تحولات مشرقية for web

Page 1

‫العدد رقم ‪ - 7‬حزيران ‪2015‬‬

‫فـ�صـل ـيـة فـكريـة ثـقافيـة تـعنى ب�ش ـ�ؤون امل�شــرق‬

‫داوود خرياهلل‬ ‫امل�صلحة العربية والركائز الدينية‬ ‫�أو املدنية للحكم‬

‫عاطف عط ّيه‬ ‫العرب بني �سيا�سة امل�صلحة وم�صلحة ال�سيا�سية‬

‫غ�سان �أحمد التويني‬ ‫ّ‬ ‫الفل�سطيني امل�شرتك بني الق�صيدة‬ ‫اله ّم‬ ‫ّ‬ ‫الإيرانية والعربية‬

‫حممود ر�ؤوف ال�سعدي‬ ‫مراجعة نقدية لكتاب "الف�ضائيات الإخبارية‬ ‫العربية بني عوملتني"‬

‫حممود حيدر | حافظ الزين | جنيب ن�صري | عبداحل�سني �شعبان | جهاد �سعد | �أحمد عبيد املن�صوري‬


‫العدد رقم ‪ - 7‬حزيران ‪2015‬‬

‫فـ�صـل ـيـة فـكريـة ثـقافيـة تـعنى ب�ش ـ�ؤون امل�شــرق‬

‫املحتويات‬

‫ر�أي‬ ‫الربزاين بني نهج الأعراب ونهج يو�سف‬ ‫العظمة‬ ‫ح�سن حماده‬

‫العراق ‪�...‬صراع للوجود‬ ‫حافظ الزين‬ ‫املفكر العراقي عبداحل�سني �شعبان‬ ‫"�سوراقيا م�شروع خال�ص م�شرقي"‬ ‫هاين احللبي‬

‫‪3‬‬

‫�صراع هوية ووجود‬ ‫امل�صلحة العربية والركائز الدينية‬ ‫�أو املدنية للحكم‬ ‫داوود خرياهلل‬ ‫العرب بني �سيا�سة امل�صلحة‬ ‫وم�صلحة ال�سيا�سية‬ ‫عاطف عط ّيه‬ ‫م�ستقبل ال�سيا�سة العربية يف زمن التغ ّول‬ ‫امليكافيلية ال�سعودية‪" :‬من الأف�ضل �أن ُتهاب‬ ‫على �أن حتب"‬ ‫�أحمد عبيد املن�صوري‬ ‫املواطنة املهدورة‬ ‫حممود حيدر‬ ‫�صراع الأمن واحلريات يف الدولة املعا�صرة‬ ‫جهاد �سعد‬

‫‪5‬‬

‫‪103‬‬

‫حتوالت �أدبية‬ ‫"ق�صيدة نوم الأ ّيام ّ‬ ‫لل�شاعر نعيم تلحوق‬ ‫ولعبة االزدواجية املثمرة" (درا�سة حتليلية ت�أويلية)‬ ‫نادين طربيه ّ‬ ‫احل�شا�ش‬ ‫الفل�سطيني امل�شرتك بني الق�صيدة‬ ‫اله ّم‬ ‫ّ‬ ‫الإيرانية والعربية‬ ‫غ�سان �أحمد التويني‬ ‫ّ‬ ‫منح ال�صلح وزاد الطريق‬ ‫�سليمان بختي‬ ‫وفيق غريزي‪� :‬شاعر الأغوار والقمم‬ ‫جان نعوم طنو�س‬

‫‪15‬‬

‫‪23‬‬

‫‪31‬‬ ‫‪59‬‬

‫‪119‬‬

‫‪129‬‬

‫‪141‬‬ ‫‪143‬‬

‫�إعالم‬

‫فكر‬ ‫التحوالت اجليوا�سرتاتيجية واالقت�صادية‬ ‫العاملية وانعكا�ساتها على امل�شرق‬ ‫ريا�ض عيد‬ ‫الإ�صالح الديني �صراع النه�ضة والتنوير‬ ‫جنيب ن�صري‬

‫‪95‬‬

‫مراجعة نقدية لكتاب "الف�ضائيات الإخبارية‬ ‫العربية بني عوملتني"‬ ‫حممود ر�ؤوف ال�سعدي‬ ‫حمنتي مع ال�صحافة و�أ�شباهها‬ ‫�أحمد من�صور‬

‫‪69‬‬

‫‪87‬‬

‫‪147‬‬

‫‪155‬‬

‫ت�صويب‬

‫الدكتور ل�ؤي زيتوين التي حملت عنوان "التحوالت‬ ‫ورد يف العدد ال�سابق من "حت ّوالت م�شرق ّية" يف ال�صفحة ‪� 34‬ضمن درا�سة ّ‬ ‫الأدبية خالل �أربعني عاماً" خط�أ عبارة "حكاية مرمي" وال�صواب هو "حكاية زهرة" فاقت�ضى ال ّت�صويب‪.‬‬


‫ر�أي‬

‫حتوالت م�رشقية‬

‫الربزاين بني نهج الأعراب ونهج يو�سف العظمة‬

‫ف�صلية‪ ،‬فكرية‪ ،‬ثقافية‪ ،‬تعنى ب�ش�ؤون امل�شرق واملنطقة‬ ‫هيئة التحرير‬

‫فاتن املر‬ ‫عاطف عطية‬ ‫ح�سن حماده‬ ‫ن�صري ال�صايغ‬

‫ح�سن حمادة‬ ‫�سعاده م�صطفى �أر�شيد‬ ‫�سليمان بختي‬ ‫�سركي�س �أبو زيد‬

‫املدير امل�س�ؤول‪� :‬سركي�س �أبو زيد‬ ‫الربيد الإلكرتوين‪abouzeid@gmail.com :‬‬ ‫هاتف‪)00961-1( 751541 :‬‬ ‫�صندوق بريد‪ 113-7179 :‬بريوت ‪ -‬لبنان‪.‬‬ ‫الإخراج الفني‪zaid mahdi :‬‬

‫ت�صدر بالتعاون مع م�ؤ�س�سة �سعاده للثقافة‬

‫بناية ر�سامني‪� ،‬شارع احلمرا‪ ،‬ر�أ�س بريوت‪،‬‬ ‫�صندوق بريد‪ 113-5557 :‬بريوت ‪ -‬لبنان‪.‬‬ ‫هاتف‪)00961-1( 753363 :‬‬ ‫فاك�س‪)00961-1( 753364 :‬‬ ‫الربيد الإلكرتوين‪saadehcf@idm.net.lb :‬‬ ‫املوقع الإلكرتوين‪www.saadehcf.org :‬‬ ‫ت�صدر مبوجب قرار رقم ‪ 82‬تاريخ‬ ‫�صادر عن وزارة االعالم يف لبنان‬

‫‪1981/7/6‬‬

‫ت�صدر يف طبعتني من فل�سطني ولبنان‬ ‫مدير عام طبعة فل�سطني‪� :‬سعاده م�صطفى �أر�شيد‬ ‫هاتف‪0599305248 :‬‬ ‫�صندوق بريد‪ 41 :‬جنني ‪ -‬فل�سطني‬

‫اال�شرتاك ال�سنوي ‪ -‬لبنان‬

‫للأفراد‪ 50 :‬دوالراً �أمريكياً‬ ‫للم�ؤ�س�سات‪ 100 :‬دوالر �أمريكي‬

‫توزيع‪ :‬النا�رشون‬

‫اال�شرتاك ال�سنوي ‪ -‬خارج لبنان‬

‫بريوت ‪ -‬امل�شرفية‪� ،‬سنرت ف�ضل اهلل ‪ -‬طابق‬ ‫هاتف وفاك�س‪)00961-1( 277007 - 277088 :‬‬ ‫خلوي‪)00961-3( 975033 :‬‬

‫‪4‬‬

‫للأفراد‪ 100 :‬دوالر �أمريكي‬ ‫للم�ؤ�س�سات‪ 200 :‬دوالر �أمريكي‬

‫املواد املن�شورة تعرب عن ر�أي كاتبها‬

‫حني كنت �أ�شاهد الأ�ستاذ م�سعود الربزاين‪ ،‬رئي�س �إقليم كرد�ستان العراقي‪ ،‬وهو يتحدث من‬ ‫وا�شنطن عن حتمية قيام دولة "كرد�ستان امل�ستقلة" ح�ضرت يف ذهني املقارنة الفور ّية بني هذا‬ ‫جتربتي في�صل الأ ّول وجتربة البطل‬ ‫اخلطاب املطابق للم�شروع الإ�ستعماري ال�صهيوين وبني‬ ‫ّ‬ ‫القومي ال�سوري ال�شهيد يو�سف العظمة‪ .‬تعززت قناعتي ب�أن الأ�ستاذ الربزاين مل ي�ستفد �شيئاً‬ ‫من درو�س التاريخ احلديث‪...‬احلديث جداً‪� ،‬أي التاريخ الراهن‪ .‬التاريخ الآن‪ ،‬الذي نعي�شه‪.‬‬ ‫مرة جديدة‪ ،‬ينخدع من َد ّرج الإ�ستعمار الغربي على ت�سميتهم بـ"زعماء الأقليات يف ال�شرق"‬ ‫بطروحات الغزاة املتوح�شني‪ ،‬فيتعطل عقلهم وي�ست�سلمون لغرائزهم فينقادون ب�شكل �أعمى‬ ‫خلف م�شاريع الغزاة املتوح�شني ظناً منهم �أنهم ي�ستفيدون من اللحظة التاريخية للعبة الأمم‬ ‫ليحققوا انف�صال "�أقلياتهم" عن �أوطانهم الأم فينكبون �أوطانهم ويقودون �أتباعهم �إىل امل�سلخ‬ ‫الذي ُيعده لهم الغزاة الوحو�ش‪ .‬هكذا يتخيل له�ؤالء "الزعماء" �أن يف و�سعهم الدخول يف‬ ‫لعبة الأمم اجلهنمية وحتقيق االنت�صارات من خاللها واخلروج منها �ساملني‪.‬‬ ‫وللتذكري‪ ،‬ال بد من الإ�شارة �إىل �أن م�صطلح "الأقليات" هو فربكة من دوائر اال�ستعمار‬ ‫الأوروبية ال ت�ستند �إىل �أي حقيقة جمتمعية علمية ناهيك عن كونها غري موجودة �أ�سا�ساً يف‬ ‫قامو�س تاريخنا احل�ضاري الغني جداً بالتنوع الثقايف والإثني‪ .‬م�صطلح �أطلقه اال�ستعمار الغربي‬ ‫حتديداً لتمزيق جمتمعنا وتربير التدخل يف بالدنا والفتك بها‪ .‬هذه هي حقيقة التاريخ املا�ضي‬ ‫واحلا�ضر امل�ستعمر‪.‬‬ ‫ففي كل مرة ز ّين هذا اال�ستعمار اللعني ملكون ما من مكونات جمتمعنا الغني بتنوعه الثقايف �أن‬ ‫هذا املكون �سيفوز مبكا�سب �إن هو انخرط يف امل�شروع اال�ستعماري كان امل�صري بائ�ساً‪ ،‬وا�ستخدم‬ ‫اال�ستعمار هذا املكون ٍ‬ ‫كوقود لتدمري بالدنا وكذب بالطبع على من ي�صدق الوعود‪ .‬فالتق�سيمات‬ ‫مل ت�شكل يوماً ا�ستقراراً و�آمناً بل م�آ�سي وحروب وخراب‪.‬‬ ‫ماهي جتربة في�صل الأول؟‬

‫يف ال�ساد�س من �شباط ‪ ،1919‬ح�ضر في�صل على ر�أ�س ٍ‬ ‫وفد �سوري �إىل م�ؤمتر ال�صلح ال�شهري‬ ‫املنعقد يف مبنى وزارة اخلارجية الفرن�سية يف باري�س ظناً منه �أن املبد�أ رقم ‪ 12‬من "مبادىء‬ ‫الرئي�س ويل�سون" والقائل بوجود ت�سهيل ح�صول ال�شعوب على ا�ستقاللها بعد انهيار ال�سلطنة‬ ‫‪3‬‬


‫ر�أي‬

‫‪4‬‬

‫�رصاع هوية ووجود‬

‫العثمانية‪ .‬كان في�صل يظن �أن الرئي�س ويل�سون الذي كان حا�ضراً يف تلك اجلل�سة من م�ؤمتر‬ ‫ال�صلح �سيتجاوب فوراً مع الطلب ال�سوري وي�ضطر الفرن�سيون والإنكليز على الت�سليم با�ستقالل‬ ‫�سوريا‪ .‬و�إذا باملفاج�أة تقع‪ ،‬فريد ويل�سون على في�صل بقوله‪":‬ياح�ضرة الأمري هل تق�صد من‬ ‫طلبكم �أنكم ترغبون يف �أن تنتدبكم دولة واحدة �أم جمموعة من الدول!!!‪ُ ...‬ذهل في�صل‬ ‫و�صفعت �آماله و�أحالمه و�أدرك �أن الوعود ال�صادرة عن الدول‪ ،‬ومنها املبادىء اجلميلة للرئي�س‬ ‫ُ‬ ‫ويل�سون‪ ،‬ال ُتلزم �إال من ينخدع بها و ُي�صدقها‪ .‬فكان ما كان و�أتى اجلرنال غورو وحطم فكرة‬ ‫الدولة ال�سورية النا�شئة‪.‬‬ ‫�أما جتربة البطل يو�سف العظمة فهي �أول من ُيفرت�ض بها �أن ُتلهم الربزاين وغري الربزاين‪� .‬إن‬ ‫رمزنا القومي العظيم يو�سف العظمة الذي ا�ست�شهد من �أجل ا�ستقالل �سوريا وحريتها وحقها‬ ‫يف تقرير م�صريها كان من الإثنية الكردية‪ .‬ولو ُ�سئل معظم ال�سوريني‪� ،‬أبناء �سوريا الطبيعية‪،‬‬ ‫هل يعلمون �أن يو�سف العظمة كان من الإثنية الكردية لوجدنا ب�أنهم ال يعرفون ذلك لأن هذا‬ ‫منظري‬ ‫النوع من الت�صنيفات لي�س من عاداتنا وال من ثقافتنا‪ .‬وكذلك الأمر بالن�سبة �إىل كبري‬ ‫ّ‬ ‫القومية العربية �ساطع احل�صري الذي هو من الأثنية الكردية �أي�ضاً‪ ،‬فيو�سف العظمة‪ ،‬الذي كان‬ ‫يتقن اللغة الكردية �إتقاناً كامالً‪ ،‬مل يكن يفكر باملنطق الأق ّلوي الذي يريد له اال�ستعمار �أن‬ ‫يحب�س نف�سه فيه‪ .‬ويوم مي�سلون العظيم هو الأ�سا�س يف انطالق الثورة على اال�ستعمار الفرن�سي‬ ‫يف العام ‪ ،1925‬فحتى هذا التاريخ يردد الأحرار الهتاف ال�شهري‪:‬‬ ‫ق ُْم من القرب لقد علمتنا يا �صالح الدين طرد الأجنبي‬ ‫مل يفكر �صالح الدين تفكرياً �أق ّلوياً يوم قاد امللحمة الكربى وطرد الغزاة الوحو�ش من بالدنا‪.‬‬ ‫ومل يقل �أهل بالدنا يوماً �أن �صالح الدين لي�س رمزاً كبرياً لهم ملجرد �أنه من الإثنية الكردية‪، .‬‬ ‫فال واهلل‪ ،‬ال الأ�ستاذ الربزاين وال غريه يحق له‪� ،‬أو ي�ستطيع‪� ،‬أن يقطع العالقة الوطنية والقومية‬ ‫التي تربطنا ال ب�صالح الدين وال بيو�سف العظمة �أو �أن مينعنا من �أن نن�شد‪:‬‬ ‫ما خطونا خطو ًة �إال ذكرنا مي�سلونا و�سمعنا من فل�سطني نداء ا�سكندرونا‪...‬‬ ‫�إن من �أوىل موا�صفات القائد �أن يتعلم الوطنية و�أن يحفظ درو�س التاريخ ال �أن يقع يف املطبات‬ ‫التاريخية ذاتها التي وقع بها غريه فيجلب لوطنه و�أهله امل�آ�سي ويجعل من م�ؤيديه وقوداً يف لعبة‬ ‫الأمم اجلهنمية‪ .‬من ال يتعلم من درو�س التاريخ ي�ؤذي نف�سه وي�ؤذي من يلحق به‪.‬‬ ‫الأ�ستاذ الربزاين يكره العرب‪ ،‬ورمبا كان من حقه �أن يكرههم‪ .‬لكنه يف ال�سلوك‪ ،‬ياللمفارقة‪،‬‬ ‫يقتدي بالأعراب بد ًال من �أن يقتدي بيو�سف العظمة �أو �ساطع احل�صري �أو �صالح الدين‪.‬‬

‫امل�صلحة العربية والركائز الدينية‬ ‫�أو املدنية للحكم‬ ‫د‪ .‬داود خرياهلل ‪� -‬أ�ستاذ يف القانون‬

‫يعاين العامل العربي من ا�ضطرابات �أمنية ودمار يف احلجر والب�شر‪ ،‬يف جمتمعات هي من �أكرث‬ ‫املجتمعات عراقة يف التاريخ‪ّ .‬‬ ‫ولعل �أخطر ما يعاين منه هو التم ّزق يف الن�سيج االجتماعي نتيجة‬ ‫منو وانت�شار الهو ّيات الطائفية واملذهبية الذاهبة بوحدته ومناعته‪.‬‬ ‫ويعي�ش العامل العربي حالة تخبط و�ضياع ووهن ي�شجع اخل�صوم على ازدرائه ويثري �شهية الطامعني‬ ‫للتالعب مب�صريه‪.‬‬ ‫�أنظمة احلكم القائمة تت�سم بغياب مقومات الدولة وم�ؤ�س�ساتها التي ت�ضمن �أمن املواطن وت�س ّهل‬ ‫وحتقق ظروف من ّوه وتط ّوره‪ ،‬وبه ّوة بني احلاكم واملحكوم ال ّ‬ ‫تنفك تزيد عمقاً وات�ساعاً؛ه ّوة يلعب‬ ‫ا�ست�شراء كا�سح لآفة الف�ساد دوراً هاما يف تعميقها وتو�سيعها‪ .‬فمن ال�صعب �أن جند يف دولة عربية‬ ‫وي�ستمد �شرعية حكمه من �إرادة �شعبية جت ّلت من خالل‬ ‫حاكماً ميثل طموحات وم�صالح �شعبه‬ ‫ّ‬ ‫ملفهوم‬ ‫م�ؤ�س�سات د�ستورية تتوافر فيها �ضمانات احلر ّية والنزاهة‪ .‬ويعي�ش العامل العربي تق ّل�صاً ِ‬ ‫ي�شج ُع على تنمية العقل العلمي والثقة بقدرة الإن�سان لي�س فقط على فهم جمتمعه‬ ‫احل ّرية الذي ّ‬ ‫و�إمنا على عالج علله وتطويره‪ .‬ولذلك نرى �أ ّنه بالرغم من توافر �إمكانيات اقت�صادية هائلة‪ ،‬تبقى‬ ‫جمتمعات العامل العربي من � ّأقل املجتمعات تنمية اقت�صادية‪ ،‬وم�ؤ�س�ساته العلمية وال�سيا�سية‬ ‫واالجتماعية من �أكرث امل�ؤ�س�سات تخ ّلفاً‪.‬‬ ‫امللحة يف الإ�صالح ال�سيا�سي وامل�ؤ�س�سي ال�سائدة‬ ‫هناك ما يربر النقمة ال�شعبية العارمة‪ ،‬والرغبة ّ‬ ‫يف معظم املجتمعات العربية التي �أ�صبحت دو ًال م�ستق ّلة‪� ،‬إن مل تكن �سائدة يف جميعها‪ .‬فالدولة‬ ‫احلديثة‪ ،‬والتي تعرف بالدولة القومية وتتم ّيز باحلكم ذي الركائز املدنية‪،‬قد ف�شلت يف �أن ّمتد لها‬ ‫جذوراً يف � ّأي من هذه الدول‪ ،‬و�إن اختلفت درجات الف�شل من دولة اىل �أخرى‪ .‬فمن ال�صعب‬ ‫الإثبات �أن مق ّومات الدولة احلديثة‪ ،‬من م�شاركة �شعبية فعلية يف احلكم‪ ،‬وانت�شار ثقافة حكم‬ ‫القانون‪ ،‬مبا يف ذلك التزا ُم مبد�أ ف�صل ال�سلطات‪ ،‬واحرتام احلقوق واحلر ّيات الأ�سا�سية‪ ،‬هي من‬ ‫�سمات احلكم يف �أية دولة عربية‪ .‬و�أزعم �أن الف�ساد‪ ،‬وبخا�صة الذي رافق تنامي الرثوة النفطية‬ ‫وتوظيفها يف اال�ستيالء على النفوذ ال�سيا�سي‪ ،‬و�شراء الذمم‪ ،‬وا�ستغالل الفقر واجلهل لدى �شرائح‬ ‫‪5‬‬


‫�رصاع هوية ووجود‬

‫وا�سعة يف املجتمعات العربية‪ ،‬قد �ساهم ب�شكل ف ّعال يف �إف�شال م�ؤ�س�سات احلكم الر�شيد وتعاظم‬ ‫النقمة ال�شعبية وتو�سيع اله ّوة بني احلاكم واملحكوم‪.‬‬ ‫ونالحظ �أ ّنه مع تنامي الرثوة النفطية‪ ،‬بد�أً من �أوائل ال�سبعينيات من القرن املا�ضي‪� ،‬أخذ ما‬ ‫امل�صدرة للنفط‪� ،‬أوكر ّدة فعل‬ ‫ُيعرف بت ّيار الإ�سالم ال�سيا�سي ينمو‪ ،‬وبخا�صة برعاية بع�ض الدول ّ‬ ‫للف�ساد والظلم ال�سائدين يف هذه الدول‪ .‬ومع من ّو الإ�سالم ال�سيا�سي‪� ،‬أخذ اخلطاب القومي العربي‬ ‫امل�صدرة للنفط يف اجلزيرة العربية مل تكن يوماً من �أن�صار‬ ‫باالنح�سار والأفول‪� .‬صحيح �أنّ الدول ّ‬ ‫ولكن امل�س�ؤولي َة عن تق ّل ِ�ص هذا اخلطاب تعود بالدرجة الأوىل‬ ‫�أو م�ؤيدي اخلطاب القومي العربي‪ّ ،‬‬ ‫للأخطاء والتجاوزات اجل�سيمة التي ارتكبتها الأحزاب واحلركات القومية‪ ،‬ويف طليعتها ما ارتكبه‬ ‫متقدمة من‬ ‫حزب البعث احلاكم يف كل من �سوريا والعراق‪ .‬واخلطاب القومي الذي بلغ درجة ّ‬ ‫الن�ضج يف فرتة التحرر من اال�ستعمار وبناء دولة اال�ستقالل‪ ،‬تراجع وتق ّل�ص يف العقود الأربعة‬ ‫املا�ضية لهزالة وتق�صري حامليه‪� ،‬إن جلهة تطويره �أو النجاح يف ن�شره‪ ،‬ف�ض ًال عن حماربته دول ّياً‬ ‫و�إقليمياً وعرب ّياً‪.‬‬ ‫�إزاء التململ ال�شعبي والنقمة على الظلم والف�ساد‪ ،‬يعلن النا�شطون من َح َم َلة خطاب الإ�سالم‬ ‫ال�سيا�سي‪� ،‬أن ما تعاين منه املجتمعات العربية‪ ،‬ال عالج له �سوى بالعودة اىل ما يعتربونه �إلتزاماً‬ ‫ب�أحكام ال�شريعة‪ ،‬واالنعتاق من معايري الدولة احلديثة يف احلكم التي هي دخيلة على الثقافة‬ ‫واملعتقدات العربية‪ ،‬ويعملون بو�سائل خمتلفة لتحقيق ذلك‪ .‬فمنهم َمن يحمل خطاباً تكفري ّياً‬ ‫متز ّمتاً ويرى َّ‬ ‫احلل يف العنف والتخ ّل�ص مِن كل َمن ال ي�شاركه الر�أي ويعلن له الوالء‪ .‬ومنهم‬ ‫َمن هو � ّأقل تط ّرفاً يف العمل على �إلغاء الآخر ولك ّنه يرى يف التزام ما يعتربه �إرادة �إلهية يف احلكم‬ ‫�ضرورة واجبة‪.‬‬ ‫أتفح�ص مالءمة كل من نظام احلكم ذي الركائز الدينية‪ ،‬ونظام احلكم‬ ‫فيما يلي �سوف �أحاول �أن � ّ‬ ‫يتحمل الإن�سان م�س�ؤولية كاملة يف اختيارها‪ ،‬ملا �أعتربه م�صلحة عربية‪ ،‬وهي‬ ‫ذي الركائز املدنية والتي ّ‬ ‫بالدرجة الأوىل امل�صلحة يف الوحدة التي هي الأ�سا�س يف ق ّوة املجتمع‪ ،‬و�أمنه ومناعته‪ ،‬وامل�صلحة يف‬ ‫التنمية االقت�صادية التي تنعك�س خرياً على الإن�سان واملجتمع‪ ،‬و�أخرياً حتقيق امل�شاركة ال�شعبية يف‬ ‫احلكم ب�شكل ّميكن الإن�سان العربي من تفعيل جميع طاقاته الإنتاجية واخللاّ قة‪� ،‬أي بلوغ درجة‬ ‫راقية من احلكم الدميقراطي‪.‬‬ ‫�إنّ ال�شريعة‪ ،‬كما يراها �أ�صحاب النظرية التقليدية من الفقهاء‪ ،‬هي �إرادة اهلل املنزلة‪ ،‬وهي �سابقة‬ ‫تتوجه به‪ .‬والوحي املن َزل هو احلقيقة بتمامها‪،‬‬ ‫للدولة الإ�سالمية ِّ‬ ‫وموجهة للمجتمع الإ�سالمي وال ّ‬ ‫وهو �صالح ّ‬ ‫لكل زمان ومكان‪ ،‬وللخليقة جمعاء‪ .‬لذلك ف�إنّ القواعد امللزمة التي م�صدرها ال�شريعة‬ ‫تبدل الوقائع والظروف‪ .‬ويرى دعاة املذاهب ال�سلفية �أنّ الواقع ُيقا�س‬ ‫ال ميكن تبديلها‪ ،‬ح�سب ّ‬ ‫الن�ص‪ .‬ولذلك على ال�سلطات ال�سيا�سية والأفراد �أن يعبرّ وا عن �إميانهم‬ ‫بالن�سبة للنموذج املث ّبت يف ّ‬ ‫‪6‬‬

‫بجهودهم الدائمة يف ان�سجام ما يقومون به من �أعمال مع الن�ص القر�آين‪.‬‬ ‫فالوحي القر�آين يعترب حقيقة �أبدية ثابتة غري قابلة للتعديل‪ ،‬وتطال مرافق احلياة كافة‪ .‬فهي و�سيلة‬ ‫اهلل حلكم العامل‪ .‬ويعترب �أبو العالء املودودي‪ ،‬وهو فقيه باك�ستاين كان له ت�أثري كبري على َح َم َلة‬ ‫اخلطاب الأ�صويل‪� ،‬أنّ �سيادة اهلل على �سلوك الإن�سان حترم الإن�سان من ح ّرية الإرادة‪.‬‬ ‫باملقابل‪ ،‬ف�إنّ هناك عدداً من الفقهاء ّ‬ ‫واملفكرين الإ�سالمني الع�صريني الذين يرف�ضون النظرية‬ ‫امل�ستجد من الوقائع‬ ‫التقليدية‪ .‬فهم يعتربون �أنّ لل�شريعة من املرونة ما يجعلها قابلة للتك ّيف مع‬ ‫ّ‬ ‫والأحداث‪ .‬ف�أ�صحاب النظرية احلديثة من الفقهاء يعتربون �أنّ �إرادة اهلل مل ي َعبرّ عنها �إطالقاً‬ ‫ب�شكل جامد و�شامل‪ ،‬كما يزعم �أ�صحاب النظرية التقليدية‪ .‬ولك ّنها �أتت ب�شكل مبادئ عامة فيها‬ ‫املتبدل من الظروف والأحوال‪.‬‬ ‫من املرونة ما يجعلها قابلة للت�أويل والتطبيق مبا يتالءم مع ّ‬ ‫وح َم َلة النظرية التقليدية يف الفقه‪ ،‬وما يقول به‬ ‫هناك اختالف‬ ‫ّ‬ ‫جوهري بني ما يقول به دعاة َ‬ ‫لكن ما جرى ويجري يف العامل العربي‪ ،‬وبخا�صة االنت�شار الوا�سع‬ ‫�أ�صحاب النظرية احلديثة‪ّ .‬‬ ‫للفكر الو ّهابي واحلركات الأ�صولية والدعم املادي والإعالمي املتوافر لهذا الن�شاط‪ ،‬وال نن�سى‬ ‫الدور الذي لعبته وتلعبه باك�ستان يف ذلك‪ ،‬وبخا�صة رعايتها لطالبان‪ ،‬كل ذلك ال يوحي بانح�سار‬ ‫النظرية التقليدية مل�صلحة النظرية احلديثة‪.‬‬ ‫جميع الأديان هي من املك ّونات الثقافية الهامة يف املجتمعات التي تعتنقها‪ .‬فالدين يخلق مناذج‬ ‫مناذج ال ميكن اخرتا ُقها بالتجارب‬ ‫هي لي�ست انعكا�ساً للواقع و�إنمّ ا مناذج لتكييف الواقع‪ .‬وهذه ُ‬ ‫احل�سية و�إمنا فقط من خالل الت�أويل والتف�سري‪ .‬والدين يحتوي مفاهيم عامة للوجود هي جوهرية‬ ‫ّ‬ ‫بالن�سبة للم�ؤمن يف جماعة دينية مع ّينة‪.‬‬ ‫احل�سية‬ ‫ومبا �أنّ املفاهيم والرموز الدينية ال ميكن اخرتاقها وفهمها عن طريق �إخ�ضاعها للتجارب ّ‬ ‫والعلمية‪ ،‬و�إنمّ ا من خالل الت�أويل والتف�سري‪ ،‬ف�إننا نرى دور الإن�سان يف تكييف املفاهيم الدينية‬ ‫و�إخ�ضاعها ملحدودية فهمه‪ ،‬على ال ّأقل فيما يتع ّلق بت�أثري الدين على ال�سلوك الب�شري وخلق‬ ‫الثقافة االجتماعية‪ .‬فمن غري املعقول‪ ،‬مث ًال‪� ،‬أن يكون االختالف و�أحياناً التناق�ض يف الت�أويل‬ ‫والتطبيق للمفاهيم الدينية واحلقائق القطعية التي ّتدعيها خمتلف املدار�س الفقهية والفرق‬ ‫الدينية‪ ،‬من �سلفية تكفري ّية جتيز قطع الر�ؤو�س و�سبي الن�ساء وتدمري معامل احل�ضارة‪ ،‬اىل تلك التي‬ ‫ترى يف الإ�سالم الدين ال�سمح الرحوم الذي �أنزل هداية للإن�سانية جمعاء‪ ،‬هي جميعها انعكا�س‬ ‫لإرادة اهلل الواحد الأحد فيما �أنزل‪ .‬و�أن تكون جميع املذاهب ال�س ّنية وال�شيعية وجميع الفرق‬ ‫الدينية التي ّتدعي الإ�سالم‪ ،‬على ما بينها من اختالف وتناق�ض‪ ،‬هي التعبري الدقيق عن م�شيئة‬ ‫اخلالق يف فهم ماه ّية الإ�سالم‪ .‬وما ُيقال يف الإ�سالم ينطبق على امل�سيح ّية تاريخ ّياً ورمبا ب�شكل‬ ‫أ�شد‪ .‬فاحلروب الدينية بني فرق دينية ا ّدعت امل�سيحية احلقّة د ّمرت �أوروبا لعقود طويلة‪ ،‬وق�ضت‬ ‫� ّ‬ ‫على �أجيال من �شبابها ومل تنته �إلاّ بعد اتفاقية و�ستفاليا‪ ،‬يف القرن ال�سابع ع�شر‪ ،‬التي �ساوت يف‬ ‫‪7‬‬


‫�رصاع هوية ووجود‬

‫حداً لتدخل‬ ‫احلقوق والواجبات بني �أفراد املجتمع‪ ،‬بقطع النظر عن انتمائهم الطائفي‪ ،‬وو�ضعت ّ‬ ‫ال�سلطات الدينية يف �ش�ؤون احلكم‪.‬‬ ‫ي�ستظل الدين هو �أنّ الإن�سان يلعب دوراً �أ�سا�سياً‬ ‫ّ‬ ‫وما جتدر مالحظته يف اخلطاب ال�سيا�سي الذي‬ ‫يف تقرير وظيفة الدين يف حكم املجتمع‪ ،‬لكن خالفاً ملا هو احلال بالن�سبة مل�ساءلة وحما�سبة و�إقالة‬ ‫�صاحب القرار يف احلكم املدين‪ ،‬ف�إنّ حامل اخلطاب ال�سيا�سي الديني‪ ،‬مهما كان حمدود القدرات‬ ‫الفكرية‪ ،‬كثري الأخطاء والأ�ضرار فيما يدعو �إليه‪ ،‬ف�إ ّنه يعطي خطابه قد�س ّية ونف�سه ع�صمة من اخلط�أ‬ ‫وح�صانة من امل�ساءلة‪ .‬فهو ناقل مل�شيئة اهلل ع ّز ّ‬ ‫وجل‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫التحديات التي تواجه َح َم َلة خطاب احلكم ذي الركائز الدينية‪ ،‬يف جمتمع تعددت‬ ‫ولعل من �أكرب ّ‬ ‫حمدد‬ ‫التوحد حول ت�ص ّور ّ‬ ‫فيه املذاهب والطوائف وين�شد الوحدة بني جميع مك ّوناته الب�شرية‪ ،‬هو ّ‬ ‫ومتفق عليه للقواعد واملبادئ والت�شريعات التي يجب اختيارها حلكم املجتمع‪ .‬الفئات التي حتمل‬ ‫اخلطاب الديني وتعار�ض الواقع الكا�سح للحكم املدين يف العامل العربي‪ ،‬والذي �أ�صبح من‬ ‫�سمات احلكم يف العامل �أجمع‪� ،‬إنمّ ا تعاند واقعاً با�سم تراث مناق�ض للواقع و�سابق له‪ .‬ال ب�أ�س هنا‬ ‫بالعودة‪ ،‬ولو باقت�ضاب �شديد‪ ،‬اىل من�ش�أ احلكم املدين يف العامل العربي لنكون على ب ّينة من الواقع‬ ‫الذي نحن فيه ونبغي عالجه‪.‬‬ ‫ح ّتى منت�صف القرن التا�سع ع�شر‪ ،‬كان العامل العربي ّ‬ ‫يغط يف �سبات عميق علم ّياً و�سيا�سياً‬ ‫وح�ضار ّياً‪ ،‬وكان يف معظم �أقطاره جزءاً تابعاً لل�سلطنة العثمانية خا�ضعاً لأدوات احلكم فيها التي‬ ‫�أ�سا�سها �سلطة ا�ستبداد ّية مطلقة تربطها بج�سمها عالقة تقرير و�إلزام مطلقني‪ ،‬وهذا ال يناق�ض ما‬ ‫قالت به غالبية الفقهاء الإ�سالميينّ ‪.‬‬ ‫وال�سلطنة العثمانية‪ ،‬وح ّتى �أنظمة اخلالفة الأخرى التي عرفها العرب‪ ،‬قبل �أن يخرج احلكم من‬ ‫�أيديهم‪ ،‬هي �سلطة ذاتية ال تعرف الدميومة �إ ّال لر�أ�سها �أو ت�سل�سل ر�ؤ�سائها بالأ�صالة �أو بالتغ ّلب‪.‬‬ ‫واحلجاب فهم طارئون مع ّر�ضون يف كل حلظة للت�سريح من اخلدمة �أو‬ ‫�أ ّما �أدواتها اليومية كالوزراء ّ‬ ‫القتل‪.‬‬ ‫التح ّول الهام الذي ح�صل مل�صلحة احلكم املدين يف املناطق العربية اخلا�ضعة للحكم العثماين‬ ‫جاءت به دولة التنظيمات العثمانية يف القرن التا�سع ع�شر‪ .‬فدولة التنظيمات تختلف عن جميع‬ ‫�أنظمة احلكم ال�سابقة لها ب�أ ّنها رمت �إىل اخرتاق املجتمع وهدفت ايل حتويله تبعاً لأفكار الدولة‬ ‫املهمة‬ ‫احلديثة ذات الهيمنة الثقافية وال�صلة ال�سيا�سية مبواطنيها‪ ،‬وكان و�سيلتها يف تنفيذ هذه ّ‬ ‫�إدخال �إ�صالحات جوهرية يف جمايل الرتبية والقانون وعلى �أ�س�س جديدة خارجة عن �سلطة ما‬ ‫�سلف من م�ؤ�س�سات قام عليها �أرباب الهيئة الق�ضائية الدينية‪.‬‬ ‫نخب عربية بالفكر ال�سيا�سي الأورو ّبي‪ ،‬وامل�ؤ�س�سات العلمية والقانونية‬ ‫وقد كان الحتكاك ٍ‬ ‫‪8‬‬

‫جداً يف ما ُعرف بع�صر النه�ضة العربية‪ ،‬ويف عمل ّية التح ّول التي رافقت عمل‬ ‫الأورو ّبية‪� ،‬أثر هام ّ‬ ‫دولة التنظيمات وبخا�صة يف جمايل التعليم والقانون‪ .‬ومبا �أنّ القانون هو من �أفعل و�أرقى و�سائل‬ ‫التغيري ال�سيا�سي واالجتماعي‪ ،‬فقد كان للتح ّول القانوين والق�ضائي يف ظل دولة التنظيمات‪ ،‬دور‬ ‫جداً يف �إدخال قيم وم�ؤ�س�سات الدولة احلديثة وتهمي�ش �سلطة امل�ؤ�س�سات الدينية‪.‬‬ ‫هام ّ‬ ‫ّ‬ ‫م�ستقل وخارج عن �سلطة الهيئة الق�ضائية الدينية‪ ،‬ويف تب ّني‬ ‫فقد ظهر ذلك يف �إن�شاء جهاز ق�ضائي‬ ‫قوانني �أ�سا�سية ذات �أ�س�س منف�صلة متام االنف�صال عن علم واجتهاد الهيئة الدينية وتراثها‪ .‬وكانت‬ ‫هذه القوانني يف كثري من بنودها تختلف‪ ،‬و�أحياناً تتناق�ض‪ ،‬مع �أحكام ال�شريعة‪.‬‬ ‫فقد �أخذ قانون العقوبات العثماين للعام ‪( ،1919‬والذي اعتمد قانون العقوبات الفرن�سي ب�صورة‬ ‫رئي�سية)‪ ،‬ك�أحد م�صادره الأ�سا�سية مببد�أ "ال جرمية وال عقوبة بال ن�ص"‪ .‬ثم �ألغى عقوبة الرجم يف‬ ‫الزنى‪ ،‬وقطع اليد يف ال�سرقة‪ ،‬و�ألغى الر ّدة كجرمية‪ ،‬متيحاً‪ ،‬ولأول مرة يف تاريخ الإ�سالم‪� ،‬إحدى‬ ‫ال�ضمانات الالزمة لتقرير احلر ّيات الأ�سا�سية‪.‬‬ ‫أهم مل�صلحة احلداثة واحلكم املدين‪ ،‬الذي ح�صل يف ّ‬ ‫ّ‬ ‫ظل دولة التنظيمات‪ ،‬هو‬ ‫ولعل التح ّول ال ّ‬ ‫ُ‬ ‫التط ّور الأ�سا�سي الذي �أدخل على برامج التعليم والرتبية وذلك يف بناء املدار�س ودور العلم‪،‬‬ ‫ويف �إدخال العلوم الطبيعية والريا�ضيات و�سواها من املواد نق ًال عن برامج املدار�س ودور العلم‬ ‫الأوروب ّية‪ ،‬مواد مل يكن لها وجود يف برامج التعليم يف العامل العربي التي كانت يف جمملها‬ ‫تتمحور حول تدري�س اللغة العربية والعلوم الدينية‪.‬‬ ‫دولة التنظيمات �أورثت فاعل ّيتها احلداثية ملا تالها من دول يف فرتات اال�ستعمار واالنتداب‬ ‫واال�ستقالل‪ ،‬وكانت الرتبية وامل�ؤ�س�سات القانونية من الأدوات الأ�سا�سية يف عقلنة احلياة‬ ‫وعلمنتها حتت رعاية الدولة ‪ ،‬مدفوع ًة مبنطق ي�سم جميع الدول احلديثة‪ .‬فجاءت الدولة العربية‬ ‫ن�ص بع�ض الد�ساتري على كون الإ�سالم دين الدولة‪ ،‬ومل‬ ‫بعد اال�ستقالل مدني ًة بامتياز‪ ،‬بالرغم من ّ‬ ‫يكن لهذا الن�ص �أي واقع فعلي �أو ت�أثري هام‪.‬‬ ‫لي�س العامل العربي مر َت َهناً بالتجربة الأوروبية‪ ،‬و�إن كانت هذه التجربة حم ّركة للتاريخ احلديث‪.‬‬ ‫وهو لي�س ملزماً حدود جتاربها التاريخية‪ .‬لك ّنه جزء من م�شروع تاريخي كوين يتجاوز حدود‬ ‫الغرب‪ .‬م�سرية التاريخ الكوين �آيلة اىل عقالنية مدنية‪ .‬وم�سرية التاريخ االجتماعي والثقايف‬ ‫العربي حمكومة بهذا امل�سار‪ ،‬على الرغم من ال�صراعات الطبيعية التي ت�ستثريها هذه امل�سرية مع‬ ‫القوى التي ترى م�صلحة لها يف ا�ستغالل الدين وامل�ؤ�س�سات الدينية‪.‬‬ ‫لقد اخرتقت الثقافة العقالنية املدنية‪ ،‬من خالل دولة التنظيمات وما تالها و�أخذ عنها من‬ ‫حممد علي يف م�صر من تطوير وحتديث مل�ؤ�س�سات‬ ‫دول‪ ،‬املجتمع العربي التقليدي‪ .‬وما قام به ّ‬ ‫الدولة كافة جدير باملالحظة واالهتمام من قبل ّ‬ ‫كل من يرغب االطالع على الدوافع والإجنازات‬ ‫‪9‬‬


‫�رصاع هوية ووجود‬

‫التي حققها تب ّني م�ؤ�س�سات وقيم الدولة احلديثة‪ .‬وكان ّ‬ ‫كل ذلك تعبرياً عن التف ّوق احل�ضاري‬ ‫والتاريخي لثقافة الدولة احلديثة على ثقافة املجتمع التقليدي‪ ،‬والرتقاء تنظيماتها على تنظيماته‪،‬‬ ‫ولتقدم عامليتها على حمل ّيته‪ ،‬وملواءمة مرجع ّيتها الفكرية والعلمية لتط ّور الع�صر‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وقد كان ّ‬ ‫لكل ذلك �أث ٌر ها ٌم على احلقبة الوطنية ودورِها يف التح ّرر من اال�ستعمار الأجنبي‪ ،‬والتي‬ ‫امتازت بثقافة مدنية علمانية‪ ،‬فانت�شرت مبادئ �سيا�سية ليربالية وقومية مع بوادر انت�شار للمارك�سية‪،‬‬ ‫وانت�شر االهتمام بالعلوم والأبحاث العلمية كافة‪.‬‬ ‫واجلدير بالذكر هو �أنّ �إ ّبان فرتة التحرر من اال�ستعمار‪ ،‬مل يكن التط ّرف الإ�سالمي اخليار التلقائي‬ ‫والطبيعي للعرب وامل�سلمني‪ ،‬بل �إنّ اخلطاب القومي هو الذي كان �سائداً والقوم ّيون هم الذين قادوا‬ ‫التجمعات العربية �إىل اال�ستقالل‪ ،‬ولي�س الدين واحلركات الدينية‪ .‬كان القوميون �آباء الوطنية‬ ‫ّ‬ ‫لعقود وكانت الأنظار تتجه نحوهم‪ .‬مل يكن ه�ؤالء القوميون علمانيني مثل �أتاتورك‪ ،‬ولك ّنهم مل‬ ‫يلج�أوا �إطالقاً اىل اخلطاب الديني‪ .‬فدولة اال�ستقالل كانت مدنية الأ�س�س والقوانني بامتياز‪،‬‬ ‫وكانت كذلك حا�ضنة للحرية الدينية وحامية لها‪ .‬ونحن اليوم نرى العامل العربي يتخذ وجهة‬ ‫تراجعية معاك�سة للتاريخ فيها خروج للثقافة الدينية عن هام�شيتها التاريخية يف القرن الع�شرين‪،‬‬ ‫وحماولتها تب ّوء مواقع مركزية يف ال�سيا�سة والثقافة العربية وا�ستثناء ما عداها‪ ،‬ومنها حت ّول الدولة‬ ‫عن موقع التف ّوق على املجتمع التقليدي‪ ،‬اىل موقع القيادة نحو التخ ّلف وربط الثقافة العربية‬ ‫اجلديدة بالإ�سالم النفطي وو�سائل ات�صاله و�إعالمه ال�ضخمة‪ .‬ويقيني �أنّ من ّو االقت�صاد الريعي‪،‬‬ ‫احلليف الأ�سا�سي يف تنمية �آفة الف�ساد‪ ،‬يلعب دوراً �أ�سا�سياً يف الدفع �إىل هذا املنحدر‪.‬‬ ‫يقول عزيز العظمة‪ ،‬و�أ�شاركه الر�أي‪" ،‬لي�س االرتهان باملواقف الإ�سالمية نادراً يف تاريخنا احلديث‪،‬‬ ‫ولو كان متنامياً يف ال�سنوات الأخرية بف�ضل �أ�صداء الإ�سالم ال�سيا�سي‪ ،‬فهو يف �أغلب الأحوال‬ ‫مرتبط ارتباطاً �أكيداً با�ستقالة العقل التاريخي‪ :‬فالعقل التاريخي �أ�سا�س ِّ‬ ‫كل ٍّ‬ ‫بنيوي‬ ‫ترق‪ ،‬وعن�ص ٌر ٌّ‬ ‫جوهري لإقامة جمتمع معا�صر"‪.‬‬ ‫("العلمانية من منظور خمتلف"‪� ،‬ص‪)310.‬‬ ‫�أرجو �أن ال يخامر �أحداً ٌّ‬ ‫�شك يف احرتامي وتقديري للأديان جميعاً‪ ،‬وبخا�صة الدين الإ�سالمي‪.‬‬ ‫ف�أنا ال �أرى ع ّلة يف الإ�سالم �أو يف �سواه من الأديان �إطالقاً‪ ،‬و�إمنا يف الذين ي�ستغ ّلون الدين وي�أ ّولون‬ ‫تعاليمه‪ ،‬قو ًال و�سلوكاً‪ ،‬مبا ال يعود بخري على امل�سلمني وغري امل�سلمني ويف �أحيان عديدة مبا ي�ش ّوه‬ ‫�صورة الإ�سالم يف �أذهان عقالء الب�شر‪.‬‬ ‫فكما �أنّ للدين ت�أثرياً بالغاً يف �سلوك الإن�سان وتكييف الثقافة االجتماعية‪ ،‬كذلك للإن�سان ت�أثري‬ ‫هام يف تظهري ال�صورة‪ ،‬وتقرير الدور الذي يلعبه الدين يف املجتمع‪ .‬فاملجتمعات احل ّية املبدعة‬ ‫حي مبدع‪ ،‬واملجتمعات التي ال حياة فيها تنعك�س يف دين ال يتط ّور‪ ،‬ويثور‬ ‫تنعك�س يف دين ّ‬ ‫على ّ‬ ‫كل تط ّور‪ .‬فلو نظرنا �إىل من�ش�أ الفرق ال�سلفية التكفريية‪ ،‬والتي تعتمد العنف والإرهاب‬ ‫‪10‬‬

‫و�سيلة لبلوغ �أهدافها‪ ،‬نرى �أنها انطلقت من جمتمع هو من �أكرث املجتمعات العربية تخ ّلفاً وف�ساداً‬ ‫وتع ّلقاً بتقاليد بدائية‪ ،‬بالرغم من ثروة طائلة و�إمكانيات ما ّدية هائلة‪ .‬وهي من �أق ّلها قبو ًال بامل�شاركة‬ ‫ال�شعبية يف احلكم‪ ،‬واحرتام حقوق الإن�سان‪ ،‬و�إر�ساء قواعد العدالة وم�ؤ�س�سات احلكم الدميقراطي‬ ‫وقيمه‪ .‬والفرق التكفريية هي و�سائل متزيق للن�سيج االجتماعي العربي‪ ،‬ومن موانع الوحدة التي‬ ‫فيها ق ّوة املجتمع ومناعته‪ .‬ميكن �أن نالحظ بدقّة �أنّ اخلطاب الديني ال�سيا�سي يتناق�ض مع اخلطاب‬ ‫القومي العربي الختالف جوهري حول مفهوم الأ ّمة يف اخلطابني‪ .‬ولأنّ منوذج املجتمع القومي‬ ‫مبني على فر�ض ّية �أ ّنها ت�شكل �أ ّمة جتمعها قوا�سم م�شرتكة وقيم ولغة تربر وجودها‬ ‫والدولة القومية ٌّ‬ ‫أهم مميزات اخلطاب القومي هو العمل من قبل َح َم َلة هذا اخلطاب‪،‬‬ ‫كدولة م�ستق ّلة‪ .‬ف�إنّ من � ّ‬ ‫�شرائح املجتمع جميعها‪ ،‬وخلقِ ثقافة‬ ‫وكذلك �سيا�سة الدولة القومية‪ ،‬على تنمية هو ّية ّ‬ ‫ت�شد �إليها ِ‬ ‫م�شرتكة تربط جميع املك ّونات االجتماعية‪ .‬فعندما يكون عنا�صر الدولة القومية غري متوافر ب�شكل‬ ‫جازم لدى بع�ض ال�شرائح االجتماعية‪ ،‬ماقد ي�ؤثّر على وحدة املجتمع وتط ّوره‪ ،‬تلج�أ الدولة القومية‬ ‫موحدة‬ ‫اىل تب ّني �سيا�سات ت�ضمن توافرها‪ ،‬ك�أن تفر�ض برامج خا�صة لتعليم اللغة‪� ،‬أو فر�ض مناهج ّ‬ ‫يف مراحل التعليم االبتدائي و�سواها‪ .‬بينما ع ّلمتنا التجارب يف العامل العربي�أن انت�شار اخلطاب‬ ‫ال�سيا�سي الديني َينز ُِع اىل تفكيك املجتمع �إىل طوائف ومذاهب و�أديان تودي بوحدته وتغري‬ ‫الأطراف اخلارجية ذات امل�صالح املعادية للم�صلحة العربية لزرع الفنت وح�صاد ريعها‪.‬‬ ‫والأد ّلة على ذلك يف الزمن الذي نعي�ش فيه تكاد ال حت�صى‪ .‬ففي العراق مل يفعل �سالح اجل ّو‬ ‫والق ّوات الأمريكية ما فعله اخلطاب الديني املذهبي يف تفكيك املجتمع والق�ضاء على وحدته‬ ‫ومناعته‪ ،‬ومتكني �أطراف خارجية من بلوغ م�آربها فيه‪ .‬واخلطاب الديني املذهبي هو ال�سالح‬ ‫الأفتك يف احلرب الدائرة يف �سوريا وعليها‪.‬‬ ‫تهدد وحدة املجتمع‬ ‫ولو حاولنا القيام بعمل ّية م�سح للدول التي تعاين من ا�ضطرابات �أمنية ّ‬ ‫و�سالمته‪ ،‬و�أمع ّنا النظر يف �أدوات العنف والدمار الداخلية واخلارجية‪ ،‬وو�سائل التفكك االجتماعي‬ ‫بوجه عام‪ ،‬لوجدنا ما يلي‪:‬‬ ‫ملهماتها‬ ‫لي�س بني القوى الفاعلة على الأر�ض‪ ،‬والقوى الراعية لها متوي ًال وت�سليحا وت�سهي ًال ّ‬ ‫التدمريية‪ ،‬من يهدف �إىل‪�،‬أو ّيدعي القيام مبا يخدم‪ ،‬م�صلحة عربية‪ ،‬ناهيك ب�أنّ ما يقومون به فع ًال‬ ‫يخدم يف معظم الأحيان م�صلحة �إ�سرائيلية من دون �أدنى ّ‬ ‫�شك‪ .‬و ُتظهر �إ�سرائيل تقديراً لهذه‬ ‫فتقدم خدماتها ال�صح ّية والع�سكرية لإجناحها‪.‬‬ ‫اجلهود ّ‬ ‫معظم‪� ،‬إن مل يكن جميع القوى التي جل�أت اىل العنف‪� ،‬أكانت داخلية �أم م�ستوردة‪ ،‬تعمل حتت‬ ‫مذهبي ال عالقة له مبطالب‬ ‫وبراجمها من خطاب ديني‬ ‫وت�ستمد �شعاراتِها‬ ‫راية دينية مذهب ّية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫و�أماين ال�شعوب يف الإ�صالح ال�سيا�سي‪.‬‬ ‫الدول اخلارجية‪ ،‬وبخا�صة الإقليمية‪ ،‬عربية وغري عربية‪ ،‬التي ترعى وت�ساعد يف عملية الدمار‪ ،‬تقوم‬ ‫‪11‬‬


‫�رصاع هوية ووجود‬

‫من خالل و�سائل �إعالمها الهائلة بن�شر خطاب ديني مذهبي يهدف �إىل متزيق الن�سيج االجتماعي‬ ‫يف الدول املعن ّية‪ ،‬ويف الوطن العربي على وجه العموم‪ ،‬وحت�صر م�ساعداتها يف التمويل والت�سليح‬ ‫والتدريب وجتنيد الأجانب وت�سهيل و�صولهم �إىل �ساحات القتال العربية‪ ،‬بل وحت�صرها باملنظمات‬ ‫التي حتمل خطاباً دينياً مذهب ّياً‪ ،‬وتعمل من �أجل حتقيق �أهداف م�ستوحاة من هذا اخلطاب‪.‬‬ ‫تو�سلت العنف لتحقيق �أهدافها‪ ،‬من ّيدعي العمل‬ ‫لي�س بني القوى الفاعلة على الأر�ض‪ ،‬والتي ّ‬ ‫من �أجل حتقيق � ّأي من �أهداف ال�شعوب العربية التي انتف�ضت بغية حتقيق �إ�صالحات جوهر ّية يف‬ ‫احلكم‪ ،‬الذي تريده دميقراطياً يفر�ض حكم القانون‪ ،‬وي�ضمن احلقوق واحل ّريات الأ�سا�سية جلميع‬ ‫املواطنني‪ ،‬ويحارب الف�ساد بفاعلية‪.‬‬ ‫ونالحظ كذلك �أنّ املنظمات التي حتمل اخلطاب الديني التكفريي‪ ،‬ومعظمها من م�شتقّات‬ ‫القاعدة‪ ،‬والتي تقاتل يف �سوريا والعراق‪ ،‬ترف�ض �أي ّ‬ ‫حل �سيا�سي للحرب الدائرة وتختار اال�ستمرار‬ ‫يف هدر الدم العربي والدمار ومراكمة امل�آ�سي‪.‬‬ ‫جداً �أن جند يف ن�شاط التنظيمات التي حتمل اخلطاب الديني �أو املذهبي م�صلحة‬ ‫من ال�صعب ّ‬ ‫ال�صف �أو االن�صهار االجتماعي‪� ،‬أكان على ال�صعيداملح ّلي �أو القومي‪.‬‬ ‫عرب ّية فيما يتع ّلق بوحدة ّ‬ ‫وقدم‬ ‫ح ّتى التنظيمات التي ّقدمت خدمات �أمنية ج ّلى‪ ،‬مثل حزب اهلل الذي قام بجهود ج ّبارة‪ّ ،‬‬ ‫ت�ضحيات كربى يف حترير لبنان و�ضمان �أمنه من االعتداءات الإ�سرائيلية‪ ،‬والذي دافع ويدافع عن‬ ‫احلق العربي يف فل�سطني‪ ،‬وبالرغم من �أ ّنه ال يحمل �أفكاراً تكفريية تدعو �إىل �إلغاء الآخر‪ ،‬ال بل‬ ‫ّ‬ ‫�إ ّنه �أظهر حكمة فائقة يف العمل على و�أد الفنت الطائفية يف لبنان‪� ،‬إلاّ �أ ّنه ب�سبب كونه يعمل حتت‬ ‫مهمة �أطراف دولية و�إقليمية وحم ّلية يف ت�أليب العديد من �س ّنة لبنان‬ ‫راية دينية مذهب ّية قد �س ّهل ّ‬ ‫والعامل العربي عليه‪ ،‬وا�ستعدائه يف ّ‬ ‫كل ما يفعل‪ ،‬و�صو ًال �إىل تعميق ال�شرخ يف البنية االجتماعية‬ ‫اللبنانية وتو�سيع اله ّوة املذهبية بني �س ّنة و�شيعة يف العامل العربي‪.‬‬ ‫من العلل الأكرث �ضرراً يف اخلطاب الديني هي �أ ّنه يدفع اىل تنمية هو ّيات فرع ّية هي من مع ّوقات‬ ‫من ّو هو ّية وطنية �أو قوم ّية جامعة‪ .‬فهو على نقي�ض اخلطاب املدين‪ ،‬الوطني �أو القومي‪ ،‬يعمل على‬ ‫تفكيك املجتمع‪ .‬فبينما القومية بطبيعتها هي �إيديولوجية ترتكز على فر�ضية �أنّ والء الفرد‬ ‫إخال�صه للدولة القومية يفوق والءه و�إخال�صه ل ّأي فرد �أو منظومة ب�شرية يف املجتمع‪ ،‬يعمل‬ ‫و� َ‬ ‫اخلطاب الديني‪ ،‬كما �شاهدنا ون�شاهد يف العامل العربي‪ ،‬على تنمية والءات لتنظيمات‪ ،‬على‬ ‫تتقدم على الوالء للدولة املدنية احلافظة للمجتمع ب�شرائحه الب�شرية كافة‪،‬‬ ‫�شكل مذاهب وطوائف‪ّ ،‬‬ ‫والعاملة على �أمنه ووحدته وحتقيق م�صالح جميع �أفراده‪.‬‬ ‫أهم احلاجات الب�شرية‪� ،‬أكان علي‬ ‫اخلطاب الديني ال ي�ؤ ّمن حاجة املواطن العربي للأمن‪ ،‬وهي من � ّ‬ ‫ال�صعيد املح ّلي يف �إطار الدولة الإقليمية �أو على ال�صعيد القومي‪ .‬بل على العك�س من ذلك فهو‬ ‫التحديات الأمنية‪،‬‬ ‫من عوامل ال�شرذمة التي تذهب بق ّوة املجتمع ومناعته وت�ضعفه يف مواجهة ّ‬ ‫‪12‬‬

‫ين العقالين بطبيعته‪،‬‬ ‫داخلية كانت �أم خارجية‪ .‬يف حني يعمل اخلطاب الوطني �أو القومي‪ ،‬املد ّ‬ ‫على جمع وحتفيز جميع طاقات املجتمع للدفاع عن جميع م�صاحله الأمنية و�سواها‪.‬‬ ‫وما ُيقال عن اخلطاب الديني والطائفي‪ /‬املذهبي ب�ش�أن امل�صالح الأمنية العربية ينطبق وربمّ ا ب�شكل‬ ‫أ�شد على امل�صالح االقت�صادية للفرد واملجتمع العربي‪ .‬فالت�شرذم االجتماعي و�إهمال احللول‬ ‫� ّ‬ ‫القومية ملواجهة التحد ّيات االقت�صادية هو نوع من التغ ّرب عن العقل والعلم وما يفر�ضه املنطق‬ ‫يف بناء اقت�صاد متني‪ ،‬حيث ت�ستثمر جميع الرثوات الطبيعية والب�شرية املتوافرة يف العامل العربي‪،‬‬ ‫وتف ّعل يف خدمة املواطن العربي �أينما وجد‪.‬‬ ‫�أ ّما تط ّلع املواطن العربي لالنتماء �إىل جمتمع تحُ فظ فيه احلقوق ومتار�س احلر ّيات الأ�سا�سية من قبل‬ ‫كل مواطن‪ ،‬جمتم ٌع ي�شعر فيه الإن�سان �أ ّنه �س ّي ُد م�صريه‪ ،‬قاد ٌر على �إطالق طاقاته اخللاّ قة نحو التط ّور‬ ‫العلمي يف وطنه‪ ،‬ومفاخرة الأمم الأخرى‪ ،‬وفر�ض احرتامه عليها جميعاً‪ .‬فما علمنا و�شهدنا من‬ ‫ّ‬ ‫ي�ستظل الدين ي� ّؤكد لنا �أن ما يدعو �إليه لي�س الطريق‬ ‫قول و�سلوك دعاة اخلطاب ال�سيا�سي الذي‬ ‫اىل ذلك‪ .‬وال ّبد لنا من مواكبة امل�سار العاملي يف ّ‬ ‫التطور العلمي واالجتماعي وال�سيا�سي‪ ،‬والتزام‬ ‫منهج عقالين تاريخي يف التفكري‪.‬‬ ‫لي�س الهدف �أن نن�سى الدين �أو املذهب �أو الطائفة التي ننتمي �إليها‪ ،‬ولكن يجب علينا �أن ننظر‬ ‫بدقّة �أكرب �إىل َمن نحن يف �ضوء الواقع الذي نعي�ش فيه‪ .‬وبالنظر ملا نعاين وما نحن فيه‪ ،‬تربز �أ�سئلة‬ ‫عدّة هي ال �شكّ موجودة يف ذهن الكثريين م ّنا‪:‬كيف �سيكون امل�ستقبل؟ هل �سيكون ا�ستجابة‬ ‫لآمالنا �أو حتقيقاً ملا نعاين من كوابي�س؟ هل �سيكون �صنيعة احل ّرية امل�ستنرية �أم �إنتاج ظالمية‬ ‫العبود ّية واجلهل؟ هل �سنبقى �أ�سرى غرائز بدائية ويبقى العقل ّ‬ ‫معط ًال فينا والربط بني اجلهد‬ ‫والنتيجة مغ ّيباً يف حياتنا؟‬ ‫ن�ستحق‪� ،‬أي امل�ستقبل‬ ‫اعتقادي الرا�سخ هو �أنّ امل�ستقبل لي�س مكتوباً علينا‪ ،‬و�إنمّ ا هو امل�ستقبل الذي‬ ‫ّ‬ ‫الذي ن�صنعه نحن‪.‬‬

‫‪13‬‬


‫�رصاع هوية ووجود‬

‫العرب بني �سيا�سة امل�صلحة‬ ‫وم�صلحة ال�سيا�سة‬ ‫د‪ .‬عاطـف عطيـّه ‪ -‬باحث و�أ�ستاذ جامعي‬

‫[‪]1‬‬

‫حتاول هذه الورقة �أن تبني العالقة بني ال�سيا�سة وامل�صلحة من حيث هي عالقة مف�صلية ال ميكن‬ ‫من خالل البحث فيها الف�صل بني ال�سيا�سة من حيث هي اتقان فن املمكن يف �سو�س م�صالح‬ ‫النا�س‪ ،‬منفردين وجمتمعني‪ ،‬من ناحية؛ واحرتاف العمل مع كل ما يرافق ذلك من املزايا اخللقية‬ ‫العامة ور�سوخ القيم االن�سانية النبيلة‪ ،‬على ت�أمني امل�صالح الوطنية العليا‪ .‬وامل�صلحة هنا‪ ،‬تظهر‬ ‫على �أنها نوع من املواءمة واملالءمة بني ت�أمني م�صالح النا�س وامل�صلحة الوطنية العامة‪ .‬ومن نافل‬ ‫القول‪ ،‬الت�أكيد �أن ت�أمني امل�صلحة الوطنية العليا مبعزل عن ت�أمني م�صالح النا�س �ضرب من الهرطقة‬ ‫ال�سيا�سية تو�صل �إىل اال�ستبداد والطغيان با�سم املحافظة على امل�صلحة العامة‪ .‬كما �أن ت�أمني‬ ‫م�صالح النا�س‪ ،‬منفردين وجمتمعني‪ ،‬دون االهتمام بت�أمني امل�صلحة الوطنية العليا �ضرب من‬ ‫ا�ستغالل النا�س للدولة واملجتمع تو�صل الدولة واملجتمع �إىل الفو�ضى واال�ستغالل‪ ،‬وتزايد حدة‬ ‫التفاوت االجتماعي‪ ،‬وفتح الأبواب على النزاعات والفو�ضى يف الأوجه كافة‪.‬‬ ‫بهذا املعنى‪ ،‬تلتقي م�صلحة ال�سيا�سة من حيث هي التعبري عن امل�صالح العليا للمجتمع مع �سيا�سة‬ ‫امل�صلحة من حيث هي ت�أمني امل�صلحة العامة‪ ،‬م�صلحة املجتمع وم�صلحة الدولة‪ .‬وبهذا املعنى‪،‬‬ ‫�أي�ضاً‪ ،‬تتناق�ض م�صلحة ال�سيا�سة مبفهومها وجتلياتها املبينة �أعاله مع �سيا�سة امل�صلحة يف حال تعبريها‬ ‫عن م�صلحة احلاكم باعتباره ميثل م�صلحة املجتمع والدولة معاً‪ .‬فتكون ال�سيا�سة هنا على ال�ضد مما‬ ‫يفعله احلاكم مبحاولته اخت�صار املجتمع والدولة يف �شخ�صه‪ ،‬وبالعمل على �إدغام م�صلحة ال�سيا�سة‬ ‫ب�سيا�سة امل�صلحة ال�شخ�صية واملنفعة الفردية‪.‬‬

‫‪15‬‬


‫�رصاع هوية ووجود‬

‫[‪]2‬‬

‫يف هذا الكالم العام‪ ،‬تظهر العالقة بني ال�سيا�سة وامل�صلحة يف �أوجه خمتلفة‪ .‬ومن حماذير اختالل‬ ‫هذه العالقة‪ ،‬ما ميكن �أن يو�صل‪� ،‬إما �إىل اال�ستبداد والطغيان‪ ،‬با�سم احلفاظ على امل�صلحة الوطنية‬ ‫العليا املندغمة هنا يف م�صلحة احلاكم‪� ،‬أو �إىل الفو�ضى با�سم احلرية املتفلتة من قيود ال�سيا�سة‬ ‫وم�صلحتها‪ ،‬باعتبارها فن املمكن وفن ت�أمني امل�صالح الوطنية‪.‬‬ ‫�إذا ت�أملنا يف �أو�ضاعنا احلا�ضرة على �صعيد العامل العربي‪ ،‬وعلى �صعيد كل دولة عربية على حدة‪،‬‬ ‫نت�ساءل‪ ،‬كيف ميكن ر�ؤية العالقة بني ال�سيا�سة وامل�صلحة؟ وكيف ميكن �أن تكون هذه العالقة يف‬ ‫حال متت املالءمة واملواءمة بني م�صلحة كل دولة عربية على حدة من الوجهة املعيارية‪� ،‬أي يف ما‬ ‫ميكن �أن تكون عليه هذه العالقة‪ ،‬وبني امل�صلحة العربية العليا معيارياً‪� ،‬أي يف ما ميكن �أن تكون؟‬ ‫قبل البحث معيارياً يف ما ميكن �أن تكون عليه هذه العالقة حملياً وعربياً‪ ،‬ال بد من النظر �إىل‬ ‫الو�ضع ال�سيا�سي العربي احلايل‪ ،‬حملياً‪ ،‬وعلى امل�ستوى العام‪.‬‬ ‫ال ميكن‪ ،‬يف �أي حال من الأحوال‪� ،‬إخفاء الرتدي ال�سيا�سي العربي عن �أي كان‪ .‬وال يقت�صر هذا‬ ‫الرتدي على العالقات ال�سيا�سية بني الدول العربية‪� ،‬إن كان يف ثنائياتها‪� ،‬أو يف الأكرث‪ .‬والعالقات‬ ‫االيجابية‪� ،‬إن وجدت‪ ،‬فهي ظرفية و�آنية و�شخ�صانية �أكرث مما هي مبنية على �أ�س�س متينة و�سليمة‪.‬‬ ‫وميكن لهذه العالقات �أن تتقوى �أو تنهار‪ ،‬ح�سب العالقة التي تربط بني ر�أ�سي الدولتني‪� ،‬أو‬ ‫لظرف طارئ ّ‬ ‫متـنها مع طرف ثالث‪ ،‬دون تنا�سب بني الطرفني‪� ،‬أو عمل على‬ ‫عكر العالقات‪� ،‬أو ّ‬ ‫موجة ال تر�ضي �أحدهما بالدرجة نف�سها لر�ضى الآخر‪� ،‬أو غري ذلك‪ .‬هذا على امل�ستوى العام‪� .‬أما‬ ‫على امل�ستوى اخلا�ص‪ ،‬ف�إن العالقة ال�شخ�صية التي تربط احلاكم باملحكوم‪ ،‬تعمل على ت�أبيد حكم‬ ‫احلاكم وعلى ت�أبيد خ�ضوع املحكوم‪ ،‬وعلى دمج جمتمع املحكومني بر�أ�س الدولة‪.‬‬ ‫هنا تظهر �سيا�سة امل�صلحة ب�أو�ضح �صورة‪� .‬صورة احلاكم الذي ال يحده �أفق يف النظر اىل احلكم و�إىل‬ ‫مدة احلكم‪ .‬وال يرى �إال الزمن الذي يقي�س مدة �أب ّوته ملجتمع املحكومني‪ .‬والأبوة ال تخ�ضع للزمن‬ ‫بل الزمن يخ�ضع لها‪ .‬وال يظهر الزمن �سطوته �إال باملوت‪� ،‬أو بتمرد "الرعية"‪ .‬وتعود الأبوة ّ‬ ‫لتطل‬ ‫بر�أ�سها با�ستمرار الأب باالبن �أو ال�شقيق‪ .‬ويعود الزمن �إىل اخل�ضوع ل�سطوة احلاكم‪.‬‬ ‫يق�ض م�ضجع احلاكم �صاحب �سيا�سة امل�صلحة ومنتهجها‪ ،‬املعار�ضة وفكرة تداول‬ ‫�أق�سى ما ّ‬ ‫ال�سلطة‪ .‬وال يقوى على لفظ كلمة دميقراطية �أو حرية‪ ،‬و�إن كان يقبل بكلمة امل�ساواة وامل�س�ؤولية‪،‬‬ ‫ولكن بال�شكل وامل�ضمون اللذين يجعالن منه الأب الراعي للأبناء على �أن يكونوا �سوا�سية‬ ‫ك�أ�سنان امل�شط يف النظر �إليهم‪ ،‬ويف التعاطي معهم‪ ،‬بامل�س�ؤولية الالزمة التي تعطي احلق للراعي‬ ‫يف �صون الرعية‪ .‬وهو بهذا‪ ،‬الأكرث دراية ووعياً مب�صاحلهم‪ ،‬وبتفا�صيل ق�ضاياهم‪ .‬هم عليهم الطاعة‬ ‫واالمتثال وت�أمني العمل واال�ستقرار‪ ،‬وهو عليه �صون الرعية وت�أمني امل�صالح العليا للدولة والوطن‪.‬‬ ‫‪16‬‬

‫هنا تظهر ب�أنقى �صورة امل�صلحة العليا للحاكم باعتبارها امل�صلحة العليا للدولة واملجتمع‪ ،‬و�أي حترك‬ ‫�أو احتجاج �أو مطالبة‪ :‬فتنة‪ ،‬وقبل ن�شوب فتنة الفنت‪" ،‬الثورة"‪ ،‬بوقت طويل‪.‬‬ ‫واملحتجني باعتبارهم عاقني‪.‬‬ ‫على م�ستوى الداخل‪ ،‬يتعامل احلاكم مع املعار�ضني �أو املطالبني‬ ‫ّ‬ ‫والعقوق م�صدر الأذى ومنبع اال�ضطراب ومولد الفو�ضى‪� .‬إذن على ا َحل ْجر �أن يحمي املجتمع من‬ ‫العاقني‪ ،‬ويط ّهر الف�ضاء املنقّى من جراثيم العقوق‪ ،‬و�إن امتلأت زنازين ال�سجون‪� ،‬أو ُفتحت �أبواب‬ ‫الهجرة على م�صاريعها‪.‬‬ ‫املنقـى هاج�س احلاكم امل�ؤبد‪ ،‬ومدار اهتمامه ليبقى منقّى‪ .‬وكل الأجهزة تعمل لتبقي على‬ ‫الف�ضاء ّ‬ ‫هذا النقاء‪ .‬يتمظهر ذلك يف اال�ستفتاءات والن�سب املئوية‪ .‬ويظهر على فم احلاكم وامل�ساعدين � َّأي‬ ‫تعار�ض لتوجه احلاكم على �أنه خارجي الهوى والأغرا�ض‪ ،‬لأن الداخل بيت العائلة الكبري‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫واخلارج يبغي تدمري الداخل‪ ،‬لتحويل هذا الداخل �إىل بوق اخلارج‪� ،‬أو مرتع نفوذه وهواه‪ .‬وال ّ‬ ‫حل‬ ‫يف جتنب �أذاه �إال بج ّز املعار�ضني‪ ،‬و�إن كانوا من �أقرباء الدم والن�سب‪ .‬وم�صلحة البالد هنا املخت�صرة‬ ‫مب�صلحة احلاكم‪ ،‬ت�ضحي باملارقني‪ ،‬ولو كانوا من �أقرب النا�س‪.‬‬ ‫[‪]3‬‬

‫هذا التوجه العام للحاكم واملتبوع‪ ،‬با�ست�سالم املحكومني‪ ،‬ي�سهم يف �إيجاد منافذ التدخل من‬ ‫اخلارج جتاه الداخل‪ .‬كما ميكن للخارج �أن ي�أخذ من ا�ستكانة الداخل وخ�ضوعه ذريعة لتدخله‪.‬‬ ‫وغالباً ما يبد�أ هذا التدخل بتوجه �إعالمي مربمج‪� ،‬أو بالعمل على توجيه النا�س �إىل التعرف على‬ ‫حقوقهم وواجباتهم من خالل التعاطي مع ال�ش�أن العام‪� ،‬إن كان بتو�سل الأحزاب �أو النقابات �أو‬ ‫حقوق اجلماعات‪� ،‬إتنية كانت �أو دينية �أو مذهبية �أو جندرية‪ .‬فيتوجه الن�شاط العملي اليومي �إىل‬ ‫املطالبة باحلقوق امله�ضومة‪ ،‬وحق التمتع باحلرية يف �شتى مناحيها‪� ،‬أفراداً وجماعات‪ .‬في�صري من‬ ‫املح ّتم‪ ،‬تالقي مطالب الداخل مع توجهات اخلارج‪ ،‬حتت عناوين كربى تتعلق بحقوق االن�سان‪،‬‬ ‫وممار�سة الدميقراطية واحلرية‪ ،‬والتعاطي يف �شتى �أمور النا�س مبا يتنا�سب مع توجهاهم‪ ،‬ومع توجهات‬ ‫املجتمع املدين الذي يعمل على ف�صل املجتمع عن الدولة‪ ،‬ويطالب الدولة‪ ،‬وي�ضغط عليها‪،‬‬ ‫ويتعاون معها �أي�ضاً‪ ،‬لت�أمني حقوق املجتمع بكل �أطيافه وم�ؤ�س�ساته وعنا�صره‪.‬‬ ‫يف هذا كله‪ ،‬تت�أمن م�صلحة ال�سيا�سة يف كونها فن تعاطي املمكن‪ ،‬وفن خدمة الق�ضايا الوطنية‪.‬‬ ‫م�صلحة ال�سيا�سة‪ ،‬باعتبارها العاملة على تو�سيع امل�ساحة امل�شرتكة التي جتمع فئات املجتمع‪ ،‬وعلى‬ ‫بناء ما يجمعهم‪ ،‬وي�ؤلف فيما بينهم يف الق�ضايا التي تدل على وحدة االرادة‪ ،‬ووحدة امل�صري‪،‬‬ ‫و�أهمية العي�ش امل�شرتك‪ ،‬وتنمية روح املواطنية‪ ،‬وزرع عنا�صر احل�س املدين بالقول واملمار�سة‪.‬‬ ‫هذه املوا�صفات جميعها‪ ،‬ت�شكل العنا�صر الأ�سا�سية املميزة للمجتمع املدين الذي يعمل‪ ،‬لي�س‬ ‫‪17‬‬


‫�رصاع هوية ووجود‬

‫فقط على بلورة حقوق النا�س وت�أ�سي�س الوعي بها‪ ،‬بل �أي�ضاً‪ ،‬على معرفة الواجبات‪ ،‬وكيفية‬ ‫ممار�ستها على امل�ستويات كافة؛ منها حرية التعبري‪ ،‬وممار�سة الن�شاط ال�سيا�سي واالجتماعي‪،‬‬ ‫واملطالبة بحقوق النا�س‪ ،‬والدفع باجتاه العمل على تعميم مفاهيم الدميقراطية واحلرية‪ ،‬والعمل‬ ‫مبا تتطلبه يف املمار�سة‪� ،‬إن كان يف عملية تداول ال�سلطة‪� ،‬أو�شرعية املعار�ضة‪ .‬والغاية النهائية من‬ ‫ذلك كله‪ ،‬ت�أمني امل�صالح العليا للمجتمع‪ ،‬وذلك من خالل التعامل مع الدولة‪ ،‬وبكل �أ�صناف‬ ‫التعامل‪� ،‬سلباً كان هذا التعامل �أو �إيجاباً‪ .‬ذلك �أن الدولة‪ ،‬باعتبارها دولة‪ ،‬هي امل�س�ؤولة عن ت�أمني‬ ‫هذه امل�صالح‪ ،‬مبا يتنا�سب مع املجتمع‪ ،‬قبل تنا�سبه مع م�صلحة احلاكم‪.‬‬ ‫هذا التوجه ي�ؤلف بني الدولة واملجتمع‪ .‬كما ي�ساهم يف ت�أمني م�صلحة ال�سيا�سة‪ .‬وباعتباره هذا‪،‬‬ ‫ُيبعد �سيا�سة امل�صلحة املرتبطة ب�أهواء احلاكم ومريديه وال�ضاربني ب�سيفه‪ .‬وي�سد‪ ،‬بالتايل‪ ،‬منافذ رياح‬ ‫التغيري التي ميكن �أن ت�أتي من اخلارج‪ ،‬على غري ما ي�سري فيه �أ�صحاب �إرادات التغيري من الداخل‪.‬‬ ‫يف هذا املجال‪ ،‬ميكن لأ�صحاب �إرادات التغيري من الداخل �أن ي�ستفيدوا مما يقدمه اخلارج‪،‬‬ ‫وخ�صو�صاً يف وجهه االعالمي‪ ،‬من خالل حمل النا�س على الوعي بحقوقهم وواجباتهم‪،‬‬ ‫وموقعهم يف عمليات التغيري‪ .‬فيبقى الداخل‪ ،‬لذلك‪ ،‬امل�ستفيد الأول من عمليات التغيري‪ ،‬و�إن‬ ‫كان مب�ساعدة معلومة من اخلارج‪ ،‬وبوجهها االعالمي على اخل�صو�ص‪ .‬فتت�أمن بذلك‪ ،‬م�صلحة‬ ‫ال�سيا�سة يف الداخل‪ .‬وتكون ال�سيا�سة بذلك قد �صفّحت نف�سها‪ ،‬وعملت‪ ،‬يف الوقت ذاته‪ ،‬على‬ ‫عدم االجنرار وراء �أهواء اخلارج ونوازعه‪ .‬وهي املطامع التي تدخل جميعها من باب ت�أمني �سيا�سة‬ ‫امل�صلحة يف تعاطيها مع الداخل العامل على التغيري‪ ،‬ومن باب ت�أمني م�صلحة ال�سيا�سة يف عالقتها‬ ‫مع ق�ضاياها‪ .‬امل�صالح نف�سها كانت وما زالت توجه �سيا�سات الدول وتعمل على ت�أمني بحبوحة‬ ‫�شعوبها وا�ستقرارهم‪ ،‬و�إن كان على ح�ساب م�صالح الآخرين؛ �إذ على ه�ؤالء �أن يفت�شوا عن‬ ‫م�صاحلهم �أي�ضاً‪.‬‬ ‫[‪] 4‬‬

‫يف زمن القهر‪ ،‬تتالقى م�صلحة ال�سيا�سة على م�ستوى الداخل‪ ،‬مع �سيا�سة امل�صلحة خارجياً‬ ‫وت�ستتبع هذه تلك‪ ،‬وتتبادل امل�صالح "م�صاحلها" مبا يرجح كفة اخلارج يف تعاطيه مع الداخل‪ .‬وهو‬ ‫اخلارج الأقوى والأكرث قدرة على حتديد �آفاق حتركه ون�شاطاته ومربرات تدخله‪ .‬وال يهم �إذا كانت‬ ‫هذه املربرات ذاتية �أو مو�ضوعية‪ ،‬طاملا ت�صب جميعها يف خدمة هذا التوجه‪ .‬فهي بذلك ت�ستفيد‬ ‫من زمن القهر والت�سلط واال�ستبداد‪ ،‬لتنفيذ ما يخدم م�صلحتها يف ال�سيا�سة متو�سلة نتائج �سيا�سة‬ ‫واملهم�ش واملقموع‪.‬‬ ‫امل�صلحة يف تعاطيها مع املقهور ّ‬ ‫يف هذا االطار‪ ،‬يت�ساوى اتهام العراق بامتالكه �أ�سلحة الدمار ال�شامل‪ ،‬مع املعرفة الأكيدة‬ ‫لتوجهات ال�شعب العراقي الذي �أنهكه زمن احل�صار والقهر والت�سلط‪ .‬وهو احل�صار املتزامن مع‬ ‫‪18‬‬

‫�إظهار وقوف كل ال�شعب مع احلاكم املحا�صر‪ ،‬والنا�شئ عن �سيا�سة امل�صلحة‪ .‬فكان �أن احتل‬ ‫الأمريكيون العراق ب�إ�شراف مبا�شر‪ ،‬ودون حول �أو قوة‪ ،‬من الأمم املتحدة خا�صة‪ ،‬وحتت �أنظار‬ ‫البلدان العربية جمتمعة‪ .‬وما كان للجامعة العربية �أي دور‪ ،‬ال يف ال�سلب وال يف الإيجاب‪ .‬بل‬ ‫كانت �أقرب ما تكون من حالة العجز الكامل وال�شلل التام‪ ،‬والعتبارات متعددة‪ ،‬ال جمال هنا‬ ‫للبحث فيها‪ ،‬وت�ستدعي‪ ،‬بالتايل‪ ،‬قو ًال �آخر‪.‬‬ ‫يت�ساوى احلدث العراقي يف كل تداعياته‪ ،‬مع الر�ؤية الوا�ضحة للقهر والت�سلط يف �أكرث من بلد‬ ‫عربي‪ ،‬ما �أتاح التدخل ال�سافر حتت عناوين متعددة‪ ،‬منها‪ :‬الدفاع عن حقوق االن�سان‪� ،‬أفراداً‬ ‫وجماعات‪ ،‬واملطالبة بن�شر الدميوقراطية‪ ،‬وتداول ال�سلطة‪ ،‬ويف �أمكنة وجغراف ّيات حمددة دون‬ ‫غريها؛ والعمل على تنفيذها بتو�سل كل ما ميكن من �أ�ساليب‪ ،‬مثل‪ :‬حق التظاهر واالعت�صام‪،‬‬ ‫والتمرد وحتدي النظام العام‪ ،‬يف جمتمعات ال تزال غري قادرة على التغيري مبا يتنا�سب مع تطلعاتها‪،‬‬ ‫ومبا متتلكه من �أدوات التغيري‪ ،‬ومن م�شاريع ر�ؤى تغيريية‪� ،‬أو م�شاريع ميكن �أن حتل حمل ما هو قائم‪.‬‬ ‫[‪]5‬‬

‫تظهر‪ ،‬من خالل املواجهة بني املجتمع والدولة يف العامل العربي‪ ،‬ه�شا�شة الدولة واملجتمع معاً‪.‬‬ ‫ه�شا�شة الدولة من خالل �سرعة انفراطها يف حاالت التجيي�ش العملي والعاطفي جلماهري النا�س‪،‬‬ ‫�شباباً ومثقفني ومظلومني؛ النا�س الذين قلبوا حكاماً‪ ،‬و�أجربوا‪ ،‬ويجربون �آخرين‪ ،‬على التنحي‪.‬‬ ‫و�أجربوا‪ ،‬ويجربون �آخرين‪ ،‬على الوعد باال�صالحات و�إقامة التغيريات مبا يتنا�سب مع تطلعات‬ ‫النا�س‪ .‬ولكنهم تورطوا‪ ،‬وما زالوا يتورطون‪ ،‬عن وعي منهم وال وعي‪ ،‬وب�أكرثيتهم ال�ساحقة‪،‬‬ ‫والعتبارات متعددة‪ ،‬يف االنق�سامات الإتنية والقبلية والدينية واملذهبية‪ .‬ور ّدوا جمتمعاتهم‪،‬‬ ‫بتوجههم هذا‪� ،‬إىل االنتماءات الأهلية ال�سابقة لوجود الدولة احلديثة‪� ،‬أو مظاهرها على الأقل؛‬ ‫وك�أن كل �أدوات التحديث ورموزها‪ ،‬كانت تنتظر ا�ستفاقة احل�س الأهلي القبلي والديني والطائفي‬ ‫والإتني واملناطقي لتتنحى‪ ،‬خملية املكان للقبيلة والطائفة واملذهب والعن�صر واملنطقة‪ .‬ولنا يف‬ ‫اليمن وال�سودان وليبيا ولبنان وال�صومال والعراق والبحرين و�سورية الأمثلة ال�ساطعة على ذلك‪.‬‬ ‫ومل تقع اجلزائر واملغرب والأردن وال�سعودية وبلدان اخلليج يف املحظور‪� ،‬إما ب�سبب قوة التما�سك‬ ‫الداخلي‪� ،‬أوعجز �أدوات التغيري على فعل ما فعلت يف �أ�صقاع �أخرى‪ ،‬على الأقل حتى الآن‪.‬‬ ‫[‪]6‬‬

‫الو�ضع العربي املرتدي الظاهر للعيان‪ ،‬يقت�ضي البحث يف ال�سبل التي ميكن �أن ت�ساهم يف عملية‬ ‫التغيري‪ ،‬وتزيد‪ ،‬يف الوقت نف�سه‪ ،‬من متا�سك املجتمعات داخل البلدان العربية‪ .‬وتعمل كذلك‪،‬‬ ‫‪19‬‬


‫�رصاع هوية ووجود‬

‫على بناء العالقات ال�سليمة فيما بينها‪ ،‬وعلى �أ�سا�س وعي م�صلحة ال�سيا�سة يف بناء هذه العالقات‪،‬‬ ‫تن�سيقاً و تكام ًال‪� ،‬أو احتاداً �أو وحدة‪.‬‬ ‫من نافل القول الت�أكيد على فائدة هذا التوجه‪ ،‬ملا له من �أهمية يف �إظهار القوة املت�أتية من هذه‬ ‫العالقات بني البلدان العربية‪ ،‬وزيادة م�ساحة املوقع يف العالقات الدولية‪ .‬هذا املوقع هو الذي‬ ‫يعطي االمكانية �إىل اخلارج لينظر بعني مغايرة �إىل الداخل املتكامل‪� ،‬أو االحتادي‪ ،‬مبا يتنا�سب مع‬ ‫ت�أمني م�صلحة ال�سيا�سة للداخل‪� ،‬إن كان على م�ستواه اجلامع الوحدوي �أو االحتادي �أو التكاملي‪،‬‬ ‫�أو على م�ستواه االقليمي والفردي‪ ،‬ومبا يتنا�سب مع اخلارج �أي�ضاً‪.‬‬ ‫و�إنطالقاً من مقولة "النظر على قدر احلجم"‪ ،‬مبعنى �أن ال ينظر �أحد �إىل �أحد‪� ،‬أو ال يتعامل �أحد‬ ‫مع �أحد‪� ،‬إال مبا يتنا�سب مع احلجم والقوة‪ ،‬ف�إن من م�صلحة ال�سيا�سة يف الدول العربية‪ ،‬التوجه‬ ‫نحو العمل على ردم الهوة بينها وبني جمتمعاتها‪ ،‬عرب ت�أمني املزيد من الدميوقراطية‪ ،‬واحلرية‪ ،‬وفتح‬ ‫الآفاق الرحبة �أمام تطلعات �شعوبها‪ .‬ويف هذا االطار‪ ،‬من الأف�ضل‪ ،‬بل من ال�ضروري‪� ،‬أن ي�أتي هذا‬ ‫التوجه من احلكام �أنف�سهم‪ ،‬ال من اخلارج‪ ،‬و�إن كان مب�ساعدة منه �أو مبوجب ن�صيحة‪� ،‬أو ن�صائح‪.‬‬ ‫و�إال جاء هذا التوجه من اخلارج نف�سه‪� ،‬إن كان باملرونة الالزمة‪� ،‬أو بالقوة القاهرة‪ ،‬كما ح�صل‪� ،‬أو‬ ‫ميكن �أن يح�صل‪.‬‬ ‫هذا الكالم ي�ستدعي العمل على موجة الداخل لبناء االن�سان املواطن‪ ،‬والعمل على بناء‬ ‫امل�ؤ�س�سات‪ ،‬على �أي م�ستوى كانت؛ وهي امل�ؤ�س�سات التي ت�سهم يف بناء املجتمع املدين من‬ ‫خالل �آلية عملها‪ ،‬وكيفية تعاطيها مع االن�سان الفرد واجلماعة‪ ،‬ومع الدولة �أي�ضاً‪ .‬ومن نافل القول‬ ‫الت�أكيد على �أهمية ممار�سة الدميوقراطية‪ ،‬وخ�صو�صاً على امل�ستوى ال�سيا�سي‪ ،‬وتداول ال�سلطة‪،‬‬ ‫وامل�ساواة �أمام القانون‪ ،‬و�إزالة كل العوائق التي متنع املواطنني من التفاعل‪ ،‬ومن الرتبية على‬ ‫املواطنية وال�شعور بها وممار�ستها‪� ،‬إن كان على امل�ستوى الديني يف حال تعدد الأديان‪� ،‬أو على‬ ‫امل�ستوى الطائفي �أو املذهبي يف حال تعدد املذاهب والطوئف �ضمن الدين الواحد‪� ،‬أو كان على‬ ‫امل�ستوى الإتني �أو القبلي يف حال تعدد الإتنيات والعنا�صر‪ ،‬ور�سوخ الع�صبية القبلية �ضمن‬ ‫الدين الواحد �أو حتى الطائفة‪� ،‬أو على م�ستوى االختالف والتفاوت االجتماعي واالقت�صادي‬ ‫بني املناطق‪� ،‬أو �ضمن املنطقة الواحدة‪� ،‬إىل �أي دين �أو طائفة �أو �إتنية انتموا‪.‬‬ ‫ال �إمكانية لتنفيذ هذه التوجهات‪� ،‬أو العمل عليها‪� ،‬إال عند ح�صول القناعة التامة ب�أهميتها على‬ ‫امل�ستوى الفردي‪� ،‬أو اجلماعي‪ ،‬مهما كانت هوية الفرد �أو اجلماعة‪ ،‬باعتبار �أن هذه التوجهات متثل‬ ‫م�صلحته‪ ،‬فرداً �أو جماعة‪ ،‬وتتحقق‪ ،‬من ت�أمني �سيا�سة امل�صلحة هذه‪ ،‬م�صلحة ال�سيا�سة‪ ،‬وعلى‬ ‫ح�ساب �سيا�سة امل�صلحة‪.‬‬

‫‪20‬‬

‫[‪]7‬‬

‫ما �سبق‪ ،‬يبني كيفية ت�أمني م�صلحة ال�سيا�سة على �صعيد الداخل‪ ،‬داخل كل بلد عربي‪ .‬ماذا‪،‬‬ ‫�إذن‪ ،‬على �صعيد العالقات العربية ‪ -‬العربية ؟ وكيف ميكن �أن تكون هذه العالقات؟‬ ‫من زمان‪ ،‬ن�سمع بال�سوق العربية امل�شرتكة‪ ،‬وقبل حتقيق االحتاد الأوروبي بكل مقدماته وتف�صيالته؛‬ ‫هذا التحقيق الذي مل يح�صل قبل العمل على التن�سيق بني القطاعات االقت�صادية الأولية‬ ‫واالنتاجية‪ .‬ما يعني �أن مفتاح �أي وحدة �أو احتاد‪ ،‬على امل�ستوى ال�سيا�سي‪ ،‬ال بد �أن ي�سبقه تكامل‬ ‫وتن�سيق‪ ،‬على امل�ستوى االقت�صادي‪ ،‬مهما كانت‪ ،‬يف البداية‪ ،‬درجة تكامل �أو تن�سيق هذا امل�ستوى‪.‬‬ ‫ال�ش�أن االقت�صادي هو الذي ُي�شعر االن�سان‪ ،‬فرداً كان �أو جماعة‪ ،‬بالفائدة‪ .‬وي�ساعد على التحفيز‬ ‫والطموح لبناء احلياة املرفّهة والرغيدة‪ .‬بهذه الفائدة والتحفيز والطموح تتحقق امل�صلحة‪ ،‬ذاتية‬ ‫كانت �أو جماعية �أو جمتمعية‪ .‬وبتحقيق امل�صلحة االقت�صادية تظهر فائدة و�ضرورة ت�أمني م�صلحة‬ ‫ال�سيا�سة؛ هذه امل�صلحة التي عليها �أن تعمل على ر�سم ال�سيا�سات املن�سقة واملتكاملة يف العالقات‬ ‫بني البلدان العربية‪ ،‬مبا يحفظ ا�ستقالل كل منها‪ ،‬ومبا يبني العالقات ال�سيا�سية الإيجابية بني‬ ‫منازل البيت العربي الواحد‪ ،‬ويف عالقة البلدان العربية مع اخلارج‪ .‬هذا ما ي�س ّهل بناء العالقات‬ ‫الإيجابية مع هذا اخلارج‪ ،‬وانطالقاً من موقع عربي موحد �أو م�ؤتلف ومتكامل‪ .‬وهذا �أي�ضاً‪ ،‬ما‬ ‫يحفظ كرامة العرب ويحدد موقعهم يف قلب العامل‪ ،‬ال على هام�شه‪ .‬ومن هذا املوقع‪ ،‬تتحدد‬ ‫توجه‬ ‫حممي وحم�صن من ّ‬ ‫عالقة كل بلد عربي مع هذا اخلارج‪ ،‬لي�س باعتباره بلداً م�ستفرداً‪ ،‬بل ّ‬ ‫موحد‪� ،‬أو م�ؤتلف ومتكامل‪ .‬وهذا يعني‪ ،‬مما يعنيه‪� ،‬أن ح�صول ال�ضرر ال�صغري هو بعينه ال�ضرر‬ ‫عربي ّ‬ ‫الكبري‪ ،‬مهما كان نوع هذه العالقة‪ ،‬ومهما كانت ت�أثرياتها‪.‬‬ ‫حتقيق التكامل االقت�صادي العربي عن طريق توزيع قطاعات االنتاج على البلدان العربية‪ ،‬ح�سب‬ ‫ما تقت�ضيه اجلغرافية ال�سيا�سية واالقت�صادية واالقليمية �أو ًال ب�أول‪ ،‬وتبادل املنتوجات بحيث تتيح‬ ‫�إعادة توزيع الرثوة العربية؛ والتخلي عن �سيا�سة التفرد االقليمي اقت�صادياً و�سيا�سياً‪ ،‬هو �أف�ضل ما‬ ‫ميكن العمل عليه لبناء العالقات العربية العربية‪ ،‬وال فرق‪ ،‬بعد ذلك‪� ،‬إذا �أو�صلت �إىل االحتاد �أو‬ ‫الوحدة‪.‬‬ ‫املفارقة الكربى‪� ،‬أن العمل بح�سب هذا التوجه‪ ،‬بالإمكان توفره عن طريق ن�شاطات اجلامعة‬ ‫العربية التي �أن�شئت على هذا الأ�سا�س‪ ،‬وللقيام بهذه املهام‪ .‬واملفارقة الأكرب �أن عمل اجلامعة‬ ‫ّ‬ ‫ين�شل يف حال وجود خالف‪� ،‬أو �أزمة‪ ،‬بني �أي بلد عربي‪� ،‬أو �أكرث‪ ،‬بدل �أن يكون اخلالف حمفزاً‬ ‫للجمع لإزالة الفرقة‪ .‬ويف حال اال�ستقرار تتحول �أعمال اجلامعة �إىل �سوق للمدائح والأدعية ب�إطالة‬ ‫الأعمار‪ ،‬وتوزيع بع�ض "املغارم" على الأ�شقاء امللحوقني اقت�صادياً‪ ،‬واملالحقني �سيا�سياً‪ ،‬ملغاالتهم‬ ‫يف ارتكاب �سيا�سات امل�صلحة‪،‬وبعدهم عن م�صلحة ال�سيا�سة‪.‬‬ ‫‪21‬‬


‫�رصاع هوية ووجود‬

‫التكامل االقت�صادي على هذا ال�صعيد‪ ،‬املفرت�ض فيه �أن يكون بقيادة اجلامعة العربية‪ ،‬ال بد �أن‬ ‫ُي�ستتبع بتكامل مبني على العمل لتحقيق التنمية الب�شرية على ال�صعد كافة‪ ،‬وخ�صو�صاً على‬ ‫�صعيد البحث العلمي‪ ،‬والعالقة مع املر�أة باعتبارها ن�صف املجتمع‪ ،‬لأن يف تنميتها ومتكينها تنمية‬ ‫ومتكني املجتمع‪.‬‬

‫م�ستقبل ال�سيا�سة العربية يف زمن التغ ّول‬

‫امليكيافيلية ال�سعودية‪" :‬من الأف�ضل �أن تُهاب على �أن تحَُب"‬

‫�أحمد عبيد املن�صوري ‪ -‬باحث من الإمارات‬ ‫[‪]8‬‬

‫ال�شعور والوعي بامل�صلحة‪ ،‬حتى ولو كانا على م�ستوى الفرد يف موقعه يف املجتمع‪� ،‬أو يف طريقة‬ ‫التعبريعن وجوده وممار�سته حلق املواطنة على اختالف �أوجهها‪ ،‬باال�ضافة �إىل موجباتها �أي�ضاً‪،‬‬ ‫من�ضافاً �إليهما انخراطه يف العمل‪� ،‬أو مل�سه‪ ،‬وباملح�سو�س‪ ،‬لفائدة العالقات االقت�صادية العربية‬ ‫املتبادلة‪� ،‬أو �إح�سا�سه بقوة موقعه كعربي يف العامل؛ كلها ت�سهم يف �إظهار وحدة التوجه العربي‬ ‫وتعمل على حتقيق طموحات العرب يف التكامل �أو االحتاد �أو الوحدة‪ ،‬ال فرق‪.‬‬ ‫هل تلتقي هنا طموحات الفرد العربي مع طموحات بلدانه؟ هذا هو ال�س�ؤال‪ .‬واالجابة عنه منوط‬ ‫بالبلدان العربية‪ ،‬دو ًال وجمتمعات‪.‬‬

‫تفر�ض �شخ�صية احلاكم اجلديد وميوله �أثرها على �سيا�سة بلده و�صو ًال �إىل انقالب هذه ال�سيا�سة‬ ‫ميتد �إىل‬ ‫�أحياناً وحت ّولها �إىل عك�سها يف البلدان التي يتمتع فيها احلاكم ب�سلطات وا�سعة‪ .‬هذا الأمر ّ‬ ‫البلدان امل�ؤ�س�ساتية املتقدمة ومنها الواليات املتحدة الأمريكية حيث يدخل الرئي�س حماطاً بفريقه‬ ‫املك ّون من حوايل �ألفي �شخ�ص‪ .‬هذا الفريق يحدث �أحياناً تغيريات بارزة يف الفرتات املف�صلية‪،‬‬ ‫كما حدث يف الفرتات االنتقالية بو�ش الأب‪ /‬كلينتون ثم كلينتون‪ /‬بو�ش االبن و�أخرياً؛ بو�ش‬ ‫االبن‪� /‬أوباما‪.‬‬ ‫هذه مالحظة ال ميكن التغا�ضي عنها يف احلالة ال�سعودية بعد انتقال احلكم فيها �إىل امللك اجلديد‪،‬‬ ‫خا�صة �أن اللحظة اجليو�سيا�سية الراهنة مزدحمة بقائمة من املتغيرّ ات الغام�ضة املرتقبة التي �ستجرب‬ ‫اململكة على التعامل معها وفق �أ�ساليب تنا�سب واقع احلال املفرو�ض عرب هذه التغيريات‪.‬‬ ‫امللك اجلديد والإرث ال�صعب‬

‫متفجرة مل يكن بالإمكان توقعها‪ ،‬مبا يخفف وقع �أخطاء‬ ‫لقد �شهد العقد الأخري مفاج�آت �سيا�سية ّ‬ ‫ال�سيا�سة ال�سعودية ال�سابقة من دون �أن يق ّلل ذلك �أي�ضاً من وقع الأزمات التي تفر�ض نف�سها على‬ ‫امللك اجلديد‪ .‬ويف غياب املعلومات الدقيقة نكتفي بالت�سريبات املتاحة لنا لن�ص ّنف هذه الأزمات‬ ‫على النحو التايل‪:‬‬ ‫‪ -1‬تركيبة احلكم اجلديد �سواء من حيث هيكليتها وخروجها على الرتكيبة النمطية لتلبية احلاجة‬ ‫�إىل �إ�شراك اجليل الثاين يف احلكم �أم جلهة ا�ستبعاد �شخ�صيات فاعلة من الرتكيبة ال�سابقة‪.‬‬ ‫‪ -2‬اخلالفات داخل العائلة املالكة املهددة بنزاعات اخلارجني وامل�ستبعدين من احلكم �إىل داعمني‬ ‫ملعار�ضة احلكم اجلديد ناهيك عن داعمي احلركات الأ�صولية‪.‬‬ ‫املتفجرة‪ ،‬على اخلا�صرة اجلنوبية الرخوة للمملكة‪ ،‬التي مل تعد قابلة للحلول‬ ‫‪ -3‬الأزمة اليمنية ّ‬ ‫‪22‬‬

‫‪23‬‬


‫�رصاع هوية ووجود‬

‫التقليدية والتي ت�ستوجب حلو ًال ميكافيلية مبعنى الكلمة‪.‬‬ ‫‪ -4‬تراجع النفوذ ال�سعودي الإقليمي الذي �أ�صيب مبقتل بعد الإطاحة بالرئي�س مبارك‪ ،‬مع ما‬ ‫جمة‪ ،‬يف مقدمتها ا�ستمرار النزيف ال�سوري وت� ُّأخر احل�سم‬ ‫�صاحب ذلك من خ�سائر �إقليمية ّ‬ ‫وعدم التو�صل حلل �سيا�سي‪ ،‬الأمر الذي ا�ستهلك النفوذ ال�سعودي يف لبنان فيما حتول العراق‬ ‫�إىل النفوذ الإيراين‪.‬‬ ‫‪ -5‬تراجع النفوذ ال�سعودي يف اخلليج‪ ،‬حيث تقيم �سلطنة عمان عالقات حميمة مع �إيران‪ ،‬وحيث‬ ‫أعدت قطر نف�سها لدور الو�سيط بني اململكة و�إيران‪ ،‬و�أي�ضاً بني اململكة والإخوان امل�سلمني‪،‬‬ ‫� ّ‬ ‫فيما تعاين باقي دول اخلليج من �إحباط العجز ال�سعودي �أمام �أزمات املنطقة‪.‬‬ ‫هي �أزمات تفر�ض نف�سها على امللك اجلديد وحترمه من فرتة التهي�ؤ حلني متام انتقال احلكم‪ .‬وهذا‬ ‫قد دفع بامللك اجلديد لإطالق ر�سائل عاجلة يف �شتى االجتاهات‪ ،‬يف �إ�شارة ال�ستعداده ملواجهة‬ ‫هذه االزمات وملكيته لأدوات هذه املواجهة‪.‬‬ ‫�أمام هذا الإرث ال�صعب وتزامن الأزمات و�ضرورات التعاطي الرباغماتي معها يحق لنا النظر‬ ‫�إىل هذه الر�سائل امللكية على �أنها جمرد �إ�شارات �سيا�سية ال ترقى �إىل مرتبة الإ�شارات املحددة‬ ‫ل�سيا�سات امللك اجلديد‪.‬‬ ‫امللك اجلديد يطلق ر�سائله ال�سيا�سية‬

‫يلوح يف الأفق توجه جديد "للإدارة" يف اململكة العربية ال�سعودية اجلديدة �إن وجد هذا امل�صطلح‬ ‫�أ�ص ًال �أو كان معمو ًال به‪ .‬لقد �أر�سل امللك ر�سائل جلميع احللفاء ال�سابقني‪ ،‬وكذلك �إىل غري احللفاء‪،‬‬ ‫حتى قبل �أن يبد�أ مهامه عملياً على عك�س ما يجري يف ال�سيا�سة العربية التي تطلق ر�سائلها عرب‬ ‫ال�شائعات‪.‬‬ ‫فقد �أر�سل امللك ر�سائله من خالل ُا�سلوب الإ�شارات‪ ،‬من خالل �أ�سلوب ا�ستقباله لنظرائه‪ ،‬وعرب‬ ‫اللقاءات ومدتها و�أي�ضاً من خالل �إ�شارات ير�سلها عرب و�سائل الإعالم والدبلوما�سيني‪.‬‬ ‫�إنها �سيا�سة الإ�شارات املوحية والإيحاء املركزي فيها هو انفتاح امللك لإعادة النظر يف حتالفات‬ ‫اململكة‪ ،‬و�إبداء اال�ستعداد ملواجهة التحديات احلالية وفق االعتبارات وامل�صالح امل�ستقبلية‪ .‬وميكن‬ ‫تف�سري هذه الر�سائل بب�ساطة "على الرغم من �أنها مبا�شرة و�سافرة" ب�أنها موجهة لغري ال�سعوديني‬ ‫وفحواها "مبا �أنكم مل تقدروا جهود الإ�صالحات التي قام بها امللك الراحل عبد اهلل الذي و�ضع‬ ‫يده حتى بـيد "ال�شياطني" الليرباليني‪ ،‬لكنكم وا�صلتم جميعاً مهاجمة عقيدة اململكة العربية‬ ‫‪24‬‬

‫ال�سعودية و�سيا�ساتها‪ .‬لذا ف�إننا نعود �إىل ال�سلفية و�سنتحالف مع جماعة الأخوان امل�سلمني‪ ،‬كما‬ ‫فعلنا يف بدايات الن�صف الثاين من العقد الأخري من القرن املا�ضي مع الت�أكيد على ا�ستقاء‬ ‫ال�سيا�سات النابعة من العمق ال�سعودي‪ ،‬عو�ضاً عن التوجهات واالعتبارات واملفاهيم العاملية"‪.‬‬ ‫بناء على ما تقدم تتحول الر�سالة ال�سيا�سية املركزية للملك اجلديد �إىل العمل على �إعادة حتديد‬ ‫املنطلقات والأ�س�س ل�سيا�سة التحالفات ال�سعودية‪ ،‬بحيث ت�ؤ�س�س هذه التحالفات على �أ�سا�س‬ ‫بتوجهات و�أدوات‬ ‫امل�صالح ال�سعودية �أو ًال‪ ،‬بحيث تكون مبادئها و�أيديولوجيتها �سعودية‪ ،‬وذلك ّ‬ ‫ودبلوما�سية �سعودية جديدة تتوىل �إدارة عالقات اململكة على امل�ستويات املحلية والعربية والأجنبية‪.‬‬ ‫امللك اجلديد يف مواجهة التحديات‬

‫الأزمات املذكورة �أعاله‪ ،‬وال�شياطني الكامنة يف تفا�صيلها‪ ،‬ومعها ال�صفقات الإقليمية والتوازنات‬ ‫اال�سرتاتيجية املنتظرة تلتقي عند نقطة تهمي�ش دور اململكة ما مل تتح ّرك حلجز مكانها يف املعادالت‬ ‫اجلديدة مبا يتيح لها احلفاظ على مكانتها الإقليمية ومواجهة �أزماتها يف �آن معاً‪.‬‬ ‫لكن الالفت هو �أن اللحظة اجليو�سيا�سية الراهنة تتطلب من ال�سعودية ومن دول املنطقة كافة �أن‬ ‫تر�سم �سيا�ساتها وتتخذ قراراتها بنف�سها من دون انتظار تدخل �أمريكي مبا�شر فيها‪ .‬وهو ما مل يعتده‬ ‫�أ�صدقاء �أمريكا يف املنطقة �إال �أنه يفر�ض نف�سه من خالل الإعالن الأمريكي ب�أن �إيران ت�شكل قبلة‬ ‫م�ستقبلية للم�صالح الأمريكية يف املنطقة‪ ،‬ما يجعل امل�ساعدة الأمريكية للأ�صدقاء مبت�سرة وتقت�صر‬ ‫"على تقدمي امل�شورة ومتديد اللحظة اجليو�سيا�سية مبماطلة املفاو�ضات النووية وت�أمني �أجواء �أف�ضل‬ ‫لتفاهم �سعودي �إيراين على �ضوء امل�ستجدات املقبلة"‪.‬‬ ‫رغم عدم كفاية الإ�شارات ال�صادرة عن امللك اجلديد‪ ،‬وبالتايل عدم �إمكانية البناء عليها باعتبارها‬ ‫�إرها�صات عن اال�سرتاتيجية ال�سعودية اجلديدة‪ ،‬ف�إنه من املمكن ر�سم اخلطوط العري�ضة خلطة‬ ‫امللك يف مواجهة التحديات املطروحة عليه بعد حتديد نقاط القوة وال�ضعف لدى اململكة‪.‬‬ ‫خطة املواجهة‪ ،‬كما تلوح معاملها من خالل الإ�شارات الأولية ال�صادرة عن امللك اجلديد‪ ،‬تقوم‬ ‫على الت�شدد يف ا�ستخدام �أوراق القوة ال�سعودية و�صو ًال �إىل طرح طموح يوازي الطموحات‬ ‫الإقليمية املطروحة راهناً‪ .‬فكما حتاول رو�سيا ا�ستعادة �إمرباطوريتها‪ ،‬وتركيا كذلك‪ ،‬و�إيران تتغ ّنى‬ ‫مبجدها الفار�سي ف�إن ال�سعودية ويف زمن الفراغ القيادي �أو ف�شل الغرب متمث ًال بالواليات املتحدة‬ ‫�ستعيد جمد م�ؤ�س�سها و�ستنطلق كمملكة بكل ما تعنيه الكلمة يف زمن �ضعف امللكيات‪.‬‬ ‫طرح املجد ال�سعودي املوازي ي�أتي مدعوماً بالرعب من ال�سلفية الذي ي�ست�شعره الغرب و�إيران‬ ‫واحلوثيون ومعار�ضو ال�سعودية يف املنطقة‪ .‬هذا الرعب ال يقوم على �أ�سا�س القوة الفعلية لل�سلفية‬ ‫بقدر ما يقوم على قدرة ال�سلفية على الت�س ّبب بالأذى لهذه الأطراف‪ .‬بالن�سبة لل�سعودية‪ ،‬ف�إن هذه‬ ‫‪25‬‬


‫�رصاع هوية ووجود‬

‫القدرة على الأذى تع ّو�ض حمدودية قدراتها الع�سكرية وبالتايل قدرتها على املواجهة‪ .‬وهذا من‬ ‫�ش�أنه �أن يف�سح للمملكة مكاناً على طاولة املفاو�ضات وبالتايل ح�صة يف التوازنات اجلديدة‪ .‬خا�صة‬ ‫تو�سع اململكة يف‬ ‫مع قدرة ال�سعودية على جعل ال�سلفية �أكرث قوة لتكون �أداتها كما كانت يف زمن ّ‬ ‫�شبه اجلزيرة العربية‪.‬‬ ‫بالإ�ضافة �إىل التلويح بالقوة ال�سلفية فقد ت�ضمنت �إ�شارات امللك ا�ستعداده للتحالف مع العدو‬ ‫الأول لدول اخلليج العربي وهي جماعة الأخوان امل�سلمني‪ ،‬حيث �إنه يتحدث عن مبادرة‬ ‫للم�صاحلة مع الأخوان امل�سلمني‪ ،‬لأن اململكة بحاجة �إليهم (كحركة �شعبية منظمة توافقت مع‬ ‫توجهات ال�سعودية خا�صة �أيام امللك في�صل �ضد جمال عبد النا�صر‪ ،‬رمز القومية العربية �آنذاك)‪.‬‬ ‫ونظراً لتعدد اخليارات‪ ،‬يتحرك امللك اجلديد من منطلق فتح جميع الأبواب للعب دور ملك امللوك‬ ‫وليكون املالذ الو�سطي لكل امل�صالح املتعددة واخلالفات العربية‪ ،‬خا�صة البني �سنية منها‪.‬‬ ‫بهذا �سيتمكن امللك اجلديد من تعزيز دوره القيادي يف املنطقة‪ ،‬لقطع الطريق �أمام كل دولة‬ ‫�أعجمية ترغب يف ب�سط نفوذها يف املنطقة‪ .‬لذا �إذا �أرادت هذه الدول �إيجاد موط�أ قدم يف املنطقة‪،‬‬ ‫ف�إن عليها �أن تطرق الباب و�أال تت�س ّرب من خالل ال�شبابيك‪ .‬وباب املنطقة هو اململكة العربية‬ ‫ال�سعودية ح�صراً‪.‬‬ ‫بعبارة �أخرى‪ ،‬من الوا�ضح �أن امللك اجلديد يرغب يف �إر�سال �إ�شارة جديدة جلميع الدول النافذة‬ ‫يف املنطقة‪ ،‬م�ؤكداً رجوع اململكة بقوتها الإقليمية املحتملة ونفوذها يف ال�شرق الأو�سط عموماً‬ ‫واخلليج العربي ب�شكل خا�ص‪ .‬يف �سبيل ذلك قد يتبع امللك اجلديد خطوات جده ووالده‪ .‬ورمبا‬ ‫�ستعود فكرة اجلزيرة العربية الكربى للربوز جمدداً وخ�صو�صاً يف احلديث العلني ب�ش�أن �إعادة النظر‬ ‫يتوجب على بقية دول اخلليج للعربي �أن تتعلم كيفية‬ ‫يف حدود �سايك�س بيكو‪ .‬ويف هذه احلالة ّ‬ ‫التعاي�ش مع ذلك‪.‬‬ ‫امللك اجلديد والالعبون الفـرعيون‬

‫ال يقت�صر الالعبون يف امل�شهد ال�شرق �أو�سطي على الالعبني الكبار (عامليني و�إقليميني)‬ ‫بل يتعداهم �إىل العبني �إقليميني فرعيني يت�صرفون وفق �سيا�سة "�صراع البقاء" وهي �سيا�سة‬ ‫"ا�ستغالل الفر�ص" الكت�ساب النفوذ و�ضمان البقاء‪ .‬كما يحث العبون �إقليميون �آخرون اخلطى‬ ‫�إىل داخل املنطقة‪ .‬وذلك �إ�ضافة �إىل وجود عوامل �أخرى‪ .‬كل هذا الت�سلل �إىل املنطقة يتم من‬ ‫خالل الثغرة الأمنية املعنونة بــ "حماربة داع�ش"‪ ،‬حيث تقوم العديد من الدول بتبني �سيا�سة‬ ‫"تقدم و ُقد" �أو" متا�شى و ُقد" �أم ًال بالقفز لت�صبح جزءاً من التحالف الذي يقاتل اجلماعة الإرهابية‬ ‫ّ‬ ‫التي �أثبتت تطوراً بات يهدد بقاءهم‪.‬‬ ‫‪26‬‬

‫ه�ؤالء يقفزون �إىل املقعد الأمامي ك�شركاء يف التحالف �أم ًال �أن ي�صبحوا بعد ذلك قوى م�ؤثرة‪،‬‬ ‫ف�ض ًال عن طموحهم احل�صول على اعرتاف القوى الأجنبية بهذا الت�أثري رغم عدم تقبل القوى‬ ‫املحلية لهم وعدم اعرتافها بت�أثريهم‪.‬‬ ‫يف املقابل ي�أتي دور الإعالم يف مواجهة هذه القوى االفرتا�ضية الدعائية‪� .‬إن الإعالم بو�سائله‬ ‫اجلديدة والتقليدية احلــرة ير ّوج لتقدم اجلماعات الإرهابية وعملياتها الدامية‪ .‬هذا بالإ�ضافة �إىل‬ ‫دور الإعالم "احلر" واملتاح يف خدمة دعم وحتقيق �أهداف اجلماعات الإرهابية‪.‬‬ ‫هذا وقد لعب الإعالم دوراً حمورياً يف ك�شف ما كان خفياً‪،‬خ�صو�صاً ما كانت تخفيه بع�ض الأنظمة‬ ‫يف دول غري مرئية مثل العراق‪ .‬ففي العراق على �سبيل املثال عك�ست و�سائل الإعالم كيف‬ ‫تتعامل احلكومة ال�شيعية املوالية لأمريكا مع املواطنني ال�سنة‪ .‬الأمر الذي منح بع�ض الزعماء‬ ‫العرب‪ ،‬رغم �ضعفهم و�سلبيتهم‪� ،‬شعبية كمدافعني عن ال�سنة مبا يف ذلك ال�سلفية ال�سلبية وكل‬ ‫جماعة �إرهابية‪ ،‬كحماة لل�سنة �ضد كل من ي�ضطهدهم لأنهم �سنة‪.‬‬ ‫‪ ..‬ومع الالعبني الأ�سا�سيني‬

‫�إن موقف الواليات املتحدة والغرب املنحاز لإ�سرائيل ومن ثم نحو �إيران يعك�س حقيقة �أن م�صالح‬ ‫الغرب طويلة الأمد �إمنا هي مع �إيران و�إ�سرائيل ولي�ست مع العرب‪ .‬وهذا مينح �إمكانية �إ�ضافية‬ ‫لإ�ضفاء ال�شعبية على الذين يتجر�ؤون على الثورة �ضد الغرب‪.‬‬ ‫على هذا الأ�سا�س ف�إن امللك الذي برز حديثاً والنا�ضج متاماً يخترب املياه بطريقة �ساخنة‪ ،‬م�سلحاً‬ ‫مبوارد �ضخمة يف مملكة را�سخة كبرية ذات تاريخ عظيم و�أتباع ديانة يالم�سون املليار �إن�سان‪� .‬إال �أنه‬ ‫ويف املقابل يتع ّر�ض لهجوم من "الغرباء" الذين يهاجمونه يف �سياق مهاجمتهم عرقاً موحداً هو‬ ‫العرق العربي‪.‬‬ ‫تقدم فمما ال �شك فيه �أن على ال�سيا�سة اخلارجية ال�سعودية اجلديدة اعتماد تغيريات‬ ‫بناء على ما ّ‬ ‫جذرية مكيافيلية الطابع‪ .‬وهي تغيريات �سوف ته ّز املنطقة وت�صيب من هم خارجها بالتوتر والإرباك‬ ‫لبع�ض الوقت‪.‬‬ ‫�أما عن التحالفات �ضد اململكة‪ ،‬و�سيا�ساتها اجلديدة‪ ،‬ف�إنها لن حتافظ على ثباتها كونها عر�ضة للت�أثر‬ ‫برياح التغيري اجلديدة ويف مقدمها الإعالن الأمريكي عن نقل اهتمامها اال�سرتاتيجي من ال�شرق‬ ‫الأو�سط �إىل ال�شرق الأق�صى‪ .‬مبا يربر القول ب�أن هذه التحالفات لن تدوم طوي ًال‪ ،‬خ�صو�صاً �أن‬ ‫�أوروبا ال تزال تعاين اقت�صادياً و�سوف لن حتافظ معظم القوى ال�شرق الأو�سطية على �أية حتالفات‬ ‫ال�سيما مع ال�سجل ال�سيئ للواليات املتحدة يف التخلي عن حلفائها بعد �أن حت�صل على ما تريد‬ ‫"ب�سيا�سة الكر والفر"‪.‬‬ ‫‪27‬‬


‫�رصاع هوية ووجود‬

‫�إ�ضافة ملا تقدم فقد تبنت دول جمل�س التعاون اخلليجي‪ ،‬خ�صو�صاً بعد �سيا�سة اللوم عقب �أحداث‬ ‫احلادي ع�شر من �سبتمرب وبعد الربيع العربي‪� ،‬سيا�سة تنويع �سلة عالقاتها الدولية‪ .‬وبب�ساطة‪ ،‬وفيما‬ ‫تقوم الواليات املتحدة والغرب ب�إعادة تعريف ال�سيادة قامت احلكومات العربية ب�إعادة تعريف‬ ‫مفاهيمها لل�صداقة والثقة‪.‬‬ ‫بناء على �إعادة تعريف مفاهيم ال�صداقة والثقة مل تعد ال�صداقة تتطلب التزامات طويلة املدى‪،‬‬ ‫وحتى امل�صلحة نف�سها ال ينبغي �أن تكون طويلة املدى‪ .‬فلم تعد مرونة التعامل والتطور والبقاء‬ ‫حكراً على القوى العظمى‪ .‬لذا ف�إن الن�سب والدرجات املختلفة للتحالفات حتى مع الدول غري‬ ‫ال�صديقة ميكن تطبيقها و�إن كان يف غالب الأحيان من �أجل حتقيق مكا�سب ق�صرية املدى‪ .‬وذلك‬ ‫على عك�س ما كان يحدث من قبل‪.‬‬ ‫هذا ومتتاز التحالفات ق�صرية الأمد ب�سهولة ت�أمني القدرات واملوارد لدعم توازن القوى مع حمدودية‬ ‫فرتات االلتزام واالرتباط‪ .‬يبدو هذا جلياً يف منطقة تفتقد حكمة التوازن فيما بني القوى بكل‬ ‫�أنواعها‪ .‬كما �أن ثقلها مفقود على املدى املتو�سط والطويل‪ .‬و�أكرب م�ؤ�شر لذلك‪ ،‬انتقال املنطقة من‬ ‫ملعب كرة قدم عاملي �إىل ملعب كرة قدم �أمريكي بد ًال من �أن تكون منطقة للرخاء والتقدم‪.‬‬

‫هناك �سيا�سة التحالف مع َمن بيده قلم ر�سم احلدود؟‬ ‫ثمة �أ�سئلة تطرح نف�سها حول منطلق هذه التحالفات و�أهدافها؟ هل هو التو�سع؟ �أم احلفاظ على‬ ‫املوجود (�سيادة تقليدية)؟ �أم �أنه التقدم يف الدول وال�شعوب؟‬ ‫ختاماً‪ ،‬من الظاهر �أن خطوات وتوجهات الإدارة ال�سعودية اجلديدة كانت مدرو�سة م�سبقاً‪ ،‬حيث‬ ‫�أن الإ�شارات املتعجلة املبكرة تدعم فر�ضية ت�سلم امللك اجلديد احلكم وفق خطط معدة �سلفاً‪،‬‬ ‫فرتكيبة احلكم اجلديد والإق�صاءات املبا�شرة عقب الإعالن عنها ت�ؤكد وجود خطة قادرة على‬ ‫ا�ستيعاب ردود الفعل املعار�ضة لهذه اخلطوات‪ .‬وهو ما ت�ؤكده معلومات موثوقة حول ت�سلم حممد‬ ‫بن �سلمان لهذا امللف‪ .‬هذه املعلومة تنري جوانب عديدة من الإ�شارات الواردة يف �سياق هذا‬ ‫التحليل وبخا�صة فيما يتعلق بجهة ت�صدر املحافظني ال�سعوديني اجلدد امل�شهد ال�سعودي‪� .‬صدارة‬ ‫ميكنها �أن تنري الطريق �أمام املتابعني �إال �أنها تطرح العديد من الأ�سئلة ال�شائكة‪ ،‬التي ت�شري �إىل �أننا‬ ‫دخلنا مع تقلد امللك جديد مقاليد احلكم‪ ،‬مرحلة التنفيذ من دون �أن ندرك ما �إذا كنا �سنكون‬ ‫�ضمن امل�ساهمني �أم املتفرجني �أم ال�ضحايا؟!‬

‫‪ ..‬ومع املحافظني ال�سعوديني اجلدد‬

‫تتقاطع الإ�شارات املتوافرة مدعومة باملعلومات امل�ؤكدة �أن العهد ال�سعودي اجلديد �سيكون يف‬ ‫املوجه من الداخل‪� .‬أما من حيث الأ�صول ال�سيا�سية‬ ‫الغالب عهد املحافظني ال�سلفيني اجلدد‪ّ ،‬‬ ‫فيت�سم باال�ستخدام الأمثل للموارد حتى ولو كان ذلك لتحقيق مكا�سب ق�صرية املدى‪ .‬فكل ما‬ ‫ن�شهده ي�شري �إىل �أن العداد قد بد�أ بالقيا�س وال مزيد من املجامالت امللكية حتى على امل�ستوى‬ ‫امللكي‪.‬‬ ‫هذا ويبقى الغمو�ض �سائداً على م�ستوى اخلليج العربي �إذ كيف �ستتعامل اململكة مع �إيران وعمان‬ ‫التي تربطها عالقة حميمة مع �إيران‪ .‬من جهتها‪ ،‬قد تلعب قطر وبحكم حتالفاتها ومواقفها ال�سابقة‬ ‫ف�ض ًال عن قدراتها ومواردها‪ ،‬دور الو�سيط فيما بني القوى الثالث امريكا و�إيران وال�سعودية‪ .‬وهذا‬ ‫الدور �أي�ضاً تلعبه �سلطنة عمان‪ ،‬حتى على �صعيد امل�شاكل ال�سعودية الداخلية وعلى ال�صعيد‬ ‫ال�شعبي واالنق�سامات داخل الأ�سرة ال�سعودية‪ .‬اذ ال يوجد م�ؤ�شر حللول عملية وال خمطط‬ ‫ل�ضمان مواكبة التطورات والتنمية يف املنطقة ومعا�صرة توقعات واحتياجات الأجيال ال�صاعدة‪.‬‬ ‫�أما على م�ستوى منطقة ال�شرق الأو�سط‪ ،‬فمن غري الوا�ضح‪ ،‬ما �إن كانت �ستكون هناك �سيا�سة‬ ‫لتحالفات على املدى الق�صري‪ ،‬ل�سد طموح و�أطماع الدول الأجنبية اخلارجية؟ �أم �أن هناك �سيا�سة‬ ‫التحالف ل�ضرب االلتفافات غري املرغوب فيها �أو لإعادة ت�سيري التحالفات املتعددة؟ �أم �ستكون‬ ‫‪28‬‬

‫‪29‬‬


‫�رصاع هوية ووجود‬

‫املواطنة املهدورة‬

‫معاينة لالجتماع احلذر بني فكرة الدولة ومنطق الطّ ائفة يف لبنان‬

‫حممود حيدر ‪ -‬باحث يف الفل�سفة ال�سيا�سية‬

‫م�سعى هذا البحث‪ ،‬تظهري ر�ؤية معرفية يف ما يخ�ص موقعية املواطنة يف بلد متعدد ّ‬ ‫الطوائف‬ ‫م�سعى كهذا‪ ،‬ال يخلو من خماطرة‪ .‬فالقول فيه وحوله‪� ،‬أ َّنى كان لون‬ ‫كلبنان‪ .‬وما من �شك يف �أن ً‬ ‫املقاربة‪ ،‬ي�ستثري الإ�شكال وال َّلب�س‪ ،‬ويبتعث َ‬ ‫القول على القولِ ‪ ،‬واحلج َة على احلجة‪ .‬ثم �إ ّنه مي�ضي‬ ‫ليفتح على �أ�سئلة ال نهاية لها‪ ،‬وعلى �إجابات ال ت�ؤتي من ُيلقَّاها بيقني‪ .‬ولذا فالكالم على املواطنة‬ ‫والطائفة‪� ،‬أو على دولة ّ‬ ‫والطائفية‪� ،‬أو على املواطن ّ‬ ‫ّ‬ ‫الطوائف يف �سالمها الأهلي و�أزماتها‪ ..‬كل ذلك‬ ‫الظن والتقريب‪� ،‬أو على حممل الرتجيح واالجتهاد‪.‬‬ ‫�سي�أتي على ن�صاب ّ‬ ‫املواطنة ّ‬ ‫والطائفية‪ ،‬مفردتان �شائعتان �شيوع قامو�س الأزمات يف الثقافة التاريخية اللبنانية‪� .‬إنهما‬ ‫تتعديان اللفظ العار�ض‪ ،‬لتغد َوا حقيقة واحدة ّ‬ ‫مركبة‪ ،‬ت�ؤرخ ملا ان�صرم من تاريخ لبنان‪،‬‬ ‫مفردتان َّ‬ ‫مثلما ت�ؤ�س�س حلا�ضر وم�ستقبل وطن ال يفت�أ �أبنا�ؤه يختربون �أ�سا�سات ن�شوئه كل �آن‪.‬‬ ‫ال كال َم �إذاً على املواطنة يف لبنان خارج حيا�ض ّ‬ ‫الطائفة‪ .‬حتى لتكاد تبدو ال�صلة بينهما ك�صلة‬ ‫اال�سم بال�صفة‪� ،‬أو كعالقة املفهوم بظهوره الفعلي وجمال ا�ستعماله‪ .‬وحني و�ضعنا املواطنة يف‬ ‫موازاة ّ‬ ‫الطائفية‪ ،‬فلي�س لنجعل منهما ثنائية متغايرة‪ ،‬و�إمنا لنتعامل معهما كق�ضية واحدة‪ .‬فعندنا‬ ‫منذ �أن َّ‬ ‫ت�شكل لبنان ككيان �سيا�سي اجتماعي عرب والداته املتواترة (دولة لبنان الكبري ‪1920‬‬ ‫وجمهورية اال�ستقالل ‪ 1943‬وجمهورية ّ‬ ‫الطائف ‪ ..)1989‬ال �شيء ينمو ويتحرك خارج �أ�سوار‬ ‫الطوائف‪ّ .‬‬ ‫ّ‬ ‫وتو�ضح‬ ‫قواعد الكيان النا�شئ‪ ،‬وعلى �صورتها ُر�سِ َمت خريطة الدولة‪َّ ،‬‬ ‫بالطوائف ُرفِعت ُ‬ ‫�شكل ال�سلطة‪ ،‬واكتمل نظام االجتماع ال�سيا�سي‪ .‬حتى لقد �صارت دولة ّ‬ ‫الطوائف هي نف�سها‬ ‫الطائفية‪ .‬ذلك �أن ّ‬ ‫الدولة ّ‬ ‫الطوائف ال تلد نظاماً �سيا�سياً د�ستورياً �إال على �شاكلتها‪ .‬متاماً كالإناء‬ ‫الذي ين�ضح مبا فيه‪ .‬فيكون الذي ظهر من ذاك ال�شيء‪ ،‬هو جوهر ال�شيء نف�سه‪ .‬فال ظهور لأي‬ ‫ت�شكيل �سيا�سي �أو اجتماعي يقدر على احلركة‪ ،‬من دون �أن يت�صل بهذا القدر �أو ذاك‪ ،‬ب�شريعة‬ ‫املنظومة ّ‬ ‫الطائفية وقانونها العام‪.‬‬ ‫‪31‬‬


‫�رصاع هوية ووجود‬

‫حتى الظهورات ال َّالطائفية‪ ،‬من �أحزاب علمانية‪ ،‬ونقابات جماهريية‪ ،‬واحتادات‪ ،‬وجمعيات �أهلية‪،‬‬ ‫و�سائر ما ا�ستحق جمازاً �صفة "املجتمع املدين"‪ ،‬مل تفلح طيلة تاريخ لبنان املعا�صر يف �إجناز ف�ضيلة‬ ‫اال�ستقالل‪ ،‬والتحول �إىل جمتمع مدين حقيقي‪ .‬فعلى الرغم من فرو�سية �أ�صحاب تلك الظهورات‬ ‫يف خطابهم النقدي‪ ،‬ويف جر�أتهم على افت�ضاح املفا�سد ّ‬ ‫الطائفية‪ ،‬بقيت الكتلة املدنية ال ّالطائفية تن�شط‬ ‫حتت �سقف النظام ّ‬ ‫الطائفي‪ ،‬ومكثت دون القدرة على الدفع باجتاه الإ�صالح ال�سيا�سي الفعلي‪.‬‬ ‫لي�ست املواطنة‪ ،‬بو�صف كونها هوية اللبنانيني ك�أفراد يعي�شون حتت رعاية وعناية الدولة ّ‬ ‫الطائفية‪،‬‬ ‫�سوى مادة هذه الدولة ونظامها‪ .‬فالأمر هنا ال يتعلق بالإرادة والرغبة وحكم القيمة‪ ،‬بقدر ما يت�صل‬ ‫بواقع التاريخ االجتماعي‪ ،‬وبنمط احلياة التي افرت�ضها روح الد�ستور وت�شريعاته‪.‬‬ ‫الطائفي‪ ،‬وذلك ل�سبب يعود �إىل مركزية ّ‬ ‫ّثمة َمن ذهب �إىل بدعة القول باملتعايل ّ‬ ‫الطوائف يف‬ ‫ت�شكيل الهند�سة الإجمالية للروح الوطنية‪ .‬غري �أن هذه املركزية �سيكون لها �أث ٌر حا�س ٌم يف �إثبات‬ ‫موقعية املواطنة يف احلياة اللبنانية‪ .‬ولقد ر�أينا كيف فعلت ّ‬ ‫الطائفية فعلتها لتحيل تلك املوقعية‬ ‫�إىل ف�صل حميم من ف�صول حركتها‪ .‬ثم ليظهر لنا كم ل�سلطان ّ‬ ‫الطوائف من �ش�أنية حا�سمة يف‬ ‫ت�شكيل حياة مواطنيه‪ .‬و�إذ نرى �إىل مزايا املواطنة يف لبنان �سنالحظ �أن اللبناين يعي�ش مواطنة‬ ‫مثلثة الأبعاد‪:‬‬ ‫ فهو يف �سياق االنتماء ّ‬‫الطائفي‪ ،‬مواطن يف طائفته‪ ،‬يدين بالوالء لقياداتها املدنية والدينية‬ ‫ولأجهزتها الق�ضائية ولتقدمياتها اخلريية واالجتماعية‪.‬‬ ‫ وهو �أي�ضاً يعي�ش مواطنة جغرافية مثقلة بالرموز والتاريخ البعيد واحلديث‪.‬‬‫ وهو �أخرياً مواطن لبناين ينتمي قانونياً وحياتياً �إىل اجلمهورية اللبنانية‪ ،‬وم�ؤ�س�ساتها الد�ستورية‬‫والإدارية والقانونية( )‪.‬‬ ‫غري �أن املفارقة املذهلة يف هذا املقام‪ ،‬هي �أن اجلمهورية اللبنانية يف الوقت الذي تفر�ض قوانينها‬ ‫على ُمواطِ نِها يف كل احلقول‪ ،‬ف�إنها ال تعرتف به كمواطن �إال ب�صفة كونه منتمياً لطائفته �أو ًال‪� ،‬أو �آتياً‬ ‫ب�شهادة من تلك ّ‬ ‫ت�صدق انتماءه �إليها‪...‬‬ ‫الطائفة ِّ‬ ‫ولذا فمن البينِّ �أن كل كالم على املواطن ال ي�ستقيم �إال على خط موا ٍز للطائفة التي ينت�سب �إليها‪،‬‬ ‫والطائفة‪ .‬وبني املواطنة ّ‬ ‫بالوالدة �أو بالوالء‪ّ ...‬ثمة �صلة توليدية بني املواطن ّ‬ ‫والطائفية‪ .‬حتى ل َي�ستوي‬ ‫ُ‬ ‫نف�س واحدة‪ .‬بحيث ي�سري ذلك كقانون �صارم على كل طائفة من ّ‬ ‫الطوائف الثماين‬ ‫القول على ٍ‬ ‫ع�شرة يف لبنان‪ ..‬والتي هي كناية عن عديد �أبنائها املن�ضوين حتت لوائها ال�سيا�سي اجلغرايف‪ .‬يف‬ ‫حني �أن ه�ؤالء الأبناء لي�سوا �سوى مواطنني م�شوا حتت رايات طوائفهم‪ ،‬كمم ّر �إجباري للعبور �إىل‬ ‫الوطن‪.‬‬ ‫تلك هي ال�صورة الأولية التي تنطوي عليها الرابطة املعقدة بني الدولة واملواطن ّ‬ ‫والطائفة‪ .‬لكن‬ ‫‪1‬‬

‫‪32‬‬

‫فهم التكوين التاريخي لهذا البلد و�أحوال املواطنة فيه‪ ،‬هو معاينة م�سارات ّ‬ ‫الطوائف‪،‬‬ ‫ما يفرت�ضه ُ‬ ‫الطائفية واملجتمع ّ‬ ‫و�أثر منظومتها ال�سيا�سية والقانونية يف تر�سيخ البنيان الكلي للدولة ّ‬ ‫الطائفي يف‬ ‫لبنان‪...‬‬ ‫[‪]1‬‬

‫ع�رش �أطروحات يف مركزية الطّ وائف‬

‫لقد وجدنا لنقرتب من فهم تعقيدات "الفيزياء التاريخية" للبنان‪� ،‬أن نعاين ت�أ�سي�ساته ّ‬ ‫الطائفية‪.‬‬ ‫فعلى �أر�ض هذه الت�أ�سي�سات ‪ -‬كما نفرت�ض‪ -‬ميكن �أن نتوفّر على ما يدنو من خريطة‬ ‫معرفية ُتفيد م�سعانا يف هذا البحث‪ .‬وللدخول يف مثل هذه املعاينة‪ ،‬نقرتح جملة من الأطروحات‬ ‫الت�أ�سي�سية حول الدور املركزي التكويني الذي لعبته ّ‬ ‫الطوائف يف ن�شوء لبنان‪:‬‬ ‫الطائفية مقولة لبنانية بامتياز‪� .‬إنها ّ‬ ‫الأطروحة الأوىل‪ّ :‬‬ ‫(الطائفية) �أم ٌر ذاتي وجوهري يف ن�شوء‬ ‫وقيامة الكيان ال�سيا�سي للبنان‪ ..‬وبهذا املعنى هي لي�ست حالة عار�ضة ميكن �إلغا�ؤها و�إثبات بديلها‬ ‫الطوائف املكونة للكيان‪ .‬وملّا كانت ّ‬ ‫الالطائفي عرب اتفاق بني ممثلي ّ‬ ‫الطائفية بهذه ال�صفة‪� ،‬أي �أنها‬ ‫�أمر ذاتي يقع يف �أ�صل ظهور لبنان‪ ،‬ف�إن �أي م�سعى لنزعها كناظم للحياة ال�سيا�سية فيه‪ ،‬يعني‬ ‫منطقياً نزع �أ�صل هذه الظهور‪ ،‬وهذا حمال منطقياً وعملياً‪.‬‬ ‫الأطروحة الثانية‪ّ :‬‬ ‫الطوائف يف لبنان لي�ست جمرد تفريعات مذهبية لكل من الديانتني‬ ‫الإ�سالمية وامل�سيحية‪ ،‬و�إمنا هي وحدات �سيا�سية واجتماعية وثقافية �شكلت جمتمعة �أ�سا�س ظهور‬ ‫اجلمهورية الأوىل يف الربع الأول من القرن الع�شرين املن�صرم‪.‬‬ ‫الأطروحة الثالثة‪� :‬إن طوائف لبنان ال دين لها‪ ،‬وهي تخو�ض غمار اللعبة ال�سيا�سية‪ .‬و�إن‬ ‫احلاكم على �سلوك ممثليها ال�سيا�سيني يف احلكم وم�ؤ�س�سات الدولة‪ ،‬هو تقا�سم ال�سلطة‪ ،‬وفقاً مليزان‬ ‫تدخل عاملي الدين وال�شريعة يف ممار�سة‬ ‫يتعدى ّ‬ ‫التمثيل بني امل�سلمني وامل�سيحيني‪ .‬يف حني ال ّ‬ ‫ال�سلطة حدود ال�سماح للم�ؤ�س�سة الدينية بالوعظ وممار�سة الطقو�س وال�شعائر‪ .‬وبهذا املعنى ال‬ ‫ميكن قراءة ن�ص الد�ستور اللبناين‪� ،‬سواء ذاك الذي ورد يف اتفاق ّ‬ ‫الطائف‪� ،‬أو الن�صو�ص الد�ستورية‬ ‫التي �سبقته‪� ،‬إال ب�صفة كونه د�ستوراً هو �أقرب اىل الو�ضعية العلمانية منه �إىل ذاك الذي جنده لدى‬ ‫الدولة الدينية‪.‬‬ ‫الأطروحة الرابعة‪ :‬الدولة بالن�سبة �إىل ّ‬ ‫الطوائف التي اجتمعت لت�ؤ�س�س لبنان التاريخي‪،‬‬ ‫لي�ست �سوى �إطار ناظم للميثاق ال�سيا�سي يف ما بينها‪ .‬وكلما كان يحل العنف على لبنان‬ ‫‪33‬‬


‫�رصاع هوية ووجود‬

‫وي�ستوطن فيه‪ ،‬تعود الدولة مبا هي وعاء لل�سالم ال�سيا�سي �إىل �صمتها وانتظارها‪ .‬حتى �إذا تعب‬ ‫املتحاربون وو ُه َنت �أحوالهم‪ ،‬و�أدرك نظام ال�صراعات الدولية والإقليمية �أن لعبته يف لبنان قد‬ ‫�أُ�ش ِب َعت‪ ،‬كانت الدولة هي امل�آل وامل�ستقر‪ .‬ثم لتتحول يف اللحظة التالية �إىل وعاء يحوي اجلميع‪،‬‬ ‫ولكن على قاعدة التوافق وعدم ال َغ َلبة‪.‬‬ ‫الطائفية بو�صفها �إيديولوجيا لبنانية‪ :‬لي�ست ّ‬ ‫الأطروحة اخلام�سة ‪ّ -‬‬ ‫الطائفية عندنا يف لبنان‬ ‫جمرد كلمة اعتدنا على التوقف �أمامها ك�أمر مذموم‪ّ .‬‬ ‫الطائفية فكرة و�سياق ونظام حياة‪ .‬ولأنها‬ ‫كذلك‪ ،‬فعليها ابتنى �أهل كل طائفة م�صاحلهم و�أهدافهم و�سيا�ساتهم‪ .‬فقد كان من البديهيات‬ ‫�أن يتخذ االجتماع ال�سيا�سي اللبناين من لقاء ّ‬ ‫الطوائف خريطته الفكرية الهادية‪ .‬لعل العن�صر‬ ‫الت�أ�سي�سي يف ُّ‬ ‫ت�شكل الإيديولوجية ّ‬ ‫الطوائفية هو اليقني ب�أن لبنان قام وي�ستم ّر على �أ�صالة طوائفه‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫والأ�صالة هنا تعني �أنه باجتماع ّ‬ ‫ينب�سط احلقل الذي ينتج ويعيد �إنتاج‬ ‫الطوائف ووئامها فقط‪،‬‬ ‫الدولة‪ ،‬وم�ؤ�س�ساتها‪ .‬ذلك ما ُيعرب عنه �سلوك ّ‬ ‫الطوائف حيال بع�ضها البع�ض يجري على �أ�سا�س‬ ‫�سمى بامليثاق الوطني ‪.1943‬‬ ‫خريطة معرفية و�ضعها امل�ؤ�س�سون الأوائل‪ُ ،‬عرفت بال�صيغة‪� ،‬أو ما ُي ّ‬ ‫فال متلك �أي طائفة مغادرة تلك اخلارطة‪� ،‬أو خو�ض اللعبة خارجها‪ ،‬و�إ ّال اعترب ذلك انقالباً على ما‬ ‫ي�ستحيل االنقالب عليه‪ .‬وهذا ما مل يح�صل يف تاريخ لبنان‪ ،‬رغم احل�شد الهائل من اال�ضطرابات‬ ‫ال�سيا�سية‪ ،‬والأزمات االجتماعية‪ ،‬واحلروب الأهلية‪ .‬فغداة كل ا�ضطراب �أو �أزمة �أو حرب �أهلية‪،‬‬ ‫تعود كل طائفة اىل االعت�صام بالتقليد‪� ،‬أي ب�صيغة الت�سوية‪ ،‬ثم تروح تتعامل مع بع�ضها البع�ض‬ ‫بروح الوفاق والوئام‪ .‬وك�أن �أنهر الدم التي جرت هي وجه من وجوه املمار�سة ال�سيا�سية‪ .‬تلك‬ ‫اخلريطة التي �أ�شرنا اليها هي التج ِّلي الثقايف ملا ُ�سمي بـ "االيديولوجيا اللبنانية"‪.‬‬ ‫الأطروحة ال�ساد�سة‪ :‬ح َّولت ّ‬ ‫الطوائف لبنانَ ‪ ،‬خ�صو�صاً يف �أزمنة احلرب والنزاعات الأهلية‪� ،‬إىل‬ ‫مقولة �أمنية‪ .‬لكل طائفة‪ ،‬مبا هي وحدة �إيديولوجية و�سيا�سية وثقافية‪ ،‬جتلت يف ا�سرتاتيجيات �أمن‬ ‫خا�صة بها‪ .‬العالمة الفارقة لهذه اال�سرتاتيجيات‪� ،‬أنها حتتجب يف �أوقات ال�سلم ال�سيا�سي‪ ،‬ثم ال‬ ‫تلبث �أن تظهر �إىل امللأ وتدق النفري‪ ،‬كلما الحت �أزمة‪� ،‬أو اقرتبت البالد من حرب �أهلية‪ .‬ولنا يف‬ ‫هذه الأطروحة تف�صيل �إ�ضايف‪:‬‬ ‫ظهرت �صورة لبنان بعد نهاية حربه الأهلية (‪َّ ،)1990-1989‬‬ ‫مركبة على ن�ش�أة �أمنية غالبة‪ .‬ذلك‬ ‫()‬ ‫ما ذهبنا �إليه بعد ذلك الزمن بقليل‪ ،‬من �أن لبنان حت ّول بعد احلرب �إىل مقولة �أمنية ‪ .‬حيث‬ ‫يرتجح الأمني فيها على ال�سيا�سي‪ ،‬ليجعل له �سقفاً �سميكاً ي�ستحيل خرقه بي�سر‪ .‬فلقد �صار‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫كل ما هو خارج اعتبارات الأمني ومقايي�سه و�شرائطه �أمرا ال يع َّول عليه‪ .‬يف حني �أن القطيعة‬ ‫املفرت�ضة بني املا قبل (زمن العنف) واملا بعد (زمن ال�سلم ال�سيا�سي) ال ترتاءى �إال على ق�شرة‬ ‫اخلطاب ال�سيا�سي املعلن‪ .‬وكان على الهيئات ال�سيا�سية احلاكمة ٍ‬ ‫يومئذ �أن تز ِّين �سلوكها ال�سيا�سي‬ ‫بالتفا�ؤل‪� .‬إذ بني يديها ميثاق �سيا�سي �أمني د�ستوري هو اتفاق ّ‬ ‫الطائف‪� ،‬سوف يتح ّول خالل‬ ‫‪2‬‬

‫‪34‬‬

‫وقت ق�صري �إىل منظومة �إيديولوجية‪ ،‬وكذلك �إىل �سلطة معنوية �شديدة الق�سوة على كل َمن‬ ‫ينقدها‪ .‬بل لقد غدا م�ضمون االتفاق وخطابه الإيديولوجي قو ًال ثقي ًال يرتقي يف غالب الأحيان‬ ‫املقد�س‪ .‬يف مناخ املقولة الأمنية �صارت ال�سلطة ال�سيا�سية الطالعة من اتفاق ّ‬ ‫الطائف‬ ‫�إىل رتبة ّ‬ ‫�أ�شبه مب�ستو َعب �شرعي ال�ستقبال حماربي ّ‬ ‫الطوائف‪ .‬وح�صل هذا من دون �أن يجري بالفعل �أي‬ ‫تط ّور من �ش�أنه ترتيب �آليات م�ستقرة للعمل ال�سيا�سي‪ .‬والنتيجة غياب الكالم على حياة �سيا�سية‬ ‫هادئة و�سو َّية‪ ،‬يف ظل مقولة �أمنية راحت حتايث كل �صغرية وكبرية يف �إدارات الدولة‪ ،‬وم�ؤ�س�ساتها‬ ‫الأمنية والق�ضائية وال�سيا�سية واالقت�صادية‪ ،‬ناهيك عن م�ؤ�س�سات "املجتمع املدين" (�أحزاب‪،‬‬ ‫نقابات‪ ،‬جمعيات �أهلية �إلخ)‪..‬‬ ‫ول�سوف ُت�ست�أنف املقولة الأمنية على امتداد ال�سنوات الع�شرين التي �أعقبت �سالم ّ‬ ‫الطائف‪ .‬حيناً‬ ‫على م�شهد العنف ال�سيا�سي امل�سترت‪ ،‬معبرِّ اً عن نف�سه ب�أزمات يف احلكم بني �أطرافه ويف ال�شارع‪،‬‬ ‫وحيناً �آخر على �شكل انفجارات متعاقبة ومتفاوتة لب�ؤر �أمنية يف هذه املنطقة �أو تلك‪ .‬وعلى هذا‬ ‫النحو �سيدخل اللبنانيون يف و�ضعية ال َّاليقني وال�شك ب�سالم �أهلي مل ُي َنجز‪ ،‬ومل يجد �سبيله �إىل‬ ‫االكتمال‪ .‬ولقد �أف�ضت تلك الو�ضعية �إىل �آثار نف�سية و�سيا�سية ع ّوقت التوا�صل املفرت�ض بني‬ ‫ف�ضاءات املواطنة‪� .‬إن هذه الو�ضعية ال�سلبية نف�سها �سوف ت�ضاعف من ا�ست�شراء املقولة الأمنية‬ ‫بني �صفوف املواطنني لتمكث يف م�ساكنهم كخفري يراقب‪ ،‬ويحجب‪ ،‬ومينع كل تطور يعيد احلياة‬ ‫ملواطنية لبنانية جديدة‪.‬‬ ‫الأطروحة ال�سابعة ‪� -‬أر�ض لبنان بو�صفها جيوبوليتيكا طائفية‪ :‬ب�سبب املقولة الأمنية �سوف‬ ‫�سمى مبجتمع املواطن‪ .‬املجتمع الذي يعي�ش ويعمل ويتحرك خارج‬ ‫ُتقفل النوافذ �أمام ن�شوء ما ُي ّ‬ ‫�أفق ّ‬ ‫الطائفة التي ينت�سب �إليها‪ .‬لقد وجد هذا املجتمع �أي جمتمع املواطن �أ ّنه محُ اط مبنظومة طائفية‬ ‫�شديدة الوط�أة حتول دون دخوله منازل الوطن املرجتى‪ .‬ثم �سيكون عليه �أن يعود القهقرى �إىل كهف‬ ‫يرتد فردو�سه املفقود‪� ...‬إىل كهف املجتمع ال�سيا�سي التقليدي املبني على تركيبة‬ ‫املا�ضي لك�أمنا ُّ‬ ‫مثلثة الأ�ضالع هي‪ّ :‬‬ ‫الطوائف واملناطق والعائالت‪ .‬ول�سوف نرى باملعاينة كيف حت ّولت اجلغرافيا‬ ‫ال�سيا�سية ‪ -‬االجتماعية للبنان‪ ،‬يف �أثناء احلرب الأهلية وبعدها وب�سببها‪� ،‬إىل "فدراليات"‪ ،‬لكل‬ ‫منها �أمنها و�سيا�ساتها ور�ؤاها وثقافاتها‪ .‬ثم ن�ش�أت جغرافيات �سيا�سية طائفية �شديدة اخل�صو�صية‬ ‫والفرادة‪ .‬و�أبعد من ذلك‪ ،‬ففي �أحقاب مع ّينة ظهرت �صورة كل حمافظة من املحافظات اللبنانية‬ ‫اخلم�س‪ ،‬وك�أنها على �شيء من اال�ستقالل الذاتي‪ .‬حيث �سرت�سو جغرافيات ّ‬ ‫الطوائف على قواعد‬ ‫�شبه "�سيادية" ذات �أ�ضالع ثالثة‪:‬‬ ‫‪ -1‬القوة التي حتوزها وتتمتع بها تبعاً ال�ستيطانها ّ‬ ‫الطائفي �أو املذهبي‪.‬‬ ‫‪ -2‬اجلاذبيات الإقليمية والدولية مبا لها من ت�أثري‪ ،‬على موازين ّ‬ ‫الطوائف جمتمعة‪ ،‬وعلى ميزان كل‬ ‫طائفة ب�صورة مفردة‪.‬‬ ‫‪35‬‬


‫�رصاع هوية ووجود‬

‫‪ -3‬الدائرة اجلغرافية التي ت�ؤلف حيا�ضها ال�سو�سيولوجي والأمني وال�سيا�سي‪.‬‬ ‫لقد �أف�ضت هذه الثالثية �إىل ن�شوء ما ج ّوزنا و�صفه بـ "جيوبوليتيكا ّ‬ ‫الطوائف"‪ ،‬حيث �ست�سفر‬ ‫الظاهرة اجليو�سيا�سية للطوائف عن امتدادات تتخطى �أمداء اجلغرافيا اللبنانية التقليدية‪ .‬ذلك‬ ‫على الرغم من عدم حيازتها الغطاء ال�شرعي املعلن من جانب املنظومتني الإقليمية والدولية‬ ‫املحيطة‪.‬‬ ‫مناخ ٍّ‬ ‫مت�شظ كهذا‪ ،‬مل ميلك اللبناين �أن يعرث‪ ،‬ولو نظرياً‪ ،‬على نعمة املواطنية اجلامعة‪ .‬ون�ش�أ‬ ‫و�سط ٍ‬ ‫ج ّراء ذلك‪ٌ ،‬‬ ‫حال هو �أدنى �إىل اال�ستيطان الإكراهي داخل م�ساكن �سيا�سية و�أمنية طائفية‪� ،‬شكلت‬ ‫قواعد انطالق باجتاه دولة افرتا�ضية‪ ،‬ال جتد من تنازالت زعماء ّ‬ ‫الطوائف �إ َّال ما يزيدهم قدرة‬ ‫اال�ستقواء عليها‪...‬‬ ‫ّ‬ ‫العلماين‪/‬الطائفي‬ ‫الأطروحة الثامنة‪ :‬زواج‬ ‫يحي كرثة من اللبنانيني وال ميلكون جواباً عليه‪ ،‬هو ذلك َّ‬ ‫املركب العجيب‬ ‫لعل ال�شيء الذي ِرّ‬ ‫من امل�ساكنة بني العلماين ّ‬ ‫يعي بدقة‪ ،‬طبيعة‬ ‫والطائفي‪ .‬فال �أحد من بني تلك الكرثة ي�ستطيع �أن ِنّ‬ ‫النظام ال�سيا�سي يف لبنان ولونه وماهيته‪ .‬فال هو على ما يتفق اجلميع‪ ،‬نظام طائفي ٍ‬ ‫�صاف‪ ،‬وال‬ ‫هو كذلك نظام علماين باملعنى الذي ُيفهم منه ف�صل الدنيا عن الدين‪ .‬وال هو بطبيعة احلال‪،‬‬ ‫نظام يرت َّكب على م�صاحلة معلنة بني دين وجمتمع ودولة يبلغ االحتدام يف ما بينهما حد االنتفاء‬ ‫املتبادل‪.‬‬ ‫احلا�صل يف لبنان هو �ضرب من املفارقة‪ ،‬يظهر فيها الواقع ال�سيا�سي االجتماعي وك�أنه جامع‬ ‫املتناق�ضات الثالثة‪ ،‬حيث تت�ساكن العلمانية مع ّ‬ ‫الطائفية من دون عقد‪ .‬فلي�س من اعرتاف علني‬ ‫ميثل هذا الت�ساكن‪ .‬فهو بات �أقرب �إىل منط احلياة اللبنانية العادية‪ .‬من دون �أن تكون ثمة حاجة �إىل‬ ‫حتويل ن�ص مكتوب بل على العك�س وهنا املفارقة – ف�إن جمرد التفكري بنقله �إىل جمال التداول‬ ‫خطب جلل‪ .‬ولأن ّ‬ ‫الطائفية بحكم �أب َّوتها املزعومة للكيان ال�سيا�سي‪ ،‬وملا متلك من‬ ‫يتح ّول الأمر �إىل ٍ‬ ‫م�ساحات املكر وال�سعة‪ ،‬فقد ا�ستطاعت �أن ت�ؤمن للعلمانيني من �أبنائها‪� ،‬أمكنة للإقامة يف منازلها‪.‬‬ ‫ويف املعاي�شة التاريخية اللبنانية ما ي�شري �إىل حقيقة ميدانية تبدو فيها ّ‬ ‫مب�ستوعب‬ ‫الطائفية �أ�شبه‬ ‫ٍ‬ ‫عجيب يحوي �ألواناً و�أفكاراً واعتقادات و�أهواء ال ح�صر لها‪...‬‬ ‫الأطروحة التا�سعة ‪ -‬النزاع على التاريخ‪ :‬عندما ي�صل اللبنانيون يف مدارج حوارهم الوطني‬ ‫ي�سمونه "الت�سوية التاريخية" �سرعان ما تنعقد َحيرْ َ ُتهم حول �س�ؤال هو يف غاية‬ ‫�إىل احلديث عما ّ‬ ‫التعقيد‪ :‬من �أين يبد�أ تاريخ لبنان‪ ..‬وكيف ُيكتب هذا التاريخ على النحو الذي يكون بالن�سبة‬ ‫�إليهم معياراً لإدراك ما�ضيهم وحا�ضرهم وم�ستقبلهم؟‬ ‫ال يكاد النقا�ش حول هذا الإ�شكال يبلغ م�آالته املرج ّوة‪ ،‬حتى تع�صفه ريح القطيعة‪ ،‬ثم ليتوقف‬ ‫‪36‬‬

‫موحد‬ ‫عند حدود اجلدل امل�ستحيل‪ .‬فلقد بدا تعطيل الكالم حول وجوبية االتفاق على تاريخ َّ‬ ‫للبنانيني‪� ،‬أ�شبه ب�إجراء وقائي يج ِّنبهم ا�ستح�ضار زمن مديد من املنازعات الأهلية‪.‬‬ ‫هذا املحل من النقا�ش لي�س جديداً وال طارئاً على تقاليد الثقافة ال�سيا�سية يف لبنان‪ .‬والكالم‬ ‫امل�ست�أنف بني نخب ّ‬ ‫الطوائف على �إعادة هند�سة الهوية الوطنية اجلامعة ال ّ‬ ‫ينفك ي�صطدم با�ستحالة‬ ‫اجلواب على ال�س�ؤال ّ‬ ‫املركب الآنف الذكر‪.‬‬ ‫واقع احلال الآن‪ ،‬هو �أ�شبه بدوران يف الفراغ‪ .‬فال �شيء �أم ّر على اللبنانيني من الكالم على تاريخهم‪.‬‬ ‫ف�إنه مبعث كل خالف ح�صل بينهم يف املا�ضي وقد يح�صل يف امل�ستقبل‪ .‬وهو الذي ُيعيدهم �إىل‬ ‫االنحبا�س �ضمن حلقات ال ح�صر لها من ال�سجال حول الهوية واملواطنة واالنتماء والوالء‪ .‬ف�ض ًال‬ ‫متعدد ّ‬ ‫الطوائف واملذاهب‪.‬‬ ‫عن �أنه مبعث خالف‬ ‫ٍ‬ ‫م�ستع�ص حول طبيعة الدولة و�صورتها يف وطن ّ‬ ‫وللنخب ّ‬ ‫الطوائفية اللبنانية مرافعات ع ّزت نظائرها جلهة ما ت�سبغه على تواريخها من �صفات‬ ‫ميتافيزيقية‪� .‬سواء على �صعيد كل طائفة بعينها‪� ،‬أو على م�ستوى لبنان ككيان طائفي فريد‪.‬‬ ‫لكن النقا�ش يف حقيقة تاريخية لبنان م�ستم ّر‪ .‬وهو ٌ‬ ‫نقا�ش غالباً ما ينطلق من م�س َّلمات عامة‪ :‬فلو‬ ‫كان لأية جمموعة من الب�شر‪ ،‬يف �أي مكان‪� ،‬أن تخلق لنف�سها �شعوراً بكونها جماع ًة �سيا�سية‪ ،‬و�أن‬ ‫حتافظ على مثل هذا ال�شعور‪ ،‬فال بد من �أن تكون لها ر�ؤية موحدة ملا�ضيها‪ .‬وغالباً ما يكون التاريخ‬ ‫املُت�ص ّور كافياً لهذا الغر�ض يف املجتمعات التي ي�سودها ت�ضامن طبيعي‪ ،‬ومنها القبائل �أو الع�شائر‬ ‫حتدراً من �أجداد �أ�سطوريني وتكرم ذكرى �أبطال خياليني (‪ )...‬وهو ما يع ّزز‬ ‫التي تزعم لنف�سها ّ‬ ‫التالحم بني العنا�صر التي تتك ّون منها القبيلة �أو الع�شرية الواحدة‪.‬‬ ‫يقدم لبنان اليوم مثا ًال ممتازاً للمجتمع ال�سيا�سي املحكوم عليه ب�أن يعرف ويفهم احلقائق ال�صحيحة‬ ‫لتاريخه‪� ،‬إن هو �أراد البقاء يف الوجود‪ .‬ولي�ست م�س�ألة كيفية حل التعقيدات ال�شائكة للنزاع احلايل‬ ‫يف لبنان م�س�ألة يقررها امل�ؤرخون‪ .‬لكن امل�ؤكد هو �أن �أية ت�سوية �سيا�سية يف هذا البلد‪ ،‬ال ميكن �أن‬ ‫ُيكتب لها الدوام‪� ،‬إن هي مل ت�أخذ م�سائل التاريخ يف اعتبارها‪ .‬ومن قبل �أن ي�أمل �أهل لبنان يف‬ ‫الو�صول �إىل درجة من الت�ضامن االجتماعي متكنهم من الوقوف جنباً �إىل جنب كجماعة �سيا�سية‬ ‫من�سجمة وقابلة للدميومة‪ ،‬عليهم �أن يعرفوا بدقة ملاذا هم لبنانيون‪ ،‬وكيف �أ�صبحوا لبنانيني‪ ،‬وهم مل‬ ‫يكونوا يف الأ�صل �إ َّال جمموعة من ّ‬ ‫الطوائف املتف ّرقة �صودف تواجدها يف بقعة واحدة من الأر�ض‪.‬‬ ‫و�إذا مل يفعلوا ذلك ‪ -‬كما يبني امل�ؤرخ كمال ال�صليبي ‪ -‬ف�إنهم �سي�ستم ّرون يف البقاء جمموع ًة من‬ ‫ت�سمي نف�سها "عائالت روحية" من دون �أن يكون لها بال�ضرورة‬ ‫الع�شائر البدائية املتنافرة �أ�ص ًال‪ّ ،‬‬ ‫جم�ساتهم �إىل العامل اخلارجي‬ ‫�أية عالقة بالروحانيات‪ ،‬و�سيظلون جميعاً على حذر دائم‪ ،‬يطلقون ّ‬ ‫يف كل االجتاهات ل�سرب ما ميكن احل�صول عليه هنا �أو هناك من م�ساعدة ودعم‪ ،‬ا�ستعداداً جلولة‬ ‫�أخرى من النزاع املك�شوف( )‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪37‬‬


‫�رصاع هوية ووجود‬

‫الطائفية بو�صفها حداثة‪ :‬خالفاً لل�شائعة التي تحُ يل ّ‬ ‫الأطروحة العا�شرة ‪ّ -‬‬ ‫الطائفية اللبنانية �إىل‬ ‫ثقافات القرون الو�سطى‪ ،‬ثمة من امل�ؤرخني َمن ين�سبها �إىل احلداثة‪ .‬القائلون بهذا "االنت�ساب"‬ ‫ي�ؤيدون ر�أيهم بالقول‪� :‬إن ّ‬ ‫الطائفية هي مولود تاريخي ظهر �إثر االحتدام اللدود بني "العثمنة"‬ ‫يف طورها الأخري وامربياليات احلداثة الأوروبية‪ .‬جرى ذلك عملياً قبل اندالع النزاع الأهلي‬ ‫الدموي العام ‪ 1860‬بني امل�سيحيني والدروز‪ .‬والرواية ‪ -‬ح�سب ه�ؤالء‪ -‬تبد�أ قبل ذلك ب�سنوات‬ ‫كثرية حني انفتح املجتمع املحلي اللبناين على خطابات الإ�صالح العثمانية والأوروبية‪ .‬ولعل‬ ‫املفارقة يف هذه اخلطابات �أنها كانت ممتلئة بنربة احلداثة لكنها هي نف�سها التي جعلت من الدين‬ ‫م�سرح املواجهة الكولونيالية بني "غرب م�سيحي" من جهة‪ ،‬و"�إمرباطورية عثمانية م�سلمة"‪ ،‬وجد‬ ‫فيها ذلك الغرب "خ�صمه الدائم" من جهة ثانية‪ .‬فلقد ّبدلت تلك املواجهة على نحو عميق‬ ‫ما �سبق �أن اتخذه الدين من معنى يف جمتمع جيل لبنان ذي املِلل املتعددة‪ .‬ذلك �أنها � َّأكدت‬ ‫الهوية ّ‬ ‫الطائفية معياراً حيوياً وحيداً للإ�صالح ال�سيا�سي‪ ،‬و�أ�سا�ساً موثقاً �أوحد للمطالب ال�سيا�سية‪.‬‬ ‫الدين يف �شراك‬ ‫والق�صة باخت�صار هي التالية‪ :‬تعاي�ش بني التقاليد وممار�سات حملية ‪ -‬وقع فيها ِّ‬ ‫عالقات اجتماعية و�سيا�سية معقّدة ‪ -‬من جهة حتديث عثماين غدت له اليد العليا يف �إعادة‬ ‫�صياغة التعريف ال�سيا�سي الذي ُتع ِّر ُف به كل جماعة ذاتها بح�سب ديانتها (‪ )...‬ذلك يعني‬ ‫�أن �سرد حكاية ّ‬ ‫الطائفية ال يكون ممكناً �إال باالعرتاف املتوا�صل والإ�شارة امل�ستمرة �إىل التاريخني‬ ‫املحلي واالمربيايل (العاملي) اللذين تفاعال – ت�صادماً وتعاوناً على ال�سواء ‪ -‬لإنتاج خميلة تاريخية‬ ‫جديدة( )‪.‬‬ ‫وفقاً لهذه الر�ؤية ال تعود ّ‬ ‫الطائفية جمرد فر�ضية‪ .‬و�إمنا هي �سريورة واقعية لها زم ُنها الذي ا�ستهلت به‬ ‫حكايتها‪ .‬وبهذا املعنى ميكن النظر �إىل ّ‬ ‫الطائفية يف لبنان مبا هي مولود جيوبوليتيكي حديث‪ ،‬ظهر‬ ‫�إىل الوجود بفعل ت�ضافر م�ؤثرات �إقليمية ودولية وجدت لها قابليات حملية يف القرن التا�سع ع�شر‪.‬‬ ‫فلقد بزغت ّ‬ ‫الطائفية اللبنانية كممار�سة ‪ -‬كما يبينِّ م�ؤرخوها‪ -‬حني ن�شب ال�صراع بني النخب‬ ‫املارونية والدرزية‪ ،‬وبني الأوروبيني والعثمانيني (وهو �صراع �أ�سا�سه طبقي اجتماعي و�سيا�سي‬ ‫وثقايف) حول حتديد عالقة عادلة ِ‬ ‫ومن�صفة لـ "القبيلتني" �أو "الأمتني" الدرزية واملارونية بدولة‬ ‫عثمانية ت�ستهدف التحديث‪ .‬ثم بزغت تلك ّ‬ ‫الطائفية كثقافة حني ُن ِز َعت الثقة‪ ،‬عن النظام القدمي‬ ‫يف جبل لبنان يف منت�صف القرن التا�سع ع�شر‪ .‬وهو نظام كان حمكوماً برتاتب نخبوي‪ .‬وكانت‬ ‫حتدد املنزلة واملقام يف الدنيا‪ ،‬ال االنتماء �إىل الدين‪ .‬وهكذا فتح انهيار النظام‬ ‫ال�سيا�سة هي التي ِّ‬ ‫القدمي ف�ضا ًء ل�شكل جديد من ال�سيا�سة والتمثيل يقوم على لغة امل�ساواة الدينية‪ .‬ولقد �أعلى هذا‬ ‫التح ّول من �ش�أن ّ‬ ‫الطائفة بد ًال من املكانة النخبوية (االجتماعية والطبقية)‪ ،‬وجعلها الأ�سا�س لأي‬ ‫والتح�ضر‪ .‬وبالتالزم مع كل هذا‪ ،‬تط َّورت ّ‬ ‫الطائفية �أي�ضاً‬ ‫م�شروع من م�شروعات التحديث واملواطنة‬ ‫ُّ‬ ‫كخطاب‪� .‬أي كمجموعة من االفرتا�ضات والكتابات التي و�صفت هذه الذاتية املتغيرِّ ة �ضمن‬ ‫�سرد التحديث العثماين والأوروبي واللبناين( )‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪5‬‬

‫‪38‬‬

‫الطّ ائفية بو�صفها معرفة وممار�سة‬

‫�سوف نقع يف هذا املجال‪ ،‬على ُمنف َ​َ�س ٍح �آخر من النظر ال يرى �إىل ّ‬ ‫الطائفية‪ ،‬على �أنها جمرد موروث‬ ‫عثماين‪� ،‬أو �صيغة ثقافية قانونية من �صيغ املعرفة اال�ستعمارية الغربية‪ ،‬وال هي �أي�ضاً‪ ،‬واقع ميكن ر ّد‬ ‫مزيج‬ ‫جذوره �إىل ٍ‬ ‫ما�ض معينّ �سابق على احلقبة الكولونيالية‪� ...‬إنها ‪ -‬بنظر �أ�صحاب هذه الر�ؤية ‪ٌ -‬‬ ‫من �إدراكات وا�ستعارات ووقائع ما قبل كولونيالية (�سابقة على ع�صر الإ�صالح العثماين) وما‬ ‫بعد كولونيالية (خالل ع�صر الإ�صالح)‪ .‬بعبارة �أخرى‪ ،‬ف�إن ّ‬ ‫الطائفية ‪ -‬والكالم له�ؤالء ‪ -‬معرف ٌة‬ ‫"حداثية" لأنها �أُنت َِجت يف �سياق الهيمنة الأوروبية والإ�صالحات العثمانية‪ ،‬ولأن املف�صحني عنها‬ ‫على م�ستوى كولونيايل (�أوروبي) و�إمرباطوري (عثماين) وحملي (لبناين) ‪ -‬يعتربون �أنف�سهم‬‫حديثني ي�ستخدمون املا�ضي التاريخي لتربير مطالب راهنة وتطور م�ستقبلي‪ .‬وبقدر ما متثل ّ‬ ‫الطائفية‬ ‫معرفة كولونيالية حقاً‪ ،‬ف�إنها متثل �أي�ضاً وجوهرياً معرفة عثمانية �إمرباطورية‪ ،‬ومعرفة قومية حملية ال‬ ‫يتم �إنتاجها بعد الكولونيالية �أو رداً عليها‪ ،‬بل بالتزامن مع املعرفة الكولونيالية و ُمثُلها( )‪.‬‬ ‫لقد �أراد هذا التحليل التاريخي �أن ُيف�سح عن املنطقة الرمادية التي انغمرت بها حلظات اال�ستبدال‬ ‫َ‬ ‫وال�شريكني االمربياليني ال�صاعدين بريطانيا‬ ‫اال�ستعماري بني الإمرباطورية العثمانية املتهالكة‪،‬‬ ‫وفرن�سا‪ .‬فلقد جرت الأمور على نحو بدت فيه املواجهة بني ال�سلطنة العثمانية وامل�ستعمرين اجلدد‬ ‫(الفرن�سيون واالنكليز) وك�أنها م�سرح تفاعل ثقايف ي�ستغله �ساكنو اجلبل اللبناين بطريقة حم�سوبة‬ ‫وواعية من �أجل بلورة هوية كيانية ذات م�ضامني و�شروط جيو ‪� -‬سيا�سية‪.‬‬ ‫وهكذا فقد عمدت كل من بريطانيا وفرن�سا‪ ،‬وبتواط�ؤ مع العثمانيني �إىل تنظيم �أوجه خمتلفة من‬ ‫املواجهة‪ .‬وقد وفَّر هذا التنظيم لل�سكان املحليني يف جبل لبنان ُ�سب ًال لإعادة ت�أويل تاريخهم‪،‬‬ ‫وتعريفهم اخلا�ص لأنف�سهم كطوائف‪ ،‬ونظامهم االجتماعي ال�صلب واجلامد‪ .‬وال �شك يف �أن القوة‬ ‫لعبت دوراً حا�سماً‪ ،‬ذلك لأن هذه املواجهة مل تكن متكافئة ب�أي حال من الأحوال‪ ،‬وغالباً ما‬ ‫جرى دف ُع ذلك الدفق من الإيديولوجيات واملمار�سات التغيريية من الآ�ستانة وباري�س ولندن‬ ‫�إىل جبل لبنان‪ ،‬حيث جاءت ح�صيل ُة هذا التبادل‪ ،‬ظهور ّ‬ ‫الطائفية بو�صفها معرفة وممار�سة على‬ ‫ال�سواء( )‪.‬‬ ‫�إذا كانت الأ�س�س والقواعد ّ‬ ‫الطائفية قد ُر�سِ مت و�أُن�شِ ئت و�أ�صبحت واقعاً ُمب َّيناً بدول ٍة وم� ٍ‬ ‫ؤ�س�سات‬ ‫ود�ستو ٍر وقوانني‪ ،‬وحتت رعاية وحماية الإرادتني الأوروبية والعثمانية‪ ..‬ف�إنّ ا�ستمرارها مل يفارق‬ ‫الرعاية والت�أثري اخلارجيني‪ .‬والذي جرى هو �أن ّ‬ ‫الطائفية راحت ت�ست�أنف والداتها بت�سديد وت�أييد‬ ‫من �إرادات دولية و�إقليمية تعاقبت على مدى احلقبة التي تلت اال�ستقالل‪ .‬هذا ُيف�ضي �إىل �أنّ‬ ‫قواعد النظام ال�سيا�سي ّ‬ ‫الطائفي يف لبنان‪ ،‬مل تغادر الرتتيبات التي �آلت �إليها خرائط املنازعات‬ ‫اخلارجية وم�ؤثراتها منذ العام ‪ ،1860‬مروراً بال�سل�سلة الهائلة من املنعطفات التاريخية التي �شهدها‬ ‫القرن الع�شرون املن�صرم‪ .‬ول�سوف يظهر لنا بو�ضوح �أن اجليو�سرتاتيجيا املعا�صرة‪ ،‬وخ�صو�صاً مع‬ ‫‪6‬‬

‫‪7‬‬

‫‪39‬‬


‫�رصاع هوية ووجود‬

‫ن�شوء دولة �إ�سرائيل يف فل�سطني‪ ،‬تعاملت مع لبنان و�أزماته على القاعدة �إ ّياها التي تعاملت فيها‬ ‫معه �إمرباطوريات القرن التا�سع ع�شر‪.‬‬

‫ي�ؤلف بني �أطياف لبنانية خالف بع�ضها بع�ضاً‪ ،‬وكان لها �أن تعود لت�أتلف على "ف�ضيلة التقليد"‪.‬‬ ‫ولذا ف�إن املا�ضي ال�سيا�سي االجتماعي للبنان وعلى امتداد �ستني عاماً‪� ،‬سيجري على ن�صاب‬ ‫تلك الف�ضيلة‪� .‬أما اللحظة اللبنانية اجلارية‪ ،‬و�إن اكت�ست بطبقات الغمو�ض الكثيف‪ ،‬ف�إنها مل ُ‬ ‫تخل‬ ‫من النقا�ش على "ال�شيحوية" وكلماتها وتوجيهاتها‪ .‬فلقد بدا واقع احلال كما لو �أن "الت�سوية‬ ‫التاريخية" امل�أمولة‪ ،‬لن حتيد عن تلك الكلمات والتوجيهات‪.‬‬

‫املواطنة يف فل�سفة الطّ ائفية‬

‫املدينة "الطّ ائفية" الفا�ضلة‬

‫[‪]2‬‬

‫�سوف نفرت�ض �أنّ حزمة الأطروحات التي م ّر الكالم عليها‪ ،‬ت�ؤلف على اجلملة‪ ،‬مفاتيح معرفية‬ ‫لالقرتاب من فهم املنطق الداخلي ّ‬ ‫لت�شكالت وقائع املواطنة يف لبنان‪ .‬فالقول ال�سيا�سي ّ‬ ‫الطائفي‬ ‫امل� ِّؤ�س�س للكيان اللبناين‪� ،‬سيكون له فعله احلا�سم‪ ،‬يف بناء و�إعادة بناء ال�شخ�صية اللبنانية �أفراداً‬ ‫وجماعات‪ .‬لقد � َّأ�س�س "قول ّ‬ ‫الطوائف امل�أثور" قلعة ثقافية و�إيديولوجية عملت جماعة من‬ ‫رواد الفكر الكياين اللبناين‪ ،‬وال �سيما يف البيئة امل�سيحية‪ ،‬على بلورتها وتقدميها ك�أيقونة فل�سفية‬ ‫مقد�سة‪ .‬على هذا النحو‪ ،‬جرى الكالم على فرادة لبنان‪ .‬وحتديداً على فرادة احل ِّيز اجلغرايف الذي‬ ‫ي�سكنه م�سيحيو جبل لبنان‪ .‬وما ذهب �إليه امل�ؤرخ جواد بول�س كان ج َّلياً من هذه الناحية‪ ،‬ملَّا بينَّ‬ ‫"�أن لبنان �أمة جغرافية‪ ،‬و�أن اجلغرافيا هي التي ت�صنع التاريخ‪ ،‬والتاريخ هو الذي ي�صنع ال�سيا�سة"‪.‬‬ ‫ول�سوف نرى �أي�ضاً كيف �أن عقيدة �سيا�سية كهذه‪ ،‬قد و ّلدت طرازاً خا�صاً من مواطنية ذات طبيعة‬ ‫عن�صرية ا�ستعالئية‪ .‬ولئن كان لنا �أن نبينِّ مرجعية هذه العقيدة ف�سيظهر مي�شال �شيحا ك�أحد �أبرز‬ ‫وا�ضعي بناءها الإيديولوجي‪ .‬ن�شري يف هذا ال�ش�أن �إىل �أنّ حمور فل�سفة �شيحا‪ ،‬هو حتويل ّ‬ ‫الطائفية‬ ‫�إىل نظام �سيا�سي واجتماعي واقت�صادي و�إ�سباغ ال�شرعية الد�ستورية والأخالقية عليه‪ .‬وملَّا مل يكن‬ ‫�إدراك وفهم �أي �ش�أن من �ش�ؤون لبنان منذ ت�أ�سي�سه يف العام ‪� ،1920‬إال انطالقاً من املعتقد ّ‬ ‫الطائفي‬ ‫الذي �أقام �شيحا بناءه املعريف‪ ،‬ف�إن �إدراك طبيعة واقع املواطنة لن يغادر احليا�ض املتني لذلك‬ ‫املعتقد‪ .‬وعلى ن�صاب هذا الإدراك‪� ،‬سوف يت�سنى لنا فهم العلة اجلوهرية التي جتعل ّ‬ ‫الطائفية‬ ‫مرجعية متعالية لرعاية الت�سويات التي تعقب كل حرب �أهلية‪� ،‬أو �أية عا�صفة �سيا�سية تروح ت�ضرب‬ ‫لبنان على مدى تاريخه اال�ستقاليل‪ .‬لقد �أر�سى �شيحا منظومة فكرية �سوف ت�شكل مرجعاً ودليل‬ ‫عمل لعقود من الزمن‪ .‬ولقد ِّقدر له �أن ي�ضع مو�ضع التنفيذ عدداً ال ُي�ستهان به من �أفكاره‪ .‬وميكن‬ ‫الت�أكيد فوق ذلك كله �أن فكره �سيمار�س ت�أثرياً حا�سماً على الأجيال التالية‪� ،‬إذ كانت �أفكاره‬ ‫وطروحاته و�شعاراته حمركاً للفكر ال�سيا�سي واالقت�صادي الالحق‪ ،‬وم�صدر �إلهام للعديد من‬ ‫تالمذته الذين احتلوا املنا�صب الأوىل يف الدولة والإدارة( )‪ .‬وال�شيء ال ّالفت يف الأزمنة اللبنانية‬ ‫حل على اللبنانيني �س�ؤال الت�سوية الداخلية‪ ،‬ا�ست�أنفوا جد ًال ُ‬ ‫املت�أخرة‪� ،‬أنه كلما ّ‬ ‫عظ َم �ش�أنه وات�سع‬ ‫مداه‪ ،‬حول �صيغة اجلمع يف ما بينهم‪ ..‬ويف كل مرة كانوا ينعطفون فيها نحو ذلك ال�س�ؤال‪ ،‬كان‬ ‫مي�شال �شيحا ميلأ م�ساحة ب ّينة يف ثقافتنا ال�سيا�سية‪ ،‬حتى ليكاد ذلك "الفيل�سوف الكياين" �أن‬ ‫‪8‬‬

‫‪40‬‬

‫لقد ّنظر �شيحا للوطن اللبناين املت�ص َّور‪َ ،‬ف َر َف َع ُه �إىل مقامني يبدوان متفارقني ب�شدة‪:‬‬ ‫ليظن القارئ �أنه ب�إزاء بيت م�ش ّيد بال�شعر‪� ،‬أو حيال مكان جيو ‪-‬‬ ‫�أولهما مقام الأ�سطورة‪ ،‬حتى ّ‬ ‫ميتافيزيقي‪ ،‬ال ي�شبه �أمكنة الدنيا‪ ،‬وال ت�شبهه هي يف �شيء‪.‬‬ ‫وثانيهما مقام الواقع‪ ،‬حتى يكاد املرء �أن يح�سب الرجل �سيا�سياً من طراز ماكيافيلي �أو هوبز‪� ،‬أو‬ ‫ابن املقفّع‪ ،‬لكن على الطريقة اللبنانية التي ع َّودنا عليها �سيا�سيو ّ‬ ‫الطوائف‪ .‬منذ اال�ستقالل �إىل ما‬ ‫بعد ّ‬ ‫الطائف‪� .‬إن هذا املفكر امل�سيحي الكلداين الذي جاءت عائلته من العراق‪� ،‬سيكون �سكرتري‬ ‫اللجنة التي و�ضعت م�س َّودة الد�ستور اللبناين العام ‪ 1969‬ليكون من �أبرز ِّ‬ ‫املخططني الرئي�سيني‬ ‫للبنية ال�سيا�سية‪ ،‬واالقت�صادية اللبنانية بعد اال�ستقالل‪ .‬فلبنان بالن�سبة اليه "بلد احللم والواقع‬ ‫معاً"‪ .‬ك�أمنا تريد فل�سفته �أن تقيم ملدينته الفا�ضلة �سياجاً من عقل �صارم يحميها من ٍ‬ ‫موات �أكيد‪.‬‬ ‫ولهذا راح يبينّ منذ العام ‪� 1942‬أن الدميقراطية هي ال�صيغة الوحيدة التي تالئم لبنان‪ ،‬ويقول‪:‬‬ ‫"ال بد من جمل�س يكون مركز التقاء وتوحيد للطوائف يف �سبيل حتقيق �إ�شراف م�شرتك على‬ ‫احلياة ال�سيا�سية يف الأمة‪ .‬فحني ُيلغى املجل�س‪ُ ،‬ينقل اجلدل حتماً �إىل املحراب (من حرب) �أو‬ ‫�إىل ظ ّله‪ ،‬فتت�أخر بالتايل م�سرية التن�شئة املدن ّية‪ ..‬فـ "ال ينا�سب لبنان ركوب الر�أ�س وال مركب‬ ‫االنقالبات‪� ..‬سيكون عليه �أن يتجنب الطغيان‪ ،‬و�سيطرة البع�ض على البع�ض الآخر‪ ،‬ليتفادى‬ ‫بالتايل كل �أنواع اال�ضطرابات"‪ .‬وما ال ريب فيه �أن "العقل الت�سووي" الذي دعا �شيحا اللبنانيني‬ ‫�إليه‪ ،‬ليع�صمهم من كواره الزمن‪ ،‬هو املنجز الفل�سفي ‪ -‬ال�سيا�سي الذي �سي�ؤلف بينهم‪ ،‬ويد ّبر‬ ‫والتوحد من‬ ‫لهم اجتماعهم ّ‬ ‫وتوحدهم‪ .‬وبعد هذا فهو (املنجز) الذي ي�صون الإلفة من الف ِْرقة‪ُّ ،‬‬ ‫ِّ‬ ‫والت�شظي‪ .‬والأهم من ذلك كله �أن هذا املنجز الفل�سفي ‪ -‬ال�سيا�سي نف�سه‪ ،‬هو الذي‬ ‫االن�شطار‬ ‫�آل �إىل �أن يكون د�ستوراً يف العام ‪ ،1926‬وميثاقاً وطنياً ُحمِ َل عليه اال�ستقالل العام ‪ .1943‬بل ّثمة‬ ‫من مي�ضي لي�صل �إىل اتفاق ّ‬ ‫الطائف ليقول �إن هذا االتفاق انتزع من "ال�شيحوية" ع�صارة الف�ؤاد‪.‬‬ ‫بهذه املوا�صفات ر�سمت "ال�شيحوية" ماهية بلد عجيب َّ‬ ‫والتعدد‪ ،‬بعدما‬ ‫تركب على الكرثة‬ ‫ّ‬ ‫�صارت هذه الثنائية ال�سيا�سية تقليداً‪ ،‬و�صار التقليد �سلطة مع ّززة بالقانون‪� .‬إنها �سلطة َ‬ ‫"الكرثة‬ ‫‪41‬‬


‫�رصاع هوية ووجود‬

‫ّ‬ ‫املركبة" نف�سها التي افرت�ض �شيحا �أنها ت�ستطيع �أن ت�ؤ ِّمن للبلد �أمنه وثباته‪ ،‬فتع�صمه من التذرر‬ ‫واالنفراط‪ .‬كان مي�شال �شيحا م�ؤمناً ب�أن لبنان "بلد يجب �أن يدفع التقليد عنه �ش َّر العنف"‪ .‬كما‬ ‫�أنه وعى مبكراً فر�ضية التناق�ض بني ّ‬ ‫الطوائف‪ ،‬ف�أراد �أن ي�ؤ�س�س ملنطق ينزع من االجتماع ال�سيا�سي‬ ‫العتيد عوامل انفجاره‪ .‬غري �أن االختبارات االوىل للفل�سفة ال�شيحوية‪� ،‬سرعان ما وقعت يف �شرك‬ ‫منطقها املتناق�ض‪� .‬إذ �سيتبينّ بعد �سنوات قليلة من التجربة بهتان منطق ي�ص ُّر على �أن ي�ستولد من‬ ‫ق�ضية مهزوزة‪ ،‬نتيجة م�ستقرة‪.‬‬ ‫اجتهادان متعاك�سان‬

‫مت�ض �إىل القرب مع �صاحبها‪ .‬و�سيكون لها مع كل "نائبة" ّ‬ ‫حتل على‬ ‫الأكيد �أن "ال�شيحوية" مل ِ‬ ‫ن�صيب من احل�ضور‪ .‬وعلى الرغم من ت�شكيك الكثريين بجدواها كمرجعية فكرية لت�سوية‬ ‫لبنان ٌ‬ ‫الأزمات الكربى‪ ،‬فلم يفلح امل�شككون بعزلها عن ميادين الثقافة ال�سيا�سية‪ .‬فال يزال �إىل يومنا‬ ‫يوجد ما ي�شبه حرباً فكرية باردة بني اجتهادين متفارقني‪� ،‬سوى �أنهما ينتميان بهذا القدر �أو ذاك‬ ‫�إىل الأ�سئلة نف�سها التي قدمها مي�شال �شيحا‪:‬‬ ‫االجتهاد الأول‪� :‬إن لبنان بلد ا�ستثنائي ك ّرمته ال�سماء‪ ،‬فعر�ضت عليه طوائفه‪ ،‬فكان بها وجوداً‬ ‫�أ�صي ًال‪ .‬ولبنان هذا‪� ،‬صارت ّ‬ ‫الطوائف واملذاهب بالن�سبة �إليه ع ّلت ُه الف�ضلى‪ .‬بها يقوم ويرتقى‬ ‫ويدوم‪ ،‬وطناً لأهله املختلفني امل َّتحدِ يِن على ع�شق ال يزول‪.‬‬ ‫واالجتهاد الثاين‪� :‬إن لبنان قد َل َع َن ْت ُه احلتميات التاريخية واجلغرافية على ال�سواء‪ ،‬وكانت‬ ‫النتيجة �أن خلعت طوائ ُف ُه عليه لونها املخ�صو�ص‪ ،‬وراحت تنزع منه‪ ،‬منذ �أول التقاء بينها على‬ ‫�أر�ض ال�سيا�سة‪� ،‬إىل قطع �صالت الو�صل التي جتعله وطناً جامعاً ملواطنيه‪� .‬إن لبنان على ر�أي �أهل‬ ‫هذا االجتهاد‪ ،‬لي�س غري ماهية خم�صو�صة بالفقر‪� ،‬أي �أنه بلد ال ِم ْنعة له ب�إزاء اال�ضطراب‪ ،‬فهو‬ ‫مقيم على قلق طوائفه‪� ،‬إما لعلة يف ذات كل واحدة منها‪ ،‬كما لو �أن �شعوراً ي�سكنها ب�أنها مغدورة‬ ‫من �أخواتها ال ّالتي ي�شاركنها باب الدولة العايل‪ ..‬و�إما ب�سبب من لعبة انتهاب متبادل يف ما بني‬ ‫الأخوات املت�شاركات كلهن‪� ،‬أف�ضت �إىل ثنائية اخلوف والغنب‪ ..‬حيث تر َّتب على هذه الثنائية من‬ ‫الآثار ما انت�صبت ب�سببها ُج ُد ٌر حالت دون ا�ستنبات مواطنية حقيقية‪ .‬وكان احلا�صل جراء هذين‬ ‫(العلة وال�سبب) �أن تع ّر�ض ُ‬ ‫البلد النفجارات دورية مد ّوية‪ .‬ومع �أن كال االجتهادين املنق�ض َيينْ‬ ‫ي�سمى اتفاق ّ‬ ‫الطائف‪ ،‬فهما ال يزاالن على‬ ‫قد هبطا الآن �إىل ما دون احلد ال�سيا�سي الذي و�ضعه ّ‬ ‫الن�ش�أة نف�سها‪� ،‬أي بو�صفهما م�صدرين يغذيان �سجا ًال ال ينتهي حول م�ستقبل النظام واملجتمع‬ ‫ّ‬ ‫والطوائف يف لبنان‪.‬‬

‫‪42‬‬

‫ا�ستئناف الوطن الطّ ائفي‬

‫امل�شهد اللبناين املعا�صر‪ ،‬وك�أنه ا�ستئناف �صريح حلكاية الوطن ّ‬ ‫الطائفي‪ .‬و�سيكون للبنانيني‬ ‫يظهر‬ ‫ُ‬ ‫من �أمرهم هذا حكمة‪ :‬فالدولة يف زمن ما بعد احلروب الأهلية‪ ،‬والأزمات ال�سيا�سية احلادة‬ ‫ذات دور ينبغي �أال تكون �سواه‪ :‬حمطة ال�ستقبال حماربي ّ‬ ‫الطوائف‪ .‬لقد كان من م�آثر "الدولة‬ ‫اجلديدة" التي توىل �أم ُرها املحاربون �أن فتحت �أذرعها حلداثويي ّ‬ ‫"الطوائف"‪ .‬يف االقت�صاد‪ ،‬واملال‪،‬‬ ‫وال�سيا�سة‪ ،‬والثقافة‪ ،‬لتكون منزلهم الآمن بعد قليل‪ ،‬ولت�صري القمي�ص الذي يلب�سونه ب�شغف‬ ‫وم�س ّرة‪ ..‬ثم لتم�ضي الأفكار والأحالم والآمال لت�صاغ من جانب ه�ؤالء على نحو ما ن�ش�أ عليه البلد‬ ‫تبدل يف ماه ّية ال�سلطة ّ‬ ‫الطوائفية التي حفظت الكيان‪ ،‬ثم كانت �سبباً يف‬ ‫�أول مرة‪ .‬مع �أن ال �شيء ّ‬ ‫تقوي�ضه غري مرة( )‪ .‬ومع ذلك ففي الأ�سئلة املحتجبة اليوم‪� ،‬أو يف تلك التي تتهي�أ للظهور‪ ،‬كان ثمة‬ ‫عودة �إىل الكالم على "ال�شيحوية" من دون ا�ستئذان‪ .‬كما لو �أن املنطق اللبناين ال�شائع يفرت�ض‬ ‫املماهاة جمدداً بني القيامة اللبنانية املفرت�ضة‪ ،‬ور�ؤى مي�شال �شيحا‪ .‬بعد احلرب بانَ لنا امل�شهد على‬ ‫�أمتّه‪ ،‬حيث ذهبت النخب �إىل ا�ستعادة هذه الر�ؤى ق�صد تعيني دور ووظيفة جديدين للبنان‪ .‬وكل‬ ‫هذا �ضمن توليف مزعوم من العقالنية ال�صارمة بني الأيديولوجيا ّ‬ ‫الطوائفية واملال‪ .‬لقد ابتعثت‬ ‫�أزمنة احلرب وما بعدها حنيناً للتقليد‪ ،‬ثم مل يلبث هذا احلنني ليتح ّول �شيئاً ف�شيئاً �إىل قوة تدفع‬ ‫ببلد مثقل بالأتعاب �إىل ف�ضاء "النيوليربالية" ال ّالمتناهي‪ .‬مثلما راحت هذه النيوليربالية تن�شئ‬ ‫الدولة و�أحكامها على ال�سرية الأوىل التي نه�ض الوطن ّ‬ ‫الطائفي‪ .‬كان مي�شال �شيحا يعتز ويطمئن‬ ‫�إىل كونه �أبدع للبنان نظرية ال�ستقراره وازدهاره‪ ،‬هي نظرية االعت�صام بالتقليد اجتناباً للعنف‬ ‫واحلروب الأهلية‪ .‬و�ساد ما ي�شبه االعتقاد ب�أن طوائفية هذا البلد هي ع ّلة وجوده‪ ،‬وال �صالح �إال‬ ‫بها وعليها ومن خاللها‪ .‬ك�أن ثمة من ين ِّب ُهنا على الدوام‪� ،‬أن كونوا على حذر من عنف واحرتاب‬ ‫ولو بعد حني‪� ،‬إن �أنتم َم َ�س ْ�س ُتم التقليد �أو �أ َحل ْق ُتم بقواعده وثوابته الأذى‪ .‬يت�ساءل كمال ال�صليبي‬ ‫يف ختام الف�صل التا�سع من كتابه "بيت مبنازل كثرية"( )‪ ،‬وهو على �شيء من عدم اليقني‪ ،‬عن‬ ‫فر�ص النجاح التي كانت متوافرة �أمام رعاية عقالنية للتقليد يف جمتمع ال يلتزم فيه اجلميع يف‬ ‫الدرجة نف�سها بالعقالنية‪ ،‬ويف وقت �أعطيت فيه حتى للعقالنية تف�سريات �سيا�سية خمتلفة‪ .‬لعل‬ ‫�شيحا كان مهموماً بالفعل مبثل هذا الت�سا�ؤل‪� ،‬إال �أن قد َر ُه مل ي�سعفه ليظهر له احل�صاد املرير‪ ،‬فها‬ ‫هو العنف ينفجر �آخر الأمر ويطيح بالتقاليد التي كان لها وحدها يف ر�أيه‪� ،‬أن حتافظ على املثالية‬ ‫الفينيقية املت�ص َّورة‪ .‬لكن ال�صليبي يعود ليمنح �شيحا حقه يف "�أنه كان على حق" ‪ -‬ولو لوقت‬ ‫معلوم ‪ -‬حني ر�أى �أن العنف الكامن يف لبنان‪ ،‬ال ميكن احتوا�ؤه �إال بالر�أي ال�سيا�سي ال�صائب‪.‬‬ ‫ول�سنا ندري �إن كان الفرقاء الإقليميون والدوليون الذين و�ضعوا �أو باركوا �سالم ّ‬ ‫الطائف قد‬ ‫ا�ستم�سكوا ٍ‬ ‫يومئذ بالر�أي ال�صائب‪ .‬غري �أن ال�س�ؤال الذي يبقى على �أحواله املا�ضية مع جرعة‬ ‫زائدة من التعقيد‪ ،‬هو حول ما �إذا كانت ال�شيحوية وفل�سفتها ودعواها �إىل التقليد‪ ،‬ال تنفك تنعقد‬ ‫على ف�ضيلة الت�سوية التاريخية‪.‬‬ ‫‪9‬‬

‫‪10‬‬

‫‪43‬‬


‫�رصاع هوية ووجود‬

‫الطّ وائفي ي�شجب الطّ ائفي‬

‫رغم �أن مي�شال �شيحا َف ْل َ�س َف ال�صيغة ّ‬ ‫الطائفية بو�صفها الطريق الذي ينبغي االلتزام به حلماية‬ ‫الكيان من االنفجار والت�شظي‪ ،‬ف�إنه بعد فرتة ق�صرية من املعاينة مل يوفر تلك ال�صيغة من النقد‪.‬‬ ‫فبعد ثالث �سنوات على �إعالن اال�ستقالل �أي يف العام ‪ ،1945‬حيث بد�أت ممار�سة امليثاق الوطني‬ ‫عملياً من خالل رئا�سة ب�شارة اخلوري وحكومة ريا�ض ال�صلح‪ ،‬طرح مي�شال �شيحا يف �إحدى‬ ‫مقاالته �س�ؤا ًال بعد �أن الحظ الت�سابق بني ممثلي ّ‬ ‫الطوائف على الوزارات "متى ت�صبح هذي البالد‬ ‫بجد على‬ ‫غري طائفية؟"‪ .‬ثم �أجاب ب�صيغة التمني واحللم على ال�شكل التايل‪" :‬يوم تنعق ُِد النية ٍّ‬ ‫�أ َّال يبقى لبنان بالداً طائفية‪� ،‬سيكون لزاماً على كل طائفة القبول دون كثري من ال�صياح‪� ،‬أن يكون‬ ‫متثيلها يف بع�ض الأحيان �أدنى من حجمها يف �أحيان �أخرى‪ ...‬وي�ضيف مت�سائ ًال‪ ،‬و�أي �ضري يف �أن‬ ‫تغيب عن احلكومة طائفتان �أو ثالث يف وقت من الأوقات؟"( )‪.‬‬ ‫غالب الظن �أن فيل�سوف ال�صيغة ّ‬ ‫الطائفية كان حممو ًال على االنفعال‪ ،‬جراء ما كان يراه من‬ ‫م�شاجرات حول ق�سمة املغامن بني زعماء ّ‬ ‫الطوائف يف ذلك الوقت‪ .‬ومع �أن تعليقه املحموم جاء‬ ‫يف حلظة �ساخطة على م�شهدية التنازع على ال�سلطة‪ ،‬ف�إن كثريين ذهبوا �إىل �أن كالماً من ذاك‬ ‫النوع كان ينبئ بفداحة ما تنطوي عليه ّ‬ ‫الطائفية من �شرور على م�ستقبل الكيان‪ .‬ومع ذلك بقيت‬ ‫ّ‬ ‫الطائفية يف نظر �أتباع املذهب ال�شيحوي مق ّوماً وجودياً للبنان‪ .‬و�سنقر�أ ما ال ح�صر من التنظريات‬ ‫ال�سابقة على احلرب الأهلية وال َّالحقة عليها م�ؤداها‪� ،‬أن ّ‬ ‫الطوائف امل�سيحية والإ�سالمية ت�شكل‬ ‫متحدات اجتماعية ثقافية كلية‪ ،‬لكل منها هوية خا�صة ت�شكل �إطاراً النتماء‪ ،‬هو الأقوى والأثبت‬ ‫من بني جميع االنتماءات االجتماعية وال�سيا�سية بالن�سبة �إىل الأفراد واملجموعات يف لبنان‪.‬‬ ‫‪11‬‬

‫الوطن الطّ ائفي مبا هو �رش ٌ ال منا�ص منه‬

‫لقد ّر�سخت التحوالت املتعاقبة يف تاريخ ما بعد اال�ستقالل قناعات م�ؤداها �أن ّ‬ ‫الطائفية لي�ست جمرد‬ ‫حالة عار�ضة على بنية الوطن والدولة‪ .‬و�إمنا هي ركن جوهري يف قيامة لبنان احلديثة واملعا�صرة‪.‬‬ ‫وال ّالفت �أن هذه القناعات مل تتزعزع على الرغم مما تنطوي عليه الن�صو�ص الد�ستورية من بنود‬ ‫تغاير ذلك‪ .‬فلقد �أ�شار كل من الد�ستور اللبناين ال�صادر العام ‪ 1926‬و"�صيغة" احلكم التي اتفق‬ ‫عليها العام ‪ 1943‬ا�ستكما ًال لـ"امليثاق الوطني" �إىل �أن اعتماد النظام ّ‬ ‫الطائفي �إمنا هو تدبري انتقايل‬ ‫وحمدود و�إن كان �ضرورياً من الناحية ال�سيا�سية‪ .‬ومعلوم �أن مهند�سي هذه "ال�صيغة" طاملا حذروا‬ ‫و�شددوا على كونه تدبرياً موقتاً‪� .‬إال �أن ّ‬ ‫من املخاطر املالزمة العتماد النظام ّ‬ ‫الطائفية‪،‬‬ ‫الطائفي ّ‬ ‫خالفاً حلكمة ه�ؤالء‪ ،‬انت�شرت وجنحت يف التحكم بعمل �أجهزة الدولة وم�ؤ�س�ساتها كافة يف الفرتة‬ ‫املمتدة بني اال�ستقالل وانفجار النزاع الأهلي العام ‪ ،1975‬حيث جرى خاللها �إدخال القاعدة‬ ‫‪44‬‬

‫ّ‬ ‫الطائفية يف ن�ص قانون املوظفني ال�صادر العام ‪ .1959‬ومن ذلك احلني �سهر جمل�س �شورى الدولة‬ ‫على تطبيقها بدقة وتفانٍ ال ت�شوبهما �شائبة‪� .‬إ�ضافة �إىل ذلك‪� ،‬صدرت ت�شريعات جديدة منحت‬ ‫ّ‬ ‫الطوائف اللبنانية �صالحيات وا�سعة لإدارة �ش�ؤونها الداخلية وم�ؤ�س�ساتها ولتنظيم �أهم الأوجه‬ ‫املتعلقة بق�ضايا العائلة‪ .‬والأحوال ال�شخ�صية لأع�ضائها‪ .‬وحقيقة الأمر �أن ما حدث خالل هذه‬ ‫الفرتة هو تعزيز للطائفية‪ ،‬بينما كان الت�صور الأ�صلي �أن الزمن هو الكفيل بزوالها‪ .‬ثم �أتت �سنوات‬ ‫احلرب الأهلية‪ ،‬التي ع�صفت بلبنان يف العام ‪ ،1975‬لرتفع من حدة ال�شعور واالنتماء ّ‬ ‫الطائفيني‬ ‫وتزيد من الأحكام امل�سبقة‪ ،‬حيث ت�ضاعفت هذه املمار�سات ّ‬ ‫الطائفية‪ .‬وبنتيجة ما ارت�سمت به هذه‬ ‫الطائفية واملطالب ّ‬ ‫الطائفي‪ ،‬ومن غلبة املطالب ّ‬ ‫احلقبة من �شدة اال�ستقطاب ّ‬ ‫الطائفية امل�ضادة على‬ ‫احلياة ال�سيا�سية‪ ،‬ومن تعاظم لدور اجلماعة ّ‬ ‫الطائفية امل�سلحة املعروفة بامليلي�شيات‪ ،‬مل ي ُعد ثمة من‬ ‫خيار واقعي لوقف دورة العنف املت�صاعدة التي غرقت البالد فيها �إال بالو�صول �إىل �صيغة جديدة‬ ‫لتوزيع ال�سلطة ال�سيا�سية بني ّ‬ ‫الطوائف اللبنانية الرئي�سية‪ ،‬وبت�أمني موافقة زعماء هذه اجلماعات‬ ‫عليها‪ ،‬وال �سيما قادة امليلي�شيات امل�سلحة‪ .‬هنا تكمن ميزة اتفاق ّ‬ ‫الطائف و�أهميته‪ .‬من حيث هو‬ ‫تعبري عن �صفقة طائفية "جديدة" جعلت �إ�سكات البنادق ممكناً‪ ،‬كما �سمح بالعودة التدريجية �إىل‬ ‫الطائف" �سوف ِّ‬ ‫الأ�ساليب والو�سائل ال�سلمية للعمل ال�سيا�سي‪ .‬لكن "ميثاق ّ‬ ‫ي�شكل‪ ،‬با�ستثناء‬ ‫�إجناز التغطية الد�ستورية وال�سيا�سية لإنهاء احلرب الأهلية والدخول يف �إعادة بناء احلياة املدنية‬ ‫ال�سلمية – حمطة م�ست�أنفة لإنتاج النظام ّ‬ ‫الطائفي يف لبنان‪ .‬ومبعنى �أكرث حتديداً وعمقاً ف�إن االتفاق‬ ‫واملرتكزات الد�ستورية التي قام عليها كان �أدنى �إىل ميثاق لإدارة احلرب الباردة بني ّ‬ ‫الطوائف‪ ،‬منه‬ ‫�إىل ت�سوية تاريخية را�سخة بينها‪.‬‬ ‫ثقافة املواطنة يف كهف الطّ ائفة‬

‫حالت احلرب‪ ،‬وكذلك �سوء �إدارة الو�ضع ال�سيا�سي بعد ّ‬ ‫الطائف‪ ..‬دون متو�ضع النخب الالطائفية‬ ‫يف �أوعية املواطنية املت�صلة‪ .‬ثم ا�ضط ُـ َّرت هذه النخب �إىل �إرجاء رغباتها‪ ،‬لتن�ضوي "طوعاً" �أو‬ ‫بالإكراه حتت ظالل ال�سلطة الأهلية‪� ،‬إ َّال �أنها كانت تنتظر وتت�أمل �أن تنفلت ذات يوم من قب�ضة‬ ‫تلك ال�سلطة‪ .‬بينما كانت يف الآن عينه مم�سكة ب�أحالمها‪ :‬وت�ستهدف وطناً �صافياً من العنف‪،‬‬ ‫امتد‬ ‫وحياة �أهلية باردة‪ ،‬و�سياقاً ينظم َح َيوات مواطنيها على كل �صعيد‪ ...‬غري �أن اخلواء ال�سيا�سي َّ‬ ‫يف الأرجاء اللبنانية ل ُيم�سي �أ�شد كثافة وان�ضغاطاً‪ .‬ف�إذا االنتظار والأمل ي�ستحيالن �ضرباً من �سلوك‬ ‫الطائفية‪ .‬لقد بدا اال�ستغراق يف الرهان على �سلطة ّ‬ ‫ا�ست�سالمي حيال الإرادة ّ‬ ‫الطائفة �أ�شبه ب�أيقونة‬ ‫مقد�سة حتجب ع�صب املمانعة ورغبة االحتجاج‪ .‬ويف ال�صورة ما ي�ؤمئ �إىل �أنَّ كرثة من البيئات‬ ‫ذات التفكري العلماين �أو املدين الذت بال�صمت حيال ال�سائد ال�سيا�سي الذي تعي�ش حتت ظله‬ ‫"اجليو‪-‬طائفي"‪ .‬ح�صل هذا بالفعل منذ اللحظة التي �أ�سقطت فيها هذه البيئات من ح�سابها خط‬ ‫‪45‬‬


‫�رصاع هوية ووجود‬

‫االعرتا�ض‪ .‬ثم م�ضت يف رحلة العزوف والك�سل‪ ،‬حتى �أن م�ساحات يف زمن العنف َّ‬ ‫حل فيها‬ ‫مثقفون راحوا يرفعون رايات طوائفهم‪ ،‬ويحاربون ب�سالحها‪ ،‬بعدما �سقطوا يف �إغواءات �شعائرها‬ ‫و�أحكامها‪ .‬مل ي�ستطع املثقَّف ال َّالطائفي �أن يبتني له منز ًال يتوازن فيه مع من ي�سكن قالع ّ‬ ‫الطائفية‬ ‫ين�ضم �إىل مواطنية جماعية م�ستقلة فيقيم لنف�سه فيها ح�صناً ي�أوي �إليه‪� ،‬أو �أن ين�شئ‬ ‫ّ‬ ‫ال�صماء‪ ،‬ك�أن َّ‬ ‫�سوي‪ .‬ويف احلاالت الق�صوى كان عليه �إجراء موازنة‬ ‫له حيزاً ي�شعر فيه بنعمة العي�ش كمواطن ّ‬ ‫دقيقة‪ ،‬حذرة‪ ،‬بني رغبته يف املخالفة واملمانعة والنقد‪ ،‬وبني �ضغط ّ‬ ‫الطائفة التي ال تفت�أ حت�شره يف‬ ‫�سعري �شعائرها املحمومة‪ .‬فلقد َّ‬ ‫ظل املثقّف الالطائفي �أ�سري �شبكة ا�ستقطابات فر�ضها منطق اللعبة‬ ‫ّ‬ ‫الطوائفية‪ .‬مثلما افرت�ضها عليه �سلوك كل طائفة جتاه رعاياها‪ ،‬يف �إطار �سيادتها املناطقية واحلزبية‬ ‫واالجتماعية‪.‬‬ ‫لقد ظهر بو�ضوح مع اختبارات الأعوام املن�صرمة‪� ،‬أن حركة اال�ستقطاب اللبناين الداخلي ظ ّلت‬ ‫على حالها؛ يف احلرب كما هي يف زمن ما بعد احلرب‪ .‬الـ"ما قبل" يت�صل ويتوا�صل بالـ"ما بعد"‪.‬‬ ‫مل يح�صل االنقطاع بني العنف وال�سالم الأهلي كزمنني اجتماعيني تاريخيني متغايرين‪ ،‬حيث‬ ‫يفرت�ض �أن ي�ؤلف الزمن التايل نفياً ونقي�ضاً للزمن الذي فات‪ .‬وحدها ق�شرة ال�سيا�سة والثقافة‬ ‫التبدل‪ ،‬بينما بقيت يف جوهرها تغتذي من ن�ش�أتها االوىل‪ .‬لقد‬ ‫واالجتماع هي التي َع َر�ض عليها ّ‬ ‫خُ ِّيل للبنانيني �أنهم بعد ّ‬ ‫الطائف بلغوا حقول �أحالمهم بدولة مواطنني‪� .‬سوى �أن ما بدا لهم بو�صفه‬ ‫�أحالماً واقعية ت�أخذ �سبيلها �إىل التحقق‪ ،‬مل ين�صرم وقت حتى ذوى ك�سراب �صحراوي‪ .‬لقد بقي‬ ‫الطائفية والدولة املت�ص َّورة‪ .‬ثم م�شت ّ‬ ‫احلبل ال�سري مو�صو ًال ب�شدة بني ال�سلطة الأهلية ّ‬ ‫"الطوائف‬ ‫ال�سيا�سية" على طريق الدولة مزه ّوة مبا جمعته خالل احلروب املوقوفة وامل�ست�أنفة من ح�صاد القوة‪،‬‬ ‫املعدة �إعداداً متقناً‪ ،‬واملحم ّية من ظالل املحيطني‬ ‫حطـت على �أر�ض ال�شرعية الد�ستورية ّ‬ ‫حتى �إذا َّ‬ ‫الإقليمي والدويل‪َ ،‬ف َت َحت هذه ّ‬ ‫الطوائف على احرتاب بارد القت�سام احل�ص�ص واملغامن‪ .‬هكذا‬ ‫ُق ِّي َ�ض ملفهوم الدولة �ضمن �أزمنة ال�سالم ال�سيا�سي دور ينبغي �أال يكون �سواه‪ :‬حمطة ال�ستقبال‬ ‫حماربي ّ‬ ‫الطوائف‪ .‬وم�ستوعباً �شرعياً يجمعهم �إثر �شتات مديد‪.‬‬ ‫لقد بدت الرحلة منذ اتفاق ّ‬ ‫الطائف ‪ 1989‬و�صو ًال �إىل اتفاق الدوحة ‪ 2008‬على �صورة تاريخ‬ ‫راق�ص يكرر ذاته بال انقطاع‪ .‬ف�إن هذه الرحلة مل متلك �أن تتجاوز لعبة َخب ِـ َرها اللبنانيون على‬ ‫امتداد �سنني طويلة‪� .‬إذ يف غ�ضون فرتة ق�صرية �أخذت تتو�ضح معامل حياة‪ ،‬ال جديد فيها �سوى‬ ‫�أ�شخا�ص‪ ،‬و�أحداث‪ ،‬و�شعارات‪ ،‬ومظاهر‪ ،‬لثقافة �سيا�سية باهتة‪ .‬حتى ال�سلطة التي ت�آلفت عنا�صرها‬ ‫حتت عناوين امل�ؤ�س�سات الد�ستورية خرجت كمولود من املا�ضي‪ .‬و�شعر اللبنانيون‪ ،‬ومثقفوهم‬ ‫ال ّالطائفيون على اخل�صو�ص‪� ،‬أن يف الأفق املقبل ما ي�شي بخيبة‪� .‬إنهم يعرفون بالفطرة واملعاينة �أن‬ ‫ال�سلطة‪� ،‬أي �سلطة‪� ،‬إمنا هي على الدوام �إغواء بال�سوء‪� ،‬إذ �سرعان ما تتح َّول �إىل جهاز مينع ويقمع‪.‬‬ ‫املتطلـعة ب�شغف �إىل مواقع النفوذ‪� ،‬إىل جهاز منع وقمع �إ�ضايف ملن‬ ‫فمن البداهة‪� ،‬أن تتح ّول النخبة َّ‬ ‫يخالفها الر�أي‪ .‬ول�سوف نتع َّرف من خالل ما حملته �إلينا �سنوات ما بعد احلرب‪ ،‬على حقيقة �أنّ‬ ‫‪46‬‬

‫الطائفة حني ي�صبح هو نف�سه النظام ّ‬ ‫نظام ّ‬ ‫الطائفي ت�صبح ال�سلطة التنفيذية املعبرِّ ة عنه مبثابة هيئة‬ ‫�إق�صائية لكل ما هو "غري"‪ .‬ونافية بالتايل لكل ما هو خارج قيمها‪ ،‬وم�صاحلها‪ ،‬وثقافتها‪ ،‬وكلماتها‬ ‫اليومية‪.‬‬ ‫تطبيق الدميقراطية‬

‫�سوف يولد �أ�سلوب عي�ش يف الثقافة وال�سيا�سة‪ ،‬غايته الق�صوى �ضبط كل حماولة ت�س�أل �أو ت�شكك‬ ‫يف املنظومة ال�سائدة‪ .‬ولقد ظهرت �صورة الدميقراطية ّ‬ ‫الطوائفية هذه املرة باهتة ومنقب�ضة وم�سيطراً‬ ‫عليها �أكرث من �أي يوم م�ضى‪ .‬ولعل ال�سمة املميزة لتلك ال�صورة �أن الدميقراطية دخلت يف عامل‬ ‫ّ‬ ‫الطوائف لتتحول معها �إىل رافعة �أيديولوجية توظفها كل طائفة لتعزيز ح�ضورها بني �أبنائها وداخل‬ ‫الدولة‪ .‬ولنا يف ما ح�صل من ربط للمجتمع الثقايف ب�أغالل ّ‬ ‫الطائفيات ال�سيا�سية املتنوعة عن‬ ‫طريق احتواء ال�صحافة وو�سائل الإعالم‪ ،‬وال�سيطرة على م�ؤ�س�سات املجتمع املدين وحتويلها‬ ‫مر�سخات �إ�ضافية للمجتمع الأهلي ّ‬ ‫الطوائفي �إ�شارات بيانية ال َل ْب َ�س فيها‪ .‬هكذا �سين�ش�أ ما‬ ‫�إىل ِّ‬ ‫ميكن ت�سمي ُت ُه "�سلطة �أيديولوجية" حلماية ال�سلم الأهلي‪ ،‬ما لبثت �أن منت وا�ست�شرت يف احلقول‬ ‫اللبنانية املتعبة‪ .‬مهمة هذه الأيديولوجية �أن ت�أتي للنا�س على الدوام بيقني‪ ،‬حيث راحت تنزع‬ ‫�إىل حترمي ال�شك‪ .‬وت�شكك يف �أي بادرة نقد‪ ،‬وترى �إىل �أي اختالف فكري �أو ثقايف مثابة م�سعى‬ ‫للفو�ضى واحلرب الأهلية‪ .‬ولقد جعلت هذه الأيديولوجية من "ال�سيا�سي املحدث" �أمرياً ثقافياً‬ ‫بينما هو يف واقع احلال �أمري حرب يف ال�سلوك‪ ،‬ويف امل�صادر الثقافية والأيديولوجية التي يغتذي‬ ‫منها‪ ،‬وكذلك يف طريقة �إدارته ملواقع النفوذ يف ال�سلطات التنفيذية التي ا�ستحوذ عليها‪ ..‬وميكن‬ ‫�أن نقع على �شواهد من ذلك ال ح�صر لها‪ ،‬منذ ما بعد �إبرام اتفاق ّ‬ ‫الطائف يف الت�سعينيات‬ ‫حتى بدايات العام ‪ ،2000‬حيث انخرطت ّ‬ ‫الطوائف ال�سيا�سية على اجلملة يف ما ي�شبه العزف‬ ‫اجلماعي على �إيقاع توازن امل�صالح‪ ...‬ولقد تبني �أن قرار ال�سلطة ال�سيا�سية مل يكن �سوى ترجمة‬ ‫مطابقة لر�ؤية امل�ؤ�س�سة الثقافية الأيديولوجية‪ ،‬التي جتري بوا�سطتها �إعادة �إنتاج ثقافة املجتمع كله‪.‬‬ ‫وبهذا‪ ،‬ا�ستحالت هذه الثقافة �أ�شبه ب�أوعيه مت�صلة من اخلطب الثقيلة ت�ؤ�س�س لل�سيا�سة وتعيد‬ ‫�إنتاجها‪ .‬فيما انربى العاملون يف حيا�ضها ي�شتغلون كدعاة مينحون الزعيم الوجيه ّ‬ ‫الطائفي �شرعيته‬ ‫وجمده املرتامي الأطراف‪ .‬هكذا �ستم�ضي الهيئة ال�سيا�سية يف زمن احلروب والأزمات املتناوبة‬ ‫�إىل ال�سيطرة على مك ّونات املجتمع املدين (جمعيات �أهلية ‪ -‬احتادات ومنظمات نقابية ‪ -‬منابر‬ ‫وم�ؤ�س�سات ثقافية و�إعالمية ‪ -‬فرق ك�شفية وريا�ضية �إلخ)‪ .‬وقد جرى هذا كله مدفوعاً‪ ،‬برغبة‬ ‫اال�ستيالء على م�ؤ�س�سات االجتماع الثقاقي‪ ،‬والقب�ض على حركتها ومفاعلها‪.‬‬

‫‪47‬‬


‫�رصاع هوية ووجود‬

‫املواطن الالَّطائفي مغلوالً‬

‫ال تظهر �صورة املواطن الالطائفي يف لبنان خارج �سرية ّ‬ ‫الطائفية‪ .‬ف�إنه و�إن �شاء �أن يغادر �أ�سوارها‬ ‫ّ‬ ‫م�ستهل امل�سعى ليبدو كمن مي�ضى يف امل�ستحيل‪� .‬أما املثقف‬ ‫املغلقة‪ ،‬فال يلبث �أن يعود �إىل‬ ‫الالطائفي فهو مط ّوق بجدران ال ح�صر لها‪ .‬بع�ضها مرئي‪ ،‬وينت�صب �أمامه يف كل �ش�أن يتعلق‬ ‫معد ب�إتقان من‬ ‫وخفي‪� ،‬أو يجري �إخفا�ؤه بح�ساب ّ‬ ‫بحياته اليومية تع ّلقاً مبا�شراً‪ ،‬وبع�ضها م�سترت ّ‬ ‫جانب من ي�صنعون للطائفية �سريتها وجمدها وعمرها املديد‪ .‬وهو �إذا حاول اخلروج على طائفته ال‬ ‫يجد من ينظر �إليه �إال كغريب‪ .‬ولئن َم َل َك اجلر�أة‪ ،‬وخرج على طائفته فلن يجد من يقبله يف م�سارح‬ ‫ّ‬ ‫الطوائف املت�آخية‪� ،‬إال بو�صفه منتبذاً‪ .‬ول�سوف ي�سكنه �شعور ثقيل ب�أن ال منا�ص له من الرجوع �إىل‬ ‫�سوي‪ ،‬لأن ّ‬ ‫الطوائف ال�سيا�سية التي‬ ‫م�سكنه الأ�صلي‪ .‬و�أنه لن يت�سنى له العي�ش كمواطن يف وطن ٍّ‬ ‫مقد�سة‪� ،‬إثر كل حرب �ضرو�س‪،‬‬ ‫ا�ستوطنت جغرافيات البالد منذ زمن بعيد جتدد نف�سها‪ ،‬بعقود ّ‬ ‫�أو فتنة عابرة‪.‬‬ ‫ومن �سوء حظ املثقف الالطائفي‪� ،‬أن امل�ساحات التي كان يفرت�ض �أن ُتخلى له كمكان ح ّر للكالم‬ ‫ّ‬ ‫والتفكر با�سرتاتيجية خال�ص‪ ،‬قد ُغ ِّلقت ب�إحكام منذ ت�سوية ّ‬ ‫"الطائف" العام ‪.1989‬‬ ‫بعد هذا التاريخ بدا كما لو �أن دولة ّ‬ ‫الطوائف �أكملت نف�سها وا�سرتاحت مما حملته �صيغة‬ ‫"اجلمهورية الأوىل" من معايب ثم كانت �سبباً يف ن�شوء بيئات �سيا�سية وثقافية ذات ا�ستقالل‬ ‫ن�سبي عنها‪...‬‬ ‫الطوائف على ن�صاب ميثاق ّ‬ ‫حني اكتملت دولة ّ‬ ‫الطائف وعلى النحو الذي نرى م�شاهده‬ ‫الرتاجيدية منذ نحو ع�شرين عاماً‪ ،‬وجد مثقفو لبنان الالطائفيون‪ ،‬على العموم‪� ،‬أنهم باتوا �أ�سرى‬ ‫عالقات قوة من طراز جديد‪ .‬باتوا مع ّلقني بدوائر مغلقة‪ ،‬وم ّت�صلة يف ما بينها بعقود فادحة من‬ ‫الرياء ال�سيا�سي‪ .‬وخا�ضعة بالتايل لكيمياء عجيبة مل ي�ش�أ كثريون منهم �أن يكونوا مادة الختباراتها‬ ‫املر ّوعة‪� ،‬إال �أنهم َحبِطوا يف اجتياز �أ�سوارها‪ .‬ومل يقدروا على ال�صمود يف وجهها‪ .‬فوراء كل جدار‬ ‫جرى ن�صبه بعد احلرب الأهلية ن�ش�أت �سلطة ماكرة وخادعة ومتحللة من �أي وازع قانوين �أو‬ ‫عمن �سبقها من بيوتات القوة والعنف خالل احلرب‪،‬‬ ‫�أخالقي‪� .‬سلطة ازدادت حنكة مبا ورثته ّ‬ ‫يتح�صل للبنانيني من "عبقريتها" �سوى لعبة‬ ‫وكذلك من مرياث "اجلمهورية الأوىل" التي مل ّ‬ ‫املقا�سمة واملحا�ص�صة واالنتهاب‪.‬‬ ‫مل تقم �سلطة ّ‬ ‫الطوائف بوجهيها العنيف والبارد‪� ،‬إال على املطلق ال�سيا�سي‪ .‬وتالياً على املطلق‬ ‫االجتماعي واالقت�صادي‪ .‬وثالثاً ‪ -‬وهو الأخطر والأدهى ‪ -‬على املطلق الثقايف‪ .‬ثم على ما يجعل‬ ‫عدماً مق�ص َّياً‪.‬‬ ‫هذا الثقايف �إما تابعاً م�ستتبعاً �أو َ‬ ‫ولأن "�سلطة ّ‬ ‫احلد‪ ،‬فلم يكن لها لكي توطد م�صاحلها �إال �أن ت�ستق ّر على‬ ‫الطوائف" مطلقة �إىل هذا ّ‬ ‫‪48‬‬

‫مي يف‬ ‫مثلث توازنات يتجدد على الدوام‪ ،‬بني رئا�سات اجلمهورية والنواب واحلكومة‪ .‬وهو ما ُ�س َ‬ ‫حينه ﺑ"الرتويكا" �أو ال�سلطة املثلثة الأقطاب‪ .‬فكان ل ّلبنانيني الكثري من مطالع ال�سوء ب�سبب من‬ ‫"اللقاء احلميم" بني مثلث مال احلرب ومال ال�سيا�سة النيوليربالية‪ ،‬ونظام ّ‬ ‫الطائفية ال�سيا�سية‪ .‬وهو‬ ‫لقاء من �ش�أنه �أن يفكك بقوة ما تبقى من �أوا�صر املجتمعني ال�سيا�سي والثقايف‪.‬‬ ‫املواطن العلماين حائراً‬

‫هذا املواطن هو نف�سه املواطن ال ّالطائفي ولكن مع جرمية زائدة من الإف�صاح عن خ�صومته للطائفية‬ ‫ونظامها‪ .‬ويف حاالت توتره ليذهب العلماين �إىل الدرجة التي ال يعوزه فيها �شيء للجهر بت�شا�ؤمه‬ ‫من �إمكان بلوغ جمتمع املواطنة‪.‬‬ ‫كيف يل �أن �أكون مواطن ًا بالفعل؟‬

‫على هذا النحو ي�سائل العلماين اللبناين نف�سه اليوم‪ ،‬حتى ليبدو يف غالب الأحوال كغريب ال‬ ‫طائفيات من كل جانب‪َّ .‬‬ ‫اكتظت‬ ‫مرياث له يف منازل الأهل‪ .‬يتطلع حواليه ليجد كيف �أحاطت به‬ ‫ٌ‬ ‫به َّ‬ ‫واكتظ بها‪ ،‬فال يكاد يرى لنف�سه خمرجاً من �أ�سوارها املغلقة‪ .‬لكنه‪ ،‬وهو على هذه احلال‪ ،‬يظل‬ ‫على يقني مقيم ب�أن احل�صار امل�ضروب من حوله ال يت�أتى من خ�صوم مرئيني لكي تظهر �أمامه‬ ‫احلدود والتخوم واخليارات‪ ،‬بل �إنه ي�شعر وك�أنه حما�ص ٌر من بيت �أبيه‪ .‬فال يغادر هذا البيت �إال‬ ‫ليعود �إليه‪ .‬لك�أن منازل ّ‬ ‫الطوائف يف لبنان �أمكنة مبني ٌة على حكم الق�ضاء والقدر‪.‬‬ ‫احلا�صل على وجه العموم هو انتهاء �س�ؤال املواطنية �إىل ما ال يخالف ق َ​َد َر ّ‬ ‫الطائفية وق�ضا َءها‪.‬‬ ‫�صماء" ي�ستحيل عليه‬ ‫فال�صورة التي يجد العلماين اللبناين نف�سه يف داخلها‪ ،‬هي �أ�شبه بـ "قلعة ّ‬ ‫مغادرتها؛ �أو كمن ال منا�ص له �إ ّال التك ُّيف مع �أنظمتها ال�صارمة‪ :‬عليه �أن يكتفي ب�أن يعي�ش‬ ‫علمانيته يف ذهنه‪ ،‬بينما عليه يف الآن عينه �أن يعي�ش طائفيته ب�شغف نادر يف احلياة العامة‪� .‬أما حني‬ ‫ي�أخذه الظن �أنه با ِل ٌغ "لبنانية نقية من �أي �شائبة"‪ ،‬فال يلبث حتى يغ�شاه الوهم وت�صدمه اخليبة‪.‬‬ ‫ف�إذا به يعود �إىل عامل احلرية‪ ،‬ثم ينربي �إىل ما ي�شبه التوقيع القهري على هوية ناق�صة‪.‬‬ ‫ر�ؤية ال ّالطائفيني �إىل حال لبنان اليوم‪ ،‬هي نف�سها التي يعيدونها كلما رفعوا ال�شكوى على ما هم‬ ‫عليه من �أحوال‪ .‬وها هم يك ّررون ما �سبق وقيل على امتداد تاريخ لبنان ال�سيا�سي واالجتماعي‪:‬‬ ‫"لقد انت�صرت ّ‬ ‫الطائفية‪ ،‬وتفوقت املذهبية‪ ،‬وتراجعت املواطنية‪ ،‬وف�شلت العلمانية‪ ،‬ون�أت‬ ‫( )‬ ‫الدميوقراطية‪ ،‬ودخل لبنان يف القرون الو�سطى‪ ،‬و�أقام يف ما�ضيه" ‪.‬‬ ‫من طرفنا ن�ضيف اىل ما قيل‪ :..‬ما كانت ّ‬ ‫الطائفية اللبنانية �إال منت�صرة طبقاً ملعايريها و�أحكامها‬ ‫وا�سرتاتيجيتها‪ ،‬وحني ح َّل ْت على �أر�ض انت�صارها‪� ،‬أ�س�ست للما�ضي فيما هي ت�ؤ�س�س للحا�ضر‬ ‫‪12‬‬

‫‪49‬‬


‫�رصاع هوية ووجود‬

‫وامل�ستقبل‪ .‬معها بات لبنان �أدنى �إىل م�ستوطنات ِّ‬ ‫متوحد‪� .‬أما داخل قالع‬ ‫مت�شظية منه �إىل وطن ّ‬ ‫ّ‬ ‫الطائفية ال�ص َّماء فال عقالنية بخارج ٍة عن عقالنيتها‪ .‬وال مواطنية تن�أى من خرائطها املر�سومة‬ ‫ب�إحكام‪ .‬حتى لقد �صارت العقالنية ّ‬ ‫الطائفية طبعاً حميماً لطبائع اللبنانيني على اجلملة‪.‬‬ ‫[‪]3‬‬

‫بني عقلية الطّ وائف وعقالنية املواطنة‬

‫�أي �سبيل ُيفرت�ض �أن ُي َ�شق لكي يحرز اللبنانيون مواطنيتهم؟‬

‫ال منا�ص من البدء بر�سم معامل �أولية لعقالنية مواطنة‪ ،‬يف مقابل عقالنية ّ‬ ‫الطوائف‪ .‬لكن من �أين‬ ‫الطريق �إليها؟‬ ‫�إن كان ال مهرب من ذلك‪ ،‬فلنا �أن نقرتح على ال ّالطائفي اللبناين �أن يتخذ �سبي ًال يف�ضي به‬ ‫�إىل "منطقة معرفية و�سطى" من �سماتها‪ :‬القدرة على �إدارة التعقيد التاريخي من خالل ما‬ ‫ن�سميه بـ "عقالنية" التقريب بني امل�س َّلمات املتباينة‪ ،‬والوقائع املتناق�ضة‪ .‬نقول هذا‪ ،‬ولو مل يوافقنا‬ ‫"مناطقة" ّ‬ ‫الطوائف وفال�سفتهم على مثل هذه الدعوى‪� .‬أما تعريفنا الإجمايل ل�شرائط حت�صيل مثل‬ ‫هذه العقالنية‪ ،‬ف�إ ّنا نقرتحه على ال�شكل التايل‪:‬‬ ‫�أو ُلها‪ :‬يكون يف ال�صرب على ما منق ُته من عقالنية ّ‬ ‫نحب مما‬ ‫الطوائف‪ ،‬كما جنده يف ال�صرب على ما ّ‬ ‫ن�أتن�س �إليه من �أفكار عن مواطني املدن الفا�ضلة‪.‬‬ ‫التب�صر بالن�ش�أة الأوىل للبنان‪� .‬أي بالظروف والأو�ضاع والأحوال التي حكمت‬ ‫وثانيها‪ :‬يكون يف ُّ‬ ‫هذا البلد منذ ت�أ�سي�سه ككيان �سيا�سي ودولة يف الربع الأول من القرن الع�شرين‪ .‬فلو عرفنا الن�ش�أة‬ ‫الأوىل كيف جرت‪ ،‬لهانت علينا معرفة كيف جتري الن�ش�آت التالية الأخرى‪.‬‬ ‫وثالثها‪ :‬يكون يف �إدراك امل�سافات الطفيفة بني حقائق التاريخ التي جعلت من ّ‬ ‫الطائفية علة وجود‬ ‫لبنان‪ ،‬وبني الأمل املت�سامي بوطن يب�سط للنا�س �أماكنهم الآمنة وال�سعيدة‪.‬‬ ‫و�أما رابعة تلك ال�شرائط‪ ،‬ولي�س �آخرها‪ ،‬فيكون يف تد ُّبر املفاهيم الوافدة �إلينا من ع�صور احلداثة‬ ‫القريبة والبعيدة‪ .‬تلك التي ال ينبغي �أن ن�ؤخذ فيها على ن�صاب الده�شة والتطيرُّ ‪�.‬إنها املفاهيم‬ ‫نف�سها التي �أخذناها عن ظهر قلب‪ .‬وهي على اجلملة‪ :‬مفهوم الدولة ‪-‬والعلمنة‪ -‬واملجتمع‬ ‫�شق علينا �أن جند �سبي ًال له �إىل مهاد م�ستوطناتنا املرتامية‬ ‫املدين‪ -‬واملواطنية‪� -‬إىل �آخر ال�سل�سلة مما َّ‬ ‫الأطراف‪.‬‬ ‫‪50‬‬

‫�س�ؤال �آخر من زاوية �أخرى‪ :‬هل تكون النافذة �إىل لبنانيتنا ال�صافية عرب تلك املواطنية امل�ستعادة‬ ‫على وئام الأمداء الإقليمية والدولية الالمتناهية؟‬ ‫مثل هذا ال�س�ؤال نرت َّيب يف هذا املقام‪ ،‬تقدمي الإجابة عليه‪ .‬فلذلك مقام �آخر من الكالم الطويل‪،..‬‬ ‫لكن ال�شيء الذي ميكن �أن ُيقال يف هذا ال�صدد‪ ،‬هو �أن يجدد اللبنانيون على الدوام عهود‬ ‫تبدالت �أحوالهم‪ ...‬ف�إنهم لو فعلوا ذلك ب�إتقان ال�ستجاب لهم القدر ب�أن ُيحرزوا‬ ‫التك ّيف مع ّ‬ ‫الأمان الأهلي الذي ين�شدونه‪.‬‬ ‫�إمكان املواطنية اخلالّقة‬

‫لي�س من �أمر ال�ضرورة �أن يبلغ الت�شا�ؤم ب�إمكان املواطنة مقام اال�ستحالة‪ .‬فال منا�ص للبنان من‬ ‫�أن يدخل �سريورة ال�سالم الدائم لكي تتحقق معه املواطنية الإيجابية اخل َّالقة‪ .‬ونعني ب�سريورة‬ ‫ال�سالم الدائم �أن يغادر االجتماع اللبناين حروبه الأهلية الدورية‪ ،‬ك�أن تفلح نخبه التاريخية‬ ‫بالإم�ساك بنا�صية الأزمات ال�سيا�سية مبا يحول دون حتولها �إىل عنف م�سلح‪ .‬وذلك يقت�ضي �أن‬ ‫يتوفر اللبنانيون بطوائفهم ومذاهبهم و ُن َخبِهم وهيئاتهم ال�سيا�سية على قاعدة معيارية تلزمهم الأخذ‬ ‫بها يف �س َّراء ال�سيا�سة و�ض َّرائها‪ .‬عنيت بها العقالنية والأخالقية‪.‬‬ ‫وهنا ميكن التك ّلم عن ثالثة م�ستويات و�صو ًال �إىل مقاربة هذه القاعدة‪:‬‬ ‫ امل�ستوى الأول‪ ،‬وهو ما يذهب �إليه كل الذين �آذتهم ّ‬‫الطائفية واكتووا بنارها �سحابة �أجيال‬ ‫مديدة‪ .‬وقوام قول ه�ؤالء يبد�أ من �شعار �إلغاء ّ‬ ‫الطائفية ال�سيا�سية عرب ف�صلها عن الدولة‬ ‫وم�ؤ�س�ساتها‪ ،‬لينتهي بهم القول �إىل رفع �شعار العلمانية الكاملة‪.‬‬ ‫ امل�ستوى الثاين‪ ،‬وم�ؤداه على خالف ما مي�ضي �إليه دعاة ال�شعارين املتغايرين ال�سابقني‪.‬‬‫�أ�صحاب هذا امل�ستوى يقولون با�ستحالة العلمانية الكاملة‪ ،‬وب�صعوبة �إلغاء ّ‬ ‫الطائفية ال�سيا�سية‪.‬‬ ‫وي�ستدلون على ذلك ب�شواهد التاريخ اللبناين التي تكتظ باالحرتابات الأهلية الباردة‬ ‫والعنيفة‪ .‬وه�ؤالء على التعينُّ هم �أهل التقليد الذين �أخذوا ب�سجايا اللعبة ّ‬ ‫الطائفية فارت�ضوها‬ ‫مذهباً لهم‪ ،‬وخلعوا عليها �صفات التقدي�س‪ ،‬وتعاملوا معها كق�ضاء وقدر ال را َّد له‪ .‬وخال�صة ما‬ ‫هو عليه ه�ؤالء الت�سليم بالأطروحة ّ‬ ‫الطائفية‪.‬‬ ‫�سوي‪ .‬ذلك ما جنده‬ ‫ امل�ستوى الثالث‪ ،‬وهو ما نقرتحه ك�سبيل ّمدعى �إىل مواطنة �سو َّية يف وطن ّ‬‫�سم ّيناه "املنطقة الو�سطى" وهي املنطقة املعرفية التي �سنحاول عن طريقها ر�سم ر�ؤية‬ ‫يف ما ّ‬ ‫جديدة مل�ستقبل لبنان على قاعدة "املمكن بني م�ستحيلني"‪:‬‬ ‫التوحد على القواعد الكال�سيكية للهوية الوطنية وال‬ ‫ نعني بامل�ستحيل الأول‪ ،‬ا�ستحالة ُّ‬‫‪51‬‬


‫�رصاع هوية ووجود‬

‫�سيما تلك التي �ألفتها املجتمعات احلديثة من خالل ما عرف بظاهرة الدولة‪ /‬الأمة ذات‬ ‫ال�سيادة على الأر�ض وال�شعب‪.‬‬ ‫ ونعني بامل�ستحيل بالثاين‪ ،‬ا�ستحالة االنفراط الكامل للعقد االجتماعي ال�سيا�سي القائم‬‫على ال�صيغة ّ‬ ‫الطائفية‪ .‬ولقد ب َّينت لنا اختبارات االحتدام على مدى عمر اال�ستقالل‬ ‫كيف �آلت الت�سويات التاريخية بعد كل حرب �أهلية �إىل م�ستقر ّ‬ ‫الطوائف ووئامها‪.‬‬ ‫ �أما املمكن بني امل�ستحيلني‪ ،‬فهو ما ميكن انتزاعه من �ضفتي اال�ستحالة معاً‪ .‬وهو ما �أ�شرنا �إليه‬‫يف ما �سبق باعتباره عقالنية التقريب بني امل�ستحيلني‪ .‬هذا ي�ستظهره اللبنانيون من منجزات‬ ‫التجربة التاريخية لت�سوياتهم وعي�شهم امل�شرتك‪ .‬وهي املنجزات الكامنة يف منطقة و�سطى‪،‬‬ ‫من مزاياها التعقل والتخ ُّلق وواقعية املواطنة‪ .‬ومن غاياتها ال�سعي ال�صادق ال�ستيالد �إمكان‬ ‫تاريخي لوطن تت�صالح فيه رزمة من الثنائيات املت�ضادة‪ّ :‬‬ ‫الطائفي مع الوطني‪ ،‬الديني مع‬ ‫وثمة يف ال�شخ�صية اللبنانية من املزايا‬ ‫العلماين‪ ،‬والأهلي مع املدين‪ ،‬واملحلي مع الإقليمي‪ّ .‬‬ ‫ما ي�ؤهلها �إىل التك ُّيف مع تعقيدات عي�شها ال�سيا�سي‪ .‬وبو�سع اللبنانيني حني يت�سنى لهم‬ ‫مفارقة جحيم الأزمات �أن يجدوا ملواطنيتهم املت�أ َّملة حم ًال ت�سكن فيه ب�أمان‪� ،‬ضمن ف�سحة‬ ‫من �سالم �أهلي طويل الأمد‪.‬‬ ‫نزع العنف ك�سبيل �إىل املواطنة العقالنية‬

‫عندما كتب الفيل�سوف �إميانويل كانط م�شروعه لل�سالم الدائم يف العامل‪ ،‬كان مدفوعاً ٍ‬ ‫ب�شغف مرير‬ ‫من �أجل �أن ال تتح ّول املدن ‪ -‬كما كان يقول ‪� -‬إىل مقا ٍه م�ؤقتة تقابلها مقابر �أبدية‪ .‬مل يكن يهم‬ ‫كانط‪ٍ ،‬‬ ‫يومئذ �أن ي�سقط فعل الكتابة لديه لي�صبح جمرد �أحالم كاذبة‪ .‬وكان يقول‪" :‬ال ينبغي‬ ‫�أن يكون هناك حرب �أ�ص ًال‪ ...‬ولقد �أراد �أن يتحول بال�سلم العاملي من مو�ضوعة رجاء دينية‪� ،‬إىل‬ ‫م�شروع فل�سفي غايته تهذيب الإن�سان احلديث‪ ،‬واالرتقاء به من بربرية املتوح�شني القائمة على‬ ‫العنف واحلرب‪� ،‬إىل ما ي�سميه "ال�ضيافة الكونية"‪ .‬كان يريد م�شروع �سالم دائم يحلق يف �أفق‬ ‫املواطنة الكونية‪.‬‬ ‫�أما عن ال�سبيل نحو االرتقاء �إىل مكارم الأخالق‪ ،‬و�إمكان حتقُّقه خللق املواطنية الكونية‪ ،‬فلم ي�ش�أ‬ ‫كانط �أن يكون يف ذلك مت�س ّرعاً يف �إظهار التفا�ؤل‪ .‬لقد ر�أى �أن الدول ما دامت ّ‬ ‫تركز كل قواها‬ ‫التو�سعية العنيفة التي ال جدوى من ورائها‪ ،‬ومادامت تع ّول با�ستمرار على اجلهد‬ ‫على �أهدافها ّ‬ ‫البطيء للتهذيب الباطني لنمط تفكري مواطنيها‪ ،‬فال ميكن �أن ننتظر �أية نتيجة من هذا النوع‪ .‬ذلك‬ ‫�أنه ينبغي من �أجل ذلك عم ًال داخلياً طويل الأمد لكل �أمة بغاية تهذيب مواطنيها( )‪ .‬لقد كان‬ ‫كانط يحر�ص دوماً على �أن يكون الفيل�سوف‪ ،‬وبالتايل النخب العقالنية امل�سددة ب�أخالقية املواطنة‪،‬‬ ‫‪13‬‬

‫‪52‬‬

‫هي التي تتوىل مهمة التهذيب والرت�شيد للمواطن‪ .‬يف حني �أن م�شروعه يف ال�سالم الدائم يدخل‬ ‫�ضمن هذا التهذيب للمواطن من �أجل �ضرب خم�صو�ص من املواطنة قائم على ما يطلق عليه‬ ‫"احلق الك�سمو�سيا�سي"‪� .‬إن هذا امل�شروع الذي ينقل ال�سلم من املقربة �إىل املدينة‪ ،‬ومن القدي�س‬ ‫�ضرب من التدبري املت�سامي‬ ‫�إىل الفيل�سوف‪ ،‬ومن �سخرية املقهى �إىل جدية العقل‪ ،‬هو عند كانط‪ٌ ،‬‬ ‫والواقعي والعقالين لف�ضاء املواطنة احلديث‪.‬‬ ‫ماذا لو اقرتبنا لبناني ًا من مثل هذا ال�سبيل من املواطنية؟‬

‫ّ‬ ‫م�ستهل مقالته "اليوتوبيا والعنف (‪ ")Violence and Litopia‬يكتب الفيل�سوف ال�سيا�سي‬ ‫يف‬ ‫الأملاين كارل پوپر ما يلي‪�" :‬إن القول �إن من املمكن تخفيف العنف و�إخ�ضاعه ل�سلطان العقل‪،‬‬ ‫أمل كاذب‪ .‬ولرمبا كان هذا هو ال�سبب الذي يجعلني –‌‌ كالعديد من‬ ‫قول ال ينطوي بال�ضرورة على � ٍ‬ ‫الآخرين ‪� -‬أ�ؤمن بالعقل‪ ،‬كما �أنه ال�سبب الذي يجعلني �أنعت نف�سي �إن�ساناً عقالنياً‪ ...‬ثم يختم‪� :‬إنني‬ ‫�إن�سان عقالين لأنني �أرى يف موقف التعقُّل البديل الوحيد للعنف"‪ ...‬ال يحتاج الأمر يف لبنان اىل‬ ‫عارفني بالفل�سفة ال�سيا�سية‪ ،‬لكي يتد َّبروا مثل هذا الكالم‪ .‬فال�س�ؤال عن العقل وا�ستعادته ليكون‬ ‫حامياً للبنان من العنف هو �س�ؤال جائز‪ .‬وجوازه يكمن يف �إمكانه‪ ،‬ف�ض ًال عن �إمكان وقوع اجلواب عليه‪.‬‬ ‫�صحيح �أن لبنان الآن هو يف قلب النار‪ .‬و�أنه كان �سحابة الأعوام التي تلت اغتيال الرئي�س رفيق‬ ‫احلريري يف �شتاء ‪ ،2005‬على قاب قو�سني �أو �أدنى من جحيم �أهلي �أعِ َّد له ب�إتقان‪ ،‬لكن ال�صحيح‬ ‫اي�ضاً‪� ،‬أنه كان بالإمكان اجتناب النار‪ ،‬والن�أي بالبالد من الكوارث الأهلية املحدقة‪ .‬يومها بدت‬ ‫هذه املعادلة م�ستحيلة بالن�سبة لكثريين َخبـِروا الأزمنة املتعاقبة التي عا�شها لبنان على مدى ُّ‬ ‫ت�شكله‬ ‫ّ‬ ‫م�ستقل‪ .‬فهوالء باتوا ينطلقون من ت�صورات ثابتة م�ؤ َّداها‪� ،‬أن دورات العنف تدخل‬ ‫ككيان �سيا�سي‬ ‫يف �أ�صل الن�ش�أة اللبنانية‪ ،‬و�أنها من طبائع هذه الن�ش�أة‪ ،‬و�أن العنف‪ ‌،‬والعنف امل�سلح بخا�صة‪ ،‬هو‬ ‫َع َر ٌ�ض من �أعرا�ض اللعبة ال�سيا�سية‪ ،‬و�أنه قبل كل ذلك‪� ،‬سمة من ال�سمات امل� ِّؤ�س�سة لتلك اللعبة‪.‬‬ ‫عندما يكون فهم العنف الذي يجتاح لبنان اليوم قائماً على هذه االعتبارات‪ ،‬ف�إن م�ساحة الكالم‬ ‫على عقالنية حتمي البالد من التنازع‪ ،‬تتق َّل�ص اىل حدها الأدنى‪ .‬بل �أكرث من ذلك‪ ،‬فلقد ظهر‬ ‫عنف ّ‬ ‫الطوائف اللبنانية يف �أحيان �شتى‪ ،‬وك�أنه �أم ٌر حممول على حكم الق�ضاء والقدر‪ .‬وثمة من‬ ‫ال�ص َد ِع الذي يع�صف ب�صيغة الكيان اللبناين كلما م َّر عقد او‬ ‫ي�ستدل على هذا‪ ،‬بالإ�شارة اىل َ‬ ‫يزيد بقليل‪ ،‬على �إبرام �أي ت�سوية بني طوائفه ال�سيا�سة‪ .‬فاالنفجار الأهلي الدوري بات �أقرب اىل‬ ‫قانون مثري للهلع‪ .‬وهو قانونٌ ي�صعب تفادي �أحكامه وم�ؤثراته كلما ع�صفت بلبنان رياح التحوالت‬ ‫الإقليمية والدولية‪ .‬مع ذلك‪ ،‬فللمعادلة اللبنانية التاريخية وجه �آخر‪� .‬إذ يجوز لنا القول‪� ،‬إن يف‬ ‫املعادلة �إياها‪� ،‬إمكانات لإنتاج �سياقات حقيقية من �أجل منع العنف‪ .‬وقد يكون يف امل�شهد اللبناين‬ ‫اجلارية وقائعه هذه الأيام‪ ،‬ما مينح تلك ال�سياقات قوامها وم�شروعيتها‪ .‬فما ال ُّ‬ ‫ي�شك فيه‪� ،‬أن كل ما‬ ‫ُيراد للبنان الآن هو �أن يهوي و�شعبه وقواه ال�سيا�سية واملدنية اىل م�ستنفع الفتنة بعدما هوت طبقته‬ ‫‪53‬‬


‫�رصاع هوية ووجود‬

‫ال�سيا�سية اىل م�ستنقعات ما دون ال�سيا�سة‪...‬‬ ‫نزعم‪� ،‬أن ثمة �إرادة لبنانية لدى �أبناء ّ‬ ‫الطوائف واملذاهب جميعها يف الإعرا�ض عن العنف‪ ،‬وعدم‬ ‫حد�س �شعبي لبناين‪ ،‬ي�ست�شعر هول الكارثة قبل‬ ‫الدخول يف جحيمه املد ِّمر‪ .‬وهذا مر ُّده اىل ٍ‬ ‫وقوعها‪ .‬حتى �إذا وقعت مل ي�ستجب لها �إ ّال من وجد يف العنف �سبي ًال اىل قلب املعادالت‪ ،‬و�إعادة‬ ‫متت اىل م�صلحة لبنان والعرب وامل�سلمني ب�أية �صلة‪.‬‬ ‫ت�شكيل الأو�ضاع وفقاً لرغبات وم�صالح ال ّ‬ ‫�صحيح �أن مبد�أ العنف يقع يف �أ�سا�س ن�شوء لبنان منذ العام ‪ .1920‬لكن من �ضرورات اللحظة‬ ‫الراهنة القول �إن تقدمي العقل على العنف ِّ‬ ‫�سيمكن اللبنانيني من اجتناب اختبارات املوت املفتوح‪.‬‬ ‫بلى‪ ...‬ذلك على الرغم من كل هذا التح�شيد الهائل لعنا�صر الفتنة‪.‬‬ ‫هل من �سبيل �إىل ذلك؟ َ‬ ‫ويف التجربة التاريخية اللبنانية الكثري من النوافذ امل�شرعة على درء العنف‪� ،‬أو �إيقافه عند جولته‬ ‫�سموا بـ "حكماء الكيان"‪ ،‬كيف كانوا يحذرون على الدوام من الت�سليم‬ ‫الأوىل‪ .‬ف�سرنى ممن ّ‬ ‫مببد�أ العنف الذي يحكم �شروط اللعبة ال�سيا�سية يف لبنان‪ .‬على اعتبار �أن الت�سليم به‪ ،‬ي�س َّوغ‬ ‫مو�ضوعياً للحروب الأهلية وي�ؤ�س�س لها ثقافياً بو�صفها قدراً ال را َّد له‪ .‬من ه�ؤالء من ذهب �إىل‬ ‫وجوب املحافظة على امليثاق التوافقي الذي �أبرمته ّ‬ ‫الطوائف عند ت�أ�سي�س لبنان يف العام ‪1920‬‬ ‫ثم كر�سته يف العام ‪ ،1943‬ثم �أعادت �إنتاجه يف اتفاق ّ‬ ‫الطائف العام ‪ .1989‬لقد �آمن ه�ؤالء‬ ‫ب�ضرورة املحافظة على هذا امليثاق‪ ،‬والنظر �إليه كتقليد ي�ضمن بقاء الكيان ويحميه من العنف‪.‬‬ ‫�إمكان االتفاق على الهوية التاريخية ‬

‫يرى املو ّرخ كمال ال�صليبي‪�" ،‬أن يف لبنان عنفاً كامناً ال ميكن احتوا�ؤه اال بالر�أي ال�سيا�سي‬ ‫ال�صائب"‪ .‬ون�ضيف‪ :‬بالتزام التعقُّل يف حلظة احتدام الغرائز‪ ،‬حيث ت�شعر كل طائفة حينها بخطر‬ ‫املوت واالندثار‪ .‬هنالك �إذاً‪ ،‬م�ساحة ب ِّينة بني طور وطور من �أزمنة العنف اللبناين هي م�ساحة‬ ‫امل�سدد بالأخالق ح�ضو ٌر يف ال�سيا�سة‪.‬‬ ‫تهادن بامتياز‪� .‬إنها تلك امل�ساحة التي يكون فيها للعقل َّ‬ ‫فلقد بد�أ على نحو ال ريب فيه‪ ،‬كم لتغييب العقل من �أثر يف ارتفاع من�سوب العنف يف لبنان‪.‬‬ ‫وتف�صح الدراما اللبنانية عن حقيقة �أن احلرب الأهلية ما كانت لت�ستغرق كل هذا الزمن‪ ،‬و�أن‬ ‫تف�ضي اىل ما اف�ضت اليه‪ ،‬لو كان ثمة ٌ‬ ‫عقل جامع ينتج ر�أياً عاماً ي�صونه ويحميه‪.‬‬ ‫لعل م�س�ألة اخلالف على تاريخ لبنان وال �سيما جلهة ماه ّية هذا التاريخ وهويته ومن �أين يبد�أ وما‬ ‫ال�صيغة التي يو�ضع فيها للبنان تاريخه ويحظى بر�ضى جميع طوائفه ونخبه وقواه ال�سيا�سية؟‪...‬‬ ‫ّثمة ت�صور ي�ضعه ال�صليبي يف �سياق بلورة مقرتح نظري يحتمل �أن تغادر النخب اللبنانية بوا�سطته‬ ‫م�أزق العثور على ت�صور واحد لتاريخ بلدها‪.‬‬ ‫ينطلق ال�صليبي من حقائق التجربة التاريخية اللبنانية املعا�صرة لينتهي �إىل ثالثة ا�ستنتاجات‪:‬‬ ‫‪54‬‬

‫ اال�ستنتاج الأول‪ ،‬هو �أن جتربة احلرب الأهلية يف لبنان �أثبتت‪ ،‬مبا ال يقبل ّ‬‫ال�شك‪� ،‬أن �أي طرف‬ ‫من اللبنانيني‪ ،‬ال ميكنه �أن يفر�ض ر�أيه ب�سهولة على الطرف الآخر‪ .‬وهذا يعني �أنه ال ميكن‬ ‫ّ‬ ‫حل م�شاكل لبنان ‪ -‬مبا فيها تلك املتعلقة بالتاريخ اللبناين ‪� -‬إال من خالل تنازعات عقالنية‬ ‫متبادلة تتم بني اللبنانيني على �ضوء حقائق معينة‪.‬‬ ‫ اال�ستنتاج الثاين‪ ،‬هو وجود م�ؤ�شرات وا�ضحة على �أن البلد قد بلغ الإجماع ال�سيا�سي‬‫الأ�سا�سي لدى الأكرثية املواطنية غري املتقاتلة من خمتلف ّ‬ ‫الطوائف اللبنانية‪ ،‬ورمبا �أي�ضاً عن‬ ‫عنا�صر كثرية من الفئات املتقاتلة‪ .‬مما يجعل ا�ستمرار وجود لبنان كدولة م�ستقلة ذات �سيادة‬ ‫داخل حدوده الراهنة �أمراً ممكناً‪.‬‬ ‫ اال�ستنتاج الثالث‪ ،‬هو �أن العامل العربي‪ ،‬ومهما يكن موقفه الأويل من لبنان‪� ،‬أ�صبح يقبل‬‫باجلمهورية اللبنانية كما هي موجودة فع ًال؛ ويفهم البنية احل�سا�سة للمجتمع اللبناين ويقدرها‬ ‫احلد الذي قد يكون‬ ‫كما مل يقد ْرها يف ال�سابق‪ .‬وهذا يعني �أن الت�سليم بعروبة لبنان ‪� -‬إىل ّ‬ ‫فيه هذا املفهوم �صحيحاً ‪ -‬مل يعد ّ‬ ‫ي�شكل خطراً على ا�ستمرار �سيادة البلد ووحدته‪ ،‬وال على‬ ‫منزلة �أية جمموعة معينة من اللبنانيني‪ ،‬هذا �إن كان قد ّ‬ ‫�شكل مثل هذا اخلطر يف املا�ضي‪ .‬بل‬ ‫خا�صة يف املحافظة على ا�ستمرار �سيادة لبنان ووحدة �أرا�ضيه‪،‬‬ ‫قد ُيقال اليوم �إن للعرب رغبة ّ‬ ‫لأنهم فهموا �أخرياً �أن عملية تفكيك لبنان قد تت�س ّرب ب�سهولة �إىل بقية �أنحاء العامل العربي‪،‬‬ ‫وت�ؤدي �إىل تفكيك بلدان و�أنظمة عربية �أخرى‪ .‬و�إذا كان هذا هو الو�ضع بالفعل‪ ،‬ف�إن ما يعرب‬ ‫عنه العرب من اهتمام راهن ب�إعادة لبنان �إىل ما كان عليه من ا�ستقرار قبل اندالع احلرب‬ ‫الأهلية فيه‪ ،‬هو اهتمام حقيقي‪ ،‬له دوافع معقدة بامل�صالح العربية عموماً( )‪.‬‬ ‫لعل ا�ستنتاجات كهذه‪ ،‬لو �صحت يف اختبارات احلوار الذي يرنو �إليه‪ ،‬على الدوام‪ ،‬ممثلو ّ‬ ‫الطوائف‬ ‫اللبنانية‪ ،‬ميكن �أن ت�شق �سبي ًال �إىل التفا�ؤل‪ .‬غري �أن مثل هذا التفا�ؤل الذي نريد له �أن ُينقل‬ ‫من املجاز �إىل احلقيقة‪ ،‬يبقى رهناً بتبدالت جذرية يف �أفهام اللبنانيني ومعارفهم حيال تاريخهم‬ ‫ال�صماء للثقافة‬ ‫وهويتهم‪ .‬وهي الأفهام واملعارف التقليدية التي مل تربح تلقي بثقلها على البنية ّ‬ ‫ال�سيا�سية اللبنانية‪.‬‬ ‫‪14‬‬

‫املواطنة كعقيدة والء‬

‫يندرج الكالم على املواطنة �ضمن حلقات مت�صلة‪ ،‬ال تنتهي يف الثقافة ال�سيا�سية اللبنانية‪ .‬ذلك‬ ‫يعني �أن واجبية حتقق املواطنة تنطلق من احلاجة �إىل ترميم ال�صدع الذي ر�سخته الأفعال املذمومة‬ ‫ن�سميه ﺑ "املواطنة املركبة" على امتداد تاريخ لبنان احلديث‪.‬‬ ‫ملا ّ‬ ‫واملواطنة ّ‬ ‫املركبة‪ ،‬التي تب ّينت لنا يف اختباراتها‪ ،‬هي ما ترتجمه �شخ�صية الفرد اللبناين من حيث‬ ‫‪55‬‬


‫�رصاع هوية ووجود‬

‫كونها �شخ�صية ِّ‬ ‫مت�شكلة من ازدواجية الوالء للطائفة والوطن يف الآن عينه‪.‬‬ ‫هذان الوالءان هما‪ ،‬بالفعل‪" ،‬الزوج الرتكيبي" الذي يك ِّون ال�شخ�صية اللبنانية‪ ،‬وينتظم كل‬ ‫�ش�أن من �ش�ؤونها العامة واخلا�صة‪ .‬ولعل ال�سمة املميزة يف تلك االزدواجية‪� ،‬أن الوالءين يقيمان‬ ‫ويت�ساكنان معاً على قلق مقيم‪ .‬تار ًة على �صورة ا�ستتا ٍر وكمون �أ ّيام ال�سالم ال�سيا�سي‪ ،‬وطوراً على‬ ‫�صورة ظهور عنيف حني يهتز الت�ساكن بفعل االحتدام الدوري لطوائف البالد ومذاهبها‪ .‬ففي‬ ‫وطن ّ‬ ‫مركب على قلق طوائفه ال تكون مواطنة �أبنائه �إ ّال على ن�ش�أة احلذر �إياه‪.‬‬ ‫حتى ليبدو ال�س�ؤال عن مواطنية ب�سيطة (باملعنى املنطقي للكلمة) هو �سليل ال�س�ؤال الأ�صلي عن‬ ‫املواطنة اللبنانية املركبة‪..‬‬ ‫لكن كيف لنا �أن ن�ستولد من هذه املعادلة ال�شاقة �سياق ًا الجتياز املع�ضلة؟‬

‫مرة �أخرى نعود ال�شتغال "املنطقة الو�سطى" بغية ا�ستيالد مواطنية تن�أى عن الرتكيب واجلمع‬ ‫بني والءين متناق�ضني‪ ...‬مثلما تن�أى من مواطنة مت�ضي �إىل الذوبان الكامل يف بحور طوائفها‪ .‬من‬ ‫�صفات "مواطنية املنطقة الو�سطى" �أنها ت�أخذ ب�سبيل الو�صول �إىل املواطنية الفاعلة‪� .‬أي هي‬ ‫التي حتيل املواطنة �إىل واقع ممكن التحقيق‪ .‬فهي بينما تعرتف باملواطنة املركبة كحالة مو�ضوعية‬ ‫تر�سخت على امتداد زمن طويل من احلروب والت�سويات والعقود ال�سيا�سية‪ ،‬حتفر جمراها املغاير‬ ‫ّ‬ ‫للم�ألوف ّ‬ ‫الطائفي‪ .‬و�إذا كانت القوانني والأعراف هي الباب الذي جاءت منه مواريث النظام‬ ‫ّ‬ ‫موحد‬ ‫الطائفي‪ ،‬ف�إن تبديلها بقوانني و�أعراف مدنية �سيو ِّلد �سريورة جديدة من الآمال بوطن ّ‬ ‫ومواطنية جامعة‪.‬‬ ‫م�ستهل الطريق �إىل مواطنية بهذا التو�صيف‪ ،‬ت�ستلزم تثمري الت�سويات التي عادة ما تعقب‬ ‫امل�ستمدة من الد�ستور‬ ‫النزاعات واحلروب الأهلية‪ .‬ك�أن يتفق اللبنانيون على رزمة من القوانني‬ ‫ّ‬ ‫الأ�سا�سي تطلق �سريورة من اخلطوط والعمليات ال�سلم ّية على قاعدة فك اال�شتباك املزمن بني‬ ‫ّ‬ ‫الطائفي والوطني‪ .‬وهما العامالن املنتجان الزدواجية االنتماء والوالء يف البيئة التاريخية اللبنانية‪.‬‬ ‫و�إذا كانت املطالبة ب�إجراءات �إ�صالحية يف قانون االنتخاب و�إعادة ت�شكيل م�ؤ�س�سات الدولة على‬ ‫�أ�سا�س وطني الطائفي تدخل يف هذا ال�سياق‪ ،‬ف�إن تربية املواطن على ح�ضوره كفاعل يف ف�ضاء‬ ‫الوطن هي �أ�سا�س العملية التغيريية على اجلملة‪.‬‬ ‫ذلك �أنّ املواطنية الفاعلة‪ ،‬هي التي تنتج املواطن الذي يتوا�صل مع نظريه يف الوطن على �أ�سا�س‬ ‫الوالء لعقيدة �أ�سا�سها م�صالح الوطن العليا‪.‬‬ ‫ولذا تقوم املواطنية اخل ّالقة على �صراط فعل خ ّالق ت�سدده جامعية الهوية الوطنية‪ ،‬حيث ي�شعر‬ ‫املواطن الفرد �أ ّنه م ّت�صل بجماعة ت�ؤلف بالن�سبة �إليه ذاته العليا التي يهبها والءه وتفانيه‪.‬‬ ‫‪56‬‬

‫والوالء على ما تق ّرر فل�سفة الأخالق هو التفاين الإرادي وامل�ستمر من فرد ما جتاه ق�ضية معينة‪.‬‬ ‫و�إذا كنا هنا ب�صدد ق�ضية الوطن واملواطن يف لبنان‪ ،‬ف�إنّ ر�ؤيتنا �إىل الوالء هي من �أجل م�ساعدتنا‬ ‫على ك�شف غاية احلياة بو�صفها اخلري الأعلى الذي ي�ستطيع اللبنانيون حتقيقه و�صو ًال �إىل الوئام‬ ‫والوجود وجمتمع املواطنة‪.‬‬ ‫وبنا ًء على هذا ال�سري باجتاه تظهري والئية لبنانية جامعة‪ ،‬ميكن الكالم �أي�ضاً على �إعادة ت�أ�صيل‬ ‫لكن مفعول هذا الت�أ�صيل يف ميادين‬ ‫نظرية ال�ضمري بو�صفها �سلطة عقلية و�أخالقية وعامة وكل ّية‪ّ .‬‬ ‫ُ‬ ‫ال�سبيل �إليه �ضمن احلدود املعقولة من روح‬ ‫الرتبية الوطنية اللبنانية‪� ،‬سيكون له �أث ٌر بينِّ ٌ �إذا ما �شُ ّق‬ ‫امل�س�ؤولية‪.‬‬ ‫بهذا ميكن املواطن الذي ينخرط يف مناخ والئي جامع‪� ،‬أن يكت�شف بعد برهة‪ ،‬ويف حدود ن�شاطه‬ ‫االجتماعي الفردي‪� ،‬أنّ الوالء بالن�سبة �إليه‪ ،‬ي�شكل قدره الأخالقي‪ ،‬حتى لي�شعر �أ ّنه من دون‬ ‫والء كهذا لن ينعم بال�سالم الأهلي العام‪.‬‬ ‫ذلك ما �أ�ضاء عليه كثريون من املفكرين وعلماء االجتماع وامل�ؤرخني اللبنانيني حني وجدوا �أن‬ ‫ا�ستبد بر�أيه كان م�آله الهالك‪ ،‬و�أن الطغيان يبتدئ‬ ‫العنف الأهلي م�صدره اال�ستبداد بالر�أي‪ ،‬و َم ْن ّ‬ ‫ ح�سب الفيل�سوف جون لوك ‪ -‬حيث تنتهي �سلطة القانون‪ ،‬وكلما ُهتكت حرمة القانون و�أنزل‬‫ال�ضرر بالآخرين‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫م�ستهل الرحلة باجتاه مواطنية الوالء هو تظهري مكامن الفطرة اخليرّ ة يف النف�س اللبنانية‪ ،‬وترجيح‬ ‫العام الوطني على اخلا�ص ّ‬ ‫م�سددة بالأخالق‪ .‬حتى يرجع اللبنانيون‬ ‫الطائفي‪ .‬وكل ذلك بعقالنية ّ‬ ‫�إىل بيت احلكمة‪ .‬ولبيت احلكمة منازل كثرية كما ينقل كمال ال�صليبي عند القدي�س يوحنا يف‬ ‫�إجنيله‪ .‬ف�إذا ما مت تنظيف ال�سقائف اللبنانية باملعا�سف‪� .‬إذ يجب �أن يتم ذات يوم تنظيفها مما ُع ّلق‬ ‫فيها على م ّر الزمان من ن�سيج العنكبوت‪ ...‬ف�ستكون هنالك طرق ال متناهية ميكن من خاللها‬ ‫�إعادة النظر يف تاريخ لبنان( )‪ ،‬و�صياغته على ن�ش�أة الإدراك حلقيقة الوطن احلق واملواطنة احلق‪...‬‬ ‫‪15‬‬

‫‪57‬‬


‫‪Saree Makdisi, Romantic Imperialism: Universal Empire and the culture of Modernity‬‬ ‫‪(Cambrige University press 1998), pp. 176 – 182‬‬

‫‪ -6‬املقد�سي‪ ،‬امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص‪.26 .‬‬ ‫‪ -7‬امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص‪.27 .‬‬ ‫‪ -8‬فواز طرابل�سي‪�" ،‬صالت بال و�صل‪ ،‬مي�شال �شيحا والأيديولوجيا اللبنانية"‪� ،‬شركة ريا�ض الري�س للكتب والن�شر‬ ‫ ‪� - 1999‬ص‪.12 .‬‬‫‪ -9‬حممود حيدر‪" ،‬ال َّاليقني ال�سلمي‪� ،‬أحوال لبنان بعد احلرب"‪ ،‬م�صدر �سبق ذكره‪ ،‬انظر املقدمة‪.‬‬ ‫‪ -10‬كمال ال�صليبي‪ ،‬م�صدر �سبق ذكره‪� ،‬ص‪.226 .‬‬ ‫‪ -11‬مي�شال �شيحا‪" ،‬ال�سيا�سة الداخلية"‪� ،‬ص‪.187 .‬‬ ‫‪ -12‬ن�صري ال�صايغ‪" ،‬ل�ست لبنانياً بعد"‪� ،‬شركة ريا�ض الري�س للكتب والن�شر ‪ -‬بريوت ‪� - 2003‬ص‪.16 .‬‬ ‫‪ -13‬راجع �إميانويل كانط‪" ،‬م�شروع ال�سالم الدائم"‪.‬‬ ‫‪ -14‬كمال ال�صليبي‪ ،‬م�صدر �سابق‪� ،‬ص‪.272 .‬‬ ‫‪ -15‬كمال ال�صليبي‪" ،‬بيت مبنازل كثرية"‪ ،‬م�صدر �سبق ذكره‪� ،‬ص‪.287 .‬‬

‫‪58‬‬

‫�رصاع هوية ووجود‬

‫الهوام�ش‬ ‫‪ -1‬ملحم �شاوول‪ ،‬مفهوم املواطنة يف التجربة الغربية والتجربة اللبنانية ‪ -‬مقالة م�شاركة �ضمن كتاب بعنوان‪:‬‬ ‫"�إ�شكالية الدولة واملواطنة والتنمية يف لبنان ‪ -‬حترير جاك قباجني ‪ -‬دار الفارابي ‪ -‬بريوت ‪� 2009‬ص‪.85 .‬‬ ‫‪ -2‬حممود حيدر‪" ،‬ال َّاليقني ال�سلمي ‪� -‬أحوال لبنان بعد احلرب"‪ ،‬دار الفارابي ‪ -‬بريوت ‪.1997 -‬‬ ‫‪ -3‬كمال ال�صليبي‪" ،‬بيت مبنازل كثرية ‪ -‬الكيان اللبناين بني الت�صور والواقع" ‪ -‬ترجمة عفيف الر ّزاز ‪ -‬م�ؤ�س�سة‬ ‫نوفل ‪ -‬بريوت ‪ -‬الطبعة الرابعة ‪� ،2007‬ص‪.268 .‬‬ ‫الطائفية‪ّ ،‬‬ ‫‪� -4‬أ�سامة املقد�سي‪" ،‬ثقافة ّ‬ ‫الطائفة والتاريخ والعنف يف لبنان القرن التا�سع ع�شر حتت احلكم العثماين"‪،‬‬ ‫ترجمة‪ :‬ثائر ديب ‪ -‬دار الآداب ‪ -‬بريوت ‪� - 2009‬ص‪.21 .‬‬ ‫‪ -5‬راجع امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص‪ - 25 .‬مقتب�ساً من كتاب‪:‬‬

‫�رصاع الأمن واحلريات يف الدولة املعا�رصة‬ ‫جهاد �سعد ‪� -‬أكادميي وباحث �سيا�سي‬

‫يبينّ هذا البحث �أن العالقة بني الأمن الوطني واحلريات العامة‪ ،‬هي عالقة تكاملية‪ ،‬فاحلريات‬ ‫ت�صون الأمن‪� ،‬إذا قام الأمن على حماية احلريات‪ ،‬وهذه احلقيقة يثبتها اال�ستقراء التاريخي‪ ،‬ولكننا‬ ‫�سنحاول �إثباتها هنا من خالل مناق�شة املحددات الأ�سا�سية للأمن وت�أثري هذه املحددات على ممار�سة‬ ‫احلريات العامة‪.‬‬ ‫يف مقالة ق ّيمة له حتت عنوان‪ :‬الأمن القومي‪ ،‬ي�ستعر�ض الدكتور زكريا ح�سني ‪� -‬أ�ستاذ الدرا�سات‬ ‫اال�سرتاتيجية ‪ -‬املدير الأ�سبق لأكادميية نا�صر الع�سكرية ‪ -‬يف م�صر‪ ،‬املفاهيم واملحددات احلديثة‬ ‫للأمن‪ ،‬معترباً �أنه "مفهوم حديث يف العلوم ال�سيا�سية"( )‪ .‬والقراءة املت�أنية لهذه املحددات‪ ،‬جتعلنا‬ ‫نالحظ �أن كل حتديد ي�ستند �إىل وجه من وجوه الأمن‪ ،‬وخلفية فكرية‪ ،‬تركز على وجهة دون‬ ‫الأخرى‪ ،‬و�صو ًال �إىل املحددات والتعريفات ال�شاملة‪ ،‬التي تعرب عن تطور هذا املفهوم منذ احلرب‬ ‫العاملية الثانية‪.‬‬ ‫التعمق يف مناق�شتها مما يجعل القيمة املعلوماتية‬ ‫يكتفي الدكتور زكريا بعر�ض املحددات من دون ّ‬ ‫للمقالة‪� ،‬أعلى من قيمتها العلمية‪ ،‬التحقيقية‪ ،‬ولذلك �أرى �ضرورة التعمق يف مناق�شة‪ ،‬املحددات‪،‬‬ ‫و�صو ًال �إىل جمموعة عوامل تتحكم بتحديد الأمن يف مفهومه املعا�صر‪ ،‬و�سيتبني مما ي�أتي‪ ،‬كيف �أن‬ ‫العالقة بني الأمن واحلريات تزداد تعقيداً‪ ،‬بعد ظهور �أ�شكال من الأمن‪ ،‬ال تبايل كثرياً مبا �سيحدث‬ ‫للحقوق واحلريات‪.‬‬ ‫على طريقة املنت واحلا�شية �سنناق�ش حمددات الأمن واحداً بعد الآخر‪ ،‬لنخل�ص منها �إىل نتائج‪،‬‬ ‫ت�ساعدنا على فهم الأركان التي يجب �أن يقوم عليها الأمن الوطني املعا�صر‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪59‬‬


‫�رصاع هوية ووجود‬

‫التحديد الأول‪:‬‬

‫"الأمن" من وجهة نظر دائرة املعارف الربيطانية يعني "حماية الأمة من خطر القهر على يد قوة‬ ‫�أجنبية"‪.‬‬ ‫املفرت�ض يف هذا التحديد‪� ،‬أن اخلطر خارجي‪ ،‬و�أن الأمة وحدة متكاملة يجب الدفاع عنها‪ ،‬بكل‬ ‫ما حتتويه من تن ّوعات‪ ،‬واختالفات‪ ،‬و�أن هذه االختالفات �إذا كانت من داخل ن�سيج الأمة فهي ال‬ ‫ترقى �إىل م�ستوى اخلطر الداخلي‪ ،‬فالأمة يجب �أن حتمى من الأخطار اخلارجية‪ ،‬واملواطن ال يتحول‬ ‫�أبداً �إىل خطر داخلي طاملا �أنه ميار�س حريته يف �إطار القانون‪ ،‬ولكن الثغرة الأ�سا�سية يف هذا التحديد‪،‬‬ ‫هو �أنه يحيل مهمة الدفاع عن الأمة �إىل ال�سلطة ال�سيا�سية من دون �أي �إ�شارة �إىل دور الأمة يف حماية‬ ‫�أمنها‪ ،‬وبهذا املعنى ي�صبح التحديد الثاين �أكرث تطوراً‪.‬‬ ‫التحديد الثاين‪:‬‬

‫من وجهة نظر هرني كي�سنجر وزير اخلارجية الأمريكي الأ�سبق‪ :‬الأمن يعني �أي ت�صرفات ي�سعى‬ ‫املجتمع عن طريقها �إىل حفظ حقه يف البقاء‪.‬‬ ‫يتقدم هذا التعريف على �سابقه يف اعتبار الأمن م�س�ؤولية املجتمع ككل‪ ،‬و�إذا التفتنا �إىل خ�صو�صية‬ ‫ّ‬ ‫التجربة الأمريكية‪ ،‬ف�إن كلمة جمتمع هنا قد تعني ما هو �أكرث من جمموعة طوائف ومذاهب و�أعراق‬ ‫بل جمتمعاً من الأمم ارت�ضى �أن ي�شكل دولة‪ ،‬ولكن يبقى �أنه يركز على حق املجتمع يف البقاء من‬ ‫دون الإ�شارة �إىل كيفية البقاء يف �أمن‪ ،‬وهنا يظهر الأثر اليهودي يف تعريف كي�سنجر عندما مينح‬ ‫يهدد بقاءه‪ ،‬ومن هذه اجلهة نفهم كيف‬ ‫امل�شروعية لأي ت�صرف‪� ،‬ضد �أي جهة يعتربها املجتمع خطراً ّ‬ ‫يقوم هذا التعريف بتربير ممار�سة العنف املطلق �ضد الآخرين‪ ،‬عن طريق ت�صويرهم باملبالغة اللغوية‬ ‫والإعالمية على �أنهم ي�شكلون خطراً على البقاء‪.‬‬ ‫بكلمة �أخرى‪ :‬ي�ساعدنا هذا التعريف على فهم منط �سائد يف ال�سيا�ستني الأمريكية وال�صهيونية‪ ،‬يقوم‬ ‫على حتويل �أي جهة م�ستهدفة‪� ،‬إىل خطر على بقاء الأمة‪ ،‬ثم املبالغة يف ت�ضخيم قدرات هذا الهدف‪،‬‬ ‫لتربير ا�ستخدام العنف املطلق �ضده‪ .‬حدث ذلك‪ ،‬عندما �سخرت كل ماكينة الدعاية الأمريكية‪،‬‬ ‫لت�صوير االحتاد ال�سوفياتي كخطر داهم‪ ،‬لتربير املبالغة يف الت�سلح‪ ،‬ثم تبني �أن البنية االقت�صادية‬ ‫لالحتاد ال�سوفياتي‪ ،‬لي�ست فقط عاجزة عن دعم حرب نووية‪ ،‬بل هي عاجزة عن �صيانة مفاعل‬ ‫نووي‪ ،‬وك�شف االنهيار الدراماتيكي لالحتاد‪ ،‬عن دولة عاجزة عن �صيانة غوا�صة‪ ...‬وفيما كان االحتاد‬ ‫يهوي ببطء كانت �أمريكا تطلق حرب النجوم‪ ،‬بذريعة اخلطر ال�سوفياتي‪.‬‬ ‫�سمى الإرهاب‪ ،‬وتمُ ار�س اليوم مع �إيران‪ ،‬لكي يبقى اخلليج‬ ‫ال�سيا�سة نف�سها مور�ست مع القاعدة‪ ،‬وما ُي ّ‬ ‫‪60‬‬

‫�أ�سري اخلوف‪ ،‬والإنفاق على الت�سلح بد ًال من التنمية‪ ،‬ولكي تبقى معامل �صناعة ال�سالح مزدهرة‬ ‫يف الواليات املتحدة‪.‬‬ ‫ومنذ �أكرث من ن�صف قرن‪ ،‬تر ّوج �إ�سرائيل ل�صورة اخلطر العربي‪ ،‬ثم تهاجم وتعتدي وحتتل‪ ،‬وتتعامل‬ ‫مع �أي معركة حتى مع ف�صيل عربي مقاوم على �أنها معركة وجود‪ ،‬حياة �أو موت على حد تعبري‬ ‫�شيمون برييز‪� ،‬صاحب م�شروع ال�شرق الأو�سط الكبري‪.‬‬ ‫يبقى �أن ن�شري �إىل الدور اخلطري للإعالم يف هذه‪ ،‬ال�سيا�سة اال�سرتاتيجية العدوانية‪ ،‬فماكينة الإعالم‬ ‫ال�ضخمة ال تكتفي �أبداً بنقل الأحداث بل ت�شارك يف �صنعها عرب التمهيد لها بحمالت �صناعة ر�أي‬ ‫عام يتقبل العدوان على �أي جهة م�ستهدفة مت ت�صويرها بو�صفها خطراً وجودياً‪.‬‬ ‫املهم �أن التعريف �أكادميي ‪� -‬سيا�سي‪ ،‬يغ ّلف العدوان بلغة الدفاع عن البقاء‪ ،‬وال يزال �ساري املفعول‬ ‫حتى الآن يف لغة الإدارة الأمريكية التي تطلق على �أي عدوان �أمريكي �أو �إ�سرائيلي تعريفاً واحداً‬ ‫هو "الدفاع عن النف�س"‪.‬‬ ‫تطور اال�ستخدام ال�سيا�سي لهذا التعريف يف ممار�سات الإدارة الأمريكية اىل م�ستوى متقدم جداً‬ ‫مع ظاهرة "داع�ش"‪ ،‬فو�صلت الإدارة الأمريكية اىل م�ستوى خلق اخلطر لتربير التدخل الع�سكري‪،‬‬ ‫وعوملة الإرهاب لع�سكرة العامل‪.‬‬ ‫التحديد الثالث‪:‬‬

‫من �أبرز ما كتب عن "الأمن" هو ما �أو�ضحه "روبرت مكنمارا" وزير الدفاع الأمريكي الأ�سبق‬ ‫و�أحد مفكري اال�سرتاتيجية البارزين يف كتابه "جوهر الأمن"‪ ..‬حيث قال‪�" :‬إن الأمن يعني‬ ‫التطور والتنمية‪� ،‬سواء منها االقت�صادية �أو االجتماعية �أو ال�سيا�سية يف ظل حماية م�ضمونة"‪.‬‬ ‫تهدد‬ ‫وا�ستطرد قائ ًال‪�" :‬إن الأمن احلقيقي للدولة ينبع من معرفتها العميقة للم�صادر التي ّ‬ ‫خمتلف قدراتها ومواجهتها؛ لإعطاء الفر�صة لتنمية تلك القدرات تنمية حقيقية يف املجاالت كافة‬ ‫�سواء يف احلا�ضر �أو امل�ستقبل"‪ .‬يتم ّيز هذا التعريف بال�شمولية‪ ،‬والعمق وميكننا �أن نطلق يف �إطار‬ ‫التعليق عليه �سل�سلة من الأبحاث‪ ،‬ولكنني �س�أكتفي هنا‪ ،‬بالعناوين امل�ؤ�س�سة لهذه الأبحاث يف‬ ‫جمموعة من املالحظات‪.‬‬ ‫�أو ًال‪ :‬يقدم الأمن يف هذا التحديد على �أنه دينامية �إن�سانية يف مقابل ت�صوير الأمن ب�أنه ثمرة �سل�سلة‬ ‫من �إجراءات ال�ضبط والكبت‪ ،‬و�سكونية خانقة عرفناها وخربناها يف جتارب الأنظمة ال�شمولية العربية‪،‬‬ ‫فالتطور والتنمية حركة ناجتة عن �إطالق القدرات الب�شرية وحتريرها من قيود الك�سل واجلهل والفقر‬ ‫واملر�ض‪ ،‬يف �أجواء مفعمة باحلرية والإبداع العلمي والعملي‪ ،‬ووراء الإبداع العلمي حرية التفكري‪ ،‬ووراء‬ ‫الإبداع العملي حرية الإرادة والتنفيذ‪ ،‬والتطور هو ثمرة النقد امل�ستمر ملا هو قائم بروح �إيجابية‪ ،‬لي�س‬ ‫‪61‬‬


‫�رصاع هوية ووجود‬

‫فيها غ�ضب مكبوت �أو طاقة مهدورة يف العنف وحماوالت ال�سيطرة‪ ،‬والتنمية امل�ستدامة هي ا�ستمرار‬ ‫يف اال�ستثمار الر�شيد للموارد والطاقات‪ ،‬الأمن بهذا املعنى عملية ولي�س �سكونية‪� ،‬إجناز متدفق ولي�س‬ ‫�سل�سلة تعليمات‪ ،‬م�س�ؤولية �أمة ولي�س فقط م�س�ؤولية جهاز وال حتى �سلطة �سيا�سية‪ ،‬و�أق�صى ما يجب �أن‬ ‫تفعله ال�سلطة و�أجهزتها هو توفري الأجواء املالئمة للنهو�ض بالتطور والتنمية ال�شاملة‪ ،‬وهنا تربز العالقة‬ ‫بني الأمن واحلريات العامة‪� ،‬إذ ال تنمية من دون حريات‪ ،‬وال �أمن من دون تنمية‪ ،‬والعنف والتخلف‬ ‫وهدر املوارد نتائج طبيعية لكبت احلريات وبناء ال�سدود �أمام قدرات الأمة‪.‬‬ ‫ثانيا‪ :‬الغاية يف الغرب تربر الو�سيلة‪ ،‬وقد عرفنا يف التجربة الغربية تنمية لذات الغرب على ح�ساب‬ ‫الآخرين‪ ،‬بل عرفنا �أمناطا من التطور املطلوب لذاته على ح�ساب الإن�سان‪ ،‬كل �إن�سان‪ ،‬ولذلك مل تنتج‬ ‫التنمية الغربية مزيدا من الأمن بل ها هي تربهن �أنها �أنتجت مزيدا من اخلوف‪ ،‬وال�سبب يف ذلك‬ ‫يف تقديري يعود �إىل �أن العقل الغربي يتجاهل با�ستمرار �أن الأمن هو ثمرة التنمية والتطور بو�سائل‬ ‫م�شروعة‪ ،‬والإ�صرار على منط التنمية املبنية على اال�ستعمار ونهب ثروات الأمم‪ ،‬والإ�سراف يف ا�ستخدام‬ ‫القوة‪ ،‬هو عملية خلق م�ستمرة للأعداء‪� ،‬ستولد بالت�أكيد تهديداً م�ستمراً للأمن‪ ،‬وهنا تنك�شف الثغرة‬ ‫الكبرية يف هذا التحديد على الرغم من مت ّيزه‪� ،‬إذ ال توجد حماية م�ضمونة �إذا كانت التنمية قد ح�صلت‬ ‫بو�سائل غري م�شروعة‪ ،‬ولذلك يحر�ص القيمون على منط التنمية الظاملة‪ ،‬على �أن تواكب كل قفزة تنمية‬ ‫بحملة تعمية عن النتائج اخلطرية لهذا النمط‪ ،‬و�آخر ما تو�صل �إليه العقل الغربي يف هذا املجال هو تطوير‬ ‫�آليات �صناعة اخلوف وخلق الأعداء‪ ،‬حلماية م�صالح كربى �أ�صبحت قائمة على هذا النمط الظامل من‬ ‫التنمية؛ يعني �أن التنمية �أ�صبحت مطلوبة لذاتها ولو على ح�ساب الأمن والإن�سان‪ ،‬وهذا يعك�س خواء‬ ‫وا�ضحاً يف العقل الغربي‪ ،‬ناجتاً عن خلل يف منظومة القيم امل�ؤ�س�سة لتجربته التنموية‪ ،‬يظهر هذا اخللل‬ ‫القيمي ب�صورة �أو�ضح عندما نفند مقولة "احلماية امل�ضمونة"‪.‬‬ ‫لو �س�ألنا مكنمارا ماذا تعني باحلماية امل�ضمونة‪ ،‬لقال �إنها تهذيب �أكادميي لكلمة "قوة"‪ ،‬وحتى‬ ‫لو كان الرجل يعني ما هو �أكرث من القوة‪ ،‬ف�إن املمار�سة الغربية تك�شف عن �أنها امل�صداق العملي‬ ‫للحماية كما يفهمونها‪.‬‬ ‫�صناعة القوة‪ ،‬وا�ستخدامها‪ ،‬واملزيد منها‪ ،‬هو الهاج�س الذي ّ‬ ‫يتحكم بال�سلوك الغربي اليوم‪ ،‬على‬ ‫ح�ساب احلرية‪ ،‬ومن دون �أي اعتبار للعدالة‪ ،‬والنتيجة جمتمع متوتر وعامل متفجر‪ ،‬وخلل يف بنية‬ ‫التنمية‪ ،‬واجتاهات التطور‪.‬‬ ‫ومبا �أن للقوة حدوداً مهما بلغت‪ ،‬ف�إن حدود احلماية هي حدود القوة‪ ،‬ومبا �أن القوة ن�سبية ولي�ست‬ ‫مطلقة‪ ،‬ف�إن احلماية �ستبقى ن�سبية ميكن اخرتاقها من اجلوانب الرخوة يف منظومة القوة‪ ،‬فال ّ‬ ‫ت�شكل‬ ‫القوة بالتايل حماية م�ضمونة �إذا قامت على ح�ساب احلرية‪ ،‬مع جتاهل تام للعدالة‪.‬‬ ‫ثالثاً‪ :‬يف ال�شق الثاين من التعريف ي�ؤكد مكنمارا‪�" :‬إن الأمن احلقيقي للدولة ينبع من معرفتها‬ ‫العميقة للم�صادر التي تهدد خمتلف قدراتها ومواجهتها؛ لإعطاء الفر�صة لتنمية تلك القدرات‬ ‫‪62‬‬

‫تنمية حقيقية يف املجاالت كافة �سواء يف احلا�ضر �أو امل�ستقبل"‪.‬‬ ‫�إذا طبقنا هذا املفهوم على التجربة الغربية‪ ،‬يظهر �أن الغرب �إما ال يعي �أو يتجاهل �أن م�صدر اخلطر‬ ‫احلقيقي عليه‪ ،‬يكمن يف طبيعة تنميته‪ ،‬القائمة من جهة على العدوان ومن جهة �أخرى على‬ ‫الإتراف‪ ،‬ومبا �أنه من ال�صعب ت�صور جهل اخلرباء الغربيني مبا يفعلون فهم على الأرجح يدركون‬ ‫يتحملها �سلطان‬ ‫ويتجاهلون‪ ،‬لأن تفكيك �شبكة امل�صالح القائمة على النهب �أ�صبح مكلفاً لدرجة ال ّ‬ ‫املال واالقت�صاد وال�سيا�سة هناك‪.‬‬ ‫تو�صلنا حتى الآن �إىل نتائج مهمة‪:‬‬ ‫لقد ّ‬

‫�أ) التنمية ال�صانعة للأمن‪ ،‬هي تلك املبنية على و�سائل م�شروعة ومتوازنة وعادلة‪.‬‬ ‫ب) احلماية امل�ضمونة هي القوة اخلادمة للعدالة والتوازن يف التنمية‪ ،‬والتنمية الظاملة لي�ست �إال‬ ‫تهديداً م�ستمراً للأمن مبعناه ال�شامل‪ ،‬بل هي �آلية خلق للمزيد من املظلومني‪� ،‬أي املزيد من‬ ‫الأعداء‪.‬‬ ‫قد ُيقال يف نقد هذه النتائج‪� :‬إن العدالة �أي�ضاً ن�سبية وحمدودة‪ ،‬وبالتايل ال ت�شكل حماية م�ضمونة‬ ‫للأمن؟ نقول‪� :‬إن حجم الأخطار والتهديدات الذي يواكب جتربة تنموية عادلة ال ين�ش�أ منها وال من‬ ‫تهدد نف�سها‪ ،‬ثم �أننا مل نكتف بالعدالة كحماية‪ ،‬بل قلنا القوة‬ ‫طبيعتها‪ ،‬فعلى الأقل هذه تنمية ال ّ‬ ‫اخلادمة للعدالة‪ ،‬فالعدالة هنا ب�سبب ن�سبيتها �شرط �ضروري ولكنه غري ٍ‬ ‫كاف‪ ،‬بدون القوة‪ ،‬وتوفر‬ ‫هذين ال�شرطني يجعل من التهديدات اخلارجية‪� ،‬أقل بكثري‪ ،‬من تهديد نابع من الداخل يت�سبب‬ ‫حد لها من اخلارج‪� .‬إن الغرب الآن ي�صرف على احلماية فقط ما يكفي لإحداث ثورة‬ ‫بتهديدات ال ّ‬ ‫تنموية يف العامل �أجمع‪ ،‬وهذا باملفهوم االقت�صادي هدر خطري ملوارد الأمم‪ ،‬وثروات الب�شرية‪.‬‬ ‫قال تعاىل‪� :‬ضرب اهلل مث ًال قرية كانت �آمنة مطمئنة‪ ،‬ي�أتيها رزقها رغداً من كل مكان‪ ،‬فكفرت ب�أنعم‬ ‫اهلل‪ ،‬ف�أذاقها اهلل لبا�س اجلوع واخلوف مبا كانوا ي�صنعون (النحل‪.)112 ،‬‬ ‫التحديد الرابع‪:‬‬

‫ولعل �أدق مفهوم "للأمن" هو ما ورد يف القر�آن الكرمي يف قوله ‪� -‬سبحانه وتعاىل ‪َ " :-‬ف ْل َي ْع ُبدُ وا‬ ‫َر َّب َه َذا ا ْل َب ْي ِت * ا َّلذِ ي �أَ ْط َع َم ُهم م ِْن ُج ٍوع و�آ َم َن ُه ْم م ِْن خَ ْو ٍف"‪ ( .‬قري�ش‪ 3 ،‬و‪ ،)4‬ومن هنا ن�ؤكد �أن‬ ‫الأمن هو �ضد اخلوف‪ ،‬واخلوف باملفهوم احلديث يعني التهديد ال�شامل‪� ،‬سواء منه االقت�صادي �أو‬ ‫االجتماعي �أو ال�سيا�سي‪ ،‬الداخلي منه واخلارجي‪.‬‬ ‫تك ّرر الآية تعب َريي اجلوع واخلوف‪ ،‬اجلوع تهديد لأ�صل البقاء‪ ،‬واخلوف تهديد لكيفية البقاء‪ ،‬و�إذا‬ ‫‪63‬‬


‫�رصاع هوية ووجود‬

‫تخ ّل�صنا من اجلوع‪ ،‬يبقى علينا نزع �أ�سباب اخلوف‪ ،‬و�إذا مل نفعل ف�إن �أي معاجلة �سطحية للخوف‬ ‫�ستنتج خماوف جديدة‪ ،‬هذا ما يح�صل بال�ضبط‪ ،‬يف عامل اليوم‪ ،‬بل �إن الوقائع تثبت �أن العوا�صم‬ ‫الكربى تنتج خوفاً متجدداً ب�إجراءاتها الأمنية‪ ،‬وت�صطنع خماوف لتربر �سيا�ساتها‪ ،‬القائمة على زعزعة‬ ‫املتقدم والعامل املتخ ّلف‪.‬‬ ‫اال�ستقرار يف العامل‪ ،‬حتت ت�أثري �أوهام الف�صل بني العامل ّ‬ ‫ومن العجيب �أن ال يلتفت الباحثون‪ ،‬خل�صو�صية التعريف القر�آين للأمن‪ ،‬فهو ينطلق من �أن الأمن‬ ‫نف�سي قبل كل �شيء‪ ،‬والدولة التي يفتقد مواطنوها للأمن النف�سي‪ ،‬هي دولة فاقدة للأمن‪ ،‬حتى‬ ‫ولو مل تتع ّر�ض لأي اعتداء‪ ،‬وهنا يط ّور القر�آن مفهوم الأمن ليقول �إننا قبل �أن نبحث يف منط التنمية‪،‬‬ ‫دعونا نناق�ش �أمناط احلياة‪ ،‬فكل حياة مبنية على ال�شرك‪ ،‬وعبادة غري اهلل‪ ،‬هي حياة غري �آمنة وم�صدر‬ ‫قلق وقالقل دائمة‪ ،‬وهذا التعبري الأخري "القلق" هو ما ت�ستخدمه درا�سات علم النف�س احلديث‪،‬‬ ‫منذ مطلع القرن املا�ضي ك�أعمق �أ�شكال اخلوف التي �أنتجها منط احلياة احلديث‪ ،‬وحت�ضرين الآن‬ ‫جمموعة عناوين كتب‪� ،‬أ�صبحت م�ألوفة بعد �أن تتطرق �إليها كبار العلماء‪ ،‬وهي "قلق يف احل�ضارة"‬ ‫ل�سيغموند فرويد‪ ،‬و"دع القلق و�أبد�أ احلياة" لدايل كارنيجي‪ ،‬و�أف�ضل كتب �إريك فروم على‬ ‫الإطالق الذي ترجم يف �سل�سلة عامل املعرفة حتت عنوان "الإن�سان بني اجلوهر واملظهر" وعنوانه‬ ‫الأ�سا�سي "نتم ّلك �أو نكون"‪ ...‬وغريها من الأبحاث اجلادة التي متكننا من القول �إن هناك فرعاً‬ ‫قائماً بذاته يف الغرب هو علم القلق‪.‬‬ ‫النقا�ش هنا يذهب �إىل �أبعد‪ ،‬من احلديث عن تهديدات مرئية‪� ،‬إنه يتحدث عن خوف يعي�شه‬ ‫حم�صن من داخل حياته‪ ،‬يف ظل ا�ستقرار و�أمان ن�سبي من اخلطر اخلارجي‪� .‬إريك فروم يف‬ ‫جمتمع ّ‬ ‫كتابه "نتملك �أو نكون" ي�شرح ب�صورة رائعة كيف ت�ؤثر الثقافة اال�ستهالكية على الأمن النف�سي‪،‬‬ ‫وكيف يتح ّول اال�ستهالك �إىل م�سكن �سرعان ما يفقد مفعوله‪ ،‬فيلهث الإن�سان للح�صول على‬ ‫جرعة �أكرب منه‪ ،‬نفهم مع هذا العامل والفيل�سوف العمالق ملاذا ينت�شر ا�ستخدام املخدرات يف‬ ‫ي�سميها روجيه غارودي‪" :‬بخور‬ ‫جمتمعات مرتفة‪ ،‬وملاذا �أ�صبحت املخدرات �آفة الع�صر‪� ،‬أو كما ّ‬ ‫معبد ال�سوق"‪.‬‬ ‫العنف اجلن�سي‪ ،‬واجلرائم املنظمة وغري املنظمة‪ ،‬والعنف الأ�سري‪ ،‬واالجتماعي‪ ،‬واملخدرات‬ ‫والأحياء امل�سلحة‪ ،‬و�سفاح القربى‪ ،‬وال�شذوذ‪ ،‬واالنتحار الفردي واجلماعي‪ ،‬لي�ست من نتائج‬ ‫التهديدات اخلارجية‪� ،‬إنها من نتائج منط احلياة القائمة على القيم اال�ستهالكية‪ ،‬املتحكمة ببقية‬ ‫القيم الإن�سانية‪ ،‬وبتعبري �أف�ضل من نتائج غياب ال�سكينة التي ت�ؤمنها احلياة القائمة على الإميان‬ ‫"برب هذا البيت" الذي هو ركن التوحيد‪.‬‬ ‫ف�إذا كان الأمن ثمرة القوة اخلادمة للعدالة التي حتمي التنمية امل�ستدامة‪ ،‬فالإميان هو ال�سياج‬ ‫احلامي للعدالة وم�صدر القوة الذي ال ين�ضب‪ ،‬وروح ال�سكينة وال�سالم والأمان يف �شرايني احلياة‪،‬‬ ‫وكل عملية �صناعة �سطحية للأمن تتجاهل هذه احلقيقة هي يف الواقع م�صدر ملخاوف متجددة‪،‬‬ ‫‪64‬‬

‫وقلق م�ستمر‪ ،‬و�س�أ�ستعني هنا لإثبات هذه املقولة مب�شاهد من لندن ونيويورك‪ ،‬عر�ضتها تقارير‬ ‫خمتلفة امل�صادر ( )‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫بريطانيا لندن‪:‬‬

‫‪� 500‬ألف كامريا تراقب �شوارع وحوانيت وحمطات لندن‪ ،‬و�أربعة ماليني يف �أنحاء البالد كافة‪� ،‬أي‬ ‫ما معدله ‪ %10‬من كامريات املراقبة يف العامل‪ .‬وقد �أبدى م�س�ؤولون عن احلقوق املدنية قلقهم من‬ ‫�إ�ساءة ا�ستخدام هذه الثقة الزائدة باحلكومة يف بريطانيا‪ ،‬كما �أعلن رئي�س جلنة املعلوماتية واحلريات‬ ‫الكم الهائل‬ ‫الفردية يف بريطانيا �أن اخلطر قائم من �أن ت�صبح بريطانيا جمتمعاً حتت املراقبة‪ ،‬ب�سبب ّ‬ ‫من املعلومات التي جتمعها احلكومة حول املواطنني‪.‬‬ ‫وقال ريت�شارد توما�س يف مقابلة مع �صحيفة "التاميز"‪ ،‬ال �أريد �أن �أكون مهوو�ساً‪ ،‬لكن بع�ض نظرائي‬ ‫يف ا�سبانيا �أو يف �أوروبا ال�شرقية ر�أوا خالل القرن املا�ضي ما ميكن �أن يح�صل حني ت�صبح احلكومة‬ ‫قوية جداً ومتلك الكثري من املعلومات حول مواطنيها يف �إ�شارة �إىل نظام اجلرنال فرانكو �أو �آل‬ ‫�شتا�سي يف �أملانيا ال�شرقية �سابقاً‪.‬‬ ‫ويف مطار هيرثو �أقدمت ال�سلطات على تعري�ض جمموعة ع�شوائية من امل�سافرين للآلة ال�سافرة التي‬ ‫تع ّري النا�س بهدف الك�شف عن ال�سالح واملمنوعات‪ .‬وعلى �أثر ذلك ن�شر جفري روزن‪ ،‬وهو �أ�ستاذ‬ ‫القانون يف جامعة وا�شنطن مقا ًال عن الآلة ال�سافرة‪ ،‬التي تع ّري النا�س بوا�سطة الأ�شعة ال�سينية‪،‬‬ ‫وا�ستعر�ض االعرتا�ضات مطالباً بالتوازن بني الأمن واخل�صو�صية‪ ،‬وقد تبني �أن ال�سلطات الأمريكية‬ ‫طلبت �آنذاك من ال�شركة امل�صنعة‪ ،‬وهي خمترب املحيط الهادي ال�شمايل‪� ،‬أن تط ّور الآلة ب�شكل مينع‬ ‫التعدي على حرمة اجل�سد‪ ،‬وقد تو�صل الباحثون يف ال�شركة �إىل �إمكانية ذلك‪ ،‬عن طريق �إدراج‬ ‫ّ‬ ‫ال�سالح واملمنوعات يف خانة معينة من برنامج الآلة‪ ،‬لإبرازها وت�صغري اجل�سد العاري �إىل حدود‬ ‫نقطة‪� ،‬أي �أن �آلة التعرية تتح ّول �إىل �آلة النقطة‪.‬‬ ‫وقد اعترب ذلك مثا ًال على التوفيق بني متطلبات الأمن‪ ،‬واحلرمة ال�شخ�صية بوا�سطة البحث العلمي‪،‬‬ ‫وما �سمعناه م�ؤخراً عن ت�شغيل �آلة التعرية من جديد يف مطار فينيك�س بوالية �أريزونا يعني �أن ال�سلطات‬ ‫هناك ال تريد اال�ستفادة من التقنية اجلديدة يف ما ي�شبه الإ�صرار على انتهاك حرمة الأ�شخا�ص‪.‬‬ ‫وال يقت�صر الأمر على امل�سافرين‪ ،‬فاملراقبة بالأ�شعة ال�سينية �أ�صبحت ن�شاطاً يومياً يف عوا�صم الغرب‪،‬‬ ‫وهذا ي�ضيف �إىل التعدي على الأخالق تعدياً �آخر على حقائق العلم‪ ،‬فالت�سامح ال�شديد مع هذا‬ ‫اال�ستخدام العمومي للأ�شعة ال�سينية‪ ،‬يدفع العلماء �إىل ال�صراخ‪.‬‬ ‫فقد تع ّودنا �أن نقرتب من غرفة الأ�شعة‪ ،‬يف امل�ست�شفيات‪ ،‬جم ّهزين بدروع واقية من الآثار ال�سلبية‬ ‫للتع ّر�ض للإ�شعاع‪ ،‬وبرهنت �أبحاث وا�سعة االنت�شار‪ ،‬كما يقول الدكتور بنك‪�" :‬أن كل عملية‬ ‫‪65‬‬


‫�رصاع هوية ووجود‬

‫توجه �إىل ن�سيج بيولوجي لها‬ ‫تع ّر�ض للأ�شعة ال�سينية حتمل درجة من املخاطر‪ ،‬وكل طاقة �إ�شعاعية ّ‬ ‫ت�أثريات �صحية خطرية �أ�سو�أ من �أي طاقة �أخرى‪ ،‬فهي باخرتاقها لنواة اخللية ميكنها �أن ت�سبب �أ�ضراراً‬ ‫جدية للحام�ض النووي‪ ،‬ومن هذه الأ�ضرار �إطالق عملية انق�سام خارج �إطار ال�سيطرة على �شكل‬ ‫�سرطان‪� ،‬أما التع ّر�ض للإ�شعاع بدرجات عالية‪ ،‬فيمكنه �أن يت�سبب بتدمري عدد هائل من اخلاليا‪،‬‬ ‫وي�ؤدي �إىل ف�شل يف وظائف الأع�ضاء‪ ،‬وخ�سارة ال�شعر‪ ،‬وتدمري جدار الأمعاء‪ ،‬ومتانة العظام‪ ،‬ف�ض ًال‬ ‫عن �آثاره على اجلهاز الع�صبي‪ ،‬واحرتاق اجللد‪. ...‬‬ ‫وقد برهن كوهني‪� :‬أنه توجد �أدلة على �أن عملية ال�سرطنة ميكن �أن تطلق من عمليتي تع ّر�ض للأ�شعة‪،‬‬ ‫و�أن جرعة من ‪( 100‬رمي) لكال الوالدين قد ترفع �إمكانية الت�ش ّوه مبعدل ‪ ,%0,15‬فاملعروف �أن خاليا‬ ‫احلام�ض النووي من �أكرث اخلاليا ح�سا�سية جتاه الإ�شعاع وميكن للأ�شعة �أن تت�سبب مبوت خالياه يف‬ ‫ظروف معينة‪.‬‬ ‫لو �أخذنا بعني االعتبار هذه احلقائق العلمية‪ ،‬وقر�أنا من جديد �أخبار التكاثر الفطري للكامريات‬ ‫املتطورة‪ ،‬ال بد �أن يتبادر �إىل �أذهاننا هذه احلزمة من الأ�سئلة‪:‬‬ ‫ما هو معدل اجلرعة الإ�شعاعية التي يتع ّر�ض لها امل�شاة وامل�سافرون يف بحر من كامريات املراقبة؟‬ ‫وما هي الأخطار امل�ستقبلية على ال�صحة العامة نتيجة انت�شار هذا النوع من الكامريات؟ وماذا‬ ‫�سيكون م�صري الأبحاث الكا�شفة عن الآثار ال�سلبية لهذا اال�ستخدام؟ هذه خماوف �صحية‪ ،‬ثم‬ ‫هل يعقل �أن يتم التعامل مع املواطن بو�صفه عدواً حمتم ًال بهذا ال�شكل؟ ومن ي�ضمن عدم �إ�ساءة‬ ‫ا�ستخدام املعلومات �ضد الأ�شخا�ص وامل�ؤ�س�سات؟ يف ظل الإمكانيات التقنية واخليارات املتقدمة‬ ‫مت�س الأمن ال�شخ�صي والنف�سي والأمن‬ ‫التي تعر�ضها الكامريات؟ هذه خماوف متعددة االجتاهات ّ‬ ‫العام للمعلومات‪.‬‬ ‫نيويورك‪ ،‬الواليات املتحدة الأمريكية‪:‬‬

‫حتت عنوان " َمن يراقب؟" �أ�صدر االحتاد النيويوركي للحريات املدنية‪ ،‬تقريراً يف العام املن�صرم‪ ،‬حذر فيه‬ ‫من تزايد االعتماد على تكنولوجيا املراقبة بالكامريات‪ ،‬ومن �أهم ما ورد يف التقرير‪� :‬أن عدد الكامريات‬ ‫يف �أنحاء خمتلفة من نيويورك زاد بن�سبة خم�سة �أ�ضعاف من �سنة ‪ 1998‬ولغاية العام ‪ ،2005‬وقد عر�ض‬ ‫التقرير خلرائط‪ ،‬تربهن �أن الكامريات تغطي كل بقعة من ‪� 125‬شارع يف هارمل وحدها‪.‬‬ ‫وقد ف�صل التقرير‪ ،‬حجم التهديد الذي متثله هذه الكامريات على احلقوق املدنية‪ ،‬مركزاً على ما‬ ‫ميكن �أن تفعله الكامريا اليوم وعلى درا�سات �إح�صائية تقلل من �أهمية الكامريا يف تفادي اجلرمية‪،‬‬ ‫يقول التقرير‪� :‬إن نقل ال�صورة �إىل مركز مراقبة هو �أب�سط ما ميكن �أن تفعله الكامريا‪ ،‬احلديث يدور‬ ‫اليوم حول نوع ال�صورة‪ ،‬وما بعد النقل والتخزين لل�صور‪ .‬فعن طريق عملية التقريب‪( ،‬زوم �إن)‪،‬‬ ‫‪66‬‬

‫متكنت �سارا دوغيد ‪ -‬وهي �صحافية يف الفينن�شال تاميز‪ -‬من قراءة �شا�شة اخللوي ملجموعة من‬ ‫املراهقني ثم ع ّلقت‪" :‬من الناحية النظرية ميكنني �أن �أقر�أ ر�سائلهم ال�صغرية على ال�شا�شة"‪ .‬وفيما‬ ‫بعد النقل والتخزين ميكن للكامريا بث ما التقطته عرب الإنرتنت‪ ،‬مما ي�سمح بدخول �آخرين على خط‬ ‫املراقبة واال�ستعالم‪ ،‬وال يوجد �أي فرق يف الو�ضوح بني الليل والنهار‪ ،‬فكثرياً ما ّمتكنت الكامريات‬ ‫من التقاط حلظات حميمة يف جوف الليل‪ ،‬من الأماكن العامة‪.‬‬ ‫يف حماولة للدفاع عن كامريات املراقبة‪ ،‬متّت اال�ستعانة ب�إح�صاءات تتحدث عن انخفا�ض معدل‬ ‫اجلرمية حيث تنت�شر الكامريات‪ ،‬ولكن درا�سة بريطانية �ضعفت من م�صداقية هذه الدرا�سات عندما‬ ‫تبني �أن منطقة واحدة من ‪� 13‬شهدت انخفا�ضاً يف معدل اجلرمية‪ ،‬و�أن �سبع مناطق من ‪� 13‬شهدت‬ ‫ارتفاعاً يف معدل اجلرمية على الرغم من انت�شار الكامريات فيها‪ .‬والنتيجة‪� :‬أن ب�إمكان الكامريا �أن‬ ‫ت�ساعد التحقيق بعد اجلرمية‪ ،‬ولكن لي�س هناك �أدلة دامغة على �أنها تخف�ض من معدل اجلرائم‪.‬‬ ‫واعترب �آخرون �أن زيادة عدد كامريات املراقبة‪ ،‬هو م�ؤ�شر لزيادة ت�أثري ال�شركات على احلكومات‪� ،‬أكرث‬ ‫مما هو �إجراء ي�ؤدي �إىل ال�شعور بالأمن‪.‬‬ ‫مل يكتف التقرير النيويوركي‪ ،‬بالإ�شارة �إىل املخاوف بل �أكد �أن هناك انتهاكات فعلية ح�صلت‪� ،‬ضد‬ ‫املل ّونني‪ ،‬و�أن الق ّيمني على املراقبة مار�سوا بالفعل متييزاً عن�صرياً‪� ،‬سواء يف توزيع الكامريات‪� ،‬أو يف‬ ‫ا�ستخدام معلوماتها‪ ،‬و�أن �أهداف الكامريات كانت مبن ّية على �أ�س�س عرقية �أو �إثنية‪� ،‬أو متييز على‬ ‫�أ�سا�س اجلن�س‪ ،‬من دون مربرات قانونية‪ ،‬ف�ض ًال عن �أن ‪ 3100‬كامريا يف نيويورك وحدها ّ‬ ‫تركز على‬ ‫�أحياء وجماعات املل ّونني‪.‬‬ ‫�صناعة اخلوف‪:‬‬

‫تعدت هذه امل�شاهد نطاق البحث‪ ،‬ف�صناعة الأمن �أ�صبحت وراءنا‪ ،‬نحن نعي�ش بالفعل يف حقبة‬ ‫لقد ّ‬ ‫�صناعة اخلوف‪ ،‬الكل يجب �أن يخاف من الكل‪ ،‬احلكومة من النا�س‪ ،‬والنا�س من بع�ضهم‪ ،‬والأبي�ض‬ ‫من املل ّون‪ ،‬وال�شركة من الدولة‪ ،‬والغرب من الإ�سالم‪ ،‬وامل�سلمون من بع�ضهم‪ ،‬ال�سنة من ال�شيعة‪،‬‬ ‫وال�شيعة من ال�سنة‪ ،‬والعرب من الفر�س‪ ،‬والفر�س من الكرد والعرب‪ ...،‬فهذا ميثل فر�صة عمل متجددة‬ ‫ل�شرطي العامل‪ ،‬واحلكومة الأمنية الع�سكرية العاملية‪ ،‬التي تبيع ال�سالح والتجهيزات واخلربات الأمنية‪،‬‬ ‫للخائفني يف ظل وهم كبري �أنها مبن�أى عن نتائج هذه ال�سيا�سة اجلهنمية‪.‬‬ ‫من هذه اجلهة ميكن تف�سري الإ�سراف يف ا�ستخدام الكامريات يف �شوارع املدن الغربية‪ ،‬كعالمة‬ ‫خوف من احلكومات القائمة‪ ،‬التي متثل يف النهاية خليطاً من امل�صالح ي�ضطهد طبقات من‬ ‫املهم�شني‪ ،‬داخل املجتمع الغربي‪ .‬العملية بب�ساطة تق�ضي ب�إرهاب النا�س بالأمن بحجة حماربة‬ ‫ّ‬ ‫الإرهاب‪ ،‬يعني �أن هذه احلكومات م�ص ّرة على ال�سري يف طريق التمييز العن�صري‪ ،‬والتمييز �ضد‬ ‫‪67‬‬


‫‪ - 1‬زكريا ح�سني‪ ،‬الأمن القومي‪� ،‬صفحة امل�صطلحات واملفاهيم‪ ،‬يف الإ�سالم �أون الين‬ ‫‪ - 2‬املنتدى (‪.)Pdf file,who’s watching,www.nyclu.org‬‬ ‫ العربية (‪.)www.spoksmanreview.com‬‬ ‫‪68‬‬

‫فـكــــــــر‬

‫امل�سلمني واملل ّونني واملهم�شني‪ ،‬وهي يف الوقت نف�سه مدركة لعواقب هذه ال�سيا�سة‪ ،‬وطاملا �أنها م�ص ّرة‬ ‫على اال�ضطهاد والتمييز والتهمي�ش‪ ،‬ومدركة يف الوقت نف�سه عواقب هذه ال�سيا�سات‪ ،‬من دون �أي‬ ‫ت�أثري لهذا الإدراك يدفع �إىل تغيريها‪ ،‬لأن نظام امل�صالح �أ�صبح قائماً عليها‪ ،‬ف�إن على احلكومات �أن‬ ‫تراقب مظاهر الرف�ض والغ�ضب التي تت�صاعد �ضد هذه ال�سيا�سات‪ ،‬والتي تعرب عن نف�سها �أحياناً‬ ‫ب�أعمال �إرهابية‪� ،‬أو بجرائم انتقامية‪ ...‬و�إذا ح�صل ما هو متوقع �ضمن معادلة الفعل ورد الفعل‪ ،‬ف�إن‬ ‫احلكومة تلج�أ �إىل ا�ستثمار اجلرمية‪� ،‬أو االعتداء الإرهابي‪ ،‬مباكينة �إعالمية �ضخمة ت�سلط ال�ضوء على‬ ‫احلدث‪ ،‬مبعزل عن �أ�سبابه‪ ،‬يف عملية م�سح للذاكرة وكبت للت�أمل والتعقل‪ ،‬بغية الت�سويق ملزيد‬ ‫من الإجراءات الأمنية �أو ملزيد من االنتهاك للحريات املدنية واحلرمات ال�شخ�صية‪ ،‬حتت م�سمى‬ ‫الإجراءات الأمنية‪.‬‬ ‫يبدو �أن القاعدة التي حكمت الأعمال‪ ،‬على مدى القرن املا�ضي‪ ،‬والتي تقول‪ :‬نر ّغب الزبون ثم نبيعه‪،‬‬ ‫قد ا�ستنفدت دورها نحن نعي�ش اليوم تطبيقاً لقاعدة �أكرث �شرا�سة هي‪ :‬نخ ّوف الزبون ثم نبيعه‪ ،‬وتتحقق‬ ‫عرب هذه القاعدة �أهداف مل يكن من املمكن حتقيقها وفقاً للقاعدة القدمية‪ ،‬ومن هذه الأهداف‪:‬‬ ‫�أن املواطن اخلائف على �أ�صل وجوده وبقائه‪ ،‬ال يناق�ش يف كيفية البقاء‪ ،‬يعني ال يناق�ش النظام القائم‬ ‫على حرا�سة منط احلياة اال�ستهالكية‪ ...‬يف ما هو يريد �أن يبقى ب�أي ثمن‪ ،‬احلياة مبعناها البيولوجي‬ ‫ت�صبح يف هذا الإطار منحة يقدمها نظام �صناعة اخلوف للنا�س‪ ،‬عندما يقتل فيهم معاين احلياة الأخرى‪.‬‬ ‫احلديث عن احلقوق املدنية واحلريات العامة‪ ،‬ي�صبح يف مثل هذه الظروف لوناً من �ألوان الرتف‬ ‫الزائد‪ ،‬والذي يبدي ت�ساحماً يف هذه احلقوق‪ ،‬ير ّوج له على �أنه الأكرث وعياً للمخاطر املحدقة بالأمة‪،‬‬ ‫وبالتايل خادم مطيع لنظام �صناعة اخلوف‪.‬‬ ‫يتم الت�سويق اليوم لنمط احلياة الغربي عن طريق ت�صنيع "�إرهاب �إ�سالمي" يح ّول مدن الغرب‬ ‫�إىل توبيا بالن�سبة للأمة التي وقعت �ضحية الإرهاب‪ ،‬بدون االلتفات �إىل �أننا اليوم �ضحية عنف‬ ‫غربي بثوب �إ�سالمي‪ ،‬فقد �سبقنا الغرب يف تقطيع الر�ؤو�س واغت�صاب الفتيات املقاومات وانتهاك‬ ‫احلرمات‪ ،‬وكل جرائم املجرم الرببري ‪ -‬الذي ّمت �إنتاجه عن طريق دعم فقه اال�ستبداد ثم فقه‬ ‫الإرهاب ثم دوائر املخابرات ‪ -‬ال ت�ساوي ذرة مما �أنتجه "املجرم الأنيق" بقنابل حتول ال�ضحية �إىل‬ ‫غبار ال يظهر يف ال�صورة‪ ،‬وبالتايل ال يركز يف الذاكرة واملخيلة ال�ضحية للمتلقي‪.‬‬ ‫�إذا �أكملنا هذا امل�سار �إىل النهاية فنحن �أمام م�شهد هليوودي عن عامل للمرفهني‪ ،‬ب�أبواب حديدية حمكمة‬ ‫وكامريات تراقب الأنفا�س والأفكار والأحالم‪ ،‬وعامل للمهم�شني خارج ال�سور احلديدي العظيم‪.‬‬

‫التحوالت اجليوا�سرتاتيجية واالقت�صادية‬ ‫‪1‬‬ ‫العاملية وانعكا�سها على امل�رشق‬ ‫ريا�ض عيد ‪ -‬كاتب‬ ‫ع�صفت بالعامل نهاية القرن املا�ضي وبداية هذا القرن حت ّوالت جيوا�سرتاتيجية كونية كربى‬ ‫و�أحداث مف�صلية تركت �آثاراً وتداعيات �سيا�سية كارثية على العامل ب�شكل العام وامل�شرق‬ ‫والهالل ال�سوري اخل�صيب ب�شكل خا�ص (وامل�شرق �أو الهالل اخل�صيب �أو بالد ما بني النهرين‬ ‫مل�سمى واحد)‪ ،‬وملا كانت اجلغرافية ال�سيا�سية هي العامل الأكرث ت�أثرياً يف‬ ‫�أو �سوراقيا كلها �أ�سماء ّ‬ ‫ر�سم �سيا�سات الدول اال�سرتاتيجية واالقت�صادية‪ ،‬وحتديد موقع هذه الدول يف اال�سرتاتيجيات‬ ‫الإقليمية والعاملية‪ ،‬ونظراً ملوقع الهالل اخل�صيب اجليوا�سرتاتيجي كنقطة التقاء ثالث قارات‬ ‫وعقدة طرق برية وبحرية وجوية تربط العامل‪ ،‬وكواحدة من �أهم مناطق التداخل بني هذه القوى‬ ‫الربية والبحرية والقوى اجلوية‪ ،‬والتي ت�شكل جزءاً ح�سا�ساً للغاية من منطقة م�صري العامل وفق‬ ‫طرح عامل اجليوبوليتيك املار�شال الك�سندر دو �سيفر�سكي عن القوى اجلوية‪ ،‬عندما قال‪" :‬هذه‬ ‫املنطقة العربية هي املعرب الذي يربط قارات �آ�سيا و�أفريقيا و�أوروبا‪ ،‬وهي مفتاح الدفاع اجلوي عن‬ ‫قارتي �أفريقيا و�أوروبا"‪ .‬وهي منطقة مف�صلية يف اال�سرتاتيجيتني (الأورا�سية الرو�سية) و(الأورا�سية‬ ‫الأمريكية) اللتني كانتا والتزاالن حمور حركة ال�صراع الكوين لل�سيطرة على العامل‪ ،‬وملا كنا‬ ‫نحيا ع�صر العوملة وثورة االت�صاالت واملعلوماتية التي اخت�صرت الزمن وامل�سافات وجعلت العامل‬ ‫قرية كونية �صغرية م�شرعة الأبواب والنوافذ �أمام التدخل اخلارجي‪ .‬وملا كان هذا الزمن هو زمن‬ ‫التكتالت ما فوق القومية واملحاور الإقليمية والدولية املت�صارعة لر�سم نظام عاملي جديد‪ ،‬مما فر�ض‬ ‫مفاهيم جديدة لل�سيادة والأمن (ال�سيادة الت�ساندية ‪ -‬والأمن التعاوين املرتكز على قاعدة توازن‬ ‫امل�صالح بني الأحالف بدل الأمن اال�سرتاتيجي القائم على توازن القوى)‪ .‬وملا كان االقت�صاد‬ ‫(الذي بات معوملاً �أي�ضاً يف ع�صر العوملة) هو ال�سبب الأ�سا�سي للحروب التي ع�صفت بالعامل منذ‬ ‫القدم حتى الآن‪ ،‬وملا كانت الهالل ال�سوري اخل�صيب يتجاذبه �صراع عاملي على الطاقة منذ بداية‬ ‫القرن املا�ضي ملا يختزنه من خامات �إ�ضافة �إىل املوقع اجليو�سيا�سي الذي يح�سم َمن ي�سيطر عليه‬ ‫ال�سيطرة على العامل‪ .‬لذا ال بد لنا ونحن ندر�س التحوالت االقت�صادية الكونية و�أثرها على دول‬ ‫امل�شرق من �أن ندر�س �أو ًال‪:‬‬ ‫ ‪1‬‬

‫حما�ضرة �ألقيت يف منتدى حت ّوالت يف (‪� 20‬آذار ‪.)2015‬‬ ‫‪69‬‬


‫فكــــــر‬

‫�أ ‪ -‬ماذا ميثل الهالل اخل�صيب بالن�سبة لأمريكا ورو�سيا كي تختاره �أمريكا م�سرحاً جديداً لل�صراع؟‬ ‫ب‪ -‬ما هي التحوالت اجليوا�سرتاتيجية العاملية الكربى و�أثرها على الهالل اخل�صيب؟‬ ‫ج‪ -‬ما هي امل�شاريع الدولية والإقليمية الكربى التي تت�صارع يف الهالل اخل�صيب وعليه‪ ،‬وما هي‬ ‫طرق التعامل معها �أو مواجهتها؟‬ ‫�أ‪ -‬ت�أثري اجليوبوليتيك على �ص ّناع القرار عند الدول الكربى (رو�سيا و�أمريكا)‬ ‫و�أهمية موقع الهالل اخل�صيب اجليو�سيا�سي يف نظر اجليوبوليتيكيني‪ ,‬ويف‬ ‫ا�سرتاتيجيتي رو�سيا و�أمريكا كي تختاره �أمريكا م�سرحاً جديداً لل�صراع؟‬ ‫ال ن�ستطيع �أن نفهم �أهمية الهالل ال�سوري اخل�صيب (الذي يقع يف و�سط وجنوب حافة الياب�سة‬ ‫الأورا�سية) بالن�سبة للواليات املتحدة الأمريكية‪ ،‬من دون �إلقاء ال�ضوء على املنطلقات الأ�سا�سية‬ ‫لعلماء اجليوبوليتيك الأمريكيني امل�ؤثرين ب�شدة يف �صنع اال�سرتاتيجيات للر�ؤ�ساء‪ .‬هنا نذكر ثالثة‬ ‫من �أهم املفكرين اال�سرتاتيجيني كمثال على هذا الت�أثري‪ :‬الأول هو العامل اجلـغرايف الربيطاين‬ ‫ال�شهري هالفـورد ماكندر يف العام ‪ 1904‬الذي �ألف كتابه ال�شهري "املحيط اجلغرايف للتاريخ"‪،‬‬ ‫وهو �أحد �أ�شهر كتب اجليوبوليتيك يف العامل‪ .‬ويف هذا الكتاب ظهرت نظرية ماكندر ال�شهرية‬ ‫"قلب الأر�ض" �إىل الوجود‪ ،‬وماكندر �أول من ن ّبه �إىل �أهمية �أورا�سيا وحافة الياب�سة واعتربها نقطة‬ ‫االرتكاز اجلغرايف ومن ي�سيطر عليها ي�سيطر على جزيرة العامل ومن ي�سيطر على جزيرة العامل‬ ‫ي�سيطر على العامل‪ .‬ويق�صد ماكندر بجزيرة العامل القدمي �آ�سيا و�أوروبا و�أفريقيا‪ .‬ولقد فهم نابليون‬ ‫توجه �إىل رو�سيا وكذلك ت�أثر قي�صر �أملانيا وليم الثاين‬ ‫�أهمية قلب الياب�سة قبل ماكندر عندما ّ‬ ‫وهتلر ومو�سوليني ب�أهمية قلب الياب�سة لل�سيطرة على �أوروبا والعامل‪ .‬ت�صادمت نظرية ماكندر مع‬ ‫املقوالت االنطالقية الإنكليزية القا�ضـية بال�سـيطرة على الطرق البحرية ل�ضمان ال�سيطرة على‬ ‫العامل‪ ،‬ولذلك ت�أ�س�س الت�صادم الفكري بني النظريتني على قاعدة �أن "القوى التي ت�سيطر‬ ‫ب�شدة‪ .‬و�أورا�سيا هي‬ ‫على �أورا�سيا ميكنها مهاجمة م�ستعمرات القوة البحرية"‪ ،‬كما اعتقد ماكندر ّ‬ ‫املنطقة الواقعة بني �شرق �أوروبا يف الغرب و�آ�سيا الو�سطى والقوقاز يف ال�شرق‪ ،‬والكلمة م�شتقة من‬ ‫�أوروبـا و�آ�سـيا للداللة على منطقة التما�س بني القارتني‪ .‬عانـى ماكندر من مركزية �أوروبية مفرطة‬ ‫يف حتليالته‪ ،‬ودخلت تقديراته املتوا�ضـعة عن �أهمية اجلغرافيا العربية �ساحــات االنتقـاد لنـظريتـه‬ ‫من �أو�سـع �أبوابهـا‪ .‬كـما �أ ّنه‪ ،‬وب�سبب االحتياطات الهائلة من النفط والغــاز يف ال�شـرق الأو�سط‬ ‫املكت�شـفة بعد ماكـندر مل يعــد ممكـناً لأي قـوة عـظمى �أن ّتدعي �أنها كـذلك‪ ،‬من دون �أن ت�ضع‬ ‫ال�شرق الأو�سط يف �إطار بيئتها الأمنية واال�سرتاتيجية‪.‬‬ ‫والثاين نيقوالي �سبيكمان الذي بنى نظريته �أي�ضاً على (حافة الياب�سة) بالن�سبة لأورا�سيا (‪Rime‬‬ ‫‪ )Land‬او الهالل الداخلي‪ ,‬حيث اعترب �أنّ َمن ي�سيطر على حافة الياب�سة ي�سيطر على �أورا�سيا‬ ‫‪70‬‬

‫ومن ي�سيطر على �أورا�سيا ي�سيطر على العامل‪.‬‬ ‫والثالث هو زبغنيو بريجين�سكي‪ ،‬م�ست�شار الأمن القومي للرئي�س الأ�سبق جيمي كارتر و(�أ�ستاذ‬ ‫ال�سيا�سة اخلارجية بجامعة جون هوبكنز ‪ -‬وا�شنطن) وامل�ست�شار غري املعلن والأكرث ت�أثرياً على‬ ‫باراك �أوباما‪ ،‬حيث �سلط ال�ضوء يف كتابه "رقعة ال�شطرجن الكربى" الذي �أ ّلفه العام ‪ 1997‬على‬ ‫�أهمية منطقة �أورا�سيا للواليات املتحدة الأمريكية‪ ،‬التي ت�سبق ال�شرق الأو�سط يف �أهميتها من‬ ‫املنظور الأمريكي‪ .‬ت�أثر بريجين�سكي مبا كتبه ماكندر حيث قال‪" :‬انتقل علم اجليوبوليتيك من‬ ‫البعد الإقليمي �إىل البعد الكوين‪ .‬مع وجود �أهمية ا�ستثنائية ملنطقة �أورا�سيا يف امل�صالح الكونية‬ ‫الأمريكية‪ .‬و�أمريكا باعتبارها قوة ال تنتمي �إىل �أورا�سيا ّمتدد �سيطرتها �إىل احلواف الثالث ملنطقة‬ ‫�أورا�سيا‪ ،‬والعدو املحتمل لأمريكا يف �أي �سياق تناف�سي دويل مقبل ال ّبد له �أن ي�سيطر على منطقة‬ ‫يتوجب على �أمريكا �أن متنع �أياً من القوى الكربى‪ ،‬رو�سيا �أو ال�صني �أو القوى‬ ‫�أورا�سيا‪ .‬وهكذا ّ‬ ‫الإقليمية ال�صاعدة مثل �إيران وتركيا‪ ،‬من ال�سيطرة على منطقة �أورا�سيا"‪� .‬سيطرت �أمريكا منذ‬ ‫احلرب الباردة على ما �أ�سماه بريجين�سكي "ر�ؤو�س اجل�سور القارية"‪ ،‬الحتواء االحتاد ال�سوفياتي‬ ‫ومنع ّمتدده‪ .‬يف هذا ال�سياق كان الهالل ال�سوري اخل�صيب وما زال ر�أ�س اجل�سر الكبري �إىل اجلنوب‬ ‫من �أورا�سيا‪ ،‬وتدخالت �أمريكا كلها يف ال�شرق الأو�سط خالل احلرب الباردة كانت بهدف‬ ‫احتواء وعزل االحتاد ال�سوفياتي‪ ،‬مبا يف ذلك االنقالب الذي وقع على الزعيم الإيراين حممد‬ ‫م�صدق وحكومته املنتخبة دميوقراطياً العام ‪ 1953‬واالنقالب على الوحدة امل�صرية ‪ -‬ال�سورية‬ ‫العام ‪ 1961‬ثم حرب العام ‪ 1967‬وما تالها الحقاً من تدخالت بهدف احتواء وريثته رو�سيا‪.‬‬ ‫وال يزال حتى الآن التدخل الأمريكي يف الهالل ال�سوري اخل�صيب يجري حتت هذه العناوين‬ ‫و�آخر مثال على هذا هو جواب اجلرنال (ذو النجوم الأربع) مارتن دميب�سي – رئي�س هيئة الأركان‬ ‫الأمريكية امل�شرتكة – على �س�ؤال ال�سناتور بوب كوركر يف جل�سات اال�ستماع الأخرية يف‬ ‫الكونغر�س الأمريكي‪ ,‬حول الأهداف التي ي�سعى �إليها يف حملته ال�سورية‪ ,‬ب�صراحة ع�سكرية‬ ‫مبا�شرة‪" :‬ال ميكنني �أن �أجيب على هذا ال�س�ؤال‪ ,‬بخ�صو�ص الأهداف التي ن�سعى �إىل حتقيقها"‪.‬‬ ‫"ال�سالم والأمن" عرب احلرب �أعتقد �أنه مبقدورنا حتديد‪ ‬ثالثة �أهداف رئي�سة مرتابطة‪ ‬من بني‬ ‫�أهداف وا�شنطن الرتاتبية يف "امل�شروع ال�سوري"‪:‬‬ ‫‪ )1‬متهيد طريق العدوان و�صو ًال �إىل حدود رو�سيا؛‬ ‫‪ )2‬خلق ال�شروط الكفيلة ب�إ�شعال "احلرب العاملية الثالثة"؛‬ ‫‪ )3‬احلفاظ على نظام عملة البرتودوالر‪.‬‬ ‫�إذاً‪ :‬كما كانت منطقة الهالل ال�سوري اخل�صيب وما زالت متثل ر�أ�س اجل�سر الكبري �إىل اجلنوب‬ ‫من �أورا�سيا‪ ،‬بالن�سبة ال�سرتاتيجية �أمريكا‪ ،‬هي كذلك بالن�سبة لرو�سيا (�أكرب دول العامل م�ساحة‬ ‫‪71‬‬


‫فكــــــر‬

‫بحدود ‪ 18‬مليون كم بعد �ضم القرم)‪ ،‬حيت تعترب �أن دول الهام�ش �أو احلافة �أو التخوم‪ ،‬هي‬ ‫خطوط الدفاع الأول عنها‪ ،‬ولن ت�سمح لأحد بال�سيطرة عليها‪ .‬وبالتايل بات ال�شرق الأو�سط برمته‬ ‫�أولوية �أمنية وا�سرتاتيجية ومنطقة مفتاحية بالن�سبة للأورا�سية الرو�سية والدفاع عنها ومنع ال�سيطرة‬ ‫الأمريكية عليها هي كالدفاع عن مو�سكو‪.‬‬ ‫وح�سب تعبري الك�سندر دوغني‪ ،‬زعيم الأورا�سيني اجلدد يف رو�سيا وم�ؤلف كتاب "�أ�س�س‬ ‫اجليوبوليتيك"‪� ،‬أن امل�شروع الأورا�سي [التكامل بني املحاور الربية بزعامة رو�سيا] يعترب العامل‬ ‫العربي �أحد �أحزمته الثالثة [الأورو �أفريقي] �إىل جانب احلزام الأورا�سي ومثيله البا�سيفيكي‬ ‫احلد من هيمنة القطب الأمريكي‪ ،‬لأن ال�شرق الأو�سط نقطة �صدام‬ ‫والذي عليه ُيبنى �أمل ّ‬ ‫جيوبوليتيكي مع �أمريكا وانت�صار رو�سيا فيه يجب �أن يكون حتمياً‪ .‬ويعترب دوغني �أن امل�شروع‬ ‫الأورا�سي يف الهالل اخل�صيب يقف �أمامه عائقني‪:‬‬ ‫يخ�ص امل�ضمون الإيديولوجي للم�شروع العروبي‪ ،‬وهذا �أمر مرتوك ‪ -‬بالن�سبة �إىل �ألك�سندر‬ ‫الأول ّ‬ ‫دوغني ‪ -‬للعرب‪ .‬وهو يدخل يف باب املقدور عليه‪� .‬أما الأمر الثاين والذي ي�ستحيل معه حتقيق‬ ‫امل�شروع؛ فهو املنطلق الأ�صويل ‪ -‬الإ�سالموي يف �إقامة دولة اخلالفة‪.‬‬ ‫ويعترب دوغني �أن الرئي�س بوتني هو مر�سل لتحقيق حلم الأورا�سية الرو�سية و�إعادة جمد رو�سيا‬ ‫العظمى‪ .‬بالإ�ضافة �إىل �أن العديد من املحللني اجليوبوليتيكيني واجليوا�سرتاتيجيني ي�ؤكدون �أن‬ ‫"الوحدة الأورا�سية"‪� ،‬إن حتققت ت�شكل حالة مرعبة للأمريكيني‪ ،‬لأنها منطقة ارتطام القوى‬ ‫الدولية الكربى منذ ما قبل احلرب العاملية الثانية لل�سيطرة على العامل �سيا�سياً واقت�صادياً حتى‬ ‫يومنا هذا‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫ب‪ -‬ما هي التحوالت اجليوا�سرتاتيجية العاملية الكربى و�أثرها على الهالل ال�سوري‬ ‫اخل�صيب؟‬ ‫‪ 1‬ـ �سقوط جدار برلني ثم �سقوط االحتاد ال�سوفياتي وتفككه �أواخر القرن املا�ضي مما �أدى �إىل‬ ‫اختالل التوازن الثنائي الدويل‪ ،‬وفقدان �أمتنا وحركات التحرر ن�صرياً كبرياً يف �صراعهما‬ ‫الوجودي مع عدونا الغا�صب وقوى اال�ستعمار مما �أ ّدى �إىل �سقوط نظام الثنائية القطبية الذي‬ ‫حكم العامل بعد احلرب الكونية الثانية و�إبان احلرب الباردة‪ ،‬و�أخلى ال�ساحة الدولية لأمريكا‬ ‫كقوة �أحادية تتحكم بالكون بنظام �أحادي‪ .‬جائر‪.‬‬ ‫‪2‬ـ بروز �أمريكا كنظام ا�ستعماري �أحادي اال�ستقطاب على �أثر �سقوط االحتاد ال�سوفياتي وا�ستالم‬ ‫املحافظني اجلدد احلكم فيها بحلمهم الإمرباطوري حلكم العامل‪ ،‬وتو�سيع احللف الأطل�سي‬ ‫‪72‬‬

‫لي�شمل ق�سماً من دول �أوروبا ال�شرقية �سابقاً‪ ،‬مما �أ ّدى �إىل تطويق رو�سيا وعزلها بغية تفكيكها‬ ‫واعتمادهم الليربالية كنظام اقت�صادي حاكم للكون بعد �سقوط ال�شيوعية‪ ،‬واعتبارهم مفتاح‬ ‫بقاء �أمريكا ك�إمرباطورية حتكم العامل هو ال�سيطرة على م�صادر النفط والطاقة‪ ،‬والتحكم مب�ساراتها‬ ‫و�إبقاء ت�سعريها بالدوالر فقط‪ ،‬واعتمادهم احلروب اال�ستباقية كعقيدة جديدة لهذا الفكر‬ ‫الإمرباطوري‪ ...‬وملا كان الهالل ال�سوري اخل�صيب ودول اخلليج تختزن �أكرث من ‪ %60‬من‬ ‫احتياط العامل من الطاقة‪ ،‬واجه الهالل اخل�صيب وال يزال يواجه مع العامل العربي تداعيات‬ ‫هذا احللم الإمرباطوري الأمريكي حروباً واجتياحات وتدمري للدولة واملجتمع واالقت�صاد‪.‬‬ ‫‪3‬ـ تغيري الإدارة الأمريكية �أولوياتها يف عهدي �أوباما الأول والثاين مرات عدة وذلك للتخ ّبط‬ ‫الأمريكي يف املنطقة‪ ،‬حيث �أ�صبحت‪:‬‬ ‫�أو ًال‪ :‬الت�صدي ل�صعود االقت�صاد ال�صيني الذي جتاوز االقت�صاد الأمريكي هذا العام وفق م�ؤ�شرات‬ ‫�صندوق النقد الدويل‪ ،‬حيث و�صل الناجت االقت�صادي لل�صني هذا العام �إىل ‪ 17.6‬تريليون دوالر‪،‬‬ ‫بينما تقهقرت الواليات املتحدة الأمريكية �إىل املركز الثاين بناجت اقت�صادي ال يتجاوز ‪17.4‬‬ ‫تريليون دوالر‪ ،‬ولهذا قررت �أمريكا االن�سحاب من ال�شرق الأو�سط �إىل ال�شرق الأق�صى وجنوب‬ ‫�آ�سيا للت�صدي للعمالق ال�صيني املزاحم لها اقت�صادياً و�سيا�سياً‪ ،‬واعتمادهم االخوان امل�سلمني‬ ‫والتنظيمات التكفريية كوكيل للم�صالح الأمريكية الإ�سرائيلية يف املنطقة‪ ،‬ثم بعد ف�شلهم ا�ستنفروا‬ ‫جي�ش القوى التكفريية العاملية وكلفوا اخلليج العربي بتمويل وت�سليح وح�شد الإرهابيني بالتن�سيق‬ ‫مع تركيا و�إ�سرائيل لتنفيذ حروبها بالوكالة وتدمري الهالل اخل�صيب و�إقامة ال�شرق الأو�سط الإثني‬ ‫املق�سم �إىل كيانات عرقية‬ ‫اجلديد و�سايك�س بيكو ‪ 2‬بعد ا�ستنفاد �أهداف �سايك�س بيكو ‪ 1‬لتق�سيم ّ‬ ‫ومذهبية تخدم �إذكاء الفتنة ال�سنية ال�شيعية التي ت�ضرب وحدة املجتمع وتت�صدى للتمدد الإيراين‬ ‫الرو�سي وال�صيني يف املنطقة‪ .‬لكن �أوباما اكت�شف فج�أة وبعد ف�شل القوى التكفريية يف �إ�سقاط النظام‬ ‫وتبدل املوقف الع�سكري مل�صلحة النظام‪� ،‬أن الفراغ يف ال�شرق الأو�سط �سرعان ما بد�أت‬ ‫ال�سوري ّ‬ ‫متلأه �إيران ورو�سيا‪ ،‬فانقلبت كل ح�سابات �أوباما وقرر �أن تكون عودته هذه املرة بالقوة الع�سكرية‬ ‫الحتالل املنطقة من بوابة حماربة الإرهاب‪ ،‬ف�أوعز لـ "داع�ش" كي تقوم بغزوة املو�صل والأنبار (وفق‬ ‫اعرتافات اجلرنال وي�سلي كالرك للـ ‪ ،CNN‬حيث قال‪ :‬نحن َمن �صنع "داع�ش")‪ ،‬معتقداً هذه املرة‬ ‫�أنه ال �سبيل لتحجيم دور رو�سيا وعزل �إيران وحما�صرة ال�صني �إال من خالل ال�سيطرة على البوابة‬ ‫(الهالل ال�سوري اخل�صيب)‪ ،‬التي متثل وفق اال�سرتاتيجيني الرو�س "مفتاح مو�سكو"‪� ،‬إذا �سقطت‬ ‫مهب الريح‪ ،‬و�أ�صبحت �إيران من دون خمالب وال �أنياب وفقدت عمقها‬ ‫الأوىل ذهبت الثانية يف ّ‬ ‫العربي احليوي‪ ،‬وانتهي حمور املقاومة كما �سبق ووعد �أوباما من فرتة‪ ،‬حيث قال‪" :‬لن ن�سمح لإيران‬ ‫بتفريخ منظمات على �شاكلة "حزب اهلل" يف املنطقة‪.‬‬ ‫‪73‬‬


‫فكــــــر‬

‫ثاني ًا‪ :‬مواجهة العجز التجاري والدين الداخلي للخروج من �أزمتها االقت�صادية التي �أ�صابتها‬ ‫العام ‪ 2008‬وال تزال من دون حل‪ .‬وتو�صية الكارتيل ال�صناعي الت�سليحي يف �أمريكا (املدعوم‬ ‫من املحافظني اجلدد)‪ ،‬ب�أن ال خمرج لأمريكا من �أزمتها االقت�صادية �إال بح ّلني‪:‬‬ ‫ الأول اال�ستعجال بت�صدير برتول الرمال والغاز ال�صخري الأمريكي �إىل العامل بعد االكتفاء‬‫الذاتي الذي �ستحققه �أمريكا نهاية العام ‪ ،2016‬وهذا �إجراء طويل‪.‬‬ ‫ والثاين فوري ونتائجه م�ضمونة‪ ،‬وهو �إ�شعال احلروب يف ال�شرق الأو�سط وفق نظرية ن�شر‬‫الفو�ضى الهدامة‪ .‬وامل�صلحة الأمريكية منها هي‪:‬‬ ‫ تدمري املنطقة و�إنهاكها‪� - ،‬إرباك �إيران و�إلزامها على التنازل يف املفاو�ضات النووية مع‬‫الـ‪ ،5+1‬وا�ستنزافها وقطع م�شروع �أنابيب الغاز الإيراين �إىل �ساحل �سوريا‪.‬‬ ‫ ا�ستنزاف رو�سيا مبنعها من ا�ستغالل غاز املتو�سط بعد عقودها الطاقوية مع �سوريا‪.‬‬‫ حما�صرة ال�صني عرب قطع طريق احلرير ال�صيني وخط �سكك احلديد ال�سريع الذي �سي�صل‬‫�شنغهاي ب�ساحل �سوريا على املتو�سط ‪ ،‬والتي بد�أت ال�صني ب�إجنازهما لك�سر تطويق �أمريكا‬ ‫لها يف م�ضيق ملقا الذي مي ّر منه ‪ %75‬من الطاقة �إىل ال�صني‪.‬‬ ‫ حتريك م�صانع الأ�سلحة‪ ،‬وبالتايل حتريك العجلة االقت�صادية الأمريكية وقد انتع�ش‬‫االقت�صاد الأمريكي وانخف�ضت البطالة‪ ،‬بعد حرب "داع�ش" يف املنطقة‪ ،‬ح�سب املو�شرات‬ ‫االقت�صادية الأمريكية التي �صدرت م�ؤخراً عن �شركات الأ�سلحة املتعاقدة مع وزارة الدفاع‬ ‫(البنتاغون) ويف الأ�شهر الثالثة الأوىل لغزوة داع�ش حيث (زادت �أ�سهم �شركة لوكهيد‬ ‫مارتن بن�سبة ‪ ،%9.3‬وارتفع �سهما �شركتي ريتون ونورث ثروب غرامان بن�سبة ‪،%3.8‬‬ ‫و�سهم جرنال دايناميك بـ ‪ )%4.3‬وبات ال�شرق الأو�سط �أكرب �سوق ا�ستهالكي للأ�سلحة‬ ‫العام املا�ضي وهذا العام‪.‬‬ ‫‪4‬ـ و�صول فالدميري بوتني رجل املخابرات الرو�سية �إىل �سدة احلكم يف رو�سيا العام ‪ 2000‬بعد‬ ‫خما�ض فكري حول �س�ؤال الهوية " َمن نحن؟"‪ ،‬وما هي الأ�سباب التي �أدت �إىل انهيار االحتاد‬ ‫ال�سوفياتي وبروز الأورا�سية كعقيدة جيوبولتيكية جديدة حتكم تطلعات و�سيا�سة رو�سيا االحتادية‬ ‫امل�ستقبلية‪ ،‬وبعد االرتفاع الكبري يف �أ�سعار النفط والغاز الذي �ساعد رو�سيا باخلروج من العجز‬ ‫املايل الكبري (‪ 300‬مليار دوالر) الذي �سببته �سيطرة املافيا الرو�سية على االقت�صاد الرو�سي يف‬ ‫عهد يلت�سني‪ ،‬حيث ا�ستطاع بوتني �أن ُيخرج رو�سيا من عجزها املايل ويحقق فائ�ضاً مالياً جتاوز‬ ‫ن�صف تريليون دوالر‪ .‬قر�أ بوتني جيداً �أ�سباب انهيار االحتاد ال�سوفياتي �سابقاً وتفككه‪ ،‬وقر�أ �أهمية‬ ‫الغاز امل�ستقبلية‪ ،‬ولأن رو�سيا هي الدولة الأوىل املنتجة للغاز يف العامل ولأن بوتني قر�أ خطورة غاز‬ ‫‪74‬‬

‫نابكو على االقت�صاد الرو�سي‪ ،‬وخطورة املخططات الأمريكية على رو�سيا من خالل ن�شر القواعد‬ ‫الأمريكية والدروع ال�صاروخية املواجهة لرو�سيا يف �أوروبا وو�سط �آ�سيا وتركيا وقف مع ال�صني‪،‬‬ ‫عقبة ك�أداء يف جمل�س الأمن بوجه املخططات الأطل�سية يف �سوريا ومنع �إ�سقاطها بحمايتها بثالثة‬ ‫فيتوات حفاظاً على م�صالح رو�سيا اال�سرتاتيجية يف املتو�سط وحفاظاً على قاعدة طرطو�س (القاعدة‬ ‫الوحيدة املتبقية لرو�سيا خارج �أرا�ضيها بعد القرم) مما جعل �سورية �أي�ضاً ت�صبح يف �صميم الأمن‬ ‫ال�سيا�سي واالقت�صادي والقومي الرو�سي‪.‬‬ ‫‪5‬ـ ت�شكيل منظمة �شانغهاي للتعاون‪� ،‬أهدافها ودورها ب�إلزام �أمريكا لإخراج قواعدها من �آ�سيا قبل‬ ‫نهاية العام ‪ 2015‬وت�شكيل دول الربيك�س ودورهما ب�إنهاء نظام الأحادية القطبية وبروز نظام عاملي‬ ‫متعدد املحاور وموقع الهالل اخل�صيب كنقطة �صدام جيو�سيا�سي لإعادة ت�شكيل هذا‬ ‫جديد ّ‬ ‫النظام‪.‬‬ ‫‪6‬ـ انت�صار الثورة الإ�سالمية يف �إيران العام ‪ ،1979‬وتغ ّلبها على احل�صار الغربي لها ب�سبب ملفها النووي‬ ‫وتقدمها التكنولوجي وال�صناعي والت�سليحي مما حولها �إىل دولة �إقليمية عظمى ودولة حمورية يف‬ ‫�أي ترتيبات �سيا�سية م�ستقبلية يف الهالل اخل�صيب وو�سط �آ�سيا‪ .‬وتعاظم النفوذ الإيراين يف الهالل‬ ‫اخل�صيب خا�صة بعد ان�سحاب االحتالل الأمريكي من العراق وقرب ان�سحابه من �أفغان�ستان هذا‬ ‫العام مما �أعاد موقع العراق مع املحور املقاوم وبروز دور �إيران يف جيوبوليتيك الطاقة ال�صينية والرو�سية‬ ‫وموقعها اجليوا�سرتاتيجي يف و�سط �آ�سيا ودورها يف الهالل اخل�صيب واليمن كداعم �أ�سا�سي‬ ‫للمقاومات بوجه املخططات الأمريكية والأطل�سية والإ�سرائيلية والإقليمية الإرهابية والتكفريية‪.‬‬ ‫‪7‬ـ �سقوط النظام الأحادي اال�ستقطاب الذي قادته �أمريكا بعد ف�شلها الذريع يف حل امل�شكالت‬ ‫ال�سيا�سية واالقت�صادية والبيئية مما �أورث العامل و�أمتنا كوارث وحروباً ال نزال نواجهها حتى الآن‪،‬‬ ‫وبروز حالة الالقطبية كمقدمة لوالدة نظام متعدد الأقطاب بد�أ بالظهور‪ ،‬فالإن�سانية يف وقتنا احلا�ضر‬ ‫تعدد الأقطاب‪ ،‬و�شاء‬ ‫تدخل مرحلة انتقالية من العامل الثنائي القطبني �إىل ال�صيغة العاملية من ّ‬ ‫موقع الهالل اخل�صيب اجليوا�سرتاتيجي �أن يكون هو املك ّون واحلا�ضن لهذه الوالدة بعد ا�ستعمال‬ ‫رو�سيا وال�صني ثالثة فيتوات متتالية ملنع �إقامة منطقة حظر جوي �أو ا�ستهداف �سوريا بقوات‬ ‫�أطل�سية كما ح�صل لليبيا‪ ،‬على �أثر احلرب الكونية التي تخا�ض يف �سوريا وعليها‪.‬‬ ‫‪8‬ـ حدوث ثورة اقت�صادية عظمى يف ال�صني �أده�شت العامل يف نهاية القرن املا�ضي وبداية هذا القرن‬ ‫مما �أدى �إىل انتقال مركز الثقل االقت�صادي وبالتايل ال�سيا�سي من الغرب �إىل ال�شرق وحتديداً �إىل‬ ‫جنوب �آ�سيا وما تركه من �أثر كبري يف تغيري موازين القوى و�أولويات الدول العظمى وا�سرتاتيجياتها‬ ‫‪75‬‬


‫فكــــــر‬

‫‪ ..‬ودفعت ال�صني �إىل اخلروج لت�أمني م�صادر الطاقة من و�سط �آ�سيا �إىل ال�شرق الأو�سط وافريقيا‬ ‫�إ�ضافة �إىل �إحيائها م�شروع طريق احلرير التاريخي الذي ي�صل �سوريا ب�شنغهاي مروراً بو�سط �آ�سيا‪،‬‬ ‫واحلزام االقت�صادي لطريق احلرير‪ ،‬خلروج ال�صني من تطويق �أمريكا لها ب�سيطرتها على م�ضيق‬ ‫ملقا باتفاقاتها الأمنية مع �أندوني�سيا وماليزيا اللتني تت�شاط�آن هذا امل�ضيق الذي مير عربه ‪%75‬‬ ‫من النفط �إىل امل�صانع ال�صينية‪ ،‬مما جعل "�إيران والهالل اخل�صيب ك�أق�صر معرب لطريق احلرير‬ ‫وخط �سكك احلديد ال�سريع‪ ،‬و�سوريا كبوابة لطريق احلرير �إىل �أوروبا وكخزان الغاز على �ساحل‬ ‫املتو�سط"‪ ،‬وجزءاً من الأمن القومي اال�سرتاتيجي الطاقوي واالقت�صادي ال�صيني والتي تالقت‬ ‫ا�سرتاتيجيتها "البحار الأربعة" مع ا�سرتاتيجية "البحار اخلم�سة" التي �أعلنها الرئي�س ب�شار الأ�سد‬ ‫بعد �أن قرر االجتاه �شرقاً واعتبار �أن �أوروبا مل تعد موجودة على اخلارطة �سيا�سياً‪.‬‬ ‫‪9‬ـ بروز �أخطار االحتبا�س احلراري والتغري املناخي ب�سبب التلوث الذي �أحدثته الدول ال�صناعية‬ ‫ب�سبب ا�ستعمالها املفرط للبرتول والفحم احلجري لتحريك عجلة م�صانعها وبروز ال�صراع على‬ ‫الغاز كمادة نظيفة للطاقة (بعد التو�صية با�ستعماله من قبل منظمة الطاقة العاملية التي اعتربت‬ ‫�أن القرن الـ‪ 21‬هو الع�صر الذهبي للغاز) ونتيجة �ضغوط منظمة الطاقة العاملية على الدول‬ ‫ال�صناعية‪ ،‬لتبني تو�صيات قمة الأر�ض يف ريودوجنريو العام ‪ 1992‬وم�ؤمتر كيوتو يف اليابان العام‬ ‫‪ 1997‬ب�ضرورة ا�ستعمال الغاز كبديل طاقوي لتخفيف انبعاث ثاين �أوك�سيد الكربون بن�سبة‬ ‫‪ %20‬قبل ‪ 2020‬والتحذير من كارثة �ستحل بالكرة الأر�ضية �إن مل تلتزم الدول ال�صناعية بهذا‬ ‫الأمر‪ ،‬والتزام �أوروبا بهذه املقررات مما جعلها �أكرب �سوق عاملي نا�شئ للغاز‪ .‬وملا كان ا�ستهالك‬ ‫الغاز العاملي يت�ضاعف كل ع�شر �سنوات‪ ،‬ولأن �أوروبا تعتمد على الغاز الرو�سي لتلبية ثلث‬ ‫حاجتها من الغاز باتت هي رهن �إرادة رو�سيا الطاقوية التي ت�ضغط بها �سيا�سياً على �أوروبا‪.‬‬ ‫وبعد اكت�شاف هيئة امل�سح اجليولوجي الأمريكية املخزونات الكبرية من النفط والغاز يف الأرا�ضي‬ ‫ال�سورية ومياهها الإقليمية يف املتو�سط والتي قدرت ب�أكرث من ‪ 700‬تريليون م‪ .‬م‪ .‬من الغاز‪ ،‬مما‬ ‫جعل �سوريا خزان غاز املتو�سط وت�شبه ال�سعودية يوم اكت�شاف النفط‪ ..‬وبعد انك�شاف موقع �سوريا‬ ‫ك�أق�صرعقدة مرور �أنابيب الغاز لتحرير �أوروبا من احتكار غاز بروم الرو�سي‪ ،‬ولأن �سوريا خزان الغاز‬ ‫للمتو�سط وعقدة طرقه �إىل �أوروبا‪ ،‬وملا كان الرئي�س الأ�سد غري موثوق من قبل �أمريكا و�أزالمها‬ ‫وتركيا ودول اخلليج العربي‪ ،‬وبعدما رف�ض مرور �أنبوب غاز (نابوكو) يف �سوريا والذي يحمل غاز‬ ‫قطر و�إ�سرائيل ويناف�س حليفته رو�سيا يف �سوق �أوروبا‪ ،‬وا�ستعا�ض عنه ب�أنبوب الغاز الإيراين الذي‬ ‫�سيعرب �إيران والعراق و�سوريا ويكون رافداً لغاز بروم وغري مناف�س له‪ ،‬وناقل غاز املتو�سط م�ستقب ًال‬ ‫�إىل ال�صني‪ ،‬بد�أت احلرب على �سوريا لإ�سقاطها لأنها مبوقعها اجليو ا�سرتاتيجي باتت قطب الرحى‬ ‫وعقدة موا�صالت �أنابيب الغاز العاملية �إ�ضافة �إىل �أنها عقدة طرق برية وجوية وبحرية ونقطة التقاء‬ ‫ثالث قارات �آ�سيا و�أفريقيا و�أوروبا‪.‬‬ ‫‪76‬‬

‫‪10‬ـ رغم �أن ع�صر العوملة وثورة االت�صاالت واملعلوماتية التي اخت�صرت الزمن وامل�سافات وجعلت‬ ‫العامل قرية كونية م�شرعة الأبواب والنوافذ �أمام التدخل اخلارجي‪ ،‬هي نتاج النيوليربالية ال�ستباحة‬ ‫الكون‪� ،‬إال �أن النيوليربالية �سقطت يف بداية هذا القرن ب�سبب الأزمة االقت�صادية التي �ضربت‬ ‫العامل العام ‪ 2008‬و�أفقرت �أوروبا و�أمريكا والعامل الر�أ�سمايل‪ ،‬وبددت مدخرات اخلليج العربي‬ ‫وال تزال تداعياتها وتردداتها من دون حل وترخي بظاللها على االقت�صاد العاملي‪ ،‬حيث ي�شهد‬ ‫الغرب حالياً (�أمريكا والعديد من الدول الأوروبية) �أزمة اقت�صادية كبرية‪� ،‬أ�صبحت ككرة النار‬ ‫حترق اجلميع‪� ،‬أو ككرة الثلج �أي�ضاً كلما تدحرجت كربت‪ ،‬وال ينفك قادة هذه الدول عن توجيه‬ ‫الن�صائح املكررة واململة لدول العامل الأخرى يف كيفية تر�شيد �إدارتها وزيادة الرفاهية االجتماعية‬ ‫وحماية حقوق الإن�سان وتعميم الدميقراطية‪ ...‬وين�سون �أو يتنا�سون املظاهرات ال�شعبية يف بلدانهم‬ ‫الناجمة عن تراجع معدل النمو االقت�صادي وزيادة حاالت التهمي�ش االجتماعي والفقر‪.‬‬ ‫ويبحثون يف الكتب واملراجع االقت�صادية ع ّلهم يجدون حلو ًال مل�شاكلهم‪ ،‬ون�سوا �أو تنا�سوا �أن هذه‬ ‫امل�شاكل مرتبطة بطبيعة نظامهم االقت�صادي القائم على اال�ستغالل والظلم واالبتعاد عن االقت�صاد‬ ‫الإنتاجي فتبدو الر�أ�سمالية قاتلة نف�سها والر�أ�سماليني معها!!!‬ ‫فقبل �أ�شهر عدة �شهدت �أمريكا حتركات �شعبية وا�سعة‪ ،‬تعك�س ال�شعور بخيبة الأمل من الطبيعة‬ ‫الظاملة للنظام الر�أ�سمايل‪ ،‬وما ي�سببه من كوارث اقت�صادية واجتماعية‪ ،‬انعك�س انت�شاراً للبطالة بني‬ ‫�صفوف العمال‪ ،‬وازدياداً لن�سبة الفقر بني فئات املجتمع الدنيا‪ ،‬مما يظهر مدى جتذر الأزمة املالية‬ ‫التي يعي�شها النظام الر�أ�سمايل العاملي بوجه عام‪ ،‬والأمريكي بوجه خا�ص‪.‬‬ ‫وبالنظر �إىل �أحدث الإح�صاءات عن التفاوت االجتماعي يف الواليات املتحدة‪ ،‬تظهر �أن عدد‬ ‫العمال الفقراء يف الواليات املتحدة ازداد ب�شكل خميف‪ .‬ففي العام ‪ ،2011‬كان ‪ 47,5‬مليون �شخ�ص‬ ‫يعي�شون يف عائالت متو�سط دخلها �أقل من ‪ 200‬باملئة من معدالت الفقر الر�سمية‪ ،‬وهذا تقريباً‬ ‫خم�س العائالت‪ ،‬وهو معدل مرتفع مقارنة بـ ‪ 31‬باملئة عن العام ‪ 2010‬و‪ 28‬باملئة عن العام ‪.2007‬‏‬ ‫�أما يف القارة العجوز‪ ،‬فاملفارقة ال تكاد ت�صدق للوهلة الأوىل‪� .‬أوروبا الغنية مهددة بالفقر والتهمي�ش‬ ‫االجتماعي‪ .‬فمع العام الرابع على التوايل‪ ،‬وبعد انطالق الأزمة املالية العاملية‪ ،‬تظل منطقة اليورو‬ ‫احللقة الأ�ضعف يف االقت�صاد العاملي‪ .‬ويف ظل هذه الأزمة امل�ستمرة يتعر�ض االحتاد النقدي‬ ‫الأوروبي (منطقة اليورو) ل�صدمة ثالثية‪� :‬صدمة مالية‪� ،‬أزمة ديون �سيادية‪ ،‬و�أزمة للم�شروع‬ ‫مهدداً بعواقب �سيا�سية متعددة‪...‬‬ ‫الأوروبي ّ‬ ‫منظمة العمل الدولية حذرت من وجود �أكرث من ‪ 26‬مليون �أوروبي الآن من دون عمل‪ ،‬وهذه‬ ‫الأعداد تتطلب خططاً تنموية وا�سعة و�أموا ًال كبرية لدجمها يف �سوق العمل والإنتاج‪ .‬من ّبهة �إىل‬ ‫املخاطر التي ترتفع مع ارتفاع البطالة الطويلة الأمد وبطالة ال�شباب على وجه اخل�صو�ص‪ ،‬والتي‬ ‫و�صلت �إىل م�ستويات حرجة‪ .‬كما ورد يف تقرير �أ�صدرته املنظمة من جنيف مبنا�سبة افتتاح امل�ؤمتر‬ ‫‪77‬‬


‫فكــــــر‬

‫الإقليمي الأوروبي حول العمالة يف �أو�سلو (‪ 8‬ني�سان ‪� ،)2013‬إن حالة الأيدي العاملة والت�شغيل‬ ‫يف �أوروبا تدهورت منذ تبني احلكومات الأوروبية �سيا�سات التق�شف املالية‪ ،‬و�أن مليون �شخ�ص‬ ‫فقد عمله يف دول االحتاد الأوروبي خالل الأ�شهر ال�ستة املا�ضية‪ .‬و�أ�ضافت �أن ع�شرة ماليني‬ ‫�شخ�ص �إ�ضايف هم الآن من دون عمل مقارنة ببداية الأزمة املالية العام ‪ ،2008‬و�أن معدل البطالة‬ ‫يف �أوروبا بلغ يف �شباط‪ /‬فرباير املا�ضي ‪ 12.7‬يف املئة‪ ،‬ويف منطقة اليورو‪ ،‬بلغ م�ستوى تاريخياً‬ ‫بت�سجيله ‪ 13‬يف املئة‪ .‬حيث تعاين منطقة اليورو التي ت�ضم ‪ 17‬ع�ضواً من الركود الكبري يف كل من‬ ‫�إ�سبانيا وبلجيكا واليونان و�أيرلندا و�إيطاليا وهولندا والربتغال و�سلوفينيا‪ .‬بينما تعاين منه كذلك‬ ‫خارج منطقة اليورو بريطانيا والدمنارك وجمهورية الت�شيك‪.‬‬ ‫امل�شهد االقت�صادي العام احلايل يف منطقة اليورو يبدو �سوداوياً‪ ،‬حيث و�صلت معدالت البطالة يف‬ ‫االحتاد الأوروبي خالل الربع الأخري من العام ‪� 2013‬إىل رقم قيا�سي (‪ 11.9‬يف املئة)‪� ،‬أي �أن هناك‬ ‫(‪ )26‬مليون عاطل عن العمل يف (‪ )27‬دولة �أوروبية‪ .‬معدل البطالة يف �أملانيا (‪ 5.3‬يف املئة)‪ ،‬يف‬ ‫�أ�سبانيا (‪ 26,2‬يف املئة)‪ ،‬يف فرن�سا (‪ )%11‬يف اليونان (‪ 27‬يف املئة)‪.‬‬ ‫والبيانات ت�شري �إىل تراجع يف ا�ستثمار ال�شركات‪ ،‬مع هبوط يف اال�ستهالك اخلا�ص‪ ،‬مما �أدى �إىل‬ ‫تراجع اقت�صاد منطقة اليورو بن�سبة (‪ 0.6‬يف املئة) وتراجع لل�صادرات والواردات بن�سبة (‪ 0.9‬يف‬ ‫املئة) وانخفا�ض الناجت املحلي الإجمايل يف دول منطقة اليورو باملعدل نف�سه‪ .‬باملقابل ف�إن التوقعات‬ ‫امل�ستقبلية ال�صادرة عن املفو�ضية الأوروبية تر�سم �صور ًة محُ َبطة �أي�ضاً‪ :‬يف العام ‪ 2015‬يتوقع �أن‬ ‫يكون معدل البطالة �أعلى من (‪ 25‬يف املئة) يف اليونان وا�سبانيا‪ ...‬ومن املتوقع �أن ي�ستمر االنق�سام‬ ‫االقت�صادي واالجتماعي العميق يف منطقة اليورو‪.‬‬ ‫�أملانيا اليوم القوة االقت�صادية الأوىل يف منطقة اليورو‪ ،‬تعاين من تخفي�ض ت�صنيفها االئتماين‪ ،‬و(‪75‬‬ ‫يف املئة) من الفرن�سيني يرف�ضون التدابري التق�شفية‪ ...‬ويقول (مارتن وولف) يف "الفاينان�شال تاميز"‬ ‫(ح�شرجة املوت ال�صادرة عن النموذج االقت�صادي الفرن�سي ال تزال م�سموعة‪ ،‬وعلينا �أن ننتظر لرنى‬ ‫كيف �ستكون النهاية‪ ،)...‬والو�ضع يف بريطانيا لي�س �أف�ضل‪ ...‬الواقع �أن الفجوة االقت�صادية داخل‬ ‫االحتاد النقدي الأوروبي من غري املمكن �أن ت�ستمر لفرتة طويلة كما قال (�أبراهام لنكولن) (�إن البيت‬ ‫املنق�سم على نف�سه ال يظل قائماً)‪ ،‬وبالتايل من ال�صعب جداً �أن ي�ستمر الواقع احلايل ملنطقة اليورو‪.‬‬ ‫مقابل هذا ال�ضعف والوهن االقت�صادي الأوروبي‪ ،‬حتاول بع�ض الإمرباطوريات الأوروبية القدمية‬ ‫الهرمة ا�ستعادة بع�ض من نفوذها ال�ضائع وحت�شر نف�سها �سيا�سياً يف �أو�ضاع ال�شرق الأو�سط مبا�شرة‬ ‫�أو بالوكالة‪ ،‬كفرن�سا وبريطانيا‪ ...‬ولي�س �سراً �أن جهودها هذه �ستكلل بالف�شل ك�سابقاتها‪...‬‬ ‫فالأزمات والق�ضايا الكربى حت�سمها ال�شعوب‪ ...‬ولي�س قوى اال�ستعمار القدمي ال�ضعيفة اقت�صادياً‬ ‫يف �أوروبا العجوز‪ ...‬والتي تعي�ش حالة من التخبط والعجز ال�سيا�سي ‪...‬لكن اخلطر يكمن يف‬ ‫جلوء امل�س�ؤولني الدهاة يف الغرب‪ ،‬حلل م�شاكلهم االقت�صادية على ح�ساب بلدان العامل الثالث‪،‬‬ ‫‪78‬‬

‫ميت�ص ثرواتها‪ ،‬ويدمر وجودها الب�شري‪ .‬وبذلك يت�سع ال�شرخ القائم بني‬ ‫التي اعتاد الغرب �أن ّ‬ ‫البلدان املقتدرة والبلدان ال�ضعيفة وامل�ست�ضعفة‪ ،‬فيزداد اخللل العاملي تفاقماً‪ .‬وهنا‪ ،‬هنا حتديداً‪،‬‬ ‫كان ميكن لبع�ض البلدان العربية‪ ،‬وال �سيما تلك البالغة الرثاء‪� ،‬أن يكون لها دور �إيجابي يف هذه‬ ‫الأزمة‪ ،‬يفتح للعامل العربي �آفاقاً جديدة من احل�ضور الفعال واالحرتام احلق‪ ،‬فريغم الغرب على‬ ‫حتمل م�س�ؤولياته اجل�سام �إزاء العامل العربي ب�أ�سره‪ ،‬بدءاً من فل�سطني‪ ،‬وعلى التخلي عن �إ�صراره‬ ‫التاريخي واملزمن على اال�ستئثار بخريات الأر�ض‪ ،‬واال�ستهتار ب�شعوبها‪� ،‬إال �أن مواقف معظم‬ ‫امل�س�ؤولني العرب‪ ،‬من الأحداث اجلارية الآن يف العامل العربي‪ ،‬تك�شفت مرة �أخرى‪ ،‬عن حقائق‬ ‫خمزية‪ ،‬وهي تفاقم اجنرار �أغلبيتهم كالنعاج‪ ،‬يف غباء مفجع‪� ،‬إىل االنخراط يف ال�سيا�سة الغربية‬ ‫الظاملة على كل �صعيد‪ ،‬تلك ال�سيا�سات التي يراد لها �أن تف�ضي بالبلدان العربية كلها‪� ،‬إىل �أو�ضاع‬ ‫�سيا�سية واجتماعية واقت�صادية كارثية ومتفجرة‪ ،‬لن تلبث �أن تقود �سيا�سييها �إىل حفر قبورهم‪،‬‬ ‫وقبور �شعوبهم ب�أيديهم‪...‬‬ ‫وعلى ال�ضفة الأخرى من العامل يف ال�شرق‪ ،‬تلوح فر�ص �ضخمة يف �إحداث التغيري البعيد املدى‪،‬‬ ‫فقد جنح �آالف املاليني من الب�شر يف �آ�سيا يف الإفالت من براثن الفقر‪ .‬والآن تظهر با�ستمرار‬ ‫ّ‬ ‫ي�ستغل فكره وتعليمه ومواهبه‪ ،‬كما بد�أت‬ ‫�أ�سواق جديدة وجماالت جديدة ي�ستطيع فيها املرء �أن‬ ‫مراكز القوى العاملية يف موازنة بع�ضها بع�ضاً‪ ،‬على نحو يعمل على تقوي�ض طموحات الهيمنة‬ ‫ويب�شّ ر بنوع مبدع من عدم اال�ستقرار القائم على التعددية القطبية‪ ،‬حيث يكت�سب النا�س قدراً‬ ‫�أعظم من احلرية يف حتديد م�صائرهم على ال�ساحة العاملية‪.‬‬ ‫�إن النظام الر�أ�سمايل العاملي يدخل مرحلة جديدة‪ ،‬حيث ي�صبح حتقيق التعاون العاملي �أمراً بالغ‬ ‫ال�صعوبة‪ ،‬فلم يعد بو�سع الواليات املتحدة واالحتاد الأوروبي يف ظل ارتفاع م�ستويات الديون‬ ‫وانخفا�ض معدالت النمو وارتفاع البطالة وبالتايل ان�شغالهما بهمومها املحلية‪ ،‬و�ضع القواعد‬ ‫العاملية الناظمة للكون وتوقع امتثال الآخرين لها‪ .‬وما �أدى �إىل تفاقم هذا االجتاه‪� ،‬أن القوى‬ ‫ال�صاعدة مثل ال�صني والهند تقيم وزناً عظيماً لل�سيادة الوطنية ومبد�أ عدم التدخل يف ال�ش�ؤون‬ ‫الداخلية‪ ،‬وهذا من �ش�أنه �أن يجعل هذه البلدان غري راغبة يف االمتثال للقواعد الدولية (�أو املطالبة‬ ‫بالتزام الآخرين بهذه القواعد)‪ ،‬وبالتايل فهي من غري املرجح �أن ت�ستثمر يف امل�ؤ�س�سات التعددية‪،‬‬ ‫كما فعلت الواليات املتحدة يف �أعقاب احلرب العاملية الثانية‪.‬‬ ‫ويرى كثري من الباحثني �أن �صعود القوة النا�شئة‪ ،‬دول الربيك�س وغريها‪ ،‬عامل م�ساهم يف �إنهاء‬ ‫القطبية الواحدة وبزوغ عامل متعدد الأقطاب مما ي�ؤدي �إىل �سقوط الهيمنة الأمريكية التي بد�أت‬ ‫انحدارها منذ انفال�شها ما وراء البحار ون�شر قواتها يف معظم مناطق العامل بذرائع حماربة الإرهاب‪،‬‬ ‫والدفاع عن حقوق الإن�سان‪ .‬فال�صني والهند وبع�ض دول �أمريكا الالتينية و�إفريقيا اجتهت نحو‬ ‫�سيا�سة االقت�صاد ال�صناعي والتمدن كما فعل الغرب يف القرن التا�سع ع�شر‪ ،‬لكن مع �إ�ضافة الثورة‬ ‫التكنولوجية واالقت�صاد املعومل‪.‬‬ ‫‪79‬‬


‫فكــــــر‬

‫لقد ا َّت�سعت م�ساحات الفقر‪ ،‬وازداد عدد العاطلني عن العمل يف العامل‪ ،‬ويعي�ش قرابة املليار‬ ‫�إن�سان ‪-‬مبن فيهم �أكرث من ‪ %80‬من �سكان جمهورية الكونغو ومدغ�شقر وليبرييا وبوروندي‪ -‬حتت‬ ‫خط الفقر‪ ،‬يف حني تبلغ ثروات �أكرب خم�سني ثر ًّيا يف العامل حوايل ‪ 1.5‬تريليون دوالر‪ ،‬ويقول‬ ‫كو�شيك با�سو ‪ -‬كبري نواب رئي�س البنك الدويل وكبري خربائه االقت�صاديني‪� :‬إذا افرت�ضنا �أن هذه‬ ‫الرثوة تدر عائداً يبلغ ‪� %8‬سنوياً‪ ،‬ف�إن الدخل ال�سنوي له�ؤالء اخلم�سني يقرب من �إجمايل دخل‬ ‫�أكرث من مليار �إن�سان يعي�شون حتت خط الفقر‪.‬‬ ‫�إن الأزمة االقت�صادية واملالية التي تع�صف بالنظام الر�أ�سمايل يف �أوروبا و�أمريكا‪ ،‬جعلت الكثري من‬ ‫املفكرين يف الغرب يرون �أن النظام الر�أ�سمايل انتهى دوره التاريخي‪ ،‬و�صار عبئاً ثقي ًال يجثم على‬ ‫الإن�سانية‪ .‬واال�ستنجاد بالدول الغنية ذات االقت�صاد القوي ـ كال�صني ـ يهدف �إىل ترميم النظام‬ ‫الر�أ�سمايل املتهاوي‪ ،‬وهذا قد ي�ؤجل انهياره‪ ،‬ولكنه لن مينع نهايته املحتومة‪ ،‬وما �شعار "احتلوا وول‬ ‫�سرتيت‪ "...‬الذي يرفعه الفقراء يف الدول الر�أ�سمالية‪� ،‬إال تعبري وا�ضح يج�سد املدى الذي بلغته �أزمة‬ ‫النيوليربالية‪.‬‬ ‫خال�صات وحتديات‬

‫ن�ستخل�ص من هذا البحث اخلال�صات التالية‪:‬‬ ‫�أو ًال‪� :‬إن �صريورة العامل �أم�ست حتكمها تكتالت ما فوق القومية (اقت�صادياً و�سيا�سياً) يف ظل‬ ‫ال�صراع الكوين على زعامة هذا القرن و�إر�ساء نظام التعددية القطبية‪ .‬هذه التكتالت ما فوق‬ ‫القومية ال تلغي القوميات بل ت�ضع الأمم التي ق�سمها اال�ستعمار ق�سرياً �أمام حتدي �إعادة وحدتها‬ ‫كي ت�أخذ دورها يف تكتل كهذا كي يكون لها وزن فاعل فيه‪ .‬وهذه املرحلة ال�صفرية الفا�صلة بني‬ ‫�سقوط الأحادية القطبية وبروز نظام عاملي جديد قيد الت�شكل هي اللحظة املنا�سبة التي يجب‬ ‫على الأمم التقاطها لإعادة وحدتها‪.‬‬ ‫ثاني ًا‪� :‬إن التكتالت ما فوق القومية فر�ضت مفاهيم جديدة لل�سيادة والأمن (كال�سيادة الت�ساندية‬ ‫ والأمن التعاوين املرتكز على قاعدة توازن امل�صالح بني الأحالف بد ًال من الأمن اال�سرتاتيجي‬‫القائم على توازن القوى)‪ .‬وبالتايل ت�صبح خيارات الدول وم�صاحلها االقت�صادية وال�سيا�سية‬ ‫"التي تقع يف منطقة الت�صادم (‪ )Crash Zone‬بني املحاور املت�صارعة "ملزمة �أن تكون من�سقة مع‬ ‫�أحد املحاور التي ت�ؤمن م�صاحلها‪ .‬ف�إذا كانت رو�سيا يف حربها مع �أمريكا �أقامت حتالفاً مع ال�صني‬ ‫و�شكلت معها حمور �شنغهاي للأمن والتعاون ودول الربيك�س‪ .‬و�إذا كانت �إيران يف �صراعها مع‬ ‫�أمريكا ا�ستندت �إىل حتالفاتها مع رو�سيا وال�صني حلمايتها يف جمل�س الأمن ولك�سر احل�صار الظامل‬ ‫عليها‪ .‬فالدول ال�صغرى �أمام خيار من اثتني‪� ،‬إما �أن ت�صطف يف �أحد املحاور التي تلتقي م�صاحلها‬ ‫‪80‬‬

‫معها �أو ت�أتي الت�سويات على ح�سابها‪.‬‬ ‫ثالثا‪� :‬إن النظام الر�أ�سمايل الإمربيايل قد �سقط وانتهى دوره التاريخي‪ ،‬و�صار عبئاً ثقي ًال يجثم‬ ‫على الإن�سانية‪ .‬وبالتايل حدة الهيمنة الأمريكية قد خفّت ومل تعد قادرة �أن متلي قراراتها املطاعة‬ ‫على الدول الأخرى‪ .‬وهي يف تراجع كبري بدءاً من خليج البا�سيفيك �إىل و�سط �آ�سيا �إىل ال�شرق‬ ‫وحتد لدول الهالل اخل�صيب كي تنف�ض عنها تبعات معاهدة‬ ‫الأو�سط وحتى �أوكرانيا‪ .‬وهذه فر�صة ٍّ‬ ‫�سايك�س بيكو (التي �أ�سقطها الغرب ب�سعيه لتفتيتها �إثنياً وطاقوياً)‪ ،‬بحيث ال يكون البديل عن‬ ‫�إ�سقاط م�شروع التق�سيم االثني يف �سوريا والعراق هي العودة �إىل �سايك�س بيكو بل �إىل ر�سم‬ ‫ا�سرتاتيجية جديدة تعيد وحدتها وا�ستعادة �أقاليمها امل�سلوبة‪.‬‬ ‫رابع ًا‪� :‬إن احلرب التي تخا�ض يف منطقتنا هي حرب طاقوية اقت�صادية جيو�سيا�سية بامتياز‪ ،‬وبالتايل‬ ‫وتبخر مل�صلحة القوى التكفريية وم�شغليها �أمريكا‬ ‫كل ما ُيحكى عن ربيع عربي وثورة تغيريية �سقط ّ‬ ‫و�إ�سرائيل واليعاربة‪ .‬وبانت غاياتهم بتدمري الهالل اخل�صيب (�سوريا والعراق)‪ ،‬بحيث ال ي�ستطيع‬ ‫النهو�ض وحمو �آثارهما‪ .‬واجلغرافية ال�سيا�سية للهالل اخل�صيب وموارده الطاقوية قد جعلته معرباً‬ ‫�أ�سا�سياً لأنابيب الطاقة التي تتحكم باقت�صاد العامل‪ .‬وو�ضعته يف موقع القلب بالن�سبة للعامل‪،‬‬ ‫وباتت ال�سيطرة عليه �أو ا�ستمالته (لأي حمور) حت�سم معركة القرن الـ‪ .21‬وبالتايل يف ظل احلرب‬ ‫الطاقوية واجليو�سيا�سية التي تخا�ض فيه وعليه وتداخل امللفات الإقليمية والدولية فيه هو ملزم‬ ‫�أن ي�أخذ موقفاً من �أحد املحورين يتالءم مع م�صاحله االقت�صادية ويعيد وحدته �أو يتفتت جمدداً‪،‬‬ ‫لأن م�شاريع التق�سيم ال تزال مطروحة بقوة يف املنطقة عرب تكري�س واقع الأقليات كمقدمة لفر�ض‬ ‫واقع تق�سيمي بعد الت�صفيات املذهبية التي ارتكبتها داع�ش بحق الأقليات (الأيزيدية والآ�شورية‬ ‫وامل�سيحية) لت�صل بها �إىل الهجرة والال عودة‪ ،‬وكل ذلك ّمت حتت �أعني الغرب‪.‬‬ ‫خام�س ًا‪� :‬أفرزت حرب الطاقة وم�ساراتها التي تخا�ض يف الهالل اخل�صيب وعليه �سقوط النظام‬ ‫العربي الذي كان �أ�ص ًال وليد اال�ستعمار بعد ا�ستنفاد مهمته‪ ،‬و�سقوط الأنظمة الكيانية و�سقوط‬ ‫الإ�سالم ال�سيا�سي ب�شقيه الأخواين والتكفريي بعد �أن �أ�صبح عبئاً على م�شغليه (رغم حماولة‬ ‫�أمريكا �إعادة �إحيائه عرب احللف ال�سعودي القطري الرتكي اجلديد)‪ ،‬و�سقوط العروبة الوهمية‬ ‫مب�ؤ�س�ساتها القائمة التي ح ّولت جامعة الدول العربية �إىل ح�صان طروادة بيد الأمريكي والأطل�سي‬ ‫ل�ضرب �سوريا وتدمريها‪ ،‬و�سقوط النظام القومي العربي الذي ف�شل يف حتقيق نظام احلرية‬ ‫والدميقراطية والعدالة االجتماعية و�ضرب الف�ساد واملف�سدين و�صيانة وحدة املجتمع‪ ،‬وتطوير‬ ‫النظام ال�شمويل ملنع ا�ستغالل القوى اخلارجية لهذه الثغرات والنفاذ منها ل�ضرب خيارات‬ ‫�شعوب املنطقة القومية وال�سيا�سية املحقة املقاومة لأمريكا والأطل�سي و�إ�سرائيل‪ ،‬و�سقوط منظومة‬ ‫الأمن القومي العربي‪ ،‬وبالتايل بات الهالل اخل�صيب بغياب امل�شروع القومي مك�شوفاً يواجه ثالثة‬ ‫م�شاريع مذهبية �إقليمية مدعومة دولياً تت�صارع فيه وعليه وهي‪:‬‬ ‫‪81‬‬


‫فكــــــر‬

‫�أ‪ -‬امل�شروع اليهودي الإ�سرائيلي املتالقي مع م�شاريع خليجية وهابية اخوانية م�شابهة (كالرباعي‬ ‫اخلليجي‪ ،‬ال�سعودية ‪ -‬قطر ‪ -‬الإمارات ‪ -‬الكويت)‪ ،‬واملدعوم �أمريكيا لتدمري املنطقة عرب‬ ‫الفو�ضى الهدامة‪ ،‬و�إن�شاء �شرق �أو�سط جديد اثني وعرقي يفتت املفتت ويطلق احلرب ال�سنية‬ ‫ال�شيعية ليربر وجودها كدولة عن�صرية يهودية‪ ،‬مما يربك م�شاريع حمور املقاومة وي�ؤدي لت�صفية‬ ‫الق�ضية الفل�سطينية و�إراحة الكيان الغا�صب �إ�سرائيل‪.‬‬ ‫ب‪ -‬امل�شروع العثماين االخواين الرتكي املتحالف مع الرباعي اخلليجي بتوجيه ودعم �أمريكي‬ ‫�أطل�سي ويلتقي ب�أهدافه مع امل�شروع الأول عرب �إطالة �أمد احلرب يف �سوريا والعراق‪ ،‬وتدمري‬ ‫الهالل اخل�صيب و�إطالق منوذجه العثماين االخواين كخيار �إ�سالمي معتدل بديل عن داع�ش‬ ‫والتكفرييني يف املنطقة‪ ،‬و�ضرب امل�شاريع الإيرانية الرو�سية ال�صينية وا�ستنزافها يف الهالل‬ ‫اخل�صيب كي تكون هي البديل عنه يف مرور طريق احلرير وخط �سكك احلديد ال�صيني‬ ‫ال�سريع �إىل املتو�سط‪ ،‬و�أنابيب النفط الإيرانية �إىل �أوروبا‪.‬‬ ‫ج‪ -‬امل�شروع الإيراين املقاوم للم�شروعني (�أ) و(ب) بتحالفاته املمتدة من لبنان املقاومة �إىل �سوريا‬ ‫�إىل العراق �إىل اليمن وحتى �إىل حمور �شانغهاي للتعاون‪ .‬يخو�ض هذا املحور معركته �ضد‬ ‫�أمريكا يف الهالل اخل�صيب من موقع الدفاع‪ ،‬وفق حتالف �سيا�سي اقت�صادي ا�سرتاتيجي‬ ‫متني مع رو�سيا وال�صني‪ .‬وقد حقق تقدماً وانت�صارات (بف�ضل �صمود �سوريا بجي�شها و�شعبها‬ ‫وقياداتها ودعم املقاومة لها)‪ ،‬بوجه امل�شروع الأمريكي املربك واملرتاجع واملنهزم‪.‬‬ ‫يربط هذا امل�شروع املقاوم �أمن املنطقة وا�ستقرارها بخروج القوات الأجنبية منها‪ ،‬وي�سعى لإقامة‬ ‫ويقدم م�شروعه املقاوم املنفتح‬ ‫التفاهمات مع دول املنطقة ل�ضرب احلالة التكفريية التق�سيمية فيها‪ّ ،‬‬ ‫القابل للآخر املواجه لقوى اال�ستكبار العاملية �أمريكا والأطل�سي و�إ�سرائيل‪.‬‬ ‫�أقام هذا املحور (بدعم واحت�ضان رو�سي �صيني) منوذج املقاومات ال�شعبية الداعمة للجيو�ش (كر ّد‬ ‫على حرب �أمريكا على املجتمعات وتفجريها من الداخل باحلروب بالوكالة‪ ،‬واحلرب الناعمة)‪.‬‬ ‫�أثبتت هذه املقاومات فعاليتها وجدواها يف �ضرب القوى التكفريية وتقوي�ض امل�شروع ال�صهيو�أمريكي‬ ‫الرتكي اخلليجي يف الهالل اخل�صيب‪ ،‬من لبنان (حزب اهلل) �إىل �سوريا (قوات الدفاع الوطني)‬ ‫�إىل العراق (قوات احل�شد ال�شعبي)‪ .‬هذه املقاومات مع جيو�ش هذه الدول �شكلت حمور مقاومة‬ ‫من لبنان �إىل �سوريا فالعراق �إىل اليمن �إىل طهران‪ .‬يطرح هذا املحور �صيغة توحيدية بوجه امل�شاريع‬ ‫التق�سيمية لأنها ت�ؤمن م�صاحله ب�ضرب احلالة التكفريية‪ ،‬و�إقامة خطوط �أنابيب غاز تتكامل مع‬ ‫م�شاريع غاز بروم الرو�سية وال�سيطرة على غاز املتو�سط و�إبعاد �أمريكا والأطل�سي عنه‪ ،‬و�إن�شاء طرق‬ ‫احلرير واحلزام االقت�صادي لطريق احلرير ال�صينية‪ ،‬و�إقامة نظام عاملي جديد متعدد الأقطاب و�ضرب‬ ‫الغطر�سة الأمريكية يف املنطقة‪ .‬لكن ايديولوجية �إيران املذهبية وتزايد قوتها الع�سكرية وتقدمها‬ ‫التكنولوجي وم�شروعها النووي ال�سلمي �أخاف دول اخلليج وعرب �أمريكا (الدول ال�سنية) وعمل‬ ‫‪82‬‬

‫الأمريكي على �إذكاء هذا اخلوف حتت عنوان مقاومة ت�شييع املنطقة خدمة مل�صاحله‪.‬‬ ‫�إن هذا املحور‪( ،‬ومن موقع املنخرط به واحلري�ص على انت�صاره) يعاين من ت�سويق �أيديولوجيته‪،‬‬ ‫الن �إيران ر�أ�س احلربة فيه مل تعد قادرة على ت�سويق خطابها الديني املقاوم (رغم فعله الكبري بتعبئة‬ ‫املحق لتثبيت حق الأمة يف احلياة العزيزة الكرمية)‪ .‬فال‬ ‫جماهري املقاومة وقتالها يف املوقع املقاوم ّ‬ ‫ت�سويق م�شروع مقاومة اال�ستكبار والظلم العاملي‪ ،‬وال حمل راية فل�سطني والدعم الكبري للمقاومة‬ ‫الفل�سطينية والدفاع املحق عن ق�ضيتها املحقة ورفع الظلم واالحتالل عنها‪ ،‬وال رفع راية ال�صحوة‬ ‫الإ�سالمية‪ ،‬طم�أنت ال�شريك ال�سني الآخر و�أطف�أت الفتنة امل�شتعلة يف الهالل اخل�صيب التي‬ ‫�ضربت الن�سيج االجتماعي فيه مهددة بتفتيته‪ .‬وبالتايل باتت �إيران بحاجة �إىل حتديث خطابها‬ ‫ال�سيا�سي يف الهالل اخل�صيب لتنفي�س احلالة املذهبية املربكة لها وللمحور‪.‬‬ ‫لقد خا�ضت �أوروبا منذ القدم حروباً مذهبية �أحدثت فيها دماراً رهيباً و�أفقدتها ن�صف �سكانها‪ ،‬ومل‬ ‫ت�ستطع النهو�ض �إال بعد معاهدة و�ستفاليا التي م ّهدت للثورة الفرن�سية وانتقلت بعدها �أوروبا �إىل‬ ‫العقد املدين بف�صل الدين عن الدولة و�إقامة الدولة املدنية الدميقراطية القوية العادلة‪ .‬كل حروب‬ ‫الغرب لل�سيطرة على منطقتنا ا�ستغلت الفتنة املذهبية‪ ،‬لكن غاياتها كانت اقت�صادية بامتياز‪ ،‬فتنة‬ ‫‪ 1860‬كانت غايتها �ضرب �صناعة احلرير يف لبنان ودم�شق بعد �إ�صابة دودة احلرير يف فرن�سا وال�صني‬ ‫مبر�ض �أنهى موا�سمهما العام ‪ 1858‬فدفعنا ثمنها حروباً طائفية ودماراً وتق�سيماً‪ .‬احلرب العاملية‬ ‫الأوىل كان �سببها �ضرب خط �سكك احلديد الذي يربط برلني باملو�صل عرب تركيا بعد اكت�شاف‬ ‫نفط املو�صل‪ ،‬وتق�سيم تركة الرجل املري�ض‪ ،‬وال�سيطرة على برتول العرب‪ ،‬وزرع الكيان الغا�صب‬ ‫يف فل�سطني‪ .‬نحنا دفعنا ثمنها تق�سيماً جغرافياً وحروباً �أهلية ونكبات ال نزال نرزح حتتها حتى الآن‪.‬‬ ‫احلرب التي تخا�ض يف �سوريا والعراق الآن هي حرب ال�سيطرة على غاز املنطقة وم�ساراته و�إبقاء‬ ‫ت�سعري الطاقة بعملة البرتو دوالر‪ ،‬وهي �أي�ضاً اقت�صادية بامتياز‪ .‬وقودها حروب مذهبية وفنت ودمار‬ ‫هائل يقدر مبئات املليارات من الدوالرات‪ ،‬و�ضرب وحدة املجتمع ك�آخر حلقات امل�ؤامرات علينا‪.‬‬ ‫لقد بات حلف املقاومة بحاجة �إىل عقيدة جديدة وخطاب جديد‪ ،‬يجمع وال يف ّرق ويلغي ا�ستغالل‬ ‫الغرب للطائفية للنفاذ عربها �إلينا مبخططاته التدمريية‪� .‬ص ّرح الرئي�س بوتني مراراً �أن احلرب على‬ ‫�سورية غايتها �ضرب النظام العلماين الوحيد يف ال�شرق الأو�سط‪ .‬وبالتايل دعمه ل�سوريا �إحدى‬ ‫غاياته �إبقاء منوذج النظام املدين وو�أد احلالة التكفريية قبل الو�صول �إىل مو�سكو �إ�ضافة �إىل م�صاحله‬ ‫يف املنطقة‪ .‬وا�سرتاتيجيته جمع الدول ال متزيقها‪ .‬فهو �أقام رابطة الدول امل�ستقلة حول بحر قزوين‪،‬‬ ‫ومن ثم �أ�س�س االحتاد اجلمركي‪ ،‬والآن �أطلق االحتاد الأورا�سي‪ ،‬هذا �إ�ضافة �إىل منظمة �شنغهاي‬ ‫للتعاون والأمن‪ ،‬وهذا ي�شري �إىل �أن م�صلحته توحيد الدول ولي�س التفتيت املذهبي لها‪.‬‬ ‫ال�صني تعاين من اثنية االيغور االنف�صالية امل�سلمة يف �إقليم �شياجننغ املتحدرة من �أ�صول تركية‬ ‫وتتكلم لغتها‪ .‬بعد �أحداث �سوريا حترك االنف�صاليون االيغور يف ال�صني ووقعت �صدامات قمعتها‬ ‫‪83‬‬


‫فكــــــر‬

‫ال�سلطة بالقوة وهي تدعم النظام ال�سوري لإنهاء احلالة التكفريية فبل االنتقال �إليها‪ .‬م�صلحة‬ ‫ال�صني يف توحيد الدول وا�ستقرارها حول طريق احلرير واحلزام االقت�صادي ولي�س تفتيتها لأنها‬ ‫تعطل م�شاريعها يف و�سط �آ�سيا و�شرقها‪ ،‬ولها م�ساهمات كبرية مبليارات الدوالرات لإر�ساء‬ ‫اال�ستقرار والتنمية يف منطقة منغوليا و�آ�سيا الو�سطى‪ .‬وما طرح م�شروع احلزام االقت�صادي لطريق‬ ‫احلرير ودعوة العرب مل�ؤمترات عقدت يف �شنغهاي لالطالع وامل�ساهمة يف هذا امل�شروع �إال ت�أكيد‬ ‫على حر�ص ال�صني على ا�ستقرار ال�شرق الأو�سط وانخراطه يف امل�شاريع االقت�صادية الكربى املزمع‬ ‫قيامها والتي حتقق املنفعة امل�شرتكة واالزدهار‪� ،‬إ�ضافة �إىل �شراء الطاقة منه‪.‬‬ ‫�سوريا واملنطقة �أمام خما�ض كبري‪� ،‬سرت�سم نتائج احلرب فيها خرائط وتوازنات جديدة قد حتكم املنطقة‬ ‫لفرتة طويلة‪� .‬أمريكا ترتاجع وتعيد ات�صاالتها مع الأ�سد ك�شريك �أ�سا�سي يف احلل و�ضرب الإرهاب‪.‬‬ ‫و�أزالمها يف املنطقة يت�ساقطون ويحاولون تبديل خططهم حلجز مكان لهم يف الرتتيبات املقبلة للمنطقة‬ ‫واال�ستعجال لركوب قطار احلل الذي يبدو �أن عقاربه باتت ت�ضبط على �إيقاع املفاو�ضات الإيرانية‬ ‫مع الـ‪ 5+1‬التي �أراها �ست�صل �إىل اتفاق �سيطلق يد �إيران يف املنطقة �أكرث‪ ،‬و�سيكون هذا االتفاق‬ ‫كما و�صفه (جورج فريدمان ك�إع�صار �سيا�سي �سي�صيب ال�شرق الأو�سط من �أفغان�ستان �إىل �ساحل‬ ‫املتو�سط)‪� .‬سوريا هي لب الت�سوية‪ ،‬والرو�سي وال�صيني هما ال�شريك الفعلي فيها ويف عقود الغاز وعقود‬ ‫اال�ستثمار‪ .‬العمليات الع�سكرية يف العراق و�سوريا ت�سابق ت�سوية النووي لر�سم خرائط النفوذ وتقوي�ض‬ ‫ملحة ل�ضرب داع�ش‪ .‬تركيا رغم‬ ‫داع�ش‪ ،‬وملنع الأمريكي من ا�ستثمار عودة انت�شاره يف املنطقة ك�ضرورة ّ‬ ‫تهويلها با�ستمرار ال�ضغط على �سوريا �سرت�ضخ �إىل منطق الت�سوية لأن بوتني �أغراها باتفاقات غازية‬ ‫ونووية النخرطها بالأورا�سية الرو�سية اقت�صادياً تعوي�ضاً لها عن خ�سارتها مبوت (م�شروع غازنابكو)‪،‬‬ ‫وتق ّوي �أوراقها لتكون ج�سراً بني رو�سيا وال�سوق الأوروبية امل�شرتكة‪ .‬حمور املقاومة منت�صر واملتو�سط‬ ‫�أ�صبح بحرية رو�سية وال�شرق الأو�سط �سيكون منطقة نفوذه فلماذا ال يطرح على هذا املحور �ضرورة‬ ‫تتوحد؟‬ ‫دفن �سايك�س بيكو امليت �سريرياً والعودة �إىل وحدة �سوريا الطبيعية‪ ،‬وم�صلح ُته �أن ّ‬ ‫�إن �ضرب احلالة التكفريية ال يكون فقط ب�سحقها ع�سكرياً وب�ضرب ينابيعها الفكرية وجتفيف م�صادر‬ ‫موحد كفكر �سعاده الذي نادى بف�صل الدين عن الدولة و�إلغاء‬ ‫متويلها فقط‪ ،‬بل بفكر مدين جامع ّ‬ ‫احلواجز بني خمتلف املذاهب والطوائف و�إقامة الدولة املدنية الع�صرية احلرة القوية العادلة التي‬ ‫حتقق املواطنة وامل�ساواة بني كل مك ّونات املجتمع وت�ساهم يف �صيانة وحدته‪ ،‬وتطمئن الأقليات يف‬ ‫�سوريا والعراق ولبنان التي تعي�ش هاج�س اخلوف جراء الت�صفيات على الهوية‪ .‬و�إقامة االقت�صاد‬ ‫القومي على �أ�سا�س الإنتاج مكان االقت�صاد الريعي الذي �أثبت عقمه‪ ،‬وحتقيق العدالة االجتماعية‬ ‫و�ضرب االحتكار و�إعادة �إمناء الريف الزراعي بتحقيق الإمناء املتوازن و�ضرب الف�ساد واملف�سدين‪.‬‬ ‫هناك عمل حثيث على تنفيذ خرائط جديدة لل�شرق الأو�سط يف دوائر القرار الأمريكية والأطل�سية‬ ‫على �أ�سا�س �إثني مذهبي تبد�أ من العراق و�سوريا �إىل كل العامل العربي‪ ،‬الرئي�س �أوباما ال يتكلم‬ ‫‪84‬‬

‫عن دول املنطقة بل عن (املجموعات الطائفية يف املنطقة كالأقلية ال�سنية يف العراق والأكرثية‬ ‫مهم�شتني‪ ،‬وبدون �إعطائهما متثيلهما ال�سيا�سي بدولة م�ستقلة لن‬ ‫ال�سنية يف �سوريا التي يعتربهما ّ‬ ‫ي�ستقيم الو�ضع يف ال�شرق الأو�سط "مقابلة �أوباما مع توما�س فريدمان")‪ .‬وبغياب امل�شروع القومي‬ ‫والعربي ‪ ،‬بات ملحاً جداً طرح م�شروع وحدة الهالل ال�سوري اخل�صيب كر ّد على �سقوط �سايك�س‬ ‫بيكو‪ ،‬وكخطة ا�سرتاتيجية تتناق�ض مع امل�شروع ال�صهيو�أمريكي التفتيتي‪ ،‬وحتاكي وتالقي م�صالح‬ ‫رو�سيا وال�صني يف ال�شرق الأو�سط‪ .‬وكر ّد على الفراغ وغياب امل�شروع العربي يطرح املثقفون‬ ‫ال�سوريون والعرب وكل النخب والعامة‪ ،‬يف هذه الفرتة وحدة اجلبهة ال�شمالية ال�شرقية املقاومة‬ ‫من لبنان �إىل العراق‪ ،‬ويطرحون "امل�شرقية" �أي وحدة بالد امل�شرق العربي �أو وحدة بالد ال�شام‪،‬‬ ‫او ال�سوق امل�شرقي االقت�صادي امل�شرتك �أو وحدة الهالل ال�سوري اخل�صيب كم�شروع ن�ضايل‬ ‫ا�سرتاتيجي وجيو�سيا�سي يتالقى ويتكامل مع م�صالح رو�سيا وال�صني و�إيران‪( .‬وهذه كلها ت�سميات‬ ‫ترمز لوحدة الأمة ال�سورية التي نادى وعمل وا�ست�شهد من �أجلها �أنطون �سعاده)‪ .‬ويف زمن متزق‬ ‫املقاومة البطلة حدود �سايك�س بيكو وحت ّول لبنان من خا�صرة رخوة �ضعيفة لل�شام �إىل درع قوي‬ ‫نا�صر لها يف حرب الوجود التي تخو�ضها‪ .‬يربز فكر �سعاده الوحدوي اجلذري املقاوم كمنقذ وحيد‬ ‫حلال الأمة من املوت املحتم‪ ،‬وكعالج ناجع لإعادة وحدة الأمة واملجتمع ومنع تفتيتهما‪.‬‬ ‫فكما عملت �سكك احلديد يف بداية ت�أ�سي�س �أمريكا ك�شرايني الدماء االقت�صادية التي �ضخت �ضرورة‬ ‫وحدة الواليات املتحدة الأمريكية‪� .‬ستكون لطريق احلرير وخط �سكك احلديد ال�سريع الذي ي�صل‬ ‫ال�صني ب�سوريا‪ ،‬وخطوط الغاز التي ت�صل غاز �إيران �إىل ال�ساحل ال�سوري على املتو�سط‪ ،‬وغاز املتو�سط‬ ‫�إىل ال�صني عرب �سوريا والعراق و�إيران وباك�ستان بعد انتهاء احلرب يف �سوريا وا�ستغالل غاز ال�ساحل‬ ‫ال�سوري (الذي ُيعترب من �أكرب حقول الغاز يف العامل) �سيكون لتلك امل�شاريع الأثر البالغ يف ت�سريع‬ ‫وحدة الهالل اخل�صيب ك�ضرورة وحاجة �سيا�سية واقت�صادية وا�سرتاتيجية ملحور املقاومة‪� ،‬إىل جانب‬ ‫يتقدمنا‬ ‫كونها �ضرورة قومية اجتماعية وجغرافية من اجلانب العقدي لفكرنا‪ .‬لقد عاد الزعيم �سعادة ّ‬ ‫ويقودنا بفكره الذي ال يزال ميثل راهنية وحيدة للحل‪ ،‬فهل يقدم تالمذته على طرح م�شروعه القومي‬ ‫الوحدوي بقراءة جديدة حتاكي روح الع�صر وتدر�س التحوالت الكربى التي ع�صفت باملنطقة وتعيد‬ ‫توحيد املجتمع والأمة بعد اجلراح البالغة التي �أ�صابتها جراء احلرب‪.‬‬ ‫املراجع‪:‬‬ ‫‪ -1‬هالفـورد ماكندر "املحيط اجلغرايف للتاريخ"‪.‬‬ ‫‪ -2‬زبيغنيو بريجن�سكي "لعبة ال�شطرجن الكربى"‪.‬‬ ‫‪ -3‬الك�سندر دوغني "�أ�س�س اجليوبوليتيكا ‪ -‬م�ستقبل رو�سيا اجليوبوليتيكي"‪.‬‬ ‫‪ -4‬اجليوبوليتيكي الرو�سي �ألك�سندر دوغني ير ّد على خالفة داع�ش والإ�سالميني‪.‬‬ ‫‪ -5‬روبرت في�سك مقال يف االندبندنت يف ‪.2014-10-10‬‬ ‫‪85‬‬


‫�صدر حديثا ً‬

‫فـكــــــــر‬

‫الإ�صالح الديني �رصاع النه�ضة والتنوير‬ ‫جنيب ن�صري ‪ -‬كاتب‬

‫"يف قف�ص االتهام"‬ ‫جورج �شامي‬ ‫"يف قف�ص االتهام" كتاب لـ جورج �شامي‪ ،‬وهو كتاب من النوع املتو�سط احلجم‪ ،‬يقع يف ‪� 332‬صفحة‪،‬‬ ‫�صادر عن دار نل�سن‪.‬‬ ‫والكتاب عبارة عن �إ�ضاءات على مطاوي الذات‪ ،‬دفاعاً عن الرباءة واحلقيقة‪ ،‬حيث يقول الكاتب يف مقدمة‬ ‫الكتاب‪�":‬أنا يف منتهى ال�سعادة‪ ،‬لأن التهم املوجهة �إ ّيل لي�س فيها �أي فعل �شائن يخجل املرء �أن ي�شوه بيا�ض‬ ‫�صفحاته‪....‬ولي�س يف �سجل حياتي‪،‬ال جنحة من اي نوع‪ ،‬وال جرمية مو�صوفة‪....‬ت�ستلزم عقوبة ق�صةى ت�صل‬ ‫�إىل حد الإعدام‪.....‬و�أن الدفوع التي احول التم�سك بها واعتمادها كخ�شبة خال�ص لي�ست الغاية منها‬ ‫ال�سعي �إىل تربئتي بفعل الإثباتات واحلجج والأدلة والقرائن‪ ،‬بقدر ما هي تظهري ل�صورتي احلقيقية النا�صعة‪،‬‬ ‫وتو�ضيح ما التب�س على الفهم والإدراك؟‬ ‫يف ثنايا هذا الكتاب يجد القارىء كل الأجوبة على كل الأ�سئلة دون تهرب �أو مواربة‪.....‬والهدف وحده‬ ‫هو جناتي وخال�صي!‪".‬‬ ‫دار نل�سن‬

‫هاتف ‪01/739196:‬‬ ‫الربيد الإلكرتوين ‪darnelson@hotmail.com:‬‬

‫‪86‬‬

‫واجللي للمنتبه العارف‪ ،‬وللغافل املط ّن�ش‪ ،‬وكذلك للفاهم الذي ي� ّؤجل‪� ،‬أنّ ال‬ ‫�صار من الوا�ضح ّ‬ ‫�إ�صالح دينياً باملعنى املق�صود قد ح�صل �أو يح�صل يف البالد الناطقة بالعربية‪ ،‬ال بل مل تكن هناك‬ ‫�أدنى نية حل�صول هذا الإ�صالح‪ ،‬على الرغم من وجود بع�ض الأ�صوات النافرة هنا وهناك‪ ،‬وعلى‬ ‫الرغم من ظهور بع�ض امل�ؤ�س�سات التي ا ّدعت �أن مهمتها الإ�صالح ولكنها حت ّولت يف ال�سياق‪،‬‬ ‫ومب�شاركة ومباركة رجال الدين وال�سيا�سة والثقافة‪� ،‬إىل �سلطة �شبحية ت�شارك ال�سلطات الثالث‬ ‫امل�أمولة يف الدولة امل�شتهاة �صالحياتها‪ ،‬ال بل وت�شرف عليها وتتحكم بها‪ ،‬وت�سابقت "الدولة" �إىل‬ ‫�إر�ضائها والوقوف على طلباتها‪ ،‬حتى ولو �أدى الأمر �إىل خلخلة هذه "الدولة" ال بل �إىل حتطيمها‪،‬‬ ‫�إذا دعت ال�ضرورة‪.‬‬ ‫ما نراه اليوم من �أداء ثقايف (والدولة هي �أداء ثقايف) لي�س ف�ش ًال لعملية الإ�صالح الديني التي‬ ‫طرحت يف نهايات القرن التا�سع ع�شر‪ٍ ،‬‬ ‫ك�شرط م� ّؤ�س ٍ�س للتقدم واال�ستمرار‪ ،‬ولي�س ما نراه اليوم‬ ‫هوعدم وجود هذا الإ�صالح �أو فعالياته من الأ�صل‪ ،‬بل ما نراه هو نتائج عملية عك�سية للإ�صالح‪،‬‬ ‫�أي �إ�صالحاً معكو�ساً ومدعوماً من "دولة" ر�ضيت �إ�ضافة وم�شاركة ورعاية �سلطة موازية ل�سلطانها‪،‬‬ ‫لي�ست من بنيتها تقنياًومعاك�سة لوجودها د�ستوراً‪ ،‬جتتمع فيها ال�سلطات الثالث (الت�شريعية‬ ‫والتنفيذية والق�ضائية) ت�شاركها ال�سيادة من طرف خفي غري مد�سرت‪� ،‬أو على الأقل ال ي�صلح‬ ‫للد�سرتة‪ ،‬مبا يعني �أن الذي جرى من �إ�صالح‪ ،‬ما هو �إال حتديث لغوي يف اخلطاب التقليدي‬ ‫و�أدواته لتعود البنية "الثقافية" للجماهري �إىل عقمها على �إنتاج جمتمع تنبثق عنه دولة من النوع‬ ‫احلديث ال�صالح للمناف�سة ال�ضرورية لالرتقاء‪.‬‬ ‫حتب وال‬ ‫هذا ما جرى على الأقل و�أو�صلنا �إىل هنا‪ ،‬حتى لو�أعفينا العامل اخلارجي كم�صالح ال ّ‬ ‫تكره‪ ،‬من م�س�ؤولية دعمه للحركة املعاك�سة للإ�صالح الديني وهذا ما ثبت يف الكثري من املواقف‬ ‫ّ‬ ‫م�ستهل القرن املا�ضي‪ ،‬وما نلم�سه‬ ‫ال�سيا�سية واحلروب الباردة وال�ساخنة الأخرية منها‪ ،‬وال�سابقة يف‬ ‫وما نراه الآن‪ ،‬ما هو �إال نتاج قرن ون ّيف من ممار�سة هذا النوع من "الإ�صالح" الذي ا�ستخدم كل‬ ‫‪87‬‬


‫فكــــــر‬

‫التقنيات الإعالمية وال�سيا�سية والقانونية (وهو يرف�ضها وي�ؤثمها) املحدثة يف �سبيل حتويل الثقايف‬ ‫�إىل �أيديولوجي حما�صراً التفكري يف �أدنى ّ‬ ‫جتل له‪ ،‬و�صانعاً مرجعية �سلوكية للجماهريت�ؤدي �إىل‬ ‫الفناء‪ ،‬عرب ت�أجيج عقد اال�ضطهاد وال�شكوى لتربير العنف �ضد الآخر "العدو"‪ ،‬ولي�س املناف�س‬ ‫يف � ّأي وجه من وجوهه‪.‬‬ ‫رمبا كان للم�صطلح وترجمته �إىل العربية دور غري قليل يف �سباكة املفهوم داخل الذهنية التي ارت�أت‬ ‫ح�صول هذا الإ�صالح‪ ،‬وقر�أته وقاربته على �أ�سا�س �أن هناك عطباًح�صل يف "الديني" (وهي كلمة‬ ‫عمومية جداً) ويجب �إ�صالحه كي ي�ستمر هذا "الديني" على نقائه املعريف‪ ،‬وحقيقته "احلقيقية"‬ ‫التي مل يعرف �أحد حتى يومنا هذا ماهيتها‪ ،‬فتداول الكالم حول املو�ضوع خ ّلف ركاماً مفرداتياً‬ ‫هائ ًال‪ ،‬يدور حول املفردة امل�صطلح‪ ،‬فكلمة ) (‪)reform‬ال تعني من الوجهتني اللغوية والتقنية‪،‬‬ ‫كلمة �إ�صالح متاماً بل هي مقاربة ترجماتية مل�صطلح حداثي �سوف ُيعاد تف�سريه وت�أويله‪ ،‬بفهلوية‬ ‫ثقافية تعتمد التب�سيطية املنربية ل�شرحه‪ ،‬مبا ينا�سب "خ�صو�صيات" الديني ال�شعبوي‪ ،‬ل�صنع‬ ‫م�سافة بني امل�صطلح وترجمته‪� ،‬أي بني لفظه ومعناه‪ ،‬ا�ستهلكت هذه امل�سافة قرناً ون ّيفاً لتو�سيعها‬ ‫و�إبعاد املعنيني عن بع�ضهما‪ ،‬لرنى الآن ما هو الإ�صالح الديني على حقيقته‪ ،‬كما فهمه عتاة‬ ‫الإ�صالح وجنوم التنوير‪ ،‬من �أبو الهدى ال�صيادي احللبي‪ ،‬مروراً بالأفغاين وحممد عبدو ور�شيد‬ ‫ر�ضا‪ ،‬ولي�س انتهاء مبحمد عابد اجلابري‪ ،‬وه�شام جعيط وح�سن الرتابي ورا�شدالغنو�شي‪ ،‬و�أترابهم‬ ‫من هذا الن�سق التفكريي‪ ،‬وجميعهم �أ�ص ّروا على ف�صل التنوير عن النه�ضة‪ ،‬وممار�سته كفقرة‬ ‫م�ستقلة ت�سبق وحت�ضر للنه�ضة امل�أمولة واملنقولة عن ارتقاءات مفاهيم ع�صر الأنوار‪ ،‬بحيث ميكن‬ ‫احل�صول على املكانة ذاتها التي ح�صلت عليها املجتمعات التي تب ّنت املفاهيم الأنوارية‪.‬‬ ‫مل يعن الإ�صالح الديني باملعنى الأنواري �إال �شيئاً واحداً‪ ،‬هو ف�صل الدين عن الدولة‪ ،‬وهنا متاماً‬ ‫كانت العقدة التي ا�ستهلكت حوايل قرن ونيف من حماوالت احل�صول على جمتمع تنبثق منه‬ ‫يح�ضر‬ ‫دولة‪ .‬هذه املحاوالت كانت لتذليل‪� ،‬أو القفز فوق‪� ،‬أو حتى التحايل‪ ،‬للو�صول �إىل تنوير ّ‬ ‫لنه�ضة‪� ،‬أو بداية وخطة طريق للإ�صالح الديني‪ ،‬وذلك عرب حماورة الديني لنف�سه فقط‪،‬حيث‬ ‫ليتحول �إىل �شرح كلمات‪� ،‬أ�س�ست عليها �أيديولوجيا‬ ‫تق ّل�ص معنى الإ�صالح �إىل معناه احلريف‪ّ ،‬‬ ‫ت�ستطيع جمع احلداثي مع الرتاثي بطريقة �شكالنية وتلفيقية �أي�ضاً‪ ،‬باالعتماد على منربية حتمي�سية‬ ‫ترعيبية‪ ،‬تعتمد العودة �إىل الأ�صول مبعناها احلريف‪ ،‬لي�صبح الإ�صالح هو التخل�ص من "ال�شوائب"‬ ‫و�إتاحة الفر�صة لتجريب الأيديولوجيا النقية‪ ،‬التي مت االبتعاد عنها ب�سبب الآخر العدو‪ ،‬يف وعد‬ ‫قطعي بالو�صول �إىل �أمنوذج يعادل �إذا مل يكن �أقوى من الأمنوذج الناجت عن ع�صر الأنوار‪ ،‬حيث‬ ‫و�صلت هذه العملية يف متظهراتها و�أ�شكالها كافة �إىل الإرهاب والعنف‪ ،‬و�أي�ضاً بتمظهراته و�أ�شكاله‬ ‫كافة‪( ،‬على اعتبار �أن الإرهاب تعريفاً هو كل ت�صرف غري د�ستوري)‪ ،‬على الأقل‪ ،‬خ�صو�صاً مع‬ ‫رعاية "الدولة" له‪.‬‬ ‫بالعودة �إىل البدايات امل� ّؤ�س�سة للتفكري الذي �سعى وقتئذ �إىل تد ّبر حالة االرتباك والتخلف‬ ‫‪88‬‬

‫املعرفيتني يف م�ستهل القرن التا�سع ع�شر‪ ،‬ومن ثم القرن الع�شرين‪ ،‬وذلك باملقارنة مع ما و�صلت‬ ‫�إليه املجتمعات الأنوارية من �شبع ومنعة‪ ،‬قر�أ النه�ضويون الناطقون بالعربية مو�ضوعة الإ�صالح‬ ‫الديني من الوجهة املعرفية ّ‬ ‫ال�شكاكة على �أنه ف�صل الدين عن الدولة‪ ،‬معرتفني �أن هذا الإ�صالح‬ ‫وهذا الف�صل‪ ،‬ما هو �إال جزء من عملية معرفية كربى‪ ،‬تتناول كافة �صنوف الثقافة املولدة للمجتمع‬ ‫مبعناه الأنواري‪ ،‬بحيث ي�صلون �إىل هذا املجتمع مبا يتنا�سب مع املوجودات الثقافية املحلية‪ ،‬عرب‬ ‫تفعيلها يف التطبيقات املعرفية املعا�صرة من دولة و�أحزاب وفعاليات �إنتاجية الخ‪ ،‬كتكنولوجيات‬ ‫حمايدة ال غنى عنها للعي�ش املعا�صر‪ ،‬حيث انطلق هذا النوع من التفكري من قاعدة عدم االكتمال‬ ‫املعريف‪ ،‬معتربين �أن العملية املعرفية املنتجة هي حركة ال تتوقف عن التجريب والتح�صيل‪ ،‬يف‬ ‫�سبيل االرتقاء ال�ضامن الوحيد للبقاء‪ ،‬بينما ذهب "التنويريون" �إىل قراءة هذا الإ�صالح عرب‬ ‫�إعادة �إحياء الرتاث منطلقني من قاعدة االكتمال املعريف‪ ،‬معتربين �أن هذا الإ�صالح ما هو �إال‬ ‫يت�ضمن كل علم ومعرفة بداللة �إمكانية‬ ‫�إعادة االعتبار �إىل الوالية ال�شرعية كوجه ثقايف �أعلى‪ّ ،‬‬ ‫ت�سخري كل تكنولوجيا حمدثة خلدمته (وهي داللة خطرية عملياً)‪ ،‬م�ؤثمني مبد�أ ف�صل الدين‬ ‫عن الدولة و�صو ًال�إىل تكفريه وا�ستباحة املعتقدين به‪ ،‬طارقني �أبواب ال�سلطات الراعية لهم (�أو‬ ‫ما ُ�س ّمي جمازاً دولة) بال�شكوى منهم حيناً و�إنذاراً بالتنحي عن الوالية �أحياناً‪ ،‬وهذا ما فهم متاماً‬ ‫وفقط من �شعار "التنويريني"‪ ،‬الذي يقول ب�أن ن�أخذ من الغرب ما ينا�سبنا ونرتك ما ال ينا�سبنا‪،‬‬ ‫قا�صدين بالأخذ التكنولوجيات امل�شخ�صة من �آالت و�أدوات وو�سائل تفيد يف ممار�سة ال�سطوة‪،‬‬ ‫م�ؤثمني ما ميكن تركه ومن ثم ما يجب تركه‪ ،‬حيث بدا هذا ال�شعار نف�سه موارباً وفهلوياً ومل ي�ستطع‬ ‫كم ّي متوالد من ممار�سة االكتمال املعريف كحقيقة‬ ‫ملء الفراغ املعريف �إال بالعنف‪ ،‬كحل تراثي ّ‬ ‫ثابتة �سابقة لكل �شيء‪.‬‬ ‫يف �أخذ ما ينا�سبنا وترك ما "ال" ينا�سبنا ك�شعار‪ ،‬تلتب�س الأيديولوجيا بالثقافة‪ ،‬كما يلتب�س‬ ‫العلم باملعرفة‪ ،‬لي�صبح ما ينا�سبنا وما الينا�سبنا عر�ضة للأخذ والرد والتمويه والفهلوة والت�أجيل‬ ‫واالتهام وحتى الق�صا�ص‪ ،‬مما خلق رويداً وتراكمياً ما ميكن ت�سميته ب�صراع الهويات‪ ،‬الذي �سبق‬ ‫هينتغتون بعقود طويلة‪ ،‬و�أ�صبح على الثقافة �أن مت ّر عرب فيلرت الأيديولوجيا‪ ،‬حتى ت�صبح �صاحلة‬ ‫لال�ستهالك "الب�شري"‪ ،‬و�صار من امللزم ا�ستئذان الأيديولوجيا يف �أي �ش�أن ثقايف �إبداعياً كان‬ ‫�أم اتباعي‪ ،‬ورمبا كان امل�صري علي عبد الرازق الأزهري هو من م�شاهري�ضحايا هذا اال�ستئذان‪،‬‬ ‫الذي ُ�س ّمي جمازاً وب�شكل ف�ضفا�ض حقوقياً (رقابة)‪ ،‬وهي عملية قا�سرة تخ�ضع الإبداع ا�ستن�سابياً‬ ‫وت�أويلياً‪ ،‬وتقوده لين�سقف حتت م�صالح الأيديولوجيا يف حماولة لإدراج الأيديولوجيا نف�سها‪ ،‬عنو ًة‬ ‫وا�ستثنائياً ك�سلطة د�ستورية عليا‪� ،‬أو ما فوق د�ستورية‪ ،‬حتى لو �أدى ذلك‪� ،‬إىل ن�سف املفاهيم‬ ‫امل�ؤ�س�سة للمجتمع الذي يزمع �إر�ساء دولة‪.‬‬ ‫يف �صراع الهويات يف مو�ضوعة الإ�صالح الديني‪ ،‬مبحث �ضخم‪ ،‬قد ال ت�ستوعبه عجالتنا هذه‪،‬‬ ‫ولكن ال بد من الإ�شارة هنا‪� ،‬إىل ا�ستح�ضار ثقافة الفتنة كجزء �أ�سا�سي من املوجودات الثقافية‪،‬‬ ‫‪89‬‬


‫فكــــــر‬

‫التي ع ّول عليها "التنويريون"‪ ،‬حيث افرت�ضت الأيديولوجيا توحيد �صنوف الديني كافة كغاية‬ ‫ا�سرتاتيجية‪ ،‬وهدف �أ�سمى‪ ،‬مد ّمرة يف طريقها �أ�شكال التنوع كافة‪ ،‬على الرغم من اعرتافها �أنّ‬ ‫يف "نيتها" املحافظة عليه ورعايته‪ ،‬ولكن نتائج هذا النوع التفكريي بالإ�صالح‪� ،‬أثبت وعلى مدى‬ ‫عقود قدرته التدمريية‪ ،‬على �إلغاء الآخر‪ ،‬املتجاوز ل�سقوف (الرقابة) حكماً وحتماً و�سلفاً‪ ،‬كما‬ ‫�أثبت م�أزقيته الثقافية (احلقوقية حتديداً) يف تلبية ا�ستحقاقات ت�أ�سي�س دولة واعدة بال�شبع واملنعة‪،‬‬ ‫من دون اللجوء �إىل العنف غري املد�سرت‪� ،‬أي غري املعتمِ د على �شرائع حقوق الإن�سان املعتمدة‬ ‫يف الدول‪ ،‬ومن هنا يبدو التنكيل بالأزهري علي عبد الرازق (�صاحب كتاب الإ�سالم و�أ�صول‬ ‫احلكم) لطيفاً وناعماً ومقبو ًال مع بدايات التفكري التنويري بالإ�صالح‪ ،‬ليتح ّول بعد التوغل يف‬ ‫"وعي" هذا التفكري الإ�صالحي �إىل ما هو �أدهى‪ ،‬يف حاالت مثل جنيب حمفوظ وفرج فودة‬ ‫وغريهم كثريون‪ ،‬ومع ارتقاء هذا "الوعي" �أ�صبح هذا التنكيل بينياً‪� ،‬أي داخل اجلماعات‬ ‫ّ‬ ‫املفكرة بالإ�صالح نف�سها‪ ،‬ومن ثم حت ّول لي�صبح جماعياً عرب حرب هويات (غزو حتديداً) بغطاء‬ ‫من "د�ساتري" ا�ستن�سابية حتتكر الفو�ضى بالعنف‪ ،‬با�سم الدفاع عن هذا الوعي النوعي‪ ،‬والذي‬ ‫ينا�سبنا!‬ ‫مل ي�سفر احلوار بني الأيديولوجي والثقايف حول م�س�ألة الإ�صالح الديني‪ ،‬عن �أية نتيجة �إيجابية‬ ‫منذ بدئه حتى الآن‪ ،‬وها نحن بعد قرن ون ّيف نعيد ونكرر ملفوظات املناظرة الدينية بني حممد‬ ‫عبدو وفرح �أنطون �أياً كان ر�أينا فيها‪ ،‬مرة �أخرى‪ ،‬وها هو الأكادميي ال�سعودي عبد العزيز التويجري‪،‬‬ ‫وال�صحايف اللبناين حممد علي فرحات‪ ،‬يكرران اخلطابني نف�سيهما على �صفحات جريدة احلياة‬ ‫ال�سعودية (‪ 14‬ـ يناير ـ ‪ ،)2015‬حيث يبدو خطاب الأ�ستاذ التويجري الأيديولوجي ع�صابياً تهوميياً‬ ‫و�شكالنياً اليفهم منه �شيء‪ ،‬يف حني يظهرخطاب الأ�ستاذ فرحات هادئاً وا�ضحاً معا�صراًوثقافياً‪،‬‬ ‫وهذا ما يظهر ا�ستع�صاء معرفياً على مدى �سنوات طوال‪ ،‬وركوداً ثقافياً معط ًال مينع اجلمهرات‬ ‫الب�شرية الناطقة بالعربية من االرتقاء قيد �أمنلة‪ ،‬باجتاه �أهداف �أو غايات حددها الع�صر‪ ،‬واختارها‬ ‫لب‬ ‫لب امل�شكلة‪ ،‬وهو ّ‬ ‫اجلميع مبلء توقهم حلياة �آدمية مكللة بال�شبع واملنعة‪ .‬هذا اال�ستع�صاء هو ّ‬ ‫ولب العبث الذي يذري اجلهد �أدراج الرياح‪ ،‬هو اخلديعة بعينها‪،‬‬ ‫التيه الثقايف الذي نعي�شه‪ّ ،‬‬ ‫والعقم بذاته‪� ،‬أن حتاور �أحداً وق�صدك �أن ال حتاوره‪� ،‬أن تعرتف بالعطب ومن ثم تهيكل عطبك‬ ‫اخلا�ص (اخل�صو�صي الهوياتي) وتهرع �إىل معاجلته بخ�صو�صيتك اال�ستثنائية!‪ ،‬هذه االزدواجية‬ ‫الفريدة وهذا الف�صام‪ ،‬يقود �إىل ا ّدعاء املوافقة على �ضرورة الإ�صالح الديني‪ ،‬ومن ثم تغريق‬ ‫امل�س�ألة و�أطرافها يف تفا�صيل ال تنتهي‪ ،‬مت ّوجاً الكوارث بابت�سامة التجريب املرت ّوية‪ ،‬حيث تنت�صر‬ ‫النظرية على التطبيق‪ ،‬وبكاءات عقد اال�ضطهاد املنتجة للعن�صرية‪ ،‬يف �أ�ضيق مناذجها‪ ،‬فكان �أن‬ ‫ُترك ال�س�ؤال معلقاً‪ ،‬و ّمت االلتفاف عليه حتت �شعار "التنوير"‪ ،‬حيث ّمت ت�شكيل ف�سيف�ساء جديدة‬ ‫لهذا النوع من التنوير‪ ،‬ال يبتعد فيه ح�سن البنا‪ ،‬عن الأفغاين وحممد عبدو ور�شيد ر�ضا‪ ،‬وال‬ ‫يبتعد �سيد قطب عن حممد بن عبد الوهاب �سابقاً‪ ،‬وال �أمين الظواهري الحقاً‪ ،‬وملا تزل هذه‬ ‫‪90‬‬

‫اللوحة الف�سيف�سائية‪ّ ،‬‬ ‫وتتو�سع ومتور بجدل داخلي حول �إ�صالح الدين‪ ،‬ولي�س الإ�صالح‬ ‫تت�شكل ّ‬ ‫الديني يف حال من الأحوال‪ ،‬وهذا ما �صنع تلك الهوة الباهظة ثقافياً بني عاملني ثقافيني متنافرين‪،‬‬ ‫�أحدهما يتبنى املناف�سة والآخر يتبنى العداء‪.‬‬ ‫جوهر ال�س�ؤال يف الإ�صالح الديني‪ ،‬يرتكز يف كيفية املواءمة بني املبد�أ احلقوقي ف�صل الدين‬ ‫عن الدولة و�سيطرة الديني (ولي�س الدين) على الثقافة احلقوقية‪ ،‬التي جته�ض انبثاق �أية دولة‬ ‫باملعنى احلديث‪ ،‬احلجة الأكرث �إحلاحاً التي اتفق عليها طرفا اجلدال‪ ،‬ولكنها هي نف�سها �صارت‬ ‫و�شق كل طرف طريقه لي�صبحا على عداوة‪ ،‬بد ًال من �أن‬ ‫عنواناً للمفرتق الذي افرتقا عنده‪ّ ،‬‬ ‫يكونا على جدل‪ ،‬مولدين يف عز احتدامهما هذا "الدولة" املواربة ثقافياً‪ ،‬التي قامت بتوزيع‬ ‫الرتغيب والرتهيب بالت�ساوي بينهما‪ ،‬فهي من جهة اجلهاز التكنولوجي للإدارة‪ ،‬وحمتكرة العنف‬ ‫الثورجي ك�إمارة (�أو والية) من جهة ثانية‪ ،‬حيث توقفت الثقافة احلقوقية عن الإنتاج عند احلجاج‬ ‫بن يو�سف الثقفي وملا تبارحه حتى يومنا هذا‪ ،‬وبقي �س�ؤال املواءمة وئيداً �أي�ضاً‪ ،‬و�سار مفهوم‬ ‫الإ�صالح الديني عند "التنويريني اجلدد" ليتحول �إىل "مفهوم" جتديد اخلطاب الديني‪ ،‬مواءم ًة‬ ‫مع ثورة االت�صاالت وت�سخرياً لتكنولوجيات تبادل املعلومات الذي وفرته‪ ،‬و�سيق بالنه�ضويني �إىل‬ ‫�ساحات التكفري والق�صا�ص‪ ،‬برعاية خا�صة من الثقافة ال�صحراوية املت�ضمنة حكماً يف الديني‪،‬‬ ‫الذي يت�ضمن الغزو كفعالية �أ�سا�سية‪ ،‬تعبرياً عن حيوية هذا الديني كما جاء يف الرتاث احلامل‬ ‫للأحالم امل�شتهاة‪ ،‬ليتحول الإ�صالح الديني نف�سه �إىل �أبحاث متناق�ضة يف الرتاث تف�ضي �إىل‬ ‫ت�صب يف عملية �إحيائه (حتديثه)‪� ،‬إن كانت جميله عرب "مفهوم" جتديد اخلطاب‬ ‫جدلية داخلية ّ‬ ‫الديني‪� ،‬أو�إن كان عن طريق فر�ضه فر�ضاً‪ ،‬بقوة املعلومات احلقوقية على م�س�ؤولية اخلالق(!)‪ ،‬حيث‬ ‫تتجلى �شفاهية الثقافة وزئبقيتها وعنفها‪ ،‬فهي ال تعني �أو تق�صد �شيئاً معيناً‪ ،‬وتعني وتق�صد كل‬ ‫�شيء يف �آنٍ معاً‪.‬‬ ‫يف النظر �إىل املواءمة العتيدة‪ ،‬ال ّبد من النظر يف التطبيقات الواقعية ملنتجات التفكري‪� ،‬إىل تلك‬ ‫ال�سلوكيات التي ينتهجها‪ ،‬وال�سلوكات التي ميار�سها الب�شر تعبرياً عن ت�أثري الثقافة بهم كحيوية‬ ‫حركية تقود �إىل اخلري الأعلى‪ ،‬فهي يف ر�أي و�أعني "التنويريني" مهما كانت اجتاهاتهم‪ ،‬ما هي‬ ‫�إال عودة �إىل النقاء الأول‪ ،‬حيث (جت ّلت) احليوية ب�أبهى �صورها‪ ،‬و�أعلى �أجمادها رفعة مبا يتجاوز‬ ‫الواقع املعا�صر‪� ،‬إىل واقع م�شتهى تفيد التكنولوجيات امل�سخرة يف �إحالله‪ ،‬عرب ا�ستعادة حيويته‬ ‫واقعياً‪ ،‬كما وردت تراثي ًا‪ ،‬وح�سب تعبري ه�شام جعيط (الفتح بو�صفه امل�شروع الأ�سا�سي للمجتمع‬ ‫بحد ذاته لي�س مهماً‪،‬‬ ‫احلربي الإ�سالمي)‪ ،‬حيث يلتب�س معنيا الغزو والفتح ا�صطالحياً وهذا ّ‬ ‫مقابل جعل الغزو �أو الفتح ركناً ت�أ�سي�سياً يف الديني ونقله �إىل الدين كركن �أ�سا�سي منه‪ ،‬بحيث‬ ‫يختلط التاريخاين بالعبادي‪ ،‬لتتمطط حالة الت�أ�سي �إىل ماالنهاية‪.‬ففي هذه اللحظة الثقافية �أُدمج‬ ‫"التنويريون" والأ�صوليون يف كتلة واحدة‪ ،‬مثلإدماجهم الدين بالديني‪ ،‬بعد تفويت التنويريني‬ ‫فر�صة التفكري يف فك االرتباط بني الدين الر�سالة‪ ،‬ودين الغزو‪ ،‬ك�أحد موا�ضيع املواءمة‪ ،‬حتت‬ ‫‪91‬‬


‫فكــــــر‬

‫حجة ان�شغالهم بالتنوير‪ ،‬الذي �أنتج ما �أنتج خالل رحلة العودة اىل النقاء الأول‪ ،‬لي�صبح التنوير‬ ‫نف�سه م�شروطاً بالأ�صولية ومنتجاً لها‪ ،‬وهذا ما مار�سته وعلى الأقل‪ ،‬م�ؤ�س�سة الأزهر كم�ؤ�س�سة‬ ‫منوذجية للتفكري‪ ،‬ال�شواهد �أكرث من �أن تحُ �صى‪� ،‬إذ يكفي �أن نذكر طه ح�سني �أو رواية "�أوالد‬ ‫حارتنا" لنعرف مبا يكفي‪ ،‬عن م�سرية الإ�صالح الديني‪ ،‬ك�أحد ال�شروط املعرتف بها حل�صول‬ ‫النه�ضة‪.‬‬ ‫ّركزت ّ‬ ‫جل الدرا�سات واملباحث‪ ،‬يف ا�ستق�صاءاتها الرتاثية على الفتح وجمرياته‪ ،‬لكون االنت�صارات‬ ‫تلبي ما يف النفو�س من توق للفخر واالعتزاز‪ ،‬ولكنها ومن جهة �أخرى ولدت و�أوجدت تنظرياً‬ ‫حقوقياً بدي ًال للدولة امل�شتهاة‪ ،‬ليتحول الفتح �أو الغزو �إىل تكنولوجيا‪ ،‬فيتحول تطبيقها �إىل فكرة‬ ‫مركزية من دون البحث يف م�صادرها و�أ�صولها وانرتوبوليجياتها‪ ،‬وحتى موقعها من الدين والديني‪،‬‬ ‫فهي يف �أ�صولها الثقافية متتد �إىل �أعماق ال�صحراء‪ ،‬حيث كان الغزو فعالية �أ�سا�سية (كما عبرّ‬ ‫الأ�ستاذ جعيط) اقت�صادية وهوياتية وا�صطفائية‪ ،‬فالغزو كممار�سة‪ ،‬مل يكن له �سبب �سوى حيوية‬ ‫اجلماعة‪ ،‬الذي ينتج بالإ�ضافة �إىل الغنائم وتقا�سمها‪ ،‬مهابة هذه اجلماعة ورفعتها يف ظل البداوة‬ ‫الرملية‪ ،‬وانتقاله كفعالية وممار�سة �إىل الأداء الديني كان طبيعياً �آنذاك‪ ،‬لي�س لأنه تطبيق رئي�س‬ ‫للثقافة ال�سائدة فقط‪ ،‬بل لأن �سلوكيات هاتيك الأيام‪ ،‬تقت�ضي التو�سع بالغزو كلما ازدادت‬ ‫احليوية‪ ،‬هكذا كانت قوانني العامل القدمي و�أخالقياته‪� ،‬أما بعد انطالقة ع�صر الأنوار وثوراته �أ�صبح‬ ‫معنى �آخر‪ ،‬بح�ضور املجتمع والدولة احلديثني واحلداثيني‪ ،‬اللذين �صنعا حيوي ًة فائقة �أراد‬ ‫(للغزو) ً‬ ‫الناطقون بالعربية‪ ،‬احل�صول على مثلها ولكنهم ا�شرتطوا �أن ال ميار�سوا ا�ستحقاقاتها‪ ،‬وا ّدعوا �أن‬ ‫لديهم ما هو �أح�سن منها‪ ،‬معاك�سني يف ذلك مفهوم الإ�صالح الديني‪ ،‬مع �أنهم قبلوا به ووافقوا‬ ‫عليه �شفاهية‪ ،‬ولكنهم ّف�سروه على هواهم‪ ،‬ليح�صلوا على نتائج خمتلفة متاماً عن الأمنوذج امل�شتهى‬ ‫املناف�س على امل�صالح‪ ،‬حتى ولو انت�صروا يف غزواتهم كافة‪.‬‬ ‫كانت مركزية الفتح (الغزو) يف املنتجات الثقافية وملا تزل‪ ،‬ت�ستحق النظر من الوجهة الثقافية‬ ‫امل�ؤ�س�سة للمجتمع و�سلوكه‪ ،‬و�إعادة فتح ملفه بتحليله و�إعادة تركيبه‪ّ ،‬‬ ‫ت�شكل حلقة مف�صلية من‬ ‫جتب‬ ‫مو�ضوعة الإ�صالح الديني‪ ،‬فامل�س�ألة متعلقة متاماً بالع�صور احلاملة لالرتقاءات الب�شرية‪ ،‬والتي ّ‬ ‫ما قبلها من �سلوكيات ناجتة عن ثقافة ما�ضية‪ ،‬عربف�صل الدين عن الديني (التاريخاين)‪ ،‬والرتاثي‬ ‫عن الفلكلوري‪ ،‬ودين الر�سالة عن (دي َني) الغزو �أو الفتح‪ ،‬وهو ما فهمه النه�ضويون وفكروا به‪،‬‬ ‫وحتملوا عنت "التنويريني" وا�ضطهادهم‪ ،‬يف �سبيل مواءمة معرفية قادرة على الولوج يف عمليات‬ ‫ت�أ�سي�س امل�ستقبل‪.‬‬ ‫مل تفلح املحاورات واملناظرات بني النه�ضويني و"التنويريني"‪ ،‬يف الو�صول �إىل نقطة تفاهم �أو‬ ‫خطة عمل‪� ،‬أو على �إنتاج مفاهيم قادرة على الولوج �إىل العملية املعرفية الت�أ�سي�سية‪ ،‬وبقيت هذه‬ ‫املناظرات كحوار طر�شان (مناظرات حممد عبده وفرح �أنطون مثا ًال)‪ ،‬احتكم �إىل القوة بعد فرتة‬ ‫جد وجيزة (الكواكبي‪ ،‬قا�سم �أمني‪ ،‬طه ح�سني‪ ،‬علي عبد الرازق‪� ،‬أبو خليل القباين‪ ،‬وغريهم‬ ‫‪92‬‬

‫كرث)‪ ،‬حيث بدا حممد عبدهفي مناظراته ليربالياً متطرفاً بالن�سبة ملن �أتوا بعده‪ ،‬فهو مل ّ‬ ‫ينكل‬ ‫بفرح �أنطون على الأقل‪ ،‬ولكن مناظراتهم نف�سها مل تكن قادرة على اجلدل‪ ،‬وعلى حتديد نقاط‬ ‫املواءمة التي يجب العمل عليها‪ ،‬فبديا متنافرين متعاك�سني ال بل متع�صبني‪ ،‬ال جتمعهما م�صلحة‪،‬‬ ‫وال تقرب بينهما ا�سرتاتيجيا‪ ،‬وك�أنهما يحكيان يف مو�ضوعني من حقلني معرفيني خمتلفني متاماً‪،‬‬ ‫فواحد يريد الب�شر يف خدمة الديني‪ ،‬والآخر يعاك�سه يريد للديني �أن يكون يف خدمة الب�شرية‪ ،‬بنا ًء‬ ‫على اتفاقهما على �ضرورة النه�ضة‪ ،‬ليعودا �إىل الدوران يف حلق ٍة مفرغة‪ ،‬تبتلعنا دواماتها املتكررة‪،‬‬ ‫عرب تكنولوجيات الإعالم وو�سائل االت�صال امل�سخرة خلدمة الديني‪ ،‬برعاية ثقافة ال�صحراء الرملية‬ ‫املدججة بالبرتودوالر‪ ،‬ليرت ّمد �أي حوار‪ ،‬حتى لو كان حوار طر�شان‪.‬‬ ‫واليوم‪ ،‬ومع كل هذه "احليوية" الثقافية التي جتتاحنا‪ ،‬ملا نزل نخطو خلفاً من ت�أ�سي�س املجتمع‬ ‫والدولة‪ ،‬فلم نزل حتت ال�صفر املعريف الذي ي�ؤهلنا لذلك‪ ،‬فحروبنا الداخلية‪ ،‬ولهيب هوياتنا‬ ‫امل�ستعر‪ ،‬وعالقتنا بالعلم واملعرفة‪ ،‬وم�ستوى احرتامنا لقيم ت�أ�سي�س النهو�ض (كاحرتام احلق باحلياة‬ ‫�أو العمل واحلق باالختالف التناف�سي الخ)‪.‬وعلى الرغم من كل الدرو�س املكلفة التي تك ّبدتها‬ ‫وتتك ّبدها منطقتنا‪� ،‬أ�صبح من غري املجدي الدفع مببد�أ ف�صل الدين عن الدولة‪ ،‬على الرغم من �أنه‬ ‫احلل الوحيد لهذا امل�أزق الإن�ساين‪ ،‬فقد �أكلت نار الديني ه�شيم املعرفة‪ ،‬وما هي �إال دورة عنف‬ ‫�أعمى‪ ،‬قد تطول وقد تق�صر‪ ،‬ريثما يتم الإفراج عن الرهينة الكربى ـ العقل ـ‪.‬‬

‫‪93‬‬


‫�صدر حديثا ً‬

‫فـكــــــــر‬

‫العراق‪� ..‬رصاع للوجود‬ ‫د‪ .‬حافظ الزين ‪ -‬كاتب‬

‫يف العراق اليوم‪ ،‬ال�شعب ب�أكمله‪ ،‬كما فئاته من الطوائف واملذاهب‪ ،‬يعي�ش يف حالة قلق وجودي‪.‬‬ ‫اال�ستعمار الأمريكي ميار�س لعبته املف�ضلة‪ :‬التفرقة الطائفية والعن�صرية‪ ،‬ويعاود الك َّرة باحلجة‬ ‫نف�سها‪ :‬مكافحة الإرهاب ‪ ...‬و�إيران‪ :‬حماولة حثيثة عرب احل�شد ال�شعبي لت�صحيح �أخطاء املا�ضي‪.‬‬

‫�أ�سماء و�أحداث‬ ‫الدكتور خليل �سعاده‬ ‫يف لبنان و�سوريا نف ٌر بلغت مرونة �ضمائرهم حداً فاح�شاً واجتازوا �أطواراً غريبة‪ .‬ففي �أيام عبداحلميد كانوا‬ ‫ي�سبحون بحمده ويحرقون البخور �أمام عر�شه‪ .‬يف �أيام الد�ستور بلغت حريتهم درجة البيا�ض من احلرارة‪ .‬ويف‬ ‫�أيام احلركة العربية تغنوا ب�أجماد العرب‪.‬‬ ‫ويف �أيام احلرب ترمنوا مبدح �أنور وجمال‪ .‬ويف �أيام احللفاء �سجدوا لدول احلرية والعدل‪ .‬ويف �أيام في�صل عفروا‬ ‫وجوهم على �أعتاب احلجاز‪ .‬ويف �أيام احلركة ال�سورية اال�ستقاللية وقفوا حتت لواء اال�ستقالل التام املطلق‪.‬‬ ‫ويف �أيام فرن�سا ت�سابقوا �إىل متجيد دولة احلرية والإخاء وامل�ساواة وال يزالون كذلك حتى ال�ساعة‪.‬‬ ‫خليل �سعاده‬ ‫م�ؤ�س�سة �سعاده للثقافة‬ ‫بناية ر�سامني‪� ،‬شارع احلمرا‪ ،‬ر�أ�س بريوت‪ ،‬لبنان‬ ‫�صندوق بريد‪ ،113-5557 :‬بريوت ‪ -‬لبنان‪.‬‬ ‫هاتف ‪)00961-1( 753363:‬‬ ‫فاك�س ‪)00961-1( 753364:‬‬ ‫الربيد الإلكرتوين ‪saadehcf@idm.net.lb:‬‬ ‫املوقع الإلكرتوين ‪www.saadehcf.org:‬‬

‫كيف و�صلنا �إىل هنا؟‬ ‫قبل املغادرة يف �آخر ‪ ،2011‬حر�ص االحتالل الأمريكي على زرع بذور الطائفية يف مفا�صل الدولة‬ ‫التي َّركبها بعناية �أثناء وجوده‪ :‬يف الد�ستور اجلديد‪ ،‬قانون االنتخابات‪ ،‬توزيع فرق اجلي�ش الذي‬ ‫يعاد بنا�ؤه‪ ،‬اجتثاث البعث‪ ،‬خم�ص�صات املوازنة مل�شاريع التنمية ‪ ...‬الخ‪.‬‬ ‫املدخل �إىل ذلك كان تكوين املتن ّوع الطائفي (‪� 65%‬شيعة‪� %28 ،‬سنة‪ ،‬و ‪ %7‬م�سيحيني و�أقليات)‬ ‫والعرقي (‪ %82‬عرب‪� %16 ،‬أكراد‪ ،‬و ‪ %2‬خمتلف)‪ .‬وكذلك وقوع العراق بني ثالث دول �إقليمية‬ ‫كبرية‪� :‬إيران ذات الغالبية ال�شيعية وتركيا وال�سعودية ذات الغالبية ال�سنية‪.‬‬ ‫و�ضع غني بفوالق ال�شقاق والتفرقة الطائفية واملذهبية والعرقية‪ ،‬التي ي�سيل لها لعاب اال�ستعمار‪.‬‬ ‫مل يرت ّدد اال�ستعمار الأمريكي يف غزو العراق العام ‪ ،2003‬تكملة خلطته اال�سرتاتيجية لغرب �آ�سيا‪،‬‬ ‫والتي بد�أها منذ العام ‪ ،1980‬و�أ�س�س لها ب�أكرث من ‪ 30‬قاعدة ع�سكرية يف اخلليج والبحر الأحمر‪،‬‬ ‫ثم باجتياح �أفغان�ستان يف ‪.2001‬‬ ‫فكان االحتالل ‪...‬‬ ‫بالن�سبة لل�شيعة‪ ،‬كان خروجهم من اال�ضطهاد والقمع حتت حكم �صدام ح�سني �إجنازاً ال ميكن‬ ‫الرتاجع عنه‪ .‬ولكنه جتلى يف كثري من الأحيان على �شكل رغبة يف الث�أر من امل�س�ؤولني عن‬ ‫ا�ضطهاد املا�ضي‪� ،‬أو اال�ستئثار مبفا�صل احلكم لكون ال�شيعة ي�شكلون غالبية ال�شعب‪ .‬املرجعيات‬ ‫ال�شيعية و�إيران‪ ،‬على الرغم من دعوتها للوحدة الوطنية‪ ،‬مل تتعامل مع التجاوزات والع�صبيات‬ ‫‪95‬‬


‫فكــــــر‬

‫ب�شكل حا�سم انطالقاً من فهم عميق خلطورتها‪ .‬ومع تف�شي الف�ساد املايل والوظيفي‪ ،‬تف�شت تلك‬ ‫الع�صبيات لتكون غطاء انتهازياً له‪.‬‬ ‫ال�س َّنة‪ ،‬فبعد �أن كانت ع�شائرهم دعائم حكم البعث وحا�شيته الداخلية‪ ،‬وجدوا �أنف�سهم بعد‬ ‫�أما ُ‬ ‫االجتياح الأمريكي العام ‪ 2003‬من دون حماية من �أحد‪ :‬اجلي�ش ُد ِّمر ومت ح ّله‪ ،‬ورموز املعار�ضة‬ ‫العائدة مع املُحتل كانت مبعظمها �شيعية‪ ...‬ف�أ�صبحوا فج�أة بيئة مقهورة ومطا َر َدة‪ .‬الو�ضع النا�شئ‬ ‫فتح الباب وا�سعاً للقاعدة وفكرها الوهابي العن�صري املتطرف‪ ،‬والتي وجدت فر�صة �سانحة لتو�سيع‬ ‫حراكها �إىل �ساحة جديدة ت�ضاف �إىل �أفغان�ستان‪.‬‬ ‫هذه "القيمة امل�ضافة" من الفو�ضى اخلالقة‪ ،‬لعبت مبا�شرة �إىل �أهداف امل�شروع اال�ستعماري من‬ ‫غزو العراق‪ :‬ربط تربير النيات الأمريكية ب�إن�شاء قواعد ع�سكرية ثابتة‪ ،‬مبحاربة الإرهاب الذي متثّله‬ ‫القاعدة‪ ،‬وا�ستباب الأمن يف البالد‪.‬‬ ‫امل�سيحيون والأقليات وجدوا �أنف�سهم يف تقاطع النريان الطائفية الإ�سالمية‪ ،‬و�إن جاءت �أذيتهم‬ ‫ب�شكل �أ�سا�سي من ا�ستهدافات القاعدة‪ ،‬على خلفية تكفري الفكر الوهابي لهم‪.‬‬ ‫قبل الغزو ‪ -‬حروب م�ستدامة!‬ ‫االحتالل الأمريكي �أتى �إىل عراق مفكك‪ ،‬منهار اقت�صادياً واجتماعياً‪ ،‬ويف ح�صار �سيا�سي‬ ‫و�إعالمي‪ .‬هم �أنف�سهم كانت لهم اليد الطوىل يف و�ضع البلد يف حال حرب �أو عدوان دائمة منذ‬ ‫‪ ،1980‬ودائماً بالتوازي مع �إيران منذ �أن �أطاحت ثورتها الإ�سالمية بال�شاه‪:‬‬ ‫حرب تدمريية مع �إيران (‪ )1988 - 1980‬ز َّي َنتها �أمريكا ودول اخلليج فر�صة ل�صدام ال�سرتجاع‬ ‫الأهواز‪" :‬جزء حمتل من الوطن العربي الكبري"‪ .‬كانت نتيجتها من الطرفني �أكرث من ‪600,000‬‬ ‫قتيل‪ ،‬مليوين جريح ومعوق‪ ،‬دمار هائل‪ ،‬وبكلفة تزيد عن ‪ 170‬مليار دوالر‪.‬‬ ‫�ستغ�ض الطرف (اعتقدها جائزة‬ ‫اجتاح �صدام ح�سني الكويت يف العام ‪ 1990‬بعد �أن َتو ّهم �أن �أمريكا ّ‬ ‫تر�ضية مكاف�أة حلربه مع �إيران)‪ ...‬فلم تكن �سوى ّفخ حمكم‪� ،‬إذ كان احتالل الكويت حجة لعملية‬ ‫�أمريكية‪� -‬أطل�سية لـ"حتريرها"‪ .‬والنتيجة‪ :‬تدمري كبري للجي�ش العراقي وزيادة الوجود الع�سكري‬ ‫الأمريكي ‪ -‬الأطل�سي الدائم يف اخلليج ‪� 4‬أ�ضعاف مع �إ�ضافة وتو�سيع ‪ 15‬قاعدة ع�سكرية يف املنطقة‪.‬‬ ‫حظر جوي وبحري �ضد العراق (‪ )2003 - 1991‬ت�سبب بو�ضع �إن�ساين مريع يف البالد‪.‬‬ ‫االحتالل الكامل العام ‪ 2003‬بحجة مكافحة الإرهاب و�إزالة �أ�سلحة الدمار ال�شامل املفرت�ض‬ ‫وجودها بناء لتقارير كاذبة لفقها الأمريكيون‪.‬‬ ‫بعد الغزو ‪ -‬مقاومة االحتالل الأمريكي ‪ -‬الربيطاين للعراق (‪ )2011 - 2003‬مقاومة االحتالل مل تكن موحدة‪.‬‬ ‫‪96‬‬

‫يف �سنوات االحتالل الأوىل (‪ )2007 - 2003‬ن�شطت القاعدة �ضمن الأو�ساط ال�سنية على‬ ‫جبهتني‪ :‬القوات الأمريكية واملُ َك ِّون ال�شيعي الذي ا�ستهدفته القاعدة من منطلقني‪ :‬الغلبة‬ ‫ال�شيعية لرموز احلكم املتعاونة مع الغزاة‪ ،‬و�أي�ضاً من منطلق عن�صري تكفريي ين�ضح به الفكر‬ ‫الو ّهابي الذي تتحرك بهديه‪.‬‬ ‫يف ال�سنوات الأخرية لالحتالل‪ ،‬انح�صر ن�شاط القاعدة تقريباً يف ا�ستهداف ال�شيعة وفئات ال�سنة‬ ‫املعادين لنهجهم‪.‬‬ ‫�أما يف �سنوات االحتالل الأخرية (‪ ،)2011 - 2006‬فكان معظم املقاومة نابعاً من الأو�ساط ال�شيعية‬ ‫مب�ساعدة احلر�س الثوري الإيراين وحزب اهلل‪ .‬غري �أن بع�ض التنظيمات ال�شيعية الهام�شية �شنت‬ ‫هجمات انتقامية �ضد املناطق ال�سنية‪ .‬عدم التعامل احلازم والق�ضاء على هذه الظواهر للتع�صب‬ ‫املذهبي ال�شيعي كان خط�أ فادحاً �ساعد يف زيادة اال�ستقطاب املذهبي يف ال�ساحة ال�شعبية العراقية‬ ‫ولعب مبا�شرة بيد اال�ستعمار الأمريكي (ورمبا كانوا ب�إمرة عمالئه)!‬ ‫بالتزامن‪ ،‬كان امل�سيحيون والأقليات يحاولون ا�ستيعاب ال�صدمة االجتماعية الناجتة عن ا�ستهدافهم‬ ‫من قبل متطريف القاعدة على امتداد العراق‪ ،‬ونتجت عن ذلك هجرة حوايل ثلثهم �إىل الغرب‪.‬‬ ‫على الرغم من كل ال�سلبيات الطائفية‪ ،‬متكنت املقاومة من االنت�صار‪.‬‬ ‫غادر اال�ستعمار الأمريكي بخفي حنني حتت ال�ضغط الع�سكري للمقاومة بعد خ�سائر جتاوزت‬ ‫الـ‪� 20‬ألف قتيل وجريح‪ .‬مل يح�صل اال�ستعمار على هدفني �أ�سا�سيني من اجتياح الـ‪:2003‬‬ ‫احل�صول على قواعد ع�سكرية مع حماية لقواته من املالحقة القانونية‪.‬‬ ‫زعزعة الو�ضع الداخلي الإيراين وتغيري النظام فيها‪� ،‬أو على الأقل احل�صول على تنازالت ملمو�سة‬ ‫جتعلها �أكرث طواعية وتعاوناً مع امل�شروع الأمريكي يف غرب �آ�سيا‪.‬‬ ‫التح�ضري للهجمة الداع�شية‬ ‫متعدد الوجوه تعر�ض له العراق منذ غادر االحتالل الأمريكي العام ‪َ ،2011‬ت ّو َج ُه‬ ‫عدوان وح�شي ّ‬ ‫ا�ستيالء "داع�ش" على املو�صل ومناطق وا�سعة من حمافظات نينوى‪� ،‬صالح الدين‪ ،‬والأنبار‬ ‫وبع�ض من حمافظات دياىل‪ ،‬كركوك و�أربيل يف حزيرن ‪.2014‬‬ ‫يف البدء كانت مظاهرات احتجاجية واعت�صامات يف حمافظات الأنبار و�صالح الدين مطالبة‬ ‫بال�شراكة الفعلية لل�سنة يف احلكم ورف�ض ا�ستئثار الأحزاب ال�شيعية مبراكز القرار‪� ...‬أيادي‬ ‫ال�سعودية كانت وا�ضحة يف تغذية هذا احلراك ومواكبته �إعالمياً بهدف ا�ستغالله �سيا�سياً يف �أُ ُطر‬ ‫خمتلفة متاماً عن املطالب املُحقة التي يرفعها‪.‬‬ ‫‪97‬‬


‫فكــــــر‬

‫ُو ِ�صف احلراك يف �صحف ال�سعودية (ال�شرق الأو�سط ‪ ،‬احلياة ‪ ...‬وغريها) كما يف قنوات "اجلزيرة"‬ ‫و"العربية"‪ ،‬على �أنه ثورة �أهل ال�سنة يف العراق �ضد القمع‪ ،‬اال�ضطهاد والتحكم ال�شيعي‪ ،‬والتبعية‬ ‫لإيران‪ :‬العبارات وال�شعارات نف�سها التي ي�ستعملها الإعالم الغربي وال�صهيوين وتوابعه يف‬ ‫الإعالم ال�صهيو ‪ -‬عربي ل�صياغة ال�صراعات البديلة عن ال�صراع �ضد �إ�سرائيل‪� .‬شعارات اب ُتدِ عت‬ ‫لتحويل ال�صراع من عربي ‪� -‬إ�سرائيلي �إىل �صراع‪:‬‬ ‫عربي‪� -‬إيراين‪ ،‬وفيه يتحالف العرب مع �إ�سرائيل �ضد العدو الإيراين امل�شرتك‪ ،‬و‪...‬‬ ‫�سني ‪� -‬شيعي‪ ،‬يتناغم مع مقوالت التنظيمات امل�سلحة التكفريية املت�شبعة بالفكر الوهابي والذي‬ ‫يطلق هذا الإعالم على م�سلحيهم ت�سميات "الثوار ال�سنة" و"املجاهدين"‪.‬‬ ‫هذا احلراك ما لبث �أن حتول �إىل مناو�شات ع�سكرية وا�سعة لـ"داع�ش" يف الفلوجة‪ ،‬تكريت‪،‬‬ ‫وديايل‪ .‬لكن احلراك الأدهى كان يتم �إعداده يف تركيا‪ ،‬حيث كانت تطبخ تفا�صيل االجتياح‬ ‫الداع�شي‪.‬‬ ‫الهجمة الداع�شية ‪ -‬الباب اخللفي لعودة اال�ستعمار الأمريكي ‪ -‬الأطل�سي‬ ‫ر�أ�س حربة هجوم داع�ش كان ب�ضع مئات من امل�سلحني‪ ،‬و�صلوا �إىل املو�صل من احلدود ال�سورية‬ ‫خالل يومني قاطعني حوايل ‪ 100‬كلم‪ ،‬على الأغلب عرب معرب اليعربية على ملتقى الأرياف‬ ‫ال�شرقية للقام�شلي واحل�سكة‪ ،‬والذي يبعد �أقل من ‪ 50‬كلم عن احلدود الرتكية عند املالكية (هذا‬ ‫�سيناريو تقديري للكاتب ولي�س معلومات من�شورة)‪ .‬م�سار معد ب�إتقان‪ ،‬مع كل التح�ضريات للمرور‬ ‫الآمن‪ ،‬و�صو ًال �إىل خمازن الأ�سلحة الثقيلة والآليات التي كانت بانتظارهم يف املو�صل عندما‬ ‫دخلوها يوم ‪ 10‬حزيران‪.2014 ،‬‬ ‫ب�ضعة �آالف من امل�سلحني دخلوا يف الأيام القليلة التالية‪ ،‬وا�ستخدموا الآليات التي ا�ستولوا عليها‬ ‫يف املو�صل للتوجه جنوباً وال�سيطرة على بيجي وتكريت‪� ،‬إىل �أن مت �إيقافهم على تخوم �سامراء‪.‬‬ ‫�أ�سابيع بعد غزوة املو�صل‪ ،‬قام تنظيم داع�ش يف �أوائل �آب ‪ 2014‬باحتالل �سد املو�صل (‪ 40‬كلم �شمال‬ ‫غرب املدينة) والتوجه �شرقاً‪ ،‬و�صو ًال حلوايل ‪ 40‬كلم من �أربيل‪ّ .‬مت هذا الأمر ب�شكل مريب بعد ان�سحاب‬ ‫الب�شمركة من دون مقاومة‪ ،‬وبد ًال من ذلك‪ ،‬دخلت الب�شمركة �إىل كركوك بحجة حمايتها من داع�ش‪.‬‬ ‫ترافق ذلك بالهجوم على �سنجار (غرب املو�صل) وقيام داع�ش مبجازر مر ِّوعة و�سبي بحق الآيزيديني‪.‬‬ ‫الإعالم املُ َّركز �أبرز ب�شكل مكثف مروحة متكاملة من الأجواء خالل �أيام قليلة‪ :‬تهديد �أربيل‬ ‫عا�صمة �إقليم كرد�ستان‪ ،‬خماطر احتالل داع�ش لآبار النفط يف كركوك‪ ،‬احتمال تدمري �سد‬ ‫املو�صل‪ ،‬اقرتاب داع�ش من احلدود الإيرانية‪ ،‬احلاالت الإن�سانية من ذبح‪ ،‬تهجري‪� ،‬سبي‪ ،‬وجماعة‪.‬‬ ‫كانت �صور الآيزيديني املحا�صرين على جبل �سنجار �أكرثها ت�أثرياً وت�أجيجاً للم�شاعر‪ .‬ثم �أعدم‬ ‫‪98‬‬

‫داع�ش �صحافياً �أمريكياً ذبحاً‪ ،‬و�صدرت عن داع�ش تهديدات �ضد حكام ال�سعودية والبحرين‬ ‫"املرتدين" وكل من ي�ضع يده بيد �أمريكا‪.‬‬ ‫والكويت ّ‬ ‫هكذا‪ ،‬ب�سحر �ساحر �إعالمي‪ ،‬وبف�ضل هذه "العا�صفة الكاملة" (�شكراً داع�ش)‪� :‬أحداث متنا�سقة‪،‬‬ ‫تهويل بالأ�سو�أ‪ ،‬حاالت �إن�سانية تدمي القلوب وتهجري مئات الآالف‪� ...‬أجنزت الواليات املتحدة‬ ‫الكثري‪:‬‬ ‫ا�ست�صدار �سريع لقرار بالإجماع من جمل�س الأمن حتت الف�صل ال�سابع ملحاربة داع�ش‪ .‬تلت‬ ‫ذلك الدعوة لت�شكيل حلف دويل ملحاربة الإرهاب‪ ،‬و�إعادة جتميع من كانوا يف ال�سابق "جمموعة‬ ‫�أ�صدقاء �سوريا" �ضمن هذا احللف اجلديد‪.‬‬ ‫الدول اخلليجية التي َو َّ�صفت داع�ش يف البداية بـ"الثوار ال�سنة" �ضد "اال�ضطهاد ال�شيعي"‪� ،‬أعطيت‬ ‫�صك براءة‪ ...‬فاملرحلة املقبلة ت�ستوجب تو�صيف داع�ش بـ"الإرهاب" واالنغما�س يف "حتجيمها"‪.‬‬ ‫مت ابتكار �ضحايا جدد لداع�ش غري ع�شرات الآالف من �ضحاياهم يف �سوريا والعراق‪� :‬أع�ضاء‬ ‫احللف الدويل امل�ستحدث لـ"جمموعة �أ�صدقاء �سوريا"‪.‬‬ ‫هذا التظهري هدفه متويه الأهداف الفعلية لداع�ش و�أخواتها (جبهة الن�صرة والتنظيمات املتعددة‬ ‫من م�شتقات الإخوان امل�سلمني)‪:‬‬ ‫م�شاغلة وحماربة القوى املواجهة للواليات املتحدة و�إ�سرائيل وتدمري ما �أمكن من قدراتها‬ ‫الع�سكرية‪.‬‬ ‫اقتالع الأقليات‪ ،‬التهجري اجلماعي لل�سكان على �أ�سا�س اال�ستقطاب الطائفي ال�سني ‪ -‬ال�شيعي‪،‬‬ ‫تدمري البنى التحتية والفوقية واحل�ضارية لتلك الدول كي ي�سهل تفكيكها‪ ،‬وم�ستقب ًال‪ :‬ت�شكيل‬ ‫وتثبيت البدائل‪.‬‬ ‫عودة مظفرة للواليات املتحدة ب�صورة املخل�ص الوحيد القادرعلى احتواء "الوح�ش"‪ .‬هذا �أعطاها‬ ‫القدرة على ا�ستخدام قواعدها املنت�شرة يف ال�سعودية‪ ،‬قطر‪ ،‬البحرين‪ ،‬الكويت وتركيا‪� ،‬إ�ضافة �إىل‬ ‫الأ�سطول البحري يف املتو�سط واخلليج ب�شكل حربي متكامل بو�صفها الو�صي القادر والعطوف‪،‬‬ ‫من دون اعرتا�ض م�ؤثر من �أحد‪ .‬كانت �أي�ضاً فر�صة �سانحة لإ�شراك احللفاء اخلليجيني يف مناورات‬ ‫جوية حية‪� .‬أما هوية الطيارين؟ عدا عن ا�ستعرا�ض رائدة �إماراتية و�أمري �سعودي‪ ،‬هل بينهم‬ ‫�إ�سرائيليون ممن تتكامل مهماتهم مع القوات الأمريكية؟ َمن يدري‪ ...‬و َمن ي�س�أل؟‬ ‫اال�ستعمار ميار�س لعبته املف�ضلة‪ :‬التفرقة الطائفية والعن�صرية‬ ‫منذ �أن دخلت الواليات املتحدة على خط "حتجيم" داع�ش عرب قيادة "احللف الدويل ملكافحة‬ ‫‪99‬‬


‫فكــــــر‬

‫الإرهاب" قبل ‪� 5‬شهور "بطلب من احلكومة العراقية وتفوي�ض من جمل�س الأمن"‪ ،‬ان�شغلت ب�أمور‬ ‫غري الطلعات اجلوية‪:‬‬ ‫قامت بات�صاالت وا�سعة مع ع�شائر الأنبار ‪ -‬ال�سنة ودعت وفداً من م�شايخهم لزيارة وا�شنطن‪،‬‬ ‫وحثت احلكومة املركزية على اال�ستجابة ملطالبهم‪ ،‬من دون ترك منا�سبة للت�أليب �ضد "احل�شد‬ ‫ال�شعبي"‪ ...‬هذا بعد �أن م ّهدت داع�ش بقتل املئات من ع�شريتي "البو منر" و"البو فهد"‪.‬‬ ‫�شيخ ع�شرية "البومنر" نعيم الكعود‪" :‬احلكومة املركزية تقدم الدعم الكايف للح�شد ال�شعبي‬ ‫تقدمه للأنبار من ال�سالح والعتاد‬ ‫من ال�سالح والعتاد من �أ�سلحة متو�سطة وثقيلة‪ ،‬عك�س ما ّ‬ ‫ال�ضعيف"‪.‬‬ ‫ال�شيخ عامرعبد الكرمي الفهداوي‪ ،‬من �أبرز �شيوخ ع�شرية البوفهد‪�" :‬إن ع�شائر الأنبار‪ ،‬عالوة على‬ ‫ال�سالح‪ ،‬بحاجة �إىل احل�صول على دعم م�ستمر من امل�ؤون �أي�ضاً‪ ،‬وعلى احلكومة املركزية ت�أمني كافة‬ ‫�أ�شكال الدعم لنا �إن كانت تريد انت�صار الع�شائر على داع�ش"‪.‬‬ ‫�صرحت الواليات املتحدة الأمريكية �أنها تقف �إىل جانب ع�شائر الأنبار املقاتلة لـ"داع�ش" يف‬ ‫و�ستمدها بالدعم الالزم‪ ،‬لكن "ب�شرط موافقة احلكومة العراقية‪ ،‬و�أن ّمير ذلك عربها"‪.‬‬ ‫العراق‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫دعا ‪ 17‬ع�ضواً يف جمل�س ال�شيوخ الأمريكي وزير اخلارجية جون كريي �إىل دعم "جهود احلكومة‬ ‫العراقية" لإن�شاء حمافظة يف �سهل نينوى‪ ،‬ت�ضم الأ�شوريني والأقليات امل�سيحية الأخرى التي‬ ‫تقطن املنطقة‪ ...‬علماً ب�أن جمل�س الوزراء العراقي مل يبحث تلك امل�س�ألة من قبل‪.‬‬ ‫عدد من ال�سيا�سيني ال�شيعة يف اجلنوب نادوا ب�إقامة اقليم �شيعي يف جنوب العراق‪ ،‬وطلبوا من‬ ‫الواليات املتحدة امل�ساعدة يف ال�ضغط على احلكومة املركزية لتحقيق ذلك‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫م�ستقل متاماً عن‬ ‫تعمل الواليات املتحدة مع �سلطات �إقليم كرد�ستان وقوات الب�شمركة‪ ،‬ب�شكل‬ ‫احلكومة املركزية‪ ،‬و�إن كانت تغدق الت�صريحات حول "وحدة العراق"‪.‬‬ ‫تقف الواليات املتحدة ب�شدة خلف ت�شكيل "احلر�س الوطني" على م�ستوى املحافظات‪ .‬هذا‬ ‫النموذج ناجح يف �أمريكا لأن هناك حكومة وجي�شاً فدراليني كاملي ال�صالحية يف دولة فيها ف�صل‬ ‫بني الدين والدولة‪� .‬أما يف دولة مثل العراق‪َ ،‬ح َر َ�ص الأمريكيون على تفخيخ د�ستورها بت�شكيلة‬ ‫وا�سعة من الن�صو�ص والت�شريعات الطائفية‪ ،‬هذا التوجه لي�س �سوى و�صفة لالقتتال الطائفي‪،‬‬ ‫وك�أن ما حدث يف املو�صل لي�س كافياً لتبيان خماطر الالمركزية الطائفية!‬ ‫الأهداف والغايات ‪ -‬امل�شروع اال�سرتاتيجي‬ ‫تب�شّ ر الواليات املتحدة ب�أن احلرب مع الإرهاب �ستطول �سنوات‪ ،‬وت�سعى لت�أمني قواعد ع�سكرية‬ ‫‪100‬‬

‫لقواتها امل�شاركة يف تلك احلرب‪ .‬قواعد مل ت�ستطع (بف�ضل املقاومة) احل�صول عليها من باب‬ ‫االحتالل املبا�شر‪ ،‬ت�سعى الآن لأخذها عرب �شباك "داع�ش"‪.‬‬ ‫�أما "اخلالفة الإ�سالمية" فهي هدف �أ�سا�س يف املخطط اال�ستعماري ‪ -‬ال�صهيوين‪ .‬هدف تتوق‬ ‫تركيا لتحقيقه‪ ،‬وت�أمل �إ�سرائيل عرب م�ساره‪� ،‬أن تنجح يف �إ�ضعاف وتدمري ما �أمكن من القوى التي‬ ‫منعت تو�سعها �شما ًال‪ :‬حزب اهلل و�سوريا‪ ،‬بهدف هزميتهما‪ ،‬ما مل تتمكن من حتقيقة يف ال�سابق‪.‬‬ ‫كمل لدولة �إ�سرائيل التوراتية‪� .‬إ�سرائيل‬ ‫دولة اخلالفة الإ�سالمية املطروحة لي�ست �سوى �شريك ُم ِّ‬ ‫وتركيا منوذجان يج�سدان التكامل مع "احل�ضارة الغربية"‪ ،‬وبالتايل هما �شريكان مركزيان يف‬ ‫امل�شروع اال�ستعماري الغربي ‪ -‬ال�صهيوين‪ .‬وكلتاهما تتبنيان العن�صرية الطائفية منهجاً وعقيدة‪،‬‬ ‫وبالتايل‪ ،‬دولتاهما املوعودتان بينهما عقد "�إلهي"‪ ،‬متكاملتان جغرافياً‪ ،‬وال ت�ضارب م�صالح‬ ‫�سيا�سية‪ ،‬ح�ضارية �أو اقت�صادية يف حتقيقهما‪.‬‬ ‫و�إيران الع�صية‪..‬‬ ‫تبقى القطعة التي مل "تركب" بعد يف هذا امل�شروع‪� :‬إيران‪.‬‬ ‫�إيران التي تنا�سب امل�شروع اال�سرتاتيجي الطائفي حتتاج لتغيريين جذريني يف تركيبتها‪:‬‬ ‫‪ .1‬تعيد ت�شكيل اقت�صادها ليكون متكام ًال مع االقت�صاد الغربي علمياً‪� ،‬صناعياً‪ ،‬تقنياً وجتارياً ‪...‬‬ ‫متاما كما هي تركيبة االقت�صادين الإ�سرائيلي والرتكي‪.‬‬ ‫‪ .2‬تكون �أكرث ُّ‬ ‫جتذراً وتطرفاً يف "�شيعيتها" والهدف هو �إي�صالها بالتدريج �إىل هذا التمو�ضع عرب‬ ‫�أحداث وح�شية متتالية عنوانها الفتنة ال�سنية ‪ -‬ال�شيعية‪ ،‬تتخللها فرتات من "احلوار" الهادف �إىل‬ ‫ا�ستدراجها لتكون ال�ضلع الثالث يف املثلث الطائفي يف املنطقة‪ :‬يهودي ‪� -‬سني ‪� -‬شيعي‪.‬‬

‫قراءات مقرتحة‬

‫تركيا و�إ�سرائيل‪ :‬تكامل ا�سرتاتيجي ‪ /‬د‪� .‬أديب الزين ‪ -‬خرب�أونالين ‪ 24‬ت�شرين الأول‪.2014 ،‬‬ ‫‪http://www.khabaronline.com/PAD.aspx?Id=4260‬‬

‫�أمريكا تدعم "الأنباريني"‪� ...‬شرط موافقة العبادي‪ /‬جريدة الأخبار ‪ 29 -‬كانون الثاين ‪.2015‬‬ ‫‪http://www.al-akhbar.com/node/224968‬‬

‫ملف املو�صل و�صفحات احلقيقة‪ /‬كاظم املو�سوي ‪ -‬جريدة الأخبار ‪� 16‬شباط ‪.2015‬‬ ‫‪http://www.al-akhbar.com/node/226172‬‬

‫‪101‬‬


‫لبنان ‪ -‬بريوت ‪� -‬شارع احلمرا ‪ -‬بناية ر�سامني ‪ -‬ط‬

‫‪4‬‬

‫‪tel: 00961 -1 - 751 541‬‬ ‫‪E-mail: info@darabaad.com‬‬ ‫‪website: www.darabaad.com‬‬

‫تهجري املوارنة اىل اجلزائر‬ ‫عروبة يو�سف بك كرم‬ ‫عوملتان الفو�ضى واملقاومة‬ ‫الفل�سطينيون يف لبنان‬ ‫االن�سان اوال‬ ‫الهوية وال�صراع‬ ‫رحيل يف ج�سد‬ ‫الف�ساد امل�ؤدلج‬ ‫ال�صناعة يف طرابل�س‬ ‫التحية االخرية‬ ‫لبنان يف ذاكرة العراق القدمي‬ ‫علم االجتماع ال�سيا�سي‬ ‫�أحالم املاء‬ ‫ناق�صات عقل و دين‬ ‫التطبيع ي�سري يف دمك‬ ‫اوف الين‬ ‫حي التنك‬ ‫بابل والتوراة‬ ‫ال�سيا�سة تطور املعنى وتنوع املقرتبات‬ ‫حب بطعم القهوة‬ ‫امل�سرح العاري‬ ‫التنمية يف الهالل اخل�صيب‬ ‫ال�سقف‬ ‫‪ 90‬يوما يف ال�سعودية‬ ‫جهاد النكاح‬ ‫مناي‬ ‫يف مواجهة الطائفية‬ ‫لأين مل �أكن‬ ‫مار مارون واملوارنة‬ ‫�شعر الفداء واالنبعاث‬ ‫كتب �صدرت حديثاً‪:‬‬ ‫حرب التحرير – �إنعام رعد‬ ‫كلمة (�صفحات من تاريخ ُعمان) – �سعود بن علي اخلليلي‬ ‫خيمة غزة – ن�ضال حمد‬ ‫ال�سرية – من�صور عازار‬ ‫احلرب على �آ�سيا – علوان �أمني الدين‬ ‫العوملة وال�سيادة – علوان �أمني الدين‬

‫�سركي�س �أبو زيد‬ ‫�سركي�س �أبو زيد‬ ‫�سركي�س �أبو زيد‬ ‫�شوكت �أ�شتي وغازي خلف‬ ‫�سركي�س �أبو زيد‬ ‫زهري فيا�ض‬ ‫زاهر العري�ضي‬ ‫د‪ .‬قي�س جرج�س‬ ‫منري خملوف‬ ‫من�صور عازار‬ ‫الأب �سهيل قا�شا‬ ‫�شوكت �أ�شتي‬ ‫�سوريا بدور الطويلة‬ ‫يحيى جابر‬ ‫د‪ .‬عادل �سمارة‬ ‫زاهر العري�ضي‬ ‫اكرام الداعوق‬ ‫الأب �سهيل قا�شا‬ ‫�شوكت �أ�شتي‬ ‫جومانة معالوي‬ ‫عبيدة االبراهيم‬ ‫زهري فيا�ض‬ ‫ريا�ض بيد�س‬ ‫�أ�سماء وهبة‬ ‫د‪.‬عادل �سمارة‬ ‫فايز غازي‬ ‫�سركي�س �أبو زيد‬ ‫ن�سرين كمال‬ ‫�سركي�س �أبو زيد‬ ‫زيتوين‬ ‫ل�ؤي ف�ؤاد‬ ‫ّ‬ ‫كتب حتت الطبع‬

‫تاريخ‬ ‫بيبلوغرافيا‬ ‫فكر �سيا�سي‬ ‫فكر �سيا�سي‬ ‫فكر �سيا�سي‬ ‫فكر �سيا�سي‬ ‫�أدب‬ ‫فكر �سيا�سي‬ ‫اقت�صاد‬ ‫مذكرات‬ ‫تاريخ‬ ‫علم اجتماع‬ ‫�أدب‬ ‫فكر �سيا�سي‬ ‫فكر �سيا�سي‬ ‫�شعر‬ ‫�أدب‬ ‫دين‬ ‫فكر �سيا�سي‬ ‫�أدب‬ ‫�شعر‬ ‫اقت�صاد‬ ‫�أدب‬ ‫مذكرات‬ ‫فكر �سيا�سي‬ ‫�شعر‬ ‫فكر‬ ‫�شعر‬ ‫تاريخ‬ ‫�أدب‬

‫منرب حتوالت – من�صور عازار‬ ‫الفي�سبوك وت�شكيل العالقات االجتماعية – وفاء كاظم حطيط‬

‫�سوراقيا م�رشوع خال�ص م�رشقي‬

‫فـكــــــــر‬

‫ا�سم الكتاب‬

‫ا�سم الكاتب‬

‫الت�صنيف‬

‫املفكر العراقي عبد احل�سني �شعبان‪:‬‬

‫حوار ‪ -‬هاين احللبي‬ ‫مقابلة‬

‫العامل ي�صطرع حول ذاته‪ .‬مافيات �أممية ومافيات حملية تختلق الأزمات وتراكم �أ�سبابها‪.‬‬ ‫مافيات ال�صناعة الع�سكرية واملال املرتزق وال�سيا�سة الرخي�صة والتد ّين العن�صري جميعها‬ ‫وغريها يوفران املناخ املتفجر لعامل يتدحرج �إىل املحرقة جمدداً‪ ،‬وعبثاً ن�سمع �صوتاً عاق ًال هادياً‬ ‫يقول للهائمني يف �أوهامهم‪ :‬هذا احلق وهذه احلياة‪ ..‬من هنا اخلال�ص!‬ ‫خم�ضرم‪ّ ،‬‬ ‫ككل الكبار‪ ،‬يتخذ املنهج كعلم‪� ،‬أ�سا�ساً النطالقته وعمله ور�ؤيته‪� ،‬أما الأ�شخا�ص مهما‬ ‫عظموا فيبقون �أ�شخا�صاً ي�صيبون ويخطئون‪ ،‬بال ع�صمة‪ .‬من املارك�سية بتن ّور ينفتح على العروبة‪،‬‬ ‫بتجاوز التقليدي من الأفكار‪ ،‬ومنها يبحث يف احلا�ضنة امل�شرقية الإ�سالمية التاريخية‪ ،‬متط ّلعاً‬ ‫مفر له من العدل والدميقراطية وامل�شاركة ليتف ّهم �أزماته وي�سرب ه ّوياته ويحيطها‬ ‫�إىل عامل ال ّ‬ ‫حمب و�آمن‪ .‬بجر�أة عارفة يقول لي�س كل ما قاله مارك�س �صحيحاً‪ .‬لي�س ما يقوله‬ ‫باعرتاف ّ‬ ‫الأفراد دائماً حقيقة‪ .‬املهم هو املنهج!‬ ‫�أين نحن الآن‪ ،‬يف �أي م�ستنقع نخو�ض بالدم والفو�ضى العقيمة‪ ،‬نتفتت‪ .‬نتناحر‪ .‬وحتيط بنا‬ ‫�أطالل بداوة وحداثة يف �آن تتكالب علينا‪ .‬تتناثر دولنا‪ .‬تنتهك بالدنا وينحر �إن�ساننا‪ .‬بينما‬ ‫العامل ي�ستفتي وينتخب وي�سامل‪� .‬إ ّال عندنا يقتل ونقتل‪ .‬كفى قت ًال با�سم اهلل وبا�سم الأمة‬ ‫وبا�سم امل�ستقبل؟؟‬ ‫�أ�سئلة جوهرية م�صريية خا�ض فيها املفكر والأكادميي العراقي عبداحل�سني �شعبان يف حوار يف‬ ‫ال�سيا�سة واله ّوية والأزمة امل�شرقية واخلال�ص الوطني والقومي لـ"حتوالت م�شرقية"‪ .‬هنا ن�صه‪..‬‬ ‫بر�أيكم ما اله ّوية؟‬ ‫�أح�صى �أحد املفكرين �أكرث من ‪ 230‬ه ّوية دينية و�إثنية و�ساللية‪ ،‬مبا فيها ه ّويات م�صغرة جداً‪.‬‬ ‫وهذا التناثر كان ي�سهم يف توليد �س�ؤال م�ستمر‪ :‬ما هي عنا�صر اله ّوية الرئي�سية؟ هل اله ّويات‬ ‫‪103‬‬


‫فكــــــر‬

‫معطى �سرمدياً غري قابل للإ�ضافة واحلذف �أم �أنها ه ّوية مفتوحة ولي�ست مغلقة؟ �صحيح �أن‬ ‫هناك عنا�صر �أ�سا�سية لله ّوية املفتوحة ذات ثبات ن�سبي كبري‪ ،‬لكنها يف الوقت ذاته قابلة للتطوير‬ ‫بتالقحها مع اله ّويات الأخرى‪ ،‬وبرفد العنا�صر الأخرى لله ّوية‪ ،‬مث ًال �أنا اعترب �أن اللغة والدين‪،‬‬ ‫�إىل حدود غري قليلة‪ ،‬من هذه العنا�صر الأ�سا�سية لت�شكيل ه ّوية ما ومن مرتكزاتها الرئي�سة‪،‬‬ ‫لكنني ال �أ�ستطيع �أن �أهمل العادات والتقاليد والفنون ومنط احلياة‪ ،‬فهذه م�ؤثرة �إىل حدود‬ ‫غري قليلة يف تكوين اله ّوية‪ ،‬ففي ت�شكيل اله ّوية ُت�ضاف عنا�صر العادات والتقاليد وغريها �إىل‬ ‫عن�صري اللغة والدين‪ .‬فعادات وتقاليد الأجداد مل تكن كما هي عاداتنا وتقاليدنا وفنوننا‬ ‫أظن �أن الإمام علي هو القائل "ال تع ّلموا �أوالدك عاداتكم‬ ‫اليوم‪ ،‬بل كانت خمتلفة عنها‪ ،‬و� ّ‬ ‫لأنهم خلقوا لزمان غري زمانكم"‪.‬‬ ‫وملحة‪.‬‬ ‫هنا تربز �أهمية توظيف الرتاث يف قراءة �صريورة التطور واحلداثة‪ .‬وهذه الأهمية عالية ّ‬ ‫وهناك َمن يعتقد �أن اله ّوية ا�ستاتيكية (جامدة) ثابتة‪ ،‬ال ميكنها �أن تتط ّور‪ ،‬يف حني �إن اله ّوية هي‬ ‫تعبري عن تطور طبيعي ال ميكن ا�صطناعها مبجرد افرتا�ضها‪ ،‬يف احلالة الأوىل �ستكون منغلقة‪،‬‬ ‫ويف احلالة الثانية �ستكون متح ّللة‪ ،‬يف حني �إن اله ّوية مفتوحة وحتدث عليها تغيريات تد ّرجية‬ ‫ت�ؤدي بالرتاكم �إىل �إحداث تغيري نوعي خمتلف عن االعتقادات ال�سابقة‪ ،‬وذلك بحد ذاته‬ ‫قيمة �إن�سانية حقيقية‪ ،‬لأن اله ّوية القابلة على ا�ستيعاب التطورات ومنفتحة للتغيريات وال�س ّيما‬ ‫الإيجابية‪ ،‬تكون �أكرث ان�سجاماً وتوا�ؤماً مع �سمة الع�صر ومع منطق احلياة والتغيري‪.‬‬ ‫يف مواجهة اله ّويات املفرت�ضة واملدعاة بكرثة لأ�سباب فئوية �أو عرقية �أو طائفية‪...‬‬ ‫ما ال�صحيح بر�أيك؟‬ ‫ال�صحيح هو لأن هناك تداخ ًال وتراكباً بني ه ّويات عدة عند كل فرد م ّنا‪ ،‬اله ّوية لي�ست‬ ‫واحدة لدى كل واحد م ّنا‪� .‬أو ًال لقناعته يف ه ّويته من جهة‪ ،‬وملدى مت ّثله هذه اله ّوية من جهة‬ ‫�أخرى‪ُ .‬ت�ضاف �إليهما زاوية النظر �إىل تلك الهوية‪ .‬واملثل العملي لذلك هو ما فح�صه الكاتب‬ ‫والروائي اللبناين �أمني معلوف بخ�صو�ص مفهوم اله ّوية‪ ،‬فوجد �أن هناك ه ّويات قاتلة عن َون‬ ‫بها كتابه املعروف‪ .‬واعترب معلوف �أن لكل فرد م ّنا �أكرث من ه ّوية‪ .‬فمعلوف كان عربياً‪ ،‬م�سيحياً‪،‬‬ ‫فرنكوفونياً وثقافته العامة هي جزء من الثقافة العربية الإ�سالمية امل�شرقية التي ال ي�ستطيع‬ ‫اخلروج منها‪.‬‬ ‫وهذا ما ينطبع دائماً يف التكوين الأ�سا�سي لله ّويات العامة‪ .‬فلديه ولدى كل فرد ه ّوية‬ ‫يتم�سك به ّويته اخل�صو�صية‪ ،‬لكن اله ّوية اخل�صو�صية‬ ‫خ�صو�صية‪ ،‬وعليه وعلى كل فرد �أن ّ‬ ‫لي�ست ه ّوية انغالقية‪ ،‬وال ينبغي �أن تكون يف تعار�ض مع اله ّوية العامة‪ ،‬كما �إن على هذه‬ ‫الأخرية احرتام اله ّويات الفرعية والتعاطي معها من موقع امل�ساواة والتكاف�ؤ‪ ،‬مهما كان حجمها‬ ‫‪104‬‬

‫وعدد �أفرادها‪ ،‬طاملا متثل كيانية خا�صة وم�ستقلة‪ ،‬وميكن �أن تكون متفاعلة مع اله ّوية العامة‬ ‫ل�شعب �أو �أمة �أو جماعة‪.‬‬ ‫هكذا‪ ،‬هل تك ّون اله ّوية متفاعلة؟‬ ‫بالت�أكيد هناك ه ّوية متفاعلة وهناك ه ّويات ذات طابع انعزايل ال تت�أثر كثرياً مبا حولها‪ ،‬لكن‬ ‫هذه الأخرية هي الأخرى حت�صل عليها تغيريات وقد تكون عا�صفة �إذا مل ت�ستجب ل�سمة‬ ‫التطور احل�ضاري والإن�ساين‪ .‬ويقابل ذلك حماوالت حمو احلدود بني اله ّويات بزعم ت�س ّيد‬ ‫اله ّوية العامة امل�شرتكة‪ ،‬حيث ال �ضفاف �أو حدود لها‪ ،‬وبالطبع �سيكون ذلك على ح�ساب‬ ‫اله ّويات الفرعية فتفقد هذه الأخرية داللتها وكينونتها وخا�صيتها‪ ،‬وت�س ّبب ردود �أفعال �أحياناً‬ ‫التم�سك واالنغالق على‬ ‫�ضدها و�ضد امل�شرتكات الإن�سانية‪ ،‬و�أحياناً يربز التناق�ض من خالل ّ‬ ‫الذات وو�ضع حواجز �أمام التفاعل مع اله ّويات الأخرى‪ .‬وكان املفكر والباحث اللبناين وجيه‬ ‫كوثراين قد �أ ّلف كتاباً مهماً بعنوان "اله ّويات الفائ�ضة واملواطنة املنقو�صة"‪.‬‬ ‫اله ّوية ميكن �أن ّ‬ ‫ت�شكل جوهر فكرة املواطنة �إن جت ّلت بعنا�صر �أ�سا�سية �أربعة هي‪ :‬احلرية‪ ،‬فال مواطنة‬ ‫من دون حرية‪ ،‬واحلرية �شرط يف املواطنة ولها‪ ،‬و�ستبقى املواطنة ناق�صة ومبتورة من دون حرية‪.‬‬ ‫امل�ساواة‪ ،‬فال مواطنة من دون م�ساواة‪ .‬وتنق�ص املواطنة �إذا مل تتحقق امل�ساواة بني �أبناء ال�شعب‬ ‫الواحد‪� ،‬أي �إنها �ستكون مواطنة مبتورة �أو م�ش ّوهة‪ .‬واملق�صود بامل�ساواة لي�س �أمام القانون‬ ‫فح�سب‪ ،‬بل يف اجلانب االجتماعي واالقت�صادي والوظيفي والتعليمي والديني وغري ذلك‪.‬‬ ‫العدالة‪ ،‬فال مواطنة من دون العدالة‪ ،‬وبخا�صة العدالة االجتماعية‪� .‬إذ كيف ميكنك �أن تدافع‬ ‫عن وطنك �إذا مل مينحك امل�ساوة والعدالة‪ ،‬بل مينحك على الأقل �شيئاً منها يف عي�ش كرمي‪.‬‬ ‫ف�إذا مل تكن متمتعاً باحلد الأدنى من هذه احلقوق‪ ،‬ف�ستتعر�ض مواطنتك لالهتزاز واالنثالم‪،‬‬ ‫بل ولل�ضياع �أحياناً‪ ،‬وي�ستطيع الآخرون �أحياناً العبث بها وتوظيفها باجتاه �ضار وخاطئ‪.‬‬ ‫�أما امل�شاركة فهي ال�شرط الرابع للمواطنة‪ ،‬التي ال تقوم من دون وجود �شعب حتققت فيه‬ ‫م�شاركة بني �أفراده يف وجوه احلياة املختلفة‪ ،‬ال�س ّيما امل�شاركة يف �إدارة ال�ش�ؤون العامة‪ ،‬وعدم‬ ‫التمييز يف توليّ الوظائف احلكومية العليا‪.‬‬ ‫ويلعب عن�صر اللغة‪ ،‬دوراً مهماً يف ت�شكيل اله ّوية‪ ،‬كعن�صر ثابت فيها‪ ،‬لكنه �إىل جانب ثباته فهو يف‬ ‫حركة داخلية وبينية مع باقي العنا�صر يف الت�شكيل نف�سه‪ .‬باللغة ت�ستطيع �أن تعبرّ عن حقائق معينة‪،‬‬ ‫جت�سد وتتمثّل حقائق معينة‪ ،‬وب�إ�ضافتنا عن�صر الدين �إليها نكون �أمام ه ّوية فاعلة وديناميكية‪.‬‬ ‫باللغة ّ‬ ‫احلرية‪ ،‬فمث ًال م�صطلح‬ ‫وبهذا املعنى ك ّلما انتق�صت من مو�ضوع املواطنة �ستمار�س �ضغطاً على ّ‬ ‫‪105‬‬


‫فكــــــر‬

‫ينم عن ا�ستعالء وت�س ّيد ويفرت�ض انتقا�صاً من احلقوق‪ ،‬لذلك �أرف�ضه‪،‬‬ ‫"الأقليات"‪ ،‬هو م�صطلح ّ‬ ‫و�أف�ضل بد ًال عنه املجاميع التعددية التنوعية �أو املجموعات الثقافية الدينية والإثنية وال�ساللية‬ ‫واللغوية وغريها‪ ،‬لأن م�صطلح الأقلية‪ ،‬ومثله الأغلبية‪ ،‬فيه انتقا�ص من وحدة احلياة احلقوقية‬ ‫بالكم‬ ‫للمجتمع ومن مبد�أ امل�ساواة وبالتايل من املواطنة املتكافئة‪ ،‬فال ميكن �أن تقي�س اجلماعات ّ‬ ‫�سواء �أكانت �أقلية �أم �أغلبية‪.‬‬ ‫�إن م�صطلح الأقلية والأغلبية ميكن انطباقه على اجلماعات ال�سيا�سية ومعادالتها ولي�س على‬ ‫اجلماعات الدينية والإثنية واللغوية والثقافية‪ ،‬ف�إن م�سيحياً واحداً يوازي كل امل�سلمني يف الأر�ض‪،‬‬ ‫لأنه يعبرّ عن حالة دينية‪ ،‬وهو املعادل النوعي لأديان الأر�ض ك ّلها‪ ،‬الأمر نف�سه يف حالة كل منتم‬ ‫�إىل دين �آخر �أو من �أتباع ديانة �أو قومية �أو لغة �أو �ساللة �أخرى وهذه نقطة ال يجوز �إهمالها قط‪.‬‬ ‫يف تعريفك اله ّوية �أخذت اجلانب الثقايف منها مبا يتمثل باللغة والدين‪� ،‬أال ترى �أن لله ّوية �أي�ضاً‬ ‫ج�سداً تن�سجه الأر�ض واجلماعة الب�شرية‪ ،‬فالأر�ض بيئات ومناطق متنوعة و�أثبت علم االجتماع‬ ‫امل�ستقرين فيها فتتن ّوع هوياتهم؟‬ ‫تباين ت�أثري تن ّوعها يف‬ ‫ّ‬ ‫املكان ميكن �أن ي�ؤثر يف اله ّوية‪ ،‬لكنه ال يوفّر الطابع العام لهذه اله ّوية‪ .‬ف�إن ع�شت يف بيئة جبلية‬ ‫كردية ف�أنت جبلي‪ ،‬وكذلك �إذا ع�شت يف بيئة جبلية عربية ف�أنت جبلي لبناين كذلك‪ ،‬فاجلبلية‬ ‫مندغمة يف ه ّويتني خمتلفتني‪ .‬بهذا املعنى قد ال تكون اجلبلية عن�صراً من ه ّويتك العامة‪.‬‬ ‫اجلبلية هي خ�صو�صية مكانية تتعلق بوجودك الأر�ضي‪.‬‬ ‫اجلانب الثقايف يف اله ّوية هو الأكرث ر�سوخاً مما نق�صده من مفهومنا لله ّوية‪ .‬بهذا املعنى تكون‬ ‫املتعددة واملتن ّوعة �سوا ًء �أكانت ه ّوية كربى �أو ه ّوية‬ ‫اله ّوية هي هذا النتاج وهذه ال�صريورة ّ‬ ‫�صغرى‪� ،‬أو ه ّوية عامة �أو ه ّوية خا�صة‪� ،‬أو ه ّويات �شاملة �أو ه ّويات �أ�شمل‪� ،‬أو ه ّوية حملية �أو‬ ‫ه ّوية وطنية‪ ،‬ميكن ت�سميتها كما ت�شاء‪ ،‬لكن يف �إطار هذا التفاعل والتناغم تن�ش�أ وتتبلور املواطنة‪،‬‬ ‫اللب من كل ه ّوية‪ .‬قوميات �أو �أديان �أو لغات �أو �سالالت ال يتم االعرتاف فيها �ستت�شكل‬ ‫وهي ّ‬ ‫لديها ه ّوية خا�صة دفاعية �ضد اله ّويات التي حتاول �أن تت�س ّيد عليها‪.‬‬ ‫بالعودة �إىل املارك�سية‪ ،‬يقول مارك�س‪ :‬ال ميكن ل�شعب ي�ضطهد �شعباً �آخر �أن يكون حراً‪ .‬مل‬ ‫يقل فئة �أو جمموعة بل قال �شعباً‪ ،‬ويعني �أن هناك �شعوراً قومياً ما لدى �شعب ما بالت�س ّيد‬ ‫على جمموعة ب�شرية �سكانية لها خ�صو�صيتها‪� ،‬أي �أنها ذات ه ّوية خا�صة‪ ،‬وهو الأمر الذي ال‬ ‫ّبد �أن ي�ؤخذ بنظر االعتبار يف ال�صراع العربي‪ -‬الإ�سرائيلي‪ ،‬وحماولة "�إ�سرائيل" هدر حقوق‬ ‫ال�شعب العربي الفل�سطيني لي�س من خالل عدم االعرتاف بحقوقه فح�سب‪ ،‬بل تدمري كامل‬ ‫تخ�صه‪� ،‬إ�ضافة �إىل ال�سعي ملحو تراثه وثقافته وح�ضارته‪� ،‬سواء‬ ‫منظومة حقوق الإن�سان التي ّ‬ ‫بتزوير التاريخ �أو حماولة تزييف �أحداثه‪ ،‬ناهيكم عن رف�ض وجوده وا�ستمراره حتى داخل دولة‬ ‫‪106‬‬

‫�إ�سرائيل العن�صرية‪ ،‬التي ُيراد لها �أن تكون نقية‪� ،‬أي يهودية‪ ،‬و�إ ّال ال مكان لوجود �شعب �آخر‪،‬‬ ‫حتى و�إن كان من �سكان البالد الأ�صليني‪ ،‬وهو ما ر ّوجت لها ال�صهيونية منذ م�ؤمتر بال يف‬ ‫�سوي�سرا العام ‪ 1897‬حني دعت لقيام دولة لليهود‪.‬‬ ‫جدل اال�ضطهاد والعبودية وال�سيادة‬

‫امل�ضط َهد وامل�ضطهِد يفتقدان احلرية والتم ّر�س بها‪ ،‬معادلة تذ ّكرنا بعالقة‬ ‫العبودية املتبادلة بني ال�س ّيد والعبد؟‬ ‫ه�ضم حقوقه كالذي ميار�س العنف متاماً‪،‬‬ ‫�س�ؤالك جميل‪ .‬امل�ضط َهد يعاين من اال�ستالب و ُت َ‬ ‫فيعاين من عملية ا�ستالب من نوع �آخر‪ .‬كعالقة ال�س ّيد بالعبد‪ ،‬وعالقة ال�ضح ّية باجلالد‪،‬‬ ‫كالهما �ضحية عنف‪ .‬املع ِّنف يفقد �إن�سانيته وحريته و�صريورته الطبيعية عندما ي�ضطهد الآخر‬ ‫وعندما يقمعه‪ .‬واملع َّنف بدوره �أي متلقي العنف ي�شعر باال�ستالب بتلق ّيه العنف من الآخر‬ ‫فيهدد حقوقه وه ّويته وخ�صائ�صه وبكل ما ي�شعره �أنه كائن ب�شري متم ّيز عن غريه بالدين وباللغة‬ ‫ّ‬ ‫�أو بالكثري من جوانب حياته وطريقة عي�شه التي لي�ست جوهرية بحد ذاتها‪ ،‬لكنها يف حالة ما‬ ‫قد ّ‬ ‫ت�شكل خا�صية ما له ّوية متم ّيزة‪.‬‬ ‫هكذا ف�إن االحتكاكات والنزاعات القومية والدينية كانت نتيجة لله ّوية والتم�سك بها �أو رغبة‬ ‫يف الهيمنة والت�س ّيد على اله ّويات الأخرى‪ .‬مث ًال �أوروبا هناك حواىل ع�شرين بلداً فيها تعاين‬ ‫من م�شكلة ه ّوية قومية‪.‬‬ ‫وبالعودة �إىل �س�ؤال �آخر متداخل مع �س�ؤالك هذا‪� ،‬أقول لي�س ت�أمني املواطنة وحده ّ‬ ‫ي�شكل �سبباً‬ ‫لت�شكيل ه ّوية �أو تعاي�ش بني اله ّويات‪ .‬فهناك اخل�صائ�ص الذاتية لأي جماعة‪� ،‬أكانت �شعباً �أم‬ ‫�أمة �أم ديناً �أم فئة �أم طائفة �أم مذهباً �أم لغة‪ّ ،‬‬ ‫فت�شكل خ�صي�صة مميزة لها ت�شمل كلّ �أفرادها‪،‬‬ ‫وت�شكل ه ّويتهم الغالبة املميزة لهم‪.‬‬ ‫وهنا حت�ضرنا �أمثلة عدة منها‪ :‬االحتاد ال�سوفياتي ال�سابق انق�سم ‪ 15‬دولة لكل منها كيانها (الدولة‬ ‫– الأمة)‪ .‬ويوغو�سالفيا انق�سمت �إىل �ستة كيانات �آخرها كو�سوفو‪ .‬وت�شيكو�سلوفاكيا انق�سمت‬ ‫�إىل كيانني (جمهورية الت�شيك وجمهورية �سلوفاكيا) و�إن كان انق�سامها خمملياً بعد �سنوات‬ ‫حدة ودموية‪.‬‬ ‫�ضمن فدرالية ما متفق عليها‪ ،‬بينما االنق�سامات الأخرى كانت �أكرث ّ‬ ‫وبلجيكا ت�شهد �صراعاً بني الواالنيني (الفرانكفونيني الذين ّ‬ ‫ي�شكلون ‪ 4‬مليون ن�سمة) وبني‬ ‫الفالمانيني (الذين ي�ؤلفون ‪ 6‬مليون) على الرثوة واخل�صائ�ص والقرار �أي �إن اله ّوية هي ال�سبب‬ ‫الأهم والأكرب يف الرغبة االنف�صالية‪ ،‬علماً ب�أن بلد فيدرايل وحقوق املواطنة وامل�ساواة مكفولة‪.‬‬ ‫‪107‬‬


‫فكــــــر‬

‫و�إذا كانت بلجيكا تعترب من الأنظمة الدميقراطية والفيدرالية وت�شهد توزيعاً لل�سلطات ورقابة‬ ‫وم�شاركة‪ ،‬ولكن ال�شعور باخل�صو�صية واله ّوية املتم ّيزة ي�ضغط على الطرفني االفرتاق‪.‬‬ ‫�سلمي عادة‪ ،‬وال يخلو من مناذج عنفية كالتي ذكرناها‪،‬‬ ‫الفارق بني افرتاقهم وافرتاقنا �أن افرتاقهم ّ‬ ‫عنفي عادة بعدما ن�ستنفد �آخر �إطالقة على بع�ضنا لنت�أكد بعد حني �أن علينا �إبرام‬ ‫بينما افرتاقنا ّ‬ ‫الطالق‪ .‬والطالق �أبغ�ض احلالل عند اهلل‪..‬‬ ‫قومية ا�ستعالئية �شوفينية مقابل انعزالية و�ضيق �أفق وانكفاء‬

‫هكذا واقع الطالق فردياً‪ ...‬وهل كذكلك واقعه بني اجلماعات؟‬ ‫الطالق يبقى �أبغ�ض احلالل عند اهلل كما ُيقال وهو كذلك بني الأمم وال�شعوب واجلماعات‬ ‫‪ ،‬فعندما ي�صبح التعاي�ش م�ستحي ًال ال ّبد من الطالق و�إ ّال �سيعني ا�ستمرار احلرب والدمار‬ ‫والقتل‪ .‬خذ مث ًال منوذج ال�سودان من العام ‪ 1956‬ا�ستق ّلت البالد وظ ّلت من�شغلة بحرب داخلية‬ ‫حتى العام ‪ 2010‬بحرب �أهلية �أكلت الأخ�ضر والياب�س‪ ،‬ويف هذا العام ح�صل االنف�صال بني‬ ‫ال�شمال واجلنوب بعد ا�ستنزاف موارد البلد و�إمكانياته وتنميته وطاقاته و�شبابه وتعطيل �إمكانية‬ ‫التقدم لو اختارت طريقاً �آخر غري طريق االحرتاب‪.‬‬ ‫الدميوقراطية والإ�صالحات وقيام دولة ميكنها ّ‬ ‫وكان االنق�سام عرب ا�ستفتاء �شعبي ح�صل مبوجبه اجلنوبيون على تاييد �أكرث من ‪.% 98‬‬ ‫ومهم وال ميكننا �إغفاله يف فح�ص مفهوم اله ّوية‪ .‬بد�أ‬ ‫النموذج الكردي كذلك هو منوذج خطري ّ‬ ‫هذا النموذج يتفاعل مع الدولة العراقية منذ ت�أ�سي�سها يف العام ‪ .1921‬وكانت معاهدة �سيفر‬ ‫املعقودة يف العام ‪ 1920‬قد اعرتفت مبوجبها تركيا واحللفاء بجزء من حقوق الأكراد‪ ،‬والحقاً‬ ‫جرت م�ساومة بني احللفاء وتركيا يف �إطار معاهدة لوزان العام ‪� ،1923‬أ ّدت �إىل ّ‬ ‫التنكر حلقوق‬ ‫الأكراد فيها‪ .‬فبقيت امل�شكلة متفاعلة داخل دول املنطقة وتدفع �أثمانها‪ .‬وهكذا توجد م�شاكل‬ ‫كردية يف كل من تركيا و�إيران والعراق و�سوريا‪.‬‬ ‫والتم�سك بال�شعارات العقالنية‬ ‫يف العراق اقرتب احلل للم�شكلة ب�أ�سباب ن�ضج حركة الي�سار‬ ‫ّ‬ ‫وح�سن التفاعل بني القوى الي�سارية العراقية والقوى القومية الكردية‪ ،‬وهذه الأو�ضاع �ساعدت‬ ‫على تط ّور و�ضع احلركة الكردية فتم تب ّني �شعارات ذات �شكل دميقراطي بخ�صو�ص امل�س�ألة‬ ‫القومية‪ ،‬وحلّ الق�ضية الكردية كجزء من حلّ م�شكلة الدميقراطية‪� ،‬إ�ضافة �إىل اجلانب القومي‬ ‫الكردي و�إن كانت هناك افرتاقات ومفارقات وتداخالت بع�ضها ال يخلو من اخرتاقات خارجية‪.‬‬ ‫لقد مار�س اجلانب العربي يف العراق �سيا�سة �شوفينية وا�ستعالئية وتع�صبية جتاه امل�س�ألة الكردية‬ ‫حتى و�إن كان ذلك من حكام معزولني وا�ستبداديني‪ ،‬لكن الأمر انعك�س على طابع الدولة‬ ‫‪108‬‬

‫وكان هناك بع�ض دعاة القومية من قال �إن ه�ؤالء "الأكراد هم عرب �سكنوا اجلبال فتغيرّ ت‬ ‫لغتهم"‪ .‬املقولة نف�سها �أطلقها قوميون ترك ب�أن "الأكراد ٌ‬ ‫ترك �سكنوا اجلنوب فتغيرّ ت لغتهم"‪.‬‬ ‫هذه مناذج من العقلية اال�ستعالئية القومية التي يف مقابلها ن�ش�أ وتو ّلد �ضيق �أفق قومي كردي‬ ‫لدى بع�ض الأو�ساط واجلهات‪ ،‬حيث متا ّدى يف انعزالية قومية كردية متّت ترجمتها بالدعوة‬ ‫�إىل الكراهية واالنف�صال يف العالقة بني كل من الكرد من جهة ومن العرب والرتك والفر�س‬ ‫من جهة �أخرى‪ ،‬ويف �إيران ف�إن امل�س�ألة الكردية ظ ّلت يف الأدراج بعد قيام جمهورية ماهاباد‬ ‫العام ‪ 1946‬ومن ثم الق�ضاء عليها‪ ،‬وبعد الثورة الإيرانية العام ‪� 1979‬أخذ احلديث عن حل‬ ‫امل�س�ألة الكردية يتناول مو�ضوع امل�ساواة يف املواطنة على �أ�سا�س الدين الواحد‪� ،‬إ�ضافة �إىل بع�ض‬ ‫اجلوانب الثقافية التي بد�أت �صفحات جديدة لكرد �إيران‪ ،‬لكن امل�س�ألة الكردية مل حت�سم يف‬ ‫كل بلدان املنطقة حتى الآن‪ ،‬وال �أظن �أن ح�سماً �سريعاً �سيكون لها دون الإقرار مببادئ حق‬ ‫تقرير امل�صري و�إعادة ر�سم العالقة الأخوية على نحو جديد ومتكافئ‪.‬‬ ‫يف العراق بعد جهد جهيد وحروب متوا�صلة‪ّ ،‬مت اعتبار الأكراد �شركاء يف الوطن العراقي‬ ‫أقرت لهم حقوق يف الد�ستور العراقي العام ‪ ،1958‬ولكن احلرب عادت واندلعت العام ‪1961‬‬ ‫و� ّ‬ ‫وا�ستمرت ردحاً طويالً‪ .‬ومع �إطالق بيان ‪� 11‬آذار ‪ 1970‬مت االتفاق على د�ستور جديد �أكرث تقدماً‬ ‫ّ‬ ‫فن�ص على �أن العراق يت�ألف من قوميتني هما القومية العربية‬ ‫يف احلقوق القومية واالجتماعية‪ّ ،‬‬ ‫والقومية الكردية‪ ،‬و�أن لكل منهما حقوقاً وواجبات مت�ساوية‪.‬‬ ‫لكن العربة لي�ست يف الن�صو�ص الد�ستورية بل يف تطبيقها العملي‪ .‬وعلى �أ�سا�س الد�ستور‬ ‫اجلديد ‪ّ 1970‬مت ت�شريع احلكم الذاتي وبا�شرت هيئاته العام ‪ ،1974‬ولكن بعد حني اندلع‬ ‫القتال جمدداً ّ‬ ‫وتنكرت احلكومة العراقية لوعودها فان�ساقت بع�ض القوى الكردية وراء دعوات‬ ‫م�صدرها اخلارج بزعم دعم الأكراد‪ ،‬خ�صو�صاً من جانب �شاه �إيران وبع�ض القوى الدولية‪ ،‬وهو‬ ‫عبرّ عنه مبرارة الزعيم الكردي الكبري امل ّال م�صطفى البارزاين بعد انهيار احلركة القومية الكردية‬ ‫املرة هي �إ�ضعاف العراق ك ّله وتفتيته والإ�ضرار‬ ‫بعد اتفاقية اجلزائر العام ‪ ،1975‬وكانت احلقيقة ّ‬ ‫وا�ستمر الو�ضع على ما هو عليه خالل احلرب العراقية ‪-‬‬ ‫بدوره يف مواجهة العدو الإ�سرائيلي‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫الإيرانية غري املربرة على الإطالق‪.‬‬ ‫يف هذه احلرب ‪ 1980-1988‬جرى احلديث عن ه ّويات ملفقة‪ ،‬كقول غربيني �إن احلرب هي‬ ‫بني عرب وفر�س ‪� ،‬أو بني �سنة و�شيعة ب�سبب املذهب الذي تنتمي �إليه كل من القيادتني‪.‬‬ ‫وقيل �أي�ضاً �إنه �صراع بني دولتني نفطيتني‪ .‬وذلك بهدف طم�س ال�صراع احلقيقي �ضد الوجود‬ ‫الإ�سرائيلي‪ .‬وهو �صراع تناحري ال ميكن ح ّله �إال ب�إن�صاف ال�شعب الفل�سطيني بحقوقه الكاملة‬ ‫وحقه يف تقرير م�صريه و�إقامة دولته الوطنية امل�ستقلة وعا�صمتها القد�س‪ ،‬والت�صدي لل�صهيونية‬ ‫العقيدة ال�سيا�سية لدولة �إ�سرائيل باعتبارها خطراً على الإن�سانية‪ ،‬لأن �إ�سرائيل بطبيعتها عن�صرية‬ ‫‪109‬‬


‫فكــــــر‬

‫�إحاللية �إلغائية متييزية ا�ستعالئية‪ .‬هذا ال�صراع هو �صراع من نوع �آخر بني ه ّويات قومية‪.‬‬ ‫يف النموذج ال�سوداين نالحظ ت�صاعدت مطالبة االنف�صال اجلنوبي تزامناً مع‬ ‫و�صول التيار الإ�سالمي �إىل احلكم الداعي لتطبيق ال�شريعة الإ�سالمية‪ ،‬هل‬ ‫االنف�صال قدر ال�سودان لو حكمه تيار مدين؟‬ ‫مع انتهاء احلرب الباردة و�سقوط االحتاد ال�سوفياتي بد�أ �شكل جديد من ال�صراع الفكري‬ ‫وااليديولوجي ي�أخذ مداه‪ .‬كان هذا ال�صراع كامناً وموجوداً لكنه انفجر بعد �سقوط الكتلة‬ ‫اال�شرتاكية ب�سبب تغيري و�صف ال�صراع والعدو‪ ،‬با�ستبدال ال�شيوعية بالإ�سالم‪ .‬فاعترب‬ ‫فرن�سي�س فوكوياما وبعده �صموئيل هنتنغتون وبخا�صة يف مرحلة ما بعد الهجوم على مركز‬ ‫التجارة الدولية يف ‪� 11‬أيلول‪� /‬سبتمرب العام ‪ ،2001‬وهو ما عبرّ عنه بيان املثقفني الأمريكيني‬ ‫ال�ستني ال�شبيه ببالغ حربي‪� .‬إن ال�صراع ح�سب نظرية هنتنغتون وفوكوياما هو �صراع ح�ضارات‬ ‫و�أنه نهاية التاريخ‪ .‬على اجلميع الذين يريدون الدخول يف م�سار التاريخ �أن يتخ ّلوا عن �أديانهم‬ ‫ومعتقداتهم وه ّوياتهم وينخرطوا يف الليربالية الظافرة‪� ،‬أي الليربالية اجلديدة والقبول باال�ستتباع‬ ‫واخل�ضوع لهيمنتها كاملة �أي �إلغاء اخل�صو�صيات واله ّويات‪ .‬هذا �أمر مهم التوقف عنده‪.‬‬ ‫من وجهة جيوبوليتيكية‪ ،‬تط ّور ال�صراع يف ال�سودان كتطور ال�صراع يف امل�س�ألة الكردية كما‬ ‫ذكرنا‪ ،‬ويف �س�ؤال يل مع الرئي�س عمر الب�شري يف العام ‪ 2000‬يف حوار تلفزيوين مبا�شر‪ ،‬قلت له‪:‬‬ ‫لقد ف�شلت احلكومات الع�سكرية جميعها يف الق�ضاء على احلركة اجلنوبية يف ال�سودان‪ - ،‬بينما‬ ‫ت�سميتها يف ال�سودان هي احلركة االنف�صالية وت�سمية احلركة الكردية يف العراق هي اجليب‬ ‫العميل‪� ،‬أو الع�صاة �أو االنف�صاليون‪ ،‬كما �أن احلركة اجلنوبية ف�شلت يف حتقيق �أهدافها بالو�سائل‬ ‫احلربية والع�سكرية‪ ،‬هل ّ‬ ‫تفكرون يف مبادرة جديدة فيدرالية‪ ،‬على �سبيل املثال ؟ قال يل‪ :‬نحن‬ ‫مع هذه الفيدرالية حتى لو �أدت �إىل االنف�صال‪ .‬وكان االنف�صال مل يحدث بعد‪ ،‬كما هو معلوم‪.‬‬ ‫لكن الأوان كان قد فات‪ .‬ح�صلت اتفاقية نيبا�شا‪ ،‬وقبلها وبعدها حتققت اتفاقيات عدة‪ ،‬ولكن‬ ‫تعر�ض له اجلنوبيون جعل العي�ش امل�شرتك م�ستحيالً‪.‬‬ ‫انعدام الثقة والفقر والتهمي�ش مما ّ‬ ‫املح�صلة تدمري متبادل‪ ،‬وبالأخ�ص للحركة اجلنوبية ال�سودانية‪ ،‬فهناك �أكرث من ربع مليون‬ ‫يف ّ‬ ‫�إن�سان دون خط الفقر‪ ،‬و ‪ 750‬الف نازح‪ 320 ،‬الف الجئ‪ ،‬ن�صف اجلنوبيني ال�سودانيني هم‬ ‫خارج �أدنى م�ستويات العي�ش‪� ،‬أي خارج احلياة‪.‬‬ ‫خ�شيتي �أن ن�صل �إىل هذا الو�ضع يف العراق ويف �سوريا وقد ن�صل �إليه �أي�ضاً يف تركيا و�إيران يف‬ ‫امل�ستقبل‪ .‬هكذا مع ا�ستحالة العي�ش امل�شرتك ت�صعد اله ّوية اخل�صو�صية �إىل �أعلى م�ستوى حتى‬ ‫لو �أدت �إىل التدمري‪ ،‬فال ميكنك �أن تقول ملن هو �ضحية التهمي�ش والإق�صاء ويعاين ال�سحق‪:‬‬ ‫‪110‬‬

‫توقّف لأن هناك طريقاً �آخر �أقل كلفة و�أجدى‪.‬‬ ‫هذه امل�آ�سي ال ميكننا �أن نغفلها وال ّبد �أن نح�سب لها ح�ساباً‪ ،‬فلو �أ ّمنت احلكومات حقوق‬ ‫اجلماعات يف وقت مبكر وعدلت يف تطبيقها لكانت اخت�صرت الطريق �إىل �سالمها الوطني‬ ‫املتمردين �أو �أ�صحاب احلقوق اخل�سائر التي ال حت�صى‬ ‫والذاتي‪ .‬وكانت وفّرت على نف�سها وعلى ّ‬ ‫�أكانت منظورة �أو غري منظورة‪ ،‬فهكذا ُع ِّطلت التنمية والدميقراطية‪.‬‬ ‫كانت التنمية والدميقراطية م�ؤجلتان با�ستمرار بدعوى العدو على الأبواب‪ ،‬فال‬ ‫ر ّد العدو وال حتقق الإ�صالح‪..‬‬ ‫حكوماتنا العربية قاي�ضتنا طيلة ‪ 67‬عاماً على التنمية والدميقراطية بحجة �أن العدو يدقّ على‬ ‫يتقدم على هذا اال�ستحقاق‪ ،‬كما ال‬ ‫الأبواب‪ ،‬و�أن التحرير قاب قو�سني �أو �أدنى‪ ،‬وال �شيء ّ‬ ‫�صوت يعلو فوق �صوت املعركة‪ ،‬وبعد نحو ‪ 7‬عقود من الزمان ا�ستبيحت الأر�ض خاللها وال‬ ‫تزال يف حوزة املحتلّ وما بقي متت ق�صق�صته مبق�ص اخلياط وفق خرائط و�ضعت بني حي وحي‬ ‫وبني بيت وبيت وبني �شارع و�شارع‪ ،‬والأدهى �أن بلداننا يتم تق�سيمها جمدداً‪ ،‬لدرجة �إننا �أخذنا‬ ‫نعترب �سايك�س بيكو الأوىل وحدودها مبنزلة التقدي�س‪ ،‬خل�شيتنا على الدولة الوطنية‪ ،‬على الرغم‬ ‫من مالحظاتنا الكثرية عليها‪ ،‬ناهيكم عن خوفنا من الت�شظي والتفتيت‪.‬‬ ‫كيف يتم حل م�س�ألة اله ّوية دولياً؟‬ ‫نالحظ تطور م�س�ألة اله ّوية دولياً �أن تيمور ال�شرقية انبعثت فيها اله ّوية بعد االن�سحاب الربتغايل‪،‬‬ ‫فاحتج ال�شعب‪� ،‬إىل �أن ّقرر جمل�س الأمن الدويل‪ ،‬وهذه لأول‬ ‫فو�ضعت �إندوني�سيا يدها عليها‪ّ ،‬‬ ‫مرة‪� ،‬أن حكماً انتقالياً ال ّبد �أن يح�صل يف تيمور ال�شرقية‪ .‬وا�ضطرت �إندوني�سيا �أن توافق‪.‬‬ ‫كذلك منوذج كو�سوفو التي �أ�صبحت جزءاً من �صربيا‪ ،‬فجرى ابتالع اله ّوية بخا�صة يف املناطق‬ ‫ذات االمتدادات الدينية والألبانية‪ .‬ف�أعلنت كو�سوفو االنف�صال من طرف واحد وذهبت‬ ‫ملحكمة العدل الدولية ف�أعطتها ر�أياً ا�ست�شارياً باملوافقة على االنف�صال حلفظ ه ّويتها التي ال‬ ‫تتعار�ض مع القانون الدويل‪ ،‬وهذا القانون بدوره لي�س عقبة �أمامها‪.‬‬ ‫بينما يف بريطانيا فقد جرى منذ �أ�شهر ا�ستفتاء ال�شعب اال�سكوتلندي باالنف�صال �أم بعدمه‪ ،‬فق ّرر‬ ‫البقاء موحداً �ضمن احتاد بريطاين‪ .‬ورغب الكاتالونيون يف �إقليم كاتالونيا الأ�سباين �أن يجرى‬ ‫ا�ستفتاء حول انف�صالهم‪ ،‬فقالت املحكمة الد�ستورية العليا يف �أ�سبانيا �إن هذا يتعار�ض مع الد�ستور‪،‬‬ ‫مت�سكهم بحقوقهم ومعرفتهم بامتياز و�أهمية �إقليمهم الذي ّ‬ ‫ت�شكل بر�شلونة عا�صمته‪ ،‬قبلوا‬ ‫فرغم ّ‬ ‫بالقرار ومل يقدموا على ما يعار�ضه واحرتامهم للد�ستور‪ ،‬مع ا�ستمرارهم باملطالبة باال�ستقالل‪.‬‬ ‫‪111‬‬


‫فكــــــر‬

‫كذلك احلالة يف �إقليم كيبك يف كندا ويف جنوب فرن�سا ويف جنوب �إيطاليا‪ .‬هناك ع�شرون‬ ‫ق�ضية تتعلق بالأق ّليات يف �أوروبا هي يف حراك وتفاعل ومطروحة للنقا�ش والبحث لكنها مل‬ ‫تبلغ حالة عنفية كما تبلغ عندنا م�س�ألة اله ّوية ب�سبب اال�ستالب الطويل الأمد واملعتق‪.‬‬ ‫يجب �إعادة قراءة تراثنا الالّعنفي‬

‫ملاذا العنف يف �سلوكنا وهل ميكن تر�شيده؟‬ ‫�أو ًال يجب �إعادة قراءة تراثنا الالّعنفي الكت�شاف اجلوانب الالّعنفية فيه‪ .‬القر�آن مث ًال ف�إن‬ ‫الكثري من املت�شردين واملتع�صبني تراهم يت�شبثون ب�آيات ال�سيف والعقاب التي تتقدم لديهم‬ ‫على ما �سواها‪ ،‬ويهملون �أو ال يكرتثون ب�آيات ال�سالم والإخاء‪ .‬هذه قراءة مبت�سرة للقر�آن‪.‬‬ ‫تقدم قراءة جديد للقر�آن‪ ،‬مث ًال يقول �إن الن�ساء والأطفال الذين بلغوا ‪� 9‬سنوات‬ ‫فداع�ش مث ًال ّ‬ ‫وما فوق‪ ،‬هم مكلفون �شرعياً ويتحقق ا�ستحقاقهم ال�شرعي‪ .‬من كلفات هذا اال�ستحقاق هو‬ ‫االنخراط يف القتال للدفاع عن اخلالفة‪ .‬جهاد النكاح لي�س هز ًال ولي�س نكتة‪ ،‬بل هو نظام ما‬ ‫م�ستند �إىل قراءة جديدة �أو قدمية "جمددة" توظف فيها �أحاديث وفتاوى كثرية جداً من �شيوخ‬ ‫وتطرفاً‪ .‬ولكنهم موجودون ورمبا كرثة‪.‬‬ ‫هم الأقل معرفة والأكرث غل ّواً ّ‬ ‫تتوجه نحو الدميقراطية وتعتمد على املواطنة وميكنها حلّ خالفاتها �سلمياً‬ ‫ثانياً بناء �أنظمة ّ‬ ‫م�ستقبالً‪ ،‬وذلك �ضمن قواعد عقد اجتماعي و�سيا�سي جديد يتم االتفاق عليه باعتباره ناظماً‬ ‫للعالقة بني الفرد والدولة وبني املجتمع والدولة‪.‬‬ ‫ثالثاً رفع م�ستوى احلياة املعي�شية وت�أمني م�ستلزمات حياة الئقة‪ ،‬وهو الأمر الذي �سي�ؤدي‬ ‫�إىل جتفيف البيئة التي ت�شجع على العنف كالتخلف والفقر والبطالة واجلهل‪ .‬بالإ�ضافة �إىل‬ ‫والتطرف يف تطبيقه خارج نطاق الدولة وقوانينها‪ ،‬والأمر‬ ‫التع�صب يف قراءة الن�ص الديني‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يقت�ضي �إعادة النظر يف الرتبية ال�سائدة يف املجتمع والرتبية املدر�سية التقليدية التي ت�ستند يف‬ ‫غالبيتها على تقليد العنف‪ ،‬بخا�صة يف النظر �إىل ما يقوله الفقيه وقيمته التطبيقية االجتماعية‪.‬‬ ‫يتحدث با�سم اهلل‪ ،‬يف حني �أن الفقيه �إن�سان يجتهد قد يخطئ وقد‬ ‫فالبع�ض يعتقد �إن الفقيه ّ‬ ‫ي�صيب‪ ،‬ويف الكثري من الأحيان تكون ثقافته �شحيحة وحمدودة وما�ضوية‪ ،‬وال يفقه الكثري من‬ ‫علوم الع�صر وتقنياته‪.‬‬ ‫ويف مقاومة العنف كان املبد�أ الغاندي يقوم على الالّعنف‪ .‬بل �أكرث من ذلك يف مو�ضوع‬ ‫احلقوق املدنية عند مارتن لوثر كينغ ا�ستند �إىل الالعنف‪ .‬كذلك عملية التغيرّ التي ح�صلت يف‬ ‫كر�ست مبد�أ الالعنف بعد �أن ا�ستنفدت �أغرا�ض‬ ‫جنوب �أفريقيا بقيادة الزعيم نيل�سون مانديال ّ‬ ‫العنف‪ ،‬ب�إ�شاعة �أجواء الت�سامح وهنا ح�صل تغيرّ كبري جداً يف النظرة �إىل العنف وقيمته‪.‬‬ ‫‪112‬‬

‫مل يعد العنف كما نظرت �إليه املارك�سية �أنه قاطرة التاريخ والدعوة �إىل الكفاح امل�سلح والعنف‬ ‫الثوري للتغيري‪ ،‬بل ال�شيء الثابت والباقي هو العدالة ولي�س العنف‪� .‬أما كيف ميكن حتقيقها‬ ‫بو�سائل �أقلّ عنفاً و�أقل كلفة و�أكرث معرفة بطبيعة الإن�سان وخ�صائ�صه يكون هذا التحقيق ممتازاً‬ ‫لأن فيه اتحّ دت الو�سيلة بالغاية‪ .‬يقول غاندي �إن الو�سيلة متثل البذرة من ال�شجرة بالن�سبة لها‬ ‫كغاية‪ ،‬فهناك ترابط ع�ضوي بني الو�سيلة والغاية‪ ،‬فال غاية �شريفة من دون و�سائل �شريفة ت�ؤدي‬ ‫لها‪ .‬والو�سيلة ال�شريفة هي جزء من الغاية ال�شريفة‪ ،‬بل �إن الو�سيلة ال�شريفة هي �أ�سا�س للغاية‬ ‫ال�شريفة وهي تو�صل �إىل غايات عدة �أكرث ات�ساعاً و�شمو ًال مما كان املرء يظن‪ .‬وعنفان ال ينتجان‬ ‫�سالماً مثلما رذيلتان ال تنجبان ف�ضيلة‪.‬‬ ‫والتدين‬ ‫�شتان بني الدين‬ ‫ّ‬

‫الدين ظاهرة وتراث وقوة يف الآن نف�سه‪ ،‬لكن يف حالة تعدّده عبء وخطر‪ .‬ما ترون‬ ‫لتاليف فتنته؟‬ ‫الدين ظاهرة وحقيقة وال ميكن لثوري حقيقي �أن يكون �ضد الدين‪ ،‬كما جرت حماوالت يف‬ ‫�إطار الطفولية الي�سارية لبع�ض ال�شيوعيني‪ ،‬الذين �أرادوا �أن ّ‬ ‫فت�صرفوا‬ ‫ي�شذوا عن جمتمعاتهم ّ‬ ‫مبا يعادي الدين ومبا يعادي الإ�سالم‪ ،‬ولبع�ض �أعدائهم يف الآن ذاته الذين ا�ستندوا �إىل عبارة‬ ‫عار�ضة مرتجمة ب�صيغة "الدين �أفيون ال�شعوب" فدمغوا ال�شيوعيني بالإحلاد‪ ،‬وكالهما غري‬ ‫�صحيح‪ .‬يف حني �أن مارك�س ق�صد �شيئاً �آخر متاماً يف قوله وهو �شيء ملمو�س يخ�ص برو�سيا‬ ‫حينذاك‪ .‬وقال الدين زفرة ال�شعوب مبعنى خمدر للأمل الذي تعاين منه هذه ال�شعوب ب�سبب‬ ‫اال�ضطهاد‪� .‬أي امل�شكلة لي�ست يف الإميان �أو يف الدين نف�سه‪ ،‬بل يف توظيف الدين‪.‬‬ ‫قلت الدين ظاهرة‪ .‬واملارك�سية تدر�س الظواهر وهي ال تعار�ضها‪ .‬ودعني �أقل حتى لو قال‬ ‫مارك�س ذلك فلي�س كل ما قاله مارك�س كان �صحيحاً‪ ،‬مثال ما قاله مارك�س كان ي�صلح لع�صره‬ ‫ولي�س لع�صرنا‪ .‬نحن ن�ستلهم املنهج ون�أخذ به ونوظفه يف درا�سة الظواهر االجتماعية ومنها‬ ‫الدين‪ ،‬ولي�س الدين فح�سب بل كذلك ظاهرة التد ّين‪ .‬وهناك فارق بني الدين والتد ّين‪ .‬بني‬ ‫الن�ص الديني وفاعلية هذا الن�ص‪ ،‬بني الن�ص الديني واالجتهاد الذي ميكن �أن يت�ساوق مع‬ ‫التط ّور احل�ضاري الع�صري حالياً‪ ،‬هذه م�س�ألة يف غاية الأهمية‪.‬‬ ‫متقدمة بينما الثورة ح�صلت يف بلد مت�أخر‪.‬‬ ‫مارك�س تنب�أ �أن الثورة �ستحدث يف بلدان �صناعية ّ‬ ‫حتدث عن ال�شعب الت�شيكي‪ .‬وهذا خط�أ كبري‬ ‫حتدث عن �شعوب رجعية عندما ّ‬ ‫مارك�س ّ‬ ‫يتحدث عن �شعوب رجعية؟ مارك�س ت�أثر يف املركزية الأوروبية ومل يكن بعيداً‬ ‫وفادح‪ .‬كيف ّ‬ ‫وتنبه لذلك عند زيارته للجزائر‪ ،‬وللأ�سف‬ ‫عنها يف حديثه عن ال�شرق وعن منطقتنا‪ ،‬لكنه عاد ّ‬ ‫‪113‬‬


‫فكــــــر‬

‫مل ي�ستكمل م�شروعه‪.‬‬ ‫حتدث عن ذبول الدولة يف املجتمعات ال�شيوعية‪ ،‬ولكن الدولة تقوت يف املجتمعات‬ ‫مارك�س ّ‬ ‫اال�شرتاكية التي قال عنها خروت�شوف العام ‪" 1960‬نحن يف العام ‪� 1980‬سندخل مرحلة‬ ‫ال�شيوعية"‪ .‬لكن يف العام ‪ 1980‬كنا قد بد�أنا ن�شهد تقهقر الدول اال�شرتاكية ب�سبب اال�شرتاكية‬ ‫املط ّبقة‪ .‬مارك�س مل يدر�س امليثولوجيا والأ�ساطري ومل ُيعرهما اهتماماً علمياً فدور امليثولوجيا‬ ‫هام يف املجتمعات‪ .‬ومارك�س مل يتنبه لعلم النف�س وقيمته االجتماعية بخا�صة بع�ض املدار�س‪،‬‬ ‫مث ًال مدر�ستا فرانكفورت و�أريك فروم الذي در�س ق�ضية االغرتاب يف �ضوء منهجني جمعهما‬ ‫بطريقة علمية حيوية هو املنهج املارك�سي املادي الديالكتيكي املعتمد على الواقع و�أن الإن�سان‬ ‫انعكا�س له واملنهج النف�سي الفردي اجلن�سي ودورها يف عملية االغرتاب‪ .‬مارك�س حتدث عن‬ ‫اغرتاب الإن�سان‪ ،‬واغرتاب العامل عن الآلة واغرتاب العامل عن ال�سلعة واغرتاب العامل عن‬ ‫جمتمعه وعن حميطه واغرتاب الإن�سان عن الإن�سان‪ .‬بينما فرويد حتدث عن جوانب �أخرى‬ ‫كاالغرتاب النف�سي واغرتاب الإن�سان عن الإن�سان يف ظل عوامل �أخرى ك ّونته و�أجنبته‪.‬‬ ‫هوية �سوراقية م�رشقية‬ ‫ّ‬

‫بالد الرافدين وبالد ال�شام هل جتمعهما ه ّوية ح�ضارية؟ �إذا كانت جتمعهما ه ّوية‬ ‫ح�ضارية واحدة كيف ميكن حمايتها؟‬ ‫رمبا‪ ...‬لكنني �أنا �سوراقي‪ ،‬ال �أ�ستطيع و�أنا العراقي �إ ّال �أن �أفكر بطريقة �أقرب �إىل �سوريا �أو �إىل‬ ‫ال�شام‪ .‬وال �أ�ستطيع ك ّلما اقرتبت من �سوريا �إ ّال ان � ّأفكر عراقياً‪ .‬الواقع �أن هناك انهماماً واندغاماً‬ ‫�سورياً عراقياً �إىل حدود كبرية جداً‪ .‬ك�أنهما جناحان جل�سد طري واحد وال ميكنه الطريان �إ ّال بهما‬ ‫و�إذا طار بجناح واحد ف�سيقع ال حمالة‪.‬‬ ‫لدي منذ عقود من الزمان و�أخذت ترت�سخ يوماً بعد يوم‪ .‬رمبا مزاجي‬ ‫هذه القناعة تو ّلدت ّ‬ ‫العروبي يلعب دوراً يف ذلك‪ ،‬لكني ال �أكتفي بهذا املزاج ودوره العاطفي‪ .‬فلكل �إن�سان عاطفة‬ ‫ي�ستخف بها‪ .‬العاطفة مهمة لدى الإن�سان مثل الإح�سا�س‬ ‫وينبغي �أن يوليها اهتماماً وال‬ ‫ّ‬ ‫وال�شعور‪.‬‬ ‫ح�سي‪ ،‬مبعنى �أين فيورباخي‪ .‬يقول فيورباخ �إن الأذن هي التي تو�صل �إليك‬ ‫و�أنا �أ�صف نف�سي �أين ّ‬ ‫ال�شيء ومنها �إىل الدماغ ومنه تتحول فع ًال �إرادياً مبرورها يف القلب �أي�ضاً‪ .‬هكذا �أنا ح�سي‪� .‬أ�شعر‬ ‫ان �إح�سا�سي جمز�أ بني العراق و�سوريا ومل يكن هذا اعتباطاً‪� ،‬إمنا ل�شعوري �إن هناك الكثري من‬ ‫امل�شرتكات واالمتزاجات ما بني �سوريا والعراق‪� ،‬أكانا يف جانبيهما العربي �أم يف جانبيهما الكردي‪.‬‬ ‫‪114‬‬

‫فلو جئت �إىل �سوريا والعراق من ال�شمال لناحية مدينة ديار بكر الرتكية ف�ستجد �أنها �أر�ض‬ ‫موحدة �إىل ي�سارك املنطقة العراقية الكردية و�إىل ميينك املنطقة الكردية ال�سورية‪ ،‬و�شمال املنطقة‬ ‫الكردية العراقية توجد املنطقة الكردية الرتكية وتت�صل باملنطقة الكردية الإيرانية‪ ،‬و�سرتى ما‬ ‫بعد ذلك امتداداً عربياً خال�صاً �أي �سوريا احلقيقية العربية والعراق احلقيقي العربي‪� ،‬أي هو هذا‬ ‫التحدث عن �سوريا‬ ‫الهالل اخل�صيب‪ ،‬بالد الرافدين و�سوريا التاريخية التي نعرفها‪ ،‬وال ت�ستطيع ّ‬ ‫من دون التحدث عن لبنان وعن فل�سطني التي هي يف قلب �سوريا‪ .‬هذا الذي ي�شكل ه ّوية‬ ‫مانعة جامعة للمنطقة كافة ولي�س لدولها‪ .‬لأن هذه الدول ت�أ�س�ست وفقاً التفاقية �سايك�س بيكو‬ ‫غري امل�شروعة‪ ،‬كما �أ�شرنا �سابقا وكما هو معروف للكافة‪.‬‬ ‫املطلوب‪� :‬إرادة �سيا�سية للوحدة رغم ف�شل النخب كافة‬

‫هذه اله ّوية احل�ضارية املتكاملة املتنامية عرب التاريخ حالياً تتع ّر�ض لتهديدات‬ ‫ا�سرتاتيجية خطرية جداً‪ ،‬رمبا بد�أت هذه التهديدات مما ُ�س ّمي باحلروب‬ ‫ال�صليبية‪ ،‬غزوة نابوليون مل�صر وفل�سطني‪ ،‬القائمقاميتني يف جبل لبنان ومن ثم‬ ‫املت�صرفية‪� ،‬سايك�س بيكو التي و�سعت القائمقاميتني‪ ،‬وعد بلفور‪� ،‬سيفر ولوزان‪،‬‬ ‫كيف نحمي هذه اله ّوية؟ كيف ن�ؤمن لها احلق بالتطور الذاتي؟‬ ‫التحدي اخلارجي كبري جداً‪ .‬نحن �أمام مرحلة من حت�ضريات �سايك�س بيكو ‪ ،2‬بتمزيق اله ّويات‬ ‫ّ‬ ‫العامة‪ ،‬وتفتيت اله ّويات الوطنية‪ ،‬وثلم وتق�سيم الكيانية الوطنية‪ ،‬والدولة الوطنية‪ .‬كل دولة‬ ‫وطنية ُيراد تفتيتها الآن‪ .‬وح�سب خمطط برنارد لوي�س فاملنطقة �سيكون فيها ‪ 41‬كيانية‪.‬‬ ‫يقول كي�سنجر �إن علينا ان نبني حول كل بئر نفط دويلة‪ .‬ف�سورية ح�سب خمطط التق�سيم‬ ‫املتداول دولتان �سنيتان يف دم�شق وحلب‪ ،‬ودولة علوية يف ال�ساحل ويف اجلبل املحاذي‬ ‫له‪ .‬ودويلة كردية ودويلة درزية‪ ،‬ولبنان ُيراد له �أن ُيق�سم وفقاً للطوائف واملذاهب واله ّويات‬ ‫واملناطقيات �أي�ضاً لقربها من �سوريا‪ ،‬ورغم ات�صاله بها لبعدها عنها �أي�ضاً‪ .‬والعراق مطروح �أن‬ ‫يق�سم �أي�ضاً �إىل ثالث مناطق �شيعية يف اجلنوب‪� ،‬سنية يف الو�سط وكردية يف ال�شمال‪ ،‬علماً �أن‬ ‫�ضم املو�صل �إليهما‬ ‫ق�سماً من دير الزور ُيفرت�ض �أن ُي�ضم �إىل دولة الأنبار و�صالح الدين‪ ،‬وميكن ّ‬ ‫�أو تن�ش�أ كيانية جديدة وخا�صة‪ .‬هذا املخطط لي�س حم ًال للتطبيق الآن‪ ..‬لكن قد ُيطبق‪ .‬هذا‬ ‫مرهون بعوامل كثرية و�شروط كثرية متعددة‪.‬‬ ‫�س�ألتني ما املطلوب؟ هذا يحتاج �إىل �إرادة �سيا�سية بخا�صة لدى النخب‪ .‬للأ�سف النخب‬ ‫ف�شلت ف�ش ًال ذريعاً‪� ،‬أكانت النخب القومية �أو النخب املارك�سية �أو النخب الإ�سالمية‪.‬‬ ‫ما نحتاجه الآن هو �إجراء مراجعة توفّر �شيئاً من الإرادة ال�سيا�سية‪ .‬هذه الإرادة ت�ستطيع حماية‬ ‫‪115‬‬


‫فكــــــر‬

‫ما هو ممكن ومقاومة تفتيت اله ّوية واحلفاظ على الدولة الوطنية واعتماد مبادئ مواطنة �سليمة‬ ‫باحلريات وامل�شاركة وامل�ساواة والعدالة‪ .‬واملطلوب كذلك التعاون بني القوى كافة على حتقيق‬ ‫برنامج وطني هادف‪.‬‬ ‫ال ب ّد من م�رشوع مقاوم يطلق احلوار‬

‫هل هناك مبادرات يف هذا ال�سياق؟‬ ‫كان ميكن لـ"الربيع العربي" �أن يطرح مبادرات كبرية على هذا ال�صعيد وهو �أطلق �آما ًال‬ ‫تعر�ض له من خيبات �أ�سقطت ما كان من�شوداً منه‪ .‬فالقوى‬ ‫عري�ضة بهذا اخل�صو�ص‪ ،‬لكن ما ّ‬ ‫االمربيالية الكربى �شعرت بخذالنها لأن الربيع العربي فاج�أها بخا�صة يف تون�س ويف م�صر‬ ‫فتحركت �سريعاً الحتواء امل�شهد ال�سيا�سي العربي ككل‪ .‬وبد�أت الثورة ال�سلمية يف �سوريا فتم‬ ‫ّ‬ ‫العمل على دفعها دفعاً باجتاه الع�سكرة‪ ،‬وعندما بد�أت الثورة بخطواتها نحو ال�سالح حتى لو‬ ‫كانت ا�ضطراراً‪ ،‬ف�إنها عملت على �أن حتفر م�صري التطور ال�سلمي الدميقراطي وتخط نهايته‪� ،‬إىل‬ ‫�آخر النفق املظلم‪.‬‬ ‫يف ليبيا بد�أ احلراك �ضد النظام والقذايف ومن ثم حت ّول �إىل تناحر قبائلي ما زال نا�شباً ال�س ّيما بعد‬ ‫ق�صم ظهر الدولة وت�شظيها وغياب وحدتها ويف م�صر مت �إ�سقاط الرئي�س مبارك ومل يكن ممكناً‬ ‫�إبعاد االخوان عن ال�سلطة كقوة كبرية حينذاك‪ ،‬كما مل يكن مطلوباً منعهم فذلك حقهم‪ ،‬لكن‬ ‫ما هو متوقع كان الف�شل وارداً‪ ،‬خ�صو�صاً وقد بد�أوا يرتكبون الأخطاء واالنتهاكات منذ اليوم‬ ‫مدة حكمهم حتى يتم �إخراجهم من امل�شهد كما ح�صل بعد‬ ‫الأول ل�سلطتهم‪ ،‬وهكذا مل تدم ّ‬ ‫�سنة من ت�سلمهم احلكم يف م�صر‪ ،‬لكن تدخل اجلي�ش �س ّبب متاعب �آنية وم�ستقبلية لق�ضية‬ ‫التطور الدميقراطي يف م�صر‪.‬‬ ‫يف اليمن اجلرح ما زال مفتوحاً ومقب ًال على احتماالت �شتى �أق ّلها احلرب الأهلية‪ ،‬االنف�صال‬ ‫�سيتحقق للجنوب ورمبا �سيتفتت ال�شمال �أي�ضاً بخا�صة مع وجود قوى مثل �أن�صار اهلل واحلوثيني‬ ‫التي �أ�صبحت قوى م�ؤثرة يف اجلي�ش وامل�ؤ�س�سات والدولة‪ ،‬وزاد الأمر تعقيداً التدخل اخلارجي‪،‬‬ ‫يقدر نتائج "عا�صفة احلزم"‪ ،‬فاليمن بئر عميقة وموح�شة‪.‬‬ ‫حيث ال �أحد ي�ستطيع �أن ّ‬

‫‪ ..‬وفرادة بريوت‬

‫يف لقائنا يف املركز الثقايف العراقي حتدّثت عن امتياز االنطالق الثقايف من بريوت‬ ‫م�شرقياً وعربياً‪ ،‬ماذا ت�ضيف؟‬ ‫ثالث خ�صائ�ص يف بريوت فهي بريوت الثقافة وبريوت اجلمال وبريوت املقاومة‪ ،‬هذه الثالثية‬ ‫الأثرية مق�صورة على بريوت وحدها‪ .‬فبريوت على �صغرها كبرية ولبنان على حجمه املتوا�ضع‬ ‫هو كبري جداً‪ .‬وميكن لنخب ثقافية لبنانية �أن ت�أخذ مبادرة وت�ستعيد احلركة الثقافية العربية من‬ ‫خمولها الراهن ب�أركانها الأربعة‪ :‬القومية العربية‪ ،‬املارك�سية‪ ،‬الإ�سالمية والليربالية التقدمية �أي‬ ‫التي ت�ؤمن باحلرية وبال�سوق وت�ؤمن ب�إعالء فردانية الفرد‪.‬‬ ‫وهذه ليربالية خمتلفة عن النيوليربالية‪ ،‬فهي اجتهاد فقهي واجتماعي كمدر�سة من مدار�س‬ ‫الليربالية‪ .‬فيمكن لهذه الكيانية الفكرية والثقافية يف بريوت �أن تتبلور يف �إطار حوارات فكرية‬ ‫جادة وم�ستمرة ع�سى �أن نخرج مب�شروع �سيع ّزز من قوى املقاومة ومن قوى املمانعة ومن القوى‬ ‫التي ترف�ض اال�ست�سالم‪ .‬وال �أقول الآن‪� .‬إمنا �سيحقق امل�ستحيل‪.‬‬ ‫هل هناك م�شروع كما �أ�شرت؟‬ ‫�أنا �أدعو مل�شروع كهذا‪ ،‬وهناك قوى وازنة ميكنها �أن تلعب دوراً من موقعها الفكري والإ�سالمي‬ ‫واملدين وال�سيا�سي واملارك�سي والقومي العربي‪ ،‬وبع�ض هذه القوى بد�أت ت�ؤمن بق�ضايا املجتمع‬ ‫املدين‪ ،‬وحقوق الإن�سان وباملناف�سة االنتخابية وقواعد اللعبة الدميقراطية‪ ،‬وذلك بانت�شار ثقافة‬ ‫حقوق الإن�سان والالّعنف والت�سامح‪.‬‬ ‫هكذا ميكن بناء م�شروع وال �أقول جبهة وطنية كما يف ال�سابق‪ ،‬بل ميكن بناء حالة توا�صل نا�شط‬ ‫وفاعل لكل االجتاهات امل�شاركة‪ ،‬برغم جميع العيوب والثغرات واملثالب لكل هذه القوى‪ ،‬مبا‬ ‫فيها للمجتمع املدين ذاته و�ضعف قياداته وعدم �أهلية بع�ضها‪.‬‬ ‫وحري بنا جميعاً �أن ن�أخذ العربة من الذي ح�صل‪.‬‬ ‫لكن ال ّبد من حوار ومن م�شروع‪ّ .‬‬

‫كيف ال�سبيل للخروج من هذا؟ ال �أحد يعلم‪ .‬فداع�ش ما زال يفعل فعله يف العراق والبلد‬ ‫مق�سم‪ ،‬فال وجود حالياً جلي�ش موحد وال لبلد موحد وال ملجتمع موحد وال لنخب جديرة‬ ‫ّ‬ ‫بالعمل للنهو�ض مبعايري احلد الأدنى‪ ،‬والف�ساد ينخر يف عروقه والعنف ي�ست�شري‪ ،‬والطائفية‬ ‫تنهكه‪ ،‬بل وتخرجه عن طوره وعن وقوفه يف خط التاريخ‪.‬‬ ‫‪116‬‬

‫‪117‬‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫"ق�صيدة نوم ال ّأيام لل�شّ اعر نعيم تلحوق‬

‫أويلية)‬ ‫و لعبة االزدواجية املثمرة" (درا�سة‬ ‫حتليلية ت� ّ‬ ‫ّ‬ ‫د‪.‬نادين طربيه احل�شّ ا�ش‬

‫الدخول يف مغامرة من نوع �آخر‪.‬‬ ‫عندما تتع ّرف اىل نعيم تلحوق تكون يف �صدد ّ‬ ‫قاد ٌرهذا ُ‬ ‫الرجل على خلق مدارات من الأفكار التحري�ض َّية يف ذهنك‪ .‬قادر على ا�ستفزازك فكر ّياً‬ ‫قادر على حثّك على ر�ؤية الواقع بتم ّرد هام�س‪.‬‬ ‫حب ق�صيدة له‬ ‫حملني هذا ال�شّ عور بطاقته الإيجا ّبية يف الآخرين اىل �أن �أقتفي �أثر ّن�صه‪ ،‬فوقعت يف ّ‬ ‫من ديوان " �أظ ّنه وحدي" ‪ ،‬عنوانها "نوم الأ ّيام" وبناء عليه‪ ،‬ق ّررت ال ّتح�ضري لدرا�سة حتلي ّلية ت�أويل ّية‬ ‫تنا�صية وحماوالت دائمة يف الك�شف عن العالقات املتوافقة‬ ‫لهذه الق�صيدة‪ ،‬جتمع بني د ّفتيها مالمح ّ‬ ‫�صح ال ّتعبري ‪.‬‬ ‫واملتعار�ضة القائمة بني املفردات املتداولة يف �سياق الق�صيدة ّ‬ ‫الدال ّيل‪ ،‬اذا ّ‬ ‫ال�سمات يف �سال�ستها‬ ‫هذه املفردات التي يك�سوها نعيم تلحوق و يع ّريها وفق وجهات �سياق ّية حا ّدة ّ‬ ‫الدالل ّية املتوالدة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫فيا �أيها ال ّن�ص �أف�صح عن مداك لوجه ال�شّ م�س ودعنا ن�شهد!‪.‬‬ ‫لق�صيدة "نوم الأيام " م�ش ّهدية تتواىل فيها الأنا وتتنا�سل �ضمن حرك ّية �صامتة �صاخبة بني قطبني ‪:‬‬ ‫قطب ال ّزمان املتمثّل بال ّنوم والأ ّيام وقطب الر ّف�ض ملا هو قائم‪.‬‬ ‫بني �صوت الهزمية وفعل ال ّتحنيط و�صورة ال�س ّيد امل�سيح وال ّلغة حيث ال ّتالقي وال ّتعانق يف فعل الفداء‬ ‫الت�ضحية‪ ،‬اخلال�ص‪.‬‬ ‫عمل مرهق االنتقال التلحو ّقي من الأنا املت�صارعة مع الأنا الآخر يف م�سرية ارتقائها نحو الآخر‬ ‫للم ال�شّ مل وحتري�ضه‪.‬‬ ‫اخلارجي ثم نحو ال"نحن" يف حماولة ّ‬ ‫ّ‬ ‫ال�سكينة‪ /‬اال�شتعال‬ ‫كيف ت�شرنقت هذه الأنا ال ّتلحوقية يف تعاريج هذه ّ‬ ‫ال�صراعات املحتدمة يف بوتقة ّ‬ ‫لتعلن عن معاناة وجو ّدي ّة �صارخة؟كيف �سخّ رت هذه الأنا ال ّتلحوق ّية توليفة املحاور املتناق�ضة بني‬ ‫الز ّمان ‪ّ /‬‬ ‫الدالالت اخل�صبة؟‬ ‫الرف�ض ‪،‬الهزمية‪/‬اخلال�ص‪� ،‬ضمن ق�صيدة تتمخّ �ض فيها ّ‬ ‫ال�سيد امل�سيح ّبكل جتل ّياتها املعنو ّية وقام بدجمها يف بنية الق�صيدة؟‬ ‫َمل ا�ستدعى تلحوق �صورة ّ‬ ‫‪119‬‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫ت�سري لعبة التناق�ضات يف بنية الق�صيدة ب�أثقالها نحو ال ّتكامل يف حمورية دائرية ال تدرك معناها �إ ّال‬ ‫وفق ّ‬ ‫الن�ص‪.‬‬ ‫حمطات متنافرة تلتقي يف ّ‬ ‫حدتها ال ّنزاعية نحو اكتمال الأنا التلحوق ّية يف ّ‬ ‫فعل الفداء‬ ‫الزمان‬

‫الأنا التلحوقية‬

‫ال ّرف�ض‬

‫االنهزام‬ ‫�إ�شكالية الأنا التلحوقية‬

‫ال يلتئم ن�سيج الأنا ال ّتلحوق ّية وفق مونولوج وحيد‪ ،‬يف هذه الق�صيدة تتمحور املجازفات حول الأنا‬ ‫وحول �ضمري املفرد املتك ّلم وما يعود اليه ‪:‬‬ ‫"�أالطف نداماتي‬ ‫تقر�أين الأزمان‬ ‫�أكتب‬ ‫يقيني‬ ‫�أنا �أرد ّد �شعاراتي خائفاً‬ ‫ين‪".....‬‬ ‫ك�أ ّ‬ ‫تخرب هذه الأنا خما�ضاً �صامتاً ّ‬ ‫يتمطى بحيوية بني فعل القراءة والكتابة يف زمن خارجه حم ّنط باطنه‬ ‫متحول ‪،‬خارجه هادىء ‪ ،‬عمقه م�شتعل ‪،‬ظاهرة قبول ‪ ،‬داخله ثورة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫حتتاج هذه الفرادة اىل املعنى لذلك تواجه ‪ ،‬ت�ستبق الز ّمان يف فعل املواجهة ‪،‬مواجهة الآخر‬ ‫املحمل ّبكل تبعات اخل�ضوع واخلوف‬ ‫ّ‬ ‫النف�سي ‪ّ ،‬‬ ‫الداخلي �أي الأنا الآخر الكامن يف جهاز ال�شّ اعر ّ‬ ‫النف�سية؟كيف تقدر الأنا يف هذا‬ ‫‪،‬اجلمود والنوم‪.‬هل من انت�صار ّ‬ ‫جدي ي ّتم يف م�ضمار هذه الطبقات ّ‬ ‫الن ّزاع الثّقيل املن�ضج �أن جتد ظال" حلقيقتها؟‬ ‫ا ّحلق هو �أنّ ال جمال لإدراك املعنى مهما �سما �أو �سخف احلقّ يف انعكا�سها الثالث �أي يف مواجهة‬ ‫اخلارجي يف ّ‬ ‫اخلارجي‪.‬‬ ‫الطرف الثالث لبعدنا ‪ ،‬يف الآخر‬ ‫انعكا�س الأنا‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫‪120‬‬

‫�أعلن تلحوق عن هذا الأخر يف �صورتني‪:‬‬ ‫ال�صورة الأوىل حتمل �سمات الآخر الغريب ‪ ،‬املح ّنط االجتماعي يف تعريف الأنا‪ ،‬غري املدرك‬ ‫ّ‬ ‫ملخا�ضات النف�س وتو ّرماتها الوجود ّية‪:‬‬ ‫"هذا فالن ‪،‬ابن فالن"‬ ‫ع ٌم فالن‬ ‫خال فالن‬ ‫�شقيق ع ّالن‬ ‫و�صهر فلتان‬ ‫عم فالن وع ّالن وعلتان ‪"....‬‬ ‫والد ابن �أخت ّ‬ ‫هذا الآخر املنت�شر ‪,‬املتكاثر يف فراغ ‪....‬‬ ‫�أم ّا ال�صورة الثانية ف�صورة الآخر اخلارجي القريب ‪,‬‬ ‫حد بعيد قرابة الد ّم وال�ساللة ويرمي نرده يف �ساحة القرابة االن�سان ّية في�صيب‬ ‫وك�أن تلحوق ينفي �إىل ّ‬ ‫الوجع ليرب�أ‪,‬هذا الآخر مرتبط بالأنا ال ّتلحوقية يف عالقة التقاء وتوافق يف ظروف الوجود ‪,‬هما تلتقيان‬ ‫على قاعدة واحدة �سمتها �ضياع ٌ‪ -‬يبحث عن وطن‪:‬‬ ‫" �أنا و�صاحبي ‪ ،‬نائمان يف بيت الأ ّيام‪....‬‬ ‫نف ّت�ش عن وطن به ن�سرتيح ‪،‬‬ ‫وعلينا ي�سرتيح‪"...‬‬ ‫عند هذه ا ّلنقطة من لعبة تلحوق الد ّائرية تلتقي الأنا ب�أزمات الق�ضايا الوجود ّية والفل�سف ّية الأيديولوج ّية‬ ‫اخلا�ص ّثم نحو الآخر العام ال�شّ امل ‪ّ ،‬‬ ‫كل �إن�سان يعاين ق�ض ّية وطن �ضائع‬ ‫ّثم تن�سحب نحو الآخر ّ‬ ‫وهوية مت�شظ ّية يف زمن �إلغاء الهو ّيات وتعميم النموذج الواحد‪.‬‬ ‫ؤيوي ي�ستقي ن�سغه من رافدين حمور ّيني‬ ‫لذا تتمر ّد الأنا التلحوقية على ذاتها يف فعل خال�ص ر� ّ‬ ‫يرمزان للفداء واخلال�ص‪.‬‬ ‫جت�سد �أكرث ّ‬ ‫املحطات مقاربة‬ ‫رافد جت ّلى يف �صورة ال�س ّيد امل�سيح ‪,‬و�آخر يف ال ّلغة (الكتابة والقراءة ) التي ّ‬ ‫للأنا يف متظهراتها العديدة‪.‬‬ ‫للذات ‪ ،‬رافدان لبذل ّ‬ ‫رافدان حم ّرران ّ‬ ‫الذات يف �سبيل �إعادة خلق الواقع وفق معايري مرتفعة‬ ‫ال�سقف‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫‪121‬‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫ما هي حاجة تلحوق ال�ستح�ضار مغزى الفذاء؟ هل هذه الو�سيلة من املواجهة �إعالن �صريح عن‬ ‫�إ�شكال ّية ال ّزمان يف الواقع ؟�أين يتك�شّ ف لنا مكمن ال�ص ّراع الذي يف�صح عن الأزمة الكربى ؟‬ ‫ّ‬ ‫لعل العنوان امللفت الذي �سخّ ره تلحوق كفيل با�ستدراجنا ‪ ،‬هذا العنوان " نوم الأ ّيام " الذي‬ ‫ّ‬ ‫ي�شكل حموراً بذاته اجلمود ‪ /‬احلركة ‪ ،‬احلركة ‪ /‬اجلمود‪.‬‬ ‫اخلارجي‪.‬‬ ‫احل�سي‬ ‫ال ّنوم‪ - :‬حالة جمود ظاه ّري يكاد ي�شبه املوت �أو حالة الإغماء وفقدان الإدراك ّ‬ ‫ّ‬ ‫ حالة ين�شط فيها العقل الباطن ويتفاعل مع املعطيات احلديثة واملرتاكمة‪.‬‬‫م�ستمرة ثابتة‪.‬‬ ‫الأ ّيام‪ - :‬حركة حتاول تقييد ال ّزمن ‪ّ ،‬‬ ‫متجددة‪.‬‬ ‫ حركة ّ‬‫ت�ستمد مو ّيتها من املعنى املفرت�ض‬ ‫وحملهما �أبعاداً �أخرى ‪ ،‬ان�ش�أ بينهما عالقة ّ‬ ‫‪.‬جمع تلحوق املفردتني ّ‬ ‫بني ال�سكينة وال ّن�شاط ‪.‬‬ ‫يجمع ال�شّ اعر بني اجلمود ّ‬ ‫الظاه ّري املعلن لل ّنوم ولثبات اال�ستمرار ّية يف الأ ّيام مع نقي�ض ذلك �أي‬ ‫الباطني‪.‬‬ ‫والتحرر‬ ‫حركة ّ‬ ‫الداخلية الثائرة ّ‬ ‫ّ‬ ‫إيدولوجي يدعو ّ‬ ‫للرف�ض والثّورة‬ ‫وجودي �‬ ‫اليومي الأليم وفق مفهوم‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يعلن تلحوق تلميحاً جمود الواقع ّ‬ ‫املمث ّلة باحلركة املت�سارعة يف ظاهرها والثابتة يف عمقها العقيم‪.‬‬ ‫هكذا ح ّول تلحوق ال ّنوم املح ّنط للواقع اىل حركة باطن ّية مكبوتة ت�سعى الكت�شاف معانيها الراف�ضة‬ ‫لعبث ّية ال ّزمن اجلامد‪.‬‬ ‫ال�سلب ‪/‬االيجاب ترحتل ا ّل ّذات ال�شّ اعرة يف‬ ‫يتقن تلحوق لعبة النقّي�ض لإثبات نقمته وفق لعبة ّ‬ ‫عدة حماور جت ّلت يف حمور ال ّزمان ‪ /‬ال ّرف�ض ‪ ،‬املوت ‪/‬‬ ‫بحثها عن نقي�ضها لتحقيق الربهان �ضمن ّ‬ ‫اخلال�ص‪.‬‬ ‫‪/‬الرف�ض‪:‬‬ ‫�أوال"‪:‬حمور ال ّزمان ّ‬

‫�أ‪-‬ال ّزمان‪ :‬ال ّنوم ‪/‬الأ ّيام‪.‬‬ ‫يف منت الق�صيدة جت ّلت مفردات الز ّمن وفق وجهي الن ّوم ‪/‬الأ ّيام‪ ,‬تواترت العبارات وانت�شرت ‪ ،‬يقول‬ ‫ال�شّ اعر ‪:‬‬ ‫(نائم يف بيت الأ ّيام‬ ‫نائمان يف بيت الأ ّيام‬ ‫‪122‬‬

‫نائمان يف بيت الأحزان‬ ‫الأ ّيام‬ ‫الأزمان ‪ ،‬الأوقات‬ ‫ال�صحو‬ ‫غدوة ّ‬ ‫حمراب ال�س ّنني‬ ‫زمان تغتاب فيه امل�سايا‬ ‫غفوة ال�ص ّباحات‬ ‫�صاحبي خلمه الوقت ف�صار من املدمنني على االنتظار‬ ‫االنتظار‬ ‫ال ّليل عدمي الأمنيات‬ ‫�أنا و الأّ ّيام موقنان )‬ ‫ال ّنوم التلحوقي حالة رف�ض م� ّؤجلة وال ّزمان ثقيل يجر الآخر اىل متاهة االنتظار ‪.‬لكن ّ‬ ‫الذات ال�شّ اعرة‬ ‫مدركة ر�ؤيو ّية واعية حلركة احلياة الثّائرة ومنها تتبنى اليقني يف خ�صب قادم �ضمن احتمال امل�ستحيل‪.‬‬ ‫ب‪-‬ال ّرف�ض‪ :‬يقول ال�شّ عر حول �آلية ال ّرف�ض الثائرة يف ذاته‪:‬‬ ‫(�أُر ّد ُد �شعاراتي‬ ‫�صوت الغ�ضب‬ ‫�أقاتل غربتي البليدة‬ ‫�أفك قيدي رهناً ل�سالم �أر�ضاه ‪ ،‬يخ�شاه غريي‬ ‫وطن ٌ‬ ‫يرق�ص املح ّنطون على ريحه‪� ،‬أقاوم طيفي)‬ ‫دمي ٌ‬ ‫راف�ض ُ‬ ‫متج ّذرة يف الذ ّات ال�شاعرة يف مدى ال ّن�ص تعطيه ن�سغا" للتح ّرر ‪ ،‬يف ط ّيات هذه النفّ�س‬ ‫�آلية ال ّرف�ض ّ‬ ‫غ�ضب خمنوق وغربة �صارخة تبحث عن �سالم يق�ض م�ضجع املح ّنطني يق ّو�ض بنيان ّ‬ ‫الطيف �أي الأنا‬ ‫الوجودي واال�ست�سالم ‪.‬‬ ‫الداخلي الذي ميثّل اخلمول‬ ‫الآخر ّ‬ ‫ّ‬ ‫هذا ال ّرف�ض يدخل يف حمور تناق�ض مع ال ّزمان والوقت مع ال ّنوم ّ‬ ‫الظاهري يف حركة انقالب على‬ ‫ال�سالم الداخّ لي‪.‬‬ ‫الواقع املحدود وع�صيان ين�شد ّ‬ ‫"الدم"‪.‬‬ ‫يتحد ال�شّ اعر بق�ضيته الوطن بو�ساطة مفردة ّ‬ ‫ّ‬ ‫‪123‬‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫يخرج الوطن من م�ساحاته ال�ضيقّة اىل م�ساحة احللم ‪/‬الإنتماء وهو يف هذه املعركة يبحث عن‬ ‫خال�صه وفداء اجلماعة‪.‬‬ ‫ال�سيد‬ ‫هكذا زاوج تلحوق بني جمود ال ّزمان واملوت وبني ال ّلغة – و�سيلة التعبري الأجنع –و�صورة ّ‬ ‫امل�سيح وال ّرف�ض وفعل الفداء‪.‬‬ ‫ثانيا"‪:‬حمور املوت ‪/‬اخلال�ص‪:‬‬

‫�أ‪-‬املوت‪:‬‬ ‫ال�سيد امل�سيح بذكاء حني‬ ‫يف هذه املعمعة اخل ّالقة ّوظف تلحوق ثورته احلنون عندما ا�ستدعى �صورة ّ‬ ‫الذات يف �سبيل افتداء الآخرين على خ�شبة �صليب وبني بذل ّ‬ ‫قرن بني بذل ّ‬ ‫الذات على الورق يف‬ ‫متكلمة‪.‬‬ ‫ق�صيدة ّ‬ ‫كيف ّمت هذا ال ّتنا�ص الذي الم�س ال ّت�ضمني وال ّت�صريح يف �آن واحد‪.‬؟‬ ‫كيف �أخرج ال�شّ اعر �صورة امل�سيح من �إطارها املتعارف عليه �إىل تعاريج الق�صيدة؟‬ ‫ال�صورة يف ن�سيج ق�صيدته كما فعل ‪.‬‬ ‫�أدخل ال�شّ اعر هذه ّ‬ ‫�أكرث من �شاعر حديث ذلك مثل ‪ :‬خليل حاوي ‪,‬بدر �شاكر ال�س ّياب‪ ,‬حممود دروي�ش وغريهم ‪.‬‬ ‫وكان ّ‬ ‫الداليل ويف حتميل الأبعاد‪.‬‬ ‫لكل �شاعر من ه�ؤالء �أ�سلوبه اخلا�ص يف التوظيف ّ‬ ‫وعمدها باحلرب ف�أ�صبحت ق�صيدة تبوح ب�آهات النف�س بثورتها بجوعها اىل‬ ‫�أحيا تلحوق �صورة امل�سيح ّ‬ ‫ال�سالم بر�ؤيتها ‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ك�أن تلحوق �شاء مبطرح ما �أن يهزم �صورة املوت القائم بالذي هزم املوت بالقيامة على درب بذل‬ ‫ّ‬ ‫الذات ‪�:‬ألي�ست الكتابة فعل ت�ضحية ومعاناة ‪� ،‬أمل يتغيرّ ال ّتاريخ بقلم ثائر؟‬ ‫روحي �آخر ‪ ،‬وهو موت‬ ‫موت الذات ال�شّ اعرة هو موت من نوع �آخر موت راف�ض لذاته ‪ ،‬موعود ب�ضياء ّ‬ ‫املجددة يف الإن�سان �أمام فداحة الواقع ‪.‬‬ ‫ال ّلحظة ّ‬ ‫(نائم يف بيت الأ ّيام‬ ‫يخمر املوت كالالهوت‬ ‫�أحب�س ظ ّلي يف مكان وارف ال تلخمه الأ�ضواء‬ ‫�إ�سمي �ألف عنوان قتيل‬ ‫�أثقايل رحيل‬ ‫‪124‬‬

‫يرق�ص املح ّنطون على ريحه‬ ‫فتغتاله الق�ضايا‬ ‫الفكر ظالم‬ ‫تقدمي الأ�ضاحي عن روح ال�شّ هيد‬ ‫القن‪ ،‬يقاتل‬ ‫لوى عنقه على م�صطبه ّ‬ ‫ال�شهيد‬ ‫اال�سم �ضريح)‬ ‫ميتد من الآخرين نحو الذ ّات ‪ ،‬نحو الفكر املح ّنط يف املجتمع املوبوء بتكرار‬ ‫يعانق املوت ال ّرحيل‪ّ ،‬‬ ‫اخلا�ص فالعا ّم‪.‬‬ ‫�أخطائه‪ .‬يقارب تلحوق املوت بهيبة �ساخرة‪ ،‬بوجع مت�ش ّعب من العا ّم اىل ّ‬ ‫لكن عبارة (يخمر املوت كال َّالهوت )وهي العبارة الواعدة بقيامة �أكيدة ‪ .‬من هنا ا�ستدعاء رمز امل�سيح‬ ‫خمر املوت قيامة بدمه وج�سده ‪.‬وحتى تكتمل الر�ؤيا وتتزاوج مع الواقع يتعانق امل�سيح وال ّلغة‬ ‫الذي ّ‬ ‫يف بنيان الق�صيدة انت�صاراً للغد املوعود ب�ضيائه ‪ ،‬بقيامته احل�ضار ّية الفكر ّية‪.‬‬ ‫ب‪-‬اخلال�ص ‪�:‬صورة امل�سيح وا ّل ّلغة ‪.‬‬ ‫وفق �شروطه اخلا�صة ا�ستدعى تلحوق امل�سيح من خارج ال ّن�ص وقام بدجمه يف الق�صيدة خم�ضعاً هذه‬ ‫‪.‬ثم قام بعمل ّية حتويل �صهرت و�أذابت هذا ال ّرمز مع ال ّلغة حتى‬ ‫الرم ّزية لبن ّية ال ّن�ص اجلديد ّ‬ ‫الداللية ّ‬ ‫ّمت االلتحام بال ّن�ص ّ‬ ‫املت�شكل‪.‬‬ ‫‪� -1‬صورة ال�سيد امل�سيح التلحوقية‪:‬‬

‫يقول ال�شاعر‪:‬‬ ‫"‪�.....‬أكتب على خبز الأوقات يقيني ‪....‬‬ ‫‪.........‬يخرج الإله من العنقود ‪ ،‬ي�صري العنب ‪.‬‬ ‫يخمر الالهوت يف عر�س الق�صب ‪"...‬‬ ‫يقول الر�سول مرق�س يف �إجنيله عن ع�شاء ال ّرب الأخري (‪:)26==22/14‬‬ ‫الرب‬ ‫"ع�شاء ّ‬ ‫وبينما هم ي�أكلون ‪� ،‬أخذ خبزاً وبارك وك�سره وناولهم وقال‪ :‬خذوا‪،‬هذا هو ج�سدي‪ ".‬و�أخذ ك�أ�ساً‬ ‫‪125‬‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫و�شكر وناولهم ف�شربوا منها ك ّلهم ‪ ،‬وقال لهم ‪ ":‬هذا هو دمي ‪ ،‬دم العهد الذي ي�سفك من �أجل‬ ‫�أنا�س كثريين ‪.‬‬ ‫احلق �أقول لكم ‪:‬ال �أ�شرب بعد الآن من ع�صري الكرمة ‪ ،‬ح ّتى يجيء يوم فيه �أ�شربه جديداً يف‬ ‫ملكوت اهلل ‪".‬‬ ‫فعل الكتابة عند تلحوق فعل بذل للآخر ‪ ،‬بذل ّ‬ ‫الذات كما بذل امل�سيح ج�سده خبزاً (�أكتب على‬ ‫خبز الأوقات )‬ ‫حتم ّية هي هذه املزاوجة بني القربان والق�صيدة ‪.‬‬ ‫ال�سمات ‪ ،‬متح ّول من العنب‬ ‫�إله ال�شّ عر ّ‬ ‫املحمل ب�أعباء الوجود ‪� ،‬إله الفكر نبيذي املالمح ‪ ،‬فدائي ّ‬ ‫والعنقود اىل الالهوت يف عر�س اخلال�ص‪.‬‬ ‫الدمج ‪� ،‬أم ان�ساب من الوعيه ‪ ،‬كان�سياب الأحرف؟ ل�سنا ندري ّ‬ ‫ولكن الوا�ضح‬ ‫هل ق�صد تلحوق هذا ّ‬ ‫�أ ّنه �أتقن ال ّلعبة جيد ّا‪.‬‬ ‫مل ِ‬ ‫يكتف ال�شاعر ب�صورة الع�شاء ال�س ّري بل تنقّل من �صورة اىل �أخرى مبهارة �سل�سلة يقول ‪:‬‬ ‫"�أقاتل غربتي البليدة واحلال مدان ‪،‬‬ ‫ك�أنيّ م�أ�سور على خبب ال ّروح‪.‬‬ ‫م�صلوب على ورق ال�شّ وح ‪،‬‬ ‫�أفك قيدي رهناً ل�سالم ‪،‬‬ ‫ل�ست �أر�ضاه ‪..‬‬ ‫يراه وجهي فيعطيه من امل ّر ل�سان‪...‬‬ ‫‪.....‬جروحي خطايا‪.‬‬ ‫نذوري �ضحايا‪...‬‬ ‫"والليل عدمي الأمنيات ‪...‬‬ ‫وال�ش ّهيد م�سيح‪...‬‬ ‫‪....‬واال�سم �ضريح‬ ‫وال�شهيد م�سيح‪.....‬‬ ‫"‪........‬تار ًة �أنا املهزوم ‪,‬وطوراً �أنا العامل‬ ‫‪126‬‬

‫تار ًة انا احلبيب ‪ ،‬وطوراً �أنا ّ‬ ‫الظامل‬ ‫وقيدي مل يزل مو�سوماً ب�شمع ال�شّ ماتة‬ ‫واحلماقة والغمام "‪.‬‬ ‫يذكر ال ّر�سول م ّتى يف ‪:33-34/ 27‬‬ ‫"وملّا و�صلوا اىل املكان الذي يقال له اجللجلة ‪�،‬أي "مو�ضع اجلمجمة " �أعطوه خمراً ممزوجة بامل ّر‪"...‬‬ ‫يف ‪ 39 /27‬يقول م ّتى ‪...":‬وكان املّارة ي ّهزون ر�ؤو�سهم وي�شمتون ‪ "...‬يف ‪ 41 /27‬يقول ‪.... ":‬وكان‬ ‫الكهنة وم ّعلمو ال�شريعة ي�ستهز�ؤون به"‪.‬‬ ‫الغربة �صلب ّ‬ ‫اجل�سدية والنف�س ّية و�آالم‬ ‫للذات يف بيئة جاهلة ‪ ،‬هنا تتالءم املعاناة بني �آالم امل�سيح ّ‬ ‫الن�ص‬ ‫ال�شّ اعر يف تعاطيه مع الأر�ض العقيمة ‪ ،‬اجلروح تكت�سي معاناة الإبداع يف تطوير ال�صورة من ّ‬ ‫الداللة املت�شك ّلة من رتابة الر�ضوخ اىل ثورة التغيري احلاملة‪.‬‬ ‫التاريخي اىل ّ‬ ‫ّ‬ ‫و�سموه بالظامل املهزوم‪.‬‬ ‫فامل�سيح كان احلبيب العامل وعند ال�صلب �شمتوا به ّ‬ ‫واحلبيب العامل هو ال ّرا�ضخ القابل مل�سرية املجتمع التقليدية وعندما تلوح �صرخة ّ‬ ‫الذات الراف�ضة يف‬ ‫الأفق ي�ضطهد من مع�شر القطيع ‪ ....‬لأنه ي�شتهي ّ‬ ‫فك القيد ويحلم بال�سالم باخلال�ص ‪ ،‬اخلال�ص له‬ ‫وللآخرين‪.‬‬ ‫املفكرة التي �أنارتها املعرفة فتوقدت‪ .‬مدان هو ّ‬ ‫م�سرية امل�سيح يف الق�صيدة هي م�سرية الذ ّات ّ‬ ‫املفكر يف‬ ‫مهددة بال�صلب ‪ ،‬الذي يعترب نوعاً من املواجهة واثبات ّ‬ ‫عامل املح ّنطني ّ‬ ‫الذات ‪.‬‬ ‫وكل حماولة للتغيري ّ‬ ‫‪ -2‬معجم اللّغة الثائرة ‪:‬‬

‫لقد انت�شرت مفردات ال ّلغة يف لغة يف الق�صيدة ‪ ،‬يف حماولة لإثبات العالقة باحلرب على �أن ّها عالقة‬ ‫حم ّررة خم ّل�صة ‪:‬‬ ‫(تقر�أين‬ ‫�أكتب على خبز الأيام \�أردد �شعاراتي‬ ‫�صوت الغ�ضب‬ ‫يحاورين ‪...‬‬ ‫ت�س�ألني‬ ‫‪127‬‬


‫حتتاج هذه الذ ّات اىل ال ّلغة ‪ ،‬كالماً قو ًالوكتابة و"قراءة"‬ ‫والتحرر من القيود ‪ ،‬تت�س ّلل اىل عوامل ال�شّ اعر تع ّو�ضه عن الأمل ‪ ،‬ت�ؤاخيه(ال‬ ‫فهي و�سيلة االنقاذ ّ‬ ‫تلعنني الق�صيدة ‪،‬ال ي�شطبني الكالم ) تن�صره ‪ ،‬تن�صفه‪.‬‬ ‫يعبرّ من خاللها عن رغبته يف العبور من القناعة �إىل الواقع عرب التغيري ّ‬ ‫‪،‬متحكم هو بها (�ألج احلروف‬ ‫اجلن�سي ‪ ،‬بالتوالد باخللق‪.‬‬ ‫موحدة توحي بالفعل‬ ‫املتنا�سلة )يف دائرة ع�شق ّية ّ‬ ‫ّ‬ ‫الداللية التي و ّرط فيها تلحوق الق�صيدة يف عملية دجمه بني الكتابة وال ّزمان‬ ‫ما هي هذه املغامرة ّ‬ ‫وال ّرف�ض والقربان؟‬ ‫�شدة رغبته يف �إنقاذ الوجود احل�ضاري الذي‬ ‫ورطها ورطة �أخّ اذة وتالعب مبعطياتها ف�أنقذها من ّ‬ ‫ي�ضطهده ‪.‬‬ ‫يف اخلتام ‪,‬هذا غي�ض من في�ض يف درا�سة ق�صيدة واحدة من ديوان "�أظ ّنه وحدي" لل�شاعر نعيم‬ ‫تلحوق ‪ ،‬حيث ال ميكنك ا ّدعاء الإحاطة باملو�ضوع من ّ‬ ‫كل جنباته ‪ ،‬ال �أنكر لقد ا�ستف ّزتني ق�صيدتك‬ ‫�أ ّيها احلامل ق ّربتني و�أق�صيتني ولك ّني بكل وداعة وتوا�ضع حاولت مالم�سة وجهها ع�ساين �أفلحت يف‬ ‫تفجراته الالمتناهية‪�.‬ص‬ ‫تلم�س بع�ض �سماته ‪ ،‬يف اقتفاء بع�ض الآثار ال�صغرية من ّ‬ ‫ّ‬ ‫‪128‬‬

‫حتوالت �أدبية‬

‫تغتاب‬ ‫قناعاتي‬ ‫ال تلعنني الق�صيدة‬ ‫ال ي�شطبني الكالم‬ ‫ت�أخذين الرواية‬ ‫�أعيد قراءتها مرات‬ ‫�أ�س�ألها‬ ‫�ألج احلروف املتنا�سلة‬ ‫الفكر ظالم‬ ‫الفر�ضيات �أنهت جدل ّيتها)‬

‫الفل�سطيني امل�شرتك بني الق�صيدة‬ ‫الهم‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫والعربية‬ ‫إيرانية‬ ‫ال‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫غ�سان �أحمد التويني – باحث‬ ‫د‪ّ .‬‬ ‫ما الأدب املقارن؟‬

‫الأدب املقارن �شكل من �أ�شكال املعرفة‪ ،‬يتناول املقارنة بني �أديبني �أو �أكرث‪ ،‬ليظهر عالمات الت�شابه‬ ‫وعالمات االختالف بني الآداب‪ ،‬ومعرفة العوامل‪.‬‬ ‫الأدب املقارن هو درا�سة الأدب خارج حدود بلد معني‪ ،‬ودرا�سة العالقات بني الآداب من جهة‪،‬‬ ‫وجماالت املعرفة من جهة �أخرى(‪.)1‬‬ ‫كما يدر�س الأدب املقارن مواطن التالقي بني الآداب يف لغاتها املختلفة‪ ،‬و�صالتها املعقدة يف‬ ‫ال�صالت التاريخية من ت�أثري وت�أثّر(‪.)2‬‬ ‫حا�ضرها وما�ضيها‪ ،‬وما لهذه ّ‬ ‫ال�صالت بني الآداب‪ ،‬وعملية الت�أثّر والت�أثري‬ ‫ويو�ضح "بول فان تييغم" �أن الأدب املقارن يركز على ّ‬ ‫اللذين تتبادلهما (‪ .)3‬وهذا ما تقول به املدر�سة الفرن�سية‪.‬‬ ‫و�إذا كانت املدر�سة الفرن�س ّية تركز على عملية الت�أثّر والت�أثري‪ ،‬ف�إنّ املدر�سة الأمريك ّية تهدف �إىل‬ ‫درا�سة الظاهرة الأدبية يف �شموليتها من دون مراعاة احلواجز ال�سيا�س ّية والل�سان ّية‪.‬‬ ‫ويقول‪" :‬هرني رمياك" امل�ؤ�س�س االول لهذه املدر�سة‪� ،‬إ ّنه ال ينبغي النظر �إىل الأدب املقارن على �أ ّنه‬ ‫نظام م�ستقل بذاته‪ ،‬بل يجب النظر �إليه على �أ ّنه حلقة و�صل بني املو�ضوعات �أو املجاالت اخلا�صة‬ ‫مبو�ضوع واحد‪ ،‬لذا ف�إ ّنه من املمكن �إجراء مقارنة بني اثنني او �أكرث من الآداب املختلفة‪ ،‬وكذلك‬ ‫(‪.)4‬‬ ‫مقارنة الآداب باملجاالت الأخرى املعرفية‬ ‫يدفعنا احلديث عن الأدب املقارن �إىل �أن نع ّرج �سريعاً لنتحدث عن م�س�ألة التداخل الثّقا ّيف‬ ‫ين‪� ،‬إذ جتلت معامل الت�أثّر والت�أثري بني الثّقافتينّ يف جمال الأدب يف �أكرث من حمطة‪،‬‬ ‫العربي الإيرا ّ‬ ‫ّ‬ ‫‪ 1‬‬ ‫ ‪2‬‬ ‫ ‪3‬‬ ‫ ‪4‬‬

‫ �أحمد زلط‪ ،‬الأدب املقارن‪ ،‬ن�ش�أته وق�ضاياه واجتاهاته‪� ،‬ص ‪.48‬‬‫ حممد رم�ضان اجلربي‪ ،‬الأدب املقارن‪� ،‬ص ‪.63‬‬‫ �إبراهيم عو�ض‪ ،‬يف الأدب املقارن‪ ،‬تعريفه وميادينه‪� ،‬ص ‪.3‬‬‫ �سمرية �شبال‪ ،‬الأدب املقارن‪ ،‬امل�صطلح واملفهوم‪� ،‬ص ‪.18‬‬‫‪129‬‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫إ�سالمي‪ ،‬نذكر منهم على �سبيل املثال‬ ‫العربي وال ّ‬ ‫عقد خيوطها �أكرث من مفكر وباحث يف العامل ّ‬ ‫والرتكي"‪ ،‬و�إبراهيم‬ ‫والفار�سي‬ ‫العربي‬ ‫ال احل�صر‪ ،‬ح�سني جنيب‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫امل�صري يف كتابه "الأ�سطورة بني ّ‬ ‫ريازي‪� ،‬شاعر الغناء والغزل يف �إيران"‪ ،‬وعبد النعيم حممد‬ ‫واربي يف كتابه "حافظ ال�شّ ّ‬ ‫�أمني ال�شّ ّ‬ ‫ح�سنني يف كتابه "كليلة ودمنة بني العرب ّية والفار�س ّية"‪ ،‬وعبد الوهاب عزام يف كتابه "الأدب‬ ‫ال�شعري" وغريهم‪.‬‬ ‫رازي‬ ‫ّ‬ ‫العربي"‪ ،‬وعمر �شبلي يف ترجمته لديوان "حافظ ال�شّ ّ‬ ‫الفار�سي والأدب ّ‬ ‫ّ‬ ‫العربي يف كثري من مو�ضوعاته‬ ‫حني ظهر الأدب الإيرا ّ‬ ‫ين احلديث‪ ،‬ظهر �أدباً �إ�سالم ّياً يحتذي الأدب ّ‬ ‫و�أ�ساليبه‪ ،‬فكتب باحلروف العرب ّية‪ ،‬ال احلروف الفهلو ّية‪ ،‬وا�ستعار من العرب ّية �ألفاظاً كثرية‪.‬‬ ‫العربي‪ ،‬من مدح وهجاء وغزل‬ ‫ين مع مو�ضوعات ال�شّ عر‬ ‫كما تت�شابه مو�ضوعات ال�شّ عر الإيرا ّ‬ ‫ّ‬ ‫ين مبو�ضوعي الق�ص�ص والت�صوف‪ ،‬فقد �أغرم ال�شّ عراء الإيران ّيون‬ ‫وو�صف‪ .‬وقد مت ّيز الأدب الإيرا ّ‬ ‫ق�صة النبي يو�سف وزليخا‪ ،‬وق�ص�صاً تاريخ ّية مثل‪ ،‬ليلى‬ ‫بالق�صة فنظموا ق�ص�صاً دين ّية مثل‪ّ ،‬‬ ‫ال�صو ّيف‪ ،‬اذ نظموا فيه منظومات ق�صرية ومنظومات ّطويلة‪ ،‬حتى‬ ‫واملجنون‪ .‬وبلغوا الغاية يف ال�شّ عر ّ‬ ‫نظم فريد الدين العطار زهاء �أربعني منظومة فيها ع�شرات الآالف من الأبيات ال�شّ عر ّية‪.‬‬ ‫وت�شتمل "ال�شاهنامة" على �ألفاظ عرب ّية كثرية‪ ،‬وقد حاكوا يف �شعرهم الأوزان العرب ّية‪ ،‬وا�ستخدموا‬ ‫م�صطلحات العرو�ض التي كان العرب ي�ستخدمونها‪.‬‬ ‫ين يف �إطار الأدب املقارن‪ ،‬بقدر ما كان حماولة �إنتاج‬ ‫العربي الإيرا ّ‬ ‫مل يكن هذا التداخل الثقا ّيف ّ‬ ‫وفكري جديد‪ ،‬يعبرّ عن العالئق والو�شائج القو ّية بني احل�ضارتني‪ ،‬العرب ّية والإيران ّية‬ ‫أدبي‬ ‫ّ‬ ‫لواقع � ّ‬ ‫التي جتمعهما روح الإ�سالم وتعاليمه الإن�سان ّية التي تتجاوز القطر ّية والقوم ّية �إىل ف�ضاءات �أو�سع‬ ‫و�أرحب‪.‬‬ ‫يطالب الإن�سان بالإبداع والبحث واالنفتاح واجلهد املعر ّيف وطرح الأ�سئلة‪ ،‬والإجابة عنها‪ ،‬و�إيجاد‬ ‫احللول لها‪.‬‬ ‫هذا كله �أنتج فهماً جديداً للثقافة الإن�سان ّية التي تربط الإن�سان‪ ،‬والكون باخلالق من جهة‪ ،‬و�ضرورة‬ ‫تعارف ال�شعوب فيما بينها‪ ،‬وتقبل عنا�صر ثقافاتها من جهة �أخرى‪.‬‬ ‫هذا التداخل الثقا ّيف �إىل جانب عوامل �أخرى عديدة‪ ،‬جغراف ّية و�سيا�س ّية ودين ّية حت ّتم على ال�شّ اعر‬ ‫ين �أن تكون همومهما م�شرتكة‪ ،‬والق�ضايا التي ت�ستحوذ على اهتماماتهما‬ ‫العربي وال�شاعر الإيرا ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ال�صراع احلقيقي بني العرب‬ ‫الهم املتمثل بالق�ضية الفل�سطين ّية التي تبقى مركز ّ‬ ‫واحدة‪ ،‬خ�صو�صا‪ّ ،‬‬ ‫ين املغت�صب للأر�ض من جهة �أخرى‪.‬‬ ‫وامل�سلمني من جهة‪ ،‬والكيان ال�صهيو ّ‬ ‫إ�سالمي �أ�صواتا �شعر ّية تن�شد للقد�س‪ ،‬وت�صرخ مع‬ ‫لذلك جند على امتداد العامل‬ ‫العربي وال ّ‬ ‫ّ‬ ‫الفل�سطيني‪ ،‬ومن هذه الأ�صوات ال�شّ اعرة الإيران ّية طاهرة �صفّار‬ ‫فل�سطني‪ ،‬وت�ؤرخ ل�صمود ال�شّ عب‬ ‫ّ‬ ‫الفل�سطيني حممود دروي�ش"‪ ،"3‬عبرّ ه�ؤالء‬ ‫ين"‪ ،"2‬وال�شّ اعر‬ ‫وري نزار قبا ّ‬ ‫ال�س ّ‬ ‫زاده"‪ ،"1‬وال�شّ اعر ّ‬ ‫ّ‬ ‫‪130‬‬

‫همجي‬ ‫إ�سالمي‪ ،‬جراء ما تتعر�ض له القد�س من عدوان ّ‬ ‫العربي وال ّ‬ ‫ال�شّ عراء وفق ر�ؤيتهم عن امل�أزق ّ‬ ‫على �أيدي ال�صهاينة‪ ،‬متجاوزين ب�شعر ّيتهم حلظات االنك�سار والهزمية التي تمُ �سك بالأ ّمة العرب ّية‬ ‫والإ�سالم ّية‪ ،‬را�سمني ب�شعر ّيتهم طريق القيامة الذي يجب على الأ ّمة �أن ت�سلكه للو�صول �إىل‬ ‫خال�صها‪.‬‬ ‫‪ - 2‬طاهرة �صفّار زاده‪� ،‬شاعرة‪ ،‬وباحثة‪ ،‬وكاتبة‪ ،‬ومرتجمة �إيران ّية‪ ،‬ولدت يف مدينة �سريجان الإيران ّية‪،‬‬ ‫عري‪" ،‬ال�سفر اخلام�س"‪ ،‬و"رحلة عا�شقة" ترجمة‪ ،‬مو�سى بيداج‪.‬‬ ‫العام ‪ .1936‬من نتاجها ال�شّ ّ‬ ‫ال�شعري‪" ،‬ق�صائد متوح�شة"‪،‬‬ ‫�سوري‪ ،‬ولد يف دم�شق العام ‪ .1923‬من نتاجه‬ ‫‪ - 3‬نزار قبا ّ‬ ‫ّ‬ ‫ين �شاعر ّ‬ ‫"�أ�شعار خارجة على القانون"‪�" ،‬أطفال احلجارة" وغريها‪.‬‬ ‫ال�شعري‪" ،‬عا�شق من فل�سطني"‪،‬‬ ‫فل�سطيني‪ ،‬ولد العام ‪ .1941‬من نتاجه‬ ‫‪ - 4‬حممود دوي�ش‪� ،‬شاعر‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫عما فعلت" وغريها‪.‬‬ ‫"ال تعتذر ّ‬ ‫يف تقنية املقارنة‪:‬‬

‫ال�شعري طاقة منفتحة وفاعلة‪ ،‬تن�ش�أ يف حلظة ع�صف جتتاح ال�شاعر ليعبرّ من خاللها عن‬ ‫الن�ص‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫انفعاالته وقناعاته واهتماماته‪ ،‬ويك�شف عن امل�ستور من الق�ضايا التي ت�شكل �أ�سئلة حرجة تفر�ض‬ ‫علينا �أجوبة وحلو ًال‪ ،‬وال ميكن للأديب �أن ي�صل �إىل �أجوبة‪� ،‬إال بو�ساطة الأ�ساليب الفن ّية‪ ،‬املو�صولة‬ ‫بثقافته‪.‬‬ ‫وال تبلغ العملية ال�شعر ّية غايتها عند ال�شاعر �إ ّال �إذا �أ�سعفته يف ذلك ثقافة وا�سعة‪ ،‬يعرف كيف‬ ‫ال�شعري‪ ،‬وكيف ي�ستعني مبكوناتها يف �إنتاج واقع جديد يقوم على �أنقا�ض واقع‬ ‫يوظفها يف ّن�صه‬ ‫ّ‬ ‫عاجز يف النهو�ض بامل�س�ؤول ّيات‪ ،‬ومواجهة امل�شاكل التي تعرت�ضه‪ ،‬وهذا ما ميكنه من حتديد ر�ؤيته‬ ‫الك�شف ّية يف امل�ستقبل‪.‬‬ ‫حني تقر�أ الن�صو�ص ال�شّ عر ّية عند ال�شاعرة طاهرة زاده‪ ،‬ونزار قباين‪ ،‬وحممود دروي�ش‪ ،‬جتد نف�سك‬ ‫�أمام قامات �أدب ّية وثقاف ّية عالية‪ ،‬قد ت�س ّربت ثقافتهم يف تفا�صيل ن�صو�صهم ال�شعر ّية‪ ،‬وقدموا‬ ‫يحدد‬ ‫بو�ساطتها ر�ؤيتهم �إىل الوجود من حولهم‪ ،‬هذه الر�ؤية امل�ستندة �إىل نظام‬ ‫رمزي‪ّ ،‬‬ ‫عالمي ّ‬ ‫ّ‬ ‫ال�ساحة العرب ّية‬ ‫هو ّية هذه الثّقافة‪ّ ،‬‬ ‫ويقدمها بو�صفها عني ال�شّ عراء يف تتبع �أحداث التاريخ على ّ‬ ‫ال�ضوء وحتقيق الهو ّية والذات‪.‬‬ ‫والإ�سالم ّية يف م�سار �ضعفها وقوتها‪ ،‬واخلروج بها �إىل منافذ ّ‬ ‫ين‪،‬‬ ‫لي�س �صدفة �أن جتتمع ر�ؤية ال�شّ اعرة الإيران ّية طاهرة زاده بر�ؤ ّية ال�شّ اعرين العربيينّ ‪ ،‬نزار قبا ّ‬ ‫وحممود دروي�ش‪ ،‬حول ق�ضية واحدة‪ ،‬هي الق�ضية الفل�سطين ّية‪ ،‬التي ت�ستحوذ على اهتمامات‬ ‫‪131‬‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫إ�سالمي‪،‬‬ ‫املحوري‬ ‫ال�صراع‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ال�شّ عراء الثالثة‪ ،‬بو�صفها ق�ضية ّ‬ ‫العربي وال ّ‬ ‫والوجودي التي جتمع العامل ّ‬ ‫�إذ متثل بعداً تاريخ ّياً وح�ضار ّياً ودين ّياً وثقاف ّياً‪ .‬وحماية هذا املوروث والدفاع عنه‪ ،‬هو دفاع عن الهو ّية‬ ‫العرب ّية والإ�سالم ّية ب�ألوانها املتنوعة‪ ،‬وتخلي�ص املقد�سات من براثن االحتالل‪.‬‬ ‫�إنّ الن�صو�ص الثالثة التي ذكرناها‪ ،‬هي تعبري عن �صوت واحد‪ ،‬يخرتق اجلغرافيا ويتجاوز ال ّلغة‪،‬‬ ‫ليعبرّ عن الفعل املقاوم القادر على اجرتاح ال ّن�صر وحترير الأر�ض والإن�سان‪.‬‬ ‫‪ - 1‬يف اختيار العناوين‪:‬‬

‫الن�ص الأول لل�شّ اعرة الإيران ّية طاهرة‬ ‫نقر�أ ثالثة عناوين لثالثة ن�صو�ص عند ه�ؤالء ال�شّ عراء‪ّ ،‬‬ ‫ين‪ ،‬املو�سوم بعنوان‬ ‫وري نزار قبا ّ‬ ‫ال�س ّ‬ ‫زاده‪ ،‬املو�سوم بعنوان (القبلة الأوىل)‪ّ ،‬‬ ‫والن�ص الثاين لل�شّ اعر ّ‬ ‫الفل�سطيني حممود دروي�ش املو�سوم‬ ‫والن�ص الثالث لل�شاعر‬ ‫(دكتوراه �شرف يف كيمياء احلجر)‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫بعنوان (يف القد�س)‪.‬‬ ‫ت�شدك العناوين الثالثة �إال باجتاه واحد‪ ،‬هو فل�سطني‪ ،‬نقطة االرتكاز الأوىل عند العرب‬ ‫ال ّ‬ ‫وامل�سلمني‪� ،‬إذ تر�صد عني ال�شّ عراء الثالثة الأق�صى والقد�س بو�صفهما هو ّية الأ ّمة ورمز كرامتها‬ ‫وع ّزتها‪.‬‬ ‫يتقدم على‬ ‫الهم الأول الذي ّ‬ ‫تقدم ال�شّ اعرة طاهرة زاده امل�سجد الأق�صى (القبلة الأوىل)‪ ،‬لكونه ّ‬ ‫الو�صفي (القبلة الأوىل)‬ ‫غريه من الهموم والق�ضايا التي تواجه اال ّمة الإ�سالم ّية‪ ،‬وهذا الرتكيب‬ ‫ّ‬ ‫ي�ستعيد �إىل الذاكرة ال�صالة الأوىل التي �أقامها الر�سول الكرمي (�ص) متوجهاً نحو امل�سجد الأق�صى‬ ‫من جهة‪ ،‬وي�شري �إىل �إ�صرار ال�شّ اعرة على �أنّ الوجهة احلقيقية هي يف توجيه البو�صلة باجتاه القد�س‬ ‫وامل�سجد الأق�صى‪ ،‬لنعيد ما خ�سرناه يف حلظة غياب عن امل�شهد‪/‬احلدث‪.‬‬ ‫ين يرى‬ ‫حددت الوجهة واملكان (القد�س‪/‬الأق�صى)‪ ،‬ف�إنّ نزار قبا ّ‬ ‫و�إذا كانت ال�شّ اعرة طاهرة قد ّ‬ ‫بو�ساطة عنوانه (دكتوراه �شرف يف كيمياء احلجر)‪� ،‬أنّ �أطفال احلجارة وحدهم من يقدرون �إحالة‬ ‫غيبوبة الأ ّمة وغيابها عن (القد�س‪ /‬الأق�صى) �إىل حال ر�شد ووعي ت�ستطيع معهما الأ ّمة �أن تعيد‬ ‫حرمة مقد�ساتنا‪ ،‬وت�سرتجع هو ّية الأر�ض املغ َت�صبة والأ�سماء امل�سلوبة ب�إرادة القوة التي ت�صنعها‬ ‫الأجيال الطالعة‪.‬‬ ‫�إنّ �إيقاع العنوان املت�شكل من تركيبي �إ�ضافة (دكتوراه �شرف‪/‬كيمياء احلجر)‪ ،‬ال يحيلك �إىل‬ ‫�إيقاع احلياة‪ ،‬بقدر ما ي�ضعك �أمام تالحم تركيبني ي�شكالن عالمة �سيميائ ّية تدل على عجز ثقافتنا‬ ‫يف �إ�ضافة �شيء جديد للواقع امل�أزوم الذي تعي�شه �أمتنا‪ ،‬ونهو�ض جيل جديد بيده نه�ضة الأ ّمة‬ ‫وانبعاثها من جديد‪.‬‬ ‫جتاوز العنوان مرحلة اخلطاب ّية العرب ّية التي قدمت �إخفاقاتها وهزائمها على �سنوات عديدة‪� ،‬إىل‬ ‫‪132‬‬

‫مرحلة الفعل التي تنطلق بقب�ضة حجر‪ ،‬ي�شق طريقه نحو م�شهد مقاوم‪� ،‬سيرتك ب�صمته يف �صراعه‬ ‫إ�سرائيلي‪.‬‬ ‫مع العد ّو ال‬ ‫ّ‬ ‫الفل�سطيني حممود دروي�ش يف قلب القد�س حني يختار عنوان ّن�صه (يف القد�س)‪،‬‬ ‫يعي�ش ال�شاعر‬ ‫ّ‬ ‫حدد املكان بقوة‪ ،‬ف�إ ّنه �أعطى القد�س بعداً حميم ّياً ووجدان ّياً‪ ،‬ي�شريان‬ ‫ف�إذا كان حرف اجل ّر (يف)‪ ،‬قد ّ‬ ‫فل�سطيني‪� ،‬إنمّ ا لأنّ القد�س متثل الإقامة‬ ‫�إىل عالقة غري عادية يقيمها ال�شاعر مع القد�س‪ ،‬ال لأنه‬ ‫ّ‬ ‫ين من جهة‪ ،‬و�إ�صراراً على هويتها العرب ّية وما متثله من قيم دين ّية جامعة‪.‬‬ ‫فيها حتد ّياً للعدو ال�صهيو ّ‬ ‫(‪)1‬‬ ‫ال�سور القدمي" اىل عالمة �شديدة‬ ‫يحيلك الفعل "�أعني" يف قوله‪" :‬يف القد�س‪� ،‬أعني داخل ّ‬ ‫يقدمه حممود دروي�ش ملدينة القد�س من جهة‪ ،‬والذاكرة‬ ‫الداللة تعبرّ عن عمق التاريخ الذي ّ‬ ‫إ�سرائيلي على حموها‪.‬‬ ‫العربية املتم�سكة باملكان (القد�س)‪ ،‬بو�صفه هوية‪ ،‬يعمل العد ّو ال‬ ‫ّ‬ ‫�إنّ العناوين الثالثة جمتمعة تعبرّ عن ر�ؤية واحدة عند ال�شاعرة الإيران ّية وال�شّ اعرين العرب ّيني‪،‬‬ ‫حتكم تفكريهم ق�ضية واحدة‪ ،‬وتقلق ّن�صهم هواج�س م�شرتكة‪ ،‬ال يرون فيها �إال متزق الأ ّمة العرب ّية‬ ‫والإ�سالم ّية‪ّ ،‬‬ ‫ين‪.‬‬ ‫وتفككها جراء ما تتع ّر�ض له من عدوان م�ستمر من العدو ال�صهيو ّ‬ ‫�إنّ اجلغرافيا واللغة مل متنعا ال�شّ عراء من مقاربة الق�ضية امل�شرتكة (القد�س‪/‬الأق�صى)‪ ،‬مقاربة‬ ‫تتلم�س جراحنا‪ ،‬وتدعو �إىل �ضرورة تخل�ص اال ّمة من حمنها‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ال�سائدة‪:‬‬ ‫‪ - 2‬حركة ت�شكل ال ّن�صو�ص والأفكار ّ‬

‫ن�ص طاهرة زاده من �ست حركات‪ ،‬تتخذ احلركة الأوىل عنواناً يعبرّ عن ح�ضور الأق�صى‬ ‫يت�شكل ّ‬ ‫يف زمن كتابة الق�صيدة (هذا الزمن زمن الأق�صى)‪ّ ،‬ثم ي�أتي العنوان الثاين لري�صد عدوانية املحتل‬ ‫(همجية العدو املحتل مع امل�صلني)‪.‬‬ ‫تت�صل احلركة الثالثة مبقاومة املحتل على �أيدي �أطفال احلجارة (�أطفال احلجارة)‪ ،‬وتك�شف احلركة‬ ‫الرابعة م�شهد القتل والإجرام الذي تقوم به الآلة ال�صهيون ّية وجمرمو احلروب (جتار الدماء يوغلون‬ ‫بالقتل)‪ ،‬وتت�صل احلركة اخلام�سة بقدرة االنتفا�ضة على ر�سم �صورة الوطن (من احلجارة يولد‬ ‫وطن)‪ ،‬ويف احلركة ال�ساد�سة ت�صل ال�شّ اعرة �إىل حقيقة م� ّؤكدة‪ ،‬وهي �أنّ الطغاة �إىل زوال (الطغيان‬ ‫ٌ‬ ‫والطغاة �إىل زوال)‪.‬‬ ‫ال�شعري‪ ،‬هي حلظة ال َع ِ‬ ‫والعاطفي‪ ،‬اللذين يواكبان الر�ؤية‬ ‫الذهني‬ ‫�صف‬ ‫الن�ص‬ ‫ّ‬ ‫�إنّ حلظة ت�شكل ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫لتتبدى �أفكاراً تالم�س‬ ‫التي يرغب ال�شاعر يف الك�شف عنها بو�ساطة �أ�ساليب بالغ ّية متنوعة ّ‬ ‫الهموم والق�ضايا التي يعي�شها ال�شاعر‪ ،‬هذه الهموم والق�ضايا ّ‬ ‫�شكلت هماً واحداً عند ال�شاعرة‬ ‫ ‪1‬‬

‫عما فعلت»‪� ،‬ص‪.74 .‬‬ ‫ حممود دروي�ش‪ ،‬من جمموعة‪« :‬ال تعتذر ّ‬‫‪133‬‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫وتوحدت ر�ؤيتهم يف الك�شف عن‬ ‫طاهرة ونزار وحممود‪� ،‬إذ التقت �أفكارهم حول ق�ضية واحدة‪ّ ،‬‬ ‫مواطن �ضعف الأ ّمة وقوتها‪.‬‬ ‫ين‪� ،‬أطفال احلجارة‪ ،‬تقول‬ ‫ال ميكن �أن نقول‪� :‬إنّ ال�صدفة قد جمعت يف ن�صي طاهرة زاده ونزار قبا ّ‬ ‫(‪)1‬‬ ‫ال�شاعرة الإيران ّية‪" :‬طيور احلق‪ /‬من قلب امل�سجد هذا‪ /‬حتارب (الأبرهات)‪ /‬باحلجارة" ‪.‬‬ ‫ين‪:‬‬ ‫وري نزار قبا ّ‬ ‫ال�س ّ‬ ‫ويقول ال�شّ اعر ّ‬ ‫حجرين‪...‬‬ ‫"يرمي حجراً‪� ...‬أو‬ ‫ْ‬ ‫يقطع �أفعى �إ�سرائيل �إىل ن�صفني‬ ‫مي�ضغ حلم الدبابات‪،‬‬ ‫يدين(‪.)2‬‬ ‫وي�أتينا من غري ْ‬ ‫يت�صدى لرمز من رموز القتل والإجرام‪�( ،‬أبرهة)‪ ،‬هو‬ ‫ن�ص طاهرة زاده الذي ّ‬ ‫�إنّ طفل احلجارة يف ّ‬ ‫ين‪.‬‬ ‫ن�ص نزار قبا ّ‬ ‫ذاته الطفل الذي يواجه الأفعى الإ�سرائيل ّية يف ّ‬ ‫ت�ستح�ضر ال�شاعرة رمز "�أبرهة" لتقدم الإرهاب يف املا�ضي‪� ،‬شك ًال مت�ص ًال باحلا�ضر‪ ،‬يتمثّل‬ ‫�ضد �أطفال احلجارة‪.‬‬ ‫بالإرهاب ال‬ ‫إ�سرائيلي ّ‬ ‫ّ‬ ‫يقع ال�شاعران يف قب�ضة اال�ست�سالم الذي مي�سك بال�ساحة العرب ّية والإ�سالم ّية يف حلظة كتابة‬ ‫مل ِ‬ ‫الق�صيدة‪ ,‬لأ ّنهما يعوالن على ثقافة املقاومة التي تر�سم مالحمها �أنامل �أطفال ناعمة‪ ،‬يف �سبيل‬ ‫�إنتاج واقع جديد قادر على مواجهة التحد ّيات‪ ،‬والنهو�ض بامل�س�ؤول ّيات جتاه ق�ضايانا‪ ،‬لذلك ّميم‬ ‫عربي‬ ‫ال�شاعران وجهيهما �إىل انتفا�ضة الأق�صى الأوىل العام ‪ 1978‬التي ت�شكل �إ�ضاءة يف نفق ّ‬ ‫مظلم‪ ،‬وتتفق ال�شّ اعرة طاهرة مع ال�شاعر نزار على �أنّ الوطن ال يولد �إال من بني �أيدي �أطفال‬ ‫احلجارة‪ ،‬هذا اجليل الطالع نحو ال�شم�س واحلر ّية‪ ،‬تقول ال�شّ اعرة الإيران ّية‪:‬‬ ‫"واحلجارة يف طهر يديك‬ ‫يح�سبون"(‪.)3‬‬ ‫�سهام الغيب‪� /‬سهام البدر‪� /‬سهام مما ال َ‬ ‫ين‪:‬‬ ‫ويقول نزار قبا ّ‬ ‫‪ 1‬‬ ‫ ‪2‬‬ ‫ ‪3‬‬ ‫‪134‬‬

‫ طاهرة �صفار زاده‪ ،‬من جمموعة‪« :‬رحلة عا�شقة»‪� ،‬ص‪.133 .‬‬‫ نزار ق ّباين‪« ،‬ثالث ّية �أطفال احلجارة»‪� ،‬ص‪.43 .‬‬‫‪ -‬طاهرة زاده‪« ،‬رحلة عا�شقة»‪� ،‬ص‪.136 .‬‬

‫�صبي مثل الورد‪ ..‬ميحو العامل باملمحاة؟؟‬ ‫ت�س�أل �صحف العامل‪ ،‬كيف ّ‬ ‫يقلب �شاحنة التاريخ‪ ،‬ويك�سر بلور التورا ْة؟؟‪.)1("..‬‬ ‫ّ‬ ‫إ�سرائيلي‪،‬‬ ‫الفل�سطيني عند طاهرة ونزار‪ ،‬هو �إف�ساد الزمن ال‬ ‫أهم عالمة من عالمات الزمن‬ ‫لعل � ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫على �أيدي �أطفال احلجارة" �سهام الغيب‪� ،‬سهام البدر‪� ،‬سهام‪ ...‬ميحو‪ ،‬يقلب‪ ،‬يك�سر"‪ ،‬تلتقي‬ ‫�سهام �أطفال احلجارة عند طاهرة‪ ،‬ب�أفعال التحول والإرادة التي ير�سمها �أطفال احلجارة عند نزار‪،‬‬ ‫الفل�سطيني مرهوناً مبا ُي ّ‬ ‫خطط له العد ّو‪ ،‬بل �أ�صبح زمناً معداً للمواجهة وم�ستعداً �إىل‬ ‫فلم يعد الزمن‬ ‫ّ‬ ‫اخلروج من دائرة الهزمية �إىل دائرة االنت�صار‪.‬‬ ‫وال�سالم‪،‬‬ ‫ت�ؤمن ال�شاعرة طاهرة �أنّ ه�ؤالء الأطفال ي� ّؤ�س�سون لعامل �إن�سا ّ‬ ‫ين ت�سوده قيم احلق واخلري ّ‬ ‫ال�سيا�سي املرتهل يف �ساحتنا العرب ّية‬ ‫ين �أنّ ه�ؤالء الأطفال �سي�سقطون اخلطاب‬ ‫وي�ؤمن نزار قبا ّ‬ ‫ّ‬ ‫والإ�سالم ّية‪ ،‬ويفتحون �أبواب ال ّن�صر واحلر ّية‪.‬‬ ‫�إنّ االلتفات �إىل �أطفال احلجارة يف حلظة انفجار الق�صيدة‪ ،‬عند طاهرة ونزار‪ ،‬هو التفات �إىل حدث‬ ‫تاريخي اجتاح �ساحتنا العرب ّية والإ�سالم ّية‪� ،‬إ ّنها انتفا�ضة الأق�صى التي اندلعت العام ‪.1987‬‬ ‫ّ‬ ‫حني يويل نزار قباين وطاهرة زاده االهتمام بهذا احلدث‪ ،‬فهذا يعني �أ ّنهما يعبرّ ان عن ت�أ�سي�س‬ ‫ين املبني على التو�سع والتدمري‪،‬‬ ‫م�شروع مقاوم يتجاوز الأطر التقليد ّية يف مواجهة امل�شروع ال�صهيو ّ‬ ‫وال�صرب وي�ؤ�س�س ملقاومة تعرف كيف تدير املواجهة مع‬ ‫�إىل م�شروع مقاوم يولد من رحم العذابات ّ‬ ‫العد ّو ال�صهيوين‪.‬‬ ‫الفل�سطيني يف ا�سرتداد �أر�ضه املغت�صبة‪ ،‬هو ما جعلها‬ ‫�إنّ �إميان ال�شاعرة الإيران ّية بحق ال�شعب‬ ‫ّ‬ ‫ت�ضع يف �أولوياتها (القبلة الأوىل) امل�سجد الأق�صى‪ ،‬الذي �ستفك �أ�سره الدماء الطاهرة‪" ،‬والدماء‬ ‫النقية‪� /‬ستدك عامل الظالم‪ /‬فلينتظر الطغاة"(‪.)2‬‬ ‫ين �أنّ عدونا وهم �صائر �إىل زوال "�إنّ هذا الع�صر اليهودي‪ ،‬وه ٌم‪� ..‬سوف ينهار‪.)3( ..‬‬ ‫ويجزم نزار قبا ّ‬ ‫الفل�سطيني‪ ،‬حممود دروي�ش طاهرة زاده حقيقة الهزمية امل� ّؤكدة التي �ستلحق‬ ‫ي�شارك ال�شاعر‬ ‫ّ‬ ‫بالطغاة والظاملني يف ق�صيدة (الأر�ض) �إذ يقول‪�" :‬سنطردهم من حجارة هذا الطريق الطويل‪..‬‬ ‫�سنطردهم من هواء اجلليل"(‪.)4‬‬ ‫ي�ؤكد الفعل "�سنطردهم" حقيقة واحدة هي �أن الغزاة ال�صهاينة م�صريهم الرحيل عن الأر�ض‬ ‫ ‪1‬‬ ‫ ‪2‬‬ ‫ ‪3‬‬ ‫ ‪4‬‬

‫ين‪ ،‬م‪ .‬ن‪.‬‬ ‫ نزار ق ّبا ّ‬‫ طاهرة زاده‪« ،‬رحلة عا�شقة»‪� ،‬ص‪.139 .‬‬‫ين‪« ،‬ثالث ّية �أطفال احلجارة»‪� ،‬ص‪.38 .‬‬ ‫ نزار ق ّبا ّ‬‫ حممود دروي�ش‪« ،‬الديوان»‪� ،‬ص‪.638 .‬‬‫‪135‬‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫يتم �إال ب�سهام م�سمومة‪ ،‬تقلب وجه التاريخ‪ ،‬وتك�سر ب ّلور التوراة‪.‬‬ ‫التي احت ّلوها‪ ،‬وطرد الغزاة ال ّ‬ ‫وتوحدت حول هدف واحد وق�ض ّية �أ�سا�س ّية‬ ‫قدمت ال ّن�صو�ص الثالثة �شعر ّية االنت�صار واملقاومة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ين‪.‬‬ ‫ال�صراع بيننا وبني العدو ال�صهيو ّ‬ ‫ت�شكل نواة ّ‬ ‫ّقافية‪:‬‬ ‫‪ - 3‬الرموز وال�شّ يفرات الث ّ‬

‫جتتمع يف ال ّن�صو�ص الثالثة رموز دين ّية �شديدة االت�صال بالقد�س‪ ،‬كونها ت�شكل نقطة �إجماع عند‬ ‫ّ‬ ‫ن�ص طاهرة زاده على (الإ�سراء واملعراج)‪ ،‬الذي‬ ‫ال�سماو ّية‪ ،‬وتتوزع هذه الرموز يف ّ‬ ‫كل الأديان ّ‬ ‫تبدلت �صورته يف ظل االحتالل‪ ،‬الذي يحمل ّ‬ ‫كل بذور ال�شّ ر والإجرام‪ ،‬ي�صبح الإ�سراء واملعراج‬ ‫ّ‬ ‫احلق ‪ /‬والفتوة واملروءات"(‪.)1‬‬ ‫ن�ص ال�شاعرة مو�ضعاً لأهل الباطل "الهبوط عن ّ‬ ‫يف ّ‬ ‫الديني عن ذاكرة حممود دروي�ش يف ق�صيدته (القد�س)‪� ،‬إذ يح�ضر بقوة‬ ‫وال يغيب هذا امل�شهد‬ ‫ّ‬ ‫معبرّ اً بو�ساطته عن �أمل الرحلة التي يقوم بها ال�شّ اعر يف ّ‬ ‫ظل ظروف قا�سية يتعر�ض لها ال�شعب‬ ‫الفل�سطيني‪ ،‬يقول ال�شّ اعر يف رحلته‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫"�أ�سري من زمن �إىل زمن بال ذكرى ت�ص ّوبني‪،‬‬ ‫ال �أرى �أحداً ورائي‪ .‬ال �أرى �أحدا �أمامي" (‪.)2‬‬ ‫�إنّ ا�ستح�ضار هذا الرمز يف ال ّن�صينّ ال�شّ عر ّيني‪ ،‬ال يعبرّ عن ثقافة طاهرة وحممود املتم�سكة باملكان‪/‬‬ ‫إ�سالمي بو�صفه �أداة لغو ّية قادرة على الإم�ساك بهمومنا وق�ضايانا الراهنة‪،‬‬ ‫الرمز‪ ،‬وتوظيف الرتاث ال ّ‬ ‫وهم م�شرتك واحد ور�ؤية وا�ضحة‪.‬‬ ‫بقدر ما يك�شف عن ثقافة واحدة ّ‬ ‫�إذا كانت ال�شّ اعرة طاهرة قد ا�ستح�ضرت �صورة ّ‬ ‫الطيور الأبابيل يف رمي جي�ش �أبرهة يف �أثناء غزوه‬ ‫ّ‬ ‫احلق" ا ّلتي "حتارب الأبرهات"(‪ )3‬يف هذا الع�صر‪ ،‬ف�إنّ نزار‬ ‫مكة املك ّرمة‪ ،‬لتعبرّ عن حجارة "طيور ّ‬ ‫ديني ليعبرّ عن �صورة �أطفال احلجارة التي تر�سم ب�أناملها �إ�شراقة �أمل‬ ‫ق ّباين قد جل�أ �إىل غري رم ٍز ٍّ‬ ‫الأ ّمة وال ّن�صر القادم‪ .‬فهذه الأنامل الطر ّية والأيدي القاب�ضة على احلجر هي التي �ستقلع جنمة‬ ‫دواو ٍد من �أر�ضنا املغت�صبة‪:‬‬ ‫البحر‪.)4("...‬‬ ‫"يرمي‪ ..‬يرمي‪ ..‬يرمي‪ ..‬ح ّتى يقلع جنمة داوو ٍد بيد ْيه‪ ،‬ويرميها يف ْ‬ ‫ ‪1‬‬ ‫ ‪2‬‬ ‫ ‪3‬‬ ‫ ‪4‬‬ ‫‪136‬‬

‫ طاهرة �صفار زاده‪« ،‬رحلة عا�شقة»‪� ،‬ص‪.133 .‬‬‫عما فعلت»‪� ،‬ص‪.47 .‬‬ ‫ حممود دروي�ش‪« ،‬ال تعتذر ّ‬‫ طاهرة زاده‪« ،‬رحلة عا�شقة»‪� ،‬ص‪�.‬ص‪.133-134 .‬‬‫‪ -‬نزار ق ّباين‪« ،‬ثالثية �أطفال احلجارة»‪� ،‬ص‪.54 .‬‬

‫يعد الرمز العمود الفقري يف ال ّن�صو�ص الثالثة‪� ،‬إذ يعبرّ عن اجرتاح ثقافة املقاومة‪ ،‬ثقافة تقلق‬ ‫ّ‬ ‫واملقد�سات‬ ‫ال�صهيو ّ‬ ‫أ�سا�سي‪ ،‬وهو حترير الأر�ض ّ‬ ‫العد ّو ّ‬ ‫ين‪ ،‬وتربكه يف �سبيل الو�صول �إىل الهدف ال ّ‬ ‫والإن�سان‪.‬‬ ‫�إ ّننا �أمام رموز تنب�ض باحلياة والق ّوة‪ ،‬ال تعرف االنك�سار يف زمن الهزمية‪� ،‬إذ تخرج بنا من ذاكرة‬ ‫الهزمية �إىل ذاكرة معافاة‪ ،‬رموزها واثقة مفتوحة‪ ،‬يف ال ّن�صو�ص الثالثة‪ ،‬على بع�ضها‪ ،‬تعبرّ بو�ضوح‬ ‫مناخ ثقا ّيف جديد بدت مالحمه تظهر يف القد�س العام ‪ 1987‬حني انطلقت �شرارة االنتفا�ضة‬ ‫عن ٍ‬ ‫امتدت �إىل قرى ومدن فل�سطين ّية �أخرى‪.‬‬ ‫الأوىل من خم ّيم جباليا‪ّ ،‬ثم ّ‬ ‫كان ّ‬ ‫الرمزي يف حتريكه الر�ؤ ّية التي يرغب ال�شّ اعر‬ ‫العالمي‬ ‫ن�ص من ال ّن�صو�ص الثّالثة نظامه‬ ‫ّ‬ ‫لكل ٍّ‬ ‫ّ‬ ‫يف الك�شف عنها‪ ،‬ف�شعر ّية االنتفا�ضة واملقاومة يف مواجهة الرت ّمد واخل�ضوع‪ ،‬حت�ضر بق ّوة يف ق�صيدة‬ ‫احلق‪ ،‬احلجارة‪،‬‬ ‫ال�شّ اعرة طاهرة زاده "القبلة الأوىل"‪� ،‬إذا عدنا �إىل ال ّن�ص‪ ،‬نرى عالمات مثل‪( ،‬طيور ّ‬ ‫عالمي‬ ‫غوي امل�ستق ّر‪� ،‬إىل انتما ٍء‬ ‫حجارة �أبابيل‪� ،‬سهام البدر) وغريها قد خلعت عنها انتماءها ال ّل ّ‬ ‫ّ‬ ‫رمزي ّ‬ ‫يخط طريق االنتفا�ضة واملقاومة نحو ذهن ّية ثقاف ّية جديدة ذات بعد تغيريي مقاوم‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫يلتقي نزار ق ّباين يف ّن�صه "دكتوراه �شرف يف كيمياء احلجر" مع ال�شّ اعرة الإيران ّية‪� ،‬إذ جتتمع يف‬ ‫ّن�صه عالمات رمز ّية ّ‬ ‫ت�شكل بو�ساطتها �شعر ّية العبور �إىل احل ّر ّية عن طريق �أطفال احلجارة الذين‬ ‫تاريخ جديد "يخلع �أبواب التاريخ‪ /‬يلقي تركة �أهل الكهف‪ /‬يك�سر ذاكرة‬ ‫يعربون بالأ ّمة �إىل ٍ‬ ‫ال�صحراء‪ /‬يقلع جنمة داوود"‪.‬‬ ‫�إنّ �إرهاب الأيديولوجيا املعادية (الكيان ال�صهيوين)‪ ،‬ال ي�ستطيع �أن يقف حاجزاً يف وجه ال ّنظام‬ ‫العالمي املقاوم عند ال�شّ اعرة طاهرة وال�شّ اعر نزار‪ ،‬لأنّ ال ّن ّ�صني عندهما حافالن بالق ّوة القادرة على‬ ‫ّ‬ ‫مواجهة عالم ّية الظلم ّ‬ ‫والظاملني‪.‬‬ ‫ينتمي ال ّن ّ�صان (القبلة الأوىل‪ /‬دكتوراه �شرف يف كيمياء احلجر) �إىل ه ٍّم ٍ‬ ‫واحد‪ ،‬وعقيدة دين ّية‬ ‫وح�ضاري �ساهمت يف �إنتاجه �شعوب‬ ‫را�سخة‪ ،‬هي �أنّ القد�س قبلة اجلميع‪ ،‬وهي موروث ثقا ّيف‬ ‫ّ‬ ‫عديدة‪.‬‬ ‫�ص والعامل والأيديولوجيا وال�شّ اعر‪:‬‬ ‫‪ - 4‬ال ّن ّ‬

‫ّ‬ ‫ين مرجع هذه‬ ‫ت�شكل القد�س والأق�صى يف فل�سطني‪ ،‬ال ّلذان �شهدا �صراعاً مريراً مع العد ّو ال�صهيو ّ‬ ‫الن�صو�ص الثالثة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫والقد�س التي نقر�أها يف ال ّن ّ�ص‪ ،‬مل تكن القد�س الفل�سطين ّية بجغراف ّيتها الب�شر ّية املقاومة واملنت�صرة‬ ‫للحق والراف�ضة لالغت�صاب‪ ،‬ولك ّنها القد�س التي �أعيد �إنتاجها يف �ضوء ر�ؤية ال�شّ اعرة طاهرة زاده‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وال�شّ اعرين‪ :‬نزار ق ّباين وحممود دروي�ش‪ .‬ف�أر�ض فل�سطني‪ ،‬بقد�سها و�أق�صاها و�أ�سوارها وم�سراها‪،‬‬ ‫‪137‬‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫و�أطفالها وحجارتها و�شجرها وبحرها‪ ،‬ك ّلها �أ�سماء خرجت يف ال ّن�صو�ص ال�شعر ّية عن حقائقها‬ ‫املو�ضوع ّية لتكت�سب نظاماً عالم ّياً جديداً يك�شف الأيديولوجيا التي ينظر من خاللها ال�شّ اعر‬ ‫تبدل‬ ‫�إىل العامل والوجود‪ ،‬تلك الأيديولوجيا التي تتح ّول من عمق �إميانٍ �إىل طاقة تعمل على ّ‬ ‫�ألوان الأ�شياء يف فل�سطني‪ ،‬وت�سعى �إىل حت ّول ُمناخها من مناخ الي�أ�س �إىل ُمناخ ال ّتفا�ؤل‪ ،‬من ثقافة‬ ‫ال�ضعف �إىل ثقافة الق ّوة‪.‬‬ ‫�إنّ �أيديولوجيا الق ّوة واملقاومة حتكم ال ّن�صو�ص الثّالثة‪ ،‬وال تنطلق هذه الأيديولوجيا من الإميان‬ ‫حكم �إلهي ال مر ّد له‪:‬‬ ‫العميق بانت�صار املظلوم‪ ،‬واندحار الظامل‪ ،‬بل تنطلق من ٍ‬ ‫ُ‬ ‫فحافظ الكالم(‪ /)1‬واملدافع عن امل�ؤمن(‪ / )2‬ال يخلف امليعاد‪/‬‬ ‫"ما بني هذا البيت والطريق‪/‬‬ ‫حق(‪." )3‬‬ ‫ُ‬ ‫ووعد احلقِّ ‪ٌّ /‬‬ ‫مل نلحظ يف ّن�صي ال�شاعرة طاهرة زاده‪ ،‬ونزار ق ّباين‪ّ � ،‬أي �ضم ٍري يعود �إليهما‪ ،‬ولك ّننا ن�شري �إىل �أنّ‬ ‫ح�ضورهما كان قو ّياً‪ ،‬ثقاف ًة وطاق ًة ف ّن ّي ًة متخفّي ًة وراء الأق�صى عند طاهرة زاده‪ ،‬ووراء �أطفال احلجارة‬ ‫عند نزار ق ّباين‪ .‬اختفى ح�ضورهما وراء ٍ‬ ‫لوحات ف ّن ّية �أدخلتنا �إىل امل�أ�ساة التي يتع ّر�ض لها ال�شّ عب‬ ‫الفل�سطيني على �أيدي ال�صهاينة م ّرةً‪ ،‬و�إىل الإ�صرار على االنت�صار واملقاومة م ّرة �أخرى‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫و�إذا كانت رحلة التج ّلي يف ق�صيدة "يف القد�س" عند حممود دروي�ش ت�ستوجب ح�ضوراً ل�ضمائر‬ ‫املتك ّلم‪� ،‬إ ّال �أ ّنها �ضمائر تذوب يف ق�ض ّية اجلماعة التي تر�سم م�شهد ّيتها رحلة ال�شّ اعر من الأر�ض‬ ‫ال�سماء‪.‬‬ ‫�إىل ّ‬ ‫الفل�سطيني‬ ‫ين وال�شّ اعر‬ ‫ال�سوري نزار ق ّبا ّ‬ ‫يبقى �أن نقول‪� ،‬إنّ ال�شّ اعرة الإيران ّية طاهرة زاده‪ ،‬وال�شّ اعر ّ‬ ‫ّ‬ ‫ال�صراع مع العد ّو‬ ‫ن�صو�صهم ال�شعر ّية عن مرحلة ثقاف ّية ا ّتخذ فيها ّ‬ ‫حممود دروي�ش‪ ،‬قد عبرّ ت ّ‬ ‫تتقدم على ّ‬ ‫ال�ساحة العرب ّية والإ�سالم ّية‪.‬‬ ‫كل امل�شاكل‪،‬‬ ‫ال�صهيو ّ‬ ‫ّ‬ ‫ين �أولو ّية ّ‬ ‫ّ‬ ‫والتحديات التي ت�شهدها ّ‬ ‫ويو�صلنا هذا الكالم �إىل �أنّ ال ّن�صو�ص ال�شّ عر ّية الثالثة ت�ستف ّزها الأيديولوجيا املعادية للكيان‬ ‫عالمي م�شفوع بر�ؤية ثقاف ّية قادرة على الإم�ساك‬ ‫لغوي‬ ‫ال�صهيوين‪ ،‬وتعمل على مقاومتها بنظام ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫بحركة التاريخ املا�ضية واحلا�ضرة وامل�ستقبل ّية وحتديد م�سارات حت ّوالتها ال�سيا�س ّية والثقاف ّية والفكر ّية‪.‬‬ ‫�شكلت هذه ال ّن�صو�ص مدخ ًال لقراءة داللة املقاربة فيها‪ ،‬يف همومها الفن ّية التعبري ّية ويف همومها‬ ‫العربي هو ذاته الذي حتمله ال�شاعرة الإيران ّية يف ّن�صها‬ ‫الهم‬ ‫الفكر ّية وامل�ضمون ّية‪ ،‬وب ّينت �أنّ ّ‬ ‫ّ‬ ‫عري‪ ،‬و�أنّ ال�ضائقة القا�سية التي مت ّر فيها املنطقة مت�صلة‪ ،‬جتمع بلدان امل�شرق‪ ،‬وت� ّؤكد و�شائج‬ ‫ال�شّ ّ‬ ‫العالقات التي تربطها قدمياً وحد ّيثاً‪.‬‬ ‫ ‪1‬‬ ‫ ‪2‬‬ ‫ ‪3‬‬ ‫‪138‬‬

‫امل�صادر‪:‬‬ ‫‪ - 1‬القر�آن الكرمي‪.‬‬ ‫عما فعلت"‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار ريا�ض الر ّي�س للكتب والن�شر‪ ،‬ط‪ ،1‬يناير ‪.2004‬‬ ‫‪ - 2‬دروي�ش‪ ،‬حممود‪ :‬جمموعة "ال تعتذر ّ‬ ‫إ�سالمي‪،‬‬ ‫‪ - 3‬زاده‪ ،‬طاهرة �صفّار‪ :‬جمموعة "رحلة عا�شقة"‪ ،‬تر‪ .‬مو�سى بيداج‪ ،‬بريوت‪ ،‬مركز احل�ضارة لتنمية الفكر ال ّ‬ ‫ط‪ ،1‬بريوت‪.2008 ،‬‬ ‫‪ - 4‬ق ّباين‪ ،‬نزار‪ :‬جمموعة "ثالث ّية �أطفال احلجارة"‪ ،‬بريوت‪ ،‬من�شورات نزار ق ّباين‪ ،‬ط‪� ،1‬آذار ‪.1988‬‬ ‫املراجع‪:‬‬

‫‪- 1‬اجلربي‪ ،‬حممد رم�ضان‪ :‬الأدب املقارن‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مكتبة الآداب‪.2009 ،‬‬ ‫والفار�سي‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار‬ ‫العربي‬ ‫ّ‬ ‫‪- 2‬جمال الدين‪ ،‬حممد �سعيد‪ :‬الأدب املقارن‪ ،‬درا�سة تطبيق ّية يف الأدبني ّ‬ ‫االحتاد ّ‬ ‫للطباعة والن�شر‪ ،‬ط‪.1996 ،2‬‬ ‫‪- 3‬زلط‪� ،‬أحمد‪ :‬الأدب املقارن‪ ،‬ن�ش�أته وق�ضاياه واجتاهاته‪ ،‬م�صر‪ ،‬هبة النيل العرب ّية للن�شر والتوزيع‪.2008 ،‬‬ ‫‪- 4‬عو�ض‪� ،‬إبراهيم‪ :‬يف الأدب املقارن‪ ،‬تعريفه وميادينه‪ ،‬بحث ُن�شر على موقعه الإلكرتوين‪:‬‬ ‫‪WWW.IBRAWA-COCONIA.NET‬‬

‫‪- 5‬غنيمي هالل‪ ،‬حممد‪ :‬الأدب املقارن‪ ،‬م�صر‪ ،‬مكتبة الأجنلو امل�صر ّية‪ ،‬ط‪.1962 ،2‬‬ ‫‪Email:ghassan_twainy@hotmail.com‬‬

‫ القر�آن الكرمي‪« ،‬و�إ ّنا له حلافظون»‪� ،‬سورة احلجر‪ ،‬الآية ‪.9‬‬‫ القر�آن الكرمي‪�« ،‬إنّ اهلل يدافع عن الذين �أمنوا»‪� ،‬سورة احلج‪ ،‬الآية ‪.38‬‬‫ طاهرة �صفار زاده‪ ،‬رحلة عا�شقة‪� ،‬ص ‪.134‬‬‫‪139‬‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫منح ال�صلح وزاد الطريق‬ ‫�سليمان بختي ‪ -‬نا�شر وباحث‬

‫توحد‬ ‫لي�س لأن اجل�سم ُم�ضنى قلي ًال بالروح‪ ،‬ولي�س لأنه دخل باب ال�صمت‪ ،‬ولي�س لأن الزمن ّ‬ ‫يف �أجزائه‪ .‬بل لأنه ي�ستحق التحية اليوم و�أم�س وغداً‪ .‬املفكر النبيل منح بك ال�صلح ن�ست�ضيء‬ ‫بثقافته وحكمته وجتربته و�شهامته‪ .‬منذ زمن � ّ‬ ‫أطل على النا�س يف بريوت ولبنان ودنيا العرب مع‬ ‫املروءات واملناقب ب�أدب و�سيا�سة وعلم وثقافة و�أ�صالة املحتد واملنبت‪ ،‬و�ستظل ذكراه بعد رحيله‬ ‫عابقة بالنبل عينه‪.‬‬ ‫يقدم للنا�س هو بع�ض من القلب وبع�ض من العقل وبع�ض من املبادئ ‪-‬‬ ‫�أدرك �أن �أجزل ما ّ‬ ‫املواقف‪ ،‬ومل يبخل �أبداً‪ .‬يف ر�أ�س بريوت ن�ش�أ وترعرع والتي �أ�سماها بريوت الثالثة الأخرى غري‬ ‫ال�شرقية او الغربية‪ ،‬التحق بكل املدار�س الربوت�ستانتية فيها من مدر�سة "امل�س �أمينة" و�صو ًال اىل‬ ‫اجلامعة الأمريكية حتى �أطلق على نف�سه حتبباً "ال�سني الربوت�ستانتي"‪ .‬انهمك يف العمل بال�ش�أن‬ ‫العام والن�ضال والكتابة ويف �أكرث من اجتاه ومراحل لإ�صالح �ش�أن املجتمع والإن�سان‪ .‬وكل ذلك‬ ‫يف حياة مثقلة باخلري من حق �صاحبها علينا �أن يطمئن اىل ا�ستمراره حديثاً طيباً‪ ،‬ودميومة �سائرة‪،‬‬ ‫ومثا ًال ُيحتذى‪.‬‬ ‫ط ّوع يف ثقافته احل�سا�سية الوطنية والقومية والإن�سانية‪ .‬وفيه من الأنا واجلماعة والآخر الكثري فال‬ ‫عجب �أن يكون الراوي واحلدث وال�شاهد على زمن لبناين وع�صر عربي مفتوح على كل اجلهات‬ ‫واملفارقات والأ�سئلة‪.‬‬ ‫تنويري‪ ،‬نه�ضوي‪� ،‬إ�صالحي‪ ،‬ميثاقي‪ ،‬عروبي‪ ،‬ح�ضاري‪ ،‬لبناين منفتح‪ ،‬حواري‪ ،‬توا�صلي‪ .‬ولعله‬ ‫يف الإ�صالح خري من ر�سم وجه لبنان والعرب‪ .‬جاهز دائماً لل�صداقة والألفة والو ّد‪� .‬أخوي و�أبوي‬ ‫و�صديق ومعلم يف �آن‪ .‬ذاكرة نا�صعة دقيقة ناطقة بالأمكنة والأ�شخا�ص والأحداث من دون �أن‬ ‫ي�سمح لك ب�إدراك الفارق بني مرتادفات الزمن وم�صائر الأقدار‪ُ .‬ي�صغي �إليك بتوا�ضع ودماثة‬ ‫املحب ثم ي�ستدرجك لأ�سئلة عميقة تقودك �إىل حكمة وثقافة و�أفق طالع من قلب الن�سيج‪ .‬ثقافة‬ ‫ّ‬ ‫حياة و�إن�سانية ومعرفة وتاريخ‪ .‬لذلك كل فكر حب�سه بالكالم ظهر بالأفعال بكلمات جربان‪ .‬يحب‬ ‫منح بك ال�صلح العودة �إىل الينابيع‪ ،‬كلما ا�ستطاع اىل ذلك �سبي ًال‪ ،‬اىل الكبار يف ثقافتنا وتاريخ‬ ‫‪140‬‬

‫‪141‬‬


‫‪142‬‬

‫حتوالت �أدبية‬

‫بالدنا‪ .‬ويف ظني �أنه كان ي�أن�س لهم مثلما ي�أن�سون �إليه‪.‬‬ ‫حري�ص على �صون الذاكرة العامة‪ ،‬ويف بناء ر�ؤية للم�ستقبل مهما كان احلا�ضر ه�شاً‪ ،‬ومهما‬ ‫تكاثرت اخليبات‪ .‬فمفكر الأمل يراهن على الأمل‪ ،‬يراهن على الربط بني امل�س�ألة القومية وامل�س�ألة‬ ‫الدميقراطية‪ ،‬ويعرف كيف ّميد عنا�صر الهوية مبك ّوناتها الثقافية والوطنية والقومية‪ .‬ولكن �إذا ع ّز‬ ‫الظرف وتراكمت الأخطاء واخلطايا وغدت الطريق دونها �أهوال جل�أ اىل ال�سخرية – وط ُرفه املتناثرة‬ ‫على الأفواه مثل الفاكهة الذكية املمتعة ‪ -‬جل�أ اىل ال�سخرية التي مل تكن خياره الأول بقدر ما‬ ‫كانت حجته �ضد كل هذا العبث وذاك اخلواء‪ ،‬وطريقته املميزة يف اختيار برج للر�صد والتحليل‪،‬‬ ‫ونقطة للوقوف على م�سافة نقدية واحدة من اخل�صم والقدر وال�صديق واحلليف‪.‬‬ ‫تغيرّ ت الأزمنة‪ ،‬وهذا �صحيح‪ ،‬ولكن ما نفع الزمان بال فكر‪ ،‬وما نفع املكان بال وطن‪ ،‬ما نفع‬ ‫اجلغرافيا بال تاريخ‪ ،‬ما نفع الأمم بال �أخالق‪ ،‬وما نفع احلب اذا غدا بال �أوان ومل يزدد بريقاً وتوهجاً‬ ‫مع الأيام‪.‬‬ ‫منح ال�صلح ميلك �إ�شعاع الرمز يف الزمن‪� ،‬إ�شعاع الفكر واحلق واحلب والوطن نحييه كمثل ما‬ ‫نحيي اجلواهر والدرر يف جبني الأمة و�ضمري النا�س‪ّ .‬‬ ‫ونظل ن�ستلهم من تو ّهجها زاد الطريق لي�صح‬ ‫العزم ويت�ضح ال�سبيل‪.‬‬

‫وفيق غريزي‪� :‬شاعر الأغوار والقمم‬ ‫د‪ .‬جان نعوم طنو�س ‪ -‬دكتور باجلامعة اللبنانية‬

‫م�شتق من ذات ثرية ت�صبو �إىل �أبعد‬ ‫يكون ال�شعر هبوطاً �إىل الأعماق �أو ارتفاعاً �إىل مطلق جديد ٍّ‬ ‫ن�سميه عامل ما قبل الت�شكل الإن�ساين‪ ،‬حيث‬ ‫الأبعاد‪ .‬يف احلالة الأوىل قد يكت�شف املبدع عاملاً ّ‬ ‫حتت�شد امليول والنزعات املرفو�ضة‪ .‬ويف احلالة الثانية ت�سمو على ال�شرط الإن�ساين‪ ،‬بتعالٍ على‬ ‫امل�صري‪ ،‬ومن ثم حنني غريب �إىل عامل ي�سوده الطهر والنقاء‪.‬‬ ‫ولعل وفيق غريزي ميثّل هاتني احلالتني جمتمعتني اجتماع املاء والنار‪ .‬فما �إن يغو�ص يف الأ�سافل‪،‬‬ ‫كما فعل بودلري و�سواه‪ ،‬حتى يرتفع �إىل قمم م�شرفة على و�ضعنا امل�أ�ساوي‪ ،‬حني ت�ستحيل الأر�ض‬ ‫م�سلخاً يف زمن احلروب‪ ،‬وب�ؤرة ف�ساد يف �أويقات ال�سلم‪.‬‬ ‫وقد �آىل الغريزي على نف�سه �أن ي�ستق�صي حاالت النف�س‪ ،‬وي�ستفتي دقائقها وخلجاتها‪ ،‬لأن النف�س‬ ‫هي كاملخترب بالن�سبة �إىل ال�شاعر‪ ،‬حتى �إن مبا�شرة العامل تنطلق منها‪ ،‬فتتلون الر�ؤية ب�أنواعها‪ ،‬الزاهية‬ ‫�أو القامتة‪ ،‬وما يف اجل ّبة �إال الإن�سان الطامح �إىل التخطي‪ .‬و�أين هو الإن�سان يف عاملنا املوجوع؟ ما‬ ‫تن�صب الالعقل �سيداً‪ ،‬والكراهية‬ ‫�أ�صعب �أن يكون املرء كائناً مفكراً‪ ،‬مرهفاً‪ ،‬و�سط �أعا�صري جنونية ّ‬ ‫عر�شاً؟!‬ ‫ها هو الغريزي ي�صدر الأعمال ال�شعرية الكاملة‪ ،‬يف جم ّلدها الرابع‪ ،‬وهي ال�صادرة عن دار نل�سن‪،‬‬ ‫وجهي احلياة املتناق�ضني‪:‬‬ ‫ي�ضم ْ‬ ‫م�ؤمناً ان الغزارة ولو ت�شابه بع�ض نتاجها‪ ،‬هي ما ّ‬ ‫الوجه ال�صبيح والوجه القبيح‪ ،‬املرارة الآكلة كدودة تنخر يف ثمرة نا�ضجة والفرح وهو ربيب احلرية‬ ‫الداخلية‪ .‬ولأنه من املحال تناول جم ّلد ينيف على �ستمئة �صفحة‪ ،‬فقد اقت�ضى الأمر �أن نختار‬ ‫من هذه ال�صفحات املبذورة بالأ�شواق و�أنواع اخليبات‪ ،‬بع�ض الق�صائد القليلة بغية ت�سليط ال�ضوء‬ ‫على الكل املتكامل‪ ،‬مع الإقرار �أن اجلزء ال يفي املجموع حقه‪ ،‬كالأزهار القالئل ال تخت�صر ربيعاً‬ ‫قادماً �سوف يفر�ش الأر�ض باجلمال‪.‬‬ ‫ففي ق�صيدة "جلجلة القيامة والرتائيات" (ديوان مدائن البوار)‪ ،‬يعود الغريزي �إىل مقولة الدم‬ ‫امل�سفوك الذي يخ ّل�ص العامل من خطيئته‪" :‬بدمائنا نروي جذور الغالل‪� /‬أ َّيها العامل ّ‬ ‫املكفن‬ ‫‪143‬‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫بال�ضباب‪ /‬بخطى حثيثة ت�سري للزوال"‪.‬‬ ‫فنحن نرى الت�ضا ّد بني الدم والعامل الأعمى بت�أثري ال�ضباب املنت�شر‪ .‬غري �أنه ال ّبد من معاناة‬ ‫�سخ ّية‪ ،‬ولعلها معاناة ال�شاعر التي تنقذ التع ّهر‪ ،‬كما يقول‪ ،‬كما تنقذ امليول االنتحارية عند الب�شر‬ ‫ال�سائرين نحو موت عبثي‪ .‬ال�شاعر �إذن هو َمن يوقظ احلوا�س الروحية بعدما طفت احلوا�س املادية‪،‬‬ ‫ف�أ�صبحت هي املرجع واملعيار‪.‬‬ ‫من هنا يتغ ّنى الغريزي ب�سحر كلماته الراحلة �إىل ف�ضاء البهاءات‪ .‬لقد �أقبل املو�سم‪ ،‬ون�ضجت‬ ‫الثمار‪ ،‬وحانت حلظة القطاف‪ .‬فليقدم ذاته قرباناً على جلجلة العذاب‪ ،‬وذلك على تناق�ض تام‬ ‫ي�سميهم ك ّهان الع�صر‪ ،‬وه�ؤالء قد ميثّلون مثقفي الكلمات الط ّنانة والفارغة‪ ،‬ب�إ�ضافة �إىل‬ ‫مع َمن ّ‬ ‫�أويل الأمر املتالعبني مب�صائر ال�شعوب‪" :‬لي�س حقيقة ما نراه يف املر�آة‪ /‬عاملكم يا ك ّهان الع�صر بال‬ ‫حراك‪ /‬حقولكم �أر�ضها يباب‪ /‬عقولكم يلفّها الإغماء‪."....‬‬ ‫وهنا يعود الغريزي‪ ،‬امل ّرة بعد امل ّرة‪� ،‬إىل بع�ض مقوالت ال�شعر احلديث كالأر�ض اليباب‪ ،‬وتلك فكرة‬ ‫�شاعت يف اخلم�سينيات وال�ستينيات‪ .‬ثم يتطرق �إىل امل�س�ؤولني‪� ،‬صانعي الدماء بد ًال من الورود‪،‬‬ ‫"�أولئك جعلوا من ال�سماء �شظايا ‪ /‬تنبت يف غابات الآثام واخلطايا ‪� /‬آه‪ ،‬يا م�سكن الكهوف ‪/‬‬ ‫تنتظر قدومكم موائد الفناء"‪ .‬ويتبني لنا �أن ال�سماء‪ ،‬وهي حياة الكائنات‪ ،‬تتحول عندهم �إىل‬ ‫�شظايا‪ ،‬مبعنى ت�شويه ال�صورة الدينية اجلميلة وال�سامية‪ ،‬كما تعيد الإن�سان �إىل �سكنى كهوف‬ ‫التخلف‪ ،‬حيث الفناء بد ًال من البقاء‪ .‬وال يلبث �أن يخاطب �شاعرنا املجو�س الثالثة املتح ّلقني‬ ‫حول مغارة الطفل العجيب‪ ،‬ثم ينتقل �إىل كيمياء احلب‪ ،‬ويرى يف جيبته جنمة فوق بحر ال ينام‪،‬‬ ‫وك�أنها العذراء مرمي‪ ،‬منارة ال�سماء والأر�ض‪.‬‬ ‫ويف ق�صيدة "من جراحي تنهمر الدماء" (ديوان طائر الفينيق) ي�ؤكد الغريزي معنى املتناق�ضات‬ ‫الثاوية يف ح�ضن واحد‪ ،‬وهو ما ي�شري �إىل �أن الإن�سان جمموعة ف�صول جمتمعة‪ ،‬وتوا�صل بني‬ ‫اخلطيئة والنعمة‪�" :‬أنا الرائي واملرئي‪� /‬أنا ال�سهل اخل�صيب واجلوار‪� /‬أنا �ضوء الليل وظلمة النهار"‪.‬‬ ‫�إنه الرائي ونف�سه هي املر�آة العاك�سة‪ ،‬وهو �أي�ضاً اخل�صب الروحي وجدار العقبات‪ ،‬كما �أنه ليل‬ ‫دام�س ونهار م�شرق‪ .‬واحلق �أن النف�س الب�شرية لي�ست �شيئاً ب�سيطاً كاملادة‪ ،‬كخ�شب النجار‪ ،‬او‬ ‫حجارة الب ّناء‪� ,‬إنها النعيم واجلحيم‪ ،‬ولعل الأمر يتطلب فار�ساً من �ضوء يهبط �إىل الأغوار‪ ،‬وي�صعد‬ ‫�إىل الأعايل‪ ،‬بغية الفوز بالو�صول‪ ،‬وهذه الأخرية ت�ستحيل �إىل خواطر من ذهب‪.‬‬ ‫وال غرابة �أن يتماهى ال�شاعر �أي�ضاً‪ ،‬بل دائماً‪ ،‬بال�سيد امل�سيح‪ ،‬مردداً بع�ض دالالت ال�شعر احلديث‬ ‫املنفتح على �أخ�صب التجارب‪" :‬من جراحي تنهمر الدماء ‪ /‬بالبهاء ت�صنع �أر�ض املدار"‪ .‬ثم يعود‬ ‫�إىل توكيد الأنا‪� ،‬ضد هذا العامل‪ ،‬مع ما يف هذا التوكيد من غل ّو عا�صف‪�" :‬أحزاين عميقة اجلذور‬ ‫‪ /‬ترفع يديها لتم�سك الرجاء ‪ /‬ق�صائدي محُ اكة من �أبجدية ال�سماء ‪ /‬و�أنا لها املعنى وال�سماء"‪.‬‬ ‫ذلك �أن احلزن رحم مليالد جديد‪� ،‬أما ق�صائده فهي كما يت�صوره ويت�صور ال�صوفيون‪ ،‬من ن�سج‬ ‫‪144‬‬

‫ين�صب نف�سه �سيداً على عر�ش نرج�سية الإبداع‪ .‬ولذلك يزعم لذاته �سلطة‬ ‫ال�سماء‪ ،‬وك�أن الغريزي ّ‬ ‫مطلقة‪� ،‬أو �شبه مطلقة‪ ،‬ليدين املدينة العا�صية‪" :‬مدينة لي�س فيها ‪ /‬قمح وال حمار ‪ /‬بل هي �أكفان‬ ‫‪ /‬حتولها يد الربان ‪ /‬يف �أرحامها تختنق الأطيار ‪ /‬ويف العامل املا وراء ‪ /‬نعانق املطلق البهاء"‪.‬‬ ‫و�إذا كانت املدينة م�سجاة يف �أكفانها‪ ،‬على ما يقول‪ ،‬ف�إن الذات املبدعة هي وحدها التي تعانق عاملاً‬ ‫ما ورائياً مناق�ضاً لكل مدينة تختنق �أطيار الرباءة‪ ،‬فتجف ينابيعها‪ .‬ودائماً يعلن لنا الغريزي بيان‬ ‫الرباءة‪ :‬لي�س يف العامل �إال و�سخ احل�ضارات‪ ،‬ولكنه ‪� ،‬أي ال�شاعر‪ ،‬من طينة �أخرى نق ّية‪� ،‬أيرجم‬ ‫�إذن املدن العا�صية بنار اللعنة‪ ،‬يف الوقت الذي يظهر نف�سه �أكرث براءة من دموع الثكاىل؟ التعميم‬ ‫م�ض ّر‪ ،‬فثمة ق�صائد تغاير هذا املنحى‪ ،‬ولكن هناك �صيحات كثرية يبدو فيها �صاحبنا نبياً من انبياء‬ ‫ال�شعر‪ ،‬ينف�صل عن املجموع‪ ،‬منزهاً نف�سه عن �آثام مل�صقة بالغري‪ .‬هي طريقة �أتقنها �شعراء مثل‬ ‫خليل حاوي وبدر �شاكر ال�س ّياب‪ ،‬و�سواهم من الذين يقولون �إن �سدوم خاطئة فا�سقة‪ ،‬غري �أن‬ ‫براءة ال�شعر تعلو على هذا امل�ستنقع اللعني‪.‬‬ ‫�أما ق�صيدة "�أيامي جتتاز عتبة اخلريف" (ديوان الأوتار الراع�شة)‪ ،‬نن�شيد من تعب الأيام واخل�شية‬ ‫من الغد املجهول‪ .‬يقول م�صلوباً بني اجتاهني مت�ضاربني‪" :‬م�سكون باملا�ضي الكئيب ‪ /‬خمطوفاً‬ ‫�إىل م�ستقبل جمهول‪ /‬مل تكتبه قدماي املتعبة"‪ .‬وهذا الت�أرجح بني املا�ضي وامل�ستقبل �إن�ساين‬ ‫بامتياز‪ ،‬ومثله �شيخوخة الروح الرازحة حتت وقر ال�سنني‪�" :‬أجمع من بيادر اجل�سد النزيف ‪ /‬غابت‬ ‫يبق يف خزائني �سوى الأ�صداء ‪ /‬مرتعة ك�أ�سي بخمرة اخليال"‪ .‬لقد‬ ‫الأ�صوات والأ�شياء ‪ /‬مل َ‬ ‫تعب اجلواد‪ ،‬جواد اجل�سد‪ ،‬وتعب الفار�س وهو الغريزي نف�سه‪ ،‬ولكنه عودنا �أن ينت�شل من كومة‬ ‫الرماد ناراً م�شتعلة‪ ،‬و�أن يطلع من �شقوق ال�صخور وردة يانعة‪.‬‬ ‫ف�إذا كانت الكهولة املف�ضية �إىل ال�شيخوخة حقيقة ال مراء فيها‪ ،‬فاحلل ال�سحري يكون يف جتربة‬ ‫لتنحن‬ ‫احلب‪ ،‬لعلها الإك�سري الذي ير ّد ال�شباب املوليّ ‪" :‬ق�صيدتي �أنت‪� ،‬أقر�أ عربها �سفر الوجود ‪ِ /‬‬ ‫لينحن الكوكب �سيدة اخل�صب والأ�سرار‪� /‬أرك�ض نحو‬ ‫لتنحن الغابات والأ�شجار ‪ِ /‬‬ ‫القامات ‪ِ /‬‬ ‫تخومها على اجلوار ‪ /‬والفجر طرقات جمدية"‪ .‬وهكذا نعرث على الإن�سان حيثما عرثنا على ما‬ ‫ي�ستحقه‪ ،‬كما يقول الكاتب الفرن�سي �أندريه مارلو‪ .‬فال ي�ست�سلم الغريزي قطرة‪� ،‬إال بعد مهادنة‬ ‫ق�صرية‪ ،‬ليعود م�ست�أنفاً الكفاح‪ ،‬معلناً �سلطة احلب و�سلطة ال�شعر‪ ،‬واالثنتان من م�صدر واحد هو‬ ‫الذات املت�أملة واملتعالية على جراحها‪ ،‬ال�صاعدة من الأغوار �إىل �أعايل القمم‪.‬‬ ‫ل�شد ما �أمتنى �أن تخ�ص�ص ر�سالة جامعية لتدر�س �شعر الغريزي احلافل بعنا�صر وثنية وم�سيحية يف‬ ‫�آن واحد‪� .‬إن فيه مواقف حادة من اللعنة ال�سوداء املن�صبة على املدينة الفا�سقة‪ .‬ورغم ما يف النربة‬ ‫من غل ّو ف�إنها تت�ضمن حقائق دامية نعي�شها كل يوم‪ُ .‬ي�ضاف �إىل ذلك �أن فيه جتارب من احلب‬ ‫ربى م�سحورة‪ ،‬تنقذ كخيط "�أريان" من متاهات الذات ال�سفلى‪.‬‬ ‫بو�صفها ً‬ ‫على �أن وفيق‪ ،‬وهو ِن ْعم املعلم البارع يف تدري�س اللغة العربية‪ ،‬يرتكب �أخطاء لغوية نظن �أنها‬ ‫‪145‬‬


‫اعــالم‬

‫فاتته يف خ�ضم �إعداد هذا العمل الغزير‪ .‬فقوله "لتحني" خط�أ فاح�ش‪ ،‬وال�صواب �أن الفعل‬ ‫جمزوم بالم الأمر‪ ،‬وهو ما يوجب حذف حرف الع ّلة‪� .‬صحيح �أن الهفوات قليلة‪ ،‬ولكن املطلوب‬ ‫مراجعة ما ُيدفع �إىل املطبعة‪ ،‬من قبل ال�شاعر‪ ،‬ومن م�صحح �آخر �أي�ضاً‪ .‬ومهما يكن من �أمر ف�إن‬ ‫ال�شعر الغريزي �شجرة جذورها يف الدم‪� ،‬أما �أثمارها فهي للعجب مليئة باحلالوات‪ .‬فاملواهب‪ ،‬على‬ ‫عظمتها‪ ،‬منخورة ب�سو�س داخلي‪ ،‬لعله من م�صادر الإبداع‪ .‬لذلك ندعو �شاعرنا �أن يحت�ضن �آالمه‪،‬‬ ‫وهي يف معظمها �آالم �أ ّمة �ضائعة‪ ،‬فقد تنبت على �صليب العذاب‪ ،‬كما يقول الفيل�سوف هيغل‪،‬‬ ‫ورود التعزية‪ ،‬ونزيد �أي�ضاً ورود التخطي وجتاوز ال�ضعف الإن�ساين‪.‬‬

‫مراجعة نقدية لكتاب‬

‫الف�ضائيات الإخبارية العربية بني عوملتني‪:‬‬ ‫جيوبوليتيك وخطاب الف�ضائيات الإخبارية العربية‬ ‫للدكتورة حياة احلويك‬

‫د‪ .‬حممود ر�ؤوف ال�سعدي ‪ -‬باحث من فل�سطني املحتلة‬ ‫مالحظاتي النقدية حول العمل قيد املراجعة تتو ّزع على حمورين �أ�سا�سيني‪ :‬يف املحور الأول‬ ‫أخ�ص�صه‬ ‫�س�أعطي و�صفاً موجزاً للكتاب من حيث املادة والن�سق والنتائج‪� .‬أما املحور الثاين ف�س� ّ‬ ‫ال�ستقراء القيمة املعرفية احلقيقية للعمل �ضمن �سياق نتاجات بحثية م�شابهة‪ .‬بعد عر�ض هذين‬ ‫املحورين‪� ،‬س�أنهي ب�إعطاء كليمات قليلة حول نواق�ص هذا العمل‪� ،‬إن ُوجدت‪ ،‬وكيف كان بالإمكان‬ ‫جتاوزها‪.‬‬ ‫�أوالً‪ :‬يف و�صف الكتاب‪ ،‬مادةً‪ ،‬ن�سقا ً‪ ،‬نتائج‪:‬‬

‫انهيار االحتاد ال�سوفياتي دفع �إىل الوجود بنظام �سيا�سي عاملي جديد ذي قطب واحد ي�سعى‬ ‫جاداً لفر�ض هيمنته على العامل (�سيا�سياً واقت�صادياً وثقافياً)‪ ،‬حتت عناوين متعددة مثل العوملة‬ ‫والدمقرطة واللربلة وحقوق الإن�سان‪ .‬ويف احلقبة ذاتها وللأ�سباب ذاتها‪� ،‬شهد العامل �أي�ضاً تبلور‬ ‫ّ‬ ‫وجتذر نظام ات�صايل �إعالمي "مرئي" جديد يتميز بقدرته على جتاوز‪ ،‬وب�سرعة فائقة‪ ،‬كل احلدود‪،‬‬ ‫جغرافية‪� ،‬سيا�سية وتراثية ولغوية‪ .‬قدرة النمط التوا�صلي الإعالمي اجلديد ال تنح�صر فقط يف‬ ‫�سرعة نقل اخلرب عرب كل احلواجز‪ ،‬بل �أي�ضاً يف القدرة على ال�صياغة والرتويج لرواية �سيا�سية دائمة‬ ‫احل�ضور وذات قدرة درامية �أعلى يف الت�أثري على املتلقي نظراً لطبيعتها املرئية‪.‬‬ ‫�ساحة الإعالم العربي مل تكن مبعزل عن تلك امل�ستجدات يف حيثيات وتقنيات �صناعة الإعالم‬ ‫على امل�ستوى العاملي يف حقبة القطب الواحد‪ .‬فقد واكبت تلك امل�ستجدات تغيرّ ات على ال�ساحة‬ ‫الإعالمية يف العامل العربي تبدو يف الظاهر جذرية من حيث التقنيات وال�شكل وامل�ضمون‪ .‬هذه‬ ‫ج�سدتها ن�ش�أة ظاهرة الف�ضائيات العربية‪� ،‬إخبارية وترفيهية وخمتلطة‪ ،‬والتي تتمتع‬ ‫التغريات ّ‬ ‫ب�سقف �أعلى من حرية التعبري يف �شتى املجاالت‪� ،‬سيا�سية كانت �أم اجتماعية �أم دينية‪.‬‬ ‫‪146‬‬

‫‪147‬‬


‫اعالم‬

‫الولوج املتزامن لهذا النمط الإعالمي على امل�ستوى الإقليمي واملحلي طرح �أ�سئلة كثرية حول‬ ‫ثنائيات كثرية كثنائيات الإعالم واحلرية‪ ،‬الإعالم واحلقوق املدنية‪ ،‬والإعالم والتغيري يف الوطن‬ ‫العربي ب�شكل عام‪� .‬أ�سئلة على غرار‪ :‬كيف لنا �أن نقر�أ جدلياً ما جرى من تغيري على الف�ضاء‬ ‫التوا�صلي والإعالمي على ال�ساحة العربية يف تلك املرحلة‪� ،‬إذا �أخذنا بعني االعتبار عدم حدوث‬ ‫�أي تغيري بنيوي جذري مواكب يف النظام ال�سيا�سي العربي احلا�ضن واملم ّول للنمط اجلديد من‬ ‫الإعالم اجلماهريي قد يف�سر �أو يربر تغيرياً كهذا؟ وهذا هو �س�ؤال البحث الرئي�س لهذا العمل‬ ‫والذي من خالله تقارب الدكتورة حياة احلويك علمياً وباقتدار �شديد �إ�شكالية التغيري يف الوطن‬ ‫العربي يف ع�صر الهيمنة الأمريكية يف هذا امل�ؤلف ال�ضخم ن�سبياً واملهم باملطلق‪ :‬الف�ضائيات‬ ‫الإخبارية العربية بني عوملتني‪ :‬جيوبوليتيك وخطاب الف�ضائيات الإخبارية العربية (�صادر عن‪:‬‬ ‫منتدى املعارف‪ ،‬بريوت‪.)2013 ،‬‬ ‫�ستمدة من‬ ‫وكما هو وا�ضح من ا�سم الكتاب‪ ،‬فمقاربة املُ�ؤلفة لإ�شكالية التغيري يف الوطن العربي ُم ّ‬ ‫معطيات جيوبوليتيكا الف�ضائيات التلفزيونية ومبنية �أ�سا�ساً على تلك املعطيات عينها (ف�ضائيات‪:‬‬ ‫اجلزيرة‪� ،‬أبو ظبي‪ ،‬العربية واملنار‪ ،‬حتديداً)‪ ،‬والتي ّمت توظيفها لغر�ض مو�ضعة �سلطة الإعالم بني‬ ‫�سلطتي ُم َتغيرِّ ي املكان (اجلغرافيا) والزمان (امل�صالح ال�سيا�سية)‪� .‬إىل جانب جيوبوليتيكا امليديا‬ ‫ك�إطار نظري ‪ -‬منهجي‪ ،‬ي�ستند البحث �أي�ضاً على ا�ستقراء نقدي للخطاب الإعالمي لتلك‬ ‫الف�ضائيات �إزاء ق�ضايا و�أفكار ذوات دالالت جوهرية من �ش�أنها تظهري اال�صطفافات ال�سيا�سية‬ ‫والإيديولوجية لتلك الف�ضائيات (على �سبيل املثال ال احل�صر‪ :‬ال�صراع العربي ‪ -‬ال�صهيوين‪،‬‬ ‫االحتالل الأمريكي للعراق‪ ،‬مفاهيم مجُ ّردة مثل الأنا‪ ،‬النحن‪ ،‬الهوية‪ ،‬ال�سيادة الوطنية‪ ،‬بالإ�ضافة‬ ‫�إىل منظومة من الق�ضايا والأفكار التي ّمت �أ�إق�صا�ؤها �أو تهمي�شها من تلك الف�ضائيات)‪ .‬ومن اجلدير‬ ‫بكم هائل من البيانات — جداول‪،‬‬ ‫باملالحظة هنا �أن البحث‪ ،‬و�إن كان نوعياً بامتياز‪� ،‬إال �أنه ُمد ّعم ّ‬ ‫مواد �أر�شيفية‪ ،‬مادة تاريخية‪ ،‬ع�شرات اللقاءات‪� ،‬إح�صاءات‪ ،‬متابعة ميدانية حثيثة ومبا�شرة‪� .‬إال‬ ‫الكم‪ ،‬رغم غزارته‪ ،‬يف خدمة �أغرا�ض البحث النوعي متجنبة‬ ‫�أنّ الكاتبة قد جنحت متام ُا بتوظيف ّ‬ ‫بذلك احتمالية الوقوع يف �شِ باك كمومية ادعائية وعبثية‪.‬‬ ‫�ضمتها ثالثة �أق�سام‬ ‫يقع الكتاب يف �أكرث من خم�سمئة �صفحة موزعة على اثني ع�شر ف�ص ًال ّ‬ ‫م�ستقلة ومتكاملة‪ ،‬م�ضافة لها خامتة توجز فيها الكاتبة مو�ضوع البحث ومنهجيته ونتائجه‪ .‬الق�سمان‬ ‫الأول والثاين للكتاب متداخالن ماد ًة ووظيفةً‪� ،‬إذ يربهن كالهما‪ ،‬تراكمياً ومن خالل زاوية نظر‬ ‫خا�صة بكل منهما‪ ،‬على وجود ارتباط تاريخي‪ ،‬ع�ضوي ووظيفي بني ن�ش�أة الإعالم العربي ب�شكل‬ ‫عام والف�ضائي املرئي منه ب�شكل خا�ص‪ ،‬مع �إرادة الهيمنة لدى �أطراف وقوى �سيا�سية فاعلة‪،‬‬ ‫حملية كانت �أم �إقليمية �أم عاملية‪ .‬لهذا الغر�ض‪ ،‬ت�صف الكاتبة بانورامياً يف الق�سم الأول امل�شهد‬ ‫ال�سمعي ‪ -‬الب�صري الف�ضائي بامل�شرق العربي للفرتة احل�سا�سة �سيا�سياً ووجودياً والواقعة بني‬ ‫العامني ‪ 1990‬و ‪ .2004‬يف الف�صل الأول من هذا الق�سم‪ ،‬ولغر�ض حتديد طبيعة الت�أثري املن�شود‬ ‫‪148‬‬

‫من تلك املحطات على امل�شاهد العربي (ت�أثري مبا�شر و�آين للمحطات الإخبارية يقابله ت�أثري غري‬ ‫مبا�شر وبعيد املدى ملحطات املنوعات �أو مزيج من هذا وذاك للمحطات "املرنة" ذوات الطبيعة‬ ‫املختلطة)‪ ،‬تلقي الكاتبة نظرة م�شهدية على �أكرث املحطات والباقات الف�ضائية العربية �أهمية من‬ ‫حيث‪ )1 :‬تواريخ الإن�شاء‪ ،‬اجلن�سية‪ ،‬املقر والطبيعة؛ ‪ )2‬هوية املالكني وم�صادر التمويل؛ ‪ )3‬الر�ؤية‬ ‫الناظمة والفل�سفة احلاكمة اللتان تقفان خلف �إن�شاء تلك املحطات وت�شكالن ال�سيا�سة الإعالمية‬ ‫لكل منها‪ .‬يف الف�صول الثالثة املتبقية من الق�سم الأول ينتقل الرتكيز من ال�سياق العام �إىل �سياق‬ ‫�أ�ضيق �إذ تركز الكاتبة على املحطات الأربع الأكرث انت�شاراً (اجلزيرة‪� ،‬أبو ظبي‪ ،‬العربية‪ ،‬املنار)‪ .‬ويف‬ ‫حمددة كيف تنظر كل منها‬ ‫هذا ال�سياق الأ�ضيق ت�ستك�شف الكاتبة بنية كل من تلك املحطات ّ‬ ‫�إىل نف�سها وكيف ينظر �إليها الآخرون‪ ،‬عالوة على املوارد الب�شرية (ال�شبكة امل�سيطرة‪ ،‬املذيعون‬ ‫وال�صحافيون) والرتكيبة الرباجمية وكيفية توزيعها ودالالت نوعية تلك الربامج وتوزيعها‪.‬‬ ‫الق�سم الثاين من الكتاب ُي ّ‬ ‫تتحدث الكاتبة‪ ،‬بالتف�صيل‬ ‫�شكل القلب الناب�ض للبحث؛ ففيه ّ‬ ‫والإ�سهاب ال�ضروريني (‪� 190‬صفحة)‪ ،‬عن جيوبوليتيكا امليديا وا�صفة القنوات الف�ضائية (ترفيهية‬ ‫كانت �أم �إخبارية) كخا�صية من خوا�ص النظام العاملي اجلديد و"ترجمة �إعالمية" له‪ .‬تدافع‬ ‫الدكتورة حياة عن هذه الفكرة‪ ،‬املقبولة متاماً من قبل الكثري من الباحثني واملراقبني‪ ،‬بطريقة‬ ‫منهجية ّ‬ ‫منظمة‪� ،‬إذ ُتع ّرف القارئ على ثالثة �سياقات ذات مركز واحد ت�شهد‪ ،‬بالتعاقب والتداخل‬ ‫وبنا ًء على معطيات تاريخية‪ ،‬جغرافية و�سيا�سية‪ ،‬على اقرتان الإعالم الف�ضائي وجودياً ووظيفياً‬ ‫ب�أنظمة وكيانات �سيا�سية ُمهيمنة ت�سعى جاهدة لغر�س وتطبيع (�أو حماولة تطبيع) منظوماتها‬ ‫القيم ّية وما يواكبها من �أطر تف�سريية يف وعي املتلقّي والتي من �ش�أنها دفعه (�أو حماولة دفعه) نحو‬ ‫تق ّبل تلك الأنظمة والكيانات ومنظوماتها املعرفية ك�ضرورات وجودية‪� ،‬سواء على �أ�س�س براغماتية‬ ‫�أو دوغماتية‪ .‬جت ّليات هذه الأ�س�س ومعانيها هي ما ّ‬ ‫تركز عليه امل�ؤلفة يف الق�سم الثالث من الكتاب‪.‬‬ ‫فبعد �أن دافعت الكاتبة جيوبوليتيكياً يف الق�سمني الأول والثاين من الكتاب عن فكرة كون‬ ‫الف�ضائيات العربية جمرد "ترجمة �إعالمية" مل�شاريع ور�ؤى �سيا�سية للأنظمة والكيانات املم ّولة‬ ‫تق�صي وعزل التجل ّيات‬ ‫والراعية لتلك الأجهزة الإعالمية‪ ،‬انربت يف الق�سم الثالث للكتاب ملهمة ّ‬ ‫الن�صو�ص ّية لتلك "الرتجمة الإعالمية"‪ .‬من �أجل هذا الغر�ض‪ ،‬قامت الباحثة بعملية تفكيك‬ ‫للخطاب الإعالمي لتلك الف�ضائيات وحلحلة ن�سيج رواية "الثقافة الدميوقراطية" الق ِْ�شرية‬ ‫والعائمة على �سطح املا ّدة الإعالمية لغالبية تلك القنوات‪ .‬ومن اجلدير باالهتمام هنا هو ما‬ ‫قامت به الكاتبة من تو�سيع �ضروري ومربر مل�ساحة الن�ص من خالل جتاوز حدود املادة الإعالمية‬ ‫هم�شةً‪ ،‬ملا للتغييب �أو التهمي�ش‬ ‫املعرو�ضة لت�شمل ما هو غري موجود‪� ،‬أو ما �أ�سمته املادة املُ َغ ّيبة �أو املُ ّ‬ ‫من مدلوالت جوهرية ال غنى عنها يف عزل املعنى والهدف احلقيقيني من وراء املادة الإعالمية‪.‬‬ ‫وهنا يتقاطع ما هو ماكروي مبا هو مايكروي‪ ،‬ما هو �سياقي مبا هو ن�صو�صي؛ مبعنى تقاطع وتكامل‬ ‫نتائج التحليل اجليوبولوتيكي مع نتائج حتليل اخلطاب من حيث الربهنة على كون �أجهزة الإعالم‬ ‫‪149‬‬


‫اعالم‬

‫الف�ضائية العربية ا�ستجابة �سيا�سية �ضرورية ملا تواجهه الأنظمة ال�سيا�سية من حتديات يف ع�صر‬ ‫العوملة وهيمنة القطب الواحد وما واكبهما من تعميق ال�شرخ الفا�صل بني �إرادتني ومنظومتني‬ ‫معرفيتني متناق�ضتني‪� :‬إرادة البقاء واال�ستمرار والهيمنة لدى الأنظمة القائمة مقابل �إرادة التحرر‬ ‫واحلرية والعدالة لدى اجلمهور العربي الوا�سع والتي ّ‬ ‫ت�شكل تهديداً مبا�شراً مل�صالح تلك الأنظمة‬ ‫القمعية‪ .‬بهذا املعنى فالف�ضائيات العربية‪ ،‬يف جمملها‪ ،‬لي�ست �أكرث من �آلية هيمنة جديدة على‬ ‫وعي اجلمهور وخياراته تتنا�سب ومعطيات ع�صر �سيا�سي جديد ذي معطيات وحتديات جديدة‪،‬‬ ‫املتجدد يف املنطقة العربية‪ :‬حكم �أوتوقراطي هو الآن ذو ق�شرة‬ ‫ع�صر الهيمنة الغربية وع ّرابها القدمي ّ‬ ‫دميوقراطية ليربالية ومدعو ٌم بخطاب �إعالمي ف�ضائي يبدو ذا �سقف �أعلى من احلرية ال لغر�ض‬ ‫�سوى جلم جماح اجلمهور العربي املُ�س َتفَز واملُ�ستنفَر (�سيا�سياً‪ ،‬اقت�صادياً‪� ،‬أخالقياً) من خالل خلق‬ ‫�شعور زائف لديه بالتحرر والإ�صالح ال�سيا�سي‪.‬‬ ‫يف اخلامتة‪ ،‬تنهي الكاتبة بحثها بالتذكري ب�إ�شكالية البحث الرئي�سة وموجباتها وبعر�ض �أخري وموجز لنتائج‬ ‫البحث‪ .‬كل هذا ظهر جل ّياً يف اختيارها املوفق ملقدمة اخلامتة �إذ تقتب�س العبارة التالية لربيزين�سكي‪:‬‬ ‫"’بعد ع�صر املدفعية وبعد ع�صر التجارة واملال‪ ،‬باتت تقنيات االت�صال و�شبكاته متثل اجليل‬ ‫الثالث من هيمنتنا على العامل"‪�( .‬ص‪)473 .‬‬ ‫هنا ت�ضع امل�ؤلفة "ثورة" تقنيات االت�صال يف �سياقها التاريخي الوظائفي ال�صحيح كامتداد‬ ‫ع�ضوي لإرادة الهيمنة‪ :‬ف�إذا كانت الهيمنة الثقافية هي متالزمة �إرادة الهيمنة ال�سيا�سية‪ ،‬ف�إن‬ ‫الإعالم هو احلا�ضنة املرتجِ مة لتلك الإرادة‪ .‬وبينما ظهرت هذه الفكرة املحورية (توظيف الإعالم‬ ‫الف�ضائي ك�آلية هيمنة) يف مقدمة الكتاب كفر�ضية‪ ،‬ف�إنها تظهر هنا كنتيجة رئي�سة للبحث‪ ،‬كما‬ ‫يظهر جلياً يف تعليق الكاتبة على عبارة بريزين�سكي‪:‬‬ ‫"�أن تهيمن على العامل يعني �أن تهيمن على ثالث‪� :‬أو ًال‪ ،‬الف�ضاءات واملواقع اجليو�سرتاتيجية‪،‬‬ ‫ثانياً‪ ،‬الرثوات الطبيعية‪ ،‬وبخا�صة موارد الطاقة على امتداد الكرة الأر�ضية‪ ،‬وثالثاً‪ ،‬الأفكار‪ ،‬هيمنة‬ ‫ال ميكن �أن يخرج عنها ال�س�ؤال املركزي لهذا البحث‪� :‬أي تغيري؟"‪�( .‬ص‪)473 .‬‬ ‫نتحدث؟ جتيب الكاتبة على هذا ال�س�ؤال املركزي للبحث‬ ‫�إذاً‪ ،‬تت�ساءل الكاتبة‪ ،‬عن "�أي تغيري" ّ‬ ‫ب�أن تغيرياً كالذي طر�أ على �ساحة الإعالم العربي ال معنى له خارج �سياقه الطبيعي؛ �إذ ت�شري‬ ‫جملة من العوامل اجليو�سيا�سية �إىل توظيف الأنظمة والكيانات ال�سيا�سية للإعالم الف�ضائي‬ ‫فيما يخدم �أهدافها وي�ضمن بقاءها ودميومتها‪� ،‬سيما يف غياب �أي تغيرُّ بنيوي حقيقي يف النظام‬ ‫ال�سيا�سي العربي‪ .‬هذا اال�ستنتاج يظهر يف ال�صياغة اال�ستنكارية التي �أوردتها الكاتبة م�ستعرية‬ ‫�س�ؤا ًال طرحه خبريا �إعالم عربيان‪:‬‬ ‫نتحدث؟!‬ ‫"�إذا كان مالك املحطات الإخبارية هو النظام الر�سمي‪ ،‬فعن �أي دور �سيا�سي ميكن �أن ّ‬ ‫الأحرى بنا �أن نبحث عن الإق�صاء والتالعب"‪�( .‬ص‪)474 .‬‬ ‫‪150‬‬

‫هذه احلقيقة املاكروية لها ما يدعمها على نطاق �أ�ضيق‪� ،‬إذ ت�ستنتج الباحثة متحدثة عن املحطات‬ ‫الأربع حمل البحث (اجلزيرة‪� ،‬أبوظبي‪ ،‬العربية‪ ،‬املنار) يف �أنها ت�شرتك بحقيقة كونها "ذراعاً �إعالمية‬ ‫جلهاز دولة �أو حزب �سيا�سي‪�( "....‬ص‪ )475 .‬و"و�سيلة لت�أكيد احل�ضور والدور"‪�( .‬ص‪ )477 .‬ويف‬ ‫تف�سريها لهذه النتيجة ت�ستدعي الكاتبة �إحدى �أهم نتائج التحليل اجليوبوليتيكي م�ؤكدة �أنه‪:‬‬ ‫"�إذا كانت حاجة الإمرباطورية للبقاء تفر�ض الهيمنة على املناطق اال�سرتاتيجية‪ ،‬ويف مقدمتها‬ ‫الدول النفطية وال�شرق االو�سط‪ ،‬ف�إن حاجة الأنظمة العربية الغنية للبقاء تفر�ض عليها التكيف‬ ‫مع العوملة ومتطلباتها‪ ،‬ومن هذه املتطلبات‪ :‬جمتمع االت�صاالت‪�( ".‬ص‪)476 .‬‬ ‫�إذاً‪ ،‬فالف�ضائيات العربية املدعومة بطريقة مبا�شرة �أو غري مبا�شرة من قبل ر�سميات عربية هي �آلية تك ّيف‬ ‫تلك الأنظمة العربية مع حتديات ومتطلبات العوملة‪ .‬وهذا ما تدعمه نتائج ومدلوالت حتليل م�ضمون‬ ‫وخطاب برامج احلوار لتلك القنوات الف�ضائية؛ ويف هذا ال�سياق ت�ستطرد الدكتورة حياة احلويك مركزة‬ ‫على مدلوالت الكيفية التي تعاطت بها تلك الف�ضائيات مع فكرة الثقافة الدميوقراطية مقررةً‪:‬‬ ‫"لإننا ن�ؤمن �أن التغيري ال ميكن �أن يبد�أ �إال بثقافة دميوقراطية وال ميكن �أن يتجذر �إال بها‪ ،‬و�إال ف�إن‬ ‫كل الأ�شكال والتدابري تقف عند حدود تغيري يف ال�شكل يحل �سلطة ال دميوقراطية حمل �سلطة‬ ‫الدميوقراطية وير�سي وهم حتقق دميوقراطية افرتا�ضية تعيق بناء الدميوقراطية احلقيقية"‪�( .‬ص‪)478 .‬‬ ‫هنا ت�ضعنا الكاتبة وجهاً لوجه مع حلظة تاريخية فارقة �أجربت الأنظمة ال�سيا�سية القائمة على‬ ‫التعاطي مع �آمال ومطالب ل�شعوبها ن�ضجت على نار اال�ستبداد والطغيان ال�سيا�سي وغدت‬ ‫ت�شكل تهديداً وازناً لبقاء ودميومة تلك الأنظمة‪ .‬لذا والحتواء هذا اخلطر‪ ،‬جل�أت تلك الأنظمة‬ ‫ل�سل�سلة من الإجراءات كتقدمي �أطر "دميوقراطية افرتا�ضية"‪ ،‬من خالل قنوات ف�ضائية حتمل وهم‬ ‫ؤكده‪ ،‬كما برهنت الباحثة‪ ،‬غياب‪،‬‬ ‫التغيري‪ .‬عملية �إر�ساء �أ�س�س لـ"دميوقراطية افرتا�ضية" ُم َ�ضللة ي� ّ‬ ‫بل تغييب‪ ،‬مفهوم جوهري كمفهوم "ال�سيادة" مرتبط متاماً بالثقافة واملمار�سة الدميوقراطية‪ .‬فهذا‬ ‫التغييب املق�صود واملمنهج ملفهوم ال�سيادة من �ش�أنه �إرباك منظومة �أخرى من املفاهيم؛ فبغياب‬ ‫ال�سيادة يتهاوى مفهوم "الوطن" وبالتبعية مفهومي "املوا َطنة" و"املواطِ ن"‪ .‬هنا‪ ،‬كما جتادل‬ ‫الباحثة حمِ قةً‪ ،‬يندفع الإن�سان غريزياً‪ ،‬كما ُيراد له من قبل الفئات املهيمنة‪ ،‬نحو �أطر تف�سريية‬ ‫�أ�ضيق يبحث فيها عن ذاته املفردة — "الأنا"‪ ،‬وذاته اجلمعية — "النحن"‪ ،‬ليجدهما يف دوائر‬ ‫مت�سخ كليهما وحتيلهما �إىل دوائر هزيلة وه�شّ ة وغري قادرة على تخليق و�إ�ضفاء معنى على وجوده‬ ‫ال�شخ�صي واالجتماعي وال�سيا�سي؛ دوائر من قبيل الفئة والطائفة والع�شرية واملذهب‪ .‬ويف ف�ضاء‬ ‫جيو�سيا�سي كالف�ضاء العربي‪ ،‬تغدو تلك الدوائر ال�ضيقة واملت�صارعة مناف�ساً وبدي ًال و�إجها�ضاً ملفهوم‬ ‫الدولة الع�صرية‪ .‬ويف مثل هذا اجلو وهذا التدافع نحو الدوائر ال�صغرية واملت�صارعة‪ ،‬ت�صبح غريزة‬ ‫البقاء هي الغريزة املهيمنة والناظمة ل�سلوك اجلماعة‪ ،‬وكما ي�صبح من املمكن واملتوقع الدفاع‪،‬‬ ‫براغماتياً‪ ،‬عن دولة م�شرذمة (دولة الفئة �أو الطائفة �أو الع�شرية �أو املذهب) ُت َّقدم فيها الرغبة بالبقاء‬ ‫‪151‬‬


‫اعالم‬

‫و"الأمن والأمان" على �أية رغبات �أخرى (كالرغبة يف العدالة واحلرية والتح ّرر)‪ .‬وهنا ي�صبح‬ ‫من الطبيعي النظر خلطاب الدميوقراطية لتلك الف�ضائيات العربية كخطاب �إجها�ضي يرمي �إىل‬ ‫تزييف واغتيال الوعي اجلمعي (ال خللقه �أو ت�شكيله) و�إنتاج ظرف �سيا�سي ٍ‬ ‫موات ال�ستمرارية‬ ‫هيمنة �أطراف حملية (كال�سعودية ودول برتودوالرية �أخرى) و�أطراف �إقليمية (�إ�سرائيل) و�أطراف‬ ‫عاملية (الواليات املتحدة حتديداً)‪.‬‬ ‫نتحدث؟!"‪.‬‬ ‫هنا ال منلك �إال �أن نت�ساءل ا�ستهجاناً‪ ،‬متاماً كما فعلت الباحثة‪" :‬فعن �أي تغيري ّ‬ ‫ثانيا ً‪ :‬عن القيمة احلقيقية لهذا العمل‪ :‬الت�أ�سي�س لـ"جيوبوليتيكا مقاومة"‬

‫ال�س�ؤال الآن هو‪� :‬أين تكمن القيمة احلقيقية لهذا العمل؟‬ ‫بداي ًة فمما ال َّ‬ ‫�شك فيه �أنّ قيمة البحث تكمن‪ ،‬مبدئياً وجزئياً‪ ،‬يف كون نتائجه تربهن تراكمياً ومن‬ ‫مرجعية خمتلفة على �صحة فر�ضية يتم�سك بها ويدافع عنها الكثري من الباحثني والنقاد الذين‬ ‫ينظرون �إىل اخلطاب الإعالمي ك�سلطة مرتبطة ع�ضوياً ووظيفياً بال�سلطة ال�سيا�سية القائمة التي‬ ‫تعمل‪ ،‬باللغة ويف اللغة ومن خالل اللغة‪ ،‬كل ما يلزم لت�أبيد ذاتها املهيمنة يف الف�ضاء ال�سيا�سي‬ ‫من خالل احتاللها و�سيطرتها على الف�ضاء اللغوي عرب ف�ضاءات �إعالمية‪ .‬وهنا‪ ،‬وهذا من وحي‬ ‫هذا البحث‪ ،‬ميكننا متييز م�ساحتني هامتني يف خارطة اخلطاب الإعالمي‪ :‬امل�ساحة الأوىل من �ش�أنها‬ ‫اجتذاب وحتقيق التماهي مع املتلقي من خالل �إدماج والتعاطي مع �أفكار وموا�ضيع ذات ارتباط‬ ‫وثيق باحتياجات وطموحات املتلقي‪ ،‬كم�سائل احلريات ال�شخ�صية وال�سيا�سية‪ ،‬الدميوقراطية‪،‬‬ ‫العدالة‪ ،‬التحرر‪� .‬أما امل�ساحة الثانية من اخلطاب فيع ّرفها ما مت تغييبه �أو �إق�صا�ؤه عن خارطة اخلطاب‬ ‫الإعالمي‪ .‬هذا من �ش�أنه خلق �سياق خطابي يف ّرغ منظومة مفردات مثل "احلرية" و"احلوار"‬ ‫و"الر�أي الآخر" و"التعدد" و"احلياد واملو�ضوعية" والتي تع ّرف امل�ساحة الأوىل‪ ،‬من معناها‬ ‫احلقيقي ويوجهها نحو الت�أ�سي�س خلطاب �إعالمي �إجها�ضي ي�ؤ�س�س لـ"دميوقراطية افرتا�ضية" زائفة‬ ‫ال ّ‬ ‫ت�شكل تهديداً مل�صالح الطبقات املهيمنة حملياً و�إقليمياً وعاملياً‪.‬‬ ‫�إن قيمة البحث العلمي‪� ،‬أي بحث علمي‪ ،‬ال تكمن فقط يف الإجابة على �أ�سئلة البحث‪ ،‬بل‬ ‫�أي�ضاً مبا تثريه من �أ�سئلة ال ّبد من التعاطي معها‪ .‬بحث الدكتورة احلويك فعل ذلك ب�إثارته‬ ‫وبطريقة غري مبا�شرة �أ�سئلة حول نزاهة وفاعلية الأطر النظرية ومناهج البحث التي تتعاطى مع‬ ‫ق�ضايا �أ�سا�سية تهم لي�س فقط الإن�سان العربي بل �إن�سان "اجلنوب" ب�شكل عام‪ .‬لذا جند �أن قيمة‬ ‫البحث تتج ّلى بتج�سيدها لإطار نظري ذي متالزمة منهجية توفيقية ومت�صاحلة مع منهجيات بحثية‬ ‫متباينة و�أطر فكرية خمتلفة‪ .‬فبمقدار ما يت�ضمنه البحث من خمزون معلوماتي (بيانات‪ ،‬مقابالت‪،‬‬ ‫ر�صد‪� ،‬أر�شيف)‪ ،‬فهو ّ‬ ‫ي�شكل‪� ،‬إىل حد كبري‪ ،‬عملية نب�ش ممنهج لي�س فقط يف اركيولوجيا اجلغرافيا‬ ‫‪152‬‬

‫ال�سيا�سية ذاتها‪ ،‬بل يف �أطر ومناهج بحثية عدة‪� ،‬إال �أنّ عملية النب�ش هذه‪ ،‬وهذا هو الأهم‪ ،‬و�إن‬ ‫ا�ستفادت من الإرثني احلداثي وما بعد احلداثي‪ ،‬هي �أبعد ما تكون عن كونها ا�ستن�ساخاً �أو تبن ّياً‬ ‫وفجة وال هي بذخ فكري يختبئ وراء‬ ‫لأي منهما‪ .‬فال هي علموية ترتكز على مو�ضوعية مزعومة ّ‬ ‫مقوالت البعدبنيوية �أو البعدحداثية لينتهي بنا املطاف �إىل عبثية �شبه قدرية‪ .‬وهذا ما جت ّلى مرة‬ ‫�أخرى عندما تناولت الكاتبة بالتفكيك اخلطاب الإعالمي لف�ضائيات مثل اجلزيرة والعربية و�أبو‬ ‫ظبي‪ .‬فلقد كان جاك دريدا و�آخرون موجودون هنا وهناك؛ �إال �أن هذا الوجود م�ضبوط وحمكوم‬ ‫بتلم�س مواطن القوة‬ ‫متاماً ب�إرادة الباحثة وباحتياجات و�ضرورات البحث فقط‪ .‬وهنا حتديداً نبد�أ ّ‬ ‫والقيمة االب�ستيمية احلقيقية للبحث‪:‬‬ ‫�إنّ هذا العمل ّ‬ ‫يذكرنا �إىل حد كبري بالعمل البحثي الت�أ�سي�سي لإميل دركهامي "االنتحار" الذي‬ ‫ا�شتبك امل�ؤلف فيه مع مادة ومنهجية بحث معرتف بها لي�س ملجرد توليد معرفة حول مو�ضوعة‬ ‫االنتحار‪ ،‬ولكن للت�أ�سي�س ملجال معريف جديد ذي مادة مميزة وح�صرية (علم االجتماع)‪ .‬يبدو �أنّ‬ ‫هذا هو ما ح�صل �أي�ضاً مع الدكتورة احلويك‪� ،‬سواء كان مق�صوداً كما هو احلال مع دركهامي‪� ،‬أو‬ ‫غري مق�صود كما كان احلال مع ابن خلدون يف مقدمته التي �أ�س�ست‪ ،‬باملح�صلة وعن غري ق�صد‪،‬‬ ‫لف�ضاء معريف جديد �أي�ضاً‪ .‬فبمقدار ما يلقي بحث الدكتورة احلويك ال�ضوء على الإعالم الف�ضائي‬ ‫فهو كذلك ي�ؤ�س�س جليوبوليتيكا جديدة من خالل حتريرها من �إرثها اال�ستعماري اال�ستعالئي‬ ‫(كيفية حيازة القوة ل�ضمان دميومة الهيمنة الإمرباطورية) بتحريرها من معطيات ماهان �أو ماكندر‬ ‫�أو ما بينهما والتي ربطت امل�شروع املعريف ع�ضوياً ووظيفياً مبقت�ضيات وم�صالح القوى اال�ستعمارية‬ ‫القدمية (من �آخر جتلياتها كتابات �صموئيل هنتنغتون وفوكوياما) التي نظرت "للجنوب" داروينياً‬ ‫ككيان �شبه ب�شري قابل لل�سبي ويتطلب التدخل املبا�شر (هذا هو قدر و"عبء الإن�سان الأبي�ض")‬ ‫لغر�ض االرتقاء به و�أن�سنته و�إعادة ت�شكيله بنا ًء على منظومة َعقَدية غربية‪� .‬إال �أن البحث يعك�س‬ ‫�أكرث من ذلك‪ ،‬فالكاتبة مل حترر اجليوبوليتيكا بن�سختها التقليدية فقط من �إرثها اال�ستعماري‪،‬‬ ‫بل جتاوزت �أي�ضاً معطيات اجليوبوليتيكا بن�سختها احلديثة — املدر�سة النقدية اخلجولة واملهذبة‬ ‫التي‪ ،‬ورغم النربة الإن�سانية التحررية خلطابها‪ ،‬ما زالت‪ ،‬باملح�صلة‪ ،‬تنظر للجنوب نظرة و�صايوية‬ ‫(كيان ي�ستدعي االعرتاف بب�شريته وم�ؤازرته)‪ .‬ففي هذه الثنائية (�شمال‪ /‬جنوب) ما زال الطرف‬ ‫الأول يف الثنائية (الذي ا�ستفاق �آخرياً واعرتف بـ"الآخر" (اجلنوب) ي�شغل ح ّيز الفاعلية يف‬ ‫اخلطاب ال�سيا�سي الغربي بينما ي�شغل اجلنوب ح ّيز املفعولية تاركاً بذلك املجال اليجاد ذريعة‬ ‫�أخالقية جديدة ت�شرعن النظرة الو�صايوية وت�ضمن‪ ،‬باملح�صلة‪ ،‬هيمنة القوى اال�ستعمارية اجلديدة‬ ‫يف ع�صر ما بعداحلداثة من خالل خطاب حقوقي (حقوق مر�أة‪ ،‬حقوق �إن�سان‪ ،‬حقوق �أقليات)‬ ‫ُير ّوج له عرب و�سائط الإعالم احلديثة (ف�ضائيات‪� ،‬شبكات توا�صل اجتماعي)‪.‬‬ ‫لذا وعلى �ضوء عزل اجلغرافيا ال�سيا�سية ب�شقيها التقليدي واحلديث عن ما�ضيها الإ�ستعماري‬ ‫ف�إن هذا العمل ي�ؤ�س�س عرب تعاطيه مع ظاهرة الإعالم الف�ضائي العربي لف�ضاء معريف جديد‪،‬‬ ‫‪153‬‬


‫‪154‬‬

‫اعــالم‬

‫يتحدث فيها اجلنوب عن نف�سه‪ ،‬جيوبوليتيكا فوق نقدية‪ ،‬جيوبوليتيكا مقاومة (بك�سر‬ ‫جليوبوليتيكا ّ‬ ‫�أو فتح الواو)‪ ،‬متاماً كما �أ�س�س �إميل دركهامي لف�ضاء معريف جديد (علم االجتماع) عرب تعاطيه مع‬ ‫ظاهرة "االنتحار" بعد �أن عزلها عن حميطها التقليدي (علم النف�س)‪� ،‬أو كما فعل ابن خلدون بعد‬ ‫�أن �أقحم املتغريات االجتماعية املتعددة كعن�صر �أ�سا�سي يف كتابة التاريخ وفهمه‪.‬‬ ‫وهنا يربز اجلانب الآخر من القيمة املعرفية لهذا البحث‪ :‬نحن ازاء عمل جعل من املمكن‬ ‫واملُتخ َّيل الت�أ�سي�س لف�ضاء معريف جديد (�إطاراً ومنهجاً) يحمل يف �أح�شائه نواة منظومة اب�ستيمية‬ ‫حتررية جديدة ذات �شخ�صية م�ستقلة تتفاعل نقدياً مع املنظومة االب�ستيمية الغربية وت�شتبك بها‪.‬‬ ‫وهنا حتديداً تلتحم امل�ؤلفة با�ست�شراقية ادوارد �سعيد التو�صيفية دافعة بها �إىل م�ستوى �أرقى‪ ،‬نحو‬ ‫ا�ست�شراقية مقاومة (بك�سر �أو بفتح الواو)‪ ،‬ا�ست�شراقية ذات خمالب‪ ،‬ا�ست�شراقية رحبة جتمع بني‬ ‫�أكادميية �إدوارد �سعيد الناقد الأدبي ونزق وعنفوان وجر�أة الأديب والباحث الثائر (غ�سان كنفاين‪،‬‬ ‫فرانز فانون‪ ،‬باولو فريري‪ ،‬عبدالوهاب امل�سريي وغريهم)‪� .‬إذاً فالكاتبة يف هذا العمل قد جتاوزت‬ ‫حدود ا�ست�شراقية �سعيد‪ ،‬فهي مل ِ‬ ‫يتم من خاللها احتالل الرواية‬ ‫تكتف بتت ّبع العملية التي ّ‬ ‫والوعي العربيني — كمتالزمة الحتالل اجلغرافيا العربية‪ ،‬عرب �إعالم ف�ضائي ناطق بالعربية مبا‬ ‫يخدم �أهداف القوى املهيمنة عاملياً‪ ،‬بل �سعت �أي�ضاً �إىل حترير تلك الرواية و�إعادة كتابتها بقلم‬ ‫حت�س�سه من خالل �إقحامها لقناة املنار يف البحث‪،‬‬ ‫ي�ؤمن بالعربية‪ .‬هذا الفعل من ِق َبل الكاتبة ميكن ّ‬ ‫وهي الناطق الإعالمي با�سم حزب �سيا�سي ميثّل الفعل املقاوِم على ال�ساحة العربية‪ .‬ف�إذا �أخذنا‬ ‫بعني االعتبار �أن هذا البحث ما كان ليخ�سر الكثري من قيمته لو ا�ستبدلت الكاتبة �أو حتى �أبعدت‬ ‫كل ّياً قناة املنار من خارطة البحث لكونها‪ ،‬على خالف املحطات الأخريات‪ ،‬غري مرتبطة ر�سمياً �أو‬ ‫ر�سمي ب�أي نظام عربي من حيث التمويل والتبعية ال�سيا�سية‪� .‬إلاّ �أنَّ الكاتبة مل تفعل ذلك‬ ‫غري ٍ‬ ‫من باب ممار�سة ما تب�شّ ر هي نف�سها به؛ ف�إذا كانت الف�ضائيات الر�سمية و�شبه الر�سمية ت�سعى للت�أثري‬ ‫على املتلقي عرب تغييب و�إق�صاء موا�ضيع و�أفكار معينة (كاملقاومة وال�سيادة)‪ ،‬ف�إن الكاتبة جل�أت �إىل‬ ‫الت�أثري على املتلقي من خالل ا�ستح�ضار ما ّمت تغييبه �أو تهمي�شه من قبل تلك الف�ضائيات‪ :‬فكرتا‬ ‫املقاومة والتحرير‪ .‬من هذا املنظور ف�إن ح�ضور قناة املنار يف البحث ي�شري �إىل �سعي الكاتبة لتحرير‬ ‫املغت�صبة كمقدمة لتحرير الإرادة واجلغرافيا املغت�صبتني‪.‬‬ ‫الرواية العربية َ‬ ‫وككلمة نهائية‪ ،‬ومن دون االنتقا�ص من قيمة هذا العمل‪ ،‬فقد كان من املمكن �إ�ضافة ف�صل‬ ‫متهيدي ُت ّقدم فيه الكاتبة مفهوم كل من اجلغرافيا ال�سيا�سية وتاريخها ومدار�سها وحتليل اخلطاب‬ ‫للقارئ غري املخت�ص لتعينه على التعاطي تاريخياً وجدلياً مع ما ت�ضمنه البحث من فر�ضيات‬ ‫وحتليالت وما تو�صل �إليه من نتائج‪ .‬كذلك ولغر�ض تركيز انتباه القارئ على النقاط املركزية‬ ‫للبحث‪ ،‬كان بالإمكان �أي�ضاً ا�ستغالل الهام�ش بطريقة �أف�ضل وذلك من خالل �إحالة قدر من‬ ‫املعلومات والبيانات الأر�شيفية التي يزخر بها البحث �إليه لإعطاء القارئ حرية االختيار للرجوع‬ ‫�إليها متى �شاء �أو �إن ر�أى لذلك �ضرورة‪.‬‬

‫حمنتي مع ال�صحافة و�أ�شباحها؟‬ ‫�أحمد من�صور ‪ -‬كاتب‬

‫رب ُع قرنٍ و�أنا �أُ ِ‬ ‫حا�ص ُر عبثاً قلع َة ال�صحافة من القرن الفائت يف بريوت با�ستثناء طاق ٍة �صغرية انفتحت‬ ‫عند �أ�ستا ٍذ ط ّيب �إبن جبل‪ :‬الأ�ستاذ �سليمان �أبو زيد �صاحب يومية‬ ‫�أمامي يف �أوائل ال�ستينيات َ‬ ‫ا�سمها "الدنيا اجلديدة" يف بريوت عرو�س املتو�سط وبلد اخلنق وال�شنق للرباعم املن�سيني ال بلد‬ ‫يتبجحون ترداداً �صباحاً وم�ساء لي ًال ونهاراً‪.‬‬ ‫الإ�شعاع والإبداع‪ ،‬كما ّ‬ ‫فرح َب و�ش ّرع �صدر مطبوعته‪ .‬بد� ُأت �أكتب‪ :‬مقايل الأول‬ ‫دخلت �إىل رئي�س التحرير ّ‬ ‫ُ‬ ‫مقدماً نف�سي‪ّ ،‬‬ ‫كتب امللك ح�سني والذي يناق�ض بر�أيي الواقع‪.‬‬ ‫كان على طريقة "�صراحة هيكل" ر ّداً على ما َ‬ ‫ك ّرت ال�س ّبحة ح ّتى املقال ال�سابع‪ .‬ا�ستدعاين ٍ‬ ‫عندئذ هذا ال ّأب املهيب الودود يف �سلوكه و�أخالقه‬ ‫ا�ستحل تعبك ُي ُ‬ ‫ُّ‬ ‫راق جماناً‪ .‬تريد اال�ستمرار جماناً‪:‬‬ ‫قائ ًال‪� :‬أنا فوجئت يا ابني بقلمك‪� .‬إ ّال �أنيّ ال‬ ‫لدي موظفون‪ .‬فقط البع�ض من �أ�سرتي ي�أخذون‬ ‫�أه ًال و�سه ًال و�إ ّال ف� َ‬ ‫فلي�س ّ‬ ‫أنت ح ّر‪ .‬وكما ترى َ‬ ‫بيدي‪.‬‬ ‫يف َ‬ ‫تلك الأ ّيام كانَ ح�صويل على �سندوي�ش فالفل يف منتهى ال�صعوبة‪ ،‬كذلك دفع �أجرة الفندق‪،‬‬ ‫�أ ّما املوا�صالت فكانَ ي�ؤ ّمنها حذائي من دونَ �أية وا�سطة‪.‬‬ ‫كان يف تلك املرحل ِة �صحيفة �أ ّم ال�صحف وال�صحافيني يف بريوت وحدها جريدة النهار (التي م َّر‬ ‫على ت�أ�سي�سها ح ّتى اليوم �أكرث من ثمانني �سنة) الوحيدة التي تدفع ملوظفيها‪ ،‬والتي تعترب م�ؤ�س�س ًة‬ ‫الديك‪ ،‬ولو كانَ دجاجة يتبخرت �أينما كان‬ ‫ع�صري ًة حقيق ّية‪ .‬ومن يعمل يف جريدة النهار‪ ،‬جريدة ّ‬ ‫�أكرث من الديك الهندي‪ ..‬واهلل ي�سرت‪� .‬أ ّما ال�صحف الباقية فكانت �صحيفة ال�شخ�ص الواحد‬ ‫فالزوجة �سكرترية والأبن مدير �ألخ‪ّ ....‬‬ ‫خرج واحد تتقا�سم ُه‬ ‫وكل ما ي�أتي من مال ُّ‬ ‫ي�صب يف ٍ‬ ‫العائلة ح�سب مراكز القوى‪ .‬لقد علمنا فيما بعد �أنَّ َ‬ ‫هناك �صحفاً يف لبنان كانت ُتطبع على ح�ساب‬ ‫البع�ض من النافذين يف اخلليج ال ي�سمع بها �أحد يف لبنان‪ُ ،‬تطمر يف الرتاب كما البنات يف‬ ‫بع�ض الأعداد منها متويهاً وت�ضلي ًال �إىل مم ّوليها املرت ّبعني يف ال�صحراء‪� .‬إ ّنها‬ ‫ر�سل ِ‬ ‫اجلاهلية �أو تحُ رق و ُي َ‬ ‫العبقرية اللبنانية‪!..‬‬ ‫عمل‪ ،‬كيفما اتفق‬ ‫قت هوى ال�صحافة ُ‬ ‫نظراً لهذا الواقع البائ�س اليائ�س ط ّل ُ‬ ‫وهمت يف البحث عن ٍ‬ ‫‪155‬‬


‫اعالم‬

‫ملتابعة اجلامعة ب�شكل ّ‬ ‫غامرت بالذهاب �إىل باري�س التي �أنقذتني يف جميع النواحي‪.‬‬ ‫متقطع م�ؤمل‪ُ .‬‬ ‫عظمة باري�س �أ ّنها ُتعطيك الفر�صة وال ت�ستعبدك‪َ .‬‬ ‫دائم‬ ‫عليك �أنْ تفلح‪� .‬إ ّنها ال تقفل الباب ٍ‬ ‫ب�شكل ٍ‬ ‫�أمامك‪ .‬قد تعاين كثرياً‪ ،‬ولكنك يف النهاية – �إذا كان لك ثقة بنف�سك – وا�صل �إىل مبتغاك‪.‬‬ ‫قرعت باب "القد�س العربي" عرو�س ال�صحافة القومية يف‬ ‫أخذت نَف َ​َ�ساً يف مدينة النور ُ‬ ‫بعدما � ُ‬ ‫بتوا�صل ُ‬ ‫ع�شرين عاماً‪ ،‬فدعاين ب�أريحيت ِه املعروفة رئي�س‬ ‫منذ �أكرث من‬ ‫أخذت �أكتب و�أكتب‬ ‫ٍ‬ ‫لندن‪ُ � .‬‬ ‫َ‬ ‫حتريرها‪" :‬امل�ؤ�س�س" بني امل�ؤ�س�سني؛ وهذا ما غمرين معنو ّياً و�أعطى كبرْ ي �أوك�سيجيناً ال يو�صف‪.‬‬ ‫واحلق ُيقال �إنَّ القد�س هي جريدة الكرثة الكاثرة التي تكتب لها جماناً من جميع الأ�صقاع‪� .‬أ ّما‬ ‫ّ‬ ‫من تدفع �إليهم فال يتجاوز عدد �أ�صابع اليدين على الأكرث‪.‬‬ ‫َ‬ ‫يل"دعك من ال�سيا�سة"‪،‬وهو‬ ‫رح َل (يف ما بعد) �أول كلمة قالها‬ ‫�إنَّ امل�س�ؤول عن الثقافة �آنذاك الذي َ‬ ‫الغارق يف �أكرث من بئر‪ .‬والذي ال �أن�ساه �أبداً هو فتح جريدة "الأهرام" امل�صرية – ع َرب مكتبها‬ ‫ب�شكل موا ٍز لـ"القد�س العربي" الغالية على قلبي‪.‬‬ ‫بباري�س – �صدرها ملقاالتي ٍ‬ ‫لقد الحظت �أن معظم من ورثوا �أو ا�ستولوا �أو ا�ستكر�سوا على �أبواب الثقافة يف ال�صحاف ِة العربية‬ ‫كانوا كاليهو ِد يف جمال املال‪� .‬إ ّنهم كخرزات العقد الواحد يعجز �أنْ تلدهم رحِ ٌم واحدةكـ"رحم"‬ ‫غ�سان تويني العبقري بالن�سب ِة لديوك ِه الذين ا�ستولدهم و�أطلقهم‪� .‬إ ّنهم يتك ّلمون اللغة نف�سها‪،‬‬ ‫تعددت �ألوان ال�صحف التي يكتبون فيها‪� .‬إ ّنهم كممثلي التجار يف فنزويال الذين يتناف�سونَ‬ ‫ولئن ّ‬ ‫بيع ماركاتهم لكنهم ينامون يف الفندق نف�سه وي�سهرون وي�سكرون معاً‪َ .‬من يدري قد تكون‬ ‫يف ِ‬ ‫ال�شركات التي ميثلونها لل�شخ�ص نف�سه �أو لل�ش ّلة نف�سها‪ ،‬كما �أنَّ �أ�شكال ه�ؤالء ال�صحافيني (�إ ّال ما‬ ‫ندر) هي ق�صا�ص ر ّباين لهم فقلما جتد بينهم وجهاً ت�ست�أن�س ب ِه �أو يرتاح الطفل ملر�آه وي�ضحك ل ُه‬ ‫الرغيف ال�ساخن فلذلك �أرادوا االنتقام من ّ‬ ‫جميل و�أ�صيل‪.‬‬ ‫كل �شي ٍء ٍ‬ ‫�إنَّ م�س�ؤو ّيل الثقافة يف �صحفنا العربية (بالدور الذي يلعبون ُه) ّ‬ ‫ي�شكلون خطراً قد ال يق ّلعن اخلطر‬ ‫الع�سكري اخلارجي‪ .‬وال غرو يف ذلك لأنَّ النظام الغربي القائم يف العامل بزعامة �أمريكا يح ّتم‬ ‫خنق الإ�شعاع يف بالد الإ�شعاع وا�ستفحام ال�شم�س يف عق ِر �شروقها لإعادتها مع ّلبة �إىل مطلعها‬ ‫فحماً وزفتاً‪.‬‬ ‫َ‬ ‫قال ال�شاعر الكبري الراحل جوزيف حرب بهذا اخل�صو�ص‪�" :‬إنَّ م�س�ؤويل الإعالم الثقايف جمموعة‬ ‫من املافيات الثقاف ّية ولعلهم �أجهزة ا�ستخبارية ثقافية‪ .‬وهذا �أخطر من �أجهزة اال�ستخبارات الأمن ّية‬ ‫الذين لديهم غرف ا�ستجواب و�أقبية تعذيب‪ ،‬وعيون وكالب و�أدوات قمع‪ .‬هناك نظام �أمني نازي‬ ‫يف و�سائل الإعالم الثقاف ّية‪ ،‬والغراب ُة يف هذا الأمر �أنَّ هذا النظام ميار�سونه وهم الذين يكتبون عن‬ ‫احلر ّية والدميقراطية واملجتمع املدين وحقوق الإن�سان‪.‬‬ ‫�إنَّ ال�صراع ب َني املثقفني مقبول‪ ،‬ولكن �أن يتح ّول ال�صراع �إىل حماوالت اغتيال �أو �إبادة ف�أظن �أنَّ‬ ‫هذا الأمر ال يقف وراء ُه �إ ّال جمموعة �أقل ما فيها �أ ّنها جهاز خمابراتي ثقايف"‪.‬‬ ‫‪156‬‬

‫لكن مفاتيحها ال�صدئة‬ ‫وقال ال�شاعر بالل �شرارة‪" :‬حاولنا االنفتاح على ال�صفحات الثقاف ّية‪َّ ،‬‬ ‫حالت وحتول دونَ دخول املواهب من ّ‬ ‫كل الفئات العمر ّية‪ ،‬وت�سعى لإبعاد كل مناف�س حمت َمل‬ ‫بلْ �إىل اغتيال كل َمن لديه حمربة"‪.‬‬ ‫بعد بروز �أهم ّية النفط الذي وحد ُه يعطي‬ ‫بكالم عادي �إنَّ التغيري ممنوع يف املنطقة العربية �سيما َ‬ ‫ٍ‬ ‫العربي‬ ‫الن�صر والهيمنة ملن ميلك ُه �أو ي�سيطر عليه‪ .‬هذا النفط الذي �أكرث من ن�صف ِه وجِ َد يف مدانا ّ‬ ‫حتت‬ ‫املنكوب "�صادر" جمي َع الو�سائل ومنها ال�صحافة والثقافة فيها ٍ‬ ‫ب�شكل خا�ص لكي تكونَ َ‬ ‫غدت ال�صحافة الغربية‬ ‫كيف نزلنا َ‬ ‫ت�ص ّرفهِ‪ .‬ولكي تت�ضح ال�صورة فما علينا �إ ّال �إلقاء نظرة َ‬ ‫وكيف ْ‬ ‫حد كبري العامل ّية‪ ،‬يف خمالب الدماغ اليهودي‪ ،‬والعاملون مبعظمهم يف ال�صحافة هم‬ ‫�أ�سا�ساً‪ ،‬و�إىل ٍّ‬ ‫ب�شكل من الأ�شكال يف �أجهزة املخابرات‪ .‬همهم الطاعة و�إ�شباع الغرائز وارتداء �أف�ضل املاركات‬ ‫ٍ‬ ‫فتتوقف �أمطار ال ّلعنات على �أ�شكالهم القبيحة لأنَّ الوجه بر�أيي هو �سفري القلب والروح والوجدان‪.‬‬ ‫لي�س‬ ‫والب�شع الذكي هو َمن ي�ستغل ذكاءه لتغيري ال�صورة ب�صورة �أعمال ِه و�أخالقهِ‪ ،‬وه�ؤالء عددهم َ‬ ‫قلي ًال يف التاريخ �إذ لعبوا �أدواراً يف منتهى الأهم ّية‪� .‬أ ّما القبيحون العنيدون فهم الأكرثية املطلقة‬ ‫من دون �أي منازع‪.‬‬ ‫ب�صور ٍة �أكرث جال ًء �إنَّ هذا النوع من ال�صحافيني كالط ّباخة يف املطاعم‪ ،‬فلو دخلت املطعم من‬ ‫مطبخهِ‪ ،‬ملا دخل ُه زبون‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫وا�ستجابات ال‬ ‫�إ ّن َك ت�ستطيع �أحياناً �أن تطلب منهم ما ت�شاء‪� :‬أفئدة‪ .‬كلى‪ .‬طائرات‪� .‬سجادات هوى‬ ‫فال�سوق هي عر�ض وطلب‪.‬‬ ‫َ‬ ‫حتديد لها على الأر�ض �شرط �أنْ تدفع الثّمن ّ‬ ‫�أخربتني �إحدى ال�سيدات �أنها التقت �أحد ر�ؤ�ساء التحرير فغازلها‪ ،‬ويف �ساعات َ‬ ‫جعل منها‬ ‫أ�صبحت الرقم الثاين‬ ‫رئي�سة حترير مناوبة مما ه�شّ لها يف احلال‪ ،‬قائلةً‪ :‬بالكاد �ساعتان من الرثثرة �‬ ‫ُ‬ ‫يف اجلريدة‪� ...‬شكراً ووداعاً ف�أنا عائد ٌة �إىل �أطفايل الذين هم بحاجة �إ ّيل �أكرث من جريدتك الزاهرة‬ ‫بال�شوك‪ .‬و�أبواب اهلل وا�سعة‪ .‬كما �أذهلني الأ�ستاذ الزميل المع احل ّر الذي يعمل يف الثقافة ُ‬ ‫منذ‬ ‫�أكرث من ربع قرن با�ستمرار ّيته ومتا�سكه وعدم قابليته للتل ّوث‪ ،‬وهو القائل‪�":‬إ ّن َك �إنْ مل تدفع وتدفع‬ ‫فلن ي�ستطيع َ‬ ‫ا�سمك �أن يلمع"‪.‬‬ ‫جتد �صحافياً يز ّين ُه احليا ْء وال�صدق‬ ‫جتد اليورانيوم يف الربع اخلايل من �أن َ‬ ‫ملن الأ�سهل �أن َ‬ ‫�إ ّن ُه َ‬ ‫واجلدارة‪� .‬إنَّ هذ ِه املهنة التي تعت ُرب ال�صيد والبحث يف جميع االجتاهات فقط عن اجلديد وعن‬ ‫احلقيقة �أ�صبحت مكتب توظيف �أو ا�ستقبال �إعالنات جاهزة‪ .‬فيا ويل َمن يكتب‪ .‬الربيد ال ي�صل‪.‬‬ ‫واملو�ضوع انطرق �سابقاً وامل�ستوى غري جدير مبجاورة الآيات ال�ضوئية يف هذ ِه ال�صحف ال�صفراء‬ ‫الناعبة‪.‬‬ ‫َ‬ ‫خم�س‬ ‫قال �أمامي الكاتب جمال الغيطاين يف باري�س‪ :‬لقد و�صلني بريد ك ّل ُه �صالح يقت�ضي ن�شر ُه َ‬ ‫ولكن "�أخبار �أدبه" ال تكفي الحت�ضان هذ ِه الأمواج‬ ‫�سنوات‪ .‬الربيد طبعاً كالنهر املتوا�صل‪َّ .‬‬ ‫‪157‬‬


‫اعالم‬

‫التي ال تتوقف‪ ،‬فهو ينتقي‪ .‬وهنا الطام ُة الكربى بالن�سب ِة للأجيال الطاحمة‪ .‬معنى ذلك �أنَّ َ‬ ‫هناك‬ ‫يف العمق نه�ض ًة فكري ًة على قاعد ٍة وا�سعة تخ�صرها وتخت�صرها بلْ تخنقها �أبواب هذه ال�صحف‬ ‫ال�ض ّيقة ح ّتى على مناقري احل�سا�سني‪.‬‬ ‫يف هذا اخل�صو�ص �أخربين �أحد ال�صحافيني امل�صريني العمالقة ب�أنَّ ر�سائل الق ّراء يف بع�ض ال�صحف‬ ‫الربيطانية ترتدي �أهمية �أكرث من كتابة املحرتفني الذين يقب�ضون‪.‬‬ ‫لقد عاتبت �أحد الأ�صدقاء العاملني يف �إذاعة م�شهورة بباري�س قائ ًال‪ :‬ملاذا ال تذيع يف برناجمكما‬ ‫نكتب يف ال�صحف‪� ،‬أجاب‪ :‬يا �أخي انا عندي قائمة ب�أ�سماء الذين يجب �أن �أقر�أ لهم وهنا ال‬ ‫ن�ستطيع �إ ّال �أن نقول ما ير ّدده امل�صريون‪" :‬دقّي يا طبلة"‪...‬‬ ‫واجهت الكثريين من امل�س�ؤولني عن ال�صفحات الثقافية يف الوطن العربي وتك ّلمت معهم‬ ‫لقد‬ ‫ُ‬ ‫بلغة �أخالقية ومبنتهى التهذيب‪ ،‬من ّوهاً ب�أن الباقي هو الأ�صيل وخري النا�س �أنفعهم للنا�س غري �أنيّ‬ ‫جف‬ ‫�شعرت �أن املخارز ال ت�ستطيع اخرتاق �أعينهم امل َزق ّية اجلافة و�أن �آذانهم �سحلوها بال ّزفت الذي ّ‬ ‫عمي بك ٌم ال يفقهون‪...‬‬ ‫والذي ينق�صهم هو ال ُبكم وقلة الفقه‪ ،‬كي تتم الآية‪ٌّ :‬‬ ‫�صم ٌ‬ ‫لقد ا�ستطاع �أ�صحاب النيات اخلفية اخلبيثة تدمري ال�شعر العربي الذي هو ديوان وبيوت العرب‬ ‫يبق من‬ ‫ال�ص ّوتية‪ .‬هذا ال�شعر الذي يخرتق الآذان مرت�سماً على الأعني اغتالوه �ش َّر اغتيال ومل َ‬ ‫حتت كل زواياه و�أركانه كما يفعل ال�صهاينة‬ ‫العروبة والعربية �سوى قر�آنها الذي ما زالوا يحفرون َ‬ ‫بامل�سجد الأق�صى‪ .‬كما �أنَّ الكاريكاتور الناطق ب�شحطاته وخطوطه الر�شيق املخت�صر كالبيت‬ ‫ال�شعري الأجمل الذي يرت�سم يف العني والقلب منعوه ومل يرتكوا �سوى �ضالل ِه الباهتة التي‬ ‫ّ‬ ‫ال ت�ؤذي منلة‪ ،‬فلذلك قتلوا ناجي العلي‪ .‬كما بع�ض الزعماء ن ّب َه ال�صحف بعدم التع ّر�ض لقوام ِه‬ ‫اجل�سدي وقيافتهِ‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫من بدائع �صحافيي الثقافة يف معهد العامل العربي بباري�س‪:‬‬

‫فرن�سا لديها �سيا�سة ترتكز على ثقافتها ومنائرها العريقة القدمية واجلديدة التي تتبارى يف تعاليها‬ ‫�شعب يف‬ ‫�إ�ضاء ًة يف طول البلد وعر�ضه ويف العامل‪� .‬إ ّنها ت�ستلفت االنتباه عندما ت�ستجيب �إىل ٍ‬ ‫حمنة فتخ�ص�ص ل ُه �سن ًة لكونها "مهد الثورة الفرن�سية" و�أر�ض "حقوق الإن�سان" ومقلع الكبار‬ ‫تخ�ص�ص �سن ًة للبنان اجلريح وهي �أ ّم ُه احلنون الذي‬ ‫من ال�شعراء والفال�سفة والعلماء‪ ،‬فال غرو �أن ّ‬ ‫فهرع عمالقة ال�صحاف ِة فيه وال�شعر �إىل امت�شاق‬ ‫�ص ّورت ُه بحدوده ِ واعتربت ُه ج�سرها �إىل املنطقة‪َ .‬‬ ‫ف�ضج اجلمهور لعدم �سماع‬ ‫امليكروفونات ّ‬ ‫كالديوك املزرك�شة ب�ألوانها واملفرك�ش ِة غالباً ب�أ�صواتها َّ‬ ‫ما كانَ ينتظره‪ ،‬ففو�ضى املفاهيم عمومية ولي�ست خالقة على الإطالق واحلابل منتحر بالنابل‪.‬‬ ‫ولكن الأ�شعار مل تكن � ّأقل‬ ‫فاقرتح �أحد الأذكياء �صارخاً‪ :‬اتركونا من النقا�ش و�أ�سمعونا �أ�شعاركم‪َّ .‬‬ ‫َ‬ ‫‪158‬‬

‫كنت بجانبهم هو االرتهان املعنوي الذي ّبكلهم‬ ‫�سوءاً من النقا�ش‪ .‬و�أكرث ما �ضايق البع�ض الذي ُ‬ ‫مبقاعدهم حتى انتهاء النزاع الأخري‪.‬‬ ‫من عجائب غرائب ال�صحافة‪:‬‬

‫َ‬ ‫هناك ِف ْعل َك َت َب يف العربية الذي يعني دافعاً ذاتياً‬ ‫يدفعك �إىل الكتابة مندفعاً بفكر ٍة ما حرب ُه‬ ‫كتب‬ ‫ال�صدق ك�إطا ٍر عام‪ .‬كذلك هناك ِف ْعل مناق�ض من نف�س اجلذر‪ :‬هو َك ْتـ َل َب‪ :‬الذي يعني َ‬ ‫ب�شكل كاذب كما �أنّ َ‬ ‫ا�ستكتب الذي يعني ا�ستخدام قلم �أحدهم ليك ُت َب ل ُه ما يريد يف مقال‬ ‫هناك‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫و�أحياناً يطبع ُه با�سمهِ‪ .‬ويكون �أحياناً بكتابة الدكتوراة مبنتهى الب�ساطة‪ ،‬فك�أنَّ الكتاب َة ب�ضاع ٌة ُتباع‬ ‫و ُت�شرى وك�أنَّ ّ‬ ‫كل �شيء باملال‪ .‬ال نريد �أن نفتح امللفات فكل هذ ِه ال�صيغ موجودة يف عاملنا العربي‬ ‫ب�شكل م�أ�ساوي‪ .‬كل �شيء �أم�سى باملقلوب ويا ويل الفقري‬ ‫الوا�سع ولكم كانَ �ضحايا ب�سببها انتهت ٍ‬ ‫خارج الثمن للثمن الهزيل الذي �سيتلقاه‪.‬‬ ‫وال�ضعيف �إذا كانَ ذك ّياً بريئاً ف�إ ّن ُه �سيدف ُع ثمناً َ‬ ‫ُّ‬ ‫كل ٍ‬ ‫واحد منهم �أرا َد �أن يت�أن�سج (ن�سب ًة �إىل �أن�سي احلاج) �أو يت�أدن�س (ن�سب ًة لأدوني�سي) �أو يت�سعقل‬ ‫(ن�سب ًة ل�سعيد عقل) ‪� .....‬إ ّنهم �صيادو فر�ص بامتياز واحرتاف وال يعرفون �سوى معاناة الفقر‬ ‫والإدقاع يف اللغة وق ّلة الإطالع وعدم معاناة الأمل والعذاب فاعتربوا �أن �أوراق الذهب التي‬ ‫بور؛فهم‬ ‫تغ ّلف ال�شوكوالته هي الذهب بعينهِ‪ ،‬وال خوف من اجلمهور الذي يعتربونَ ذهن ُه بوراً يف‬ ‫ُ‬ ‫وكيف مل‬ ‫�إذن الذين �أنزلهم اهلل ومالئكت ُه ليحرثوه ويبذروه ويح�صدوه فلماذا ال نرتكهم يفعلون؟ َ‬ ‫ندعهم مي�سخون؟!‪....‬‬ ‫حيث �أُقيمت له �أم�سية يف املكان نف�سه‬ ‫بعك�س ما جرى لل�شاعر العراقي اخلالد بدر �شاكر ال�س ّياب‪ُ ،‬‬ ‫َ‬ ‫ا�شرتك بها مثقفون عرب من خمتلف الأقطار فكانت �سمفونية يف االن�سجام والروعة والإ�شراق مما‬ ‫دف َع �أحد �أ�شهر ال�شعراء الفرن�سيني املعا�صرين جان نويل �إىل القول بحزن‪�" :‬إنَّ‬ ‫الفرن�سي (كلغة)‬ ‫ّ‬ ‫جت�سد نب�ضاً وترجم ًة‬ ‫ٌ‬ ‫�شاحب هذا امل�ساء"‪ .‬ويف الواقع كانت الأم�سية مفخر ًة لل�شعر العربي الذي ّ‬ ‫ومو�سق ًة مبنتهى اجلدار ِة والإبداع‪.‬‬ ‫وتوجهوا نحو الرواية ك�أ ّنهم ال يعلمون (يف‬ ‫�إنّ الأقزام من النقاد ير ّددون‪� :‬أيها ال�شعراء اتركوا ال�شعر ّ‬ ‫"فراغهن"‬ ‫مكان ما) �أن كرثة اخلادمات امل�ستوردات هي التي �أتاحت لل�سيدات العربيات مبلء‬ ‫َّ‬ ‫ا�ستيعابهن لها‪ ،‬ومدى ت�أثري ذلك يف خلق‬ ‫من خالل القراءة التي ال ندري مدى جدواها ومدى‬ ‫َّ‬ ‫رواي ٍة عربية ماردة كالرواية الرو�س ّية �أو ما �شابه‪.‬‬ ‫�إنَّ ال�ساح َة ال�سيا�سية كما هي بحاج ٍة �إىل �أكرث من ربيع و�أكرث من �صيف و�أكرث من ح�شر فال�ساح ُة‬ ‫ما�س َة �إىل خم�سينيات القرن‬ ‫ال�صحافية والثقافية بحاج ٍة �إىل قيام ٍة ال ُت ْبقي وال تذر‪� .‬إ ّننا بحاجة ّ‬ ‫الع�شرين اخل�صيبة‪.‬‬ ‫‪159‬‬


‫الغ�ش والتزوير يف الطعام وال�سالم والكالم واملاء والكهرباء والهواء‬ ‫أ�صبح ّ‬ ‫طفح الكيل و� َ‬ ‫لقد َ‬ ‫حتت �أكرب خطر عرف ُه التاريخ حليبها‬ ‫ترزح َ‬ ‫وال�صورة وال�سمع واحلجر والب�شر‪� .‬إنَّ الكلم َة ثدي الأ ّمة ُ‬ ‫والد�س والنفاق والف�سق وامل�سخ‪ .‬وقانا اهلل من ا�ستطالة هيمنتها واكت�ساحها ومن ال�شرور‬ ‫ال�سم ّ‬ ‫ّ‬ ‫حيث كانَ �آبا�ؤنا و�أجدادنا �أكتافاً ترفع ال�شم�س‬ ‫جت�سدها �أما َم �أجيالنا الطالع ِة احلاملة بالعود ِة �إىل ُ‬ ‫التي ّ‬ ‫احلقيقي الأ�صيل كما‬ ‫وتزيدها جت ّل ّياً على جت ٍّلو�سطوعاً على �سطوع يف ال�شرق ونحو العامل‪� .‬إنّ القلم‬ ‫ّ‬ ‫اهلل على ِّ‬ ‫كل �شي ٍء قدير فه َّالنا �سامعون؟‬

‫دار نل�سن‬

‫هاتف ‪01/739196:‬‬ ‫الربيد الإلكرتوين ‪darnelson@hotmail.com:‬‬

‫‪160‬‬


‫لبنان ‪ -‬بريوت ‪� -‬شارع احلمرا ‪ -‬بناية ر�سامني ‪ -‬ط‬

‫‪4‬‬

‫‪tel: 00961 -1 - 751 541‬‬ ‫‪E-mail: info@darabaad.com‬‬ ‫‪website: www.darabaad.com‬‬

‫لبنان ‪ 5000‬لرية | الأردن‪ 2 :‬دينار | �سوريا‪ 100 :‬لرية | م�صر‪ 10 :‬جنيه | تون�س ‪ 1.5 :‬دينار | املغرب‪ 20 :‬درهم | م�سقط‪ 1 :‬ريال‬ ‫ال�سعودية‪ 10 :‬ريال | البحرين‪ 1.5 :‬دينار | الكويت‪ 1.5 :‬دينار | قطر‪ 10 :‬ريال | الإمارات‪ 10 :‬درهم‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.