العدد رقم - 7حزيران 2015
فـ�صـل ـيـة فـكريـة ثـقافيـة تـعنى ب�ش ـ�ؤون امل�شــرق
داوود خرياهلل امل�صلحة العربية والركائز الدينية �أو املدنية للحكم
عاطف عط ّيه العرب بني �سيا�سة امل�صلحة وم�صلحة ال�سيا�سية
غ�سان �أحمد التويني ّ الفل�سطيني امل�شرتك بني الق�صيدة اله ّم ّ الإيرانية والعربية
حممود ر�ؤوف ال�سعدي مراجعة نقدية لكتاب "الف�ضائيات الإخبارية العربية بني عوملتني"
حممود حيدر | حافظ الزين | جنيب ن�صري | عبداحل�سني �شعبان | جهاد �سعد | �أحمد عبيد املن�صوري
العدد رقم - 7حزيران 2015
فـ�صـل ـيـة فـكريـة ثـقافيـة تـعنى ب�ش ـ�ؤون امل�شــرق
املحتويات
ر�أي الربزاين بني نهج الأعراب ونهج يو�سف العظمة ح�سن حماده
العراق �...صراع للوجود حافظ الزين املفكر العراقي عبداحل�سني �شعبان "�سوراقيا م�شروع خال�ص م�شرقي" هاين احللبي
3
�صراع هوية ووجود امل�صلحة العربية والركائز الدينية �أو املدنية للحكم داوود خرياهلل العرب بني �سيا�سة امل�صلحة وم�صلحة ال�سيا�سية عاطف عط ّيه م�ستقبل ال�سيا�سة العربية يف زمن التغ ّول امليكافيلية ال�سعودية" :من الأف�ضل �أن ُتهاب على �أن حتب" �أحمد عبيد املن�صوري املواطنة املهدورة حممود حيدر �صراع الأمن واحلريات يف الدولة املعا�صرة جهاد �سعد
5
103
حتوالت �أدبية "ق�صيدة نوم الأ ّيام ّ لل�شاعر نعيم تلحوق ولعبة االزدواجية املثمرة" (درا�سة حتليلية ت�أويلية) نادين طربيه ّ احل�شا�ش الفل�سطيني امل�شرتك بني الق�صيدة اله ّم ّ الإيرانية والعربية غ�سان �أحمد التويني ّ منح ال�صلح وزاد الطريق �سليمان بختي وفيق غريزي� :شاعر الأغوار والقمم جان نعوم طنو�س
15
23
31 59
119
129
141 143
�إعالم
فكر التحوالت اجليوا�سرتاتيجية واالقت�صادية العاملية وانعكا�ساتها على امل�شرق ريا�ض عيد الإ�صالح الديني �صراع النه�ضة والتنوير جنيب ن�صري
95
مراجعة نقدية لكتاب "الف�ضائيات الإخبارية العربية بني عوملتني" حممود ر�ؤوف ال�سعدي حمنتي مع ال�صحافة و�أ�شباهها �أحمد من�صور
69
87
147
155
ت�صويب
الدكتور ل�ؤي زيتوين التي حملت عنوان "التحوالت ورد يف العدد ال�سابق من "حت ّوالت م�شرق ّية" يف ال�صفحة � 34ضمن درا�سة ّ الأدبية خالل �أربعني عاماً" خط�أ عبارة "حكاية مرمي" وال�صواب هو "حكاية زهرة" فاقت�ضى ال ّت�صويب.
ر�أي
حتوالت م�رشقية
الربزاين بني نهج الأعراب ونهج يو�سف العظمة
ف�صلية ،فكرية ،ثقافية ،تعنى ب�ش�ؤون امل�شرق واملنطقة هيئة التحرير
فاتن املر عاطف عطية ح�سن حماده ن�صري ال�صايغ
ح�سن حمادة �سعاده م�صطفى �أر�شيد �سليمان بختي �سركي�س �أبو زيد
املدير امل�س�ؤول� :سركي�س �أبو زيد الربيد الإلكرتوينabouzeid@gmail.com : هاتف)00961-1( 751541 : �صندوق بريد 113-7179 :بريوت -لبنان. الإخراج الفنيzaid mahdi :
ت�صدر بالتعاون مع م�ؤ�س�سة �سعاده للثقافة
بناية ر�سامني� ،شارع احلمرا ،ر�أ�س بريوت، �صندوق بريد 113-5557 :بريوت -لبنان. هاتف)00961-1( 753363 : فاك�س)00961-1( 753364 : الربيد الإلكرتوينsaadehcf@idm.net.lb : املوقع الإلكرتوينwww.saadehcf.org : ت�صدر مبوجب قرار رقم 82تاريخ �صادر عن وزارة االعالم يف لبنان
1981/7/6
ت�صدر يف طبعتني من فل�سطني ولبنان مدير عام طبعة فل�سطني� :سعاده م�صطفى �أر�شيد هاتف0599305248 : �صندوق بريد 41 :جنني -فل�سطني
اال�شرتاك ال�سنوي -لبنان
للأفراد 50 :دوالراً �أمريكياً للم�ؤ�س�سات 100 :دوالر �أمريكي
توزيع :النا�رشون
اال�شرتاك ال�سنوي -خارج لبنان
بريوت -امل�شرفية� ،سنرت ف�ضل اهلل -طابق هاتف وفاك�س)00961-1( 277007 - 277088 : خلوي)00961-3( 975033 :
4
للأفراد 100 :دوالر �أمريكي للم�ؤ�س�سات 200 :دوالر �أمريكي
املواد املن�شورة تعرب عن ر�أي كاتبها
حني كنت �أ�شاهد الأ�ستاذ م�سعود الربزاين ،رئي�س �إقليم كرد�ستان العراقي ،وهو يتحدث من وا�شنطن عن حتمية قيام دولة "كرد�ستان امل�ستقلة" ح�ضرت يف ذهني املقارنة الفور ّية بني هذا جتربتي في�صل الأ ّول وجتربة البطل اخلطاب املطابق للم�شروع الإ�ستعماري ال�صهيوين وبني ّ القومي ال�سوري ال�شهيد يو�سف العظمة .تعززت قناعتي ب�أن الأ�ستاذ الربزاين مل ي�ستفد �شيئاً من درو�س التاريخ احلديث...احلديث جداً� ،أي التاريخ الراهن .التاريخ الآن ،الذي نعي�شه. مرة جديدة ،ينخدع من َد ّرج الإ�ستعمار الغربي على ت�سميتهم بـ"زعماء الأقليات يف ال�شرق" بطروحات الغزاة املتوح�شني ،فيتعطل عقلهم وي�ست�سلمون لغرائزهم فينقادون ب�شكل �أعمى خلف م�شاريع الغزاة املتوح�شني ظناً منهم �أنهم ي�ستفيدون من اللحظة التاريخية للعبة الأمم ليحققوا انف�صال "�أقلياتهم" عن �أوطانهم الأم فينكبون �أوطانهم ويقودون �أتباعهم �إىل امل�سلخ الذي ُيعده لهم الغزاة الوحو�ش .هكذا يتخيل له�ؤالء "الزعماء" �أن يف و�سعهم الدخول يف لعبة الأمم اجلهنمية وحتقيق االنت�صارات من خاللها واخلروج منها �ساملني. وللتذكري ،ال بد من الإ�شارة �إىل �أن م�صطلح "الأقليات" هو فربكة من دوائر اال�ستعمار الأوروبية ال ت�ستند �إىل �أي حقيقة جمتمعية علمية ناهيك عن كونها غري موجودة �أ�سا�ساً يف قامو�س تاريخنا احل�ضاري الغني جداً بالتنوع الثقايف والإثني .م�صطلح �أطلقه اال�ستعمار الغربي حتديداً لتمزيق جمتمعنا وتربير التدخل يف بالدنا والفتك بها .هذه هي حقيقة التاريخ املا�ضي واحلا�ضر امل�ستعمر. ففي كل مرة ز ّين هذا اال�ستعمار اللعني ملكون ما من مكونات جمتمعنا الغني بتنوعه الثقايف �أن هذا املكون �سيفوز مبكا�سب �إن هو انخرط يف امل�شروع اال�ستعماري كان امل�صري بائ�ساً ،وا�ستخدم اال�ستعمار هذا املكون ٍ كوقود لتدمري بالدنا وكذب بالطبع على من ي�صدق الوعود .فالتق�سيمات مل ت�شكل يوماً ا�ستقراراً و�آمناً بل م�آ�سي وحروب وخراب. ماهي جتربة في�صل الأول؟
يف ال�ساد�س من �شباط ،1919ح�ضر في�صل على ر�أ�س ٍ وفد �سوري �إىل م�ؤمتر ال�صلح ال�شهري املنعقد يف مبنى وزارة اخلارجية الفرن�سية يف باري�س ظناً منه �أن املبد�أ رقم 12من "مبادىء الرئي�س ويل�سون" والقائل بوجود ت�سهيل ح�صول ال�شعوب على ا�ستقاللها بعد انهيار ال�سلطنة 3
ر�أي
4
�رصاع هوية ووجود
العثمانية .كان في�صل يظن �أن الرئي�س ويل�سون الذي كان حا�ضراً يف تلك اجلل�سة من م�ؤمتر ال�صلح �سيتجاوب فوراً مع الطلب ال�سوري وي�ضطر الفرن�سيون والإنكليز على الت�سليم با�ستقالل �سوريا .و�إذا باملفاج�أة تقع ،فريد ويل�سون على في�صل بقوله":ياح�ضرة الأمري هل تق�صد من طلبكم �أنكم ترغبون يف �أن تنتدبكم دولة واحدة �أم جمموعة من الدول!!!ُ ...ذهل في�صل و�صفعت �آماله و�أحالمه و�أدرك �أن الوعود ال�صادرة عن الدول ،ومنها املبادىء اجلميلة للرئي�س ُ ويل�سون ،ال ُتلزم �إال من ينخدع بها و ُي�صدقها .فكان ما كان و�أتى اجلرنال غورو وحطم فكرة الدولة ال�سورية النا�شئة. �أما جتربة البطل يو�سف العظمة فهي �أول من ُيفرت�ض بها �أن ُتلهم الربزاين وغري الربزاين� .إن رمزنا القومي العظيم يو�سف العظمة الذي ا�ست�شهد من �أجل ا�ستقالل �سوريا وحريتها وحقها يف تقرير م�صريها كان من الإثنية الكردية .ولو ُ�سئل معظم ال�سوريني� ،أبناء �سوريا الطبيعية، هل يعلمون �أن يو�سف العظمة كان من الإثنية الكردية لوجدنا ب�أنهم ال يعرفون ذلك لأن هذا منظري النوع من الت�صنيفات لي�س من عاداتنا وال من ثقافتنا .وكذلك الأمر بالن�سبة �إىل كبري ّ القومية العربية �ساطع احل�صري الذي هو من الأثنية الكردية �أي�ضاً ،فيو�سف العظمة ،الذي كان يتقن اللغة الكردية �إتقاناً كامالً ،مل يكن يفكر باملنطق الأق ّلوي الذي يريد له اال�ستعمار �أن يحب�س نف�سه فيه .ويوم مي�سلون العظيم هو الأ�سا�س يف انطالق الثورة على اال�ستعمار الفرن�سي يف العام ،1925فحتى هذا التاريخ يردد الأحرار الهتاف ال�شهري: ق ُْم من القرب لقد علمتنا يا �صالح الدين طرد الأجنبي مل يفكر �صالح الدين تفكرياً �أق ّلوياً يوم قاد امللحمة الكربى وطرد الغزاة الوحو�ش من بالدنا. ومل يقل �أهل بالدنا يوماً �أن �صالح الدين لي�س رمزاً كبرياً لهم ملجرد �أنه من الإثنية الكردية، . فال واهلل ،ال الأ�ستاذ الربزاين وال غريه يحق له� ،أو ي�ستطيع� ،أن يقطع العالقة الوطنية والقومية التي تربطنا ال ب�صالح الدين وال بيو�سف العظمة �أو �أن مينعنا من �أن نن�شد: ما خطونا خطو ًة �إال ذكرنا مي�سلونا و�سمعنا من فل�سطني نداء ا�سكندرونا... �إن من �أوىل موا�صفات القائد �أن يتعلم الوطنية و�أن يحفظ درو�س التاريخ ال �أن يقع يف املطبات التاريخية ذاتها التي وقع بها غريه فيجلب لوطنه و�أهله امل�آ�سي ويجعل من م�ؤيديه وقوداً يف لعبة الأمم اجلهنمية .من ال يتعلم من درو�س التاريخ ي�ؤذي نف�سه وي�ؤذي من يلحق به. الأ�ستاذ الربزاين يكره العرب ،ورمبا كان من حقه �أن يكرههم .لكنه يف ال�سلوك ،ياللمفارقة، يقتدي بالأعراب بد ًال من �أن يقتدي بيو�سف العظمة �أو �ساطع احل�صري �أو �صالح الدين.
امل�صلحة العربية والركائز الدينية �أو املدنية للحكم د .داود خرياهلل � -أ�ستاذ يف القانون
يعاين العامل العربي من ا�ضطرابات �أمنية ودمار يف احلجر والب�شر ،يف جمتمعات هي من �أكرث املجتمعات عراقة يف التاريخّ . ولعل �أخطر ما يعاين منه هو التم ّزق يف الن�سيج االجتماعي نتيجة منو وانت�شار الهو ّيات الطائفية واملذهبية الذاهبة بوحدته ومناعته. ويعي�ش العامل العربي حالة تخبط و�ضياع ووهن ي�شجع اخل�صوم على ازدرائه ويثري �شهية الطامعني للتالعب مب�صريه. �أنظمة احلكم القائمة تت�سم بغياب مقومات الدولة وم�ؤ�س�ساتها التي ت�ضمن �أمن املواطن وت�س ّهل وحتقق ظروف من ّوه وتط ّوره ،وبه ّوة بني احلاكم واملحكوم ال ّ تنفك تزيد عمقاً وات�ساعاً؛ه ّوة يلعب ا�ست�شراء كا�سح لآفة الف�ساد دوراً هاما يف تعميقها وتو�سيعها .فمن ال�صعب �أن جند يف دولة عربية وي�ستمد �شرعية حكمه من �إرادة �شعبية جت ّلت من خالل حاكماً ميثل طموحات وم�صالح �شعبه ّ ملفهوم م�ؤ�س�سات د�ستورية تتوافر فيها �ضمانات احلر ّية والنزاهة .ويعي�ش العامل العربي تق ّل�صاً ِ ي�شج ُع على تنمية العقل العلمي والثقة بقدرة الإن�سان لي�س فقط على فهم جمتمعه احل ّرية الذي ّ و�إمنا على عالج علله وتطويره .ولذلك نرى �أ ّنه بالرغم من توافر �إمكانيات اقت�صادية هائلة ،تبقى جمتمعات العامل العربي من � ّأقل املجتمعات تنمية اقت�صادية ،وم�ؤ�س�ساته العلمية وال�سيا�سية واالجتماعية من �أكرث امل�ؤ�س�سات تخ ّلفاً. امللحة يف الإ�صالح ال�سيا�سي وامل�ؤ�س�سي ال�سائدة هناك ما يربر النقمة ال�شعبية العارمة ،والرغبة ّ يف معظم املجتمعات العربية التي �أ�صبحت دو ًال م�ستق ّلة� ،إن مل تكن �سائدة يف جميعها .فالدولة احلديثة ،والتي تعرف بالدولة القومية وتتم ّيز باحلكم ذي الركائز املدنية،قد ف�شلت يف �أن ّمتد لها جذوراً يف � ّأي من هذه الدول ،و�إن اختلفت درجات الف�شل من دولة اىل �أخرى .فمن ال�صعب الإثبات �أن مق ّومات الدولة احلديثة ،من م�شاركة �شعبية فعلية يف احلكم ،وانت�شار ثقافة حكم القانون ،مبا يف ذلك التزا ُم مبد�أ ف�صل ال�سلطات ،واحرتام احلقوق واحلر ّيات الأ�سا�سية ،هي من �سمات احلكم يف �أية دولة عربية .و�أزعم �أن الف�ساد ،وبخا�صة الذي رافق تنامي الرثوة النفطية وتوظيفها يف اال�ستيالء على النفوذ ال�سيا�سي ،و�شراء الذمم ،وا�ستغالل الفقر واجلهل لدى �شرائح 5
�رصاع هوية ووجود
وا�سعة يف املجتمعات العربية ،قد �ساهم ب�شكل ف ّعال يف �إف�شال م�ؤ�س�سات احلكم الر�شيد وتعاظم النقمة ال�شعبية وتو�سيع اله ّوة بني احلاكم واملحكوم. ونالحظ �أ ّنه مع تنامي الرثوة النفطية ،بد�أً من �أوائل ال�سبعينيات من القرن املا�ضي� ،أخذ ما امل�صدرة للنفط� ،أوكر ّدة فعل ُيعرف بت ّيار الإ�سالم ال�سيا�سي ينمو ،وبخا�صة برعاية بع�ض الدول ّ للف�ساد والظلم ال�سائدين يف هذه الدول .ومع من ّو الإ�سالم ال�سيا�سي� ،أخذ اخلطاب القومي العربي امل�صدرة للنفط يف اجلزيرة العربية مل تكن يوماً من �أن�صار باالنح�سار والأفول� .صحيح �أنّ الدول ّ ولكن امل�س�ؤولي َة عن تق ّل ِ�ص هذا اخلطاب تعود بالدرجة الأوىل �أو م�ؤيدي اخلطاب القومي العربيّ ، للأخطاء والتجاوزات اجل�سيمة التي ارتكبتها الأحزاب واحلركات القومية ،ويف طليعتها ما ارتكبه متقدمة من حزب البعث احلاكم يف كل من �سوريا والعراق .واخلطاب القومي الذي بلغ درجة ّ الن�ضج يف فرتة التحرر من اال�ستعمار وبناء دولة اال�ستقالل ،تراجع وتق ّل�ص يف العقود الأربعة املا�ضية لهزالة وتق�صري حامليه� ،إن جلهة تطويره �أو النجاح يف ن�شره ،ف�ض ًال عن حماربته دول ّياً و�إقليمياً وعرب ّياً. �إزاء التململ ال�شعبي والنقمة على الظلم والف�ساد ،يعلن النا�شطون من َح َم َلة خطاب الإ�سالم ال�سيا�سي� ،أن ما تعاين منه املجتمعات العربية ،ال عالج له �سوى بالعودة اىل ما يعتربونه �إلتزاماً ب�أحكام ال�شريعة ،واالنعتاق من معايري الدولة احلديثة يف احلكم التي هي دخيلة على الثقافة واملعتقدات العربية ،ويعملون بو�سائل خمتلفة لتحقيق ذلك .فمنهم َمن يحمل خطاباً تكفري ّياً متز ّمتاً ويرى َّ احلل يف العنف والتخ ّل�ص مِن كل َمن ال ي�شاركه الر�أي ويعلن له الوالء .ومنهم َمن هو � ّأقل تط ّرفاً يف العمل على �إلغاء الآخر ولك ّنه يرى يف التزام ما يعتربه �إرادة �إلهية يف احلكم �ضرورة واجبة. أتفح�ص مالءمة كل من نظام احلكم ذي الركائز الدينية ،ونظام احلكم فيما يلي �سوف �أحاول �أن � ّ يتحمل الإن�سان م�س�ؤولية كاملة يف اختيارها ،ملا �أعتربه م�صلحة عربية ،وهي ذي الركائز املدنية والتي ّ بالدرجة الأوىل امل�صلحة يف الوحدة التي هي الأ�سا�س يف ق ّوة املجتمع ،و�أمنه ومناعته ،وامل�صلحة يف التنمية االقت�صادية التي تنعك�س خرياً على الإن�سان واملجتمع ،و�أخرياً حتقيق امل�شاركة ال�شعبية يف احلكم ب�شكل ّميكن الإن�سان العربي من تفعيل جميع طاقاته الإنتاجية واخللاّ قة� ،أي بلوغ درجة راقية من احلكم الدميقراطي. �إنّ ال�شريعة ،كما يراها �أ�صحاب النظرية التقليدية من الفقهاء ،هي �إرادة اهلل املنزلة ،وهي �سابقة تتوجه به .والوحي املن َزل هو احلقيقة بتمامها، للدولة الإ�سالمية ِّ وموجهة للمجتمع الإ�سالمي وال ّ وهو �صالح ّ لكل زمان ومكان ،وللخليقة جمعاء .لذلك ف�إنّ القواعد امللزمة التي م�صدرها ال�شريعة تبدل الوقائع والظروف .ويرى دعاة املذاهب ال�سلفية �أنّ الواقع ُيقا�س ال ميكن تبديلها ،ح�سب ّ الن�ص .ولذلك على ال�سلطات ال�سيا�سية والأفراد �أن يعبرّ وا عن �إميانهم بالن�سبة للنموذج املث ّبت يف ّ 6
بجهودهم الدائمة يف ان�سجام ما يقومون به من �أعمال مع الن�ص القر�آين. فالوحي القر�آين يعترب حقيقة �أبدية ثابتة غري قابلة للتعديل ،وتطال مرافق احلياة كافة .فهي و�سيلة اهلل حلكم العامل .ويعترب �أبو العالء املودودي ،وهو فقيه باك�ستاين كان له ت�أثري كبري على َح َم َلة اخلطاب الأ�صويل� ،أنّ �سيادة اهلل على �سلوك الإن�سان حترم الإن�سان من ح ّرية الإرادة. باملقابل ،ف�إنّ هناك عدداً من الفقهاء ّ واملفكرين الإ�سالمني الع�صريني الذين يرف�ضون النظرية امل�ستجد من الوقائع التقليدية .فهم يعتربون �أنّ لل�شريعة من املرونة ما يجعلها قابلة للتك ّيف مع ّ والأحداث .ف�أ�صحاب النظرية احلديثة من الفقهاء يعتربون �أنّ �إرادة اهلل مل ي َعبرّ عنها �إطالقاً ب�شكل جامد و�شامل ،كما يزعم �أ�صحاب النظرية التقليدية .ولك ّنها �أتت ب�شكل مبادئ عامة فيها املتبدل من الظروف والأحوال. من املرونة ما يجعلها قابلة للت�أويل والتطبيق مبا يتالءم مع ّ وح َم َلة النظرية التقليدية يف الفقه ،وما يقول به هناك اختالف ّ جوهري بني ما يقول به دعاة َ لكن ما جرى ويجري يف العامل العربي ،وبخا�صة االنت�شار الوا�سع �أ�صحاب النظرية احلديثةّ . للفكر الو ّهابي واحلركات الأ�صولية والدعم املادي والإعالمي املتوافر لهذا الن�شاط ،وال نن�سى الدور الذي لعبته وتلعبه باك�ستان يف ذلك ،وبخا�صة رعايتها لطالبان ،كل ذلك ال يوحي بانح�سار النظرية التقليدية مل�صلحة النظرية احلديثة. جميع الأديان هي من املك ّونات الثقافية الهامة يف املجتمعات التي تعتنقها .فالدين يخلق مناذج مناذج ال ميكن اخرتا ُقها بالتجارب هي لي�ست انعكا�ساً للواقع و�إنمّ ا مناذج لتكييف الواقع .وهذه ُ احل�سية و�إمنا فقط من خالل الت�أويل والتف�سري .والدين يحتوي مفاهيم عامة للوجود هي جوهرية ّ بالن�سبة للم�ؤمن يف جماعة دينية مع ّينة. احل�سية ومبا �أنّ املفاهيم والرموز الدينية ال ميكن اخرتاقها وفهمها عن طريق �إخ�ضاعها للتجارب ّ والعلمية ،و�إنمّ ا من خالل الت�أويل والتف�سري ،ف�إننا نرى دور الإن�سان يف تكييف املفاهيم الدينية و�إخ�ضاعها ملحدودية فهمه ،على ال ّأقل فيما يتع ّلق بت�أثري الدين على ال�سلوك الب�شري وخلق الثقافة االجتماعية .فمن غري املعقول ،مث ًال� ،أن يكون االختالف و�أحياناً التناق�ض يف الت�أويل والتطبيق للمفاهيم الدينية واحلقائق القطعية التي ّتدعيها خمتلف املدار�س الفقهية والفرق الدينية ،من �سلفية تكفري ّية جتيز قطع الر�ؤو�س و�سبي الن�ساء وتدمري معامل احل�ضارة ،اىل تلك التي ترى يف الإ�سالم الدين ال�سمح الرحوم الذي �أنزل هداية للإن�سانية جمعاء ،هي جميعها انعكا�س لإرادة اهلل الواحد الأحد فيما �أنزل .و�أن تكون جميع املذاهب ال�س ّنية وال�شيعية وجميع الفرق الدينية التي ّتدعي الإ�سالم ،على ما بينها من اختالف وتناق�ض ،هي التعبري الدقيق عن م�شيئة اخلالق يف فهم ماه ّية الإ�سالم .وما ُيقال يف الإ�سالم ينطبق على امل�سيح ّية تاريخ ّياً ورمبا ب�شكل أ�شد .فاحلروب الدينية بني فرق دينية ا ّدعت امل�سيحية احلقّة د ّمرت �أوروبا لعقود طويلة ،وق�ضت � ّ على �أجيال من �شبابها ومل تنته �إلاّ بعد اتفاقية و�ستفاليا ،يف القرن ال�سابع ع�شر ،التي �ساوت يف 7
�رصاع هوية ووجود
حداً لتدخل احلقوق والواجبات بني �أفراد املجتمع ،بقطع النظر عن انتمائهم الطائفي ،وو�ضعت ّ ال�سلطات الدينية يف �ش�ؤون احلكم. ي�ستظل الدين هو �أنّ الإن�سان يلعب دوراً �أ�سا�سياً ّ وما جتدر مالحظته يف اخلطاب ال�سيا�سي الذي يف تقرير وظيفة الدين يف حكم املجتمع ،لكن خالفاً ملا هو احلال بالن�سبة مل�ساءلة وحما�سبة و�إقالة �صاحب القرار يف احلكم املدين ،ف�إنّ حامل اخلطاب ال�سيا�سي الديني ،مهما كان حمدود القدرات الفكرية ،كثري الأخطاء والأ�ضرار فيما يدعو �إليه ،ف�إ ّنه يعطي خطابه قد�س ّية ونف�سه ع�صمة من اخلط�أ وح�صانة من امل�ساءلة .فهو ناقل مل�شيئة اهلل ع ّز ّ وجل. ّ التحديات التي تواجه َح َم َلة خطاب احلكم ذي الركائز الدينية ،يف جمتمع تعددت ولعل من �أكرب ّ حمدد التوحد حول ت�ص ّور ّ فيه املذاهب والطوائف وين�شد الوحدة بني جميع مك ّوناته الب�شرية ،هو ّ ومتفق عليه للقواعد واملبادئ والت�شريعات التي يجب اختيارها حلكم املجتمع .الفئات التي حتمل اخلطاب الديني وتعار�ض الواقع الكا�سح للحكم املدين يف العامل العربي ،والذي �أ�صبح من �سمات احلكم يف العامل �أجمع� ،إنمّ ا تعاند واقعاً با�سم تراث مناق�ض للواقع و�سابق له .ال ب�أ�س هنا بالعودة ،ولو باقت�ضاب �شديد ،اىل من�ش�أ احلكم املدين يف العامل العربي لنكون على ب ّينة من الواقع الذي نحن فيه ونبغي عالجه. ح ّتى منت�صف القرن التا�سع ع�شر ،كان العامل العربي ّ يغط يف �سبات عميق علم ّياً و�سيا�سياً وح�ضار ّياً ،وكان يف معظم �أقطاره جزءاً تابعاً لل�سلطنة العثمانية خا�ضعاً لأدوات احلكم فيها التي �أ�سا�سها �سلطة ا�ستبداد ّية مطلقة تربطها بج�سمها عالقة تقرير و�إلزام مطلقني ،وهذا ال يناق�ض ما قالت به غالبية الفقهاء الإ�سالميينّ . وال�سلطنة العثمانية ،وح ّتى �أنظمة اخلالفة الأخرى التي عرفها العرب ،قبل �أن يخرج احلكم من �أيديهم ،هي �سلطة ذاتية ال تعرف الدميومة �إ ّال لر�أ�سها �أو ت�سل�سل ر�ؤ�سائها بالأ�صالة �أو بالتغ ّلب. واحلجاب فهم طارئون مع ّر�ضون يف كل حلظة للت�سريح من اخلدمة �أو �أ ّما �أدواتها اليومية كالوزراء ّ القتل. التح ّول الهام الذي ح�صل مل�صلحة احلكم املدين يف املناطق العربية اخلا�ضعة للحكم العثماين جاءت به دولة التنظيمات العثمانية يف القرن التا�سع ع�شر .فدولة التنظيمات تختلف عن جميع �أنظمة احلكم ال�سابقة لها ب�أ ّنها رمت �إىل اخرتاق املجتمع وهدفت ايل حتويله تبعاً لأفكار الدولة املهمة احلديثة ذات الهيمنة الثقافية وال�صلة ال�سيا�سية مبواطنيها ،وكان و�سيلتها يف تنفيذ هذه ّ �إدخال �إ�صالحات جوهرية يف جمايل الرتبية والقانون وعلى �أ�س�س جديدة خارجة عن �سلطة ما �سلف من م�ؤ�س�سات قام عليها �أرباب الهيئة الق�ضائية الدينية. نخب عربية بالفكر ال�سيا�سي الأورو ّبي ،وامل�ؤ�س�سات العلمية والقانونية وقد كان الحتكاك ٍ 8
جداً يف ما ُعرف بع�صر النه�ضة العربية ،ويف عمل ّية التح ّول التي رافقت عمل الأورو ّبية� ،أثر هام ّ دولة التنظيمات وبخا�صة يف جمايل التعليم والقانون .ومبا �أنّ القانون هو من �أفعل و�أرقى و�سائل التغيري ال�سيا�سي واالجتماعي ،فقد كان للتح ّول القانوين والق�ضائي يف ظل دولة التنظيمات ،دور جداً يف �إدخال قيم وم�ؤ�س�سات الدولة احلديثة وتهمي�ش �سلطة امل�ؤ�س�سات الدينية. هام ّ ّ م�ستقل وخارج عن �سلطة الهيئة الق�ضائية الدينية ،ويف تب ّني فقد ظهر ذلك يف �إن�شاء جهاز ق�ضائي قوانني �أ�سا�سية ذات �أ�س�س منف�صلة متام االنف�صال عن علم واجتهاد الهيئة الدينية وتراثها .وكانت هذه القوانني يف كثري من بنودها تختلف ،و�أحياناً تتناق�ض ،مع �أحكام ال�شريعة. فقد �أخذ قانون العقوبات العثماين للعام ( ،1919والذي اعتمد قانون العقوبات الفرن�سي ب�صورة رئي�سية) ،ك�أحد م�صادره الأ�سا�سية مببد�أ "ال جرمية وال عقوبة بال ن�ص" .ثم �ألغى عقوبة الرجم يف الزنى ،وقطع اليد يف ال�سرقة ،و�ألغى الر ّدة كجرمية ،متيحاً ،ولأول مرة يف تاريخ الإ�سالم� ،إحدى ال�ضمانات الالزمة لتقرير احلر ّيات الأ�سا�سية. أهم مل�صلحة احلداثة واحلكم املدين ،الذي ح�صل يف ّ ّ ظل دولة التنظيمات ،هو ولعل التح ّول ال ّ ُ التط ّور الأ�سا�سي الذي �أدخل على برامج التعليم والرتبية وذلك يف بناء املدار�س ودور العلم، ويف �إدخال العلوم الطبيعية والريا�ضيات و�سواها من املواد نق ًال عن برامج املدار�س ودور العلم الأوروب ّية ،مواد مل يكن لها وجود يف برامج التعليم يف العامل العربي التي كانت يف جمملها تتمحور حول تدري�س اللغة العربية والعلوم الدينية. دولة التنظيمات �أورثت فاعل ّيتها احلداثية ملا تالها من دول يف فرتات اال�ستعمار واالنتداب واال�ستقالل ،وكانت الرتبية وامل�ؤ�س�سات القانونية من الأدوات الأ�سا�سية يف عقلنة احلياة وعلمنتها حتت رعاية الدولة ،مدفوع ًة مبنطق ي�سم جميع الدول احلديثة .فجاءت الدولة العربية ن�ص بع�ض الد�ساتري على كون الإ�سالم دين الدولة ،ومل بعد اال�ستقالل مدني ًة بامتياز ،بالرغم من ّ يكن لهذا الن�ص �أي واقع فعلي �أو ت�أثري هام. لي�س العامل العربي مر َت َهناً بالتجربة الأوروبية ،و�إن كانت هذه التجربة حم ّركة للتاريخ احلديث. وهو لي�س ملزماً حدود جتاربها التاريخية .لك ّنه جزء من م�شروع تاريخي كوين يتجاوز حدود الغرب .م�سرية التاريخ الكوين �آيلة اىل عقالنية مدنية .وم�سرية التاريخ االجتماعي والثقايف العربي حمكومة بهذا امل�سار ،على الرغم من ال�صراعات الطبيعية التي ت�ستثريها هذه امل�سرية مع القوى التي ترى م�صلحة لها يف ا�ستغالل الدين وامل�ؤ�س�سات الدينية. لقد اخرتقت الثقافة العقالنية املدنية ،من خالل دولة التنظيمات وما تالها و�أخذ عنها من حممد علي يف م�صر من تطوير وحتديث مل�ؤ�س�سات دول ،املجتمع العربي التقليدي .وما قام به ّ الدولة كافة جدير باملالحظة واالهتمام من قبل ّ كل من يرغب االطالع على الدوافع والإجنازات 9
�رصاع هوية ووجود
التي حققها تب ّني م�ؤ�س�سات وقيم الدولة احلديثة .وكان ّ كل ذلك تعبرياً عن التف ّوق احل�ضاري والتاريخي لثقافة الدولة احلديثة على ثقافة املجتمع التقليدي ،والرتقاء تنظيماتها على تنظيماته، ولتقدم عامليتها على حمل ّيته ،وملواءمة مرجع ّيتها الفكرية والعلمية لتط ّور الع�صر. ّ وقد كان ّ لكل ذلك �أث ٌر ها ٌم على احلقبة الوطنية ودورِها يف التح ّرر من اال�ستعمار الأجنبي ،والتي امتازت بثقافة مدنية علمانية ،فانت�شرت مبادئ �سيا�سية ليربالية وقومية مع بوادر انت�شار للمارك�سية، وانت�شر االهتمام بالعلوم والأبحاث العلمية كافة. واجلدير بالذكر هو �أنّ �إ ّبان فرتة التحرر من اال�ستعمار ،مل يكن التط ّرف الإ�سالمي اخليار التلقائي والطبيعي للعرب وامل�سلمني ،بل �إنّ اخلطاب القومي هو الذي كان �سائداً والقوم ّيون هم الذين قادوا التجمعات العربية �إىل اال�ستقالل ،ولي�س الدين واحلركات الدينية .كان القوميون �آباء الوطنية ّ لعقود وكانت الأنظار تتجه نحوهم .مل يكن ه�ؤالء القوميون علمانيني مثل �أتاتورك ،ولك ّنهم مل يلج�أوا �إطالقاً اىل اخلطاب الديني .فدولة اال�ستقالل كانت مدنية الأ�س�س والقوانني بامتياز، وكانت كذلك حا�ضنة للحرية الدينية وحامية لها .ونحن اليوم نرى العامل العربي يتخذ وجهة تراجعية معاك�سة للتاريخ فيها خروج للثقافة الدينية عن هام�شيتها التاريخية يف القرن الع�شرين، وحماولتها تب ّوء مواقع مركزية يف ال�سيا�سة والثقافة العربية وا�ستثناء ما عداها ،ومنها حت ّول الدولة عن موقع التف ّوق على املجتمع التقليدي ،اىل موقع القيادة نحو التخ ّلف وربط الثقافة العربية اجلديدة بالإ�سالم النفطي وو�سائل ات�صاله و�إعالمه ال�ضخمة .ويقيني �أنّ من ّو االقت�صاد الريعي، احلليف الأ�سا�سي يف تنمية �آفة الف�ساد ،يلعب دوراً �أ�سا�سياً يف الدفع �إىل هذا املنحدر. يقول عزيز العظمة ،و�أ�شاركه الر�أي" ،لي�س االرتهان باملواقف الإ�سالمية نادراً يف تاريخنا احلديث، ولو كان متنامياً يف ال�سنوات الأخرية بف�ضل �أ�صداء الإ�سالم ال�سيا�سي ،فهو يف �أغلب الأحوال مرتبط ارتباطاً �أكيداً با�ستقالة العقل التاريخي :فالعقل التاريخي �أ�سا�س ِّ كل ٍّ بنيوي ترق ،وعن�ص ٌر ٌّ جوهري لإقامة جمتمع معا�صر". ("العلمانية من منظور خمتلف"� ،ص)310. �أرجو �أن ال يخامر �أحداً ٌّ �شك يف احرتامي وتقديري للأديان جميعاً ،وبخا�صة الدين الإ�سالمي. ف�أنا ال �أرى ع ّلة يف الإ�سالم �أو يف �سواه من الأديان �إطالقاً ،و�إمنا يف الذين ي�ستغ ّلون الدين وي�أ ّولون تعاليمه ،قو ًال و�سلوكاً ،مبا ال يعود بخري على امل�سلمني وغري امل�سلمني ويف �أحيان عديدة مبا ي�ش ّوه �صورة الإ�سالم يف �أذهان عقالء الب�شر. فكما �أنّ للدين ت�أثرياً بالغاً يف �سلوك الإن�سان وتكييف الثقافة االجتماعية ،كذلك للإن�سان ت�أثري هام يف تظهري ال�صورة ،وتقرير الدور الذي يلعبه الدين يف املجتمع .فاملجتمعات احل ّية املبدعة حي مبدع ،واملجتمعات التي ال حياة فيها تنعك�س يف دين ال يتط ّور ،ويثور تنعك�س يف دين ّ على ّ كل تط ّور .فلو نظرنا �إىل من�ش�أ الفرق ال�سلفية التكفريية ،والتي تعتمد العنف والإرهاب 10
و�سيلة لبلوغ �أهدافها ،نرى �أنها انطلقت من جمتمع هو من �أكرث املجتمعات العربية تخ ّلفاً وف�ساداً وتع ّلقاً بتقاليد بدائية ،بالرغم من ثروة طائلة و�إمكانيات ما ّدية هائلة .وهي من �أق ّلها قبو ًال بامل�شاركة ال�شعبية يف احلكم ،واحرتام حقوق الإن�سان ،و�إر�ساء قواعد العدالة وم�ؤ�س�سات احلكم الدميقراطي وقيمه .والفرق التكفريية هي و�سائل متزيق للن�سيج االجتماعي العربي ،ومن موانع الوحدة التي فيها ق ّوة املجتمع ومناعته .ميكن �أن نالحظ بدقّة �أنّ اخلطاب الديني ال�سيا�سي يتناق�ض مع اخلطاب القومي العربي الختالف جوهري حول مفهوم الأ ّمة يف اخلطابني .ولأنّ منوذج املجتمع القومي مبني على فر�ض ّية �أ ّنها ت�شكل �أ ّمة جتمعها قوا�سم م�شرتكة وقيم ولغة تربر وجودها والدولة القومية ٌّ أهم مميزات اخلطاب القومي هو العمل من قبل َح َم َلة هذا اخلطاب، كدولة م�ستق ّلة .ف�إنّ من � ّ �شرائح املجتمع جميعها ،وخلقِ ثقافة وكذلك �سيا�سة الدولة القومية ،على تنمية هو ّية ّ ت�شد �إليها ِ م�شرتكة تربط جميع املك ّونات االجتماعية .فعندما يكون عنا�صر الدولة القومية غري متوافر ب�شكل جازم لدى بع�ض ال�شرائح االجتماعية ،ماقد ي�ؤثّر على وحدة املجتمع وتط ّوره ،تلج�أ الدولة القومية موحدة اىل تب ّني �سيا�سات ت�ضمن توافرها ،ك�أن تفر�ض برامج خا�صة لتعليم اللغة� ،أو فر�ض مناهج ّ يف مراحل التعليم االبتدائي و�سواها .بينما ع ّلمتنا التجارب يف العامل العربي�أن انت�شار اخلطاب ال�سيا�سي الديني َينز ُِع اىل تفكيك املجتمع �إىل طوائف ومذاهب و�أديان تودي بوحدته وتغري الأطراف اخلارجية ذات امل�صالح املعادية للم�صلحة العربية لزرع الفنت وح�صاد ريعها. والأد ّلة على ذلك يف الزمن الذي نعي�ش فيه تكاد ال حت�صى .ففي العراق مل يفعل �سالح اجل ّو والق ّوات الأمريكية ما فعله اخلطاب الديني املذهبي يف تفكيك املجتمع والق�ضاء على وحدته ومناعته ،ومتكني �أطراف خارجية من بلوغ م�آربها فيه .واخلطاب الديني املذهبي هو ال�سالح الأفتك يف احلرب الدائرة يف �سوريا وعليها. تهدد وحدة املجتمع ولو حاولنا القيام بعمل ّية م�سح للدول التي تعاين من ا�ضطرابات �أمنية ّ و�سالمته ،و�أمع ّنا النظر يف �أدوات العنف والدمار الداخلية واخلارجية ،وو�سائل التفكك االجتماعي بوجه عام ،لوجدنا ما يلي: ملهماتها لي�س بني القوى الفاعلة على الأر�ض ،والقوى الراعية لها متوي ًال وت�سليحا وت�سهي ًال ّ التدمريية ،من يهدف �إىل�،أو ّيدعي القيام مبا يخدم ،م�صلحة عربية ،ناهيك ب�أنّ ما يقومون به فع ًال يخدم يف معظم الأحيان م�صلحة �إ�سرائيلية من دون �أدنى ّ �شك .و ُتظهر �إ�سرائيل تقديراً لهذه فتقدم خدماتها ال�صح ّية والع�سكرية لإجناحها. اجلهود ّ معظم� ،إن مل يكن جميع القوى التي جل�أت اىل العنف� ،أكانت داخلية �أم م�ستوردة ،تعمل حتت مذهبي ال عالقة له مبطالب وبراجمها من خطاب ديني وت�ستمد �شعاراتِها راية دينية مذهب ّية، ّ َ ّ و�أماين ال�شعوب يف الإ�صالح ال�سيا�سي. الدول اخلارجية ،وبخا�صة الإقليمية ،عربية وغري عربية ،التي ترعى وت�ساعد يف عملية الدمار ،تقوم 11
�رصاع هوية ووجود
من خالل و�سائل �إعالمها الهائلة بن�شر خطاب ديني مذهبي يهدف �إىل متزيق الن�سيج االجتماعي يف الدول املعن ّية ،ويف الوطن العربي على وجه العموم ،وحت�صر م�ساعداتها يف التمويل والت�سليح والتدريب وجتنيد الأجانب وت�سهيل و�صولهم �إىل �ساحات القتال العربية ،بل وحت�صرها باملنظمات التي حتمل خطاباً دينياً مذهب ّياً ،وتعمل من �أجل حتقيق �أهداف م�ستوحاة من هذا اخلطاب. تو�سلت العنف لتحقيق �أهدافها ،من ّيدعي العمل لي�س بني القوى الفاعلة على الأر�ض ،والتي ّ من �أجل حتقيق � ّأي من �أهداف ال�شعوب العربية التي انتف�ضت بغية حتقيق �إ�صالحات جوهر ّية يف احلكم ،الذي تريده دميقراطياً يفر�ض حكم القانون ،وي�ضمن احلقوق واحل ّريات الأ�سا�سية جلميع املواطنني ،ويحارب الف�ساد بفاعلية. ونالحظ كذلك �أنّ املنظمات التي حتمل اخلطاب الديني التكفريي ،ومعظمها من م�شتقّات القاعدة ،والتي تقاتل يف �سوريا والعراق ،ترف�ض �أي ّ حل �سيا�سي للحرب الدائرة وتختار اال�ستمرار يف هدر الدم العربي والدمار ومراكمة امل�آ�سي. جداً �أن جند يف ن�شاط التنظيمات التي حتمل اخلطاب الديني �أو املذهبي م�صلحة من ال�صعب ّ ال�صف �أو االن�صهار االجتماعي� ،أكان على ال�صعيداملح ّلي �أو القومي. عرب ّية فيما يتع ّلق بوحدة ّ وقدم ح ّتى التنظيمات التي ّقدمت خدمات �أمنية ج ّلى ،مثل حزب اهلل الذي قام بجهود ج ّبارةّ ، ت�ضحيات كربى يف حترير لبنان و�ضمان �أمنه من االعتداءات الإ�سرائيلية ،والذي دافع ويدافع عن احلق العربي يف فل�سطني ،وبالرغم من �أ ّنه ال يحمل �أفكاراً تكفريية تدعو �إىل �إلغاء الآخر ،ال بل ّ �إ ّنه �أظهر حكمة فائقة يف العمل على و�أد الفنت الطائفية يف لبنان� ،إلاّ �أ ّنه ب�سبب كونه يعمل حتت مهمة �أطراف دولية و�إقليمية وحم ّلية يف ت�أليب العديد من �س ّنة لبنان راية دينية مذهب ّية قد �س ّهل ّ والعامل العربي عليه ،وا�ستعدائه يف ّ كل ما يفعل ،و�صو ًال �إىل تعميق ال�شرخ يف البنية االجتماعية اللبنانية وتو�سيع اله ّوة املذهبية بني �س ّنة و�شيعة يف العامل العربي. من العلل الأكرث �ضرراً يف اخلطاب الديني هي �أ ّنه يدفع اىل تنمية هو ّيات فرع ّية هي من مع ّوقات من ّو هو ّية وطنية �أو قوم ّية جامعة .فهو على نقي�ض اخلطاب املدين ،الوطني �أو القومي ،يعمل على تفكيك املجتمع .فبينما القومية بطبيعتها هي �إيديولوجية ترتكز على فر�ضية �أنّ والء الفرد إخال�صه للدولة القومية يفوق والءه و�إخال�صه ل ّأي فرد �أو منظومة ب�شرية يف املجتمع ،يعمل و� َ اخلطاب الديني ،كما �شاهدنا ون�شاهد يف العامل العربي ،على تنمية والءات لتنظيمات ،على تتقدم على الوالء للدولة املدنية احلافظة للمجتمع ب�شرائحه الب�شرية كافة، �شكل مذاهب وطوائفّ ، والعاملة على �أمنه ووحدته وحتقيق م�صالح جميع �أفراده. أهم احلاجات الب�شرية� ،أكان علي اخلطاب الديني ال ي�ؤ ّمن حاجة املواطن العربي للأمن ،وهي من � ّ ال�صعيد املح ّلي يف �إطار الدولة الإقليمية �أو على ال�صعيد القومي .بل على العك�س من ذلك فهو التحديات الأمنية، من عوامل ال�شرذمة التي تذهب بق ّوة املجتمع ومناعته وت�ضعفه يف مواجهة ّ 12
ين العقالين بطبيعته، داخلية كانت �أم خارجية .يف حني يعمل اخلطاب الوطني �أو القومي ،املد ّ على جمع وحتفيز جميع طاقات املجتمع للدفاع عن جميع م�صاحله الأمنية و�سواها. وما ُيقال عن اخلطاب الديني والطائفي /املذهبي ب�ش�أن امل�صالح الأمنية العربية ينطبق وربمّ ا ب�شكل أ�شد على امل�صالح االقت�صادية للفرد واملجتمع العربي .فالت�شرذم االجتماعي و�إهمال احللول � ّ القومية ملواجهة التحد ّيات االقت�صادية هو نوع من التغ ّرب عن العقل والعلم وما يفر�ضه املنطق يف بناء اقت�صاد متني ،حيث ت�ستثمر جميع الرثوات الطبيعية والب�شرية املتوافرة يف العامل العربي، وتف ّعل يف خدمة املواطن العربي �أينما وجد. �أ ّما تط ّلع املواطن العربي لالنتماء �إىل جمتمع تحُ فظ فيه احلقوق ومتار�س احلر ّيات الأ�سا�سية من قبل كل مواطن ،جمتم ٌع ي�شعر فيه الإن�سان �أ ّنه �س ّي ُد م�صريه ،قاد ٌر على �إطالق طاقاته اخللاّ قة نحو التط ّور العلمي يف وطنه ،ومفاخرة الأمم الأخرى ،وفر�ض احرتامه عليها جميعاً .فما علمنا و�شهدنا من ّ ي�ستظل الدين ي� ّؤكد لنا �أن ما يدعو �إليه لي�س الطريق قول و�سلوك دعاة اخلطاب ال�سيا�سي الذي اىل ذلك .وال ّبد لنا من مواكبة امل�سار العاملي يف ّ التطور العلمي واالجتماعي وال�سيا�سي ،والتزام منهج عقالين تاريخي يف التفكري. لي�س الهدف �أن نن�سى الدين �أو املذهب �أو الطائفة التي ننتمي �إليها ،ولكن يجب علينا �أن ننظر بدقّة �أكرب �إىل َمن نحن يف �ضوء الواقع الذي نعي�ش فيه .وبالنظر ملا نعاين وما نحن فيه ،تربز �أ�سئلة عدّة هي ال �شكّ موجودة يف ذهن الكثريين م ّنا:كيف �سيكون امل�ستقبل؟ هل �سيكون ا�ستجابة لآمالنا �أو حتقيقاً ملا نعاين من كوابي�س؟ هل �سيكون �صنيعة احل ّرية امل�ستنرية �أم �إنتاج ظالمية العبود ّية واجلهل؟ هل �سنبقى �أ�سرى غرائز بدائية ويبقى العقل ّ معط ًال فينا والربط بني اجلهد والنتيجة مغ ّيباً يف حياتنا؟ ن�ستحق� ،أي امل�ستقبل اعتقادي الرا�سخ هو �أنّ امل�ستقبل لي�س مكتوباً علينا ،و�إنمّ ا هو امل�ستقبل الذي ّ الذي ن�صنعه نحن.
13
�رصاع هوية ووجود
العرب بني �سيا�سة امل�صلحة وم�صلحة ال�سيا�سة د .عاطـف عطيـّه -باحث و�أ�ستاذ جامعي
[]1
حتاول هذه الورقة �أن تبني العالقة بني ال�سيا�سة وامل�صلحة من حيث هي عالقة مف�صلية ال ميكن من خالل البحث فيها الف�صل بني ال�سيا�سة من حيث هي اتقان فن املمكن يف �سو�س م�صالح النا�س ،منفردين وجمتمعني ،من ناحية؛ واحرتاف العمل مع كل ما يرافق ذلك من املزايا اخللقية العامة ور�سوخ القيم االن�سانية النبيلة ،على ت�أمني امل�صالح الوطنية العليا .وامل�صلحة هنا ،تظهر على �أنها نوع من املواءمة واملالءمة بني ت�أمني م�صالح النا�س وامل�صلحة الوطنية العامة .ومن نافل القول ،الت�أكيد �أن ت�أمني امل�صلحة الوطنية العليا مبعزل عن ت�أمني م�صالح النا�س �ضرب من الهرطقة ال�سيا�سية تو�صل �إىل اال�ستبداد والطغيان با�سم املحافظة على امل�صلحة العامة .كما �أن ت�أمني م�صالح النا�س ،منفردين وجمتمعني ،دون االهتمام بت�أمني امل�صلحة الوطنية العليا �ضرب من ا�ستغالل النا�س للدولة واملجتمع تو�صل الدولة واملجتمع �إىل الفو�ضى واال�ستغالل ،وتزايد حدة التفاوت االجتماعي ،وفتح الأبواب على النزاعات والفو�ضى يف الأوجه كافة. بهذا املعنى ،تلتقي م�صلحة ال�سيا�سة من حيث هي التعبري عن امل�صالح العليا للمجتمع مع �سيا�سة امل�صلحة من حيث هي ت�أمني امل�صلحة العامة ،م�صلحة املجتمع وم�صلحة الدولة .وبهذا املعنى، �أي�ضاً ،تتناق�ض م�صلحة ال�سيا�سة مبفهومها وجتلياتها املبينة �أعاله مع �سيا�سة امل�صلحة يف حال تعبريها عن م�صلحة احلاكم باعتباره ميثل م�صلحة املجتمع والدولة معاً .فتكون ال�سيا�سة هنا على ال�ضد مما يفعله احلاكم مبحاولته اخت�صار املجتمع والدولة يف �شخ�صه ،وبالعمل على �إدغام م�صلحة ال�سيا�سة ب�سيا�سة امل�صلحة ال�شخ�صية واملنفعة الفردية.
15
�رصاع هوية ووجود
[]2
يف هذا الكالم العام ،تظهر العالقة بني ال�سيا�سة وامل�صلحة يف �أوجه خمتلفة .ومن حماذير اختالل هذه العالقة ،ما ميكن �أن يو�صل� ،إما �إىل اال�ستبداد والطغيان ،با�سم احلفاظ على امل�صلحة الوطنية العليا املندغمة هنا يف م�صلحة احلاكم� ،أو �إىل الفو�ضى با�سم احلرية املتفلتة من قيود ال�سيا�سة وم�صلحتها ،باعتبارها فن املمكن وفن ت�أمني امل�صالح الوطنية. �إذا ت�أملنا يف �أو�ضاعنا احلا�ضرة على �صعيد العامل العربي ،وعلى �صعيد كل دولة عربية على حدة، نت�ساءل ،كيف ميكن ر�ؤية العالقة بني ال�سيا�سة وامل�صلحة؟ وكيف ميكن �أن تكون هذه العالقة يف حال متت املالءمة واملواءمة بني م�صلحة كل دولة عربية على حدة من الوجهة املعيارية� ،أي يف ما ميكن �أن تكون عليه هذه العالقة ،وبني امل�صلحة العربية العليا معيارياً� ،أي يف ما ميكن �أن تكون؟ قبل البحث معيارياً يف ما ميكن �أن تكون عليه هذه العالقة حملياً وعربياً ،ال بد من النظر �إىل الو�ضع ال�سيا�سي العربي احلايل ،حملياً ،وعلى امل�ستوى العام. ال ميكن ،يف �أي حال من الأحوال� ،إخفاء الرتدي ال�سيا�سي العربي عن �أي كان .وال يقت�صر هذا الرتدي على العالقات ال�سيا�سية بني الدول العربية� ،إن كان يف ثنائياتها� ،أو يف الأكرث .والعالقات االيجابية� ،إن وجدت ،فهي ظرفية و�آنية و�شخ�صانية �أكرث مما هي مبنية على �أ�س�س متينة و�سليمة. وميكن لهذه العالقات �أن تتقوى �أو تنهار ،ح�سب العالقة التي تربط بني ر�أ�سي الدولتني� ،أو لظرف طارئ ّ متـنها مع طرف ثالث ،دون تنا�سب بني الطرفني� ،أو عمل على عكر العالقات� ،أو ّ موجة ال تر�ضي �أحدهما بالدرجة نف�سها لر�ضى الآخر� ،أو غري ذلك .هذا على امل�ستوى العام� .أما على امل�ستوى اخلا�ص ،ف�إن العالقة ال�شخ�صية التي تربط احلاكم باملحكوم ،تعمل على ت�أبيد حكم احلاكم وعلى ت�أبيد خ�ضوع املحكوم ،وعلى دمج جمتمع املحكومني بر�أ�س الدولة. هنا تظهر �سيا�سة امل�صلحة ب�أو�ضح �صورة� .صورة احلاكم الذي ال يحده �أفق يف النظر اىل احلكم و�إىل مدة احلكم .وال يرى �إال الزمن الذي يقي�س مدة �أب ّوته ملجتمع املحكومني .والأبوة ال تخ�ضع للزمن بل الزمن يخ�ضع لها .وال يظهر الزمن �سطوته �إال باملوت� ،أو بتمرد "الرعية" .وتعود الأبوة ّ لتطل بر�أ�سها با�ستمرار الأب باالبن �أو ال�شقيق .ويعود الزمن �إىل اخل�ضوع ل�سطوة احلاكم. يق�ض م�ضجع احلاكم �صاحب �سيا�سة امل�صلحة ومنتهجها ،املعار�ضة وفكرة تداول �أق�سى ما ّ ال�سلطة .وال يقوى على لفظ كلمة دميقراطية �أو حرية ،و�إن كان يقبل بكلمة امل�ساواة وامل�س�ؤولية، ولكن بال�شكل وامل�ضمون اللذين يجعالن منه الأب الراعي للأبناء على �أن يكونوا �سوا�سية ك�أ�سنان امل�شط يف النظر �إليهم ،ويف التعاطي معهم ،بامل�س�ؤولية الالزمة التي تعطي احلق للراعي يف �صون الرعية .وهو بهذا ،الأكرث دراية ووعياً مب�صاحلهم ،وبتفا�صيل ق�ضاياهم .هم عليهم الطاعة واالمتثال وت�أمني العمل واال�ستقرار ،وهو عليه �صون الرعية وت�أمني امل�صالح العليا للدولة والوطن. 16
هنا تظهر ب�أنقى �صورة امل�صلحة العليا للحاكم باعتبارها امل�صلحة العليا للدولة واملجتمع ،و�أي حترك �أو احتجاج �أو مطالبة :فتنة ،وقبل ن�شوب فتنة الفنت" ،الثورة" ،بوقت طويل. واملحتجني باعتبارهم عاقني. على م�ستوى الداخل ،يتعامل احلاكم مع املعار�ضني �أو املطالبني ّ والعقوق م�صدر الأذى ومنبع اال�ضطراب ومولد الفو�ضى� .إذن على ا َحل ْجر �أن يحمي املجتمع من العاقني ،ويط ّهر الف�ضاء املنقّى من جراثيم العقوق ،و�إن امتلأت زنازين ال�سجون� ،أو ُفتحت �أبواب الهجرة على م�صاريعها. املنقـى هاج�س احلاكم امل�ؤبد ،ومدار اهتمامه ليبقى منقّى .وكل الأجهزة تعمل لتبقي على الف�ضاء ّ هذا النقاء .يتمظهر ذلك يف اال�ستفتاءات والن�سب املئوية .ويظهر على فم احلاكم وامل�ساعدين � َّأي تعار�ض لتوجه احلاكم على �أنه خارجي الهوى والأغرا�ض ،لأن الداخل بيت العائلة الكبري. ٍ واخلارج يبغي تدمري الداخل ،لتحويل هذا الداخل �إىل بوق اخلارج� ،أو مرتع نفوذه وهواه .وال ّ حل يف جتنب �أذاه �إال بج ّز املعار�ضني ،و�إن كانوا من �أقرباء الدم والن�سب .وم�صلحة البالد هنا املخت�صرة مب�صلحة احلاكم ،ت�ضحي باملارقني ،ولو كانوا من �أقرب النا�س. []3
هذا التوجه العام للحاكم واملتبوع ،با�ست�سالم املحكومني ،ي�سهم يف �إيجاد منافذ التدخل من اخلارج جتاه الداخل .كما ميكن للخارج �أن ي�أخذ من ا�ستكانة الداخل وخ�ضوعه ذريعة لتدخله. وغالباً ما يبد�أ هذا التدخل بتوجه �إعالمي مربمج� ،أو بالعمل على توجيه النا�س �إىل التعرف على حقوقهم وواجباتهم من خالل التعاطي مع ال�ش�أن العام� ،إن كان بتو�سل الأحزاب �أو النقابات �أو حقوق اجلماعات� ،إتنية كانت �أو دينية �أو مذهبية �أو جندرية .فيتوجه الن�شاط العملي اليومي �إىل املطالبة باحلقوق امله�ضومة ،وحق التمتع باحلرية يف �شتى مناحيها� ،أفراداً وجماعات .في�صري من املح ّتم ،تالقي مطالب الداخل مع توجهات اخلارج ،حتت عناوين كربى تتعلق بحقوق االن�سان، وممار�سة الدميقراطية واحلرية ،والتعاطي يف �شتى �أمور النا�س مبا يتنا�سب مع توجهاهم ،ومع توجهات املجتمع املدين الذي يعمل على ف�صل املجتمع عن الدولة ،ويطالب الدولة ،وي�ضغط عليها، ويتعاون معها �أي�ضاً ،لت�أمني حقوق املجتمع بكل �أطيافه وم�ؤ�س�ساته وعنا�صره. يف هذا كله ،تت�أمن م�صلحة ال�سيا�سة يف كونها فن تعاطي املمكن ،وفن خدمة الق�ضايا الوطنية. م�صلحة ال�سيا�سة ،باعتبارها العاملة على تو�سيع امل�ساحة امل�شرتكة التي جتمع فئات املجتمع ،وعلى بناء ما يجمعهم ،وي�ؤلف فيما بينهم يف الق�ضايا التي تدل على وحدة االرادة ،ووحدة امل�صري، و�أهمية العي�ش امل�شرتك ،وتنمية روح املواطنية ،وزرع عنا�صر احل�س املدين بالقول واملمار�سة. هذه املوا�صفات جميعها ،ت�شكل العنا�صر الأ�سا�سية املميزة للمجتمع املدين الذي يعمل ،لي�س 17
�رصاع هوية ووجود
فقط على بلورة حقوق النا�س وت�أ�سي�س الوعي بها ،بل �أي�ضاً ،على معرفة الواجبات ،وكيفية ممار�ستها على امل�ستويات كافة؛ منها حرية التعبري ،وممار�سة الن�شاط ال�سيا�سي واالجتماعي، واملطالبة بحقوق النا�س ،والدفع باجتاه العمل على تعميم مفاهيم الدميقراطية واحلرية ،والعمل مبا تتطلبه يف املمار�سة� ،إن كان يف عملية تداول ال�سلطة� ،أو�شرعية املعار�ضة .والغاية النهائية من ذلك كله ،ت�أمني امل�صالح العليا للمجتمع ،وذلك من خالل التعامل مع الدولة ،وبكل �أ�صناف التعامل� ،سلباً كان هذا التعامل �أو �إيجاباً .ذلك �أن الدولة ،باعتبارها دولة ،هي امل�س�ؤولة عن ت�أمني هذه امل�صالح ،مبا يتنا�سب مع املجتمع ،قبل تنا�سبه مع م�صلحة احلاكم. هذا التوجه ي�ؤلف بني الدولة واملجتمع .كما ي�ساهم يف ت�أمني م�صلحة ال�سيا�سة .وباعتباره هذا، ُيبعد �سيا�سة امل�صلحة املرتبطة ب�أهواء احلاكم ومريديه وال�ضاربني ب�سيفه .وي�سد ،بالتايل ،منافذ رياح التغيري التي ميكن �أن ت�أتي من اخلارج ،على غري ما ي�سري فيه �أ�صحاب �إرادات التغيري من الداخل. يف هذا املجال ،ميكن لأ�صحاب �إرادات التغيري من الداخل �أن ي�ستفيدوا مما يقدمه اخلارج، وخ�صو�صاً يف وجهه االعالمي ،من خالل حمل النا�س على الوعي بحقوقهم وواجباتهم، وموقعهم يف عمليات التغيري .فيبقى الداخل ،لذلك ،امل�ستفيد الأول من عمليات التغيري ،و�إن كان مب�ساعدة معلومة من اخلارج ،وبوجهها االعالمي على اخل�صو�ص .فتت�أمن بذلك ،م�صلحة ال�سيا�سة يف الداخل .وتكون ال�سيا�سة بذلك قد �صفّحت نف�سها ،وعملت ،يف الوقت ذاته ،على عدم االجنرار وراء �أهواء اخلارج ونوازعه .وهي املطامع التي تدخل جميعها من باب ت�أمني �سيا�سة امل�صلحة يف تعاطيها مع الداخل العامل على التغيري ،ومن باب ت�أمني م�صلحة ال�سيا�سة يف عالقتها مع ق�ضاياها .امل�صالح نف�سها كانت وما زالت توجه �سيا�سات الدول وتعمل على ت�أمني بحبوحة �شعوبها وا�ستقرارهم ،و�إن كان على ح�ساب م�صالح الآخرين؛ �إذ على ه�ؤالء �أن يفت�شوا عن م�صاحلهم �أي�ضاً. [] 4
يف زمن القهر ،تتالقى م�صلحة ال�سيا�سة على م�ستوى الداخل ،مع �سيا�سة امل�صلحة خارجياً وت�ستتبع هذه تلك ،وتتبادل امل�صالح "م�صاحلها" مبا يرجح كفة اخلارج يف تعاطيه مع الداخل .وهو اخلارج الأقوى والأكرث قدرة على حتديد �آفاق حتركه ون�شاطاته ومربرات تدخله .وال يهم �إذا كانت هذه املربرات ذاتية �أو مو�ضوعية ،طاملا ت�صب جميعها يف خدمة هذا التوجه .فهي بذلك ت�ستفيد من زمن القهر والت�سلط واال�ستبداد ،لتنفيذ ما يخدم م�صلحتها يف ال�سيا�سة متو�سلة نتائج �سيا�سة واملهم�ش واملقموع. امل�صلحة يف تعاطيها مع املقهور ّ يف هذا االطار ،يت�ساوى اتهام العراق بامتالكه �أ�سلحة الدمار ال�شامل ،مع املعرفة الأكيدة لتوجهات ال�شعب العراقي الذي �أنهكه زمن احل�صار والقهر والت�سلط .وهو احل�صار املتزامن مع 18
�إظهار وقوف كل ال�شعب مع احلاكم املحا�صر ،والنا�شئ عن �سيا�سة امل�صلحة .فكان �أن احتل الأمريكيون العراق ب�إ�شراف مبا�شر ،ودون حول �أو قوة ،من الأمم املتحدة خا�صة ،وحتت �أنظار البلدان العربية جمتمعة .وما كان للجامعة العربية �أي دور ،ال يف ال�سلب وال يف الإيجاب .بل كانت �أقرب ما تكون من حالة العجز الكامل وال�شلل التام ،والعتبارات متعددة ،ال جمال هنا للبحث فيها ،وت�ستدعي ،بالتايل ،قو ًال �آخر. يت�ساوى احلدث العراقي يف كل تداعياته ،مع الر�ؤية الوا�ضحة للقهر والت�سلط يف �أكرث من بلد عربي ،ما �أتاح التدخل ال�سافر حتت عناوين متعددة ،منها :الدفاع عن حقوق االن�سان� ،أفراداً وجماعات ،واملطالبة بن�شر الدميوقراطية ،وتداول ال�سلطة ،ويف �أمكنة وجغراف ّيات حمددة دون غريها؛ والعمل على تنفيذها بتو�سل كل ما ميكن من �أ�ساليب ،مثل :حق التظاهر واالعت�صام، والتمرد وحتدي النظام العام ،يف جمتمعات ال تزال غري قادرة على التغيري مبا يتنا�سب مع تطلعاتها، ومبا متتلكه من �أدوات التغيري ،ومن م�شاريع ر�ؤى تغيريية� ،أو م�شاريع ميكن �أن حتل حمل ما هو قائم. []5
تظهر ،من خالل املواجهة بني املجتمع والدولة يف العامل العربي ،ه�شا�شة الدولة واملجتمع معاً. ه�شا�شة الدولة من خالل �سرعة انفراطها يف حاالت التجيي�ش العملي والعاطفي جلماهري النا�س، �شباباً ومثقفني ومظلومني؛ النا�س الذين قلبوا حكاماً ،و�أجربوا ،ويجربون �آخرين ،على التنحي. و�أجربوا ،ويجربون �آخرين ،على الوعد باال�صالحات و�إقامة التغيريات مبا يتنا�سب مع تطلعات النا�س .ولكنهم تورطوا ،وما زالوا يتورطون ،عن وعي منهم وال وعي ،وب�أكرثيتهم ال�ساحقة، والعتبارات متعددة ،يف االنق�سامات الإتنية والقبلية والدينية واملذهبية .ور ّدوا جمتمعاتهم، بتوجههم هذا� ،إىل االنتماءات الأهلية ال�سابقة لوجود الدولة احلديثة� ،أو مظاهرها على الأقل؛ وك�أن كل �أدوات التحديث ورموزها ،كانت تنتظر ا�ستفاقة احل�س الأهلي القبلي والديني والطائفي والإتني واملناطقي لتتنحى ،خملية املكان للقبيلة والطائفة واملذهب والعن�صر واملنطقة .ولنا يف اليمن وال�سودان وليبيا ولبنان وال�صومال والعراق والبحرين و�سورية الأمثلة ال�ساطعة على ذلك. ومل تقع اجلزائر واملغرب والأردن وال�سعودية وبلدان اخلليج يف املحظور� ،إما ب�سبب قوة التما�سك الداخلي� ،أوعجز �أدوات التغيري على فعل ما فعلت يف �أ�صقاع �أخرى ،على الأقل حتى الآن. []6
الو�ضع العربي املرتدي الظاهر للعيان ،يقت�ضي البحث يف ال�سبل التي ميكن �أن ت�ساهم يف عملية التغيري ،وتزيد ،يف الوقت نف�سه ،من متا�سك املجتمعات داخل البلدان العربية .وتعمل كذلك، 19
�رصاع هوية ووجود
على بناء العالقات ال�سليمة فيما بينها ،وعلى �أ�سا�س وعي م�صلحة ال�سيا�سة يف بناء هذه العالقات، تن�سيقاً و تكام ًال� ،أو احتاداً �أو وحدة. من نافل القول الت�أكيد على فائدة هذا التوجه ،ملا له من �أهمية يف �إظهار القوة املت�أتية من هذه العالقات بني البلدان العربية ،وزيادة م�ساحة املوقع يف العالقات الدولية .هذا املوقع هو الذي يعطي االمكانية �إىل اخلارج لينظر بعني مغايرة �إىل الداخل املتكامل� ،أو االحتادي ،مبا يتنا�سب مع ت�أمني م�صلحة ال�سيا�سة للداخل� ،إن كان على م�ستواه اجلامع الوحدوي �أو االحتادي �أو التكاملي، �أو على م�ستواه االقليمي والفردي ،ومبا يتنا�سب مع اخلارج �أي�ضاً. و�إنطالقاً من مقولة "النظر على قدر احلجم" ،مبعنى �أن ال ينظر �أحد �إىل �أحد� ،أو ال يتعامل �أحد مع �أحد� ،إال مبا يتنا�سب مع احلجم والقوة ،ف�إن من م�صلحة ال�سيا�سة يف الدول العربية ،التوجه نحو العمل على ردم الهوة بينها وبني جمتمعاتها ،عرب ت�أمني املزيد من الدميوقراطية ،واحلرية ،وفتح الآفاق الرحبة �أمام تطلعات �شعوبها .ويف هذا االطار ،من الأف�ضل ،بل من ال�ضروري� ،أن ي�أتي هذا التوجه من احلكام �أنف�سهم ،ال من اخلارج ،و�إن كان مب�ساعدة منه �أو مبوجب ن�صيحة� ،أو ن�صائح. و�إال جاء هذا التوجه من اخلارج نف�سه� ،إن كان باملرونة الالزمة� ،أو بالقوة القاهرة ،كما ح�صل� ،أو ميكن �أن يح�صل. هذا الكالم ي�ستدعي العمل على موجة الداخل لبناء االن�سان املواطن ،والعمل على بناء امل�ؤ�س�سات ،على �أي م�ستوى كانت؛ وهي امل�ؤ�س�سات التي ت�سهم يف بناء املجتمع املدين من خالل �آلية عملها ،وكيفية تعاطيها مع االن�سان الفرد واجلماعة ،ومع الدولة �أي�ضاً .ومن نافل القول الت�أكيد على �أهمية ممار�سة الدميوقراطية ،وخ�صو�صاً على امل�ستوى ال�سيا�سي ،وتداول ال�سلطة، وامل�ساواة �أمام القانون ،و�إزالة كل العوائق التي متنع املواطنني من التفاعل ،ومن الرتبية على املواطنية وال�شعور بها وممار�ستها� ،إن كان على امل�ستوى الديني يف حال تعدد الأديان� ،أو على امل�ستوى الطائفي �أو املذهبي يف حال تعدد املذاهب والطوئف �ضمن الدين الواحد� ،أو كان على امل�ستوى الإتني �أو القبلي يف حال تعدد الإتنيات والعنا�صر ،ور�سوخ الع�صبية القبلية �ضمن الدين الواحد �أو حتى الطائفة� ،أو على م�ستوى االختالف والتفاوت االجتماعي واالقت�صادي بني املناطق� ،أو �ضمن املنطقة الواحدة� ،إىل �أي دين �أو طائفة �أو �إتنية انتموا. ال �إمكانية لتنفيذ هذه التوجهات� ،أو العمل عليها� ،إال عند ح�صول القناعة التامة ب�أهميتها على امل�ستوى الفردي� ،أو اجلماعي ،مهما كانت هوية الفرد �أو اجلماعة ،باعتبار �أن هذه التوجهات متثل م�صلحته ،فرداً �أو جماعة ،وتتحقق ،من ت�أمني �سيا�سة امل�صلحة هذه ،م�صلحة ال�سيا�سة ،وعلى ح�ساب �سيا�سة امل�صلحة.
20
[]7
ما �سبق ،يبني كيفية ت�أمني م�صلحة ال�سيا�سة على �صعيد الداخل ،داخل كل بلد عربي .ماذا، �إذن ،على �صعيد العالقات العربية -العربية ؟ وكيف ميكن �أن تكون هذه العالقات؟ من زمان ،ن�سمع بال�سوق العربية امل�شرتكة ،وقبل حتقيق االحتاد الأوروبي بكل مقدماته وتف�صيالته؛ هذا التحقيق الذي مل يح�صل قبل العمل على التن�سيق بني القطاعات االقت�صادية الأولية واالنتاجية .ما يعني �أن مفتاح �أي وحدة �أو احتاد ،على امل�ستوى ال�سيا�سي ،ال بد �أن ي�سبقه تكامل وتن�سيق ،على امل�ستوى االقت�صادي ،مهما كانت ،يف البداية ،درجة تكامل �أو تن�سيق هذا امل�ستوى. ال�ش�أن االقت�صادي هو الذي ُي�شعر االن�سان ،فرداً كان �أو جماعة ،بالفائدة .وي�ساعد على التحفيز والطموح لبناء احلياة املرفّهة والرغيدة .بهذه الفائدة والتحفيز والطموح تتحقق امل�صلحة ،ذاتية كانت �أو جماعية �أو جمتمعية .وبتحقيق امل�صلحة االقت�صادية تظهر فائدة و�ضرورة ت�أمني م�صلحة ال�سيا�سة؛ هذه امل�صلحة التي عليها �أن تعمل على ر�سم ال�سيا�سات املن�سقة واملتكاملة يف العالقات بني البلدان العربية ،مبا يحفظ ا�ستقالل كل منها ،ومبا يبني العالقات ال�سيا�سية الإيجابية بني منازل البيت العربي الواحد ،ويف عالقة البلدان العربية مع اخلارج .هذا ما ي�س ّهل بناء العالقات الإيجابية مع هذا اخلارج ،وانطالقاً من موقع عربي موحد �أو م�ؤتلف ومتكامل .وهذا �أي�ضاً ،ما يحفظ كرامة العرب ويحدد موقعهم يف قلب العامل ،ال على هام�شه .ومن هذا املوقع ،تتحدد توجه حممي وحم�صن من ّ عالقة كل بلد عربي مع هذا اخلارج ،لي�س باعتباره بلداً م�ستفرداً ،بل ّ موحد� ،أو م�ؤتلف ومتكامل .وهذا يعني ،مما يعنيه� ،أن ح�صول ال�ضرر ال�صغري هو بعينه ال�ضرر عربي ّ الكبري ،مهما كان نوع هذه العالقة ،ومهما كانت ت�أثرياتها. حتقيق التكامل االقت�صادي العربي عن طريق توزيع قطاعات االنتاج على البلدان العربية ،ح�سب ما تقت�ضيه اجلغرافية ال�سيا�سية واالقت�صادية واالقليمية �أو ًال ب�أول ،وتبادل املنتوجات بحيث تتيح �إعادة توزيع الرثوة العربية؛ والتخلي عن �سيا�سة التفرد االقليمي اقت�صادياً و�سيا�سياً ،هو �أف�ضل ما ميكن العمل عليه لبناء العالقات العربية العربية ،وال فرق ،بعد ذلك� ،إذا �أو�صلت �إىل االحتاد �أو الوحدة. املفارقة الكربى� ،أن العمل بح�سب هذا التوجه ،بالإمكان توفره عن طريق ن�شاطات اجلامعة العربية التي �أن�شئت على هذا الأ�سا�س ،وللقيام بهذه املهام .واملفارقة الأكرب �أن عمل اجلامعة ّ ين�شل يف حال وجود خالف� ،أو �أزمة ،بني �أي بلد عربي� ،أو �أكرث ،بدل �أن يكون اخلالف حمفزاً للجمع لإزالة الفرقة .ويف حال اال�ستقرار تتحول �أعمال اجلامعة �إىل �سوق للمدائح والأدعية ب�إطالة الأعمار ،وتوزيع بع�ض "املغارم" على الأ�شقاء امللحوقني اقت�صادياً ،واملالحقني �سيا�سياً ،ملغاالتهم يف ارتكاب �سيا�سات امل�صلحة،وبعدهم عن م�صلحة ال�سيا�سة. 21
�رصاع هوية ووجود
التكامل االقت�صادي على هذا ال�صعيد ،املفرت�ض فيه �أن يكون بقيادة اجلامعة العربية ،ال بد �أن ُي�ستتبع بتكامل مبني على العمل لتحقيق التنمية الب�شرية على ال�صعد كافة ،وخ�صو�صاً على �صعيد البحث العلمي ،والعالقة مع املر�أة باعتبارها ن�صف املجتمع ،لأن يف تنميتها ومتكينها تنمية ومتكني املجتمع.
م�ستقبل ال�سيا�سة العربية يف زمن التغ ّول
امليكيافيلية ال�سعودية" :من الأف�ضل �أن تُهاب على �أن تحَُب"
�أحمد عبيد املن�صوري -باحث من الإمارات []8
ال�شعور والوعي بامل�صلحة ،حتى ولو كانا على م�ستوى الفرد يف موقعه يف املجتمع� ،أو يف طريقة التعبريعن وجوده وممار�سته حلق املواطنة على اختالف �أوجهها ،باال�ضافة �إىل موجباتها �أي�ضاً، من�ضافاً �إليهما انخراطه يف العمل� ،أو مل�سه ،وباملح�سو�س ،لفائدة العالقات االقت�صادية العربية املتبادلة� ،أو �إح�سا�سه بقوة موقعه كعربي يف العامل؛ كلها ت�سهم يف �إظهار وحدة التوجه العربي وتعمل على حتقيق طموحات العرب يف التكامل �أو االحتاد �أو الوحدة ،ال فرق. هل تلتقي هنا طموحات الفرد العربي مع طموحات بلدانه؟ هذا هو ال�س�ؤال .واالجابة عنه منوط بالبلدان العربية ،دو ًال وجمتمعات.
تفر�ض �شخ�صية احلاكم اجلديد وميوله �أثرها على �سيا�سة بلده و�صو ًال �إىل انقالب هذه ال�سيا�سة ميتد �إىل �أحياناً وحت ّولها �إىل عك�سها يف البلدان التي يتمتع فيها احلاكم ب�سلطات وا�سعة .هذا الأمر ّ البلدان امل�ؤ�س�ساتية املتقدمة ومنها الواليات املتحدة الأمريكية حيث يدخل الرئي�س حماطاً بفريقه املك ّون من حوايل �ألفي �شخ�ص .هذا الفريق يحدث �أحياناً تغيريات بارزة يف الفرتات املف�صلية، كما حدث يف الفرتات االنتقالية بو�ش الأب /كلينتون ثم كلينتون /بو�ش االبن و�أخرياً؛ بو�ش االبن� /أوباما. هذه مالحظة ال ميكن التغا�ضي عنها يف احلالة ال�سعودية بعد انتقال احلكم فيها �إىل امللك اجلديد، خا�صة �أن اللحظة اجليو�سيا�سية الراهنة مزدحمة بقائمة من املتغيرّ ات الغام�ضة املرتقبة التي �ستجرب اململكة على التعامل معها وفق �أ�ساليب تنا�سب واقع احلال املفرو�ض عرب هذه التغيريات. امللك اجلديد والإرث ال�صعب
متفجرة مل يكن بالإمكان توقعها ،مبا يخفف وقع �أخطاء لقد �شهد العقد الأخري مفاج�آت �سيا�سية ّ ال�سيا�سة ال�سعودية ال�سابقة من دون �أن يق ّلل ذلك �أي�ضاً من وقع الأزمات التي تفر�ض نف�سها على امللك اجلديد .ويف غياب املعلومات الدقيقة نكتفي بالت�سريبات املتاحة لنا لن�ص ّنف هذه الأزمات على النحو التايل: -1تركيبة احلكم اجلديد �سواء من حيث هيكليتها وخروجها على الرتكيبة النمطية لتلبية احلاجة �إىل �إ�شراك اجليل الثاين يف احلكم �أم جلهة ا�ستبعاد �شخ�صيات فاعلة من الرتكيبة ال�سابقة. -2اخلالفات داخل العائلة املالكة املهددة بنزاعات اخلارجني وامل�ستبعدين من احلكم �إىل داعمني ملعار�ضة احلكم اجلديد ناهيك عن داعمي احلركات الأ�صولية. املتفجرة ،على اخلا�صرة اجلنوبية الرخوة للمملكة ،التي مل تعد قابلة للحلول -3الأزمة اليمنية ّ 22
23
�رصاع هوية ووجود
التقليدية والتي ت�ستوجب حلو ًال ميكافيلية مبعنى الكلمة. -4تراجع النفوذ ال�سعودي الإقليمي الذي �أ�صيب مبقتل بعد الإطاحة بالرئي�س مبارك ،مع ما جمة ،يف مقدمتها ا�ستمرار النزيف ال�سوري وت� ُّأخر احل�سم �صاحب ذلك من خ�سائر �إقليمية ّ وعدم التو�صل حلل �سيا�سي ،الأمر الذي ا�ستهلك النفوذ ال�سعودي يف لبنان فيما حتول العراق �إىل النفوذ الإيراين. -5تراجع النفوذ ال�سعودي يف اخلليج ،حيث تقيم �سلطنة عمان عالقات حميمة مع �إيران ،وحيث أعدت قطر نف�سها لدور الو�سيط بني اململكة و�إيران ،و�أي�ضاً بني اململكة والإخوان امل�سلمني، � ّ فيما تعاين باقي دول اخلليج من �إحباط العجز ال�سعودي �أمام �أزمات املنطقة. هي �أزمات تفر�ض نف�سها على امللك اجلديد وحترمه من فرتة التهي�ؤ حلني متام انتقال احلكم .وهذا قد دفع بامللك اجلديد لإطالق ر�سائل عاجلة يف �شتى االجتاهات ،يف �إ�شارة ال�ستعداده ملواجهة هذه االزمات وملكيته لأدوات هذه املواجهة. �أمام هذا الإرث ال�صعب وتزامن الأزمات و�ضرورات التعاطي الرباغماتي معها يحق لنا النظر �إىل هذه الر�سائل امللكية على �أنها جمرد �إ�شارات �سيا�سية ال ترقى �إىل مرتبة الإ�شارات املحددة ل�سيا�سات امللك اجلديد. امللك اجلديد يطلق ر�سائله ال�سيا�سية
يلوح يف الأفق توجه جديد "للإدارة" يف اململكة العربية ال�سعودية اجلديدة �إن وجد هذا امل�صطلح �أ�ص ًال �أو كان معمو ًال به .لقد �أر�سل امللك ر�سائل جلميع احللفاء ال�سابقني ،وكذلك �إىل غري احللفاء، حتى قبل �أن يبد�أ مهامه عملياً على عك�س ما يجري يف ال�سيا�سة العربية التي تطلق ر�سائلها عرب ال�شائعات. فقد �أر�سل امللك ر�سائله من خالل ُا�سلوب الإ�شارات ،من خالل �أ�سلوب ا�ستقباله لنظرائه ،وعرب اللقاءات ومدتها و�أي�ضاً من خالل �إ�شارات ير�سلها عرب و�سائل الإعالم والدبلوما�سيني. �إنها �سيا�سة الإ�شارات املوحية والإيحاء املركزي فيها هو انفتاح امللك لإعادة النظر يف حتالفات اململكة ،و�إبداء اال�ستعداد ملواجهة التحديات احلالية وفق االعتبارات وامل�صالح امل�ستقبلية .وميكن تف�سري هذه الر�سائل بب�ساطة "على الرغم من �أنها مبا�شرة و�سافرة" ب�أنها موجهة لغري ال�سعوديني وفحواها "مبا �أنكم مل تقدروا جهود الإ�صالحات التي قام بها امللك الراحل عبد اهلل الذي و�ضع يده حتى بـيد "ال�شياطني" الليرباليني ،لكنكم وا�صلتم جميعاً مهاجمة عقيدة اململكة العربية 24
ال�سعودية و�سيا�ساتها .لذا ف�إننا نعود �إىل ال�سلفية و�سنتحالف مع جماعة الأخوان امل�سلمني ،كما فعلنا يف بدايات الن�صف الثاين من العقد الأخري من القرن املا�ضي مع الت�أكيد على ا�ستقاء ال�سيا�سات النابعة من العمق ال�سعودي ،عو�ضاً عن التوجهات واالعتبارات واملفاهيم العاملية". بناء على ما تقدم تتحول الر�سالة ال�سيا�سية املركزية للملك اجلديد �إىل العمل على �إعادة حتديد املنطلقات والأ�س�س ل�سيا�سة التحالفات ال�سعودية ،بحيث ت�ؤ�س�س هذه التحالفات على �أ�سا�س بتوجهات و�أدوات امل�صالح ال�سعودية �أو ًال ،بحيث تكون مبادئها و�أيديولوجيتها �سعودية ،وذلك ّ ودبلوما�سية �سعودية جديدة تتوىل �إدارة عالقات اململكة على امل�ستويات املحلية والعربية والأجنبية. امللك اجلديد يف مواجهة التحديات
الأزمات املذكورة �أعاله ،وال�شياطني الكامنة يف تفا�صيلها ،ومعها ال�صفقات الإقليمية والتوازنات اال�سرتاتيجية املنتظرة تلتقي عند نقطة تهمي�ش دور اململكة ما مل تتح ّرك حلجز مكانها يف املعادالت اجلديدة مبا يتيح لها احلفاظ على مكانتها الإقليمية ومواجهة �أزماتها يف �آن معاً. لكن الالفت هو �أن اللحظة اجليو�سيا�سية الراهنة تتطلب من ال�سعودية ومن دول املنطقة كافة �أن تر�سم �سيا�ساتها وتتخذ قراراتها بنف�سها من دون انتظار تدخل �أمريكي مبا�شر فيها .وهو ما مل يعتده �أ�صدقاء �أمريكا يف املنطقة �إال �أنه يفر�ض نف�سه من خالل الإعالن الأمريكي ب�أن �إيران ت�شكل قبلة م�ستقبلية للم�صالح الأمريكية يف املنطقة ،ما يجعل امل�ساعدة الأمريكية للأ�صدقاء مبت�سرة وتقت�صر "على تقدمي امل�شورة ومتديد اللحظة اجليو�سيا�سية مبماطلة املفاو�ضات النووية وت�أمني �أجواء �أف�ضل لتفاهم �سعودي �إيراين على �ضوء امل�ستجدات املقبلة". رغم عدم كفاية الإ�شارات ال�صادرة عن امللك اجلديد ،وبالتايل عدم �إمكانية البناء عليها باعتبارها �إرها�صات عن اال�سرتاتيجية ال�سعودية اجلديدة ،ف�إنه من املمكن ر�سم اخلطوط العري�ضة خلطة امللك يف مواجهة التحديات املطروحة عليه بعد حتديد نقاط القوة وال�ضعف لدى اململكة. خطة املواجهة ،كما تلوح معاملها من خالل الإ�شارات الأولية ال�صادرة عن امللك اجلديد ،تقوم على الت�شدد يف ا�ستخدام �أوراق القوة ال�سعودية و�صو ًال �إىل طرح طموح يوازي الطموحات الإقليمية املطروحة راهناً .فكما حتاول رو�سيا ا�ستعادة �إمرباطوريتها ،وتركيا كذلك ،و�إيران تتغ ّنى مبجدها الفار�سي ف�إن ال�سعودية ويف زمن الفراغ القيادي �أو ف�شل الغرب متمث ًال بالواليات املتحدة �ستعيد جمد م�ؤ�س�سها و�ستنطلق كمملكة بكل ما تعنيه الكلمة يف زمن �ضعف امللكيات. طرح املجد ال�سعودي املوازي ي�أتي مدعوماً بالرعب من ال�سلفية الذي ي�ست�شعره الغرب و�إيران واحلوثيون ومعار�ضو ال�سعودية يف املنطقة .هذا الرعب ال يقوم على �أ�سا�س القوة الفعلية لل�سلفية بقدر ما يقوم على قدرة ال�سلفية على الت�س ّبب بالأذى لهذه الأطراف .بالن�سبة لل�سعودية ،ف�إن هذه 25
�رصاع هوية ووجود
القدرة على الأذى تع ّو�ض حمدودية قدراتها الع�سكرية وبالتايل قدرتها على املواجهة .وهذا من �ش�أنه �أن يف�سح للمملكة مكاناً على طاولة املفاو�ضات وبالتايل ح�صة يف التوازنات اجلديدة .خا�صة تو�سع اململكة يف مع قدرة ال�سعودية على جعل ال�سلفية �أكرث قوة لتكون �أداتها كما كانت يف زمن ّ �شبه اجلزيرة العربية. بالإ�ضافة �إىل التلويح بالقوة ال�سلفية فقد ت�ضمنت �إ�شارات امللك ا�ستعداده للتحالف مع العدو الأول لدول اخلليج العربي وهي جماعة الأخوان امل�سلمني ،حيث �إنه يتحدث عن مبادرة للم�صاحلة مع الأخوان امل�سلمني ،لأن اململكة بحاجة �إليهم (كحركة �شعبية منظمة توافقت مع توجهات ال�سعودية خا�صة �أيام امللك في�صل �ضد جمال عبد النا�صر ،رمز القومية العربية �آنذاك). ونظراً لتعدد اخليارات ،يتحرك امللك اجلديد من منطلق فتح جميع الأبواب للعب دور ملك امللوك وليكون املالذ الو�سطي لكل امل�صالح املتعددة واخلالفات العربية ،خا�صة البني �سنية منها. بهذا �سيتمكن امللك اجلديد من تعزيز دوره القيادي يف املنطقة ،لقطع الطريق �أمام كل دولة �أعجمية ترغب يف ب�سط نفوذها يف املنطقة .لذا �إذا �أرادت هذه الدول �إيجاد موط�أ قدم يف املنطقة، ف�إن عليها �أن تطرق الباب و�أال تت�س ّرب من خالل ال�شبابيك .وباب املنطقة هو اململكة العربية ال�سعودية ح�صراً. بعبارة �أخرى ،من الوا�ضح �أن امللك اجلديد يرغب يف �إر�سال �إ�شارة جديدة جلميع الدول النافذة يف املنطقة ،م�ؤكداً رجوع اململكة بقوتها الإقليمية املحتملة ونفوذها يف ال�شرق الأو�سط عموماً واخلليج العربي ب�شكل خا�ص .يف �سبيل ذلك قد يتبع امللك اجلديد خطوات جده ووالده .ورمبا �ستعود فكرة اجلزيرة العربية الكربى للربوز جمدداً وخ�صو�صاً يف احلديث العلني ب�ش�أن �إعادة النظر يتوجب على بقية دول اخلليج للعربي �أن تتعلم كيفية يف حدود �سايك�س بيكو .ويف هذه احلالة ّ التعاي�ش مع ذلك. امللك اجلديد والالعبون الفـرعيون
ال يقت�صر الالعبون يف امل�شهد ال�شرق �أو�سطي على الالعبني الكبار (عامليني و�إقليميني) بل يتعداهم �إىل العبني �إقليميني فرعيني يت�صرفون وفق �سيا�سة "�صراع البقاء" وهي �سيا�سة "ا�ستغالل الفر�ص" الكت�ساب النفوذ و�ضمان البقاء .كما يحث العبون �إقليميون �آخرون اخلطى �إىل داخل املنطقة .وذلك �إ�ضافة �إىل وجود عوامل �أخرى .كل هذا الت�سلل �إىل املنطقة يتم من خالل الثغرة الأمنية املعنونة بــ "حماربة داع�ش" ،حيث تقوم العديد من الدول بتبني �سيا�سة "تقدم و ُقد" �أو" متا�شى و ُقد" �أم ًال بالقفز لت�صبح جزءاً من التحالف الذي يقاتل اجلماعة الإرهابية ّ التي �أثبتت تطوراً بات يهدد بقاءهم. 26
ه�ؤالء يقفزون �إىل املقعد الأمامي ك�شركاء يف التحالف �أم ًال �أن ي�صبحوا بعد ذلك قوى م�ؤثرة، ف�ض ًال عن طموحهم احل�صول على اعرتاف القوى الأجنبية بهذا الت�أثري رغم عدم تقبل القوى املحلية لهم وعدم اعرتافها بت�أثريهم. يف املقابل ي�أتي دور الإعالم يف مواجهة هذه القوى االفرتا�ضية الدعائية� .إن الإعالم بو�سائله اجلديدة والتقليدية احلــرة ير ّوج لتقدم اجلماعات الإرهابية وعملياتها الدامية .هذا بالإ�ضافة �إىل دور الإعالم "احلر" واملتاح يف خدمة دعم وحتقيق �أهداف اجلماعات الإرهابية. هذا وقد لعب الإعالم دوراً حمورياً يف ك�شف ما كان خفياً،خ�صو�صاً ما كانت تخفيه بع�ض الأنظمة يف دول غري مرئية مثل العراق .ففي العراق على �سبيل املثال عك�ست و�سائل الإعالم كيف تتعامل احلكومة ال�شيعية املوالية لأمريكا مع املواطنني ال�سنة .الأمر الذي منح بع�ض الزعماء العرب ،رغم �ضعفهم و�سلبيتهم� ،شعبية كمدافعني عن ال�سنة مبا يف ذلك ال�سلفية ال�سلبية وكل جماعة �إرهابية ،كحماة لل�سنة �ضد كل من ي�ضطهدهم لأنهم �سنة. ..ومع الالعبني الأ�سا�سيني
�إن موقف الواليات املتحدة والغرب املنحاز لإ�سرائيل ومن ثم نحو �إيران يعك�س حقيقة �أن م�صالح الغرب طويلة الأمد �إمنا هي مع �إيران و�إ�سرائيل ولي�ست مع العرب .وهذا مينح �إمكانية �إ�ضافية لإ�ضفاء ال�شعبية على الذين يتجر�ؤون على الثورة �ضد الغرب. على هذا الأ�سا�س ف�إن امللك الذي برز حديثاً والنا�ضج متاماً يخترب املياه بطريقة �ساخنة ،م�سلحاً مبوارد �ضخمة يف مملكة را�سخة كبرية ذات تاريخ عظيم و�أتباع ديانة يالم�سون املليار �إن�سان� .إال �أنه ويف املقابل يتع ّر�ض لهجوم من "الغرباء" الذين يهاجمونه يف �سياق مهاجمتهم عرقاً موحداً هو العرق العربي. تقدم فمما ال �شك فيه �أن على ال�سيا�سة اخلارجية ال�سعودية اجلديدة اعتماد تغيريات بناء على ما ّ جذرية مكيافيلية الطابع .وهي تغيريات �سوف ته ّز املنطقة وت�صيب من هم خارجها بالتوتر والإرباك لبع�ض الوقت. �أما عن التحالفات �ضد اململكة ،و�سيا�ساتها اجلديدة ،ف�إنها لن حتافظ على ثباتها كونها عر�ضة للت�أثر برياح التغيري اجلديدة ويف مقدمها الإعالن الأمريكي عن نقل اهتمامها اال�سرتاتيجي من ال�شرق الأو�سط �إىل ال�شرق الأق�صى .مبا يربر القول ب�أن هذه التحالفات لن تدوم طوي ًال ،خ�صو�صاً �أن �أوروبا ال تزال تعاين اقت�صادياً و�سوف لن حتافظ معظم القوى ال�شرق الأو�سطية على �أية حتالفات ال�سيما مع ال�سجل ال�سيئ للواليات املتحدة يف التخلي عن حلفائها بعد �أن حت�صل على ما تريد "ب�سيا�سة الكر والفر". 27
�رصاع هوية ووجود
�إ�ضافة ملا تقدم فقد تبنت دول جمل�س التعاون اخلليجي ،خ�صو�صاً بعد �سيا�سة اللوم عقب �أحداث احلادي ع�شر من �سبتمرب وبعد الربيع العربي� ،سيا�سة تنويع �سلة عالقاتها الدولية .وبب�ساطة ،وفيما تقوم الواليات املتحدة والغرب ب�إعادة تعريف ال�سيادة قامت احلكومات العربية ب�إعادة تعريف مفاهيمها لل�صداقة والثقة. بناء على �إعادة تعريف مفاهيم ال�صداقة والثقة مل تعد ال�صداقة تتطلب التزامات طويلة املدى، وحتى امل�صلحة نف�سها ال ينبغي �أن تكون طويلة املدى .فلم تعد مرونة التعامل والتطور والبقاء حكراً على القوى العظمى .لذا ف�إن الن�سب والدرجات املختلفة للتحالفات حتى مع الدول غري ال�صديقة ميكن تطبيقها و�إن كان يف غالب الأحيان من �أجل حتقيق مكا�سب ق�صرية املدى .وذلك على عك�س ما كان يحدث من قبل. هذا ومتتاز التحالفات ق�صرية الأمد ب�سهولة ت�أمني القدرات واملوارد لدعم توازن القوى مع حمدودية فرتات االلتزام واالرتباط .يبدو هذا جلياً يف منطقة تفتقد حكمة التوازن فيما بني القوى بكل �أنواعها .كما �أن ثقلها مفقود على املدى املتو�سط والطويل .و�أكرب م�ؤ�شر لذلك ،انتقال املنطقة من ملعب كرة قدم عاملي �إىل ملعب كرة قدم �أمريكي بد ًال من �أن تكون منطقة للرخاء والتقدم.
هناك �سيا�سة التحالف مع َمن بيده قلم ر�سم احلدود؟ ثمة �أ�سئلة تطرح نف�سها حول منطلق هذه التحالفات و�أهدافها؟ هل هو التو�سع؟ �أم احلفاظ على املوجود (�سيادة تقليدية)؟ �أم �أنه التقدم يف الدول وال�شعوب؟ ختاماً ،من الظاهر �أن خطوات وتوجهات الإدارة ال�سعودية اجلديدة كانت مدرو�سة م�سبقاً ،حيث �أن الإ�شارات املتعجلة املبكرة تدعم فر�ضية ت�سلم امللك اجلديد احلكم وفق خطط معدة �سلفاً، فرتكيبة احلكم اجلديد والإق�صاءات املبا�شرة عقب الإعالن عنها ت�ؤكد وجود خطة قادرة على ا�ستيعاب ردود الفعل املعار�ضة لهذه اخلطوات .وهو ما ت�ؤكده معلومات موثوقة حول ت�سلم حممد بن �سلمان لهذا امللف .هذه املعلومة تنري جوانب عديدة من الإ�شارات الواردة يف �سياق هذا التحليل وبخا�صة فيما يتعلق بجهة ت�صدر املحافظني ال�سعوديني اجلدد امل�شهد ال�سعودي� .صدارة ميكنها �أن تنري الطريق �أمام املتابعني �إال �أنها تطرح العديد من الأ�سئلة ال�شائكة ،التي ت�شري �إىل �أننا دخلنا مع تقلد امللك جديد مقاليد احلكم ،مرحلة التنفيذ من دون �أن ندرك ما �إذا كنا �سنكون �ضمن امل�ساهمني �أم املتفرجني �أم ال�ضحايا؟!
..ومع املحافظني ال�سعوديني اجلدد
تتقاطع الإ�شارات املتوافرة مدعومة باملعلومات امل�ؤكدة �أن العهد ال�سعودي اجلديد �سيكون يف املوجه من الداخل� .أما من حيث الأ�صول ال�سيا�سية الغالب عهد املحافظني ال�سلفيني اجلددّ ، فيت�سم باال�ستخدام الأمثل للموارد حتى ولو كان ذلك لتحقيق مكا�سب ق�صرية املدى .فكل ما ن�شهده ي�شري �إىل �أن العداد قد بد�أ بالقيا�س وال مزيد من املجامالت امللكية حتى على امل�ستوى امللكي. هذا ويبقى الغمو�ض �سائداً على م�ستوى اخلليج العربي �إذ كيف �ستتعامل اململكة مع �إيران وعمان التي تربطها عالقة حميمة مع �إيران .من جهتها ،قد تلعب قطر وبحكم حتالفاتها ومواقفها ال�سابقة ف�ض ًال عن قدراتها ومواردها ،دور الو�سيط فيما بني القوى الثالث امريكا و�إيران وال�سعودية .وهذا الدور �أي�ضاً تلعبه �سلطنة عمان ،حتى على �صعيد امل�شاكل ال�سعودية الداخلية وعلى ال�صعيد ال�شعبي واالنق�سامات داخل الأ�سرة ال�سعودية .اذ ال يوجد م�ؤ�شر حللول عملية وال خمطط ل�ضمان مواكبة التطورات والتنمية يف املنطقة ومعا�صرة توقعات واحتياجات الأجيال ال�صاعدة. �أما على م�ستوى منطقة ال�شرق الأو�سط ،فمن غري الوا�ضح ،ما �إن كانت �ستكون هناك �سيا�سة لتحالفات على املدى الق�صري ،ل�سد طموح و�أطماع الدول الأجنبية اخلارجية؟ �أم �أن هناك �سيا�سة التحالف ل�ضرب االلتفافات غري املرغوب فيها �أو لإعادة ت�سيري التحالفات املتعددة؟ �أم �ستكون 28
29
�رصاع هوية ووجود
املواطنة املهدورة
معاينة لالجتماع احلذر بني فكرة الدولة ومنطق الطّ ائفة يف لبنان
حممود حيدر -باحث يف الفل�سفة ال�سيا�سية
م�سعى هذا البحث ،تظهري ر�ؤية معرفية يف ما يخ�ص موقعية املواطنة يف بلد متعدد ّ الطوائف م�سعى كهذا ،ال يخلو من خماطرة .فالقول فيه وحوله� ،أ َّنى كان لون كلبنان .وما من �شك يف �أن ً املقاربة ،ي�ستثري الإ�شكال وال َّلب�س ،ويبتعث َ القول على القولِ ،واحلج َة على احلجة .ثم �إ ّنه مي�ضي ليفتح على �أ�سئلة ال نهاية لها ،وعلى �إجابات ال ت�ؤتي من ُيلقَّاها بيقني .ولذا فالكالم على املواطنة والطائفة� ،أو على دولة ّ والطائفية� ،أو على املواطن ّ ّ الطوائف يف �سالمها الأهلي و�أزماتها ..كل ذلك الظن والتقريب� ،أو على حممل الرتجيح واالجتهاد. �سي�أتي على ن�صاب ّ املواطنة ّ والطائفية ،مفردتان �شائعتان �شيوع قامو�س الأزمات يف الثقافة التاريخية اللبنانية� .إنهما تتعديان اللفظ العار�ض ،لتغد َوا حقيقة واحدة ّ مركبة ،ت�ؤرخ ملا ان�صرم من تاريخ لبنان، مفردتان َّ مثلما ت�ؤ�س�س حلا�ضر وم�ستقبل وطن ال يفت�أ �أبنا�ؤه يختربون �أ�سا�سات ن�شوئه كل �آن. ال كال َم �إذاً على املواطنة يف لبنان خارج حيا�ض ّ الطائفة .حتى لتكاد تبدو ال�صلة بينهما ك�صلة اال�سم بال�صفة� ،أو كعالقة املفهوم بظهوره الفعلي وجمال ا�ستعماله .وحني و�ضعنا املواطنة يف موازاة ّ الطائفية ،فلي�س لنجعل منهما ثنائية متغايرة ،و�إمنا لنتعامل معهما كق�ضية واحدة .فعندنا منذ �أن َّ ت�شكل لبنان ككيان �سيا�سي اجتماعي عرب والداته املتواترة (دولة لبنان الكبري 1920 وجمهورية اال�ستقالل 1943وجمهورية ّ الطائف ..)1989ال �شيء ينمو ويتحرك خارج �أ�سوار الطوائفّ . ّ وتو�ضح قواعد الكيان النا�شئ ،وعلى �صورتها ُر�سِ َمت خريطة الدولةَّ ، بالطوائف ُرفِعت ُ �شكل ال�سلطة ،واكتمل نظام االجتماع ال�سيا�سي .حتى لقد �صارت دولة ّ الطوائف هي نف�سها الطائفية .ذلك �أن ّ الدولة ّ الطوائف ال تلد نظاماً �سيا�سياً د�ستورياً �إال على �شاكلتها .متاماً كالإناء الذي ين�ضح مبا فيه .فيكون الذي ظهر من ذاك ال�شيء ،هو جوهر ال�شيء نف�سه .فال ظهور لأي ت�شكيل �سيا�سي �أو اجتماعي يقدر على احلركة ،من دون �أن يت�صل بهذا القدر �أو ذاك ،ب�شريعة املنظومة ّ الطائفية وقانونها العام. 31
�رصاع هوية ووجود
حتى الظهورات ال َّالطائفية ،من �أحزاب علمانية ،ونقابات جماهريية ،واحتادات ،وجمعيات �أهلية، و�سائر ما ا�ستحق جمازاً �صفة "املجتمع املدين" ،مل تفلح طيلة تاريخ لبنان املعا�صر يف �إجناز ف�ضيلة اال�ستقالل ،والتحول �إىل جمتمع مدين حقيقي .فعلى الرغم من فرو�سية �أ�صحاب تلك الظهورات يف خطابهم النقدي ،ويف جر�أتهم على افت�ضاح املفا�سد ّ الطائفية ،بقيت الكتلة املدنية ال ّالطائفية تن�شط حتت �سقف النظام ّ الطائفي ،ومكثت دون القدرة على الدفع باجتاه الإ�صالح ال�سيا�سي الفعلي. لي�ست املواطنة ،بو�صف كونها هوية اللبنانيني ك�أفراد يعي�شون حتت رعاية وعناية الدولة ّ الطائفية، �سوى مادة هذه الدولة ونظامها .فالأمر هنا ال يتعلق بالإرادة والرغبة وحكم القيمة ،بقدر ما يت�صل بواقع التاريخ االجتماعي ،وبنمط احلياة التي افرت�ضها روح الد�ستور وت�شريعاته. الطائفي ،وذلك ل�سبب يعود �إىل مركزية ّ ّثمة َمن ذهب �إىل بدعة القول باملتعايل ّ الطوائف يف ت�شكيل الهند�سة الإجمالية للروح الوطنية .غري �أن هذه املركزية �سيكون لها �أث ٌر حا�س ٌم يف �إثبات موقعية املواطنة يف احلياة اللبنانية .ولقد ر�أينا كيف فعلت ّ الطائفية فعلتها لتحيل تلك املوقعية �إىل ف�صل حميم من ف�صول حركتها .ثم ليظهر لنا كم ل�سلطان ّ الطوائف من �ش�أنية حا�سمة يف ت�شكيل حياة مواطنيه .و�إذ نرى �إىل مزايا املواطنة يف لبنان �سنالحظ �أن اللبناين يعي�ش مواطنة مثلثة الأبعاد: فهو يف �سياق االنتماء ّالطائفي ،مواطن يف طائفته ،يدين بالوالء لقياداتها املدنية والدينية ولأجهزتها الق�ضائية ولتقدمياتها اخلريية واالجتماعية. وهو �أي�ضاً يعي�ش مواطنة جغرافية مثقلة بالرموز والتاريخ البعيد واحلديث. وهو �أخرياً مواطن لبناين ينتمي قانونياً وحياتياً �إىل اجلمهورية اللبنانية ،وم�ؤ�س�ساتها الد�ستوريةوالإدارية والقانونية( ). غري �أن املفارقة املذهلة يف هذا املقام ،هي �أن اجلمهورية اللبنانية يف الوقت الذي تفر�ض قوانينها على ُمواطِ نِها يف كل احلقول ،ف�إنها ال تعرتف به كمواطن �إال ب�صفة كونه منتمياً لطائفته �أو ًال� ،أو �آتياً ب�شهادة من تلك ّ ت�صدق انتماءه �إليها... الطائفة ِّ ولذا فمن البينِّ �أن كل كالم على املواطن ال ي�ستقيم �إال على خط موا ٍز للطائفة التي ينت�سب �إليها، والطائفة .وبني املواطنة ّ بالوالدة �أو بالوالءّ ...ثمة �صلة توليدية بني املواطن ّ والطائفية .حتى ل َي�ستوي ُ نف�س واحدة .بحيث ي�سري ذلك كقانون �صارم على كل طائفة من ّ الطوائف الثماين القول على ٍ ع�شرة يف لبنان ..والتي هي كناية عن عديد �أبنائها املن�ضوين حتت لوائها ال�سيا�سي اجلغرايف .يف حني �أن ه�ؤالء الأبناء لي�سوا �سوى مواطنني م�شوا حتت رايات طوائفهم ،كمم ّر �إجباري للعبور �إىل الوطن. تلك هي ال�صورة الأولية التي تنطوي عليها الرابطة املعقدة بني الدولة واملواطن ّ والطائفة .لكن 1
32
فهم التكوين التاريخي لهذا البلد و�أحوال املواطنة فيه ،هو معاينة م�سارات ّ الطوائف، ما يفرت�ضه ُ الطائفية واملجتمع ّ و�أثر منظومتها ال�سيا�سية والقانونية يف تر�سيخ البنيان الكلي للدولة ّ الطائفي يف لبنان... []1
ع�رش �أطروحات يف مركزية الطّ وائف
لقد وجدنا لنقرتب من فهم تعقيدات "الفيزياء التاريخية" للبنان� ،أن نعاين ت�أ�سي�ساته ّ الطائفية. فعلى �أر�ض هذه الت�أ�سي�سات -كما نفرت�ض -ميكن �أن نتوفّر على ما يدنو من خريطة معرفية ُتفيد م�سعانا يف هذا البحث .وللدخول يف مثل هذه املعاينة ،نقرتح جملة من الأطروحات الت�أ�سي�سية حول الدور املركزي التكويني الذي لعبته ّ الطوائف يف ن�شوء لبنان: الطائفية مقولة لبنانية بامتياز� .إنها ّ الأطروحة الأوىلّ : (الطائفية) �أم ٌر ذاتي وجوهري يف ن�شوء وقيامة الكيان ال�سيا�سي للبنان ..وبهذا املعنى هي لي�ست حالة عار�ضة ميكن �إلغا�ؤها و�إثبات بديلها الطوائف املكونة للكيان .وملّا كانت ّ الالطائفي عرب اتفاق بني ممثلي ّ الطائفية بهذه ال�صفة� ،أي �أنها �أمر ذاتي يقع يف �أ�صل ظهور لبنان ،ف�إن �أي م�سعى لنزعها كناظم للحياة ال�سيا�سية فيه ،يعني منطقياً نزع �أ�صل هذه الظهور ،وهذا حمال منطقياً وعملياً. الأطروحة الثانيةّ : الطوائف يف لبنان لي�ست جمرد تفريعات مذهبية لكل من الديانتني الإ�سالمية وامل�سيحية ،و�إمنا هي وحدات �سيا�سية واجتماعية وثقافية �شكلت جمتمعة �أ�سا�س ظهور اجلمهورية الأوىل يف الربع الأول من القرن الع�شرين املن�صرم. الأطروحة الثالثة� :إن طوائف لبنان ال دين لها ،وهي تخو�ض غمار اللعبة ال�سيا�سية .و�إن احلاكم على �سلوك ممثليها ال�سيا�سيني يف احلكم وم�ؤ�س�سات الدولة ،هو تقا�سم ال�سلطة ،وفقاً مليزان تدخل عاملي الدين وال�شريعة يف ممار�سة يتعدى ّ التمثيل بني امل�سلمني وامل�سيحيني .يف حني ال ّ ال�سلطة حدود ال�سماح للم�ؤ�س�سة الدينية بالوعظ وممار�سة الطقو�س وال�شعائر .وبهذا املعنى ال ميكن قراءة ن�ص الد�ستور اللبناين� ،سواء ذاك الذي ورد يف اتفاق ّ الطائف� ،أو الن�صو�ص الد�ستورية التي �سبقته� ،إال ب�صفة كونه د�ستوراً هو �أقرب اىل الو�ضعية العلمانية منه �إىل ذاك الذي جنده لدى الدولة الدينية. الأطروحة الرابعة :الدولة بالن�سبة �إىل ّ الطوائف التي اجتمعت لت�ؤ�س�س لبنان التاريخي، لي�ست �سوى �إطار ناظم للميثاق ال�سيا�سي يف ما بينها .وكلما كان يحل العنف على لبنان 33
�رصاع هوية ووجود
وي�ستوطن فيه ،تعود الدولة مبا هي وعاء لل�سالم ال�سيا�سي �إىل �صمتها وانتظارها .حتى �إذا تعب املتحاربون وو ُه َنت �أحوالهم ،و�أدرك نظام ال�صراعات الدولية والإقليمية �أن لعبته يف لبنان قد �أُ�ش ِب َعت ،كانت الدولة هي امل�آل وامل�ستقر .ثم لتتحول يف اللحظة التالية �إىل وعاء يحوي اجلميع، ولكن على قاعدة التوافق وعدم ال َغ َلبة. الطائفية بو�صفها �إيديولوجيا لبنانية :لي�ست ّ الأطروحة اخلام�سة ّ - الطائفية عندنا يف لبنان جمرد كلمة اعتدنا على التوقف �أمامها ك�أمر مذمومّ . الطائفية فكرة و�سياق ونظام حياة .ولأنها كذلك ،فعليها ابتنى �أهل كل طائفة م�صاحلهم و�أهدافهم و�سيا�ساتهم .فقد كان من البديهيات �أن يتخذ االجتماع ال�سيا�سي اللبناين من لقاء ّ الطوائف خريطته الفكرية الهادية .لعل العن�صر الت�أ�سي�سي يف ُّ ت�شكل الإيديولوجية ّ الطوائفية هو اليقني ب�أن لبنان قام وي�ستم ّر على �أ�صالة طوائفه. ُ والأ�صالة هنا تعني �أنه باجتماع ّ ينب�سط احلقل الذي ينتج ويعيد �إنتاج الطوائف ووئامها فقط، الدولة ،وم�ؤ�س�ساتها .ذلك ما ُيعرب عنه �سلوك ّ الطوائف حيال بع�ضها البع�ض يجري على �أ�سا�س �سمى بامليثاق الوطني .1943 خريطة معرفية و�ضعها امل�ؤ�س�سون الأوائلُ ،عرفت بال�صيغة� ،أو ما ُي ّ فال متلك �أي طائفة مغادرة تلك اخلارطة� ،أو خو�ض اللعبة خارجها ،و�إ ّال اعترب ذلك انقالباً على ما ي�ستحيل االنقالب عليه .وهذا ما مل يح�صل يف تاريخ لبنان ،رغم احل�شد الهائل من اال�ضطرابات ال�سيا�سية ،والأزمات االجتماعية ،واحلروب الأهلية .فغداة كل ا�ضطراب �أو �أزمة �أو حرب �أهلية، تعود كل طائفة اىل االعت�صام بالتقليد� ،أي ب�صيغة الت�سوية ،ثم تروح تتعامل مع بع�ضها البع�ض بروح الوفاق والوئام .وك�أن �أنهر الدم التي جرت هي وجه من وجوه املمار�سة ال�سيا�سية .تلك اخلريطة التي �أ�شرنا اليها هي التج ِّلي الثقايف ملا ُ�سمي بـ "االيديولوجيا اللبنانية". الأطروحة ال�ساد�سة :ح َّولت ّ الطوائف لبنانَ ،خ�صو�صاً يف �أزمنة احلرب والنزاعات الأهلية� ،إىل مقولة �أمنية .لكل طائفة ،مبا هي وحدة �إيديولوجية و�سيا�سية وثقافية ،جتلت يف ا�سرتاتيجيات �أمن خا�صة بها .العالمة الفارقة لهذه اال�سرتاتيجيات� ،أنها حتتجب يف �أوقات ال�سلم ال�سيا�سي ،ثم ال تلبث �أن تظهر �إىل امللأ وتدق النفري ،كلما الحت �أزمة� ،أو اقرتبت البالد من حرب �أهلية .ولنا يف هذه الأطروحة تف�صيل �إ�ضايف: ظهرت �صورة لبنان بعد نهاية حربه الأهلية (َّ ،)1990-1989 مركبة على ن�ش�أة �أمنية غالبة .ذلك () ما ذهبنا �إليه بعد ذلك الزمن بقليل ،من �أن لبنان حت ّول بعد احلرب �إىل مقولة �أمنية .حيث يرتجح الأمني فيها على ال�سيا�سي ،ليجعل له �سقفاً �سميكاً ي�ستحيل خرقه بي�سر .فلقد �صار َّ ً كل ما هو خارج اعتبارات الأمني ومقايي�سه و�شرائطه �أمرا ال يع َّول عليه .يف حني �أن القطيعة املفرت�ضة بني املا قبل (زمن العنف) واملا بعد (زمن ال�سلم ال�سيا�سي) ال ترتاءى �إال على ق�شرة اخلطاب ال�سيا�سي املعلن .وكان على الهيئات ال�سيا�سية احلاكمة ٍ يومئذ �أن تز ِّين �سلوكها ال�سيا�سي بالتفا�ؤل� .إذ بني يديها ميثاق �سيا�سي �أمني د�ستوري هو اتفاق ّ الطائف� ،سوف يتح ّول خالل 2
34
وقت ق�صري �إىل منظومة �إيديولوجية ،وكذلك �إىل �سلطة معنوية �شديدة الق�سوة على كل َمن ينقدها .بل لقد غدا م�ضمون االتفاق وخطابه الإيديولوجي قو ًال ثقي ًال يرتقي يف غالب الأحيان املقد�س .يف مناخ املقولة الأمنية �صارت ال�سلطة ال�سيا�سية الطالعة من اتفاق ّ الطائف �إىل رتبة ّ �أ�شبه مب�ستو َعب �شرعي ال�ستقبال حماربي ّ الطوائف .وح�صل هذا من دون �أن يجري بالفعل �أي تط ّور من �ش�أنه ترتيب �آليات م�ستقرة للعمل ال�سيا�سي .والنتيجة غياب الكالم على حياة �سيا�سية هادئة و�سو َّية ،يف ظل مقولة �أمنية راحت حتايث كل �صغرية وكبرية يف �إدارات الدولة ،وم�ؤ�س�ساتها الأمنية والق�ضائية وال�سيا�سية واالقت�صادية ،ناهيك عن م�ؤ�س�سات "املجتمع املدين" (�أحزاب، نقابات ،جمعيات �أهلية �إلخ).. ول�سوف ُت�ست�أنف املقولة الأمنية على امتداد ال�سنوات الع�شرين التي �أعقبت �سالم ّ الطائف .حيناً على م�شهد العنف ال�سيا�سي امل�سترت ،معبرِّ اً عن نف�سه ب�أزمات يف احلكم بني �أطرافه ويف ال�شارع، وحيناً �آخر على �شكل انفجارات متعاقبة ومتفاوتة لب�ؤر �أمنية يف هذه املنطقة �أو تلك .وعلى هذا النحو �سيدخل اللبنانيون يف و�ضعية ال َّاليقني وال�شك ب�سالم �أهلي مل ُي َنجز ،ومل يجد �سبيله �إىل االكتمال .ولقد �أف�ضت تلك الو�ضعية �إىل �آثار نف�سية و�سيا�سية ع ّوقت التوا�صل املفرت�ض بني ف�ضاءات املواطنة� .إن هذه الو�ضعية ال�سلبية نف�سها �سوف ت�ضاعف من ا�ست�شراء املقولة الأمنية بني �صفوف املواطنني لتمكث يف م�ساكنهم كخفري يراقب ،ويحجب ،ومينع كل تطور يعيد احلياة ملواطنية لبنانية جديدة. الأطروحة ال�سابعة � -أر�ض لبنان بو�صفها جيوبوليتيكا طائفية :ب�سبب املقولة الأمنية �سوف �سمى مبجتمع املواطن .املجتمع الذي يعي�ش ويعمل ويتحرك خارج ُتقفل النوافذ �أمام ن�شوء ما ُي ّ �أفق ّ الطائفة التي ينت�سب �إليها .لقد وجد هذا املجتمع �أي جمتمع املواطن �أ ّنه محُ اط مبنظومة طائفية �شديدة الوط�أة حتول دون دخوله منازل الوطن املرجتى .ثم �سيكون عليه �أن يعود القهقرى �إىل كهف يرتد فردو�سه املفقود� ...إىل كهف املجتمع ال�سيا�سي التقليدي املبني على تركيبة املا�ضي لك�أمنا ُّ مثلثة الأ�ضالع هيّ : الطوائف واملناطق والعائالت .ول�سوف نرى باملعاينة كيف حت ّولت اجلغرافيا ال�سيا�سية -االجتماعية للبنان ،يف �أثناء احلرب الأهلية وبعدها وب�سببها� ،إىل "فدراليات" ،لكل منها �أمنها و�سيا�ساتها ور�ؤاها وثقافاتها .ثم ن�ش�أت جغرافيات �سيا�سية طائفية �شديدة اخل�صو�صية والفرادة .و�أبعد من ذلك ،ففي �أحقاب مع ّينة ظهرت �صورة كل حمافظة من املحافظات اللبنانية اخلم�س ،وك�أنها على �شيء من اال�ستقالل الذاتي .حيث �سرت�سو جغرافيات ّ الطوائف على قواعد �شبه "�سيادية" ذات �أ�ضالع ثالثة: -1القوة التي حتوزها وتتمتع بها تبعاً ال�ستيطانها ّ الطائفي �أو املذهبي. -2اجلاذبيات الإقليمية والدولية مبا لها من ت�أثري ،على موازين ّ الطوائف جمتمعة ،وعلى ميزان كل طائفة ب�صورة مفردة. 35
�رصاع هوية ووجود
-3الدائرة اجلغرافية التي ت�ؤلف حيا�ضها ال�سو�سيولوجي والأمني وال�سيا�سي. لقد �أف�ضت هذه الثالثية �إىل ن�شوء ما ج ّوزنا و�صفه بـ "جيوبوليتيكا ّ الطوائف" ،حيث �ست�سفر الظاهرة اجليو�سيا�سية للطوائف عن امتدادات تتخطى �أمداء اجلغرافيا اللبنانية التقليدية .ذلك على الرغم من عدم حيازتها الغطاء ال�شرعي املعلن من جانب املنظومتني الإقليمية والدولية املحيطة. مناخ ٍّ مت�شظ كهذا ،مل ميلك اللبناين �أن يعرث ،ولو نظرياً ،على نعمة املواطنية اجلامعة .ون�ش�أ و�سط ٍ ج ّراء ذلكٌ ، حال هو �أدنى �إىل اال�ستيطان الإكراهي داخل م�ساكن �سيا�سية و�أمنية طائفية� ،شكلت قواعد انطالق باجتاه دولة افرتا�ضية ،ال جتد من تنازالت زعماء ّ الطوائف �إ َّال ما يزيدهم قدرة اال�ستقواء عليها... ّ العلماين/الطائفي الأطروحة الثامنة :زواج يحي كرثة من اللبنانيني وال ميلكون جواباً عليه ،هو ذلك َّ املركب العجيب لعل ال�شيء الذي ِرّ من امل�ساكنة بني العلماين ّ يعي بدقة ،طبيعة والطائفي .فال �أحد من بني تلك الكرثة ي�ستطيع �أن ِنّ النظام ال�سيا�سي يف لبنان ولونه وماهيته .فال هو على ما يتفق اجلميع ،نظام طائفي ٍ �صاف ،وال هو كذلك نظام علماين باملعنى الذي ُيفهم منه ف�صل الدنيا عن الدين .وال هو بطبيعة احلال، نظام يرت َّكب على م�صاحلة معلنة بني دين وجمتمع ودولة يبلغ االحتدام يف ما بينهما حد االنتفاء املتبادل. احلا�صل يف لبنان هو �ضرب من املفارقة ،يظهر فيها الواقع ال�سيا�سي االجتماعي وك�أنه جامع املتناق�ضات الثالثة ،حيث تت�ساكن العلمانية مع ّ الطائفية من دون عقد .فلي�س من اعرتاف علني ميثل هذا الت�ساكن .فهو بات �أقرب �إىل منط احلياة اللبنانية العادية .من دون �أن تكون ثمة حاجة �إىل حتويل ن�ص مكتوب بل على العك�س وهنا املفارقة – ف�إن جمرد التفكري بنقله �إىل جمال التداول خطب جلل .ولأن ّ الطائفية بحكم �أب َّوتها املزعومة للكيان ال�سيا�سي ،وملا متلك من يتح ّول الأمر �إىل ٍ م�ساحات املكر وال�سعة ،فقد ا�ستطاعت �أن ت�ؤمن للعلمانيني من �أبنائها� ،أمكنة للإقامة يف منازلها. ويف املعاي�شة التاريخية اللبنانية ما ي�شري �إىل حقيقة ميدانية تبدو فيها ّ مب�ستوعب الطائفية �أ�شبه ٍ عجيب يحوي �ألواناً و�أفكاراً واعتقادات و�أهواء ال ح�صر لها... الأطروحة التا�سعة -النزاع على التاريخ :عندما ي�صل اللبنانيون يف مدارج حوارهم الوطني ي�سمونه "الت�سوية التاريخية" �سرعان ما تنعقد َحيرْ َ ُتهم حول �س�ؤال هو يف غاية �إىل احلديث عما ّ التعقيد :من �أين يبد�أ تاريخ لبنان ..وكيف ُيكتب هذا التاريخ على النحو الذي يكون بالن�سبة �إليهم معياراً لإدراك ما�ضيهم وحا�ضرهم وم�ستقبلهم؟ ال يكاد النقا�ش حول هذا الإ�شكال يبلغ م�آالته املرج ّوة ،حتى تع�صفه ريح القطيعة ،ثم ليتوقف 36
موحد عند حدود اجلدل امل�ستحيل .فلقد بدا تعطيل الكالم حول وجوبية االتفاق على تاريخ َّ للبنانيني� ،أ�شبه ب�إجراء وقائي يج ِّنبهم ا�ستح�ضار زمن مديد من املنازعات الأهلية. هذا املحل من النقا�ش لي�س جديداً وال طارئاً على تقاليد الثقافة ال�سيا�سية يف لبنان .والكالم امل�ست�أنف بني نخب ّ الطوائف على �إعادة هند�سة الهوية الوطنية اجلامعة ال ّ ينفك ي�صطدم با�ستحالة اجلواب على ال�س�ؤال ّ املركب الآنف الذكر. واقع احلال الآن ،هو �أ�شبه بدوران يف الفراغ .فال �شيء �أم ّر على اللبنانيني من الكالم على تاريخهم. ف�إنه مبعث كل خالف ح�صل بينهم يف املا�ضي وقد يح�صل يف امل�ستقبل .وهو الذي ُيعيدهم �إىل االنحبا�س �ضمن حلقات ال ح�صر لها من ال�سجال حول الهوية واملواطنة واالنتماء والوالء .ف�ض ًال متعدد ّ الطوائف واملذاهب. عن �أنه مبعث خالف ٍ م�ستع�ص حول طبيعة الدولة و�صورتها يف وطن ّ وللنخب ّ الطوائفية اللبنانية مرافعات ع ّزت نظائرها جلهة ما ت�سبغه على تواريخها من �صفات ميتافيزيقية� .سواء على �صعيد كل طائفة بعينها� ،أو على م�ستوى لبنان ككيان طائفي فريد. لكن النقا�ش يف حقيقة تاريخية لبنان م�ستم ّر .وهو ٌ نقا�ش غالباً ما ينطلق من م�س َّلمات عامة :فلو كان لأية جمموعة من الب�شر ،يف �أي مكان� ،أن تخلق لنف�سها �شعوراً بكونها جماع ًة �سيا�سية ،و�أن حتافظ على مثل هذا ال�شعور ،فال بد من �أن تكون لها ر�ؤية موحدة ملا�ضيها .وغالباً ما يكون التاريخ املُت�ص ّور كافياً لهذا الغر�ض يف املجتمعات التي ي�سودها ت�ضامن طبيعي ،ومنها القبائل �أو الع�شائر حتدراً من �أجداد �أ�سطوريني وتكرم ذكرى �أبطال خياليني ( )...وهو ما يع ّزز التي تزعم لنف�سها ّ التالحم بني العنا�صر التي تتك ّون منها القبيلة �أو الع�شرية الواحدة. يقدم لبنان اليوم مثا ًال ممتازاً للمجتمع ال�سيا�سي املحكوم عليه ب�أن يعرف ويفهم احلقائق ال�صحيحة لتاريخه� ،إن هو �أراد البقاء يف الوجود .ولي�ست م�س�ألة كيفية حل التعقيدات ال�شائكة للنزاع احلايل يف لبنان م�س�ألة يقررها امل�ؤرخون .لكن امل�ؤكد هو �أن �أية ت�سوية �سيا�سية يف هذا البلد ،ال ميكن �أن ُيكتب لها الدوام� ،إن هي مل ت�أخذ م�سائل التاريخ يف اعتبارها .ومن قبل �أن ي�أمل �أهل لبنان يف الو�صول �إىل درجة من الت�ضامن االجتماعي متكنهم من الوقوف جنباً �إىل جنب كجماعة �سيا�سية من�سجمة وقابلة للدميومة ،عليهم �أن يعرفوا بدقة ملاذا هم لبنانيون ،وكيف �أ�صبحوا لبنانيني ،وهم مل يكونوا يف الأ�صل �إ َّال جمموعة من ّ الطوائف املتف ّرقة �صودف تواجدها يف بقعة واحدة من الأر�ض. و�إذا مل يفعلوا ذلك -كما يبني امل�ؤرخ كمال ال�صليبي -ف�إنهم �سي�ستم ّرون يف البقاء جمموع ًة من ت�سمي نف�سها "عائالت روحية" من دون �أن يكون لها بال�ضرورة الع�شائر البدائية املتنافرة �أ�ص ًالّ ، جم�ساتهم �إىل العامل اخلارجي �أية عالقة بالروحانيات ،و�سيظلون جميعاً على حذر دائم ،يطلقون ّ يف كل االجتاهات ل�سرب ما ميكن احل�صول عليه هنا �أو هناك من م�ساعدة ودعم ،ا�ستعداداً جلولة �أخرى من النزاع املك�شوف( ). 3
37
�رصاع هوية ووجود
الطائفية بو�صفها حداثة :خالفاً لل�شائعة التي تحُ يل ّ الأطروحة العا�شرة ّ - الطائفية اللبنانية �إىل ثقافات القرون الو�سطى ،ثمة من امل�ؤرخني َمن ين�سبها �إىل احلداثة .القائلون بهذا "االنت�ساب" ي�ؤيدون ر�أيهم بالقول� :إن ّ الطائفية هي مولود تاريخي ظهر �إثر االحتدام اللدود بني "العثمنة" يف طورها الأخري وامربياليات احلداثة الأوروبية .جرى ذلك عملياً قبل اندالع النزاع الأهلي الدموي العام 1860بني امل�سيحيني والدروز .والرواية -ح�سب ه�ؤالء -تبد�أ قبل ذلك ب�سنوات كثرية حني انفتح املجتمع املحلي اللبناين على خطابات الإ�صالح العثمانية والأوروبية .ولعل املفارقة يف هذه اخلطابات �أنها كانت ممتلئة بنربة احلداثة لكنها هي نف�سها التي جعلت من الدين م�سرح املواجهة الكولونيالية بني "غرب م�سيحي" من جهة ،و"�إمرباطورية عثمانية م�سلمة" ،وجد فيها ذلك الغرب "خ�صمه الدائم" من جهة ثانية .فلقد ّبدلت تلك املواجهة على نحو عميق ما �سبق �أن اتخذه الدين من معنى يف جمتمع جيل لبنان ذي املِلل املتعددة .ذلك �أنها � َّأكدت الهوية ّ الطائفية معياراً حيوياً وحيداً للإ�صالح ال�سيا�سي ،و�أ�سا�ساً موثقاً �أوحد للمطالب ال�سيا�سية. الدين يف �شراك والق�صة باخت�صار هي التالية :تعاي�ش بني التقاليد وممار�سات حملية -وقع فيها ِّ عالقات اجتماعية و�سيا�سية معقّدة -من جهة حتديث عثماين غدت له اليد العليا يف �إعادة �صياغة التعريف ال�سيا�سي الذي ُتع ِّر ُف به كل جماعة ذاتها بح�سب ديانتها ( )...ذلك يعني �أن �سرد حكاية ّ الطائفية ال يكون ممكناً �إال باالعرتاف املتوا�صل والإ�شارة امل�ستمرة �إىل التاريخني املحلي واالمربيايل (العاملي) اللذين تفاعال – ت�صادماً وتعاوناً على ال�سواء -لإنتاج خميلة تاريخية جديدة( ). وفقاً لهذه الر�ؤية ال تعود ّ الطائفية جمرد فر�ضية .و�إمنا هي �سريورة واقعية لها زم ُنها الذي ا�ستهلت به حكايتها .وبهذا املعنى ميكن النظر �إىل ّ الطائفية يف لبنان مبا هي مولود جيوبوليتيكي حديث ،ظهر �إىل الوجود بفعل ت�ضافر م�ؤثرات �إقليمية ودولية وجدت لها قابليات حملية يف القرن التا�سع ع�شر. فلقد بزغت ّ الطائفية اللبنانية كممار�سة -كما يبينِّ م�ؤرخوها -حني ن�شب ال�صراع بني النخب املارونية والدرزية ،وبني الأوروبيني والعثمانيني (وهو �صراع �أ�سا�سه طبقي اجتماعي و�سيا�سي وثقايف) حول حتديد عالقة عادلة ِ ومن�صفة لـ "القبيلتني" �أو "الأمتني" الدرزية واملارونية بدولة عثمانية ت�ستهدف التحديث .ثم بزغت تلك ّ الطائفية كثقافة حني ُن ِز َعت الثقة ،عن النظام القدمي يف جبل لبنان يف منت�صف القرن التا�سع ع�شر .وهو نظام كان حمكوماً برتاتب نخبوي .وكانت حتدد املنزلة واملقام يف الدنيا ،ال االنتماء �إىل الدين .وهكذا فتح انهيار النظام ال�سيا�سة هي التي ِّ القدمي ف�ضا ًء ل�شكل جديد من ال�سيا�سة والتمثيل يقوم على لغة امل�ساواة الدينية .ولقد �أعلى هذا التح ّول من �ش�أن ّ الطائفة بد ًال من املكانة النخبوية (االجتماعية والطبقية) ،وجعلها الأ�سا�س لأي والتح�ضر .وبالتالزم مع كل هذا ،تط َّورت ّ الطائفية �أي�ضاً م�شروع من م�شروعات التحديث واملواطنة ُّ كخطاب� .أي كمجموعة من االفرتا�ضات والكتابات التي و�صفت هذه الذاتية املتغيرِّ ة �ضمن �سرد التحديث العثماين والأوروبي واللبناين( ). 4
5
38
الطّ ائفية بو�صفها معرفة وممار�سة
�سوف نقع يف هذا املجال ،على ُمنف ََ�س ٍح �آخر من النظر ال يرى �إىل ّ الطائفية ،على �أنها جمرد موروث عثماين� ،أو �صيغة ثقافية قانونية من �صيغ املعرفة اال�ستعمارية الغربية ،وال هي �أي�ضاً ،واقع ميكن ر ّد مزيج جذوره �إىل ٍ ما�ض معينّ �سابق على احلقبة الكولونيالية� ...إنها -بنظر �أ�صحاب هذه الر�ؤية ٌ - من �إدراكات وا�ستعارات ووقائع ما قبل كولونيالية (�سابقة على ع�صر الإ�صالح العثماين) وما بعد كولونيالية (خالل ع�صر الإ�صالح) .بعبارة �أخرى ،ف�إن ّ الطائفية -والكالم له�ؤالء -معرف ٌة "حداثية" لأنها �أُنت َِجت يف �سياق الهيمنة الأوروبية والإ�صالحات العثمانية ،ولأن املف�صحني عنها على م�ستوى كولونيايل (�أوروبي) و�إمرباطوري (عثماين) وحملي (لبناين) -يعتربون �أنف�سهمحديثني ي�ستخدمون املا�ضي التاريخي لتربير مطالب راهنة وتطور م�ستقبلي .وبقدر ما متثل ّ الطائفية معرفة كولونيالية حقاً ،ف�إنها متثل �أي�ضاً وجوهرياً معرفة عثمانية �إمرباطورية ،ومعرفة قومية حملية ال يتم �إنتاجها بعد الكولونيالية �أو رداً عليها ،بل بالتزامن مع املعرفة الكولونيالية و ُمثُلها( ). لقد �أراد هذا التحليل التاريخي �أن ُيف�سح عن املنطقة الرمادية التي انغمرت بها حلظات اال�ستبدال َ وال�شريكني االمربياليني ال�صاعدين بريطانيا اال�ستعماري بني الإمرباطورية العثمانية املتهالكة، وفرن�سا .فلقد جرت الأمور على نحو بدت فيه املواجهة بني ال�سلطنة العثمانية وامل�ستعمرين اجلدد (الفرن�سيون واالنكليز) وك�أنها م�سرح تفاعل ثقايف ي�ستغله �ساكنو اجلبل اللبناين بطريقة حم�سوبة وواعية من �أجل بلورة هوية كيانية ذات م�ضامني و�شروط جيو � -سيا�سية. وهكذا فقد عمدت كل من بريطانيا وفرن�سا ،وبتواط�ؤ مع العثمانيني �إىل تنظيم �أوجه خمتلفة من املواجهة .وقد وفَّر هذا التنظيم لل�سكان املحليني يف جبل لبنان ُ�سب ًال لإعادة ت�أويل تاريخهم، وتعريفهم اخلا�ص لأنف�سهم كطوائف ،ونظامهم االجتماعي ال�صلب واجلامد .وال �شك يف �أن القوة لعبت دوراً حا�سماً ،ذلك لأن هذه املواجهة مل تكن متكافئة ب�أي حال من الأحوال ،وغالباً ما جرى دف ُع ذلك الدفق من الإيديولوجيات واملمار�سات التغيريية من الآ�ستانة وباري�س ولندن �إىل جبل لبنان ،حيث جاءت ح�صيل ُة هذا التبادل ،ظهور ّ الطائفية بو�صفها معرفة وممار�سة على ال�سواء( ). �إذا كانت الأ�س�س والقواعد ّ الطائفية قد ُر�سِ مت و�أُن�شِ ئت و�أ�صبحت واقعاً ُمب َّيناً بدول ٍة وم� ٍ ؤ�س�سات ود�ستو ٍر وقوانني ،وحتت رعاية وحماية الإرادتني الأوروبية والعثمانية ..ف�إنّ ا�ستمرارها مل يفارق الرعاية والت�أثري اخلارجيني .والذي جرى هو �أن ّ الطائفية راحت ت�ست�أنف والداتها بت�سديد وت�أييد من �إرادات دولية و�إقليمية تعاقبت على مدى احلقبة التي تلت اال�ستقالل .هذا ُيف�ضي �إىل �أنّ قواعد النظام ال�سيا�سي ّ الطائفي يف لبنان ،مل تغادر الرتتيبات التي �آلت �إليها خرائط املنازعات اخلارجية وم�ؤثراتها منذ العام ،1860مروراً بال�سل�سلة الهائلة من املنعطفات التاريخية التي �شهدها القرن الع�شرون املن�صرم .ول�سوف يظهر لنا بو�ضوح �أن اجليو�سرتاتيجيا املعا�صرة ،وخ�صو�صاً مع 6
7
39
�رصاع هوية ووجود
ن�شوء دولة �إ�سرائيل يف فل�سطني ،تعاملت مع لبنان و�أزماته على القاعدة �إ ّياها التي تعاملت فيها معه �إمرباطوريات القرن التا�سع ع�شر.
ي�ؤلف بني �أطياف لبنانية خالف بع�ضها بع�ضاً ،وكان لها �أن تعود لت�أتلف على "ف�ضيلة التقليد". ولذا ف�إن املا�ضي ال�سيا�سي االجتماعي للبنان وعلى امتداد �ستني عاماً� ،سيجري على ن�صاب تلك الف�ضيلة� .أما اللحظة اللبنانية اجلارية ،و�إن اكت�ست بطبقات الغمو�ض الكثيف ،ف�إنها مل ُ تخل من النقا�ش على "ال�شيحوية" وكلماتها وتوجيهاتها .فلقد بدا واقع احلال كما لو �أن "الت�سوية التاريخية" امل�أمولة ،لن حتيد عن تلك الكلمات والتوجيهات.
املواطنة يف فل�سفة الطّ ائفية
املدينة "الطّ ائفية" الفا�ضلة
[]2
�سوف نفرت�ض �أنّ حزمة الأطروحات التي م ّر الكالم عليها ،ت�ؤلف على اجلملة ،مفاتيح معرفية لالقرتاب من فهم املنطق الداخلي ّ لت�شكالت وقائع املواطنة يف لبنان .فالقول ال�سيا�سي ّ الطائفي امل� ِّؤ�س�س للكيان اللبناين� ،سيكون له فعله احلا�سم ،يف بناء و�إعادة بناء ال�شخ�صية اللبنانية �أفراداً وجماعات .لقد � َّأ�س�س "قول ّ الطوائف امل�أثور" قلعة ثقافية و�إيديولوجية عملت جماعة من رواد الفكر الكياين اللبناين ،وال �سيما يف البيئة امل�سيحية ،على بلورتها وتقدميها ك�أيقونة فل�سفية مقد�سة .على هذا النحو ،جرى الكالم على فرادة لبنان .وحتديداً على فرادة احل ِّيز اجلغرايف الذي ي�سكنه م�سيحيو جبل لبنان .وما ذهب �إليه امل�ؤرخ جواد بول�س كان ج َّلياً من هذه الناحية ،ملَّا بينَّ "�أن لبنان �أمة جغرافية ،و�أن اجلغرافيا هي التي ت�صنع التاريخ ،والتاريخ هو الذي ي�صنع ال�سيا�سة". ول�سوف نرى �أي�ضاً كيف �أن عقيدة �سيا�سية كهذه ،قد و ّلدت طرازاً خا�صاً من مواطنية ذات طبيعة عن�صرية ا�ستعالئية .ولئن كان لنا �أن نبينِّ مرجعية هذه العقيدة ف�سيظهر مي�شال �شيحا ك�أحد �أبرز وا�ضعي بناءها الإيديولوجي .ن�شري يف هذا ال�ش�أن �إىل �أنّ حمور فل�سفة �شيحا ،هو حتويل ّ الطائفية �إىل نظام �سيا�سي واجتماعي واقت�صادي و�إ�سباغ ال�شرعية الد�ستورية والأخالقية عليه .وملَّا مل يكن �إدراك وفهم �أي �ش�أن من �ش�ؤون لبنان منذ ت�أ�سي�سه يف العام � ،1920إال انطالقاً من املعتقد ّ الطائفي الذي �أقام �شيحا بناءه املعريف ،ف�إن �إدراك طبيعة واقع املواطنة لن يغادر احليا�ض املتني لذلك املعتقد .وعلى ن�صاب هذا الإدراك� ،سوف يت�سنى لنا فهم العلة اجلوهرية التي جتعل ّ الطائفية مرجعية متعالية لرعاية الت�سويات التي تعقب كل حرب �أهلية� ،أو �أية عا�صفة �سيا�سية تروح ت�ضرب لبنان على مدى تاريخه اال�ستقاليل .لقد �أر�سى �شيحا منظومة فكرية �سوف ت�شكل مرجعاً ودليل عمل لعقود من الزمن .ولقد ِّقدر له �أن ي�ضع مو�ضع التنفيذ عدداً ال ُي�ستهان به من �أفكاره .وميكن الت�أكيد فوق ذلك كله �أن فكره �سيمار�س ت�أثرياً حا�سماً على الأجيال التالية� ،إذ كانت �أفكاره وطروحاته و�شعاراته حمركاً للفكر ال�سيا�سي واالقت�صادي الالحق ،وم�صدر �إلهام للعديد من تالمذته الذين احتلوا املنا�صب الأوىل يف الدولة والإدارة( ) .وال�شيء ال ّالفت يف الأزمنة اللبنانية حل على اللبنانيني �س�ؤال الت�سوية الداخلية ،ا�ست�أنفوا جد ًال ُ املت�أخرة� ،أنه كلما ّ عظ َم �ش�أنه وات�سع مداه ،حول �صيغة اجلمع يف ما بينهم ..ويف كل مرة كانوا ينعطفون فيها نحو ذلك ال�س�ؤال ،كان مي�شال �شيحا ميلأ م�ساحة ب ّينة يف ثقافتنا ال�سيا�سية ،حتى ليكاد ذلك "الفيل�سوف الكياين" �أن 8
40
لقد ّنظر �شيحا للوطن اللبناين املت�ص َّورَ ،ف َر َف َع ُه �إىل مقامني يبدوان متفارقني ب�شدة: ليظن القارئ �أنه ب�إزاء بيت م�ش ّيد بال�شعر� ،أو حيال مكان جيو - �أولهما مقام الأ�سطورة ،حتى ّ ميتافيزيقي ،ال ي�شبه �أمكنة الدنيا ،وال ت�شبهه هي يف �شيء. وثانيهما مقام الواقع ،حتى يكاد املرء �أن يح�سب الرجل �سيا�سياً من طراز ماكيافيلي �أو هوبز� ،أو ابن املقفّع ،لكن على الطريقة اللبنانية التي ع َّودنا عليها �سيا�سيو ّ الطوائف .منذ اال�ستقالل �إىل ما بعد ّ الطائف� .إن هذا املفكر امل�سيحي الكلداين الذي جاءت عائلته من العراق� ،سيكون �سكرتري اللجنة التي و�ضعت م�س َّودة الد�ستور اللبناين العام 1969ليكون من �أبرز ِّ املخططني الرئي�سيني للبنية ال�سيا�سية ،واالقت�صادية اللبنانية بعد اال�ستقالل .فلبنان بالن�سبة اليه "بلد احللم والواقع معاً" .ك�أمنا تريد فل�سفته �أن تقيم ملدينته الفا�ضلة �سياجاً من عقل �صارم يحميها من ٍ موات �أكيد. ولهذا راح يبينّ منذ العام � 1942أن الدميقراطية هي ال�صيغة الوحيدة التي تالئم لبنان ،ويقول: "ال بد من جمل�س يكون مركز التقاء وتوحيد للطوائف يف �سبيل حتقيق �إ�شراف م�شرتك على احلياة ال�سيا�سية يف الأمة .فحني ُيلغى املجل�سُ ،ينقل اجلدل حتماً �إىل املحراب (من حرب) �أو �إىل ظ ّله ،فتت�أخر بالتايل م�سرية التن�شئة املدن ّية ..فـ "ال ينا�سب لبنان ركوب الر�أ�س وال مركب االنقالبات� ..سيكون عليه �أن يتجنب الطغيان ،و�سيطرة البع�ض على البع�ض الآخر ،ليتفادى بالتايل كل �أنواع اال�ضطرابات" .وما ال ريب فيه �أن "العقل الت�سووي" الذي دعا �شيحا اللبنانيني �إليه ،ليع�صمهم من كواره الزمن ،هو املنجز الفل�سفي -ال�سيا�سي الذي �سي�ؤلف بينهم ،ويد ّبر والتوحد من لهم اجتماعهم ّ وتوحدهم .وبعد هذا فهو (املنجز) الذي ي�صون الإلفة من الف ِْرقةُّ ، ِّ والت�شظي .والأهم من ذلك كله �أن هذا املنجز الفل�سفي -ال�سيا�سي نف�سه ،هو الذي االن�شطار �آل �إىل �أن يكون د�ستوراً يف العام ،1926وميثاقاً وطنياً ُحمِ َل عليه اال�ستقالل العام .1943بل ّثمة من مي�ضي لي�صل �إىل اتفاق ّ الطائف ليقول �إن هذا االتفاق انتزع من "ال�شيحوية" ع�صارة الف�ؤاد. بهذه املوا�صفات ر�سمت "ال�شيحوية" ماهية بلد عجيب َّ والتعدد ،بعدما تركب على الكرثة ّ �صارت هذه الثنائية ال�سيا�سية تقليداً ،و�صار التقليد �سلطة مع ّززة بالقانون� .إنها �سلطة َ "الكرثة 41
�رصاع هوية ووجود
ّ املركبة" نف�سها التي افرت�ض �شيحا �أنها ت�ستطيع �أن ت�ؤ ِّمن للبلد �أمنه وثباته ،فتع�صمه من التذرر واالنفراط .كان مي�شال �شيحا م�ؤمناً ب�أن لبنان "بلد يجب �أن يدفع التقليد عنه �ش َّر العنف" .كما �أنه وعى مبكراً فر�ضية التناق�ض بني ّ الطوائف ،ف�أراد �أن ي�ؤ�س�س ملنطق ينزع من االجتماع ال�سيا�سي العتيد عوامل انفجاره .غري �أن االختبارات االوىل للفل�سفة ال�شيحوية� ،سرعان ما وقعت يف �شرك منطقها املتناق�ض� .إذ �سيتبينّ بعد �سنوات قليلة من التجربة بهتان منطق ي�ص ُّر على �أن ي�ستولد من ق�ضية مهزوزة ،نتيجة م�ستقرة. اجتهادان متعاك�سان
مت�ض �إىل القرب مع �صاحبها .و�سيكون لها مع كل "نائبة" ّ حتل على الأكيد �أن "ال�شيحوية" مل ِ ن�صيب من احل�ضور .وعلى الرغم من ت�شكيك الكثريين بجدواها كمرجعية فكرية لت�سوية لبنان ٌ الأزمات الكربى ،فلم يفلح امل�شككون بعزلها عن ميادين الثقافة ال�سيا�سية .فال يزال �إىل يومنا يوجد ما ي�شبه حرباً فكرية باردة بني اجتهادين متفارقني� ،سوى �أنهما ينتميان بهذا القدر �أو ذاك �إىل الأ�سئلة نف�سها التي قدمها مي�شال �شيحا: االجتهاد الأول� :إن لبنان بلد ا�ستثنائي ك ّرمته ال�سماء ،فعر�ضت عليه طوائفه ،فكان بها وجوداً �أ�صي ًال .ولبنان هذا� ،صارت ّ الطوائف واملذاهب بالن�سبة �إليه ع ّلت ُه الف�ضلى .بها يقوم ويرتقى ويدوم ،وطناً لأهله املختلفني امل َّتحدِ يِن على ع�شق ال يزول. واالجتهاد الثاين� :إن لبنان قد َل َع َن ْت ُه احلتميات التاريخية واجلغرافية على ال�سواء ،وكانت النتيجة �أن خلعت طوائ ُف ُه عليه لونها املخ�صو�ص ،وراحت تنزع منه ،منذ �أول التقاء بينها على �أر�ض ال�سيا�سة� ،إىل قطع �صالت الو�صل التي جتعله وطناً جامعاً ملواطنيه� .إن لبنان على ر�أي �أهل هذا االجتهاد ،لي�س غري ماهية خم�صو�صة بالفقر� ،أي �أنه بلد ال ِم ْنعة له ب�إزاء اال�ضطراب ،فهو مقيم على قلق طوائفه� ،إما لعلة يف ذات كل واحدة منها ،كما لو �أن �شعوراً ي�سكنها ب�أنها مغدورة من �أخواتها ال ّالتي ي�شاركنها باب الدولة العايل ..و�إما ب�سبب من لعبة انتهاب متبادل يف ما بني الأخوات املت�شاركات كلهن� ،أف�ضت �إىل ثنائية اخلوف والغنب ..حيث تر َّتب على هذه الثنائية من الآثار ما انت�صبت ب�سببها ُج ُد ٌر حالت دون ا�ستنبات مواطنية حقيقية .وكان احلا�صل جراء هذين (العلة وال�سبب) �أن تع ّر�ض ُ البلد النفجارات دورية مد ّوية .ومع �أن كال االجتهادين املنق�ض َيينْ ي�سمى اتفاق ّ الطائف ،فهما ال يزاالن على قد هبطا الآن �إىل ما دون احلد ال�سيا�سي الذي و�ضعه ّ الن�ش�أة نف�سها� ،أي بو�صفهما م�صدرين يغذيان �سجا ًال ال ينتهي حول م�ستقبل النظام واملجتمع ّ والطوائف يف لبنان.
42
ا�ستئناف الوطن الطّ ائفي
امل�شهد اللبناين املعا�صر ،وك�أنه ا�ستئناف �صريح حلكاية الوطن ّ الطائفي .و�سيكون للبنانيني يظهر ُ من �أمرهم هذا حكمة :فالدولة يف زمن ما بعد احلروب الأهلية ،والأزمات ال�سيا�سية احلادة ذات دور ينبغي �أال تكون �سواه :حمطة ال�ستقبال حماربي ّ الطوائف .لقد كان من م�آثر "الدولة اجلديدة" التي توىل �أم ُرها املحاربون �أن فتحت �أذرعها حلداثويي ّ "الطوائف" .يف االقت�صاد ،واملال، وال�سيا�سة ،والثقافة ،لتكون منزلهم الآمن بعد قليل ،ولت�صري القمي�ص الذي يلب�سونه ب�شغف وم�س ّرة ..ثم لتم�ضي الأفكار والأحالم والآمال لت�صاغ من جانب ه�ؤالء على نحو ما ن�ش�أ عليه البلد تبدل يف ماه ّية ال�سلطة ّ الطوائفية التي حفظت الكيان ،ثم كانت �سبباً يف �أول مرة .مع �أن ال �شيء ّ تقوي�ضه غري مرة( ) .ومع ذلك ففي الأ�سئلة املحتجبة اليوم� ،أو يف تلك التي تتهي�أ للظهور ،كان ثمة عودة �إىل الكالم على "ال�شيحوية" من دون ا�ستئذان .كما لو �أن املنطق اللبناين ال�شائع يفرت�ض املماهاة جمدداً بني القيامة اللبنانية املفرت�ضة ،ور�ؤى مي�شال �شيحا .بعد احلرب بانَ لنا امل�شهد على �أمتّه ،حيث ذهبت النخب �إىل ا�ستعادة هذه الر�ؤى ق�صد تعيني دور ووظيفة جديدين للبنان .وكل هذا �ضمن توليف مزعوم من العقالنية ال�صارمة بني الأيديولوجيا ّ الطوائفية واملال .لقد ابتعثت �أزمنة احلرب وما بعدها حنيناً للتقليد ،ثم مل يلبث هذا احلنني ليتح ّول �شيئاً ف�شيئاً �إىل قوة تدفع ببلد مثقل بالأتعاب �إىل ف�ضاء "النيوليربالية" ال ّالمتناهي .مثلما راحت هذه النيوليربالية تن�شئ الدولة و�أحكامها على ال�سرية الأوىل التي نه�ض الوطن ّ الطائفي .كان مي�شال �شيحا يعتز ويطمئن �إىل كونه �أبدع للبنان نظرية ال�ستقراره وازدهاره ،هي نظرية االعت�صام بالتقليد اجتناباً للعنف واحلروب الأهلية .و�ساد ما ي�شبه االعتقاد ب�أن طوائفية هذا البلد هي ع ّلة وجوده ،وال �صالح �إال بها وعليها ومن خاللها .ك�أن ثمة من ين ِّب ُهنا على الدوام� ،أن كونوا على حذر من عنف واحرتاب ولو بعد حني� ،إن �أنتم َم َ�س ْ�س ُتم التقليد �أو �أ َحل ْق ُتم بقواعده وثوابته الأذى .يت�ساءل كمال ال�صليبي يف ختام الف�صل التا�سع من كتابه "بيت مبنازل كثرية"( ) ،وهو على �شيء من عدم اليقني ،عن فر�ص النجاح التي كانت متوافرة �أمام رعاية عقالنية للتقليد يف جمتمع ال يلتزم فيه اجلميع يف الدرجة نف�سها بالعقالنية ،ويف وقت �أعطيت فيه حتى للعقالنية تف�سريات �سيا�سية خمتلفة .لعل �شيحا كان مهموماً بالفعل مبثل هذا الت�سا�ؤل� ،إال �أن قد َر ُه مل ي�سعفه ليظهر له احل�صاد املرير ،فها هو العنف ينفجر �آخر الأمر ويطيح بالتقاليد التي كان لها وحدها يف ر�أيه� ،أن حتافظ على املثالية الفينيقية املت�ص َّورة .لكن ال�صليبي يعود ليمنح �شيحا حقه يف "�أنه كان على حق" -ولو لوقت معلوم -حني ر�أى �أن العنف الكامن يف لبنان ،ال ميكن احتوا�ؤه �إال بالر�أي ال�سيا�سي ال�صائب. ول�سنا ندري �إن كان الفرقاء الإقليميون والدوليون الذين و�ضعوا �أو باركوا �سالم ّ الطائف قد ا�ستم�سكوا ٍ يومئذ بالر�أي ال�صائب .غري �أن ال�س�ؤال الذي يبقى على �أحواله املا�ضية مع جرعة زائدة من التعقيد ،هو حول ما �إذا كانت ال�شيحوية وفل�سفتها ودعواها �إىل التقليد ،ال تنفك تنعقد على ف�ضيلة الت�سوية التاريخية. 9
10
43
�رصاع هوية ووجود
الطّ وائفي ي�شجب الطّ ائفي
رغم �أن مي�شال �شيحا َف ْل َ�س َف ال�صيغة ّ الطائفية بو�صفها الطريق الذي ينبغي االلتزام به حلماية الكيان من االنفجار والت�شظي ،ف�إنه بعد فرتة ق�صرية من املعاينة مل يوفر تلك ال�صيغة من النقد. فبعد ثالث �سنوات على �إعالن اال�ستقالل �أي يف العام ،1945حيث بد�أت ممار�سة امليثاق الوطني عملياً من خالل رئا�سة ب�شارة اخلوري وحكومة ريا�ض ال�صلح ،طرح مي�شال �شيحا يف �إحدى مقاالته �س�ؤا ًال بعد �أن الحظ الت�سابق بني ممثلي ّ الطوائف على الوزارات "متى ت�صبح هذي البالد بجد على غري طائفية؟" .ثم �أجاب ب�صيغة التمني واحللم على ال�شكل التايل" :يوم تنعق ُِد النية ٍّ �أ َّال يبقى لبنان بالداً طائفية� ،سيكون لزاماً على كل طائفة القبول دون كثري من ال�صياح� ،أن يكون متثيلها يف بع�ض الأحيان �أدنى من حجمها يف �أحيان �أخرى ...وي�ضيف مت�سائ ًال ،و�أي �ضري يف �أن تغيب عن احلكومة طائفتان �أو ثالث يف وقت من الأوقات؟"( ). غالب الظن �أن فيل�سوف ال�صيغة ّ الطائفية كان حممو ًال على االنفعال ،جراء ما كان يراه من م�شاجرات حول ق�سمة املغامن بني زعماء ّ الطوائف يف ذلك الوقت .ومع �أن تعليقه املحموم جاء يف حلظة �ساخطة على م�شهدية التنازع على ال�سلطة ،ف�إن كثريين ذهبوا �إىل �أن كالماً من ذاك النوع كان ينبئ بفداحة ما تنطوي عليه ّ الطائفية من �شرور على م�ستقبل الكيان .ومع ذلك بقيت ّ الطائفية يف نظر �أتباع املذهب ال�شيحوي مق ّوماً وجودياً للبنان .و�سنقر�أ ما ال ح�صر من التنظريات ال�سابقة على احلرب الأهلية وال َّالحقة عليها م�ؤداها� ،أن ّ الطوائف امل�سيحية والإ�سالمية ت�شكل متحدات اجتماعية ثقافية كلية ،لكل منها هوية خا�صة ت�شكل �إطاراً النتماء ،هو الأقوى والأثبت من بني جميع االنتماءات االجتماعية وال�سيا�سية بالن�سبة �إىل الأفراد واملجموعات يف لبنان. 11
الوطن الطّ ائفي مبا هو �رش ٌ ال منا�ص منه
لقد ّر�سخت التحوالت املتعاقبة يف تاريخ ما بعد اال�ستقالل قناعات م�ؤداها �أن ّ الطائفية لي�ست جمرد حالة عار�ضة على بنية الوطن والدولة .و�إمنا هي ركن جوهري يف قيامة لبنان احلديثة واملعا�صرة. وال ّالفت �أن هذه القناعات مل تتزعزع على الرغم مما تنطوي عليه الن�صو�ص الد�ستورية من بنود تغاير ذلك .فلقد �أ�شار كل من الد�ستور اللبناين ال�صادر العام 1926و"�صيغة" احلكم التي اتفق عليها العام 1943ا�ستكما ًال لـ"امليثاق الوطني" �إىل �أن اعتماد النظام ّ الطائفي �إمنا هو تدبري انتقايل وحمدود و�إن كان �ضرورياً من الناحية ال�سيا�سية .ومعلوم �أن مهند�سي هذه "ال�صيغة" طاملا حذروا و�شددوا على كونه تدبرياً موقتاً� .إال �أن ّ من املخاطر املالزمة العتماد النظام ّ الطائفية، الطائفي ّ خالفاً حلكمة ه�ؤالء ،انت�شرت وجنحت يف التحكم بعمل �أجهزة الدولة وم�ؤ�س�ساتها كافة يف الفرتة املمتدة بني اال�ستقالل وانفجار النزاع الأهلي العام ،1975حيث جرى خاللها �إدخال القاعدة 44
ّ الطائفية يف ن�ص قانون املوظفني ال�صادر العام .1959ومن ذلك احلني �سهر جمل�س �شورى الدولة على تطبيقها بدقة وتفانٍ ال ت�شوبهما �شائبة� .إ�ضافة �إىل ذلك� ،صدرت ت�شريعات جديدة منحت ّ الطوائف اللبنانية �صالحيات وا�سعة لإدارة �ش�ؤونها الداخلية وم�ؤ�س�ساتها ولتنظيم �أهم الأوجه املتعلقة بق�ضايا العائلة .والأحوال ال�شخ�صية لأع�ضائها .وحقيقة الأمر �أن ما حدث خالل هذه الفرتة هو تعزيز للطائفية ،بينما كان الت�صور الأ�صلي �أن الزمن هو الكفيل بزوالها .ثم �أتت �سنوات احلرب الأهلية ،التي ع�صفت بلبنان يف العام ،1975لرتفع من حدة ال�شعور واالنتماء ّ الطائفيني وتزيد من الأحكام امل�سبقة ،حيث ت�ضاعفت هذه املمار�سات ّ الطائفية .وبنتيجة ما ارت�سمت به هذه الطائفية واملطالب ّ الطائفي ،ومن غلبة املطالب ّ احلقبة من �شدة اال�ستقطاب ّ الطائفية امل�ضادة على احلياة ال�سيا�سية ،ومن تعاظم لدور اجلماعة ّ الطائفية امل�سلحة املعروفة بامليلي�شيات ،مل ي ُعد ثمة من خيار واقعي لوقف دورة العنف املت�صاعدة التي غرقت البالد فيها �إال بالو�صول �إىل �صيغة جديدة لتوزيع ال�سلطة ال�سيا�سية بني ّ الطوائف اللبنانية الرئي�سية ،وبت�أمني موافقة زعماء هذه اجلماعات عليها ،وال �سيما قادة امليلي�شيات امل�سلحة .هنا تكمن ميزة اتفاق ّ الطائف و�أهميته .من حيث هو تعبري عن �صفقة طائفية "جديدة" جعلت �إ�سكات البنادق ممكناً ،كما �سمح بالعودة التدريجية �إىل الطائف" �سوف ِّ الأ�ساليب والو�سائل ال�سلمية للعمل ال�سيا�سي .لكن "ميثاق ّ ي�شكل ،با�ستثناء �إجناز التغطية الد�ستورية وال�سيا�سية لإنهاء احلرب الأهلية والدخول يف �إعادة بناء احلياة املدنية ال�سلمية – حمطة م�ست�أنفة لإنتاج النظام ّ الطائفي يف لبنان .ومبعنى �أكرث حتديداً وعمقاً ف�إن االتفاق واملرتكزات الد�ستورية التي قام عليها كان �أدنى �إىل ميثاق لإدارة احلرب الباردة بني ّ الطوائف ،منه �إىل ت�سوية تاريخية را�سخة بينها. ثقافة املواطنة يف كهف الطّ ائفة
حالت احلرب ،وكذلك �سوء �إدارة الو�ضع ال�سيا�سي بعد ّ الطائف ..دون متو�ضع النخب الالطائفية يف �أوعية املواطنية املت�صلة .ثم ا�ضط ُـ َّرت هذه النخب �إىل �إرجاء رغباتها ،لتن�ضوي "طوعاً" �أو بالإكراه حتت ظالل ال�سلطة الأهلية� ،إ َّال �أنها كانت تنتظر وتت�أمل �أن تنفلت ذات يوم من قب�ضة تلك ال�سلطة .بينما كانت يف الآن عينه مم�سكة ب�أحالمها :وت�ستهدف وطناً �صافياً من العنف، امتد وحياة �أهلية باردة ،و�سياقاً ينظم َح َيوات مواطنيها على كل �صعيد ...غري �أن اخلواء ال�سيا�سي َّ يف الأرجاء اللبنانية ل ُيم�سي �أ�شد كثافة وان�ضغاطاً .ف�إذا االنتظار والأمل ي�ستحيالن �ضرباً من �سلوك الطائفية .لقد بدا اال�ستغراق يف الرهان على �سلطة ّ ا�ست�سالمي حيال الإرادة ّ الطائفة �أ�شبه ب�أيقونة مقد�سة حتجب ع�صب املمانعة ورغبة االحتجاج .ويف ال�صورة ما ي�ؤمئ �إىل �أنَّ كرثة من البيئات ذات التفكري العلماين �أو املدين الذت بال�صمت حيال ال�سائد ال�سيا�سي الذي تعي�ش حتت ظله "اجليو-طائفي" .ح�صل هذا بالفعل منذ اللحظة التي �أ�سقطت فيها هذه البيئات من ح�سابها خط 45
�رصاع هوية ووجود
االعرتا�ض .ثم م�ضت يف رحلة العزوف والك�سل ،حتى �أن م�ساحات يف زمن العنف َّ حل فيها مثقفون راحوا يرفعون رايات طوائفهم ،ويحاربون ب�سالحها ،بعدما �سقطوا يف �إغواءات �شعائرها و�أحكامها .مل ي�ستطع املثقَّف ال َّالطائفي �أن يبتني له منز ًال يتوازن فيه مع من ي�سكن قالع ّ الطائفية ين�ضم �إىل مواطنية جماعية م�ستقلة فيقيم لنف�سه فيها ح�صناً ي�أوي �إليه� ،أو �أن ين�شئ ّ ال�صماء ،ك�أن َّ �سوي .ويف احلاالت الق�صوى كان عليه �إجراء موازنة له حيزاً ي�شعر فيه بنعمة العي�ش كمواطن ّ دقيقة ،حذرة ،بني رغبته يف املخالفة واملمانعة والنقد ،وبني �ضغط ّ الطائفة التي ال تفت�أ حت�شره يف �سعري �شعائرها املحمومة .فلقد َّ ظل املثقّف الالطائفي �أ�سري �شبكة ا�ستقطابات فر�ضها منطق اللعبة ّ الطوائفية .مثلما افرت�ضها عليه �سلوك كل طائفة جتاه رعاياها ،يف �إطار �سيادتها املناطقية واحلزبية واالجتماعية. لقد ظهر بو�ضوح مع اختبارات الأعوام املن�صرمة� ،أن حركة اال�ستقطاب اللبناين الداخلي ظ ّلت على حالها؛ يف احلرب كما هي يف زمن ما بعد احلرب .الـ"ما قبل" يت�صل ويتوا�صل بالـ"ما بعد". مل يح�صل االنقطاع بني العنف وال�سالم الأهلي كزمنني اجتماعيني تاريخيني متغايرين ،حيث يفرت�ض �أن ي�ؤلف الزمن التايل نفياً ونقي�ضاً للزمن الذي فات .وحدها ق�شرة ال�سيا�سة والثقافة التبدل ،بينما بقيت يف جوهرها تغتذي من ن�ش�أتها االوىل .لقد واالجتماع هي التي َع َر�ض عليها ّ خُ ِّيل للبنانيني �أنهم بعد ّ الطائف بلغوا حقول �أحالمهم بدولة مواطنني� .سوى �أن ما بدا لهم بو�صفه �أحالماً واقعية ت�أخذ �سبيلها �إىل التحقق ،مل ين�صرم وقت حتى ذوى ك�سراب �صحراوي .لقد بقي الطائفية والدولة املت�ص َّورة .ثم م�شت ّ احلبل ال�سري مو�صو ًال ب�شدة بني ال�سلطة الأهلية ّ "الطوائف ال�سيا�سية" على طريق الدولة مزه ّوة مبا جمعته خالل احلروب املوقوفة وامل�ست�أنفة من ح�صاد القوة، املعدة �إعداداً متقناً ،واملحم ّية من ظالل املحيطني حطـت على �أر�ض ال�شرعية الد�ستورية ّ حتى �إذا َّ الإقليمي والدويلَ ،ف َت َحت هذه ّ الطوائف على احرتاب بارد القت�سام احل�ص�ص واملغامن .هكذا ُق ِّي َ�ض ملفهوم الدولة �ضمن �أزمنة ال�سالم ال�سيا�سي دور ينبغي �أال يكون �سواه :حمطة ال�ستقبال حماربي ّ الطوائف .وم�ستوعباً �شرعياً يجمعهم �إثر �شتات مديد. لقد بدت الرحلة منذ اتفاق ّ الطائف 1989و�صو ًال �إىل اتفاق الدوحة 2008على �صورة تاريخ راق�ص يكرر ذاته بال انقطاع .ف�إن هذه الرحلة مل متلك �أن تتجاوز لعبة َخب ِـ َرها اللبنانيون على امتداد �سنني طويلة� .إذ يف غ�ضون فرتة ق�صرية �أخذت تتو�ضح معامل حياة ،ال جديد فيها �سوى �أ�شخا�ص ،و�أحداث ،و�شعارات ،ومظاهر ،لثقافة �سيا�سية باهتة .حتى ال�سلطة التي ت�آلفت عنا�صرها حتت عناوين امل�ؤ�س�سات الد�ستورية خرجت كمولود من املا�ضي .و�شعر اللبنانيون ،ومثقفوهم ال ّالطائفيون على اخل�صو�ص� ،أن يف الأفق املقبل ما ي�شي بخيبة� .إنهم يعرفون بالفطرة واملعاينة �أن ال�سلطة� ،أي �سلطة� ،إمنا هي على الدوام �إغواء بال�سوء� ،إذ �سرعان ما تتح َّول �إىل جهاز مينع ويقمع. املتطلـعة ب�شغف �إىل مواقع النفوذ� ،إىل جهاز منع وقمع �إ�ضايف ملن فمن البداهة� ،أن تتح ّول النخبة َّ يخالفها الر�أي .ول�سوف نتع َّرف من خالل ما حملته �إلينا �سنوات ما بعد احلرب ،على حقيقة �أنّ 46
الطائفة حني ي�صبح هو نف�سه النظام ّ نظام ّ الطائفي ت�صبح ال�سلطة التنفيذية املعبرِّ ة عنه مبثابة هيئة �إق�صائية لكل ما هو "غري" .ونافية بالتايل لكل ما هو خارج قيمها ،وم�صاحلها ،وثقافتها ،وكلماتها اليومية. تطبيق الدميقراطية
�سوف يولد �أ�سلوب عي�ش يف الثقافة وال�سيا�سة ،غايته الق�صوى �ضبط كل حماولة ت�س�أل �أو ت�شكك يف املنظومة ال�سائدة .ولقد ظهرت �صورة الدميقراطية ّ الطوائفية هذه املرة باهتة ومنقب�ضة وم�سيطراً عليها �أكرث من �أي يوم م�ضى .ولعل ال�سمة املميزة لتلك ال�صورة �أن الدميقراطية دخلت يف عامل ّ الطوائف لتتحول معها �إىل رافعة �أيديولوجية توظفها كل طائفة لتعزيز ح�ضورها بني �أبنائها وداخل الدولة .ولنا يف ما ح�صل من ربط للمجتمع الثقايف ب�أغالل ّ الطائفيات ال�سيا�سية املتنوعة عن طريق احتواء ال�صحافة وو�سائل الإعالم ،وال�سيطرة على م�ؤ�س�سات املجتمع املدين وحتويلها مر�سخات �إ�ضافية للمجتمع الأهلي ّ الطوائفي �إ�شارات بيانية ال َل ْب َ�س فيها .هكذا �سين�ش�أ ما �إىل ِّ ميكن ت�سمي ُت ُه "�سلطة �أيديولوجية" حلماية ال�سلم الأهلي ،ما لبثت �أن منت وا�ست�شرت يف احلقول اللبنانية املتعبة .مهمة هذه الأيديولوجية �أن ت�أتي للنا�س على الدوام بيقني ،حيث راحت تنزع �إىل حترمي ال�شك .وت�شكك يف �أي بادرة نقد ،وترى �إىل �أي اختالف فكري �أو ثقايف مثابة م�سعى للفو�ضى واحلرب الأهلية .ولقد جعلت هذه الأيديولوجية من "ال�سيا�سي املحدث" �أمرياً ثقافياً بينما هو يف واقع احلال �أمري حرب يف ال�سلوك ،ويف امل�صادر الثقافية والأيديولوجية التي يغتذي منها ،وكذلك يف طريقة �إدارته ملواقع النفوذ يف ال�سلطات التنفيذية التي ا�ستحوذ عليها ..وميكن �أن نقع على �شواهد من ذلك ال ح�صر لها ،منذ ما بعد �إبرام اتفاق ّ الطائف يف الت�سعينيات حتى بدايات العام ،2000حيث انخرطت ّ الطوائف ال�سيا�سية على اجلملة يف ما ي�شبه العزف اجلماعي على �إيقاع توازن امل�صالح ...ولقد تبني �أن قرار ال�سلطة ال�سيا�سية مل يكن �سوى ترجمة مطابقة لر�ؤية امل�ؤ�س�سة الثقافية الأيديولوجية ،التي جتري بوا�سطتها �إعادة �إنتاج ثقافة املجتمع كله. وبهذا ،ا�ستحالت هذه الثقافة �أ�شبه ب�أوعيه مت�صلة من اخلطب الثقيلة ت�ؤ�س�س لل�سيا�سة وتعيد �إنتاجها .فيما انربى العاملون يف حيا�ضها ي�شتغلون كدعاة مينحون الزعيم الوجيه ّ الطائفي �شرعيته وجمده املرتامي الأطراف .هكذا �ستم�ضي الهيئة ال�سيا�سية يف زمن احلروب والأزمات املتناوبة �إىل ال�سيطرة على مك ّونات املجتمع املدين (جمعيات �أهلية -احتادات ومنظمات نقابية -منابر وم�ؤ�س�سات ثقافية و�إعالمية -فرق ك�شفية وريا�ضية �إلخ) .وقد جرى هذا كله مدفوعاً ،برغبة اال�ستيالء على م�ؤ�س�سات االجتماع الثقاقي ،والقب�ض على حركتها ومفاعلها.
47
�رصاع هوية ووجود
املواطن الالَّطائفي مغلوالً
ال تظهر �صورة املواطن الالطائفي يف لبنان خارج �سرية ّ الطائفية .ف�إنه و�إن �شاء �أن يغادر �أ�سوارها ّ م�ستهل امل�سعى ليبدو كمن مي�ضى يف امل�ستحيل� .أما املثقف املغلقة ،فال يلبث �أن يعود �إىل الالطائفي فهو مط ّوق بجدران ال ح�صر لها .بع�ضها مرئي ،وينت�صب �أمامه يف كل �ش�أن يتعلق معد ب�إتقان من وخفي� ،أو يجري �إخفا�ؤه بح�ساب ّ بحياته اليومية تع ّلقاً مبا�شراً ،وبع�ضها م�سترت ّ جانب من ي�صنعون للطائفية �سريتها وجمدها وعمرها املديد .وهو �إذا حاول اخلروج على طائفته ال يجد من ينظر �إليه �إال كغريب .ولئن َم َل َك اجلر�أة ،وخرج على طائفته فلن يجد من يقبله يف م�سارح ّ الطوائف املت�آخية� ،إال بو�صفه منتبذاً .ول�سوف ي�سكنه �شعور ثقيل ب�أن ال منا�ص له من الرجوع �إىل �سوي ،لأن ّ الطوائف ال�سيا�سية التي م�سكنه الأ�صلي .و�أنه لن يت�سنى له العي�ش كمواطن يف وطن ٍّ مقد�سة� ،إثر كل حرب �ضرو�س، ا�ستوطنت جغرافيات البالد منذ زمن بعيد جتدد نف�سها ،بعقود ّ �أو فتنة عابرة. ومن �سوء حظ املثقف الالطائفي� ،أن امل�ساحات التي كان يفرت�ض �أن ُتخلى له كمكان ح ّر للكالم ّ والتفكر با�سرتاتيجية خال�ص ،قد ُغ ِّلقت ب�إحكام منذ ت�سوية ّ "الطائف" العام .1989 بعد هذا التاريخ بدا كما لو �أن دولة ّ الطوائف �أكملت نف�سها وا�سرتاحت مما حملته �صيغة "اجلمهورية الأوىل" من معايب ثم كانت �سبباً يف ن�شوء بيئات �سيا�سية وثقافية ذات ا�ستقالل ن�سبي عنها... الطوائف على ن�صاب ميثاق ّ حني اكتملت دولة ّ الطائف وعلى النحو الذي نرى م�شاهده الرتاجيدية منذ نحو ع�شرين عاماً ،وجد مثقفو لبنان الالطائفيون ،على العموم� ،أنهم باتوا �أ�سرى عالقات قوة من طراز جديد .باتوا مع ّلقني بدوائر مغلقة ،وم ّت�صلة يف ما بينها بعقود فادحة من الرياء ال�سيا�سي .وخا�ضعة بالتايل لكيمياء عجيبة مل ي�ش�أ كثريون منهم �أن يكونوا مادة الختباراتها املر ّوعة� ،إال �أنهم َحبِطوا يف اجتياز �أ�سوارها .ومل يقدروا على ال�صمود يف وجهها .فوراء كل جدار جرى ن�صبه بعد احلرب الأهلية ن�ش�أت �سلطة ماكرة وخادعة ومتحللة من �أي وازع قانوين �أو عمن �سبقها من بيوتات القوة والعنف خالل احلرب، �أخالقي� .سلطة ازدادت حنكة مبا ورثته ّ يتح�صل للبنانيني من "عبقريتها" �سوى لعبة وكذلك من مرياث "اجلمهورية الأوىل" التي مل ّ املقا�سمة واملحا�ص�صة واالنتهاب. مل تقم �سلطة ّ الطوائف بوجهيها العنيف والبارد� ،إال على املطلق ال�سيا�سي .وتالياً على املطلق االجتماعي واالقت�صادي .وثالثاً -وهو الأخطر والأدهى -على املطلق الثقايف .ثم على ما يجعل عدماً مق�ص َّياً. هذا الثقايف �إما تابعاً م�ستتبعاً �أو َ ولأن "�سلطة ّ احلد ،فلم يكن لها لكي توطد م�صاحلها �إال �أن ت�ستق ّر على الطوائف" مطلقة �إىل هذا ّ 48
مي يف مثلث توازنات يتجدد على الدوام ،بني رئا�سات اجلمهورية والنواب واحلكومة .وهو ما ُ�س َ حينه ﺑ"الرتويكا" �أو ال�سلطة املثلثة الأقطاب .فكان ل ّلبنانيني الكثري من مطالع ال�سوء ب�سبب من "اللقاء احلميم" بني مثلث مال احلرب ومال ال�سيا�سة النيوليربالية ،ونظام ّ الطائفية ال�سيا�سية .وهو لقاء من �ش�أنه �أن يفكك بقوة ما تبقى من �أوا�صر املجتمعني ال�سيا�سي والثقايف. املواطن العلماين حائراً
هذا املواطن هو نف�سه املواطن ال ّالطائفي ولكن مع جرمية زائدة من الإف�صاح عن خ�صومته للطائفية ونظامها .ويف حاالت توتره ليذهب العلماين �إىل الدرجة التي ال يعوزه فيها �شيء للجهر بت�شا�ؤمه من �إمكان بلوغ جمتمع املواطنة. كيف يل �أن �أكون مواطن ًا بالفعل؟
على هذا النحو ي�سائل العلماين اللبناين نف�سه اليوم ،حتى ليبدو يف غالب الأحوال كغريب ال طائفيات من كل جانبَّ . اكتظت مرياث له يف منازل الأهل .يتطلع حواليه ليجد كيف �أحاطت به ٌ به َّ واكتظ بها ،فال يكاد يرى لنف�سه خمرجاً من �أ�سوارها املغلقة .لكنه ،وهو على هذه احلال ،يظل على يقني مقيم ب�أن احل�صار امل�ضروب من حوله ال يت�أتى من خ�صوم مرئيني لكي تظهر �أمامه احلدود والتخوم واخليارات ،بل �إنه ي�شعر وك�أنه حما�ص ٌر من بيت �أبيه .فال يغادر هذا البيت �إال ليعود �إليه .لك�أن منازل ّ الطوائف يف لبنان �أمكنة مبني ٌة على حكم الق�ضاء والقدر. احلا�صل على وجه العموم هو انتهاء �س�ؤال املواطنية �إىل ما ال يخالف ق ََد َر ّ الطائفية وق�ضا َءها. �صماء" ي�ستحيل عليه فال�صورة التي يجد العلماين اللبناين نف�سه يف داخلها ،هي �أ�شبه بـ "قلعة ّ مغادرتها؛ �أو كمن ال منا�ص له �إ ّال التك ُّيف مع �أنظمتها ال�صارمة :عليه �أن يكتفي ب�أن يعي�ش علمانيته يف ذهنه ،بينما عليه يف الآن عينه �أن يعي�ش طائفيته ب�شغف نادر يف احلياة العامة� .أما حني ي�أخذه الظن �أنه با ِل ٌغ "لبنانية نقية من �أي �شائبة" ،فال يلبث حتى يغ�شاه الوهم وت�صدمه اخليبة. ف�إذا به يعود �إىل عامل احلرية ،ثم ينربي �إىل ما ي�شبه التوقيع القهري على هوية ناق�صة. ر�ؤية ال ّالطائفيني �إىل حال لبنان اليوم ،هي نف�سها التي يعيدونها كلما رفعوا ال�شكوى على ما هم عليه من �أحوال .وها هم يك ّررون ما �سبق وقيل على امتداد تاريخ لبنان ال�سيا�سي واالجتماعي: "لقد انت�صرت ّ الطائفية ،وتفوقت املذهبية ،وتراجعت املواطنية ،وف�شلت العلمانية ،ون�أت ( ) الدميوقراطية ،ودخل لبنان يف القرون الو�سطى ،و�أقام يف ما�ضيه" . من طرفنا ن�ضيف اىل ما قيل :..ما كانت ّ الطائفية اللبنانية �إال منت�صرة طبقاً ملعايريها و�أحكامها وا�سرتاتيجيتها ،وحني ح َّل ْت على �أر�ض انت�صارها� ،أ�س�ست للما�ضي فيما هي ت�ؤ�س�س للحا�ضر 12
49
�رصاع هوية ووجود
وامل�ستقبل .معها بات لبنان �أدنى �إىل م�ستوطنات ِّ متوحد� .أما داخل قالع مت�شظية منه �إىل وطن ّ ّ الطائفية ال�ص َّماء فال عقالنية بخارج ٍة عن عقالنيتها .وال مواطنية تن�أى من خرائطها املر�سومة ب�إحكام .حتى لقد �صارت العقالنية ّ الطائفية طبعاً حميماً لطبائع اللبنانيني على اجلملة. []3
بني عقلية الطّ وائف وعقالنية املواطنة
�أي �سبيل ُيفرت�ض �أن ُي َ�شق لكي يحرز اللبنانيون مواطنيتهم؟
ال منا�ص من البدء بر�سم معامل �أولية لعقالنية مواطنة ،يف مقابل عقالنية ّ الطوائف .لكن من �أين الطريق �إليها؟ �إن كان ال مهرب من ذلك ،فلنا �أن نقرتح على ال ّالطائفي اللبناين �أن يتخذ �سبي ًال يف�ضي به �إىل "منطقة معرفية و�سطى" من �سماتها :القدرة على �إدارة التعقيد التاريخي من خالل ما ن�سميه بـ "عقالنية" التقريب بني امل�س َّلمات املتباينة ،والوقائع املتناق�ضة .نقول هذا ،ولو مل يوافقنا "مناطقة" ّ الطوائف وفال�سفتهم على مثل هذه الدعوى� .أما تعريفنا الإجمايل ل�شرائط حت�صيل مثل هذه العقالنية ،ف�إ ّنا نقرتحه على ال�شكل التايل: �أو ُلها :يكون يف ال�صرب على ما منق ُته من عقالنية ّ نحب مما الطوائف ،كما جنده يف ال�صرب على ما ّ ن�أتن�س �إليه من �أفكار عن مواطني املدن الفا�ضلة. التب�صر بالن�ش�أة الأوىل للبنان� .أي بالظروف والأو�ضاع والأحوال التي حكمت وثانيها :يكون يف ُّ هذا البلد منذ ت�أ�سي�سه ككيان �سيا�سي ودولة يف الربع الأول من القرن الع�شرين .فلو عرفنا الن�ش�أة الأوىل كيف جرت ،لهانت علينا معرفة كيف جتري الن�ش�آت التالية الأخرى. وثالثها :يكون يف �إدراك امل�سافات الطفيفة بني حقائق التاريخ التي جعلت من ّ الطائفية علة وجود لبنان ،وبني الأمل املت�سامي بوطن يب�سط للنا�س �أماكنهم الآمنة وال�سعيدة. و�أما رابعة تلك ال�شرائط ،ولي�س �آخرها ،فيكون يف تد ُّبر املفاهيم الوافدة �إلينا من ع�صور احلداثة القريبة والبعيدة .تلك التي ال ينبغي �أن ن�ؤخذ فيها على ن�صاب الده�شة والتطيرُّ �.إنها املفاهيم نف�سها التي �أخذناها عن ظهر قلب .وهي على اجلملة :مفهوم الدولة -والعلمنة -واملجتمع �شق علينا �أن جند �سبي ًال له �إىل مهاد م�ستوطناتنا املرتامية املدين -واملواطنية� -إىل �آخر ال�سل�سلة مما َّ الأطراف. 50
�س�ؤال �آخر من زاوية �أخرى :هل تكون النافذة �إىل لبنانيتنا ال�صافية عرب تلك املواطنية امل�ستعادة على وئام الأمداء الإقليمية والدولية الالمتناهية؟ مثل هذا ال�س�ؤال نرت َّيب يف هذا املقام ،تقدمي الإجابة عليه .فلذلك مقام �آخر من الكالم الطويل،.. لكن ال�شيء الذي ميكن �أن ُيقال يف هذا ال�صدد ،هو �أن يجدد اللبنانيون على الدوام عهود تبدالت �أحوالهم ...ف�إنهم لو فعلوا ذلك ب�إتقان ال�ستجاب لهم القدر ب�أن ُيحرزوا التك ّيف مع ّ الأمان الأهلي الذي ين�شدونه. �إمكان املواطنية اخلالّقة
لي�س من �أمر ال�ضرورة �أن يبلغ الت�شا�ؤم ب�إمكان املواطنة مقام اال�ستحالة .فال منا�ص للبنان من �أن يدخل �سريورة ال�سالم الدائم لكي تتحقق معه املواطنية الإيجابية اخل َّالقة .ونعني ب�سريورة ال�سالم الدائم �أن يغادر االجتماع اللبناين حروبه الأهلية الدورية ،ك�أن تفلح نخبه التاريخية بالإم�ساك بنا�صية الأزمات ال�سيا�سية مبا يحول دون حتولها �إىل عنف م�سلح .وذلك يقت�ضي �أن يتوفر اللبنانيون بطوائفهم ومذاهبهم و ُن َخبِهم وهيئاتهم ال�سيا�سية على قاعدة معيارية تلزمهم الأخذ بها يف �س َّراء ال�سيا�سة و�ض َّرائها .عنيت بها العقالنية والأخالقية. وهنا ميكن التك ّلم عن ثالثة م�ستويات و�صو ًال �إىل مقاربة هذه القاعدة: امل�ستوى الأول ،وهو ما يذهب �إليه كل الذين �آذتهم ّالطائفية واكتووا بنارها �سحابة �أجيال مديدة .وقوام قول ه�ؤالء يبد�أ من �شعار �إلغاء ّ الطائفية ال�سيا�سية عرب ف�صلها عن الدولة وم�ؤ�س�ساتها ،لينتهي بهم القول �إىل رفع �شعار العلمانية الكاملة. امل�ستوى الثاين ،وم�ؤداه على خالف ما مي�ضي �إليه دعاة ال�شعارين املتغايرين ال�سابقني.�أ�صحاب هذا امل�ستوى يقولون با�ستحالة العلمانية الكاملة ،وب�صعوبة �إلغاء ّ الطائفية ال�سيا�سية. وي�ستدلون على ذلك ب�شواهد التاريخ اللبناين التي تكتظ باالحرتابات الأهلية الباردة والعنيفة .وه�ؤالء على التعينُّ هم �أهل التقليد الذين �أخذوا ب�سجايا اللعبة ّ الطائفية فارت�ضوها مذهباً لهم ،وخلعوا عليها �صفات التقدي�س ،وتعاملوا معها كق�ضاء وقدر ال را َّد له .وخال�صة ما هو عليه ه�ؤالء الت�سليم بالأطروحة ّ الطائفية. �سوي .ذلك ما جنده امل�ستوى الثالث ،وهو ما نقرتحه ك�سبيل ّمدعى �إىل مواطنة �سو َّية يف وطن ّ�سم ّيناه "املنطقة الو�سطى" وهي املنطقة املعرفية التي �سنحاول عن طريقها ر�سم ر�ؤية يف ما ّ جديدة مل�ستقبل لبنان على قاعدة "املمكن بني م�ستحيلني": التوحد على القواعد الكال�سيكية للهوية الوطنية وال نعني بامل�ستحيل الأول ،ا�ستحالة ُّ51
�رصاع هوية ووجود
�سيما تلك التي �ألفتها املجتمعات احلديثة من خالل ما عرف بظاهرة الدولة /الأمة ذات ال�سيادة على الأر�ض وال�شعب. ونعني بامل�ستحيل بالثاين ،ا�ستحالة االنفراط الكامل للعقد االجتماعي ال�سيا�سي القائمعلى ال�صيغة ّ الطائفية .ولقد ب َّينت لنا اختبارات االحتدام على مدى عمر اال�ستقالل كيف �آلت الت�سويات التاريخية بعد كل حرب �أهلية �إىل م�ستقر ّ الطوائف ووئامها. �أما املمكن بني امل�ستحيلني ،فهو ما ميكن انتزاعه من �ضفتي اال�ستحالة معاً .وهو ما �أ�شرنا �إليهيف ما �سبق باعتباره عقالنية التقريب بني امل�ستحيلني .هذا ي�ستظهره اللبنانيون من منجزات التجربة التاريخية لت�سوياتهم وعي�شهم امل�شرتك .وهي املنجزات الكامنة يف منطقة و�سطى، من مزاياها التعقل والتخ ُّلق وواقعية املواطنة .ومن غاياتها ال�سعي ال�صادق ال�ستيالد �إمكان تاريخي لوطن تت�صالح فيه رزمة من الثنائيات املت�ضادةّ : الطائفي مع الوطني ،الديني مع وثمة يف ال�شخ�صية اللبنانية من املزايا العلماين ،والأهلي مع املدين ،واملحلي مع الإقليميّ . ما ي�ؤهلها �إىل التك ُّيف مع تعقيدات عي�شها ال�سيا�سي .وبو�سع اللبنانيني حني يت�سنى لهم مفارقة جحيم الأزمات �أن يجدوا ملواطنيتهم املت�أ َّملة حم ًال ت�سكن فيه ب�أمان� ،ضمن ف�سحة من �سالم �أهلي طويل الأمد. نزع العنف ك�سبيل �إىل املواطنة العقالنية
عندما كتب الفيل�سوف �إميانويل كانط م�شروعه لل�سالم الدائم يف العامل ،كان مدفوعاً ٍ ب�شغف مرير من �أجل �أن ال تتح ّول املدن -كما كان يقول � -إىل مقا ٍه م�ؤقتة تقابلها مقابر �أبدية .مل يكن يهم كانطٍ ، يومئذ �أن ي�سقط فعل الكتابة لديه لي�صبح جمرد �أحالم كاذبة .وكان يقول" :ال ينبغي �أن يكون هناك حرب �أ�ص ًال ...ولقد �أراد �أن يتحول بال�سلم العاملي من مو�ضوعة رجاء دينية� ،إىل م�شروع فل�سفي غايته تهذيب الإن�سان احلديث ،واالرتقاء به من بربرية املتوح�شني القائمة على العنف واحلرب� ،إىل ما ي�سميه "ال�ضيافة الكونية" .كان يريد م�شروع �سالم دائم يحلق يف �أفق املواطنة الكونية. �أما عن ال�سبيل نحو االرتقاء �إىل مكارم الأخالق ،و�إمكان حتقُّقه خللق املواطنية الكونية ،فلم ي�ش�أ كانط �أن يكون يف ذلك مت�س ّرعاً يف �إظهار التفا�ؤل .لقد ر�أى �أن الدول ما دامت ّ تركز كل قواها التو�سعية العنيفة التي ال جدوى من ورائها ،ومادامت تع ّول با�ستمرار على اجلهد على �أهدافها ّ البطيء للتهذيب الباطني لنمط تفكري مواطنيها ،فال ميكن �أن ننتظر �أية نتيجة من هذا النوع .ذلك �أنه ينبغي من �أجل ذلك عم ًال داخلياً طويل الأمد لكل �أمة بغاية تهذيب مواطنيها( ) .لقد كان كانط يحر�ص دوماً على �أن يكون الفيل�سوف ،وبالتايل النخب العقالنية امل�سددة ب�أخالقية املواطنة، 13
52
هي التي تتوىل مهمة التهذيب والرت�شيد للمواطن .يف حني �أن م�شروعه يف ال�سالم الدائم يدخل �ضمن هذا التهذيب للمواطن من �أجل �ضرب خم�صو�ص من املواطنة قائم على ما يطلق عليه "احلق الك�سمو�سيا�سي"� .إن هذا امل�شروع الذي ينقل ال�سلم من املقربة �إىل املدينة ،ومن القدي�س �ضرب من التدبري املت�سامي �إىل الفيل�سوف ،ومن �سخرية املقهى �إىل جدية العقل ،هو عند كانطٌ ، والواقعي والعقالين لف�ضاء املواطنة احلديث. ماذا لو اقرتبنا لبناني ًا من مثل هذا ال�سبيل من املواطنية؟
ّ م�ستهل مقالته "اليوتوبيا والعنف ( ")Violence and Litopiaيكتب الفيل�سوف ال�سيا�سي يف الأملاين كارل پوپر ما يلي�" :إن القول �إن من املمكن تخفيف العنف و�إخ�ضاعه ل�سلطان العقل، أمل كاذب .ولرمبا كان هذا هو ال�سبب الذي يجعلني – كالعديد من قول ال ينطوي بال�ضرورة على � ٍ الآخرين � -أ�ؤمن بالعقل ،كما �أنه ال�سبب الذي يجعلني �أنعت نف�سي �إن�ساناً عقالنياً ...ثم يختم� :إنني �إن�سان عقالين لأنني �أرى يف موقف التعقُّل البديل الوحيد للعنف" ...ال يحتاج الأمر يف لبنان اىل عارفني بالفل�سفة ال�سيا�سية ،لكي يتد َّبروا مثل هذا الكالم .فال�س�ؤال عن العقل وا�ستعادته ليكون حامياً للبنان من العنف هو �س�ؤال جائز .وجوازه يكمن يف �إمكانه ،ف�ض ًال عن �إمكان وقوع اجلواب عليه. �صحيح �أن لبنان الآن هو يف قلب النار .و�أنه كان �سحابة الأعوام التي تلت اغتيال الرئي�س رفيق احلريري يف �شتاء ،2005على قاب قو�سني �أو �أدنى من جحيم �أهلي �أعِ َّد له ب�إتقان ،لكن ال�صحيح اي�ضاً� ،أنه كان بالإمكان اجتناب النار ،والن�أي بالبالد من الكوارث الأهلية املحدقة .يومها بدت هذه املعادلة م�ستحيلة بالن�سبة لكثريين َخبـِروا الأزمنة املتعاقبة التي عا�شها لبنان على مدى ُّ ت�شكله ّ م�ستقل .فهوالء باتوا ينطلقون من ت�صورات ثابتة م�ؤ َّداها� ،أن دورات العنف تدخل ككيان �سيا�سي يف �أ�صل الن�ش�أة اللبنانية ،و�أنها من طبائع هذه الن�ش�أة ،و�أن العنف ،والعنف امل�سلح بخا�صة ،هو َع َر ٌ�ض من �أعرا�ض اللعبة ال�سيا�سية ،و�أنه قبل كل ذلك� ،سمة من ال�سمات امل� ِّؤ�س�سة لتلك اللعبة. عندما يكون فهم العنف الذي يجتاح لبنان اليوم قائماً على هذه االعتبارات ،ف�إن م�ساحة الكالم على عقالنية حتمي البالد من التنازع ،تتق َّل�ص اىل حدها الأدنى .بل �أكرث من ذلك ،فلقد ظهر عنف ّ الطوائف اللبنانية يف �أحيان �شتى ،وك�أنه �أم ٌر حممول على حكم الق�ضاء والقدر .وثمة من ال�ص َد ِع الذي يع�صف ب�صيغة الكيان اللبناين كلما م َّر عقد او ي�ستدل على هذا ،بالإ�شارة اىل َ يزيد بقليل ،على �إبرام �أي ت�سوية بني طوائفه ال�سيا�سة .فاالنفجار الأهلي الدوري بات �أقرب اىل قانون مثري للهلع .وهو قانونٌ ي�صعب تفادي �أحكامه وم�ؤثراته كلما ع�صفت بلبنان رياح التحوالت الإقليمية والدولية .مع ذلك ،فللمعادلة اللبنانية التاريخية وجه �آخر� .إذ يجوز لنا القول� ،إن يف املعادلة �إياها� ،إمكانات لإنتاج �سياقات حقيقية من �أجل منع العنف .وقد يكون يف امل�شهد اللبناين اجلارية وقائعه هذه الأيام ،ما مينح تلك ال�سياقات قوامها وم�شروعيتها .فما ال ُّ ي�شك فيه� ،أن كل ما ُيراد للبنان الآن هو �أن يهوي و�شعبه وقواه ال�سيا�سية واملدنية اىل م�ستنفع الفتنة بعدما هوت طبقته 53
�رصاع هوية ووجود
ال�سيا�سية اىل م�ستنقعات ما دون ال�سيا�سة... نزعم� ،أن ثمة �إرادة لبنانية لدى �أبناء ّ الطوائف واملذاهب جميعها يف الإعرا�ض عن العنف ،وعدم حد�س �شعبي لبناين ،ي�ست�شعر هول الكارثة قبل الدخول يف جحيمه املد ِّمر .وهذا مر ُّده اىل ٍ وقوعها .حتى �إذا وقعت مل ي�ستجب لها �إ ّال من وجد يف العنف �سبي ًال اىل قلب املعادالت ،و�إعادة متت اىل م�صلحة لبنان والعرب وامل�سلمني ب�أية �صلة. ت�شكيل الأو�ضاع وفقاً لرغبات وم�صالح ال ّ �صحيح �أن مبد�أ العنف يقع يف �أ�سا�س ن�شوء لبنان منذ العام .1920لكن من �ضرورات اللحظة الراهنة القول �إن تقدمي العقل على العنف ِّ �سيمكن اللبنانيني من اجتناب اختبارات املوت املفتوح. بلى ...ذلك على الرغم من كل هذا التح�شيد الهائل لعنا�صر الفتنة. هل من �سبيل �إىل ذلك؟ َ ويف التجربة التاريخية اللبنانية الكثري من النوافذ امل�شرعة على درء العنف� ،أو �إيقافه عند جولته �سموا بـ "حكماء الكيان" ،كيف كانوا يحذرون على الدوام من الت�سليم الأوىل .ف�سرنى ممن ّ مببد�أ العنف الذي يحكم �شروط اللعبة ال�سيا�سية يف لبنان .على اعتبار �أن الت�سليم به ،ي�س َّوغ مو�ضوعياً للحروب الأهلية وي�ؤ�س�س لها ثقافياً بو�صفها قدراً ال را َّد له .من ه�ؤالء من ذهب �إىل وجوب املحافظة على امليثاق التوافقي الذي �أبرمته ّ الطوائف عند ت�أ�سي�س لبنان يف العام 1920 ثم كر�سته يف العام ،1943ثم �أعادت �إنتاجه يف اتفاق ّ الطائف العام .1989لقد �آمن ه�ؤالء ب�ضرورة املحافظة على هذا امليثاق ،والنظر �إليه كتقليد ي�ضمن بقاء الكيان ويحميه من العنف. �إمكان االتفاق على الهوية التاريخية
يرى املو ّرخ كمال ال�صليبي�" ،أن يف لبنان عنفاً كامناً ال ميكن احتوا�ؤه اال بالر�أي ال�سيا�سي ال�صائب" .ون�ضيف :بالتزام التعقُّل يف حلظة احتدام الغرائز ،حيث ت�شعر كل طائفة حينها بخطر املوت واالندثار .هنالك �إذاً ،م�ساحة ب ِّينة بني طور وطور من �أزمنة العنف اللبناين هي م�ساحة امل�سدد بالأخالق ح�ضو ٌر يف ال�سيا�سة. تهادن بامتياز� .إنها تلك امل�ساحة التي يكون فيها للعقل َّ فلقد بد�أ على نحو ال ريب فيه ،كم لتغييب العقل من �أثر يف ارتفاع من�سوب العنف يف لبنان. وتف�صح الدراما اللبنانية عن حقيقة �أن احلرب الأهلية ما كانت لت�ستغرق كل هذا الزمن ،و�أن تف�ضي اىل ما اف�ضت اليه ،لو كان ثمة ٌ عقل جامع ينتج ر�أياً عاماً ي�صونه ويحميه. لعل م�س�ألة اخلالف على تاريخ لبنان وال �سيما جلهة ماه ّية هذا التاريخ وهويته ومن �أين يبد�أ وما ال�صيغة التي يو�ضع فيها للبنان تاريخه ويحظى بر�ضى جميع طوائفه ونخبه وقواه ال�سيا�سية؟... ّثمة ت�صور ي�ضعه ال�صليبي يف �سياق بلورة مقرتح نظري يحتمل �أن تغادر النخب اللبنانية بوا�سطته م�أزق العثور على ت�صور واحد لتاريخ بلدها. ينطلق ال�صليبي من حقائق التجربة التاريخية اللبنانية املعا�صرة لينتهي �إىل ثالثة ا�ستنتاجات: 54
اال�ستنتاج الأول ،هو �أن جتربة احلرب الأهلية يف لبنان �أثبتت ،مبا ال يقبل ّال�شك� ،أن �أي طرف من اللبنانيني ،ال ميكنه �أن يفر�ض ر�أيه ب�سهولة على الطرف الآخر .وهذا يعني �أنه ال ميكن ّ حل م�شاكل لبنان -مبا فيها تلك املتعلقة بالتاريخ اللبناين � -إال من خالل تنازعات عقالنية متبادلة تتم بني اللبنانيني على �ضوء حقائق معينة. اال�ستنتاج الثاين ،هو وجود م�ؤ�شرات وا�ضحة على �أن البلد قد بلغ الإجماع ال�سيا�سيالأ�سا�سي لدى الأكرثية املواطنية غري املتقاتلة من خمتلف ّ الطوائف اللبنانية ،ورمبا �أي�ضاً عن عنا�صر كثرية من الفئات املتقاتلة .مما يجعل ا�ستمرار وجود لبنان كدولة م�ستقلة ذات �سيادة داخل حدوده الراهنة �أمراً ممكناً. اال�ستنتاج الثالث ،هو �أن العامل العربي ،ومهما يكن موقفه الأويل من لبنان� ،أ�صبح يقبلباجلمهورية اللبنانية كما هي موجودة فع ًال؛ ويفهم البنية احل�سا�سة للمجتمع اللبناين ويقدرها احلد الذي قد يكون كما مل يقد ْرها يف ال�سابق .وهذا يعني �أن الت�سليم بعروبة لبنان � -إىل ّ فيه هذا املفهوم �صحيحاً -مل يعد ّ ي�شكل خطراً على ا�ستمرار �سيادة البلد ووحدته ،وال على منزلة �أية جمموعة معينة من اللبنانيني ،هذا �إن كان قد ّ �شكل مثل هذا اخلطر يف املا�ضي .بل خا�صة يف املحافظة على ا�ستمرار �سيادة لبنان ووحدة �أرا�ضيه، قد ُيقال اليوم �إن للعرب رغبة ّ لأنهم فهموا �أخرياً �أن عملية تفكيك لبنان قد تت�س ّرب ب�سهولة �إىل بقية �أنحاء العامل العربي، وت�ؤدي �إىل تفكيك بلدان و�أنظمة عربية �أخرى .و�إذا كان هذا هو الو�ضع بالفعل ،ف�إن ما يعرب عنه العرب من اهتمام راهن ب�إعادة لبنان �إىل ما كان عليه من ا�ستقرار قبل اندالع احلرب الأهلية فيه ،هو اهتمام حقيقي ،له دوافع معقدة بامل�صالح العربية عموماً( ). لعل ا�ستنتاجات كهذه ،لو �صحت يف اختبارات احلوار الذي يرنو �إليه ،على الدوام ،ممثلو ّ الطوائف اللبنانية ،ميكن �أن ت�شق �سبي ًال �إىل التفا�ؤل .غري �أن مثل هذا التفا�ؤل الذي نريد له �أن ُينقل من املجاز �إىل احلقيقة ،يبقى رهناً بتبدالت جذرية يف �أفهام اللبنانيني ومعارفهم حيال تاريخهم ال�صماء للثقافة وهويتهم .وهي الأفهام واملعارف التقليدية التي مل تربح تلقي بثقلها على البنية ّ ال�سيا�سية اللبنانية. 14
املواطنة كعقيدة والء
يندرج الكالم على املواطنة �ضمن حلقات مت�صلة ،ال تنتهي يف الثقافة ال�سيا�سية اللبنانية .ذلك يعني �أن واجبية حتقق املواطنة تنطلق من احلاجة �إىل ترميم ال�صدع الذي ر�سخته الأفعال املذمومة ن�سميه ﺑ "املواطنة املركبة" على امتداد تاريخ لبنان احلديث. ملا ّ واملواطنة ّ املركبة ،التي تب ّينت لنا يف اختباراتها ،هي ما ترتجمه �شخ�صية الفرد اللبناين من حيث 55
�رصاع هوية ووجود
كونها �شخ�صية ِّ مت�شكلة من ازدواجية الوالء للطائفة والوطن يف الآن عينه. هذان الوالءان هما ،بالفعل" ،الزوج الرتكيبي" الذي يك ِّون ال�شخ�صية اللبنانية ،وينتظم كل �ش�أن من �ش�ؤونها العامة واخلا�صة .ولعل ال�سمة املميزة يف تلك االزدواجية� ،أن الوالءين يقيمان ويت�ساكنان معاً على قلق مقيم .تار ًة على �صورة ا�ستتا ٍر وكمون �أ ّيام ال�سالم ال�سيا�سي ،وطوراً على �صورة ظهور عنيف حني يهتز الت�ساكن بفعل االحتدام الدوري لطوائف البالد ومذاهبها .ففي وطن ّ مركب على قلق طوائفه ال تكون مواطنة �أبنائه �إ ّال على ن�ش�أة احلذر �إياه. حتى ليبدو ال�س�ؤال عن مواطنية ب�سيطة (باملعنى املنطقي للكلمة) هو �سليل ال�س�ؤال الأ�صلي عن املواطنة اللبنانية املركبة.. لكن كيف لنا �أن ن�ستولد من هذه املعادلة ال�شاقة �سياق ًا الجتياز املع�ضلة؟
مرة �أخرى نعود ال�شتغال "املنطقة الو�سطى" بغية ا�ستيالد مواطنية تن�أى عن الرتكيب واجلمع بني والءين متناق�ضني ...مثلما تن�أى من مواطنة مت�ضي �إىل الذوبان الكامل يف بحور طوائفها .من �صفات "مواطنية املنطقة الو�سطى" �أنها ت�أخذ ب�سبيل الو�صول �إىل املواطنية الفاعلة� .أي هي التي حتيل املواطنة �إىل واقع ممكن التحقيق .فهي بينما تعرتف باملواطنة املركبة كحالة مو�ضوعية تر�سخت على امتداد زمن طويل من احلروب والت�سويات والعقود ال�سيا�سية ،حتفر جمراها املغاير ّ للم�ألوف ّ الطائفي .و�إذا كانت القوانني والأعراف هي الباب الذي جاءت منه مواريث النظام ّ موحد الطائفي ،ف�إن تبديلها بقوانني و�أعراف مدنية �سيو ِّلد �سريورة جديدة من الآمال بوطن ّ ومواطنية جامعة. م�ستهل الطريق �إىل مواطنية بهذا التو�صيف ،ت�ستلزم تثمري الت�سويات التي عادة ما تعقب امل�ستمدة من الد�ستور النزاعات واحلروب الأهلية .ك�أن يتفق اللبنانيون على رزمة من القوانني ّ الأ�سا�سي تطلق �سريورة من اخلطوط والعمليات ال�سلم ّية على قاعدة فك اال�شتباك املزمن بني ّ الطائفي والوطني .وهما العامالن املنتجان الزدواجية االنتماء والوالء يف البيئة التاريخية اللبنانية. و�إذا كانت املطالبة ب�إجراءات �إ�صالحية يف قانون االنتخاب و�إعادة ت�شكيل م�ؤ�س�سات الدولة على �أ�سا�س وطني الطائفي تدخل يف هذا ال�سياق ،ف�إن تربية املواطن على ح�ضوره كفاعل يف ف�ضاء الوطن هي �أ�سا�س العملية التغيريية على اجلملة. ذلك �أنّ املواطنية الفاعلة ،هي التي تنتج املواطن الذي يتوا�صل مع نظريه يف الوطن على �أ�سا�س الوالء لعقيدة �أ�سا�سها م�صالح الوطن العليا. ولذا تقوم املواطنية اخل ّالقة على �صراط فعل خ ّالق ت�سدده جامعية الهوية الوطنية ،حيث ي�شعر املواطن الفرد �أ ّنه م ّت�صل بجماعة ت�ؤلف بالن�سبة �إليه ذاته العليا التي يهبها والءه وتفانيه. 56
والوالء على ما تق ّرر فل�سفة الأخالق هو التفاين الإرادي وامل�ستمر من فرد ما جتاه ق�ضية معينة. و�إذا كنا هنا ب�صدد ق�ضية الوطن واملواطن يف لبنان ،ف�إنّ ر�ؤيتنا �إىل الوالء هي من �أجل م�ساعدتنا على ك�شف غاية احلياة بو�صفها اخلري الأعلى الذي ي�ستطيع اللبنانيون حتقيقه و�صو ًال �إىل الوئام والوجود وجمتمع املواطنة. وبنا ًء على هذا ال�سري باجتاه تظهري والئية لبنانية جامعة ،ميكن الكالم �أي�ضاً على �إعادة ت�أ�صيل لكن مفعول هذا الت�أ�صيل يف ميادين نظرية ال�ضمري بو�صفها �سلطة عقلية و�أخالقية وعامة وكل ّيةّ . ُ ال�سبيل �إليه �ضمن احلدود املعقولة من روح الرتبية الوطنية اللبنانية� ،سيكون له �أث ٌر بينِّ ٌ �إذا ما �شُ ّق امل�س�ؤولية. بهذا ميكن املواطن الذي ينخرط يف مناخ والئي جامع� ،أن يكت�شف بعد برهة ،ويف حدود ن�شاطه االجتماعي الفردي� ،أنّ الوالء بالن�سبة �إليه ،ي�شكل قدره الأخالقي ،حتى لي�شعر �أ ّنه من دون والء كهذا لن ينعم بال�سالم الأهلي العام. ذلك ما �أ�ضاء عليه كثريون من املفكرين وعلماء االجتماع وامل�ؤرخني اللبنانيني حني وجدوا �أن ا�ستبد بر�أيه كان م�آله الهالك ،و�أن الطغيان يبتدئ العنف الأهلي م�صدره اال�ستبداد بالر�أي ،و َم ْن ّ ح�سب الفيل�سوف جون لوك -حيث تنتهي �سلطة القانون ،وكلما ُهتكت حرمة القانون و�أنزلال�ضرر بالآخرين. ّ م�ستهل الرحلة باجتاه مواطنية الوالء هو تظهري مكامن الفطرة اخليرّ ة يف النف�س اللبنانية ،وترجيح العام الوطني على اخلا�ص ّ م�سددة بالأخالق .حتى يرجع اللبنانيون الطائفي .وكل ذلك بعقالنية ّ �إىل بيت احلكمة .ولبيت احلكمة منازل كثرية كما ينقل كمال ال�صليبي عند القدي�س يوحنا يف �إجنيله .ف�إذا ما مت تنظيف ال�سقائف اللبنانية باملعا�سف� .إذ يجب �أن يتم ذات يوم تنظيفها مما ُع ّلق فيها على م ّر الزمان من ن�سيج العنكبوت ...ف�ستكون هنالك طرق ال متناهية ميكن من خاللها �إعادة النظر يف تاريخ لبنان( ) ،و�صياغته على ن�ش�أة الإدراك حلقيقة الوطن احلق واملواطنة احلق... 15
57
Saree Makdisi, Romantic Imperialism: Universal Empire and the culture of Modernity (Cambrige University press 1998), pp. 176 – 182
-6املقد�سي ،امل�صدر نف�سه� ،ص.26 . -7امل�صدر نف�سه� ،ص.27 . -8فواز طرابل�سي�" ،صالت بال و�صل ،مي�شال �شيحا والأيديولوجيا اللبنانية"� ،شركة ريا�ض الري�س للكتب والن�شر � - 1999ص.12 . -9حممود حيدر" ،ال َّاليقني ال�سلمي� ،أحوال لبنان بعد احلرب" ،م�صدر �سبق ذكره ،انظر املقدمة. -10كمال ال�صليبي ،م�صدر �سبق ذكره� ،ص.226 . -11مي�شال �شيحا" ،ال�سيا�سة الداخلية"� ،ص.187 . -12ن�صري ال�صايغ" ،ل�ست لبنانياً بعد"� ،شركة ريا�ض الري�س للكتب والن�شر -بريوت � - 2003ص.16 . -13راجع �إميانويل كانط" ،م�شروع ال�سالم الدائم". -14كمال ال�صليبي ،م�صدر �سابق� ،ص.272 . -15كمال ال�صليبي" ،بيت مبنازل كثرية" ،م�صدر �سبق ذكره� ،ص.287 .
58
�رصاع هوية ووجود
الهوام�ش -1ملحم �شاوول ،مفهوم املواطنة يف التجربة الغربية والتجربة اللبنانية -مقالة م�شاركة �ضمن كتاب بعنوان: "�إ�شكالية الدولة واملواطنة والتنمية يف لبنان -حترير جاك قباجني -دار الفارابي -بريوت � 2009ص.85 . -2حممود حيدر" ،ال َّاليقني ال�سلمي � -أحوال لبنان بعد احلرب" ،دار الفارابي -بريوت .1997 - -3كمال ال�صليبي" ،بيت مبنازل كثرية -الكيان اللبناين بني الت�صور والواقع" -ترجمة عفيف الر ّزاز -م�ؤ�س�سة نوفل -بريوت -الطبعة الرابعة � ،2007ص.268 . الطائفيةّ ، � -4أ�سامة املقد�سي" ،ثقافة ّ الطائفة والتاريخ والعنف يف لبنان القرن التا�سع ع�شر حتت احلكم العثماين"، ترجمة :ثائر ديب -دار الآداب -بريوت � - 2009ص.21 . -5راجع امل�صدر نف�سه� ،ص - 25 .مقتب�ساً من كتاب:
�رصاع الأمن واحلريات يف الدولة املعا�رصة جهاد �سعد � -أكادميي وباحث �سيا�سي
يبينّ هذا البحث �أن العالقة بني الأمن الوطني واحلريات العامة ،هي عالقة تكاملية ،فاحلريات ت�صون الأمن� ،إذا قام الأمن على حماية احلريات ،وهذه احلقيقة يثبتها اال�ستقراء التاريخي ،ولكننا �سنحاول �إثباتها هنا من خالل مناق�شة املحددات الأ�سا�سية للأمن وت�أثري هذه املحددات على ممار�سة احلريات العامة. يف مقالة ق ّيمة له حتت عنوان :الأمن القومي ،ي�ستعر�ض الدكتور زكريا ح�سني � -أ�ستاذ الدرا�سات اال�سرتاتيجية -املدير الأ�سبق لأكادميية نا�صر الع�سكرية -يف م�صر ،املفاهيم واملحددات احلديثة للأمن ،معترباً �أنه "مفهوم حديث يف العلوم ال�سيا�سية"( ) .والقراءة املت�أنية لهذه املحددات ،جتعلنا نالحظ �أن كل حتديد ي�ستند �إىل وجه من وجوه الأمن ،وخلفية فكرية ،تركز على وجهة دون الأخرى ،و�صو ًال �إىل املحددات والتعريفات ال�شاملة ،التي تعرب عن تطور هذا املفهوم منذ احلرب العاملية الثانية. التعمق يف مناق�شتها مما يجعل القيمة املعلوماتية يكتفي الدكتور زكريا بعر�ض املحددات من دون ّ للمقالة� ،أعلى من قيمتها العلمية ،التحقيقية ،ولذلك �أرى �ضرورة التعمق يف مناق�شة ،املحددات، و�صو ًال �إىل جمموعة عوامل تتحكم بتحديد الأمن يف مفهومه املعا�صر ،و�سيتبني مما ي�أتي ،كيف �أن العالقة بني الأمن واحلريات تزداد تعقيداً ،بعد ظهور �أ�شكال من الأمن ،ال تبايل كثرياً مبا �سيحدث للحقوق واحلريات. على طريقة املنت واحلا�شية �سنناق�ش حمددات الأمن واحداً بعد الآخر ،لنخل�ص منها �إىل نتائج، ت�ساعدنا على فهم الأركان التي يجب �أن يقوم عليها الأمن الوطني املعا�صر. 1
59
�رصاع هوية ووجود
التحديد الأول:
"الأمن" من وجهة نظر دائرة املعارف الربيطانية يعني "حماية الأمة من خطر القهر على يد قوة �أجنبية". املفرت�ض يف هذا التحديد� ،أن اخلطر خارجي ،و�أن الأمة وحدة متكاملة يجب الدفاع عنها ،بكل ما حتتويه من تن ّوعات ،واختالفات ،و�أن هذه االختالفات �إذا كانت من داخل ن�سيج الأمة فهي ال ترقى �إىل م�ستوى اخلطر الداخلي ،فالأمة يجب �أن حتمى من الأخطار اخلارجية ،واملواطن ال يتحول �أبداً �إىل خطر داخلي طاملا �أنه ميار�س حريته يف �إطار القانون ،ولكن الثغرة الأ�سا�سية يف هذا التحديد، هو �أنه يحيل مهمة الدفاع عن الأمة �إىل ال�سلطة ال�سيا�سية من دون �أي �إ�شارة �إىل دور الأمة يف حماية �أمنها ،وبهذا املعنى ي�صبح التحديد الثاين �أكرث تطوراً. التحديد الثاين:
من وجهة نظر هرني كي�سنجر وزير اخلارجية الأمريكي الأ�سبق :الأمن يعني �أي ت�صرفات ي�سعى املجتمع عن طريقها �إىل حفظ حقه يف البقاء. يتقدم هذا التعريف على �سابقه يف اعتبار الأمن م�س�ؤولية املجتمع ككل ،و�إذا التفتنا �إىل خ�صو�صية ّ التجربة الأمريكية ،ف�إن كلمة جمتمع هنا قد تعني ما هو �أكرث من جمموعة طوائف ومذاهب و�أعراق بل جمتمعاً من الأمم ارت�ضى �أن ي�شكل دولة ،ولكن يبقى �أنه يركز على حق املجتمع يف البقاء من دون الإ�شارة �إىل كيفية البقاء يف �أمن ،وهنا يظهر الأثر اليهودي يف تعريف كي�سنجر عندما مينح يهدد بقاءه ،ومن هذه اجلهة نفهم كيف امل�شروعية لأي ت�صرف� ،ضد �أي جهة يعتربها املجتمع خطراً ّ يقوم هذا التعريف بتربير ممار�سة العنف املطلق �ضد الآخرين ،عن طريق ت�صويرهم باملبالغة اللغوية والإعالمية على �أنهم ي�شكلون خطراً على البقاء. بكلمة �أخرى :ي�ساعدنا هذا التعريف على فهم منط �سائد يف ال�سيا�ستني الأمريكية وال�صهيونية ،يقوم على حتويل �أي جهة م�ستهدفة� ،إىل خطر على بقاء الأمة ،ثم املبالغة يف ت�ضخيم قدرات هذا الهدف، لتربير ا�ستخدام العنف املطلق �ضده .حدث ذلك ،عندما �سخرت كل ماكينة الدعاية الأمريكية، لت�صوير االحتاد ال�سوفياتي كخطر داهم ،لتربير املبالغة يف الت�سلح ،ثم تبني �أن البنية االقت�صادية لالحتاد ال�سوفياتي ،لي�ست فقط عاجزة عن دعم حرب نووية ،بل هي عاجزة عن �صيانة مفاعل نووي ،وك�شف االنهيار الدراماتيكي لالحتاد ،عن دولة عاجزة عن �صيانة غوا�صة ...وفيما كان االحتاد يهوي ببطء كانت �أمريكا تطلق حرب النجوم ،بذريعة اخلطر ال�سوفياتي. �سمى الإرهاب ،وتمُ ار�س اليوم مع �إيران ،لكي يبقى اخلليج ال�سيا�سة نف�سها مور�ست مع القاعدة ،وما ُي ّ 60
�أ�سري اخلوف ،والإنفاق على الت�سلح بد ًال من التنمية ،ولكي تبقى معامل �صناعة ال�سالح مزدهرة يف الواليات املتحدة. ومنذ �أكرث من ن�صف قرن ،تر ّوج �إ�سرائيل ل�صورة اخلطر العربي ،ثم تهاجم وتعتدي وحتتل ،وتتعامل مع �أي معركة حتى مع ف�صيل عربي مقاوم على �أنها معركة وجود ،حياة �أو موت على حد تعبري �شيمون برييز� ،صاحب م�شروع ال�شرق الأو�سط الكبري. يبقى �أن ن�شري �إىل الدور اخلطري للإعالم يف هذه ،ال�سيا�سة اال�سرتاتيجية العدوانية ،فماكينة الإعالم ال�ضخمة ال تكتفي �أبداً بنقل الأحداث بل ت�شارك يف �صنعها عرب التمهيد لها بحمالت �صناعة ر�أي عام يتقبل العدوان على �أي جهة م�ستهدفة مت ت�صويرها بو�صفها خطراً وجودياً. املهم �أن التعريف �أكادميي � -سيا�سي ،يغ ّلف العدوان بلغة الدفاع عن البقاء ،وال يزال �ساري املفعول حتى الآن يف لغة الإدارة الأمريكية التي تطلق على �أي عدوان �أمريكي �أو �إ�سرائيلي تعريفاً واحداً هو "الدفاع عن النف�س". تطور اال�ستخدام ال�سيا�سي لهذا التعريف يف ممار�سات الإدارة الأمريكية اىل م�ستوى متقدم جداً مع ظاهرة "داع�ش" ،فو�صلت الإدارة الأمريكية اىل م�ستوى خلق اخلطر لتربير التدخل الع�سكري، وعوملة الإرهاب لع�سكرة العامل. التحديد الثالث:
من �أبرز ما كتب عن "الأمن" هو ما �أو�ضحه "روبرت مكنمارا" وزير الدفاع الأمريكي الأ�سبق و�أحد مفكري اال�سرتاتيجية البارزين يف كتابه "جوهر الأمن" ..حيث قال�" :إن الأمن يعني التطور والتنمية� ،سواء منها االقت�صادية �أو االجتماعية �أو ال�سيا�سية يف ظل حماية م�ضمونة". تهدد وا�ستطرد قائ ًال�" :إن الأمن احلقيقي للدولة ينبع من معرفتها العميقة للم�صادر التي ّ خمتلف قدراتها ومواجهتها؛ لإعطاء الفر�صة لتنمية تلك القدرات تنمية حقيقية يف املجاالت كافة �سواء يف احلا�ضر �أو امل�ستقبل" .يتم ّيز هذا التعريف بال�شمولية ،والعمق وميكننا �أن نطلق يف �إطار التعليق عليه �سل�سلة من الأبحاث ،ولكنني �س�أكتفي هنا ،بالعناوين امل�ؤ�س�سة لهذه الأبحاث يف جمموعة من املالحظات. �أو ًال :يقدم الأمن يف هذا التحديد على �أنه دينامية �إن�سانية يف مقابل ت�صوير الأمن ب�أنه ثمرة �سل�سلة من �إجراءات ال�ضبط والكبت ،و�سكونية خانقة عرفناها وخربناها يف جتارب الأنظمة ال�شمولية العربية، فالتطور والتنمية حركة ناجتة عن �إطالق القدرات الب�شرية وحتريرها من قيود الك�سل واجلهل والفقر واملر�ض ،يف �أجواء مفعمة باحلرية والإبداع العلمي والعملي ،ووراء الإبداع العلمي حرية التفكري ،ووراء الإبداع العملي حرية الإرادة والتنفيذ ،والتطور هو ثمرة النقد امل�ستمر ملا هو قائم بروح �إيجابية ،لي�س 61
�رصاع هوية ووجود
فيها غ�ضب مكبوت �أو طاقة مهدورة يف العنف وحماوالت ال�سيطرة ،والتنمية امل�ستدامة هي ا�ستمرار يف اال�ستثمار الر�شيد للموارد والطاقات ،الأمن بهذا املعنى عملية ولي�س �سكونية� ،إجناز متدفق ولي�س �سل�سلة تعليمات ،م�س�ؤولية �أمة ولي�س فقط م�س�ؤولية جهاز وال حتى �سلطة �سيا�سية ،و�أق�صى ما يجب �أن تفعله ال�سلطة و�أجهزتها هو توفري الأجواء املالئمة للنهو�ض بالتطور والتنمية ال�شاملة ،وهنا تربز العالقة بني الأمن واحلريات العامة� ،إذ ال تنمية من دون حريات ،وال �أمن من دون تنمية ،والعنف والتخلف وهدر املوارد نتائج طبيعية لكبت احلريات وبناء ال�سدود �أمام قدرات الأمة. ثانيا :الغاية يف الغرب تربر الو�سيلة ،وقد عرفنا يف التجربة الغربية تنمية لذات الغرب على ح�ساب الآخرين ،بل عرفنا �أمناطا من التطور املطلوب لذاته على ح�ساب الإن�سان ،كل �إن�سان ،ولذلك مل تنتج التنمية الغربية مزيدا من الأمن بل ها هي تربهن �أنها �أنتجت مزيدا من اخلوف ،وال�سبب يف ذلك يف تقديري يعود �إىل �أن العقل الغربي يتجاهل با�ستمرار �أن الأمن هو ثمرة التنمية والتطور بو�سائل م�شروعة ،والإ�صرار على منط التنمية املبنية على اال�ستعمار ونهب ثروات الأمم ،والإ�سراف يف ا�ستخدام القوة ،هو عملية خلق م�ستمرة للأعداء� ،ستولد بالت�أكيد تهديداً م�ستمراً للأمن ،وهنا تنك�شف الثغرة الكبرية يف هذا التحديد على الرغم من مت ّيزه� ،إذ ال توجد حماية م�ضمونة �إذا كانت التنمية قد ح�صلت بو�سائل غري م�شروعة ،ولذلك يحر�ص القيمون على منط التنمية الظاملة ،على �أن تواكب كل قفزة تنمية بحملة تعمية عن النتائج اخلطرية لهذا النمط ،و�آخر ما تو�صل �إليه العقل الغربي يف هذا املجال هو تطوير �آليات �صناعة اخلوف وخلق الأعداء ،حلماية م�صالح كربى �أ�صبحت قائمة على هذا النمط الظامل من التنمية؛ يعني �أن التنمية �أ�صبحت مطلوبة لذاتها ولو على ح�ساب الأمن والإن�سان ،وهذا يعك�س خواء وا�ضحاً يف العقل الغربي ،ناجتاً عن خلل يف منظومة القيم امل�ؤ�س�سة لتجربته التنموية ،يظهر هذا اخللل القيمي ب�صورة �أو�ضح عندما نفند مقولة "احلماية امل�ضمونة". لو �س�ألنا مكنمارا ماذا تعني باحلماية امل�ضمونة ،لقال �إنها تهذيب �أكادميي لكلمة "قوة" ،وحتى لو كان الرجل يعني ما هو �أكرث من القوة ،ف�إن املمار�سة الغربية تك�شف عن �أنها امل�صداق العملي للحماية كما يفهمونها. �صناعة القوة ،وا�ستخدامها ،واملزيد منها ،هو الهاج�س الذي ّ يتحكم بال�سلوك الغربي اليوم ،على ح�ساب احلرية ،ومن دون �أي اعتبار للعدالة ،والنتيجة جمتمع متوتر وعامل متفجر ،وخلل يف بنية التنمية ،واجتاهات التطور. ومبا �أن للقوة حدوداً مهما بلغت ،ف�إن حدود احلماية هي حدود القوة ،ومبا �أن القوة ن�سبية ولي�ست مطلقة ،ف�إن احلماية �ستبقى ن�سبية ميكن اخرتاقها من اجلوانب الرخوة يف منظومة القوة ،فال ّ ت�شكل القوة بالتايل حماية م�ضمونة �إذا قامت على ح�ساب احلرية ،مع جتاهل تام للعدالة. ثالثاً :يف ال�شق الثاين من التعريف ي�ؤكد مكنمارا�" :إن الأمن احلقيقي للدولة ينبع من معرفتها العميقة للم�صادر التي تهدد خمتلف قدراتها ومواجهتها؛ لإعطاء الفر�صة لتنمية تلك القدرات 62
تنمية حقيقية يف املجاالت كافة �سواء يف احلا�ضر �أو امل�ستقبل". �إذا طبقنا هذا املفهوم على التجربة الغربية ،يظهر �أن الغرب �إما ال يعي �أو يتجاهل �أن م�صدر اخلطر احلقيقي عليه ،يكمن يف طبيعة تنميته ،القائمة من جهة على العدوان ومن جهة �أخرى على الإتراف ،ومبا �أنه من ال�صعب ت�صور جهل اخلرباء الغربيني مبا يفعلون فهم على الأرجح يدركون يتحملها �سلطان ويتجاهلون ،لأن تفكيك �شبكة امل�صالح القائمة على النهب �أ�صبح مكلفاً لدرجة ال ّ املال واالقت�صاد وال�سيا�سة هناك. تو�صلنا حتى الآن �إىل نتائج مهمة: لقد ّ
�أ) التنمية ال�صانعة للأمن ،هي تلك املبنية على و�سائل م�شروعة ومتوازنة وعادلة. ب) احلماية امل�ضمونة هي القوة اخلادمة للعدالة والتوازن يف التنمية ،والتنمية الظاملة لي�ست �إال تهديداً م�ستمراً للأمن مبعناه ال�شامل ،بل هي �آلية خلق للمزيد من املظلومني� ،أي املزيد من الأعداء. قد ُيقال يف نقد هذه النتائج� :إن العدالة �أي�ضاً ن�سبية وحمدودة ،وبالتايل ال ت�شكل حماية م�ضمونة للأمن؟ نقول� :إن حجم الأخطار والتهديدات الذي يواكب جتربة تنموية عادلة ال ين�ش�أ منها وال من تهدد نف�سها ،ثم �أننا مل نكتف بالعدالة كحماية ،بل قلنا القوة طبيعتها ،فعلى الأقل هذه تنمية ال ّ اخلادمة للعدالة ،فالعدالة هنا ب�سبب ن�سبيتها �شرط �ضروري ولكنه غري ٍ كاف ،بدون القوة ،وتوفر هذين ال�شرطني يجعل من التهديدات اخلارجية� ،أقل بكثري ،من تهديد نابع من الداخل يت�سبب حد لها من اخلارج� .إن الغرب الآن ي�صرف على احلماية فقط ما يكفي لإحداث ثورة بتهديدات ال ّ تنموية يف العامل �أجمع ،وهذا باملفهوم االقت�صادي هدر خطري ملوارد الأمم ،وثروات الب�شرية. قال تعاىل� :ضرب اهلل مث ًال قرية كانت �آمنة مطمئنة ،ي�أتيها رزقها رغداً من كل مكان ،فكفرت ب�أنعم اهلل ،ف�أذاقها اهلل لبا�س اجلوع واخلوف مبا كانوا ي�صنعون (النحل.)112 ، التحديد الرابع:
ولعل �أدق مفهوم "للأمن" هو ما ورد يف القر�آن الكرمي يف قوله � -سبحانه وتعاىل َ " :-ف ْل َي ْع ُبدُ وا َر َّب َه َذا ا ْل َب ْي ِت * ا َّلذِ ي �أَ ْط َع َم ُهم م ِْن ُج ٍوع و�آ َم َن ُه ْم م ِْن خَ ْو ٍف" ( .قري�ش 3 ،و ،)4ومن هنا ن�ؤكد �أن الأمن هو �ضد اخلوف ،واخلوف باملفهوم احلديث يعني التهديد ال�شامل� ،سواء منه االقت�صادي �أو االجتماعي �أو ال�سيا�سي ،الداخلي منه واخلارجي. تك ّرر الآية تعب َريي اجلوع واخلوف ،اجلوع تهديد لأ�صل البقاء ،واخلوف تهديد لكيفية البقاء ،و�إذا 63
�رصاع هوية ووجود
تخ ّل�صنا من اجلوع ،يبقى علينا نزع �أ�سباب اخلوف ،و�إذا مل نفعل ف�إن �أي معاجلة �سطحية للخوف �ستنتج خماوف جديدة ،هذا ما يح�صل بال�ضبط ،يف عامل اليوم ،بل �إن الوقائع تثبت �أن العوا�صم الكربى تنتج خوفاً متجدداً ب�إجراءاتها الأمنية ،وت�صطنع خماوف لتربر �سيا�ساتها ،القائمة على زعزعة املتقدم والعامل املتخ ّلف. اال�ستقرار يف العامل ،حتت ت�أثري �أوهام الف�صل بني العامل ّ ومن العجيب �أن ال يلتفت الباحثون ،خل�صو�صية التعريف القر�آين للأمن ،فهو ينطلق من �أن الأمن نف�سي قبل كل �شيء ،والدولة التي يفتقد مواطنوها للأمن النف�سي ،هي دولة فاقدة للأمن ،حتى ولو مل تتع ّر�ض لأي اعتداء ،وهنا يط ّور القر�آن مفهوم الأمن ليقول �إننا قبل �أن نبحث يف منط التنمية، دعونا نناق�ش �أمناط احلياة ،فكل حياة مبنية على ال�شرك ،وعبادة غري اهلل ،هي حياة غري �آمنة وم�صدر قلق وقالقل دائمة ،وهذا التعبري الأخري "القلق" هو ما ت�ستخدمه درا�سات علم النف�س احلديث، منذ مطلع القرن املا�ضي ك�أعمق �أ�شكال اخلوف التي �أنتجها منط احلياة احلديث ،وحت�ضرين الآن جمموعة عناوين كتب� ،أ�صبحت م�ألوفة بعد �أن تتطرق �إليها كبار العلماء ،وهي "قلق يف احل�ضارة" ل�سيغموند فرويد ،و"دع القلق و�أبد�أ احلياة" لدايل كارنيجي ،و�أف�ضل كتب �إريك فروم على الإطالق الذي ترجم يف �سل�سلة عامل املعرفة حتت عنوان "الإن�سان بني اجلوهر واملظهر" وعنوانه الأ�سا�سي "نتم ّلك �أو نكون" ...وغريها من الأبحاث اجلادة التي متكننا من القول �إن هناك فرعاً قائماً بذاته يف الغرب هو علم القلق. النقا�ش هنا يذهب �إىل �أبعد ،من احلديث عن تهديدات مرئية� ،إنه يتحدث عن خوف يعي�شه حم�صن من داخل حياته ،يف ظل ا�ستقرار و�أمان ن�سبي من اخلطر اخلارجي� .إريك فروم يف جمتمع ّ كتابه "نتملك �أو نكون" ي�شرح ب�صورة رائعة كيف ت�ؤثر الثقافة اال�ستهالكية على الأمن النف�سي، وكيف يتح ّول اال�ستهالك �إىل م�سكن �سرعان ما يفقد مفعوله ،فيلهث الإن�سان للح�صول على جرعة �أكرب منه ،نفهم مع هذا العامل والفيل�سوف العمالق ملاذا ينت�شر ا�ستخدام املخدرات يف ي�سميها روجيه غارودي" :بخور جمتمعات مرتفة ،وملاذا �أ�صبحت املخدرات �آفة الع�صر� ،أو كما ّ معبد ال�سوق". العنف اجلن�سي ،واجلرائم املنظمة وغري املنظمة ،والعنف الأ�سري ،واالجتماعي ،واملخدرات والأحياء امل�سلحة ،و�سفاح القربى ،وال�شذوذ ،واالنتحار الفردي واجلماعي ،لي�ست من نتائج التهديدات اخلارجية� ،إنها من نتائج منط احلياة القائمة على القيم اال�ستهالكية ،املتحكمة ببقية القيم الإن�سانية ،وبتعبري �أف�ضل من نتائج غياب ال�سكينة التي ت�ؤمنها احلياة القائمة على الإميان "برب هذا البيت" الذي هو ركن التوحيد. ف�إذا كان الأمن ثمرة القوة اخلادمة للعدالة التي حتمي التنمية امل�ستدامة ،فالإميان هو ال�سياج احلامي للعدالة وم�صدر القوة الذي ال ين�ضب ،وروح ال�سكينة وال�سالم والأمان يف �شرايني احلياة، وكل عملية �صناعة �سطحية للأمن تتجاهل هذه احلقيقة هي يف الواقع م�صدر ملخاوف متجددة، 64
وقلق م�ستمر ،و�س�أ�ستعني هنا لإثبات هذه املقولة مب�شاهد من لندن ونيويورك ،عر�ضتها تقارير خمتلفة امل�صادر ( ). 2
بريطانيا لندن:
� 500ألف كامريا تراقب �شوارع وحوانيت وحمطات لندن ،و�أربعة ماليني يف �أنحاء البالد كافة� ،أي ما معدله %10من كامريات املراقبة يف العامل .وقد �أبدى م�س�ؤولون عن احلقوق املدنية قلقهم من �إ�ساءة ا�ستخدام هذه الثقة الزائدة باحلكومة يف بريطانيا ،كما �أعلن رئي�س جلنة املعلوماتية واحلريات الكم الهائل الفردية يف بريطانيا �أن اخلطر قائم من �أن ت�صبح بريطانيا جمتمعاً حتت املراقبة ،ب�سبب ّ من املعلومات التي جتمعها احلكومة حول املواطنني. وقال ريت�شارد توما�س يف مقابلة مع �صحيفة "التاميز" ،ال �أريد �أن �أكون مهوو�ساً ،لكن بع�ض نظرائي يف ا�سبانيا �أو يف �أوروبا ال�شرقية ر�أوا خالل القرن املا�ضي ما ميكن �أن يح�صل حني ت�صبح احلكومة قوية جداً ومتلك الكثري من املعلومات حول مواطنيها يف �إ�شارة �إىل نظام اجلرنال فرانكو �أو �آل �شتا�سي يف �أملانيا ال�شرقية �سابقاً. ويف مطار هيرثو �أقدمت ال�سلطات على تعري�ض جمموعة ع�شوائية من امل�سافرين للآلة ال�سافرة التي تع ّري النا�س بهدف الك�شف عن ال�سالح واملمنوعات .وعلى �أثر ذلك ن�شر جفري روزن ،وهو �أ�ستاذ القانون يف جامعة وا�شنطن مقا ًال عن الآلة ال�سافرة ،التي تع ّري النا�س بوا�سطة الأ�شعة ال�سينية، وا�ستعر�ض االعرتا�ضات مطالباً بالتوازن بني الأمن واخل�صو�صية ،وقد تبني �أن ال�سلطات الأمريكية طلبت �آنذاك من ال�شركة امل�صنعة ،وهي خمترب املحيط الهادي ال�شمايل� ،أن تط ّور الآلة ب�شكل مينع التعدي على حرمة اجل�سد ،وقد تو�صل الباحثون يف ال�شركة �إىل �إمكانية ذلك ،عن طريق �إدراج ّ ال�سالح واملمنوعات يف خانة معينة من برنامج الآلة ،لإبرازها وت�صغري اجل�سد العاري �إىل حدود نقطة� ،أي �أن �آلة التعرية تتح ّول �إىل �آلة النقطة. وقد اعترب ذلك مثا ًال على التوفيق بني متطلبات الأمن ،واحلرمة ال�شخ�صية بوا�سطة البحث العلمي، وما �سمعناه م�ؤخراً عن ت�شغيل �آلة التعرية من جديد يف مطار فينيك�س بوالية �أريزونا يعني �أن ال�سلطات هناك ال تريد اال�ستفادة من التقنية اجلديدة يف ما ي�شبه الإ�صرار على انتهاك حرمة الأ�شخا�ص. وال يقت�صر الأمر على امل�سافرين ،فاملراقبة بالأ�شعة ال�سينية �أ�صبحت ن�شاطاً يومياً يف عوا�صم الغرب، وهذا ي�ضيف �إىل التعدي على الأخالق تعدياً �آخر على حقائق العلم ،فالت�سامح ال�شديد مع هذا اال�ستخدام العمومي للأ�شعة ال�سينية ،يدفع العلماء �إىل ال�صراخ. فقد تع ّودنا �أن نقرتب من غرفة الأ�شعة ،يف امل�ست�شفيات ،جم ّهزين بدروع واقية من الآثار ال�سلبية للتع ّر�ض للإ�شعاع ،وبرهنت �أبحاث وا�سعة االنت�شار ،كما يقول الدكتور بنك�" :أن كل عملية 65
�رصاع هوية ووجود
توجه �إىل ن�سيج بيولوجي لها تع ّر�ض للأ�شعة ال�سينية حتمل درجة من املخاطر ،وكل طاقة �إ�شعاعية ّ ت�أثريات �صحية خطرية �أ�سو�أ من �أي طاقة �أخرى ،فهي باخرتاقها لنواة اخللية ميكنها �أن ت�سبب �أ�ضراراً جدية للحام�ض النووي ،ومن هذه الأ�ضرار �إطالق عملية انق�سام خارج �إطار ال�سيطرة على �شكل �سرطان� ،أما التع ّر�ض للإ�شعاع بدرجات عالية ،فيمكنه �أن يت�سبب بتدمري عدد هائل من اخلاليا، وي�ؤدي �إىل ف�شل يف وظائف الأع�ضاء ،وخ�سارة ال�شعر ،وتدمري جدار الأمعاء ،ومتانة العظام ،ف�ض ًال عن �آثاره على اجلهاز الع�صبي ،واحرتاق اجللد. ... وقد برهن كوهني� :أنه توجد �أدلة على �أن عملية ال�سرطنة ميكن �أن تطلق من عمليتي تع ّر�ض للأ�شعة، و�أن جرعة من ( 100رمي) لكال الوالدين قد ترفع �إمكانية الت�ش ّوه مبعدل ,%0,15فاملعروف �أن خاليا احلام�ض النووي من �أكرث اخلاليا ح�سا�سية جتاه الإ�شعاع وميكن للأ�شعة �أن تت�سبب مبوت خالياه يف ظروف معينة. لو �أخذنا بعني االعتبار هذه احلقائق العلمية ،وقر�أنا من جديد �أخبار التكاثر الفطري للكامريات املتطورة ،ال بد �أن يتبادر �إىل �أذهاننا هذه احلزمة من الأ�سئلة: ما هو معدل اجلرعة الإ�شعاعية التي يتع ّر�ض لها امل�شاة وامل�سافرون يف بحر من كامريات املراقبة؟ وما هي الأخطار امل�ستقبلية على ال�صحة العامة نتيجة انت�شار هذا النوع من الكامريات؟ وماذا �سيكون م�صري الأبحاث الكا�شفة عن الآثار ال�سلبية لهذا اال�ستخدام؟ هذه خماوف �صحية ،ثم هل يعقل �أن يتم التعامل مع املواطن بو�صفه عدواً حمتم ًال بهذا ال�شكل؟ ومن ي�ضمن عدم �إ�ساءة ا�ستخدام املعلومات �ضد الأ�شخا�ص وامل�ؤ�س�سات؟ يف ظل الإمكانيات التقنية واخليارات املتقدمة مت�س الأمن ال�شخ�صي والنف�سي والأمن التي تعر�ضها الكامريات؟ هذه خماوف متعددة االجتاهات ّ العام للمعلومات. نيويورك ،الواليات املتحدة الأمريكية:
حتت عنوان " َمن يراقب؟" �أ�صدر االحتاد النيويوركي للحريات املدنية ،تقريراً يف العام املن�صرم ،حذر فيه من تزايد االعتماد على تكنولوجيا املراقبة بالكامريات ،ومن �أهم ما ورد يف التقرير� :أن عدد الكامريات يف �أنحاء خمتلفة من نيويورك زاد بن�سبة خم�سة �أ�ضعاف من �سنة 1998ولغاية العام ،2005وقد عر�ض التقرير خلرائط ،تربهن �أن الكامريات تغطي كل بقعة من � 125شارع يف هارمل وحدها. وقد ف�صل التقرير ،حجم التهديد الذي متثله هذه الكامريات على احلقوق املدنية ،مركزاً على ما ميكن �أن تفعله الكامريا اليوم وعلى درا�سات �إح�صائية تقلل من �أهمية الكامريا يف تفادي اجلرمية، يقول التقرير� :إن نقل ال�صورة �إىل مركز مراقبة هو �أب�سط ما ميكن �أن تفعله الكامريا ،احلديث يدور اليوم حول نوع ال�صورة ،وما بعد النقل والتخزين لل�صور .فعن طريق عملية التقريب( ،زوم �إن)، 66
متكنت �سارا دوغيد -وهي �صحافية يف الفينن�شال تاميز -من قراءة �شا�شة اخللوي ملجموعة من املراهقني ثم ع ّلقت" :من الناحية النظرية ميكنني �أن �أقر�أ ر�سائلهم ال�صغرية على ال�شا�شة" .وفيما بعد النقل والتخزين ميكن للكامريا بث ما التقطته عرب الإنرتنت ،مما ي�سمح بدخول �آخرين على خط املراقبة واال�ستعالم ،وال يوجد �أي فرق يف الو�ضوح بني الليل والنهار ،فكثرياً ما ّمتكنت الكامريات من التقاط حلظات حميمة يف جوف الليل ،من الأماكن العامة. يف حماولة للدفاع عن كامريات املراقبة ،متّت اال�ستعانة ب�إح�صاءات تتحدث عن انخفا�ض معدل اجلرمية حيث تنت�شر الكامريات ،ولكن درا�سة بريطانية �ضعفت من م�صداقية هذه الدرا�سات عندما تبني �أن منطقة واحدة من � 13شهدت انخفا�ضاً يف معدل اجلرمية ،و�أن �سبع مناطق من � 13شهدت ارتفاعاً يف معدل اجلرمية على الرغم من انت�شار الكامريات فيها .والنتيجة� :أن ب�إمكان الكامريا �أن ت�ساعد التحقيق بعد اجلرمية ،ولكن لي�س هناك �أدلة دامغة على �أنها تخف�ض من معدل اجلرائم. واعترب �آخرون �أن زيادة عدد كامريات املراقبة ،هو م�ؤ�شر لزيادة ت�أثري ال�شركات على احلكومات� ،أكرث مما هو �إجراء ي�ؤدي �إىل ال�شعور بالأمن. مل يكتف التقرير النيويوركي ،بالإ�شارة �إىل املخاوف بل �أكد �أن هناك انتهاكات فعلية ح�صلت� ،ضد املل ّونني ،و�أن الق ّيمني على املراقبة مار�سوا بالفعل متييزاً عن�صرياً� ،سواء يف توزيع الكامريات� ،أو يف ا�ستخدام معلوماتها ،و�أن �أهداف الكامريات كانت مبن ّية على �أ�س�س عرقية �أو �إثنية� ،أو متييز على �أ�سا�س اجلن�س ،من دون مربرات قانونية ،ف�ض ًال عن �أن 3100كامريا يف نيويورك وحدها ّ تركز على �أحياء وجماعات املل ّونني. �صناعة اخلوف:
تعدت هذه امل�شاهد نطاق البحث ،ف�صناعة الأمن �أ�صبحت وراءنا ،نحن نعي�ش بالفعل يف حقبة لقد ّ �صناعة اخلوف ،الكل يجب �أن يخاف من الكل ،احلكومة من النا�س ،والنا�س من بع�ضهم ،والأبي�ض من املل ّون ،وال�شركة من الدولة ،والغرب من الإ�سالم ،وامل�سلمون من بع�ضهم ،ال�سنة من ال�شيعة، وال�شيعة من ال�سنة ،والعرب من الفر�س ،والفر�س من الكرد والعرب ...،فهذا ميثل فر�صة عمل متجددة ل�شرطي العامل ،واحلكومة الأمنية الع�سكرية العاملية ،التي تبيع ال�سالح والتجهيزات واخلربات الأمنية، للخائفني يف ظل وهم كبري �أنها مبن�أى عن نتائج هذه ال�سيا�سة اجلهنمية. من هذه اجلهة ميكن تف�سري الإ�سراف يف ا�ستخدام الكامريات يف �شوارع املدن الغربية ،كعالمة خوف من احلكومات القائمة ،التي متثل يف النهاية خليطاً من امل�صالح ي�ضطهد طبقات من املهم�شني ،داخل املجتمع الغربي .العملية بب�ساطة تق�ضي ب�إرهاب النا�س بالأمن بحجة حماربة ّ الإرهاب ،يعني �أن هذه احلكومات م�ص ّرة على ال�سري يف طريق التمييز العن�صري ،والتمييز �ضد 67
- 1زكريا ح�سني ،الأمن القومي� ،صفحة امل�صطلحات واملفاهيم ،يف الإ�سالم �أون الين - 2املنتدى (.)Pdf file,who’s watching,www.nyclu.org العربية (.)www.spoksmanreview.com 68
فـكــــــــر
امل�سلمني واملل ّونني واملهم�شني ،وهي يف الوقت نف�سه مدركة لعواقب هذه ال�سيا�سة ،وطاملا �أنها م�ص ّرة على اال�ضطهاد والتمييز والتهمي�ش ،ومدركة يف الوقت نف�سه عواقب هذه ال�سيا�سات ،من دون �أي ت�أثري لهذا الإدراك يدفع �إىل تغيريها ،لأن نظام امل�صالح �أ�صبح قائماً عليها ،ف�إن على احلكومات �أن تراقب مظاهر الرف�ض والغ�ضب التي تت�صاعد �ضد هذه ال�سيا�سات ،والتي تعرب عن نف�سها �أحياناً ب�أعمال �إرهابية� ،أو بجرائم انتقامية ...و�إذا ح�صل ما هو متوقع �ضمن معادلة الفعل ورد الفعل ،ف�إن احلكومة تلج�أ �إىل ا�ستثمار اجلرمية� ،أو االعتداء الإرهابي ،مباكينة �إعالمية �ضخمة ت�سلط ال�ضوء على احلدث ،مبعزل عن �أ�سبابه ،يف عملية م�سح للذاكرة وكبت للت�أمل والتعقل ،بغية الت�سويق ملزيد من الإجراءات الأمنية �أو ملزيد من االنتهاك للحريات املدنية واحلرمات ال�شخ�صية ،حتت م�سمى الإجراءات الأمنية. يبدو �أن القاعدة التي حكمت الأعمال ،على مدى القرن املا�ضي ،والتي تقول :نر ّغب الزبون ثم نبيعه، قد ا�ستنفدت دورها نحن نعي�ش اليوم تطبيقاً لقاعدة �أكرث �شرا�سة هي :نخ ّوف الزبون ثم نبيعه ،وتتحقق عرب هذه القاعدة �أهداف مل يكن من املمكن حتقيقها وفقاً للقاعدة القدمية ،ومن هذه الأهداف: �أن املواطن اخلائف على �أ�صل وجوده وبقائه ،ال يناق�ش يف كيفية البقاء ،يعني ال يناق�ش النظام القائم على حرا�سة منط احلياة اال�ستهالكية ...يف ما هو يريد �أن يبقى ب�أي ثمن ،احلياة مبعناها البيولوجي ت�صبح يف هذا الإطار منحة يقدمها نظام �صناعة اخلوف للنا�س ،عندما يقتل فيهم معاين احلياة الأخرى. احلديث عن احلقوق املدنية واحلريات العامة ،ي�صبح يف مثل هذه الظروف لوناً من �ألوان الرتف الزائد ،والذي يبدي ت�ساحماً يف هذه احلقوق ،ير ّوج له على �أنه الأكرث وعياً للمخاطر املحدقة بالأمة، وبالتايل خادم مطيع لنظام �صناعة اخلوف. يتم الت�سويق اليوم لنمط احلياة الغربي عن طريق ت�صنيع "�إرهاب �إ�سالمي" يح ّول مدن الغرب �إىل توبيا بالن�سبة للأمة التي وقعت �ضحية الإرهاب ،بدون االلتفات �إىل �أننا اليوم �ضحية عنف غربي بثوب �إ�سالمي ،فقد �سبقنا الغرب يف تقطيع الر�ؤو�س واغت�صاب الفتيات املقاومات وانتهاك احلرمات ،وكل جرائم املجرم الرببري -الذي ّمت �إنتاجه عن طريق دعم فقه اال�ستبداد ثم فقه الإرهاب ثم دوائر املخابرات -ال ت�ساوي ذرة مما �أنتجه "املجرم الأنيق" بقنابل حتول ال�ضحية �إىل غبار ال يظهر يف ال�صورة ،وبالتايل ال يركز يف الذاكرة واملخيلة ال�ضحية للمتلقي. �إذا �أكملنا هذا امل�سار �إىل النهاية فنحن �أمام م�شهد هليوودي عن عامل للمرفهني ،ب�أبواب حديدية حمكمة وكامريات تراقب الأنفا�س والأفكار والأحالم ،وعامل للمهم�شني خارج ال�سور احلديدي العظيم.
التحوالت اجليوا�سرتاتيجية واالقت�صادية 1 العاملية وانعكا�سها على امل�رشق ريا�ض عيد -كاتب ع�صفت بالعامل نهاية القرن املا�ضي وبداية هذا القرن حت ّوالت جيوا�سرتاتيجية كونية كربى و�أحداث مف�صلية تركت �آثاراً وتداعيات �سيا�سية كارثية على العامل ب�شكل العام وامل�شرق والهالل ال�سوري اخل�صيب ب�شكل خا�ص (وامل�شرق �أو الهالل اخل�صيب �أو بالد ما بني النهرين مل�سمى واحد) ،وملا كانت اجلغرافية ال�سيا�سية هي العامل الأكرث ت�أثرياً يف �أو �سوراقيا كلها �أ�سماء ّ ر�سم �سيا�سات الدول اال�سرتاتيجية واالقت�صادية ،وحتديد موقع هذه الدول يف اال�سرتاتيجيات الإقليمية والعاملية ،ونظراً ملوقع الهالل اخل�صيب اجليوا�سرتاتيجي كنقطة التقاء ثالث قارات وعقدة طرق برية وبحرية وجوية تربط العامل ،وكواحدة من �أهم مناطق التداخل بني هذه القوى الربية والبحرية والقوى اجلوية ،والتي ت�شكل جزءاً ح�سا�ساً للغاية من منطقة م�صري العامل وفق طرح عامل اجليوبوليتيك املار�شال الك�سندر دو �سيفر�سكي عن القوى اجلوية ،عندما قال" :هذه املنطقة العربية هي املعرب الذي يربط قارات �آ�سيا و�أفريقيا و�أوروبا ،وهي مفتاح الدفاع اجلوي عن قارتي �أفريقيا و�أوروبا" .وهي منطقة مف�صلية يف اال�سرتاتيجيتني (الأورا�سية الرو�سية) و(الأورا�سية الأمريكية) اللتني كانتا والتزاالن حمور حركة ال�صراع الكوين لل�سيطرة على العامل ،وملا كنا نحيا ع�صر العوملة وثورة االت�صاالت واملعلوماتية التي اخت�صرت الزمن وامل�سافات وجعلت العامل قرية كونية �صغرية م�شرعة الأبواب والنوافذ �أمام التدخل اخلارجي .وملا كان هذا الزمن هو زمن التكتالت ما فوق القومية واملحاور الإقليمية والدولية املت�صارعة لر�سم نظام عاملي جديد ،مما فر�ض مفاهيم جديدة لل�سيادة والأمن (ال�سيادة الت�ساندية -والأمن التعاوين املرتكز على قاعدة توازن امل�صالح بني الأحالف بدل الأمن اال�سرتاتيجي القائم على توازن القوى) .وملا كان االقت�صاد (الذي بات معوملاً �أي�ضاً يف ع�صر العوملة) هو ال�سبب الأ�سا�سي للحروب التي ع�صفت بالعامل منذ القدم حتى الآن ،وملا كانت الهالل ال�سوري اخل�صيب يتجاذبه �صراع عاملي على الطاقة منذ بداية القرن املا�ضي ملا يختزنه من خامات �إ�ضافة �إىل املوقع اجليو�سيا�سي الذي يح�سم َمن ي�سيطر عليه ال�سيطرة على العامل .لذا ال بد لنا ونحن ندر�س التحوالت االقت�صادية الكونية و�أثرها على دول امل�شرق من �أن ندر�س �أو ًال: 1
حما�ضرة �ألقيت يف منتدى حت ّوالت يف (� 20آذار .)2015 69
فكــــــر
�أ -ماذا ميثل الهالل اخل�صيب بالن�سبة لأمريكا ورو�سيا كي تختاره �أمريكا م�سرحاً جديداً لل�صراع؟ ب -ما هي التحوالت اجليوا�سرتاتيجية العاملية الكربى و�أثرها على الهالل اخل�صيب؟ ج -ما هي امل�شاريع الدولية والإقليمية الكربى التي تت�صارع يف الهالل اخل�صيب وعليه ،وما هي طرق التعامل معها �أو مواجهتها؟ �أ -ت�أثري اجليوبوليتيك على �ص ّناع القرار عند الدول الكربى (رو�سيا و�أمريكا) و�أهمية موقع الهالل اخل�صيب اجليو�سيا�سي يف نظر اجليوبوليتيكيني ,ويف ا�سرتاتيجيتي رو�سيا و�أمريكا كي تختاره �أمريكا م�سرحاً جديداً لل�صراع؟ ال ن�ستطيع �أن نفهم �أهمية الهالل ال�سوري اخل�صيب (الذي يقع يف و�سط وجنوب حافة الياب�سة الأورا�سية) بالن�سبة للواليات املتحدة الأمريكية ،من دون �إلقاء ال�ضوء على املنطلقات الأ�سا�سية لعلماء اجليوبوليتيك الأمريكيني امل�ؤثرين ب�شدة يف �صنع اال�سرتاتيجيات للر�ؤ�ساء .هنا نذكر ثالثة من �أهم املفكرين اال�سرتاتيجيني كمثال على هذا الت�أثري :الأول هو العامل اجلـغرايف الربيطاين ال�شهري هالفـورد ماكندر يف العام 1904الذي �ألف كتابه ال�شهري "املحيط اجلغرايف للتاريخ"، وهو �أحد �أ�شهر كتب اجليوبوليتيك يف العامل .ويف هذا الكتاب ظهرت نظرية ماكندر ال�شهرية "قلب الأر�ض" �إىل الوجود ،وماكندر �أول من ن ّبه �إىل �أهمية �أورا�سيا وحافة الياب�سة واعتربها نقطة االرتكاز اجلغرايف ومن ي�سيطر عليها ي�سيطر على جزيرة العامل ومن ي�سيطر على جزيرة العامل ي�سيطر على العامل .ويق�صد ماكندر بجزيرة العامل القدمي �آ�سيا و�أوروبا و�أفريقيا .ولقد فهم نابليون توجه �إىل رو�سيا وكذلك ت�أثر قي�صر �أملانيا وليم الثاين �أهمية قلب الياب�سة قبل ماكندر عندما ّ وهتلر ومو�سوليني ب�أهمية قلب الياب�سة لل�سيطرة على �أوروبا والعامل .ت�صادمت نظرية ماكندر مع املقوالت االنطالقية الإنكليزية القا�ضـية بال�سـيطرة على الطرق البحرية ل�ضمان ال�سيطرة على العامل ،ولذلك ت�أ�س�س الت�صادم الفكري بني النظريتني على قاعدة �أن "القوى التي ت�سيطر ب�شدة .و�أورا�سيا هي على �أورا�سيا ميكنها مهاجمة م�ستعمرات القوة البحرية" ،كما اعتقد ماكندر ّ املنطقة الواقعة بني �شرق �أوروبا يف الغرب و�آ�سيا الو�سطى والقوقاز يف ال�شرق ،والكلمة م�شتقة من �أوروبـا و�آ�سـيا للداللة على منطقة التما�س بني القارتني .عانـى ماكندر من مركزية �أوروبية مفرطة يف حتليالته ،ودخلت تقديراته املتوا�ضـعة عن �أهمية اجلغرافيا العربية �ساحــات االنتقـاد لنـظريتـه من �أو�سـع �أبوابهـا .كـما �أ ّنه ،وب�سبب االحتياطات الهائلة من النفط والغــاز يف ال�شـرق الأو�سط املكت�شـفة بعد ماكـندر مل يعــد ممكـناً لأي قـوة عـظمى �أن ّتدعي �أنها كـذلك ،من دون �أن ت�ضع ال�شرق الأو�سط يف �إطار بيئتها الأمنية واال�سرتاتيجية. والثاين نيقوالي �سبيكمان الذي بنى نظريته �أي�ضاً على (حافة الياب�سة) بالن�سبة لأورا�سيا (Rime )Landاو الهالل الداخلي ,حيث اعترب �أنّ َمن ي�سيطر على حافة الياب�سة ي�سيطر على �أورا�سيا 70
ومن ي�سيطر على �أورا�سيا ي�سيطر على العامل. والثالث هو زبغنيو بريجين�سكي ،م�ست�شار الأمن القومي للرئي�س الأ�سبق جيمي كارتر و(�أ�ستاذ ال�سيا�سة اخلارجية بجامعة جون هوبكنز -وا�شنطن) وامل�ست�شار غري املعلن والأكرث ت�أثرياً على باراك �أوباما ،حيث �سلط ال�ضوء يف كتابه "رقعة ال�شطرجن الكربى" الذي �أ ّلفه العام 1997على �أهمية منطقة �أورا�سيا للواليات املتحدة الأمريكية ،التي ت�سبق ال�شرق الأو�سط يف �أهميتها من املنظور الأمريكي .ت�أثر بريجين�سكي مبا كتبه ماكندر حيث قال" :انتقل علم اجليوبوليتيك من البعد الإقليمي �إىل البعد الكوين .مع وجود �أهمية ا�ستثنائية ملنطقة �أورا�سيا يف امل�صالح الكونية الأمريكية .و�أمريكا باعتبارها قوة ال تنتمي �إىل �أورا�سيا ّمتدد �سيطرتها �إىل احلواف الثالث ملنطقة �أورا�سيا ،والعدو املحتمل لأمريكا يف �أي �سياق تناف�سي دويل مقبل ال ّبد له �أن ي�سيطر على منطقة يتوجب على �أمريكا �أن متنع �أياً من القوى الكربى ،رو�سيا �أو ال�صني �أو القوى �أورا�سيا .وهكذا ّ الإقليمية ال�صاعدة مثل �إيران وتركيا ،من ال�سيطرة على منطقة �أورا�سيا"� .سيطرت �أمريكا منذ احلرب الباردة على ما �أ�سماه بريجين�سكي "ر�ؤو�س اجل�سور القارية" ،الحتواء االحتاد ال�سوفياتي ومنع ّمتدده .يف هذا ال�سياق كان الهالل ال�سوري اخل�صيب وما زال ر�أ�س اجل�سر الكبري �إىل اجلنوب من �أورا�سيا ،وتدخالت �أمريكا كلها يف ال�شرق الأو�سط خالل احلرب الباردة كانت بهدف احتواء وعزل االحتاد ال�سوفياتي ،مبا يف ذلك االنقالب الذي وقع على الزعيم الإيراين حممد م�صدق وحكومته املنتخبة دميوقراطياً العام 1953واالنقالب على الوحدة امل�صرية -ال�سورية العام 1961ثم حرب العام 1967وما تالها الحقاً من تدخالت بهدف احتواء وريثته رو�سيا. وال يزال حتى الآن التدخل الأمريكي يف الهالل ال�سوري اخل�صيب يجري حتت هذه العناوين و�آخر مثال على هذا هو جواب اجلرنال (ذو النجوم الأربع) مارتن دميب�سي – رئي�س هيئة الأركان الأمريكية امل�شرتكة – على �س�ؤال ال�سناتور بوب كوركر يف جل�سات اال�ستماع الأخرية يف الكونغر�س الأمريكي ,حول الأهداف التي ي�سعى �إليها يف حملته ال�سورية ,ب�صراحة ع�سكرية مبا�شرة" :ال ميكنني �أن �أجيب على هذا ال�س�ؤال ,بخ�صو�ص الأهداف التي ن�سعى �إىل حتقيقها". "ال�سالم والأمن" عرب احلرب �أعتقد �أنه مبقدورنا حتديد ثالثة �أهداف رئي�سة مرتابطة من بني �أهداف وا�شنطن الرتاتبية يف "امل�شروع ال�سوري": )1متهيد طريق العدوان و�صو ًال �إىل حدود رو�سيا؛ )2خلق ال�شروط الكفيلة ب�إ�شعال "احلرب العاملية الثالثة"؛ )3احلفاظ على نظام عملة البرتودوالر. �إذاً :كما كانت منطقة الهالل ال�سوري اخل�صيب وما زالت متثل ر�أ�س اجل�سر الكبري �إىل اجلنوب من �أورا�سيا ،بالن�سبة ال�سرتاتيجية �أمريكا ،هي كذلك بالن�سبة لرو�سيا (�أكرب دول العامل م�ساحة 71
فكــــــر
بحدود 18مليون كم بعد �ضم القرم) ،حيت تعترب �أن دول الهام�ش �أو احلافة �أو التخوم ،هي خطوط الدفاع الأول عنها ،ولن ت�سمح لأحد بال�سيطرة عليها .وبالتايل بات ال�شرق الأو�سط برمته �أولوية �أمنية وا�سرتاتيجية ومنطقة مفتاحية بالن�سبة للأورا�سية الرو�سية والدفاع عنها ومنع ال�سيطرة الأمريكية عليها هي كالدفاع عن مو�سكو. وح�سب تعبري الك�سندر دوغني ،زعيم الأورا�سيني اجلدد يف رو�سيا وم�ؤلف كتاب "�أ�س�س اجليوبوليتيك"� ،أن امل�شروع الأورا�سي [التكامل بني املحاور الربية بزعامة رو�سيا] يعترب العامل العربي �أحد �أحزمته الثالثة [الأورو �أفريقي] �إىل جانب احلزام الأورا�سي ومثيله البا�سيفيكي احلد من هيمنة القطب الأمريكي ،لأن ال�شرق الأو�سط نقطة �صدام والذي عليه ُيبنى �أمل ّ جيوبوليتيكي مع �أمريكا وانت�صار رو�سيا فيه يجب �أن يكون حتمياً .ويعترب دوغني �أن امل�شروع الأورا�سي يف الهالل اخل�صيب يقف �أمامه عائقني: يخ�ص امل�ضمون الإيديولوجي للم�شروع العروبي ،وهذا �أمر مرتوك -بالن�سبة �إىل �ألك�سندر الأول ّ دوغني -للعرب .وهو يدخل يف باب املقدور عليه� .أما الأمر الثاين والذي ي�ستحيل معه حتقيق امل�شروع؛ فهو املنطلق الأ�صويل -الإ�سالموي يف �إقامة دولة اخلالفة. ويعترب دوغني �أن الرئي�س بوتني هو مر�سل لتحقيق حلم الأورا�سية الرو�سية و�إعادة جمد رو�سيا العظمى .بالإ�ضافة �إىل �أن العديد من املحللني اجليوبوليتيكيني واجليوا�سرتاتيجيني ي�ؤكدون �أن "الوحدة الأورا�سية"� ،إن حتققت ت�شكل حالة مرعبة للأمريكيني ،لأنها منطقة ارتطام القوى الدولية الكربى منذ ما قبل احلرب العاملية الثانية لل�سيطرة على العامل �سيا�سياً واقت�صادياً حتى يومنا هذا. 2
ب -ما هي التحوالت اجليوا�سرتاتيجية العاملية الكربى و�أثرها على الهالل ال�سوري اخل�صيب؟ 1ـ �سقوط جدار برلني ثم �سقوط االحتاد ال�سوفياتي وتفككه �أواخر القرن املا�ضي مما �أدى �إىل اختالل التوازن الثنائي الدويل ،وفقدان �أمتنا وحركات التحرر ن�صرياً كبرياً يف �صراعهما الوجودي مع عدونا الغا�صب وقوى اال�ستعمار مما �أ ّدى �إىل �سقوط نظام الثنائية القطبية الذي حكم العامل بعد احلرب الكونية الثانية و�إبان احلرب الباردة ،و�أخلى ال�ساحة الدولية لأمريكا كقوة �أحادية تتحكم بالكون بنظام �أحادي .جائر. 2ـ بروز �أمريكا كنظام ا�ستعماري �أحادي اال�ستقطاب على �أثر �سقوط االحتاد ال�سوفياتي وا�ستالم املحافظني اجلدد احلكم فيها بحلمهم الإمرباطوري حلكم العامل ،وتو�سيع احللف الأطل�سي 72
لي�شمل ق�سماً من دول �أوروبا ال�شرقية �سابقاً ،مما �أ ّدى �إىل تطويق رو�سيا وعزلها بغية تفكيكها واعتمادهم الليربالية كنظام اقت�صادي حاكم للكون بعد �سقوط ال�شيوعية ،واعتبارهم مفتاح بقاء �أمريكا ك�إمرباطورية حتكم العامل هو ال�سيطرة على م�صادر النفط والطاقة ،والتحكم مب�ساراتها و�إبقاء ت�سعريها بالدوالر فقط ،واعتمادهم احلروب اال�ستباقية كعقيدة جديدة لهذا الفكر الإمرباطوري ...وملا كان الهالل ال�سوري اخل�صيب ودول اخلليج تختزن �أكرث من %60من احتياط العامل من الطاقة ،واجه الهالل اخل�صيب وال يزال يواجه مع العامل العربي تداعيات هذا احللم الإمرباطوري الأمريكي حروباً واجتياحات وتدمري للدولة واملجتمع واالقت�صاد. 3ـ تغيري الإدارة الأمريكية �أولوياتها يف عهدي �أوباما الأول والثاين مرات عدة وذلك للتخ ّبط الأمريكي يف املنطقة ،حيث �أ�صبحت: �أو ًال :الت�صدي ل�صعود االقت�صاد ال�صيني الذي جتاوز االقت�صاد الأمريكي هذا العام وفق م�ؤ�شرات �صندوق النقد الدويل ،حيث و�صل الناجت االقت�صادي لل�صني هذا العام �إىل 17.6تريليون دوالر، بينما تقهقرت الواليات املتحدة الأمريكية �إىل املركز الثاين بناجت اقت�صادي ال يتجاوز 17.4 تريليون دوالر ،ولهذا قررت �أمريكا االن�سحاب من ال�شرق الأو�سط �إىل ال�شرق الأق�صى وجنوب �آ�سيا للت�صدي للعمالق ال�صيني املزاحم لها اقت�صادياً و�سيا�سياً ،واعتمادهم االخوان امل�سلمني والتنظيمات التكفريية كوكيل للم�صالح الأمريكية الإ�سرائيلية يف املنطقة ،ثم بعد ف�شلهم ا�ستنفروا جي�ش القوى التكفريية العاملية وكلفوا اخلليج العربي بتمويل وت�سليح وح�شد الإرهابيني بالتن�سيق مع تركيا و�إ�سرائيل لتنفيذ حروبها بالوكالة وتدمري الهالل اخل�صيب و�إقامة ال�شرق الأو�سط الإثني املق�سم �إىل كيانات عرقية اجلديد و�سايك�س بيكو 2بعد ا�ستنفاد �أهداف �سايك�س بيكو 1لتق�سيم ّ ومذهبية تخدم �إذكاء الفتنة ال�سنية ال�شيعية التي ت�ضرب وحدة املجتمع وتت�صدى للتمدد الإيراين الرو�سي وال�صيني يف املنطقة .لكن �أوباما اكت�شف فج�أة وبعد ف�شل القوى التكفريية يف �إ�سقاط النظام وتبدل املوقف الع�سكري مل�صلحة النظام� ،أن الفراغ يف ال�شرق الأو�سط �سرعان ما بد�أت ال�سوري ّ متلأه �إيران ورو�سيا ،فانقلبت كل ح�سابات �أوباما وقرر �أن تكون عودته هذه املرة بالقوة الع�سكرية الحتالل املنطقة من بوابة حماربة الإرهاب ،ف�أوعز لـ "داع�ش" كي تقوم بغزوة املو�صل والأنبار (وفق اعرتافات اجلرنال وي�سلي كالرك للـ ،CNNحيث قال :نحن َمن �صنع "داع�ش") ،معتقداً هذه املرة �أنه ال �سبيل لتحجيم دور رو�سيا وعزل �إيران وحما�صرة ال�صني �إال من خالل ال�سيطرة على البوابة (الهالل ال�سوري اخل�صيب) ،التي متثل وفق اال�سرتاتيجيني الرو�س "مفتاح مو�سكو"� ،إذا �سقطت مهب الريح ،و�أ�صبحت �إيران من دون خمالب وال �أنياب وفقدت عمقها الأوىل ذهبت الثانية يف ّ العربي احليوي ،وانتهي حمور املقاومة كما �سبق ووعد �أوباما من فرتة ،حيث قال" :لن ن�سمح لإيران بتفريخ منظمات على �شاكلة "حزب اهلل" يف املنطقة. 73
فكــــــر
ثاني ًا :مواجهة العجز التجاري والدين الداخلي للخروج من �أزمتها االقت�صادية التي �أ�صابتها العام 2008وال تزال من دون حل .وتو�صية الكارتيل ال�صناعي الت�سليحي يف �أمريكا (املدعوم من املحافظني اجلدد) ،ب�أن ال خمرج لأمريكا من �أزمتها االقت�صادية �إال بح ّلني: الأول اال�ستعجال بت�صدير برتول الرمال والغاز ال�صخري الأمريكي �إىل العامل بعد االكتفاءالذاتي الذي �ستحققه �أمريكا نهاية العام ،2016وهذا �إجراء طويل. والثاين فوري ونتائجه م�ضمونة ،وهو �إ�شعال احلروب يف ال�شرق الأو�سط وفق نظرية ن�شرالفو�ضى الهدامة .وامل�صلحة الأمريكية منها هي: تدمري املنطقة و�إنهاكها� - ،إرباك �إيران و�إلزامها على التنازل يف املفاو�ضات النووية معالـ ،5+1وا�ستنزافها وقطع م�شروع �أنابيب الغاز الإيراين �إىل �ساحل �سوريا. ا�ستنزاف رو�سيا مبنعها من ا�ستغالل غاز املتو�سط بعد عقودها الطاقوية مع �سوريا. حما�صرة ال�صني عرب قطع طريق احلرير ال�صيني وخط �سكك احلديد ال�سريع الذي �سي�صل�شنغهاي ب�ساحل �سوريا على املتو�سط ،والتي بد�أت ال�صني ب�إجنازهما لك�سر تطويق �أمريكا لها يف م�ضيق ملقا الذي مي ّر منه %75من الطاقة �إىل ال�صني. حتريك م�صانع الأ�سلحة ،وبالتايل حتريك العجلة االقت�صادية الأمريكية وقد انتع�شاالقت�صاد الأمريكي وانخف�ضت البطالة ،بعد حرب "داع�ش" يف املنطقة ،ح�سب املو�شرات االقت�صادية الأمريكية التي �صدرت م�ؤخراً عن �شركات الأ�سلحة املتعاقدة مع وزارة الدفاع (البنتاغون) ويف الأ�شهر الثالثة الأوىل لغزوة داع�ش حيث (زادت �أ�سهم �شركة لوكهيد مارتن بن�سبة ،%9.3وارتفع �سهما �شركتي ريتون ونورث ثروب غرامان بن�سبة ،%3.8 و�سهم جرنال دايناميك بـ )%4.3وبات ال�شرق الأو�سط �أكرب �سوق ا�ستهالكي للأ�سلحة العام املا�ضي وهذا العام. 4ـ و�صول فالدميري بوتني رجل املخابرات الرو�سية �إىل �سدة احلكم يف رو�سيا العام 2000بعد خما�ض فكري حول �س�ؤال الهوية " َمن نحن؟" ،وما هي الأ�سباب التي �أدت �إىل انهيار االحتاد ال�سوفياتي وبروز الأورا�سية كعقيدة جيوبولتيكية جديدة حتكم تطلعات و�سيا�سة رو�سيا االحتادية امل�ستقبلية ،وبعد االرتفاع الكبري يف �أ�سعار النفط والغاز الذي �ساعد رو�سيا باخلروج من العجز املايل الكبري ( 300مليار دوالر) الذي �سببته �سيطرة املافيا الرو�سية على االقت�صاد الرو�سي يف عهد يلت�سني ،حيث ا�ستطاع بوتني �أن ُيخرج رو�سيا من عجزها املايل ويحقق فائ�ضاً مالياً جتاوز ن�صف تريليون دوالر .قر�أ بوتني جيداً �أ�سباب انهيار االحتاد ال�سوفياتي �سابقاً وتفككه ،وقر�أ �أهمية الغاز امل�ستقبلية ،ولأن رو�سيا هي الدولة الأوىل املنتجة للغاز يف العامل ولأن بوتني قر�أ خطورة غاز 74
نابكو على االقت�صاد الرو�سي ،وخطورة املخططات الأمريكية على رو�سيا من خالل ن�شر القواعد الأمريكية والدروع ال�صاروخية املواجهة لرو�سيا يف �أوروبا وو�سط �آ�سيا وتركيا وقف مع ال�صني، عقبة ك�أداء يف جمل�س الأمن بوجه املخططات الأطل�سية يف �سوريا ومنع �إ�سقاطها بحمايتها بثالثة فيتوات حفاظاً على م�صالح رو�سيا اال�سرتاتيجية يف املتو�سط وحفاظاً على قاعدة طرطو�س (القاعدة الوحيدة املتبقية لرو�سيا خارج �أرا�ضيها بعد القرم) مما جعل �سورية �أي�ضاً ت�صبح يف �صميم الأمن ال�سيا�سي واالقت�صادي والقومي الرو�سي. 5ـ ت�شكيل منظمة �شانغهاي للتعاون� ،أهدافها ودورها ب�إلزام �أمريكا لإخراج قواعدها من �آ�سيا قبل نهاية العام 2015وت�شكيل دول الربيك�س ودورهما ب�إنهاء نظام الأحادية القطبية وبروز نظام عاملي متعدد املحاور وموقع الهالل اخل�صيب كنقطة �صدام جيو�سيا�سي لإعادة ت�شكيل هذا جديد ّ النظام. 6ـ انت�صار الثورة الإ�سالمية يف �إيران العام ،1979وتغ ّلبها على احل�صار الغربي لها ب�سبب ملفها النووي وتقدمها التكنولوجي وال�صناعي والت�سليحي مما حولها �إىل دولة �إقليمية عظمى ودولة حمورية يف �أي ترتيبات �سيا�سية م�ستقبلية يف الهالل اخل�صيب وو�سط �آ�سيا .وتعاظم النفوذ الإيراين يف الهالل اخل�صيب خا�صة بعد ان�سحاب االحتالل الأمريكي من العراق وقرب ان�سحابه من �أفغان�ستان هذا العام مما �أعاد موقع العراق مع املحور املقاوم وبروز دور �إيران يف جيوبوليتيك الطاقة ال�صينية والرو�سية وموقعها اجليوا�سرتاتيجي يف و�سط �آ�سيا ودورها يف الهالل اخل�صيب واليمن كداعم �أ�سا�سي للمقاومات بوجه املخططات الأمريكية والأطل�سية والإ�سرائيلية والإقليمية الإرهابية والتكفريية. 7ـ �سقوط النظام الأحادي اال�ستقطاب الذي قادته �أمريكا بعد ف�شلها الذريع يف حل امل�شكالت ال�سيا�سية واالقت�صادية والبيئية مما �أورث العامل و�أمتنا كوارث وحروباً ال نزال نواجهها حتى الآن، وبروز حالة الالقطبية كمقدمة لوالدة نظام متعدد الأقطاب بد�أ بالظهور ،فالإن�سانية يف وقتنا احلا�ضر تعدد الأقطاب ،و�شاء تدخل مرحلة انتقالية من العامل الثنائي القطبني �إىل ال�صيغة العاملية من ّ موقع الهالل اخل�صيب اجليوا�سرتاتيجي �أن يكون هو املك ّون واحلا�ضن لهذه الوالدة بعد ا�ستعمال رو�سيا وال�صني ثالثة فيتوات متتالية ملنع �إقامة منطقة حظر جوي �أو ا�ستهداف �سوريا بقوات �أطل�سية كما ح�صل لليبيا ،على �أثر احلرب الكونية التي تخا�ض يف �سوريا وعليها. 8ـ حدوث ثورة اقت�صادية عظمى يف ال�صني �أده�شت العامل يف نهاية القرن املا�ضي وبداية هذا القرن مما �أدى �إىل انتقال مركز الثقل االقت�صادي وبالتايل ال�سيا�سي من الغرب �إىل ال�شرق وحتديداً �إىل جنوب �آ�سيا وما تركه من �أثر كبري يف تغيري موازين القوى و�أولويات الدول العظمى وا�سرتاتيجياتها 75
فكــــــر
..ودفعت ال�صني �إىل اخلروج لت�أمني م�صادر الطاقة من و�سط �آ�سيا �إىل ال�شرق الأو�سط وافريقيا �إ�ضافة �إىل �إحيائها م�شروع طريق احلرير التاريخي الذي ي�صل �سوريا ب�شنغهاي مروراً بو�سط �آ�سيا، واحلزام االقت�صادي لطريق احلرير ،خلروج ال�صني من تطويق �أمريكا لها ب�سيطرتها على م�ضيق ملقا باتفاقاتها الأمنية مع �أندوني�سيا وماليزيا اللتني تت�شاط�آن هذا امل�ضيق الذي مير عربه %75 من النفط �إىل امل�صانع ال�صينية ،مما جعل "�إيران والهالل اخل�صيب ك�أق�صر معرب لطريق احلرير وخط �سكك احلديد ال�سريع ،و�سوريا كبوابة لطريق احلرير �إىل �أوروبا وكخزان الغاز على �ساحل املتو�سط" ،وجزءاً من الأمن القومي اال�سرتاتيجي الطاقوي واالقت�صادي ال�صيني والتي تالقت ا�سرتاتيجيتها "البحار الأربعة" مع ا�سرتاتيجية "البحار اخلم�سة" التي �أعلنها الرئي�س ب�شار الأ�سد بعد �أن قرر االجتاه �شرقاً واعتبار �أن �أوروبا مل تعد موجودة على اخلارطة �سيا�سياً. 9ـ بروز �أخطار االحتبا�س احلراري والتغري املناخي ب�سبب التلوث الذي �أحدثته الدول ال�صناعية ب�سبب ا�ستعمالها املفرط للبرتول والفحم احلجري لتحريك عجلة م�صانعها وبروز ال�صراع على الغاز كمادة نظيفة للطاقة (بعد التو�صية با�ستعماله من قبل منظمة الطاقة العاملية التي اعتربت �أن القرن الـ 21هو الع�صر الذهبي للغاز) ونتيجة �ضغوط منظمة الطاقة العاملية على الدول ال�صناعية ،لتبني تو�صيات قمة الأر�ض يف ريودوجنريو العام 1992وم�ؤمتر كيوتو يف اليابان العام 1997ب�ضرورة ا�ستعمال الغاز كبديل طاقوي لتخفيف انبعاث ثاين �أوك�سيد الكربون بن�سبة %20قبل 2020والتحذير من كارثة �ستحل بالكرة الأر�ضية �إن مل تلتزم الدول ال�صناعية بهذا الأمر ،والتزام �أوروبا بهذه املقررات مما جعلها �أكرب �سوق عاملي نا�شئ للغاز .وملا كان ا�ستهالك الغاز العاملي يت�ضاعف كل ع�شر �سنوات ،ولأن �أوروبا تعتمد على الغاز الرو�سي لتلبية ثلث حاجتها من الغاز باتت هي رهن �إرادة رو�سيا الطاقوية التي ت�ضغط بها �سيا�سياً على �أوروبا. وبعد اكت�شاف هيئة امل�سح اجليولوجي الأمريكية املخزونات الكبرية من النفط والغاز يف الأرا�ضي ال�سورية ومياهها الإقليمية يف املتو�سط والتي قدرت ب�أكرث من 700تريليون م .م .من الغاز ،مما جعل �سوريا خزان غاز املتو�سط وت�شبه ال�سعودية يوم اكت�شاف النفط ..وبعد انك�شاف موقع �سوريا ك�أق�صرعقدة مرور �أنابيب الغاز لتحرير �أوروبا من احتكار غاز بروم الرو�سي ،ولأن �سوريا خزان الغاز للمتو�سط وعقدة طرقه �إىل �أوروبا ،وملا كان الرئي�س الأ�سد غري موثوق من قبل �أمريكا و�أزالمها وتركيا ودول اخلليج العربي ،وبعدما رف�ض مرور �أنبوب غاز (نابوكو) يف �سوريا والذي يحمل غاز قطر و�إ�سرائيل ويناف�س حليفته رو�سيا يف �سوق �أوروبا ،وا�ستعا�ض عنه ب�أنبوب الغاز الإيراين الذي �سيعرب �إيران والعراق و�سوريا ويكون رافداً لغاز بروم وغري مناف�س له ،وناقل غاز املتو�سط م�ستقب ًال �إىل ال�صني ،بد�أت احلرب على �سوريا لإ�سقاطها لأنها مبوقعها اجليو ا�سرتاتيجي باتت قطب الرحى وعقدة موا�صالت �أنابيب الغاز العاملية �إ�ضافة �إىل �أنها عقدة طرق برية وجوية وبحرية ونقطة التقاء ثالث قارات �آ�سيا و�أفريقيا و�أوروبا. 76
10ـ رغم �أن ع�صر العوملة وثورة االت�صاالت واملعلوماتية التي اخت�صرت الزمن وامل�سافات وجعلت العامل قرية كونية م�شرعة الأبواب والنوافذ �أمام التدخل اخلارجي ،هي نتاج النيوليربالية ال�ستباحة الكون� ،إال �أن النيوليربالية �سقطت يف بداية هذا القرن ب�سبب الأزمة االقت�صادية التي �ضربت العامل العام 2008و�أفقرت �أوروبا و�أمريكا والعامل الر�أ�سمايل ،وبددت مدخرات اخلليج العربي وال تزال تداعياتها وتردداتها من دون حل وترخي بظاللها على االقت�صاد العاملي ،حيث ي�شهد الغرب حالياً (�أمريكا والعديد من الدول الأوروبية) �أزمة اقت�صادية كبرية� ،أ�صبحت ككرة النار حترق اجلميع� ،أو ككرة الثلج �أي�ضاً كلما تدحرجت كربت ،وال ينفك قادة هذه الدول عن توجيه الن�صائح املكررة واململة لدول العامل الأخرى يف كيفية تر�شيد �إدارتها وزيادة الرفاهية االجتماعية وحماية حقوق الإن�سان وتعميم الدميقراطية ...وين�سون �أو يتنا�سون املظاهرات ال�شعبية يف بلدانهم الناجمة عن تراجع معدل النمو االقت�صادي وزيادة حاالت التهمي�ش االجتماعي والفقر. ويبحثون يف الكتب واملراجع االقت�صادية ع ّلهم يجدون حلو ًال مل�شاكلهم ،ون�سوا �أو تنا�سوا �أن هذه امل�شاكل مرتبطة بطبيعة نظامهم االقت�صادي القائم على اال�ستغالل والظلم واالبتعاد عن االقت�صاد الإنتاجي فتبدو الر�أ�سمالية قاتلة نف�سها والر�أ�سماليني معها!!! فقبل �أ�شهر عدة �شهدت �أمريكا حتركات �شعبية وا�سعة ،تعك�س ال�شعور بخيبة الأمل من الطبيعة الظاملة للنظام الر�أ�سمايل ،وما ي�سببه من كوارث اقت�صادية واجتماعية ،انعك�س انت�شاراً للبطالة بني �صفوف العمال ،وازدياداً لن�سبة الفقر بني فئات املجتمع الدنيا ،مما يظهر مدى جتذر الأزمة املالية التي يعي�شها النظام الر�أ�سمايل العاملي بوجه عام ،والأمريكي بوجه خا�ص. وبالنظر �إىل �أحدث الإح�صاءات عن التفاوت االجتماعي يف الواليات املتحدة ،تظهر �أن عدد العمال الفقراء يف الواليات املتحدة ازداد ب�شكل خميف .ففي العام ،2011كان 47,5مليون �شخ�ص يعي�شون يف عائالت متو�سط دخلها �أقل من 200باملئة من معدالت الفقر الر�سمية ،وهذا تقريباً خم�س العائالت ،وهو معدل مرتفع مقارنة بـ 31باملئة عن العام 2010و 28باملئة عن العام .2007 �أما يف القارة العجوز ،فاملفارقة ال تكاد ت�صدق للوهلة الأوىل� .أوروبا الغنية مهددة بالفقر والتهمي�ش االجتماعي .فمع العام الرابع على التوايل ،وبعد انطالق الأزمة املالية العاملية ،تظل منطقة اليورو احللقة الأ�ضعف يف االقت�صاد العاملي .ويف ظل هذه الأزمة امل�ستمرة يتعر�ض االحتاد النقدي الأوروبي (منطقة اليورو) ل�صدمة ثالثية� :صدمة مالية� ،أزمة ديون �سيادية ،و�أزمة للم�شروع مهدداً بعواقب �سيا�سية متعددة... الأوروبي ّ منظمة العمل الدولية حذرت من وجود �أكرث من 26مليون �أوروبي الآن من دون عمل ،وهذه الأعداد تتطلب خططاً تنموية وا�سعة و�أموا ًال كبرية لدجمها يف �سوق العمل والإنتاج .من ّبهة �إىل املخاطر التي ترتفع مع ارتفاع البطالة الطويلة الأمد وبطالة ال�شباب على وجه اخل�صو�ص ،والتي و�صلت �إىل م�ستويات حرجة .كما ورد يف تقرير �أ�صدرته املنظمة من جنيف مبنا�سبة افتتاح امل�ؤمتر 77
فكــــــر
الإقليمي الأوروبي حول العمالة يف �أو�سلو ( 8ني�سان � ،)2013إن حالة الأيدي العاملة والت�شغيل يف �أوروبا تدهورت منذ تبني احلكومات الأوروبية �سيا�سات التق�شف املالية ،و�أن مليون �شخ�ص فقد عمله يف دول االحتاد الأوروبي خالل الأ�شهر ال�ستة املا�ضية .و�أ�ضافت �أن ع�شرة ماليني �شخ�ص �إ�ضايف هم الآن من دون عمل مقارنة ببداية الأزمة املالية العام ،2008و�أن معدل البطالة يف �أوروبا بلغ يف �شباط /فرباير املا�ضي 12.7يف املئة ،ويف منطقة اليورو ،بلغ م�ستوى تاريخياً بت�سجيله 13يف املئة .حيث تعاين منطقة اليورو التي ت�ضم 17ع�ضواً من الركود الكبري يف كل من �إ�سبانيا وبلجيكا واليونان و�أيرلندا و�إيطاليا وهولندا والربتغال و�سلوفينيا .بينما تعاين منه كذلك خارج منطقة اليورو بريطانيا والدمنارك وجمهورية الت�شيك. امل�شهد االقت�صادي العام احلايل يف منطقة اليورو يبدو �سوداوياً ،حيث و�صلت معدالت البطالة يف االحتاد الأوروبي خالل الربع الأخري من العام � 2013إىل رقم قيا�سي ( 11.9يف املئة)� ،أي �أن هناك ( )26مليون عاطل عن العمل يف ( )27دولة �أوروبية .معدل البطالة يف �أملانيا ( 5.3يف املئة) ،يف �أ�سبانيا ( 26,2يف املئة) ،يف فرن�سا ( )%11يف اليونان ( 27يف املئة). والبيانات ت�شري �إىل تراجع يف ا�ستثمار ال�شركات ،مع هبوط يف اال�ستهالك اخلا�ص ،مما �أدى �إىل تراجع اقت�صاد منطقة اليورو بن�سبة ( 0.6يف املئة) وتراجع لل�صادرات والواردات بن�سبة ( 0.9يف املئة) وانخفا�ض الناجت املحلي الإجمايل يف دول منطقة اليورو باملعدل نف�سه .باملقابل ف�إن التوقعات امل�ستقبلية ال�صادرة عن املفو�ضية الأوروبية تر�سم �صور ًة محُ َبطة �أي�ضاً :يف العام 2015يتوقع �أن يكون معدل البطالة �أعلى من ( 25يف املئة) يف اليونان وا�سبانيا ...ومن املتوقع �أن ي�ستمر االنق�سام االقت�صادي واالجتماعي العميق يف منطقة اليورو. �أملانيا اليوم القوة االقت�صادية الأوىل يف منطقة اليورو ،تعاين من تخفي�ض ت�صنيفها االئتماين ،و(75 يف املئة) من الفرن�سيني يرف�ضون التدابري التق�شفية ...ويقول (مارتن وولف) يف "الفاينان�شال تاميز" (ح�شرجة املوت ال�صادرة عن النموذج االقت�صادي الفرن�سي ال تزال م�سموعة ،وعلينا �أن ننتظر لرنى كيف �ستكون النهاية ،)...والو�ضع يف بريطانيا لي�س �أف�ضل ...الواقع �أن الفجوة االقت�صادية داخل االحتاد النقدي الأوروبي من غري املمكن �أن ت�ستمر لفرتة طويلة كما قال (�أبراهام لنكولن) (�إن البيت املنق�سم على نف�سه ال يظل قائماً) ،وبالتايل من ال�صعب جداً �أن ي�ستمر الواقع احلايل ملنطقة اليورو. مقابل هذا ال�ضعف والوهن االقت�صادي الأوروبي ،حتاول بع�ض الإمرباطوريات الأوروبية القدمية الهرمة ا�ستعادة بع�ض من نفوذها ال�ضائع وحت�شر نف�سها �سيا�سياً يف �أو�ضاع ال�شرق الأو�سط مبا�شرة �أو بالوكالة ،كفرن�سا وبريطانيا ...ولي�س �سراً �أن جهودها هذه �ستكلل بالف�شل ك�سابقاتها... فالأزمات والق�ضايا الكربى حت�سمها ال�شعوب ...ولي�س قوى اال�ستعمار القدمي ال�ضعيفة اقت�صادياً يف �أوروبا العجوز ...والتي تعي�ش حالة من التخبط والعجز ال�سيا�سي ...لكن اخلطر يكمن يف جلوء امل�س�ؤولني الدهاة يف الغرب ،حلل م�شاكلهم االقت�صادية على ح�ساب بلدان العامل الثالث، 78
ميت�ص ثرواتها ،ويدمر وجودها الب�شري .وبذلك يت�سع ال�شرخ القائم بني التي اعتاد الغرب �أن ّ البلدان املقتدرة والبلدان ال�ضعيفة وامل�ست�ضعفة ،فيزداد اخللل العاملي تفاقماً .وهنا ،هنا حتديداً، كان ميكن لبع�ض البلدان العربية ،وال �سيما تلك البالغة الرثاء� ،أن يكون لها دور �إيجابي يف هذه الأزمة ،يفتح للعامل العربي �آفاقاً جديدة من احل�ضور الفعال واالحرتام احلق ،فريغم الغرب على حتمل م�س�ؤولياته اجل�سام �إزاء العامل العربي ب�أ�سره ،بدءاً من فل�سطني ،وعلى التخلي عن �إ�صراره التاريخي واملزمن على اال�ستئثار بخريات الأر�ض ،واال�ستهتار ب�شعوبها� ،إال �أن مواقف معظم امل�س�ؤولني العرب ،من الأحداث اجلارية الآن يف العامل العربي ،تك�شفت مرة �أخرى ،عن حقائق خمزية ،وهي تفاقم اجنرار �أغلبيتهم كالنعاج ،يف غباء مفجع� ،إىل االنخراط يف ال�سيا�سة الغربية الظاملة على كل �صعيد ،تلك ال�سيا�سات التي يراد لها �أن تف�ضي بالبلدان العربية كلها� ،إىل �أو�ضاع �سيا�سية واجتماعية واقت�صادية كارثية ومتفجرة ،لن تلبث �أن تقود �سيا�سييها �إىل حفر قبورهم، وقبور �شعوبهم ب�أيديهم... وعلى ال�ضفة الأخرى من العامل يف ال�شرق ،تلوح فر�ص �ضخمة يف �إحداث التغيري البعيد املدى، فقد جنح �آالف املاليني من الب�شر يف �آ�سيا يف الإفالت من براثن الفقر .والآن تظهر با�ستمرار ّ ي�ستغل فكره وتعليمه ومواهبه ،كما بد�أت �أ�سواق جديدة وجماالت جديدة ي�ستطيع فيها املرء �أن مراكز القوى العاملية يف موازنة بع�ضها بع�ضاً ،على نحو يعمل على تقوي�ض طموحات الهيمنة ويب�شّ ر بنوع مبدع من عدم اال�ستقرار القائم على التعددية القطبية ،حيث يكت�سب النا�س قدراً �أعظم من احلرية يف حتديد م�صائرهم على ال�ساحة العاملية. �إن النظام الر�أ�سمايل العاملي يدخل مرحلة جديدة ،حيث ي�صبح حتقيق التعاون العاملي �أمراً بالغ ال�صعوبة ،فلم يعد بو�سع الواليات املتحدة واالحتاد الأوروبي يف ظل ارتفاع م�ستويات الديون وانخفا�ض معدالت النمو وارتفاع البطالة وبالتايل ان�شغالهما بهمومها املحلية ،و�ضع القواعد العاملية الناظمة للكون وتوقع امتثال الآخرين لها .وما �أدى �إىل تفاقم هذا االجتاه� ،أن القوى ال�صاعدة مثل ال�صني والهند تقيم وزناً عظيماً لل�سيادة الوطنية ومبد�أ عدم التدخل يف ال�ش�ؤون الداخلية ،وهذا من �ش�أنه �أن يجعل هذه البلدان غري راغبة يف االمتثال للقواعد الدولية (�أو املطالبة بالتزام الآخرين بهذه القواعد) ،وبالتايل فهي من غري املرجح �أن ت�ستثمر يف امل�ؤ�س�سات التعددية، كما فعلت الواليات املتحدة يف �أعقاب احلرب العاملية الثانية. ويرى كثري من الباحثني �أن �صعود القوة النا�شئة ،دول الربيك�س وغريها ،عامل م�ساهم يف �إنهاء القطبية الواحدة وبزوغ عامل متعدد الأقطاب مما ي�ؤدي �إىل �سقوط الهيمنة الأمريكية التي بد�أت انحدارها منذ انفال�شها ما وراء البحار ون�شر قواتها يف معظم مناطق العامل بذرائع حماربة الإرهاب، والدفاع عن حقوق الإن�سان .فال�صني والهند وبع�ض دول �أمريكا الالتينية و�إفريقيا اجتهت نحو �سيا�سة االقت�صاد ال�صناعي والتمدن كما فعل الغرب يف القرن التا�سع ع�شر ،لكن مع �إ�ضافة الثورة التكنولوجية واالقت�صاد املعومل. 79
فكــــــر
لقد ا َّت�سعت م�ساحات الفقر ،وازداد عدد العاطلني عن العمل يف العامل ،ويعي�ش قرابة املليار �إن�سان -مبن فيهم �أكرث من %80من �سكان جمهورية الكونغو ومدغ�شقر وليبرييا وبوروندي -حتت خط الفقر ،يف حني تبلغ ثروات �أكرب خم�سني ثر ًّيا يف العامل حوايل 1.5تريليون دوالر ،ويقول كو�شيك با�سو -كبري نواب رئي�س البنك الدويل وكبري خربائه االقت�صاديني� :إذا افرت�ضنا �أن هذه الرثوة تدر عائداً يبلغ � %8سنوياً ،ف�إن الدخل ال�سنوي له�ؤالء اخلم�سني يقرب من �إجمايل دخل �أكرث من مليار �إن�سان يعي�شون حتت خط الفقر. �إن الأزمة االقت�صادية واملالية التي تع�صف بالنظام الر�أ�سمايل يف �أوروبا و�أمريكا ،جعلت الكثري من املفكرين يف الغرب يرون �أن النظام الر�أ�سمايل انتهى دوره التاريخي ،و�صار عبئاً ثقي ًال يجثم على الإن�سانية .واال�ستنجاد بالدول الغنية ذات االقت�صاد القوي ـ كال�صني ـ يهدف �إىل ترميم النظام الر�أ�سمايل املتهاوي ،وهذا قد ي�ؤجل انهياره ،ولكنه لن مينع نهايته املحتومة ،وما �شعار "احتلوا وول �سرتيت "...الذي يرفعه الفقراء يف الدول الر�أ�سمالية� ،إال تعبري وا�ضح يج�سد املدى الذي بلغته �أزمة النيوليربالية. خال�صات وحتديات
ن�ستخل�ص من هذا البحث اخلال�صات التالية: �أو ًال� :إن �صريورة العامل �أم�ست حتكمها تكتالت ما فوق القومية (اقت�صادياً و�سيا�سياً) يف ظل ال�صراع الكوين على زعامة هذا القرن و�إر�ساء نظام التعددية القطبية .هذه التكتالت ما فوق القومية ال تلغي القوميات بل ت�ضع الأمم التي ق�سمها اال�ستعمار ق�سرياً �أمام حتدي �إعادة وحدتها كي ت�أخذ دورها يف تكتل كهذا كي يكون لها وزن فاعل فيه .وهذه املرحلة ال�صفرية الفا�صلة بني �سقوط الأحادية القطبية وبروز نظام عاملي جديد قيد الت�شكل هي اللحظة املنا�سبة التي يجب على الأمم التقاطها لإعادة وحدتها. ثاني ًا� :إن التكتالت ما فوق القومية فر�ضت مفاهيم جديدة لل�سيادة والأمن (كال�سيادة الت�ساندية والأمن التعاوين املرتكز على قاعدة توازن امل�صالح بني الأحالف بد ًال من الأمن اال�سرتاتيجيالقائم على توازن القوى) .وبالتايل ت�صبح خيارات الدول وم�صاحلها االقت�صادية وال�سيا�سية "التي تقع يف منطقة الت�صادم ( )Crash Zoneبني املحاور املت�صارعة "ملزمة �أن تكون من�سقة مع �أحد املحاور التي ت�ؤمن م�صاحلها .ف�إذا كانت رو�سيا يف حربها مع �أمريكا �أقامت حتالفاً مع ال�صني و�شكلت معها حمور �شنغهاي للأمن والتعاون ودول الربيك�س .و�إذا كانت �إيران يف �صراعها مع �أمريكا ا�ستندت �إىل حتالفاتها مع رو�سيا وال�صني حلمايتها يف جمل�س الأمن ولك�سر احل�صار الظامل عليها .فالدول ال�صغرى �أمام خيار من اثتني� ،إما �أن ت�صطف يف �أحد املحاور التي تلتقي م�صاحلها 80
معها �أو ت�أتي الت�سويات على ح�سابها. ثالثا� :إن النظام الر�أ�سمايل الإمربيايل قد �سقط وانتهى دوره التاريخي ،و�صار عبئاً ثقي ًال يجثم على الإن�سانية .وبالتايل حدة الهيمنة الأمريكية قد خفّت ومل تعد قادرة �أن متلي قراراتها املطاعة على الدول الأخرى .وهي يف تراجع كبري بدءاً من خليج البا�سيفيك �إىل و�سط �آ�سيا �إىل ال�شرق وحتد لدول الهالل اخل�صيب كي تنف�ض عنها تبعات معاهدة الأو�سط وحتى �أوكرانيا .وهذه فر�صة ٍّ �سايك�س بيكو (التي �أ�سقطها الغرب ب�سعيه لتفتيتها �إثنياً وطاقوياً) ،بحيث ال يكون البديل عن �إ�سقاط م�شروع التق�سيم االثني يف �سوريا والعراق هي العودة �إىل �سايك�س بيكو بل �إىل ر�سم ا�سرتاتيجية جديدة تعيد وحدتها وا�ستعادة �أقاليمها امل�سلوبة. رابع ًا� :إن احلرب التي تخا�ض يف منطقتنا هي حرب طاقوية اقت�صادية جيو�سيا�سية بامتياز ،وبالتايل وتبخر مل�صلحة القوى التكفريية وم�شغليها �أمريكا كل ما ُيحكى عن ربيع عربي وثورة تغيريية �سقط ّ و�إ�سرائيل واليعاربة .وبانت غاياتهم بتدمري الهالل اخل�صيب (�سوريا والعراق) ،بحيث ال ي�ستطيع النهو�ض وحمو �آثارهما .واجلغرافية ال�سيا�سية للهالل اخل�صيب وموارده الطاقوية قد جعلته معرباً �أ�سا�سياً لأنابيب الطاقة التي تتحكم باقت�صاد العامل .وو�ضعته يف موقع القلب بالن�سبة للعامل، وباتت ال�سيطرة عليه �أو ا�ستمالته (لأي حمور) حت�سم معركة القرن الـ .21وبالتايل يف ظل احلرب الطاقوية واجليو�سيا�سية التي تخا�ض فيه وعليه وتداخل امللفات الإقليمية والدولية فيه هو ملزم �أن ي�أخذ موقفاً من �أحد املحورين يتالءم مع م�صاحله االقت�صادية ويعيد وحدته �أو يتفتت جمدداً، لأن م�شاريع التق�سيم ال تزال مطروحة بقوة يف املنطقة عرب تكري�س واقع الأقليات كمقدمة لفر�ض واقع تق�سيمي بعد الت�صفيات املذهبية التي ارتكبتها داع�ش بحق الأقليات (الأيزيدية والآ�شورية وامل�سيحية) لت�صل بها �إىل الهجرة والال عودة ،وكل ذلك ّمت حتت �أعني الغرب. خام�س ًا� :أفرزت حرب الطاقة وم�ساراتها التي تخا�ض يف الهالل اخل�صيب وعليه �سقوط النظام العربي الذي كان �أ�ص ًال وليد اال�ستعمار بعد ا�ستنفاد مهمته ،و�سقوط الأنظمة الكيانية و�سقوط الإ�سالم ال�سيا�سي ب�شقيه الأخواين والتكفريي بعد �أن �أ�صبح عبئاً على م�شغليه (رغم حماولة �أمريكا �إعادة �إحيائه عرب احللف ال�سعودي القطري الرتكي اجلديد) ،و�سقوط العروبة الوهمية مب�ؤ�س�ساتها القائمة التي ح ّولت جامعة الدول العربية �إىل ح�صان طروادة بيد الأمريكي والأطل�سي ل�ضرب �سوريا وتدمريها ،و�سقوط النظام القومي العربي الذي ف�شل يف حتقيق نظام احلرية والدميقراطية والعدالة االجتماعية و�ضرب الف�ساد واملف�سدين و�صيانة وحدة املجتمع ،وتطوير النظام ال�شمويل ملنع ا�ستغالل القوى اخلارجية لهذه الثغرات والنفاذ منها ل�ضرب خيارات �شعوب املنطقة القومية وال�سيا�سية املحقة املقاومة لأمريكا والأطل�سي و�إ�سرائيل ،و�سقوط منظومة الأمن القومي العربي ،وبالتايل بات الهالل اخل�صيب بغياب امل�شروع القومي مك�شوفاً يواجه ثالثة م�شاريع مذهبية �إقليمية مدعومة دولياً تت�صارع فيه وعليه وهي: 81
فكــــــر
�أ -امل�شروع اليهودي الإ�سرائيلي املتالقي مع م�شاريع خليجية وهابية اخوانية م�شابهة (كالرباعي اخلليجي ،ال�سعودية -قطر -الإمارات -الكويت) ،واملدعوم �أمريكيا لتدمري املنطقة عرب الفو�ضى الهدامة ،و�إن�شاء �شرق �أو�سط جديد اثني وعرقي يفتت املفتت ويطلق احلرب ال�سنية ال�شيعية ليربر وجودها كدولة عن�صرية يهودية ،مما يربك م�شاريع حمور املقاومة وي�ؤدي لت�صفية الق�ضية الفل�سطينية و�إراحة الكيان الغا�صب �إ�سرائيل. ب -امل�شروع العثماين االخواين الرتكي املتحالف مع الرباعي اخلليجي بتوجيه ودعم �أمريكي �أطل�سي ويلتقي ب�أهدافه مع امل�شروع الأول عرب �إطالة �أمد احلرب يف �سوريا والعراق ،وتدمري الهالل اخل�صيب و�إطالق منوذجه العثماين االخواين كخيار �إ�سالمي معتدل بديل عن داع�ش والتكفرييني يف املنطقة ،و�ضرب امل�شاريع الإيرانية الرو�سية ال�صينية وا�ستنزافها يف الهالل اخل�صيب كي تكون هي البديل عنه يف مرور طريق احلرير وخط �سكك احلديد ال�صيني ال�سريع �إىل املتو�سط ،و�أنابيب النفط الإيرانية �إىل �أوروبا. ج -امل�شروع الإيراين املقاوم للم�شروعني (�أ) و(ب) بتحالفاته املمتدة من لبنان املقاومة �إىل �سوريا �إىل العراق �إىل اليمن وحتى �إىل حمور �شانغهاي للتعاون .يخو�ض هذا املحور معركته �ضد �أمريكا يف الهالل اخل�صيب من موقع الدفاع ،وفق حتالف �سيا�سي اقت�صادي ا�سرتاتيجي متني مع رو�سيا وال�صني .وقد حقق تقدماً وانت�صارات (بف�ضل �صمود �سوريا بجي�شها و�شعبها وقياداتها ودعم املقاومة لها) ،بوجه امل�شروع الأمريكي املربك واملرتاجع واملنهزم. يربط هذا امل�شروع املقاوم �أمن املنطقة وا�ستقرارها بخروج القوات الأجنبية منها ،وي�سعى لإقامة ويقدم م�شروعه املقاوم املنفتح التفاهمات مع دول املنطقة ل�ضرب احلالة التكفريية التق�سيمية فيهاّ ، القابل للآخر املواجه لقوى اال�ستكبار العاملية �أمريكا والأطل�سي و�إ�سرائيل. �أقام هذا املحور (بدعم واحت�ضان رو�سي �صيني) منوذج املقاومات ال�شعبية الداعمة للجيو�ش (كر ّد على حرب �أمريكا على املجتمعات وتفجريها من الداخل باحلروب بالوكالة ،واحلرب الناعمة). �أثبتت هذه املقاومات فعاليتها وجدواها يف �ضرب القوى التكفريية وتقوي�ض امل�شروع ال�صهيو�أمريكي الرتكي اخلليجي يف الهالل اخل�صيب ،من لبنان (حزب اهلل) �إىل �سوريا (قوات الدفاع الوطني) �إىل العراق (قوات احل�شد ال�شعبي) .هذه املقاومات مع جيو�ش هذه الدول �شكلت حمور مقاومة من لبنان �إىل �سوريا فالعراق �إىل اليمن �إىل طهران .يطرح هذا املحور �صيغة توحيدية بوجه امل�شاريع التق�سيمية لأنها ت�ؤمن م�صاحله ب�ضرب احلالة التكفريية ،و�إقامة خطوط �أنابيب غاز تتكامل مع م�شاريع غاز بروم الرو�سية وال�سيطرة على غاز املتو�سط و�إبعاد �أمريكا والأطل�سي عنه ،و�إن�شاء طرق احلرير واحلزام االقت�صادي لطريق احلرير ال�صينية ،و�إقامة نظام عاملي جديد متعدد الأقطاب و�ضرب الغطر�سة الأمريكية يف املنطقة .لكن ايديولوجية �إيران املذهبية وتزايد قوتها الع�سكرية وتقدمها التكنولوجي وم�شروعها النووي ال�سلمي �أخاف دول اخلليج وعرب �أمريكا (الدول ال�سنية) وعمل 82
الأمريكي على �إذكاء هذا اخلوف حتت عنوان مقاومة ت�شييع املنطقة خدمة مل�صاحله. �إن هذا املحور( ،ومن موقع املنخرط به واحلري�ص على انت�صاره) يعاين من ت�سويق �أيديولوجيته، الن �إيران ر�أ�س احلربة فيه مل تعد قادرة على ت�سويق خطابها الديني املقاوم (رغم فعله الكبري بتعبئة املحق لتثبيت حق الأمة يف احلياة العزيزة الكرمية) .فال جماهري املقاومة وقتالها يف املوقع املقاوم ّ ت�سويق م�شروع مقاومة اال�ستكبار والظلم العاملي ،وال حمل راية فل�سطني والدعم الكبري للمقاومة الفل�سطينية والدفاع املحق عن ق�ضيتها املحقة ورفع الظلم واالحتالل عنها ،وال رفع راية ال�صحوة الإ�سالمية ،طم�أنت ال�شريك ال�سني الآخر و�أطف�أت الفتنة امل�شتعلة يف الهالل اخل�صيب التي �ضربت الن�سيج االجتماعي فيه مهددة بتفتيته .وبالتايل باتت �إيران بحاجة �إىل حتديث خطابها ال�سيا�سي يف الهالل اخل�صيب لتنفي�س احلالة املذهبية املربكة لها وللمحور. لقد خا�ضت �أوروبا منذ القدم حروباً مذهبية �أحدثت فيها دماراً رهيباً و�أفقدتها ن�صف �سكانها ،ومل ت�ستطع النهو�ض �إال بعد معاهدة و�ستفاليا التي م ّهدت للثورة الفرن�سية وانتقلت بعدها �أوروبا �إىل العقد املدين بف�صل الدين عن الدولة و�إقامة الدولة املدنية الدميقراطية القوية العادلة .كل حروب الغرب لل�سيطرة على منطقتنا ا�ستغلت الفتنة املذهبية ،لكن غاياتها كانت اقت�صادية بامتياز ،فتنة 1860كانت غايتها �ضرب �صناعة احلرير يف لبنان ودم�شق بعد �إ�صابة دودة احلرير يف فرن�سا وال�صني مبر�ض �أنهى موا�سمهما العام 1858فدفعنا ثمنها حروباً طائفية ودماراً وتق�سيماً .احلرب العاملية الأوىل كان �سببها �ضرب خط �سكك احلديد الذي يربط برلني باملو�صل عرب تركيا بعد اكت�شاف نفط املو�صل ،وتق�سيم تركة الرجل املري�ض ،وال�سيطرة على برتول العرب ،وزرع الكيان الغا�صب يف فل�سطني .نحنا دفعنا ثمنها تق�سيماً جغرافياً وحروباً �أهلية ونكبات ال نزال نرزح حتتها حتى الآن. احلرب التي تخا�ض يف �سوريا والعراق الآن هي حرب ال�سيطرة على غاز املنطقة وم�ساراته و�إبقاء ت�سعري الطاقة بعملة البرتو دوالر ،وهي �أي�ضاً اقت�صادية بامتياز .وقودها حروب مذهبية وفنت ودمار هائل يقدر مبئات املليارات من الدوالرات ،و�ضرب وحدة املجتمع ك�آخر حلقات امل�ؤامرات علينا. لقد بات حلف املقاومة بحاجة �إىل عقيدة جديدة وخطاب جديد ،يجمع وال يف ّرق ويلغي ا�ستغالل الغرب للطائفية للنفاذ عربها �إلينا مبخططاته التدمريية� .ص ّرح الرئي�س بوتني مراراً �أن احلرب على �سورية غايتها �ضرب النظام العلماين الوحيد يف ال�شرق الأو�سط .وبالتايل دعمه ل�سوريا �إحدى غاياته �إبقاء منوذج النظام املدين وو�أد احلالة التكفريية قبل الو�صول �إىل مو�سكو �إ�ضافة �إىل م�صاحله يف املنطقة .وا�سرتاتيجيته جمع الدول ال متزيقها .فهو �أقام رابطة الدول امل�ستقلة حول بحر قزوين، ومن ثم �أ�س�س االحتاد اجلمركي ،والآن �أطلق االحتاد الأورا�سي ،هذا �إ�ضافة �إىل منظمة �شنغهاي للتعاون والأمن ،وهذا ي�شري �إىل �أن م�صلحته توحيد الدول ولي�س التفتيت املذهبي لها. ال�صني تعاين من اثنية االيغور االنف�صالية امل�سلمة يف �إقليم �شياجننغ املتحدرة من �أ�صول تركية وتتكلم لغتها .بعد �أحداث �سوريا حترك االنف�صاليون االيغور يف ال�صني ووقعت �صدامات قمعتها 83
فكــــــر
ال�سلطة بالقوة وهي تدعم النظام ال�سوري لإنهاء احلالة التكفريية فبل االنتقال �إليها .م�صلحة ال�صني يف توحيد الدول وا�ستقرارها حول طريق احلرير واحلزام االقت�صادي ولي�س تفتيتها لأنها تعطل م�شاريعها يف و�سط �آ�سيا و�شرقها ،ولها م�ساهمات كبرية مبليارات الدوالرات لإر�ساء اال�ستقرار والتنمية يف منطقة منغوليا و�آ�سيا الو�سطى .وما طرح م�شروع احلزام االقت�صادي لطريق احلرير ودعوة العرب مل�ؤمترات عقدت يف �شنغهاي لالطالع وامل�ساهمة يف هذا امل�شروع �إال ت�أكيد على حر�ص ال�صني على ا�ستقرار ال�شرق الأو�سط وانخراطه يف امل�شاريع االقت�صادية الكربى املزمع قيامها والتي حتقق املنفعة امل�شرتكة واالزدهار� ،إ�ضافة �إىل �شراء الطاقة منه. �سوريا واملنطقة �أمام خما�ض كبري� ،سرت�سم نتائج احلرب فيها خرائط وتوازنات جديدة قد حتكم املنطقة لفرتة طويلة� .أمريكا ترتاجع وتعيد ات�صاالتها مع الأ�سد ك�شريك �أ�سا�سي يف احلل و�ضرب الإرهاب. و�أزالمها يف املنطقة يت�ساقطون ويحاولون تبديل خططهم حلجز مكان لهم يف الرتتيبات املقبلة للمنطقة واال�ستعجال لركوب قطار احلل الذي يبدو �أن عقاربه باتت ت�ضبط على �إيقاع املفاو�ضات الإيرانية مع الـ 5+1التي �أراها �ست�صل �إىل اتفاق �سيطلق يد �إيران يف املنطقة �أكرث ،و�سيكون هذا االتفاق كما و�صفه (جورج فريدمان ك�إع�صار �سيا�سي �سي�صيب ال�شرق الأو�سط من �أفغان�ستان �إىل �ساحل املتو�سط)� .سوريا هي لب الت�سوية ،والرو�سي وال�صيني هما ال�شريك الفعلي فيها ويف عقود الغاز وعقود اال�ستثمار .العمليات الع�سكرية يف العراق و�سوريا ت�سابق ت�سوية النووي لر�سم خرائط النفوذ وتقوي�ض ملحة ل�ضرب داع�ش .تركيا رغم داع�ش ،وملنع الأمريكي من ا�ستثمار عودة انت�شاره يف املنطقة ك�ضرورة ّ تهويلها با�ستمرار ال�ضغط على �سوريا �سرت�ضخ �إىل منطق الت�سوية لأن بوتني �أغراها باتفاقات غازية ونووية النخرطها بالأورا�سية الرو�سية اقت�صادياً تعوي�ضاً لها عن خ�سارتها مبوت (م�شروع غازنابكو)، وتق ّوي �أوراقها لتكون ج�سراً بني رو�سيا وال�سوق الأوروبية امل�شرتكة .حمور املقاومة منت�صر واملتو�سط �أ�صبح بحرية رو�سية وال�شرق الأو�سط �سيكون منطقة نفوذه فلماذا ال يطرح على هذا املحور �ضرورة تتوحد؟ دفن �سايك�س بيكو امليت �سريرياً والعودة �إىل وحدة �سوريا الطبيعية ،وم�صلح ُته �أن ّ �إن �ضرب احلالة التكفريية ال يكون فقط ب�سحقها ع�سكرياً وب�ضرب ينابيعها الفكرية وجتفيف م�صادر موحد كفكر �سعاده الذي نادى بف�صل الدين عن الدولة و�إلغاء متويلها فقط ،بل بفكر مدين جامع ّ احلواجز بني خمتلف املذاهب والطوائف و�إقامة الدولة املدنية الع�صرية احلرة القوية العادلة التي حتقق املواطنة وامل�ساواة بني كل مك ّونات املجتمع وت�ساهم يف �صيانة وحدته ،وتطمئن الأقليات يف �سوريا والعراق ولبنان التي تعي�ش هاج�س اخلوف جراء الت�صفيات على الهوية .و�إقامة االقت�صاد القومي على �أ�سا�س الإنتاج مكان االقت�صاد الريعي الذي �أثبت عقمه ،وحتقيق العدالة االجتماعية و�ضرب االحتكار و�إعادة �إمناء الريف الزراعي بتحقيق الإمناء املتوازن و�ضرب الف�ساد واملف�سدين. هناك عمل حثيث على تنفيذ خرائط جديدة لل�شرق الأو�سط يف دوائر القرار الأمريكية والأطل�سية على �أ�سا�س �إثني مذهبي تبد�أ من العراق و�سوريا �إىل كل العامل العربي ،الرئي�س �أوباما ال يتكلم 84
عن دول املنطقة بل عن (املجموعات الطائفية يف املنطقة كالأقلية ال�سنية يف العراق والأكرثية مهم�شتني ،وبدون �إعطائهما متثيلهما ال�سيا�سي بدولة م�ستقلة لن ال�سنية يف �سوريا التي يعتربهما ّ ي�ستقيم الو�ضع يف ال�شرق الأو�سط "مقابلة �أوباما مع توما�س فريدمان") .وبغياب امل�شروع القومي والعربي ،بات ملحاً جداً طرح م�شروع وحدة الهالل ال�سوري اخل�صيب كر ّد على �سقوط �سايك�س بيكو ،وكخطة ا�سرتاتيجية تتناق�ض مع امل�شروع ال�صهيو�أمريكي التفتيتي ،وحتاكي وتالقي م�صالح رو�سيا وال�صني يف ال�شرق الأو�سط .وكر ّد على الفراغ وغياب امل�شروع العربي يطرح املثقفون ال�سوريون والعرب وكل النخب والعامة ،يف هذه الفرتة وحدة اجلبهة ال�شمالية ال�شرقية املقاومة من لبنان �إىل العراق ،ويطرحون "امل�شرقية" �أي وحدة بالد امل�شرق العربي �أو وحدة بالد ال�شام، او ال�سوق امل�شرقي االقت�صادي امل�شرتك �أو وحدة الهالل ال�سوري اخل�صيب كم�شروع ن�ضايل ا�سرتاتيجي وجيو�سيا�سي يتالقى ويتكامل مع م�صالح رو�سيا وال�صني و�إيران( .وهذه كلها ت�سميات ترمز لوحدة الأمة ال�سورية التي نادى وعمل وا�ست�شهد من �أجلها �أنطون �سعاده) .ويف زمن متزق املقاومة البطلة حدود �سايك�س بيكو وحت ّول لبنان من خا�صرة رخوة �ضعيفة لل�شام �إىل درع قوي نا�صر لها يف حرب الوجود التي تخو�ضها .يربز فكر �سعاده الوحدوي اجلذري املقاوم كمنقذ وحيد حلال الأمة من املوت املحتم ،وكعالج ناجع لإعادة وحدة الأمة واملجتمع ومنع تفتيتهما. فكما عملت �سكك احلديد يف بداية ت�أ�سي�س �أمريكا ك�شرايني الدماء االقت�صادية التي �ضخت �ضرورة وحدة الواليات املتحدة الأمريكية� .ستكون لطريق احلرير وخط �سكك احلديد ال�سريع الذي ي�صل ال�صني ب�سوريا ،وخطوط الغاز التي ت�صل غاز �إيران �إىل ال�ساحل ال�سوري على املتو�سط ،وغاز املتو�سط �إىل ال�صني عرب �سوريا والعراق و�إيران وباك�ستان بعد انتهاء احلرب يف �سوريا وا�ستغالل غاز ال�ساحل ال�سوري (الذي ُيعترب من �أكرب حقول الغاز يف العامل) �سيكون لتلك امل�شاريع الأثر البالغ يف ت�سريع وحدة الهالل اخل�صيب ك�ضرورة وحاجة �سيا�سية واقت�صادية وا�سرتاتيجية ملحور املقاومة� ،إىل جانب يتقدمنا كونها �ضرورة قومية اجتماعية وجغرافية من اجلانب العقدي لفكرنا .لقد عاد الزعيم �سعادة ّ ويقودنا بفكره الذي ال يزال ميثل راهنية وحيدة للحل ،فهل يقدم تالمذته على طرح م�شروعه القومي الوحدوي بقراءة جديدة حتاكي روح الع�صر وتدر�س التحوالت الكربى التي ع�صفت باملنطقة وتعيد توحيد املجتمع والأمة بعد اجلراح البالغة التي �أ�صابتها جراء احلرب. املراجع: -1هالفـورد ماكندر "املحيط اجلغرايف للتاريخ". -2زبيغنيو بريجن�سكي "لعبة ال�شطرجن الكربى". -3الك�سندر دوغني "�أ�س�س اجليوبوليتيكا -م�ستقبل رو�سيا اجليوبوليتيكي". -4اجليوبوليتيكي الرو�سي �ألك�سندر دوغني ير ّد على خالفة داع�ش والإ�سالميني. -5روبرت في�سك مقال يف االندبندنت يف .2014-10-10 85
�صدر حديثا ً
فـكــــــــر
الإ�صالح الديني �رصاع النه�ضة والتنوير جنيب ن�صري -كاتب
"يف قف�ص االتهام" جورج �شامي "يف قف�ص االتهام" كتاب لـ جورج �شامي ،وهو كتاب من النوع املتو�سط احلجم ،يقع يف � 332صفحة، �صادر عن دار نل�سن. والكتاب عبارة عن �إ�ضاءات على مطاوي الذات ،دفاعاً عن الرباءة واحلقيقة ،حيث يقول الكاتب يف مقدمة الكتاب�":أنا يف منتهى ال�سعادة ،لأن التهم املوجهة �إ ّيل لي�س فيها �أي فعل �شائن يخجل املرء �أن ي�شوه بيا�ض �صفحاته....ولي�س يف �سجل حياتي،ال جنحة من اي نوع ،وال جرمية مو�صوفة....ت�ستلزم عقوبة ق�صةى ت�صل �إىل حد الإعدام.....و�أن الدفوع التي احول التم�سك بها واعتمادها كخ�شبة خال�ص لي�ست الغاية منها ال�سعي �إىل تربئتي بفعل الإثباتات واحلجج والأدلة والقرائن ،بقدر ما هي تظهري ل�صورتي احلقيقية النا�صعة، وتو�ضيح ما التب�س على الفهم والإدراك؟ يف ثنايا هذا الكتاب يجد القارىء كل الأجوبة على كل الأ�سئلة دون تهرب �أو مواربة.....والهدف وحده هو جناتي وخال�صي!". دار نل�سن
هاتف 01/739196: الربيد الإلكرتوين darnelson@hotmail.com:
86
واجللي للمنتبه العارف ،وللغافل املط ّن�ش ،وكذلك للفاهم الذي ي� ّؤجل� ،أنّ ال �صار من الوا�ضح ّ �إ�صالح دينياً باملعنى املق�صود قد ح�صل �أو يح�صل يف البالد الناطقة بالعربية ،ال بل مل تكن هناك �أدنى نية حل�صول هذا الإ�صالح ،على الرغم من وجود بع�ض الأ�صوات النافرة هنا وهناك ،وعلى الرغم من ظهور بع�ض امل�ؤ�س�سات التي ا ّدعت �أن مهمتها الإ�صالح ولكنها حت ّولت يف ال�سياق، ومب�شاركة ومباركة رجال الدين وال�سيا�سة والثقافة� ،إىل �سلطة �شبحية ت�شارك ال�سلطات الثالث امل�أمولة يف الدولة امل�شتهاة �صالحياتها ،ال بل وت�شرف عليها وتتحكم بها ،وت�سابقت "الدولة" �إىل �إر�ضائها والوقوف على طلباتها ،حتى ولو �أدى الأمر �إىل خلخلة هذه "الدولة" ال بل �إىل حتطيمها، �إذا دعت ال�ضرورة. ما نراه اليوم من �أداء ثقايف (والدولة هي �أداء ثقايف) لي�س ف�ش ًال لعملية الإ�صالح الديني التي طرحت يف نهايات القرن التا�سع ع�شرٍ ، ك�شرط م� ّؤ�س ٍ�س للتقدم واال�ستمرار ،ولي�س ما نراه اليوم هوعدم وجود هذا الإ�صالح �أو فعالياته من الأ�صل ،بل ما نراه هو نتائج عملية عك�سية للإ�صالح، �أي �إ�صالحاً معكو�ساً ومدعوماً من "دولة" ر�ضيت �إ�ضافة وم�شاركة ورعاية �سلطة موازية ل�سلطانها، لي�ست من بنيتها تقنياًومعاك�سة لوجودها د�ستوراً ،جتتمع فيها ال�سلطات الثالث (الت�شريعية والتنفيذية والق�ضائية) ت�شاركها ال�سيادة من طرف خفي غري مد�سرت� ،أو على الأقل ال ي�صلح للد�سرتة ،مبا يعني �أن الذي جرى من �إ�صالح ،ما هو �إال حتديث لغوي يف اخلطاب التقليدي و�أدواته لتعود البنية "الثقافية" للجماهري �إىل عقمها على �إنتاج جمتمع تنبثق عنه دولة من النوع احلديث ال�صالح للمناف�سة ال�ضرورية لالرتقاء. حتب وال هذا ما جرى على الأقل و�أو�صلنا �إىل هنا ،حتى لو�أعفينا العامل اخلارجي كم�صالح ال ّ تكره ،من م�س�ؤولية دعمه للحركة املعاك�سة للإ�صالح الديني وهذا ما ثبت يف الكثري من املواقف ّ م�ستهل القرن املا�ضي ،وما نلم�سه ال�سيا�سية واحلروب الباردة وال�ساخنة الأخرية منها ،وال�سابقة يف وما نراه الآن ،ما هو �إال نتاج قرن ون ّيف من ممار�سة هذا النوع من "الإ�صالح" الذي ا�ستخدم كل 87
فكــــــر
التقنيات الإعالمية وال�سيا�سية والقانونية (وهو يرف�ضها وي�ؤثمها) املحدثة يف �سبيل حتويل الثقايف �إىل �أيديولوجي حما�صراً التفكري يف �أدنى ّ جتل له ،و�صانعاً مرجعية �سلوكية للجماهريت�ؤدي �إىل الفناء ،عرب ت�أجيج عقد اال�ضطهاد وال�شكوى لتربير العنف �ضد الآخر "العدو" ،ولي�س املناف�س يف � ّأي وجه من وجوهه. رمبا كان للم�صطلح وترجمته �إىل العربية دور غري قليل يف �سباكة املفهوم داخل الذهنية التي ارت�أت ح�صول هذا الإ�صالح ،وقر�أته وقاربته على �أ�سا�س �أن هناك عطباًح�صل يف "الديني" (وهي كلمة عمومية جداً) ويجب �إ�صالحه كي ي�ستمر هذا "الديني" على نقائه املعريف ،وحقيقته "احلقيقية" التي مل يعرف �أحد حتى يومنا هذا ماهيتها ،فتداول الكالم حول املو�ضوع خ ّلف ركاماً مفرداتياً هائ ًال ،يدور حول املفردة امل�صطلح ،فكلمة ) ()reformال تعني من الوجهتني اللغوية والتقنية، كلمة �إ�صالح متاماً بل هي مقاربة ترجماتية مل�صطلح حداثي �سوف ُيعاد تف�سريه وت�أويله ،بفهلوية ثقافية تعتمد التب�سيطية املنربية ل�شرحه ،مبا ينا�سب "خ�صو�صيات" الديني ال�شعبوي ،ل�صنع م�سافة بني امل�صطلح وترجمته� ،أي بني لفظه ومعناه ،ا�ستهلكت هذه امل�سافة قرناً ون ّيفاً لتو�سيعها و�إبعاد املعنيني عن بع�ضهما ،لرنى الآن ما هو الإ�صالح الديني على حقيقته ،كما فهمه عتاة الإ�صالح وجنوم التنوير ،من �أبو الهدى ال�صيادي احللبي ،مروراً بالأفغاين وحممد عبدو ور�شيد ر�ضا ،ولي�س انتهاء مبحمد عابد اجلابري ،وه�شام جعيط وح�سن الرتابي ورا�شدالغنو�شي ،و�أترابهم من هذا الن�سق التفكريي ،وجميعهم �أ�ص ّروا على ف�صل التنوير عن النه�ضة ،وممار�سته كفقرة م�ستقلة ت�سبق وحت�ضر للنه�ضة امل�أمولة واملنقولة عن ارتقاءات مفاهيم ع�صر الأنوار ،بحيث ميكن احل�صول على املكانة ذاتها التي ح�صلت عليها املجتمعات التي تب ّنت املفاهيم الأنوارية. مل يعن الإ�صالح الديني باملعنى الأنواري �إال �شيئاً واحداً ،هو ف�صل الدين عن الدولة ،وهنا متاماً كانت العقدة التي ا�ستهلكت حوايل قرن ونيف من حماوالت احل�صول على جمتمع تنبثق منه يح�ضر دولة .هذه املحاوالت كانت لتذليل� ،أو القفز فوق� ،أو حتى التحايل ،للو�صول �إىل تنوير ّ لنه�ضة� ،أو بداية وخطة طريق للإ�صالح الديني ،وذلك عرب حماورة الديني لنف�سه فقط،حيث ليتحول �إىل �شرح كلمات� ،أ�س�ست عليها �أيديولوجيا تق ّل�ص معنى الإ�صالح �إىل معناه احلريفّ ، ت�ستطيع جمع احلداثي مع الرتاثي بطريقة �شكالنية وتلفيقية �أي�ضاً ،باالعتماد على منربية حتمي�سية ترعيبية ،تعتمد العودة �إىل الأ�صول مبعناها احلريف ،لي�صبح الإ�صالح هو التخل�ص من "ال�شوائب" و�إتاحة الفر�صة لتجريب الأيديولوجيا النقية ،التي مت االبتعاد عنها ب�سبب الآخر العدو ،يف وعد قطعي بالو�صول �إىل �أمنوذج يعادل �إذا مل يكن �أقوى من الأمنوذج الناجت عن ع�صر الأنوار ،حيث و�صلت هذه العملية يف متظهراتها و�أ�شكالها كافة �إىل الإرهاب والعنف ،و�أي�ضاً بتمظهراته و�أ�شكاله كافة( ،على اعتبار �أن الإرهاب تعريفاً هو كل ت�صرف غري د�ستوري) ،على الأقل ،خ�صو�صاً مع رعاية "الدولة" له. بالعودة �إىل البدايات امل� ّؤ�س�سة للتفكري الذي �سعى وقتئذ �إىل تد ّبر حالة االرتباك والتخلف 88
املعرفيتني يف م�ستهل القرن التا�سع ع�شر ،ومن ثم القرن الع�شرين ،وذلك باملقارنة مع ما و�صلت �إليه املجتمعات الأنوارية من �شبع ومنعة ،قر�أ النه�ضويون الناطقون بالعربية مو�ضوعة الإ�صالح الديني من الوجهة املعرفية ّ ال�شكاكة على �أنه ف�صل الدين عن الدولة ،معرتفني �أن هذا الإ�صالح وهذا الف�صل ،ما هو �إال جزء من عملية معرفية كربى ،تتناول كافة �صنوف الثقافة املولدة للمجتمع مبعناه الأنواري ،بحيث ي�صلون �إىل هذا املجتمع مبا يتنا�سب مع املوجودات الثقافية املحلية ،عرب تفعيلها يف التطبيقات املعرفية املعا�صرة من دولة و�أحزاب وفعاليات �إنتاجية الخ ،كتكنولوجيات حمايدة ال غنى عنها للعي�ش املعا�صر ،حيث انطلق هذا النوع من التفكري من قاعدة عدم االكتمال املعريف ،معتربين �أن العملية املعرفية املنتجة هي حركة ال تتوقف عن التجريب والتح�صيل ،يف �سبيل االرتقاء ال�ضامن الوحيد للبقاء ،بينما ذهب "التنويريون" �إىل قراءة هذا الإ�صالح عرب �إعادة �إحياء الرتاث منطلقني من قاعدة االكتمال املعريف ،معتربين �أن هذا الإ�صالح ما هو �إال يت�ضمن كل علم ومعرفة بداللة �إمكانية �إعادة االعتبار �إىل الوالية ال�شرعية كوجه ثقايف �أعلىّ ، ت�سخري كل تكنولوجيا حمدثة خلدمته (وهي داللة خطرية عملياً) ،م�ؤثمني مبد�أ ف�صل الدين عن الدولة و�صو ًال�إىل تكفريه وا�ستباحة املعتقدين به ،طارقني �أبواب ال�سلطات الراعية لهم (�أو ما ُ�س ّمي جمازاً دولة) بال�شكوى منهم حيناً و�إنذاراً بالتنحي عن الوالية �أحياناً ،وهذا ما فهم متاماً وفقط من �شعار "التنويريني" ،الذي يقول ب�أن ن�أخذ من الغرب ما ينا�سبنا ونرتك ما ال ينا�سبنا، قا�صدين بالأخذ التكنولوجيات امل�شخ�صة من �آالت و�أدوات وو�سائل تفيد يف ممار�سة ال�سطوة، م�ؤثمني ما ميكن تركه ومن ثم ما يجب تركه ،حيث بدا هذا ال�شعار نف�سه موارباً وفهلوياً ومل ي�ستطع كم ّي متوالد من ممار�سة االكتمال املعريف كحقيقة ملء الفراغ املعريف �إال بالعنف ،كحل تراثي ّ ثابتة �سابقة لكل �شيء. يف �أخذ ما ينا�سبنا وترك ما "ال" ينا�سبنا ك�شعار ،تلتب�س الأيديولوجيا بالثقافة ،كما يلتب�س العلم باملعرفة ،لي�صبح ما ينا�سبنا وما الينا�سبنا عر�ضة للأخذ والرد والتمويه والفهلوة والت�أجيل واالتهام وحتى الق�صا�ص ،مما خلق رويداً وتراكمياً ما ميكن ت�سميته ب�صراع الهويات ،الذي �سبق هينتغتون بعقود طويلة ،و�أ�صبح على الثقافة �أن مت ّر عرب فيلرت الأيديولوجيا ،حتى ت�صبح �صاحلة لال�ستهالك "الب�شري" ،و�صار من امللزم ا�ستئذان الأيديولوجيا يف �أي �ش�أن ثقايف �إبداعياً كان �أم اتباعي ،ورمبا كان امل�صري علي عبد الرازق الأزهري هو من م�شاهري�ضحايا هذا اال�ستئذان، الذي ُ�س ّمي جمازاً وب�شكل ف�ضفا�ض حقوقياً (رقابة) ،وهي عملية قا�سرة تخ�ضع الإبداع ا�ستن�سابياً وت�أويلياً ،وتقوده لين�سقف حتت م�صالح الأيديولوجيا يف حماولة لإدراج الأيديولوجيا نف�سها ،عنو ًة وا�ستثنائياً ك�سلطة د�ستورية عليا� ،أو ما فوق د�ستورية ،حتى لو �أدى ذلك� ،إىل ن�سف املفاهيم امل�ؤ�س�سة للمجتمع الذي يزمع �إر�ساء دولة. يف �صراع الهويات يف مو�ضوعة الإ�صالح الديني ،مبحث �ضخم ،قد ال ت�ستوعبه عجالتنا هذه، ولكن ال بد من الإ�شارة هنا� ،إىل ا�ستح�ضار ثقافة الفتنة كجزء �أ�سا�سي من املوجودات الثقافية، 89
فكــــــر
التي ع ّول عليها "التنويريون" ،حيث افرت�ضت الأيديولوجيا توحيد �صنوف الديني كافة كغاية ا�سرتاتيجية ،وهدف �أ�سمى ،مد ّمرة يف طريقها �أ�شكال التنوع كافة ،على الرغم من اعرتافها �أنّ يف "نيتها" املحافظة عليه ورعايته ،ولكن نتائج هذا النوع التفكريي بالإ�صالح� ،أثبت وعلى مدى عقود قدرته التدمريية ،على �إلغاء الآخر ،املتجاوز ل�سقوف (الرقابة) حكماً وحتماً و�سلفاً ،كما �أثبت م�أزقيته الثقافية (احلقوقية حتديداً) يف تلبية ا�ستحقاقات ت�أ�سي�س دولة واعدة بال�شبع واملنعة، من دون اللجوء �إىل العنف غري املد�سرت� ،أي غري املعتمِ د على �شرائع حقوق الإن�سان املعتمدة يف الدول ،ومن هنا يبدو التنكيل بالأزهري علي عبد الرازق (�صاحب كتاب الإ�سالم و�أ�صول احلكم) لطيفاً وناعماً ومقبو ًال مع بدايات التفكري التنويري بالإ�صالح ،ليتح ّول بعد التوغل يف "وعي" هذا التفكري الإ�صالحي �إىل ما هو �أدهى ،يف حاالت مثل جنيب حمفوظ وفرج فودة وغريهم كثريون ،ومع ارتقاء هذا "الوعي" �أ�صبح هذا التنكيل بينياً� ،أي داخل اجلماعات ّ املفكرة بالإ�صالح نف�سها ،ومن ثم حت ّول لي�صبح جماعياً عرب حرب هويات (غزو حتديداً) بغطاء من "د�ساتري" ا�ستن�سابية حتتكر الفو�ضى بالعنف ،با�سم الدفاع عن هذا الوعي النوعي ،والذي ينا�سبنا! مل ي�سفر احلوار بني الأيديولوجي والثقايف حول م�س�ألة الإ�صالح الديني ،عن �أية نتيجة �إيجابية منذ بدئه حتى الآن ،وها نحن بعد قرن ون ّيف نعيد ونكرر ملفوظات املناظرة الدينية بني حممد عبدو وفرح �أنطون �أياً كان ر�أينا فيها ،مرة �أخرى ،وها هو الأكادميي ال�سعودي عبد العزيز التويجري، وال�صحايف اللبناين حممد علي فرحات ،يكرران اخلطابني نف�سيهما على �صفحات جريدة احلياة ال�سعودية ( 14ـ يناير ـ ،)2015حيث يبدو خطاب الأ�ستاذ التويجري الأيديولوجي ع�صابياً تهوميياً و�شكالنياً اليفهم منه �شيء ،يف حني يظهرخطاب الأ�ستاذ فرحات هادئاً وا�ضحاً معا�صراًوثقافياً، وهذا ما يظهر ا�ستع�صاء معرفياً على مدى �سنوات طوال ،وركوداً ثقافياً معط ًال مينع اجلمهرات الب�شرية الناطقة بالعربية من االرتقاء قيد �أمنلة ،باجتاه �أهداف �أو غايات حددها الع�صر ،واختارها لب لب امل�شكلة ،وهو ّ اجلميع مبلء توقهم حلياة �آدمية مكللة بال�شبع واملنعة .هذا اال�ستع�صاء هو ّ ولب العبث الذي يذري اجلهد �أدراج الرياح ،هو اخلديعة بعينها، التيه الثقايف الذي نعي�شهّ ، والعقم بذاته� ،أن حتاور �أحداً وق�صدك �أن ال حتاوره� ،أن تعرتف بالعطب ومن ثم تهيكل عطبك اخلا�ص (اخل�صو�صي الهوياتي) وتهرع �إىل معاجلته بخ�صو�صيتك اال�ستثنائية! ،هذه االزدواجية الفريدة وهذا الف�صام ،يقود �إىل ا ّدعاء املوافقة على �ضرورة الإ�صالح الديني ،ومن ثم تغريق امل�س�ألة و�أطرافها يف تفا�صيل ال تنتهي ،مت ّوجاً الكوارث بابت�سامة التجريب املرت ّوية ،حيث تنت�صر النظرية على التطبيق ،وبكاءات عقد اال�ضطهاد املنتجة للعن�صرية ،يف �أ�ضيق مناذجها ،فكان �أن ُترك ال�س�ؤال معلقاً ،و ّمت االلتفاف عليه حتت �شعار "التنوير" ،حيث ّمت ت�شكيل ف�سيف�ساء جديدة لهذا النوع من التنوير ،ال يبتعد فيه ح�سن البنا ،عن الأفغاين وحممد عبدو ور�شيد ر�ضا ،وال يبتعد �سيد قطب عن حممد بن عبد الوهاب �سابقاً ،وال �أمين الظواهري الحقاً ،وملا تزل هذه 90
اللوحة الف�سيف�سائيةّ ، وتتو�سع ومتور بجدل داخلي حول �إ�صالح الدين ،ولي�س الإ�صالح تت�شكل ّ الديني يف حال من الأحوال ،وهذا ما �صنع تلك الهوة الباهظة ثقافياً بني عاملني ثقافيني متنافرين، �أحدهما يتبنى املناف�سة والآخر يتبنى العداء. جوهر ال�س�ؤال يف الإ�صالح الديني ،يرتكز يف كيفية املواءمة بني املبد�أ احلقوقي ف�صل الدين عن الدولة و�سيطرة الديني (ولي�س الدين) على الثقافة احلقوقية ،التي جته�ض انبثاق �أية دولة باملعنى احلديث ،احلجة الأكرث �إحلاحاً التي اتفق عليها طرفا اجلدال ،ولكنها هي نف�سها �صارت و�شق كل طرف طريقه لي�صبحا على عداوة ،بد ًال من �أن عنواناً للمفرتق الذي افرتقا عندهّ ، يكونا على جدل ،مولدين يف عز احتدامهما هذا "الدولة" املواربة ثقافياً ،التي قامت بتوزيع الرتغيب والرتهيب بالت�ساوي بينهما ،فهي من جهة اجلهاز التكنولوجي للإدارة ،وحمتكرة العنف الثورجي ك�إمارة (�أو والية) من جهة ثانية ،حيث توقفت الثقافة احلقوقية عن الإنتاج عند احلجاج بن يو�سف الثقفي وملا تبارحه حتى يومنا هذا ،وبقي �س�ؤال املواءمة وئيداً �أي�ضاً ،و�سار مفهوم الإ�صالح الديني عند "التنويريني اجلدد" ليتحول �إىل "مفهوم" جتديد اخلطاب الديني ،مواءم ًة مع ثورة االت�صاالت وت�سخرياً لتكنولوجيات تبادل املعلومات الذي وفرته ،و�سيق بالنه�ضويني �إىل �ساحات التكفري والق�صا�ص ،برعاية خا�صة من الثقافة ال�صحراوية املت�ضمنة حكماً يف الديني، الذي يت�ضمن الغزو كفعالية �أ�سا�سية ،تعبرياً عن حيوية هذا الديني كما جاء يف الرتاث احلامل للأحالم امل�شتهاة ،ليتحول الإ�صالح الديني نف�سه �إىل �أبحاث متناق�ضة يف الرتاث تف�ضي �إىل ت�صب يف عملية �إحيائه (حتديثه)� ،إن كانت جميله عرب "مفهوم" جتديد اخلطاب جدلية داخلية ّ الديني� ،أو�إن كان عن طريق فر�ضه فر�ضاً ،بقوة املعلومات احلقوقية على م�س�ؤولية اخلالق(!) ،حيث تتجلى �شفاهية الثقافة وزئبقيتها وعنفها ،فهي ال تعني �أو تق�صد �شيئاً معيناً ،وتعني وتق�صد كل �شيء يف �آنٍ معاً. يف النظر �إىل املواءمة العتيدة ،ال ّبد من النظر يف التطبيقات الواقعية ملنتجات التفكري� ،إىل تلك ال�سلوكيات التي ينتهجها ،وال�سلوكات التي ميار�سها الب�شر تعبرياً عن ت�أثري الثقافة بهم كحيوية حركية تقود �إىل اخلري الأعلى ،فهي يف ر�أي و�أعني "التنويريني" مهما كانت اجتاهاتهم ،ما هي �إال عودة �إىل النقاء الأول ،حيث (جت ّلت) احليوية ب�أبهى �صورها ،و�أعلى �أجمادها رفعة مبا يتجاوز الواقع املعا�صر� ،إىل واقع م�شتهى تفيد التكنولوجيات امل�سخرة يف �إحالله ،عرب ا�ستعادة حيويته واقعياً ،كما وردت تراثي ًا ،وح�سب تعبري ه�شام جعيط (الفتح بو�صفه امل�شروع الأ�سا�سي للمجتمع بحد ذاته لي�س مهماً، احلربي الإ�سالمي) ،حيث يلتب�س معنيا الغزو والفتح ا�صطالحياً وهذا ّ مقابل جعل الغزو �أو الفتح ركناً ت�أ�سي�سياً يف الديني ونقله �إىل الدين كركن �أ�سا�سي منه ،بحيث يختلط التاريخاين بالعبادي ،لتتمطط حالة الت�أ�سي �إىل ماالنهاية.ففي هذه اللحظة الثقافية �أُدمج "التنويريون" والأ�صوليون يف كتلة واحدة ،مثلإدماجهم الدين بالديني ،بعد تفويت التنويريني فر�صة التفكري يف فك االرتباط بني الدين الر�سالة ،ودين الغزو ،ك�أحد موا�ضيع املواءمة ،حتت 91
فكــــــر
حجة ان�شغالهم بالتنوير ،الذي �أنتج ما �أنتج خالل رحلة العودة اىل النقاء الأول ،لي�صبح التنوير نف�سه م�شروطاً بالأ�صولية ومنتجاً لها ،وهذا ما مار�سته وعلى الأقل ،م�ؤ�س�سة الأزهر كم�ؤ�س�سة منوذجية للتفكري ،ال�شواهد �أكرث من �أن تحُ �صى� ،إذ يكفي �أن نذكر طه ح�سني �أو رواية "�أوالد حارتنا" لنعرف مبا يكفي ،عن م�سرية الإ�صالح الديني ،ك�أحد ال�شروط املعرتف بها حل�صول النه�ضة. ّركزت ّ جل الدرا�سات واملباحث ،يف ا�ستق�صاءاتها الرتاثية على الفتح وجمرياته ،لكون االنت�صارات تلبي ما يف النفو�س من توق للفخر واالعتزاز ،ولكنها ومن جهة �أخرى ولدت و�أوجدت تنظرياً حقوقياً بدي ًال للدولة امل�شتهاة ،ليتحول الفتح �أو الغزو �إىل تكنولوجيا ،فيتحول تطبيقها �إىل فكرة مركزية من دون البحث يف م�صادرها و�أ�صولها وانرتوبوليجياتها ،وحتى موقعها من الدين والديني، فهي يف �أ�صولها الثقافية متتد �إىل �أعماق ال�صحراء ،حيث كان الغزو فعالية �أ�سا�سية (كما عبرّ الأ�ستاذ جعيط) اقت�صادية وهوياتية وا�صطفائية ،فالغزو كممار�سة ،مل يكن له �سبب �سوى حيوية اجلماعة ،الذي ينتج بالإ�ضافة �إىل الغنائم وتقا�سمها ،مهابة هذه اجلماعة ورفعتها يف ظل البداوة الرملية ،وانتقاله كفعالية وممار�سة �إىل الأداء الديني كان طبيعياً �آنذاك ،لي�س لأنه تطبيق رئي�س للثقافة ال�سائدة فقط ،بل لأن �سلوكيات هاتيك الأيام ،تقت�ضي التو�سع بالغزو كلما ازدادت احليوية ،هكذا كانت قوانني العامل القدمي و�أخالقياته� ،أما بعد انطالقة ع�صر الأنوار وثوراته �أ�صبح معنى �آخر ،بح�ضور املجتمع والدولة احلديثني واحلداثيني ،اللذين �صنعا حيوي ًة فائقة �أراد (للغزو) ً الناطقون بالعربية ،احل�صول على مثلها ولكنهم ا�شرتطوا �أن ال ميار�سوا ا�ستحقاقاتها ،وا ّدعوا �أن لديهم ما هو �أح�سن منها ،معاك�سني يف ذلك مفهوم الإ�صالح الديني ،مع �أنهم قبلوا به ووافقوا عليه �شفاهية ،ولكنهم ّف�سروه على هواهم ،ليح�صلوا على نتائج خمتلفة متاماً عن الأمنوذج امل�شتهى املناف�س على امل�صالح ،حتى ولو انت�صروا يف غزواتهم كافة. كانت مركزية الفتح (الغزو) يف املنتجات الثقافية وملا تزل ،ت�ستحق النظر من الوجهة الثقافية امل�ؤ�س�سة للمجتمع و�سلوكه ،و�إعادة فتح ملفه بتحليله و�إعادة تركيبهّ ، ت�شكل حلقة مف�صلية من جتب مو�ضوعة الإ�صالح الديني ،فامل�س�ألة متعلقة متاماً بالع�صور احلاملة لالرتقاءات الب�شرية ،والتي ّ ما قبلها من �سلوكيات ناجتة عن ثقافة ما�ضية ،عربف�صل الدين عن الديني (التاريخاين) ،والرتاثي عن الفلكلوري ،ودين الر�سالة عن (دي َني) الغزو �أو الفتح ،وهو ما فهمه النه�ضويون وفكروا به، وحتملوا عنت "التنويريني" وا�ضطهادهم ،يف �سبيل مواءمة معرفية قادرة على الولوج يف عمليات ت�أ�سي�س امل�ستقبل. مل تفلح املحاورات واملناظرات بني النه�ضويني و"التنويريني" ،يف الو�صول �إىل نقطة تفاهم �أو خطة عمل� ،أو على �إنتاج مفاهيم قادرة على الولوج �إىل العملية املعرفية الت�أ�سي�سية ،وبقيت هذه املناظرات كحوار طر�شان (مناظرات حممد عبده وفرح �أنطون مثا ًال) ،احتكم �إىل القوة بعد فرتة جد وجيزة (الكواكبي ،قا�سم �أمني ،طه ح�سني ،علي عبد الرازق� ،أبو خليل القباين ،وغريهم 92
كرث) ،حيث بدا حممد عبدهفي مناظراته ليربالياً متطرفاً بالن�سبة ملن �أتوا بعده ،فهو مل ّ ينكل بفرح �أنطون على الأقل ،ولكن مناظراتهم نف�سها مل تكن قادرة على اجلدل ،وعلى حتديد نقاط املواءمة التي يجب العمل عليها ،فبديا متنافرين متعاك�سني ال بل متع�صبني ،ال جتمعهما م�صلحة، وال تقرب بينهما ا�سرتاتيجيا ،وك�أنهما يحكيان يف مو�ضوعني من حقلني معرفيني خمتلفني متاماً، فواحد يريد الب�شر يف خدمة الديني ،والآخر يعاك�سه يريد للديني �أن يكون يف خدمة الب�شرية ،بنا ًء على اتفاقهما على �ضرورة النه�ضة ،ليعودا �إىل الدوران يف حلق ٍة مفرغة ،تبتلعنا دواماتها املتكررة، عرب تكنولوجيات الإعالم وو�سائل االت�صال امل�سخرة خلدمة الديني ،برعاية ثقافة ال�صحراء الرملية املدججة بالبرتودوالر ،ليرت ّمد �أي حوار ،حتى لو كان حوار طر�شان. واليوم ،ومع كل هذه "احليوية" الثقافية التي جتتاحنا ،ملا نزل نخطو خلفاً من ت�أ�سي�س املجتمع والدولة ،فلم نزل حتت ال�صفر املعريف الذي ي�ؤهلنا لذلك ،فحروبنا الداخلية ،ولهيب هوياتنا امل�ستعر ،وعالقتنا بالعلم واملعرفة ،وم�ستوى احرتامنا لقيم ت�أ�سي�س النهو�ض (كاحرتام احلق باحلياة �أو العمل واحلق باالختالف التناف�سي الخ).وعلى الرغم من كل الدرو�س املكلفة التي تك ّبدتها وتتك ّبدها منطقتنا� ،أ�صبح من غري املجدي الدفع مببد�أ ف�صل الدين عن الدولة ،على الرغم من �أنه احلل الوحيد لهذا امل�أزق الإن�ساين ،فقد �أكلت نار الديني ه�شيم املعرفة ،وما هي �إال دورة عنف �أعمى ،قد تطول وقد تق�صر ،ريثما يتم الإفراج عن الرهينة الكربى ـ العقل ـ.
93
�صدر حديثا ً
فـكــــــــر
العراق� ..رصاع للوجود د .حافظ الزين -كاتب
يف العراق اليوم ،ال�شعب ب�أكمله ،كما فئاته من الطوائف واملذاهب ،يعي�ش يف حالة قلق وجودي. اال�ستعمار الأمريكي ميار�س لعبته املف�ضلة :التفرقة الطائفية والعن�صرية ،ويعاود الك َّرة باحلجة نف�سها :مكافحة الإرهاب ...و�إيران :حماولة حثيثة عرب احل�شد ال�شعبي لت�صحيح �أخطاء املا�ضي.
�أ�سماء و�أحداث الدكتور خليل �سعاده يف لبنان و�سوريا نف ٌر بلغت مرونة �ضمائرهم حداً فاح�شاً واجتازوا �أطواراً غريبة .ففي �أيام عبداحلميد كانوا ي�سبحون بحمده ويحرقون البخور �أمام عر�شه .يف �أيام الد�ستور بلغت حريتهم درجة البيا�ض من احلرارة .ويف �أيام احلركة العربية تغنوا ب�أجماد العرب. ويف �أيام احلرب ترمنوا مبدح �أنور وجمال .ويف �أيام احللفاء �سجدوا لدول احلرية والعدل .ويف �أيام في�صل عفروا وجوهم على �أعتاب احلجاز .ويف �أيام احلركة ال�سورية اال�ستقاللية وقفوا حتت لواء اال�ستقالل التام املطلق. ويف �أيام فرن�سا ت�سابقوا �إىل متجيد دولة احلرية والإخاء وامل�ساواة وال يزالون كذلك حتى ال�ساعة. خليل �سعاده م�ؤ�س�سة �سعاده للثقافة بناية ر�سامني� ،شارع احلمرا ،ر�أ�س بريوت ،لبنان �صندوق بريد ،113-5557 :بريوت -لبنان. هاتف )00961-1( 753363: فاك�س )00961-1( 753364: الربيد الإلكرتوين saadehcf@idm.net.lb: املوقع الإلكرتوين www.saadehcf.org:
كيف و�صلنا �إىل هنا؟ قبل املغادرة يف �آخر ،2011حر�ص االحتالل الأمريكي على زرع بذور الطائفية يف مفا�صل الدولة التي َّركبها بعناية �أثناء وجوده :يف الد�ستور اجلديد ،قانون االنتخابات ،توزيع فرق اجلي�ش الذي يعاد بنا�ؤه ،اجتثاث البعث ،خم�ص�صات املوازنة مل�شاريع التنمية ...الخ. املدخل �إىل ذلك كان تكوين املتن ّوع الطائفي (� 65%شيعة� %28 ،سنة ،و %7م�سيحيني و�أقليات) والعرقي ( %82عرب� %16 ،أكراد ،و %2خمتلف) .وكذلك وقوع العراق بني ثالث دول �إقليمية كبرية� :إيران ذات الغالبية ال�شيعية وتركيا وال�سعودية ذات الغالبية ال�سنية. و�ضع غني بفوالق ال�شقاق والتفرقة الطائفية واملذهبية والعرقية ،التي ي�سيل لها لعاب اال�ستعمار. مل يرت ّدد اال�ستعمار الأمريكي يف غزو العراق العام ،2003تكملة خلطته اال�سرتاتيجية لغرب �آ�سيا، والتي بد�أها منذ العام ،1980و�أ�س�س لها ب�أكرث من 30قاعدة ع�سكرية يف اخلليج والبحر الأحمر، ثم باجتياح �أفغان�ستان يف .2001 فكان االحتالل ... بالن�سبة لل�شيعة ،كان خروجهم من اال�ضطهاد والقمع حتت حكم �صدام ح�سني �إجنازاً ال ميكن الرتاجع عنه .ولكنه جتلى يف كثري من الأحيان على �شكل رغبة يف الث�أر من امل�س�ؤولني عن ا�ضطهاد املا�ضي� ،أو اال�ستئثار مبفا�صل احلكم لكون ال�شيعة ي�شكلون غالبية ال�شعب .املرجعيات ال�شيعية و�إيران ،على الرغم من دعوتها للوحدة الوطنية ،مل تتعامل مع التجاوزات والع�صبيات 95
فكــــــر
ب�شكل حا�سم انطالقاً من فهم عميق خلطورتها .ومع تف�شي الف�ساد املايل والوظيفي ،تف�شت تلك الع�صبيات لتكون غطاء انتهازياً له. ال�س َّنة ،فبعد �أن كانت ع�شائرهم دعائم حكم البعث وحا�شيته الداخلية ،وجدوا �أنف�سهم بعد �أما ُ االجتياح الأمريكي العام 2003من دون حماية من �أحد :اجلي�ش ُد ِّمر ومت ح ّله ،ورموز املعار�ضة العائدة مع املُحتل كانت مبعظمها �شيعية ...ف�أ�صبحوا فج�أة بيئة مقهورة ومطا َر َدة .الو�ضع النا�شئ فتح الباب وا�سعاً للقاعدة وفكرها الوهابي العن�صري املتطرف ،والتي وجدت فر�صة �سانحة لتو�سيع حراكها �إىل �ساحة جديدة ت�ضاف �إىل �أفغان�ستان. هذه "القيمة امل�ضافة" من الفو�ضى اخلالقة ،لعبت مبا�شرة �إىل �أهداف امل�شروع اال�ستعماري من غزو العراق :ربط تربير النيات الأمريكية ب�إن�شاء قواعد ع�سكرية ثابتة ،مبحاربة الإرهاب الذي متثّله القاعدة ،وا�ستباب الأمن يف البالد. امل�سيحيون والأقليات وجدوا �أنف�سهم يف تقاطع النريان الطائفية الإ�سالمية ،و�إن جاءت �أذيتهم ب�شكل �أ�سا�سي من ا�ستهدافات القاعدة ،على خلفية تكفري الفكر الوهابي لهم. قبل الغزو -حروب م�ستدامة! االحتالل الأمريكي �أتى �إىل عراق مفكك ،منهار اقت�صادياً واجتماعياً ،ويف ح�صار �سيا�سي و�إعالمي .هم �أنف�سهم كانت لهم اليد الطوىل يف و�ضع البلد يف حال حرب �أو عدوان دائمة منذ ،1980ودائماً بالتوازي مع �إيران منذ �أن �أطاحت ثورتها الإ�سالمية بال�شاه: حرب تدمريية مع �إيران ( )1988 - 1980ز َّي َنتها �أمريكا ودول اخلليج فر�صة ل�صدام ال�سرتجاع الأهواز" :جزء حمتل من الوطن العربي الكبري" .كانت نتيجتها من الطرفني �أكرث من 600,000 قتيل ،مليوين جريح ومعوق ،دمار هائل ،وبكلفة تزيد عن 170مليار دوالر. �ستغ�ض الطرف (اعتقدها جائزة اجتاح �صدام ح�سني الكويت يف العام 1990بعد �أن َتو ّهم �أن �أمريكا ّ تر�ضية مكاف�أة حلربه مع �إيران) ...فلم تكن �سوى ّفخ حمكم� ،إذ كان احتالل الكويت حجة لعملية �أمريكية� -أطل�سية لـ"حتريرها" .والنتيجة :تدمري كبري للجي�ش العراقي وزيادة الوجود الع�سكري الأمريكي -الأطل�سي الدائم يف اخلليج � 4أ�ضعاف مع �إ�ضافة وتو�سيع 15قاعدة ع�سكرية يف املنطقة. حظر جوي وبحري �ضد العراق ( )2003 - 1991ت�سبب بو�ضع �إن�ساين مريع يف البالد. االحتالل الكامل العام 2003بحجة مكافحة الإرهاب و�إزالة �أ�سلحة الدمار ال�شامل املفرت�ض وجودها بناء لتقارير كاذبة لفقها الأمريكيون. بعد الغزو -مقاومة االحتالل الأمريكي -الربيطاين للعراق ( )2011 - 2003مقاومة االحتالل مل تكن موحدة. 96
يف �سنوات االحتالل الأوىل ( )2007 - 2003ن�شطت القاعدة �ضمن الأو�ساط ال�سنية على جبهتني :القوات الأمريكية واملُ َك ِّون ال�شيعي الذي ا�ستهدفته القاعدة من منطلقني :الغلبة ال�شيعية لرموز احلكم املتعاونة مع الغزاة ،و�أي�ضاً من منطلق عن�صري تكفريي ين�ضح به الفكر الو ّهابي الذي تتحرك بهديه. يف ال�سنوات الأخرية لالحتالل ،انح�صر ن�شاط القاعدة تقريباً يف ا�ستهداف ال�شيعة وفئات ال�سنة املعادين لنهجهم. �أما يف �سنوات االحتالل الأخرية ( ،)2011 - 2006فكان معظم املقاومة نابعاً من الأو�ساط ال�شيعية مب�ساعدة احلر�س الثوري الإيراين وحزب اهلل .غري �أن بع�ض التنظيمات ال�شيعية الهام�شية �شنت هجمات انتقامية �ضد املناطق ال�سنية .عدم التعامل احلازم والق�ضاء على هذه الظواهر للتع�صب املذهبي ال�شيعي كان خط�أ فادحاً �ساعد يف زيادة اال�ستقطاب املذهبي يف ال�ساحة ال�شعبية العراقية ولعب مبا�شرة بيد اال�ستعمار الأمريكي (ورمبا كانوا ب�إمرة عمالئه)! بالتزامن ،كان امل�سيحيون والأقليات يحاولون ا�ستيعاب ال�صدمة االجتماعية الناجتة عن ا�ستهدافهم من قبل متطريف القاعدة على امتداد العراق ،ونتجت عن ذلك هجرة حوايل ثلثهم �إىل الغرب. على الرغم من كل ال�سلبيات الطائفية ،متكنت املقاومة من االنت�صار. غادر اال�ستعمار الأمريكي بخفي حنني حتت ال�ضغط الع�سكري للمقاومة بعد خ�سائر جتاوزت الـ� 20ألف قتيل وجريح .مل يح�صل اال�ستعمار على هدفني �أ�سا�سيني من اجتياح الـ:2003 احل�صول على قواعد ع�سكرية مع حماية لقواته من املالحقة القانونية. زعزعة الو�ضع الداخلي الإيراين وتغيري النظام فيها� ،أو على الأقل احل�صول على تنازالت ملمو�سة جتعلها �أكرث طواعية وتعاوناً مع امل�شروع الأمريكي يف غرب �آ�سيا. التح�ضري للهجمة الداع�شية متعدد الوجوه تعر�ض له العراق منذ غادر االحتالل الأمريكي العام َ ،2011ت ّو َج ُه عدوان وح�شي ّ ا�ستيالء "داع�ش" على املو�صل ومناطق وا�سعة من حمافظات نينوى� ،صالح الدين ،والأنبار وبع�ض من حمافظات دياىل ،كركوك و�أربيل يف حزيرن .2014 يف البدء كانت مظاهرات احتجاجية واعت�صامات يف حمافظات الأنبار و�صالح الدين مطالبة بال�شراكة الفعلية لل�سنة يف احلكم ورف�ض ا�ستئثار الأحزاب ال�شيعية مبراكز القرار� ...أيادي ال�سعودية كانت وا�ضحة يف تغذية هذا احلراك ومواكبته �إعالمياً بهدف ا�ستغالله �سيا�سياً يف �أُ ُطر خمتلفة متاماً عن املطالب املُحقة التي يرفعها. 97
فكــــــر
ُو ِ�صف احلراك يف �صحف ال�سعودية (ال�شرق الأو�سط ،احلياة ...وغريها) كما يف قنوات "اجلزيرة" و"العربية" ،على �أنه ثورة �أهل ال�سنة يف العراق �ضد القمع ،اال�ضطهاد والتحكم ال�شيعي ،والتبعية لإيران :العبارات وال�شعارات نف�سها التي ي�ستعملها الإعالم الغربي وال�صهيوين وتوابعه يف الإعالم ال�صهيو -عربي ل�صياغة ال�صراعات البديلة عن ال�صراع �ضد �إ�سرائيل� .شعارات اب ُتدِ عت لتحويل ال�صراع من عربي � -إ�سرائيلي �إىل �صراع: عربي� -إيراين ،وفيه يتحالف العرب مع �إ�سرائيل �ضد العدو الإيراين امل�شرتك ،و... �سني � -شيعي ،يتناغم مع مقوالت التنظيمات امل�سلحة التكفريية املت�شبعة بالفكر الوهابي والذي يطلق هذا الإعالم على م�سلحيهم ت�سميات "الثوار ال�سنة" و"املجاهدين". هذا احلراك ما لبث �أن حتول �إىل مناو�شات ع�سكرية وا�سعة لـ"داع�ش" يف الفلوجة ،تكريت، وديايل .لكن احلراك الأدهى كان يتم �إعداده يف تركيا ،حيث كانت تطبخ تفا�صيل االجتياح الداع�شي. الهجمة الداع�شية -الباب اخللفي لعودة اال�ستعمار الأمريكي -الأطل�سي ر�أ�س حربة هجوم داع�ش كان ب�ضع مئات من امل�سلحني ،و�صلوا �إىل املو�صل من احلدود ال�سورية خالل يومني قاطعني حوايل 100كلم ،على الأغلب عرب معرب اليعربية على ملتقى الأرياف ال�شرقية للقام�شلي واحل�سكة ،والذي يبعد �أقل من 50كلم عن احلدود الرتكية عند املالكية (هذا �سيناريو تقديري للكاتب ولي�س معلومات من�شورة) .م�سار معد ب�إتقان ،مع كل التح�ضريات للمرور الآمن ،و�صو ًال �إىل خمازن الأ�سلحة الثقيلة والآليات التي كانت بانتظارهم يف املو�صل عندما دخلوها يوم 10حزيران.2014 ، ب�ضعة �آالف من امل�سلحني دخلوا يف الأيام القليلة التالية ،وا�ستخدموا الآليات التي ا�ستولوا عليها يف املو�صل للتوجه جنوباً وال�سيطرة على بيجي وتكريت� ،إىل �أن مت �إيقافهم على تخوم �سامراء. �أ�سابيع بعد غزوة املو�صل ،قام تنظيم داع�ش يف �أوائل �آب 2014باحتالل �سد املو�صل ( 40كلم �شمال غرب املدينة) والتوجه �شرقاً ،و�صو ًال حلوايل 40كلم من �أربيلّ .مت هذا الأمر ب�شكل مريب بعد ان�سحاب الب�شمركة من دون مقاومة ،وبد ًال من ذلك ،دخلت الب�شمركة �إىل كركوك بحجة حمايتها من داع�ش. ترافق ذلك بالهجوم على �سنجار (غرب املو�صل) وقيام داع�ش مبجازر مر ِّوعة و�سبي بحق الآيزيديني. الإعالم املُ َّركز �أبرز ب�شكل مكثف مروحة متكاملة من الأجواء خالل �أيام قليلة :تهديد �أربيل عا�صمة �إقليم كرد�ستان ،خماطر احتالل داع�ش لآبار النفط يف كركوك ،احتمال تدمري �سد املو�صل ،اقرتاب داع�ش من احلدود الإيرانية ،احلاالت الإن�سانية من ذبح ،تهجري� ،سبي ،وجماعة. كانت �صور الآيزيديني املحا�صرين على جبل �سنجار �أكرثها ت�أثرياً وت�أجيجاً للم�شاعر .ثم �أعدم 98
داع�ش �صحافياً �أمريكياً ذبحاً ،و�صدرت عن داع�ش تهديدات �ضد حكام ال�سعودية والبحرين "املرتدين" وكل من ي�ضع يده بيد �أمريكا. والكويت ّ هكذا ،ب�سحر �ساحر �إعالمي ،وبف�ضل هذه "العا�صفة الكاملة" (�شكراً داع�ش)� :أحداث متنا�سقة، تهويل بالأ�سو�أ ،حاالت �إن�سانية تدمي القلوب وتهجري مئات الآالف� ...أجنزت الواليات املتحدة الكثري: ا�ست�صدار �سريع لقرار بالإجماع من جمل�س الأمن حتت الف�صل ال�سابع ملحاربة داع�ش .تلت ذلك الدعوة لت�شكيل حلف دويل ملحاربة الإرهاب ،و�إعادة جتميع من كانوا يف ال�سابق "جمموعة �أ�صدقاء �سوريا" �ضمن هذا احللف اجلديد. الدول اخلليجية التي َو َّ�صفت داع�ش يف البداية بـ"الثوار ال�سنة" �ضد "اال�ضطهاد ال�شيعي"� ،أعطيت �صك براءة ...فاملرحلة املقبلة ت�ستوجب تو�صيف داع�ش بـ"الإرهاب" واالنغما�س يف "حتجيمها". مت ابتكار �ضحايا جدد لداع�ش غري ع�شرات الآالف من �ضحاياهم يف �سوريا والعراق� :أع�ضاء احللف الدويل امل�ستحدث لـ"جمموعة �أ�صدقاء �سوريا". هذا التظهري هدفه متويه الأهداف الفعلية لداع�ش و�أخواتها (جبهة الن�صرة والتنظيمات املتعددة من م�شتقات الإخوان امل�سلمني): م�شاغلة وحماربة القوى املواجهة للواليات املتحدة و�إ�سرائيل وتدمري ما �أمكن من قدراتها الع�سكرية. اقتالع الأقليات ،التهجري اجلماعي لل�سكان على �أ�سا�س اال�ستقطاب الطائفي ال�سني -ال�شيعي، تدمري البنى التحتية والفوقية واحل�ضارية لتلك الدول كي ي�سهل تفكيكها ،وم�ستقب ًال :ت�شكيل وتثبيت البدائل. عودة مظفرة للواليات املتحدة ب�صورة املخل�ص الوحيد القادرعلى احتواء "الوح�ش" .هذا �أعطاها القدرة على ا�ستخدام قواعدها املنت�شرة يف ال�سعودية ،قطر ،البحرين ،الكويت وتركيا� ،إ�ضافة �إىل الأ�سطول البحري يف املتو�سط واخلليج ب�شكل حربي متكامل بو�صفها الو�صي القادر والعطوف، من دون اعرتا�ض م�ؤثر من �أحد .كانت �أي�ضاً فر�صة �سانحة لإ�شراك احللفاء اخلليجيني يف مناورات جوية حية� .أما هوية الطيارين؟ عدا عن ا�ستعرا�ض رائدة �إماراتية و�أمري �سعودي ،هل بينهم �إ�سرائيليون ممن تتكامل مهماتهم مع القوات الأمريكية؟ َمن يدري ...و َمن ي�س�أل؟ اال�ستعمار ميار�س لعبته املف�ضلة :التفرقة الطائفية والعن�صرية منذ �أن دخلت الواليات املتحدة على خط "حتجيم" داع�ش عرب قيادة "احللف الدويل ملكافحة 99
فكــــــر
الإرهاب" قبل � 5شهور "بطلب من احلكومة العراقية وتفوي�ض من جمل�س الأمن" ،ان�شغلت ب�أمور غري الطلعات اجلوية: قامت بات�صاالت وا�سعة مع ع�شائر الأنبار -ال�سنة ودعت وفداً من م�شايخهم لزيارة وا�شنطن، وحثت احلكومة املركزية على اال�ستجابة ملطالبهم ،من دون ترك منا�سبة للت�أليب �ضد "احل�شد ال�شعبي" ...هذا بعد �أن م ّهدت داع�ش بقتل املئات من ع�شريتي "البو منر" و"البو فهد". �شيخ ع�شرية "البومنر" نعيم الكعود" :احلكومة املركزية تقدم الدعم الكايف للح�شد ال�شعبي تقدمه للأنبار من ال�سالح والعتاد من ال�سالح والعتاد من �أ�سلحة متو�سطة وثقيلة ،عك�س ما ّ ال�ضعيف". ال�شيخ عامرعبد الكرمي الفهداوي ،من �أبرز �شيوخ ع�شرية البوفهد�" :إن ع�شائر الأنبار ،عالوة على ال�سالح ،بحاجة �إىل احل�صول على دعم م�ستمر من امل�ؤون �أي�ضاً ،وعلى احلكومة املركزية ت�أمني كافة �أ�شكال الدعم لنا �إن كانت تريد انت�صار الع�شائر على داع�ش". �صرحت الواليات املتحدة الأمريكية �أنها تقف �إىل جانب ع�شائر الأنبار املقاتلة لـ"داع�ش" يف و�ستمدها بالدعم الالزم ،لكن "ب�شرط موافقة احلكومة العراقية ،و�أن ّمير ذلك عربها". العراق، ّ دعا 17ع�ضواً يف جمل�س ال�شيوخ الأمريكي وزير اخلارجية جون كريي �إىل دعم "جهود احلكومة العراقية" لإن�شاء حمافظة يف �سهل نينوى ،ت�ضم الأ�شوريني والأقليات امل�سيحية الأخرى التي تقطن املنطقة ...علماً ب�أن جمل�س الوزراء العراقي مل يبحث تلك امل�س�ألة من قبل. عدد من ال�سيا�سيني ال�شيعة يف اجلنوب نادوا ب�إقامة اقليم �شيعي يف جنوب العراق ،وطلبوا من الواليات املتحدة امل�ساعدة يف ال�ضغط على احلكومة املركزية لتحقيق ذلك. ّ م�ستقل متاماً عن تعمل الواليات املتحدة مع �سلطات �إقليم كرد�ستان وقوات الب�شمركة ،ب�شكل احلكومة املركزية ،و�إن كانت تغدق الت�صريحات حول "وحدة العراق". تقف الواليات املتحدة ب�شدة خلف ت�شكيل "احلر�س الوطني" على م�ستوى املحافظات .هذا النموذج ناجح يف �أمريكا لأن هناك حكومة وجي�شاً فدراليني كاملي ال�صالحية يف دولة فيها ف�صل بني الدين والدولة� .أما يف دولة مثل العراقَ ،ح َر َ�ص الأمريكيون على تفخيخ د�ستورها بت�شكيلة وا�سعة من الن�صو�ص والت�شريعات الطائفية ،هذا التوجه لي�س �سوى و�صفة لالقتتال الطائفي، وك�أن ما حدث يف املو�صل لي�س كافياً لتبيان خماطر الالمركزية الطائفية! الأهداف والغايات -امل�شروع اال�سرتاتيجي تب�شّ ر الواليات املتحدة ب�أن احلرب مع الإرهاب �ستطول �سنوات ،وت�سعى لت�أمني قواعد ع�سكرية 100
لقواتها امل�شاركة يف تلك احلرب .قواعد مل ت�ستطع (بف�ضل املقاومة) احل�صول عليها من باب االحتالل املبا�شر ،ت�سعى الآن لأخذها عرب �شباك "داع�ش". �أما "اخلالفة الإ�سالمية" فهي هدف �أ�سا�س يف املخطط اال�ستعماري -ال�صهيوين .هدف تتوق تركيا لتحقيقه ،وت�أمل �إ�سرائيل عرب م�ساره� ،أن تنجح يف �إ�ضعاف وتدمري ما �أمكن من القوى التي منعت تو�سعها �شما ًال :حزب اهلل و�سوريا ،بهدف هزميتهما ،ما مل تتمكن من حتقيقة يف ال�سابق. كمل لدولة �إ�سرائيل التوراتية� .إ�سرائيل دولة اخلالفة الإ�سالمية املطروحة لي�ست �سوى �شريك ُم ِّ وتركيا منوذجان يج�سدان التكامل مع "احل�ضارة الغربية" ،وبالتايل هما �شريكان مركزيان يف امل�شروع اال�ستعماري الغربي -ال�صهيوين .وكلتاهما تتبنيان العن�صرية الطائفية منهجاً وعقيدة، وبالتايل ،دولتاهما املوعودتان بينهما عقد "�إلهي" ،متكاملتان جغرافياً ،وال ت�ضارب م�صالح �سيا�سية ،ح�ضارية �أو اقت�صادية يف حتقيقهما. و�إيران الع�صية.. تبقى القطعة التي مل "تركب" بعد يف هذا امل�شروع� :إيران. �إيران التي تنا�سب امل�شروع اال�سرتاتيجي الطائفي حتتاج لتغيريين جذريني يف تركيبتها: .1تعيد ت�شكيل اقت�صادها ليكون متكام ًال مع االقت�صاد الغربي علمياً� ،صناعياً ،تقنياً وجتارياً ... متاما كما هي تركيبة االقت�صادين الإ�سرائيلي والرتكي. .2تكون �أكرث ُّ جتذراً وتطرفاً يف "�شيعيتها" والهدف هو �إي�صالها بالتدريج �إىل هذا التمو�ضع عرب �أحداث وح�شية متتالية عنوانها الفتنة ال�سنية -ال�شيعية ،تتخللها فرتات من "احلوار" الهادف �إىل ا�ستدراجها لتكون ال�ضلع الثالث يف املثلث الطائفي يف املنطقة :يهودي � -سني � -شيعي.
قراءات مقرتحة
تركيا و�إ�سرائيل :تكامل ا�سرتاتيجي /د� .أديب الزين -خرب�أونالين 24ت�شرين الأول.2014 ، http://www.khabaronline.com/PAD.aspx?Id=4260
�أمريكا تدعم "الأنباريني"� ...شرط موافقة العبادي /جريدة الأخبار 29 -كانون الثاين .2015 http://www.al-akhbar.com/node/224968
ملف املو�صل و�صفحات احلقيقة /كاظم املو�سوي -جريدة الأخبار � 16شباط .2015 http://www.al-akhbar.com/node/226172
101
لبنان -بريوت � -شارع احلمرا -بناية ر�سامني -ط
4
tel: 00961 -1 - 751 541 E-mail: info@darabaad.com website: www.darabaad.com
تهجري املوارنة اىل اجلزائر عروبة يو�سف بك كرم عوملتان الفو�ضى واملقاومة الفل�سطينيون يف لبنان االن�سان اوال الهوية وال�صراع رحيل يف ج�سد الف�ساد امل�ؤدلج ال�صناعة يف طرابل�س التحية االخرية لبنان يف ذاكرة العراق القدمي علم االجتماع ال�سيا�سي �أحالم املاء ناق�صات عقل و دين التطبيع ي�سري يف دمك اوف الين حي التنك بابل والتوراة ال�سيا�سة تطور املعنى وتنوع املقرتبات حب بطعم القهوة امل�سرح العاري التنمية يف الهالل اخل�صيب ال�سقف 90يوما يف ال�سعودية جهاد النكاح مناي يف مواجهة الطائفية لأين مل �أكن مار مارون واملوارنة �شعر الفداء واالنبعاث كتب �صدرت حديثاً: حرب التحرير – �إنعام رعد كلمة (�صفحات من تاريخ ُعمان) – �سعود بن علي اخلليلي خيمة غزة – ن�ضال حمد ال�سرية – من�صور عازار احلرب على �آ�سيا – علوان �أمني الدين العوملة وال�سيادة – علوان �أمني الدين
�سركي�س �أبو زيد �سركي�س �أبو زيد �سركي�س �أبو زيد �شوكت �أ�شتي وغازي خلف �سركي�س �أبو زيد زهري فيا�ض زاهر العري�ضي د .قي�س جرج�س منري خملوف من�صور عازار الأب �سهيل قا�شا �شوكت �أ�شتي �سوريا بدور الطويلة يحيى جابر د .عادل �سمارة زاهر العري�ضي اكرام الداعوق الأب �سهيل قا�شا �شوكت �أ�شتي جومانة معالوي عبيدة االبراهيم زهري فيا�ض ريا�ض بيد�س �أ�سماء وهبة د.عادل �سمارة فايز غازي �سركي�س �أبو زيد ن�سرين كمال �سركي�س �أبو زيد زيتوين ل�ؤي ف�ؤاد ّ كتب حتت الطبع
تاريخ بيبلوغرافيا فكر �سيا�سي فكر �سيا�سي فكر �سيا�سي فكر �سيا�سي �أدب فكر �سيا�سي اقت�صاد مذكرات تاريخ علم اجتماع �أدب فكر �سيا�سي فكر �سيا�سي �شعر �أدب دين فكر �سيا�سي �أدب �شعر اقت�صاد �أدب مذكرات فكر �سيا�سي �شعر فكر �شعر تاريخ �أدب
منرب حتوالت – من�صور عازار الفي�سبوك وت�شكيل العالقات االجتماعية – وفاء كاظم حطيط
�سوراقيا م�رشوع خال�ص م�رشقي
فـكــــــــر
ا�سم الكتاب
ا�سم الكاتب
الت�صنيف
املفكر العراقي عبد احل�سني �شعبان:
حوار -هاين احللبي مقابلة
العامل ي�صطرع حول ذاته .مافيات �أممية ومافيات حملية تختلق الأزمات وتراكم �أ�سبابها. مافيات ال�صناعة الع�سكرية واملال املرتزق وال�سيا�سة الرخي�صة والتد ّين العن�صري جميعها وغريها يوفران املناخ املتفجر لعامل يتدحرج �إىل املحرقة جمدداً ،وعبثاً ن�سمع �صوتاً عاق ًال هادياً يقول للهائمني يف �أوهامهم :هذا احلق وهذه احلياة ..من هنا اخلال�ص! خم�ضرمّ ، ككل الكبار ،يتخذ املنهج كعلم� ،أ�سا�ساً النطالقته وعمله ور�ؤيته� ،أما الأ�شخا�ص مهما عظموا فيبقون �أ�شخا�صاً ي�صيبون ويخطئون ،بال ع�صمة .من املارك�سية بتن ّور ينفتح على العروبة، بتجاوز التقليدي من الأفكار ،ومنها يبحث يف احلا�ضنة امل�شرقية الإ�سالمية التاريخية ،متط ّلعاً مفر له من العدل والدميقراطية وامل�شاركة ليتف ّهم �أزماته وي�سرب ه ّوياته ويحيطها �إىل عامل ال ّ حمب و�آمن .بجر�أة عارفة يقول لي�س كل ما قاله مارك�س �صحيحاً .لي�س ما يقوله باعرتاف ّ الأفراد دائماً حقيقة .املهم هو املنهج! �أين نحن الآن ،يف �أي م�ستنقع نخو�ض بالدم والفو�ضى العقيمة ،نتفتت .نتناحر .وحتيط بنا �أطالل بداوة وحداثة يف �آن تتكالب علينا .تتناثر دولنا .تنتهك بالدنا وينحر �إن�ساننا .بينما العامل ي�ستفتي وينتخب وي�سامل� .إ ّال عندنا يقتل ونقتل .كفى قت ًال با�سم اهلل وبا�سم الأمة وبا�سم امل�ستقبل؟؟ �أ�سئلة جوهرية م�صريية خا�ض فيها املفكر والأكادميي العراقي عبداحل�سني �شعبان يف حوار يف ال�سيا�سة واله ّوية والأزمة امل�شرقية واخلال�ص الوطني والقومي لـ"حتوالت م�شرقية" .هنا ن�صه.. بر�أيكم ما اله ّوية؟ �أح�صى �أحد املفكرين �أكرث من 230ه ّوية دينية و�إثنية و�ساللية ،مبا فيها ه ّويات م�صغرة جداً. وهذا التناثر كان ي�سهم يف توليد �س�ؤال م�ستمر :ما هي عنا�صر اله ّوية الرئي�سية؟ هل اله ّويات 103
فكــــــر
معطى �سرمدياً غري قابل للإ�ضافة واحلذف �أم �أنها ه ّوية مفتوحة ولي�ست مغلقة؟ �صحيح �أن هناك عنا�صر �أ�سا�سية لله ّوية املفتوحة ذات ثبات ن�سبي كبري ،لكنها يف الوقت ذاته قابلة للتطوير بتالقحها مع اله ّويات الأخرى ،وبرفد العنا�صر الأخرى لله ّوية ،مث ًال �أنا اعترب �أن اللغة والدين، �إىل حدود غري قليلة ،من هذه العنا�صر الأ�سا�سية لت�شكيل ه ّوية ما ومن مرتكزاتها الرئي�سة، لكنني ال �أ�ستطيع �أن �أهمل العادات والتقاليد والفنون ومنط احلياة ،فهذه م�ؤثرة �إىل حدود غري قليلة يف تكوين اله ّوية ،ففي ت�شكيل اله ّوية ُت�ضاف عنا�صر العادات والتقاليد وغريها �إىل عن�صري اللغة والدين .فعادات وتقاليد الأجداد مل تكن كما هي عاداتنا وتقاليدنا وفنوننا أظن �أن الإمام علي هو القائل "ال تع ّلموا �أوالدك عاداتكم اليوم ،بل كانت خمتلفة عنها ،و� ّ لأنهم خلقوا لزمان غري زمانكم". وملحة. هنا تربز �أهمية توظيف الرتاث يف قراءة �صريورة التطور واحلداثة .وهذه الأهمية عالية ّ وهناك َمن يعتقد �أن اله ّوية ا�ستاتيكية (جامدة) ثابتة ،ال ميكنها �أن تتط ّور ،يف حني �إن اله ّوية هي تعبري عن تطور طبيعي ال ميكن ا�صطناعها مبجرد افرتا�ضها ،يف احلالة الأوىل �ستكون منغلقة، ويف احلالة الثانية �ستكون متح ّللة ،يف حني �إن اله ّوية مفتوحة وحتدث عليها تغيريات تد ّرجية ت�ؤدي بالرتاكم �إىل �إحداث تغيري نوعي خمتلف عن االعتقادات ال�سابقة ،وذلك بحد ذاته قيمة �إن�سانية حقيقية ،لأن اله ّوية القابلة على ا�ستيعاب التطورات ومنفتحة للتغيريات وال�س ّيما الإيجابية ،تكون �أكرث ان�سجاماً وتوا�ؤماً مع �سمة الع�صر ومع منطق احلياة والتغيري. يف مواجهة اله ّويات املفرت�ضة واملدعاة بكرثة لأ�سباب فئوية �أو عرقية �أو طائفية... ما ال�صحيح بر�أيك؟ ال�صحيح هو لأن هناك تداخ ًال وتراكباً بني ه ّويات عدة عند كل فرد م ّنا ،اله ّوية لي�ست واحدة لدى كل واحد م ّنا� .أو ًال لقناعته يف ه ّويته من جهة ،وملدى مت ّثله هذه اله ّوية من جهة �أخرىُ .ت�ضاف �إليهما زاوية النظر �إىل تلك الهوية .واملثل العملي لذلك هو ما فح�صه الكاتب والروائي اللبناين �أمني معلوف بخ�صو�ص مفهوم اله ّوية ،فوجد �أن هناك ه ّويات قاتلة عن َون بها كتابه املعروف .واعترب معلوف �أن لكل فرد م ّنا �أكرث من ه ّوية .فمعلوف كان عربياً ،م�سيحياً، فرنكوفونياً وثقافته العامة هي جزء من الثقافة العربية الإ�سالمية امل�شرقية التي ال ي�ستطيع اخلروج منها. وهذا ما ينطبع دائماً يف التكوين الأ�سا�سي لله ّويات العامة .فلديه ولدى كل فرد ه ّوية يتم�سك به ّويته اخل�صو�صية ،لكن اله ّوية اخل�صو�صية خ�صو�صية ،وعليه وعلى كل فرد �أن ّ لي�ست ه ّوية انغالقية ،وال ينبغي �أن تكون يف تعار�ض مع اله ّوية العامة ،كما �إن على هذه الأخرية احرتام اله ّويات الفرعية والتعاطي معها من موقع امل�ساواة والتكاف�ؤ ،مهما كان حجمها 104
وعدد �أفرادها ،طاملا متثل كيانية خا�صة وم�ستقلة ،وميكن �أن تكون متفاعلة مع اله ّوية العامة ل�شعب �أو �أمة �أو جماعة. هكذا ،هل تك ّون اله ّوية متفاعلة؟ بالت�أكيد هناك ه ّوية متفاعلة وهناك ه ّويات ذات طابع انعزايل ال تت�أثر كثرياً مبا حولها ،لكن هذه الأخرية هي الأخرى حت�صل عليها تغيريات وقد تكون عا�صفة �إذا مل ت�ستجب ل�سمة التطور احل�ضاري والإن�ساين .ويقابل ذلك حماوالت حمو احلدود بني اله ّويات بزعم ت�س ّيد اله ّوية العامة امل�شرتكة ،حيث ال �ضفاف �أو حدود لها ،وبالطبع �سيكون ذلك على ح�ساب اله ّويات الفرعية فتفقد هذه الأخرية داللتها وكينونتها وخا�صيتها ،وت�س ّبب ردود �أفعال �أحياناً التم�سك واالنغالق على �ضدها و�ضد امل�شرتكات الإن�سانية ،و�أحياناً يربز التناق�ض من خالل ّ الذات وو�ضع حواجز �أمام التفاعل مع اله ّويات الأخرى .وكان املفكر والباحث اللبناين وجيه كوثراين قد �أ ّلف كتاباً مهماً بعنوان "اله ّويات الفائ�ضة واملواطنة املنقو�صة". اله ّوية ميكن �أن ّ ت�شكل جوهر فكرة املواطنة �إن جت ّلت بعنا�صر �أ�سا�سية �أربعة هي :احلرية ،فال مواطنة من دون حرية ،واحلرية �شرط يف املواطنة ولها ،و�ستبقى املواطنة ناق�صة ومبتورة من دون حرية. امل�ساواة ،فال مواطنة من دون م�ساواة .وتنق�ص املواطنة �إذا مل تتحقق امل�ساواة بني �أبناء ال�شعب الواحد� ،أي �إنها �ستكون مواطنة مبتورة �أو م�ش ّوهة .واملق�صود بامل�ساواة لي�س �أمام القانون فح�سب ،بل يف اجلانب االجتماعي واالقت�صادي والوظيفي والتعليمي والديني وغري ذلك. العدالة ،فال مواطنة من دون العدالة ،وبخا�صة العدالة االجتماعية� .إذ كيف ميكنك �أن تدافع عن وطنك �إذا مل مينحك امل�ساوة والعدالة ،بل مينحك على الأقل �شيئاً منها يف عي�ش كرمي. ف�إذا مل تكن متمتعاً باحلد الأدنى من هذه احلقوق ،ف�ستتعر�ض مواطنتك لالهتزاز واالنثالم، بل ولل�ضياع �أحياناً ،وي�ستطيع الآخرون �أحياناً العبث بها وتوظيفها باجتاه �ضار وخاطئ. �أما امل�شاركة فهي ال�شرط الرابع للمواطنة ،التي ال تقوم من دون وجود �شعب حتققت فيه م�شاركة بني �أفراده يف وجوه احلياة املختلفة ،ال�س ّيما امل�شاركة يف �إدارة ال�ش�ؤون العامة ،وعدم التمييز يف توليّ الوظائف احلكومية العليا. ويلعب عن�صر اللغة ،دوراً مهماً يف ت�شكيل اله ّوية ،كعن�صر ثابت فيها ،لكنه �إىل جانب ثباته فهو يف حركة داخلية وبينية مع باقي العنا�صر يف الت�شكيل نف�سه .باللغة ت�ستطيع �أن تعبرّ عن حقائق معينة، جت�سد وتتمثّل حقائق معينة ،وب�إ�ضافتنا عن�صر الدين �إليها نكون �أمام ه ّوية فاعلة وديناميكية. باللغة ّ احلرية ،فمث ًال م�صطلح وبهذا املعنى ك ّلما انتق�صت من مو�ضوع املواطنة �ستمار�س �ضغطاً على ّ 105
فكــــــر
ينم عن ا�ستعالء وت�س ّيد ويفرت�ض انتقا�صاً من احلقوق ،لذلك �أرف�ضه، "الأقليات" ،هو م�صطلح ّ و�أف�ضل بد ًال عنه املجاميع التعددية التنوعية �أو املجموعات الثقافية الدينية والإثنية وال�ساللية واللغوية وغريها ،لأن م�صطلح الأقلية ،ومثله الأغلبية ،فيه انتقا�ص من وحدة احلياة احلقوقية بالكم للمجتمع ومن مبد�أ امل�ساواة وبالتايل من املواطنة املتكافئة ،فال ميكن �أن تقي�س اجلماعات ّ �سواء �أكانت �أقلية �أم �أغلبية. �إن م�صطلح الأقلية والأغلبية ميكن انطباقه على اجلماعات ال�سيا�سية ومعادالتها ولي�س على اجلماعات الدينية والإثنية واللغوية والثقافية ،ف�إن م�سيحياً واحداً يوازي كل امل�سلمني يف الأر�ض، لأنه يعبرّ عن حالة دينية ،وهو املعادل النوعي لأديان الأر�ض ك ّلها ،الأمر نف�سه يف حالة كل منتم �إىل دين �آخر �أو من �أتباع ديانة �أو قومية �أو لغة �أو �ساللة �أخرى وهذه نقطة ال يجوز �إهمالها قط. يف تعريفك اله ّوية �أخذت اجلانب الثقايف منها مبا يتمثل باللغة والدين� ،أال ترى �أن لله ّوية �أي�ضاً ج�سداً تن�سجه الأر�ض واجلماعة الب�شرية ،فالأر�ض بيئات ومناطق متنوعة و�أثبت علم االجتماع امل�ستقرين فيها فتتن ّوع هوياتهم؟ تباين ت�أثري تن ّوعها يف ّ املكان ميكن �أن ي�ؤثر يف اله ّوية ،لكنه ال يوفّر الطابع العام لهذه اله ّوية .ف�إن ع�شت يف بيئة جبلية كردية ف�أنت جبلي ،وكذلك �إذا ع�شت يف بيئة جبلية عربية ف�أنت جبلي لبناين كذلك ،فاجلبلية مندغمة يف ه ّويتني خمتلفتني .بهذا املعنى قد ال تكون اجلبلية عن�صراً من ه ّويتك العامة. اجلبلية هي خ�صو�صية مكانية تتعلق بوجودك الأر�ضي. اجلانب الثقايف يف اله ّوية هو الأكرث ر�سوخاً مما نق�صده من مفهومنا لله ّوية .بهذا املعنى تكون املتعددة واملتن ّوعة �سوا ًء �أكانت ه ّوية كربى �أو ه ّوية اله ّوية هي هذا النتاج وهذه ال�صريورة ّ �صغرى� ،أو ه ّوية عامة �أو ه ّوية خا�صة� ،أو ه ّويات �شاملة �أو ه ّويات �أ�شمل� ،أو ه ّوية حملية �أو ه ّوية وطنية ،ميكن ت�سميتها كما ت�شاء ،لكن يف �إطار هذا التفاعل والتناغم تن�ش�أ وتتبلور املواطنة، اللب من كل ه ّوية .قوميات �أو �أديان �أو لغات �أو �سالالت ال يتم االعرتاف فيها �ستت�شكل وهي ّ لديها ه ّوية خا�صة دفاعية �ضد اله ّويات التي حتاول �أن تت�س ّيد عليها. بالعودة �إىل املارك�سية ،يقول مارك�س :ال ميكن ل�شعب ي�ضطهد �شعباً �آخر �أن يكون حراً .مل يقل فئة �أو جمموعة بل قال �شعباً ،ويعني �أن هناك �شعوراً قومياً ما لدى �شعب ما بالت�س ّيد على جمموعة ب�شرية �سكانية لها خ�صو�صيتها� ،أي �أنها ذات ه ّوية خا�صة ،وهو الأمر الذي ال ّبد �أن ي�ؤخذ بنظر االعتبار يف ال�صراع العربي -الإ�سرائيلي ،وحماولة "�إ�سرائيل" هدر حقوق ال�شعب العربي الفل�سطيني لي�س من خالل عدم االعرتاف بحقوقه فح�سب ،بل تدمري كامل تخ�صه� ،إ�ضافة �إىل ال�سعي ملحو تراثه وثقافته وح�ضارته� ،سواء منظومة حقوق الإن�سان التي ّ بتزوير التاريخ �أو حماولة تزييف �أحداثه ،ناهيكم عن رف�ض وجوده وا�ستمراره حتى داخل دولة 106
�إ�سرائيل العن�صرية ،التي ُيراد لها �أن تكون نقية� ،أي يهودية ،و�إ ّال ال مكان لوجود �شعب �آخر، حتى و�إن كان من �سكان البالد الأ�صليني ،وهو ما ر ّوجت لها ال�صهيونية منذ م�ؤمتر بال يف �سوي�سرا العام 1897حني دعت لقيام دولة لليهود. جدل اال�ضطهاد والعبودية وال�سيادة
امل�ضط َهد وامل�ضطهِد يفتقدان احلرية والتم ّر�س بها ،معادلة تذ ّكرنا بعالقة العبودية املتبادلة بني ال�س ّيد والعبد؟ ه�ضم حقوقه كالذي ميار�س العنف متاماً، �س�ؤالك جميل .امل�ضط َهد يعاين من اال�ستالب و ُت َ فيعاين من عملية ا�ستالب من نوع �آخر .كعالقة ال�س ّيد بالعبد ،وعالقة ال�ضح ّية باجلالد، كالهما �ضحية عنف .املع ِّنف يفقد �إن�سانيته وحريته و�صريورته الطبيعية عندما ي�ضطهد الآخر وعندما يقمعه .واملع َّنف بدوره �أي متلقي العنف ي�شعر باال�ستالب بتلق ّيه العنف من الآخر فيهدد حقوقه وه ّويته وخ�صائ�صه وبكل ما ي�شعره �أنه كائن ب�شري متم ّيز عن غريه بالدين وباللغة ّ �أو بالكثري من جوانب حياته وطريقة عي�شه التي لي�ست جوهرية بحد ذاتها ،لكنها يف حالة ما قد ّ ت�شكل خا�صية ما له ّوية متم ّيزة. هكذا ف�إن االحتكاكات والنزاعات القومية والدينية كانت نتيجة لله ّوية والتم�سك بها �أو رغبة يف الهيمنة والت�س ّيد على اله ّويات الأخرى .مث ًال �أوروبا هناك حواىل ع�شرين بلداً فيها تعاين من م�شكلة ه ّوية قومية. وبالعودة �إىل �س�ؤال �آخر متداخل مع �س�ؤالك هذا� ،أقول لي�س ت�أمني املواطنة وحده ّ ي�شكل �سبباً لت�شكيل ه ّوية �أو تعاي�ش بني اله ّويات .فهناك اخل�صائ�ص الذاتية لأي جماعة� ،أكانت �شعباً �أم �أمة �أم ديناً �أم فئة �أم طائفة �أم مذهباً �أم لغةّ ، فت�شكل خ�صي�صة مميزة لها ت�شمل كلّ �أفرادها، وت�شكل ه ّويتهم الغالبة املميزة لهم. وهنا حت�ضرنا �أمثلة عدة منها :االحتاد ال�سوفياتي ال�سابق انق�سم 15دولة لكل منها كيانها (الدولة – الأمة) .ويوغو�سالفيا انق�سمت �إىل �ستة كيانات �آخرها كو�سوفو .وت�شيكو�سلوفاكيا انق�سمت �إىل كيانني (جمهورية الت�شيك وجمهورية �سلوفاكيا) و�إن كان انق�سامها خمملياً بعد �سنوات حدة ودموية. �ضمن فدرالية ما متفق عليها ،بينما االنق�سامات الأخرى كانت �أكرث ّ وبلجيكا ت�شهد �صراعاً بني الواالنيني (الفرانكفونيني الذين ّ ي�شكلون 4مليون ن�سمة) وبني الفالمانيني (الذين ي�ؤلفون 6مليون) على الرثوة واخل�صائ�ص والقرار �أي �إن اله ّوية هي ال�سبب الأهم والأكرب يف الرغبة االنف�صالية ،علماً ب�أن بلد فيدرايل وحقوق املواطنة وامل�ساواة مكفولة. 107
فكــــــر
و�إذا كانت بلجيكا تعترب من الأنظمة الدميقراطية والفيدرالية وت�شهد توزيعاً لل�سلطات ورقابة وم�شاركة ،ولكن ال�شعور باخل�صو�صية واله ّوية املتم ّيزة ي�ضغط على الطرفني االفرتاق. �سلمي عادة ،وال يخلو من مناذج عنفية كالتي ذكرناها، الفارق بني افرتاقهم وافرتاقنا �أن افرتاقهم ّ عنفي عادة بعدما ن�ستنفد �آخر �إطالقة على بع�ضنا لنت�أكد بعد حني �أن علينا �إبرام بينما افرتاقنا ّ الطالق .والطالق �أبغ�ض احلالل عند اهلل.. قومية ا�ستعالئية �شوفينية مقابل انعزالية و�ضيق �أفق وانكفاء
هكذا واقع الطالق فردياً ...وهل كذكلك واقعه بني اجلماعات؟ الطالق يبقى �أبغ�ض احلالل عند اهلل كما ُيقال وهو كذلك بني الأمم وال�شعوب واجلماعات ،فعندما ي�صبح التعاي�ش م�ستحي ًال ال ّبد من الطالق و�إ ّال �سيعني ا�ستمرار احلرب والدمار والقتل .خذ مث ًال منوذج ال�سودان من العام 1956ا�ستق ّلت البالد وظ ّلت من�شغلة بحرب داخلية حتى العام 2010بحرب �أهلية �أكلت الأخ�ضر والياب�س ،ويف هذا العام ح�صل االنف�صال بني ال�شمال واجلنوب بعد ا�ستنزاف موارد البلد و�إمكانياته وتنميته وطاقاته و�شبابه وتعطيل �إمكانية التقدم لو اختارت طريقاً �آخر غري طريق االحرتاب. الدميوقراطية والإ�صالحات وقيام دولة ميكنها ّ وكان االنق�سام عرب ا�ستفتاء �شعبي ح�صل مبوجبه اجلنوبيون على تاييد �أكرث من .% 98 ومهم وال ميكننا �إغفاله يف فح�ص مفهوم اله ّوية .بد�أ النموذج الكردي كذلك هو منوذج خطري ّ هذا النموذج يتفاعل مع الدولة العراقية منذ ت�أ�سي�سها يف العام .1921وكانت معاهدة �سيفر املعقودة يف العام 1920قد اعرتفت مبوجبها تركيا واحللفاء بجزء من حقوق الأكراد ،والحقاً جرت م�ساومة بني احللفاء وتركيا يف �إطار معاهدة لوزان العام � ،1923أ ّدت �إىل ّ التنكر حلقوق الأكراد فيها .فبقيت امل�شكلة متفاعلة داخل دول املنطقة وتدفع �أثمانها .وهكذا توجد م�شاكل كردية يف كل من تركيا و�إيران والعراق و�سوريا. والتم�سك بال�شعارات العقالنية يف العراق اقرتب احلل للم�شكلة ب�أ�سباب ن�ضج حركة الي�سار ّ وح�سن التفاعل بني القوى الي�سارية العراقية والقوى القومية الكردية ،وهذه الأو�ضاع �ساعدت على تط ّور و�ضع احلركة الكردية فتم تب ّني �شعارات ذات �شكل دميقراطي بخ�صو�ص امل�س�ألة القومية ،وحلّ الق�ضية الكردية كجزء من حلّ م�شكلة الدميقراطية� ،إ�ضافة �إىل اجلانب القومي الكردي و�إن كانت هناك افرتاقات ومفارقات وتداخالت بع�ضها ال يخلو من اخرتاقات خارجية. لقد مار�س اجلانب العربي يف العراق �سيا�سة �شوفينية وا�ستعالئية وتع�صبية جتاه امل�س�ألة الكردية حتى و�إن كان ذلك من حكام معزولني وا�ستبداديني ،لكن الأمر انعك�س على طابع الدولة 108
وكان هناك بع�ض دعاة القومية من قال �إن ه�ؤالء "الأكراد هم عرب �سكنوا اجلبال فتغيرّ ت لغتهم" .املقولة نف�سها �أطلقها قوميون ترك ب�أن "الأكراد ٌ ترك �سكنوا اجلنوب فتغيرّ ت لغتهم". هذه مناذج من العقلية اال�ستعالئية القومية التي يف مقابلها ن�ش�أ وتو ّلد �ضيق �أفق قومي كردي لدى بع�ض الأو�ساط واجلهات ،حيث متا ّدى يف انعزالية قومية كردية متّت ترجمتها بالدعوة �إىل الكراهية واالنف�صال يف العالقة بني كل من الكرد من جهة ومن العرب والرتك والفر�س من جهة �أخرى ،ويف �إيران ف�إن امل�س�ألة الكردية ظ ّلت يف الأدراج بعد قيام جمهورية ماهاباد العام 1946ومن ثم الق�ضاء عليها ،وبعد الثورة الإيرانية العام � 1979أخذ احلديث عن حل امل�س�ألة الكردية يتناول مو�ضوع امل�ساواة يف املواطنة على �أ�سا�س الدين الواحد� ،إ�ضافة �إىل بع�ض اجلوانب الثقافية التي بد�أت �صفحات جديدة لكرد �إيران ،لكن امل�س�ألة الكردية مل حت�سم يف كل بلدان املنطقة حتى الآن ،وال �أظن �أن ح�سماً �سريعاً �سيكون لها دون الإقرار مببادئ حق تقرير امل�صري و�إعادة ر�سم العالقة الأخوية على نحو جديد ومتكافئ. يف العراق بعد جهد جهيد وحروب متوا�صلةّ ،مت اعتبار الأكراد �شركاء يف الوطن العراقي أقرت لهم حقوق يف الد�ستور العراقي العام ،1958ولكن احلرب عادت واندلعت العام 1961 و� ّ وا�ستمرت ردحاً طويالً .ومع �إطالق بيان � 11آذار 1970مت االتفاق على د�ستور جديد �أكرث تقدماً ّ فن�ص على �أن العراق يت�ألف من قوميتني هما القومية العربية يف احلقوق القومية واالجتماعيةّ ، والقومية الكردية ،و�أن لكل منهما حقوقاً وواجبات مت�ساوية. لكن العربة لي�ست يف الن�صو�ص الد�ستورية بل يف تطبيقها العملي .وعلى �أ�سا�س الد�ستور اجلديد ّ 1970مت ت�شريع احلكم الذاتي وبا�شرت هيئاته العام ،1974ولكن بعد حني اندلع القتال جمدداً ّ وتنكرت احلكومة العراقية لوعودها فان�ساقت بع�ض القوى الكردية وراء دعوات م�صدرها اخلارج بزعم دعم الأكراد ،خ�صو�صاً من جانب �شاه �إيران وبع�ض القوى الدولية ،وهو عبرّ عنه مبرارة الزعيم الكردي الكبري امل ّال م�صطفى البارزاين بعد انهيار احلركة القومية الكردية املرة هي �إ�ضعاف العراق ك ّله وتفتيته والإ�ضرار بعد اتفاقية اجلزائر العام ،1975وكانت احلقيقة ّ وا�ستمر الو�ضع على ما هو عليه خالل احلرب العراقية - بدوره يف مواجهة العدو الإ�سرائيلي. ّ الإيرانية غري املربرة على الإطالق. يف هذه احلرب 1980-1988جرى احلديث عن ه ّويات ملفقة ،كقول غربيني �إن احلرب هي بني عرب وفر�س � ،أو بني �سنة و�شيعة ب�سبب املذهب الذي تنتمي �إليه كل من القيادتني. وقيل �أي�ضاً �إنه �صراع بني دولتني نفطيتني .وذلك بهدف طم�س ال�صراع احلقيقي �ضد الوجود الإ�سرائيلي .وهو �صراع تناحري ال ميكن ح ّله �إال ب�إن�صاف ال�شعب الفل�سطيني بحقوقه الكاملة وحقه يف تقرير م�صريه و�إقامة دولته الوطنية امل�ستقلة وعا�صمتها القد�س ،والت�صدي لل�صهيونية العقيدة ال�سيا�سية لدولة �إ�سرائيل باعتبارها خطراً على الإن�سانية ،لأن �إ�سرائيل بطبيعتها عن�صرية 109
فكــــــر
�إحاللية �إلغائية متييزية ا�ستعالئية .هذا ال�صراع هو �صراع من نوع �آخر بني ه ّويات قومية. يف النموذج ال�سوداين نالحظ ت�صاعدت مطالبة االنف�صال اجلنوبي تزامناً مع و�صول التيار الإ�سالمي �إىل احلكم الداعي لتطبيق ال�شريعة الإ�سالمية ،هل االنف�صال قدر ال�سودان لو حكمه تيار مدين؟ مع انتهاء احلرب الباردة و�سقوط االحتاد ال�سوفياتي بد�أ �شكل جديد من ال�صراع الفكري وااليديولوجي ي�أخذ مداه .كان هذا ال�صراع كامناً وموجوداً لكنه انفجر بعد �سقوط الكتلة اال�شرتاكية ب�سبب تغيري و�صف ال�صراع والعدو ،با�ستبدال ال�شيوعية بالإ�سالم .فاعترب فرن�سي�س فوكوياما وبعده �صموئيل هنتنغتون وبخا�صة يف مرحلة ما بعد الهجوم على مركز التجارة الدولية يف � 11أيلول� /سبتمرب العام ،2001وهو ما عبرّ عنه بيان املثقفني الأمريكيني ال�ستني ال�شبيه ببالغ حربي� .إن ال�صراع ح�سب نظرية هنتنغتون وفوكوياما هو �صراع ح�ضارات و�أنه نهاية التاريخ .على اجلميع الذين يريدون الدخول يف م�سار التاريخ �أن يتخ ّلوا عن �أديانهم ومعتقداتهم وه ّوياتهم وينخرطوا يف الليربالية الظافرة� ،أي الليربالية اجلديدة والقبول باال�ستتباع واخل�ضوع لهيمنتها كاملة �أي �إلغاء اخل�صو�صيات واله ّويات .هذا �أمر مهم التوقف عنده. من وجهة جيوبوليتيكية ،تط ّور ال�صراع يف ال�سودان كتطور ال�صراع يف امل�س�ألة الكردية كما ذكرنا ،ويف �س�ؤال يل مع الرئي�س عمر الب�شري يف العام 2000يف حوار تلفزيوين مبا�شر ،قلت له: لقد ف�شلت احلكومات الع�سكرية جميعها يف الق�ضاء على احلركة اجلنوبية يف ال�سودان - ،بينما ت�سميتها يف ال�سودان هي احلركة االنف�صالية وت�سمية احلركة الكردية يف العراق هي اجليب العميل� ،أو الع�صاة �أو االنف�صاليون ،كما �أن احلركة اجلنوبية ف�شلت يف حتقيق �أهدافها بالو�سائل احلربية والع�سكرية ،هل ّ تفكرون يف مبادرة جديدة فيدرالية ،على �سبيل املثال ؟ قال يل :نحن مع هذه الفيدرالية حتى لو �أدت �إىل االنف�صال .وكان االنف�صال مل يحدث بعد ،كما هو معلوم. لكن الأوان كان قد فات .ح�صلت اتفاقية نيبا�شا ،وقبلها وبعدها حتققت اتفاقيات عدة ،ولكن تعر�ض له اجلنوبيون جعل العي�ش امل�شرتك م�ستحيالً. انعدام الثقة والفقر والتهمي�ش مما ّ املح�صلة تدمري متبادل ،وبالأخ�ص للحركة اجلنوبية ال�سودانية ،فهناك �أكرث من ربع مليون يف ّ �إن�سان دون خط الفقر ،و 750الف نازح 320 ،الف الجئ ،ن�صف اجلنوبيني ال�سودانيني هم خارج �أدنى م�ستويات العي�ش� ،أي خارج احلياة. خ�شيتي �أن ن�صل �إىل هذا الو�ضع يف العراق ويف �سوريا وقد ن�صل �إليه �أي�ضاً يف تركيا و�إيران يف امل�ستقبل .هكذا مع ا�ستحالة العي�ش امل�شرتك ت�صعد اله ّوية اخل�صو�صية �إىل �أعلى م�ستوى حتى لو �أدت �إىل التدمري ،فال ميكنك �أن تقول ملن هو �ضحية التهمي�ش والإق�صاء ويعاين ال�سحق: 110
توقّف لأن هناك طريقاً �آخر �أقل كلفة و�أجدى. هذه امل�آ�سي ال ميكننا �أن نغفلها وال ّبد �أن نح�سب لها ح�ساباً ،فلو �أ ّمنت احلكومات حقوق اجلماعات يف وقت مبكر وعدلت يف تطبيقها لكانت اخت�صرت الطريق �إىل �سالمها الوطني املتمردين �أو �أ�صحاب احلقوق اخل�سائر التي ال حت�صى والذاتي .وكانت وفّرت على نف�سها وعلى ّ �أكانت منظورة �أو غري منظورة ،فهكذا ُع ِّطلت التنمية والدميقراطية. كانت التنمية والدميقراطية م�ؤجلتان با�ستمرار بدعوى العدو على الأبواب ،فال ر ّد العدو وال حتقق الإ�صالح.. حكوماتنا العربية قاي�ضتنا طيلة 67عاماً على التنمية والدميقراطية بحجة �أن العدو يدقّ على يتقدم على هذا اال�ستحقاق ،كما ال الأبواب ،و�أن التحرير قاب قو�سني �أو �أدنى ،وال �شيء ّ �صوت يعلو فوق �صوت املعركة ،وبعد نحو 7عقود من الزمان ا�ستبيحت الأر�ض خاللها وال تزال يف حوزة املحتلّ وما بقي متت ق�صق�صته مبق�ص اخلياط وفق خرائط و�ضعت بني حي وحي وبني بيت وبيت وبني �شارع و�شارع ،والأدهى �أن بلداننا يتم تق�سيمها جمدداً ،لدرجة �إننا �أخذنا نعترب �سايك�س بيكو الأوىل وحدودها مبنزلة التقدي�س ،خل�شيتنا على الدولة الوطنية ،على الرغم من مالحظاتنا الكثرية عليها ،ناهيكم عن خوفنا من الت�شظي والتفتيت. كيف يتم حل م�س�ألة اله ّوية دولياً؟ نالحظ تطور م�س�ألة اله ّوية دولياً �أن تيمور ال�شرقية انبعثت فيها اله ّوية بعد االن�سحاب الربتغايل، فاحتج ال�شعب� ،إىل �أن ّقرر جمل�س الأمن الدويل ،وهذه لأول فو�ضعت �إندوني�سيا يدها عليهاّ ، مرة� ،أن حكماً انتقالياً ال ّبد �أن يح�صل يف تيمور ال�شرقية .وا�ضطرت �إندوني�سيا �أن توافق. كذلك منوذج كو�سوفو التي �أ�صبحت جزءاً من �صربيا ،فجرى ابتالع اله ّوية بخا�صة يف املناطق ذات االمتدادات الدينية والألبانية .ف�أعلنت كو�سوفو االنف�صال من طرف واحد وذهبت ملحكمة العدل الدولية ف�أعطتها ر�أياً ا�ست�شارياً باملوافقة على االنف�صال حلفظ ه ّويتها التي ال تتعار�ض مع القانون الدويل ،وهذا القانون بدوره لي�س عقبة �أمامها. بينما يف بريطانيا فقد جرى منذ �أ�شهر ا�ستفتاء ال�شعب اال�سكوتلندي باالنف�صال �أم بعدمه ،فق ّرر البقاء موحداً �ضمن احتاد بريطاين .ورغب الكاتالونيون يف �إقليم كاتالونيا الأ�سباين �أن يجرى ا�ستفتاء حول انف�صالهم ،فقالت املحكمة الد�ستورية العليا يف �أ�سبانيا �إن هذا يتعار�ض مع الد�ستور، مت�سكهم بحقوقهم ومعرفتهم بامتياز و�أهمية �إقليمهم الذي ّ ت�شكل بر�شلونة عا�صمته ،قبلوا فرغم ّ بالقرار ومل يقدموا على ما يعار�ضه واحرتامهم للد�ستور ،مع ا�ستمرارهم باملطالبة باال�ستقالل. 111
فكــــــر
كذلك احلالة يف �إقليم كيبك يف كندا ويف جنوب فرن�سا ويف جنوب �إيطاليا .هناك ع�شرون ق�ضية تتعلق بالأق ّليات يف �أوروبا هي يف حراك وتفاعل ومطروحة للنقا�ش والبحث لكنها مل تبلغ حالة عنفية كما تبلغ عندنا م�س�ألة اله ّوية ب�سبب اال�ستالب الطويل الأمد واملعتق. يجب �إعادة قراءة تراثنا الالّعنفي
ملاذا العنف يف �سلوكنا وهل ميكن تر�شيده؟ �أو ًال يجب �إعادة قراءة تراثنا الالّعنفي الكت�شاف اجلوانب الالّعنفية فيه .القر�آن مث ًال ف�إن الكثري من املت�شردين واملتع�صبني تراهم يت�شبثون ب�آيات ال�سيف والعقاب التي تتقدم لديهم على ما �سواها ،ويهملون �أو ال يكرتثون ب�آيات ال�سالم والإخاء .هذه قراءة مبت�سرة للقر�آن. تقدم قراءة جديد للقر�آن ،مث ًال يقول �إن الن�ساء والأطفال الذين بلغوا � 9سنوات فداع�ش مث ًال ّ وما فوق ،هم مكلفون �شرعياً ويتحقق ا�ستحقاقهم ال�شرعي .من كلفات هذا اال�ستحقاق هو االنخراط يف القتال للدفاع عن اخلالفة .جهاد النكاح لي�س هز ًال ولي�س نكتة ،بل هو نظام ما م�ستند �إىل قراءة جديدة �أو قدمية "جمددة" توظف فيها �أحاديث وفتاوى كثرية جداً من �شيوخ وتطرفاً .ولكنهم موجودون ورمبا كرثة. هم الأقل معرفة والأكرث غل ّواً ّ تتوجه نحو الدميقراطية وتعتمد على املواطنة وميكنها حلّ خالفاتها �سلمياً ثانياً بناء �أنظمة ّ م�ستقبالً ،وذلك �ضمن قواعد عقد اجتماعي و�سيا�سي جديد يتم االتفاق عليه باعتباره ناظماً للعالقة بني الفرد والدولة وبني املجتمع والدولة. ثالثاً رفع م�ستوى احلياة املعي�شية وت�أمني م�ستلزمات حياة الئقة ،وهو الأمر الذي �سي�ؤدي �إىل جتفيف البيئة التي ت�شجع على العنف كالتخلف والفقر والبطالة واجلهل .بالإ�ضافة �إىل والتطرف يف تطبيقه خارج نطاق الدولة وقوانينها ،والأمر التع�صب يف قراءة الن�ص الديني ّ ّ يقت�ضي �إعادة النظر يف الرتبية ال�سائدة يف املجتمع والرتبية املدر�سية التقليدية التي ت�ستند يف غالبيتها على تقليد العنف ،بخا�صة يف النظر �إىل ما يقوله الفقيه وقيمته التطبيقية االجتماعية. يتحدث با�سم اهلل ،يف حني �أن الفقيه �إن�سان يجتهد قد يخطئ وقد فالبع�ض يعتقد �إن الفقيه ّ ي�صيب ،ويف الكثري من الأحيان تكون ثقافته �شحيحة وحمدودة وما�ضوية ،وال يفقه الكثري من علوم الع�صر وتقنياته. ويف مقاومة العنف كان املبد�أ الغاندي يقوم على الالّعنف .بل �أكرث من ذلك يف مو�ضوع احلقوق املدنية عند مارتن لوثر كينغ ا�ستند �إىل الالعنف .كذلك عملية التغيرّ التي ح�صلت يف كر�ست مبد�أ الالعنف بعد �أن ا�ستنفدت �أغرا�ض جنوب �أفريقيا بقيادة الزعيم نيل�سون مانديال ّ العنف ،ب�إ�شاعة �أجواء الت�سامح وهنا ح�صل تغيرّ كبري جداً يف النظرة �إىل العنف وقيمته. 112
مل يعد العنف كما نظرت �إليه املارك�سية �أنه قاطرة التاريخ والدعوة �إىل الكفاح امل�سلح والعنف الثوري للتغيري ،بل ال�شيء الثابت والباقي هو العدالة ولي�س العنف� .أما كيف ميكن حتقيقها بو�سائل �أقلّ عنفاً و�أقل كلفة و�أكرث معرفة بطبيعة الإن�سان وخ�صائ�صه يكون هذا التحقيق ممتازاً لأن فيه اتحّ دت الو�سيلة بالغاية .يقول غاندي �إن الو�سيلة متثل البذرة من ال�شجرة بالن�سبة لها كغاية ،فهناك ترابط ع�ضوي بني الو�سيلة والغاية ،فال غاية �شريفة من دون و�سائل �شريفة ت�ؤدي لها .والو�سيلة ال�شريفة هي جزء من الغاية ال�شريفة ،بل �إن الو�سيلة ال�شريفة هي �أ�سا�س للغاية ال�شريفة وهي تو�صل �إىل غايات عدة �أكرث ات�ساعاً و�شمو ًال مما كان املرء يظن .وعنفان ال ينتجان �سالماً مثلما رذيلتان ال تنجبان ف�ضيلة. والتدين �شتان بني الدين ّ
الدين ظاهرة وتراث وقوة يف الآن نف�سه ،لكن يف حالة تعدّده عبء وخطر .ما ترون لتاليف فتنته؟ الدين ظاهرة وحقيقة وال ميكن لثوري حقيقي �أن يكون �ضد الدين ،كما جرت حماوالت يف �إطار الطفولية الي�سارية لبع�ض ال�شيوعيني ،الذين �أرادوا �أن ّ فت�صرفوا ي�شذوا عن جمتمعاتهم ّ مبا يعادي الدين ومبا يعادي الإ�سالم ،ولبع�ض �أعدائهم يف الآن ذاته الذين ا�ستندوا �إىل عبارة عار�ضة مرتجمة ب�صيغة "الدين �أفيون ال�شعوب" فدمغوا ال�شيوعيني بالإحلاد ،وكالهما غري �صحيح .يف حني �أن مارك�س ق�صد �شيئاً �آخر متاماً يف قوله وهو �شيء ملمو�س يخ�ص برو�سيا حينذاك .وقال الدين زفرة ال�شعوب مبعنى خمدر للأمل الذي تعاين منه هذه ال�شعوب ب�سبب اال�ضطهاد� .أي امل�شكلة لي�ست يف الإميان �أو يف الدين نف�سه ،بل يف توظيف الدين. قلت الدين ظاهرة .واملارك�سية تدر�س الظواهر وهي ال تعار�ضها .ودعني �أقل حتى لو قال مارك�س ذلك فلي�س كل ما قاله مارك�س كان �صحيحاً ،مثال ما قاله مارك�س كان ي�صلح لع�صره ولي�س لع�صرنا .نحن ن�ستلهم املنهج ون�أخذ به ونوظفه يف درا�سة الظواهر االجتماعية ومنها الدين ،ولي�س الدين فح�سب بل كذلك ظاهرة التد ّين .وهناك فارق بني الدين والتد ّين .بني الن�ص الديني وفاعلية هذا الن�ص ،بني الن�ص الديني واالجتهاد الذي ميكن �أن يت�ساوق مع التط ّور احل�ضاري الع�صري حالياً ،هذه م�س�ألة يف غاية الأهمية. متقدمة بينما الثورة ح�صلت يف بلد مت�أخر. مارك�س تنب�أ �أن الثورة �ستحدث يف بلدان �صناعية ّ حتدث عن ال�شعب الت�شيكي .وهذا خط�أ كبري حتدث عن �شعوب رجعية عندما ّ مارك�س ّ يتحدث عن �شعوب رجعية؟ مارك�س ت�أثر يف املركزية الأوروبية ومل يكن بعيداً وفادح .كيف ّ وتنبه لذلك عند زيارته للجزائر ،وللأ�سف عنها يف حديثه عن ال�شرق وعن منطقتنا ،لكنه عاد ّ 113
فكــــــر
مل ي�ستكمل م�شروعه. حتدث عن ذبول الدولة يف املجتمعات ال�شيوعية ،ولكن الدولة تقوت يف املجتمعات مارك�س ّ اال�شرتاكية التي قال عنها خروت�شوف العام " 1960نحن يف العام � 1980سندخل مرحلة ال�شيوعية" .لكن يف العام 1980كنا قد بد�أنا ن�شهد تقهقر الدول اال�شرتاكية ب�سبب اال�شرتاكية املط ّبقة .مارك�س مل يدر�س امليثولوجيا والأ�ساطري ومل ُيعرهما اهتماماً علمياً فدور امليثولوجيا هام يف املجتمعات .ومارك�س مل يتنبه لعلم النف�س وقيمته االجتماعية بخا�صة بع�ض املدار�س، مث ًال مدر�ستا فرانكفورت و�أريك فروم الذي در�س ق�ضية االغرتاب يف �ضوء منهجني جمعهما بطريقة علمية حيوية هو املنهج املارك�سي املادي الديالكتيكي املعتمد على الواقع و�أن الإن�سان انعكا�س له واملنهج النف�سي الفردي اجلن�سي ودورها يف عملية االغرتاب .مارك�س حتدث عن اغرتاب الإن�سان ،واغرتاب العامل عن الآلة واغرتاب العامل عن ال�سلعة واغرتاب العامل عن جمتمعه وعن حميطه واغرتاب الإن�سان عن الإن�سان .بينما فرويد حتدث عن جوانب �أخرى كاالغرتاب النف�سي واغرتاب الإن�سان عن الإن�سان يف ظل عوامل �أخرى ك ّونته و�أجنبته. هوية �سوراقية م�رشقية ّ
بالد الرافدين وبالد ال�شام هل جتمعهما ه ّوية ح�ضارية؟ �إذا كانت جتمعهما ه ّوية ح�ضارية واحدة كيف ميكن حمايتها؟ رمبا ...لكنني �أنا �سوراقي ،ال �أ�ستطيع و�أنا العراقي �إ ّال �أن �أفكر بطريقة �أقرب �إىل �سوريا �أو �إىل ال�شام .وال �أ�ستطيع ك ّلما اقرتبت من �سوريا �إ ّال ان � ّأفكر عراقياً .الواقع �أن هناك انهماماً واندغاماً �سورياً عراقياً �إىل حدود كبرية جداً .ك�أنهما جناحان جل�سد طري واحد وال ميكنه الطريان �إ ّال بهما و�إذا طار بجناح واحد ف�سيقع ال حمالة. لدي منذ عقود من الزمان و�أخذت ترت�سخ يوماً بعد يوم .رمبا مزاجي هذه القناعة تو ّلدت ّ العروبي يلعب دوراً يف ذلك ،لكني ال �أكتفي بهذا املزاج ودوره العاطفي .فلكل �إن�سان عاطفة ي�ستخف بها .العاطفة مهمة لدى الإن�سان مثل الإح�سا�س وينبغي �أن يوليها اهتماماً وال ّ وال�شعور. ح�سي ،مبعنى �أين فيورباخي .يقول فيورباخ �إن الأذن هي التي تو�صل �إليك و�أنا �أ�صف نف�سي �أين ّ ال�شيء ومنها �إىل الدماغ ومنه تتحول فع ًال �إرادياً مبرورها يف القلب �أي�ضاً .هكذا �أنا ح�سي� .أ�شعر ان �إح�سا�سي جمز�أ بني العراق و�سوريا ومل يكن هذا اعتباطاً� ،إمنا ل�شعوري �إن هناك الكثري من امل�شرتكات واالمتزاجات ما بني �سوريا والعراق� ،أكانا يف جانبيهما العربي �أم يف جانبيهما الكردي. 114
فلو جئت �إىل �سوريا والعراق من ال�شمال لناحية مدينة ديار بكر الرتكية ف�ستجد �أنها �أر�ض موحدة �إىل ي�سارك املنطقة العراقية الكردية و�إىل ميينك املنطقة الكردية ال�سورية ،و�شمال املنطقة الكردية العراقية توجد املنطقة الكردية الرتكية وتت�صل باملنطقة الكردية الإيرانية ،و�سرتى ما بعد ذلك امتداداً عربياً خال�صاً �أي �سوريا احلقيقية العربية والعراق احلقيقي العربي� ،أي هو هذا التحدث عن �سوريا الهالل اخل�صيب ،بالد الرافدين و�سوريا التاريخية التي نعرفها ،وال ت�ستطيع ّ من دون التحدث عن لبنان وعن فل�سطني التي هي يف قلب �سوريا .هذا الذي ي�شكل ه ّوية مانعة جامعة للمنطقة كافة ولي�س لدولها .لأن هذه الدول ت�أ�س�ست وفقاً التفاقية �سايك�س بيكو غري امل�شروعة ،كما �أ�شرنا �سابقا وكما هو معروف للكافة. املطلوب� :إرادة �سيا�سية للوحدة رغم ف�شل النخب كافة
هذه اله ّوية احل�ضارية املتكاملة املتنامية عرب التاريخ حالياً تتع ّر�ض لتهديدات ا�سرتاتيجية خطرية جداً ،رمبا بد�أت هذه التهديدات مما ُ�س ّمي باحلروب ال�صليبية ،غزوة نابوليون مل�صر وفل�سطني ،القائمقاميتني يف جبل لبنان ومن ثم املت�صرفية� ،سايك�س بيكو التي و�سعت القائمقاميتني ،وعد بلفور� ،سيفر ولوزان، كيف نحمي هذه اله ّوية؟ كيف ن�ؤمن لها احلق بالتطور الذاتي؟ التحدي اخلارجي كبري جداً .نحن �أمام مرحلة من حت�ضريات �سايك�س بيكو ،2بتمزيق اله ّويات ّ العامة ،وتفتيت اله ّويات الوطنية ،وثلم وتق�سيم الكيانية الوطنية ،والدولة الوطنية .كل دولة وطنية ُيراد تفتيتها الآن .وح�سب خمطط برنارد لوي�س فاملنطقة �سيكون فيها 41كيانية. يقول كي�سنجر �إن علينا ان نبني حول كل بئر نفط دويلة .ف�سورية ح�سب خمطط التق�سيم املتداول دولتان �سنيتان يف دم�شق وحلب ،ودولة علوية يف ال�ساحل ويف اجلبل املحاذي له .ودويلة كردية ودويلة درزية ،ولبنان ُيراد له �أن ُيق�سم وفقاً للطوائف واملذاهب واله ّويات واملناطقيات �أي�ضاً لقربها من �سوريا ،ورغم ات�صاله بها لبعدها عنها �أي�ضاً .والعراق مطروح �أن يق�سم �أي�ضاً �إىل ثالث مناطق �شيعية يف اجلنوب� ،سنية يف الو�سط وكردية يف ال�شمال ،علماً �أن �ضم املو�صل �إليهما ق�سماً من دير الزور ُيفرت�ض �أن ُي�ضم �إىل دولة الأنبار و�صالح الدين ،وميكن ّ �أو تن�ش�أ كيانية جديدة وخا�صة .هذا املخطط لي�س حم ًال للتطبيق الآن ..لكن قد ُيطبق .هذا مرهون بعوامل كثرية و�شروط كثرية متعددة. �س�ألتني ما املطلوب؟ هذا يحتاج �إىل �إرادة �سيا�سية بخا�صة لدى النخب .للأ�سف النخب ف�شلت ف�ش ًال ذريعاً� ،أكانت النخب القومية �أو النخب املارك�سية �أو النخب الإ�سالمية. ما نحتاجه الآن هو �إجراء مراجعة توفّر �شيئاً من الإرادة ال�سيا�سية .هذه الإرادة ت�ستطيع حماية 115
فكــــــر
ما هو ممكن ومقاومة تفتيت اله ّوية واحلفاظ على الدولة الوطنية واعتماد مبادئ مواطنة �سليمة باحلريات وامل�شاركة وامل�ساواة والعدالة .واملطلوب كذلك التعاون بني القوى كافة على حتقيق برنامج وطني هادف. ال ب ّد من م�رشوع مقاوم يطلق احلوار
هل هناك مبادرات يف هذا ال�سياق؟ كان ميكن لـ"الربيع العربي" �أن يطرح مبادرات كبرية على هذا ال�صعيد وهو �أطلق �آما ًال تعر�ض له من خيبات �أ�سقطت ما كان من�شوداً منه .فالقوى عري�ضة بهذا اخل�صو�ص ،لكن ما ّ االمربيالية الكربى �شعرت بخذالنها لأن الربيع العربي فاج�أها بخا�صة يف تون�س ويف م�صر فتحركت �سريعاً الحتواء امل�شهد ال�سيا�سي العربي ككل .وبد�أت الثورة ال�سلمية يف �سوريا فتم ّ العمل على دفعها دفعاً باجتاه الع�سكرة ،وعندما بد�أت الثورة بخطواتها نحو ال�سالح حتى لو كانت ا�ضطراراً ،ف�إنها عملت على �أن حتفر م�صري التطور ال�سلمي الدميقراطي وتخط نهايته� ،إىل �آخر النفق املظلم. يف ليبيا بد�أ احلراك �ضد النظام والقذايف ومن ثم حت ّول �إىل تناحر قبائلي ما زال نا�شباً ال�س ّيما بعد ق�صم ظهر الدولة وت�شظيها وغياب وحدتها ويف م�صر مت �إ�سقاط الرئي�س مبارك ومل يكن ممكناً �إبعاد االخوان عن ال�سلطة كقوة كبرية حينذاك ،كما مل يكن مطلوباً منعهم فذلك حقهم ،لكن ما هو متوقع كان الف�شل وارداً ،خ�صو�صاً وقد بد�أوا يرتكبون الأخطاء واالنتهاكات منذ اليوم مدة حكمهم حتى يتم �إخراجهم من امل�شهد كما ح�صل بعد الأول ل�سلطتهم ،وهكذا مل تدم ّ �سنة من ت�سلمهم احلكم يف م�صر ،لكن تدخل اجلي�ش �س ّبب متاعب �آنية وم�ستقبلية لق�ضية التطور الدميقراطي يف م�صر. يف اليمن اجلرح ما زال مفتوحاً ومقب ًال على احتماالت �شتى �أق ّلها احلرب الأهلية ،االنف�صال �سيتحقق للجنوب ورمبا �سيتفتت ال�شمال �أي�ضاً بخا�صة مع وجود قوى مثل �أن�صار اهلل واحلوثيني التي �أ�صبحت قوى م�ؤثرة يف اجلي�ش وامل�ؤ�س�سات والدولة ،وزاد الأمر تعقيداً التدخل اخلارجي، يقدر نتائج "عا�صفة احلزم" ،فاليمن بئر عميقة وموح�شة. حيث ال �أحد ي�ستطيع �أن ّ
..وفرادة بريوت
يف لقائنا يف املركز الثقايف العراقي حتدّثت عن امتياز االنطالق الثقايف من بريوت م�شرقياً وعربياً ،ماذا ت�ضيف؟ ثالث خ�صائ�ص يف بريوت فهي بريوت الثقافة وبريوت اجلمال وبريوت املقاومة ،هذه الثالثية الأثرية مق�صورة على بريوت وحدها .فبريوت على �صغرها كبرية ولبنان على حجمه املتوا�ضع هو كبري جداً .وميكن لنخب ثقافية لبنانية �أن ت�أخذ مبادرة وت�ستعيد احلركة الثقافية العربية من خمولها الراهن ب�أركانها الأربعة :القومية العربية ،املارك�سية ،الإ�سالمية والليربالية التقدمية �أي التي ت�ؤمن باحلرية وبال�سوق وت�ؤمن ب�إعالء فردانية الفرد. وهذه ليربالية خمتلفة عن النيوليربالية ،فهي اجتهاد فقهي واجتماعي كمدر�سة من مدار�س الليربالية .فيمكن لهذه الكيانية الفكرية والثقافية يف بريوت �أن تتبلور يف �إطار حوارات فكرية جادة وم�ستمرة ع�سى �أن نخرج مب�شروع �سيع ّزز من قوى املقاومة ومن قوى املمانعة ومن القوى التي ترف�ض اال�ست�سالم .وال �أقول الآن� .إمنا �سيحقق امل�ستحيل. هل هناك م�شروع كما �أ�شرت؟ �أنا �أدعو مل�شروع كهذا ،وهناك قوى وازنة ميكنها �أن تلعب دوراً من موقعها الفكري والإ�سالمي واملدين وال�سيا�سي واملارك�سي والقومي العربي ،وبع�ض هذه القوى بد�أت ت�ؤمن بق�ضايا املجتمع املدين ،وحقوق الإن�سان وباملناف�سة االنتخابية وقواعد اللعبة الدميقراطية ،وذلك بانت�شار ثقافة حقوق الإن�سان والالّعنف والت�سامح. هكذا ميكن بناء م�شروع وال �أقول جبهة وطنية كما يف ال�سابق ،بل ميكن بناء حالة توا�صل نا�شط وفاعل لكل االجتاهات امل�شاركة ،برغم جميع العيوب والثغرات واملثالب لكل هذه القوى ،مبا فيها للمجتمع املدين ذاته و�ضعف قياداته وعدم �أهلية بع�ضها. وحري بنا جميعاً �أن ن�أخذ العربة من الذي ح�صل. لكن ال ّبد من حوار ومن م�شروعّ .
كيف ال�سبيل للخروج من هذا؟ ال �أحد يعلم .فداع�ش ما زال يفعل فعله يف العراق والبلد مق�سم ،فال وجود حالياً جلي�ش موحد وال لبلد موحد وال ملجتمع موحد وال لنخب جديرة ّ بالعمل للنهو�ض مبعايري احلد الأدنى ،والف�ساد ينخر يف عروقه والعنف ي�ست�شري ،والطائفية تنهكه ،بل وتخرجه عن طوره وعن وقوفه يف خط التاريخ. 116
117
حتوالت �أدبية
"ق�صيدة نوم ال ّأيام لل�شّ اعر نعيم تلحوق
أويلية) و لعبة االزدواجية املثمرة" (درا�سة حتليلية ت� ّ ّ د.نادين طربيه احل�شّ ا�ش
الدخول يف مغامرة من نوع �آخر. عندما تتع ّرف اىل نعيم تلحوق تكون يف �صدد ّ قاد ٌرهذا ُ الرجل على خلق مدارات من الأفكار التحري�ض َّية يف ذهنك .قادر على ا�ستفزازك فكر ّياً قادر على حثّك على ر�ؤية الواقع بتم ّرد هام�س. حب ق�صيدة له حملني هذا ال�شّ عور بطاقته الإيجا ّبية يف الآخرين اىل �أن �أقتفي �أثر ّن�صه ،فوقعت يف ّ من ديوان " �أظ ّنه وحدي" ،عنوانها "نوم الأ ّيام" وبناء عليه ،ق ّررت ال ّتح�ضري لدرا�سة حتلي ّلية ت�أويل ّية تنا�صية وحماوالت دائمة يف الك�شف عن العالقات املتوافقة لهذه الق�صيدة ،جتمع بني د ّفتيها مالمح ّ �صح ال ّتعبري . واملتعار�ضة القائمة بني املفردات املتداولة يف �سياق الق�صيدة ّ الدال ّيل ،اذا ّ ال�سمات يف �سال�ستها هذه املفردات التي يك�سوها نعيم تلحوق و يع ّريها وفق وجهات �سياق ّية حا ّدة ّ الدالل ّية املتوالدة. ّ فيا �أيها ال ّن�ص �أف�صح عن مداك لوجه ال�شّ م�س ودعنا ن�شهد!. لق�صيدة "نوم الأيام " م�ش ّهدية تتواىل فيها الأنا وتتنا�سل �ضمن حرك ّية �صامتة �صاخبة بني قطبني : قطب ال ّزمان املتمثّل بال ّنوم والأ ّيام وقطب الر ّف�ض ملا هو قائم. بني �صوت الهزمية وفعل ال ّتحنيط و�صورة ال�س ّيد امل�سيح وال ّلغة حيث ال ّتالقي وال ّتعانق يف فعل الفداء الت�ضحية ،اخلال�ص. عمل مرهق االنتقال التلحو ّقي من الأنا املت�صارعة مع الأنا الآخر يف م�سرية ارتقائها نحو الآخر للم ال�شّ مل وحتري�ضه. اخلارجي ثم نحو ال"نحن" يف حماولة ّ ّ ال�سكينة /اال�شتعال كيف ت�شرنقت هذه الأنا ال ّتلحوقية يف تعاريج هذه ّ ال�صراعات املحتدمة يف بوتقة ّ لتعلن عن معاناة وجو ّدي ّة �صارخة؟كيف �سخّ رت هذه الأنا ال ّتلحوق ّية توليفة املحاور املتناق�ضة بني الز ّمان ّ / الدالالت اخل�صبة؟ الرف�ض ،الهزمية/اخلال�ص� ،ضمن ق�صيدة تتمخّ �ض فيها ّ ال�سيد امل�سيح ّبكل جتل ّياتها املعنو ّية وقام بدجمها يف بنية الق�صيدة؟ َمل ا�ستدعى تلحوق �صورة ّ 119
حتوالت �أدبية
ت�سري لعبة التناق�ضات يف بنية الق�صيدة ب�أثقالها نحو ال ّتكامل يف حمورية دائرية ال تدرك معناها �إ ّال وفق ّ الن�ص. حمطات متنافرة تلتقي يف ّ حدتها ال ّنزاعية نحو اكتمال الأنا التلحوق ّية يف ّ فعل الفداء الزمان
الأنا التلحوقية
ال ّرف�ض
االنهزام �إ�شكالية الأنا التلحوقية
ال يلتئم ن�سيج الأنا ال ّتلحوق ّية وفق مونولوج وحيد ،يف هذه الق�صيدة تتمحور املجازفات حول الأنا وحول �ضمري املفرد املتك ّلم وما يعود اليه : "�أالطف نداماتي تقر�أين الأزمان �أكتب يقيني �أنا �أرد ّد �شعاراتي خائفاً ين"..... ك�أ ّ تخرب هذه الأنا خما�ضاً �صامتاً ّ يتمطى بحيوية بني فعل القراءة والكتابة يف زمن خارجه حم ّنط باطنه متحول ،خارجه هادىء ،عمقه م�شتعل ،ظاهرة قبول ،داخله ثورة. ّ حتتاج هذه الفرادة اىل املعنى لذلك تواجه ،ت�ستبق الز ّمان يف فعل املواجهة ،مواجهة الآخر املحمل ّبكل تبعات اخل�ضوع واخلوف ّ النف�سي ّ ، الداخلي �أي الأنا الآخر الكامن يف جهاز ال�شّ اعر ّ النف�سية؟كيف تقدر الأنا يف هذا ،اجلمود والنوم.هل من انت�صار ّ جدي ي ّتم يف م�ضمار هذه الطبقات ّ الن ّزاع الثّقيل املن�ضج �أن جتد ظال" حلقيقتها؟ ا ّحلق هو �أنّ ال جمال لإدراك املعنى مهما �سما �أو �سخف احلقّ يف انعكا�سها الثالث �أي يف مواجهة اخلارجي يف ّ اخلارجي. الطرف الثالث لبعدنا ،يف الآخر انعكا�س الأنا ّ ّ 120
�أعلن تلحوق عن هذا الأخر يف �صورتني: ال�صورة الأوىل حتمل �سمات الآخر الغريب ،املح ّنط االجتماعي يف تعريف الأنا ،غري املدرك ّ ملخا�ضات النف�س وتو ّرماتها الوجود ّية: "هذا فالن ،ابن فالن" ع ٌم فالن خال فالن �شقيق ع ّالن و�صهر فلتان عم فالن وع ّالن وعلتان ".... والد ابن �أخت ّ هذا الآخر املنت�شر ,املتكاثر يف فراغ .... �أم ّا ال�صورة الثانية ف�صورة الآخر اخلارجي القريب , حد بعيد قرابة الد ّم وال�ساللة ويرمي نرده يف �ساحة القرابة االن�سان ّية في�صيب وك�أن تلحوق ينفي �إىل ّ الوجع ليرب�أ,هذا الآخر مرتبط بالأنا ال ّتلحوقية يف عالقة التقاء وتوافق يف ظروف الوجود ,هما تلتقيان على قاعدة واحدة �سمتها �ضياع ٌ -يبحث عن وطن: " �أنا و�صاحبي ،نائمان يف بيت الأ ّيام.... نف ّت�ش عن وطن به ن�سرتيح ، وعلينا ي�سرتيح"... عند هذه ا ّلنقطة من لعبة تلحوق الد ّائرية تلتقي الأنا ب�أزمات الق�ضايا الوجود ّية والفل�سف ّية الأيديولوج ّية اخلا�ص ّثم نحو الآخر العام ال�شّ امل ّ ، كل �إن�سان يعاين ق�ض ّية وطن �ضائع ّثم تن�سحب نحو الآخر ّ وهوية مت�شظ ّية يف زمن �إلغاء الهو ّيات وتعميم النموذج الواحد. ؤيوي ي�ستقي ن�سغه من رافدين حمور ّيني لذا تتمر ّد الأنا التلحوقية على ذاتها يف فعل خال�ص ر� ّ يرمزان للفداء واخلال�ص. جت�سد �أكرث ّ املحطات مقاربة رافد جت ّلى يف �صورة ال�س ّيد امل�سيح ,و�آخر يف ال ّلغة (الكتابة والقراءة ) التي ّ للأنا يف متظهراتها العديدة. للذات ،رافدان لبذل ّ رافدان حم ّرران ّ الذات يف �سبيل �إعادة خلق الواقع وفق معايري مرتفعة ال�سقف. ّ 121
حتوالت �أدبية
ما هي حاجة تلحوق ال�ستح�ضار مغزى الفذاء؟ هل هذه الو�سيلة من املواجهة �إعالن �صريح عن �إ�شكال ّية ال ّزمان يف الواقع ؟�أين يتك�شّ ف لنا مكمن ال�ص ّراع الذي يف�صح عن الأزمة الكربى ؟ ّ لعل العنوان امللفت الذي �سخّ ره تلحوق كفيل با�ستدراجنا ،هذا العنوان " نوم الأ ّيام " الذي ّ ي�شكل حموراً بذاته اجلمود /احلركة ،احلركة /اجلمود. اخلارجي. احل�سي ال ّنوم - :حالة جمود ظاه ّري يكاد ي�شبه املوت �أو حالة الإغماء وفقدان الإدراك ّ ّ حالة ين�شط فيها العقل الباطن ويتفاعل مع املعطيات احلديثة واملرتاكمة.م�ستمرة ثابتة. الأ ّيام - :حركة حتاول تقييد ال ّزمن ّ ، متجددة. حركة ّت�ستمد مو ّيتها من املعنى املفرت�ض وحملهما �أبعاداً �أخرى ،ان�ش�أ بينهما عالقة ّ .جمع تلحوق املفردتني ّ بني ال�سكينة وال ّن�شاط . يجمع ال�شّ اعر بني اجلمود ّ الظاه ّري املعلن لل ّنوم ولثبات اال�ستمرار ّية يف الأ ّيام مع نقي�ض ذلك �أي الباطني. والتحرر حركة ّ الداخلية الثائرة ّ ّ إيدولوجي يدعو ّ للرف�ض والثّورة وجودي � اليومي الأليم وفق مفهوم ّ ّ يعلن تلحوق تلميحاً جمود الواقع ّ املمث ّلة باحلركة املت�سارعة يف ظاهرها والثابتة يف عمقها العقيم. هكذا ح ّول تلحوق ال ّنوم املح ّنط للواقع اىل حركة باطن ّية مكبوتة ت�سعى الكت�شاف معانيها الراف�ضة لعبث ّية ال ّزمن اجلامد. ال�سلب /االيجاب ترحتل ا ّل ّذات ال�شّ اعرة يف يتقن تلحوق لعبة النقّي�ض لإثبات نقمته وفق لعبة ّ عدة حماور جت ّلت يف حمور ال ّزمان /ال ّرف�ض ،املوت / بحثها عن نقي�ضها لتحقيق الربهان �ضمن ّ اخلال�ص. /الرف�ض: �أوال":حمور ال ّزمان ّ
�أ-ال ّزمان :ال ّنوم /الأ ّيام. يف منت الق�صيدة جت ّلت مفردات الز ّمن وفق وجهي الن ّوم /الأ ّيام ,تواترت العبارات وانت�شرت ،يقول ال�شّ اعر : (نائم يف بيت الأ ّيام نائمان يف بيت الأ ّيام 122
نائمان يف بيت الأحزان الأ ّيام الأزمان ،الأوقات ال�صحو غدوة ّ حمراب ال�س ّنني زمان تغتاب فيه امل�سايا غفوة ال�ص ّباحات �صاحبي خلمه الوقت ف�صار من املدمنني على االنتظار االنتظار ال ّليل عدمي الأمنيات �أنا و الأّ ّيام موقنان ) ال ّنوم التلحوقي حالة رف�ض م� ّؤجلة وال ّزمان ثقيل يجر الآخر اىل متاهة االنتظار .لكن ّ الذات ال�شّ اعرة مدركة ر�ؤيو ّية واعية حلركة احلياة الثّائرة ومنها تتبنى اليقني يف خ�صب قادم �ضمن احتمال امل�ستحيل. ب-ال ّرف�ض :يقول ال�شّ عر حول �آلية ال ّرف�ض الثائرة يف ذاته: (�أُر ّد ُد �شعاراتي �صوت الغ�ضب �أقاتل غربتي البليدة �أفك قيدي رهناً ل�سالم �أر�ضاه ،يخ�شاه غريي وطن ٌ يرق�ص املح ّنطون على ريحه� ،أقاوم طيفي) دمي ٌ راف�ض ُ متج ّذرة يف الذ ّات ال�شاعرة يف مدى ال ّن�ص تعطيه ن�سغا" للتح ّرر ،يف ط ّيات هذه النفّ�س �آلية ال ّرف�ض ّ غ�ضب خمنوق وغربة �صارخة تبحث عن �سالم يق�ض م�ضجع املح ّنطني يق ّو�ض بنيان ّ الطيف �أي الأنا الوجودي واال�ست�سالم . الداخلي الذي ميثّل اخلمول الآخر ّ ّ هذا ال ّرف�ض يدخل يف حمور تناق�ض مع ال ّزمان والوقت مع ال ّنوم ّ الظاهري يف حركة انقالب على ال�سالم الداخّ لي. الواقع املحدود وع�صيان ين�شد ّ "الدم". يتحد ال�شّ اعر بق�ضيته الوطن بو�ساطة مفردة ّ ّ 123
حتوالت �أدبية
يخرج الوطن من م�ساحاته ال�ضيقّة اىل م�ساحة احللم /الإنتماء وهو يف هذه املعركة يبحث عن خال�صه وفداء اجلماعة. ال�سيد هكذا زاوج تلحوق بني جمود ال ّزمان واملوت وبني ال ّلغة – و�سيلة التعبري الأجنع –و�صورة ّ امل�سيح وال ّرف�ض وفعل الفداء. ثانيا":حمور املوت /اخلال�ص:
�أ-املوت: ال�سيد امل�سيح بذكاء حني يف هذه املعمعة اخل ّالقة ّوظف تلحوق ثورته احلنون عندما ا�ستدعى �صورة ّ الذات يف �سبيل افتداء الآخرين على خ�شبة �صليب وبني بذل ّ قرن بني بذل ّ الذات على الورق يف متكلمة. ق�صيدة ّ كيف ّمت هذا ال ّتنا�ص الذي الم�س ال ّت�ضمني وال ّت�صريح يف �آن واحد.؟ كيف �أخرج ال�شّ اعر �صورة امل�سيح من �إطارها املتعارف عليه �إىل تعاريج الق�صيدة؟ ال�صورة يف ن�سيج ق�صيدته كما فعل . �أدخل ال�شّ اعر هذه ّ �أكرث من �شاعر حديث ذلك مثل :خليل حاوي ,بدر �شاكر ال�س ّياب ,حممود دروي�ش وغريهم . وكان ّ الداليل ويف حتميل الأبعاد. لكل �شاعر من ه�ؤالء �أ�سلوبه اخلا�ص يف التوظيف ّ وعمدها باحلرب ف�أ�صبحت ق�صيدة تبوح ب�آهات النف�س بثورتها بجوعها اىل �أحيا تلحوق �صورة امل�سيح ّ ال�سالم بر�ؤيتها . ّ ك�أن تلحوق �شاء مبطرح ما �أن يهزم �صورة املوت القائم بالذي هزم املوت بالقيامة على درب بذل ّ الذات �:ألي�ست الكتابة فعل ت�ضحية ومعاناة � ،أمل يتغيرّ ال ّتاريخ بقلم ثائر؟ روحي �آخر ،وهو موت موت الذات ال�شّ اعرة هو موت من نوع �آخر موت راف�ض لذاته ،موعود ب�ضياء ّ املجددة يف الإن�سان �أمام فداحة الواقع . ال ّلحظة ّ (نائم يف بيت الأ ّيام يخمر املوت كالالهوت �أحب�س ظ ّلي يف مكان وارف ال تلخمه الأ�ضواء �إ�سمي �ألف عنوان قتيل �أثقايل رحيل 124
يرق�ص املح ّنطون على ريحه فتغتاله الق�ضايا الفكر ظالم تقدمي الأ�ضاحي عن روح ال�شّ هيد القن ،يقاتل لوى عنقه على م�صطبه ّ ال�شهيد اال�سم �ضريح) ميتد من الآخرين نحو الذ ّات ،نحو الفكر املح ّنط يف املجتمع املوبوء بتكرار يعانق املوت ال ّرحيلّ ، اخلا�ص فالعا ّم. �أخطائه .يقارب تلحوق املوت بهيبة �ساخرة ،بوجع مت�ش ّعب من العا ّم اىل ّ لكن عبارة (يخمر املوت كال َّالهوت )وهي العبارة الواعدة بقيامة �أكيدة .من هنا ا�ستدعاء رمز امل�سيح خمر املوت قيامة بدمه وج�سده .وحتى تكتمل الر�ؤيا وتتزاوج مع الواقع يتعانق امل�سيح وال ّلغة الذي ّ يف بنيان الق�صيدة انت�صاراً للغد املوعود ب�ضيائه ،بقيامته احل�ضار ّية الفكر ّية. ب-اخلال�ص �:صورة امل�سيح وا ّل ّلغة . وفق �شروطه اخلا�صة ا�ستدعى تلحوق امل�سيح من خارج ال ّن�ص وقام بدجمه يف الق�صيدة خم�ضعاً هذه .ثم قام بعمل ّية حتويل �صهرت و�أذابت هذا ال ّرمز مع ال ّلغة حتى الرم ّزية لبن ّية ال ّن�ص اجلديد ّ الداللية ّ ّمت االلتحام بال ّن�ص ّ املت�شكل. � -1صورة ال�سيد امل�سيح التلحوقية:
يقول ال�شاعر: "�.....أكتب على خبز الأوقات يقيني .... .........يخرج الإله من العنقود ،ي�صري العنب . يخمر الالهوت يف عر�س الق�صب "... يقول الر�سول مرق�س يف �إجنيله عن ع�شاء ال ّرب الأخري (:)26==22/14 الرب "ع�شاء ّ وبينما هم ي�أكلون � ،أخذ خبزاً وبارك وك�سره وناولهم وقال :خذوا،هذا هو ج�سدي ".و�أخذ ك�أ�ساً 125
حتوالت �أدبية
و�شكر وناولهم ف�شربوا منها ك ّلهم ،وقال لهم ":هذا هو دمي ،دم العهد الذي ي�سفك من �أجل �أنا�س كثريين . احلق �أقول لكم :ال �أ�شرب بعد الآن من ع�صري الكرمة ،ح ّتى يجيء يوم فيه �أ�شربه جديداً يف ملكوت اهلل ". فعل الكتابة عند تلحوق فعل بذل للآخر ،بذل ّ الذات كما بذل امل�سيح ج�سده خبزاً (�أكتب على خبز الأوقات ) حتم ّية هي هذه املزاوجة بني القربان والق�صيدة . ال�سمات ،متح ّول من العنب �إله ال�شّ عر ّ املحمل ب�أعباء الوجود � ،إله الفكر نبيذي املالمح ،فدائي ّ والعنقود اىل الالهوت يف عر�س اخلال�ص. الدمج � ،أم ان�ساب من الوعيه ،كان�سياب الأحرف؟ ل�سنا ندري ّ ولكن الوا�ضح هل ق�صد تلحوق هذا ّ �أ ّنه �أتقن ال ّلعبة جيد ّا. مل ِ يكتف ال�شاعر ب�صورة الع�شاء ال�س ّري بل تنقّل من �صورة اىل �أخرى مبهارة �سل�سلة يقول : "�أقاتل غربتي البليدة واحلال مدان ، ك�أنيّ م�أ�سور على خبب ال ّروح. م�صلوب على ورق ال�شّ وح ، �أفك قيدي رهناً ل�سالم ، ل�ست �أر�ضاه .. يراه وجهي فيعطيه من امل ّر ل�سان... .....جروحي خطايا. نذوري �ضحايا... "والليل عدمي الأمنيات ... وال�ش ّهيد م�سيح... ....واال�سم �ضريح وال�شهيد م�سيح..... "........تار ًة �أنا املهزوم ,وطوراً �أنا العامل 126
تار ًة انا احلبيب ،وطوراً �أنا ّ الظامل وقيدي مل يزل مو�سوماً ب�شمع ال�شّ ماتة واحلماقة والغمام ". يذكر ال ّر�سول م ّتى يف :33-34/ 27 "وملّا و�صلوا اىل املكان الذي يقال له اجللجلة �،أي "مو�ضع اجلمجمة " �أعطوه خمراً ممزوجة بامل ّر"... يف 39 /27يقول م ّتى ...":وكان املّارة ي ّهزون ر�ؤو�سهم وي�شمتون "...يف 41 /27يقول .... ":وكان الكهنة وم ّعلمو ال�شريعة ي�ستهز�ؤون به". الغربة �صلب ّ اجل�سدية والنف�س ّية و�آالم للذات يف بيئة جاهلة ،هنا تتالءم املعاناة بني �آالم امل�سيح ّ الن�ص ال�شّ اعر يف تعاطيه مع الأر�ض العقيمة ،اجلروح تكت�سي معاناة الإبداع يف تطوير ال�صورة من ّ الداللة املت�شك ّلة من رتابة الر�ضوخ اىل ثورة التغيري احلاملة. التاريخي اىل ّ ّ و�سموه بالظامل املهزوم. فامل�سيح كان احلبيب العامل وعند ال�صلب �شمتوا به ّ واحلبيب العامل هو ال ّرا�ضخ القابل مل�سرية املجتمع التقليدية وعندما تلوح �صرخة ّ الذات الراف�ضة يف الأفق ي�ضطهد من مع�شر القطيع ....لأنه ي�شتهي ّ فك القيد ويحلم بال�سالم باخلال�ص ،اخلال�ص له وللآخرين. املفكرة التي �أنارتها املعرفة فتوقدت .مدان هو ّ م�سرية امل�سيح يف الق�صيدة هي م�سرية الذ ّات ّ املفكر يف مهددة بال�صلب ،الذي يعترب نوعاً من املواجهة واثبات ّ عامل املح ّنطني ّ الذات . وكل حماولة للتغيري ّ -2معجم اللّغة الثائرة :
لقد انت�شرت مفردات ال ّلغة يف لغة يف الق�صيدة ،يف حماولة لإثبات العالقة باحلرب على �أن ّها عالقة حم ّررة خم ّل�صة : (تقر�أين �أكتب على خبز الأيام \�أردد �شعاراتي �صوت الغ�ضب يحاورين ... ت�س�ألني 127
حتتاج هذه الذ ّات اىل ال ّلغة ،كالماً قو ًالوكتابة و"قراءة" والتحرر من القيود ،تت�س ّلل اىل عوامل ال�شّ اعر تع ّو�ضه عن الأمل ،ت�ؤاخيه(ال فهي و�سيلة االنقاذ ّ تلعنني الق�صيدة ،ال ي�شطبني الكالم ) تن�صره ،تن�صفه. يعبرّ من خاللها عن رغبته يف العبور من القناعة �إىل الواقع عرب التغيري ّ ،متحكم هو بها (�ألج احلروف اجلن�سي ،بالتوالد باخللق. موحدة توحي بالفعل املتنا�سلة )يف دائرة ع�شق ّية ّ ّ الداللية التي و ّرط فيها تلحوق الق�صيدة يف عملية دجمه بني الكتابة وال ّزمان ما هي هذه املغامرة ّ وال ّرف�ض والقربان؟ �شدة رغبته يف �إنقاذ الوجود احل�ضاري الذي ورطها ورطة �أخّ اذة وتالعب مبعطياتها ف�أنقذها من ّ ي�ضطهده . يف اخلتام ,هذا غي�ض من في�ض يف درا�سة ق�صيدة واحدة من ديوان "�أظ ّنه وحدي" لل�شاعر نعيم تلحوق ،حيث ال ميكنك ا ّدعاء الإحاطة باملو�ضوع من ّ كل جنباته ،ال �أنكر لقد ا�ستف ّزتني ق�صيدتك �أ ّيها احلامل ق ّربتني و�أق�صيتني ولك ّني بكل وداعة وتوا�ضع حاولت مالم�سة وجهها ع�ساين �أفلحت يف تفجراته الالمتناهية�.ص تلم�س بع�ض �سماته ،يف اقتفاء بع�ض الآثار ال�صغرية من ّ ّ 128
حتوالت �أدبية
تغتاب قناعاتي ال تلعنني الق�صيدة ال ي�شطبني الكالم ت�أخذين الرواية �أعيد قراءتها مرات �أ�س�ألها �ألج احلروف املتنا�سلة الفكر ظالم الفر�ضيات �أنهت جدل ّيتها)
الفل�سطيني امل�شرتك بني الق�صيدة الهم ّ ّ والعربية إيرانية ال ّ ّ
غ�سان �أحمد التويني – باحث دّ . ما الأدب املقارن؟
الأدب املقارن �شكل من �أ�شكال املعرفة ،يتناول املقارنة بني �أديبني �أو �أكرث ،ليظهر عالمات الت�شابه وعالمات االختالف بني الآداب ،ومعرفة العوامل. الأدب املقارن هو درا�سة الأدب خارج حدود بلد معني ،ودرا�سة العالقات بني الآداب من جهة، وجماالت املعرفة من جهة �أخرى(.)1 كما يدر�س الأدب املقارن مواطن التالقي بني الآداب يف لغاتها املختلفة ،و�صالتها املعقدة يف ال�صالت التاريخية من ت�أثري وت�أثّر(.)2 حا�ضرها وما�ضيها ،وما لهذه ّ ال�صالت بني الآداب ،وعملية الت�أثّر والت�أثري ويو�ضح "بول فان تييغم" �أن الأدب املقارن يركز على ّ اللذين تتبادلهما ( .)3وهذا ما تقول به املدر�سة الفرن�سية. و�إذا كانت املدر�سة الفرن�س ّية تركز على عملية الت�أثّر والت�أثري ،ف�إنّ املدر�سة الأمريك ّية تهدف �إىل درا�سة الظاهرة الأدبية يف �شموليتها من دون مراعاة احلواجز ال�سيا�س ّية والل�سان ّية. ويقول" :هرني رمياك" امل�ؤ�س�س االول لهذه املدر�سة� ،إ ّنه ال ينبغي النظر �إىل الأدب املقارن على �أ ّنه نظام م�ستقل بذاته ،بل يجب النظر �إليه على �أ ّنه حلقة و�صل بني املو�ضوعات �أو املجاالت اخلا�صة مبو�ضوع واحد ،لذا ف�إ ّنه من املمكن �إجراء مقارنة بني اثنني او �أكرث من الآداب املختلفة ،وكذلك (.)4 مقارنة الآداب باملجاالت الأخرى املعرفية يدفعنا احلديث عن الأدب املقارن �إىل �أن نع ّرج �سريعاً لنتحدث عن م�س�ألة التداخل الثّقا ّيف ين� ،إذ جتلت معامل الت�أثّر والت�أثري بني الثّقافتينّ يف جمال الأدب يف �أكرث من حمطة، العربي الإيرا ّ ّ 1 2 3 4
�أحمد زلط ،الأدب املقارن ،ن�ش�أته وق�ضاياه واجتاهاته� ،ص .48 حممد رم�ضان اجلربي ،الأدب املقارن� ،ص .63 �إبراهيم عو�ض ،يف الأدب املقارن ،تعريفه وميادينه� ،ص .3 �سمرية �شبال ،الأدب املقارن ،امل�صطلح واملفهوم� ،ص .18129
حتوالت �أدبية
إ�سالمي ،نذكر منهم على �سبيل املثال العربي وال ّ عقد خيوطها �أكرث من مفكر وباحث يف العامل ّ والرتكي" ،و�إبراهيم والفار�سي العربي ال احل�صر ،ح�سني جنيب ّ ّ ّ امل�صري يف كتابه "الأ�سطورة بني ّ ريازي� ،شاعر الغناء والغزل يف �إيران" ،وعبد النعيم حممد واربي يف كتابه "حافظ ال�شّ ّ �أمني ال�شّ ّ ح�سنني يف كتابه "كليلة ودمنة بني العرب ّية والفار�س ّية" ،وعبد الوهاب عزام يف كتابه "الأدب ال�شعري" وغريهم. رازي ّ العربي" ،وعمر �شبلي يف ترجمته لديوان "حافظ ال�شّ ّ الفار�سي والأدب ّ ّ العربي يف كثري من مو�ضوعاته حني ظهر الأدب الإيرا ّ ين احلديث ،ظهر �أدباً �إ�سالم ّياً يحتذي الأدب ّ و�أ�ساليبه ،فكتب باحلروف العرب ّية ،ال احلروف الفهلو ّية ،وا�ستعار من العرب ّية �ألفاظاً كثرية. العربي ،من مدح وهجاء وغزل ين مع مو�ضوعات ال�شّ عر كما تت�شابه مو�ضوعات ال�شّ عر الإيرا ّ ّ ين مبو�ضوعي الق�ص�ص والت�صوف ،فقد �أغرم ال�شّ عراء الإيران ّيون وو�صف .وقد مت ّيز الأدب الإيرا ّ ق�صة النبي يو�سف وزليخا ،وق�ص�صاً تاريخ ّية مثل ،ليلى بالق�صة فنظموا ق�ص�صاً دين ّية مثلّ ، ال�صو ّيف ،اذ نظموا فيه منظومات ق�صرية ومنظومات ّطويلة ،حتى واملجنون .وبلغوا الغاية يف ال�شّ عر ّ نظم فريد الدين العطار زهاء �أربعني منظومة فيها ع�شرات الآالف من الأبيات ال�شّ عر ّية. وت�شتمل "ال�شاهنامة" على �ألفاظ عرب ّية كثرية ،وقد حاكوا يف �شعرهم الأوزان العرب ّية ،وا�ستخدموا م�صطلحات العرو�ض التي كان العرب ي�ستخدمونها. ين يف �إطار الأدب املقارن ،بقدر ما كان حماولة �إنتاج العربي الإيرا ّ مل يكن هذا التداخل الثقا ّيف ّ وفكري جديد ،يعبرّ عن العالئق والو�شائج القو ّية بني احل�ضارتني ،العرب ّية والإيران ّية أدبي ّ لواقع � ّ التي جتمعهما روح الإ�سالم وتعاليمه الإن�سان ّية التي تتجاوز القطر ّية والقوم ّية �إىل ف�ضاءات �أو�سع و�أرحب. يطالب الإن�سان بالإبداع والبحث واالنفتاح واجلهد املعر ّيف وطرح الأ�سئلة ،والإجابة عنها ،و�إيجاد احللول لها. هذا كله �أنتج فهماً جديداً للثقافة الإن�سان ّية التي تربط الإن�سان ،والكون باخلالق من جهة ،و�ضرورة تعارف ال�شعوب فيما بينها ،وتقبل عنا�صر ثقافاتها من جهة �أخرى. هذا التداخل الثقا ّيف �إىل جانب عوامل �أخرى عديدة ،جغراف ّية و�سيا�س ّية ودين ّية حت ّتم على ال�شّ اعر ين �أن تكون همومهما م�شرتكة ،والق�ضايا التي ت�ستحوذ على اهتماماتهما العربي وال�شاعر الإيرا ّ ّ ً ال�صراع احلقيقي بني العرب الهم املتمثل بالق�ضية الفل�سطين ّية التي تبقى مركز ّ واحدة ،خ�صو�صاّ ، ين املغت�صب للأر�ض من جهة �أخرى. وامل�سلمني من جهة ،والكيان ال�صهيو ّ إ�سالمي �أ�صواتا �شعر ّية تن�شد للقد�س ،وت�صرخ مع لذلك جند على امتداد العامل العربي وال ّ ّ الفل�سطيني ،ومن هذه الأ�صوات ال�شّ اعرة الإيران ّية طاهرة �صفّار فل�سطني ،وت�ؤرخ ل�صمود ال�شّ عب ّ الفل�سطيني حممود دروي�ش" ،"3عبرّ ه�ؤالء ين" ،"2وال�شّ اعر وري نزار قبا ّ ال�س ّ زاده" ،"1وال�شّ اعر ّ ّ 130
همجي إ�سالمي ،جراء ما تتعر�ض له القد�س من عدوان ّ العربي وال ّ ال�شّ عراء وفق ر�ؤيتهم عن امل�أزق ّ على �أيدي ال�صهاينة ،متجاوزين ب�شعر ّيتهم حلظات االنك�سار والهزمية التي تمُ �سك بالأ ّمة العرب ّية والإ�سالم ّية ،را�سمني ب�شعر ّيتهم طريق القيامة الذي يجب على الأ ّمة �أن ت�سلكه للو�صول �إىل خال�صها. - 2طاهرة �صفّار زاده� ،شاعرة ،وباحثة ،وكاتبة ،ومرتجمة �إيران ّية ،ولدت يف مدينة �سريجان الإيران ّية، عري" ،ال�سفر اخلام�س" ،و"رحلة عا�شقة" ترجمة ،مو�سى بيداج. العام .1936من نتاجها ال�شّ ّ ال�شعري" ،ق�صائد متوح�شة"، �سوري ،ولد يف دم�شق العام .1923من نتاجه - 3نزار قبا ّ ّ ين �شاعر ّ "�أ�شعار خارجة على القانون"�" ،أطفال احلجارة" وغريها. ال�شعري" ،عا�شق من فل�سطني"، فل�سطيني ،ولد العام .1941من نتاجه - 4حممود دوي�ش� ،شاعر ّ ّ عما فعلت" وغريها. "ال تعتذر ّ يف تقنية املقارنة:
ال�شعري طاقة منفتحة وفاعلة ،تن�ش�أ يف حلظة ع�صف جتتاح ال�شاعر ليعبرّ من خاللها عن الن�ص ّ ّ انفعاالته وقناعاته واهتماماته ،ويك�شف عن امل�ستور من الق�ضايا التي ت�شكل �أ�سئلة حرجة تفر�ض علينا �أجوبة وحلو ًال ،وال ميكن للأديب �أن ي�صل �إىل �أجوبة� ،إال بو�ساطة الأ�ساليب الفن ّية ،املو�صولة بثقافته. وال تبلغ العملية ال�شعر ّية غايتها عند ال�شاعر �إ ّال �إذا �أ�سعفته يف ذلك ثقافة وا�سعة ،يعرف كيف ال�شعري ،وكيف ي�ستعني مبكوناتها يف �إنتاج واقع جديد يقوم على �أنقا�ض واقع يوظفها يف ّن�صه ّ عاجز يف النهو�ض بامل�س�ؤول ّيات ،ومواجهة امل�شاكل التي تعرت�ضه ،وهذا ما ميكنه من حتديد ر�ؤيته الك�شف ّية يف امل�ستقبل. حني تقر�أ الن�صو�ص ال�شّ عر ّية عند ال�شاعرة طاهرة زاده ،ونزار قباين ،وحممود دروي�ش ،جتد نف�سك �أمام قامات �أدب ّية وثقاف ّية عالية ،قد ت�س ّربت ثقافتهم يف تفا�صيل ن�صو�صهم ال�شعر ّية ،وقدموا يحدد بو�ساطتها ر�ؤيتهم �إىل الوجود من حولهم ،هذه الر�ؤية امل�ستندة �إىل نظام رمزيّ ، عالمي ّ ّ ال�ساحة العرب ّية هو ّية هذه الثّقافةّ ، ويقدمها بو�صفها عني ال�شّ عراء يف تتبع �أحداث التاريخ على ّ ال�ضوء وحتقيق الهو ّية والذات. والإ�سالم ّية يف م�سار �ضعفها وقوتها ،واخلروج بها �إىل منافذ ّ ين، لي�س �صدفة �أن جتتمع ر�ؤية ال�شّ اعرة الإيران ّية طاهرة زاده بر�ؤ ّية ال�شّ اعرين العربيينّ ،نزار قبا ّ وحممود دروي�ش ،حول ق�ضية واحدة ،هي الق�ضية الفل�سطين ّية ،التي ت�ستحوذ على اهتمامات 131
حتوالت �أدبية
إ�سالمي، املحوري ال�صراع ّ ّ ال�شّ عراء الثالثة ،بو�صفها ق�ضية ّ العربي وال ّ والوجودي التي جتمع العامل ّ �إذ متثل بعداً تاريخ ّياً وح�ضار ّياً ودين ّياً وثقاف ّياً .وحماية هذا املوروث والدفاع عنه ،هو دفاع عن الهو ّية العرب ّية والإ�سالم ّية ب�ألوانها املتنوعة ،وتخلي�ص املقد�سات من براثن االحتالل. �إنّ الن�صو�ص الثالثة التي ذكرناها ،هي تعبري عن �صوت واحد ،يخرتق اجلغرافيا ويتجاوز ال ّلغة، ليعبرّ عن الفعل املقاوم القادر على اجرتاح ال ّن�صر وحترير الأر�ض والإن�سان. - 1يف اختيار العناوين:
الن�ص الأول لل�شّ اعرة الإيران ّية طاهرة نقر�أ ثالثة عناوين لثالثة ن�صو�ص عند ه�ؤالء ال�شّ عراءّ ، ين ،املو�سوم بعنوان وري نزار قبا ّ ال�س ّ زاده ،املو�سوم بعنوان (القبلة الأوىل)ّ ، والن�ص الثاين لل�شّ اعر ّ الفل�سطيني حممود دروي�ش املو�سوم والن�ص الثالث لل�شاعر (دكتوراه �شرف يف كيمياء احلجر)ّ ، ّ بعنوان (يف القد�س). ت�شدك العناوين الثالثة �إال باجتاه واحد ،هو فل�سطني ،نقطة االرتكاز الأوىل عند العرب ال ّ وامل�سلمني� ،إذ تر�صد عني ال�شّ عراء الثالثة الأق�صى والقد�س بو�صفهما هو ّية الأ ّمة ورمز كرامتها وع ّزتها. يتقدم على الهم الأول الذي ّ تقدم ال�شّ اعرة طاهرة زاده امل�سجد الأق�صى (القبلة الأوىل) ،لكونه ّ الو�صفي (القبلة الأوىل) غريه من الهموم والق�ضايا التي تواجه اال ّمة الإ�سالم ّية ،وهذا الرتكيب ّ ي�ستعيد �إىل الذاكرة ال�صالة الأوىل التي �أقامها الر�سول الكرمي (�ص) متوجهاً نحو امل�سجد الأق�صى من جهة ،وي�شري �إىل �إ�صرار ال�شّ اعرة على �أنّ الوجهة احلقيقية هي يف توجيه البو�صلة باجتاه القد�س وامل�سجد الأق�صى ،لنعيد ما خ�سرناه يف حلظة غياب عن امل�شهد/احلدث. ين يرى حددت الوجهة واملكان (القد�س/الأق�صى) ،ف�إنّ نزار قبا ّ و�إذا كانت ال�شّ اعرة طاهرة قد ّ بو�ساطة عنوانه (دكتوراه �شرف يف كيمياء احلجر)� ،أنّ �أطفال احلجارة وحدهم من يقدرون �إحالة غيبوبة الأ ّمة وغيابها عن (القد�س /الأق�صى) �إىل حال ر�شد ووعي ت�ستطيع معهما الأ ّمة �أن تعيد حرمة مقد�ساتنا ،وت�سرتجع هو ّية الأر�ض املغ َت�صبة والأ�سماء امل�سلوبة ب�إرادة القوة التي ت�صنعها الأجيال الطالعة. �إنّ �إيقاع العنوان املت�شكل من تركيبي �إ�ضافة (دكتوراه �شرف/كيمياء احلجر) ،ال يحيلك �إىل �إيقاع احلياة ،بقدر ما ي�ضعك �أمام تالحم تركيبني ي�شكالن عالمة �سيميائ ّية تدل على عجز ثقافتنا يف �إ�ضافة �شيء جديد للواقع امل�أزوم الذي تعي�شه �أمتنا ،ونهو�ض جيل جديد بيده نه�ضة الأ ّمة وانبعاثها من جديد. جتاوز العنوان مرحلة اخلطاب ّية العرب ّية التي قدمت �إخفاقاتها وهزائمها على �سنوات عديدة� ،إىل 132
مرحلة الفعل التي تنطلق بقب�ضة حجر ،ي�شق طريقه نحو م�شهد مقاوم� ،سيرتك ب�صمته يف �صراعه إ�سرائيلي. مع العد ّو ال ّ الفل�سطيني حممود دروي�ش يف قلب القد�س حني يختار عنوان ّن�صه (يف القد�س)، يعي�ش ال�شاعر ّ حدد املكان بقوة ،ف�إ ّنه �أعطى القد�س بعداً حميم ّياً ووجدان ّياً ،ي�شريان ف�إذا كان حرف اجل ّر (يف) ،قد ّ فل�سطيني� ،إنمّ ا لأنّ القد�س متثل الإقامة �إىل عالقة غري عادية يقيمها ال�شاعر مع القد�س ،ال لأنه ّ ين من جهة ،و�إ�صراراً على هويتها العرب ّية وما متثله من قيم دين ّية جامعة. فيها حتد ّياً للعدو ال�صهيو ّ ()1 ال�سور القدمي" اىل عالمة �شديدة يحيلك الفعل "�أعني" يف قوله" :يف القد�س� ،أعني داخل ّ يقدمه حممود دروي�ش ملدينة القد�س من جهة ،والذاكرة الداللة تعبرّ عن عمق التاريخ الذي ّ إ�سرائيلي على حموها. العربية املتم�سكة باملكان (القد�س) ،بو�صفه هوية ،يعمل العد ّو ال ّ �إنّ العناوين الثالثة جمتمعة تعبرّ عن ر�ؤية واحدة عند ال�شاعرة الإيران ّية وال�شّ اعرين العرب ّيني، حتكم تفكريهم ق�ضية واحدة ،وتقلق ّن�صهم هواج�س م�شرتكة ،ال يرون فيها �إال متزق الأ ّمة العرب ّية والإ�سالم ّيةّ ، ين. وتفككها جراء ما تتع ّر�ض له من عدوان م�ستمر من العدو ال�صهيو ّ �إنّ اجلغرافيا واللغة مل متنعا ال�شّ عراء من مقاربة الق�ضية امل�شرتكة (القد�س/الأق�صى) ،مقاربة تتلم�س جراحنا ،وتدعو �إىل �ضرورة تخل�ص اال ّمة من حمنها. ّ ال�سائدة: - 2حركة ت�شكل ال ّن�صو�ص والأفكار ّ
ن�ص طاهرة زاده من �ست حركات ،تتخذ احلركة الأوىل عنواناً يعبرّ عن ح�ضور الأق�صى يت�شكل ّ يف زمن كتابة الق�صيدة (هذا الزمن زمن الأق�صى)ّ ،ثم ي�أتي العنوان الثاين لري�صد عدوانية املحتل (همجية العدو املحتل مع امل�صلني). تت�صل احلركة الثالثة مبقاومة املحتل على �أيدي �أطفال احلجارة (�أطفال احلجارة) ،وتك�شف احلركة الرابعة م�شهد القتل والإجرام الذي تقوم به الآلة ال�صهيون ّية وجمرمو احلروب (جتار الدماء يوغلون بالقتل) ،وتت�صل احلركة اخلام�سة بقدرة االنتفا�ضة على ر�سم �صورة الوطن (من احلجارة يولد وطن) ،ويف احلركة ال�ساد�سة ت�صل ال�شّ اعرة �إىل حقيقة م� ّؤكدة ،وهي �أنّ الطغاة �إىل زوال (الطغيان ٌ والطغاة �إىل زوال). ال�شعري ،هي حلظة ال َع ِ والعاطفي ،اللذين يواكبان الر�ؤية الذهني �صف الن�ص ّ �إنّ حلظة ت�شكل ّ ّ ّ لتتبدى �أفكاراً تالم�س التي يرغب ال�شاعر يف الك�شف عنها بو�ساطة �أ�ساليب بالغ ّية متنوعة ّ الهموم والق�ضايا التي يعي�شها ال�شاعر ،هذه الهموم والق�ضايا ّ �شكلت هماً واحداً عند ال�شاعرة 1
عما فعلت»� ،ص.74 . حممود دروي�ش ،من جمموعة« :ال تعتذر ّ133
حتوالت �أدبية
وتوحدت ر�ؤيتهم يف الك�شف عن طاهرة ونزار وحممود� ،إذ التقت �أفكارهم حول ق�ضية واحدةّ ، مواطن �ضعف الأ ّمة وقوتها. ين� ،أطفال احلجارة ،تقول ال ميكن �أن نقول� :إنّ ال�صدفة قد جمعت يف ن�صي طاهرة زاده ونزار قبا ّ ()1 ال�شاعرة الإيران ّية" :طيور احلق /من قلب امل�سجد هذا /حتارب (الأبرهات) /باحلجارة" . ين: وري نزار قبا ّ ال�س ّ ويقول ال�شّ اعر ّ حجرين... "يرمي حجراً� ...أو ْ يقطع �أفعى �إ�سرائيل �إىل ن�صفني مي�ضغ حلم الدبابات، يدين(.)2 وي�أتينا من غري ْ يت�صدى لرمز من رموز القتل والإجرام�( ،أبرهة) ،هو ن�ص طاهرة زاده الذي ّ �إنّ طفل احلجارة يف ّ ين. ن�ص نزار قبا ّ ذاته الطفل الذي يواجه الأفعى الإ�سرائيل ّية يف ّ ت�ستح�ضر ال�شاعرة رمز "�أبرهة" لتقدم الإرهاب يف املا�ضي� ،شك ًال مت�ص ًال باحلا�ضر ،يتمثّل �ضد �أطفال احلجارة. بالإرهاب ال إ�سرائيلي ّ ّ يقع ال�شاعران يف قب�ضة اال�ست�سالم الذي مي�سك بال�ساحة العرب ّية والإ�سالم ّية يف حلظة كتابة مل ِ الق�صيدة ,لأ ّنهما يعوالن على ثقافة املقاومة التي تر�سم مالحمها �أنامل �أطفال ناعمة ،يف �سبيل �إنتاج واقع جديد قادر على مواجهة التحد ّيات ،والنهو�ض بامل�س�ؤول ّيات جتاه ق�ضايانا ،لذلك ّميم عربي ال�شاعران وجهيهما �إىل انتفا�ضة الأق�صى الأوىل العام 1978التي ت�شكل �إ�ضاءة يف نفق ّ مظلم ،وتتفق ال�شّ اعرة طاهرة مع ال�شاعر نزار على �أنّ الوطن ال يولد �إال من بني �أيدي �أطفال احلجارة ،هذا اجليل الطالع نحو ال�شم�س واحلر ّية ،تقول ال�شّ اعرة الإيران ّية: "واحلجارة يف طهر يديك يح�سبون"(.)3 �سهام الغيب� /سهام البدر� /سهام مما ال َ ين: ويقول نزار قبا ّ 1 2 3 134
طاهرة �صفار زاده ،من جمموعة« :رحلة عا�شقة»� ،ص.133 . نزار ق ّباين« ،ثالث ّية �أطفال احلجارة»� ،ص.43 . -طاهرة زاده« ،رحلة عا�شقة»� ،ص.136 .
�صبي مثل الورد ..ميحو العامل باملمحاة؟؟ ت�س�أل �صحف العامل ،كيف ّ يقلب �شاحنة التاريخ ،ويك�سر بلور التورا ْة؟؟.)1(".. ّ إ�سرائيلي، الفل�سطيني عند طاهرة ونزار ،هو �إف�ساد الزمن ال أهم عالمة من عالمات الزمن لعل � ّ ّ ّ على �أيدي �أطفال احلجارة" �سهام الغيب� ،سهام البدر� ،سهام ...ميحو ،يقلب ،يك�سر" ،تلتقي �سهام �أطفال احلجارة عند طاهرة ،ب�أفعال التحول والإرادة التي ير�سمها �أطفال احلجارة عند نزار، الفل�سطيني مرهوناً مبا ُي ّ خطط له العد ّو ،بل �أ�صبح زمناً معداً للمواجهة وم�ستعداً �إىل فلم يعد الزمن ّ اخلروج من دائرة الهزمية �إىل دائرة االنت�صار. وال�سالم، ت�ؤمن ال�شاعرة طاهرة �أنّ ه�ؤالء الأطفال ي� ّؤ�س�سون لعامل �إن�سا ّ ين ت�سوده قيم احلق واخلري ّ ال�سيا�سي املرتهل يف �ساحتنا العرب ّية ين �أنّ ه�ؤالء الأطفال �سي�سقطون اخلطاب وي�ؤمن نزار قبا ّ ّ والإ�سالم ّية ،ويفتحون �أبواب ال ّن�صر واحلر ّية. �إنّ االلتفات �إىل �أطفال احلجارة يف حلظة انفجار الق�صيدة ،عند طاهرة ونزار ،هو التفات �إىل حدث تاريخي اجتاح �ساحتنا العرب ّية والإ�سالم ّية� ،إ ّنها انتفا�ضة الأق�صى التي اندلعت العام .1987 ّ حني يويل نزار قباين وطاهرة زاده االهتمام بهذا احلدث ،فهذا يعني �أ ّنهما يعبرّ ان عن ت�أ�سي�س ين املبني على التو�سع والتدمري، م�شروع مقاوم يتجاوز الأطر التقليد ّية يف مواجهة امل�شروع ال�صهيو ّ وال�صرب وي�ؤ�س�س ملقاومة تعرف كيف تدير املواجهة مع �إىل م�شروع مقاوم يولد من رحم العذابات ّ العد ّو ال�صهيوين. الفل�سطيني يف ا�سرتداد �أر�ضه املغت�صبة ،هو ما جعلها �إنّ �إميان ال�شاعرة الإيران ّية بحق ال�شعب ّ ت�ضع يف �أولوياتها (القبلة الأوىل) امل�سجد الأق�صى ،الذي �ستفك �أ�سره الدماء الطاهرة" ،والدماء النقية� /ستدك عامل الظالم /فلينتظر الطغاة"(.)2 ين �أنّ عدونا وهم �صائر �إىل زوال "�إنّ هذا الع�صر اليهودي ،وه ٌم� ..سوف ينهار.)3( .. ويجزم نزار قبا ّ الفل�سطيني ،حممود دروي�ش طاهرة زاده حقيقة الهزمية امل� ّؤكدة التي �ستلحق ي�شارك ال�شاعر ّ بالطغاة والظاملني يف ق�صيدة (الأر�ض) �إذ يقول�" :سنطردهم من حجارة هذا الطريق الطويل.. �سنطردهم من هواء اجلليل"(.)4 ي�ؤكد الفعل "�سنطردهم" حقيقة واحدة هي �أن الغزاة ال�صهاينة م�صريهم الرحيل عن الأر�ض 1 2 3 4
ين ،م .ن. نزار ق ّبا ّ طاهرة زاده« ،رحلة عا�شقة»� ،ص.139 .ين« ،ثالث ّية �أطفال احلجارة»� ،ص.38 . نزار ق ّبا ّ حممود دروي�ش« ،الديوان»� ،ص.638 .135
حتوالت �أدبية
يتم �إال ب�سهام م�سمومة ،تقلب وجه التاريخ ،وتك�سر ب ّلور التوراة. التي احت ّلوها ،وطرد الغزاة ال ّ وتوحدت حول هدف واحد وق�ض ّية �أ�سا�س ّية قدمت ال ّن�صو�ص الثالثة �شعر ّية االنت�صار واملقاومة، ّ ين. ال�صراع بيننا وبني العدو ال�صهيو ّ ت�شكل نواة ّ ّقافية: - 3الرموز وال�شّ يفرات الث ّ
جتتمع يف ال ّن�صو�ص الثالثة رموز دين ّية �شديدة االت�صال بالقد�س ،كونها ت�شكل نقطة �إجماع عند ّ ن�ص طاهرة زاده على (الإ�سراء واملعراج) ،الذي ال�سماو ّية ،وتتوزع هذه الرموز يف ّ كل الأديان ّ تبدلت �صورته يف ظل االحتالل ،الذي يحمل ّ كل بذور ال�شّ ر والإجرام ،ي�صبح الإ�سراء واملعراج ّ احلق /والفتوة واملروءات"(.)1 ن�ص ال�شاعرة مو�ضعاً لأهل الباطل "الهبوط عن ّ يف ّ الديني عن ذاكرة حممود دروي�ش يف ق�صيدته (القد�س)� ،إذ يح�ضر بقوة وال يغيب هذا امل�شهد ّ معبرّ اً بو�ساطته عن �أمل الرحلة التي يقوم بها ال�شّ اعر يف ّ ظل ظروف قا�سية يتعر�ض لها ال�شعب الفل�سطيني ،يقول ال�شّ اعر يف رحلته: ّ "�أ�سري من زمن �إىل زمن بال ذكرى ت�ص ّوبني، ال �أرى �أحداً ورائي .ال �أرى �أحدا �أمامي" (.)2 �إنّ ا�ستح�ضار هذا الرمز يف ال ّن�صينّ ال�شّ عر ّيني ،ال يعبرّ عن ثقافة طاهرة وحممود املتم�سكة باملكان/ إ�سالمي بو�صفه �أداة لغو ّية قادرة على الإم�ساك بهمومنا وق�ضايانا الراهنة، الرمز ،وتوظيف الرتاث ال ّ وهم م�شرتك واحد ور�ؤية وا�ضحة. بقدر ما يك�شف عن ثقافة واحدة ّ �إذا كانت ال�شّ اعرة طاهرة قد ا�ستح�ضرت �صورة ّ الطيور الأبابيل يف رمي جي�ش �أبرهة يف �أثناء غزوه ّ احلق" ا ّلتي "حتارب الأبرهات"( )3يف هذا الع�صر ،ف�إنّ نزار مكة املك ّرمة ،لتعبرّ عن حجارة "طيور ّ ديني ليعبرّ عن �صورة �أطفال احلجارة التي تر�سم ب�أناملها �إ�شراقة �أمل ق ّباين قد جل�أ �إىل غري رم ٍز ٍّ الأ ّمة وال ّن�صر القادم .فهذه الأنامل الطر ّية والأيدي القاب�ضة على احلجر هي التي �ستقلع جنمة دواو ٍد من �أر�ضنا املغت�صبة: البحر.)4("... "يرمي ..يرمي ..يرمي ..ح ّتى يقلع جنمة داوو ٍد بيد ْيه ،ويرميها يف ْ 1 2 3 4 136
طاهرة �صفار زاده« ،رحلة عا�شقة»� ،ص.133 .عما فعلت»� ،ص.47 . حممود دروي�ش« ،ال تعتذر ّ طاهرة زاده« ،رحلة عا�شقة»� ،ص�.ص.133-134 . -نزار ق ّباين« ،ثالثية �أطفال احلجارة»� ،ص.54 .
يعد الرمز العمود الفقري يف ال ّن�صو�ص الثالثة� ،إذ يعبرّ عن اجرتاح ثقافة املقاومة ،ثقافة تقلق ّ واملقد�سات ال�صهيو ّ أ�سا�سي ،وهو حترير الأر�ض ّ العد ّو ّ ين ،وتربكه يف �سبيل الو�صول �إىل الهدف ال ّ والإن�سان. �إ ّننا �أمام رموز تنب�ض باحلياة والق ّوة ،ال تعرف االنك�سار يف زمن الهزمية� ،إذ تخرج بنا من ذاكرة الهزمية �إىل ذاكرة معافاة ،رموزها واثقة مفتوحة ،يف ال ّن�صو�ص الثالثة ،على بع�ضها ،تعبرّ بو�ضوح مناخ ثقا ّيف جديد بدت مالحمه تظهر يف القد�س العام 1987حني انطلقت �شرارة االنتفا�ضة عن ٍ امتدت �إىل قرى ومدن فل�سطين ّية �أخرى. الأوىل من خم ّيم جبالياّ ،ثم ّ كان ّ الرمزي يف حتريكه الر�ؤ ّية التي يرغب ال�شّ اعر العالمي ن�ص من ال ّن�صو�ص الثّالثة نظامه ّ لكل ٍّ ّ يف الك�شف عنها ،ف�شعر ّية االنتفا�ضة واملقاومة يف مواجهة الرت ّمد واخل�ضوع ،حت�ضر بق ّوة يف ق�صيدة احلق ،احلجارة، ال�شّ اعرة طاهرة زاده "القبلة الأوىل"� ،إذا عدنا �إىل ال ّن�ص ،نرى عالمات مثل( ،طيور ّ عالمي غوي امل�ستق ّر� ،إىل انتما ٍء حجارة �أبابيل� ،سهام البدر) وغريها قد خلعت عنها انتماءها ال ّل ّ ّ رمزي ّ يخط طريق االنتفا�ضة واملقاومة نحو ذهن ّية ثقاف ّية جديدة ذات بعد تغيريي مقاوم. ّ يلتقي نزار ق ّباين يف ّن�صه "دكتوراه �شرف يف كيمياء احلجر" مع ال�شّ اعرة الإيران ّية� ،إذ جتتمع يف ّن�صه عالمات رمز ّية ّ ت�شكل بو�ساطتها �شعر ّية العبور �إىل احل ّر ّية عن طريق �أطفال احلجارة الذين تاريخ جديد "يخلع �أبواب التاريخ /يلقي تركة �أهل الكهف /يك�سر ذاكرة يعربون بالأ ّمة �إىل ٍ ال�صحراء /يقلع جنمة داوود". �إنّ �إرهاب الأيديولوجيا املعادية (الكيان ال�صهيوين) ،ال ي�ستطيع �أن يقف حاجزاً يف وجه ال ّنظام العالمي املقاوم عند ال�شّ اعرة طاهرة وال�شّ اعر نزار ،لأنّ ال ّن ّ�صني عندهما حافالن بالق ّوة القادرة على ّ مواجهة عالم ّية الظلم ّ والظاملني. ينتمي ال ّن ّ�صان (القبلة الأوىل /دكتوراه �شرف يف كيمياء احلجر) �إىل ه ٍّم ٍ واحد ،وعقيدة دين ّية وح�ضاري �ساهمت يف �إنتاجه �شعوب را�سخة ،هي �أنّ القد�س قبلة اجلميع ،وهي موروث ثقا ّيف ّ عديدة. �ص والعامل والأيديولوجيا وال�شّ اعر: - 4ال ّن ّ
ّ ين مرجع هذه ت�شكل القد�س والأق�صى يف فل�سطني ،ال ّلذان �شهدا �صراعاً مريراً مع العد ّو ال�صهيو ّ الن�صو�ص الثالثة. ّ والقد�س التي نقر�أها يف ال ّن ّ�ص ،مل تكن القد�س الفل�سطين ّية بجغراف ّيتها الب�شر ّية املقاومة واملنت�صرة للحق والراف�ضة لالغت�صاب ،ولك ّنها القد�س التي �أعيد �إنتاجها يف �ضوء ر�ؤية ال�شّ اعرة طاهرة زاده، ّ وال�شّ اعرين :نزار ق ّباين وحممود دروي�ش .ف�أر�ض فل�سطني ،بقد�سها و�أق�صاها و�أ�سوارها وم�سراها، 137
حتوالت �أدبية
و�أطفالها وحجارتها و�شجرها وبحرها ،ك ّلها �أ�سماء خرجت يف ال ّن�صو�ص ال�شعر ّية عن حقائقها املو�ضوع ّية لتكت�سب نظاماً عالم ّياً جديداً يك�شف الأيديولوجيا التي ينظر من خاللها ال�شّ اعر تبدل �إىل العامل والوجود ،تلك الأيديولوجيا التي تتح ّول من عمق �إميانٍ �إىل طاقة تعمل على ّ �ألوان الأ�شياء يف فل�سطني ،وت�سعى �إىل حت ّول ُمناخها من مناخ الي�أ�س �إىل ُمناخ ال ّتفا�ؤل ،من ثقافة ال�ضعف �إىل ثقافة الق ّوة. �إنّ �أيديولوجيا الق ّوة واملقاومة حتكم ال ّن�صو�ص الثّالثة ،وال تنطلق هذه الأيديولوجيا من الإميان حكم �إلهي ال مر ّد له: العميق بانت�صار املظلوم ،واندحار الظامل ،بل تنطلق من ٍ ُ فحافظ الكالم( /)1واملدافع عن امل�ؤمن( / )2ال يخلف امليعاد/ "ما بني هذا البيت والطريق/ حق(." )3 ُ ووعد احلقِّ ٌّ / مل نلحظ يف ّن�صي ال�شاعرة طاهرة زاده ،ونزار ق ّباينّ � ،أي �ضم ٍري يعود �إليهما ،ولك ّننا ن�شري �إىل �أنّ ح�ضورهما كان قو ّياً ،ثقاف ًة وطاق ًة ف ّن ّي ًة متخفّي ًة وراء الأق�صى عند طاهرة زاده ،ووراء �أطفال احلجارة عند نزار ق ّباين .اختفى ح�ضورهما وراء ٍ لوحات ف ّن ّية �أدخلتنا �إىل امل�أ�ساة التي يتع ّر�ض لها ال�شّ عب الفل�سطيني على �أيدي ال�صهاينة م ّرةً ،و�إىل الإ�صرار على االنت�صار واملقاومة م ّرة �أخرى. ّ و�إذا كانت رحلة التج ّلي يف ق�صيدة "يف القد�س" عند حممود دروي�ش ت�ستوجب ح�ضوراً ل�ضمائر املتك ّلم� ،إ ّال �أ ّنها �ضمائر تذوب يف ق�ض ّية اجلماعة التي تر�سم م�شهد ّيتها رحلة ال�شّ اعر من الأر�ض ال�سماء. �إىل ّ الفل�سطيني ين وال�شّ اعر ال�سوري نزار ق ّبا ّ يبقى �أن نقول� ،إنّ ال�شّ اعرة الإيران ّية طاهرة زاده ،وال�شّ اعر ّ ّ ال�صراع مع العد ّو ن�صو�صهم ال�شعر ّية عن مرحلة ثقاف ّية ا ّتخذ فيها ّ حممود دروي�ش ،قد عبرّ ت ّ تتقدم على ّ ال�ساحة العرب ّية والإ�سالم ّية. كل امل�شاكل، ال�صهيو ّ ّ ين �أولو ّية ّ ّ والتحديات التي ت�شهدها ّ ويو�صلنا هذا الكالم �إىل �أنّ ال ّن�صو�ص ال�شّ عر ّية الثالثة ت�ستف ّزها الأيديولوجيا املعادية للكيان عالمي م�شفوع بر�ؤية ثقاف ّية قادرة على الإم�ساك لغوي ال�صهيوين ،وتعمل على مقاومتها بنظام ّ ّ ّ بحركة التاريخ املا�ضية واحلا�ضرة وامل�ستقبل ّية وحتديد م�سارات حت ّوالتها ال�سيا�س ّية والثقاف ّية والفكر ّية. �شكلت هذه ال ّن�صو�ص مدخ ًال لقراءة داللة املقاربة فيها ،يف همومها الفن ّية التعبري ّية ويف همومها العربي هو ذاته الذي حتمله ال�شاعرة الإيران ّية يف ّن�صها الهم الفكر ّية وامل�ضمون ّية ،وب ّينت �أنّ ّ ّ عري ،و�أنّ ال�ضائقة القا�سية التي مت ّر فيها املنطقة مت�صلة ،جتمع بلدان امل�شرق ،وت� ّؤكد و�شائج ال�شّ ّ العالقات التي تربطها قدمياً وحد ّيثاً. 1 2 3 138
امل�صادر: - 1القر�آن الكرمي. عما فعلت" ،بريوت ،دار ريا�ض الر ّي�س للكتب والن�شر ،ط ،1يناير .2004 - 2دروي�ش ،حممود :جمموعة "ال تعتذر ّ إ�سالمي، - 3زاده ،طاهرة �صفّار :جمموعة "رحلة عا�شقة" ،تر .مو�سى بيداج ،بريوت ،مركز احل�ضارة لتنمية الفكر ال ّ ط ،1بريوت.2008 ، - 4ق ّباين ،نزار :جمموعة "ثالث ّية �أطفال احلجارة" ،بريوت ،من�شورات نزار ق ّباين ،ط� ،1آذار .1988 املراجع:
- 1اجلربي ،حممد رم�ضان :الأدب املقارن ،القاهرة ،مكتبة الآداب.2009 ، والفار�سي ،القاهرة ،دار العربي ّ - 2جمال الدين ،حممد �سعيد :الأدب املقارن ،درا�سة تطبيق ّية يف الأدبني ّ االحتاد ّ للطباعة والن�شر ،ط.1996 ،2 - 3زلط� ،أحمد :الأدب املقارن ،ن�ش�أته وق�ضاياه واجتاهاته ،م�صر ،هبة النيل العرب ّية للن�شر والتوزيع.2008 ، - 4عو�ض� ،إبراهيم :يف الأدب املقارن ،تعريفه وميادينه ،بحث ُن�شر على موقعه الإلكرتوين: WWW.IBRAWA-COCONIA.NET
- 5غنيمي هالل ،حممد :الأدب املقارن ،م�صر ،مكتبة الأجنلو امل�صر ّية ،ط.1962 ،2 Email:ghassan_twainy@hotmail.com
القر�آن الكرمي« ،و�إ ّنا له حلافظون»� ،سورة احلجر ،الآية .9 القر�آن الكرمي�« ،إنّ اهلل يدافع عن الذين �أمنوا»� ،سورة احلج ،الآية .38 طاهرة �صفار زاده ،رحلة عا�شقة� ،ص .134139
حتوالت �أدبية
منح ال�صلح وزاد الطريق �سليمان بختي -نا�شر وباحث
توحد لي�س لأن اجل�سم ُم�ضنى قلي ًال بالروح ،ولي�س لأنه دخل باب ال�صمت ،ولي�س لأن الزمن ّ يف �أجزائه .بل لأنه ي�ستحق التحية اليوم و�أم�س وغداً .املفكر النبيل منح بك ال�صلح ن�ست�ضيء بثقافته وحكمته وجتربته و�شهامته .منذ زمن � ّ أطل على النا�س يف بريوت ولبنان ودنيا العرب مع املروءات واملناقب ب�أدب و�سيا�سة وعلم وثقافة و�أ�صالة املحتد واملنبت ،و�ستظل ذكراه بعد رحيله عابقة بالنبل عينه. يقدم للنا�س هو بع�ض من القلب وبع�ض من العقل وبع�ض من املبادئ - �أدرك �أن �أجزل ما ّ املواقف ،ومل يبخل �أبداً .يف ر�أ�س بريوت ن�ش�أ وترعرع والتي �أ�سماها بريوت الثالثة الأخرى غري ال�شرقية او الغربية ،التحق بكل املدار�س الربوت�ستانتية فيها من مدر�سة "امل�س �أمينة" و�صو ًال اىل اجلامعة الأمريكية حتى �أطلق على نف�سه حتبباً "ال�سني الربوت�ستانتي" .انهمك يف العمل بال�ش�أن العام والن�ضال والكتابة ويف �أكرث من اجتاه ومراحل لإ�صالح �ش�أن املجتمع والإن�سان .وكل ذلك يف حياة مثقلة باخلري من حق �صاحبها علينا �أن يطمئن اىل ا�ستمراره حديثاً طيباً ،ودميومة �سائرة، ومثا ًال ُيحتذى. ط ّوع يف ثقافته احل�سا�سية الوطنية والقومية والإن�سانية .وفيه من الأنا واجلماعة والآخر الكثري فال عجب �أن يكون الراوي واحلدث وال�شاهد على زمن لبناين وع�صر عربي مفتوح على كل اجلهات واملفارقات والأ�سئلة. تنويري ،نه�ضوي� ،إ�صالحي ،ميثاقي ،عروبي ،ح�ضاري ،لبناين منفتح ،حواري ،توا�صلي .ولعله يف الإ�صالح خري من ر�سم وجه لبنان والعرب .جاهز دائماً لل�صداقة والألفة والو ّد� .أخوي و�أبوي و�صديق ومعلم يف �آن .ذاكرة نا�صعة دقيقة ناطقة بالأمكنة والأ�شخا�ص والأحداث من دون �أن ي�سمح لك ب�إدراك الفارق بني مرتادفات الزمن وم�صائر الأقدارُ .ي�صغي �إليك بتوا�ضع ودماثة املحب ثم ي�ستدرجك لأ�سئلة عميقة تقودك �إىل حكمة وثقافة و�أفق طالع من قلب الن�سيج .ثقافة ّ حياة و�إن�سانية ومعرفة وتاريخ .لذلك كل فكر حب�سه بالكالم ظهر بالأفعال بكلمات جربان .يحب منح بك ال�صلح العودة �إىل الينابيع ،كلما ا�ستطاع اىل ذلك �سبي ًال ،اىل الكبار يف ثقافتنا وتاريخ 140
141
142
حتوالت �أدبية
بالدنا .ويف ظني �أنه كان ي�أن�س لهم مثلما ي�أن�سون �إليه. حري�ص على �صون الذاكرة العامة ،ويف بناء ر�ؤية للم�ستقبل مهما كان احلا�ضر ه�شاً ،ومهما تكاثرت اخليبات .فمفكر الأمل يراهن على الأمل ،يراهن على الربط بني امل�س�ألة القومية وامل�س�ألة الدميقراطية ،ويعرف كيف ّميد عنا�صر الهوية مبك ّوناتها الثقافية والوطنية والقومية .ولكن �إذا ع ّز الظرف وتراكمت الأخطاء واخلطايا وغدت الطريق دونها �أهوال جل�أ اىل ال�سخرية – وط ُرفه املتناثرة على الأفواه مثل الفاكهة الذكية املمتعة -جل�أ اىل ال�سخرية التي مل تكن خياره الأول بقدر ما كانت حجته �ضد كل هذا العبث وذاك اخلواء ،وطريقته املميزة يف اختيار برج للر�صد والتحليل، ونقطة للوقوف على م�سافة نقدية واحدة من اخل�صم والقدر وال�صديق واحلليف. تغيرّ ت الأزمنة ،وهذا �صحيح ،ولكن ما نفع الزمان بال فكر ،وما نفع املكان بال وطن ،ما نفع اجلغرافيا بال تاريخ ،ما نفع الأمم بال �أخالق ،وما نفع احلب اذا غدا بال �أوان ومل يزدد بريقاً وتوهجاً مع الأيام. منح ال�صلح ميلك �إ�شعاع الرمز يف الزمن� ،إ�شعاع الفكر واحلق واحلب والوطن نحييه كمثل ما نحيي اجلواهر والدرر يف جبني الأمة و�ضمري النا�سّ . ونظل ن�ستلهم من تو ّهجها زاد الطريق لي�صح العزم ويت�ضح ال�سبيل.
وفيق غريزي� :شاعر الأغوار والقمم د .جان نعوم طنو�س -دكتور باجلامعة اللبنانية
م�شتق من ذات ثرية ت�صبو �إىل �أبعد يكون ال�شعر هبوطاً �إىل الأعماق �أو ارتفاعاً �إىل مطلق جديد ٍّ ن�سميه عامل ما قبل الت�شكل الإن�ساين ،حيث الأبعاد .يف احلالة الأوىل قد يكت�شف املبدع عاملاً ّ حتت�شد امليول والنزعات املرفو�ضة .ويف احلالة الثانية ت�سمو على ال�شرط الإن�ساين ،بتعالٍ على امل�صري ،ومن ثم حنني غريب �إىل عامل ي�سوده الطهر والنقاء. ولعل وفيق غريزي ميثّل هاتني احلالتني جمتمعتني اجتماع املاء والنار .فما �إن يغو�ص يف الأ�سافل، كما فعل بودلري و�سواه ،حتى يرتفع �إىل قمم م�شرفة على و�ضعنا امل�أ�ساوي ،حني ت�ستحيل الأر�ض م�سلخاً يف زمن احلروب ،وب�ؤرة ف�ساد يف �أويقات ال�سلم. وقد �آىل الغريزي على نف�سه �أن ي�ستق�صي حاالت النف�س ،وي�ستفتي دقائقها وخلجاتها ،لأن النف�س هي كاملخترب بالن�سبة �إىل ال�شاعر ،حتى �إن مبا�شرة العامل تنطلق منها ،فتتلون الر�ؤية ب�أنواعها ،الزاهية �أو القامتة ،وما يف اجل ّبة �إال الإن�سان الطامح �إىل التخطي .و�أين هو الإن�سان يف عاملنا املوجوع؟ ما تن�صب الالعقل �سيداً ،والكراهية �أ�صعب �أن يكون املرء كائناً مفكراً ،مرهفاً ،و�سط �أعا�صري جنونية ّ عر�شاً؟! ها هو الغريزي ي�صدر الأعمال ال�شعرية الكاملة ،يف جم ّلدها الرابع ،وهي ال�صادرة عن دار نل�سن، وجهي احلياة املتناق�ضني: ي�ضم ْ م�ؤمناً ان الغزارة ولو ت�شابه بع�ض نتاجها ،هي ما ّ الوجه ال�صبيح والوجه القبيح ،املرارة الآكلة كدودة تنخر يف ثمرة نا�ضجة والفرح وهو ربيب احلرية الداخلية .ولأنه من املحال تناول جم ّلد ينيف على �ستمئة �صفحة ،فقد اقت�ضى الأمر �أن نختار من هذه ال�صفحات املبذورة بالأ�شواق و�أنواع اخليبات ،بع�ض الق�صائد القليلة بغية ت�سليط ال�ضوء على الكل املتكامل ،مع الإقرار �أن اجلزء ال يفي املجموع حقه ،كالأزهار القالئل ال تخت�صر ربيعاً قادماً �سوف يفر�ش الأر�ض باجلمال. ففي ق�صيدة "جلجلة القيامة والرتائيات" (ديوان مدائن البوار) ،يعود الغريزي �إىل مقولة الدم امل�سفوك الذي يخ ّل�ص العامل من خطيئته" :بدمائنا نروي جذور الغالل� /أ َّيها العامل ّ املكفن 143
حتوالت �أدبية
بال�ضباب /بخطى حثيثة ت�سري للزوال". فنحن نرى الت�ضا ّد بني الدم والعامل الأعمى بت�أثري ال�ضباب املنت�شر .غري �أنه ال ّبد من معاناة �سخ ّية ،ولعلها معاناة ال�شاعر التي تنقذ التع ّهر ،كما يقول ،كما تنقذ امليول االنتحارية عند الب�شر ال�سائرين نحو موت عبثي .ال�شاعر �إذن هو َمن يوقظ احلوا�س الروحية بعدما طفت احلوا�س املادية، ف�أ�صبحت هي املرجع واملعيار. من هنا يتغ ّنى الغريزي ب�سحر كلماته الراحلة �إىل ف�ضاء البهاءات .لقد �أقبل املو�سم ،ون�ضجت الثمار ،وحانت حلظة القطاف .فليقدم ذاته قرباناً على جلجلة العذاب ،وذلك على تناق�ض تام ي�سميهم ك ّهان الع�صر ،وه�ؤالء قد ميثّلون مثقفي الكلمات الط ّنانة والفارغة ،ب�إ�ضافة �إىل مع َمن ّ �أويل الأمر املتالعبني مب�صائر ال�شعوب" :لي�س حقيقة ما نراه يف املر�آة /عاملكم يا ك ّهان الع�صر بال حراك /حقولكم �أر�ضها يباب /عقولكم يلفّها الإغماء.".... وهنا يعود الغريزي ،امل ّرة بعد امل ّرة� ،إىل بع�ض مقوالت ال�شعر احلديث كالأر�ض اليباب ،وتلك فكرة �شاعت يف اخلم�سينيات وال�ستينيات .ثم يتطرق �إىل امل�س�ؤولني� ،صانعي الدماء بد ًال من الورود، "�أولئك جعلوا من ال�سماء �شظايا /تنبت يف غابات الآثام واخلطايا � /آه ،يا م�سكن الكهوف / تنتظر قدومكم موائد الفناء" .ويتبني لنا �أن ال�سماء ،وهي حياة الكائنات ،تتحول عندهم �إىل �شظايا ،مبعنى ت�شويه ال�صورة الدينية اجلميلة وال�سامية ،كما تعيد الإن�سان �إىل �سكنى كهوف التخلف ،حيث الفناء بد ًال من البقاء .وال يلبث �أن يخاطب �شاعرنا املجو�س الثالثة املتح ّلقني حول مغارة الطفل العجيب ،ثم ينتقل �إىل كيمياء احلب ،ويرى يف جيبته جنمة فوق بحر ال ينام، وك�أنها العذراء مرمي ،منارة ال�سماء والأر�ض. ويف ق�صيدة "من جراحي تنهمر الدماء" (ديوان طائر الفينيق) ي�ؤكد الغريزي معنى املتناق�ضات الثاوية يف ح�ضن واحد ،وهو ما ي�شري �إىل �أن الإن�سان جمموعة ف�صول جمتمعة ،وتوا�صل بني اخلطيئة والنعمة�" :أنا الرائي واملرئي� /أنا ال�سهل اخل�صيب واجلوار� /أنا �ضوء الليل وظلمة النهار". �إنه الرائي ونف�سه هي املر�آة العاك�سة ،وهو �أي�ضاً اخل�صب الروحي وجدار العقبات ،كما �أنه ليل دام�س ونهار م�شرق .واحلق �أن النف�س الب�شرية لي�ست �شيئاً ب�سيطاً كاملادة ،كخ�شب النجار ،او حجارة الب ّناء� ,إنها النعيم واجلحيم ،ولعل الأمر يتطلب فار�ساً من �ضوء يهبط �إىل الأغوار ،وي�صعد �إىل الأعايل ،بغية الفوز بالو�صول ،وهذه الأخرية ت�ستحيل �إىل خواطر من ذهب. وال غرابة �أن يتماهى ال�شاعر �أي�ضاً ،بل دائماً ،بال�سيد امل�سيح ،مردداً بع�ض دالالت ال�شعر احلديث املنفتح على �أخ�صب التجارب" :من جراحي تنهمر الدماء /بالبهاء ت�صنع �أر�ض املدار" .ثم يعود �إىل توكيد الأنا� ،ضد هذا العامل ،مع ما يف هذا التوكيد من غل ّو عا�صف�" :أحزاين عميقة اجلذور /ترفع يديها لتم�سك الرجاء /ق�صائدي محُ اكة من �أبجدية ال�سماء /و�أنا لها املعنى وال�سماء". ذلك �أن احلزن رحم مليالد جديد� ،أما ق�صائده فهي كما يت�صوره ويت�صور ال�صوفيون ،من ن�سج 144
ين�صب نف�سه �سيداً على عر�ش نرج�سية الإبداع .ولذلك يزعم لذاته �سلطة ال�سماء ،وك�أن الغريزي ّ مطلقة� ،أو �شبه مطلقة ،ليدين املدينة العا�صية" :مدينة لي�س فيها /قمح وال حمار /بل هي �أكفان /حتولها يد الربان /يف �أرحامها تختنق الأطيار /ويف العامل املا وراء /نعانق املطلق البهاء". و�إذا كانت املدينة م�سجاة يف �أكفانها ،على ما يقول ،ف�إن الذات املبدعة هي وحدها التي تعانق عاملاً ما ورائياً مناق�ضاً لكل مدينة تختنق �أطيار الرباءة ،فتجف ينابيعها .ودائماً يعلن لنا الغريزي بيان الرباءة :لي�س يف العامل �إال و�سخ احل�ضارات ،ولكنه � ،أي ال�شاعر ،من طينة �أخرى نق ّية� ،أيرجم �إذن املدن العا�صية بنار اللعنة ،يف الوقت الذي يظهر نف�سه �أكرث براءة من دموع الثكاىل؟ التعميم م�ض ّر ،فثمة ق�صائد تغاير هذا املنحى ،ولكن هناك �صيحات كثرية يبدو فيها �صاحبنا نبياً من انبياء ال�شعر ،ينف�صل عن املجموع ،منزهاً نف�سه عن �آثام مل�صقة بالغري .هي طريقة �أتقنها �شعراء مثل خليل حاوي وبدر �شاكر ال�س ّياب ،و�سواهم من الذين يقولون �إن �سدوم خاطئة فا�سقة ،غري �أن براءة ال�شعر تعلو على هذا امل�ستنقع اللعني. �أما ق�صيدة "�أيامي جتتاز عتبة اخلريف" (ديوان الأوتار الراع�شة) ،نن�شيد من تعب الأيام واخل�شية من الغد املجهول .يقول م�صلوباً بني اجتاهني مت�ضاربني" :م�سكون باملا�ضي الكئيب /خمطوفاً �إىل م�ستقبل جمهول /مل تكتبه قدماي املتعبة" .وهذا الت�أرجح بني املا�ضي وامل�ستقبل �إن�ساين بامتياز ،ومثله �شيخوخة الروح الرازحة حتت وقر ال�سنني�" :أجمع من بيادر اجل�سد النزيف /غابت يبق يف خزائني �سوى الأ�صداء /مرتعة ك�أ�سي بخمرة اخليال" .لقد الأ�صوات والأ�شياء /مل َ تعب اجلواد ،جواد اجل�سد ،وتعب الفار�س وهو الغريزي نف�سه ،ولكنه عودنا �أن ينت�شل من كومة الرماد ناراً م�شتعلة ،و�أن يطلع من �شقوق ال�صخور وردة يانعة. ف�إذا كانت الكهولة املف�ضية �إىل ال�شيخوخة حقيقة ال مراء فيها ،فاحلل ال�سحري يكون يف جتربة لتنحن احلب ،لعلها الإك�سري الذي ير ّد ال�شباب املوليّ " :ق�صيدتي �أنت� ،أقر�أ عربها �سفر الوجود ِ / لينحن الكوكب �سيدة اخل�صب والأ�سرار� /أرك�ض نحو لتنحن الغابات والأ�شجار ِ / القامات ِ / تخومها على اجلوار /والفجر طرقات جمدية" .وهكذا نعرث على الإن�سان حيثما عرثنا على ما ي�ستحقه ،كما يقول الكاتب الفرن�سي �أندريه مارلو .فال ي�ست�سلم الغريزي قطرة� ،إال بعد مهادنة ق�صرية ،ليعود م�ست�أنفاً الكفاح ،معلناً �سلطة احلب و�سلطة ال�شعر ،واالثنتان من م�صدر واحد هو الذات املت�أملة واملتعالية على جراحها ،ال�صاعدة من الأغوار �إىل �أعايل القمم. ل�شد ما �أمتنى �أن تخ�ص�ص ر�سالة جامعية لتدر�س �شعر الغريزي احلافل بعنا�صر وثنية وم�سيحية يف �آن واحد� .إن فيه مواقف حادة من اللعنة ال�سوداء املن�صبة على املدينة الفا�سقة .ورغم ما يف النربة من غل ّو ف�إنها تت�ضمن حقائق دامية نعي�شها كل يومُ .ي�ضاف �إىل ذلك �أن فيه جتارب من احلب ربى م�سحورة ،تنقذ كخيط "�أريان" من متاهات الذات ال�سفلى. بو�صفها ً على �أن وفيق ،وهو ِن ْعم املعلم البارع يف تدري�س اللغة العربية ،يرتكب �أخطاء لغوية نظن �أنها 145
اعــالم
فاتته يف خ�ضم �إعداد هذا العمل الغزير .فقوله "لتحني" خط�أ فاح�ش ،وال�صواب �أن الفعل جمزوم بالم الأمر ،وهو ما يوجب حذف حرف الع ّلة� .صحيح �أن الهفوات قليلة ،ولكن املطلوب مراجعة ما ُيدفع �إىل املطبعة ،من قبل ال�شاعر ،ومن م�صحح �آخر �أي�ضاً .ومهما يكن من �أمر ف�إن ال�شعر الغريزي �شجرة جذورها يف الدم� ،أما �أثمارها فهي للعجب مليئة باحلالوات .فاملواهب ،على عظمتها ،منخورة ب�سو�س داخلي ،لعله من م�صادر الإبداع .لذلك ندعو �شاعرنا �أن يحت�ضن �آالمه، وهي يف معظمها �آالم �أ ّمة �ضائعة ،فقد تنبت على �صليب العذاب ،كما يقول الفيل�سوف هيغل، ورود التعزية ،ونزيد �أي�ضاً ورود التخطي وجتاوز ال�ضعف الإن�ساين.
مراجعة نقدية لكتاب
الف�ضائيات الإخبارية العربية بني عوملتني: جيوبوليتيك وخطاب الف�ضائيات الإخبارية العربية للدكتورة حياة احلويك
د .حممود ر�ؤوف ال�سعدي -باحث من فل�سطني املحتلة مالحظاتي النقدية حول العمل قيد املراجعة تتو ّزع على حمورين �أ�سا�سيني :يف املحور الأول أخ�ص�صه �س�أعطي و�صفاً موجزاً للكتاب من حيث املادة والن�سق والنتائج� .أما املحور الثاين ف�س� ّ ال�ستقراء القيمة املعرفية احلقيقية للعمل �ضمن �سياق نتاجات بحثية م�شابهة .بعد عر�ض هذين املحورين� ،س�أنهي ب�إعطاء كليمات قليلة حول نواق�ص هذا العمل� ،إن ُوجدت ،وكيف كان بالإمكان جتاوزها. �أوالً :يف و�صف الكتاب ،مادةً ،ن�سقا ً ،نتائج:
انهيار االحتاد ال�سوفياتي دفع �إىل الوجود بنظام �سيا�سي عاملي جديد ذي قطب واحد ي�سعى جاداً لفر�ض هيمنته على العامل (�سيا�سياً واقت�صادياً وثقافياً) ،حتت عناوين متعددة مثل العوملة والدمقرطة واللربلة وحقوق الإن�سان .ويف احلقبة ذاتها وللأ�سباب ذاتها� ،شهد العامل �أي�ضاً تبلور ّ وجتذر نظام ات�صايل �إعالمي "مرئي" جديد يتميز بقدرته على جتاوز ،وب�سرعة فائقة ،كل احلدود، جغرافية� ،سيا�سية وتراثية ولغوية .قدرة النمط التوا�صلي الإعالمي اجلديد ال تنح�صر فقط يف �سرعة نقل اخلرب عرب كل احلواجز ،بل �أي�ضاً يف القدرة على ال�صياغة والرتويج لرواية �سيا�سية دائمة احل�ضور وذات قدرة درامية �أعلى يف الت�أثري على املتلقي نظراً لطبيعتها املرئية. �ساحة الإعالم العربي مل تكن مبعزل عن تلك امل�ستجدات يف حيثيات وتقنيات �صناعة الإعالم على امل�ستوى العاملي يف حقبة القطب الواحد .فقد واكبت تلك امل�ستجدات تغيرّ ات على ال�ساحة الإعالمية يف العامل العربي تبدو يف الظاهر جذرية من حيث التقنيات وال�شكل وامل�ضمون .هذه ج�سدتها ن�ش�أة ظاهرة الف�ضائيات العربية� ،إخبارية وترفيهية وخمتلطة ،والتي تتمتع التغريات ّ ب�سقف �أعلى من حرية التعبري يف �شتى املجاالت� ،سيا�سية كانت �أم اجتماعية �أم دينية. 146
147
اعالم
الولوج املتزامن لهذا النمط الإعالمي على امل�ستوى الإقليمي واملحلي طرح �أ�سئلة كثرية حول ثنائيات كثرية كثنائيات الإعالم واحلرية ،الإعالم واحلقوق املدنية ،والإعالم والتغيري يف الوطن العربي ب�شكل عام� .أ�سئلة على غرار :كيف لنا �أن نقر�أ جدلياً ما جرى من تغيري على الف�ضاء التوا�صلي والإعالمي على ال�ساحة العربية يف تلك املرحلة� ،إذا �أخذنا بعني االعتبار عدم حدوث �أي تغيري بنيوي جذري مواكب يف النظام ال�سيا�سي العربي احلا�ضن واملم ّول للنمط اجلديد من الإعالم اجلماهريي قد يف�سر �أو يربر تغيرياً كهذا؟ وهذا هو �س�ؤال البحث الرئي�س لهذا العمل والذي من خالله تقارب الدكتورة حياة احلويك علمياً وباقتدار �شديد �إ�شكالية التغيري يف الوطن العربي يف ع�صر الهيمنة الأمريكية يف هذا امل�ؤلف ال�ضخم ن�سبياً واملهم باملطلق :الف�ضائيات الإخبارية العربية بني عوملتني :جيوبوليتيك وخطاب الف�ضائيات الإخبارية العربية (�صادر عن: منتدى املعارف ،بريوت.)2013 ، �ستمدة من وكما هو وا�ضح من ا�سم الكتاب ،فمقاربة املُ�ؤلفة لإ�شكالية التغيري يف الوطن العربي ُم ّ معطيات جيوبوليتيكا الف�ضائيات التلفزيونية ومبنية �أ�سا�ساً على تلك املعطيات عينها (ف�ضائيات: اجلزيرة� ،أبو ظبي ،العربية واملنار ،حتديداً) ،والتي ّمت توظيفها لغر�ض مو�ضعة �سلطة الإعالم بني �سلطتي ُم َتغيرِّ ي املكان (اجلغرافيا) والزمان (امل�صالح ال�سيا�سية)� .إىل جانب جيوبوليتيكا امليديا ك�إطار نظري -منهجي ،ي�ستند البحث �أي�ضاً على ا�ستقراء نقدي للخطاب الإعالمي لتلك الف�ضائيات �إزاء ق�ضايا و�أفكار ذوات دالالت جوهرية من �ش�أنها تظهري اال�صطفافات ال�سيا�سية والإيديولوجية لتلك الف�ضائيات (على �سبيل املثال ال احل�صر :ال�صراع العربي -ال�صهيوين، االحتالل الأمريكي للعراق ،مفاهيم مجُ ّردة مثل الأنا ،النحن ،الهوية ،ال�سيادة الوطنية ،بالإ�ضافة �إىل منظومة من الق�ضايا والأفكار التي ّمت �أ�إق�صا�ؤها �أو تهمي�شها من تلك الف�ضائيات) .ومن اجلدير بكم هائل من البيانات — جداول، باملالحظة هنا �أن البحث ،و�إن كان نوعياً بامتياز� ،إال �أنه ُمد ّعم ّ مواد �أر�شيفية ،مادة تاريخية ،ع�شرات اللقاءات� ،إح�صاءات ،متابعة ميدانية حثيثة ومبا�شرة� .إال الكم ،رغم غزارته ،يف خدمة �أغرا�ض البحث النوعي متجنبة �أنّ الكاتبة قد جنحت متام ُا بتوظيف ّ بذلك احتمالية الوقوع يف �شِ باك كمومية ادعائية وعبثية. �ضمتها ثالثة �أق�سام يقع الكتاب يف �أكرث من خم�سمئة �صفحة موزعة على اثني ع�شر ف�ص ًال ّ م�ستقلة ومتكاملة ،م�ضافة لها خامتة توجز فيها الكاتبة مو�ضوع البحث ومنهجيته ونتائجه .الق�سمان الأول والثاين للكتاب متداخالن ماد ًة ووظيفةً� ،إذ يربهن كالهما ،تراكمياً ومن خالل زاوية نظر خا�صة بكل منهما ،على وجود ارتباط تاريخي ،ع�ضوي ووظيفي بني ن�ش�أة الإعالم العربي ب�شكل عام والف�ضائي املرئي منه ب�شكل خا�ص ،مع �إرادة الهيمنة لدى �أطراف وقوى �سيا�سية فاعلة، حملية كانت �أم �إقليمية �أم عاملية .لهذا الغر�ض ،ت�صف الكاتبة بانورامياً يف الق�سم الأول امل�شهد ال�سمعي -الب�صري الف�ضائي بامل�شرق العربي للفرتة احل�سا�سة �سيا�سياً ووجودياً والواقعة بني العامني 1990و .2004يف الف�صل الأول من هذا الق�سم ،ولغر�ض حتديد طبيعة الت�أثري املن�شود 148
من تلك املحطات على امل�شاهد العربي (ت�أثري مبا�شر و�آين للمحطات الإخبارية يقابله ت�أثري غري مبا�شر وبعيد املدى ملحطات املنوعات �أو مزيج من هذا وذاك للمحطات "املرنة" ذوات الطبيعة املختلطة) ،تلقي الكاتبة نظرة م�شهدية على �أكرث املحطات والباقات الف�ضائية العربية �أهمية من حيث )1 :تواريخ الإن�شاء ،اجلن�سية ،املقر والطبيعة؛ )2هوية املالكني وم�صادر التمويل؛ )3الر�ؤية الناظمة والفل�سفة احلاكمة اللتان تقفان خلف �إن�شاء تلك املحطات وت�شكالن ال�سيا�سة الإعالمية لكل منها .يف الف�صول الثالثة املتبقية من الق�سم الأول ينتقل الرتكيز من ال�سياق العام �إىل �سياق �أ�ضيق �إذ تركز الكاتبة على املحطات الأربع الأكرث انت�شاراً (اجلزيرة� ،أبو ظبي ،العربية ،املنار) .ويف حمددة كيف تنظر كل منها هذا ال�سياق الأ�ضيق ت�ستك�شف الكاتبة بنية كل من تلك املحطات ّ �إىل نف�سها وكيف ينظر �إليها الآخرون ،عالوة على املوارد الب�شرية (ال�شبكة امل�سيطرة ،املذيعون وال�صحافيون) والرتكيبة الرباجمية وكيفية توزيعها ودالالت نوعية تلك الربامج وتوزيعها. الق�سم الثاين من الكتاب ُي ّ تتحدث الكاتبة ،بالتف�صيل �شكل القلب الناب�ض للبحث؛ ففيه ّ والإ�سهاب ال�ضروريني (� 190صفحة) ،عن جيوبوليتيكا امليديا وا�صفة القنوات الف�ضائية (ترفيهية كانت �أم �إخبارية) كخا�صية من خوا�ص النظام العاملي اجلديد و"ترجمة �إعالمية" له .تدافع الدكتورة حياة عن هذه الفكرة ،املقبولة متاماً من قبل الكثري من الباحثني واملراقبني ،بطريقة منهجية ّ منظمة� ،إذ ُتع ّرف القارئ على ثالثة �سياقات ذات مركز واحد ت�شهد ،بالتعاقب والتداخل وبنا ًء على معطيات تاريخية ،جغرافية و�سيا�سية ،على اقرتان الإعالم الف�ضائي وجودياً ووظيفياً ب�أنظمة وكيانات �سيا�سية ُمهيمنة ت�سعى جاهدة لغر�س وتطبيع (�أو حماولة تطبيع) منظوماتها القيم ّية وما يواكبها من �أطر تف�سريية يف وعي املتلقّي والتي من �ش�أنها دفعه (�أو حماولة دفعه) نحو تق ّبل تلك الأنظمة والكيانات ومنظوماتها املعرفية ك�ضرورات وجودية� ،سواء على �أ�س�س براغماتية �أو دوغماتية .جت ّليات هذه الأ�س�س ومعانيها هي ما ّ تركز عليه امل�ؤلفة يف الق�سم الثالث من الكتاب. فبعد �أن دافعت الكاتبة جيوبوليتيكياً يف الق�سمني الأول والثاين من الكتاب عن فكرة كون الف�ضائيات العربية جمرد "ترجمة �إعالمية" مل�شاريع ور�ؤى �سيا�سية للأنظمة والكيانات املم ّولة تق�صي وعزل التجل ّيات والراعية لتلك الأجهزة الإعالمية ،انربت يف الق�سم الثالث للكتاب ملهمة ّ الن�صو�ص ّية لتلك "الرتجمة الإعالمية" .من �أجل هذا الغر�ض ،قامت الباحثة بعملية تفكيك للخطاب الإعالمي لتلك الف�ضائيات وحلحلة ن�سيج رواية "الثقافة الدميوقراطية" الق ِْ�شرية والعائمة على �سطح املا ّدة الإعالمية لغالبية تلك القنوات .ومن اجلدير باالهتمام هنا هو ما قامت به الكاتبة من تو�سيع �ضروري ومربر مل�ساحة الن�ص من خالل جتاوز حدود املادة الإعالمية هم�شةً ،ملا للتغييب �أو التهمي�ش املعرو�ضة لت�شمل ما هو غري موجود� ،أو ما �أ�سمته املادة املُ َغ ّيبة �أو املُ ّ من مدلوالت جوهرية ال غنى عنها يف عزل املعنى والهدف احلقيقيني من وراء املادة الإعالمية. وهنا يتقاطع ما هو ماكروي مبا هو مايكروي ،ما هو �سياقي مبا هو ن�صو�صي؛ مبعنى تقاطع وتكامل نتائج التحليل اجليوبولوتيكي مع نتائج حتليل اخلطاب من حيث الربهنة على كون �أجهزة الإعالم 149
اعالم
الف�ضائية العربية ا�ستجابة �سيا�سية �ضرورية ملا تواجهه الأنظمة ال�سيا�سية من حتديات يف ع�صر العوملة وهيمنة القطب الواحد وما واكبهما من تعميق ال�شرخ الفا�صل بني �إرادتني ومنظومتني معرفيتني متناق�ضتني� :إرادة البقاء واال�ستمرار والهيمنة لدى الأنظمة القائمة مقابل �إرادة التحرر واحلرية والعدالة لدى اجلمهور العربي الوا�سع والتي ّ ت�شكل تهديداً مبا�شراً مل�صالح تلك الأنظمة القمعية .بهذا املعنى فالف�ضائيات العربية ،يف جمملها ،لي�ست �أكرث من �آلية هيمنة جديدة على وعي اجلمهور وخياراته تتنا�سب ومعطيات ع�صر �سيا�سي جديد ذي معطيات وحتديات جديدة، املتجدد يف املنطقة العربية :حكم �أوتوقراطي هو الآن ذو ق�شرة ع�صر الهيمنة الغربية وع ّرابها القدمي ّ دميوقراطية ليربالية ومدعو ٌم بخطاب �إعالمي ف�ضائي يبدو ذا �سقف �أعلى من احلرية ال لغر�ض �سوى جلم جماح اجلمهور العربي املُ�س َتفَز واملُ�ستنفَر (�سيا�سياً ،اقت�صادياً� ،أخالقياً) من خالل خلق �شعور زائف لديه بالتحرر والإ�صالح ال�سيا�سي. يف اخلامتة ،تنهي الكاتبة بحثها بالتذكري ب�إ�شكالية البحث الرئي�سة وموجباتها وبعر�ض �أخري وموجز لنتائج البحث .كل هذا ظهر جل ّياً يف اختيارها املوفق ملقدمة اخلامتة �إذ تقتب�س العبارة التالية لربيزين�سكي: "’بعد ع�صر املدفعية وبعد ع�صر التجارة واملال ،باتت تقنيات االت�صال و�شبكاته متثل اجليل الثالث من هيمنتنا على العامل"�( .ص)473 . هنا ت�ضع امل�ؤلفة "ثورة" تقنيات االت�صال يف �سياقها التاريخي الوظائفي ال�صحيح كامتداد ع�ضوي لإرادة الهيمنة :ف�إذا كانت الهيمنة الثقافية هي متالزمة �إرادة الهيمنة ال�سيا�سية ،ف�إن الإعالم هو احلا�ضنة املرتجِ مة لتلك الإرادة .وبينما ظهرت هذه الفكرة املحورية (توظيف الإعالم الف�ضائي ك�آلية هيمنة) يف مقدمة الكتاب كفر�ضية ،ف�إنها تظهر هنا كنتيجة رئي�سة للبحث ،كما يظهر جلياً يف تعليق الكاتبة على عبارة بريزين�سكي: "�أن تهيمن على العامل يعني �أن تهيمن على ثالث� :أو ًال ،الف�ضاءات واملواقع اجليو�سرتاتيجية، ثانياً ،الرثوات الطبيعية ،وبخا�صة موارد الطاقة على امتداد الكرة الأر�ضية ،وثالثاً ،الأفكار ،هيمنة ال ميكن �أن يخرج عنها ال�س�ؤال املركزي لهذا البحث� :أي تغيري؟"�( .ص)473 . نتحدث؟ جتيب الكاتبة على هذا ال�س�ؤال املركزي للبحث �إذاً ،تت�ساءل الكاتبة ،عن "�أي تغيري" ّ ب�أن تغيرياً كالذي طر�أ على �ساحة الإعالم العربي ال معنى له خارج �سياقه الطبيعي؛ �إذ ت�شري جملة من العوامل اجليو�سيا�سية �إىل توظيف الأنظمة والكيانات ال�سيا�سية للإعالم الف�ضائي فيما يخدم �أهدافها وي�ضمن بقاءها ودميومتها� ،سيما يف غياب �أي تغيرُّ بنيوي حقيقي يف النظام ال�سيا�سي العربي .هذا اال�ستنتاج يظهر يف ال�صياغة اال�ستنكارية التي �أوردتها الكاتبة م�ستعرية �س�ؤا ًال طرحه خبريا �إعالم عربيان: نتحدث؟! "�إذا كان مالك املحطات الإخبارية هو النظام الر�سمي ،فعن �أي دور �سيا�سي ميكن �أن ّ الأحرى بنا �أن نبحث عن الإق�صاء والتالعب"�( .ص)474 . 150
هذه احلقيقة املاكروية لها ما يدعمها على نطاق �أ�ضيق� ،إذ ت�ستنتج الباحثة متحدثة عن املحطات الأربع حمل البحث (اجلزيرة� ،أبوظبي ،العربية ،املنار) يف �أنها ت�شرتك بحقيقة كونها "ذراعاً �إعالمية جلهاز دولة �أو حزب �سيا�سي�( "....ص )475 .و"و�سيلة لت�أكيد احل�ضور والدور"�( .ص )477 .ويف تف�سريها لهذه النتيجة ت�ستدعي الكاتبة �إحدى �أهم نتائج التحليل اجليوبوليتيكي م�ؤكدة �أنه: "�إذا كانت حاجة الإمرباطورية للبقاء تفر�ض الهيمنة على املناطق اال�سرتاتيجية ،ويف مقدمتها الدول النفطية وال�شرق االو�سط ،ف�إن حاجة الأنظمة العربية الغنية للبقاء تفر�ض عليها التكيف مع العوملة ومتطلباتها ،ومن هذه املتطلبات :جمتمع االت�صاالت�( ".ص)476 . �إذاً ،فالف�ضائيات العربية املدعومة بطريقة مبا�شرة �أو غري مبا�شرة من قبل ر�سميات عربية هي �آلية تك ّيف تلك الأنظمة العربية مع حتديات ومتطلبات العوملة .وهذا ما تدعمه نتائج ومدلوالت حتليل م�ضمون وخطاب برامج احلوار لتلك القنوات الف�ضائية؛ ويف هذا ال�سياق ت�ستطرد الدكتورة حياة احلويك مركزة على مدلوالت الكيفية التي تعاطت بها تلك الف�ضائيات مع فكرة الثقافة الدميوقراطية مقررةً: "لإننا ن�ؤمن �أن التغيري ال ميكن �أن يبد�أ �إال بثقافة دميوقراطية وال ميكن �أن يتجذر �إال بها ،و�إال ف�إن كل الأ�شكال والتدابري تقف عند حدود تغيري يف ال�شكل يحل �سلطة ال دميوقراطية حمل �سلطة الدميوقراطية وير�سي وهم حتقق دميوقراطية افرتا�ضية تعيق بناء الدميوقراطية احلقيقية"�( .ص)478 . هنا ت�ضعنا الكاتبة وجهاً لوجه مع حلظة تاريخية فارقة �أجربت الأنظمة ال�سيا�سية القائمة على التعاطي مع �آمال ومطالب ل�شعوبها ن�ضجت على نار اال�ستبداد والطغيان ال�سيا�سي وغدت ت�شكل تهديداً وازناً لبقاء ودميومة تلك الأنظمة .لذا والحتواء هذا اخلطر ،جل�أت تلك الأنظمة ل�سل�سلة من الإجراءات كتقدمي �أطر "دميوقراطية افرتا�ضية" ،من خالل قنوات ف�ضائية حتمل وهم ؤكده ،كما برهنت الباحثة ،غياب، التغيري .عملية �إر�ساء �أ�س�س لـ"دميوقراطية افرتا�ضية" ُم َ�ضللة ي� ّ بل تغييب ،مفهوم جوهري كمفهوم "ال�سيادة" مرتبط متاماً بالثقافة واملمار�سة الدميوقراطية .فهذا التغييب املق�صود واملمنهج ملفهوم ال�سيادة من �ش�أنه �إرباك منظومة �أخرى من املفاهيم؛ فبغياب ال�سيادة يتهاوى مفهوم "الوطن" وبالتبعية مفهومي "املوا َطنة" و"املواطِ ن" .هنا ،كما جتادل الباحثة حمِ قةً ،يندفع الإن�سان غريزياً ،كما ُيراد له من قبل الفئات املهيمنة ،نحو �أطر تف�سريية �أ�ضيق يبحث فيها عن ذاته املفردة — "الأنا" ،وذاته اجلمعية — "النحن" ،ليجدهما يف دوائر مت�سخ كليهما وحتيلهما �إىل دوائر هزيلة وه�شّ ة وغري قادرة على تخليق و�إ�ضفاء معنى على وجوده ال�شخ�صي واالجتماعي وال�سيا�سي؛ دوائر من قبيل الفئة والطائفة والع�شرية واملذهب .ويف ف�ضاء جيو�سيا�سي كالف�ضاء العربي ،تغدو تلك الدوائر ال�ضيقة واملت�صارعة مناف�ساً وبدي ًال و�إجها�ضاً ملفهوم الدولة الع�صرية .ويف مثل هذا اجلو وهذا التدافع نحو الدوائر ال�صغرية واملت�صارعة ،ت�صبح غريزة البقاء هي الغريزة املهيمنة والناظمة ل�سلوك اجلماعة ،وكما ي�صبح من املمكن واملتوقع الدفاع، براغماتياً ،عن دولة م�شرذمة (دولة الفئة �أو الطائفة �أو الع�شرية �أو املذهب) ُت َّقدم فيها الرغبة بالبقاء 151
اعالم
و"الأمن والأمان" على �أية رغبات �أخرى (كالرغبة يف العدالة واحلرية والتح ّرر) .وهنا ي�صبح من الطبيعي النظر خلطاب الدميوقراطية لتلك الف�ضائيات العربية كخطاب �إجها�ضي يرمي �إىل تزييف واغتيال الوعي اجلمعي (ال خللقه �أو ت�شكيله) و�إنتاج ظرف �سيا�سي ٍ موات ال�ستمرارية هيمنة �أطراف حملية (كال�سعودية ودول برتودوالرية �أخرى) و�أطراف �إقليمية (�إ�سرائيل) و�أطراف عاملية (الواليات املتحدة حتديداً). نتحدث؟!". هنا ال منلك �إال �أن نت�ساءل ا�ستهجاناً ،متاماً كما فعلت الباحثة" :فعن �أي تغيري ّ ثانيا ً :عن القيمة احلقيقية لهذا العمل :الت�أ�سي�س لـ"جيوبوليتيكا مقاومة"
ال�س�ؤال الآن هو� :أين تكمن القيمة احلقيقية لهذا العمل؟ بداي ًة فمما ال َّ �شك فيه �أنّ قيمة البحث تكمن ،مبدئياً وجزئياً ،يف كون نتائجه تربهن تراكمياً ومن مرجعية خمتلفة على �صحة فر�ضية يتم�سك بها ويدافع عنها الكثري من الباحثني والنقاد الذين ينظرون �إىل اخلطاب الإعالمي ك�سلطة مرتبطة ع�ضوياً ووظيفياً بال�سلطة ال�سيا�سية القائمة التي تعمل ،باللغة ويف اللغة ومن خالل اللغة ،كل ما يلزم لت�أبيد ذاتها املهيمنة يف الف�ضاء ال�سيا�سي من خالل احتاللها و�سيطرتها على الف�ضاء اللغوي عرب ف�ضاءات �إعالمية .وهنا ،وهذا من وحي هذا البحث ،ميكننا متييز م�ساحتني هامتني يف خارطة اخلطاب الإعالمي :امل�ساحة الأوىل من �ش�أنها اجتذاب وحتقيق التماهي مع املتلقي من خالل �إدماج والتعاطي مع �أفكار وموا�ضيع ذات ارتباط وثيق باحتياجات وطموحات املتلقي ،كم�سائل احلريات ال�شخ�صية وال�سيا�سية ،الدميوقراطية، العدالة ،التحرر� .أما امل�ساحة الثانية من اخلطاب فيع ّرفها ما مت تغييبه �أو �إق�صا�ؤه عن خارطة اخلطاب الإعالمي .هذا من �ش�أنه خلق �سياق خطابي يف ّرغ منظومة مفردات مثل "احلرية" و"احلوار" و"الر�أي الآخر" و"التعدد" و"احلياد واملو�ضوعية" والتي تع ّرف امل�ساحة الأوىل ،من معناها احلقيقي ويوجهها نحو الت�أ�سي�س خلطاب �إعالمي �إجها�ضي ي�ؤ�س�س لـ"دميوقراطية افرتا�ضية" زائفة ال ّ ت�شكل تهديداً مل�صالح الطبقات املهيمنة حملياً و�إقليمياً وعاملياً. �إن قيمة البحث العلمي� ،أي بحث علمي ،ال تكمن فقط يف الإجابة على �أ�سئلة البحث ،بل �أي�ضاً مبا تثريه من �أ�سئلة ال ّبد من التعاطي معها .بحث الدكتورة احلويك فعل ذلك ب�إثارته وبطريقة غري مبا�شرة �أ�سئلة حول نزاهة وفاعلية الأطر النظرية ومناهج البحث التي تتعاطى مع ق�ضايا �أ�سا�سية تهم لي�س فقط الإن�سان العربي بل �إن�سان "اجلنوب" ب�شكل عام .لذا جند �أن قيمة البحث تتج ّلى بتج�سيدها لإطار نظري ذي متالزمة منهجية توفيقية ومت�صاحلة مع منهجيات بحثية متباينة و�أطر فكرية خمتلفة .فبمقدار ما يت�ضمنه البحث من خمزون معلوماتي (بيانات ،مقابالت، ر�صد� ،أر�شيف) ،فهو ّ ي�شكل� ،إىل حد كبري ،عملية نب�ش ممنهج لي�س فقط يف اركيولوجيا اجلغرافيا 152
ال�سيا�سية ذاتها ،بل يف �أطر ومناهج بحثية عدة� ،إال �أنّ عملية النب�ش هذه ،وهذا هو الأهم ،و�إن ا�ستفادت من الإرثني احلداثي وما بعد احلداثي ،هي �أبعد ما تكون عن كونها ا�ستن�ساخاً �أو تبن ّياً وفجة وال هي بذخ فكري يختبئ وراء لأي منهما .فال هي علموية ترتكز على مو�ضوعية مزعومة ّ مقوالت البعدبنيوية �أو البعدحداثية لينتهي بنا املطاف �إىل عبثية �شبه قدرية .وهذا ما جت ّلى مرة �أخرى عندما تناولت الكاتبة بالتفكيك اخلطاب الإعالمي لف�ضائيات مثل اجلزيرة والعربية و�أبو ظبي .فلقد كان جاك دريدا و�آخرون موجودون هنا وهناك؛ �إال �أن هذا الوجود م�ضبوط وحمكوم بتلم�س مواطن القوة متاماً ب�إرادة الباحثة وباحتياجات و�ضرورات البحث فقط .وهنا حتديداً نبد�أ ّ والقيمة االب�ستيمية احلقيقية للبحث: �إنّ هذا العمل ّ يذكرنا �إىل حد كبري بالعمل البحثي الت�أ�سي�سي لإميل دركهامي "االنتحار" الذي ا�شتبك امل�ؤلف فيه مع مادة ومنهجية بحث معرتف بها لي�س ملجرد توليد معرفة حول مو�ضوعة االنتحار ،ولكن للت�أ�سي�س ملجال معريف جديد ذي مادة مميزة وح�صرية (علم االجتماع) .يبدو �أنّ هذا هو ما ح�صل �أي�ضاً مع الدكتورة احلويك� ،سواء كان مق�صوداً كما هو احلال مع دركهامي� ،أو غري مق�صود كما كان احلال مع ابن خلدون يف مقدمته التي �أ�س�ست ،باملح�صلة وعن غري ق�صد، لف�ضاء معريف جديد �أي�ضاً .فبمقدار ما يلقي بحث الدكتورة احلويك ال�ضوء على الإعالم الف�ضائي فهو كذلك ي�ؤ�س�س جليوبوليتيكا جديدة من خالل حتريرها من �إرثها اال�ستعماري اال�ستعالئي (كيفية حيازة القوة ل�ضمان دميومة الهيمنة الإمرباطورية) بتحريرها من معطيات ماهان �أو ماكندر �أو ما بينهما والتي ربطت امل�شروع املعريف ع�ضوياً ووظيفياً مبقت�ضيات وم�صالح القوى اال�ستعمارية القدمية (من �آخر جتلياتها كتابات �صموئيل هنتنغتون وفوكوياما) التي نظرت "للجنوب" داروينياً ككيان �شبه ب�شري قابل لل�سبي ويتطلب التدخل املبا�شر (هذا هو قدر و"عبء الإن�سان الأبي�ض") لغر�ض االرتقاء به و�أن�سنته و�إعادة ت�شكيله بنا ًء على منظومة َعقَدية غربية� .إال �أن البحث يعك�س �أكرث من ذلك ،فالكاتبة مل حترر اجليوبوليتيكا بن�سختها التقليدية فقط من �إرثها اال�ستعماري، بل جتاوزت �أي�ضاً معطيات اجليوبوليتيكا بن�سختها احلديثة — املدر�سة النقدية اخلجولة واملهذبة التي ،ورغم النربة الإن�سانية التحررية خلطابها ،ما زالت ،باملح�صلة ،تنظر للجنوب نظرة و�صايوية (كيان ي�ستدعي االعرتاف بب�شريته وم�ؤازرته) .ففي هذه الثنائية (�شمال /جنوب) ما زال الطرف الأول يف الثنائية (الذي ا�ستفاق �آخرياً واعرتف بـ"الآخر" (اجلنوب) ي�شغل ح ّيز الفاعلية يف اخلطاب ال�سيا�سي الغربي بينما ي�شغل اجلنوب ح ّيز املفعولية تاركاً بذلك املجال اليجاد ذريعة �أخالقية جديدة ت�شرعن النظرة الو�صايوية وت�ضمن ،باملح�صلة ،هيمنة القوى اال�ستعمارية اجلديدة يف ع�صر ما بعداحلداثة من خالل خطاب حقوقي (حقوق مر�أة ،حقوق �إن�سان ،حقوق �أقليات) ُير ّوج له عرب و�سائط الإعالم احلديثة (ف�ضائيات� ،شبكات توا�صل اجتماعي). لذا وعلى �ضوء عزل اجلغرافيا ال�سيا�سية ب�شقيها التقليدي واحلديث عن ما�ضيها الإ�ستعماري ف�إن هذا العمل ي�ؤ�س�س عرب تعاطيه مع ظاهرة الإعالم الف�ضائي العربي لف�ضاء معريف جديد، 153
154
اعــالم
يتحدث فيها اجلنوب عن نف�سه ،جيوبوليتيكا فوق نقدية ،جيوبوليتيكا مقاومة (بك�سر جليوبوليتيكا ّ �أو فتح الواو) ،متاماً كما �أ�س�س �إميل دركهامي لف�ضاء معريف جديد (علم االجتماع) عرب تعاطيه مع ظاهرة "االنتحار" بعد �أن عزلها عن حميطها التقليدي (علم النف�س)� ،أو كما فعل ابن خلدون بعد �أن �أقحم املتغريات االجتماعية املتعددة كعن�صر �أ�سا�سي يف كتابة التاريخ وفهمه. وهنا يربز اجلانب الآخر من القيمة املعرفية لهذا البحث :نحن ازاء عمل جعل من املمكن واملُتخ َّيل الت�أ�سي�س لف�ضاء معريف جديد (�إطاراً ومنهجاً) يحمل يف �أح�شائه نواة منظومة اب�ستيمية حتررية جديدة ذات �شخ�صية م�ستقلة تتفاعل نقدياً مع املنظومة االب�ستيمية الغربية وت�شتبك بها. وهنا حتديداً تلتحم امل�ؤلفة با�ست�شراقية ادوارد �سعيد التو�صيفية دافعة بها �إىل م�ستوى �أرقى ،نحو ا�ست�شراقية مقاومة (بك�سر �أو بفتح الواو) ،ا�ست�شراقية ذات خمالب ،ا�ست�شراقية رحبة جتمع بني �أكادميية �إدوارد �سعيد الناقد الأدبي ونزق وعنفوان وجر�أة الأديب والباحث الثائر (غ�سان كنفاين، فرانز فانون ،باولو فريري ،عبدالوهاب امل�سريي وغريهم)� .إذاً فالكاتبة يف هذا العمل قد جتاوزت حدود ا�ست�شراقية �سعيد ،فهي مل ِ يتم من خاللها احتالل الرواية تكتف بتت ّبع العملية التي ّ والوعي العربيني — كمتالزمة الحتالل اجلغرافيا العربية ،عرب �إعالم ف�ضائي ناطق بالعربية مبا يخدم �أهداف القوى املهيمنة عاملياً ،بل �سعت �أي�ضاً �إىل حترير تلك الرواية و�إعادة كتابتها بقلم حت�س�سه من خالل �إقحامها لقناة املنار يف البحث، ي�ؤمن بالعربية .هذا الفعل من ِق َبل الكاتبة ميكن ّ وهي الناطق الإعالمي با�سم حزب �سيا�سي ميثّل الفعل املقاوِم على ال�ساحة العربية .ف�إذا �أخذنا بعني االعتبار �أن هذا البحث ما كان ليخ�سر الكثري من قيمته لو ا�ستبدلت الكاتبة �أو حتى �أبعدت كل ّياً قناة املنار من خارطة البحث لكونها ،على خالف املحطات الأخريات ،غري مرتبطة ر�سمياً �أو ر�سمي ب�أي نظام عربي من حيث التمويل والتبعية ال�سيا�سية� .إلاّ �أنَّ الكاتبة مل تفعل ذلك غري ٍ من باب ممار�سة ما تب�شّ ر هي نف�سها به؛ ف�إذا كانت الف�ضائيات الر�سمية و�شبه الر�سمية ت�سعى للت�أثري على املتلقي عرب تغييب و�إق�صاء موا�ضيع و�أفكار معينة (كاملقاومة وال�سيادة) ،ف�إن الكاتبة جل�أت �إىل الت�أثري على املتلقي من خالل ا�ستح�ضار ما ّمت تغييبه �أو تهمي�شه من قبل تلك الف�ضائيات :فكرتا املقاومة والتحرير .من هذا املنظور ف�إن ح�ضور قناة املنار يف البحث ي�شري �إىل �سعي الكاتبة لتحرير املغت�صبة كمقدمة لتحرير الإرادة واجلغرافيا املغت�صبتني. الرواية العربية َ وككلمة نهائية ،ومن دون االنتقا�ص من قيمة هذا العمل ،فقد كان من املمكن �إ�ضافة ف�صل متهيدي ُت ّقدم فيه الكاتبة مفهوم كل من اجلغرافيا ال�سيا�سية وتاريخها ومدار�سها وحتليل اخلطاب للقارئ غري املخت�ص لتعينه على التعاطي تاريخياً وجدلياً مع ما ت�ضمنه البحث من فر�ضيات وحتليالت وما تو�صل �إليه من نتائج .كذلك ولغر�ض تركيز انتباه القارئ على النقاط املركزية للبحث ،كان بالإمكان �أي�ضاً ا�ستغالل الهام�ش بطريقة �أف�ضل وذلك من خالل �إحالة قدر من املعلومات والبيانات الأر�شيفية التي يزخر بها البحث �إليه لإعطاء القارئ حرية االختيار للرجوع �إليها متى �شاء �أو �إن ر�أى لذلك �ضرورة.
حمنتي مع ال�صحافة و�أ�شباحها؟ �أحمد من�صور -كاتب
رب ُع قرنٍ و�أنا �أُ ِ حا�ص ُر عبثاً قلع َة ال�صحافة من القرن الفائت يف بريوت با�ستثناء طاق ٍة �صغرية انفتحت عند �أ�ستا ٍذ ط ّيب �إبن جبل :الأ�ستاذ �سليمان �أبو زيد �صاحب يومية �أمامي يف �أوائل ال�ستينيات َ ا�سمها "الدنيا اجلديدة" يف بريوت عرو�س املتو�سط وبلد اخلنق وال�شنق للرباعم املن�سيني ال بلد يتبجحون ترداداً �صباحاً وم�ساء لي ًال ونهاراً. الإ�شعاع والإبداع ،كما ّ فرح َب و�ش ّرع �صدر مطبوعته .بد� ُأت �أكتب :مقايل الأول دخلت �إىل رئي�س التحرير ّ ُ مقدماً نف�سيّ ، كتب امللك ح�سني والذي يناق�ض بر�أيي الواقع. كان على طريقة "�صراحة هيكل" ر ّداً على ما َ ك ّرت ال�س ّبحة ح ّتى املقال ال�سابع .ا�ستدعاين ٍ عندئذ هذا ال ّأب املهيب الودود يف �سلوكه و�أخالقه ا�ستحل تعبك ُي ُ ُّ راق جماناً .تريد اال�ستمرار جماناً: قائ ًال� :أنا فوجئت يا ابني بقلمك� .إ ّال �أنيّ ال لدي موظفون .فقط البع�ض من �أ�سرتي ي�أخذون �أه ًال و�سه ًال و�إ ّال ف� َ فلي�س ّ أنت ح ّر .وكما ترى َ بيدي. يف َ تلك الأ ّيام كانَ ح�صويل على �سندوي�ش فالفل يف منتهى ال�صعوبة ،كذلك دفع �أجرة الفندق، �أ ّما املوا�صالت فكانَ ي�ؤ ّمنها حذائي من دونَ �أية وا�سطة. كان يف تلك املرحل ِة �صحيفة �أ ّم ال�صحف وال�صحافيني يف بريوت وحدها جريدة النهار (التي م َّر على ت�أ�سي�سها ح ّتى اليوم �أكرث من ثمانني �سنة) الوحيدة التي تدفع ملوظفيها ،والتي تعترب م�ؤ�س�س ًة الديك ،ولو كانَ دجاجة يتبخرت �أينما كان ع�صري ًة حقيق ّية .ومن يعمل يف جريدة النهار ،جريدة ّ �أكرث من الديك الهندي ..واهلل ي�سرت� .أ ّما ال�صحف الباقية فكانت �صحيفة ال�شخ�ص الواحد فالزوجة �سكرترية والأبن مدير �ألخّ .... خرج واحد تتقا�سم ُه وكل ما ي�أتي من مال ُّ ي�صب يف ٍ العائلة ح�سب مراكز القوى .لقد علمنا فيما بعد �أنَّ َ هناك �صحفاً يف لبنان كانت ُتطبع على ح�ساب البع�ض من النافذين يف اخلليج ال ي�سمع بها �أحد يف لبنانُ ،تطمر يف الرتاب كما البنات يف بع�ض الأعداد منها متويهاً وت�ضلي ًال �إىل مم ّوليها املرت ّبعني يف ال�صحراء� .إ ّنها ر�سل ِ اجلاهلية �أو تحُ رق و ُي َ العبقرية اللبنانية!.. عمل ،كيفما اتفق قت هوى ال�صحافة ُ نظراً لهذا الواقع البائ�س اليائ�س ط ّل ُ وهمت يف البحث عن ٍ 155
اعالم
ملتابعة اجلامعة ب�شكل ّ غامرت بالذهاب �إىل باري�س التي �أنقذتني يف جميع النواحي. متقطع م�ؤملُ . عظمة باري�س �أ ّنها ُتعطيك الفر�صة وال ت�ستعبدكَ . دائم عليك �أنْ تفلح� .إ ّنها ال تقفل الباب ٍ ب�شكل ٍ �أمامك .قد تعاين كثرياً ،ولكنك يف النهاية – �إذا كان لك ثقة بنف�سك – وا�صل �إىل مبتغاك. قرعت باب "القد�س العربي" عرو�س ال�صحافة القومية يف أخذت نَف ََ�ساً يف مدينة النور ُ بعدما � ُ بتوا�صل ُ ع�شرين عاماً ،فدعاين ب�أريحيت ِه املعروفة رئي�س منذ �أكرث من أخذت �أكتب و�أكتب ٍ لندنُ � . َ حتريرها" :امل�ؤ�س�س" بني امل�ؤ�س�سني؛ وهذا ما غمرين معنو ّياً و�أعطى كبرْ ي �أوك�سيجيناً ال يو�صف. واحلق ُيقال �إنَّ القد�س هي جريدة الكرثة الكاثرة التي تكتب لها جماناً من جميع الأ�صقاع� .أ ّما ّ من تدفع �إليهم فال يتجاوز عدد �أ�صابع اليدين على الأكرث. َ يل"دعك من ال�سيا�سة"،وهو رح َل (يف ما بعد) �أول كلمة قالها �إنَّ امل�س�ؤول عن الثقافة �آنذاك الذي َ الغارق يف �أكرث من بئر .والذي ال �أن�ساه �أبداً هو فتح جريدة "الأهرام" امل�صرية – ع َرب مكتبها ب�شكل موا ٍز لـ"القد�س العربي" الغالية على قلبي. بباري�س – �صدرها ملقاالتي ٍ لقد الحظت �أن معظم من ورثوا �أو ا�ستولوا �أو ا�ستكر�سوا على �أبواب الثقافة يف ال�صحاف ِة العربية كانوا كاليهو ِد يف جمال املال� .إ ّنهم كخرزات العقد الواحد يعجز �أنْ تلدهم رحِ ٌم واحدةكـ"رحم" غ�سان تويني العبقري بالن�سب ِة لديوك ِه الذين ا�ستولدهم و�أطلقهم� .إ ّنهم يتك ّلمون اللغة نف�سها، تعددت �ألوان ال�صحف التي يكتبون فيها� .إ ّنهم كممثلي التجار يف فنزويال الذين يتناف�سونَ ولئن ّ بيع ماركاتهم لكنهم ينامون يف الفندق نف�سه وي�سهرون وي�سكرون معاًَ .من يدري قد تكون يف ِ ال�شركات التي ميثلونها لل�شخ�ص نف�سه �أو لل�ش ّلة نف�سها ،كما �أنَّ �أ�شكال ه�ؤالء ال�صحافيني (�إ ّال ما ندر) هي ق�صا�ص ر ّباين لهم فقلما جتد بينهم وجهاً ت�ست�أن�س ب ِه �أو يرتاح الطفل ملر�آه وي�ضحك ل ُه الرغيف ال�ساخن فلذلك �أرادوا االنتقام من ّ جميل و�أ�صيل. كل �شي ٍء ٍ �إنَّ م�س�ؤو ّيل الثقافة يف �صحفنا العربية (بالدور الذي يلعبون ُه) ّ ي�شكلون خطراً قد ال يق ّلعن اخلطر الع�سكري اخلارجي .وال غرو يف ذلك لأنَّ النظام الغربي القائم يف العامل بزعامة �أمريكا يح ّتم خنق الإ�شعاع يف بالد الإ�شعاع وا�ستفحام ال�شم�س يف عق ِر �شروقها لإعادتها مع ّلبة �إىل مطلعها فحماً وزفتاً. َ قال ال�شاعر الكبري الراحل جوزيف حرب بهذا اخل�صو�ص�" :إنَّ م�س�ؤويل الإعالم الثقايف جمموعة من املافيات الثقاف ّية ولعلهم �أجهزة ا�ستخبارية ثقافية .وهذا �أخطر من �أجهزة اال�ستخبارات الأمن ّية الذين لديهم غرف ا�ستجواب و�أقبية تعذيب ،وعيون وكالب و�أدوات قمع .هناك نظام �أمني نازي يف و�سائل الإعالم الثقاف ّية ،والغراب ُة يف هذا الأمر �أنَّ هذا النظام ميار�سونه وهم الذين يكتبون عن احلر ّية والدميقراطية واملجتمع املدين وحقوق الإن�سان. �إنَّ ال�صراع ب َني املثقفني مقبول ،ولكن �أن يتح ّول ال�صراع �إىل حماوالت اغتيال �أو �إبادة ف�أظن �أنَّ هذا الأمر ال يقف وراء ُه �إ ّال جمموعة �أقل ما فيها �أ ّنها جهاز خمابراتي ثقايف". 156
لكن مفاتيحها ال�صدئة وقال ال�شاعر بالل �شرارة" :حاولنا االنفتاح على ال�صفحات الثقاف ّيةَّ ، حالت وحتول دونَ دخول املواهب من ّ كل الفئات العمر ّية ،وت�سعى لإبعاد كل مناف�س حمت َمل بلْ �إىل اغتيال كل َمن لديه حمربة". بعد بروز �أهم ّية النفط الذي وحد ُه يعطي بكالم عادي �إنَّ التغيري ممنوع يف املنطقة العربية �سيما َ ٍ العربي الن�صر والهيمنة ملن ميلك ُه �أو ي�سيطر عليه .هذا النفط الذي �أكرث من ن�صف ِه وجِ َد يف مدانا ّ حتت املنكوب "�صادر" جمي َع الو�سائل ومنها ال�صحافة والثقافة فيها ٍ ب�شكل خا�ص لكي تكونَ َ غدت ال�صحافة الغربية كيف نزلنا َ ت�ص ّرفهِ .ولكي تت�ضح ال�صورة فما علينا �إ ّال �إلقاء نظرة َ وكيف ْ حد كبري العامل ّية ،يف خمالب الدماغ اليهودي ،والعاملون مبعظمهم يف ال�صحافة هم �أ�سا�ساً ،و�إىل ٍّ ب�شكل من الأ�شكال يف �أجهزة املخابرات .همهم الطاعة و�إ�شباع الغرائز وارتداء �أف�ضل املاركات ٍ فتتوقف �أمطار ال ّلعنات على �أ�شكالهم القبيحة لأنَّ الوجه بر�أيي هو �سفري القلب والروح والوجدان. لي�س والب�شع الذكي هو َمن ي�ستغل ذكاءه لتغيري ال�صورة ب�صورة �أعمال ِه و�أخالقهِ ،وه�ؤالء عددهم َ قلي ًال يف التاريخ �إذ لعبوا �أدواراً يف منتهى الأهم ّية� .أ ّما القبيحون العنيدون فهم الأكرثية املطلقة من دون �أي منازع. ب�صور ٍة �أكرث جال ًء �إنَّ هذا النوع من ال�صحافيني كالط ّباخة يف املطاعم ،فلو دخلت املطعم من مطبخهِ ،ملا دخل ُه زبون. ٍ وا�ستجابات ال �إ ّن َك ت�ستطيع �أحياناً �أن تطلب منهم ما ت�شاء� :أفئدة .كلى .طائرات� .سجادات هوى فال�سوق هي عر�ض وطلب. َ حتديد لها على الأر�ض �شرط �أنْ تدفع الثّمن ّ �أخربتني �إحدى ال�سيدات �أنها التقت �أحد ر�ؤ�ساء التحرير فغازلها ،ويف �ساعات َ جعل منها أ�صبحت الرقم الثاين رئي�سة حترير مناوبة مما ه�شّ لها يف احلال ،قائلةً :بالكاد �ساعتان من الرثثرة � ُ يف اجلريدة� ...شكراً ووداعاً ف�أنا عائد ٌة �إىل �أطفايل الذين هم بحاجة �إ ّيل �أكرث من جريدتك الزاهرة بال�شوك .و�أبواب اهلل وا�سعة .كما �أذهلني الأ�ستاذ الزميل المع احل ّر الذي يعمل يف الثقافة ُ منذ �أكرث من ربع قرن با�ستمرار ّيته ومتا�سكه وعدم قابليته للتل ّوث ،وهو القائل�":إ ّن َك �إنْ مل تدفع وتدفع فلن ي�ستطيع َ ا�سمك �أن يلمع". جتد �صحافياً يز ّين ُه احليا ْء وال�صدق جتد اليورانيوم يف الربع اخلايل من �أن َ ملن الأ�سهل �أن َ �إ ّن ُه َ واجلدارة� .إنَّ هذ ِه املهنة التي تعت ُرب ال�صيد والبحث يف جميع االجتاهات فقط عن اجلديد وعن احلقيقة �أ�صبحت مكتب توظيف �أو ا�ستقبال �إعالنات جاهزة .فيا ويل َمن يكتب .الربيد ال ي�صل. واملو�ضوع انطرق �سابقاً وامل�ستوى غري جدير مبجاورة الآيات ال�ضوئية يف هذ ِه ال�صحف ال�صفراء الناعبة. َ خم�س قال �أمامي الكاتب جمال الغيطاين يف باري�س :لقد و�صلني بريد ك ّل ُه �صالح يقت�ضي ن�شر ُه َ ولكن "�أخبار �أدبه" ال تكفي الحت�ضان هذ ِه الأمواج �سنوات .الربيد طبعاً كالنهر املتوا�صلَّ . 157
اعالم
التي ال تتوقف ،فهو ينتقي .وهنا الطام ُة الكربى بالن�سب ِة للأجيال الطاحمة .معنى ذلك �أنَّ َ هناك يف العمق نه�ض ًة فكري ًة على قاعد ٍة وا�سعة تخ�صرها وتخت�صرها بلْ تخنقها �أبواب هذه ال�صحف ال�ض ّيقة ح ّتى على مناقري احل�سا�سني. يف هذا اخل�صو�ص �أخربين �أحد ال�صحافيني امل�صريني العمالقة ب�أنَّ ر�سائل الق ّراء يف بع�ض ال�صحف الربيطانية ترتدي �أهمية �أكرث من كتابة املحرتفني الذين يقب�ضون. لقد عاتبت �أحد الأ�صدقاء العاملني يف �إذاعة م�شهورة بباري�س قائ ًال :ملاذا ال تذيع يف برناجمكما نكتب يف ال�صحف� ،أجاب :يا �أخي انا عندي قائمة ب�أ�سماء الذين يجب �أن �أقر�أ لهم وهنا ال ن�ستطيع �إ ّال �أن نقول ما ير ّدده امل�صريون" :دقّي يا طبلة"... واجهت الكثريين من امل�س�ؤولني عن ال�صفحات الثقافية يف الوطن العربي وتك ّلمت معهم لقد ُ بلغة �أخالقية ومبنتهى التهذيب ،من ّوهاً ب�أن الباقي هو الأ�صيل وخري النا�س �أنفعهم للنا�س غري �أنيّ جف �شعرت �أن املخارز ال ت�ستطيع اخرتاق �أعينهم امل َزق ّية اجلافة و�أن �آذانهم �سحلوها بال ّزفت الذي ّ عمي بك ٌم ال يفقهون... والذي ينق�صهم هو ال ُبكم وقلة الفقه ،كي تتم الآيةٌّ : �صم ٌ لقد ا�ستطاع �أ�صحاب النيات اخلفية اخلبيثة تدمري ال�شعر العربي الذي هو ديوان وبيوت العرب يبق من ال�ص ّوتية .هذا ال�شعر الذي يخرتق الآذان مرت�سماً على الأعني اغتالوه �ش َّر اغتيال ومل َ حتت كل زواياه و�أركانه كما يفعل ال�صهاينة العروبة والعربية �سوى قر�آنها الذي ما زالوا يحفرون َ بامل�سجد الأق�صى .كما �أنَّ الكاريكاتور الناطق ب�شحطاته وخطوطه الر�شيق املخت�صر كالبيت ال�شعري الأجمل الذي يرت�سم يف العني والقلب منعوه ومل يرتكوا �سوى �ضالل ِه الباهتة التي ّ ال ت�ؤذي منلة ،فلذلك قتلوا ناجي العلي .كما بع�ض الزعماء ن ّب َه ال�صحف بعدم التع ّر�ض لقوام ِه اجل�سدي وقيافتهِ. ّ من بدائع �صحافيي الثقافة يف معهد العامل العربي بباري�س:
فرن�سا لديها �سيا�سة ترتكز على ثقافتها ومنائرها العريقة القدمية واجلديدة التي تتبارى يف تعاليها �شعب يف �إ�ضاء ًة يف طول البلد وعر�ضه ويف العامل� .إ ّنها ت�ستلفت االنتباه عندما ت�ستجيب �إىل ٍ حمنة فتخ�ص�ص ل ُه �سن ًة لكونها "مهد الثورة الفرن�سية" و�أر�ض "حقوق الإن�سان" ومقلع الكبار تخ�ص�ص �سن ًة للبنان اجلريح وهي �أ ّم ُه احلنون الذي من ال�شعراء والفال�سفة والعلماء ،فال غرو �أن ّ فهرع عمالقة ال�صحاف ِة فيه وال�شعر �إىل امت�شاق �ص ّورت ُه بحدوده ِ واعتربت ُه ج�سرها �إىل املنطقةَ . ف�ضج اجلمهور لعدم �سماع امليكروفونات ّ كالديوك املزرك�شة ب�ألوانها واملفرك�ش ِة غالباً ب�أ�صواتها َّ ما كانَ ينتظره ،ففو�ضى املفاهيم عمومية ولي�ست خالقة على الإطالق واحلابل منتحر بالنابل. ولكن الأ�شعار مل تكن � ّأقل فاقرتح �أحد الأذكياء �صارخاً :اتركونا من النقا�ش و�أ�سمعونا �أ�شعاركمَّ . َ 158
كنت بجانبهم هو االرتهان املعنوي الذي ّبكلهم �سوءاً من النقا�ش .و�أكرث ما �ضايق البع�ض الذي ُ مبقاعدهم حتى انتهاء النزاع الأخري. من عجائب غرائب ال�صحافة:
َ هناك ِف ْعل َك َت َب يف العربية الذي يعني دافعاً ذاتياً يدفعك �إىل الكتابة مندفعاً بفكر ٍة ما حرب ُه كتب ال�صدق ك�إطا ٍر عام .كذلك هناك ِف ْعل مناق�ض من نف�س اجلذر :هو َك ْتـ َل َب :الذي يعني َ ب�شكل كاذب كما �أنّ َ ا�ستكتب الذي يعني ا�ستخدام قلم �أحدهم ليك ُت َب ل ُه ما يريد يف مقال هناك ٍ َ و�أحياناً يطبع ُه با�سمهِ .ويكون �أحياناً بكتابة الدكتوراة مبنتهى الب�ساطة ،فك�أنَّ الكتاب َة ب�ضاع ٌة ُتباع و ُت�شرى وك�أنَّ ّ كل �شيء باملال .ال نريد �أن نفتح امللفات فكل هذ ِه ال�صيغ موجودة يف عاملنا العربي ب�شكل م�أ�ساوي .كل �شيء �أم�سى باملقلوب ويا ويل الفقري الوا�سع ولكم كانَ �ضحايا ب�سببها انتهت ٍ خارج الثمن للثمن الهزيل الذي �سيتلقاه. وال�ضعيف �إذا كانَ ذك ّياً بريئاً ف�إ ّن ُه �سيدف ُع ثمناً َ ُّ كل ٍ واحد منهم �أرا َد �أن يت�أن�سج (ن�سب ًة �إىل �أن�سي احلاج) �أو يت�أدن�س (ن�سب ًة لأدوني�سي) �أو يت�سعقل (ن�سب ًة ل�سعيد عقل) � .....إ ّنهم �صيادو فر�ص بامتياز واحرتاف وال يعرفون �سوى معاناة الفقر والإدقاع يف اللغة وق ّلة الإطالع وعدم معاناة الأمل والعذاب فاعتربوا �أن �أوراق الذهب التي بور؛فهم تغ ّلف ال�شوكوالته هي الذهب بعينهِ ،وال خوف من اجلمهور الذي يعتربونَ ذهن ُه بوراً يف ُ وكيف مل �إذن الذين �أنزلهم اهلل ومالئكت ُه ليحرثوه ويبذروه ويح�صدوه فلماذا ال نرتكهم يفعلون؟ َ ندعهم مي�سخون؟!.... حيث �أُقيمت له �أم�سية يف املكان نف�سه بعك�س ما جرى لل�شاعر العراقي اخلالد بدر �شاكر ال�س ّيابُ ، َ ا�شرتك بها مثقفون عرب من خمتلف الأقطار فكانت �سمفونية يف االن�سجام والروعة والإ�شراق مما دف َع �أحد �أ�شهر ال�شعراء الفرن�سيني املعا�صرين جان نويل �إىل القول بحزن�" :إنَّ الفرن�سي (كلغة) ّ جت�سد نب�ضاً وترجم ًة ٌ �شاحب هذا امل�ساء" .ويف الواقع كانت الأم�سية مفخر ًة لل�شعر العربي الذي ّ ومو�سق ًة مبنتهى اجلدار ِة والإبداع. وتوجهوا نحو الرواية ك�أ ّنهم ال يعلمون (يف �إنّ الأقزام من النقاد ير ّددون� :أيها ال�شعراء اتركوا ال�شعر ّ "فراغهن" مكان ما) �أن كرثة اخلادمات امل�ستوردات هي التي �أتاحت لل�سيدات العربيات مبلء َّ ا�ستيعابهن لها ،ومدى ت�أثري ذلك يف خلق من خالل القراءة التي ال ندري مدى جدواها ومدى َّ رواي ٍة عربية ماردة كالرواية الرو�س ّية �أو ما �شابه. �إنَّ ال�ساح َة ال�سيا�سية كما هي بحاج ٍة �إىل �أكرث من ربيع و�أكرث من �صيف و�أكرث من ح�شر فال�ساح ُة ما�س َة �إىل خم�سينيات القرن ال�صحافية والثقافية بحاج ٍة �إىل قيام ٍة ال ُت ْبقي وال تذر� .إ ّننا بحاجة ّ الع�شرين اخل�صيبة. 159
الغ�ش والتزوير يف الطعام وال�سالم والكالم واملاء والكهرباء والهواء أ�صبح ّ طفح الكيل و� َ لقد َ حتت �أكرب خطر عرف ُه التاريخ حليبها ترزح َ وال�صورة وال�سمع واحلجر والب�شر� .إنَّ الكلم َة ثدي الأ ّمة ُ والد�س والنفاق والف�سق وامل�سخ .وقانا اهلل من ا�ستطالة هيمنتها واكت�ساحها ومن ال�شرور ال�سم ّ ّ حيث كانَ �آبا�ؤنا و�أجدادنا �أكتافاً ترفع ال�شم�س جت�سدها �أما َم �أجيالنا الطالع ِة احلاملة بالعود ِة �إىل ُ التي ّ احلقيقي الأ�صيل كما وتزيدها جت ّل ّياً على جت ٍّلو�سطوعاً على �سطوع يف ال�شرق ونحو العامل� .إنّ القلم ّ اهلل على ِّ كل �شي ٍء قدير فه َّالنا �سامعون؟
دار نل�سن
هاتف 01/739196: الربيد الإلكرتوين darnelson@hotmail.com:
160
لبنان -بريوت � -شارع احلمرا -بناية ر�سامني -ط
4
tel: 00961 -1 - 751 541 E-mail: info@darabaad.com website: www.darabaad.com
لبنان 5000لرية | الأردن 2 :دينار | �سوريا 100 :لرية | م�صر 10 :جنيه | تون�س 1.5 :دينار | املغرب 20 :درهم | م�سقط 1 :ريال ال�سعودية 10 :ريال | البحرين 1.5 :دينار | الكويت 1.5 :دينار | قطر 10 :ريال | الإمارات 10 :درهم