العدد رقم - 12كانون الثاين 2017
فـ�صـل ـيـة فـكريـة ثـقافيـة تـعنى ب�ش ـ�ؤون امل�شــرق
اليوم العالمي للغة العربية
احتضار لغة وأمة ! ل�ؤي زيتوين -فرحان �صالح -فيفيان حنا ال�شويري
ال����ن����زوع ال���ت���اري���خ���ي لإي�����ران جمال واكيم
م�����������������������أزق ال��������ع��������روب��������ة عاطف عطيه
ال��ع��ل��م��ان��ي��ة ر�ؤي����ة م��ن زاوي����ة �أخ���رى جنيب ن�صري
احل����������داث����������ة ال����ت���������ش����ك����ي����ل����ي����ة عادل قديح
ال��������ظ��������اه��������رة ال�����رح�����ب�����ان�����ي�����ة ها�شم قا�سم
كتّاب العدد :علي م�ش ّيك | مها خريبك نا�صر | ح�سن عجمي | وفيق غريزي | الأباتي انطوان �ضو
3
ط- بناية ر�سامني- �شارع احلمرا- بريوت- لبنان لبنان- بريوت113 - 7179 :ب.�ص
tel: 00961 -1 - 751 541 E-mail: info@darabaad.com website: www.darabaad.com
العدد رقم - 12كانون الثاين 2017
فـ�صـل ـيـة فـكريـة ثـقافيـة تـعنى ب�ش ـ�ؤون امل�شــرق
ملف العدد " احت�ضار لغة و�أمة"
ر�أي ا�ستعادة اللغة �سليمان بختي
3
فكر النزوع التاريخي لإيران نحو �شرق املتو�سط ملاذا تدعم �إيران النظام ال�سوري والرئي�س ب�شار الأ�سد؟ د .جمال واكيم م�أزق العروبة بني املنازعات الأهلية والقومية االجتماعية
5
29
فل�سفة احلياة والكون املعلوماتي ح�سن عجمي
55
العلمانية ر�ؤية من زاوية �أخرى
59
جنيب ن�صري 61
د.علي م�ش ّيك �سوراقيا ...احلقيق ُة واخلال�ص د .مها خريبك نا�صر
د.ل�ؤي زيتوين جدلية العالقة بني اللغة العربية والأمة يف التاريخ (من حمورابي وقدمو�س �إىل غوتنربغ) فرحان �صالح اللغة العربية :ل�سان �أمة وعنوان ح�ضارة وهوية د .فيفيان حنا ال�شويري
99
107
�أدب
د .عاطف عط ّيه
الوعي الب�شري ظاهرة تاريخية
�أ�ضواء على "احت�ضار ال ّلغة"
97
87
الظاهرة الرحبانية :عا�صي ومن�صور وفريوز النه�ضة املغ ّيبة ها�شم قا�سم �آليات دخول احلداثة الت�شكيلية �إىل لبنان: من املتطلبات الدينية واالجتماعية �إىل البعدين الأكادميي وال�سلعي د.عادل قديح �شعر الفداء واالنبعاث وفيق غريزي
117
127
145
منا�سبة النه�ضة اجلديدة الأباتي �أنطوان �ضو
157
حتوالت م�رشقية
ف�صلية ،فكرية ،ثقافية ،تعنى ب�ش�ؤون امل�شرق واملنطقة هيئة التحرير
فاتن املر عاطف عطية ح�سن حماده ن�صري ال�صايغ
�سعاده م�صطفى �أر�شيد �سليمان بختي �سركي�س �أبو زيد
�سكرتري التحرير التنفيذي :هنادي �شموط املدير امل�س�ؤول� :سركي�س �أبو زيد الربيد الإلكرتوينabouzeid@gmail.com : هاتف)00961-1( 751541 : �صندوق بريد 113-7179 :بريوت -لبنان. �شارع احلمرا ،بناية ر�سامني ،الطابق الثالث. الإخراج الفنيzaid mahdi : ت�صدر يف طبعتني من فل�سطني ولبنان مدير عام طبعة فل�سطني� :سعاده م�صطفى �أر�شيد هاتف0599305248 : �صندوق بريد 41 :جنني -فل�سطني توزيع :النا�رشون
بريوت -امل�شرفية� ،سنرت ف�ضل اهلل -طابق 4
هاتف وفاك�س: خلوي)00961-3( 975033 :
)00961-1( 277007 - 277088
ت�صدر بالتعاون مع م�ؤ�س�سة �سعاده للثقافة
بناية ر�سامني� ،شارع احلمرا ،ر�أ�س بريوت، �صندوق بريد 113-5557 :بريوت -لبنان. هاتف)00961-1( 753363 : فاك�س)00961-1( 753364 : الربيد الإلكرتوينsaadehcf@idm.net.lb : املوقع الإلكرتوينwww.saadehcf.org : ت�صدر مبوجب قرار رقم 82تاريخ 1981/7/6
�صادر عن وزارة االعالم يف لبنان اال�شرتاك ال�سنوي -لبنان
للأفراد 50 :دوالراً �أمريكياً للم�ؤ�س�سات 100 :دوالر �أمريكي اال�شرتاك ال�سنوي -خارج لبنان للأفراد 100 :دوالر �أمريكي للم�ؤ�س�سات 200 :دوالر �أمريكي
املواد املن�شورة تعرب عن ر�أي كاتبها
ر�أي
ا�ستعادة اللغة �سليمان بختي – نا�شر وباحث
ال �أزال �أذكر جواب ال�شيخ عبداهلل العاليلي حول اللغة العربية وعالقتها بالفكر ،وكان ذلك يف حوار �أجريته معه يف ت�سعينيات القرن املا�ضي .قال ال�شيخ ":مق ّوم اللغة �أن تفكر ،وفر�ض �إن�سان بال لغة يعني فر�ض �إن�سان بال تفكري" .لغتنا العربية لغة مل تنقطع منذ خم�سة �آالف �سنة .حملت �إلينا القدمي واجلديد يف �آن .الثابت والعابر .ال�سحر والطرب .حتى جاء زمن وانهارت فيه ال ُبنى املحيطة بهويتنا احل�ضارية ،واللغة جزءاً �أ�سا�سياً من هذه ال ُبنى. وبد�أت الإ�شارات تتواىل: � - 1أزمة يف �إنتاج املعنى املرتبط باللغة. - 2تراجع امل�ستوى الإبداعي والأدبي. - 3ق�صور يف متابعة تطورات العلم يف امل�صطلح واملنهج والداللة. - 4ف�شل النظام الرتبوي يف �إنتاج قارىء -القراءة عنده قنطرة نحو االبداع والتغيري. - 5تراجع اللغة الف�صحى ل�صالح اللهجات والعاميات واللغات امل�ستحدثة. اللغة حيلتنا اجلميلة �سقطنا �أمامها بال�ضربة القا�ضية من �سطوة التكنولوجيا وو�سائل التوا�صل االجتماعي ،ومن تقليل احرتام هويتنا احل�ضارية وغياب امل�شروع احل�ضاري. وحتى اللعب باللغة ما عاد ي�ستهوي �أحد� .شبه الفيل�سوف فتجن�شتني املمار�سة اللغوية بالقيام بالألعاب .وثمة قواعد للعبة وال �أحد يريد �أن يحرتم هذه القواعد. 3
ولكن م�س�ألة اللغة �ستظل يف قلب النقا�ش لعالقتها الوثقى بالفكر واحل�ضارة واحلداثة والنه�ضة والتاريخ .و�ستظل ت�ستمد قوتها من التفاعل احلياتي واملمار�سة الوجودية ومن التاريخ الفردي واجلماعي معاً. ون�س�أل :هل اللغة و�سيلة �أم غاية؟ وما الفرق بني اللغة والفكر؟ مييز بورديو يف كتابه "ماذا يريد �أن يقول الكالم" بني �سلطة اللغة النابعة من �سلطة فاعليها ولي�س من ذاتها .وكيف تنطلق اللغة العربية لتعبرّ عن الواقع بدون تعمية �أو تزييف �أو لأجل الت�سويق اليديولوجية مزدوجة لتحمي ال�سلطة ال�سيا�سية والتيار الديني ال�سائد. والغر�ض من كل ذلك ال�سيطرة والهيمنة ال الإ�صالح �أو التنوير. يبقى �أن اللغة اليوم يف ذروة �أزمتها ،وعلينا ا�ستعادتها لغة تامة �صحيحة لكي تعرب عن وجودنا وهويتنا وفكرنا النقدي الراف�ض لوقائع ثقافية واجتماعية و�سيا�سية .واالنعتاق الفكري يف نهاية املطاف يرتبط ارتباطاً ع�ضوياً بالتحرر اللغوي. ر�أى ابن خلدون �أحوال اللغة والفكر ،وعرف مو�ضع اخللل ،وكتب يف مقدمته� ":إن اللغة �أحد وجهي الفكر ،ف�إذا مل تكن لنا لغة تامة �صحيحة فلي�س يكون لنا فكر تام �صحيح".
4
ف�����������������ك�����������������ر
النزوع التاريخي لإيران نحو �رشق املتو�سط
ملاذا تدعم �إيران النظام ال�سوري والرئي�س ب�شار الأ�سد؟ د.جمال واكيم -دكتور يف التاريخ والعالقات الدولية
هذه الدرا�سة تركز على الدور التاريخي لإيران ك�صلة و�صل بني �شرق �آ�سيا و�شرق املتو�سط ،و�أن �إيران لطاملا ازدهرت عندما كانت تلعب هذا الدور ،بينما كانت تتعر�ض للعزلة والهيمنة عليها من قبل قوى خارجية عندما تعجز عن لعب هذا الدور .هذا يف�سر ملاذا كانت �إيران دائماً ت�سعى للو�صول �إىل �شرق املتو�سط عرب �إقامة حتالفات مع قوى خا�صة يف �شمال بالد ال�شام و�شرق الأنا�ضول .وهذا ما يف�سر العالقات القوية التي ربطت �إيران باجلمهورية العربية ال�سورية منذ العام 1980ودعم طهران لدم�شق �ضد املحاوالت اجلارية للإطاحة بالنظام القائم فيها. يف ت�شرين �أول� /أكتوبر مت ت�سجيل مقتل عدد من قادة احلر�س الثوري الإيراين يف القتال الدائر يف �سورية .وكان �سبق ذلك ا�ستهداف طائرات �إ�سرائيلية يف 18كانون ثاين يناير 2015 ملوكب لقادة من احلر�س الثوري الإيراين وحزب اهلل �أدى �إىل مقتل اجلرنال يف احلر�س الثوري علي اهلل دادي وجهاد مغنية ابن القيادي ال�سابق يف حزب اهلل عماد مغنية وعدد من القادة يف حزب اهلل .كان هذا دلي ًال قوياً على التزام �إيران ومعها حزب اهلل يف دعم دم�شق يف احلرب الدائرة �ضدها .كما كان دلي ًال قوياً على عزم �إيران للإبقاء على نافذتها املفتوحة عرب دم�شق على �شرق املتو�سط .وكان هذا النزوع الإيراين �إىل �شرق املتو�سط �أحد املوا�ضيع املحورية يف املناظرات بني املر�شحني للرئا�سة الأمريكية يف العام 2008ومنها �إعالن املر�شح اجلمهوري ميت رومني يف مناظرة له مع املر�شح الدميقراطي باراك �أوباما ب�أن على الواليات املتحدة منع 1
1 - No Author, Israel Strikes in Syria kills Mughnyeh’s son, 6 others, the Daily Star, Jan. 18, 2015 at http://www.dailystar.com.lb/News/Lebanon-News/2015/Jan-18/284494-israelistrike-on-golan-heights-targeted-hezbollah-vehicle-kills-4-source.ashx )(accessed on January 25, 2015 5
�إيران من الو�صول �إىل �شرق املتو�سط .واجلدير ذكره �أن �إيران ومنذ �أيام الأخمينيني يف القرن ال�سابع قبل امليالد وحتى يومنا هذا� ،سعت دائماً لأن يكون لها موطئ قدم على �شرق املتو�سط. 1
العوملة الأوىل
حتى القرن ال�ساد�س قبل امليالد كانت الإمرباطوريات التي قامت حتى ذلك الزمان جميعها تعتمد على طرق التجارة البحرية �أو النهرية ،لأن النقل عرب ال�سفن والقوارب كان �أقل كلفة و�أكرث فاعلية يف نقل �أحمال كبرية � .إال �أن تطوراً جرى يف �أواخر الألفية الثانية قبل امليالد كان �سي�ؤدي �إىل ثورة يف النقل الربي .ففي �أوائل الألف الأول قبل امليالد كان قد مت تطوير �سرج اجلمل مبا �سمح با�ستعماله يف عملية نقل الب�ضائع عرب ال�صحارى ،ما �أدى �إىل ثورة يف النقل الربي و�إىل تو�سيع التجارة الربية مبا جعلها يف القرن ال�سابع قبل امليالد تناف�س طرق التجارة النهرية والبحرية من حيث الفاعلية االقت�صادية . هذا �أدى �إىل تفعيل طرق التجارة الربية مع كل من الهند وال�صني لت�صبح اله�ضبة الإيرانية حلقة الو�صل الأ�سا�سية لهذه الطرق املتوجهة �أي�ضاً �إىل �شرق املتو�سط .واجلدير ذكره �أن اله�ضبة الإيرانية كنطاق جيو�سيا�سي تتجاوز احلدود ال�سيا�سية لإيران املعا�صرة لت�شمل �أفغان�ستان و�أجزاء من �آ�سيا الو�سطى �شرقاً مت�صلة بالتايل ب�صحراء كزينج جيانغ التي ت�شكل اجلزء الأكرب من ال�صني املعا�صرة .ومتتد غرباً �إىل مرتفعات جبال زاغرو�س على طول احلدود مع بالد ما بني النهرين لتت�صل �شما ًال بجبال طورو�س في�شكل �شرق الأنا�ضول جزءاً ال يتجز�أ من هذا النطاق اجليو�سيا�سي .ازدهار التجارة الربية يف ظل 2
3
4
1- Saeed Kamali Dehghan, During Monday night's presidential debate, Mitt Romney repeated a gaffe he has already made at least five times before, the Guardian October 23, 2012 at http://www.theguardian.com/world/iran-blog/2012/oct/23/romney-gaffe-syriairan-route-to-sea )(accessed on January 25, 2015 2- William McNell, History Handbook of Western civilization, (Chicago: Chicago university Press, 1953) P 10. And Fernand braudel, Memory and The Mediterranean, (New York: vintage books, 2002) P75. 3- Fernand Braudel, Memory and the Mediterranean, P. 144 4- Pirohz Mojtahed’Zadeh, Iran: An Old Civilization and a New Nation State, Focus on Geography, Volunif 49, Number 4, P 21. 6
ف�������������ك�������������ر
�ضمور خطوط التجارة النهرية والبحرية الذي تال انهيار الدولة الآ�شورية �أدى �إىل �صعود قوة جديدة على امل�سرح الدويل هي الإمرباطورية الفار�سية .فمع حلول منت�صف القرن ال�ساد�س قبل امليالد كان قور�ش الكبري قد فر�ض هيمنته على جممل اله�ضبة الإيرانية، ما �سمح خللفه قمبيز �أن ينطلق ليفر�ض �سيطرته على بالد ما بني النهرين ثم الأنا�ضول ف ّرب ال�شام وم�صر ،ولتعرب اجليو�ش الفار�سية البو�سفور وتب�سط �سيطرتها على تراقيا و�أق�سام من مقدونيا .وبالتايل فقد متكن الفر�س مع قمبيز يف �إعادة توحيد طرق التجارة الدولية الربية والبحرية للمرة الثانية يف التاريخ بعد الآ�شوريني ويقيمون بالتايل عوملة ثانية جتلت يف ات�ساع امرباطوريتهم التي قاربت م�ساحتها ثمانية ماليني كيلومرت مربع وت�شمل نحو خم�سني مليون ن�سمة �شكلت يف وقتها 44باملئة من �سكان العامل �آنذاك .وقد جتلت العوملة اجلديدة بنقل �أرحت�ش�شتا ( 465ق.م -424ق.م ).لعا�صمته من بر�سيبولي�س �إىل بابل وباعتماد ال�سريانية ،لغة الآ�شوريني ،كاللغة الر�سمية للدولة الفار�سية .وقد عك�س نقل العا�صمة �إىل بالد ما بني النهرين وعياً من قبل الأخمينيني لأهمية هذه املنطقة ب�سبب قربها من �سوريا ،وهي املنطقة التي تف�صل بني بالد ما بني النهرين و�شرق املتو�سط ولها �أهمية خا�صة يف متكني التجارة الربية املارة من ال�صني �إىل و�سط �آ�سيا فبالد فار�س من االت�صال بتجارة املتو�سط .وكان امللفت �سعي حكام فار�س منذ الأخمينيني وحتى ال�سا�سانيني �إىل مد نفوذهم �إىل منطقة �شمال الفرات وحتديداً مدينة حران لأهميتها اال�سرتاتيجية .فهذه املدينة التي تقع على �ضفاف الفرات يف منطقة غري بعيدة عن مدينة حلب ،ت�شكل �صلة الو�صل بني بالد ما بني النهرين ومنطقة ال�ساحل ال�سوري .وبالتايل ف�إن من ي�سيطر عليها ميكنه من و�صل طرق التجارة الربية الآتية من الهند وال�صني مبنطقة �شرق املتو�سط يف منطقة غري بعيدة عن ا�سكندرون و�أنطاكية .ويف عهد �أرحت�ش�شتا جرت حماولة تدعيم وحدة الدولة املرتامية الأطراف واملتعددة ال�شعوب والثقافات باعتماد ديانة جامعة هي الزرد�شتية كدين ر�سمي للدولة. 1
2
كان الفر�س قوة برية بالدرجة الأوىل ،ولذلك فلقد اتخذوا من الفينيقيني على ال�ساحل ال�سوري �شركاء يتولون التجارة البحرية يف املتو�سط ،خ�صو�صاً �أنه كان له�ؤالء الأخريين باع طويل يف هذا املجال منذ مئات ال�سنني .وكان الفينيقيون (كنعانيو ال�سواحل يف �سوريا) 1- Kamal Salibi, A history of Arabia, P. 29. 2- PATRICK HENRY REARDON, Haran Junction, TOUCHSTONE | OCTOBER 2OO8 P 48:
7
قد منوا مهاراتهم التجارية منذ الألف الثالث قبل امليالد ،وكانوا هم وكالء التجارة امل�صرية يف �شرق املتو�سط ،وبعد حتررهم من الهيك�سو�س وجد امل�صريون �أنه من ال�ضروري لأمنهم ب�سط الهيمنة ال�سيا�سية على املدن الفينيقية على ال�ساحل ال�سوري .ويف الألف الأول قبل امليالد كانت زعامة املدن الفينيقية قد انتقلت من جبيل �إىل �صور .وكان الفينيقيون قد �أن�ش�ؤوا م�ستعمرات يف �أنحاء خمتلفة من املتو�سط كان �أهمها قاد�ش على ال�سواحل اجلنوبية ال�شرقية ل�شبه اجلزيرة الإيربية .لكن مع حلول القرن ال�سابع قبل امليالد ،ومع احتالل الآ�شوريني مل�صر ،وبروز اليونانيني يف بحر �إيجه ،والإترو�سكيني يف �إيطاليا ،مل يعد املتو�سط حكراً على الفينيقيني ،بل باتت خطوط �إمدادهم الطويلة عرب املتو�سط مهددة من قبل القوتني ال�صاعدتني .لذلك قام ال�صوريون ب�إن�شاء مدينة قرطاجة كمحطة و�سيطة بني �شرق املتو�سط وغربه .وقد انق�سمت التجارة يف املتو�سط بني خط جنوبي ينطلق من �صور يف موازاة ال�سواحل امل�صرية �إىل قرطاج فال�سواحل اجلزائرية �إىل قاد�ش يف �إ�سبانيا، يف مقابل خط �شمايل ينطلق من منطقة مر�سني يف �شمال �سوريا �إىل قرب�ص فال�سواحل اليونانية وبحر �إيجه والأدرياتيك يف اجتاه ال�سواحل ال�شمالية الغربية للمتو�سط .ومع ال�شراكة مع الفينيقيني فقد نال الفر�س الفر�س عداوة اليونانيني الذين كانوا يناف�سونهم على جتارة املتو�سط .وكانت ال�سيطرة على املتو�سط عرب الوكالء الفينيقيني مهمة جداً لفار�س لتدعيم �أحاديتها القطبية يف مواجهة بروز متحدين لهذه الأحادية .فمنذ الألفية الثالثة قبل امليالد كان املتو�سط قد حتول �إىل حمور رئي�سي يف طرق املوا�صالت والتجارة العاملية ،ما جعل القوى العظمى ت�سعى لل�سيطرة عليه بغية فر�ض هيمنتها العاملية .ومبا �أن اليونانيني كانوا يناف�سون الفينيقيني على جتارة املتو�سط ،وهم حلفاء الفر�س ،فقد وجد داريو�س ( 550ق.م -486.ق.م ).نف�سه م�ضطراً لتوجيه جي�شه الجتياح اليونان �إال �أنه هزم يف معركة ماراتون يف العام 490ق.م .بعد وفاة داريو�س خلفه ابنه �أرحت�ش�شتا ( 486ق.م 465 -.ق.م ).الذي متكن من هزم اليونانيني يف معركة ترموبيالي واجتياح 1
2
3
4
5
1- Fernand Braudel, Memory and the Mediterranean, P 183.
-2امل�صدر نف�سه 3- Fernand Braudel, Memory of the Mediterranean, P 188-189. 4- Fernand Braudel, Memory of the Mediterranean, PP 188-199. 5- William Reitzel, The Importance of the Mediterranean, in Ernest jackh, background of the Middle East, New York: Cornell University Press, 1952, PP 189-190. 8
ف�������������ك�������������ر
�أق�سام من اليونان وفر�ض �سيطرة م�ؤقتة على التجارة يف بحر �إيجه� ،إال �أن �أ�سطوله هزم يف معركة �سالمي�س البحرية يف العام 480ق.م تلتها هزميتان بريتان �أنهتا الآمال الفار�سية يف ال�سيطرة على اليونان .وقد دامت الهيمنة الفار�سية على العامل القدمي حتى القرن الرابع قبل امليالد .حني وقعت يف الفو�ضى. حال الفو�ضى هذه يف بنية ال�سلطة الفار�سية �سمحت ملقدونيا �أن تتفلت من الهيمنة الفار�سية و�أن تب�سط �سيطرتها على كل املدن اليونانية يف ظل حكم فيليب املقدوين .وبعد وجه �أنظاره نحو غزو الإمرباطورية اغتياله توىل ابنه الإ�سكندر احلكم من بعده ومن ت ّوه ّ الفار�سية فتمكن يف العام 334ق.م .من االنت�صار على جي�ش فار�سي كبري يف معركة غرانيكو�س ،ما �أتاح له ال�سيطرة على ه�ضبة الأنا�ضول .وبعدها بعام واحد متكن الإ�سكندر من االنت�صار على جي�ش فار�سي �آخر يف معركة �إي�سو�س ،ما �أتاح له ال�سيطرة على بالد ال�شام وم�صر .وكان من �أبرز ما قام به يف هذه الفرتة هو تدمري مدينة �صور بعد ح�صار دام �ستة �أ�شهر ،وبذلك متت له الإطاحة باملناف�س الأكرب لليونان على جتارة �شرق املتو�سط. وقد �أدى هذا �إىل توجيه �ضربة قا�سية لقرطاجة ،ال�شريكة التجارية ل�صور والتي كانت تواجه �ضغوطاً متزايدة من قبل اليونان والأترو�سكيني منذ هزمية الفر�س وال�صوريني يف معركة �سالمي�س .كما �أدى هذا �إىل �صعود قوة روما يف غرب املتو�سط على ح�ساب قرطاجة والتي انتهت بتدمريها الكامل يف العام 146ق.م .بعد ثالثة حروب كربى بني القوتني .وبتدمري �صور واحتالل �سوريا براً و�ساح ًال بالإ�ضافة �إىل م�صر مت للإ�سكندر عزل الإمرباطورية الفار�سية عن �شرق املتو�سط ،وكانت هذه هي املرة الأخرية التي ت�صل فيها فار�س �إىل �شواطئ املتو�سط با�ستثناء فرتة ق�صرية يف بدايات القرن ال�سابع قبل عقدين من �صعود الإ�سالم .وبعد "خنق" فار�س كان قد بقي على الإ�سكندر توجيه ال�ضربة القا�ضية لفار�س وهو ما مت له يف معركة كواغيميال يف العام 331ق.م . 1
2
3
4
بعد وفاة الإ�سكندر اقت�سم قادة جي�شه مملكته الوا�سعة .وبرز على �أنقا�ض هذه الإمرباطورية ثالث دول .فقد ا�ستقل �صديق اال�سكندر بطليمو�س بحكم م�صر وجنوب �سوريا ،فيما 1- Fernand Braudel, Memory of the Mediterranean, P 194. 2- Fernand Braudel, Memory of the Mediterranean, P 194. 3- Fernand Braudel, Memory of the Mediterranean, P. 195. 4- William McNeil, History handbook of Western Civilization, P 125. 9
ا�ستقلت الأجزاء الأوروبية عن باقي املناطق لتعاود املدن اليونانية �سريتها يف االقتتال فيما بينها .وكان اعتماد الدولة ال�سلوقية على طرق التجارة الربية وخ�صو�صاً الآتية من الهند يف اجتاه بالد ما بني النهرين يف طريقها �إىل منتهاها يف �شرق املتو�سط .وكان على هذا املرف�أ �أن يكون قريباً من مدينة حران فكان �إن�شاء مدينة �أنطاكية لتكون العا�صمة الإدارية ل�سوريا ال�سلوقية .وكان هذا الطريق ي�شهد مناف�سة من طريق بحري ينطلق من الهند يف اجتاه البحر الأحمر نحو م�صر ف�شرق املتو�سط .ولأن البطال�سة كانوا قريبني من املدن الواقعة جنوب �شرق املتو�سط ،فقد �شكل موقع �أنطاكية البعيد ن�سبياً عن التهديد امل�صري املبا�شر �سبباً �آخر العتماد هذا املوقع. 1
البارثيون وال�سا�سانيون
حكم الإ�سكندر وخلفائه ال�سلوقيني لبالد فار�س مل يدم �أكرث من قرن ون�صف من الزمن، �إذ �إنه كان ليواجه حتدياً من قوة �صاعدة يف و�سط �آ�سيا هي البارثيون .ففي الن�صف الثاين من القرن الثالث قبل امليالد متكن زعيم قبيلة بارين �أر�سا�سي�س الأول من ال�سيطرة على والية باكرتيا يف و�سط �آ�سيا من واليها ال�سلوقي ليحكم قب�ضته بالتايل على ق�سم رئي�سي من طريق احلرير بني ال�صني �شرقاً وال�شرق الأدنى غرباً .ووفقاً للجغرايف الروماين �سرتابو ف�إن البارثيني هم من القبائل ال�سكيثية وقد نزحوا بعد االحتالل اليوناين لفار�س من ال�سهوب الرو�سية �إىل والية بكترييا يف و�سط �آ�سيا .2ومل تنجح حماوالت ال�سلوقيني من ا�ستعادة هذا اجلزء املهم .ومع تبوئ مرتيداتي�س الأول ( 171ق.م 138 -.ق.م). للحكم تو�سع نطاق ال�سيطرة البارثية �إىل ميديا وبالد ما بني النهرين لتحكم قب�ضتها على تقاطع الطرق الربية الوا�صل ما بني كل من الهند وال�صني �شرقاً و�شرق املتو�سط غرباً وتفر�ض نف�سها يف وقت الحق و�سيطاً جتارياً ال ميكن "التخل�ص" منه بني �إمرباطورية الهان والإمرباطورية الرومانية .وكما �أ�سالفهم الأخمينيني فقد نقل البارثيون عا�صمتهم �إىل بالد ما بني النهرين يف املدائن ،يف حماولة منهم لالقرتاب من �سوريا الذي كان منتهى ما -1عبد اهلل احللو� ،صراع املمالك يف التاريخ ال�سوري القدمي ما بني الع�صر ال�سومري و�سقوط اململكة التدمرية، بريوت :بي�سان� ،1999 ،ص .241 2- John Sheldon, The Ethnic and Linguistic Identity of the Parthians: A Review of the Evidence from Central Asia, Asian Ethnicity, Volume 7, Number 1, February 2006 P7 10
ف�������������ك�������������ر
يطمحون �إليه ليكون لهم منفذ �إىل التجارة يف البحر املتو�سط وال يكونون حتت رحمة من ي�سيطر على ال�ساحل ال�سوري. ورغم �أن البارثيني كانوا يعتربون �أنف�سهم امتداداً للأخمينيني �إال �أنهم مل ينجحوا يف مد نفوذهم �إىل �سوريا والأنا�ضول ،حيث كان لهم يف املر�صاد ال�سلوقيون ثم الرومان .وكذلك الأمر بالن�سبة لل�سا�سانيني الذين خلفوا البارثيني� ،إذ �إنهم مل ي�ستطيعوا توطيد �أقدامهم على �شاطئ املتو�سط .ويف العام 634م .بد�أ العرب ،الذين كانوا قد توحدوا �سيا�سياً للمرة الأوىل يف تاريخهم يف ظل الإ�سالم ،بتوجيه جيو�شهم لفتح �سوريا والعراق .ويف غ�ضون �سنوات قليلة متكن العرب من احتالل �سوريا والعراق وم�صر .ولثالثة قرون حكمت فار�س من عا�صمة الدولة �إن يف دم�شق حتى العام 750ميالدية �أو من بغداد حتى القرن العا�شر .وخالل القرن احلادي ع�شر والثاين ع�شر ف�إن ال�سالجقة �شكلوا مرحلة �سابقة للع�صر املغويل الذي �سيكون لإيران خالله دور كبري. العوملة املغولية
كان الع�صر ال�سلجوقي يف جانب منه تفعي ًال للدور اجليو�سيا�سي لإيران ومنحاها التاريخي يف االندفاع نحو املتو�سط ولعب �صلة الو�صل بني ال�صني والهند من ناحية و�شرق املتو�سط من ناحية �أخرى� .أما يف اجلانب الآخر ،فقد كان حماولة متعرثة من ال�صني للخروج �إىل العامل .وقد �شكل هذا متهيداً ال�ستعادة �إيران لدورها اجليو�سيا�سي بعد قرن ون�صف القرن من الزمن يف ظل خروج ال�صني �إىل العامل بعد �سقوطها حتت حكم املغول .وقد كان املغول من ال�شعوب التي تعي�ش يف املنطقة الواقعة اليوم يف جمهورية منغوليا وجنوب رو�سيا وغرب ال�صني� ،أي على طريق التجارة الربية التي تربط ال�صني بال�شرق الأدنى تعرف املغول على املذهب امل�سيحي مروراً بو�سط �آ�سيا و�شمال �إيران .ونتيجة هذه الطريق ّ الن�سطوري منذ القرون امل�سيحية املبكرة واعتمدوا احلرف ال�سرياين لكتابة لغتهم 1.ومنذ القرن العا�شر بات املغول على ات�صال وثيق ب�شمال ال�صني .وخالل القرن الثاين ع�شر كانت ال�صني مق�سمة �إىل مملكتني� ،شمالية وجنوبية .وخالل الن�صف الثاين من القرن الثاين ع�شر متكن تيموجني �أو جنكيز خان من توحيد املغول حتت �إمرته 2،وقد دخل يف -1كارل بروكلمان ،تاريخ ال�شعوب الإ�سالمية� ،ص �ص .391 – 387 -2فيليب حتي ،تاريخ العرب� ،ص .560 - 559 11
خدمة �أباطرة ال�صني ال�شماليني و�أ�سدى لهم خدمات جليلة يف حماربة القبائل التتارية. لكن مع الوقت كان مقدراً له تو�سيع رقعة نطاق هيمنته ،خ�صو�صاً �أن �سيطرته على جزء مهم من طريق احلرير كان قد وفر له موارد كبرية تتيح له متويل جي�ش �ضخم ،فالتفت 2 للتو�سع �شرقاً لي�سيطر على اململكة ال�صينة ال�شمالية ويحتل بكني يف العام .1215 وجه �أنظاره غرباً �إىل و�سط �آ�سيا ليهزم حممد خوارزم�شاه وي�سيطر على مملكته، ومن هناك ّ مو�سعاً نطاق هيمنته �إىل �ضفاف بحر قزوين ال�شرقية و�إىل خرا�سان يف �شمال �شرق �إيران، 3 ومن �سيربيا �شما ًال �إىل التيبيت جنوباً. 1
وقد وا�صل املغول تو�سعهم �شرقاً ليدمروا �أ�سرة �سونغ التي كانت حتكم اململكة ال�صينية اجلنوبية ويعيدوا يف العام 1268توحيد ال�صني حتت حكمهم� .أما غرباً فقد و�صل املغول �إىل و�سط �أوروبا عند ال�سهول الأملانية والرو�سية ،ويف العام 1258دمروا بغداد بقيادة هوالكو واحتلوا حلب ودم�شق وباتوا يف طريقهم �إىل م�صر التي كادت على و�شك ال�سقوط يف �أيديهم لوال وفاة اخلان الأكرب موغكي وت�صدي املماليك يف م�صر للغزاة يف معركة عني جالوت بالقرب من غزة يف العام 4.1260ومع توقف التو�سع يف هذا العام كان املغول قد متكنوا من ال�سيطرة على طرق التجارة الربية الوا�صلة بني ال�صني �شرقاً و�شرق املتو�سط غرباً .ونتيجة ذلك بات على املناطق التي مل تقع حتى حتت ال�سيطرة املبا�شرة للمغول �أن تتعامل معهم جتارياً .5وبالتايل فقد متكن املغول من �إقامة عوملة كانت الرابعة يف التاريخ بعد العوملة الأوىل ال�سريانية ،والثانية الفار�سية ،والثالثة العربية .وكانت الب�ضائع تنتقل من دون عائق عرب الطرق الربية املارة عرب �شمال ال�صني وو�سط �آ�سيا و�شمال �إيران يف اجتاه 1- Bertold Spuler, The Mongol Period-History of the Muslim World, (Princeton: Markus Wiener Publishers, 2006) P. 3. 2- Bertold Spuler, The Mongol Period, P.7. 3- Bertold Spuler, The Mongol Period, P.8. 4-The Secret History of the Mongols, edited by Urgunge Onon, (London: Routledge, 2001), Chapter 13. 5- See roxann prazniak, Siena on the Silk Roads: Ambrogio Lorenzetti and the Mongol Global Century, 1250–1350,J ournal of World History, Vol. 21, No. 2 © 2010 by University of Hawai‘i Press P 177. تتحدث هذه الدرا�سة عن ازدهار �سيينا يف تو�سكانة بني عامي 1250و 1350نتيجة عالقاتها التجارية مع االمرباطورية املغولية وكيف تراجع دورها بعد العام 1350نتيجة تراجع االقت�صاد العاملي بقيادة املغول. 12
ف�������������ك�������������ر
�شرق الأنا�ضول وكيليكيا لت�صب يف موانئ مر�سني على ال�شاطئ ال�شرقي للمتو�سط .وقد �أدى هذا �إىل حتالف وثيق بني مملكة �أرمينيا ال�صغرى يف كيليكيا و�شرق الأنا�ضول وبني اخلانة املغول التي �أقيمت يف �إيران .وقد �شكلت اله�ضبة الإيرانية يف ظل اخلانة املغول حلقة الو�صل بني ال�صني ومملكة �أرمينيا ال�صغرى. بني ال�صني و�سوريا
بعد �أن ا�ستقرت الفتوحات املغولية ،كان على الفاحتني �أن يركنوا �إىل �شبكة من امل�صالح املحلية يف البلدان التي فتحوها مت التعبري عنها يف الركون �إىل البريوقراطية التي ورثوها عن ال�سالالت التي هزموها يف �إدارة �ش�ؤون املقاطعات التي ظفروا بها .وبطبيعة احلال كان لهذه البريوقراطية التي �شكلت نخب البالد املختلفة م�صلحتها اخلا�صة والتي �أثرت على عالقات النخب املغولية فيما بينها .فما لبث اخلان الأكرب مونغكي �أن تويف يف العام 1259حتى انتخب �أخوه �أريك بوقي خاناً �أكرب ومقره يف كراكوروم يف منغوليا .وقد �أيده حاكم خانة القرن الذهبي يف جنوب غرب ال�سهوب الرو�سية و�شرق �أوروبا بريك� .إال �أن حاكم ال�صني قوبالي خان رف�ض االعرتاف ب�سلطة �أخيه وطالب مبن�صب اخلان الأكرب لنف�سه .وقد دعمه يف م�سعاه هذا �أخوه هوالكو حاكم �إيران املغولية .وقد كانت الغلبة لقوبالي خان الذي متكن من حتييد �أخيه يف كراكوروم 1.وبذلك انتقل مركز الثقل املغويل �إىل ال�صني ومت حتييد منغوليا وو�سط �آ�سيا .واختار هوالكو القبول ب�سلطة �أخيه قوبالي فاتخذ لنف�سه لقب �إيل خان �أو نائب امللك فيما �أعلن بريك العداء له مف�ض ًال االنحياز لأعدائه .وبينما اعتنق هوالكو املذهب البوذي كعالمة لتبعيته خلان ال�صني الذي حتول �إىل البوذية 2،اعتنق بريك الإ�سالم وارت�ضى بتبعية ا�سمية للخليفة العبا�سي الذي اتخذ من القاهرة مقراً له حتت حماية املماليك .وقد �أر�سل بريك قوات لتقاتل يف عني جالوت �إىل جانب املماليك �ضد قوات �صهر �أخيه كاتبوقا وانتهت املعركة يف العام 3 1260بهزمية املغول للمرة الأوىل بعد انت�صارات دامت ل�ستة عقود متتالية. كان ال�صراع الذي ن�شب بني قوبالي خان و�أخيه �أريك بوقي يف جانب منه تناف�ساً بني 1- Bertold Spuler, The Mongol Period, P.21. 2- Bertold Spuler, The Mongol Period, P.30. 3- Bertold Spuler, the Mongol Period, P. 22. 13
طريقي جتارة بريني ،الأول ينطلق من �شمال ال�صني مروراً مبنغوليا وو�سط �آ�سيا فال�سهوب الرو�سية لينتهي يف �شرق �أوروبا� ،أما الثاين فينطلق من �شمال ال�صني لينحرف قلي ًال �إىل اجلنوب مروراً ب�صحراء ك�سينج جيانغ ف�شمال �أفغان�ستان و�إيران �إىل �شرق الأنا�ضول لينتهي يف الآخر عند منطقة مر�سني وا�سكندرون .هذا ما يف�سر دعم مملكة القرن الذهبي يف جنوب غرب رو�سيا لأريك بوقي بحكم ال�شراكة التجارية التي جمعتهما ،يف حني ف�ضل هوالكو حاكم الإيل خانة يف �إيران دعم قوبالي خان بحكم ال�شراكة التجارية واالقت�صادية التي جمعت بينهما .ولنحو قرن من الزمن كان اخلط املمتد من ال�صني مروراً ب�إيران �إىل �شرق املتو�سط هو الطريق التجاري الأ�سا�سي .لكن هذا اخلط كان مهدداً من مملكة وراء النهر التي كان با�ستطاعتها ممار�سة نوع من العرقلة املتقطعة عليه .وكان التحدي الأبرز قد برز من قبل اجلحافل الذهبية التي وجدت نف�سها مهم�شة يف العوملة االقت�صادية املغولية ،فاجتهت يف �أنظارها نحو طرق التجارة البحرية عرب البحر الأ�سود يف اجتاه �شرق املتو�سط .وقد ر�أت من م�صلحتها �إقامة �شراكة اقت�صادية وبالتايل �سيا�سية وا�سرتاتيجية مع مماليك م�صر .وكان املماليك قد وجهوا �أنظارهم لتفعيل التجارة البحرية مع الهند وجزيرة جافا يف جنوب �شرق �آ�سيا .فبات هنالك خط جتارة بحري ينطلق من جافا �إىل الهند و�سيالن فالبحر الأحمر وم�صر يف اجتاه �شرق املتو�سط ،ليتجه بعدها نحو البحر الأ�سود ملتفاً على الطرق الربية للقلعة الأورا�سية .يف املقابل كان هنالك طريق جتارة بري ينطلق من ال�صني �شرقاً ليمر عرب �صحراء ك�سينغ جيانغ ف�أفغان�ستان و�إيران و�شرق الأنا�ضول لينتهي يف كيليكيا ومر�سني 1.وكان قطبا ال�صراع يف ال�شرق الأدنى يف تلك املرحلة هما م�صر اململوكية املرتبطة ع�ضوياً بطرق التجارة البحرية ،و�إيران املغولية املرتبطة ع�ضوياً بطرق التجارة الربية ،وقد كان حمور ال�صراع هو �سوريا �أو بر ال�شام ما يف�سر املحاوالت املتكررة من قبل حكام الإيلخانة ملد نفوذهم �إىل �سوريا ،وت�صدي املماليك 2 لإف�شال هذه املحاوالت. �إيران بني �شقي رحى
خلم�سني عاماً بعد �إقامة الإيلخانة ،وقعت �إيران حتت النفوذ املبا�شر لل�صني .كان اللقب بحد ذاته يعك�س هذه التبعية ،وكانت العالقات اخلارجية تدار من قبل اخلان الأكرب يف 1- Bertold Spuler, The Mongol Period, P.23. 2- Bertold Spuler, The Mongol Period, P.26-27. 14
ف�������������ك�������������ر
ال�صني ،وكان هنالك مندوب �صيني مقيم دائماً يف �إيران ي�شرف ويوجه �ش�ؤون احلكم يف البالد .وكانت �إحدى عالئم الوالء ال�سيا�سي لل�صني هي اعتناق هوالكو وخلفائه للدين البوذي وحماولة رعايتهم ون�شرهم لهذا الدين يف �إيران 1.وكانت �إيران مهمة جداً بالن�سبة لل�صني نتيجة ربطها لطرق التجارة الآتية منها ب�شرق املتو�سط .لكن كان هنالك قوتان تهددان �سالمة هذه الطرق ،الأوىل من و�سط �آ�سيا مهددة بقطع التوا�صل بني ال�صني والهند واملماليك الذين كانوا يحاولون التمدد �شما ًال لقطع توا�صل طرق التجارة الإيرانية مع �شرق املتو�سط .وكانت الإيلخانة تعي خطورة املماليك على جتارتها مع �شرق املتو�سط لذلك حاولت ب�سط �سيطرتها على �سوريا لت�أمني التجارة مع �شرق املتو�سط .فبعد الهزمية �أمام املماليك يف عني جالوت يف العام ،1260جرت حماولة مغولية ثانية ملد النفوذ على �سوريا يف العام 1271ومتكنوا من احتالل حلب �إال �أنهم ا�ضطروا لالن�سحاب حني �أتتهم �أنباء حترك ال�سلطان اململوكي الظاهر بيرب�س ملواجهتهم .وكانت املحاولة الثالثة الجتياح �سوريا قد جرت يف العام ،1281ومتكن املغول وحلفا�ؤهم الأرمن من احتالل حلب والو�صول �إىل حم�ص� ،إال �أنهم هزموا على يد املماليك مرة �أخرى يف معركة حم�ص الثانية .وكانت �أخطر املحاوالت تلك التي �شنها حممود غازان يف العام 1299حني توجه على ر�أ�س جي�ش من �ستني �ألف جندي مدعمني ب�أربعني �ألفاً من اجلنود اجلورجيني والأرمن ومتكن من هزمية قوة م�صرية من نحو ثالثني �ألف جندي يف معركة وادي اخلزندر بالقرب من حم�ص .بعد ذلك متكن حممود غازان من احتالل دم�شق ملدة وجيزة قبل �أن ي�ضطر لالن�سحاب نتيجة مهاجمة مغول ال�شغاتاي يف و�سط �آ�سيا ل�شرق �إيران. وقد ا�ستمرت التوغالت املغولية يف بر ال�شام وتهديدهم لدم�شق حتى العام حني هزموا يف معركة مرج ال�صفار بالقرب من دم�شق .وبعد هزمية غازان خان توقفت التوغالت املغولية حتى توقيع اتفاقية حلب بني املماليك والإيلخانة �أنهت مبوحبها ثمانية عقود من التهديد املغويل لرب ال�شام .يف الوقت الذي كان مغول �إيران يواجهون خطر املماليك يف الغرب كانت خانة ال�شاغاتاي تهدد حدودهم من ال�شرق ومعها موا�صالتهم مع ال�صني .وكان �شاغاتاي ،االبن الثاين جلنكيز خان قد منح الأرا�ضي يف و�سط �آ�سيا وبالد ما وراء النهر .وقد تويف �شاغاتي يف العام 1242لت�صبح بعد ذلك وملدة ع�شرين عاماً والية مغولية ذات دور هام�شي رمبا كان عائداً بالدرجة الأوىل لتحول طرق التجارة
1303
1- Bertold Spuler, The Mongol Period, PP 30-32. 15
الربية جنوباً بعيداً عن �أرا�ضيها .كان هذا هو ال�سبب الذي دفع ب�ألغو ،حفيد �شاغاتي الذي حكم و�سط �آ�سيا بني عامي 1260و� ،1266إىل دعم اخلان الأكرب �أريغ بوكي يف كراكوروم يف مواجهة حاكم ال�صني قوبالي خان .وقد ان�ضمت خانية �شاغاتي بعد ذلك �إىل خانية القرن الذهبي ومماليك م�صر يف حتالف �ضد ال�صني والإيلخانية الإيرانية .وقد �شكل هذا التحالف مك�سباً ا�سرتاتيجياً كبرياً مل�صر� ،إذ �إنه �أتاح لها �ضرب الإيلخانة من اخللف وتهديد طرق موا�صالتها مع ال�صني. ال�صني داخل القمقم
كانت ال�صني يف ظل املغول تعي حراجة موقفها عقب ان�سالخ خانيتي �شاغاتاي والقرن الذهبي عنها وحتالفهما مع مماليك م�صر ،وتعي التهديد الذي كان يتهدد طرق موا�صالتها الربية .كذلك كانت تعي �أن طرق التجارة البحرية كانت تهدد تفوقها االقت�صادي، لذلك وعى قوبالي خان �أهمية خروج ال�صني �إىل البحار الوا�سعة .وكان خروج ال�صني �إىل البحار الوا�سعة دونه جمموعة من اجلزر املمتدة من ال�شمال �إىل اجلنوب بدءاً باجلزر اليابانية ،وتايوان ،والفليبني وماليزيا و�إندوني�سيا .وكان التجار العرب هم من مي�سك بزمام التجارة البحرية يف املحيط الهندي وكانت جزيرة جافا يف جنوب �شرق �آ�سيا هي �إحدى �أهم قواعدهم .لذلك وجد قوبالي خان �أن و�سيلته الوحيدة هي يف حتقيق اخرتاق �شما ًال بعيداً عن نفوذ التجار العرب يف نقطة ظنها �إمرباطور ال�صني �ضعيفة وهي اليابان .وقد جهز قوبالي خان �أ�سطو ًال من ت�سعمئة �سفينة الجتياح اليابان يف العام � 1274إال �أن عدد اجلنود مل يكن كافياً للتغلب على القرا�صنة اليابانيني واجتياح جزيرتهم .لذلك فقد ح�شد قوبالي خان يف العام � 1281أ�سطولني من نحو �أربعة �آالف وخم�سمئة �سفينة حتمل مئة و�أربعني �ألف جندي الجتياح اليابان� .إال �أن ريحاً عاتية هبت لتدمر الأ�سطول وتغرق معظم اجلنود .وكان �أحد �أ�سباب عدم مقاومة ال�سفن ال�صينية "للكاميكازي" هو �أنها كانت يف معظمها مهيئة للإبحار يف الأنهر ولي�س يف املحيطات .وهذا دليل على �أن 1 املغول الذين كانوا �أقوى قوة برية ،عجزوا عن التحول �إىل قوة بحرية. بعد وفاة قوبالي خان اجتهت ال�صني نحو العزلة وانعك�س ذلك تراجعاً يف نفوذها يف الإيلخانة يف �إيران .ويف عهد اخلان حممود غازان ( )1304 - 1295ا�ستقلت الإيلخانة 1-The Travels of Marco Polo the Venetian, edited by Thomas Wright, Chap XLIV 16
ف�������������ك�������������ر
بالكامل عن اخلان الأكرب يف ال�صني ،وكان �أبلغ دليل على هذا اال�ستقالل حتول خانات �إيران من البوذية �إىل الإ�سالم واجتاههم بعد �آخر حملة لهم على �سوريا يف العام � 1304إىل مهادنة املماليك يف م�صر وخانتي ال�شاغاتاي يف �آ�سيا الو�سطى والقرن الذهبي يف جنوب رو�سيا 1.ونتيجة هذه التحوالت بد�أ و�ضع املغول باالنحدار حتى انتهى �إىل فو�ضى كاملة يف الن�صف الثاين من القرن الرابع ع�شر .ففي العام 1368متت الإطاحة ب�آخر �أباطرة املغول على يد ثورة فالحية جاءت ب�أ�سرة مينغ �إىل �سدة احلكم يف ال�صني� .أما يف �إيران و�آ�سيا الو�سطى وجنوب رو�سيا فقد انحدرت الأو�ضاع يف املمالك املغولية �إىل الفو�ضى التامة وانق�سام الواليات بني عدد كبري من احلكام والأمراء املحليني .كان عهد تيمورلنك (� )1370-1405آخر حماولة لإنقاذ الإرث املغويل .فقد انطلق هذا الرجل املتحدر من �أ�صل متوا�ضع من و�سط �آ�سيا ليعيد توحيد قبائل ال�شاغاتاي ويبد�أ بغزوات امتدت من حدود منغوليا و�صحراء ك�سينغ جيانغ �شرقاً �إىل �ضفاف الفولغا والقوقاز فالأنا�ضول و�سوريا �شرقاً ،ومن ال�سهوب ال�سيبريية �شما ًال �إىل دلهي وال�سند وفار�س جنوباً .ويف عهده ا�ستعيد الإرث املغويل بتدمري املدن و�إقامة تالل من اجلماجم يف املدن املنهوبة ،لكن كل ذلك مل يتم يف �إطار بناء دولة كما كان الأمر يف عهد جنكيز خان قبل نحو قرنني من الزمن. وقد تويف تيمورلنك وهو يف طريقه لغزو ال�صني وا�ستعادتها من �أ�سرة مينغ التي �أطاحت باحلكم املغويل ،ف�أدى ذلك �إىل ت�ضع�ضع دولته وانق�سام �أجزاء منها ووقوعها يف حالة من 2 الفو�ضى ميزت �إيران وو�سط �آ�سيا وجنوب رو�سيا خالل القرن اخلام�س ع�شر. قدر لأوائل القرن ال�ساد�س ع�شر �أن ت�شكل مرحلة جديدة حا�سمة يف تاريخ �إيران ،مرحلة �ستكون مقدمة للت�أ�سي�س لإيران احلديثة .فمن �أردبيل يف �شمال غرب �إيران ،انطلق ال�شاه ا�سماعيل ال�صفوي ليجتاح �إيران وي�ؤ�س�س الدولة ال�صفوية .كان ا�سماعيل �شيخاً لطريقة �صوفية ت�أ�س�ست قبل قرنني من الزمن يف �أردبيل على يد ال�شيخ �صفي الدين (- 1253 )1334ليتحولوا بعد نحو مئة عام من املذهب ال�سني �إىل املذهب ال�شيعي .ويف متوز 1501 متكن ال�شاه ا�سماعيل من انتزاع تربيز من قبائل �آكقيونلو (اخلرفا البي�ضاء) ،لي�ستويل يف العام التايل على طهران ويعلن �شاهاً على �إيران .وكان لال�ستيالء على تربيز �أهمية كبرية يف منح ال�شاه ذي الأربعة ع�شر ربيعاً قاعدة اقت�صادية حلكمه ،بحكم �أنها كانت حمطة 1- Bertold Spuler, The Mongol Period. PP 35-37. 2- See Justin Marozzi, Tamerlane – Sword of Islam Conqueror of the World, (London: )Harper Collins, 2004 17
رئي�سية على طريق احلرير الآتي من ال�صني يف اجتاه �شرق املتو�سط 1.وقد �أم�ضى ال�شاه ال�صفوي �سنوات عدة لال�ستيالء على املقاطعات الإيرانية املتفرقة والتي كانت حتت حكم والة م�ستقلني .ما �إن ا�ستتب الو�ضع لل�شاه ا�سماعيل يف معظم اله�ضبة الإيرانية حتى عاد �إىل العهد ال�سابق للحكام الإيرانيني بالتوجه غرباً للو�صول �إىل املتو�سط .ف�إذا به يجتاح بغداد وو�سط العراق لت�أمني م�سريته كمقدمة الجتياح �شرق الأنا�ضول و�صو ًال �إىل �شمال �سوريا .لكن طموحات ا�سماعيل كانت �ست�صطدم ب�صخرة �صلبة هي �سليم الأول، ال�سلطان العثماين الذي و�صل �إىل عر�ش الدولة العثمانية يف العام .1512ففي �آب من العام 1514التقى اجلي�ش العثماين بقيادة �سليم الأول واجلي�ش ال�صفوي بقيادة ال�شاه ا�سماعيل يف ت�شالديران ليحقق العثمانيون ن�صراً �ساحقاً �أدى خل�سارتهم منطقة �شرق الأنا�ضول و�أجزاء من �أذربيجان ،ونتيجة الكارثة التي وقعت بال�صفويني كان عليهم نقل عا�صمتهم م�ؤقتاً �إىل �أ�صفهان .وقد دخلت �إيران بعد ذلك يف حال من ال�ضعف والفو�ضى حتى �صعود جنم ال�شاه عبا�س الأول الذي متكن من ا�ستعادة خرا�سان يف ال�شرق وتربيز 2 و�أذربيجان يف ال�شرق وتوغل يف �شرق الأنا�ضول واحتل العراق. ويف العام 1603متكن ال�شاه عبا�س من االنت�صار على العثمانيني وا�ستعادة تربيز و�أذربيجان و�أجزاء من �شرق الأنا�ضول وبغداد ليحقق وعده با�ستعادة جميع الأرا�ضي التي وط�أتها خيل جده ال�شاه ا�سماعيل 3.كان ال�شاه ا�سماعيل ي�أمل يف �أن يوا�صل اندفاعه غرباً للو�صول �إىل �شواطئ املتو�سط .وهو كان ي�أمل يف �إقناع الإ�سبان يف �شن حرب على العثمانيني يحتلون مبوجبها قرب�ص وال�سواحل ال�سورية 4،حتى تت�صل طرق جتارته الربية بطرق التجارة البحرية يف املتو�سط بعد �أن ي�سيطر عليها الإ�سبان� .إال �أن ه�ؤالء الأخريين مل يكونوا يف وارد االنغما�س جمدداً يف حرب مع العثمانيني ،خ�صو�صاً �أنهم كانوا قد بد�ؤوا يواجهون ت�صاعد التحدي من قبل الفرن�سيني والإنكليز والهولنديني يف غرب �أوروبا واملتو�سط. 1- David Blow, Shah Abbas-The Ruthless King who Became an Iranian Legend, (London: I.B. Tauris, 2009) 3 2- David Blow, Shah Abbas, the Ruthless King Who Became an Iranian Legend, (London: I.B. Tauris, 2009) 47. -3امل�صدر نف�سه.84 – 75 ، -4امل�صدر نف�سه.103 ، 18
ف�������������ك�������������ر
هذا دفع بال�شاه عبا�س �إىل ال�شعور بالإحباط ،فهو كان يراهن على تعزيز و�ضع �إيران ك�صلة و�صل للتجارة الربية بني الهند وال�صني من جهة ،و�شرق املتو�سط من جهة �أخرى 1.بعد ع�صر ال�شاه عبا�س �ضمرت �إيران و�صو ًال �إىل انهيار احلكم ال�صفاوي يف �أوا�سط القرن الثامن ع�شر .بعد ذلك عا�شت �إيران يف ظل فو�ضى دامت لعقود عدة .وقد ت�أثرت �إيران بتحويل طريق التجارة الربي �إىل �أوا�سط �آ�سيا وال�سهوب الرو�سية ،ما �أفقدها جتارتها بني �شرق �آ�سيا و�شرق املتو�سط .لذلك فقد عانت �إيران من ركود طويل خالل القرن التا�سع ع�شر خالل فرتة احلكم القاجاري. �آذن القرن التا�سع ع�شر ببداية ع�صر التفوق الأوروبي املطلق يف ال�سيا�سة الدولية .طوال القرن التا�سع ع�شر كان على �إيران القاجارية �أن تعي�ش يف �أزمة ،نتيجة اختالط م�ساعيها يف الإ�صالح مع تناف�س رو�سيا وبريطانيا على النفوذ فيها معرقلتني م�ساعي الإ�صالح هذه. فبعد ع�شر �سنوات من احلرب الرو�سية الفار�سية الأوىل ،وقعت حرب ثانية �أدت �إىل �سيطرة الرو�س حتى على تربيز .وقد ترافقت احلروب الو�سعية الرو�سية مع تزايد نفوذهم داخل �إيران .فقد وقع حفيد ال�شاه فاحت علي حتت ت�أثريهم .ويف العام 1834خلف حممد �شاه جده وحكم لأربعة ع�شر عاماً ،وهي فرتة �شهدت وقوع �إيران حتت النفوذ الرو�سي .وكانت فرتة حكم ال�شاه نا�صر الدين �أطول فرتة حكم ل�شاه قاجاري �إذ ا�ستمرت حتى اغتياله يف العام .1896خالل هذه الفرتة حاول ال�شاه والنخب الفار�سية اللعب على تناق�ض امل�صالح بني الرو�س والربيطانيني للحد من تدخلهما يف �ش�ؤون �إيران و�إ�ضرارهما مب�صاحلها الوطنية .وكانت هذه املعادلة هي نف�سها التي جل�أ �إليها العثمانيون والأفغان ،ما ج ّنب القوى الثالثة الوقوع حتت اال�ستعمار الأوروبي املبا�شر كما كان حال معظم �أقطار العامل. و�إن كانت هذه املعادلة قد �سمحت لإيران باحلفاظ على كيانها كدولة "م�ستقلة"� ،إال �أن املعادلة نف�سها هي التي منعتها يف كثري من الأحيان من النجاح يف م�ساعيها للإ�صالح واكت�ساب عنا�صر القوة الالزمة ملواجهة الأطماع الدولية .وكان التو�سع الرو�سي يف �آ�سيا الو�سطى قد �أكمل عقده يف العام 1881مع احتالل توركمان�ستان و�أوزبك�ستان .وقد �سبق هذا التو�سع بعام احتالل م�صر من قبل الربيطانيني وتون�س من قبل الفرن�سيني. وبهذا التو�سع باتت رو�سيا م�سيطرة متاماً على طرق التجارة التقليدية التي كانت متر بو�سط �آ�سيا وتربط بني �إيران وال�صني .وكانت هذه الطرق قد �ضمرت منذ القرن اخلام�س ع�شر 1- David Blow, Shah Abbas-The Ruthless King who Became an Iranian Legend, )(London: I.B. Tauris, 2009 19
نتيجة اختيار �أ�سرة مينغ لعزل ال�صني خلف حدودها .ومع بداية القرن الع�شرين كانت �إيران قد �أ�صبحت فري�سة ملطامع الرو�س يف �شمال البالد والربيطانيني يف جنوبها. وقد قام قائد قوات القوزاق الفار�سية ر�ضا خان بانقالب يف �شباط � 1921أو�صله �إىل ال�سلطة .ورغم متتعه ب�سلطات وا�سعة خولت له القيام ب�إ�صالحاته� ،إال �أن ر�ضا �شاه كان يعاين من عدم متتعه بقاعدة داخلية جتعله يتحدى �سلطة رجال الدين والإقطاع الزراعي، كما �أنه مل يكن يتمتع بقوة ع�سكرية جتعله يتحدى الربيطانيني كما كان حال �أتاتورك الذي ا�ستطاع �أن يواجه الفرن�سيني والربيطانيني واليونانيني و�أن يحقق اال�ستقالل لبالده .وكانت �إيران قد وقعت ب�شكل �شبه كامل حتت النفوذ الربيطاين بعد تراجع االحتاد ال�سوفياتي خلف حدوده بعد الثورة البول�شفية .وبغية مواجهة الربيطانيني جل�أ ر�ضا �شاه لتح�سني عالقاته بالأملان .ويف العام 1931رف�ض ال�شاه �إعطاء امتياز لطائرات اخلطوط اجلوية الربيطانية للتحليق يف الأجواء الإيرانية مف�ض ًال عليها اللوفتهانزا الأملانية .ويف العام التايل بادر �إىل �إلغاء االمتياز النفطي املمنوح للربيطانيني .كذلك جل�أ ال�شاه �إىل خربات الأمريكي �أرثور ميل�سبو لإ�صالح مالية الدولة .وقد وظف ال�شاه خرباء �أملاناً يف خمتلف املجاالت ،ما �أثار حفيظة الربيطانيني .وكان مقدراً لهذا التوجه �أين يطيح بر�ضا �شاه. فقد اندلعت احلرب العاملية الثانية يف �أيلول من العام .1939وبعدها بعامني هاجمت القوات الأملانية االحتاد ال�سوفياتي وبرزت احلاجة ال�ستخدام الأرا�ضي الإيرانية لإي�صال الدعم الع�سكري �إىل ال�سوفيات� .إال �أن ر�ضا �شاه �أراد �إعالن �إيران دولة حمايدة ،فقامت القوات الربيطانية يف �آب 1941باجتياح �إيران من اجلنوب والقوات الرو�سية باجتياحها من ال�شمال ،وفر�ض على ر�ضا �شاه التخلي عن العر�ش ل�صالح ابنه حممد ر�ضا بهلوي ومغادرة البالد. نحو الثورة الإ�سالمية
يف العام 1951انتخب الدكتور حممد م�صدق رئي�ساً للوزراء يف �إيران .وكانت معظم املوارد النفطية الإيرانية تقع يف املنطقة املحاذية ملنطقة اخلليج العربي -الفار�سي وكانت ال�شركات الربيطانية هي التي حتتكر �إنتاجه مقابل ح�صة �ضئيلة لإيران .وكان املوظفون الربيطانيون هم الذين يديرون ال�شركة يف مقابل رواتب عالية جداً ،بينما كان الإيرانيون وغريهم من العمالة الآ�سيوية وخ�صو�صاً الهندية يحتلون �أ�سفل �سلم الوظائف يف ال�شركة ويح�صلون على رواتب متدنية جداً .يف العام 1950وقعت اململكة العربية ال�سعودية
20
ف�������������ك�������������ر
و�شركة �أرامكو التي كانت متلك احتكار �إنتاج النفط يف اململكة ،اتفاقاً جديداً مت مبوجبه رفع احل�صة ال�سعودية من عائدات النفط �إىل خم�سني باملئة .هذا �شجع الإيرانيني على املطالبة باملثل ،وهو ما مل تكن بريطانيا م�ستعدة لال�ستجابة له .فقد كانت هذه الأخرية بحاجة للنفط الإيراين وغريه من موارد م�ستعمراتها حول العامل ،لإعادة بناء اقت�صادها الذي دمرته احلرب العاملية الثانية .يف �آذار من العام 1951قام �أحد �أع�ضاء جمعية فدائيي الإ�سالم باغتيال رئي�س الوزراء حاج علي رازمارا الذي عينه ال�شاه قبل ذلك بعام ،لأنه رف�ض النزول عند مطالب نواب الربملان بت�أميم النفط الإيراين .بعد ذلك ب�أيام، يف الـ 15من �آذار � ،1951صوت الربملان الإيراين على ت�أميم النفط الإيراين وكان حممد م�صدق ال�شخ�صية الرئي�سية التي قادت عملية الت�أميم .وقد كاف�أه املجل�س يف � 28أبريل 1951بانتخابه رئي�ساً للوزراء بغالبية � 79صوتاً ومعار�ضة 12فقط ،يف حتد كبري لرغبة ال�شاه .بعد ثالثة �أيام على تبوئه �سدة الرئا�سة �صادق م�صدق على قرار الت�أميم يف �سابقة كان �سيكون لها الأثر الكبري على م�سار الأحداث يف �إيران وال�شرق الأو�سط. �أدى و�صول دوايت �أيزنهاور �إىل �سدة الرئا�سة يف العام � 1953إىل تغيري يف ال�سيا�سة الأمريكية جتاه �إيران .فقد مت تعيني جون فو�سرت داال�س وزيراً للخارجية يف الإدارة اجلديدة ،وكان معروفاً بعدائه ال�شديد لل�شيوعية .وقد متكن الربيطانيون من اللعب على هذا الوتر لإثارة حفيظة الأمريكيني �ضد م�صدق ،متذرعني بدعم حزب تودة ال�شيوعي له .هذا �أ ّهل �إيران لتكون جزءاً من احلرب ال�صليبية على ال�شيوعية التي �أعلنها داال�س. فقام بتوكيل �أخيه �آالن داال�س ،مدير وكالة اال�ستخبارات املركزية ،بالإطاحة بالزعيم الإيراين ،ومت �صرف مبلغ مليون دوالر �أمريكي لهذا الغر�ض .بعد ذلك بد�أ �أع�ضاء مكتب الـ"�سي �أي �إيه" والـ"�إم �آي "6يف �إيران ،بعقد اجتماعات يف بريوت للتن�سيق للإطاحة مب�صدق ،وقد توىل قيادة العملية التي �سميت ب�أجاك�س ،كريميت روزفيلت وهو حفيد الرئي�س الأمريكي الأ�سبق ثيودور روزفيلت ( .)1900-1908وكانت العملية تقوم على تنكر عمالء للأمريكيني والربيطانيني باالدعاء ب�أنهم عنا�صر قومية و�شيوعية م�ؤيدة مل�صدق وبتهديد قيادات �إ�سالمية خ�صو�صاً بعد اخلالف بني كا�شاين ورئي�س الوزراء� .إ�ضافة �إىل ذلك ا�ستندت العملية �إىل متويل تظاهرات وقالقل �ضد م�صدق لتربير تدخل اجلي�ش �ضد م�صدق والإتاحة لل�شاه ب�إقالته .ويف حماولة ملواجهة امل�ؤامرة �ضده علق م�صدق �أعمال املجل�س يف �آب 1953ومدد حالة الطوارئ ما �سمح للأمريكيني با�ستهدافه على �أنه ديكتاتور .وبناء على �ضغط كريميت روزفيلت على ال�شاه� ،أ�صدر هذا الأخري مر�سوماً 21
ب�إقالة م�صدق وتعيني اجلرنال ف�ضل اهلل زاهدي رئي�ساً للوزراء .بعد ذلك قامت مظاهرات وقالقل يف املدن ممولة من ال�سي �آي �إيه .ويف النهاية مت توقيف م�صدق واحلكم عليه بال�سجن ثم الإقامة اجلربية يف منزله حتى وفاته يف العام .1967 �شكل االنقالب على م�صدق �ضربة قوية لليرباليني الإيرانيني ،بعد ال�ضربة التي كان قد تلقاها الي�سار الإيراين يف العام 1947والتي ا�ستكملت مع الق�ضاء على م�صدق يف العام 1.1953وبالتايل ف�إن احلياة ال�سيا�سية الإيرانية باتت مقت�صرة على حكم ديكتاتوري لطاغية هو ال�شاه ،يف مواجهة م�ؤ�س�سة دينية كان نفوذها �سيت�صاعد نتيجة الفراغ الذي تركه الليرباليون والي�ساريون خلفهم .كان ارتفاع عائدات �إيران من النفط خ�صو�صاً بعد ت�أ�سي�س منظمة الدول املنتجة للنفط �أوبيك ،قد �أعطى ال�شاه قدرات اقت�صادية لتدعيم الدور الإقليمي الذي كان يزمع لعبه يف ال�شرق الأو�سط .يف العام 1971ان�سحبت بريطانيا من منطقة اخلليج العربي بعد مئة وخم�سني عاماً على فر�ضها لهيمنتها .كان املخطط الغربي هو يف �إيكال �أمن املنطقة �إىل ال�شاه وبناء عليه فقد منح ثالث جزر على بوابة م�ضيق هرمز هي طنب الكربى وطنب ال�صغرى و�أبو مو�سى .يف املقابل فقد ارت�ضى ال�شاه التنازل عن مطالب القوميني الإيرانيني ب�ضم البحرين �إىل �إيران. مع حلول العام 1977كانت التقديرات الأمريكية تتوقع بقاء ال�شاه على العر�ش لع�شر �سنوات مقبلة على �أدنى تقدير .كانت �أموال النفط تتدفق وامل�ؤ�شرات االقت�صادية ت�شري �إىل �أرقام منو عالية .وكانت �إيران قد �أ�صبحت �شرطي منطقة اخلليج ،و�إحدى القوى الإقليمية العظمى يف منطقة ال�شرق الأو�سط .كل هذه امل�ؤ�شرات كانت ت�ستبعد قيام ثورة �ضد ال�شاه� .إال �أن ما فات املراقبني هو �أن النمو االقت�صادي مل يتوزع ب�شكل مت�ساو على جميع الإيرانيني ،بل بقي معظمه حكراً على نخبة قليلة حميطة بال�شاه .وكان مال النفط قد �سبب ت�ضخماً عالياً يف �إيران �أثر �سلباً على الطبقات الريفية واملدينية الفقرية ،ما �أدى �إىل ت�صاعد ال�شعور بالإحباط عندها .ومبا �أن التيارين الي�ساري والليربايل كانا قد تلقيا �ضربة قا�سية يف الأربعينيات واخلم�سينيات ،فقد التف الإيرانيون ال�ساخطون على النظام منذ العام 1963حول املرجعيات الدينية .يف ذلك العام برز جنم الإمام �آية اهلل روح اهلل 1- Kenneth M. Pollack, The Persian Puzzle: The Conflict Between Iran and America, (New York: Random House, 2004), 63 – 71. 22
ف�������������ك�������������ر
اخلميني حني قاد املعار�ضة �ضد "ثورة ال�شاه البي�ضاء" 1.يف ت�شرين �أول 1977وجد جنل الإمام اخلميني البكر م�صطفى متوفياً يف منزله ،وقد �سارع �أن�صار الإمام �إىل اتهام جهاز ال�شاباك بت�سميم م�صطفى .بعد ذلك بد�أت االحتجاجات بالت�صاعد ب�شكل كبري و�صو ًال �إىل الإطاحة بال�شاه يف �شباط .1979ومع انت�صار الثورة الإ�سالمية كان الإمام روح اهلل مو�سوي اخلميني �سيبد�أ حكمه يف �إيران بعمر ال�سابعة وال�سبعني بعد م�سرية طويلة من 2 الكفاح. �صعود �إيران كقوة �إقليمية
قد يكون اجلزء غري املعلن عنه يف �صعود جنم �إيران كقوة �إقليمية هو �صعود جنم ال�صني كقوة دولية بدءاً من العام .1980ففي ذلك العام كان دينغ ك�سياو بينغ قد �أم�سك بزمام الأمور يف ال�صني وبد�أ يحدث حتو ًال نحو �إخراج ال�صني من عزلتها �إىل العامل .وقد ترافق ذلك مع حتوالت اقت�صادية كان من املقرر لها �أن جتعل ال�صني القوة االقت�صادية الثانية يف العامل مع حلول العام 2013على �أن ت�صبح القوة الأوىل يف العامل مع حلول العام .2025ولأن �إيران كانت تاريخياً تلعب دور �صلة الو�صل بني �شرق �آ�سيا و�شرق املتو�سط ،فقد ا�ستفادت من �صعود ال�صني لتعزيز دورها الإقليمي .وامللفت للنظر �أنه يف نف�س ذلك العام �أر�سى الإمام اخلميني والرئي�س ال�سوري حافظ الأ�سد �أ�س�س عالقة متينة بني بلديهما .لقد كانت �سورية مهمة جداً بالن�سبة لإيران لأنها كانت بوابة �إيران �إىل �شرق املتو�سط .بغية احتواء هذه التحوالت الإقليمية �أوعز الأمريكيون �إىل �صدام ح�سني باالنقالب على �أحمد ح�سن البكر ثم بقطع العالقات بني العراق و�سورية ثم �شن حرب �ضد �إيران بغية احتواء الثورة الإ�سالمية .وانتهت احلرب الإيرانية العراقية يف العام 1988مع فوز ن�سبي للعراق ،وانتهت بعدها احلرب الباردة بانت�صار الواليات املتحدة. وكان على �إيران �أن تبني قوتها يف ذلك الوقت دون اال�صطدام بالواليات املتحدة .وقد لعبت القيادة الإيرانية على عامل الوقت من �أجل جتاوز خطر التعر�ض ل�ضربة �أمريكية .يف �أيلول 2001اتخذت الواليات املتحدة من هجمات القاعدة يف نيويورك ذريعة الحتالل �أفغان�ستان ومن ثم العراق .كان الهدف احلقيقي هو ال�سيطرة على ال�شرق الأو�سط املمتد من املحيط الأطل�سي غرباً �إىل حدود ال�صني �شرقاً .كان من �ش�أن هذا �أن يحكم قب�ضة -1امل�صدر نف�سه .92 – 85 -2امل�صدر نف�سه .140 – 127 23
الواليات املتحدة على طرق املوا�صالت التقليدية حت�سباً ل�صعود جنم قوى مناف�سة لها على ال�صعيد الدويل مثل االحتاد الأوروبي ورو�سيا وال�صني والهند والربازيل وجنوب �إفريقيا. وقد متكنت الواليات املتحدة يف العام 2004من تطويع �أوروبا وو�ضعها حتت جناحها عرب قبول فرن�سا– جاك �شرياك بالدخول يف فلك الهمينة الأمريكية املطلقة 1.ويف نف�س الوقت بد�أ الأمريكيون بت�أهيل تركيا للعب دور الوكيل يف املنطقة العربية الإ�سالمية .كان الهدف بالدرجة الأوىل حما�صرة ال�صني ورو�سيا (قلب �أورا�سيا) ومنعهما من الو�صول �إىل طرق املوا�صالت البحرية .ويف �شرق �آ�سيا متكن الأمريكيون من حتقيق مبتغاهم عرب �إقامة حزام عازل من جزر معادية لل�صني (اليابان– كوريا اجلنوبية– تايوان– الفليبني– �إندوني�سيا– ماليزيا) وبالتايل منع ال�صني ورو�سيا من اخلروج بحرية �إىل املحيط الهادئ. وبالتايل ازدادت �أهمية �إيران بالن�سبة لل�صني ورو�سيا بحكم �أنها حلقة الو�صل مع �شرق املتو�سط واملحيط الهندي .رد الأمريكيون ب�إقامة �سل�سلة قواعد ع�سكرية يف الكويت والبحرين وقطر و�سلطنة عمان ودبي ،ما بات ي�شكل حزاماً عاز ًال بني �إيران واملحيط الهندي .لكن �إيران متكنت من تعزيز نفوذها يف العراق و�أحدثت اخرتاقات يف جبهة املتو�سط– البحر الأحمر .فعرب عالقة مع �سورية كانت �إيران تطل على �شرق املتو�سط، وعرب عالقة مع حزب اهلل كانت �إيران تهدد الأمن القومي الإ�سرائيلي ،وعرب عالقة مع حما�س كانت �إيران تطل على قناة ال�سوي�س والأمن القومي امل�صري ،وعرب عالقة مع حوثيي اليمن كانت �إيران تطل على باب املندب ،بوابة البحر الأحمر �إىل املحيط الهندي. حاول الأمريكيون مواجهة هذا التمدد الإيراين باالعتماد على دول "االعتدال العربي"
(ال�سعودية وم�صر) لكنهما كانتا �أ�ضعف بكثري من حتقيق هذا الهدف ،خ�صو�صاً يف ظل الدور ال�سوري امل�ؤثر .من هنا كان �إدخال تركيا �إىل املعادلة العربية من بوابة العثمانية اجلديدة بغية �إقامة مثلث من ثالث عوا�صم "�سنية" هي �أنقرة والريا�ض والقاهرة ملواجهة التمدد الإيراين وبالتايل حما�صرة ال�صني ورو�سيا .لكن كانت �سورية ت�شكل اخرتاقاً لهذا املثلث ،وكان لزاماً بالتايل �إ�سقاط نظام الرئي�س ب�شار الأ�سد من �ضمن روزنامة ما ي�سمى بالربيع العربي .لكن النظام يف �سورية مل ي�سقط وف�شلت املقاربات الأمريكية للمنطقة
1- Richard La Beviere, Al Tahawoul Al Kabir (The Great Transformation), (BaghdadBeirut: Dar Al Farabi, 2008), 92-93. 24
ف�������������ك�������������ر
وبات على �إدارة �أوباما �إعادة تقييم �سيا�ساتها عرب عدد من العنا�صر ،منها االعرتاف بالدور الإقليمي امل�ؤثر لإيران 1.يف �أواخر العام 2010و�أوائل العام 2011اندلعت تظاهرات يف كل من تون�س وم�صر ،تلتها تظاهرات يف ليبيا واليمن و�سورية .ومنذ بداية الأزمة يف �سورية �أطلقت الواليات املتحدة وحلفا�ؤها ،اململكة العربية ال�سعودية وقطر وتركيا ،مواقف �ضد الرئي�س ال�سوري ب�شار الأ�سد .يف املقابل �أعلنت وزارة اخلارجية الإيرانية �أن ما يجري 2 هو جزء من "م�ؤامرة غربية لزعزعة احلكومة ال�سورية التي تدعم املقاومة �ضد �إ�سرائيل". وما لبثت احلكومة الإيرانية �أن �أعلنت معار�ضتها للتدخل الأجنبي يف ال�ش�ؤون ال�سورية وذلك رداً على التهديدات الغربية بالتدخل �ضد الرئي�س الأ�سد 3.وقد عار�ض م�س�ؤولوها االتهامات الغربية بوجود قوات �إيرانية ت�ساعد قوات الأمن ال�سورية يف قمع املتظاهرين ال�سوريني 4.وقد �ساهم املوقف الإيراين يف ت�شجيع رو�سيا وال�صني على دعم �سورية .وقد متثل ذلك يف ا�ستعمالهما الفيتو مرات عدة �ضد م�شاريع قرارات دولية �ضد �سورية مقدمة من الغرب. خال�صة
يف ت�شرين �أول� /أكتوبر 2015عقد اتفاق فيينا حول الأزمة ال�سورية بح�ضور الواليات املتحدة و 13دولة حليفة لها يف مقابل ح�ضور رو�سيا و�إيران .وقد كان ح�ضور هذه الأخرية اعرتافاً بدورها الإقليمي لأول مرة بعد �أربعة عقود من الثورة الإ�سالمية وحماوالت الواليات املتحدة لعزلها .وقد جاء ذلك بعد توقيع �إيران التفاق نووي مع الغرب وعدم متكن الواليات املتحدة وحلفائها من �إقناع طهران بوقف دعمها حلركات املقاومة يف لبنان وفل�سطني واليمن� ،إ�ضافة �إىل دعمها ل�سورية .وتعترب الواليات املتحدة �أن هدفها اال�سرتاتيجي الأعلى هو يف منع �أورا�سيا من الو�صول �إىل �شرق املتو�سط وخ�صو�صاً �إىل �شرق املتو�سط والبحر الأحمر عرب �سورية و�إيران .قد يكون هذا هو الذي دفع الغرب �إىل توقيع اتفاق مع �إيران ع�سى �أن ي�ؤدي ذلك �إىل �إبعادها عن رو�سيا وال�صني .لكن الو�صول �إىل �شرق املتو�سط كان دائماً هو الهدف اال�سرتاتيجي لأي قوة حتكم اله�ضبة الإيرانية. -1راجع موريال مرياك في�سباخ وجمال واكيم ،ال�سيا�سة اخلارجية الرتكية جتاه القوى العظمى والبالد العربية منذ العام ( ،2002بريوت :املطبوعات للتوزيع والن�شر)2014 ، -2ال�سفري 13ني�سان .2011 -3ال�سفري 10حزيران .2011 -4ال�سفري 15حزيران .2011 25
فمن دون الو�صول �إىل �شرق املتو�سط ف�إن الغرب �سي�صبح ب�إمكانه عزل �إيران ،ما قد ي�ؤدي �إىل انهيار النظام فيها عرب عملية تفجر داخلي ال عرب هجوم غربي خارجي .لقد كان هذا هو �أحد �أهداف الغزو الأمريكي لأفغان�ستان ثم للعراق .لكن الدعم الإيراين يبقى ثابتاً حتى الآن ل�سورية كما �أن عالقاتها مع ال�صني ال تزال وثيقة.
26
ف�������������ك�������������ر
املراجع
No Author، Israel Strikes in Syria kills Mughnyeh›s son، 6 others، the Daily Star، Jan. 18، 2015 at ■
http://www.dailystar.com.lb/News/Lebanon-News/2015/Jan18/284494-israeli-strike-on-golan-heights-targeted-hezbollahvehicle-kills-4-source.ashx (accessed on January 25، 2015) ■ Saeed Kamali Dehghan، During Monday night’s presidential debate،
Mitt Romney repeated a gaffe he has already made at least five times before، the Guardian October 23، 2012 at http://www.theguardian. com/world/iran-blog/2012/oct/23/romney-gaffe-syria-iran-routeto-sea (accessed on January 25، 2015) William McNell، History Handbook of Western civilization، (Chicago: Chicago university Press، 1953) ■
Fernand braudel، Memory and The Mediterranean، (New York: vintage books، 2002) ■
Pirohz Mojtahed’Zadeh، Iran: An Old Civilization and a New Nation State، Focus on Geography، Volunif 49، Number 4. ■
■ PATRICK
HENRY REARDON، Haran Junction، TOUCHSTONE | OCTOBER 2OO8 William Reitzel، The Importance of the Mediterranean، in Ernest jackh، background of the Middle East، New York: Cornell University Press، 1952 ■
�صراع املمالك يف التاريخ ال�سوري القدمي ما بني الع�صر ال�سومري،■ عبد اهلل احللو .،1999 ، بي�سان: بريوت،و�سقوط اململكة التدمرية ■ John Sheldon، The Ethnic and Linguistic Identity of the Parthians: A
Review of the Evidence from Central Asia، Asian Ethnicity، Volume 27
7، Number 1، February 2006.
، تاريخ ال�شعوب الإ�سالمية،■ كارل بروكلمان .560 - 559 �ص، تاريخ العرب،■ فيليب حتي Bertold Spuler، The Mongol Period-History of the Muslim World، (Princeton: Markus Wiener Publishers، 2006). The Secret History of the Mongols، edited by Urgunge Onon، (London: Routledge، 2001 ■
■ roxann prazniak، Siena on the Silk Roads: Ambrogio Lorenzetti and
the Mongol Global Century، 1250–1350،J ournal of World History، Vol. 21، No. 2 © 2010 by University of Hawai‘i Press. ■ The Travels of Marco Polo the Venetian، edited by Thomas Wright.
Justin Marozzi، Tamerlane – Sword of Islam Conqueror of the World، (London: Harper Collins، 2004) ■
■ David
Blow، Shah Abbas-The Ruthless King who Became an Iranian Legend، (London: I.B. Tauris، 2009) ■ Kenneth M. Pollack، The Persian Puzzle: The Conflict Between Iran
and America، (New York: Random House، 2004). ■
Richard La Beviere، Al Tahawoul Al Kabir، (Beirut: Dar Al Farabi،
2008).
ال�سيا�سة اخلارجية الرتكية جتاه القوى العظمى،■ موريال مرياك في�سباخ وجمال واكيم .)2014 ، املطبوعات للتوزيع والن�شر: (بريوت،2002 والبالد العربية منذ العام
28
ف�����������������ك�����������������ر
م�أزق العروبة
بني املنازعات الأهلية والقومية االجتماعية د .عاطف عط ّيه -باحث و�أ�ستاذ جامعي
يتح�صل على �أر�ض العامل العربي من �أحداث ،ح�صلت وحت�صل ي�شي عنوان هذه الدرا�سة مبا ّ من حميطه �إىل اخلليج .وهي �أحداث ما زالت تت�صاعد بوترية مت�سارعة منذ ما قبل انهيار ال�سلطنة العثمانية ،ومنذ اللحظة التي �آذنت بها الدول الأوروبية بالإفراج عن خطة التفاهم بني احللفاء على اقت�سام مغامن احلرب الكونية الأوىل ،وعن كيفية التعامل مع اخلا�سرين من دول املحور .وكان من �ضمن اخلطة هذه ،كيفية الإيفاء بالوعود التي �أغدقت على املتعاملني معها من القوى االقليمية العربية التي ع ّولت عليها الكثري يف تنفيذ كل ما يتعلق ب�سري املعارك يف �أر�ض غريبة .وهي تدرك �أن ذلك لن يتم على الوجه ال�صحيح �إال عند اقتناع القوى العربية ،وعلى ر�أ�سها ال�شريف ح�سني ،بجدوى التعامل للو�صول �إىل اال�ستقالل عن الدولة العثمانية �إذا خ�سرت احلرب ،و�إن�شاء اململكة العربية الكربى بدي ًال عن ال�سلطنة، وعلى ر�أ�سها خادم احلرمني ال�شريفني احل�سني ،ومن ثم �أوالده من بعده .وكان الأمر كله معتمداً على الوعود والآمال لتحقيق هذا املك�سب الآين عن طريق ر�سم حدود الدولة العتيدة ،دون و�ضوح يف التكتيك ،وال يف اال�سرتاتيجية العربية ،لكيف ّية الو�صول �إىل هذه املرحلة وتثبيتها.1 اخلديعة الكربى
كانت جمريات احلرب تفر�ض على العرب واحللفاء التعاون يف �شكل مبا�شر ،وبو�ساطة مندوبني �سيا�سيني يعملون على و�ضع �سيا�سة الفرن�سيني واالنكليز مو�ضع التنفيذ يف املنطقة العربية باحلوار مع ممثلي العرب ،وخ�صو�صاً ال�شريف ح�سني .وقد برز من ه�ؤالء �إثنان من الإنكليز. � . 1أنظر حول بدايات احلوار بني ال�شريف ح�سني واالنكليز ما كان ي�أمله الأول ،باعتباره ميثل كل العرب ،ونظرة امل�س�ؤولني الإنكليز �إليه: �سليمان مو�سى ،احلركة العربية ،الطبعة الثانية ،دار النهار للن�شر ،1977 ،بريوت� ،ص �ص.214 - 20129
�إذ متثلت هذه ال�سيا�سة ع�سكرياً يف ال�ضابط الإنكليزي لورن�س 1الذي تت ّبع املعارك عن كثب، وقاد بع�ضها برفقة الأمري في�صل ،ليكون على �إطالع مبا�شر ب�سري �أمور احلرب يف اجلزيرة �ضد العثمانيني ،بعد �إعالن الثورةّ ، وليطلع قيادته على امل�ستجدات �أو ًال ب�أول� .أما ال�سيا�سة مبعناها الدبلوما�سي فقد متثلت بال�سري ماكماهون ،الذي كان عليه ،من خالل املرا�سالت� ،أن ي�ؤكد على م�ساعدة االنكليز لل�شريف ح�سني يف حتقيق اال�ستقالل ،و�أن يقنعه يف الوقت نف�سه ب�أن ثمة منطقة يف امل�شرق ال تعترب عربية باملعنى ال�صحيح ،وميكن �أن يكون لها تدبري خا�ص ال يدخل �ضمن الوعود االنكليزية يف ر�سم حدود الدولة العربية املوعودة .2وقد ظهر ،من بعد، �أن هذا التدبري كان يحمل يف طياته �سراً خطرياً ،عملت الثورة البل�شفية ،3ومن ثم ال�شيوعية، على ك�شفه قبل نهاية احلرب ،يف العام ،1917من �ضمن لعبة الأمم ،وللتفتي�ش عن مواقع نفوذ يف العامل لدولة فتية بنظامها اجلديد ،وقبل تنفيذ �أي من الوعود املعطاة �إىل العرب .متثل هذا ال�سر بوعد احلكومة الإنكليزية لليهود ب�إن�شاء وطن قومي لهم يف فل�سطني.4 االعتبارات الأهلية
يف هذا اجلو املليء باملخادعة والرياء ،مت االتفاق ال�شفوي غري امللزم بتعيني ال�شريف ح�سني ملكاً على البلدان العربية امل�ستقلة عقب انتهاء احلرب .وكان �أن �أخلف احللفاء بوعودهم، و�أنهوا الدولة العربية املقامة يف امل�شرق على يد امللك في�صل ،بعد هزمية اجلي�ش العربي يف مي�سلون ،عندما تك�شّ فت اخلطة بتق�سيم البالد ال�سورية بني الفرن�سيني واالنكليز ،ح�سب ما قررته اتفاقية �سايك�س بيكو (�أيار .)1916وقد ظهر يف خ�ضم هذه الأحداث وعد بلفور الذي �أعطى لغريه ما ال ميلكه (ت�شرين الثاين .)1917وجتلى اخلداع ب�أو�ضح معانيه ،على �شكل �إذاعة �أ�سرار العالقات الدولية من قبل طرف ثالث .وتبني �أن العرب كانوا اخلا�سرين، . 1للتف�صيل حول دور لورن�س يف اجلزيرة العربية و�إ�شرافه املبا�شر على �سري املعارك �ضد القوات العثمانية� ،أنظر : ت� .أ .لورن�س� ،أعمدة احلكمة ال�سبعة ،دار الآفاق اجلديدة ،الطبعة الرابعة ،1980 ،بريوت� 402 ،ص.� . 2أنظر للتف�صيل حول تبادل الر�سائل بني ال�شريف ح�سني ومكماهون� ،إبان احلرب العاملية الأوىل:1916 - 1915 ، زين نور الدين زين ،ال�صراع الدويل يف ال�شرق الأو�سط ،دار النهار للن�شر ،1971 ،بريوت� ،ص �ص.76 - 60 . 3حول ظروف ك�شف بنود معاهدة �سايك�س بيكو ،ووعد بلفور ،وال�ضجة ال�سيا�سية التي �أثريت يف حينه� ،أنظر: زين ،ال�صراع الدويل يف ال�شرق الأو�سط ،مذكور �سابقاً� ،ص.75 - 74 . 4حول ن�ص هذا الوعد ،والظروف التي �أدت �إىل و�ضعه� ،أنظر مو�سى ،احلركة العربية ،مذكور �سابقاً� ،ص �ص.370 364-30
ف�������������ك�������������ر
واليهود كانوا �أكرث الرابحني ،وا�ستلمت فرن�سا وبريطانيا �ش�ؤون البالد ال�سورية يف ق�سمة متفق عليها م�سبقاً .وكان �أن �أ�صبح لبنان "كبرياً" ب�ضم امللحقات مع �أرجحية حكم للموارنة من امل�سيحيني .ووجد العرب �أنف�سهم يف موقع اخلا�سرين على كل اجلهات� .أر�ض ُ�سلبت ،على تق�سمت حتت �سيطرة ا�ستعمار �شكل وعد ،قبل �أن ينتزعها اليهود من �أيدي العرب؛ و�أر�ض ّ مبا�شر .ومل يحز ال�شريف ح�سني و�أوالده �إال على ق�سم من الوعد بعد الهزمية املنكرة جلي�ش في�صل .1وما كان تنفيذ هذا الق�سم من الوعد �إال تثبيتاً لأمر واقع يف حكم وراثي ال يقدم �شيئاً خارج املنطق القبلي الذي ما زال م�ستمراً منذ �أزمنة مغرقة يف القدم ،ومل ي�صبه �شيء من التغري� ،إال يف تبعية القبائل ال�صغرى للقبائل الأكرب والأقوى .فانح�سرت ،بذلك ،قدرة ال�سلطة الواحدة ،وانق�سمت �إىل �سلطات ،وتوزعت بني حوا�ضر العرب و�صحرائهم يف اجلزيرة العربية ومناطق اخلليج ،و�إن بقيت جميعها حتت �سيطرة اقت�صادية و�سيا�سية لقوى ودول كربى مت�أتية من خارج املنطقة ،ومن خارج العرب. كان على عموم العرب ،يف كل �أطيافهم وحوا�ضرهم وانتماءاتهم ،ولغياب الر�ؤيا واال�سرتتيجية، �أن يتعاملوا مع املتغريات الدولية ،والتحوالت ال�سيا�سية ،باالنفعال وردود الأفعال جتاه ما يح�صل من �أحداث ،وعلى امل�ستويات كافة .وما كان لهم �أن يدركوا بالتمام ما كان يح�صل، وال ما عليهم �أن يفعلوا �إال املطالبة باال�ستقالل ،وتر�سيم احلدود ،وتثبيت مواقع احلكم ،وطلب امل�ساعدات .ويف ظل الإحلاح على تكرار هذه املطالب ،والأمية الثقافية ،واالنغالق على الن�صي الذي ي�ستمد معارفه معارف الع�صر وعلومه ،كانوا يت�صرفون مبا ميليه عليهم العقل ّ وتطبيقاته العملية من ن�صو�ص القر�آن ،ومن الت�شريعات الدينية التي تو�صي ب�إطاعة �أويل الأمر ،وامل�سري مبا يقت�ضيه ال�شرع ،ومبا ميليه على امل�ؤمنني من �أمور الطاعة واالقتداء بال�سلف ال�صالح ،على اعتبار �أنهم يدركون م�صالح امل�ؤمنني ،ويعملون مبا يو�صل �إىل ن�صرة الإ�سالم وامل�سلمني. يقول زين يف هذا املجال� ،إن الق�ضية العربية مل تكن معروفة يف القرن التا�سع �شر ،حتى �أن عرب الدولة العثمانية مل يكونوا معروفني بهذا الإ�سم .وكان العرب والأتراك معروفني با�سم . 1حول ال�سباق بني امللك في�صل والقوات االنكليزية لل�سيطرة على دم�شق وبريوت وغريهما لإعالن مملكة في�صل وت�صدي االنكليز لها� ،أنظر الرواية املمتعة لهذه املرحلة ،يف: خالد زيادة ،حكاية في�صل ،دار النهار للن�شر ،1999 ،بريوت�208 ،ص.31
االخوان يف الدين ،وباعتبارهم م�سلمني قبل �أي �شيء �آخر .1وي�سند كالمه ب�أمثلة م�ستقاة من م�صادر �إ�سالمية و�أجنبية؛ منها ما يقوله عبد الرحمن ع ّزام يف هذا اخل�صو�ص" :امل�ؤمنون يف جميع �أطراف الأر�ض �إخوان ال تف ّرقهم الأوطان وال الع�صبيات وال املذاهب وال املنافع وال اخلوف وال املنعة وال العبودية وال �سبب من الأ�سباب .للم�سلم حق الأخ ّوة على امل�سلم �أينما ّ حل و�أينما كانت الدار فال جن�سية غري اجلن�سية امل�شرتكة التي يكفي لثبوتها �شهادة �أن ال �إله �إال اهلل و�أن حممداً ر�سول اهلل ..والدعوة املحمدية ال تعرف الوطنية والعن�صرية باملعنى احلديث ،فوطن امل�سلم لي�س له حدود جغراف ّية ،فهو ميتد مع العقيدة ،بل هو يف احلقيقة وطن معنوي كما �أن الدين �أمر معنوي وامل�سلم �أخو امل�سلم �إينما كان ،جاوره �أم تباعدت به الأر�ض ،وامل�سلم �أينما حل يف دولة �إ�سالمية فقد ّ حل يف وطنه".2 هذا ما دعا عموم امل�سلمني �إىل ال�سكوت ،و�إن على م�ض�ض ،عن م�سالك ال�شريف ح�سني وجي�شه الذي نا�صر غري امل�سلمني �ضد اخلالفة والدولة اال�سالمية التي تعمل على ن�صرة اال�سالم وامل�سلمني ،و�إن �شابها نوع من ال�ضعف واالنحالل .وقد عبرّ عن هذه املفارقة زين نور الدين زين بقوله" :من املمتع �أن ن�شري �أن ثورة ال�شريف ح�سني �ضد ال�سلطان الذي هو �أي�ضاً خليفة امل�سلمني نزلت كال�صاعقة على كثريين من امل�سلمني ال�سنيني يف جميع �أنحاء العامل ،وال�سيما بني م�سلمي الهند".3 و�إذا اعتمد ه�ؤالء على االجتهاد الفقهي الذي يق�ضي ب�أن ال�ضرورات تبيح املحظورات ،ف�إن هذا التوجه له ما يربره �إذا كان يف �سبيل الو�صول �إىل مرحلة �أف�ضل من تلك التي �سمحت ب�إباحتها� .إال ان ما ح�صل� ،أظهر مدى اخل�سارة التي ُمني بها العرب ،وعلى كل الأوجه واالحتماالت التي كانوا ي�أملون منها يف الو�صول �إىل اال�ستقالل والوحدة ،حتت راية عربية واحدة مبا يع ّز العرب وامل�سلمني. االنتماء الأهلي للعرب ،وطاعتهم لأوليائهم �أ�ضاعا عليهم حما�سبة امل�س�ؤولني عن هذه . 1زين نور الدين زين ،ن�شوء القومية العربية ،الطبعة الثانية ،دار النهار للن�شر ،1972 ،بريوت� ،ص.43 . 2هذه الفقرة مقتب�سة من كتاب عبد الرحمن عزام" ،الر�سالة اخلالدة" الذي �صدر يف القاهرة عام � ،1946أي بعد عام واحد على ن�ش�أة اجلامعة العربية ،وكان هو نف�سه� ،أميناً عاماً لها منذ ت�أ�سي�سها العام � 1945إىل � .1952أنظر يف هذا اخل�صو�ص: بحق �أن امل�صدر نف�سه� ،ص .44 43-وكذلك يقتب�س زين عن ر�شيد ر�ضا يف املعنى نف�سه ،وعن جب وبوون اللذين اعتربا ّاالنتماء لدى امل�سلمني ال�س ّنة وغريهم من رعايا ال�سلطنة مل يكن �إال انتماء دينياً ،امل�صدر نف�سه� ،ص.44 . 3زين ،ال�صراع الدويل يف ال�شرق الأو�سط ،مذكور �سابقاً� ،ص.72 - 71 32
ف�������������ك�������������ر
اخل�سارة .والتفتوا من بعد� ،إىل تدبري �أمورهم مبا هو متوفّر ،ومبا ميكن احل�صول عليه يف عالقاتهم مع قوى عظمى ال حول لهم يف مواجهتها وال قوة .فتهافتوا على ركوب املوجة احلديثة يف التعاطي مع �ش�ؤون احلكم واالفادة من مغامنه .وذلك مل يكن من �أجل �أن يعملوا على ما ميكن �أن يع ّو�ض اخل�سارة بعد انتهاء احلرب ،بل من �أجل بناء مواقع �سلطة جديدة ،ت�أخذ ير�سخ ال�سلطة ،وي�ؤ ّمن من عنا�صر الدولة احلديثة �صورها ورموزها ،وتعمل عليها ما ميكن �أن ّ اال�ستمرارية يف احلكم ،يف �شكل ال يختلف عن الوراثة القبلية� ،أو الذهنية التي حتكم من خاللها الدولة ،كما يحكم �شيخ القبيلة �أتباعه ومريديه. ّ واملتعكر مبزاج ّية امل�ستعمرين ،واحلكام املحليني ،وامل�ستفيدين من يف هذا اجلو امل�شحون، التح ّوالت التي ح�صلت على غري ما كان ي�أمل العرب ،وعلى غري ما كان يتوقع من يعتربون وعمت البلبلة .فعمل اجلميع، �أنف�سهم من غري العرب ،اختلطت الأمور وت�ضاربت امل�صالحّ ، عرباً ،وغري عرب ،على قدر ما يعتقدون ،يف توجهات خمتلفة ،ومتناق�ضة� ،آخذين من االنتماء الديني واملذهبي والعن�صري والعرقي واملناطقي و�سائل التوجه واملطالبةٌّ . وكل يريد دولة على مقا�سه ،و�أر�ضاً خم�صو�صة ،وحكاماً على �أديان رعاياهم ،ورعايا ميتثلون حلكامهم باملَونة الأهلية ،دينية كانت �أو مذهبية �أو طائفية� ،أو مناطقية .وتزايد اجلهر باالنتماء الأهلي ،وعمل اجلميع على زيادة التوتري واالنق�سام ،و�شحن النفو�س .وا�ستعجل اجلميع تظهري ما كان ير�سم يف اجلل�سات املغلقة ،ليعرفوا على �أي وجه يقيموا �صلواتهم .والق ّيمون على الأمورٌ ، كل يف ميدان �سطوته ،يرون ،يف ذلك ،امل ّربر الأ�سا�سي للتعمق يف هيمنتهم ،واال�ستزادة من �شد قب�ضاتهم على البالد والعباد. ي�شد العواطف ويزيد االنفعال للتوغل �أكرث يف االنتماءات الأهلية، هذا اجلو العام بطبيعتهّ ، دون اعتبار ملا ميكن �أن يكون م�شرتكاً يف عملية االنتماء .ذلك �أن هذا االنتماء امل�شرتك مل يكن متبلوراً بعد ،كما �أن �إمكانية وجوده ّ تغطت بطبقة �سميكة من االعتبارات املللية التي �أورثتها ال�سلطنة العثمانية لرعاياها ،على �أن تكون امل ّلة الإ�سالمية ال�سن ّية على ر�أ�س هذا الهرم الذي يتك ّون من �أعاله �إىل قاعدته برتاتب م ّلي ،للعدد فيه الأولوية .وقد �أعطى نظام املبجل فيها� -سلطته الروحية، امللل لكل ر�أ�س يف م ّلته -وهو بطبيعة احلال رجل الدين ّ والزمنية مبا يرتئيه هو بذاته ك�صاحب �سلطة .واعتربه النظام ،باال�ضافة �إىل ذلك� ،صلة الو�صل 33
مع ال�سلطة احلاكمة ،من الوايل �إىل الباب العايل .1وعليه ،كان ال ّبد لهذا التوجه �أن يكون هو ال�سائد� ،إن كان يف نظرة الراعي �إىل الرعايا� ،أو يف نظرة الرعايا �إىل الراعي .وما كان ثمة توجه غري هذا التوجه. �إمكانية لوجود ّ ما يعطي لهذا الكالم �صدق ّيته وواقع ّيته هو �أن بداية ن�شوء الدول امل�شرقية ،وعلى يد الدولة الفرن�سية العلمانية ،كان على �أ�سا�س مذهبي ديني ،بعد ت�صنيفها لهذه الدول على النهج الذي كان متداو ًال :دولة للعلويني ودولة للدروز ودولة فيها �أرجحية للموارنة يف احلكم ،مع تو�سعة لأرا�ضي اجلبل 2ما لبثت �أن قلبت املعادلة ،ودولة لليهود كانت بد�أت تت�شكل عقب انتهاء احلرب العاملية الأوىل وازدياد الهجرة �إىل فل�سطني .وهي الهجرة املمنهجة مبنظماتها االرهابية العاملة على تو�سيع مناطق نفوذها على ح�ساب مالكيها الفل�سطينيني .نظام دقيق من التربعات وعمليات ال�شراء والإ�ستيطان ،باال�ضافة �إىل الإرهاب وبيع الأرا�ضي والتهجري الق�سري .ذلك كله ،والقادة العرب غافلون .فكانت النتيجة ت�ضاداً ثنائياً بني هجرة يهودية �إىل فل�سطني من كل مكان يف العامل ،وتهجري فل�سطيني �إىل كل بقاع العامل ،هذا �إذا وجد الفل�سطينيون من ي�ستقبلهم يف بالد غري بلدهم. مل يكن االنتماء الأهلي �إال �إنتاجاً لواقع اجتماعي تاريخي عمل على ا�ستعمال هذا االنتماء ب�صيغته الأهلية ،وبالعاطفة التي تنتجها مثل هذه ال�صيغة .3وحت ّولت العاطفة العربية ،باعتبار الدين واللغة وامل�شاعر املت�شكلة من تاريخ طويل من التك ّيف� ،أو املعاناة، مع احلاكمني من غري العربّ ، لت�شكل يف جمموعها رابطة عاطفية م�شرتكة .وقد ظهرت �أول ما ظهرت ،على ل�سان وحتت �أقالم رجال عرب ،وج ّلهم من امل�سيحيني ،لتكون هذه الرابطة ال�سند والدافع �إىل املطالبة باال�ستقالل عن ال�سلطنة العثمانية .وقد تزامن . 1حول نظام امللل العثماين ،وكيفية �إدارة ال�سلطنة العثمانية لبالد مرتامية الأطراف من خالل انتماءات �أهاليها الدينية واملذهبية� ،أنظر: م�سعود �ضاهر ،اجلذور التاريخية للم�س�ألة الطائفية اللبنانية ،معهد االمناء العربي ،1981 ،بريوت� ،ص �ص.283 - 280 . 2حول تق�سيم �سوريا �إىل �أربع دويالت ،واحدة للعلويني وواحدة للدروز و�إثنتني لل�س ّنة يف دم�شق وحلب ،واقتطاع جزء منها و�إحلاقه بجبل لبنان ومن ثم احتاد ثالث منها دون دولة الدروز بناء على رغبة منهم ( ،)1925 - 1922و�إنفجار الثورة من جبل الدروز بقيادة �سلطان با�شا الأطر�ش (� ،)1925أنظر: يو�سف احلكيم� ،سورية واالنتداب الفرن�سي ،دار النهار للن�شر ،1983 ،بريوت� ،ص �ص� .126 - 42أنظر �أي�ضاً: حممد هوا�ش ،تك ّون جمهورية� ،سورية واالنتداب ،من�شورات ال�سائح ،2005 ،طرابل�س ،لبنان� ،ص �ص .122 - 67وما بعد. . 3للتف�صيل حول موا�صفات املجتمع الأهلي وانتماءاته� ،أنظر: عاطف عطيه ،الدولة امل�ؤجلة ،دار �أمواج ومكتبة بيب�سان ،2000 ،بريوت� ،ص �ص.130 - 12334
ف�������������ك�������������ر
جلي ووا�ضح من قبل املفكرين امل�سلمني بوجوب العمل على هذا التوجه ،مع اهتمام ّ التغيري ،دون �أن يعني ذلك التخل�ص من ال�سلطنة العثمانية .ذلك �أن ه�ؤالء كانوا يريدون �إ�صالحها من خالل املطالبة بالالمركزية ،والإلتفات �أكرث �إىل البلدان العربية ،و�إىل تو�سيع م�شاركتهم يف حكم الدولة ،وخ�صو�صاً يف الواليات العربية ،و�إىل زيادة االعتبار لهم، كعرب .ومل تتغري نظرة العرب امل�سلمني �إىل الدولة العثمانية �إال بعد �أن تغريت نظرة هذه �إىل نف�سها� ،أو ًال ،ومن ثم �إىل العرب ثانياً .ذلك �أن جمعية االحتاد والرتقي قلبت توجه الأتراك اال�سالمي ،ودعت �إىل القومية الرتكية ،و�إىل اعتبار العرب من الدرجة الثانية يف تبع ّيتهم ،ويف نظرة الدولة �إليهم .فا�ستخل�ص العرب من ذلك� ،أن الأتراك ابتعدوا عن اال�سالم ،واقرتبوا من القومية الطورانية .وهذا بحد ذاتهّ ، ي�شكل غربة عن اال�سالم وامل�سلمني ،و�إن بقوا يف ت�أ�سي�سهم ل�سلطتهم احلديثة يتكئون على اخلالفة الإ�سالمية ونهجها ،و�إن كان �صورياً. هذا ما دعا العرب �إىل االبتعاد عن الأتراك .فتوغلوا يف جمافاتهم �إىل �أن و�صل الأمر �إىل حماربتهم من قلب اجلزيرة العربية ،ومن بعد ،من كل مكان يف البلدان العربية يدين بالوالء �إىل خادم احلرفني ال�شريفني .هنا ،ولأن الدعوة �إىل القومية العربية كانت �سيا�سية يف الأ�سا�س ،ر�أى العرب امل�سيحيون �أن املطالبة بها مل تعد ذات �ش�أن ،بالن�سبة �إليهم ،عندما تب ّناها امل�سلمون باعتبارها ق�ضيتهم يف مواجهة الأتراك الطورانيني .ووجد ه�ؤالء �أنف�سهم يف ورطة �سيا�سية .ذلك �أنهم ا�ستنتجوا �أن مطالبتهم بالقومية العربية �ستنقلهم على يد امل�سلمني املطالبني بها� ،إىل موقع �آخر �أكرث ت�أثرياً على وجودهم .ما يعني �أنهم �سيتخل�صون من الدب الرتكي ،يف حال جناح الثورة العربية ،ليقعوا يف اجلب العربي ،ومن ثم ال�ضياع جمدداً يف بحر متالطم من امل�سلمني ،1وبن�سبة عددية ال تقا�س بها ن�سبتهم ،وحتى ن�سب الأقليات غري ال�س ّنية معهم .ووجدوا �أن االنتقال من نظام يعطيهم حقوقهم وا�ستقالهم الذاتي مبوجب نظام امللل� ،إىل �أكرثية من العرب امل�سلمني ال�س ّنة ،ورمبا غري العرب منهم ،لن ُيبقي على �شي مما كان ب�أيديهم من النفوذ �أو ال�سلطة.2 . 1كمال ال�صليبي ،تاريخ لبنان احلديث ،الطبعة ال�سابعة ،دار النهار للن�شر ،1991 ،بريوت� ،ص �ص.203 - 201 . 2حول بدايات الت�صرف مبا يوحي بتطبيق ال�شريعة الإ�سالمية يف احلكم ،وخوف امل�سيحيني من هذه امل�س�ألة� ،أنظر: وجيه كوثراين ،االجتاهات االجتماعية يف لبنان وامل�شرق العربي ،معهد االمناء العربي ،1976 ،بريوت� ،ص.27735
املنازعات الأهلية
حتول الن�ضال ال�سيا�سي ،نتيجة لهذه االعتبارات ،من املناداة بالقومية العربية� ،إىل املناداة بالقومية اللبنانية .وحتولت الإيديولوجيا ال�سيا�سية من التفتي�ش عما يدعم العروبة باعتبارها حاملة لأ�صناف العرب جميعاً� ،إىل لبننة خمت�صة بامل�سيحيني .وحتولت العروبة التي متخ�ضت عن العثمنة ورف�ضت الترتيك� ،إىل موقع جديد وجد اللبننة مقابله ،وعلى الوجه النقي�ض .ويف املوقعني ،عمل املنتمون على بلورة �إيديولوجيا �سيا�سية لكل منهما .وبقي العمل حم�صوراً يف توجهه ال�سيا�سي يف املوقعني ،ومل ي�صل �أي منهما �إىل بلورة م�ضمونهما العقدي ،وفكرهما احل�ضاري ،لت�ستوعب كل املنتمني �إىل دنيا العرب� ،أو �إىل دنيا لبنان .وعمل مفكرو املوقعني جهدهم لإيجاد العقيدة التي ميكن �أن جتمع ،فلم يجدوا �إال الآمال والأماين املنتمية �إىل احلقل الأهلي� ،إن كان يف �أمور الدين �أو الدنيا .1وظهر الأمر على و�ضوح �شديد ال�سطوع: مت ُ َو�ضع العروبة املحمولة من امل�سلمني ،وال�س ّنة منهم على اخل�صو�ص ،يف املوقع املقابل ل ّلب َن َنة املحمولة من امل�سيحيني اللبنانيني ،واملوارنة منهم على اخل�صو�ص ،وعلى �أمل �أن ين�ضم �إليها من يرى ذلك موجباً من امل�سيحيني يف البلدان املحيطة. مل يكن اخلالف على الوجه الثنائي النقي�ض بني العروبيني واللبنانيني� ،أو بني امل�سلمني وامل�سيحيني� ،إال باعتباره وجهاً من وجوه اخلالف بني العن�صرين املت�أتيني من ال�صراع العربي الرتكي املخلوق للتدليل على �أحقية العرب يف حكم �أنف�سهم باال�ستقالل الالزم ،واحل�ضور املميز لدنيا العرب يف العامل. هذا التوجه فر�ضه تاريخ العرب وح�ضارتهم املحمولة بالل�سان العربي املبني وبالدين العربي الذي انطلق من اجلزيرة العربية �إىل العامل ،ومما �أوجدته هذه احل�ضارة من �صنوف احلكم والتو�سع ،ومن �أنظمة ا�ستمدت روحها من تعاليم اال�سالمّ ، وتوطدت بحكم �إن�ساين ق ُرب . 1ظهر من املفكرين العروبيني �إبان احتدام ال�صراع بني خمتلف القوميات العربية وال�سورية واللبنانية واالتنية والطائفية، زكي الأر�سوزي و�ساطع احل�صري ومن ثم مي�شال عفلق الذي ر�أى �أن العالقة بني الإ�سالم والعروبة متينة �إىل درجة جعلته يتحول �إىل الإ�سالم ليكون من�سجماً مع فكره ودعوته العروبية .وكذلك ظهر ق�سطنطني زريق يف عروبته الفل�سفية قبل �أن يتحول الفكر العروبي �إىل ممار�سة �سيا�سية منظمة يف حزب البعث ويف حركة القوميني العرب� .إال �أن هذه املمار�سة زادت احلالة تخبطاً وبلبلة ،وفتحت �أبواباً جديدة لل�صراع ال�سيا�سي ومناكفات احلكام والتهافت على ال�سلطة� .أما يف لبنان فقد ظهر فال�سفة للقومية اللبنانية ،نذكر منهم على اخل�صو�ص :مي�شال �شيحا ويو�سف ال�سودا ،وكمال يو�سف احلاج يف فرتات زمنية هم ه�ؤالء ين�صب على كيفية املالءمة بني الواقع ال�سيا�سي الطائفي واالنتماء اللبناين .وو�صل الأمر �إىل اعتبار متقاربة ،وكان ّ الطائفية النظام الأمثل للبنان. 36
ف�������������ك�������������ر
�أو ابتعد عما يقوله الت�شريع الديني يف ق�ضايا التعامل بني الب�شر .وكانت دم�شق ومن ثم امل�ستجد ،واملنبني على ما ّقدمه اال�سالم، بغداد ،نقطتي االنطالق لهذا الرتاث احل�ضاري ّ يف تفاعله مع هذه احلوا�ضر ،من �صنوف العالقة بني احلاكم واملحكوم .وقد �أو�صلت هاتان العا�صمتان احلكم العربي املو�صول باخلالفة برباط ت�أ�سي�سي� ،إىل �أماكن ق�ص ّية يف �آ�سيا و�أوروبا و�أفريقية ،ب�صرف النظر عن قربها مما �أراده اال�سالم من �صنوف احلكم الذي مور�س با�سمه، �أو ُبعدها عنه .ذلك �أن الإ�سالم مل يحدد �صنفاً معيناً من �صنوف احلكم� ،إال مبا ين�ش�أ عن ال�شورى ،وهي مبد�أ اال�سالم يف احلكم ودليله على �أهمية �أن يكون و�ضعياً ،و�إال حتول �إىل ملك ع�ضو�ض تت�ضافر فيه �أمور ال�سيا�سة مع �أمور الدين.1 احلقل املعريف للعروبة
يف كل هذا التو�سع واالمتداد ،كان احلكم العربي اال�سالمي يقوم على مبد�أ اخلالفة والتوريث يف احلكم ،مع ما يج ّره ذلك من �صنوف احلقد والد�سائ�س والقتل لال�ستئثار باحلكم �أو حلرمان من له احلق يف ذلك ،من �أجل ح�صره يف الأبناء� ،إىل الت�سلط واال�ستبداد .وكان من جملة اخل�صائ�ص يف احلكم ،مت ّيز الع�صر ال�سيا�سي �إما باالنفتاح والت�سامح يف �أزمنة القوة وال�سيطرة، �أو التزمت ال�صارم يف �أزمنة ال�ضعف والتخاذل .ويف هذه الأجواء جميعاً كان االئتالف واالن�سجام� ،أو االختالف والت�صادم وا�ضحاً بني �أهل ال�سلطة ال�سيا�سية وال�سلطة الدينية، ح�سب ما متليه �أو�ضاع اخلالفة� ،أو ال�سلطنة ،يف عالقاتها مع اخلارج ،املنعك�س دوماً �إيجاباً �أو �سلباً يف عالقاتها مع الداخل املتعدد �إتنياً ودينياً ومذهبياً ،ومناطقياً بني احلوا�ضر والأطراف، وحتى يف �أحيان كثرية داخل احلوا�ضر نف�سها.2 �أ�سوق هذا الكالم للتدليل على �أن ما�ضي العرب وحا�ضرهم مل يعرف نظاماً �سيا�سياً ،مبنياً . 1هذه امل�س�ألة على �أهميتها مدار خالف وتوجهات متناق�ضة بني املفكرين امل�سلمني واال�سالميني على ال�سواء� .أنظر يف هذا اخل�صو�ص: علي عبد الرازق ،اال�سالم و�أ�صول احلكم ،الهيئة امل�صرية العامة للكتاب ،1993 ،القاهرة�104 ،ص� .أي�ضاً: حممد �أحمد خلف اهلل ،القر�آن والدولة ،الطبعة الثانية ،امل�ؤ�س�سة العربية للدرا�سات والن�شر ،1981 ،بريوت�164 ،ص.وم�ؤلفات الإ�سالم َّيني ح�سن البنا و�سيد قطب وغريهما يف املوقع املقابل.
. 2يعطي كتاب ال�شطار والعيارين يف الرتاث العربي الأهمية الق�صوى لهذه الفرق يف املدن العربية واال�سالمية ومدى �سطوتها وت�أثريها على توجه احلكم يف عالقته بها� ،أو مع خ�صومه ال�سيا�سيني من خاللها� .أنظر للتف�صيل: حممد رجب النجار ،حكايات ال�شطار والعيارين يف الرتاث العربي ،عامل املعرفة ،45املجل�س الوطني للثقافة والفنونوالآداب ،1981 ،الكويت. 37
على مبادئ معلومة يف الفكر ال�سيا�سي �إال مبا ن�ش�أ من خالل العالقة بني احلاكم ال�شرعي امل�ستمد ل�شرعيته من الدين ،مع الت�أكيد الوا�ضح على التالزم املف�صلي الذي ال ميكن �أن ينف�صم بني الدين وال�سيا�سة .فال�سيا�سة منبثقة مما يقوله اال�سالم يف هذا اخل�صو�ص. معني ب�ش�ؤون الدنيا عنايته بال�ش�ؤون الإلهية ،فهو دين ودنيا .وعلى امل�سلمني �أن واال�سالم ّ يديروا عواملهم على هذا الأ�سا�س .وعليه� ،أي خروج عن هذا التوجه ،ي�صب يف غري م�صلحة الإ�سالم ،وعلى غري ما يريده امل�سلمون .وميكن لأي خروج عن هذا التوجه �أن يتم جتاوزه من قبل عامة امل�سلمني وخوا�صهم� ،إذا كان يف خدمة اال�سرتاتيجية العامة التي �أوجبت هذا اخلروج� .أما يف حال �إذا كان لبناء �صرح فكري وثقايف مبنيني على موجبات النوامي�س االجتماعية والبحث العقالين القائم على علم االجتماع والفل�سفة وعلم ال�سيا�سة ،فهي من املروق من الدين ،ومن البدع التي ت�ستوجب املقاطعة والتقريع ،باعتبار �أن كل ما هو مت�أت من خارج اال�سالم بدعة ،وكل بدعة �ضاللة ،وكل �ضاللة يف النار. هذا التوجه الإ�سالمي العام ،مل ي�ستطع العروبيون جتاوزه يف �أفكارهم النيرّ ة� ،إن كان باعتبار توطينهم ملفهوم القومية القادم من الغرب ،و�إن كان ذلك قد بد�أ مع امل�سيحيني؛ �أو كان بالن�سبة للتجديد يف الفكر اال�سالمي الذي عمل حممد عبدو على �إظهاره من داخل العقيدة اال�سالمية ،1وب�إيحاءات مبا�شرة وغري مبا�شره من �إ�شارات تثاقفية ح�صلت له� ،أو و�صلت �إليه من �آخرين احتكوا بالغرب والحظوا مدى التقدم الذي بلغه ،من غري �أن يكون �أهله من امل�سلمني .فعمل ه�ؤالء ،ومنهم الطهطاوي والأفغاين والكواكبي ور�ضا ،وغريهم كثري ،على االفادة مما الحظوه وعاي�شوه ،لينه�ضوا من خالله ،بامل�سلمني وبالبالد اال�سالمية .ويف احلالتني مل تتبلور الفكرة التي ميكن �أن تف�صل بني العروبة واال�سالم ،وال بني العرب وغري العرب من امل�سلمني ،وال بني العرب امل�سلمني �أنف�سهم ،وبني العرب غري امل�سلمني .وكان �أن ظهرت العروبة على هذا الوجه امللتب�س الذي عليه �أن يغ ّيب من خارطة الوجود العلني من هم من غري العرب من امل�سلمني ،ومن ه�ؤالء الأكراد والرتكمان وال�شراك�سة والرببر الأمازيغ؛ ومن هم من العرب غري امل�سلمني ،ومنهم ،الأقباط والأ�شوريني والكلدان وال�سريان؛ ومنهم من العرب غري امل�سلمني ال�س ّنة ،ومنهم ال�شيعة واخلوارج والعلويني واال�سماعليني واليزيديني والزيديني والدروز ،وغريهم �أي�ضاً. .1حممد عبدو ،ر�سالة التوحيد ،مقدمة حممد عمارة ،دار ال�شروق ،1994 ،القاهرة�197 .ص. 38
ف�������������ك�������������ر
احلقل املعريف املغاير
هذه املجموعات املتنافرة من حيث الوجهة الإتنية والعن�صرية والدينية واملذهبية ترى �أن يهم ،من بعد� ،إذا كانوا الأكرثية لأن العدد ال ي�ض ّيع العرب عن�صر من هذه العنا�صر ،وال ّ احلقيقة .والأمر نف�سه بالن�سبة لل�س ّنة من العرب ،فال يغطي حقهم بن�سبتهم �إىل العروبة ،حق الآخرين بن�سبتهم �إىل العروبة ،و�إىل جغرافية بعينها كانت ملج�أهم التاريخي �أو بيئتهم التي ن�ش�أوا وتكاثروا فيها� ،إذا كان ال بد من ن�سبة �شعب �إىل جن�سه� ،أو دينه �أو مذهبه� ،أو �إتنيته وعن�صره. يف ظل هذه البلبلة على امل�ستويات املذكورة �أعاله ،باال�ضافة �إىل وجود وعاء مرجعي تعود �إليه كل فئة من الفئات املختلفة يف توجهها ،كان ال بد �أن يكون احلا�صل لديها مت�أتياً من انتمائها الأهلي الذي هو الرابطة الأولية للإن�سان منذ ُوجد .وهذا الوعاء ما عاد قادراً على الإيفاء مبتطلبات اجلماعات وعالقاتها فيما بينهما ،بحكم التطور العام ،والتقدم احل�ضاري على كل امل�ستويات ،وبفعل التوا�صل والتثاقف الذي بد�أ يحكم املجتمعات االن�سانية يف كل مكان ،منذ بدايات القرن الع�شرين. كان من جملة ردود الفعل على الأحداث التي كانت حت�صل يف جبل لبنان ،على �سبيل املثال ،ما ميكن ا�ستخال�صه من الأحداث التي كانت تلهبه منذ الربع الأول من القرن التا�سع جتمع لدى بطر�س الب�ستاين ،وما دعاه �إىل �إ�صدار جريدته ع�شر .كانت هذه اخلال�صات ما ّ "نفري �سورية" .لقد ظهر لهذا امل�صلح االجتماعي �أن االقتتال الطائفي ما هو �إال الو�سيلة لدمار الب�شر واحلجر .فدعا �إىل الت�آلف والت�آخي باعتبار �أن الدين هلل والوطن للجميع .وحاول �أن يف�صل ،ولو عرب مقاالته فقط ،بني الدين وال�سيا�سة ،وهي الفكرة التي كانت غريبة عن ذهنية العرب وت�صوراتهم ال�سيا�سية ،م�سلمني كانوا �أو م�سيحيني ،و�إن �سبق ه�ؤالء �أولئك لقدم توا�صلهم مع الثقافة الغربية� .إال �أن هذا التوجه َب َلعته ال�سيا�سة الدولية يف ت�شريع الطائفية يف نظام املت�صرفية.1 . 1حول حتول الطوائف �إىل م�صدر �سلطة �سيا�سية �شرعية مبوجب نظام حمدد ومكتوب �أعطى ا�ستقراراً جلبل لبنان على مدى ن�صف قرن� ،أنظر: �أ�سامة مقد�سي ،ثقافة الطائفية ،ترجمة ثائر ديب ،دار الآداب ،2005 ،بريوت�312 ،ص .وقد �أعطى هذا النظام للطوائف�إمكانية ا�ستمراريتها على �شكلها الثابت لدى كل طائفة مقابل الطوائف الأخرى دون �أي حماولة للتغيري� ،أو العمل على التطوير الداخلي لكل منها. 39
كان من الطبيعي �أن ي�ستمد مفكرو النه�ضة العربية �أفكارهم القومية من حقول فكرية متعددة ،منها احلقل الفكري الإ�سالمي يف توجهه احل�ضاري باعتباره مف�صحاً عن دين عاملي النظرة ولكل النا�س؛ ولكن باال�ضافة �إىل ذلك ،كانوا يعتمدون على ح�صيلة الأفكار التنويرية التي �أنتجتها �أوروبا احلديثة يف االجتماع وال�سيا�سة واحلقوق االن�سانية ،باال�ضافة �إىل النظرة العقالنية للدين بعد ف�صله عن �أمور ال�سيا�سة ،واعتماد العلمنة يف ال�ش�ؤون الدنيوية. كان ه�ؤالء يف �أكرثيتهم ال�ساحقة من امل�سيحيني الذين عليهم �أن يبتكروا ال�صيغة احل�ضارية التي جتمع يف �أمور الدنيا امل�سلمني وامل�سيحيني معاً ،ب�صرف النظر عن االنتماء الديني الذي هو هلل وحده ،ومبوجب عالقة فردية روحية بني املخلوق واخلالق .ويف الآن عينه ،تط ّلع املفكرون امل�سلمون �إىل الكيفية التي مبوجبها ميكن الإفادة مما ّقدمه الغرب ،وخ�صو�صاً �أوروبا، يف �ش�ؤون االجتماع وال�سيا�سة يف ال�شكل الذي يخدم التوجة الإ�سالمي املبني على الدين غري املف�صول عن الدنيا .وكانت ح�صيلة امل�س�ألة �أن التقى اجلميع على وجوب العمل من �أجل النه�ضة العربية ،و�إن بتوجهات خمتلفة� .إال �أنها بقيت جميعها �ضمن الإطار ال�سيا�سي والفل�سفي ،ومل تتحول �إىل التطبيق العملي �إال من هاتني الوجهتني اللتني عملتا على مناه�ضة احلكم العثماين ،و�إن على موجتني خمتلفتني :اال�ستقالل التام كما طالب به امل�سيحيون مع �أقلية �ضئيلة من امل�سلمني ،وكان على ر�أ�سهم عبد الرحمن الكواكبي؛ �أو اال�صالح �ضمن الالمركزية العثمانية مع االهتمام �أكرث بالعرب و�إعطائهم �شيئاً من اال�ستقالل الذاتي على �أبعد تقدير. بعد ا�ستقرار الأمور يف الع�شرينيات من القرن الع�شرين على دول متعددة يف امل�شرق العربي، من العراق �إىل لبنان ،ظهر �أن ما �أنتجته العالقات العربية الدولية يقوم على ما �أراده احللفاء، �إن كان بتوريث �أبناء ال�شريف ح�سني مملكتي العراق و�شرق الأردن ،باال�ضافة �إىل اجلزيرة العربية� ،أو ب�إن�شاء الدول التي تقوم على الأ�سا�س الطائفي ،كما ب ّينا �سابق ّا. احلقل املعريف اجلديد بيكو"
مل تظهر الأمور �إىل العلن ،على غري ما قررته فرن�سا وبريطانيا يف اتفاقية "�سايك�س �إال مع انطون �سعاده ( ،)1949 -1904م�ؤ�س�س احلزب ال�سوري القومي ،والقومي االجتماعي 40
ف�������������ك�������������ر
فيما بعد ،يف بداية الثالثينيات من القرن الع�شرين ،و�إن كانت �إرها�صاته الفكرية 1قد بد�أت تظهر قبل ذلك بعقد من الزمن .وقد جاءت هذه الأفكار ،يف البداية ،تكملة ملا كان قد ظهر قبل هذه الفرتة منذ منت�صف القرن التا�سع ع�شر وحتى الربع الأول من القرن الع�شرين، ومنها كتابات بطر�س الب�ستاين ونا�صيف اليازجي وابراهيم اليازجي و�أديب ا�سحق و�شبلي ال�شميل وحممد عبدو وعبد الرحمن الكواكبي وخليل �سعاده ،وفرح �أنطون ،وغريهم. �إال �أن ما م ّيز �سعاده يف هذا املجال هو بلورة �أفكاره الوطنية يف قالب عقدي نظرياً .ومن ثم العمل على حتويلها �إىل واقع عملي ،من خالل �إيجاد الأداة التي ميكن �أن حت ّول النظرية �إىل فعل ّ منظم يتجه يف م�سريته العملية املنظمة �إىل توحيد املجتمع وبناء الأمة القوية ،وهو احلزب بتنظيمه وبرتاتب قيادييه وبقاعدته الواعية ملا�ضي �أمتها وحا�ضرها ،واملتطلعة �إىل بناء م�ستقبلها لتكون ذات ال�ش�أن بني الأمم.2 كان لت�أ�سي�س احلزب ذي الأفكار الب ّينة واملبن ّية على وحدة املجتمع بكل �أ�صنافه وتياراته وفئاته ،املَ ْعلم الأ�سا�سي يف توجه فكري جديد ،ال ينبني على انتماءات �أهلية من قرابية ومذهبية وطائفية و�إتنية .بل جاءت لتقول بوحدة املجتمع �إنطالقاً من وحدة احلياة وت�شابكها يف �أ�ضيق جمتمع حملي� ،إن كان قرية �أو قبيلة �أو ع�شرية �أو مدينة� ،إىل �أو�سع جمتمع ميكن �أن جتري فيه دورة احلياة الواحدة وامل�صالح امل�شرتكة؛ وهو املتحد ،يف �صغريه وكبريه ،الذي عادة يتحدد يف بيئة جغرافية معينة ،نطلق من خاللها �إ�سم هذه القرية �أو هذه البلدة� ،أو املدينة ما ّ �أو جمتمع الدولة ...وهكذا و�صو ًال �إىل املتحد التام ،الأمة؛ ومن ثم �إىل �أو�سع م ّتحد ميكن ت�ص ّوره ،وهو م ّتحد الأر�ض ،مقابل كواكب �أخرى �إذا كانت م�أهولة� ،أو غري ذلك. ا�ستمد �أفكاره من خارج احلقل املعريف العربي اال�سالمي� .إال �أنه ال �شك يف �أن �أنطون �سعاده ّ �أعطى ،يف هذا الإطار ،الأهمية الكربى ملا قاله ابن خلدون ( )1406 -1332يف جمال االجتماع االن�ساين .واعتربه رائداً يف علم االجتماع ،ويف �أطوار العمران ون�شوء الدولة ومنازع امللك، وهي �أمور جرى تداولها حتت قلم ابن خلدون خارج �إطار الدين وتوجيهاته ،باعتبارها �ش�ؤونا . 1حول �أفكار �سعاده يف ما يخ�ص �سورية وال�سوريني قبل ت�أ�سي�س احلزب ال�سوري القومي� ،أنظر: �أنطون �سعاده ،الأعمال الكاملة ،اجلزء الأول ،م�ؤ�س�سة �سعادة للثقافة ،2001 ،بريوت� ،ص �ص .45 - 1و�أماكن متفرقة منالكتاب. . 2حول الأ�سباب التي دعت �سعاده �إىل ت�أ�سي�س احلزب� ،أنظر اجلواب على ر�سالة املحامي حميد فرجنية ،يف: �أنطون �سعاده ،الأعمال الكاملة ،اجلزء الثاين ،مذكور �سابقاً� ،ص �ص.11 - 941
دنيوية ،وذلك قبل ن�شوء علم االجتماع الغربي ب�أربعة قرون .وعلى هذا الأ�سا�س بنى �سعاده نظرته �إىل املجتمع وتطوره وكيفية انتقاله من منط عي�ش �إىل �آخر ،انطالقاً من تلك العالقة اجلدلية التي تربط فكر الإن�سان مع طريقة ح�صوله على املعا�ش .1ومن ثم الدخول يف حتديد املتحد واعتباره املنتج لثقافته النا�شئة عن ظروف حياة �أهله مع واقعهم االجتماعي.2 من املهم هنا� ،أن نبينّ ما يعنيه مفهوم املتحد ،ملركز ّيته يف الفكر القومي عند �سعاده .فاملتحد عنده هو "احتاد جمموع من النا�س يف حياة واحدة على م�ساحة حمدودة يكت�سب من بيئته ومن حياته امل�شرتكة اخلا�صة �صفات خا�صة به� ،إىل جانب ال�صفات العامة امل�شرتكة بينه وبني املحيط الذي هو �أو�سع منه ،وبينه وبني جميع الب�شر ،وبينه وبني املتحدات الأخرى".3 لذلك قرر ،بناء على �أ�س�س علم االجتماع� ،أن االختالف بني ثقافة كل متحد هو خالف نا�شئ عن اختالف املتحدات ،ولي�س العك�س .وهذا يظهر ،على الأقل ،لأي متتبع منا لهذه االختالفات مهما كانت ب�سيطة .ف�إذا تط ّلعنا �إىل قريتني متجاورتني ،نلحظ منذ اللحظة الأوىل اختالف اللهجتني ،وعالقة �سكان كل منهما بالبيئة املحلية ،ومن ثم اختالف العالقات االجتماعية بني �سكان كل منهما ،وطرق التما�سك �أو و�سائل �إظهار االختالف �أو اخلالف لدى كل منهما ،من ناحية؛ �أو لدى حماولة �إظهار عالقة كل منهما جتاه الأخرى ،من ناحية ثانية. كل هذا الكالم ،مل يعط لل�سيا�سة �أي فاعلية يف بناء املتحد .ذلك �أن املتحد هو الذي يبني �سيا�سته ،وبالطريقة نف�سها التي يبني فيها ثقافته واقت�صاده ،من خالل ما ينتج عن ظروف املتحد من عالقات ،وهي يف الأ�سا�س عالقات �سلطوية من نوع ما ،متمف�صلة مع منط معا�ش .و�إذا كانت ال�سلطة هي بدء ال�سيا�سة ،لأن ال متحد بدون وجود �سلطة� ،أي بدون �سيا�سة ت�سو�سه ،ف�إن املتحد يقوم وي�ستمر على حت�صيل املعا�ش ،ونوعيته خم�صو�صة به، تتحدد عالقة ر�أ�س املتحد مع القاعدة، و�إنطالقاً من �سيا�سة خم�صو�صة �أي�ضاً .ويف احلالتني ّ �إما بعامل القرابة� ،أو بعامل اال�ستتباع� ،إذا كان ثمة عدة ر�ؤو�س .ويظهر ذلك جلياً من خالل انفراد �شخ�ص واحد بال�سلطة� ،أو توزعها برئا�سة القبيلة الأكرث عدداً وع�صبية .ويف احلاالت � . 1سعادة ،الأعمال الكاملة ،اجلزء الثالث ،مذكور �سابقاً� ،ص �ص.56 - 52 . 2امل�صدر نف�سه� ،ص �ص.124 - 119 . 3امل�صدر نف�سه� ،ص.124 42
ف�������������ك�������������ر
جميعاً تختلف العالقات املُن�ش�أة يف املتحد ،عن العالقات املن�ش�أة يف متحد �آخر ،لإختالف املتحدين. لهذا يعطي �سعاده للمتحد ،على �أي وجه كان� ،صفته االجتماعية ،باعتباره واقعاً اجتماعياً، تتح�صل الأمور على الأوجه الأخرى ال�سيا�سية واالقت�صادية قبل �أي �شيء �آخر ،ومن ثم ّ يتحدد �أو ًال بتحديد املتحد وغريها ،و�إن كانت جميعها تتزامن يف الوجود� .إال �أن الوجود ّ اجتماعياً ،وجغراف ّياً ،ومن ثم ت�أتي امل�سائل الأخرى ،باعتبارها انتاجاً جمتمعياً يف الأ�سا�س. ظهر هذا التوجه ال�سو�سيولوجي زمنياً مع ظهور الفكر القومي يف �أوروبا ،ومع ن�شوء القوميات الكربى يف فرن�سا و�أملانيا و�إيطاليا و�إ�سبانيا وبريطانيا ،و�إن كان ب�أ�ساليب خمتلفة ،مع وجود امل�ستعمرات التي رمبا ،كانت الدافع الأ�سا�سي لإيجاد القوة الالزمة للدفاع عن هذه امل�ستعمرات خارج �أوروبا .والقوة الالزمة ال ميكن �أن تظهر �إال بتو�سل الوحدة القومية، والع�صبية التي عليها �أن تفعل فعلها يف احلفاظ على القوة .وقد تبينّ ،من بعد� ،أن هذا التوجه بتو�سل الع�صبية القومية ،كان له وجهان� :أفاد الدول وجمتمعاتها املبني على �إظهار القوة ّ من خالل متا�سكها القومي ،وعمل على تنميتها وتقدمها ،يف وجهه الأول؛ و�أو�صل العامل، وتع�صبه� ،إىل حرب كونية ثانية� ،أورثت الدمار ال�شامل ملناطق ومدن بانحراف العمل القومي ّ ب�أ�سرها ،والقتل ملاليني النا�س من الع�سكرين واملدنيني ،يف وجهه الثاين. بني القومية االجتماعية والعروبة
�ساعدت الظروف االجتماعية وال�سيا�سية بالتعجيل يف ت�أ�سي�س احلزب ال�سوري القومي، ومن ثم �إظهاره عالنية ( )1935 -1932يف هذه الفرتة املف�صلية من تاريخ العرب ،والعامل �أي�ضاً. �إذ ال بد من العمل يف هذا اجلو امل�شحون ،ويف ظروف تفر�ض على العرب ،وعلى احلزب القومي �أن ي�أخذوا موقفاً مما يح�صل يف العامل .ومن ثم ،العمل على االفادة من تناق�ضات املرحلة ،رمبا يو�صل هذا احلراك �إىل مرحلة اال�ستقالل والتخل�ص من الفرن�سيني والإنكليز معاً� .إال �أن عمل احلزب بد�أ با�ستقالل عن التوجه العروبي املبني على العاطفة واالنفعال. ذلك �أنه انبنى على توجه قومي ي�أخذ من العقل وال�سو�سيولوجيا وعلم ال�سيا�سة �أدوات له. هذا التوجه جعل العروبيني ينظرون �إىل احلزب ،و�إىل عقيدته القومية ،نظرة خ�صومة ،ومن ثم عداوة .وقد اعترب ه�ؤالء �أن توجهه يف ّتت القوى التي تعمل ل�صالح العرب ،دون �أن يكون 43
لهم �أي توجه نظري وعملي وا�ضحني يف هذا ال�سبيل؛ �إال الكالم على العمل من �أجل ا�ستقالل العرب ورفع �ش�أنهم ،دون ا�سرتاتيجية وا�ضحة ،ودون بلورة فكر قومي عربي ميكن االنطالق منه ،لإيجاد الأداة الفاعلة التي حت ّول هذا القول �إىل فعل .1وبقي الأمر على ما هو عليه ،كما كان ع�شية احلرب الكونية الأوىل وما ن�ش�أ عنها. مكم ًال ملوقفه الفكري امل�ستمد كان للموقف العملي الذي وقفه �سعاده من الدعاوة العروبيةّ ، من خارج احلقل الفكري العروبي اال�سالمي .وكان �أن اعترب العاملون يف هذا احلقل وامل�ستمدون منه �أفكارهم �أن اتهموا احلزب القومي وم�ؤ�س�سه بعداوتهما للعرب والعروبة. ومن ثم االتهام بالنهل من م�صادر النازية والفا�شية يف ت�أ�سي�س العقيدية القومية ال�سورية. وو�صل الأمر �إىل االتهام بالعن�صرية وال�صهيونية ،وغريها من االتهامات التي تدلل على نوع من القطيعة مع الفكر القومي االجتماعي ،و�صل يف عهد عبد النا�صر �إىل ذروته بعد ان تق ّوت احلركة القومية العربية بهذا الزعيم العربي ،و�أعطاها من زعامته الكارزم ّية عنا�صر قوة مل ي�ستطع الق ّيمون على الفكر القومي العربي ،ومفكروه ،بلورته و�إعطاءه الزخم الذي يكفل اال�ستمرار .ف�أُجه�ضت عنا�صر القوة هذه برحيل عبد النا�صر ،وعاد العرب �أدراجهم �إىل ما كانوا عليه �إبان احلرب الكونية الأوىل وبعدها ،كما �إبان احلرب الكونية الثانية وبعدها .وا�ستمر الأمر على ما هو عليه� ،إىل �أن و�صل �إىل �أخطر مرحلة من تاريخ العرب ،بقوميتهم وح�ضورهم وح�ضارتهم ،و�ضعتهم على م�شارف تق�سيم جديد لبلدانهم ما كانت �سايك�س بيكو �إال مرحلة عابرة يف التدليل على �ضعف العرب وتخاذلهم. كان ملوقف �سعادة النافر واملتم ّيز يف العمل ال�سيا�سي يف منت�صف الثالثينيات �أن دفع املهتمني �إىل معرفة موقف احلزب من العرب والعروبة ،وذلك بعد �أقل من �أربع �سنوات من ت�أ�سي�س احلزب ،ويف �سنة �إعالن مبادئه التف�صيلية .وكان من بني املت�سائلني قوميون و�صحافيون ورجال �سيا�سة .فظهر �أول �إعالن ملوقف احلزب يف العام � ،1935أي يف ال�سنة التي انك�شف فيها �أمر احلزب ،بعد �أن كان �سرياً ،على �شكل ر�سالة ن�شرتها �صحيفة النهار يف 22كانون الثاين .1936 يقول �سعادة يف هذه الر�سالة" :ل�ست بحاجة �إىل القول �إن امل�س�ألة القومية ال امل�س�ألة ال�ساللية همي وكل عنايتي هي التي ت�ستدعي كل اهتمامي ...و�إذا كنت قد ر�أيت �أين �أ�صرف كل ّ � . 1أنظر يف هذا اخل�صو�ص للتف�صيل حول امل�سائل التي �أثارها العروبيون واالنف�صاليون وغريهم لإظهار �أفكار احلزب ومبادئه يف طريقة مغايرة: ً �سعادة ،الأعمال الكاملة ،اجلزء الرابع ،مذكور �سابقا� ،ص �ص.452 - 45044
ف�������������ك�������������ر
�إىل خدمة �أمة واحدة من �أمم العامل العربي� ،أعني �أمتي ال�سورية ،فذلك لأن �أمتي �أح َوج �إىل عملي ،ولأن لها احلق الأول علي ،ولأن اال�شتغال يف ق�ضايا هذه الأمم ،بينما �أمتي ج�سم م�شلول ،يزيد بلبلة ق�ضايا العامل العربي على بلبلة".1 يظهر يف هذا القول �أن الأمة ال�سورية التي يعمل احلزب على نه�ضتها هي �إحدى �أمم العامل العربي ،ولي�ست بخارجة عن هذا العامل .و�إذا كان العمل من �أجلها ،فمن املنطقي �أن يدبر املرء �ش�ؤون بيته قبل بيت اجلار ،لأن ال فائدة من العمل مع اجلار قبل تدبري �ش�ؤون املنزل الذي هو �أبدى و�أكرث �أهمية من �أي �شيء �آخر ،و�إال اختلطت الأمور وتبلبلت وزادت �سوءاً. ما ميكن فهمه من هذا الكالم �أن العرب قوميات .وبالتايل ،ف�إن تق�سيم العامل العربي �إىل قوميات تعمل كل قومية على تدبري �ش�ؤونها� ،أو ًال ،ال ميكن �أن يكون �ضد العرب ،وال �ضد العروبة .هذه املرحلة ،ح�سب �سعاده ،ال�سبيل الأجنع والأف�ضل للنهو�ض بالعامل العربي، وذلك باالنتقال من العاطفة واالعتبارات امل�ساعدة على ن�شوء التوجه العروبي القائم على وحدة اللغة والدين ،مع �إهمال كل ما عدا ذلك� ،إىل التوجه العقالين والعلمي القائم على ما ين�ش�أ عليه املجتمع من قوانني العمران والن�شوء ،قبل �أن يتق ّوى بوحدة التوجه� ،أو ي�ضعف ب�ضعفها .و�إذا اعرتف �سعاده ب�أن �إغراقه يف �سور ّيته �أن�ساه العامل العربي ،ف�إن ذلك لن يبعده عن هذا العامل ،بل �سيق ّربه �إليه �أكرث .ذلك �أن �سورية القوية هي قوة للعامل العربي ،والعاملة على تقويته ،وهي امل�ؤهلة للنهو�ض بهذا العامل .و�ضعفها يزيد العامل العربي �ضعفاً .2وهكذا بالن�سبة لبقية الأمم التي يت�شكل منها العامل العربي .و�إذا كان على القومية االجتماعية �أن تعمل على تقوية العامل العربي بوحدتها وقوتها ،فهكذا ميكن �أن ين�سحب الأمر على بقية �أممه ،وهي النتيجة نف�سها التي يعمل عليها العروبيون ،و�إن اختلفت املنطلقات والو�سائل� .إال �أن ح�سن النوايا وحده ال يكفي. كانت هذه الر�سالة منطلقاً لتحديد فكرة القومية االجتماعية يف نظرتها �إىل الكيان اللبناين، و�إىل القومية العربية ،يف الوقت عينه .ذلك �أن اتهام القومية االجتماعية بالعمل على زعزعة لبنان وحماولة �إلغائه ،كان على الدرجة نف�سها من قوة اتهامها بالعمل �ضد العروبة .ويف هذا املجال يقول �سعاده �إن "العقيدة القومية االجتماعية �شيء اجتماعي والكيان اللبناين �شيء � . 1أنطون �سعاده ،الأعمال الكاملة ،اجلزء الثاين ،مذكور �سابقاً� ،ص.12 . 2امل�صدر نف�سه،
�ص13 45
�سيا�سي (وكذلك العروبة) ونحن ال نخلط بني الإثنني ...واحلزب يعمل للوحدة القومية وجعل الأ�سا�س القومي حمل الأ�سا�س الديني ونزع فكرة احلكم على �أ�سا�س املذهب".1 وبالتايل ف�إن هذه العقيدة هي وحدها الكفيلة ب�إزالة النظريات اخل�صو�صية ،وال�ضامنة لوحدة ال�شعور واالجتاه .والنه�ضة قومية يف الأ�سا�س واجتماعية يف املنطلق ،وما ال�سيا�سة �إال املمار�سة التي ت�ؤ ّمن حتقيق التوجه القومي .2يف هذا الإطار �س�أل �صحايف �سعاده عن "احلقيقة" التي ير ّوج لها العروبيون ،ومفادها �أن احلزب القومي مل ين�ش�أ �إال لتع�صب ديني يف نفو�س قادته، خلوفهم من ال�ضياع يف قومية عربية �شاملة تذوب فيها �أقلياتهم .فيجيب �سعاده ب�أن هذا الكالم ال �أ�سا�س له ،و"متى وجدت الوحدة العربية كنا نحن �أحد فروعها احلية ...والقومية ال�سورية ال تت�ضارب مع التفاهم مع الأقطار العربية الأخرى على ما فيه امل�صلحة امل�شرتكة".3 ولأن م�س�ألة العروبة �أخذت منحى �سجالياً يف االتهام ور ّد التهم ،فقد ن�شر �سعاده بياناً على �أثر احلديث الذي ن�شرته جريدة الرائد الطرابل�سية يف عددها ال�سابق املذكور �أعاله ،ير ّد فيه املوجهة �إليه و�إىل حزبه ،ب�أنه ال ي�سري يف قافلة الوحدة العربية ،و�أنه يقف عائقاً يف على التهم ّ �سبيل حتقيق مبادئهم .فيت�ساءل عن الفعل الذي قام به العروبيون ،وجنحوا ،ومل يكن احلزب �إىل جانبهم .وهو الذي يعمل على �إيجاد حلف عربي� ،أو جبهة عربية خالية من الإجحاف بال�سيادة القومية .والقومية ال�سورية ال تتنافى مطلقاً مع �إيجاد جبهة عربية �أو حلف عربي.4 وين�سج �سعاده على املنوال نف�سه يف بيان الأول من �آذار ،1937وهو ذكرى ميالده� ،أن �إن�شاء جبهة عربية هي الق�ضية العربية يف الأ�سا�س ،لأن اختالط املفاهيم وبلبلتها �أوجدا الإلتبا�س بني الق�ضية العربية ،والقومية العربية التي ال وجود لها �إال يف �أذهان مر ّوجيها ،لأن القومية هي �شعور كل �أمة بذاتها ،وال ميكن �أن تكون م�شرتكة بني عدد من الأمم .وبالتايل ف�إن الق�ضية العربية هي ق�ضية �سيا�سية ومواجهتها يقت�ضي �إن�شاء جبهة عربية من �أمم العامل العربي "على . 1من حديث �إىل جريدة النه�ضة حول الكيان اللبناين ،العدد ،1937 /10 /14 ،1بريوت� ،أنظر: امل�صدر نف�سه� ،ص.146 - 145 . 2امل�صدر نف�سه� ،ص.146 . 3من حديث �إىل جريدة الرائد الطرابل�سية ،العدد ،1936 /6 /11 ،93طرابل�س� ،أنظر: امل�صدر نف�سه� ،ص.29 . 4من البيان املن�شور يف جريدة الرائد الطرابل�سية ،العدد� ،1937 /6 /18 ،94أنظر: امل�صدر نف�سه� ،ص.2646
ف�������������ك�������������ر
�أ�سا�س امل�صالح امل�شرتكة ،ويتم ت�أليف اجلبهة بتفاهم هذه الأمم بوا�سطة م�ؤمتر متثل فيه ،فال يتف ّرد بع�ض الفئات يف بع�ض هذه الأمم بتعيني ق�ضية عربية من عند �أنف�سهم مل ينظروا من ورائها �إىل م�صلحة �سوى م�صلحتهم اخلا�صة" .1وظهرت الق�ضية اللبنانية يف املقابل من باب ال�ضدية .ون�ش�أ عن الق�ضيتني تثبيت للحالة كما هي ،وال تزال حتى اليوم ،مع م�سرية الثنائية ّ �سيا�سية واجتماعية ت�سري من �سيئ �إىل �أ�سو�أ. من امل�ساجلة �إىل الربهان القومي
يعترب �سعاده �أن ما ين�ش�أ عن الق�ضية العربية� ،أو الق�ضية اللبنانية ،هي م�سائل ظرفية تتعلق بالأحوال الدينية والإتنية ،وال ترقى �إىل الق�ضية العقائدية لأنها وليدة ظروف ع�صبيات �سيا�سية .ولأنها كذلك ،فكل الإرادات النا�شئة عنها هي �إرادات ظرفية لي�ست ثابتة وال دائمة" ،لأنها لي�ست وليدة وحدة حياة اجتماعية ووحدة م�صاحلها الدائمة" .2ويو�ضح �سعاده، هنا ،فكرته بالقول �إن م�صلحة التعاون على حترير الأقطار العربية لي�ست م�صلحة قومية لأنها تنتهي بح�صول احلرية ،وتزول لترتك املجال للم�صالح القومية اخلا�صة الدائمة .وهي النا�شئة بطبيعتها عن وحدة حياة دائمة؛ وهي احلياة املنتجة للعالقات املخ�صو�صة بكل جمتمع على حدة ،واملتم ّيزة بتم ّيزه .3و�أهم ما قاله �سعاده يف هذا املجال�" :إن ا�شرتاك �أمم العامل العربي يف طلب احلرية واال�ستقالل ال يو ّلد وحدة قومية ،بل يو ّلد وحدة اجتاه �سيا�سي تظل قائمة ما دام هنالك حاجة اليها .ف�إذا مت التحرر ال�سيا�سي عادت كل �أمة من هذه الأمم �إىل حاجاتها وم�صاحلها النا�شئة عن وحدة حياتها .ونحن ال نريد �أن نكون ق�صريي النظر �إىل حد �أن تختلط علينا امل�صالح القومية واحلاجات ال�سيا�سية".4 مل يبق �سعاده حم�صوراً يف �إمكانية التعاون ال�سيا�سي يف الق�ضايا العربية ،بل ّ توغل �أكرث من ذلك يف ر�سم عالقة احلزب مع العامل العربي ،وخ�صو�صاً بعد �إظهار مواقف الذين حاربوا النه�ضة القومية من طريف النقي�ض :ال�ضاربني على وتر اجلامعة العربية – اال�سالمية، � . 1سعاده ،الأعمال الكاملة ،اجلزء الثالث ،مذكور �سابقاً� ،ص .178وقد ظهر هذا اخلطاب يف كرا�س �سنة .1938 . 2امل�صدر نف�سه� ،ص.182 . 3امل�صدر نف�سه� ،ص.182 . 4امل�صدر نف�سه� ،ص.182 47
وال�ضاربني على وتر االنف�صال اللبناين املاروين .و�إذا كان ال ّبد من �إظهار هذه العالقة �إىل العامل ،وعالقة احلزب مع هذا العامل ،فيمكن القول �إن احلزب عروبي يف موقفه قبالة العامل غري العربي؛ عروبي يف اعتباره �سورية �أمة من �أمم العامل العربي .و�إذا كانت امل�س�ألة تتعلق مبكانة العامل العربي وكرامته" ،فنحن جبهة العامل العربي و�سيفه وتر�سه" .1ويعود فيكرر هذا املوقف يف خطبة الأول من �آذار العام ،1949بقوله" :نحن هم العرب قبل غرينا .نحن جبهة العامل العربي و�صدره و�سيفه وتر�سه ،ونحن حماة ال�ضاد وم�صدر اال�شعاع الفكري يف العامل العربي كله ....ومتى كانت م�س�ألة ال�شعب يف لبنان وحياته فنحن هم اللبنانيون احلقيقيون وال لبنانيني غرينا"� .2إال �أن هذا االعتبار ال يخرج عن مبادئ ن�شوء الأمم ،و�أ�صول العالقات بني الأمم .وقد اعترب �أن عدم وجود �أ�سا�س اجتماعي اقت�صادي لإن�شاء دولة يف لبنان ،يتماثل مع عدم وجود هذا الأ�سا�س لإن�شاء �أمة واحدة من بلدان العامل العربي املنت�شرة يف �آ�سيا و�أفريقيا ،مبا يتخللها من �صحارى وبحار ،ومبا تختلف فيه �شعوبها .لذلك فقد جاءت فكرة الوحدة العربية ،على ما يقول �سعادة" ،تعبرياً عن هو�س ديني �أكرث منها حقيقة" .3وقد ر�أى �سعاده �أن �أهم ما ميكن �أن يقوم به العرب يف �أحوالهم احلا�ضرة هو عقد امل�ؤمترات واللقاءات الدورية واملحالفات التي هي الطريق العملية الوحيدة حل�صول تعاون الأمم العربية ،و�إن�شاء جبهة عربية ميكن �أن يكون لها وزنها يف ال�سيا�سة الدولية .4وبعد هذا الكالم ب�سنتني ن�ش�أت جامعة الدول العربية التي ال تزال حتى الآن دون �أن تظهر �أي تقدم يف طريق التكامل �أو االحتاد� ،أو حتى التعاون الب ّناء ،من �أجل امل�صالح العربية العليا .وقد اعترب �سعاده �أن بدايات الدعوة �إىل تعاون عربي من خالل عقد م�ؤمتر للبحث يف ق�ضايا العرب ،كانت حجر الأ�سا�س لبناء اجلامعة العربية ،على الن�سق الأويل الذي دعا �إليه.5 � . 1سعاده ،الأعمال الكاملة ،اجلزء الرابع ،مذكور �سابقاً� ،ص .136وقد جاء هذا املقال يف جريدة الزوبعة ،العدد /1 ،13 ،1941 /2بيون�س �آير�س. � . 2سعادة ،الأعمال الكاملة ،اجلزء الثالث ،مذكور �سابقاً� ،ص .25 - 24وهو من خطاب �سعادة يف الأول من �آذار ن�شر يف جريدة �سورية اجلديدة ،العدد� ،1940 /4 /27 ،63سان باولو. � . 3سعاده ،الأعمال الكاملة ،اجلزء ال�ساد�س ،مذكور �سابقا� ،ص .552وقد جاء هذا الكالم يف خطاب �ألقاه �سعاده يف ذكرى الت�أ�سي�س يف الإرجنتني ،ون�شر يف جريدة الزوبعة ،العدد .1944 /1 /15 ،71 . 4امل�صدر نف�سه� ،ص.552 . 5امل�صدر نف�سه� ،ص.553 48
ف�������������ك�������������ر
لي�شدد على �صحة الر�ؤية القومية االجتماعية للعرب والعروبة بعد يف العام ،1947عاد �سعاده ّ ت�أ�سي�س اجلامعة العربية التي �أثبت �إن�شا�ؤها �صوابية النظرة �إىل الق�ضية العربية ال�سيا�سية ،وهي �ضرورة وجود التعاون والتكامل بني الأقطار العربية� ،إذا مل يتحقق وجود �أممها ،من خالل ميثاق اجلامعة الذي ين�ص على التعاون العربي يف كل الأوجه ،ملا فيه م�صلحة العرب .وقد دفع ذلك �سعاده �إىل القول بانت�صار احلق على الباطل .و�أظهر من خالل املمار�سة �أن القومية االجتماعية ما كانت ،ولن تكون ،عدوة للعرب والعروبة .و�إذا كان يف العامل عروبة حقيقية �صميمة ،فهي عروبة احلزب القومي االجتماعي" .1ويعطي �سعادة مثا ًال على ذلك ،من خالل الت�سا�ؤل ،ومن ثم الإجابة" :ما هي هذه اجلامعة العربية التي متثّل العامل العربي اليوم؟ �أهي فكرة العروبيني اخلياليني الوهميني الذين يريدون امرباطورية عربية ،ووحدة قومية عربية؟ �أم هي تطبيق ما جاء به حزبكم من �إيجاد جبهة من الأمم العربية تكون �سداً �ضد املطامع الأجنبية اال�ستعمارية"2؟ وعليه ،يظهر �أن اجلامعة العربية جاءت لتحقق ما نادى به احلزب القومي، وبذلك" ،كنا نحن �أ�صحاب العروبة احلقيقيني ،وغرينا �أ�صحاب العروبة الباطلة".3 الطريق �إىل الإفال�س
يف �أقل من �ستة �أ�شهر من اعتقال �سعادة وحماكمته و�إعدامه يف حركة �سريعة من احلكومة اللبنانية ،جعلت من تنفيذ احلكم �أقرب �إىل الإغتيال ،ظهرت مقالة ل�سعاده يف جريدة "كل احلدة من قبل .وقد ظهر يف �شيء" يف بريوت تف�صح عن خ�صومة �صارخة مل تكن بهذه ّ هذه الفرتة� ،أن العروبيني يف لبنان و�سورية اتهموا احلزب القومي ب�أنه "عدو العرب" .وهذا ما دفع �سعادة �إىل كتابة هذا املقال حتت عنوان "العروبة �أفل�ست" .لقد �أظهر يف هذا املقال الأ�سباب التي ال ميكن �أن جتعل من العامل العربي �أمة واحدة ،ملخالفة ذلك لنوامي�س االجتماع االن�ساين ،وللعقل العلمي ،وللمنطق التحليلي لكيفية ن�شوء الأمم وتطورها .ويقدم ما يدعم ذلك من حجج وبراهني� ،إن كان بالن�سبة المتداد العامل العربي على مدى قارتني، �أو الختالف �أجنا�سهم ،وتباعد بيئاتهم ،وتباين نف�سياتهم .وب�سبب هذه العوامل ،ي�صري من � . 1سعاده ،الأعمال الكاملة ،اجلزء ال�سابع ،مذكور �سابقاً� ،ص .206وقد جاء ذلك يف خطاب العودة �إىل الوطن يف/2/3 ،1947ون�شرته �صدى النه�ضة ،العدد ،1947 /3 /5 ،245بريوت. . 2امل�صدر نف�سه� ،ص.206 . 3امل�صدر نف�سه� ،ص.206 49
امل�ستحيل العمل على الوحدة العربية التي يعمل عليها العروبيون .وبالتايل ي�صري هذا العمل م�ضيعة للوقت ،وهدراً للطاقات ال�سورية التي لها مطالبها يف احلياة .وقد ظهرت هذه املطالب على �شكل مبادئ وتعاليم تعمل على بعث نه�ضة قومية اجتماعية ت�شمل وعي حقيقة الأمة ال�سورية ووحدة حياتها وم�صريها.1 اعترب �سعاده �أن هذه التعاليم كانت ال�سبب الذي دفع العروبيني �إىل مهاجمة عقيدة احلزب وتعاليمه لدرجة �أنهم اعتربوه ،بو�ساو�سهم وهياجهم ،على ما يقول �سعاده ،عدواً للعرب .وهو اعتبار ال ميكن �أن ي�صدر �إال عن مر�ضى نف�سيني ،يتهي�أ لهم ما هو غري موجود �أ�ص ًال.2 على هذا الأ�سا�س بنى �سعاده حتليله ال�صريح والوا�ضح الذي تناول فيه العالقة بني �سورية الطبيعية والعروبة .وقد بد�أ يف القول �إن �سورية بالن�سبة للعروبة هي ،ح�سب التحليل االقت�صادي�" ،صادر بال وارد" ،مبعنى �أنها عملية ا�ستنزاف للموارد الب�شرية واملادية بال مقابل. ولأنها كذلك ،ف�إن العمل مبوجب هذه العالقة ،هو �إ�ضاعة للحقيقة يف خ�ضم من الأوهام والأ�ضاليل .ويعمل على ن�شرها وتر�سيخها �أ�صحاب امل�صالح اخل�صو�صية ليبقوا على نفوذهم، وليبتعدوا عن كل ما ميكن �أن يو�صل �إىل التغيري.3 ويعود �سعاده �إىل التذكري ب�أهمية نهو�ض الأمة ال�سورية لتكون قادرة على العمل لنهو�ض العامل العربي ،ب�أممه الأربعة واحتاده ال�سيا�سي .كما ّ يذكر بالتهليل الذي �أقامه عند �إن�شاء اجلامعة العربية التي عليها �أن تكون رافعة للنهو�ض العربي والعاملة على تقوية �أوا�صره مبا يق ّره العلم واملنطق و�أمور االجتماع� .إال �أن اخليبة كانت دائماً خم ّيمة عند �أي مف�صل من حياة العرب ال�سيا�سية واالجتماعية" .4ذهبت كيليكيا ...قال العروبيون ال ب�أ�س .ف�إن الوحدة � . 1سعاده ،الأعمال الكاملة ،اجلزء الثامن ،مذكور �سابقاً� ،ص .256وقد جاء ذلك يف مقال ن�شرته جريدة كل �شيء العدد .1949 /1 /21 ،95 . 2امل�صدر نف�سه� ،ص.256 . 3امل�صدر نف�سه� ،ص.257 256- . 4حول مركزية اجلامعة العربية وت�أثري مركزها على قراراتها التي ميكن �أن ت�ؤثر على �سيادة دولها القومية ،ووجوب جعل مركز اجلامعة دورياً كل �سنة يف دولة ،من �أجل �أن تبقى لكل �أمة من �أمم العامل العربي حرية العمل وحق التعاقد وتقرير امل�صري� ،أنظر: امل�صدر نف�سه� ،ص .200 199-وقد جاء ذلك يف مقال ن�شر يف اجليل اجلديد ،العدد ،1948 /4 /9 ،5بريوت� ،أي بعدثالث �سنوات على ت�أ�سي�س اجلامعة العربية. 50
ف�������������ك�������������ر
العربية �ستتكفل ب�إعادة هذه الأر�ض .ثم ذهبت الإ�سكندرونة ،فقال العروبيون ال ب�أ�س، فالوحدة العربية متى متّت تعيدها...ثم جاءت �أزمة فل�سطني( ...فـ)مل يجتمع العامل العربي �أمة واحدة يف فل�سطني ،كما كان يزعم ال�سوريون العروبيون .وقد ظهرت يف فل�سطني حقيقة الواقع �أن العامل العربي �أمم ال �أمة".1 مل يكن ذلك فح�سب ،يف نقد �سعاده للعروبة والعروبيني .بل اعترب �أن م�س�ألة فل�سطني كانت الرد ال�ساطع على الوهم العروبي ،ووهم العروبيني .وكانت فل�سطني وما �آلت �إليه الأمور فيها، بعد و�ضوح الواقع ال�سيا�سي ،واالنذارات املتكررة من خطورة ما يجري فيها؛ هي املف�صحة عن �إفال�س العروبة" .يف فل�سطني �أفل�ست العروبة ،و�أفل�ست الفئة العروبية" .2ذلك �أن العروبيني حاولوا �أن يواجهوا ق�ضية �سيا�سية دولية "مبقالع" الق�ضايا الوهمية واملبادئ امليتة. �أو�صل هذا التحليل �سعاده �إىل �إنهائه بالقول� ،إنه و ّدع العروبة ،بل�سان الأمة ال�سورية� .إال �أن العروبة التي و ّدعها هي العروبة الوهمية ،العاجزة االتكالية .وهو وداع فاجع ،على ما يقول، وذلك "لتل ّبي (الأمة ال�سورية) دعوة احلركة القومية االجتماعية �إىل قوميتها احلقيقية ،ولرتى بعني حقيقتها ،هي ،واقع العامل العربي ...بهذا االجتاه ت�صري الأمة ال�سورية قوة فاعلة يف العروبة الواقعية التي �أعلن ُتها -عروبة التعاون بني �أمم العامل العربي" .3بهذا القول الف�صل، ح�سب �سعادة ،يتبينّ الفرق بني العروبة الوهمية والعروبة الواقعية. يبدو من املقاالت التي ن�شرها �سعادة حول العروبة واالنعزالية اللبنانية 4التي جرت على مدى الأ�شهر القليلة التي �سبقت �إعدامه يف 8متوز ،1949قد �ساهمت يف تعريته من كل "عزوة" له� ،إن كانت طائفية من "انعزاليته" اللبنانية التي دفعها عنه مبواقفه املبدئية� ،أو من "عروبته الوهمية املفل�سة" التي ابتعد عنها بعروبته الواقعية ،فابتعدت عنه .ف�صار �سعاده، . 1امل�صدر نف�سه� ،ص.257 . 2امل�صدر نف�سه� ،ص.258 . 3امل�صدر نف�سه� ،ص.258 � . 4أنظر يف هذا اخل�صو�ص للتف�صيل حول م�سائل العروبة والقومية االجتماعية واالنعزالية اللبنانية التي �أفقدت �أي �إمكانية للتوا�صل بني احلزب القومي والأحزاب العروبية واللبنانية ،املقاالت التالية باال�ضافة �إىل مقال "العروبة �أفل�ست". �سعاده ،واالنعزالية اللبنانية �أفل�ست ،كل �شيء ،العدد ،1949 /28/1 ،96بريوت. �سعاده ،انت�صار القومية ال�سورية يحقق اجلبهة العربية القوية ،كل �شيء ،العدد ،1949 /4/2 ،97بريوت. �سعاده ،حاربنا العروبة الوهمية لنقيم العروبة الواقعية ،كل �شيء ،العدد .1949 /2 /11 ،98بريوت .وغريها �أي�ضاً.51
لذلك" ،لقمة �سائغة" يف �أ�شداق العروبيني واملتلبننني على ال�سواء .ومل يحتج امل�س�ؤولون يف �أكرث من بلد عربي �إىل �أكرث من ثالث وثالثني �ساعة ليقب�ضوا عليه ويحاكموه وينفذوا فيه يق�ض امل�ضاجع. احلكم انت�صاراً للحاكمني ،وتخلي�صاً لهم من "م�شاك�س" ّ وبعد..
بقيت العروبة ،كما بقيت القومية االجتماعية ،والقومية اللبنانية .و�أنتجت العروبة نظامني للحكم يف �سورية والعراق .و�أنتجت العروبة قائداً فذاً يف م�صر .ومع ذلك ،بقيت الأمور كما هي .ومل ين�ش�أ ما ميكن �أن يجعل من البلدان العربية ال جمتمعاً واحداً ،على ما تقول القومية العربية ،وال جمتمعات� ،إال على قدر ما دخل منها يف اجلامعة العربية ،وكانت على ازدياد. وجرت حماوالت للتوحيد بني بلدين� ،أو ثالثة ،منذ �أيام الوحدة بني م�صر و�سورية .ومل ي�ؤد الأمر �إىل نتيجة ميكن �أن تدخل يف احل�سابات الرابحة للقومية العربية .حارب حزب عروبي نف�سه يف بلدين �سوريني عربيني .و�أو�صلته هذه احلرب �إىل �إفال�س من نوع جديد �أطاح بق�سم َ منه يف العراق ،ويعمل على الإطاحة بالق�سم الثاين ،با�سم العروبة وب�أدوات العروبة ،بعن�صرها ودينها و�أموالها ،وبا�سم الدين من مناطق كثرية يف العامل ،وبا�سم الإتنيات والدميوقراطة والتعدد ال�سيا�سي يف احلكم ،يف البلد املق�صود بذاته .وتعاظمت املطالبات مبا ال يتوافق مع العروبة� ،إن كان يف �شمايل �أفريقيا مع الرببر� ،أو يف ال�سودان بني �شماله وجنوبه� ،أو يف م�صر بني �أهله من م�سلمني و�أقباط ،ويف اليمن بني حوثييه و�س ّنييه العرب ،ويف العراق و�سورية بني عربه و�أكراده و�أ�شورييه وكلدانه ،و�شراك�سته وتركمانه ،وبني طوائف العرب �أنف�سهم؛ ويف لبنان بني عربه ،على اختالفاتهم ،وفينيقييه و�سريانييه .فظهر الأمر لي�س فقط تهديداً للعرب والعروبة ،بل تهديد لكل من هو موجود على �أر�ض العرب ،من احلجر �إىل ال�شجر والب�شر. وما زاد من خطورة الأمور ما يقوم به التكفرييون ّ املتخطون للقوميات على اختالف توجهاتها، با�سم �شمولية الدين .ويف هذه احلاالت ،جميعاً ،لن ي�سلم من ه�ؤالء �أحد ،با�سم الثورة تارة، وبا�سم الدين تارة ،وبا�سم الربيع طوراً ،وبا�سم الدميوقراطية ،وهنا املفارقة ،تارات �أخرى. ولنتخيل يف الأخري ،ما ميكن �أن تفعله القومية االجتماعية لو كانت هي املط ّبقة يف هذه البلدان .تنقلب الأحوال يف املغرب العربي ووادي النيل �إىل ممار�سة �سيا�سية تنموية تتجاوز االختالفات الإتنية والدينية با�سم القومية دون �إلغاء فئة مل�صلحة فئة �أخرى با�سم الدميوقراطية. 52
ف�������������ك�������������ر
وباملنهجية القومية االجتماعية تنتفي هذه االختالفات يف اجلزيرة العربية وبلدان اخلليج با�سم الإخاء القومي ،وتتجه اجلهود �إىل البناء والتنمية الب�شرية واالقت�صادية. علي القول ما كان ميكن �أن يح�صل يف �سورية الطبيعية لو ّمت الأمر على هذا النحو؟ وهل ّ من امل�ؤكد �أن هذا الأمر لو ّمت قبل �سنوات قليلة ،ملا ر�أينا ما �أ�صابنا من قتل وتدمري ،وتخريب وتهجري ،يف احلجر وال�شجر والب�شر ،ر ّدتنا قرنني من الزمان �إىل الوراء. ما ح�صل ،ويح�صل ،ما هو �إال االنغما�س يف عروبة مل تتحقق� ،أخرجتنا من منطق التاريخ واجلغرافية ،و�أبعدتنا عن العروبة الواقعية؛ عروبة النمو والتقدم والتكامل يف عامل عربي ح�ضاري منفتح ،ي�أخذ مكانه الالئق بني �أمم العامل.
53
امل�صادر واملراجع
• احلكيم ،يو�سف� ،سورية واالنتداب الفرن�سي ،دار النهار للن�شر ،1983 ،بريوت. • خلف اهلل ،حممد �أحمد ،القر�آن والدولة ،الطبعة الثانية ،امل�ؤ�س�سة العربية للدرا�سات والن�شر، ،1981بريوت. • زيادة ،خالد ،حكاية في�صل ،دار النهار للن�شر ،1999 ،بريوت. • زين ،زين نور الدين ،ال�صراع الدويل يف ال�شرق الأو�سط ،دار النهار للن�شر ،1971 ،بريوت. • زين نور الدين زين ،ن�شوء القومية العربية ،الطبعة الثانية ،دار النهار للن�شر ،1972 ،بريوت. • �سعاده� ،أنطون ،الأعمال الكاملة ،من اجلزء الأول �إىل اجلزء الثامن ،م�ؤ�س�سة �سعادة للثقافة، ،2001بريوت. • ال�صليبي ،كمال ،تاريخ لبنان احلديث ،الطبعة ال�سابعة ،دار النهار للن�شر ،1991 ،بريوت. • �ضاهر ،م�سعود ،اجلذور التاريخية للم�س�ألة الطائفية اللبنانية ،معهد االمناء العربي،1981 ، بريوت. • عبد الرازق ،علي ،اال�سالم و�أ�صول احلكم ،الهيئة امل�صرية العامة للكتاب ،1993 ،القاهرة. • عبدو ،حممد ،ر�سالة التوحيد ،مقدمة حممد عمارة ،دار ال�شروق ،1994 ،القاهرة. • عطيه ،عاطف ،الدولة امل�ؤجلة ،دار �أمواج ومكتبة بيب�سان ،2000 ،بريوت. • كوثراين ،وجيه ،االجتاهات االجتماعية يف لبنان وامل�شرق العربي ،معهد االمناء العربي،1976 ، بريوت. • لورن�س ،ت� .أ� ،أعمدة احلكمة ال�سبعة ،دار الآفاق اجلديدة ،الطبعة الرابعة ،1980 ،بريوت. • مو�سى� ،سليمان ،احلركة العربية ،الطبعة الثانية ،دار النهار للن�شر ،1977 ،بريوت • النجار ،حممد رجب ،حكايات ال�شطار والعيارين يف الرتاث العربي ،عامل املعرفة ،45املجل�س الوطني للثقافة والفنون والآداب ،1981 ،الكويت. • هوا�ش ،حممد ،تك ّون جمهورية� ،سورية واالنتداب ،من�شورات ال�سائح ،2005 ،طرابل�س ،لبنان. 54
ف�����������������ك�����������������ر
فل�سفة احلياة والكون املعلوماتي ح�سن عجمي -كاتب وباحث
من ِّيز عاد ًة بني مفاهيم احلياة والعقل واللغة والكون املادي .لكن من املمكن بحق اجلمع بني هذه املفاهيم وحتليلها على �ضوء منوذج علمي معا�صر مفاده �أن املادة يف احلقيقة جمرد معلومات .بالن�سبة �إىل هذا النموذج العلمي احلديث ،الكون املادي يتك ّون من معلومات؛ فاحلقائق والأحداث والعالقات فيما بينها لي�ست �سوى جمموعات من املعلومات وعمليات تبادل للمعلومات (Paul Davies and Niels Gregersen (Editors): Information .)and the Nature of Reality. 2010. Cambridge University Pressعلى �أ�سا�س هذا التفكري العلمي ،نح ّلل احلياة والعقل واللغة لرن�صد كيف ّ ت�شكل هذه املفاهيم حق ًال وجودياً واحداً ال ينف�صل وال يتجز�أ. يع ِّرف الفيزيائي �أرون �شرودنغر احلياة على النحو التايل :املادة تت�صف باحلياة فقط حني تفعل �شيئاً وتتحرك وتتبادل املواد مع حميطها يف فرتة زمنية �أطول من املتوقع حدوثه مع املادة غري احلية املوجودة يف الظروف عينهاErwin Schrodinger: What is Life?. 1944. Cambridge( . .)University Pressلكن يف�شل هذا التحليل للحياة لأنه يقع يف الدور .والدور هو حتليل املفهوم من خالل املفهوم ذاته كتعريف املاء باملاء .لذا هو مرفو�ض منطقياً .بالن�سبة �إىل حتليل �شرودنغر للحياة ،املادة احلية هي التي تقوم بالأفعال وتتبادل املواد مع حميطها يف فرتة زمنية �أطول مما هو متوقع من قبل املادة غري احلية .وبذلك ا�ستخدم �شرودنغر مفهوم غري احلي املت�ضمن ملفهوم احلي يف حتليل احلياة ،وبذلك ا�ستعمل مفهوم احلياة يف حتليل احلياة .ولذا وقع التحليل ال�سابق يف الدور .من هنا يف�شل حتليل �شرودنغر للحياة� .أما بالن�سبة �إىل التعريف التقليدي للحياة فاحلي هو الذي يتوالد وينمو ويتغذى ويتحرك وميوت .لكن هذا التحليل يقع �أي�ضاً يف الدور .فهو يع ِّرف احلياة من خالل مفاهيم تت�ضمن مفهوم احلياة كمفهومي النمو واملوت. فالكائن الذي ينمو هو الكائن احلي ،والكائن الذي ميوت هو الكائن الذي كان حياً .هكذا مت 55
حتليل احلياة من خالل مفهوم احلي .وهذا دور مرفو�ض كتعريف املاء باملاء. يبدو �أن الطريقة الأف�ضل لتحليل احلياة كامنة يف االعتماد على مفهوم م�شرتك بني الكون املادي والكائنات احلية .وهذا املفهوم هو مفهوم املعلومة .فمن املمكن علمياً و�صف الكون املادي على �أنه معلومات ،كما من املمكن علمياً �أي�ضاً و�صف الكائن احلي على �أنه جمموعة معلومات .وبذلك مفهوم املعلومة م�شرتك بني املادة غري احلية واملادة احلية ،ما يجعله منا�سباً لتحليل احلياة ،علماً �أن احلياة معتمدة يف تك ّونها على املادة .كما يتجنب هذا التحليل للحياة م�شكلة الوقوع يف الدور املرفو�ض منطقياً ما يحتم �أرجحية �صدق هذا التحليل؛ فتحليل احلياة على �أنها معلومات ال يت�ضمن حتليل احلياة من خالل مفهوم احلياة .بالن�سبة �إىل هذا بكالم �آخر ،احلياة جمموعة معلومات وعمليات تبادل و�إنتاج التحليل ،احلياة نظام معلوماتيٍ . للمعلومات .فبما �أن اجلينات البيولوجية التي ّ تت�شكل منها الكائنات احلية لي�ست �سوى معلومات متوارثة� ،إذاً احلياة نظام معلوماتي. ينجح هذا النموذج الفكري يف تف�سري ملاذا توجد احلياة وكيف من املمكن وملاذا من املتوقع �أن تن�ش�أ احلياة من املادة غري احلية ،ما يدعم م�صداقية هذا النموذج يف حتليل احلياة .فبما �أن الكون املادي واحلياة �أنظمة معلوماتية كالكمبيوتر وبذلك املادة غري احلية واحلياة تتك ّونان من الأ�شياء ذاتها �أال وهي املعلومات� ،إذاً من املتوقع �أن توجد احلياة يف عاملنا املادي و�أن تن�ش�أ احلياة من املادة غري احلية .هكذا ينجح هذا النموذج املعلوماتي يف تف�سري �إمكانية ن�شوء احلياة من املادة وملاذا توجد احلياة �أ�ص ًال .ورغم جناح هذا التحليل يف ربط احلياة باملادة غري احلية ينجح �أي�ضاً يف التمييز بني الكائنات احلية وغري احلية ،وبذلك يكت�سب هذا التحليل للحياة ف�ضائل معرفية �أخرى .فمث ًال ،احلجر ال ميلك احلياة بينما الكائنات الب�شرية واحليوانية حائزة على احلياة .هذا ب�سبب �أن احلياة نظام معلوماتي يتبادل وينتج املعلومات ،لكن احلجر ال ينتج املعلومات وبذلك هو لي�س حياً بينما الكائنات الب�شرية واحليوانية تنتج املعلومات من خالل �إدراكها و�أفعالها وردات �أفعالها ولذا هي حية رغم �أن املادة غري احلية والأحياء جمرد جمموعات من املعلومات. هذا النموذج الفكري نف�سه ميكننا من تف�سري العقل .فكما من املمكن علمياً تف�سري وو�صف الكون واحلياة من خالل املعلومات ننجح علمياً �أي�ضاً يف و�صف وتف�سري العقل على �أنه معلومات .ومن املتاح ذلك من خالل االعتماد على نظريات بع�ض العلماء .فمث ًال ،يطرح 56
ف�������������ك�������������ر
الفيزيائي مي�شيو كاكو نظرية علمية مثرية مفادها �أن العقل لي�س �سوى كمبيوتر متطور .وعلى �ضوء نظريته يتنب�أ بالتطورات العلمية يف امل�ستقبل .يعتقد كاكو �أن امل�ستقبل القريب يحمل مفاج�آت عدة ،منها �إمكانية ت�سجيل ذكرياتنا وا�ستعمالها ك�أ�شرطة فيديو ون�شوء روبوتات واعية (�أي �آالت �شبيهة بالإن�سان) �سرتافقنا يف حياتنا و�إمكانية حتميل وعينا يف �آالت متطورة، ما يحقق �إمكانية �أن يحيى وعينا �إىل الأبد .وهذا امل�ستقبل حتمي ويت�ضمن معامل ع�صر ما بعد الإن�سان .ي�ؤكد كاكو على �أن مع�ضالت الوعي الإن�ساين �سوف يتم حلها على �ضوء التطورات العلمية يف حقل علوم تكنولوجيا النيورونات .بالن�سبة �إليه ،العقل جمموعة برامج كمبيوترية معتمدة على النيورونات �أي اخلاليا الع�صبية يف الدماغ .هذا يعني ،كما يقول كاكو� ،أن العقل جمرد كمبيوتر م�صنوع من خاليا بيولوجية .وبذلك فهم العقل لي�س �سوى م�س�ألة هند�سية .ي�ضيف كاكو قائ ًال �إن القوانني املتحكمة بالكمبيوترات معروفة .وبذلك �سنتمكن قريباً من التحكم بالوعي كما نتحكم اليوم بالإلكرتونات املوجودة يف الكمبيوتر (.)Michio Kaku: The Future of the Mind. 2014. Doubleday لقد متكن العلماء من ر�سم ما يحدث يف الدماغ الب�شري حني ي�شاهد العقل هذه الأفالم وامل�شاهد �أو تلك .ولذا خريطة ت�صرف الدماغ معروفة علمياً .وبذلك ي�ستنتج كاكو �أنه من املمكن التنب�ؤ مبا يفكر ويرى العقل من خالل النظر فقط �إىل النيورونات الدماغية وت�صرفها. فاخلاليا الع�صبية ت�ضيء حني ن�شاهد هذا امل�شهد �أو ذاك ،ما يجعل من ال�سهل درا�ستها علمياً وربط ما ي�ضيء من النيورونات مبا ن�شاهد �أو نفكر. على هذا الأ�سا�س ،من املمكن علمياً ،كما ي�ؤكد كاكو ،ت�سجيل ذكريات و�أفكار فرد ما وزرعها يف دماغ �شخ�ص �آخر من خالل التحكم بعمل النيورونات ،كما �ستتمكن الكمبيوترات املتطورة املت�صلة ب�أدمغتنا من قراءة �أفكارنا و�إر�سالها �إىل هذا املتلقي �أو ذاك .من املنطلق نف�سه، من املمكن علمياً �إعادة �صياغة عقولنا وحتميلها يف �آالت كمبيوترية متطورة تبقى يف الوجود بعد موتنا بيولوجياً .هذا لأن عقولنا لي�ست �سوى برامج كمبيوترية معتمدة على النيورونات، �أي اخلاليا الع�صبية التي من املمكن التحكم فيها (املرجع ال�سابق). لن�س ّلم علمياً ب�أن العقل كمبيوتر .لكن الكمبيوتر يتك ّون من برامج حلفظ املعلومات وتبادلها و�إنتاجها .بذلك العقل نظام معلوماتي ّ يت�شكل من معلومات وعمليات تبادل لها .الآن ،مبا �أن العقل نظام معلوماتي كالكون املادي متاماً� ،إذاً من الطبيعي �أن يوجد العقل يف هذا الكون 57
املادي .كما من الطبيعي �أن يتفاعل العقل مع ج�سده احلي لكونهما يتك ّونان من الطبيعة ذاتها �أال وهي املعلومات .ومن الطبيعي �أي�ضاً �أن ينجح العقل يف معرفة الكون لكون العقل والكون لي�سا �سوى معلومات وتبادل لها .من هنا ،تنجح النظرية القائلة �إن العقول والكون جمرد �أنظمة معلوماتية يف تف�سري ملاذا يوجد العقل وكيف من املمكن �أن يتفاعل مع اجل�سد احلي ويتمكن من معرفة الكون .وبذلك متلك هذه النظرية يف العقل والكون قدرة تف�سريية كربى ما يدعم �صدقها. اللغة �أي�ضاً لي�ست �سوى معلومات ،وال�صياغات اللغوية املختلفة لي�ست �سوى برامج معلوماتية متنوعة .فمث ًال ،كلمة "ال�صديق" يف اللغة العربية م�شتقة من " َ�ص َدقَ " ،وبذلك اللغة العربية حتتوي على معلومة متوارثة ،مفادها �أن �صديقك هو الذي ي�صدق معك .ويف اللغة العربية �أي�ضاً ،كلمة "التوا�صل" م�شتقة من " َو َ�ص َل" مبعنى َر َبط ،وبذلك حتتوي اللغة العربية �أي�ضاً على معلومة متوارثة� ،أال وهي �أن التوا�صل بني النا�س هو الذي يربط النا�س فيما بينهم. من هنا ،اللغة جمموعة معلومات متوارثة .لكن الكون املادي يتك ّون من معلومات .ومبا �أن اللغة �أي�ضاً معلومات� ،إذاً من الطبيعي �أن تن�ش�أ اللغة وتوجد يف عاملنا املادي .هكذا ينجح هذا النموذج املعلوماتي يف تف�سري ملاذا توجد اللغة متاماً كما ينجح يف تف�سري ملاذا توجد احلياة والعقول .كون من دون عقل ولغة وحياة كون من دون وجود.
58
ف�����������������ك�����������������ر
العلمانية ر�ؤية من زاوية �أخرى
جنيب ن�صري -كاتب
رمبا كان من �أكرث احلوادث املثرية للنكد والتوقف عن تبادل اال�ستماع ،هو ذلك احلوار حول العلمانية ،فنحن ملّا نزل نتناولها وهي تدور حول حمور وحيد ،هو املعتقد الذي ال حدود وا�ضحة ملقد�ساته ،كما �أنه لي�ست هناك حدود وا�ضحة للترثيب �أو التقريظ يف م�س�ألة اهرت�أت من كرثة التداول ،ومل يعد هناك ما يقال �أكرث مما قيل فيها ،لتبقى م�س�ألة العلمانية كمع�ضلة تغ�ص فيها حلوق منتجي الثقافة من الناطقني بالعربية ،فهي م�س�ألة ال ميكن جتاوزها ،كما ثقافيةّ ، �أنها ال ميكن القبول بها يف هذه البنية الثقافية ،على الرغم من �ضرورتها املعرفية ،ما ي�صنع تعرثاً كارثياً يف ت�ص ّور املجتمع والدولة والقيم والإنتاج (وكلها باملعنى العلمي /املعريف املعا�صر)، خ�صو�صاً �أن رف�ض العلمانية يعني متاماً رف�ض كل منتوجات الع�صر نظرياً على الأقل. لي�ست كل منتوجات الع�صر هي منتوجات ملمو�سة فيزيائية الوجود� ،إمنا توازيها منتوجات مفهومية فكرية ومعنوية ال ّ تقل �أهمية عنها ،وال منا�ص من ت�شابك وتفاعل النوعني كي تتم اال�ستفادة املجدية من الأداء الإن�ساين ،ما يح ّول هذه املنتوجات برمتها �إىل تكنولوجيات (�أدوات �أو و�سائل) ،ت�ستعمل يف ت�سهيل العي�ش الب�شري على هذه الكرة الأر�ضية ،ومن هنا ميكن النظر �إىل تكنولوجيات االجتماع املحدثة كو�سيلة لإر�ساء املجتمعات ،وكذلك تكنولوجيات التحزب واحلوكمة الخ ،حيث تبدو ر�ؤيتها من هذه الزاوية �أكرث حيادية وبروداً، قا�ص �أو دانٍ ،على ممار�سة وبالتايل �أقل نكداً وانحيازاً ،حيث مل نلحظ �أي اعرتا�ض ،ال من ٍ ٍ تكنولوجيات مثل �أدوية القلب �أو العمليات اجلراحية �أو ا�ستعمال ال�سيارة والكال�شينكوف وركوب الطائرة وا�ستخدام ثورة االت�صال احلديثة واحلداثية ،وكلها تكنولوجيات معا�صرة مت�شابكة مع التكنولوجيات املعنوية املوازية واملتفاعلة معها. رمبا علينا النظر �إىل العلمانية من هذه الزاوية ،زاوية التكنولوجيات� ،أي الأدوات امل�سخّ رة خلدمة الإن�سان يف ع�صره وبيئته ،لنتبني بالقيا�س واملعايرة مدى �ضرورتها ،فالإن�سان (وغريه من الثدييات) ي�ستطيع وهذا من حقه ،ال�سفر �إىل ال�صني بوا�سطة �أي من تكنولوجيات 59
ال�سفر ،م�شياً �أو يف عربة جت ّرها الدواب �أو يف �سيارة وقطار وكذلك يف طائرة ،وعليه هو �أن يختار و�أن يح�صد نتائج خياراته ،ومن هنا ميكننا النظر �إىل العلمانية ،كتكنولوجية ت�أ�سي�سية يف تكنولوجيات االجتماع الب�شري وغريه ،و�أي�ضاً كواحد من اخليارات التي علينا ا�ستخدامها، يف حال كان مق�صدنا هو الو�صول �إىل املجتمع مبعناه احلديث املعا�صر ،هذا املجتمع القادر على الإنتاج مبا يفيد م�س�ألتي ال�شبع واملنعة ،يف خ�ضم االحتدام احليوي بني جمتمعات هذا العامل. وهنا ي�أتي دور املعايرة ،واملعايري بطبيعتها باردة وحمايدة وال تتقبل املواربة ،وهو اجلزء الذي مل تتقبله "جمتمعاتنا" متمثّلة "بنخبنا" حتى اليوم ،بحجة �أنها م�ستوردة وال تتنا�سب مع خ�صو�صياتنا ،على الرغم من قبولها بالكثري الكثري من املعايري امل�ستوردة ،يف �شتى تطبيقات التكنولوجيات ،مع كامل االمتنان ،وهو ما يقودنا �إىل التفكري يف �إنتاج معايري (�أو ا�ستريادها)، ت�ستطيع قيا�س جدوى ا�ستخدام العلمانية كتكنولوجية يف خدمة الإن�سان ،ف�إذا كانت امل�ساواة هي جزء م� ّؤ�س�س للمجتمع و�شرط من �شروطه ،فهذا يقودنا (مث ًال) �إىل رف�ض �أو �إبعاد كل و�سيلة متنع ح�صولها ،وهنا �سوف نكون يف مواجهة احلاجة ملعيار يقرر ما هي امل�ساواة ،ل�ضمان عدم ت�أ�سي�س املجتمع على قواعد طائفية �أو جن�سية �أو عرقية ،وبالتايل البحث عن تكنولوجيات معرفية حتقق هذا ال�شرط الت�أ�سي�سي ،والبحث يف جمموعة التوا�ؤمات املطلوبة التي حتقق ا�ستخداماً �أمثل لهذه التكنولوجيات ،وخ�صو�صاً �أن الهدف وا�ضح و�صريح ،وهو الو�صول �إىل كيان حيوي قادر على التناف�س بالإنتاج ،يف خ�ضم هذا االحتدام الأممي. وهنا تبدو العلمانية كتكنولوجية حمايدة ،قادرة على تقدمي دور �أ�سا�سي يف �إيجاد املجتمع وتوليد دولة منه ،فمجالها احلقوقي هو امل�ساواة ،وهو �أمر من ال�صعب وجود و�سيلة بديلة له �إال بالتجربة واخلط�أ ،الأمر الذي ي�ستهلك من عمر الأقوام ودمائها ،قدر يجعلها �أبعد ما تكون عن الوجود احليوي املرجتى.
60
ف�����������������ك�����������������ر
الوعي الب�رشي ظاهرة تاريخية د .علي م�ش ّيك � -أ�ستاذ التاريخ يف اجلامعة اللبنانية
- 1مقدمة:
يتميز الإن�سان عن جميع الكائنات الأخرى بعقله .وهو الوعي؛ �أي �إ ّنه قدرة الإن�سان على التفكري؛ �أي �أن يفكر يف ذاته ويف الآخر ،من حيث �سلوكه ومواقفه و�آرائه وغري ذلك .وتفكري الإن�سان يف ذاته ،يعني �إدراكه ووعيه لذاته. لقد �أدرك الإن�سان منذ القدم ذاته ،وم ّيز نف�سه عن احليوان ،الذي ا�ستخدمه يف ت�أمني حاجاته. ولو كان ذلك الإدراك ال يرقى �إىل م�ستوى الإدراك النظري اخلال�ص� ،إنمّ ا كان �إدراكاً عملياً. تو�صل �إىل ذلك ،لي�س بال�ضرورة بوا�سطة التفكري املنطقي املعروف لدينا حالياً ،و�إنمّ ا فهو قد ّ الإن�سان القدمي قد م ّيز نف�سه عن احليوان ،و�أدرك �أ ّنه يتم ّيز عنه ب�أمور كثرية ،مثل املهارة، والقدرة على ابتكارها ،وحفظها ،و�سرعة تعلمها ...الخ. لقد متكن الإن�سان القدمي من التح ّرر من حدود الطبيعة وحتم ّيتها ،فقد اكت�شف النار ،وحت ّول فيما بعد ،من �إن�سان يهتم بجمع طعامه �إىل �إن�سان منتج للغذاء ،وذلك مع حت ّوله �إىل تدجني احليوان واعتماد الزراعة .وقد حقق بذلك �أ ّول ثورة تكنولوجية علمية اقت�صادية وح�ضارية. ين�ش�أ الوعي الفردي عن ال�شك واالندها�ش والأمل .والإن�سان قد يكون الهياً عن ذاته� ،إال �أ ّنه عندما ي�شعر بالأمل يبد�أ بالت�سا�ؤل عن �سببه ،وتن�ش�أ بذلك فل�سفته .ويرى �أحد الفال�سفة الرواقيني �أنّ الفل�سفة تن�ش�أ عن �شعورنا ب�ضعفنا وعجزنا .ويرى كارل يا�سربز الوجودي املعا�صر �أنّ الوجود الإن�ساين هو دائماً وجود يف موقف� ،أي �إ ّنه دائماً يقف يف مواجهة ما يقف يف وجه حر ّية الإن�سان. يت�ضمن من الوعي الفردي هو �إدراك الإن�سان لذاته ولقدراته ولدوره ،و�إدراكه للآخر ،مبا ّ 61
خملوقات وطبيعة وجمتمعات� ،إىل غري ذلك .وهناك تباين يف م�ستوى الوعي ،وذلك تبعاً لثقافته وخلرباته يف مواجهة امل�شاكل وقدرته على معرفة معاجلتها .وتباينت �آراء الفال�سفة حول مفهوم الوعي الفردي ،وذلك باختالف مدار�سهم .يرى ديكارت �أن الوعي هو وعي يقيني بوجود ذاته ،وغري يقيني �إزاء اخلارج .واحلد�س عنده ،هو عمل عقلي يدرك به الذهن حقيقة من احلقائق يفهمها بتمامها يف زمان واحد ،ال على التعاقب .وهو ال يق�صد باحلد�س �شهادة احلوا�س املتغيرّ ة ،وال احلكم الفا�سد ،و�إنمّ ا يق�صد به "الت�صور الذي يقوم يف ذهن خال�ص منتبه بدرجة من ال�سهولة والتم ّيز ال يبقى معها جمال للريب" .واليقني الفل�سفي "م�صاحب للحقيقة ومنبعث عنها كما ينبعث ال�ضوء من ال�شم�س" . 1
2
يتمثل الوعي الفردي بفل�سفة الفرد وجممل �آرائه عن الكون والوجود والطبيعة واملجتمع، وكذلك عن م�صري الإن�سان ووظيفته ودوره� ،إىل غري ذلك" .والفل�سفة هي التحليل املنطقي جلميع �أ�شكال الفكر الب�شري" . 3
ومن الفال�سفة من يرى �أن الوعي ين�ش�أ على �أ�سا�س حياة املجتمع املادية ،من تن ّوع العالقات وتن ّوع الن�شاط�" ،إنّ الوعي هو جانب �ضروري من احلياة االجتماعية ،لأن احلياة االجتماعية يف جميع ظاهراتها هي نتيجة لن�شاط النا�س ،الكائنات احل ّية� .أما طابع الوعي االجتماعي فيحددها يف �آخر املطاف الوجود االجتماعي" .ويرى كل من وم�ستواه واجتاهات تطورهّ ، مارك�س و�أجنلز �أن الأفكار لي�ست هي �إال نتاج الدماغ الإن�ساين .و�أن الإن�سان هو نتاج الطبيعة .وما املثايل �سوى املادي منقو ًال �إىل الدماغ وحم ّو ًال فيه .وي�ؤكد �أجنلز على م�س�ألة الت�أثري املتبادل بني البنى التحتية والبنى الفوقية ،ويرى �أن التطور ال�سيا�سي والت�شريعي والفل�سفي والديني والأدبي والف ّني الخ ،يقوم على �أ�سا�س التطور االقت�صادي . 4
5
الوعي الب�شري هو ح�صيلة تراكم املعارف واملهارات الب�شرية خالل التاريخ .وهو يرتبط بالذكاء والعلوم واملعتقدات والعادات ،كما �أ ّنه يرتبط بامل�ستوى احل�ضاري والبيئي .وهناك طرق خمتلفة للتفكري العلمي .والب�شر ي�ستخدمون طرقاً خمتلفة يف معاجلة م�شكالتهم ،وذلك بح�سب خرباتهم وم�ستوى ذكائهم ونوعية امل�شكلة وطبيعتها. لقد تطور الوعي الب�شري ،ب�سبب تراكم املعارف واملهارات الب�شرية ،وتزايد احلاجات ،وتزايد االكت�شافات العلمية احلديثة .لذا ميكننا �أن ن�ص ّنف تطور الوعي بثالث مراحل :مرحلة 62
ف�������������ك�������������ر
ال�سحر والأ�ساطري ماقبل الفل�سفة والعلم ،مرحلة الفل�سفة الكال�سيكية ،ومرحلة العلوم الو�ضعية والفل�سفة احلديثة وما بعدها. �إن ما نهتم به ،يف هذا البحث ،هو معاجلة الإ�شكالية القائمة عن الوعي الب�شري .هل الوعي الب�شري هو ظاهرة فطرية �أم مكت�سبة؟ وهل الوعي الفردي هو ظاهرة تاريخية وجدت مع وجود الإن�سان يف الطبيعة؟ .و�إذا كان هناك تداخل وترابط بني الفطري واملكت�سب ،فما مدى ذلك الرتابط؟ .و�إذا كان الوعي الب�شري ،يف جانب منه فطري ،فهل بالإمكان اال�ستغناء عن اجلانب املكت�سب؟ .ثم هل اجلانب الفطري هو الوعي �أو الالوعي؟ وهل هناك ترابط بني االثنني؟ .ثم ما مدى الرتابط بني الوعي الفردي والوعي اجلماعي؟. - 2الوعي الب�رشي �أثناء مرحلة ال�سحر والأ�ساطري
تبد�أ تلك املرحلة مع وجود الإن�سان يف الطبيعة� ،إذ ال ميكن ف�صل ظاهرة الوعي عن وجود الإن�سان ،لأن العقل الإن�ساين وجد مع وجود الفرد ،و�إن كان عق ًال عملياً� ،أي �إنه يدرك من دون �أن يعرف كيف يدرك وما هو الع�ضو الذي يدرك به �أو بوا�سطته. ويرى العديد من املفكرين �أنّ احل�ضارة الب�شرية لي�ست �إال كل ما �أبدعه الإن�سان ،منذ تع ّلم �إ�شعال النار ،قبل حوايل � 500000سنة ،حتى تفتيت الذ ّرة واكت�شاف الف�ضاء ،و�إىل يومنا هذا. يظهر الوعي الإن�ساين يف قدرة العقل الب�شري على �صنع احل�ضارة ،وقدرته على جمع �أفراد اجلن�س الب�شري ،وتعاونهم ،وحماوالتهم امل�ستم ّرة يف التغيري نحو الأف�ضل .وهو يظهر كذلك، يف قدرة العقل الب�شري ،و�إمكانية تغ ّلبه على التحديات التي تفر�ضها الطبيعة �أمامه. الوعي هو الذي �ساعد الإن�سان على التنقل من مكان لآخر ،وعلى اختيار املناطق املعتدلة واخل�صبة لل�سكن .وعي الإن�سان هو الذي دفع به �إىل التح ّول ،من ال�سكن يف املغاور الطبيعية �إىل بناء البيوت و�إن�شاء القرى. و�إذا كان للحاجات دور بارز يف تفتح الوعي الإن�ساين وتو�سيع مداركه� ،إذ �إن هناك عالقة جدلية ،بني العقل وما يحتاج �إليه الإن�سان يف حياته العملية من حاجات مادية متعددة .و�إذا كانت الطبيعة ،ح�سب ر�أي توينبي ،تقدم ال�شرط املادي لوجود احل�ضارة ،ف�إن هذا ال�شرط 63
ميكن �أن يبقى كما هو ،من دون توفر ال�شرط الروحي والإن�ساين .والدور الإن�ساين يبقى الأ�سا�سي دائماً. ي�ؤكد م�ؤرخو احل�ضارات �أنّ الإن�سان القدمي كان دائماً يعي�ش �ضمن جماعته ،ولو كانت �صغرية يف البدء .ثم ا�ستق ّر بعد ذلك يف قرية ،وبعدها يف بلدة ،ثم يف مدينة .وهو قد خ�ضع لأعراف و�سن وقواعد ،وكان ذلك نتيجة وعيه لذاته وملجتمعه .وهو قد و�ضع املمنوعات واملح ّرماتّ ، القوانني و�أن�ش�أ ال�سلطة ال�سيا�سية. ورغم �أن حياة الإن�سان القدمي كانت ب�سيطة قيا�ساً مبجتمع اليوم� ،إال �أن مظاهر الوعي الب�شري قد متثلت بالكثري من مظاهر الغنى والتن ّوع والتعقيد ،وخا�صة تلك الآثار القدمية من الر�سوم املتح ّركة لبع�ض احليوانات ،التي كانت معروفة ،على جدران الكهوف ،وكذلك يف طريقة ري الأرا�ضي الزراعية ،وجتفيف امل�ستنقعات ،و�شق الرتع. تعدد اللغات وتطور الكتابة، هناك �أمثلة كثرية تبينّ مدى تطور ح�ضارة الإن�سان القدمي ،وهناك ّ من م�سمارية عند البابليني� ،إىل الهريوغليفية عند امل�صريني� ،إىل الأبجدية عند الفينيقيني. وكذلك تطور املهارات منذ القدم ،من �أدوات حجرية �إىل �أدوات حديدية .ثم تطورت علوم الهند�سة والطب والفلك ،وغري ذلك فيما بعد. �إنّ ما يبلور ب�شكل ج ّيد ،مظاهر الوعي الإن�ساين ،هو ما ا�شتملت عليه ملحمة جلجام�ش ال�سومرية� ،إذ عرث يف مكتبة �آ�شور بانيبال على اثني ع�شر لوحاً طينياً ،حتتوي على �أكرث من ثالثة �آالف بيت من ال�شعر. وما يلفت االنتباه �أن جلجام�ش ذلك امللك ،كان يبحث عن الأنا� ،أي �إنه يبحث عن ت�أكيد الق�صة بحثاً عن �سر اخللود .وهنالك كذلك العديد ذاته يف الق ّوة وال�سلطة وال�شهرة .وتنتهي ّ تتحدث عن ق�صة اخللق واملوت واحلياة الأخرى .وقد من الق�ص�ص والأ�ساطري القدمية ،التي ّ اهتدى الإن�سان القدمي �إىل دفن موتاه منذ ما يقرب من خم�سني �ألف �سنة ق.م. �أما مظاهر العبادة فقد عرفت كذلك ،عند الإن�سان القدمي ،وهي �إن دلت على �شيء فهي تدل متعددة �إىل على ظاهرة الوعي الإن�ساين وتطوره .وهي قد حت ّولت من االعتقاد بوجود �آلهة مادية ّ �آلهة مفارقة للمادة ،ومن االعتقاد ب�آلهة متعددة ،يف عهد الفراعنة امل�صريني� ،إىل االعتقاد ب�إله تعدد الآلهة. واحد �سماوي �أبدي ،يف عهد �أخناتون .لقد قام هذا الأخري بثورة على ّ 64
ف�������������ك�������������ر
ولعبت االعتقادات الدينية الدور الأ�سا�سي واملركزي ،يف معظم احل�ضارات ال�سابقة؛ فالدين هو الذي يعطي ال�شرعية للأنظمة ال�سيا�سية واالجتماعية ،والكهنة هم كهنة الآلهة ،وامللك هو ممثل الإله .وكان االعتقاد ال�سائد ،عند تلك املجتمعات� ،أنّ ال ّروح تتل ّب�س اجل�سد ،عندما اهتم القدماء بدفن امل ّيت وحتنيط جثته ،لكي يبقى اجل�سد يكون م�ستعداً ال�ستقبالها .لذلك ّ م�ستعداً ال�ستقبال الروح عندما تريد العودة �إليه. ّ املتعددة ،ويعترب ذلك �أكرب دليل على وجود الوعي �أما الفرعون �أخناتون فقد �أنكر تلك الآلهة ّ الإن�ساين .وقد جاء ذلك نتيجة تفكري الإن�سان بالوجود وبذاته ،وبقدرته كذلك على التمييز بني تلك العبادات ،وتف�ضيله لعبادة الإله الواحد ال�سماوي الأبدي ،خالق كل �شيء. مل يكن الوعي الب�شري �سابقاً ،جم ّرداً من الأمور العملية ،بل ارتبط باحلاجات احلياتية واليومية .وقد امتزج التفكري الديني بال�سحر ،فلم يكن الوعي متح ّرراً من ال�سحر واخلرافات، بل كان هناك تداخل بني العلوم واملعارف احلقيقية والفل�سفة وال�سحر وغري ذلك. اعترب ال�سحر قدمياً ،كعلم بدائي ،حيث تتوافق وظيفته مع وظيفة العلم .وهي :معرفة العامل يقدم نف�سه كمجموعة و�سائل وتقنيات املحيط بالإن�سان وتكييفه ح�سب رغباته .كان ال�سحر ّ مرتبطة بقوى فوق الطبيعة ،بهدف الت�أثري الفوري يف وقائع �أحداث الطبيعة وت�سل�سلها .كان ال�ساحر مطالباً �أن ي�شفي املري�ض ،ويزيد املحا�صيل ،ويعرث على الغائب ،وب�شكل فوري. وهذه الأمور مل تكن مطلوبة من الدين ،كما هي مطلوبة من ال�سحر .ومع تطور الوعي الإن�ساين� ،أخذ الإن�سان يبتعد عن ال�سحر خطوة بعد خطوة ،مع �صعود العلم ومناهجه ومعايريه احلديثة. من امل�ؤ�سف �أن العديد من املفكرين يعتربون �أن ظاهرة الوعي القدمية لدى الإن�سان، ناجتة عن الغريزة .فهم يتكلمون عن الغريزة الدينية وغريزة االجتماع .ولو كان االعتقاد الديني ناجتاً عن غريزة ما ،ملا كان هناك تباين يف الأديان� .إ ّنهم ف�سروا تلك املظاهر الدينية بالغريزة ،نتيجة ملا �شاهدوه من ا�ستمرار ظاهرة العبادة ،منذ فجر التاريخ ،وربمّ ا منذ �أن وجد الإن�سان على الأر�ض .ومل تخل ح�ضارة ب�شرية �سابقة من مظاهر العبادة الدينية. كانت تلك العبادات ت�سعى �إىل الإجابة عن �شتى �أ�سئلة الوعي الب�شري ،حيث ال �أجوبة وا�ضحة عنها. 65
- 3الوعي الب�رشي �أثناء الفل�سفة الكال�سيكية
تبد�أ هذه املرحلة مع احل�ضارة اليونانية .وهي قد �شهدت يف املرحلة الأوىل ،متازجاً بني ال�سحر والعلوم الأخرى .وكان لتط ّور علوم الفلك عند البابليني ،وتطور علوم الهند�سة عند امل�صريني، �أثر مهم يف تبلور منوذجني من املعارف؛ ال�سحر ومظاهره ومهاراته وجلو�ؤه �إىل قوى غيبية مفارقة للمادة ،والعلوم الأخرى ،مبا تتطلبه من خربات عملية وواقعية ونتائج ملمو�سة. و�إذا كانت العلوم الواقعية قد ابتعدت عن ال�سحر ،مع البابليني وامل�صريني ،بع�ض اخلطوات، تو�سعت فقد تزايد ذلك االبتعاد ،ما بني ال�سحر وبق ّية العلوم ،مع احل�ضارة اليونانية .لقد ّ مدارك الوعي الإن�ساين ،مع اليونانيني �أكرث ف�أكرث ،وظهرت بدايات الفل�سفة مع طالي�س ،الذي وف�سر هريقليط�س ّف�سر العامل بوجود املاء ،كمادة �أزلية �سابقة للوجودّ . وتعددت الآراء بعدهّ . وجود الكون بال�صريورة الدائمة الأزلية ،واعترب برمنيد�س �أن التغيرّ واحلركة لي�سا �إال وهم. واعترب ال�سف�سطائيون �أن الذات والأ�شياء يف تغيرّ م�ستمر ،وال�صريورة �شاملة ،واحلركة دائمة، واملعرفة ن�سبية .وحاول �سقراط و�أفالطون تخطي الظواهر املح�سو�سة واملتغيرّ ة للو�صول �إىل احلقائق واملاهيات الثابتة. �أ ّيد �أفالطون �آراء �سقراط ،يف اعتبار الفكرة ك�أ�سا�س ،لأنها متثل العقل .واملعرفة احلقيقية بر�أيه ،هي معرفة الفكرة� ،إال �أ ّنه زاد على ر�أي �سقراط ،باعتباره �أنّ الأ�شياء املادية لي�ست �إال ظال ًال للمثل احلقيقية .اعترب �أفالطون �أن املعرفة احلقيقية ،هي عبارة عن تذكر؛ �إذ كان الإن�سان على علم بكل املعارف ،وعند حلول الروح باجل�سد ،قد ن�سيت كل تلك املعارف يح�صله الإن�سان من معارف ،يف هذا الكون هو تذكر للمعارف ال�سابقة. ال�سابقة .وما ّ �أما �أر�سطو فقد اعترب �أن العقل الإن�ساين يختلف عن احل�س احليواين املوجود عند احليوان والإن�سان ،لأنّ العقل يدرك ال�صور املج ّردة ،ويدرك ذاته ،ويدرك �أ ّنه يدرك ،بينما احل�س ال ميكنه �أن يدرك ذاته ،وال �أن يح�س �آلته �أو الع�ضو الذي به يح�س ،وال يح�س �أ ّنه يح�س .وقد تو�سع ابن �سينا يف هذه الآراء ،ومن منظور �أر�سطي �إجما ًال .وقد ا�ستم ّر هذا النهج حتى القرن ّ التا�سع ع�شر ،يف اعتبار �أن العقل هو املو�ضوع الأوحد لعلم النف�س ،علماً �أن �أر�سطو مل يذكر كلمة "وعي" ،بل اعترب �أن العقل هو الفكر والوعي ،وو�صف الإن�سان ب�أ ّنه حيوان عاقل. لقد و�صف القدماء "العقل" باجلوهر .واعترب �أر�سطو �أن اجلوهر هو عبارة عن �صورة ومادة. 66
ف�������������ك�������������ر
وال�صورة هي الوجود بالفعل ،واملادة هي الوجود بالقوة .واملادة تقبل اتخاذ �صور كثرية متباينة" .وف�ض ًال عن ذلك ف�إ ّنه يرى �أن العالقة بني ال�صورة واملادة كامنة من وراء كثري من العالقات الأخرى ،فالفلك الأعلى والأدنى ،والعنا�صر الرفيعة والدنيا ،يف نظام الكون، وكذلك النف�س واجل�سم ،والذكر والأنثى ،يرتبطون فيما بينهم بعالقة ال�صورة واملادة" . 6
لقد �سعت الفل�سفة الكال�سيكية �إىل �إيجاد �أجوبة للعقل �أو للأ�سئلة التي كان يطرحها الوعي الب�شري ،بوا�سطة الت�أ ّمل� ،أي بوا�سطة العقل الب�شري ،على اعتبار �أنه قادر على اكت�شاف احلقيقة اليقينية .لقد كانت الفل�سفة بالذات ظاهرة من ظواهر الوعي الب�شري .وهي �ست�ستمر �إىل ما ال نهاية .و�إذا كانت الفل�سفة عبارة عن �أ�سئلة وحلول مقرتحة من قبل العقل ،فما هي بهذا املعنى �إال جت�سيد للوعي الإن�ساين ولتفتحه .وما قول �سقراط امل�شهور "�أ ّيها الإن�سان اعرف نف�سك بنف�سك"� ،إال ت�أكيد على وجود الوعي الب�شري للذات وللعقل وللآخر. و�إذا كانت الفل�سفة القدمية قد �أعطت حلو ًال وواجهت انتقادات عديدة ،ومل تتمكن من التع ّرف �إىل احلقائق اليقينية ،فكذلك الفل�سفة احلديثة ،فهي �ست�ستمر يف طرح الأ�سئلة ،وال تلقى �أجوبة مقنعة. و�إذا كانت الفل�سفة القدمية ال تعتمد التجربة كمقيا�س للمعرفة اليقينية ،فذلك لأنها مل تكن معروفة �سابقاً ب�صدقيتها ،ولأن الوعي الب�شري مل يكن على درجة ت�ؤهله لذلك ،كما �أ�صبح، تو�سع مدارك الوعي فيما بعد ،على �أثر اكت�شاف العلوم الو�ضعية ،وما ا�ستتبعها ،من �أثر على ّ الب�شري. واعترب علم النف�س ،قبل القرن التا�سع ع�شر� ،أن الوعي �أو العقل هو مو�ضوعه الأوحد .وهو يعترب كذلك �أن النف�سي ال ميكن �أن يكون �إال واعياً� ،أو هو الوعي عينه .ويعتمد علم النف�س التقليدي يف درا�سته للوعي ،طريق اال�ستبطان .وهو يقوم على اعتبار �أن احلياة النف�سية الداخلية ال يعرفها وال ي�شعر بها �إال من يعي�شها؛ فما من �أحد يعرف ما يعانيه ال�شخ�ص �إال ال�شخ�ص ذاته .و�أف�ضل طريقة لدرا�سة احلالة النف�سية ،هي اال�ستبطان .وهو درا�سة الأنا للأنا، والتب�صر. عن طريق الت�أ ّمل ّ يهتم ابن �سينا كذلك بالنف�س الإن�سانية ،ويثبت وجودها ب�أدلة منطقية .وهو يفرد ف�صو ًال تتحدث عن النف�س و�سيا�ستها .وهو مي ّيز ،بني النف�س الأ ّمارة بال�سوء والعقل الذي يتدخل، ّ 67
"والعاقل هو من حافظ على مناقبه باملواظبة والتنمية وح�سن التدبري ،وق�ضى على مثالبه بالقمع والقهر وقلة اال�ستعمال ،واتخذ لنف�سه ثواباً وعقاباً ي�سو�سها بهما ح�سب طاعتها وانقيادها يف قبول الف�ضائل وترك الرذائل" . 7
ويهتم الإن�سان ب�شكل عام برتبية النف�س .وتعترب جماهدة النف�س يف الإ�سالم �أ ّنها اجلهاد الأكرب .وكان �إخوان ال�صفا والفارابي �سابقاً ،قد اهتموا بالنف�س .اعترب �إخوان ال�صفا "�أن العربة لي�ست باجل�سد املتح ّول والفاين ،و�إنمّ ا بالنف�س اخلالدة :فبقدر ما ي�صقل الإن�سان نف�سه، ذكراً كان �أم �أنثى ،بقدر ما ي�سمو بها �إىل عاملها الروحاين الذي وردت منه" . 8
لقد لعبت تلك الآراء دوراً مهماً يف تبيان دور النف�س الإن�سانية ،كما مهدت �إىل االهتمام بعامل النف�س ،فيما بعد ،يف الع�صور احلديثة مع ديكارت ومن جاء بعده. - 4الوعي الب�رشي �أثناء مرحلة العلوم الو�ضعية والفل�سفة احلديثة
بد�أ الع�صر احلديث مع ديكارت ،حيث الفل�سفة وعلم النف�س وجممل العلوم الو�ضعية� ،إذ �إنّ �أول ظهور لكلمة �أو لفكرة "وعي" بد�أت معه يف �أوا�سط القرن ال�سابع ع�شر� ،إذ م ّيز بني النف�س واجل�سد ،واعترب �أن الوعي يعني "�أنا �أفكر" .وهو ينطلق من �أن النف�س تعرف كل ما فيها من غري ا�ستثناء ،وما ال تعرفه فيها ،فهو ال ينتمي �إىل النف�س ،بل ينتمي �إىل اجل�سد. ي�ستبعد ديكارت كلياً فكرة وجود علم نف�س حيواين ،لأنّ احليوان ال ي�ستطيع اختبار فكرة "�أنا �أفكر �إذاً �أنا موجود" .وهو يرى �أن الوعي هو وعي يقيني بوجود ذاته ،وغري يقيني �إزاء اخلارج .و�أن كل ما هو نف�سي هو �ضمن دائرة الوعي ،و�أن كل ما يتعلق باجل�سم �أو الأ�شياء الأخرى هو خارج دائرة الوعي .وهو ال يقر بفكرة "الالوعي النف�سي" التي تكلم عنها فرويد. ي�سعى ديكارت وراء احلق ،وقد رف�ض يف البداية جميع املذاهب التي كانت �شائعة ،ملا فيها من تباين واختالف ،ف�شك يف كل العلوم التي تعلمها من املا�ضي .وهو يقول "الحظت.. �أنني تلقيت منذ �سنواتي الأوىل طائفة من الآراء الباطلة على �أنها �صحيحة .ومن �أجل ذلك علي �أن �أقدم بجد م ّرة واحدة يف العمر على تخلي�ص نف�سي من الآراء حكمت ب�أنه يجب ّ التي تلقيتها يف املا�ضي" .فهو يرى �أنه من ال�ضروري �إعادة البحث من �أ�سا�سه ،لإقامة �شيء ثابت ورا�سخ يف العلوم. 9
68
ف�������������ك�������������ر
هكذا ي�ستيقظ الوعي الإن�ساين مع ديكارت ،ليعي بطريقة يقين ّية املعارف احلقيقية ،ف�شكه مل يكن لأجل ال�شك� ،إنمّ ا كان يف �سبيل اليقني .وما عودته �إىل الذات �إال دليل وا�ضح على وعيه لذاته والوثوق بها� .إنّ �شكه يختلف عن �شك الريب ّيني الذين يتنازلون عن حقوق الفكر ،بل �إ ّنه "�شك م�ؤقت ،ال بل هو بداية البحث عن احلقيقة ...ف�إن �شك ديكارت �إميان بالعقل ،وعزم حمقق على الو�صول �إىل اليقني" . 10
يظهر الوعي الديكارتي يف توليده اليقني من ال�شك .وكانت فل�سفته جديدة ،ال ت�ؤمن �إال يعد بحق م� ّؤ�س�س الفل�سفة احلديثة .ويعرتف لوك بف�ضل بحر ّية الفكر ،وبداهة العقل .وهو ّ ديكارت ،ويقول" :ونحن يلزمنا �أن نقر ب�أن هذا الفيل�سوف اجلديد قد منحنا ،للنظر يف الأ�شياء الطبيعية ،نوراً �أعظم من النور الذي منحنا �إ ّياه الفال�سفة الآخرون عن بكرة �أبيهم" . وت�ستمر مظاهر الوعي عند الكثري من الفال�سفة الغرب ّيني .فريى هيغل �أ ّنه يف "الفل�سفة فقط يتحقق الروح املطلق �أو اهلل متام التحقق ...وما املذاهب الفل�سفية التي ي�سجلها التاريخ �إال التقدم نحو هذا الن�صر النهائي" .وهو يرى كذلك� ،أن املطلق هو الوجود حلقات يف �سل�سلة ّ الواقعي ،مبا فيه من روح ال متناه �أو مثال �أو عقل كلي .كما �أنه يرى �أي�ضاً� ،أ ّنه لأجل فهم الوجود ،يجب اتباع منهج منطقي يبينّ هذا الت�سل�سل .ال�صريورة بر�أيه ،هي �صميم الوجود، و�سر التطور .كما �أ ّنه يقر بوجود الروح املطلق والوعي الكلي ،والإرادة الكلية. 11
12
ويبينّ مارك�س تباين �آرائه عن �آراء هيغل .ويرى هذا الأخري� ،أنّ عملية التفكري تتح ّول �إىل ذات م�ستقلة .يرى مارك�س "�أن املثايل لي�س �سوى املادي منقو ًال �إىل دماغ الإن�سان وحمو ًال فيه" .ويعترب �إجنل�س �أن الأفكار ما هي �إال نتاج الدماغ الإن�ساين ،و�أن الإن�سان هو نتاج الطبيعة ،وبذلك �سيكون نتاج دماغ الإن�سان هو نتاج الطبيعة. 13
حتدد مدى درجة الوعي االجتماعي� .إذ �إن ترى املارك�سية �أن الظروف املادية هي التي ّ معي�شة الإن�سان االجتماعية هي التي تعينّ وعيه" .وعندما تبلغ قوى املجتمع املنتجة املادية درجة مع ّينة من تطورها ،تدخل يف تناق�ض مع عالقات الإنتاج املوجودة ..ومع تغيرّ الأ�سا�س االقت�صادي يحدث انقالب يف كل البناء الفوقي الهائل ..فينبغي بالعك�س تف�سري هذا الوعي انطالقاً من تناق�ضات احلياة املادية" . 14
واعتربت املدر�سة ال�سلوكية ،مع واط�سن ،يف بداية القرن الع�شرين� ،أن االعتماد على درا�سة 69
الوعي ،كما كان عند علم النف�س التقليدي ،ال ي�ؤ ّدي �إىل علم نف�س علمي .لقد قام واط�سن بدرا�سته ل�سلوك احليوان والإن�سان ،من غري االكرتاث ملقولة "الوعي" .على اعتبار �أن ال�سلوك، وحده هو املعطى الوحيد يف علم النف�س القابل فع ًال للمراقبة العلم ّية. حاولت املدر�سة ال�سلوكية اجلديدة التخفيف من ا�ستبعاد الوعي ،فجعلت علم النف�س نوعاً من الفيزياء امليكانيكية النف�سية ،ف�أدخلت فكرة معنى ال�سلوك ،وفكرة "موقع اجل�سد" ،وفكرة "الت�صورات الذهنية" و"القيم ال�شخ�صية" ،التي تختلف بني فرد و�آخر. ا�ستم ّر االهتمام بالوعي ودوره يف احلياة النف�سية ،يف االنتباه والذاكرة والتخ ّيل ،يف كل الوظائف النف�سية العليا .لقد ا�ستم ّر دور الوعي ،رغم كل املحاوالت والأفكار التي جاء بها ثورندايك عام ،1911وخ�صو�صا فكرة "التعلم بالتجربة واخلط�أ". �أما املدر�سة الفينومينولوجية ،التي � ّأ�س�سها هو�سرل ،فرتى �أن الوعي يق�صد به �شيئاً غري ذاته ،معرباً عن احلياة النف�سية ،مدركاً الظواهر ،التي هي جوهر الأ�شياء "كل وعي هو وعي ل�شيء ما". يطلب هو�سرل �إىل العقل �أن ي�ضع بني قو�سني "الوجود الواقعي للأ�شياء لكي يح�صر نظره يف خ�صائ�صها اجلوهرية كما هي ماثلة يف ال�شعور" .وجاءت مدر�سة التحليل النف�سي مع فرويد� ،إذ انتقد املدر�سة ال�سلوكية ،واعترب الالوعي �أ�سا�س احلياة النف�سية .واعترب �أن للوعي دوراً �أولياً يف العالج النف�سي .واملري�ض النف�ساين بر�أيه ،عندما يتمكن من وعي �أ�سباب مر�ضه ،ف�إ ّنه يتخل�ص من هذا املر�ض وي�شفى منه. 15
و�أ�شار العديد من املفكرين قبل فرويد �إىل الالوعي ،وكان �أ�شهرهم :اليبنتز ،الرو�شفوكو، رو�سو� ،شوبنهاور ،كارو�س ،هارمتان ،نيت�شه ،ومارك�س .يعترب �شوبنهاور �أن دوافعنا الواعية لي�ست �سوى واجهة تخ ّبئ دوافعنا الالواعية ،والإن�سان ميكن �أن يجهل دوافعه احلقيقية. وتكلم نيت�شه كذلك عن الالوعي و�أقنعته ،واعترب �أن القيم الأخالقية ت�صدر غالباً عن غرائز �أنانية عدوانية وجن�سية .ورغم ما قيل �سابقاً عن الالوعي� ،إال �أ ّنه ما من �أحد حاول �أن يبني نظرية متما�سكة ،قاعدتها الالوعي ،كما فعل فرويد .وهو قد عمل على حتويل الالوعي �إىل وعي ،وذلك عن طريق التحليل النف�سي �أو التداعيات الكالمية احل ّرة ،حتت قاعدة عدم مقاطعة املري�ض �أثناء كالمه .وهو قد اكت�شف �أن الطريقة التطهريية قا�سية وخميفة للمري�ض، 70
ف�������������ك�������������ر
فا�ستبدلها بطريقة التحليل النف�سي .وط ّور فرويد طريقته ،ف�أخذ بت�أويل زالت الل�سان، والأفعال الناق�صة ،والأحالم الليلية ،وذلك الكت�شاف الالوعي. ويت�شكل اجلهاز النف�سي عند فرويد من ثالثة عنا�صر :الغرائز اجلن�سية �أو الهو .والرقابة الأخالقية واالجتماعية �أو الأنا الأعلى .والأنا ،ذلك اجلزء الواعي الذي تت�صارع فيه الرغبات واملمنوعات .والأنا تبدو متوازنة عندما يكون هناك توازن بني الأنا الأعلى والهو. �شدد فرويد على �أهم ّية اجلن�س ،ف�أثار الأو�ساط املحافظة �ضد نظريته� .إذ �إن الالوعي ّ الفرويدي هو يف الأ�صل ،مكبوت جن�سي .وهو يفهم اجلن�س فهماً خال�صاً ،يختلف فيه عن الآراء ال�سائدة ،وتبد�أ احلياة اجلن�سية عنده منذ الوالدة ،وهي على مراحل� ،أعالها :مرحلة البلوغ وهي املرحلة التنا�سلية .وقد مير الفرد خاللها ب�ست مراحل :املرحلة الفمية ،وهي مرحلة الر�ضاعة .واملرحلة ال�شرجية ،وت�ستمر حتى ثالث �سنوات .والتنا�سلية الأوىل ،وهي من ثالث �إىل �أربع �سنوات .املرحلة الق�ضيبية ،بني �أربع و�ست �سنوات .وال�ستور ،بني �سنة و�إحدى ع�شرة �سنة .والتنا�سلية ،وهي ت�ستمر من اثنتي ع�شرة �سنة حتى �سن البلوغ. يرى فرويد �أن كل مر�ض نف�سي يجد �أ�سبابه يف مرحلة من تلك املراحل .وهو قد �أعطى �أهم ّية خا�صة للمرحلة التنا�سلية الأوىل �أو الأوديبية� .إذ �إن الولد يتم ّنى ،يف تلك الفرتة� ،إزاحة �أبيه يقدمه التحليل النف�سي هو التخل�ص من عقدة �أوديب، لأ ّنه يبعده عن �أمه .والعالج الذي ّ فتكون الطفولة هي �أ�سا�س �شخ�صية الإن�سان .وهذا ما عمل عليه علم الرتبية احلديثة ،رغم كل االنتقادات لفرويد. اعترب فرويد ،بعد انتهاء احلرب العاملية الأوىل ،وجود غريزتني يف الإن�سان :غريزة احلياة، وغريزة املوت� .أما غريزة احلياة ،فهي الغريزة اجلن�سية التي تهدف �إىل املحافظة على الذات، ح�سب مبد�أ اللذة� .أما غريزة املوت ،فهي التي ت�سعى �إىل التخل�ص من ال�ضغوط ،وتتمثل بالعنف والقتل واالنتحار وتدمري الذات. وتع ّر�ضت نظرية فرويد الأوىل النتقادات ،خا�صة من قبل تالمذته ،حيث مل يجدوا يف الليبيدو اجلن�سي غريزة قاعدية قادرة على تف�سري كل ال�سلوك الب�شري� ،أما �آدلر فريى �أن حاجة الإن�سان الأ�سا�سية هي ت�أكيد الذات .ويرى غو�ستاف يونغ وجود منوذجني :املنفتح واملنطوي ،وهو يقر بوجود الوعي جماعي� ،إىل جانب الالوعي الفردي .ويرى كارن هورين 71
�أن الغريزة الأ�صلية عند الفرد ،هي احلاجة �إىل الأمن واحلماية� .أما عند الكان ،فالعالج يتم بتحويل �صراع الهو والأنا الأعلى �إىل كالم فقط. ويرى مالينوف�سكي كذلك� ،أن عقدة �أوديب لي�س مو�ضوعها الأب ،بل اخلال �شقيق الأم. لقد تطورت النظرية الفرويدية ،مع تطور علم الإنرتوبولوجيا ،حتى اكت�شف املحللون بعد فرويد ،الروائز النف�سية الناجحة يف اكت�شاف الالوعي .وهي تق�سم �إىل ق�سمني: روائز الإ�سقاط ،و�أ�شهرها رائز رور�شاخ ،ورائز مورغان. روائز البناء ،وت�شتمل على روائز الألعاب ،وروائز التمثيل امل�سرحي ،التي طورها جاكوبمورينو. �أما روائز الإ�سقاط ،فهي ترى �أن املري�ض يتكلم عن نف�سه من غري �أن يدري .فهو ي�سقط الوعيه عليها ،ت�أكيداً للقول :نحن ال نرى الأ�شكال كما هي ،بل نراها كما نحن� ،أي كما نرغب �أن تكون. �أما روائز مورغان وم ّري والتمثيل امل�سرحي ،فاملري�ض يتكلم عن نف�سه �أو ميثل دوراً يرغبه، فيكون بذلك قد ي�ص ّور حالته النف�سية من دون �أن يدري. لقد �أدخل فرويد الالوعي �إىل دائرة املعارف الإن�سانية ،فبعد �أن ركزت الب�شرية �سابقاً، على الفل�سفة والعقل الب�شري ،جاء فرويد لي�ؤكد �أن الالوعي هو الذي يقف وراء ال�سلوك الب�شري .وما العقل �إال �أداة لتنفيذ الدوافع الالواعية وخادم لها. ويعترب وليم جيم�س �أن الالوعي هو �أهم اكت�شاف علمي ،يف القرن التا�سع ع�شر .وقد تن ّبه فرويد لأهمية هذا االكت�شاف ،فاعترب �أن الب�شرية عرفت ثالثة اكت�شافات مهمة يف تاريخها، وهي :اكت�شافات كوبرنيكو�س ،الذي قال �إن الأر�ض لي�ست مركز العامل ،اكت�شاف داروين، الذي اعترب �أن اجلن�س الب�شري هو تطور وامتداد للجن�س احليواين ،واكت�شافه الالوعي ،الذي �أزاح العقل عن عر�شه الإن�ساين .وعلى الرغم من �إعطاء فرويد �أهمية لالوعي ،فقد ظل يرى �أن الوعي هو �أداة �أ�سا�سية يف توازن ال�شخ�صية الإن�سانية. �أما املدر�سة الوجودية مع هو�سرل وهيدجر و�سارتر ،فرتى �أن الوعي "هو دائماً مو�ضوع ما، حمدد لي�س هناك من وعي باملطلق �أو وعي يف ذاته .لكن وعي املو�ضوع لي�س مرتبط مبو�ضوع ّ 72
ف�������������ك�������������ر
ب�سيطاً بل هو يحمل يف طياته تناق�ضاً" . 16
ومي ّيز �سارتر بني �إدراك املو�ضوع ووعي ذلك املو�ضوع ،فهو يرى �أن هناك ه ّوة ال يوجد فيها �شيء .كما �أنه ي�ستنتج وجود الال�شيء �أو العدم ،بني الإدراك ووعي ذلك الإدراك. وهو ي�ؤكد على ا�ستمرارية الوعي ،فيقول" :ف�أنا ملزم �أن �أكون دائماً قبل ماهيتي ...ملزم �أن �أكون حراً" .وهو يح ّرر نف�سه من املاهية. تغدو تلك احلرية مطلقة .حريته �أن يختار ما ي�شاء� ،أو ي�صنع ماهيته .وين�ش�أ القلق ،عند الوجودي ،عندما يرى الوعي مقطوعاً عن ماهيته بوا�سطة العدم ،ومف�صو ًال عن امل�ستقبل بوا�سطة حريته نف�سها .والوجودية ،بقولها ب�أ�سبقية الوجود على املاهية ،تخالف كل الإرث ت�شدد الوجودية على الذاتية، الفل�سفي ال�سابق ،الذي يرى �أ�سبقية املاهية على الوجودّ . "ذاتية الفرد -ال�شخ�ص" .وهي حتذف كل مطلق ،وت�شكك يف مو�ضوعية املعرفة .ويرى �سارتر �أن الإن�سان لي�س هو �إال م�شروعاً" ،وهو م�شروع يعي�ش بذاته ولذاته .وهذا امل�شروع �سابق ،يف وجوده ،لكل ما عداه .وال يوجد �شيء ت�ستطيع ال�سماء �أن تت�صوره �أو تتخ ّيله .فالإن�سان هو م�شروع يف �أن يكون ،ال ما �أراد �أن يكون" . 17
18
تركز الفل�سفة الوجودية على الذاتية ،كحقيقة مطلقة .وهذه الذاتية لي�ست هي �إال وعي الإن�سان للوجود .و�إذا كانت الوجودية قد و�سمت بالإحلاد والقلق واخلوف على امل�صري وعلى امل�ستقبل ،فهي ب�سبب ابتعادها عن تلك اخللفية الفل�سفية ،التي تنطلق من وجود �إله ووجود حقائق مطلقة ،ي�ستطيع الإن�سان بوا�سطتها �أن يتع ّرف �إىل احلقيقة وي�سيطر على القلق. والوجودية ،ح�سب ر�أينا ،مل ت�صل �إىل ما و�صلت �إليه ،لوال اطالعها على جممل التف�سريات ال�سابقة ،والتي ر�أتها غري جمدية .فهي رف�ضت ما كان جاهزاً ،ومل تتمكن من �إح�ضار البديل. �أما اعتبارها للذاتية وللوعي ،فهي فكرة �صحيحة ،وقد درج كثري من املفكرين عرب التاريخ الب�شري و�أكدوا على تلك الذاتية� ،أمثال ابن �سينا وديكارت وغريهما. يتج�سد يف كل مرحلة بعبارات متن ّوعة� ،إال �أنه م�ستمر عرب الوعي ظاهرة تاريخية م�ستم ّرة ،وهو ّ التاريخ الب�شري .وقد جتلت تلك الفكرة عند �أفالطون باملاهية ،وعند �أر�سطو بال�صورة .وعند ابن �سينا برباهينه على وجود النف�س ،وعند ديكارت باعتماده الأ�سا�سي على وعيه لذاته، وعند فرويد ،عرب �أفكاره عن الوعي والالوعي ،وعند هيغل ،عرب املطلق ،وعند الوجودية 73
املعا�صرة عرب الذاتية .وجتلت فكرة الوعي �أكرث ما جتلت مع برغ�سون ،حيث اعترب �أن الوعي يحدد �صفات الوعي ،مبا يلي: م�ستمر ومتوا�صل .وهو ّ ال�صفة الأوىل ،وهي �أال يوجد يف الوعي وحدات منف�صلة ،م�ستقلة ،قائمة بذاتها. ال�صفة الثانية� ،أن كل حالة هي حالة متغيرّ ة .وال ينفك الوعي عن التغيرّ ،بحيث �أن احلالةالواحدة لي�ست هي دائماً ذاتها وال م�شابهة يف الزمان. ال�صفة الثالثة ،وهي �أن الوعي م�ستمر ومتوا�صل :فالوعي الذي ي�أتي بعد �شعور ما هومت�صل بالوعي الذي �سبق هذا ال�شعور ...هناك ا�ستمرارية� ،شعور بالتتابع واالت�صال ...ذلك هو تيار الوعي� ،أو "نهر الوعي �أو الفكرة �أو احلياة الداخلية" . 19
�أما ال�صفة الرابعة ،فهي �أن يهتم الوعي ،مبختلف العنا�صر التي ت�شكل حمتواه .فالوعييف�سر مدى تباين الإدراك بني �شخ�ص و�آخر. يختار ب�صورة عفوية .وهذا ما ّ يحدد برغ�سون احلد�س ب�أنه "ر�ؤية مبا�شرة للعقل بالعقل" .احلد�س ،هو "وعي مبا�شر ،ووعي ّ مو�سع ،وهو الوعي ب�شكل عام ،وهو التعاطف" . ّ املعرفة احلد�سية ،وكما �أق ّر بها العديد من الفال�سفة ،لي�ست هي بنظرنا �إال معرفة مبا�شرة .فهي ت�أتي نتيجة للوعي الفردي ومدى اطالعه و�سعة معلوماته. 20
ال يزال الوعي ظاهرة فكرية م�ستم ّرة .وهو يعترب عن�صراً مهماً من عنا�صر احلياة النف�سية. ويذهب البع�ض �إىل حد اعتباره �سلوكاً ينبغي درا�سته مو�ضوعياً� ،ش�أنه يف ذلك �ش�أن الالوعي الذي هو �سلوك �أي�ضاً. الوعي مالزم للحياة النف�سية .وهو يتداخل مع الالوعي ب�شكل م�ستمر .ويظهر فج�أة على �أثر �صعوبة طارئة ناجمة عن انقطاع مفاجئ يف التك ّيف� ،أو عن م�ؤثر خارجي قوي� ،أو عن فكرة ما. من �أهم خ�صائ�ص الوعي :هو �أنه حد�س �أو معرفة مبا�شرة ،بالعامل اخلارجي والداخلي .وهو قدرة على االختيار ،وقدرة على التك ّيف يف الو�سط املوجود ،وهو وظيفة ع�ضوية ،كما يعتربه ريبو ،لت�أمني كل ما نحتاجه .والوعي كذلك ،هو القدرة على �إيجاد توليفة عقلية قائمة على 74
ف�������������ك�������������ر
ان�شداد عقلي وع�ضوي ،يبلغ �أوجه يف حالة االنتباه ،وله م�ستويات متد ّرجة ،ومتن ّوعة؛ ففي حاالت عديدة ال يعي الإن�سان ت�صرفاته. وما نو ّد �إ�ضافته هنا ،هو �أن الوعي ي�شتمل على تف�سريين: التف�سري الأول ،وهو ذلك الوعي الذاتي وامل�ستمر ،وي�شرتك فيه كل اجلن�س الب�شري. التف�سري الثاين �أو الدرجة الثانية ،وهو ذلك الوعي الذي ميثل �أعلى درجة و�أكرث اطالعاً،و�أو�سع معرفة ،و�أقرب للحقيقة .وهذا ما يظهر بال�سلوك واملواقف والآراء الفردية .ومث ًال على ذلك ،وجود جماعة ب�شرية ،ت�ضم العامل واملهني والعامل والفيل�سوف .وهنا تظهر الدرجة الثانية من الوعي ،وهي الدرجة الأعلى ،عند الفيل�سوف ،ثم عند العامل ،ثم عند املهني ،و�أخرياً العامل �أو الإن�سان العادي .وعندما ن�صف الفيل�سوف ب�أنه واع .هذا ال يعني �أن املواطن العادي غري واع ،بل يعني �أن الفيل�سوف �أكرث وعياً و�أكرث قدرة على التحليل والإدراك من غريه. - 5خامتة
انطالقاً من هذه الفكرة ،ميكننا �أن نعترب �أن الوعي ظاهرة م�ستمرة لدى خمتلف اجلماعات الب�شرية؛ فهناك الوعي الفردي ،وهناك الوعي اجلماعي �أو درجة وعي املجتمع ،بالن�سبة �إىل متعددة من الوعي؛ فالفرد جمتمع �آخر .وهناك كذلك ،داخل كل جمتمع ب�شري درجات ّ املتعلم وامل�ستوعب هو �أكرث تك ّيفاً مع واقعه وحميطه� ،أي �إنه الأعلم والأو�سع معرفة واطالعاً، والأكرث تن ّبهاً ،وبالتايل فهو الأكرث وعياً من غريه .والوعي بهذا املعنى هو ن�سبي. كذلك بالن�سبة للمجتمع ،فاملجتمع الأكرث علماً والأو�سع اطالعاً ،هو الأكرث تك ّيفاً مع التطورات ،ومع الو�سط االجتماعي وال�سيا�سي والعاملي .وهو الأكرث وعياً .واملجتمعات احلديثة واملعا�صرة مث ًال ،هي �أكرث وعياً من املجتمعات القدمية� .أما درجة وعي املجتمع، فيمكن �أن تقا�س مبعدل و�سطي لدرجات الوعي املتن ّوعة عند الأفراد واجلماعات. �إن ما نهتم به الآن هو ظاهرة الوعي الب�شري امل�ستم ّرة ،عرب التاريخ الب�شري .وما قمنا به ،يف تعمق هذا البحث ،ميكن �أن يلفت االنتباه لهذه الظاهرة الإن�سانية والفكرية ،وما تتطلبه من ّ ودرا�سات .فالوعي يرتبط باملعرفة واملعتقد والرتبية ودرجة الذكاء ،والقدرة على التحليل 75
والنقد� .إ ّنه ظاهرة مركبة معقدة .فهو يرتبط بالإرادة واحلرية والقدرة على التخ ّيل واالبتكار. ترتبط درجة الوعي الفردي مب�ستوى الوعي اجلماعي؛ فهي ترتبط بالرتبية املنزلية واملدر�سية والعائلية واالجتماعية ،وما نعتربه عند الطفل ذكاء حاداً ،قد يكون له ذلك يف طفولته ،لكنه يفقده من جراء الرتبية التي تفر�ض عليه .وكثرياً ما يتع ّر�ض ملعاملة قا�سية تقتل عنده �شعلة الذكاء الطبيعية يف نف�سه .كما �أن املجتمع ي�ساهم يف تبلور الوعي وتفتحه عند الفرد ،من خالل الرتبية الإيجابية واملفيدة ،وكذلك من خالل تو�سيع معارفه وخرباته املتنوعة .وما �إن يندمج الإن�سان باملجتمع ويتق ّبل �أفكاره و�أ�ساليبه االجتماعية ال�سائدة ،حتى ين�سى �أحالمه وتتبعرث قدراته�" .إننا نحرم �أوالدنا من مواهبهم ،ونحد من مقدرتهم ،لأننا ن�سعى بغية جعلهم على �صورتنا ومثالنا ،كما فعل �آبا�ؤنا فجعلونا على �صورتهم ومثالهم .والتحالف الذي يجابهه كل طفل هو حتالف العائلة واملجتمع �ضده وهو يكاد �أن يكون حتالفاً ال يقهر" . 21
يرى ه�شام �شرابي �أن النظام االجتماعي واالقت�صادي يفر�ض و�ضعاً نف�سياً وذهنياً مع ّيناً يف الأفراد ،ك�شرط �أ�سا�سي ال�ستمراره .كما �أنه يرى �أن املعرفة الذاتية هي ال�شرط الأ�سا�سي للتغيري الذاتي ،يف الفرد كما يف املجتمع" .والوعي ال�صحيح هو الوعي النقدي القادر على ك�شف الوقائع وتعريته و�إظهار قاعدته احل�ضارية .وال ميكن تغيري الواقع �إال بك�شف النقاب عن حقيقته" . 22
الوعي االجتماعي يتطلب ك�شف �أ�ساليب التمويه ال�سائدة يف املجتمع الب�شري .وهي م�ستمدة من علم النف�س ،وتعني "حجب حقيقة �شيء ما� ،أو واقع ما ،مبختلف الطرق والو�سائل" .تبد�أ تلك العملية يف البيت وت�ستمر يف املدر�سة واملجتمع .وبوا�سطتها تتمكن الثقافة االجتماعية �أن تفر�ض هيمنتها وقيمها و�أهدافها .بوا�سطة تلك الرتبية التقليدية ،ي�صبح الفرد مك ّب ًال بالقيود واملفاهيم املا�ضية ،وي�صبح �سجني الآراء التي ت�أتيه من اخلارج ،فيبتعد عن حقيقته وي�صبح م�سيرّ اً من قبل القوى املهيمنة يف املجتمع. يتفتح الوعي الفردي �أكرث ف�أكرث ،مع تزايد املعرفة بالظاهرة االجتماعية ،والقدرة على الإحاطة بواقع املجتمع وق�ضاياه ،وذلك بف�ضل التقدم التقني الذي حتقق �إ ّبان الثورة ال�صناعية ،وبف�ضل تطور العلوم وتراكم املعارف وتزايد الأبحاث ال�سو�سيولوجية والإنرتوبولوجية ،وبف�ضل تطور و�سائل النقل واالت�صاالت" ،لقد �أ ّدت العوامل تلك �إىل قيام جمتمع �أكرث وعياً بذاته ،و�أكرث 23
76
ف�������������ك�������������ر
وعياً بغايات اجلماعة وو�سائله" .ويرى �شرابي �أن "ما يقود العلم وي�سيرّ ه يف املجتمع هو دافع ينبثق من ذلك املجتمع ،فيعطيه منطقه اخلا�ص ،وطبيعته اخلا�صة" .وهناك كثري من القيم والأهداف املج ّردة التي تبدو منطقية ،قد تكون غري مفيدة للمجتمع. الوعي االجتماعي ين�ش�أ على �أ�سا�س حياة املجتمع املادية واملعنوية ،من تن ّوع العالقات وتن ّوع الن�شاط وتن ّوع املفاهيم والعادات والأ�ساليب .الوعي هو جانب �ضروري من احلياة االجتماعية .ولكي يكون وعياً �إيجابياً ومفيداً يجب اعتماد الأ�ساليب العلمية واملنطقية يف التعلم ،بالإ�ضافة �إىل درا�سة املجتمع على �ضوء النظريات احلديثة واملتطورة ،التي تدر�س املجتمع خالل مراحل تطوره وتغيرّ ه ،حيث ميكن معرفة �أ�سباب ذلك التغري والتطور .وهذه احلياة يف جميع ظواهرها ،هي نتيجة لن�شاط النا�س�" .أما طابع الوعي االجتماعي وم�ستواه فيحددها يف �آخر املطاف الوجود االجتماعي" . واجتاهات تطورهّ ، 24
25
26
تتعدد مظاهر الوعي االجتماعي ،فهناك الوعي ال�سيا�سي والوعي الثقايف ،والوعي اجلمايل، ّ والوعي القانوين ،والوعي االقت�صادي� ،إىل غري ذلك .ويرى حممود عبد الف�ضيل �أن الوعي يف املجال االقت�صادي �شرط �ضروري لتطور الإنتاج "�إن الوعي االنتقادي -التحليلي هو �شرط �ضروري ولكنه �شرط غري كاف للخلق والإبداع الذاتي .فالفكر االقت�صادي العربي، من خالل حماوالته للخلق والإبداع الذاتي يف جماالت تهم العديد من بلدان العامل الثالث ،ميكن له �أن يكون رافداً من الروافد التي تغني الفكر العاملي حول ق�ضايا التحرر والتنمية والتوحيد االقت�صادي" . 27
الوعي الإن�ساين ،ب�شكليه الفردي واجلماعي ،يحتاج �إليه الإن�سان يف حياته العملية .وهو ال ميكن اال�ستغناء عنه� ،إذ �إن الإن�سان يتم ّيز عن باقي الكائنات بعقله ووعيه .وهو ال�سالح الوحيد الذي ميلكه الإن�سان ليتمكن به من التغلب وال�سيطرة على باقي املخلوقات الأخرى. كما �أن املجتمعات الب�شرية مدع ّوة لأن تكون �أكرث وعياً و�إدراكاً ،حتى تتمكن من ال�سيطرة ما�سة على ال�صعوبات التي تواجهها يف م�سريتها� .أما عن الوعي ال�سيا�سي مث ًال ،فهناك حاجة ّ لتحليل ما يجري يف العامل من خمططات م�شبوهة ومن ثقافات ،هدفها تزوير الواقع العاملي، بهدف ت�ضليل الغالبية العظمى من جمتمعات العامل الثالث ،لتمرير امل�شاريع الغربية التي تدعو للتفرقة على �أ�سا�س املعتقدات الدينية ،حيث التكلم عن التطرف الديني و�صراع الثقافات .تلك الفكرة التي ر ّوج لها املفكر وال�سيا�سي الأمريكي "�صامويل هانتنغتون" يف 77
مقال بعنوان� :صدام احل�ضارات .وهو ي�ستخدم معنى واحداً للثقافة واحل�ضارة .كما �أنه يعترب �أن الدين هو املحور الأ�سا�سي يف الثقافة .يعترب هانتنغتون �أن �سبب النزاعات العاملية مل يعد �سبباً اقت�صادياً �أو �إيديولوجياً ،و�إنمّ ا "�سيكون م�صدراً ثقافياً ،و�ستظل الدول والأمم هي �أقوى الالعبني يف ال�ش�ؤون الدولية ،لكن النزاعات الأ�سا�سية يف ال�سيا�سات العاملية� ،ستحدث بني جتمع ثقايف للنا�س �أمم وجمموعات لها ح�ضارات خمتلفة" .وهو يعترب �أن احل�ضارة هي �أعلى ّ و�أو�سع م�ستوى للهوية الثقافية لل�شعب .كما �أنه رغم �إقراره بتداخل احل�ضارات ومتازجها� ،إال �أنه يعتربها خطوط ف�صل جذرية بني الهويات املتمايزة. 28
ي�شدد على تزايد النزعة ي�ؤكد هانتنغتون على ا�ستحالة الق�ضاء على الفوارق الثقافية ،كما �أنه ّ الإقليمية وحتولها �إىل منط ثقايف .وهو يركز على احتماالت ال�صدام بني الإ�سالم والغرب. كما �أن امل�ست�شرق الأمريكي برنارد لوي�س يتن ّب�أ بحتمية ال�صراع بني الإ�سالم والغرب ،معترباً �أنهما نقي�ضان ال جمال للحوار بينهما .وكذلك الأمريكي امل�شهور بول كندي يرى �أن العامل الإ�سالمي عاجز عن اال�ستعداد للقرن احلادي والع�شرين لأ�سباب عقدية وجمتمعية ح�سب ر�أيه" ،و�إذا احتاج املرء �إىل مثال على �أهمية املواقف الثقافية ل�شرح ا�ستجابة جمتمع ما للتغيري ،فعليه بالإ�سالم املعا�صر" . 29
�إن ما ميكن �أن نقوله يف هذا ال�صدد هو �أن ه�ؤالء املفكرين ير ّوجون للإ�سالم ال�سيا�سي ،وقد و�ضعوا له �أ�س�سه وبرامج عمله ،فهم ي�ستفيدون من وجوده يف جماالت عديدة .هذا الإ�سالم ي�شعل ثورة يف جممل الأرجاء من العامل الإ�سالمي ،وقد ت�ستخدمها الدول الكربى مل�صاحلها .كما �أن ذلك مل يعد ي�سمح بجمع العرب واليهود يف دولة فل�سطينية واحدة .هذا من جهة� ،أما من جهة �أخرى فريتبط العامل الإ�سالمي باملا�ضي ،حيث يعود �إىل نقطة ال�صفر، �إن كان من ناحية الت�شريع �أو من �أي ناحية �أخرى� .إن الرتويج لهذه الأفكار من �ش�أنه �أن ي�ص ّور امل�سلمني ك�إرهابيني ،يقت�ضي حماربتهم من خمتلف ال�شعوب الأخرى .ويرى حممد عابد اجلابري �أن العقل الأوروبي ال يعرف الإثبات �إال من خالل النفي ،والغرب بعد انهيار خ�صمه ال�شيوعي "يحتاج للإ�سالم يف حتديد هويته ذاتها .ويتعلق الأمر ب�إ�سالم ي�صنعه وفق حاجياته وهواج�سه. �إن العقل الأوروبي مل يعد يرى امل�ستقبل من وجهة م�ستقبلية ،بل من خالل �آلية �صنع ال�سيناريوهات وا�ستعرا�ض الإمكانات املحتملة ،ومن ثم ف�إن احلاجة العميقة �إىل العدو 78
ف�������������ك�������������ر
ا�ستدعت املراهنة على اخليار الأقرب ،ال�صراع مع الإ�سالم" . �إن امللفت لالنتباه هو �أن هانتنغتون ّ املنظر الأ�سا�سي ل�صدام احل�ضارات ،هو �سيا�سي �أمريكي وقد كان مقرباً من مركز القرار الأمريكي ،حيث عمل �سابقاً يف �إدارة الرئي�س ال�سابق جيمي كارتر ،كما �أنه �شغل رئا�سة اجلمعية الأمريكية للعلوم ال�سيا�سية ،وي�شرتك يف حترير جملة ال�سيا�سة اخلارجية. 30
يرى وجيه كوثراين يف تعليقه على �أطروحة هانتنغتون من �صدام احل�ضارات� ،أنه "ال يخرج عن نطاق ال�سعي لإدارة الأزمات يف كوكب الفقراء الذي تنفجر فيه الدميوغرافيا والثقافات التي ميتزج فيها الديني وال�سيا�سي" . 31
هكذا فالوعي �أو التفكري ال�صحيح القائم على التحليل والنقد ال ميكن اال�ستغناء عنه يف �أ ّية مرحلة .واملجتمع الب�شري بحاجة لهذا الوعي ،يف كل جمال من جماالت احلياة .والإن�سان يحتاج لهذا الوعي ،يف كل خطوة يقدم عليها .كما �أن هذا الوعي هو العامل الأ�سا�سي، الذي ينقذ الإن�سان واملجتمع من ثغراته ،وميكنه من مواجهة التحديات امل�صريية ،كتحدي العوملة الأحادية اجلانب ،التي تفر�ض فر�ضاً على ال�شعوب النامية. �أما اعتبار البع�ض ب�أن الوعي هو غريزة ،فهو ما ال ميكن الإقرار به لأن الغريزة تبقى كما هي ،بينما الوعي يختلف من فرد لآخر ومن جمتمع لآخر .وهو ي�أتي نتيجة للتفكري ،عك�س الغريزة املتناق�ضة مع الفكر. يرتبط الوعي بنوعية الدوافع وطبيعتها ،وباحلاجات الفردية واالجتماعية وبالتجارب املا�ضية، والقيم العليا ،والتمثالت االجتماعية ،والأنا العليا ،والقيم الثقافية واالجتماعية .الوعي الذاتي يف جانب منه فطري ،فالإن�سان ميلك ا�ستعدادات فطرية متكنه من القدرة على التفكري .هذه القدرة على التفكري والتحليل يتم ّيز بها الإن�سان عن باقي الكائنات الأخرى. وهي تلعب دوراً مهماً على �صعيد القدرة على االكت�ساب والتعلم من التجارب ومن الأخذ عن الآخرين .يتف ّوق الإن�سان �إذاً ،عن باقي املخلوقات الأخرى بهذين العاملني. �أما عن درجة تلك اال�ستعدادات الفطرية ،فهي تتباين عند الأفراد ،وغالباً ما نعني بها ن�سبة الذكاء ،وقد ابتكر العامل احلديث روائز متعددة لقيا�س ن�سبة الذكاء .وتباينت �آراء املفكرين يف ذلك ،فمنهم من يغلب ن�سبة الذكاء على ما عداها من معارف مكت�سبة ،ومنهم من يغلب 79
ن�سبة االكت�ساب على ما عداها� .أما ما ميكن قوله يف هذا املجال ،هو �أن العقل الب�شري �أو القدرة على التفكري ترتبط باجلانبني الفطري واملكت�سب .وبقدر ما يكت�سب الفرد ،وح�سب نوعية االكت�ساب ،تتغيرّ القدرة على التفكري ال�صحيح ،من فرد لآخر ،ومن جمتمع لآخر. ال ميكن اال�ستغناء عن اجلانب املكت�سب ،فمهما كانت قوة الإدراكات الفطرية قوية� ،إال �أن اجلانب املكت�سب هو الذي يخرج املعلومات �إىل النور .اال�ستعدادات هي فقط �ضمن منظور القدرة دون �أن تظهر �إىل الفعل .والطفل عندما يتعلم التكلم يبد�أ به�ضم تلك املعلومات التي يكت�سبها من اخلارج .والإن�سان يولد ،وح�سب ر�أي �أر�سطو ،وعقله �صفحة بي�ضاء ،ال يتملك املعلومات �إال من التجربة واالكت�ساب .ولو و�ضعنا طف ًال منذ والدته يف غابة ،لكان يتعلم لغة احليوانات فقط ،وملا كان يكت�سب معارف ب�شرية. �أما عن التمييز بني الوعي والالوعي ،فاملق�صود فيه ،وجود درجة من املعرفة �أدنى من الوعي. �إذ �إن ظاهرة الالوعي حتتوي على وعي مكبوت .والذكريات "ت�شكل ق�سماً من منطقة الالوعي :ففي التنومي ،يف الأحالم الليلية ،يف ال�صدمة االنفعالية ...تربز ذكريات من�س ّية �إىل الوعي" . 32
هناك كذلك ظاهرة "القبوعي" �أو قبل الوعي ،وهي ت�شمل الذكريات الإرادية ،التي تعترب يف عامل الوعي .و�إذا اعتربنا ظاهرة الوعي م�ستم ّرة منذ الوالدة ،ترافق الفرد ،ب�شكل م�ستمر، يف خمتلف مراحل حياته� ،أمكننا التمييز بني الوعي الطفويل والوعي لدى الإن�سان البالغ. والالوعي من هذه الزاوية ،الذي يعترب عند ال�شخ�ص البالغ ،لي�س �إال وعياً طفولياً مكبوتاً. وال�صدمة ،التي يتع ّر�ض لها الطفل ،ت�س ّبب له عقدة نف�سية ،فيما بعد� ،أي �إنها ت�صدم الفكر فقط .والغريزة ،من حيث هي غريزة ،تقبل القمع ،وال تت�أثر به� .أما الوعي فهو الذي يت�أثر بال�صدمة .وما نراه من تركيز الرتبية احلديثة على امليول النف�سية ،لي�س بهدف �إطالق حرية الغريزة وال�شهوات ،بل بهدف عدم قمع ح ّرية الطفل ،عدم قمع �إرادته وفكره ووعيه ،عدم قمع ذلك املركب الداخلي عنده .لكن ما يت�أثر بال�صدمة والقمع ،هو ذلك اجلزء الواعي من الفرد. �إن ما ميكن �أن نلفت االنتباه له هو تلك الظاهرة املعقدة واملهمة عند الإن�سان� ،إذ �إ ّنه وحده يتم ّيز بها عن �سائر الكائنات .وال ميكن لبحث واحد �أن يفي ب�إعطائها ما ت�ستحقه من درا�سة 80
ف�������������ك�������������ر
وتعمق� .إن ما حتتاجه ظاهرة الوعي ،هو تبيان مدى ترابطها باخليال والأحالم والإرادة والذكاء ّ والتك ّيف والعادة والرتبية والدوافع والغرائز ،وال�شك والنقد والتحليل. وما نو ّد لفت االنتباه �إليه هنا ،هو ذلك اخللط بني الوعي والالوعي ،وعدم تعيني حد فا�صل بينهما� .إ ّننا نرى �أنه من الأف�ضل ،اعتبار الالوعي ،هو يف حالة الأحالم والنوم وعدم القدرة على التفكري� .أما حالة الوعي ،فهي ت�شمل كل حاالت اليقظة. �إن زلة الل�سان والأفعال الناق�صة ،والكلمات التائهة ،ميكن �أن ن�ستدل بها على وجود الوعي وراء الوعي� ،إنمّ ا ملن اخلط�أ اعتبار الإن�سان الذي ّزل ل�سانه �أ ّنه يف حالة الوعي .كما �أن الطفل الذي ال يعرف �أ�سلوب التفكري ال�صحيح ال يجب اعتباره يف حالة الوعي ،بل �إنه يف حالة وعي� ،إنمّ ا وعيه بقدر معرفته وبقدر ات�ساع فكره� .إذاً الوعي ن�سبي ،وهو يخ�ضع لعوامل عديدة، منها التيقظ التام ،وعدم التيقظ ،ودرجة وعيه ومعرفته وقدرته على التحليل .والإن�سان الأكرث وعياً هو الأكرث تنبهاً وتيقظاً. ولو افرت�ضنا جمموعة �أطفال يلعبون ،ميكننا �أن من ّيز البع�ض منهم ب�أ ّنهم على درجة من الوعي، لكن عن �أي وعي نتكلم� ،إننا نعني وعي الأطفال� ،إذ �إن �أعلى درجة يف وعي الطفل تختلف عن �أدنى درجة يف وعي الرا�شد .وكذلك وعي الرا�شد يختلف ح�سب درجة علمه وثقافته وذكائه وبيئته .فالوعي ،بهذا املعنى ،ي�شمل كل احلاالت التي يكون الإن�سان فيها يقظاً. هكذا تلعب �إ�شكالية الوعي والالوعي دوراً مهماً يف حياة الإن�سان ،وهي تبقى قائمة� .أولي�س هناك �صراع م�ستمر بني الوعي والالوعي؟ .ثم �ألي�س ف�صل الوعي كلياً عن الأمور الفطرية، كما يعترب معظم الفال�سفة ،يبقى �إ�شكالية م�ستم ّرة يف تاريخ الفل�سفة؟ .وهل الوعي هو جم ّرد املعرفة التي يكت�سبها الفرد؟ .و�إذا كان بالإمكان ف�صل الوعي عن املعرفة ،على �أ�سا�س �أنهما جوهران متفاعالن و�إنمّ ا م�ستقالن ،فما هو جوهر الوعي �إذاً؟� .أمل نالحظ خالل جتاربنا �أن هناك بع�ض الأفراد ،مهما تعلموا وترقوا يف درجات العلم ،يبقون �أقل وعياً من غريهمّ ،ممن هم �أدنى رتبة منهم يف العلم واملعرفة؟ .وهل يعود ذلك ال�سبب فقط لعامل الذكاء الفطري؟. �أولي�س �أن الوعي هو جم ّرد املنتوج الذكائي للفرد؟� .إذاً الوعي هو مفهوم �أو قيمة نطلقها على ما ي�صدر عن الفرد من �آراء ومعارف و�سلوك .وهذه القيمة �أو هذا احلكم ي�شرتك يف حتديده، ويف تعيني درجته ،كل من �أطلقه ومن ا ّت�صف به. 81
�إذاً من ال�ضروري �إعادة النظر بكل هذه املفاهيم ،لأنها لي�ست �إال جم ّرد �أحكام ،تطلق على ما يظهر من نتائج الأمور ،والإن�سان ما هو �إال �أكرث ابتعاداً عن لباب الأمور. �ألي�ست العودة �إىل فل�سفة �أر�سطو ،وقوله باال�ستعدادات الفطرية ،تدلنا على الطريق الأ�صوب؟ .و�إذا كان الوعي هو نتاج الذكاء والثقافة ،فلمن تبقى الأولوية؟. �إن الإ�شكالية الأهم اليوم ،هي تلك القائمة ما بني العلم والفل�سفة .وال نو ّد هنا �أن ن�ستعر�ض تطور الفل�سفة عرب الع�صور التاريخية ،بل نريد �أن ن�سلط ال�ضوء فقط على الإ�شكالية بني االثنني .هل �أ�صبح مبقدور العلم �أن ي�ستغني عن الفل�سفة؟ .هل هناك نقاط م�شرتكة بني الفل�سفة العلمية واملعرفة العلمية؟. نخت�صر الإجابة على هذه الإ�شكالية مبا ورد عن كانط� ،إذ يرى �أنه لي�س هناك فل�سفة لنتعلمها، �إمنا ن�ستطيع �أن نتعلم كيف نتفل�سف .الفل�سفة لي�ست مادة معرفة ك�سائر العلوم� .إنها �ضرب من النظر العقلي ،يهدف �إىل معرفة حقيقة الأ�شياء .ويرى الفيل�سوف الأمريكي املعا�صر روي�س� ،أن املرء يتفل�سف حينما يفكر تفكرياً نقدياً ،يف كل ما هو ب�صدد عمله يف هذا العامل. الفل�سفة �إذاً لي�ست ريا�ضة ذهنية فقط ،بل هي بحث دائم عن احلقيقة .ويرى الفيل�سوف الإنكليزي هربرت �سبن�سر �أن العلم �إذا كان معرفة موحدة جزئياً ،ف�إن الفل�سفة هي املعرفة املوحدة كلياً. ّ الفل�سفة مبعناها العام هي حياة ونقد وحتليل وتعلم وبحث عن احلقيقة ومعرفة �صحيحة .ورغم تباين �آراء الفال�سفة حول طبيعة الفل�سفة� ،إال �أنها تعرف اليوم مبعناها الديناميكي املعا�صر. هي الفكر والوعي بذاته .يرى ر�سل �أن العلم هو ما نعلم� ،أما الفل�سفة فهي ما ال نعلم .ويرى وايتهد �أن العلم والفل�سفة ،من ناحية معينة ،مظهران خمتلفان لهدف واحد ي�ضعه العقل الب�شري ن�صب عينيه ،من �أجل رفع م�ستوى الب�شرية فوق امل�ستوى العام للحياة احليوانية. العلم والفل�سفة ي�ساعد �أحدهما الآخر .الفل�سفة توفق بني الأفكار املدركة ،وتبحث يف التعميمات ،وقد ت�ستند على احلدو�س ،وقد تتجاوز العلوم ،كما �أنها كلية ،ومنهجها عقلي. فهي تتجاوز الكيفيات لتتحرى عن الأ�سباب والنتائج ،كما �أنها حتدثنا عن علل العامل ومعناه وقيمته ،وال تهدف �إىل �إقامة قوانني عامة ثابتة ،كما هي عليه العلوم .العلوم تقت�صر على درا�سة اجلزئيات وتقوم على درا�سة الواقع امللمو�س .وهي مو�ضوعية وعامة وجمردة. 82
ف�������������ك�������������ر
ومهما تعددت وتنوعت الأبحاث املتعلقة باملعرفة العلمية والفل�سفة ،فلي�س ثمة حدود نهائية بني االثنتني .وكان الع�صر الذهبي للعلم والفل�سفة هو ع�صر الفال�سفة العلماء� ،أمثال: غاليليه ،ديكارت ،ب�سكال ،واليبنتز ،وغريهم .وقد وجد لدى الفال�سفة رغبة يف �أن تغدو الفل�سفة معرفة للمعرفة العلمية ،ووعياً لذاتها. تكمن �إ�شكالية العلم اليوم ،ب�أنه ال ي�ستوعب الذات املفكرة ،بل يجهلها .يرى هو�سرل �أن �أزمة العلوم احلديثة تعبرّ بعمق عن �أزمة �إخفاء الذات� ،أو ال مباالة العلميني بذاتيتهم اخلا�صة. ال ميكن �أن ي�ستغني اليوم طرف عن الآخر" .ف�إذا كانت الفعالية الفل�سفية تولد احلالة الفكرية امل�ساعدة على تقدير العلم ،ف�إن الفعالية العلمية ت�سمح بتغذية الفل�سفة باملعرفة� .إذاً ،ميكن للعلم والفل�سفة �أن يظهرا عرب احلوار كوجهني خمتلفني ومتكاملني كذلك� :إنه الفكر" . 33
83
الهوام�ش
- 1ديكارت ،ريني ،مقالة الطريقة ،ترجمة وتقدمي جميل �صليبا ،اللجنة اللبنانية لرتجمة الروائع ،ط ،2بريوت � ،1970ص .24 - 2الفندي ،حممد ثابت ،مع الفيل�سوف ،دار النه�ضة العربية ،ط،1بريوت � ،1974ص .74 - 3ري�شنباخ ،هانز ،ن�ش�أة الفل�سفة العلمية ،ترجمة ف�ؤاد زكريا ،امل�ؤ�س�سة العربية للدرا�سات والن�شر ،ط� ،1979 ،2ص.268 - 4كوفال�سون ،املادية التاريخية ،ترجمة اليا�س �شاهني ،دار التقدم ،مو�سكو� ،ص .36 - 5مارك�س و�أجنلز ،الأعمال املختارة ،دار التقدم ،مو�سكو ،املجلد � ،2ص .504 - 6ري�شنباخ ،هانز ،ن�ش�أة الفل�سفة العلمية ،مرجع مذكور �سابقاً� ،ص.24 - 7زيعور ،علي ،احلكمة العملية �أو الأخالق وال�سيا�سة التعاملية ،دار الطليعة ،ط ،1بريوت � ،1988ص .331 8امل�صدر نف�سه� ،ص .257 - 9ديكارت ،رينه ،مقالة الطريقة ،مرجع مذكور �سابقاً� ،ص .36 - 10امل�صدر نف�سه� ،ص .37 - 11امل�صدر نف�سه� ،ص .63 - 12كرم ،يو�سف ،تاريخ الفل�سفة احلديثة ،دار املعارف ،ط � ،1979 ،6ص .286 - 13لينني ،املختارات ،املجلد ،5ترجمة اليا�س �شاهني ،دار التقدم ،مو�سكو � ،1976ص .233 - 14امل�صدر نف�سه� ،ص .239 - 15كرم ،يو�سف ،تاريخ الفل�سفة احلديثة ،مرجع مذكور �سابقاً� ،ص .460 - 16جود� ،س.ي .مدخل �إىل الفل�سفة املعا�صرة ،ع ّربه د.حممد �ش ّيا ،م�ؤ�س�سة نوفل ،ط،1 بريوت� ،1981 ،ص .144 - 17امل�صدر نف�سه� ،ص .145 - 18امل�صدر نف�سه� ،ص .154 - 19زيعور ،علي ،مذاهب علم النف�س املعا�صر ،دار الأندل�س للطباعة والن�شر ،ط،1 84
ف�������������ك�������������ر
بريوت� ،1971 ،ص .121 - 20امل�صدر نف�سه� ،ص .129 - 21رايت ،ف .ج ،.مبادئ علم االجتماع ،ترجمة حممد �شيا ،دار احلداثة ،ط ،1بريوت � ،1996ص .28 � - 22شرابي ،ه�شام ،مقدمات لدرا�سة املجتمع العربي ،دار الطليعة ،ط ،4بريوت ،1991 �ص.63 - 23نف�س امل�صدر� ،ص .66 - 24نف�س امل�صدر� ،ص .67 - 25نف�س امل�صدر� ،ص .70 - 26كوفال�سون ،املادية التاريخية ،مرجع مذكور �سابقاً� ،ص .36 - 27عبد الف�ضيل ،حممود ،الفكر االقت�صادي العربي وق�ضايا التحرر والتنمية والوحدة، مركز درا�سات الوحدة العربية ،ط ،2بريوت � ،1985ص.183 - 28هانتنغتون� ،صدام احل�ضارات ،مركز الدرا�سات اال�سرتاتيجية والبحوث والتوثيق، بريوت � ،1995ص .14 - 29كندي ،بول ،اال�ستعداد للقرن الواحد والع�شرين ،ترجمة حممد عبد القادر وغازي م�سعود ،دار ال�شروق ،عمان � ،1993ص .266 - 30عابد اجلابري ،حممد ،م�س�ألة الهوية :العروبة والإ�سالم والغرب ،مركز درا�سات الوحدة العربية ،بريوت � ،1995ص .182 - 31ولد �أباه ،ال�سيد ،اجتاهات العوملة ،املركز الثقايف العربي ،ط ،1الدار البي�ضاء ،2001 �ص.95 - 32زيعور ،علي ،مذاهب علم النف�س املعا�صر ،مرجع مزكور �سابقاً� ،ص .227 - 33موران� ،إدغار ،الفكر العربي املعا�صر ،عدد ،104 105-مقال :هل العلم بدون وعي مدان؟ جملة فكرية ت�صدر عن معهد الإمناء القومي ،بريوت .1998
85
املراجع
- 1جود� ،س .ي .مدخل �إىل الفل�سفة املعا�صرة ،تعريب د .حممد �شيا ،م�ؤ�س�سة نوفل ،ط،1 بريوت .1981 - 2ديكارت ،رينه ،مقالة الطريقة ،ترجمة وتقدمي جميل �صليبا ،اللجنة اللبنانية لرتجمة الروائع ،ط ،2بريوت .1970 - 3رايت ،ف .ج ،.مبادئ علم االجتماع ،ترجمة حممد �شيا ،دار احلداثة ،ط ،1بريوت .1996 - 4ري�شنباخ ،هانز ،ن�ش�أة الفل�سفة العلمية ،ترجمة ف�ؤاد زكريا ،امل�ؤ�س�سة العربية للدرا�سات والن�شر ،ط.1979 ،2 - 5زيعور ،علي ،احلكمة العملية �أو الأخالق وال�سيا�سة التعاملية ،دار الطليعة ،ط ،1بريوت .1988 مذاهب علم النف�س املعا�صر ،دار الأندل�س للطباعة والن�شر ،ط ،1بريوت .1971� - 6شرابي ،ه�شام ،مقدمات لدرا�سة املجتمع العربي ،دار الطليعة ،ط ،4بريوت .1991 - 7عابد اجلابري ،حممد ،م�س�ألة الهوية :العروبة والإ�سالم والغرب ،مركز درا�سات الوحدة العربية ،بريوت .1995 - 8عبد الف�ضيل ،حممود ،الفكر االقت�صادي العربي وق�ضايا التحرر والتنمية والوحدة ،مركز درا�سات الوحدة العربية ،ط ،2بريوت .1985 - 9الفندي ،حممد ثابت ،مع الفيل�سوف ،دار النه�ضة العربية ،ط ،1بريوت .1974 - 10كرم ،يو�سف ،تاريخ الفل�سفة احلديثة ،دار املعارف ،ط.1979 ،6 - 11كندي ،بول ،اال�ستعداد للقرن الواحد والع�شرين ،ترجمة حممد عبد القادر وغازي م�سعود ،دار ال�شروق ،عمان .1993 - 12كوفال�سون ،املادية التاريخية ،ترجمة اليا�س �شاهني ،دار التقدم ،مو�سكو. - 13لينني ،املختارات ،املجلد ،5ترجمة اليا�س �شاهني ،دار التقدم ،مو�سكو .1976 - 14مارك�س و�أجنلز ،الأعمال املختارة ،دار التقدم ،مو�سكو ،املجلد .2 - 15هانتنغتون� ،صدام احل�ضارات ،مركز الدرا�سات اال�سرتاتيجية والبحوث والتوثيق ،بريوت .1995 - 16ولد �أباه ،ال�سيد ،اجتاهات العوملة ،املركز الثقايف العربي ،ط ،1الدار البي�ضاء .2001 - 17جملة الفكر العربي املعا�صر ،عدد ،104-105معهد الإمناء القومي ،بريوت .1998 86
ف�����������������ك�����������������ر
�سوراقيا ...احلقيقةُ واخلال�ص د .مها خريبك نا�صر -اجلامعة اللبنان ّية -املعهد العايل للدكتوراه
قال �سعادة� ":إنّ فيكم ق ّو ًة لو فعلت ،لغيرّ ت وجه التاريخ" فمن هم "الأنتم" الذين خاطبهم �سعادة؟ وملاذا ا�ستخدم "�إنّ " التوكيد ّية و"لو" ال�شرطية التي تفيد امتناع حدوث اجلواب المتناع حدوث الفعل؟ ما �أ�سباب امتناع حدوث الفعل امل�ؤدي �إىل حدوث التغيري؟ فهل يعجز ه�ؤالء "الأنتم" عن تغيري وجه التاريخ �أم �أ ّنهم ال ميتلكون �إرادة التغيري؟ وهل غياب الإرادة �سببه عوامل ذات ّية �أم عوامل خارج ّية؟ ت� ّؤكد حقيقة احلياة �أنّ �إرادة ال�شعوب ت�صنع قدرها ،وعندما ّ تعتل الإرادة ينت�صر اال�ست�سالم، ويفر�ض التبعي َة قدراً ،والتبع ّية ،نهايتها ال�سقوط حيث ي�شاء املتبوع ،و�شعوب هذه املنطقة من العامل ،على الرغم من عظمة �إن�سانها ،فقد ابتليت بع ّلة التبع ّية ف�سقطت رغباتها يف �أكرث من م�ستنقع ،كان �أكرثها ت�سميماً م�ستنقع امل�شيئة العثمان ّية الذي ما زالت �أمرا�ضه تفتك يف ج�سد هذه الأ ّمة املتمردة على الفناء بف�ضل طاقات كمون ّية قادرة على التغيري ،ولكنها �سيفجر الوعي باالنتماء بعد جمازر يفجرها لتعيد �صياغة العامل .فهل ّ حتتاج �إىل فعل قدح ّ العربي املزعوم هذه الطاقات؟ وهل �سينه�ض الوعي املوعود بق�ضايا �أ ّمة متتلك مق ّومات الربيع ّ غد يفخر بهذه النه�ضة وبنتائجها العلم ّية واحل�ضار ّية والثقاف ّية الوحدة واالحتاد؟ وهل �سيكون ٌ والإن�سان ّية؟ �ضم عدداً حتاول الكاتبة �صفية �سعادة يف كتابها "�سوراقيا بدي ًال عن �سايك�س– بيكو" ،والذي ّ من املقاالت املن�شورة يف �صحف لبنان ّية� ،أن تقر�أ مظاهر احلرب الكون ّية التي تدور رحاها على جغرافيا الأ ّمة ال�سور ّية ،فقامت بعمل ّية تو�صيف لواقع هذه الأ ّمة ،جغراف ّياً وتاريخ ّياً واقت�صاد ّياً و�سيا�س ّياًّ ، املوحدة دون �أن تذكر املق ّومات الذات ّية لأبناء هذه الأر�ض، وركزت على العوامل ّ فهل تكون �أ ّمة من دون �شعب ،وجربان يرى �أنّ "الأ ّمة جمموع �أفراد متبايني الأخالق 87
أعم من وامل�شارب والآراء ّ ت�ضمهم رابطة معنو ّية �أقوى من الأخالق و�أعمق من امل�شارب و� ّ الآراءّ ... لكل �شعب ذات عا ّمة ت�شابه بجوهرها وطبيعتها ذات الفرد ،ومع �أنّ هذه الذات ت�ستمد كيانها من �أفراد ال�شعب ...فهي م�ستقلة عن ال�شعب ولها حياة خا�صة و�إرادة العا ّمة ّ منفردة ..فذات الأ ّمة العا ّمة تنام ولكن نوم الأزاهر� ..أ ّما عطرها ...فهو احلقيقة املج ّردة".1 وقدمت ّركزت �سعادة يف مقاالتها على تو�صيف الأ�سباب الكامنة وراء انتكا�سات هذه الأ ّمةّ ، ت�ص ّوراً اجتماع ّياً وتاريخ ّياً وجغراف ّياً وح�ضار ّياً و�سيا�س ّياً دقيقاً يحمل �إجابات عن عدد كبري وي�صحح� ،أي�ضاً ،مفاهيم امل�صطلحات املتداولة ،وير�سم ر�ؤيا من الإ�شكاليات التي طرحتهاّ ، م�ستقبل ّية تب�شّ ر بانبعاث �سوراقيا �أ ّمة موحدة قو ّية. ّ توظف الباحثة �أفكار الزعيم �أنطون �سعادة يف حتديد اجلغرافيا التي ينتمي �إليها ه�ؤالء الأنتم ت�ضم ب�شكل رئي�س ك ًال من فل�سطني املحتلة والأردن و�سوريا القادرون على التغيري ،ف�سوراقيا " ّ والعراق ،وكانت ُتعرف ببالد ال�شام والعراق حتى نهاية ال�سلطنة العثمان ّية" ،2وت�ستند �إىل معطيات تاريخ ّية قدمية وحديثة ،لتظهر ،من خاللها ،حقيقة الأطماع اال�ستعمار ّية التي مل هم�شت دور تتوقّف ،والتي اتخذت من الدين عامل تباعد وتفتيت ،فال�سلطنة العثمان ّية ّ عدد كبري من الطوائف ،ون�شرت �أفكاراً طائف ّية ومذهب ّية كان نتيجتها �شعور الأكرث ّية بالتف ّوق و�شعور الأقل ّيات بالقهر ،وما بني التف ّوق والقهر تخاذلت الإرادة الوطن ّية ،و�ضاعت اله ّوية و�صارت �شعوب هذه املنطقة املخترب الأكرث تلبية لرغبات دول �صارت كربى ،و�أمعنت يف واملذهبي ،لأنّ هذه الدول ُتدرك �أنّ والطائفي �إف�ساد اللحمة الوطن ّية ب�إزكاء احلقد الديني ّ ّ اجتماعي ،وهذه الق�ض ّية ن ّبه �إليها والطائفي ي�ضعف � ّأي متحد املذهبي التقاتل والتناحر ّ ّ ّ كل دولة دين ّية حتمل يف طياتها بذور زوالها ّ �أنطون �سعادة ،ور�أى �أنّ ّ وتفككها ،لأنها حتاول اجلمع بني مبد�أين متناق�ضني ،هما الوظيفة الروحية وال�سلطة الزمنية. ومهما طال الزمن ،ف�إن الإرادة ال�شعبية �س ُتجرب ال�سلطة الدينية على التنازل عن �سلطاتها الزمنية التي ي�أخذها ال�شعب لنف�سه .فـهو ي� ّؤكد �أنّ "الدين يف �أ�صله القوميٍ ، ومناف للقوم ّية -1جربان خليل جربان ،املجموعة الكاملة ،الأمم وذواتها� ،ص .431 � -2سعادة� ،صف ّية� ،سوراقيا بدي ًال عن �سايك�س – بيكو ،دار �سعادة ،بريوت ،الطبعة الأوىل � ،2015ص .7 88
ف�������������ك�������������ر
وتكوين الأمة ،لأ ّنه �إن�ساين ذو �صبغة عاملية" ،1ومثاله ،يف ر�أيه ،ما حدث يف �أوروبا مع نهاية القرون الو�سطى وتفكك الإمرباطورية الكاثوليكية ل�صالح الدول القومية املمثلة ل�شعوبها، وكذلك ما حلق بال�سلطنة العثمانية التي حتاول ،يف هذه املرحلة من التاريخ ،امتطاء الفكر ين لإعادة هيكلة دولة عثمان ّية جديدة. الإخوا ّ حتاول الدكتورة �صف ّية �أن ت ّربر امتناع حدوث فعل التغيري ،فتحيله على �أ�سباب خارج ّية وعلى تخاذل بع�ض ّ حكام �سوراقيا وامل�س�ؤولني الذين باعوا �شرف االنتماء ورهنوا �ضمائرهم، التو�سع والغزو واال�ستعمار فكانوا الأدوات الأكرث خدمة لإرادات القوى العامل ّية ال�ساعية �إىل ّ متنوعة ،و�إىل تفتيت جغراف ّية �أر�ض يتمتع �أبنا�ؤها مبق ّومات م�شرتكة ر�أى فيها �سعادة ب�أ�شكال ّ ق ّوة قادرة على تغيري مايراه الآخرون قدر هذه املنطقة ،وهذه الأ�سباب ت�ستمد معطياتها من مرجعيات جغراف ّية وتاريخ ّية واجتماع ّية وثقاف ّية و�سيا�س ّية و�إقليم ّية ودول ّية. تك�شف املعطيات اجلغراف ّية التي ا�ستندت �إليها الباحثة �أنّ احلدود "ما بني �سوريا ولبنان أجنبي ...وال فرق يف اللغة حدود وهم ّية فال بحار �أو جبال �أو �أنهر ...بل خطوط و�ضعها ال ّ ج�سد متكامل بني البلدين �أو يف العادات والتقاليد" ،2والتما�سك اجلغرا ّيف ،يف ر�أيي ،قوامه ٌ الأع�ضاء ،ف�إذا ّ اعتل منه ع�ضو �شاركته بقية الأع�ضاء الوجع والأمل ،ومثاله ما يدور من حرب عامل ّية يف �سوريا والعراق التي �أثّرت يف دول �سوراقيا ك ّلها ،فـ"برهنت الأحداث الأخرية �أنّ م�صري �سوراقيا واحد فما ي�صيب العراق ي�صيب �سوريا ولبنان والأردن وفل�سطني� ،أي�ضاً، ت�ضم والعك�س �صحيح" ،3لأنّ وحدة هذه املنطقة وحدة طبيعية واقت�صاد ّية واجتماع ّية ،فهي ّ " ّ كل املك ّونات االجتماع ّية من دين ّية ومذهب ّية وعرق ّية على نحو متكافئ ...ومتثّل وحدة اقت�صاد ّية متكاملة ودورة حياة واحدة من غري املمكن جتزئتها �إ ّال �إذا �أردنا تدمريها".4 ترى الباحثة �أنّ �أ�سباب االمتناع خارج ّية �ص ّنعتها وت�ص ّنعها ال�سيا�سات الأمريك ّية ،ودول الوهابي ليكون الق�ضاء على �شجعت على ن�شر الفكر ا�ستعمار ّية غرب ّية و�أطماع �إقليم ّية ّ ّ � -1أنطون �سعادة ،ن�شوء الأمم� ،ص .162 � -2سوراقيا � ،ص 26 � -3سوراقيا� ،ص.25 -4ن.م� .ص.35 89
إلغائي بد�أ م�شروعه يف بداية إ�سالمي ،وهذا الفكر ،يف ر�أيها ،فكر � ّ عربي � ّ احل�ضارة العرب ّية بفكر ّ إلغائي مل يربز ثمانينيات القرن املا�ضي ب�شكل ممنهج وهادف ،فتقول�" :إنّ الفكر الوهابي ال ّ ّ يف �سوراقيا الآن بل ما ن�شاهده هو اخلطوة الأخرية يف �سل�سلة طويلة من الدعاية والتمويل الطائفي واملذهبي بد�أت منذ ثمانينيات القرن املا�ضي ...قامت ال�سعودية بتطبيع والتحري�ض ّ متتد جذورها عميقاً يف الق�ضاء ديني لعقود طويلة ف�أعادت �سوراقيا قروناً �إىل الوراء التي ّ ثقا ّيفّ - على �أ�شكال احل�ضارة العرب ّية".1 الوهابي ّ ّمما ال ّ غذى التع�صب الديني والطائفي واملذهبي الذي ر�سخته �شك فيه �أنّ الفكر ّ م�شيئة ال�سلطنة العثمان ّية ،ف�صار التع�صب �سالحاً �ساعد على فتح حروب ا�ستباق ّية تق�ضي على ح�ضارة بالد ال�شام التي "تن�شر ح�ضارتها وعقالنيتها يف �أرجاء اجلزيرة العرب ّية عرب �آالف ويكدون يف غربتهم لبنائها وحتديثها ،فالتيار الزاحف من و�آالف من مواطنيها الذين يعملون ّ �سوراقيا باجتاه اخلليج هو التيار الأقوى والأقدر على البقاء" ،2فالأ�سباب اخلارج ّية ،يف ر�أي ديني فقط ،بل هي نتاج حقد على ح�ضارة مل تعرفها ال�صحراء الكاتبة ،لي�ست نتاج فكر ّ العرب ّية ،وربمّ ا كان هذا احلقد امل�ضاف �إىل خمططات ا�ستعمار ّية ال�سبب الكامن وراء تدمري ح�ضارة �سوراقيا. حتاول الدكتورة �صف ّية �أن ُت�سند معظم �أ�سباب التدمري يف �سوراقيا احلديثة �إىل الواليات املتحدة الأمريك ّية و�إ�سرائيل ،ومن ثم ال�سعودية وتركيا ،وت�سوق �أحداثاً تاريخ ّية دقيقة لتبني عليها �آراءها وتطلعاتها ،ومن ثم لرت�سم ر�ؤاها امل�ستقبل ّية بعد �أن قر�أت نتائج اتفاق الدول الكربى يف بدايات القرن الع�شرين ،وربطتها مبا يحدث على جغرافية الأ ّمة ال�سور ّية ب�شكل خا�ص وعلى جغرافية الأمة العرب ّية ب�شكل عام ،فجاء تو�صيفها الظواهر والأحداث دقيقاً، بعد �أن حاولت تقدمي مقاربة بني املا�ضي واحلا�ضر وامل�ستقبل ،فاملا�ضي بالن�سبة �إليها له بعدان، �سيا�سي دو ّيل كان هدفه الرئي�س تفتيت بعد جغرا ّيف يث ّبت وحدة الأر�ض ال�سور ّية ،وبعد ّ املنطقة وا�ستخدام �شعوبها يف جتارب الهيمنة ال�سيا�س ّية واالقت�صاد ّية. عر�ض للأحداث التي اجتاحت �سوراقيا منذ عام ،2002 تدعم �صف ّية �سعادة ر�ؤيتها بتقدمي ٍ � -1سوراقيا�،ص .33 -2م.ن� .ص.34 90
ف�������������ك�������������ر
العملي والدقيق خلطة القطع مع املا�ضي الأمريك ّية التي تهدف �إىل فرتى �أ ّنها "التطبيق ّ التدمري املنهجي لدول �سوراقيا ،1"...وتعتقد �أنّ تطبيق خطة التدمري بد�أت يوم �إ�سقاط نظام ال�سوري... إقليمي الرئي�س العراقي الأ�سبق " ّ ّ �صدام ح�سني" ،لأنّ �إ�سقاطه " ّ يحجم الدور ال ّ ّ وتدمري العراق ي�ؤدي �إىل تغيري ميزان القوى مل�صلحة �إ�سرائيل وتركيا" 2وهذه النتائج ت�ضمن بيئة ا�سرتاتيج ّية مالئمة لإ�سرائيل عرب تعاونها الوثيق مع الأردن وتركيا ،وجتعل منها "القوة تهدد عربها ّ كل من ت�س ّول له نف�سه �أن يتم ّرد".3 ال�ضاربة الأمريك ّية والع�صا التي ّ تذكر الكاتبة حرب 1967والتي فر�ضت اال�ستيالء على اجلوالن وال�ضفة الغرب ّية و�شبه وتزعم الواليات املتحدة الأمريكية جزيرة �سيناء ،وت�شري �إىل تفكك االحتاد ال�سوفييتيّ ، قيادة العامل ،فحكمته عرب �إلغاء قوانني الدول القوم ّية واكت�سحت الأ�سواق و�سيطرت على القرارات ،و�أرغمت "الدول على التخلي عن حماية �صناعاتها الوطن ّية وت�صفية �إدارات الدولة وم�شاريعها القوم ّية عرب اخل�صخ�صة ما يعني الق�ضاء على الطبقة الو�سطى القائمة على الإنتاج ال�صناعي والزراعي وعلى الأدمغة اخل ّالقة ،والطبقة الو�سطى هي الدعامة الأ�سا�س لقيامة الدول" ،4فجعلت من العوملة قدراً لل�شعوب ال�ضعيفة ،وداعماً رئي�ساً للنمط الإمرباطوري احلاكم العامل. ت�سوق الباحثة �أحداثاً ،كان لها ت�أثري كبري يف ّ كل ما يحدث يف �سوراقيا ،وذلد بدءاً من احلريري وخروج �أحداث � 11أيلول ،2001مروراً بتدمري العراق ،2003وا�ست�شهاد الرئي�س ّ ال�سوري من لبنان ،2005وحرب متوز 2006و�صو ًال �إىل احلرب العامل ّية يف �سوريا التي اجلي�ش ّ بد�أت عام 2011والتي كان من �أهدافها خلق حرب طائف ّية ومذهب ّية ودين ّية تعيد تفتيت الديني ،كما ر�أى الزعيم �سعادة، املنطقة وتق�سيمها ،وت�شظي طاقات جي�شها ،لأنّ التع�صب ّ "من �أعظم العقبات التي قامت يف �سبيل ا�ستقالل �سورية ذلك الداء الع�ضال الذي �أحدث �شل ًال يف �أع�ضاء الأمة ال�سورية ووقف حاجزاً منيعاً بينها وبني ما ترمي �إليه من النهو�ض �إىل -1م.ن� .ص.13 -2م.ن� .ص 14 -3م.ن� .ص.17 -4م.ن� .ص .21 91
م�صاف الأمم احلية" ،1ولذلك ن ّبه �إىل �ضرورة وحدة اجلي�ش ،لأنّ "حتويل الوطن �إىل ميدان املوحد امل�صري� ،إىل جي�شني يتطاحنان للو�صول �إىل غاية واحدة ينق�سم فيه ال�شعب الواحدّ ، القومي ،عمل �شائن ال يليق �إال بال�شعوب الرببرية" .2وهذا ما �سعت �إليه �أمريكا هي اخلراب ّ ال�سوري من �أهم العربي ّ يف بداية الأزمة ال�سور ّية ،فكانت احلرب الطائف ّية وتفتيت اجلي�ش ّ الو�سائل التي ُو�ضعت يف خمطط احلرب الكون ّية الهادفة �إىل تفتيت املنطقة و�إذالل �إن�سانها. ت�شجع تطرح الكاتبة �إ�شكاليات ت� ّؤكد فر�ضياتها ازدواجية املعايري الدولية ،فالظاهرة التي ّ الطبيعي يف �سوراقيا على ت�صنيعها �أمريكا والدائرون يف فلكها يف جغراف ّية ما ،ترف�ض حدوثها ّ أوربي ،على �سبيل املثال ،اليحقّق مق ّومات ّ وت�شجع على ت�شويهها وحماربتها ،فاالحتاد ال ّ الوحدة التي تتم ّتع بها دول �سوراقيا ،ومع ذلك لقي القبول والر�ضى واالعرتاف والتعاون، أمريكي من احلدود االقت�صاد ّية لي�س واحداً ،ففي الوقت الذي ُي�ضغط وكذلك املوقف ال ّ فيه على الدول لفتح �أ�سواقها و�إلغاء حدودها �أمام الر�ساميل الأمريك ّية والب�ضائع والفنادق �شجع لبنان على املطالبة برت�سيم حدوده مع �سوريا ،3والدميقراط ّية واملطاعم واال�ستثماراتُ ،ي ّ هي �إ ّال �أداة من �أدوات التحري�ض التي ّ توظفها التي تكرث الدعوات �إىل تطبيقها يف �سوراقيا ،ما ّ أمريكي حول تر�سيخ الدميقراط ّية احلرب الإعالم ّية ،ولذلك ترى الباحثة �أنّ "كل الكالم ال ّ جمرد حملة دعائ ّية خماتلة ،لأنّ الدميقراط ّية احلقّة الت�ستطيع �إ ّال �أن تكون يف دولة قوم ّية مبا �أ ّنها متثّل ال�شعب املوجود على �أر�ضه" 4فتذهب �إىل القول �إنّ الدميقراط ّية التوافق ّية التي ينادون بها ما هي �إ ّال دميقراط ّية م�ش ّوهة" :لأنّ املراد من رغبة الغرب يف تطبيق الدميقراط ّية موحداً وقو ّياً لأنّ الهاج�س الأكرب التوافق ّية هو �شرذمة املجتمع ومنع اجلي�ش من �أن يكون ّ للواليات املتحدة الأمريك ّية هو �ضمانة تف ّوق �إ�سرائيل ...فتح�صر ال�سلطة باخلا�صة ال العامة وت�ؤ�س�س للتفرقة بني �أفراد املجتمع ،فال م�ساواة ُترجتى وال عدالة تحُ قّق ،وال حر ّية ُت�سبغ ،وال مواطنة حقّة".5 �- 1أنطون �سعادة ،الآثار الكاملة ،ج� ،1ص ،31ج� ،9ص.177 - 2الآثار الكاملة ،ج� ،2ص .232 - 3م.ن� .ص29 � - 4سوراقيا� ،ص .20 � - 5سوراقيا� ،ص.86 92
ف�������������ك�������������ر
احلقيقي ،فال تكون �شعارات مف ّرغة تقرتن املطالبة بالدميقراط ّية بوجود �أفراد ُيدركون مفهومها ّ �ستدل على مقوماتها �إ ّال بالفو�ضى، من القيمة ،وم�صطلحات ال ُيدرك منها �إال ا�سمها ،وال ُي ّ فالديقراط ّية احلقيق ّية مرتبطة بوجود دولة قوم ّية ،وحيث ال مق ّومات دولة قوم ّية ال ميكن �أن ُتنفخ روح الدميقراطية وتنت�شر وتفعل ،ولذلك ت� ّؤكد الدكتورة �صف ّية �أ ّنه "ال �إمكان ّية لإر�ساء دميقراطي �إذ مل تكن الدولة قوم ّية فالدميقراط ّية تعني وجود �شعب هو م�صدر ال�سلطات نظام ّ وله تعود الكلمة الف�صل يف قرارات دولته".1 ال�سوري ذكرت الباحثة معظم الأ�سباب اخلارج ّية التي متنع قدح كمون طاقات الإن�سان ّ ليعيد ت�شكيل التاريخ ،ولكن مل �أعرث يف الكتاب على �أ�سباب داخل ّية متنع حدوث فعل التغيري ،ومل تذكر الأ�ضرا�س امل�س ّو�سة التي تك ّلم عليها جربان خليل جربان ،فقال�" :إذا قلنا �إنّ الأ ّمة ال�سور ّية تق�ضم قوة احلياة ب�أ�ضرا�س م�س ّو�سة و�إنّ ّ كل لقمة تلوكها متتزج بلعاب م�سمم ،و�إ ّنه قد نتج عن ذلك ٌ مر�ض يف �أمعائها ...يجيبون بقولهم :نعم نحن الآن من�صرفون �إىل در�س �أحدث امل�ساحيق و�أجد املخدرات" ،2فلماذا ن�أت ابنة النه�ضة بنف�سها عن ذكر ان�شغال امل�س�ؤولني باملظاهر وتخدير الطاقات مب�ساحيق التجميل ّ وامل�سكنات؟ اكتفت الباحثة بالكالم على ت�آمر بع�ض ال�سيا�سيني املرتهنني ،وعلى تخاذل املثقفني الذين "يوافقون على التعاون مع الأحالف الدول ّية التي تدعي حماربة الإرهاب بينما يرف�ضون التن�سيق مع جريانهم" ،3وكذلك تك ّلمت على رغبة الأكراد ال�سوريني يف االنف�صال عن االجتماعيّ ،ثم ّ تذكر بهو ّية الأر�ض ج�سد الأ ّمة التي ا�ستقبلتهم ،و�صاروا جزءاً من ن�سيجها ّ التي ينت�سبون �إليها فتقول" :كانت نينوى املدينة الأكرب يف العامل القدمي ،فلقد و�صلت اململكة الآ�شور ّية �إىل ذروة ازدهارها يف القرن ال�سابع قبل امليالد ...وكرد�ستان العراق قائمة على �أنقا�ض اململكة الآ�شور ّية".4 �إنّ الن�أي بالنف�س عن ذكر الأ�سباب الداخل ّيةُ ،يبقي الأ�سئلة مفتوحة ،وهي حتتاح �إىل بحث .-1م.ن� .ص.77 - 2جربان خليل جربان ،املجموعة الكاملة ،الأ�ضرا�س امل�س ّو�سة� ،ص .421 - 3م.ن�,ص 60
- 4م.ن� .ص96 - 86 93
ال�سوري عن مق ّوماته وجواب ،ومن هذه الأ�سئلة :ما الأ�سباب الكامنة وراء تخلي الإن�سان ّ احل�ضار ّية ،وانغرا�سه يف تيارات دين ّية عابرة احلدود؟ كيف ي�ستعي�ض عن �سوراقيا احل�ضارة داع�شي �أوجده الأمريكيون والغرب بدي ًال عن �سوراقيا؟ واملجد والتاريخ العريق ،بفكر ّ اللغوي لهما الداللة اجلغراف ّية عينها .فكيف ُي�ستبدل فامل�صطلحان من حيث ظاهر الت�شكيل ّ ين ،قوامه التخريب والذبح وابتكار �أ�ساليب تعذيب ال فكر ين بفكر ال �إن�سا ّ ح�ضاري �إن�سا ّ ّ تقوم بها الوحو�ش؟ وهل ه�ؤالء هم �أبناء �سوراقيا؟ أمريكي، تقود الأ�سئلة ال�سابقة �إىل فر�ضية تختزل ر�ؤية �صفية �سعادة �إىل حقيقة املوقف ال ّ ف�صاغت من قراءة الوقائع نتيجة حتم ّية ،قادتها �إىل االعتقاد ب�أنّ الواليات املتحدة الأمريك ّية ال تريد تق�سيم املنطقة ،لأنّ م�شروعها الرئي�س �إعادة ت�شكيل املنطقة مبا يتوافق و�أهدافها، فيكون العمل على �إلغاء الدولة الوطن ّية والطموحات القوم ّية وفق ما تبتغيه م�شاريع العوملة، لأ ّنها بذلك "تك�سر �سيادة الدول على �أرا�ضيها وتقيم مكانها تياراً �إخوانياً جارفاً موالياً لها �سيا�س ّياً واقت�صاد ّياً ،ي�ضع والءه الديني فوق والئه الوطني".1 ّ ت� ّؤ�س�س �صفية �سعادة على هذه الفر�ضية ر�ؤى م�ستقبل ّية تب�شّ ر بانت�صار �سوريا لأ ّنها القلعة الأخرية يف �صمود الأ ّمة ال�سور ّية ،وترى الباحثة �أنّ �سوريا حتارب دفاعاً عن نف�سها ودفاعاً عن ّ كل دول �سوراقيا ،لذلك تدعو �إىل التعاون والتن�سيق بني دول �سوراقيا ،ليتحقّق فعل ويتم تفعيل الطاقات القادرة على التغيري ،لأنّ "هجمة الواليات املتحدة الأمريك ّية الن�صر ّ على �سوراقيا بعد �أحداث �أيلول � 2001ست�ؤدي �إىل توحيدها" ،2و�إىل التحرر من التق�سيمات امل�صطنعة والعودة �إىل "وحدة بالد ال�شام� ،أق ّله اقت�صادياً و�أمن ّياً وع�سكر ّياً" ،و�إىل "جعل الدين يف خدمة املتحد القومي".3 ّ ربطت الباحثة حتقيق الر�ؤيا بتعاون �شامل مع �إيران ،وت�ستند يف ر�أيها �إىل معطيات تاريخ ّية ت� ّؤكد �أنّ �إيران �شاركت يف ازدهار ح�ضارة هذه املنطقة يف الفرتة العبا�س ّية ،لأنّ احل�ضارتني الق�ص�صي ويف الطب والعلوم الطبيع ّية اندجمتا "وخلقتا �إبداعاً يف ال�شعر والفل�سفة والأدب ّ �- 1سوراقيا� ،ص .54 - 2م.ن� .ص.25 - 3م.ن� .ص48 94
ف�������������ك�������������ر
ويف الفيزياء والكيمياء ويف الريا�ضيات والهند�سة وامتزجت �أ�سماء الأعالم الإيران ّية ح�ضاري والعرب ّية" 1لذلك ت� ّؤكد �أنّ "ما يجمع �سوراقيا و�إيران لي�س فقط الإ�سالم ..بل تراث ّ ين يحيا يف ّ كل فرد م ّنا مبعزل عن دينه �أو معتقده .هو تراث م�شرتك �أعلى من فكري عقال ّ ّ 2 �ش�أن املعرفة" . تعتقد الباحثة �أنّ هذا التعاون �سيلغي ما ت�سعى �إىل �إنتاجه عوملة اقت�صاد ّية ،يف ظاهرها ،ع�سكر ّية الديني ،يف ر�أيي ،وجهان لعملة واحدة ،لأنّ الفكر والتع�صب �إرهاب ّية ،يف حقيقتها ،فالعوملة ّ ّ حتده ،والعوملة اجتياح للحدود ،لذلك ميكن القول �إنّ �أهداف الديني املتطرف ال جغرافيا ّ ّ التكفرييني ال تتناق�ض و�أهداف العوملة ،فالعوملة جتتاح احلدود اجلغراف ّية بطروحات ظاهرها القومي ،و�إلغاء الهو ّيات، ن�شر املعرفة وحتويل العامل �إىل قر ّية �صغرية ،وباطنها اغتيال الوعي ّ وح�صر القدرة الإبداع ّية يف ق ّلة يحكمون العامل فكر ّياً واقت�صاد ّياً و�سيا�س ّياً ،وكذلك احلركة الديني و�إلغاء احلدود اجلغراف ّية ،وباطنها التجهيل واال�ستعباد التكفري ّية ،ظاهرها ن�شر الوعي ّ والإلغاء والق�ضاء على الهويات الوطن ّية والقوم ّية با�سم الدين ،وربمّ ا قر�أت �صفية �سعادة يف مقاربة هاتني الظاهرتني حتمية �سقوط العوملة ،و�سقوط املدر�سة الوهاب ّية التكفري ّية ،وتعتقد "�أنّ �سوراقيا �سته�ضمهما كما ه�ضمت هجمات هوالكو" ،3وهي تعتقد �أنّ هذا االنت�صار لن املوحد، العربي يكون �إ ّال نتيجة �صمود الإن�سان ّ ّ ال�سوري العقائدي ّ ال�سوري املنتمي واجلي�ش ّ فعبرّ ت عن ر�ؤيتها بفخر واعتزاز وقالت" :ه�ؤالء ال�سوريون املنخرطون يف املواجهة �إىل جانب ال�سوري ير ّدون ع ّنا الأذى نحن الذين نقطن يف جوارهم وعلى متا�س معهم".4 اجلي�ش ّ ال�سوري املت�س ّلح ب�صدق تب�شّ ر رياح التغيري ب�أنّ ر�ؤيا �صفية �سعادة �ست�صدق ،لأنّ الإن�سان ّ االنتماء� ،سيكون �صموده مدر�سة تع ّلم �أ�ساليب املواجهة والدفاع؛ لأ ّنه ا�ستطاع ب�صموده وانتمائه و�إميانه �أن يوقف "دحرجة كرة الثلج الأمريك ّيةّ ،ثم البدء بذوبانها ،بدءاً ب�سقوط امل�شروع ين ،فلوال �صمود �سوريا ملا �سقط مر�سي وحكم الإخوان يف م�صر ،ولوال قرار الرتكي الإخوا ّ ّ وارتدت نحو البلدان التي �ص ّنعتها وم ّولتها ...هذا املواجهة ملا تراجعت الهجمات التكفري ّية ّ �- 1سوراقيا� ،ص.61 - 60 - 2م.ن� .ص61 �- 3سوراقيا� ،ص .34 - 4م.ن� .ص.24 95
املتحدة الأمريك ّية مع ال�صمود �أطاح باخلريطة ال�سيا�س ّية لل�شرق الأو�سط كما ث ّبتتها الواليات ّ نهاية احلرب العامل ّية الثانية".1 �سيفجرون ه�ؤالء ال�سوريون هم الأنتم الذين ب�شّ ر بهم �سعادة ،وبكمون انتمائهم القومي ّ ّ العربي املزعوم ،و�سينه�ض هذا الوعي املوعود بق�ضايا �أ ّمة الوعي باالنتماء بعد جمازر الربيع ّ غد يفخر ب�أ ّمة �سيعيد �أبنا�ؤها �صياغة العامل و�صناعة متتلك مق ّومات الوحدة واالحتاد ،فيكون ٌ التاريخ ،و�سي�صدق وعد "جربان خليل جربان" "�إنّ ما تدعينه انحطاطاً يا �سوريا �أدعوه نوماً واجباً يعقبه الن�شاط والعمل ،فالزهرة ال تعود �إىل احلياة �إ ّال باملوت ،واملح ّبة ال ت�صري عظيمة ال�سوري �أنّ �سوراقيا هي احلقيقة واخلال�ص. �إ ّال بعد الفراق" .2نعم �ست� ّؤكد قوة الإن�سان ّ
�- 1سوراقيا� ،ص146 - 144 - 2جربان خليل جربان ،املجموعة الكاملة ،الدهر والأ ّمة� ،ص 273 96
"
ملف العدد " احت�ضار لغة و�أمة"
�أ�ضواء على احت�ضار اللّغة
"
د .ل�ؤي زيتوين -دكتور يف اجلامعة اللبنانية – ق�سم اللغة العربية
ّ أهم �شكلت ال ّلغة على م ّر الع�صور عن�صراً حيو ّياً يف م�سرية املجتمع� ،إذ �أنّ ح�ضورها ُع َّد من � ّ الدالة على متا�سك املجتمع وق ّوة االنتماء فيه ،وقد و�صل هذا ال ّتقدير ل ّلغة �إىل ال ّنظر املظاهر ّ �إليها بو�صفها عامل ت�أ�سي�س الأ ّمة يف الكثري من الأحيان .و�إن كانت هذه حال ال ّلغة عموماً، فما هي احلال بال ّن�سبة �إىل ال ّلغة العرب ّية على وجه اخل�صو�ص؟ هذا املو�ضوع هو الذي لفت الدكتورة نادين طربيه ح�شّ ا�ش يف مقالتها املن�شورة �ضمن �صفحات عدد جم ّلة حت ّوالت انتباه ّ رقم ،91واملعنونة "احت�ضار ال ّلغة". انطلقت الكاتبة من م�س�ألة �أنّ ال ّلغة العرب ّية تعاين من ال ّتقهقر يف ّ ال�ضغوط ال ّتكنولوج ّية ظل ّ كامل من ال�شّ باب ،بحيث ّمتكنت من �إدخال جيل ٍ التي متار�س �سلطتها الإغرائ ّية على ٍ عادات يف ال ّتخاطب وال ّتوا�صل تك�سر متا�سك لغته وتبعده عنها �إىل �أق�صى ما ميكنّ . ٍ ولعل هذه االلتفاتة من الدكتورة ح�شّ ا�ش لها ما ي ّربرها ،لي�س بو�صفها �شاعرة واثقة ال ّلغة واملنظور، ولي�س لكونها باحثة واعدة يف ال ّلغة العرب ّية ،بل لأنّ هاج�س ال ّلغة يبقى احلا�ضر الأبرز يف طبيعة ح�ضور املجتمع ،ولأنّ الأزمة التي تعي�شها لغتنا ُت ّعد �أزم ًة وجود ّي ًة ال مو�ضوعاً عابراً. أهم ّيته الق�صوى يف ح�ضورنا االجتماعي ،ويطرح نف�سه ومن هذا املنطلق ،يجد هذا املو�ضوع � ّ بو�صفه مو�ضوعاً جدل ّياً يحتاج �إىل ت�أنٍّ . املتخ�ص�صني من �أجل البحث مالحظتي الأوىل هو حر�ص الكاتبة على توجيه دعوتها �إىل ّ اب. ال�سبل الكفيلة بجعل ال ّلغة �أكرث قدر ًة على اال�ستمرار و�أكرث �شيوعاً بني اجليل ال�شّ ّ يف ّ ال�ضعف الذي ي�صيب ال ّلغة العرب ّية �إىل الإقبال احلثيث على و�سائل كما �أ ّنها عزت م�س�ألة ّ ال ّتوا�صل احلديثة وعلى الوهم ال�شّ ائع حول ارتباط الثّقافة بال ّلغات الغرب ّية. على �أنّ ما يجب ال ّتن ّبه �إليه يف هذا املجال ،هو الأخذ بنقطتني ح�سا�ستني يف مو�ضوع ال ّلغة: 97
الأوىل تتع ّلق بطبيعة الع�صر� ،إذ �أنّ �إقبال اجليل ال�شّ اب على �إغراءات الو�سائل ال ّتنكولوج ّية ال يجعل امل�شكلة يف تلك الو�سائل لأ ّنها و�سائل لت�سهيل احلياة �إىل جانب �سلب ّياتها ،وبال ّتايل �شكل من الأ�شكال .وهذا ما يو�صل �إىل نتيج ٍة ي�صح الوقوف بوجهها ،وال ميكن ذلك ب� ّأي ٍ ال ّ مفادها �أنّ هذا الإقبال مبا ُيبعد عن ال ّلغة العرب ّية ،ال ينبع يف م�شكل ٍة حتويها تلك الو�سائل بقدر ما تعود �إىل طبيعة تعاملنا مع ال ّلغة ومع تلك الو�سائل� ،أي تنبع من ّ الذهنية التي تتعامل مع خمتلف الأمور التي نواجهها. �أ ّما ال ّنقطة الثّانية فرتتبط بطبيعة نظر الباحثني �إىل ال ّلغة العرب ّية ،فنظرتهم جتعل من هذه ال ّلغة كياناً معزو ًال عن العامل وعن قوانني احلياة .وهنا تكمن امل�شكلة الأوىل� ،إذ �أنّ هذه ال ّنظرة جتعل من ال ّلغة العرب ّية منظوم ًة منزل ًة غري قابل ٍة لل ّتط ّور وال ّتك ّيف ،وهنا يكمن مقتلها ،وبال ّتايل الدكتورة ح�شّ ا�ش. احت�ضارها ح�سب تعبري ّ لذا ف�إنّ اخلال�ص من حال االحت�ضار هذه ال ميكن �أن يكون �إ ّال بتغيري تلك ال ّنظرة نحو ال ّلغة العرب ّية ،و ِب َع ِّدها منظوم ًة �إن�سان ّية الإبداع� ،أي قابلة لل ّت�أثّر مبعطيات ال ّزمن والبيئة االجتماع ّية مراع لقوانني الوجود وال ّتط ّور؟ وهل من قارئٍ لها من ر�ؤي ٍة جديدة؟ واجلغراف ّية .فهل من ٍ
98
ملف العدد " احت�ضار لغة و�أمة"
جدلية العالقة بني اللغة العربية والأمة يف التاريخ
(من حمورابي وقدمو�س �إىل غوتنربغ)
*
فرحان �صالح -كاتب
يحاول املرء يف متابعة للتطور التاريخي مل�سار العوملة ،العودة والوقوف مع هذا الرتاث ال�شفهي الذي مت القطع معه حينما كتب حمورابي وجلجام�ش ن�صو�صهما يف القانون ،ويف البحث عن احلياة الأبدية ،باحلرف امل�سماري املقطعي .فهذه الكتابات حت ّولت وتط ّورت وكتبت يف ما بعد بالأبجدية امل�سمارية ،وقد �سبقت ذلك ،الكتابة على �ألواح من الطني املخفور� ،إىل �أن جاء الفينيقيون ب�أبجديتهم التي حملوها �إىل اليونان ،فقدمو�س �سجل عرب هذه الأبجدية ،ح�ساباته ي�سجل للفينيقيني م�ساهمتهم يف ن�شر الأبجدية عرب و�ضع القامو�س الأول التجارية .ومن هناّ ، يف علم البحار ،ويف العلوم الزراعية وال�صناعية احلرفية ،وفن البناء ،ويف ن�شر ثقافتهم الإن�سانية امل�ساملة وغري ذلك. يتابع املرء ذلك التاريخ على يد العلماء امل�صريني (الفراعنة) الذين ر�سموا �صورة لعامل الآخرة يف كتاب "املوتى" ،وتبع ذلك ،ما ّقدمه �أخناتون يف تعاليمه التوحيدية ،كما هي�أ علماء م�صريون املناخات لعلم الهند�سة ،ونهر النيل ذاته املوحى لذلك .من ثم ما �شرعت �إليه التعاليم التوراتية ،والتعاليم امل�سيحية ،كذلك ما جاءت به التعاليم العربية الإ�سالمية� .إن عهدي تلك العلوم ،بخا�صة الهند�سية منها ،كانت قد تطورت يف ظل احل�ضارة العربية� ،أي يف َ بني �أمية والعبا�سيني ،و�أبرز من ط ّورها الإدري�سي عرب اخلرائط التي ر�سمها ،و�أخذ بها يف ما بعد ،الربتغاليون الذين ح ّولوها �إىل علم قائم بذاته. �إن ما ُي�شار �إليه �سوى بع�ض من منجزات احل�ضارة الهريوغليفية ال�سومرية ،مبعنى اللغة التي تتكثف فيها الر�سوم القدمية ،كما يقول هريودوت ،تلك الثقافة التي قطع معها الربتغاليون وط ّوروها .لكن هاتني احل�ضارتني كانتا قد �شكلتا القاعدة واملرجع ملا ابتدعته الب�شرية و�أ�ضافت * -ن�ص الكلمة التي �ألقيت يف امل�ؤمتر الذي دعت �إليه جامعة تون�س ـ املنار واجلامعة اللبنانية. 99
�إليه ،وك�أن منجزات هاتني احل�ضارتني �شكلت منطلقاً لعوملة على قدر ما �أتاحت به منجزات ذلك الزمن .لقد كانتا خال�صة حل�ضارتي �آ�سيا و�أفريقيا ،وعالقتهما بالعامل القدمي .ففيهما بد�أت الكتابة ،وبد�أت العلوم التي �أخذت بها الب�شرية وطورتها ،وبني ربوعيهما كانت ال�شرائع القانونية الأوىل ،وفيهما كانت التعاليم الدينية وبروز علماء ذلك الزمن ،وبهذا مل تكن التوراة التي كتبت بالآرامية� ،سوى امل�ؤ�شر على عدم وجود تاريخ عرباين يف ذاته كما يحاول الرتويج له دعاة ال�صهيونية اليوم. فالعربانيون كانوا كما تقول �إحدى الروايات التاريخية ،يتكلمون لغة قدمية قريبة من الهيفية (�أي لغة اخلطوط الهريوغليفية ال�سومرية يف طبعتها الأوىل ،كما مل تكن لغة الأناجيل)، والقر�آن �أي�ضاً الذي يحمل بني دفتيه �آالف املفردات اللغوية امل�أخوذة عن الآرامية وال�سريانية وغريهما ،تلك الكتب من التوراة �إىل الأناجيل �إىل القر�آن ،مل تكن �سوى منجز من منجزات هاتني احل�ضارتني� .أما القول ب�أن التوراة �أو القر�آن ب�أنهما من منجزات العربانيني ذاتهم �أو عرب اجلزيرة ،فهذا خمالف للعقل. يقول العالمة اللغوي عبداهلل العاليلي�" :إن تراث الب�شرية يف ذلك الزمن بخا�صة الرتاث ال�شفهي ،وبع�ضه الكتابي ،كان خال�صة من تراثيات ل�شعوب متعددة وجدت يف مرحلة ما قبل امليالد ،وبعد تلك املرحلة و�صو ًال ملا �أتت به الأيديولوجية العربية الإ�سالمية� .أما �أهمية ما قام به العربانيون ومن ثم العرب امل�سلمون ،فهو يف جتميع هذا الرتاث واالدعاء �أنه تراث واع لواقع اجتماعي ومعرب عنه� .أما تلك الكتب خا�ص بهم .وما الوحي ذاته �سوى انعكا�س ٍ التي ُيقال �إنها من ّزلة ،فهي يف نظري جميعها ت�ستقي من جذور لغوية م�شرتكة مرجعيتها احل�ضارة الهريوغليفية ال�سومرية .وما القول ب�أن اجلزيرة العربية وهي املمر وال�سوق التجاري ب�أنها املرجعية للإ�سالم ،كذلك يف النظر �إىل التوراة على �أنها نتاج عرباين يف ذاته� ،سوى قول علينا �أن ن�سعى �إىل ت�صويبه. �إن كل املكونات التي برزت يف ذلك الزمن حتى متام ن�شوء الأديان ،وحتى نهاية الع�صر العبا�سي يف القرن الثاين ع�شر ،مل تكن �إال من رحم هاتني احل�ضارتني. �أما الفينيقيون ،فقد كانوا وا�سطة العقد بني هاتني احل�ضارتني؛ ف�أبجديتهم ذاتها مل تكن �سوى اخلال�صة ملا �أعطته الب�شرية يف املجال اللغوي بخا�صة ،ويف املجاالت الأخرى بعامة .وميكن 100
ملف العدد " احت�ضار لغة و�أمة"
تلخي�ص م�شاركتهم احل�ضارية مبا قاله هريودوت من �أن الفينيقيني هم من كانوا رواداً لن�شر ثقافة هذه العوملة خارج نطاق �آ�سيا و�أفريقيا .وميكن للمتابع وهذا ما ب ّينته يف كتاب م�شرتك ن�شر يف اجلزائر ،ب�أن اللغة الأمازيغية �إذا كان ممكناً قول ذلك� ،أو كلهجة من لغة ،وهذا هو الأقرب �إىل احلقيقة ،هي �آخر ما تبقى من اللغة الفينيقية يف ع�صرنا ،هنا ميكن العودة ملا كتبه عثمان ال�سعدي وعبد القادر جعلول ،كذلك �إىل الكتاب املهم "الفينيقيون بناة املتو�سط" ملحمد ح�سني فنطر ،وغريهم ممن اعتمدوا وا�ستندوا على الكتابات القدمية ،مرحلة ما قبل ف�ضم امليالد� .أما العربية الف�صحى ،فكانت مبنزلة قطار م ّتجه نحو العوملة املمكنة يف زمانهاّ ، �إليه جميع اللهجات واللغات التي كانت قائمة ،وهذا ال يعني �أن الف�صحى ا�ستطاعت �أن متحو اللهجات املحلية� ،إال �أنها و�ضعتها خارج �شرعيتها� .أما الإ�سالم بتعاليمه الدينية ،فكان تعبرياً عن واقع �سائد �آنذاك ي�سعى �إىل الأف�ضل ،والقر�آن والوحي املن ّزل ،كان انعكا�ساً لواقع تاريخي ،و�إن كان القر�آن يف ذاته كتاب العرب �إىل العرب و�إىل غريهم من ال�شعوب التي انت�شر بني ربوعها .لقد كان القر�آن بعد نزوله مادة لت�أويالت و�صراعات اجتماعية وفتاوى �سيا�سية ،و�إن جاءت با�سم هذه الفئة االجتماعية �أو تلك ،هذا ما كان عليه الو�ضع �أيام اخللفاء وال�صراع على اخلالفة ،وهذا ما عرفته الدولة الأموية مع معار�ضيها ،كذلك ما عرفته الدولة العبا�سية التي �أفل�ست وانتهت يف القرن الثاين ع�شر ميالدي. خ�صو�صيات لغوية �أم روا�سب من لهجات اندثرت؟
يف مو�ضوع العوملة واخل�صو�صيات اللغوية ،يتابع املرء االنقطاع عن ذاك الزمن الذي توقف يف القرن الثاين ع�شر ،تاركاً ب�صماته يف لغة عربية يتكلم بها املاليني من العرب ،من دون �أن يتمكن العرب من ابتكار �آلية التطور� .إن تلك احل�ضارة التي كانت عنواناً لزمانها ،طالت ّ جل مناطق العامل القدمي ودوله ،را�سم ًة �صورة تاريخية ملوقعها يف ذلك الع�صر .فاملعرفة التي انتقلت من القراطي�س ،ومن الكتابة على جلد اخلراف ،كانت قد مرت مبراحل وخما�ضات. �إن تلك املخا�ضات قد تولد عنها "الثورة الغوتنربغية" �أي علم الطباعة ،هذه الثورة التي تواجه حتديات اليوم ،تتج�سد بالثورة احلديثة �سواء على �صعيد ثورة املعلومات "الأنرتنت"، �أو "الفي�س بوك" و"التويرت" ،واالت�صاالت� ،أم �سوى ذلك من تقنيات حديثة. �إن هذه الثورة هي املنجز الب�شري الذي تتكوكب حوله ،وت�صاغ عربه ،و�ضعيات من عالقات 101
دولية جديدة حترتم القوة وحتا�صر ال�ضعفاء ،حيث مينع عن ه�ؤالء توطني تقنيات الع�صر ال جمتمعاتهم فح�سب ،بل مينع عنهم االحتفاظ يف علمائهم وكوادرهم وكفاءاتهم التي ميكن منها وعربها االرتقاء مب�ستقبل �شعوبهم ،وبالتايل مب�ستقبل الب�شرية. �إن هذه الثورة هي املنجز الب�شري الذي تتكوكب حوله ،وت�صاغ عربه ،و�ضعيات من عالقات دولية جديدة حترتم القوة وحتا�صر ال�ضعفاء ،حيث مينع عن ه�ؤالء توطني الع�صر ال يف جمتمعاتهم فح�سب ،بل مينع عنهم االحتفاظ بعلمائهم وكوادرهم وكفاءاتهم التي ميكن منها وعربها االرتقاء مب�ستقبل �شعوبهم ،وبالتايل مب�ستقبل الب�شرية. لذا ،ف�إن احلديث عن خ�صو�صيات لغوية هو ذاته احلديث عن روا�سب من لهجات وبقايا تراث �إن�ساين كانت قد عرفته ال�شعوب العربية وغريها يف الأزمنة التاريخية التي كان لها �ش�أن وح�ضور فيها. �إن مو�ضوع اللغة يف التاريخ احلديث ،كان مبثابة هوية �أكرث منه خياراً .ول ُتالحظ الكيفية التي �أعيد فيها االنحياز للعربية� ،أي�ضاً للكيفية التي يحاول البع�ض من خاللها� ،إعادة االعتبار للهجات على ح�ساب اللغة الأم .فهل ميكن احلديث عن خ�صو�صيات ي�ستطيع العرب االعتماد عليها يف �صمودهم� ،أو يف مواجهة ما تخططه امل�ؤ�س�سات التي تدير هذه العوملة التي ي�ساهم العلماء املهاجرون العرب الذين يتجاوز عددهم املليون ،يف االرتقاء باحل�ضارة الأوروبية ــــ �أمريكية ،من دون �أن ت�ستفيد ال�شعوب التي ينتمون �إليها ،من هذه احل�ضارة� ،أو من كفاءاتهم وعلومهم وخرباتهم؟ يعدها البع�ض قاعدة للهوية العربية ،هي يف و�ضعية الدفاع، �إن اخل�صو�صيات اللغوية ،التي ّ الحظوا �أن جل مناهجنا اجلامعية وغري اجلامعية ،ما زالت تد ّر�س العلوم البحتة باللغات الأجنبية� ،إذ مل ُي َ�ص ْر �إىل توطني تلك العلوم باللغة العربية ،وبالتايل مل ي�صر لتدري�س العلوم احلديثة بلغتنا القومية ،ناهيك عن �أن معظم �أ�سماء ال�شوارع واملحال وال�شركات التجارية ما زالت تكتب ويعلن عنها باللغات الأجنبية ،كذلك املعامالت احلكومية وال �سيما تلك املتعلقة بق�ضايا املواطنني ،باللغة الفرن�سية �أو الإنكليزية ،كذلك الإعالنات والتعريف بال�سلع، �أي�ضاً الو�صفات الطبية .لقد �أ�صبحت الأجيال اجلديدة ،ويف �أحاديثها وحواراتها ،تتعامل �أي�ضاً بلغات �أجنبية ،وت�ستعمل مفردات �أجنبية. 102
ملف العدد " احت�ضار لغة و�أمة"
�إن كل ما نذكره ال ي�ساهم يف ن�شر ثقافة التغريب فح�سب ،بل يف تدمري ما تبقى من خ�صو�صيات تراهن عليها �أو يراهن عليها البع�ض اي�ضاً� .إن ما �آلت �إليه الأمور من �إهمال الأم ــ لغة احلليب ،يجعل الأجيال اجلديدة يف حل من االقرتاب الفعلي والعقلي من و�صف وحتديد �أ�سباب عدم تقدم العرب ،وبالتايل يف عدم القدرة على و�ضع م�شاريع للمعاجلة ،بخا�صة امل�شاريع التي تبد�أ ب�إعادة النظر مبا ذكرناه ،و�إيجاد �صيغ مبتكرة للتعاون بني الدول العربية وعلى امل�ستويات كافة .دون ذلك �سيبقى العرب يف �سجن املا�ضي ،يف �سجن "�سايك�س بيكو" ،على الرغم من اال�ستقالالت ال�صورية التي منحت لهذه الدولة �أو تلك. ال�س�ؤال :ما هي اخل�صو�صيات اللغوية �أو غري اللغوية التي ميكن املراهنة عليها للبناء والتطوير، وال �سيما على ال�صعيدين اللغوي والتعليمي ومنه اجلامعي؟ �إن اخل�صو�صيات اللغوية ،هي خ�صو�صيات من روا�سب لغات اندثرت ،تلك اللغات التي ج ّبتها العربية ،وكانت خال�صة لها ،ومنها ال�سومرية والهروغليفية والفينيقية بطبيعتها الأمازيغية الأخرية ،كذلك ال�سريانية والآرامية وغري ذلك من بقايا لغات قدمية ،وقد �أدجمت �سواء يف اللغة الأم� ،أم �أُدرجت يف العاميات املتداولة. �إن م�س�ألة التطور اللغوي ،ال ميكن النظر �إليها يف ذاتها وبذاتها� ،أي من دون التطرق ملا مت تقدميه وعر�ضه ،فاللغة هي مفردات حلاجات اجتماعية ،ولي�ست منف�صلة عن ذلك� .إنها مفردات من حاجات وحلاجات بني الب�شر ،هكذا قال �سيبويه واجلاحظ والفراهيدي واجلرجاين ،وهكذا ا�ستمرت �أجيال من بعد ،تتبنى اجلديد وتوظفه من �أمثال بطر�س الب�ستاين وجرجي زيدان الذي �أ ّلف كتاباً حتت عنوان "اللغة العربية كائن حي" ،وهكذا يقول �شوقي �ضيف وعبد اهلل العاليلي وجواد علي وحممد العربي ولدخليفة وعبدامللك مرتا�ض وعبد القادر الفا�سي الفهري وعبد ال�سالم امل�سدي وع�صام نور الدين وغريهم. وال�س�ؤال :ماذا يبقى للعرب من لغة منتجة يفتخرون بها ويقارنونها مع غريها من لغات؟ لقد جفّت املنابع الإبداعية التي ترتوي منها اللغة ،فتوقف منوها ،ح�صل ذلك ب�سبب هجرة العلماء ،وت�صفية اللغة املنتجة التي كان جدودنا يتكلمون وينتجون حاجاتهم الزراعية منها. تلك اللغة التي �سجلوا فيها قيم حياتهم وتطلعاتهم مل�ستقبل �أف�ضل. وبتدمري القيم التقليدية املنتجة( ،الحظوا �أن تدمري كل حرفة من احلرف التي رافقت عمل 103
الفالحني يف املا�ضي القريب ،كان يتم تدمري ثقافة كاملة معها) .كان يتم تدمري الأ�سا�س الذي ميكن املراكمة عليه ،من دون و�ضع الأ�سا�س لبدائل هي ما �أخذت به �شعوب و�أمم �أخرى� .إن عدم وجود بدائل قد �أدى �إىل حتويل ال�شعوب العربية �إىل �شعوب ت�ستهلك من دون �أن تنتج ،و�أدى �إىل حتويل الأقطار العربية �إىل �أ�سواق ا�ستهالكية من دون قيم ،كذلك مل يتم االحتفاظ بهذه الكفاءات من النخب املنتخبة علمياً وفكرياً ومادياً ،تلك النخب التي تعلمت وتخ�ص�صت يف الغرب ،فما حتتاجه بالدنا الفقرية لي�س �سوى م�شاريع حياة ،ولن يتم ذلك �إال ب�إعادة االعتبار له�ؤالء العلماء ،وباحت�ضان جمتمعاتهم لهم ،وبتعاون هذه الأقطار مع بع�ضها البع�ض. �إن العربية التي تعاين من م�شاكل قدمية حديثة ،تعاين ب�سبب ف�شل لي�س ما ي�سمى النظام الإ�سالمي ودولته فقط ،بل �أي�ضاً ب�سبب ف�شل الدولة الوطنية القومية .لذا ،ف�إن االرتقاء باللغة هو ذاته احلديث عن م�شروع عربي تكون اللغة وا�سطة العقد فيه ،لي�س على �صعيد الرتبية والتعليم العايل فح�سب ،بل منها ميكن امل�ساهمة يف توطني تقنيات الع�صر �أي�ضاً� .إن ف�شل امل�شروع الإ�سالمي الذي ي�ستح�ضر معطيات املا�ضي من دون الأخذ يف االعتبار �إ�ضافات الأجيال اجلديدة امل�ستب َعدة من امل�شهد� ،أو ذاك امل�شروع الوطني ،الذي ي�أخذ ال�شكل من احلداثة الغربية من دون �أن يعمل على توطني الت�صنيفات العلمية يف املجتمع العربي� .إن هذا امل�شروع ،كما ذاك كانا قد ا�ستندا على م�شاريع غربية كـ"�سايك�س بيكو" ،هو ما �أدى �إىل تراجع العربية ،فالعرب الذين ي�سكنون يف �أمكنة اختاروها لأنف�سهم ،هم من ي�سيئون ا�ستعمال تعاملهم مع ما اختاروه ،وح ّولوه �إىل �أوطان ودول منعزلة عن بع�ضها البع�ض. ونالحظ مث ًال كيف ي�شجع هذا النظام العربي �أو ذاك على ت�أبيد اللغة .و�سجنها يف �سجن �سيبويه والفراهيدي من دون الأخذ مبنجزات الع�صر وقيمه العلمية ،وبالتايل من دون ما �أتى به جرجي زيدان من �أن العربية هي كائن حي ،وتتطور بتطور ال�شعوب التي تتكلم بها .كما جند �أنظمة �أخرى تتبنى اللهجات ،وت�شجع على انت�شارها ،وهذا ذاته ما �أدى �إىل االنحياز لغري العربية يف الكالم ال�شفهي والكتابي �أي�ضاً ،و�أن ه�ؤالء الذين ي�شجعون اللهجات الدارجة يعتقدون �أنهم بها �سيحققون م�شاركة فعالة بالنظام العاملي� .إن ه�ؤالء هم من تنا�سوا �أن م�ضمون هذا ال�صراع حت�سمه الثقافة العلمية ،وبالتايل م�صالح الأقوى ،بخا�صة �أن العوملة حتاول تطويع ال�ضعفاء بالقوة والإكراه. 104
ملف العدد " احت�ضار لغة و�أمة"
�إن الأنظمة العربية التي حت�سب �أنها متثل (الإ�سالم كدين) ،ال تزال تنظر �إىل اللغة العربية على �أنها بنت الإ�سالم ولي�ست بنت تاريخها ،وبالتايل لي�ست جمموع تاريخ اللغات التي �أخذت منها ،و�أ�صبحت جزءاً منها� .إن تلك الأنظمة التي تتاجر بالدين ،وك�أن العامل اليوم ميكن املتاجرة معه بهذا الرتاث الذي يتم الرتويج له عرب الأقنية التلفزيونية� ،أو غريها من و�سائل م�سموعة �أو مقروءة .وميكن القول �إن ما ن�سمعه من خالل هذه الو�سائل متهمة �أو ًال ب�إلغاء العقل ،بخا�صة �أنه لي�س من م�شروع حياة عند تلك الدول التي تن�شر وتر ّوج لهذه الثقافة التي ترهن حرية الإن�سان وت�شي وجوده� .إن هذه الو�سائل الإعالمية التي تب�شر بحياة بعد احلياة ،هي التي ت�ساهم يف تدمري العقول الب�شرية ،وهي التي حت�ضر املناخات لتنظيمات مثل "داع�ش" وغريها ،تلك املنظمات التي تعترب �أن حياة الإن�سان يبد�أ بعد موته، وبالتايل ف�إنها ت�ستبدل احل�ضور الوجودي للإن�سان ،مب�شاريع وهمية ،هي ما �أو�صلنا �إىل ما تعرفه جمتمعاتنا من ب�ؤ�س وتخلف وخوف. �إن اهلل هو املهند�س لهذا الكون ،وهو الذي يحت�ضن الفالح والعامل وال�صيديل والطبيب وعامل االجتماع والفنان وعامل الآثار ،وعامل الف�ضاء واالقت�صادي وعامل الكمبيوتر وغري ذلك من علماء وعلوم �أر�ضية ،ولي�س اهلل هو الذي ينطق با�سمه هذا ال�شيخ �أو ذاك الراهب �أو ...هذا �أو ذاك الذي يحر�ض على الآخر ويطالب ب�إهدار دمه ...لذا على ه�ؤالء الذين ينطقون با�سم اهلل� ،أن يتوا�ضعوا لأن اجلنة الأر�ضية هي للب�شرية جمعاء ،وما علينا �إال �أن ن�سعى كي نعي�ش فيها ،والأر�ض ذاتها هي املبتد�أ واخلرب... �إن اللغة ،مبا هي الوعاء للهوية ،هي منجزات مادية ومعنوية للأجيال ،ولي�ست �أداة للرتويج لثقافة عفا عليها الزمن .كما �أن الثقافة الدينية املع ّلبة التي متنع الأخذ ب�إ�ضافات الأجيال ،هي ذاتها التي ت�شجع على اال�ستبداد والرهان على املجهول. �إذا ما تفح�صنا ما ن�شري �إليه ون�شكو منه ،فعن �أية خ�صو�صيات لغوية نتحدث ،وعن �أية عوملة ـــ نحن العرب ـــ ن�سعى �إليها ،ون�سعى �إىل امل�شاركة فيها؟!
105
3
ط- بناية ر�سامني- �شارع احلمرا- بريوت- لبنان لبنان- بريوت113 - 7179 :ب.�ص
tel: 00961 -1 - 751 541 E-mail: info@darabaad.com website: www.darabaad.com
ملف العدد " احت�ضار لغة و�أمة"
اللغة العربية :ل�سان �أمة وعنوان ح�ضارة وهوية د .فيفيان حنا ال�شويري � -أ�ستاذة الآثار واحل�ضارت يف اجلامعة اللبنانية
�إن اللغة وعاء الفكر والو�سيلة التي بوا�سطتها تنتقل املعرفة وتتالقح الثقافاتّ ، ولكل �شعب لغته وهي عنوان هويته وح�ضارته .واللغة القوية هي من الأمة القوية .نحن العرب ننتمي اىل ح�ضارة عريقة هي �أم احل�ضارات ومهد الفكر والعلوم والأديان ،بوا�سطتها نقل �أجدادنا املتمدن .وما من �أحد من العرب �إال ويعرتف ويعتز نتاجهم الثقايف اىل جميع �أ�صقاع العامل ّ بهذا التاريخ املجيد ،رغم �أننا ومن دون وعي وكما يقول �أحد الباحثني" :نر ّدد عبارات من مثل" :كان العرب"" ،قالت العرب"َّ ، لندل على من �سبقنا على هذه الأر�ض العربية ،بد ًال منت حل�ضارتهم ب�صلة"! من �أن نقول "�أجدادنا العرب قالوا �أو فعلوا" ،وك�أننا غرباء عنهم وال ّ وامل�س�ألة هنا م�س�ألة هوية وانتماء ووعي وجود ،يجب تعزيزها والعمل الد�ؤوب لتن�شيطها با�ستمرار. ي�سرتعي انتباهنا عناوين تعطى مل�ؤمترات تعقد من فرتة اىل �أخرى حول اللغة العربية من مثل "�أ�سباب تعثرّ اللغة العربية وحماوالت النهو�ض بها" ،ويلفتنا حتديداً تعبري "تعث" وك�أن يف الأمر ت�أكيداً وحكماً مربماً و�أمراً ناجزاً وتاماً من �أن اللغة العربية متعثرّ ة حقاً .وهذا ما نتحفّظ عليه لأ�سباب عدة نذكر �أبرزها الآتي: �أو ًال :كون لبنان كان وما يزال و�سوف يبقى رائداً يف احلفاظ على اللغة العربية على عك�س ما ُيعتقد خط�أً ،فمن الإجحاف مبكان ترداد �أن اللغة العربية هي يف م�أزق اليوم بعد كل اجلهود التي قام بها اللبنانيون ب�شكل خا�ص ،والت�ضحيات التي ّقدموها وامل�صاعب التي واجهوها خالل القرنني الثامن ع�شر والتا�سع ع�شر �ضد حماوالت طم�س اللغة العربية وتهمي�شها، بحيث �أ ّدت �أعمالهم اللغوية اىل حمايتها من ال�ضياع التام ،وقد منحوها ،عالوة على ذلك، قواعد ومناهج حديثة هي املادة املتوفرة بني �أيدينا اليوم .فلو �سئل �أحد ه�ؤالء الطليعيني من 107
اليازجي والب�ستاين وغريهم �إذا كانوا را�ضني عن و�ضع اللغة العربية يف ع�صرنا ،لأجابوا يقيناً: بل نحن �شاكرون لأجيالنا لأنها ا�ستمرت بالعناية باللغة العربية؛ وهذا �إجناز عظيم ،بخا�صة لو عرفوا كم تع ّر�ضت له من �أزمة وجود هو �أ�ضعاف ما تواجهه الآن من هجمات لغات �أجنبية تنازعها املكان ،ورغم ذلك ما زالت �صامدة وع�ص ّية .وهل حمالت الفرن�سة والأنكلزة يف ظل االنتداب كانت ب�أقل خطورة عن حمالت الترتيك التي �سبقتها؟ وال �شك يف �أن هجمة العوملة التي تو�صف باملتوح�شة و�ضغط املوجات الثقافية الأمريكية احلالية لي�ست بال�شيء القليل� ،إال �أن اللغات العاملية كلها يف مو�ضع دفاعي �إزاءها ،فلي�س حال الفرن�سية �أو الأملانية وغريها ب�أف�ضل من اللغة العربية ،فكل ال�شعوب تواجه االجتياح الثقايف واللغوي العاملي احلايل نف�سه ،و�إذا ا�ستطاعت تلك ال�شعوب �أن حتمي لغاتهاَ ،مل ال ينجح العرب كذلك؟ ثانياً� :إن اللغة العربية التي نتكلمها اليوم هي نف�سها لغة جربان خليل جربان والرابطة القلمية و�أدباء املهجر الذين كتبوا بهذه اللغة الأم ،وهم يف خ�ضم العامل الغربي وثقافته ولغته ،ومل مينعهم ذلك من املحافظة على لغتهم الأ�صلية ،بل زادهم الأمر ولعاً و�شغفاً واهتماماً بها كونها عنوان هوية وقومية ال ميكن التخلي عنها ،ف�إذا كان من عا�ش يف قلب نيويورك والربازيل وغريها مل يت�أثر ومل ي�ض ّيع لغته ،فهل يت�أثر من هو يف ال�شرق وبني ظهرانيه؟ ثالثاً :وقف رواد النه�ضة العربية منذ مطلع القرن الع�شرين بوجه تيارين مت�ضادين :التقليد متم�سكني بالتقليد ،راف�ضني لكل واحلداثة ،والذي جعل املفكرين العرب ينق�سمون بني ّ دخيل ،وبني داعني �إىل احلداثة وحم ّبذين موجة "الغربنة"� ،أي اعتماد ثقافة الغرب ب�شكل بحجة التطور العقلي والعلمي ومواكبة الع�صر واللحاق بركب الدول املتطورة و�سلوك كاملّ ، ت�صدى لهذا التيار الذي ر ّوج له متزعم النه�ضة امل�صرية طه ح�سن، م�سلكها .و�أكرث من ّ املد التغريبي املفكرون اللبنانيون من �أمثال فرح �أنطون (توفى �سنة )1922الذي وقف بوجه ّ هذا واتخذ موقف املدافع عن اللغة العربية والقومية العربية واحل�ضارة العربية ب�شدة و�شرا�سة ُوكتب له النجاح يف م�ساعيه وجنت الثقافة واللغة العربية مرة �أخرى من التهمي�ش .ومن ين�سى ما للأديرة واحلوزات العلمية من دور ريادي يف حت�صني اللغة العربية وترويج ا�ستعمالها، وهي لغة الإجنيل املقد�س والقر�آن الكرمي ،بها ُيتلى كل من القدا�س الإلهي والآذان يومياً وعلى مدار ال�ساعة ،فكيف لأمة "�إقر�أ" و"يف البدء كان الكلمة" �أن تتغ ّرب عن العربية؟ �إن اللغة العربية هي لغة ال�صالة وهل �أكرث من العرب �صالة وابتهاالت و�أدعية؟ 108
ملف العدد " احت�ضار لغة و�أمة"
رابعاً :كيف نظن ولو للحظة �أن اللغة العربية تتعثرّ وهي اللغة التي تع ّلمها املاليني من تالمذة املدار�س وطالب اجلامعات واملعاهد العربية منذ ن�ش�أة هذه امل�ؤ�س�سات التعليمية وما يرتبط بها من وزارات ومراكز تربوية وثقافية؟ فلو قمنا بعملية ح�سابية ب�سيطة لوجدنا �أن اللغة العربية اليوم يف �أوج عزها وانت�شارها مقارنة ب�أوائل القرن الع�شرين ومنت�صفه ،حيث مل يكن التعليم �إلزامياً وكان �أكرث من ن�صف ال�سكان العرب �أميني يجهلون القراءة والكتابة وحتى التحدث وفهم اللغة العربية الف�صحى ،والتي مل تعد غريبة على �أحد ،و�إن ت�أثريها الآن لكبري جداً على اللهجات املحلية واملحكيات التي تط ّعمت بعبارات من اللغة الف�صحى تر ّدد بعفوية على كل ل�سان عربي من مثل( :من الطبيعي ،تلقائياً ،خا�صة ،بالن�سبة �إىل ،عالوة على، بالإ�ضافة اىل ،حتديداً ،طبعاً� ،إجما ًال ،باملطلق ،يقيناً ،م�سبقاً ،من املعلوم ،من املعروف ،مبوازاة ذلك )...وكلها عبارت مل ت�ألفها الأجيال العربية التي مل تر َت ْد املدار�س ومل تعهد القراءة والتي ،حتى زمن قريب ،كانت تبحث عن َمن يقر�أ لها املكتوب يف ال�ضيعة! واالعتقاد املر ّوج له �أن �شبابنا الذين يرتكون الوطن من �أجل فر�ص العمل املتوفرة خارجاً يهملون اللغة العربية وين�سونها ،هو خاطئ ،لأنهم ما �أن يعودوا اىل وطنهم ،حتى ي�ستعيدوا اللغة �شا�ؤوا �أم �أبوا حلاجتهم لها ،فكيف لعربي تدبري �ش�ؤونه الإدارية ومعامالته الر�سمية والقانونية والعقارية يف وطنه ،من دون ا�ستعمال اللغة العربية ،لغة بالده الر�سمية؟ خام�ساً� :إن تعليم اللغة العربية ي�أخذ ح ّيزاً كبرياً من االهتمام يف املناهج الرتبوية التي و�ضعتها وزارة الرتبية ،كما ٌخ ّ�ص�صت له �أق ّله �ساعتان يومياً يف كل من املدار�س اخلا�صة والر�سمية وبع�ض اجلامعات ،على ر�أ�سها اجلامعة اللبنانية .وال تقت�صر اللغة العربية على كتب القراءة والقواعد والإن�شاء ،بل تدخل يف مادة الرتبية املدنية والتاريخ واجلغرافيا والريا�ضيات والعلوم والفل�سفة والتن�شئة الدينية واالقت�صاد وعلم النف�س واالجتماع وال�سيا�سة واحلقوق وال�سياحة واملعرفة وغريها ،وبهذا يبقى الطالب على احتكاك بها طيلة �أ�سبوعه الدرا�سي يظن البع�ض .ولكون العربية مادة �أ�سا�سية تد ّر�س على قدم وال تغيب عن م�سمعه كما ّ و�ساق مع اللغات الأجنبية ،ال مينع �أن يعتني بها كل من املد ّر�س والطالب اعتناءه باللغات الأخرى والعمل على التفوق بها ،وما ِمن منا�ص من ذلك ،بحيث عليه التقدم المتحان البكالوريا الر�سمي وال جمال للح�صول عليه من دون حت�صيل اللغة العربية وهذه �ضمانة كربى لها ،جتبرَ جميع املدار�س على �إيالئها االهتمام الالزم ،رغم �أنه يالحظ تفاوت يف م�ستوى العربية بني املدار�س ،فمنها جزء ذو م�ستوى عالٍ جداً ومنها جزء متو�سط ومنها ما 109
هو رديء؛ وال يعود ال�سبب اىل اللغات االجنبية ،كما يرتاءى للبع�ض ،فالطالب املتمكن من لغة يتمكن من ثانية وثالثة دون م�شكلة والعك�س �أي�ضاً �صحيح ،ودليلنا النجاح الذي حققته بع�ض املدار�س اخلا�صة يف تعليم اللغات الثالث العربية والفرن�سية والإنكليزية بالتوازي منذ احل�ضانة ،وكانت حماولة ناجحة جداً ومنحت التالمذة قدرة على التمييز واملقارنة واملقاربة مل تكن �سانحة لهم من قبل ،ف�أ�ضحت امل�س�ألة عبارة عن منهجية ولي�ست فقط تلقيناً ببغائياً، وهذه املدار�س تحُ َّيى على جهودها .والأهم �أن وظائف الدولة والإدارات العامة والقطاع العام تفر�ض امتالك اللغة العربية �أو ًال اىل جانب اللغات الأجنبية يف مراكز حمددة و�أن اخلدمة املدنية تلزم املر�شحني امتالك اللغة العربية قبل �أي ثقافة �أخرى ،وهذه �ضمانة للغة العربية بامتياز .واجلدير ذكره �أن بع�ض الدول الأفريقية افتتحت فيها مدار�س للغة العربية �سنحت للمغرتبني اللبنانني العائدين للعي�ش يف الوطن فر�صة التقدم اىل املباريات واحل�صول على وظائف �إ�سوة بغريهم من املواطنني. �ساد�ساً� :إن اللغة العربية هي بطبيعة احلال ،وعلى عك�س ما يظنه البع�ض ،االكرث انت�شاراً يف العامل العربي على م�ستوى ال�شا�شات املحلية والإذاعة ويف الإعالم املقروء وامل�سموع واملرئي ،فال�صحف واجلرائد واملجالت اليومية والأ�سبوعية وال�شهرية والف�صلية ال عد لها تقدم ب�شكل غري معهود وال ح�صر اليوم مقارنة مع املا�ضي ،كما �أن قطاع الطباعة والن�شر ّ يف ال�سنوات الأخرية وعدد الكتب التي ُتط َبع �سنوياً �ضخم جداً .وهذا عائد لكرثة الك ّتاب وال�شعراء ،رغم قلة القراء كما ن�سمع وهذه امل�س�ألة عاملية ولي�س فقط عربية .كما �أن حركة الرتجمة نا�شطة جداً ،فما �أن يخرج كتاب عاملي حتى ت�سارع الدور اىل ترجمته اىل العربية، �إ�ضافة اىل امل�ؤلفات والدرا�سات والأبحاث املحلية التي ت�صدر من مراكز الأبحاث واجلامعات الكم الهائل من الكتب والأن�شطة والتقارير والأحزاب واجلمعيات والرعايا ،...فهال تخ ّيلتم ّ ت�ضمها معار�ض الكتب يف الوطن العربي �سنوياً؟ كما �أن الف�ضائيات والإنرتنيت العربية التي ّ �أعطت اللغة العربية الف�صحى فر�صة فريدة لالنت�شار ب�شكل مل ي�سبق له مثيل ،وقد جتاوزت حدود الوطن العربي اىل �أ�صقاع الأر�ض ،حيث اجلاليات العربية متيل اىل �سماع لغتها الأم. كما و�أن املواقع االلكرتونية مليئة ب�آالف الن�صو�ص العربية والرتجمات التي هي مبتناول �أي باحث يتقن العربية ب�سهولة .وعندما نقر�أ على موقع ما عدد امل�شاركني واملع ّلقني الذي ي�صل اىل مئات الآالف احياناً ،ن�ستغرب مما ير ّوج له زيفاً من انعدام القراءة خا�صة باللغة العربية. 110
ملف العدد " احت�ضار لغة و�أمة"
�سابعاً� :إن اللغة العربية هي لغة وكتابة ،وال يعتقدن �أحد �أن �أ�سلوب الكتابة العربية االلكرتونية الذي ابتدعه ال�شباب الع�صري ،معتمداً احلرف الالتيني مع بع�ض احلروف امل�ستنبطة للفظ "العني واحلاء واخلاء"� ،أنه ي�ض ّر باللغة العربية بل هو ي�سيء اىل الكتابة العربية يف حال �أهملت �أ�صولها .والكتابة غريها اللغة كما نعلم جميعاً .وهذا النمط اخلطي امل�ستحدث القى رواجاً كبرياً وانت�شر بعفوية يف العامل العربي ما جعل اللغة العربية تتفوق على اللغات املناف�سة، واجليد يف الأمر �أن ال�شبيية ت�ستعمل اللغة العربية للرتا�سل والتوا�صل ولي�س الفرن�سية �أو الإنكليزية ،ما يدعم اللغة العربية ب�شكل كبري ويخدم وجودها ب�شكل �أف�ضل ،فهي مت�س الوجدان �أكرث منها اللغة الأجنبية ،ونحن نرى �إيجابيات امل�س�ألة ولي�س �سلبياتها. ثامناً� :إن اللغة العربية هي اللغة الأكرث ا�ستعما ًال اليوم يف الفنون امل�سرحية وامل�سل�سالت التلفزيونية والدبلجة والأغاين .وهي لغة ال�شعر والت�أليف على �أنواعه ،و�إىل من يت�ساءل كيف ذلك ف�إننا نعني اللغة العربية بكل لهجاتها وحمكياتها التي �أ�صبحت ي�سرية الفهم على كل مواطن عربي� ،أينما كان ،فلم ي ُعد غريباً عليه الل�سان اخلليجي �أو اليمني �أو اللبناين �أو ال�سوري �أو العراقي �أو الفل�سطيني �أو املغربي �أو البدوي ،لكرثة ما يعر�ض على ال�شا�شات من يهتم ب�ش�ؤون املجتمعات العربية كافة .ولعلنا نذكر حماولة بع�ض برامج وم�سل�سالت ووثاقي ّ ال�شبكات التلفزيونية تقدمي ن�شرة الأخبار باللهجة املحلية ،فكانت النتيجة رمبا رائعة للم�ستمع حدت من انت�شار القناة ورواجها وانفتاحها واملقدم كما �أنها ّ املعد ّ املحلي ،ولكن �صعبة على ّ على العرب الآخرين ،لذا ما لبثت هذه التجربة �أن ا�ضمحلت وتال�شت من تلقاء نف�سها. كما �أن عدداً كبرياً من اللقاءات التلفزيونية يطلب من ال�ضيوف ا�ستعمال العربية الف�صحى خالل املناظرة بينهم حتى ّ يتمكن امل�شاهد العربي من فهم املحاورة ب�سهولة .واىل َمن يخاف على اللغة العربية من ال�ضياع ،نطمئنه �أن املناظرات ال�سيا�سية ون�شرات الأخبار املتتابعة التي وحدها �أن حتافظ على هذه اللغة ال تغيب عن ال�شا�شات العربية وعلى كرثتها اليوم ،كفيلة َ و�إن كان �أكرثها ّ ي�شكل �سبي ًال للخالف واملعار�ضة واجلدل العقيم وبلبلة العقول من كرثة الأخذ والر ّد والرثثرة ،ومبجملها تنظري كالمي لي�س �إال� ،إال �أنها تبقى باللغة العربية! تا�سعاً :متتاز اللغة العربية الف�صحى عن غريها من اللغات �أنها اللغة اجلامعة للأمة العربية بوا�سطتها ميكن ِّ لكل عربي �أن يفهم الآخر مبعزل عن لهجته املحكية املحلية ،وهذا ما ال يتوفّر عند ال�شعوب غري العربية ،فمن منا ميكن �أن يحدد ما هي اللغة التي جتمع الأوروبيني 111
حالياً غري الإنكليزية بالطبع ،ولكنها لي�ست لغة الأوروبيني كلهم ،بل هم ي�ستعريونها من �أجل التوا�صل فيما بينهم ،ما ي�سمح لربيطانيا (ولأمريكا معها عن بعد) �أن حتتل ال�صدارة يف املجموعة الأوروبية ومينحها ذلك نوعاً من التفوق الذي تعتز به ،يف حني �أن الآخرين من غري يتحدثون بغري لغتهم خارج �إطار بلدهم الأم. الربيطانيني ال ي�شعرون باالعتزاز نف�سه لكونهم ّ يحتج �أو ي�شعر بالأ�سى� ،إذا ما تك ّلم غريه من العرب باللغة الف�صحى؟ فهل �أحد من العرب ّ موحداً وحافزاً وجدانياً طبعاً ال! وهذا مو�ضع افتخار �أن تكون اللغة العربية الف�صحى عام ًال ّ وقومياً مزي ًال للحدود الوهمية التي ُو�ضعت للعرب بني بع�ضهم البع�ض ،وهنا تكمن �أهميتها. عا�شراً� :إنه غري �صحيح� ،أن التداول باللغات الأجنبية ب�شكل م�ستمر ي�ؤثر على اللغة العربية، ولبنان خري مثال ،بحيث ُي ّعد من �أكرث بلدان ال�شرق الأو�سط ا�ستعما ًال للغات الأجنبية، وال تقل اللغة العربية فيه �ش�أناً عن غريها ،بل ُي ّعد من �أكرث الدول العربية تعليماً واهتماماً م�صدراً للأ�ساتذة اىل الدول العربية ال�شقيقة لتنمية تدري�س اللغة باللغة العربية ،وحتى ّ العربية فيها .كما و�أنه لي�س �صحيحاً �أن قلة ا�ستعمال اللغات الأجنبية واالقت�صار على العربية ي�ساعد اللغة العربية ويق ّويها ،فهناك دول ال تد ّر�س اللغات الأجنبية ب�شكل مكثف ّ ومركز وم�ستوى العربية فيها عادي �أو �أقل من عادي� .إذن ال عالقة للغات الأجنبية بتاتاً مب�ستوى اللغة العربية� ،صعودها �أو هبوطها ،والدليل �أن �أكرث ّ املتمكنني من اللغة العربية هم الأ�ساتذة واملفكرون والعلماء والباحثون الذين يتقنون �أكرث من لغة �أجنبية ،ال غنى لهم عنها يف �أبحاثهم ومراجعهم ومتابعة تطور العلوم فيها ،ولكن مل مينعهم ذلك من �أن يكونوا �أفذاذاً باللغة العربية ورمبا الوحيدين الذين يعملون على �صونها ،لكون املنهج العلمي يقت�ضي �أ�سلوباً تبدل اللغة امل�ستعملة ،فهل واحداً يف التفكري بجميع اللغات وال ميكن االنتقا�ص منه مع ّ �أكرث من املرتجمني �إتقاناً للغات على تن ّوعها؟ وهل املرتجم البارع �أقل �ش�أناً باللغة الفرن�سية منها العربية مث ًال ،و�إذا كان هذا حاله فال يكون بارعاً .وبهذا يكون الباحث العارف باللغات �أكرث َمن ي�ساهم يف حماية اللغة العربية من العبث الذي يحيط بها� .إذن ،امل�س�ألة هي يف �إهمال اللغة العربية والتخ ّلي عنها و�إق�صائها نهائياً ،وهذا غري ممكن يف الوطن العربي ،ولي�ست امل�شكلة يف ا�ستعمال لغة �أخرى مبوازاتها� .أما كون اللغة العربية غري قابلة للت�أقلم مع العلوم والتكنولوجيات احلديثة ،فهذا ادعاء خاطئ ير ّوج له للت�ضليل� ،أال توجد تقنيات وتكنولوجيا وفكر وثقافة يف بلدان ال تعتمد على اللغات الأجنبية بل ترتكز على اللغة العربية ب�شكل �أ�سا�سي؟ �أال يوجد علماء و�أدباء ومفكرون ال يتقنون �أي لغة �أجنبية وحتى ال يعرفون فك 112
ملف العدد " احت�ضار لغة و�أمة"
رموزها وال حاجة لهم بها ،وهم خالقون ومبدعون؟ و�إال ملا كان من حاجة للرتجمة لو كل النا�س �أتقنوا اللغات. حادي ع�شر :ال يحتاج العربي ،بف�ضل لغته العربية ،اىل لغة �أخرى ي�ستعني بها لكتابة قوانينه ود�ساتريه وعلومه وفكره وِ�شعره وكل ما يحتاج كتابته ،فهي اللغة الأوىل يف كل الوطن العربي� ،أما ما تالها من لغات �أجنبية فهي و�إن كانت ت�ستعمل وبكرثة ،تبقى هام�شية وغري �ضرورية وميكن اال�ستغناء عنها ،بينما عند �شعوب �أخرى مل يكن لديها نظام لغوي متطور يف الأ�صل كالقارة الإفريقية ال�سوداء ،قام اال�ستعمار الأوروبي بفر�ض لغاته كو�سيلة للتعامل واملعرفة ،فهل ميكن للإفريقي �أن ي�ستغني عن الفرن�سية �أو الإنكليزية؟ و�إذا ما ا�ستغنى ،مباذا ي�ستعي�ض عنهما ولي�س له لغة ر�سمية غري املحكية اخلا�صة بقبيلته والتي ال يفهمها الإفريقي من منطقة �أخرى ،وكيف يكتبها وهو ال ميلك نظام�أ قلمياً جامعاً؟ هذا لي�س حال العربي! وهنا ينتقل بنا احلديث من اللغة كو�سيلة حمادثة اىل اللغة املكتوبة كنظام كتابي و�أداة تدوين ،لنتحول من الإيجابيات التي بد�أنا بها طرحنا اىل بع�ض املع�ضالت التي حتيط بهذه اللغة العربية املكتوبة حتى ال نقول م�شكالت .ونحن و�إن كنا قد حتفظنا على عبارة "تعرث" يف ما يتعلق باللغة كو�سيلة حمادثة وخماطبة ،وب ّينا موا�ضع قوى اللغة العربية ك�أدة للكالم ،فال يجدر بنا �إال املوافقة على عبارة "تعث" يف ما يتعلق باللغة العربية املكتوبة والأمران مرتبطان، مراع فهل ميكن التحدث بلغة �سليمة� ،إذا ما كتبت ب�شكل مغلوط �أو ركيك �أو م�ش ّوه� ،أو غري ٍ لأ�صول اللغة وقواعدها ومميزاتها؟ واجلواب بالطبع ال! من هنا وجوب الإ�ضاءة على بع�ض ما تتع ّر�ض له هذه اللغة العربية املكتوبة وما �آل �إليه �أمرها. �أو ًال :ثمة من ّيدعي �أن اللغة العربية �أ�صعب من غريها من اللغات الأخرى ،فهل هذا �صحيح؟ وما �سبب هذا االدعاء؟ واجلواب هو لي�ست �صعبة املرا�س ولكن عدم وجود قواعد موحدة متفق عليها بني العرب يجعلها عر�ضة للمجادلة وحتى ال�صراع .لن�أخذ كمثل كتابة ّ الهمزة يف كلمة "م�س�ؤول" ،فهل تكتب بواو مهموزة و�أخرى م�ضمومة �أم بواو واحدة؟ ومثلها كلمة "جتزئة" فهل تكتب الهمزة على كر�سي الياء �أم على االلف؟ ومثلها الأفعال بد�أ /قر�أ /ملأ ،فهل نكتب يقر�أون /يبد�أون /ميلأون ب�إ�ضافة (ون) يف حالة اجلمع لأن �أ�صل الفعل "قر�أ"� ،أم يقر�ؤون /يبد�ؤون /ميل�ؤون بقلب همزة الألف واواً مراعاة للحركة الأقوى؟ �إن امل�س�ألة جتعلكم حتتارون والأف�ضل �س�ؤال خمت�صي اللغة العربية وقواعدها ،ولكن هل هم متفقون على 113
قاعدة واحدة للهمزة؟ وما الهمزة �إال مثل ب�سيط عن قواعد كثرية �أكرث تعقيداً .وهذا يتط ّلب توحد هذه القواعد حتى ت�صل اىل لغة عربية �أ�صولها جهوداً من املجامع اللغوية العربية �أن ّ ن�سميه "�شاذ عن القاعدة" ،فلكرثة ال�شواذات �أ�صبحت القواعد ثابتة وال تتحرك بح�سب ما ّ العربية من دون قاعدة! �إن حتديد هذه القواعد هو عملية حتديث اللغة وهو �أمر حممود وكفيل ويب�سط الأمر على متلقّي اللغة كما وعلى مد ّر�سيها .ونحن ب�أن يذلل الكثري من املع�ضالت ّ على يقني �أنه بزوال اخلالف حول اللغة ،تزول خالفات كثرية �أخرى بني العرب! ثانياً� :إن اللغة العربية احلالية هي �سليلة تراث ح�ضاري موغل يف التاريخ .وهي نتاج م�سرية يتحدر من �أقالم عدة �سبقتها ،فهي وكما طويلة من تطور الأنظمة الكتابية ،وقلمها احلايل ّ تتحدر من القلم ال�سرياين والآرامي وهما قلمان متطوران عن الكتابة الفينيقية يعلم اجلميع ّ الأبجدية التي ر�أت النور يف �صيغتها املب�سطة والأ�سهل على �أر�ض جبيل -بيبلو�س (حوايل 1100ق.م ،).وانت�شرت يف العامل الذي اعتمدها ب�شكلها الالتيني وما زال الغرب ي�ستعمله كما ورثه اىل الآن ،يف حني تط ّور ،يف ال�شرق ،احلرف الفينيقي اىل الآرامي املربع ،ثم ال�سرياين الذي ربط احلروف ببع�ضها ونقّطها وح ّركها؛ وعنه انبثق اخلط العربي على �أنواعه والذي نكتبه اليوم .وال�س�ؤال :كم هو عدد الذين يعرفون تاريخ الكتابة العربية ،لي�س فقط من املثقفني ب�شكل عام ،بل من املهتمني باللغة العربية ب�شكل خا�ص؟ قليل عددهم بالطبع وعلينا اال�ستعانة دائماً بدار�سي اللغات القدمية من �أجل التو�ضيح وال�شرح والإقناع ،وهم قلة. وال�س�ؤال :لو طرحنا ال�س�ؤال على �أحد الأوروبيني الغربيني عن تاريخ لغته ،لأجاب بتلقائية عدلت وتطورت حتى و�صلت �إليه ب�صيغتها وعفوية مطلقتني �أن �أ�صولها هي الالتينية و�أنها ّ تتحدر منها الكتابة العربية؟ واملهم من احلال ّية ،فكم عدد العرب الذين يعرفون الأ�صول التي ّ هذا الطرح هو �أنه لو عمدنا اىل تدري�س الأ�صول الآرامية وال�سريانية للغة العربية منذ املراحل الدرا�سية الأوىل كما هو حال تعليم اللغة الالتينية كقاعدة للغة الأم يف �أوروبا ،لك�سبنا �أموراً عدة ،منها تع ّرف الأجيال الطالعة على لغاتها وتالياً على ح�ضارتها� ،إذ �إن ارتباط اللغة باحل�ضارة وثيق ومتالزم .وهذا يكفل تع ّلق املرء بلغته تع ّلقه برتاثه وتقاليده وعاداته وطقو�سه، فكيف يحب العرب اللغة العربية من دون معرفة تاريخها وهو تاريخهم؟ وملاذا تد ّر�س اللغات الأجنبية مرتبطة ب�إرثها الثقايف وح�ضارتها وال يكون الأمر كذلك بالن�سبة للغة العربية؟ يف الأمر فع ًال لغز حميرّ ! فكيف يتباهى العربي بامتالكه لغة �أجنبية وهي عنوان ح�ضارة وتاريخ لأ�صحابها وال يتباهى بالعربية؟ ف�إذا كانت اللغة الأجنبية �سليلة ثقافة وح�ضارة ،فهذا حال 114
ملف العدد " احت�ضار لغة و�أمة"
كل لغة �أخرى �إذ ما من �شيء �أتى من عدم ،وملا ال تكون اللغة العربية وهي �أم اللغات ب�صيغها القدمية مو�ضع عز وافتخار نتعلق به تعلقنا مبقد�ساتنا؟ واجلواب لأن احل�ضارة مهملة عد لها ،والتي ترزح يف مناهجنا املدر�سية وال يوجد كتاب عن ح�ضارتنا بني الكتب التي ال ّ حتت وزنها ظهور تالمذتنا النحيلة� :شُ نط ٌتق�صف الظهور اليانعة ف ُيلعن كتاب القواعد العربية امل�سكني على فعلته ،علماً �أنه الأقل وزناً بينها! وعلماً �أنه ال يوجد حتى كتاب تاريخ بينها! فماذا يوجد �إذن داخل هذه الأحجام ال�ضخمة من ال�شنط التي ي�ستع�صي حملها على والد الطفل نف�سه؟! كتب اللغات الأجنبية بالطبع! بحجة �أنها بالية وال حاجة ثالثاً :وتلعن الأ�سماء والرموز واملحطات الالمعة يف التاريخ العربي ّ لنا بها يف العلوم احلديثة! ف�إذا كان اجلاحظ واملتنبي والطربي وابن �سينا واملعري وابن املقفع وهنيبعل و�صالح الدين باليني ،فلما ال يكون موليري وفولتري و�شك�سبري وبايرون ونيوتن وكانط وفرويد ونابليون وق�سطنطني واال�سكندر الكبري ونريون وفليمينغ وبا�ستور كذلك؟ �ألي�سوا كلهم �أ�سماء من املا�ضي مل يعد لهم مت�سع يف العامل املعا�صر العلمي والتكنولوجي؟ واجلواب :نعم يف املبد�أ املنطقي كلهم قدماء ،ولكن لي�سوا كلهم باليني� ،أق ّله عند الغرب َ التماثيل يف ال�ساحات العامة واحلدائق واملتاحف، الذي رفع لأعالمه و�شعرائه وعلمائه ه�ؤالء لي�س لتزيينها كما يعتقد من ال يعري اهتماماً مل�آثر الأقدمني ،بل لقيمتهم العلمية و�إجنازاتهم الوطنية والقومية وعطاءاتهم التي ّقدموها ل�شعوبهم و�أوطانهم ،فهل ي�ستغني الغرب عن رجاله هدمت فرن�سا "البانثيون" ( )pantheonحيث العظماء با�سم الع�صرنة والتكنولوجيا؟ هل ّ ُدفن رجالها ومفكروها وخمرتعوها و�أعالم ع�صر الأنوار ورجاالت ثورتها الكربى و�صحافيوها و�شعرا�ؤها وك ّتابها ،ومل تعد ت�ضع حرا�ساً على مدخله ،حتى نقتفي نحن العرب �أثرها ونر�ضى بقطع ر�أ�س املعري ،وتهدمي م�ساجد وكنائ�س ال�شرق ون�سف متاحف العراق و�سوريا ومتحف يرف لأحد جبني، الفنون الإ�سالمية والعربية الأكرب يف العامل يف و�سط القاهرة ،من دون �أن ّ ومنا َمن ال علم له حتى بهذه الكوارث واجلرائم بحق الرتاث احل�ضاري العاملي؟ ّ فكل اخرتاع هو ملك للإن�سانية جمعاء وهذا بند من بنود الأوني�سكو حلماية الإرث العاملي؟ ال! ال فرن�سا وال غريها� ،أهملت عظماءها ،ولن تفعل ،رغم �أن �أعالمها �أخذوا عن رجاالتنا ومفكرينا ه�ؤالء ،ولكن نحن فعلنا! وملاذا؟ لأننا نظن ،و�إن بع�ض الظن �إثم� ،أنهم �أ�صبحوا من املا�ضي ومل يعد يحتاجهم ع�صرنا ،بل �أ�صبحوا عبئاً ثقي ًال كال�شنط املدر�سية .عجباً! �صاحب الفكر الأ�صيل جعلناه بالياً :ذلك الذي قال بالعلمانية واملدنية وتفعيل املنطق ،ذلك املع ّري 115
الذي عنه �أخذ دانتي وكانط وهيغل! وابن املقفع �أ�ضحى بالياً ،وقد ن�سخه حرفياً ال فونتني La
،Fontaineوعمر بن اخلطاب يد َّمر ذكره وهو القائل" :كيف ت�ستعبدون النا�س وقد ولدتهم �أمهاتهم �أحراراً؟! ،وهي العبارة التي اتخذتها الثورة الفرن�سية الكربى �شعاراً لها و ُن�سبت اىل مفكري ع�صر الأنوار! فكيف ُيحافظ على �إرث رو�سو Rousseauم�ستعري هذا القول ويهم�ش �صاحبه الأ�صلي؟ وكيف ما زال الطربي وابن �سينا وغريهم يد ّر�سون يف الف�صول ّ الأوىل من مناهج الطب لدى الغرب و ُي ّعدهم طالبنا العرب باليني؟ هل لديكم جواب؟ لدينا جواب يف هذا ال�س�ؤال :ملاذا �أٌلغيت مادة الفل�سفة العربية وتاريخ العلوم عند العرب من املناهج التعليمية ومل تل َغ مادة الفل�سفة والآداب الأجنبية؟ ملاذا �أُلغي كتاب التاريخ العربي ومل تلغ كتب التاريخ الأجنبية؟ هنا الطامة الكربى والتي لها عالقة �أ�سا�سية باللغة العربية� .إن �أعالم ح�ضارتنا ه�ؤالء الذين ع ّلموا �شعوب العامل ب�أ�سره ،قد كتبوا بالعربية ،و�إذا هم�شنا تدري�سهم نكون قد �ساهمنا يف تدمري لغتنا العربية وحمو ثقافتنا وعلومنا ،وهو كذلك، ّ للأ�سف! فقد �أ�ضحوا فلكلوراً لي�س �إال! �إن احلفاظ على علوم مفكرينا ال يحمي فقط اللغة العربية ،بل وي�ضيء على ّ حمطات فخر واعتزاز وقوة عرفتها �أمتنا؛ حمطات جميدة من تاريخنا ومتدنا مت�سكنا بها وحفظناها� ،أن تدعمنا ّ ال قيمة لل�شعوب من دونها؛ حمطات كفيلة� ،إذا ما ّ والتجدد واملثابرة على اخللق من بالدفع الالزم من �أجل املبادرة والإقدام على االبتكار ّ خالل تكملة م�سرية �أ�سالفنا ،وبهذا يكمن التطور والتقدم ،فيقوى بذلك ال�شعور القومي والتعلق باللغة كعنوان وجود وهوية و�أ�صالة مت ّيزنا عن الآخرين ،وتربز هويتنا اخلا�صة ،وجتعلنا مبتكرين ولي�س جم ّرد مق ّلدين وم�ستهلكني و�أداة يح ّركها من ن�ستعري منه اللغة والعلوم والتقنيات ،كما يحلو له و�ساعة ي�شاء .فهل ركزت �شا�شاتنا و�إعالمنا ولو ن�سبياً على �إحياء ذكراهم؟ �إن للإعالم الدور الأبرز يف دعم اللغة العربية مادة وم�ضموناً ،فلنعد لرباجمنا �شيئاً من القيم الثقافية بدل االبتذال احلا�صل .هذا جوابنا على َمن ّيدعي تعثرّ اللغة العربية. وهذا ما نقرتحه للنهو�ض بها ومل يبق �إال �أن نبد�أ بالعمل ،والعربة يف التنفيذ.
116
�أدب
الظاهرة الرحبانية:
املغيبة عا�صي ومن�صور وفريوز النه�ضة ّ ها�شم قا�سم � -صحايف وكاتب
�أعرتف ،بداية ،ب�أين مهما ّقدمت يف هذه املحا�ضرة عن الظاهرة الرحبانية �س�أبقى مق�صراً عن الإحاطة التف�صيلية ال�شاملة بها ،ب�سبب طبيعتها وغناها وت�شعبها ،ولأنها �أي�ضاً ك ّونت مالحمها الفنية وبنت مداميكها اجلمالية خالل ما يقرب من �أربعة عقود من الزمن� ،أعطت خاللها �آالف الأغنيات وع�شرات امل�سرحيات الغنائية والربامج التلفزيونية والأفالم ال�سينمائية، وحوايل 400ا�سكت�ش �إذاعي ،وكلها �ص ّبت يف �سياق نهو�ض فني لبناين وعربي ا�ستثنائي. لقد ح�ضرت الظاهرة الرحبانية يف الواجهة الإبداعية اللبنانية والعربية وحتى العاملية حلقة يف �شق طريقه مع م�ساهمات �أعالم كبار �سبقوها كاملعلم بطر�س الب�ستاين الذي �سياق نه�ضوي ّ دعا �إىل الوحدة وحترير املر�أة والدميقراطية والأخذ مبعطيات العلم واملعرفة� ،إ�ضافة �إىل الب�ساتنة الآخرين و�أحمد فار�س ال�شدياق و�إ�صالحيني تنويريني �أمثال حممد عبده والأفغاين ور�شيد ر�ضا والكواكبي وال�شم ّيل وفرح �أنطون و�أنطون �سعادة وغريهم. وعلى الرغم من الفارق الزمني الذي يف�صل بني نتاجات ه�ؤالء وبني الإبداع الرحباين� ،إال �أن الظاهرة الرحبانية كانت حلقة �أخرية يف �سياق النهو�ض ،من حيث التجديد يف املو�سيقى والأغنية احلديثة وامل�سرح الغنائي �أو ال�شامل... �صحيح �أن الفعل الإبداعي الرحباين بد�أ متوا�ضعاً يف �أربعينيات القرن املا�ضي يف منطقة تو�سع �صغرية من لبنان؛ هي بلدة �أنطليا�س وبع�ض جبل لبنان ك�ضهور ال�شوير وبكفيا ،غري �أنه ّ يف اخلم�سينيات وال�ستينيات لي�شمل املكان والزمان اللبنانيني ّ ويطل على بلدان امل�شرق العربي كافة. التموزيات" واليا�س �أبو مع �سعيد عقل يف دواوينه ال�شعرية وف�ؤاد �سليمان يف "درب القمر" و" ّ �شبكة ومارون عبود و�آخرين كان ٌ نهو�ض �أدبي كبري ،وجاء الرحبانيان عا�صي ومن�صور بعد 117
ليو�سعا الدائرة باجتاه رفع القيمة الإبداعية للعامية والأزجال والأدب عقد من الزمن تقريباً ّ ال�شعبي ،ويط�أان �أر�ض الأدب الإذاعي عرب اال�سكت�ش وال�صياغة اللحنية ذات الوجه اجلديد ويف �إطار امل�سرح والغناء. لقد كان م�سرح املدر�سة ونادي انطليا�س والقرى املجاورة البيئة الأوىل التي انطلق منها الرحبانيان .و�سرعان ما انتقل هذان ال�شرطيان عا�صي ومن�صور �إىل ميدان تعلم املو�سيقى مت�أثرين ببيئة والدهما حنا الرحباين الذي كان يعزف على البزق وي�ستمع �إىل �سيد دروي�ش وحممد عبد الوهاب و�أم كلثوم و�أبو العال حممد ،ومبا كانت تعلمهما جدتهما غيتا بعقليني من �أزجال وحكايات ،ثم �إىل تعلم املو�سيقى على يد الأب بول�س الأ�شقر ومن ثم �إىل معهد الألبا ( )ALBAليتعلما �أ�صول التوزيع املو�سيقي والهارموين على يد الأ�ستاذ برتران روب ّيار. حتمال ذلك ب�صرب وت�ضحية و�شجاعة رحلة �شاقة اعرت�ضتهما خاللها �صعوبات احلياة وقد ّ لكي ي�صبحا مو�سيقيني وملحنني و�شاعري �أغنية وكاتبني لأعمالهما امل�سرحية الغنائية. مع زواج عا�صي وفريوز �سنة 1954بد�أت رحلة حياة ورحلة فنية يف �آن واحد ،وبعد غناء تبثّ ،حلن عا�صي �أغنيته الأوىل لفريوز فريوز �أغنية "بلمح بعيونو" من تلحني عا�صي التي مل ّ "حبذا يا غروب" من �شعر قبالن مكرزل ،ثم ك ّرت �سبحة من الأغاين واال�سكت�شات من �إذاعة ال�شرق الأدنى و�إذاعتي دم�شق ولبنان .وللحقيقة التاريخية لعب الفنان الفل�سطيني �صربي ال�شريف دوراً كبرياً يف تو�ضيب �أعمال فنية رحبانية وتوليفها والعمل على بناء الفرقة ع�سه املو�سيقية و�إخراج عدد كبري من �أعمالهما امل�سرحية الغنائية .كذلك ،لعب �أحمد ّ مدير �إذاعة دم�شق منذ بداية اخلم�سينيات دوراً كبرياً �آخر يف تبني النف�س الرحباين اجلديد والر�ؤية الرحبانية اجلديدة وبث الأغاين الرحبانية -الفريوزية ب�شكل مركز من �إذاعة دم�شق التي كانت �أقوى الإذاعات يف امل�شرق العربي. منذ بداية ال�ستينيات بد�أ التحول الكبري يف الظاهرة الرحبانية عرب العمل على بنية مو�سيقية وغنائية جديدة جتاوزت نظام التخت ال�شرقي العربي �إىل ا�ستخدام الآالت املو�سيقية التي مل تكن م�ستخدمة والتوزيع املو�سيقي والن�ص الكالمي النرثي وال�شعري والعامي ،فكانت �أعمال مهمة توقّف عندها بالتقدير ك ّتاب ومو�سيقيون عرب كبار �أمثال حممد عبد الوهاب وفريد الأطر�ش و�أم كلثوم وعدد من النقاد املو�سيقيني �أمثال جناة ق�صاب ح�سن و�صلحي 118
�أدب
الوادي و�صميم ال�شريف ،كذلك �شعراء وك ّتاب �أمثال �أن�سي احلاج وجورج �شحادة وع�صام حمفوظ وخالدة �سعيد وبول�س �سالمة ونزار قباين وتوفيق احلكيم وبدوي اجلبل وغريهم. �أما �أبرز �سمات الظاهرة الرحبانية: - 1نقل عامية الريف �إىل لغة فنية عملت على وحدة الكالم اللبناين .وقد حدث هذا بنب�ش جماالت الفولكلور ال�شرقي اللبناين والعربي وتقدميه ن�صو�صاً غنائية و�أعما ًال راق�صة ...وكان هم الرحبانيني بناء لبنان وهويته الثقافية والفنية على قيم الت�سامح والعي�ش الواحد ،خا�صة يف ٍ بلد مع ّر�ض لالنفجارات واالهتزازات امل�ؤملة ،ويف بلد كان كيانه كوليد حديث بحاجة قوية �إىل جمع املبعرث والفئات املتباينة �إ�ضافة �إىل رف�ض العنف والظلم واال�ستبداد .و�أعمال "مو�سم العز" و"جبال ال�صوان" و"�أيام فخر الدين" و"ج�سر القمر" و"ناطورة املفاتيح" مناذج �صريحة يف هذا ال�سياق. - 2ابتعدت الظاهرة الرحبانية يف �أعمالها عن الكالم العابر متبنية الن�ص الأدبي الأجمل والأبقى من �شعر �سعيد عقل ومي�شال طراد واليا�س �أبو �شبكة وميخائيل نعيمة و�إيليا �أبو ما�ضي والأخطل ال�صغري وجربان خليل جربان ،كما قامت بتلحني عيون ق�صائد �شعراء عرب �أمثال بدوي اجلبل ونزار قباين وطالل حيدر وابراهيم طوقان وعبد العزيز الكرمي... ويف مراجعة �شاملة دقيقة لبع�ض الظاهرة الرحبانية ال�شعري ،جند مروحة وا�سعة من تلحني �أجمل ال�شعر العربي الكال�سيكي بدءاً من الع�صر اجلاهلي ،مروراً بالع�صرين الأموي والعبا�سي وانتهاء باملو�شحات الأندل�سية. - 3يف �إطار املو�شحات وجتديد �صيغة تقدميها ّحلن الرحبانيان مو�شحات لكبار الو�شاحني الأندل�سيني �أمثال احلفيد بن زهر ول�سان الدين اخلطيب وابن �سناء امللك و�صدر الدين الوكيل .والإ�شارة �ضرورية هنا �إىل �أن الرحبانيني ،بدءاً باالعتناء باملو�شحات وتلحينها منذ بداية اخلم�سينيات فكانت جمموعة منها مع ح�سن عبد النبي و"�صاحب الليل" مع ملحم بركات واملجموعة ،ثم جاءت فيما بعد مو�شحات "جادك الغيث" لل�سان الدين اخلطيب ال�صب" للقريواين احل�صري و�أخرى من ت�أليفهما وت�أليف رفيق خوري. 1960و"يا ليل ّ ويف هذا ال�سياق وغريه من الألوان الأدبية والفنية ،تعاون الرحبانيان مع باقة من كبار املغنني واملطربني واملو�سيقيني �أمثال وديع ال�صايف و�صباح ون�صري �شم�س الدين والكبريين اليا�س 119
الرحباين وزياد الرحباين ،بالإ�ضافة �إىل ممثلني كبار مثل �أنطوان كرباج وروجيه ع�ساف ومادونا غازي .ومن املفيد ذكر بع�ض املغنني كجوزف عازار وجوزف �صقر وهدى وجوزف نا�صيف وحممد غازي وحممد مرعي... � - 4إذا جتاوزنا �أعمال الرحبانيني الأوىل ،قام م�سرحهما الغنائي وال�شامل ح�سب تعبري من�صور الرحباين على القواعد واملبادئ املو�سيقية العلمية احلديثة .فهما ا�ستخدما الأورك�سرتات ال�صغرية والكبرية بهدف �إبراز املحتوى الدرامي للجانبني املو�سيقي والنرثي وال�شعري والعالقة بينهما ،وما تتطلبه �ضرورات التعبري املو�سيقية .وهكذا قام العمل املو�سيقي والغنائي على قاعدة التوزيع .وا�ست�شهد هنا مبا قالته �أم كلثوم لعا�صي الرحباين�" :أنت �أف�ضل من و ّزع املو�سيقى يف العامل العربي" ،ول�شدة �إعجاب حممد عبد الوهاب بالتوزيع الرحباين للمادة املو�سيقية ،قام الرحبانيان بطلب منه بتوزيع "�سهار بعد �سهار" و"م ّر بي" و"�سكن الليل" و"خايف �أقول اللي يف قلبي" ون�شيد "طول ما �أملي معاي" الذي كتب عبد الوهاب مو�سيقاه يف مكتب الرحبانيني. - 5بناء املحتوى الدرامي على م�ضمون الن�ص وو�ضع املجتمع وق�ضاياه .فامل�سرح الغنائي الرحباين عالج بعمق ق�ضايا النا�س جميعاً كال�سكري والناطور ورئي�س البلدية واملختار واخل ّياط والك ّنا�س والعربجي والباعة واملجنون واالنتهازي واحلاكم والديكتاتور واحلرامي .ونن ّوه ب�أن الرحبانيني �أوجدا لكل �شخ�صية لغتها ومالحمها ،وكذلك اللحن املنا�سب واملو�سيقى اخلا�صة بها وموقعها يف الدراما امل�سرحية .وهكذا كان م�سرحهما اجتماعياً بامتياز ،و�أخالقياً بامتياز �آخر لأنهما بنيا عملهما على قيم مثالية ووطنية و�إن�سانية .ويف ال�سياق كتب الرحبانيان �أغنيات للباعة والكنا�سني كما يف "ال�شخ�ص" ولعمال الطرقات كما يف "بياع اخلوامت". - 6قدم امل�سرح الرحباين الغنائي وال�شامل جمموعة من الن�صو�ص الغنائية الوطنية اللبنانية والعربية .فهناك حوايل � 300أغنية وطنية عن لبنان وحوايل � 30أغنية عن فل�سطني وحترير اجلزائر .و�أذكر هنا �أغنيتني غري معروفتني وال تذاعان �إطالقاً وهما "جميلة" عن الثورة اجلزائرية ،و"�سافرت الق�ضية" عن فل�سطني ،بالإ�ضافة �إىل �أكرث من ع�شر �أغانٍ فل�سطينية �ساعدت يف تكوين ال�شخ�صية الوطنية العربية يف بعدها الفل�سطيني من مغناة "راجعون" � 1954إىل "القد�س العتيقة" و"احرتف احلزن واالنتظار" و"زهرة املدائن" و"ردين �إىل بالدي" و"�سرنجع يوماً" ويقول ال�شاعر حممود دروي�شّ " :قدم الرحبانيان ،فنياً ،لفل�سطني ما مل يقدمه 120
�أدب
الفل�سطينيون �أنف�سهم .ولقد �أ�شهر الفل�سطيني هويته اجلمالية بالأغنية الرحبانية العربية…"، ويف جمال االعتناء الرحباين بالأغنية العربية غ ّنت فريوز من �شعر �سعيد عقل والرحبانيني باقة من �أغانيها للمدن العربية كدم�شق (ق�صائد ل�سعيد عقل والأخطل ال�صغري) وبريوت وعمان والكويت ،لكن من زاوية حمددة هي �إبراز هوياتها ومكانتها التاريخية وبغداد وم�صر ّ واحل�ضارية دون �أي تز ّلف �أو حماباة. � - 7إزاء الأمل وال�ضياع اللذين كان يتخبط فيهما املجتمع اللبناين وامل�شرق العربي وب�سبب تر�سخ �إميان الرحبانيني وفريوز ،كتب الرحبانيان و�سعيد عقل ن�صو�صاً ذات طبيعة �إميانية خال�صة تنادي اهلل وتطلب منه �أن يتدخل� ...إىل اهلل "�ساكن العايل" يف "�أيام فخر الدين" و�إىل اهلل يف "�شم�س امل�ساكني" يف "ناطورة املفاتيح" ،و�إليه �أي�ضاً يف "جبال ال�صوان" من خالل �أغنية "�ساعدين يا نبع الينابيع" .ويتبدى من خالل مراجعة الأغاين الدينية التي بلغ عددها ت�سعني �أغنية ،بع�ضها كتبه �سعيد عقل والرحبانيان ،كما ذكرنا ،وبع�ضها الآخر منتقى من الن�صو�ص الدينية من الأدب الديني امل�سيحي .ومن ق�صيدة "غنيت مكة" ل�سعيد عقل: هم بي�ضاً فال ف ّرقت �أو �سودا و� ِأع ّز ربي َ النا�س ك ّل ُ وبالطبع ف�إن لهذا البيت معناه العميق والكا�شف لأمرا�ضنا احلالية و�صراع الع�صبيات يف �أنواعها كافة� ،إن �صالة فريوز جرت يف كل مكان منا�سب للعبادة :البيت ،املعبد ،اجلبال وعند تخوم ال�سماء والظالل ومعامل اخللق. بن�ص � ّأخاذ غنته فريوز هو: ونعود لال�ست�شهاد ٍ �أومن �أن خلف الريح الهوجاء �شفاه تتلو ال�صالة �أومن �أن يف ِ املقفل من ي�صغي يل �صمت الكون ِ ويف هذا ال�سياق الإمياين غ ّنت فريوز ل�سيد دروي�ش" :ال�شم�س طلعت وامللك هلل" و"اجري لرزقك خليها ع اهلل" ،و"ياهلل بنا على باب اهلل" ومن �أغانيها ذات الطابع الإمياين �أي�ضاً �أغنية "بعلبك �أنا �شمعة على دراجك� ...أنا نقطة زيت ب�سراجك" ،ووا�ضح هنا معنى ال�شمعة والزيت وال�سراج يف الأدب الإمياين امل�سيحي. � - 8أبدعت الظاهرة الرحبانية يف �إطار م�سرحها الغنائي ن�صاً ومو�سيقى وغنا ًء� ،صيغة فنية 121
جديدة متطلعة وذات �أبعاد جتديدية من حيث ر�ؤيتها االجتماعية والإن�سانية بت�أكيدها على �شرف العمل والعطاء ك�سقي املزروعات والغزل على املغزل واحلياكة على النول� ،إ�ضافة �إىل االحتفال ب�أعياد القطاف واحلرير يف �إطار املواويل والأزجال والأغاين واملو�سيقى املرافقة .ويف هذا ال�صدد جند �شبكة وا�سعة من الأغاين الرومان�سية واالجتماعية والفولكلورية والأنا�شيد الع�سكرية و�أغاين البحارة وال�صيادين ،وبع�ضاً مهماً من الأغاين ذات الطابع البدوي .ك�أننا �أمام منظومة غنائية �أم�سكت بقلب امل�سرح الغنائي الرحباين فنياً وجمالياً. - 9ح ّيد الرحبانيان وفريوز عملهم عن التطبيل للحاكم وا�سرت�ضائه كما يجري اليوم من قبل "مغني" الأغنية الهابطة ،فكان رف�ض الغناء للحكام .فقد رف�ضوا �أن حتيي فريوز حفلة للرئي�س التون�سي احلبيب بورقيبة ،وكذلك رف�ضوا طلب الرئي�س اليا�س �سركي�س �إحياء حفلة مبنا�سبة انعقاد م�ؤمتر القمة العربية يف القاهرة .وجتدر الإ�شارة هنا �إىل �أن فريوز منعت من الظهور على �شا�شة التلفزيون ال�سعودي �إىل �أن �أدت "غنيت مكة �أهلها ال�صيدا" ل�سعيد عقل. - 10لعبت فريوز يف التجربة الرحبانية دوراً تكامل معها و�أعطاها زخمها وح�ضورها الوا�سع وامل�ؤثر .فالدور الإبداعي الرحباين ا�ستكمل نف�سه مع فريوز وت�ألق .ويف حوايل �ألفي �أغنية �أدتها فريوز كان �صوتها كما يقول �أن�سي احلاج �صوتاً يح ّرر الإن�سان من �آثام الب�شاعات املوروثة كما ميثل التعوي�ض عن الأحالم ،وبغ�ض النظر عن طاقة هذا ال�صوت وات�ساعه ،ف�إنه ّ تخطى بح�سا�سيته و�إرهافه وعمقه ودالالته امل�ستع�صية كل عادي وتقليدي وعابر .ومن خالل الر�ؤية الرحبانية �أخرجت فريوز الغناء العربي ككل من دائرة الطرب اخلارجي �إىل دائرة الوجدان وجذور الروح يف بعدها الإن�ساين واالجتماعي .ويف هذا اخل�صو�ص كتب امل�سرحي الكبري جورج �شحادة� :صوتها �صوت املالئكة .ال منلك ر�ؤية للمالئكة ،لكن يحدث �أحياناً �أن ن�سمعها تغني .وي�ضيف حممود دروي�ش� :أغنية فريوز هي الأغنية التي تن�سى �أن تكرب "هي الأغنية التي جتعل ال�صحراء �أ�صغر والقمر �أكرب". �أما حممد عبد الوهاب فيقول" :عندما ن�ستمع �إىل �صوت فريوز يخ ّيل لك �أنه م ّر يف م�صفاة بحيث ي�صل �إىل امل�ستمع نقياً خالياً من �أي �شائبة ،فريوز جميدة يف كل ما تقدمه ومطربة عظيمة وا�ستثنائية" كل ما قلناه عن �صوت فريوز و�أدائها يبقى مق�صراً عن الإحاطة ب�أبعاده ودالالته ومنوذجه 122
�أدب
الفريد يف الغناء اللبناين والعربي .لهذا ّ �شكل قلب الظاهرة الرحبانية الغنائية من حيث الغناء والأداء ،و�إذا كان العمل الإبداعي الرحباين ا�ستثنائياً يف تاريخ مو�سيقانا وم�سرحنا الغنائي ،ف�إن �صوت فريوز كان معاد ًال غنائياً و�أدائياً ملبياً ومكم ًال له و�إحدى دعائمه ،خ�صو�صاً �أنه جاء من التعبري الدرامي ال�صادر من الداخل ومن الفرح الو�سيع واحلب واحلزن العميق وال�صالة ،مقاوماً الوح�شة والظلم وم�ؤكداً على ال�سالم والوحدة. - 11الظاهرة الرحبانية منوذج ا�ستثنائي وفريد يف م�سرية احلداثة الفنية العربية التي بد�أها �سيد دروي�ش يف الربع الأول من القرن الع�شرين وتوقفت بعد رحيله �إىل �أن جاء الرحبانيان وا�ست�أنفا هذه امل�سرية من لبنان بتجربة فريدة ورائدة ،خا�صة �أنها كانت متعددة الأبعاد املو�سيقية وال�شعرية والفولكلورية واالجتماعية وامل�سرحية. - 12من يراجع معظم الأعمال امل�سرحية الغنائية الرحبانية �سيجد �أنها احت�ضنت وقدمت جميع �أنواع الزجل بحلة جديدة موقّعة يف الإطار الغنائي وامل�سرح على ٍ حد �سواء ،وبذلك �أ�صبحت جزءاً ع�ضوياً من الن�ص امل�ؤدى. وقد انطلق الرحبانيان يف عملية حتديث الأزجال من تراث لبناين عريق .وعلى �سبيل املثال نذكر زجلية ابن القالعي وزجلية �سليمان الأ�شلوحي و�أزجال بول�س ال�شاعر وعلي عجمي وموري�س ع�ضيمي وغنطو�س نكد و�أيوب ثابت وعبد اهلل غامن و�أ�سعد �سابا و�أ�سعد ال�سبعلي وغريهم. ولقد ا�ستغل الرحبانيان جميع �أنواع الزجل ل�صوغ الأغنية ال�شعبية ،فكانت امليجانا والعتابا و�أبو الزلف والقرادي واملواويل والغز ّيل والدلعونا وغريها: من �أبو الزلف تغني فريوز: املطلع /هيهات يا بو الزلف عيني يا موليا حمال الوما بالوما وحمال العزوبيا ...الدور /ورحت انا لعندكن قبل الع�شا بنتفي ولقيتكن ناميني و�سراجكن مطفي ّمديت ايدي ع احلبق 123
القطف �أين قطفي �صاحت بنتا ّلكن ّميا ميا حراميا ومن القرادي: املطلع/ باب البوابي ببابني
قفويل ومفاتيح جداد
عالبوابي يف عبدين
الليل وعنرت بن �شداد
الدور/ حلوي و�شباكني ودار العا�شق غط العا�شق طار نغمي ونار وعوادين
عوادين ونغمي ونار
ونارين ونغمي وعواد ومن املواويل: �أوف �أوف �أوف غرب احل�سون والزنبق تكي
وت�شرين عم يجمع الزهر الليلكي
ما عاد حترز هيك قال �شو بني كرتت ق�ص�صنا وما بقى ي�ساع احلكي �أوف ومن العتابا البدوية: يا مركب الريح خلي البحر من طول فرقاه
124
و�إنزل َع َبر دمعي فوق خدي َعرب
حبيت والدهر
ع ّلمني بحبو ِعب
�شرع �شراع ال�سفر
عالهجر قلبو نوى
�أدب
عهد الهوى يا قلب
ما عاد منو نوى
وملا التقينا لقينا العمر وىل وعرب - 13ع�صرنت الظاهرة الرحبانية الرق�ص الفولكلوري ونقلته من �صيغته ال�شعبية القروية التقليدية �إىل �صيغة مولفة وحمدثة مبنية على الأ�صالة ،ا�ستعانت بالفنان عبد احلليم كركال يف "جبال ال�صوان" و"ناطورة املفاتيح" و"برتا" و"نا�س من ورق" و"املحطة" وغريها ،الذي عالج يف ت�شكيالته مادة الرق�ص الفولكلوري وح ّولها ت�شكيالت وتوليفات حركية فنية جمعت بني نب�ض الرق�ص احلديث واملادة ال�شعبية اللبنانية الراق�صة. �أما الفنان فهد عبد اهلل يف "لولو" و"مي�س الرمي" ،فقدم فولكلورنا الراق�ص ب�أ�صالته دومنا تغريب فظ ومك�شوف ،وحافظ بدراية ورهافة على �أن يكون الرق�ص جزءاً عميقاً من امل�شهدية الب�صرية الدرامية .وتتوجب الإ�شارة هنا �إىل م�ساهمات �سيمون عواد و�شبل و�سمرية بعقليني وفاديا احل�سيني و�إىل م�صممي الأزياء �أمثال بابو حلود ،وم�صممي امل�شاهد امل�سرحية �أمثال الفنان الراحل غازي قهوجي. - 14نقد امل�سرح الرحباين الف�ساد بكل �أ�شكاله كما يف "ال�شخ�ص" و"نا�س من ورق" ،كما دان تزوير االنتخابات يف البلدان العربية و�أنظمة الت�سلط والديكتاتورية يف "يعي�ش يعي�ش" ويف "لولو" ويف �سياق قراءة عميقة للواقع اللبناين تنب�أ الرحبانيان باندالع احلرب اللبنانية �إذ تقول فريوز: خل�صت احلفلة ،خدنى لعندك يا جدي املجنون �إلو حق يحاكم العامل طيارات رمادية ِمتل الترَ َغل انفجار القنابل ِف�ضي بلون ال�شم�س نا�س باخلنادق نا�س بالبارات العدالة كرتون 125
احلرية كذب �صار احلب�س كبري وكل حكم بالأر�ض باطل ح ّلو يطلع ال�ضو ..كا�سك يا جدي �أرادت هذه املحا�ضرة و�صل ما انقطع ،خ�صو�صاً �إزاء هذا الكم الفظيع من الغناء الهابط واملو�سيقى املق ّلدة والأ�صوات املتعرثة التي حتا�صرنا اليوم يف �آالف الأ�شرطة املتهاوية وبرامج و�سائل الإعالم املرئي واملخفي .ك�أن خط النهو�ض الفني الذي مثلته وقدمته الظاهرة الرحبانية وجمموعة من املو�سيقيني اللبنانيني الكبار �أمثال اليا�س الرحباين وزياد الرحباين وتوفيق البا�شا ومار�سيل خليفة انقطع عن م�ستقبله ،وك�أن خط النهو�ض يف امل�سرح الغنائي الرحباين الذي ت�ألق منوذجاً وحيداً يف العامل العربي لثالثني �سنة �أو �أكرث انقطع �أي�ضاً وتوقف� .أما �أ�سباب ذلك فيتقدمها �سقوط م�شروع النهو�ض و�شراء البع�ض للتدخل الأجنبي و�سيا�سات الهدر والتفريط بكل ثروات البالد وت�شجيع ال�ساقط واملبتذل وعلو كعب الطائفية واملذهبية والف�ساد والإرهاب... يقول الإمام ال�شافعي :من اجتهد و�أ�صاب فله �أجران ومن �أخط�أ فله �أجر واحد ...و�أنا حاولت.
126
�أدب
�آليات دخول احلداثة الت�شكيلية �إىل لبنان:
من املتطلبات الدينية واالجتماعية �إىل البعدين الأكادميي وال�سلعي د.عادل قديح -فنان ت�شكيلي لبناين وباحث يف الفنون الب�صرية
ا�ستقرت الثقافة العربية على ثباتها فرتة طويلة من الزمن قبل ال�سيطرة الأوروبية على منطقة ال�شرق العربي .بقيت �أمينة ملعايري مل تتبدل �إال بحدود مقبولة جعلها حتافظ على جوهرها. لكن تعرف بع�ض املثقفني واملفكرين العرب �إىل الثقافة الأوروبية والتعمق بها� ،ساعد على اعرتافهم بتفوق الفكر الغربي وجعلهم يتحم�سون لالنخراط يف تغيري البنى الثقافية التي فر�ضها العثمانيون ،تبنوا هذا الفكر �أو حيزاً رئي�سياً منه ،موقنني �أن ذلك ي�شكل الطريق الأوحد نحو تقدم البالد ،م�شابه لذلك الذي نالته املجتمعات الغربية .لذا �أنتجوا ثقافة تتماهى مع الثقافة الغربية يف احلقول الأدبية والفنية املختلفة ،متخلني ،يف ذلك ،عن حيز وا�سع من تراثهم الأدبي والفني� .صحيح �أن ذلك �أر�سى �أمناطاً جديدة من الثقافات� ،إال �أنها بدت للوهلة الأوىل هجينة �أو هي يف �أح�سن احلاالت تقليداً ملا �ساد يف الغرب. دخل فن احلامل �أو فن امل�سند �إىل منطقة ال�شرق العربي مت�أخراً جداً على انطالقته يف الغرب ،ومل نتعرف �إىل فنانني عرب عملوا ب�شكل �صريح وفقاً لهذا الأ�سلوب �إال يف نهايات القرن التا�سع ع�شر ومطالع القرن املا�ضي ،متخلني يف ذلك عن الفنون الرتاثية التي كانت موجودة يف جمالهم ،والتي جتلت يف لبنان بالفنون الإ�سالمية والبيزنطية والأرثوذوك�سية والفن البحري املبني على الأ�سلوب العثماين� .أدى هذا التحول �إىل نكران رعيل من "املتحولني العرب" وجود فن ت�شكيلي �سابق على الفن الأوروبي يف بالدهم ،معتربين �أن �ساحتهم كانت فارغة من عملية الإبداع ،و�أن تبني هذه الفنون من دون �أدنى تعديل يعنى بداية العمل على ت�أ�سي�س فن ت�شكيلي �إبداعي ،وذلك رغم وجود فن تراثي كان اليزال حياً ويعمل به يف جماالت خمتلفة� .أدى كل ذلك ،يف البدء� ،إىل االن�صراف عن الرتاث ،و�إىل الأخذ بالأ�ساليب الغربية واللحاق بها ب�شكل تبعي. 127
- 1الفن الت�شبيهي والطوائف اللبنانية
�شهد امل�شهد الت�شكيلي يف لبنان تغريات مهمة بدلت من �آليات التعبري الفني .فقد كان املوقف يف الو�سط ال�سني اللبناين راف�ضاً للفن الت�شبيهي ب�شكل عام ،عانى الفنان م�صطفى فروخ ( )1957 - 1901من رف�ض و�سطه املبني على قاعدة "منع" الت�صوير الت�شخي�صي، وذلك منذ �صغره .وعلى الرغم من �أن بع�ضاً من املو�ضوعات العائدة للفن الغربي ت�سللت �إىل �أو�ساط الربجوازية ال�سنية والفئات املدينية التي ت�أثرت بالثقافة الغربية ،ف�إن املوقف العام من الت�صوير الت�شبيهي كان متزمتاً بع�ض ال�شيء .ومبا �أن فروخ يف �صباه ملأ اجلدران والأوراق بخطوطه ور�سوماته ،فقد نهاه رجال الدين ال�سنة عن "هذه العادة ال�سيئة"( ) ،خا�صة يف الك ّتاب الذي كان ي�ؤمه ليتعلم فيه الدين وقراءة القر�آن� ،إىل �أن جاءه �شيخ م�صلح �شجعه على امل�ضي يف م�ساره الفني .فلوال حركة الإ�صالح ورجال الدين امل�صلحني ال�ستمر موقف املنع ،رمبا ،ل�سنوات طوال. 1
�أما يف الو�سط ال�شيعي ،فقد اختلف املوقف جزئياً عن املوقف ال�سني من الر�سم الواقعي، وخا�صة املوقف الفقهي .لذلك ر�أينا �صوراً ور�سومات للنبي حممد والإمام علي وولديه الإمامني احل�سن واحل�سني ...على �أنه ينبغي التذكري ب�أن امل�ساجد واجلوامع ال�شيعية خلت من كل الر�سوم الإن�سانية واقت�صرت عملية التزيني على فني اخلط والزخرفة ،بينما تواجدت هذه ال�صور يف الأندية احل�سينية .وال يذكر التاريخ الذي لدينا �أي دور لعبته الربجوازية ال�شيعية يف ت�شجيع فنانني على اعتماد الأ�ساليب الغربية يف الفن ،با�ستثناء ما طلبه الوجيه البريوتي ال�شيعي ر�شيد بي�ضون من م�صطفى فروخ �إجناز ر�سم �شخ�صي له مقابل بدل مايل معني .ويعتقد �أحد املراجع الدينية ال�شيعية العالمة ال�سيد ح�سني ف�ضل اهلل �أن "امل�صورين الذين ي�صورون �شيئاً من الوجود ف�إنهم ميثلون ال�صورة التي �سبقتهم يف الواقع �أو يف حركة الفكر� .أما خ�صو�صية اهلل اخلالق ،البارئ ،فهو الذي يخلق ال�صورة من غري مثال ،وهو الذي يبدعها ويوجدها"( ) ،ويتابع بالقول " ...ومنطق ذلك هو من اهلل الذي خلق (للإن�سان) عق ًال وهي�أ له كل واقع التجربة التي ا�ستمد منها هذه اللفتات والإيحاءات"( ) ،كما يكمل "وكذلك ال جند لل�صورة �أية �سلبية"( ) ،وفيما يخت�ص بت�صوير �صور للأئمة يقول " ...لي�ست لدينا م�شكلة حتى لو �أنها �صور للإمام علي ...وال نرف�ض �أ�صل ال�صورة ،ولكن نرف�ض �شكل ال�صورة على �أنها ال تتنا�سب مع الآفاق التي يعي�شها الإمام علي ،لأن ال�صورة ال بد �أن تنقل 2
3
4
128
�أدب
الأفق ،من هذه الناحية ال م�شكلة .) ("...ويف الو�سط الدرزي ال يذكر التاريخ �أن نزوعاً تكون لدى الربجوازية الدرزية ،املتحدرة ب�أكرثيتها من رحم الإقطاع (املقاطعجية) ،نحو اقتناء ر�سوم و�صور فنية ومنحوتات� ،أو احل�ض على ر�سمها وت�شكيلها وم�ساعدة املبدعني الدروز يف هذا املجال .ومن امللفت �أننا مل نقر�أ يف التاريخ موقفاً من الزعماء والأعيان الدروز �ضد ا�ستقدام الأمري فخر الدين لبع�ض الر�سوم والتماثيل من �إيطاليا ،بل �إن ال�صراع مع املوارنة كان بعده الأ�سا�سي �سيا�سياً واجتماعياً �أكرث منه ديني .لكن �أحاديث دارت بيننا وبني بع�ض املثقفني الدروز حول اقتناء ال�صور والأعمال الفنية ،وتعليقها على جدران منازل درزية �أو�صلتنا �إىل قناعة �أن غالبية البيوت الدرزية خلت من الر�سوم وال�صور يف نهايات القرن التا�سع ع�شر ومطالع القرن الع�شرين ،با�ستثناء �صور فوتوغرافية لبع�ض الأجالء من رجال العقل ،وبع�ض الآيات القر�آنية ،ذلك لأن املذهب الدرزي يح�ض على التق�شف والورع واالن�صراف عن �أي زخارف وتالوين .لكن امللفت عند الكثري من متذوقي الفن لديهم حبهم ال�شديد للخط العربي ،حيث �إن عدداً من امل�شايخ �أجاد اخلط واحرتف �صناعته كمهنة فنية وتفاخر بها .وعندما نتحدث ،مع مريدي الفن الت�شكيلي منهم ،عن اخلط العربي وجمالياته ت�شرق عيونهم وتبت�سم م�آقيهم. 5
ويف املوقف الفقهي رفع قائمقامية �شيخ عقل املوحدين الدروز يف لبنان ثالث الءات" :ال جت�سيد ،ال متثيل ،وال ر�سم وت�صوير للأنبياء �أو املالئكة"( ) ،وعلى الرغم من وجود فنانني دروز عملوا يف جمال الر�سم الت�شبيهي والنحت الت�شخي�صي ف�إن �شيخ العقل ي�ضيف" :نحن ال ت�ستهوينا هذه الأمور ...ال نحبذ وال نقر جت�سيد �أو متثيل �أو ت�شخي�ص الأنبياء والر�سل من خالل ر�سمهم وت�صويرهم لتجنب �إثارة امل�شاعر والنعرات والغرية والعفوية� .) ("...أما يف الو�سط امل�سيحي العام فكان الو�ضع �أقل تزمتاً ،وذلك لأن ال�صورة كان لديها فعل قد�سي، يتم تلقني التعاليم الدينية بوا�سطة ال�صورة ،كما �أن ي�سوع امل�سيح هو ابن اهلل ،ميزج بني املقومات الإلهية والب�شرية ،وتزدان الكنائ�س ب�صوره ال�شخ�صية بالإ�ضافة �إىل �صور تالمذته والقدي�سني واملالئكة وم�شاهد ت�شخي�صية متثل ن�شر الدعوة بطريقة تظهر الإن�سان بلبو�سه الب�شري ،و�إن اختلفت طريقة الت�صوير بني الأ�سلوب البيزنطي والأرثوذك�سي وبني الأ�سلوب الغربي .و�شكل الواقع االجتماعي امل�سيحي �ضغطاً باجتاه اختيار املوا�ضيع ،فالت�صوير الت�شبيهي والتج�سيدي مقدر من قبل امل�شاهدين من خالل دالالته الدينية ،هكذا ر�أينا �إقبا ًال من قبل الفنانني امل�سيحيني على املو�ضوعات الدينية حتى يف زمن احلداثة .فالبدايات 6
7
129
عند �صليبا الدويهي ( )1994 - 1912مث ًال ،كانت تقليد ال�صور الكن�سية التي �أجنزها بع�ض كبار الكال�سيكيني الغربيني� .أما يف املو�ضوعات الدنيوية فالأمر اختلف ب�شكل كبري ،فقد �أثارت �أول لوحة عري ر�سمها قي�صر اجلميل "ف�ضيحة"( ) .ومل يجد مو�ضوع املناظر الطبيعية له �صدى عميقاً يف هذه الفرتة من الزمن ،بني الذواقة وامل�شاهدين ،حيث ان�صرف املي�سورون �إىل الر�سم ال�شخ�صي .لكن ذلك كله مت جتاوزه مع مرور الزمن ،ليعكف املتذوقون على اقتناء املناظر الطبيعية والطبيعة ال�صامتة وخا�صة لوحات الزهور التي زينوا بها �صالوناتهم ،وال تزال هذه الظاهرة موجودة حتى يومنا هذا ،حيث يتفاخر النا�س بتعليق �أعمال كهذه يف بيوتهم، حتى ولو كانت ن�سخاً مطبوعة� ،أو ر�سوماً منجزة على عجل. 8
- 2متطلبات القرن الع�رشين
ما �إن �أطلت ع�شرينيات القرن الع�شرين حتى تبني �أن تغريات مهمة طر�أت على �صناعة العمل الفني وعلى �آليات ت�سويقه يف لبنان .ازدادت اجلر�أة على �إجناز مو�ضوعات العري واملنظر الطبيعي والطبيعة ال�صامتة واملو�ضوعات الفولكلورية وغريها ،ما عنى تنوعاً غنياً، وانزياحاً جزئياً عن متطلبات الكني�سة والأعيان املي�سورين والآتني من الو�سط الإقطاعي. لكن فن ال�صورة الوجهية بقي يف ال�صدارة .مل يعلن الفنانون خ�صومة مع الكني�سة يف ال�ساحة املارونية كما ح�صل يف باري�س ،لكن وهج املو�ضوعات الدينية بد�أ يخفت� .أما يف ال�ساحة الإ�سالمية فبقيت املتطلبات الدينية تلبى وفقاً ملعايري الفن الإ�سالمي املعهودة. بالدين ،كالآيات القر�آنية ونادراً ما وجدنا يف البيوت التقليدية "معلقات" غري تلك املرتبطة ِّ وت�شكيالتها اخلطية املعروفة ،با�ستثناء �صور فوتوغرافية لبع�ض ال�شخ�صيات والزعامات� ،أو النافذين يف العائلة �أو رب العائلة نف�سه ،ناهيكم عن �صورة الفقيد التي كانت تعلق يف �صدر غرفة اال�ستقبال .ويف بع�ض البيوتات ال�شيعية كان البع�ض يعلقون ،بالإ�ضافة �إىل ما ورد، ر�سومات مطبوعة لآل البيت ،ك�صورة الإمام علي بن �أبي طالب ،و�صور احل�سن واحل�سني بن علي امل�ستوردة من �سوريا والعراق و�إيران ،بالإ�ضافة �إىل �صور �أو جم�سمات ل�سيف الإمام علي "ذو الفقار" و"كف العبا�س" .ويرى ال�شيعة يف هذه الرموز تعبرياً عن �أملهم و�سخطهم ال�ست�شهاد �أئمتهم ،كما َي َر ْون بال�سيف رمزاً لل�شجاعة والقوة اللتني ات�سم بهما الإمام علي يف دفاعه عن قيم الإ�سالم� .أما ال�صور فهي �إعالن انتماء وتخليد "لع�صمة" �أئمتهم� ،شهدائهم الكبار املتحدرين من �سبط الر�سول حممد . 130
�أدب
ونادراً ما وجدنا يف البيوت الإ�سالمية يف تلك الفرتة �صوراً �أو ر�سومات ملناظر طبيعية �أو ر�سومات وجهية ما خال بع�ض بيوت الوجهاء .ال نعرف على وجه اخل�صو�ص فنانني �شيعة اعتمدوا الأ�سلوب الأكادميي الغربي �سوى فنان بقي مغموراً لفرتة طويلة من الزمن هو الفنان علي قبي�سي. - 3هيمنة الأ�سلوب الأكادميي الغربي
والواقع �أن ظهور الفن وفقاً للمنهج الغربي ،خالل العقود الأوىل من القرن الع�شرين ،كان مت�شابهاً يف كل من لبنان وم�صر والعراق" ،كان يف ذهن الفنانني الأوائل �أن الفن احلقيقي الوحيد هو الفن الغربي يف �شكله املعروف يف ذلك الوقت� ،أي الفن الت�شخي�صي ،ب�شكله الأكادميي ...وتبنوا يف الوقت نف�سه النظرة الغربية ف�صاروا َي َر ْون �أن لي�س لبالدهم �أي تراث فني .) ("...انخرط امل�سلمون يف عملية التبدل هذه ،لكن ذلك اقت�صر ،يف البدء ،على رهط �ضيق منهم ،يف الوقت الذي كانت الذائقة اجلمالية يف مكان خمتلف كلياً ..." ،امل�شاكل ال تعد وال حت�صى يف بيئة جاحدة لأي نوع من �أنواع العمل الفني وب�أي �شكل من الأ�شكال... اجلو العام مل يكن ي�سمح بوجود فنان ...لأن اجلمهور مبعظمه قا�صر عن فهم اللوحة.) ("... هكذا ن�ش�أ ،يف الو�سط الإ�سالمي ت�صارع بني فريق يرغب بالعودة �إىل التقليد و�آخر يريد ركوب التجديد .هكذا بد�أ ينحو الفن الت�شكيلي يف لبنان منحى ذاتوياً متماث ًال مع التجربة الغربية ،ولكن باالعتماد على الأ�ساليب الأكادميية .وقد فتحت ال�سلطة ال�سيا�سية املجال �أمام هذا التبدل بالت�شجيع عليه .ولأن الكني�سة مبعمارها احلديث التي جاءت "�إما ن�سخاً عن كنائ�س �أوروبية �أو �أمريكية و�إما حماوالت البتكار طرازات م�ستوحاة من الفن الغربي"( ) ف�إن معاجلاتها الت�صويرية تبدلت ن�سبياً مبا يتنا�سب مع الطرز اجلديدة ،ولكن �ضمن �إطار املو�ضوعات الدينية نف�سها .لكن التب�سيط مل يدخل �إىل هذه املعاجلات �إال يف بع�ض الزجاجيات التي زينت هذه الكنائ�س ،وذلك ل�ضرورات تقنية وجمالية . 9
10
11
- 4حراك فني و�صاالت م�س ِوقة
تنامت احلركة الت�شكيلية ابتدا ًء من ع�شرينيات القرن املا�ضي ،بالتما�شي مع حركة االقت�صاد اللبناين الذي �أ�صبح مبنياً على اقت�صاد ال�سوق وفقاً للنمط الليربايل الذي �أر�سته �سلطة االنتداب� .أُخ�ضع العمل الفني �إذاً بجانبه ال�سلعي ملبد�أ العر�ض والطلب .بد�أت تن�ش�أ يف 131
لبنان �صالونات عر�ض ر�سمية منظمة على الطريقة الباري�سية� .أقيمت املعار�ض يف مبنى الربملان اللبناين بني الأعوام 1931و ،1942ثم يف مبنى ق�صر الأوني�سكو ،ثم يف متحف �سر�سق الذي ت�أ�س�س �سنة .1961يف العام 1952اجتمع عدد من الفنانني اللبنانيني وقاموا بت�أ�سي�س جمعية �أهل الفن التي �أ�صبح ا�سمها يف �سنة 1957جمعية الفنانني اللبنانيني للر�سم والنحت ،وهي ال تزال نا�شطة حتى �أيامنا هذه .ومن الفنانني الذين �أ�سهموا بت�أ�سي�س هذه اجلمعية نذكر ك ًال من م�صطفى فروخ ،وقي�صر اجلميل ( ،)1958 - 1898ونقوال منار ( ...)2005 - 1925هدفت اجلمعية �إىل �إن�شاء ج�سم موحد يف لبنان يعمل على ن�شر الثقافة الت�شكيلية ،من خالل �إقامة معار�ض جماعية تع ّرف بالفن الت�شكيلي يف لبنان وتطوراته وتبدالته ،وتقيم عالقات فنية وثقافية مع امل�ؤ�س�سات واجلمعيات الأخرى ومع �أ�صحاب القرار يف ال�سلطة ال�سيا�سية ،وهذا �شكل تفعي ًال لعملية الت�سويق .وكانت ت�شارك يف ن�شاطات فنية وبحثية تقام خارج لبنان من معار�ض جماعية وندوات وم�ؤمترات ،كما انفتحت على الغرب، فا�شرتك العديد من الفنانني يف التظاهرات الفنية التي كانت تقام يف �أكرث من بلد ،وكم من فنان تعاقد مع �صاالت عر�ض غربية وانفتح على �أ�سواقها ،وقد عملت اجلمعية �أي�ضاً على ت�شجيع درا�سة الفنون يف �أوروبا ،وخا�صة يف باري�س ،من خالل املنح والتقدميات املحلية واخلارجية .هذه احلركة �أتاحت الفر�صة �أمام الفنانني لبيع �أعمالهم �إىل امل�ؤ�س�سات والإدارات العامة واخلا�صة والأفراد وجامعي اللوحات ،وقد ت�أخر افتتاح �صاالت العر�ض اخلا�صة (الغالرييهات) حتى العام ،1963حيث مت افتتاح �صالة "غالريي وان" يف غربي بريوت ،وقد عر�ض فيها كبار الفنانني اللبنانيني والعرب ،ثم تبعتها �صالتي "كونتاكت" و"لوريان" .ونتج عن ذلك كله انخراط لبناين نهائي يف منط "�سلعية الثقافة والفن" التي �أ�ضحت من بنات التكون الثابت و�شبه النهائي لالقت�صاد اللبناين يف مرحلة ما بعد اال�ستقالل. - 5انطباعيون �أم �أكادمييون؟
تعن حركة التطور الت�شكيلي يف لبنان �أن رعيل املطورين الذين نهلوا متاماً من الفن مل ِ الأكادميي الغربي ،ومنهم :داوود القرم ( ،)1930 - 1852وحبيب �سرور (،)1938 - 1860 وخليل ال�صليبي ( ،)1928 - 1870وفيليب موراين ( )1928 - 1872وتالمذتهم ،انطلقوا بهدوء ومن دون عوائق ،ذلك �أن الربجوازية اللبنانية والوجهاء يف لبنان اكت�سبوا ثقافة الربجوازية الفرن�سية وذوقها من الناحية ال�شكلية على الأقل ،ومن دون �أن يتاح لرواد احلركة 132
�أدب
الت�شكيلية فر�ض وجهة نظرهم �أو �أي حيز منها ،هذا ما �سرناه يف م�س�ألة موقف هذه الطبقة من الفن ب�شكل عام ومن املنظر الطبيعي ب�شكل خا�ص ،فهي مل ت�أبه للقيم اجلمالية بقدر اهتمامها مبا يثبت �صورتها وموقعها ،هذا ما دفع بالفنانني �إىل التوفيق بني طموحاتهم الذاتية من جهة وبني حتقيق متطلبات هذه الفئة من النا�س من اجلهة الأخرى باعتبارها مادة للموارد املالية" .كان فن هذا اجليل الأول يف لبنان ،كما كان يف م�صر ،فناً �أكادميياً ،ا�ستلهم النماذج الباري�سية"( ) .لكن ذلك مل يعن �أن الرعيل الآتي املتمثل مب�صطفى فروخ وقي�صر اجلميل وعمر الأن�سي ( )1969 - 1901ور�شيد وهبي (� )1993 - 1917أدار ظهره كلياً للظاهرة االنطباعية رغم ت�أخر و�صولها بعد فرتة بعيدة جداً من ن�شوئها ،ففي حني ن�ش�أت احلركة االنطباعية يف باري�س يف الثلث الأخري من القرن التا�سع ع�شر ،ظهرت �أول جتارب تدل عليها يف لبنان يف �سنوات العقد الثالث الأخرية من القرن الع�شرين ،ف�إذا كان الرعيل الأول من "مكت�شفي" لوحة احلامل ،والذي بقي لزمن طويل مذهو ًال من هذا "االكت�شاف" ،ف�إن اهتمامه ان�صب على تثبيت هذا التحول الراديكايل بد ًال من االنغما�س يف النقا�شات التي دارت يف بالد الغرب والتي ر�آها عقيمة ،وخا�صة �أن العمل الت�شخي�صي املج�سم املتبنى من ال�شرق العربي قاطبة كان ،بحد ذاته ،ظاهرة جديدة بالن�سبة لهم .و�إذا كان البع�ض يف لبنان وقف موقف الريبة من االنطباعية بذاتها ،فكيف لهم �أن يتقبلوا خروجاً على معايري الواقع؟ هذا يف الوقت الذي خرج جمع وا�سع جداً من الفنانني الغربيني ،ويف باري�س خا�صة ،على االنطباعية نف�سها ،م�ؤ�س�سني النقالب فني م ّهد لتفجر احلداثة الت�شكيلية على مداها الوا�سع، فا�ستنبطوا مذاهب جديدة متثلت بثورة التب�سيطية والذاتوية. 12
�أتيح لهذا الرعيل من الفنانني اللبنانيني �أن يواكب بزوغ االجتاهات الوح�شية والتعبريية والتكعيبية والرمزية وامل�ستقبلية والدادائية وال�سوريالية و�صو ًال �إىل التجريدية وانت�صارها. لذلك انده�ش الفنانون اللبنانيون �أمام ت�سارع هذا التبدل وا�شتداد ال�صراع بني هذه االجتاهات يف زمن يعد قيا�سياً باملقارنة مع الفرتة التاريخية ال�سابقة .ارتبك اللبنانيون �أمام هذا الأمر ،فرف�ضوه يف العقود الأربعة الأوىل من القرن ال�سابق ،واعتربوه �ضرباً من اجلنون والتخلف ،لكون هذه التيارات تعجز عن مباهاة الفنون الت�شخي�صية والواقعية .لذلك ف�إن �أق�صى ما ذهبوا �إليه معاجلتهم للمنظر الطبيعي بلم�سة انطباعية� ،أو ا�ستعمال ملوناتها يف معاجلة املو�ضوعات الأخرى �أحياناً .ذلك �أن املعاجلة بوا�سطة هذا الأ�سلوب ذات مق�صد واقعي متاماً "� ...إنه لي�س �إلهامياً وال تخيلياً وال عاطفياً وال رمزياً� ،إنه ال يدخل يف اعتباره ما يح�س به 133
الفنان جتاه مو�ضوعه ،وفيما يتذكر بالن�سبة له ،و�إمنا اعتباره قائم على ما يراه يف احلال"( ). ظهر يف لبنان� ،إذاً� ،أ�سلوب مقارب لالنطباعية ،ويعزو بع�ض الباحثني ذلك �إىل �أ�سباب م�ؤداها �أن "املفهوم االنطباعي اللبناين يقوم على خ�صائ�ص تختلف يف بع�ض التفا�صيل عن ذلك املفهوم الأوروبي القائم على اخلروج عن النظم الت�صويرية ال�سابقة واملتعارف عليها ثم توجيه انتباه الفنان �صوب كل ما هو �شفاف ومتغري يف الطبيعة ،مع الرتكيز على كون الألوان تتحدد بوا�سطة النور الذي تتلقاه"( ) ،وهذا االختالف هو ما يربر ،بر�أي باحثني ،الإ�صرار على الأ�ساليب التي اعتنقوها رغم �أنها �آلت �إىل الأفول يف موطنها ،ما دفعهم �إىل املراوحة بني الأ�ساليب الكال�سيكية والرومان�سية اال�ست�شراقية والباربيزون والبونت �أفن بلم�سة �شبه انطباعية. 13
14
وللتذكري ف�إن االنطباعي �ص ّور الطبيعة يف الهواء الطلق ،وب�شكل مبا�شر ،ووجهاً لوجه، فاكت�شف �أن الظالل لي�ست مظلمة كي متزج الألوان باللون الأ�سود ،لكنها هي مملوءة �أي�ضاً ببع�ض ال�ضوء وبتنوعات الألوان القامتة ،و�أن بع�ضاً من هذه الألوان يت�أتى من انعكا�س �أج�سام جماورة م�ضيئة بع�ض ال�شيء ،وبع�ضها ينتج عن طبيعة هذه الأج�سام. ن�ش�أت هذه االنعطافة عن اكت�شاف نيوتن املذهل يف جمال علم الفيزياء الذي ثبت مقولة انق�سام �ضوء ال�شم�س ،بوا�سطة املو�شور ،وحتللها �إىل �ألوان قو�س قزح ،ما �أتاح معرفة �أن اللون يتبدل بتبدل املكان والزمان .وبالتايل ال يوجد ثوابت يف جمال الألوان فال ال�سماء زرقاء دائماً ،وال تراب الأر�ض بني ،وال ال�شجر �أخ�ضر ،وال التفاحة حمراء �أو �صفراء ،فاجل�سم يكت�سب لونه من خالل قابليته المت�صا�ص بع�ض �أطياف ال�شم�س ولفظه البع�ض الآخر، "لذلك ا�ستبعد االنطباعيون عن ملونتهم اللون الأبي�ض ال�صايف ،والألوان القامتة ،وكذلك اللون الأ�سود الذي ال وجود له يف الطبيعة ،م�ستخدمني فقط �ألوان املن�شور ال�سبعة املتلألئة ال�صافية"( ). 15
من امل�ؤكد �أن الفنانني اللبنانيني مل يختربوا هذه الآليات ،بل ت�أثروا �أحياناً بامللونة االنطباعية بعدما �أجرى روادها الغربيون جتارب حثيثة �أثبتت جدواها ومكانتها يف التاريخ الت�شكيلي. ر�سم اللبنانيون مو�ضوعات خمتلفة منها مو�ضوع الطبيعة ،فانكبوا على ت�صوير م�شاهد من جبل لبنان �أو ما �شابهها .ان�سحبت �أحياناً امللونة االنطباعية على مو�ضوعاتهم الأخرى ،لكن امللونة الكال�سيكية مل ترتاجع لديهم بل بقيت ال�سيادة لها حتى ثالثينيات القرن املا�ضي، 134
�أدب
كما ظلت الرومان�سية مرفرفة فوق بع�ض �أعمالهم ،ال�سيما املو�ضوعات القروية والريفية والعادات والتقاليد اجلبلية وال�سمات والأزياء الفولكلورية ...تيمناً بالر�سم اال�ست�شراقي. نادراً ما وجدنا عم ًال "ميجد" بريوت ،العا�صمة ال�صاعدة �آنذاك ،ويرجع �إىل هذه احلقبة ،رغم �أنها كانت مدينة جميلة يف ذلك الزمن .ك�أن بريوت ومنط عي�شها ،تلك املدينة اخلارجة من عمق التاريخ العثماين ،والداخلة يف منط عالقات �شبه ر�أ�سمالية وثقافة تتمازج فيها ح�ضارات عديدة ،مل تكن جما ًال لال�ستقواء واال�ستلهام على امل�ستوى الب�صري ،ك�أنا بالفنانني ان�صرفوا عن املعاينة الب�صرية لل�سياق االجتماعي فذهبوا �إىل مو�ضوعات نو�ستاجلية �أو وفقاً ملتطلبات ال�سوق كما �أوردنا �سابقاً ،لذلك نراهم يتحولون �إىل فناين �أرياف بدل �أن يكونوا مدينيني، هم ا�ست�ساغوا الطريقة الغربية للر�سم ،لذلك " ...ادخلوا الفن الغربي �إىل بلد ذي تقاليد فنية خمتلفة ،وا�ستطاعوا �أن يجعلوا له مكانة يف الثقافة املحلية ،و�أن يهذبوا ذوق اجلمهور ويجعلوه قادراً على تقومي فن جديد "( ) .ويف �سياق الكالم عن �أ�سلوب انطباعي يف لبنان نذكر بع�ض املواقف لعدد من الباحثني .يذكر عفيف بهن�سي �أننا "ال ن�ستطيع �إطالق ت�سمية انطباعية ح�سب مفهومها الفرن�سي على اجتاهات الفنانني اللبنانيني ،ولكن ال بد من و�ضع ت�سمية �أكرث �صدقاً فنقول الطبيعية"( ) .ويعتقد �آخرون �أن ه�ؤالء مزجوا بني مو�ضوعات الطبيعة وبني الإطار الأدبي الق�ص�صي وال�شعري ،فقد ت�أثروا "بالر�ؤيا الأدبية اال�ستلهامية للمو�ضوع الغنائي(**) ،الأمر الذي جعل �أكرث من باحث يربط بني املرحلة الغنائية من عمر الأدب وال�شعر اللبناين وبني بروز هذا التيار املت�أثر �أ�ص ًال مبعطيات مدر�سة باري�س التي كانت تعي�ش جمرد االنطباعية"( ) .لكن الذي حدث " ...هو �أننا جئنا �إىل انطباعية جاهزة ،مقطوعة اجلذور عن �أ�صولها وعن الت�سا�ؤالت التي �سبقتها والتي جنمت عنها� ...إننا نظل يف نظام التقليد� .إننا نبقى من دون ال�شروط التاريخية ،وحتى النف�سية ،التي ولدت االنطباعية.) ("... 16
17
18
19
اعتنق رعيل املطورين وتالمذتهم الفن الغربي مبندرجاته الأكادميية ،من موقع �أنها البداية التي البد منها للقطع مع املا�ضي ،يف الوقت ذاته الذي �أخذ الغربيون يفت�شون عن التحديث يف ب�صريات ال�شرق الرتاثية .مل تنتب الغربيني �أية عقدة نق�ص �أثناء ا�ستلهامهم لفنون ال�شرق �إ�سالمية وعربية ،فهم انطالقاً من قناعتهم بعاملية فنهم ر�أوا �أن ب�إمكانهم االرتكاز �إىل الثقافات العاملية مادامت ثقافتهم مفتوحة على م�صراعيها لي�أخذ منها العامل ما يريد ،من هنا وجد فنانو احلداثة �أنف�سهم قادرين على االبتعاد عن "الواقعية البحتة ،حرفوا الطبيعة و�سطحوا العمق الت�صويري ،اهتموا بالت�صميم التعبريي بد ًال من الت�صوير الدقيق� ،أو و�صف املو�ضوع 135
كق�صة مروية"( ) .لكن الفنانني اللبنانيني املنتمني �إىل هذه احلقبة ،والفنانني العرب ب�شكل عام ،راوحوا يف املربع الأكادميي الواقعي ،فذلك كان يعني لهم حتو ًال راديكالياً بالن�سبة �إىل ما�ضيهم الب�صري ،وهو مل يكن يعني رمزاً حلالة حياتية بائدة كما كانت عند الغربيني ،بل �أكرث من ذلك .تنتابنا قناعة ب�أن هذا التغيري ّ �شكل مفتاحاً تاريخياً النخراط الفن الت�شكيلي يف لبنان باحلداثة الت�شكيلية ،رغم �أن هذه الأ�ساليب الواقعية كانت ،يف موطنها ،مناق�ضة للحداثة ومنط عي�شها .لذلك مل تتم �صياغة الثقافة الب�صرية يف لبنان مبا يتوافق كلياً� ،أو زمانياً، وبالوترية نف�سها ،مع ما ح�صل يف الغرب�" ،ستنتابنا الده�شة يف حال مل جند ت�أثرياً للحركة االنطباعية على الت�صوير يف لبنان ،فالفن يبقى معرباً عن العالقات االقت�صادية واالجتماعية التي �أقيمت بني هذا البلد وفرن�سا ،ويتبدى ذلك يف الهند�سة املعمارية والأزياء واللغة والأدب ،فلماذا يبقى اللبنانيون� ،إذاً ،متح�س�سني لتطور الت�صوير يف �أوروبا؟.) ("... 20
21
مل ت�سمح البنية االجتماعية والثقافية يف لبنان ،يف هذه الفرتة من التاريخ� ،أن ينخرط اللبنانيون املطورون لعملية االنتقال من الفنون الإ�سالمية العثمانية �إىل الفنون الغربية، بالتطورات التي �شهدتها باري�س� ،أو اللحاق بها بوترية �سريعة .فالتعددية الثقافية النا�شئة عن البنية الطائفية ،وبنية الربجوازية اللبنانية االلتحاقية ومتطلباتها الب�صرية ،جعل من �إمكانية ا�ست�ساغة االجتاهات احلداثية التي توالدت يف باري�س والعوا�صم الغربية ،يف الربع الأول من القرن الع�شرين ،مرتبكاً �إن مل يكن متعذراً و�صل �إىل حد الرف�ض ال�سافر. حتى �إن االنحياز �صوب االنطباعية وقفت �أمامه معوقات .يذكر م�صطفى فروخ يف كتابه "طريقي �إىل الفن" �أنه "من كان مثلي يعي�ش يف جو �ضيق بعيد عن الفن وممار�سته بعدنا عن املريخ ،ثم مل ي�سمع بالفن ،ومل يكن �أمامه وال حوله من �أ�سباب الت�شويق واالندماج الفني ال قليل وال كثري بل العك�س �صحيح �إذ كل ما حوله مثبطات فقط"( ) ،فماذا �سيكون موقفه �أمام متردات احلداثة على معتقدات اعتنقها ومار�سها ،تلك التي قد تعيده �إىل منطقة �سبق �أن نفاها ،هو و�أقرانه ،من ذاكرته وقطع معها؟ ه�ؤالء املجددون يف جماالت الر�ؤى الب�صرية هم ،بالن�سبة له ،م�شعوذون �أمثال "بيكا�سو ودويف وماتي�س ،دجالو الفن الذين م�سحوا الفن والأخالق"( ) .هكذا فعل �أي�ضاً "قي�صر اجلميل لدى عودته من باري�س ،هاجم املدر�سة التكعيبية"( ) .وكان يو�سف احلويك قد �أ�شهر موقفاً مماث ًال فو�صف بيكا�سو �أنه ال يح�سن الر�سم .وبالعودة �إىل فروخ ف�إنه يقول يف منا�سبة �أخرى "لقد مار�ست ت�صوير هيئة الأ�شخا�ص وهي التي تثمر يف بلدنا� ،أما املناظر الطبيعية وغريها ف�إنها ال تهم 22
23
24
136
�أدب
�أحداً"( ) .ويذكر ر�شيد وهبي يف ال�سياق ذاته قائ ًال "امل�شاكل ال تعد وال حت�صى يف بيئة جاحدة لأي نوع من �أنواع العمل الفني وب�أي �شكل من الأ�شكال ...اجلو العام مل يكن ي�سمح بوجود فنان .فالفنان كان يف ذلك الوقت جمهو ًال من قومه وبيئته ولي�س له من جمال للتخ�ص�ص.) ("... 25
26
- 6هل �شكلت هذه التطورات مدخالً �إىل احلداثة؟
على �ضوء كل ما تقدم ،هل ميكننا اعتبار ه�ؤالء الفنانني منتمني ب�شكل ثابت �إىل االجتاه االنطباعي؟ وهل �شكلت جتربتهم مدخ ًال �إىل حداثة ت�شكيلية موازية للحداثة الغربية �أو م�ستقاة منها؟ يذكر بع�ض الباحثني �أن "االنطباعية اللبنانية!" �شكلت قاعدة للتطور الت�شكيلي الذي يهم بالدخول �إىل احلداثة حيث " ...خرجت اللوحة �إىل الطبيعة واجته ناظر الفنان �إىل اجلبل بعد �أن كان لفرتة ق�صرية متجهاً �إىل البحر ير�سم ال�سفن احلربية وي�ؤكد عظمة ال�سلطنة.) ("... والواقع �أن االنطباعية مل تكن املعتقد الرا�سخ لدى الرعيل الذي �سمي با�سمها ،فقد راوح، وفقاً لعدد من الباحثني ،فروخ بني الواقعية الأكادميية واالنطباعية ،وقد جرب �أكرث من فنان منهم �أعما ًال تعود �إىل املدر�سة البحرية العثمانية قبل �أن ي�ستدرك بهتانها ،ف�أجنزوا �أعما ًال تكتظ بال�سفن احلربية واملراكب البحرية ومناظر من امليناء وموا�ضيع ذات �صلة بالبحر كنافذة مفتوحة على ن�شاطات ال�سلطنة .لقد ر�سم هذا الرعيل الذي �سمي "باالنطباعيني" مو�ضوعات من الذاكرة واملخيلة ،مثل املو�ضوعات الوطنية واملعارك احلربية واملو�ضوعات التاريخية التي ت�ستنه�ض ال�شعور الوطني .وتذكر �سيلفيا نايف �أن فروخ "مل يت�ساءل عن نوع الفن الذي يريده ،ففي ذهنه �أن هناك فناً واحداً فقط هو الفن الأكادميي الغربي ...بقي فروخ ر�ساماً �أكادميياً طوال حياته الفنية ،وكال�سيكياً �سواء جلهة التنفيذ �أو جلهة املوا�ضيع"( ) .وقد ن ّوع كل من قي�صر اجلميل وعمر الأن�سي ور�شيد وهبي يف موا�ضيعهم ومعاجلاتهم ،فبالإ�ضافة �إىل الطبيعة ر�سموا العري والفولكلور ومو�ضوعات تاريخية وتراثية ،فقد "ت�أرجح اجلميل بني الكال�سيكية التي متكن منها وبني االنطباعية التي نحا نحوها"( ) ،بع�ض مو�ضوعاته �أخذها من الأ�ساطري الفينيقية ،ك�أ�سطورة �أدوني�س وع�شرتوت .نتاج ه�ؤالء اتهم ب�أنه "نتاج كال�سيكي ر�سم خ�صي�صاً للزخرفة والديكور ...مل يكن من هدف له �سوى ر�سم لوحة تعجب النا�س 27
28
29
137
بجمالها ورونقها"( ) .كذلك ف�إن الأن�سي كان كال�سيكياً يف ر�سوماته الزيتية ال�سابقة على �أعماله التي عاجلها بالألوان املائية (الأكواريل) والتي ا�شتهر بها . 30
انطالقاً من ذلك اعتربنا �أن جيل املطورين وتالمذتهم املقاربني لالنطباعية �أو املحرتفني للفن الغربي ،مل تهزهم م�س�ألة احلداثة الت�شكيلية ال من قريب وال من بعيد ،ولكنهم احرتفوا الفن الواقعي بكل من درجاته ،من الواقعية املثالية التي متثلت بالكال�سيكية� ،إىل الواقعية العاطفية التي متثلت بالرومان�سية وبفن اال�ست�شراق ،والواقعية ال�صرفة ،والواقعية الطبيعية املتمثلة باملدر�سة الطبيعية ومدر�سة الباربيزون والبونت �أفن ...و�إن كنا تعرفنا �إىل مواقفهم من فنون احلداثة ،ن�ستطيع القول �إنهم �أ�س�سوا �أر�ضية لتالمذتهم من الفنانني الالحقني عليهم، فانخرطوا مبا�شرة يف احلداثة الت�شكيلية ،و�أيقنوا من خاللهم ب�أن الفن الغربي �أ�صبح و�سيلة التعبري املعا�صرة من دون منازع .لذلك وجدنا الرعيل الالحق يقارب الأ�ساليب احلداثية الغربية التي رف�ضها �أ�ساتذتهم ب�شدة. ماذا ن�ستنتج؟
هكذا ي�صبح ب�إمكاننا اال�ستنتاج ب�أن الو�سطني اللبنانيني امل�سلم وامل�سيحي جاهدا للو�صول �إىل تثبيت الت�صوير الت�شبيهي يف لبنان على امتداد �سنوات طويلة من العمل واملعاندة والأ�صرار، لذلك مل يكن �سه ًال الطلب من الفنانني الذين عا�صروا مرحلة التطوير هذه �إعادة متو�ضعهم ما�ض �أفل ،رغم دخول هذا املا�ضي يف من جديد يف �أ�ساليب جديدة قد ت�شكل ارتداداً �إىل ٍ �إطار احلداثة امل�ستجدة و"املريبة" كما يرون .هم ا�ستطاعوا �أن ي�أخذوا لنف�سهم مكانة ما يف عيون امل�شاهدين ،و�أن ي�ؤ�س�سوا لنف�سهم جمهوراً يقبل على اقتناء بع�ض �أعمالهم ويتذوقها. وت�أ�سي�ساً على ذلك ميكننا �أن نلخ�ص �أ�سباب رف�ض ه�ؤالء الفنانني االنخراط باحلداثة الغربية، وترددهم يف تبني املعاجلة االنطباعية: - 1الواقع ال�سيا�سي واالجتماعي بتفاوتاته املختلفة . - 2الو�ضع الأكادميي الذي ا�ستوجبته الدرا�سة الفنية يف الغرب . � - 3صعوبة القطع مع �أ�ساليب تبناها الفنانون لت ّوهم ،واالنتقال �إىل طريقة تعبري تذكر باملا�ضي الرتاثي الذي اعتربوه خارج ال�سياق الفني واجلمايل. 138
�أدب
- 4الفروقات الهائلة بني تطور منط العي�ش الغربي وجتلياته الثقافية وبني ما عاي�شه ه�ؤالء من معوقات اجتماعية ومنط عي�ش مت�أخر ال ي�سمح بدينامية تبدلية وانفتاح على التطور ال�سريع وال ميكنه من متو�ضع ذاتي وكيفي �إال قلي ًال. - 5دور �سلطة االنتداب يف تثبيت الثقافة الفرن�سية بهدف تعميق ال�سيطرة على املجتمع ومقدراته من باب الهيمنة الثقافية.
139
هوام�ش:
( )1م�صطفى فروخ :طريقي �إىل الفن ،م�ؤ�س�سة نوفل ،بريوت� ،1986 ،ص .113 ( )2ال�سيد حممد ح�سني ف�ضل اهلل :ال م�شكلة يف ت�صوير الأنبياء واملر�سلني والأئمة (مقابلة)، جملة النقطة ،بريوت ،العدد ،7خريف � ،1996ص .53 52- ( )3املرجع ذاته� ،ص .54 ( )4املرجع ذاته� ،ص .57 ( )5املكان ذاته. ( )6ال�شيخ بهجت غيث :ال جت�سيد ،ال ر�سم ،ال ت�صوير ،خ�شية �أن ت�صبح الت�صاوير والر�سوم �أ�صناماً يف ع�صر املادة ،جملة النقطة ،املرجع ال�سابق� ،ص .69 - 68 ( )7املكان ذاته. (� )8إدوار حلود :الفن املعا�صر يف لبنان ،بريوت� ،1974 ،ص.XXII (� )9سيلفيا نايف :بحث عن حداثة عربية� ،أجيال للفنون الت�شكيلية ،ترجمة :ح�سني قبي�سي ،بريوت، ،A la Recheched`uneModernite`Arabe، Editions Slatkine، Geneve، 1996 �ص .27
( )10ر�شيد وهبي :الإن�سان وظله ملء ري�شتي ،جملة الفر�سان ،باري�س ،العدد �شباط � ،1989ص .52
18 ،577
( )11الأب بطر�س �ضو :تاريخ املوارنة الديني وال�سيا�سي واحل�ضاري ،دار النهار ،بريوت، � ،1972ص .424 (� )12سيلفيا نايف :املرجع ذاته� ،ص .12 ( )13حممود �أمهز :الفن الت�شكيلي املعا�صر ،دار املثلث ،بريوت� ،1981 ،ص .36 140
�أدب
( )14جوزف �أبو رزق و�آخرون :املرجع ال�سابق� ،ص .2 ( )15حممود �أمهز :املرجع ال�سابق� ،ص .24 (� )16سيلفيا نايف :املرحع ال�سابق� ،ص .122 ( )17عفيف البهن�سي :رواد الفن احلديث يف البالد العربية ،دار الرائد العربي ،بريوت، � ،1985ص .111 (**) ك�أن الباحث يف هذا الو�صف يعني االجتاه الرومان�سي من دون �أن يذكره ،ذلك االجتاه الذي ارتكز �إىل الأدب واملخيلة والأ�ساطري والتاريخ والبعد العاطفي .وقد تكون تلك مقولة تربيرية هدفها �إ�سقاط مفهوم االنطباعية على هذا النتاج ،ف�أراد �أن يوحي ب�أن اللبنانيني �أنتجوا انطباعية خمتلفة! ( )18جوزيف �أبو رزق و�آخرون ،املرجع ال�سابق� ،ص .27 (� )19شاكر لعيبي :خرافة اخل�صو�صية يف الت�شكيل العربي املعا�صر ،دار الثقافة والإعالم، ال�شارقة� ،2003 ،ص .2 ( )20جورج فالجنان :حول الفن احلديث ،دار املعارف مب�صر ،ترجمة :كمال املالخ ،القاهرة، � ،1962ص .159 ): AperçuHistorique، La peinture au Liban، dansLiban، le regard des (21 CRASWELL John ans des peintresLibanais، Liban culture، IMA، Paris، 1989، 200 ،p.25peintres
( )22م�صطفى فروخ :املرجع ال�سابق� ،ص .27 ( )23م�صطفى فروخ :املرجع ذاته� ،ص .21 (� )24سيزار منور :املرجع ال�سابق� ،ص .115 (� )25سيلفيا نايف :املرجع ال�سابق� ،ص .113 141
( )26ر�شيد وهبي :املرجع ال�سابق� ،ص .52 (� )27سيزار منور :املرجع ال�سابق� ،ص .15 (� )28سيلفيا نايف :املرجع ال�سابق� ،ص .128 –127 ( )29جوزيف �أبو رزق� ،صالح بركات ،عمران القي�سي :الفن الت�شكيلي يف لبنان ،املنظمة العربية للرتبية والثقافة والعلوم ،بريوت� ،2002 ،ص .29 (� )30سيلفيا نايف :املرجع ال�سابق� ،ص .126
142
�أدب
مراجع �أخرى:
■ القرم جورج داوود :كتاب عن ذاته بعنوان جورج داوود القرم ،بريوت.1981 ،
■ البهن�سي عفيف :الفن احلديث يف البالد العربية ،تون�س ،دار اجلنوب للن�شر ،الأوني�سكو، .1980 ■ البهن�سي عفيف :رواد الفن احلديث يف البالد العربية ،دار الرائد العربي ،بريوت.1985 ، ■ البهن�سي عفيف :اجلمالية الإ�سالمية يف الفن احلديث ،دار الكتاب العربي ،دم�شق، .1997 ■ الرتيكي فتحي :يف احلداثة وما بعد احلداثة ،دار الفكر ،دم�شق.2003 ، ■ جرداق حليم :حتوالت اخلط واللون ،دار النهار ،طبعة ثانية ،بريوت.2000 ، ■ �سلطان في�صل :كتابات م�ستعادة من ذاكرة فنون بريوت ،كتاب ال�سفري ،دار الفارابي، بريوت.2013 ، ال�ستوكي عبداهلل :ت�أمالت يف العالقة اجلدلية بني احلداثة والرتاث ،املركز الثقايف الدويل باحلمامات ،تون�س.1979 ، ■ �سلطان مهى عزيزة :رواد من نه�ضة الفن الت�شكيلي يف لبنان ،الك�سليك.2006 ، ■ �شاهني مليا :يف مائة عام من الفن الت�شكيلي يف لبنان ،1980 - 1880من�شورات ري�شار �شاهني ،بريوت.1980 ، ■ عويط مي�شال :املوارنة من هم وماذا يريدون ،مطابع الكرمي احلديثة ،بكركي -لبنان.1987 ، ■ فاخوري ريا�ض :حديقة �ضيوف ،الفن االنطباعي اللبناين ،غالريي بخعازي ،بريوت، .1993 ■ حلود �إدوار :الفن املعا�صر يف لبنان ،دار امل�شرق ،بريوت.1972 ،
143
لبنان -بريوت � -شارع احلمرا -بناية ر�سامني -ط
3
�ص.ب 113 - 7179 :بريوت -لبنان
tel: 00961 -1 - 751 541 E-mail: info@darabaad.com website: www.darabaad.com
ا�سم الكتاب
عوملتان الفو�ضى واملقاومة الهوية وال�صراع رحيل يف ج�سد ال�صناعة يف طرابل�س التحية االخرية �أحالم املاء ناق�صات عقل و دين التطبيع ي�سري يف دمك اوف الين حي التنك بابل والتوراة ال�سيا�سة تطور املعنى وتنوع املقرتبات حب بطعم القهوة امل�سرح العاري التنمية يف الهالل اخل�صيب ال�سقف 90يوما يف ال�سعودية جهاد النكاح مناي يف مواجهة الطائفية لأين مل �أكن مار مارون واملوارنة �شعر الفداء واالنبعاث حرب التحرير القومية
خيمة غزة
ال�سرية احلرب على �آ�سيا العوملة وال�سيادة الفي�سبوك وت�شكيل العالقات االجتماعية وال ينتهي اللعب ما مل يكتب عن داع�ش منرب حتوالت قامات �أنثوية الأ�شجار العلفية واال�سرتاتيجية يف بالدنا The Oak Tree
مواد للبناء ق�صائد افرتا�ضية كانت ال�ضيعة ب�ألف خري من �أجل غد واعد �أورا�سيا والغرب �أمل بردان فرا�شة التوت درو�س يف العقيدة التوراة تثبت �أن فل�سطني �أر�ض عربية يف �شواطي الريح والغبار امل�سيحية امل�شرقية املعنى والر�سالة وطن مبالمح ع�شق ما مل يقله اهلل حكاية حرب�..سورية 2016 - 2011 كتب حتت الطبع -يو�سف بك كرم (�سرية بطل) � -سركي�س �أبو زيد
ا�سم الكاتب
الت�صنيف
فكر �سيا�سي �سركي�س �أبو زيد فكر �سيا�سي زهري فيا�ض �أدب زاهر العري�ضي اقت�صاد منري خملوف مذكرات من�صور عازار �أدب �سوريا بدور الطويلة فكر �سيا�سي يحيى جابر فكر �سيا�سي د .عادل �سمارة �شعر زاهر العري�ضي �أدب اكرام الداعوق دين الأب �سهيل قا�شا فكر �سيا�سي �شوكت �أ�شتي �أدب جومانة معالوي �شعر عبيدة االبراهيم اقت�صاد زهري فيا�ض �أدب ريا�ض بيد�س مذكرات �أ�سماء وهبة فكر �سيا�سي د.عادل �سمارة �شعر فايز غازي فكر �سركي�س �أبو زيد �شعر ن�سرين كمال تاريخ �سركي�س �أبو زيد �أدب زيتوين ل�ؤي ف�ؤاد ّ فكر �سيا�سي انعام رعد رواية ن�ضال حمد مذكرات من�صور عازار فكر �سيا�سي علوان �أمني الدين فكر �سيا�سي علوان �أمني الدين اجتماع وفاء كاظم حطيط رواية اكرام الداعوق �أحمد �صالح عثمان – خليل القا�ضي فكر �سيا�سي فكر �سيا�سي من�صور عازار �أدب لوي�س احلايك علوم ف�ؤاد �سروجي و�أحمد �سرحان Fuad Srouji
فهد البا�شا �أمني الذيب غازي اخلوري داود خرياهلل د .جمال واكيم ملحم احلايك لونا ق�صري �إنعام رعد دعاء ال�شريف د.ل�ؤي زيتوين �سركي�س �أبوزيد حممد ماجد �صوان كميل حمادة ثريا عا�صي
Sciences
فكر �سيا�سي �شعر رواية فكر �سيا�سي فكر �سيا�سي �شعر رواية فكر �سيا�سي فكر �سيا�سي رواية فكر �سيا�سي �شعر �شعر فكر �سيا�سي
�أدب
�شعر الفداء واالنبعاث
*
وفيق غريزي -كاتب
تطالع املتتبع للنتاجات ال�شعرية احلديثة نزعة حازت �أهمية بالغة ،ذلك �أنها حتولت �إىل نهج عام يف اجتاهات ال�شعر احلديث وقد عرفت بالنزعة التموزية� ،أو نزعة الفداء واالنبعاث. "وهذه النزعة جتذرت حتى �أ�صبحت مرتبطة ع�ضوياً ببنيان الق�صيدة احلديثة ،وعن�صراً جوهرياً يف تكوينها" .كما �أنها �أثارت جدا ًال طوي ًال يف الأو�ساط الثقافية ،ال�سيما يف �سياق حتديد الباعث على ن�ش�أة هذه النزعة ،وحتديد جذورها الأ�صيلة ،من هنا يقول الباحث الدكتور ل�ؤي زيتوين يف كتابه هذا "�أخذت نزعة الفداء واالنبعاث يف ال�شعر احلديث تربز بو�صفها مو�ضوعاً لدرا�سة جديدة ومو�ضوعية ،حتيط بكل جوانبها النظرية .وت�ضع التفا�صيل املتعلقة بانطالق هذه النزعة و�أ�سبابها و�أ�س�سها يف الن�صاب احلقيقي" .وهذا ما حدا بالباحث �إىل و�ضع ر�سالة تخت�ص بهذا املو�ضوع حتت عنوان "�شعر الفداء واالنبعاث". ولعل ال�سبب اجلوهري الختياره مو�ضوع الدرا�سة هذا ،هو �أنه يلقي ال�ضوء على توا�صل اخلط الفكري التموزي يف حياتنا املعا�صرة ،من خالل �شعر احلداثة ،هذا اخلط الذي متثل بعقيدة اخل�صب واالنبعاث الرا�سخة يف ح�ضارات ما بني النهرين وبالد كنعان ال�سورية. �أما من الناحية ال�شخ�صية ،ف�إن االختيار نابع من قناعة الباحث ب�ضرورة الفعل التموزي لبلوغ حتدد هذه الدرا�سة ال�شعراء الذين تتناولهم� ،إذ �شملت بع�ضاً من القيامة ،ومن ناحية �أخرى ّ �أبرز املمثلني للخط التموزي الذين ن�شطوا ب�شكل �أ�سا�سي يف جملتي "�شعر والآداب" وهم �سني والدتهم :يو�سف اخلال ،خليل حاوي ،جربا ابراهيم جربا ،بدر �شاكر على التوايل ح�سب ّ ال�سياب� ،أدوني�س ،نذير العظمة ،ف�ؤاد رقعة ،كمال خري بك وفايز خ�ضور. *� -شعر الفداء واالنبعاث -الدكتور ل�ؤي زيتوين -دار �أبعاد ،بريوت .2015 145
احلداثة ونزعة الفداء واالنبعاث
�شكلت عملية تفجري البنى الإيقاعية التقليدية يف ال�شعر العربي يف �أواخر الن�صف الأول من القرن املا�ضي ،والدة عتيقة نتجت عن مرحلة الإرها�صات التي حتركت يف اجتاهني :اجتاه ت�ضمن �سعياً حثيثاً ال�ستعادة مكانة ال�شعر العربي القدمي و�إرجاعه �إىل �سابق عهده ،واجتاه عمل ب�شكل متوا�ضع لتطوير ال�شعر العربي ا�ستثنا ًء �إىل املذاهب الأدبية احلديثة التي ن�ش�أت يف الغرب .وينقل امل�ؤلف الباحث عن يو�سف اخلال قوله" :كان ال�شعر العربي قبل اخلم�سينيات ا�ستمراراً لع�صر ذهبي مل يعد الئقاً انتهاك حرمته بامل�ضغ واالجرتار ،على الرغم من املحاوالت التجديدية املغلفة بغالف �شفاف من النظرات والتجارب الرومان�سية والربنا�سية والرمزية". ومن �أ�سف �أن يعني معظم ال�شعراء يف احلركة اجلديدة ونقادها مبظهرها اخلارجي ،حا�سبني �أن ميزتها الكربى هي اخلروج على الأوزان التقليدية ،وباعتماد البيت ال�شعري ميزاناً مو�سيقياً �أو باعتماد وزن داخلي .ولذلك يعلق بع�ض النقاد ،ويف مقدمتهم �إح�سان عبا�س على هذا املو�ضوع فيزعمون �أن الثورة التي قام بها ال�شاعر املعا�صر ،كانت على ال�شكل ال�شعري� ،أول الأمر ،خطوة متهيدية مل تغري كثرياً يف طبيعة ال�شعر ،و�إن غيرّ ت بع�ض مو�ضوعاته وجماالته، وو�سعت من حدوده لتقبل تيارات معا�صرة خمتلفة .ويف البيان الت�أ�سي�سي ملجلة �شعر الذي �ألقاه يو�سف اخلال يف دار الندوة حتت عنوان "م�ستقبل ال�شعر العربي" �إذ يرى �أن من الأ�س�س التي يقوم عليها �شعر طليعي ،كما ينقله الباحث عنه" :تطوير الإيقاع ال�شعري العربي و�صقله على �ضوء امل�ضامني اجلديدة ،فلي�س للأوزان التقليدية �أية قدا�سة" .يعني ح�سب ر�أي الدكتور ل�ؤي زيتوين �أن حتديث ال�شكل �إمنا ي�ستهدف متهيد الطريق �أمام حتديث امل�ضمون وجعله يف�سح يف املجال لبلوغ احلداثة الفكرية" .لأن نظام ال�شكل القدمي يف ال�شعر العربي يفر�ض قيوده على التعبري وعلى انطالق الفكر كذلك ،ولهذا ف�إن هذه امل�سرية ال�شكلية لن تت�أخر يف �أن ت�صبح لدى الرواد العراقيني .ولكن على نحو �أخ�ص و�أو�ضح يف �أعمال جتمع �شعر ،م�سرية للفكر، ومقاومة للعامل ،وكيفية يف ر�ؤيته ومتثله ،كذلك و�سيلة تهدمه و�إعادة بنائه". واحلداثة باعرتاف �أعالمها ،هي حداثة عقلية وروحية ،تبتعد كل البعد عن التق�سيمات واملفاهيم لل�شعر لتخرج �إىل التعبري عن املنظور احلديث �إىل حالة الكيانية احلياتية وعن الو�ضع احل�ضاري الذي نعي�شه حا�ضراً ،ناظرين �إىل الكيفية التي ت�سعى بها �أن حتقق م�ستقبلنا املرجو ،لذا نقول مع ريتا عو�ض يف هذا الإطار�" :إمنا احلداثة ،يف املحل الأول، 146
�أدب
موقف من احلياة والوجود ور�ؤيا جديدة للم�ستقبل". الر�ؤيا اجلديدة للعامل
يعتقد زيتوين �أنه لعل �سمات الر�ؤيا اجلديدة للعامل هي النظر �إىل الواقع املعا�ش ،االجتماعي وال�سيا�سي والثقايف ،و�إجراء نقد واع ملوقع الإن�سان العربي احل�ضاري ما�ضياً ،حا�ضراً وم�ستقب ًال، �إذ ا�ستطاع هذا الرائي �أن ينفذ بر�ؤياه �إىل �أعماق واقعنا املزري لري�سم الغد الذي ميثل قيمه العليا ،ولذا يو�ضح النقد احلديث هذه امل�س�ألة كما ورد عند كمال خري بك ،وينقله الباحث حيث قال" :ويجتاز العامل العربي اليوم حلظة حا�سمة من تاريخه ،حلظة ف ّوارة ب�إعادة النظر والتفح�ص واالختبار ،وخالفاً للتجليات الأوىل ليقظته يف مطلع القرن املا�ضي ،ف�إنه ال يبدو مهموماً ب�إنقاذ �صورته القدمية ،جزئياً �أو كلياً ،بقدر ما يبدو مهموماً بالدخول ،وعلى نحو نهائي، يف كابو�س عامل �آخر ،والتكيف ح�سب طبيعته ومعرفة لعبه وقوانينه"� .إن العربي يالحظ الآن مبرارة كيف �أن العامل يتجاوز منطه القدمي الذي نحته هو على �صورته. وبناء على ذلك ،ف�إن ال�شاعر العربي احلديث كان عليه مواجهة عدد من املتغريات التي �أثرت فيه بالت�أكيد ،ومواجهته هذه �أدت �إىل تر�سيخ الر�ؤيا اجلديدة .ومن هنا ر�أى النقد احلديث الذي رافق حركة احلداثة العربية ال�شعرية ،ح�سبما ينقل الدكتور زيتوين عن ال�شاعر والناقد الفل�سطيني جربا ابراهيم جربا" :ال�سمة الكربى يف التغيري الذي يعم العامل العربي اليوم ،هي تغيري الر�ؤيا ،ولل�شعر العربي املعا�صر �صلة كبرية بهذا التغيري ،بل �إنه من م�ؤ�شراته الأوىل ،وبع�ض من دوافعه الرئي�سية .والتغيري ال�شعري �أ�سلوباً وحمتوى يتبادل الأثر مع تغيري الر�ؤيا" .فيربز لنا هنا موفق منظور الباحث زيتوين �سمة جديدة من �سماتها� ،إذ �إن تلك املواجهة انعك�ست �إيجاباً يف ال�شعر فقدمت مفهوماً جديداً للق�صيدة يربط� ،أو يدمج ب�شكل ع�ضوي امل�ضمون وال�شكل معاً ،ويخرج عن �إطار الأغرا�ض التقليدية ،فكان تعريف الق�صيدة الر�ؤيا هو �أنها "قراءة جديدة لتاريخ الإن�سان يف الكون� ،أو ر�ؤية جديدة للو�ضعية الإن�سانية". ويرى زيتوين �أن ال�شعر بو�صفه فناً ،يعتمد يف وجوده على الر�ؤيا التي ت�سعى بطبيعة احلال �إىل التوغل يف �أعماق الوجود الكتناه �أ�سراره" .يبقى �أن الر�ؤيا تختلف تبعاً للزمن وللجغرافيا، و�أي�ضاً تبعاً للخلفية الأيديولوجية التي حتكم �شخ�صية كل �شاعر ...ولذا تكون جدة الر�ؤيا بقدر قدرتها على ا�ستيعاب الطبيعة اخلا�صة للخطة احل�ضارية ووعياً خل�صو�صية التعامل معها .كما �أن 147
تقليدية ال�شعر تعني �سلفية الر�ؤيا ،وبالتايل ق�صورها عن ذلك اال�ستيعاب وعن هذا الوعي". تعريف ق�صيدة الفداء واالنبعاث "التموزية"
ُعرفت ق�صيدة الفداء واالنبعاث منذ ن�ش�أتها با�سم الق�صيدة التموزية ،ن�سبة �إىل �أ�سطورة متوز �أو �أدوني�س ،وذلك منذ اخلم�سينيات من القرن املا�ضي ،وال يخفى مدى ارتباط هذه الت�سمية بتاريخ عقيدة اخل�صب واالنبعاث يف املنطقة .ويقول الباحث زيتوين" :وقد ظهر م�صطلح ال�شعراء التموزيني ،لأول مرة يف عدد جملة �شعر ال�صادر يف �صيف � ،1958ضمن مقالة بعنوان املفازة والبئر واهلل ،جلربا ابراهيم جربا ،الذي �أطلقها على ال�شعراء :يو�سف اخلال ،خليل حاوي، بدر �شاكر ال�سياب وجربا نف�سه" ،لأن �شعرهم يتميز بنهج الفداء واالنبعاث الذي ميثله متوز �أحد �أقدم رموز هذا النهج. ولكن ال�س�ؤال الذي يواجه امل�ؤلف :ملاذا اختري رمز متوز بالذات لإطالقه على �شعر الفداء واالنبعاث دون غريه؟ يف حني من املمكن �إعطاء ت�سمية الق�صيدة البعلية �أو الأدوتية� ،أو امللكارتية .فال بد من دخول عن�صر ما بالقوة التي متكنه من تدعيم م�س�ألة اعتماد هذه الت�سمية "وقد جتد ذلك العن�صر ،على الأرجح ،يف املطابقة الوجدانية بني �أ�سطورة الفداء واالنبعاث وبني ا�ست�شهاد �أنطون �سعاده يف �شعر متوز ،هذا احلدث الذي ارتبط به معظم ال�شعراء التموزيني فكرياً ووجدانياً". وي�ستطيع املطلع �أن يرى م�صطلح الق�صيدة التموزية ،عنواناً مف�صلياً يف حركة احلداثة ال�شعرية واحل�ضارية ،لأنه كان النتاج الأكرث ا�ستيعاباً لطبيعة املرحلة التي ُولد فيها ،والأكرث مقاومة ل�ضحالتها ،وبالتايل الأكرث حتديثاً نظراً لطبيعتها الثورية -التجاوزية .وقد انطلقت مع ال�شعراء اخلم�سة ال�سابق ذكرهم ،على اعتبار �أنهم ي�شرتكون بت�ص ّور احلا�ضر� ،أر�ضاً خراباً ،ماتت فيها القيم الإن�سانية ومعامل احل�ضارة ثم يلوحون بقيم جديدة. وي�شري زيتوين �إىل �أن نزعة الفداء واالنبعاث ،قد تو�سعت وانت�شرت ،فلم تعد حم�صورة يف معممة على معظم �شعراء جيلهم .وحتى على �شعراء ال�شعراء اخلم�سة� ،إذ �إنها حتولت �إىل نزعة ّ الأجيال الالحقة و�أبرز الأ�سماء التموزية الأخرى ال�شعراء عبد الوهاب البياتي ،نذير العظمة، فايز خ�ضور ،كمال خري بك ،وحممد علي �شم�س الدين ،مع اكت�سابها اخل�صو�صية ال�شخ�صية لكل �شاعر� ،إال �أنها -يقول زيتوين" :-تت�سم بقوا�سم م�شرتكة بني نتاجاتهم .وهذا ما قاد بع�ض 148
�أدب
الباحثني �إىل التو�ضيح ،االنبعاث احل�ضاري ،الرمز التموزي ،العنقاء ،وطائر الفينيق ،هي القا�سم امل�شرتك يف مرحلة �شعرية كاملة" .وفكرة االنبعاث تبدو وك�أنها حماولة ال�ستكمال ع�صر النه�ضة العربية� .إنها ا�ستعادة للما�ضي ،لكنها يف تبلورها ال�شعري ال ت�ستعيد القدمي ب�شكل جماين ،بل توظفه يف خدمة م�شروع جديد ،بو�صفه منوذجاً� ،أو �إطاراً �أو رمزاً .لذلك غرقت يف الأ�سطورة. والأ�سطورة يف وعاء ،جمرد وعاء للحظة اجتماعية هاربة .العودة �إىل املا�ضي لي�ست عودة نقدية �إنها عودة وظيفية ،توظيف للما�ضي يف �سبيل هدف �آخر. وي�ؤكد زيتوين �أن ق�صيدة الفداء واالنبعاث واكبت عملية الوعي احل�ضاري التي �أخذت تتنامى يف املجتمع ،فكانت يف �أ�سا�سها منطلقة من فكر �أو موقف جديد جتاه العامل� ،أي �إنها عقلية حداثية ثورية ت�صدت لهجوم احلا�ضر فنظرت �إليه ب�شكل مغاير عن وجهات النظر ال�سائدة حتى ذلك الزمن. �إرها�صات والدة ق�صيدة الفداء واالنبعاث
�إن فعل الفداء واالنبعاث فعل فردي ي�ستهدف قيامة اجلماعة ،وهذا ما حدث فع ًال يف املطولة ال�شعرية التي بدت وك�أنها عنوان للدخول يف ع�صر �شعري جديد عملياً .تغيب عنه الهموم ال�شخ�صية البحتة ،كما تغيب عنه الوطنية الرومان�سية .ويح�ضر فيه عن�صر الر�ؤيا والرمز يف �إطار كياين يحت�ضن هم اجلماعة ،دون �أن يغيب باخليال عن الواقع العملي وعن احلركة يف �ساحة اجلهاد العقلي. يف املقابل "ا�ستخدم العديد من ال�شعراء والكتاب �أ�ساطري البعث :متوز� ،أدوني�س ،و�أوزري�س .لكن بع�ض الباحثني يرى يف ا�ستخدام ه�ؤالء لها ،غري الطابع الرومان�سي والو�صفي جرد الأ�سطورة، التموزية يف كتابة ه�ؤالء من دراما احلياة واملوت .فجاءت خالية من احلركة وال�صراع" .كما ميكن القول �إنه ا�ستخدام كان �شبيهاً بالإثارة ،ويف بع�ض جوانبه ت�ضميناً لأ�ساطري �أو �شخ�صيات �أ�سطورية ب�صفتها مرياثاً معرفياً �أو معرفة ثقافية من دون و�ضوح لتفاعلها من اجلانب الوجداين واالنفعايل وان�صهارهما الأ�سطورة والوجدان معاً ليكونا بنية من بنى الق�صيدة .وقد بلغ تطور الإرها�صات التي مهدت لن�شوء ق�صيدة الفداء واالنبعاث "�أن دخلت يف ن�سيج العامي ،يف الفرتة التي بد�أ فيها هذا ال�شعر نف�سه يتطور ويتخلى عن �أمناطه القدمية املحددة"� .إن هذه الق�صيدة مل تولد ب�شكل فجائي دفعة واحدة ،فقد كانت تتبلور على زمن غري قليل ،فكانت 149
املحاوالت التي ت�ضمنت الرموز االنبعاثية �أو تبنت الفعل االنبعاثي هي الإرها�صات الأوىل التي �أدت �إىل والدة ق�صيدة الفداء واالنبعاث مع ال�شعر احلديث من خالل �شعراء خا�ضوا ب�أنف�سهم يف وقت مبكر م�س�ألة التعامل مع الرموز ح�سب قول زيتوين. لعل اكت�شاف قيم اجلدب وال�سقوط من قبل ال�شعراء جعلهم يفكرون يف ا�ستفزاز قوى اخل�صب الفكري يف الأمة ،ب�شكل ي�شابه طريقة �صراع الإن�سان القدمي يف �أوىل درجات تفكريه �ضد قوى القحط يف بيئته الطبيعية ،فكان كما يرى جربا ابراهيم جربا البحث عن ميالد جديد عن بعث يف الوجود واملدن والزمن .وامليالد اجلديد هذا من منظور زيتوين يجب �أن يكون متمتعاً بالقوة الالزمة التي ت�ؤهله لالندماج باحلالة احل�ضارية ،واالنطالق من الر�ؤيا التي حملها �أولئك ال�شعراء �إىل العامل" .فوجدوا يف تراثهم القومي تلك القوة يف الأ�ساطري والرموز القادرة على الإم�ساك بتلك احلالة وجت�سيد هذه الر�ؤيا ،ب�شكل ي�ؤمن �شعوراً عارماً بالقيامة دون �أن يقف عند هذا احلد ،بل ميتد لي�ؤثر يف حركة املتلقني فيدخلهم يف ق�ضاء ال�صراع احلقيقي من �أجل القيامة" .من هنا جل�أ ه�ؤالء �إىل الرمز التموزي لبلوغ ذلك امليالد يف �أ�شعارهم .وعليه يكون من الأ�سباب املو�ضوعية ،ال�ستخدام هذا الرمز ،ورمبا يكون �أهمها" :الو�ضع مع نكبة ،1948فقد �صحا ال�شعراء على �ضياع فل�سطني و�ضياع الكرامة والعربية معها ب�سبب هزمية الأمة العربية �آنذاك .وكان هذا �أ�شبه بالقحط واجلدب يف احلياة العربية والواقع العربي ،وت�شكل هذا هاج�ساً يف ذهن ال�شاعر". وبطبيعة احلال ف�إن هذا ال�شعور بالإحباط وهذا ال�سعي �إىل االنبعاث انتظر ن�ضج التجربة احل�ضارية حتى ي�ستطيع �أن يتج�سد يف ق�صيدة الفداء واالنبعاث على يد نخبة من ال�شعراء الذين يهج�سون بحلم اجلماعة يف اخلال�ص" ،فكانت �أوا�سط �سنة 1954تقريباً ،م�سرية �شعراء الفداء واالنبعاث يف احلداثة ،وتدعمت من خالل �صفحات جملة �شعر ب�شكل �أ�سا�سي ،مع ح�ضورها على �صفحات جملة الآداب ،وقد �أخذ هذا ال�شعر يتطور ويتعمم بني ال�شعراء حتى �أ�صبح نزعة �شعرية غري مقت�صرة على عدد من ال�شعراء املحددين" .وميكننا ا�ستناداً �إىل ذلك القول مع �سلمى اخل�ضراء اجليو�سي� :أ�صبحت اللحظة احل�ضارية منا�سبة يف �أوا�سط اخلم�سينيات ال�ستعمال ال�شعراء العرب للأ�سطورة ،فعمدوا �إليها ليعبرّ وا عن قحط احلياة العربية بعد نكبة فل�سطني ،وعن ال�شوق العميق يف لهفته و�أ�ساه �إىل العودة �إىل نب�ض احلياة والكرامة. ومن املحتمل �أن يكون ال�شعراء التموزيون الأول قد انخرطوا يف هذا الت�أثر باالطالع على بع�ض 150
�أدب
النماذج ال�شعرية الغربية وحتى على بع�ض �أعالم الفل�سفة يف الغرب ،والواقع يقول زيتوين: "�إن جميع هذه الأمور جعلت من ن�شوء �شعر الفداء واالنبعاث �أمراً يف غاية التعقيد ،لأنه كان متداخ ًال يف خمتلف جوانب احلالة احل�ضارية والقومية ،من هذا املنطلق بحث �أولئك ال�شعراء يف الرموز احل�ضارية التموزية عن احتمال �إحياء نه�ضوي ح�ضاري يك�شف عن �إمكانية تبلور الذات القومية" .وك�شف هويتها يف ر�ؤيا نخبوي ت�ستوعب �أحالم اجلماعة وتفديها .وعلى هذا الأ�سا�س جرى الت�أكيد يف النقد احلديث على �أ�صالتهم ودورهم احل�ضاري. عرف ال�شعر العربي ق�صدية الفداء واالنبعاث التي �أطلق عليها الق�صيدة التموزية ،يف منت�صف القرن املا�ضي ،وهذه الق�صيدة تقوم على رف�ض ال�شعراء للواقع املجدب ،الذي يعي�ش فيه جمتمعهم ،والقيام بفعل عك�سي يف مواجهته با�ستنها�ض قيم احلياة يف هذا املجتمع .وذلك ال يكون �إال با�ستخدام تاريخها و�أبرزه ا�ستخداماً يف ال�شعر رمز متوز. امل�ؤثرات يف ن�ش�أة الق�صيدة التموزية
يحدثنا امل�ؤلف الدكتور ل�ؤي زيتوين عن امل�ؤثرات يف الق�صيدة التموزية وال�شعر التموزي ،بدءاً بامل�ؤثرات الغربية الأنرتوبولوجية ،وال�سيما كتاب الغ�صن الذهبي جليم�س فريزر وخا�صة كتاب "متوز" الذي ترجمه جربا ابراهيم جربا ،ثم امل�ؤثر الأليوتي �أو التثاقفي ،ثم امل�ؤثر النه�ضوي القومي االجتماعي .فيقول امل�ؤلف" :وبالتنا�سب مع ما انطلق منه �أنطون �سعاده يف تعريف الأمة و�أولويتها ،يع ّرف ال�شعر بالقول :هو الذي يعني ب�إبراز �أ�سمى و�أجمل ما يف كل حيز من فكر �أو �شعور �أو مادة .ويرتكز فهم �سعاده لل�شعر �إىل �أربعة �أفكار �أ�سا�سية :منائية ال�شعر الباحثة عن الأ�سمى والأجمل ،الفكرة املتعلقة مبادة ال�شعر التي تتمحور حول االنفعال ولكن املرتبطة بالفكر ولي�س باالنفعال اجلامح ،الثالثة فكرة كيفية التعبري عن هذا االنفعال والذي يكون بال�صور املجازية واخليالية ،و�أخرياً فكرة االرتباط ،ارتباط ال�شعر بـ"احلقيقة وبالغر�ض الإن�ساين". �إذاً فال�شعر عند �سعادة ال يتعلق فقط بالفكر ،كما �أنه من غري العادل قطره على ال�شعور� ،إنه �أعمق من ذلك و�أ�شمل� ،إذ ي�شتمل على ارتباط وثيق بالو�ضعية الراهنة للأمة ومبا يجب �أن تكون عليه .وبهذا ميكننا �أن نتحدث عن ال�شعر املثايل والأ�سمى ،لكن الباحث جمال باروت فيقول يف ال�سياق نف�سه" :تكمن �أهمية �سعاده يف �أنه ،مل ير الوظيفة يف العالقة ما بني ال�شاعر 151
وجمهور يحر�ضه� ،أي �إنه مل يرها يف �إطار خطابي حتري�ضي بقدر ما ر�آها يف طبيعة ال�شعر نف�سه، بعد �إعادة النظر مبعناه وطبيعته ووظيفته و�أدواته". انطالقاً من هذا الفهم املتكامل لل�شعر ،وجد �سعاده ح�سب ر�أي امل�ؤلف �أن �شعراءنا الذي عا�صروه غارقون يف التقليد الأعمى ،و�أن نظرتهم �إىل التجديد وتغرقهم �أكرث يف التقليد ،لأن جعل ال�شاعر مر�آة للجماعة �أو مر�آة للع�صر ،يجعله يعك�س الواقع املنحط والرديء .ويف ذلك ميكن القول� :إزاء هذا الواقع جتد �سعاده يتعامل مع الإبداعية بر�سم الفنان املبدع ،وال�شاعر لي�س م�ؤرخاً وال عاملاً اجتماعياً ،لي�س بال�ضرورة را�سماً واقع جمتمعه ،املبدع هو ذلك الن�سر املحلق الذي ي�ضرب بجناحيه رحاب اجللد في�ؤاخي ال�سماويات والفوقيات واملثل العليا، وينزل �إىل �أعماق اليم فيعود بالدرر الثمينة من جواهر النف�س ودرر احلياة. الأدب عند �سعاده هو �أدب احلياة ولي�س �أدب العاطفة �أو النزوة �أو البكاء على الأطالل .هو �أدب الفعل ولي�س �أدب االنفعال .هو ال�ضارب يف �أعماق النف�س ،واملتجذر يف �أ�صول الفكر، "وويل لأمة ال متلك �شاعراً كبرياً �أو �أديباً كبرياً ..لأنها ،واحلالة هذه ،ال متلك �أي �شيء كبري". ومن �أبرز ال�شعراء التموزيني الذين ت�أثروا ب�سعادة ،ال�شاعر خليل حاوي ،ولعل ت�أثره ب�سعادة يربز من خالل تبنيه لبع�ض مقوالت "ال�صراع الفكري" �إذ ي�شجب مث ًال الأخذ ب�أ�ساطري غريبة يعده تخلياً عن االنتماء وخدمة لأعداء الأمة، عن �شخ�صية الأمة وعن م�صريها لأن ذلك ّ كما فعل �سعيد عقل يف تبت يفتاح ،حيث جتد يفتاح اليهودي بط ًال �أ�سطورياً .وهذا الأمر من منظور حممود �شريح :ي�ؤكده املتخ�ص�صون يف �أدب خليل حاوي� ،إذ يرون ..بيد �أن ال�شاعر فحملها �آراء كثف ن�شاطه النقدي يف ال�سبعينيات من خالل مقابالت معه �أو درا�سات � ّ أعدها ّ جريئة ا�ستمد معظمها من م�ؤلف �سعاده "ال�صراع الفكري و�صهرها بر�ؤية فل�سفية متميزة ت�أخذ باجتاهات املذهب الكانطي النقدي دون �أن تغيب عنها خلفية احلزب القومي". ويرى البع�ض يف عودة حاوي �إىل الأ�سطورة يف �شعره ،كما يو�ضح امل�ؤلف تطبيقاً لفكرة �سعاده حول هذا املو�ضوع ،ال بل يذهبون �إىل القول �إن ا�ستيعابه لهذه الفكرة ال�سعادية هي عملياً �إعادة اعتبار لذلك القائد من خالل جعل حياة �سعاده ب�أكملها رمزاً �أ�سطورياً ،فقد متكن خليل حاوي من توحيد الآتي بالأزيل ،بالثقافة اجلماعية للأمة ،فر ّد على �سعاده مكانته الالئقة يف فهمه لتوظيف الرمز الأ�سطوري يف الق�صيدة ،وح ّول �سريته كلها �إىل رمز �أ�سطوري ،ويف حتليل 152
�أدب
عميق ب�شعر حاوي ،يلحظ البع�ض �أن رمز النار امللكارتية احلا�ضر ب�شكل مكثف فيه ،ي�شكل رمزاً تناحياً يحيلنا �إىل مرجع ديناميكي وهو �شعار الزوبعة القومية االجتماعية". كما �أن حاوي نف�سه ال يرتك جما ًال لل�شك يف انتمائه القومي االجتماعي حتى بعد �أن ترك احلزب تنظيمياً ،فهو يديل بت�صريح وا�ضح يف بداية ال�سبعينيات ،قائ ًال :مل ي�أت يف تاريخنا قائد له قامة وح�ضور مثل �أنطون �سعاده ،لقد حاربوه ،و�سيحاربون �أتباعه ،لكن �أبناء احلياة ال يهابون، وهذا ما مينع ال�شك يف ق ّوة الأثر العميق هذا ل�سعاده يف �شاعر االنبعاث الأول خليل حاوي". �أ�س�س �شعر الفداء واالنبعاث
ي�شري امل�ؤلف ل�ؤي زيتوين �إىل �أن �أول هذه الأ�س�س هو الوالء الذي حمله ال�شعراء للأر�ض ،مبا جت�سده من معاين االنتماء ،ولهذا �شكلت �أوىل �سمات ال�شعر التموزي ،ثم االمتالء بامل�صري الكلي -اجلمعي ،على اعتبار �أن ال�شاعر بح�س باندماجه يف اجلماعة التي ت�شاركه والءه ويعدها ال�شعراء تعبرياً للأر�ض� .أما الأ�سا�س الثالث فهو املتعلق بالرموز الدينية والأ�سطورةّ ، عن حقيقة تاريخية فاعلة ،لأن الرمز ّ �شكل را�صداً للواقع املعا�ش يف جمتمعنا. ويقول زيتوين" :لقد ارتبطت حركة الفداء واالنبعاث يف �شعرنا احلديث :بالتجربة احل�ضارية التي عا�شها جمتمعنا" .ميكننا ا�ستناداً �إىل ذلك �أن نلحظ امل�ضامني امل�شرتكة بني �شعراء الفداء واالنبعاث ،و�أول هذه امل�ضامني هو تطويرهم الواقع الأليم املليء باالنك�سارات واخليبات� ،إذ جمد عروق الأر�ض وقتل �إن خليل حاوي على �سبيل املثال ،يرى يف هذا الواقع "جليداً" ّ كل مظهر للحياة عند الب�شر فمات كل عرق ويب�ست الأع�ضاء حلماً قديداً .ويف نظرة �إىل �شعر يو�سف اخلال يقول امل�ؤلف" :تراه يجعل من واقعه حالة من الالمباالة حتى بالقيم الإن�سانية ال�سامية .حتى �إن البئر الذي يفي�ض ما�ؤها يف ق�صيدة البئر املهجورة ،مير عليها الب�شر متجاهلني �إياها فال ي�شربون منها وال يرمون فيها حجراً .وهذه الالمباالة وهذا التجاهل� ،إمنا يعنيان املوت والعدم". من جهته ،ال�شاعر العراقي بدر �شاكر ال�سياب ،ي�ص ّور بالده حزينة مهدمة ،ي�سيطر عليها ّ املنحل الوح�ش الذي يحر�س مملكة اجلحيم واملوت ،يربزه ب�صورة رهيبة تنم عن احلا�ضر واملنحط ،ويخت�صر ال�سياب واقعه وواقع وطنه بو�صفه جوعاً يتحكم بحياة العراق .وبالتايل ف�إنه يفتح جما ًال لإ�شباع هذا اجلوع بانبعاث منتظر". 153
وال يخرج �أدوني�س عن غريه من التموزيني ،يف و�صف الواقع� ،إال �أنه يجعل ال�سبب يف الو�صول �إىل هذا الواقع املرير ،هو املجتمع نف�سه .ف�أفراده هم الذين اندفعوا نحو الهاوية وجعلوا بالدهم تعي�ش ذلك ال�سقوط. "والنا�س يف جمتمع �أدوني�س ال ي�ؤمنون بالفاعلية الذاتية للإن�سان ،بل بالغيبيات التي يعتقدون �أنها �ستنقذهم من حالتهم ،وبالتايل مب�س�ألة الق�ضاء والقدر وهذا ما ي�شكل �سبباً �أ�سا�سياً يف انحطاط املجتمع". ون�ستطيع القول �إن ال�شعراء التموزيني قد انطلقوا يف نظرتهم احل�ضارية من ر�صد الواقع امل�أ�ساوي للمجتمع وك�شفه على حقيقته ،لكننا يف هذا الإطار ،ال ميكننا �أن نح�صر هذا املو�ضوع به�ؤالء ال�شعراء فقط مع �أنه من امل�ضامني الأ�سا�سية يف �شعر الفداء واالنبعاث ويرى امل�ؤلف، �أن ال�شعراء يف ع�صرنا قد قاموا� ،سواء �أكانوا حديثني ،باملعنى الر�ؤيوي للكلمة� ،أم ال ،بت�صوير الواقع الأثيم يف �أ�شعارهم .ولذلك ال بد لنا �أن ن�س�أل عن الأ�س�س التي قام عليها �شعر الفداء واالنبعاث وم ّيزاته عن غريه من النزعات ال�شعرية؟ لقد بحث �شعراء الفداء واالنبعاث عن رمز ي�ستطيع �أن ي�ستوعب تلك احلال ،ويوحي بالنهو�ض من الواقع امليت �إىل غد �أف�ضل و�أمثل ،ويف الوقت نف�سه تكون له �صفة الدميومة على �صعيد اخل�صوبة يف احلياة النباتية ،وعلى �صعيد حياة الب�شر" ،فاهتدى ه�ؤالء ال�شعراء �إىل الرمز التموزي ب�أ�شكاله املتعددة :متوز� ،أدوني�س ،ي�سوع ،مار جرج�س ،اخل�ضر ،على اعتبار �أن الرمز هو لغة املفارقة التي تهزم القوى املاردة واخلارقة وحتل حملها الإن�سان البطل" .فيتجاوز فيها الرمز حقيقة مادية هي ا�ستمرارية الدوام ،لي�ؤكد لنا ا�ستحالتها با�ستمرارية التغيرّ .لأن الوجود �شيء مادي� ،سواء كان ذلك يف جانبه املو�ضوعي �أو جانبه الفكري ،وهو لهذا ال يفتي وال ي�ستحدث ويتحول من حال �إىل حال لي�صرع الزمن امليت. هذا االنبعاث لي�س �سطحياً �شكلياً ،بل مي�س العمق احل�ضاري للأمة .وانطالقاً من ذلك مت�سك �شعراء الفداء واالنبعاث يف بداءة الأمر ب�أ�سطورة متوز ،فعند جربا ابراهيم جربا على �سبيل املثال نلحظ �أن �أول ديوان له يف العربية حمل عنوان "متوز يف املدينة" كما نرى عند ال�سياب ق�صيدة حتمل عنوان "متوز جيكور" .وهذا باعتقاد امل�ؤلف ،عدا عن كون معظم ق�صائدهم توحي باحل�ضور الفاعل لرمز متوز� ،إىل درجة �أنهم كثرياً ما كانوا يتلب�سون �شخ�صية متوز يف ذواتهم� ،إذ 154
�أدب
ي�صرخ يو�سف اخلال�" :أنا كتموز". لكن �شعراء الفداء واالنبعاث مل يق�صروا ا�ستعماالتهم للرمز على الأ�سطورة التموزية فقط، بل ا�ستعانوا برموز انبعاثية �أخرى غري متوز ،ومن هذه الرموز �أ�سطورة البعل التي ُتعد منوذجاً �أكرث جت�سيداً للعملية الفدائية ،وميكننا �أن نر�صد عملية توظيف رمز البعل يف ال�شعر من خالل الرجوع �إىل �شعر خليل حاوي .وي�شري امل�ؤلف �إىل �أن �أ�سطورة البعل قد ا�ستعملت ولكن حتت ا�سم "�آداد" وذلك ب�شكل خا�ص عند ال�شاعر فايز خ�ضور يف مطولته التي حتمل هذا العنوان، ففيها تربز ق�صة �آداد على �أنها ال�سبيل للخروج من موات الواقع. فال�شاعر خ�ضور يرى يف �آداد الأمل الوحيد حل�صول البعث وحتقق عودة اخل�صب �إىل الطبيعة. وقد جل�أ ال�شعراء التموزيون �إىل رموز عديدة �أخرى من الرتاث القومي ،ومنها رمز الفينيق. ومن الوا�ضح ح�سب اعتقاد امل�ؤلف �أن الفينيق يقدم لنا ب�صورته الأ�سطورية ،يحت�ضن اللهب ويحرتق لكي يتجدد ويعود �إىل �شبابه املتمثل بلفظة الربيع ..وهو الطائر الذي يخ�ص ال�شاعر وقومه ،والذي يقود الطريق نحو االنبعاث. كما ّوظفت رموز دينية يف امل�شروع النه�ضوي ،ومن �أبرز تلك الرموز هو رمز ي�سوع امل�سيح. وقد كان هذا الرمز �أحد �أكرث الرموز ت�أدية للفعل االنبعاثي الفدائي ،ويف هذا ال�سياق يتقم�ص ال�شاعر كمال خري بك �شخ�صية امل�سيح ويحقق البعث فيقوم بنزع ال�صخرة التي كانت ت�سد املقربة ،وهنا ترد عنده لفظتان ت�ؤكدان بو�ضوح ح�صول القيامة ( ُبعثت ،نه�ضت)� ،أما "احلالة احلا�ضرة في�شري �إليها بعدد من الألفاظ التي تنم عن املوت والدمار (رماد ،دخان ،حطام و�أنقا�ض)� .أما �أ�سماء الفاعل الثالثة يف نهاية �أحد ن�صو�صه (خارجاً ،الب�ساً ،و�ساهراً) ف�إمنا تربز �صفة الثبات التي تو�صل �إليها ذلك الإله نتيجة الفعل الفدائي الذي قام به". ومل يتوقف الأمر عند هذا الأمر ،فقد جل�أ �شعراء الفداء واالنبعاث �إىل اال�ستعانة برموز انبعاثية قدمية للتعبري عن �شخ�صية فدائية معا�صرة ،هي �شخ�صية �أنطون �سعاده على الأرجح. �إن �شعر الفداء واالنبعاث ،من منظور الباحث الدكتور ل�ؤي زيتوين قد �شكل نزعة مهمة ووا�ضحة ،ال ميكن �إغفالها يف ال�شعر ،و�أخذت موقعها املتميز �ضمن �إطار الق�صيدة احلديثة ،وقد �أدت دوراً �أ�سا�سياً يف �إبراز احلالة احل�ضارية وكيفية مواجهتها. 155
3
ط- بناية ر�سامني- �شارع احلمرا- بريوت- لبنان لبنان- بريوت113 - 7179 :ب.�ص
tel: 00961 -1 - 751 541 E-mail: info@darabaad.com website: www.darabaad.com
منا �سبة
النه�ضة اجلديدة
*
الأباتي �أنطوان �ضو -م�ؤرخ وكاتب
�أ�شكر نادي �شبيبة مزيارة الذي َّ تلطف ودعاين �إىل امل�شاركة يف هذه الندوة الثقافية احل�ضارية حول كتاب الأ�ستاذ فهد البا�شا "مواد للبناء" ،ال�صادر عن "دار �أبعاد" ،وهو جمموعة مقاالت �صحفيةُ ،ن�شر �أغلبها يف جريدة البناء ،وهي تتناول موا�ضيع عدة. ا�ستوحيت من هذا الكتاب ثالثة �أفكار لتكون مو�ضوع حديثي ،وهي اللغة العربية ،واحل�ضارة ُ ال�سورية ،واملزيارية ،موا ّد �أ�سا�سي ٌة للبناء والنهو�ض احل�ضاري اجلديد ،والذي لن يتحقق �إال بثقافة التغيري ،والتغيري بالثقافة. � ُ أدخل �إىل كتابك من باب اللغة العربية امللوكي ،و�أنت �س ّيدها وفقيهها والداعية �إىل جتديدها كدعوة الكثريين من النه�ضويني ،وعلى ر�أ�سهم املطران جرمانو�س فرحات� ،صاحب كتاب "بحث املطالب" يف م�ساعدة الطالب على تعلم اللغة العربية .والذي كان قد �ألفه يف دير مار الي�شاع ،يف وادي قنوبني� ،سنة .1708فانت�شر ا�ستعماله ،حتى �إن املجمع اللبناين الذي عقد �سنة 1736لإ�صالح م�ؤ�س�سات الكني�سة املارونية وجتديدها� ،أمر با�ستعماله .جاء عنه ،يف هذا املجمع ،ويف باب املدار�س والدرو�س" :ن�أمر ر�ؤ�ساء ومعلمي مدار�سنا ،يف املدن والقرى والأديار الكبرية �أن ُيعنوا بتدري�س �أ�صول اللغة العربية التي �أحكم و�ضعها الطيب الذكر جربائيل فرحات رئي�س �أ�ساقفة حلب� ،أيام كان راهباً يف رهبانية القدي�س �أنطونيو�س اللبنانية، حب و�أن يطالع الطلبة ديوان �أ�شعاره وغريه من م�صنفاته نرثاً ونظماً ،ذلك لي�شربوا يف قلوبهم َّ التقى مع العلم و�صفوة اللغة العربية". لغ ُتك هي "�صفوة اللغة العربية" ،وقد عطرتها ببخور وادي قنوبني ،و�أنت من �أبنائه ،و�أحد �أعالم ِ�ضفتيه ،التي بني �أجماده مطبعة دير مار �أنطونيو�س قزحيا ،التي دخلت ال�شرق �سنة ."1610 * � -ألقيت الكلمة يف ندوة كتاب "مواد للبناء" للأمني فهد البا�شا -يف مزيارة بتاريخ .2016 /7 /24 157
بعد �أن �أدخلنا فهد البا�شا من الباب امللوكي �إىل عامل اللغة العربية ،قرر متابعة امل�سرية ل ُيدخلنا بوا�سطة احلزب ال�سوري القومي االجتماعي �إىل عامل احل�ضارة ال�سورية الغني، ُمرحباً ب�أبناء الأمة على تنوع معتقداتهم و�أفكارهم واجتاهاتهم ،واقفاً وقفة ع ّز حميياً قائ ًال: "حت َيى �سورية" فلم يرد على حتيته احلارة من بني اجلمهور �سوى بع�ض القوميني الذين �أجابوا، بحما�س "حت َيى حت َيى". مل يكن يعرف ابن مزيارة �أن التحية عند الروم تبد�أ بالكرييالي�سون اليونانية ،وهي تعني "يا رب ارحم" .وعند امل�سلمني يقولون" :اهلل �أكرب". يظن ابن مزيارة �أن جميع النا�س هم تالمذة �سعاده الذي ترك �أمور اهلل للدين والأديان، وكان ُّ و�أمور الإن�سان واملجتمع والأمة للدولة القومية التي مل تتحقق حتى اليوم ،غري مدرك �أن الأمة هي �أمة اهلل ،والدول يف هذا ال�شرق هي دول دينية وطائفية ومذهبية واتنية .و�أن ف�صل الدين عن الدولة التي نادى بها �سعاده غري ممكن ،وال العلمانية موجودة ،حتى وال الدولة املدنية مقبولة .والتق ّية و�شعاراتها ومطالبتها ب�ضرورة �إلغاء الطائفية ،وراءها م�شاريع دويالت دينية ومذهبية واتنية .دول ال حتقق حلم �سعاده ،وال ت�شبه الفكر القومي� ،إمنا دويالت ومقاطعات ومزارع ت�شبه الكيان ال�صهيوين العن�صري الغا�صب ،الذي ز ّور التاريخ ،و�أعلن �أور�شليم القد�س عا�صمة �أبدية لـ"�إ�سرائيل" .م�شروع قد لن يعار�ضه �أحد كمثل ما عار�ضه �أنطون �سعاده يف حياته ويف قربه .وكما علينا مقاومته �إىل الأبد. امل�ؤمن الثابت يف �إميانه بالق�ضية ال يي�أ�س �أبداً .والر�سول احلقيقي ال يتعب من جهاده ،بل عليه التبليغ الدائم وبطرق جديدة وخطاب جديد .والفهد املزياري قرر الدعوة �إىل لقاء جديد ،ال عند الروم ،وال عند امل�سلمني بل عند املوارنة. افتتح اللقاء بتالوة ن�شيد مار مارون ،الذي كان قد اكت�شفه يف كتاب قدمي مطبوع يف قزحيا �سنة ،1896وفيه: لك ا�سم يف ال�شرق م�سمياً
مار مارون يا فخر �سوريا
ح ّلت بركة مار مارون على النا�س فاطم�أنوا .ثم حياهم بتحية الأمة قائ ًال" :حت َيى �سورية" فردوا كلهم :حت َيى ال�سريانية و�سورية و�سوريانا و�أنطاكية و�سائر امل�شرق ،ومطرانيات ال�شام وحلب والالذقية ،و�أي�ضاً مطرانية قرب�ص املارونية ،والقد�س وكل فل�سطني وعمان وبغداد ،معتقدين 158
منا�سبة
�أن �أنطون �سعاده هو �أحد تالمذة مار مارون فخر �سورية .وفهد ظاناً �أن الزعيم �أ�صله من مزيارة، �أو من زغرتا� ،سافر باجتاه �سورية ليحيي الأمة مع مارون. املارونية وهي انتماء �إىل �أنطاكية و�سائر امل�شرق ،ور�سالة انفتاح وحوار وتفاهم ووحدة يف التنوع وعي�ش م�شرتكٍ م�سيحي �إ�سالمي .واملوارنة هم ر�سل العروبة احل�ضارية ورواد نه�ضتها وتقدمها ٍ والدفاع عنها ،يف الوقت ذاته ،يعتقد املوارنة �أن �سورية لي�ست جغرافيا ودميغرافيا و�سيا�سات وتوا�صل ٌ ٌ وفعل �ضيقة وفا�شلة� ،إمنا �سورية هي �أو ًال �إن�سان وح�ضارة ،ال بل تراكم ح�ضارات ٌ إبداع يف ع�صر العوملة .ولكن �أين نحن من الأبحاث والدرا�سات العلمية حول وتفاعل و� ٌ �سورية احل�ضارة العظيمة؟ اجلواب :احل�صاد كث ٌري والف َعل ُة قليلون. املارونية ،يف جوهرها ،هي �ضد الدولة املارونية� .أدعو اجلميع �إىل االقتداء باملوارنة ال بغريهم، ممن يفت�شون عن دويالت ال عالقة لها بالدولة الدميقراطية. �أما املزيارية فهي حركة انفتاح اللبنانيني على القارة الإفريقية ،بخا�صة ،وعلى العامل والعوامل والآفاق والر�ؤى ،بعامة .ولأن �أهل مزيارة قد متيزوا بهجرتهم القوية �إىل �إفريقيا� ،سميت هجرة اللبنانيني �إىل �إفريقيا باملزيارية. املزيارية هي التوا�صل والفعل والتفاعل والعمل والبناء والتطوير والتقدم والتنمية الإن�سانية ال�شاملة ،واحلياة اجلديدة ،وبناء �إفريقيا من جديد .و�أي�ضاً م�ساعدة اللبنانيني لأهلهم يف لبنان. املزيارية هي ظاهر ٌة دميغرافي ٌة حديثة تثبت �أن الأمة مل تعد �أ�سرية حدودها اجلغرافية� ،إمنا هي الهجرة �أي�ضاً يف �سبيل حياة كرمية �أف�ضل ،والتفاعل احل�ضاري بني ال�شعوب واحل�ضارات والثقافات والأديان ،مما ُيحتم علينا تعزيز ثقافة احلوار التي ُتخرجنا من الأطر الدينية والثقافية املغلقة واملتطرفة �إىل �أفق االنفتاح ،لتدفع بعملية ال�سالم �إىل مزيد من الرجاء والفعل. �إن �سورية الكربى تعاين �أزمة �أكرب من �سورية احلالية ،وذلك نتيجة �ضعف الداخل وقوة التدخل اخلارجي ،بهدف تدمريها وتفكيكها ،كمقدمة لتدمري املنطقة وتق�سيمها. فالدفاع عن �سورية الكربى و�إ�صالح �أمورها و�صون وحدتها� ،أر�ضاً و�شعباً وح�ضار ًة هو �أولوية بالن�سبة �إىل العرب جميعاً ،ال بل �إىل العامل كله .و�إال ف�إن الإرهاب �سيطول العامل كله ،وي�شتعل �صراع احل�ضارات والأديان والثقافات ،وتفجر الإ�سالموفوبيا ال�شرق والغرب 159
معاً ،بطرق �إجرامية كارثية. نحن �أمام تبعات جديدة ،و�شعارات خادعة ،طاحمة �إىل �إقامة دويالت ،على �صورة "�إ�سرائيل"
ومثالها ،لت�ستبدل �سورية الكربى احل�ضارية بـ"�إ�سرائيل" الكربى العن�صرية.
�إن ثقافة احلوار هي الطريق الوحيد حلل النزاعات و�إيقاف احلروب والدمار .فالإرهاب هو نتيجة الظلم والقهر واال�ستبداد والهيمنة� .أيها العامل ،ويا �أيها النا�س م�شكلة الإرهاب ال حتل بالقوة بل باحلوار واحلق. وختاماً� ،إذ �أه ّنئ نادي �شبيبة مزيارة ،على هذه احللقة الثقافية احل�ضارية التي �أقيمت تكرمياً البنها البار الأ�ستاذ فهد البا�شا �صاحب هذا الكتاب الذي ُيوحي ب�أفكار ح�ضارية جديدة، ا�ستوحيت بع�ضها� ،أهنئه و�أ�شكره و�أدعوه �إىل التب�شري باملزيارية احل�ضارية اجلميلة كجمال مزيارة ،لأنه خ ُري ر�سولٍ لها.
160
دار نل�سن
هاتف 01/739196: الربيد الإلكرتوين darnelson@hotmail.com:
لبنان -بريوت � -شارع احلمرا -بناية ر�سامني -ط �ص.ب 113 - 7179 :بريوت -لبنان
3
tel: 00961 -1 - 751 541 E-mail: info@darabaad.com website: www.darabaad.com
لبنان 10000لرية | الأردن 4 :دينار | �سوريا 200 :لرية | م�صر 20 :جنيه | تون�س 3 :دينار | املغرب 40 :درهم | م�سقط 2 :ريال ال�سعودية 20 :ريال | البحرين 3 :دينار | الكويت 3 :دينار | قطر 20 :ريال | الإمارات 20 :درهم
العدد كانون الثاين 2016