل‬ ‫ر�ؤيا للعامل وبذلك يكون ال�شّ عر اجلديد ك�شفاً ور�ؤيا‪.‬‬ ‫عري‬ ‫وكما ذكرنا �سابقاً ب�أنّ ال�شّ عر اجلديد هو ر�ؤيا‪ ،‬بذلك يكون نظاماً يتم ّرد على ال�شّ كل ال�شّ ّ‬ ‫إبداعي ولي�س ال�سرد والو�صف‪ .‬ومن‬ ‫قليدي القدمي‪ ،‬فال�شّ عر قوامه املعنى ال ّت ّ‬ ‫ال ّت ّ‬ ‫وليدي ال ّ‬ ‫أبدي للإن�سان‪ ،‬فال�شاعر يخلق �أ�سطورة‬ ‫خ�صائ�ص هذا ال�شّ عر اجلديد هو ال ّتعبري عن القلق ال ّ‬ ‫الإن�سان كما قال "�سارتر"‪ ،‬وي�ستقطب امل�شكالت ا ّلتي يجابهها الإن�سان يف الكون‪.‬‬ ‫وهكذا ي�صبح ال�شّ عر اجلديد نوعاً من املعرفة‪ ،‬قانونها متم ّيز عن قانون العلم‪� ،‬إ ّنه الإح�سا�س‬ ‫والك�شف عن جوهر الإن�سان لي�س بالعقل واملنطق‪ ،‬ولكن باحللم واخليال‪.‬‬ ‫ولأنّ ال�شّ عر اجلديد هو عامل غري متوا�ضع وم ّتفق عليه‪ ،‬فهو �إذاً اكت�شاف ما مل يكن معروفاً‪� ،‬إ ّنه‬ ‫"كيف ّية الوجود وكيف ّية ال ّتعبري"‪.‬‬ ‫فالق�صيدة الر�ؤيا هي ك�شف ور�ؤيا ومت ّرد على الأ�شكال ال�شّ عر ّية القدمية وا ّلتي منبعها احل ّرية‬ ‫واحل�ضاري‬ ‫ف�سي‬ ‫ّ‬ ‫والنبوءة‪ .‬وهذا ال�شّ عر اجلديد يتجاوز ال ّت�صوير �إىل الك�شف عن واقع ال�شاعر ال ّن ّ‬ ‫واالجتماعي والتنب�ؤ بامل�ستقبل‪� .‬إذ حت ّول ال�شاعر عن الو�سائل ال ّتقليد ّية لعدم منا�سبتها حياته‬ ‫ّ‬ ‫املتغية يف م�ضمونها‪ ،‬لريبط بني �أدوات تعبريه اخلا�صّ ة ا ّلتي يحياها‪.‬‬ ‫رّ‬ ‫‪158‬‬


‫�أدب‬

‫ي�ضعنا "�أدوني�س" �أمام �إ�شكال ّية الق�صيدة "الر�ؤيا‪ ،‬وا ّلتي لي�ست تغيرياً يف مفهوم ال�شّ عر‬ ‫فح�سب‪ ،‬و�إنمّ ا هي تغيري يف عالقة الإن�سان بذاته والعامل من حوله‪ .‬فالق�صيدة ت ّتجه عامود ّياً بد ًال‬ ‫ال�سطح لأنّ العامل ا ّلذي تخلقه هو عامل الك�شف وا�ست�شراف امل�ستقبل‪ ،‬فتحمل‬ ‫من مالم�سة ّ‬ ‫يف ثناياها قدراً كبرياً من الأمل‪ ...‬وق�صيدة "الر�ؤيا" هي ق�صيدة الأ�سئلة‪ ،‬لأن من يقر�أها يطرح‬ ‫تقدم �إجابات بقدر ما تبذر ال ّريبة وال�شّ ك يف ّ‬ ‫كل �شيء‪ ،‬وب�سبب ذلك‪،‬‬ ‫�أ�سئلة كثرية‪� ،‬إذ �إ ّنها ال ّ‬ ‫وتعمق اجلرح الوجودي‪ .‬وهذه الق�صيدة ت�صف و�صفاً‬ ‫ف�إ ّنها تفتح عيني الإن�سان على الطبيعة‪ّ ،‬‬ ‫�إميائ ّياً‪ ،‬فكالمها القليل هو مبثابة رموز و�إ�شارات يل ّوح بها ال�شاعر من �أر�ض عزلته‪ ،‬حيث تتالطم‬ ‫العتمات وتقف ال ّلغة خر�ساء وعاجزة عن �سرد الكارثة‪.‬‬ ‫الفقرة الأوىل‪�( :‬أملح) هذا يعني �أنه يرى من بعيد (ر�ؤيا م�ستقبلية)‪ ،‬و"الكتب الذليله" فالكتب‬ ‫حتتوي على �شعر ذليل فقري ي�أخذ وال يعطي‪ ،‬و"الق ّبة ال�صفراء" فالق ّبة هي �أعلى �شيء كما‬ ‫�أ ّنها مظ ّلة الر�ؤو�س ال�شاخمة‪� ،‬أ ّما "الق ّبة ال�صفراء" فهنا ال ّلون الأ�صفر عالمة للموت‪ ،‬وهنا جمع‬ ‫ال�شاعر ر�ؤيته لل�شّ عر احلا�ضر ب�أ ّنه ذليل ينازع وهو م�صف ّر‪ ،‬وبالن�سبة �إىل "مدينة مثقوبة تطري" فهي‬ ‫ح�ضارته يف مدينته املثقوبة وهذا بر�أيه عيب يف احل�ضارة‪.‬‬ ‫والفقرة الثانية‪�" :‬أملح جدراناً من احلرير" وهنا �أبدع ال�شاعر حني جعل ما ّدة اجلدران حريراً‪،‬‬ ‫حيث الأ�صل هي ما ّدة اجلدران القا�سية ال�صّ لبة كال�صخرة‪ ،‬وذلك ك ّله ليبينّ خدعة اجلدران‬ ‫بنعومتها‪ ،‬و"جنمة قتيله" النجمة هي عبارة عن �آلة الهداية‪ ،‬ولكن قاتلها جمهول‪ ،‬و"ت�سبح يف‬ ‫قارورة خ�ضراء"‪ ،‬وهذه النجمة ت�سبح يف قارورة خ�ضراء‪ ،‬واللون الأخ�ضر عالمة احلياة‪.‬‬ ‫الدموع"‪ ،‬عادة التمثال هو جت�سيد ل�شيء‬ ‫�أ ّما بالن�سبة للفقرة الثالثة والأخرية‪�" :‬أملح متثا ًال من ّ‬ ‫والدموع فت�صبح‬ ‫�صلب وجامد وكما �أ ّنه داللة اخللود ل�صاحبه‪� ،‬أ ّما �أن يزاوج ال�شاعر بني التمثال ّ‬ ‫الدموع متثا ًال يرمز من خالله �إىل احلزن الدائم و�إىل البكاء الدائم �أي�ضاً على ما�ض‪ ،‬لأنّ‬ ‫ما ّدة ّ‬ ‫الدموع هي "خزف‬ ‫الإن�سان ال يبكي على م�ستقبل‪ ،‬و�أ�ضاف ال�شاعر ما ّدة �أخرى لت�شكيل ّ‬ ‫الأ�شالء وال ّركوع"‪ ،‬الأ�شالء داللة على املوت‪ ،‬وال ّركوع ّ‬ ‫تدل على االن�صياع واالنقياد‪" ،‬يف‬ ‫ح�ضرة الأمري"‪ ،‬كلمة الأمري ّ‬ ‫املهم‪� ،‬أي ال�سم ّو والعل ّو‬ ‫تدل على املقام العايل وعلى املركز ّ‬ ‫واالزدهار‪� ،‬أي خ�ضوع ال�شّ عر ل�سلطان الأمري (العرف‪ ،‬والواقع‪ ،‬والتقليد‪ .)...‬من خالل حتليلنا‬ ‫لهذه الفقرات يتبينّ لدينا تباعاً �أنّ ال ّن ّ�ص منق�سم �إىل حمورين ر�ؤيا وواقع‪� ،‬أو موت وحياة‪� ،‬أو‬ ‫احلا�ضر وامل�ستقبل‪ ،‬فاحلا�ضر عنده هو القدمي‪� ،‬أ ّما امل�ستقبل فهو احلداثة‪.‬‬ ‫يندرج هذا ال ّن ّ�ص �ضمن ال�شّ عر ال ّنقدي‪ ،‬وهذا ال�شّ عر هو على �شاكلة املقالة‪ ،‬وعادة ال�شّ عر ي�شرح‬ ‫‪159‬‬


‫ال�سلب ّيات والإيجاب ّيات‪ ،‬وهنا ال�شاعر "�أدوني�س" يطرح ر�ؤيا م�ستقبل ّية لل�شّ عر‪ ،‬وهنا طرح هذه‬ ‫ّ‬ ‫الو�صفي يف هذه الق�صيدة‪ ،‬فال�شاعر هنا‬ ‫بن�ص �شعري‪ ،‬الر�ؤيا‪ ،‬وال ّنمط املهيمن هو ال ّنمط‬ ‫العنا�صر ّ‬ ‫ّ‬ ‫ي�صف لنا �أحداثاً ولك ّنه يطمح يف تغيري الأحداث املحزنة �إىل �أحداث مفرحة و�أن يبعث ال ّتفا�ؤل‬ ‫ال�سعي من �أجل الو�صول �إىل ما ت�صبو �إليه‪ ،‬و�أن تطري وحت ّلق‬ ‫يف ال ّنفو�س املت�شائمة‪ ،‬ويحثّها على ّ‬ ‫يف الف�ضاء ال�شّ ا�سع من �أجل �سم ّو الب�شر ّية‪ ،‬فهو �إن�سان حامل يجمح ب�أجنحته �إىل الأعايل من‬ ‫�أجل تغيري الواقع املرير �إىل عامل اخليال والر�ؤى‪ّ ،‬‬ ‫وكل ذلك من �أجل ا�ستنارة العقل الب�شري‬ ‫والتح ّرر من التقاليد واملعتقدات‪.‬‬ ‫ّغوي‪:‬‬ ‫رابعا ً‪ :‬امل�ستوى الل ّ‬

‫يت�ضمن امل�ستويات الثالثة‪ :‬املعجمي‪ ،‬وال�صريف‪ ،‬والنحوي‪.‬‬ ‫ّ‬

‫�أ‪ .‬املعجمي والدّ اليل‪ :‬ت�ستوقفنا يف هذا ال ّن ّ�ص بع�ض املفردات ا ّلتي تتع ّلق بالر�ؤيا‪" :‬الر�ؤيا‪-‬‬ ‫الكتب الذليله‪ -‬الق ّبة‪ -‬مدينة‪ -‬جدراناً‪ -‬جنمة‪ -‬قارورة‪ -‬متثا ًال‪ -‬وخزف"‪ .‬وهذه الكلمات‬ ‫تتع ّلق باحلقلني املعجمي والدّاليل على ال�سواء‪ّ .‬‬ ‫ولعل يف هذه املعاين داللة وا�ضحة يف‬ ‫التم ّرد على الواقع املعا�ش‪ ،‬لأ ّننا من خالل هذه املعاين ن�ستطيع �أن ن�ستخرج الثّنائية امل�سيطرة‬ ‫�أو امل�ستخرجة من هذا ال ّن ّ�ص �أال وهي‪ :‬ثنائية "احلا�ضر وامل�ستقبل" �أو "ر�ؤيا وواقع"‪ ،‬ومن‬ ‫املفردات الدا ّلة على هذا تكرار للفعل "�أملح"‪ ،‬فمن خالل هذا الفعل يلمح ال�شاعر ويجتاز‬ ‫بالر�ؤيا لأ ّنها هي اخلال�ص الوحيد للهروب من عامل الواقع �إىل عامل اخليال‪ ،‬وهنا فعل "�أملح"‬ ‫�أخذ �أبعاداً �أكرث من فعل "الر�ؤية"‪ ،‬لأنّ "�أملح" مل تعد ّ‬ ‫تدل فقط على فعل الر�ؤية يف‬ ‫احلا�ضر بل يف امل�ستقبل‪ ،‬فالفعل "�أملح" هو مفتاح يف ر�ؤية "�أدوني�س"‪ ،‬وا ّلتي ّ‬ ‫تدل على بعد‬ ‫نظره‪ ،‬وكذلك ذكر الفعل "تطري" �أي �إنّ �أحالمه حت ّلق بالأعايل هرباً من الأفكار ال ّتقليد ّية‪،‬‬ ‫والفعل "ي�سبح" �أي ي�سبح ويغو�ص ب�أفكاره اجلديدة يف �أعماق الب�شر من �أجل تغيري واقعهم‬ ‫املعا�ش‪.‬‬ ‫نالحظ يف هذه الق�صيدة وجود حقلني معجم ّيني ودالل ّيني‪ ،‬فاحلقل الأ ّول ّ‬ ‫يدل على االنهزام‬ ‫الدموع‪-‬‬ ‫واملوت والأمل‪ ،‬ومن املفردات الدا ّلة على ذلك‪" :‬الذليله‪ -‬ال�صفراء‪ -‬قتيله‪ّ -‬‬ ‫الأ�شالء‪ -‬ال ّركوع"‪� ،‬أ ّما احلقل الثاين ّ‬ ‫فيدل على ال ّرفاهية واالزدهار‪ ،‬وال ّت ّقدم‪ ،‬واحلياة‪،‬‬ ‫ويبدو ذلك جلياً وا�ضحاً من خالل ا�ستعمال املفردات الآتية‪" :‬جدراناً من احلرير‪ -‬قارورة‬ ‫خ�ضراء‪ -‬ر�ؤيا‪ -‬خزف‪ -‬ح�ضرة الأمري"‪ .‬ونالحظ هنا �أنّ احلقل الأ ّول هو امل�سيطر "الر�ؤيا"‪،‬‬ ‫‪160‬‬


‫�أدب‬

‫والدموع �إىل الفرح والب�سمة واحلياة‪.‬‬ ‫وا ّلذي من خالله يطمح ويحلم من تغيري احلزن والأمل ّ‬ ‫ب‪ .‬ال�صريف‪ :‬يطالعنا يف ال ّن ّ�ص ح�ضور لثالثة �أفعال وهي‪�" :‬أملح‪ ،‬وتطري‪ ،‬وت�سبح"‪ ،‬وهذه‬ ‫الأفعال هي يف �صيغة امل�ضارع‪ ،‬وهذه ال�صيغة تد ّلنا عادة على احلرك ّية واال�ستمرار ّية‪ ،‬ولك ّنها‬ ‫هنا تد ّلنا �أحياناً على االنك�سار واالنهزام وال�سقوط م ّرة واملوت �أي�ضاً‪ّ ،‬ثم تعود م ّرة جديدة‬ ‫لتبعث فينا احلياة والنهو�ض وال�سمو والرفعة‪ .‬ولأنّ ال�شاعر كما الحظنا كان ّ‬ ‫كل ّهمه من‬ ‫هذه الر�ؤيا هو التغيري من العامل الواقع املعا�ش �إىل عامل �أكرث ح�ضارة و�أكرث ثقافة‪.‬‬ ‫من ناحية �أخرى‪ ،‬فقد برزت �صفات وهي‪" :‬الذليله‪� -‬صفراء‪ -‬قتيله‪ -‬خ�ضراء"‪ ،‬فبع�ض هذه‬ ‫ال�صّ فات ّ‬ ‫تدل على ال�ضعف ّ‬ ‫والذ ّل‪ ،‬وال�شحوب واملوت وك ّلها عبارة عن الواقع املعا�ش‪� ،‬أ ّما‬ ‫كلمة خ�ضراء فهي احلياة‪ .‬وقد ق�صد بها ال�شاعر ال ّتغيري والتجديد �أي اخليال واحللم والر�ؤيا‪.‬‬ ‫ّحوي‪ :‬نالحظ يف هذا ال ّن ّ�ص غياب للفاعل ا ّلذي هو ال�ضّ مري "�أنا" �أي الكاتب‬ ‫ت‪ .‬الن ّ‬ ‫نف�سه‪ ،‬وقد برز غياب هذا ال�ضّ مري �أو ذات ال�شاعر من خالل الفعل "�أملح"‪ ،‬ويف ذلك‬ ‫ي�صف ال�شاعر واقعه وعامله‪ ،‬لأنّ الر�ؤيا هي اتجّ اه اخليال واحللم نحو اكت�شاف مفهوم حت ّول‬ ‫الواقع العربي نحو التجديد‪.‬‬ ‫والدموع‪"...‬‬ ‫كما نلمح �أي�ضاً ت�سكيناً يف �أواخر بع�ض الكلمات مثل‪" :‬الذليله‪ ،‬وتطري‪ ،‬واحلرير‪ّ ،‬‬ ‫وا�ستعماله هذه الكلمات ّ‬ ‫امل�سكنة لي�س لل�ضرورة ال�شّ عر ّية‪ ،‬و�إنمّ ا ال�سبب احلقيقي هو الإيحاء‬ ‫والو�صول �إىل الر�ؤيا احلقيق ّية وا ّلتي تدعو �إىل ن�سيان ّ‬ ‫ما�ض‪ ،‬وا ّلذي يذ ّكرنا باملوت‬ ‫كل ما هو ٍ‬ ‫يبث فينا العزمية والأمل من �أجل ال ّت ّقدم وال ّنهو�ض واحلر ّية‪.‬‬ ‫والأمل واالنهزام‪ ،‬و�أن ّ‬ ‫وهنا نرى ا�ستتار الفاعل بفعله ّمما �أعطى للفعل ق ّوة ال ّلمح‪ ،‬وللداللة على �أهم ّية عمل الفعل‬ ‫ولي�س على من يقوم بالفعل‪ ،‬كما كرثت يف هذا ال ّن ّ�ص حروف اجل ّر نذكر منها‪" :‬يف الق ّبة‪،‬‬ ‫الدموع‪ ،‬من خزف الأ�شالء‪ ،‬يف ح�ضرة" وهذه‬ ‫جدراناً من احلرير‪ ،‬ت�سبح يف قارورة‪ ،‬متثا ًال من ّ‬ ‫احلروف لها مدلوالن‪ :‬بيان نوع مثل‪ :‬جدراناً من احلرير‪ ،‬واملدلول الآخر حتديد ظرف مثل‪:‬‬ ‫يف الق ّبة ال�صفراء‪.‬‬ ‫خام�سا ً‪ :‬امل�ستوى املجازي‬

‫ت�ستوقفنا يف هذه الق�صيدة الكثري من املفردات ا ّلتي حتمل يف ط ّياتها خروجاً عن‬ ‫تو�سل يف هذه الق�صيدة العديد‬ ‫الواقع املعا�ش �إىل الواقع املجازي الإيحائي‪ ،‬فال�شاعر قد ّ‬ ‫‪161‬‬


‫من الأ�ساليب املجاز ّية الت�ضمين ّية الإيحائ ّية‪ ،‬وقد برز ذلك جل ّياً من خالل اال�ستعارات‬ ‫والت�شبيهات والكنايات‪.‬‬ ‫ففي مطلع الق�صيدة يطالعنا (ت�شبيه) وهو‪�" :‬أملح بني الكتب الذليله"‪ ،‬فقد �ش ّبه ال�شاعر‬ ‫الكتب ب�أنها ذليلة كالإن�سان الأ ّم ّي �أو ا ّلذي ال يتم ّتع ب�صالح ّياته يف احلياة‪ ،‬وحينها ي�شعر‬ ‫ّ‬ ‫بالذ ّل والإهانة لأ ّنه غري قادر على �إفادة جمتمعه‪ .‬وهنا �أ�سند كلمة "الذليله" �إىل الكتب‪،‬‬ ‫ي�سمى‬ ‫وهذه الكلمة انزاحت عن معناها‬ ‫احلقيقي والأ�صلي �إىل معنى �آخر‪ ،‬وهذا ما ّ‬ ‫ّ‬ ‫باالنزياح‪ .‬وميكننا �أن نعترب هذه اجلملة �أي�ضاً ا�ستعارة‪ ،‬لأنّ ّ‬ ‫الذ ّل عادة يكون للإن�سان‬ ‫وللأ�شياء املح�سو�سة ولي�ست للأ�شياء اجلامدة ولك ّنه ا�ستعاره هنا للكتاب للداللة على ق ّلة‬ ‫قيمته‪� ،‬إن مل يحمل ما يفيد الب�شر ّية‪ ،‬وهذه اال�ستعارة هي تعدية بالو�صف‪.‬‬ ‫كما ظهرت لنا العديد من اال�ستعارات بالتعدية‪� ،‬أي التعدية بوا�سطة حرف اجل ّر‪" :‬يف الق ّبة‬ ‫الدموع‪ -‬من خزف الأ�شالء"‪.‬‬ ‫ال�صفراء‪ -‬جدراناً من احلرير‪ -‬يف قارورة خ�ضراء‪ -‬متثا ًال من ّ‬ ‫فاال�ستعارة الأوىل (يف الق ّبة ال�صفراء)‪ ،‬ا�ستعار ال�شاعر ال ّلون الأ�صفر من الإن�سان �أو من‬ ‫النبات و�أ�سنده �إىل الق ّبة‪ ،‬فال ّلون الأ�صفر هو عالمة ال�شحوب والذبول واملوت و�أي�ضاً‬ ‫االنحطاط‪ ،‬بينما الق ّبة هي عالمة العل ّو والطموح واالرتقاء‪ ،‬فالطموح بر�أيه �إن مل ي�صل‬ ‫ب�صاحبه �إىل االرتقاء فهو داللة على ال�شحوب واملوت واالنحطاط‪.‬‬ ‫�أ ّما بالن�سبة لـ"مدينة مثقوبة" فهنا توجد كناية عن ال�ضّ عف‪ ،‬ا ّلذي ت�س ّلل �إىل واقعنا املرير‬ ‫واملعا�ش حتى �أ�صبح واقعاً مثقوباً وتتداخله فجوات وثغرات‪.‬‬ ‫"مدينة تطري" وهنا �أي�ضاً ا�ستعارة‪ ،‬فلقد ا�ستعار فعل الطريان من الطائر املتح ّرك ون�سبه �إىل‬ ‫املدينة الثابتة اجلامدة‪ ،‬وذلك كونه يتم ّنى تغيري �أر�ض الواقع املرير �أو ترك الأر�ض ا ّلتي يعي�شها‬ ‫لكي يعي�ش يف عامل اخليال‪ ،‬والأحالم والطريان‪ ،‬وهذه اال�ستعارة هي تعدية بالو�صف‪.‬‬ ‫�أ ّما "جدران من احلرير" فهي ا�ستعارة تعدية‪ ،‬فقد ا�ستعار احلرير‪ ،‬وهو من القما�ش الغايل‬ ‫الثّمن‪ ،‬ون�سبه �إىل اجلدران البالية وا ّلتي م ّرت عليها حروب كثرية‪ ،‬يطلب منها �أن ت�ستبدل‬ ‫هذا الثوب البايل �أي الأفكار التقليد ّية و�أن ت�سعى �إىل تطوير �أفكارها عرب ن�سيان ما�ضيها‬ ‫الأليم �إىل الأفكار امل�ستحدثة‪.‬‬ ‫و"جنمة قتيله" هي كناية عن الهداية والنور‪ ،‬ولكن هذا النور مد ّمر ومقتول من قبل عقول‬ ‫‪162‬‬


‫�أدب‬

‫رقي املجتمعات‪.‬‬ ‫حتاول �أن تد ّمر وتفتك بعقول الب�شر ّية‪ ،‬ويطمح ال�شاعر �إىل تغيريه من �أجل ّ‬

‫�أ ّما "ت�سبح يف قارورة خ�ضراء" وهنا ا�ستعارة بالو�صف وبالتعدية معاً‪ ،‬فلقد ا�ستعار ال�سباحة‬ ‫من الإن�سان املح�سو�س �إىل الأ�شياء غري املح�سو�سة‪ّ ،‬‬ ‫وكل ذلك ليجعل تفكري الإن�سان ور�ؤياه‬ ‫ت�سبح وتغو�ص يف �أعماق ال ّنهو�ض وال ّت ّقدم‪.‬‬ ‫الدموع من الإن�سان املتح ّرك يف هذا الكون‬ ‫الدموع"‪ ،‬لقد ا�ستعار ال�شاعر ّ‬ ‫و"�أملح متثا ًال من ّ‬ ‫والدموع عادة هي تعبري عن �أحا�سي�س وحزن‬ ‫املليء باحلركة �إىل التمثال ال�صلب اجلامد‪ّ ،‬‬ ‫ليبث فيه ال ّروح واحلياة‪.‬‬ ‫يعتمران داخل الإن�سان ويف كيانه‪ ،‬ولك ّنه هنا ن�سبها �إىل التمثال ّ‬ ‫(هذه ا�ستعارة بالتعدية)‪.‬‬

‫�أ ّما "من خزف الأ�شالء وال ّركوع"‪ ،‬هذه �أي�ضاً ا�ستعارة تعدية‪ ،‬فقد ا�ستعار الأ�شالء وال ّركوع‬ ‫من الإن�سان �إىل اخلزف‪ ،‬فالأ�شالء هي عبارة عن بقايا وجيف الأموات‪ ،‬بينما ال ّركوع هو‬ ‫االنحناء واخل�ضوع واالن�صياع واالنقياد‪ ،‬وقد ن�سبهما �إىل اخلزف للداللة على عدم االنقياد‬ ‫واالن�صياع �إىل الواقع املرير و�إىل العامل املجهول وك�أ ّننا �أ�شالء وجثث و�أن نكون كاخلزف‬ ‫يقدم �أف�ضل ما‬ ‫ا ّلذي يعطي �أثمن ما ميلكه‪ ،‬وكذلك على الإن�سان �أن يكون طموحاً و�أن ّ‬ ‫يتقدم نحو احل�ضارة وال ّرقي ولكي يقدم على حياة �أف�ضل‪.‬‬ ‫ميلك‪ ،‬لكي ّ‬ ‫املجازي‪،‬‬ ‫أ�صلي �إىل املعنى‬ ‫هذه اال�ستعارات ك ّلها انزياح وعدول عن املعنى‬ ‫ّ‬ ‫احلقيقي وال ّ‬ ‫ّ‬ ‫�أي مبعنى �آخر يق�صد من خلفها ال�شّ اعر اخلروج من واقعه املرير �إىل واقع �أكرث خيا ًال وثقافة‬ ‫وح�ضارة واجتماعاً‪...‬‬ ‫ّقافية‬ ‫الرموز وال�شيفرات الث ّ‬ ‫�ساد�سا ً‪ّ :‬‬

‫يت�ضمن هذا ال ّن ّ�ص الكثري من الإ�شارات املرتبطة باجلذور احل�ضار ّية والثقاف ّية واملتع ّلقة �أي�ضاً‬ ‫ّ‬ ‫بر�ؤى ال�شّ اعر و�أحالمه‪ ،‬فقد �أ�شار لنا ذلك من خالل "ح�ضرة الأمري"‪ .‬فهاتان الكلمتان‬ ‫اّ‬ ‫مهم من‬ ‫ال�سم ّو والرفعة وال ّت ّقدم واالزدهار نحو الأف�ضل‪ ،‬لأنّ الأمري بر�أيه هو رمز ّ‬ ‫تدلن على ّ‬ ‫تغي الواقع املعا�ش‬ ‫رموز الفكر والثقافة والطموح �إىل املجد‪ ،‬و�أي�ضاً كونه يتم ّتع ب�صالح ّيات رّ‬ ‫نحو الأف�ضل‪.‬‬ ‫وكذلك برزت لدينا بع�ض ال�شيفرات الثّقاف ّية من خالل الألفاظ ال ّتالية‪" :‬الكتب‪-‬‬ ‫‪163‬‬


‫الق ّبة‪ -‬مدينة‪ -‬متثال‪ -‬جنمة‪ ."...‬فـ"الكتب" هي ا ّلتي حفظت لنا تاريخنا وح�ضارتنا‪،‬‬ ‫ولوالها ل�ضاعت �أجماد احل�ضارات ال�سالفة مع الأ ّيام العابرة‪ ،‬و"الق ّبة" تعترب رمزاً دين ّياً‬ ‫مهماً وهي ّ‬ ‫تدل على ال�شّ موخ والعل ّو وال�صمود‪ ،‬والق ّبة تكون عادة عند طائفة مع ّينة من‬ ‫ّ‬ ‫ح�ضاري‪،‬‬ ‫النا�س (امل�سلمون)‪� .‬أ ّما "املدينة" فتمثّل املجتمع وق�ضاياه ومعتقداته وهو مكان‬ ‫ّ‬ ‫و"التمثال" قد يكون رمزاً للح ّر ّية املخنوقة وا ّلتي يطمح �إليها الب�شر من �أجل التح ّرر من‬ ‫قيودهم ومن العبود ّية املفرو�ضة عليهم من �أجل العي�ش ب�سالم‪.‬‬ ‫�سابعا ً‪ :‬امل�ستوى ال�صوتي‬

‫يهدف هذا امل�ستوى �إىل درا�سة تنا�سب البنية الدّالل ّية مع الإيقاع‪ ،‬مقطعاً‪ ،‬ونرباً‪ ،‬وتنغيماً‪.‬‬ ‫ر�ؤيا‬

‫‪� .1‬أملح بني الكتب الذليله‬ ‫‪○/○//│○///○/│○///○/‬‬

‫مقطع ق�صري (‪ ،)○/‬ومقطع طويل (‪│،)○///‬ومقطع ق�صري (‪ ،)○/‬ومقطع طويل‬ ‫│مقطع طويل (‪ ،)○//‬ومقطع ق�صري (‪.)○/‬‬

‫(‪،)○///‬‬

‫مفتعلن│مفتعلن│فعولن‬ ‫‪ .2‬يف الق ّبة ال�صفراء‬ ‫‪○○/○/│○//○/○/‬‬

‫مقطعان ق�صريان (‪ ،)○/‬ومقطع طويل (‪│،)○//‬ومقطع ق�صري (‪ ،)○/‬ومقطع زائد الطول‬ ‫(‪.)○○/‬‬ ‫م�ستفعلن│فعالن‬ ‫‪ .3‬مدين ًة مثقوب ًة تطري‬ ‫‪○○//│○//○/○/│○//○//‬‬ ‫‪164‬‬


‫�أدب‬

‫مقطعان طويالن (‪│،)○//‬ومقطعان ق�صريان (‪ ،)○/‬ومقطع طويل (‪│،)○//‬ومقطع زائد‬ ‫الطول (‪.)○○//‬‬ ‫مفاعلن│م�ستفعلن│فعول‬ ‫‪� .4‬أملح جدراناً من احلرير‬ ‫‪○○//│○//○/○/│○///○/‬‬

‫مقطع ق�صري (‪ ،)○/‬ومقطع طويل (‪│،)○///‬ومقطعان ق�صريان (‪ ،)○/‬ومقطع طويل‬ ‫(‪│،)○//‬ومقطع زائد الطول (‪.)○○//‬‬ ‫مفتعلن│م�ستفعلن│فعول‬ ‫‪ .5‬وجنم ًة قتيله‬ ‫‪○/○//│○//○//‬‬

‫مقطعان طويالن (‪│،)○//‬ومقطع طويل (‪ ،)○//‬ومقطع ق�صري (‪.)○/‬‬ ‫مفاعلن│فعولن‬ ‫‪ .6‬ت�سبح يف قارور ٍة خ�ضراء‬ ‫‪○○/○/│○//○/○/│○///○/‬‬

‫مقطع ق�صري (‪ ،)○/‬ومقطع طويل (‪│،)○///‬ومقطعان ق�صريان (‪ ،)○/‬ومقطع طويل‬ ‫(‪│،)○//‬ومقطع ق�صري (‪ ،)○/‬ومقطع زائد الطول (‪.)○○/‬‬ ‫مفتعلن│م�ستفعلن│فعالن‬ ‫الدموع‬ ‫‪� .7‬أملح متثا ًال من ّ‬ ‫‪○○//│○//○/○/│○///○/‬‬

‫مقطع ق�صري (‪ ،)○/‬ومقطع طويل (‪│،)○///‬مقطعان ق�صريان (‪ ،)○/‬ومقطع طويل‬ ‫‪165‬‬


‫(‪│،)○//‬ومقطع زائد الطول (‪.)○○//‬‬ ‫مفتعلن│م�ستفعلن│فعول‬ ‫‪ .8‬من خزف الأ�شالء وال ّركوع‬ ‫‪○○//│○//○/○/│○///○/‬‬

‫مقطع ق�صري (‪ ،)○/‬ومقطع طويل (‪│،)○///‬مقطعان ق�صريان (‪ ،)○/‬ومقطع طويل‬ ‫(‪│،)○//‬ومقطع زائد الطول (‪.)○○//‬‬ ‫مفتعلن│م�ستفعلن│فعول‬ ‫‪ .9‬يف ح�ضرة الأمري‬ ‫‪○○//│○//○/○/‬‬

‫مقطعان ق�صريان (‪ ،)○/‬ومقطع طويل (‪│)○//‬مقطع زائد الطويل (‪.)○○//‬‬ ‫م�ستفعلن│ فعول‬ ‫ثامنا ً‪ :‬املقطع الإيقاعي‬

‫بعد درا�ستنا لهذه الق�صيدة‪ ،‬نتو�صّ ل �إىل ال ّنتائج ال ّتالية‪:‬‬

‫تو ّزع الأن�ساق‪:‬‬

‫الأن�ساق‬ ‫مفتعلن‬ ‫فعولن‬ ‫م�ستفعلن‬ ‫فعالن‬ ‫مفاعلن‬ ‫فعول‬ ‫املجموع‬

‫‪166‬‬

‫احلركات‬ ‫‪6‬‬ ‫‪2‬‬ ‫‪2‬‬ ‫‪2‬‬ ‫‪7‬‬ ‫‪5‬‬ ‫‪24‬‬


‫�أدب‬

‫تو ّزع املقاطع‪:‬‬ ‫احلركات‬

‫مقطع ق�صري‬

‫مقطع طويل‬

‫مقطع زائد الطول‬

‫‪25‬‬

‫‪18‬‬

‫‪7‬‬

‫عري‪� ،‬سيطرة املقاطع الق�صرية على املقاطع الطويلة‪ ،‬وهذا يعني �سرعة‬ ‫نالحظ يف هذا ال ّن ّ�ص ال�شّ ّ‬ ‫يف الإيقاع لأ ّنه ابتد�أ ال�شاعر يف ثالثة مقاطع طويلة ومقطع ق�صري �أي بن�سبة ‪ % 75‬للبطء مقابل‬ ‫‪ % 25‬لل�سرعة‪� ،‬أي (مفتعلن)‪ ،‬وهذا الإيقاع ي�ؤ ّدي �إىل ال�سرعة يف الوقت‪� ،‬أي ي�صبح هناك خلل‬ ‫و�صراع يف الق�صيدة �أو يف ال ّن ّ�ص من خالل املقاطع ال�صوت ّية‪ ،‬وهذا ال�صّ راع ا ّلذي يعي�شه ال�شاعر‬ ‫يتو�ضّ ح من خالل الق�صيدة‪ .‬ولكن هذه الن�سب مل يحافظ عليها يف ّ‬ ‫تغيت‬ ‫كل الق�صيدة‪ ،‬بل رّ‬ ‫وتبدلت بني مقاطع ق�صرية ومقاطع طيلة‪ ،‬ومقاطع زائدة الطول‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫يج�سد ال�صّ راع‬ ‫‪ .1‬الإيقاع ال ّنربي‪ :‬نرى بو�ضوح �أنّ هناك نرباً يف هذه الق�صيدة‪ ،‬وهذا ال ّنرب ّ‬ ‫وال�سرعة من جهة‪ ،‬كما يبينّ لنا �صراعاً من نوع �آخر وهو ال�صّ راع بني ال ّتقليد‬ ‫بني البطء ّ‬ ‫احلقيقي‪.‬‬ ‫ج�سد ال�شاعر بني ر�ؤيته وبني الواقع‬ ‫واحلداثة‪ ،‬ومن خالل هذا ال�صّ راع ّ‬ ‫ّ‬ ‫نغيمي‪ :‬يتو ّزع ال ّن ّ�ص بني اجلمل اخلرب ّية وبني اجلمل الإن�شائ ّية‪ .‬فاجلمل اخلرب ّية (�أملح‪،‬‬ ‫‪ .2‬ال ّت ّ‬ ‫وتطري‪ ،‬وت�سبح) ك ّلها ت�ؤ ّدي �إىل احلركة‪ ،‬بينما اجلمل الإن�شائ ّية ت�ؤ ّدي �إىل الثّبات واجلمود‬ ‫وال ّركون‪.‬‬ ‫من ناحية الروي‪ :‬هناك تن ّوع يف الق�صيدة‪� ،‬إذ ابتد�أ ال�شاعر ق�صيدته بالهاء ال�ساكنة "الذليله"‬ ‫املد يف "ال�صفراء"‪ ،‬والراء ال�ساكنة يف "تطري‪ ،‬واحلرير"‪ ،‬والعني ال�ساكنة يف‬ ‫تد ّرجاً �إىل �ألف ّ‬ ‫وكل ذلك للداللة على الت�أ ّوه (الهاء ال�ساكنة)‪ ،‬ومنها ما ّ‬ ‫"الدموع‪ ،‬وال ّركوع"‪ّ ،‬‬ ‫يدل على‬ ‫ّ‬ ‫املد) من �أجل الو�صول �إىل ما يطمح �إليه ال�شّ اعر‪ .‬وهذا ال ّتن ّوع قد �أو�صل‬ ‫ال�صّ عوبة كـ(�ألف ّ‬ ‫ال�شّ اعر �إىل عبور الطريق الطويل‪ ،‬وال�صعوبات ا ّلتي واجهها من �أجل تغيري هذا الواقع (�أي من‬ ‫�أجل تغيري ال�شّ عر ال ّتقليدي �إىل �شعر جديد)‪.‬‬ ‫وعلى ال ّرغم من خل ّو هذه الق�صيدة من اال�ستفهام � اّإل �أ ّنها مل تفقد النغم‪ ،‬وبهذا يكون الإيقاع‬ ‫ال ّتنغيمي قد حقّق متانة للبنية الدّالل ّية‪.‬‬ ‫ا�ستنتاج‪� :‬إنّ ال�شّ اعر "�أدوني�س" ومن خالل ق�صيدته هذه يدعو �إىل قراءة جديدة لتاريخ‬ ‫‪167‬‬


‫الإن�سان يف الكون‪ ،‬و�أن نك�سر بنية ال�شّ عر لوالدة تتع ّلق بطبيعة "الر�ؤيا"‪ ،‬وهذه الق�صيدة ت�سعى‬ ‫�إىل تطوير الإيقاع وجعل امل�ضمون هو ا ّلذي ي� ّؤ�س�س �شكل ال ّن ّ�ص‪ .‬وميكن القول دون مبالغة‬ ‫املتجدد يف ال�شّ عر العربي احلديث‪ ،‬وي�أبى � اّإل �أن ي�ستق ّر‬ ‫جريبي ّ‬ ‫�إنّ "�أدوني�س" هو ال�شّ عر ال ّت ّ‬ ‫للم�شاركة يف الإبداع ّية وتك�سري دائرة التلقّي ال�سلبي عند القارىء �أو املتلقّي‪.‬‬ ‫"مر�آة احلجر"‬ ‫الوعي والبحث عن احلقيقة‬ ‫‪ - 1‬عارياً حتت نخيل الآلهه‪،‬‬ ‫‪/o//oo//o/o/ o///o/‬‬

‫‪ -2‬الب�ساً رمل ال�سنني‬

‫‪oo//o/ o/o//o/‬‬

‫‪ - 3‬كنت �ألهو باحت�ضاري‬ ‫‪o/o//o/ o/o//o/‬‬

‫‪ - 4‬كنت �أبني ملكوت الآخرين‬

‫‪oo//o/ o/o/// o/o//o/‬‬

‫‪ -5‬بغباري‬

‫‪o/o///‬‬

‫نبي الكلمات التائهه‬ ‫‪ -6‬يا َ‬

‫‪o//o/ o/o/// o/o//o/‬‬

‫ال�سفر الآتي �إلينا‬ ‫نبي َ‬ ‫‪ -7‬يا َ‬

‫‪o/o//o/o/o/// o/o//o/‬‬ ‫‪168‬‬

‫مقطع زائد‬ ‫مقطع ق�صري مقطع طويل‬ ‫الطول‬ ‫‪4‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪7‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪0‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪2‬‬

‫‪6‬‬

‫‪0‬‬

‫‪4‬‬

‫‪6‬‬

‫‪1‬‬

‫‪2‬‬ ‫‪4‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪2‬‬ ‫‪7‬‬ ‫‪8‬‬

‫‪0‬‬ ‫‪0‬‬ ‫‪0‬‬


‫�أدب‬

‫‪ -8‬يف رياح املطر‬

‫‪3‬‬

‫‪o///o/o//o/‬‬

‫‪� -9‬أنا والي�أ�س عرفنا �أنك الآتي �إلينا‬ ‫‪o/o//o/o/o//o/o/o///o/o/o//‬‬

‫‪ - 10‬وعرفناك نبياً ُيحت�ضر˚‬

‫‪o//o/o/o///o/o///‬‬

‫‪ - 11‬فانحنينا‬

‫‪o/o//o/‬‬

‫‪ - 12‬وهتفنا‪� :‬أ ُيها الآتي �إلينا‬

‫‪o/o//o/o/o//o/o/o///‬‬

‫‪� - 13‬ضائعاً يقطر نفياً وحريقا‬

‫‪o/o///o/o///o/o//o/‬‬

‫‪ - 14‬نحن نر�ضاك �إلهاً و�صديقا‬

‫‪o/o///o/o///o/o//o/‬‬

‫‪ - 15‬يف مرايا احلجر‬

‫‪.‬‬

‫‪o//o/o//o/‬‬

‫ال�سفر‬ ‫نبي َ‬ ‫‪ - 16‬يا َّ‬

‫‪o///o/o//o/‬‬

‫‪� - 17‬أنا �أر�ضاك �إلهاً ورفيقا‬

‫‪o/o///o/o///o/o/o//‬‬

‫‪5‬‬

‫‪4‬‬ ‫‪11‬‬

‫‪0‬‬ ‫‪0‬‬

‫‪5‬‬

‫‪6‬‬

‫‪0‬‬

‫‪1‬‬

‫‪3‬‬

‫‪0‬‬

‫‪4‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪8‬‬ ‫‪7‬‬

‫‪0‬‬ ‫‪0‬‬

‫‪5‬‬

‫‪7‬‬

‫‪0‬‬

‫‪2‬‬

‫‪4‬‬

‫‪0‬‬

‫‪3‬‬

‫‪5‬‬

‫‪4‬‬

‫‪7‬‬

‫‪0‬‬

‫‪0‬‬

‫‪169‬‬


‫‪ - 18‬يف مرايا احلجر‪.‬‬

‫‪o//o/o//o/‬‬

‫‪ - 19‬با�سمك اليوم �أغ ّني للغيوم˚‬

‫‪oo//o/o/o///o/o//o/‬‬

‫‪ - 20‬و�س�أبني بني قلبي والف�ضاء‬

‫‪oo//o/o/o//o/o/o///‬‬

‫‪ - 21‬عند �أطراف النجوم‬

‫‪oo//o/o/o//o/‬‬

‫‪ - 22‬حاجزاً يلب�س وجه الب�شر‬

‫‪o//o/o///o/o//o/‬‬

‫‪ - 23‬وال�سماء˚‪،‬‬

‫‪oo//o/‬‬

‫‪ - 24‬و�أغ ّني للغيوم –‬

‫‪oo//o/o/o///‬‬

‫‪ - 25‬حج ٌر وجهي ولن �أع�شق غري احلجر‪.‬‬

‫‪o///o/o///o/o//o/o/o///‬‬

‫‪170‬‬

‫‪2‬‬

‫‪4‬‬

‫‪0‬‬

‫‪4‬‬

‫‪6‬‬

‫‪1‬‬

‫‪4‬‬

‫‪2‬‬

‫‪4‬‬

‫‪1‬‬

‫‪6‬‬

‫‪4‬‬

‫‪6‬‬

‫‪1‬‬

‫‪1‬‬

‫‪1‬‬

‫‪0‬‬

‫‪1‬‬

‫‪3‬‬

‫‪3‬‬

‫‪1‬‬

‫‪7‬‬

‫‪8‬‬

‫‪0‬‬


‫�أدب‬

‫�سيميائية العنوان‪:‬‬

‫العنوان هو مر�آة الن�ص‪ ،‬فكما املر�آة تعك�س ال�صورة التي �أمامها‪ ،‬كذلك �أي�ضاً العنوان يعك�س‬ ‫حمتوى الق�صيدة‪ .‬هذا ما نعرفه ب�شكل عام‪ ،‬لكن عندما تكون املر�آة للحجر فهذا �أعطانا بعداً‬ ‫�آخر‪ ،‬مما و َّلد �سيميائية جديدة‪ ،‬فاحلجر معروف عاد ًة بال�صالبة والقوة واجلمود وعدم القدرة على‬ ‫احلركة‪ ،‬ومن ناحية �أخرى نراه رمز الر�سوخ والبقاء وبالتايل رمز الوطن واملوطن‪ ،‬ون�ستخل�ص‬ ‫ب�أنّ احلجر هو الوطن القوي ال�صلب الباقي الذي ال يقهر‪ .‬وعندما دمج "املر�آة" معه جعل له‬ ‫بعداً جديداً‪ ،‬فال�شاعر يرى انعكا�س �صورة الوطن‪ ،‬وهذه ال�صورة املعكو�سة هي امل�ستقبل الآتي‬ ‫التجدد‬ ‫�إىل هذا الوطن‪ .‬امل�ستقبل الذي ير�سمه ال�شاعر وكل الذين ي�سريون على دربه‪ ،‬وطن ّ‬ ‫واالنبعاث املع ّتق من التبع ّية والعي�ش على �أنقا�ض املا�ضي‪.‬‬ ‫حركة ّ‬ ‫ال�سائدة‪:‬‬ ‫ت�شكل ال ّن ّ�ص والأمناط ّ‬ ‫ال ّن ّ�ص م ّر بثالث حركات‪ -:‬احلركة الأوىل (من ‪� 1‬إىل ‪ )5‬متثُل ال�شكوى والأمل والي�أ�س والتعب‬ ‫وامللل �إىل درجة االحت�ضار‪ – .‬احلركة الثّانية (من ‪� 6‬إىل ‪ )11‬متثّل ب�صي�ص الأمل عند ر�ؤية‬ ‫ال�سفر القادم برغم �صعوبة الدرب وبرغم تعبه واحت�ضاره‪– .‬‬ ‫نبي ّ‬ ‫بذرة االنبعاث التي يحملها ّ‬ ‫احلركة الثّالثة (من ‪� 12‬إىل ‪ )25‬ومتثّل اكتمال عملية االنبعاث والتعاي�ش مع احلياة اجلديدة بكل‬ ‫فرح‪ ،‬ولكن هذا الأمر �سيح�صل يف امل�ستقبل ولي�س يف الوقت ال ّراهن‪� .‬إذاً ن�ستخل�ص من هذه‬ ‫احلركات‪ :‬الثنائية التي احتوت ال ّن ّ�ص وهي ثنائية االحت�ضار واالنبعاث‪ ،‬وهذه الثنائية ّ‬ ‫�شكلت‬ ‫البنية الدالل ّية الكاملة لل ّن ّ�ص‪.‬‬ ‫ردي‪،‬‬ ‫ال�س ّ‬ ‫�أ ّما من حيث الأمناط‪ ،‬فرنى �أنّ ال ّن�ص يحتوي �أكرث من منط‪ ،‬فكان هناك ظهو ٌر للنمط ّ‬ ‫حيث كان انتقال الأحداث من املا�ضي �إىل احلا�ضر �إىل امل�ستقبل‪ ،‬فاملا�ضي هو الي�أ�س واالحت�ضار‪،‬‬ ‫�أ ّما احلا�ضر فهو الأمل ووالدة االنبعاث‪� ،‬أ ّما امل�ستقبل فهو اكتمال االنبعاث‪.‬‬ ‫وال�سفر يخربه مبعرفة‬ ‫وقد تخ ّلل ال ّن ّ�ص �أي�ضاً ال ّنمط‬ ‫ّ‬ ‫نبي الكلمات ّ‬ ‫احلواري‪ ،‬حيث �إ ّنه خاطب ّ‬ ‫قدومه ومبعرفة احت�ضاره وب�أنّ الأمل منه �ضعيف ولك ّنه بالرغم من ذلك ُي ّرحب به ويهتف له‬ ‫الو�صفي قد و�ضع‬ ‫املتجمد‪ ،‬لأ ّنه هو احلامل لالنبعاث‪ .‬كما نرى ال ّنمط‬ ‫وير�ضاه �إلهاً يف وطنه ّ‬ ‫ّ‬ ‫ب�صماته ب�شكل وا�ضح‪ ،‬خ�صو�صاً يف بداية ال ّن ّ�ص ويف نهايته‪ ،‬لي�صف حال الوطن كيف كان قبل‬ ‫االنبعاث وكيف �أ�صبح بعده‪ ،‬وقد لعبت الأمناط دوراً �أ�سا�سياً يف دعم ركائز الثّنائية املذكورة‬ ‫�سابقاً‪.‬‬ ‫‪171‬‬


‫البنائي‪:‬‬ ‫دور الإيقاع‬ ‫ّ‬

‫‪ .1‬الإيقاع املقطعي‪:‬‬ ‫ تو ّزع الأن�ساق‪:‬‬‫ال ّن�سق‬

‫احلركة الأوىل‬

‫احلركة الثّانية‬

‫احلركة الثّالثة‬

‫م�ستفعلن ‪o//o/o/‬‬

‫‪1‬‬

‫‪2‬‬

‫‪0‬‬

‫م�ستفعالن ‪oo//o/o/‬‬

‫‪2‬‬

‫‪0‬‬

‫‪3‬‬

‫مفتعلن ‪o///o/‬‬

‫‪2‬‬

‫‪4‬‬

‫‪8‬‬

‫فعولن ‪o/o//‬‬

‫‪0‬‬

‫‪1‬‬

‫‪1‬‬

‫فاعلن ‪o//o/‬‬

‫‪4‬‬

‫‪4‬‬

‫‪13‬‬

‫فاعالتن ‪o/o//o/‬‬

‫‪0‬‬

‫‪1‬‬

‫‪2‬‬

‫فاعالن ‪oo//o/‬‬

‫‪0‬‬

‫‪0‬‬

‫‪2‬‬

‫فعالتن ‪o/o///‬‬

‫‪1‬‬

‫‪2‬‬

‫‪4‬‬

‫املجموع‬

‫‪10‬‬

‫‪14‬‬

‫‪33‬‬

‫‪ -‬تو ّزع املقاطع‪:‬‬

‫احلركة الأوىل‬ ‫احلركة الثّانية‬ ‫احلركة الثّالثة‬ ‫‪172‬‬

‫مقطع ق�صري‬

‫مقطع طويل‬

‫مقطع‬ ‫زائد‬ ‫ّ‬ ‫الطول‬

‫ن�سبة املقاطع‬ ‫الق�صرية‬

‫ن�سبة املقاطع‬ ‫الطويلة‬ ‫والزائدة‬ ‫ّ‬ ‫الطول‬

‫‪14‬‬

‫‪25‬‬

‫‪2‬‬

‫‪34.2‬‬

‫‪65.8‬‬

‫‪22‬‬

‫‪39‬‬

‫‪0‬‬

‫‪36.1‬‬

‫‪63.9‬‬

‫‪50‬‬

‫‪75‬‬

‫‪5‬‬

‫‪38.5‬‬

‫‪61.5‬‬


‫�أدب‬

‫ال ّن ّ�ص مبني على ن�سقَني‪ :‬م�ستفعلن (وجوازاته) وفاعالتن (وجوازاتها)‪� .‬أ ّما ال ّن�سق الأ ّول‬ ‫(م�ستفعلن ‪ )o//o/o/‬الذي ميثّل البطء عادةً‪ ،‬حيث �إنّه يت�أ ّلف من ‪ 3‬مقاطع طويلة ومقطع واحد‬ ‫ق�صري �أي ما يعادل ‪ % 75‬للبطء و‪ % 25‬لل�سرعة‪� ،‬إذاً ال ّن ّ�ص ينطلق من البطء وي�ستم ّر فيه مع‬ ‫حت ّول "م�ستفعلن" �إىل (م�ستفعالن ‪ )oo//o/o/‬ا ّلذي ميثّل ن�سبة البطء الأكرب‪ ،‬حيث � ّإن املقطع‬ ‫الطويل يف ال ّنهاية حت ّول �إىل زائد ّ‬ ‫الطول (‪� .)oo/‬أ ّما مع التح ّول �إىل فعولن (‪ )o/o//‬وفاعلن‬ ‫(‪ )o//o/‬فترتاجع ن�سبة البطء ‪� % 75‬إىل ‪ % 66.6‬مقابل زيادة ال�سرعة من ‪� % 25‬إىل ‪.% 33.4‬‬ ‫ونرى ازدياد ال�سرعة �أكرث مع التح ّول �إىل متفعلن (‪ )o///o/‬حيث �أ�صبحت ن�سبة املقاطع الق�صرية‬ ‫ت�ساوي ن�سبة املقاطع الطويلة ‪ % 50‬لالثنني‪� .‬أ ّما بالن�سبة �إىل الن�سق الثّاين فاعالتن (‪)o/o//o/‬‬ ‫فهو ميثّل ‪ % 75‬للبطء مقابل ‪ % 25‬لل�سرعة‪ ،‬ومع حت ّولها �إىل فاعالن (‪ )oo//o/‬ازدادت وترية‬ ‫ال�سرعة مع التح ّول �إىل‬ ‫ال�سرعة ‪ % 30‬مقابل تراجع ن�سبة البطء ‪ ،% 70‬وكذلك تزداد ن�سبة ّ‬ ‫ّ‬ ‫فعالتن (‪ )o/o///‬فت�صبح مت�ساوية مع ن�سبة البطء ‪.% 50‬‬ ‫ويف كال ال ّن�سقَني نرى التغ ّيري يف م�ستويات ال�سرعة والبطء‪ ،‬فال ّن ّ�ص انطلق من البطء وهو داللة‬ ‫ال�سرعة‪،‬‬ ‫اجلمود واالحت�ضار والو�شوك على املوت‪ّ ،‬ثم يف التح َول الأ َول نرى زياد ًة يف ن�سبة ّ‬ ‫وذلك عالمة على دخول عن�صر التغ ّيري وهذا العن�صر هو الأمل وحماولة احلراك واخلروج عن‬ ‫التبع ّية واجلمود وباخت�صار هو والدة االنبعاث‪ ،‬ويف التح ّول الأخري نرى تقدّ م ال�سرعة لتجاري‬ ‫لكن م�سار‬ ‫يف م�ستوياتها ن�سبة البطء وهذا �إ�شارة على بقاء ال�صّ راع بني االحت�ضار واالنبعاث‪ّ ،‬‬ ‫ال�سرعة هي من م�ؤ�شرات االنبعاث والبطء من‬ ‫تقدم ال�سرعة ُيرجح الغلبة لالنبعاث‪ ،‬حيث � ّإن ّ‬ ‫م�ؤ�شرات االحت�ضار واملوت‪ .‬وهكذا نرى � ّأن توزّع الأن�ساق ّ‬ ‫دل على املقاومة ا ّجلادة التي تقوم بها‬ ‫نزعة االنبعاث يف مواجهة االحت�ضار‪.‬‬ ‫التنغيمي‪:‬‬ ‫‪ .1‬الإيقاع‬ ‫ّ‬

‫يتوزّع ال ّن ّ�ص �أ�سلوب ّياً بني اجلمل اخلربية واجلمل الإن�شائ ّية‪ .‬فاخلرب هنا قد �أ ّدى وظيفة �أ�سا�س ّية‬ ‫أ�ساوي من ناحية‪ ،‬وت�صوير ما يجب �أن يكون عليه امل�ستقبل من‬ ‫تتمثّل يف ت�صوير الواقع امل� ّ‬ ‫ناحية �أخرى‪ ،‬فهكذا نرى تفلتاً من الزمان وال�سياقات املحدّ دة بعك�س الواقع‪ ،‬فقد كان ح�ضور‬ ‫اخلرب متكام ًال ليعطي ال�صّ ورة احلقيق ّية ملجريات الأحداث يف الن�ص‪.‬‬ ‫العاطفي لل ّن ّ�ص‪� ،‬أبرز م�شاعر ال�شاعر واجلماعة معه جتاه هذا العامل‬ ‫�أ ّما الإن�شاء فقد قدّ م الإطار‬ ‫ّ‬ ‫ال�سفر‬ ‫نبي ّ‬ ‫ودورهم يف القيام بالبعث‪ ،‬وقد ظهر ذلك من خالل ا�ستعمال �أ�سلوب النداء (يا ّ‬ ‫ال�سفر‪� ،‬أنا �أر�ضاك �إلهاً ورفيقا) فهذا الأ�سلوب كان‬ ‫نبي ّ‬ ‫الآتي �إلينا– �أ ّيها الآتي �إلينا– يا ّ‬ ‫‪173‬‬


‫جت�سيداً للحاجة �إىل خم ّل�ص ينت�شلهم من عذاب املا�ضي واحت�ضاراته وينقلهم �إىل م�ستقبل‬ ‫واعد بالفرح‪.‬‬ ‫وظيفي‪ ،‬فمنها ما ي�شري �إىل‬ ‫�أ ّما من ناحية ال ّروي‪ ،‬فتن ّوع ب�شكل تباد ّيل يف الق�صيدة‪ ،‬ولكن ّ‬ ‫ال�ساكنة امل�سبوقة مبد) ومنها ما ي�شري �إىل الر�ضوخ واال�ست�سالم (ال ّراء‬ ‫الي�أ�س والأنني (النون ّ‬ ‫املتبوعة مبد) ومنها ي�شري �إىل االرتياح لر�ؤية الأمل (ال ّنون املتبوعة مبد)‪� ،‬إعالن القّوة (القاف‬ ‫ال�ساكنة امل�سبوقة مبد)‪ .‬وهكذا نرى �أنّه‬ ‫املتبوعة مبد)‪ ،‬ال�سيطرة (ال ّراء)‪ ،‬الهدوء وال ّراحة (امليم ّ‬ ‫ّمت متتني البن ّية الدّالل ّية ب�شكل �أكرب بوا�سطة الروي امل�ستخدَم‪.‬‬ ‫ّغوي‪:‬‬ ‫حيادية ال ّنظام الل ّ‬ ‫ّ‬

‫املعجمي‬ ‫حيادية ال ّنظام‬ ‫‪.1‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫يف ال ّن ّ�ص تكرار لكثري من املفردات التي لها �صالت عميقة بثنائ ّية ال ّن ّ�ص‪ :‬االحت�ضار‬ ‫واالنبعاث‪ ،‬منها‪" :‬احلجر" وهو الوطن وال ّركيزة‪ ،‬حيث � ّإن عملية االنبعاث �ستح�صل من‬ ‫�أجل هذا الوطن‪ ،‬الوطن ا ّلذي ي�ضم اجلماعة‪ ،‬كما تك ّررت كلمة "�إلهاً و�آلهة" وهو رم ٌز‬ ‫أ�سا�سي يف عملية االنبعاث‪ ،‬ومن املعلوم � ّأن جميع التموزيني حاكوا الأ�ساطري والآلهة يف‬ ‫� ٌّ‬ ‫االنبعاثي‪" ،‬االحت�ضار" وهي حالة الوطن يف املا�ضي واملا�ضي القريب‪ ،‬حيث �إنّه‬ ‫�شعرهم‬ ‫ّ‬ ‫"ال�سفر" احلالة الآن ّية‪ ،‬مرحلة االنتقال من االحت�ضار �إىل‬ ‫عا�ش على خملفات الأموات‪ّ .‬‬ ‫االنبعاث‪�" .‬أغ ّني" اكتمال االنبعاث والو�صول �إىل ّ‬ ‫"النبي" حامل االنبعاث‪ ...‬كما‬ ‫الذروة‪ّ .‬‬ ‫نرى الرتادف ظاهر ًة �أ�سهمت يف بناء ال ّن ّ�ص فالأفعال‪�" :‬ألهو‪ ،‬هتفنا‪� ،‬س�أبني‪� ،‬أغ ّني "تختلف‬ ‫يف داللتها الأ�صل ّية فيما بينها‪ � ،‬اّإل �أنّها ت�أتلف يف ال ّن ّ�ص لت�ؤ ّدي داللة املقاومة والتغلب على‬ ‫االحت�ضار وك�سر القيود واالنطالق بحر ّية دون خوف‪� .‬أ ّما الت�ضاد "عار ّياً‪ ،‬الب�ساً" فقد لعب‬ ‫الدّ ور الأبرز يف ت�صوير احلالة وبالرغم من �أنّهما مت�ضادتان‪ � ،‬اّإل �أنهما احتدتا يف جت�سيد حالة‬ ‫ال�ضّ ياع والعجز والعوز التي عانى منها الوطن يف مرحلة االحت�ضار‪.‬‬ ‫وهناك توز ٌّع حلقلني معجميني‪� :‬أ‪ -‬االحت�ضار‪" :‬عار ّياً‪ ،‬رمل‪ ،‬احت�ضاري‪ ،‬ملكوت‪ ،‬بغباري‪،‬‬ ‫الي�أ�س‪ُ ،‬يحت�ضر‪� ،‬ضائعاً‪ ،‬نف ّياً‪ ،‬حريقاً‪ ،‬حاجزاً"‪.‬‬ ‫ال�سفر‪ ،‬الآتي‪ ،‬املطر‪ ،‬فانحنينا‪ ،‬هتفنا‪ ،‬عرفنا‪،‬‬ ‫ب ‪ -‬االنبعاث‪" :‬الب�ساً‪� ،‬ألهو‪� ،‬أبني‪ّ ،‬‬ ‫نر�ضاك‪� ،‬إلهاً‪� ،‬صديقا‪ ،‬رفيقا‪� ،‬أغ ّني‪� ،‬س�أبني‪ ،‬قلبي‪ ،‬الف�ضاء‪ ،‬النجوم‪ ،‬يلب�س‪� ،‬أغ ّني‪،‬‬ ‫�أع�شق"‪ .‬ولكرثة مفردات احلقل‬ ‫املعجمي اخلا�ص باالنبعاث ن�ستخل�ص بالقول �إنّ‬ ‫ّ‬

‫‪174‬‬


‫�أدب‬

‫االنبعاث غالب على االحت�ضار وهو َمن �سيكون له االنت�صار‪.‬‬ ‫حيادية النظام ال�صرّ ّ‬ ‫يف‪:‬‬ ‫‪.2‬‬ ‫ّ‬

‫انفراد ال ّن ّ�ص بالأفعال ذات ال�صّ يغ املا�ضية وامل�ضارعة‪� ،‬أ ّما �صيغة املا�ضي (كنت‪ ،‬عرفنا‪،‬‬ ‫انحنينا‪ ،‬هتفنا‪ )...‬فهي ت�صوير للحياة منذ القدم �إىل املا�ضي القريب‪ ،‬كيف كان وكيف‬ ‫�أ�صبح‪� ،‬أو بالأحرى ت�صوير االحت�ضار كيف حت ّول �إىل انبعاث‪� .‬أ ّما امل�ضارع ( ُيحت�ضر‪ ،‬يقطر‪،‬‬ ‫نر�ضاك‪� ،‬أر�ضاك‪� ،‬أغ ّني‪� ،‬س�أبني‪ ،‬لن �أع�شق‪ )...‬يف زمنه احلا�ضر وامل�ستقبل ا�س ُتخدم لتعزيز‬ ‫يخت�ص به‬ ‫يخت�ص باال�ستمرارية كما ّ‬ ‫احلركة الثّانية –االنبعاث‪ -‬فكما هو معروف امل�ضارع ّ‬ ‫االنبعاث‪ ،‬وهذا التح ّول من املا�ضي �إىل امل�ضارع قد خدم ثنائ ّية ال ّن ّ�ص ب�شكل كبري‪ ،‬حيث‬ ‫� ّإن مرحلة االحت�ضار قد م�ضت كما م�ضى املا�ضي‪� ،‬أ ّما مرحلة الوقت ال ّراهن وما �ست�ؤول �إليه‬ ‫مرحلة امل�ستقبل فتتمثّل باالنبعاث‪� .‬أ ّما ا�ستخدام فع َلي امل�ضارع " ُيحت�ضر ويقطر" يف بداية‬ ‫الأفعال امل�ضارعة فهو عالم ٌة على امل�شقّة التي �ستعاين منها مرحلة االنبعاث يف بداياتها‪،‬‬ ‫بهمة حامليها �ستقاوم وتنت�صر‪.‬‬ ‫حيث �ستتعر�ض للهجوم واال�ضطهاد ورمبا االحت�ضار ولكن ّ‬ ‫كما نرى ظهوراً بارزاً ل�ضمري املتكلم املفرد‪ ،‬حيث � ّإن ال�شاعر ومن خالل اعتماد هذا ال�ضّ مري‬ ‫التحمل‬ ‫حتمل العواقب يف عملية االنبعاث‪ ،‬ولي�س هو فقط َمن �سيقوم بعمل ّية ّ‬ ‫�أخذ على عاتقه ّ‬ ‫�إنمّ ا �سي�شاركه فيها اجلماعة وذلك من خالل ا�ستخدام �ضمري جمع املتكلمني‪� ،‬أ ّما �ضمري‬ ‫املخاطب املفرد والغائب املذكر املفرد‪ ،‬فقد كان املق�صود بهما ال�شّ خ�ص عينه وهو حامل‬ ‫االنبعاث ويتمثّل بالإله القادر على احلياة واالنبعاث من بعد املوت‪.‬‬ ‫(الب�سا‪ ،‬عار ّياً‪ ،‬الآتي‬ ‫وهناك ظاهرة �أخرى بارزة وهي ا�ستخدام �صيغة ا�سم الفاعل ب�شكل كبري ّ‬ ‫و�ستتغي‪� ،‬إنمّ ا‬ ‫(‪� ،)3‬ضائعاً) وقد �س ّوغت هذه الظاهرة احلالة املُعا�شة‪ ،‬وهي حالة طارئة لن تدوم‬ ‫رّ‬ ‫حتتاج �إىل �أُنا�س م�ستعدين ملواجهة ال�صّ عاب من �أجل الو�صول �إىل املبتغى‪.‬‬

‫حوي‬ ‫‪.3‬‬ ‫حيادية ال ّنظام ال ّن ّ‬ ‫ّ‬

‫نرى تطويع الفاعل ذات �صيغة املتك ّلم (مفرداً وجمعاً) يف �أغلب الأفعال‪ ،‬وهذا �إ�شارة �إىل � ّأن‬ ‫ال�شاعر و�أمثاله من ال�شعراء التموزيني‪ ،‬هم َمن �س ُيو َلد على �أيديهم االنبعاث وعلى �أيديهم‬ ‫�ستنتهي ال ّتبع ّية‪� ،‬أ ّما الأفعال ذات الفواعل امل�سترتة ( ُيحت�ضر‪ ،‬يقطر‪ ،‬يلب�س) فقد ُ�سرتت‬ ‫لأهم ّية الفعل‪ ،‬فالعمل هو املهم ولي�س القائم به‪.‬‬ ‫‪175‬‬


‫غوي‪:‬‬ ‫املجاز واخلروج على ال ّنظام ال ُّل ّ‬

‫�أ�ضاف املجاز على �أ�سلوب ال ّن ّ�ص مل�س ًة مم ّيزة‪ ،‬بخا�صّ ة اال�ستعارة بح�ضورها امللفت بوا�سطة ال ّتعدية‬ ‫ال�سنني) فالرمل ال ُيلب�س وقد ح�صل التح ّول عن‬ ‫والإ�ضافة‪ ،‬واال�ستعارة بالتعدية (الب�ساً رمل ّ‬ ‫ال�صّ ورة الواقع ّية لإبراز حالة اجلمود والي�أ�س والالمباالة‪�( .‬ضائعاً يقطر نفياً وحريقا) ما يقطر عاد ًة‬ ‫هو املاء �أو الدّ م ولي�س النفي واحلريق والتح ّول عن ال�صّ ورة الواقعية �أتى ليعك�س الواقع املرير‬ ‫ا ّلذي �ساد فيه الظلم والنفي واحلريق والدمار‪...‬‬ ‫ال�سفر‪� )...‬أي �إ�ضافة ال ّلفظة‬ ‫نبي ّ‬ ‫�أ ّما اال�ستعارة بالإ�ضافة (مر�آة احلجر‪ ،‬نخيل الآلهه‪ ،‬رمل ّ‬ ‫ال�سنني‪ّ ،‬‬ ‫�إىل ما هو لي�س لها يف �أ�صل ال ّلغة‪ ،‬وحتويلها عن الهو ّية احلقيق ّية و�إلبا�سها هو ّي ًة جديدة جت�سيداً ملا‬ ‫�سيكون عليه الأمر بعد االنبعاث‪.‬‬ ‫الرموز ّ‬ ‫قافية‪:‬‬ ‫وال�شيفرات ال ّث ّ‬ ‫ّ‬

‫انعك�ست يف ال ّن ّ�ص بع�ض الثّقافات من خالل ا�ستخدام بع�ض ال�شّ يفرات‪ .‬مث ًال الثّقافة الدّ ين ّية‬ ‫يني دون �أن يحدّ د ديان ًة بذاتها‪ ،‬فلي�س املهم‬ ‫النبي) فقد عزف ال�شاعر على الوتر الدّ ّ‬ ‫(ملكوت‪� ،‬إلهاً‪ّ ،‬‬ ‫� ّأي ديانة م ّتبعة‪ ،‬بل املهم هو العالقة مع اهلل وعبادته فهو يرى �أنّه من الواجب ف�صل عالقة الفرد‬ ‫مع ر ّبه عن عالقة الفرد مع العباد– هذه الثقافة ظهرت من خالل ا�ستخدام مهيار يف ديوانه–‬ ‫ال�سيا�سة‪ ،‬فبنظره ال جناح حل�ضارة ما‬ ‫كما كانت الغاية من هذا الف�صل �أي�ضاً ف�صل الدّ ين عن ّ‬ ‫ال�سفر‪ ،‬الغيوم‪،‬‬ ‫نبي ّ‬ ‫زالت تعاين ال ّتبعية يف �سلطتها‪ .‬وهناك �شيفرات �أخرى م�ستخدمة (الآلهة‪ّ ،‬‬ ‫ال ّنجوم‪ )...‬هي �شيفرات حتوي يف ط ّياتها داللة الأ�ساطري والآلهة‪ ،‬وهي �شيفرات ا�ستخدمها ّ‬ ‫كل‬ ‫ال�شّ عراء ال ّت ّموز ّيني يف الكالم عن االنبعاث‪.‬‬ ‫خال�صة‪:‬‬

‫�أدوني�س كباقي ال�شّ عراء ال ّت ّموز ّيني نادى باالنبعاث على غرارهم‪ ،‬فكل ق�صائدهم متحورت حول‬ ‫وال�سري على خطا الأقدمني‪� ،‬إن كان يف الق�صائد‬ ‫هذا املو�ضوع‪ .‬فه�ؤالء ال�شّ عراء قد يئ�سوا من ال ّتبع ّية ّ‬ ‫ُ�سي ق�صائد‬ ‫�أو يف احلياة العامة‪ ،‬ففي الق�صائد كانت ما تزال الق�صيدة العامود ّية اخلليل ّية هي التي ت رّ‬ ‫ال�شّ عراء لزمن لي�س ببعيد‪� ،‬أ ّما يف احلياة العامة فرناها قائمة على التقليد واتباع املوروثات عن‬ ‫الأجداد والآباء‪ ،‬وال حماولة للمجيء ب�شيء جديد ما يجعل احل�ضارة تعي�ش يف حالة من ال ّرقود‬ ‫واجلمود‪ ،‬هذا �إن مل نقل احت�ضاراً‪ ،‬ولن يكون هناك ح�ضار ٌة بنظرهم � اّإل من خالل اخللق والإبداع‪،‬‬ ‫كما ح�صل مع الغرب يف ع�صر الأنوار بعد العي�ش يف الظلمة لقرون عدّ ة يف الع�صور الو�سطى‪.‬‬ ‫‪176‬‬


‫لبنان ‪ -‬بريوت ‪� -‬شارع احلمرا ‪ -‬بناية ر�سامني ‪ -‬ط‬ ‫�ص‪.‬ب‪ 113 - 7179 :‬بريوت ‪ -‬لبنان‬

‫‪3‬‬

‫‪tel: 00961 -1 - 751 541‬‬ ‫‪E-mail: info@darabaad.com‬‬


‫لبنان ‪ -‬بريوت ‪� -‬شارع احلمرا ‪ -‬بناية ر�سامني ‪ -‬ط‬ ‫�ص‪.‬ب‪ 113 - 7179 :‬بريوت ‪ -‬لبنان‬

‫‪3‬‬

‫‪tel: 00961 -1 - 751 541‬‬ ‫‪E-mail: info@darabaad.com‬‬

‫لبنان ‪ 10000‬لرية | الأردن‪ 4 :‬دينار | �سوريا‪ 200 :‬لرية | م�صر‪ 20 :‬جنيه | تون�س ‪ 3 :‬دينار | املغرب‪ 40 :‬درهم | م�سقط‪ 2 :‬ريال‬ ‫ال�سعودية‪ 20 :‬ريال | البحرين‪ 3 :‬دينار | الكويت‪ 3 :‬دينار | قطر‪ 20 :‬ريال | الإمارات‪ 20 :‬درهم‬


‫العدد‬ ‫ني�سان‬ ‫‪2016‬‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.