تحولات مشرقية العدد التاسع 2016

Page 1

‫العدد رقم ‪ - 9‬كانون الثاين ‪2016‬‬

‫فـ�صـل ـيـة فـكريـة ثـقافيـة تـعنى ب�ش ـ�ؤون امل�شــرق‬

‫آثارنا‬ ‫بين النهب‬ ‫والتدمير واإلحتالل‬

‫جمال واكيم‬ ‫الأزمة ال�سورية و�أبعادها االقليمية والدولية‬

‫اليا�س فرحات‬ ‫جذور العنف يف اجلماعات االرهابية‬

‫وفيق غريزي‬ ‫الدين والأ�سطورة‬

‫كلود عطيه‬ ‫دور م�ؤ�س�سات املجتمع املدين يف التنمية ال�سياحية اللبنانية‬

‫بيرت الأ�شقر‬ ‫من�صور عازار‪ ..‬ت�سعون عاماً من املثالية والواقعية معا‬

‫الهام �صليبا‬ ‫كتاب �شعر "الفداء واالنبعاث" ر�ؤيوية الطرح ووجودية التجربة‬

‫ملف الآثار‪ :‬حليم فيا�ض | �سليمان بختي | �أحمد ديب | �أ�سعد �سيف| حمدان طه | مزهر اخلفاجي‬


‫دار نل�سن‬

‫هاتف ‪01/739196:‬‬ ‫الربيد الإلكرتوين ‪darnelson@hotmail.com:‬‬


‫العدد رقم ‪ - 9‬كانون الثاين‪2016‬‬

‫فـ�صـل ـيـة فـكريـة ثـقافيـة تـعنى ب�ش ـ�ؤون امل�شــرق‬

‫املحتويات‬ ‫ر�أي‬ ‫�أثارنا تدل علينا‪ ..‬فكيف نحميها‬ ‫�سليمان بختي‬

‫ملف الآثار يف بالدنا‬ ‫الآثار الفل�سطينية امل�سرتدة‬ ‫حليم فيا�ض‬ ‫دور مديرية الآثار يف حماية �آثار �سوريا‬ ‫�أحمد ديب‬ ‫خطورة ا�ستخدام الآثار يف الق�ضايا‬ ‫الإيديولوجية‬ ‫�أ�سعد �سيف‬ ‫�إدارة الآثار حتت االحتالل يف فل�سطني‬ ‫د‪.‬حمدان طه‬ ‫الآثار والكنوز الرتاثية العربي ّة‬ ‫د‪.‬مزهر اخلفاجي‬

‫تاريخ ال�شيخ البهائي‬ ‫ح�سني علي احلاج ح�سن‬ ‫دور م�ؤ�س�سات املجتمع املدين يف التنمية‬ ‫ال�سياحية اللبنانية‬ ‫كلود عطيه‬ ‫الرتبية على املحيط والتنمية امل�ستدامة‬ ‫ر�ضوان العجل‬

‫‪3‬‬

‫‪7‬‬

‫‪9‬‬ ‫‪13‬‬

‫‪127‬‬

‫‪159‬‬

‫حتوالت �أدبية‬ ‫من�صور عازار‪..‬‬ ‫ت�سعون عاماً من املثالية والواقعية معاً‬ ‫بيرت الأ�شقر‬ ‫كتاب "�شعر الفداء واالنبعاث"‬ ‫ر�ؤيوية الطرح ووجودية التجربة‬ ‫الهام �صليبا‬ ‫"غازي قهوجي" �أيها الغائب الذي ما يزال‬ ‫ميلأ ح�ضورنا‬ ‫ح�سن مرت�ضى‬ ‫املنا�ضل ح�سني طعان يف ذمة اهلل‬ ‫ح�سن مرت�ضى‬ ‫جورج الزعني �شرف‪،‬ت�ضحية‪،‬وفاء‬ ‫حممد ع‪ .‬دروي�ش‬

‫‪15‬‬ ‫‪47‬‬

‫فكر‬ ‫الأزمة ال�سورية و�أبعادها االقليمية والدولية‬ ‫جمال واكيم‬ ‫جذور العنف يف اجلماعات االرهابية‬ ‫اليا�س فرحات‬ ‫الدين والأ�سطورة‬ ‫وفيق غريزي‬ ‫امل�سيحيون اليوم وواقع احلال‬ ‫الأب �سهيل قا�شا‬

‫‪115‬‬

‫‪65‬‬ ‫‪81‬‬ ‫‪99‬‬ ‫‪107‬‬

‫تنويه‬

‫ملف العدد القادم عن اتفاقية �سايك�س‪ -‬بيكو‬

‫‪179‬‬

‫‪181‬‬

‫‪184‬‬

‫‪185‬‬ ‫‪187‬‬


‫حتوالت م�رشقية‬

‫ف�صلية‪ ،‬فكرية‪ ،‬ثقافية‪ ،‬تعنى ب�ش�ؤون امل�شرق واملنطقة‬ ‫هيئة التحرير‬

‫فاتن املر‬ ‫عاطف عطية‬ ‫ح�سن حماده‬ ‫ن�صري ال�صايغ‬

‫�سعاده م�صطفى �أر�شيد‬ ‫�سليمان بختي‬ ‫�سركي�س �أبو زيد‬

‫�سكرتري التحرير التنفيذي ‪ :‬هنادي �شموط‬ ‫املدير امل�س�ؤول‪� :‬سركي�س �أبو زيد‬ ‫الربيد الإلكرتوين‪abouzeid@gmail.com :‬‬ ‫هاتف‪)00961-1( 751541 :‬‬ ‫�صندوق بريد‪ 113-7179 :‬بريوت ‪ -‬لبنان‪.‬‬ ‫�شارع احلمرا‪ ،‬بناية ر�سامني ‪ ،‬الطابق الرابع‪.‬‬ ‫الإخراج الفني‪zaid mahdi :‬‬

‫ت�صدر يف طبعتني من فل�سطني ولبنان‬ ‫مدير عام طبعة فل�سطني‪� :‬سعاده م�صطفى �أر�شيد‬ ‫هاتف‪0599305248 :‬‬ ‫�صندوق بريد‪ 41 :‬جنني ‪ -‬فل�سطني‬ ‫توزيع‪ :‬النا�رشون‬

‫بريوت ‪ -‬امل�شرفية‪� ،‬سنرت ف�ضل اهلل ‪ -‬طابق ‪4‬‬

‫هاتف وفاك�س‪:‬‬ ‫خلوي‪)00961-3( 975033 :‬‬

‫‪)00961-1( 277007 - 277088‬‬

‫ت�صدر بالتعاون مع م�ؤ�س�سة �سعاده للثقافة‬

‫بناية ر�سامني‪� ،‬شارع احلمرا‪ ،‬ر�أ�س بريوت‪،‬‬ ‫�صندوق بريد‪ 113-5557 :‬بريوت ‪ -‬لبنان‪.‬‬ ‫هاتف‪)00961-1( 753363 :‬‬ ‫فاك�س‪)00961-1( 753364 :‬‬ ‫الربيد الإلكرتوين‪saadehcf@idm.net.lb :‬‬ ‫املوقع الإلكرتوين‪www.saadehcf.org :‬‬ ‫ت�صدر مبوجب قرار رقم ‪ 82‬تاريخ ‪1981/7/6‬‬

‫�صادر عن وزارة االعالم يف لبنان‬ ‫اال�شرتاك ال�سنوي ‪ -‬لبنان‬

‫للأفراد‪ 50 :‬دوالراً �أمريكياً‬ ‫للم�ؤ�س�سات‪ 100 :‬دوالر �أمريكي‬ ‫اال�شرتاك ال�سنوي ‪ -‬خارج لبنان‬ ‫للأفراد‪ 100 :‬دوالر �أمريكي‬ ‫للم�ؤ�س�سات‪ 200 :‬دوالر �أمريكي‬

‫املواد املن�شورة تعرب عن ر�أي كاتبها‬


‫ر�أي‬

‫�آثارنا تدل علينا‪....‬كيف نحميها‬

‫�سليمان بختي ‪ -‬نا�شر وباحث‬

‫يف امل�أثور العربي "�آثارنا تدل علينا" ولكن ماذا �إذا اختفت هذه الآثار ب�سبب التدمري‬ ‫�أو النهب �أو ال�سرقة �أو االحتالل فتنف�صم عرى العالقة بني الدال واملدلول‪ ،‬وكذلك‬ ‫يفقد الزمن توا�صل دوائره بني املا�ضي واحلا�ضر وامل�ستقبل‪.‬‬ ‫منا�سبة هذا الكالم هو الآثار الفل�سطينية امل�سرتدة‪ .‬كان مو�شي دايان جمرم احلرب‬ ‫ووزير دفاع الكيان اال�سرائيلي الغا�صب مولعاً بحب الآثار والتنقيب عنها و�سرقتها‬ ‫واملتاجرة فيها والت�صرف بها بغري وجه حق‪.‬‬ ‫وكان حاكماً ع�سكرياً مطلق ال�صالحية يف ال�ضفة الغربية ي�أمر جنوده بالتنقيب عنها‬ ‫و�أحياناً مب�ساعدة �سكان املنطقة‪ .‬وكان دايان يهدي هذه القطع الأثرية �إىل �أ�صدقائه‬ ‫ومنهم بع�ض غالة الأمريكيني ال�صهاينة يف الن�صف الثاين من القرن املن�صرم‪ ،‬ومن‬ ‫الذين وفروا الدعم و العون وامل�ساعدة لإ�سرائيل‪.‬‬ ‫ومتر الأيام‪ ،‬ويرت�أي �أحد �أحفاد ه�ؤالء �أن هذه القطع الأثرية ال قيمة لها �سوى ما‬ ‫حترزه قيمتها املالية يف املزاد العلني‪ .‬هنا كانت اللحظة امل�ؤاتية "مل�ؤ�س�سة �سعاده‬ ‫للثقافة وجمعية �إمناء" ب�شراء هذه القطع وا�سرتدادها وا�ستقدامها اىل لبنان بالطرق‬ ‫والإجراءات القانونية الالزمة‪.‬‬ ‫وهكذا ربحت م�ؤ�س�سة مدنية غري حكومية (�سعاده و�إمناء) معركة ح�ضارية �ضد العدو‬ ‫الإ�سرائيلي‪ ،‬وك�شفت النقاب عن ف�ضيحة تاريخية حتاول ا�سرائيل (العدو الغا�صب)‬ ‫تغطيتها كل يوم باملجازر وامل�ؤامرات وتزييف التاريخ ورف�ض القرارات الدولية‪.‬‬ ‫هذه الآثار �ستجد طريقها يوماً اىل فل�سطني و�شعبها ودولتها‪ .‬ولكن ال بد من تعزيز‬ ‫اجلهود وت�شبيكها حلماية الآثار يف بالدنا‪ .‬هذا الإرث الذي هو ملك كل امر�أة وطفل‬ ‫‪3‬‬


‫و�شيخ ورجل يف بالدنا‪ .‬ولنا يف جتربة (�سعاده للثقافة و�إمناء) الربهان والعربة والدليل‪.‬‬ ‫ذات مرة كتب ال�صحايف والباحث الراحل فرد هاليداي‪�" :‬أن ا�سرائيل م�شروع غري‬ ‫قابل للحياة مثل نظام جنوب افريقيا العن�صري و مثل اجلزائر الفرن�سية ومثل االحتاد‬ ‫ال�سوفياتي‪ ،‬ولكنه لن يزول قبل �أن ندفع جميعاً الثمن‪".‬‬ ‫ال تزال ا�سرائيل متار�س النظام اال�ستعماري يف فل�سطني‪ ،‬وت�ستبيح كل املحرمات‬ ‫واملعايري والأعراف لت�ستمر‪� .‬سرقت فل�سطني‪ ،‬و�سرقت الآثار‪ ،‬وقتلت ال�شهود‪ ،‬ولكن‬ ‫ال�صراع مع ا�سرائيل هو �صراع وجود و�صراع ح�ضارة‪ .‬وهو �صراع �أجيال ال ميلك‬ ‫�أحد حق ح�سمه بت�سويات �أو �صفقات غام�ضة‪.‬‬ ‫هذا العدد من جملة "حتوالت م�شرقية" خ�ص�ص مللف الآثار يف بالدنا‪ ،‬والآثار التي‬ ‫�سرقت وت�سرق وحترق وتنهب و ُتدمر يف �صورة رمزية لتمزيق �شعبنا ووحدتنا وت�شويه‬ ‫تاريخنا وهويتنا احل�ضارية‪.‬‬ ‫وبعد‪ ،‬التحية م�ستحقة اىل م�ؤ�س�سة �سعاده للثقافة وجلمعية �إمناء على الإميان بالق�ضية‬ ‫وكل‬ ‫و�إرادة التحدي وت�صويب امل�سار‪ ،‬على قوة الأمل الذي ُيحفزنا لأن نفعل �شيئاً‪ٍ ،‬‬ ‫يف جماله‪.‬‬ ‫حتية �إىل ال�شعب الفل�سطيني يف انتفا�ضاته التي لن تتوقف حتى حترير الإرداة الوطنية‬ ‫وكامل الرتاب الفل�سطيني‪.‬‬

‫‪4‬‬


‫ملف العدد ‪ -‬ا لآثار‬

‫"معر�ض الآثار الفل�سطينية امل�سرتدة"‬ ‫�أقامت م�ؤ�س�سة �سعاده للثقافة وجمعية الإمناء الإجتماعي والثقايف – �إمناء‬ ‫وحتت رعاية معايل وزير الثقافة الأ�ستاذ رميون عريجي‬ ‫"معر�ض الآثار الفل�سطينية امل�سرتدة"‬ ‫(مبنا�سبة ذكرى وعد بلفور)‬ ‫وذلك يف ق�صر الأوني�سكو‪ -‬بريوت ‪ -‬من ‪ 2‬ولغاية ‪ 4‬ت�شرين الثاين ‪2015‬‬ ‫�أقيم حفل االفتتاح بتاريخ ‪ - 2‬ت�شرين الثاين ‪ ،2015‬وت�ضمن الربنامج كلمة للأ�ستاذ‬ ‫حليم فيا�ض (رئي�س م�ؤ�س�سة �سعاده للثقافة)‪ ،‬تالها ندوة بعنوان‪�" :‬سرقة وتدمري �آثار‬ ‫الهالل اخل�صيب"‪ ،‬وكانت كلمات ندرجها هنا لأهميتها لكل من ال�سادة‪ :‬الدكتور‬ ‫�أحمد ديب (مدير �ش�ؤون املتاحف يف مديرية الآثار – �سورية) – الدكتور �أ�سعد �سيف‬ ‫(م�ست�شار وزير الثقافة‪ ،‬خبري تراث – لبنان) – الدكتور حمدان طه (وكيل وزارة‬ ‫ال�سياحة والآثار �سابقاً‪ -‬فل�سطني)‪ -‬الدكتور مزهر اخلفاجي (�أ�ستاذ التاريخ واحل�ضارة –‬ ‫العراق)‪ .‬و�أدار الندوة الإعالمي �سامي كليب‪.‬‬

‫‪5‬‬


‫�أ�سماء و�أحداث‬ ‫الدكتور خليل �سعاده‬ ‫يف لبنان و�سوريا نف ٌر بلغت مرونة �ضمائرهم حداً فاح�شاً واجتازوا �أطواراً غريبة‪ .‬ففي �أيام عبداحلميد كانوا‬ ‫ي�سبحون بحمده ويحرقون البخور �أمام عر�شه‪ .‬يف �أيام الد�ستور بلغت حريتهم درجة البيا�ض من احلرارة‪ .‬ويف‬ ‫�أيام احلركة العربية تغنوا ب�أجماد العرب‪.‬‬ ‫ويف �أيام احلرب ترمنوا مبدح �أنور وجمال‪ .‬ويف �أيام احللفاء �سجدوا لدول احلرية والعدل‪ .‬ويف �أيام في�صل عفروا‬ ‫وجوهم على �أعتاب احلجاز‪ .‬ويف �أيام احلركة ال�سورية اال�ستقاللية وقفوا حتت لواء اال�ستقالل التام املطلق‪.‬‬ ‫ويف �أيام فرن�سا ت�سابقوا �إىل متجيد دولة احلرية والإخاء وامل�ساواة وال يزالون كذلك حتى ال�ساعة‪.‬‬ ‫خليل �سعاده‬ ‫م�ؤ�س�سة �سعاده للثقافة‬ ‫بناية ر�سامني‪� ،‬شارع احلمرا‪ ،‬ر�أ�س بريوت‪ ،‬لبنان‬ ‫�صندوق بريد‪ ،113-5557 :‬بريوت ‪ -‬لبنان‪.‬‬ ‫هاتف ‪)00961-1( 753363:‬‬ ‫فاك�س ‪)00961-1( 753364:‬‬ ‫الربيد الإلكرتوين ‪saadehcf@idm.net.lb:‬‬ ‫املوقع الإلكرتوين ‪www.saadehcf.org:‬‬


‫ملف العدد ‪ -‬ا لآثار‬

‫رت ّدة‬ ‫الآثار الفل�سطينية امل�س َ‬

‫حليم فيا�ض ‪ -‬رئي�س م�ؤ�س�سة �سعاده للثقافة‬

‫�أرحب بالقادمني الينا من بغداد ودم�شق وفل�سطني – م�س�ؤولني وعلماء �آثار‪ -‬يف هذا‬ ‫الزمن الذي يختلط فيه املا�ضي باحلا�ضر‪ .‬نحن د ّمرنا احلا�ضر‪ ،‬ف�أمكن لهم للظالميني‬ ‫تدمري املا�ضي‪� ،‬آثاراً وتاريخاً وهوية‪� .‬أرحب باحل�ضور الكرام فرداً فرداً الذين ت�شكل معاناة‬ ‫الأمة معاناة �شخ�صية لكل منهم‪.‬‬ ‫متعددة اجلوانب ومثقلة بالإ�شارات والرموز‪ .‬منا�سبة وعد بلفور‪ ،‬ومنا�سبة‬ ‫هذه املنا�سبة ّ‬ ‫عر�ض الآثار الفل�سطينية امل�س َرت ّدة‪ ،‬ومنا�سبة تدمري الآثار‪ .‬كتب الكثري عن املنا�سبة االوىل‬ ‫على مدى حوايل املئة عام املا�ضية‪ .‬لن �أ�ضيف �شيئاً ولكني �أ�ستذكر قو ًال لأنطون �سعاده‬ ‫وكان له من العمر �إحدى وع�شرين �سنة‪ ،‬ونحن يف هذه امل�ؤ�س�سة نفتخر ب�أننا نحمل تراثه‬ ‫الفكري‪ ،‬ا�ستذكر قو ًال يف مقال له ن�شر يف جريدة "املجلة" ال�صادرة يف �سان بولو بتاريخ‬ ‫‪ 1925/ 5/ 1‬مبنا�سبة زيارة قام بها اللورد بلفور اىل �سوريا؛ قال "ال يخيف �أ�صحاب احلركة‬ ‫ال�صهيونية التهويل من بعيد واجلعجعة‪ ،‬بل ال�شيء احلقيقي الذي يخيفهم هو املوت‪ ،‬ولو‬ ‫�ضحي بنف�سه يف �سبيل وطنه ويقتل بلفور‪ ،‬لكانت تغريت‬ ‫وجد يف �سوريا رجل فدائي ُي ّ‬ ‫الق�ضية ال�سورية من الوجهة ال�صهيونية تغرياً مده�شاً‪ .‬ف�إن ال�صهيونيني عندما يرون �أن‬ ‫واعدهم بفل�سطني قد لقى حتفه‪ ،‬يعلمون �أنهم يواجهون ثورة حقيقية على �أعمالهم غري‬ ‫امل�شروعة ويوقنون �أن �سوريا م�ستعدة للمحافظة على كل �شرب من �أر�ضها‪ .‬بكل ما لها‬ ‫من القوى"‪.‬‬ ‫هذا القول رمبا ما كان يعني قتل بلفور ج�سدياً‪ ،‬بل قتل وعده �أو م�شروعه �أو خمططه‬ ‫لإقامة الوطن القومي اليهودي يف فل�سطني‪ ،‬مع ما ّجر‪ ،‬وال يزال‪ ،‬على �أمتنا والعامل‪ ،‬من‬ ‫كوارث وويالت‪.‬‬ ‫�أما منا�سبة عر�ض الآثار الفل�سطينية امل�س َرت ّدة املعرو�ضة �أمامكم يف هذه القاعة‪ ،‬ف�أكتفي ب�سرد‬ ‫الق�صة بكل اخت�صار‪ :‬كان مو�شي دايان �أحد �أبرز جمرمي حرب العدو الإ�سرائيلي مولعاً‬ ‫بالتنقيب عن الآثار و�سرقتها واالتجّ ار بها والت�ص ّرف بها ت�ص ّرف املالك مبلكه‪ .‬لذلك �أهدى‬ ‫عدداً من القطع االثرية اىل بع�ض غالة الأمريكيني ال�صهاينة يف خم�سينيات القرن املا�ضي‪.‬‬ ‫‪7‬‬


‫وبعد م�ضي �أكرث من ن�صف قرن عمد �أحفاد ه�ؤالء العتاة‪ ،‬عندما �أ�ضحت هذه القطع‬ ‫الأثرية ال تعنيهم اال مبقدار قيمتها النقدية‪ ،‬على بيعها باملزاد العلني‪ .‬وهكذا متكنت‬ ‫امل�ؤ�س�سة باال�شرتاك مع "جمعية �إمناء" من �شراء هذه القطع وا�ستقدامها اىل لبنان‬ ‫بالطرق القانونية املطلوبة‪.‬‬ ‫اما منا�سبة تدمري و�سرقة الآثار‪ ،‬فلن �أقول فيها �شيئاً مكتفياً بالطبع مبا �سيقوله امل�شاركون‬ ‫الكرام بعد قليل‪.‬‬ ‫ولكنني �إزاء خ�سارة مداميك من احل�ضارة �أقامها �شعبنا على مر الع�صور‪ ،‬ال يعو�ضنا‬ ‫�إال ارادة �شعبنا وقدرته على �إقامة مداميك جديدة‪ ،‬علماً �أن التحديات احلا�ضرة‪ ،‬على‬ ‫رغم فداحتها‪ ،‬يجب ان ال تكون �إال حتديات تنتج ا�ستجابات خالقة وبناءة عم ًال مبقولة‬ ‫عامل فل�سفة التاريخ الربيطاين ارنولد توينبي ‪ - challenge and response‬التحدي‬ ‫واال�ستجابة‪.‬‬ ‫وا�سمحوا يل �أخرياً �أن �أختم بهذه الكلمة مبا فيها من �إ�شارات ورموز‪.‬‬ ‫من اخلط�أ القول �إن فل�سطني قد �ضاعت‪� ،‬إنها ُ�سرقت بكل ما للكلمة من معنى‪ .‬اقتحمت‬ ‫ال�صهيونية فل�سطني و�سرقتها على مراحل‪ ،‬وال تزال �أعمال ال�سرقة متمادية‪� .‬سرقت‬ ‫فل�سطني العام ‪ 48‬فا�ستخرج �أحد كبار ال�سارقني‪ ،‬مو�شي دايان‪ ،‬بع�ضاً من تاريخها و�آثارها‬ ‫ونقو�شها و�أهداه ر�شوة اىل بع�ض كبار الداعمني لعملية ال�سرقة‪ ،‬بهدف ا�ستمرار الدعم‬ ‫وا�ستدراره‪ .‬هكذا �أهدى دايان رئي�س �صندوق النداء املوحد ال�صهيوين قطع ُا من �آثار‬ ‫فل�سطني‪ .‬ثمار ال�سرقة االوىل‪� ،‬أي هذه القطع الأثرية‪ ،‬كانت مدداً للإقدام على ارتكاب‬ ‫جرائم ال�سرقات الالحقة‪ .‬دم ال�ضحية ا�ست�سقى مزيداً من دم ال�ضحية ذاتها‪� .‬إن ا�ستعادة‬ ‫قطع �أثرية فل�سطينية لي�ست بدي ًال من ا�ستعادة فل�سطني‪ ،‬يف هذا امل�سار االنحداري للق�ضية‬ ‫الفل�سطينية‪� ،‬إن ا�ستعادة هذه القطع هي رمز ال�ستعادة فل�سطني‪� .‬إنه الرمز امل�ستند اىل‬ ‫و�ضوح الر�ؤية والت�شبث باحلق القومي والرهان‪ ،‬رمبا‪ ،‬على �أجيال قادمة ال�ستعادة احلق‬ ‫كامالً‪.‬‬

‫‪8‬‬


‫ملف العدد ‪ -‬ا لآثار‬

‫دور مديرية الآثار يف حماية �آثار �سوريا‬ ‫�أحمد ديب ‪ -‬مدير �ش�ؤون املتاحف يف مديرية الآثار ‪� -‬سوريا‬

‫"نيابة عن ال�سيد مدير عام الآثار واملتاحف ال�سورية د‪ .‬م�أمون عبد الكرمي الذي كلفني بتمثيل‬ ‫وزارة الثقافة ــ املديرية العامة للآثار واملتاحف بهذه الندوة الهامة"‪.‬‬ ‫�إن �سوريا بالدنا بالد التاريخ والثقافة العريق موطن �أقدم احل�ضارات على وجه املعمورة من ماري‬ ‫و�إبال �إىل �أوغاريت‪ ،‬و�أفاميا وتدمر‪ .‬موطن لأكرث من ع�شرة �آالف موقع �أثري؛ �إنها موطن الإن�سان‬ ‫الأول و�أول �أبجدية يف التاريخ؛ �إنها بالد الإبداع املعماري والفني والفل�سفي والأدبي؛ بالد‬ ‫املعري و�أبو متام و�أبو الطيب املتنبي وحمي الدين بن عربي‪� ،‬إن بالدنا وتراثها احل�ضاري العظيم‬ ‫هذا تتعر�ض الآن لأكرب هجمة ظالمية عرفها التاريخ‪.‬‬ ‫يقوم الهمجيون املجرمون يف املناطق التي �سيطروا عليها‪ ،‬بنهب مواقع الآثار وتخريبها‪ ،‬وتدمري‬ ‫الأوابد الأثرية كما جرى �سابقاً يف منرود واملو�صل يف العراق ويجري حالياً يف تدمر وغريها‪ ،‬وتقوم‬ ‫الع�صابات امل�سلحة املدعومة خارجياً من بع�ض الدول بتهديد ال�سكان الآمنني و�إجبارهم بقوة‬ ‫ال�سالح‪ ،‬ملنعهم من التدخل للح�ؤول دون ذلك ومت ويتم اغتيال العديد من الكوادر واملخت�صني‬ ‫كان �آخرها الباحث ال�سوري الأ�ستاذ خالد الأ�سعد‪.‬‬ ‫�إن مواقع الرتاث العاملي ال�ستة امل�سجلة على الئحة اليون�سكو قد و�ضعت كمواقع معر�ضة للخطر‪،‬‬ ‫وحتى الآن مل نتمكن من ح�صر �أ�ضرارها و�أ�ضرار غريها من املواقع ب�سبب �صعوبة الو�صول �إليها‬ ‫لكونها تقع يف املناطق امل�سيطر عليها من قبل الإرهابيني‪.‬‬ ‫�إن الإرث احل�ضاري العريق يف بالدي‪ ،‬على الرغم من �أنه جاء نتيجة لعمل وجهود �أجيال متتالية‬ ‫من ال�سوريني‪� ،‬إنه من �إبداع ال�شعب ال�سوري املتجذر تاريخياً‪� ،‬إال �أنه وبالوقت نف�سه �إرث �إن�ساين‬ ‫لأنه ت�أثر ومار�س ت�أثريه على العديد من احل�ضارات العاملية‪ ،‬وت�شابك معها‪ ،‬فهو �إذاً ملك للح�ضارة‬ ‫الإن�سانية جمعاء‪.‬‬ ‫�إن مهمة حماية الآثار ال�سورية من هذه الغزوة الرببرية التي جتتاح بالدي‪ ،‬ولن ت�سلم منها يف حال‬ ‫جنحت بلدان عديدة �أخرى‪ ،‬ال تقع فقط على ال�سوريني وحدهم‪ ،‬و�إمنا تقع على عاتق املجتمع‬ ‫العاملي املتح�ضر ب�أ�سره‪.‬‬ ‫‪9‬‬


‫�إن خ�سارة هذا الرتاث‪ ،‬هو خ�سارة للإن�سانية جمعاء‪ .‬من هنا‪ ،‬ف�إن ما نرجوه هو �أن تكون ال�شعوب‬ ‫وامل�ؤ�س�سات ذات ال�صلة بهذا املجال على م�ستوى امل�س�ؤولية‪ ،‬و�أن تكون م�ساهمتها يف حماية‬ ‫�آثار �سورية كبرية‪ ،‬مبقدار عظمة هذا الرتاث‪ .‬ويف هذا ال�سياق ال ي�سعنا �إال �أن نتقدم بال�شكر‬ ‫العميق مل�ؤ�س�سة �سعادة للثقافة والقائمني عليها لدعوتنا حل�ضور هذا اللقاء الهام الذي يهدف �إىل‬ ‫الوقوف على الأخطار املحدقة بالرتاث الثقايف يف منطقتنا وما يتعر�ض له من �سرقة وتخريب ونهب‬ ‫ممنهج من قبل فاقدي هذا التاريخ احل�ضاري الطويل الذي تتميز به املنطقة‪ ،‬وال بد من الإ�شارة‬ ‫�إىل الدور الهام الذي قامت به هذه امل�ؤ�س�سة يف مفا�صل عديدة من �أجل حماية الرتاث يف‬ ‫�سوريا‪ ،‬خ�صو�صاً اجلهود الكبرية التي قامت بها بالتعاون مع املديرية من �أجل �إيقاف بيع الن�صب‬ ‫الآ�شوري املكت�شف يف تل ال�شيخ حمد الذي كان معرو�ضاً للبيع يف مزاد علني يف بونهامز‪.‬‬ ‫�أ َّما من جهة الدور الذي قامت به مديرية الآثار واملتاحف يف �سورية حلماية الرتاث ال�سوري‪ ،‬وما‬ ‫قدمته من عمل حثيث حلفظه‪ ،‬ف�إننا ن�ؤكد �أن املديرية مل ت�أل جهداً لأجل حتقيق ذلك‪ ،‬منطلقة يف‬ ‫ذلك من ر�ؤية عامة ا�ستندت خلم�سة �أ�س�س رئي�سية‪:‬‬ ‫التوعية ‪:‬‬

‫ر ّكزت املديرية العامة للآثار واملتاحف يف ن�شاطها منذ بدء الأحداث امل�ؤملة‪ ،‬على �إ�شراك جميع‬ ‫ال�سوريني يف الدفاع عن الرتاث الأثري الذي يج�سد تاريخهم وذاكرتهم امل�شرتكة‪ّ ،‬‬ ‫وكل ما‬ ‫جمعهم على م ّر الزمن‪� ،‬ضد �أعمال ال�سرقة والنهب والتخريب‪.‬‬ ‫متا�سك املوظفني على جميع امل�ستويات‪:‬‬ ‫بف�ضل هذه الر�ؤية كان �أداء املوظفني يف املديرية العامة للآثار واملتاحف مهنياً وعلمياً وفعا ًال‪،‬‬ ‫وقد ظلت الكوادر متحدة يف جميع املحافظات‪� ،‬أ�سفرت جهودهم بالنجاح يف كثري من املناطق‬ ‫واحلاالت‪.‬‬ ‫حيث متَّت حماية املقتنيات من �أغلب املتاحف يف �سورية ونقلها �إىل �أماكن �آمنة‪ ،‬وكان من �أهم‬ ‫�أولوياتنا احلفاظ عليها‪ ،‬مما �أدى �إىل حتقيق نتائج �إيجابية بالتعاون مع �أع�ضاء املجتمعات املحلية‬ ‫حلماية املواقع الأثرية واحلفاظ عليها‪.‬‬ ‫املهنية‪:‬‬

‫حالت املديرية العامة للآثار واملتاحف منذ بدء الأحداث امل�ؤملة‪ ،‬دون توظيف ق�ضية الآثار لغايات‬ ‫�سيا�سية ت�سيء لها‪ ،‬ونا�شدت املديرية العامة اجلميع باالبتعاد عن املواقع الأثرية واحرتام حرمتها‪،‬‬ ‫اتفاقاً مع التزامات �سورية الدولية التي تن�ص على حماية املمتلكات الثقافية �أثناء النزاع‪.‬‬ ‫‪10‬‬


‫ملف العدد ‪ -‬الآثار‬

‫احلد من الأ�رضار والعمل على تقلي�صه‪:‬‬

‫منذ بداية الأزمة قمنا ب�إطالق حملة وطنية لتوعية النا�س ب�ضرورة حماية املتاحف واملواقع الأثرية‪,‬‬ ‫وا�ستجبنا على الفور مع �أول �إ�شارات اخلطر‪ ،‬وو�ضعت الأموريف ن�صابها منذ البداية‪ .‬وقد ظهر‬ ‫ذلك من خالل احلفاظ على طواقم الكوادر ب�صورة كاملة من املوظفني واحلرا�س‪ ،‬الذين ا�ستمروا‬ ‫بتقا�ضي رواتبهم من دون انقطاع‪ .‬و َّمت تفريغ املتاحف من القطع الأثرية وتخزينها يف �أماكن �آمنة مما‬ ‫جعلنا مل نفقد �أياً من هذه املقتنيات الثمينة‪ ،‬با�ستثناء بع�ض احلاالت حيث مل نكن قادرين على‬ ‫منع �أعمال النهب التي طالت املواقع الأثرية‪ ،‬ب�سبب عنف الأحداث يف بع�ض املناطق‪ .‬حيث‬ ‫ن�ستطيع القول ب�أن املديرية انقذت �أكرث من ‪ % 98‬من مقتنياتها املتحفية‪.‬‬ ‫التعاون اخلارجي مع جميع اجلهات الدولية املعنية بالرتاث الثقايف جلهة تبادل املعلومات فيما‬ ‫يخ�ص ح�صر الأ�ضرار والتعاون مع املنظمات لوقف االجتارغري امل�شروع بالآثار‪ .‬ومن جانب �آخر‬ ‫التزامنا بالتعاون الدويل مع بعثات التنقيب اخلارجية‪ .‬ملا لدى �سورية من تعاون طويل الأمد مع‬ ‫عدد كبري من هذه البعثات‪.‬‬ ‫�إننا واثقون من �أن تظافر اجلهود ال�سورية والدولية �سيحول دون تدمري هذا الرتاث الإن�ساين‬ ‫العظيم‪ ،‬م�ؤكدين ب�أن تخريب هذه الكنوز التي ال تقدر بثمن هو �إ�ضرار بروح ال�شعب وهويته‪،‬‬ ‫مت�س ال�سوريني جميعاً‪ ،‬وت�شكل انتهاكاً �صارخاً ال يجوز �أن نقف �أمامه‬ ‫هو جرمية بكل املقايي�س ّ‬ ‫�صامتني‪ ،‬لكونه ينذر بخ�سارة قد تكون �أبدية لبع�ض مكونات الرتاث الأثري ال�سوري‪.‬‬ ‫�أ�شعر بالفخر لكوين �أعمل يف هذه امل�ؤ�س�سة‪ ،‬التي متكنت من ح�شد كل الطاقات على الرغم من‬ ‫كل املخاطر‪ .‬كما �أنني فخور بزمالئي الذين مل يرتددوا بالقيام بواجبهم اليومي حلماية �آثار بلدهم‬ ‫يف هذا التوقيت اخلطري‪.‬‬ ‫تلك هي �إحدى اللحظات التي ك�شفت عن عظمة بالدنا‪ .‬على الرغم من �أن الأخطار التي‬ ‫حتيط بالرتاث الأثري ال�سوري خارج قدراتنا لأن مواردنا حمدودة‪ ،‬ولكنها ال ميكن ب�أي حال من‬ ‫الأحوال‪ ،‬هزمية �إرادتنا‪.‬‬ ‫�إن الأحداث التي جتري يف �سورية اليوم دعوة لنا جميعاً لكي نبذل ق�صارى جهدنا معاً لو�ضع حد‬ ‫لهذه اجلرمية الكربى التي يتعر�ض لها الرتاث الثقايف الإن�ساين يف بالدي‪.‬‬ ‫لن ن�ست�سلم على الرغم من الظروف ال�سيئة التي متر بها �سورية‪ ،‬وت�أتي م�شاركتنا اليوم ب�سبب �إمياننا‬ ‫بقدرتنا (ك�سوريني يحبون بلدهم وتاريخها العظيم) على �إنقاذ ثقافتها‪.‬‬ ‫‪11‬‬


12


‫ملف العدد ‪ -‬ا لآثار‬

‫خطورة ا�ستخدام الآثار يف الق�ضايا الإيديولوجية‬ ‫د‪� .‬أ�سعد �سيف ‪ -‬م�ست�شار وزير الثقافة ‪ -‬خبري تراث ‪ -‬لبنان‬

‫يف مطلع اتفاقية اليون�سكو للعام ‪ 1970‬املتعلقة ب ِـ "حظر ومنع ا�سترياد وت�صدير ونقل ملكية‬ ‫املمتلكات الثقافية بطرق غري م�شروعة" ت�ؤكد الدول امل�صادقة على �أن املمتلكات الثقافية‬ ‫ت�شكل عن�صراً من العنا�صر الأ�سا�سية للح�ضارة وللثقافة الوطنية‪ .‬ويتعينّ على كل دولة‬ ‫احرتام تراثها الثقايف والرتاث الثقايف جلميع الأمم الأخرى‪ .‬بالإ�ضافة اىل الت�شديد على �أن‬ ‫نقل ملكية املمتلكات الثقافية بطرق غري م�شروعة هي من الأ�سباب الرئي�سية لإفقار الرتاث‬ ‫الثقايف يف املواطن الأ�صلية لهذه املمتلكات‪.‬‬ ‫وما جنتمع من �أجله اليوم ما هو �إال تطبيق هذا املفهوم عملياً من خالل ا�سرتجاع ما ُ�س ِل َب يف‬ ‫املا�ضي من تراث ثقافة �أر�ض فل�سطني‪.‬‬ ‫لكن من �أجل فهم ما حدث اي نهب تلك املمتلكات الثقافية من الأرا�ضي الفل�سطينية‬ ‫وملاذا حدث ذلك يجب �أن نغو�ص يف مو�ضوع خطري وهو ا�ستعمال التاريخ والآثار والرتاث‬ ‫�سمى‬ ‫يف الق�ضايا الإيديولوجية وال�سيا�سية احلا�ضرة‪ .‬هنا ال بد لنا من �أن ن�ستعر�ض ما ُي ّ‬ ‫بالأرخيولوجيا التوراتية التي حتاول �أن جتد يف الآثار والأطالل املكت�شفة يف �أر�ض الواقع‬ ‫ت�أكيداً وت�أوي ًال لأحداث ح�صلت يف املا�ضي ‪ ...‬هذا و�إن ح�صلت ‪...‬‬ ‫�أما الأخطر يف كل ذلك هو العالقة مع الآخر التي تفر�ضها هذه املقاربة الإيديولوجية للتاريخ‬ ‫والآثار‪ ...‬وبالتايل رف�ض هذا الآخر ورف�ض حقه يف الوجود على تلك البقعة من الأر�ض‬ ‫وال�ضرب بعر�ض احلائط هويته وتاريخه‪...‬‬ ‫يتج�سد ال�صراع يف عنا�صره الأ�سا�سية وي�صبح البحث عن ال�سلف الغابر عملية‪ ،‬لي�س‬ ‫وهنا ّ‬ ‫ال�ص ُعد العلمية والعملية كافة‪ ...‬وهذا ُيترَ َجم‬ ‫فقط �إيديولوجية �إمنا عملية تدمريية ممنهجة على ُ‬ ‫بالبحث عن خملفات �أ�سالف الآخر من �أجل حتويرها �أو �سلبها وتدمريها وتدمري كل ما خلفه‬ ‫هذا ال�سلف من ثقافة مادية يف حماولة حمو حقه بالوجود على هذه البقعة من الأر�ض‪...‬‬ ‫وهذا العمل معروف يف علم االجتماع ال�سيا�سي ب�إ�سم ‪� ... Past Mastering ...‬أو‬ ‫"التحكم بالرواية التاريخية وخملفاتها املادية"‪ .‬وهذا ما ر�أيناه يحدث بعد احلرب العاملية‬ ‫الثانية حيث كان يتم حمو كل ما يتعلق باجلرمانية وذيولها احلديثة‪ ،‬وك�أنهم بذلك ميحون‬ ‫‪13‬‬


‫تلك الفرتة من تاريخ �أوروبا املعا�صر وذاكرة �شعوبها‪.‬‬ ‫يف ظل كل ما ذكرناه‪� ،‬إن اجتماعنا اليوم ما هو �إال ا�صرارنا على �أهمية‪ ...‬بل �ضرورة ‪ ...‬احرتام‬ ‫حق الآخر بالوجود والتعبري عن هذا الوجود بالو�سائل الثقافية واالجتماعية واحل�ضارية كافة‪.‬‬ ‫ومن خالل هذا العمل التي تقوم به م�ؤ�س�سة �سعاده ومن خالل التعاون بني القطاعني العام‬ ‫واخلا�ص �أي بني هذه امل�ؤ�س�سة ووزارة الثقافة مت تطبيق مفاعيل اتفاقية اليون�سكو للعام ‪،1970‬‬ ‫بحيث ان وزارة الثقافة قد �سمحت ب�إدخال القطع الأثرية التي ّمت �شرا�ؤها من دار املزاد العلني‬ ‫يف الواليات املتحدة الأمريكية والتي مت ت�صديرها وفقاً للأ�صول مع الأوراق الر�سمية الالزمة‪،‬‬ ‫أر�ض فل�سطينية‪ ...‬ولذلك ّمت االتفاق بو�ضوح‬ ‫مع العلم ب�أنها كانت قد �سلبت قبل ذلك من � ٍ‬ ‫بني م�ؤ�س�سة �سعاده ووزارة الثقافة على وجوب �إعادة تلك القطع الأثرية امل�سلوبة وامل�ستعادة‬ ‫من قبلهم م�شكورين اىل �أ�صحابها ال�شرعيني يف امل�ستقبل الذي نرجوه قريباً‪.‬‬ ‫وبذلك تكون وزارة الثقافة ومب�ساعدة القيمني على م�ؤ�س�سة �سعاده قد طبقت جوهر وروحية‬ ‫اتفاقية اليون�سكو للعام ‪ 1970‬والتي تن�ص على احرتام حق الآخر بالوجود واملحافظة على‬ ‫تراثه وثقافته وتاريخه‪.‬‬

‫‪14‬‬


‫ملف العدد ‪ -‬ا لآثار‬

‫�إدارة الآثار حتت االحتالل يف فل�سطني‬

‫د‪ .‬حمدان طه ‪ -‬وكيل وزارة ال�سياحة والآثار �سابقاً ‪ -‬فل�سطني‬ ‫مقدمة‬

‫تعترب الآثار �أحد ميادين ال�صراع االيديولوجي الرئي�سة يف فل�سطني‪ ،‬وعلى مدار مئة عام من‬ ‫الن�شاط الأثري يف فل�سطني ونحو خم�سة عقود �سنة من الن�شاط الأثري الإ�سرائيلي يف الأرا�ضي‬ ‫الفل�سطينية بعد عام ‪( 1967‬طه ‪ ،)2009‬جرت تنقيبات �أثرية منظمة و�إنقاذية يف مئات املواقع‬ ‫الأثرية‪ ،‬يف انتهاك �صريح للقانون الدويل‪ ،‬وكان الهدف من التنقيبات �إعادة كتابة تاريخ هذه‬ ‫املواقع مبا يخدم االدعاءات اال�ستيطانية ال�صهيونية يف فل�سطني (ويتالم ‪ ،)1999‬من خالل‬ ‫خلق �صلة بني املا�ضي واحلا�ضر‪� ،‬أما الوجه الآخر للن�شاط الأثري ال�صهيوين فقد جتلى يف‬ ‫نهب املوارد الأثرية ونقلها �أو اال�ستحواذ عليها يف نطاق امل�ستوطنات الإ�سرائيلية واملع�سكرات‪،‬‬ ‫�أو �ضمها باجلملة خلف جدار الف�صل العن�صري‪ .‬وقد �أ ّدت عمليات االجتار غري القانوين �إىل‬ ‫تدمري ال�سياقات الأثرية الفل�سطينية‪ ،‬من خالل حتفيز عمليات التنقيب غري ال�شرعية‪ .‬وتعالج‬ ‫هذه الورقة مو�ضوع �إدارة الآثار حتت االحتالل وت�شمل الإطار الإداري والقانوين والتنقيبات‬ ‫غري القانونية‪ ،‬مع معطيات �أولية عن حجمها وتوزيعها‪ ،‬ثم مو�ضوع االجتار غري القانوين بالآثار‬ ‫واملمتلكات الثقافية وذلك يف الإطار القانوين الدويل وال�سيا�سي املحلي‪ .‬كما ت�أتي الورقة‬ ‫على انبعاث دائرة الآثار الفل�سطينية بعد ‪ 1994‬واجلهود التي تقوم بها لإدارة الرتاث الثقايف‬ ‫الفل�سطيني‪.‬‬ ‫الإطار القانوين الدويل‬

‫هناك جمموعة من الوثائق واملعاهدات الدولية التي تنظم و�ضع الآثار والرتاث الثقايف حتت االحتالل‬ ‫يف حالة النزاع احلربي‪ ،‬و�أهم الوثائق واملعاهدات الدولية يف هذا ال�صدد هي اتفاقية الهاي ل�سنة‬ ‫‪ 1907‬واتفاقية جنيف الرابعة ل�سنة ‪ 1949‬وملحقاتها‪ ،‬ثم اتفاقية الهاي حلماية املمتلكات الثقافية‬ ‫�أثناء النزاع امل�سلح ل�سنة ‪ ،1954‬وتو�صيات امل�ؤمتر الدويل التا�سع حول التنقيبات الأثرية يف دلهي‬ ‫�سنة ‪ ،1956‬ومق ّررات اجلمعية العامة للأمم املتحدة وجمل�س االمن واملقررات ال�صادرة عن منظمة‬ ‫اليون�سكو واجلامعة العربية ومنظمة امل�ؤمتر الإ�سالمي‪ ،‬وم�ؤمترات الآثار الدولية‪.‬‬ ‫‪15‬‬


‫وقد دعت االتفاقيات الدولية �إىل حماية الآثار واملمتلكات الثقافية‪ ،‬فقد ن�صت املادة رقم ‪27‬‬ ‫من الفقرة الرابعة من امللحق الرابع من �أنظمة الهاي ل�سنة ‪ 1907‬على واجب القوات يف حالة‬

‫ح�صارها اتخاذ الو�سائل كافة لعدم امل�سا�س باملباين املعدة للعبادة وللفنون والعلوم والأعمال‬ ‫اخلريية والآثار التاريخية‪ .‬كما حرمت املادة ‪ 56‬من �أنظمة الهاي ل�سنة ‪� 1954‬أي حجز �أو‬ ‫تخريب للمن�ش�آت املخ�ص�صة للعبادة والبرِ ّ واملباين التاريخية‪ .‬و�ألزمت املادة اخلام�سة من اتفاقية‬ ‫الهاي كل طرف يحتل �إقليماً �أو جزءاً منه تقدمي العون حلكومة الطرف الذي احتلت �أر�ضه‬ ‫يف حماية املمتلكات الثقافية واتخاذ الإجراءات الالزمة حلماية املمتلكات الثقافية‪ .‬وت�ضمنت‬ ‫الربوتوكوالت الإ�ضافية التفاقية جنيف الرابعة ل�سنة ‪ 1977‬يف املادة رقم ‪ 53‬من الربوتوكول‬ ‫االول واملادة رقم ‪ 16‬من الربوتوكول الثاين حظراً بارتكاب �أية �أعمال عدائية موجهة �ضد الآثار‬ ‫التاريخية �أو الأعمال الفنية و�أماكن العبادة التي ت�شكل الرتاث الثقايف والروحي لل�شعب‪.‬‬ ‫وطالبت جمموعة كبرية من قرارات اليون�سكو �إ�سرائيل بحماية املمتلكات الثقافية‪ ،‬كما �أدانت‬ ‫�إ�سرائيل ب�صفتها قوة حمتلة مراراً وتكراراً النتهاكها امليثاق املتعلق باملحافظة على املمتلكات‬ ‫الثقافية‪ ،‬و�أدانت جرمية حرق امل�سجد الأق�صى بتاريخ ‪� 21‬آب ‪ .1969‬وطالبت �إ�سرائيل باحلفاظ‬ ‫على جميع املواقع واالبنية واملمتلكات الثقافية الأخرى والتوقف عن اجراء التنقيبات الأثرية‬ ‫يف الأرا�ضي املحتلة‪ .‬ويعالج القانون الدويل م�س�ألة التخريب املتعمد للممتلكات الثقافية‬ ‫ويحا�سب عليها كجرمية حرب‪ ،‬فقد ق ّررت حمكمة نورنربغ اعتبار االعتداء على الآثار واملباين‬ ‫التاريخية من دون �سبب م�شروع جرمية حرب ا�ستناداً �إىل املادة ‪ 6‬فقرة ب من ميثاق املحكمة‪.‬‬ ‫وتعتني تو�صيات م�ؤمتر نيودلهي ل�سنة ‪ 1956‬باملعايري املنطبقة على التنقيبات الأثرية يف ظل‬ ‫االحتالل‪ .‬وحترم �إجراء التنقيبات الأثرية املنظمة من قبل �سلطة االحتالل‪ ،‬وت�ضع ال�ضوابط‬ ‫حول التنقيبات الإنقاذية واالكت�شافات العر�ضية‪ .‬وتعالج االتفاقية الدولية حول منع ا�سترياد‬ ‫وت�صدير ونقل ملكية املمتلكات الثقافية ال�صادرة عن اليون�سكو ل�سنة ‪ 1970‬ق�ضية االجتار غري‬ ‫امل�شروع‪ ،‬وهي االتفاقية التي مل توقع عليها �إ�سرائيل حتى الآن‪.‬‬ ‫كما تنظم االتفاقية الدولية للرتاث الثقايف والطبيعي العاملي املواقع امل�سجلة على الئحة‬ ‫الرتاث العاملي‪ .‬وقد �صدرت م�ؤخراً العديد من التو�صيات حول التدمري املتعمد للرتاث‬ ‫الثقايف واحرتام التنوع الثقايف �إىل جانب االتفاقية الدولية للرتاث الثقايف غري املادي‪ .‬وت�شكل‬ ‫هذه االتفاقيات والتو�صيات الدولية املرجعية القانونية الدولية التي تنظم و�ضع الآثار والرتاث‬ ‫الثقايف الفل�سطيني حتت االحتالل‪.‬‬ ‫�إدارة االحتالل الإ�رسائيلي للآثار ‪1994 - 1967‬‬

‫بعد احتالل الأرا�ضي الفل�سطينية العام ‪� 1967‬أنيطت �صالحيات الآثار �إىل احلاكم الع�سكري‬ ‫‪16‬‬


‫ملف العدد ‪ -‬الآثار‬ ‫الإ�سرائيلي (طه‪ ،)2009 ،2003 ،‬وقد مت الإبقاء على قانون الآثار االردين رقم ‪ 51‬ل�سنة ‪1966‬‬ ‫يف ال�ضفة الغربية و�أنظمة الآثار القدمية الفل�سطينية ل�سنة ‪ 1929‬يف غزة‪ .‬وت�أ�س�ست يف ظل‬

‫احلكم الع�سكري �إدارة للآثار ير�أ�سها �ضابط الآثار الذي يتبع احلكم الع�سكري والإدارة املدنية‪.‬‬ ‫وتعاقب عليها عدد من ال�ضباط الع�سكريني الإ�سرائيليني‪ .‬ومن �أجل �إحكام �سيطرتها على‬ ‫املقدرات الأثرية جرى �إدخال عدد من التعديالت على القانون مبوجب �سل�سلة من الأوامر‬ ‫الع�سكرية الإ�سرائيلية‪ ،‬فقد انيطت �صالحيات مدير الآثار يف القانون االردين �إىل احلاكم‬ ‫الع�سكري الإ�سرائيلي‪ ،‬و ّمت تعطيل العمل ببع�ض بنود القانون االردين ال�سائد‪ ،‬خ�صو�صاً تلك‬ ‫املتعلقة باملجل�س اال�ست�شاري‪ ،‬الذي ير�أ�سه الوزير‪ .‬ويف �سنة ‪ 1986‬جرت تعديالت وا�سعة على‬ ‫قانون الآثار االردين وذلك مبوجب االوامر الع�سكرية رقم ‪ 1166‬و‪ ،1167‬وطالت التعديالت‬ ‫ق�ضايا الرتخي�ص واالجتار بالآثار‪ .‬وعلى �ضوء التغيريات اجلديدة يف القانون جرى تفعيل‬ ‫املجل�س اال�ست�شاري‪ ،‬ولكن بت�شكيل جديد‪ ،‬حيث �أ�صبح يتك ّون من مدير الإدارة املدنية‬ ‫رئي�ساً و�ضابط الآثار ورئي�س �سلطة الآثار الإ�سرائيلية‪ ،‬واثنني من علماء الآثار الإ�سرائيليني‬ ‫املرموقني وموظفني �آخرين من الإدارة املدنية (‪)Greenberg and Keinan 1997:16-17‬‬ ‫�أما التعديل الرئي�سي الثاين على القانون (الفقرة الثالثة من الأمر الع�سكري)‪ ،‬وهو ق�سم "ب"‬ ‫حول التنقيبات وامل�سوح الأثرية‪ ،‬لتنطبق على التنقيبات التي يقوم بها �ضابط الآثار الإ�سرائيلي‬ ‫�أو التنقيبات التي جتري با�سمه‪ .‬وقد منح التعديل �ضابط الآثار الإ�سرائيلي �سلطات قانونية �شبه‬ ‫مطلقة يف الأرا�ضي الفل�سطينية‪ ،‬و�أطلقت يده يف املواقع من دون ح�سيب �أو رقيب �سواء من‬ ‫قبل احلكم الع�سكري الإ�سرائيلي والإدارة املدنية �أو من قبل احلكومة الإ�سرائيلية نف�سها‪.‬‬ ‫وال �شك يف �أن التعديالت اجلديدة جاءت لإحكام قب�ضة االحتالل على املوارد الأثرية‬ ‫الفل�سطينية وال�سيطرة عليها وتوظيفها �ضمن امل�شروع اال�ستيطاين يف الأرا�ضي الفل�سطيني‬ ‫(‪. )Taha 2015‬‬ ‫ورغم �أن اخلطاب الر�سمي الإ�سرائيلي العام ال ينظر �إىل دولة االحتالل ك�سلطة حمتلة‪ ،‬اال‬ ‫ان ت�شكيل هذه الإدارة املنف�صلة عن �سلطة الآثار الإ�سرائيلية ميثل التزاماً �شكلياً باالتفاقيات‬ ‫الدولية‪ .‬فان �إ�سرائيل تت�صرف عمليا ك�سلطة احتالل ال تقيم اعتباراً كبرياً لالتفاقيات الدولية‬ ‫حول و�ضع الآثار‪ ،‬وحتر�ص يف الوقت نف�سه على �إبراز الن�شاط الأثري الإ�سرائيلي يف الأرا�ضي‬ ‫الفل�سطينية كن�شاط يتعلق ب�إجراءات احلماية والإنقاذ (�أثناء البناء �أو ملحاربة �سرقة الآثار)‪ ،‬يف‬ ‫حماولة لالن�سجام �شكلياً مع متطلبات القانون الدويل‪ .‬مبا يف ذلك الت�أكيدات ب�أن املكت�شفات‬ ‫الأثرية كافة مودعة يف خمازن �ضابط الآثار ومل ينقل �أي منها ب�شكل نهائي �إىل �إ�سرائيل‪،‬‬ ‫رغم الإعارة طويلة املدى لبع�ضها (‪ )Greenberg and Keinan1997:18‬وهذا االدعاء تنفيه‬ ‫الوقائع‪ ،‬فهي تعترب من جهة �أن التنقيب يف القد�س املحتلة يقع �ضمن �صالحيات �سلطة الآثار‬ ‫الإ�سرائيلية‪ ،‬ت�أكيداً على قرار �ضم مدينة القد�س العربية‪ .‬وجتري تنقيبات منظمة طويلة الأمد‬

‫‪17‬‬


‫يف العديد من املواقع الأثرية يف الأرا�ضي الفل�سطينية‪ ،‬مثال التنقيبات التي جرت يف موقع‬ ‫تل الفريدي�س يف بيت حلم وتلول �أبو العاليق يف �أريحا وجبل جرزمي يف نابل�س وتل الرميدة يف‬ ‫اخلليل‪ .‬وقبل االن�سحاب االحادي اجلانب من غزة قامت �سلطات االحتالل ب�إجراء تنقيبات‬ ‫وا�سعة يف غزة ودير البلح‪.‬‬ ‫االتفاقية االنتقالية‬

‫بعد توقيع مذكرة التفاهم �سنة ‪ 1993‬جرى نقل لل�صالحيات يف �أريحا وغزة �إىل ال�سلطة‬ ‫الفل�سطينية(‪ . )DPISP 1993‬ويف العامني ‪ 1994‬و‪ 1995‬جرى نقل لل�صالحيات وامل�س�ؤوليات‬ ‫يف �أجزاء �إ�ضافية يف ال�ضفة الغربية وقطاع غزة يف العديد من املجاالت‪ ،‬مبا يف ذلك الآثار يف‬ ‫املنطقتني "�أ" و "ب"‪ ،‬والتي ت�شكل حوايل ‪ % 40‬من م�ساحة الأرا�ضي املحتلة �سنة ‪.1967‬‬ ‫�أما بالن�سبة �إىل منطقة "ج" فقد مت االتفاق على نقل �صالحيات الآثار فيها ب�شكل تدريجي‬ ‫�إىل اجلانب الفل�سطيني‪ .‬وح�سب البند الأول من ن�صو�ص �إعالن املبادئ حول ترتيبات الإدارة‬ ‫توجب االنتهاء من مفاو�ضات املرحلة االنتقالية يف �شهر �أيار �سنة ‪.1999‬‬ ‫الذاتية االنتقالية‪ّ ،‬‬ ‫وي�شمل الأرا�ضي الفل�سطينية كافة يف ال�ضفة الغربية وقطاع غزة‪ .‬ولكن الربنامج الزمني‬ ‫لالتفاق املق ّر من الطرفني الذي دعا �إىل نقل ال�صالحيات يف الفرتة االنتقالية قد ت�أخر تنفيذه‪،‬‬ ‫ومل يطبق �أبداً من قبل احلكومة الإ�سرائيلية (طه ‪.)2009 ،2003‬‬ ‫وهنا ال بد من الإ�شارة �إىل �أنه ورغم االتفاق االنتقايل فقد قامت �إ�سرائيل �سنة ‪ 2002‬باجتياح‬ ‫الأرا�ضي الفل�سطينية‪ ،‬و�أعادت احتالل املناطق الفل�سطينية "�أ" و "ب"‪ ،‬مبا خلق و�ضع‬ ‫احتالل واقعي مبا�شر لأرا�ضي ال�سلطة الوطنية الفل�سطينية‪ ،‬لت�صبح االمور �أكرث تعقيداً على‬ ‫ال�صعيد امليداين‪ .‬ويف �سنة ‪ 2005‬ان�سحبت قوات االحتالل من داخل �أرا�ضي قطاع غزة‬ ‫لتبقي �سيطرتها على احلدود كاملة‪ .‬ومن الناحيتني القانونية والفعلية ف�إن و�ضع هذه املناطق‬ ‫التي �أُعيد احتاللها يف ال�ضفة الغربية وا�ستمرار احل�صار على قطاع غزة �إىل جانب االحتالل‬ ‫املبا�شر ملدينة القد�س يجعل من �سلطة االحتالل م�س�ؤولة م�س�ؤولية مبا�شرة عن الأرا�ضي‬ ‫الفل�سطينية كافة يف ال�ضفة الغربية وغزة‪ ،‬مبا يف ذلك القد�س‪.‬‬ ‫يف العام ‪ 2011‬ح�صلت فل�سطني على الع�ضوية التامة يف منظمة اليون�سكو‪ ،‬مبا م ّهد الن�ضمام‬ ‫فل�سطني �إىل العديد من االتفاقيات واملعاهدات الدولية‪ ،‬مبا يف ذلك اتفاقية الهاي ل�سنة ‪1994‬‬ ‫واالتفاقية الدولية حلماية الرتاث الثقايف والطبيعي ذات القيمة العاملية املتميزة ل�سنة ‪.1972‬‬ ‫ويف �سنة ‪ 2012‬ح�صلت فل�سطني على ع�ضوية الأمم املتحدة كدولة مراقب ح�سب قرار اجلمعية‬ ‫العامة‪ ،‬مبا ح ّول الأرا�ضي الفل�سطينية �إىل دولة حتت االحتالل(‪. )Taha 2015‬‬ ‫وعلى �أي حال ففي غياب اتفاق نهائي تعترب �إ�سرائيل قوة حمتلة ملزمة بتنفيذ االتفاقيات‬ ‫‪18‬‬


‫ملف العدد ‪ -‬الآثار‬

‫الدولية (‪ )Oyediran 1997‬حلماية الرتاث الثقايف‪ ،‬كما ورد ذلك يف اتفاقية الهاي ل�سنة‬ ‫‪ 1907‬واتفاقية جنيف الرابعة ل�سنة ‪ 1949‬واتفاقية الهاي حلماية املمتلكات الثقافية �أثناء‬ ‫النزاع امل�سلح ل�سنة ‪ 1954‬وتو�صيات اليون�سكو حول املبادئ الدولية املنطبقة على التنقيبات‬ ‫الأثرية‪ ،‬والتي ّمت تبنيها يف امل�ؤمتر التا�سع لليون�سكو �سنة ‪ ،1956‬ثم االتفاقية الدولية حول‬ ‫�أ�ساليب حظر ا�سترياد وت�صدير املمتلكات الثقافية ل�سنة ‪ 1970‬و ‪ ،1985‬والعديد من القرارات‬ ‫والتو�صيات املتعلقة باملمتلكات الثقافية يف الأرا�ضي الفل�سطينية املحتلة‪.‬‬ ‫لقد منح الو�ضع اجلديد اجلانب الفل�سطيني الذي حقق حكماً ذاتياً يف نهاية القرن املا�ضي دوراً‬ ‫جزئياً م�ستق ًال ال�ستك�شاف تاريخ فل�سطني من م�صادره الأولية (‪ ،)Taha 2005, 2010‬وهي‬ ‫مهمة بقيت حكراً على البعثات الأثرية الإ�سرائيلية والأجنبية حتى فرتة قريبة‪ .‬وقد �أدى هذا‬ ‫الو�ضع مراراً �إىل اال�ستخدام ال�سيا�سي والأيديولوجي الوا�سع لهذه املعطيات وتف�سريها من‬ ‫دون �ضبط علمي مو�ضوعي‪.‬‬ ‫�إن الر�ؤية التي تنطلق منها جهود دائرة الآثار يف البحث واحلماية والرتبية واحلفاظ والت�شريعات‪،‬‬ ‫هي جوهريا تلك املعايري املعا�صرة املتعارف عليها عاملياً‪ .‬وهي الر�ؤية الإن�سانية احلديثة التي تنظر‬ ‫�إىل الدور التكاملي للح�ضارة الفل�سطينية �ضمن احل�ضارة الإن�سانية‪ ،‬والتي جتعل من علم الآثار‬ ‫يف فل�سطني جهداً علمياً بحتاً يف �إطار املجهود العلمي الدويل‪.‬‬ ‫ت�رشيعات الآثار والرتاث الثقايف‬

‫وعلى �صعيد ت�شريعات الآثار والرتاث الثقايف ورثت دائرة الآثار الفل�سطينية عدداً من الأنظمة‬ ‫والت�شريعات املتعلقة بالآثار والرتاث الثقايف‪ .‬يف �سنة ‪� 1929‬صدر قانون الآثار القدمية من قبل‬ ‫حكومة االنتداب الربيطاين على فل�سطني‪ .‬وقد �صدر قانون عام للآثار يحمل الرقم ‪ 51‬والذي‬ ‫ّ‬ ‫حل حمل القانون العثماين‪ .‬وخ�ضع هذا القانون ل�سل�سلة من التعديالت يف ال�سنوات ‪1934‬‬ ‫و ‪ 1937‬و ‪ .1946‬بعد الكارثة التي حلت بال�شعب الفل�سطيني �سنة ‪ 1948‬جرى �ضم ال�ضفة‬ ‫الغربية �إىل الأردن كما اتبع قطاع غزة للإدارة امل�صرية‪ ،‬وح�سب الو�ضع اجلديد جرى تطبيق‬ ‫قانون الآثار الأردين يف ال�ضفة الغربية ومت الإبقاء على قانون الآثار القدمية الفل�سطيني �إبان‬ ‫الإدارة امل�صرية على قطاع غزة (طه ‪.)2003‬‬ ‫بعد االحتالل الإ�سرائيلي لل�ضفة الغربية وقطاع غزة �سنة ‪� 1967‬أ�صدرت حكومة االحتالل‬ ‫الإ�سرائيلية �سل�سلة من الأوامر الع�سكرية (طه ‪� )2003‬أثرت ب�شكل مبا�شر على الآثار واملوارد‬ ‫الثقافية للبالد‪ .‬و�أهم هذه الأوامر هو الأمر الع�سكري رقم ‪ 119‬ل�سنة ‪ 1967‬والذي �ألغى‬ ‫العديد من ن�صو�ص �أنظمة الآثار القدمية االردين رقم ‪ 51‬ل�سنة ‪ 1966‬ال�سارية يف ال�ضفة الغربية‬ ‫و�أنظمة الآثار القدمية الفل�سطينية ل�سنة ‪ 1929‬ال�سارية يف قطاع غزة‪ ،‬وو�ضع كافة �صالحيات‬ ‫‪19‬‬


‫دائرة الآثار العامة بيد احلكم الع�سكري والأ�شخا�ص الذين ُيع ّينهم‪ .‬وبذلك اعتربت الرخ�ص‬ ‫املمنوحة كافة قبل حرب �سنة ‪ 1967‬الغية‪.‬‬ ‫وال �شك يف �أن معظم القوانني ال�سابقة �أ�صبحت متقادمة على وجه العموم وتتع�أر�ض يف بع�ض‬ ‫الأوجه مع بع�ضها البع�ض‪ .‬فقد تركت هذه القوانني جزءاً هاماً من الرتاث الثقايف مثل العمارة‬ ‫التقليدية واملواد الرتاثية بدون حماية قانونية تلقائية‪ .‬واعترب قانون الآثار الفل�سطيني ل�سنة‬ ‫‪ 1929‬وقانون الآثار الأردين ل�سنة ‪ 1966‬االجتار بالآثار عم ًال غري قانوين �إذا ّمت بدون ترخي�ص‬ ‫�صادر عن دائرة الآثار العامة‪ .‬كما حظرت القوانني ت�صدير املواد الأثرية بدون ترخي�ص‪.‬‬ ‫وقد حظرت الأوامر الع�سكرية الإ�سرائيلية ت�صدير الآثار من الأرا�ضي الفل�سطينية املحتلة‬ ‫با�ستثناء القد�س ال�شرقية بدون احل�صول على ترخي�ص �أو �إذن عام من قبل �ضابط الآثار‬ ‫الإ�سرائيلي‪ .‬وطبقت �إ�سرائيل القانون الإ�سرائيلي على القد�س ال�شرقية املحتلة كنتيجة ل�ضم‬ ‫املدينة‪ ،‬الذي جاء خرقاً للقانون الدويل‪ .‬ومل توفر القوانني ال�سابقة �أي نوع من احلماية للرتاث‬ ‫غري املادي‪ .‬ولهذه الأ�سباب قامت دائرة الآثار العامة بو�ضع م�سودة لقانون جديد للآثار ي�أخذ‬ ‫بعني االعتبار التطورات على الأ�صعدة العلمية والقانونية يف حقل الرتاث الثقايف حتى الوقت‬ ‫احلا�ضر‪ .‬وت�ؤكد م�سودة القانون اجلديدة �سبل حماية �أعلى للرتاث احل�ضاري‪.‬‬ ‫وتعمل دائرة الآثار والرتاث الثقايف مبوجب قانون الآثار الأردين رقم ‪ 51‬ل�سنة ‪ 1966‬وقانون‬ ‫الآثار الفل�سطيني القدمي ل�سنة ‪ 1929‬يف قطاع غزه‪ ،‬وهي القوانني التي كانت �سارية ع�شية‬ ‫احتالل الأرا�ضي الفل�سطينية �سنة ‪ .1967‬و�أبطلت الوزارة العمل بالأوامر الع�سكرية الإ�سرائيلية‬ ‫ال�صادرة عن �سلطة االحتالل الإ�سرائيلي (طه ‪ .)2003‬ومع ت�سلم �صالحيات الآثار �سنة ‪1994‬‬ ‫عقب اتفاق غزه ‪� -‬أريحا بد�أ العمل فوراً على و�ضع �إطار قانوين جديد وحتديث القوانني حلماية‬ ‫الرتاث الثقايف‪ .‬وكان وا�ضحاً للإدارة الفل�سطينية اجلديدة ب�أن القوانني ال�سارية هي قوانني‬ ‫متقادمة وحتتاج �إىل تعديالت جوهرية و�أ�صبح من البديهي العمل مبفاهيم الرتاث الثقايف‬ ‫احلديث التي ال تقت�صر على الآثار فقط بل ت�شمل �أي�ضاً املباين التاريخية والعمارة التقليدية‬ ‫وامل�شاهد الثقافية والرتاث الطبيعي‪ .‬ويف هذا ال�سياق �أعدت دائرة الآثار الوليدة م�سودة م�شروع‬ ‫قانون الآثار للفرتة االنتقالية �سنة ‪ ،1995‬والتي كان يفرت�ض �أن يعمل مبوجبها حتى �سنة ‪1998‬‬ ‫�أي نهاية الفرتة االنتقالية‪ ،‬ولكن هذه امل�سودة مل جتد طريقها �إىل املجل�س الت�شريعي‪ .‬ومنذ �سنة‬ ‫‪ 2004‬يجري العمل على حتديث قانون الآثار والرتاث الثقايف‪ ،‬حيث ّمت و�ضع م�سودة لقانون‬ ‫جديد للرتاث الثقايف الفل�سطيني ينتظر ت�صديقه من قبل احلكومة الفل�سطينية‪.‬‬ ‫التنقيبات وامل�سوح الأثرية غري القانونية يف الأرا�ضي الفل�سطينية‬

‫يحظر القانون الدويل الإن�ساين �إجراء تنقيبات �أثرية منظمة يف الأرا�ضي املحتلة‪� ،‬أما االكت�شافات‬ ‫‪20‬‬


‫ملف العدد ‪ -‬الآثار‬

‫العر�ضية فيجب على الدولة املحتلة اتخاذ التدابري كافة من �أجل حمايتها وت�سليمها �إىل ال�سلطة‬ ‫الوطنية املخت�صة عند انتهاء االحتالل‪ .‬وتن�ص املادة ‪ 32‬من امليثاق االول التفاقية الهاي ل�سنة‬ ‫‪� ،1954‬أنه يف حالة نزاع م�سلح يقت�ضي على الدولة التي ّ‬ ‫حتتل �أرا�ضي دولة �أخرى االمتناع عن‬ ‫القيام بحفريات �أثرية يف املنطقة املحتلة ويف حالة العثور على �أي �أثر مبح�ض ال�صدفة‪ ،‬خا�صة‬ ‫�أثناء الإن�شاءات الع�سكرية ف�إنه يتحتم على الدولة املحتلة �أن تتخذ كافة الإجراءات املمكنة‬ ‫حلماية الآثار التي يتم اكت�شافها والتي ينبغي ت�سليمها عند انتهاء االحتالل �إىل ال�سلطة‬ ‫املخت�صة يف املنطقة التي كانت واقعة حتت االحتالل مع جميع الوثائق املتعلقة بذلك‪.‬‬ ‫رغم هذا احلظر قام الإ�سرائيليون بالتنقيب يف مئات املواقع الأثرية يف الأرا�ضي املحتلة‪،‬‬ ‫منتهكني بذلك حرمة الآثار الفل�سطينية‪ .‬و�شملت امل�سوح الأثرية الإ�سرائيلية الأرا�ضي املحتلة‬ ‫كافة‪ ،‬يف حني تركزت التنقيبات يف مناطق معينة كالقد�س وحميطها واملناطق امل�ستهدفة‬ ‫لأغرا�ض اال�ستيطان‪.‬‬ ‫امل�سوح الأثرية الإ�رسائيلية‬

‫بعد احتالل الأرا�ضي الفل�سطينية عام ‪� 1967‬شرع الإ�سرائيليون بتنظيم �سل�سلة من �أعمال‬ ‫امل�سح الأثري للمواقع الأثرية يف الأرا�ضي املحتلة‪ .‬وكان الهدف من هذه امل�سوح هو حتديث‬ ‫قاعدة البيانات الإ�سرائيلية حول املواقع واملعامل يف الأرا�ضي املحتلة‪ ،‬مبا يف ذلك �إعادة �صياغة‬ ‫نتائج امل�سوح الأثرية ال�سابقة‪ ،‬خ�صو�صاً يف اجلوانب املتعلقة ب�أ�سماء املواقع‪ ،‬وقد انطوت هذه‬ ‫التنقيبات على �أكرب حملة لتهويد �أ�سماء املواقع وتثبيت �أ�سماء جديدة للمواقع والأماكن‪.‬‬ ‫و�أ�شرف مو�شي كوخايف (‪ )Kochavi 1972‬امل�سح الأول الطارئ للمواقع الأثرية �سنة ‪،1968‬‬ ‫بعنوان "يهودا وال�سامرة واجلوالن‪ :‬امل�سح الأثري ‪ ،1972 ،1967-1968‬و�شمل امل�سح ‪800‬‬ ‫وحمددة يف امل�سوح الأثرية الربيطانية‪ .‬عقب ذلك جرت م�سوح �أثرية‬ ‫موقع �أثري كانت معروفة ّ‬ ‫تف�صيلية ومركزة يف منطقة اجلبال الو�سطى تبعاً للإطار اجلغرايف التوراتي (‪)Greenberg1997‬‬ ‫‪ ،‬وت�ضم مناطق "�أفرامي" و"يهودا"‪ ،‬وهو عمل يقع �ضمن �سيا�سة تهويد �أ�سماء املواقع اجلغرافية‬ ‫والتاريخية الفل�سطينية‪.‬‬ ‫ويظهر ا�سم هذه امل�سوح‪ ،‬التي تبعت التق�سيمات التوراتية للأرا�ضي الفل�سطينية (قاعدة‬ ‫بيانات‪ ،‬دائرة الآثار والرتاث الثقايف ‪ ،)2009‬على الوجه التايل‪:‬‬ ‫منطقة "منا�شي" وت�ضم �أرا�ضي جنني وطوبا�س و�شمال نابل�س وطولكرم واجلزء ال�شمايل من‬ ‫�أريحا‪.‬‬ ‫منطقة "افرامي" وت�ضم منطقة رام اهلل با�ستثناء اجلزء اجلنوبي ال�شرقي وجنوب منطقة نابل�س‬ ‫و�سلفيت‪.‬‬ ‫‪21‬‬


‫منطقة "بنجامني" وت�ضم جنوب منطقة رام اهلل من جهتي ال�شرق والغرب و�شمال غرب‬ ‫القد�س‪.‬‬ ‫منطقة "يهودا" وت�ضم منطقتي اخلليل وبيت حلم‪.‬‬ ‫منطقة وادي الأردن والبحر امليت وت�ضم حمافظة �أريحا وبرية اخلليل وبيت حلم‪.‬‬ ‫"�أور�شليم" وت�ضم القد�س‪ ،‬و�شمل م�سح املناطق اجلنوبية (‪ )Kolner 2000‬وال�شمالية‬ ‫ال�شرقية (‪ )Kolner 2001‬وال�شمالية الغربية (‪)Kolner 2003‬‬ ‫ومل ِ‬ ‫تخف هذه امل�سوح كما نالحظ يف التق�سيمات ال�سابقة دوافعها االيديولوجية الوا�ضحة‬ ‫يف تهويد �أ�سماء املواقع والأماكن‪ ،‬التي تن�شر يف تقارير امل�سوح الأثرية واالعتماد الر�سمي لها‪،‬‬ ‫وحاملا جتد طريقها �إىل اخلرائط ال�سياحية‪� .‬أما ال�سمة الرئي�سية الثانية لهذه امل�سوح فتتجلى يف‬ ‫الرتكيز على الفرتات التوراتية‪.‬‬ ‫وتلت ذلك موجة �أخرى من امل�سوح الأثرية الإ�سرائيلية قام بها �أفراد وم�ؤ�س�سات ملناطق‬ ‫مب�ساحة ‪ 10X10‬كلم على خرائط مبقيا�س ‪ 1:20000‬التي ا�ستخدمها �ضباط الآثار يف الأرا�ضي‬ ‫الفل�سطينية‪ ،‬ورغم �أن بع�ض هده امل�سوح الأثرية نفذ يف �إطار برامج �أكادميية وبحثية‪ ،‬اال �أن‬ ‫�أهدافها االيديولوجية واال�ستيطانية �أ�صبحت �أكرث و�ضوحاً‪.‬‬ ‫كما جرت حمالت م�سح وا�سعة ومركزة يف بع�ض مناطق ال�ضفة الغربية وغزة قبيل نقل‬ ‫ال�سلطات �إىل اجلانب الفل�سطيني‪ ،‬و�أبرز هذه احلمالت ما ُعرف يف حينه بحملة البحث عن‬ ‫خمطوطات البحر امليت‪ ،‬والتي اتبعت فيها �سيا�سة الأر�ض الأثرية املحروقة من خالل جتريد‬ ‫هذه املواقع التي �ست�س ّلم لل�سلطة الفل�سطينية من حمتوياتها الأثرية‪.‬‬ ‫وقد لوحظ يف هذه التنقيبات تركيز ملحوظ على فرتات بعينها كالع�صر احلديدي والفرتتني‬ ‫اليونانية والرومانية وهي ما تعرف بفرتتي املعبد االوىل والثانية يف االدبيات الأثرية الإ�سرائيلية‪،‬‬ ‫وخ�صو�صاً يف امل�سوح التي قامت بها جامعة تل �أبيب حتت �إ�شراف فنكل�شتاين ونيئمان من‬ ‫جامعة تل �أبيب وادم زرتال من جامعة حيفا‪� ،‬إىل جانب م�سوح �ضابط الآثار الإ�سرائيلي نف�سه‪.‬‬ ‫وهكذا ف�إن امل�ؤ�س�سات االكادميية الإ�سرائيلية‪ ،‬وخ�صو�صاً اجلامعات الإ�سرائيلية‪ ،‬قد انخرطت‬ ‫مع �إدارة احلكم الع�سكري يف التنقيب غري القانوين يف الأرا�ضي الفل�سطينية املحتلة‪ ،‬حتت‬ ‫غطاء امل�شاريع العلمية والبحثية‪.‬‬ ‫كذلك العمل املن�سق ل�سلطة الآثار الإ�سرائيلية و�ضابط الآثار والذي جتلى يف حملة املخطوطات‬ ‫الوا�سعة يف منطقة الربية ووادي الأردن‪ ،‬واالنخراط املتزايد ل�سلطة الآثار الإ�سرائيلية يف العمل‬ ‫يف الأرا�ضي الفل�سطينية املحتلة‪ ،‬خ�صو�صاً يف مدينة القد�س وحميطها‪.‬‬ ‫‪22‬‬


‫ملف العدد ‪ -‬الآثار‬

‫التنقيبات الأثرية الإ�رسائيلية‬

‫خالفاً للقانون الدويل قامت ال�سلطات الإ�سرائيلية منذ �سنة ‪ 1967‬وعلى مدار العقود اخلم�سة‬ ‫املا�ضية بتنفيذ مئات التنقيبات الأثرية يف الأرا�ضي الفل�سطينية‪ ،‬وت�شمل �أرا�ضي ال�ضفة الغريبة‬ ‫وغزة والقد�س‪ .‬وت�شري الإح�صائيات املتوفرة �إىل ما يزيد عن ‪ 900‬عملية تنقيب �إ�سرائيلية‬ ‫�إنقاذية ومنتظمة منها ‪ 170‬حفرية يف القد�س وحميطها‪ ،‬يف ما ُتعرف بالقد�س املو�سعة‪ ،‬والتي‬ ‫ت�ضاعفت م�ساحتها مرات عدة نتيجة �ضم الأرا�ضي الفل�سطينية لها‪ .‬وت�شري املعطيات املتوفرة‬ ‫�إىل منح ما يزيد عن ‪ 1500‬رخ�صة تنقيب يف الأرا�ضي الفل�سطينية‪ ،‬وهو رقم كبري اذا ما قورن‬ ‫بالفرتة التي �سبقته �أو بالفرتة نف�سها يف الدول املجاورة‪ .‬ان املالحظة اال�سا�سية حول هذا‬ ‫املو�ضوع‪ ،‬هو �أن املعطيات ما زالت �سرية وهي غري متاحة للباحثني وعلماء الآثار مبا ي�ضفي‬ ‫قدراً من الغمو�ض حول االن�شطة الأثرية الإ�سرائيلية يف الأرا�ضي الفل�سطينية‪ ،‬ولهذا ال�سبب‬ ‫ف�إن املعطيات املتوفرة هي معطيات تقديرية �إىل حد ما‪� ،‬أما املالحظة الثانية فهي تتعلق بتعريف‬ ‫حفرية والتي ميكن �أن ترتاوح ما بني عمل حمدود ي�ستغرق ب�ضع �ساعات كما هو احلال يف‬ ‫عمليات التنقيب الإنقاذي �أو ل�شهور عدة على مدار موا�سم تنقيب عدة ل�سنوات متتالية‪.‬‬ ‫ترخي�ص التنقيب يف الأرا�ضي الفل�سطينية‬

‫يتمتع �ضابط الآثار التابع للإدارة املدينة الإ�سرائيلية‪ ،‬وخليفته دائرة الآثار التابعة للإدارة‬ ‫املدنية الإ�سرائيلية‪ ،‬وهي جزء من احلكم الع�سكري ب�سلطات مطلقة يف الأرا�ضي الفل�سطينية‬ ‫املحتلة‪ ،‬اذ ي�ستطيع منح �أذونات التنقيب لأي جهة‪ ،‬دون مرجعية علمية‪ ،‬كما ال يحتاج نف�سه‬ ‫للرتخي�ص‪ .‬رغم �أن النظام ال�ساري مبوجب قانون الآثار القدمية يق�ضي مبنح تراخي�ص التنقيب‬ ‫�سنوياً ومع كل مو�سم جديد حتى يف املوقع الواحد‪.‬‬ ‫�إن املعلومات املتوفرة عن تنقيبات �ضابط الآثار والفريق العامل معه ي�سرية للغاية ومتفرقة‪،‬‬ ‫ت�ضم عادة العنا�صر الأ�سا�سية املفرت�ضة يف مثل هذه التقارير‪ ،‬وهي‬ ‫وحتى التقارير النهائية ال ّ‬ ‫تختلف من ناحية اجلودة والكمال عن مثيالتها داخل �إ�سرائيل‪ .‬ولذلك ف�إن املعلومات املتوفرة‬ ‫عن التنقيبات يف الأرا�ضي الفل�سطينية يف ال�ضفة الغربية وقطاع غزة هي جزئية‪ ،‬والن�شرات‬ ‫الأولية مو ّزعة على عدد من املن�شورات ال�شعبية والعامة‪ ،‬وغالباً ما تكون باللغة العربية �إىل‬ ‫جانب عدد قليل من التقارير الأثرية اخلتامية‪.‬‬ ‫�أما بالن�سبة �إىل التنقيبات الإ�سرائيلية يف القد�س املحتلة فهي مرخّ �صة من قبل دائرة‬ ‫الآثار الإ�سرائيلية حتى �سنة ‪ ،1989‬وخليفتها �سلطة الآثار الإ�سرائيلية من تاريخه‪ .‬ورغم‬ ‫�أن الدخول �إىل هذه املعطيات متي�سر للباحث الإ�سرائيلي‪ ،‬ف�إن مواقعها غري مو�ضحة على‬ ‫اخلرائط‪ ،‬نظراً لتجاهل اخلط الأخ�ضر الفا�صل بني القد�س ال�شرقية والقد�س الغربية‪ ،‬وهذا‬ ‫‪23‬‬


‫ي�ستدعي جهوداً خا�صة لتحديد مواقع هذه التنقيبات خ�صو�صاً العدد الكبري للقبور املنقبة‬ ‫(‪� .)Greenberg1997:19‬أما التقارير يف املنطقة املحيطة بامل�سجد االق�صى فهي غري معروفة‬ ‫متاماً‪ ،‬اذ يغلب عليها طابع ال�سرية ال�شديد‪ ،‬واملعطيات الدقيقة حولها غري متوفرة‪ .‬وت�سدل‬ ‫�سلطات االحتالل �ستاراً من الغمو�ض والكتمان حول الأعمال اجلارية يف حميط منطقة احلرم‬ ‫ال�شريف‪.‬‬ ‫نطاق التنقيبات الإ�رسائيلية يف الأرا�ضي الفل�سطينية‬

‫جرت التنقيبات الإ�سرائيلية يف املناطق الفل�سطينية كافة تقريباً‪ ،‬وذلك بهدف ال�سيطرة على‬ ‫موارد الرتاث الثقايف يف الأرا�ضي الفل�سطينية املحتلة‪ ،‬وميكن مالحظة العالقة الوثيقة بني‬ ‫مواقع التنقيبات وامل�ستوطنات الإ�سرائيلية واملناطق الع�سكرية الإ�سرائيلية واجلدار الفا�صل‬ ‫واملناطق الطبيعية‪ ،‬مبا ي�شري �إىل توظيف الآثار يف خدمة اال�ستيطان (‪ .)Taha 2015‬ومع‬ ‫تو�سع امل�شروع اال�ستيطاين مبرور الوقت �أخذت هذه العالقة �أبعاداً �أكرث عمقاً‪ .‬كما جرت‬ ‫العديد من التنقيبات يف املناطق الفل�سطينية امل�أهولة يف فرتة ال�سيطرة الإ�سرائيلية املبا�شرة على‬ ‫هذه املناطق‪ ،‬وخ�صو�صاً يف مدن اخلليل ونابل�س‪ ،‬والتي تعك�س الن�شاط الأثري الإنقاذي يف‬ ‫هذه املناطق‪ .‬ولكن �أي�ضاً الن�شاط الأثري الثابت املرتبط بالأن�شطة اال�ستيطانية والع�سكرية‪،‬‬ ‫و�أبرز الأمثلة على ذلك التنقيبات الطويلة الأمد يف خربة �سيلون وموقع تلول �أبو العاليق‬ ‫وتل الفريد�س وتل الرميدة وخربة �سو�سيا وجبل جرزمي وجبل عيبال‪ .‬كما ميكن مالحظة‬ ‫متركز هذه التنقيبات يف التجمعات اال�ستيطانية الإ�سرائيلية‪ ،‬وخ�صو�صاً يف املناطق املحيطة‬ ‫بالقد�س من اجلهتني ال�شرقية والغربية‪ ،‬وذلك نظراً للن�شاط اال�ستيطاين الوا�سع املرتبط بالبناء‬ ‫و�شق الطرقات يف املدينة وحميطها من جميع اجلهات تقريباً‪ ،‬كالتجمع اال�ستيطاين الوا�صل‬ ‫ما بني القد�س و�أريحا‪ ،‬خ�صو�صاً يف منطقة "طلعة الدم" وم�ستوطنة معايل �أدوميم ومنطقة‬ ‫اخلان االحمر على امتداد طريق �أريحا القد�س احلايل‪ .‬وي�شكل دير املر�صر�ص الواقع يف‬ ‫و�سط م�ستوطنة معايل �أدوميم منوذجاً على ا�ستحواذ امل�ستوطنات الإ�سرائيلية للموارد الأثرية‬ ‫الفل�سطينية‪ ،‬واىل اجلنوب من مدينة القد�س ا�ستحوذت امل�ستوطنات على العديد من املواقع‬ ‫الأثرية يف املنطقة املمتدة من بيت فجار واخل�ضر جنوباً وحو�سان وبتري غرباً‪ ،‬لت�سيطر على‬ ‫ع�شرات املواقع الأثرية يف هذه املناطق‪ ،‬مبا يف ذلك عيون املياه التاريخية ومقاطع طويلة من‬ ‫قنوات املياه الرومانية وقناة ال�سبيل التي كانت جتلب املياه من جبال اخلليل �إىل القد�س مروراً‬ ‫عرب بيت حلم‪ .‬ويف اجلهة اجلنوبية ال�شرقية ي�سيطر حزام امل�ستوطنات املمتد على �أطراف مناطق‬ ‫الربية وحتى البحر امليت على مواقع �أثرية رئي�سية مثل تل الفريد�س وكهوف ما قبل التاريخ‬ ‫التجمع اال�ستيطاين الأكرب الآخر فيقع يف منطقة جبال نابل�س الغربية‬ ‫يف وادي خريطون‪� .‬أما ّ‬ ‫والواقعة ما بني نابل�س وطولكرم‪ ،‬وخ�صو�صاً جتمع م�ستوطنات "�أرييل"‪ ،‬و"كارين �شمرون"‬ ‫‪24‬‬


‫ملف العدد ‪ -‬الآثار‬

‫يف منطقة كفر قدوم‪ ،‬والتجمعات اال�ستيطانية ما بني نابل�س ورام اهلل يف منطقة �سنجل واللنب‬ ‫ال�شرقية وال�ساوية‪ ،‬حيث ا�ستحوذت امل�ستوطنات على مواقع �أثرية رئي�سية مثل خربة �سيلون‪.‬‬ ‫وقد �شكلت منطقة الربية الواقعة �إىل ال�شرق من مدن اخلليل وبيت حلم والقد�س‪ ،‬والتي‬ ‫تتميز مب�شهدها الثقايف والطبيعي املميز �أحد املناطق امل�ستهدفة‪ ،‬خ�صو�صاً �أعمال التنقيب التي‬ ‫طالت الكهوف يف هذه املنطقة املطلة على البحر امليت‪ ،‬وموقع قمران وتلول �أبو العاليق وخربة‬ ‫البيو�ضات وف�صايل يف منطق وادي االردن‪.‬‬ ‫ومنذ �أواخر عقد الت�سعينيات من القرن املا�ضي جتري تنقيبات يف املنطقة الواقعة على امتداد‬ ‫جدار الف�صل العن�صري املحيط بال�ضفة الغربية من اجلهة الغربية من قرية �سامل �شما ًال وحتى‬ ‫الظاهرية جنوباً‪ ،‬ومتثل املواقع املنقبة يف املنطقة التي تقع حالياً خلف اجلدار ما يزيد عن ‪230‬‬ ‫موقعاً �أثرياً‪.‬‬ ‫ويف قطاع غزة الذي خ�ضع منذ �سنة ‪ -1994 1967‬لإدارة �ضابط الآثار الإ�سرائيلي‪ ،‬جرت‬ ‫تنقيبات يف عدد من املواقع الأثرية(‪،)Sadeq 1999, 2000, 2002, Humbert 2000‬‬ ‫وا�ستمرت هذه التنقيبات يف املنطقة امل�صنفة بـ"ال�صفراء" حتى �سنة ‪ ،2005‬و�أبرز التنقيبات‬ ‫الإ�سرائيلية يف غزة جرت على �شاطئ دير البلح ويف الفرتة ما بني ‪ 1972-1982‬حتت �إ�شراف‬ ‫ترودي دوثان و�أظهرت ا�ستيطاناً ب�شرياً من الع�صر الربونزي املت�أخر وحتى الفرتة البيزنطية‪.‬‬ ‫وك�شفت التنقيبات عن مقربة ترجع �إىل الع�صر الربونزي املت�أخر‪ ،‬ا�ستخدمت يف القرنني الرابع‬ ‫ع�شر والثالث ع�شر ق‪.‬م‪ .‬وما مي ّيزها هو التوابيت الفخارية على �شكل الإن�سان‪ ،‬وكان التابوت‬ ‫الواحد يت�سع ل�شخ�صني حتى �أربعة �أ�شخا�ص‪ .‬وقد و�ضعت هذه التوابيت يف قبور مقطوعة يف‬ ‫ال�صخر الرملي وبينها مدافن ب�سيطة‪ .‬والتوابيت �أ�سطوانية ال�شكل واجلزء العلوي يغلق بوا�سطة‬ ‫غطاء متحرك‪ ،‬ر�سمت عليه مالمح الوجه وال�ساعدان والأيادي الب�شرية‪� .‬أما العطايا اجلنائزية‬ ‫املرفقة بامليت فتتكون من م�سالت حتمل كتابات هريوغليفية وجعالن و�أواين �ألبا�سرت وكميات‬ ‫كبرية من الفخار املحلي واليوناين والقرب�صي وامل�صري امل�ستورد‪ .‬وجميع املواد امل�ستخرجة من‬ ‫هذه املواقع موجودة يف املتاحف الإ�سرائيلية‪.‬‬ ‫كما جرت تنقيبات �أثناء فرتة االحتالل يف تل الرقي�ش‪ ،‬و�أر�ض الربكة‪ ،‬وتل قطيف من قبل‬ ‫بريان �سنة ‪ ،1973‬حيث قام بالك�شف عن �أجزاء من املدينة العليا التي يعود تاريخها �إىل‬ ‫الع�صر احلديدي الثاين‪ ،‬خ�صو�صاً مدافن احلرق يف اجلرار‪ .‬ويف الفرتة ما بني ‪ 1982-1984‬قام‬ ‫�أورن ب�إجراء حتريات �أثرية يف املوقع‪ .‬و�شملت التنقيبات الإ�سرائيلية يف غزة مواقع الن�صريات‬ ‫وتل قطيف‪.‬‬ ‫وت�شري املعطيات املتوفرة حول التنقيبات الإ�سرائيلية يف القد�س وال�ضفة الغربية (‪Greenberg‬‬ ‫‪� )and Keinan 2007‬إىل اجتاه ت�صاعدي كماً ونوعاً منذ �سنة ‪ 1967‬وحتى �سنة نهاية عقد‬ ‫‪25‬‬


‫الت�سعينيات‪� ،‬أما االجتاه الآخر فهو انخراط م�ؤ�س�سات �أكادميية �أخرى �إىل جانب �سلطة الآثار‬ ‫الإ�سرائيلية يف القد�س و�ضابط الآثار الإ�سرائيلي يف ال�ضفة الغربية وغزة يف �أعمال التنقيب‬ ‫الأثرية‪.‬‬ ‫التنقيبات الإ�رسائيلية يف ال�ضفة الغربية والقد�س ما بني ‪1998 - 1967‬‬

‫القد�س‬

‫ال�ضفة الغربية‬ ‫ال�سنوات‬ ‫‪52‬‬ ‫ ‬ ‫‪72‬‬ ‫ ‬ ‫‪1968-1972‬‬ ‫‪58‬‬ ‫ ‬ ‫‪96‬‬ ‫ ‬ ‫‪1973-1977‬‬ ‫‪51‬‬ ‫ ‬ ‫‪126‬‬ ‫ ‬ ‫‪1978-1982‬‬ ‫‪26‬‬ ‫ ‬ ‫‪96‬‬ ‫ ‬ ‫‪1983-1987‬‬ ‫‪50‬‬ ‫ ‬ ‫‪100‬‬ ‫ ‬ ‫‪1988-1992‬‬ ‫‪90‬‬ ‫ ‬ ‫‪171‬‬ ‫ ‬ ‫‪1993-1998‬‬ ‫وت�شري هذه البيانات �إىل حالة من الثبات يف ال�سنوات الع�شر االوىل لالحتالل وت�صاعد ملحوظ‬ ‫املو�سع‬ ‫يف التنقيب مع �صعود حكومة مناحيم بيغن الليكودية �إىل احلكم والن�شاط اال�ستيطاين ّ‬ ‫الذي قام به �أرييل �شارون كوزير للزراعة ووزير للحرب يف الفرتة ما بني ‪.1982 - 1978‬‬ ‫ليعود التنقيب �إىل �أكرث من معدالته الأوىل بقليل يف ال�سنوات الع�شر التي تلتها‪ ،‬وهي الفرتة‬ ‫ما بني ‪ ،1992 - 1982‬وليت�ضاعف تقريباً مع بداية عقد الت�سعينيات �أي بعد توقيع اتفاقية‬ ‫�أو�سلو‪ .‬وي�شري غرينربغ (‪� )2007‬إىل الدور الذي لعبته قوى معينة يف احلكومات الإ�سرائيلية‬ ‫املتعاقبة يف ت�شجيع �أعمال التنقيب الأثري يف الأرا�ضي املحتلة �أكرث من غريها‪ ،‬منها الوزير‬ ‫الإ�سرائيلي اليميني املتطرف يوفال نيئمان من حزب هتحيا الفا�شي‪ .‬ولكن هذا الن�شاط بد�أ‬ ‫يف الرتاجع التدريجي مع اندالع االنتفا�ضة االوىل‪ ،‬وخ�صو�صاً يف مدينة القد�س وحميطها اذ‬ ‫و�صل التنقيب �إىل اقل معدالته منذ �سنة ‪.1967‬‬ ‫ومن الالفت �أن الن�شاط الأثري الإ�سرائيلي يف الأرا�ضي الفل�سطينية املحتلة �شهد قفزة كبرية‬ ‫يف الفرتة ما بني ‪ ،1992-1995‬وهو الن�شاط الذي ت�صدره �ضابط الآثار الإ�سرائيلي التابع‬ ‫للإدارة املدنية الإ�سرائيلية‪ ،‬م�ستهدفاً املناطق التي �ست�ؤول ال�صالحيات فيها �إىل ال�سلطة‬ ‫الفل�سطينية‪ ،‬يف تطبيق ل�سيا�سة الأرا�ضي الأثرية املحروقة‪ ،‬با�ستخدام مئات العمال غري املهرة‪،‬‬ ‫على غرار حملة املخطوطات‪ ،‬التي جرت يف منطقة وادي الأردن على مدار �شهرين‪� ،‬سخرت‬ ‫لها �إمكانيات ب�شرية ولوج�ستية كبرية‪ ،‬وكان الهدف من هذه احلملة هو تنظيف هذه املواقع‬ ‫من �سياقاتها الأثرية قبل �أن تقع بيد الفل�سطينيني‪ .‬وقد �سجل القائمون على احلملة بعد ذلك‬ ‫‪26‬‬


‫ملف العدد ‪ -‬الآثار‬

‫�شعورهم باخليبة‪ ،‬لأن ال�صيد مل يكن وفرياً‪ ،‬وقد ّذكرت هذه احلملة يف دوافعها وتطبيقاتها‬ ‫حمالت �صيد الدفائن والكنوز الأثرية التي كان يقوم بها مغامرون ول�صو�ص �آثار قبل بداية‬ ‫علم الآثار املعا�صر‪.‬‬ ‫�إن الدوافع الرئي�سية الكامنة وراء التنقيبات واملمار�سات الأثرية الإ�سرائيلية يف الأرا�ضي‬ ‫الفل�سطينية هي حماولة خلق وقائع على الأر�ض و�إعادة كتابة تاريخ هذه املواقع(‪Abu 2001‬‬ ‫‪ ،( el-Haj‬من خالل اختالق �صلة ما بني املا�ضي اليهودي املفرت�ض واحلا�ضر اال�ستيطاين‬ ‫الكولونيايل‪ .‬وكانت هذه التنقيبات حمكومة عموماً بدافع رئي�س هو البحث عن التاريخ‬ ‫اليهودي‪ ،‬وهذا ال يت�سنى اال من خالل تغييب الدالئل الأثرية التي تعود لفرتات وثقافات‬ ‫�أخرى (ويتالم ‪ ،)1999‬وتت�سم هذه التنقيبات باالنتقائية �سواء يف اختيار املواقع التي‬ ‫ا�ستهدفت �سياقات ح�ضارية معينة‪ ،‬ومن ناحية �أخرى االحتفاء اخلا�ص ب�أ�صناف معينة من‬ ‫املواد احل�ضارية مثل الكتابات العربية القدمية‪ ،‬والكن�س وال�شمعدان والنجمة ال�سدا�سية‪،‬‬ ‫و�أحوا�ض التطهري‪ ،‬وبع�ض �أنواع املعاظم يف القبور‪ ،‬و�أنواع من الأواين الفخارية كالأ�سرجة‬ ‫من الفرتة الهريودية‪ ،‬وقد و�صلت درجة من الإ�سفاف حد �إجراء درا�سات انرثبولوجية‬ ‫على العظام القدمية بحثاً عن عرق يهودي‪ .‬وغني عن القول �إن هذه املنطلقات تتنافى مع‬ ‫مناهج العلم احلديثة‪ .‬و�أن هذه املقاربات ال ت�ستند �إىل �أ�س�س مو�ضوعية‪ .‬وانطالقاً من هذه‬ ‫النظرة عمدت الكثري من التقارير الأثرية الإ�سرائيلية �إىل تبني ت�صنيفات اثنية ودينية ك�آثار‬ ‫يهودية وم�سيحية و�إ�سالمية يف حماولة لتق�سيم التاريخ احل�ضاري الفل�سطيني على قواعد‬ ‫اثنية ودينية �ضيقة‪ .‬كما عززت هذه التنقيبات النظرة اخلا�صة بالرتاث اليهودي ‪ -‬امل�سيحي‬ ‫امل�شرتك‪ ،‬وذلك جت�سيداً للتحالف ما بني ال�صهيونية واالجتاهات امل�سيحية املته ّودة‪.‬‬ ‫وقد ا�ستهدفت معظم هذه التنقيبات تفريغ ال�سياقات الأثرية من م�ضامينها الثقافية‪ ،‬ومل ترتبط‬ ‫هذه التنقيبات مع �أية جهود جدية للحماية ولتطوير‪ ،‬ما عدا بع�ض املواقع ذات الأهمية االيديولوجية‬ ‫اخلا�صة للم�شروع اال�ستيطاين مثل موقع تل الفريدي�س وخربة قمران وجبل جرزمي وخربة �سيلون‬ ‫وخربة �سو�سيا وتل الرميدة‪� .‬أما بقية املواقع املنقبة التي مل ت�سفر نتائج التنقيبات فيها عن دالئل‬ ‫تربطها بالتاريخ اليهودي فقد تركت للإهمال والتدمري‪ .‬وعلى �سبيل املثال تركت مواقع الكرمل‬ ‫وعناب ال�صغري وعناب الكبري والدير وخربة البيو�ضات دومنا حماية وعر�ضة للتدمري‪.‬‬ ‫امل�ؤ�س�سات الأثرية الإ�رسائيلية العاملة يف جمال التنقيب‬

‫اىل جانب �ضابط الآثار يف ال�ضفة الغربية وقطاع غزة و�سلطة الآثار الإ�سرائيلية يف القد�س والتي‬ ‫قامت بالقدر الأكرب من هذه التنقيبات‪ ،‬هناك امل�ؤ�س�سات الإ�سرائيلية واجلامعات املتعددة قد‬ ‫انخرطت يف التنقيب غري القانوين يف الأرا�ضي الفل�سطينية‪ ،‬و�أبرز امل�ؤ�س�سات‪:‬‬ ‫‪27‬‬


‫�ضابط الآثار الإ�سرائيلي‪ ،‬والتي �أ�صبحت دائرة الآثار التابعة للإدارة املدنية‬ ‫�سلطة الآثار الإ�سرائيلية (دائرة الآثار الإ�سرائيلية قبل العام ‪.)1989‬‬ ‫اجلامعة العربية‪.‬‬ ‫جامعة تل �أبيب‪.‬‬ ‫جامعة بار ايالن يف النقب‪.‬‬ ‫جامعة حيفا‪.‬‬ ‫هذا �إىل جانب العديد من امل�ؤ�س�سات البحثية الإ�سرائيلية املحلية وامل�ؤ�س�سات الدولية (بار ‪-‬‬ ‫يو�سف ومزار ‪ .)1994‬وال ّبد من الإ�شارة �إىل �أن العديد من هذه التنقيبات قد جرى بدعم‬ ‫مايل من وزارة الأديان الإ�سرائيلية وم�ؤ�س�سات ا�ستيطانية مثل م�ؤ�س�سة اليعاد وعطريت كوهانيم‬ ‫اال�ستيطانيتني يف القد�س‪ .‬وت�سخر لهذه التنقيبات موارد مالية هائلة من احلكومة الإ�سرائيلية‬ ‫ومن م�ؤ�س�سات يهودية و�صهيونية ومتربعني يف الداخل واخلارج‪ .‬مبا ي�ؤكد �أن العمل الأثري‬ ‫عموماً والتنقيب يف املواقع خ�صو�صاً‪ ،‬ال ينظر اليه كعمل علمي يهدف �إىل الك�شف عن النظم‬ ‫احل�ضارية املا�ضية‪ ،‬بل كمهمة �سيا�سية ‪ -‬دينية �أحيطت بها هالة من القدا�سة القومية‪ ،‬جتري‬ ‫حتت �شعار البحث عن جذور التاريخ اليهودي يف فل�سطني‪.‬‬ ‫املن�شورات الأثرية الإ�رسائيلية‬

‫وهناك املئات من املن�شورات الأولية والنهائية ال�صادرة حول التنقيبات الإ�سرائيلية يف القد�س‬ ‫وحميطها‪ .‬ويدل امل�سح الذي قام به كولرن على م�صادر الدرا�سات املن�شورة‪ .‬وهنا ال بد من‬ ‫الإ�شارة �إىل �أن التنقيبات املن�شورة ت�شكل جزءاً ي�سرياً من التنقيبات املنفذة يف الأرا�ضي‬ ‫الفل�سطينية‪ .‬ورغم �أنه من ال�صعوبة مبكان التمييز القاطع بني التنقيبات املن�شورة ن�شراً نهائياً‬ ‫�أو تلك املن�شورة ن�شراً �أولياً‪ ،‬ف�إن املعطيات االولية لقاعدة البيانات الفل�سطينية يف دائرة الآثار‬ ‫والرتاث الثقايف والبيانات التي جمعها كل من غرينربع وكينان معطيات حول املواقع املنقبة‬ ‫متقاربة وت�شري �إىل �أنه من بني ‪ 368‬موقعاً منقباً يف ال�ضفة الغربية (وهي املواقع املنقبة ما بني‬ ‫‪ 1967-1997‬ف�إن ن�صفها تقريباً (‪ 177‬موقعاً) لي�س حولها �أي نوع من املعطيات‪� ،‬أما البقية‬ ‫فتنق�سم ما بني تنقيبات ذات تقارير نهائية وعددها ‪ 93‬وتقارير �أولية وعددها ‪ 98‬موقعاً‪ ،‬وترتاوح‬ ‫هذه التنقيبات بني �أعداد كبرية من القبور والكهوف التي مت التنقيب فيها على وجه العجلة‬ ‫�أثناء ما عرف بحملة املخطوطات اىل تنقيبات منظمة طويلة االمد‪ ،‬على مدار موا�سم عدة‬ ‫ن�شرت نتائجها يف عدد من التقارير‪ ،‬مثل تنقيبات �شيلو يف تلة �سلوان وتنقيبات �أفيجاد يف احلي‬ ‫اليهودي يف القد�س وتنقيبات �أيهود نيت�سر يف تلول �أبو العاليق وتل الفريدي�س (هريوديون)‪.‬‬ ‫‪28‬‬


‫ملف العدد ‪ -‬الآثار‬

‫وت�ضم املواقع املنقبة وغري املن�شورة العديد من املواقع الفرعية وبع�ض التنقيبات الرئي�سية مثل‬ ‫تنقيبات تل الرميدة يف مدينة اخلليل والنبي �صمويل‪� ،‬إىل جانب تنقيبات نفذت على مدار‬ ‫�سنوات طويلة مل ين�شر منها �إال القليل مثل تنقيبات جبل جرزمي وتنقيبات مدينة نابل�س وخربة‬ ‫البيو�ضات‪.‬‬ ‫وي�شخ�ص غرينربغ (‪ .)Greenberg1997:20‬واقع الن�شر عند �ضابط الآثار يف ال�ضفة الغربية‬ ‫بالقول �إنه ورغم ت�أ�سي�س ق�سم للن�شر ف�إن �ضابط الآثار هو ال�شخ�ص الذي ير�أ�س وحدة الن�شر‪،‬‬ ‫ويقوم بت�سلم التقارير و�إقرار حمتواها وحتريرها واملوافقة على ن�شرها‪ .‬ونظرا لغياب �أية حما�سبة‬ ‫عامة فان هناك ما يبعث على القلق حول نوعية وكمال التقارير العلمية يف وحدة �ضابط الآثار‬ ‫ودائرة الآثار التابعة للإدارة املدنية الإ�سرائيلية‪.‬‬ ‫املواد الأثرية املكت�شفة‬

‫ت�شري املعطيات االولية �إىل �أعداد هائلة ت�صل املاليني من املواد الأثرية املكت�شفة �أثناء التنقيبات‬ ‫الإ�سرائيلية يف الأرا�ضي الفل�سطينية‪ .‬وتتك ّون هذه اللقى الأثرية عادة من املواد الأثرية املنقولة‬ ‫التي توجد يف ال�سياقات الأثرية‪ ،‬وت�شمل املواد امل�صنعة كافة من قبل الإن�سان مثل الأدوات‬ ‫والأواين احلجرية والأواين الفخارية واملعادن والزجاج والعمالت والتماثيل والكتابات‬ ‫والنقو�ش واملخطوطات الخ‪.‬‬ ‫وتنق�سم املواد الأثرية املكت�شفة يف امل�سوح والتنقيبات الأثرية �سواء الإنقاذية منها �أو التنقيبات‬ ‫املنظمة �إىل ق�سمني‪ ،‬االول‪ ،‬وي�شمل املواد �أو اللقى الأثرية الكاملة‪ ،‬وهي القطع املتحفية‪� ،‬أما‬ ‫ال�صنف الثاين فيتك ّون من �أعداد ال تحُ �صى من القطع الأثرية ال�صغرية املكررة واملكونة من‬ ‫ك�سر الفخار �أو ال�صوان �أو الزجاج وعينات الرتبة واملواد العظمية الب�شرية واحليوانية‪ ،‬وغالباً ما‬ ‫يتم االحتفاظ بنماذج من هذه املواد املحطمة �أو غري املكتملة لأغرا�ض الدرا�سة‪� ،‬أما القطع‬ ‫املميزة منها كك�سرة فخار حتمل كتابة �أو منطاً زخرفياً فريداً فتعامل معاملة اللقية الكاملة‪ .‬وهذا‬ ‫ي�صح �أي�ضاً على املواد امللتقطة من �سطح املواقع الأثرية �أثناء �أعمال امل�سوح الأثرية‪ ،‬ورغم �أن‬ ‫معظم املواد تك ّون ك�سرات من املواد الأثرية‪ ،‬اال �أنه من املمكن �أن تكون مواد �أثرية مكتملة‪،‬‬ ‫ذات قيمة كالنقود قدمية والكتابات على الفخار‪.‬‬ ‫وت�شري املعلومات املتوفرة �أن املواد الأثرية املكت�شفة يف تنقيبات �ضابط الآثار ودائرة الآثار‬ ‫التابعة للإدارة املدنية الإ�سرائيلية خمزنة يف املقر الرئي�س ل�ضابط الآثار يف ال�شيخ جراح يف‬ ‫القد�س ويف منطقة قريبة من اخلان الأحمر‪ .‬وال توجد قوائم كاملة بهذه املواد‪ ،‬وي�شري غرينربغ‬ ‫(‪� .)Greenberg 1997:20‬إىل �أن �أعداداً من املواد املكت�شفة يف ال�ضفة الغربية معرو�ضة يف‬ ‫متاحف خمتلفة داخل �إ�سرائيل‪ ،‬على �أ�سا�س عقود �إعارة طويلة املدى‪ ،‬ورغم انتهاء العرو�ض‪،‬‬ ‫‪29‬‬


‫ف�إن بع�ض هذه املواد ال تعود �إىل خمازنها الأ�صلية‪.‬‬ ‫كما مت الك�شف عن اعداد ال حت�صى من املواد الأثرية يف القد�س ال�شرقية املحتلة منذ �سنة‬ ‫‪ ،1967‬وهي معرو�ضة يف املتاحف الإ�سرائيلية وحتمل رقم ت�سجيل �إ�سرائيلي خا�ص ب�سلطة‬ ‫الآثار الإ�سرائيلية‪ ،‬ان�سجاماً مع قرار �ضم مدينة القد�س غري ال�شرعي‪ ،‬مبا يجعل ف�صل هذه‬ ‫املواد �أمراً بالغ ال�صعوبة‪ .‬ان جرد هذه املواد الأثرية يحتاج �إىل جمهود كبري على �ضوء املطلب‬ ‫الفل�سطيني الدائم با�ستعادة هذه املواد الأثرية كجزء من اتفاق احلل النهائي‪.‬‬ ‫وهنا ال بد من الإ�شارة �إىل �أن هذه املواد هي جزء من ال�سجل الأثري الذي يتك ّون يف العادة‬ ‫من �سل�سلة من الوثائق مثل التقارير اليومية وال�صور واملخططات واملقاطع وو�صف احليز‪ ،‬ثم‬ ‫التقارير احلقلية غري املن�شورة �إىل جانب التقارير االولية والنهائية املن�شورة‪ .‬ولذلك فان املواد‬ ‫الأثرية وال�سجالت امل�صاحبة لها يجب �أن تعامل معاملة واحدة يف �أي �إطار للتعامل امل�ستقبلي‬ ‫مع ق�ضية ا�سرتداد املواد الأثرية الفل�سطينية‪.‬‬ ‫التنقيبات الإ�رسائيلية يف القد�س‬

‫تعترب القد�س �أكرث املناطق ا�ستهدافاً منذ �سنة ‪ ،1967‬وقد جرت يف املدينة وحميطها ع�شرات‬ ‫التنقيبات الإنقاذية �أبرزها التنقيبات يف املنطقة املحيطة بامل�سجد الأق�صى‪ ،‬خ�صو�صاً يف‬ ‫املنطقتني الغربية واجلنوبية ومنطقة باب املغاربة ثم تنقيبات احلي اليهودي‪� ،‬أما �أكرب التنقيبات‬ ‫فقد جرت يف منطقة الظهور وهي التلة املطلة على �سلوان يف ما ُيعرف بالت�سمية اال�ستيطانية‬ ‫«مدينة داوود»‪.‬‬ ‫حظيت القد�س مبا تتمتع به من �أهمية خا�صة باهتمام املجتمع الدويل منذ احتاللها �سنة ‪1967‬‬ ‫نظراً �إىل املحاوالت الإ�سرائيلية لتغيري طابع املدينة التاريخي والعربي ومن ثم تهويدها (طه‬ ‫‪ ،)1996‬وقد �أ�صدرت الأمم املتحدة واملنظمات التابعة لها �سل�سلة من القرارات التي تدين‬ ‫وامل�س ب�أماكن العبادة واملباين التاريخية‪ ،‬ثم �إجراء التنقيبات‬ ‫حماوالت تغيري طابع املدينة ّ‬ ‫فيها وذلك كعمل مناه�ض للقانون الدويل‪ ،‬و�أ�صدرت اجلمعية العامة للأمم املتحدة �سل�سلة من‬ ‫القرارات ب�ش�أن التدابري والأعمال التي ت�ؤثر على و�ضع مدينة القد�س‪ ،‬كما دعا امل�ؤمتر العام‬ ‫واملجل�س التنفيذي ملنظمة اليون�سكو ب�شكل متوا�صل حلماية املمتلكات احل�ضارية يف القد�س‬ ‫والكف عن تغيري معامل املدينة ورغم‬ ‫وطالب ال�سلطة املحتلة باالمتناع عن �إجراء احلفريات‬ ‫ّ‬ ‫ع�شرات القرارات ال�صادرة عن املنظمات العربية والدولية فقد ذهبت هذه الدعوات غالباً‬ ‫ادراج الرياح‪ ،‬اذ مل تلتزم �إ�سرائيل بهذه القرارات‪ ،‬ب�سبب �ضعف االرادة الدولية واحلماية‬ ‫االمريكية التي تتمتع بها �إ�سرائيل يف ظل النظام الدويل احلايل‪.‬‬ ‫بد�أ االهتمام اليهودي وال�صهيوين يف �أعمال التنقيب الأثري يف القد�س قبل �أكرث من مئة‬ ‫‪30‬‬


‫ملف العدد ‪ -‬الآثار‬

‫�سنة من احتالل املدينة‪ ،‬ومل تنف�صل التنقيبات الأثرية يف القد�س منذ حملة ت�شارلز وارن‬ ‫‪ 1863‬عن املخططات ال�صهيونية حول املدينة‪ .‬وقد اختلطت الدوافع العلمية با�ستك�شاف‬ ‫تاريخ املدينة بالدوافع االيديولوجية‪ .‬ومنذ هذا التاريخ جرت ما يزيد عن �أربعني حفرية رئي�سية‬ ‫يف املدينة‪ .‬تركز معظمها يف حميط منطقة احلرم‪ .‬يف حني عاجلت ما يزيد عن ع�شرين حفرية‬ ‫التالل املجاورة للمدينة‪ .‬وكان البحث عن الهيكل يف منطقة امل�سجد االق�صى الدافع ال�سري‬ ‫وراء التنقيبات يف املنطقة املحيطة باحلرم ال�شريف ومنطقة �سلوان‪ .‬ومل يكن هذا الهدف معلناً‬ ‫يف التنقيبات االوىل ب�سبب املحاذير ال�سيا�سية‪ ،‬وقد جرت التنقيبات يف منطقة الظهور بدعم‬ ‫من الرثي اليهودي روت�شيلد يف بداية القرن املا�ضي‪.‬‬ ‫و�أول التنقيبات املنظمة قام بها �صندوق ا�ستك�شاف فل�سطني ما بني ‪ 1867 - 1863‬وذلك‬ ‫حتت ا�شراف ال�ضابط الربيطاين وارن الذي قام بحفر �سل�سلة من االنفاق حوايل منطقة احلرم‪،‬‬ ‫تلت ذلك تنقيبات كل من بل�س ودكي ما بني ‪ 1897 - 1894‬جنوب املدينة‪ ،‬ثم تنقيبات‬ ‫باركر ما بني ‪ 1911 - 1909‬وقام فن�سنت بن�شر نتائج التنقيبات ما بني ‪ .-1914 1913‬وقام‬ ‫فايل بدعم من الرثي اليهودي روت�شيلد بالتنقيب يف جبل الظهور املطل على �سلوان ويف الفرتة‬ ‫ما بني ‪ 1925 - 1923‬قام كل من دينكان وماكل�سرت وكروفوت بالتنقيب يف املنطقة اجلنوبية‪،‬‬ ‫ويف الفرتة ما بني ‪ 1948 - 1934‬بالتنقيب يف منطقة قلعة القد�س‪ .‬ويف �سنة ‪ 1961‬قامت عاملة‬ ‫الآثار الربيطانية كاثلني كنيون واالب روالند دي فو بالتنقيب يف املنحدرات اجلنوبية‪.‬‬ ‫بعد احتالل القد�س مبا�شرة �سنة ‪ 1967‬با�شر الإ�سرائيليون احلفر ب�صورة غري قانونية يف املنطقة‬ ‫اجلنوبية والغربية املحاذية للحرم ال�شريف وهي احلفريات التي قام بها كل من بن‪ -‬دوف‬ ‫ومازار ليتك�شفوا على خالف ما توقعوا على �سل�سلة من الق�صور االموية و�سويات �أثرية من‬ ‫الفرتة البيزنطية حتتها‪ .‬كما بد�أت تنقيبات �إ�سرائيلية مو�سعة يف منطقة الب�ستان وجبل الظهور‬ ‫املطل على �سلوان ويف بقية �أرجاء املدينة‪ .‬وتتوا�صل �أعمال التنقيب من دون انقطاع يف املنطقة‬ ‫املحيطة بامل�سجد الأق�صى منذ تاريخ احتالل املدينة‪.‬‬ ‫واتخذت التنقيبات يف القد�س �سواء يف البلدة القدمية �أو حميطها هدفاً وا�ضحاً وهو البحث عن‬ ‫ال�سياق الأثري اليهودي للمدينة و�إظهاره على ح�ساب ال�سياقات احل�ضارية الأخرى للمدينة‪.‬‬ ‫ويت�ضح جلياً �أن الهدف من هذه التنقيبات هو اختالق وقائع �أثرية وتاريخية وكتابة رواية‬ ‫�أحادية اجلانب ملدينة القد�س خدمة للم�شروع اال�ستيطاين ال�صهيوين يف ما ُيع َرف من قبل‬ ‫ب�ضم القد�س‬ ‫الإ�سرائيليني "بالقد�س املو�سعة" والتي قامت فيها �إ�سرائيل بعد احتالل املدينة ّ‬ ‫ال�شرقية ب�صورة غري قانونية‪ ،‬وت�شمل البلدة القدمية‪ ،‬خ�صو�صاً ما ُيع َرف بحارة اليهود ومنطقة‬ ‫احلرم ال�شريف و�سلوان والأحياء املحيطة باملدينة وهي التلة الفرن�سية وم�ستوطنات "رامات‬ ‫ا�شكول" و"جيلو" و"راموت" والنبي يعقوب وم�ؤخراً م�ستوطنة "هار حوامه" على �أرا�ضي‬ ‫‪31‬‬


‫جبل �أبو غنيم يف املنطقة الواقعة ما بني بيت حلم والقد�س‪ ،‬والتي اقيمت على �أرا�ضي ال�ضفة‬ ‫الغربية التي احتلت عام ‪ .1967‬ويت�ضح �أن الهدف من �سيا�سة التنقيب هذه هو خلق وقائع‬ ‫ا�ستيطانية �أمام احلل النهائي‪.‬‬ ‫ويف منطقة الظهور وهو ال�سفح اجلنوبي املطل على �سلوان تركزت �أعمال التنقيب فيما يعرف‬ ‫"مدينة داود" حتت �إ�شراف يغئال �شيلو وايليت مزار‪ ،‬ومثلت هذه التنقيبات �إحدى احللقات‬ ‫اخلطرية للم�شروع اال�ستيطاين يف القد�س‪ ،‬والذي ي�ستهدف بناء حي يهودي على �أنقا�ض بلدة‬ ‫�سلوان العربية‪.‬‬ ‫وت�ضم هذه الت�سمية مناطق مت اال�ستيالء‬ ‫كما بد�أت تنقيبات مو�سعة فيما عرف بحارة اليهود‪ّ ،‬‬ ‫عليها يف حارة املغاربة وحارة ال�شرف ومل تكن تتبع لهذه احلارة �أ�ص ًال‪ ،‬و�أ�شرف على هذه‬ ‫التنقيبات نحمان �أفيجاد يف الفرتة ما بني ‪ .1982 - 1969‬وتواكبت هذه التنقيبات مع‬ ‫التغريات التنظيمية والدميوغرافية التي طالت هذه اجلزء من املدينة‪ ،‬وم�شاريع البناء التي‬ ‫مو�سعة‬ ‫جرت فيها‪ ،‬خ�صو�صاً يف عقد ال�سبعينيات من القرن املا�ضي‪ .‬وجرت تنقيبات �أثرية ّ‬ ‫يف هذه املنطقة ا�ستمرت ما بني ‪� 6-8‬أ�شهر يف ال�سنة الواحدة يف �سباق مع الزمن خللق وقائع‬ ‫ا�ستيطانية جديدة يف املدينة‪ ،‬والك�شف عما �سمي بالتاريخ اليهودي يف املدينة‪ .‬وك�شفت هذه‬ ‫التنقيبات عن مراحل ا�ستيطانية يف املدينة يف اجلزء اجلنوبي الغربي للمدينة‪ ،‬وي�شمل التاريخ‬ ‫اال�ستيطاين للمدينة وحت�صيناتها‪.‬‬ ‫وحني مل ت�أت هذه التنقيبات بالثمار املرجوة‪ ،‬بد�أ الإ�سرائيليون يف عقد الثمانينيات وب�شكل‬ ‫�سري يف االندفاع �شرقاً �إىل منطقة احلرم نف�سها لتتبع �سل�سلة االنفاق الأر�ضية املكت�شفة يف‬ ‫التنقيبات ال�سابقة وربطها ب�شكل ا�صطناعي ببع�ضها البع�ض (طه ‪ ،)1996‬خللق م�سارات‬ ‫�أر�ضية يف املدينة‪ ،‬و�أبرزها النفق الأر�ضي الواقع حتت ال�سور الغربي ملنطقة احلرم واملمتد من‬ ‫حائط الرباق �إىل باب الغوامنة والذي �أدى يف حينه �إىل ت�صدع يف املباين الواقعة فوقه‪ .‬وميتد‬ ‫النفق بطول ‪ 488‬مرتاً‪ ،‬وهو لي�س بالنفق الوحيد‪ ،‬فقد جرت حماوالت الت�سلل �شرقاً باجتاه‬ ‫قبة ال�صخرة ي�صل �سبيل قايتباي‪ ،‬ولكن امل�ؤكد ان حجم العمل يف منطقة احلرم غري معروف‬ ‫الأبعاد مبا ي�ستوجب العمل على وقفه و�إخ�ضاعه للرقابة الفل�سطينية والدولية‪ .‬كما يجري‬ ‫م�ؤخراً ربط �سلوان بهذه الأنفاق الأر�ضية‪ ،‬با�ستخدام القنوات الأر�ضية و�شق �أنفاق جديدة‬ ‫مل تكن موجودة �سابقاً‪.‬‬ ‫وبعد خم�سني عاماً تقريباً من تدمري حي املغاربة كلياً وت�شريد �سكانه والذي �شمل تدمري ‪135‬‬ ‫م�سكناً وم�سجدين وزاويتني بحجة تو�سيع �ساحة الرباق (�أمام حائط املبكى)‪� ،‬شرعت ال�سلطات‬ ‫الإ�سرائيلية �صبيحة يوم االثنني بتاريخ ‪ 2007/ 2/ 6‬ب�إزالة �آخر معامل هذا احلي واملتمثلة بالتلة‬ ‫الرتابية للطريق التاريخي القدمي الوا�صل بني حي املغاربة و�ساحة احلرم ال�شريف‪ ،‬بحجة بناء‬ ‫‪32‬‬


‫ملف العدد ‪ -‬الآثار‬

‫ج�سر بديل‪ ،‬وقد �أ�صبح املمر الرتابي مع الوقت عر�ضة للتهديد مع ا�ستمرار التنقيبات يف املنطقة‬ ‫الغربية للحرم من كال اجلانبني‪ .‬وجرى �إ�ضعافه �إن�شائياً ب�صورة متوا�صلة‪ .‬ويف �سنة ‪ 2004‬جرى‬ ‫انهيار جزئي يف ظروف غام�ضة لأحد جوانب التلة الرتابية‪ ،‬وبد ًال من اجراء �أعمال التدعيم‬ ‫والرتميم لالنهيارات تركت على حالها من دون ترميم‪ ،‬وجرى بناء ج�سر خ�شبي م�ؤقت �سنة‬ ‫‪ .2005‬وما زالت املحاوالت الإ�سرائيلية جارية لإن�شاء ج�سر �ضخم بد ًال من �إعادة الو�ضع �إىل‬ ‫�سابق عهده‪ .‬وحذرت منظمة اليون�سكو من �أن ا�ستمرار هذه التنقيبات على م�ستويات عميقة‬ ‫من م�ستوى الأ�س�س وتفريغ الأر�ض حتت هذه املباين التاريخية القدمية ي�ضعف �أ�س�سها ما‬ ‫ينطوي على �أخطار ان�شائية كبرية على هذه املباين على املديني القريب والو�سيط‪.‬‬ ‫ويف �سنة ‪ 2007‬عاودت �سلطات االحتالل �أعمال التنقيب يف التلة الرتابية التي ت�صل �ساحة‬ ‫الرباق بباب املغاربة با�ستخدام الآليات الثقيلة هذه املرة‪ ،‬وقد �أدت التنقيبات املتوا�صلة �إىل‬ ‫ازالة التلة الرتابية التي تربط �ساحة امل�سجد االق�صى بحارة املغاربة وازالة امل�شهد التاريخي‬ ‫يف حميط امل�سجد االق�صى‪ .‬وتعود الآثار املكت�شفة واملزالة يف هذا املوقع �إىل الفرتات االموية‬ ‫والفاطمية والأيوبية والعثمانية‪ .‬وقد جرى معظم هذه التنقيبات حتت جنح الظالم مبا ال ي�سمح‬ ‫ب�أي تقييم م�ستقل لنتائجها‪� ،‬إىل جانب الدوافع ال�سيا�سية وااليديولوجية املعلنة لهذه التنقيبات‬ ‫التي حتاول تغيري الوقائع التاريخية والدينية يف هذا املكان املقد�س‪.‬‬ ‫وي�أتي تدمري طريق باب املغاربة متزامناً مع ا�ستمرار التنقيبات غري القانونية يف �شبكة �أنفاق‬ ‫�أر�ضية حتت �ساحات امل�سجد الأق�صى وقبة ال�صخرة وحميطها‪ ،‬مبا يف ذلك التنقيبات املتوا�صلة‬ ‫يف منحدرات جبل الظهور املطل على �سلوان وتتبع �سل�سلة من الأنفاق الأر�ضية حتت �سويات‬ ‫امل�سجد االق�صى‪.‬‬ ‫ت�أتي �أعمال التدمري احلالية كمخالفة وا�ضحة للقانون الدويل‪ ،‬خ�صو�صاً اتفاقية جنيف الرابعة‬ ‫حول املباين الدينية والعامة‪ ،‬واتفاقية الهاي حلماية املمتلكات الثقافية �أثناء النزاع امل�سلح‬ ‫ل�سنة ‪ ،1954‬والتو�صيات الدولية حول التنقيبات الأثرية ل�سنة ‪ 1956‬وتلزم االتفاقية �إ�سرائيل‬ ‫متعمدة للرتاث الثقايف باعتبارها‬ ‫كقوة حمتلة بحماية الرتاث الثقايف وتدين �أية عمليات تدمري ّ‬ ‫جرمية حرب‪ .‬وتعترب �أعمال التدمري اجلارية خمالفة لالتفاقية الدولية حلماية الرتاث الثقايف‬ ‫والطبيعي ل�سنة ‪ ،1972‬والعديد من االتفاقيات والقرارات الدولية ال�صادرة حول القد�س‪.‬‬ ‫كما ت�شكل �أعمال التنقيب اجلارية يف القد�س خرقاً وا�ضحاً لالتفاقية الدولية للحفاظ على‬ ‫الرتاث الثقايف والطبيعي العاملي‪ ،‬باعتبار �أن مدينة القد�س و�أ�سوارها م�سجلة على الئحة‬ ‫الرتاث العاملي منذ �سنة ‪ .1981‬ومل جتدِ حتذيرات اليون�سكو وجلنة الرتاث العاملي من تداعيات‬ ‫الإفراط الكبري يف التنقيب يف حميط احلرم ال�شريف‪.‬‬ ‫وقد حت ّولت �أعمال التنقيبات الأثرية الإ�سرائيلية من �أعمال ظاهرها علمي‪ ،‬كما يف‬ ‫‪33‬‬


‫ال�سنوات الأوىل من ال�سيطرة على مدينة القد�س واملتمثلة يف م�شاريع التنقيب الكربى يف‬ ‫"احلي اليهودي" داخل املدينة ويف منطقة �سلوان �إىل حالة من الهو�س ال�سيا�سي والديني‬ ‫والأيديولوجي‪ ،‬و�أ�صبحت �أداة طيعة بيد امل�ؤ�س�سة الر�سمية واجلماعات اال�ستيطانية لتغيري‬ ‫الطابع التاريخي للمدينة‪ .‬وقد و�صلت هذه التنقيبات ال�سطحية التي جتري حتت �شعار �إثبات‬ ‫يهودية املدينة حداً من الإ�سفاف العلمي �أثار انتقادات بع�ض علماء الآثار الإ�سرائيليني‬ ‫�أنف�سهم‪ ،‬الذي و�صفوا هذه التنقيبات بال�سطحية وغري املوجهة علمياً‪ ،‬واخلا�ضعة للأهواء‬ ‫الأيديولوجية للم�ستوطنني‪ .‬وملداراة هذا ال�ضعف غالباً ما تلج�أ امل�ؤ�س�سات القائمة عليها �إىل‬ ‫االعالنات الدائمة عن اكت�شافات مثرية جتد طريقها �سريعاً لل�صحافة‪.‬‬ ‫�إن هذه التنقيبات الإ�سرائيلية اخلاطفة‪ ،‬ال تلتزم بالأعراف العلمية يف التنقيب العلمي‪ .‬وال‬ ‫متنح الوقت الكايف لإجراء �أعمال التنقيب بروية‪ ،‬وهي مالحظة طاملا رددتها اليون�سكو يف‬ ‫�إ�شارتها �إىل حالة الإفراط يف التنقيب الأثري يف املدينة‪ .‬مبا ي�ضع التنقيبات الإ�سرائيلية يف �إطار‬ ‫التنقيبات الع�شوائية‪.‬‬ ‫اما املالحظة االخرى حول التنقيبات الإ�سرائيلية يف القد�س فهي �أنها جتري �ضمن خمطط‬ ‫غري معروف وغري معلن‪ ،‬ومعظم �أعمال التنقيب جتري �سراً وحتت جنح الظالم‪ .‬وهذا الو�ضع‬ ‫غري امل�ألوف يف �أعمال التنقيب العلمية ينفي �إمكانية التقييم العلمي امل�ستقل لنتائجها‪.‬‬ ‫�إن التنقيبات العلمية احلديثة هي �أماكن للبحث والنقا�ش والنقد؛ وهذا ما هو غري متوفر‬ ‫يف التنقيبات الإ�سرائيلية يف القد�س على وجه اخل�صو�ص‪ .‬وي�شري باحث الآثار الإ�سرائيلي‬ ‫غرينربغ �إىل �أن التنقيبات اجلارية يف القد�س هي تنقيبات مت�سرعة‪ ،‬تبتلع الكثري مما ال ت�ستطيع‬ ‫ه�ضمه وا�ستيعابه‪ .‬ذلك �أن هذه التنقيبات تخ�ضع لأهواء كبار الإقطاعيني من �أ�صحاب امل�صالح‬ ‫ولي�س للعلماء‪ ،‬وي�شكك غرينربغ يف امل�ؤهالت العلمية للمنقبني امل�شرفني على النظام املائي يف‬ ‫�سلوان ممن مل ي�سبق �أن ن�شروا بحثاً علمياً جدياً واحداً‪.‬‬ ‫التنقيبات الأثرية واال�ستيطان‬

‫هناك عالقة وثيقة ما بني التنقيبات الأثرية واال�ستيطان؛ فقد جرى توظيف العمل الأثري‬ ‫خلدمة ال�سيا�سة اال�ستيطانية الكولونيالية يف الأرا�ضي الفل�سطينية‪ ،‬وغالبا ما كانت هناك دوافع‬ ‫�أيديولوجية وذلك بهدف الك�شف عن دالئل يهودية قدمية لتربير الدعاوي اال�ستيطانية(‪Abu‬‬ ‫‪. )el-Haj 2001‬‬ ‫وهناك الكثري من احلاالت التي حت ّولت فيها احلمالت واملخيمات الأثرية �إىل نقاط ا�ستيطانية‬ ‫ثابتة ومن الأمثلة على ذلك التنقيبات اجلارية يف القد�س وحميطها (‪ ،)Taha 2015‬و�أبرز‬ ‫الأمثلة على ذلك دير املر�صر�ص الذي �أ�صبح يف مركز جتمع ا�ستيطاين ُيعرف با�سم معايل‬ ‫‪34‬‬


‫ملف العدد ‪ -‬الآثار‬

‫�أدوميم‪ ،‬ثم تل الرميدة يف مدينة اخلليل وخربة �سيلون التي حتولت �إىل م�ستوطنة �شيلو وخربة‬ ‫�سو�سيا بالقرب من ال�سموع �إىل حتولت �إىل م�ستوطنة ثابتة‪ ،‬كذلك اال�ستيطان يف جبل جرزمي‬ ‫وكفر قدوم‪ .‬وحتمل العديد من امل�ستوطنات الإ�سرائيلية يف الأرا�ضي الفل�سطينية �أ�سماء تاريخية‬ ‫وتوراتية وذلك بهدف �إ�ضفاء طابع تاريخي ا�ستيطاين على م�صادرة الأر�ض من الفل�سطينيني‪.‬‬ ‫اىل جانب ال�سيطرة على �أعداد كبرية من املواقع الأثرية تقع يف نطاق امل�ستوطنات الإ�سرائيلية‬ ‫�أو املع�سكرات الإ�سرائيلية ومناطق التدريب الع�سكري واملحميات الطبيعية مثل كهوف ما‬ ‫قبل التاريخ يف برية القد�س وبيت حلم‪.‬‬ ‫ويتجلى ا�ستخدام الرموز التاريخية خلدمة امل�شروع اال�ستيطاين ال�صهيوين يف ال�سيطرة اجلزئية‬ ‫�أو الكلية على الرموز الدينية والأماكن الدينية الإ�سالمية وامل�سيحية‪ ،‬ومن �أبرز الأمثلة على‬ ‫ذلك احلرم الإبراهيمي يف اخلليل و�أحياء يف البلدة القدمية ومقام قبة راحيل يف بيت حلم‬ ‫ومقام يو�سف يف نابل�س وبيت �شهوان يف �أريحا‪ .‬هذا �إىل جانب املحاوالت الدائمة لل�سيطرة‬ ‫على الرموز الدينية يف القد�س‪ .‬ويف �سنة ‪� 2012‬أعلنت حكومة االحتالل عن قائمة ت�ضم ‪150‬‬ ‫موقعاً ذا قيمة "قومية" منها ‪ 35‬موقعاً يقع يف حدود الأرا�ضي الفل�سطينية املحتلة‪ ،‬وقد �أدانت‬ ‫منظمة اليون�سكو هذه اخلطوة‪.‬‬ ‫االجتار غري امل�رشوع بالآثار‬

‫تعترب عمليات التنقيب غري القانوين واالجتار غري امل�شروع واحدة من �أخطر الظواهر يف فل�سطني‬ ‫(‪� ،)Taha 2002‬أدت �إىل ا�ستنزاف كبري للموارد الأثرية يف الأرا�ضي الفل�سطينية‪ ،‬وقد حفزت‬ ‫�سيا�سة االحتالل االجتار غري امل�شروع باملواد الأثرية لي�س لدوافع مالية فقط ولكن لدوافع‬ ‫ايديولوجية �أي�ضا‪ .‬وقد �شهدت فرتة االحتالل الإ�سرائيلي ت�صاعداً كبرياً حلجم عمليات‬ ‫التهريب واالجتار غري القانوين يف الأرا�ضي الفل�سطينية (‪ ،)Kersel 2006‬ومن ثم حجم‬ ‫ال�ضرر الذي حلق باملواقع الأثرية‪ .‬وو�صل هذا الن�شاط حداً ينذر باخلطر‪ .‬وال يخفى �أن االنحدار‬ ‫نحو غياب القانون وانهيار نظام احلماية يف الأرا�ضي املحتلة وال�ضغوط االقت�صادية على املواطنني‬ ‫متتد بجذورها �إىل االحتالل نف�سه‪.‬‬ ‫يعرف علم الآثار �أي�ضاً �إىل جانب تعريفاته العادية ب�أنه تدمري منظم‪ ،‬لذلك فان كل ما ينقب‬ ‫عنه يجب �أن يوثق توثيقاً كام ًال‪ .‬والتوثيق هو احلد الفا�صل بني التنقيب العلمي وغري العلمي‪.‬‬ ‫ذلك �أن حتليل املواد الأثرية يعتمد على موقعها الدقيق يف ال�سياق الأثري‪ ،‬وبدون توثيق‬ ‫ال�سياق الأثري تفقد املواد الأثرية قيمتها العلمية‪ .‬وتتعدى منهجية التوثيق املنظم لعلم الآثار‬ ‫القيمة اجلمالية والذاتية التي ت�شكل االهتمام الأوحد جلامع العاديات وتاجر الآثار‪.‬‬ ‫وقد �سهلت التكنولوجيا احلديثة عمليات نهب املواقع الأثرية‪ ،‬وهي تنطوي على خماطر كبرية‬ ‫‪35‬‬


‫مت�سببة يف دمار ال ميكن �إ�صالحه‪ .‬وت�ستخدم اجلرافات و�آالت الك�شف عن املعادن على نطاق‬ ‫وا�سع يف عمليات النهب‪ .‬وو�صلت ظاهرة نهب الآثار حداً ينذر باخلطورة مبا ال يبقي لعلماء‬ ‫الآثار �سوى الرتاكمات امللوثة واملواقع املدمرة يف القريب العاجل‪ .‬وقد توفرت �آالت الك�شف‬ ‫عن املعادن بكرثة يف الأ�سواق املحلية‪ ،‬وجرى الرتويج لها من خالل مواقع �إ�سرائيلية يف حيفا‬ ‫ويف امل�ستوطنات الإ�سرائيلية‪ ،‬ثم ال�صحف املحلية‪ .‬و�أنع�شت �أحالم احل�صول على الرثوة ن�شاط‬ ‫جمموعات عاثت اخلراب يف املواقع الأثرية‪.‬‬ ‫وقد �أظهر التقييم الأويل الذي قامت به دائرة الآثار الفل�سطينية حلالة مواقع الرتاث احل�ضاري‪،‬‬ ‫وبعد نقل �صالحيات الآثار �إىل اجلانب الفل�سطيني ال�ضرر الكبري الذي �أ�صاب هذه املواقع �أثناء‬ ‫االحتالل الإ�سرائيلي‪ .‬ف�إىل جانب التنقيبات غري القانونية التي قامت بها �سلطات االحتالل‬ ‫يف عدد كبري من املواقع الأثرية وتعر�ضت �آالف املواقع الأثرية للنهب والتدمري‪ ،‬رافق ذلك‬ ‫عمليات اجتار وا�سعة باملمتلكات الأثرية والرتاثية (‪. )Taha 2002‬‬ ‫وقد �شهدت ال�سنوات اخلم�سني املا�ضية من االحتالل الإ�سرائيلي للأرا�ضي الفل�سطينية‬ ‫ت�صاعداً كبرياً حلجم عمليات التهريب واالجتار غري القانوين ومن ثم حجم ال�ضرر الذي حلق‬ ‫باملواقع الأثرية‪ .‬و�أ�صبحت الأرا�ضي الفل�سطينية املحتلة �أكرث بقاع الأر�ض تعر�ضاً للنهب‪.‬‬ ‫وانخرط يف هذا الن�شاط غري القانوين مئات الأ�شخا�ص‪ ،‬وو�صل هذا الن�شاط حداً ُينذر باخلطر‪.‬‬ ‫وال ُيخفى �أن االنحدار نحو غياب القانون وانهيار نظام احلماية يف الأرا�ضي املحتلة واجلهل‬ ‫متتد بجذورها �إىل االحتالل نف�سه‪.‬‬ ‫ب�أهمية الآثار وال�ضغوط االقت�صادية على املواطنني ّ‬ ‫و�شجعت ال�سيا�سة الإ�سرائيلية الر�سمية يف الأرا�ضي املحتلة عمليات نهب املواقع الأثرية‬ ‫ّ‬ ‫ثم عمليات التهريب واالجتار غري امل�شروع باملواد الأثرية (‪ .)Taha 2002‬ويدل انخراط‬ ‫رموز �سيا�سية كبرية على حجم هذا الن�شاط‪ ،‬ويعترب تاجر الآثار الإ�سرائيلي مو�شي ديان‬ ‫والذي �شغل منا�صب ر�سمية عليا منها وزارة احلرب الإ�سرائيلية‪ ،‬ثم تيدي كوليك رئي�س‬ ‫بلدية القد�س املحتلة مناذج بارزة يف نهب الرتاث الثقايف الفل�سطيني حتت االحتالل‪ .‬وقد‬ ‫قام املتحف الإ�سرائيلي ب�شراء جزء من جمموعه دايان ال�ضخمة بعد موته �سنة ‪ .1981‬وهي‬ ‫جمموعة منهوبة ب�أغلبيتها من الأرا�ضي الفل�سطينية املحتلة‪.‬‬ ‫وعلى �صعيد �سيا�سة االحتالل‪ ،‬حظرت الأوامر الع�سكرية الإ�سرائيلية ت�صدير الآثار من‬ ‫الأرا�ضي الفل�سطينية املحتلة با�ستثناء القد�س ال�شرقية‪ ،‬بدون احل�صول على ترخي�ص �أو‬ ‫�إذن عام من قبل �ضابط الآثار الإ�سرائيلي‪ .‬وقد طبقت �إ�سرائيل ب�شكل غري قانوين القانون‬ ‫الإ�سرائيلي على القد�س ال�شرقية املحتلة كنتيجة ل�ضم املدينة‪ ،‬الذي جاء خرقاً للقانون الدويل‪.‬‬ ‫ومل توفر القوانني ال�سابقة �أي نوع من احلماية للمواد االثنوغرافية‪ ،‬وتبددت حتت الطلب العاتي‬ ‫لها من قبل جتار الرتاث و�أ�صحاب املجموعات اخلا�صة‪ ،‬وتندرج املواد الرتاثية والتي ت�شكل‬ ‫‪36‬‬


‫ملف العدد ‪ -‬الآثار‬

‫جزءاً من ثقافة املجتمع الفل�سطيني التقليدي �أكرث �أ�صناف الرتاث الثقايف تهديداً‪� ،‬إذ �إىل‬ ‫جانب عوامل االندثار الطبيعي فقد بد�أت هذه املواد يف االختفاء كلياً‪ .‬وتكمن �أهمية هذا‬ ‫ال�صنف من الرتاث �أنه ذو عالقة مبا�شرة بالهوية الثقافية الفل�سطينية‪.‬‬ ‫وت�شري الإح�صائيات املتوفرة لدى دائرة الآثار حول الفرتة ما بعد ‪� 1967‬إىل نهب �آالف املواقع‬ ‫الأثرية (‪ .)Ilan, Dahari and Avni 1989‬وحيث تركز الن�شاط يف البداية على القبور القدمية‬ ‫من الفرتات الربونزية واحلديدية والرومانية والبيزنطية‪ ،‬فقد بد�أ يطال املواقع الأثرية نف�سها‬ ‫التي �أ�صبحت عر�ضة للتدمري‪ .‬وقد �أبقى االحتالل على مفارقات الو�ضع القانوين الذي يعترب‬ ‫التنقيبات غري امل�صرح بها عم ًال غري قانوين ولكن االجتار باللقى الأثرية نف�سها �أمر م�شروع‪.‬‬ ‫وحتولت �إ�سرائيل �إىل مركز �إقليمي لالجتار بالآثار التي تنتقل �إليها من الدول املجاورة‪ ،‬عرب‬ ‫�شبكات التهريب‪ ،‬و�أظهرت احلرب العراقية الأوىل والثانية دور �إ�سرائيل كقاعدة رئي�سية يف‬ ‫نقل وتهريب املواد الأثرية من العراق عرب دول اجلوار‪ ،‬وا�ستمر هذا الدور يف الأحداث التي‬ ‫ت�شهدها املنطقة العربية‪.‬‬ ‫ومنذ العام ‪ 1967‬جرى نقل �آالف القطع الأثرية من املناطق الفل�سطينية املحتلة ب�صورة خمالفة‬ ‫للقانون املحلي والدويل‪ .‬وقامت ال�سلطات الإ�سرائيلية الر�سمية نف�سها بنقل جزء كبري من هذه‬ ‫املواد الأثرية‪ .‬وهذا ي�شمل املواد الأثرية املنقولة من متحف الآثار الفل�سطيني يف القد�س‪.‬‬ ‫قبل نقل ال�صالحيات حول الآثار �سنة ‪ 1994‬كان هناك ما يزيد عن مئة متجر للآثار يف‬ ‫�إ�سرائيل والأرا�ضي الفل�سطينية املحتلة‪ ،‬وي�شمل ‪ 15‬متجراً يف الأرا�ضي الفل�سطينية‪ ،‬معظمها‬ ‫يف مدينة بيت حلم‪ ،‬وتعترب القد�س املركز الرئي�س‪ ،‬وفيها ‪ 55‬متجراً تليها مدينة تل �أبيب وفيها‬ ‫‪ 15‬متجراً‪ .‬هذا �إىل جانب ع�شرات املتاجر غري املرخ�صة‪� ،‬إىل جانب فئة التجار الكبار والو�سطاء‬ ‫واملتجولني‪ .‬وت�شري الإح�صائيات ب�أن حجم التداول ي�صل �إىل مئة �ألف قطعة �سنوياً‪ ،‬يت�س ّرب‬ ‫معظمها �إىل اخلارج‪ .‬كما انتع�شت عمليات التهريب واالجتار غري القانوين باملمتلكات الثقافية‬ ‫على امل�ستوى الإقليمي‪ .‬وقد حفزت �سيا�سة االحتالل املتهاونة خلق طبقة من الو�سطاء‬ ‫واملهربني وجتار الآثار ميار�سون ن�شاطهم غري القانوين بدون ترخي�ص (‪ .)Taha 2002‬ومت‬ ‫ت�سجيل ما يزيد عن مئة تاجر �آثار يف الأرا�ضي الفل�سطينية‪ ،‬وجميع ه�ؤالء التجار ال يحملون‬ ‫ترخي�صاً مبمار�سة املهنة‪ ،‬وكانوا ميار�سون ن�شاطهم غري القانوين بكل حرية حتت االحتالل‪ ،‬وهم‬ ‫مرتبطون مبراكز االجتار الكبرية يف القد�س‪ .‬ويعترب دور التجار الو�سطاء الفل�سطينيني عموماً دوراً‬ ‫ثانوياً يف بنية هذه التجارة غري ال�شرعية‪ ،‬منهم خم�سة من التجار الكبار وع�شرات من التجار‬ ‫ال�صغار الذي يعملون كو�سطاء بني مراكز االجتار ول�صو�ص الآثار املحليني‪ .‬وقد جرى هذا‬ ‫الن�شاط حتت رعاية االحتالل الإ�سرائيلي الذي وفر لها كل �سبل احلماية‪.‬‬ ‫واىل جانب ظاهرة االجتار باملمتلكات الثقافية التي جتري بدوافع ربحية ومالية هناك ظاهرة‬ ‫‪37‬‬


‫جديدة تت�سم بقدر ال تقل خطورة عن الأوىل‪ ،‬وهو تزييف املواد الأثرية لغايات �أيديولوجية‪،‬‬ ‫و�أبرز الأمثلة على ذلك ما ُعرف بالرمانة العاجية والتي اعتربت على مدار فرتة من الزمن‬ ‫الدليل الأثري الوحيد على الهيكل وتبني �أنها ومثيلتها كالكتابة التي خطت على التابوت‬ ‫احلجري "جيم�س �أخو امل�سيح" ب�أنها من فعل جمموعة من التجار واملز ّورين الإ�سرائيليني‬ ‫املحرتفني‪.‬‬ ‫بعد االتفاق االنتقايل الفل�سطيني ‪ -‬الإ�سرائيلي عملت دائرة الآثار العامة على منع االجتار‬ ‫باملمتلكات الثقافية‪ ،‬ومل ت�صدر رخ�صاً جديدة لالجتار بالآثار منذ �سنة ‪ ،1996‬عدا بع�ض‬ ‫الرخ�ص ال�سارية التي مت جتديدها ملرة �سنة واحدة ح�سب القانون‪ .‬وجنحت دائرة الآثار‬ ‫الفل�سطينية يف �إخراج ظاهرة االجتار بالآثار من دائرة الن�شاط امل�شروع يف ال�ضفة الغريبة وقطاع‬ ‫غزة‪ .‬ولكن الت�صدي لظاهرة تهريب الآثار والنقل واالجتار غري امل�شروع باملمتلكات الثقافية �أكرث‬ ‫تعقيداً من جمرد �إ�صدار قانون بحظر هذه التجارة‪ ،‬خ�صو�صاً يف ظل الو�ضع ال�سيا�سي املعقد‬ ‫الذي تعي�شه الأرا�ضي الفل�سطينية‪ .‬حيث ال ي�سيطر الفل�سطينيون على كامل الأر�ض وعلى‬ ‫احلدود‪� .‬إ�ضافة �إىل عدم وجود حدود وا�ضحة ما بني مناطق ال�سيطرة الفل�سطينية (مناطق �أ و‬ ‫ب) وما بني املناطق امل�صنفة "ج" التي ما زالت حتت ال�سيطرة املبا�شرة لالحتالل الإ�سرائيلي‪.‬‬ ‫ثم غياب حدود فا�صلة ما بني الأرا�ضي الفل�سطينية يف ال�ضفة الغربية وقطاع غزة و�إ�سرائيل‪.‬‬ ‫ورغم تعقيدات هذا الو�ضع متكنت دائرة الآثار الفل�سطينية مب�ساعدة ال�شرطة من و�ضع يدها‬ ‫املعدة للتهريب‪.‬‬ ‫على �آالف القطع الأثرية ّ‬ ‫املتعمد للرتاث الثقايف‬ ‫التدمري‬ ‫ّ‬

‫تعر�ض الرتاث الثقايف الفل�سطيني لعملية تدمري �شبه منظمة على مدار �سنوات االحتالل‬ ‫(‪ ،)Taha 2010‬وعانت مواقع الرتاث الثقايف من �آثار الق�صف والتفجري مت�سببة ب�أ�ضرار‬ ‫متفاوتة‪ .‬وقد تكثف الهجوم الإ�سرائيلي على مواقع الرتاث الثقايف منذ �شهر ني�سان ‪.2002‬‬ ‫وجرى ا�ستهداف مق�صود ملواقع الرتاث الثقايف يف املدن التاريخية يف غزه ورفح وخانيون�س‬ ‫واخلليل وبيت حلم وبيت جاال ورام اهلل ونابل�س وجنني وطولكرم و�سلفيت وقلقيلية وعابود‪.‬‬ ‫وتعر�ضت املدن القدمية يف اخلليل وبيت حلم ونابل�س لعمليات تدمري وا�سعة طالت املباين‬ ‫الأثرية والتاريخية والدينية‪ .‬ويعترب ح�صار كني�سة املهد وتدمري البلدة القدمية يف نابل�س �أكرب‬ ‫�شاهد على االعتداءات الإ�سرائيلية على الرتاث الثقايف الفل�سطيني‪ .‬فقد طالت عمليات‬ ‫التدمري �أحياء البلدة القدمية يف نابل�س وبيوتها و�أ�سواقها ومبانيها التاريخية و�أماكن العبادة فيها‪.‬‬ ‫كما طالت االعتداءات م�سجد اخل�ضرا اململوكي وكني�سة الروم الأرثوذك�س ومقام ال�شيخ‬ ‫م�سلم‪ .‬وجرى تدمري م�صانع ال�صابون القدمية يف حي اليا�سمينة ثم خان التجار وع�شرات بيوت‬ ‫ال�سكن واملباين التاريخية‪.‬‬ ‫‪38‬‬


‫ملف العدد ‪ -‬الآثار‬

‫ويف احلرب الأخرية على غزة جرى ا�ستهداف مق�صود ملواقع الرتاث الثقايف واملباين العامة‬ ‫والدينية وامل�ؤ�س�سات التعليمية والبنية التحتية‪ .‬وطالت االعتداءات مباين الوزارات ومرافق‬ ‫اخلدمات العامة واملباين التاريخية واملواقع الأثرية �شملت مبنى ال�سراي التاريخي‪ ،‬وق�صر احلاكم‬ ‫�إىل جانب مئات البيوت القدمية يف غزة وخانيون�س وبيت حانون‪ ،‬كما �شملت االعتداءات‬ ‫املواقع الأثرية يف موقع البالخية واملنطار وجباليا والن�صريات وتل ال�سكن‪ ،‬ومت ا�ستهداف‬ ‫مق�صود ملنارات امل�ساجد التاريخية �إىل جانب تدمري امل�شهد الثقايف والطبيعي يف منطقة حي‬ ‫الزيتون وبيت الهيا وبيت حانون وجحر الديك‪ .‬وقد �أدى ا�ستمرار احل�صار املفرو�ض على غزة‬ ‫�إىل تفاقم الأو�ضاع الإن�سانية واحليلولة دون تقدمي الدعم الدويل حلماية الرتاث الثقايف‪.‬‬ ‫كما �أدى بناء اجلدار الفا�صل يف عمق الأرا�ضي الفل�سطينية �إىل ال�سيطرة على امل�صادر الثقافية‬ ‫لل�شعب الفل�سطيني‪ ،‬و�إحلاق �أ�ضرار فادحة بالرتاث الثقايف الفل�سطيني‪ ،‬متثلت بتدمري ع�شرات‬ ‫املواقع واملعامل الأثرية يف م�سار بناء اجلدار نف�سه‪ ،‬وف�صل مئات املواقع الأثرية يف املنطقة‬ ‫العازلة الواقعة بني اخلط الأخ�ضر وم�سار اجلدار �إىل جانب ف�صل مدينة القد�س عن حميطها‬ ‫الفل�سطيني‪ .‬كما �أدى هذا اجلدار �إىل تدمري كارثي للم�شهد الثقايف والطبيعي‪.‬‬ ‫ا�ستعادة املمتلكات الأثرية املنقولة‬

‫بعد االحتالل الإ�سرائيلي �سنة ‪� 1967‬شهد الرتاث الفل�سطيني عمليات نهب وا�سعة للرتاث‬ ‫الثقايف الفل�سطيني جنم عنها �ضياع كبريـ متثل باملواد املنقولة من خالل �أعمال التنقيب‬ ‫وامل�سوح الإ�سرائيلية املرخ�صة لباحثني �إ�سرائيليني �أو من خالل اجلنود والأفراد‪ ،‬وتقدر بحوايل‬ ‫‪ 200‬الف قطعة �سنويا يف الفرتة ما بني ‪ 1967-1995‬وحوايل ‪� 120‬ألف قطعة �سنوياً يف الفرتة‬ ‫التي تلت‪ .‬وي�شمل الرتاث الثقايف �إىل جانب املواد الأثرية ك ًال من املواد الثقافية املنقولة‬ ‫كاملخطوطات والكتب والأعمال الفنية واملواد الرتاثية‪.‬‬ ‫وتن�ص اتفاقية الهاي ل�سنة ‪ 1954‬على واجب ال�سلطة املحتلة يف حماية الرتاث الثقايف ومنع‬ ‫امل�سا�س به واحليلولة دون ت�صديره وحرا�سته‪ ،‬مبا ي�ضع الإطار القانوين لعملية �إعادة املمتلكات‬ ‫الثقافية عند انتهاء االحتالل (‪ .)Einhorn 1996‬وقد �شملت الأن�شطة الإ�سرائيلية ما يلي‪:‬‬ ‫التنقيبات املنظمة التي قامت بها �سلطة الآثار الإ�سرائيلية �أو �ضابط الآثار ودائرة الآثار التابعة‬ ‫للإدارة املدنية الإ�سرائيلية‪.‬‬ ‫التنقيبات التي قامت �سلطة االحتالل الإ�رسائيلي برتخي�صها‪.‬‬

‫املواد التي قامت �إ�سرائيل بنقلها من املتاحف يف الأرا�ضي املحتلة مثل خمطوطات قمران من‬ ‫متحف الآثار الفل�سطيني يف القد�س‪.‬‬ ‫‪39‬‬


‫املواد التي قامت �إ�سرائيل بنقلها من املواقع الأثرية ك�أر�ضيات الف�سيف�ساء من نابل�س وغزة‬ ‫و�سلفيت ‪..‬الخ‪ ،‬مبا يف ذلك التوابيت والتماثيل املنقولة من املواقع الأثرية يف القد�س ومقام‬ ‫النبي يحيي يف �سب�سطية والتوابيت ال�شبيهة بالإن�سان من مقربة دير البلح وتلك املنقولة من‬ ‫مئات املواقع الفل�سطينية‪.‬‬ ‫املواد الأثرية امل�سروقة واملنقولة من قبل جنود �أو �أفراد �إ�سرائيليني‪ ،‬وهذا ي�صح على جمموعة‬ ‫مو�شي دايان الذي قام بجمعها ب�صورة غري قانونية من الأرا�ضي الفل�سطينية املحتلة‪ ،‬م�ستغ ًال‬ ‫موقعه يف امل�ؤ�س�سة الع�سكرية الإ�سرائيلية‪.‬‬ ‫املواد امل�صادرة وامل�ضبوطة من �أفراد �أو جتار فل�سطينيني �أو تلك امل�ضبوطة على نقاط العبور‬ ‫الفل�سطينية‬ ‫الأ�رضار والدمار الذي حلق بالآثار غري املنقولة‪.‬‬

‫�إن معظم هذه الأن�شطة متثل خرقاً وا�ضحاً اللتزامات �إ�سرائيل يف اتفاقية الهاي ل�سنة ‪.1954‬‬ ‫ويف �سابقة جديرة بالدرا�سة قامت �إ�سرائيل �سنة ‪ 1994‬ب�إعادة املواد الأثرية املكت�شفة يف �سيناء‬ ‫�إىل ال�سلطات امل�صرية‪ ،‬وذلك يف �إطار التزاماتها يف بروتوكوالت اتفاقية الهاي‪ .‬ويلزم القانون‬ ‫الدويل �إ�سرائيل كقوة حمتلة يف �إعادة الو�ضع �إىل �سابق عهده �أو دفع تعوي�ضات على الأ�ضرار‬ ‫التي �أحلقتها بالرتاث الثقايف‪.‬‬ ‫هناك جمموعة من املواقع الأثرية التي كانت هدفاً وا�ضحاً للتنقيبات الإ�سرائيلية يف الأرا�ضي‬ ‫الفل�سطينية‪ ،‬ومل ُ‬ ‫تخل هذا االختيارات عموماً من االعتبارات الأيديولوجية املرتبطة ب�سيا�سة‬ ‫اال�ستيطان الإ�سرائيلي يف الأرا�ضي الفل�سطينية املحتلة‪ ،‬وقد �سخر الن�شاط الأثري الإ�سرائيلي‬ ‫يف�سر كيف �آلت الأمور يف العديد من هذه‬ ‫ب�شكل جلي يف خدمة امل�شروع اال�ستيطاين‪ .‬وهو ّ‬ ‫املواقع الأثرية‪ ،‬التي حتولت من خميم للتنقيب الأثري �إىل م�ستوطنة �إ�سرائيلية ثابتة مثل‬ ‫القد�س القدمية ودير املر�صر�ص وتل الرميدة يف اخلليل وخربة �سو�سيا وخربة �سيلون على‬ ‫�أرا�ضي ترم�سعيا وجبل جرزمي والنبي �صمويل ودير �سمعان ومواقع �أخرى‪.‬‬ ‫خامتة‬

‫قدمت هذه الورقة يف ندوة «الرتاث الأثري يف الهالل اخل�صيب» والتي ُعقدت على هام�ش‬ ‫معر�ض «الآثار الفل�سطينية امل�سرت ّدة» ما بني ‪ 4 - 2‬نوفمرب ‪ 2015‬يف ق�صر الأوني�سكو يف بريوت‪،‬‬ ‫لبنان‪ .‬وقد طرحت الندوة واملعر�ض �أ�سئلة ح�ضارية بالغة الأهمية بالن�سبة ل�شعوب املنطقة‬ ‫العربية‪ ،‬يف وقت يجري فيه تدمري وا�سع لرتاث الأمة‪ ،‬ي�صل حد اال�ستباحة العامة‪ ،‬مبا ميثل نوعاً‬ ‫من التدمري الذاتي للهوية الثقافية و�إفقاراً ل�شعوب املنطقة من مورد رئي�سي للتنمية امل�ستدامة‪.‬‬ ‫‪40‬‬


‫ملف العدد ‪ -‬الآثار‬

‫ويت�ضح عظم م�س�ؤولية هذا اجليل من خالل الإدراك ب�أن هذا الرتاث لي�س ملكاً للجيل احلايل‬ ‫و�إمنا هو ملك للأجيال القادمة‪ .‬كما وانه ملك للإن�سانية جمعاء‪ .‬وان تنوع الرتاث الثقايف‬ ‫والديني هو م�صر ثراء للأمة مبا ي�ستوجب احلفاظ عليه‪.‬‬ ‫�أنها املرة الأوىل التي تقوم فيها م�ؤ�س�سة عربية غري حكومية‪ ،‬وهي م�ؤ�س�سة �سعاده للثقافة‪،‬‬ ‫با�ستعادة مواد �أثرية منقولة من فل�سطني‪ ،‬بعد ا�سرتجاع الآثار امل�صرية يف �سيناء عن طريق‬ ‫املفاو�ضات‪ ،‬والن�ص املتعلق مبطلب فل�سطني ا�ستعادة الآثار يف االتفاقية االنتقالية الفل�سطينية ‪-‬‬ ‫الإ�سرائيلية‪ ،‬وتعيد ق�ضية الآثار امل�ستعادة من جمموعة مو�شي دايان �إىل الأذهان جمدداً ق�ضية‬ ‫نهب الرتاث الثقايف يف فل�سطني على مدى ن�صف قرن و�سبل مواجهتها‪ .‬وهي مثال بالغ القوة‬ ‫لدور االحتالل الع�سكري الإ�سرائيلي يف ال�سيطرة على املوارد الأثرية وتوظيفها الأيديولوجي‬ ‫واالجتار بها لأغرا�ض الربح املايل �أي�ضاً‪ ،‬كما هو احلال يف عر�ض هذه الآثار يف املعار�ض الدولية‪.‬‬ ‫يعترب التاريخ يف فل�سطني �أحد ميادين ال�صراع الأيديولوجي الرئي�سية واملعركة املحتدمة الآن‬ ‫يف القد�س هي واحدة من ف�صول هذا ال�صراع املرير‪ .‬ويت�ضح ذلك من خالل اال�ستغالل‬ ‫الوا�سع لنتائج علم الآثار من قبل احلركة ال�صهيونية لتربير االدعاءات الأيديولوجية على �أر�ض‬ ‫فل�سطني‪ .‬والتي اتخذت كذريعة لتجريد ال�شعب الفل�سطيني من �أر�ضه وتاريخه معاً‪.‬‬ ‫جرت تنقيبات �أثرية �إ�سرائيلية منظمة و�إنقاذية يف �آالف املواقع الأثرية الفل�سطينية‪ ،‬يف انتهاك‬ ‫�صريح للقانون الدويل‪ ،‬وكان الهدف من التنقيبات �إعادة كتابة تاريخ هذه املواقع مبا يخدم‬ ‫االدعاءات اال�ستيطانية ال�صهيونية يف فل�سطني‪ ،‬من خالل خلق �صلة بني املا�ضي واحلا�ضر‪،‬‬ ‫وت�سخري موارد هائلة لكتابة رواية تاريخية �أحادية اجلانب تربر ب�شكل ذرائعي امل�شروع‬ ‫اال�ستيطاين على �أر�ض فل�سطني‪� .‬أما الوجه الآخر للن�شاط الأثري الإ�سرائيلي فقد جتلى يف‬ ‫نهب املوارد الأثرية ونقلها �أو اال�ستحواذ عليها يف نطاق امل�ستوطنات واملع�سكرات الإ�سرائيلية �أو‬ ‫�ضمها باجلملة خلف اجلدار العن�صري الفا�صل‪ .‬وقد �أدت عمليات االجتار غري القانوين والنقل‬ ‫ّ‬ ‫غري امل�شروع للممتلكات الأثرية الفل�سطينية �إىل تدمري كبري للمواقع الأثرية الفل�سطينية‪ ،‬من‬ ‫خالل حتفيز عمليات التنقيب غري ال�شرعية‪.‬‬ ‫تع ّر�ض الرتاث الثقايف الفل�سطيني لعملية تدمري �شبه منظمة على مدار �سنوات االحتالل‪،‬‬ ‫ومتثلت مبحو �آثار ما يزيد عن خم�سمئة مدينة وقرية فل�سطينية يف الفرتة ما بني ‪ 1948‬و‪،1952‬‬ ‫وتوا�صلت هذه العملية بعد احتالل ال�ضفة الغربية وغزة �سنة ‪ ،1967‬وتركزت يف مدينة‬ ‫القد�س يف حماولة لتغيري الطابع التاريخي لهذه املدينة‪ .‬ويف االجتياحات الإ�سرائيلية‬ ‫املتكررة للأرا�ضي الفل�سطينية تع ّر�ضت املدن التاريخية ال�ستهداف مق�صود‪ ،‬ويعترب ح�صار‬ ‫كني�سة املهد وتدمري البلدة القدمية يف نابل�س �شاهدين على عمليات التدمري املتعمد �سنة‬ ‫‪ .2002‬ويف احلرب الأخرية على غزة جرى ا�ستهداف مق�صود ملواقع الرتاث الثقايف واملباين‬ ‫‪41‬‬


‫العامة والدينية وامل�ؤ�س�سات التعليمية والبنية التحتية‪.‬‬ ‫كما �أدى بناء اجلدار الفا�صل يف عمق الأرا�ضي الفل�سطينية �إىل ال�سيطرة املبا�شرة على حوايل‬ ‫‪ % 50‬من املوارد الأثرية‪ ،‬وف�صل مدينة القد�س عن حميطها‪ ،‬وت�سبب �أي�ضا يف تدمري كارثي‬ ‫للم�شهد الثقايف‪.‬‬ ‫ومت توظيف العمل الأثري خلدمة ال�سيا�سة اال�ستيطانية يف الأرا�ضي الفل�سطينية‪ ،‬وهناك الكثري‬ ‫من احلاالت التي حتولت فيها املخيمات الأثرية �إىل نقاط ا�ستيطانية ثابتة كما هو احلال يف‬ ‫القد�س و�سلوان و دير املر�صر�ص وخربة �سيلون وخربة �سو�سيا و كفر قدوم واخلان االحمر‪.‬‬ ‫ثم ال�سيطرة على الأماكن الدينية الإ�سالمية وامل�سيحية‪ ،‬كما هو احلال يف حميط امل�سجد‬ ‫الأق�صى واحلرم الإبراهيمي يف اخلليل وقرب راحيل ومقام يو�سف وم�سجد النبي �صمويل‪.‬‬ ‫وتعمد �سلطات االحتالل �إىل تغيري �أ�سماء هذه املواقع بهدف �إ�ضفاء طابع تاريخي عليها‪.‬‬ ‫ت�شري املعطيات الأولية �إىل �أعداد هائلة ت�صل املاليني من املواد الأثرية التي تقع حتت �سيطرة‬ ‫�سلطات االحتالل وت�شمل املواد الأثرية يف خمازن دائرة الآثار الفل�سطينية ومتحف الآثار‬ ‫الفل�سطيني يف القد�س‪ ،‬ثم املواد الأثرية‬ ‫املكت�شفة �أثناء التنقيبات الإ�سرائيلية يف الأرا�ضي الفل�سطينية‪ .‬هذا �إىل جانب املواد الأثرية‬ ‫امل�صادرة وامل�سروقة واملنقولة من قبل م�ؤ�س�سات و�أفراد مثل جمموعة مو�شي دايان‪ ،‬والتي‬ ‫ت�ستوجب �إجراء جرد �شامل بها متهيداً للمطالبة بها يف مفاو�ضات احلل النهائي‪.‬‬

‫‪42‬‬


‫ملف العدد ‪ -‬الآثار‬

‫م�صادر خمتارة‬

‫■ بار‪ -‬يو�سف‪ -‬عمحاي مزار‪1994 ،‬علم الآثار يف �إ�سرائيل‪ ،‬وجهة نظر �إ�سرائيلية‪ ،‬املركز‬ ‫العربي للدرا�سات املعا�صرة‪ ،‬القد�س (ترجمة د‪ .‬حمدان طه)‪.‬‬ ‫■ اخلالدي‪ ،‬وليد‪ ،1998 ،‬كي ال نن�سى‪ ،‬م�ؤ�س�سة الدرا�سات الفل�سطينية‪ ،‬بريوت‪.‬‬ ‫■ طه‪ ،‬حمدان‪ 1996 ،‬القد�س وحقائق التاريخ‪ ،‬ملحق الأيام بتاريخ �ص‪.6 .‬‬ ‫■ طه‪ ،‬حمدان‪ 1996 ،‬حفريات النفق‪ ،‬خلفيات وحقائق‪ ،‬ملحق الأيام �ص‪.3 .‬‬ ‫■ طه‪ ،‬حمدان‪� ، 2003 ،‬إدارة الرتاث الثقايف يف فل�سطني‪ ،‬يف امل�شروع الثقايف الفل�سطيني‬ ‫وا�سرتاتيجيته امل�ستقبلية‪ ،‬املجل�س الأعلى للرتبية والثقافة‪ ،‬فل�سطني‪ ،‬القاهرة‪� :‬ص‪�.‬ص‪.‬‬ ‫‪.198 - ً 172‬‬ ‫■ طه‪ ،‬حمدان‪ 2009 ،‬الرتاث الثقايف والهوية الفل�سطينية‪ ،‬يف الهوية الفل�سطينية �إىل �أين؟‪،‬‬ ‫جمعية �إنعا�ش الأ�سرة‪ ،‬مركز درا�سات الرتاث واملجتمع الفل�سطيني‪ ،‬البرية‪.99 - 85 :‬‬ ‫■ ويتالم‪ ،‬كيت‪ 1999 ،‬اختالق �إ�سرائيل القدمية‪� ،‬سل�سلة عامل املعرفة‪ ،‬الكويت‪( .‬ترجمة د‪.‬‬ ‫�سحر هنيدي)‪.‬‬ ‫■ قاعدة بيانات الرتاث الثقايف‪ 2009 ،‬دائرة الآثار والرتاث الثقايف‪ ،‬وزارة ال�سياحة والآثار‪.‬‬ ‫‪■ Abu‬‬

‫‪el-Haj, Nadia, 2001 Facts on the Ground: Archeological Practice‬‬ ‫‪and Territorial Sekf-Fashioning in Israeli Society, University of Chicago‬‬ ‫‪Press.‬‬ ‫‪DPISP 1993, Declaration of Principles on Interim Self-Government‬‬ ‫‪for Palestinians. (Washington, DC) 13 September 1993.‬‬ ‫■‬

‫‪Einhorn, T., 1996, Restitution of Archeological Artifacts: The Arab‬‬‫‪Israeli aspect. International Journal of Cultural Property 5: 133-153.‬‬ ‫■‬

‫‪■ Finkelstein, I., 1988, The Archeology of Israelite Settlement. Jerusalem‬‬

‫‪Finkelstein, I., and Z. Lederman, 1977, Highlands of Many Cultures:‬‬ ‫‪The Southern Samaria Survey.‬‬ ‫■‬

‫‪■ Finkelstein, I. and Y. Magen, (eds.) 1993, Archeological Survey of the‬‬ ‫‪Hill Country of Benjamin.Jerusaelm 1988.‬‬ ‫‪43‬‬


■ Greenberg R. and A. Keinan,2007, Israeli Archeology in the West Bank and East Jerusalem since 1976. Tel Aviv University. ■ Hirschfeld, Y., 1985, Archeological Survey of Israel: map of Herodium, Jerusalem. ■ Humbert, Jean-Baptist 2000 Gaza Mediterraneenne. Historie et Archeologie en Palestine. Editions errance. Paris. ■ Ilan, David, Uzi Dahari and Gideon Avni 1989 Plundered! The Rampant Rape of Israel’s Archeological Sites. Biblical Archeology Review, Vol. XV (March/April): 38, 42. ■ Kersel, Morag, License to Sell: The Legal tRade of Antiquities in Israel, PhD dissertation, 2006. ■ Kloner, A., 2000, Survey of Jersualem, The Southern Sector, Jerusalem Kloner, A., 2001, Survey of Jersualem, The Northeastern Sector, Jerusalem Kloner, A., 2003, Survey of Jersualem, The Northwestern Sector, Jerusalem ■ Kochavi, M., ed), 1972, Judea Samaria and the Golan: Archeological Survey 1967-1968. Jerusalem. ■ Oyediran, Joanna 1997 Plunder, Destruction and Despoliation. An Analysis of Israel’s of the International Law of Cultural Property in the Occupied West Bank and Gaza Strip. Al-Haq, Ramallah. ■ Sadeq, M. ■ 1999 Antiquites de Gaza. Dossiers de Archeologie, 240: 46-51. 2000 The City of Gaza and the Surroundings Area during the RomanByzantine Period, Adamatu, 2: 27-42. 44


‫ الآثار‬- ‫ملف العدد‬ ■ 2002 The Historical Monuments of Gaza Strip. Meditrraneum, vol. Vol. 2, edited by ■ Fabio Maniscalco, Massa editore: 243-259. ■ 2005 Recent Archeological Survey and Excavations in Gaza region. Meditrraneum, vol.5, edited by Fabio Maniscalco, 5, Massa Editore: 245264. ■ Taha, H., 1998 The Emergency Clearance Campaign of One Hundred Sites in Palestine. Al-Muhandis, no 42: 36-40. ■ Taha, H., 1998a The Palestinian Department of Antiquities, Two Years of Archeology in Palestine. Quaderni di Gerico 1: 3-7. ■ Taha, H., 2002 Protection of Cultural Heritage in Palestine. Meditrraneum, vol.2, edited by Fabio Maniscalco, Massa editore: 256270.. ■ Taha, H., 2004 Managing cultural Heritage, UNDP, Focus vol.1: 31-32. ■ Taha, H., 2005 A Decade of Archeology in Palestine. Meditrraneum, vol., edited by Fabio Maniscalco, 5, Massa editore: 63-71. ■ Taha. H., 2010, The Current State of Archeology in Palestine. In Present Pasts, Vol. II. ■ Taha, H. and M.Jaradat, 2009 Inventories in Palestine, Proceedings of the Workshop on Inventories, EUROMED Heritage IV, Paris. ■ 2015 The Archeological Heritage of Area C. This Week in Palestine, November, Special Issue No. 210.5.

45


46


‫ملف العدد ‪ -‬ا لآثار‬

‫الآثار والكنوز الرتاثية العربية‬

‫من التدمري �إىل ال�رسقة‪ ..‬من اليهودي �شامونال حتى مو�شي ديان‬ ‫د‪.‬مزهر اخلفاجي ‪� -‬أ�ستاذ التاريخ واحل�ضارة‪ -‬جامعة بغداد‬

‫ملخ�ص البحث‬

‫الآخر املغت�صب للأر�ض �أو املحتل لها �أو املت�سلل يف وديانها �أو الراغب والطامع يف ال�سيطرة‬ ‫عليها �أو املرتب�ص بها �أو القاب�ض على مقاليد الأمور فيها ال يخفى عرب كل احلقب التاريخية‬ ‫القدمية واحلديثة واملعا�صرة‪ ،‬ظلت نظرته لت�أريخ هذه الأمة وح�ضارتها وهو يتعاطى مع منجزها‬ ‫ٍ‬ ‫وح�سد �شديد وهو و�إن بدا ظاهرياً يحتفي بها ويذعن‬ ‫الإبداعي يتعامل مع ُه ب�إق�صاء وانتقاء‬ ‫لعاملها الروحي واحل�ضاري‪ ،‬لكن الأمر الأكيد هو �أن هذا الآخر ومنذ ق�صة ظهوره املختلقة‬ ‫عام « ‪ 972‬ق‪.‬م» يحفظ عن ظهر قلب تاريخ هذه الأمة وجغرافيتها وف�ضلها على الب�شرية‬ ‫ويتل�ص�ص على ق�صها الديني وينتحل من فل�سفتها الأ�سطورية‪ .‬وانتهى منذ قرون يف حتديد‬ ‫خرائط مدنها وكنوز �آثارها وجود ح�ضاراتها فحاول برباعة اخلبيث ومكر الل�صو�ص �أن يتنا�سلوا‬ ‫يتنا�صوا على فكرها الديني والفل�سفي وال�سيا�سي �إبان حروبهم مع‬ ‫مع تاريخ هذه الأمة وان ّ‬ ‫اجلزريني من كنعانيني و�آراميني يف فل�سطني وبالد ال�شام �أو مع عرب الرافدين �أو مع فراعنة‬ ‫م�صر‪ ،‬فهم متا�سوا مع تاريخ هذه الأمة ف�أخذوا من الكاهن فيب�ؤ يف م�صر‪ ،‬عبور �إبراهيم‪ ،‬وحلم‬ ‫يو�سف وتيه مو�سى و�سرقوا من البابليني �أبان �أ�سرهم �سنة «‪ 586‬ق‪.‬م» ق�صة خلق الكون‬ ‫وخلق الإن�سان وكتبوا توراتهم بلغة �آرامية �سريانية وت�شبثوا يف كتاباتهم مب�شجر ان�ساب القبائل‬ ‫العربية فربطوا �أنف�سهم بال�ساميني‪ ،‬هذه احلقيقة وغريها من احلقائق ذكرتها كثري من امل�صادر‬ ‫الآ�شورية والتي �أف�صحت باحلرف الواحد عن �أن العربانيني �أقوام غرباء على جزيرة العرب‬ ‫وبالد ال�شام‪ ،‬و�أن الكتابات الفرعونية و�صفتهم كونهم كانوا «مرتزقة يجوبون املناطق املحيطة‬ ‫ب�سيناء» والروايات اليونانية قالت عنهم �إن العربانيني �أُجراء و�أقوام �شتات يبيعون �أو يرهنون‬ ‫�أنف�سهم ملن يدفع‪ .‬ان الورقة التي بني �أيدينا حماولة تاريخية لتق�صي حجم الأذى واملكر‬ ‫والتزوير واحلقد الذي لقيه العرب اجلزريني وال�شرق عامة يف ع�صوره القدمية واحلديثة فتتبني‬ ‫فيه بالأدلة والقرائن التاريخية ظاهرة ت�أ�صيل ظاهرة الكره واحلقد العربي والإ�سرائيلي على‬ ‫العرب اجلزريني ومنتقلني بعد ذلك �إىل التدقيق يف دور الآخر املحتل لهذه املنطقة والذي‬ ‫عاث دماراً ب�آثارها وحتفها وخمطوطاتها ونفائ�سها‪ ،‬ثم اقتفينا �أثر �أو الدور الذي لعبه املنقبون‬ ‫وامل�ست�شرقون من الأ�صول اليهودية ودورهم يف �سرقة وتهريب �آثار العرب يف فل�سطني وبالد‬ ‫‪47‬‬


‫ال�شام وم�صر ثم انتهينا يف احلديث عن دور االحتالالت واحلروب واخلراب الذي �أحدثته‬ ‫املنظمات الإرهابية والدور الذي لعبته كل منها يف تدمري و�سرقة وتهريب وتدمري �آثار العرب‬ ‫ممتد من �سفر ح�سقيال وامل�س بيل حتى مو�شيه ديان عام ‪...1967‬‬ ‫و�إن �أكرثه ّ‬ ‫ال ن�أتي بجديد حني نقول �إن العربيني �أو الإ�سرائيليني �أو اليهود كمل ٍة �أو ديان ٍة ي�شوب تاريخها‬ ‫الكثري من اللغط فلفظة عربي‪ ،‬مث ًال بجذرها الديني ينت�سب فيها �أهل هذه الر�سالة �إىل «‬ ‫العابر �إبراهيم عليه ال�سالم» �إذ ُعرف بالتوراة با�سم �إبرام العرباين‪ ،‬وهي تعني جغرافياً ن�سب ًة‬ ‫لل�شخ�ص �أو اجلماعة العابرة من مكان لآخر؛ وهم �شتات‪ .‬وهذه الت�سمية تاريخها ذو دالالت‬ ‫تاريخية‪� ،‬إذ ذكرتها امل�صادر الآ�شورية الرافدينية بحدود الألف الثاين قبل امليالد وهي ت�سمية‬ ‫�أطلقت على عدد من القبائل الآرامية التي قدمت من �شمال اجلزيرة �إىل فل�سطني وبالد‬ ‫ال�شام‪.‬‬ ‫�شعب ُ�س ِّمي بهذا اال�سم‪ .‬وقد ورد لفظ‬ ‫املهم �أن كلمة عربي يف دالالتها ت�ؤكد على غربة ٍ‬ ‫عربي يف موا�ضع كثرية من التوراة وجاءت مبعنى الغريب �أو الأجنبي يف �سفر التكوين « ‪39‬‬ ‫‪ .»41 ،18 ،14:‬ويف �سفر اخلروج « ‪� »29 : 1‬أما ت�سمية �إ�سرائيلي وهي ت�سمية لها دالالت‬ ‫عامة ودالالت خا�صة؛ فالداللة العامة ت�سردها لنا الرواية التاريخية يف �سفر التكوين « ‪: 32‬‬ ‫‪ »31 ،24‬والتي ُتذكر فيها مباركة الرب ليعقوب عليه ال�سالم؛ فباركه ب�أن �أطلق عليه ا�سم‬ ‫�إ�سرائيل‪ .‬وهدف هذه الت�سمية والتي �أطلق عليها امل�ؤرخون م�صطلح �أ�سطورة الأ�صل‪� ،‬أو‬ ‫الأ�سطورة التعليلية والتربيرية‪ .‬وهي كما اتفق عليها معظم امل�ؤرخون ت�أتي كمحاولة لتعليل‬ ‫الت�سمية اجلديدة‪ ،‬وهي قد �سيقت لتقول للنا�س �إن العربيني �أو الإ�سرائيليني لكونهم �أبناء‬ ‫يعقوب ابن �إ�سحاق‪ .‬واملعنى اخلا�ص لهذه الأ�سطورة هدفها عرقي �أي جعل اخلال�ص الإلهي‬ ‫عن�صري جغرا ّيف من خالل تغيريها‬ ‫ح�س‬ ‫ّ‬ ‫قا�صراً على بني �إ�سرائيل دون الب�شر جميعاً‪ ،‬وفيها ّ‬ ‫ا�سم �أر�ض فل�سطني �أو �أر�ض كنعان �إىل �أر�ض �إ�سرائيل‪ .‬وبهذين الدافعني العام واخلا�ص‬ ‫اجلغرايف والعن�صري �أ�صابت العن�صرية الإ�سرائيلية فيما �أ�صابت فكرة التوحيد وجعلت الإله‬ ‫الواحد الأحد �إلهاً للإ�سرائيليني دون غريهم و�أطلقت عليه لقب �إله �إ�سرائيل‪.‬‬ ‫و�إن اختيار ال�صهاينة لت�سمية بني �إ�سرائيل ي� ُ‬ ‫أخذ بعداً تاريخياً يحاول �أن ي�ؤ�صل تاريخهم‬ ‫ويربط ن�سبهم بيعقوب عليه ال�سالم‪ ،‬والذي يعود �إىل القرن التا�سع ع�شر قبل امليالد‪ .‬وهو‬ ‫تاريخ مل يكن ُيع َرف فيه للعربيني وال للإ�سرائيليني �أي وجود‪ .‬والداللة اجلغرافية الثانية يف‬ ‫انت�سابهم �إىل بني �إ�سرائيل‪� ،‬إمنا هي حماولة حتاول ان تكر�س االنتماء ال�سيا�سي والت�أريخي‬ ‫واجلغرايف بعد ان ربطوا �أنف�سهم ببقايا �شعب «مملكة �إ�سرائيل ال�شمالية» وعا�صمتها «ال�سامرة»‬ ‫والتي كانت قد ظهرت عام « ‪ 932‬ق‪.‬م» وهو العام الذي توفى فيه النبي �سليمان عليه ال�سالم‬ ‫وانق�سمت مملكته يف فل�سطني �إىل ق�سمني‪�« ،‬إ�سرائيل يف ال�شمال» و»يهوذا يف اجلنوب»؟‬ ‫‪48‬‬


‫ملف العدد ‪ -‬الآثار‬

‫يتجدد ا�ستخدامهما حديثاً مع ن�ش�أة الكيان ال�صهيوين الإ�سرائيلي يف‬ ‫و�إن هاتني الداللتني ّ‬ ‫فل�سطني‪ ،‬والذي اختار لنف�سه ا�سم �إ�سرائيل ملا له من دالالت دينية وعن�صرية وجغرافية‬ ‫و�سيا�سية‪� .‬أما الت�سمية الثالثة ونق�صد بها ت�سمية اليهودي �أو اليهودية‪ :‬وفيها داللتان عامة‬ ‫هدفها التوكيد على الذين يدينون �أو يعتقدون يف الديانة اليهودية وي�ؤمنون مببادئها وميار�سون‬ ‫طقو�سها و�شعائرها؛ والداللة اخلا�صة تذهب �إىل �أن كلمة يهودي ذات ُبعد ديني‪ ،‬وهي حتاول‬ ‫ان جتذر لهذه امللة ب�أنهم ينت�سبون �إىل يهوذا وهو احد بناء يعقوب عليه ال�سالم‪ .‬والداللة‬ ‫اخلا�صة حتاول ان ت�ؤكد ان اليهود �إمنا هم امتداد ململكة يهوذا التي ت�أ�س�ست «‪ 586‬ق‪.‬م» يف‬ ‫جنوب فل�سطني والتي كانت ظهرت كما قلنا �سابقاً بعد وفاة النبي �سليمان عليه ال�سالم‪.‬‬ ‫و�سنتابع يف هذا البحث �أ�سباب التطاول على تاريخ هذه الأمة وتراثها وح�ضارتها والتي نعتقد‬ ‫�إن مقدماتها عديدة منها‪:‬‬ ‫�أوالً – الت�شويه واحلقد الإ�رسائيلي يف التاريخ القدمي‪:‬‬

‫لقد حر�ص اليهود على اخللط والدمج والت�سويق مل�صطلحات العربي �أو الإ�سرائيلي �أو‬ ‫اليهودي رغبة منهم يف ت�أ�صيل فكرة تاريخية الوجود ذات الدالالت الدينية والت�أريخية‬ ‫واجلغرافية والعرقية والأ�سطورية‪ ،‬وهي كما يقول املفكر امل�صري جمال حمدان يف كتابه‬ ‫«اليهود» من «�أن اليهود والإ�سرائيليني �أمنا هم غرباء اوجدوا لهم تاريخاً يف منفى الوحي‬ ‫ودخالء بال جذور‪ ،‬وقد حدث هذا التعدي يف بيت العرب يف فل�سطني‪ ،‬حيث ال ميكن‬ ‫لوجودهم �إال �إن يكون ا�ستعماراً واغت�صاباً عن�صرياً»‪ ،‬وهم بنا ًء على هذه املعطيات يحاولون‬ ‫�أن يو�صلوا لأنف�سهم جذراً يف احلبل ال�سري لت�أريخ هذه املنطقة‪ .‬ووجد �أن هذا الكيان �أو‬ ‫هذا الدين على كونه ديانة مقفلة ومغلقة‪ .‬وهذا الأمر هو الذي جعل بع�ض املهتمني بدرا�سة‬ ‫الأديان للقول من �أن الديانات املغلقة هي على نوعني «ديانة جغرافية �أو ديانة عن�صرية»‪،‬‬ ‫وهذا الأمر هو الذي جعل الباحث الأمريكي كيث وايتالم يف كتابه «اختالق �إ�سرائيل» �أن‬ ‫يقول‪� :‬إن الديانات املغلقة ومنها اليهودية كانت قد اعتمدت على املكان ويق�صد فل�سطني‬ ‫لت�ؤ�س�س منه �أ�سطورة‪ ،‬و�أن اليهودية كانت ديانة عن�صرية يف الوقت ذاته‪ ،‬لكونها تعتقد �أن‬ ‫الأر�ض الأقد�س «فل�سطني» هي لليهود‪ ،‬وان الدين الأف�ضل ال ميكن �أن يكون �إال ل�شعب «اهلل‬ ‫املختار»‪ .‬ولتحقيق هاتني الغايتني‪ ،‬ونق�صد الرتويج للمكان املوعود ونق�صد فل�سطني والدين‬ ‫املقد�س ل�شعب اهلل املختار جند �أنهم‪ ،‬ونق�صد زعماء ال�صهيونية‪� ،‬سرعان ما ملأوا التوراة بكثري‬ ‫من النبوءات وبكثري من الن�صو�ص التي تتج ّنى على تاريخ هذه الأمة وتنبئ عن حقد وكره‬ ‫�شديدين‪ ،‬و�أن �أ�سفارهم ومزامريهم متتلئ بن�صو�ص التنكيل بهذه الأمة والتقليل من �ش�أنها‬ ‫والعمل والدعوة على تدمريها‪ .‬و َمن يطالع خمطوطات الأ�سفار يف العهد القدمي املكتوبة‬ ‫يرجح تاريخها للقرن التا�سع امليالدي ويف خمطوطات ثالث منها‪:‬‬ ‫بالعربية والتي ّ‬ ‫‪49‬‬


‫‪ - 1‬خمطوطة يف مكتبة الفاتيكان مكتوبة العام ‪ 1481‬ميالدية والتي يرجع تاريخها �إىل القرن‬ ‫الرابع امليالدي‪.‬‬ ‫‪ - 2‬واملخطوطة املوجودة يف دير كاترينا القدمية يف �صحراء �سيناء والتي يرجع تاريخها �إىل‬ ‫القرن الرابع امليالدي والتي اقتناها املتحف الربيطاين العام ‪1933‬م‪.‬‬ ‫‪ - 3‬واملخطوطة الثالثة املوجودة يف متحف البطريركية يف الإ�سكندرية والتي يرجع تاريخها‬ ‫�إىل القرن اخلام�س امليالدي يجد ما يلي يف هذه املخطوطات ويف �سفر التكوين بها �أ�سفار‬ ‫االنبياء اليهود‪.‬‬ ‫ففي �سفر اي�شوع نقر�أ عن ب�شارة الإله يهوه الذي يدعو فيها �إىل تدمري كل فل�سطني و�ضرورة‬ ‫االنتقام من �أهلها‪:‬‬ ‫«اهلكوا جميع ما يف املدينة من رجل وامر�أة‪ ،‬وطفل و�شيخ‪ ،‬حتى البقرة‪ ..‬والغنم واحلمري‬ ‫بحد ال�سيف‪ ..‬واحرقوا املدينة بجميع ما فيها بالنار»‪ .‬وحني ندقق يف نبوءة �أخرى لـ»النبي‬ ‫ّ‬ ‫يونان»‪ ،‬وهو �أحد �أنبياء بني �إ�سرائيل عا�ش يف الق�سم ال�شمايل يف فل�سطني يف القرن الثامن‬ ‫قبل امليالد‪ ،‬ويق�ص علينا يف الف�صلني الأول والثالث من �سفر ِه توبة �أهل نينوى يف العراق‬ ‫مما اقرتفوه من ذنوب‪ُ ...‬ي�شّ م يف هذا ال�سفر الكثري من االنذار والوعيد لأهل هذه املدينة‪،‬‬ ‫ويدعوه «االله يهوه» يف �أن «يق�ضي عليها»‪ .‬فتقول النبوءة‪« :‬قم اذهب �إىل نينوى‪ ،‬ونادي عليها‬ ‫فقد �صعد �شرها �أمامي»‪.‬‬ ‫وبعد اربعني يوماً تنقلب نينوى «وبلغ الأمر بذلك نينوى‪ ...‬فقام من كر�سيه «يهوه» وخلع‬ ‫رداءه ّ‬ ‫وتخطى وجل�س على الرماد» بعد �أن مت تدمريها‪.‬‬ ‫و�أما يف «�سفر ناحوم» ويذكر يف هذا ال�سفر �أن الإله القو�شي‪ ،‬والقو�شي هذه رمبا هي مدينة‬ ‫القو�ش التي تقع يف منطقة اجلليل يف فل�سطني �أو القو�ش الواقعة �شمال مدينة املو�صل‪ ،‬و�أن‬ ‫الإله القو�شي كان �أكرث ق�سوة كما تذكر نبوءة النبي ناحوم‪ ،‬وان هذا الإله هو الذي َب�شّ ر‬ ‫النبي ناحوم ب�سقوط نينوى عام «‪ 620‬ق‪.‬م»‪ ،‬كما يف هذا الن�ص‪:‬‬ ‫« ويل ملدينة‪ ...‬كلها ملآنة كذباً‪� ،‬سرتى الأمم عورتك واملمالك خزيك و�س�أطرح عليك‬ ‫�أو�ساخاً و�أهينك و�أجعلك عرب ًة ملن يراك»‪.‬‬ ‫ويف «�سفر �صفنيا»‪ :‬والذي ين�سب �إىل النبي �صفنيا الذي عا�ش �سنة «‪ 635‬ق‪.‬م» والذي‬ ‫يرتقي ن�سبه �إىل النبي حزقيا و�سفره‪ .‬وهذا كان عبارة عن نبوءة تب�شر اليهود ب�سقوط نينوى‪،‬‬ ‫�إذ يبد�أ ال�سفر بهذه الكلمات‪.‬‬ ‫«ه�����ذه ك��ل��م��ة «ي���ه���وه» ال���ت���ي ����ص���ارت �إىل ���ص��ف��ن��ي��ا ب���ن ك���و����ش���ى‪»...‬‬ ‫«�سوف يب�سط يده يهوه‪ ...‬ويدمر «�آ�شور» و�سيجعل من «نينوى» مكاناً مهجوراً و�أر�ضاً قاحلة‬ ‫‪50‬‬


‫ملف العدد ‪ -‬الآثار‬

‫كال�صحراء‪ ،‬وت�صبح مرتعاً للبهائم وكل وحو�ش الأر�ض‪ ...‬و�إن كل من �سيمر بها �سيلعنها»‪.‬‬ ‫«�سفر �صفنيا‪ :‬الف�صل الثاين ‪.»15 - 12‬‬ ‫«ويف �سفر حزقيال» فالنبوءة كانت تدعو لدمار م�صر ويقول ن�صها «�س�أجعل اخلزائن يف فكيك‪،‬‬ ‫وكل �سمك يف حرا�شيفك على وجه اجلبل»‪.‬‬ ‫ويقول يف نبوءة �أخرى حول م�صر‪:‬‬ ‫«م�صر �س ُتخزى وال ت�سكن �أربعني �سنة واجعل مدنها و�سط املدن احلزينة»‪.‬‬ ‫ويف «�سفر دانيال» يذكر هذا ال�سفر ق�صة يعود زمنها �إىل امللك الكلدي بل�شا�صر‪ .‬وتذكر‬ ‫�أن امللك البابلي �صنع وليمة عظيمة و�شرب خمراً يف تلك ال�ساعة حتى ظهرت �أ�صابع يد‬ ‫�إن�سان‪ ،‬كما تقول الأ�سطورة‪ ،‬وكتبت على احلائط وامللك ينظر‪ ...‬فتغيرّ ت مالمح امللك وهيبته‬ ‫و�أفزعته هذه الأفكار‪ .‬وطلب من م�ست�شاريه �إدخال ال�سحرة والعرافني علهم ي�ستطيعون قراءة‬ ‫الكتابة �أو تف�سريها‪ ،‬وقد �أُدخل دانيال باقرتاح من زوجة امللك بل�شا�صر والذي �أخذ يقر�أ‬ ‫وف�سرها كما يلي‪:‬‬ ‫الكتابة كما يلي ّ‬ ‫منا‪ ..‬منا‪ ..‬تقبل فر�سني‬ ‫ّف�سرها على الوجه الآتي‪:‬‬ ‫منا �أح�صى الرب ملكك و�أنهاه‬ ‫تقبل‪ :‬وزن ملكك موجود ناق�صاً‬ ‫فر�سني ‪ :‬فق�سمت مملكتك‪ ،‬ف�أعطبت كل ما فيها‬ ‫وت�ستمر هذه الق�صة والتي كتبت وك�أنها ت�ست�شرف ت�آمر اليهود املوجودين يف بابل مع‬ ‫الأخمينيني‪� ،‬إذ قدموا اليهود كور�ش الأخميني على انه امل�سيح املنقذ‪ .‬وانتهى الأمر بتعاونهم‬ ‫مع كور�ش الأخميني وقواته الغازية فكاف�آهم الأخمينيون وعاملوهم معاملة ح�سنة‪ ،‬و�سمح‬ ‫لهم بالعودة �إىل فل�سطني‪.‬‬ ‫نبوءة ا�شعيا‪:‬‬ ‫عا�ش ا�شعيا يف القرن الثامن قبل امليالد‪ ،‬اذ ولد يف القد�س �سنة «‪ 765‬ق‪.‬م» وتوفى عام‬ ‫«‪ 700‬ق‪.‬م»‪ ،‬ون�سب �إىل ا�شعيا ثالثة جماميع من النبوءات يف الف�صلني « ‪.»14 - 13‬‬ ‫فالنبوءة الأوىل‪ ،‬ينقل لنا فيها ا�شعيا ما جرى من �أحداث يف عهده‪.‬‬ ‫�أما املجموعة الثانية‪ :‬فقد كانت خم�ص�صة لأيام الأ�سر �أو ال�سبي يف بابل والعودة‪.‬‬ ‫�أما املجموعة الثالثة‪ :‬فكانت تتك ّلم عن نبوءاته يف امل�ستقبل‪.‬‬ ‫‪51‬‬


‫وقد بدا مقدار الكره للعرب يف بابل‪ ،‬يف هذا الن�ص يف الف�صل الثالث ع�شر من هذه النبوءات‬ ‫والتي يقول ن�صها «�ست�سقط بابل غداً‪ ،‬و�سي�أخذ الغام بيد كل الأ�صنام العاجزة حممولة على‬ ‫الدواب»‪.‬‬ ‫يعتدون‬ ‫ويف مقطع �آخر يقول‪ - :‬ها �أنذا �أ�صيح على بابل وب�شرهم بقدوم امليديني الذين ال ّ‬ ‫بالف�ضة وال ُي�س ّرون بالذهب و�ستعي�ش ببابل املمالك و�سيحل بها اخلراب‪ .‬هذا الكره على‬ ‫العرب واجلزريني عراقيني و�شاميني وم�صريني قد ظهر يف كثري من ق�صائدهم �أي�ضاً والتي‬ ‫ذكرها كثري من الن�صو�ص التي كانوا يغنونها بعد خراب نينوى وبابل‪ .‬فيقول احد الن�صو�ص‪:‬‬ ‫على �أنهار وبابل جل�سنا وبكينا على ذكرى «�صيدون"‬ ‫ويف و�سط ال�ضفاف علقنا �أعوادنا‬ ‫و�أن�شدنا ن�شيد «�صهيون»‪ ،‬ودعاء الرب يف بلد غريب‪.‬‬ ‫يبدو �أن الكره �أو ُقل احلقد‪ ،‬كما يقول املفكر جو�ستاف لوبون‪� ،‬سببه تاريخي �إذ �إن ال ح�ضارة‬ ‫لليهود‪ .‬وان هذا الأمر كان مدعاة ح�سد عندهم وميكننا القول �إنه مل يكن لليهود فنون وعلوم‬ ‫يقدموا �أية م�ساعدة مهما �صغرت يف‬ ‫وال �أي �شيء تقوم به ح�ضارة‪ .‬وهم مل ي�أتوا قط ومل ّ‬ ‫�إ�شادة املعارف الب�شرية‪ ،‬فمن باب احلقيقة التاريخية �أن يحقد ه�ؤالء على �أ�صحاب احل�ضارة‬ ‫ويتفق العامل الآثاري جيم�س بري�ستد مع ما ذهب �إليه لوبون يف ح�سد اليهود للعرب‬ ‫اجلزريني‪ ،‬م�ؤكداً احلقيقة التاريخية التي تقول من ان بني �إ�سرائيل عندما جاءوا �إىل بالد‬ ‫كنعان كانت املدن احل�ضارية ذات ح�ضارة قدمية‪ ،‬وكانت قد �أن�شئت منذ �ألف وخم�سمئة‬ ‫�سنة وكانت مدنهم منارات علم وهي التي جعلتهم ميتازون بالكتابة والديانة واحل�ضارة اقتب�س‬ ‫ه�ؤالء العربانيون الكثري‪ ،‬لقد ظهرت ل�صو�صية ه�ؤالء وجت ّنيهم يف كثري من الن�صو�ص وحتديداً‬ ‫يف �أ�سفار التكوين والأخبار والت�شريع و�سفر امللوك واحلكمة والأمثال و�سفر االنا�شيد �أو �سفر‬ ‫االن�شاد‪ ،‬و�إذا كنا قد حتدثنا عن جذر احلقد التاريخي لليهود على تراث العرب اجلزريني‬ ‫وال�شاميني والعراقيني وامل�صريني والفينيقيني‪ ،‬ال ّبد �أن نقول �إن هذا احلقد قد اكتمل يف‬ ‫املرحلة الثانية والتي �أطلقنا عليها ت�سمية �أطماع املحتلني‪.‬‬ ‫ثانيا ً‪ -‬املحتلون وتدمريهم و�رسقتهم لآثار العرب‪:‬‬

‫لقد مار�س املحتل �أياً كان كوتياً �أو اخمينياً �أو حثياً �أو عيالمياً �أو �سلجوقياً �أو بويهياً �أو‬ ‫عثمانياً عرب �أكرث من �ألفي عام من�صرمة �شك ًال من �أ�شكال التدمري واخلراب والتهريب وبيع‬ ‫�آثار الرب‪ ،‬فقد �سرق العيالميون م�سلة حمورابي وتركوها يف منطقة ال�شو�ش �أو ال�سو�س‪،‬‬ ‫وحني دخل الربيطانيون للعراق حملوها �إىل متاحفهم‪ ،‬وحني احتل ال�سالجقة بغداد عام‬ ‫«‪ 447‬هـ» �أحرق «طغرل بك ال�سلجوقي» العديد من خزائن املخطوطات وقد �أحرق مكتبة‬ ‫‪52‬‬


‫ملف العدد ‪ -‬الآثار‬

‫دار العلم ببغداد‪ ،‬والتي كانت ت�ضم �آالف املخطوطات والتحف الآثارية النادرة‪ ،‬وكذلك‬ ‫ويقدر عدد‬ ‫فعل تيمور لنك والذي �أحرق العديد من دور العلم‪ ،‬ود ّمر الكثري من مكتباتها‪ّ ،‬‬ ‫الكتب التي ّمت حرقها و�ألقاها يف النهر‪ ،‬كما يقول امل�ؤرخ ابن عنبه يف كتابه «عمدة الطالب»‬ ‫�إذ رمى يف النهر �أكرث من «‪ 220‬الف كتاب»‪ ،‬وكذلك �أعمل العثمانيون اخلراب يف الكثري‬ ‫من املخطوطات العربية النفي�سة بعد �أن �سلبوها من �أماكنها‪ .‬وت�شري الكثري من الروايات �إىل‬ ‫تعاطي الأتراك بتجارة هذه املخطوطات والآثار �سراً وعلناً‪ ،‬والغريب �أن اليهود كانوا و�سطاء‬ ‫بني جتار الآثار واملخطوطات من الأتراك وبني التجار االنكليز‪ ،‬وقد �أكد هذه احلقيقة جامع‬ ‫املخطوطات االنكليزي «ول�س بيدج» والذي ذكر �أن هذه الآثار واملخطوطات كانت تهرب‬ ‫بوا�سطة �صناديق وتنقل عن طريق القوافل التجارية بوا�سطة �صناديق �أو باالت ال�صوف امل ّعدة‬ ‫للت�صدير من فل�سطني ودم�شق وبغداد عن طريق �شركة لنج البكرية لتباع يف �أ�سواق بيع الآثار‬ ‫يف باري�س ولندن �أو لتو�ضع يف متاحفهما‪.‬‬ ‫ويرى الرحالة «لوفتز» �أن معظم املتاجرين بهذه الآثار هم من العنا�صر العربية «اليهودية»‪،‬‬ ‫وحني ندقق بالقنوات التي �سربت خمطوطاتنا و�آثارنا‪ ،‬فهي تنق�سم �إىل قناتني‪:‬‬ ‫الأوىل‪ :‬ويعتقد العديد من خرباء الآثار واملخطوطات من �أن عدد الآثار واملخطوطات التي‬ ‫انتزعها �أو �سرقها الوالة العثمانيون من املدن العربية ككل قد بلغ "ربع مليون" خمطوط‪ .‬و�أ�ص ّر‬ ‫ه�ؤالء الوالة على نقلها �إىل ا�سطنبول والبع�ض الآخر من هذه الآثار باعوها �إىل الأوروبيني‪.‬‬ ‫الثانية‪ :‬ويعتقد بع�ض الباحثني يف الآثار واملخطوطات �أن القناة الثانية لتهريب �آثار العرب‪،‬‬ ‫�إمنا كان عن طريق القنا�صل �أو ال�سفراء الغربيني العاملني يف البلدان العربية والذين كانوا‬ ‫خف حمله وغال ثمنه من‬ ‫ي�ستغلون ح�صانتهم الدبلوما�سية وال�سيا�سية‪ ،‬فقاموا بتهريب ما ّ‬ ‫الآثار واملخطوطات العربية‪ ،‬وقد حدث هذا الأمر يف فرتات تاريخية عديدة بد�أت من القرن‬ ‫الثامن ع�شر وحتى القرن احلادي والع�شرين‪ ،‬فعلى �سبيل املثال كان القن�صل الربيطاين‬ ‫ال�سابق ريت�ش يف بغداد من �سنة «‪ ،1808‬حتى ‪1821‬م» قد جمع جمموعته اخلا�صة من‬ ‫الآثار واملخطوطات من خالل قيامه بجولة �سنة ‪ 1820‬للبحث عن هذا الرتاث يف مدن‬ ‫عراقية و�شامية عديدة وكذلك فعل خليفته الربيطاين «جون» والذي عمل يف بغداد للفرتة‬ ‫من عام ‪1855 – 1843‬م والذي ُعرف بكونه املنقب البارز يف الأ�شوريات‪ ،‬وقد جمع الكثري‬ ‫من الآثار العراقية وال�شامية ونقلها معه �إىل لندن‪ .‬وقد عمل بع�ض اليهود على �سرقة كثري من‬ ‫الآثار القيمة منذ احتالل فل�سطني عام «‪ »1948‬بخا�صة يف املناطق غري اخلا�ضعة للفل�سطينيني‬ ‫�آنذاك‪ ،‬فقد نهبوا الكثري من املوجودات الأثرية يف قرية الكوم يف ال�ضفة الغربية‪ ،‬وتع ّر�ضت‬ ‫لل�سرقة يف فرتات تاريخية عديدة‪ ،‬ففي العام ‪� 1967‬شارك «مو�شيه دايان» وزير الدفاع‬ ‫الإ�سرائيلي �آنذاك يف نهب جزء كبري من الآثار الفل�سطينية وحتويله �إىل متحف كان ميتلكه‬ ‫‪53‬‬


‫وبيع جزء منها وفق ما يقوله الكثري من �شهود العيان‪.‬‬ ‫وكذلك احلال‪� ،‬إذ متت �سرقة الكثري من املدن الكنعانية التي يرجع تاريخها �إىل‬ ‫ ‬ ‫«‪ 3000‬ق‪.‬م»‪ ،‬وخا�صة يف قرى «الكوم» وكذلك �آثار قرية «دير نظام» �إىل ال�شمال من رام اهلل‬ ‫والتي يعود تاريخها �إىل الع�صر الربونزي؛ وحتتوي هذه املدينة على الكثري من الآثار الفار�سية‬ ‫والرومانية والإ�سالمية‪ ،‬وقد �أوىل امل�ستوطنون اهتماماً بالغاً يف قرية «دير نظام» وا�ستولوا‬ ‫على مغارة «عني القو�س» وح ّولوها مزارا دينيا و�سياحيا ومنعوا الفل�سطينيني من العمل‬ ‫بالقرب منها‪ .‬كما عمل امل�ستوطنون على التنقيب يف الكهوف املطلة على البحر امليت‬ ‫والآثار املكت�شفة فيه تعود �إىل «‪ 3000‬ق‪.‬م» وقد وجدت فيها جمموعة من التماثيل الطينية‬ ‫والنحا�سية وتاج و�صوجلان ُيعتقد �أن هذا املوقع الآثاري يعود لأحد امللوك الآراميني و�أنه كان‬ ‫مدفناً ي�ستخدم للطقو�س اجلنائزية‪ .‬وي�ؤكد امل�ؤرخ الفل�سطيني «�سليم املبي�ض» ان الإ�سرائيليني‬ ‫وقبلهم امل�ست�شرقني اليهود ول�صو�ص �إ�سرائيل ال�سيا�سيني �أن �أول ما فعله املحتلون هو البحث‬ ‫عن الآثار و�سرقتها وتعود حماوالتهم �إىل عام ‪ 1948‬وعام ‪ 1956‬وكذلك عام ‪ 1967‬حتى‬ ‫�أ�صبحت هذه ال�سرقات �سيا�سة ينتهجها االحتالل و�أن ما تع ّر�ضت ل ُه «غزة» مث ًال والتي تعترب‬ ‫متحفاً مفتوحاً حل�ضارات العامل القدمي من �أهم املدن التي تع ّر�ضت ل�سرقة الآثار وكذلك ما‬ ‫تعر�ضت له املدن الفل�سطينية ومنها مدينة «دير البلح» يف القطاع ومدن رفح وال�شيخ عجلني‬ ‫و�صحراء �سيناء وما تعر�ضت ل ُه من�سرقة على يد «مو�شي ديان» وزوجته «وود دايان» «عام‬ ‫‪1967‬م» وا�ستحواذهما على �أربعة �أكفان فخارية فرعونية‪ .‬خري دليل على رغبة الإ�سرائيليني‬ ‫يف �سرقة وتدمري الآثار العربية‪.‬‬ ‫ثالثا ً‪ -‬دور امل�ست�رشقني واملنقبني والرحالة الأوروبيني يف �رسقة �آثار العرب ‪:‬‬

‫كانت ظاهرة التنقيب واحلفريات التي قامت بها الكثري من امل�ؤ�س�سات الغربية الربيطانية‬ ‫والأمريكية والفرن�سية يف كثري من املراكز احل�ضارية يف الوطن العربي لي�ست لوجه اهلل تعاىل‬ ‫�أو لوجه املعرفة والعلم‪ .‬وهي مل تكن لتوكيد دور العرب �أو الأقوام اجلزرية ح�ضارياً وفكرياً‬ ‫و�إن�سانياً بل كانت و�سيلة ثالثة من و�سائل تفنن فيها عقل الآخر ل�سرقة الآثار العربية وكانت‬ ‫عمليات التنقيب عن الآثار منذ مطلع القرن التا�سع ع�شر ت�شهد ن�شاطاً ملحوظاً‪ .‬وقد تناف�ست‬ ‫البعثات الأثرية الأجنبية للتنقيب عن الآثار والبحث عن املخطوطات وتهريب جلها �إىل‬ ‫املتاحف الغربية �أو املزادات الآثارية‪ .‬وقد �شاركت احلمالت التنقيبية يف �سرقة �آالف القطع‬ ‫الآثارية يف العراق وفل�سطني وبالد ال�شام‪ .‬وقد �س ّهل من �أمر تهريب هذه الآثار ال�سفارات‬ ‫وقنا�صل البلدان‪ ،‬كما فعل كل من امل�ست�شرق الأملاين «بريت هارمتان» وكذلك امل�ست�شرق‬ ‫«هرني اليد» والذي كان قد �أ�س�س اجلمعية الأملانية ملعرفة الإ�سالم عام ‪1900‬م وكان عن‬ ‫طريق هذا العنوان �أو هذا ال�شعار قد ه ّرب �آالف املخطوطات؛ وكذلك عمل امل�ست�شرق‬ ‫‪54‬‬


‫ملف العدد ‪ -‬الآثار‬

‫الأملاين «هايز بيت�ش بيرتمان» الذي قدم املنطقة العربية عام ‪ 1852‬ل�شراء الكثري من الآثار‬ ‫واملخطوطات العربية والتي تخ�ص الفرق الدينية اليهودية وال�سامرية وااليزيدية وامل�سيحية؛‬ ‫وكذلك فعل امل�ست�شرق «لوي�س ما�سنون» عام ‪ .1952‬وقد ذكر املتخ�ص�ص يف بيع الآثار‬ ‫ال�سيد «ويل�س بيج» يف مذكراته من انه نقل �آثاراً �إىل املتحف الربيطاين؛ وكذلك فعل بع�ض‬ ‫الرحالة وامل�ست�شرقني الآف املخطوطات فيذكر مث ًال انه نقل‪� 15 ...‬ألف خمطوطة عربية‬ ‫�إ�سالمية‪.‬‬ ‫ و‪ 52‬خمطوطة �سريانية من املو�صل وحلب‪.‬‬‫ و�أكرث من ‪ 1500‬رقيم �سومري‪.‬‬‫ و�أكرث من ‪ 49‬ختماً من «الأختام اال�سطوانية الأ�شورية»‪ .‬وهو قد متكن من احل�صول على‬‫ثالث لفائف من بردي مكتوب على جانب كل منها باليونانية ومعلومات عن اليونانيني يف‬ ‫فل�سطني وبالد ال�شام‪ .‬وان �إحدى اللفائف كانت كتاباً «لأر�سطو»‪ .‬و�أنه ح�صل كذلك على‬ ‫لفائف من الربدي حتتوي بع�ض منها على �أجزاء من �أ�سطورة «االلياذة» ون�صو�ص �سحرية‬ ‫م�صرية كما ح�صل على العديد من لفائف الربدي املكتوب عليها بالهريوغليفية امل�صرية ومل‬ ‫ِ‬ ‫يكتف ويل�س بيج ب�سرقة �آثار امل�سلمني بل نهب �آثار امل�سيحيني كذلك‪.‬‬ ‫ فقد مت نهب و�سرقة كتب كني�سة الطاهرة الواقعة يف مدينة املو�صل العراقية‪.‬‬‫ و�سرقة كتب بطريركية الناظرة يف املو�صل‪.‬‬‫ وكتب و�آثار خزانة دير ال�سريان يف القو�ش‪.‬‬‫ و�سرقة العديد من الآثار واملخطوطات يف منطقة الأق�صر واجليزة يف م�صر‪.‬‬‫ وكذلك فعلت « امل�س بيل» م�ست�شارة املندوب ال�سامي الربيطاين يف ثالثينيات القرن‬‫الع�شرين‪ ،‬فقد ا�شتهرت هذه املر�أة باهتمامها بالآثار العراقية وقد بذلت جهوداً كبرية وكثرية‬ ‫للح�صول على هدايا وتهريب العديد من الآثار البابلية والأ�شورية �إىل خارج العراق‪ ،‬كما‬ ‫يقول امل�ؤرخ العراقي عبدالرزاق احل�سني‪.‬‬ ‫وقد لعب جتار اليهود يف كل من العراق وبالد ال�شام دوراً كبرياً من تهريب وبيع املخطوطات‬ ‫والآثار العراقية فقد كانوا ميلكون دكاكني يف العراق يف منطقة ال�سراي ومنذ العام ‪1923‬‬ ‫وقد ا�شتهر كل من «�شامونال» والذي ُعرف ببيعه للمخطوطات والآثار باحللة‪ ،‬بالإ�ضافة‬ ‫�إىل امل�صري «اخلاجني» الذي مار�س هذه التجارة عام ‪ 1925‬و�سهل من تهريب العديد من‬ ‫املخطوطات والآثار العربية‪.‬‬ ‫كما تعاطى امل�ست�شرق اليهودي «لوي�س ما�سينون» ومنذ �أربعينيات القرن املا�ضي جتارة وتهريب‬ ‫‪55‬‬


‫وبيع الآثار واملخطوطات بني كل من العراق وبالد ال�شام‪ .‬وكذلك مار�س امل�ست�شرق اليهودي‬ ‫«غوتهي لودمايل» عملية �شراء وبيع الآثار وكذلك فعل امل�ست�شرق اليهودي «هلموت ريرت»‪.‬‬ ‫وال بد �أن نذكر هنا ما قاله امل�ؤرخ امل�صري «احمد راتب عرمو�ش» بهذا اخل�صو�ص‪ ،‬من �أن �أديرة‬ ‫ومعابد اليهود قد مار�ست �شك ًال من ا�شكال اجلمع وال�شراء و�سرقة العديد من املخطوطات‬ ‫والآثار‪ ،‬وخا�صة �سرقة العديد من ن�سخ التوراة والأ�سفار والتي يعود تاريخها �إىل ع�صور بابلية‬ ‫قدمية تربو على �ألف عام قبل امليالد كانت موجودة هذه الكنوز الآثارية يف املعابد والأديرة‬ ‫اليهودية يف العراق وفل�سطني‪ .‬وقد تو ّزعت ن�سخ التوراة يف مدينة «الكفل» وهي �إحدى املدن‬ ‫التابعة �إىل حمافظة القاد�سية العراقية‪ 200( ،‬كيلو جنوب غرب بغداد)؛ واملدينة قد �سميت‬ ‫بهذا اال�سم ن�سبة �إىل النبي ذي الكفل عليه ال�سالم وقيل ُ�س ّمي بذي الكفل لتكفُّل اهلل‬ ‫تعاىل يف �سعيه وعمله‪ .‬وقد �سرقت التوراة املوجودة يف منطقة العزير التابعة ملحافظة «مي�سان»‬ ‫(‪ 350‬كيلو مرت جنوب بغداد)‪ .‬وقد خطط اليهود منذ ع�شرات ال�سنني على جمع كتبهم التي‬ ‫كتبت �إبان ال�سبي البابلي لهم عام ‪ 586‬ق‪.‬م على يد «نبوخذ ن�صر»‪ .‬فقد �سعوا �إىل احل�صول‬ ‫على ن�سخ مكتوبة بالآرامية للتلمود‪ ،‬وكذلك ن�سخ للتوراة وكتبهم االخرى املعروفة بـ �أ�سم‬ ‫«القتالة واالزدهار»‪ .‬وت�شري امل�صادر التاريخية من �أن الكتب الدينية اليهودية هذه قد كتبت‬ ‫يف العراق منذ القرن اخلام�س امليالدي بعد �أن و�ضعها حاخام من بغداد يدعى بـ»�آ�شمر» وقد‬ ‫حاولت م�ؤ�س�سة املو�ساد اليهودية ومنذ عام ‪� 1948‬سرقة الكتب اليهودية املوجودة يف معابد‬ ‫املو�صل وقد �ساعدهم يف ذلك القن�صل الربيطاين‪ ،‬لكنهم ف�شلوا يف احل�صول عليها‪ .‬طيلة‬ ‫اخلم�سني عاماً املن�صرمة لكنهم جنحوا بعد احتالل بغداد عام ‪ 2003‬وعن طريق جمموعة‬ ‫«ميت �آلفا» الأمريكية والتي دخلت العراق بغطاء الأمم املتحدة وبحجة البحث عن �أ�سلحة‬ ‫الدمار ال�شامل من العثور عليها وت�سليمها لليهود ثم نقلها من وا�شنطن �إىل تل �أبيب‪ .‬لقد‬ ‫ا�ستمر �سا�سة اليهود بتجارتهم �أو تهريبهم �إذ عمل التاجر يهودا البغدادي عام ‪ 1943‬بتهريب‬ ‫�أكرث من‪� 6‬آالف قطعة �أثرية وخمطوطة عن طريق �شبكة تهريب عاملية ار�سلت من مناطق بالد‬ ‫ال�شام والعراق �إىل الواليات املتحدة وقامت جامعة «بر�سنت الأمريكية» ب�شرائها وت�صنيفها‬ ‫ح�سب احلقب التاريخية وو�ضعها يف متاحف الواليات املتحدة الأمريكية‪ ،‬كما يقول امل�ؤرخ‬ ‫«فيليب حتي»‪.‬‬ ‫وقد ا�ستمرت م�ؤ�س�سة االحتالل الإ�سرائيلية وجامعاتها العربية يف التعدي والتنقيب عن‬ ‫الآثار الفل�سطينية �إذ عملت على فتح كثري من املواقع الآثارية ونقبت فيها ونقلت العديد‬ ‫من الآثار الفرعونية والتلغانية والبيزنطية من حلي و�أواين فخارية وو�ضعتها يف متاحفها‪ .‬وقد‬ ‫ُن�شرت �صورها يف جملة «نا�شينال كرافيك»‪.‬‬ ‫�إن حماوالت كل من الإ�سرائيليني واللوبي العاملي اليهودي ب�سرقة الرتاث �أو تهريبه واقتالعه‬ ‫من حوا�ضنه الطبيعية‪ ،‬امنا هي حماولة لطم�س الهوية الفل�سطينية والهوية العربية الإ�سالمية‬ ‫‪56‬‬


‫ملف العدد ‪ -‬الآثار‬

‫و�إثبات يهودية دولة فل�سطني وهي جزء من منط التدلي�س التاريخي وا�ضح املعامل‪ .‬واملعلومات‬ ‫التي �أجرتها كثري من امل�ؤ�س�سات املعنية بالآثار والرتاث العاملية ت�شري �إىل �سرقة ما ن�سبته ‪% 53‬‬ ‫من الآثار يف ال�ضفة املحتلة و�سيطرته على ‪� 12,216‬ألف موقع �آثاري يف فل�سطني ُد ّمر ونهب‬ ‫منها الآالف ب�سبب االحتالل و�أياديه اخلبيثة‪ ،‬وان متاحف العراق ومواقعه الآثارية التي تربو‬ ‫على مئة �ألف موقع كان قد ُد ّمر �أو ُه ّرب منذ احلرب اخلليجية عام ‪ 90‬ثم حرب اخلليجية‬ ‫الثانية عام ‪ 2003‬واحلرب الطائفية عام ‪ 2006‬ما ن�سبته ‪ % 40‬من احل�ضارة العراقية �سومرية‬ ‫كانت �أو بابلية �أو �آ�شورية �أو كلدية �أو عبا�سية‪ ،‬والتي تبلغ �أكرث من ن�صف مليون �أثر وموقع‬ ‫ح�ضاري‪ .‬كما �أن املعلومات غري الر�سمية والتي رتبت على �إح�صائها الكثري من املنظمات‬ ‫العاملية والثقافية والآثارية ت�شري �إىل تدمري ما ن�سبته ‪ % 54‬من الآثار واملراكز احل�ضارية «�آمورية‪،‬‬ ‫كنعانية‪� ،‬آرامية‪ ،‬عربية‪ ،‬رومانية‪ ،‬يونانية‪ ،‬و�إ�سالمية �آمورية يف كثري من مدن �سوريا والتي ي�سيطر‬ ‫عليها وحو�ش الع�صر اجلدد «الدواع�ش» يف �سوريا‪.‬‬ ‫رابعا ً‪� -‬أثر االحتالالت واحلروب‪:‬‬

‫ومن نكد الدهر �أن هذه الأمة واملنطقة حتديداً كانت عر�ضة الحتالال عديدة بعد «االحتالل‬ ‫االخميني»‪ ،‬وهي‪:‬‬ ‫ االحتالل ال�سا�ساين‬‫ االحتالل البويهي‬‫ االحتالل اجلالئري‬‫ االحتالل العثماين‬‫ االحتالل االنكليزي‬‫ االحتالل الفرن�سي‬‫ االحتالل الإ�سرائيلي‬‫ االحتالل الأمريكي‪.‬‬‫�آثار االحتالالت ‪:‬‬ ‫كما مرت الأمة العربية بحروب عديدة منها حرب ‪ 48‬و‪ 56‬و‪ 67‬و‪ 90‬و ‪ 2003‬واملالحظة الت�أريخية‬ ‫التي ميكن تثبيتها على هذه التكتالت واحلروب �أن الفاعلني امل�ؤثرين هما اال�ستعمار واحلروب؛‬ ‫�سواء كانت حروبا �سيا�سية �أو حروبا �أهلية‪ ،‬وقد مكنت هذه احلروب امل�ستعمرين واملحتلني واعداء‬ ‫احلرية واطلقت ايديهم يف العبث برتاث الأمة وقد توزعت اهتماماتهم وفق ما يلي‪:‬‬ ‫‪57‬‬


‫‪ - 1‬لقد جنح املحتلون وامل�ستعمرون من �سرقة وتهريب وتدمري ونقل كثري من الآثار العربية‬ ‫والإ�سالمية وامل�سيحية وحتى اليهودية‪ ،‬م�ستغلني حالة الغفل الثقايف للنخب ال�سيا�سية‬ ‫والثقافية‪ ،‬وم�ستخدمني ُ�سب ًال و�أ�ساليب �شتى لتهريب �آثار العرب وتراثهم الثقايف �إىل �أوروبا‪.‬‬ ‫‪ - 2‬والعامل الثاين الذي �سهل من تهريب و�سرقة �آثار العرب‪� ،‬إمنا يعود اي�ضاً �إىل غياب‬ ‫اهتمام ال�سلطات العربية املحلية منها �أو الوطنية من ردع والوقوف بوجه الآخر وحماية تراثنا‬ ‫من ال�سرقة والتهريب‪ .‬متنا�سية هذه النخب من �أن املادة ‪ 27‬من الئحة الهاي التي تن�ص‬ ‫يف حاالت احل�صار �أو الق�صف يجب اتخاذ كل التدابري الالزمة لتفادي الهجوم على املباين‬ ‫املخ�ص�صة للعبادة والفنون والعلوم والأعمال اخلريية والآثار التاريخية‪ .‬كما ن�صت املادة ‪56‬‬ ‫من الئحة الهاي لعام ‪»...1907‬انه ّ‬ ‫يحظر كل حجز �أو تدمري �أو �إتالف عمدي ملثل هذه‬ ‫امل�ؤ�س�سات والآثار التاريخية والفنية والعلمية وتتخذ الإجراءات الق�ضائية �ضد مرتكبي هذه‬ ‫الأعمال»‪.‬‬ ‫�آثار احلروب‪:‬‬

‫لقد كان للحروب التي خا�ضتها االمة‪ ،‬كما �أ�سلفنا �سواء مع العدو الإ�سرائيلي �أعوام ‪1948‬‬ ‫و ‪ 1956‬و ‪ 1967‬واحلروب الأهلية التي حدثت يف كل من لبنان واجلزائر والعراق �أن تركت‬

‫�آثارها ال�سلبية على حماية الآثار واملخطوطات‪ ،‬فقد كان من نتائج هذه احلروب ان تعر�ضت‬ ‫كثري من مواقعنا الآثارية ومعابدنا ومراقدنا الدينية ومتاحفنا الأثرية �إىل التدمري الق�صدي �أو‬ ‫النهب وال�سرقة من قبل بع�ض النفو�س ال�ضعيفة يف الداخل‪ ،‬والتي مار�ست عملية تدمري‬ ‫مق�صود �أو تهريب منظم مع مافيا جتارة الآثار ال�صهيونية والأوروبية؛ وقد خ�ضع جزء كبري من‬ ‫املواقع الأثرية واملتاحف ل�سطوة �سما�سرة الآثار �أو �ضعاف النفو�س ال�سيما و�أن جتارة الآثار‬ ‫كما يقول «�ستيوارت ايزن�سات»‪ ،‬وزير مالية �أمريكي �سابق‪� ،‬إن عامل التهريب والتجارة بالآثار‬ ‫فيه تكتنفه ال�سرية وهي جتارة مربحة للغاية‪ ،‬لذلك ف�إنها من الأعمال التي حتظى ب�سرية ويقدر‬ ‫حجم التعامل يف بيع و�شراء الآثار والكنوز التاريخية بحوايل ‪� 2‬إىل ‪ 4‬مليار‪.‬‬ ‫كما �أن غياب االحرتازات الأمنية واالهتمام باملواقع الأثرية املنت�شرة على م�ساحة هذا الوطن‬ ‫قد �سهل لبع�ض املغفلني �أو بع�ض املحتاجني �سرقة بع�ض الآثار واالجتار بها ووقع بني ايدي‬ ‫بع�ض املحرتفني ليتم ا�ستثمارهم لتخريب ممتلكات وكنوز بلدانهم‪.‬‬ ‫دور التنظيمات الإرهابية يف تدمري الرتاث ‪:‬‬ ‫كانت الثقافة يف الوطن العربي ومنذ فجر ال�سالالت كما يقول عامل الآثار «هاري �ساك�س»‬ ‫�إىل يومنا هذا هي امل�ستهدف الأ�سا�س من �أي �أطماع خارجية �أو فنت داخلية حتقيقاً لنظرية‬ ‫الآخر بهدف �إلغاء الآخر؛ وذلك يتم عن طريق تدمري ثقافته وتراثه وبالتايل �إلغاء وجوده‪.‬‬ ‫‪58‬‬


‫ملف العدد ‪ -‬الآثار‬

‫وما ح�صل يف ‪ 6‬حزيران عام ‪ 2014‬من ممار�سات بع�ض التنظيمات الإرهابية ومنها « داع�ش»‬ ‫هو �أب�شع اجلرائم التي مل ت�شهد مثلها الإن�سانية من قبل‪ .‬من ذبح وقتل وحرق و�سبي وتدمري‬ ‫تنج منها جماعة حيث �سيطرت‪ .‬وكتدمري موقعي النبي يون�س‬ ‫لآثار العراق و�سوريا ومل ُ‬ ‫والنبي �شيت ومزارات بع�ض ال�صحابة واقتالع رفاتهم‪ ،‬كما هو احلال يف قرب ال�صحابي‬ ‫«حجر بن عدي»‪ ،‬وتدمري الكثري من الكنائ�س والأديرة وامل�ساجد يف املو�صل وحلب و�إدلب‪.‬‬ ‫ويقول الباحث «باتري كوبر» يف كتابه «�صعود داع�ش» �إن هنالك ا�سرتاتيجية لداع�ش لبلوغ‬ ‫غاياتها تتمثل باملغاالة وبوح�شية يف القتل والتدمري لكل الرتاث‪ ،‬وهو عند داع�ش جزء من‬ ‫ا�سرتاتيجية بعيدة املدى للمرحلة الأوىل وهي البداية من ال�صفر لنظام جديد وتاريخ جديد؛‬ ‫وهم ي�شرتكون بذلك مع مفهوم ال�صهيونية العاملية؛ ف�أولئك يقولون ال دين �إال اليهودية وال‬ ‫�شعب �إال �شعب اهلل املختار‪ .‬ويق�صدون بني �إ�سرائيل‪ .‬وه�ؤالء «الدواع�ش» يقولون ال ح�ضارة‬ ‫وال تاريخ وال دين �إال �شرائع داع�ش‪ .‬وتقدر الدرا�سات احلديثة ان عدد املواقع الأثرية التي‬ ‫ا�صبحت حتت يد داع�ش يف حمافظة نينوى بحوايل ‪� 4‬آالف موقع �أثري �إ�ضافة �إىل مباين �أثرية‬ ‫تعود للع�صر الإ�سالمي العثماين و�أن عدد املزارات وامل�ساجد والكنائ�س التي مت تفجريها‬ ‫وهدمها حتى الآن هو �أكرث من خم�سني مرقداً ومزاراً وم�سجداً وان الدواع�ش يف �سوريا‬ ‫ي�سيطرون على �أكرث من �ألفي موقع تاريخي يف �سوريا ودمروا وخربوا ‪ % 40‬منها‪ ،‬وكذا الأمر‬ ‫يف اليمن ويف ليبيا والتي ت�شري املعلومات املوثقة من �أنهم قد د ّمروا الكثري من ال�شواخ�ص‬ ‫التاريخية واحل�ضارية يف مدينة «بني غازي» حتديداً‪.‬‬ ‫وي�ؤكد خرباء الآثار والت�أريخ يف جميع �أنحاء العامل �أن التنظيم يحاول ممار�سة التطهري الثقايف‬ ‫ملحو مراحل تاريخية كاملة من التاريخ الب�شري‪ .‬في�ؤكد ال�سيد «جان لوك مارتينز» مدير‬ ‫متحف اللوفر يف باري�س‪ ،‬لقد �شهدنا جمازر املتاحف الأثرية يف كل من �سوريا والعراق التي‬ ‫�سمى‬ ‫ال َّ‬ ‫تقدر بثمن و�أن التنظيمات الإرهابية حتاول ممار�سة التطهري الت�أريخي والثقايف والتي ُي ّ‬ ‫حمو مراحل تاريخية مهمة من التاريخ الب�شري‪ ،‬ولقد ّ‬ ‫حذر املتحدث يف «‪ »FBI‬مكتب‬ ‫التحقيقات الفيدرايل الأمريكي من �سما�سرة جتار القطع الفنية من �شراء الآثار التي تعود �إىل‬ ‫منطقة ال�شرق الأو�سط يف حني لفت املتحدث نف�سه االنتباه بالقول من �أننا لدينا قلق من‬ ‫تلقي جتار �أمريكان لقطع �أثرية م�سروقة من قبل تنظيم داع�ش مهربة من �سوريا والعراق وم�صر‬ ‫وحتى فل�سطني‪ ،‬لأنها �أ�صبحت م�صادر متويل للتنظيم‪.‬‬ ‫وت�ؤكد كثري من املراكز اجلنائية العاملية ومنها دائرة االنرتبول الدويل عن وجود �شبكة دولية‬ ‫لبيع قطع �أثرية قادمة من املنطقة العربية‪.‬‬ ‫وقال مدير مكتب مكافحة �سرقة الآثار يف "‪« "FBI‬بوين ماكينز كارد» �إن جتارة بيع النفط‬ ‫واالجتار بالأ�سلحة والآثار �أ�صبحت اليوم م�صدراً مهم من م�صادر التمويل وقد �أكد �سفري‬ ‫‪59‬‬


‫العراق يف الأمم املتحدة �إن تنظيم داع�ش يك�سب «مئة مليون دوالر �سنوياً» عن طريق القطع‬ ‫الأثرية امل�سروقة من املواقع الأثرية يف كل من �سوريا والعراق والأخبار املوثقة ت�شري �أن تنظيم‬ ‫داع�ش و�إيغا ًال منه يف تنمية جتارته يف بيع الآثار �أن�ش�أ وزارة �أ�سماها وزارة الآثار يتلخ�ص عملها‬ ‫يف �إدارة عمليات النهب للآثار يف العراق و�سوريا واليمن وم�صر و�أكدت �صحيفة �صانداي‬ ‫تلغراف الربيطانية يف �أعدادها ل�سنة ‪ 2015‬ان بيع الآثار والتحف التاريخية قد د ّرت ع�شرات‬ ‫املاليني من الدوالرات قد تناهز املبالغ التي ح�صل عليها التنظيم من اختطاف و�إطالق‬ ‫�سراح الغربيني نظري جزية مالية‪ .‬واملتتبع ملزادات �أوروبا الكبرية والتي يبلغ عددها ‪ 23‬مزاداً‬ ‫يف العامل �أ�شهرها «مزاد كر�ستي» الواقع يف مدينة نيويورك انه يرى بيع الآثار العربية على‬ ‫مر�أى وم�سمع اجلميع‪ ،‬دو ًال وم�ؤ�س�سات دولية‪ ،‬وك�أنهم مكفولون بحماية قانونية تتيح للذي‬ ‫ي�ستخرج الآثار من هذه الأرا�ضي ومتكنه من �أن يبيعها‪ .‬هذا الأمر هو الذي جعل منظمة‬ ‫اليون�سكو ت�سعى �إىل تعديل اتفاقية التعاطي بالآثار ل�سنة ‪ 1970‬والتي تعالج قانونياً مو�ضوع‬ ‫الآثار امل�ستخرجة من احلفر الالقانوين وال�سرقات التي متّت قبل �إبرام هذه االتفاقية والتي‬ ‫�أتاحت «للم�س بيل» م�ست�شارة املندوب ال�سامي وجوم فور�ستار املندوب ال�سامي يف �سوريا‬ ‫وم�س بريو يف م�صر ومو�شي ديان يف �أن ي�سرقوا ويبيعوا �آثار العرب يف كل من العراق و�سوريا‬ ‫وفل�سطني‪.‬‬ ‫�إن �آثار العرب يف كل من «دير البلح» يف فل�سطني ويف «القد�س القدمية» والتي هربها وتعاطى‬ ‫وفجار الآثار اليهود واملافيات والع�صابات ال�صهيونية التي تتعامل مع جهات‬ ‫بها ل�صو�ص ّ‬ ‫ر�سمية �إ�سرائيلية والتي تر�سل مئات القطع �إىل متحف «روكفلر» والذي كان ُي�سمى �سابقاً‬ ‫مبتحف فل�سطني والتابع «ملتحف �إ�سرائيل» والذي ي�ضم �أجزاء من جداريات امل�سجد الأق�صى‬ ‫وعينات من �آثار وخمطوطات كني�سة القيامة؛ والغريب �أن متحف «روكفلر» هذا ي�ستغل‬ ‫منزل عائلة اخلليل العربية ليعر�ض �آالف القطع الفل�سطينية امل�سروقة وان �إ�سرائيل كانت‬ ‫قد عملت على �سرقتها عن طريق عمالئها العديد من الآثار امل�صرية والتي كانت عبارة عن‬ ‫�أغطية لتوابيت فرعونية مللوك فراعنة متت �سرقتها وبيعها يف �أحد ا�سواق القد�س �سعت فيه‬ ‫�إ�سرائيل مقاي�ضتها العام ‪ 2012‬وقد طلب املحامي الإ�سرائيلي «�إ�سحاق ملت�سر» رئي�س الوزراء‬ ‫الإ�سرائيلي «بنيامني نتنياهو»‪ ،‬بتعطيل �إعادة �أغطية التوابيت الفرعونية والتي مت �ضبطها حتى‬ ‫عودة ال�سفري امل�صري امل�سحوب من �إ�سرائيل العام ‪ .2012‬وطلب كذلك مبادلة هذه الآثار‬ ‫بعد الإفراج عن اجلا�سو�س الإ�سرائيلي «عوهن انرابني» من ال�سجون امل�صرية‪ .‬و�أخرياً ال بد‬ ‫الآن نقول �إن الآخر غا ٍز وحمتل وم�ست�شرق ومتط ّرف كان يتوقف عند تدمري �آثار العرب‬ ‫التي نهبت والتي يبلغ عددها «‪ »10,000‬قطعة �أثرية وان عدد املخطوطات التي �سرقت من‬ ‫مكتباته وكنائ�سه وجوامعه قد بلغ «‪ »24589‬الف قطعة وان عدد الآثار واملخطوطات التي‬ ‫�سرقت من �سوريا وحدها يبلغ بحدود «‪� »11‬ألف �أثر وخمطوط‪.‬‬ ‫‪60‬‬


‫ملف العدد ‪ -‬الآثار‬

‫�أما عن القطع امل�سروقة واملوجودة يف متحف الكيان ال�صهيوين والذي ت�أ�س�س العام ‪ 1965‬يف‬ ‫القد�س‪ ،‬فقد بلغت �أكرث من «‪ »350‬قطعة �شملت �آثاراً و�أعما ًال فنية من بينها متاثيل برونزية‬ ‫تعود �إىل الألف الثالث قبل امليالد وكتابات لقبائل كنعانية �سكنت «دير البلح» وبقايا جماجم‬ ‫لزعماء كنعانيني وجدت يف منطقة «اريحا»‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل العديد من الآثار الإ�سالمية و�أجزاء‬ ‫من �سور القد�س القدمي تعود للعهد العثماين ومئات القطع الآثارية وجدت يف مناطق عام‬ ‫«‪ »1948‬وهي حمتجزة وتقدم للنا�س كونها جزءاً من التاريخ اليهودي‪.‬‬ ‫مما تقدم يبقى ال�س�ؤال مطروحاً‪ :‬ترى ما هي مربرات ا�ستمرار الغزاة واملحتلني والدواع�ش يف‬ ‫الإ�صرار على �سرقة �آثار وتراث الأمة وتهريبها واالجتار بها �أو عر�ضها يف غري مواطن �إنباتها؟‬ ‫ترى هل هي ب�سبب ‪:‬‬ ‫اوال ‪ :‬رغبة من الآخر يف ت�شويه التاريخ مبا يتيح لل�شتات واملغت�صب وامل�ستعمر واملتطرف من‬ ‫ممار�سة �شكل من �أ�شكال التطهري التاريخي والعرقي‪ ،‬مبا يتيح ل ُه كتابة تاريخ جديد ور�سم‬ ‫خارطة �سيا�سية للمنطقة ت�أتي مدخ ًال طبيعياً «ل�شرق �أو�سط جديد» ت�ضع مالحمه «فو�ضى‬ ‫خالقة ُتر�سم فيها حدود للدويالت وللممالك وطوائف جديدة ر�سموها بحدود الدم‪.‬‬ ‫ثانياً‪� :‬أم �أنّ مربرات ا�ستمرار الآخر يف تدمري الآثار وت�شويه التاريخ يعود �سببها لعقدة الآخر‬ ‫من العرب ورغبة منه يف ن�سف كل �شيء وقطع جذور كل �شيء يو�صل تاريخ هذه الأمة �أو‬ ‫ّ‬ ‫يجذر فر�ضية دورها الريادي واحل�ضاري‪ .‬والدليل على ذلك اننا وجدنا ان عقدة الإ�سرائيليني‬ ‫وال�صهاينة مل تكن وليدة عام ‪ 1948‬بل �إنها متتد يف عمق التاريخ ودورهم يف الت�آمر على بابل‬ ‫و�إ�سقاطها عام ‪ 539‬ق‪.‬م و�إ�صرارهم على انتحال ت�أريخ جديد لهم ابتداء يف ع�صرنا احلديث‬ ‫من احلفر حتت امل�سجد الأق�صى بحثاً عن الهيكل املقد�س �إال توكيد جديد منهم ي�ؤكد‬ ‫رغبتهم وربط ن�سبهم ب�أهل الأر�ض على النحو الذين ي�صبح هذا ال�شتات‪ ،‬كما ّيدعي‪ ،‬جزءاً‬ ‫من ال�ساميني؛ وت�صدير فر�ضية �أنهم �سكان هذه الأر�ض حقيقة وان الت�شويه والتزوير على‬ ‫هذه الأمة والت�أريخ واجلغرافية �سيعمل على زرعهم يف هذه الأر�ض و�ستجعلهم جزءاً طبيعياً‬ ‫من نامو�سها الإن�ساين‪.‬‬

‫‪61‬‬


‫اخلامتة‬

‫وال بد �أن نذكر �أن االنتهاكات واالعتداءات على الآثار الفل�سطينية �أو العراقية �أو ال�سورية‬ ‫العربية ُتعد �إحدى جرائم احلرب امل�ستمرة؛ وقد متثلت هذه اجلرائم ب�أعمال احلفر الواقعة يف‬ ‫اجلهة الغربية من امل�سجد الأق�صى و�ساحة «الرباق» ويف �أماكن �أثرية �أخرى من مدينة القد�س‬ ‫املحتلة‪ُ ،‬ت ّعد ا�ستكما ًال ل�سعي وحو�ش الأر�ض اجلدد من‪� :‬أمريكان و�صهاينة ودواع�ش‪ ،‬وهي‬ ‫حماوالت م�سمومة لطم�س املعامل العربية والإ�سالمية يف فل�سطني والعراق و�سوريا وم�صر‬ ‫واليمن وحتى لبنان رغبة منهم يف نفي «يبو�سية القد�س» «وبابلية بابل» و»عروبية دم�شق‬ ‫وبغداد» و�أزهرية القاهرة و»حمريية اليمن»‪� .‬إنها رغبة منهم لإقناع العامل باالدعاءات‬ ‫الإ�سرائيلية والغربية الباطلة القائمة على فر�ض ال�سيطرة الع�سكرية بالقوة واملبنية على التلفيق‬ ‫الت�أريخي واخلرافات التوراتية املحرفة مل�صلحة الأهداف «ال�صهيونية واالجنلو �أمريكية» املتمثلة‬ ‫باليمني الأمريكي والتي ت�سعى �إىل ت�سطيح وعي الإن�سانية وتغييب الدور احل�ضاري الذي‬ ‫لعبه العرب عرب التاريخ ودورهم الريادي واحل�ضاري‪ ،‬متنا�سياً هذا الآخر كل االتفاقيات‬ ‫املربمة حلماية املمتلكات الثقافية والدينية العام ‪ 1954‬والعام ‪ 1956‬واتفاقية الهاي وامللحق‬ ‫بها الثاين لعام ‪ 1999‬الذي جاء ملحقاً التفاقية الهاي للعام ‪ .1999‬والتي كفلت احرتام‬ ‫متعمد لهذه‬ ‫حقوق ال�سكان وممتلكاتهم الثقافية والدينية‪ ...‬ومنعت كل تخريب �أو انتهاك ّ‬ ‫املن�ش�آت واملباين التاريخية ويجب �أن يحاكم فاعلها‪.‬‬ ‫نعتقد �أن احلرب الثقافية حرب تدمري وتخريب و�سرقة وحرق هذه الآثار �إمنا هي جزء‬ ‫�إننا ُ‬ ‫مكمل من احلروب التاريخية التي ا�ستمرت من حرق �أور ال�سومرية ولن تنتهي بحرق‬ ‫وتدني�س املقد�سات واملراقد امل�شرفة يف العراق و�سوريا ولن تنتهي بتدني�س �أو حرق «بيت‬ ‫املقد�س» التي يعد لها هذه الأيام‪ ،‬و�أن الأمر يحتاج �إىل عدة العقل وعدة العدد كي يقف‬ ‫اجلميع لي�ضربوا بيد من حديد على الربابرة اجلدد‪ ،‬حفاظاً على احلياة والفكر والتاريخ‬ ‫واجلمال‪.‬‬

‫‪62‬‬


‫ملف العدد ‪ -‬الآثار‬

‫امل�صادر‬

‫ علي هادي املهداوي‪ :‬احللة كما و�صفها ال�سواح الأجانب يف الع�صر احلديث "بغداد‬‫‪� "1994‬ص‪.27 .‬‬ ‫ ول�س بيدج‪ :‬رحالتي �إىل العراق‪ ،‬ترجمة ف�ؤاد جميل‪ ،‬بغداد‪� ،1968‬ص‪.3 .‬‬‫ جو�ستاف لويدن‪ :‬ح�ضارة العرب‪ ،‬دار النه�ضة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬وبال‪� ،‬ص‪.81 .‬‬‫ ابن عنبه‪ :‬عمدة الطالب يف ان�ساب ابي طالب وبيوتها‪ ،‬بغداد‪� ،2000 ،‬ص‪.179 .‬‬‫ كرم حممد احمد‪ :‬ابن ذهبه املخطوطات العربية‪ ،‬تراث فل�سفة الغرب بعد و�سائل‪،‬‬‫القاهرة‪ ،‬بال تا‪� ،‬ص‪.229 .‬‬ ‫ بهنام ابو ال�صوف‪ :‬الآثار واملخطوطات العراقية‪ ،‬جريدة الثورة ال�سورية‪ ،‬االحد ‪� ،2008/ 6/ 6‬ص‪.6 .‬‬‫ خ�ضري اخلزرجي‪ :‬كيف ينظر الرحالة وامل�ست�شرقون �إىل الثقافة الإ�سالمية‪ ،‬جملة ديوان‬‫العرب‪ ،‬لندن بال‪� ،‬ص‪.4 .‬‬ ‫ حممد �صالح خ�ضر‪ :‬الدبلوما�سية يف العراق‪1914 – 1831 ،‬م‪ ،.‬بغداد بال تا‪ ،‬ص‪.‬ص‪.‬‬‫‪.57-58‬‬

‫ حممد عبدالرحمن اخلربطلي‪� :‬أين املخطوطات العربية‪� ،‬ص‪.140 .‬‬‫ عبدالرزاق احل�سني‪ :‬تاريخ العراق ال�سيا�سي‪ ،‬دار الرافدين‪ ،‬بغداد‪ ،‬بال تا‪� ،‬ص‪.86 .‬‬‫ يعقوب �سركي�س‪ :‬حرمي دار اخلالفة‪ ،‬جملة لغة العرب‪ ،‬جملة ف�صلية‪ ،‬عدد ل�سنة ‪/‬‬‫‪ -1928 ،1927‬ج‪ ،8 .‬ص‪.249 .‬‬ ‫ عبدالرزاق الأخ�ضر‪ :‬امل�ست�شرق تا�سنون‪ ،‬دم�شق‪ ،‬بال تا‪� ،‬ص‪.23 .‬‬‫ احمد ابن عرمو�ش‪ :‬مو�سوعة الأديان‪ ،‬دار النفائ�س‪ ،‬بريوت‪� ،2005 ،‬ص‪.259 .‬‬‫ خالد النا�شف‪ :‬تدمري الرتاث العراقي‪ ،‬بغداد‪ ،‬بال تا‪� ،‬ص‪.44 .‬‬‫ فيليب حتي‪ :‬تقرير فيليب حتي عن الكتب العربية يف مكتبات الواليات املتحدة‬‫الأمريكية‪ ،‬ج‪� ،3 .‬ص‪.64 .‬‬

‫‪63‬‬



‫فـكــــــــر‬

‫الأزمة ال�سورية و�أبعادها الإقليمية والدولية‬

‫خما�ضه يف دم�شق‬ ‫النظام العاملي اجلديد ي�شهد‬ ‫َ‬

‫جمال واكيم ‪ -‬دكتور يف التاريخ والعالقات الدولية‬

‫يف العام ‪ 2011‬اندلعت الأزمة يف �سورية ومنذ البداية اتخذت �أبعادا اقليمية ودولية �إذ‬ ‫تدخلت فيها الواليات املتحدة وفرن�سا وبريطانيا وتركيا واململكة العربية ال�سعودية وقطر‬ ‫�ضد احلكومة ال�سورية والرئي�س ب�شار الأ�سد‪ ،‬فيما وقفت رو�سيا وال�صني و�إيران يف �صفوف‬ ‫الدول الداعمة له‪ .‬واجلدير ذكره �أن الأزمة ترافقت مع �أزمة يف النظام العاملي متثلت يف ازمة‬ ‫اقت�صادية اندلعت يف الواليات املتحدة يف العام ‪ ،2008‬ومع عملية انتقال يف بنية النظام‬ ‫الدويل من نظام �أحادي القطبية �إىل نظام متعدد الأقطاب‪ .‬واجلدير ذكره �أن الأزمة التي‬ ‫مي ّر بها العامل وعملية االنتقال من نظام �أحادي القطبية �إىل نظام متعدد الأقطاب كانت‬ ‫�سترتكز يف منطقة بالد ال�شام‪ .‬فمنذ فجر التاريخ �شكلت بالد ال�شام حمور ال�صراع الأ�سا�سي‬ ‫بني القوى العظمى عرب التاريخ‪ ،‬كامل�صريني وقوى بالد ما بني النهرين‪ ،‬اليونانيني والفر�س‬ ‫الأخمينيني‪ ،‬ثم الرومان والبارثيني‪ ،‬والبيزنطيني وال�سا�سانيني‪ ،‬فاملغول واملماليك‪� ،‬إلخ‪ .‬ولقد‬ ‫كان العامل الأ�سا�سي يف ذلك هو يف كون بالد ال�شام قد �شكلت عقدة املوا�صالت الدولية‬ ‫بني ال�شرق والغرب منذ فجر التاريخ‪ .‬لذلك ف�إن كل عملية انتقال يف طبيعة النظام الدويل‬ ‫كانت تنعك�س حالة عدم ا�ستقرار يف بالد ال�شام‪ ،‬فيما كان الو�ضع ي�ستقر فيها عند ا�ستقرار‬ ‫النظام الدويل‪ 1.‬لذلك فلقد ِّقدر للأزمة التي اندلعت يف �سورية يف بداية العام ‪� ،2011‬أن‬ ‫ت�أخذ �أبعاداً مت�شعبة و�أ�ضحت �سورية حمور �صراع بني قوى �إقليمية ودولية والبوتقة التي‬ ‫ت�شهد خما�ض االنتقال من نظام �أحادي القطبية ت�سيطر عليه الواليات املتحدة �إىل نظام‬ ‫متعدد الأقطاب‪.‬‬ ‫�أزمة النظام الدويل الر�أ�سمايل‬

‫قبل نحو قرن من الزمن كتب فالدميري �إيليت�ش �أوليانوف (لينني) كتابه ال�شهري «الإمربيالية‬ ‫�آخر مراحل الر�أ�سمالية‪ ،‬وفيه حلل العوامل التي �أدت �إىل ظهور الإمرباطوريات والتي �أدت‬ ‫الحقاً �إىل اندالع احلرب العاملية الأوىل‪ .‬بالن�سبة للينني ف�إن احلرب العاملية الأوىل كانت حرباً‬ ‫‪ -1‬راجع كتاب جمال واكيم‪� ،‬صراع القوى الكربى على �سوريا‪( ،‬بريوت‪ :‬املطبوعات للتوزيع والن�شر‪.)2011 ،‬‬ ‫‪65‬‬


‫امربيالية‪ ،‬تو�سعية‪ ،‬عدوانية هدفها نهب خريات ال�شعوب‪ ،‬بني الأطراف املتنازعة‪ .‬وبالن�سبة‬ ‫له فقد كانت هذه احلرب تهدف �إىل اقت�سام العامل و�إعادة توزيع امل�ستعمرات ومناطق نفوذ‬ ‫الر�أ�سماليات املالية‪ 1.‬لقد كانت هذه احلرب ناجتة عن م�سار طويل ميز الن�صف الثاين من‬ ‫القرن التا�سع ع�شر والذي �شهد منواً كبرياً يف الإنتاج ال�صناعي يف �أوروبا الغربية رافقه تركيز‬ ‫‪2‬‬ ‫لعملية الإنتاج يف �شركات كربى والتي �أ�صبحت من �أكرث ميزات الر�أ�سمالية لفتاً لالنتباه‪.‬‬ ‫وقد انتقلت الر�أ�سمالية يف تلك احلقبة من مرحلة التناف�س احلر �إىل مرحلة ظهور الر�أ�سمالية‬ ‫االحتكارية‪ 3.‬وي�ضيف لينني قائ ًال‪:‬‬ ‫«�إن املراحل الرئي�سية يف تاريخ االحتكارات هي كما يلي‪ ،1870 – 1860 )1( :‬وهي مرحلة‬ ‫الذروة يف منو حالة التناف�س احل ّر فيما ال يلم�س �أثر حلاالت االحتكار التي كانت ال تزال‬ ‫يف مرحلة التكوين الأوىل‪ )2( .‬بعد �أزمة العام ‪ ،1873‬بد�أت مرحلة منو الكارتيالت التي‬ ‫كانت ال تزال هي الإ�ستثناء حلالة التناف�س احل ّر‪ ،‬وبالتايل فقد كانت هذه مرحلة انتقالية‬ ‫من طور التناف�س احلر �إىل الطور االحتكاري‪ )3( .‬وخالل فرتة النمو الكبرية يف نهاية القرن‬ ‫التا�سع ع�شر ثم خالل فرتة الأزمة بني عامي ‪ 1900‬و ‪ 1903‬ف�إن االحتكارات �أ�ضحت امليزة‬ ‫‪4‬‬ ‫الأ�سا�سية للحياة االقت�صادية‪ ،‬وهنا حتولت الر�أ�سمالية �إىل حالة الإمربيالية»‪.‬‬ ‫وخالل هذه الفرتة تطور القطاع امل�صريف ومت تركيزه يف عدد قليل من امل�ؤ�س�سات‪ 5.‬تال ذلك‬ ‫دمج الر�أ�سمال املايل مع الر�أ�سمال ال�صناعي ما �أدى �إىل �صعود ظاهرة الأوليغار�شية‪ 6.‬بعد‬ ‫ذلك بد�أت عملية ت�صدير ر�أ�س املال‪� 7.‬إذن ف�إن‪:‬‬ ‫«ال�شركات الر�أ�سمالية االحتكارية‪ ،‬والكارتيالت‪ ،‬واالحتادات وال�شركات امل�ساهمة بد�أت‬ ‫�أو ًال بتق�سيم الأ�سواق املحلية يف البلدان الأوروبية يف ما بينها‪ ،‬وبالتايل ّمتكنت من ال�سيطرة‬ ‫على القطاعات االقت�صادية كافة يف بلدانها‪ .‬لكن يف ظل الر�أ�سمالية ف�إن ال�سوق املحلية‬ ‫ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالأ�سواق اخلارجية‪ .‬واجلدير ذكره �أن الر�أ�سمال كان قد �أقام �سوقاً عاملية‪.‬‬ ‫ومع تزايد وترية ت�صدير ر�أ�س املال‪ ،‬ومع تو�سع العالقات اخلارجية والعالقات بامل�ستعمرات‬ ‫‪1- Lenin, Imperialism The Highest Stage of Capitalism, (Sydeny: Resistance Books,‬‬ ‫‪1999), 25.‬‬ ‫‪ -2‬لينني‪.32 ،‬‬ ‫‪ -3‬لينني‪.37 ،‬‬ ‫‪ -4‬لينني‪.38 ،‬‬ ‫‪ -5‬لينني‪.43 ،‬‬ ‫‪-6‬لينني‪.58 ،‬‬

‫‪ -7‬لينني‪.68 ،‬‬ ‫‪66‬‬


‫فكــــــر‬

‫وتو�سع مناطق النفوذ لل�شركات االحتكارية الكربى يف خمتلف االجتاهات‪ ،‬ف�إن هذا �أدى �إىل‬ ‫‪1‬‬ ‫قيام اتفاق دويل بني هذه ال�شركات لت�شكيل كارتيالت دولية»‪.‬‬ ‫وقد كانت هذه �آخر مرحلة يف عملية اقت�سام العامل بني القوى الإمربيالية‪� 2.‬إذن فقد ظهرت‬ ‫الإمربيالية كا�ستمرار وتط ّور للر�أ�سمالية كمرحلتها الق�صوى والأخرية‪ ،‬حيث تنتقل الر�أ�سمالية‬ ‫من حالة التناف�س احلر �إىل احلالة االحتكارية‪ 3.‬وقد ّخل�ص لينني خ�صائ�ص الر�أ�سمالية كما‬ ‫يلي‪:‬‬ ‫تركيز الإنتاج ور�أ�س املال قد بلغ درجة عالية �أدت اىل ن�شوء احتكارات باتت تلعب دوراً‬ ‫مقرراً يف احلياة االقت�صادية‪.‬‬ ‫دمج ر�أ�س املال املايل مع ر�أ�س املال ال�صناعي وبناء عليه ت�شكيل الأوليغار�شات املالية‪.‬‬ ‫ت�صدير ر�أ�س املال ف�ض ًال عن ت�صدير ت�صدير ال�سلع بات يكت�سب �أهمية خا�صة‪.‬‬ ‫ت�شكيل احتكارات ر�أ�سمالية عاملية باتت تقت�سم العامل يف ما بينها‬ ‫االنتهاء من االقت�سام اجلغرايف للعامل بني القوى الر�أ�سمالية الكربى‪.‬‬ ‫وبالتايل ف�إن الإمربيالية هي الر�أ�سمالية يف مرحلة من التطور التي ت�شهد هيمنة االحتكارات‬ ‫والر�أ�سمال املايل على مقدرات العامل‪ ،‬والتي ت�شهد تزايد �أهمية ت�صدير ر�أ�س املال‪ ،‬و�أي�ضاً‬ ‫ت�شهد اقت�سام العامل بني ال�شركات االحتكارية الكربى‪ .‬كذلك فهي املرحلة التي ت�شهد‬ ‫‪4‬‬ ‫اكتمال عملية اقت�سام العامل بني القوى الر�أ�سمالية الكربى‪.‬‬ ‫لقد قام لينني بتحليل العوامل التي �أدت �إىل انهيار النظام الر�أ�سمايل الليربايل الذي هيمن‬ ‫على �أوروبا يف القرن التا�سع ع�شر والتي �أدت �إىل احلرب العاملية الثانية‪ ،‬ومن ثم �إىل الركود‬ ‫الذي �ضرب العامل يف الع�شرينيات من القرن الع�شرين‪ ،‬والتي كان من نتائجها اندالع‬ ‫احلرب العاملية الثانية‪ .‬وقد انتهت هذه احلرب يف العام ‪ 1945‬وقد كانت رغبة العامل الغربي‬ ‫يف �أال تتك ّرر هذه احلرب مرة �أخرى‪ ،‬كما �أن هذا الغرب الر�أ�سمايل مل ي�ش�أ يف �أن تنت�شر‬ ‫اال�شرتاكية يف العامل‪ .‬لذلك فوفقاً للم�ؤرخ الربيطاين �إريك هوب�سباوم‪:‬‬ ‫«كان هنالك �أربعة عوامل �أثرت على القادة و�صانعي القرار يف ذلك الوقت‪ .‬وكان العامل‬ ‫الأول هو الكارثة التي ميزت مرحلة ما بني احلربني العامليتني والتي يجب عدم ال�سماح‬ ‫‪ -1‬لينني‪.75 ،‬‬ ‫‪ -2‬لينني‪.82 ،‬‬ ‫‪ -3‬لينني‪.89 ،‬‬ ‫‪ -4‬لينني‪.90 ،‬‬ ‫‪67‬‬


‫بتكرارها‪ ،‬والتي كانت ناجتة عن انهيار النظام املايل والتجاري العامليني وما رافقها من حال‬ ‫ال�شرذمة التي ميزت العامل والتي �أدت �إىل ن�شوء امرباطوريات او اقت�صادات وطنية ذات‬ ‫طابع مطلق‪ .‬وقد ا�ستفاد النظام الدويل من الهيمنة الربيطانية‪� ،‬أو اقله من مركزية الدور‬ ‫الذي لعبته بريطانيا وعملتها‪ ،‬الباوند الإ�سرتليني‪ .‬وخالل فرتة ما بني احلربني العامليتني‪،‬‬ ‫ف�إن بريطانيا والباوند الإ�سرتليني مل يعودا قويني مبا فيه الكفاية للعب هذا الدور‪ ،‬والذي‬ ‫كان ميكن فقط للواليات املتحدة الأمريكية والدوالر الأمريكي �أن يلعباه ‪ .‬ثالثاً‪ ،‬ف�إن الأزمة‬ ‫االقت�صادية الكربى كانت تعود �أي�ضاً �إىل ف�شل ال�سوق احلرة التي كانت تعمل من دون‬ ‫�ضوابط‪ .‬لذلك فقد كان لزاماً على ال�سوق �أن ترتافق مع عمليتي التخطيط العام والإدارة‬ ‫االقت�صادية‪ .‬ويف النهاية‪ ،‬ف�إنه من �أجل ا�سباب اجتماعية و�سيا�سية‪ ،‬ف�إنه كان من املحظور‬ ‫‪1‬‬ ‫عودة ظهور حاالت البطالة اجلماعية»‪.‬‬ ‫هنا قامت احلكومات الغربية بالإ�صالحات االقت�صادية التي اقرتحها االقت�صادي الربيطاين‬ ‫ال�شهري جون ماينارد كينز‪ .‬وكان كينز قد ط ّور نظرية اقت�صادية مرتبطة بالإنفاق العام �أطلق‬ ‫عليها ا�سم «الطلب املجموعي» واملت�أثرة مبزيج من مبادرات القطاع العام واخلا�ص‪ ،‬حيث تقوم‬ ‫احلكومة باتخاذ القرارات املالية والنقدية‪ ،‬وتتوىل الإنفاق العام على امل�شاريع العامة الكربى‪.‬‬ ‫�أما املعيار الآخر الذي مت اعتماده فكان تو�سيع العمل بقوانني منع االحتكار مبا مينع ظهور‬ ‫‪2‬‬ ‫االحتكارات‪.‬‬ ‫لكن مع حلول ال�سبعينيات من القرن املا�ضي ف�إن العامل الغربي انقلب على �إ�صالحات‬ ‫جون ميانارد كينز وعاد �إىل الليربالية الكال�سيكية مع ان�سحاب الدولة من لعب دور فاعل‬ ‫يف االقت�صاد‪ .‬لقد كان هذا هو ع�صر النيوليربالية ورمزها الأبرز ميلتون فريدمان‪ .‬وقد ترافقت‬ ‫هذه املرحلة مع ركود عاملي م ّيز مرحلة الثمانينات من القرن املا�ضي مع نزوع نحو تركيز ر�أ�س‬ ‫املال يف الواليات املتحدة التي طمحت لأن ت�صبح امرباطورية عاملية‪ .‬ومن �أجل جتاوز حالة‬ ‫الركود هذه جل�أت الواليات املتحدة �إىل �سيا�سة النهب‪ .‬وحتى ذلك الوقت كانت كتلة‬ ‫الدول اال�شرتاكية هي الوحيدة التي بقيت خارج نطاق الهيمنة الر�أ�سمالية‪ .‬لهذا ف�إن الرئي�س‬ ‫الأمريكي رونالد ريغني (حكم ‪� )1989 – 1981‬صعد �سباق الت�سلح مع االحتاد ال�سوفياتي‬ ‫ما �ساهم يف �إنهاك اقت�صاده وبالتايل �إىل انهياره يف العام ‪ .1991‬وقد تع ّر�ضت رو�سيا والدول‬ ‫اال�شرتاكية ال�سابقة لعملية نهب منظمة خالل الت�سعينيات من القرن املا�ضي ما �ساهم يف‬ ‫�صعود جنم الرئي�س فالدميري بوتني يف العام ‪ 1999‬كرد فعل على هذا النهب املنظم‪ .‬وقد‬ ‫�ساهم هذا النهب املنظم يف �إنعا�ش م�ؤقت لالقت�صاد الأمريكي الذي �شهد منواً يف تلك الفرتة‪.‬‬ ‫‪1- Eric Hobbsbawm, The Age of Extremes the Short Twentieth Century 1914 – 1991,‬‬ ‫‪(London: Abacus, 1991), 271 – 272‬‬ ‫‪2- John Maynard Keynes, The General Theory of Employment Interest and Money.‬‬ ‫‪68‬‬


‫فكــــــر‬

‫لكن الأوليغار�شيني الأمريكيني‪ ،‬والذين كانوا ال يزالون يعتمدون ال�سيا�سات النيوليربالية‪،‬‬ ‫كانوا قلقني من احتمال �صعود مناف�سني لهم على ال�صعيد العاملي ومن احتمال تفجر ازمة‬ ‫اقت�صادية يف الواليات املتحدة والعامل الغربي نتيجة �صعود االحتكارات وما ميكن �أن يولده‬ ‫من ركود‪ .‬لذلك ف�إن احلل بالن�سبة للواليات املتحدة كان يف �أن ت�سيطر على التجارة الدولية‪،‬‬ ‫و�إحدى �سبل هذه ال�سيطرة هي يف احتكار الهيمنة على طرق التجارة الدولية‪ ،‬خ�صو�صاً‬ ‫طرق املالحة البحرية والتي مير عربها ‪ 80‬باملئة من التجارة الدولية‪ .‬هذا يف�سر الهجمة على‬ ‫�أفغان�ستان والعراق يف عامي ‪ 2002‬و‪ 2003‬وذلك لل�سيطرة على ال�شرق الأو�سط وهو عقدة‬ ‫املوا�صالت العاملية منذ فجر التاريخ‪ .‬لكن هاتني املغامرتني كانتا مكلفتني وقد �أثرتا �سلباً على‬ ‫الأمرباطورية االمريكية التي انطبق عليها منوذج التمدد الع�سكري الزائد الذي حتدث عنه‬ ‫‪1‬‬ ‫امل�ؤرخ الربيطاين بول كينيدي والذي من �ش�أنه �أن ي�ؤدي �إىل انهيار الإمرباطورية‪.‬‬ ‫لقد �شكل تفجر الأزمة االقت�صادية يف الواليات املتحدة يف العام ‪ ، 2008‬والذي انتقل‬ ‫بعدها �إىل عدد من الدول الغربية‪ ،‬النقطة التي �أعلنت عن �أزمة النظام الر�أ�سمايل نتيجة‬ ‫حالة اال�ستقطاب يف االقت�صاد العاملية وتركّ زه يف يد عدد قليل من الأثرياء يف العامل‬ ‫وتركز احلياة االقت�صادية والرثوة يف عدد قليل من هذه الدول‪ .‬ووفقا ملجلة «فورت�شون» ف�إن‬ ‫الناجت هنالك ‪� 500‬شركة عابرة للقومية ت�شكل عائداتها ال�سنوية نحو ‪ 32‬تريليون دوالر‬ ‫�أمريكي �أي ما ي�ساوي ‪ 45‬باملئة من الناجت الإجمايل العاملي وفقاً لأرقام العام ‪.2014‬‬ ‫‪2‬‬ ‫ومتلك هذه ال�شركات فروعاً يف ‪ 36‬بلداً حول العامل فيما توظف نحو ‪ 65‬مليون �شخ�ص‪.‬‬ ‫�أما بالن�سبة لالئحة الأ�شخا�ص الأكرث ثراء يف العامل فقد �سجلت جملة فوربز �أن �أول مئة‬ ‫ملياردير يف العامل ينتجون ما جمموعه نحو �سبعة تريليونات دوالر �أي ما ي�ساوي ع�شرة‬ ‫باملئة من جمموع الناجت العاملي لعام ‪ .2014‬ووفقاً لالئحة الأ�شخا�ص الأكرث ثراء يف العامل‬ ‫ف�إن �سبعة من �أثرى ع�شرة رجال يف العامل هم �أمريكيون بينهم بيل غيت�س رئي�س جمل�س‬ ‫�إدارة �شركة مايكرو�سوفت مع ثروة تقدر بـ ‪ 79.2‬بليون دوالر‪ ،‬ووارين بافيت مالك �شركة‬ ‫بريك�شاير هيثاواي مع ‪ 72.2‬بليون دوالر والري الي�سون من �شركة �أوراكل وثروة تقدر‬ ‫ب‪ 54.3‬بليون دوالر‪ ،‬باال�ضافة �أىل �شارل ودايفيد كوخ من �شركة كوخ لل�صناعة وجيم‬ ‫وكري�ستي والتون مالكي �شركة واملارت‪ .‬فيما �سجلت الالئحة تب ّوء املك�سيكي كارلو�س‬ ‫�سليم املركز الثاين مع ثروة تقدر بـ ‪ 77‬بليون دوالر‪ ،‬وتب ّوء الإ�سباين امن�سيو �أورتيغا مالك‬ ‫�شركة �إنديتك�س للمركز الرابع مع ثروة تقدر بـ ‪ 64.5‬بليون دوالر‪ ،‬وتب ّوء الفرن�سية ليليان‬ ‫‪ -1‬راجع كتاب ‪Paul Kennedy, the Rise and Fall of the Great Powers: Economic Change‬‬ ‫‪.)and Military Conflict from 1500 to 2000. (London: Unwin Hyman, 1989‬‬ ‫‪2- FORTUNE.COM‬‬ ‫‪AT http://fortune.com/global500/ RETRIEVED ON 30, 10, 2015.‬‬ ‫‪69‬‬


‫بيتانكور مالكة �شركة لوريال للمركز العا�شر مع ثروة تقدر بـ ‪ 40‬بليون دوالر‪.‬‬ ‫كذلك فلقد �شكل العام ‪ 2008‬النقطة التي و�صلت فيها الواليات املتحدة اىل مداها‬ ‫الأق�صى من حيث التمدد الع�سكري‪ .‬لذلك �أعلن الرئي�س �أوباما (حكم ‪)2017 – 2009‬‬ ‫عزمه �أال يدخل الواليات املتحدة يف �أي نزاع ع�سكري م�ستقبلي‪ .‬هذا كان يعني �أي�ضاً �أن‬ ‫على الواليات املتحدة �أن تتخ ّلى عن حلمها القدمي يف �أن تكون الإمرباطورية التي ت�سيطر‬ ‫على العامل‪ ،‬والإمرباطورية التي ت�شكل نهاية التاريخ‪ .‬لقد بد�أ النظام احلادي القطبية الذي‬ ‫فر�ضته الواليات املتحدة يف العام ‪ 1991‬بالتداعي بعد العام ‪ 2008‬مع ظهور قوى كربى‬ ‫تتحدى الهيمنة الأمريكية مثل رو�سيا وال�صني‪ .‬ويبدو �أن هذه التعددية القطبية من �ش�أنها‬ ‫ّ‬ ‫�أن تخدم م�صالح الر�أ�سمالية العاملية‪ .‬ف�إذا كان االحتكار ونظام معومل ّ‬ ‫مرتكز يف الواليات‬ ‫متعدد الأقطاب �أن يخفف من‬ ‫املتحدة قد بات مكلفاً للر�أ�سمال العاملي‪ ،‬ف�إن من �ش�أن نظام ّ‬ ‫�أكالف خدمة و�إدارة هذا النظام االقت�صادي املعومل‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫ظاهرة العوملة عرب التاريخ‬

‫من اجلدير ذكره �أنه �إذا جتاوزنا منط التفكري اليورو�سنرتي ف�إننا �سنجد �أن ظاهرة العوملة مل تكن‬ ‫ظاهرة حديثة برزت يف نهاية القرن الع�شرين‪ .‬فلقد كان هنالك مراحل تاريخية �سابقة متكنت‬ ‫فيها قوة واحدة من فر�ض هيمنتها على طرق التجارة الدولية واالقت�صاد العاملي‪ .‬ولقد كانت‬ ‫الإمرباطورية الآ�شورية ما بني القرنني العا�شر وال�سابع قبل امليالد �أوىل هذه الظواهر‪ ،‬تلتها‬ ‫عوملة الفار�سية ما بني القرنني ال�ساد�س والرابع قبل امليالد‪ .‬وقد فر�ض العرب نظاماً معوملاً ما‬ ‫بني القرنني ال�سابع والعا�شر كانت عا�صمته دم�شق تلته بغداد‪ .‬لكن يف جميع هذه احلاالت‬ ‫ف�إن هذه الأنظمة املعوملة رافقتها �أزمات دورية كربى �أدت يف املح�صلة �إىل ك�سر مركزية النظام‬ ‫والتحول �إىل ال مركزية النظام املعومل‪ .‬ففي حالة الآ�شوريني ف�إن القرن ال�سابع قبل امليالد‬ ‫�شهد مت ّرد معظم ال�شعوب التي وقعت حتت الهيمنة الآ�شورية �ضد هذه الهيمنة‪ ،‬ما �أدى يف‬ ‫النهاية �إىل �سقوط النظام الأ�شوري‪� .‬أما النظام الفار�سي فقد تع ّر�ض لهزات عدة كانت �آخرها‬ ‫الهزائم التي تعر�ضت لها على يد الإ�سكندر املقدوين يف �أواخر القرن الرابع قبل امليالد‪.‬‬ ‫يف الواقع ف�إن غزو الإ�سكندر للأمرباطورية الفار�سية �شكل نقطة التحول يف النظام الدويل‬ ‫متعدد الأقطاب‪ .‬فعقب‬ ‫�آنذاك‪ ،‬من نظام معومل متمحور حول الأمرباطورية الفار�سية �إىل نظام ّ‬ ‫وفاة الإ�سكندر مت تق�سيم مملكته بني قادته الع�سكريني‪ ،‬فظهرت دول ال�سلوقيني والبطال�سة‪،‬‬ ‫وبعد عقود قليلة ظهرت مملكتا البارثيني والكا�شيني على �أجزاء من و�سط �آ�سيا و�إيران‬ ‫‪1- Elizabeth Barber (March 4, 2014). "Forbes’ richest people: number of billionaires‬‬ ‫‪up significantly". Christian Science Monitor.‬‬ ‫‪70‬‬


‫فكــــــر‬

‫وافغان�ستان‪ .‬الأمر نف�سه ينطبق على العرب الذين �شهدوا تراجع دور بغداد خالل القرن‬ ‫العا�شر و�صعود جنم البويهيني وال�سامانيني يف �شمال ايران والعراق والغزنيني يف جنوب ايران‬ ‫وافغان�ستان والطولونيني والإخ�شيديني يف م�صر والأغالبة ثم الفاطميني يف تون�س والأمويني‬ ‫يف الأندل�س‪.‬‬ ‫على ما يبدو ف�إن قانون منع االحتكار الذي اعتمد ب�شكل قوي بعد احلرب العاملية الأوىل‬ ‫والثانية‪ ،‬كان قد طبق �سابقاً من قبل االمرباطوريات ب�شكل فطري قبل جون ماينارد كينز‬ ‫ب�آالف ال�سنني‪ .‬ف�إذا كانت الر�أ�سمالية ت�ؤدي �إىل قيام احتكارات تتخذ من الإمرباطوريات‬ ‫�شك ًال �سيا�سياً لها‪ ،‬ف�إن نظاماً متعدد الأقطاب كان العالج ال�سيا�سي لالحتكار لتفادي‬ ‫الأزمات العاملية‪ .‬هذا يف�سر ملاذا‪ ،‬وبعد هزمية نابوليون يف واترلو يف العام ‪ ،1815‬قام ميرتنيخ يف‬ ‫م�ؤمتر فيينا بفر�ض نظام متعدد الأقطاب يف �أوروبا‪ .‬لقد كانت هنالك دوائر عدة يف الواليات‬ ‫املتحدة تعي هذا الأمر منذ ال�سبعينيات من القرن املا�ضي‪ .‬وهي كانت تتوقع بروز قوى‬ ‫تتحدى الهيمنة الأمريكية على مقدرات العامل‪ .‬ويبدو �أن تركيز هذه‬ ‫عدة ميكن لها �أن ّ‬ ‫ان�صب على �إمكانية بروز قوى يف الرب الأورا�سي‪ .‬وبالعودة �إىل التاريخ ف�إن القوى‬ ‫الدوائر ّ‬ ‫الربية كانت لها اليد الطوىل يف ما يتعلق مبوازين القوى مع القوى البحرية نتيجة لغناها‬ ‫باملوارد الطبيعية ونتيجة كرب �أ�سواقها املحلية‪ .‬لكن القوى البحرية كانت �أكرث كفاءة وفاعلية‬ ‫يف الو�صول �إىل الأ�سواق العاملية نتيجة �سيطرتها على طرق املالحة البحرية‪ .‬لقد كان هذا ما‬ ‫قاله كبار املفكرين اال�سرتاتيجيني مبن فيهم الأدمريال الأمريكي ال�شهري �ألفريد ثايري مايهان‬ ‫الذي خدم يف البحرية الأمريكية يف نهاية القرن التا�سع ع�شر‪ .‬و�إذا كان العامل ي ّتجه �إىل �أن‬ ‫يكون متعدد الأقطاب‪ ،‬ف�إن على الواليات املتحدة �أن ت�ستح�صل على عنا�صر جتعلها �أكرث‬ ‫�أهلية وقوة من القوى الكربى‪� .‬أما العن�صر الأهم الذي ميكن له �أن يعطي الواليات املتحدة‬ ‫اليد الطوىل على القوى الأخرى‪ ،‬فهو احتكارها لل�سيطرة على طرق املالحة البحرية‪ .‬وهذا‬ ‫ميكن له �أن يتحقق عرب منع اورا�سيا من االحتاد حتت مظلة دولة واحدة �أو ائتالف دويل‬ ‫واحد‪ .‬كذلك ف�إن على الواليات املتحدة �أن تبقي على قواعد لها يف �أورا�سيا‪ .‬وبالتايل ف�إن‬ ‫على اوروبا الغربية �أن تبقى حتت الهيمنة الأمريكية لأنها ت�شكل ج�سر عبور �إىل �أورا�سيا‪ ،‬كما‬ ‫�أن على رو�سيا وال�صني اللتني حتتالن قلب �أورا�سيا �أن ال ت�صال �إىل منافذ مفتوحة على طرق‬ ‫املالحة والتجارة البحرية‪.‬‬ ‫�سورية حافظ الأ�سد‬

‫ن�ش�أت اجلمهورية العربية ال�سورية بحدودها احلالية بعد انهيار الدولة العثمانية عقب نهاية‬ ‫احلرب العاملية الأوىل‪ .‬وبعد ثالثة عقود من االنتداب الفرن�سي نالت البالد ا�ستقاللها‪،‬‬ ‫وعا�شت يف ظل حكومات برملانية �ضعيفة خالل الأربعينيات واخلم�سينيات نتيجة ال�صراع‬ ‫‪71‬‬


‫الإقليمي والدويل عليها‪ ،‬خ�صو�صاً بني م�صر من ناحية والعراق الها�شمي من ناحية �أخرى‪.‬‬ ‫وبني عامي ‪ 1958‬و‪ 1961‬دخلت �سورية يف وحدة مع م�صر انتهت بانقالب ع�سكري تلته‬ ‫�سل�سلة انقالبات حتى و�صول الرئي�س حافظ الأ�سد �إىل ال�سلطة يف انقالب قام به يف ت�شرين‬ ‫الثاين ‪ .1970‬وقد حكم الأ�سد �سورية حتى وفاته يف العام ‪ ،2000‬ويف�سر الكثريون طول‬ ‫مدة حكمه باملقارنة مع من �سبقوه �إىل قدرته على ال�سيطرة على العا�صمة دم�شق عرب ن�سجه‬ ‫لتحالف مع النخبة التجارية الدم�شقية‪ ،‬عرب �ضمانه م�صاحلهم االقت�صادية‪ ،‬ولقدرته على‬ ‫‪1‬‬ ‫موازنة التناق�ضات الداخلية بالإ�ضافة �إىل التناق�ضات الإقليمية والدولية ب�شكل فعال‪.‬‬ ‫فعلى �سبيل املثال‪ ،‬حني واجه الأ�سد ت�صاعد معار�ضة الأخوان امل�سلمني حلكمه بني عامي‬ ‫‪ 1975‬و‪ ،1982‬و�صو ًال �إىل مترد حماه‪ ،‬ف�إن دم�شق مل ت�شارك يف هذا التم ّرد‪ ،‬لأن الأ�سد كان‬ ‫قد عزز م�صالح البورجوازية ال�شامية عرب رفعه حل�صتها من اال�سترياد من بليون لرية �سورية يف‬ ‫العام ‪� 1975‬إىل ‪ 4.17‬بليون لرية �سورية يف العام ‪ ،1980‬ما �ساهم يف حتييد دم�شق و�أقنعها‬ ‫بعدم االن�ضمام للتمرد‪ 2 .‬وخالل فرتة حكم الأ�سد حت ّولت �سورية �إىل قوة �إقليمية كبرية لأول‬ ‫مرة يف تاريخها املعا�صر‪ 3.‬وعلى ال�صعيد الإقليمي‪ ،‬جنح الأ�سد يف تطبيع عالقاته مع اململكة‬ ‫العربية ال�سعودية وم�صر‪ ،‬بعد توتر �ساد هذه العالقات خالل فرتة ال�ستينيات‪ .‬وقد �شكل‬ ‫التقارب مع م�صر واململكة العربية ال�سعودية مقدمة ل�شنه حرب العام ‪ 1973‬باال�شرتاك مع‬ ‫م�صر بغية حترير الأرا�ضي التي احتلتها ا�سرائيل يف العام ‪� .1967‬إ�ضافة �إىل ذلك فقد �سعى‬ ‫الأ�سد حل�صر ا�سرائيل داخل حدود الـ ‪ 1967‬لأنه كان مقتنعاً ب�أن �أي مك�سب اقليمي‬ ‫‪4‬‬ ‫ال�سرائيل ال بد ان ي�أتي حكماً على ح�ساب �سورية‪.‬‬ ‫اعتقد الأ�سد �أن حرب �أكتوبر ‪� 1973‬ست�سهم يف تعزيز الدور الإقليمي ل�سورية وت�ساعدها على‬ ‫حترير اجلوالن املحتل وحل ال�صراع العربي الإ�سرائيلي‪ .‬لكن امل�سار الذي اتخذته الأحداث‬ ‫‪5‬‬ ‫نتيجة تف ّرد الرئي�س امل�صري �أنور ال�سادات باملفاو�ضات مع ا�سرائيل خيب �آمال �سورية‪.‬‬ ‫ويف العام ‪ 1979‬وقعت م�صر اتفاق �سالم منفرد مع ا�سرائيل وخرجت من ال�صراع معها ما‬ ‫�أ�ضعف املوقف ال�سوري‪ 6.‬ويف العام ‪ 1975‬اندلعت احلرب الأهلية يف لبنان وما لبثت �سورية‬ ‫‪1- Hanna Batatu, Syria’s Peasantry, the Descendants of Its Lesser Rural Notables, and Their‬‬ ‫‪Politics, (New Jersey: Princeton University Press, 1999).‬‬

‫‪ -2‬امل�صدر نف�سه‪.208 ،‬‬

‫‪3- Volker Perthes, The Political Economy of Syria Under Assad, (London: Ib. Tauris, 1995), 4.‬‬ ‫‪4- Raymond Hinnebusch, "Does Syria want Peace? Syrian Policy in the Syrian Israeli Peace‬‬ ‫‪Negotiations," Journal of Palestine Studies, no. 101, (Autumn 1996).‬‬ ‫‪5- Patrick Seale, Al Assad, Al Siraa Ala Al Sharq Al Awsat (Al Muassassa Al Arabiya Lil‬‬ ‫‪Dirassat Wal Nashr, 1987), 319.‬‬ ‫‪6- Jaafar Qassem Mohammad, Souriya Wa Al Ittihad Al Sovieti, Dirasa fi Al Ilaqat Al Arabiya‬‬ ‫‪Al Sovietya, (London: Dar Najib Al Rayyes, 1987), 50.‬‬ ‫‪72‬‬


‫فكــــــر‬

‫�أن تدخلت يف هذه احلرب با�سطة �سيطرتها جزئياً على لبنان وحماولة ب�سط �سيطرتها على‬ ‫منظمة التحرير التي كانت تتخذ من بريوت مقراً لها‪ .‬وقد �شكل االجتياح الإ�سرائيلي للبنان‬ ‫يف العام ‪� 1982‬أكرب حتد واجهه الأ�سد يف تلك الفرتة‪ .‬وقد �ساهم الإ�سرائيليون يف انتخاب‬ ‫قائد القوات اللبنانية ب�شري اجلميل املعادي ل�سورية رئي�ساً للجمهورية‪ .‬لكن اجلميل اغتيل‬ ‫بعد ثالثة ا�سابيع من انتخابه ما �شكل بداية حتول الأو�ضاع مل�صلحة �سورية وهو ما مت يف العام‬ ‫‪ 1984‬مع �إلغاء لبنان التفاق ال�سالم مع ا�سرائيل واختيار حليف �سورية ر�شيد كرامي رئي�ساً‬ ‫للحكومة التي �ضمت يف ت�شكيلتها حلفاء ل�سورية‪.‬‬ ‫يف العام ‪ ،1985‬جرى حتول جذري يف العامل متثل يف و�صول ميخائيل غوربات�شوف �إىل ال�سلطة‬ ‫يف االحتاد ال�سوفياتي رافقه تراجع نفوذ مو�سكو‪ ،‬و�صو ًال اىل انهيار كتلة الدول اال�سرتاكية‬ ‫يف العام ‪ 1989‬ثم انهيار االحتاد ال�سوفياتي نف�سه يف العام ‪ 1991‬ونهاية احلرب الباردة‪ .‬وقد‬ ‫ا�ستفادت الواليات املتحدة من ذلك لتتفرد بزعامة العامل وحتاول ب�سط �سيطرتها املطلقة على‬ ‫منطقة ال�شرق الأو�سط الغنية بالنفط‪ 1.‬وقد �أرادت الواليات املتحدة فر�ض �سيطرتها على‬ ‫‪2‬‬ ‫ال�شرق الأو�سط‪ ،‬لأنه عقدة املوا�صالت العاملية ومفتاح الهيمنة على العامل‪.‬‬ ‫لقد كان الأ�سد مقتنعاً بان الواليات املتحدة �ستتفرد بزعامة العامل لعقد من الزمن على‬ ‫�أقل تقدير‪ 3.‬لذلك فقد �سعى لتح�سني العالقات معها‪ .‬وهو ا�ستفاد من حرب اخلليج‬ ‫الثانية حني قام العراق باجتياح الكويت ما دفع بالواليات املتحدة لت�شكيل ائتالف‬ ‫دويل �ضده‪ 4.‬وقد �أمل الأ�سد يف �أن ي�ؤدي ان�ضمامه لالئتالف �إىل جعله �شريكاً للواليات‬ ‫املتحدة يف ال�شرق الأو�سط و�إزالة ا�سم �سورية عن الئحة الدول الداعمة للإرهاب وفتح‬ ‫جمال اال�ستثمار ونقل التكنولوجيا �إىل �سورية‪ .‬وقد تلقت �سورية م�ساعدات خليجية‬ ‫بقيمة بليوين دوالر واقامت عالقات طيبة مع م�صر‪ .‬ا�ضافة �إىل ذلك فهي �أخذت ال�ضوء‬ ‫الأخ�ضر للإطاحة باجلرنال اللبناين املتمرد مي�شال عون وفر�ض و�ضع مالئم لها يف لبنان‬ ‫متثل باتفاق الطائف‪ 5.‬وقد �شاركت �سورية يف م�ؤمتر ال�سالم الذي افتتح يف مدريد يف �أواخر‬ ‫العام ‪ 1991‬والذي نتج عنه اتفاق �أو�سلو بني ا�سرائيل ومنظمة التحرير الفل�سطينية يف‬ ‫‪1- Samir Amin, "Ba’da Harb Al Khaleej, Al Haymana Al Amirkiya Ila Ayn?", Al‬‬ ‫‪Mustaqbal Al Arabi, No. 170, April 1993, 15‬‬ ‫‪2- Zbignew Brezhinski, Ruq’at Al Shataranj Al Kubra, tr. Amal Al Charfi, (Amman:‬‬ ‫‪Al Ahliya Lil Nashr, 1st ed., 1991), 12.‬‬ ‫‪3- Graham E.Fuller, "Moscow and the Gulf war", Foreign Affairs, vol. 70, Spring 1991,‬‬ ‫‪65.‬‬ ‫‪4- Karawan, Ibrahim A., "Arab Dilemas in the 1990’s: Breaking taboos and searching‬‬ ‫‪for signposts", Middle East Journal, vol.48, no.3 Summer 1994, 434.‬‬ ‫‪5- Atherton Alfred Leroy, "The Shifting Sands of the Middle East Peace", Foreign‬‬ ‫‪Policy, no.83, Spring 1992, 129.‬‬ ‫‪73‬‬


‫العام ‪ 1993‬وبني ا�سرائيل والأردن يف العام ‪.1994‬‬ ‫فجر الألفية اجلديدة‬

‫مع حلول الألفية اجلديدة‪ ،‬كان على الأمريكيني اتخاذ �سل�سلة من القرارات امل�صريية‬ ‫بالن�سبة لهم‪ ،‬والتي من �ش�أنها ح�سم زعامة العامل مل�صلحتهم‪ .‬وقد �شكلت احلرب على‬ ‫�أفغان�ستان �أواخر العام ‪ 2001‬وبداية العام ‪ 2002‬فر�صة بالن�سبة للواليات املتحدة لتحديد‬ ‫املدى الأق�صى لهذا ال�شرق الأو�سط الذي تريد الواليات املتحدة ال�سيطرة عليه‪� .‬إ�ضافة‬ ‫�إىل ذلك فقد �شكلت احلرب على العراق فر�صة بالن�سبة للواليات املتحدة لإعطاء عمق‬ ‫لهذا ال�شرق الو�سط الذي يجب �أن يكون موالياً لها‪� ،‬إ�ضافة ملنحها فر�صة لل�سيطرة على‬ ‫نفط املنطقة‪ .‬وقد كانت اخلطوة الأمريكية التالية هي يف الإطاحة يف نظامي احلكم يف كل‬ ‫من �سورية و�إيران حتى تتمكن من ال�سيطرة ب�شكل كامل على ال�شرق الأو�سط‪ .‬وقد كان‬ ‫الهدف من الثورتني امللونتني يف جورجيا يف العام ‪ 2003‬و�أوكرانيا يف العام ‪ 2004‬هو ت�أمني‬ ‫اجلناح الأي�سر لهذا ال�شرق الأو�سط‪ .‬وقد جتلت املحاوالت الأمريكية يف ا�ستهداف �سورية‬ ‫عرب �إ�صدار قرار جمل�س الأمن ‪ 1559‬والذي دعا �سورية لالن�سحاب من لبنان‪ .‬وقد لعب‬ ‫رئي�س احلكومة ال�سابق رفيق احلريري دوراً حمورياً يف �إ�صدار هذا القرار باال�ستناد �إىل حليفه‬ ‫‪1‬‬ ‫الرئي�س الفرن�سي جاك �شرياك‪.‬‬ ‫وكان �شرياك قد اختار �أال يواجه الواليات املتحدة بعد العام ‪ ،2004‬وذلك نتيجة العقاب‬ ‫الذي تع ّر�ض له على يد جورج بو�ش الإبن بعد معار�ضته للغزو الأمريكي للعراق‪ .‬وقد �أمل‬ ‫�شرياك يف �أن ي�ؤدي التقارب مع الواليات املتحدة �إىل اعرتاف �أمريكي بالنفوذ الفرن�سي يف‬ ‫لبنان و�سورية‪ 2.‬وكان �شرياك قد دعم و�صول ب�شار الأ�سد �إىل ال�سلطة يف �سورية يف العام‬ ‫‪� ،2000‬آمال يف �أن ي�سهم ذلك لإقناعه باالن�سحاب من لبنان وقطع عالقاته مع �إيران‪ .‬لكن‬ ‫‪3‬‬ ‫ذلك مل يح�صل ما �أ�صابه بخيبة �أمل‪.‬‬ ‫وقد ردت �سورية على القرار ‪ 1559‬بالتمديد للرئي�س �إميل حلود لثالث �سنوات �إ�ضافية‬ ‫وبالدفع ال�ستقالة رفيق احلريري الذي حل حمله الرئي�س عمر كرامي‪ .‬ويف ‪� 14‬شباط‪ ،‬مت‬ ‫اغتيال رفيق احلريري وقد �ألقى الغرب بالالئمة على �سورية‪.‬‬ ‫مل يكن الن�صر الأمريكي يف العراق و�أفغان�ستان حا�سماً‪ .‬فقد واجه اجلي�ش الأمريكي مقاومة‬ ‫‪1- Richard LaBeviere, Al Tahawoul Al Kabir (The Great Transformation), (Baghdad-Beirut:‬‬ ‫‪Dar Al Farabi, 2008), 92-93.‬‬ ‫‪2- Vincent Nouzille, Dans le Secret Des Presidents, (Paris: Fayard, 2010), 395-449.‬‬ ‫‪ -3‬امل�صدر نف�سه ‪.451 – 450‬‬ ‫‪74‬‬


‫فكــــــر‬

‫�شر�سة يف هذين البلدين‪ ،‬وقد دعمت �سورية و�إيران املقاومة العراقية ما جعل االحتالل‬ ‫الأمريكي مكلفا جداً‪ .‬كذلك فقد دعمت رو�سيا انقالبات م�ضادة يف �أوكرانيا ومار�ست‬ ‫�ضغوطاً على جورجيا لإحداث تغيري �سيا�سي مل�صلحتها‪ .‬وقد بات الأمريكيون واعني‬ ‫لق�صورهم مع و�صول الرئي�س باراك اوباما يف العام ‪ .2009‬لذلك فقد �سعوا لفر�ض حل‬ ‫�سيا�سي يف العراق ميكن �أن يخفف ال�ضغط عليهم ما يجعلهم يركزون جهودهم لت�شديد‬ ‫قب�ضتهم على �أفغان�ستان‪ .‬يف املقابل فقد ا�ستفاد العراقيون من تراجع القوة الأمريكية‬ ‫لي�ضغطوا باجتاه االن�سحاب الأمريكي الكامل من العراق يف العام ‪ .2011‬وقد ا�ستفادت‬ ‫�إيران من ذلك �أي�ضا لتو�سيع دائرة نفوذها يف املنطقة واحداث اخرتاقات باجتاه الو�صول �إىل‬ ‫البحر املتو�سط والبحر الأحمر عرب حتالفها مع �سورية ومع حزب اهلل اللبناين ومع حما�س يف‬ ‫غزة ومع احلوثيني يف اليمن‪ .‬يف املقابل �سعت الواليات املتحدة ملنح تركيا فر�صة للعب دور يف‬ ‫املنطقة العربية بغية احتواء التمدد الإيراين باجتاه �شرق املتو�سط والبحر الأحمر‪ .‬وقد جتاوبت‬ ‫حكومة العدالة والتنمية مع هذا امل�سعى الأمريكي‪ ،‬وكان لوزير اخلارجية �أحمد داود �أوغلو‬ ‫الذي �أ�صبح الحقاً رئي�ساً للوزراء دور كبري يف �صياغة ال�سيا�سة اخلارجية الرتكية‪ .‬وقد دعا‬ ‫يف كتابه العمق اال�سرتاتيجي �إىل �أن تلعب تركيا دوراً فاع ًال يف منطقة البلقان ومنطقة و�سط‬ ‫�آ�سيا بالإ�ضافة �إىل املنطقة العربية‪ 1.‬وقد �أعلن �أوغلو يف كتابه �أن الدفاع عن �شرق الأنا�ضول‬ ‫يقوم على خط ميتد من كركوك �إىل املو�صل مروراً بالرقة والقام�شلي يف �شمال �سورية‪ 2.‬وقد‬ ‫اعتربت حكومة العدالة والتنمية �أن �سورية هي املدخل �إىل املنطقة العربية وقد حاولت‬ ‫حت�سني العالقة مع دم�شق عرب �سعيها للتو�سط بني ال�سوريني والإ�سرائيليني من �أجل حتريك‬ ‫املجمدة بينهما‪.‬‬ ‫عملية ال�سالم ّ‬ ‫�شكل الربيع العربي الذي انطلق يف بداية العام ‪ 2011‬النقطة التي انفجر فيها احتقان‬ ‫املجتمعات العربية بعد عقود من القمع و�سوء احلكم‪ .‬وقد �سعت الواليات املتحدة وحلفا�ؤها‬ ‫�إىل احتواء هذا االنفجار ودعمت احلركات ال�سلفية حتى تهيمن على ال�ساحة‪ .‬ويف �سورية‬ ‫بد�أت هذه املجموعات برفع �شعارات تثري الفتنة الطائفية كما ح�صل مع �أحد امل�شايخ يف‬ ‫درعا الذي تو ّعد بذبح العلويني وامل�سيحيني والدروز‪ 3.‬واملعروف �أنه عرب التاريخ كانت درعا‬ ‫تتفاعل مع الع�شائر والقبائل يف اجلزيرة العربية‪ .‬كذلك فقد �ساهم ائتالف قوى ‪� 14‬آذار يف‬ ‫دعم ومتويل حركات االحتجاج واملعار�ضة امل�سلحة يف �سورية‪ .‬والدليل على ذلك هو �ضبط‬ ‫عمليات تهريب لل�سالح من لبنان �إىل �سورية كان �أبرزها باخرة حمملة بال�سالح �ضبطت يف‬ ‫‪1- Ahmet Davutoglu, Al Umq Al Istratiji. Tr. to Arabic by Mohammad Thalgi and Tarek‬‬ ‫)‪Abdeljalil, (Doha: El Dar Al Arabiyya lil ‘Oloom Nasheroon, 2010‬‬ ‫‪2- Ibid., 155-158.‬‬ ‫‪ -3‬ال�سفري‪ 21 ،‬حزيران ‪.2011‬‬ ‫‪75‬‬


‫ميناء طرابل�س �شمال لبنان‪ 1.‬وقد وجدت الواليات املتحدة يف االحتجاجات ال�سورية فر�صة‬ ‫للإطاحة بالرئي�س ب�شار الأ�سد وبنظام احلكم يف �سورية‪ .‬ويف بداية الأزمة دعا �أوباما الأ�سد‬ ‫�إىل القيام ب�إ�صالحات �أو التنحي حمذراً من �أن عدم التجاوب قد ي�ؤدي �إىل تدخل دويل‬ ‫‪2‬‬ ‫�ضد �سورية‪.‬‬ ‫كذلك فقد دعت احلكومة الرتكية الرئي�س الأ�سد �إىل القيام ب�إ�صالحات و�سارع وزير‬ ‫خارجيتها �أحمد داود �أوغلو �إىل دم�شق للقاء الأ�سد للتعبري عن ا�ستعداد بالده للم�ساعدة‬ ‫يف عملية الإ�صالح‪ 3.‬ويف وقت الحق اعلن رئي�س الوزراء رجب طيب �أردوغان �أن «اجلرائم‬ ‫التي ترتكب يف �سورية ال ُتغتفر»‪ ،‬داعياً الأ�سد �إىل التخلي عن �أخيه ماهر قائد الفرقة الرابعة‬ ‫يف احلر�س اجلمهوري‪ 4.‬وقد تناقلت و�سائل الإعالم نية تركيا اقامة منطقة عازلة يف �شمال‬ ‫�سورية‪ 5.‬بعد ذلك بد�أ التوتر يت�صاعد يف �شمال �سورية مع �أحداث ج�سر ال�شغور‪ ،‬حيث‬ ‫قتلت اجلماعات امل�سلحة ‪ 120‬من رجال الأمن‪.‬‬ ‫م� ّؤيدو ب�شار الأ�سد‬

‫يف مقابل ال�ضغوط الغربية التي واجهها الرئي�س ب�شار الأ�سد كان هنالك عدد من القوى‬ ‫التي �أعلنت ت�أييدها له‪ .‬وكانت �إيران �أول الداعمني للرئي�س الأ�سد‪ .‬وكانت �إيران بذلك‬ ‫ترد اجلميل ل�سورية التي دعمتها خالل احلرب العراقية الإيرانية بني عامي ‪ 1980‬و‪.1988‬‬ ‫وقد مت تر�سيخ العالقات الإيرانية ال�سورية �أيام الرئي�س حافظ الأ�سد والإمام اخلميني‪ .‬وقد‬ ‫�أتاحت هذه العالقة التي ترقى �إىل التحالف اليران �أن يكون لها نافذة على العامل العربي‬ ‫و�أن يكون لها بوابة على �شرق املتو�سط‪ .‬كذلك ف�إن عالقتها باملقاومة اللبنانية �أتاحت لها‬ ‫اطاللة على ال�صراع العربي الإ�سرائيلي‪ .‬وبالن�سبة لإيران ف�إن خ�سارة �سورية‪ ،‬يف الوقت الذي‬ ‫كان الغرب يفر�ض ح�صاراً عليها‪ ،‬كانت ت�شكل كارثة ا�سرتاتيجية بالن�سبة لها‪ ،‬لأنه �سيكون‬ ‫من املمكن بالن�سبة للواليات املتحدة �أن تخنق ايران وتزعزع نظام احلكم فيها مبا يخدم‬ ‫ا�سرتاتيجيتها العليا بح�صار رو�سيا وال�صني داخل الرب الأورا�سي ومنعمها من الو�صول �إىل‬ ‫منافذ على طرق املوا�صالت البحرية‪ .‬هذا يف�سر �إعالن وزارة اخلارجية االيرانية ب�أن االحداث‬ ‫‪ -1‬ال�سفري ‪ 23‬حزيران ‪.2011‬‬ ‫‪2- "Barack Obama’s speech on Middle East – full transcript", The Guardian, May 19, 2011‬‬ ‫‪at http://www.guardian.co.uk/world/2011/may/19/barack-obama-speech-middle-east‬‬ ‫)‪(accessed on July 25, 2012‬‬ ‫‪3- "Ankara envoy supports Damascus reforms," Now Lebanon, April 6, 2011, http://www.‬‬ ‫)‪nowlebanon.com/NewsArchiveDetails.aspx?ID=258511 (accessed on July 25, 2012‬‬ ‫‪ -4‬ال�سفري ‪ 11‬حزيران ‪.2011‬‬ ‫‪ -5‬ال�سفري ‪ 17‬حزيران ‪.2011‬‬ ‫‪76‬‬


‫فكــــــر‬

‫يف �سورية هي "جزء من م�ؤامرة غربية لزعزعة حكومة تدعم املقاومة �ضد ا�سرائيل"‪ 1.‬بعد‬ ‫ذلك اعربت طهران عن معار�ضتها لأي تدخل �أجنبي يف ال�ش�ؤون ال�سورية‪ 2.‬وقد اعرت�ضت‬ ‫‪3‬‬ ‫طهران على االتهامات الغربية لها بدعم اجهزة الأمن ال�سورية خالل قمعها للمظاهرات‪.‬‬ ‫كذلك اعلن الأمني العام حلزب اهلل ال�سيد ح�سن ن�صر اهلل الذي قال �صراحة �إن خ�سارة‬ ‫‪4‬‬ ‫الدعم ال�سوري ق�صم ظهر املقاومة‪.‬‬ ‫كانت رو�سيا الداعم الثاين للأ�سد‪ .‬فبالن�سبة ملو�سكو ف�إن الدعوات لتغيري النظام يف �سوريا‬ ‫�ستجعلها تخ�سر حليفاً مهماً لها يف ال�شرق الأو�سط‪ .‬وقد �شكلت عالقة مو�سكو بدم�شق‬ ‫الركن اال�سا�سي يف ال�سيا�سة الرو�سية يف ال�شرق الأو�سط منذ بداية اخلم�سينيات من القرن‬ ‫املا�ضي‪ .‬وبنتيجة العالقة الرو�سية ب�سورية �أ�صبح ملو�سكو قاعدة بحرية على �ضفاف املتو�سط‬ ‫وهو ما كانت الأمرباطورية الرو�سية تطمح له منذ القرن ال�سابع ع�شر‪ .‬وحتى قبل الأزمة‬ ‫ال�سورية كانت مو�سكو تتذ ّمر من تو�سع حلف �شمال الأطل�سي الناتو �شرقاً‪ ،‬وكانت اخلديعة‬ ‫التي تعر�ضت لها �أثناء الأزمة الليبية والإطاحة بالعقيد معمر القذايف يف ربيع العام ‪.2011‬‬ ‫لذلك فهي باتت مت�شددة يف دعمها للنظام يف �سورية ما جعلها تبلغ املعار�ضة ال�سورية رف�ضها‬ ‫الإطاحة بالنظام ودعوتها لها للبدء مبحادثات معه‪ .‬وقد �أعلن وزير اخلارجية الرو�سي �أمام‬ ‫جمل�س الأمن معار�ضته لإدانة النظام يف �سورية‪ 5.‬وقد تال ذلك ا�ستخدام الرو�س للفيتو‬ ‫ثالث مرات متتالية ملنع �صدور قرار يف جمل�س الأمن حتت البند ال�سابع �ضد �سورية‪ .‬فخ�سارة‬ ‫�سورية تعني بالن�سبة لرو�سيا �أن ال�شرق االو�سط واملتو�سط باتا مغلقني �أمام الرو�س ما يتيح‬ ‫للواليات املتحدة ا�ستخدام تركيا كقاعدة لالنطالق باجتاه القوقاز وو�سط �آ�سيا‪.‬‬ ‫�أما الداعم الثالث ل�سورية فهي ال�صني التي �شاركت مع الرو�س يف و�ضع فيتو على م�شاريع‬ ‫قرارات الأمم املتحدة �ضد دم�شق‪ .‬واجلدير ذكره �أن ال�صني تاريخيا نزعت لالنعزال وراء‬ ‫حدودها لأنها «مل تكن بحاجة الي �شيء من العامل»‪ .‬ومنذ القدم كان التجار العرب‬ ‫والفر�س هم الذين ذهبوا �إىل ال�صني للمتاجرة معها‪ .‬ومل يخرج ال�صينيون خارج حدودهم‬ ‫�إال مرتني‪ .‬وكانت املرة الأوىل حني كانت ال�صني قاعدة للحكم املغويل والذين رغبوا يف‬ ‫فتح طرق التجارة عرب الرب الأورا�سي والتي �أثمرت توحيد معظم الرب الأورا�سي يف ظل‬ ‫‪1- "Iranian Foreign Ministry spokesperson blames conspirators for Syria’s protests", Now‬‬ ‫‪Lebanon April 12, 2011‬‬ ‫)‪http://www.nowlebanon.com/NewsArchiveDetails.aspx?ID=260937. (accessed on July 25, 2012‬‬

‫‪ -2‬ال�سفري ‪ 10‬حزيران ‪.2011‬‬ ‫‪ -3‬ال�سفري ‪ 15‬حزيران ‪.2011‬‬ ‫‪ -4‬ال�سفري ‪ 26‬حزيران ‪.2011‬‬ ‫‪ -5‬ال�سفري ‪ 30‬ايار ‪.2011‬‬ ‫‪77‬‬


‫قوة واحدة لأول مرة يف التاريخ‪ .‬وكانت املرة الثانية خالل حكم �أ�سرة مينغ التي �أطاحت‬ ‫باحلكم املغويل‪ ،‬ولكن هذا كان فقط لفرتة وجيزة حني قرر الأمرباطور جودي (حكم ‪1402‬‬ ‫– ‪ )1424‬ار�سال ا�سطول يف العام ‪ 1421‬جال حول املحيط الهندي قبل عودته اىل ال�صني‪.‬‬ ‫وقد دامت رحلة الأ�سطول لعامني ويقول البع�ض �إن الأ�سطول جال حول العامل ومل يكتف‬ ‫باملحيط الهندي‪ .‬لكن بعد عودة الأ�سطول �أمر الأمرباطور بتدمريه «لأنه لي�س هنالك يف‬ ‫‪1‬‬ ‫العامل ما حتتاجه ال�صني»‪ .‬وعادت ال�صني اىل عزلتها التي دامت حتى القرن التا�سع ع�شر‪.‬‬ ‫هذه العزلة �أتاحت للقوى الأوروبية االلتفاف حول القارة الآ�سيوية ما مكنها يف النهاية‬ ‫يف التغلغل داخلها وحتويل معظمها م�ستعمرات يف حني وقعت ال�صني حتت هيمنة القوى‬ ‫الأوروبية والغربية‪ .‬لكن اليوم مل تعد ال�صني قادرة على االنعزال نتيجة حاجتها ال�سترياد‬ ‫املواد الأولية ونتيجة حاجتها للأ�سواق لت�صريف منتجاتها‪.‬‬ ‫لقد كان �سقوط الأ�سد يعني يف حال ح�صوله �أن �إيران �ست�صبح معزولة ونظامها معر�ضاً‬ ‫لل�سقوط‪ ،‬وبالتايل ف�إن ال�شرق الأو�سط �سي�صبح مغلقاً امام الرو�س وال�صينيني‪ .‬ومع وقوع‬ ‫اليابان وكوريا اجلنوبية وتايوان والفليبني واندوني�سيا وماليزيا وجنوب �شرق �آ�سيا حتت النفوذ‬ ‫الأمريكي ف�إن هذا يعني �أن ال�صني ورو�سيا ال ميكنهما اخلروج بحرية �إىل املحيط الهادئ‪ .‬ومع‬ ‫�سيطرة الواليات املتحدة على بوابة البلطيق �إىل املحيط الأطل�سي بحكم ان الدمنارك والرنوج‬ ‫ع�ضوان يف الناتو‪ ،‬ف�إن هذا يعني �أن رو�سيا وال�صني لن متتلكا منفذاً على طرق املالحة البحرية‬ ‫ما يعني �أنهما �ستكونان حتت رحمة الواليات املتحدة‪.‬‬ ‫بنى ب�شار الأ�سد على الإرث الذي تركه والده عرب ال�سيطرة على دم�شق وموازنة التناق�ضات‬ ‫داخل �سورية‪ ،‬وبني القوى الإقليمية والدولية‪ .‬وحتى حزيران من العام ‪ 2012‬ف�إن دم�شق‬ ‫مل تكن قد دخلت يف دائرة ا�ستهداف امل�سلحني با�ستثناء �أحداث قليلة‪ .‬كذلك فقد بقيت‬ ‫حلب موالية للنظام رغم احتالل امل�سلحني لأجزاء منها‪ .‬هذا �أمن للأ�سد قاعدة �صلبة‬ ‫ينطلق منها ملواجهة خ�صومه‪ .‬وبالتايل فقد ا�ستفاد من الدعم الإيراين والرو�سي وال�صيني‬ ‫ملواجهة ال�ضغوط الأمريكية والغربية والرتكية وحتى العربية‪ .‬بعد ذلك قام ب�سل�سلة خطوات‬ ‫�إ�صالحية‪ ،‬رغم �أنها بقيت حمدودة نتيجة الأزمة‪ .‬فرفع قانون الطوارئ القائم يف �سورية منذ‬ ‫العام ‪ 1963‬و�سمح بت�أ�سي�س �أحزاب جديدة‪ ،‬و�أ�صدر قرارات تتعلق بحرية ال�صحافة والتعبري‪.‬‬ ‫�إ�ضافة �إىل ذلك فقد فتح املجال ال�ستيعاب حجم كبري من اليد العاملة يف م�ؤ�س�سات‬ ‫الدولة‪ 2.‬وقد تال ذلك �إطالق مئات املعتقلني مبن فيهم �إ�سالميون‪ 3.‬كذلك �أ�صدر مر�سوماً‬ ‫‪1- Gavin Menzies, 1421: The Year China Discovered the World, (London: Bantam Press,‬‬ ‫‪2003).‬‬ ‫‪ -2‬ال�سفري ‪ 25‬اذار ‪.2011‬‬ ‫‪ -3‬ال�سفري ‪ 28‬اذار ‪.2011‬‬ ‫‪78‬‬


‫فكــــــر‬

‫مبنح اجلن�سية للآالف من الأكراد‪ 1،‬و�أقال حكومة حممد ناجي عطري التي قادت �سيا�سات‬ ‫اللربلة االقت�صادية بني عامي ‪ 2003‬و‪ 2.2011‬كذلك �أ�صدر مرا�سيم ت�سمح للمر�أة املنقبة‬ ‫بالعمل يف الوظائف احلكومية والتدري�س يف املدار�س احلكومية‪ 3،‬و�ألغى حمكمة �أمن الدولة‬ ‫‪5‬‬ ‫العليا‪ 4،‬ومرر قانوناً انتخابياً ي�سمح مبزيد من احلريات ال�سيا�سية‪.‬‬ ‫على ال�صعيد اخلارجي متكن الأ�سد من ا�ستخدام الورقتني العلوية والكردية يف تركيا‬ ‫ليمار�س �ضغوطاً على �أردوغان‪ .‬و ُي ّقدر عدد الأكراد يف تركيا بع�شرين باملئة وهم يرتكزون يف‬ ‫منطقة جنوب �شرق الأنا�ضول يف والية ديار بكر والواليات املحاذية لها‪� .‬أما العلويون من‬ ‫�أتراك وعرب و�أكراد فيقدر عددهم بخم�سة ع�شر مليوناً‪ .‬وقد �ساهم الأكراد والعلويون برتاجع‬ ‫ن�سبي يف و�ضع �أردوغان خالل االنتخابات الت�شريعية‪ .‬ورغم �أن حزب اردوغان ا�ستطاع‬ ‫تقدر بـ ‪ 3‬باملئة‬ ‫احل�صول على خم�سني باملئة من ا�صوات الناخبني يف العام ‪ 2011‬بزيادة ّ‬ ‫عن االنتخابات ال�سابقة‪� ،‬إال �أن توزيع اال�صوات يف الدوائر االنتخابية جعله يخ�سر ‪ 15‬ع�ضواً‬ ‫فرتاجع عدد �أع�ضاء حزب العدالة والتنمية من ‪� 331‬إىل ‪ 6،326‬ما �أعاق جهود اردوغان‬ ‫لتعديل الد�ستور وحتويل النظام يف تركيا اىل رئا�سي متهيداً النتخابه رئي�ساً بعد انتهاء واليته‬ ‫الثالثة كرئي�س للوزراء‪ .‬اما يف العراق فقد ت�صاعدت املقاومة العراقية �ضد االمريكيني ومت‬ ‫ت�سجيل مقتل ‪ 15‬جندياً امريكياً يف حزيران ‪ 2011‬وحده وقد كان الرقم الأعلى من اخل�سائر‬ ‫‪7‬‬ ‫االمريكية منذ العام ‪.2008‬‬ ‫خال�صة‬

‫لتفجر الأزمة ال�سورية داخلية وخارجية‪ .‬وال �شك يف �أن‬ ‫لقد كانت هنالك �أ�سباب عدة ّ‬ ‫تفجر الأزمة‪ .‬لكن العوامل‬ ‫عوامل اقت�صادية واجتماعية و�سيا�سية داخلية لعبت دوراً يف ّ‬ ‫اخلارجية كانت �أكرث ت�أثرياً وارتبطت بالتحوالت الدولية اجلارية‪ ،‬خ�صو�صاً جلهة االنتقال‬ ‫من نظام �أحادي القطبية �إىل نظام متعدد الأقطاب‪ .‬فالأزمة ال�سورية كانت يف جزء منها‬ ‫‪ -1‬ال�سفري ‪ 1‬ني�سان ‪.2011‬‬ ‫‪ -2‬ال�سفري ‪ 4‬ني�سان ‪.2011‬‬ ‫‪ -3‬ال�سفري ‪ 7‬ني�سان ‪2011‬‬ ‫‪ -4‬ال�سفري ‪ 22‬ني�سان ‪2011‬‬ ‫‪-5‬ال�سفري ‪ 12‬ايار ‪.2011‬‬

‫‪6- Jürgen Gottschlich, "Erdogan Falls Short of Goal in Turkish Elections-The AKP’s‬‬ ‫‪Disappointing Victory", Spiegel Online International, June 13, 2011‬‬ ‫‪7- Tim Arango, "June Was Deadliest Month for U.S. in Iraq Since", New York Times, June‬‬ ‫‪30, 2011‬‬ ‫‪ http://www.nytimes.com/2011/07/01/world/middleeast/01baghdad.html?_r=1 (accessed on‬‬ ‫)‪July 25, 2012‬‬ ‫‪79‬‬


‫حماولة �أمريكية وغربية لإغالق املنفذ البحري الوحيد املتاح لرو�سيا و�إيران وال�صني اىل‬ ‫�شرق املتو�سط‪ .‬لكن الأ�سد ا�ستطاع ال�صمود بدعم من حلفائه‪ ،‬رغم كل ال�ضغوط‪� .‬أما �سبب‬ ‫الدعم الذي تلقاه من القوى الأورا�سية وهي ال�صني ورو�سيا و�إيران فناجم عن حاجة هذه‬ ‫القوى �إىل منفذ بحري على �شرق املتو�سط واملياه الدافئة بعد حماوالت التطويق التي قامت‬ ‫بها الواليات املتحدة يف �شرق �آ�سيا وبحر البلطيق والبحر الأ�سود واخلليج العربي ملنع هذه‬ ‫القوى الأورا�سية من �أن يكون لها منفذ على طرق املالحة البحرية مبا ي�ؤدي �إىل اختناق‬ ‫اقت�صاداتها‪.‬‬ ‫ويرتافق هذا التناف�س بني كتلة القوى البحرية بقيادة الواليات املتحدة ومعها �أوروبا الغربية‬ ‫وتركيا مع كتلة القوى الربية الآنفة الذكر‪ ،‬مع عملية حتول يف طبيعة النظام الدويل من‬ ‫نظام �أحادي القطبية قادته الواليات املتحدة منذ العام ‪ ،1991‬وعك�س حالة اال�ستقطاب يف‬ ‫االقت�صاد العاملي ما �أدى �إىل دخوله يف �أزمة عميقة يف العام ‪� ،2008‬إىل نظام دويل متعدد‬ ‫الأقطاب يكون فيه للنظام الر�أ�سمايل العاملي �أكرث من مركز مبا يخفف من حدة اال�ستقطاب‬ ‫يف االقت�صاد والرثوة ويجدد �شباب الر�أ�سمالية العاملية خالل القرن احلادي والع�شرين‪.‬‬

‫‪80‬‬


‫فـكــــــــر‬

‫جذور العنف يف اجلماعات الإرهابية *‬

‫"درا�سة موجزة"‬

‫اليا�س فرحات ‪ -‬عميد متقاعد يف اجلي�ش اللبناين ‪ -‬باحث ع�سكري وا�سرتاتيجي‬

‫مقدمة‬

‫تلقيت دعوة كرمية من املركز اال�ست�شاري للدرا�سات والتوثيق ومركز احل�ضارة لتنمية‬ ‫ُ‬ ‫الفكر الإ�سالمي لال�شرتاك يف هذا امل�ؤمتر بعنوان "جماعات العنف التكفريي‪ :‬اجلذور‬ ‫�شعرت �أن املو�ضوع بعيد عن دائرة اهتمامي‬ ‫والبنى والعوامل امل�ؤثرة"‪ .‬للوهلة الأوىل‬ ‫ُ‬ ‫ويتطلب باحثني يف الدين وعلم االجتماع‪ ،‬لكني وب�سرعة �أعربت عن املوافقة واعداد‬ ‫ورقة للم�ؤمتر‪ .‬ملاذا وافقت و�أنا َمن �أم�ضى اربعني عاماً يف اخلدمة الع�سكرية كانت جلها يف‬ ‫قيادة اجلند والتدريب والعمليات والتحقيقات واالن�ضباط والإدارة؟ وافقت لأين �شعرت‬ ‫ان هذه ال�سنوات �أك�سبتني معرفة ملوزاييك املجتمع اللبناين امل�ؤلف من ‪ 17‬طائفة‪ ،‬فقد‬ ‫ت�سنى يل لقاء ا�شخا�ص من جميع الطوائف للبنانيية والعي�ش معهم ومزاملة حمل ال�سالح‬ ‫والعي�ش يف خمتلف الظروف‪ .‬كما كان للمواجهات بني اجلي�ش اللبناين وتنظيم القاعدة‬ ‫يف ال�ضنية يف مطلع االلفية الثالثة وا�ستمرار هذه املواجهات و�صو ًال �إىل معارك نهر البارد‬ ‫يف �شمال لبنان العام ‪ 2007‬ت�أثري كبري على التوجهات الع�سكرية وال�سيا�سية يف لبنان‪.‬‬ ‫كان االنتماء الطائفي واملذهبي ُي�سهم بتكوين الثقافات �إىل جانب االنتماءات اجلغرافية‬ ‫والقبلية والع�شائرية واجلهوية‪ .‬ما اود ان اقوله حتديداً ان الدين والطائفة مل يكونا املحددين‬ ‫اال�سا�سيني للثقافة االجتماعية‪ ،‬كما هو احلال اليوم‪ ،‬اذ ثمة متغريات طر�أت يف املنطقة‬ ‫ادت �إىل هيمنة الفكر الديني لدى كل الطوائف وتراجع االنتماءات االخرى‪ ،‬و�ساقها‬ ‫هذا الفكر يف م�سارات معقدة واو�صل البع�ض �إىل �سوء فهم للدين و�سوء ا�ستخدام‬ ‫للمعتقدات الدينية‪ ،‬و�صو ًال �إىل ظهور ما و�ضع عنواناً لهذا امل�ؤمتر وهو العنف التكفريي‪.‬‬ ‫يف جانب �آخر م�ضيء ا�ستخدمت العقيدة الدينية لأجل متتني اوا�صر جمموعة وح�شد‬ ‫طاقات اخرى الجل مواجهة �أخطار �شتى ويف �أحيان كثرية لتطوير بع�ض املجتمعات‬ ‫وتنميتها‪.‬‬ ‫* ‪� -‬ألقيت هذه الدرا�سة يف م�ؤمتر (جماعات العنف التكفريي اجلذور والبنى والعوامل امل�ؤثرة) الذي اقامه املركز اال�ست�شاري‬ ‫للدرا�سات والتوثيق ومركز احل�ضارة لتنمية الفكر اال�سالمي يف فندق رامادا بتاريخ ‪�/9‬أيلول‪. 2015/‬‬ ‫‪81‬‬


‫الفكر القومي والفكر الديني‬

‫يف عهد اال�ستعمار �أو االنتداب الفرن�سي والربيطاين ن�ش�أت فكرة القومية والوطنية‬ ‫يف معظم الدول العربية‪ ،‬وفقاً للتق�سيمات ال�سيا�سية التي و�ضعها االنتدابان الفرن�سي‬ ‫والربيطاين‪ .‬ن�ش�أ حزب البعث ب�أفكار زكي االر�سوزي من لواء اال�سكندرون ومي�شال‬ ‫عفلق الدم�شقي ون�ش�أت حركة القوميني العرب ب�أفكار جورج حب�ش الفل�سطيني وحم�سن‬ ‫ابراهيم اللبناين وبا�ستلهام جمال عبد النا�صر‪ .‬ترافق ذلك مع ن�ش�أة حزبني �إ�سالميني‬ ‫هما جماعة االخوان امل�سلمني يف م�صر ب�أفكار ح�سن البنا وحزب التحرير الإ�سالمي يف‬ ‫فل�سطني وبالد ال�شام ب�أفكار تقي الدين النبهاين‪ .‬الول مرة يف التاريخ حتول الإ�سالم‬ ‫�إىل حزب �سيا�سي فقد كان من قبل‪ ،‬دين الأحزاب ال�سيا�سية جميعها القومية والوطنية‬ ‫واال�شرتاكية وحتى ال�شيوعية اذ ان هذه االحزاب ف�صلت االنتماء الديني عن االنتماء‬ ‫ال�سيا�سي‪.‬‬ ‫الإ�سالم حزب‪� .‬أمر جديد وخطري فهمته العامة �أن من ينت�سب �إىل هذا احلزب فهو‬ ‫م�سلم‪ ،‬و َمن ال ينت�سب اليه فهو لي�س م�سلماً! واذا كان احلزب دعوياً ولي�س �سيا�سياً‪ ،‬كما‬ ‫يقال‪ ،‬فهذه م�س�ألة اخطر‪� ،‬أي انه يدعو �إىل الإ�سالم وك�أن اهل هذه البالد لي�سوا م�سلمني‪.‬‬ ‫هذه بع�ض من عوامل قلق عميقة اجلذور يف التاريخ العربي والإ�سالمي ويف احلا�ضر‬ ‫اي�ضاً‪ ،‬والتي طاملا طرحت ا�سئلة انطالقاً من تراكمات تاريخية فقهية‪ ،‬مل تتمكن امل�ؤ�س�سة‬ ‫الدينية الر�سمية من تقدمي تف�سريات موحدة وقاطعة ومقنعة لل�شباب امل�سلم القلق‪ .‬من‬ ‫هذه اال�سئلة املقلقة‪ ،‬هل كان يف التاريخ وجود لدولة �إ�سالمية؟‬ ‫ما خال فرتة املدينة وادارة حممد ر�سول اهلل (�ص) للنا�س اختلف امل�سلمون حول ما‬ ‫اذا كان هناك دولة �إ�سالمية ام ال‪ ،‬لكنهم اكرث ما اجمعوا هو وجودها على عهد اخللفاء‬ ‫الرا�شدين‪ .‬لكن عهد اخلليفة الثالث عثمان والنهاية امل�أ�ساوية مبقتله والفنت واحلروب‬ ‫الداخلية التي رافقته وتبعته وع�صفت بامل�سلمني وتعدد الروايات وتناق�ضها يف بع�ض‬ ‫الأحيان‪ ،‬مل ترتك لنا رواية عن ادارة �إ�سالمية م�ستقرة ونظم وا�ضحة بل ممار�سات واقوال‬ ‫اخللفاء ابو بكر ال�صديق الذي ان�شغل بحروب الردة‪ ،‬وعمر بن اخلطاب الذي ان�شغل‬ ‫بفتح ال�شام والعراق واخلليفة الرابع علي بن ابي طالب يف الفرتة الق�صرية ن�سبياً التي‬ ‫متكن فيها من ادارة �ش�ؤون النا�س يف الكوفة‪ .‬بعدها حتول الإ�سالم �إىل �سلطة وحتولت‬ ‫اخلالفة �إىل م�ؤ�س�سة �سيا�سية ثيوقراطية دينية وراثية من دون �سند �شرعي من القر�آن وال‬ ‫من ال�سنة‪ ،‬على حد ما �أثار علي عبد الرازق مطلع القرن املا�ضي( )‪ .‬كما حتولت الدولة‬ ‫�ضم �شعوباً واثنيات وديانات ومذاهب متعددة‪ .‬بعد ثورات وقالقل‬ ‫�إىل كيان �إمرباطوري ّ‬ ‫م�ستمرة خالل فرتة اخلالفة االموية الق�صرية‪ .‬انتهت هذه اخلالفة بالق�ضاء على بني امية‬ ‫‪1‬‬

‫‪82‬‬


‫فكــــــر‬

‫فيما ي�شبه التطهري العرقي بالعائلة وحلّ بنو العبا�س يف �سلطة مل تختلف كثرياً عن �سلطة‬ ‫بني امية‪.‬‬ ‫ما نق�صده انه مل تكن يف تاريخنا دولة �إ�سالمية منوذجية ن�ستلهم منها �أفكاراً‪ ،‬بل كان‬ ‫الإ�سالم �شعاراً ود�ستوراً لدولة ت�أخذ منه ما يفيد �سلطتها وهي �سلطة اخلليفة الذي يحكم‬ ‫نظرياً ب�شريعة اهلل فيما يطبق عملياً م�صاحله ال�سيا�سية ولي�س مقت�ضيات ال�شريعة‪ .‬ان�ش�أت‬ ‫اخلالفة الإ�سالمية‪� ،‬سواء كانت اموية او عبا�سية او فاطمية او عثمانية‪ ،‬نظام �إمرباطوريات‬ ‫عائلية وراثية ي�شبه �إمرباطوريات العائالت يف الغرب الأوروبي مثل الإمرباطورية‬ ‫الرومانية والإمرباطورية الكارولنجية‪ .‬لكن الإ�سالم‪ ،‬ورغم تخبط ال�سلطات ال�سيا�سية‬ ‫احلاكمة وتغرياتها‪ ،‬احتفظ مبخزون عقائدي روحي عميق ّ‬ ‫مكنه من ال�صمود والبقاء يف‬ ‫وجه التحديات ال�سيا�سية والفكرية والثقافية وكان القر�آن‪ ،‬كتاب امل�سلمني‪ ،‬د�ستوراً‬ ‫ومرجعاً روحياً وفقهياً وفل�سفياً حافظ على الدين واللغة واخلطوط العامة الثقافية و�شكل‬ ‫مرجعية جلميع امل�سلمني مل يختلف �أحد عليها‪ .‬هذا املخزون الروحي جرى ا�ستخدامه‬ ‫يف حاالت يف ال�ش�ؤون الداخلية و�إدارة �ش�ؤون النا�س بالعدل ويف التعبئة �ضد االحتالل‬ ‫ومقاومة الغزوات و�أخ�صها غزوات الفرجنة التي ا�صطلح على ت�سميتها باحلروب ال�صليبية‪،‬‬ ‫كما �أ�سيء ا�ستخدامه يف احلروب بني الدول الإ�سالمية‪ ،‬حرب العبا�سيني مع الأمويني‬ ‫وحرب الفاطميني على العبا�سيني وحرب العثمانيني على املماليك وال�صفويني �أو‬ ‫احلروب الداخلية يف اخلالفات الإ�سالمية مثل حرب الأمني وامل�أمون وثورات حممد‬ ‫النف�س الزكية والزجن وغريها‪ .‬مل ي�ستطع الفقهاء تقدمي اليقني الإمياين جلميع امل�سلمني‬ ‫فدخلت حركات فل�سفية وغنو�صية‪ ،‬ون�ش�أت مذاهب وفرق ت�أثرت بالفل�سفات اليونانية‬ ‫والهندية والفار�سية واختلطت بامل�سيحية واليهودية‪ ،‬وتكاثرت االتهامات باخلروج على‬ ‫الدين‪ ،‬من اخلوارج �إىل املعتزلة �إىل الغالة �إىل اال�سماعيلية بفروعها وغريها‪ .‬مل تقدم‬ ‫امل�ؤ�س�سة الدينية عرب التاريخ تف�سريات وا�ضحة للتعامل مع هذه االختالفات و�أ�سهم‬ ‫الفال�سفة من الكندي �إىل الغزايل وابن �سينا وابن ر�شد يف حتريك العقل داخل الإ�سالم‬ ‫باجتاهات �شتى‪ .‬جاء ابن تيمية يف القرن الرابع ع�شر لي�صدر اول فتاوى بحجم كبري‬ ‫وليكفر ق�سماً كبرياً من املذاهب الإ�سالمية( )‪ .‬توقف الفقه عند ابن تيمية ل�سبعة قرون‬ ‫�شهد فيها الإ�سالم وامل�سلمون �سباتاً فكرياً وثقافياً و�سيا�سياً عميقاً عرب عنه �شاعر ع�صر‬ ‫االنحطاط ابن الوردي‪ ،‬حني قال‪:‬‬ ‫�صدق ال�شرع وال تركن �إىل رجل ير�صد يف الليل زحل‬ ‫جانب ال�سلطان واحذر بط�شه ال تعاند من �إذا قال فعل‬ ‫()‬ ‫حبك الأوطان عجز ظاهر فاغرتب تلق عن الأهل بدل‬ ‫‪2‬‬

‫‪3‬‬

‫‪83‬‬


‫�سقوط اخلالفة وامل�شاريع القومية‬ ‫مع �سقوط اخلالفة العثمانية عام ‪ 1924‬انطلقت اليقظة الوطنية والقومية والإ�سالمية‪،‬‬ ‫لكنها مل حتمل جوامع م�شرتكة للم�سلمني‪ ،‬رغم التنوير الذي �شهدناه من االفغاين‬ ‫وحممد عبده وغريهما‪ .‬يف ال�شرق االق�صى امل�سلم‪ ،‬ا�سهمت كتابات ابو الأعلى املودودي‬ ‫وح�سن الندوي يف خلق ت�شدد �إ�سالمي كان مطلوباً ملواجهة االحتالل الربيطاين‪ .‬مل‬ ‫يوافق م�سلمو �شبه القارة الهندية على طروحات غاندي لوحدة الهند‪ ،‬وان�ش�أوا �أول دولة‬ ‫حتمل ا�سم دولة �إ�سالمية يف التاريخ‪ :‬جمهورية باك�ستان الإ�سالمية‪ .‬لكن هل كانت‬ ‫باك�ستان دولة �إ�سالمية وهل هي اليوم كذلك؟ هناك خالفات حول هذه الفكرة‪ .‬ان�شغل‬ ‫م�سلمو القارة الهندية مبواجهة الهندو�س ومناف�ستهم اكرث من ان�شغالهم يف بناء دولة عادلة‬ ‫ت�شكل منوذجاً للإ�سالم القائم على الت�آخي بني النا�س وامل�ساواة‪ ،‬فغاب الت�أثري الإ�سالمي‬ ‫امللهم واالدارة العادلة والرا�شدة ل�ش�ؤون امل�سلمني عن اكرب جتمع �إ�سالمي ي�ضم حالياً‬ ‫نحو ‪ 550‬مليون م�سلماً يف باك�ستان وبنغالد�ش والهند ما زالوا يعانون من الفقر والتخلف‬ ‫والبطالة و�سوء احلاكمية‪.‬‬ ‫�سقط م�شروع النه�ضة ال�سورية مع �إعدام انطوان �سعاده عام ‪ ،1949‬و�سقط امل�شروع‬ ‫القومي العربي بعد هزمية م�صر و�سوريا والأردن عام ‪ ،1967‬وانتهى مع رحيل جمال عبد‬ ‫النا�صر عام ‪ .1970‬بعدها �سيطرت انظمة حكم ع�سكرية �شبه قومية وعلمانية يف م�صر‬ ‫و�سوريا والعراق‪ ،‬هناك اختالفات حول ما اذا حققت تقدماً للدولة واملجتمع ام ال‪ .‬ويف‬ ‫النهاية ت�صدعت هذه الدول او انهارت جراء التدخل اخلارجي واالنق�سامات الداخلية‬ ‫�أي�ضاً‪� .‬أ�سهم ذلك الت�صدع يف ت�صاعد التيارات الدينية وانت�شار التدين بني القوميني‬ ‫والوطنيني‪.‬‬ ‫حتول كبري‪ :‬الثورة الإ�سالمية يف �إيران‬ ‫ّ‬

‫عام ‪ 1979‬ح�صل حتول كبري يف تاريخ املنطقة وهو جناح الثورة الإ�سالمية يف �إيران‪.‬‬ ‫كانت هذه الثورة فعال ثورة �شعبية مثل الثورة البل�شفية �أو الثورة الفرن�سية‪ ،‬وثورة دينية‬ ‫اتخذت من الإ�سالم ايديولوجيا حمركة‪ ،‬وثورة حكمية اتخذت من االمام اخلميني‬ ‫قائداً كاريزمياً ذا �سطوة وا�سعة وتبجيل واحرتام وثورة �سلمية مل ي�ستعمل فيها الثوار‬ ‫ال�سالح وف�صل الق�ضاء وحده يف �أمر اجلائرين‪ .‬ن�ش�أت اجلمهورية الإ�سالمية يف �إيران‬ ‫بعد باك�ستان (�إذا ا�ستثنينا موريتانيا)‪ ،‬وخالفاً ملا جرى يف باك�ستان من اعتماد التعددية‬ ‫احلزبية ال�سيا�سية‪ ،‬ن�ش�أ يف �إيران الول مرة يف التاريخ نظام �إ�سالمي يختلف املراقبون ومن‬ ‫بينهم �إيرانيون على درجة اكتماله‪ .‬قدمت الثورة الإ�سالمية منوذجاً يف الثبات وال�صمود‬ ‫‪84‬‬


‫فكــــــر‬

‫تعر�ضت لها والعقوبات االقت�صادية التي فر�ضت عليها‪،‬‬ ‫رغم احلروب واحل�صارات التي ّ‬ ‫فحققت تنمية اقت�صادية م�شهودة و�أ�صبحت قوة �إقليمية ودولية لها اعتبارها و�أظهر نظامها‬ ‫ال�سيا�سي حيوية يف تداول ال�سلطة ودرجة عالية من املناعة �ضد االنق�سامات و�سيطرت‬ ‫على م�شاكلها وفتحت �أبواب احللول‪.‬‬ ‫على �صعيد نظرة الثورة �إىل العامل الإ�سالمي وت�أثرياتها‪ ،‬فقد �أعلن الإمام اخلميني من‬ ‫قبل‪ ،‬واليوم ال�سيد علي خامنئي عن ال�صحوة الإ�سالمية وقبلهما ومعهما الراحل ال�سيد‬ ‫حممد ح�سني ف�ضل اهلل عما �سماه احلالة الإ�سالمية‪ ،‬لكن ال�س�ؤال يطرح‪� ،‬إىل �أين و�صلت‬ ‫هذه ال�صحوة؟ وكيف �أ�صبحت هذه احلالة يف و�ضعنا الراهن؟‬ ‫جذور القاعدة‬

‫عودة �إىل مطلع القرن املا�ضي عندما ّ‬ ‫متكن امللك عبد العزيز‪ ،‬الذي عرف بابن �سعود‪ ،‬من‬ ‫توحيد ق�سم كبري من جزيرة العرب‪ ،‬م�ستنداً �إىل حتالف �سيا�سي بني �آل �سعود وامل�ؤ�س�سة‬ ‫الدينية الوهابية واتخذ قوة ع�سكرية دينية عمادها حتالف القبائل مع جي�ش «اخوان من‬ ‫�أطاع اهلل» املعروف بجي�ش االخوان‪ .‬احتل ابن �سعود احلجاز والإح�ساء وع�سري وجنران‬ ‫وجيزان‪ ،‬لكن ن�شب خالف مع جي�ش الإخوان الذين طالبوه با�ستمرار التو�سع نحو بالد‬ ‫ال�شام والعراق‪ ،‬كما كان احلال يف الدولة ال�سعودية الأوىل‪ ،‬فيما كان عبد العزيز يكتفي‬ ‫باحلدود احلالية للدولة‪ .‬ق�ضى ابن �سعود على جي�ش االخوان يف معركة ال�سبلة العام‬ ‫‪ 1929‬وتوتر احللف القبائلي الديني الوهابي‪ ،‬وانتهى �إىل �سيطرة �آل �سعود والقبائل‬ ‫املتحالفة معهم‪ ،‬وخ�صو�صاً يف جند‪ ،‬على ال�سلطة على ح�ساب تراجع امل�ؤ�س�سة الدينية‬ ‫الوهابية‪ .‬ا�صطدمت اال�سرة ال�سعودية بالوهابية املت�شددة ‪Puritan Wahhabism‬‬ ‫املتمثلة بجي�ش اخوان من اطاع اهلل‪ ،‬لكنها مل تق�ض عليها فكرياً‪ .‬يف هذا البلد الغني‬ ‫برثوة النفط انكم�شت الوهابية املت�شددة واختمرت ثم تفجرت العام ‪ 1979‬يف حركة‬ ‫جهيمان العتيبي الذي �سيطر على احلرم املكي ال�شريف‪ .‬بعد الق�ضاء على ثورة جهيمان‬ ‫ج�سدياً تبني �أن هذه العقيدة ما زالت قوية ورا�سخة يف نفو�س العديد من ال�شباب يف‬ ‫اململكة‪ ،‬وخ�صو�صاً يف جند‪ .‬وما �إن �أطلت ت�سعينيات القرن املا�ضي ووط�أت ار�ض اجلزيرة‬ ‫اقدام م�سيحية يف عملية عا�صفة ال�صحراء حني احت�شد مئات �آالف اجلنود االمريكيني‬ ‫والأوروبيني يف جزيرة العرب من �أجل حترير الكويت من االحتالل العراقي‪ ،‬حتى حترك‬ ‫ا�سامة بن الدن و�أتباعه من الوهابيني املت�شددين وغالبية املجاهدين العرب ال�سابقني يف‬ ‫افغان�ستان و�أن�ش�أوا تنظيم القاعدة وجنحوا العام ‪ 1996‬يف �إن�شاء دولة �إ�سالمية يف افغان�ستان‬ ‫�أُعلن الراحل املال عمر فيها �أنه خليفة امل�سلمني‪.‬‬ ‫‪85‬‬


‫إ�سالم ْيني‬ ‫ت�صادم �‬ ‫َ‬

‫ا�صبحنا امام �إ�سال َم نْيي‪ :‬وهابي مت�شدد يف افغان�ستان و�شيعي �إمامي يف �إيران باال�ضافة‬ ‫�إىل �إ�سالم ال�سلطة يف ممالك اخلليج وباقي الأنظمة العربية‪.‬‬ ‫�إذا كانت جماعة االخوان امل�سلمني �أ�سهمت يف قبول امل�سلمني ال�سنة للثورة الإ�سالمية‬ ‫الإيرانية‪ ،‬وكانت �أول َمن ه ّن�أ الإمام اخلميني بانت�صار الثورة‪ ،‬ف�إنها مل ت�ستطع ال�صمود يف‬ ‫املت�شددة املمثلة بالقاعدة وال امام الدول املناف�سة لإيران‪ ،‬خ�صو�صاً دول‬ ‫وجه الوهابية‬ ‫ّ‬ ‫جمل�س التعاون اخلليجي الذين نظروا �إىل �إيران بارتياب‪ ،‬و�أعربوا عن خ�شيتهم من ت�صدير‬ ‫الثورة الإ�سالمية �إىل بلدانهم‪ .‬حتالف االخوان امل�سلمني – �إيران ظهر يف لبنان وحتديداً‬ ‫يف مدينة طرابل�س يف ال�شمال عرب حركة التوحيد الإ�سالمي‪� .‬إزاء ذلك عززت ال�سعودية‬ ‫وهي الدولة العربية الأغنى والأبرز عالقاتها مع امل�ؤ�س�سة الدينية الوهابية الر�سمية و�أعطتها‬ ‫جرعات من الدعم من دون ان تهمل خطر الوهابية املت�شددة املمثلة بالقاعدة‪� .‬أ�سهمت‬ ‫القدرات املالية الهائلة لدول جمل�س التعاون ومتويل �شخ�صيات ثرية و�أجهزة ا�ستخبارات‬ ‫لتنظيم القاعدة بتغيري الكثري من املعطيات‪ ،‬ف�شهدنا ما ميكن اعتباره �أعما ًال تب�شريية‬ ‫وهابية يف الدول الإ�سالمية‪ .‬يف باك�ستان مث ًال بلغ عدد املدار�س الدينية نحو الفني وهناك‬ ‫�آالف املدار�س على خمتلف امل�ستويات يف معظم البالد الإ�سالمية يف الهند واندوني�سيا‬ ‫و�آ�سيا الو�سطى ف�ض ًال عن تركيا والدول العربية وخ�صو�صا م�صر كما ت�أثر االزهر ال�شريف‬ ‫بالعقيدة الوهابية‪.‬‬ ‫كانت الوهابية املت�شددة ت�ستهدف الوجود ال�صليبي واليهودي يف ادبياتها الدينية‪ ،‬ثم‬ ‫ا�ضحت ت�ستهدف املجتمع يف ما ا�صطلح على ت�سميته بالتكفري والهجرة‪� .‬شكل اغتيال‬ ‫ال�سادات اول �صدام بني الثورة الإ�سالمية يف �إيران و�إ�سالم الدولة يف م�صر‪ .‬كان ال�سادات‬ ‫ا�ست�ضاف �شاه �إيران املخلوع يف م�صر‪ ،‬فيما اطلقت �إيران ا�سم خالد الإ�سالمبويل ال�ضابط‬ ‫امل�صري الذي اطلق النار على ال�سادات‪ ،‬على �أحد �شوارعها وانقطعت العالقات امل�صرية‬ ‫الإيرانية وال تزال‪ .‬مل يكن م�صطلح "النزاع ال�سني ال�شيعي" قد انطلق ب�سبب العالقة‬ ‫القوية بني جماعة االخوان امل�سلمني وهي التيار اال�سا�سي يف الإ�سالم ال�سني وبني‬ ‫�إيران‪ .‬يف ثمانينيات القرن املا�ضي �شهدت مدينة طرابل�س اللبنانية قتا ًال عنيفاً بني القوات‬ ‫ال�سورية وبني حركة التوحيد الإ�سالمي مدعومة من �إيران ومنظمة التحرير الفل�سطينية‬ ‫رغم التحالف الإيراين ال�سوري‪.‬‬ ‫�شكل االحتالل الأمريكي للعراق العام ‪ 2003‬نقطة حتول كبرية يف التعبئة املذهبية ويف‬ ‫يقظة جديدة للوهابية املت�شددة بعد ما �أطاح االحتالل االمريكي باخلالفة الإ�سالمية يف‬ ‫افغان�ستان العام ‪ 2001‬وو�سم تنظيم القاعدة بالإرهاب اثر احداث ‪� 11‬سبتمرب ‪.2001‬‬ ‫‪86‬‬


‫فكــــــر‬

‫متثلت هذه اليقظة بظهور تنظيمات �إرهابية بعقيدة وهابية مت�شددة تعلن حرباً على‬ ‫الأمريكيني وال�شيعة معاً‪ .‬ا�ستغل الوهابيون نقمة امل�سلمني ال�سنة من �سقوط �صدام ح�سني‬ ‫و�إعدامه فجر عيد الأ�ضحى‪ ،‬وا�ستطاعوا تعبئة الر�أي العام ال�سني العراقي �ضد ال�شيعة‬ ‫والكرد‪� .‬ساعد االمريكيون على منو هذا النزاع بوا�سطة �إدارتهم املريبة للدولة العراقية بعد‬ ‫�سقوط نظام البعث بقيادة �صدام ح�سني‪ .‬لقد �شكل الأمريكيون �صيغة �سيا�سية طائفية‬ ‫تكر�ست يف د�ستور كتبه بول برمير احلاكم االمريكي للعراق‪ ،‬ويف حل اجلي�ش العراقي‬ ‫وت�سريح ال�ضباط واجلنود الذين باتوا من دون عمل وم�صدر رزق‪ ،‬فوجدت فيهم املنظمات‬ ‫الإرهابية هدفها املن�شود‪ ،‬وا�ستفادت من خرباتهم الع�سكرية يف ت�شكيل جماعات �إرهابية‬ ‫وتنفيذ هجمات و�إن�شاء جي�ش �أرعب العامل ُعرف فيما بعد بجي�ش الدولة الإ�سالمية‬ ‫داع�ش‪� .‬أقام الأمريكيون نظاماً �سيا�سياً يرتكز على �أحزاب دينية هي حزب الدعوة‬ ‫واملجل�س االعلى الإ�سالمي والتيار ال�صدري عن ال�شيعة واحلزب الإ�سالمي عن ال�سنة‪،‬‬ ‫فيما اعتمد املكون الكردي حزبني غري دينيني للربزاين والطالباين‪� .‬أ�سهمت االدارة‬ ‫االمريكية للعراق بتو�سيع نطاق احلرب املذهبية على ح�ساب املقاومة العراقية لالحتالل‬ ‫االمريكي‪ ،‬و�سرعان ما تراجعت املقاومة ال�شديدة التي جت�سدت با�سقاط طائرات هلكوبرت‬ ‫وتنفيذ كمائن �شبه يومية‪ ،‬وح ّلت مكانها تفجريات انتحارية ا�ستهدفت الأحياء ال�شيعية‬ ‫يف بغداد كما ا�ستهدفت امل�سيحيني وباقي االقليات وقابلتها اعمال انتقامية �ضد ال�سنة‪.‬‬ ‫ف�شلت االحزاب الدينية احلاكمة يف العراق يف و�ضع حد للنزاع ال�سني ال�شيعي‪ ،‬وعلى‬ ‫العك�س جرى تعميمه حتري�ضاً وتعبئة يف جميع انحاء العامل الإ�سالمي‪ .‬ا�ستهدف‬ ‫تنظيم القاعدة ال�شيعة وال�صوفيني يف باك�ستان كما ا�ستهدف ال�صوفيني يف القوقاز‪.‬‬ ‫يف لبنان �أ�سهم اغتيال رئي�س الوزراء ال�سابق ال�شهيد رفيق احلريري يف �إ�شعال النزاع‬ ‫ال�سني ال�شيعي يف هذا البلد ال�صغري وبدا وا�ضحاً ان الهدف احلقيقي هو �ضرب املقاومة‬ ‫الإ�سالمية �ضد االحتالل اال�سرائيلي وعمادها حزب اهلل‪� .‬أدار حزب اهلل النزاع املفرو�ض‬ ‫بحكمة وا�ضحة راف�ضاً االجنرار يف معارك مذهبية مهما بلغت الت�ضحيات‪ ،‬واعترب املقاومة‬ ‫�ضد ا�سرائيل اولوية ال يتزحزح عنها‪.‬‬ ‫الأحداث ال�سورية‪ :‬تدهور خطري‬

‫عام ‪ 2011‬بد�أت االحداث ال�سورية بتغطية اعالمية غري م�سبوقة يف التاريخ‪ ،‬ا�ستهدفت‬ ‫احلكومة ال�سورية برئا�سة الرئي�س ب�شار اال�سد‪ .‬فج�أة �أدارت تركيا العدالة والتنمية ظهرها‬ ‫للعالقات املتينة واالتفاقات ال�سيا�سية والأمنية واالقت�صادية مع �سوريا‪ ،‬وعملت على �شق‬ ‫اجلي�ش ال�سوري ب�إن�شاء اجلي�ش ال�سوري احلر مدعومة من الواليات املتحدة وفرن�سا وبع�ض‬ ‫دول اخلليج‪� .‬شنت الواليات املتحدة وجامعة الدول العربية حملة �سيا�سية وا�سعة النطاق‬ ‫‪87‬‬


‫�ضد �سوريا‪ ،‬و�صلت �إىل اعطائها مه ًال ق�صرية لتنفيذ طلبات غري طبيعية‪ ،‬ثم انتهت بتعليق‬ ‫ع�ضويتها يف جامعة الدول العربية‪ .‬ب�شكل عام جرت �شيطنة النظام ال�سوري‪ ،‬وعا�ش‬ ‫العرب والعامل على وقع انتظارات متكررة ب�سقوط النظام‪ .‬لكن النظام مل ي�سقط‪ .‬يف‬ ‫مطلع عام ‪� 2012‬صدر القرار اخلطري من الدول املعادية للنظام با�ستدعاء تنظيم القاعدة‬ ‫�إىل �سوريا من اجل الإ�سراع ب�إ�سقاط النظام‪ ،‬و�سرعان ما انت�شرت العمليات االنتحارية‬ ‫يف املدن ال�سورية‪ ،‬خ�صو�صاً دم�شق وحلب وبثت الرعب يف البالد‪ ،‬وتلقت القاعدة‬ ‫دعماً غري حمدود‪ ،‬وفتحت لها احلدود الرتكية ال�سورية‪ ،‬وهي عملياً حدود حلف �شمال‬ ‫االطل�سي التي تراقبها القوات االمريكية املنت�شرة جنوب غرب تركيا يف قاعدة اجنرليك‪.‬‬ ‫و�ضع العد العك�سي ل�سقوط النظام عربياً ودولياً وازداد تدفق مقاتلي القاعدة من �أتباع‬ ‫الوهابية املت�شددة من دون ان حت�سب تركيا ح�ساباً لعواقب هذه اخلطوة على ال�شعب‬ ‫ال�سوري وعلى الدول املتلهفة ل�سقوط النظام ودومنا اعتبار للآثار اجلانبية املفرت�ضة‪.‬‬ ‫اعلنت القاعدة �أن �أحد اهم اهدافها هو ا�سقاط املقاومة اللبنانية‪ ،‬وو�ضعت حزب اهلل‬ ‫وال�شيعة هدفاً علنياً لها يف احلرب ال�سورية‪ ،‬وانت�شرت وحداتها يف غرب حم�ص وعلى‬ ‫احلدود اللبنانية ال�سورية يف مواجهة البقاع ال�شمايل وعكار يف اجلانب اللبناين‪ ،‬ويف جبال‬ ‫القلمون �شرقاً يف مواجهة البقاع ال�شرقي وبالفعل نفذت القاعدة وداع�ش اثنتي ع�شرة‬ ‫عملية انتحارية يف البقاع و�ضاحية بريوت اجلنوبية �أ ّدت �إىل مقتل الع�شرات وجرح املئات‬ ‫من املدنيني‪ .‬كان ال بد للمقاومة اللبنانية �أن تتدخل ملواجهة خطر القاعدة على احلدود‬ ‫اللبنانية ال�سورية يف ظل عدم ّ‬ ‫متكن اجلي�ش اللبناين ب�سبب �إمكاناته املحدودة من االنفراد‬ ‫يف هذه املهمة‪ ،‬رغم انت�شار وحداته على جزء من هذه اجلبهة‪ .‬كان تخوف حزب اهلل‬ ‫�صحيحاً عندما اجتاح تنظيم الدولة الإ�سالمية داع�ش حمافظات نينوى و�صالح الدين‬ ‫والأنبار ب�سبب تهاون احلكومة والقوى ال�سيا�سية يف العراق‪ ،‬و�إهمالها يف ا�ست�شراف ذلك‬ ‫اخلطر املقبل من حدودها الغربية‪.‬‬ ‫تعر�ض حزب اهلل حلملة اعالمية مركزة ب�سبب تدخله يف �سوريا‪ ،‬ارتكزت يف احيان‬ ‫ّ‬ ‫كثرية على البعد املذهبي‪ .‬ا�سهم االعالم وخ�صو�صا الف�ضائي يف �إثارة الغرائز وال�سيطرة‬ ‫على العقول الب�سيطة وتوجيه اجلهد الروحي واملعنوي باجتاهات مذهبية جتلت يف اعمال‬ ‫انتحارية نفذها �شبان يافعون �ضد اهداف مدنية يف �سوريا ولبنان والعراق بحجة انها �شيعية‬ ‫او �إيرانية او �سنية معار�ضة لهم‪� .‬شارك تنظيم الدولة تنظيم القاعدة يف الإرهاب وبدا‬ ‫اخلالف بني التنظيمني على ال�سلطة ولي�س على العقيدة وال على االولويات‪ .‬ن�شب‬ ‫بينهما قتال عنيف �أدى ل�سقوط نحو اربعة �آالف قتيل تخللته عمليات انتحارية متبادلة‬ ‫بني التنظيمني اللذين يحمالن االيديولوجيا الوهابية املت�شددة نف�سها التي حملها من‬ ‫قبلهم اخوان من �أطاع اهلل وجهيمان العتيبي وا�سامة بن الدن وابو م�صعب الزرقاوي‪.‬‬ ‫‪88‬‬


‫فكــــــر‬

‫ك�شفت العمليات االنتحارية �سهولة التعبئة و�سهولة �إقناع ال�شباب باالنتحار يف قتال‬ ‫مذهبي‪ .‬وهذا ما يدل على جناح كبري حلملة التحري�ض فاق كل التوقعات‪.‬‬ ‫�أو�صل هذا القتال املذهبي الق�ضية العربية الإ�سالمية االوىل‪ ،‬فل�سطني والقد�س‪� ،‬إىل‬ ‫ادنى �سلم االولويات‪ ،‬وبات النزاع املذهبي يحل يف املكان االول‪ ،‬وو�صل امل�سلمون �إىل‬ ‫و�ضع مزرٍ‪ .‬ت�صاعد �إرهاب داع�ش والقاعدة وحتول التنظيمان �إىل بندقية للإيجار‪ ،‬خ�صو�صاً‬ ‫يف حرب داع�ش �ضد االكراد يف �سوريا‪ ،‬حيث و�ضع االختالف املذهبي جانباً‪ ،‬وجرى‬ ‫ا�ستح�ضار االختالف العرقي وبد�أت العمليات االنتحارية والهجمات �ضد االكراد خدمة‬ ‫لأجندة تركية وا�ضحة‪ .‬يف املغرب العربي وغرب افريقيا منا ذلك الإرهاب فهو يف ليبيا‬ ‫كان مع جهة وقبيلة �ضد جهة �أخرى وقبيلة �أخرى ويف داخل املذهب نف�سه‪ ،‬ويف اجلزائر‬ ‫مل يكن مذهبياً امنا �ضد حكومة اعتربت علمانية‪ ،‬ويف نيجرييا كانت بوكو حرام تعبئ‬ ‫ال�شباب �ضد امل�سيحيني و�ضد الدولة وم�ؤ�س�ساتها اي�ضاً‪.‬‬ ‫العوامل امل�ؤثرة على منو الفكر الإرهابي‬

‫هناك عوامل كثرية ت�ؤثر على ن�شوء الإرهاب‪ ،‬ابرزها هو ما يلي‪:‬‬ ‫او ًال‪ :‬تراجع الهويات الوطنية مل�صلحة الهوية الدينية والهوية املذهبية‬ ‫تعترب ايديولوجيا القاعدة وداع�ش االنتماء الوطني مبثابة الكفر‪ .‬وهنا نذكر ما قاله عنا�صر‬ ‫تنظيم القاعدة يف بالد ال�شام عندما �أ�سروا قائد الكتيبة ‪ 30‬التي دربها االمريكيون يف‬ ‫تركيا‪« :‬جي�ش وطني كافر»( ) وما قاله عدد من قادة داع�ش والقاعدة‪« :‬ال للوطنية»‪.‬‬ ‫ينطلق كال التنظيمني من تف�سري ديني �أن ار�ض اهلل وا�سعة‪ ،‬وامنا امل�ؤمنون اخوة‪ ،‬وان حدود‬ ‫الدول والأوطان هي م�صطنعة و�صليبية كافرة‪ .‬تباهت داع�ش وتباهى معها بع�ض داعميها‪،‬‬ ‫تعر�ضت م�صر و�سوريا عندما‬ ‫عندما �أ�سقطت �سايك�س بيكو باجتياح غرب العراق فيما ّ‬ ‫احتدتا يف دولة واحدة مل�ؤامرات �إقليمية ودولية لأجل �إنهاء الوحدة والعودة �إىل االنف�صال‬ ‫فه ّبت القوى نف�سها التي تتباهى اليوم ب�إ�سقاط �سايك�س بيكو لإ�سقاط هذه الوحدة‪.‬‬ ‫رغم ما رافق اجتياح داع�ش الهمجي من �أعمال �سبي و�سوق نخا�سة للأقليات امل�سيحية‬ ‫والإيزيدية والكردية اعتربها البع�ض خطوة جريئة �ضد التق�سيمات اال�ستعمارية‪.‬‬ ‫باتت الهوية الدينية واملذهبية هي املحرك االول مل�شاعر وغرائز ال�شباب‪ ،‬وتراجعت الهوية‬ ‫الوطنية �إىل م�ستوى خطري عندما �شهدنا فل�سطينيني‪ ،‬يتخلون عن الهوية الوطنية الفل�سطينية‬ ‫ويتوجهون من ال�ضفة الغربية وغزة‬ ‫ويتخذون من الإ�سالم الدين ثم املذهب هوية لهم ّ‬ ‫وارا�ضي ‪ 1948‬ليقاتلوا ما اعتربوه عدو الدين يف �أفغان�ستان؛ وفيما بعد ما اعتربوه اي�ضاً‬ ‫عدو املذهب يف �سوريا تاركني عدو الوطن �إ�سرائيل يفتك بال�شعب الفل�سطيني ومقد�ساته‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪89‬‬


‫�شكل هذا التحول الكبري يف الهوية الوطنية مل�صلحة الدين واملذهب خطراً كبري‪ ،‬اذ حتول‬ ‫املذهب �إىل وطن‪ ،‬وحتول الأخ يف املواطنة �إىل عدو ب�سبب اختالف الدين او املذهب‪ .‬كان‬ ‫حترك املراكز ال�سيا�سية والدينية يف العامل العربي والإ�سالمي حمدوداً جداً يف التطرق‬ ‫�إىل م�س�ألة الهويات‪ ،‬لذلك جند �أن الهوية الوطنية �ضعيفة جداً يف جزيرة العرب والعراق‬ ‫تقدم امل�ؤ�س�سة‬ ‫و�سوريا ولبنان وهي قوية يف م�صر و�أ�ضعف يف بالد املغرب العربي‪ .‬مل ّ‬ ‫الدينية الإ�سالمية �إجابات لل�شباب حول هويتهم الوطنية‪ ،‬وعالقتها بالإ�سالم ومل تقدم‬ ‫االنظمة ال�سيا�سية التي مبعظمها يعرتيها الف�ساد وتعاين من م�شكلة حريات وتنمية‪ ،‬اي‬ ‫حلول لل�شباب وخ�صو�صا العمالة وال�ضمانات االجتماعية قبل ان تقدم لهم حلو ًال‬ ‫مل�س�ألة الهوية‪ .‬وحدها دول اخلليج متكنت من جتميد هذا التنازع حول الهوية‪ ،‬عن طريق‬ ‫تقدميات اجتماعية اقت�صادية ملواطنيها م�ستفيدة من ثروتها النفطية والغازية‪ .‬لعل الرفاه‬ ‫االجتماعي ي�صرف انتباه ال�شباب عن م�س�ألة الهوية‪ .‬لكن على الرغم من ثراء دول‬ ‫اخلليج مل تتمكن هذه الدول من الف�صل بني الوهابية والوهابية املت�شددة‪ ،‬اذ ر�أينا يف‬ ‫حاالت عديدة مواطنني من هذه الدول ين�ضمون �إىل القاعدة وداع�ش‪ ،‬و�آخرين اغنياء‬ ‫يدعمون باملال كال التنظيمني لأنهما �شكال لهم ح ًال روحياً ودينياً‪.‬‬ ‫ثانيا‪ :‬مناهج التعليم الديني الإ�سالمي‬

‫�أ�سهمت عوامل كثرية يف �إ�ضعاف الهوية الوطنية و�أخ�صها التن�شئة الثقافية والنظام‬ ‫الرتبوي‪ .‬يف درا�سة جديدة ملركز هيفو�س ( ) تبني انه يف �سوريا التي يحكمها حزب البعث‬ ‫و�س ّمي باحلزب القائد‪ ،‬كان خم�س عدد الطالب يتوجهون بعد االعدادية �إىل درا�سة‬ ‫ُ‬ ‫ال�شريعة‪ .‬واملهم هنا �أن َمن يف�شل يف احل�صول على معدالت تخ ّوله الذهاب للأدبي‬ ‫والعلمي يتحول �إىل درا�سة ال�شريعة اي ان الطالب املتخلفني هم من يتولون اليوم قيادة‬ ‫املجتمع دينياً وهذا ما �أثر كثرياً على العامة يف العامل الإ�سالمي‪ .‬اذا كان ذلك قد جرى‬ ‫يف �سوريا البعثية القومية فلنا �أن نت�صور ما جرى يف باقي الدول‪ ،‬وخ�صو�صاً اطروحات‬ ‫الدكتوراه يف بع�ض جامعات اخلليج بعناوين "تكفري الراف�ضة والن�صارى" و�أن نت�ص ّور‬ ‫�أي�ضاً من يقود املجتمع الإ�سالمي ومن �أو�صلنا �إىل �إعالن �إنكار كروية الأر�ض!( ) وجعل‬ ‫من الإ�سالم مهزلة م�ضحكة يتندر بها الغرب‪.‬‬ ‫قيل الكثري عن مناهج التعليم يف دول اخلليج‪ ،‬لكن يف م�صر االزهر ح�صلت مفاج�أة‬ ‫مذهلة عندما ظهرت الإعالمية املعروفة ملي�س احلديدي على �شا�شة تلفزيون ‪ CBC‬وهي‬ ‫وتوجهت للإمام االكرب �شيخ اجلامع االزهر‪ ،‬قائلة هذا الكتاب يحلل‬ ‫مت�سك كتاباً بيدها ّ‬ ‫�أكل حلم الكافر‪ ،‬وهو مقرر لطالبنا‪ .‬لنا �أن نتخ ّيل خطورة هذا املناهج يف �إعداد جيل‬ ‫م�ضلل ي�أخذ بالده �إىل التهلكة‪ .‬كما �صدرت ردود فعل دالة على التفجري الإرهابي‬ ‫‪5‬‬

‫‪6‬‬


‫فكــــــر‬

‫الأخري يف ابها يف اململكة العربية ال�سعودية يف ‪� 6‬آب ‪ .2015‬قال الكاتب امل�سرحي‬ ‫ال�سعودي حممد العيثم يف تغريدة على تويرت‪« :‬مل نر الإرهاب �إال بعد ت�سيي�س الدين‬ ‫لي�صري الوعظ مهنة العاطلني‪ ،‬ويعتلي املنابر جهلة‪ ،‬وحتيد الثقافة النوعية‪ ،‬هذا كله �صنع‬ ‫الإرهاب»‪ .‬كما قال ال�شاعر ال�سعودي حممد الرطيان‪" :‬ابحثوا عن الفكرة التي �آمن بها‬ ‫هذا الأحمق‪ ،‬و�أقنعته �أنه بتفجري امل�سجد وقتل امل�صلني وانتحاره �سيذهب �إىل اجلنة‪..‬‬ ‫()‬ ‫وحاربوها"‪.‬‬ ‫غابت الأغنية الوطنية واالنا�شيد الوطنية وحب االر�ض والوطن عن ثقافة ال�شباب‬ ‫يف الدول العربية والإ�سالمية‪ .‬مل نعد نقر�أ �أدباً وطنياً اال نادراً‪ .‬ويف اال�سا�س تراجعت‬ ‫القراءة �إىل حد بعيد وغاب الفكر النقدي الثقايف وندرت الربامج الثقافية يف التلفزيونات‬ ‫وال�صفحات يف اجلرائد وحلت مكانها ثقافة العناوين والتحري�ض يف الف�ضائيات‪.‬‬ ‫�سمح �ضعف الهوية الوطنية و�سوء التن�شئة الدينية والوطنية للأجيال‪ ،‬و�سمح الرتدد‬ ‫والقلق ال�سائدان يف العامل الإ�سالمي للتيار الوهابي املت�شدد بت�سويق تف�سرياته الفقهية‬ ‫املت�شددة والتي ال تعتمدها غالبية امل�سلمني يف العامل‪ .‬ا�ستفاد هذا التيار من الإمكانات‬ ‫املالية الهائلة املتاحة له �سواء من م�صادر ر�سمية او خا�صة بالإ�ضافة �إىل الت�سهيالت الناجتة‬ ‫عن ا�ستخدام بع�ض الدول لتنظيمات تعتنق هذه العقيدة بدفعها للقتال بالوكالة عنها‬ ‫�ضد مناف�سيها مثل املجاهدين الأفغان مل�صلحة الواليات املتحدة �ضد االحتاد ال�سوفياتي‬ ‫وداع�ش مل�صلحة تركيا �ضد الكرد‪.‬‬ ‫‪7‬‬

‫ثالثاً‪ :‬املواقف ال�سيا�سية امللتب�سة‬

‫�سلك حزب اهلل اللبناين وغالبيته ال�ساحقة من ال�شيعة درب مقاومة االحتالل اال�سرائيلي‬ ‫وا�ستطاع ان�شاء مقاومة جدية ومنظمة وفاعلة متكنت عام ‪ 2000‬من دحر ا�سرائيل عن‬ ‫لبنان‪ ،‬من دون اية �شروط واية مفاو�ضات او ترتيبات‪ .‬العام ‪ 2006‬فاج�أ حزب اهلل العامل‬ ‫ب�إحلاق الهزمية باجلي�ش اال�سرائيلي بعد ‪ 33‬يوماً من الهجمات اجلوية والبحرية وحماوالت‬ ‫التوغل الربي باءت جميعها بالف�شل‪� .‬أثار انت�صار احلزب هلع ا�سرائيل وم�ؤيديها واهمهم‬ ‫الواليات املتحدة وخافوا من ان ي�صبح هذا احلزب مث ًال يف مقاومة ا�سرائيل تعتمده‬ ‫القوى العربية املختلفة‪ .‬حاز حزب اهلل ب�شكل الفت على ت�أييد ون�صرة ال�شعوب العربية‬ ‫والإ�سالمية وظهرت �صور االمني العام ال�سيد ن�صر اهلل يف القاهرة ويف عوا�صم ومدن‬ ‫عربية و�إ�سالمية اخرى‪ .‬رف�ض حزب اهلل كل �أ�شكال الفتنة املذهبية وقدم تنازالت‬ ‫�سيا�سية �أبرزها التحالف االنتخابي مع تيار امل�ستقبل والقوات اللبنانية العام ‪ 2005‬وهما‬ ‫احلزبان الأكرث خ�صومة وانتقاداً للمقاومة و�أكرث املطالبني بنزع �سالح املقاومة‪ .‬كما رد‬ ‫‪91‬‬


‫ال�سيد ح�سن ن�صر اهلل على مقتل �أربعة منا�صرين للحزب العام ‪ 2007‬بقوله‪ :‬لو قتلوا منا‬ ‫الفاً لن ننجر �إىل الفتنة‪.‬‬ ‫امام وهج االنت�صار الكبري على ا�سرائيل مل يجد تنظيم القاعدة الذي جذب ال�شباب يف‬ ‫عملية ‪ 11‬ايلول ‪� 2001‬أي مدخل للتعر�ض �إىل حزب اهلل وانتقاده ومل تنجح طروحات‬ ‫اخلالف ال�سني ال�شيعي التي يثريها عادة هذا التنظيم‪.‬‬ ‫يف مكان �آخر يف العراق ظهرت تعقيدات يف العالقات ال�سنية ال�شيعية ادت �إىل ت�صادم‬ ‫خطري‪ ،‬ووفرت مادة لإعداد وتن�شئة الإرهابيني‪ .‬كان ال�شيعة ينظرون �إىل �صدام ح�سني‬ ‫انه دكتاتور وطاغية وجائر‪ ،‬ويف الوقت نف�سه يعتربون امريكا عدواً‪ .‬تعقد املوقف عندما‬ ‫هاجم العدو االمريكي العدو البعثي �صدام‪ .‬انت�صر االمريكي و�سقط �صدام و�أُعدم‪ .‬هنا‬ ‫بد�أت �إ�شكالية �سيا�سية خطرية‪ :‬هل ميكن التعامل مع االمريكي �أنه منقذ وحليف؟‬ ‫كيف ينظرون �إىل ال�شخ�صيات ال�سيا�سية واالحزاب التي جاءت "على ظهر الدبابات‬ ‫الأمريكية"‪ ،‬وحتديداً املجل�س الإ�سالمي الأعلى وحزب الدعوة اللذين اجتمع قادتهما‬ ‫مع ر�ؤ�ساء �أمريكيني ون�سجوا عالقات حتالف مع امريكا و�شكلوا حكومات بر�ضى‬ ‫الأمريكيني؟ هل هم فع ًال عمالء لأمريكا كما كان انطوان حلد عمي ًال لإ�سرائيل؟ �أم هم‬ ‫منا�ضلون �ضد جور نظام البعث؟ مل تعالج هذه اال�شكالية ومل تو�ضح للجمهور ال�شيعي‪،‬‬ ‫كما �أن اجلمهور ال�سني يف معظم �أنحاء العامل نظر �إىل قادة احلزبني املذكورين وقادة‬ ‫احلزبني الكرديني جالل الطالباين وم�سعود الربزاين �أنهم عمالء لأمريكا‪ .‬ثم انه �إذا كان‬ ‫االمر ايديولوجيا اي �ضد البعث وطرح مو�ضوع اجتثاث البعث فكيف يتم التعامل مع‬ ‫البعث يف �سوريا؟ الي�س لأ�سباب طائفية كما اعتربها املت�شددون؟ �أدى ذلك الغمو�ض‬ ‫�إىل تغييب م�س�ؤولية بع�ض الدول العربية والإ�سالمية‪ ،‬خ�صو�صاً دول اخلليج التي �شاركت‬ ‫الأمريكيني بغزو العراق واىل حتميل م�س�ؤولية الغزو للأكراد ولل�شيعة الذين تعاونوا مع‬ ‫االحتالل االمريكي قبل الغزو وبعده‪.‬‬ ‫ما �إن بد�أت املقاومة �ضد االحتالل االمريكي حتى حتول ق�سم منها �إىل �إرهاب �ضد‬ ‫ال�شيعة يف احيائهم وا�سواقهم ومعابدهم ومقد�ساتهم واحتفاالتهم‪ ،‬وكان �أخطرها تفجري‬ ‫مرقد االمامني الع�سكريني يف �سامراء الذي �أ�شعل جولة من العنف الطائفي يف جميع‬ ‫انحاء العراق‪ .‬منت القاعدة والفكر الوهابي املت�شدد وح�ضرت فتاوى ابن تيمية وابن قيم‬ ‫اجلوزية يف ظل هذه اال�شكالية ال�سيا�سية العميقة حول موقف ال�شيعة من االحتالل‬ ‫الأمريكي‪ ،‬وعلى وقعها انتقل العراق �إىل مرحلة ت�صادم مذهبي انطالقا من اتهام ال�سلطة‬ ‫ال�شيعية اجلديدة يف العراق بالعمالة لأمريكا‪ .‬مل تقدم هذه ال�سلطة تربيرات مقنعة‪ ،‬ومل‬ ‫تقدم منوذجا مقبوال يف ادارة الدولة‪ ،‬وال يف ن�شر العدل وامل�ساواة‪ ،‬وفر�ض �سلطة القانون‪،‬‬


‫فكــــــر‬

‫واعادة بناء امل�ؤ�س�سات‪ ،‬االمر الذي ادى �إىل انت�شار الف�ساد ب�شكل ال ُيطاق‪ ،‬واىل انعدام‬ ‫اخلدمات‪ ،‬وتخلف البنى التحتية وتراجع فر�ص العمل‪ ،‬وزيادة الفقر رغم مدخول النفط‪.‬‬ ‫كانت الطامة الكربى عندما انهار اجلي�ش العراقي يف حمافظات نينوى واالنبار و�صالح‬ ‫الدين والذي يبلغ عدد وحداته هناك ‪ 30‬الفاً ان�سحبوا امام الفني من داع�ش مما ك�شف‬ ‫�إهما ًال كبرياً يف بناء امل�ؤ�س�سة الع�سكرية واالمنية‪ ،‬وفقدان العقيدة القتالية والهوية الوطنية‬ ‫واالن�ضباط الع�سكري‪ .‬لكن االخطر كان تدرج االحت�ضان ال�شعبي لداع�ش يف املناطق‬ ‫ال�سنية من الالمباالة جتاهها �إىل ت�أييدها فور و�صولها‪ ،‬لي�س حباً بها بل نفوراً من احلكومة‪.‬‬ ‫بعدما متكنت داع�ش من ا�سباب القوة يف املناطق ال�سنية يف العراق تغيرّ املزاج ال�سني‬ ‫منها‪ ،‬لكن بعد فوات االوان‪.‬‬ ‫املت�شددة واحلجج‬ ‫تطرح هذه الوقائع املداخل التي �سلكتها املنظمات الإرهابية الوهابية‬ ‫ّ‬ ‫التي اعتمدت عليها يف تعبئة ال�شباب ال�سني وحتري�ضهم �ضد ال�شيعة كطائفة ب�سبب ما‬ ‫اعتربوه تبعية قياداتهم واحزابهم للواليات املتحدة واالثر البالغ لذلك يف تن�شئة وحتري�ض‬ ‫الإرهابيني‪ .‬يف املقابل وكما ذكرنا ف�شلت قيادات ال�شيعة يف تقدمي تربير مقنع ال لل�شيعة وال‬ ‫لل�سنة‪ ،‬فعززت تلك املنظمات تعبئتها للإرهابيني وكرثت العمليات الإرهابية االنتحارية‬ ‫�ضد املدنيني ال�شيعة و�ضد املراكز احلكومية واالكراد وامل�سيحيني وباقي االقليات‪.‬‬ ‫هذه �إحدى احلاالت امللتب�سة يف املوقف ال�سيا�سي لل�شيعة العراقيني جتاه االحتالل‬ ‫االمريكي يف العراق‪ .‬وهناك حاالت اخرى ا�ستغلها الوهابيون املت�شددون للتحري�ض‬ ‫املذهبي و�أدت �إىل منو كبري يف الإرهاب‪.‬‬ ‫رابعا‪ :‬ال�شعارات وامل�صطلحات‪:‬‬

‫نظراً لن�سبة االمية العالية يف الدول العربية والإ�سالمية وتراجع عدد القراء العرب و�سيطرة‬ ‫االعالم املرئي وامل�سموع‪ ،‬خ�صو�صاً الف�ضائي على اجلمهور العربي والإ�سالمي‪ ،‬تغريت‬ ‫و�سائل التقرب والتوجه للر�أي العام و�شاع اعتماد التلفزيون الذي يدخل بال�صوت‬ ‫وال�صورة �إىل جميع املنازل‪.‬‬ ‫يرتكز االعالم التلفزيوين املخ�ص�ص لتوجيه الر�أي العام على عناوين و�شعارات �أكرث‬ ‫منه على البحث والنقد‪ .‬و�إذا جرى اال�سهاب يف عر�ض م�س�ألة �سيا�سية او دينية يكون‬ ‫امل�ضمون موجهاً نحو الغرائز ولي�س نحو العقول‪ .‬حتر�ص بع�ض التلفزيونات يف برامج احلوار‬ ‫ال�سيا�سي توك �شو على اظهار مبارزات اكرث من مناق�شات‪ ،‬وت�ستعمل خطاب التحري�ض‬ ‫املرتكز على �شعارات وم�صطلحات تدخل مبا�شرة �إىل ذهن امل�شاهد‪ .‬من هنا ال بد من‬ ‫�إعارة امل�صطلح اهمية بالغة نظراً لت�أثريه على الر�أي العام وا�سهامه يف تعبئة الإرهابيني‪.‬‬ ‫‪93‬‬


‫قبل البدء بعر�ض بع�ض ال�شعارات وامل�صطلحات نعر�ض مل�صطلحني كان لهما ت�أثري كبري‬ ‫يف الر�أي العام‪.‬‬ ‫الأول‪ :‬م�صطلح احلروب ال�صليبية الذي ي�ستخدمه معظم امل�ؤرخني‪ .‬ابان تلك احلروب مل‬ ‫ي�سمونهم‬ ‫تذكر امل�صادر العربية وال االوروبية كلمة ال�صليبية وال ال�صليبيني‪ .‬كان العرب ّ‬ ‫الفرجنة وكان الأوروبيون ي�سمونهم باحلجاج ‪ .Pilgrims‬اما م�صطلح احلروب ال�صليبية فقد‬ ‫ظهر يف القرن الثامن ع�شر و�أطلق على غزوات الفرجنة وذلك لإ�ضفاء طابع ديني و�أخالقي‬ ‫على تلك احلروب‪ ،‬وت�شبيه اال�ستعمار االوروبي من بريطاين وفرن�سي وبرتغايل الذي كان‬ ‫�سائداً يف ذلك الع�صر باحلروب ال�صليبية‪ .‬كان من نتيجة هذا امل�صطلح هو �إثارة �شكوك‬ ‫العرب وامل�سلمني بامل�سيحيني يف ال�شرق وتوجيه تهمة دائمة لهم بالوالء للغرب‪ ،‬يف حني‬ ‫كان امل�سيحيون م�ستهدفني من حروب الفرجنة مثلما كان امل�سلمون‪ ،‬و�أن احلملة ال�صليبية‬ ‫الرابعة توجهت حتديداً �ضد م�سيحيي ال�شرق‪ .‬خلق هذا امل�صطلح هوة بني امل�سلمني العرب‬ ‫وم�سيحيي ال�شرق‪ ،‬ورغم ذلك مل يغريه �أحد وبقي فاع ًال يف الثقافة العربية والإ�سالمية‪.‬‬ ‫م�صطلح �آخر ا�ستعمله الإ�سرائيليون وهو م�ستعمرة �أي القرى املبنية على �أرا�ضي الفل�سطينيني‬ ‫امل�سلوبة يف الفرتة من الثالثينات �إىل ال�سبعينات من القرن املا�ضي‪ .‬كان هذا امل�صطلح‬ ‫فاعال يف الر�أي العام الفرن�سي والربيطاين الذي كان هو اي�ضاً م�ستعمراً ور�أى امل�ستعمرات‬ ‫اال�سرائيلية �شبيهة مب�ستعمراته‪ .‬عام ‪ 1970‬بعدما ب�سطت الواليات املتحدة هيمنتها على‬ ‫ال�سيا�سة الدولية‪ ،‬خ�صو�صا يف ال�شرق االو�سط وباتت احلليف االول لإ�سرائيل وتراجع دور‬ ‫فرن�سا وبريطانيا‪ ،‬غيرّ اال�سرائيليون م�صطلح م�ستعمرة وبد�أوا با�ستعمال م�ستوطنة‪ ،‬وذلك يف‬ ‫ر�سالة للر�أي العام االمريكي الذي هو �أ�سا�ساً م�ستوطن يف امريكا ب�أنهم مثله م�ستوطنون‪ .‬وهذا‬ ‫ما �سهل الدعاية اال�سرائيلية يف الواليات املتحدة و�سهل اال�ستيطان اي اغت�صاب االر�ض‪.‬‬ ‫اليكم بع�ض امل�صطلحات امل�ستخدمة والتي تثري اجلدل واخلالفات املذهبية التي ي�ستفيد‬ ‫منها من يقوم ب�إعداد وتن�شئة الإرهابيني‪.‬‬ ‫الرواف�ض والنوا�صب‬

‫الراف�ضة كلمة �أطلقت على ال�شيعة الإمامية ب�سبب موقف �سيا�سي‪ ،‬والرف�ض هنا معناه‬ ‫املعار�ضة يف ع�صرنا احلايل‪ .‬كانت الراف�ضة هي املعار�ضة‪ .‬ين�سب بع�ض امل�ؤرخني ان اول‬ ‫من �أطلق كلمة رواف�ض هو ال�شيعة الزيدية على ال�شيعة االمامية‪ .‬اما النوا�صب فهي‬ ‫تطلق على من ن�صب العداء لأهل البيت‪ .‬بتعميم ا�ستعمال هذين امل�صطلحني ي�صبح‬ ‫كل ال�شيعة راف�ضة �أي معار�ضة‪ ،‬وكل ال�سنة نوا�صب �أي ين�صبون العداء لأهل البيت‪ .‬اذا‬ ‫كان بنو امية قد ن�صبوا العداء لأهل البيت فقد جاء بنو العبا�س وق�ضوا عليهم و�أ�سقطوا‬


‫فكــــــر‬

‫دولتهم وانتهت الق�ضية منذ ثالثة ع�شر قرناً؟ فلماذا ت�ستح�ضر اليوم م�صطلحات تفرز‬ ‫الطوائف وتعمق االنق�سامات‪ .‬عندما يقال للإرهابي اثناء تن�شئته �أن الراف�ضة يتهمونك‬ ‫ب�أنك تن�صب العداء لأهل البيت‪ ،‬وهذا غري �صحيح ي�صدق الإرهابي املبتدئ وتتعمق‬ ‫كراهيته واحقاده‪ .‬وعندما يتهم ال�شيعي بالرف�ض تثار م�شاعره وك�أنه تلقى �إهانة‪.‬‬ ‫الفئة الباغية واخلوارج والفرقة الناجية‬

‫ثمة َمن ي�ستعمل تعبري الفئة الباغية للداللة على الإرهابيني فيعيد ال�صراع ال�سيا�سي‬ ‫العقائدي القائم اليوم �إىل زمن اخلالفات والفنت الإ�سالمية‪ ،‬والتي مل جتد لها ح ًال مقبو ًال‬ ‫من اجلميع منذ �أربعة ع�شر قرناً‪ ،‬في�سهم يف ا�ستح�ضار تلك اخلالفات �إىل هذا الزمن ويف‬ ‫ت�سعري امل�شاعر و�إثارة الغرائز‪ .‬ينطبق ذلك على اخلوارج وهو م�صطلح �أول ما عرف هو‬ ‫عن الذين خرجوا عن طاعة الإمام علي بن �أبي طالب بعد معركة �صفني‪ .‬لكن ما هي‬ ‫امل�صلحة يف �إعادة الأمور �أربعة ع�شر قرناً �إىل اخللف؟ �أما م�صطلح الفرقة الناجية فهو من‬ ‫اخطر امل�صطلحات حيث تعترب الفرقة التي تعترب نف�سها �أنها الناجية بينما باقي الفرق‬ ‫ذاهبة �إىل النار‪ .‬وهي وحدها تفوز باجلنة‪ .‬وعند �إقناع ال�شباب ب�أنهم ينتمون �إىل الفرقة‬ ‫الناجية لأنهم ينتمون �إىل التنظيمات الإرهابية‪ ،‬ي�صبح الهجوم على باقي الفرق م�شروعاً‬ ‫وي�صل احلد �إىل القيام بعمليات انتحارية �ضد باقي الفرق‪.‬‬ ‫جبهة الن�رصة �أم القاعدة؟‬

‫ينت�شر تنظيم القاعدة يف �سوريا حتت ا�سم تنظيم القاعدة يف بالد ال�شام – جبهة الن�صرة‪،‬‬ ‫ويحر�ص حممد اجلوالين‪ ،‬قائد التنظيم‪ ،‬على ت�أكيد الوالء والطاعة لأمين الظواهري‬ ‫زعيم تنظيم القاعدة العاملي‪ .‬ي�صدر التنظيم بياناته بعنوان تنظيم القاعدة يف بالد ال�شام‬ ‫– جبهة الن�صرة‪ .‬رغم ذلك يحر�ص �سيا�سيون و�إعالميون على االكتفاء بعنوان جبهة‬ ‫الن�صرة و�إغفال القاعدة من العنوان الأ�سا�سي؛ وهذا ما ي�ضفي طابعاً وطنياً �سورياً معار�ضاً‬ ‫على هذا التنظيم‪ ،‬فيما هو يف احلقيقة جزء من التنظيم العاملي للقاعدة يرتبط ب�أجندتها‬ ‫يف املنطقة‪ .‬و�سوريا بالن�سبة �إليه �ساحة مثل باقي ال�ساحات يف العراق واليمن وم�صر‬ ‫وغريها‪� .‬إن الرتكيز على م�صطلح "الن�صرة" ُي�سهم يف �إخفاء طابع الإرهاب الدويل على‬ ‫هذا التنظيم ويحول منت�سبيه الإرهابيني �إىل وطنيني بنظر العديد من القوى ال�سيا�سية‪.‬‬ ‫الإرهاب التكفريي‬

‫ينت�شر ا�ستخدام م�صطلح الإرهاب التكفريي ب�شكل وا�سع‪ .‬وهو ي�شمل تنظيم القاعدة‬ ‫‪95‬‬


‫وتنظيم داع�ش‪� .‬إن ا�ستعمال هذا امل�صطلح يوحي �أن هناك م�شكلة عقائدية �أو فقهية مع هذين‬ ‫التنظيمني‪ ،‬فيما امل�شكلة هي �سيا�سية و�أمنية‪ .‬يو�صلنا الدخول يف االتهام بالتكفري �إىل اتهامات‬ ‫متبادلة‪ .‬يف لبنان مث ًال يتهم بع�ض قادة تيار امل�ستقبل وقادة املعار�ضة ال�سورية ( ) حزب اهلل ب�أنه‬ ‫حزب تكفريي وذهب بع�ضهم �إىل اعتبار حزب اهلل وداع�ش وجهني لعملة واحدة ( )‪ .‬و�إذا‬ ‫دخل �أحد يف �سجال حول هذا االتهام ي�صبح م�صطلح "تكفريي» مثار جدل فكري وفقهي‬ ‫فيما عنوان التنظيمني �أي القاعدة وداع�ش يخت�صران اّ‬ ‫ويدلن على الإرهاب ب�شكل تام‪� .‬إذا‬ ‫تو�سعنا با�ستخدام م�صطلح التكفري نتخ ّيل ر ّد فعل الإرهابيني عندما يتلقون هذه التهمة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وي�سارع مفكروهم �إىل ر ّد التهمة بالتكفري امل�ضاد‪ ،‬واملزيد من التحري�ض وا�ستح�ضار اختالفات‬ ‫املا�ضي ووقائع غري مثبتة يف التاريخ من �أجل تدعيم عقيدة الإرهابي‪.‬‬ ‫نرى �أن ا�ستعمال م�صطلح التكفري ي�سهم بت�شتيت اجلهود يف املعركة �ضد الإرهاب‪.‬‬ ‫ن�سميهم ب�أ�سمائهم‬ ‫ن�سمي الأ�شياء ب�أ�سمائها؟ ملاذا ال ّ‬ ‫وال�س�ؤال الذي يطرح نف�سه ملاذا ال ّ‬ ‫داع�ش والقاعدة؟ وما هو الهدف من �إطالق ال�صفات والألقاب مثل الإرهاب التكفريي؟‬ ‫‪8‬‬

‫‪9‬‬

‫خال�صة‬

‫ال �شك يف �أنه يف املح�صلة العامة يقف تنظيم الدولة الإ�سالمية والقاعدة يف وجه خط‬ ‫املقاومة �ضد �إ�سرائيل وامل�شروع ال�صهيوين و�أن �أداءهما يخدم م�صالح الواليات املتحدة‬ ‫و�إ�سرائيل‪ّ .‬‬ ‫املتفرعة عنهما من �ضرب بنى الدولة‬ ‫متكن هذان التنظيمان والتنظيمات ّ‬ ‫واملجتمع يف العراق و�سوريا وليبيا وال�صومال و�إىل حد ما يف اليمن و�أفغان�ستان‪ .‬كما‬ ‫يهددان ا�ستقرار دول مهمة مثل باك�ستان واململكة العربية ال�سعودية وم�صر واجلزائر‬ ‫�أنهما ّ‬ ‫وينفذان هجمات انتحارية �إرهابية يف هذه الدول‪ .‬كرث احلديث عن مكافحة الإرهاب‪،‬‬ ‫خ�صو�صاً من الواليات املتحدة التي �سعت �إىل تبني جمل�س الأمن القرار رقم ‪1373‬‬ ‫ملكافحة الإرهاب العام ‪ .2001‬ومنذ تبني هذا القرار حتى اليوم وبد ًال من الق�ضاء على‬ ‫تو�سع و�ضرب يف �أنحاء عديدة يف العامل و�أدى �إىل تقوي�ض اال�ستقرار‬ ‫الإرهاب نراه وقد ّ‬ ‫تتحرك الدول املت�ضررة من الإرهاب من �أجل االجتماع مع‬ ‫يف الدول املذكورة �آنفاً‪ .‬مل ّ‬ ‫بع�ضها البع�ض وتب ّني مواقف �سيا�سية و�إجراءات تن�سيقية فيما بينها ملكافحة الإرهاب‪.‬‬ ‫والأ�سو�أ �أنه مل يتم االتفاق بني الدول املت�ضررة على حتديد التنظيمات الإرهابية‪ .‬غرق‬ ‫قادة بع�ض الدول و�أغرقوا �شعوبهم يف قراءات خاطئة وغريبة حول الإرهاب‪� ،‬إذ �إن بع�ضهم‬ ‫مث ًال يعترب تنظيم الدولة الإ�سالمية الذي يحتل ن�صف م�ساحة �سوريا وي�شكل خطراً كبرياً‬ ‫على النظام �أنه من �صنع النظام‪ ،‬فيما ذهب بع�ض �آخر �إىل اتهام �إيران �أنها وراء تنظيم‬ ‫داع�ش‪ ،‬و�آخرون �إىل اتهام رو�سيا‪� .‬أما تنظيم القاعدة الإرهابي فقد منحته بع�ض القوى‬ ‫�أ�سباباً تخفيفية‪ ،‬و�أ�صبح معار�ضة �سورية ويف بع�ض الأحيان ثواراً �سوريني‪� .‬سادت النظرة‬ ‫‪96‬‬


‫فكــــــر‬

‫نف�سها يف العراق حيث اعترب البع�ض داع�ش معار�ضة عراقية ويف م�صر اعتربت �ألوية بيت‬ ‫املقد�س يف �سيناء وم�صر �أنها معار�ضة لالنقالب! ويف ليبيا �أنها تنظيم َق َبلي جهوي‪.‬‬ ‫ال ميكن مكافحة الإرهاب من دون النظر �إىل جذوره وم�صطلحاته واملواقف ال�سيا�سية‬ ‫املحيطة به‪ .‬كل ذلك ال يلغي الت�صدي الأمني والع�سكري للإرهاب الذي يبقى �ضرورة‬ ‫وواجباً من �أجل الدفاع عن �أمن الدول واملجتمعات وحفظ الرتاث والعقائد‪� .‬إن الإهمال‬ ‫الوا�ضح يف التطرق بجدية و�صراحة لبع�ض النقاط مثل التي وردت يف الفقرات ال�سابقة‬ ‫ي�ؤدي �إىل بطء يف مكافحة الإرهاب الذي يتميز بال�سرعة اخلاطفة وال ينتظر �أحداً وينتهز‬ ‫�أية فر�صة لي�ضرب‪ .‬كما �أن هذا الإهمال ي�ؤدي �إىل عدم تدعيم االنت�صارات الع�سكرية‬ ‫على الإرهاب بانت�صارات ثقافية اجتماعية �سيا�سية ت�سهم يف تر�سيخ الق�ضاء عليه من‬ ‫داخل نفو�س معتنقيه‪.‬‬

‫‪97‬‬


‫مراجع‬

‫(‪ )1‬علي عبد الرازق‪ :‬الإ�سالم و�أ�صول احلكم‪ .‬كتاب �صدر العام ‪ُ 1925‬بعيد �إنهاء اخلالفة‬ ‫العثمانية تع ّر�ض م�ؤلفه ل�ضغط من ملوك العرب ال �سيما امللك ف�ؤاد‪ ،‬الذين كانوا يطمحون‬ ‫بلقب اخلالفة ومنع الكتاب‪.‬‬ ‫(‪ )2‬ابن تيمية‪ ،‬فقيه ولد العام ‪ 1263‬م وتوفى العام ‪1328‬م عا�صر �سقوط ال�صليبيني وهزمية‬ ‫املغول ون�شوء دولة املماليك عرف ب�أنه �أ�صدر فتاوى تكفري عدد من املذاهب الإ�سالمية‪.‬‬ ‫( ‪ )3‬ابن الوردي �شاعر عا�ش يف �شمال �سوريا يف �أوائل القرن الرابع ع�شر يف عهد دولة‬ ‫املماليك وعا�صر الفقيه ابن تيمية‪.‬‬ ‫(‪ )4‬رامي عبد الرحمن مدير املر�صد ال�سوري حلقوق الإن�سان يف مقابلة مع تلفزيون �سكاي‬ ‫نيوز عربية‪ .‬الرابط‬ ‫‪https://www. facebook. com/syriahro/videos/10153556957703115‬‬

‫(‪ )5‬برنامج املعرفة حول املجتمع املدين يف غرب �آ�سيا‪ .‬ن�شرة لر�ستم حممود بتاريخ ‪ 4‬حزيران‪.‬‬ ‫الرابط‬ ‫‪http://www. hivos. net/Hivos-Knowledge-Programme/Themes/Civil‬‬‫‪Society-in-West-Asia/node_8905/node_32493‬‬

‫(‪ )6‬حما�ضرة لل�شيخ بندر اخليربي الرابط‪:‬‬

‫‪article/detail/203180‬‬

‫‪http://akhbaar24. argaam. com/‬‬

‫(‪ )7‬جريدة الوطن ال�سعودية عدد ‪� 7‬آب‪� /‬أغ�سط�س ‪.2015‬‬ ‫(‪ )8‬ع�ضو االئتالف الوطني للمعار�ضة ال�سورية مي�شال كيلو يف حديث �إىل جريدة الوطن‬ ‫ال�سعودية ‪� 19‬آذار‪ /‬مار�س ‪.2014‬‬ ‫النائب ال�سابق م�صطفى علو�ش يف مداخلة يف برنامج مبو�ضوعية على �شا�شة حمطة ‪ MTV‬يف‬ ‫‪� 27‬آب‪� /‬أغ�سط�س ‪.2014‬‬ ‫النائب احمد فتفت يف حديث �إىل جريدة النهار يف ‪ 27‬كانون االول‪ /‬دي�سمرب ‪.2013‬‬ ‫(‪ )9‬رئي�س حزب القوات اللبنانية يف حديث �صحايف بتاريخ ‪� 15‬شباط فرباير ‪.2015‬‬ ‫النائب ال�سابق حممد عبد احلميد بي�ضون يف حديث �إىل جريدة الوطن ال�سعودية يف ‪6‬‬ ‫�أكتوبر‪ /‬ت�شرين االول ‪.2014‬‬ ‫‪98‬‬


‫فـكــــــــر‬

‫الدين والأ�سطورة *‬

‫درا�سة مقارنة يف الفكر الغربي والإ�سالمي‬ ‫وفيق غريزي ‪ -‬باحث‬

‫الأ�سطورة واحدة الأ�ساطري‪ ،‬وهي لغة ما ّ‬ ‫�سطره الأولون‪ ،‬والأ�ساطري هي الأباطيل‪ ،‬و�أحاديث ال‬ ‫نظام لها‪ .‬ومن هنا ُيقال للرجل �إذا �أخط�أ‪� ،‬أ�سطر فالن اليوم‪ ،‬والإ�سطار هو الإخطاء‪.‬‬ ‫و�أما الأ�سطورة يف اللغات الأوروبية فهي م�شتقة من �أ�صل يوناين وتعني ال�شفه ّية‪ .‬ومن ثم‬ ‫ا�ستعملت يف احلكايات التي تروي �أفعال الآلهة �أو مغامرات الأ�سالف البطولية‪� .‬أو هي حكاية‬ ‫عدة‪.‬‬ ‫ت�ضطلع فيها الآلهة بدور �أو ب�أدوار رئي�سية ّ‬ ‫والذهنية الأ�سطورية‪ ،‬ح�سب الباحثني الغربيني‪ ،‬هي �سابقة على الذهنية الفل�سفية وهي بدورها‬ ‫ت�سبق الذهنية العلمية املعا�صرة‪ .‬وال �شك يف �أن الأ�سطورة لعبت وال تزال تلعب دوراً مهماً‬ ‫يف �صياغة الفكر و�إدارة احلياة العملية للإن�سان‪ ،‬وذلك من خالل الإجابة على �أ�سئلة تتعلق‬ ‫بالكون ما فوق الطبيعة‪ ،‬املجتمع وعامل النف�س‪ ،‬ومن هنا وبح�سب جيم�س هول�س ميكن النظر �إىل‬ ‫الأ�سطورة من زوايا خمتلفة‪.‬‬ ‫�إن الأ�سطورة تعمل على تزويد فكرة الألوهية ب�ألوان وظالل ح ّية‪ ،‬لأنها تر�سم للآلهة �صورها التي‬ ‫يتخ ّيلها النا�س‪ ،‬وتعطيها حياتها‪ ،‬و�صفاتها و�ألقابها‪ ،‬وتكتب لها �سريتها الذاتية وتاريخ حياتها‪ .‬ومبا‬ ‫�أن اخلربة الدينية لي�ست يف �أ�سا�سها خربة عقلية‪ ،‬بل انفعالية‪ ،‬ف�إنها ال تتطلب بطبيعتها الربهان‬ ‫وال تتط ّلع �إليه‪ ،‬و�إمنا تتطلب معاد ًال مو�ضوعياً ميو�ضعها يف اخلارج وي�سبغ عليها م�شروعية ومعقولية‪،‬‬ ‫وذلك من خالل ميثولوجيا جتعل التجربة الدينية م�شرتكة مع الآخرين ما دامت حمافظة على‬ ‫طاقتها الإيحائية العالية‪ .‬وهنا تعمد الأ�سطورة �إىل ا�ستنفاد القوى ال�سحرية للغة‪ ،‬من �أجل مو�ضعة‬ ‫خربة كالئية بالقد�سي ال تنفع يف تو�صيلها مفردات اللغة امل�ستمدة من التجربة اليومية‪.‬‬ ‫ولقد �شهد الفكر الغربي ظهور ت�صورات خمتلفة حول الأ�سطورة انطالقاً من اعتبارين �أ�سا�سيني‪.‬‬ ‫الأول‪ :‬تاريخية الأفهوم‪ ،‬والثاين‪ :‬الو�سائط والأدوات املعرفية املختلفة ملقاربة الأفهوم‪.‬‬ ‫*‬

‫الدين والأ�سطورة ـ حممد م�صطفوي ‪ -‬االنت�شار العربي ـ بريوت ‪2014‬‬ ‫‪99‬‬


‫الأ�سطورة يف النظرة الفل�سفية‬ ‫�إن املقاربة الفل�سفية لأفهوم الأ�سطورة تعتمد على اعتبارين �أ�سا�سيني‪� :‬أو ًال‪ :‬االعتبار الأنطولوجي‪،‬‬ ‫حيث يرى �أ�صحاب النظر الفل�سفي �صلة قربى بني الأ�سطورة والوجود‪ ،‬ويعتربون ح�سب قول‬ ‫امل�ؤلف‪�« :‬إن الأ�سطورة هي لغة التعبري عن الوجود تعبرياً جمازياً �أو رمزياً»‪.‬‬ ‫ثانياً‪ :‬النظرة ال�شمولية‪ ،‬تعتمد النظرة الفل�سفية على التف�سري ال�شامل للكون واحلياة وق�ضاياهما‪،‬‬ ‫ومن هنا «ف�إن الأ�سطورة ُينظر �إليها باعتبارها جت�سيداً لهذا البعد الكلياين وال�شمويل �إىل الكون‬ ‫واحلياة»‪ ،‬و ُي َع ّد �أفالطون (‪ 429‬ـ ‪ )347‬ق‪.‬م‪ .‬من ر ّواد الفل�سفة الكال�سيكية اليونانية‪.‬‬ ‫وت�شكل حماورات �أفالطون وم�ساعيه النظرية �أوىل امل�ساهمات الفل�سفية لفهم الإن�سان والكون‪.‬‬ ‫وقد ا�شتملت ت�صوراته على جمموعة هامة من الأ�ساطري اليونانية‪ ،‬بل �أفكاره توليفة من العقالئية‬ ‫والعرفان‪ ،‬واملنطق والأ�سطورة‪ ،‬وهنا تكمن �صعوبة فهم النظريات التي يطرحها‪.‬‬ ‫وي�ؤكد امل�ؤلف �أن �أفالطون ي�ستخدم الأ�سطورة ويوظفها لأغرا�ض فل�سفية‪� ،‬سواء �أكان يعتقد‬ ‫مب�ضامينها �أم ال‪ .‬ويظهر بو�ضوح اال�ستعانة من الأ�سطورة يف ما �أورده من املقاربة ملفهوم الروح‬ ‫عدة تلتحم حولها �أج�ساد حيوانات‬ ‫قائ ًال‪�« :‬إنها تركيبة من الإن�سان والأ�سد ووح�ش ذي ر�ؤو�س ّ‬ ‫�أهلية ووح�شية»‪ .‬ويف بيان �أق�سام الروح ومراتبها الت�سعة‪ ،‬يقوم باجلهد الفل�سفي املعقد نف�سه‬ ‫منطلقاً من توظيف الأ�سطورة و�أبعادها العملية يف تف�سري احلقائق املت�صورة‪.‬‬ ‫�أما الفيل�سوف الأملاين هيغل فيت�صل ت�صوره ملفهوم الأ�سطورة‪ ،‬باعتبارين هما‪ :‬املعرفة والدين‪.‬‬ ‫ويقول امل�ؤلف‪« :‬يعترب هيغل بخالف عمانوئيل كانط‪� ،‬أن املعرفة نتيجة جدلية الإن�سان والتاريخ‪.‬‬ ‫وعليه ف�إن التاريخ من مكونات املعرفة‪ ،‬ولي�ست املعرفة وليدة الأذهان املختلفة فقط‪ ،‬كما يقول‬ ‫كانط»‪ .‬ويرى هيغل �أن الوعي الأ�سطوري ومنطه من ّ‬ ‫ت�شكل الروح و�صريورتها الواقعية‪ .‬كما يعترب‬ ‫�أن املعرفة هي التحقق الفعلي للروح‪� ،‬إن املنطق اجلديل الذي يقول به هيغل‪ ،‬ال يقول (�أ) لي�ست‬ ‫(�أ) فذلك حمال‪ .‬ولكن �إن كانت (�أ) تتطابق مع حقيقة‪� ،‬إال �إذا كانت ق�ضية بينة بال معنى‪ ،‬ف�إن‬ ‫(�أ) متلك يف ذاتها �صريورة �أبعد منها‪�( .‬أ) هي (�أ) ولكن �أي�ضاً �أكرث من (�أ)‪.‬‬ ‫�إن الوحي بح�سب هيغل هو مبثابة انك�شاف الأمر املطلق‪ .‬واملطلق الذي تارة يتبلور لدى هيغل‬ ‫ب�شكل العقل‪ ،‬وتارة �أخرى ب�شكل الدين يف �صريورة دائمة‪ .‬ومفهوم تاريخي يح�صل التقدم فيه‬ ‫بوا�سطة احلذف والتجاوز‪ .‬وال�صورة الأوىل للدين ح�سب هيغل‪ ،‬هي‪�« :‬أن ال�صورة الأوىل للدين‬ ‫ن�سميها بال�سحر هي عبارة عن الأمر الروحي الذي ميلك �سلطة على الطبيعة‪ ،‬غري �أن الأمر‬ ‫التي ّ‬ ‫الروحي مل يبلغ مرتبة الروح‪� ،‬أي ال�صورة الكاملة بل ال يزال �أمراً جزئياً وم�ؤقتاً‪� .‬إن الإن�سان‪ ،‬يف‬ ‫مرحلة ال�سحر‪ ،‬يرى نف�سه م�سيطراً على الطبيعة‪ ،‬و�إن كانت ال�سلطة‪ ،‬هذه‪ ،‬خيا ًال ال حم�ضاً‪ ،‬على‬ ‫�أن هذه ال�سلطة‪ ،‬ب�شكل عام �سلطة مبا�شرة على الطبيعة»‪.‬‬ ‫‪100‬‬


‫فكــــــر‬

‫ومن وجهة نظر هيغل‪ ،‬ف�إن الأ�سطورة هي حقيقة‪ ،‬ال مفر منها‪ ،‬وهي تعبري عن مرحلة تاريخية‬ ‫وواقعية من الفهم املرتابط واملتوا�صل للحقيقة‪ ،‬ولها �صلة بالزمان واملكان ومدى قدرة الإن�سان‬ ‫على �صور التعاطي مع املفاهيم واالعتبارات املركبة واملعقدة‪.‬‬ ‫وبالن�سبة �إىل مفهوم الأ�سطورة‪ ،‬ف ُيعد �إرن�ست كا�سرير (‪ 1874‬ـ ‪ .)1945‬من كبار فال�سفة الكانطية‬ ‫اجلديدة‪ .‬لقد �أر�سى دعائم نظريته حول الأ�سطورة على علم املعرفة الكانطية‪ .‬واعترب �أن الذهن‬ ‫الب�شري يقوم بعقلنة التجارب اليومية‪ .‬وقد ُ�س ّميت هذه العملية ب�إعادة التبيني الرمزي‪ ،‬وم ّيز‬ ‫كا�سرير ح�سب قول امل�ؤلف بني ثالثة �أنواع من الأنظمة الرمزية‪:‬‬ ‫�أو ًال‪ :‬نظام التبيني الرمزي املعتمد على �شرح الوظيفة‪.‬‬ ‫ثانياً‪ :‬نظام التبيني الرمزي املعتمِ د على ال�شهود وهو الأ�سا�س يف النظام ال�شفهي املتعارف عليه‪.‬‬ ‫ثالثاً‪ :‬نظام التبيني الرمزي املعتمد على عقالنية الأفهوم‪ ،‬وهو الأ�سا�س يف العلم واملعرفة احلديثة»‪.‬‬ ‫وثمة ثالثة نظم رمزية تعبرّ عن ثالث وظائف خمتلفة لدى كا�سرير‪ .‬وهي‪ :‬الوظيفة التعبريية‪ ،‬ففي‬ ‫هذا امل�ستوى لي�س هناك فرق بني الرموز والأ�شياء التي ترمز �إليها يف الوعي الب�شري‪ ،‬والعامل‬ ‫الذي تخلقه هذه الرموز هو عامل الأ�سطورة والدين‪.‬‬ ‫ثم الوظيفة احلد�سية‪ :‬وهي التي تقوم بتمثيل عامل احلياة اليومية و�أ�شكال الإدراك املبا�شر املحدد‬ ‫حلياة الإن�سان املكرورة‪ ،‬ويقوم الرمز بتمثيل خوا�ص الأ�شياء الثابتة حد�سياً‪.‬‬ ‫و�أخرياً الوظيفة املفهومية‪ :‬وهي التي تت�صل بالعامل املو�ضوعي للعلوم‪ ،‬وتكون الرموز فيه تعبرياً‬ ‫عن ن�سق العالقات ال غري‪.‬‬ ‫وي�شري امل�ؤلف �إىل �أن كا�سرير يطرح الأ�سئلة التالية‪ :‬هل الأ�سطورة تن�ش�أ من قدرة الذهن‬ ‫على التخ ّيل‪� ،‬أم �أن جذورها تكمن يف امل�شاهدة الواقعية؟ هل الأ�سطورة تك�شف عن املرحلة‬ ‫البدائية للمعرفة الب�شرية‪ ،‬وترجع �إىل العقل‪� ،‬أم �أنها تتعلق بدائرة االنفعاالت العاطفية وتن�ش�أ‬ ‫من الإرادة الب�شرية؟‬ ‫وحيث يعترب كا�سرير �أن الت�شكيك يف مفهوم ودور الأ�سطورة ح ّولها �إىل �أمر خرايف وغري‬ ‫واقعي‪ ،‬ويرى كا�سرير �أن «احلل يكمن يف الثورة الكوبرنيكية‪ .‬مبعنى �أننا بد ًال من �أن نعترب‬ ‫معنى وحمتوى ال�صور العقلية �أموراً خارجية‪ ،‬ال بد من �أن نعترب تلك ال�صور مقيا�ساً للحقيقة‪،‬‬ ‫ونهتم بك�شف املعنى الذاتي لها‪ .»...‬وبهذه النظرة ف�إن الأ�سطورة‪ ،‬الفن‪ ،‬اللغة‪ ،‬والعلم ك ّلها‬ ‫تت�ضمن �صوراً بحيث �إن كل واحد منها ي�ستطيع �أن يخلق عاملاً خا�صاً به؛ ويف خ�ضم هذه‬ ‫ال�صور‪ ،‬ف�إن الروح تتج ّلى عرب احلركة الديالكتيكية الراجعة �إىل الذات‪ .‬وعليه‪ ،‬ف�إن ال�صور‬ ‫الرمزية اخلا�صة ال حتاكي احلقيقة فح�سب‪ ،‬بل �إنها احلقيقة بعينها‪ .‬لأن كل ظاهرة ب�إمكانها �أن‬ ‫تتح ّول �إىل مو�ضوع للمعرفة العقلية عرب تلك ال�صور و�أن ت�صبح �أمراً مفهوماً‪.‬‬ ‫‪101‬‬


‫ويقول امل�ؤلف‪ :‬وبعد �أن ي�ؤكد كا�سرير �أهمية اال�سم يف الت�صور الأ�سطوري يقول‪« :‬من منظور‬ ‫الفكر الأ�سطوري ف�إن �صورة ال�شخ�ص �أو ال�شيء مثل ا�سمه‪ ،‬ي�ساوي ال�شخ�ص ذاته وال�شيء ذاته‪.‬‬ ‫وهذه النظرة دليل �آخر على �أن الفكر الأ�سطوري على �صعيد منح العينية لال�شياء والأ�شخا�ص‬ ‫ال يهتم بنقاط التمايز املوجودة»‪ .‬كما �أن الظل ُيعترب جزءاً حقيقياً لل�شخ�ص ومن هنا يت�أثر من‬ ‫احلوادث‪ .‬وكل مكروه ي�صيب الظل يت�أثر به ال�شخ�ص �أي�ضاً‪ .‬وعليه‪ ،‬ال ينبغي �أن يو�ضع الظل حتت‬ ‫الأقدام‪ ،‬لأنه ي�ؤدي �إىل �إ�صابة ال�شخ�ص‪� ،‬صاحب الظل باملر�ض‪ ،‬ح�سب اعتقاد كا�سرير‪.‬‬ ‫الدين يف الثقافة الغربية‬ ‫من البداية وامل�ؤلف يبحث عن �أفهوم الدين يف الثقافة الغربية‪ ،‬وينبغي �أن ي�ؤكد نقطة مف�صلية‬ ‫يف هذا املو�ضوع والتي ت�شكل بدورها ركيزة منهجية يف مقاربته للت�صور الغربي ملو�ضوعات هي‬ ‫من �أ�صعب الق�ضايا الفكرية التي �شغلت املفكرين على م ّر التاريخ‪ .‬هذه النقطة يقول امل�ؤلف‪:‬‬ ‫«هي �أن الثقافة الغربية بكل جتلياتها هي ثقافة تاريخية ت�شكلت يف الزمان واملكان‪ ،‬وهي يف‬ ‫حالة ال�صريورة امل�ستمرة‪ ،‬ال حتكمه ثوابت خارج الزمان واملكان وخارج ما يحتويهما من عنا�صر‬ ‫ومكونات»‪ .‬ولي�ست الثقافة الغربية ماهية م�سبقة‪ ،‬كما هو احلال يف الثقافة الإ�سالمية‪ .‬وانطالقاً‬ ‫مما �سبق عبرّ البع�ض عن الوعي الغربي ب�أن الوعي الأوروبي ح�صيلة ح�ضارة طردية يف حني �أن‬ ‫الوعي الإ�سالمي يف و�ضع ح�ضارة مركزية‪.‬‬ ‫�إن هذا االختالف اجلوهري بني الثقافتني �سمح للثقافة الغربية النزوع خارج الإطارات امل�سبقة‬ ‫وعدم التق ّيد بالثوابت واملبادئ ال�صارمة‪ .‬لقد اجته الغرب �إبان ع�صر النه�ضة وبعده نحو حتطيم‬ ‫عد‪.‬‬ ‫الإطارات ال�سابقة وبناء �إطارات جديدة ال ح�صر لها وال ّ‬ ‫كما �أن الغرب ح�سب اعتقاد امل�ؤلف‪ ،‬حت ّول بعد ع�صر النه�ضة نحو حتطيم املر�آة و�إمعان النظر فيها‪،‬‬ ‫عرب �شظاياها املتناثرة‪� ،‬إىل وجوه العامل املختلفة وحماولة الت�أليف بينها لتكوين ت�ص ّور تركيبي‬ ‫ويوحدها وفق مقت�ضياتها الداخلية ال وفق كليات‬ ‫فيجملها ّ‬ ‫ينطلق من اجلزئيات والتفا�صيل ّ‬ ‫العقل املفرو�ضة عليها من خارجها‪.‬‬ ‫حي‪ .‬يقول �إجنيل‬ ‫يعتقد امل�سيحيون ا�ستناداً �إىل ن�صو�ص يف العهد اجلديد بقيامة ال�سيد امل�سيح و�أنه ّ‬ ‫متى‪« :‬وملا م�ضى ال�سبت وطلع فجر الأحد‪ ،‬جاءت مرمي املجدلية ومرمي الأخرى لزيارة القرب‪ .‬فقال‬ ‫املالك للمر�أتني‪ :‬ال تخافا‪� .‬أنا �أعرف �أنكما تطلبان ي�سوع امل�صلوب ما هو ههنا‪ .‬لأنه قام‪ ،‬كما قال‪.‬‬ ‫الدين يف فكر القرون الو�سطى‬ ‫لقد ترك القدي�س �أورليو�س �أغ�سطينو�س (‪ 324‬ـ ‪430‬م) �أثراً كبرياً يف الفهم الكن�سي للدين‬ ‫‪102‬‬


‫فكــــــر‬

‫والأخالق وال�سيا�سة‪ .‬منطلقاً من التجربة التي عا�شها قبل اعتناق امل�سيحية‪ ،‬جتربة القلق والتم ّزق‬ ‫تتوجه‬ ‫مما �أثّر يف تكوينه املعريف والديني‪ ،‬و�أ�صبحت الركيزة الأ�سا�سية لديه ما عرب عنه بقوله‪« :‬ال ّ‬ ‫نحو اخلارج �إرجع �إىل ذاتك‪ ،‬ففي داخل الإن�سان ت�سكن احلقيقة»‪.‬‬ ‫«و�أذعن بثالثية الباطن الذي عبرّ عنها بالتثليث الإلهي‪ ،‬وهو‪ :‬الوعي‪ ،‬العقل‪ ،‬والإرادة‪ ،‬واعترب‬ ‫الإ�شراق م�صدراً للمعرفة‪ ،‬كما اعترب العقل امل�ست�ضاء بالإ�شراق وا�سطة يف معرفة اهلل»‪.‬‬ ‫�أما الدين من منظور القدي�س توما الأكويني (‪ 1225‬ـ ‪ )1274‬لي�س �إال جهداً عقلياً وعملياً ينتهي‬ ‫التوحد مع اهلل‪ .‬كما �أن ال�سعادة ح�سب ر�أيه لي�ست �إال ر�ؤية عقلية للذات الإلهية‪ .‬والدين‬ ‫�إىل ّ‬ ‫م�صدر ثالثية‪ :‬الإميان‪ ،‬احلب‪ ،‬والرجاء‪ .‬واملحرك الأ�سا�س للكون هو احلكمة الإلهية التي تد ّبر‬ ‫كل �شيء‪ ،‬والعامل املوجود لي�س �إال الكمال واخلري وال جمال لل�شر التلقائي يف الكون‪.‬‬ ‫�إن القدي�س توما الأكويني هو املمهد الأ�سا�س للعودة �إىل عامل املثل الأفالطوين الذي اعتربه‬ ‫ر�سل املنبت املنا�سب للفكر امل�سيحي‪ ،‬كما اعترب ا�ستبدال �أفالطون والأوغ�سطينية ب�أر�سطو خط�أ‬ ‫يف وجهة نظر امل�سيحية‪« .‬وتلك املبادئ التي �أر�سى دعائمها الأكويني والتي ا�شتهرت بالتوماوية‬ ‫يف ما بعد و�شكلت املذهب الر�سمي للكني�سة الرومانية وتركت �أثراً كبرياً على عموم مدار�س‬ ‫الالهوت الكن�سي يف ال�شرق والغرب»‪.‬‬ ‫الدين وتف�سرياته يف الفكر الإ�سالمي‬ ‫ثمة اختالفات جوهرية بني الثقافة الغربية والثقافة العربية والإ�سالمية‪� .‬أما البعد املركزي للثقافة‬ ‫الأخرية فكان يتمحور حول الن�ص والأفكار والت�صورات‪ ،‬يف حني �أن الثقافة الغربية تتميز بالبعد‬ ‫التاريخي لناحية الن�ش�أة والتطور‪ .‬ولهذا االختالف يقول امل�ؤلف‪« :‬بني الثقافتني تداعيات كبرية‬ ‫على م�ستوى النظرة �إىل العامل‪ ،‬والنظرة �إىل الدين‪ ،‬والبنية الذهنية التي ت�سود يف الثقافتني‪،‬‬ ‫م�ضافاً �إىل مركزية التوحيد يف الفكر العربي والإ�سالمي والإن�سانوية يف الفكر الغربي»‪.‬‬ ‫تف�سر االختالف يف‬ ‫ثم �إن االختالف يف املبادئ النظرية والبنية الذهنية واملفردات الثقافية ّ‬ ‫البنيان االجتماعي يف احل�ضارتني‪ :‬احل�ضارة العربية الإ�سالمية املعتمدة على الرتاث العربي‬ ‫الإ�سالمي ومنوذج املدينة الإ�سالمية‪ .‬واحل�ضارة الغربية التي تبحث عن جذور لها يف الهلينية‬ ‫ومنوذج املدنية العلمانية‪.‬‬ ‫يتج�سد يف‬ ‫ويرى امل�ؤلف �أن االختالف اجلوهري الآخر بني الثقافتني الغربية والإ�سالمية ّ‬ ‫لغة الدين‪ ،‬حيث �إن الغرب بعد توما الأكويني وطرحه نظرية املعرفة الإ�شراقية‪ ،‬ت�سود فيه‬ ‫الال�أدرية والإنكار‪ ،‬بدءاً من «�شلري ماخر» و«هيغل» ومروراً بكارل بارث ورودلف بولتمان‬ ‫وغابرييل مار�سيل‪ ،‬و�صو ًال �إىل الو�ضعية املنطقية يف حلقة فيينا‪ ،‬حيث ي�صفون الق�ضايا‬ ‫‪103‬‬


‫املعرفية الدينية ب�أنها ق�ضايا من دون معنى‪.‬‬ ‫�إن هذه االختالفات �ساهمت يف �صياغة اخلطاب املختلف يف الثقافتني‪ :‬اخلطاب الإ�سالمي‬ ‫الن�صي‪ ،‬الرتاكمي التف�سريي واملن�سجم يف بناء النظرية‪ ،‬واخلطاب الغربي التاريخاين‪ ،‬التنظيمي‬ ‫ّ‬ ‫واملرتابط بتداعياته املنهجية‪.‬‬ ‫ويرى امل�ؤلف �أن االختالف يف الثقافة والر�ؤى الدينية والدنيوية نتج عنه نوعان من الإحلاد‬ ‫والإنكار يف الثقافتني‪ :‬ذلك �أن الإحلاد نتيجة الزمة حلالة النف�س التي ا�ستنفدت كل �إمكانياتها‬ ‫الدينية‪ ،‬فلم يعد يف و�سعها بعد �أن ت�ؤمن‪ .‬و�إن كان الإحلاد الغربي بنزعته الديناميكية هو ذلك‬ ‫الذي عبرّ عنه الفيل�سوف الأملاين فريدريك نيت�شه‪ ،‬حني قال «لقد مات الإله»‪ ،‬ف�إن الإحلاد يف‬ ‫ظل الثقافة العربية والإ�سالمية هو الذي يقول «لقد ماتت فكرة النب ّوة والأنبياء»‪� .‬إن املتهمني‬ ‫ب�إنكار لوازم النب ّوة �أو املتهمني بالإحلاد يف الثقافة العربية والإ�سالمية‪ ،‬كانوا يطرحون �شبهات �أو‬ ‫ت�صدر منهم �شطحات ت�ؤدي �إىل اتهامهم بالإحلاد‪ .‬ويقول امل�ؤلف‪« :‬وال جند تالياً ن�صو�صاً �إحلادية‬ ‫فا�ضحة يف الثقافة الإ�سالمية تاريخياً‪ .‬وذلك ب�سبب �أن هذه الثقافة لي�ست ثقافة التمرد على‬ ‫الدين يف جذورها»‪.‬‬ ‫واالتهام بالإحلاد والزندقة يف التاريخ الإ�سالمي‪ ،‬يف كثري من الأحيان له جذور �سيا�سية»‪ .‬ومل‬ ‫يكن لالتهام �أ�سا�س يف واقع الثقافة العربية والإ�سالمية‪ ،‬حيث كان هناك من �أ�صحاب النفو�س‬ ‫ال�ضعيفة من يتخذ االتهام‪ ،‬الباطل غالباً‪ ،‬بالإحلاد والزندقة �سبي ًال للكيد والوقيعة بخ�صومهم‬ ‫ال�سيا�سيني‪.‬‬ ‫�إن املقاربات الإ�سالمية للدين والفكر الديني تتمحور حول الن�ص واالجتهادات الإ�سالمية‪،‬‬ ‫غالباً‪ ،‬ومن خالل الأدوات املنهجية واملعرفية املتاحة لها‪ ،‬تدور يف فلك ا�ستخراج املكنونات‬ ‫املكنوزة يف الن�ص‪.‬‬ ‫الدين يف املقاربات الفل�سفية الإ�سالمية‬ ‫الفل�سفة ذات طابع وجودي ــــ �أنطولوجي‪ ،‬ت�سعى للك�شف عن حقيقة الأ�شياء‪ ،‬وهي مبجملها‬ ‫عقالنية‪ ،‬نقدية‪ ،‬وا�ستداللية‪ .‬يف حني �أن الفكر الديني‪ ،‬ب�شكل عام‪ ،‬والفكر الإ�سالمي‪ ،‬ب�شكل‬ ‫خا�ص‪ ،‬مبني على املعطى الديني وهو الوحي (النقل)‪ ،‬والفكر امللتزم لي�س با�ستطاعته مواكبة‬ ‫النقد احلر بال حدود‪ .‬وهذه هي الإ�شكالية يف اجلمع بني الفكر الفل�سفي الالمنتمي‪ ،‬الالملتزم‪،‬‬ ‫التعليلي‪ ،‬الربهاين‪ ،‬والنقدي احلر من ناحية‪ ،‬والفكر الديني املنتمي‪ ،‬امللتزم‪ ،‬التف�سريي‪،‬‬ ‫التربيري‪ ،‬والعقائدي من ناحية ثانية‪.‬‬ ‫على �أن الرتاث الفكري الإ�سالمي يقول امل�ؤلف‪« :‬ا�ستطاع �أن يجمع بني الأمرين معاً �إىل درجة‬ ‫‪104‬‬


‫فكــــــر‬

‫كبرية‪ ،‬انطالقاً من العقالنية التي تت�صف بها البنى الفكرية الإ�سالمية الن�صية»‪.‬‬ ‫�إن الفكر العربي الإ�سالمي يعتمد على العقل ب�أ�صوله ومقوماته ومبادئه و�أوائله و�أ�ساليبه املنطقية‪.‬‬ ‫و�أما ق�ضية «مركزية اهلل» �أو «مركزية الإن�سان فال عالقة لها بالعقل‪ ،‬بقدر ما لها �صلة بالهوى‪ .‬وال‬ ‫ن�ستطيع �أن نربط الإن�سانوية كمذهب بالعقل و�أ�ساليبه املنطقية‪ .‬وانطالقاً من هذه الر�ؤية التوليفية‬ ‫بني الوحي والعقل‪« ،‬تك ّون الفكر الفل�سفي الإ�سالمي‪ ،‬وهذا الفكر قد يكون ملتزماً فيميل‬ ‫�إىل ميدان الكالم �أكرث من الفل�سفة‪ ،‬وقد يكون فل�سفياً �أكرث من �أن يكون كالمياً‪ ،‬ولكن يبقى‬ ‫فكراً فل�سفياً �إ�سالمياً مركباً‪ ،‬ت�شكل املبادئ الإ�سالمية جزءاً مف�صلياً من بنائه الرتكيبي العام»‪.‬‬ ‫والتقريبات التالية ملفهوم الدين تت�صل بهذا النمط الرتكيبي العقل ــــ الديني‪.‬‬ ‫لقد كان �أبو ن�صر الفارابي (‪ 870‬ـــ ‪950‬م) م�ؤ�س�ساً ملنهج فل�سفي جديد يعتمد على الدمج بني‬ ‫املعطى الديني ـ الوحي‪ ،‬واملنتج بالعقل‪ .‬كان يرى وحدة احلقيقة ومن هنا اهتم مب�س�ألة التوفيق‬ ‫بني احلكمة (الفل�سفة) وال�شريعة (الدين)‪.‬‬ ‫وي�شري امل�ؤلف �إىل �أن الفارابي‪ ،‬يف�سر ال�شريعة (الدين) على �ضوء احلكمة وال يعرتف بالثنائية‬ ‫بينهما‪ .‬وال�سعادة ترتبط بالفل�سفة ح�سب الفارابي‪ ،‬وذلك باعتبار �أن ال�سعادة �إمنا ننالها متى ت�صري‬ ‫لنا فدية ب�ضاعة الفل�سفة فلزم �ضرورة �أن تكون الفل�سفة هي التي ننال بها ال�سعادة‪.‬‬ ‫�أما ابن �سينا (‪ 980‬ـ ‪1037‬م) فيعترب فيل�سوفاً عبقرياً‪ .‬والتق�سيم الثالثي للوجود �إىل املمكن‬ ‫والواجب واملمتنع‪ ،‬وما له من �صلة مببحثي الوجود واملاهية ُيعترب من �إبداعات ابن �سينا الفل�سفية‪.‬‬ ‫ويرى امل�ؤلف �أن ابن �سينا ي�ؤمن مبراتب العقل ويرى العقل القد�سي �أعلى مراتب العقل‬ ‫الإن�ساين‪ .‬وينقل عنه قوله بخ�صو�ص العقل امل�ستفاد‪�« :‬أما العقل امل�ستفاد فهو العقل بالفعل‬ ‫من حيث هو كمال‪ ...‬فحينئذ يجوز �أن يت�صل بالعقل الف ّعال متام االت�صال‪ ...‬فجائز �إذن �أن يقع‬ ‫الإن�سان بنف�سه احلد�س و�أن ينعقد يف ذهنه القيا�س بال معلم‪ ،‬وهذا مما يتفاوت بالكم والكيف‪،‬‬ ‫�أما يف الكم فلأن بع�ض النا�س يكون �أكرث عدد حد�س للحدود الو�سطى‪ ،‬و�أما يف الكيف فلأن‬ ‫حد‪ ،‬بل يقبل الزيادة‬ ‫بع�ض النا�س �أ�سرع زمان حد�س‪ ،‬ولأن هذا التفاوت لي�س منح�صراً يف ّ‬ ‫والنق�صان دائماً»‪.‬‬ ‫وي�ؤكد ابن �سينا �ضرورة الوحي عند طريق مراتب العقل‪ ،‬ال �سيما العقل امل�ستفاد‪ ،‬ويعترب �أن‬ ‫ال�صلة بني العقل امل�ستفاد والعقل الف ّعال‪ ،‬ت�ؤدي �إىل الب�صرية النبوية‪.‬‬ ‫�إن ابن �سينا يك�شف عن النظرة الكونية الكالمية التي حتكم ر�ؤيته �إىل الدين ودوره يف احلياة‬ ‫الإن�سانية‪.‬‬ ‫�أما �أبو الوليد بن ر�شد (‪ 1126‬ـ ‪1198‬م) ف ُيعد �أحد �أقطاب الفكر الفل�سفي الإ�سالمي والداعي‬ ‫‪105‬‬


‫�إىل التوفيق بني احلكمة وال�شريعة‪ .‬وي�ؤكد �أن احلكمة وال�شريعة طريقتان للو�صول �إىل احلقيقة‪،‬‬ ‫من دون وجود تعار�ض واقعي بينهما‪ .‬وذلك انطالقاً من �أن «احلق ال ي�ضاد احلق بل يوافقه‬ ‫وي�شهد له»‪ .‬ومن منظور امل�ؤلف ف�إن ابن ر�شد يرى الدين مهماً للفل�سفة والفكر ومرجعاً ل�صياغة‬ ‫الت�صور عن الكون واحلياة يف اجلانبني النظري والعملي معاً‪.‬‬ ‫الأ�سطورة يف الثقافة الإ�سالمية‬ ‫يجب �أن من ّيز منذ البداية بني معنيني للأ�سطورة؛ الأول‪ :‬مبعنى اخلرافات والأكاذيب كما ّف�سرها‬ ‫العديد من الكتاب‪ ،‬والثاين‪ :‬مبعنى عقلية الت�صرف يف الأ�شياء والأ�شخا�ص والأحداث اختزا ًال‬ ‫وت�ضخيماً ومبالغة وتعظيماً‪ ،‬وال �شك يف �أن الأ�سطورة باملعنى الأول‪ ،‬قد حاربها القر�آن وترب�أ منها‪.‬‬ ‫�إن الأ�سطورة ح�سب ر�أي امل�ؤلف‪ ،‬هي مبثابة البنية املعرفية للإن�سان ك�إن�سان‪ ،‬بغ�ض النظر عن‬ ‫دينه وانتماءاته الثقافية والعرقية واجلغرافية‪ .‬على �أن الإن�سان هو الكائن الوحيد الذي له تاريخ‪،‬‬ ‫وبالتايل وعي وح�ضارة‪ ،‬ف�إن �ضريبة كل ذلك �أن الإن�سان �أي�ضاً الكائن الوحيد القادر على �إعطاء‬ ‫التاريخ �صورة خمالفة لل�صورة التي انوجد عليها التاريخ يف واقع احلال‪ ،‬وذلك مثل �إعطاء �أحداث‬ ‫معينة �أو �أ�شخا�ص معينني �صورة فيها الكثري من االختزال والت�ضخيم‪ ،‬وذلك ح�سب الغر�ض‬ ‫املراد‪ ،‬وبهدف الرتكيز على نقطة هنا �أو التقليل من �ش�أن نقطة هناك‪� ،‬أو بث عاطفة يف حادثة وقتل‬ ‫احلياة يف حادثة هناك‪ ،‬وهكذا ح�سب اعتقاد الكاتب ال�سعودي تركي احلمد‪.‬‬ ‫هذا البعد الأ�سطوري هو للإن�سان‪ ،‬ولي�س الإن�سان امل�سلم ا�ستثنا ًء من هذه اخل�صو�صية الب�شرية‪.‬‬ ‫ولكن يحتاج البحث عن ك�شف جوانب الأ�سطورة يف الثقافة والتاريخ الإ�سالميني‪ .‬بهذا املعنى‪،‬‬ ‫يقول امل�ؤلف‪�« :‬إىل درا�سات جادة وعميقة ومو�سعة‪ .‬ول�سنا يف �صدد البحث عنها غري �أننا نتعر�ض‬ ‫�إىل بع�ض جوانب املو�ضوع مبا ين�سجم مع مو�ضوعنا‪ .‬فنتطرق �أو ًال �إىل احلديث عن الأ�سطورة‬ ‫يف الن�صو�ص الإ�سالمية‪ ،‬وثانياً �إىل احلديث عن الأ�سطورة يف الثقافة ال�شعبية للم�سلمني‪ ،‬وهما‬ ‫مو�ضوعان مت�صالن ومنف�صالن عن بع�ض يف �آن واحد»‪.‬‬


‫فـكــــــــر‬

‫امل�سيحيون اليوم وواقع احلال *‬

‫الأب د‪� .‬سهيل قا�شا ‪ -‬كاتب‬

‫يف واقع احلال ل�ست مبعر�ض �إلقاء حما�ضرة �أكادميية بل جمرد وم�ضات عن «واقع م�سيحيي‬ ‫العراق و�آفاقه»‪.‬‬ ‫فال بد �إذن من ر�سم لوحة وا�ضحة املالمح والألوان بخطوط م�ستقيمة نر�سم فيها �صورة من‬ ‫تعاليم الإجنيل ال�سماوية‪.‬‬ ‫ولكني قبل هذا وذاك‪ ،‬ال بد من التفتي�ش عن �إطار لهذه ال�صورة‪ .‬لأننا ال ن�ستطيع �أن نعلق‬ ‫ال�صورة �أو نقربها �أو نبعدها عنا من دون و�ضعها ب�إطار خا�ص ب�أبعاده املختلفة‪.‬‬ ‫من هذا املبد�أ ننطلق ب�أقوال وا�ضحة وبكل جر�أة و�صراحة‪..‬‬ ‫يقول ال�سيد امل�سيح يف �إجنيله املقد�س‪:‬‬ ‫«لي�س �أحد ي�ضع رقعة جديدة على ثوب بال‪ ،‬لئال ت�أخذ الرقعة من ذلك الثوب‪ ،‬في�صري‬ ‫تن�شق الزقاق وتراق اخلمر‪ ،‬وتتلف‬ ‫اخلرق �أكرب‪ ،‬وال ي�ص ّبون خمراً جديداً يف زقاق بالية‪ ،‬لئال ّ‬ ‫الزقاق‪ ،‬لكن ي�ص ّبون اخلمر اجلديدة يف زقاق جديدة‪ .‬فت�سلمان كلتاهما»‪.‬‬ ‫وهكذا نحن بال�ضبط‪ ،‬الزقاق اجلديدة مل تعد ت�ستوعب اخلمر العتيقة‪ ،‬وملا كان �أجدادنا و�آبا�ؤنا‬ ‫الزقاق العتيقة كانوا ي�ستوعبون اخلمر اجلديدة‪ ،‬ي�ستقون منها ويوزعونها للتالميذ والأتباع يف‬ ‫الب�شرى ال�سارة التي حملوها �إىل كل الأ�صقاع‪� ،‬إىل �أقا�صي الأر�ض‪.‬‬ ‫ويقول مار بول�س‪« :‬اخعلوا الإن�سان العتيق والب�سوا الإن�سان اجلديد»‪ .‬وهذا ما ينطبق علينا‬ ‫اليوم �أي�ضاً‪ ،‬علينا �أن نخلع الإن�سان العتيق‪ ،‬فكر العهد القدمي وعاداته وتقاليده ونرتدي‬ ‫الإن�سان اجلديد‪� ،‬إن�سان الكلمة‪� ،‬إن�سان الب�شرى‪� ،‬إن�سان املعرفة احلقيقية والرتاث امل�شرقي‬ ‫بالهوته‪ ،‬ونا�سوته‪ ،‬والعمل على ف�صل العهد العتيق الذي ّمت كما قال ي�سوع وهو على‬ ‫ال�صليب «ها قد ّمت» وااللت�صاق بالإن�سان اجلديد‪� ،‬إن�سان العمل والتطبيق‪.‬‬ ‫وعليه �أقول‪:‬‬ ‫* حما�ضرة الأب �سهيل قا�شا يف م�ؤمتر مركزية م�سيحيي امل�شرق ‪ -‬املنعقد يف �شهر ت�شرين الثاين ‪.2011‬‬ ‫‪107‬‬


‫‪ 1‬ـ الن�رصانية وامل�سيحية‬

‫قبل كل �شيء يجب �أن نو�ضح للم�سلمني وبقوة �أننا ل�سنا �أتباع الن�صرانية الذين ورد ذكرهم‬ ‫يف القر�آن‪ ،‬علماً �أنه مل ترد يف القر�آن ال كلمة امل�سيحيني‪ ،‬وال كلمة الكني�سة‪ .‬فالن�صرانية‬ ‫لي�ست امل�سيحية بل هرطقة برزت يف فجر الكني�سة ال ت�ؤمن بالثالوث الأقد�س وال ببنوة‬ ‫ي�سوع هلل وال بال�صلب وتعترب ي�سوع خملوقاً ولي�س مولوداً من الأب وبهذا تت�شابه كثرياً‬ ‫بالإ�سالم الذي اعترب الن�صارى �أقربهم مودة للذين �آمنوا‪ ،‬و�أ�صبحنا �أ�سرى هذه الكلمة‬ ‫املجهولة «ن�صارى» املطاطة‪ ،‬ولهذا يجب عقد م�ؤمتر �أو ندوات �أو بحوث ودرا�سات لالنطالق‬ ‫من قبل الر�ؤ�ساء الروحانيني ببيان ر�سمي ال قبله وال بعده بهذا املو�ضوع اخلطري‪ ،‬لأن �أتباع‬ ‫القر�آن حينما يح ّبوننا ويتزلفون �إلينا ويجاملوننا نكون كما تقول الآية‪﴿ :‬ولتجدنّ �أقربهم مودة‬ ‫للذين �آمنوا الذين قالوا �إنا ن�صارى ومنهم ق�سي�سني ورهباناً وهم ال ي�ستكربون﴾‪.‬‬ ‫و�إذا قلبوا علينا ظهر املجن �صرنا كفاراً وم�شركني يجب قتلهم ومالحقتهم‪ .‬فيجب �إذن ح�سم‬ ‫املو�ضوع هل نحن م�سيحيون م�ؤمنون‪� ،‬أم ن�صارى ال هوية ثابتة لنا‪ ...‬فال بد �إذن من هوية‬ ‫يق ّرها امل�سلمون لل�شراكة يف احلياة الدنيا‪ ،‬لنيل الآخرة‪.‬‬ ‫‪ 2‬ـ العداء التاريخي‪:‬‬

‫ملا ال نق ّر ونت�صارح ب�أن هناك عداء تاريخياً عمره �أكرث من ‪� 1400‬سنة بني امل�سلمني وامل�سيحيني‬ ‫نتيجة احلروب والفتوحات التي �شنها امل�سلمون على �أرا�ضي امل�سيحيني و�شعبها‪ ،‬علماً �أن‬ ‫امل�سيحيني هم الذين فتحوا �أمام امل�سلمني �أبواب مدنهم و�أ�سوارها‪ .‬فمث ًال املطران جربائيل‬ ‫فتح �أبواب الب�صرة �أمام جيو�ش القائد العربي امل�سيحي املثنى بن حارثة ال�شيباين‪ ،‬واملفريان‬ ‫ماروثا التكريتي فتح �أبواب قلعة تكريت �أمام القائد ابن غنم ومار �آمه فتح �أبواب املو�صل‪،‬‬ ‫ومار ايليا فتح �أبواب دم�شق وعقد ال�صلح مع خالد بن الوليد واملطران �صفرونيو�س فتح �أبواب‬ ‫القد�س �أمام عمر بن اخلطاب‪ ،‬وكذا فعل اجلاثليق ي�شوعياب اجلدايل عندما كتب ر�سالة �إىل‬ ‫حممد ي�ستدعيه �إىل بالد العراق ليخل�صهم من �سيطرة الفر�س‪..‬‬ ‫والأبعد من هذا وذاك �أن القبائل امل�سيحية �أمثال بني تغلب‪ ،‬وبني �شيبان وبني متيم‪،‬‬ ‫والطائيني‪ ،‬و�سليم وغريها �ساندوا اجليو�ش الإ�سالمية كما فعلوا يف معركة القاد�سية عندما‬ ‫عا�ضدوا �سعد بن وقا�ص‪ ،‬و�أ�سقطوا الدولة ال�سا�سانية‪.‬‬ ‫ي�صح الكالم يف فتح م�صر و�إنهاء النفوذ الروماين‪ .‬و�أي�ضاً يف بالد ال�شام‪ ،‬ولكن‬ ‫وهكذا ّ‬ ‫للأ�سف بعد فرتة وجيزة من هذا التعاون والت�آخي انقلب امل�سلمون على امل�سيحيني و�ساموهم‬ ‫م ّر العذاب‪.‬‬ ‫‪108‬‬


‫فكــــــر‬

‫‪ 3‬ـ وهناك ق�ضية مهمة جداً �أال وهي «احلروب ال�صليبية»‬

‫هذه التهمة ال�شنيعة التي �أل�صقت بنا ونحن م�سيحيو ال�شرق �أبرياء منها‪ ،‬براءة الذئب‬ ‫من دم ابن يعقوب‪ ،‬فتن�سب �إلينا وك�أننا نحن امل�شرقيني قمنا بها‪ .‬علماً �أن امل�ؤرخني‬ ‫�سموها لأنهم قاموا‬ ‫العرب امل�سلمني ي�سمونها «حروب الإفرجنة»‪� ،‬أما الغربيون فقد ّ‬ ‫بها‪« ،‬احلروب ال�صليبية»‪ ،‬فلماذا نحن امل�سيحيني امل�شرقيني نتبنى م�صطلح «احلروب‬ ‫نحمله ما ال يحتمل‪ .‬علماً �أن‬ ‫ال�صليبية»‪ .‬وهذا خط�أ فا�ضح وجناية على التاريخ الذي ّ‬ ‫امل�سيحيني امل�شرقيني نالوا من ال�صليبيني الغربيني ما مل ينله العدو من عدوه‪ ،‬فتحملنا‬ ‫الكثري من النوائب وامل�صائب‪ ،‬فقتلوا �أبناء الكني�سة ال�شرقية و�أحرقوا �أديرتنا وكنائ�سنا‬ ‫و�سلبوا �أموالنا وا�ستولوا على �أر�ضنا ونهبوا تراثنا‪ .‬فمث ًال يف احلملة الأوىل عام ‪ 1097‬قتلوا‬ ‫يف كني�سة �أنطاكية من ال�سريان �أكرث من ‪� 3000‬إن�سان‪ ،‬و�أحرقوا دير مار ب�صوم ال�شهري‬ ‫الذي �أ�شعل فيه النار جو�سلني وكثري من ر�ؤ�ساء الكني�سة قتلوا و�سجنوا و�ساموهم ّمر‬ ‫العذاب‪ ،‬وال من �أحد من ر�ؤ�سائنا احلاليني يطل ولو ب�إطاللة �صغرية ق�صرية ويو�ضح‬ ‫هذه الق�ضية وير ّدها على �أعقابها ويربئ �ساحة الأجيال من هذا الوزر اخلطري‪ .‬ملاذا هذا‬ ‫التجاهل وهذا الن�سيان؟‬ ‫‪ 4‬ـ امل�س�ألة اخلطرية الأخرى هي «امل�س�ألة ال�رشقية»‬

‫كلنا قر�أنا يف الإعدادية واجلامعة يف التاريخ العثماين عن «امل�س�ألة ال�شرقية» بعد حرب القرم‬ ‫التي انتهت مبعاهدة (كوجك كينارجه) بني الدولة العثمانية ورو�سيا وعلى �أثرها ظهرت‬ ‫ما ُ�سميت بق�ضية «امل�س�ألة ال�شرقية» يف منطقة البلقان‪ ،‬حينما اعتربوا رو�سية حمامية عن‬ ‫الأرثوذك�س وفرن�سا حمامية عن الكاثوليك‪ ،‬وبريطانيا حمامية عن الربوت�ستانت يف نطاق‬ ‫حدود الدولة العثمانية‪ ،‬واقتنع يومئذ ر�ؤ�سا�ؤنا الروحيون وراحوا يراجعون يف حقوقهم‬ ‫هذه املرجعيات احلماة وا�ستمرت هذه احلالة التي تر�سخت على مدى �أجيال‪ ،‬وك�أنهم‬ ‫حماة لنا والت�صقت بنا تهمة امل�سيحيني العرب �أنهم �أن�ساب الأجانب وهم بنو عمومتهم‪،‬‬ ‫وما زلنا �إىل هذا اليوم يعتربوننا كذلك‪ .‬و�أذكر هنا �أيام احل�صار يف العراق بني ‪ 1990‬ـ‬ ‫‪� 2003‬سيما حينما ق�صفت �أمريكا العراق للخروج من الكويت‪ ،‬قلّ اخلبز يف الأ�سواق‬ ‫فكان �أ�صحاب الأفران ميتنعون من بيع اخلبز للم�سيحيني قائلني‪ :‬ليعطوكم �أبناء عمكم‬ ‫الأمريكان‪ .‬وما �إىل ذلك من الأقوال الباطلة والآراء الفائلة‪ .‬فماذا ا�ستفدنا من حمايتهم‬ ‫لنا �سوى التبعية امل�شبوهة‪ ،‬فرو�سيا بعيدة عن م�صاحلنا‪ ،‬وبريطانيا ُت�سري م�صاحلها‪ ،‬وفرن�سا‬ ‫ي�سمونها يف لبنان الأم احلنون تركت �أبناءها‪ .‬ول�ست �أدري �أين حنانها‪..‬؟ ف�إىل‬ ‫التي كانوا ّ‬ ‫متى هذه املغالطات؟‬ ‫‪109‬‬


‫‪ 5‬ـ الإر�ساليات التب�شريية‪:‬‬

‫مع احرتامي الكامل للأخ ال�سوري الذي �أفا�ض وب�إ�سهاب عن دور الفرير والي�سوعيني‬ ‫ل�ست �أدري‬ ‫وغريهم يف املدح واالفتخار بالإر�ساليات التب�شريية الثقافية والتعليمية‪ ،‬ولكن ُ‬ ‫َمن ب�شّ روا من امل�سلمني والدروز وال�صابئة واليهود‪� ،‬إال �أنهم بثوا ال�شقاق واالنق�سام بيننا نحن‬ ‫امل�سيحيني فق�سمونا وك�أننا لو مل نعتنق الكاثوليكية ال ندخل ال�سماء وجعلوا بيننا الفتنة‪،‬‬ ‫وبعد �أن كنا كني�سة واحدة‪� ،‬صرنا كنائ�س متعددة‪ ،‬وهذه هي الطامة الكربى‪ ،‬فا�سمحوا يل �أن‬ ‫أ�سميها بالإر�ساليات التخريبية‪.‬‬ ‫� ّ‬ ‫�صحيح �أنهم �أفادونا ببع�ض النواحي كن�شر التعليم عن طريق مدار�سهم ومطابعهم‪ ،‬حيث‬ ‫ن�شروا فيها بع�ض الرتاث والكتب لأجل التثقيف الروحي واملدين‪ ،‬هذا من جهة ومن جهة‬ ‫�أخرى فرقونا واغتنموا جهالتنا فا�ستعبدونا ففقدنا طقو�سنا وتراثنا ولغتنا و�أ�ضحينا غرباء يف‬ ‫�أر�ض الوطن‪ ،‬ال بل تلي َت ّنا �أكرث من الالتني‪ ،‬فماذا ربحنا من الكثلكة‪� ،‬إمنا خ�سرنا كل �شيء‬ ‫بفقدان هويتنا‪ ،‬فتجب العودة �إىل كني�ستنا امل�شرقية �إىل �آبائها وتراثها ومن ثم �إىل الهوتنا‬ ‫وفل�سفتنا و�أ�صالتنا‪ ،‬ومن ال �أ�صالة له‪ ،‬فال ي�أتي ب�أمر �أ�صيل‪ ،‬فالعودة �إىل اجلذور بحق وحقيقة‬ ‫وعندئذ نبني من جديد كني�ستنا‪ ،‬وجندد �إمياننا برتاثنا‪ ،‬فنعيد جمدنا �إىل بريقه الأول‪.‬‬ ‫‪ 6‬ـ الغباء الروحي‪:‬‬

‫للأ�سف ال�شديد �إن �أغلب ر�ؤ�سائنا الروحيني م�سلمني وم�سيحيني يتميزون‪ ،‬خ�صو�صاً من‬ ‫القرن ال�سابع ع�شر و�إىل هذا اليوم‪ ،‬بالغباء الروحي‪ ،‬حيث ال مييزون بني ال�صالح والطالح‪،‬‬ ‫بني املادة والروح‪ ،‬فلي�سوا �إال عدميي الكفاءة وعدميي امل�س�ؤولية‪ .‬فعندما قال مار بول�س‪ :‬من‬ ‫ا�شتهى الأ�سقفية‪ ،‬فقد ا�شتهى عم ًال �صاحلاً‪ ،‬لأن الأ�سقف كان �أول من ُيلقى القب�ض عليه‪،‬‬ ‫ويحاكم ويج َلد‪� ،‬أو يح َرق �أو ي�ش َنق‪ ،‬ولهذا كان الكثريون يهربون �أو يرف�ضون ت�سلم هذه‬ ‫امل�س�ؤولية‪� ،‬أما اليوم فيتكالبون عليها �إن مل نقل يعملون ل�شرائها‪ ،‬لأنه مل يعد ذلك الراعي‬ ‫ال�صالح الذي �أ�شار �إليه وو�صفه ال�سيد امل�سيح يف اجنيله ونعته بالراعي الذي يعرف رعيته‬ ‫ويناديها ب�أ�سمائها‪ ،‬لأنه منذ �أن يت�سلم الأ�سقف مهامه حتى يعتكف يف مطرانيته ويتفرغ‬ ‫لزياراته الر�سمية ولدعوات الغداء والع�شاء الد�سمة‪ ،‬واملنا�سبات وحفالت الوجهاء و�أ�صحاب‬ ‫االمتيازات‪� ،‬أما �أن ي�س�أل عن الأبناء ويتفقد العوائل فهذا بعيد بعيد‪� ،‬أنا�شدكم اهلل‪ ،‬من منكم‬ ‫قد زار عائلة املطران ولو مرة يف ال�سنة‪� ،‬أو تفقد املر�ضى يف امل�ست�شفى‪� ،‬أو فتح كني�سة مل�ساعدة‬ ‫الفقراء وامل�ساكني‪ ،‬ثقوا منهم ال يعرف م�س�ؤوليته‪� ،‬إمنا �أن يجل�س على الكر�سي كالفري�سيني‬ ‫الأوائل يهتمون بكل �شيء �إال م�س�ؤوليتهم الر�سمية واحلقيقية‪.‬‬ ‫�س�ألت يوماً مطراناً جديداً‪ :‬ملاذا تلب�س الأحمر‪� ،‬ضحك مني وقال مقتنعاً‪ :‬لكي مي ّيزونا عن‬ ‫‪110‬‬


‫فكــــــر‬

‫الكهنة‪ ..‬م�سكني‪ ،‬يجهل مهمته‪ ،‬وهو ال يدري �أنه يلب�س الأحمر رمزاً لدماء �أبناء رعيته التي‬ ‫يحملها يف عنقه ك�أمانة مثل ما يقول مار بول�س‪ :‬من مير�ض منكم وال �أمر�ض �أنا‪ ،‬ومن يجوع‬ ‫منكم وال �أجوع �أنا‪.‬‬ ‫فما العمل‪ ،‬وما احلل؟‬ ‫بب�ساطة‪ ،‬ومن باب ال�صدف‪� ،‬إنني يف هذا الف�صل �أدر�س الت�صوف الإ�سالمي يف معهد‬ ‫الفل�سفة والالهوت بحري�صا‪ ،‬والذي �أخل�صه بثالث كلمات‪ :‬التخ ّلي والتح ّلي والتج ّلي‪،‬‬ ‫هكذا الأ�سقف عليه التخلي والتحلي والتجلي‪ .‬بال�ضبط هذه الكلمات الثالث فيها احلل‪:‬‬ ‫حينما نتخلى عن �أنانيتنا و�أمرا�ضنا النف�سية واالجتماعية‪ ،‬مع الأحقاد وال�ضغائن والكمائن‪.‬‬ ‫ونتحلى بالف�ضائل الروحية والأدبية مع الأخالق الكرمية مع القيم واملثل العليا‪.‬‬ ‫وعندئذ تتجلى لنا جميعاً احللول الإلهية والب�شرية وتتك�شف لنا بالقدرة القادرة كافة الأدوية‬ ‫الناجعة‪ ..‬فت�صري الكني�سة م�ؤ�س�سة قوية م�شيدة على ال�صخرة‪ ،‬ولي�س على الرمل والطني‬ ‫ب�سفينة تعرب عباب الأمواج يف بحر العامل امل�ضطرب‪ ،‬عندما نتوحد بالأهداف يف خال�ص‬ ‫النفو�س‪.‬‬ ‫‪ 7‬ـ الهجرة والتهجري‪:‬‬

‫منذ بدايات القرن الع�شرين �إن مل نقل من نهايات القرن التا�سع ع�شر بد�أت هجرة امل�سيحيني‬ ‫من الوطن العربي من �أجل املعي�شة‪ ،‬واحلياة االقت�صادية وال �سيما من لبنان و�سوريا‪� ،‬أما اليوم‬ ‫فللهجرة �أ�سباب عديدة منها‪:‬‬ ‫‪ 1‬ـ احلروب والفنت واملجازر التي �أحاطت بامل�سيحيني �سيما �أيام احلرب العاملية الأوىل وقبلها‬ ‫يف جنوب �شرق تركيا‪ .‬ثم احلرب الأهلية يف لبنان (‪ 1975‬ـ ‪ )1990‬واحلرب الإيرانية ـ‬ ‫العراقية (‪ 1980‬ـ ‪ )1988‬وغريها الكثري من الفنت خالل القرنني التا�سع ع�شر والع�شرين‪.‬‬ ‫‪ 2‬ـ الكني�سة برجاالتها امل�س�ؤولني‪ ،‬فمث ًال لو وزعت امل�ساعدات التي �أتت ليد الكني�سة‬ ‫العراقية مل�ستحقيها بعدالة �أيام احل�صار (‪ 1990‬ـ ‪ )2003‬ملا هاجرت عائلة واحدة �إمنا وزعت‬ ‫على الأقرباء والأ�صدقاء كالأطباء واملحامني واملهند�سني؛ علماً يف �أول الأمر دخلت بيوت‬ ‫الكهنة والراهبات وخزنت يف الأديرة والكنائ�س‪.‬‬ ‫‪ 3‬ـ حث وحتري�ض الآباء الكهنة واملطارنة مع الراهبات والرهبان على هجرة ذويهم و�أ�صحابهم‬ ‫بذريعة �أن هناك ال�ضمان ال�صحي واملعي�شي‪ ،‬ولزيادة �أعدادهم فيلحقون هم بهم وعلى حد‬ ‫املثل‪« :‬لي�س البكاء من �أجل احل�سني‪ ،‬بل حمبة بالهري�سة‪.»...‬‬ ‫‪111‬‬


‫‪ 4‬ـ ظهور الإرهاب الوح�شي يف العراق‪ ،‬وما ي�سمونه ح�سب امل�صطلحات الأمريكية املعا�صرة‪:‬‬ ‫الإ�سالميون والأ�صوليون والفو�ضى اخلالقة‪ ،‬وال�شرق الأو�سط اجلديد‪ ،‬والربيع العربي‪ ،‬ثم‬ ‫يف بالدي العراق (الأرا�ضي املتنا َزع عليها) هذه امل�صطلحات امل�شبوهة والتي ال تعني معناها‬ ‫وهي بعيدة عن الواقع �أ ّدت �إىل تعجيل الهجرة والتهجري والهروب من دون وعي والآتي‬ ‫�أعظم‪...‬‬ ‫‪ 5‬ـ فتح الأبواب م�شرعة �أمام املهاجرين بالإغراءات و�إهمال الدولة بعدم و�ضع حد للهجرة‬ ‫خارج البالد‪ ،‬علماً �أنها عملت على تهجريهم داخل البالد‪.‬‬ ‫‪ 8‬ـ م�ؤامرة �إجالء امل�سيحيني من ال�شرق الأدنى‪:‬‬ ‫فمنذ ال�سبعينيات كنت �أجتاذب �أطراف احلديث مع املرحوم الأب يو�سف حبي الذي خا�ض‬ ‫غمار هذه التجربة‪� ،‬إن هناك م�ؤامرة يهودية ـ �صهيونية غربية يف تفريغ ال�شرق الأدنى (لأنني‬ ‫�أرف�ض م�صطلح ال�شرق الأو�سط الذي و�ضع خلدمة �إ�سرائيل) لهذا �أرف�ضه رف�ضاً تاماً‪ ،‬و�أحبذ‬ ‫ا�ستعمال ال�شرق الأدنى �أو امل�شرق العربي‪ .‬وكثرياً ما عقدنا حول املو�ضوع حما�ضرات‬ ‫وندوات دون فائدة‪ ،‬وجرت املياه حتت التنب بح�سب املثل ال�شعبي‪ ،‬فجرفته‪ ،‬وما تركت له‬ ‫تايل‪ .‬وما زالت امل�ؤامرة حتبك وت�سبك �أقوى و�أ�شد وقد ال تنتهي و�إن انتهت ف�إنها ال تبقي وال‬ ‫تذر‪� ،‬سيما ّن�ساجوها القوى الكربى دينياً ومدنياً‪.‬‬ ‫‪ 9‬ـ عقدة الكني�سة امل�رشقية ووحدة الكني�سة اجلامعة‪:‬‬

‫فمنذ فجر الكني�سة الأوىل جرى نزاع وخ�صام وانف�صال بني كني�سة امل�شرق والكني�سة‬ ‫الغربية‪ ،‬ب�سبب بع�ض العقائد الرئي�سية حول الهوت امل�سيح ونا�سوته‪ .‬حتى و�صل الأمر‬ ‫�إىل التناق�ض والتنازع بني القطبني واحتدم حتى و�صل �إىل املحاربات واالتهامات‪ ،‬فتكون‬ ‫من جراء ذلك عقدة امل�شرق �إزاء الغرب �سيما يف القرن ال�ساد�س ع�شر وعلى اثر �سقوط‬ ‫الق�سطنطينية‪ ،‬و�شرعت الكني�سة الغربية تب�شر الكني�سة امل�شرقية بن�شر الكثلكة بني �أبنائها‬ ‫غاية منها يف الق�ضاء �أو �صهر الكني�سة ال�شرقية بالغربية والق�ضاء على تراثها وتقاليدها‪ ،‬ثم‬ ‫انق�سمت على ذاتها وما زالت‪ ،‬فخال�ص امل�سيحية امل�شرقية بوحدتها مع الغربية لدرء خطر‬ ‫الويالت والهجرات �سيما بظهور الكنائ�س ال�صغرية واملته�صينة ك�شهود يهوه والإجنليني‬ ‫وامل�شيخيني وال�سبتيني واملورمون واللوثريني وكني�سة اهلل وغريها‪ .‬بحيث و�صل عددها ما‬ ‫يقارب اخلم�سمئة �سيما يف م�شرقنا الذي مل يكن فيه من هذه البدع �إال للكني�سة امل�شرقية‬ ‫فدخل مع القوات الأمريكية ع�شرات الكنائ�س يف املذاهب املختلفة للت�أثري فيها ثم الق�ضاء‬ ‫عليها‪ .‬فحرام على الكني�سة امل�شرقية �أن تندثر وهذا ما تعمل عليه �إ�سرائيل ال�صهيونية‪ ،‬لأنه‬ ‫مل يعد ي�ؤمن ب�أن ي�سوع �صلبه اليهود �إال امل�شرقيون‪ ،‬فالغربيون راحوا ي�ؤكدون �أن ي�سوع �صلبته‬ ‫‪112‬‬


‫فكــــــر‬

‫احلكومة الرومانية‪ ،‬فال بد من الق�ضاء على �أبناء هذا الإميان‪ ،‬وما قرار تربئة اليهود من دم‬ ‫امل�سيح ببعيد منا‪ ،‬هذا �أو ًال‪.‬‬ ‫وثانياً الوحدة امل�سيحية للكني�سة الر�سولية اجلامعة فاالنق�سام قتل امل�سيحيني و�أ�ضعف‬ ‫كيانهم‪ ،‬فاجلنود الرومان مل ي�شا�ؤوا �أن ميزقوا قمي�ص امل�سيح ونحن امل�سيحيون ما زلنا منزقه‪،‬‬ ‫وال نرغب بر�أيه‪ ..‬وهكذا �ضعف ج�سم الكني�سة‪ ،‬وهزل فال بد من الوحدة احلقيقية بوحدة‬ ‫الكلمة واجل�سم كيما تلعب دورها الرئي�سي كما لعبته يوم انبثاقها‪ .‬فما دمنا ممزقني ال قيامة لنا‬ ‫والقيامة ال جتري �إال بعودة الروح وعندئذ تطمئن القلوب وتعتمد على ذاتها‪.‬‬ ‫مقرتحات وعالجات‬

‫ال بد من و�ضع احللول واملعاجلات ب�ش�أن الكني�سة امل�شرقية و�شعبها كيما ي�ستطيعوا �سالمة‬ ‫الوجود بعي�ش واحد يف الوطن الواحد ومنها‪:‬‬ ‫‪ 1‬ـ �أقرتح عدم تدري�س مادة التاريخ على الأقل جليل واحد‪ ،‬لن�سيان املا�ضي مب�آ�سيه وم�ساوئه‬ ‫وخلق مادة جديدة ت�ؤ�صل املجتمع وتوحده بعي�ش واحد يف املواطنة ال�صاحلة‪.‬‬ ‫‪ 2‬ـ قبول الآخر كما هو مبعتقداته وخ�صو�صياته �أي قبول امل�سلم للم�سيحي وبالعك�س قبو ًال‬ ‫�إن�سانياً علمانياً عقالنياً‪ ،‬والعمل امل�شرتك يف تطوير املجتمع ورقيه‪.‬‬ ‫‪ 3‬ـ التعاون القوي والعميق لإنقاذ الآخر والعمل يف �سبيل الذوبان الذاتي الواحد يف بوتقة‬ ‫الوطن وخدمة اهلل‪� ،‬أي بالنهج على الوطن للجميع والدين هلل‪.‬‬ ‫‪ 4‬ـ احلوار الإ�سالمي امل�سيحي اجلاد وال�صريح ولي�س كما هو معمول به اليوم‪ ،‬املجامالت‬ ‫واملهاترات‪ ،‬لأن حواراً كهذا ولد ويولد ميتاً‪ ،‬فماذا جنينا من م�سرية �أربعني �سنة من احلوار‬ ‫املنافق‪� ،‬إ�ضافة �إىل تنازالت امل�سيحي �أمام امل�سلم بكثري من الق�ضايا االجتماعية وحتى‬ ‫«جت�سد الكلمة يف العذراء ي�ساوي جت�سد الكلمة يف القر�آن»‪ ،‬فهل �أقبح‬ ‫العقائدية فمث ًال القول ّ‬ ‫من هذا النفاق؟‬ ‫‪ 5‬ـ امل�شاركة القوية يف املمار�سات االجتماعية لبناء املجتمع والدولة وال�سعي يف تعميمها‬ ‫على �صعيد الكني�سة والأمة فت�سمو القيم واملثل العليا‪...‬‬ ‫‪ 6‬ـ �سيادة الدميقراطية يف مناحي الدولة‪ ،‬على ال�صعيد االقت�صادي واالجتماعي والديني‬ ‫بتكوين دولة حديثة ت�ؤمن بروح امل�ساواة والإخاء واحلرية‪ ،‬وب�إ�صدار د�ستور عملي ال ثغرات‬ ‫فيه وال ت�سا�ؤالت‪ ،‬بل مفهوم واحد على ال�صعيد ال�سيا�سي واالجتماعي املثايل الر�صني‪.‬‬ ‫‪ 7‬ـ �إلغاء القوانني والنظم املوروثة من �أيام الدولة العثمانية‪� ،‬أي حتديث الدولة على خمتلف‬ ‫الأ�صعدة ي�سودها القانون الإن�ساين الذي يعطي قيمة الإن�سان واحلر�ص على �سالمته ولي�س‬ ‫‪113‬‬


‫اال�ستهتار بها‪� ،‬أي حتديث الدولة وفتح املجال �أمام �أ�صحاب الكفاءات الذين هم يبنون الأمة‬ ‫بالإخال�ص والأمانة والوفاء‪..‬‬ ‫هذه املقرتحات وغريها من العالجات ممكن احلد من هجرة امل�سيحيني وعنفوان امل�سلمني‬ ‫ب�إعالن عدم ال�سري على العنف الهدام والتم�سك بالالعنف البناء‪ .‬ومن خالل ذلك ميكن‬ ‫النظر على واقع امل�سيحية يف العراق بالع�صر احلا�ضر‪ ،‬والرجوع �إىل ما كانت فيه امل�سيحية‬ ‫وامل�سيحيون من مكانة الكني�سة و�أبنائها �أيام الدولة العبا�سية حيث كان امل�سيحيون �أعمدة‬ ‫احل�ضارة الإ�سالمية‪ ،‬حيث قدموا خال�صات تفكريهم لبناء �أمة ت�شهد لها الأمم‪ ،‬مبا �صنفوه‪،‬‬ ‫و�أ ّلفوه‪ ،‬وابتكروه وترجموه من اللغات الأخرى يف �سبيل ب�سطه �أمام �أبناء جلدتهم من‬ ‫امل�سلمني لقمة �سائغة حتت عنوان «�أهل الكتاب» فهم نور العامل وملحه‪ ،‬بح�سب ما نعتهم به‬ ‫معلمهم الإلهي ي�سوع امل�سيحي «�أنتم نور العامل‪ ،‬و�أنتم ملح الأر�ض» و»حبة احلنطة �إن مل تقع‬ ‫يف الأر�ض ومتت فال ت�أتي بثمر كثري» ثم �أنتم خمرية الأر�ض وخمره تهبون ما لكم للنف�س‬ ‫واجل�سد للمادة والروح‪...‬‬

‫‪114‬‬


‫فـكــــــــر‬

‫تاريخ ال�شيخ البهائي‬

‫بني ال�سرية الذاتية والأبعاد الفكرية‬

‫د‪ .‬ح�سني علي احلاج ح�سن ‪ -‬باحث و كاتب‬

‫املقدمة‬

‫حممد بن ال�شيخ ح�سني بن عبد ال�صمد احلارثي اجلبعي‬ ‫ان البحث يف �شخ�صية ال�شيخ ّ‬ ‫العاملي‪ ،‬املعروف بال�شيخ البهائي (‪953‬هـ ‪1546‬م – ‪1031‬هـ ‪1624‬م)‪ .‬تقت�ضي بلورة‬ ‫دوره االجتماعي وال�سيا�سي يف ظل الدولة ال�صفوية(‪ ،)1‬وعر�ض �سريته ال�شخ�صية وتاريخ‬ ‫درا�سته‪ ،‬و�أ�سفاره التي كانت جاذباً لت�أمالته وحركته العلمية و�آثاره الفنية‪ ،‬ف�ض ًال عن‬ ‫البحث يف علومه الدينية والأدبية والعلمية‪ ،‬ور�ؤيته الفكرية يف فقه احلديث‪ ،‬ور�أيه يف نظرية‬ ‫املرجعية الدينية‪ ،‬ودالالته ال�صوفية‪ ،‬التي برزت يف �آثاره الهند�سية والفكرية والعقلية‪،‬‬ ‫رغم التحوالت الدينية واملذهبية التي رافقت مرحلة حياته جراء انت�شار الفو�ضى والفنت‬ ‫الداخلية (‪ .)2‬خا�صة يف ظل �أول ملوك هذه الدولة‪� ،‬إ�سماعيل ابن ال�شيخ حيدر بن �صدر‬ ‫الدين بن �صفي الدين(‪( ،)3‬املولود ‪892‬هـ ‪1487 -‬م)‪ ،‬والذي حكم خالل ‪ 907‬هـ ‪-‬‬ ‫‪ 1501‬م‪� ،‬إىل حني وفاته ‪ 930‬هـ ‪1523 -‬م‪ ،‬حيث امتد ملكه على �آذربيجان(‪907( )4‬‬ ‫هـ ‪1502 -‬م)‪ ،‬ومن ثم دخل عا�صمتها �آنذاك‪ ،‬مدينة تربيز‪.‬‬ ‫ان اال�ضطهاد الديني والقمع االجتماعي الذي رافق تلك املرحلة التاريخية جراء �سيطرة‬ ‫الأتراك على ال�ساحل ال�سوري‪ ،‬كانت دافعاً لهجرة بع�ض رجال الدين‪� ،‬سواء من كرك‬ ‫‪-1‬ال�صفويون‪� ،‬آل �ص‪.‬فويان‪� :‬ساللة تركمانية من ال�شاهات حكمت يف بالد فار�س (�إيران) منذ عام ‪1722 - 1501‬‬

‫م‪ ،‬فكان مقرهم يف مدينة تربيز حتى عام ‪1548‬م‪ ،‬ومن ثم الحقاً يف مدينة قزوين منذ عام ‪1598 - 1548‬م‪،‬‬ ‫وبعدها يف مدينة �أ�صفهان منذ ‪1598‬م‪.‬‬ ‫�أنظر‪ :‬بديع جمعة �أحمد اخلويل‪ :‬تاريخ ال�صفويني وح�ضارتهم‪ ،‬دار الرائد العربي‪ ،‬القاهرة‪1976 ،‬م‪.‬‬ ‫‪� -2‬أحمد اخلويل‪ ،‬الدولة ال�صفوية تاريخها ال�سيا�سي واالجتماعي عالقتها بالعثمانيني‪ ،‬مكتبة الأجنلو امل�صرية‪،‬‬ ‫‪� ،1981‬ص‪.16 .‬‬ ‫‪ -3‬عبد الر�سول املو�سوي‪ ،‬ال�شيعة يف التاريخ‪ ،‬مكتبة مدبويل‪ ،‬القاهرة‪� ،1981،‬ص‪. 45.‬‬ ‫‪ -4‬تقع �ضمن هذه املحافظة مدينة قزوين‪ ،‬وهي غرب مدينة طهران وكرج‪.‬‬

‫‪115‬‬


‫نوح(‪� )1‬أو من جبل عامل �إىل �إيران‪ .‬ومن الذين هاجروا‪ ،‬ال�شيخ ح�سني بن عبد ال�صمد‪،‬‬ ‫والد ال�شيخ البهائي ومعه عائلته‪ ،‬لت�ستقر يف بالد �إيران‪.‬‬ ‫والدة ال�شيخ البهائي ون�ش�أته‬

‫احلجة من عام ‪ 953‬هـ مبدينة‬ ‫ولد ال�شيخ البهائي يف ال�سابع والع�شرين من �شهر ذي ّ‬ ‫(‪)2‬‬ ‫بعلبك من البقاع‪ ،‬فيما روى جعفر املهاجر انه ولد يف �إيعات ‪� ،‬أي يف �ضواحي املدينة‬ ‫املذكورة‪ ،‬وال يزال حتى تاريخه‪ ،‬هنالك بع�ض ال�شواهد لآثار بيته فيها‪ ،‬فيما تتواتر الأخبار‬ ‫عن ذلك‪ ،‬حول والدة ال�شيخ البهائي يف بلدة يونني(‪ )3‬البقاعية �شمال مدينة بعلبك‪،‬‬ ‫وتبعد هذه البلدة عن مركز املدينة حوايل خم�سة ع�شر كيلو مرتا‪ .‬ومن الوا�ضح �أن حمور‬ ‫تلك الروايات‪ ،‬ي�ؤكد على �أن والدته كانت يف حميط مدينة بعلبك‪ ،‬ويذكر انه كان يف‬ ‫ال�سابعة من عمره حني هاجر مع �أبيه �إىل �إيران‪ ،‬حيث عا�ش عامة عمره فيها‪ ،‬فيما هناك‬ ‫رواية �أخرى‪ ،‬تفيد عن والدته يف مدينة قزوين غرب طهران‪ ،‬وكان ذلك‪ ،‬يوم اخلمي�س ‪17‬‬ ‫من �شهر حمرم عام ‪� 948‬أو ‪� 949‬أو ‪951‬هـ(‪� ،)4‬إال �أن املعروف بالتواتر اخلربي �أن والدته‬ ‫كانت قبل هجرة �أهله‪ ،‬خا�صة جلهة �أثر البيت حتى تاريخه‪.‬‬ ‫درا�سته‬

‫در�س ال�شيخ البهائي املراحل الأ ّولية للعلوم الدينية الإ�سالمية على يد والده‪ ،‬ومن ّثم‬ ‫�سافر الحقاً �إىل مدينة �أ�صفهان لتح�صيل العلوم(‪ ،)5‬فكان تارة تلميذاً و�أخرى معلماً(‪،)6‬‬ ‫وترك �آثاره الدينية والعلمية والأدبية �شاهدة على ح�ضوره العلمي والفكري‪� ،‬إذ ميكن‬ ‫‪ -1‬قرية بقاعية متاخمة ملدينة زحلة اللبنانية‪ ،‬وقد كانت تلك القرية هي احلدود الفا�صلة للبقاع البعلبكي (‪927‬هـ‬ ‫‪ )-1520‬املمتد من ناحية كرك نوح جنوباً حتى بلدة القاع �شما ًال‪.‬‬ ‫‪ -2‬جعفر املهاجر‪� ،‬ستة فقهاء �أبطال‪ ،‬مركز الدرا�سات والتوثيق والن�شر‪ ،‬الطبعة الأوىل‪ ،‬لبنان‪� ،1994 ،‬ص‪.189.‬‬ ‫‪ -3‬تواتر خربي �شائع بني بع�ض النا�س حول مكان الوالدة‪.‬‬ ‫‪ – 4‬ال�شيخ البهائي‪ ،‬من ال يح�ضره الفقيه‪ ،‬م�صدر مذكور‪ ،‬ال�صفحة نف�سها‪.‬‬ ‫‪ -5‬من أساتذته‪ :‬الشيخ عبد العايل الكركي‪ ،‬وهو ابن احملقق الكركي‪ ،‬وأبوه الشيخ حسني بن عبد‬ ‫الصمد احلارثي‪ ،‬فضالً عن الشيخ أمحد الكجائي‪ ،‬املعروف ببري أمحد‪ ،‬والشيخ عبد هللا اليزدي‪.‬‬ ‫املتألني‪ ،‬والشيخ‬ ‫حممد بن إبراهيم الشريازي‪ ،‬املعروف بصدر هّ‬ ‫‪ -6‬أبرز تالمذة الشيخ البهائي‪ :‬الشيخ ّ‬ ‫حممد حمسن‪ ،‬املعروف ابلفيض الكاشاين‪،‬‬ ‫األول‪ ،‬والشيخ ّ‬ ‫حممد تقي اجمللسي‪ ،‬املعروف ابجمللسي ّ‬ ‫ّ‬ ‫ال‬ ‫فض‬ ‫النائيين‪،‬‬ ‫الدين‬ ‫رفيع‬ ‫د‬ ‫السي‬ ‫و‬ ‫كي‪،‬‬ ‫الكر‬ ‫حيدر‬ ‫بن‬ ‫حسني‬ ‫د‬ ‫السي‬ ‫و‬ ‫اين‪،‬‬ ‫ر‬ ‫ند‬ ‫ز‬ ‫املا‬ ‫صاحل‬ ‫د‬ ‫حمم‬ ‫املوىل‬ ‫و‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫عن السيّد ماجد البحراين‪ ،‬والشيخ حممد القرشي‪.‬‬

‫‪116‬‬


‫فكــــــر‬

‫الركون �إليها للداللة عليه(‪ .)1‬ونتيجة لقدراته العلمية والأدبية التي ذاع �صيتها يف البالد‪،‬‬ ‫حظي باحرتام �شاه �إيران عبا�س ال�صفوي‪ ،‬الذي ع َّينه يف من�صب �شيخ الإ�سالم يف الدولة‬ ‫ال�صفوية خلفاً لل�شيخ علي الأف�شار‪ ،‬حيث وفر له هذا املركز الإمكانيات الوا�سعة التي‬ ‫انتفع منها يف خدمة حركته الدينية والفكرية‪.‬‬ ‫وجتدر الإ�شارة‪� ،‬إىل انه كان قد در�س ال�شيخ البهائي يف بداية �أمره‪ ،‬على يد والده ال�شيخ‬ ‫واملوجه له خالل‬ ‫ح�سني عبد ال�صمد‪ ،‬الذي كان له كبري الأثر على �شخ�صيته‪ ،‬فكان املعلم ّ‬ ‫الفرتة الأوىل من حياته‪ ،‬واملثال املحتذى به‪ ،‬خا�صة �أن الوالد‪ ،‬كان من علماء جبل عامل‬ ‫املعروفني‪ ،‬وقد متيز بعلمه و�أخالقه‪ ،‬فكان فقيهاً ومتكلماً و�شاعراً‪ ،‬حيث عك�س ذلك يف‬ ‫�شخ�صية ولده‪ ،‬كما عرف عنه �صناعة الألغاز امل�شهورة التي خاطب بها ولده البهائي‪ .‬فيما‬ ‫كانت درا�سة البهائي متنقلة يف �أكرث من مكان‪ ،‬حيث كان يتنقل عند كبار العلماء من‬ ‫جهابذة الفكر يف مدينة قزوين‪ ،‬التي كانت �آنذاك عا�صمة �إيران‪ ،‬ومن �أ�ساتذته‪ :‬عبداهلل‬ ‫�شهاب الدين ح�سني اليزدي‪ ،‬ال�شهري بامل ّال عبداهلل‪ ،‬وهو من �أ�ساتذة علم املنطق واحلكمة‪،‬‬ ‫�إىل جانب احلكيم عماد الدين حممود‪� ،‬أحد �أ�شهر �أطباء �إيران يف ع�صره‪ ،‬وهو الطبيب‬ ‫اخلا�ص لل�شاه طهما�سب‪ .‬وقد در�س �أي�ضاً عند علي املدر�سي �آخذاً عنه علم الريا�ضة‪� ،‬أي‬ ‫علم اجلرب‪ ،‬وعند م ّال ف�ضل القا�ضي �أو القايني املد ّر�س‪� ،‬أخذاً عنه علم الريا�ضة والكالم‬ ‫والفل�سفة‪ ،‬واملري مرت�ضى‪ ،‬و�أحمد ال ّنهمي الكيالين‪ ،‬كما وقر�أ عليه الريا�ضيات واحلكمة ‪.‬‬ ‫مل تقت�صر معرفته عند هذا احلد‪ ،‬بل كانت �ضالته التي يالحقها عند �أ�ساتذة من خارج‬ ‫�إيران‪ ،‬ومعظمهم كانوا من احلوا�ضر الإ�سالمية التي زارها‪ .‬فدر�س يف حلب عند ال�شيخ‬ ‫عمر ال ُعر�ضي‪ ،‬كما روى عنه ال�شيخ حممد بن حممد بن �أبي اللطف املقد�سي ال�شافعي‪.‬‬ ‫نواح و�أق�سام عدة‪ ،‬فالكتب الدينية �شملت العناوين التالية‪ :‬ال ُّزبدة يف الأ�صول‪� -‬شرح‬ ‫‪ -1‬توزعت م�ؤلفاته �إىل ٍ‬ ‫ُ‬ ‫ا�سي يف فقه الإمام ّية‪ -‬هداية الأ ّمة �إىل �أحكام ال ّأئمة‪ -‬حديقة ال�سالكني‪ -‬بداية الهداية‪-‬‬ ‫الأربعني حديثاً‪ -‬اجلامع الع ّب ّ‬ ‫العروة الوثقى وال�صراط امل�ستقيم يف التف�سري‪ -‬منظومة يف املوعظة‪ -‬ر�سائل فقه ّية عديدة‪ -‬مفتاح الفالح (يف الأدعية‬ ‫ال�سجاد ّية‪ -‬احلبل املتني يف مزايا القر�آن املبني‪ -‬كتاب‬ ‫والأوراد)‪� -‬أجوبة عديدة على م�سائل خمتلفة‪� -‬شرح ال�صحيفة ّ‬ ‫املهدي عجل اهلل فرجه ال�شريف‪� .‬أما تراثه من الكتب الأدبية واللغوية فقد توزعت على‪:‬‬ ‫يف �إثبات وجود الإمام‬ ‫ّ‬ ‫املخالة‪ -‬الك�شكول‪� -‬أ�سرار البالغة‪ -‬التهذيب يف النحو‪ -‬تهذيب البيان‪ -‬ريا�ض الأرواح (منظومة)‪ -‬ديوان �شعر‪-‬‬ ‫الفوائد ال�صمد ّية يف علم العرب ّية‪ .‬فيما انح�صرت كتبه العلمية يف العناوين التالية‪ :‬بحر احل�ساب‪ -‬ت�شريح الأفالك (يف‬ ‫الهيئة)‪ -‬ر�سالة يف حل �إ�شكاليَ عطارد والقمر‪ -‬ال�صحيفة يف الأعمال اال�سطرالب ّية‪ -‬ر�سالة يف ت�ضاري�س الأر�ض ‪-‬‬ ‫ر�سالة يف �أنّ �أنوار الكواكب م�ستفادة من ال�شم�س ‪ -‬ر�سالة يف ن�سبة �أعظم اجلبال �إىل قطر الأر�ض ‪ -‬خال�صة احل�ساب‪.‬‬ ‫�ص َّنف ال�شيخ البهائي ما يزيد على �سبعني كتابًا ور�سالة يف الفقه والريا�ضيات والفلك والرجال والتف�سري‪.‬‬ ‫راجع ال�شيخ جعفر ال�سبحاين‪ ،‬مو�سوعة طبقات الفقهاء‪ ،‬دار الأ�ضواء‪ ،‬لبنان‪2000 ،‬م‪� ،‬ص‪.264 - 11.‬‬ ‫‪117‬‬


‫كما كان قد َد ّر َ�س يف بداية حياته يف هرات‪� ،‬سنة ‪983‬هـ ‪1575 -‬م‪ ،‬وكان عمره يف ذلك‬ ‫الوقت ثالثني �سنة‪ ،‬ثم د ّر�س يف مدينة قزوين‪ ،‬والحقاً يف �أ�صفهان‪ ،‬وكل الأماكن التي‬ ‫ذهب �إليها‪.‬‬ ‫�أ�سفاره وعلومه الدينية والأدبية والعلمية‬

‫عرف عن ال�شيخ البهائي‪ ،‬حبه لل�سفر الطويل وامل�ستمر‪ ،‬خا�صة �أن دوافعه لذلك‪،‬‬ ‫كانت رغبته بال�سياحة وامل�شاهدة‪ ،‬و�إغناء التجارب والعلوم وامل�ستحدثات لديه‪ ،‬فيما كان‬ ‫دافعه الآخر لل�سفر االبتعاد عن �أماكن �إقامته �إف�ساحاً يف املجال �أمام غريه‪ ،‬ب�سبب ح�سد‬ ‫الآخرين له جراء موقعه ودوره يف الدولة‪ ،‬ومقامه ومنزلته عند ال�سالطني‪ .‬فق�ضى بالتجوال‬ ‫وال�سفر متنق ًال من مكان �إىل �آخر مدة ‪� 30‬سنة من حياته‪ ،‬بني املدن والأقطار املختلفة‪.‬‬ ‫وكان �أول �سفر له‪ ،‬من مدينة بعلبك �إىل مدينة �أ�صفهان‪ ،‬ومن ثم �إىل الأعتاب املقد�سة يف‬ ‫العراق واحلجاز لزيارتها‪ ،‬وحج �إىل بيت اهلل احلرام‪ .‬و�سافر �أي�ضاً �إىل مدينة م�شهد ب�صحبة‬ ‫�شاه عبا�س الكبري �سرياً على الأقدام‪.‬‬ ‫مل تكن �أ�سفاره تنحى اجلانب الديني فح�سب‪ ،‬بل كانت بق�صد الإملام باملعرفة‪ ،‬وقد �سافر‬ ‫�إىل م�صر ف�ألف كتابه امل�شهور بـ «الك�شكول»‪ .‬كما قرر ال�سفر �إىل الروم‪ ،‬وال�شام‪ ،‬وبيت‬ ‫املقد�س‪ ،‬بعد‏عودته من م�صر‪ ،‬ومن ثم الحقاً �إىل ال�شام فتوجه منها �إىل مدينة حلب‪ ،‬وزار‬ ‫القد�س ودم�شق وتربيز و�أ�صفهان واحلجاز وكرك نوح وبعلبك وغريها‪ ،‬ويف �آخر �أيام حياته‬ ‫عاد �إىل مدينة �أ�صفهان و�أقام فيها عدداً من ال�سني�س‪.‬‬ ‫تغره‬ ‫‪ ‬ومن الوا�ضح‪ ،‬وفقاً ملا تناقله امل�ؤرخون‬ ‫ّ‬ ‫واملحدثون والعارفون بخفايا ال�شيخ‪� ،‬أ ّنه مل ّ‬ ‫جربها‪ ،‬التي مل ي�ستمر فيها طويالً‪،‬‬ ‫مباهج الدنيا ومغرياتها‪ ،‬وال املنا�صب الدنيوية التي ّ‬ ‫همه �أن يكون لديه حرية التفكر والت�أمل والبحث عن �ضالته املن�شودة‪ ،‬لذا كانت‬ ‫بل كان ّ‬ ‫رحالته قد فتحت �أمامه �آفاقاً وا�سعة واطالعاً ومعرفة وثقافة وعلماً‪.‬‬ ‫وجتدر الإ�شارة‪� ،‬إىل �أن مذكرات ال�شيخ البهائي حول �أ�سفاره كانت قليلة‪ ،‬وقد كتبت‬ ‫على بع�ض ال�صفحات من كتبه ب�شكل �شذرات‪ ،‬فعرف عنه من خاللها‪� ،‬أنه كان يتج ّول‬ ‫يف �أ�سفاره‪ ‬متنكراً ب�أزياء ال�سياح واملالب�س االعتيادية‪ ،‬كي ال يتعرف احد عليه‪ .‬كما روى‬ ‫ذلك كبار ال�شخ�صيات يف حلب وال�شام ممن ر�أوه‪ ،‬وعندما كان ال�شيخ ي�شرتك يف بع�ض‬ ‫املجال�س احلوارية ويتفوه ببع�ض الكلمات التي تفيد عن املعنى والداللة املق�صودة‪ ،‬كانت‬ ‫فوراً تظهر عليه منزلته العلمية والفكرية‪ ،‬وتبني مقدرته يف معاجلة ال�ش�ؤون الدينية والعلمية‬ ‫وال�شعرية‪� ،‬إال �أنه كان يغادر مكان �إقامته حينما يتعرف عليه الأفا�ضل والعلماء كي ال يعرفه‬ ‫عامة النا�س‪ .‬كما و�أنه كان قد ر ّوج يف �أ�سفاره الطويلة‪ ،‬العلم واملعرفة و�سعى �إىل ت�شييد‬ ‫‪118‬‬


‫فكــــــر‬

‫العديد من الأعمال العمرانية واملباين ال�ضخمة التذكارية‪ ،‬يف كربيات املدن الإ�سالمية‪،‬‬ ‫ومن بينها مرقد الإمام علي بن �أبي طالب يف النجف‪ .‬ون�شر ال�شعر العربي والفار�سي(‪،)1‬‬ ‫مع العلم �أن اللغة الفار�سية ذات الأ�صول الفهلوية‪ ،‬لي�ست على وزن التفاعيل العربية‬ ‫املعروفة‪ ،‬بل هي على النظم الذي ن�صادفه يف الأو�ستا(‪ ،)2‬وهو الذي يقوم على عدد من‬ ‫املقاطع ال�صوتية‪ .‬ون�ستدل على ذلك من خالل الأغاين ال�شعبية والأهازيج‪ ،‬وقد حافظ‬ ‫ال�شعب الإيراين على تراثه الأدبي العريق يف قدمه‪ ،‬وذلك ما ان�صرف عنه ال�شعر الف�صيح‬ ‫كلية‪ ،‬وهو النمط الذي �أخذ به ال�شعر الفار�سي الإ�سالمي منذ ن�ش�أته‪ ،‬وا�ستم�سك به‬ ‫حر�صاً عليه‪ ،‬فكان ذلك ال�شعر عرو�ضياً عمودياً م�ستعاراً من العرب‪ ،‬ولي�س غريباً ذلك‬ ‫عن ال�شيخ البهائي‪ ،‬الذي ترك �أثره و�أوزانه العربية على ال�شعر الفار�سي‪ ،‬خا�صة بعد انت�شار‬ ‫ال�شعر الإ�سالمي الفار�سي‪ ،‬لذا ف�إن نظرة عابرة يف �إن�شاداته ت�ؤيد مثل هذا الإدعاء باعتبار‬ ‫انه كتب �شعره باللغة الفار�سية(‪.)3‬‬ ‫كان البهائي‪� ،‬أول من نظم ال�شعر الفار�سي على بحر اخلبب‪ ،‬كما انه نظم كثرياً من‬ ‫�شعره العربي على طريقة «الدوبيت» �أو ما عرف بــ»الرباعيات»‪ ،‬حيث �أ�سدى خدمة‬ ‫�إىل الثقافتني‪ :‬العربية والفار�سية بتطوير النظم يف كل منهما‪ ،‬باعتماده‪ ،‬يف كل منهما‪،‬‬ ‫وزنا من �أوزان الأخرى‪ .‬ف�شعره كان له دالالت عرفانية ودينية و�إميانية‪ ،‬تناولت العقيدة‬ ‫الدينية‪ ،‬فمدح �صاحب الأمر والزمان‪ ،‬الإمام حممد بن احل�سن املهدي‪ ،‬فيما كانت‬ ‫مادة مو�ضوعاته الزهد واملوعظة يف احلياة لالعتبار‪ ،‬والو�صف لعظمة اهلل وجالله‪� ،‬إىل‬ ‫تنم عن العاطفة الوجدانية‪ ،‬فلم‬ ‫جانب املديح‪ .‬بالإ�ضافة �إىل ال�شكوى واحلنني التي ّ‬ ‫تغب عن ذهن البهائي الق�ضايا العامة والنقد االجتماعي‪ ،‬واملحاكاة الرثائية‪ ،‬والغزلية‪،‬‬ ‫واخلمريات التي كانت يف عمقها قراءة يف العرفانيات‪� ،‬إىل جانب الألغاز والأحاجي‪.‬‬ ‫�إىل جانب ذلك فقد تناول يف املجال الأدبي الق�صة‪ ،‬التي ظهرت يف �شعره العربي‪.‬‬ ‫ونظراً ل�شهرته وعلمه‪ ،‬فقد ن�شرت كتب عدة مل�ؤلفني جمهولني ون�سبت �إليه‪ ،‬كما هو‬ ‫احلال يف «�أ�سرار البالغة» و»املخالة» و»فالنامة»‪.‬‬ ‫‪ -1‬باول هورن‪ ،‬الأدب الفار�سي القدمي‪ ،‬تر‪ :‬ح�سني جميب امل�صري‪ ،‬دار املدى للثقافة والن�شر‪ ،‬بريوت ‪� ،2009‬ص‪.86 .‬‬ ‫‪ -2‬الأو�ستا‪ :‬كتاب مقد�س لدين زراد�شت‪.‬‬ ‫‪ -3‬بع�ض كتاباته يف اللغة الفار�سية‪" ،‬اجلامع العبا�سي" ;(كتاب يف الفقه املي�سر)‪" ،‬خال دار نامه"‪" ،‬جهان مناً‬ ‫(الطا�س ال�سحري)‪�" ،‬شري و�شكر" (احلليب وال�سكر) "مثنوي"‪" ،‬مو�ش وگربه" (القط والف�أرة) "مثنوي «و"نان‬ ‫وحلوا "(اخلبز واحللوى) "مثنوي" و "نان وخرما" (اخلبز والنخيل) "مثنوي" و"نان وبنري" (اخلبز واجلنب)‪ .‬وكلمة‬ ‫املثنوي يف الأدب الفار�سي هي عبارة عن �أرجوزة �شعرية ‪.‬‬ ‫انظر معجم حممد التوجني‪ ،‬فرهنگى طالئى‪ ،‬الطبعة الأوىل‪ ،‬بريوت‪.1969 ،‬‬ ‫‪119‬‬


‫ر�ؤية ال�شيخ البهائي يف فقه احلديث‬

‫ّ‬ ‫�شكل فقه احلديث عند ال�شيخ البهائي‪ ،‬مرحلة متقدمة يف معاجلة الق�ضايا املق�صودة منه‪،‬‬ ‫خا�صة �أنه علم يق�صد منه فهم احلديث ال�شريف‪ ،‬وقراءة يف الفهم ال�صحيح لل�سنة النبوية‬ ‫ال�شريفة‪ ،‬وقد ا�ستحوذت هذه امل�س�ألة على اهتمام علماء الإ�سالم بهذا العلم ال�شريف‬ ‫خالل احلقبات التاريخية املتعاقبة‪ ،‬ومن جملة �أولئك العلماء‪ ،‬ال�شيخ البهائي الذي تناول‬ ‫ذلك بطريقته التي تبني مدى قدرته و�أ�سلوبه الذي يوحي �أنه كان م�ضطلعاً ب�أ�س�س هذا‬ ‫العلم‪ ،‬وعليه ميكن مالحظة ذلك من خالل كتاباته‪ .‬فمراحل فهم احلديث عند ال�شيخ‬ ‫البهائي دفعت �إىل فهم الظاهر‪ ،‬وفهم املق�صود منها‪ .‬وقد ا�ستخدم لفهم الظاهر‪ :‬علم‬ ‫ال�صرف‪ ،‬وعلم النحو(‪ ،)1‬وعلم املعاين‪ ،‬وعلم البيان(‪ .)2‬فيما اعتمد يف فهم املق�صود على‬ ‫القرائن املت�صلة بعلم الكالم‪ ،‬مثل‪ :‬التلميح‪ ،‬والتعليل‪ ،‬وال�س�ؤال‪ ،‬وتف�سري الراوي‪ ،‬و�سياق‬ ‫الكالم‪.‬‬ ‫لقد عالج ال�شيخ البهائي القرائن املنف�صلة‪ ،‬معترباً �أن هذه القرينة هي التي تفيد عن‬ ‫تخ�صي�ص ما‪� ،‬أو تقييد حمدد‪ ،‬وقد ا�ستخدم يف �سبيل ذلك الآيات القر�آنية الكرمية لبيان‬ ‫مداليل الأحاديث ال�شريفة‪ .‬وميكن مالحظة ذلك يف حال تعار�ض احلديث مع غريه‪� ،‬إذ‬ ‫يحمل �أحدهما على اجلواز �أو اال�ستحباب �أو الكراهة �أو ال�ضرورة �أو التخيري �أو التقية‪.‬‬ ‫فيما ا�ستخدم بع�ض العلوم الأخرى لت�أكيد نظريته وتر�سيخ املفاهيم الدينية‪ ،‬مثل‪ :‬الطب‬ ‫واحل�ساب والنجوم‪ ،‬بغية تف�سري الأحاديث ال�شريفة ومقا�صدها‪ ،‬ومل يغب عن باله املوانع‬ ‫التي كانت موجودة يف فهم احلديث �سواء منها‪ :‬فهم الظاهر‪� ،‬أو فهم املق�صود‪.‬‬ ‫اعترب ال�شيخ البهائي‪� ،‬أن موانع فهم الظاهر من احلديث ال�شريف‪ ،‬تكمن يف الإ�شراك‬ ‫اللفظي‪ ،‬وحت ّول معاين اللغة‪ ،‬خا�صة جراء تعدد املعنى الذي يفيد عن اجلانب اللغوي من‬ ‫جهة‪ ،‬ومن جهة �أخرى عن اجلانب اال�صطالحي‪ ،‬ف�ض ًال عن عدم االنتباه حلروف اجلر‪،‬‬ ‫التعرف على الت�صحيف والإدراج والتقطيع غري ال�صحيح(‪.)3‬‬ ‫وعدم ّ‬ ‫وعليه ف�إن موانع فهم املق�صود من الأحاديث تكمن يف‪ :‬عدم التتبع الكامل‪ ،‬وجمود‬ ‫الن�ص‪ ،‬وب�ساطة املعنى‪� ،‬إىل جانب وقوف احلديث عند املنهج الإخباري‪ ،‬وعدم االنتباه‬ ‫�إىل وحدة ال�سياق العام منه‪ .‬فيما �شكلت �أبحاثه يف فقه احلديث‪ ،‬جتربته لفهم الظاهر‬ ‫‪� -1‬أنظر يف كتابه‪ :‬الفوائد ال�صمدية (يف النحو)‪.‬‬ ‫‪� -2‬أنظر يف كتابه‪ :‬احلا�شية على املطول (يف البيان)‪.‬‬ ‫‪� -3‬إن �إحدى مكونات الفهم يف اللغة تكمن باملقاطع ال�صوتية وتق�سيم املقاطع للكلمة ب�شكل �صحيح‪ ،‬ف�ض ًال عن‬ ‫حتديد �أمكنة الوقف اللفظي كي ي�سهل الفهم ومينع االلتبا�س يف �سياق اجلملة امللفوظة‪.‬‬ ‫‪120‬‬


‫فكــــــر‬

‫واملق�صود‪� .‬إذ ميكن م�شاهدة ذلك ب�شكل عام يف م�ؤلفاته التالية‪ :‬احلبل املتني‪ ،‬وم�شرق‬ ‫ال�شم�سني‪ ،‬والأربعون حديثاً‪ ،‬واحلديقة الهاللية‪ ،‬ومفتاح الفالح‪.‬‬ ‫ويبدو �أن ر�ؤيته هذه‪ ،‬قد كانت يف حماكاة الع�صر‪ ،‬وجراء ت�أثره بكبار العلماء البارزين‪،‬‬ ‫�أمثال‪ :‬ال�شهيد الثاين‪ ،‬وال�شيخ ح�سني (والد ال�شيخ البهائي)‪ ،‬واملحقق الكركي ال�شهيد‬ ‫الأول‪ ،‬والعالمة احللي‪ ،‬خا�صة �أنه كان يعترب نف�سه مديناً له�ؤالء العلماء الكبار‪.‬‬ ‫ومن اجلدير بالذكر‪� ،‬أن «الر�سالة االعتقادية» التي تركها ال�شيخ البهائي‪ ،‬كانت عبارة عن‬ ‫خال�صة ق�صرية للمنهج الذي �سار عليه يف حياته‪ ،‬بعيداً عن التع�صب املذهبي الذي غلب‬ ‫على ع�صره‪ ،‬وهي تختلف عن الكتب املذهبية والعقدية الأخرى عند ال�سنة وال�شيعة‪،‬‬ ‫فهي جامعة لكل املعتقدات ال�شيعية الإمامية‪ ،‬وما يلتقون به مع غريهم من �أ�صحاب‬ ‫املذاهب الأخرى من امل�سلمني وما يختلفون به عنهم‪.‬‬ ‫لقد بوب ال�شيخ البهائي يف كتابه‪« ،‬الوجيز يف الدراية» كمقدمة لكتابه «احلبل املتني»‪،‬‬ ‫و�أهم ما يف كتاب «الوجيز يف الدراية» �أنه عرف بامل�صطلحات التي ا�ستخدمت يف احلبل‬ ‫املتني‪« :‬علم الدراية» و»احلديث» و»اخلرب» و»ال�سنة» و»ال�سند» و»امل�ستفي�ض» و»الغريب»‬ ‫و»املعنعن» و»املطلق» و»امل�ضمر» و»العايل»‪ ،‬و»احلديث املتواتر»‪ ،‬و»املر�سل» و»املنقطع»‬ ‫و»امل�سل�سل»‪ ،‬و»ال�شاذ»‪ ،‬و»امل�سند» و»املع�ضل» و»الآحاد»‪ ،‬و»ال�صحيح» و»احل�سن»‬ ‫و»القوي»‪ ،‬و»املوثق»‪ ،‬و»ال�ضعيف» و»املقبول» الخ‪ ..‬كما حتدث عن �صفات الراوي‪ ،‬ثم‬ ‫�شرح امل�صطلحات التي ت�ستخدم للجرح‪ ،‬وحتدث عن �آداب كتابة احلديث‪.‬‬ ‫ومن املفيد ذكره يف هذا املجال‪� ،‬أن ال�شيخ زين الدين‪ ،‬هو �أول من نقل علم الدراية من‬ ‫كتب العامة وطريقتهم �إىل كتب اخلا�صة‪ ،‬وقد �ألف فيه «الر�سالة امل�شهورة» ثم �شرحها‪،‬‬ ‫وقيل �إنه �أول من �صنف من الإمامية يف دراية احلديث‪ ،‬ثم تبعه يف هذا اجلانب بعده‬ ‫تلميذه ال�شيخ ح�سني ابن عبد ال�صمد احلارثي‪ ،‬وبعده ولده ال�شيخ البهائي‪ ،‬وروى ال�سيد‬ ‫ال�صدر يف ت�أ�سي�س ال�شيعة‪ :‬ان �أول من د ّون علم دراية احلديث‪ ،‬هو �أبو عبداهلل احلاكم‬ ‫الني�سابوري‪ ،‬فيما كان ال�شيخ البهائي هو �أول من كتب ر�سالة عملية فقهية غري ا�ستداللية‪.‬‬ ‫ر�أي البهائي من نظرية املرجعية الدينية‬

‫كان ر�أي علماء الدين من الدولة ال�صفوية متبايناً‪ ،‬وحيال ذلك لقي ال�شيخ الكركي‬ ‫معار�ضة �شديدة من قبل بع�ضهم جراء حتالفه مع ال�صفويني‪ :‬كال�شهيد الثاين واالردبيلي‬ ‫وال�شيخ �إبراهيم القطيفي واملال حممد �أمني اال�سرتابادي واملال حممد طاهر القمي‪ ،‬ب�سبب‬ ‫نظرية (النيابة العامة)‪ ،‬التي مل تكن بعد‪ ،‬قد تطورت لتكون بدي ًال يحل حمل نظرية‪:‬‬ ‫(الإمامة الإلهية)‪ ،‬فقد كانت حمدودة وتقت�صر على الفتيا وتنفيذ بع�ض الأمور االجتماعية‬ ‫‪121‬‬


‫واالقت�صادية والعبادية‪ .‬مقابل ذلك فقد عالج هذا الأمر ال�شهيد الثاين يف جمال �إقامة‬ ‫�صالة اجلمعة ووجوبها دون احلاجة �إىل ا�ستئذان الإمام يف ع�صر الغيبة �إذا ما توفرت‬ ‫�شروطها‪ ،‬فيما انتقد املحقق الكركي على تردده ب�إيابها واكتفائه بالقول بجوازها مع الفقيه‪.‬‬ ‫مكتفياً بالقول بنظرية‪( :‬النيابة العامة) يف جمال الق�ضاء ال�شرعي واحلدود الالزم تطبيقها‪،‬‬ ‫معترباً ان الفقيه يقوم مقام الإمام‪ .‬لكنه مل يبح للفقيه ا�ستالم اخلم�س‪ ،‬وخا�صة منه �سهم‬ ‫الإمام‪ ،‬ومل يتحدث عن اجلهاد �أو �إقامة الدولة يف ع�صر الغيبة‪ .‬فيما كان الواقع ال�سيا�سي‬ ‫قد دفعه لأن يتعاون مع الدولة العثمانية فا�ستلم �إدارة املدر�سة النورية يف مدينة بعلبك‪،‬‬ ‫وذهب بعد ذلك �إىل ا�سطنبول عام ‪ ،951‬وكان له موقفه الراف�ض للدولة ال�صفوية‪� .‬أما‬ ‫االردبيلي‪ ،‬فقد قال بنظرية (النيابة العامة)‪ ،‬وجواز القتل واجلرح يف �إقامة الأمر باملعروف‬ ‫والنهي عن املنكر بال �إذن من الإمام‪ ،‬كما و�أنه �أجاز �إقامة املجتهد للحدود‪ ،‬ومل يكن ي�ؤمن‬ ‫بالنيابة العامة �إىل حد �إقامة الدولة يف ع�صر الغيبة‪ ،‬وقد رف�ض الذهاب �إىل �إيران بالرغم من‬ ‫�إحلاح �سالطينها عليه وتعظيمهم له ودعوتهم �إياه‪.‬‬ ‫�أمام هذا الواقع ال�سيا�سي واالجتماعي‪ ،‬كان لل�شيخ البهائي ر�أيه من ذلك‪ ،‬فهو مل‬ ‫يكن يعتقد ب�شرعية الدولة ال�صفوية وب�صالحية الفقيه لتطبيق احلدود يف ع�صر الغيبة‬ ‫ب�صورة مطلقة‪ ،‬بحيث ت�ؤدي �إىل اجلرح �أو القتل على الرغم من م�شاركته فيها مبن�صب‬ ‫�شيخ الإ�سالم‪ .‬وحيال ذلك‪ ،‬كان الفكر ال�سيا�سي الديني يت�أرجح بني نظرية‪( :‬التقية‬ ‫واالنتظار)‪ ،‬و(النيابة العامة)‪ ،‬فيما كان يبني موقفه على فل�سفة غيبة الإمام الثاين ع�شر‪،‬‬ ‫وعدم ا�ستطاعة �أي جمتمع من �إقامة احلكم بد ًال عنه‪ ،‬ب�سبب ا�ستمرار عوامل العجز‬ ‫وال�ضعف‪ ،‬وق�صور اليد عنها يف ع�صر الغيبة‪.‬‬ ‫الدالالت ال�صوفية يف �آثار ال�شيخ البهائي‬

‫ين�سب امل�ؤرخون يف التاريخ ال�صفوي والنا�س �إليه‪ ،‬هند�سة غالبية املباين الدينية التي‬ ‫مت بنا�ؤها يف زمن ال�شاه عبا�س الكبري وت�صميمها‪ ،‬حيث �أبدى ال�شيخ البهائي يف تركته‬ ‫الفنية‪ ،‬فهماً خا�صاً ج�سدته العمارة الإ�سالمية‪ ،‬التي �شيدها يف �أكرث من مكان‪ ،‬فتعاطى‬ ‫مع الأ�شكال الهند�سية التي �أ�شرف على بنائها يف املقامات الدينية والأماكن العامة‪،‬‬ ‫بواقع روحي من خالل بناء القبب والأقوا�س التي احتوت على ف�ضاءات وا�سعة يف‬ ‫البهو الديني‪ ،‬والتي تدل على معنى الت�صوف‪ ،‬واالرتقاء بالروح للعروج بها �إىل امللكوت‬ ‫الأعلى‪.‬‬ ‫والت�صوف يف الدين الإ�سالمي‪� ،‬شكل ظاهرة روحية متفاعلة مع ر�سالة النبوة‪ ،‬واقت�ضى‬ ‫ذلك من املت�صوف �أن يعي�ش بنمطية الوحي القر�آين‪ ،‬ليتعرف على مكنون الر�سالة‬ ‫‪122‬‬


‫فكــــــر‬

‫الإلهية‪ .‬فاملعراج النبوي الذي تعرف به الر�سول على الأ�سرار الإلهية‪ ،‬يظل النموذج‬ ‫الأول الذي حاول بلوغه جميع املت�صوفني واحداً بعد الآخر‪ .‬فالت�صوف‪ ،‬هو �شهادة‬ ‫ال تنكر‪ ،‬وهذا كان قد �أ ّدى �إىل اعرتا�ض �ساطع عن الإ�سالم الروحاين �ضد كل نزعة‬ ‫حاولت ح�صر الإ�سالم بال�شريعة وظاهر الن�ص‪ .‬ويف هذا ال�سياق كان ال�شيخ البهائي‪ ،‬قد‬ ‫ح�صلها عرب جت�سيد نزعته التي عرفت با�سم‬ ‫تو�صل يف تفا�صيل البناء‪� ،‬إىل حماكاة روحانية ّ‬ ‫"العرفان"‪ ،‬مما �أدى لوجود ثنائية الر�ؤى يف الآثار البنائية‪ ،‬عك�ست ال�شريعة الدينية‬ ‫والواقع احلياتي معاً‪ .‬فظهرت تلك التجربة كحقيقة �أ�سا�سية حلياة وعقيدة ال�صوفية‪� ،‬أو قل‪،‬‬ ‫ليكون الكالم �أدق و�أمت‪ ،‬بدت �آثاره تلك‪ ،‬ذات �أبعاد ثالثية (بد ًال من الثنائية)‪ ،‬املكونة‬ ‫من ال�شريعة‪( ،‬الن�ص الظاهر للوحي)‪ ،‬والطريقة (ال�سبيل ال�صويف)‪ ،‬واحلقيقة (احلقيقة‬ ‫الروحانية ك�إجناز �شخ�صي)(‪ ،)1‬هو بالذات ما �سعى �إليه ال�شيخ البهائي من خالل �آثاره‬ ‫الهند�سية‪ ،‬وي�ستدل على ذلك من جممل الكتابات ال�صوفية التي تركها‪ ،‬ف�أظهرت تركته‬ ‫حالة العرفان لديه‪ ،‬وطرحت مداليلها يف ثنائية احلقيقة وال�شريعة من خالل فل�سفته التي‬ ‫تبدت يف مفهوم الإ�سالم الروحاين‪ .‬وظهرت �آثاره على �شكل ا�شارات م�ستلهمة من‬ ‫الفل�سفة الإ�سالمية وتكوينها الفكري‪ ،‬الذي كان حماولة متقدمة يف قراءة �آثار العلماء‬ ‫واملفكرين على اختالف م�شاربهم‪� ،‬سواء ممن عا�صر ال�شيخ البهائي �أو ممن �سبقه‪ ،‬وقد‬ ‫تبدت هذه امل�س�ألة عند العديد منهم‪ ،‬كما هو احلال عند ا ّحلالج(‪.)2‬‬ ‫ومما ينبغي التنويه به‪� ،‬أن ر�ؤية الفن الإ�سالمي‪ ،‬كانت تعتمد يف ذلك على التجريد‪،‬‬ ‫وبالتايل فهي تختلف عن الر�ؤى الإن�سانية الأخرى بنقطتني �أ�سا�سيتني‪.‬‬ ‫ �أو ًال‪ :‬ب�سبب طبيعة ت�صورها للإن�سان وموقفه من اهلل‪ ،‬والكون‪ ،‬واحلياة‪ ،‬و�أخيه الإن�سان‪.‬‬‫ ثانياً‪ :‬طريقة ت�سجيلها «للقطات» الب�شرية التي تختارها للتعبري الفني(‪.)3‬‬‫ومن املفيد ذكره يف هذا املجال‪� ،‬أن درا�سة ر�أ�س القبة املدبب والقو�س يف عمارة ال�شيخ‬ ‫البهائي‪ ،‬ت�شري �إىل داللة دينية حمددة تفيد عن معنى التوحيد‪ ،‬وقد ظهرت هذه الدالالت‬ ‫الفل�سفية يف بناء مقام الإمام علي بن �أبي طالب وال�سني�س‪ ،‬حيث ّ‬ ‫دل عمله ذلك على‬ ‫حالة العرفان الروحي الكامن لديه‪ ،‬مقابل وجود داللة �أخرى يف ف�ضاء القبب‪ ،‬حا�ضنة‬ ‫للجانب الروحي‪ ،‬مقابل اجلانب املادي‪� .‬إال �أن ال�شيخ البهائي يف هذا البناء مل يتناول‬ ‫الفل�سفة املثالية اجلوفاء التي تنكر العامل املادي املح�سو�س‪� ،‬إذ يبدو �أن �إ�شارات ذلك يف‬ ‫‪ -1‬هرني كوربان‪ ،‬الت�صوف‪( ،‬ال‪ ،‬تا)‪� ،‬ص‪.383 .‬‬ ‫‪� -2‬صويف �سجن وحوكم يف بغداد‪ ،‬ظهرت �أعماله يف الغرب بف�ضل �أعمال لوي�س ما�سينيون الذي كان طابعاً و�شارحاً له‪.‬‬ ‫‪ -3‬حممد قطب‪ ،‬منهج الفن الإ�سالمي‪ ،‬دار ال�شروق ‪ ،‬الطبعة ال�ساد�سة‪ ،‬بريوت‪� ،1983 ،‬ص‪.53 .‬‬ ‫‪123‬‬


‫تلك الأبنية‪ ،‬كانت انعكا�ساً طبيعياً ملنت القر�آن الكرمي‪ ،‬يف �إ�شارة �إىل بنية الكون واملقابالت‬ ‫ما بني ال�سلب والإيجاب‪ .‬فالعقيدة يف جوهر الإن�سان هي التي تك�شف له عن عالقته باهلل‬ ‫والكون واحلياة لأنها الروح املهتدية‪ .‬ولهذا ف�إن الفن الإ�سالمي يف هذا ال�سياق‪ ،‬كان قد‬ ‫�شكل ر�ؤيته اخلا�صة التي تختلف عما عرفته احل�ضارات الأخرى‪ ،‬باعتبار �أنه كان �إدراكاً‬ ‫لت�صورات دينية تعتمد يف عمقها على اجلانب ال�سلوكي‪ ،‬ولي�س على اجلانب الأ�سطوري‬ ‫متت �إىل الواقع ب�صلة‪ ،‬فكان ت�أثري ذلك‪ ،‬قد‬ ‫الذي له عالقة ب�شخ�صيات �أ�سطورية خيالية ال ّ‬ ‫�أخذ منحاه يف خلفية ال�شيخ البهائي‪ ،‬و�أعماله التي اعتمدت على تفعيل اجلانب الروحي‪،‬‬ ‫وتنا�سق الأبعاد يف الف�ضاءات الفنية من دون اختالل يف امل�شهد‪ ،‬حيث بدا ذلك �أكرث‬ ‫واقعية من حقيقته الظاهرية التي تراها العني املجردة‪ .‬كما �أبدى ال�شيخ البهائي يف تلك‬ ‫الف�ضاءات تو�أمة بني العقل والروح واجل�سد من دون انقطاع عن حقائق الوجود العليا‪،‬‬ ‫فبدت م�شاعر املوالفة لديه يف احلب تنق�سم بني م�ستويني‪ :‬احلب هلل‪ ،‬واحلب للإن�سان‪ ،‬كما‬ ‫بلورت االنحناءات املتداخلة يف الأقوا�س ال�صراع الدائر منذ الأزل بني القيم والوجود من‬ ‫جهة‪ ،‬والقيود املتعددة يف احلياة الدنيا من جهة �أخرى‪� .‬أما �شكل االنحناءة يف الت�صميم‬ ‫العمراين عند ال�شيخ البهائي‪ ،‬فقد كانت عبارة عن ترابط املو�ضوع ببع�ضه البع�ض‪ ،‬وابراز‬ ‫مدى حمدودية نطاق الأر�ض ال�ضيق له من خالل حدوده املح�صورة يف احلياة الدنيا‪،‬‬ ‫املنقطعة عن حقيقة الأزل‪.‬‬ ‫مقابل ذلك فقد �شكل الت�صوف والعرفان حالة رمزية يف �شعر و�آثار ال�شيخ البهائي‪ ،‬وكان‬ ‫من الطبيعي‪� ،‬أن يتعلق اجلانب الظاهر منه مبا�شرة يف الدين‪ ،‬حيث نهل عرفانه من �آثار‬ ‫فكر الإمام علي بن �أبي طالب‪ ،‬ف�ض ًال عن جمموعة الأدعية الدينية املوجودة يف كتاب‬ ‫«ال�صحيفة ال�سجادية» املن�سوب للإمام علي بن احل�سني‪ .‬فقد كانت هذه الآثار عبارة عن‬ ‫مناجاة وجدانية عميقة‪ ،‬كونت االرتباط الروحي عند ال�شيخ البهائي‪ ،‬خا�صة �أنه كان يلج�أ‬ ‫�إىل تعليم تالمذته «مناجاة املحبني» للإمام ال�سجاد‪ ،‬التي تدل على العرفان الذي جت ّلى‬ ‫يف �شعره الفار�سي‪� ،‬أكرث من جت ّليه يف �شعره العربي‪ ،‬ف�ض ًال عن �آثار البناء الذي �أعطاه تلك‬ ‫اللمحات العرفانية الروحانية بات�ساع ف�ضاءاته‪.‬‬ ‫دالالته العقلية حول العلي الأعلى‬

‫كانت الدولة ال�صفوية بالن�سبة لل�شيخ البهائي‪ ،‬منربه الذي حترك منه يف �أكرث من اجتاه‪،‬‬ ‫بعد قرون عدة من ال�ضيق وال�شدة التي قا�ساها ال�شيعة على يد اخللفاء ال�سنة‪[ ،‬حيث]‬ ‫متّكنت الإمامية �أخرياً من االنت�صار يف بالد فار�س من خالل حكم ال�صفوية القوي يف‬ ‫القرن ال�ساد�س ع�شر امليالدي‪ ،‬فكان لذلك �أثره يف حركته الفكرية التي عك�ستها بع�ض‬ ‫كتاباته كردود فعل على الواقع الذي كان �سائداً‪ ،‬حيث بدت تلك الكتابات حماكاة‬ ‫‪124‬‬


‫فكــــــر‬

‫عقالنية بطابع وجداين‪� ،‬إذ غلب عليها الدالالت ال�صوفية من خالل �أعمدتها‪ ،‬التي اعترب‬ ‫فيها �أن �أ�صل كل اخلري هو االعتماد على اهلل واالنقياد لأمره والر�ضا مبر�ضاته‪ ،‬و�أ�صل‬ ‫احلكمة هو اخل�شية من اهلل واملخافة من �سطوته و�سياطه والوجل من مظاهر عدله وق�ضائه‪.‬‬ ‫اعترب البهائي �أن ر�أ�س الدين‪ ،‬هو الإقرار مبا نزل من عند اهلل‪ ،‬واتباع ما �ش ِّرع يف حمكم‬ ‫كتابه‪ ،‬و�أ�صل العزة هو قناعة العبد مبا رزق به‪ ،‬واالكتفاء مبا قدر له‪ ،‬و�أ�صل احلب هو �إقبال‬ ‫العبد �إىل املحبوب‪ ،‬والإعرا�ض عما �سواه‪ ،‬وال يكون مراده �إ ّال ما �أراد مواله‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل‬ ‫�أن �أ�صل الذكر عنده‪ ،‬القيام على ذكر املذكور‪ ،‬ون�سيان ما دونه‪ ،‬ف�ض ًال من �أن ر�أ�س التوكل‬ ‫هو اقرتاف العبد واكت�سابه يف الدنيا واعت�صامه باهلل وانح�صار النظر �إىل ف�ضل مواله �إذ �إليه‬ ‫يرجع �أمور العبد يف منقلبه ومثواه‪ ،‬كما و�أن ر�أ�س االنقطاع هو التوجه �إىل �شطر اهلل والورود‬ ‫عليه والنظر �إليه‪.‬‬ ‫�إن مثل هذا الإقرار الذهني والعملي‪ ،‬يبني عن االنقطاع التام �إىل اخلالق‪ ،‬وجت�سيد الفعل‬ ‫الإلهي على الواقع الإن�ساين‪ ،‬بالتوجه والإخال�ص ب�صدق كل اجلوارح‪ ،‬واالرتباط بتعاليم‬ ‫اهلل تعاىل‪ ،‬التي من �ش�أنها االرتقاء بالإن�سان �إىل الأعلى‪ ،‬وعدم الركون �إىل هوى النف�س‬ ‫التي ت�شكل مانعاً يف املعرفة واالرتقاء لالنزواء بها �إىل عبادة الذات ‪. La Culte de moi‬‬ ‫�إن كتابة ال�شيخ البهائي بهذا امل�ضمار‪ ،‬وخا�صة يف «م�شرق ال�شم�سني»‪ ،‬تبني عن مدى‬ ‫فعل كاتبه يف التفا�صيل واجلزئيات‪ ،‬التي تهدف �إىل �إي�ضاح الن�صو�ص القر�آنية‪ ،‬من خالل‬ ‫ال�سنة النبوية ال�شريفة‪ ،‬وترابط احلديث املن�سوب �إىل ر�سوله والأئمة‪ ،‬مما �أوجد مالئمة يف‬ ‫دالالت ال�شيخ البهائي العقلية‪.‬‬ ‫وفاة ال�شيخ البهائي‬

‫ورد يف بع�ض الروايات التاريخية التي تناولت حياة ال�شيخ البهائي‪ ،‬وبع�ض املن�شورات‬ ‫املكتوبة بخط اليد‪� ،‬أن املنية كانت قد وافته يف مدينة ا�صفهان‪ ،‬يف عام ‪� 1030‬أو ‪1031‬‬ ‫هجرية‪ ،‬فيما يرى ال�شيخ حممد بن احل�سن احلر العاملي �أن وفاته قد كانت �سنة ‪1035‬‬ ‫هجر ّية‪ ،‬خالفاً لر�أي غالبية امل�ؤرخني‪ ،‬و ُنقل جثمانه من �أ�صفهان �إىل م�شهد عم ًال بو�ص ّيته‪،‬‬ ‫حيث ُدفن يف داره القريبة من احل�ضرة الر�ضوية امل�شرفة ملقام الإمام علي بن مو�سى الر�ضا‪.‬‬ ‫اخلامتة‬

‫�إن ما ورد يف هذه ال�صفحات من معاجلة مو�ضوعية ل�سرية ال�شيخ البهائي‪ ،‬ومدى‬ ‫انعكا�س �سريته الذاتية على الأبعاد الفكرية‪ ،‬هي عملية وا�ضحة املعامل يف بيان‬ ‫الدالالت العقلية وال�صوفية والهند�سية‪ ،‬من خالل الكتابات والآثار التي تركها يف‬ ‫‪125‬‬


‫كتبه التي جاءت يف اللغتني العربية والفار�سية‪.‬‬ ‫وجتدر الإ�شارة �إىل �أن الدولة ال�صفوية‪ ،‬كانت تتبنى املذهب ال�سني احلنفي‪ ،‬ك�أغلب‬ ‫تو�سع ال�صراع مبواجهة الدولة العثمانية‪ ،‬اتخذ ال�شاه �إ�سماعيل‬ ‫امل�سلمني يف �إيران‪ ،‬ولكن مع ُّ‬ ‫ال�صفوي املذهب اجلعفري ال�شيعي كمذهب لدولته‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل اعتبار اللغة الفار�سية‬ ‫لغة ر�سمية‪ ،‬ويف ظل هذا الواقع ال�سيا�سي واالجتماعي‪ ،‬كان ال�شيخ البهائي �أحد �أبرز‬ ‫�أركان الدولة ال�صفوية‪� ،‬إىل جانب ما تركته �آثاره الفكرية من تفاعل اجتماعي يف العراق‬ ‫�سواء يف كربالء �أو النجف الأ�شرف‪ .‬بالإ�ضافة �إىل وجود مراقد �أئمة من �أهل البيت‪ ،‬وقد‬ ‫�شرع يف زمانه االهتمام بالفنون والعمران والآداب التي كانت الأر�ض اخل�صبة لل�شيخ‬ ‫البهائي‪.‬‬

‫‪126‬‬


‫منوذج‪" :‬جمعية امليدان‪� ،‬إهدن ‪ -‬زغرتا"‬

‫فـكــــــــر‬

‫دور م�ؤ�س�سات املجتمع املدين يف التنمية ال�سياحية اللبنانية‬ ‫‪1‬‬

‫د‪ .‬كلود عطية ‪� -‬أ�ستاذ م�ساعد يف اجلامعة اللبنانية ‪ -‬معهد العلوم االجتماعية‪ ،‬الفرع الثالث‬

‫ملخ�ص الدرا�سة‬

‫يحاول هذا البحث الإ�شارة �إىل �أهمية القطاع ال�سياحي يف لبنان ودوره يف التنمية االقت�صادية‬ ‫واالجتماعية‪ .‬حيث �أ�صبحت ال�سياحة بكافة �أنواعها بالن�سبة �إىل فئة كبرية من النا�س‪،‬‬ ‫ملحة‪ ،‬خا�ص ًة �أن القطاع ال�سياحي اللبناين من �أهم و�أبرز القطاعات االقت�صادية على‬ ‫�ضرورة ّ‬ ‫الإطالق‪ ،‬وهو الأكرث حيوية وت�أثرياً يف احلياة االقت�صادية اللبنانية‪ .‬لذلك‪ ،‬ن�شري يف �سياق‬ ‫التحليل العلمي لكل ما �سي�أتي يف هذه الدرا�سة من بيانات ومعطيات ومعلومات تتعلق‬ ‫بالقطاع ال�سياحي‪� ،‬إىل �أن هذا الأخري هو الأكرث ح�سا�سية بني القطاعات كلها لت�أثره الكبري‬ ‫بالأو�ضاع الأمنية وال�سيا�سية املحلية والإقليمية وحتى العاملية‪ .‬كما ويت�أثر ب�سيا�سة الدولة‬ ‫االقت�صادية وتوجهاتها وا�سرتاتيجياتها التنموية‪ ،‬حيث تعترب اخلطط اال�سرتاتيجية امل�سيرّ‬ ‫الأهم للقطاع ال�سياحي والدافع الأ�سا�سي لتطوره �أو لتحجيم دوره‪.‬‬ ‫وعليه‪� ،‬سيتمحور هذا البحث حول عر�ض بع�ض جتارب م�ؤ�س�سات املجتمع املدين اللبناين‬ ‫(منوذج جمعية امليدان‪� ،‬إهدن‪ -‬زغرتا) يف ا�ستغالل املقومات ال�سياحية وا�ستثمارها والرتويج‬ ‫لها بال�شكل الذي يح ّولها مراكز جاذبة لل�سياح‪ ،‬ويكون لها الأثر املبا�شر وغري املبا�شر الذي‬ ‫ميكن �أن حتدثه يف التنمية االجتماعية واالقت�صادية التي باتت متثل هدفاً مه ًما من �أهداف‬ ‫ا�سرتاتيجيات التنمية ال�شاملة يف لبنان‪.‬‬ ‫مقدمة‬

‫�إن التنمية ال�سياحية يف لبنان هي جزء ال يتجز�أ من ا�سرتاتيجية التنمية االجتماعية‬ ‫واالقت�صادية‪ ،‬التي من املفرت�ض �أن ت�أخذ مكانها يف التخطيط القومي واملحلي كقطاع مهم‬ ‫وفاعل يف حتقيق التنمية ال�شاملة‪� .‬إال �أن التحدي الأكرث ج�سامة الذي ُيطرح على ال�ساحة‬ ‫حتدي التنمية مبفهومها ال�شمويل‪ ،‬والتي لن تتحقق �إ ّال بح�شد كل‬ ‫اللبنانية‪ ،‬هو بال جدل ّ‬ ‫‪ّ - 1‬قدمت هذه الورقة البحثية يف امل�ؤمتر الأول حول الآفاق امل�ستقبلية لل�سياحة يف لبنان‪ ،‬الذي نظمته وزارة ال�سياحة‬ ‫بالتعاون مع جمعيتي امليدان – �إهدن‪ ،‬وجمعية لبناين‪ -‬بريوت‪ ،‬يف جبيل تاريخ ‪.2014/ 6/ 18‬‬ ‫‪127‬‬


‫طاقات املجتمع وتفعيل قواه ودجمها يف �سريورة البناء التنموي بكل حلقاته‪ ،‬من م�ستوى‬ ‫البلورة‪� ،‬إىل م�ستوى اتخاذ القرار‪� ،‬إىل التنفيذ واملتابعة والتقومي‪ .‬ويعترب القطاع ال�سياحي‬ ‫من �أهم القطاعات االقت�صادية واالجتماعية التي حتتاج �إىل حت�شيد جهود القطاعات العامة‬ ‫واخلا�صة والأهلية خلططها التنموية‪ ،‬خا�صة �أن هذا القطاع ي�ساهم يف توفري احتياجاتها و�سد‬ ‫نفقاتها‪.‬‬ ‫من هنا‪ ،‬نطرح �أهمية م�شاركة م�ؤ�س�سات املجتمع املدين يف التنمية ال�سياحية اللبنانية‪ ،‬خا�صة‬ ‫�أن احلكومات اللبنانية املتعاقبة مل ت�ستطع �أن ّ‬ ‫حتل وحدها م�شاكلها و�أزماتها ال�سياحية كلها‪،‬‬ ‫و�أنه بات من ال�ضرورة �أن ي�سهم املجتمع املدين مب� ّؤ�س�ساته من نقابات وجمعيات… يف حل‬ ‫هذه امل�شاكل‪ .‬فاملجتمع املدين هو الذراع الأمين للحكومات‪ ،‬لي�س فقط يف عملية التنمية؛‬ ‫ولكن �أي�ضاً يف ال�سعي �إىل تعبئة موارد وطاقات معطلة �سواء اقت�صادية �أم ب�شرية‪ ،‬و�إ�شراك‬ ‫خمتلف فئات املجتمع يف هذه العملية‪.‬‬ ‫�إ�شكالية البحث‬

‫ما تزال ال�سياحة يف لبنان تعمل يف �إطار ع�شوائي غري منظم‪ ،‬فلم تنجح وزارة ال�سياحة � اّإل‬ ‫على م�ستوى �ض ّيق‪ ،‬وهي اجلهة الر�سمية الق ّيمة على تنظيم ال�سياحة وتنميتها‪ ،‬من تنفيذ‬ ‫ا�سرتاتيجيات وطنية عامة تهدف �إىل حتقيق �صناعة �سياحية متطورة‪ ،‬ومن ممار�سة الدور الرقابي‬ ‫على الن�شاط ال�سياحي‪ .‬وبالرغم من اجلهود املبذولة � اّإل �أن الإجنازات بقيت �ضئيلة‪ .‬فال�سعي‬ ‫�إىل خلق �صناعة �سياحية متطورة يتطلب ت�ضافر اجلهود كافة‪ ،‬بد ًءا من �إيجاد الت�شريعات‬ ‫املالئمة والتن�سيق بني الوزارات كافة‪ ،‬و�صو ًال �إىل التعاون مع القطاع اخلا�ص وم�ؤ�س�سات‬ ‫املجتمع املدين‪ .‬وعلى الرغم من ذلك‪ ،‬فالتنمية ال�سياحية يف لبنان مل تتحقق على م�ستوى‬ ‫الت�شابك بني القطاع العام والقطاع اخلا�ص واملجتمع املدين‪ ،‬ومل ت�ستطع توظيف هذا‬ ‫الت�شابك يف حتقيق �إجنازات �سياحية و�إمنائية متوازنة بني املناطق اللبنانية املختلفة‪ .‬وعلى‬ ‫الرغم من �إ�شكالية غياب الالمركزية الإدارية التي تقف يف وجه العمل الإمنائي املتوازن‬ ‫على امل�ستوى ال�سياحي يف ظل غياب الدور الر�سمي الراعي لل�سياحة وا�ستمرار ال�صراعات‬ ‫ال�سيا�سية بني الفرقاء اللبنانيني‪ ،‬تربز �إ�شكالية �أخرى‪ ،‬تتمثل باملجتمع املدين الذي كان من‬ ‫املكمل لدور الدولة يف تطوير القطاع ال�سياحي اللبناين‪.‬‬ ‫املفرت�ض �أن يكون احلل البديل �أو ّ‬ ‫� اّإل �أن املجتمع املدين يف لبنان بعيد كل البعد عن التثقيف والوعي ال�سياحي‪ ،‬وهذا يعود‬ ‫بالطبع �إىل �ضعف امل�ؤ�س�سات واجلمعيات العاملة يف هذا املجال رغم تواجدها وانت�شارها‬ ‫بكثافة على الأرا�ضي اللبنانية‪� .‬إ ّال �أن هذه اجلمعيات تبقى يف �إطارها الأهلي ومل ترق �إىل‬ ‫العقلية املدنية القائمة على االنفتاح الفكري والثقايف با�ستثناء بع�ض اجلمعيات التي تقوم‬ ‫با�ستحداث امل�شروعات ذات البعد التنموي‪ ،‬بعي ًدا عن امل�صالح ال�سيا�سية والزبائنية ال�ضيقة‪،‬‬ ‫‪128‬‬


‫فكــــــر‬

‫حيث تب ّنت برامج وم�شروعات تنموية و�سياحية خمتلفة �أحدثت حرا ًكا حمل ًيا �أ�سهم بدفع‬ ‫عملية التنمية يف مناطق تواجدها (منوذج جمعية امليدان‪� ،‬إهدن ‪ -‬زغرتا)‪.‬‬ ‫ت�أ�سي�ساً على ما تقدم‪ ،‬يحاول هذا البحث �أن يناق�ش‪ ،‬وانطالقاً من الإ�شكاليات املطروحة‪ ،‬دور‬ ‫املجتمع املدين يف عملية التنمية ال�سياحية‪ .‬وعندما نقول دور‪ ،‬نق�صد ما هي املهام والوظائف‬ ‫التي ميكن مل�ؤ�س�سات املجتمع املدين (اجلمعيات مث ًال) �أن تقوم بها يف عملية التنمية‬ ‫ال�سياحية؟ وكيف ميكن للجمعيات �أن تتحمل م�س�ؤولية امل�ساهمة يف ال�صناعة ال�سياحية‬ ‫والرتويج لها‪ ،‬ومتلأ الفراغ الذي يرتكه دور الدولة يف العديد من املجاالت؟ بالإ�ضافة �إىل‬ ‫تبيان ما مدى قدرة اجلمعيات على تعبئة املوارد الب�شرية واملادية من �أجل اال�ستجابة لأية‬ ‫مبادرة وطنية تهدف خلدمة القطاع ال�سياحي اللبناين؟ لكن �إبراز الدور الذي ميكن �أن‬ ‫تلعبه اجلمعيات يف التنمية ال�سياحية مير من خالل البحث يف التنمية ال�سياحية والرتويج‬ ‫ال�سياحي‪ ،‬وكل ما يرتبط بهما‪ ،‬بعد تعريفنا للمجتمع املدين ومكونه الأ�سا�سي الذي هو‬ ‫اجلمعيات‪� .‬إال �أنه من ال�صعب �أن نطال دور اجلمعيات كلها ب�شكل عام يف التنمية ال�سياحية‪،‬‬ ‫منوذجا تنمو ًيا‬ ‫لذلك‬ ‫ّ‬ ‫�سنخ�ص�ص بحثنا حول جمعية مدنية فاعلة (جمعية امليدان) التي متثّل ً‬ ‫رائ ًدا على م�ستوى تفعيل احلركة ال�سياحية الداخلية يف لبنان عامة‪ ،‬ويف �إهدن – ق�ضاء زغرتا‬ ‫خا�صة‪.‬‬ ‫�أما فر�ضيات هذا البحث‪ ،‬فتدور حول النقاط التالية‪:‬‬

‫حتدد �أهدافها وبراجمها ب�شكل جاد قد حتدث ت�أثرياً مبا�شراً يف‬ ‫ �إن التنمية ال�سياحية التي ّ‬‫التنمية االجتماعية‪ ،‬من خالل ما ميكن �أن حتقّقه من تغيري يف قيم وعادات وتقاليد الكثري‬ ‫من املجتمعات التي ت�ستقبل ال�س ّياح‪ ،‬ويف الرتكيب املهني لهم‪ ،‬ونظرتهم للغرباء‪ /‬الوافدين‬ ‫والكثري من �أمناط �سلوك وتفكري الآخرين داخل تلك املجتمعات‪ .‬ف�ضال عما ميكن �أن حتدثه‬ ‫التنمية ال�سياحية من �أثر على م�ستوى تطوير الظروف االقت�صادية‪ ،‬ورفع معدالت املداخيل‪.‬‬ ‫ �إن الن�شاطات ال�سياحية التي تقوم بها م�ؤ�س�سات املجتمع املدين من جمعيات وبلديات‬‫(منوذج‪ :‬جمعية امليدان – برنامج �إهدنيات) تظهر �آثارها بقوة على جوانب احلياة االقت�صادية‬ ‫واالجتماعية املختلفة مثل الطابع العام للمجتمع وبع�ض املظاهر االجتماعية والثقافية‪ .‬و�أ ّدت‬ ‫�إىل �إ�ضفاء جو من ال�سالم والأمن والتقارب بني املجموعات ال�سكانية املختلفة (�سيا�س ًيا على‬ ‫حدة التوتر ال�سيا�سي وعملت على زيادة روح املودة والتفاهم‬ ‫�سبيل املثال) مما خفّ�ض من ّ‬ ‫والعمل امل�شرتك من �أجل التنمية املجتمعية‪.‬‬ ‫ �إن �ضعف م�ؤ�س�سات املجتمع املدين من حيث الوعي ال�سياحي والثقافة ال�سياحية‪� ،‬إمنا‬‫يعود �إىل غلبة وطغيان االهتمامات ذات الطبيعة اال�ستهالكية الربحية والعالقات الزبائنية‬ ‫‪129‬‬


‫وال�شخ�صانية يف الأداء والفكر الثقايف الذي ي�صعب �إدراجه �ضمن االهتمامات الثقافية‬ ‫العميقة واجلادة‪.‬‬ ‫�أولاً ‪ :‬التنمية ال�سياحية ومك ّوناتها‪:‬‬

‫تع ّرف التنمية ال�سياحية ب�أنها توفري الت�سهيالت واخلدمات لإ�شباع حاجات ورغبات‬ ‫ال�سياح‪ ،‬وت�شمل كذلك بع�ض ت�أثريات ال�سياحة مثل‪� :‬إيجاد فر�ص عمل جديدة ودخول‬ ‫جديدة‪ .‬وت�شمل التنمية ال�سياحية جميع اجلوانب املتعلقة بالأمناط املكانية للعر�ض والطلب‬ ‫ال�سياحيني‪ ،‬التوزيع اجلغرايف للمنتجات ال�سياحية‪ ،‬التدفق واحلركة ال�سياحية‪ ،‬ت�أثريات‬ ‫والتو�سع باخلدمات ال�سياحية واحتياجاتها‪.‬‬ ‫ال�سياحة املختلفة‪ .‬فالتنمية ال�سياحية هي االرتقاء ّ‬ ‫كما تتطلب تدخل التخطيط ال�سياحي باعتباره �أ�سلوبًا علم ًيا ي�ستهدف حتقيق �أكرب معدل‬ ‫ممكن من النمو ال�سياحي ب�أقل تكلفة ممكنة‪ ،‬ويف �أقرب وقت م�ستطاع (م�صطفى يو�سف كايف‪،‬‬ ‫‪ .)2006‬ومن هنا فالتخطيط ال�سياحي يعترب �ضرورة من �ضرورات التنمية ال�سياحية الر�شيدة‬ ‫ملواجهة املناف�سة يف ال�سوق ال�سياحية ‪.‬‬ ‫‪ - 1‬تعريف ال�سياحة‪ :‬تعني كلمة ال�سياحة يف معناها الأول‪ ،‬ال�سفر والإقامة امل�ؤقتة خارج‬ ‫مكان ال�سكن الأ�صلي‪� .‬سافر النا�س يف املا�ضي لأهداف خمتلفة منها التع ّرف على العامل‬ ‫ودرا�سة اللغات الأجنبية (مروان حم�سن �سكر‪� .)1999 ،‬أما ال�سياحة باملفهوم احلديث‪،‬‬ ‫فهي ظاهرة منت�شرة يف املجتمع املعا�صر‪ ،‬والأ�سا�س منها احل�صول على اال�ستجمام وتغيري‬ ‫اجلو واملحيط الذي يعي�ش فيه الإن�سان‪ ،‬والوعي الثقايف املنبثق لتذوق جمال امل�شاهد‬ ‫الطبيعية ون�شوة «اال�ستمتاع بجمال الطبيعة»‪ ،‬وهذا التعريف يعود للأملاين «جوبيري فولر»‬ ‫بتاريخ ‪ .1905‬حتدث كثري من العلماء واجلهات املعنية عن ال�سياحة وحاولوا و�ضع تعريف‬ ‫لها ب�سبب �أهميتها املتزايدة‪� .‬أتى من �أبرزهم منظمة ال�سياحة العاملية (‪world tourism‬‬ ‫‪ )organization‬وهي منظمة تابعة للأمم املتحدة مقرها مدريد‪ ،‬تهتم بال�ش�ؤون ال�سياحية‬ ‫عند الدول‪ ،‬وتقوم ب�إ�صدار �إح�صائيات تتعلق ب�أحجام وطبيعة العر�ض والطلب ال�سياحي يف‬ ‫العامل (منظمة ال�سياحة العاملية‪.)2009 ،‬‬ ‫على هذا الأ�سا�س‪ ،‬وعلى الرغم من �صحة هذه التعاريف‪ ،‬ف�إنها غري كاملة وغري �شاملة‬ ‫للظاهرة ال�سياحية‪ ،‬كما نراها يف ع�صرنا احلايل‪ ،‬لأن هذه التعاريف ال ت�شمل �سوى‬ ‫جوانب معينة يف الظاهرة كال�سفر‪ ،‬والتنقل‪ ،‬والإقامة خارج ال�سكن اليومي املعتاد‬ ‫و�إ�شباع حاجات معينة داخل البيئة‪.‬‬ ‫‪� - 2‬أهداف التنمية ال�سياحة‪ :‬تهدف تنمية ال�صناعة ال�سياحية �إىل حتقيق زيادة م�ستمرة‬ ‫ومتوازنة يف املوارد ال�سياحية‪ .‬و�إن �أول حمور يف عملية التنمية هو الإن�سان الذي ُي ّعد �أداتها‬ ‫‪130‬‬


‫فكــــــر‬

‫الرئي�سية (م�صطفى عبد القادر‪ .)2003 ،‬لهذا ف�إن الدولة تطالب بال�سعي �إىل توفري كل ما‬ ‫يحتاج �إليه لتبقى القدرات البدنية والعقلية والنف�سية لهذا الإن�سان على �أكمل وجه‪.‬‬ ‫تقدم‪� ،‬إن التنمية ال�سياحية يجب �أن تهدف �إىل حتقيق زيادة متوازنة‬ ‫نخل�ص �إىل القول مما ّ‬ ‫وم�ستمرة يف املوارد ال�سياحية‪� ،‬إ�ضافة �إىل تر�شيد وتعميق درجة الإنتاجية يف قطاع ال�سياحة‪،‬‬ ‫وبالتايل فهي تتط ّلب تن�سيق ال�سيا�سات املختلفة داخل البلد نظ ًرا الرتباط ال�سياحة مع‬ ‫خمتلف تلك الأن�شطة الأخرى مثل النقل واجلمارك والتجارة واخلدمات ب�صفة عامة‪.‬‬ ‫ثان ًيا‪� :‬أثر التنمية ال�سياحية على التنمية االقت�صادية االجتماعية‪:‬‬ ‫ال ّبد من حماولة الربط بني مو�ضوع التنمية ال�سياحية وارتباطها بالتنمية االقت�صادية‬ ‫واالجتماعية‪ ،‬حيث ترتتب على التنمية ال�سياحية جمموعة من الت�أثريات التنموية االقت�صادية‬ ‫واالجتماعية والثقافية والبيئية وال�سيا�سية يف املق�صد ال�سياحي (الدول امل�ستقبلة)‪.‬‬ ‫عالقة التنمية ال�سياحية بالتنمية االقت�صادية‪:‬‬

‫�إن التنمية ال�سياحية تلعب دوراً �أ�سا�سياً يف التنمية االقت�صادية حيث ي�ؤثر رواج �صناعة‬ ‫ال�سياحة ب�شكل مبا�شر على اقت�صاد ورواج ال�صناعات والأن�شطة املرتبطة ب�صناعة ال�سياحة‪،‬‬ ‫فالإنفاق على اخلدمات وال�سلع املرتبطة ب�صناعة ال�سياحة ي�ؤدي �إىل انتقال �أموال من جيوب‬ ‫ال�سائحني �إىل جيوب �أ�صحاب هذه اخلدمات وال�سلع امل�شتغلني بها فيتفرع عن هذا االنتقال‬ ‫للأموال �سل�سلة �أخرى من الإنفاق (حممود البلتاجي‪.)2009 ،‬‬ ‫‪ - 2‬عالقة التنمية ال�سياحية بالتنمية االجتماعية‪:‬‬

‫ميكن اخت�صار �أهم روابط العالقة بني التنمية ال�سياحية والتنمية االجتماعية على النحو‬ ‫الآتي‪:‬‬ ‫قدرة التنمية ال�سياحية على امت�صا�ص البطالة‪ :‬تعمل التنمية ال�سياحية على خلق فر�ص‬ ‫عمالة متعددة �سواء يف القطاع ال�سياحي نف�سه‪ ،‬مثل �شركات ال�سياحة‪ ،‬املطاعم‪ ،‬الفنادق‪،‬‬ ‫�شركات النقل ال�سياحي‪ ،‬حمالت بيع الهدايا‪ ،‬حمالت بيع امل�صنوعات التقليدية اليدوية‪..‬‬ ‫الخ‪� ،‬أو يف الأن�شطة والقطاعات التقليدية (�أحمد نظيف‪.)2006 ،‬‬ ‫قدرة التنمية ال�سياحية على رفع امل�ستوى املعي�شي للمجتمعات وال�شعوب وحت�سني منط‬ ‫حياتهم‪ ،‬عرب خلق و�إيجاد ت�سهيالت ترفيهية وثقافية خلدمات املواطنني �إىل جانب الزائرين‬ ‫يف املناطق كافة‪.‬‬ ‫قدرة التنمية ال�سياحية على �إبراز املقومات ال�سياحية املختلفة للبلد (لبنان‪ ،‬مث ًال)‪ :‬وذلك‬ ‫‪131‬‬


‫عن طريق دعوة ال�سياح لزيارة لبنان والتمتع بكل ما يتم ّيز به هذا البلد من عنا�صر جذب‬ ‫�سياحي‪.‬‬ ‫وعليه‪ ،‬ميكن لنا القول �إن التنمية ال�سياحية هي جزء ال يتجز�أ من عمل تنموي كامل‬ ‫متكامل على ال�صعد االقت�صادية واالجتماعية‪ ،‬وبالتايل فهي تخ�ضع ملعايري و�أبعاد و�شروط‬ ‫التنمية امل�ستدامة‪ .‬لكن هذا ي�ستلزم �شرطاً �أكيداً ال ّبد من �سلوكه‪ ،‬وهو طريق الر�ؤى واخلطط‬ ‫العلمية عن طريق التخطيط والت�سويق‪.‬‬ ‫ثالثًا‪ :‬دور التخطيط يف تطور القطاع ال�سياحي‪:‬‬

‫يعترب التخطيط ال�سياحي نوعاً من �أنواع التخطيط التنموي وهو عبارة عن جمموعة‬ ‫من الإجراءات املرحلية املق�صودة واملنظمة وامل�شروعة التي تهدف اىل حتقيق ا�ستغالل‬ ‫وا�ستخدام �أمثل لعنا�صر اجلذب ال�سياحي املتاح والكامن وحتقيق �أق�صى درجات‬ ‫املنفعة املمكنة‪ ،‬مع متابعة وتوجيه و�ضبط لهذا الإ�ستغالل لإبقائه �ضمن دائرة املرغوب‬ ‫واملن�شود‪ ،‬ومنع حدوث �أي نتائج �أو �آثار �سلبية ناجمة عنه (نور الدين هرمز‪.)2006 ،‬‬ ‫فالتخطيط هو عمل فكري يهدف �إىل التنب�ؤ مبا �سيكون عليه م�ستقبل امل�ؤ�س�سات‬ ‫املعنية‪ ،‬وو�ضع الربامج الالزمة لإجناز امل�شاريع‪ ،‬ثم تعيني ما يجب علينا فعله‪ ،‬ومعرفة‬ ‫كيفية الفعل‪ ،‬وما ذلك �إ ّال لن�ستطيع حتقيق �أهدافنا من اال�ستثمارات (حممد فريد‬ ‫عبد اهلل‪.)2006 ،‬‬ ‫ب�شكل عام‪ ،‬ال ميكن لأية جمهودات �أو �أن�شطة يف املجال ال�سياحي �أن تنجح �إ ّال بوجود‬ ‫ا�سرتاتيجيات منا�سبة وعلى امل�ستوى الت�سويقي خ�صو�صاً‪ .‬ذلك �أن التخطيط ال�سليم‬ ‫للت�سويق ال�سياحي بعنا�صره املختلفة هو ال�ضمانة الأكيدة لوجود قطاع �سياحي ناجح كن�شاط‬ ‫�إن�ساين من جهة‪ ،‬وكرافد اقت�صادي ملوازنات الدول املعنية‪ ،‬من جهة �أخرى‪.‬‬ ‫راب ًعا‪ :‬مفهوم الت�سويق والرتويج ال�سياحي‪:‬‬

‫�أ�صبح الت�سويق والرتويج ال�سياحي من العنا�صر الأ�سا�سية التي تعتمد عليها الدول ال�سياحية‬ ‫ب�شكل عام‪ ،‬وال�شركات ال�سياحية ب�شكل خا�ص‪ ،‬لزيادة ن�صيبها من احلركة ال�سياحية الدولية‬ ‫التي تتزايد وتتنامى عا ًما بعد عام‪.‬‬ ‫‪ - 1‬الت�سويق ال�سياحي و�أهميته‪:‬‬

‫التوجه املجتمعي للت�سويق ال�سياحي‪ ،‬يقوم على فر�ضية م�ؤداها �أن امل�شاكل البيئية والقوى‬ ‫�إن ّ‬ ‫ال�سيا�سية والقانونية والدميوغرافية‪ ،‬وكذلك االعتبارات الأخالقية والإن�سانية واحل�ضارية‬ ‫‪132‬‬


‫فكــــــر‬

‫املوجه الأ�سا�سي لال�سرتاتيجيات‬ ‫وال�شواهد التاريخية واملوروث ال�شعبي وغريها‪ ،‬هي ّ‬ ‫الت�سويقية يف �صناعة ال�سياحة‪ .‬لذلك‪ ،‬كان ال ّبد �أن تهتم �صناعة ال�سياحة باملوارد الطبيعية‬ ‫كالطاقة والبيئة واملحافظة عليها من الفناء والتلوث وذلك من �أجل توفري حياة �أف�ضل‬ ‫وراحة �أكرب لل�سياح‪ .‬وي�أتي مفهوم البيئة ال�سياحية امل�ستدامة‪Sustainable Tourism‬‬ ‫‪ Environment‬والتنمية ال�سياحية امل�ستدامة ‪Sustainable Tourism Development‬‬ ‫يف �صلب اهتمامات وتطلعات هذه ال�صناعة الرائدة‪ .‬كما برزت ت�سميات مثل ال�سياحة‬ ‫الدينية ‪ Religious Tourism‬وال�سياحة الأثرية ‪Tourism Of Archaeological Sites‬‬ ‫و�سياحة الرتفيه ‪ Leisure Tourism‬وال�سياحة العلمية ‪ Scientific Tourism‬وال�سياحة‬ ‫ال�صحراوية ‪ Desert Tourism‬و�سياحة الت�س ّوق ‪ Shopping Tourism‬لت�ؤكد الطبيعة‬ ‫املتجددة ل�صناعة ال�سياحة �ضمن املفهوم االجتماعي والثقايف والإن�ساين للت�سويق ال�سياحي‬ ‫ّ‬ ‫احلديث (‪.)William C. Gartner ,1996‬‬ ‫كما ويرى �أن�صار هذا املفهوم‪ ،‬وج ّلهم يف قطاع اخلدمات بالذات‪� ،‬أن ال�سائح يحتاج �إىل‬ ‫متعمقة‪ .‬فلي�س جميع ال�سياح قادرين‬ ‫�أن تدر�س دوافعه ال�شرائية و�سلوكه ال�شرائي درا�سة ّ‬ ‫على معرفة احتياجاتهم ب�سهولة‪ ،‬خ�صو�صاً �أن اخلدمات ال�سياحية يف الأ�صل غري ملمو�سة‬ ‫(‪ ،)Intangible‬مما ي�صعب على ال�سائح �إ�صدار �أحكام م�سبقة حول جودتها ‪Theodore‬‬ ‫‪. )Levitt, 1960‬‬

‫على هذا الأ�سا�س‪ ،‬كانت �صناعة ال�سياحة �س ّباقة �إىل تطبيق مفاهيم و�آليات وطرائق ما‬ ‫ا�صطلح على ت�سميته ببحوث ال�سائح (‪ )Tourist Research‬والذي ُيعنى بدرا�سة دوافع‬ ‫وخ�صائ�ص وتوقّعات ال�سائح احلا ّيل �أو املحتمل بغية الت�أثري على �سلوكه لغر�ض زيادة‬ ‫املبيعات‪ ،‬من خالل ترغيبه بال�شراء وتكرار ال�شراء‪ .‬كما برز م�صطلح بحوث ال�سوق‬ ‫ال�سياحية (‪ )Tourism Market Research‬والذي ُيعنى بدرا�سة ال�سوق ال�سياحية من‬ ‫جميع جوانبها‪ .‬وهناك �أي�ضاً مفهوم ا�ستطالع �آراء ال�سياح (‪ )Tourist Surveys‬وهو يعنى‬ ‫بدرا�سة ال�سوق ال�سياحية والعوامل امل�ؤثرة فيها مع درا�سة ال�سياح ودوافعهم ملعرفة �آرائهم يف‬ ‫اخلدمات املطروحة والعتبارات ت�سويقية �أخرى ‪. )Richard Teare,1996‬‬ ‫الرتويج ال�سياحي و�أهميته‪:‬‬

‫يع ّرف كينكيد (‪ )kinkid‬الرتويج ب�أنه نظام متكامل يقوم على �أف�ضل املعلومات من ال�سلعة‬ ‫�أو اخلدمة ب�أ�سلوب �إقناعي‪� ،‬إىل جمهور م�ستهدف من امل�ستهلكني‪ ،‬حلمل �أفراده على قبول‬ ‫ال�سلعة �أو اخلدمة املروج لها‪ .‬كما يقول كينكيد �إنه ال ّبد �أن يكون للرتويج دور فعال �ضمن‬ ‫ا�سرتاتيجية الت�سويق‪ .‬كما ويع ّرفه ب�أنه‪« :‬التن�سيق بني جهود البائع يف �إقامة منافذ للمعلومات‪،‬‬ ‫‪133‬‬


‫ويف ت�سهيل بيع ال�سلعة �أو اخلدمة‪� ،‬أو يف قبول فكرة معينة» (ب�شري عالق‪.)1998 ،‬‬ ‫�أما بالن�سبة �إىل الرتويج ال�سياحي يف لبنان فهو ال يرقى �إىل م�ستوى الإمكانات احلقيقية‬ ‫لل�سياحة يف لبنان‪ ،‬وهو ال يعك�س ال�صورة احلقيقية لل�سياحة فيه‪ ،‬وال تزال �صورة لبنان يف‬ ‫اخلارج تعاين من الت�شويه ب�سبب الأحداث التي م ّرت بها البالد‪ ،‬مما ينعك�س �سل ًبا على قدرة‬ ‫لبنان على ا�ستقطاب �سياح جدد وبخا�صة من الدول الأجنبية‪.‬‬ ‫خام�سا‪ :‬ا�سرتاتيجية الدولة اللبنانية يف �صناعة ال�سياحة‪:‬‬ ‫ً‬

‫�إن القطاع ال�سياحي يف لبنان هو قطاع ع�شوائي غري ّ‬ ‫منظم‪ ،‬ال يعتمد خط ًطا ذات جدوى‬ ‫اقت�صادية‪ .‬فبالرغم من �أن اجلميع مقتنع ب�أن القطاع ال�سياحي ي�شكل الدخل الأكرب يف‬ ‫لبنان‪� .‬إال �أن التعاطي معه ال يتوافق مع �أهميته‪ .‬فوزارة ال�سياحة مهملة‪ ،‬وميزانيتها �ضئيلة‬ ‫جداً ال تتنا�سب �أبداً مع �أهمية القطاع ال�سياحي ومردوده على االقت�صاد الوطني‪ ،‬وال ت�ؤهلها‬ ‫القيام مب�شاريع تنموية �أو ت�سويقية �ضخمة‪� ،‬إذ �إن املوازنة املخ�ص�صة لوزارة ال�سياحة ت�صرف‬ ‫مبعظمها على الأجور والرواتب (فادي عبود‪.)2010 ،‬‬ ‫إنتاجا ونقلاً وتوزي ًعا‪،‬‬ ‫ومبا �أن الإنفاق املطلوب على البنى التحتية‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وخ�صو�صا على الكهرباء � ً‬ ‫�إ�ضافة �إىل �إن�شاء م�شاريع املياه‪ ،‬وقطاع النقل والطرق‪ ،‬و�أهمية النهو�ض بقطاع االت�صاالت‪،‬‬ ‫يفوق ما هو مر�صود لهذه الغاية يف م�شروع املوازنة‪ ،‬لذلك‪ ،‬يجب على احلكومة حماولة ت�أمني‬ ‫متويل �إ�ضايف من الدول وال�صناديق املانحة‪� ،‬إ�ضافة �إىل ال�شراكة مع القطاع اخلا�ص لتمويل‬ ‫و‪�/‬أو اال�ستثمار يف هذه امل�شاريع (علي علو�ش‪.)2011 ،‬‬ ‫ويف حال وجود �أموال قابلة لال�ستثمار ف�سيعاين لبنان من م�شكلة �أي�ضاً تكمن يف �إعادة‬ ‫توجيه ق�سط �أكرب من هذه الأموال نحو اال�ستثمار يف قطاعات �أكرث �إنتاجية‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل‬ ‫تعزيز التنمية يف الوقت نف�سه‪.‬‬ ‫�إ�ضافة �إىل ذلك‪ ،‬ف�إن وزارة ال�سياحة بحاجة اىل ر�صد موازنة من �أجل �إعادة ت�أهيل املبنى لكي‬ ‫ي�ستحق �أن يكون وزارة �سياحة‪ ،‬خ�صو�صاً �أن الوزارة هي الواجهة‪ .‬وو�ضعها يف �شكلها احلايل‬ ‫حمرج‪ ،‬وال ي�صلح لأن يكون وزارة لل�سياحة‪ ،‬وهو ال يعك�س �أبداً �صورة لبنان ال�سياحي‪،‬‬ ‫فاملباين قدمية وم�ستهلكة‪ ،‬والوزراة بحاجة �إىل قاعة كبرية للم�ؤمترات‪ ،‬وقاعة للمعار�ض‬ ‫و�أخرى لإقامة متحف ي�سمح لزوار لبنان والوفود ال�سياحية واالغرتابية االطالع على ما‬ ‫لدينا (كلبنانيني)‪ .‬وهناك نق�ص هام يف التجهيزات اللوج�ستية من معدات و�أجهزة كومبيوتر‪،‬‬ ‫و�آالت ت�صوير‪ ،‬و�شبكة الإنرتنت ما تزال غري كافية‪.‬‬ ‫كما ون�شري �إىل غياب ا�سرتاتيجية �سياحية حمكمة للدولة يف ظل ارتفاع للأ�سعار بوترية عالية‪ ،‬ما‬ ‫ي�ؤدي �إىل غالء قوي من دون ح�سيب �أو رقيب‪ ،‬وبحجة �أن اقت�صادنا حر‪ ،‬ما يعني حرية يف العر�ض‬ ‫‪134‬‬


‫فكــــــر‬

‫والطلب‪ ،‬هذا بالإ�ضافة �إىل ارتفاع ال�ضرائب املفرو�ضة على الأن�شطة ال�سياحية‪ ،‬حيث ال تعمل‬ ‫الدولة على تخفي�ض هذه ال�ضرائب مبا يف ذلك �ضريبة الإنفاق اال�ستهالكي �أو ال�ضريبة امل�ضافة‪.‬‬ ‫وغياب اال�سرتاتيجية يظهر يف �ضعف البنية التحتية اخلا�صة بالقطاع ال�سياحي‪ ،‬حيث ت�شكل‬ ‫البنية التحتية من مياه و�صرف �صحي وطرق ونقل ب�أنواعه الربي والبحري واجلوي كافة عن�صراً‬ ‫�أ�سا�سياً يف تن�شيط ال�سياحة‪ .‬كما يعاين قطاع النقل من غياب الر�ؤية‪ ،‬ومن فقدان فر�ص الإفادة‬ ‫االقت�صادية منه‪ .‬كما ولفو�ضى النقل ال ّربي الت�أثري ال�سلبي املبا�شر على حياة املواطنني اليومية‪ ،‬مما‬ ‫يجعل �ضرورة املطالبة ب�إعادة النظر الفورية باخلطة التي تعتمدها الدولة اللبنانية من �أجل ت�سهيل‬ ‫�أمور النا�س‪ ،‬وتن�شيط احلركة االقت�صادية مع خف�ض للكلفة وت�أمني �سالمة عمليات النقل‪.‬‬ ‫�أما بالن�سبة للكهرباء واملياه فهي من �أهم املعوقات التي يعاين منها القطاع ال�سياحي‪،‬‬ ‫خ�صو�صا يف مناطق‬ ‫خا�صة �أن مطالب امل�ؤ�س�سات ال�سياحية‪ ،‬تتلخ�ص بتوفري الكهرباء واملياه‪،‬‬ ‫ً‬ ‫اال�صطياف‪ ،‬ذلك �أن غالبية امل�ؤ�س�سات احتاطت للتقنني القا�سي‪ ،‬فبادرت احتيا ًطا �إىل �شراء‬ ‫مولدات جديدة وبقيت الأ�سعار على حالها مما ي�ض ّر بامل�ستثمر‪.‬‬ ‫�أما بالن�سبة لقطاع االت�صاالت في�صنف من �ضمن القطاعات الر�سمية التي تديرها الدولة‬ ‫اللبنانية‪ ،‬وهو ما زال ي�شهد جملة من الثغرات الإدارية والفنية والهيكلية التي �أعاقت النمو‬ ‫وخلفت الرتاجع يف �أداء الدولة وتوفري اخلدمة (�سابني عوي�س‪ .)2008 ،‬كما تفتقد الدولة‬ ‫اللبنانية ال�سرتاتيجية متط ّورة لتكنولوجيا املعلومات واالت�صاالت التي تلعب دوراً هاماً يف‬ ‫تطبيق اخلدمات ال�سياحة االلكرتونية من حيث تفعيل النظم والتطبيقات اخلا�صة‪ ،‬حيث‬ ‫�أ�صبح تزويد العمالء باخلدمات الإلكرتونية واحدة من مقومات جناح �أي من القطاعات‬ ‫االقت�صادية والتي ي�أتي على ر�أ�سها قطاع �صناعة ال�سفر وال�سياحة‪ .‬من هذا املنطلق‪ ،‬جتري‬ ‫حماوالت جادة من وزارة ال�سياحة اللبنانية‪ 1‬ووزارة االت�صاالت‪ 2‬نحو تطوير وتفعيل اف�ضل‬ ‫‪� - 1‬أطلق وزير ال�سياحة مي�شال فرعون ّ‬ ‫خطة وزارة ال�سياحة اللبنان ّية التي حتمل عنوان "لبنان احلياة" ‪Live Love‬‬

‫وتت�ضمن جمموعة كبرية من الرزم والربامج ال�سياح ّية بالإ�ضافة اىل �إن�شاء موقع �ألكرتوين جديد للوزارة‬ ‫‪Lebanon‬‬ ‫ّ‬ ‫خا�صة واالعتماد على مواقع التوا�صل االجتماعي لت�سويق لبنان‪ .‬كما �أعلن فرعون‪ ،‬يف‬ ‫وتطوير مواقع الكرتون ّية ّ‬ ‫احتفالٍ �أقامته وزارة ال�سياحة يف نادي اليخوت يف بريوت‪ ،‬عن قرا ٍر اتخذته الوزارة ويق�ضي بتحديد يوم الثامن‬ ‫وكل ثالث �أحد من هذا ال�شهر من ّ‬ ‫ع�شر من �أ ّيار لهذا العام‪ّ ،‬‬ ‫كل �سنة‪" ،‬يوم ال�سياحة اللبنان ّية" و"نُعلن فيه عن‬ ‫ونخ�ص�صه للن�شاطات ال�سياح ّية املتف ّرقة‪ ،‬ونطلق فيه جوائز خا�صة بالقطاع لتكرمي‬ ‫�إطالق مو�سم ال�سياحة واال�صطياف‪ّ ،‬‬ ‫امل�ؤ�س�سات التي تقوم بعمل نوعي على �صعيد الفنادق واملطاعم ووكاالت ال�سفر وغريها‪ ،‬على �أن تكون بداية هذه‬ ‫اجلوائز ال�سياح ّية يف العام ‪."2015‬‬ ‫‪� -2‬إعادة النظر يف �أ�سعار خدمات االت�صاالت الثابتة واخللوية واالنرتنت والربيد للو�صول �إىل و�ضع �أ�سعار م�ستندة‬ ‫�إىل الكلفة الفعلية‪ ،‬من خالل تطبيق �إعادة التوازن يف الأ�سعار‪ ،‬و�صو ًال �إىل تخفي�ض حقيقي لتعرفة اخلدمات‪ ،‬ومنها‬

‫‪135‬‬


‫احللول و�أحدث النظم الإلكرتونية للخدمات ال�سياحية من حيث العمل على ا�سرتاتيجيات‬ ‫الت�سويق الإلكرتوين لتحقيق �أداء �شامل ومتم ّيز ي�سهم يف تطوير املنظومة ال�سياحية‪ ،‬لدعم‬ ‫التناف�سية ال�سياحية العاملية‪ ،‬وال�ستقطاب ال�سائحني واال�ستثمارات ال�سياحية يف ظل توافر‬ ‫البيئة واملناخ اال�ستثماري وال�صناعات الداعمة لقطاع ال�سفر وال�سياحة‪.‬‬ ‫كما ويعاين القطاع ال�سياحي من نق�ص يف الإعالم والإعالن وذلك ب�سبب عدم االهتمام‬ ‫بالإعالن والرتويج ال�سياحي وعدم وجود دليل �سياحي يف الأماكن الأثرية يتوا�صل مع‬ ‫ال�سياح ويع ّرفهم على ما حتتويه هذه الأماكن‪� .‬إ�ضافة اىل �ضعف يف الربامج ال�سياحية التي‬ ‫تعر�ض �آثار ومناظر املناطق املراد حتقيق ال�سياحة فيها‪.‬‬ ‫ويف ال�سياق نف�سه‪ ،‬ن�شري �إىل النق�ص يف الوعي البيئي وعدم معرفة �أهميته يف خلق بيئة‬ ‫نظيفة مهي�أة ال�ستقبال ال�سائحني‪� ،‬إذ تنحدر البيئة يف لبنان من �سيئ اىل �أ�سو�أ‪ ،‬واملعاجلات‬ ‫املعتمدة تبقى دون امل�ستوى املطلوب‪ .‬فمن �أبرز امل�شاكل البيئية يف لبنان م�شكلة التل ّوث‪� .‬أما‬ ‫�أبرز �ضحايا التل ّوث فهو ال�شاطئ الذي ُيفرت�ض �أن يكون مالذ النا�س �صيفاً‪ ،‬وم�صدراً لرزق‬ ‫كثريين منهم يف خمتلف الف�صول‪ .‬ولكن ما مينع ذلك �آالف الأطنان من النفايات واملل ّوثات‬ ‫ال�صناعية التي ُتقذف �سنوياً يف مياه البحر‪.‬‬ ‫ب�شكل دائم‪ ،‬فالروائح الكريهة‬ ‫كما �أن هناك م�شكلة ال�صرف ال�صحي التي يعاين منها لبنان ٍ‬ ‫على �سبيل املثال ال احل�صر تخفي�ض التعرفة على املخابرات الدولية لغاية ‪ % 50‬من كلفتها احلالية‪.‬‬ ‫ �إعادة تفعيل بيع وا�ستعمال البطاقات امل�سبقة الدفع‪ Prepaid Cards ‬والتليكارت وكالم وتخفي�ض تعرفتها من‬‫‪ 30‬اىل‪ % 50‬من كلفتها احلالية‪ .‬خف�ض ر�سوم الهاتف الثابت لت�صبح‪ :‬ر�سم الت�أ�سي�س جماين بد ًال من خم�سني‬ ‫�ألف لرية لبنانية‪ .‬وخف�ض ر�سم اال�شرتاك ال�شهري من ‪� 12‬ألف لرية �إىل ‪� 8‬آالف لرية لبنانية‪ .‬مع درا�سة �إمكان حزمة‬ ‫�أنرتنت من دون �سقف ومن دون حدود لال�ستهالك‪ ،‬بحيث يفيد منها زهاء ‪ 330,000‬م�شرتك �أنرتنت حالياً‪.‬‬ ‫ حتويل عائدات البلديات على الهاتف الثابت للف�صول ‪ 2‬و‪ 3‬و‪ 4‬من العام ‪ 2013‬بحيث تفيد منها نحو ‪ 900‬بلدية‬‫مببالغ جمموعها ‪ 65‬مليار لرية لبنانية»‪.‬‬ ‫ العمل بالتعاون مع وزارة املالية ووزارة الداخلية والبلديات للإفراج عن ح�صة البلديات من واردات الهاتف اخللوي‬‫للفرتة املمتدة من عام ‪� 2010‬إىل عام ‪. 2013‬‬ ‫ ت�أمني و�صول اخلدمات الأ�سا�سية‪ ،‬مثل خدمات االنرتنت والـ‪ DSL ‬ورفع �سرعة االنرتنت وغريها‪ ،‬للمناطق النائية‪.‬‬‫ �إدخال خدمة دفع الفواتري بوا�سطة بطاقات االئتمان امل�صرفية وهو تدبري يعتمد للمرة الأوىل يف تاريخ الإدارات‬‫اللبنانية‪ ،‬بحيث ي�صبح ب�إمكان املواطنني دفع فواتريهم من منازلهم �أو مكاتبهم او �أي مكان عرب الأنرتنت‪ ،‬والحقا‬ ‫عرب مراكز البيع‪.‬‬ ‫ تو�سعة ال�سنرتاالت خلدمات الهاتف الثابت ملا يقارب الـ ‪ /100,000/‬خط جديد‪.‬‬‫ تو�سعة خدمات الـ‪ DSL ‬املوجودة لكي يفيد منها ما يقارب الـ ‪ /50,000/‬م�شرتك جديد‪.‬‬‫‪136‬‬


‫فكــــــر‬

‫تزعج كل ال�سكان وتهدد ال�سالمة العامة‪ .‬وقد تع َّر�ضت م�صادر املياه يف لبنان لكل �أنواع‬ ‫التل ُّوث ب�سبب غياب �شبكات ال�صرف ال�صحي عن مناطق وجودها‪.‬‬ ‫ي�ضاف اىل ما �سبق ذكره التمدن الع�شوائي املتمثّل بانت�شار املنتجعات ال�سياحية ب�شكل جنوين‬ ‫على ال�شاطئ اللبناين‪ ،‬مع ما متثّله هذه الظاهرة من خطورة ردم البحر وتقلي�ص م�ساحته البحرية‬ ‫مل�صلحة «التمدن الباطوين»‪ ،‬ما يلحق �أذى بالغاً بالبيئة‪ ،‬وهذا الأذى ينعك�س حتماً على الإن�سان‪.‬‬ ‫�أخ ًريا‪ ،‬كيف ميكن �أن يكون هناك ا�سرتاتيجية �سياحية للدولة اللبنانية عرب وزارة ال�سياحة‬ ‫والوزارات املخت�صة يف ظل هذا االنق�سام ال�سيا�سي احلاد يف البالد‪ ،‬ويف ظل التجاذبات‬ ‫ال�سيا�سية والطائفية واملذهبية التي مل تنت ِه منذ بداية احلرب اللبنانية العام ‪ 1975‬وحتى‬ ‫الآن (‪)2014‬؟ وال حكومة قادرة‪ ،‬وال جمل�س نواب فاعل‪ ،‬وال قدرة على انتخاب رئي�س قوي‬ ‫للبالد‪ ،‬و�أزمة معي�شية و�صلت حدودها �إىل تعطيل كل القطاعات الر�سمية؟ كيف ميكن �أن‬ ‫تطلق الدولة خطة ا�سرتاتيجية �سياحية وهي ما زالت تعاين من تنفيذ خطة �أمنية من �أجل‬ ‫اال�ستقرار الأمني يف لبنان؟ والكل يعلم ب�أن الأمن وال�سياحة تو�أمان‪.‬‬ ‫من هنا‪ ،‬ال ّبد من القول �إن ال�سياحة هي �إبداع وابتكار‪ ،‬وهي عملية �إنتاج مرتابطة وفق‬ ‫ا�سرتاتيجيات وخطط عمل متطورة‪ ،‬وبالتايل هي �صناعة ال ميكن �أن ن�ستفيد منها �إ ّال عرب‬ ‫ا�سرتاتيجيات وخطط واقعية وتقنيات جديدة‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل مقاربات جديدة ومتط ّورة‬ ‫وحمالت ترويج مبدعة‪ .‬وهكذا‪ ،‬يتم حتويل ال�سياحة عرب تنفيذ هذه اخلطط �أو اال�سرتاتيجيات‬ ‫ال�سياحية �إىل عملية �إنتاجية يومية نا�شطة يف املحافظات والأق�ضية اللبنانية كافة‪.‬‬ ‫فهل توجد ا�سرتاتيجية �سياحية فعلية يف لبنان؟ هذا ما �سنب ّينه من خالل مقابلة �أجريت مع‬ ‫القائمقامني اللبنانيني على ال�شكل الآتي‪:‬‬

‫‪137‬‬


‫بالسياحة‬

‫‪138‬‬

‫وزارة السياحة‬

‫وطنية‬

‫جيد‬ ‫وسط‬ ‫ضعيف‬ ‫املجموع‬

‫بريوت‬ ‫‪1‬‬ ‫‬‫‬‫‪1‬‬

‫نعم‬

‫‪1‬‬

‫نعم‬

‫كال‬ ‫املجموع‬ ‫‪1‬‬

‫الشامل‬ ‫‪1‬‬ ‫‪1‬‬ ‫‪4‬‬ ‫‪6‬‬

‫عكار‬ ‫‬‫‬‫‪1‬‬ ‫‪1‬‬

‫اجلنوب‬ ‫‪1‬‬ ‫‪1‬‬ ‫‪1‬‬ ‫‪3‬‬ ‫‪1‬‬

‫النبطية‬ ‫‬‫‪1‬‬ ‫‪2‬‬ ‫‪3‬‬ ‫‪1‬‬ ‫‪2‬‬ ‫‪3‬‬

‫البقاع‬ ‫‪1‬‬ ‫‬‫‪2‬‬ ‫‪3‬‬ ‫‪1‬‬ ‫‪2‬‬ ‫‪3‬‬

‫النسبة‬ ‫‪24‬‬ ‫‪32‬‬ ‫‪44‬‬ ‫‪100‬‬

‫املجموع‬ ‫‪6‬‬ ‫‪8‬‬ ‫‪11‬‬ ‫‪25‬‬

‫‪-‬‬‫‪1‬‬ ‫‪1‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪1‬‬

‫‪1‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪8‬‬

‫‪17‬‬ ‫‪25‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪32‬‬

‫‪68‬‬ ‫‪100‬‬

‫بعلبك‬ ‫اهلرمل‬

‫جدول رقم (‪)1‬‬ ‫وجود ا�سرتاتيجية لتنمية القطاع ال�سياحي (ديانا فتو�ش‪� 2012- ،‬أ)‬ ‫جبل‬ ‫لبنان‬

‫‪2‬‬ ‫‪4‬‬ ‫‬‫‪6‬‬

‫‪2‬‬

‫‪4‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪1‬‬

‫‪5‬‬ ‫‪6‬‬

‫‬‫‪1‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪2‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪-‬‬

‫‪-‬‬

‫‪-‬‬

‫‪12‬‬

‫‪3‬‬

‫‪1‬‬

‫‪5‬‬

‫‪3‬‬

‫‪1‬‬

‫‪5‬‬

‫‪3‬‬

‫‬‫‪1‬‬

‫‪2‬‬

‫‪6‬‬

‫‪22‬‬

‫‪6‬‬

‫‪2‬‬

‫‪1‬‬

‫‪1‬‬

‫‪3‬‬

‫‬‫‪1‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪2‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪2‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪3‬‬

‫‪1‬‬

‫نعم‬

‫كال‬

‫‪-‬‬

‫‪4‬‬

‫‪6‬‬

‫‪1‬‬

‫‪2‬‬

‫‪3‬‬

‫‪3‬‬

‫‪2‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪3‬‬

‫‪1‬‬

‫‪1‬‬

‫املجموع‬

‫‪88‬‬ ‫‪25‬‬

‫‪1‬‬

‫‪2‬‬

‫‪1‬‬

‫نعم‬

‫‪-‬‬

‫‪-‬‬

‫‪6‬‬

‫‪1‬‬

‫‪7‬‬

‫‪-‬‬

‫‪6‬‬

‫‪2‬‬

‫‪84‬‬

‫‪28‬‬

‫‪1‬‬

‫‪1‬‬

‫‪4‬‬ ‫‪6‬‬ ‫‪-‬‬

‫‪3‬‬

‫‪5‬‬ ‫‪6‬‬ ‫‪-‬‬

‫‪3‬‬

‫‪2‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪-‬‬

‫‪3‬‬

‫‪2‬‬

‫‪100‬‬ ‫‪18‬‬ ‫‪25‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪2‬‬

‫كال‬

‫املجموع‬

‫كال‬ ‫املجموع‬

‫‪72‬‬ ‫‪100‬‬ ‫‪16‬‬

‫‪25‬‬

‫‪21‬‬ ‫‪100‬‬

‫‬‫‪1‬‬ ‫‬‫‪1‬‬

‫‬‫‪1‬‬

‫املحافظة‬

‫اهتامم الدولة‬

‫تعاون مع‬

‫اسرتاتيجية اسرتاتيجية عىل اسرتاتيجية عىل‬

‫صعيد املحافظة صعيد القضاء‬


‫فكــــــر‬

‫يظهر لنا من خالل هذا اجلدول املتعلق باهتمام الدولة بال�سياحة وتعاونها مع الأق�ضية ووجود‬ ‫ا�سرتاتيجية على �صعيد الوطن واملحافظة والق�ضاء لتنمية القطاع ال�سياحي‪� ،‬أن ن�سبة ‪% 44‬‬ ‫من القائمقامني جتد �أن اهتمام الدولة �ضعيف‪ ،‬ون�سبة ‪ % 32‬تراه و�س ًطا‪ ،‬و‪ % 24‬جتد �أن الدولة‬ ‫تهتم ب�صورة جيدة بالقطاع ال�سياحي‪.‬‬ ‫�أما بالن�سبة �إىل تعاون الأق�ضية مع وزارة ال�سياحية‪ ،‬ف�إن ن�سبة ‪� % 68‬أجابت بعدم وجود �أي‬ ‫تعاون مع وزارة ال�سياحة‪ ،‬ون�سبة ‪� % 32‬أجابت بوجود تعاون متوا�ضع مع هذه الوزارة‪� .‬أما فيما‬ ‫يتعلق بوجود ا�سرتاتيجية وطنية لتنمية القطاع ال�سياحي‪ ،‬ف�إن ن�سبة ‪ % 88‬من العينة �أجابت‬ ‫بعدم وجود هذه اال�سرتاتيجية ون�سبة ‪� % 12‬أجابت بوجودها‪.‬‬ ‫على �صعيد املحافظة‪ ،‬هذه اال�سرتاتيجية لتنمية القطاع ال�سياحي‪ ،‬موجودة يف ر�أي ‪ % 28‬من‬ ‫العينة‪ ،‬مقابل ن�سبة ‪� % 72‬أجابت بعدم وجودها‪.‬‬ ‫�أما على �صعيد الق�ضاء‪ ،‬ف�إن ن�سبة ‪ % 16‬من �أفراد العينة �أجابت بوجود هذه اال�سرتاتيجية‪،‬‬ ‫مقابل ن�سبة ‪� % 84‬أجابت بعدم وجودها ‪.‬‬ ‫يف حتليل هذه املعطيات‪ ،‬جند �أن حمافظة ال�شمال من �أكرث املحافظات اللبنانية التي تعاين من‬ ‫الإهمال املرتاكم من قبل الوزارات اللبنانية املختلفة‪ ،‬حيث مل ُت�شمل ب�شكل �أ�سا�سي ب�أية‬ ‫ا�سرتاتيجية �أو خطة �إمنائية و�سياحية من قبل الدولة اللبنانية‪ .‬فال�سياحة على خمتلف �أنواعها‬ ‫تعاين اليوم �إهما ًال من ِق َبل الوزارات املعن ّية‪ ،‬منها وزارة ال�سياحة التي مل تعطها ن�صيبها‬ ‫ر�سم ًيا من موازنة الوزارة‪ ،‬ومل ت�صدر ت�شريعات و�ضوابط حتميها وال حتى و�سائل لدعمها‪ .‬يف‬ ‫تقدم بع�ض املناطق ال�سياحية يف حمافظة‬ ‫حني �أن املجتمع املدين ي�سهم بالنب�ض القوي يف ّ‬ ‫ال�شمال‪ ،‬وبالتايل يف تفعيل ال�سياحة املحلية والرتويج لها يف حماولة جادة لتعوي�ض النق�ص‬ ‫احلا�صل والتق�صري �شبه الدائم من قبل الدولة اللبنانية عرب حكوماتها املتعاقبة‪.‬‬ ‫�أما من �أهم م�ؤ�س�سات املجتمع املدين التي تقوم بهذا الدور البديل لدور الدولة‪ ،‬فهي بع�ض‬ ‫البلديات وعدد قليل من اجلمعيات الأهلية التي تقوم بن�شاطات تعك�س �صورتها املدنية‪،‬‬ ‫وعلى ر�أ�سها جمعية امليدان‪ ،‬مو�ضوع هذا البحث‪.‬‬ ‫بناء عليه‪ ،‬ال ّبد من الإ�شارة �إىل �أهمية �أن يكون هناك ا�سرتاتيجية �سياحية‪ ،‬تبد�أ من الدولة‬ ‫اللبنانية ووزاراتها املخت�صة‪ ،‬ثم يكون العمل على تطبيقها على م�ستوى املحافظات اللبنانية‬ ‫و�أق�ضيتها‪ ،‬و�صو ًال �إىل املدن والبلدات اللبنانية‪ ،‬عرب �سلطاتها املحلية وخا�صة البلديات‪ 1‬التي‬ ‫‪� - 1‬أثبت الواقع الفعلي للعمل البلدي يف لبنان‪� ،‬أن با�ستثناء بلديات املدن والقرى ال�سياحية‪ ،‬كبلدية جبيل‪ ،‬برمانا‪،‬‬ ‫وبيت مري وعاليه‪ ..‬ذات املردود املايل الكبري‪ ،‬ف�إن معظم البلديات الأخرى يف لبنان تعي�ش يف ظل واقع م�أ�ساوي‪،‬‬ ‫ومل تكن تقوم بواجبها ب�صورة كاملة‪ .‬لذا ال بد من الإ�شارة �إىل �أن هناك جتاه ًال كلياً لدور البلديات يف تنمية �أو تن�شيط‬ ‫‪139‬‬


‫لها دورها الكبري يف دعم القطاع ال�سياحي والرتويج له يف مناطق تواجدها‪ .‬لذلك‪ ،‬ال ّبد من‬ ‫ال�شراكة والت�شبيك بني القطاعات واملحافظات والأق�ضية واملناطق كافة يف م�شروع اال�سرتاجتية‬ ‫ال�سياحية الوطنية‪ ،‬لأن ال�شركاء يف �أي م�شروع هم من ي�ؤثر �أو يت�أثر بذلك امل�شروع‪.‬‬ ‫ويف احلقيقة‪ ،‬امل�شروع التنموي ال�سياحي من امل�شاريع التي حتتاج �إىل تكاتف جميع‬ ‫القطاعات احلكومية واخلا�صة بجانب املجتمع املحلي‪ ،‬يف العمل جن ًبا �إىل جنب من �أجل‬ ‫حتقيق الأهداف التنموية لتلك ال�صناعة‪ ،‬وذلك من خالل الأدوار وامل�س�ؤوليات جلميع‬ ‫ال�شركاء‪ ،‬بجانب الإمكانات الفنية واملالية التي ميتاز بها كل �شريك لإجناح �أي م�شروع‪ ،‬منها‬ ‫امل�شروع ال�سياحي‪ ،‬الذي ُيعترب هماً وطنياً ي�سهم يف حل الكثري من التحديات التي تواجهها‬ ‫الدولة اللبنانية‪.‬‬ ‫�أما بالن�سبة ملحتويات اخلطة اال�سرتاتيجية لل�سياحة اللبنانية فيجب �أن تكون متن ّوعة ومت�شعبة‬ ‫وت�صب جميعها يف �إطار تطوير ال�سياحة على الأرا�ضي اللبنانية كافة‪ ،‬و�أن تهدف كلها �إىل‬ ‫ّ‬ ‫�أن يبد�أ لبنان يف اال�ستفادة من موارده ال�سياحية عرب خلق قطاع �إنتاجي متتد منافعه على‬ ‫ف�صول ال�سنة كافة‪ ،‬وي�ساهم يف تنمية جميع املناطق اللبنانية‪ .‬لذلك يجب �أن ت�شمل اخلطة‬ ‫حمددة لتطوير‬ ‫اال�سرتاتيجية جمموعة من الإجراءات التي يجب تطبيقها خالل فرتة زمنية ّ‬ ‫القدرة التناف�سية لل�سياحة اللبنانية‪ ،‬و�إعادة و�ضع لبنان على اخلريطة ال�سياحية وتعزيز موقعه‬ ‫وجعله بلداً �سياحياً رائداً يف املنطقة والعامل‪.‬‬ ‫�ساد�سا‪ :‬دور م�ؤ�س�سات املجتمع املدين يف التنمية ال�سياحية‪:‬‬ ‫ً‬

‫ُيع ّرف املجتمع املدين ب�أنه جمموعة من املنظمات تن�ش�أ من مبادرات املواطنني اخلا�صة‪ ،‬وحتتل‬ ‫موق ًعا و�س ًطا بني م�شروعات القطاع اخلا�ص وامل�ؤ�س�سات احلكومية‪ ،‬وهي ال ت�ستهدف حتقيق‬ ‫الربح‪ ،‬بل ت�سعى يف املقام الأول �إىل حتقيق النفع العام‪ ،‬ب�شرط التق ّيد بالأنظمة والت�شريعات‪.‬‬ ‫ويف التف�صيل‪ ،‬ف�إن املجتمع املدين يت�ألف من اجلمعيات والنوادي والنقابات‪ 1‬والأحزاب‬ ‫خ�ص الرتخي�ص للم�ؤ�س�سات ال�سياحية‪ ..‬وكانت الإدارة‬ ‫�أو دعم القطاع ال�سياحي‪ ،‬با�ستثناء الدور الب�سيط يف ما ّ‬ ‫املركزية ممثلة بوزارة ال�سياحة‪ ،‬هي املعنية مبا�شرة بكل ما يتع ّلق بالق�ضايا ال�سياحية‪ .‬وهذا بخالف الواقع القانوين‬ ‫يف فرن�سا مثال‪ ،‬حيث ارتكز القانون ال�سياحي الفرن�سي على التعاون بني الدولة والهيئات الالمركزية يف املجال‬ ‫ال�سياحي‪ .‬ومتار�س االخت�صا�صات يف جو من التعاون والتنا�سق‪ ،‬بل ت�شارك الهيئات االقليمية يف و�ضع ال�سيا�سة‬ ‫الوطنية ال�سياحية مو�ضع التطبيق‪.‬‬ ‫‪ - 1‬تنتمي نقابات املهن ال�سياحية �إىل فئة النقابات االختيارية اخلا�ضعة لأحكام قانون العمل‪ ،‬واملبادئ القانونية‬ ‫التي ترعى العمل النقابي‪ .‬وهي تتميز عن النقابات الإجبارية التي تن�ش�أ بقانون وتخ�ضع لأحكام قانونها اخلا�ص وال‬ ‫تخ�ضع لأحكام قانون العمل‪ ،‬مثل نقابات املهند�سني والأطباء واملحامني‪ ..‬وهذه النقابات الإجبارية يكون ت�شكيلها‬ ‫‪140‬‬


‫فكــــــر‬

‫والتجمعات التي تتالقى‪ ،‬فتخلق م�ساحة ما بني الدولة واملواطن‪ ،‬وهو �شرط �ضروري من‬ ‫ّ‬ ‫�شروط حتقيق الدميقراطية‪� .‬أو هو امل�ؤ�س�سات ال�سيا�سية واالقت�صادية واالجتماعية والثقافية‬ ‫متعددة‪،‬‬ ‫التي تعمل يف ميادينها املختلفة يف ا�ستقالل عن �سلطة الدولة لتحقيق �أغرا�ض ّ‬ ‫منها �أغرا�ض �سيا�سية كامل�شاركة يف �صنع القرار على امل�ستوى الوطني والقومي‪ ،‬وهي هدف‬ ‫الأحزاب ال�سيا�سية‪ ،‬ومنها �أغرا�ض نقابية للدفاع عن م�صالح �أع�ضائها‪ ،‬ومنها �أهداف مت�صلة‬ ‫ب�أغرا�ض كل جماعة‪� ،‬أو للإ�سهام يف العمل االجتماعي‪ ،‬وهو عمل اجلمعيات (ع�صام نعمة‬ ‫ا�سماعيل‪� 2009- ،‬أ)‪.‬‬ ‫ت�ؤدي هيئات املجتمع املدين‪ ،‬دو ًرا يف التنمية‪ ،‬بخا�صة عندما ت�شارك هذه الهيئات يف �صنع‬ ‫وحتد من ت�س ّلط الدولة وت�ساهم يف الإ�صالح االقت�صادي والتعزيز املتبادل‬ ‫القرار وتنفيذه‪ّ ،‬‬ ‫للحياة املدنية‪.‬‬ ‫ويف الإطار الذي يعنينا‪ ،‬فقد �أ�شرنا �إىل �أن ت�سيري القطاع ال�سياحي وتنفيذ معظم ن�شاطاته هو‬ ‫من اخت�صا�ص القطاع اخلا�ص‪ ،1‬لذا قبلت احلكومة اللبنانية مبمثلي هذا القطاع كم�شاركني‬ ‫فعليني يف ر�سم ال�سيا�سة ال�سياحية وتنفيذها‪ ،‬كالدور املمنوح للنقابات واالحتادات ال�سياحية‪،‬‬ ‫واملجل�س الوطني لإمناء ال�سياحة‪ ،‬واللجنة ال�سياحية اال�ست�شارية‪ ،‬واجلامعة اللبنانية الثقافية‪،‬‬ ‫وغريها من اجلمعيات‪.‬‬ ‫ويف �سياق هذا البحث ن�شري �إىل �أن منظمات املجتمع املدين ت�ستطيع �أن ُت�سهم يف التنمية‬ ‫ال�سياحية �إ�سهاماً حقيقياً �إذا جنحت يف بناء الوعي ال�سياحي التنموي وا�ستقراره وتوظيفه من‬ ‫خالل م�شاركة حقيقية وفاعلة يف العملية التنموية‪ ،‬و�إذا جنحت يف تكري�س العمل اجلماعي‪،‬‬ ‫واالن�ضمام �إليها بناء على رغبة امل�شرتع‪ ،‬ولي�س بناء على رغبة الأع�ضاء‪ .‬بل �إن �أي �شخ�ص ال ي�ستطيع �أن ميار�س‬ ‫املهنة ما مل يكن منت�س ًبا �إىل النقابة الراعية لهذه املهنة‪ .‬ومن النقابات ال�سياحية يف لبنان‪ :‬نقابة �أ�صحاب مكاتب‬ ‫ال�سفر وال�سياحة‪ ،‬نقابة �أ�صحاب امل�ؤ�س�سات ال�سياحية يف بريوت‪ ،‬نقابة العاملني يف القطاع ال�سياحي يف لبنان‪ ،‬نقابة‬ ‫مالكي مكاتب وو�سائل نقل امل�سافرين للخارج يف اجلمهورية اللبنانية‪ ،‬نقابة �أ�صحاب املطاعم واملنتزهات يف بريوت‬ ‫وجبل لبنان اجلنوبي‪ ،‬نقابة عمال وم�ستخدمي امل�ؤ�س�سات ال�سياحية يف عكار‪ ،‬نقابة �أ�صحاب املطاعم واملنتزهات يف‬ ‫حمافظة بعلبك الهرمل‪ ...‬الخ‪.‬‬ ‫‪ - 1‬على �صعيد القطاع اخلا�ص‪ ،‬يوجد يف لبنان العديد من امل�ؤ�س�سات التي تدعم ومت ّول امل�شاريع ال�سياحية ومن‬ ‫بينها م�ؤ�س�سة كفاالت التي تعنى بتقدمي ال�ضمانات للم�ؤ�س�سات ال�صغرية واملتو�سطة والتي �أقامت منذ �سنة ‪1999‬‬ ‫ولغاية �سنة ‪ 2011‬حوايل ‪ 6850‬م�شروعاً زراعياً و�صناعياً و�سياحياً وحرفياً معظمها يف املناطق البعيدة عن العا�صمة‪.‬‬ ‫�أما امل�ستفيدون فهم �أفراد �أو م�ؤ�س�سات فردية �أو منظمات غري حكومية تتعاطى الإنتاج االقت�صادي‪� .‬إ�ضافة اىل ذلك‬ ‫هناك امل�ؤ�س�سة العامة لت�شجيع اال�ستثمارات يف لبنان (�إيدال) التي تقوم برتويج لبنان كوجهة جيدة لال�ستثمارات‬ ‫وتعزيزها واحلفاظ عليها‪ ،‬ما يجعل من لبنان قاعدة للأعمال يف املنطقة‪.‬‬ ‫‪141‬‬


‫واالبتعاد عن الأنانية الفردية‪ .‬فالكثري من منظمات املجتمع املدين يف لبنان بحاجة اىل‬ ‫توا�صـل م�ستمر للتعرف على امل�شاكل التي تعاين منها ال�سياحة يف لبنان‪ ،‬و�ضرورة التع ّرف‬ ‫على جتارب منظمات املجتمع املدين الدولية لال�ستفادة من خرباتهم ومواردهم‪ .‬وملزيد من‬ ‫تفعيل دور منظمات املجتمع املدين يف التنمية ال�سياحية وانعكا�سها على التنمية االقت�صادية‬ ‫واالجتماعية والثقافية وال�سيا�سية‪ ،‬ال ّبد من العمل يف م�شاريع اال�ستثمار ال�سياحي وبالتايل‬ ‫الرتويج لل�سياحة الداخلية وتفعيلها‪.‬‬

‫�شكل رقم‪:1‬‬ ‫حلقة تنمية ال�سياحة ح�سب م�ؤ�س�سات املجتمع املدين (اجلمعيات)‬

‫تدخل اجلمعيات الأهلية يطال حت�سني خدمات‬ ‫ي ّت�ضح لنا من حلقة تنمية ال�سياحة‪� ،‬أن ّ‬ ‫اال�صطياف وتنويعها �ضمن الأ�سعار املقبولة واجلاذبة حلركة ا�صطياف جديدة‪ .‬بالإ�ضافة‬ ‫�إىل امل�ساهمة يف تنمية ال�سياحة البيئية من خالل الرتويج ملزايا املوارد الطبيعية‪ ،‬وبالتايل‪،‬‬ ‫تنمية ال�سياحة الأثرية والدينية من خالل تظهري املعامل الأثرية التاريخية واجتذاب الزائرين‬ ‫�إليها‪ ،‬وكذلك الرتويج للمعامل الدينية بالتعاون مع البلديات‪� .‬أخرياً‪ ،‬ميكن �أن تربز م�ساهمة‬ ‫اجلمعيات الأهلية يف تنمية ال�سياحة الثقافية والريا�ضية‪ ،‬من خالل �إطالق املبادرات‬ ‫والأن�شطة من مهرجانات ثقافية وفنية وريا�ضية‪ ،‬ومعار�ض وفعاليات تتع ّلق بالك ّتاب وامل�سرح‬ ‫واملو�سيقى‪..‬الخ‪.‬‬ ‫اجلمعيات الأهلية اللبنانية التي ُتعنى ب�ش�ؤون ال�سياحة‪:‬‬

‫التجمع‪ ،‬فوردت الإ�شارة �إليها يف الد�ستور‪ ،‬وحر�ص القانون‬ ‫�أوىل الت�شريع اللبناين عناية خا�صة حلرية ّ‬ ‫على عدم تقييد حرية تكوين اجلمعيات ب�أي �شرط �سوى �إبالغ وزارة الداخلية بن�ش�أة �أو تكوين‬ ‫‪142‬‬


‫فكــــــر‬

‫اجلمعية‪ .‬فاجلمعية ت�ؤ�س�س ب�إرادة م�ؤ�س�سيها ال مبوجب ترخي�ص من الإدارة‪ ،‬و�أن هذه الإدارة – وزارة‬ ‫الداخلية ‪ -‬ملزمة بت�سليم امل�ؤ�س�سني بعد �إيداعها بيانًا بت�أليف اجلمعية‪ ،‬العلم واخلرب من دون �إبطاء‬ ‫وهي ال تتمتع يف ذلك ب�أية �سلطة ا�ستن�سابية (ع�صام نعمة ا�سماعيل‪ ،2009 ،‬ب)‪.‬‬ ‫وب�سبب �سهولة وحرية تكوين اجلمعيات‪ ،‬فاق عدد اجلمعيات الأهلية يف لبنان الـ ‪6000‬‬ ‫جمعية‪ ،‬ولكن الغريب �أن عدد اجلمعيات الأهلية التي ُتعنى بق�ضايا �سياحية �أو ذات �صلة‬ ‫بال�سياحة هي قليلة العدد ن�سب ًيا‪ .‬وت�سعى لتحقيق �أهداف عديدة جنملها بالآتي‪:‬‬ ‫ التثقيف ال�سياحي بهدف �إعداد املواطن ال�سياحي‪ ،‬واملجتمع ال�سياحي عن طريق �إ�صدار‬‫مطبوعات‪ ،‬من�شورات تثقيفية‪ ،‬ا�ستخدام و�سائل الإعالم املتوفرة والتوجه نحو املجتمع‪،‬‬ ‫ال�شباب والطالب‪.‬‬ ‫ م�ساعدة امل�ؤ�س�سات الر�سمية والبلدية وتفعيلها ودعمها‪ ،‬حيث �أمكن معنو ًيا وماد ًيا لت�أمني‬‫�أق�صى حد من اخلدمات والظروف التي ت�شجع ال�سياحة وال�سياح‪.‬‬ ‫ الدعاية والإعالم بهدف تعريف العامل باملقومات ال�سياحية لهذه املنطقة (كتب‪ ،‬من�شورات‪،‬‬‫دليل �سياحي‪ ،‬مباريات �سياحية‪ ،‬تقدمي جوائز‪.)..‬‬ ‫ �إبراز املقومات ال�سياحية وتتحيفها لتوفري �أكرب طاقة جلذب ال�سياح‪.‬‬‫ ت�شجيع اال�ستثمارات وامل�ستثمرين للقطاع ال�سياحي‪.‬‬‫ القيام باملهرجانات ال�سياحية واملعار�ض الرتاثية على امل�ستويات كافة‪ ..‬الخ‪.‬‬‫ونذكر من هذه اجلمعيات‪ :‬جمعية التنمية ال�سياحية‪ ،‬جمعية كلنا �سياحة‪ ،‬اجلمعية اللبنانية‬ ‫لإمناء ال�سياحة‪ ،‬هيئة �إمناء ال�سياحة‪ ،‬جمعية لبناين‪ ...1‬الخ‪.‬‬ ‫يف هذا الإطار‪ ،‬ال توجد جمعيات �أهلية فعلية ُتعنى ب�أمور ال�سياحة وتقوم بحمالت للتوعية‬ ‫ال�سياحية يف املناطق ال�سياحية‪ ،‬وتقدم الدعم املادي لتطوير القطاع ال�سياحي‪ .‬وميكن �أن نبني‬ ‫ذلك ميدانياً من خالل اجلدول الآتي‪:‬‬ ‫‪ - 1‬هي جمعية غري حكومية ت�أ�س�ست يف العام ‪ ،2011‬تهدف اىل توعية ال�شباب وتوجيههم‪ ،‬واىل ربط رجال الأعمال‬ ‫يف �أنحاء العامل وخلق م�ساحة لل�شباب املقيم واملغرتب»‪ .‬ان اهم اهدافها‪ :‬العمل على جمع طاقات اللبناين �ضمن‬ ‫اطار وطني‪ ،‬متجرد من اي ابعاد طائفية او حزبية داخل الوطن ويف بالد االغرتاب‪ .‬فالهدف او ًال هو اال�ستفادة من‬ ‫القوة االغرتابية التي ميتلكها �شباب لبنان وحماولة تقويتها عن طريق توثيق �أطر التوا�صل يف ما بينهم والو�صول اىل‬ ‫�آلية منتجة‪ ،‬فعالة ي�ستفيد منها جميع االطراف‪ ،‬ال �سيما ال�شباب اللبناين املقيم‪ ،‬اما الهدف الثاين فهو توعية وتوجيه‬ ‫ال�شباب اللبناين املقيم واملغرتب اىل القطاعات املنتجة‪ ،‬والتي حتتاج طاقات جديدة وربطهم بال�شركات اللبنانية‬ ‫داخليا وخارجيا م�ساهمة خللق فر�ص عمل‪.‬‬ ‫‪143‬‬


‫دور اجلمعيات السياحي‬

‫‪144‬‬

‫جبل‬ ‫لبنان‬

‫بريوت‬

‫جدول رقم (‪)2‬‬ ‫وجود جمعيات يف الق�ضاء تهتم بتنمية القطاع ال�سياحي (ديانا فتو�ش‪ ،2012 ،‬ب)‬ ‫الشامل‬

‫املحافظة‬

‫عكار‬

‫اجلنوب‬

‫بعلبك‬ ‫اهلرمل‬ ‫النبطية‬

‫املجموع‬

‫البقاع‬

‫النسبة‬

‫نعم‬

‫كال‬

‫املجموع‬

‫تسوق‬ ‫تنظيم شهر ّ‬

‫مهرجانات‬

‫معارض‬

‫حفالت‬

‫تقديم تسهيالت‬

‫تنظيم ماراتون‬

‫املجموع‬

‫‪1‬‬ ‫‬‫‪1‬‬ ‫‪1‬‬ ‫‪1‬‬ ‫‪1‬‬ ‫‪1‬‬ ‫‪1‬‬ ‫‪1‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪2‬‬

‫‪4‬‬ ‫‪6‬‬ ‫‪2‬‬ ‫‪2‬‬ ‫‪2‬‬ ‫‪2‬‬ ‫‬‫‪1‬‬ ‫‪9‬‬

‫‪3‬‬ ‫‪3‬‬ ‫‪6‬‬ ‫‬‫‪2‬‬ ‫‪1‬‬ ‫‪1‬‬ ‫‬‫‪1‬‬ ‫‪5‬‬

‫‬‫‪1‬‬ ‫‪1‬‬ ‫‬‫‬‫‬‫‬‫‬‫‬‫‪-‬‬

‫‪1‬‬ ‫‪2‬‬ ‫‪3‬‬ ‫‬‫‪2‬‬ ‫‪1‬‬ ‫‬‫‪1‬‬ ‫‬‫‪4‬‬

‫‪1‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪3‬‬ ‫‬‫‪1‬‬ ‫‬‫‪2‬‬ ‫‬‫‬‫‪3‬‬

‫‪1‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪3‬‬ ‫‪1‬‬ ‫‪1‬‬ ‫‪1‬‬ ‫‪1‬‬ ‫‬‫‬‫‪4‬‬

‫‪1‬‬

‫‪1‬‬ ‫‪2‬‬ ‫‬‫‪1‬‬ ‫‬‫‪1‬‬ ‫‪1‬‬ ‫‬‫‪3‬‬

‫‪10‬‬

‫‪15‬‬ ‫‪25‬‬ ‫‪4‬‬ ‫‪10‬‬ ‫‪6‬‬ ‫‪8‬‬ ‫‪3‬‬ ‫‪3‬‬ ‫‪39‬‬

‫‪40‬‬

‫‪60‬‬ ‫‪100‬‬ ‫‪11.76‬‬ ‫‪29.41‬‬ ‫‪17.65‬‬ ‫‪23.53‬‬ ‫‪8.82‬‬ ‫‪8.82‬‬ ‫‪100‬‬


‫‪3‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪3‬‬ ‫‪1‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪3‬‬ ‫‪2‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪1‬‬ ‫‪1‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪4‬‬ ‫‪3‬‬ ‫‪2‬‬

‫‬‫‪3‬‬ ‫‪1‬‬

‫‬‫‬‫‪-‬‬

‫العادات والتقاليد‬

‫سيطرة املصلحة الفردية‬ ‫عىل املصلحة العامة‬

‫عدم وجود وعي‬ ‫سياحي‬

‫نقص يف اإلمكانات املادية‬

‫‪1‬‬

‫‪1‬‬

‫‬‫‪2‬‬

‫‪1‬‬

‫دور اجلمعيات هو‬ ‫اجتامعي فقط وحمدود‬

‫املجموع‬

‫‪5‬‬

‫‬‫‪-‬‬

‫‪1‬‬

‫‪2‬‬ ‫‪7‬‬

‫‪2‬‬

‫‪3‬‬ ‫‪17‬‬

‫‪4‬‬

‫‪12‬‬

‫‪5‬‬

‫‪6‬‬

‫‪27.78‬‬ ‫‪22.22‬‬ ‫‪16.67‬‬

‫‪15‬‬ ‫‪12‬‬ ‫‪9‬‬

‫‪1‬‬ ‫‪1‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪8‬‬

‫‪10‬‬

‫‪14.81‬‬ ‫‪54‬‬

‫‪18.52‬‬

‫‪3‬‬

‫‪100‬‬

‫فكــــــر‬

‫سبب عدم وجود مجعيات سياحية‬

‫‪145‬‬


‫يظهر لنا من خالل معطيات هذا اجلدول املتعلق بوجود جمعيات تهتم بتنمية القطاع‬ ‫ال�سياحي يف الق�ضاء‪� ،‬أن ن�سبة ‪ % 60‬من �أق�ضية لبنان ال يوجد فيها جمعيات‪ ،‬ون�سبة ‪% 40‬‬ ‫يوجد فيها جمعيات �سياحية‪.‬‬ ‫كما �أن هذه اجلمعيات تقوم ب�أدوار �سياحية على �أ�صعدة عدة‪ :‬فهنالك ‪ % 29.41‬تقوم‬ ‫بتنظيم املهرجانات و ‪ % 23,53‬ت�ساهم ب�إقامة احلفالت يف البلدات‪ ،‬و ‪ % 17,65‬تقيم‬ ‫املعار�ض‪ ،‬و‪ % 11.76‬تقيم �شهر ت�سوق يف املراكز التجارية‪ ،‬و ‪ % 8,82‬ت�ساهم ب�إقامة ن�شاطات‬ ‫ريا�ضية وخا�صة ماراتون‪ .‬هذه الن�سبة جاءت مت�ساوية مع عدد اجلمعيات التي تقوم بتقدمي‬ ‫الت�سهيالت من �أجل ت�شجيع العمل ال�سياحي‪.‬‬ ‫ن�ستنتج من معطيات اجلدول املذكور �سابقاً �أن‪ ‬اجلمعيات ال�سياحية يف لبنان مل ترق بعد �إىل‬ ‫امل�ستوى املطلوب‪ ،‬ومل تلعب دورها ب�شكل كامل على امل�ستوى التنموي‪ ،‬علماً �أنها تتوزع‬ ‫بني جمعيات ت�سويقية وترويجية وتنموية �شاملة‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل اجلمعيات التي تقدم خدمات‬ ‫�سياحية تنظيمية ورعائية وتوجيهية‪ ،‬وهي م�س�ؤولة عن التطوير ال�سياحي يف املنطقة التي‬ ‫تعمل فيها‪.‬‬ ‫تقوم اجلمعيات ال�سياحية يف لبنان‪ ،‬ب�شكل �أ�سا�سي‪ ،‬بتنظيم ن�شاطات خمتلفة مثل منا�سبات‬ ‫ومهرجانات‪ 1‬تهدف �إىل �إثراء املنتج ال�سياحي يف املنطقة‪ .‬وت�ساعد اجلمعيات ال�سياحية‪،‬‬ ‫بالإ�ضافة �إىل ذلك‪ ،‬املبادرين الذين يريدون �إقامة م�شروع �سياحي من خالل الإر�شاد‬ ‫والتن�سيق مع ال�سلطات‪ .‬فالتن�سيق مع اجلمعيات املخت�صة‪ ،‬يتم مث ًال‪ ،‬من �أجل �إحياء املراكز‬ ‫ال�سياحية التاريخية والبيوت الرتاثية و�صيانتها و�إعطائها الدور املنا�سب كجزء متمم لل�سياحة‪.‬‬ ‫وبالتايل تقوم اجلمعيات ال�سياحية با�ستثمار املباين التاريخية واخلانات واحلمامات القدمية‬ ‫والدور الوا�سعة التي هجرها �أ�صحابها وحتويلها �إىل متاحف تراثية ومطاعم وفنادق و�أ�سواق‬ ‫لل�صناعة التقليدية وال�سياحية‪ .‬كما وتقوم اجلمعيات ال�سياحية بدرا�سة القطاعات التي يجب‬ ‫‪ - 1‬ي�ست�ضيف لبنان كل �صيف العديد من املهرجانات الدولية التي ت�ستقطب الكثري من ال�سياح العرب والأجانب‪،‬‬ ‫خ�صو�صاً تلك التي تقام يف مدينة بعلبك الرومانية الأثرية وق�صر بيت الدين ال�شهابي وقلعة جبيل الفينيقية‪،‬‬ ‫والبرتون‪ ،‬و�إهدن‪ .‬ويروج لبنان لنف�سه منذ فرتة طويلة كبلد متن ّوع ي�ضم �آثاراً رومانية وكهوفاً ومنتجعات و�شواطئ‬ ‫وحياة ليلية �صاخبة‪� .‬إ ّال �أن ما ميكن الإ�شارة �إليه هنا‪� ،‬أن املهرجانات يف لبنان متتاز بتن ّوعها ما بني ثقافية واجتماعية‬ ‫وتراثية وريا�ضية وترفيهية و�أن�شطة تنا�سب �شرائح املجتمع كافة‪� .‬إ ّال �أن تو ّزع هذه املهرجانات على البلديات اللبنانية‬ ‫يبينّ لنا مدى �أهمية بلديات ومناطق على ح�ساب بلديات ومناطق �أخرى‪ ،‬وهذا ما يرتبط بالدرجة الأوىل بت�صنيف‬ ‫هذه املناطق على امل�ستوى ال�سياحي‪ ،‬ويرتبط بالدرجة الثانية ب�سيا�سة البلديات اال�ستثمارية والتنموية التي تقيم‬ ‫املهرجانات ال�سنوية وتر ّوج لها ب�شكل خمطط ومنظم‪ ،‬ما ي�ستدعي تدخل م�ؤ�س�سات املجتمع املدين كاجلمعيات‬ ‫لتلعب دورها يف هذا املجال‪.‬‬ ‫‪146‬‬


‫فكــــــر‬

‫اعتبارها مراكز جلب �سياحي‪ ،‬وبالتايل و�ضع خمططات للقطاع ال�سياحي‪.‬‬ ‫كما ن�شري يف �سياق هذا التحليل �إىل اجلمعيات ال�سياحية اخلا�صة بالأماكن الدينية‪،‬‬ ‫واجلمعيات الثقافية وتلك التي تتعلق بال�سياحة اال�ست�شفائية‪ .‬كما وهناك جمعيات �سياحية‬ ‫يف لبنان ُتعنى بالعمل على تن�شيط وترويج �سياحة امل�ؤمترات واملهرجانات وال�سياحة الرتفيهية‪.‬‬ ‫�أما يف حمافظة ال�شمال حتدي ًدا‪ ،‬الذي يعاين �أ�صلاً من م�ؤ�شرات تنموية منخف�ضة على كل‬ ‫امل�ستويات‪ ،‬وعلى الرغم من مت ّتعه مبناطق �سياحية بحرية وجبلية و�أثرية ت�شكل جمتمعة عامل‬ ‫جذب لل�سياح‪ ،‬وت�شكل يف حال اال�ستفادة منها م�صد ًرا مه ًما للأموال التي ميكن توظيفها‬ ‫يف م�شاريع تنموية �شاملة ت�ساهم يف �إمناء املناطق ال�شمالية الفقرية‪ ،‬فنلحظ غياباً �شبه كامل‬ ‫للجمعيات ال�سياحية‪ ،‬مع الإ�شارة هنا �إىل بع�ض اال�ستثناءات‪ ،‬من بع�ض اجلمعيات املدنية‬ ‫التي ا�ستطاعت عرب وعيها لأهمية تفعيل ال�سياحة ال�شمالية من �إقامة عدد من امل�شاريع‬ ‫ال�سياحية‪ ،‬و�أهمها على الإطالق املهرجانات ال�سياحية‪ ،1‬و�أبرزها مهرجان �إهدنيات الذي‬ ‫تنظمه جمعية امليدان – زغرتا‪.‬‬ ‫نتيجة لذلك‪ ،‬نرى �أن غياب اجلمعيات النا�شطة �سياح ًيا يف الأق�ضية اللبنانية‪ ،‬يعود لأ�سباب‬ ‫عدة‪� ،‬أهمها‪:‬‬ ‫خ�صو�صا العادات الدينية‪ ،‬وهي ‪.% 27,78‬‬ ‫ العادات والتقاليد املتوارثة يف املناطق والقرى‪،‬‬‫ً‬ ‫ �سيطرة امل�صلحة الفردية على امل�صلحة العامة‪ ،‬وهي ‪.% 22,22‬‬‫ نق�ص يف الإمكانات املادية‪.% 18,52 ،‬‬‫ اجلمعيات املوجودة تقوم بدور اجتماعي فقط وحمدود جداً‪.% 14.81 ،‬‬‫ عدم وجود وعي �سياحي‪ ،‬وهي ‪ .% 16.67‬وهنا‪ ،‬ميكننا ت�أكيد فر�ضية �أن �ضعف م�ؤ�س�سات‬‫املجتمع املدين من حيث الوعي ال�سياحي والثقافة ال�سياحية‪� ،‬إمنا يعود �إىل غلبة وطغيان‬ ‫االهتمامات ذات الطبيعة اال�ستهالكية الربحية والعالقات الزبائنية وال�شخ�صانية يف الأداء‪،‬‬ ‫والفكر الثقايف الذي ي�صعب �إدراجه �ضمن االهتمامات الثقافية العميقة واجلادة‪ .‬فالتغذي‬ ‫على املنتجات اال�ستهالكية والعقليات الأهلية الزبائنية تخلف �ضعفاً يف املنتج املعريف‬ ‫‪ - 1‬ومن �أبرز املهرجانات‪ :‬مهرجانات بعلبك الدولية‪ ،‬مهرجانات �صور الدولية‪ ،‬مهرجانات بيت الدين الدولية‪،‬‬ ‫مهرجان الب�ستان العاملي للمو�سيقى والفنون‪ ،‬مهرجانات عنجر‪ ،‬مهرجانات بيبلو�س الدولية‪ ،‬مهرجانات دير القمر‪،‬‬ ‫وغريها من املهرجانات املحلية يف املناطق‪ ،‬مثل مهرجان جزين – اجلنوب‪ ،‬مهرجان ريفون – جبل لبنان‪ ،‬مهرجان‬ ‫قب اليا�س للمغرتبني – البقاع‪ ،‬مهرجان بعقلني – ال�شوف‪ ،‬مهرجان البرتون – البرتون‪ ،‬مهرجان املغرتبني –‬ ‫الباروك (ال�شوف)‪ ،‬مهرجان طرابل�س – طرابل�س‪ ،‬مهرجان مرجعيون – اجلنوب‪ ،‬وغريها الكثري‪.‬‬ ‫‪147‬‬


‫واحلياتي‪ ،‬بل و�ضعفاً يف امل�ستوى القيمي والأخالقي‪.‬‬ ‫ومن املهم ت�أكيد �أن مو�ضوع الوعي ال�سياحي والثقافة ال�سياحية بالن�سبة مل�ؤ�س�سات املجتمع‬ ‫املدين لي�س ترفاً فكرياً‪ ،‬و�إمنا هو واجب وطني يجب الوفاء به‪ ،‬و�أن ال يكون االهتمام بهذه‬ ‫الق�ضايا جمرد اهتمام مو�سمي �سطحي‪ ،‬بل من املهم �أن يكون اهتماماً فعل ًيا وفاعلاً وف ّعا ًال‪،‬‬ ‫ت�ؤ�س�س له الأطر امل�ؤ�س�سية الر�سمية واملدنية والأهلية‪ ،‬كما الت�شريعات املتكاملة والآليات‬ ‫املتطورة‪ ،‬وكل ذلك من �أجل هدف تنمية ال�سياحة عرب تثقيف الإن�سان املواطن وتنميته‬ ‫وحت�سني م�ستوى حياته ووعيه ال�سياحي والثقايف‪ .‬وهذا ما يتطلب و�ضع ا�سرتاتيجية �سياحية‬ ‫ت�أخذ بعني االعتبار كل هذه املوا�ضيع وتركز ب�شكل كبري على الوعي ال�سياحي و�أهمية �أن‬ ‫تلعب م�ؤ�س�سات املجتمع املدين دوراً مهماً يف هذا املجال‪.‬‬ ‫‪ - 2‬جمعية امليدان ‪ -‬زغرتا ودورها يف تن�شيط ال�سياحة الداخلية‪:‬‬

‫تتوخى الربح‪ ،‬ت� ّأ�س�ست يف مدينة زغرتا العام‬ ‫«جمعية امليدان» هي جمعية غري حكومية ال ّ‬ ‫‪ 2004‬علم وخرب رقم ‪ 2004/71‬من خالل جمموعة من ال�شباب املحرتفني املهتمني بال�ش�ؤون‬ ‫الإن�سانية‪ ،‬الثقافية‪ ،‬التعليمية‪ ،‬االجتماعية والبيئية‪ .‬تعتمد اجلمعية على املوارد املحلية‬ ‫طبيعية كانت �أو ب�شرية لتطوير براجمها‪ .1‬كما �أن جمعية امليدان تعمل على امل�ستوى املحلي‪،‬‬ ‫الوطني والإقليمي‪ .‬هدفها تطوير قدرات املجتمع من خالل تطبيق مبد�أ التنمية امل�ستدامة‪.‬‬ ‫�أما مهمتها فهي خلق �صلة و�صل را�سخة بني املجتمع والطبيعة واعتماد التنمية عرب تطبيق‬ ‫برامج متعددة على ال�صعيد الريفي‪ ،‬الإن�ساين والبيئي وال�سياحي‪ .‬كما �أن جلمعية امليدان‬ ‫من الناحية الثقافية دوراً ال ميكن �إغفاله من خالل تعريف املواطنني وال�سائحني برتاث البلد‬ ‫ال�سياحي وح�ضارته والتعريف بالبيئة‪ ،‬مما ي�ؤدي �إىل �إدراك ال�شخ�صية القومية للبلد‪ ،‬وبالتايل‬ ‫زيادة االنتماء للوطن من جانب مواطنيه و�إعطاء �صورة دقيقة عنه وعن �سكانه‪ ،‬واملعلومات‬ ‫ال�صحيحة عن البيئة االجتماعية والثقافية والدينية التي �سيواجهها ال�سائحون‪.‬‬ ‫بالإ�ضافة �إىل ذلك‪ ،‬ف�إن جمعية امليدان قد و�ضعت اخلطط واال�سرتاتيجيات املبنية على‬ ‫الدرا�سات العلمية امليدانية منها والنظرية من �أجل تنمية قطاع ال�سياحة وتطويره‪ ،‬حتى‬ ‫�أ�صبح هذا القطاع ميثّل حجر الزاوية يف زغرتا ‪ -‬الزاوية و�إهدن‪ ،‬فبد�أت رئي�سة اجلمعية ال�سيدة‬ ‫رميا �سليمان فرجنية بتكليف فرق البحث العلمي لتحديد خمتلف املواقع ال�سياحية الثقافية‬ ‫والطبيعية وكل مناطق اجلذب ال�سياحي فيها من �أجل درا�ستها من النواحي كافة‪ ،‬ومعرفة‬ ‫‪ -1‬من �أهم ن�شاطاتها التي بد�أت منذ العامني ‪ :2005 - 2004‬التزلج‪ ،‬رماية‪ ،‬ت�سلق‪� ،‬صعود اجلبل بالدراجات‬ ‫الهوائية‪� ،‬سياحة ثقافية‪ ،‬مغامرات‪� ،‬سياحة بيئية‪ ،‬ت�سلية‪ ،‬احتفال خا�ص بامليالد يف دير مار �سركي�س �إهدن‪ ،‬بن�شعي‪،‬‬ ‫واحتفال خا�ص ملنا�سبة ر�أ�س ال�سنة يف �سيدة احل�صن �إهدن وبرامج فنية عديدة يف �إهدن‪.‬‬ ‫‪148‬‬


‫فكــــــر‬

‫�أف�ضل اخلطط والو�سائل والطرق التي ميكن �أن ت�ساهم يف تطويرها وجعلها منطقة ناجحة يف‬ ‫جذب �أعداد �أكرب و�أفواج �أكرث من ال�سياح‪.‬‬ ‫�أما �أهم الربامج التنموية التي اعتمدتها جمعية امليدان والتي �ساهمت يف �صناعة �سياحية‬ ‫داخلية‪ ،‬فكان برنامج �إهدنيات على امل�ستوى املح ّلي والدويل‪..‬‬ ‫�أ‪� -‬إهدنيات‪ّ :‬نظمت جمعية «امليدان» كل عام وملدة �شهر �آب مهرجان «�إهدنيات» يف �إهدن‬ ‫ق�ضاء زغرتا �شمال لبنان‪ ،‬حيث اختارت اجلمعية ل�سنوات متتالية مبنى الكربى الأثري‬ ‫لإقامة الن�شاطات‪ .‬يهدف هذا املهرجان الفني والرتاثي اىل زيادة ن�سبة ال�سياحة اللبنانية‬ ‫عموماً‪ ،‬وال�شمالية خ�صو�صاً‪ ،‬ويجذب هذا املهرجان عدداً كبرياً من �سكان البلدة واجلوار‬ ‫ال�سيما املغرتبني منهم‪.‬‬ ‫يرمي «�إهدنيات» �إىل تفعيل احلركة ال�سياحية يف حمافظة ال�شمال عمو ًما‪ ،‬ويف �إهدن ‪ -‬زغرتا‬ ‫خ�صو�صا‪ .‬وت�ضع جمع ّية امليدان التي تفوق ميزان ّيتها املليون دوالر �أمريكي على ر�أ�س �أولوياتها‬ ‫ً‬ ‫بالتوحد وال�سرطان‪� ،‬إذ تعود الأرباح �إىل اجلمعية املعنية مبعاجلة‬ ‫االهتمام بالأطفال امل�صابني ّ‬ ‫الأطفال امل�صابني بال�سرطان ‪ ،Kids First‬و‪( North Autism Center‬مركز ال�شمال‬ ‫للتوحد‪ .)1‬وهما مركزان خرييان � ّأ�س�ستهما جمعية "امليدان" ب�شخ�ص رئي�ستها رميا فرجنية‪،‬‬ ‫املعنية بال�ش�ؤون االجتماعية يف منطقة زغرتا وحميطها‪.‬‬ ‫على خط موازٍ‪ ،‬يتم ّتع الن�شاط الثقايف والفني �إهدنيات مبزايا اجتماعية واقت�صادية مبا�شرة‬ ‫مثل ت�شغيل اليد العاملة يف ال�شمال‪ ،‬وتو�سيع نطاق الرتويج ال�سياحي للمنطقة‪ ،‬خ�صو�صاً‬ ‫بعد �إدراج املهرجان على الئحة املهرجانات الدولية �إثر دورته الأخرية العام ‪ ،2011‬فيما‬ ‫حظي بدعم «وزارة ال�سياحة اللبنانية»‪.‬‬ ‫وعليه‪ ،‬ال يقت�صر املهرجان على الأم�سيات ال�ساهرة التي ت�سعى اللجنة �إىل اختيارها على قاعدة‬ ‫التن ّوع ال�شامل �ضمن خطة جلذب �أف�ضل اخليارات الفنية وفق املعايري املو�ضوعة يف دفرت �شروط‬ ‫ي�ضم �أي�ضاً مهرجاناً موازياً‪ ،‬ين�ضوي �ضمن حملة خا�صة حتمل �شعار‬ ‫وزارة ال�سياحة اللبنانية‪ ،‬بل ّ‬ ‫توجه الدعوة �إىل اجلميع للتع ّرف �أكرث �إىل �إهدن‬ ‫«ع �إهدن �شرفونا»‪ .‬ويف هذا الن�شاط النهاري‪َّ ،‬‬ ‫املتعددة التي‬ ‫‪ّ � - 1‬أ�س�ست رئي�سة جمع ّية "امليدان" ال�س ّيدة رميا فرجن ّية‪ ،‬بعد اطالعها على الأبحاث والدرا�سات ّ‬ ‫�أُجريت يف �شمال لبنان حول التوحد‪" ،‬مركز التوحد يف ال�شمال ‪ »NAC‬العام ‪ 2010‬والذي بد�أ بالعمل حتت‬ ‫�إ�شراف عدد من املتخ�ص�صني واملعن ّيني بحالة التوحد‪ .‬ون�شري اىل �أنّ املركز تعليمي خمت�ص من �ش�أنه توفري التعليم‬ ‫للأطفال وتطوير مهارات التوا�صل واملهارات االجتماع ّية والإدراك ّية‪ ،‬وتوفري الدعم لأ�سرهم كي يت�أقلموا مع و�ضعهم‬ ‫اجلديد وتوفري التوعية للنا�س يف حميطهم‪ ،‬من منطلق �أ ّنه ينبغي البدء بالتدخل التوجيهي من خالل برامج تعليم ّية‬ ‫التوحد‪.‬‬ ‫يتم ت�شخي�ص ّ‬ ‫ف ّعالة‪ ،‬حاملا ّ‬ ‫‪149‬‬


‫املعروفة بـ«عرو�س م�صايف ال�شمال»‪ ،‬واال�ستمتاع بال�سياحة الدينية والبيئية‪.‬‬ ‫�أما بالن�سبة �إىل برنامج املهرجان امل�سائي‪ ،‬فتجمع دورة «�إهدنيات» يف ال�صيف �أ�سماء المعة‬ ‫يت�ضمن «�إهدن ّيات» �أ�سبوعاً خا�صاً ب�أن�شطة‬ ‫يف جمال الغناء والرق�ص العربي والأجنبي‪ ،1‬كما ّ‬ ‫جمان ّية ُتقام للأطفال‪ ،‬فيما تن�شط فعاليات املنطقة الر�سمية وجمعيات املجتمع املدين يف‬ ‫ت�أهيل �إهدن وحميطها ال�ستقبال �أكرب عدد ممكن من الز ّوار‪.‬‬ ‫يف التحليل ال�سو�سيولوجي‪ ،‬تركت �إهدنيات �آثارها على خمتلف نواحي احلياة يف زغرتا‪ .‬ومن‬ ‫�أهم العوامل حلدوث هذه الآثار هو التداخل بني املواطنني وال�سائحني – خا�صة ‪ -‬من لهم‬ ‫عالقة مبا�شرة مع ال�سائحني مثل العاملني يف �شركات ال�سياحة والفنادق والإر�شاد ال�سياحي‪،‬‬ ‫ولهذه الفئات من العاملني موا�صفات خا�صة متكنهم من �أداء مهاراتهم بكفاءة تامة‪.‬‬ ‫كما ون�شري يف �سياق هذا التحليل‪� ،‬إىل �أهمية �إلقاء ال�ضوء على �إهدنيات والأن�شطة املرافقة‬ ‫لها‪ ،‬باعتبارها نوعاً هاماً من �أنواع الأن�شطة الرتويجية واال�ستثمارية‪ ،‬والتي �أ�صبحت �صناعة‬ ‫رئي�سية على النطاق املحلي‪ ،‬ومن املتوقع �أن تنمو منواً متوا�ص ًال‪ ،‬حيث زاد عدد ال�سياح‬ ‫ب�شكل غري م�سبوق بني عامي ‪ 2005‬و ‪.2013‬‬ ‫وميكن �أن نلحظ هذا التطور يف �أعداد الوافدين �إىل �إهدن للم�شاركة يف �إهدنيات (فلكيات‪،‬‬ ‫�سينمائيات‪ ،‬بيئيات‪ ،‬حرفيات) ‪2‬حيث ارتفع من ‪� 10.000‬سائح العام ‪ 2008-2009‬من‬ ‫‪� - 1‬أ�سماء بارزة من �أمثال النجمة الفرن�سية هيلني �سيغارا والتينور الإيطايل ال�شهري تينو فافازا‪ ،‬وخوليو ايغليزيا�س‬ ‫وتينور القرن احلادي والع�شرين وال�سوبرانو الفرن�سية �إميا �شابلن‪ ،‬النجم اليوناين العاملي دميي�س رو�سو�س وروائعه‬ ‫ال�شهرية ‪Goodbye My Love Goodbye، Forever and Ever، Say you Love me، My Friend the Wind،‬‬ ‫‪ ، Far Away‬فرقة "باليه مو�سكو امللكية" مع رائعة ت�شايكوف�سكي «‪� »Swan Lake‬أو "بحرية البجع»‪ ،‬وزياد الرحباين‬ ‫وكاظم ال�ساهر‪ ،‬وغريهم الكثري‪.‬‬ ‫‪� -2‬سينمائيات‪ :‬مهرجان �سينمائيات هو لت�شجيع طالب الإخراج من جميع اجلامعات اللبنانية‪ ،‬وتعر�ض على جلنة‬ ‫حكم م�ؤلفة من اخت�صا�صيني و�أكادمييني ونقاد لتعلن يف اخلتام �أ�سماء الفائزين‪ ،‬هكذا تدعم اجلمعية الفن ال�سابع يف‬ ‫لبنان يف غياب �أي دعم ر�سمي �سواء ملحرتيف هذا الفن �أو هواته‪.‬‬ ‫ امليالد على البحرية‪ :‬تنظمه جمعية "امليدان" طيلة �شهر كانون الأول على �ضفاف بحرية بن�شعي‪ ،‬حيث ترتفع زينة‬‫ميالدية �ضخمة‪ ،‬يهدف هذا املهرجان اىل جمع اللبنانيني عام ًة واهل ال�شمال خا�ص ًة يف اجواء ميالدية‪ ،‬كما يت�ضمن‬ ‫جناحاً خا�صاً بالأطفال ومعر�ضاً ميالدياً تعر�ض فيه احلرف والهدايا �إ�ضاف ًة اىل عرو�ض عاملية ولبنانية خا�صة بالأطفال‪.‬‬ ‫ م�شروع حرفيات‪ :‬الذي يهدف �إىل دعم الن�ساء‪ ،‬بناء قدراتهن وتطوير مهاراتهن‪ .‬يت�ضمن م�شروع حرفيات تنظيم‬‫العمل احلريف للن�ساء يف املنزل وت�سويق منتجاتهن امل�صنوعة يدوياً وكل ما ميكن �أن ت�صنعه �أيديهن‪.‬‬ ‫ فلكيات‪ :‬ر�صد للفلك والنجوم بعد يوم واحد على ك�سوف القمر اجلزئي املتوقع‪ ،‬وتختتم بحفل مو�سيقي‬‫«�إلكرتونيك ميوزيك»‪ .‬كذلك ت�شهد بع�ض الن�شاطات مثل ال�شطرجن وطاولة الزهر بح�ضور مراقبني وجلنة حتكيم‪.‬‬ ‫‪150‬‬


‫فكــــــر‬

‫املناطق ال�شمالية املجاورة لإهدن – زغرتا‪ ،‬وبع�ض املناطق اللبنانية‪ ،‬وعدد كبري من املغرتبني‬ ‫اللبنانيني والأجانب (خا�صة من �أفريقيا و�أ�سرتاليا و�أملانيا وبلجيكا وغريها �إ�ضافة �إىل �سياح من‬ ‫الأردن وقرب�ص)‪� ،‬إىل ما يقارب الـ ‪� 14.400‬سائح للعامني ‪ 2010-2011‬موزعة على �ست‬ ‫حفالت ترفيهية وثقافية‪.‬‬ ‫�أما يف العام ‪ ،2013‬وبعد �أن توقف برنامج �إهدنيات العام ‪ ،2012‬ب�سبب الأو�ضاع الأمنية يف‬ ‫لبنان عامة‪ ،‬وطرابل�س خا�صة‪ ،‬فقد و�صل عدد الوافدين �إىل �إهدن للم�شاركة يف �إهدنيات �إىل‬ ‫‪� 18.000‬سائح موزعني على �ست حفالت‪ .‬ومن املتوقع �أن يرتفع عدد الوافدين �إىل ‪27.000‬‬ ‫�سائح يف �صيف الـ ‪.20141‬‬ ‫كما ا�ستطاعت جمعية امليدان �إحداث نقلة نوعية‪ ،‬وخالل فرتة زمنية ق�صرية‪ ،‬على م�ستوى‬ ‫تفعيل ال�سياحة املحلية‪ ،‬حيث ا�ستطاعت �أن حت ّول ال�سياحة يف �إهدن‪ ،‬من �سياحة بدائية‪� ،‬إىل‬ ‫�صناعة �سياحية متطورة‪ ،‬ما كانت لتحدث لو مل يح�صل برنامج �إهدنيات الذي انتقل بدوره‬ ‫من برنامج �سياحي حملي �إىل برنامج �إقليمي ودويل بفعل النجاحات املتتالية التي حققها‬ ‫والتي ّ‬ ‫تخطت حدود الوطن �إىل العاملية‪.‬‬ ‫هذا الربنامج �ساهم بربوز �أهمية ال�سياحة كقطاع اقت�صادي اجتماعي يت�أثر وي�ؤثر يف باقي‬ ‫القطاعات‪ .‬فمن املنظور االقت�صادي �أثبت برنامج �إهدنيات ال�سياحي ب�أنه برنامج �إنتاجي‬ ‫يلعب دوراً مهماً يف زيادة الدخل ل�شرائح خمتلفة من ال�سكان‪ .‬كما �ساهم برنامج �إهدنيات‬ ‫ال�سياحي ب�شكل ف ّعال يف ات�ساع دائرة التنمية لت�شمل معظم القرى والبلدات املجاورة ملنطقة‬ ‫�إهدن‪ ،‬لأنه ا�ستطاع �أن ي�ؤدي �إىل تغيرّ وا�ضح يف مواقع اال�ستهالك ال�سياحي وخا�صة يف‬ ‫املناطق الريفية‪ ،‬ف�ساهم يف زيادة الطلب على �أنواع ال�سلع واخلدمات من قبل ال�سائحني‬ ‫الوافدين �إىل املهرجان‪ ،‬والذين يتم ّتعون بقدرات �شرائية عالية‪ ،‬فتزداد حركة املبيعات لتلبي‬ ‫احلاجات امل�ستجدة ويت�أمن العمل للعديد من �أبناء الريف بهدف توفري اخلدمات كافة‬ ‫لل�سائحني‪ .‬هذا كله �أدى �إىل زيادة عدد امل�ؤ�س�سات التجارية من مطاعم وفنادق وموتيالت‬ ‫و�شقق مفرو�شة وحمال جتارية لتلبي الطلب املتزايد للوافدين الذين تزداد �أعدادهم ب�شكل‬ ‫كبري (كما �سبقت الإ�شارة)‪.‬‬ ‫يف هذا ال�سياق‪ ،‬وب�سبب ما �أحدثه برنامج �إهدنيات من تطورات اقت�صادية واجتماعية وثقافية‬ ‫خ�صو�صا‪ ،‬ومع تزايد عدد ال�سياح منذ‬ ‫و�صناعية يف حمافظة ال�شمال عمو ًما وق�ضاء زغرتا‬ ‫ً‬ ‫غنى وتن ّوعاً يف املنطقة‪� ،‬إىل ن�شاطات ريا�ضية‬ ‫ بيئيات‪ّ :‬‬‫تت�ضمن ن�شاطات متنوعة بني زيارة حمم ّية حرج �إهدن الأكرث ً‬ ‫مع فريق ‪ Ehden Adventure‬من ت�س ّلق وهبوط و‪ Paint ball‬ورحالت ا�ستك�شاف‪ .‬وتت ّوج بيئيات ب�سهرات فنية‬ ‫للعائالت والأطفال‪..‬الخ‪.‬‬ ‫‪ - 1‬مقابلة مع الأ�ستاذ جيمي فرجنية‪ ،‬م�س�ؤول يف اللجنة التنظيمية لربنامج �إهدنيات ‪ -‬جمعية امليدان‪.2014 - 5 - 9 ،‬‬ ‫‪151‬‬


‫العام ‪ 2005‬وحتى العام ‪ ،2013-2014‬كان من الطبيعي جداً �أن يواكب العمل الفندقي‬ ‫يف منطقة �إهدن واملناطق املجاورة هذه التطورات‪ .‬فمع حت ّول �إهدنيات �إىل العاملية‪� ،‬أ�ضحت‬ ‫احلاجة ملحة لتلبية ما يحدث من تطور على م�ستوى الوافدين املحليني واملغرتبني اللبنانيني‬ ‫والأجانب‪ .‬فبد�أ يظهر العديد من املن�ش�آت الفندقية التي �أقيمت مبعظمها يف �إهدن ‪ -‬زغرتا‪.‬‬ ‫وهي ت�شهد مو�س ًما �سياح ًيا ممتا ًزا �سنة بعد �سنة‪ ،‬حيث �إن احلجوزات الفندقية و�صلت اىل‬ ‫‪ % 100‬بعد �إعالن بدء مهرجان �إهدنيات ل�صيف‪.1 2014‬‬ ‫ومن منظور اجتماعي وح�ضاري‪� ،‬أثبت برنامج �إهدنيات ب�أن ال�سياحة هي �أي�ضً ا حركة‬ ‫ديناميكية ترتبط باجلوانب الثقافية واحل�ضارية للإن�سان؛ مبعنى �أنها ر�سالة ح�ضارية وج�سر‬ ‫للتوا�صل بني الثقافات املختلفة‪� .‬إذ ي�ساعد التبادل الثقايف على �إظهار �أهمية تعزيز العالقات‬ ‫الثقافية بني لبنان والبلدان الأخرى‪ ،‬والتي تتم عن طريق القيام بتعليم اللغة‪ ،‬دعم‬ ‫امل�شروعات التنموية الثقافية ورعاية م�ؤمترات ومهرجانات‪ ،‬وتب ِّني املبدعني ال�شباب ودعمهم‬ ‫يف جماالت ال�سينما وامل�سرح والت�أليف‪ .‬كل ذلك لتعريف اللبنانيني على ثقافات وتقاليد‬ ‫وعادات البلدان الأخرى من خالل هذه الن�شاطات‪ ،‬والتفاعل مع هذه الثقافات من �أجل‬ ‫فتح �آفاق وجماالت جديدة‪ .‬كما ت�ؤدي خمالطة ال�سائحني لأبناء املناطق امل�ضيفة‪� ،‬إىل تزايد‬ ‫االنفتاح الثقايف وال�سيا�سي‪ ،2‬و�إزالة احلواجز بينهم وانتقال بع�ض عاداتهم �إىل �أبناء الريف‬ ‫امل�ضيفني‪ ،‬لأن االحتكاك املبا�شر بني ال�سائح وابن املنطقة ال�سياحية بوا�سطة رجل ال�شارع‬ ‫والبائع واملز ّين وعامل الفندق و�سائق التاك�سي وغريهم يزيد يف امل�ستوى الثقايف له�ؤالء‪ ،‬مبا‬ ‫ي�س ّهل تفاعلهم مع ال�سائحني الذين يتعرفون بدورهم ب�صورة �أف�ضل‪ ،‬على املنطقة ال�سياحية‬ ‫وعلى تقاليد �سكانها وعاداتهم‪.‬‬ ‫‪ - 1‬مقابلة �أجريت مع الأ�ستاذة لينا حلود امل�س�ؤولة الإعالمية لإهدنيات – جمعية امليدان‪.2014/ 6/ 10 -‬‬ ‫وا�ضحا ومن خالل اللقاءات امليدانية مع الق ّيمني على جمعية امليدان التي تر�أ�سها زوجة زعيم �سيا�سي‬ ‫‪ - 2‬كان ً‬ ‫ورئي�س حلزب �سيا�سي معروف يف لبنان ‪ -‬معايل الوزير �سليمان فرجنية رئي�س تيار املردة‪� ،‬أن اجلمعية ال تعمل لأية‬ ‫م�صلحة �سيا�سية �أو انتخابية‪ ،‬خا�صة �أن �سليمان فرجنية لي�س بحاجة لأي دعم يف هذا املجال وهو ميثل ال�شريحة الأكرب‬ ‫من ق�ضاء زغرتا وميثل �شريحة وا�سعة من م�ؤيديه على كامل الأرا�ضي اللبنانية‪ .‬لذلك‪ ،‬كان من الالفت الفكر املدين‬ ‫لعمل اجلمعية الذي متثل باالنفتاح الكامل على الآخر من جهة‪ ،‬ودعمه اقت�صاد ًيا من جهة �أخرى‪ .‬فاحلراك ال�سياحي‬ ‫الذي ت�شهده �إهدن انعك�س على املناطق املجاورة كافة التي زاد فيها عدد الفنادق وامل�ؤ�س�سات ال�سياحية الأخرى‪،‬‬ ‫ومن املعروف طب ًعا االنق�سام ال�سيا�سي بني هذه املناطق‪ .‬كما وبرزت العقلية املدنية يف �شخ�ص رئي�سة اجلمعية رميا‬ ‫�سليمان فرجنية التي اعتربت �أن مهرجان �إهدنيات هو للجميع من دون ا�ستثناء وال يعود ريعه لغايات �سيا�سية على‬ ‫الإطالق‪ ،‬بل لدعم امل�ؤ�س�سات اخلريية التي تعنى ب�ش�ؤون الأطفال امل�صابني بال�سرطان �أو التوحد �أو ذوي االحتياجات‬ ‫اخلا�صة‪.‬‬ ‫‪152‬‬


‫فكــــــر‬

‫يف هذا ال�سياق‪ ،‬متثل التنمية ال�سياحية التي ت�سعى �إليها جمعية امليدان يف منطقة زغرتا –‬ ‫�إهدن عرب برنامج �إهدنيات‪ ،‬خطوة هامة يف طريق تفعيل التنمية االجتماعية واالقت�صادية‬ ‫فيها‪ .‬فالتفاعل بينهما والت�ساند كبري‪� ،‬إذ ال ميكن اعتبار وجود تنمية اجتماعية حقيقية بدون‬ ‫حتقيق تنمية �سياحية فاعلة‪ .‬فالتنمية ال�سياحية تحُ دث ت�أثرياً مبا�شراً يف التنمية االجتماعية‪،‬‬ ‫من خالل ما ميكن �أن تخلقه من تغيري حقيقي يف قيم وعادات وتقاليد الكثري من �سكان‬ ‫زغرتا ‪� -‬إهدن واملناطق املجاورة التي ت�ستقبل ال�سياح‪ ،‬وتغيري يف الرتكيب املهني لهم‪،‬‬ ‫ونظرتهم للغرباء والكثري من �أمناط �سلوك وتفكري الكثري من الأفراد داخل تلك املجتمعات‪،‬‬ ‫ف�ض ًال عما ميكن �أن حتدثه التنمية ال�سياحية من �أثر غري مبا�شر يف التنمية االقت�صادية (كما‬ ‫�سبقت الإ�شارة)‪ ،‬من خالل ما يرتتب عليها يف جمال تغيري وتطوير ظروفهم االقت�صادية‪،‬‬ ‫ورفع معدالت دخولهم‪ ،‬وبالتايل ما ميكن �أن ينعك�س عن ذلك‪ ،‬من �أثر �إيجابي كبري يف رفع‬ ‫قدرتهم ال�شرائية‪ ،‬وتوفري خدمات �أف�ضل لأفراد �أ�سرهم من تعليم و�صحة و�إ�سكان ونقل‪..‬‬ ‫الـخ‪ .‬كما �أن البحث عن الآثار الإيجابية التي ميكن �أن حتدثها جمعية امليدان عرب ر�ؤيتها‬ ‫التنموية‪ ،‬يتطلب �أي�ضاً التنويه �إىل �أنها ت�ساهم يف احلد من الآثار ال�سلبية التي ميكن �أن‬ ‫تتمخ�ض عن النمو ال�سياحي االرجتايل �أو التلقائي �أو غري املخطط له يف الن�سق القيمي‬ ‫ّ‬ ‫والأخالقي يف املجتمع وما ميكن �أن يرتتب على ذلك من بروز ظواهر اجتماعية �سلبية يف‬ ‫حياة الأفراد والأ�سر والبيئة التي يعي�شون فيها‪.‬‬ ‫مناق�شة ختامية‪:‬‬

‫تقدم‪ ،‬ميكننا الوقوف مط ّو ًال عند ما ي�شوب قطاع ال�سياحة يف لبنان من‬ ‫بنا ًء على كل ما ّ‬ ‫�سلبيات تتع ّلق يف جزء كبري منها بالق ّيمني على هذا القطاع من م�ؤ�س�سات الدولة املركزية �إىل‬ ‫الوزارات املخت�صة فالدوائر ال�سياحية‪ ،‬مروراً بال�سلطات املحلية‪ ،‬وو�صو ًال �إىل املواطن اللبناين‬ ‫يقدر ما ميتلكه لبنان‪ ،‬بلده‪ ،‬من مق ّومات �سياحية ي�ستطيع باهتمامه وبوعيه‬ ‫العادي الذي ال ّ‬ ‫ال�سياحي القيام بالرتويج الت�سويق لهذه املق ّومات‪ ،‬وا�ستثمارها يف م�شاريع �سياحية قد تد ّر‬ ‫عليه وعلى �أهله الكثري من املداخيل‪ ،‬وت�ساهم يف دعم خزينة الدولة وحتريك عجلة االقت�صاد‬ ‫الوطني‪.‬‬ ‫لذلك‪ ،‬وعلى الرغم من �أن ال�سياحة‪ ،‬وهي القطاع الأهم بني قطاعات االقت�صاد الوطني‬ ‫اللبناين كافة‪ ،‬مل ت�صل‪ ،‬بعد‪� ،‬إىل املرحلة التي من املمكن �أن نطلق عليها ا�سم املرحلة‬ ‫متعددة وميكن‬ ‫املتطورة‪ ،‬على الرغم من املقومات ال�سياحية املوجودة‪� .‬أما الأ�سباب فهي ّ‬ ‫ا�ستخال�صها من معطيات وبيانات ومعلومات جاءت يف �سياق هذا البحث‪ ،‬ولكن �أهمها‬ ‫على الإطالق يرتبط بغياب اخلطة اال�سرتاتيجية لل�سياحة يف لبنان‪ ،‬وهذا يرتبط �أ�سا�ساً بغياب‬ ‫ال�سيا�سات احلكومية املنا�سبة‪ ،‬وعدم وجود قرار �إداري على م�ستوى الدولة اللبنانية بوجوب‬ ‫‪153‬‬


‫و�ضع خمطط �شامل لإنعا�ش القطاع ال�سياحي يف لبنان والو�صول به �إىل املناف�سة العاملية‪.‬‬ ‫�إ ّال �أن الواقع ال�سيا�سي اللبناين وما يرتبط به من �أحداث �أمنية‪ ،‬وتخبط اقت�صادي‪ ،‬وانهيار‬ ‫اجتماعي‪ ،‬قد �أ ّدى �إىل عدم وجود �آلية وا�ضحة ميكن اخلروج بها لدعم وتر�شيد وتوجيه‬ ‫القطاع ال�سياحي اللبناين‪.‬‬ ‫من �سيا�سة الدولة التع�سفية واالنتقائية‪ ،‬ومروراً بالثقافة اللبنانية املمزوجة بالعادات والتقاليد‬ ‫ت�شجع يف كثري من جوانبها الن�شاطات ال�سياحية وغريها‪ ،‬وو�صو ًال �إىل الواقع الأمني‬ ‫التي ال ّ‬ ‫واالقت�صادي الذي يفر�ضه غياب �سلطة الدولة‪ ،‬من جهة؛ والتدخالت وال�سيا�سات اخلارجية‬ ‫من جهة �أخرى؛ يعاين القطاع ال�سياحي اللبناين حالة من عدم التوازن‪ ،‬وعدم اال�ستقرار‬ ‫يف ظل غياب م�ؤ�س�سات وجمعيات مدنية فاعلة قادرة على الت�شبيك مع م�ؤ�س�سات الدولة‬ ‫والقطاع اخلا�ص لتنفيذ برامج �سياحية فاعلة على م�ستوى الوطن ككل‪.‬‬ ‫يف الإطار نف�سه‪ ،‬ن�ستنتج �أن املجتمع املدين يف لبنان بعيد كل البعد عن التثقيف والوعي‬ ‫ال�سياحي‪ .‬وهذا يعود بالطبع �إىل �ضعف امل�ؤ�س�سات واجلمعيات العاملة يف هذا املجال‪ ،‬على‬ ‫الرغم من تواجدها وانت�شارها بكثافة على الأرا�ضي اللبنانية‪� .‬إ ّال �أن هذه اجلمعيات تبقى يف‬ ‫�إطارها الأهلي‪ ،‬ومل ترق �إىل العقلية املدنية القائمة على االنفتاح الفكري والثقايف‪ .‬لذلك‪،‬‬ ‫من املهم �أن يكون للمجتمعات املحلية وم�ؤ�س�سات املجتمع املدين وامل�ؤ�س�سات الأهلية‬ ‫واملهتمني دور يف �إبراز ال�سياحة املحلية اللبنانية‪ ،‬واحلفاظ على مق ّوماتها ومك ّوناتها‪ .‬فجمعية‬ ‫ّ‬ ‫منوذجا يجب االقتداء به من �أجل التح ّول‬ ‫امليدان‪ ،‬كما ورد يف �سياق هذا البحث‪ ،‬تعترب ً‬ ‫نحو الفكر والعمل املدنيني اللذين ي�سعيان �إىل حتقيق �أهداف تنموية و�صناعة �سياحية بعي ًدا‬ ‫عن التجاذبات ال�سيا�سية واالنتماءات العائلية واملناطقية‪ .‬واجلمعية كما تبني لنا‪ ،‬بذلت كل‬ ‫اجلهود للحفاظ على ال�سياحة املحلية يف منطقة �إهدن – زغرتا ومق ّوماتها الرتاثية والأثرية‬ ‫والدينية والبيئية الطبيعية‪ ،‬وهذا طب ًعا ال يتم �إال من خالل القيام بجهود م�ضاعفة من �أجل‬ ‫ن�شر الوعي ال�سياحي والثقافة ال�سياحية‪ ،‬والقيام بجهود تثقيفية لت�شكيل قاعدة اجتماعية‬ ‫حتت�ضن فكرة االهتمام بال�سياحة وبالرتاث والآثار واالهتمام بها‪ ،‬والعمل على تر�سيخ قيمتها‬ ‫يف �أذهان خمتلف الأطياف والطبقات االجتماعية‪ ،‬و�إحداث نقلة نوعية يف نظرة النا�س‬ ‫لبلدهم من خالل �إبراز قيمته ال�سياحية‪.‬‬ ‫�أخ ًريا‪� ،‬إن ا�ستبعاد �أو �ضعف دور م�ؤ�س�سات املجتمع املدين يف تطوير �صناعة ال�سياحة ي�ؤدي‬ ‫�إىل‪:‬‬ ‫ـ �ضعف تنمية ال�سياحة على النحو املطلوب‪ ،‬لأن �سيطرة املركز على عملية تطوير �صناعة‬ ‫ال�سياحة يف املحافظات ال تتيح التعرف على �إمكانات التطوير وال �إىل الو�سائل املنا�سبة‬ ‫للتطوير‪ ،‬وبالتايل �إىل حاجات املجتمعات املحلية يف التنمية �أو �إ�شراكها يف منافع تلك التنمية‪.‬‬ ‫‪154‬‬


‫فكــــــر‬

‫ـ �سيطرة املركز (�إدارات الدولة) الذي يقود �إىل روتني معقد و�أداء �إداري ومايل بطيء‪،‬‬ ‫و�ضعف يف التمويل ي�ؤدي بال�ضرورة �إىل تعطيل �أكرث يف القدرات الفنية التي تتوفر لديها‪،‬‬ ‫وتبديد كثري من اجلهود و�أوقات عمل و�صرف �أموال ـ �أحياناً ـ يف غري حملها‪ ،‬وذلك يجعل‬ ‫ال�ضعف يف تطوير �صناعة ال�سياحة وا�ضحاً والأداء متعرثاً‪.‬‬ ‫ـ مينع تطوير كثري من ال�صناعات ذات ال�صلة باحلرف التقليدية‪ ،‬والأغذية املحلية �أو الن�شاطات‬ ‫الرتويحية التي تعود باملنفعة على الزائر وال�سكان املحليني‪.‬‬ ‫ـ ي�ؤدي �إىل �شح املوارد املحلية مما ي�ؤدي بدوره �إىل �ضعف تنمية املجتمعات املحلية و�إعاقة‬ ‫حتقيق منافع اقت�صادية واجتماعية متزايدة للمجتمعات املحلية‪ ،‬وبال�ضرورة للمجتمع اللبناين‪.‬‬ ‫ـ ال يتيح ـ بال�ضرورة ـ حتقيق اال�ستثمار املحلي «للمجتمعات املحلية» يف م�شروعات �سياحية‬ ‫�صغرية �أو متو�سطة ت�ساعد على ت�شغيل �أيا ٍد عاملة �أكرث لت�ستفيد من ذلك الت�شغيل‪ ،‬وت�ساعد‬ ‫يف تقلي�ص حجم البطالة‪.‬‬ ‫�أما الفوائد املتوقعة ـ واملنطقية ـ من �إ�شراك م�ؤ�س�سات املجتمع املدين يف عملية تطوير �صناعة‬ ‫ال�سياحة يف لبنان‪ ،‬فيمكن ر�صدها جوهرياً يف ما ي�أتي‪:‬‬ ‫ـ جتاوز العقبات النا�شئة عن روتني الإدارة املركزية لتطوير ال�سياحة و�إ�شراك املحليات يف‬ ‫التخطيط ل�صناعة ال�سياحة وتنفيذ الربامج ال�سياحية‪.‬‬ ‫ـ حتديد جماالت اال�ستثمار ال�سياحي ونوع اال�ستثمار يف املحافظات‪ ،‬ا�ستناداً �إىل معرفة‬ ‫ملمو�سة للموارد ال�سياحية فيها‪ ،‬ومتطلبات املجتمعات املحلية من ال�سياحة والت�شغيل‪،‬‬ ‫وبالتايل تو�سيع نطاق اال�ستثمار ال�سياحي‪.‬‬

‫‪155‬‬


‫املراجع‬

‫ البلتاجي‪ ،‬حممود‪� ،‬أهمية ال�سياحة والتنمية ال�سياحية وارتباطها بالتنمية االقت�صادية‬‫ال�شاملة‪( ،‬دار الن�شر غري مذكور)‪ ،‬القاهرة‪.2009 ،‬‬ ‫ دخيل‪ ،‬حممد‪� ،‬إ�شكاليات الإمناء املتوازن و�أبعاده‪� ،‬أطروحة دكتوراه‪ ،‬اجلامعة الإ�سالمية يف‬‫لبنان‪� ،‬أيلول‪.2008 ،‬‬ ‫ ديانا فتو�ش‪ ،‬القطاع ال�سياحي يف لبنان واقعه و�إ�سهاماته التنموية‪� ،‬أطروحة دكتوراه (غري‬‫من�شورة)‪ ،‬اجلامعة اللبنانية ‪ -‬معهد العلوم االجتماعية‪.2012 ،‬‬ ‫ ال�سكر‪ ،‬مروان حم�سن‪ ،‬خمتارات من االقت�صاد ال�سياحي‪ ،‬جمدالوي للن�شر والتوزيع‪،‬‬‫الأردن‪.1999 ،‬‬ ‫ عبد القادر‪ ،‬م�صطفى ‪ ،‬دور الإعالن يف الت�سويق ال�سياحي‪ ،‬احلوا�سب اجلامعية للندوات‪،‬‬‫بريوت‪ ،‬ط‪.2003 ،1.‬‬ ‫ عالق‪ ،‬ب�شري‪ ،‬علي حممد ربابعة‪ ،‬الرتويج والإعالن‪ ،‬مدخل متكامل‪ ،‬دار اليازوري العلمية‪،‬‬‫الأردن ‪.1998‬‬ ‫ علو�ش‪ ،‬علي‪ ،‬وزارة املال ترفع م�شروع موازنة ‪� 2012‬إىل جمل�س الوزراء‪ ،‬جريدة ال�سفري‪،‬‬‫العدد ‪ ،12004‬تاريخ ‪ 5‬ت�شرين االول ‪. 2011‬‬ ‫ فريد عبد اهلل‪ ،‬حممد‪ ،‬التخطيط ال�سياحي و�آفاق ال�سياحة امل�ستدامة‪ ،‬دار املوا�سم للطباعة‬‫والن�شر والتوزيع‪ ،‬ط‪ ،1‬بريوت‪.2006 ،‬‬ ‫ كايف‪ ،‬م�صطفى يو�سف‪� ،‬صناعة ال�سياحة ك�أحد اخليارات اال�سرتاتيجية للتنمية االقت�صادية‪،‬‬‫دار الفرات‪ ،‬نينار للن�شر والتوزيع‪ ،‬ط‪.2006 ،1‬‬ ‫ نظيف‪� ،‬أحمد‪ ،‬يف جمال جذب اال�ستثمار‪ ،‬بيان احلكومة �أمام جمل�س ال�شعب‪ ،‬م�صر‬‫القاهرة‪.2006 ،‬‬ ‫ هرمز‪ ،‬نور الدين‪ ،‬جملة جامعة ت�شرين للدرا�سات والبحوث العلمية – �سل�سلة العلوم‬‫االقت�صادية والقانونية املجلد ‪ ،28‬العدد ‪� ،3‬سنة ‪.2006‬‬ ‫‪- Theodore Levitt. (1960). Marketing Myopia. Harvard Business Review.‬‬ ‫‪pp.45-56.‬‬

‫‪-‬‬

‫‪Richard Teare. Josef A. Mazance, Simon C-W, Stephen C. (1996),‬‬ ‫‪Marketing in‬‬ ‫‪156‬‬


‫فكــــــر‬ ‫ ‪the Hospitality and Tourism. A consumer focus. CASSELL.p99.‬‬

‫ عبود‪ ،‬فادي‪ ،‬نحو �صناعة �سياحية متطورة م�ستدامة م�س�ؤولة وتناف�سية‪ ،‬برنامج عمل ‪2010-‬‬‫‪ ،2014‬وزارة ال�سياحة‪� ،‬أنظر املوقع على �شبكة الإنرتنت‪:‬‬

‫‪ http://www.fadyabboud.com/Ministry.pdf‬تاريخ �شباط ‪2010‬‬

‫منظمة ال�سياحة العاملية‪.ar.wikipedia.org/wiki/ 2009 ،‬‬

‫ عوي�س‪� ،‬سابني‪ ،‬قطاع االت�صاالت يف لبنان رافد �أ�سا�سي للخزينة وم�صدر خالف ال�سلطة‪،‬‬‫�أنظر املوقع على �شبكة الإنرتنت‪،‬‬ ‫‪ khiyam.com/news/article.php?articleID=4015‬تاريخ ‪ 30‬حزيران ‪.2008‬‬

‫‪157‬‬



‫فـكــــــــر‬

‫الرتبية على املحيط والتنمية امل�ستدامة‬

‫د‪ .‬ر�ضوان العجل ‪� -‬أ�ستاذ يف معهد العلوم االجتماعية‪ ،‬اجلامعة اللبنانية‬

‫تتناول هذه الدرا�سة الرتبية على املحيط وعالقتها بالتنمية يف جوانبها املختلفة‪ ،‬وخا�صة‬ ‫الرتبية الب�شرية امل�ستدامة‪ ،‬وت�أثري ذلك على املجتمع املحلي‪ ،‬وما ميكن �أن يحدثه التفاعل‬ ‫بينهما يف التنمية املحلية ورفع �ش�أنها لتتناغم وتتكامل مع التنمية الوطنية من جهة‪ ،‬ولتعمل‬ ‫على تفعيل دور النا�س للم�شاركة يف عملية التنمية‪ ،‬من خالل متكني املر�أة‪ ،‬على اخل�صو�ص‪،‬‬ ‫ومكم ًال يف هذه العملية‪ ،‬حملياً ووطنياً‪.‬‬ ‫ودفعها لتكون عام ًال م�ساعداً ّ‬ ‫�أوالً‪ :‬الرتبية يف الع�صور احلديثة‬

‫‪ - 1‬مفهوم الرتبية وتطوره‬ ‫كانت الرتبية وما تزال الهاج�س الأول يف حياتنا الب�شرية ويف معظم الأديان ال�سماوية بخا�صة‬ ‫يف الدين الإ�سالمي‪ ،‬وكانت غايتها حتقيق �إن�سانية الإن�سان وتربيته تربية م�ستمرة دائمة حتى‬ ‫را�ض عنه‪� .‬إن الرتبية على املحيط لها جذورها يف تراثنا الأ�صيل ويف منظومة‬ ‫يلقى اهلل وهو ٍ‬ ‫قيمنا الفكرية واالجتماعية والدينية‪ .‬ومنذ القرن التا�سع ع�شر مل تعد الرتبية مو�ضوعاً‬ ‫لت�أمالت الفال�سفة‪ ،‬وال من تخ�ص�ص رجال الدين‪ ،‬فح�سب‪ ،‬بل �أ�صبحت �أي�ضاً‪ ،‬علماً ذا‬ ‫�أ�س�س عقلية عملية‪ ،‬وبد�أت تظهر يف العامل الأبحاث والدرا�سات الرتبوية املختلفة واملتنوعة‪.‬‬ ‫وكان للفال�سفة الإنكليز يف هذا الع�صر دور كبري يف تطور الفكر الرتبوي‪ ،‬حيث كانوا مييلون‬ ‫�إىل النزعة التجريبية وطابعها العلمي الذي يعتمد على املالحظة والتجربة الدقيقة‪ ،‬واعتنوا‬ ‫بالطرق اال�ستقرائية‪.‬‬ ‫�أما الفال�سفة الأملان فحاولوا �أن يربطوا نظرياتهم ب�أفكارهم املت�صلة بالطبيعة الإن�سانية‪ ،‬واهتموا‬ ‫بالرتبية القومية‪ ،‬و�أبعدوا الرتبية الدينية عن املدار�س‪.‬‬ ‫وعاد االهتمام بالرتبية والعملية الرتبوية وازداد يف الع�صر احلا�ضر‪ .‬ونتيجة لذلك متيزت‬ ‫الرتبية عن غريها ب�أنها متقدمة على التعليم‪ ،‬وقد �أ�صبح الطفل والإن�سان الفرد هو حمور‬ ‫الرتبية‪ .‬واهتمت الرتبية بالفرد ك�إن�سان لكي يحقق منوه الإن�ساين‪ ،‬ولكنها مل تهمل اجلانب‬ ‫‪159‬‬


‫االجتماعي والتكيف مع اجلماعة التي يعي�ش بينها‪ .‬كما تعاونت الرتبية مع علم النف�س‬ ‫لتقدمي ما ينا�سب كل فرد على حدة‪ .‬وتعاونت مع علم االجتماع لكي تطبع الإن�سان بطبائع‬ ‫املجتمع الذي يعي�ش فيه‪ .‬كما ّمت االهتمام بعاملية الرتبية‪ ،‬وذلك بالتو�سع يف الهدف الرتبوي‪،‬‬ ‫من التكيف مع املجتمع املحلي‪� ،‬إىل التكيف مع املجتمعات عامة‪� ،‬أو التكيف مع الثقافة‬ ‫الإن�سانية‪ .‬و�أ�صبح الهدف الرتبوي هو �إعداد الإن�سان ال�صالح لكل مكان‪ ،‬ولي�س املواطن‬ ‫ال�صالح لوطنه فقط‪ ،‬وذلك با�ستعمال الأدوات والأجهزة واملخرتعات احلديثة يف العملية‬ ‫الرتبوية‪ ،‬وت�سخري تلك الأدوات للتقدم والتطور الإن�ساين‪.‬‬

‫‪ - 2‬مفهوم الرتبية على املحيط‬

‫الرتبية عملية تكوين و�إعداد �أفراد �إن�سانيني يف جمتمع معني له خ�صائ�صه االجتماعية‬ ‫والثقافية يف زمان ومكان حمددين‪ ،‬مما يجعلها �أداة تنموية ت�ساهم يف اكت�ساب املهارات والقيم‬ ‫تي�سر لهم عملية التعامل مع البيئة االجتماعية‬ ‫واالجتاهات و�أمناط ال�سلوك املختلفة‪ ،‬والتي ّ‬ ‫واملادية التي يعي�شون فيها‪.‬‬ ‫ومن معاين الرتبية التنموية �أي�ضاً‪� ،‬أنها ت�سعى �إىل تكوين املواطن ال�صالح املنتج املزود بالكفاية‬ ‫االجتماعية‪ ،‬عن طريق تنمية قواه وا�ستعداداته ومعاونتها حتى ت�صل �إىل �أق�صى ما ميكن �أن‬ ‫تبلغه من منو‪ ،‬وعن طريق توفري البيئة ال�صاحلة يف الأ�سرة واملدر�سة‪ .‬وال تتم الرتبية احلقة �إال‬ ‫بتعديل ال�سلوك عند الفرد واكت�سابه للخربات يف الوجهة ال�صاحلة التي تر�ضاها اجلماعة‬ ‫وتوافق عليها‪ .‬ذلك �أن الرتبية تعني‪ :‬العملية الواعية املق�صودة وغري املق�صودة لإحداث‬ ‫منو‪ ،‬وتغيري وتك ّيف م�ستمرين للفرد من جميع جوانبه اجل�سمية والعقلية والوجدانية وحتقيق‬ ‫�إن�سانية الإن�سان‪.‬‬ ‫�إن املواطن ال�صالح الذي تهدف الرتبية �إىل تكوينه هو الذي يحمل ثقافة جمتمعه‪.‬‬ ‫والرتبية عملية اجتماعية تقوم بها اجلماعة لأفرادها عن ق�صد وتنظيم وتخطيط‪ ،‬و�إعدادهم‬ ‫للم�ستقبل ك�أفراد و�أع�ضاء يف املجتمع الذي ينتمون �إليه‪ ،‬بكل مكوناته االجتماعية والثقافية‬ ‫واالقت�صادية والعقائدية‪ ،‬و�أهدافه وفل�سفته يف احلياة‪ .‬وهذا بال�ضبط ما يدعو �إىل احلديث عن‬ ‫تربية م�ستقبلية تكفل لتالميذ اليوم حتقيق تك ّيف �أف�ضل مع متطلبات الع�صر(‪ ،)1‬بعد غربلتها‬ ‫ومنا�سبتها لقيمنا الروحية والفكرية وال�سلوكية‪.‬‬ ‫�إن الرتبية‪ ،‬كما ر�أينا‪ ،‬تعمل على تنمية �أفراد املجتمع‪ ،‬وحتملهم على التكيف مع حميطهم‪.‬‬ ‫والتنمية م�س�ألة معقدة �شاملة بحيث ال تقت�صر على جانب واحد من اجلوانب االقت�صادية‬ ‫واالجتماعية والبيئة وغريها‪.‬‬ ‫‪ -1‬ح�سن ح�سني البيالوي و�آخرون‪ ،‬درا�سات يف �أ�صول الرتبية‪ ،‬دار الثقافة‪ ،‬الطبعة الأوىل‪ ،‬الدوحة قطر‪1989 ،‬م‪� ،‬ص‪.16.‬‬ ‫‪160‬‬


‫فكــــــر‬

‫فما هو مفهوم التنمية ب�شكل عام؟ وماذا يعني مفهوم التنمية الب�شرية‪ ،‬والتنمية امل�ستدامة‪،‬‬ ‫والتنمية املحلية؟ وكيف تط ّورت هذه املفاهيم؟‬ ‫ثانيا ً‪ :‬مفهوم التنمية‬

‫يعني مفهوم التنمية ‪ Développement‬التغيري اجلذري للنظام القائم‪ ،‬وا�ستبداله بنظام‬ ‫�آخر �أكرث كفاءة وقدرة على حتقيق الأهداف‪ .‬ولقد ذاع مفهوم التنمية منذ نحو قرن‪ ،‬وذلك‬ ‫يف الدول الغربية‪ .‬واقت�صر مفهومه يف هذه الدول على اجلانب االقت�صادي‪ ،‬ثم تطور و�أ�صبح‬ ‫من �أهم املفاهيم العاملية يف القرن الع�شرين‪ ،‬حيث �أطلق على عملية ت�أ�سي�س نظم اقت�صادية‬ ‫و�سيا�سية متما�سكة فيما ي�سمى بعملية التنمية(‪ ،)1‬و�إن كان يقت�صر يف الغالب على اجلانب‬ ‫االقت�صادي‪ .‬ويرتبط �إىل حد بعيد بالعمل على زيادة الإنتاج الذي ي�ؤدي بدوره‪� ،‬إىل زيادة‬ ‫اال�ستهالك‪ .‬لكن هذا املفهوم للتنمية الذي يجعل من الإنتاج مقيا�ساً لها‪ ،‬بحيث �إذا توفر منو‬ ‫وزيادة يف الإنتاج كانت هناك تنمية‪ ،‬و�إذا انتفى انتفت‪ .‬وقد �ض ّيق هذا املفهوم من جماالت‬ ‫التنمية يف املجتمعات الإن�سانية‪ ،‬ثم ح�صر طاقات الإن�سان املتنوعة التي ميكن تنميتها يف‬ ‫طاقة واحدة هي الطاقة املادية املتمثلة يف الإنتاج واال�ستهالك‪ .‬كما �أنه جعل الإنتاج مقيا�ساً‬ ‫للتنمية‪ ،‬بحيث تكون التنمية االقت�صادية متوقفة على الإنتاج‪ ،‬فح�سب‪ .‬ومن املعلوم �أن هذا‬ ‫لي�س مبقيا�س �سليم يف حد ذاته‪ ،‬بل �إن الواقع ي�شهد بخالف ذلك‪ ،‬ولو كان قد حقق جناحاً‬ ‫التوجه يف العملية التنموية كان من�سجماً مع النظرة‬ ‫باهراً يف البيئة الغربية‪ ،‬ذلك لأن هذا ّ‬ ‫الغربية للكون والإن�سان واحلياة‪.‬‬ ‫�أما الكثري من الدول التي ا�صطلح على ت�سميتها بالنامية‪ ،‬والتي ال تتبنى النظرة نف�سها‪ ،‬فقد‬ ‫انق�ضت ب�ضعة عقود دون �أن حتقق تقدماً ملحوظاً يف معظم املجاالت ال�سيا�سية واالقت�صادية‬ ‫واالجتماعية‪ .‬بل �إنها تراجعت يف كثري من هذه النواحي �إىل م�ستويات من املمار�سة والأداء‬ ‫(‪)2‬‬ ‫والفعالية �أدنى مما كانت عليه‪.‬‬ ‫ونظراً لهذا االجتزاء الذي ات�سم به مفهوم التنمية يف املراحل الأوىل‪ ،‬فقد بدا من الباحثني‬ ‫َمن يرف�ض تلك املفاهيم للتنمية التي ال تخرج عن نطاق املال وزيادته‪ ،‬وتهمل العن�صر‬ ‫الب�شري الذي هو امل�صدر احلقيقي للتنمية‪ .‬فالتغيرّ املادي مهما يكن حجمه ال جدوى منه ما‬ ‫مل ي�صاحبه �أو ي�سبقه تغيري جوهري للإن�سان من النواحي اجل�سمية والعقلية والنف�سية‪ ،‬ومن‬ ‫‪ -1‬عبد ال�سالم نوير‪ ،‬و�سيا�سات التنمية الب�شرية يف �أفريقيا‪� ،‬سل�سلة درا�سات م�صرية افريقية ي�صدرها برنامج الدرا�سات‬ ‫امل�صرية الأفريقية‪ ،‬كلية االقت�صاد‪ ،‬جامعة القاهرة‪2004 ،‬م‪� ،‬ص‪.)24(.‬‬ ‫‪ -2‬املرجع نف�سه‪� :‬ص‪ 76 - 75.‬كذلك ‪http://www.unesco.org/most/sd-arab/fiche2b.htm‬‬ ‫‪161‬‬


‫ثم �أكد العديد من الباحثني على �أن جوهر التنمية يكمن يف حت�سني نوعية حياة الإن�سان(‪.)1‬‬ ‫ومن ثم‪ ،‬تواجدت تعريفات خمتلفة حيال ذلك املفهوم‪ ،‬ي�سعى كل منها ال�ستجالء بع�ض‬ ‫جوانب غمو�ضه ّ‬ ‫ويركز بع�ضها على �أحد �أبعاده من دون البعد الآخر(‪.)2‬‬ ‫لقد ذهب البع�ض �إىل �أن التنمية هي كل عمل �إن�ساين ب ّناء يف خمتلف املجاالت(‪ ،)3‬من‬ ‫حيث �إنها عملية معقدة ت�شمل جوانب احلياة االقت�صادية وال�سيا�سية واالجتماعية والثقافية‬ ‫كافة(‪.)4‬‬ ‫وهكذا‪ ،‬ال يقت�صر دور �أبناء املجتمع الذي ي�شهد عمليات التنمية على جمرد تنفيذ الأوامر‪ ،‬بل‬ ‫يتعداها �إىل امل�شاركة الإيجابية الفعالة ب�ش�أن حتديد �أهداف التنمية‪ ،‬وامل�شاركة يف حتقيقها(‪.)5‬‬ ‫لقد �شغل مو�ضوع التنمية خمتلف امل�شارب العلمية‪ ،‬االقت�صادية‪ ،‬ال�سيا�سية واالجتماعية‪،‬‬ ‫نظراً للأهمية الق�صوى التي يكت�سبها هذا املو�ضوع لت�سليطه ال�ضوء على الإن�سان الذي هو‬ ‫عدة وخمتلفة مبختلف املحطات‬ ‫�أو ًال‪ ،‬وقبل كل �شيء‪ ،‬حمور التنمية‪ .‬لذا متّت �صياغة مفاهيم ّ‬ ‫التاريخية واالنتماءات اجلغرافية واالقت�صادية‪ ،‬وكذا الو�ضعية االجتماعية وال�سيا�سية‬ ‫ّ‬ ‫للمفكرين الذين حاولوا �صياغة هذه املفاهيم‪ .‬من هنا ارت�أينا �ضرورة التطرق �إىل بع�ض تلك‬ ‫املفاهيم منها‪:‬‬ ‫ع ّرف عبد احلليم عبد املطلب «التنمية بكونها عملية جمتمعية متعددة الأبعاد واجلوانب‬ ‫تنطوي على تغريات جذرية على م�ستوى الهياكل االقت�صادية واالجتماعية والثقافية‬ ‫والإدارية �شريطة �أن ي�سري ذلك كله ب�شكل متوازن متاماً مع زيادة النمو االقت�صادي وحتقيق‬ ‫(‪)6‬‬ ‫العدالة يف توزيع ثمار تلك التنمية‪� ،‬أي العدالة يف توزيع الدخل الوطني‪.‬‬ ‫ومن كل ما �سبق يت�ضح لنا �أن التنمية ُت َع ّد �أ�سلوباً من �أ�ساليب النهو�ض باملجتمع الإن�ساين‪.‬‬ ‫وعلى هذا‪ ،‬فهي ال تعترب غر�ضاً يف حد ذاتها‪ ،‬و�إمنا هي و�سيلة لتحقيق �أغرا�ض يبتغيها‬ ‫املجتمع(‪.)7‬‬ ‫‪1- Richard L. saklar. Developmental democracy. Comparative studies in society and history.‬‬ ‫‪Vol 29, No 4 (oct 1987) p688.‬‬

‫‪ -2‬عبد البا�سط حممد ح�سن‪ ،‬التنمية االجتماعية‪ ،‬املطبعة العاملية‪ ،‬القاهرة‪� ،1970 ،‬ص‪.91.‬‬ ‫‪ -3‬حممد جمال يرعي‪ ،‬التخطيط للتدريب يف جماالت التنمية‪ ،‬مكتبة القاهرة احلديثة‪� ،1998 ،‬ص‪.11.‬‬ ‫‪ -4‬ال�سيد حممد احل�سيني‪ ،‬و�آخرون‪ ،‬درا�سات يف التنمية االجتماعية‪ ،‬دار املعارف مب�صر‪� ،1973 ،‬ص‪�.‬ص‪.6 - 5 .‬‬ ‫‪ -5‬حممد اجلوهري‪ ،‬مقدمة يف علم اجتماع التنمية‪ ،‬دار الكتاب للتوزيع‪ ،‬القاهرة‪ ،1979 ،‬ط‪� ،2‬ص‪.165.‬‬ ‫‪ -6‬انظر عبد احلليم عبد املطلب‪ :‬التمويل املحلي والتنمية املحلية (الدار اجلامعية م�صر ‪� 2011‬ص‪.)12.‬‬ ‫‪ -7‬حممد عبد املنعم نور‪ ،‬احل�ضارة والتح�ضري‪ ،‬درا�سة �أ�سا�سية لعلم االجتماع احل�ضري‪ ،‬مكتبة القاهرة احلديثة‪� ،1970 ،‬ص‪.221.‬‬ ‫‪162‬‬


‫فكــــــر‬

‫وبهذا ُي َع ّد مفهوم التنمية من املفاهيم الإ�شكالية‪ .‬واملفهوم ي�شمل احلياة نف�سها لي�صف منط‬ ‫متقدم‪� ،‬أو �أنه يف منو‪� ،‬أو �سائر يف �سبيل التنمية‪ ،‬فت�شمل اجلوانب كافة �إىل الدرجة‬ ‫احلياة ب�أنه ّ‬ ‫التي ميكن درا�سة كل �شيء باعتباره تنمية(‪.)1‬‬ ‫ومما �سبق ي�ؤكد هنا �أنه ال يوجد تعريف للتنمية جامع مانع‪ ،‬بحيث يعطينا مفهوماً جمدداً‬ ‫حا�سماً للم�صطلح املذكور ‪ ،développement‬ولكننا جند �أن �أغلب التعريفات للتنمية �سواء‬ ‫املثالية �أو الراديكالية وغريها تدور جميعها حول العملية ت�شمل جوانب احلياة يف املجتمع‬ ‫كافة‪ .‬وهي عملية ت�ستند �أ�سا�ساً �إىل قدرات �أفراد هذا املجتمع و�إرادتهم‪ ،‬لتحقيق ما فيه‬ ‫وتقدمهم‪.‬‬ ‫م�صلحتهم ّ‬ ‫عد التنمية ثورة على القدمي‪ .‬ولتحقيق هذه الثورة يجب تغيري الأطر الفكرية للإن�سان‪.‬‬ ‫ولهذا ُت ّ‬ ‫فظهر‪ ،‬لذلك‪ ،‬مفهوم التنمية الب�شرية‪.‬‬

‫‪ - 2‬مفهوم التنمية الب�شرية‬ ‫مع دخول العقد الأخري من القرن الع�شرين‪ ،‬جاءت الإح�صاءات املتعلقة بالتنمية يف العامل‬ ‫�صادمة‪ :‬فال يزال ثالثة �أرباع �سكان العامل ممن يعي�شون يف الدول النامية ال يح�صلون �إال على‬ ‫‪ % 16‬من الدخل العاملي‪ .‬ويعي�ش واحد من كل ثالثة �أ�شخا�ص يف هذا العامل يف فقر مدقع‪.‬‬ ‫هذا بالإ�ضافة �إىل م�شكلة البطالة والعجز املتزايد يف فر�ص العمل‪ ،‬وعلى الرغم من حت�سن‬ ‫فر�ص احلياة‪ ،‬وانخفا�ض معدالت الوفيات نتيجة للتطور العلمي والطبي‪ .‬وظهر �أن ال�سيا�سات‬ ‫املادية للتنمية �أ�سفرت عن عواقب خطرية على �صحة الإن�سان‪ ،‬نتيجة �إهمال البيئة و�إف�سادها‬ ‫اللذين �صارا ّ‬ ‫ي�شكالن م�صدراً �أ�سا�سياً لتهديد �أمن الإن�سان‪� .‬إذ ال يزال �أكرث من مليار ن�سمة‬ ‫حمرومني من اخلدمات االجتماعية الأ�سا�سية كالرعاية ال�صحية الأولية‪ ،‬والتعليم الأ�سا�سي‪،‬‬ ‫ومياه ال�شرب امل�أمونة‪ ،‬والتغذية الكافية‪ .‬لقد كانت تلك ال�صورة الإن�سانية حمزنة للأمم‬ ‫املتحدة‪ ،‬رغم كل ما حققته الإن�سانية من مكا�سب‪ .‬وكانت تلك هي البيئة املواتية لظهور‬ ‫منظور جديد يحمل هدف و�شعار التنمية من �أجل الب�شر‪ :‬وهو التنمية الب�شرية ‪Human‬‬ ‫‪ development‬التي �أ�صبحت مو�ضوعاً يحتل مكان ال�صدارة يف ما يدور من نقا�ش حول‬ ‫التنمية العاملية‪ .‬وقد جرى �إدخالها كجزء من اال�سرتاتيجيات الإمنائية ملختلف بلدان العامل‪.‬‬ ‫وهي الآن لب اال�سرتاتيجية الإمنائية الدولية للأمم املتحدة(‪ .)2‬ذلك �أن الهدف الأ�سا�سي‬ ‫للتنمية هو‪:‬‬ ‫‪ -1‬مرا�سوبريو‪ ،‬فل�سفة لتنمية جديدة‪ ،‬امل�ؤ�س�سة العربية للدرا�سات والن�شر‪ ،‬اليون�سكو‪ ،‬بريوت‪� ،1983 ،‬ص‪�.‬ص‪.11-12.‬‬ ‫‪ -2‬برنامج الأمم املتحدة الإمنائي‪ ،‬تقرير التنمية الب�شرية ‪� ،1991‬ص‪.12.‬‬ ‫‪163‬‬


‫«خلق البيئة املالئمة ليتمتعوا (�أي النا�س) بحياة طويلة خالية من العلل وخ ّالقة»(‪.)1‬‬ ‫لقد �شاع �أن الدخل هو بديل للخيارات الإن�سانية الأخرى‪ ،‬لأن توافره ي�سمح مبمار�سة جميع‬ ‫اخليارات الأخرى‪ .‬بيد �أن خربات بالد كثرية قد د ّلت على �إمكانية حتقيق م�ستويات عالية‬ ‫من التنمية الب�شرية‪ ،‬رغم توا�ضع م�ستويات الدخل فيها‪.‬‬ ‫من ناحية �أخرى‪ ،‬ف�إن م�ستوى الدخل احلايل لأي بلد‪ ،‬قد ال يعطي فكرة كافية عن احتماالت‬ ‫النمو يف امل�ستقبل‪� .‬إال �أن ا�ستثمار بلد ما ثروته املادية يف تنمية ثروته الب�شرية ينبئ بال�ضرورة‪،‬‬ ‫�أن دخله �سيكون �أعلى بكثري مما ي�شري �إليه م�ستوى الدخل احلايل‪.‬‬ ‫والتنمية الب�شرية هي عملية تهدف �إىل زيادة اخليارات املتاحة �أمام النا�س‪ .‬ومن حيث املبد�أ‪،‬‬ ‫ف�إن هذه اخليارات بال حدود‪ ،‬وتتغري مبرور الوقت‪� .‬أما من حيث التطبيق‪ ،‬فقد تبينّ �أنه على‬ ‫جميع م�ستويات التنمية‪ ،‬ترتكز اخليارات الأ�سا�سية يف ثالثة‪ ،‬هي‪:‬‬ ‫�أن يحيا النا�س حياة طويلة خالية من العلل‪.‬‬ ‫و�أن يكت�سبوا املعرفة‪.‬‬ ‫و�أن يح�صلوا على املوارد الالزمة لتحقيق م�ستوى حياة كرمية‪.‬‬ ‫وما مل تكن هذه اخليارات الأ�سا�سية مكفولة‪ ،‬ف�إن الكثري من الفر�ص الأخرى �سيظل بعيد‬ ‫املنال(‪.)2‬‬ ‫و�إذا كان ّ‬ ‫منظرو التنمية الب�شرية يكادون يتفقون على �أن املفهوم �أو�سع نطاقاً و�أعمق م�ضموناً‬ ‫من الأ�ساليب املتاحة لقيا�سه‪ ،‬فال منا�ص‪ ،‬مع ذلك‪ ،‬من االعتماد على امل�ؤ�شرات واملقايي�س‬ ‫املطروحة‪ ،‬مع الت�سليم مبا قد يعتورها من ق�صور‪ .‬وميكن �أن توجز هذه الأبعاد مبا يلي‪:‬‬ ‫التنمية االقت�صادية‪ ،‬وهي يف الدرا�سة الراهنة تعني النظرة العامة لالقت�صاد والعمل والإنتاج‪،‬‬ ‫و�ضوابط املعامالت االقت�صادية والتجارية والفقر‪.‬‬ ‫التنمية االجتماعية‪ ،‬وهي ت�شري �إىل العدالة االجتماعية (العدالة يف اخلدمات ال�صحية‪،‬‬ ‫العدالة يف فر�ص التعليم‪ ،‬والعدالة يف توزيع الدخل والرثوة) الأحوال ال�شخ�صية والقرابة‪.‬‬ ‫التنمية الثقافية‪ ،‬وهي ت�شري �إىل (مكانة العلم والعلماء‪ ،‬املوقف من الثقافات الأخرى ما بني‬ ‫الت�شكيك والت�أييد واملعار�ضة‪ ،‬القيم‪ ،‬الخ)‪.‬‬ ‫التنمية ال�سيا�سية‪ ،‬وق�صدنا بها م�س�ؤوليات الدولة‪ ،‬و�شروط احلاكم‪ ،‬والدميقراطية‪ ،‬احرتام‬ ‫‪ -1‬برنامج الأمم املتحدة الإمنائي‪ ،‬تقرير التنمية الب�شرية ‪� ،1990‬ص‪.20.‬‬ ‫‪ -2‬برنامج الأمم املتحدة الإمنائي‪ ،‬تقرير التنمية الب�شرية ‪� 1990‬ص‪.21.‬‬ ‫‪164‬‬


‫فكــــــر‬

‫حقوق الإن�سان‪ ،‬االنتماء‪� ،‬إمكانيات تطبيق ال�شريعة الإ�سالمية يف املجتمع‪.‬‬ ‫لقد جتاوز مفهوم التنمية الب�شرية املعا�صر الكثري من الثنائيات التي ال تخلو من التب�سيط؛‬ ‫و�أولها‪ ،‬ثنائية االقت�صاد االجتماعي التي يتقابل فيها القطبان ك�أن �أحدهما ال يتقدم �إال على‬ ‫ح�ساب الآخر‪ ،‬وك�أن العالقة بينهما يجب �أن تكون عالقة �إخ�ضاع �أحدهما لأهداف الآخر‪،‬‬ ‫ويرتبط بها ثنائية ال�سوق والدولة‪ ،‬وهي �أي�ضاً عالقة �إق�صاء يف الفهم التقليدي‪ .‬يف حني‬ ‫يفرت�ض �أن تكون عالقة ت�ضافر وتكامل‪ ،‬لأن ال�سوق والدولة هما �أدوات وو�سائل يجب �أن‬ ‫تعمل معاً حتت �إدارة املجتمع ورقابته‪ ،‬ويف خدمة �أهدافه(‪.)1‬‬ ‫من ناحية �أخرى‪ ،‬ف�إن مفهوم التنمية الب�شرية تع ّر�ض بدوره للت�آكل خالل العقود الأخرية‪،‬‬ ‫حيث مت �إهمال بع�ض مك ّوناته (ال �سيما املك ّونات الثقافية وال�سيا�سية والبيئية)‪ ،‬يف حني‬ ‫حظي املك ّون االقت�صادي باالهتمام الأكرب‪ ،‬يليه املك ّون االجتماعي‪ .‬ومل ُ‬ ‫يخل فهم املكونات‬ ‫نف�سها من بع�ض امل�شكالت �أي�ضاً‪ ،‬حيث مت اختزال هذه املكونات يف بع�ض جوانبها التقنية‬ ‫�أو اجلزئية‪ ،‬كاختزال البعد ال�سيا�سي باحلوكمة ‪ gouvernance‬التي نظر �إليها من منظور‬ ‫�إداري وفني‪ .‬واختزال البعد االجتماعي �أي�ضاً يف امل�شكالت االجتماعية والتعامل مع الآثار‬ ‫والنتائج‪� ،‬أكرث من النظر �إليه من منظور «التنمية االجتماعية كعملية حتويلية للمجتمع»‪.‬‬ ‫�أما البعد الثقايف فقد بقي الأكرث �إهما ًال �إال من بع�ض الأفكار العامة‪.‬‬ ‫لذلك كله‪ ،‬تطور مفهوم التنمية الب�شرية لي�صل �إىل التنمية الب�شرية امل�ستدامة؟‬ ‫ثالثا ً‪ -‬مفهوم التنمية الب�رشية امل�ستدامة‬

‫تعريفه‬

‫ع ّرف الإعالن العاملي للحق يف التنمية‪ ،‬مفهوم التنمية العام ‪ 1986‬على ال�شكل التايل‪:‬‬ ‫"التنمية هي �سريورة �شاملة‪ ،‬اقت�صادية واجتماعية وثقافية و�سيا�سية‪ ،‬تهدف �إىل حتقيق‬ ‫تقدم م�ستمر يف حياة جميع ال�سكان ورفاهيتهم‪ .‬وهذه ال�سريورة تقوم على �أ�سا�س م�ساهمة‬ ‫جميع الأفراد ب�شكل ن�شيط وح ّر يف التنمية‪ ،‬وعلى �أ�سا�س التوزيع العادل لعائداتها‪ ...‬كما‬ ‫�أن الإن�سان هو املو�ضوع املحوري ل�سريورة التنمية‪� .‬إن ال�سيا�سات التنموية يجب �أن جتعل من‬ ‫الكائن الإن�ساين امل�شارك الأ�سا�سي يف عملية التنمية وامل�ستفيد الأول منها"‪.‬‬ ‫وقد تب ّنى برنامج الأمم املتحدة الإمنائي تعريفاً خمت�صراً للتنمية العام ‪( 1990‬اقتبا�ساً عن احلائز‬ ‫على جائزة نوبل لالقت�صاد �أرثلوني�س‪" :‬التنمية هي تو�سيع خيارات النا�س"‪.‬‬ ‫‪ -1‬حمبوب احلق‪� ،‬أفكار يف التنمية الب�شرية‪ ،1995 ،‬جامعة �أوك�سفورد‪.‬‬ ‫‪165‬‬


‫املف�صل الذي ورد يف تقرير "مبادرة من �أجل التغيري‪ ،‬جلون غو�ستاف �سبيث"‬ ‫�أما التعريف ّ‬ ‫العام ‪ ،1996‬فهو‪" :‬التنمية الب�شرية امل�ستدامة هي تنمية ال تكتفي بتوليد النمو وح�سب‪،‬‬ ‫جتدد البيئة بدل تدمريها‪ّ ،‬‬ ‫ومتكن النا�س بدل‬ ‫بل توزيع عائداته ب�شكل عادل �أي�ضاً‪ ،‬وهي ّ‬ ‫تهمي�شهم‪ ،‬وتو�سع خياراتهم وفر�صهم‪ ،‬وت�ؤهلهم للم�شاركة يف القرارات التي ت�ؤثر يف حياتهم"‪.‬‬ ‫�إن التنمية الب�شرية امل�ستدامة هي تنمية يف م�صلحة الفقراء‪ ،‬والطبيعة‪ ،‬وتوفري فر�ص عمل‪،‬‬ ‫ويف م�صلحة املر�أة‪� .‬إنها ت�شدد على النمو الذي يو ّلد فر�ص عمل جديدة‪ ،‬ويحافظ على‬ ‫البيئة؛ تنمية تزيد من متكني النا�س وحتقّق العدالة فيما بينهم"(‪.)1‬‬ ‫وح�سب تعريف جلنة برونتالند الذي �أ�صبح عالمة فارقة يف ال�سيا�سات البيئية والتنموية منذ‬ ‫الت�سعينيات من القرن املا�ضي‪ ،‬ف�إن التنمية هي التي ت�أخذ بعني االعتبار حاجات املجتمع‬ ‫الراهنة بدون امل�سا�س بحقوق الأجيال القادمة يف الوفاء باحتياجاتهم»‪.‬‬ ‫�إن قمة الأر�ض الثانية التي عقدت يف �أيلول ‪ 2002‬يف جوهان�سربج ُعقدت حتت �شعار «القمة‬ ‫العاملية للتنمية امل�ستدامة»‪.‬‬ ‫وبالتايل ف�إن اال�ستدامة‪ ،‬ح�سب تعريف ومنهجية جلنة برونتالند‪ ،‬تدعو �إىل عدم ا�ستمرارية‬ ‫الأمناط اال�ستهالكية احلالية‪� ،‬سواء يف ال�شمال �أو يف اجلنوب‪ ،‬واال�ستعا�ضة عنها ب�أمناط‬ ‫ا�ستهالكية و�إنتاجية م�ستدامة‪ .‬وبدون حتقيق مثل هذه التطورات‪ ،‬فال جمال لتطبيق حقيقي‬ ‫ملفاهيم التنمية امل�ستدامة ال�شاملة‪ .‬وي�ؤكد تقرير برونتالند �أي�ضاً‪ ،‬على االرتباط املتبادل‬ ‫والوثيق ما بني التنمية البيئية واالقت�صادية واالجتماعية‪ ،‬و�أنه ال ميكن �إعداد �أو تطبيق‬ ‫�أية ا�سرتاتيجية �أو �سيا�سة م�ستدامة‪ ،‬بدون دمج هذه املك ّونات معاً‪ .‬ويحتاج حتقيق التنمية‬ ‫امل�ستدامة �إىل تغيريات جوهرية يف الأنظمة االقت�صادية واالجتماعية على الأخ�ص‪ .‬ولكن‬ ‫مثل هذه التغيريات ال ميكن �أن تتم من خالل «�أمر من الأعلى»‪� ،‬أي من ال�سلطة احلاكمة‪،‬‬ ‫بل من خالل التنظيم ال�شعبي واالجتماعي الذاتي‪ ،‬والتعاون ما بني القطاعات االجتماعية‬ ‫واالقت�صادية املختلفة‪ ،‬وممار�سة الدميقراطية االقت�صادية من خالل عملية ت�شاورية ت�شاركية‬ ‫تت�ضمن قطاعات املجتمع كلها‪.‬‬ ‫�إن �أهم اخل�صائ�ص التي جاء بها مفهوم التنمية امل�ستدامة‪ ،‬هو الربط الع�ضوي التام ما بني‬ ‫االقت�صاد والبيئة واملجتمع‪ ،‬بحيث ال ميكن النظر �إىل �أي من هذه املكونات الثالثة ب�شكل‬ ‫منف�صل‪ .‬فال بد من �أن تكون النظرة التحليلية �إليها متكاملة معاً‪ ،‬باعتبارها �أبعاد التنمية‬ ‫الب�شرية امل�ستدامة‪.‬‬ ‫�إن هذه الأبعاد املت�شابكة‪ ،‬تعني �أن النظر �إىل التنمية امل�ستدامة يختلف ح�سب زاوية املقاربة‪،‬‬ ‫‪ -1‬ر�ضوان العجل‪ ،‬دور م�ؤ�س�سات الرعاية االجتماعية يف التنمية‪ ،‬دار نل�سن‪ ،‬بريوت‪� ،2015 ،‬ص‪34 - 33.‬‬ ‫‪166‬‬


‫فكــــــر‬

‫�أو منهجية وخلفية التحليل‪ .‬فاالقت�صاديون �سوف ّ‬ ‫يركزون على الأهداف االقت�صادية �أكرث‬ ‫وي�شدد االجتماعيون على مبادئ‬ ‫من غريها‪ .‬كما ي�ؤكد البيئيون على �أهمية حماية الطبيعة‪ّ .‬‬ ‫العدالة االجتماعية وحت�سني نوعية احلياة‪ .‬ولهذا تختلف تعريفات اال�ستدامة من اختالف‬ ‫املنظور‪.‬‬ ‫تعطي هذه التعريفات فكرة كافية عن املفهوم‪ ،‬وعن م�ضمون التنمية الب�شرية‪ ،‬والوجهة التي‬ ‫للتعمق باملفهوم‬ ‫حتملها‪ ،‬وعن االلتزامات الوطنية املطلوبة لبناء ا�سرتاتيجية تنمية‪ ،‬ومت ّهد ّ‬ ‫نف�سه‪ ،‬للو�صول �إىل مفهوم التنمية ال�شمويل‪.‬‬ ‫مفهوم التنمية ال�شمويل‬

‫التنمية ال�شاملة كمفهوم متكن الإ�شارة �إليه من خالل �أربعة م�ستويات مت�ضمنة فيه‪ ،‬الر�ؤية‪،‬‬ ‫املنهجية‪ ،‬اال�سرتاتيجية‪ ،‬و�أ�سلوب العمل‪.‬‬ ‫وعلى هذا الأ�سا�س ي�صح القول‪ :‬ر�ؤية تنموية‪ ،‬ومنهجية تنموية‪ ،‬وا�سرتاتيجية تنموية‪،‬‬ ‫و�أ�سلوب عمل تنموي‪.‬‬ ‫وانطالقاً من التعريف الذي حتدثنا عنه يف الإعالن العاملي "احلق يف التنمية" وغريه‪ ،‬ميكن‬ ‫الإ�شارة �إىل خم�سة جماالت �أو �أبعاد رئي�سية يجب �أن ت�شملها �أية ا�سرتاتيجية تنموية‪ ،‬وهي‪:‬‬ ‫املجاالت االقت�صادية واالجتماعية وال�سيا�سية والثقافية والبيئية‪ ،‬عند التخطيط التنموي‪،‬‬ ‫�سواء �أكان ذلك على امل�ستوى الوطني �أم املحلي‪� ،‬إذ يجب ا�ستعرا�ض هذه املجاالت‬ ‫جمتمعة‪ ،‬وت�صميم التدخل التنموي ب�شكل واقعي وعلمي‪ ،‬مت�ضمناً جماالت الرتكيز‬ ‫والأولويات‪ ،‬ولكن دون �إغفال �أي بعد من هذه الأبعاد املذكورة‪ ،‬خ�صو�صاً يف مرحلة التحليل‬ ‫والت�شخي�ص‪.‬‬ ‫ويت�ضمن مفهوم التنمية الب�شرية امل�ستدامة �أربعة مبادئ رئي�سية يجب �أن تلحظ يف كل‬ ‫ّ‬ ‫املجاالت اال�سرتاتيجية املذكورة‪ ،‬وهي‪ :‬العدالة‪ ،‬الإنتاجية‪ ،‬اال�ستدامة‪ ،‬والتمكني‪.‬‬ ‫هذه املبادئ هي مبثابة معايري لتقييم ال�سيا�سات والربامج جلهة مدى ا�ستجابتها ملتطلبات‬ ‫حتقيق التنمية‪ .‬كما �أنها ت�شري �إىل �أهداف يجب حتقيقها من ناحية ثانية‪ .‬وتكمن امل�س�ألة يف‬ ‫�أن نعطي لكل منها امل�ضمون امللمو�س على ال�صعيد الكوين‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل �إعطائها م�ضمونها‬ ‫اخلا�ص املعبرّ عن ظروف كل بلد وجمتمع‪ ،‬وعلى امل�ستوى املحلي‪.‬‬ ‫رابعا ً‪ -‬التنمية املحلية‬

‫ال بد من الت�أكيد على �أهمية ت�ضافر اجلهود املحلية الذاتية‪ ،‬واجلهود احلكومية‪ ،‬لتح�سني‬ ‫‪167‬‬


‫نوعية احلياة االقت�صادية واالجتماعية والثقافية واحل�ضارية للمجتمعات املحلية‪ ،‬و�إدماجها‬ ‫يف منظومة التنمية الوطنية ال�شاملة‪ ،‬لكي ت�شارك م�شاركة فعالة يف التقدم على امل�ستوى‬ ‫الوطني‪.‬‬ ‫انطالقاً من هذا التوجه يف عملية التنمية املحلية‪ ،‬ال بد من البحث يف املجتمع املحلي‪ .‬فما‬ ‫هو املجتمع املحلي وكيف ميكن تنميته (‪ )1‬؟‬ ‫خام�سا ً‪ :‬املجتمع املحلي‬

‫مفهوم املجتمع املحلي‬

‫ميكن التعبري عن مفهوم املجتمع املحلي ب�أنه ارتباط ب�شري قائم على الإرادة الطبيعية‪ ،‬حيث‬ ‫تقوم العالقات ال�شخ�صية فيه على القرابة وال�صداقة واجلوار‪ ،‬كما ت�ؤدي هذه العالقات‬ ‫وظيفتها من خالل الت�ضامن والعادات ال�شعبية وال�سنن والدين‪ .‬فمفهوم املجتمع املحلي‪،‬‬ ‫على هذا الأ�سا�س من الت�ضامن التقليدي والرتابط القائم على الإرادة الطبيعية بني �أفراده‪،‬‬ ‫هو ما مي ّيزه عن مفهوم املجتمع مبا ميثله من �إرادة تعاقدية ت�سود عالقات �أفراده‪.‬‬

‫مفهوم تنمية املجتمع املحلي‬

‫ت�صنف املراجع عملية تنمية املجتمع املحلي ب�أنها عملية م�ستمرة يتعامل بها �أكرب عدد من‬ ‫�أفراد املجتمع املحلي‪ ،‬بهدف �إحداث تغيري جذري لأو�ضاعه‪ ،‬ليتحول �إىل جمتمع اقت�صادي‬ ‫واجتماعي وثقايف جديد‪ ،‬يتمتع �أفراده بنوعية من احلياة �أف�ضل مما كانت عليه �سابقاً‪.‬‬ ‫وت�ستوجب عملية تنمية املجتمع املحلي تهيئة عوامل تقدمه االقت�صادي واالجتماعي‬ ‫والثقايف من خالل م�ساهمة �أفراده وجماعاته‪ ،‬وعن طريق تنمية طاقاته و�إمكانياته املادية‬ ‫والب�شرية‪ ،‬ونتيجة لذلك يكت�سب قدرة �أكرب على مواجهة م�شكالته‪.‬‬ ‫وا�ستناداً �إىل هذه املفاهيم جمتمعة‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل برنامج ال�شبكة العربية للمنظمات الأهلية‬ ‫على م�ستوى العامل العربي‪ ،‬من جهة؛ وبالتعاون والتن�سيق مع املجتمع املحلي وبرنامج‬ ‫ال�شبكة العربية للمنظمات الأهلية وم�ؤ�س�سات الرعاية االجتماعية يف لبنان‪ ،‬والعديد من‬ ‫اجلمعيات الأهلية واملحلية يف املناطق اللبنانية كافة‪ ،‬من جهة ثانية؛ حيث مت القيام بتجارب‬ ‫تنموية متعددة يف كل املناطق واملحافظات اللبنانية؛ ميكن التعبري عن مفهوم تنمية املجتمع‬ ‫املحلي ب�أنه عملية تغيري‪ ،‬ارتقائي‪ ،‬خمطط للنهو�ض ال�شامل‪ ،‬املتكامل‪ ،‬جلميع نواحي احلياة‬ ‫فيه‪ ،‬يقوم بها �أبنا�ؤه بنهج دميقراطي‪ ،‬وبتكاتف امل�ساعدات من خارجه‪.‬‬ ‫‪ -1‬راجع‪ :‬عبد احلليم عبد املطلب‪ :‬التمويل املحلي والتنمية املحلية‪ ،‬الدار اجلامعية‪ ،‬م�صر‪� ،2011 ،‬ص‪.12.‬‬ ‫‪168‬‬


‫فكــــــر‬

‫واقع املجتمع املحلي‬

‫تعاين املجتمعات املحلية‪ ،‬ب�صورة عامة‪ ،‬من تدنيّ قدراتها االقت�صادية واالجتماعية على تلبية‬ ‫احتياجاتها الأ�سا�سية‪ ،‬ومن التق�صري يف التعامل مع م�شاكل الفقر والبطالة والتهمي�ش‪.‬‬ ‫حدة امل�شاكل وتفاقم العقبات التي تطال املرتكزات الأ�سا�سية للتنمية يف املجتمعات‬ ‫�إن ّ‬ ‫املحلية‪ ،‬ت�شري �إىل ات�ساع الهوة بني هذه املجتمعات املحلية �ضمن البلد الواحد‪.‬‬

‫نظريات املجتمع املحلي‬

‫تتعدد النظريات املتعلقة باملجتمع املحلي‪ .‬من هذه النظريات ما ّ‬ ‫يركز على حتقيق التنمية‬ ‫ّ‬ ‫االقت�صادية‪ .‬ومنها ما ّ‬ ‫يركز على حتقيق التنمية االجتماعية‪ .‬ومنها ما يتناول جميع املرافق‬ ‫والقطاعات احلياتية‪ ،‬من ب�شرية واقت�صادية‪ ،‬وهي التي ُتعرف بالتنمية املتكاملة‪ .‬ويجمع‬ ‫مفهوم التنمية املتكاملة بني املفهومني ال�سابقني‪ّ ،‬‬ ‫ويركز على امل�شاركة الفعلية لأفراد املجتمع‬ ‫املحلي يف حتديد م�شكالتهم وح ّلها‪.‬‬ ‫�ساد�سا ً‪ :‬يف امليدان‬

‫�إن التنمية التكاملية هي من مهام ون�شاطات الدول واملنظمات على �أنواعها‪ ،‬حيث �إن �أحدهم‬ ‫ال ي�ستطيع �أن يحقق التنمية باملعنى الوا�سع للكلمة بدون التعاون والتن�سيق والتكامل مع‬ ‫الآخر‪� ،‬أي احلكومات واملنظمات العاملية والإقليمية والوطنية واملحلية‪ ،‬لكي ت�ساهم يف حتقيق‬ ‫مفهوم التنمية ب�شكل عام‪.‬‬ ‫ومبا �أن هذه الدول واملنظمات الدولية والإقليمية واملحلية مت ّر الواحدة منها �أحياناً ب�أزمات �أو‬ ‫حروب وكوارث طبيعية و�أزمات اقت�صادية واجتماعية وثقافية وبيئية‪ ،‬كان ال بد من التعاون‬ ‫والتن�سيق مع بع�ضها بع�ضاً للم�ساهمة يف معاجلة امل�شاكل التنموية والإمنائية يف املناطق‬ ‫املحرومة والفقرية يف العامل‪ ،‬وخا�صة بني الدول املتجاورة‪ ،‬لأنها مع ّر�ضة ب�شكل دائم للت�أثر‬ ‫والت�أثري‪.‬‬ ‫لقد ظهر ذلك جلياً الت�أثري الإيجابي للتعاون والتن�سيق بني ال�شبكة العربية واملنظمات‬ ‫الأهلية والوطنية واملحلية‪ ،‬من خالل العمل على الأر�ض يف لبنان‪ .‬وكان من �ضمن الأهداف‬ ‫الأ�سا�سية‪ ،‬تدريب العاملني واملتط ّوعني يف العمل التنموي‪ ،‬ومتكينهم من م�ساعدة �أنف�سهم‪.‬‬ ‫ومبا �أن لبنان م�ص ّنف من �ضمن البلدان النامية‪ ،‬بح�سب تقارير الأمم املتحدة ‪ undp‬العام‬ ‫‪ 1998‬التي �صدرت بالتعاون والتن�سيق مع وزارة ال�ش�ؤون االجتماعية‪ ،‬فقد �صنف هذا التقرير‬ ‫وحدد املناطق الأكرث حرماناً‪ ،‬والتي تعاين الكثري من النق�ص يف‬ ‫املناطق الريفية يف لبنان‪ّ ،‬‬ ‫اخلدمات الإمنائية والتنموية‪.‬‬ ‫‪169‬‬


‫ومبا �أن احلرمان ي�صيب املر�أة اللبنانية الريفية �أكرث من الرجل‪ ،‬وذلك لعدم توفر الفر�ص‬ ‫التعليمية والتنموية لها‪ ،‬كما هي احلال يف املدينة‪ ،‬كان لل�شراكة الإقليمية بني ال�شبكة العربية‬ ‫للمنظمات الأهلية واملنظمات الإن�سانية والوطنية واجلمعيات املحلية اجلذورية (اجلندرية)‬ ‫الدور الهام يف جمال الرتبية على املحيط وتنمية املجتمعات‪ .‬وقد ظهر ذلك من خالل‬ ‫امل�ساهمة يف عمليات التدريب ومتكني املر�أة اللبنانية الريفية يف املجتمعات املحلية‪ .‬وكان‬ ‫ذلك ح�صيلة �أطر تنظيمية تن�سيقية‪ ،‬عرب تبادل اخلربات واملعلومات‪ ،‬وتر�شيد العمل الأهلي‬ ‫ب�سبل خمتلفة‪.‬‬ ‫لقد �ساد االقتناع ب�أن حتقيق التنمية املجتمعية ال�شاملة قائم على تدريب املجتمع املحلي‬ ‫ومتكينه‪ ،‬ليكون م�شاركاً باتخاذ القرارات املنا�سبة لبيئته وحاجاتها‪ ،‬من خالل فعاليات‬ ‫املجتمع املحلي‪ ،‬بكون �أبنائه �أكرث معرفة ودراية بحاجاتهم الأ�سا�سية لتنمية جمتمعاتهم‪.‬‬ ‫وهذا ما يدفعهم �إىل العمل على تنمية القدرات الب�شرية املحيطة بهم‪ ،‬من خالل �إر�شادهم‬ ‫وتربيتهم على امل�شاركة الفعالة واملنظمة‪ ،‬بالتعاون والتن�سيق مع م�ؤ�س�سات �إقليمية ووطنية‬ ‫داعمة للجمعيات املحلية يف خمتلف النواحي االقت�صادية واالجتماعية والثقافية والبيئية‬ ‫وغريها‪.‬‬ ‫هذا كله يتطابق مع الهدف الثامن من الأهداف الإمنائية للألفية التي و�ضعتها الأمم املتحدة‪،‬‬ ‫ومنظمة الإ�سكوا‪ ،‬اللجنة االقت�صادية واالجتماعية لغربي �آ�سيا (‪ )2011‬للبلدان العربية‪.‬‬ ‫وينطلق هذا التقرير من قناعة تقول ب�أن التعاون الإقليمي هو �أحد الأولويات ال�ضرورية‬ ‫املحدد على امل�ستوى‬ ‫لتحقيق الأهداف الإمنائية للألفية‪ .‬وي�ستخدم الهدف الإمنائي الثامن ّ‬ ‫العاملي ك�إطار مم ّهد مل�سار تكامل �إقليمي من �أجل خلق بيئة �إقليمية م�ساعدة �شاملة لتحقيق‬ ‫الأهداف الإمنائية الأخرى‪ .‬وتتحمل �أقل البلدان العربية منواً امل�س�ؤولية الأوىل يف العمل على‬ ‫حتقيق الأهداف الإمنائية ال�سبعة على �أرا�ضيها‪ .‬يف املقابل‪ ،‬تقع على عاتق البلدان العربية‬ ‫الأكرث ثراء امل�س�ؤولية نف�سها‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل دورها الأ�سا�سي يف دعم جريانها الأكرث فقراً‪ ،‬من‬ ‫خالل تقدمي م�ساعدات �أكرث فعالية‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل امل�ساعدة يف التخفيف من عبء الديون‪،‬‬ ‫وت�أمني عدالة �أكرب يف الأ�سواق‪ ،‬عرب التجارة واال�ستثمار‪ ،‬وغريها من املجاالت‪ .‬وينادي‬ ‫الهدف الثامن املحدد على امل�ستوى العاملي‪� ،‬أي�ضاً‪ ،‬بالعدالة يف الطبابة والتكنولوجيا‪ .‬وميكن‬ ‫للهدف الثامن اخلا�ص باملنطقة العربية �أن يدعو �إىل تن�سيق ال�سيا�سات االجتماعية‪ ،‬والنفاذ‬ ‫(‪)1‬‬ ‫�إىل االت�صاالت من خالل التكنولوجيا والبنية التحتية‪.‬‬ ‫عم ًال بهذه املبادئ واملفاهيم التي تبنتها معظم املنظمات الدولية والإقليمية واملفكرين‬ ‫‪ -1‬تقرير عن الأهداف الإمنائية للألفية يف البلدان العربية – اال�سكوا ‪� -‬أندية الروتاري‪ ،‬الأمم املتحدة‪ :‬اللجنة‬ ‫االقت�صادية واالجتماعية لغربي �آ�سيا‪� 2011 ،‬ص‪.105.‬‬ ‫‪170‬‬


‫فكــــــر‬

‫التنمويني �أو العاملني يف احلقل التنموي‪� ،‬شاركت �شخ�صياً وعملياً يف عمل املنظمات‬ ‫الأهلية‪ ،‬بالتعاون والتن�سيق مع ال�شبكة العربية للمنظمات الأهلية‪ ،‬وم�ؤ�س�سات الرعاية‬ ‫االجتماعية يف لبنان‪ ،‬وم�ؤ�س�سات حملية يف مناطق لبنانية متعددة موزعة من �أق�صى ال�شمال‬ ‫(جمعية جديدة القيطع اخلريية والتي �أت�شرف برئا�ستها حالياً) �إىل �أق�صى اجلنوب (منظمة‬ ‫جمعية عبدو ح�سني حمد للتنمية االجتماعية (اهدى) (‪ ،))Ahda‬وغريها من اجلمعيات‬ ‫يف بريوت والبقاع وال�شمال‪.‬‬ ‫جدول رقم (‪ )1‬توزع املتدربات واملتدربني جلمعيات عدة‪:‬‬ ‫نوع الدورات‬ ‫اجلمعيات املشاركة‬ ‫مجعية جديدة‬ ‫القيطع‬

‫حمارضات‬

‫حمو األمية‬

‫التزيني النسائي‬

‫اخلياطة‬

‫املجموع‬

‫‪-‬‬

‫‪-‬‬

‫‪31‬‬

‫‪25‬‬

‫‪56‬‬

‫مجعية عبدو‬ ‫حسني محد للتنمية‬ ‫(أهدى)‬

‫‪-‬‬

‫‪20‬‬

‫‪-‬‬

‫‪50‬‬

‫‪70‬‬

‫مجعية العبدة‬ ‫اخلريية‬

‫‪70‬‬

‫‪-‬‬

‫‪-‬‬

‫‪-‬‬

‫‪70‬‬

‫مجعية الرؤية‬ ‫الصاحلة‬

‫‪50‬‬

‫‪-‬‬

‫‪-‬‬

‫‪-‬‬

‫‪50‬‬

‫املجموع‬

‫‪120‬‬

‫‪20‬‬

‫‪31‬‬

‫‪75‬‬

‫‪246‬‬

‫ومبا �أن املجال ال يت�سع لعر�ضها جميعاً‪� ،‬أو �شرح خمرجاتها التنموية‪ ،‬ف�إننا �سنقوم بعر�ض‬ ‫مناذج تطبيقية عن العمل امل�شرتك الأول للجمعيتني املذكورتني �أعاله‪ ،‬كنموذجني‬ ‫تطبيقيني ّقدما للمجتمع املحلي دورات متكني‪ ،‬وتنمية مهارات وقدرات للمر�أة الريفية‬ ‫اللبنانية‪ .‬وقد �أنتجت هذه ال�شراكة تنمية قدرات ع�شرات من املتدربات يف البلدات‬ ‫والقرى املحيطة بهذه اجلمعيات اجلذورية املحلية يف حمافظتي ال�شمال (جديدة القيطع‬ ‫ عكار) واجلنوب (�شبعا – حا�صبيا)‪ .‬علماً �أن هذه ال�شراكة قد �شملت العديد من‬‫اجلمعيات املحلية واجلذورية يف املحافظات اللبنانية كافة‪ ،‬وكذلك يف عدد من البلدان‬ ‫‪171‬‬


‫العربية‪ ،‬و�أنتجت مئات من املتدربني واملتدربات على تنمية قدراتهم‪.‬‬ ‫ويبني اجلدول �أدناه اجلدوى االقت�صادية واالجتماعية والثقافية التي �أنتجتها مثل هذه‬ ‫ال�شراكة يف املناطق املحيطة باجلمعيتني النموذجيتني املذكورتني �أعاله‪.‬‬ ‫جدول رقم (‪ )2‬توزع املتد ّربات على �أنواع الدورات يف اجلمعيتني‬ ‫مجعية جديدة القيطع اخلريية‬

‫دورة حمو‬ ‫أمية‬ ‫‪-‬‬

‫التزيني‬ ‫النسائي‬

‫مجعية عبدو حسني محد (أهدى)‬

‫‪20‬‬

‫‪-‬‬

‫‪50‬‬

‫املجموع‬

‫‪20‬‬

‫‪31‬‬

‫‪75‬‬

‫الدورات ‪ -‬اجلمعيات‬

‫‪31‬‬

‫اخلياطة‬

‫املجموع‬

‫‪25‬‬

‫‪56‬‬ ‫‪70‬‬ ‫‪126‬‬

‫�أما يف ما يتعلق ب�أبعاد مبادرة املجموعات التنموية‪ ،‬فقد جاءت على ال�شكل التايل‪:‬‬ ‫البعد الأول ملبادرة «املجموعات التنموية» هو‪ :‬ا�ستهدف تفعيل وتن�شيط الدور التنموي‬ ‫للمنظمات الأهلية من خالل تدمري عنا�صر القوة االجتماعية واالقت�صادية وال�سيا�سية (من‬ ‫املهم�شة والفقرية‪ ،‬لكي تتمكن من االعتماد على ذاتها‪.‬‬ ‫خالل الثقافة والتوعية) للفئات ّ‬ ‫البعد الآخر هو حتقيق �أف�ضل اقرتاب من الفئات امل�ستهدفة من خالل جمعيات ومنظمات‬ ‫جذورية قاعدية (كما ُيطلق عليها �أحياناً) تتواجد يف املناطق املحلية "وبني النا�س"‪ ،‬على �أن‬ ‫تقوم منظمة تنموية لها خربة وقدرات على التوا�صل‪ ،‬بلعب دور املن�سق �أو �ضابط االت�صال‬ ‫بني اجلمعيات ال�صغرية اجلادة التي مت ا�ستقطابها‪.‬‬ ‫تقوم �إحدى اجلمعيات مبهمة ت�شكيل املجموعة التنموية يف حتقيق �شبكة �صغرية (ثم‬ ‫�شبكات �أخرى متتالية) بني جمموعة من املنظمات ميكنها �أن تتعاون معاً‪ .‬وتعمل بروح‬ ‫الفريق‪ ،‬يف خمتلف املناطق التي تتواجد فيها املجموعات التنموية‪ .‬فالت�شبيك من جانب‪،‬‬ ‫حمددة من جانب �آخر‪ ،‬يكونان جزءاً مهماً يف منطلقات‬ ‫والعمل اجلماعي لتحقيق �أهداف ّ‬ ‫امل�شروع‪.‬‬ ‫توافر روح املبادرة واال�ستقاللية يف اختيار م�شروعات �ضمن املجموعات التنموية‪ .‬فاملنظمة‬ ‫ال�سائدة يف البلد الواحد (لبنان) �ضمن املجموعة تقوم بدور الي�سر وال تعر�ض ر�ؤيتها �أو‬ ‫تي�سر احلوار والنقا�ش بني �أع�ضائها للتوجه نحو اقرتاح امل�شروع‬ ‫اقرتاحاتها على املجموعة‪� ،‬إمنا ّ‬ ‫التنموي‪.‬‬ ‫بناء �شراكات حقيقية بني كل جمموعة والأجهزة املحلية واحلكومية يف املنطقة‪ ،‬حمل‬ ‫‪172‬‬


‫فكــــــر‬

‫االهتمام‪ ،‬لدعمها وتي�سري جهودها‪ ،‬ويف الوقت نف�سه‪ ،‬حتديد �إمكانات تفاعل كل جمموعة‬ ‫تنموية مع القطاع اخلا�ص (لت�سويق الإنتاج‪ ،‬وامل�ساهمة يف التدريب وتوفري فر�ص عمل‪.)...‬‬ ‫تفاعل مقرتحات وم�شروعات املجموعات التنموية يف كل منطقة مت فيها تطبيق املبادرة‪ ،‬مع‬ ‫االحتياجات املجتمعية والثقافية ال�سائدة‪.‬‬ ‫وقد التزمت املتدربات يف كلتا اجلمعيتني بالدوام واحل�ضور وامل�شاركة الفعالة‪ ،‬كما �شاركن‬ ‫يف ن�شاطات ورحالت ريا�ضية‪ ،‬مثل اليوم الريا�ضي مع اجلي�ش اللبناين‪ ،‬بغية تعزيز مبد�أ‬ ‫اال�ستقرار االجتماعي والوطني يف العالقة ما بني اجلي�ش اللبناين و�شعبه‪ .‬وقد �أعطى هذا‬ ‫الن�شاط وغريه من الن�شاطات نتائج ملمو�سة على العديد من امل�ستويات‪ ،‬وع ّزز روح الإلفة‬ ‫واملحبة بني املتدربات‪ ،‬وبث فيهن روح التعاون والعي�ش امل�شرتك‪.‬‬ ‫كما �أقامت املتدربات حلقات الدبكة على مو�سيقى اجلي�ش اللبناين التي نفذتها الفرقة‬ ‫لديهن‪ .‬كما ا�ستفدن من‬ ‫املو�سيقية للجي�ش‪ ،‬مما �أدى �إىل تنمية البعد الثقايف والإن�ساين ّ‬ ‫املحا�ضرات وخا�صة املحا�ضرة ال�صحية عن ال�صحة الإجنابية التي �ألقيت من قبل جمعية‬ ‫تنظيم الأ�سرة‪ ،‬حيث جرى حوار علمي م�س�ؤول بني املتدربات واملحا�ضرات‪.‬‬ ‫هذا‪ ،‬وقد اكت�سبت اجلمعيتان خربات فنية و�إدارية عدة‪ ،‬مث ًال‪:‬‬ ‫زادت من قدراتهما التنظيمية والإدارية من خالل االلت�صاق بق�ضايا املحيط وم�شاكله‬ ‫التنموية‪ ،‬خا�صة يف قطا َعي املر�أة وال�شباب‪.‬‬ ‫تطور مفهوم العمل التطوعي لفريق عمل اجلمعيتني من خالل ا�ستقطابهن فريق عملهن من‬ ‫الطالبات اجلامعيات خا�صة‪ ،‬ومن املتط ّوعات الراغبات يف العمل من الفئات االجتماعية‬ ‫كلها‪.‬‬ ‫وبالن�سبة للمتدربات فقد‪:‬‬ ‫ا�ستفادت ‪ 126‬متدربة من دورتي اخلياطة والتزيني الن�سائي وحمو الأمية مما زاد من قدراتهن‬‫العملية والذهنية‪ ،‬كما �أثرت على �سلوكهن النف�سي واالجتماعي‪ ،‬مما انعك�س �إيجاباً على‬ ‫أقربائهن يف املنازل‪ ،‬ويف الأحياء �ضمن القرية‪( .‬انظر امللحق رقم‪)2‬‬ ‫أهاليهن و� ّ‬ ‫� ّ‬ ‫بينهن وبني املدربات من حيث العالقات‬ ‫ خلقت الدورات جواً من التفاعل يف ما ّ‬‫االجتماعية‪.‬‬ ‫فتحت فر�ص العمل لدى عدد كبري منهن و�أ�صبحن يعملن مبهنهن اللواتي تدربن عليها‬ ‫والبع�ض منهن فتحن م�ؤ�س�سات خا�صة بهن‪.‬‬ ‫حت�سنت �أحوالهن االقت�صادية واالجتماعية والثقافية‪.‬‬ ‫‪173‬‬


‫�أ�صبح لديهن دافع من الثقة بالنف�س واالعتزاز مبا فعلن‪ ،‬وب�أهميتهن كعنا�صر فاعلة يف‬ ‫جمتمعهن وحميطهن‪.‬‬ ‫�أ�صبح لديهن الرغبة يف امل�شاركة يف الأعمال االجتماعية من خالل رغبتهن باالنت�ساب �إىل‬ ‫اجلمعية‪ ،‬وتقدمي �أنف�سهن للعمل التطوعي واخلريي والتنموي‪.‬‬ ‫�أبدين ا�ستعداداً تاماً ال�ستمرار التوا�صل مع بع�ضهن بع�ضاً‪ ،‬من خالل تبادل الزيارات‪،‬‬ ‫وامل�شاركة يف يوم اجلريان الذي �أقامه جممع عكار للتنمية للجمعيات املجاورة واملحيطة به‪.‬‬ ‫املطالبة باملزيد من الدورات والتدريبات على اللغات والأ�شغال الفنية والتكنولوجية‪.‬‬ ‫اال�ستنتاج‬

‫لقد ثبت لنا �أن التعاون والتن�سيق بني املنظمات الإقليمية والوطنية واملحلية كانت له نتائج‬ ‫�إيجابية ومفيدة على �صعيد الرتبية على املحيط والتنمية امل�ستدامة‪ .‬وتبني لنا �أن ال�شراكة‬ ‫عمل مفيد ومنتج ي�ؤدي �إىل تنمية القدرات وتبادل اخلربات‪ ،‬وي�ساهم يف حتريك املجتمع‬ ‫و�إبراز قدراته و�إمكانياته‪ .‬وقد �ساهم ذلك يف جزء ب�سيط من العملية التنموية‪ ،‬كونها تتطلب‬ ‫تكاتف جميع م�ؤ�س�سات املجتمع املدين وم�ؤ�س�سات الدولة لكي تتحقق التنمية‪ ،‬باملعنى‬ ‫ال�شامل للكلمة‪.‬‬

‫‪174‬‬


‫فكــــــر‬

‫املراجع باللغة العربية‪:‬‬

‫ عبد ال�سالم نوير‪ ،‬العوملة و�سيا�سات التنمية الب�شرية يف �أفريقيا‪� ،‬سل�سلة درا�سات م�صرية‬‫�أفريقية ي�صدرها برنامج الدرا�سات امل�صرية الأفريقية‪ ،‬كلية االقت�صاد‪ ،‬جامعة القاهرة ‪ 2004‬م‪.‬‬ ‫ ح�سن بن �إبراهيم الهنداوي‪ ،‬التعليم و�إ�شكالية التنمية‪ ،‬كتاب الأمة‪ ،‬ال�سنة الثالثة‬‫والع�شرون‪ ،‬عدد ‪( ، 98‬ذو القعدة ‪1424‬هـ)‪.‬‬ ‫انظر مثا ًال لهذه التعريفات يف‪:‬‬ ‫ �إ�سماعيل �صربي عبد اهلل‪ ،‬ندوة الأهرام عن حرب �أكتوبر وحاجتنا �إىل عقد اجتماعي‪،‬‬‫الأهرام‪ ،‬القاهرة يف ‪1988/ 10/ 6‬م‪.‬‬ ‫ عبد البا�سط حممد ح�سن‪ ،‬التنمية االجتماعية‪ ،‬املطبعة العاملية‪ ،‬القاهرة‪1972 ،‬م‪.‬‬‫ �سمري نعيم‪ ،‬الدرا�سة العلمية لل�سلوك الإجرامي‪ ،‬ومقاالت يف امل�شكالت االجتماعية‬‫واالنحراف االجتماعي‪ ،‬مكتبة �سعيد ر�أفت‪ ،‬القاهرة‪ ،‬حممد �شفيق‪ ،‬امل�ساكن والتنمية‬ ‫الق�ضايا وامل�شكالت‪ ،‬املكتب اجلامعي احلديث‪ ،‬اال�سكندرية ‪1988‬م‪.‬‬ ‫ ناهد عز الدين عبد الفتاح‪ ،‬العالقة بني التنمية االقت�صادية وحقوق الإن�سان‪ :‬درا�سة مقارنة‬‫بني م�صر وكوريا‪ ،‬ر�سالة ماج�ستري‪ ،‬كلية االقت�صاد ‪ -‬جامعة القاهرة‪.1977 ،‬‬ ‫ حممد جمال برعي‪ ،‬التخطيط للتدريب يف جماالت التنمية‪ ،‬مكتبة القاهرة احلديثة‪ ،‬ط‪.1‬‬‫ ال�سيد حممد جمال برعني التخطيط والتدريب يف جماالت التنمية‪ ،‬مكتبة القاهرة‬‫احلديثة‪ ،‬ط‪.1988 ،1‬‬ ‫ ال�سيد حممد احل�سيني و�آخرون‪ ،‬درا�سات يف التنمية االجتماعية‪ ،‬دار املعارف مب�صر‪،‬‬‫الطبعة الأوىل‪1973 ،‬م‪.‬‬ ‫ ناهد عز الدين عبد الفتاح‪ ،‬العالقة بني التنمية االقت�صادية وحقوق الإن�سان‪ :‬درا�سة مقارنة‬‫بني م�صر وكوريا‪ ،‬ر�سالة ماج�ستري‪ ،‬كلية االقت�صاد ‪ -‬جامعة القاهرة‪.1977 ،‬‬ ‫ متويل م�صطفى ال�سلماوي‪ ،‬التنمية وق�ضية الدميقراطية يف م�صر ‪1952-1972‬م ر�سالة‬‫مقدمة للح�صول على الدبلوم اخلا�صة‪ ،‬جامعة اال�سكندرية‪ ،‬كلية الآداب‪ ،‬معهد العلوم‬ ‫االجتماعية‪� ،‬شعبة التنمية االجتماعية‪.1990 ،‬‬ ‫ حممد اجلوهري‪ ،‬مقدمة يف علم اجتماع التنمية‪ ،‬دار الكتاب للتوزيع‪ ،‬القاهرة‪ ،1979 ،‬ط‪.2‬‬‫ حممد عبد املنعم نور‪ ،‬احل�ضارة والتح�ضري‪ :‬درا�سة �أ�سا�سية لعلم االجتماع احل�ضري‪ ،‬مكتبة‬‫القاهرة احلديثة‪ ،‬ط‪1970 ،1‬م‪.‬‬ ‫‪175‬‬


‫ فرا�سوبريو‪ ،‬فل�سفة لتنمية جديدة‪ ،‬امل�ؤ�س�سة العربية للدرا�سات والن�شر‪ :‬بريوت‪ ،‬اليون�سكو‪،‬‬‫‪.1983‬‬ ‫ برنامج الأمم املتحدة الإمنائي‪ ،‬تقرير التنمية الب�شرية ‪.1991‬‬‫ برنامج الأمم املتحدة الإمنائي‪ ،‬تقرير التنمية الب�شرية ‪.1990‬‬‫ برنامج الأمم املتحدة الإمنائي‪ ،‬املرجع ال�سابق‪.‬‬‫ برنامج الأمم املتحدة الإمنائي‪ ،‬تقرير التنمية الب�شرية ‪.1990‬‬‫ انظر بالتف�صيل‪ :‬جالل عبد اهلل معو�ض‪ ،‬الدميقراطية والتنمية ال�سيا�سية – كلية الآداب ‪-‬‬‫جامعة عن �شم�س‪ ،‬د‪.‬ت‪ .‬وكذلك‪:‬‬ ‫‪Francis Fukuyama & Sanjay marwah: comparing East asia and latin‬‬ ‫‪America: Dimensions of development Journal of democracy. Vol 11.‬‬ ‫‪)No 4 (2000‬‬

‫انظر يف هذا ال�صدد‪:‬‬ ‫ حممد عبد ال�سالم �أبو زيد‪ ،‬التحليل ال�سو�سيولوجي ملفهوم احلالل واحلرام‪ ،‬عند بع�ض‬‫ال�شرائح االجتماعية يف املجتمع امل�صري‪ ،‬ماج�ستري غري من�شورة‪ ،‬ق�سم االجتماع‪ ،‬الآداب‬ ‫القاهرة ‪1977‬م‪.‬‬ ‫ عاطف العقلة ع�ضييات‪ ،‬الدين والتغري االجتماعي يف املجتمع العربي درا�سة �سو�سيولوجية‪،‬‬‫مرجع �سابق‪.‬‬ ‫ م�صطفى �شاهني‪ ،‬علم االجتماعي الديني‪ ،‬دار �إحياء الرتاث‪ ،‬القاهرة‪1991 ،‬م‪.‬‬‫ حممد علي حممد‪ ،‬رواد علم االجتماع‪ :‬قراءة جديدة للفكر االجتماعي العربي الغربي‪،‬‬‫الهيئة امل�صرية العامة للكتاب‪1976 ،‬م‪.‬‬ ‫ ج‪ .‬تيمونز روبري ت�س& اميي هايت‪ ،‬من احلداثة �إىل العوملة‪ :‬ر�ؤى ووجهات نظر يف ق�ضية‬‫التطور االجتماعي‪ ،‬ترجمة‪� :‬سكر الت�شكيلي‪ ،‬الكويت‪ :‬عامل املعرفة (�سل�سلة كتب �شهرية‬ ‫ي�صدرها املجل�س الوطني للثقافة والعلوم والآداب)‪ ،‬نوفمرب ‪.2004‬‬

‫‪176‬‬


‫فكــــــر‬

:‫املراجع باللغة الأجنبية‬

- Richard L. saklar. Developmental democracy. Comparative studies in society and history. Vol 29, No 4 (Oct 1987).

- Guy Feuer et Herve Cassan; droit international du développement, paris Dalloz, 1985,

- Guy Feuer et Herve Cassan; droit international du développement, Paris, Dalloz, 1985

:‫املواقع الإلكرتونية‬

- http://www.unesco.org/most/sd-arab/fiche2b.htmm

Jeramy/townsley: marx, weber and Durkheim on Religion, in:

- http://www.jeramyt.org/papers/sociology-of religion.html Sociology at Hewette: the sociology of religion… Durkheim in:

- http:// www.hewett.norfolksch.uk/curric/soc/durkheim/durkw3.htm.

177



‫حتوالت �أدبية‬

‫من�صور عازار‪*...‬‬

‫ت�سعون عاما ً من املثالية والواقعية معا ً‬ ‫املحامي بيرت الأ�شقر ‪ -‬رئي�س اجلامعة اللبنانية الثقافية يف العامل‬

‫خيال جامح حللم كبري مل يفارقه حلظة واحدة طوال هذه ال�سنني مع ما اعرتاها من‬ ‫دمرت معنويات الأمة وفتتها عرقيا ًوثقافيا ًوطائفيا ً‪.‬‬ ‫نك�سات ّ‬ ‫ا�ستمر مثاليا ً م�ؤمنا ً بالقيم الإجتماعية والإن�سانية النابعة من عقيدته ال�ساكنة يف‬ ‫وجدانه من ريع �شبابه حتى الرمق الأخري‪.‬‬ ‫جمل�سه كان يدور حول مو�ضوع واحد �أال وهو الزعيم انطون �سعاده وعقيدته‪ ،‬ووحدة‬ ‫املجتمع والأمة‪ ،‬يف زمن �أ�صبح فيه الوالء ال يتعدى الطائفة واملذهب والع�شرية‪...‬‬ ‫ال مكان للإ�ست�سالم عنده �أمام اخليبات والنك�سات‪ ،‬وال حتت وط�أة ال�سنني الطويلة‬ ‫التي �أنهكت ج�سده‪.‬‬ ‫حلمه ومثاليته ت�شبثا بروحه‪� ...‬أ ّما اجل�سد فال حول وال قوة‪� ،‬سقوطه حتمي‪...‬‬ ‫لكن مثاليته مل تبعده عن واقعية احلياة فكان �أي�ضا ًبراغماتيا ًواقعيا ً�إىل �أق�صى احلدود‪.‬‬ ‫عدة دول افريقية ويف لبنان‪،‬‬ ‫يف �أعماله كان ناجحا ً ف�أ�س�س امرباطورية �صناعية يف ّ‬ ‫كانت �أي�ضا ً �سندا ً للعديد من رفقائه الذي �إ�ضطروا ملغادرة �أوطانهم لأ�سباب �سيا�سية‪.‬‬ ‫يف ال�صحافة �أ�س�س جملة «املنرب» التي كان لها الدور الكبري يف ن�شر فكره و�إميانه‪.‬‬ ‫يف ال�ش�أن الإغرتابي كان اهتمامه كبريا ً من خالل �أعماله وجملته وخ�صو�صا ً من‬ ‫خالل اجلامعة اللبنانية الثقافية يف العامل حيث تبو�أ مركز الأمني العام املركزي‪،‬‬ ‫ولقد بقي حتى �أيامه الأخرية متابعا ًلأعمالها وم�شجعا ًال�ستمرارية ن�شاطها ومنتقدا ً‬ ‫�أخطاءها‪.‬‬ ‫�أ ّما يف حزبه كان مثاال ً للعمل امل�س�ؤول‪ ،‬ال يتعب وال يرتاح �أمام ال�صعوبات التي واجهته‪.‬‬ ‫* �ألقيت هذه الكلمة مبنا�سبة حفل توقيع كتاب الراحل من�صور عازار «منرب حتوالت» بتاريخ ‪2015 - 12 - 8‬‬

‫معر�ض بريوت الدويل للكتاب ‪ -‬البيال‪.‬‬

‫يف‬ ‫‪179‬‬


‫يف الفكر ال�سيا�سي والأدبي والفل�سفي �أ�س�س «مكتب الدرا�سات العلمية» يف بلدته‬ ‫بيت ال�شعار‪ ،‬حيث كان وال يزال ملتقى العقائديني واملفكرين والفال�سفة‪.‬‬ ‫عقل �سوي �صهر املثالية بالواقعية‪.‬‬ ‫حي بيننا بفكرك و�إجنازاتك ولطف �شخ�صيتك ودماثة خلقك‪.‬‬ ‫�إ ّنك يا من�صور ّ‬ ‫�أختم كلمتي هذه بتكرار املقولة‪« :‬قدر الكبار � ّأن النا�س ال ت�صدق �أ ّنها متوت»‪.‬‬

‫‪180‬‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫كتاب �شعر "الفداء واالنبعاث"‬

‫*‬

‫ر�ؤيوية الطرح ووجودية التجربة‬ ‫�إلهام �صليبا ‪ -‬حما�ضرة يف كلية الآداب‪ -‬اجلامعة اللبنانية ‪ -‬وباحثة يف الأدب العربي والنقد‬ ‫أ�صعب ِ‬ ‫أحد ف�صول كتابها‬ ‫�صدرت بها "خالدة ال�سعيد" � َ‬ ‫النقد نقد النقد"‪ .‬عبار ٌة ّ‬ ‫"� ُ‬ ‫"البحث عن اجلذور"‪ .‬والعبارة ‪ -‬على �صحتها ‪ -‬فيها �شيء من التعميم �إنْ مل �أقُلْ فيها‬ ‫قواعد عام ٌة وثابتة‬ ‫تعمي ٌم قاطع‪ .‬فم�س�ألة ال�صعوب ِة وال�سهولة يف النقد م�س�ألة ن�سبية‪ ،‬ال تقررها ُ‬ ‫فح�سب‪ ،‬بل ي�شارك يف تقريرها ُ‬ ‫الذوق الفني‪ ،‬الذي مهما تقارب بني �أ�صحاب الآراء من‬ ‫يرتجح على كفّة الذوق ال�شخ�صي‪ ،‬و�إنْ‬ ‫نقاد وق ّراء‪ ،‬ومهما ُبني على �أ�س�س فنية‪ ،‬فيبقى ّ‬ ‫يكن ُ‬ ‫نف�سه معجوناً بك ٍّم من الثقافة الفنية‪ .‬من هنا يبدو يل �أن الأ�صعب‬ ‫الذوق‬ ‫ِ‬ ‫ال�شخ�صي ُ‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫ وامل�س�ألة ن�سبي ٌة كما �سبق القول ‪ -‬حماول ٌة جديد ٌة للكالم على ر�سالة �أ�شبعت نقداً وحتلي ًال‬‫ولكن ال َ‬ ‫أمل يف تطفُّل هذه ِ‬ ‫اليد معززاً ب�أن‬ ‫وبات البحث فيها جمدداً من غري طائل رمبا‪َّ ،...‬‬ ‫اخلروج منه بر�أيي قد ال ُي�ضيف �إىل الآرا ِء‬ ‫الهدف من املحاولة حم�صو ٌر يف �إطار حمدد يجدر‬ ‫ُ‬ ‫ال�سابقة جديداً‪ ،‬بقدر ما �سيبدو نظرة خا�صة �إىل ر�سالة ر َم ْت على �صدر �صاحبها لقباً علمياً‬ ‫ومنحته درجة جامعية‪.‬‬ ‫املعني هو "�شعر الفداء واالنبعاث (عند يو�سف اخلال‪ ،‬وخليل حاوي‪ ،‬وجربا ابراهيم‬ ‫والكتاب ُّ‬ ‫خ�ضور‪ ،‬وكمال خري‬ ‫جربا‪ ،‬وبدر �شاكر ال�سياب‪ ،‬و�أدوني�س‪ ،‬وف�ؤاد رفقة‪ ،‬ونذير العظمة‪ ،‬وفايز ّ‬ ‫دت غاي َتها منذ البداية‪ .‬يقول‬ ‫بك)‪ ،‬للدكتور الزميل ل�ؤي زيتوين؛ عنوان مق�صود لدرا�سة ّ‬ ‫حد َ‬ ‫ال�سبب يف اختيار مو�ضوع الدرا�سة هو �إلقا ُء‬ ‫�صاح ُبها يف مقدمة ال�صفحة الأوىل‪ )...(« :‬ولعل َ‬ ‫ال�ضوء على اخلط الفكري التموزي يف حياتنا املعا�صرة من خالل �شعر احلداثة»‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫إ�شكاليات التي‬ ‫بهذه ال�سطو ِر الوجيزة اخت�صر الباحث هدف الدرا�سة‪� ،‬أي مبعنى �آخر ال‬ ‫اعتزم الإجاب َة عنها‪ ،‬والتي تطالعنا بدءاً من �سيميائية العنوان الذي طرحت العالقة اجلدلية‬ ‫عقيدتي الفداء واالنبعاث‪ ،‬وعالق َتهما باالجتاه التموزي وامليثة التي ر�أى فيها �شعراء‬ ‫بني‬ ‫ْ‬ ‫احلداثة قالباً فنياً ي�صلح للتعبري عن مواقفهم الوجودية حيال التحوالت احل�ضارية وال�صناعية‬ ‫�إثر احلرب العاملية الثانية‪ ،‬وما رافقها من تطورات طرحت ق�ضايا وجودية ووطنية عاجلها �شعرا ُء‬ ‫* ‪� -‬ألقيت هذه الكلمة يف حفل توقيع كتاب د‪.‬ل�ؤي زيتوين (�شعر الفداء و الإنبعاث) الذي �أقيم يف قاعة غرفة‬ ‫التجارة وال�صناعة ‪ -‬زحلة ‪ -‬بتاريخ ‪. 2015 /4/17‬‬ ‫‪181‬‬


‫احلداثة تارة من خالل الرمز‪ ،‬وطوراً من خالل امليثة والأ�سطورة اليونانية التي جعلوها م�شجباً‬ ‫ع ّلقوا عليها �آراءهم حيال املوت‪ ،‬واحلياة‪ ،‬وحتمية الوجود‪ ،‬والفداء‪ ،‬والت�ضحية واالنبعاث‪،‬‬ ‫تو�سل الرمو َز الدينية امل�سيحية‪ ،‬فر�أوا يف رمز والدة ال�سيد امل�سيح بِ�شراً‬ ‫والتغيري؛ وبع�ضهم ّ‬ ‫لوالدة �أوطان ح ّرة وخلال�صها‪ ،‬ويف معموديته باملاء والزيت رمزاً لغ�سل هذا ال�شرقِ من �صدئه‬ ‫ومن نتنه؛ ويف �صلبه وجلجلته وموته وقيامته جت�سيداً للفعل اال�ست�شهادي الذي �سينه�ض‬ ‫بهذا ال�شرق و�س ُيخرجه من ظالميته‪.‬‬ ‫ومن يت�صفّح هذه الدرا�سةَ‪ ،‬يظن ‪ -‬خط�أً ‪� -‬سهولة الكالم على �شعر الفداء واالنبعاث‪،‬‬ ‫عدهم النقا ُد ‪ -‬خالل مرحلة غ ِري ق�صرية ‪ -‬روا َد‬ ‫وبخا�صة �إذا كان هذا ال�شع ُر ملجموع ِة �شعراء ّ‬ ‫ال�شعر العربي احلديث املقاوِم‪ ،‬ومن جملة �شعرا َء معا�صرين مت ّيزت حياتهم بالتقلبات‪ ،‬فمنهم‬ ‫من ق�ضى حياته قريباً من الأخوان امل�سلمني ومن ال�شيوعيني حيناً‪ ،‬وحيناً �آخر من النا�صريني‬ ‫وقت كان النقّاد والثوريون ينظرون �إىل �شعرهم ب�صفته منوذجاً لل�شعر‬ ‫والقوميني العرب؛ وجاء ٌ‬ ‫اجلديد الذي يحلمون به‪.‬‬ ‫يكن �شعرهم تعبرياً عن‬ ‫ومما يزيد الأمر �صعوبة �أن ال�شعراء الذين �شملتهم الدرا�سة مل ْ‬ ‫واجلدب‪ ،‬عن اخلراب �أو �إعاد ِة ت�شكيل احلياة‪ ،‬عن الفدا ِء �أو‬ ‫املوات واالنبعاث‪ ،‬عن اخل�صب ْ‬ ‫بقدر ما كان �شع ُرهم خلقاً للحياة ولأحالم احلرية التي ق�ضوا عمرهم‬ ‫اال�ست�شهاد‬ ‫فح�سب‪َ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫يلهجون با�سمها‪ ،‬بتوقيعات �أ�ضفت على �شعرهم نفحة حزينة‪� ،‬إن مل نَقُلْ �سوداوية‪ ،‬و�صو ًال �إىل‬ ‫حماولة ه�ؤالء ال�شعراء ّ‬ ‫يج�سد املعانا َة‬ ‫تخطي الهموم الذاتية واالجتماعية خللق ال�شعر الذي ّ‬ ‫ق�صائد لهم مبثوث ٍة يف‬ ‫الإن�ساني َة ب�أق�صى �أبعادها‪ ،‬ويحقق بالتايل العملية ال�شعرية من خالل َ‬ ‫دواوينهم‪ ،‬وا�ضح ِة العناوين عبرّ ت عن مواقفهم حيال �أحداث عاي�شوها‪ ،‬كيوم اال�ستقالل‬ ‫َ‬ ‫ومعارك غ ّزة‪ ،‬و�أزم ِة احلرية بعد اال�ستقالل ب�سنوات ‪1959‬‬ ‫الفعلي مل�صر‪ ،‬والعدوانِ الثالثي‪،‬‬ ‫املد الوطني باالنف�صال‬ ‫والتي �أدت �إىل اعتقال الكثريين وقتلهم‪ ،‬وما تال ذلك من بداية انهيار ّ‬ ‫امل�صري ال�سوري �سنة ‪� ،1961‬إىل جانب االنت�صارات التي حتققت ب�إعالن مبد�أ اال�شرتاكية‬ ‫التي ظ ّلت جمرد �شعارات‪ ،‬على ر�أ�سها العدا ُء لال�ستعمار ب�شكله التقليدي‪ ،‬و�صو ًال �إىل �سنة‬ ‫‪ 1954‬وهي املدى الزمني الذي انطلق منه الباحث لر�سم حدود درا�سته‪ ،‬والتي �س ّوغها‬ ‫على �أنها "ال�سنة التي �شهدت بد َء عدد من ال�شعراء الطليعيني بالتوافد من دم�شق �إىل‬ ‫بريوت ب�سبب ظروف قا�سية تتع ّلق باالنتماء �إىل احلزب ال�سوري القومي االجتماعي‪ ،‬وميتد‬ ‫هذا املدى يف الر�سالة لي�صل �إىل �سنة ‪ ،1982‬ال�سن ِة امل�أ�ساوية التي بلغت فيها عملية املوات‬ ‫ على حد قول الباحث ‪ -‬حدها الأق�صى باالجتياح الإ�سرائيلي لبريوت‪ ،‬الأم ُر الذي جعلنا‬‫الدفعة االنبعاثية‪ ،‬وهي ال�سنة التي فقدنا فيها خليل حاوي‪ ،‬وقد‬ ‫ن�شعر بحاجتنا �إىل هذه ُّ‬ ‫ّ‬ ‫�شكل هذا العام م�صدراً خ�صباً للإنتاج ال�شعري التموزي"‪.‬‬ ‫‪182‬‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫نعدها منوذجاً‬ ‫ِ‬ ‫بهذه‬ ‫العبارات ر�سم الباحث حدود الدرا�سة الزمنية‪ ،‬وهي درا�سة ميكن �أن َّ‬ ‫نطمئن �إليه يف �إطالق ت�سمية "�شعر الفداء واالنبعاث" على �شعر ه�ؤالء ال�شعراء‪ ،‬وذلك لمِ ا‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫"التنا�ص" التي ظهرت بو�ضوح‬ ‫مت ّيز به من حتليل مو�ضوعي للأ�شعار‪ ،‬وظف فيه الباحث تقنية‬ ‫ّ‬ ‫وتعددت فيه الأ�صوات‪� ،‬إذ ا�ستعاد‬ ‫يف حتليل خطابه ال�شعري والذي جتادلت فيه الن�صو�ص ّ‬ ‫إنتاجها داخل ن�ص جديد ٍ‬ ‫مكتمل بدالاللته‪،‬‬ ‫مكتف بذاته‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫الباحث الن�صو�ص ال�شعرية و�أعاد � َ‬ ‫م�ستثمراً‬ ‫املوروت ال�شعري والتاريخي والفكري والأيديولوجي والأزماتي‪ ،‬مدعماً بف�سيف�سا َء‬ ‫َ‬ ‫من اال�ست�شهادات والت�سريبات والتحويالت واالقتبا�سات واملرجعيات والإحاالت‪،‬‬ ‫ج�سدتها دينامي ٌة يف الكتابة ك�شفت عن "�إنتاجية" جديدة �أعادت توزي َع اللغ ِة عرب التقا ِء‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫نف�سه بنف�سه‪ ،‬من خالل ا�ستقراء جزئي ل�شعر الفداء واالنبعاث‬ ‫أنتج ُّ‬ ‫القارئ بالن�ص‪ ،‬ف� َ‬ ‫الن�ص َ‬ ‫تع�سف �أو افتعال؛ فانطلق الباحث من منهج‬ ‫�أدى �إىل ا�ستخال�ص مزايا الكل من اجلزء دومنا ّ‬ ‫التحليل الداخلي للأ�شعار‪� ،‬أعانه منهج مو�ضوعاتي ا�ستفاد من منهج بنيوي و�سيميائي �أ�ضافا‬ ‫�أبعاداً داللية ومعجمية ومو�سيقية وفكرية و�أيديولوجية ووطنية وجمالية وفنية على العمل‪،‬‬ ‫واحد جعل من الر�سالة‬ ‫فالتقت التجربة االنطباعية مع النظرة املو�ضوعية ي�سلكهما خيط ٌ‬ ‫يعتد بها ُّ‬ ‫�صاحب فك ٍر منهجي وعقل ّنيـر‪.‬‬ ‫كل‬ ‫ِ‬ ‫عم ًال متكام ًال ووثيقة �صارمة ُّ‬ ‫لتقييم �أو ٍ‬ ‫لنقد‪ ،‬فهذه لي�ست غاي ُتنا؛ لأنّ الر�سال َة غني ٌة ب�إرها�صاتها‬ ‫ُ‬ ‫واجتماعنا اليو َم ال ٍ‬ ‫و�إ�شكالياتها ونتائجها‪ ،‬بل للإجابة عن ال�س�ؤال الوجودي‪َ :‬م ْن نحن؟ وما ُ‬ ‫�شرطنا الإن�ساين؟‬ ‫ال�شعري‪.‬‬ ‫اجلواب الفكري واجلواب‬ ‫ّ‬ ‫وذلك من خالل العالقة اجلدلية بني ِ‬ ‫لقد عمل الباحث جاهداً على �إيجاد الكلمة الأوىل لهذه العالقة التي �أوجدها �شعراء‬ ‫الفداء واالنبعاث‪ ،‬بعدما تط ّوروا من مرحلة املبا�شَ رة والتقرير والهتاف‪� ،‬إىل مرحلة التجربة‬ ‫واالمتزاج العميق احلار بني التجربة ال�شخ�صية والق�ضية الوطنية القومية العامة‪� ،‬أو‬ ‫ال�صادقة‬ ‫ِ‬ ‫مرحلة اكت�شاف همزة الو�صل الفريدة بني ال�شاعر وعامله؛ لأن همز َة الو�صل هذه هي ذلك‬ ‫ال�شي ُء ُّ‬ ‫الفذ الذي ال ي�ستطيع �أن ُيعلن عن نف�سه �إال يف ال�شعر‪.‬‬ ‫ف�س�ؤالنا اليوم لي�س �أك َرث من انعكا�س ل ٍ‬ ‫أ�سف يف ال َّنف�س على �شعراء باتوا يف �أواخر حياتهم‬ ‫ذكي‬ ‫ال يفا�ضلون بني فكر وفكر‪ ،‬وفرد وفرد‪ ،‬فالأفكا ُر عندهم فقدت بريقها‪ ،‬و�صار ُ‬ ‫النا�س بني ٍّ‬ ‫وتقدمي ورجعي‪ .‬رحلوا غ َري مكرهني‪ ،‬فا�ست�سلموا للموت ا�ست�سالم‬ ‫وغبي‪ ،‬و�أخالقي و�شريرٍ‪ّ ،‬‬ ‫عا�شق ال ا�ست�سالم ُم ْر َغ ٍم‪ ،‬وك�أنهم وجدوا يف املوت حيا ًة تنقذهم من عامل النا�س يف بالدهم؛‬ ‫غياب ال�ضوء يف عيونهم؟!‪...‬‬ ‫ّ‬ ‫ولكن هل ر�أوا �شيئاً �أك َرث من ِ‬ ‫وحدقوا ور�أَوا‪ْ ،‬‬

‫‪183‬‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫غازي قهوجي ‪...‬‬ ‫�أيها الغائب الذي ما يزال ميلأ ح�ضورنا‬ ‫ح�سن مرت�ضى ‪ -‬كاتب‬

‫ملاذا ُي�ص ّر الفرح على مللمة ما تبقى من ظالل ابت�ساماته على �صفحات �أيامنا!!‬ ‫أحب من ع�شاق �صور ومن�شدي �أجمل �أ�شعارها‬ ‫وي�أبى �إال �أن يختار الأطيب والأوفى وال ّ‬ ‫و�أحلى طرائفها!!‬ ‫بالأم�س ر�أيت �صورك يا غازي تر ّد لك التحية‪....‬‬ ‫يبق واحد من حمبيك �إال و�سارع �إىل مل�س نع�شك مو ّدعاً وترطيب �شفتيه‪ ،‬مبا متكن من‬ ‫فلم َ‬ ‫الو�صول �إىل �أطرافه بدمعة وفاء‪.‬‬ ‫أحب من عرفت‪.‬‬ ‫ف�إىل لقا ٍء قريب يا � ّ‬ ‫‪184‬‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫املنا�ضل ح�سني طعان‪ ..‬يف ذمة احلياة‬ ‫ح�سن مرت�ضى ‪ -‬كاتب‬

‫الأخ احلبيب والرفيق املنا�ضل ح�سني طعان‪..‬‬ ‫هل هي من امل�صادفات �أن تفارقنا يا �أبا غالب ونحن على �أبواب املح َّرم وعتبات �شهيد العا�شر‬ ‫من �أيامها‪.‬‬ ‫�أومل تكن طليعة من �سلكوا تلك الطريق طوال �أيام حياتك بذ ًال وكفاحاً وعطا ًء بعد �أن‬ ‫تو�أمتها بجراح متوز و�شهيدها املعلم اخلالد؟‬ ‫نفتقدك �أيها الرفيق والأخ احلبيب والوطن يف �أم�س احلاجة �إىل �أمثالك من املنا�ضلني الذين‬ ‫مل تن�سهم مكا�سبهم ال�شخ�صية الوافرة وجناحاتهم املميزة عن االهتمام ب�ش�ؤون وطنهم‬ ‫والعمل اجلاد امل�ستمر للخروج ب�أمتهم من ليل معاناتها اىل فجر نه�ضتها؟‬ ‫فكيف ال تبقى �صورتك اجلميلة تز ّين �أبهى �صفحاتنا؟‬ ‫تغمدك اهلل بوا�سع رحمته و�أ�سكنك الف�سيح من جناتها‪....‬‬ ‫ّ‬ ‫أحب جار و�أوفى رفيق!‬ ‫و�إىل لقاء قريب يا � ّ‬

‫‪185‬‬


‫لبنان ‪ -‬بريوت ‪� -‬شارع احلمرا ‪ -‬بناية ر�سامني ‪ -‬ط‬

‫‪4‬‬

‫�ص‪.‬ب‪ 113 - 7179 :‬بريوت ‪ -‬لبنان‬

‫‪tel: 00961 -1 - 751 541‬‬ ‫‪E-mail: info@darabaad.com‬‬ ‫‪website: www.darabaad.com‬‬

‫ا�سم الكتاب‬

‫تهجري املوارنة اىل اجلزائر‬ ‫عروبة يو�سف بك كرم‬ ‫عوملتان الفو�ضى واملقاومة‬ ‫الفل�سطينيون يف لبنان‬ ‫االن�سان اوال‬ ‫الهوية وال�صراع‬ ‫رحيل يف ج�سد‬ ‫الف�ساد امل�ؤدلج‬ ‫ال�صناعة يف طرابل�س‬ ‫التحية االخرية‬ ‫لبنان يف ذاكرة العراق القدمي‬ ‫علم االجتماع ال�سيا�سي‬ ‫�أحالم املاء‬ ‫ناق�صات عقل و دين‬ ‫التطبيع ي�سري يف دمك‬ ‫اوف الين‬ ‫حي التنك‬ ‫بابل والتوراة‬ ‫ال�سيا�سة تطور املعنى وتنوع املقرتبات‬ ‫حب بطعم القهوة‬ ‫امل�سرح العاري‬ ‫التنمية يف الهالل اخل�صيب‬ ‫ال�سقف‬ ‫‪ 90‬يوما يف ال�سعودية‬ ‫جهاد النكاح‬ ‫مناي‬ ‫يف مواجهة الطائفية‬ ‫لأين مل �أكن‬ ‫مار مارون واملوارنة‬ ‫�شعر الفداء واالنبعاث‬ ‫حرب التحرير القومية‬

‫خيمة غزة‬

‫ال�سرية‬ ‫احلرب على �آ�سيا‬ ‫العوملة وال�سيادة‬ ‫الفي�سبوك وت�شكيل العالقات االجتماعية‬ ‫كتب �صدرت حديثاً‪:‬‬

‫ا�سم الكاتب‬

‫�سركي�س �أبو زيد‬ ‫�سركي�س �أبو زيد‬ ‫�سركي�س �أبو زيد‬ ‫�شوكت �أ�شتي وغازي خلف‬ ‫�سركي�س �أبو زيد‬ ‫زهري فيا�ض‬ ‫زاهر العري�ضي‬ ‫د‪ .‬قي�س جرج�س‬ ‫منري خملوف‬ ‫من�صور عازار‬ ‫الأب �سهيل قا�شا‬ ‫�شوكت �أ�شتي‬ ‫�سوريا بدور الطويلة‬ ‫يحيى جابر‬ ‫د‪ .‬عادل �سمارة‬ ‫زاهر العري�ضي‬ ‫اكرام الداعوق‬ ‫الأب �سهيل قا�شا‬ ‫�شوكت �أ�شتي‬ ‫جومانة معالوي‬ ‫عبيدة االبراهيم‬ ‫زهري فيا�ض‬ ‫ريا�ض بيد�س‬ ‫�أ�سماء وهبة‬ ‫د‪.‬عادل �سمارة‬ ‫فايز غازي‬ ‫�سركي�س �أبو زيد‬ ‫ن�سرين كمال‬ ‫�سركي�س �أبو زيد‬ ‫زيتوين‬ ‫ل�ؤي ف�ؤاد‬ ‫ّ‬ ‫انعام رعد‬

‫ن�ضال حمد‬

‫من�صور عازار‬ ‫علوان �أمني الدين‬ ‫علوان �أمني الدين‬ ‫وفاء كاظم حطيط‬

‫ وال ينتهي اللعب ‪� -‬إكرام الداعوق‬‫ ما مل يكتب عن داع�ش ‪� -‬أحمد �صالح عثمان ‪ -‬خليل القا�ضي‬‫ منرب حتوالت – من�صور عازار‬‫ قامات �أنثوية ‪ -‬لوي�س احلايك‬‫ الأ�شجار العلفية واال�سرتاتيجية يف بالدنا ‪ -‬ف�ؤاد �سروجي و�أحمد �سرحان‬‫‪- The Oak Tree A word of wisdom from the plant kingdom - Fuad Srouj‬‬

‫الت�صنيف‬

‫تاريخ‬ ‫بيبلوغرافيا‬ ‫فكر �سيا�سي‬ ‫فكر �سيا�سي‬ ‫فكر �سيا�سي‬ ‫فكر �سيا�سي‬ ‫�أدب‬ ‫فكر �سيا�سي‬ ‫اقت�صاد‬ ‫مذكرات‬ ‫تاريخ‬ ‫علم اجتماع‬ ‫�أدب‬ ‫فكر �سيا�سي‬ ‫فكر �سيا�سي‬ ‫�شعر‬ ‫�أدب‬ ‫دين‬ ‫فكر �سيا�سي‬ ‫�أدب‬ ‫�شعر‬ ‫اقت�صاد‬ ‫�أدب‬ ‫مذكرات‬ ‫فكر �سيا�سي‬ ‫�شعر‬ ‫فكر‬ ‫�شعر‬ ‫تاريخ‬ ‫�أدب‬ ‫فكر �سيا�سي‬ ‫رواية‬ ‫مذكرات‬ ‫فكر �سيا�سي‬ ‫فكر �سيا�سي‬ ‫اجتماع‬

‫كتب حتت الطبع‬ ‫ يو�سف بك كرم يف ال�سرية ال�شعبية ‪� -‬سركي�س �أبو زيد‬‫ درو�س يف العقيدة ‪� -‬إنعام رعد‬‫ مواد للبناء ‪ -‬فهد البا�شا‪.‬‬‫‪ -‬التوراة تثبت ان فل�سطني ار�ض عربية ‪ -‬دعاء ال�شريف‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫جورج الزعني ‪� ...‬رشف ‪ ،‬ت�ضحية ‪ ،‬وفاء‬ ‫حممد ع‪.‬دروي�ش ‪ -‬كاتب‬

‫جورج الزعني الفار�س املحارب ترجل عن �صهوة االبداع‪.‬‬ ‫جورج الزعني �سنينك الطويلة ‪ ..‬قهوتك ‪ ..‬عطائاتك ‪ ..‬وذلك الهاج�س امل�ستمر‬ ‫وامللتزم بكل ق�ضايا الأمة والإن�سانية ‪..‬ال يعو�ض‪.‬‬ ‫جورج الزعني �ستبقى ال�ساحات ت�شتكي فقدانك‪.‬‬ ‫جورج الزعني عزائنا الوحيد ان املبدع ال ميوت‪.‬‬ ‫جورج الزعني‪ ،‬د�أب خالل �أكرث من �أربعة عقود متتالية على �إبراز القيم اجلمالية‬ ‫وحممياته‪ ،‬برتاثه‬ ‫والإن�سانية التي يحملها لبنان‪ ،‬بطبيعته ورجاالته وموارده‪ ،‬ببيئته‬ ‫َّ‬ ‫وثقافته‪ ...‬منتهجاً طريق الفن بعيداً عن كل اعتبار �سيا�سي‪ ،‬وطريق العلم واملعرفة‬ ‫والبحث الدائم وامل�ستمر‪ .‬ف�أقام املعر�ض تلو املعر�ض واملهرجان تلو الآخر‪ ...‬بجهده‬ ‫وعطاءاته‪ ،‬مبثابرة دون ي�أ�س �أو انقطاع‪ ،‬مهما اختلفت ظروف البلد‪ ،‬وعلى نفقته اخلا�صة‬ ‫دون �أي لقاء‪.‬‬ ‫يف عام ‪ 1978‬ا�س�س جمعية املكحول للفنون واحلرف‪ ،‬واقام مهرجان املكحول الأول‪.‬‬ ‫ويف ذلك ال�شارع ال�ضيق كان جورج الزعني يتنقل بني امل�شاركني بحيوية الفتة‪.‬ويف‬ ‫عامي‪ 1979‬و‪ 1980‬بات مهرجان املكحول اال�سم الثاين جلورج الزعني‪.‬‬ ‫جورج الزعني كان يغرف من ثروة موروثة ويغدقها على معار�ض الفن‪ ،‬وعلى ت�شجيع‬ ‫الفنانني ال�شبان الذين �أخذ «حمرتفه» ب�أيديهم �شوطاً من الزمن‪.‬‬ ‫جورج الزع ّني ّقدم جتربة فريدة بد�أها يف «مطعمه» «�سماغلرز �إن»عام ‪ ،1976‬وقت ذاك‬ ‫فقرر �أن ُيظهر ال�صورة امل�شرقة من لبنان عرب املعار�ض‬ ‫كان الوطن يحرتق‪� ،‬آمله ما يحدث‪ّ ،‬‬ ‫الفنية والثقافية يف منطقة متن ّوعة الثقافة واملذاهب‪� ،‬أال وهي ر�أ�س بريوت‪ .‬كان مهرجان‬ ‫ي�ضج بال�سيا�سيني والفنانني واملث ّقفني‪،‬‬ ‫املكحول مهرجاناً بكل ما للكلمة من معنى‪ّ ،‬‬ ‫جميعهم يرف�ضون احلرب‪� .‬إال �أن من مل يرد لثقافة الفرح واحلياة �أن ت�ستمر‪ ،‬قام بتفجري‬ ‫املكان وكان جورج من بني اجلرحى‪ .‬و�إذ بجورج الزعني يذهب �إىل لندن‪ ،‬و�أ�س�س هناك‬ ‫‪187‬‬


‫«الرابطة الثقافية» اللبنانية‪ ،‬مطل ًقا �سل�سلة م�شاريع واحتفاالت ومعار�ض لبنانية وعربية‪،‬‬ ‫منظ ًما الأم�سيات ال�شعرية‪ ،‬والندوات واللقاءات‪ ،‬كجزء من ح�ضور عربي ح�ضاري يف‬ ‫العا�صمة الربيطانية‪ .‬ولعلّ �أقرب الأعمال �إىل قلبه‪ ،‬ما فعله �أيام الغربة‪ ،‬حني زرع عام‬ ‫و�سمى املوقع «جبل لبنان»‪ .‬واما الإجناز‬ ‫‪� 1993‬أرزة يف حديقة باتر�سي بارك يف لندن‪ّ ،‬‬ ‫الأبرز له وامل�ستمر‪ ،‬هو ت�أ�سي�سه مهرجان بيت الدين العاملي يف العام ‪ٍ ،1985‬‬ ‫كرد عنيد‬ ‫على توقف مهرجانات بعلبك حينها‪.‬‬ ‫وحني �أطلق الفنان جورج الزعني معر�ضه الذي �أعده خ�صي�صا لتحية �شهداء اجلي�ش‬ ‫اللبناين حتت عنوان «بدمائهم ير�سمون م�ساحة الوطن»‪ ،‬وحينها لفت الفنان الزعني‬ ‫�إىل �أن «�أ�سمى الكتابات بعد الكتب ال�سماوية هو �شعار اجلي�ش‪ ،‬جي�ش لبنان‪ ،‬فال�شرف‬ ‫والت�ضحية والوفاء‪ ،‬مو�ضحاً «ان �شباب جي�ش لبنان هم �ضحية االرهاب‪ ،‬واالرهاب‬ ‫لي�سن من مفرداتنا‪ ،‬انه يناق�ض كل تعاليم االديان ال�سماوية التي دعت وتدعو اىل‬ ‫الت�سامح واملحبة»‪ .‬وا�شار اىل ان «املطلوب اليوم يقظة وطنية �شاملة يكون لبنان وحده‬ ‫هو املنت�صر‪ ،‬واليقظة تتطلب علما‪ ،‬والعلم ا�سا�س الرثوة و�أ�سا�س القوة»‪.‬‬ ‫وحني افتتح الفنان اللبناين جورج الزعني معر�ضه يف �صالة دار الأوبرا بعنوان «�سماء‬ ‫عربية وجنمتان» حتية اىل ادوارد �سعيد وحممود دروي�ش‪� .‬ضم املعر�ض �أكرث من خم�سني‬ ‫عمال نحتيا من خ�شب الزيتون ولوحات ت�ضم ت�شكيالت حروفية باللغة العربية و�صورا‬ ‫للمحتفى بهما حممود دروي�ش و�إداورد �سعيد‪.‬‬ ‫وخالل افتتاح جورج الزعني معر�ضه هذا قال �أن املعر�ض ير�سل من دم�شق ومن خالل‬ ‫حمرتفه ثقافة احلياة واالمل اىل العامل من �سنابل القمح وقليل من اخلبز وامللح والرموز‬ ‫التي ا�ستح�ضرها النها جتمع بني �شعبي لبنان و�سورية ال�شقيقني �إ�ضافة �إىل فل�سطني التي‬ ‫ت�شكل �أي�ضا جزءا غاليا من بالد ال�شام اما فناجني القهوة فكانت رمزا دائما لالخوة بني‬ ‫ابناء ال�شعب العربي عامة‪.‬‬ ‫و�أ�ضاف الزعني حينها ان معر�ضه عبارة عن فكرة ورموز �ضمن م�ساحة كبرية تخاطب‬ ‫كل ال�شعوب وت�صل اىل قلوب املثقفني والب�سطاء وان الرمزين الكبريين اللذين‬ ‫اختارهما ملعر�ضه هما املفكر العربي ادوارد �سعيد الذي حمل �سالح القلم ملواجهة‬ ‫االحتالل ومن يقفون وراءه وال�شاعر الفل�سطيني حممود دروي�ش وكلمته التي �شدت‬ ‫ازر املقاومة الفل�سطينية وتعدتها اىل املقاومة العربية‪.‬‬ ‫واذكر هنا ان الزعني يقوم بتنظيم معار�ض ملوا�ضيع معينة يريد من خاللها �إي�صال ر�أيه‬ ‫للنا�س مثل معر�ض عن العائلة اللبنانية يف بداية القرن ومعار�ض عن املقاومة اللبنانية‬ ‫وال�شعر الفل�سطيني ولديه كتاب بعنوان العملة اللبنانية قبل اال�ستقالل‪.‬‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫و�أقام اي�ضاً الفنان الزعني يف دم�شق عام ‪ 2001‬معر�ضا بعنوان التحرير‪ ..‬ن�صر لبناين‬ ‫لكل العرب ولقي املعر�ض اهتماما وا�سعا‪.‬‬ ‫وبح ّلة ف ّنية ا�صدر جورج الزع ّني �إىل النور كتاب «متاثيل لبنان‪�/‬أ�سماء لوطن» عن‬ ‫مكر�ساً للم�شاهري واملجاهدين وال�شهداء‬ ‫من�شورات اجلامعة اللبنانية وبحجم مو�سوعي‪ّ ،‬‬ ‫الذين خ ّلد اللبنانيون ذكراهم بن�صب ومتاثيل يف ال�ساحات والأماكن العامة‪ ،‬على ّمر‬ ‫الأعوام‪.‬‬ ‫توف‬ ‫وداعا جورج زعني‪ ،‬ليت لقاءاتنا �سوية تعود مرة اخرى‪� ،‬س�أ�شتاق اليك دوما‪ ،‬مل َ‬ ‫حقك بالدنيا‪ ،‬ولكنك الآن يف ذمة احلق حيث ت�ستوفى الأجور‪ ،‬رحمك اهلل وطيب‬ ‫ثراك‪.‬‬

‫‪189‬‬


‫جورج الزعني‬ ‫‪190‬‬


‫دار نل�سن‬

‫هاتف ‪01/739196:‬‬ ‫الربيد الإلكرتوين ‪darnelson@hotmail.com:‬‬


‫دار نل�سن‬

‫هاتف ‪01/739196:‬‬ ‫الربيد الإلكرتوين ‪darnelson@hotmail.com:‬‬


4

‫ ط‬- ‫ بناية ر�سامني‬- ‫ �شارع احلمرا‬- ‫ بريوت‬- ‫لبنان‬

tel: 00961 -1 - 751 541 E-mail: info@darabaad.com website: www.darabaad.com


‫لبنان ‪ -‬بريوت ‪� -‬شارع احلمرا ‪ -‬بناية ر�سامني ‪ -‬ط‬

‫‪4‬‬

‫‪tel: 00961 -1 - 751 541‬‬ ‫‪E-mail: info@darabaad.com‬‬ ‫‪website: www.darabaad.com‬‬

‫لبنان ‪ 5000‬لرية | الأردن‪ 2 :‬دينار | �سوريا‪ 100 :‬لرية | م�صر‪ 10 :‬جنيه | تون�س ‪ 1.5 :‬دينار | املغرب‪ 20 :‬درهم | م�سقط‪ 1 :‬ريال‬ ‫ال�سعودية‪ 10 :‬ريال | البحرين‪ 1.5 :‬دينار | الكويت‪ 1.5 :‬دينار | قطر‪ 10 :‬ريال | الإمارات‪ 10 :‬درهم‬


‫العدد‬ ‫كانون الثاين‬ ‫‪2016‬‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.