أدب وفن العدد 2

Page 1


‫بقلم‪ :‬سارة عاصي‬ ‫أصوات من غوينيفير‬

‫اللوحة ‪ -‬جان كوليير (‪ )0011‬بعنوان الملكة غوينفير في عيد قطف الزهور‬


‫غو ِ‬ ‫ِ‬ ‫س ِد ْايل من مطولتها الشعرية ‪ِ -‬‬ ‫ين ِفير‬ ‫استحضار من الشاعرة سارة ت ْ‬ ‫كنت ملكة وأضعت تاجي‪.‬‬

‫كنت زوجة وكسرت عهودي‪.‬‬ ‫كنت عاشقة ودمرت عشيقي‪.‬‬ ‫لم يعد لدي من خراب أكثر ألفعله‪.‬‬ ‫لشهر مضى كنت ملكة‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫كانت األمهات يرفعن أطفالهن لي‬ ‫عندما على حصاني كنت أعبر‬ ‫شوارع كاميلوت‪.‬‬ ‫وكن يبتسمن‪ .‬وكان العالم يبتسم‬ ‫أية أعين ستبتسم لي اآلن؟‬ ‫يهرب العالم مني وأنا لست‬ ‫مختلفة عن التي كانت من قبل ملكة‪.‬‬ ‫كنت ملكة والذي أحبني جعل مني‬ ‫‪.‬أمرأة لليلة ونهار‬ ‫‪.‬واليوم أمضي منزوعة التا ِج إلى األبد‬ ‫)‪(1‬‬ ‫يشعُّ السحر من عيني‬ ‫أعرف أني لست الساحرةْ‪.‬‬ ‫ولم‬ ‫ْ‬


‫البحر‪.‬‬ ‫يرتعد الشاطئ من‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫تغرق‪.‬‬ ‫المياه ملك ٌة‬ ‫في‬ ‫ْ‬

‫ِ‬ ‫الغياب‪.‬‬ ‫الرمال وجهي ورسم‬ ‫وعلى‬ ‫ْ‬ ‫وعينا حبيبي في الصحراء‬

‫ِ‬ ‫الرمال يبحث عني‪.‬‬ ‫وقعٌ على‬ ‫)‪(2‬‬ ‫ِ‬ ‫للملكة أن تحلم في ليالي الصيف‪،‬‬ ‫ليس‬ ‫ِ‬ ‫الناعمة‬ ‫لكنه السحر‪ ،‬يا ليل‪ ،‬مفتتنا بأضو ِائك‬ ‫ِ‬ ‫كالنوم‬ ‫الغرب‪ .‬يرفرف عندي‬ ‫الحمراء تعبر‬ ‫ْ‬ ‫على غس ِ‬ ‫القلب‪.‬‬ ‫ق‬ ‫ْ‬

‫الممر‬ ‫أسمع الخطى‪ ،‬خلفي‪ ،‬في‬ ‫ْ‬ ‫الصوت‪.‬‬ ‫سرِه إلى‬ ‫ي ِشي الحلم ِب ِّ‬ ‫ْ‬

‫ِ‬ ‫أكن حالمة عندما‬ ‫آه في يقظتي لم ْ‬ ‫القلب‪.‬‬ ‫أخبرني القلب سره إلى‬ ‫ْ‬

‫الممر‬ ‫أمامي تشير الزهور في‬ ‫ِّ‬

‫إلي ‪ -‬أال أنظري خلف ِك! أعرف‬ ‫يا لون الزهور خطاه‪ ،‬مسحة‬ ‫من رؤى العشي ِة‪ .‬ال‪ ،‬ليس‬ ‫ِ‬ ‫الصيف‪.‬‬ ‫للملكة أن تحلم في ليالي‬ ‫ْ‬ ‫هي الرؤى مرفرفة أمامي‪ .‬أتغاشى‬ ‫األرض‪ .‬إلهي أين‬ ‫ساقطة إلى‬ ‫ْ‬


‫رأيت السقوط؟ في ِ‬ ‫المسرع‬ ‫خطوِه‬ ‫ِ‬

‫أم في ِ‬ ‫يديه إلي ترفعني فأرى وجهه‬ ‫الحب‬ ‫قبل‪ .‬أهو‬ ‫ُّ‬ ‫الذي لم أره من ْ‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اليقظة؟‬ ‫الحلم أو رؤى‬ ‫يقظة‬ ‫في‬ ‫أم سقطتي األخيرة إلى ِ‬ ‫يديه‬ ‫ِ‬ ‫الضياء حمراء‬ ‫في رؤى‬ ‫الغرب!‬ ‫تعبر الليل من‬ ‫ْ‬ ‫)‪(3‬‬ ‫أيا رياح ِ‬ ‫احملي لحظة الف ار ِ‬ ‫ق‬ ‫ِ‬ ‫الرياح‪.‬‬ ‫وجهك يا أرض في‬ ‫صدى يرسم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫لقاء‪.‬‬ ‫ولن أبكي ففي فراقنا ٌ‬

‫ِ‬ ‫كما كان من ِ‬ ‫اق‪،‬‬ ‫قبل في‬ ‫اللقاء فر ْ‬ ‫أبدا يعود في لحظة من عنا ِ‬ ‫ق‪.‬‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫خيوطك‬ ‫أه يا لحظة أحيكها من‬ ‫ِ‬ ‫أرتديه يحمل صمتي‪.‬‬ ‫ثوبا أسود‬ ‫أيا أرض اسمعي‪ ،‬اسمعي يا أرض‬ ‫ِ‬ ‫األخير يتهادى‪:‬‬ ‫صوت صمتي‬ ‫أنا التي أضعت تاجي سأبقى‬ ‫هتافا لفراق ِ‬ ‫تفتحت‬ ‫أخير‬ ‫ْ‬ ‫على ممرِاته أبدي ٌة‬


‫اللقاء‪.‬‬ ‫تسكنها لحظ ٌة من‬ ‫ْ‬ ‫)‪(4‬‬ ‫انتهى شغف الريح بالحكاية‪.‬‬ ‫وشارف الرحيل النهاية‪ .‬تحمل‬ ‫ِ‬ ‫العالم في منزل‬ ‫بين يديك صور‬ ‫ِ‬ ‫بن ْيناه من ور ِ‬ ‫اللعب‪.‬‬ ‫ق‬

‫منز ٌل من بقايا سحر يتداعى‪.‬‬ ‫أنظر العوالم مكومة صو ار‬ ‫في الور ِ‬ ‫ق تخلطها بالكلمات‪.‬‬ ‫تقل لي!‬ ‫عميق ٌة لعبة الكالمِ ! ال‪ ,‬ال ْ‬

‫ِ‬ ‫اذهب‪ .‬هي‬ ‫اسحب الورقة و ْ‬ ‫ِ‬ ‫صورة ِ‬ ‫الجديد الذي به أغيب‪،‬‬ ‫عالمك‬ ‫وفيه تحيا!‬ ‫)‪(5‬‬ ‫اندثر‪.‬‬ ‫شالل سحر و ْ‬

‫ِ‬ ‫امض‪.‬‬ ‫في‬ ‫الماء ٌ‬ ‫طيف و ٌ‬

‫الشجر‪-‬‬ ‫وشجن يهمس في‬ ‫ٌ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫سقوط المدينة لم يبق إال الرياح‪.‬‬ ‫بعد‬ ‫هل تتسلق الريح من أجلي؟‬ ‫صخور شاهق ٌة تعبر منها‬ ‫الرياح‬ ‫في‬ ‫ِ‬ ‫ٌ‬


‫إلى وطن يومض في المياه‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫وفي ور ِ‬ ‫الشجر حفيف رحيل‪.‬‬ ‫ق‬ ‫ِ‬ ‫الضفاف طيف صحارى يلوح‪.‬‬ ‫وعلى‬ ‫هو لم يك شالل سحر‪.‬‬ ‫رمال!‬ ‫كان ْ‬ ‫)‪(6‬‬ ‫ِ‬ ‫الوجه‬ ‫الفارس‪ .‬ولم أر‬ ‫‪.‬سقط ْت خوذة‬ ‫ْ‬ ‫‪.‬تهالك درعه الواقي‪ .‬وال جسم فيه‬ ‫ِ‬ ‫اء؟‬ ‫أكنت مليكة الوهم؟ قبال من هو ْ‬ ‫بالحب‬ ‫أم أنني شبح امرأة حلم ْت‬ ‫ِّ‬

‫مساء! ربما‪ ،‬مثله أنا‪ ،‬ال جسد‬ ‫ذات‬ ‫ْ‬ ‫الضفاف‬ ‫لي‪ .‬جني ٌة باكي ٌة عند‬ ‫ْ‬

‫أتتْها في ِ‬ ‫ليلة صيف رؤى من‬ ‫ولكنهم‬ ‫طويل‪.‬‬ ‫‪........‬عناق‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫المدينة يريدون حرقي‪.‬‬ ‫في‬ ‫األشباح؟ أيسقط الطيف‬ ‫أتحرق‬ ‫ْ‬ ‫وحصون؟‬ ‫مدنا‬ ‫ْ‬

‫‪..............‬ال‪ ,‬ال‬ ‫أنا ملك ٌة ساقط ٌة هج ْرت‬ ‫ِ‬ ‫الصيف‪.‬‬ ‫عرشي لرؤى‬


‫اء!‬ ‫أحببت فارسا من هو ْ‬ ‫)‪(7‬‬ ‫ذهب‪ .‬عبر خطيئتي إلى ِ‬ ‫خيارِه‬ ‫يموت‬ ‫‪.‬الوحيد ‪ -‬قات ٌل أو‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫وودعني‪.‬‬ ‫أكان علي‪ ،‬يا ملكي‪ ،‬أن أجيب‬ ‫الوداع؟ هو ليس لي‪ .‬ليس‬ ‫ْ‬ ‫لي‪ .‬وأنت تقول أنني ساقط ٌة‬ ‫ملوث ْة!‬ ‫سأقتل نفسي! ال‪ .‬لن تموت‬ ‫الروح تبقى‬ ‫الخطيئة‪ ،‬في‬ ‫ِ‬ ‫العار‪.‬‬ ‫والخزي و ْ‬ ‫ِ‬ ‫األيام‬ ‫مرتع‬ ‫هي السنون تنمو في ِ‬

‫ِ‬ ‫الحياة‪ ،‬أنا‪ ،‬ساقط ٌة‬ ‫الشهور‪ .‬وفي‬ ‫و‬ ‫ْ‬ ‫ملوث ْة!‬

‫لكنني لن أسكن السقوط‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫العالم في الخطيئةْ؟‬ ‫تكن دائم ٌة مسالك‬ ‫ألم ْ‬ ‫ِ‬ ‫ملك ٌة‪ ،‬أنا‪ ،‬انتصر ْت في ِ‬ ‫العالم‬ ‫عارها‪ .‬رديفة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫السقوط والهزيمة‪.‬‬ ‫مسالك‬ ‫في‬


‫)‪(8‬‬ ‫اء‪ .‬أتسمع‬ ‫أيها الضارب في الصحر ْ‬ ‫ِ‬ ‫الضوء يسقط من مدار ِ‬ ‫السماء‬ ‫ات‬ ‫ِ‬ ‫تقو ِس ِه‬ ‫إلى‬ ‫الرمل؟ يطلق من ُّ‬ ‫الرمال‪.‬‬ ‫الهمس‪ ،‬مدمدما فوق‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫المنازل المبحرِة في‬ ‫هو صرير صواري‬ ‫افذ المشر ِ‬ ‫المدائن‪ ،‬والنو ِ‬ ‫ِ‬ ‫عة إلى‬ ‫ممر ِ‬ ‫ات الز ِ‬ ‫هور عند الغس ِ‬ ‫ق األو ِل‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫الرمال‬ ‫هذيان‬ ‫تهمس موجة الضو ِء في‬ ‫ْ‬ ‫ا ْنظ ِر النور الذي سقط‪ .‬مثلي أنا‬

‫ِ‬ ‫الرمل‪ِ ،‬‬ ‫عاري ٌة‪.‬‬ ‫ساقط ٌة‪ ،‬قريب ٌة من‬ ‫ِ‬ ‫اللهيب‪،‬‬ ‫ليس بينك وبينه إال سطوح‬ ‫ِ‬ ‫اب‪.‬‬ ‫وأرصفة الموانئ‬ ‫القادمة في السر ْ‬ ‫ِ‬ ‫الرمال‪.‬‬ ‫انحناء‬ ‫اتبع الصوت واجفا يتلوى في‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬

‫هو جسدي ‪ -‬طلقة ِ‬ ‫المغيب‪.‬‬ ‫النار األخيرِة عند‬ ‫ْ‬ ‫األخير‬ ‫أحمر يتردد من لقانا‬ ‫‬‫ٌ‬ ‫ْ‬ ‫غسق ٌ‬ ‫ِ‬ ‫اء‪.‬‬ ‫ن ْب ِحر ثانية دمدم ٌة من‬ ‫الهمس في الهو ْ‬ ‫)‪(9‬‬ ‫الراهبة تقرع الباب‪ .‬لماذا السكوت؟‬ ‫ِ‬ ‫أينك ِ‬ ‫غوِن ِفير‪ .‬كنت نائمة سيدتي‪،‬‬


‫وأنحني‪ .‬أر ِ‬ ‫إذن‪ ،‬نتعشى‬ ‫اك مساء ْ‬ ‫سوية‪ .‬سيدتي‪ِ ،‬‬ ‫لك ما تشائين‬

‫ِ‬ ‫أحب الزجاج‬ ‫مني‪ .‬تنظر في‬ ‫الغرفة‪ُّ .‬‬

‫الملون‪ .‬أيقون ٌة جديدةٌ هي من ِ‬ ‫يديك؟‬ ‫نعم سيدتي‪ .‬وتمضي‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫قديس ٌة صامت ٌة‪ .‬أيقون ٌة من يدي على‬

‫ِ‬ ‫القديم من زجاج ملو ْن‪.‬‬ ‫النافذ ْة‪ .‬وجه لِقايا‬

‫ِ‬ ‫أحمر‬ ‫ظال ٌل من‬ ‫اللون تفترش األرض‪ .‬هنا ٌ‬ ‫من مغيب مضى‪ .‬وأزرق يبتعد على‬

‫البعيد‪ .‬أفترش البعد في‬ ‫الناظرين‪ .‬كحبي‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫الشمس‪.‬‬ ‫األرض‪ .‬أسافر في حمرِة‬ ‫زرقة‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ترميني عند ِ‬ ‫هور‪ .‬أسرق العطر‬ ‫ممر الز ْ‬ ‫حيث كان لقانا‪.‬‬

‫عابر مر بي‪.‬‬ ‫هو‬ ‫ٌ‬ ‫شفق ٌ‬ ‫حلم هو اآلن في‬ ‫أذكر منه ارتمائي‪ْ .‬أم ٌ‬ ‫غرفتي عفرتْه ظالل النو ِ‬ ‫افذ على األرض؟‬ ‫ِ‬ ‫الشمس‬ ‫أحبك‪ .‬صارخ ٌة‪ .‬تمتد من حمرِة‬ ‫إلى ِ‬ ‫ِ‬ ‫الوهم الملون قربي‪.‬‬ ‫زرقة‬ ‫عابر مر بي‪.‬‬ ‫هو‬ ‫ٌ‬ ‫شفق ٌ‬


‫ِ‬ ‫األول سرقت‬ ‫أنا‪ ،‬يا حبيبي‪ ،‬في لقائنا‬ ‫من مو ِ‬ ‫ِ‬ ‫اكب الز ِ‬ ‫الممر عط ار‪.‬‬ ‫هور عند‬ ‫سجين حبي هو اآلن في زجاجي الملون‪.‬‬ ‫أيقون ٌة ساحرةٌ من ِ‬ ‫ِ‬ ‫انكسار‬ ‫يد سارقة‪ .‬في‬

‫الزجاج أطلق سراح اللقاء‪ .‬أنا لم ِ‬ ‫أرتم إلى‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬

‫يدك يوما‪ .‬كان ذلك وهما في ِ‬ ‫ممر المغيب‪.‬‬ ‫من شظايا لقاء ولِ ْدت حلما‪ .‬وفي شظايا‬

‫أحبك‬ ‫‪.‬الزجاج المكس ِر أعود كاذبة بأني لم‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫أنا قديسة ال ثم‪ .‬أيقونتي من عب ِ‬ ‫ق‬ ‫ِ‬ ‫المكسر‪.‬‬ ‫العطر‬ ‫أتت وتعود نتفا من‬ ‫لقاء ْ‬ ‫ْ‬ ‫)‪(10‬‬ ‫ِ‬ ‫لقاء‬ ‫في البدء كان الدالل ْة‪ٌ .‬‬ ‫الغياب‪ .‬هو‬ ‫على معبر في‬ ‫ْ‬ ‫الغسق القادم في الوالد ْة‪.‬‬

‫وأنت مثل جنين تكورت في‬ ‫جسد كنت‪ ،‬أخبئ‬ ‫رحمي‪.‬‬ ‫ٌ‬

‫ِ‬ ‫تمر دروب الغواي ْة‪.‬‬ ‫فيه معب ار كي ُّ‬ ‫الممر أمامي‪.‬‬ ‫مثل هذا‬ ‫ِّ‬ ‫التقينا‪ .‬ال‪ .‬ال تراه‪.‬‬ ‫حيث ْ‬ ‫نص‪.‬‬ ‫دعني أريك‪ .‬هنا جزء ِّ‬ ‫ترى المدن‪ .‬محروق ٌة‪ .‬وأنا‬


‫الخائن ْة‪ .‬وهنا الزهر‪ .‬لم يبق‬ ‫مغلق‬ ‫معبر‬ ‫ٌ‬ ‫منه إال رمادا‪ٌ .‬‬ ‫النص‬ ‫في لقاء بعيد‪ .‬هنا‬ ‫ُّ‬

‫يروي‪ .‬كيف الجنين تهاوى‬ ‫من يد ساقط ْة‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫البدء كان الدالل ْة‪ .‬وأنت!‬ ‫في‬ ‫أتيت؟ من أي شرق‬ ‫لماذا ْ‬ ‫ِ‬ ‫السقوط‬ ‫نجوت إلي؟ بعد‬ ‫للغرب‪.‬‬ ‫كنت تسارع خطوك‬ ‫ْ‬ ‫الرحيل‪ .‬وها أنت‬ ‫كنت جنين‬ ‫ْ‬ ‫عدت‪ .‬من الشر ِ‬ ‫ق‪ .‬وأنا‬ ‫قد‬ ‫ْ‬ ‫نص عراء‪ .‬من الخل ِ‬ ‫ق في‬ ‫ُّ‬ ‫ِ‬ ‫دروب الخطايا‪.‬‬ ‫‪.‬احر ِ‬ ‫ق النص‬ ‫ِ‬ ‫البدء كان سقوط الشارة!‬ ‫في‬ ‫(‪)11‬‬ ‫السر‪.‬‬ ‫غريب ٌة هذه‬ ‫ْ‬ ‫المياه‪ .‬كاتمة ْ‬ ‫لآللهة الذين مضوا‪ .‬على ِ‬ ‫ِ‬ ‫الموج‪.‬‬ ‫لغة‬ ‫ْ‬ ‫تبوح؟‬ ‫بماذا ْ‬


‫بخطوك على ِ‬ ‫الرمل‪.‬‬ ‫جسد امرأة في‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫بقيظك كأنه السحب ماطرة‪.‬‬ ‫اء‪.‬‬ ‫يبعثر وجهها في الهو ْ‬

‫المياه‪ .‬كتوم ٌة‪.‬‬ ‫شقي ٌة هذه‬ ‫ْ‬ ‫شقي تنظر طيفها‪.‬‬ ‫نبي ٌ‬ ‫وأنت ٌ‬ ‫الريح‪.‬‬ ‫على‬ ‫ْ‬

‫تحملها الريح‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫المياه الشقي ْة‪.‬‬ ‫يا رياح‬ ‫إحمليها‪.‬‬

‫إلى ِ‬ ‫عميق‪.‬‬ ‫قعر بئر‬ ‫ْ‬ ‫عميق‪.‬‬ ‫مثل أيقونتي‪ .‬من زجاج‬ ‫ْ‬

‫وذابت‪.‬‬ ‫رما ٌل‬ ‫ْ‬ ‫عل ْقتها على حائطي‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫خبأت في ِ‬ ‫المدينة عند الظهيرْة‪.‬‬ ‫نارها سقوط‬ ‫ووجهي شراع السقو ْط‪.‬‬

‫الموج‪.‬‬ ‫يعلو على‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫الرمل‪.‬‬ ‫خالصك في‬ ‫يشق دروب‬ ‫ْ‬

‫الرياح البعيدةْ‪.‬‬ ‫وعلى قدميك تعلو صواري‬ ‫ِ‬


‫قراءة في أصوات من غوينيفر‬ ‫لما حسن‬

‫(اللوحة‪ :‬رسم غوستاف دوري وهي صور من كتاب الفريد تينيسون "جنان الملك آرثر" وهو مطولة شاعرية من القرن ‪91‬‬ ‫عن حياة آرثر وغوينيفير وفرسان الطاولة المستديرة)‪.‬‬

‫امرأة و حب‪ ،‬هما كل ما تحتاج كي تولد األسطورة‪ .‬ينهل من نبعها المبدعون ك ّتاباً‪ ،‬شعراء و فنانين‪ .‬كل‬ ‫مرة بلبوس جديد‪ ،‬بمقولة جديدة و رمزية توافق غاية المبدع أو طابع العصر‪.‬‬ ‫‪Chretien de‬غوينيفر‪ ،‬كملكة عشقت فارسا ً من بالط زوجها الملك آرثر‪ -‬وُ لدت كقصة في قصيدة لـ‬ ‫وتوالى حضورها في مسرحيات وقصائد وروايات تختلف باختالف الرؤى‪ .‬رغم أن ‪/‬النسلوت‪Troyes /‬‬ ‫الحبيب في القصة لم يوجد في الوثائق التاريخية الرسمية‪ ،‬إال أن خراب كاميلوت و انهيار عرش آرثر لم‬ ‫يكن ليروى بألق أكثر من جعله نتيجة لخيانة امرأة‪ ..‬شمّاعة لجشع الرجال! غوينيفر – التي يجادَل بأنها "‬


‫الهة السلطة في عرش انكلترا " يحارب الرجال لكسبها‪ .‬لقّ َبت أيضا ً بـ " عروس الزهور " ممثلة لفصل‬ ‫الربيع – خرجت من عرش كاميلوت لتح ّل أسطورة تستعيد عرش ربّات الخصب و الخلق األ ُ َول ‪ ..‬و لعنتها‬ ‫أيضا ً! الشاعرة سارة عاصي في قصيدتها " أصوات من غوينيفر " تكتب نسختها من هذه األسطورة‪ ،‬تروي‬ ‫ّ‬ ‫تخطت إطار الزمان والمكان لتروي رحلة المرأة ‪-‬‬ ‫مفاصل الحكاية ضمن مقاطع‪ ،‬تزخر أبياتها برمزيّة‬ ‫الملكة و المرأة – األسطورة‪ .‬ينساب النص بلغة شفافة‪ ،‬تتوالد موسيقاها الداخلية من ر ّقة األلفاظ والقدرة‬ ‫التصويرية الهائلة لدى الشاعرة – و يبدو تسكين األحرف ضمن األبيات كانقباض صورة لتولد أخرى‪.‬‬ ‫يظهر حضور العناصر األربعة ( الماء – الهواء – التراب – و النار ) عودة الشاعرة إلى أساسيات الخلق‬ ‫لتنسج أسطورتها‪ ،‬وتشكيلها لشخصية غوينيفر من كل هذه العناصر في تحوالتها المختلفة‪ ،‬بما لهذه العناصر‬ ‫من رمزية وبعد نفسي‪ .‬لرمزية اللون أيضا ً حضور أغنى أبعاد المشهد الشعري و دالالته خاصة من حيث‬ ‫التضارب بين حرارة اللون األحمر و بين برودة األزرق كما توحي القراءة‪.‬‬ ‫أعرف أني لست‬ ‫منذ المقطع األول‪ ،‬يبدو تجسّد التحول األسطوري لغوينيفر " يشعُّ السحر من عيني ‪/‬ولم‬ ‫ْ‬ ‫الساحرْة‪ " .‬تعبّر غربة العناصر – المنتمية كل إلى األخرى – عن وحشة قاسية " يرتعد الشاطئ من البحر‬ ‫‪ "..‬كأن الحكاية ولدت مع وحشة القلب " ملكة تغرق " لتولد امرأة ‪ ..‬أما الحبيب فيأخذ من عنصر التراب‬ ‫ما ّديته ليوجّ ه عينه شطر الصحراء بحثا ً عن حبيبته‪ ،‬بما للصحراء من أبعاد العطش‪ ،‬القسوة‪ ،‬و الالمحدودية‬ ‫! ‪ -2‬لكن الملكة ال تنسى في غربتها بأن رسوخ الواجب أهم من اشباع العاطفة " ليس للملكة أن تحلم في‬ ‫ليالي الصيف "‪ ،‬تتكرر هذه الجملة في سياق النص‪ ،‬تدغدغ في ذاكرتنا األدبية " حلم ليلة صيف "‬ ‫لشكسبير‪ ،‬بما تحمل من خيال وعشق ومرح‪ ،‬تظهر توق الملكة لقصة تخرج فيها من ماديتها لترقص في‬ ‫أرض الحلم " لك ّنه السحر يا ليل ‪ "..‬و ُتقلق أضواء الليل الحمراء زرقة غسق القلب مه ّددة سكينته‪،‬‬ ‫فاألحمر – الشغف يوازي برمزيته قوة األحمر – الخطر‪ .‬توق كهذا أخرج الرغبة من قوقعة الحلم لتتجسد‬ ‫ب يمشي في الموكب خلفها‪ ،‬فارس يحميها في ممر الزهور‪ ،‬لتتواطأ هذه الكائنات الرقيقة مع الملكة‬ ‫حدسا ً بح ٍ‬ ‫" أال انظري خلفك ‪ "..‬بعكس أورفيوس الذي كلفته نظرة الى الخلف‪ ،‬ح َّب ُه إلى األبد ‪ ..‬انها رأفة الربيع مع‬ ‫الحياة والحب ككينونة واحدة ‪ ..‬لكن‪ ..‬في حياة الملكات ال شيء بالمجان! فها هي الملكة " أتغاشى ساقطة‬ ‫ٌ‬ ‫استجابة لنداء‬ ‫على األرض " ليأتي الفارس المنقذ تفتح عينيها على وجهه كأن بهما غبار الحب فتقع به‪..‬‬ ‫القلب‪ ..‬و في هذا المشهد بُعد أعمق إذ يوحي سقوطها على األرض بسقوط اآللهة األنثى الى عالم الفانين‪،‬‬ ‫نذير بخطر كما هو بعاطفة " حمراء تعبر الليل‪ -3 "..‬ومن‬ ‫لحم و دم‪ ،‬ال تخلو هذه السقطة من ٍ‬ ‫امرأةٌ من ٍ‬ ‫تهب الصوت جناحاً‪ ،‬و صدى‪ ،‬بتواطؤ مع عنصر التراب ‪/‬األرض‪ /‬الما ّدة – يبدو‬ ‫يحمل الحكايا كالريح؟ ِ‬ ‫العناق ا ّتحاد نقيضين يخلق ّ‬ ‫كالً يتماهى فيه الضد مع ض ّده‪ ،‬قطبا تيّار حياة تسري بينهما إلى األبد " ففي‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫لقاء‪/.‬كما كان من ِ‬ ‫اق‪/،‬أبدا يعود في لحظة من عنا ِ‬ ‫ق " ‪ -4‬لكن الصلة التي بدت‬ ‫قبل في‬ ‫اللقاء فر ْ‬ ‫فراقنا ٌ‬ ‫سحرية إذ جمعتها بالحبيب تبدو اآلن هشة كعالم من ورق‪ ،‬تتجلى غوينيفر كقارئة غيب أدركت انسحاب‬ ‫ِ‬ ‫العالم من تحت قدميها‪ ،‬فتاجها البهي أضحى على رأسه‪ ..‬الحبيب‪ /‬الرجل " صورة ِ‬ ‫الجديد الذي به‬ ‫عالمك‬ ‫أغيب‪/،‬وفيه تحيا! " مما يشي على مستوى األسطورة ببداية عصر الرجل ‪ -‬اإلله على حساب األنثى –‬


‫اآللهة‪ -5 .‬يتجسد في المقطع الخامس هذا الهبوط التدريجي لألنثى كرمز وكموقع‪ ،‬لكن بها بقية من رمق‪ ،‬ال‬ ‫زالت عناصر الطبيعة متشبثة بتالبيب ربّتها‪ ،‬تض ّج بلغتها الناعمة تواطؤاً معها " ‪ ..‬في المياه طيف وامض‬ ‫‪ /‬و شجن يهمس في الشجر‪ "..‬و في لحظات التحول الكبرى تتبعثر العناصر لتستعير كل من ماهية‬ ‫األخرى ما يشي بعبثية الكون و استنفار العناصر في لحظات كهذه " هل تتسلق الريح من أجلي؟ ‪/‬في‬ ‫صخور شاهق ٌة تعبر منها‪ .. "..‬ذاك الذي بدا شالل سحر لم يكن إال رغبة‪/‬صراعاً يملك مادية‬ ‫الرياح‬ ‫ِ‬ ‫ٌ‬

‫الرمال‪ ،‬شهوة الجسد شهوة السلطة‪ ،‬أينها من رؤى امرأة من ماء؟ ‪ -6‬هنا تعود الحكاية للتجسد في فارس‬ ‫هرب لحظة افتضاح أمر العالقة‪ ،‬حيث يقرر العاشقان أن األفضل للجميع أن يفترقا‪ ،‬لكن األوان قد فات‪،‬‬

‫فهرب الحبيب تاركاً حبيبته تواجه العنيها‪ ،‬خيبة دمرت صورته في عين غوينيفر‪ ،‬لتشكك بكل ما مرت به‬ ‫من حب‪ ،‬على سوية أعمق تهاوت في عينيها صورة الفارس‪ -‬المنقذ‪ ،‬يتالشى كيانها و كيانه المادي " ربما‪،‬‬ ‫الضفاف" ما بدى سح اًر على أرض الواقع هو خيانة‪ ،‬جريمة حكم‬ ‫مثله أنا‪ ،‬ال جسد‪/‬لي‪ .‬جني ٌة باكي ٌة عند‬ ‫ْ‬ ‫سمي بخيانة لم يكن إال توق قلب وحيد‬ ‫على الملكة اثرها بالحرق‪ ،‬هنا تالمس الشاعرة عصب القضية‪ ،‬فما ّ‬ ‫الضفاف‪/‬أتتْها في ِ‬ ‫طويل "‬ ‫ليلة صيف رؤى من‪/‬عناق‬ ‫إليجاد وطن في قلب نصفه اآلخر " جني ٌة باكي ٌة عند‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫تتجاوز األنثى هنا بكيانها كطيف أو شبح‪ ،‬طهارة عدم ارتكاب اإلثم إلى براءة عدم إدراك ماهيته! تعود للذهن‬ ‫مرة أخرى عشتار ‪ -‬إنانا‪ ..‬صورة العاشقة التي تدمر حبيبها و كل شيء بعدما كانت األصل‪ -7 .‬تستمر‬ ‫الحكاية في تحدي " النسلوت" لمن وشى به ليخرج من نزال حتى الموت في مقابل تحرير غوينيفر من‬ ‫مصير الحرق‪ .‬تحررت من حرق الجسد‪ ،‬لكن حرق الروح والكرامة يبقى مع صورتها المشوهة في أعين‬ ‫ِ‬ ‫الشهور "‬ ‫األيام‪ /‬و‬ ‫مرتع‬ ‫الجميع‪ ،‬في زمن يمضي رتيباً‪ ،‬ال منفذ فيه لنفَس مختلف " هي السنون تنمو في ِ‬ ‫ْ‬

‫لكن الملكة هنا تجد القوة للتمرد على صورتها الجديدة " لن أسكن السقوط "‪ .‬تنتصر معنوياً باعتبار نفسها‬

‫خالدة خلود فطرة الكون على الخطيئة‪ ..‬فما بالها بحكم الفانين؟! ‪ -8‬في المقطع الثامن كما على مر الحكاية‬ ‫تخاطب الشاعرة الرجل ككائن ينتمي للتراب‪ ،‬تذكره بعنصر النار المتمثل بالضوء الساقط على الرمل فاتحة‬ ‫بعداً آخر لكلمة ساقطة التي وصمت الملكة " ا ْنظ ِر النور الذي سقط‪ .‬مثلي أنا‪ /‬ساقط ٌة‪ ،‬قريبة من الرمل "‬ ‫تعود غوينيفر كرمز أسطوري و تغدو األرض‪ ،‬جسدها الرمال‪ ،‬تتصالح أخي اًر مع طبيعتها األرضية‪ ،‬الصلبة‬ ‫الكيان‪ ،‬التواقة للخصب‪ ،‬و تطلق جسدها مرة أخرى " طلقة النار األخيرة عند المغيب " ليغدو شمساً‪ ،‬الشمس‬ ‫ذاتها التي عبدتها الشعوب كذكر‪ ،‬و أنصفتها اللغة العربية كمانحة للحياة‪ ،‬كأنثى! ‪ " -9‬الراهبة تقرع الباب "‬ ‫في الكنيسة حيث اعتزلت غوينيفر‪ ،‬بعد حديث لبق تعود لذاكرتها الجريحة عن اللقاء‪ ،‬حضور اللون في‬


‫الزجاج يخلق صورة سحرية تأخذ من تضاد حمرة الشمس و زرقة األرض التي تَذكرها في بيت الحق بـ "‬ ‫زرقة الوهم الملون" في سخرية ربما‪ -‬مما يعتبر واقعاً لها كامرأة عليها التزام البرود و الوفاء المطلق‪ ،‬حيث‬ ‫تقمصت "حمرة الشمس"‬ ‫أن هذا الواقع المتوقع غدا وهماً اآلن؛ بل ربما كان وهماً ولم تدرك ذلك حتى ّ‬

‫وعاشت مجد الحكاية‪ .‬يبدو كل شيء اآلن كحلم لحظة غروب‪ ،‬تنفث سارة عاصي الشك في الخط الفاصل‬

‫حلم هو اآلن في‪/‬غرفتي‬ ‫بين الحقيقة والوهم‪ ،‬يتخلخل‪ ،‬تعبر النهائية االحتماالت " أذكر منه ارتمائي‪ْ .‬أم ٌ‬ ‫عفرتْه ظالل النو ِ‬ ‫يبق من ألق الحكاية إال ذكرى في اإلحساس‬ ‫افذ‪ "..."..‬كان ذلك وهما في ممر المغيب " لم َ‬ ‫وفي الحواس‪ " ،‬من مواكب الزهور عند الممر عط ار " ‪ .‬و تبدو غوينيفر هنا المعشوقة الحلم‪ ،‬فينوس في‬

‫السماء‪ ،‬البعيدة العاشقة دونما بوح "من شظايا لقاء ولِدت حلما ‪ .‬و في شظايا‪ /‬الزجاج المكسر أعود كاذبة‬ ‫بأني لم أحبك " ‪ -11‬تعود الشاعرة الى تجلّي غوينيفر‪ -‬عشتار القديم كآلهة أم و في الصلوات إليها كانت‬ ‫األم والعشيقة في آن " وأنت مثل جنين تكورت في‪/‬رحمي‪ .‬جسدا كنت‪ ،‬أخبئ ِ‬ ‫تمر دروب‬ ‫‪/‬فيه معب ار كي ُّ‬

‫الغواي ْة "‪ ،‬تخاطب القارئ عن تاريخها الذي تحكيه أوراق اتهمت األنثى بكل الشرور و جعلتها رّبة الحرائق‬ ‫بعدما كانت رّبة الخلق‪ ،‬طمس قيمتها األبدية ٍ‬ ‫كأم أمام تحجيمها كرمز للمتعة‪ ،‬لإلثم و الفجور" ‪..‬هنا‬ ‫النص‪/‬يروي‪ .‬كيف الجنين تهاوى‪/‬من يد ساقط ْة"‪ ،‬تمضي الشاعرة في ملحمتها‪ ،‬تصف مجيء عصر‬ ‫ُّ‬

‫ِ‬ ‫السقوط‪/‬كنت تسارع‬ ‫مجسداً بالشمس‪ ،‬كما يبدو في خطابها " من أي شرق‪/‬نجوت إلي؟ بعد‬ ‫عبادة الذكر‬ ‫ّ‬

‫ِ‬ ‫أنا‪/‬نص عراء‪ .‬من الخل ِ‬ ‫في‪/‬دروب‬ ‫ق‬ ‫حواء‪ ،‬تتحول إلى رمز للخطيئة" و‬ ‫خطوك‬ ‫ُّ‬ ‫ْ‬ ‫للغرب" و تجسد غوينيفر هنا ّ‬ ‫الخطايا "‪ " ،‬احرق النص " تتابع‪ ،‬فالخلق لم يبدأ بكلمة‪ ،‬بل بإشارة ‪ ..‬سقطت!‬ ‫‪ -11‬نعود إلى عنصر المياه الطاغي في القصيدة‪َ ،‬لم ال؟ ألم يخلق الكون في أساطير الخلق األولى من‬ ‫الماء؟ أوليست مياه البدء و ماء الرحم من طينة واحدة؟ فما بالها تصمت عن اآللهة " الذين مضوا‪ ،" ..‬وان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اء‪".‬‬ ‫نطقت " بماذا تبوح ؟"‬ ‫بدنس األنثى أن واقَ َعها رجل " بقيظك كأنه السحب ماطرة‪/.‬يبعثر وجهها في الهو ْ‬

‫بعدما كان يحتفي بالوالدة المرتقبة؟‪ ..‬هذه المياه غيم يطالعه الباحثون عن وحي يهبط من السماء‪ ،‬فما لها إال‬ ‫صديقتها الريح في لحظة تحول جديدة‪ ،‬تحملها لتهطل في بئر عميق يحفظ السر‪ ،‬يتماهى عنصر التراب‪/‬‬

‫الرمال في الماء‪ ،‬أصل األشياء و الطاغي الحضور في القصيدة‪ ،‬تخرج المرأة من أسطورتها‪ ،‬تعلقها كفانوس‬ ‫يحمل عنصر النار المنذر في أي لحظة بالضوء‪ ..‬و الحريق‪ ،‬في لحظة تتوسط فيها الشمس – الجديدة ‪-‬‬


‫ِ‬ ‫وذابت‪/.‬عل ْقتها على حائطي‪/.‬خبأت في ِ‬ ‫المدينة عند الظهيرة "‪ ،‬و بعدما بدأت‬ ‫نارها سقوط‬ ‫السماء " رما ٌل‬ ‫ْ‬ ‫القصيدة بملكة تغرق‪ ،‬ها هي تمضي كسفينة نوح حين يغرق كل شيء‪ ،‬تحويك بأمومة‪ ،‬تمنحك رسوخ‬ ‫ِ‬ ‫الرياح‬ ‫الرمل‪/.‬وعلى قدميك تعلو سواري‬ ‫خالصك في‬ ‫وسع سماء " يشق دروب‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫األرض‪ ،‬لتمتد قامتك َ‬

‫البعيدةْ‪.".‬‬

‫يرتفع منسوب الشاعرية و الشجن في القصيدة حيث خلفية المشهد دوماً غسق‪ -‬شفق‪ -‬غياب – رحيل –‬ ‫مغيب‪ ،‬وان كان المتحمسون الفرويديون سيجدون في الغروب كلحظة لقاء رم اًز التصال جنسي يوحي به‬ ‫انغماس الشمس في البحر‪ ،‬إال أن سياق القصيدة وتفاصيلها يجعل حدوث اتصال كهذا أم اًر ثانوياً‪ ،‬بل‬ ‫مشكوكاً بأمره‪ ،‬إذ يبدو أثير الحكاية‪ ،‬صدى الحكاية و رمزيتها‪ ،‬أهم لدى الشاعرة من الحكاية نفسها‪ .‬و مع‬ ‫غياب القمر في القصيدة رغم تجسيده لحقبة األنثى اآللهة‪ ،‬تبدو سارة عاصي باحثة عن أصل الضوء‪ ،‬كما‬ ‫يجسد الغروب‬ ‫نسجت عالمها من أصل العناصر و وصلت إسقاطاتها لألنثى األصل‪ .‬فال يعنيها انعكاس‪ .‬و ّ‬ ‫الحاضر ربما حالة ِسحر منشود‪ ،‬نقطة تحول من ليل إلى نهار‪ ،‬بل و تصالح بينهما‪ ،‬بداية نهاية و نهاية‬ ‫تحوالت اللون الغنية و روعة العناق األبدي بين شمس و بحر‪ :‬جنين أحمر في قلب هادئ‪.‬‬ ‫بداية‪ّ ،‬‬ ‫تحول أسطوري أخير تبدو " أصوات من غوينيفر " غناء سيرينة تتوسط البحر‪ ،‬تنثر بذرة االلهام‪،‬‬ ‫و في ّ‬ ‫ترمي سالل الغواية‪ ،‬تش ّد البحّ ار كي يمضي الى "وطن يومض في المياه "‪ ،‬يسبح في الرحم المق ّدس‪ ،‬يعود‬ ‫طاهراً من جديد!‬


‫بقلم‪ :‬سارة عاصي‬

‫اللوحة‪ :‬جون كوليير ‪ -‬عرافة ِد ْلفَ ْي – ‪9919‬‬


‫صورة على جدار مسرح الفنون الحديثة‬ ‫ليتني ُّ‬ ‫مت يومها‪.‬‬ ‫بالدماء‪.‬‬ ‫غارق ٌة‬ ‫ْ‬

‫ِ‬ ‫اء‪.‬‬ ‫عيناي‬ ‫ثابتتان في الهو ْ‬

‫الغرباء‪.‬‬ ‫لكان بيتي متحفا‪ .‬يزوره‬ ‫ْ‬ ‫كانت‪ .‬يقولون‪.‬‬ ‫زاحف ٌة ْ‬ ‫أين؟‬ ‫إلى ْ‬ ‫هنالك‪ .‬ربما‪.‬‬

‫ِ‬ ‫الحائط‪.‬‬ ‫يشيرون إلى‬

‫الجدار‪.‬‬ ‫كانت صورةٌ معلق ٌة على‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫الغبار‪.‬‬ ‫من ثم أنفض عني‬ ‫ْ‬ ‫أقفز من نافذةْ‪.‬‬

‫المساء‪.‬‬ ‫وأمضي إلى حيث يأتي‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫أالقيه في موعد‪.‬‬ ‫وأمشي‪.‬‬

‫أسكن في ِ‬ ‫الليل أحالمه الخاطف ْة‪.‬‬ ‫أوزع منها لرو ِاد مقهى قصاصات‬ ‫منهم‬ ‫من ورق مخملي‪ .‬أذكر‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫بالحائط‪.‬‬ ‫عيونا تحدق‬ ‫ماذا ِ‬ ‫فعلت؟ هل كان يوم ِك حلوا؟‬ ‫نعم‪ .‬كان نها ار جميال‪.‬‬ ‫ْ‬


‫ِ‬ ‫األرض في غرفتي‪.‬‬ ‫كنت على‬ ‫صورةٌ ساقط ْة‪.‬‬

‫مقفل‪.‬‬ ‫أمت‪ .‬وبيتي‬ ‫ْ‬ ‫لكنني ْلم ْ‬ ‫ِ‬ ‫للحائط‪.‬‬ ‫في الليل أنظر‬

‫أسود كالهاوي ْة‪ .‬وأسقط منها‪.‬‬ ‫النهار‪.‬‬ ‫إلى حيث يأتي‬ ‫ْ‬

‫في غرفتي صورةٌ فارغ ْة‪.‬‬

‫عيون تحدق في الزاوية‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫بسكين‪.‬‬ ‫وأطعن صدري‬ ‫ْ‬ ‫فتهوي إلي العيون‪.‬‬ ‫ويأتي الصراخ‪:‬‬ ‫ممثل ٌة رائع ْة‪.‬‬ ‫وأيد تصفق‪:‬‬

‫تتقن أدوارها البارع ْة‪.‬‬

‫وأهوي بدوري إلى الصورِة الساقط ْة‪.‬‬ ‫وأنظر لِل ِ‬ ‫ب حولي‪.‬‬ ‫ون أحمر يخض ُّ‬ ‫وأزحف‪.‬‬

‫األرض‪.‬‬ ‫خدي على‬ ‫ْ‬

‫وعين ُّ‬ ‫ترف بإغماضة‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫للحلم الز ِ‬ ‫ِ‬ ‫احف‬ ‫وعين تحدق‬ ‫ٌ‬ ‫على الس ِ‬ ‫حنة القاني ْة‪.‬‬

‫يسيل أمامي إلى الصورِة الدامي ْة‪.‬‬


‫إضاءة على نص صورة على جدار مسرح الفنون الحديثة‬ ‫ناريمان منصور‬

‫ً‬ ‫ّ‬ ‫المبطن الملغوم‪ ،‬مما يضع القارئ المهتم‬ ‫المفصل‪ ،‬ومنها‬ ‫جملة من المفاهيم منها المباشر‬ ‫يحتمل النقد‬ ‫ّ‬ ‫بكال الحالتين أمام تساؤالت قد تنتهي بنتائج فاعلة على مستوى اإلدراك الفردي ومن ثم قد يت ّم نقلها إلى‬ ‫المستوى العام باتجاه طرح مرتكز تفاعلي يتناوله المتل ّقي بمختلف اتجاهاته واهتماماته‪ ،‬فيتم تشكيل‬ ‫عالمة قد تكون فارقة أو واهية باهتة‪ ،‬وهذا يعتمد على المادة الخاضعة للنقد بداية ومن ث ّم عمل ّية النقد‬ ‫وصوالً إلى من يتلقاها وكلّه يتمحور حول المرتكز التفاعلي الذي ت ّم خلقه‪.‬‬ ‫هنا في نص سارة عاصي "صورة على جدار مسرح الفنون الحديثة" الحظت وجود هذه العناصر كلّها‪.‬‬ ‫إنّ العنوان وحده كفيل بتقديم فكرة مبدئية عن هذا‪ ..‬نص يحتوي نقداً الذعاً‪ ،‬ثم النص ذاته يخضع لنقدنا‬ ‫يحضر لمرتكز‬ ‫كقراء لنصل بالتتالي إلى تقديم – وهذا ما نقوم به هنا – هذا التقديم الذي من الممكن أن‬ ‫ّ‬ ‫تفاعلي تدور حوله وضمنه أفقيا ً وبالعمق غاية الكاتب وما يصل إليه المتلقي‪.‬‬


‫هذا النص‬

‫بالتصور‬ ‫من البديهي أننا نستطيع تناول أي نص بتفصيل وتحليل لك ّننا نكون هنا قد صادرنا حق القارئ‬ ‫ّ‬ ‫وبناء الرأي ولو جزئيا ً‪ .‬لذلك ووفقا ً لرؤيتنا هنا‪ ،‬نجد أن اإلضاءة الشمولية هي األكثر فائدة وهذا ال يمكن‬ ‫للنص بإدراك محوريته والجهة التي يهدفها‪.‬‬ ‫أن ُينجز إال بطرق معينة‪،‬ولمس البنية العامة‬ ‫ّ‬ ‫هذه الصورة على جدار مسرح الفنون الحديثة دامية مليئة بالعنف تتشابك فيها وتتفرع معطيات الحالة‬ ‫النفسية لمن تبدو كممثلة على خشبة هذا المسرح وما هو إال الحياة‪ .‬صورة دامية تحتوي آالما ً كبيرة‬ ‫ترغب بالموت عل ّ ماينتج بعدها هو متحف يزوره غرباء ال نعرفهم‪ .‬وال تعرفهم كاتبة النص حتى‪ .‬هذا‬ ‫انعكاس لغربة نرصدها على طول النص وعرضه وما بين سطوره وفي أعمق ثناياه‪.‬‬ ‫تتحول إلى كون قائم بكيانه لنرصد‬ ‫تتع ّمق الغربة أكثر عندما ُتدخلنا سارة عاصي إلى قلب غرفتها التي‬ ‫ّ‬ ‫"كوزموبوليتانية" من نوع معاصر تعكس حالة الفراغ أمام جمهور افتقد لإلحساس بعمق األلم البشري‪.‬‬ ‫أمام صراع وجودي قوامه الزحف ربما لوصول إلى هدف ما رغم دموية المشهد‪ .‬وكانت سابقا ً قد‬ ‫استحضرت بيتها ومن ث ّم مقهى توزع لرواده قصاصات من ورق مخملية‪ .‬هذه العوالم كلّها تعكس غربة‬ ‫كاتبتنا وانتقادها الداللي باإلشارة لمجتمع بتفاصيله‪.‬‬ ‫أمام هذه الخطوط العريضة التي قدمناها ُندرك ونصل للمسؤولية التي تتبناها كاتبتنا هنا من خالل هذا‬ ‫النص المك ّثف بصوره وحرك ّيته المسرحية المتمثلة بصورة! لنجد أنفسنا معها أمام هذه المسؤولية لكن؛‬ ‫أال يجب علينا التوضيح أكثر واإلشارة بشكل مباشر إلى هذه المسؤولية ولمن نتجه بها أم نترك األمور‬ ‫مشرعة الستنتاجات قد يصل إليها المعنيون أو ال يصلون؟!‬ ‫من المؤكد أن الحياة تختبرنا بتجاربها فكيف إذا كانت التجربة تحمل هذا الثقل من العنف الدّامي المشرع‬ ‫خلونا مسلكيا ً ووجدانيا ً من أية‬ ‫أبوابه ونوافذه أمام أعين أجيال ستأتي لترصد وتعيش وتعايش و ُتدين ّ‬ ‫حركة تقدّم حلوالً اجتماعية حقيقية ُتنهي بعد أن تعالج دمو ّية عصرنا وعنف ّيته بل وتحولنا إلى جمهور أبله‬ ‫يص ّفق لهذا العنف وهذا الدم وأكثر من هذا ُيصادر الحلم الذي قرأناه في نص سارة عاصي حلما ً زاحفا ً‬ ‫على السحنة القانية‪.‬‬ ‫جملة حوارية كبيرة وهامة تضعنا بالمواجهة معها سارة عاصي من خالل نص راديكالي جديد يؤرخ‬ ‫لموهبة تنمو تدريجيا ً‬ ‫ّ‬ ‫تستحق منا اإلهتمام والقراءة واإلشارة إلى إيجابياتها وسلبياتها وتح ّفز أمامنا خلق‬ ‫تفاعل ثقافي نحن مسؤولون عنه من مواقعنا جميعا ً خصوصا ً أنها صوت يأتينا من المغترب ويرصد‬ ‫وقوة و بمصداقية نلحظها من خالل كثافة المشاعر التي تصلنا بشكل مباشر‬ ‫إشكالياتنا اإلجتماعية بتفنيد ّ‬ ‫وغير مباشر بعد قراءتنا لها‪.‬‬


‫قلم‪ :‬سارة عاصي‬ ‫مرثية إلى صديق‬

‫الصورة من فيلم "تشابكات ما بعد الظهر" للمخرجة مايا د ِ​ِرنْ من العام ‪3441‬‬


‫‪1‬‬

‫‪I‬‬ ‫أكن أعرف في صغري‬ ‫لم ْ‬

‫أن وجهك الباسم كان معب ار‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الخطيئة تحملها عجالت‬ ‫ليقين‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الشكوك التي‬ ‫أروقة‬ ‫كرس ِيك في‬ ‫تكن بسمتك إال كفنا‬ ‫صلبتك‪ .‬لم ْ‬

‫وكنا‪ ,‬عندما نشرب قهوتنا وأسمع‬ ‫صوتك‪ ,‬كنت أنا عرافة أنحت المسامير‬ ‫دفنك‪.‬‬ ‫وأتلو مراسم ْ‬ ‫‪II‬‬ ‫حذفك هذا اليوم‪.‬‬ ‫وأنت المشلول على كرسيك المكسورِة‪.‬‬ ‫حذفك‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫المطحون‪.‬‬ ‫اللون‬ ‫وعود‬ ‫خريف‬ ‫مقعد في‬ ‫ربيعٌ ٌ‬


‫وأنا ألعب الدور‪ .‬أجلس على كرسيك‪.‬‬ ‫أكسر المزهرية القديمة‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫بباقة الز ِ‬ ‫اء‪.‬‬ ‫وأرمي‬ ‫هر في الهو ْ‬ ‫تعال‪ .‬تعال‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫المحتجب‪.‬‬ ‫أنا ربيعك‬ ‫ِ‬ ‫اللون المبعثرِة‪.‬‬ ‫اح تسكنه إشارات‬ ‫نو ٌ‬ ‫‪III‬‬ ‫م ْذ رحلت‪ ،‬أضعت عالما كنت أنا فيه‪.‬‬ ‫أخذ مكانك الهواء‪ .‬وحيدةٌ هي الذاكرة أمام‬ ‫سحر؟ أن أقول‬ ‫ْ‬ ‫تالشيك‪ .‬هل هو ٌ‬ ‫ِ‬ ‫القبعة؟ أو أن أحرك قطعة من ثيابك‬ ‫اظهر من‬ ‫ْ‬ ‫القيك‪ .‬من أين لي أن أطحن‬ ‫فأ ْ‬ ‫ِ‬ ‫بيادر العو ِ‬ ‫ِ‬ ‫المجهولة‪.‬‬ ‫الم‬ ‫قمح‬

‫وأعجنه‪ ,‬وأخبزه‪ .‬علني أجدك‪.‬‬ ‫من أين لي‪.‬‬ ‫من ِ‬ ‫أية قصيدة ذاهبة خرجت‪ .‬أنا لم‬ ‫ِ‬ ‫أكن إلهة الخل ِ‬ ‫ق وال‬ ‫الموت‪ .‬إنما إيماءةٌ‬ ‫ْ‬ ‫مقعدةٌ تحاكي كرسيك المكسور‬

‫ِ‬ ‫الطريق‪ .‬ربما في ِ‬ ‫سفر‬ ‫رصيف‬ ‫على‬ ‫ْ‬ ‫تلتقيك‪.‬‬ ‫قصيدة آتية‬ ‫ْ‬ ‫‪--------------------------------------------‬‬


‫‪2‬‬ ‫بعود ثقا ِبك إلى ِ‬ ‫تحترق األرض عندما رميت ِ‬ ‫كلمت ِك األخيرِة‪.‬‬ ‫لم‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ركام‪.‬‬ ‫ترنح العالم مثل‬ ‫دخان سيجارِتك‪ْ .‬‬ ‫وزفرت آخر أنفاسك مثل ْ‬ ‫الغبار‪.‬‬ ‫من براكين هامدة تنفث سحب‬ ‫ْ‬

‫كنت صغيرة‪،‬‬ ‫أذكر أنت الذي قلت لي لما ٌ‬ ‫أن أباك بنى منزال نابضا‪.‬‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫البيت‪.‬‬ ‫المدخل ربع ليرْة‪ .‬لرب ِة‬ ‫عتبة‬ ‫دفن تحت‬ ‫ْ‬ ‫سألتك‪ .‬من ربة ِ‬ ‫البيت؟‬ ‫ِ‬ ‫أجب ْت‪.‬‬ ‫أنت‪ْ .‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الورقية‪.‬‬ ‫أقاصيصك‬ ‫اللهو وقتها‪ .‬أبني ناعورة من‬ ‫أنا كنت ربة‬ ‫كرسيك المكسر ْ‪.‬‬ ‫تطوف فوق‬ ‫ِّ‬ ‫فصل شهقة تعلو على كتفيك‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫وفصل ِ‬ ‫األرض في دورِة المقعدين‪.‬‬ ‫زفير انحدار إلى‬ ‫وموت‪.‬‬ ‫وأنا‪ ،‬أعرف اآلن‪ ،‬أني لست إلهة خلق‬ ‫ْ‬ ‫البيوت‪.‬‬ ‫م ْذ رحلت أصبحت عراف ٌة تق أر في زوايا‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫عيني ِديما‪.‬‬ ‫أرسم من وجهك‬ ‫النائم في ْ‬ ‫أمزجها مع ما تبقى من ِ‬ ‫ِ‬ ‫سجائرك ن ْقشا‪.‬‬ ‫رماد‬ ‫ِ‬ ‫أوردة معصمي وشما‪.‬‬ ‫أدقُّه في‬


‫وأحمل مطرقة‪.‬‬ ‫العتبات‪.‬‬ ‫أكسر فيها المداخل و‬ ‫ْ‬ ‫أنقِّب عن ِ‬ ‫وجه إله ِتك‪.‬‬

‫ألشهق من ِ‬ ‫فمها ِحمما‪.‬‬ ‫ومن ِ‬ ‫بيتك المتداعي نبضا‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫جديد‬ ‫المحطمة نار عهد‬ ‫عتبات هيكلِك‬ ‫‪.‬وأزفر‪ ,‬نفاث ٌة كالثعابين‪ ,‬من‬ ‫ْ‬ ‫‪------------------------------------------------‬‬‫‪3‬‬ ‫‪I‬‬ ‫غريبة كانت وحشتك في ِ‬ ‫بالد الظهيرةْ‪.‬‬ ‫الرجال‪.‬‬ ‫حيث ترتدي اآللهة معطف‬ ‫ْ‬

‫وكنت أرى الدخان األسود من ِ‬ ‫ِ‬ ‫الجبل‬ ‫قمة‬ ‫ترسله إيماءة يدك فوق النار‪.‬‬ ‫السطوح‪.‬‬ ‫وكنت أشعل النار على‬ ‫ْ‬ ‫وأرسل إسمي إليك‪.‬‬

‫كنت مقعدا تشد الرحال على الطر ِ‬ ‫ق الصاعدة‪.‬‬ ‫البيوت‪.‬‬ ‫وأنا أتسلق الساللم خلف‬ ‫ْ‬

‫ِ‬ ‫كي ألتقيك‪ .‬في ِ‬ ‫القمم العالي ْة‪.‬‬ ‫حلم األرض ساقطة إلى‬ ‫لتطلق منها سحابة ِ‬ ‫اسمك يظلل إسمي‪.‬‬ ‫في ِ‬ ‫بالد الظهيرِة واآللهة‪.‬‬


‫‪II‬‬

‫اج‪.‬‬ ‫أنت كنت إله الظ ْ‬ ‫الل‪ .‬وأنا سيدة األدر ْ‬

‫كنت مثل كرسيك‪ .‬أتسلق الساللم الخشبية المكسرةْ‪.‬‬ ‫الصاعدة إلى ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الدخان‪.‬‬ ‫بالد‬ ‫في طريقي‬

‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫وحري ِ‬ ‫النار‪.‬‬ ‫ق‬ ‫الشجر وايماءة اليد فوق ْ‬

‫‪-----------------------------------------------‬‬‫‪4‬‬ ‫كنت أسمع في ِ‬ ‫حديثك صدى‪.‬‬ ‫تهب‬ ‫لزمجرة من رياح بعيدةْ‪ُّ .‬‬ ‫السه ِب وتأتي إلى حيث‬ ‫على ُّ‬ ‫ِ‬ ‫الفريسة‬ ‫تبتدأ المدن‪ .‬مثل‬

‫تعوي‪ .‬ال‪ .‬ال أنت‪ .‬بل الطر ِ‬ ‫ق‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫فصول‬ ‫اء‪ .‬عند‬ ‫أنت كنت نزيل العو ْ‬ ‫التحو ِل‪ .‬ولم ِ‬ ‫ترتد معطفا يقيك‬ ‫ِ‬ ‫دروب‬ ‫تنكسر عند‬ ‫اصف‪ .‬ولم‬ ‫العو ْ‬ ‫ْ‬

‫أي فصل أتى؟ كان صوت‬ ‫السؤال ‪ُّ -‬‬ ‫الخريف إلى ِ‬ ‫ِ‬ ‫لونه األولي‪.‬‬ ‫انكسار‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الفصول‬ ‫العشب‪ .‬تساءل أي‬ ‫في‬ ‫ِ‬ ‫األرض مثلك‪.‬‬ ‫أتى‪ .‬ومضى‪ .‬إلى‬


‫ُّ‬ ‫بالزمهرير‪.‬‬ ‫يشق التراب‬ ‫شتاء‪.‬‬ ‫كان‬ ‫ٌ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫هبوب‬ ‫وأنا أرتدي معطفك وأرحل عند‬ ‫المطر‪ .‬أق أر اللون في شقو ِ‬ ‫اب‪.‬‬ ‫ق التر ْ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫العصافير إلى‬ ‫دليل طريق في هجرِة‬ ‫ِ‬ ‫قوس قزح أسودا‪.‬‬ ‫حيث تبني لها منزال‪.‬‬ ‫حيث أنا اآلن في هجرتي‪.‬‬ ‫ألتقيك‪.‬‬ ‫كي‬ ‫ْ‬ ‫‪---------------------------------------------‬‬‫‪5‬‬ ‫ِ‬ ‫القاتل في جذوع الشجر األول‪.‬‬ ‫رحلت بعد أن نفذت رصاصة‬ ‫وأنت كنت نزيل الحرائق في الحقول‪ .‬تعجن من غبار الفحم‬ ‫و"المشحرة" خب از ألفواه أوالدك الجائعين‪.‬‬ ‫نلتقي حيث تشاء السهوب‪.‬‬ ‫في رحاب األفق الوارف‪.‬‬ ‫حيث تشاء الرياح التي تحمل طبقات المدن المهاجرة‪.‬‬ ‫في مواكب عرش كرسيك الكسير‪ .‬حيث ال زلت‬ ‫تخبز البسمة الداكنة على الوجوه‪.‬‬ ‫للمقعدين‪.‬‬ ‫الذي يجرون كراسيهم المكسرة في وطن الشظايا‪.‬‬ ‫والحاقدين‪.‬‬


‫وأنا‪ ،‬مثلك‪ ،‬مقعدة‪ .‬أجر متاعا فقي ار وأشالء قتلى‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫وصيفة عرشك في شرفات المدائن حيث يعلو الحريق‪.‬‬ ‫فوق السهوب‪.‬‬ ‫يعلو‪.‬‬ ‫صواري دخان‪.‬‬ ‫يلقي الرحال على النائمين‪.‬‬ ‫قوس قزح أسود‪.‬‬ ‫للجباه التي ما عرفت غير عبور‬ ‫المياه العميقة‪.‬‬ ‫فوق‪ .‬فوق‪ .‬يعلو‪.‬‬ ‫على الريح‪.‬‬ ‫نلتقي حيث تحملنا السهوب‪.‬‬ ‫في الهواء‪.‬‬ ‫بعد حين‪.‬‬ ‫‪--------------------------------------------------------‬‬‫‪6‬‬ ‫أنت كنت شاعر هذه األرض‪.‬‬ ‫تكتب كلمة واحدة‪.‬‬ ‫ولم‬ ‫ْ‬

‫تنتظر عربات القطارات المسافرة‪.‬‬ ‫ولم‬ ‫ْ‬


‫أنت سافرت على تراب الحدائق‪.‬‬ ‫مداو ار عجلة كرسيك الذي تصطك مفاصله‪.‬‬ ‫مثل كواكب تتفكك‪.‬‬ ‫وما انتظرتك غير هذه العربات‪.‬‬ ‫وكان كرسيك دائما األخير‪.‬‬ ‫تنظر إلى الخلف‪.‬‬ ‫إلى الزنود القوية‪ .‬واألوجه الباسمة‪.‬‬ ‫ترشرش ماء الورد‪ .‬وزهر البرتقال‪.‬‬ ‫على المقعدين‪.‬‬ ‫‪---------------------------------------------‬‬‫‪7‬‬ ‫ِ‬ ‫حساباتها‪.‬‬ ‫أسقطتْك السماء من‬ ‫كان يوما ماط ار فهويت أمامي‪.‬‬ ‫السجائر‪.‬‬ ‫ودخلت‪ .‬بسمتك تقتحم دخان‬ ‫ْ‬ ‫جلست امامي‪ .‬نشرب القهوة‪.‬‬ ‫الحاد‪ .‬ليس م ار‪.‬‬ ‫أذكر طعمها‬ ‫ْ‬ ‫األسفلت‪.‬‬ ‫هي المياه تجري مريرة على‬ ‫ْ‬ ‫الخلق‪.‬‬ ‫كأنها األرض منتهى‬ ‫ْ‬ ‫األنبياء‪.‬‬ ‫وهذا المقهى رسالة‬ ‫ْ‬

‫بأس‪.‬‬ ‫قلت لي‪ :‬نرتقي‬ ‫ْ‬ ‫للمياه‪ .‬سوداء! ال ْ‬ ‫كان ذات مساء ماطر‪.‬‬


‫ِ‬ ‫تتراءى لي الضفادع تقفز في ِ‬ ‫الموحلة‪.‬‬ ‫البرك‬ ‫أذكر أني كنت مالكا‪ .‬أبيض مثل غيم قديم‪.‬‬ ‫السطح‪.‬‬ ‫أبحر على‬ ‫ْ‬

‫اآلن‪.‬‬ ‫أذكر ثوبي‪ .‬الذي غاب عني مثلك ْ‬ ‫للمقعدين‪.‬‬ ‫كرسيك‪.‬‬ ‫ردائي الجديد مثل‬ ‫ِّ‬ ‫ْ‬

‫لونه يرتعد أمام أبو ِ‬ ‫أقفلت‪.‬‬ ‫اب المقاهي التي‬ ‫ْ‬

‫ِ‬ ‫الصخر‪.‬‬ ‫الماء الذي شق دربه في‬ ‫مثلك اآلن أنا‪ .‬مقعدةٌ أبحر في‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الحاد‪.‬‬ ‫بطعمها‬ ‫بسمتك‬ ‫مثل‬ ‫ْ‬

‫ِ‬ ‫األرض‪.‬‬ ‫طريقها إلى‬ ‫الجديد‪ .‬وهو ْت في‬ ‫ثوبي‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ترك ْت لونها‪ .‬مثل ْ‬ ‫‪---------------------------‬‬


‫إضاء على نص مرثية إلى صديق‬ ‫قلم‪ :‬حسن عبدهللا ابراهيم‬

‫‪ ‬العنوان بسيط بل مطروق جداً ال يوحي بالكثير‪ .‬بل يوحي بالرتابة حيث أننا أمام رثاء لصديق‪،‬‬ ‫وهل من شاعر ليس لديه صديق يرثيه! فكيف إذا كنا نعيش في شرق ال تنتهي مراثيه على‬ ‫المستوى الفردي والجمعي؟‬ ‫نحن الب ّكائين كيف لنا أن يجذبنا عنوان آخر للبكاء!‬ ‫لكن كل ما يبدو هنا مختلف‪:‬‬ ‫‪ ‬على غير العادة المتبعة في أن تكون قصائد الرِّ ثاء من الشكل العمودي‪ ،‬اختارت سارة عاصي‬ ‫قصيدة النثر أو الشعر المنثور أو النثرية كحامل لرثائها‪ ،‬وهذا بح ّد ذاته تح ٍّد اختارته بملء إرادتها‪،‬‬ ‫ولها كل الحق في ذلك‪.‬‬ ‫‪ ‬لكن سارة عاصي من أول سطر شعري لها تفك ذلك اللغز عنها وعن ذلك الصديق‪ ،‬اللغز أو‬ ‫التساؤل الذي أثاره العنوان‪.‬‬ ‫هل هو صديق بعمرها؟ هل هو َمـثـَ ٌل أعلى أم هل هو صديق يمثل حالة إنسانية مكثفة؟‬ ‫فبدأت تقول في بداية المقطع األول ‪:‬‬ ‫"لم أكن أعرف في صغري‬ ‫أن وجهك الباس َم كان معبراً‬


‫ليقين الخطيئة تحملها عجالت كرسيك‬ ‫في أروقة الشكوك التي صلبتك‪".‬‬ ‫هنا ندرك أن الصديق يكبرها بمقاييس السنين فتجيبنا عن تساؤل واح ٍد لتفتح لنا تساؤالت عدة‪ ،‬فمن‬ ‫هو ذلك الصديق إذن‪ .‬وماذا يمثل لدى سارة عاصي‪.‬‬ ‫‪ ‬للخطيئة يقين‪ .‬هذا يعني أنك ترتكب خطأ ً لكن يقينك يحدوك لإلستمرار‪ ،‬حتى لو كان في هذا‬ ‫اإلستمرار احتمال في أن ال تحدث الخطيئة‪ ،‬فإن مجرد وجود احتمال في أنّ ثمن هذا اإلستمرار‬ ‫هو تمضية بقية حياتك على كرسي مدولب فإن اإلستمرار هو الخطيئة بعينها‪.‬‬ ‫ف ألن يغير حياته إلى‬ ‫فما الذي يدفع شخصا ً ما للسير بين المخاطر وهو الذي يدرك أن احتماالً واحداً كا ٍ‬ ‫األبد‪.‬‬ ‫إن السبب في رأيي هو أن الحياة التي قـُيـِّــضت لهذا الصديق موجودة بين تلك المخاطر‪ -‬األلغام ‪ -‬فراح‬ ‫يمارسها أو يبحث عنها ألن ال بديل متوفر لديه‪.‬‬ ‫لذلك كان وج ُهه باسما ً وكأنه كان في كل لحظة يتوقع ما سوف يحصل له‪ ،‬بل إن الحياة كانت جديرة بأن‬ ‫تعاش هكذا‪ ،‬إنها إرادة الحياة‪.‬‬ ‫لذلك كان وجهه المبتسم جسراً عبر عليه " يقين الخطيئة"‬ ‫الخطيئة التي تجسدت في إعاقة جاثمة على كسري مدولب‪ ،‬هذا الكرسي الذي حمل "يقين الخطيئة " في‬ ‫"أروقة الشكوك التي صلبتك"‪.‬‬ ‫سارة عاصي تقلب الموازين‪ .‬أن يكون لإليمان يقين فهذا أمر طبيعي بل أن يمرّ اإليمان في أروقة الشكوك‬ ‫فهذا أمر طبيعي أيضا ً ‪.‬‬ ‫بل إن أكثر اإليمان يقينا ً هو اإليمان الذي مرّ في مراحل الشك‪.‬‬ ‫لكن أن يكون للخطيئة يقين فهنا المفارقة بل وأن يمر يقين الخطيئة في أروقة الشكوك فالمفارقة جميلة‬ ‫ومدهشة‪.‬‬ ‫يقين الخطيئة ِويزيده يقينا ً على يقين‪.‬‬ ‫إذاً هو الشك الذي يكرُّ س َ‬ ‫لذا هذا الشك ليس ندماً‪ ،‬كيف يندم من دفعته إرادة الحياة إلى ارتياد مخاطرها‪.‬‬ ‫"لم تكن بسمتك إال كفنا ً"‬ ‫إنها ابتسامة الطيب العارف‪ .‬اإلبتسامة البيضاء النقية وربما الشاردة أو الباردة كالكفن‪.‬‬ ‫"وكنـّا‪ ،‬عندما نشرب قهوتنا وأسمع صوتك‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫كنت أنا عرافة أنحت المسامير‪ ،‬وأتلو مراسم دفنك‪".‬‬


‫سارة عاصي تنقلنا من الداخل إلى الخارج‪.‬‬ ‫تقفز بنا إلى جلسات القهوة مع الصديق وهي تتوقع موته‪.‬‬ ‫موت بعضنا بعض‪ ،‬لكن أن ننظر إلى جليسنا على أنه سوف يرحل فهذا ْ‬ ‫َ‬ ‫حدسٌ أو خوف زائد‬ ‫كلنا نتوقع‬ ‫على صديق أو أن الصديق كان يعاني من حالة صحية ما غير إعاقته‪.‬‬ ‫لذلك كانت "العرّ افة "سارة عاصي تشرب القهوة مع صديقها وهي تودعه في كل نظرة وتصنع له المسامير‬ ‫وتتلو مراسم دفنه‪.‬‬ ‫فكانت تعزيه وتأخذ بخاطره وتشرب قهوة العزاء مرات ومرات قبل فِعْ ل الموت نفسه‪.‬‬ ‫وأنا ال أحسدها أبداً على فناجين قهوتها تلك‪.‬‬ ‫ال يسعني إغفال المفردة الموحية ( أنحت المسامير) كانت كلمة المسامير مفردة معبرة وكافية عن النعش‬ ‫الذي تصنعه دون أن تأتي على ذكره‪.‬‬

‫المقطع الثاني ‪:‬‬ ‫"حذفك هذا اليوم‬ ‫وأنت المشلول على كرسيك المكسورة‬ ‫حذفك"‬ ‫وصف يبدو للوهلة األولى بأنه عادي‪ ،‬بأن هذا اليوم من عمر الزمن قد ألغاك فقبض روحك‪ .‬لكن في النص‬ ‫إدانة ّ‬ ‫شخص مقع ٍد على كرسي ‪.‬‬ ‫مبطنة لهذا اليوم الذي استقوى على‬ ‫ٍ‬ ‫فتعيد سارة في نهاية السطر الشعري كلمة " حذفك " فتشحن جملتها بطاق ٍة شعرية شعورية إنفعالية عالية‬ ‫جداً‪ ،‬مع التأكيد على فعل اإلدانة ‪.‬‬ ‫وأنا شخصيا ً ال أتوقع أن تكون الكرسي مكسورة ماديا‪ ً،‬أي فيها عطل ما‪ ،‬بل هي كرسي مكسورة الخاطر‬ ‫على صديق لم يفارقها منذ زمن‪.‬‬ ‫هنا تسقط سارة مشاعرها على الكرسي المدولب ‪.‬‬ ‫سارة عاصي ( العرّ افة ) هي المكسورة على فراق صديق لها‪.‬‬ ‫فما حال األصدقاء "غير العرافين" إذاً! هنا تظهر المأساة أكثر عمقا ً في نفس سارة ‪.‬‬ ‫"ربيع مقع ٌد في خري ِ‬ ‫ف وعو ِد اللون المطحون"‬


‫ترى سارة عاصي في صديقها الذي يكبرها في العمر ترى ربيعا ً مقعداً في خريف وعو ِد‪ ...‬إلخ‪ .‬هو ربيع‬ ‫األمل المقعد‪ ،‬الطاقة المقعدة‪ ،‬فتنقلنا من حالة الجسد المقعد في كرسي إلى حالة األمل أو الربيع المقعد‬ ‫" في خريف وعو ِد اللون المطحون"‪.‬‬ ‫خريف َط َحن وشوّ ه كل األلوان‪ ،‬خريف سرق األمل‪ ،‬سرق كل ما هو جميل ‪.‬‬ ‫" وأنا ألعب الدور‬ ‫أجلس على كرسيك‪.‬‬ ‫أكسر المزهرية القديمة‪.‬‬ ‫وأرمي بباقة الزهر في الهواء‪.‬‬ ‫تعال ‪ .‬تعال‬ ‫أنا ربيعك المحتجب‬ ‫ح تسكنه إشارات اللون المبعثرة "‬ ‫نوا ٌ‬ ‫عار من أية بالغة‬ ‫عندما تفيض شحنة سارة العاطفية تجلس على الكرسي تكسر ترمي وتعبر عن حزن ٍ‬ ‫لغوية لتفرُغ الساحة لبالغة الحزن وحده‪.‬‬ ‫كسرت سارة في أحد أسطرها الشعرية قاعدة هامة في الشعر المنثور وهو التكثيف‪ ،‬فكان يمكن لها أن‬ ‫تقول‪( :‬وأرمي بباقة الزهر) وتسكت‪ ،‬فال داعي لكلمتي ( في الهواء) ألن الرمي حتما ً سيكون في الهواء‪.‬‬ ‫لكن حزن سارة وصدرها المفعم بالعواطف الجياشة دفعها لتفريغ صدرها من شحنة عاطفية كبيرة فخرجت‬ ‫هذه الشحنة مع كلمتـَي‪ :‬في الهواء‪.‬‬ ‫تبني على طريقتها العفوية‪.‬‬ ‫فكانت موفّقة في ذلك‪ .‬أن تهدم بمعول الصدق كي َ‬

‫سارة تصل إلى قمة الشحن العاطفي فتنادي صديقها ‪:‬‬ ‫( تعال ‪ .‬تعال‬ ‫أنا ربيعك المحتجب)‬ ‫من م ّنا لم ينادي الميْت أنْ ‪ :‬قــُــ ْم قـــم‪ .‬من منا لم يحل ْم بأن الميت حقا ً قام‪.‬‬


‫ثم تغريه في العودة لتقول له‪ :‬أنا ربيعك المحتجب‪ ،‬هنا يندمج فعل اإلغراء مع الصدق وهذان فعالن ال‬ ‫يجتمعان عادة‪ .‬لكن هذه المناداة مكسورة‪ ،‬ربيعها مكسور‪ ،‬هي ربيعه المحتجب لكنها أيضا ً هي ‪:‬‬ ‫ح تسكنه إشارات اللون المبعثرة )‪.‬‬ ‫( نوا ٌ‬ ‫األلوان الرامزة إلى األمل واإلشراق والتفاؤل عند سارة هي ألوان مطحونة تارة وتارة ألوان مبعثرة‪.‬‬ ‫والداللة كافية هنا‪.‬‬ ‫‪III‬‬ ‫أضعت عالما ً ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫كنت أنا فيه‪.‬‬ ‫رحلت‪،‬‬ ‫مذ‬ ‫َ‬ ‫أخذ مكا َنك الهوا ُء‪ .‬وحيدةٌ هي الذاكرةُ أما َم‬ ‫تالشيك‪ .‬هل هو‬ ‫ٌ‬ ‫سحر؟ أن أقول َ‬ ‫ً‬ ‫قطعة من ثياب َك‬ ‫اظهر من القبعةِ؟ أو أن أحر َك‬ ‫فأُالقيك‪ .‬من أين لي أن أطحنَ‬ ‫العوالم المجهول ِة‪.‬‬ ‫بيادر‬ ‫قمح‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫وأخبزه‪ .‬علني أجد َك‪.‬‬ ‫وأعج ُنه‪,‬‬ ‫من أينَ لي‪.‬‬

‫َ‬ ‫خرجت‪ .‬أنا لم‬ ‫من أي ِة قصيدة ذاهبة‬ ‫ُ‬ ‫ت‪ .‬إنما إيماءةٌ‬ ‫الخلق وال المو ِ‬ ‫إلهة‬ ‫أكن‬ ‫ِ‬ ‫المكسور‬ ‫ُمقعدةٌ ُتحاكي كرس َّيك‬ ‫َ‬ ‫سفر‬ ‫على رصيفِ الطريق‪ .‬ربما في‬ ‫ِ‬ ‫قصيدة آتية تلتقيك‪.‬‬ ‫مقطع حزين وجميل‪ ،‬متدفق ورقراق‪ ،‬فبعد رحيل الصديق في قطار الموت‪ ،‬أضاعت شاعرتنا العالم الذي‬ ‫هي فيه‪ ،‬إنه إحساس بالضياع من هول الصدمة وهو شعور معروف عند تلقي الخبر‪ ،‬لكنها تعبر عن ذلك‬ ‫بطريقة خاصة‪.‬‬


‫فهي تنظر إلى الحيّز المكاني الذي كان يشغله الصديق فال ترى سوى الفراغ‪ /‬الهواء‪ ،‬حتى الذاكرة فارغة‬ ‫غير قادرة على استحضار أي شيء‪.‬‬ ‫هنا تعود سارة إلى مناداة صديقها بعفوية واعية لكنها جميلة جداً فتقول له‪:‬‬ ‫"تعال‪ .‬تعال أنا ربيعك المحتجب‪".‬‬ ‫طريقة يظهر فيها الوعي مجبوالً باألمنية المستحيلة فتستحضر ذاكرتها معجزات السحرة واألساطير معا ً‪.‬‬ ‫فكان تساؤلها تساؤالً واعيا ً‪ ( :‬هل هو سحر؟ أن أقول إظهر من القبعة)‬ ‫فلعلّه يستطيع أن يظهر من قبعة اإلخفاء المعروفة‪.‬‬ ‫أو ربما تجده بين قطعة من مالبسه وهي كل ما تبقى من ذكراه ماديا ً ‪.‬‬ ‫هي تدري أن شيئا ً من ذلك لن يحدث فتلجأ إلى قصة الخلق‪ ،‬إلى األسطورة القديمة لتعجنه – ليس من طين‬ ‫كما فعل اإلله‪ -‬بل من قمح عوالم مجهولة – قمح خاص قمح سحري من غير عالمنا‪ ،‬وتدري استحالة ذلك‬ ‫فتستدرك لتقول‪" :‬من أي لي‪ ".‬فتلخص كل عجزها أمام الموت في عبارة‪" :‬من أين لي" ‪ ،‬وليس أمام القارئ‬ ‫إال أن يتعاطف مع هذا العجز‪.‬‬ ‫ صديق سارة خرج من قصيدة الحياة‪ ،‬عندما مات لم تكن تقصد سارة أن تـُحْ يي أو تـَنعي صديقها‬‫بقصيدتها بل كانت تو ّد أن تشير إشارة مكسورة للحدث مكسورة ككرسي صديقها المكسور‪.‬‬ ‫ربما في قصيدة ِرثاء آتية سوف تلتقي سارة صديقها لقا ًء حقيقيا ً تفرغ فيه كل حزنها‪ ،‬أو قصيدة‬ ‫تستطيع أن تشعر سارة أنها نعت صديقها بما يليق بحزنها وذلك عندما يخف قليالً هذا الحزن‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ثقاب َك إلى كل ِم َتكِ األخير ِة‪.‬‬ ‫األرض عندما‬ ‫"لم تحترق‬ ‫ُ‬ ‫رميت بعو ِد ِ‬ ‫دخان سيجارتِ َك‪ .‬وزفر َ‬ ‫ت آخ ُر أنفاسِ ك مثل َ ركام‪.‬‬ ‫تر َّن َح العال ُم مثل َ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫سحب الغبار‪".‬‬ ‫تنفث‬ ‫من براكينَ هامدة‬ ‫َ‬ ‫س له‬ ‫عندما قال الصديق كلمته األخيرة وقد تكون كلمة أثناء اإلحتضار وقد تكون الكلمة هي نفسها آخر نـفـَ ٍ‬ ‫في الحياة‪.‬‬ ‫عندها لم تحترق األرض لكن العالم تر ّنح كتر ّنح دخان سجائره‪ ،‬كانت أنفاسه األخيرة أنفاس بركان أطلق كل‬ ‫ما لديه من "ركام"‪ ،‬نعم ركام وليس أكثر من كلمة معبرة هنا‪ ،‬ما هذا الركام الذي في صدر ذلك الصديق‪.‬‬ ‫تقوم سارة بوصف آخر أنفاس الحياة دون أن تغيب ذاتها ومشاعرها عن الحدث فالعالم يترنح مثل دخان‬ ‫سيجارته‪ .‬تدمج سارة بين الذاتية والموضوعية بسالسة مطلقة وناجحة‪.‬‬ ‫قلت لي لما ٌ‬ ‫أنت الذي َ‬ ‫أذكر َ‬ ‫كنت صغير ًة‪،‬‬ ‫" ُ‬ ‫أن أبا َك بنى منزالً نابضا ً‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ربع ليرة‪ .‬لر َّب ِة البيت‪.‬‬ ‫تحت عتب ِة‬ ‫د َفنَ‬ ‫المدخل َ‬ ‫ِ‬


‫سألت َك‪ .‬من ر َّب ُة البيتِ؟‬ ‫أن ِ‬ ‫ت‪ .‬أجبت‪".‬‬ ‫استذكار واضح جداً لحدث صغير بين سارة وصديقها الراحل‪ .‬لكنه في السياق العام هو استراحة المكلوم‬ ‫من النواح والندب‪ .‬وهو نفسه استراحة للقارئ من فيض مشاعر وكنايات لغوية دفاقة‪ .‬هو نفسه اإليقاع‬ ‫الداخلي لسارة في أن تلتقط أنفاسها بهدوء "ذكرى"‪.‬‬ ‫"أنا ُ‬ ‫اللهو وق َتها‪ .‬أبني ناعور ًة من أقاصيصِ ك الورقي ِة‪.‬‬ ‫كنت ر َّب ُة‬ ‫ِ‬ ‫تطوف َ‬ ‫فوق كرسي َك المكسر‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫فصل ُ شهقة تعلو على كتفي َك‪.‬‬ ‫األرض في دور ِة المقعدين‪.‬‬ ‫ير انحدار إلى‬ ‫ِ‬ ‫وفصل ُ زف ِ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫إلهة خلق وموت‪.‬‬ ‫لست‬ ‫أعرف اآلنَ ‪ ،‬أني‬ ‫وأنا‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫عرافة تقرأ ُ في زوايا البيوت‪.‬‬ ‫أصبحت‬ ‫رحلت‬ ‫مذ‬ ‫النائم في عي َن َّي ِد َي َما ً‪.‬‬ ‫أرس ُم من وجه َك‬ ‫ِ‬ ‫سجائرك َنق َ‬ ‫شا‪.‬‬ ‫أمزجها مع ما تب َّقى من رما ِد‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫أد ُّقه في أورد ِة معصمي َو َ‬ ‫ش َما‪".‬‬ ‫ماذا تبني سارة من أقاصيص صديقها الورقية‪ ،‬نواعير فوق كرسيّه المكسور فيشهق اندهاشا ً ثم يزفر شهقته‬ ‫ربما اللتقاط لعبة سارة‪.‬‬ ‫تجربتها في موت صديقها جعلتها عرافة تكشف شبح الموت المختبئ في زوايا البيوت رغم أنه ليس لها يد‬ ‫في الموت والحياة‪.‬‬ ‫في أكثر من موقع في النص ال تنفك سارة تؤكد أن ال يد لها في الموت والحياة لكأنها تعبر عن عجزها أمام‬ ‫الموت الذي سلبها أعز صديق لديها‪.‬‬ ‫ثم أن سارة تصنع وشما ً لها لكنه وشم غير مصنوع كالعادة من الرماد ودماء الموشوم في موضع الوشم –‬ ‫كما كان يفعل أجدادنا في الريف – بل هو وشم مصنوع من رماد سجائر صديقها ومن اخضرار صورته‬ ‫المعلّقة دوما في عينيها‪ ،‬وهو وشم في أوردة معصمها فهو وشم مرئي دوما ً لها ولآلخرين‪ ،‬وفوق الوريد‬ ‫حيث يكون الوشم أكثر وضوحا ً حيث مجرى الدم‪.‬‬ ‫ً‬ ‫مطرقة‪.‬‬ ‫"وأحمل ُ‬ ‫أكس ُر فيها المداخل َ والعتبات‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ب عن وج ِه إلَ َهتِ َك‪.‬‬ ‫أنق ُ‬ ‫َ‬ ‫ألشهق من فمِها ِ‬ ‫ح َمما ً‪.‬‬


‫المتداعي َن َبضا‪.‬‬ ‫ومن بيتِ َك‬ ‫َ‬ ‫‪.‬وأزفر‪ ,‬ن َّف ٌ‬ ‫اثة كالثعابينَ ‪ ,‬من عتبا ِ‬ ‫نار عهد جديد"‬ ‫ت هيكلِ َك المحطم ِة َ‬ ‫ُ‬

‫تكسر سارة عتبة البيت التي دفنت فيها ربع ليرة (لربة البيت= اإللهة سارة) كي ترى وجهها هي وتتنفسه‬ ‫ُني البيت منه‪ ،‬لتستمد منه القوة فتعيدنا إلى مقطع سابق يتحدث كيف بنى أبُ‬ ‫ناراً وتشهق النبض الذي ب َ‬ ‫صديقها ذلك البيت‪.‬‬ ‫باعتقادي أن هذا المقطع يصلح أكثر لو كان يلي مباشرة المقطع الذي يتحدث عن المنزل النابض وبناؤه‪.‬‬ ‫‪1‬‬ ‫‪I‬‬ ‫ُ‬ ‫"غريبة كانت وحش ُتك في بال ِد الظهيرة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫معطف الرجال‪.‬‬ ‫حيث ترتدي اآللهة‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫الجبل‬ ‫وكنت أرى الدخانَ األسودَ من قم ِة‬ ‫ِ‬ ‫ترسلُه إيماءةُ يد َك َ‬ ‫فوق النار‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫النار على السطوح‪.‬‬ ‫وكنت أشعل ُ َ‬ ‫وأرسل ُ إسمي إلي َك‪.‬‬ ‫َ‬ ‫الطرق الصاعدة‪.‬‬ ‫كنت مقعداً تش ُد الرحال َ على‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫خلف البيوت‪.‬‬ ‫أتسلق السالل َم‬ ‫وأنا‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫القمم العالية‪.‬‬ ‫ساقطة إلى‬ ‫حلم األرض‬ ‫ِ‬ ‫كي ألتقي َك‪ .‬في ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫سحابة اس ِم َك يظلل ُ إسمي‪.‬‬ ‫لتطلق منها‬ ‫في بال ِد الظهير ِة واآللهة‪".‬‬ ‫نعم فالصديق المقعد في كرسيه المكسور غريب في بالد الشمس حيث كل شيء واضح‪ .‬والرجال األقوياء‬ ‫واألصحاء هم معاطف اآللهة فال مكان في هذه البالد للضعيف المقعد بالد موحشة ماديا ً و معنويا ً ال ضمانة‬ ‫فيها للحياة من أحد‪.‬‬ ‫وهناك تواصل دائم بين سارة وصديقها بالنار والدخان فما هو هذا التواصل!!‬ ‫هل هو دخان رحيل الصديق‪ .‬وهل هو النار التي أشعلتها هي من بخور له‪ .‬هل هو دخان ذكراه‪ ،‬وهل هي‬ ‫نار حزنها؟‬


‫تقوم الشاعرة بمفارقة فالصديق يشد كرسيه المدولب المكسور صعوداً ويجهد في ذلك فتقول‪ :‬تشد الرحال‪،‬‬ ‫هل هي رحال الرحيل إلى العلياء؟ بينما هي برشاقة طفلة صغيرة تتسلق الساللم خلف البيوت كي تلتقيه هو‬ ‫الغريب في بالد الشمس التي ال ترحم الضعفاء لكن اسمه يظلّلها ويحقق لها الطمأنينة‪.‬‬ ‫يبدو أن هذا المقطع يتحدث عن الصديق عندما كان حيا ً وبنفس الوقت عندما مات دون فيصل واضح في‬ ‫الحدث بين الشخصيتين‪.‬‬ ‫‪II‬‬ ‫كنت إل َه ّ‬ ‫"أنت َ‬ ‫َ‬ ‫الظالل‪ .‬وأنا سيدةُ األدراج‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫الخشبية المكسرة‪.‬‬ ‫أتسلق السالل َم‬ ‫كنت مثل ُ كرسي َك‪.‬‬ ‫الدخان‪.‬‬ ‫في طريقي الصاعد ِة إلى بال ِد‬ ‫ِ‬ ‫الشجر وإيماء ِة الي ِد فوق النار‪".‬‬ ‫وحريق‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫هو من تستظل باسمه كإل ٍه للظالل‪ ،‬لإلحتواء كحضن وهي سيدة تسلق األدراج إلى جبل الدخان الذي يصنعه‬ ‫بإيماءة من يده فوق النار‪.‬‬ ‫‪4‬‬ ‫ُ‬ ‫صدى‪.‬‬ ‫"كنت أسم ُع في حديثِك‬ ‫ً‬ ‫تهب‬ ‫لزمجرة من رياح بعيدة‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫س ُه ِ‬ ‫حيث‬ ‫ب وتأتي إلى‬ ‫على ال ُّ‬ ‫تبتدأ ُ المدنُ ‪ .‬مثل َ الفريس ِة‬ ‫تعوي‪ .‬ال‪ .‬ال َ‬ ‫الطرق‪.‬‬ ‫أنت‪ .‬بل‬ ‫ِ‬ ‫أنت َ‬ ‫َ‬ ‫فصول‬ ‫كنت نزيل ُ العواء‪ .‬عن َد‬ ‫ِ‬ ‫التحو ِل‪ .‬ولم ترت ِد معطفا ً يقي َك‬ ‫ّ‬ ‫العواصف‪ .‬ولم تنكسر عندَ درو ِ‬ ‫ب‬ ‫ُ‬ ‫صوت‬ ‫أي فصل أتى؟ كان‬ ‫السؤال ‪ُّ -‬‬ ‫انكسار الخري ِ‬ ‫األولي‪.‬‬ ‫ف إلى لون ِه‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫في العش ِ‬ ‫الفصول‬ ‫ب‪ .‬تساءل َ أي‬ ‫ِ‬ ‫األرض مثلُ َك‪.‬‬ ‫أتى‪ .‬ومضى‪ .‬إلى‬ ‫ِ‬ ‫ُّ‬ ‫التراب بالزمهرير‪.‬‬ ‫يشق‬ ‫كانَ شتا ٌء‪.‬‬ ‫َ‬ ‫وأنا أرتدي معطف َك وأرحل ُ عند هبو ِ‬ ‫ب‬ ‫شقوق التراب‪.‬‬ ‫المطر‪ .‬أقرأ ُ اللونَ في‬ ‫ِ‬ ‫العصافير إلى‬ ‫دليل ُ طريق في هجر ِة‬ ‫ِ‬ ‫قوس قزح أسودا‪.‬‬ ‫ِ‬


‫ُ‬ ‫حيث تبني لها منزال‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫حيث أنا اآلن في هجرتي‪.‬‬ ‫كي ألتقيك‪".‬‬ ‫ماض يوحي لنا بأنه بريّ نقي ط ّيب تصل رياح‬ ‫في حديث الصديق شيء من زمجرة الماضي البعيد‪ٍ .‬‬ ‫الدروب تعوي‪ .‬فكل تلك الرياح‬ ‫الماضي إلى المدن التي هي عكس البرية‪ .‬تلك الرياح تجعل في مسيرها‬ ‫َ‬ ‫مؤلمة‪.‬إنه عواء الطريق وليس عواء الرياح حين تهب‪ .‬عواء ألم ألنه عواء الفريسة‪.‬‬ ‫نعتقد لوهلة أن الصديق هو من يعوي ثم توضّح لنا الشاعرة أن الطريق هو الذي يعوي بفعل الرياح‪ ،‬رياح‬ ‫الماضي المؤلم‪ ،‬ال فرق هنا بين عواء الطريق وعواء الصديق‪ .‬لكن كلمة عواء ال يليق إطالقها على‬ ‫صديق‪ ،‬ولكن ألنها مفردة معبرة وتخدم المعنى ألصقت الشاعرة صفة العواء بالطريق‪ ،‬فعلت ذلك بلعبة‬ ‫فنيّة ذات داللة شاعرية‪ .‬هنا تظهر صنعة شعرية في المقطع لكنها صنعة لم تؤثر سلبا ً على التدفق العاطفي‬ ‫لموضوع الرثاء‪ .‬لكن كلما تقدمنا في القصيدة ي ّتضح أن الذات الواعية للشاعرة أصبحت أكثر وضوحا ً على‬ ‫نفي صف ِة العواء عن الصديق لتقول َ‬ ‫كنت نزيل العواء عند فصول التحول‪.‬‬ ‫قلتها‪ ،‬ثم تؤكد َ‬ ‫توحي لنا الجملة الشعرية بعواء الذئاب عند تحول القمر إلى بدر‪ ،‬الوقت الذي ُترتكب فيه كل الجرائم‬ ‫ويستفيق فيه مصاصو الدماء‪ ،‬حيث كل شيء يدعو إلى الخوف والعواء‪ .‬لم يكن الصديق جاهزاً لتحمل (‬ ‫فصول العواء) التي حدثت في حياته فال معطف لديه وال شيء يقيه البرد (مجازيا ً) ثم تنتقل إلى التعبير غير‬ ‫المجازي‪ ،‬ولم تنكسر عند دروب السؤال‪.‬‬ ‫هنا أصبحت الصورة واضحة فالصديق أصبح مقعداً وواجه تحوالً في حياته المعيشية وواجه ضنكا َ في‬ ‫العيش‪ ،‬فتتساءل ما هذا الفصل الذي أتى منه الخريف الذي ظهر في العشب األخضر الذي هو رمز الحياة‪.‬‬ ‫ليصبح التساؤل هو‪ :‬أي فصل أتى ومضى مثلك في األرض‪.‬‬ ‫فتختم الشاعرة مقطعها الشعري متساءلة لتأخذنا من قصة الصديق وتغير حاله أو فصوله إلى الفصل األخير‬ ‫من حياته وهو؛ رحيله ‪.‬‬ ‫هناك تساؤل ضمنيٌّ فالفصول تتبدل وال تموت فأي فصل رحل نهائيا ً مثلك إلى األرض‪.‬‬ ‫يبدو أن رحيل صديق الشاعرة كان في فصل الشتاء والبرد قارس يشقق التربة وعندما تمطر كانت تتدثر به‬ ‫( بذكراه ) وترحل ‪.‬‬ ‫كل هذا البرد كانت ذكراه هي الدفء الوحيد لها‪.‬‬ ‫كانت شقوق األرض التي عملها البرد القارس إشارات واضحة دالة للعصافير المهاجرة إلى قوس قزح‬ ‫أسود‪ .‬الشاعرة هي العصفورة المهاجرة وقوس قزح األسود هو داللة على عالم مشاعرها الحزينة التي‬ ‫رحلت إليها وال يصحبها إال ذكرى صديقها‪ .‬والتي لن تخرج منها بل سوف تبني منزالً دائما ً لها هناك‪ .‬ثم‬ ‫تقفل المقطع بالتصريح‪" :‬حيث أنا اآلن في هجرتي كي ألتقيك"‪.‬‬


‫القفلة هنا لم تخدم المعنى ألن المعنى ذو داللة واضحة كما أشرنا لكن بالقفلة تلك ظهرت ذات الشاعرة مرة‬ ‫أخرى ألنك مهما تكلمت عن الحزن ببالغة فال بد من التصريح بأنك حزين حزين‪ ،‬ومن حضر ندب أم‬ ‫إلبنها مثالً يستطيع أن يلتقط ذلك المشهد‪.‬‬

‫‪5‬‬ ‫َ‬ ‫القاتل في جذوع الشجر األول‪.‬‬ ‫"رحلت بعد أن نفذت رصاصة‬ ‫ِ‬ ‫وأنت َ‬ ‫َ‬ ‫كنت نزيل الحرائق في الحقول‪ .‬تعجن من غبار الفحم‬ ‫و"المشحرة" خبزاً ألفواه أوالدك الجائعين‪.‬‬ ‫نلتقي حيث تشاء السهوب‪.‬‬ ‫في رحاب األفق الوارف‪.‬‬ ‫حيث تشاء الرياح التي تحمل طبقات المدن المهاجرة‪.‬‬ ‫في مواكب عرش كرسيك الكسير‪ .‬حيث ال زلت‬ ‫تخبز البسمة الداكنة على الوجوه‪.‬‬ ‫للمقعدين‪.‬‬ ‫الذي يجرون كراسيهم المكسرة في وطن الشظايا‪.‬‬ ‫والحاقدين‪.‬‬ ‫وأنا‪ ،‬مثلك‪ ،‬مقعدة‪ .‬أجر متاعا ً فقيراً وأشالء قتلى‪.‬‬ ‫وصِ يفة عرشك في شرفات المدائن حيث يعلو الحريق‪.‬‬ ‫فوق السهوب‪.‬‬ ‫يعلو‪.‬‬ ‫صواري دخان‪.‬‬ ‫يلقي الرحال على النائمين‪.‬‬ ‫قوس قزح أسود‪.‬‬ ‫للجباه التي ما عرفت غير عبور‬ ‫المياه العميقة‪.‬‬ ‫فوق‪ .‬فوق‪ .‬يعلو‪.‬‬ ‫على الريح‪.‬‬ ‫نلتقي حيث تحملنا السهوب‪.‬‬ ‫في الهواء‪.‬‬ ‫بعد حين‪".‬‬


‫لم يمت الصديق خالل المعركة بل بعد أن استقرّ الرصاص القاتل في جذوع األشجار‪.‬‬ ‫غم أرضي ال أعلم ‪ .‬لكن سارة تشير إلى الرصاص القاتل في جذوع األشجار‪،‬‬ ‫قد يكون قد مات بقذيفة أو بلُ ٍ‬ ‫رصاص ال يقتل األحياء من البشر بل يقتل الحياة؛ كل الحياة التي أشارت إليها سارة بأنها األشجار الواقفة‬ ‫أبداً‪.‬‬ ‫إذن أصيب الصديق وهو يضع في مشحرته الفحم كي يقوت عائلته ومن المؤكد أنه كان يستخدم األشجار‬ ‫القتيلة التي أصابتها القذائف‪ .‬إنه صديق يحول األشجار الميتة إلى سبب آخر للحياة ليطعم عائلته‪.‬‬ ‫تعود ذات كاتبتنا لتظهر في النص حيث تلتقي صديقها في السهوب واألفق الوارف‪ ،‬وهو موقع أشبه بالجنة‬ ‫منه على األرض‪ .‬موطن اختارته رياح القدر‪ .‬حيث برحيل صديقها ترحل المدن معه في موكب تشييعه‬ ‫لكرسيه المكسور الذي هو عـَـرْ ضٌ ‪ ،‬إنه موكب جنائزي يليق بالملوك‪.‬‬ ‫" واالبتسامات الحزينة على وجوه (المقعدين) "‪ .‬في وطن هو كذلك مقعد بالشظايا والحقد‪.‬‬ ‫سؤال‪ :‬هل المشيعون أيضا ً مقعدون؟‬ ‫ليس بالضرورة‪ ،‬هنا تحول سارة اإلقعاد إلى إقعاد أشمل وأوسع إنه ذو معنى مجازي‪.‬‬ ‫فهذه هي سارة السليمة جسديا ً تصف نفسها بالمقعدة فهي ذات متاع فقير وأشالء‪ ،‬ورغم ذلك هي وصيفة‬ ‫عرشه الذي هو كرسيه المتنقل على منصة شرفات مدن الحرائق‪.‬‬ ‫تدخل ذاتها في النص بشفافية فهي وصيفة صديقها الميت والداللة جميلة وواضحة‪.‬‬ ‫والحريق يعلو فوق المدن والدخان يصل إلى السهوب حين يمكن للغافلين النائمين عما يحدث أن يروه‪.‬‬ ‫إن الجباه دليل الكرامة ‪-‬الجباه التي خاضت أعماق الحياة‪ -‬نصيبها هوقوس قزح أسود قاتم ال ألوان لألمل‬ ‫فيه‪.‬‬ ‫‪6‬‬ ‫"أنت َ‬ ‫َ‬ ‫كنت شاعر هذه األرض‪.‬‬ ‫ً‬ ‫كلمة واحدة‪.‬‬ ‫ولم تكتب‬ ‫ولم تنتظر عربات القطارات المسافرة‪.‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫سافرت على تراب الحدائق‪.‬‬ ‫أنت‬ ‫مداوراً عجلة كرسيك الذي تصطك مفاصله‪.‬‬ ‫مثل كواكب تتفكك‪.‬‬ ‫وما انتظرت َك غير هذه العربات‪.‬‬


‫وكان كرسيك دائما ً األخير‪.‬‬ ‫تنظر إلى الخلف‪.‬‬ ‫إلى الزنود القوية‪ .‬واألوجه الباسمة‪.‬‬ ‫ترشرش ماء الورد‪ .‬وزهر البرتقال‪.‬‬ ‫على المقعدين‪".‬‬ ‫صديق سارة ملتصق باألرض‪ .‬شاعر دون أن يكتب شعراً‪ ،‬عبارة تختصر عالقته الوثيقة باألرض‪ ...‬فلم‬ ‫يرحل أو يهاجر في عربات القطارات المسافرة‪ ،‬بل تن ّقل على تراب األرض الخضراء وهو على كرسيه‬ ‫ب يتفكك‪ .‬صورة واضحة الجمال ورائعة‪ .‬فعالقة الصديق وثيقة بهكذا‬ ‫المهلهل التي تصطك مفاصله ككوك ٍ‬ ‫عربات‪ ،‬وكرسيه هو آخر عربة ركبها‪ .‬يبدو أنه نفس الكرسي‪ /‬العرش في الموكب الجنائزي الذي يشيعه‬ ‫المقعدون وهو صانع ماء الورد يرشه على المقعدين المشيعين له‪.‬‬ ‫هنا تقلب الشاعرة الصورة فالميت هو من يرش ماء الورد على المشيعين وليس العكس كما يحدث عادة في‬ ‫الجنائز‪ .‬لكأنه بموته يشيع أيضا ً مش ّيعيه المقعدين‪ ،‬فصديق سارة رمز يموت بموته كل شي يرمز له‪ .‬أو أنه‬ ‫صديق ذو قيمة عاطفية كبيرة لها بحيث مات كل شيء بموته ومن ضمنهم المشيعون‪.‬‬ ‫‪7‬‬ ‫"أس َق َطت َك السما ُء من حساباتِها‪.‬‬ ‫كان يوما ً ماطراً‬ ‫َ‬ ‫فهويت أمامي‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ودخلت‪ .‬بسم ُت َك تقتح ُم دخانَ السجائر‪.‬‬ ‫َ‬ ‫نشرب القهو َة‪.‬‬ ‫جلست امامي‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫أذكر طع َمها الحاد‪ .‬ليس مراً‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫هي المياهُ تجري مرير ًة على األسفلت‪.‬‬ ‫َ‬ ‫األرض منتهى الخلق‪.‬‬ ‫كأنها‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫رسالة األنبياء‪.‬‬ ‫وهذا المقهى‬ ‫َ‬ ‫سوداء! ال بأس‪.‬‬ ‫قلت لي‪ :‬نرتقي للمياه‪.‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ذات مساء ماطر‪.‬‬ ‫كانَ‬ ‫الضفادع تقف ُز في البركِ الموحل ِة‪.‬‬ ‫تتراءى لي‬ ‫ُ‬ ‫أذكر أني ُ‬ ‫أبيض مثل غيم قديم‪.‬‬ ‫كنت مالكا ً‪.‬‬ ‫َ‬ ‫أبحر على السطح‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫غاب عني مثل َك اآلن‪.‬‬ ‫أذكر ثوبي‪ .‬الذي‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ردائي الجدي ُد مثل ُ كرسي َك‪ .‬للمقعدين‪.‬‬ ‫َ‬ ‫لو ُن ُه يرتع ُد أما َم أبوا ِ‬ ‫ب المقاهي التي أقفلت‪.‬‬ ‫مثلُ َك اآلنَ أنا‪ .‬مقعدةٌ‬ ‫أبحر في الماءِ الذي َّ‬ ‫شق در َب ُه في الصخر‪.‬‬ ‫ُ‬


‫مثل ُ بسمتِ َك بطعمِها الحاد‪.‬‬ ‫َت َر َكت لو َنها‪ .‬مثل َ ثوب َي الجديد‪ .‬وه َ​َوت في طريقِها إلى األرض‪".‬‬

‫لو كان صديق سارة غير مقعد في كرسيه المكسور لك ّنا قلنا أنه كان واقفا ً ثم جلس أمامها‪ .‬لكنه جالس دوما ً‬ ‫ألنه مقعد في كرسيه المكسور‪.‬‬ ‫رغم ذلك فهو قد هوى أمامها‪ ،‬يبدو أن السماء حين أسقطته من حساباتها ومدت في عمره المقعد ورمت به‬ ‫إليها‪ .‬فهوى أمامها‪.‬‬ ‫ثم جلسا في يوم ماطر متقابلين هو يدخن وهما يشربان القهوة الثقيلة الحادة الطعم رغم أنها محالة وليست‬ ‫مرة ‪ .‬هنا وصف‪ ،‬لكنه يمهد لحالة أخرى فالمياه مرة الطعم وهي تسيل على اإلسفلت األسود الصلب القاحل‬ ‫بال حياة‪ ،‬أو هي مياه سوداء –القهوة‪ -‬حادة وهي تسيل إلى إسفلت داخلنا أو في جوفنا‪.‬‬ ‫إن عدم حصر المعنى في بع ٍد واح ٍد هو أجمل ما يهدينا إياه الشعر‪ ،‬إنه إطالق جميل للمعنى‪.‬‬ ‫إنها جلسة في مقهانا الخاص حيث تنزل أو تكتب رسائل األنبياء إنه المقهى الوحي المقدس الذي يرسل‬ ‫رسائله إلى األرض‪ ،‬أكمل وآخر الخلق‪.‬‬ ‫ماذا أقول بعدها! تتدفق سارة برمزية موحية كتدفق الماء الذي يعرف طريقه عن ظهر حب‪.‬‬ ‫المساء ممطر‪ ،‬وهي ال ترى بل يتراءى لها طقس الشتاء الخارجي‪ ،‬فضفادع تنق وبرك موحلة‪ ،‬مالك وغيم‬ ‫أبيض قديم وهي تبحر كمالك على السطح‪.‬‬ ‫هنا تظهر الذات الواعية أكثر عند سارة دون أن تفقد زمام التدفق الشعري في بقية المقطع‪.‬‬ ‫وهذا يُحسب لها جداً‪ .‬فسارة تعقد مقارنة بين ثوبها األبيض الذي كانت فيه كالمالك والذي غاب اليوم بفعل‬ ‫الزمن‪ .‬وبين غياب صديقها اآلن‪.‬‬ ‫مقارنة بين ثوبها الجديد وكرسي صديقها الجديد‪.‬‬ ‫أجمل ما في المقارنة أنها تخبرنا أن ليس كل جديد جميل أو خير‪ .‬هي مقارنة للمفارقة وليس للتشبيه‪.‬‬ ‫هو ثوب مثل كرسيه‪ .‬ثم تفاجئك سارة بكلمة ‪ ( :‬للمقعدين)‪ .‬إذن إنه ثوب جديد للمقعدين غير الثوب األبيض‬ ‫الخاص بالمالئكة‪ .‬حيث تفقد سارة بهجة الثوب الجديد‪ .‬التي ال يمكن لها أن تحاكي ثوبها القديم األبيض‬ ‫حيث كان صديقها حيا ً أو سليما ً معافى‪.‬‬ ‫ثوب ذو لون ما‪ ،‬يرتجف حزناً‪ ،‬خوفاً‪ ،‬ألما ً‪ ..‬أمام المقهى أو المكان الذي كانا يشربان فيه القهوة والذي أقفل‬ ‫برحيله‪ ،‬هذا المكان ال يعني شيئا ً بدون صديقها‪.‬‬


‫بدأت سارة تخبرنا عن نتائج موت صديقها دون أن تفقد تدفقها الشعري الجميل‪ .‬فهي تشق دربها في الحياة‬ ‫وهي مقعدة مثله‪ .‬بل مثل بسمته بطعمها الحاد‪ .‬البسمة التي تخلت عن إشراقها كما تخلى ثوبها الجديد عن‬ ‫لونه‪ ،‬بسمة سقطت نحو األرض ربما في نظرة وداع إلى صديقها‪ .‬أو ألنها ابتسامة منكسرة ‪.‬‬

‫‪ - 3‬رغم أن سارة أكثرت من األفعال الحسية ‪( :‬تحمل‪ ،‬صلبتك‪ ،‬نشرب‪ .‬أنحت‪ ،‬أتلو‪ ،‬حذفك‪ ،‬ألعب‪،‬‬ ‫أجلس‪ ،‬أكسر‪ ،‬أرمي‪ ،‬تسكن‪ ).‬إال أنها استخدمت عدداً ال بأس منه من تلك المفردات بطريقة‬ ‫موحية ضمن التراكيب مثل‪" :‬لم تنكسر عند دروب السؤال"‪ ،‬فهو انكسا ٌر معنوي‪.‬‬ ‫"نلتقي‪ ..‬حيث تشاء الرياح التي تحمل طبقات المدن المهاجرة"‪.‬‬ ‫" يلقي الرحال على النائمين"‪.‬‬ ‫فخرجت المفردة من معناها القاموسي ل ُتنشئ رابطا ً بين الشاعر والنص والمتلقي‪ .‬وهذا طبعا ً يحسبُ لها‪.‬‬ ‫مسار واحد تتداخل فيه مشاعر النص لتتحرك باتجاه لحظة‬ ‫‪ - 2‬إن نص سارة بالعموم يتحرك ضمن‬ ‫ٍ‬ ‫شعرية صافية‪.‬‬ ‫فال تبدو سارة أنها تستنفر طاقاتها العقلية رغم أن ذاتها الواعية تنبثق من ال ّنص في أكثر من موضع‬ ‫أشرنا إليه‪ .‬فتبدو أنها ال تحاول أن تصقل قصيدتها باستنفار طاقاتها العقلية أو أنها بذكاء استطاعت‬ ‫أن تخفي ذلك مما أعطى النص عفوية تتناسب مع موضوع الرثاء‪ ،‬فأغنى ذلك العفوي َة التي يتدفق‬ ‫بها الحزن وهذا جميل‪.‬‬ ‫‪ - 1‬تكرّ ر الكاتبة صف َة الكرسي بأنه مكسور مع أن صفة الكرسي بأنه مدولب فهو للمقعدين‪ ،‬تبدو‬ ‫أكثر رفقا ً وتجعلنا متضامنين أكثر مع الصديق الراحل‪ .‬لكن يبدو أن سارة وجدت في مفردة "‬ ‫المكسور" صفة لنفسها المكسورة هي‪ .‬فراحت ترددها في كامل النص‪ .‬فظهرت ذات الشاعرة‬ ‫محتجبة بذكاء‪.‬‬ ‫‪ - 4‬اإليقاع ‪:‬‬ ‫أ ‪ -‬اعتمدت سارة قصيدة النثر أو النثرية في نصها الشعري‪.‬لكن من حيث اإليقاع الخارجي‬ ‫وتحديداً الوزن العروضي نجد أن مقطعها األول يكاد أن يكون موزونا ً عروضيا ً على تفعيلة "‬ ‫فاعالتن " وما يلحقها من جوازات مثل فعلن‪ .‬مما أغنى مطلع قصيدتها بالموسيقى الخارجية‬ ‫فكان افتتاح جيد للنص الشعري بالمجمل‪.‬‬ ‫ب ‪-‬إن اإليقاع الكيفي الذي يقوم على النبرة في الكلمة يغيب في مقطعها األول ويح ّل محلّه االنسياب‬ ‫العادي للجملة الشعرية‪ ،‬أما على مستوى التنغيم الذي يحدد أصوات الجمل بانحدارها وصعودها‬ ‫فنجد أن الشاعرة تبدأ مقطعها بجملة طويلة تنتهي بنقطة كعالمة ترقيم‪ .‬وكأنها "آه" طويلة‬ ‫ترفض أن تقف عند أية عالمة ترقيم أخرى غير النقطة‪ .‬ينطبق ذلك على باقي المقطع‪.‬‬


‫قامت سارة في جملتها‪ ( :‬لم تكن بسمتك إال كفنا وكناً‪ )....،‬بوضع الفاصلة بعد " كنـــّا " وليس قبلها‪ ،‬وكأنها‬ ‫تؤكد على الجناس اللفظي بين الكلمات ( تكن‪ ،‬كفناً‪ ،‬ك ّنا ) ك ِجناس لفظي خدم اإليقاع الخارجي للقصيدة‪ .‬ثم‬ ‫كأنها أرادت بوضع الفاصلة هنا أن تنضم بسرعة إلى صديقها الذي عبرت عنه بابتسامته‪ ،‬كأنها تفضّل‬ ‫اإلنضمام البتسامته أكثر من انضمامها لجلسة القهوة تعبيراً عن اللهفة‪.‬‬ ‫ج‪ -‬لم يكن للفراغ دو ٌر في تحقيق اإليقاع الداخلي بل كان الدور لعالمات الترقيم‪.‬‬ ‫د‪ -‬تقوم سارة في المقطع الثاني بإغناء اإليقاع على المستوى الصوتي باستخدام التكرار ( حذفك هذا اليوم‬ ‫‪ ...‬حذفك) ( تعال ‪ .‬تعال‪. )....‬‬ ‫وعلى المستوى الداللي للكلمة باستخدام الطباق ( ربيع‪ ،‬خريف) ‪.‬‬ ‫إن الجملة الشعرية أو اآله الطويلة في المقطع األول تتحول في المقطع الثاني إلى نبرات متتالية لجمل‬ ‫قصيرة ‪( :‬أجلس على كرسيك‪ ...‬أكسر المزهرية‪ ، ...‬أرمي بباقة الورد‪ )....‬ليرتفع إيقاع القصيدة الخارجي‬ ‫والداخلي عما كان عنه في المقطع األول‪ ،‬ثم قفلت المقطع موسيقيا ً وليس بالغيا ً بجملة شعرية تتهادى ‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫اللون المبعثر ِة‪.).‬‬ ‫إشارات‬ ‫ح تسك ُن ُه‬ ‫(نوا ٌ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫أضعت) عالما ً "‪ ...‬وبين‬ ‫هـ ‪ -‬تستخدم سارة ‪-‬في المقطع الثالث‪ -‬على المستوى الداللي طباق يحدث بين "(‬ ‫ْ‬ ‫قصدت بها ( حل ‪ ،‬وجد)‬ ‫" (أخذ) مكانك الهواء‪.)...‬مع مالحظة اإلنزياح في معنى كلمة أخذ والتي‬ ‫المناقضة لكلمة أضعت‪ ،‬وكذلك اإلنزياح في داللة ( وأطحن قمح البيادر‪ ...‬وأعجنه) الذي يذكرنا بطين‬ ‫الخلق‪.‬‬ ‫ثم تقول‪ ( :‬من أيّ قصيدة ذاهبة خرجت) هنا "خرجت" بمعنى أتيت أو طلعت فهو أتى من قصيدة ذاهبة‪ ،‬إنه‬ ‫طباق آخر يظهر بعد أخذ االنزياح الداللي للمفردة‪.‬‬ ‫يتكرر ذلك في مثل‪ :‬الخلق‪ /‬الموت ‪ ،‬سفر‪/‬أالقيك‪.‬‬ ‫في هذا المقطع تح ّقق سارة إيقاعها الداخلي باختيار األلفاظ واإلنسجام بينها بشكل جيد سواء من حيث‬ ‫الصوت أو من حيث الدالالت التي تجرها وراءها‪.‬‬ ‫ز‪ -‬في أمكنة أخرى من القصيدة تحقق سارة إيقاعها الداخلي بنفس الطريقة لكنها أكثر داللة‪ ،‬كمثال عن‬ ‫الطباق الذي حققته في المعنى أكثر منه في اللفظة‪ ( :‬وزفرت آخر أنفاسك مثل ركام‪ /‬كم براكين هامدة تنفث‬ ‫سحب الغبار)‪ .‬هنا طباق داللي بين البراكين التي ترمز إلى اإلنفجار والثورة وبين هامدة‪ ،‬إذن براكين‬ ‫هامدة!!!‬ ‫لكنها ليست هامدة بل إنها تنفث سحب الغبار فتأخذنا الداللة إلى مدى الضغط الهائل داخل البركان الذي يعبر‬ ‫عنه الدخان المنفوث‪.‬‬ ‫األرض في دور ِة المقعدين) هذا‬ ‫انحدار إلى‬ ‫زفير‬ ‫ح‪ -‬تقول في المقطع الثاني ‪ ( :‬وفصل شهيق ‪ ...‬وفصل‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫الزفير المنحدر إلى األرض يغنيه من حيث اإليقاع حركات الكسر الممدود والطويل في الجملة الشعرية ‪.‬‬


‫ثم تقول‪ ( :‬إني لست آلهة خلق وموت) وهنا كسر آخر فأنا ضعيفة ليس بيدي قصة الخلق والموت وهنا‬ ‫أيضا ً طباق بين الخلق والموت‪.‬‬ ‫و‪ -‬ال يمكننا تتبّع اإليقاع جملة جملة وإال طالت القراءة‪ .‬ولكن عموما ً اعتمدت سارة مايلي ‪:‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪2‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪4‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪6‬‬

‫ لم ُيع ِ​ِر النص أهمية كبيرة للفراغ أو البياض في تقسيم اإليقاع الداخلي للقصيدة‪ .‬فكان حزنا ً يريد أن‬‫يقول وينوح ال أن يبكي بصمت المتعبين المرهقين‪.‬‬ ‫ولم يكن يسمح ن َف َسها الشعري في أن تستخدم الفراغ في التعبير عن حزنها الدفاق فكانت أقرب إلى‬ ‫العفوية وأبعد عن الصنعة والتكلف‪.‬‬ ‫ تراوحت جملتها الشعرية بين الطويلة والقصيرة في تنغيم يخدم الحالة الشعورية بل يعبر عنها‬‫بصدق ويغني اإليقاع كثيراً ‪.‬‬ ‫ استخدمت طباق الكلمات وطباق الداللة كما أشرنا سابقا ً‪ .‬ونزيد لنقول عن جملتها‪ ( :‬الزنود القوية‬‫واألوجه الباسمة ) وليس األوجه العابسة التي تتوافق من حيث المعنى مع الزنود القوية‪ .‬إذن هو‬ ‫طباق داللي بين الزنود القوية وبين الوجوه الباسمة‪.‬‬ ‫ استخدت جناس التكرار‪ :‬تعال ‪ .‬تعال – حذفك ‪...‬حذفك – فوق فوق‪.‬‬‫ إن التكثيف الموسيقي تحقق عند سارة عن طريق عالقة الكلمات ببعضها وعن طريق دالالت الكلمة‬‫والجملة الشعرية‪ ،‬فكان تكثيفا ً َح ّق لها أن تكون قصيدة نثرية تعالج موضوعا ً صعبا ً هو الرثاء الذي‬ ‫احتكرته قصيدة العمود ‪.‬‬ ‫ بقي أن نذكر أن سارة التي تعيش وراء البحار تعلمت اللغة العربية بجهد ذاتي وهذا إبداع ال يمكن‬‫إغفاله فيما يتعلق بنتاجها الشعري اإلبداعي‪.‬‬


‫دراسة حول الشـــعر العــربــي‬ ‫القصيدة العمودية – قصيدة التفعيلة – الشعر الحر‬ ‫م‪.‬حسن عبدا هلل إبراهيم‬

‫كان الوصف والمديح والغزل من أهم مواضيع الشعر العربي العمودي وكثي ار ما ض ِّمـن الغزل في مطالع قصائد الوصف والمديح كوقوف‬ ‫على األطالل وكثي ار أيضا ما كان يشكل معظم جسد القصيدة العمودية حتى ولو كان موضوعها األساسي ال يمت إلى األطالل بصلة‬ ‫‪.‬وبسبب أن األحبة لم يقلعوا بعد عن عادة الموت تراجعت قصائد المديح لصالح الرثاء ‪ ,‬وظل الوصف حاض ار سواء في وصف الممدوح‬ ‫أو الحبيبة لذا سوف آخذ موضوع الوصف هذا كمثال أساس‪.‬‬ ‫في عصر لم توجد فيه بعد محطات الذاعة المسموعة والقنوات المصورة والصحف المكتوبة كان الخبر بحاجة إلى وسيلة انتقال هي‬ ‫المسافرين‪ ,‬ووسلية تخليد هي الشاعر الناطق بلسان القبيلة ومنبرها العالمي فاحتفل العرب متفاخرين بوالدة شاعر في القبيلة ‪ ,‬حيث‬ ‫أخذ الشاعر دور العالمي‪ ,‬فالشاعر األقوى يمتلك لقبيلته قناة مسموعة أوسع انتشا ار ‪ ,‬من هنا كانت كلمة شاعر ضيقة ال يمكنها أن‬ ‫تعبر عن كل المهام المنوطة بالشاعر كما أنها لم تكن دقيقة فليس ما يكتبه الشاعر كان دوما متعلقا بشعوره الذاتي بل كان يمليه‬


‫عليه انتماؤه القبلي والواجبات الملقاة عليه منذ أول احتفال بوالدته الشعرية ‪ .‬فهو (الكامي ار) التي تلتقط صور المعارك فتصفها من‬ ‫الخارج‪ ,‬صحيح أنه يقوم بذلك بنوع من الفخر باالنتماء لكنه ال يختلف عن كامي ار الصحفي الذي يقوم بالتقاط المشاهد التي تتفق مع‬ ‫اتجاه الوكالة الصحافية التي يعمل لديها‪.‬‬ ‫وما أنا إال من غزيـة إن غو ْت‬ ‫شد غزية ِ‬ ‫أرشد‬ ‫غويت وان ت ْر ْ‬ ‫حتى المديح اعتمد على المبالغة في تعظيم شأن الممدوح وكانت الغرابة والدهاش أهم من الصدق ‪ ,‬كما في قول أبي النواس _ في‬ ‫عجز البيت ‪ " : -‬وتخافك النطف التي لم تخل ِ‬ ‫ق"‬ ‫حتى في قول عنترة متغزال‪:‬‬ ‫وددت تقبيل السيوف ألنها‬ ‫ِ‬ ‫المتبسم‬ ‫لمعت كبارق ثغرك‬ ‫نجد هنا الرغبة واضحة في المجيء بصورة جديدة مدهشة ‪ ,‬فال يمكن لفارس في المعركة وهو يجندل الفرسان أن تنتابه الرغبة في‬ ‫تقبيل السيوف ألن لمعانها كلمعان ثغر الحبيبة‪ ,‬نستطيع أن نتفهم كيف يرى العاشق كل الكون جميال وأن الصحراء مرج أخضر فقط‬ ‫ألن حبيبته تسكن فيها ‪ ,‬لكن هذه المبالغة الجميلة والصورة األخاذة ال تجعلنا نصدق أن ذلك الشعور قد راود حقا عنترة وهو في خضم‬ ‫المعركة‪.‬‬ ‫تبرر له أن يقول بقالب شعري أشياء ال صلة لها بشعوره‬ ‫إال أن الواجبات الجمة التي كانت ملقاة على عاتق الشاعر عموما كانت ِّ‬ ‫الذاتي ‪.‬‬ ‫إضافة إلى ذلك فبسبب البنية العروضية غير المرنة للشعر العمودي يضطر الشاعر إلى استخدام جمل شعرية بهدف الحشو وذلك لكي‬ ‫يكمل الجملة العروضية ‪ ,‬أشبه ذلك بأن يكون لديك مقطوعة موسيقية جاهزة اسمها ( البحر الفالني) وال يطلب منك فقط أن تؤلف‬ ‫جميع أغانيك عليها بل وأن تراعي في التأليف الطول الثابت للجمل الموسيقية ‪ ,‬أما في شعر التفعيلة فإن الموسيقى تمشي مع النص‬ ‫الشعري جنبا إلى جنب وال تفرض عليه في التأليف طول الجملة الشعرية ‪ ,‬بل أن الجملة الشعرية المقفاة يمكن لها أن تكتمل مع‬ ‫اكتمال التفعيلة الواحدة أو قبل اكتمالها ويمكن أن تغيب القافية طويال وأن تدور السطور الشعرية حتى ليفوق طولها طول بيت شعري‬ ‫عمودي على البحر الطويل بل أزيد بكثير‪ .‬فبحور العروض تملي عليك أنفاسك الشعرية أما قصيدة التفعيلة والشعر الحر فهما أكثر‬ ‫رحابة وأوسع صد ار ‪.‬‬ ‫واذا كان شعر التفعيلة غريبا عن الجزيرة العربية فهو ليس كذلك في العراق وبالد الشام على أقل تقدير‪.‬‬


‫ومدن‬ ‫تظهر العراقة هنا في أنه بالرغم من أن مدنا عريقة في الموسيقى مثل حلب غنـت (أمان‪ ،‬أمان) متأثرة باألتراك بينما بقي الريف‬ ‫ٌ‬ ‫أخرى يغني الدلعونا والميجنا والليـا والسكابا والعتابا التي ينتهي كل شطر رابع فيها من ألف وباء ساكنة وتختلف من حيث القافية عن‬

‫األشطر الثالثة التي تسبقها وهي بذلك سبقت من حيث الشكل قصيدة التفعيلة التي كتبها بدر شاكر السياب ونازك المالئكة‪ ,‬على الرغم‬ ‫من االختالف حول أسبقية الواحد على اآلخر‪.‬‬ ‫كان هذا اللون الشعبي من الغناء هو أساس نشوء التربيع والتخميس في الشعر العمودي وذلك أبان الدولة العربية المت ارمية األطراف‬ ‫واطالعها على تراث شعبي غني يختلف عن الشعر الشعبي الذي عرفته الجزيرة العربية والذي يقتصر على الشعر العمودي العامي‬ ‫والمستخدم إلى اليوم باسم‬

‫( الشعر النبطي)‪,‬‬

‫فالخلفية الثقافية والتاريخية والحضارية عموما لألقاليم العربية فيها من االختالف ما يجعل من أمر ما مقبوال هنا ومستهجنا هناك‪ .‬قال‬ ‫لحن‪ ،‬فقال له ‪ ( :‬إنني خلقت قبل العروض) والشعر العربي القديم مليء بأبيات شعرية‬ ‫أحدهم ألبي العتاهية أن بيت شعره هذا فيه ٌ‬ ‫لشعراء كبار ال تستطيع أن تنسبها لسم بحر معين لكننا نجلُّـها وبنفس الوقت ال نستطيع أن نجل قصيدة تفعيلة سليمة عروضيا ‪,‬‬ ‫فنحن اليوم نقف مع العروض أكثر من أهل العروض‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫بعد اختراع آلة التصوير وخاصة الملونة منها تراجعت مدارس الرسم التصويرية حتى تالشت‪ ،‬ألن ريشة اآللة كانت أدق‬

‫وأرشق في التقاط اللحظة‪ .‬كذلك عندما تولت وسائل العالم األخرى مسؤولية نقل الحدث والتسويق له أو ضده تقلصت مهام‬ ‫الشاعر وانكفأ إلى واجبه األوحد وهو الشعر المعبر عن ذاته الداخلية والتي ينطلق منها إلى الخارج فلم تعد كلمة شاعر‬

‫ضيقة عليه بل أصبحت أدق وصفا له‪ ،‬بل إن المدنية الحديثة زادت من سرعة إنكفاء الشاعر إلى ذاته وسؤاله عن معنى‬ ‫كرد فعل على الحركات الشعوبية آنذاك‪.‬‬ ‫وجوده فكتب قصائده انطالقا من ال نتماء إلى الذات بدل القبيلة أو بدال من الكتابة ِّ‬

‫فالشكالية اليوم ليست كما تظهر في أنها إشكالية بين الشعر العمودي والتفعيلة والشعر الحر‪ ،‬المشكلة أن الشعر العمودي اليوم‬ ‫ما زال يتكلم إما عن مواضيع األمس واما عن مواضيع اليوم متناسيا أن الكامي ار وغيرها من وسائل العالم قد تم اختراعها‪.‬‬ ‫شعر وليست نظم‪.‬إضافة إلى أن القصيدة العمودية اليوم‬ ‫ما زال الشاعر العمودي يلقي قصيدته دون أن نراه فيها لنقول عنها أنها ٌ‬ ‫ما زالت تستخدم نفس طرق البالغة القديمة من تقديم وتأخير وجناس وألفاظ جزلة فإذا كان الخطب جلل استخدمت الطاء والجيم‬

‫وقوافي الراء والقاف واذا كان الموضوع وجدانيا استخدمت السين والميم وهكذا‪ ،‬كل ذلك في قالب معدني ثابت من العروض ‪.‬‬ ‫ال يمكن ألحد أن يحتكر طرق التعبير وأن يصادر محاولة البحث عن ينابيع أخرى في اللغة طالما أنها كائن حي تموت بعض‬ ‫مفرداته لتولد أخرى‪ ،‬ويتغير مدلول الكلمة عما كانت عليه‪ ،‬فالسيارة قديما كانت تعني القافلة التي تسير(ووجدته سيارة في‬ ‫البئر)(سورة يوسف)‪ ،‬أما اليوم فهي تعني بكل وضوح عربة ميكانيكية تسير على أربع عجالت ال أكثر وال أقل‪.‬‬ ‫ ثم أنه جميعنا يعرف أن البحر الطويل ‪ -‬وقبل اكتشاف الفراهيدي للعروض – استنبطه العرب أثناء التأليف وهم على ظهور‬‫البل يحدونها به في مسيرهم فجاء البحر يتفق إيقاعا مع مشيتها‪ ،‬وكذلك فإن بحر الخبب أتى اسمه من مشية الخيل حين تخب‬ ‫خبا‪ .‬أي أن العرب كانت تكتب على أوزان تتفق مع تواتر وتوتر حيواناتها التي هي جزء هام جدا من بيئتها‪.‬فمن األ ْولى اليوم أن‬


‫يكتب الشاعر وفقا لتوتره الذاتي الذي صاغته بيئته الجديدة والمدنية الحديثة من أن يكتب وفقا لتوتر مواشيه التي هجرها منذ مدة‬ ‫طويلة‪ .‬بهذا كان العرب القدماء أكثر منا انسجاما واخالصا لبيئتهم التي عاشوا فيها وتعايشوا معها‪.‬‬ ‫نظم‪ ،‬بينما حين تسقط هذه الشاعرية عن شعر التفعيلة أو‬ ‫المفارقة أنه حين تسقط الشاعرية عن الشعر العمودي نقول عنه أنه ٌ‬ ‫الشعر الحر بشكل خاص نقول أنهما خراب‪ ،‬ومؤامرة على التراث ووباء وافد إلينا ‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫تكن كل االحترام‬ ‫ولدت وهي ُّ‬ ‫على الرغم من أن قصيدة التفعيلة لم تكن ثورة على القديم كما نظن بل كانت تغيي ار طفيفا‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫والتبجيل للشعر العمودي‪ ،‬يكفي لدراك ذلك مراجعة ديوان نازك المالئكة حتى تتملكنا الدهشة لهذا الهجوم الشرس الذي‬ ‫القته هي وبدر شاكر السياب‪ ،‬دون أن ننسى أن قصيدة التفعيلة آنذاك لم تكن تمتلك نفس الجرأة التي تمتلكها اليوم‪.‬‬

‫لكن أولياء الشعر العمودي كانوا آباء يريدون أبناء نسخة طبق األصل عنهم ولم يكن هذا األب متساهال في الرجوع خطوة إلى‬ ‫الوراء حين كبر األبناء‪ ،‬كان حقا الرأس الذي رفض أن يشيب رغم تقدمه في السن ‪.‬‬ ‫بقي كل من الوزن والقافية في الشعر العمودي والتفعيلة يلعبان دور المنقذ للسيء من القصائد بحيث أصبح بالمكان القول عن‬ ‫قصيدة ما‪ :‬إنها لحن جميل لكن معنى القصيدة ‪ /‬األغنية غير موفق‪ .‬واذا كانت القصيدة المعنية تلقى من على المنبر فإن‬ ‫استعراضية القصيدة العمودية خصوصا تشغلنا عن التقاط ِقي ِمها‪ ،‬فلم يك ْن خلو هذه القصيدة من القيم الالزمة يشكل لها فضيحة‬ ‫تذكر مع أنها تلقى في العراء أمام جمع غفير‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫وردت في الدوريات المحلية في سورية آراء اعتبرت "أن قصيدة النثر هي طفرة لن تؤسس الستمرارية أو تطور وانما هي‬ ‫محاولة للخروج عن المألوف"‬

‫وأنا ال أستطيع أن آخذ الحدث مبتو ار عن روابطه الجغرافية واالجتماعية‪ ،‬لذلك علينا أن نعود بذاكرتنا إلى قصة الشاعر‬ ‫األعرابي ( علي بن الجهم ) حين قال مادحا أبو جعفر المنصور ‪:‬‬

‫ِ‬ ‫للعهد‬ ‫وانك كالكلب في حفاظك‬

‫ِ‬ ‫الخطوب‬ ‫وكالتيس في قراع‬

‫فثارت عليه الحاشية لكن المنصور طلب أن يلقى الشاعر بين الجواري وفي حياة المدينة بعدها قال قصيدته العذبة الشهيرة ‪:‬‬ ‫عيون المها بين الرصافة والجسر‬ ‫جلبن الهوى من حيث أدري وال أدري‪.‬‬ ‫وقال المنصور عبارته الشهيرة أيضا‪) :‬صحيح أن للبيئة تأثير على العبقرية)‪.‬‬ ‫ي الحمراء‬ ‫حين دخل العرب األندلس دخلوا بالدا تفوق بالدهم خضرة وماء ووجها حسنا فخلفوا فيها تحفا معمارية مثل قصر ْ‬

‫وغرناطة اللذين لم يبنوا لهما مثيل في أية بقعة عربية حتى في بالد الشام‪ ،‬وخلفوا شع ار سمي بالموشحات خرج على رتابة الشعر‬


‫العمودي فحدث لهم ما حدث لصاحبنا الشاعر ( علي بن الجهم ) حتى أنهم كتبوا قصائد فيها الكثير من المفردات األندلسية دون‬ ‫أن تخطر لهم فكرة المؤامرة‪ ،‬هذه الفكرة التي ال تولد إال من واقع الشعور بالضعف‪.‬‬ ‫شت ديـه‬ ‫أ ْلب ِديـه أ ْ‬

‫ديـه ذا العـ ْنصـر حقا‬

‫ـج‬ ‫ِب ْ‬ ‫شـترى موا المدب ْ‬

‫وأشـق الرمـح شقـا‬

‫مثلما ولد هذا الفن الجديد في البيئة الجديدة تراجع هذا الفن عند خروج العرب من األندلس إلى بيئتهم السابقة‪ ،‬ولم يكن سبب‬ ‫ـلعت من تربتها األم أما الشعر العمودي بقي في‬ ‫تراجع الموشحات هو في كونها طفرة على الشعر العمودي‪ .‬إن الموشحات اقت ْ‬ ‫تربته التي ولد فيها‪.‬‬ ‫ صودر كتاب ( الشعر الجاهلي) لطه حسين ألنه حاول أن يق أر التراث حسب منهج ديكارت الفلسفي في أن يبدأ الباحث بحثه‬‫متجردا تجردا كامال من أفكاره المسبقة عنه‪ .‬فإلى اليوم ما زال التراث – ومن ضمنه الشعر الذي هو ديوان العرب‪ -‬يشكل في‬ ‫الوعينا طوطما غير قابل للمس‪ ،‬بينما كانت العرب تأكل أصنامها عند الحاجة أو تحطمها رغم أنها مستوردة استيرادا من بالد‬ ‫الشام‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫أما قصيدة النثر أو الشعر الحر فلكونها ال تمخر بحر العروض وال تقف في موانئ القافية ظن البعض أن عليها أن تبرهن‬

‫شاعريتها‪ ،‬وأسقطها البعض اآلخر من كونها شع ار‪ ،‬بينما كان األجدر بنا أن نحاول أن نكتشف سر هذه الشاعرية في‬

‫قصيدة تجرأت علينا وخلعت مالبس الشعر التقليدية وأصرت على كونها شع ار‪ .‬لن أقول كما قال البعض أن شاعرية الشعر‬

‫الحر تكمن في الموسيقا الداخلية والقوافي الداخلية أيضا والتضاد اللفظي كل ذلك جيد لكن قصيدة النثر تشترك مع الشعر‬ ‫العمودي والتفعيلة في كل هذا‪ ،‬إضافة إلى أن هذا القول يعبر عن عدم القدرة بعد على سبر ماهية هذه القصيدة كما أنه‬

‫يحاول أن يوصل رسالة توفيقية‪ -‬مقصودة أو غير مقصودة‪ -‬تقول‪ :‬إن قصيدة النثر لم تهجر الموسيقا والقافية بل أن لها‬ ‫موسيقاها وقوافيها الخاصة بها مثلها مثل الشعر العمودي‪ ،‬يكفي أن نراجع الكتابات الشعرية ‪-‬والنثرية أيضا‪ -‬لرائد الشعر‬

‫الحر "محمد الماغوط" لنرى كيف يهرب من القافية حتى وان أتت هي لتلتقي به حتى في كتاباته النثرية‪ .‬حين قال‪":‬آه يا‬

‫لقمة العيش الصغيرة‪ ،‬أنت إسرائيل الكبرى " ألم يكن باستطاعته وبكل بساطة أن يقول " أه يا لقمة العيش الصغرى ‪ ,‬أنت‬

‫إسرائيل الكبرى‪.‬‬

‫ وحاول البعض اآلخر الربط بين الشعر الحر والتداعيات الرومانسية الال واعية في دراسة لـ(أغاني القبة) للشاعر‬‫( خير الدين األسدي ) لكنني أعتقد أن هذا التداعي هو صفة من صفات االتجاه الرومانسي الذي ساد وقتئذ وال يصف الشعر‬ ‫الحر‪ ،‬يمكن للشعر الحر أن يكون رومانسيا ورمزيا وغامضا ومشتتا ومتماسكا ومباش ار وموحيا‪ ،‬فهو تهزه نفس الرياح التي تهز‬

‫أنواع الشعر األخرى دون أن يفقد خصوصيته‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫إن عدم الوصول – حتى عالميا‪ -‬إلى تعريف محدد للشعر يعني ضمنا العتراف بأن الوزن والقافية فقط ال يجعالن من‬ ‫النص شع ار‪ ،‬وطالما أن هنالك قصائد موزونة ومقفاة وهي ليست شع ار بل نظما فإنه احتمال وارد بقوة أال يكون الوزن‬

‫والقافية أحد األسس التي تبني عليه شاعرية النص األدبي‪ .‬بل هو نوع من التجويد الذي استحسن لفترة طويلة في عصر‬


‫كان إطراب النفس فيه يتم ذاتيا في معظمه وليس خارجيا عن طريق المذياع‪ ،‬جميل أن يبقى هذا التجويد لكن غير الجميل‬

‫أن يحتكر ساحة الشعر لنفسه مانعا أية منافسة ‪.‬‬

‫ثم أن مقولة‪ :‬أن الشعر يقول الكثير بكالم قليل فهذه أيضا صفة من صفات الشعر وليست تعريفا له‪ ،‬و إال لكان القرآن الكريم‬ ‫شع ار بسبب غزارة معانيه المعبر عنها بإيجاز بليغ‪.‬‬ ‫ثم أن هنالك مقولة أخرى تحاول أن تنفي صفة الشعر عن قصيدة النثر اعتمادا على اسمها المؤلف من " لفظتين غير متجانستين"‬ ‫هما " قصيدة النثر" دون الغوص في الدعائم األخرى _ غير العروض والقافية_ التي تجعل من النص شع ار‪ ،‬دون أن ننسى الكم الهائل‬ ‫من القصائد العمودية التي ال تحمل قيمة فنية أو جديدا ما ولكن شفعت لها الموسيقى والقافية فكانتا ستا ار لمواهب ال تطلب السترة ‪.‬‬ ‫واذا كانت قصيدة النثر تقليدا للغرب وليست استجابة لتغير البنى االجتماعية والثقافية ‪ -‬كما قال البعض‪-‬فهذا يعني أن نكتفي بالشعر‬ ‫آت ‪ . " ...‬فالمقالة تقليد وكذلك‬ ‫العمودي من جهة وبالمقامات الهمزانية والخطب العصماء على شاكلة " ما فات مات وكل ما هو آت ْ‬ ‫المسرح و الرواية فهم جميعا صنوف أدبية وافدة‪ .‬واذا كانت عبارة " الشعر ديوان العرب " شديدة الحضور في مخزوننا الثقافي العربي‬ ‫دت في بيئة‬ ‫فألنها ولدت في بيئة صحراوية عموما وال تسمح بتسجيل آثار العرب على الصروح الشاهقات والنقوش المدفونة‪ ،‬فهي ولِ ْ‬ ‫فرضت عليهم البيئة ِف ْعل التنقل‪ .‬دون أن ننسى أن‬ ‫يرتحل عنها المقيم ليقيم في مكان آخر وليس أسهل من الشعر ليحمل أخبار أناس‬ ‫ْ‬ ‫ديوان العرب المقصود يعود في جلِّـه إلى الشعر الجاهلي والجزيرة العربية متناسيا العرب الذين يعيشون خارج الجزيرة وفي بيئة حضرية‬ ‫جميلة الطبيعة كما في بالد الشام والعراق‪.‬‬ ‫كما أنني وقعت على شهادات مختصرة ومكثفة اتسمت باالنفتاح على قصيدة النثر مما يبقي باب األمل مفتوحا على أننا انتقلنا من‬ ‫مرحلة الخوض في نقاش حول جنس هذا المولود الفضائي الغريب وشرعيته إلى النقاش الجاد حول مكامن الشاعرية وأسسها‬ ‫وخصوصية هذه القصيدة‪.‬‬ ‫أقول هذا بالرغم من أنني كاتب لقصيدة التفعيلة أكثر من النثر لكنني غير محصن ضد النفعال مع القصيدة الجميلة مهما كان نوعها‬ ‫واسمها حتى القصائد التي بعض أسطرها عبارة عن أشكال هندسية أو رسومات بسيطة لكنها معبرة بكثافة مدهشة كما فعلت الشاعرة‬ ‫العراقية " كوال لة نوري" في مجموعتها "الدولفين" ‪.‬‬ ‫استسهلت فنون أخرى كثيرة تم التعدي عليها‪.‬‬ ‫وكما قالت إحدى الشهادات هناك من استسهل قصيدة النثر كما‬ ‫ْ‬ ‫ماذا يعني أن يكتب موظف متقاعد كتابا في التداوي باألعشاب وهو لم يمارسها سابقا‪ ،‬ألم تبدل الخيـاطة اسمها في كثير من األحيان‬ ‫ليصبح مصممة أزياء‪.‬‬ ‫صحيح هم كثر من تجرؤوا و أدلوا بدلوهم في مجاالت ال تناسبهم ولكن ما يهم هو من رفع دلوه ممتأل ماء كي نقول أن هذه‬ ‫البئر صالحة للشرب‪.‬‬ ‫وفي معرض استسهال البعض لقصيدة النثر‪ ،‬أريد أن أورد مثاال قد يعتقد البعض أنه مثا ٌل غير موفق كوني أسوقه في ِ‬ ‫معرض‬ ‫الدفاع عن قصيدة النثر‪ ،‬والذي هو دفاع عن حرية التعبير والتجريب أكثر منه دفاعا عن جنس أدبي معين‪،‬‬


‫كلنا يعلم أن مخزوننا الشعبي يقر بأن الوقوع عن ظهر حمار أشد أذى وايالما من الوقوع عن ظهر حصان أو جمل‪ ،‬رغم أن قوائم‬ ‫األول ُّ‬ ‫أقل ارتفاعا ‪ ،‬وطبعه ومزاجه أقل جموحا بكثير‪.‬‬ ‫ولكن لو أتينا بشخص لم يسبق له أن امتطى دابة في حياته وخيرناه بين هذه األنواع الثالثة فسوف يختار ركوب الحمار وال‬ ‫ريب‪ ،‬غاضا بصره عن األنواع األخرى‪ .‬لماذا ألنه يستسهله فهو أقل مخافة مقارنة مع غيره‪ ،‬ناسيا أو متناسيا أن الوقوع عن‬ ‫متنه يعني ضر ار أكبر ‪ ،‬وناسيا أيضا أنه حتى لو أجاد امتطاءه فسوف يبقى في نظر المحيط راكبا حما ار ال أكثر وال أقل‪.‬‬ ‫صدقوني هذا ما حدث تماما مع المتعدين على قصيدة النثر‪ ،‬أنهم استسهلوها فخبــوا عبابها دون أن يأخذوا بعين االعتبار أن‬ ‫فشلهم سوف يطيح بهم إطاحة ال وقوفا بعدها في عالم الشعر‪.‬‬ ‫ألنهم أساسا لم يركبوا متنا معتبـ ار في نظر المحيط األدبي ‪ ،‬ثم أنهم حتى لو أجادوا فإن إجادتهم هذه لن تكون ذات تقدير كبير‬ ‫ألن هذا الجنس األدبي الذي اختاروه ما زال ينظر إليه على أنه ينتمي إلى غير عالم الشعر‪.‬‬ ‫فلو أنهم ركبوا جمـل الشعر العمودي وسقطوا لقال قائل هذا نظم وليس شعر وبالتالي لحفظ ماء وجه صاحبه ‪ ،‬أما أن يسقط عن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫حمار الشعر الحر فتلك ثالثة األثافي وكبيرة الكبائر لراكب لم يستطع أن يمتطي مجرد "حمار" ‪.‬‬ ‫ظهر‬ ‫ لكمال وجه المقارنة أقول ‪ :‬إن قصيدتا النثر والتفعيلة هما أشد فائدة في البناء في عصرنا هذا مقارنة مع قصيدة العمود‪،‬‬‫أل نهما الصدر األرحب في استيعاب نفـس العصر وايقاعه وتنوع تجاربه وهواجسه ومتطلباته لكن تحتاج إلى فارس كرار ‪،‬‬ ‫وليس إلى غر فر ْار‪.‬‬

‫ فالمشكلة تكمن فيمن استسهل قصيدة النثر تحديدا‪ ،‬وفيمن أتاح لهؤالء في تصدر الدوريات األدبية والصحف اليومية‪ ،‬وفيمن‬‫قصروا عن دراسة هذا الجنس األدبي الجديد‪ .‬فبقي جنسا متهما بالهزيمة سلفا‪ ،‬فإذا ما انتصر جولة هلـ ْلـنا له ولكاتبه كما‬

‫حصل مع الماغوط‪ .‬ولكن هذا لم يشفع لقصيدة النثر فنحن قوم ما زال يحكمنا المثل القائل " الهزيمة يتيمة ‪ ،‬وللنصر ألف‬

‫أب "‬ ‫‪‬‬

‫ظهرت قصيدة النثر تحديا ألدوات قياسنا المستخدمة في التفريق بين النص العادي والنص الشعري وخصوصا لتلك‬ ‫المقولة القديمة الساذجة التي تقول ‪ :‬بأن الشعر هو الكالم الموزون المقفى‪ .‬اعتاد طالب مدارسنا في امتحانات اللغة‬ ‫العربية على السؤال الشهير‪( :‬اشرح األبيات التالية وأعرب ما تحته خط ‪....‬الخ)‪.‬هذا السؤال ال يصلح في الشعر الحر‬

‫وال يستطيع الحاطة به ‪ ,‬علينا ابتداع أسئلة خاصة بالشعر الحر ال تنطبق في معظمها على سواه وعندما نستطيع ذلك‬ ‫يمكننا القول أننا بدأنا في اكتشاف أدوات قياس شعرية جديدة‪ .‬الشعر الحر امرأة جميلة من دون زينة وتمس شغاف‬

‫القلب لكننا اعتدنا االنجذاب إلى النساء المتزينات‪.‬‬

‫بالمناسبة للنقاد هنا فرصة تاريخية ‪ -‬نعم تاريخية‪ -‬لن تتكرر بسهولة هي أن يكتشفوا الشعر الحر وأنا في شغف لإلطالع‬ ‫على اكتشافهم المنتظر‪ ،‬فيكون لهم فضل السبق إلى ذلك‪ .‬أن يكتشفوه ويعبروا عن اكتشافهم بكلمات بسيطة بعيدا عن‬ ‫التعابير القاموسية الجافة‪ .‬ال أن تبقى الدراسات النقدية سائرة خلف أسماء بارزة ومعروفة ‪ .‬جيد أن تق أر كتابا بعنوان (‬ ‫الفضاء الشعري عند نزار قباني) لكن نزار كونه عظيما لن يجعل ذاك الكتاب عظيما فنزار قباني موجود بقوة خاصة في‬ ‫الوسط الجماهيري سواء في السر أو في العلن‪ ،‬دون أن ننسى أنه هوجم كثي ار قبل أن يفرض نفسه‪.‬‬


‫ال أدعي أنني قرأت كما هائال من كتب النقد ولكنك تصاب بالحباط وأنت تق أر سلسلة كتب ( نظرية الشعر العربي) وآراء‬ ‫مؤسسي مجموعة أبولو والديوان‪ ،‬وطريقة تهجم بعضهم على القصيدة العمودية بدال من تسليط الضوء بعمق كاف على‬ ‫نتاجاتهم هم‪ .‬واألسوأ من ذلك أنك تدخل في متاهة الرد والرد على الرد دون المساس عن قرب كاف بالموضوع الرئيس كل‬ ‫ذلك في خضم جدل بيزنطي ال ينتهي‪ .‬فبـذل من قبلهم جهد كبير في إثبات عدم شاعرية أحمد شوقي ووروده معان معاكسة‬ ‫تماما لما يريد قوله وكأن ذلك كاف لصدار حكم العدام على القصيدة العمودية‪ ،‬وقع رواد الشعر غير العمودي في نفس‬ ‫الخطأ الذي وقع فيه رافضوه وهو إلغاء اآلخر‪.‬‬ ‫يميل النسان إلى ألفة القديم والريبة من الجديد لذا نجد أن الضجة التي أثيرت ضد شعر التفعيلة أيام نازك المالئكة وبدر شاكر‬ ‫السياب تثار مجددا ضد الشعر الحر‪ ،‬والمشكلة أنه ك ٌل تحصن داخل رأيه ال يحاول االنفتاح على اآلخر‪ .‬األول يريد الحفاظ على التراث‬ ‫والثاني يريد ب ْعث هذا التراث‪ .‬وال ثنان يبكونه معا‪ ،‬فأرجو أال ينطبق علينا قول الشاعر ت‪.‬س‪.‬إليوت خاتما قصيدته (الرجال الجوف) ‪(:‬‬

‫وي‪ ،‬ولكن بنشيج)‪.‬‬ ‫هكذا ينتهي العالم‪ /‬ليس ِبد ٍّ‬ ‫‪‬‬

‫سوف يتجاوزنا الشعر الحر على أيدي مبدعين مثل محمد الماغوط إلى أن يظهر تيار شعري جديد فننقل السجال إلى‬ ‫ساحة أخرى‪ ،‬نحن ال نتقبل شيئا إال حين يـ ْفـرض نفسه علينا كأمر واقع‪ ،‬وهذا ليس من صفات المجتمع المبدع الباحث‬ ‫دوما عن التجديد أو غير الواقف في الحاضر فما بالك في الماضي‪.‬‬


‫ٌ‬ ‫غرف بال رائحة‬ ‫ماجدة حسن‬

‫****‬ ‫الغرفةُ‬ ‫بجدار وحيد *‬ ‫ٍ‬ ‫يعل ُ‬ ‫ق على صدره ِخطايا ال ّزمن‬ ‫المسامير دبيبٌ للحواس‬ ‫بعضُ‬ ‫ِ‬ ‫بعضُ الوجوه ِصورةٌ لم تكتبْ بعد‬ ‫بنقوش الغطاء *‬ ‫في الغرف ِة سري ٌر يتمطّى‬ ‫ِ‬ ‫ت الليل‬ ‫تاركا ً مناما ِ‬ ‫تفس ُر وج َع المرايا‬ ‫وامرأةٌ تح ّ‬ ‫ض ُر لعوا ِء الخوف‬ ‫لجا َم الجسد‬ ‫قبّلها وكانَ بابُ الغرف ِة موصداًعلى بوم ٍة سكرى *‬


‫عندما طارت فراشةُ الشفتين‬ ‫ب الكأس‬ ‫كان النها ُر قد أطل َ‬ ‫ق تشاؤمهُ في ثقو ِ‬ ‫وقع األلسن ِة‪....‬سقطَ الجناحان‬ ‫وعلى ِ‬ ‫ٌ‬ ‫جنون‪...‬شم ٌع مغل ُ‬ ‫ق العينين *‬ ‫الغرف‬ ‫بعضُ‬ ‫ِ‬ ‫زوايا شاردةٌ عن أني ِن األرواح‬ ‫بعناق حشرتين‬ ‫تتسلى‬ ‫ِ‬ ‫‪..‬من كهوف العهد األول‬ ‫ت‪..‬التسمع*‬ ‫غرفتهُ الصوتيةُ مجهزةٌ بمجسا ٍ‬ ‫ٌ‬ ‫مكبرات غزت رئتيها عناكبُ اليأس‬ ‫قي َل في الهوا ِء خيوط ٌ‬ ‫تتشاب ُ‬ ‫َ‬ ‫وقت الصدى‬ ‫ك‬ ‫!‪...‬لكنها تنحلُّ بلمس ِة ضوء‬ ‫حائط قلبي*‬ ‫كتب على‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫أحبك‬ ‫ِ‬ ‫حول غرف ِة الروح‬ ‫حينَ طافَ الهوا ُم‬ ‫َ‬ ‫صاد َر آخ َر األجنحة الحمراء‬ ‫كانَ دمي حينها يع ّد لح ّمام زفاف ِه‬ ‫‪..‬دميةً قطنية‬ ‫ّ‬ ‫لكن طرحة َ الوحل ِ‬ ‫ْ‬ ‫السفر الجائعة‬ ‫!‪.....‬امتصت مياهَ‬ ‫ِ‬ ‫ميل طفيف *‬ ‫البح ُر غرفةٌ زرقاء‪..‬قليلةُ اإلنحنا ِء مع ٍ‬ ‫مرودةٌ لزمن الوجد‪ ...‬في بكا ِء كح ِل العاشقين‬ ‫ّ‬ ‫لوقر الريح‬ ‫ت‬ ‫اليكف عن اإلنصا ِ‬ ‫ِ‬ ‫‪ ..‬عندما تسل ُخ عن سقف ِه األمواج بسملة َالسّماء‬


‫َ‬ ‫‪...‬أنت ‪...‬والقصيدة*‬ ‫أنا‬ ‫غرفةٌ يلزمها عكا ٌز راب ٌع‬ ‫‪..‬لتمشي الهوينى‬ ‫َ‬ ‫لهاث الخطا‬ ‫تحتوي‬ ‫على حاف ِة النوافذ‬ ‫السكون‬ ‫ت‬ ‫تهرّبُ تمتما ِ‬ ‫ِ‬ ‫خار َج مالذ ِالمساء‬ ‫كثيراً‬ ‫ما تغل ُ‬ ‫فجر التشهّي‬ ‫ق أصابعها قبي َل‬ ‫ِ‬ ‫ق باقي القصائ ُد‬ ‫لتغر َ‬ ‫‪ ..‬في نومها القرمز ّ‬ ‫ي‬ ‫بين غرفتي ووجعكَ *‬ ‫دمعةٌ دائريةٌ‬ ‫تبسطُ كفيها‬ ‫شال الفراق‬ ‫كي اليغز ُل الضحى َ‬ ‫مشرو ُ‬ ‫ع ضحك ٍة بريّة‬ ‫كلما ف ّر غزا ٌل من وري ِد الليل‬ ‫‪.‬اصطادتهُ الحروف‬ ‫****‬


‫بقلم‪ :‬شذا برغوث‬ ‫سلمى‬

‫سلمى‪ ..‬سلمى‪ ..‬يتكرر النداء في الغرفة‪ ،‬في المطبخ‪ ،‬في الشارع‪ ...‬سلمى‪.‬‬ ‫وتتلفت مذعورة وال تجد أحداً‪ ..‬تسرع خطاها إن كانت تسير‪ ..‬تنهي حمامها قبل‬ ‫انتهائها‪ ،‬إن كانت تستحم‪ ..‬تترك ما تفعله‪ ..‬تهرب من النداء الشبح‪ ..‬الالشيء‪.‬‬ ‫في األيام الثالثة السابقة تكثفت النداءات أكثر مما كانت من قبل عشر سنوات‪،‬‬ ‫تغص في طعامها‪ ..‬سلمى‪ ..‬سلمى‪..‬‬ ‫والصوت يناديها‪ ...‬مرعوبة تفزع من نومها‪..‬‬ ‫ّ‬ ‫تشرد في حصة الدرس تنبهها المعلمة والنداء يعلو على صوت المعلمة أحياناً‪ ،‬فال‬ ‫تنتبه لدرسها‪ ،‬تو ّبخها‪ ..‬تبكي بحيرة وحرقة‪ ،‬تتمنى أن تحكي لها معاناتها‪ ،‬أن تنام‬ ‫على صدرها‪ ..‬أن تشكو لها تسألها المساعدة ‪..‬‬ ‫بحاجة هي إلى صدر حنون‪ ..‬إلى يد تمسح شعرها‪ ..‬دمعها‪ ..‬تطبطب عليها‪..‬‬ ‫تحضنها‪ ،‬وهي الفاقدة للعالقة بتلك التي يسمونها أما ً‪ ..‬هي ال تعرف لماذا؟! هل‬ ‫سر ما؟ لماذا تكرهها أمها؟! لماذا تضربها؟‪ ..‬تع ّنفها؟‪ ..‬تقسو عليها‬ ‫هناك ٌ‬


‫دائماً؟!‪ ..‬قد تكون متعبة أو غاضبة من أمر ما‪ ..‬أو أنها تشاجرت مع أبي! إن كان‬ ‫كذلك‪ ،‬إذاً لماذا ال تقسو على أخي؟ لماذا ّ‬ ‫تدلّل؟!‪..‬‬ ‫عقلها الصغير يحترق بحثا ً عن إجابة‪ ،‬وقلبها يتفتت‪ ..‬يمرض بالكره ألمها‪..‬‬ ‫ألخيها‪ ..‬لكل الناس‪ ،‬حتى أبوها الذي ال ينتبه لما يجري لها‪...‬‬ ‫ضائعة هي والصوت يمغنطها إليه‪ ،‬تدور فيه وحوله ويلتف حولها‪ ..‬يخنقها‪.‬‬ ‫دائخة‪ ..‬غارقة في لزوجته وقرفه‪ .‬ال هي تخرج منه وال هو يتركها‪ ..‬عقلها الطفل‬ ‫يفيدها أنها لو اجتهدت في دروسها ستحظى بحب أمها‪ ،‬وعندئذ ستحكي لها كل‬ ‫شيء‪ ،‬ستغتسل بحنانها من تلك اللزوجة‪ ،‬وتتخلص من الرعب‪ .‬تدرس وتدرس‪..‬‬ ‫تلحظ المعلمة تقدمها‪ ..‬تثني عليها‪ ..‬تتخافت النداءات وتتباعد المسافات بينها‬ ‫وأمها التي ما زالت ال تدري عنها شيئاً‪ ،‬وال تغ ّير من تعاملها معها‪.‬‬ ‫تعاود النداءات نشاطها‪ ،‬واأليام تمضي وهي تلف في الدوامة‪ ،‬وتنعزل عمن‬ ‫حولها‪ ،‬وتفقد رغبتها في الكالم‪.‬‬ ‫اليوم حصلت على الشهادة الثانوية‪ ..‬تن ّبهت لتجد نفسها صبية كبيرة مكتملة‬ ‫مدرسة‪ ،‬لكنها مازالت طفلة تضربها أمها‪،‬‬ ‫األنوثة‪ ،‬وستدخل الجامعة وقد تصبح ّ‬ ‫وما زال النداء يحاصرها‪ ،‬وما زال يأتي لزيارة أهلها‪ ..‬كانت تضطرب وتنكمش‬ ‫وقد تبلل نفسها وهي منزوية بعيداً في الغرفة‪ ..‬تزداد كرها ً ألمها حين تناديها‪:‬‬ ‫تعالي سلمى على عمو‪.‬‬ ‫مازالت تقول له (عمو) وكلها يرتجف وعيناها مثبتتان في األرض‪ ،‬لم تر وجهه‬ ‫منذ ذاك اليوم حين طرق الباب ذات ظهيرة وفتحته له‪ ،‬وقد تركتها أمها لتطوي‬ ‫الغسيل وذهبت لتشرب القهوة أو تدخن النرجيلة مع صديقاتها‪.‬‬ ‫تواً‪ ..‬لم تستنكر دخوله‪ ..‬اقترب‬ ‫أبعدها حين عرف أنها وحيدة وأن أمها ذهبت ّ‬ ‫ّ‬ ‫متعطشة للحنان‪ ..‬احتضنها لبدت في‬ ‫قربها إليه‪ ..‬لم تجفل‪،‬‬ ‫مسد شعرها‪ّ ..‬‬ ‫منها‪ّ ،‬‬ ‫حضنه‪ ،‬نظرت إليه ببراءة سنواتها العشر‪ ..‬ابتسمت‪ ،‬ثم حاولت التملّص لتطوي‬ ‫نصرفه رائحة‬ ‫الغسيل كي ال تغضب أمها‪ ..‬شدّها إليه ‪ ..‬استنكرت وش ّمت في‬ ‫ّ‬ ‫بقوة‪ ..‬جحظت عيناه وتهدّل‬ ‫غريبة زنخة لم تعجبها‪ ..‬فحاولت الفكاك منه‪ ..‬شدّها ّ‬ ‫فمه ولهث مثل كلب‪ ..‬تشنجت‪ ..‬لم تقو على مقاومته‪ ..‬صار وحشا ً كريها ً مرعبا ً‪..‬‬ ‫اغتال طفولتها‪ّ ..‬لوثها بزناخته‪ ..‬امتقعت وتج ّمدت عيناها واحمر لسانها‪..‬‬ ‫تسارعت حركاته وهو يتلفت صوب الباب‪ .‬أوقفها أمامه وأشار إلى عنقها‪ ..‬إذا‬ ‫أخبر ِ‬ ‫ت أحداً سوف أذبحك‪ .‬فهمت وخرج مسرعا ً‪.‬‬ ‫لم تستوعب ما جرى‪ ..‬لماذا يكرهني إلى هذا الحد؟ ولماذا يؤذيني؟‬ ‫حاولت المشي لتكمل طي الثياب‪ ...‬دارت بها األرض‪ ،‬تقيأت‪.‬‬


‫عادت أمها لتجدها مسمرة في مكانها لم تكمل طي الثياب‪ ..‬ضربتها‪ ..‬بليدة‪..‬‬ ‫ماذا كنت تفعلين؟!‬ ‫بكت‪ ،‬بكت‪ ..‬صرخت وشدت شعرها‪ ..‬دهشت أمها لردة فعلها هذه المرة‪..‬‬ ‫مرضت‪ ..‬أحضروا لها طبيبا ً‪ .‬أياما ً وأياما ً وهي ترفض الشفاء‪ ..‬ترفض الذهاب إلى‬ ‫المدرسة‪ ..‬خائفة من كل ّ شيء ومن الشيء‪ ..‬تفزع من نومها‪ ..‬تتل ّمس عنقها‪..‬‬ ‫تمر أمها إلى جانبها‪ ..‬وتتمسك بها عند خروجها‪ ..‬ال تريد أن تبقى‬ ‫ترتجف حين ّ‬ ‫وحيدة‪ ..‬عيناها فزعتان‪.‬‬ ‫بعدها صارت األصوات تناديها‪ :‬سلمى‪ ..‬سلمى‪ .‬صوته البشع األجش‪ :‬سلمى‪..‬‬ ‫سلمى‪ .‬صوت أمها الغاضبة دائماً‪ ،‬وهي تتلفت بهلع وال تجد أحداً‪ ..‬تهرب من‬ ‫ذعرها وتر ّقبها الدائم إلى كتبها‪ ،‬وهاهي قد نالت الثانوية‪.‬‬ ‫هذا اليوم وقد وجدوه م ّيتا ً‪ .‬انفعل الجميع لسماع الخبر‪ّ ..‬‬ ‫تأزموا‪ ..‬تنفست‬ ‫الصعداء‪ ..‬ابتسمت‪ ..‬ك ّ‬ ‫شرت‪ ..‬السافل تفو‪ ..‬بصقته بعيداً بصوته البشع وواجهت‬ ‫أمها مستجمعة شجاعتها‪ :‬ال تبكي ذلك السافل وانتبهي لنفسك‪.‬‬ ‫فوجئت أمها‪ ..‬ه ّمت بالكالم‪ ..‬تركتها وخرجت‪.‬‬


‫بقلم‪ :‬شذا برغوث‬ ‫نداء‬

‫طق‪ ..‬طق‪ ..‬طق‪ ..‬منذ أنفاس الصبح األولى كانت تتوسط الشارع الطويل الخالي‪ ،‬والمدينة‬ ‫مازالت ناعسة‪ ،‬يمزق طبلتي أذنيها صوت عكازك الرباعي‪.‬‬ ‫عجوالً تتحدى الطريق والسكون والنعاس‪ ..‬طق‪ ..‬طق‪ ..‬طق‪ ..‬تالحقه رجالك الرخوتان الطويلتان‪,‬‬ ‫حافيتين تنسحالن على اإلسفلت‪ ..‬يرتفع رأسك وصدرك إلى األعلى حيويا ً باسما ً‪ ..‬زمن مضى لم‬ ‫تبتسم فيه شفتاك‪ ،‬وال التمع فيه سنك الذهبي الذي أحببناه صغاراً‪ ..‬نفتح فمك لنراه بوضوح‪ ,‬وسعيداً‬ ‫تعض أصابعنا الصغيرة‪ ,‬ونضمك لتضمنا‪ ،‬وتطوح بنا في الهواء لتلقفنا من جديد‪ ,‬يملؤنا الذعر‬ ‫والفرح‪.‬‬ ‫ً‬ ‫طق‪ ..‬طق‪ ..‬طق‪ ..‬تجاه النهر تمشي بأرجلك الست قابضا على وجه عكازك بقوة وتحد‪ ,‬وكأنك‬ ‫تقول له‪:‬‬ ‫أنا من سيقودك‪ ..‬لن تقودني أنت‪ ..‬مازالت يداي قويتين‪.‬‬ ‫مازلت قادراً رغم ارتخاء ركبتيك‪ ..‬كأنك في رهان مع النهر‪ ..‬كأنه قد قال لك لن تبلغني بعد‬ ‫اليوم‪ ..‬وكأنك لم تفلق مياهه بجسدك آالفا ً من المرات‪ ،‬لم يسبقك يوما ً أحد من السابحين‪ ,‬وقد تخدعهم‬ ‫وتخدع النهر‪ ,‬حين تغيب تحت المياه فيخاف عليك الرفاق ويتصايحون‪ ,‬وال يكاد النهر يفرح‬ ‫بانتصاره حتى تخرج له لسانك عند ضفته البعيدة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫طق‪ ..‬طق‪ ..‬طق‪ ..‬مبهوراً كنت بالصباح والشارع والبيوت‪ ...‬زمن مضى‪ ..‬طويال جدا تخاله ‪ ,‬لم‬ ‫تر فيه الشوارع وال البيوت وال السماء‪ ..‬للحظات توقفت أمام بناء جديد ما كان في ذاكرتك قبالً‪,‬‬ ‫ُترى متى شيدوه؟! هل شيدوه يوم شيدوا لي عكازي؟!‪ ..‬ليس مهما ً‪ ..‬المهم أن تكمل رحلتك‪ ..‬حلمك‬ ‫أن تمضي في الشارع‪ ..‬أن تبلغ النهر‪ .‬كثيراً ما تكرر حلمك ورجالك ميتتان على سريرك‪ ..‬إلى‬ ‫متى؟؟ وتشتعل الكلمات على لسانك لتطال الدنيا والذين حولك وتسب عجزك ومرضك‪ ،‬ويسكت كل‬ ‫من حولك حزنا ً أو خوفا ً‪ ..‬نعم‪ ،‬كنا نخافك وأنت عاجز‪ ,‬ليس خوف الجبان‪ ،‬بل خوف المحب‪ ،‬فما‬ ‫كنت يوما ً ظالما ً‪ ,‬كنا نقدر شعورك ونعذرك‪ ،‬ونتمنى أن نعيرك أرجلنا لتمشي بها‪ ،‬أو تركض ولو‬ ‫مرة واحدة‪ .‬كانت غصة تعترض حلوقنا‪ .‬كلماتك القاسية‪ ..‬أين منها كلماتك الحانية ونحن نضع‬


‫رؤوسنا على ركبتيك‪ ,‬وأنت تمرر أصابعك على وجوهنا وكأنك تحفظ مالمحنا؟ تغمض لنا عيوننا‪،‬‬ ‫وكنا نغفو كل يوم دون أن نعرف نهاية الحكاية‪.‬‬ ‫يا لركبتيك! ما الذي أضعفهما؟! شعور بالذنب ينتابني‪ ،‬هل نحن السبب حين كنت تركض خلف‬ ‫الحياة لتمسك بها ألجلنا؟ أم وأنت تمشي على أربع في ليالي الشتاء فيما نحن نمتطيك فتلف بنا حول‬ ‫المدفأة المزروعة وسط الغرفة ونحن نحدو لك ‪ /‬بعير السوداني‪ ،/‬وتقهقه عاليا ً وتقلبنا على السجادة‪،‬‬ ‫وتنهض يغطي وجهك ندى المحبة والدفء؟!‬ ‫طق‪ ..‬طق‪ ...‬طق‪ ..‬طويل طريقك إلى النهر‪ ،‬وأنت بستة أرجل‪ ..‬أربعة منها تطقطق لتسحب‬ ‫اثنتين خلفهما‪ ,‬ما كان طويالً قبالً يوم كان لك اثنتان‪.‬‬ ‫ترى هل كنت تعرف إلى أين أنت ذاهب‪ ،‬وأنت تبدو في عالم آخر‪ ..‬سعيداً شارداً‪ ,‬متعجالً‪ ,‬كأنما‬ ‫نداء خفي يهتف بك ‪/‬تعـال‪ ..‬تعـال‪ ..‬تعـال ‪ /‬ال تتأخر؟‪.‬‬ ‫هل اشتاقك النهر؟ أم اشتاقتك الشطآن؟ أم هي األسماك التي كنت تلعب معها لعبة الصياد فتضع‬ ‫لها الطعم وحين تخرج عالقة في سنارتك تلمسها وتبتسم وترميها من جديد؟ ويهيأ لك أنك تسمع‬ ‫صوتها السحري‪( ..‬سأمممنحك جوووهرة)‪ ...‬كما في الحكايات‪.‬‬ ‫كنت مذبذبا ً بين حبك للصيد ورقة عواطفك‪ ,‬فال أنت تقلع عن الصيد‪ ،‬وال تستطيع أكل سمكة‬ ‫اصطدتها بيديك‪...‬‬ ‫هل ناداك النهر حنيناً؟ أم هو مثل شخص غادر نظنه صديقا ً فتكشف األيام لنا زيفه وغدره؟ ناداك‬ ‫ليتشفى بك‪ ,‬عاجزاً مثقل الجسد برجلين رخوتين فارقتهما الحياة‪ ,‬وأبقتهما كذكرى مؤلمة لرجلين‬ ‫قويتين كانتا يوما ً‪.‬‬ ‫طق‪ ..‬طق‪ ..‬طق‪ ..‬مازلت سائراً وطويل دربك‪ ..‬والنهر يبتعد وأنت تحث أرجلك خلفه‪...‬‬ ‫يركض‪ ...‬تحاول الركض‪ .‬لكن كيف والركض حركة متناوبة بين رجلين؟! وأرجلك تحركها يداك‪.‬‬ ‫تنهضها عن األرض من ثم ترجعها ساحبا ً خلفها رجلين طويلتين بمفاصل ميتة‪.‬‬ ‫النهر صار قريبا ً‪ .‬هل لحقت به أم أنه توقف مبكراً مثل األرنب الذي سابق السلحفاة‪ ,‬ليدعك تقترب‬ ‫ثم يركض من جديد؟‪ ..‬أم أنه أشفق عليك؟‪ ..‬وهل للنهر قلب رحيم؟! وهو الغادر أبداً!!‪ .‬مازلت حثيثا ً‬ ‫تمشي تجاه النهر‪ ,‬صرت قريبا ً‪.‬‬ ‫لقد توقف النهر‪ ،‬الح شاطئه بشعره األخضر الطويل المشعث مثل ساحرة تنهض من فراشها‪.‬‬ ‫طق‪ ..‬طق‪ ..‬خطوتان‪ ,‬التماع المياه ساكنا ً‪ ,‬رائقا ً‪ ,‬رائعا ً عليل النسمات‪ ..‬يزداد اقترابا ً‪ ,‬تزداد‬ ‫اقترابا ً‪ ..‬الشيء سوى المياه‪ ...‬تباطأت خطواتك‪ .‬هل هو التعب؟ أم أنك تستمتع بمنظر المياه التي‬ ‫طال عطش عينيك وتوق روحك إليها‪.‬‬ ‫ال متسكعين على الشاطئ‪ ,‬ال سابحين في النهر‪....‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫من بعيد يلوح الجسر المعلق‪ ,‬يتمدد مثل مهرج تعب‪ ,‬متوسدا إحدى الضفتين‪ ،‬وملقيا على الضفة‬ ‫األخرى قدميه المحشورتين بخفين أحمرين‪.‬‬ ‫زورق بعيد يتهادى في مكانه‪ .‬قد يكون فيه صياد‪ ...‬أين أنت أيتها األسماك الصديقة؟ أهديني‬ ‫ركبتين بدالًَ​ً من جوهرة‪ ،‬ها أنا أحتاج إليك‪ ،‬نفذي وعدك‪.‬‬ ‫بطيئا ً ما زلت تتقدم‪ ،‬تتزود من نداوة الصبح‪.‬‬ ‫ها أنت تدوس الرمل أخيراً‪ ,‬تتخيله ينزلق تحت قدميك‪ ,‬تسترجع إحساسك بالرمل من ذاكرة عتيقة‬ ‫‪ ,‬وتفرح بوهم شعورك‪ ..‬خطوة أخرى‪ ..‬ما عادت أرجلك تطقطق‪ ،‬فالرمل ال يفضح األسرار‪ ..‬كان‬ ‫يدري أنك آت خلسة عن عيون المدينة‪ ,‬وشرطة المنزل ‪/‬ال تستطيع –ال يمكن ـ ال يسمح الطبيب‪../‬‬


‫ابتسمت متقدما ً خطوة أخرى‪ ,‬متلذذاً بتباطئك‪ ..‬سابحة عيناك على النعومة الرائقة واللمعان الرائع‪..‬‬ ‫تستدعي إحساسك القديم بالبرودة اللذيذة على جلدك‪ ..‬تغمض عينيك كي ال تفلت اللحظة‪ .‬تبزغ‬ ‫سمكاتك الصديقة حاملة شيئا ً تلفه في شبكة‪ .‬يطير قلبك على متن ابتسامة ذات أجنحة‪ .‬يفلت عكازك‬ ‫الرباعي‪ .‬تسقط متدحرجا ً‪ .‬هل كنت غافياً؟! أم كنت حالماً؟! أم أنك كنت ذاهبا ً لتأخذ هديتك؟!‬ ‫أخيراً صار إحساسك بملمس الماء حقيقيا ً على جلدك‪ .‬سعيداً جداً كنت لحظتها‪ ,‬مشرعا ً ذراعيك‪,‬‬ ‫رافعا ً رأسك‪ .‬تحضن المياه فتحضنك‪ ..‬تغيبك‪ ...‬ترى هل ستظهر على الضفة البعيدة لتخرج للنهر‬ ‫لسانك؟؟ الضفة تمل انتظارك‪ ...‬تأخرت كثيراً‪.‬‬ ‫لن تبلغها أبداً‪ ..‬لن تخرج لسانك‪ ..‬لن ترى هدية األسماك‪ ...‬قد تكون ركبتين أو تكون جوهرة‪.‬‬ ‫هادئا ً عاد النهر يسترخي‪ ..‬غادراً كان إذاً ‪ ..‬وسعيداً كنت‪ .‬ال يهمك غدره أو وفاؤه‪ .‬أبقيت له‬ ‫عكازك على الشاطئ األقرب‪ ،‬بدالً من لسانك تخرجه له على الشاطئ البعيد‪.‬‬ ‫لغزاً سيبقى عكازك مزروعاً‪ ،‬يحار في حلّه الجميع‪ ..‬ما الذي أتى بك؟! ما الذي أتى بك؟!‪....‬‬ ‫ويضحك النهر منهم محتفظا ً بسرك‪ ..‬ال وفاء‪.‬‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.