العدد رقم - 2ت�شرين الأول
2013
فـ�صـل ـيـة فـكريـة ثـقافيـة تـعنى ب�ش ـ�ؤون امل�شــرق
حممود حيدر العلمنة والإميان الديني الأ�ستاذ وديع فل�سطني هجرة الأدباء ال�شوام �إىل م�صر يف القرنني التا�سع ع�شر والع�شرين حممود �شريح حاوي� :سرية وثائقية جنيب البعيني الأديب جملة �أدبية لبنانية م�شرقية
ملف العدد:
راهنية فكر �سعاده د .نذير العظمة | د� .سليم جماع�ص | د .حيدر حاج �إ�سماعيل فاتن املر | زهري فيا�ض | منري حايك
تعالوا ن�شيد لأمتنا ق�صوراً من احلب واحلكمة واجلمال والأمل مبواد تاريخ �أمتنا ومواهبها وفل�سفة �أ�ساطريها وتعاليمها املتناولة ق�ضايا احلياة الإن�سانية الكربى. �أنطون �سعاده
العدد رقم - 2ت�رشين الأول 2013
املحتويات
فـ�صـل ـيـة فـكريـة ثـقافيـة تـعنى ب�ش ـ�ؤون امل�شــرق
كلمة التحرير 3
م�صطلحات – بو�صلة – �ضحايا
راهنية فكر �سعاده 7
الدين والدولة يف مر�آة النه�ضة | د .نذير العظمة |
15
�أنطون �سعاده :رجل احلق واحلقيقة | د� .سليم جماع�ص |
درا�سات و�أبحاث 83
العلمنة والإميان الديني | حممود حيدر |
95
هجرة الأدباء ال�شوام �إىل م�رص يف القرنني التا�سع ع�رش والع�رشين (حكايات) | الأ�ستاذ وديع فل�سطني |
105
البعد الأكربي يف ت�صوف الأمري عبد القادر | مباركة حاجي |
حتوالت �أدبية
27
الإ�صالح والتجدد بنظرة جديدة اىل احلياة | د .حيدر حاج �إ�سماعيل |
117
39
االقت�صاد القومي االجتماعي :مدخل اىل التنمية | زهري فيا�ض |
الأديب جملة �أدبية لبنانية م�رشقية | جنيب البعيني |
125
حاوي� :سرية وثائقية | حممود �شريح |
51
العلمانية يف ع�رص ال ّنه�ضة ال ّنزعة ّ | منري حايك |
133
اللية يف جتربة نعيم تنامي الثّنائية ال ّد ّ عرية | د .ل�ؤي زيتوين | تلحوق ال�شّ ّ
71
قراءة يف رواية «�أر�ض و�سماء» ل�سحر خليفة | فاتن املر |
147
�شذرات من وحي �سبينوزا | وليد الفاهوم |
وقائع م�رشقية 155
ٍ م�ساحات خمتلفة امل�رشقية ...كلمة يف | و�سام عبد اهلل |
حتوالت م�رشقية
ف�صلية ،فكرية ،ثقافية ،تعنى ب�ش�ؤون امل�شرق واملنطقة
هيئة التحرير
د .فاتن املر د .عاطف عطية ح�سن حماده ن�صري ال�صايغ
ت�صدر بالتعاون مع م�ؤ�س�سة �سعاده للثقافة
�سعاده م�صطفى �أر�شيد �سليمان بختي �سركي�س �أبو زيد
املدير امل�س�ؤول� :سركي�س �أبو زيد الربيد الإلكرتوينabouzeid@gmail.com : هاتف)00961-1( 751541 : �صندوق بريد 113-7179 :بريوت -لبنان.
بناية ر�سامني� ،شارع احلمرا ،ر�أ�س بريوت، �صندوق بريد 113-5557 :بريوت -لبنان. هاتف)00961-1( 753363 : فاك�س)00961-1( 753364 : الربيد الإلكرتوينsaadehcf@idm.net.lb : املوقع الإلكرتوينwww.saadehcf.org : ت�صدر مبوجب قرار رقم 82تاريخ �صادر عن وزارة االعالم اللبناين
1981/7/6
توزيع :النا�رشون
بريوت -امل�شرفية� ،سنرت ف�ضل اهلل -ط هاتف وفاك�س)00961-1( 277007 - 277088 : خليوي)00961-3( 975033 :
االخراج الفني :عالء �صقر ت�صدر يف طبعتني من فل�سطني ولبنان مدير عام طبعة فل�سطني� :سعاده م�صطفى �أر�شيد هاتف0599305248 : �صندوق بريد 41 :جنني -فل�سطني
اال�شرتاك ال�سنوي
للأفراد 50 :دوالراً �أمريكياً للم�ؤ�س�سات 100 :دوالر �أمريكي
املواد املن�شورة تعرب عن ر�أي كاتبها
4
3
كلمة التحرير م�صطلحات – بو�صلة – �ضحايا امل�ستبدين يف العامل ،امل�صطلحات لعل من �أبرز ما يواجه �شعوب الدول امل�ستهدفة ،من قبل ّ التي يطلقها امل�ستبدون فت�ستقر يف اخلطاب الثقايف -ال�سيا�سي للم�ستهدفني وتفعل فعلها يف حد تعطيل قدراتهم على فهم احلقائق امليدانية التي تفر�ض عليهم ،وبالتايل تعطيل عقولهم اىل ّ قدرتهم على الفهم والتف�سري ال�سليم للتحديات ،فينهزمون عقلياً ،وينقادون وفق اجتاهات بو�صلة �أعدائهم .والهزمية العقلية تتبعها بال�ضرورة هزمية ثقافية � -سيا�سية ،نظراً للتالزم ما بني الثقافة وال�سيا�سة ،وما بني التنمية وال�سيا�سة ،وما بني االقت�صاد والثقافة وال�سيا�سة ،وما بني العدالة واالقت�صاد والتنمية والثقافة وال�سيا�سة ....وكلها �أوعية مت�صلة ،جمرد امل�سا�س ب�أحداها ب�شكل م�سا�ساً بها كلها. مث ًال: �أو ًال :م�صطلح «العقوبات الدولية» لقد درجت االدارات الأمريكية املتعاقبة( ،و�سوف نخت�صرها بعبارة «االدارة الأمريكية» �إال يف حالة الإ�شارة �إىل �إدارة حمددة ،كالقول «�إدارة �أوباما» �أو «�إدارة ترومان» الخ )....درجت االدارة الأمريكية على ا�ستخدام هذا امل�صطلح بحق الدول املغ�ضوب عليها من قبل وا�شنطن� .إن الإدارة الأمريكية ال متلك �شرعية معاقبة هذه الدولة �أو تلك من دول العامل .فاالجراءات التي تتخذها وت�سميها «عقوبات» غالباً ما ت�شكل نوعاً من العدوان االقت�صادي الذي ،بدوره ي�شكل خطوة نحو العدوان الع�سكري� ،أي احلرب العدوانية ،واحلرب العدوانية هي «اجلرمية الدولية الأرفع» ح�سب ما جاء يف الفقرة احلكمية من حماكمات نورمبريغ .و «اجلرمية الدولية الأرفع» م�صطلح يف غاية اخلطورة ،لذا تالحظ �أن االعالم املهيمن عليه من ال�صهيونية العاملية ،واخلادم الأمني مل�صالح الواليات املتحدة ،والذي ي�شكل �ستاراً حديدياً يحجب احلقائق وي�شيع االكاذيب واال�ضاليل حد �أنه �صار غري معروف وي ّروج للحروب وللفنت ،يحجب هذا امل�صطلح ويعمد �إىل «تفطي�سه» �إىل ّ �إال يف الدوائر ال�ضيقة جداً داخل االو�ساط التي تهتم ،بجدية ،بالقانون الدويل.
عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
4 كلمة التحرير
واملذهل هو �أن �ضحايا هذه «العقوبات» من الدول املغ�ضوب عليها من جانب الواليات املتحدة، تتلقف امل�صطلح وتقوم بتداوله من دون الطعن مب�شروعية الواليات املتحدة ال�ستخدامه ،فرتاها عما ٌدرج على ت�ستنكر «العقوبات اجلائرة» التي ت�ستهدفها ،كما لو �أن هذه «العقوبات» �صادرة ّ ت�سميته بـ «ال�شرعية الدولية» املج�سدة مبنظمة الأمم املتحدة ح�صراً وذلك على الرغم من كون هذه املنظمة وجدت �أ�سا�ساً ،يف ال�صيغة التي وجدت فيها ،لتخدم �صالح الدول املنت�صرة يف احلرب العاملية الثانية ح�صراً ،وبالتايل �أ�صبح من الواجب �إدخال تعديالت جذرية على تركيبتها مبا ي�ستحيب لطموحات الدول ال�صاعدة اقت�صادياً ،باال�ضافة �إىل دولتي اليابان واملانيا املهزومتان يف احلرب العاملية الثانية واملنت�صرتان اقت�صادياً بعد تلك احلرب� .صحيح �أن ال�صيغة اجلديدة املن�شودة للأمم املتحدة �ستظل قائمة على التمييز والتف�ضيل بني الدول �أكرث مما �ستقوم على امل�ساواة �أمام القانون الدويل� ،إال �أن �أف�ضلية ال�صيغة اجلديدة على تلك القائمة حالياً تعود �إىل مبد�أ «التعددية»� ،أي تو�سيع �إطار دائرة القرار الدويل بد ًال عن تقلي�صها �أو جتميدها. فكلما تو�سعت الأطر تزداد قدرة الدول امل�ست�ضعفة على التنف�س .ففي مطلق االحوال ،ان «ال�شرعية الدولية» وفق الآلية التي ت�ؤلفها� ،أي وفق تركيبتهاّ ، تظل �أف�ضل من الأحادية التي عاثت بالأر�ض ف�ساداً و�إجراماً على مدى � 23سنة ،بال انقطاع ،وهي� ،أي «ال�شرعية الدولية» هي الوحيدة التي ميكن �أن تتخذ عقوبات بحق هذه الدولة �أو تلك. جمرد ا�ستخدام الدول امل�ستهدفة مل�صطلح «العقوبات» من خارج الأمم املتحدة ،فيه دون ّية �إن ّ ٍواعرتاف للواليات املتحدة ب�شرعية ال متتلكها �أ�سا�ساً .وبحكم ال�ضرورة ف�أن هذا املوقف ينعك�س على �سلوك الدولة امل�ستهدفة لناحية ردود فعلها وخياراتها. ثانياً :م�صطلح «ال�ضربة الع�سكرية» وم�صطلح «اخلروقات» لقد كرث احلديث ،مبنا�سبة احلرب العدوانية التي ت�شنها الواليات املتحدة ،ومن خلفها دول أ�شد كفراً ونفاقاً» (وفق الن�ص القر�آين) احللف الأطل�سي و�إ�سرائيل وحكومات «الأعراب ال ّ ومنظمات القتل والإجرام والإرهاب التي تنتحل �صفة اال�سالم وهي مم�سوكة من ر�ؤو�سها ورقابها ولي�س بال�ضرورة من قواعدها من قبل اال�ستخبارات الأمريكية والربيطانية ....مبنا�سبة هذه احلرب العدوانية التدمريية ال�شاملة �صار م�صطلح «ال�ضربة الع�سكرية» يجول على كل �شفة ول�سان .امل�صطلح من انتاج الواليات املتحدة ،و�إعالمها ومن خلفه الإعالم الأطل�سي و�إعالم
5 كلمة التحرير
الأعراب ،وجرى ا�ستخدامه �ضد اجلمهورية اال�سالمية االيرانية ثم �ضد العراق و�صو ًال �إىل �سورية اليوم. امل�صطلح جرى �إطالقه ليحجب كلمة حرب� ،أو عدوان� ،أو حرب عدوانية ،كما جرى �إطالقه يف �صيغة توحي ب�أن «ال�ضربة» هي «عقوبة ع�سكرية» �صادرة عن الواليات املتحدة التي ن�صبت نف�سها ك�سلطة �أمر واقع على امل�ستوى الدويل ،يحق لها ما ال يحق لغريها ،تكافىء من تراه ي�ستحق املكاف�أة وتعاقب من تراه ي�ستحق العقاب ،خمت�صرة بنف�سها �سلطة الو�صاية على ح�سن �سري الأمور يف العامل. ولقد جنح الإعالم احلربي التابع حلكومة الواليات املتحدة ،والذي يطغى على الإعالم داخل الواليات ،وعلى امل�ساحة الأطل�سية ويف دنيا «الأعراب» ومن هم على �شاكلة الأعراب ،جنح يف فر�ض امل�صطلح وجعله يتجول على كل �شفة ول�سان ويخرتق العقل الباطني للب�شر ،بدءاً من امل�ستهدفني من «ال�ضربة» ،وهنا بالذات يبلغ الإعالم احلربي لوا�شنطن ذروة جناحه �إذ �أن �ضحاياه �صاروا يتداولون م�صطلحه ،وبتداولهم هذا يخففون ،من حيث ال يعلمون ،من خطورة الأمر علماً �أنهم ،كمجتمعات ب�شرية ،كمدنيني ،يتم �إخ�ضاعهم حلاالت من الرعب امل�ستدام، لأنه رعب متوا�صل يومياً ،ي�ستهدف �أع�صابهم وعقولهم وهو �أعلى درجات االرهاب و�أكرثها فتكاً و�إجراماً. ا�ستخدام امل�صطلح هذا ،من جانب ال�ضحايا ،فيه �أي�ضاً «دونية» ت�ضفي على �أ�صحاب احلرب العدوانية �شيئاً من ال�شرعية التي يفتقدون �إليها بالكامل ،ف�إذا بهم يح�صلون عليها من �ضحاياهم ....يا للمفارقة. ولعل �أبرز الآثار التخفيفية ال�ستخدام م�صطلح «ال�ضربة» من قبل ال�ضحايا كونها ت�ضع املعتدي يف من�أى عن �أية م�س�ؤولية حتتمها عليه اجلرائم التي يرتكبها ،عرب الرعب املتوا�صل ،و�سوف يرتكبها، وهي جرائم «حرب عدوانية» ،واحلرب العدوانية ،كما ذكرنا يف الف�صل الأولّ ،ت�صنف يف الفقرة احلكمية من حماكمات نورمربغ باعتبارها «اجلرمية الدولية الأرفع» Le Crime international .Supreme متخ�ص�ص بغية حماكمتهم واجلرمية الدولية الأرفع «حتتم �سوق �أ�صحابها �أمام ق�ضاء دو ّيل ّ كمجرمي حرب ،وهي معركة ال ّبد من خو�ضها ،كحق مكت�سب �أو ًال ،ومن منطلق احرتام القانون الدويل وحقوق االن�سان و�أولها حق االن�سان يف احلياة.
عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
6 كلمة التحرير
�إن عدم اعتماد هذه الطريقة يف مواجهة قوى الإجرام العاملي والهيمنة الكريهة ي�شجع هذه القوى على امل�ضي يف نهجها التدمريي االرهابي ،ويحرم ال�ضحايا من حماية م�صاحلهم. وباال�ضافة �إىل ذلك ،يالحظ �أن ا�ستخدام ال�ضحايا مل�صطلح «ال�ضربة» بد ًال عن احلرب العدوانية �أن�ساها ما حتمله هذه احلرب من �أهوال خ�صو�صاً �أن املعتدي مل يخف وللحظة واحدة �أن هذه احلرب �ست�شن بوا�سطة ما يعتربه هو �أ�سلحة دمار �شامل� ،أي بوا�سطة �صواريخ عابرة للقارات من ف�صيلة «توما هوك» ناهيك عن كون هذه حتمل ر�ؤو�ساً مزودة مبادة اليورانيوم املن�ضب الذي �أخترب على نطاق وا�سع يف العراق ويف ليبيا ،ح�سب ما ي�ؤكده كبار اخلرباء الدوليني مثل هان�س كري�ستوفر فون �سبونك ودني�س هاليداي وغريهما من املرجعيات التي حتملت م�س�ؤوليات ،يف �إطار الأمم املتحدة ،يف متابعة امللف العراقي حيث ي�ؤكد االثنان �أن الواليات املتحدة ا�ستخدمت يف حرب تدمري العراق �أكرث من 4500طن من اليورانيوم املن�ضب وا�ستخدمت يف حرب وتدمر البيئة ،والتي افغان�ستان �أكرث من �ألف طن من هذه املادة النووية التي تن�شر اال�شعاعات ّ ا�ستخدمها العدوان الأمريكي للتخفيف من تكلفة احلرب نظراً لقدراتها التدمريية الهائلة. لذا ف�إن عدم اعرتاف الدولة العراقية بوقوع حرب عدوانية عليها من جيو�ش الواليات املتحدة يحرمها ،يا ل�سخرية القدر من مقا�ضاة االدارة الأمريكية املجرمة كما يحرمها من احل�صول على تعوي�ضات عن الأ�ضرار البيئية الهائلة والت�شوهات احلا�صلة بالب�شر خ�صو�صاً املواليد. وما ينطبق على م�صطلح «ال�ضربة» ينطبق على م�صطلح «اخلروقات» .فهذا امل�صطلح درج على ا�ستخدامه يف ما يخ�ص الطريان احلربي اال�سرائيلي الذي جتاوزت عملياته احلربية العدوانية �ضد االجواء االقليمية اللبنانية الع�شرة الآف عمل حربي عدواين فمن �سخرية القدر �أن الدولة اللبنانية هي التي ت�ستخدم م�صطلح «اخلروقات» ،الأمر الذي ّي�سر اال�سرائيليني �إىل �أق�صى احلدود .وعلى هذا ال�صعيد يالحظ تقاع�س الدولة اللبنانية عن املطالبة بحقوق ال�شعب اللبناين وعن مقا�ضاة جمرمي احلرب اال�سرائيليني. يتبع.. التحرير
7
راهنية فكر �سعاده
الدين والدولة يف مر�آة النه�ضة | د .نذير العظمة | �شاعر و�أكادميي
�أجزاء من حما�ضرة �ألقاها الدكتور نذير العظمة بدعوة من م�ؤ�س�سة �سعاده للثقافة يف دار الندوة. �أنطون �سعاده ورواد الإ�صالح الديني
«الإ�سالم يف ر�سالتيه» ل�سعاده درا�سة معمقة ومنهجية معرفية لن�شوء الإ�سالم املحمدي يف مرحلتي مكة واملدينة من خالل الن�ص القر�آين درا�سة قائمة على التحليل املعريف واال�ستنتاج العلمي املوثق بالن�صو�ص .وم�ؤ�س�سة على تاريخ الأديان املوحدة اليهودية وامل�سيحية والإ�سالم. ت�ؤكد الدرا�سة على مفهوم الإ�سالم الإبراهيمي كما ورد يف القر�آن .فالإ�سالم عنده لي�س املحمدي فح�سب بل �أنه يت�ضمن الإ�سالم امل�سيحي والإ�سالم العرباين .جوهره التوحيد وعبادة اهلل وجتنب ال�شر وفعل اخلري وخلود الروح يف النعيم ال�سماوي وحتقيق الثواب والعقاب مفهوم اهلل يف الإ�سالم بر�سالتيه مل يتغري والأديان املوحدة تدعو كلها �إليه. الإ�سالم جاء لهداية العرب �إىل التوحيد و�صرفهم عن عبادة الأوثان .وتوقع حليفا يف امل�سيحية واليهودية تاريخاً ون�صو�صاً و�سرية. وظل املعتقد يف املدينة كما كان يف مكة رغم �أنه ّركز على ت�أ�سي�س الدولة الدينية .الدولة وا�سطة لإقامة الدين .لكن حقائق الإميان ظلت واحدة دين �ضد الأوثان .ولي�س �ضد الأديان .حتقق له الن�صر (�إذا جاء ن�صر اهلل). ومع متيز يف النظر �إىل النا�سخ واملن�سوخ ،فالقر�آن وحدة. الدولة لإقامة الدين .ولي�س الدين لإقامة الدولة .لكن الدولة الثيوقراطية يف الأزمنة احلديثة جتاوزتها التطورات الإن�سانية �إىل ف�صل ال�سيا�سة عن الدين والدين عن ال�سيا�سة بالن�سبة ل�سعادة. التب�ست الهوية القومية بالدين عند جماعة العروة الوثقى فاجلن�سية عندهم دينية ومتيز عبد الرحمن الكواكبي فالدولة عنده تتدبر الدنيا .والدين يتدبر الآخرة. تطورات الر�ؤية ومتيزها عند ال�شيخ حممد عبده عن ر�ؤيا الوحدة الإ�سالمية ال�سيا�سية عند الأفغاين. عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
8
لكن �سعادة ينظر �إىل جماعة العروة الوثقى حزمة واحدة .والف�صل بني ال�شيخني �أوجب. التب�ست اجلن�سية (الهوية) بالدين عند الأفغاين. بينما ال�شيخ عبده التم�س طريق النه�ضة املعرفية عن طريق �إيقاظ العقل وركز الأفغاين على االقرتاب ال�سيا�سي حلل �أزمة التحديات الغربية للإ�سالم حمل االقرتاب املعريف. وبرزت! �إرها�صات ف�صل ال�سيا�سي عن الديني .والديني عن ال�سيا�سي عند الكواكبي يف �أم القرى وطبائع اال�ستبداد. فالدولة تتدبر الدنيا .والدين يتدبر الآخرة .وليحيى الوطن حراً .وجتلت يف فكره مكا�شفة فكرية و�صراحة علمية وا�صطالح حتري�ضي على يقظة الفكر واملعرفة العلمية يف معاجلة امل�س�ألة القومية. ت�أثري البيئة على ن�شوء الأديان واحل�ضارة والتيارات الفكرية واملعرفية �أ�سا�سي يف فكر �سعادة. فالوراثة احل�ضارية مل تعط �أي م�ساحة يف بحوثنا العلمية عن الأديان .امل�سيحية ح�ضارياً نتاج �آرامي .وكذلك الإ�سالم وقري�ش هي من العرب امل�ستعربة ال العاربة وهي �أ�ص ًال من الأنباط. ورغم تقارب الإ�سالم مع اليهودية بالت�شريع ف�إن امل�سيحية والإ�سالم من ينابيع روحية واحدة بخالف اليهودية التي تكمن مرجعيتها يف العن�صر والإرث وتلفيق الأن�ساب� .إن النظر �إىل امل�سيح ومرمي يف القر�آن يناق�ض ما ذهب �إليه اليهود. �إن مكانة امل�سيح يف الإ�سالم ومفهوم اهلل الرحمن الرحيم وحممد النور واحلب واحلقيقة يفالت�صوف الذي ي�ؤكد على وحدة الأديان والتوحيد العاملي ال العن�صري �أحل الإرث الروحي حمل الإرث املادي .ف�إذا كان يهوه وامليثاق واملعاد لإ�سرائيل وحدها .فاهلل (يف ر�ؤيا النا�صري والنبي العربي) للعامل كله والكون وكل الب�شر. �إن العود بعد �آالف ال�سنني �إىل القتل وال�صلب والث�أر واملحرقة الفل�سطينية يناق�ض مفهوم اهلل الرحمن الرحيم واملحبة الكونية عند امل�سيح. ويقرر �سعادة باحلقائق التاريخية والآيات القر�آنية ت�سل�سل الإ�سالم الإبراهيمي من مو�سى �إىل امل�سيح �إىل حممد. �إال �أنه مع انت�شار امل�أ�ساة يف فل�سطني ي�ؤكد على التايل :لي�س من �سوري �إال وهو م�سلم لرب العاملني فاتقوا اهلل واتركوا ت�آويل احلزبيات الدينية العمياء :فقد جمعنا الإ�سالم منا من �أ�سلم هلل بالإجنيل ومنا من �أ�سلم هلل بالقر�آن ومنا من �أ�سلم هلل باحلكمة فلي�س لنا من عدو يقاتلنا يف ديننا وحقنا ووطننا غري اليهود فلنكن �أمة واحدة يف ق�ضيتنا الواحدة ونظامنا الواحد» وهكذا ف�إن كتاب الإ�سالم يف ر�سالتيه ي�صحح عالقة الأديان بع�ضها مع بع�ض وينطلق من �إرث �إبراهيم املوحد فالدين لي�س قومية �أو جن�سية �إنه �إميان وعقيدة هلل فيها القول الف�صل �أما اقتتالنا
الدين والدولة يف مر�آة النه�ضة
راهنية فكر �سعاده
9
على ال�سماء فيفقدنا الأر�ض. وهكذا ف�إن الإ�سالم يف ر�سالتيه �ألقى �أ�ضواء كا�شفة على عالقة القومية بالدين من جهة وعالقتها بالعلمانية وعالقة الأديان فيما بينها يف الإطار القومي. عي�سى بن مرمي بالن�سبة للإ�سالم النفخة يف الطني هي النفخة يف الرحم .الأوىل خلقت �آدم والثانية خلقت من نطق يف املهد �صبياً� .أما معجزة اخللق فهي نف�سها معجزة النطق واملعجزات التي �أعطيت للم�سيح ب�إذن من اهلل .اعرتف بها القر�آن جميعاً. احلبل بال دن�س �إذن من معتقدات القر�آن .و�سورة مرمي التي جت�سد ذلك تعود �إىل تاريخ مبكر يف الإ�سالم �إىل املرحلة املكية� .إنه �إميان خال�ص [جاء ذكر مرمي يف ثالث وثالثني �آية و�سورة مكية ومدنية كما جاء ذكر امل�سيح يف �أحد ع�شر �آية] ال القتل وال ال�صلب ميكن �أن يطال امل�سيح «كلمة اهلل» ومن روحه ــ من يقتل اجلزء له قدرة على قتل الكل .وهذا غري مقبول منطقاً و�شرعاً بالن�سبة للم�سلم. ورفع اهلل امل�سيح وكرمه .و�سيعود ممهداً لظهور املهدي الذي ينظف الأر�ض من الظلم وال�شرك. �أما كونه مات ورفع� .أو رفع و�سيموت فيما بعد .ق�ضايا يقت�ضيها الهيكل الب�شري .ميوت اجل�سد وتبقى الروح التي تعود �إىل بارئها. هناك فرق م�سيحية تخالف امل�سيحية الأرثوذك�سية واخلالف على طبيعة امل�سيح الواحدة والطبيعتني الذي كان وراء فرق اليعاقبة والناطرة ال يزيد املو�ضوع اخلاليف على ال�صلب �إي�ضاحاً بني الإ�سالم املحمدي وامل�سيحي. الفداء وال�صلب جوهر امل�سيحية .ال�صلب حدث تاريخياً لكن تف�سري ذلك يف الت�صور املحمدي تركز على الرفع ال القتل وال�صلب الن�ساء وبكفرهم وقولهم على مرمي بهتاناً عظيماً 156 وقولهم �إنا قتلنا امل�سيح عي�سى ابن مرمي ر�سول اهلل وما قتلوه وما �صلبوه ولكن �شبه لهم
عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
10
و�إن الذين اختلفوا فيه لفي �شك منه وما لهم به من علم �إال اتباع الظن ،وما قتلوه يقيناً. بل رفعه اهلل �إليه وكان اهلل عزيزاً حكيماً 158
157
�إ�ضاءة
الهجرة �إىل احلب�شة ملاذا كانت الهجرة الأوىل �إىل احلب�شة والثانية �إىل يرثب املدينة فالهجرة �إىل احلب�شة كانت �إىل مملكة م�سيحية .والثانية �إىل مدينة الأو�س واخلزرج الذين ن�صروا الإ�سالم وبايعوا الر�سول حتت ال�شجرة فالأن�صارهم الذين ح�ضوا الر�سول على الهجرة ال القبائل اليهودية يهود خيرب وبنو قينقاع وبنو الن�ضري وغريهم. فالإ�سالم هذا الدين اجلديد يف �أر�ض اجلزيرة وامل�سيحية التي انت�شرت قبله يف العامل من م�شكاة واحدة يف عبارة النجا�شي بعد ا�ستماعه �إىل �سورة قر�آنية (كهيع�ص) حاول وفد قري�ش الوثنية الوقيعة بني املهاجرين والنجا�شي بلغوا (� )83شخ�صاً فيهم الرجال والن�ساء ما عدا الأوالد الذين ولدوا يف الهجرة .لريد املهاجرين �إىل قري�ش الوثنية لكن النجا�شي اقتنع ب�أن الإ�سالم يقول يف امل�سيح عي�سى بن مرمي �شيئاً عظيماً وحني ا�ستدعى النجا�شي جعفر بن �أبي طالب و�س�أله ماذا تقولون يف عي�سى بن مرمي �أجابه ما يقوله نبينا :هو عبد اهلل ور�سوله وروحه وكلمته �ألقاها �إىل مرمي العذراء البتول فرد النجا�شي وفد قري�ش خا�سئاً خا�سراً وحمى املهاجرين ودينهم الذي �شع هو وامل�سيحية من م�شكاة واحدة .لذلك نفهم كيف ي�صلي الر�سول العربي على النجا�شي ويرتحم عليه عندما بلغ وفاته.
�إ�ضاءة
�صحيفة املدينة «كتاب الر�سول بني املهاجرين والأن�صار وموادعة يهود» وكتب ر�سول اهلل (�ص) كتاباً بني املهاجرين والأن�صار ،وادع فيه اليهود وعاهدهم ،و�أقرهم على دينهم و�أموالهم و�شرط لهم ،وا�شرتط عليهم: ب�سم اهلل الرحمن الرحيم هذا كتاب من حممد النبي (�ص) بني امل�ؤمنني وامل�سلمني من قري�ش ويرثب ،ومن تبعهم ،فلحق بهم ،وجاهد معهم� ،أنهم �أمة واحدة من دون النا�س و�إن اليهود يتفقون
الدين والدولة يف مر�آة النه�ضة
راهنية فكر �سعاده
11
مع امل�ؤمنني ما داموا حماربني ،و�إن يهود بني عوف �أمة مع امل�ؤمنني ،لليهود دينهم وللم�سلمني دينهم ،مواليهم و�أنف�سهم� ،إال من ظلم و�أثم ،ف�إنه ال يوقع �إال نف�سه و�أهل بيته. ومثل يهود بني عوف :يهود بني النجار ،ويهود بني احلارث ويهود بني �ساعدة ويهود بني ج�شم ويهود بني الأو�س ويهود بني ثعلبة. و�إن على اليهود نفقتهم وعلى امل�سلمني نفقتهم و�إن بينهم الن�صر على من حارب �أهل هذه ال�صحيفة فلليهود النفقة يف احلروب كما لهم املغنم �إذا قاتلوا مع امل�سلمني. ال�سرية النبوية البن ه�شام جــ ( - 1ج) دار الكنوز الأدبية (ال تاريخ) �صفحة 505 - 501 و�إنه من تبعنا من يهود ف�إن له الن�صر والأ�سوة غري مظلومني وال متنا�صرين عليهم .و�إن �سلم امل�ؤمنني واحدة ،ال ي�سامل م�ؤمن دون م�ؤمن يف قتال يف �سبيل اهلل� ،إال على �سواء وعدل بينهم. علينا هنا �أن نتفح�ص مفهوم امل�ؤمن ومفهوم امل�سلم ،ومفهوم امل�شرك �أنه من �آمن باهلل واليوم الآخر. و�إنه ال يحل مل�ؤمن �أقر مبا يف هذه ال�صحيفة و�آمن باهلل واليوم الآخر� .أن ين�صر حمدثا وال ي�ؤويه .و�أنه من ن�صره �أو من �أواه ،ف�إن عليه لعنة اهلل وغ�ضبه يوم القيامة (�ص )503 ا�ستخال�ص العقل هو هبة اهلل للإن�سان ،والعلم هو هبة العقل والوحي هو هبة اهلل للأنبياء واخللق واهلل ال يعطل هباته �إال �إذا كفر الإن�سان بهبات اهلل و�أجملها الإميان. والعقل والعلم يعززان ما يعلمنا �إياه الإميان من وحدة الر�سالة ووحدة الكون ووحدة الوحي التي جتلت يف الأديان التوحيدية ال �سيما امل�سيحية والإ�سالم« .كلنا م�سلم لرب العاملني»... والقر�آن الكرمي الذي يعرب عن كمال هذه الر�سالة� ،إمنا يتوجه �إىل الإن�سان يف ع�شرات الآيات امل�ضيئة �إىل التفكر والتدبر والعقل لريى الإن�سان �ضوء اهلل الذي يتج�سد يف الوحي والعقل على حد �سواء. �إمنا جاء الوحي لي�ؤكد على �أهمية الإن�سان واحلرية والعقل يف م�سرية الإن�سان التاريخية �إىل اهلل مطلق احلق واخلري واجلمال والعزوف عن طريق ال�شيطان وال�شر. وقد �سجلت ح�ضاراتنا منذ فجر التاريخ على �أر�ض �سورية والعروبة �إجنازات رائعة للإميان كما للعقل والعلم فبالدنا هي مهد الأديان التوحيدية جمعاء و�إجنازاتها احل�ضارية يف املعرفة والعلم وثمار العقل هي �أ�سا�س ما تو�صلت �إليه الب�شرية من رقي وتقدم. عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
12
والب�شرية كما �أ�ضاء الكتاب الكرمي هي بحاجة للإميان والوحي كما هي بحاجة للعقل كالهما يتمم الآخر ويكمله لذلك فالإن�سانية يف تقدمها اكت�شفت يف �أعلى �أوجها و�صعودها �إىل الكواكب �أن الإن�سان ال ي�صل �إليها �إال ب�سلطان العلم والعقل واملكت�شفات العلمية قادت جل العلماء �إىل الإميان كما قادت امل�ؤمنني بدء من �آيات اهلل الب ّينات �إىل �إدراك �أهمية املعرفة والعلم والعقل يف الكتاب الكرمي وانتهاء ب�صفحات الكون واكت�شافات العلم .وما �أبعدنا نحن و�أبعد تاريخنا ومنجزات فكرنا وح�ضارتنا عن مقوالت الإحلاد املادي .من �أراد �أن يعبد املادة فليعبدها فنحن ال نعبد غري اهلل .ومن �أراد �أن ي�صنم العلم ويجعله هبل احلياة احلديثة كما يف الثورة الفرن�سية التي �أ�س�ست عبادة العلم فنحن ال نخلط عبادتنا وال نلب�سها مبثل هذه ال�ضالالت. قادة الثورة الفرن�سية �أرادوا �أن يتخل�صوا من �سطوة الكني�سة ف�أ�س�سوا عبادة العلم لكنهم ما عتموا �أن اكت�شفوا خط�أهم عندما انح�سرت هذه ال�سلطة وعادوا �إىل الإميان و�أعطوا ما هلل هلل وما لقي�صر لقي�صر. �أمل ينحن نابليون �أمام القي�صر ليتوجه �إمرباطوراً ويبارك زواجه؟! واملارك�سية يف م�ؤ�س�ساتها ال�شيوعية �أي�ضاً عادت لل�سلطة الدينية و�أعطت م�ساحة وا�ضحة حلرية املعتقد و�إن ظل اجلدل قائماً على امل�ستوى الفل�سفي. �أما نحن ...فالعقل عندنا ال يناق�ض الإميان والإميان ال يناق�ض العقل والعلم. وقد تبني املفكرون من خالل التجارب التاريخية ف�شل العلمانية الإحلادية كما تبينوا اال�ستفادة من هبات اهلل يف العقل والعلم والوحي. لذلك �أقول �إن العلمانية عندنا هي علم � +إميان ومن يذهب �إىل غري ذلك �إمنا ي�ضل �سواء ال�سبيل. واهلل الذي �أفادنا بالإميان والوحي يتمم علينا النعمة باحلرية� .إن �أهمية الإن�سان والعقل يف بناء كون �أف�ضل يجعل م�سرية الب�شرية �سبي ًال �إىل اخلري والر�شاد واحلق ال �إىل الظالم والنار �إن العلمانية هي هذه علمانية م�ؤمنة و�إميان يقدر قيم احل�ضارة والعلم. �إ�ضاءة
اهلل واحد والوحي واحد والعامل واحد. ال حقيقة بال �شريعة وال �شريعة بال حقيقة. الأديان للإن�سان ولي�س الإن�سان للأديان. �أن حياة الإن�سان وم�صاحله العليا ،جاءت الأديان لتحقق العدالة وال�سعادة للب�شر.
الدين والدولة يف مر�آة النه�ضة
راهنية فكر �سعاده
13
هناك قوا�سم م�شرتكة بنيوية بني امل�سيحية والإ�سالم املفهوم القر�آين للإ�سالم وحقائق اجلغرافيا والتاريخ واملواريث احل�ضارية. الإ�سالم يف ر�سالتيه املحمدية وامل�سيحية ل�سعادة يتفق مع املفهوم القر�آين للإ�سالم. الدولة من �صنع الإن�سان �أما الدين فمن وحي اهلل. العدالة واحلق هي مقا�صد الرحمة والغفران الإلهيني. الإ�سالم وامل�سيحية ينبثقان من نبع واحد وهذا مفهوم قر�آين. كانت القد�س قبلة اال�سالم الأوىل وظل امل�سلمون يديرون وجوههم اليها يف �صالتهم لثمانية ع�شر �شهراً وحني قويت �شوكة اال�سالم انتقلت القبلة �إىل مكة فالقوا�سم امل�شرتكة بني امل�سيحية واال�سالم عقائدياً عديدة بينما انح�صرت مع اليهودية يف بع�ض جوانب الت�شريع. ويعلمنا الأزرقي يف تاريخه: عندما متت ال�سيطرة على مكة للر�سول العربي �أر�سل علي بن ابي طالب �إىل الكعبة و�أمره �أن ميحو كل ال�صور املوجودة على جدرانها �إال �صورة ابراهيم اخلليل و�صورة مرمي وهي حتمل امل�سيح الطفل يف ح�ضنها . فابراهيم �أبو التوحيد الذي جاء الر�سول العربي لت�أ�سي�سه من جديد يف اجلزيرة العربية والعامل ومرمي �سيدة احلبل بال دن�س �أم امل�سيح كلمة اهلل كما جاء يف الكتاب الكرمي.
عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
دار كتب للن�شر �ش.م.ل
بناية الربج ،الطابق الرابع� ،ساحة ال�شهداء الو�سط التجاري ،بريوت ،لبنان �صندوق بريد ،11-4353 :بريوت -لبنان. هاتف)961-1( 983008 /9 : فاك�س)961-1( 980630 : الربيد الإلكرتوينkutub@kutubltd.com : املوقع الإلكرتوينwww.kutubltd.com :
15
راهنية فكر �سعاده
�أنطون �سعاده :رجل احلق واحلقيقة | د�.سليم جماع�ص | باحث وطبيب �ألقيت �أجزاء من هذه املحا�ضرة يف اللقاء ال�سنوي اخلام�س مع �سعاده ،يف �ضهور ال�شوير. م�سا ُء اخلري ،يا �أهل اخلري! م�سا ُء اخلري ،يا �أهل �سعاده! م�سا ُء اخلري يا �أهلي! ألقاب ال�ساد ِة وال�سيدات ،واملعايل والت�شريفات ،فمن يدخُ ُل على ال يغيظكم �إن مل �أتوجه �إليكم ب� ِ ِ نت! يحتاج �إىل الكفوف البي�ضاء� ... ،أو هكذا ظ َن ُ �أهله ال ُ جبل �سعاده ،ف�صريورتنا امل�ساواة ،و�إن انتفت امل�ساوا ُة من نحن هنا ،يف هذا املكانِ املبارك ،على ِ الوطن امله�شم .كلنا �سوريون يف عينه ويف قلبه ،فهل نفرق بني ما جمعت ُه حمب ُته؟ �أماكن كثرية من ِ كلنا هنا �سوريون! ال �سادة وال عبيد! و�إىل �أهلنا يف بكفيا القريبةُ ، اجلبل منبت ِ نقول بكل حمبة� ،أنتم �أي�ضا �سوريون! �أل�سنا و�إياكم َ ال�ضباب ال�صاعد �إليها من الواحد؟ �ألي�ست ميا ُه ينابيعكم من الثلج على �ضهور مرحاتا؟ و�ألي�س ُ تنهدات �أوالدكم و�صلوات �أمهاتكم؟ و�إىل �أهلنا يف ك�سروان املُطِ ل ،نقول بكل حمبة ،و�أنتم �أي�ضا ف�أنوار �سمركم �أبعدت كرب الليل وذكرتنا �أن من عندكم جاء ف�ؤاد ال�شمايل وحبيب كريوز. و�إىل �أهلنا يف حيفا ويافا ،نقول بكل حمبة ،و�أنتم �أي�ضا فقد �سمعنا من حناجركم ندا َء �إ�سكندرونا! �شرفتموين بح�ضوركم ،و�شرفتني امل�ؤ�س�سة بدعوتها ،و�أكرمني رفيقنا املقدم بلطفه ولغته ال�شريفة، هم ُه �إىل وال�شرف الأكرب �أن �أحدثكم عن الرجل الذي ا�ستحوذ على �سني �شبابي وي�سري معي ُ درجات الكهولة. تن�ساب �إىل الل�سانِ بعد ثالثني �سنة يف مل يحذركم رفيقُنا املقدم ،لكيا�سته ،من لكن ٍة �أعجمي ٍة قد ُ املهجر! عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
16
�سوري �سليم و�إن ع�صته فالقلب� ،أ� ُ ؤكد لكمٌ ، ف�إن َف َع َلت ،فال تعريوها �ش�أنا �أك َرث من ابت�سام ٍة عابرةُ ، �أحياناً العبارات ال�صحاح. ُ رجل احلق� ،صديق �صنني وجبل ال�شيخ ،وجبل الكرمل وجبل �إنطاكية! حديثي الليلة �إليكم عن ِ حديثي الليلة عن �أمثوالت درا�سة حياته ودرا�سة فكره. باحرتام ،فال نلو ُنها �أو نلهج بحقيقته ،ب�صدقٍ ،مب�س�ؤولي ٍة، � ُأقل واجباتنا نحو رجل احلق القومي �أن َ ٍ نتالعب بها. نلويها ،وال نعل ُبها �أو ُ إحرتام ،بجدي ٍة وتقدير. ب�صدقٍ ،مب�س�ؤولي ٍة ،ب� ٍ أرحام الن�سا ِء يف �سورية �أن اللئيم �أن على � ِ يكتب حمر ُر جريدة الإخاء الأرجنتينية غداة ال ِ إعدام ِ ترتاح لألف �سنة حتى تلد �شبي َه �أنطون �سعاده! َ لقد �أغرى هذا ُ القول الكثريين من رفقائنا وحمبينا فا�ستعادوه ودونوه و�أعادوا طبعه يف كتبهم ومقاالتهم. لكني �أُ�صارحكم �إين �سعيد �أن �أرحا َم ن�سا ِء �سورية مل ت�سرتح لأن يف ذلك فناء الأمة ،وبني �شبي ٍه ل�سعاده وحياة الأمة نختا ُر حيا َة الأمة! إجناب �سعاده لأن عطا َء الأمة ال�سورية ال يبد�أ ب�سعاده وال و�أرحا ُم ن�سا ِء �سورية مل ت�سرتح قبل � ِ ينتهي بهِ ،ومن يدعي غري ذلك مل يفهم كيف اختار �سعاده �أن يحيا لأجل �سورية و�أن ميوت يف �سبيلها. ذليل رجل ٍ يقول الكاتب :يجب على �أرحام ن�ساء �سورية �أن ترتاح لألف �سنة! هذا كال ُم ذل من ٍ ال يعرف حقيق َة رجل احلق. �أن�سمع ملثل هذا الذليل ويف �أمتنا امر�أ ٌة ابتنت لها قبل عقدين من عودة �سعاده الأوىل ،عرزا ًال كوخها الأخ�ضر ومنه كان �شع�شعان فك ٍر و�أدب .وقد حولت مي زيادة على هذه التالل �أ�سمته َ عرزا َلها الب�سيط املتوا�ضع الذي بناه لها � ُ �صرح فك ٍر أهل ال�شوير يف �ضهور مرحاتا �سنة � 1911إىل ِ وخيالٍ ومعرف ٍة و�إبداع. َ عرازيل �إن يف هذه الأمة عادة م�ستع�صية ،كل عرزال مدر�سة فكر وطود نبوغ! �أ�سرعوا وابتنوا لكم تكلل َ ُ التالل فهي �أجن ُع من جامعات امل�ستعمرين! �أن�سمع ملثل هذا الذليل ويف �أمتنا امر�أة عانت يف حداثتها ويل احلرب العاملية الأوىل مثلما عانى �سعاده ،وحملتها الأقدا ُر مثلما حملته �إىل مهج ٍر م�ؤ ٍمل عانت فيه الإنقطاع عن الوجدانِ القومي ونربا�س ذكراه بعد رحيله الأكرب ،وكانت رغم ذلك �ضيا َءه يف ظلم ِة منفاهَ ، و�سنده يف جها ِد عودتهَ ، املوجع ،و�أمين ًة �أوىل على ق�ضيته.
�أنطون �سعاده :رجل احلق واحلقيقة
راهنية فكر �سعاده
17
أحتتاج الأرحا ُم �أن ترتاح وقد �أجنبت مباركة مثل جولييت املري؟! � ُ تناولت هذا القول لأمثل لكم حالة الوهم باحلقيقة وتراكب العفن الفكري الرباق ،ولأمثل لكم �ضرورة اجلدية وامل�س�ؤولية يف الكالم عن رجل احلق. يف رحلتي مع الرجل العظيم مررت بوديان وقمم .فلنبد�أ من الوديان لأنه جميل �أن ننتهي عند القمم! يف هذه ال�سنني الطوال ،در�ست كل ما توفر يل من الكتابات عنه يف الكتب والدوريات .وكلما قر�أت ما قاله الآخرون وما قلته �أنا يف �شبابي ،كلما �شعرت �أنني �أفقده و�أفقد حقيقته .لك�أن كل مقال عنه حجاب يلقى على حقيقته و�ساتر يرتفع دون نوره .قولناه ما يف �أنف�سنا من ليربالية �إىل مارك�سية ،ومن واقع لبناين �إىل ما ي�ستحيل عليه قوله عن �أرومة �أرامية عروبية دهرية وغري ذلك من الر�صف الكالمي املختال! كتاباتنا عنه منها الغث ومنها ال�سمني ،منها املتحرك ومنها البدين ،الب�سيط والغليظ ،وال�سخيف واملخيف. فلو �أخذنا هذه الكتابات ،كتاباتنا جميعا ،و�أزلنا عنها روا�سب بديهيات الزمان واملكان ،و�أخبار الع�شرية والأعمام ،واملدر�سة الأوىل وال�صديقة الأوىل والوظيفة الأوىل ،و�أزلنا املواعظ واحلكم املنقولة ودرو�س احلياة امل�ستقاة ،و�إن �أزلنا ال�صفحات ال�صفحات من الطعن واللعن ،ومن املدح والقدح ،ومن الرتبيت على الأكتاف وحكايات بطوالتنا ال�شخ�صية وهواج�سنا الفردية. �إن �أزلنا كل هذه ،ماذا يبقى بني �أيدينا؟ يبقى �س�ؤال �أليم :رافقنا� ،أو رافق بع�ضنا ،هذا الرجل الكبري ل�ساعة ،ليوم ،لأ�سبوع ،ل�شهر ،ل�سنة، لعقد من ال�سنني ،وهذا كل ما �إ�ستطعنا �أن نرتك مرياثا جليل التا�سع من متوز؟ ولو! �أال نخجل و�أال يخجلون! م�ضينا �إىل النبع الدافق وعدنا بجرار مك�سورة! نعملق الأمر العادي البديهي فعندما ن�صل �إىل العمل الفريد الفذ تكون التكبريات قد ا�ستنفذت �أبعادها و�صغرت وذبلت: حمل �أخته �إىل الطبيب ،يقولون� ،أي �أخ برعمت يف قلبه طيبة النف�س ال�سورية ال يفعل ذلك ويا عيبه �إن مل يفعل! �أنزل العلم العثماين بعد ان�سحاب جي�ش بني عثمان ،يقولون .كم من هذه الأعالم نزع يف الثغور واملدائن!
عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
18
بد�أ يعمل للإرتزاق يف ال�ساد�سة ع�شر من عمره ،يقولون .و�أين العجب وذلك �ش�أن غالبية �أترابه وبنات خاله. بد�أ العمل كمراقب يف �شركة خطوط حديدية ،يقولون« ،معر�ضاً نف�سه لتقلبات الطق�س والربد القار�س و�صعوبات اخلدمة ونظامها القا�سي ال�شديد» .لكن عمل املراقبة يا رفيقي عمل �شبه مكتبي و�سعاده بلغ بلدة خاله يف منت�صف الربيع وغادرها مع نهاية اخلريف .ف�أين الربد القار�س. وهل نظام احل�ضور يف الوقت املعني �إىل العمل نظام قا�س و�شديد! يف �أي وهم حتيا يا رفيقي! �أخذ ي�صف مقاله على من�ضد احلروف دون م�سودة مكتوبة ،يقولون! �أ�سمعتم بالآلة الكاتبة واحلا�سوب! �أمام هذه الأمثلة علينا �أن ن�س�أل� :إن �أذهلتنا البديهيات فما نوعية مقايي�سنا وجتارب حياتنا وم�ؤهالتنا ال�شخ�صية؟ �أبهذه البديهيات نقدم رجل احلق �إىل الأمة� .أال نخ�شى �أن يذكرنا �أحد ب�شاعر �أمري حلب: وتعظم يف عني ال�صغري �صغارها... �أال ن�ستحي وي�ستحون! يقول لنا واحد �أنه ولد يف غياب والده يف م�صر فقام جده بت�سميته على نف�سه! ولد �أنطون احلفيد يف �آذار ،وتويف �أنطون اجلد يف كانون الأول من ال�سنة ال�سابقة ،فكيف �أتى الأمر العجيب! لقد جرى الدكتور �سعاده على عادة ت�سمية �أوالده ب�أ�سماء غربية� :أرن�ست� ،آرثر وما �شابه .وقد �شذ عن هذه القاعدة مرتني ويف احلالتني بعد وفاة قريب حبيب .املرة الأوىل وفاة اجلد �أعطت احلفيد �إ�سمه .املرة الثانية حني تويف �أخ الدكتور �سعاده �سليم ،فكان �أن �سمى الدكتور �إبنه على �إ�سم الأخ الراحل و�أهدى كتابه حول ال�سل الرئوي لذلك الأخ وكلل الكتاب بر�سم الأخ ذاك .وبعد ذلك عاد الدكتور �سعاده �إىل نهج الت�سمية الأجنبية مع �إدوراد وغري�س. ويقول لنا واحد �أنه بد�أ العمل كمراقب يف �سكة احلديد يوم الأول من �آذار ،لكن �سعاده مل ي�صل �إىل الواليات املتحدة حتى ني�سان فكيف يقا�سي نظام العمل ال�شديد قبل �أن يركب الباخرة التي �سوف تقله �إىل بالد تلك ال�شركة! ونحاول �سبك ا�ستثناءات طفيفة يف وهم التعظيم. مل ّيد ِع �سعاده يوماً �أن ما عاناه من ويل احلرب العاملية الأوىل �أمر انفرد به عن �أقرانه .قال ما الذي جلب على �شعبي هذا الويل ،لي�س ما جلبه علي .فعندما دفعه الفقر واجلوع �إىل خميم برمانا �صحب بالإ�ضافة �إىل �أخوته ثمانني طف ًال من ال�شوير منهم طفلتان من عائلتي .فمعاناته معاناة م�شرتكة ،لكن فرادته هي يف ما قادته تلك املعاناة �إىل ابتكاره لإنقاذ الأمة.
�أنطون �سعاده :رجل احلق واحلقيقة
راهنية فكر �سعاده
19
وال عالقة لذلك املخيم الإنقاذي مبدر�سة الفرندز كما يدعون .هو خميم �أقامه دكتور �إنكليزي مبعاونة ال�صليب الأحمر الأمريكي. كانت املهمة الأوىل يف ذلك املخيم البقاء على قيد احلياة� .أما �أن يقول �أحدهم :ودرجة حت�صيله يف مدر�سة الفرندز يف برمانا حيث كان يدر�س �أثناء احلرب تعادل درجة الكفاءة ،مع فارق �أن الدرو�س التي كانت تعطى ل�صف الكفاءة يف تلك الأيام من علوم وتاريخ ولغات عربية وفرن�سية و�إنكليزية وجرب وهند�سة و�آداب عربية وغريها ،كانت �أو�سع و�أعمق منها اليوم .ولعلها تعادل حاليا الدرو�س التي تعطى يف �صف البكالوريا �أو تفوقها». ونعجب �أنه مل ي�ضف الطب والزراعة وعلوم والفلك وبواطن النجوم. �أن يقول �أحدهم مثل هذا الكالم فجهل حليثيات الزمان وخرق ل�سنة الن�شوء الإرتقاء الواجبة الإحرتام .الدرو�س التكميلية (�إن �سلمنا �أنها ح�صلت) يف ظل �شبح املوت واجلوع ،توازي الدرجة الثانوية بل اجلامعية – �أمعقول هذا الهفت؟ فلماذا ال نرجع ب�أوالدنا �إىل هاتيك الع�صور لنتقدم �إىل الوراء! لو �سلمنا �أن الكاتب �أراد �أن يعظم ثقافة �سعاده الر�سمية �أمل يفهم �أنه بذلك يقلل من م�آتي درا�سة �سعاده على نف�سه و�أن لعمله نتيجة معكو�سة؟ ونبتدع لأنف�سنا الألقاب والرتب في�سمي �أحدنا نف�سه تكرارا نائباً للزعيم وي�صمت الآخرون حري ًة �أو ت�صديقا �أو عجباً �أو �سخرية .لقد عني �سعاده نائباً له ،على ما نعلم ،يف فرتات الأ�سر الثالث ح�صراً ،فاختار �صالح لبكي مرتني وفخري معلوف يف املرة الثالثة ،وهذه جميعها موثقة .فمن �أين جاءت رتبة الكاتب ويف �أي ظرف وملاذا يعوز الدليل؟ ويدعي �أحدنا �أن �سعاده تابع يف �سجنه الربازيلي الكتابة ل�صحيفة �سورية اجلديدة الأ�سبوعية، ويعني لنا الكاتب بالتحديد الواثق والإعالن ال�صريح ال�صارم تلك املقاالت اجلليالت وينحو بالالئمة على رفقاء �أهملوا �إدراجها يف جمموعات �أعمال �سعاده .ونحن اجلائعون �إىل فكر املعلم، �أال يجب �أن نفرح ونهلل ونعلن رفيقنا بط ًال للفكر والك�شف! مه ًال �أيها الفرح! كان �سعاده يف الربازيل قيد توقيف �شبه عريف ،يف �سجن �إنفرادي ،على �أ�سا�س مر�سوم جمهوري لقمع �أعمال الدعاوة للدول الأجنبية ،وقد منعت عنه الزيارات حتى من ممثلي نقابة ال�صحافة الربازيلية �أو املحامني ،ومنعت عنه حتى �أب�سط حاجات ال�سجني من وقت يف الهواء الطلق والعناية الطبية .لكنه وفق رفيقنا �أر�سل مقاالت جليالت �إىل ال�صحيفة التي �أ�س�سها قبل ب�ضعة �أ�سابيع والتي ال ت�شري ال من قريب وال من بعيد �إىل الإعتقال خ�شية مالحقة ال�سلطة الربازيلية؟ نقد �ضعيف مهلهل ،تقولون! ال بد �أن املعلم وجد و�سيلة �إىل ذلك. لكن ما قولكم �إن وجدنا يف ر�سائل �سعاده كالماً عن تلك املقاالت اجلليالت يعلنها منوذجاً عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
20
للإنحراف الفكري الذي ظهر يف ال�صحيفة خالل �أ�سره؟ �أبهذا الإ�ستخفاف نعني مكنونات الفكر ال�سعادي؟ �أم �أن ن�شوة الإكت�شاف املنفرد املظفر تربر الإعالن امل�ستبد؟ ف�إن كان هذا �ش�أننا� ،ش�أن من ن�سبوا �أنف�سهم �إليه فماذا ننتظر من معار�ضيه؟ يقول خريجو مدر�سة الك�سل الفكري �أن �سعاده ا�ستقى فكرة القومية ال�سورية من كتابات الأب المن�س الي�سوعي وخ�صي�صا كتاب هذا الأخري املو�سوم خال�صة تاريخ �سورية! لننظر قليال يف هذا ال�سخف الباهر :كان كتاب المن�س ال�صادر يف �أوائل الع�شرينات ،ملخ�ص حما�ضرات �ألقاها الأب الي�سوعي على طاقم الإنتداب الفرن�سيني بطلب من اجلرنال غورو وبتوجيه من �سيا�سته� .أي �أن كتاب المن�س ي�شكل �إحدى وجهات الدعاية ال�سيا�سية الإ�ستعمارية الفرن�سية املتلونة امل�ؤيدة حينا للوحدة ال�سورية� ،إن قاد ذلك �إىل تو�سيع اطار انتدابها على ح�ساب بريطانيا ،وامل�ؤيدة حينا �آخر للتق�سيمات الإدارية الدينية والإتنية متى كان ذلك يثبت �أركان نفوذها. ففي ن�سبة اجتاه �سعاده نحو القومية ال�سورية �إىل ت�أثري الأب الي�سوعي ل�ؤم فكري معيب ود�سا�س. فلننظر يف احلقيقة التاريخية� :سعاده الفتى يف فرتة �صدور كتاب المن�س نزيل الربازيل ،يتدرب يف فكره القومي على يدي والده الدكتور خليل ،املناه�ض الأق�صى يف املهجر للإحتالل الفرن�سي ل�سورية ،املر�سل �صواعقه ال�سيا�سية باجتاه الإنتداب و�أ�صحابه ،امللقب اجلرنال غورو بغورو با�شا الغازي ،على طراز العثمانيني الفاحتني ،الوا�صف الفرن�سيني ب�أتراك �أوروبا موازاة يف الغ�شم القاهر لأتراك �آ�سيا .الإبن املتدرب على يدي هكذا �أب� ،أيحتاج �أن ي�ستمد الفكرة ال�سورية من بوق الدعاية الإ�ستعمارية الفرن�سية!؟ كم هي جميلة م�آتي مدر�سة الك�سل الفكري! �أنعزو �سورية مي زيادة �إىل المرتني؟ و�سورية يعقوب �صروف وفار�س منر �إىل الدكتور فانديك؟ ولعل �سورية جربان والريحاين قامت على �أيدي ماري ها�سكل و�شارلوت تلر؟ يقولون كان الرجل م�ستبداً انفرد يف الأمر والنهي! لكن تعالوا ننظر كيف ا�ستبد القوميون بزعيمهم الذي مل يكلف نف�سا �أو نفو�ساً جمموعة ن�صف ما كلف ذاته و�أمينته! �أنظروا كيف ا�ستبد القوميون بزعيمهم يف حياته وال نطرق ا�ستبدادنا به بعد ا�ست�شهاده! مثل واحد يكفي: «ال يجوز للزعيم �أن يتزوج» ،قالوا عندما �أعلن خطبته �إىل جولييت املري« ،عليه �أن يقف نف�سه ل�سورية ،فهو �إن تزوج �أ�صبح رج ًال عادياً ال ي�صلح للقيادة!»
�أنطون �سعاده :رجل احلق واحلقيقة
راهنية فكر �سعاده
21
هل �سمعتم ب�أعتداء على �أب�سط احلقوق الإن�سانية �أ�شنع من هذا الكالم وهذا املوقف؟ نعم ،كان الرجل م�ستبداً لأنه يبدو يل �أنه يف بع�ض الأحيان انفرد وحيداً ي�صون املبادئ ال�شريفة التي تكرم احلياة. نعم ،كان م�ستبداً لأنه �أبى على ن�سر الزعامة ال�سري يف الوحول �أو معا�شرة الزرازير. �أهو امل�ستبد �أم نحن؟ طفيليات فكرية ،وك�سل منهجي ،وق�ص�ص املوقد والفانو�س هي بع�ض من ا�ستبدادنا به. عجب كثريون من معلومات �أدرجتها يف املجلدين الأولني من �سرية �سعاده لدرجة عدم الت�صديق والإمتعا�ض .من �أين �أتى هذا الكاتب بهذه الأخبار ليتحدى بها ما ارحتنا �إليه من ت�صوراتنا عن �سعاده ووالده؟ كيف تختفي فج�أة عدة كتب من ن�سبها �إىل الدكتور �سعاده و�أين الق�ص�ص الأليفة عن فتوة �سعاده الإبن؟ ال�س�ؤال الأم ُّر هو ملاذا مل ِ تختف من قبل؟ و�أ�س�أل نف�سي :هذه احليثيات كانت دوما متوفرة فلماذا مل ينظمها قبل اليوم �أحد؟ املكتبات وال�سجالت واملرا�سالت واملرويات يف م�ستطاع اجلميع ومتر �ستون �سنة وال من عمل ر�صني؟ قلت يف م�ستطاع اجلميع مع ا�ستثناء ما حجب عن النا�س وعني خ�شية �سوء ا�ستعمال �أو لغرية فائقة �أو �أنانية دفينة. لكن الرجل الكبري فر�ض حقيقته على هذا الوجود! فما �سر ثباته؟ ما �سر هذا التالزم الواثق املحكم بني عنا�صر فكره؟ �إنه يف طم�أنينته الفل�سفية �أنه عرف احلق واحلقيقة. �إنه يف طم�أنينته الفل�سفية الناجتة عن ت�أمله الطويل ودر�سه العميم و�صراعه احلثيث. �إنه يف ال�صفاء الفل�سفي الذي مييز فكره. هذه الطم�أنينة الفل�سفية وال�صفاء الفكري اللذان يتمثالن يف املواقف املبدئية اجللية حول �ش�ؤون الأمة والوطن ،وحول �ش�ؤون حياة الأمة ونه�ضتها. لننظر يف بع�ض الأمثلة. �إىل اجلنوب من هنا يف الثغر ،يف بريوت ،يتحاورون حول احلق الن�سوي ،احلق بالعمل ،احلق بالإرث ،احلق بالهوية ،احلق بالكرامة وبرفع العدوان الذكوري �ضمن العائلة وخارجها. نحن ن�س�أل :هل يت�ساوى حق �سناء يف ال�شهادة مع حق وجدي؟ عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
22
ف�إذا كان اجلواب نعم ،فلماذا ال يت�ساويان يف كل احلقوق ،يف حق الإرث وحق العمل وحق الهوية وحق احلرية وحق العدل؟ �أن�ساويهما يف احلق الأق�صى وال ن�ساويهما يف املا دون؟ فال يعجب الباحثون �إن مل يجدوا يف تراث �سعاده كالما عن حق املر�أة فلي�س يف تراثه كالم عن حق الرجل كرجل. هو يقول بحقوق ال�سوريني باجلمع ،وما جمع املذكر �إال �صيغة لغوية ولو وفى جمع امل�ؤنث باملعنى والتقليد لقال به! �إىل اجلنوب من هنا ،يف الثغر ،يف بريوت ،يت�شامتون حول حق امل�شردين الفل�سطينيني يف العي�ش ال�شريف ويف احلقوق الإن�سانية البديهية الأ�سا�سية من الكرامة ال�شخ�صية وحق العمل وحق احلماية القانونية .ويثريون م�س�ألة «التوطني» لك�أنها غول خميف يبتلع الأطفال والأرزاق. ويتحججون ،يا حلميتهم املخل�صة� ،أن يف التوطني يف �سفح هذا اجلبل خ�سارة للحق يف العودة! لقد حموا هذا احلق ،يا لإخال�صهم ،لأكرث من �ستني عاما فلم يفد يف العودة لكنه �أفاد يف ا�ستمرارية الب�ؤ�س واللوعة. �ألي�س من العار �أننا قبلنا �أن يولد طفل واحد يف خميمات الت�شريد ،و�أن تنمو �أجيال و�أجيال يف ظلم الغربة امل�ستع�صية؟! �أال يكفي ما �سلبهم اليهود فهل �ش�أننا �أن ن�ضيف فوق النكبة نكبات! �أمل يعلمنا �أن �سورية لل�سوريني جميعهم بدون ا�ستثناءات �إقليمية وتف�ضيالت مذهبية ،و�أن الوطن ملك عام فال يكون ال�سوري �شريدا يف وطنه �أكرث من حني طارئ. ال�صفاء الفل�سفي والطم�أنينة �إىل احلقيقة الفل�سفية تتمثالن يف و�ضوح احلكمة و�شع�شعان العقل النافذ: �إىل ال�شرق من هنا يتباحثون يف احلريات والإ�صالح! جواب فكره على كل الت�سا�ؤالت حول م�سائل القمع والرقابة والكبت الثقايف وا�ضح – م�شكلة احلرية حتل باحلرية! لتخرج كل الأفكار والعقائد �إىل �ساحة النور لتعرف منها احلرباء من الطري املغرد، لتخرج �إىل �ساحة النور من �أ�سودها �إىل �أبهاها ،من �أرذلها �إىل �أ�سماها، �أيحتاج الفكر النري �إىل مق�صلة حتميه؟ �أيخاف �أبناء النور من الف�ضاء الف�سيح؟ �أمل يعلمنا �أن الدولة هي جمعية ال�شعب الكربى و�أن للمواطن احلق يف �إبداء الر�أي يف م�صري جمعيته الكربى ومن مينعه من هذا احلق يتمرد على �سيادته؟ و�إذا كانت الدولة جمعية ال�شعب الكربى فالأحرى بال�شعب �أن ال يدمر جمعيته ويعي م�س�ؤوليته
�أنطون �سعاده :رجل احلق واحلقيقة
راهنية فكر �سعاده
23
عن خريه الذاتي ودم قومه! الدولة هي جمعية ال�شعب الكربى ،لكنها لي�ست جمعية املرتزقة! �إن ا�ستفحال �شر املذهبية الدينية ال يقاوم بالإخرتاعات الالهوتية �أو الكالم املع�سول واملغ�سول عن التعاي�ش -الذئاب وال�ضباع تتعاي�ش �إىل حني! جميل �أن تتناغم امل�آذن والنواقي�س يف �أحالم لطاف الأدباء. لكن امل�صري القومي يحتاج �إىل درع مبادئ ح�صينة ،مبادئ �إ�صالحية ثالثة عربت عن ر�ؤية تامة متكاملة ملكان الدين واملذاهب يف الهيئة الإجتماعية� .أنت�ساهل بها �إن نطق رجل دين خرياً يف ال�سيا�سة؟ وماذا نفعل �إن نطق �آخر �شراً؟ والطم�أنينة الفل�سفية تنتج �شجاعة يف الوقت الع�صيب وهدوء �أع�صاب وثبات قيادة يف زمن الزعازع ،فهي ال تنح�صر يف الفكر بل ت�شمل املمار�سة. لننظر كيف انتزع �أفراد النخبة الت�أ�سي�سية حلزبه من براثن القوى املعطلة .الأع�ضاء الأول من اجلامعة الأمريكية يف بريوت .هل من قوة معطلة للح�س القومي تفوق هذه امل�ؤ�س�سة الإ�ستعمارية بامتياز؟ لكن من براثنها انتزع رفقاء �أ َو ًال! و�أع�ضاء �أول من خريجي مدر�سة احلقوق الي�سوعية -وهل من قوة معطلة للح�س القومي تفوق هذه امل�ؤ�س�سة الإ�ستعمارية بامتياز التي خ ّرجت �أئمة الرجعة وقيادييها؟ لكن من براثنها انتزع رفقاء �أ َو ًال! و�أع�ضاء �أول من مدر�سي املقا�صد الإ�سالمية ،ومن �أبناء �أعيان الإقت�صاد البريوتي ،ومن �سلك �أمن دولة الإنتداب وغريهم وغريهم... ظن -من براثن الإجتاهات العدمية. العمل الت�أ�سي�سي عرب انتزاع نخبة قيادية � -أو هكذا َّ مل يقف يف جمع من ع�شريته �أو طائفته ويقول الأمر يل! بل وقف يف عرين الرجعيات والإ�ستعماريني وقال ه�ؤالء رفقائي ف�إرفعوا �أيديكم عن ال�شباب ال�سوري فهو يل ول�سورية! �إن بروز فرادة �سعاده القيادية عملية تاريخية باهرة يف معانيها ودرو�سها ويف حتدياتها و�إنت�صاراتها َ فلنتحا�ش الإ�سقاطات الدينية والوحي املكتمل من لوح م�سطور � -إن عملية ال�صقل وانك�ساراتها، القيادي واملعريف والفكري للحركة القومية مل تتوقف يف حياة �سعاده لأنه من حق �سورية عليه وعلينا �أن يكون لها دائما �أف�ضل ما ن�ستطيع! لكن يف دربنا مع هذه الطم�أنينة الفل�سفية وال�صفاء الفكري حتديات لعل �أكرثها �صعوبة عبارة «كلنا م�سلمون» التي حتريين! يقول «لي�س لنا من عدو يقاتلنا يف حقنا وديننا ووطننا �إال اليهود» .يف حقنا فهمنا ،يف وطننا �سلمنا ،لكن يف ديننا؟ �أي دين هذا؟ �أيتحدث هنا عن دين القومية اجلامعة من عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
24
قوله يف الكورة يف الثالثينات �أن هذه الأر�ض عرفت �أديانا هابطة من ال�سماء �إىل الأر�ض �أما اليوم فت�شهد ديناً جديداً �صاعداً من الأر�ض �إىل ال�سماء .ف�إن كان كذلك زال العجب. لكن هذا احلل الطبيعي ال ير�ضي النظر النقدي .لأنه يف كالم احلق يعلن �أن الإ�سالم قد جمعنا و�أيد كوننا �أمة واحدة فمنا من �أ�سلم بالقر�آن ومنا من �أ�سلم بالإجنيل ومنا من �أ�سلم باحلكمة! ترى ماذا حل بالذين �أ�سلموا بالتوراة �إذا �أردنا �أن نتبع الن�ص القر�آين ،وما هو مكان املالحدة من ال�سوريني فهل ينتفي انتما�ؤهم �إىل الأمة التي جمعها الإ�سالم؟ وكيف نوازن هذا الكالم مع معنى الأمة و�صفتها والدقة الباهرة التي بها حددها يف ن�شوء الأمم؟ ولك�أن هذه التحديات ال تكفي حتى يقوم رفيق لنا يدعونا �أىل تنكب م�س�ؤولية التو�سع الالهوتي يف هذه الوحدانية الإ�سالمية! ون�س�أل هذا الرفيق ماذا حل بف�صل الدين عن الدولة �إذا تنكبنا هذه املهمة الالهوتية؟ �أن ف�صل الدين عن الدولة هو �أي�ضا ف�صل للدولة عن الدين. ومنذ اخلم�سينات ونحن نهرق احلرب حول املثالب التاريخية لليهود ومي�ضي كتابنا ال�شهور يف تدبيج التحليالت التاريخية الأنرتوبولوجية. لكننا بد ًال من �إهراق احلرب و�إرهاق الفكر يف هذه امل�سائل ،علينا �أن نعود �إىل ال�صفاء الفكري والطم�أنينة الفل�سفية يف معاجلة �ش�ؤون الأمة والوطن� ،أن نعود �إىل مبد�أ �أن �سورية لل�سوريني ولي�ست لليهود �أو غريهم ،و�أن الأمة ال�سورية جمتمع واحد ولي�س خليطاً متعاي�شاً من القنافذ. نحن ل�سنا يف حرب دينية مع �أهل الطوطم! ما همنا ما عبدوا �أكان ه�شيماً م�شتع ًال �أو عج ًال مذهباً! ليعبدوا ما �شا�ؤوا فال �ش�أن لنا بهم ما �أن يغادروا �أر�ضنا. وقد يقول �أحدهم �أن هناك ثوابت ل�ؤم تاريخي يف ذلك ال�شعب متلأ �صفحات كتبه الدينية و�أن يف تلك الكتب درو�ساً جليلة. �أنحتاج �أن نعود �إىل كتاب الزبور و�أمامنا دير يا�سني وقانا وغزة؟! �ألي�س الد ُم امل�سفوك �أقوى حج ًة من احل ِرب املهرتئ! يريد اليهود القد�س عا�صمة �أبدية لدولتهم! ويقوم بيننا من يزايد عليهم مدعياً �أحقية دينية خمالفة ،وتتيه م�س�ألة احلق القومي بني الأحقيات الدينية وتداخالت الأوقاف ،ومن له مرقد ق�س �أو �شيخ �أو حاخام. يريد اليهود القد�س ،ونحن نريد حيفا ويافا وعكا وع�سقالن ،نريد النا�صرة وتالل اجلليل وبي�سان، والقد�س �أي�ضاً وبيت حلم! لي�س لداللة دينية بل النت�سابها �إىل الوطن .نحن ال نفا�ضل دينياً بني مدننا وبقاعنا ،كلها يف املنظار القومي واحد� .أمل تغن فريوز لبي�سان مثلما غنت للقد�س!
�أنطون �سعاده :رجل احلق واحلقيقة
راهنية فكر �سعاده
25
يا �أهل اخلري، ما حدثتكم بجديد بل مبا يعتمل يف نفو�سكم ويتحرك يف وجدانكم� ،إن �أ�صبت. و�إن زاغ املراد فرمبا لأننا �سرنا يف زمانني خمتلفني� ،أنا يف زمن املهجر والكتب و�أنتم يف زمن احلياة املتحرك. ال �أخفيكم �أن بع�ضنا ي�شعر بغربة فكرية و�أدبية عندما ننظر �إىل املكتبة احلزبية يف كتبها ودورياتها اً احتفال ب�أمري �إر�سالين وتقريظا ل�شعر قروي .ن�ستفقد لغة ربينا عليها ومفاهيم �شببنا نلهج بها! وجند �أجل� ،أنا من امل�ؤمنني ب�سنة الن�شوء والإرتقاء فال تخ�شوا تردداً يف قبول الأف�ضل والأجود. �أجل� ،أنا من امل�ؤمنني ب�سنة الن�شوء والإرتقاء لكني �أ�ستفقدها لأهتف لها! واجبنا نحو رجل احلق هو احلقيقة ،بجدية ،مب�س�ؤولية ،باحرتام وتقدير. فيا �أهل اخلري، لرجل احلقِ ِل َتحيا به و ِل َيحيا بها �سعاده. �إفتحوا قلو َب ُكم ِ يا �أهل اخلري، َ�س ِل َمت قلو ُب ُكم َفبِها حتيا �سوريا. وبتحية �سورية تنتهي كلمتي فلنتحاور قلي ًال.
عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
دار كتب للن�شر �ش.م.ل
بناية الربج ،الطابق الرابع� ،ساحة ال�شهداء الو�سط التجاري ،بريوت ،لبنان �صندوق بريد ،11-4353 :بريوت -لبنان. هاتف)961-1( 983008 /9 : فاك�س)961-1( 980630 : الربيد الإلكرتوينkutub@kutubltd.com : املوقع الإلكرتوينwww.kutubltd.com :
27
راهنية فكر �سعاده
الإ�صالح والتجدد
بنظرة جديدة اىل احلياة
| د.حيدر حاج �إ�سماعيل | باحث و�أكادميي
يف بوان�س �أير�س عام ،1943يظهر ل�سعاده كتاب بعنوان :ال�صراع الفكري يف الأدب ال�سوري ،فيه يعود �إىل بحث ق�ضية الأدب عموماً ،وم�س�ألة التجديد الأدبي خ�صو�صاً ،بحثاً فل�سفياً دقيقاً .وقد كانت منا�سبة هذا البحث ،كما يقول يف املقدمة ،ما الحظه من احتكاك وت�صادم فكريني يف النظر �إىل ال�شعر و�أغرا�ضه ،عند �أثنني من كبار �أدباء ذلك الزمان ،مبنا�سبة تعليقهم على ديوان :االحالم، لل�شاعر �شفيق املعلوف» .وقد ن�شرت �آراء هذين االديبينن الواردة يف ر�سالتيهما اىل ال�شاعر ،مع تعليق لل�شاعر يف جملة :الع�صبة :التي كانت ت�صدر يف �سان باولو ،وذلك يف عدد �شباط .1935 وكان �أهم ما ورد يف ر�أي الريحاين ،و�صفه لل�شاعر احلقيقي ،ب�أنه «مر�آة اجلماعات ،وم�صباح يف الظلمات ،وعون يف امللمات و�سيف يف النكبات .ال�شاعر احلقيقي ي�شيد للأمم ق�صوراً يف احلب، واحلكمة ،واجلمال ،واالمل». �أما عم ال�شاعر ال�سيد يو�سف نعمان معلوف فقد حر�ص يف الدرجة االوىل ،على تعليم ابن �أخيه، و�إر�شاده يف مثل قوله « :اعنت يف م�ؤلفاتك املقبلة� ،أن تكون مبتكرا فيما تنزع �إليه �سواء �أكان بالفكر �أو بالعمل ،و�أن تكون مقلدا ال مقلداً ،يف �سائر �أعمالك ،لأن على هذه القاعدة الأ�سا�سية، تتوقف �شهرة املرء يف احلياة ،وقبل كل �شيء� ،أترك اخليال الذي ال روح فيه وال حقيقة». يف تعليقه على ر�سالة عمه ،يقول ال�شاعر �شفيق املعلوف ،حمدداً ال�شعر ،ما يلي« :فهو يف عريف ذلك ال�شعور الناب�ض ي�صور للنا�س نفو�س النا�س ،وال تتعدى فائدته يف �أحايني كثرية منفعة ي�صيبها املرء ،لدى �سماع قطعة مو�سيقية جميلة ،مطربة كانت �أم م�شجية .ثم ي�ضيف ً قائل « :وقد �أكون على خط�أ ،من الوجه العملي النافع ،ولكنني على حق ،من وجهة الفن اخلالد» .ويختم كالمه بقوله « :و�أنا من هواة ال�شعر اخلالد ،الذي ال يرتبط بالأزمنة». لنتحول الآن� ،إىل �شرح نظرية �سعاده نف�سه ،يف الأدب ويف التجديد الأدبي .يعرف �سعاده الأدب، قبل كل �شيء فيقول �« :إن الأدب ،نرثه ونظمه ،هو �صناعة يق�صد منها �إبراز الفكر وال�شعور ،ب�أكرث
عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
28
ما يكون من الدقة ،و�أ�سمى ما يكون من اجلمال .يفهم من ذلك �أن الأدب ،ال ميكنه �أن يحدث جتديدا من تلقاء نف�سه .ومعناه �أن التجديد الأدبي ،لي�س ق�ضية �أدبية بحت .ومعنى ذلك� ،أن التجديد يف الأدب ،يتبع التجديد يف الفكر وال�شعور ،كما تتبع النتيجة علتها .ولكن التجديد يف الفكر وال�شعور ،غري ممكن دون ح�صول نظرة جديدة �إىل احلياة� .أو كما يحب �سعاده �أن يقول: «الأدب هو ح�صول ثورة روحية مادية ،اجتماعية �سيا�سية ،تغري حياة �شعب ب�أ�سره ،و�أو�ضاع حياته، وتفتح �آفاقاً جديدة للفكر وطرائفه ،وال�شعور ومناحيه .وكما �أن التجديد الأدبي ،لي�س ق�ضية �أدبية بحت ،فهو لي�س ق�ضية م�ؤرخي الأدب ،فالأحداث يراها �سعاده نتيجة البتداء تغري النظرة �إىل احلياة يف �شعب� ،أي نتيجة حل�صول معتقدات جديدة ومثل عليا ،روحية -مادية جديدة ولي�س �سببا يف التجديد الأدبي. وبكلمة �أخرى نقول� ،إن الأدب وال�سيا�سة يتجددان بتجدد االن�سان ،فما دام االن�سان قدميا يف عقليته ،رجعياً يف نظرته �إىل احلياة ،ظل الأدب وال�سيا�سة رجعيني ،وعندما يتكون �إن�سان جديد على مبادىء وتعاليم جديدة ،تبد�أ يف الأدب وال�سيا�سة عهود جديدة ،على طراز املجتمع االن�ساين اجلديد .على هذا اال�سا�س الفل�سفي العميق ،ال يعود التجديد الأدبي ،كالماً يف اجلديد الأدبي، هو الهفت بعينه ،بل ي�صبح الق�ضية ،دعوة �إىل جميع الأدباء ناثريهم وناظميهم �إىل نبذ عقلية العهود الرجعية االنحطاطية وبناء نفو�سهم يف مطلب حياة جديدة ،ومثل عليا ،تتفق مع متطلبات النهو�ض احلقيقي والتقدم احلقيقي. �إن القاعدة الفل�سفية العميقة ،التي و�ضعها �سعاده حل�صول التجديد يف الأدب ،مل يبقها جمرد قاعدة نظرية ،بل �إنه �أجاب على ال�س�ؤال اخلطري ،الذي ّيحول هذه القاعدة النظرية �إىل واقع ملمو�س� ،أعنى كيف ميكن تغيري احلياة ال�سورية؟ وكان جوابه ماث ًال يف �إن�شائه احلزب ال�سوري القومي االجتماعي ،على قاعدة نظرة جديدة للحياة االن�سانية ،تعترب االمة جمتمعا واحدا وتعترب �أ�سا�س التقدم واالرتقاء �أ�سا�سا مادياً -روحياً. نح�صل مما تقدم �أن التجديد يف الأدب نرثاً و�شعراً يكون بتجديد النظرة �إىل احلياة والتعبري عنها. ّ فادا كانت النظرة ا�سطورية دنيوية �أو دينية �سماوية فان االدب يتبعها ،فنقر�أ �أدبا ا�سطوريا �أو دينياً. وقد يكون طائفيا كما يف زماننا .واذا كانت النظرة فردية نقر�أ نرثا و�شعراً ميجد الأنا ويهجو الأنت كما ظهر يف زمان الهجاء واملديح بني جرير والفرزدق .على �سبيل املثال� ،أما �إذا كانت النظرة قومية ف�سرعان ما ينه�ض الأدب القومي. وقبل الرتكيز على �أهمية النظرة القومية التجديدة يف زماننا� ،أود �أن �أتو�سع ومبقدار للكالم على �أهمية النظرة �إىل احلياة عند �سعاده ويف زماننا عند �أ�شهر فال�سفة العلوم وتاريخها ،فاذكر ما يلي: يف �شرح �سعاده لغاية حزبه (احلزب القومي االجتماعي) ي�صف فل�سفة احلزب ب�أنها نظرة �إىل احلياة كاملة ،يقول:
الإ�صالح والتجدد
راهنية فكر �سعاده
29
«�إن غاية احلزب ال�سوري القومي االجتماعي هي ق�ضية �شاملة تتناول احلياة القومية من �أ�سا�سها ومع جميع وجوهها .انها غاية ت�شمل جميع ق�ضايا املجتمع القومي ،االجتماعية واالقت�صادية وال�سيا�سية والروحية واملناقبية و�أغرا�ض احلياة الكربى .فهي حتيط باملثل العليا القومية وبالغر�ض من اال�ستقالل وب�أن�شاء جمتمع قومي �صحيح .وينطوي حتت ذلك ت�أ�سي�س عقلية �أخالقية جديدة وو�ضع �أ�سا�س مناقبي جديد وهو ما ت�شتمل عليه مبادىء احلزب ال�سوري القومي االجتماعي اال�سا�سية واال�صالحية ،التي تكون ق�ضية ونظرة اىل احلياة كاملة ،اي فل�سفة كاملة. ويقول موجها كالمه �إىل فايز �صايغ الذي كان عميداً لالذاعة والثقافة ،منتقداً �إياه لإهمال در�س نظرة احلزب �إىل احلياة املمثلة يف عقيدته : «�إن اجتهادكم ال�شخ�صي يف تعليم النظرة الربديايفية من مراكز احلزب العالية التي و�صلتم �إليها يدل على �أنكم مل تهتموا بدر�س العقيدة القومية االجتماعية ونظرتها ومل ت�أخذوا بعني االعتبار �أن احلركة ن�ش�أت على عقيدة �أي فل�سفة اجتماعية كاملة موجودة يف املبادىء ويف كتابات املعلم و�شروحه يف كتبه وخطبه وحما�ضراته و�أحاديثه ويف قدوته .و�أن الواجب الطبيعي لهذه احلركة تثبيت عقيدتها وانت�صارها ككل حركة يف العامل تقومي بتعاليم �أ�سا�سية». ويف م�ؤمتر املدر�سني القوميني االجتماعيني الذي انعقد عام 1948يعود �سعاده وي�ؤكد على �ضرورة تدري�س املدر�سني �أبناء وبنات اجليل اجلديد النظرة اجلديدة �إىل احلياة ،ويعترب هذه املهمة اخلطوة الأوىل التي يجب اال ت�سبقها خطوة ،معترباً كل ما عدا هذه النظرة اجلديدة من �سيا�سة وتنظيم ال نفع منهما �إذا كانا منفكني عنها ،يقول: «�إن �أول خطوة كان يجب على احلركة ال�سورية القومية االجتماعية القيام بها لتتقدم هي تعليم العقيدة ال�سورية القومية االجتماعية والغاية الرامية �إليها ،لأنها هي احلقيقة الأ�سا�سية التي بها نوجد �شعباً و�أمة ولها نعمل .كل عمل �آخر من �سيا�سة وتنظيم ال فائدة منه بدونها وال يجدي القيام به �إن مل يكن متفرعاً عنها وعائداً �إليها .انها حمور احلياة والفكر اال�سا�سي ،فكل عمل يجب ان يدور عليها .ولذلك كان الغر�ض اال�سا�سي من احلركة ال�سورية القومية االجتماعية جعلها عامة ومنت�صرة يف االمة ال�سورية وحيثما �أمكن حتقيق ر�سالتها االجتماعية وفل�سفتها املدرحية .ولقد ظن بع�ض املغرورين ان العمل العقدي اال�سا�سي كالبحث يف االمة وقوميتها وحقيقتها و�أهدافها� ،أمر ميكن اال�ستغناء عنه واال�ستعا�ضة عنه بامل�ساومات ال�سيا�سية املطوحة بالعقيدة القومية االجتماعية وغاية هذه احلركة العظيمة فكادت الق�ضية املقد�سة ت�سقط من �أ�سا�سها وابتد�أ امليعان والفو�ضى يهددان احلركة بالتفكك العام ،فلما كان من وراء عودتي من غيبتي عودة احلركة �إىل العقيدة والغاية فق�ضي على امليعان والفو�ضى وعادت احليوية �إىل احلركة وعاودتها روح البطولة واملثالية الأوىل .فتعلمون الآن باالختبار يف �أي مهوى �سحيق ت�سقط احلركات والأمم التي تفقد عقادئدها ومقا�صدها. عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
30
وتت�ألف النظرة القومية االجتماعية من مبادىء �أ�سا�سية ثمانية متثل �صورةاملجتمع املدين اجلديد، �أو �صورة الأمة الناه�ضة ،كما يحب �سعاده �أن يقول ،وفيما يلي و�صف �سريع لهذه املبادىء الأ�سا�سية الثماينة: «مبد�أ �سورية لل�سوريني وال�سوريون �أمة تامة» وجوهره ت�سمية ملكية الأمة. «الق�ضية ال�سورية ق�ضية قومية قائمة بنف�سها م�ستقلة كل اال�ستقالل عن �أي ق�ضية �أخرى». وجوهره حتديد اال�ستقالل احلقوقي للأمة. الق�ضية ال�سورية هي ق�ضية الأمة ال�سورية والوطن ال�سوري .وجوهره حتديد نوع ق�ضية الأمة. «الأمة ال�سورية هي وحدة ال�شعب ال�سوري املتولدة من تاريخ طويل يرجع �إىل ما قبل الزمن التاريخي اجللي» .وجوهره تعريف الأمة ون�شوئها االجتماعي. «الوطن ال�سوري هو البيئة الطبيعية التي ن�ش�أت فيها الأمة ال�سورية ،ويعرب عنها بلفظ عام: «الهالل ال�سوري اخل�صيب وجنمته جزيرة قرب�ص» .وجوهر هذا املبد�أ حتديد ملكية الأمة. «الأمة ال�سورية جمتمع واحد» .وجوهره �إعالن وحدة الأمة. «ت�ستمد النه�ضة ال�سورية القومية االجتماعية روحها من مواهب الأمة ال�سورية وتاريخها الثقايف ال�سيا�سي القومي» .وجوهره حتديد اال�ستقالل الروحي لالمة. «م�صلحة �سورية فوق كل م�صلحة» .وجوهره حتديد املقيا�س املناقبي للعاملني للأمة. وامل�صور التايل يو�ضح �أن املبادىء الأ�سا�سية كلها تدور حول الأمة� ،أو تتجه �إليها ،حيث كل مبد�أ يتناول ناحية من نواحيها.فتكون االمة هي املبد�أ املركزي للمبادىء الأ�سا�سية : ) من حيث ت�سمية ملكيتها ) من حيث ا�ستقاللها احلقوقي ) من حيث حتديد نوع ق�ضيتها احلقوقية ) الأمـــة من حيث تعريفها ) من حيث حتدبد ملكيتها ) من حيث وحدتها ) من حيث ا�ستقاللها الروحي ) من حيث مقيا�س العمل لها
الإ�صالح والتجدد
راهنية فكر �سعاده
31
وجتدر املالحظة �أنه بالفل�سفة القومية االجتماعية ميكن توحيد ال�شعوب العربية يف �أقطارها وعندما ينه�ض كل �شعب يف كل قطرتنه�ض مع نهو�ض ال�شعوب رابطة العروبة احلقة التي هي رابطة �شعوب العامل العربي ،ممثلة بدولها ،يف اجلبهة العربية الواحدة. امل�صور التايل يو�ضح بطريقة هند�سية اجتاه �سعاده التوحيدي وخطته الثباته : خمطط العروبة الواقعية
الأفراد ال�سوريون الأفراد امل�صريون الأفراد املغربيون �أفراد �شبه اجلزيرة العربية
وا�ضح من هذا امل�صور �أن وحدة �سورية وحياتها ووحدة م�صر وحياتها ووحدة �شبه اجلزيرة العربية وحياتها ووحدة املغرب العربي وحياته ،كل هذه الوحدات املجتمعية ال تتناق�ض مع التوحيد العربي اجلبهوي .الوحدة العربية اجلبهوية ال تكون وال تقوم بله ال تتعزز مبوت �سورية وموت م�صر وموت �شبه اجلزيرة العربية وموت املغرب العربي بل بحياة �سورية وحياة م�صر وحياة �شبه اجلزيرة العربية وحياة املغرب العربي .فهل يفقه الواغلون على العلوم. بكلمة �أخرى ،هناك م�س�ؤوليتان :م�س�ؤولية الفرد جتاه �أمته وم�س�ؤولية �أمته جتاه عاملهما .وقد عبرّ �سعاده عن ذلك بقوله� « :أريد �أن �أفعل واجبي جتاه �أمتي اوال لت�ستطيع �أمتي �أن تفعل واجبها نحو عاملنا العربي» .وقد جاءت �أحداث التاريخ ،بخا�صة ما �سمي «بال�صراع العربي -اال�سرائيلي» لت�ؤيد ما ذهب �إليه �سعاده عندما نظر الفل�سطينيون حولهم وبعدهم اللبنانيون والآن العراقيون ومل يجدو �أمتهم العربية الواحدة التي ر�أها م�ؤ�س�س حزب البعث يف النظرة القدمية عندما قال يف كتابه ،يف �سبيل البعث « :العروبة ج�سم روحه اال�سالم»!. �إن فكرة النظرة �إىل احلياة والكون التي كان ل�سعاده الف�ضل يف توظيفها ،دون �سواه يف العامل العربي ،على االقل ،دخلت ميدان العلم وفل�سفته وتاريخه وكان دخولها قوياً ومثرياً ،حقاً .فهذا طوما�س كون Thomas Kuhnيعتمدها ل�شرح فل�سفته العلمية التي �أحدثت �ضجة ما بعدها �ضجة يف عامل الفكر الفل�سفي املعا�صر ،فبها يرى تاريخ العلوم تاريخ ثورات ،ولكل ثورة منها نظرة جديدة �إىل العامل (الطبيعة) ال ميكن مقارنتها بالنظرات القدمية .فالتجديد العلمي يكون بنظرة جديدة تتج�سد يف منوذج يعنمده العلماء يف ممار�ساتهم. عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
32
يف كتابه :بنية الثورات العلمية The Structure of Scientific Revolutionsينتقد ويرف�ض طوما�س كون النظرة االحادية للعلم التي ي�سميها النظرةالرتاكمية الثابتة التي ال تتبدل .ويرى يف تاريخ العلم �شبيهاً لتاريخ ال�سيا�سة وحتى للداروينية Darwinismوالتغيري ،عنده ،يكون بوا�سطة ما ي�سميه مناذج paradigmsا�صلها نظرات �إىل الطبيعة (�أو الكون) خمتلفة ،بل هي جت�سيد لتلك النظرات .والنظرات املتباينة تت�صف بعدم امكان مقارنتها. فيما يلي مقتطفات من ترجمتنا ملا قال : «فنظرية كنظرية حفظ الطاقة مل تتطور تاريخياً ،بدون هدم لنموذج وهي النظرية التي تبدو ،اليوم مبثابة بنية فوقية منطقية ال عالقة لها بالطبيعة �إال عرب نظريات ت�أ�س�ست على نحو م�ستقل .فبد ًال من ذلك ،ن�ش�أت تلك النظرية من �أزمة كان �أحد مكوناتها اجلوهرية عدم االت�ساق بني ا لديناميكا ال�سيال احلراري .ومل ميكن �أن تبدو نظرية النيوتونية وبع�ض النتائج ،الذي �صيغ حديثا لنظرية ّ من طراز ذي م�ستوى منطقي �أعلى غري متعار�ضة مع �سابقاتها� ،إال بعد �أن �صارت جزءاً من العلم لبع�ض الوقت ،و�إنه ملن ال�صعب رواية كيف ميكن لنظريات جديدة �أن تظهر بدون هذه التغيريات الهادمة للمعتقدات املتعلقة بالطبيعة. تطبيقات �سعاده لنظرته اجلديدة اىل احلياة
بوحي من هذه النظرة اجلديدة �إىل احلياة ،يقول �سعاده موجهاً كالمه �إىل ال�سوريني جميعاً يف الهالل اخل�صيب ما يلي� ،أيها ال�سوريون لي�س من �سوري �إال وهو م�سلم لرب العاملني .فاتقوا اهلل واتركوا ت�أويل احلزبيات الدينية العمياء .فقد جمعنا اال�سالم :منا من �أ�سلم هلل باالجنيل ومنا من �أ�سلم هلل بالقر�آن ومنا من �أ�سلم هلل باحلكمة». كما ّيحذر من الفنت الطائفية قائال« :ما دمنا نقتتل على ال�سماء فلن نربح االر�ض» ويتابع موجهاً وقائال�« :إن ق�ضايا ال�سماء ّ حتل يف ال�سماء� .إنها ق�ضايا بني الفرد واهلل ال بني جماعة وجماعة.»... ويطلب �سعاده من �أع�ضاء حزبه �أن يكافحوا النزعة الفردية مكافحتهم االحتالل الأجنبي» عانيا تلك النزعة التي جتعل الفرد �ضاربا امل�صلحة العامة عر�ض احلائط وجتعله م�ستهرتا مب�صري �شعبه ووطنه طلبا لثالثني من الف�ضةن وما �شابه. ويقول �سعاده�« :إن علل االمة لي�ست فقط اجتماعية مبعنى اقت�صادي بحت �أو �سيا�سية حم�ض، بل هنالك ق�ضيتان ا�سا�سيتان بدون حلهما تبقى العلل �آخذة بع�ضها بع�ض هما ق�ضية املجتمع بكامله -ق�ضية وجوده و�شخ�صيته احلقوقية وال�سيا�سية -وق�ضية نف�سية املجتمع ومناقبيته».
الإ�صالح والتجدد
راهنية فكر �سعاده
33
ويتابع قائ ًال�« :إن الأمم التي تعالج اليوم م�شاكل االجتماع االقت�صادية على �أنها هي كل م�شاكلها، هي �أمم قد حلت من زمان الق�ضيتني املذكورتني ،واالمم التي مل ّحتلهما قد يقيدها تطبيق بع�ض اجلزئيات ولكنها ال تخرج بوا�سطته �إىل حياة جديدة وعهد جديد». ويتابع ،فيقول« :ال تنه�ض الأمة �إال بق�ضية عظمى كاملة ،وال تنتقل من حياة �إىل حياة �إال بحركة خلق ت�أ�سي�سية� ،شاملة جميع نواحي احلياة -بحركة �شعبية تن�ش�أ من �صميم ال�شعب واالمة وت�صارع ب�أمانة كلية حلقيقة ال�شعب وق�ضيته». ويف مو�ضع �آخر ،نعنى يف مقال بعنوان « :االمة تريد نه�ضة ال ح ّلة» .ينتقد �سعاده ،بل يهاجم «طفرة ت�أليف االحزاب وت�صور اال�صالح يف �أ�شكال و�أ�شكال واحللم باالنقالبات احلكومية ،واالهتمام باالنقالبات »...لأنه ر�أى �أن حاجة الأمة هي �إىل عقيدة ومبادىء تن�شىء جي ًال جديداً ونظاماً جديداً وجما ًال جديداً»... وبعد ذلك ،يخاطب ال�شباب قائال وم�ؤكداً «�أن ال تغيري حلالة البالد وم�صري الأمة �إال بالنه�ضة القومية االجتماعية التي و�ضعت �أ�سا�س بناء نف�س -اجتماعي � -سيا�سي جديد ونظرة مدرحية �إىل احلياة والكون والفن». وي�صف �سعاده حالة ال�شعب يف بالده بكالم وا�ضح ال لب�س فيه ،يقول« :يف �سورية ف�ساد احلكم هو من ف�ساد ال�شعب ...يف �سورية تع ّلم الفرد �ألأ يهتم ل�ضرر ال�شعب بل ملنفعته الفردية فقط». ويتابع �شارحاً« :يف �سورية املناقب حتو ّلت �إىل مثالب ،واالخالق ّ انحطت ،فالف�ساد يف ال�شعب وال�شعب الفا�سد الروحية يحتاج �إىل �إ�صالح»� .أما الإ�صالح ،فال يراه �سعاده متحققاً ب�أن يتقم�ص حزب فئة رجعية من فئات ال�شعب الفا�سد ،طائفية �أو طبقية �أو عن�صرية� ،أو خملية� ،أو ما قارن ،بل ي�ؤكد �أن «اال�صالح الذي ال ميكن �أن يكون �إال من الداخل ،يجب �أن يكون من فرد ان�شق على ف�ساد املجموع وتغ ّلب على �أهوائه». و�إذا مل يكن احلزب هو منظمة اال�صالح والتجديد والتغيري بنظرته اجلديدة اىل احلياة ،فان �سعاده أف�ضل �أن تزول �أعلن ،ويف �أكرث من منا�سبة �إ�ستعداده حل ّله .هذا ما يقول بهذا اخل�صو�ص�« :إين � ّ احلرية و�أن يزول احلزب كله على �أن يقوم �أحدهما �أو كالهما على �أ�سا�س الفو�ضى �أو االمتيازات ال�شخ�صية غري امل�ستحقة» .ويتابع مبا�شرة قائ ًال :ف�أنا قد جئت لأن�شىء �شيئاً جديداً ال لأ�سري ح�سب النظام او الو�ضع القدمي». ويف خطابه يف مدينة الالذقية يف 29ت�شرين الثاين ،1948 ،ي�صف �سعاده حالة االمة مبا يلي: «لقد كانت �أمتنا قبل ن�شوء احلزب القومي االجتماعي يف درك قطعان من الب�شر ت�سيرّ باالرادات الأجنبية ت�سيرياً فيه كل الغباوة وكل العمى عن امل�صري املنحط الذي ت�سري �إليه وتنحدر فيه ب�إذعان غريب». عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
34
ويف تعريفه للحزب ،جند �أن �سعادة مييزه عن غريه من الأحزاب بف�ضل نظرته اجلديدة �إىل احلياة، يقول�« :إننا نه�ضة قومية �إجتماعية �أكرث منا حزباً �سيا�سياً ،والنظرة القومية االجتماعية هي التي متلي علينا �سيا�ستنا». املجتمع املدين القومي اال�سا�سي والدولة القومية احلديثة
كنا ذكرنا ،ونحن ن�شرح املبادىء اال�سا�سية �أنها العقيدة �أو مبادىء النظرة اجلديدة �إىل احلياة توحد رجال الأمة ون�ساءها .والآن نقول� ،إنه ال معنى لدولة حقيقية وحديثة من غري �أ�سا�س التي ّ اجتماعي �إ�سمه املجتمع املدين امل� ّؤحد النظرة اىل احلياة. ويف هذه املنا�سبة نذكر ،وعلى �سبيل املثال ،حالة لبنان املنق�سم .فقد كان من املمكن االختالف يف �أي �شيء وحول كل �شيء ما عدا النظرة الواحدة �إىل احلياة ،والتي يدعوها �صحفيو و�إعالميو و�سيا�سيو هذا الزمان الردىء «الوحدة الوطنية» ويظنون �أنها تكون باحلوار ال�سيا�سي املخادع، ويل بالرتبية امل�ستدمية يف الأ�سرة ويف املدر�سة ويف ال�شارع ويف القدوات من الرجال والن�ساء ،ويف م�ؤ�س�سات الدولة .النظرة �إىل احلياة ،وبخا�صة �إذا كانت جديدة ،يجب �أن ير�ضعها الأطفال قبل حليب الأمهات �أو معه. نتقدم الآن �إىل الكالم على مفهوم �سعاده للدولة و�إ�صالحها وجتديدها .يقول �سعاده� ،إن الدولة احلديثة قامت على مبد�أين هما :مبد�أ القومية ومبد�أ الدميقراطية ،و�أكد �أن املبد�أين متجان�سان فال قومية حقيقية بدون دميقراطية وال دميقراطية حقيقية بدون قومية .الدولة احلديثة �إذن هي الدولة القومية الدميقراطية التي جوهرها :ال�شعب مل يوحد للدولة بل الدولة لل�شعب. وا�ضح مما تقدم �أن �أ�سا�س الدولة احلديثة يتناق�ض تناق�ضاً قوياً مع اال�سا�س الذي قامت عليه الدول ال�سابقة كلها والذي كان القوة اال�ستبدادية ولي�س االرادة ال�شعبية احلرة .واالنقالب العظيم ح�صل بف�ضل ظهور الوجدان القومي .يقول �سعادة« :حتت هذاالعامل اجلديد ،عامل القومية الطاهر يف تولد روح اجلماعة والر�أي العام ،تغري معنى الدولة من القوة احلاكمة امل�ستبدة �إىل �سيادة امل ّتحد وحكمه نف�سه» ثم ي�ضيف فيقول�« :إن الو�سيلة كانت التمثيل ال�سيا�سي �أي االنتخابات ال�شعبية يف الدولة احلديثة بلغت القوانني احلقوقية �أو�سع دوائرها و�صار احلكم فيها للمبادىء ال�شعبية احلقوقية». نظرة �سعاده للدولة نقع عليها يف املبادىء اال�صالحية اخلم�سة التي و�ضعها والتي تر�سم �صورة للدولة التي على �أع�ضاء احلزب ت�أ�سي�سها ،وهي ذات خم�س خ�صائ�ص ،هي: الدنيوية� ،أي �أن تكون الدولة خمت�صة ب�ش�ؤون هذه الدنيا �أو هذا العامل وقائمة على مبد�أ الأمة.
الإ�صالح والتجدد
راهنية فكر �سعاده
35
لذلك ن�ص املبد�أ على «ف�صل الدين عن الدولة» بعد �أن انتهى دور الدولة الدينية يف ع�صر الأمم والقوميات. العلمية �أو االخت�صا�صية فال يجوز لغري االخت�صا�صيني مثل رجال الدين �أن يتدخلوا يف �ش�ؤون الدولة من �أي وجه بخا�صة ال�ش�ؤون ال�سيا�سية والق�ضائية. امل�ساواتية التي تق�ضي ب�أن يكون نظام الدولة خالياً من االمتيازات لأية جهة �أو فئة �أو جماعة �أي �أن يكون نظام امل�ساواة يف احلقوق والواجبات هو يف �أ�سا�س نظام الدولة. العدالة االجتماعية -االقت�صادية� ،أي �أن يكون النظام االقت�صادي للدولة نظاما �أ�سا�سه االنتاج ،واالنتاج للمنتجني غال ًال و�صناعة وفكراً. الأمن وال�سالم يثّبت �أركانهما ويوفرهما اجلي�ش القومي الدفاعي القوي ذو القيمة الفعلية يف تقرير م�صري االمة والوطن.
تلك باخت�صار �شديد �صورة الدولة القومية االجتماعية كما ر�سمها �سعاده. نخل�ص مما تقدمن كله� ،إىل النتيجة الآتية وهي �أنه :ال �إ�صالح وال جتديد وال تغيري يف حالة �أمتنا من غري تطبيق نظرة جديدة �إىل احلياة والكون والفن .وهذه النظرة ،لتكون مب�ستوى الع�صر( ،مثل �سياراتنا عو�ضا عن الدواب وهواتفنا بدال من ال�صراخ ومنازلنا احلجرية بدال من خيم املا�ضي) يجب �أن تكون قومية .وملا كانت املدار�س القومية العن�صرية وال�سيا�سية والدينية وما قارنها قد �أخفقت �أميا �إخفاق يف �أملانيا النازية و�إيطاليا الفا�شية ،والبالد العربية حيث نودي باالمة اال�سالمية ودولة احللفاء ،فان النظرة القومية االجتماعية التي تعترب الأمة جمتمعاً واحداً ،هي النظرة اجلديدة القادرة على جتديد حياتنا و�إ�صالح دولتنا ،و�إنها�ضنا من قرب التاريخ �إىل املكان الالئق بنا ،ك�أمة، حتت ال�شم�س. ملحق
ننقل فيما يلي مقطعاً من الف�صل التا�سع من كتاب الفيل�سوف توما�س كون الذي ر�أى �أن فل�سفة العلوم وتاريخها عبارة عن نظرات �إىل الطبيعة خمتلفة اختالفاً جذرياً كام ًال. وكل نظرة حتققت بثورة ق�ضت على كل ما �سبقها من فكر وم�ؤ�س�سات وتقاليد علمية متاماً مثل الثورات ال�سيا�سية. Thomas Kuhn
عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
36
طبيعة الثورات العلمية و�رضورتها
ت�سمح لنا تلك املالحظات �أخريا ب�أن ننظر يف امل�شكالت التي وفرت لهذه املحاولة عنوانها .فما هي الثورات العلمية ،وما هي وظيفتها يف التطور العلمي؟ لقد ح�صل توقع ملعظم اجلواب عن هذه اال�سئلة يف الف�صول ال�سابقة .وب�صورة خا�صة ،دلت املناق�شة ال�سابقة على �أن الثورات العلمية اعتربت هنا ب�أنها ت�ؤلف �سل�سلة الأحداث التطويرية الالتراكمية التي يحل فيها ،كلياً �أو جزئياً، براديغم (منوذج) جديد حمل براديغم �أقدم منها ،وال يكون مت�سقاً معه .غري �أن هناك الكثري مما يجب �أن يقال ،وجزء منه ميكن تقدميه عن طريق طرح �س�ؤال �إ�ضايف .ما الذي يوجب ت�سمية تغيري الرباديغم ثورة؟ ويف وجه الفروقات الوا�سعة واجلوهرية بني التطور ال�سيا�سي والتطور العلمية� ،أي املوازاة تربر اال�ستعارة التي جتد ثورات يف كليهما؟. �إن �أحد نواحي املوازاة ال بد �أن يكون قد �صار ظاهراً يف ما �سبق .فالثورات ال�سيا�سية بتد�أ بتزايد �شعور النا�س ،الذي يكون غالبا حم�صوراً يف ق�سم من املجتمع ال�سيا�سي ،ب�أن امل�ؤ�س�سات القائمة توقفت عن احلل الكايف مل�شكالت بيئية كانت قد �أوجدتها جزئياً .وبطريقة مماثلة تكون الثورات العلمية التي تبد�أ بن�شوء �شعور متزايد ،بكون وهو غالباً ما يكون مقت�صرا على فئة �ضيقة من املتحد العلمي ،ب�أن م�ؤ�س�سات قائمة توقفت عن العمل مبا يف الكفاية يف الك�شف عن ناحية من نواحي الطبيعة �سبق لذلك الرباديغم ذاته �أن �أدى اليها .ويف كال التطور ال�سيا�سي والعملي كان ال�شعور بتعطل العملي امل�ؤدي �إىل �أزمة �شرط �ضروري لظهور ثورة .وزيادة على ذلك ،مع الت�سليم ب�أن هذا اال�ستعمال للت�شبيه ّميطه اىل �أق�صى حد ،فان تلك املوازاة ال تنطبق على تغريات الرباديغم الكربى وحدها مثل تلك املن�سوبة اىل كوبرنيكو�س والفوازييه ،ولكنها تنطبق �أي�ضا على تغريات �أقل مرتبطة بتمثل نوع جديد من الظواهر ،مثل االوك�سجني �أو اال�شعة ال�سينية. �إن الثورات العلمية ،وكما الحظنا يف نهاية الف�صل اخلام�س ،ال تبدو ثورية �إال عند �أولئك الذي ت�أثرت براديغمات ،فيمكن ان تبدو وك�أنها مراحل عادية يف العلمية التطويرية ،مثل ثورات البلقان يف �أوائل القرن الع�شرين .فقد يقبل الفلكيون ،على �سبيل املثال ،اال�شعة ال�سينية كمجرد �إ�ضافة �إىل املعرفة ،وذلك لأن براديغماتهم مل تت�أثر بوحود اال�شعاع اجلديد .ولكن بالن�سبة �إىل علماء مثل كالفن ،وكروك�س ،ورونتغن ،الذين بحثوا يف نظرية اال�شعاع �أو يف �أنابيب الأ�شعة املهبطية (الكاثودية) فان ظهور اال�شعة ال�سينية قد كان بال�ضرورة خروجاً عن براديغم ،وخلقاً لرباديغم �آخر. وذلك هو ال�سبب يف �أن تلك اال�شعة مل تكت�شف �إال عرب حدوث خطب ما يف البحث العادي.
الإ�صالح والتجدد
راهنية فكر �سعاده
37
الهوام�ش
� .1أنطون �سعاده ،الآثار الكاملة ،اجلزء 1بريوت � ،1960ص .9 .2املرجع ال�سابق� ،ص 10 .3املرجع ال�سابق� ،ص 11 .4املرجع ال�سابق � ،ص 12 .5من مقال :ال�شهرة على ح�ساب احلزب ال�سوري القومي �ص29 ، .6املرجع ال�سابق� ،ص 29 28- .7املرجع ال�سابق �ص 30 – 29 � .8أنطون �سعاده .املحا�ضرات الع�شر� ،سل�سلة النظام اجلديد � ، 2ص 177 – 176 � .9أنطون �سعاده .كتاب � :شروح يف العقيدة� ،ص ،139من ر�سالة �سعاده �إىل عميد الثقافة واالذاعة فايز �صايغ يف 30ت�شرين الثاين .1947 .10املرجع ال�سابق ،حما�ضرة �سعاده يف م�ؤمتر املدر�سني يف .1948 .11حيد حاج ا�سماعيل� .سل�سلة التعريف بفكر �سعاده ،2 ،القومية الدميقراطية والعوملة عند �سعاده ،دار فكر لالبحاث والن�شر ،بريوت� ،أيلول � 2004ص .272-274 .12طوما�س كون .بنية الثورات العلمية ،ترجمة د.حيدر حاج ا�سماعيل ،املنظمة العربية للرتجمة ،بريوت� ،ص .98 � .13أنطون �سعاده� .سل�سلة النظام اجلديد 4 ،مراحل امل�س�ألة الفل�سطينية ،من ر�سالة �سعاده �إىل القوميني االجتماعيني والأمة ال�سورية يف 2نوفمرب � ، 1947ص .110 .14املرجع ال�سابق� ،ص ،112من مقال � :إقتتالنا على ال�سماء �أفقدنا االر�ض». � .15أنطون �سعاده :الآثار الكاملة� 10 ،ص ،87من مقال «النزعة الفردية يف �شعبنا». � .16أنطون �سعاده .الآثار الكاملة ،16 ،مقال « :الئحة العقاقري ال ت�صنع طبيباً»� ،ص .80وكان املقال قد ن�شر يف جريدة «اجليل اجلديد» العدد 14يف 11ني�سان .1949 .17املرجع ال�سابق� ،ص .71-72 � .18أنطون �سعاده .الآثار الكاملة� 8 ،ص 4من مقال «�سلطة الزعيم» � .19أنطون �سعاده .جملد الر�سائل� 2 ،ص 250من ر�سالة اىل الرفيق وديع عبد امل�سيح امل�ؤرخة يف 7كتنون الثاين .1941 � .20أنطون �سعاده .الآثار الكاملة � 15ص 224خطاب �سعاده يف حم�ص يف 29ت�شرين الثاين .1948 � .21أنطون �سعاده � .أعداء العرب! �أعداء لبنان! �ص ،16من ت�صريح �سعاده �إىل جريدة «النه�ضة» يف 14ت�شرين االول .1937 � .22أنطون �سعاده .الآثار الكاملة ، 2 ،ن�شوء االمم �ص .124 .23املرجع ال�سابق �ص .130 � .24أنطون �سعاده .مبادىء احلزب ال�سوري القومي االجتماعي وغايته ،بريوت 1972املبادىء اال�صالحية �ص .57-80 .25توما�س �س .كون .بنية الثورات العاملية ،ترجمة د.حيدر حاج �إ�سماعيل ومراجعة د.حممد دب�س ،املنظمة العربية للرتجمة ،بريوت �أيلول 2007الف�صل � 9ص .180 - 179
عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
دار كتب للن�شر �ش.م.ل
بناية الربج ،الطابق الرابع� ،ساحة ال�شهداء الو�سط التجاري ،بريوت ،لبنان �صندوق بريد ،11-4353 :بريوت -لبنان. هاتف)961-1( 983008 /9 : فاك�س)961-1( 980630 : الربيد الإلكرتوينkutub@kutubltd.com : املوقع الإلكرتوينwww.kutubltd.com :
39
| زهري فيا�ض | باحث و�أكادميي
مقدمة
يحتل االقت�صاد وامل�سائل املتعلقة به �أهمية حمورية يف حياة االن�سان واملجتمع ،ويقع يف ر�أ�س ل�صيق �أولويات اهتمامات احلكومات والدول على مدى العامل ،ذلك �أن ال�ش�أن االقت�صادي �ش�أنٌ ٌ بحياة االن�سان وبنوعية هذه احلياة وم�ستوياتها املختلفة ويحدد �إىل حد كبري م�سار النمو والتطور االقت�صادي واالجتماعي وانعكا�س هذا التطور على اال�ستقرار ال�سيا�سي والأمني واالجتماعي وعلى غريها من امل�ستويات. بالطبع ،مفهوم االقت�صاد وا�سع و�شامل وعميق ،وله �أبعاد خمتلفة ومتنوعة ومت�شعبة ،وكلها ذات ت�أثري مبا�شر على حياة االن�سان بتفا�صيلها و�آفاقها يف احلا�ضر وامل�ستقبل. ويعترب الن�شاط االقت�صادي �أ�سا�سياً يف حركة االن�سان ،فمن خالله ي�سعى �إىل ت�أمني متطلبات عي�شه التي �أ�صبحت يف ع�صرنا احلا�ضر مت�شعبة ومتفرعة ،وتتعدى احلاجات ال�ضرورية املادية وا�شباعها لت�أمني ا�ستمرار احلياة� ،إىل متطلبات ت�أمني وا�شباع احلاجات الروحية والنف�سية املت�أتية من اقتناء الأ�شياء املادية التي ت�ضيف �إىل االن�سان بعداً نف�سياً هاماً يكون يف كث ٍري من الأحيان حا�سماً يف حتديد م�ستويات العي�ش والرفاهية على م�ستوى دول ٍة ما. لذا ومع التطور العلمي والتقني والتكنولوجي ،والتقدم الهائل احلا�صل يف العقود الأخرية من القرن الع�شرين ،وبداية القرن الواحد والع�شرين ،وال�سيما على م�ستوى تقنيات التوا�صل بني الب�شر ،وعلى م�ستوى و�سائل املوا�صالت على �أنواعها ،وت�صاعد فكرة العوملة مع فتح الأ�سواق العاملية على بع�ضها البع�ض ،و ُي�سرانتقال الر�ساميل واال�ستثمارات النقالة حول العامل ،و�سهولة انتقال ال�سلع والب�ضائع من دول املن�ش�أ �إىل �أ�سواق اال�ستهالك ،كل هذا التطور �أعطى لالقت�صاد حمركة وحمفِّزة للنمو االقت�صادي وانعكا�ساته املبا�شرة على ق�ضايا النمو والتنمية ديناميات جديدة ِّ يف عاملنا املعا�صر. عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
راهنية فكر �سعاده
االقت�صاد القومي االجتماعي :مدخل اىل التنمية
40
لذا وكي ت�سهل قدرتنا على مواكبة كل هذا املتغري على م�ستوى االقت�صاد العاملي وخ�صائ�صه الأ�سا�سية ،كان ال بد من اعادة قراءة معمقة لهذا االقت�صاد على �ضوء قواعد وحمددات وا�ضحة وال لب�س فيها يف الفكر القومي االجتماعي ،والت�أ�سي�س لر�ؤى اقت�صادية ت�شكل الأ�سا�س النظري للربامج واخلطط االقت�صادية العملية التي من املفرت�ض �أن ت�شكل االطار الوا�سع والرحب ملجمل حركتنا االقت�صادية حا�ضراً وم�ستقب ًال� ،سواء على م�ستوى الدول� ،أي حتديداً القطاعات احلكومية فيها ،وكذلك على م�ستوى القطاعات اخلا�صة من م�ؤ�س�سات و�شركات وبنى وحتى �أفراداً. واالجتاه الذي يطبع ال�سنوات الأخرية على م�ستوى العامل كله ،يتمثل يف �إعادة االعتبار �إىل واملخ ِّطط والقائد واملم ِّول للعمليات االقت�صادية الرئي�سية ،واملق ِّرر يف حتديد املوجه َ الدولة باعتبارها ِّ قطاعات اال�ستثمار واالنتاج وفق ما متليه م�صالح هذه الدول وال�شعوب ،ولنا يف تداعيات الأزمة املالية العاملية التي �ضربت العامل واقت�صادياته الكربى منذ العام 2008خ ُري دليل على عودة «الدولة» باعتبارها العباً اقت�صادياً �أ�سا�سياً و�صاحبة الكلمة الف�صل يف القرارات االقت�صادية الكربى. ما هو مفهوم االقت�صاد القومي االجتماعي؟ ما هي حمدداته؟ ما هي اجتاهاته؟ ما هي �أولوياته؟ حاولت الإجابة عنه يف هذا البحث. هذه الأ�سئلة هي بال�ضبط ما ُ
دور االقت�صاد احلا�سم يف تطور املجتمع
مل ت�صل املجتمعات االن�سانية �إىل م�ستوى التطور الذي و�صلت �إليه اليوم �إال يف �سياق مت�صل تطورات متالحقة تاريخية ارتبطت بنقالت يف �أمناط املعي�شة واحلياة و�أ�ساليب االنتاج التي مت اعتمادها يف حت�صيل القوت والغذاء ويف ت�أمني كل االحتياجات واملتطلبات النف�سية واملادية للب�شر. وهذا التطور احلا�صل يف كل هذه املجاالت ينتج عن حركة تفاعل االن�سان بالبيئة التي قادها العقل الب�شري والتي �أدت �إىل منو قدراته الذهنية يف عقل البيئة واملحيط والأ�شياء وا�ستخدامها يف ت�أمني حياته ومعي�شته وتطوير نوعية هذه احلياة ،التي ت�ؤدي نتيجة الرتاكم امل�ستمر واملتوا�صل �إىل تطوير بنية املجتمع وخ�صائ�صه و�سماته وميزاته االقت�صادية والثقافية واالجتماعية وعلى كل امل�ستويات. يف كتابه «ن�شوء الأمم» �ص 92 .حتت عنوان «املجتمع ال�سابق العمران وتطوره» يقول �أنطون �سعاده: «ال م�شاحة يف �أن املجتمع العمراين� ،أو جمتمع ال�سالالت العمرانية الأ�سيورية (الأ�سيوية
االقت�صاد القومي االجتماعي :مدخل اىل التنمية
راهنية فكر �سعاده
41
الأوروبية) ،مل ين�ش�أ منذ البدء مع �أول ن�شوء هذه ال�سالالت الراقية ،بل ن�ش�أ مع تطور جماعات هذه ال�سالالت �إىل حني بلوغها الدرجة العمرانية التي هي درجة الزراعة واالقامة يف الأر�ض»، �أي �أن تطور اجلماعات االن�سانية �إىل حني و�صولها الدرجة العمرانية ما كان ليحدث لوال تطور مرتاكم لأمناط انتاج خمتلفة و�صو ًال �إىل اعتماد منط االنتاج الزراعي� ،أي بكالم �أخر ،الزراعة هي يف �أ�سا�س فكرة اال�ستقرار يف املكان والتفاعل مع البيئة ون�شوء العمران ومراكمة �أ�سباب احل�ضارة الأخرى وما ن�ش�أ عنها من تطورات الحقة يف �أمناط و�أ�ساليب عي�ش ال�سكان. نالحظ اذاً مدى الرتابط بني تطور املجتمع االن�ساين ومنط االنتاج الذي يعتمده هذا املجتمع يف احلياة االقت�صادية التي يعي�شها ،والذي يج�سد م�ستوى التطور العقلي والذهني ودوره وفعاليته يف قيادة حركة الفعل االقت�صادي االنتاجي على م�ستوى املجتمع االن�ساين .وهذا �إن دل على �شيئ فامنا يدل على رمزية وقيمة االنتاج و�أمناطه يف تطور املجتمع على ال�صعد الثقافية وال�سيا�سية واالجتماعية املختلفة. وم َّر يف مكان �آخر ،قوله «�إن االن�سان هو الوحيد من بني جميع الكائنات احلية الذي �أمكنه �إيجاد عالقة تفاعلية مع الطبيعة ،وخ�صو�صاً مع بيئته .وما ذلك �إال باجابته على مطالب البيئة بنمو اجلهاز الذي �أعطاه �أن يعقل الطبيعة :الدماغ». �إذاً االنتاج -باملعنى االقت�صادي -ومبا �أنه حا�صل هذا االحتكاك بني االن�سان والطبيعة والذي ارتقى يف مراحل الحقة من درجة االحتكاك �إىل درجة التفاعل احلقيقي هو الذي يقود عملية تطور املجتمع االن�ساين ورفع م�ستوى امكاناته يف ت�أمني االحتياجات واملتطلبات احلياتية ،ومدى ا�ستجابته ملطالب البيئة وحتدياتها ،وهذا هو لب وجوهر علم االقت�صاد احلديث. �إن تتبع الثقافة االن�سانية يف ارتقائها يبد�أ بحفظ الأع�صر الثقافية التي رتبها علم االن�سان وعلم طبقات الأر�ض ،والعالقة بني هذه الأع�صر الثقافية و�أدوات االنتاج و�أمناطها وا�ضحة �إن مل نقل مرتابطة ب�شكل ي�صعب الف�صل بينها. �إن احتكاك االن�سان الأول بالطبيعة �أدى �إىل اكت�شاف النار و�إىل تناولها وا�ستعمالها لأغرا�ض متعددة ،وا�ستعمال النار هو اخلطوة الفا�صلة التي عينت لالن�سان ال�سابق اجتاهه. يقول �سعاده (نف�س امل�صدر� -ص« )94 .و�أهمية النار العظيمة حلياة االن�سان وارتقائه هي يف كونها عام ًال اقت�صادياً كبري النتيجة حتى يف ذلك العهد ال�سحيق .فال بد �أنها خدمت االن�سان ال�سابق يف �صد ال�سباع املفرت�سة عنه ويف االنارة لي ًال ويف تدفئته و�شي حلم فرائ�سه فجذبته �إىل حرارتها و�ضوئها و�أوجدت لذة يف جتمع قطعانه حولها ،وهي لذة م�صحوبة باالطمئنان .واللذة واالطمئنان وتوفري اجلهد والتعب هي ال�ضرورات التي ي�ؤدي ح�صولها اىل تولد االح�سا�سات النف�سية الفردية واالجتماعية» ...ويكمل« :ال �شك يف �أن النار قوت الرابطة االجتماعية يف االن�سان ال�سابق ومهدت له كثرياً �إظهار ا�ستعداده لالرتقاء ف�ساعدت كثرياً على ن�شوء النطق ..النطق وحده عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
42
كفل حتويل االكت�شافات واالختبارات التطورية الأولية �إىل معارف اجتماعية وراثية (اجتماعياً). �أعدت النار االن�سان ال�سابق لدخول الع�صر احلجري». فنجد الحقاً �أن تاريخ االرتقاء الب�شري غري املكتوب يق�سم �إىل ق�سمني عامني هما :الع�صر احلجري والع�صر املعدين ،وكل من هذين الع�صرين ينطوي على �أجزائه اخلا�صة ،فرنى �أن الع�صر احلجري ي�شتمل على ثالثة �أجزاء :الع�صر احلجري القدمي (ال�سابق) -الع�صر احلجري املتو�سط (الالحق) الع�صر احلجري اجلديد �أو املت�أخر ،ثم يدخل الع�صر املعدين مبتدئاً باحلقبة النحا�سية ثم با�سقاطهذه واالبتداء باحلقبة الربونزية التي حل حملها �أخرياً احلقبة احلديدية التي ال نزال فيها.
املجتمع العمراين
ال�شك �أن الزراعة هي �أ�سا�س الثقافة العمرانية ،حيث �أنها ج�سدت التفاعل بني االن�سان والبيئة التي عرب عنها باال�ستقرار يف الأر�ض والبيئة ،وارتقاء عالقته بها �إىل درجة التفاعل االيجابي .بيد �أن الزراعة مرت �أي�ضاً مبراحل ومراتب تطورية ارتقائية فمن زراعة املعزق اىل زراعة املحراث اىل زراعة الب�ستان و�صو ًال اىل االنتاج التجاري� ،أطوار امتدت يف الزمن لت�شهد على تطور عالقات االن�سان ببيئته و�أر�ضه و�صو ًال اىل الع�صور احلديثة. يقول ويدال دالبال�ش يف كتابه «مبادئ اجلغرافيا االن�سانية»« :الزراعة كانت �أ�سلوب العي�ش الوحيد الذي مكن النا�س منذ البدء ،من �أن يحيوا معاً يف مكان معني و�أن يح�شدوا فيه مقومات احلياة» .ويزيد «لي�س زارعاً الذي يحرق الع�شب وينرث مكانه ب�ضع حفنات من البذور ،ثم يرحل عن املكان ،بل الذي يح�صد الغالل ويخزنها هو الزارع». اذاً ،مع اعتماد الزراعة منطاً للعي�ش� ،أ�صبحت احلاجة ملحة لأن يحيا النا�س مع بع�ضهم البع�ض على �أر�ض واحدة ،ويتعاونوا على ت�أمني م�ستلزمات عي�شهم ومتطلبات حياتهم املختلفة ،ولي�ساعدوا بع�ضهم بع�ضاً يف حرث الأر�ض وزرعها وح�صد الغالل وتخزينها ومن ثم توزيعها �أو اجراء عمليات مقاي�ضة �أو مبادلة. يقول �سعاده يف نف�س امل�صدر (ن�شوء الأمم �ص« :) 107 .ال ميكننا �أن ندر�س الثقافة ومراتبها وتتبع تطورها �إال يف �سياق التفاعل� ،أي يف تتبع �أعمال االن�سان على م�سرح الطبيعة .واملقيا�س الذي نقي�س به قيمة �أية مرتبة ثقافية هو ن�سبة ما بني ح�صول �أ�سباب العي�ش والعمل املبذول يف هذا ال�سبيل ،لأن كل تطور يف احلياة االجتماعية و�أنظمة االجتماع ال ميكن �أن يحدث �إال �ضمن نطاق هذه العالقة».
االقت�صاد القومي االجتماعي :مدخل اىل التنمية
راهنية فكر �سعاده
43
ليخل�ص �إىل تقرير حقيقة �أ�سا�سية مفادها �أن النظام االجتماعي برمته هو دائماً حا�صل تفاعل االن�سان والطبيعة �أي بكالم �أخر حا�صل التطور يف االنتاج كماً ونوعاً وطرائق و�أمناط انتاج.
حمورية ال�ش�أن االقت�صادي
التطور االجتماعي يكون دائماً على ن�سبة التطور االقت�صادي ،هذه حقيقة ال بد من �أخذها بعني االعتبار والبناء عليها ،عند مقاربة امل�س�ألة االجتماعية -االقت�صادية وتفرعاتها و�أزماتها وم�شكالتها والتحديات التي تطرحها ،فامل�ستوى االقت�صادي يحدد �إىل حد بعيد الكثري من الو�ضعيات االجتماعية على م�ستوى املجتمع ككل ،والتطور االقت�صادي يرتبط �إىل حد بعيد ب�أمناط االنتاج املعتمدة يف �إنتاج ال�سلع واخلدمات التي ت�شبع حاجات ال�سكان ،هذا يعني �أن احلديث عن �أمناط االنتاج لي�س م�س�ألة هام�شية بل هو لب املو�ضوع االقت�صادي ،ومرتكز التطور والنمو االقت�صادي، ال بل �أكرث من ذلك ،حتدد �أمناط االنتاج املعتمدة درجة التطور الثقايف -االجتماعي لدولة ما، وحتدد اخل�صائ�ص لأمة ما� ،أو ملجتمع ما. (دولة زراعية� ،صناعية ،تكنولوجية �إىل ما هنالك) �إن العامل االقت�صادي ي�شكل املرتكز الأ�سا�س للدورة االقت�صادية االجتماعية -احلياتية التي ت�شرتك فيها اجلماعة الب�شرية على مدى بيئتها الطبيعية والتي ت�ؤدي �إىل ن�شوء الأمة عرب عملية تفاعلية طويلة الأمد -م�ستمرة يف التاريخ . يقول �أنطون �سعاده يف كتابه «ن�شوء الأمم» ويف معر�ض تعريفه للأمة « :الأمة جماعة من الب�شر حتيا حياة موحدة امل�صالح ،موحدة امل�صري ،موحدة العوامل النف�سية -املادية يف قطر معني يك�سبها تفاعلها معه ،يف جمرى التطور ،خ�صائ�ص ومزايا متيزها عن غريها من اجلماعات» (.)6 ن�شوء الأمة اذاً مل يت�أ�س�س على فراغ ،بل هو وليد عملية تفاعلية يف اجتاهني �أ�سا�سيني :االجتاه الأول -تفاعل االن�سان مع البيئة ،واالجتاه الثاين -تفاعل االن�سان مع االن�سان. االجتاه الأول له مدلول االنتاج لأن تفاعل االن�سان مع البيئة له م�ضمون اقت�صادي يف الغالب(خا�ص ًة ونحن نعرف �أن % 90من ن�شاط االن�ساين هو ذو طابع اقت�صادي) بهدف ت�أمني االحتياجات املعي�شية املتطورة مبعزل عن �شكل هذا التفاعل �إن كان مبا�شراً �أو غري مبا�شر ،وهذا االجتاه التفاعلي مع البيئة يكمن يف جوهر فكرة اال�ستقرار يف الأر�ض و�إن�شاء العمران الذي بد�أ تاريخياً مع اعتماد النمط االنتاجي الزراعي.
عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
44
االجتاه الثاين (�أي تفاعل االن�سان مع االن�سان ) له مدلول الدورة االجتماعية االقت�صادية – احلياتية التي متتد لت�شمل كل اجلماعات االن�سانية على مدى البيئة الطبيعية كلها �أي �ضمن ما ي�سميه �سعادة «املتحد الأمت» �أي البيئة اجلغرافية الطبيعية التي تقدم لالن�سان كل �إمكانات التطور واالرتقاء والتقدم. ويف مكان �أخر يقول �سعاده يف معر�ض تعريفه للأمة« :الأمة �أ�سا�س مادي يقوم عليه بناء روحي» �أي �أن الأ�سا�س املادي ي�شكل مرتكزاً للبناء الروحي للأمة ،فاالقت�صاد والدورة االقت�صاديةواالنتاج كلها ت�ؤ�س�س لوحدة احلياة ،ووحدة احلياة ال تقوم خارج وحدة امل�صالح االقت�صادية - احلياتية ،ووحدة امل�صالح ت�ؤ�س�س لوحدة امل�صري ،ووحدة امل�صري ت�ؤ�س�س لل�شعور باالنتماء ،وهذا ال�شعور يعترب �أ�سا�ساً يف بناء الهوية مبكوناتها الثقافية واالجتماعية . �إذاً العامل االقت�صادي ب�أبعاده املختلفة من العوامل الأ�سا�سية التي ت�ساهم يف ن�شوء الأمة وبنائها وتطورها ،لذا فهو مكون �أ�سا�سي من مكونات الأمة ن�شوءاً وارتقاءاً. اذاً ،لالقت�صاد مدلوالن ،مدلول الدورة االجتماعية االقت�صادية التي هي وحدة احلياة النا�شئة عن تفاعل اجلماعة الب�شرية مع البيئة الطبيعية ،وهذا �ش�أن قومي مبعنى �أنه ي�شمل �أبناء البيئة الطبيعية القومية الواحدة مبجرد ت�شابكهم يف احلياة الواحدة على الأر�ض الواحدة� ،أياً كان النظام االجتماعي االقت�صادي فالروابط التي تربط لبنان بال�شام وتربط ال�شام بالأردن ،وتربط العراق بالأردن والأردن بفل�سطني ولبنان ،هذه الروابط هي روابط قائمة بحد ذاتها وتت�أ�س�س على التفاعل احلياتي -اليومي االقت�صادي -االجتماعي عرب حركة ال�سكان والب�ضائع بني هذه املناطق يف البيئة الطبيعية واجلغرافية الواحدة ،هذه الروابط هي روابط حياتية �أوجدتها احلياة نف�سها، وتطورت هذه الروابط عرب الزمن لت�أخذ �أ�شكا ًال خمتلفة ومتعددة ،ولكنها عربت دوماً عن حقيقة وحدة احلياة ووحدة امل�صالح املت�أتية عنها. ال يهم وفق هذا املدلول �شكل النظام االقت�صادي �أو االجتماعي املهيمن �سواء �أكان ر�أ�سمالياً �أو ا�شرتاكياً �أو غريه ،هذا املدلول يرتكز على القاعدة القومية لالقت�صاد واالنتاج واال�ستهالك. �أما املدلول الآخر فهو مدلول النظام االقت�صادي �أي عالقات االنتاج و�أ�شكال هذه العالقات وم�ضامينها و�أبعادها. لقد �أوجد �أنطون �سعاده مفهوماً جديداً لالقت�صاد والتنمية بعد �أن ف�شل النظام الر�أ�سمايل يف حل م�شاكل املجتمع ال بل �أدى �إىل ت�شنجات وم�شاكل جديدة بهذا املعنى ،وهذا املفهوم اجلديد الذي �أر�ساه يرتكز على الغاء التناق�ض (بعد الثورة ال�صناعية وادخال الآلة) بني جماعية االنتاج وفردية الر�أ�سمال .فالنظام الر�أ�سمايل هو نظام الهدر بامتياز مبعنى �أن الطاقة تهدر مل�صلحة قلة ،وال و�صف �سعاده الثورة ال�صناعية يف ن�شوء الأمم ،واعترب ي�ستفيد منها املجموع .على هذا الأ�سا�سّ ، �أنها و�ضعت االقت�صاد على �أ�سا�س جديد ولكنه �سيئ لأنها اجتهت نحو اقت�صاد اجلماعة باعتبار
االقت�صاد القومي االجتماعي :مدخل اىل التنمية
راهنية فكر �سعاده
45
الآلة ت�ستقطب جمموعة كبرية من العمال مل يكن االقت�صاد احلريف ال�سابق ي�ستقطبهم بينما امل�ستفيد من هذا االقت�صاد اجلماعي هم �أفراد قلة ،فح�صل التناق�ض الأ�سا�سي بطبيعة النظام الر�أ�سمايل بعد ت�صنيفه. وبهذا املعنى ،اعترب �سعاده �أن االقت�صاد الر�أ�سمايل يخ�ضع مل�صالح الدول الكربى التي متلك ال�صناعات الأكرب والر�ساميل الأكرب لذلك اجته هذا االقت�صاد �إىل منط من الطفيلية واالنتهازية املعرقلة لالمناء والتنمية على امل�ستوى الوطني والقومي. يعني يتجه االقت�صاد الر�أ�سمايل وما بعد الر�أ�سمايل يف ع�صر ما ي�سمى العوملة وفتح الأ�سواق �إىل ابقاء الدول النامية �أو املتخلفة يف حلقة �سوقه ومينع الت�صنيع الثقيل فيها ومينع التقدم ال�صناعي فيها ويبقيها ك�سوق ا�سترياد لل�سلع ال�صناعية التي ينتجها. لذا ال بد �أن ترتكز التنمية ال�صحيحة على بناء اقت�صاد وطني �أي اقت�صاد قومي ،وهذا يق�ضي بالتحرر من �شبكة العالقات الر�أ�سمالية الدولية التي ترتبط بالنظام الر�أ�سمايل املحلي ،و�إقامة �شبكة انتاجية -اقت�صادية على كامل البيئة الطبيعية -اجلغرافية حتقق املناعة االقت�صادية احلقيقية واالكتفاء الذاتي ويتم ربطها الحقاً وعلى قاعدة امل�صالح القومية وت�أمينها ب�شبكة عالقات اقت�صادية على امل�ستوى االقليمي وبعدها الدويل.
ما هو البديل الذي تقدمه الر�ؤية القومية االجتماعية يف ال�ش�أن االقت�صادي
يف املحا�ضرة الثامنة من كتاب «املحا�ضرات الع�شر» ن�ص وا�ضح ل�سعاده جاء فيه�« :إن االنتاج امل�شرتك هو حق عام ال حق خا�ص ،والر�أ�سمال الذي هو �ضمان ا�ستمرار االنتاج وزيادته هو، بالتايل ،ملك قومي عام مبدئياً و�إن كان الأفراد يقومون على ت�صريف �ش�ؤونه ب�صفة م�ؤمتنني عليه وعلى ت�سخريه لالنتاج» ،ويف مكان �أخر« :ما من عمل �أو انتاج يف املجتمع �إال وهو عمل �أو انتاج م�شرتك �أو تعاوين» . لقد �أر�سى �سعاده القاعدة -الأ�سا�س ب�أن املجتمع هو املالك الأ�سا�س لالنتاج ولو�سائله ولأدواته وا�ستطراداً حلا�صل االنتاج الذي هو ر�أ�س املال ،وهذا نق�ض للمفهوم الر�أ�سمايل من جذوره الذي يعترب االنتاج حقاً خا�صاً .اذاً ،القاعدة هي �أن الر�أ�سمال ملك قومي عام مبدئياً ،يجوز للمجتمع �أن يجعل الأفراد يت�صرفون به بالقيمومة يف مرحلة ولكن القاعدة تبقى ب�أنه ملك عام مبعنى �أن ت�صرف الأفراد يف كل العالقات الر�أ�سمالية حتى املحدودة منها هي ا�ستثناء للقاعدة ميكن الغا�ؤه يف �أية حلظة ،يعني ت�أكيد على اجتماعية الر�أ�سمال وقوميته ،ورف�ض لفرديته. عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
46
وي�ضيف يف تو�صيف م�أزق الر�أ�سمالية والنظرة الفردية االقت�صادية « :من هذه الناحية نحن ن�سري نحو نظام جديد ال نهرب فيه من الآلة بل نتقدم �إليها ،ال نعد الآلة م�صيبة للب�شرية و ال م�ستعبدة للنا�س بل نعمة للب�شرية وحمررة للنا�س .ولكن بع�ض النا�س الذين ا�ستعملوا الآلة احلديثة ر�أوا �أن ي�ستعبدوا النا�س الذين مل يكن لهم ما ميكنهم من احليازة على الآالت ال�ضخمة احلديثة� .إن �سوء احلالة االقت�صادية لي�س من الآلة بل من النظام ال�سيء تنميه النظرة الفردية الالم�س�ؤولة عن امل�صري القومي يف ا�ستخدام الآلة احلديثة» .وي�ؤكد« :نه�ضتنا تريد �أن ت�ضع حداً لهذا اال�ستعباد ولأ�صحاب الر�ساميل الفردية الذين ي�ستعبدون بوا�سطتها النا�س». اذاً ،النظرة القيمية يف طرح امل�سائل �أ�سا�سية لأنها املرتكز ملعاجلة �أي �ش�أن ،مبا فيه امل�سائل االقت�صادية االجتماعية .وبالتايل ،فالنظرة الأخالقية التي تقود العملية االنتاجية -االقت�صادية هي املعيار الذي يتم احلكم على �أ�سا�سه ب�صالح االجراءات و�صدقيتها ومدى �شمولها باخلري العام �أو�سع �شرائح ممكنة يف املجتمع القومي ،وعندما تت�أ�س�س «العملية االقت�صادية» على هذا الأ�سا�س الأخالقي االن�ساين ،ت�صبح الآلة نعمة وخرياً وراح ًة وحتريراً للعمال ،وعلى العك�س� ،إذا كان العقل الفردي الأناين هو الذي يحكم الآلة ،عندها تتحول وبا ًال و�شراً وا�ستعباداً للب�شرية. اذاً ،اعترب �سعاده �أن متلك بع�ض النا�س للآلة احلديثة كان طريقهم ملحاولة ا�ستعباد الذين ال ميلكون هذه الآلة. �أي �أن امللكية الفردية املطلقة ،والغري خا�ضعة ل�ضوابط امل�صلحة العامة ت�ؤدي �إىل ا�ستغالل وا�ستعباد وخلل يف توزيع املوارد والرثوات و�إىل انتفاء امل�ساواة والعدالة االجتماعية ،وهذا ي�ؤدي �إىل اختالالت بنيوية �سيا�سية واجتماعية خطرية. وما ينطبق على العالقات داخل املجتمع الواحد ينطبق �إىل درجة كبرية على واقع العالقات بني الدول والأمم ،ولعل واقع العامل املعا�صر يف العقد الأول من الألفية الثالثة ،هو واقع م�أ�ساوي بكل املقايي�س ،حيث النظرة الفردية الال �أخالقية والال ان�سانية �أدت �إىل اختالالت كبرية تهدد مب�آ�سي وكوارث وحروب و�أحقاد و�صراعات ال متناهية لن يكون فيها منت�صر و�ستكون عنوان النهاية لهذا العامل احلزين واملوبوء. وما عامل العوملة «البعيد عن االن�سانية» وطبيعة العالقات التي تقوده �إال الدليل الدامغ على عمق املخاطر التي تتهدد ال�سالم والأمن واال�ستقرار على امل�ستوى العاملي الكبري. يف مرحلة �سابقة ،متت التعمية على هذه احلقائق املت�صلة بحياة النا�س وم�صالح حياتهم العليا، ومت التطبيل والتزمري لظاهرات «فتح الأ�سواق» ،و «العوملة» و «حترير التجارة العاملية» و «حترير اال�ستثمارات» ،ورفع �شعار حتول العامل �إىل «قرية كونية واحدة» ،ولكن ،غاب عن بال كل ه�ؤالء ال�س�ؤال الأ�سا�سي :هل تقدم موقع االن�سان ومكانته و�سط كل هذه الظاهرات؟ هل احرتم االن�سان كقيمة؟ هل ت�أمنت م�صالح الأو�ساط ال�شعبية يف بلدانها و�أوطانها وجمتمعاتها؟ هل حتققت العدالة
االقت�صاد القومي االجتماعي :مدخل اىل التنمية
راهنية فكر �سعاده
47
الن�سبية يف توزيع املوارد الطبيعية واالقت�صادية على م�ستوى كل ال�شعوب والأمم؟ هل راعت كل هذه العالقات اجلديدة النا�شئة معايري امل�ساواة واحلق االن�ساين يف اال�ستفادة املتوازنة من البيئة وما تقدمه من امكانيات؟ هل تقدم مفهوم «التنمية امل�ستدامة»؟ هذا ال�شعار الذي يتم حمله اليوم وال�سعي �إىل ت�سويقه دون الأخذ بعني االعتبار ال�شروط احلقيقية التي ت�ؤدي اىل حتقيقه؟ ما هي هذه القرية الكونية املوعودة؟ وهل تطبق فيها �أخالقيات «القرية ال�صغرية» يف التعاون واالنتاج والتوزيع والتبادل واال�ستهالك مبا يحفظ حقوق كل �سكان هذه القرية؟ �إنها �أ�سئلة جدية تطرح يف ظل واقع يك�شف عن خلل �أ�سا�سي كبري �أدى �إىل �أزمات حقيقية و�إىل ت�صدع بنيان اقت�صادات وطنية يف كل القارات ،و�إىل �أزمة مالية عاملية ن�شهد تداعياها اخلطرية ،و�إىل تراجع للنمو االقت�صادي العاملي ،و�إىل احتكارات كبرية ،و�إىل قب�ض قلة من الدول على خريات امل�سكونة والعامل وعلى ثرواته الطبيعية واال�سرتاتيجية ،و�إىل تف�شي ظاهرة الفقر والبطالة يف االقت�صادات ال�ضعيفة والنامية وحتى يف الدول القوية �صناعياً وانتاجياً. �إن مفهوم «ال�شركة العابرة للقوميات» يحمل يف طياته م�ضمون الظلم وانتفاء العدالة وعدم امل�ساواة ،وخلل يف موازين القوى االقت�صادية وغريها ،وكل هذه اال�ستثمارات العاملية التي حتط رحالها يف �أ�صقاع الأر�ض لي�ست مقطوعة اجلذور القومية ،فالعائدات اال�ستثمارية تعود غالباً �إىل القاعدة اال�ستثمارية الأ�صلية ،فيما ال ي�صيب الأطراف �أو الأماكن التي تقيم هذه اال�ستثمارات فيها مكانياً اال الفقر والنهب املنظم وال�سرقة املو�صوفة خارج �أية �ضوابط يف القانون املحلي �أو الدويل �أو الأممي �أو حتى االن�ساين! هذه اال�ستثمارات «النقالة» تنهب الأمم وال�شعوب وتزيد الهوة ال�سحيقة بني الأمم وال�شعوب ،فيما امل�ستفيد احلقيقي هو قلة من حمتكرين وقلة من ج�شعني م�ستغلني يف املراكز والأطراف ،وهذا واقع وجب تغيريه. ونحن نلج يف العقد الثاين من الألفية الثالثة ،جند �أنف�سنا يف بالدنا �أمام ثالث حاالت اقت�صادية واقعية: �سيطرة «الر�أ�سمالية الدولية املتوح�شة» على جمتمعنا. �سيطرة االقطاع القدمي اجلديد على حيازاتنا الزراعية. �سيطرة �أ�صحاب الر�ساميل الفردية ،ورموز �سلطة املال على كل القطاعات االنتاجية يف الدولة. القومية االجتماعية اذاً -يف امل�س�ألة االقت�صادية -هي تطبيق االجتماعية على االقت�صاد. االجتماعية يف �شمولها واالجتماعية يف انبثاقها من القاعدة القومية .لذا ف�إن اخلط االقت�صادي العام مت ر�سمه يف النظرة اال�سرتاتيجية القومية االجتماعية� ،أما الأمناط االنتاجية ،والعالقات املتفرعة عنها ،و�أمناط امللكية وغريها ،دور القطاع العام ،دور القطاع اخلا�ص ،اخل�صخ�صة ،الت�أميم، عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
48
ال�شراكة بني القطاعني اخلا�ص والعام ،كلها م�سائل تخ�ضع لظروف التطور االقت�صادي واالجتماعي للمجتمع �أو الدولة املعنية ،وهذه الظروف والبيئة االقت�صادية امل�صاحبة هي التي متلي اجراءات اقت�صادية معينة كالت�أميم �أو اخل�صخ�صة �أو غريها من امل�سائل االجرائية �أو التوجهات العملية ،وقد �أثبتت تطورات ال�سنوات القليلة املا�ضية،وخا�ص ًة يف �أعقاب الأزمة املالية العاملية ،واالجراءات التي اتخذتها حكومات ودول خمتلفة يف هذا العامل� ،أنه ال �شيء مطلق يف االقت�صاد ،كما يف كل مناحي حياة املجتمعات االن�سانية ،وكل الق�ضايا ت�صبح ن�سبية على �إطالقها ،وتتم مقاربتها وفق الظروف والبيئة والواقع .وما االجراءات احلمائية التي اتخذتها دول ترفع لواء «احلرية االقت�صادية» و «الر�أ�سمالية» و «االقت�صاد احلر» (ك�شراء ح�ص�ص يف م�صارف وبنوك � ،أو ت�أميم �شركات خا�صة� ،أو دخول الدولة �شريكاً يف االنتاج ،وغريها� )...إال دليل على �أن القاعدة الأ�سا�س تتج�سد يف مقولة « �أن م�صلحة الأمة �أو املجتمع هي الأ�سا�س»� ،أما التطبيقات والآليات فتخ�ضع دائماً للن�سبية ،فزمن النظريات االقت�صادية املعلبة قد وىل �إىل غري رجعة. �أما احلقيقة الثانية املهمة تكمن يف ارتباط االقت�صاد مب�صالح الأمم ومبرحلة التطور القومي وهذا �أكدته كل التجارب االقت�صادية من �أق�صى الي�سار اىل �أق�صى اليمني ،وكل هذه التجارب كان معيار جناحها مدى مالءمتها �أو م�ساكنتها �أو جتان�سها مع الواقع القومي. اخلال�صة ،ان املناهج االقت�صادية خا�ضعة دائماً للتبديل والتعديل ح�سب م�صلحة املجتمع يف كل مرحلة من مراحل تطوره االقت�صادي االجتماعي �شرط �أن ترتكز هذه املناهج العملية على القواعد الأ�سا�سية التي هي اجتماعية مطلقة منافية للفردية ب�أ�شكالها املختلفة. اقت�صاد املعرفة :مقاربة قومية اجتماعية ثمة �إقرار �أن املعرفة بوجوهها املختلفة واملتعددة هي مفتاح القوة يف مواجهة التحديات التي تعر�ض يف الواقع احلياتي -االجتماعي ب�أبعاده ال�سيا�سية والثقافية واالقت�صادية وعلى كل امل�ستويات. فمن ميتلك املعرفة والعلوم والتقنيات ي�ستطيع �أن يفر�ض معادالت جديدة يف الواقع القومي واالن�ساين العام ،فاملعرفة ت�ؤ�س�س وت�ضيف قدرات وامكانات هائلة ،اذا �أح�سن توظيفها ،وا�ستعمالها، �ست�ؤدي حتماً �إىل مزيد من اخلري العام والرفاهية والبحبوحة واالزدهار على كل امل�ستويات. لأنطون �سعاده قول م�أثور« :املجتمع معرفة واملعرفة قوة» ،وهو يعرب تعبرياً �صارخاً على �أهمية امتالك املعرفة والعلم وامتالك �أدوات املعرفة وعلومها وتقنياتها يف معارك احلياة وعلى دروبها الوعرة وال�صعبة. فمن ميتلك تقنيات زمانه هو الذي يفر�ض �سيطرته ،على الزمان واملكان ،ويطبع الع�صر بطابعه وميزته ،ويفر�ض قيمه ومفاهيمه ومثله العليا ،وهذه املعادلة هي التي قادت الب�شرية منذ ع�صورها الأوىل ،وهي ما تزال حتكم عاملنا املعا�صر.
االقت�صاد القومي االجتماعي :مدخل اىل التنمية
راهنية فكر �سعاده
49
بيد �أن اال�شكالية التي تفر�ض ذاتها يف هذا امل�ضمار تتمثل يف الربط الدقيق وال�ضروري بني الذهنية التي حتمل هذا «الكنز املعريف» واملثل والقيم التي تقود هذه الذهنية ،فاملعرفة امللت�صقة مبنظومة القيم التي ت�ؤمن باالن�سان باعتباره قيمة اجتماعية ،والتي ت�ؤمن باملجتمع باعتباره احلقيقة االن�سانية الكربى ،هي املعرفة التي تغني املجتمع واالن�سان وتدفع به �إىل معارج دروب الرتقي والنهو�ض والتنمية احلقيقية ،واالزدهار ون�شر العدالة االجتماعية واحلقوقية ،والعدل االقت�صادي االجتماعي االن�ساين الذي ي�شكل املرتكز ال�ستقرار املجتمع القومي ،ولإر�ساء قواعد را�سخةمن التعاون وت�ضافر اجلهود االن�سانية على م�ستوى العامل. لذا ،ف�إن «املعرفة» هي اللبنة التي تت�أ�س�س عليها لي�س فقط حركة االقت�صاد ،بل كل حركة املجتمع بكليته وهي الأ�سا�س للتطور والتنمية يف جماالتها املختلفة. �أردت يف هذا البحث حول «اقت�صاد املعرفة» �أن �أنطلق من مقولة �أ�سا�سية ارتكز عليها �سعاده كرافعة وقاطرة للنه�ضة القومية االجتماعية ككل ،وهي مقولة «�إن العقل هو ال�شرع الأعلى يف املجتمع» ،وكل �إ�شكاليات الواقع االجتماعي تقارب على قاعدة هذا العقل ،الذي وجد ليعقل، ليفكر ،ليفعل ،وكل منظومة املعرفة «االن�سانية» هي نتاج هذا الفعل «العقلي» ،وهي ثمرة هذا «العقل» وما قدمه من �إجابات منذ القدم. و «االقت�صاد» لي�س حالة خا�صة �أو �شاذة بهذا املعنى ،فكل حركة ون�شاط االن�سان االقت�صادية يعقلها العقل ويطورها العقل ،ويهذبها العقل ،وينميها العقل ،وي�صوغها العقل .واملعرفة -بهذا املعنى -هي نتاج هذا العقل وحا�صل تفاعله مع البيئة املحيطة باملعنى االجتماعي وباملعنى الطبيعي -اجلغرايف. فاملعرفة وثيقة ال�صلة باالقت�صاد ،لأن االقت�صاد نف�سه وثيق ال�صلة باملجتمع االن�ساين القومي ،وهو يحتل مرتبة عالية يف منظومة الفكر القومي االجتماعي ،وهو -يف معنى من املعاين -يدخل يف �أ�سا�س ن�شوء الأمة واملجتمع القومي ،فالتفاعل بني االن�سان واالن�سان ،والتفاعل بني االن�سان والبيئة ،عامالن �أ�سا�سيان يف ن�شوء الأمة ذاتها ،ويف كلتا احلالتني «التفاعل» له طابع اقت�صادي غالب ،فالن�شاط االن�ساين التفاعلي بني اجلماعات داخل البيئة اجلغرافية الواحدة م�س ّب ُبه اقت�صادي -حياتي -معي�شي ،وكذا احتكاك االن�سان ببيئته ،وارتقاء هذا االحتكاك �إىل مرتبة التفاعل بالعقل� ،أي بعقل الأ�شياء والظاهرات هو ذو طابع �إنتاجي -اقت�صادي غالب ،وبالتايل، املعرفة االن�سانية الناجتة عن فعل «العقل « هي التي قادت وتقود م�سرية النمو والتنمية والرتقي االقت�صادي -االجتماعي للجماعات االن�سانية التي �سكنت الأر�ض وتفاعلت معها وتبنت فكرة اال�ستقرار يف املكان ،و�أ�س�ست للعمران مبظاهره املختلفة ،و�صو ًال �إىل تكوين «الهوية القومية االجتماعية» االن�سانية املتلونة بتالوين التفاعالت التي �أ�س�ست لتبلورها و�صريورتها. لذا ،عندما نقارب مو�ضوع «اقت�صاد املعرفة» -فنحن ال نتحدث عن تغري يف املفهوم والتعريف� ،أي عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
50
تعريف «االقت�صاد» ومفهومه ،بل املق�صود هو التغري يف القيمة وحجم الدور الذي تلعبه «املعرفة» بوجوهها املختلفة يف العملية االقت�صادية مبراحلها املختلفة ،لدرجة حتولت «املعرفة» -بهذا املعنى من عن�صر م�ساعد يف التطور االقت�صادي -االنتاجي �إىل عن�صر �أ�سا�سي من عنا�صر الإنتاج.وهنا ،يربز دور التطور التقني -العلمي والتكنولوجي وعالقته باملعرفة واملعلومات التي يتم توظيفها يف احلركة االقت�صادية من مرحلة الإنتاج �إىل مراحل اال�ستهالك. خامتة
العقل �إذاً هو البداية ،فالعقل املتفاعل مع املحيط ،هو م�صدر املعرفة ،واملعرفة املعرب عنها مبجموعة املعارف واملعلومات والعلوم والآليات والتقنيات والأدوات والو�سائل هي التي تعطي االن�سان - العقل القوة الأ�سا�سية ،وهذه املعرفة هي تقود وترافق االقت�صاد من مرحلة الإنتاج� ،إنتاج الرثوة واحل�صول عليها من م�صادرها الأوىل �إىل مرحلة اال�ستهالك اجلماهريي الأخري.
املراجع
كتاب «ن�شوء الأمم» � -أنطون �سعاده. التاريخ االقت�صادي للبلدان الأجنبية (ع�صر الر�أ�سمالية) .بوليان�سكي -مو�سكو.1961 ، التنمية والتخطيط االقت�صادي -دار النه�ضة العربية ،بريوت .1972 «مبادئ اجلغرافيا االن�سانية» ويدال دالبال�ش. حماولة يف �إي�ضاح قواعد «االقت�صاد القومي االجتماعي» � -إنعام رعد.« -املحا�ضرات الع�شر» � -أنطون �سعاده.
51
راهنية فكر �سعاده
العلمانية يف ع�رص ال ّنه�ضة ال ّنزعة ّ
ال�شميل -خليل �سعادة -فرح �أنطون �شبلي ّ | منري حايك | باحث
نهائي لتاريخ بداية ونهاية و�إجنازات لي�س من �إجماع بني امل�ؤ ّرخني والباحثني على حتديد ّ وخ�صو�ص ّيات ع�صر النه�ضة يف العالمَ العربي. ّ ويذهب «جان داية» مث ًال� ،إىل «التمييز بني ع�صر النه�ضة يف بالد ال�شام وع�صر النه�ضة يف م�صر العربي ،حيث يتم ّيز ّ كل واحد منها بخ�صو�ص ّية، انطالقاً من وجود ب�ضعة ع�صور نه�ضة يف العامل ّ بدءاً بتاريخ والدته ،ومروراً باملع�ضالت ا ّلتي عاجلها ،وانتها ًء باملنهج الذي ا ّتبعه الر ّوا ّد» � .أ ّما «ع�صر ال ّنه�ضة يف بالد ال�شّ ام فقد ولد يف العام 1846بوالدة باكورة اجلمع ّيات الثقاف ّية يف عموم العامل العربي ،وا ّلتي �أطلق عليها م� ّؤ�س�سوها ومنهم املع ّلم بطر�س الب�ستاين وال�شيخ نا�صيف اليازجي ّ وامل�ست�شرق كورنيليو�س فانديك ا�سم «جممع ال ّتهذيب» .على �أنّ ع�صر ال ّنه�ضة يف م�صر (�إن �أردنا املمتدة ما بني عا َمي املدة ّ تب ّني ر�أي جان داية) �سبق ع�صر ال ّنه�ضة يف بالد ال�شام ،وهو يرجع �إىل ّ املدة ا ّلتي ق�ضاها «رفاعة ّ الطهطاوي» يف باري�س على ر�أ�س البعثة الأوىل ا ّلتي 1826و ،1831تلك ّ حممد علي للدرا�سة هناك ،وعاد بعدها مطالعاً كتباً يف التاريخ القدمي والفل�سفة الإغريق ّية �أر�سلها ّ وامليثولوجيا واجلغرافيا والريا�ض ّيات واملنطق ،وقارئاً �سرية نابوليون و�أفكاره و �إجنازاتهّ ، ومطلعاً على أهم ّ ورو�سو ومونت�سكيو ... املفكرين الفرن�س ّيني كـ را�سني وفولتري وكوندياك ّ م�ؤ ّلفات � ّ ولك ّننا نرى �أنّ ّ كل من عمل وبحث يف هذا املو�ضوع ،ال يختلف مع غريه من النقّاد حول �أنّ بدايات القرن التا�سع ع�شر ،هي بداية بزوغ فجر ال ّنه�ضة العرب ّية احلديثة ،ب�ش ّتى �أ�شكالها الثقاف ّية والفكر ّية وال�سيا�س ّية. �أ ّما ال ّنه�ضة ا ّلتي نبحث عنها فهي ال ّنه�ضة الفكر ّية ،ال ال ّنه�ضة الأدب ّية �أو الف ّن ّية �أو ال�شّ عر ّية، وامل�شاكل ا ّلتي �ستتناولها هي تلك امل�شاكل ا ّلتي �شغلت ّ مفكري ذلك الع�صر ،حني �أخذوا 1
2
3
1
2 3
جان ،داية« ،علمان ّيو بالد ال�شام امل�سلمون يف ع�صر ال ّنه�ضة» ،يف جريدة «حت ّوالت» ،العدد الرابع والع�شرون، ال�سبت 14متّوز .2007 املرجع ال�سابق . العربي يف ع�صر ال ّنه�ضة ،دار النهار للن�شر ،الطبعة الثالثة ،بريوت� ،1977 ،ص .94 - 92 الفكر حوراين، راجع� ،ألربت، ّ عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
52
يغو�صون يف �أعماق احلياة املعا�صرة ،بغية حتديد هو ّيتهم الثقاف ّية واحل�ضار ّية ،ومق ّومات املدن ّية املعا�صرة ،وخ�صائ�ص احل�ضارة الغرب ّية و�صلتها باحل�ضارة ال�شرق ّية والعرب ّية .وعن هذه امل�شاكل تقدم تف ّرعت ق�ضايا العلم احلديث و�صلته بالدين ،والدولة الع�صر ّية ومق ّوماتها ،ودور املر�أة يف ّ املجتمع وتخ ّلفه ،وموقف ّ والوطني ،ومن القومي املفكر من املا�ضي وامل�ستقبل� ،أي من الترّ اث ّ ّ الأهداف القوم ّية ا ّلتي ينبغي �أن تنحو نحوها احلياة املعا�صرة . أهم عوامل ال ّنه�ضة الفكر ّية عند العرب يف القرن الت�سع ع�شر هي: و� ّ احلملة الفرن�س ّية على م�صر ()1801 - 1798 البعثات العلم ّية �إىل �أوروبا الإر�سال ّيات التب�شري ّية يف البالد العرب ّية الطباعة ال�صحافة الرتجمة اجلمع ّيات العلم ّية اال�ست�شراق 4
5
�أ ّما �أبرز ّ مفكري ع�صر النه�ضة فهم: ال�شيخ نا�صيف اليازجي (� ،)1871 - 1800أحمد فار�س ال�شدياق ( ،)1873 - 1801رفاعة الطهطاوي ( ،)1873 - 1801علي مبارك ( ،)1886 - 1816بطر�س الب�ستاين (،)1883 - 1816 جمال الدين الأفغاين (� ،)1896 - 1839سليم الب�ستاين (� ،)1884 - 1848أديب ا�سحاق (1856 حممد ر�شيد ر�ضا (� ،)1935 - 1865شبلي ،)1885ال�شيخ ح�سني اجل�سر (ّ ،)1909 - 1845ال�شم ّيل ( ،)1917 - 1850ابراهيم اليازجي ( ،)1906 - 1847فرح �أنطون ( ،)1922 - 1874الإمام حممد عبده ( ،)1905 - 1849خليل �سعادة ( ،)1934 - 1857الأمري �شكيب �أر�سالن (- 1870 ّ ،)1946عبد الرحمن الكواكبي (� ،)1902 - 1846سليمان الب�ستاين ( ،)1925 - 1856قا�سم �أمني ( ،)1908 - 1865جرجي زيدان ،يعقوب �ص ّروف... ، أهمهم: �إ�ضافة �إىل كثريين من امل�ست�شرقني الذين �أ�سهموا يف بزوغ فجر النه�ضةّ � ، الفرن�س ّيون :بارون دو �سا�سي ،Baron de Sacyاتيان كاترمري ،E. Quatremireدي ال غراجن ،de la grangeجوزف رينو ،J. reinaudكا�سان دو بر�سفال ،Caussin de Persevalدو تا�سي 4 5
راجع ،ماجد ،فخري ،احلركات الفكر ّية ور ّوادها اللبنان ّيون يف ع�صر ال ّنه�ضة ،دار ال ّنهار للن�شر ،بريوت� ،1992 ،ص.8 علي ،املحافظة ،جّ االتاهات الفكر ّية عند العرب يف ع�صر النه�ضة ،الأهل ّية للن�شر والتوزيع ،بريوت� ،1975 ،ص.32 - 23
راهنية فكر �سعاده
ال ّنزعة العلمان ّية يف ع�صر ال ّنه�ضة
53
،G. de Tassyغويار .Guyard الأملان� :إيفالد ،H. Ewaldروديجر ،H. Rodigerفون كرمير � ،Von Kremerشربجنر .Sprenger الهولند ّيان :بول دي يونغ ،P. de Jongراينهارت دوزي .R Dozy الإنكليز ّيان� :إدوارد باملر ،E. Palmerوليم رايت ...W. Wright 6
حتدثنا عن مفهوم ال ّنه�ضة وبداياتها وعواملها ور ّوادها� ،سننتقل للحديث عن مفهوم �أ ّما وقد ّ العلمان ّية. العلمان ّية هي الترّ جمة العرب ّية لكلمة ٍ « ،»Secularie« ،«Secularismيف اللغات الأورو ّب ّية .و «هي من العِلم فتكون بك�سر العني� ،أو من العالمَ فتكون بفتح العني ،وهي ترجمة غري دقيقة وغري الدنيو ّية �أو ال �صحيحة ،لأنّ الترّ جمة احلقيق ّية للكلمة الإجنليز ّية هي «ال دين ّية �أو ال غيب ّية �أو ّ لكن امل�س ّوقني الأُ َّول ملبد�أ العلمان ّية يف بالد الإ�سالم علموا �أ ّنهم لو ترجموها الرتجمة ّ مقد�س»ّ ، احلقيق ّية لمَ ا قبلها النا�س ولر ّدوها ونفروا منها» � .أ ّما دائرة املعارف الربيطان ّية فتقول يف تعريف كلمة «:»Securalism «هي حركة اجتماع ّية تهدف �إىل �صرف النا�س عن االهتمام بالآخرة �إىل االهتمام باحلياة الدنيا وحدها ،ذلك �أ ّنه كان لدى النا�س يف الع�صور الو�سطى رغبة �شديدة يف العزوف عن الدنيا والت�أ ّمل يف اهلل واليوم الآخر .ومن �أجل مقاومة هذه الرغبة طفقت الـ « »Securalismتعر�ض نف�سها من خالل تنمية النزعة الإن�سان ّية ،حيث بد�أ النا�س يف ع�صر النه�ضة ُيظهرون تع ّلقهم ال�شديد بالإجنازات الثقاف ّية الب�شر ّية ،وب�إمكان ّية حتقيق طموحاتهم يف هذه احلياة القريبةّ . وظل االتجّ اه �إىل الـ « »Securalismيتط ّور با�ستمرار خالل التاريخ احلديث ك ّله باعتبارها حركة م�ضا ّدة للدين وم�ضا ّدة للم�سيح ّية» . اال�صطالحي ،والتي تب ّناها كثريون من ّ مفكري ع�صر النه�ضة العرب ّية ،واعتربوها �أ ّما معنى العلمان ّية ّ ال�سبيل الوحيد لتخلي�ص بالدهم من نري الظلمة والتقهقر واالنحطاط ،فهو ف�صل ال�سلطة الدين ّية التدخل يف �ش�ؤون ال�سيا�سة ،وبالتايل قيام الدولة املدن ّية. عن ال�سلطة املدن ّية ،ومنع رجال الدين من ّ مف�صل عن ال ّنزعة العلمان ّية لدى ثالثة من كبار ّ املفكرين يف ع�صر النه�ضة، ويف ما يلي بحث ّ �شبلي ال�شم ّيل ،خليل �سعادة ،وفرح �أنطون. 7
8
6 7 8
راجع ،علي ،املحافظة ،جّ االتاهات الفكر ّية عند العرب يف ع�صر ال ّنه�ضة ،مرجع �سابق� ،ص .35 - 34 حممد)« ،العلمان ّية التاريخ والفكرة» ،موقع �صيد الفوائد الإلكرتوين. عو�ض ،القرين (بن ّ ين. إلكرتو ل ا الفوائد �صيد موقع ة)»، ي (العلمان معا�صرة ة ي فكر «مذاهب حممد ،قطب، ّ ّ نق ًال عن ّ ّ عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
54
ال�شميل ()1917 - 1850 �شبلي ّ
ُولِد �شبلي ال�شم ّيل يف قرية كفر�شيما �إىل اجلنوب من بريوت �سنة 1850وتلقّى علومه اجلامع ّية يف الطب فيها �سنة الك ّل ّية ال�سور ّية الإجنيل ّية (اجلامعة الأمريك ّية يف بريوت اليوم) ،فتخ ّرج من معهد ّ خ�ص�ص. ّ ،1871ثم �سافر �إىل باري�س لل ّت ّ الطب والت�أليف ،ف� ّأ�س�س جم ّلة وفد على م�صر وهو يف اخلام�سة والع�شرين ،و�أقام فيها ممار�ساً مهن َتي ّ «ال�شفاء» �سنة ،1886ون�شر طائفة كربى من املقالت العلم ّية والفل�سف ّية يف «م�صر الفتاة» و«الفتاة» و«الب�صري» و«املقتطف» ّ و«املقطم» و�سواها. أهم م�ؤ ّلفاته العلم ّية املو�سوم بـ «�شرح بخرن على مذهب دارون» ا ّلذي �أُعيد ويف �سنة 1884ن�شر � ّ طبعه �سنة 1910بعنوان «فل�سفة الن�شوء واالرتقاء» ،وهو اجلزء الأ ّول من «جمموعة» مقاالته و�أبحاثه امل�شتملة على جوهر فل�سفته العلم ّية واالجتماع ّية .وتوفيّ يف القاهرة �سنة .1917 يتبينّ يف ثنايا فل�سفة ال�شم ّيل العا ّمة� ،إ�ضافة �إىل ت�أثّره بنظر ّيات ت�شارلز داروين ا ّلتي ال ينكرها، الب�شري ،من جهة، �أثر هربرت �سبن�سر و�أوغ�ست كونت يف تكوين نظرته ال�شاملة �إىل تط ّور الفكر ّ ون�شوء املجتمعات وتد ّرجها يف معارج ال ّر ّقي من جهة �أخرى . مي ّهد �شبلي ال�شم ّيل لب�سط فل�سفته املا ّد ّية بعر�ض املراحل ا ّلتي �سبقت قيام تلك الفل�سفة يف الب�شري من ريقة الع�صور احلديثة ،والعقبات ا ّلتي كانت حتول ،وما زالت ،دون حت ّرر العقل ّ املعتقدات واخلرافات الدين ّية واخللق ّية والرتبو ّية. ويبد�أ بالإ�شـارة �إىل �أثر الرتبيـة اخللقـ ّية والدين ّية ال�شـائعة يف تخ ّلف ال�شـعوب ،يف كِ ال ال�شـرق والغرب .فهـذه الرتبيـة تلقّن الط ّالب املبـادئ والتقاليـد املتوارثة دون متحي�ص ،فتف�ضي �إىل خنق روح ال ّنقـد واال�سـتقالل يف احلكـم ،وتبعـده ّ كل البعد عن التفكري العلمي ، ّ الطبيعي بالك ّل ّية ،وال يبقى �إ ّال الإن�سان امل�صنوع على خالف الطبيعة» . «فيزول الإن�سـان ّ وكان العلم عنده يعني النظام امليتافيزيقي ا ّلذي بناه هك�سلي و�سبن�سر يف �إنكلرتا ،وهاكل وبوخرن يف �أملانيا على فر�ض ّيات داروين احلذرة [ ]...وكان �أ�سا�س ذلك فكرة وحدة الكائنات.فجميع جدت منذ الأزل و�ستبقى �إىل الأبد .وبالأ�شكال املتك ّونة، الأ�شياء تتك ّون من املا ّدة بحركة عفو ّية ُو َ �أي املعادن والنبات واحليوان والإن�سان ،تكون يف ّ كل مرحلة �أكرث مت ّيزاً بع�ضها عن بع�ض ،و�أكرث تعقّداً منها يف املرحلة ال�سابقةّ . وكل مرحلة تنبثق عن املرحلة ا ّلتي �سبقتها بدون انف�صال ،بحيث 9
10
11
12
9راجع ،ماجد فخري ،احلركات الفكر ّية ور ّوادها اللبنان ّيون يف ع�صر النه�ضة ،مرجع �سابق� ،ص .70 1 0املرجع ال�سابق �ص.71 1 1املرجع ال�سابق �ص.71 � 1 2شبلي ،ال�شم ّيل ،فل�سفة الن�شوء واالرتقاء ،دار مارون عبود ،طبعة جديدة� ،1983 ،ص.18
راهنية فكر �سعاده
ال ّنزعة العلمان ّية يف ع�صر ال ّنه�ضة
55
ما يبد�أ نوراً ي�صبح حركة ّثم جاذب ّية ّثم رغبة ّثم ح ّباً . والإن�سان هو ّقمة هذا ال ّتط ّور والكائن الأ ّول القادر على ال�سيطرة عليه وامل�ساهمة فيه عن وعي، إداري ،والرغبة وذلك بتغيري ظروفه اخلارج ّية وباال�ستعا�ضة عن ال ّنزاع بالتعاون والإكراه بالتنظيم ال ّ اخلا�صة بال�سعي وراء �سعادة اجلميع . الأنان ّية يف �سعادته ّ وي�أخذ ال�شم ّيل على الرتبية الدين ّية ف�صلها الإن�سان عن هذا العامل ،ح ّتى ال يعود ي�أبه به ،وعلى الرتبية الأدب ّية ت�صويرها للإن�سان كما تتخ ّيله هي و�أ�صحابها ،ال كما هو على حقيقته ،فتزيده �ضعفاً على �ضعف ،وتغر�س فيه روح التك ّلف والرياءّ . ويحذر من االنخداع مبا يظهر من انطباق بع�ض املبادئ والت�شاريع الدين ّية على العقل والعدل ،فالعربة يف التطبيق ال يف التجريد� ،إ�ضافة �إىل �أنّ ال�سلطة الروح ّية قد تذ ّرع بها حماتها لل�سيطرة على عقول ال�شعب وعواطفه ،ح ّتى ا�ست�سلم �إىل الق�ضاء والقدر ،وقنع بحاله من التخ ّلف والفقر ،بينما تذ ّرع امللوك والر�ؤ�ساء املدن ّيون بال�شرائع االتوقراط ّية واال�ستبداد ّية ال�ستعباد ال�شعب و�إذالله و�سلبه ح ّر ّياته وحقوقه . بنى �شبلي ال�شم ّيل فل�سفته الكون ّية كما ر�أينا ،على نظر ّيات داروين و�سبن�سر وكونت ،...وانطلق والعلمي ،فحمل على الدين و�شرائعه االجتماعي منها للخو�ض يف م�س�ألة الدين و�صلته بالتط ّور ّ ّ من جه َتني: الأوىل �أ ّنه ذريعة يتذ ّرع بها الر�ؤ�ساء والزعماء لل�سيطرة على ذوي العقول ال�ساذجة. الب�شري .ناهيك ب�أ ّنها التقدم والثانية �أنّ املعتقدات الدين ّية املناق�ضة للعلم ،عقبة يف �سبيل ّ ّ التع�صب والتباغ�ض والتناحر بني الأمم. �أ�سا�س ّ 13
14
15
«ولذلك كان انتقال الإن�سان ب�شرائعه ونظاماته يف التاريخ م�صحوباً دائماً بثورات جتري الدماء فيها �أنهاراً وكثرياً ما ترجع باالجتماع القهقرى �أو تقف به ع�صوراً متطاولة» . وب�أنّ تلك املعتقدات هي تقييد حل ّر ّية الفكر وا�ستحواذ للخوف والرعب على �أ�صحابها ،وتع ّلقهم بالأوهام واخلرافاتّ ، وكل ذلك مناق�ض ملبادئ العلم . ورقي ال�شعوب، وينطلق للحديث عن وجوب الف�صل بني الدين واالجتماع يف �سبيل ّ تقدم ّ ومتمدنة ،فع ًال� ،إ ّال عندما ّ حطم الإ�صالح (�إ�صالح لوثر) وي�ضرب مث ًال �أوروبا ا ّلتي مل ت�صبح قو ّية ّ 16
17
� 13ألربت حوراين ،الفكر العربي يف ع�صر النه�ضة ،مرجع �سابق� ،ص.298 1 4راجع� ،شبلي ال�شم ّيل ،املرجع ال�سابق� ،ص .31 15راجع ،املرجع ال�سابق� ،ص .51 � 1 6شبلي ال�شم ّيل ،فل�سفة الن�شوء واالرتقاء ،مرجع �سابق� ،ص .52 1 7راجع ،ماجد فخري ،احلركات الفكر ّية ور ّوادها اللبنان ّيون يف ع�صر النه�ضة ،مرجع �سابق� ،ص .104 - 103 عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
56
ي�صح �أي�ضاً على املجتمعات والثورة الفرن�س ّية �سلطة الإكلريو�س على املجتمع .ويقول �إنّ هذا ّ الإ�سالم ّية� ،إذ �إنّ ما �أ�ضعف الأ ّمة لي�س الإ�سالم �أو القر�آن ،بل �سلطة رجال الدين . فرجال الدين و�أن�صارهم من ّ ي�سخرون الأديان خا�صةً ،كانوا ومازالوا ّ احلكام ،يف الأمم الإ�سالم ّية ّ التقدم� .أ ّما القوانني اخلا�صة ،وهي ا�ستعباد ال�شعوب واال�ستطالة عليها واحل�ؤول بينها وبني ّ مل�آربهم ّ ا ّلتي يجب �أن ّ تتحكم بتط ّور املجتمعات الب�شر ّية ،فتبد�أ ب�إبراز وا�ستيعاب الرتابط ما بني الفرد واملجتمع الناجم عن وحدة القوانني ا ّلتي تفعل فيهما ،قوانني علم احلياة وقوانني علم الطبيع ّيات. ويتحدث عن الرتابط بني علوم االجتماع واحلياة والطبيعة ،ح ّتى �أ ّنه يقول ب�أ ّنها علم واحد .وع ّلة ّ مركب من �أع�ضاءٍّ ، احلي واملجتمع يكاد يكون تا ّماًٌّ . فكل منهما ّ ولكل ذلك �أنّ التكاف�ؤ بني الكائن ّ خا�ص مالزم لأعمال �سائر الأع�ضاء الأخرى ومفتقر �إليها .فالقلب مث ًال، من هذه الأع�ضاء عمل ّ الدماغ �أو املعدة� ،إ ّال �أ ّنه يفتقر �إليهما ،ويرتبط بهما .وكذلك الزارع يعمل يف يعمل غري ما يعمله ّ املجتمع غري ما يعمله ال�صانع �أو احلاكم� ،إ ّال �أ ّنه ي ّت�صل بهما ،ويفتقر �إليهما .وي�ست�شهد هنا بقول احلي مقابلة للقوى الكربى يف املجتمع: هربرت �سبن�سر �إنّ القوى الكربى يف الكائن ّ فال�صناعة تقابل الق ّوة الغاذ ّية ا ّلتي من �ش�أنها �أن ته ِّيئ الغذاء. واحلكومة تقابل املد ّبرة ومن �ش�أنها حت�صيل الغذاء. والتجارة تقابل املو ّزعة ومن �ش�أنها توزيع الغذاء على باقي �أع�ضاء اجل�سم . ويقول ال�شم ّيل �إنّ اجل�سد يكون �صاحلاً للبقاء عندما تعمل �أجزا�ؤه بتعاون ،هكذا يقوم املجتمع على �أح�سن وجه عندما تعمل �أجزا�ؤه معاً يف �سبيل خري اجلميع ،فـ «ال ّتعاون نامو�س املجتمع الأعلى» . 18
19
20
وعن هذا ينتج �أنّ القوانني وامل� ّؤ�س�سات ما هي �سوى تدابري يف حقل احلياة االجتماع ّية ،تقا�س قيمتها مبقدار ما تخدم اخلري العا ّم ،على �أ ّنه ال ميكن اال ّتفاق على ما هو اخلري العا ّم �إذا مل تتوافر أخ�ص ح ّر ّية الفكر ،وكذلك ال تقوم �إرادة عا ّمة بدون وحدة اجتماع ّية تقوم عليهاّ ،مما احل ّر ّية ،وبال ّ يق�ضي ف�صل الدين عن احلياة ال�سيا�س ّية . وال�س ّنة ا ّلتي ّ مكمل �أحدهما تتحكم باملجتمعات عنده ،وهي كائنات ح ّية ،يتجاذبها قانونان ّ ّ للآخر :الأ ّول قانون حفظ الذات اخلا�ضع ل�س ّنة تنازع البقاء .والثاين قانون التفاعل مع الكائنات الطبيعي. الأخرى اخلا�ضع ل�س ّنة االنتخاب ّ 21
1 9 2 0 2 1 18
راجع� ،ألربت حوراين ،الفكر العربي يف ع�صر النه�ضة ،مرجع �سابق� ،ص.300 راجع ،ماجد فخري ،احلركات الفكر ّية ور ّوادها اللبنان ّيون يف ع�صر النه�ضة ،مرجع �سابق� ،ص.105 - 104 �شبلي ال�شم ّيل ،فل�سفة الن�شوء واالرتقاء ،مرجع �سابق� ،ص . 55 - 54 راجع� ،ألربت حوراين ،الفكر العربي يف ع�صر النه�ضة ،مرجع �سابق� ،ص.300
راهنية فكر �سعاده
ال ّنزعة العلمان ّية يف ع�صر ال ّنه�ضة
57
وي�ستنبط من ذلك النتائج ال�سيا�س ّية التالية: �أ ّو ًال :على احلاكم �أن يعتني ب�سائر فئات املجتمع كما يعتني الطبيب ب�سائر �أع�ضاء اجل�سم �إذا �أراد �شفاء املري�ض. الطبيعي� ،أي �أن ينبثق عن الإرادة العا ّمة انبثاقاً ثانياً� :إنّ الإ�صالح يجب �أن يجري على املجرى ّ حتمل التغيريات العنيفة� ،أي اله ّزات .فوجب حي ،ال ي�ستطيع ّ طبيع ّياً ،لأنّ املجتمع ،وهو كائن ّ الإ�صالح على الرتا�ضي� ،إ ّما بني الأكرث ّية �أو بني �سائر �أفراد املجموع ،و�إ ّال مل يكن �إ�صالحاً طبيع ّياً بل ق�سر ّياً ،من �ش�أنه �أن ي�ض ّر باملجتمع. ثالث ًا� :إنّ تط ّور املجتمعات يخ�ضع ل�س ّنة الن�شوء واالرتقاء التدريج َّيني ،القا�ضية ب�ضرورة التد ّرج يف�ضل الن�شوء يف االنتقال من حال �إىل حال ،ولأنّ قانون «ف�سيولوجيا االجتماع» العظيمّ ، التدريجي املنبثق عن الرتا�ضي على الثورة� .إ ّال �أنّ الثورة يجب �أن تكون «�صادرة عن �صوت ّ ال�شعوب ،وعندها تكون ثورة ال ُتقا َوم» . احلي وبني املجتمع ،م�ستنبطاً يف ذلك �أحكاماً �سيا�س ّية �أخرى، ومي�ضي يف املقارنة بني الكائن ّ احلي ،ثالثة �أنواع من الأفعال: ففي املجتمع ،كما يف الكائن ّ ما كان من اخت�صا�ص الفرد �أو اجلزء. ما كان من اخت�صا�ص مراكز (�أو �أجهزة) ثانو ّية. ما كان من اخت�صا�ص املجموع. 22
23
ويف حديثه املبا�شر عن الدولة ،اعترب ال�شم ّيل �أنّ احلكومة نائبة عن املجتمع يف حاجاته النفع ّية واحلب ّية ،فلم يكن عليها واحلالة هذه �أن ت�ؤ ّدي دوراً �آخر �سوى «التعديل» بني م�صالح الأفراد قا�ض ب�سيط يق�ضي يف م�صالح الأ ّمة لتعديلها ،مقت�صرة املختلفة .ولك ّنها ينبغي �أ ّال تكتفي بدور ٍ على احلا�ضر القريب ،بل يلزمها �أن ترتفع فوق نف�سها وفوق م�صلحة البع�ض ،للنظر يف امل�ستقبل البعيد� .أي على الدولة �أن ت�ؤ ّدي دوراً �إيجاب ّياً يف تنظيم �ش�ؤون املجتمع ،وت�أمني بع�ض احلاجات إلزامي ،والدفاع عن �سالمة الأ ّمة ،والدفع بها ُقدماً يف معارج ال ّت ّقدم. الأ�سا�س ّية ،كالتعليم ال ّ ومنزلة ّ الدماغ من �سائر الأع�ضاء .والدماغ بحكم اخلربات التي جتتمع لديه احلكام عنده كمنزلة ّ احلي توجيهاً فعل ّياً .ف�إذا اعتربنا عن طريق ّ إيجابي يف توجيه الكائن ّ احل�س ،ال ّبد �أن يقوم بدور � ّ 2 2راجع ،ماجد ،فخري ،احلركات الفكر ّية ور ّوادها اللبنان ّيون يف ع�صر النه�ضة ،مرجع �سابق� ،ص .106 23راجع ،املرجع ال�سابق� ،ص.107 عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
58
الدور . احلكومة مبثابة الدماغ يف املجتمع ،كان ال ّبد لها �أي�ضاً من القيام مبثل هذا ّ القومي ،كما فعل الديني بالت�ضامن لكن ال�شم ّيل مل يكن يحاول اال�ستعا�ضة عن الت�ضـامن ّ ّ ّ اجلزئي خطر الكثريون من الك ّتاب من معا�صريه ،بل راح �أي�ضـاً يعلن �أنّ جلميع �أنواع الت�ضـامن ّ القومي الأعمـى ال ّ يقل �ش ّراً عن ع�صب الديني ،لأ ّنها جت ِّزئ املجتمع الت�ضامن ّ الب�شـري .فال ّت ّ ّ ّ حتل ،عاج ًال �أم �آج ًال ،الوطن ّية العامل ّية ّ الديني الأعمى .لذلك كان ال ّبد �أن ّ حمل الوالء ّ التع�صب ّ للوطن املحدود . حتدث عن تقدم� ،أنّ �شبلي ال�شم ّيل كان ي�ؤمن بالعقيدة اال�شرتاك ّية ،وقد ّ ن�ستنتج من خالل ما ّ ّ اال�شرتاك ّية يف مقال َتني ُن�شِ رتا يف «امل�ؤ ّيد» و»املقطم» �سنة ،1908واعتربها نتيجة لتط ّور املجتمع الب�شري. ّ فاال�شرتاك ّية ،كما يقول ،لي�ست مذهباً من املذاهب ال�سيا�س ّية ،بل نتيجة الزمة لتط ّور هذا اللذين ّ املجتمع ...وهو يع ّلل ظهورها بال ّرجوع �إىل املبد�أَين الأ�صل َّيني َ يتحكمان بالطبيعة والعمران على ال�سواء ،وهما التنازع املف�ضي �إىل تكاف�ؤ القِوى ،والتكاف�ؤ املف�ضي �إىل التعاون ،و�آفة الإن�سان �أ ّنه �شديد التنازع قليل التكافل� .إ ّال �أ ّنه كان واثقاً من �أنّ انت�شار العلم وانت�شار اال�شرتاك ّية ،وهما �صنوان ال ينف�صالنٍ � ،آت ال حمالة ،وبو�سع الإن�سان �إذا تذ ّرع بالعقل واالختيار ،تعجيل خُ طا فتحل ّ اال�شرتاك ّيةّ ، حمل الأنظمة القدمية املخالفة للطبيعة ،بعد �أن تكون الب�شر ّية قد م ّرت مبا ال ّبد منه من ا�ضطرابات وثورات وقالقل ،ما هي �إ ّال جزء من «نف�ض الغبار القدمي» . 24
25
26
ونهاي ًة نن�شد مع �شاعر النيل حافظ ابراهيم بع�ض الأبيات من ق�صيدته التي �ألقاها يف حفل رثاء الدكتور �شبلي ال�شم ّيل يف التا�سع من فرباير :1917 �صواب» ثــم يرتـ ُّـد �إىل ال ِ أر�ض باحثاً عن ِ «يقرع َ النجم �ســـائ ًال ّ واهد�أْ ــراب «فا�سـترَ ِْح �أ ّيها املجــاهِ ُد َ بلغــت املـرا َد َ قد َ حتـت ال ّت ِ ِّ هل � َ ـك ُّ ال�صواب» ف�شك احلكيم بدء أتاك اليق ُني من ط ُرقِ ال�شـ ِ 27
24 2 5 2 6 2 7
راجع ،املرجع ال�سابق� ،ص .111 راجع� ،ألربت حوراين ،الفكر العربي يف ع�صر النه�ضة ،مرجع �سابق� ،ص.301 راجع ،ماجد فخري ،احلركات الفكر ّية ور ّوادها اللبنان ّيون يف ع�صر النه�ضة ،مرجع �سابق� ،ص.112 العربي� ،1993 ،ص125 جابر ع�صفور ،هوام�ش على دفرت التنوير ،املركز الثقا ّيف ّ
راهنية فكر �سعاده
ال ّنزعة العلمان ّية يف ع�صر ال ّنه�ضة
59
خليل �سعاده ()1934 - 1857
ولد خليل �سعادة يف ال�شوير ،يف منطقة املنت يف جبل لبنان ،عام 1857وتلقّى علومه الأوىل يف املدر�سة الأمريك ّية هناكّ .ثم التحق �سنة 1878بالك ّل ّية ال�سور ّية الإجنيل ّية يف بريوت وانت�سب الطب التابع للك ّل ّية .ونبغ يف هذا العلم ،ح ّتى �أ ّنه كان ُيختار لإلقاء حما�ضرات فيه �إىل معهد ّ على الطلبة وهو بعد طالب .وقد ك�شفت �سنوات الدرا�سة اجلامع ّية عن اجتاهاته الوطن ّية ومواقفه ال�سيا�س ّية املم ّيزة . ن�شر عدداً من املقاالت الأدب ّية (وهو ما يزال طالباً) يف جم ّل َتي «اجلنان» و»الطبيب» .وعرف تط ّوراً الفكري أكادميي ت�أثرياً عميقاً يف �إعداده ّ فكر ّياً خطرياً يف فرتة الدرا�سة اجلامع ّية ،فقد �أثّر الو�سط ال ّ والنف�سي ،وكانت الك ّل ّية يومذاك م�سرحاً حلوار عنيف يتع ّلق بنظر ّية التط ّور لداروين ،ا ّلتي �شرحها ّ (كما �سبق وعرفنا) د� .شبلي ال�شم ّيل يف ر�سالة تخ ّرجه عام ،1871وا ّلتي �أ�شار �إليها الدكتور «�إدوين لوي�س» يف خطاب �ألقاه يف طلبة الك ّل ّية يف حفل توزيع ال�شهادات يف متوز �سنة .1882لقد ري اجلديد ري وتب ّنى النظر ّية اجلديدة .ويظهر اتجّ اهه ال ّتط ّو ّ الطب �إذاً يف هذا املناخ التط ّو ّ در�س ّ العربي) ا ّلذي ن�شره يف القاهرة �سنة ،1911وا ّلتي عالج فيها باكراً يف ّ مقدمة قامو�سه (ال ّ إنكليزي ّ - م�س�ألة اللغة ،ن�شوءاً وتط ّوراً من وجهة نظر تط ّور ّية . الطب وال�صيدلة يف الك ّل ّية احتج فيها ط ّالب ّ �شارك �سعادة باالنتفا�ضة الطالب ّية �سنة 1882ا ّلتي ّ ال�سور ّية الإجنيل ّية على ا�ستبدال العرب ّية بالإنكليز ّية كلغة وحيدة للتدري�س ،تلك االنتفا�ضة ا ّلتي ذكرها جرجي زيدان يف ّ «ت�ستحق االهتمام والدرا�سة لأ ّنها بداية نه�ضة جديدة مذكراته ب�أ ّنها حركة ّ العربي مل يعرف مثي ًال لها من قبل .ويف العا�شر من ني�سان 1934توفيّ الدكتور خليل يف ال�شرق ّ �سعادة يف �سان باولو عن عمر يناهز ال�سابعة وال�سبعني . أهم م�ؤ ّلفاته: � ّ الطوالع ال�سعد ّية يف �آداب اللغة الإنكليز ّية (القاهرة )1886 ال�سوري ( )1892رواية بالإنكليز ّية نقلها عادل �أ ّيوب �إىل العرب ّية و ُن�شرت �سنة 1981 الأمري ّ قي�صر وكليوبرتا (لندن )1898رواية بالإنكليز ّية نقلها بنف�سه �إىل العرب ّية ون�شرها يف �سان باولو �سنة 1925 �أ�سباب الثورة الرو�س ّية (م�صر )1906 28
29
30
2 8راجع ،علي حم ّية ،خليل �سعادة �سريته و�أعماله ،دار الفرات ،بريوت ،متوز � ،2007ص.36 29راجع ،املرجع ال�سابق� ،ص.39 30راجع ،املرجع ال�سابق� ،ص.40 عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
60
�إجنيل برنابا (ترجمة) (م�صر )1908 قامو�س �سعادة (القاهرة )1911 وله ثالث روايات تعترب يف حكم املفقودة� :أنطونيو�س وكليوبرتا� ،أ�سرار البا�ستيل ،وال�شرك�س ّية عدة منها «املج ّلة» ،و«اجلريدة» ،و«الطبيب» ،و«اجلنان»، احل�سناء .كما وكتب يف جم ّالت وجرائد ّ و«الرابطة» ،و«الأهرام» ،وغريها... 31
�أ ّما �أفكاره الأ�سا�س ّية ا ّلتي متحورت حولها كتاباته املختلفة وعبرّ ت عن مواقفه من م�شكالت الوطن وق�ضايا الع�صر ،فقد ارتبطت بظواهر ثالث م ّيزت تلك املرحلة التاريخ ّية من حياة ال�شرق ين على املنطقة ،عنيت بذلك ظاهرة ين وفرتة االنتداب الفرن�سي -الربيطا ّ �إ ّبان احلكم العثما ّ ّ الديني والدعوة �إىل الف�صل ما اال�ستبداد ومطلب احل ّر ّية واال�ستقالل من جهة ،وظاهرة ّ التع�صب ّ االجتماعي االقت�صادي والالم�ساواة والتمايز بني الدين والدولة من جهة ثانية ،وظاهرة التخ ّلف ّ ّ واحلاجة �إىل نظام التقدم والعدالة وامل�ساواة للجميع من جهة ثالثة . اجتماعي جديد ،ي�ؤ ّمن ّ ّ الديني ودعوته �إىل ف�صل التع�صب يهمنا يف درا�ستنا هذه فهو ر�أي خليل �سعادة بظاهرة ّ �أ ّما ما ّ ّ ال�سلطة الدين ّية عن ال�سلطة املدن ّية. عن �سعادة بالبحث عن م�صدر الدين وطبيعته وغايته ،بل نظر �إليه بو�صفه ظاهرة اجتماع ّية لها مل ُي َ عواملها وقوانينها ،وبالتايل مفاعيلها يف املجتمع .وقد تناول الدين يف مقاله الأ ّول يف «اجلنان» �سنة ،1879م�ص ّنفاً �إ ّياه بني جمموعة العنا�صر الآيلة �إىل «االن�شقاقات الداخل ّية» وا ّلتي ت�ؤ ّدي ،يف حال ا�ستمرارها� ،إىل خراب البالد وت� ّأخرها .وتط ّرق �إىل تداعيات امتداد الدين يف الدولة واملجتمع، الديني ،وح ّر ّية االعتقاد ،ومبد�أ الف�صل بني ال�سـلطة الدين ّية وال�سـلطة املدن ّية . كم�س�ألة ّ التع�صب ّ اجتماعي خبيث «�أكل قلب ال�شرق ،وهر�أ بنيته و�أف�سد الديني مر�ض التع�صب فقد اعترب �أنّ ّ ّ ّ و�سمم دمه ،و�صرعه كما ت�صرع امليكروبات ال�سا ّمة ج ّباراً عظيماً» . �أن�سجتهّ ، الديني مبر�ض الـ«تتنو�س» ا ّلذي ي�صيب اجل�سم عن طريق خد�ش التع�صب �ش ّبه خليل �سعادة ّ ّ ب�سيط ،وو�صف �أعرا�ضه بالت�ش ّنجات ا ّلتي ما �إن تهجع لفرتة ح ّتى تعود �إىل الظهور م ّرة �أخرى ،وال تزال كذلك ،بني ثورات وهجوع ،ح ّتى تنهك قوى العليل وميوت بالإعياء .وت�ساءل عن الأ�سباب 32
33
34
32 33 3 4
31
راجع ،علي حم ّية ،خليل �سعادة �سريته و�أعماله ،مرجع �سابق� ،ص.305 راجع ،املرجع ال�سابق� ،ص.201 راجع ،املرجع ال�سابق� ،ص.229 املج ّلة ،بون�س �أير�س ،ال�سنة الأوىل ،العدد ،13يف 15ك� ،1915 1ص .356نقال عن علي ،حم ّية ،خليل �سعادة �سريته و�أعماله� ،ص.230
راهنية فكر �سعاده
ال ّنزعة العلمان ّية يف ع�صر ال ّنه�ضة
61
الديني قائ ًال «لمِ َ ت� ّأ�صل فيه هذا املر�ض ا ّلذي التي �أ ّدت بال�شرق �إىل اال�ستمرار يف جموده ّ وتع�صبه ّ نه�ش حلمه ،ونخر عظمه ،و�أعمى ب�صريته ،و� ّ أ�ضل خطراته ،وط ّوق عنقه بطوق من فوالذ ،وط ّوق رجليه ب�سال�سل من حديد ،وو�ضع �شكيمة يف �أنفه وجلاماً يف فيه ،وقاده �صاغراً ذلي ًال ال يب�صر التع�صب الديني ،وال يلم�س بيديه �إ ّال ّ الديني ،وال ي�سمع ب�أذنيه �إ ّال ّ بعينيه �إ ّال ّ التع�صب ّ التع�صب ّ أ�شد �أمرا�ض ال�شرق فتكاً يف ال ّنفو�س. الديني هو � ّ الديني» .ويخل�ص �إىل القول �إنّ ّ التع�صب ّ ّ الديني و�أ�شكاله عند ال�شعوب ،فوجد �أ ّنه يرجع �إىل التع�صب بعدها بحث �سعادة عن �أ�صل ّ ّ وكل مدينة ّ كل �شعب ّ �أع�صر قدمية ويكمن يف الت�صارع قدمياً ما بني الآلِهة الوثن ّية� ،آلهة ّ وكل فئة اجتماع ّية ،لذلك وجد �أنّ حياة ال�شرق «�سل�سلة م ّت�صلة من الأعمال الدين ّية» .وذهب يف و�صفه للتع�صب �إىل قوله �إ ّنه مر�ض من �أمرا�ض الأخالق ينتقل بالوراثة كما تنتقل الأمرا�ض الطبيع ّية. ّ فكما يولد ابن ّ التع�صب .وهو �إذ املتع�صب م ّيا ًال �إىل ّ ال�سكري م ّيا ًال �إىل ال�سكر ،كذلك يولد ابن ّ تع�صباً منهم و�أكرث رحمة لأنّ التع�صب ،ي�شري �إىل �أنّ الأ ّم ّيني � ّأقل ّ ينتقد موقف املتع ّلمني من ّ تع�صب مدرو�س ،وفيه تع�صب �أولئك فهو ّ تع�صب موروث� ،أ ّما ّ تع�صب ه�ؤالء� ،إذا كان موجوداًّ ، ّ يكمن اخلطر على املجتمع . والتع�صب ،فهو ال يربط بينهما ،وال يعتربهما �شيئاً واحداً .فالتد ّين يف ومي ّيز �سعادة بني التد ّين ّ نظره هو حالة امل�ؤمن ا ّلذي ميار�س �إميانه دون �أن يتعار�ض يف �إميانه مع معتقدات الآخرين ا ّلذين ال تع�صب .وعليه� ،إنّ ي�ؤمنون �إميانه� .أ ّما �إذا وقع تعار�ض بينه وبني م�ؤمن �آخر ،فعندها يتح ّول �إميانه �إىل ّ احلد الفا�صل بني ح ّر ّيتني على و�شك اال�صطدام .وطرح احلد الفا�صل بني التد ّين والتع�صب هو ّ ّ ّ الديني؟ املتع�صب دين ّياً؟ وهل ميكن الق�ضاء على ّ �س�ؤا ًال هل ميكن �شفاء ّ التع�صب ّ حدد له ثالثة �شروط �أ�سا�س ّية، ويجيب �سعادة عن ال�س�ؤال ا ّلذي طرحه ب�أنّ امل�س�ألة تتط ّلب عالجاً ّ هي ال�شروط عينها ال�ضرور ّية ل�شفاء � ّأي مري�ض: �أن ي�شعر امل�صاب ب�أ ّنه مري�ض. �أن يكون راغباً يف ال�شفاء. �أن ي�ستعمل العالجات ا ّلتي ي�أمر بها الطبيب. امل�سيحي وامل�سلم الديني ،وب�أ ّنه على التع�صب التع�صب القومي مقام ّ ويختم ب�أ ّننا يجب �أن نقيم ّ ّ ّ ّ الديني الذميم . ّ تع�صباً وطن ّياً حميداً ي�صرفه عن ّ والدرزي �أن ي�شعر ب�أنّ له ّ التع�صب ّ 35
36
37
38
3 6 37 3 8 35
املج ّلة ،املرجع ال�سابق. راجع ،علي حم ّية ،املرجع ال�سابق� ،ص.233 راجع ،املرجع ال�سابق� ،ص.234 راجع ،علي حم ّية ،خليل �سعادة �سريته و�أعماله ،مرجع �سابق� ،ص.239 عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
62
الديني ومفاعيله املد ّمرة للهيئة االجتماع ّية ،انطالقاً من وجهة نظر خليل للتع�صب بعد عر�ضنا ّ ّ تدخل الدين �ضروري للدولة �أم ال؟ وبالتايل ّ �سعادة ،ننتقل �إىل نظرته عن الدين والدولة .هل ّ ّ رجال الدين يف ال�سيا�سة ،هل هو مقبول �أم مرفو�ض؟ للإجابة عن ال�س�ؤال الأ ّول ،يعر�ض �سعادة يف مقال بعنوان «الوطن والدين وال�سيا�سة» � ،إىل �أنّ الدين كان �ضرور ّياً للدولة يف الع�صور الغابرة ،وخ�صو�صاً لدى الأمم املدع ّوة «وثن ّية» ا ّلتي هي مزيج غريب من الوطن ّية والدين وال�سيا�سة ،و�ضرب �أمثلة على هذه احلالة من تواريخ م�صر و�سوريا واليونان� ...أ ّما يف حديثه عن �سلطة رجال الدين ،فيقول �إ ّنه بعد انت�شار امل�سيح ّية ور�سوخها بني ال�شعوب ا ّلتي تب ّنتها ،حدث تط ّور خطري على �صعيد التداخل بني الدين وال�سيا�سة� ،إذ انتقلت الزعامة ال�سيا�س ّية �إىل رجال الدين ،ومار�ست الكني�سة عموماً والإكلريو�س خ�صو�صاً ،ا�ستبداداً على العباد واملمتلكات ال ّ يقل عن ا�ستبداد امللوك والأمراء .ويف حديثه عن ف�شل التداخل بني الدين والدولة ،يعطي مثا ًال الثورة الفرن�س ّية ا ّلتي جاءت بعد و�صول الفو�ضى الدين ّية ال�سيا�س ّية الفرن�سي من عبود ّية امللوك ومن عبود ّية الإكلريو�س، حداً وح ّررت ال�شعب �أوجها ،فو�ضعت لها ّ ّ ت�سمى فرن�سا ابنة الكني�سة البكر� ،أ�صبحت �أبعد بناتها عنها ،وكما ح ّررت الثورة فـ «بعد �أن كانت ّ و�سجلت ثورتها الكربى ال�شعوب من عبود ّية امللوك ح ّررتهم كذلك من عبود ّية الإكلريو�سّ ]...[ . قانوناً عا ّماً وهو �أن ال دخل للدين يف ال�سيا�سة». على �أنّ �سعادة مل يطلب التب�شري مببد�أ الف�صل بني الدين والدولة ملج ّرد التب�شري مبنجزات الأمم الأخرى يف هذا امل�ضمار ،بل دعا �إىل تطبيق هذا الف�صل يف بالده ،ويف بالد ال�شرق عموماً. فتتلخ�ص مبا يلي: �أ ّما م ّربرات دعوته �إىل العلمان ّية ّ اختالف الأغرا�ض بني الدين والدولة :فالأديان ،يف نظره ،تع ّلم الإن�سان تع ّلم النا�س املقد�سة ،يف حني �أنّ الدولة عبادة اهلل وممار�سة ال�شعائر الدين ّية والعمل مبوجب تعاليم الكتب ّ تهتم بالت�أمني على احل ّر ّيات الفرد ّية والعا ّمة... ّ يهتم ب�أمور ما وراء املا ّدة ،وهي �أمور يهتم الدين �أكرث ما ّ حدود الدين وحدود الدولةّ : تهتم الدولة ب�ش�ؤون العلم املتغيرّ . متغيرّ ة .يف حني ّ ا�ستحالة الوحدة الدين ّية� :إذا كانت الوحدة ال�سيا�س ّية مطلباً ّ لكل �شعب ين�شد اال�ستقالل وال�سيادة ،ف�إنّ الدين عامل تفرقة .و�إذا كان الدين كذلك ،فما احلاجة �إليه يف هذا املجال؟ 39
40
3 9خليل �سعادة« ،الوطن والدين وال�سيا�سة» ،جم ّلة «الرابطة» ،ال�سنة الرابعة ،العدد � 30 ،103آذار ،1932عن كتاب الرابطة ّ (الذي جمعت فيه مقاالت خليل �سعادة يف جم ّلة «الرابطة» ،وبع�ض ما ن�شر يف جم ّلة «املج ّلة»، وبع�ض ما قيل فيه)� ،سان باولو ،الربازيل.1971 ، 4 0كتاب الرابطة ،امل�صدر ال�سابق� ،ص.254
راهنية فكر �سعاده
ال ّنزعة العلمان ّية يف ع�صر ال ّنه�ضة
63
عوامل التط ّور :وهنا يقتدي �سعادة بالأمنوذج الأ ّول للتجربة الغرب ّية يف جمال ف�صل الدين عن الدولة ،وهو الثورة الفرن�س ّية ومنجزاتها .فاكت�شف الفرق الكبري يف �أحوال الأمم ما بني فرتة القرون الو�سطى حيث �ساد التداخل ما بني الدين وال�سيا�سة ،وفرتة الع�صور احلديثة حيث ا�ستق ّلت الدولة عن الدين� .إذ كان التداخل عامل �ضعف واقتتال يف الداخل. الرغبة يف امل�ساواة :هذه الدعوة �إىل الف�صل ما بني الدين والدولة ترجع �إىل رغبة عارمة عنده يف تطبيق امل�ساواة التا ّمة بني �أفراد الأ ّمة الواحدة ،وبناء جمتمع جديد يرتكز على قواعد العدل وامل�ساواة وتكاف�ؤ الفر�ص . 41
ويخل�ص �سعادة �إىل حتديد مفهوم العلمان ّية ،فيعترب �أ ّنها الف�صل التا ّم بني الدين وال�سيا�سة ،فعامل ين وما ي ّت�صل به من الدين هو عامل ما وراء املا ّدة� ،أ ّما عامل ال�سيا�سة والدولة فهو املجتمع الإن�سا ّ وحتديات .ويتناول الف�صل ما بني الدين والدولة :الق�ضاء واحلكومة والت�شريع والعمل ق�ضايا ّ واالنتخابات واالقت�صاد� .إ ّنه ف�صل كامل على امل�ستويات ال�سيا�س ّية واالجتماع ّية كافّة . وحد ّد �سعادة مفهوم الأ ّمة ،ف�أ�سقط الدين �أو العرق �أو اللغة من العنا�صر املك ّونة للأ ّمة ،واعتمد وحدة امل�صالح �أ�سا�ساً لن�شوء الأ ّمة وقاعدة لوحدة احلياة القوم ّية .وانتقد الرابطة الدين ّية ا ّلتي تقوم بخالف الرابطة الوطن ّية على �أ�سا�س الأكرث ّية و الأق ّل ّية الدين ّية ،فت�ستحيل معها امل�ساواة بني �أبناء املتعددة الطوائف واملذاهب ،لأنّ الدولة ،يف هذه احلال ،تكون الأ ّمة الواحدة ،وخ�صو�صاً يف الأ ّمة ّ دولة الأكرث ّية الدين ّية امل�سيطرة ،ال دولة املواطنني املت�ساوين �أمام القانون ،يف احلقوق والواجبات . ويف النهاية ميكن حتديد ال�سمات الرئي�س ّية للعلمان ّية ا ّلتي ت�ص ّورها خليل �سعادة كما يلي: االجتماعي. التع�صب ي�ؤ ّدي �إىل االنق�سام ّ ّ الت�سامح �سبيل الت�ضامن والوحدة. الديني. ت�أمني ح ّر ّية االعتقاد ّ تدخل الدين يف �ش�ؤون الدولة. رف�ض ّ تعيني الرجال الأكفّاء للوظائف الأ�سا�س ّية يف الدولة ب�صرف النظر عن انتماءاتهم الطائف ّية. التقدم والتط ّور . باخت�صار ،العلمان ّية يف نظره هي طريق ّ 42
43
44
42 4 3 4 4 41
راجع ،علي حم ّية ،خليل �سعادة �سريته و�أعماله ،مرجع �سابق� ،ص.243 - 242 راجع ،املرجع ال�سابق� ،ص.244 راجع ،علي حم ّية ،خليل �سعادة �سريته و�أعماله ،مرجع �سابق� ،ص.245 املرجع ال�سابق� ،ص.248 عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
64
القروي ،بع�ضاً من �أبيات ق�صيدته ا ّلتي �ألقاها يف ختام احلفلة و�أخرياً ،نن�شد �أي�ضاً مع ال�شاعر ّ الت�أبين ّية التي �أقامتها الرابطة الوطن ّية ال�سور ّية لرئي�سها ال�شر ّيف الدكتور خليل �سعادة: «� َ عتـــاب» جريئــاً دار بينكـما أراك لدى �ســرير احلـقِّ ُح ًّرا ُ العـذاب» وطـن يحيق به جيب �أ ّنى ويل ٌ «يقول لك ا�سرت ِْح ف ُت ُ ُ ال�شـباب فقد ح ّنت لز�أرتــه «�أعِ دين للحمى و�أعِ ْـد يراعـي ُ القــراب» �أتهملـني �إذا بلـي �أنا ال�سـيف املجـ ّرد من قـرابي ُ «�أال قُــلْ ل ّلذيـن طغـوا رويـداً فللأ ّيـــام والـدول انقـالب» . ُ 45
فرح �أنطون ()1922 - 1874
ولد فرح �أنطون يف طرابل�س �سنة 1974وتخ ّرج من مدر�سة كفتني بالكورةّ ،ثم وفد �إىل م�صر �سنة 1897فا�شتغل بال�صحافة والت�أليف� .أن�ش�أ جم ّلة «اجلامعة» يف اال�سكندر ّية �سنة ،1899ووا�صل لكن �إقامته فيها مل تطل، حتريرها طيلة �سبع �سنوات ،ويف �سنة 1906رحل �إىل الواليات امل ّتحدةّ ، وال�صحفي .وتوفيّ �سنة .1922 أدبي ّ فعاد �إىل م�صر ليتابع ن�شاطه ال ّ و�ضع وترجم عدداً من امل�ؤ ّلفات الفكر ّية والأدب ّية والتاريخ ّية ،نذكر منها: �أور�شليم اجلديدة (�أو فتح العرب بيت املقد�س) العلم والدين واملال ،املدن الثالث �أوديب امللك م�صر اجلديدة حياة امل�سيح (لـ رينان) املر�أة يف القرن الع�شرين (لـ جول �سيمون) حممد عبده على أهم م�ؤ ّلفاته الفكر ّية والفل�سف ّية� .أُحلقت به ردود الإمام ّ ابن ر�شد وفل�سفته (� ّ بع�ض �أقواله الفل�سف ّية ،وردوده هو عليها) . 46
4 5كتاب الرابطة ،مرجع �سابق� ،ص.332 4 6راجع ،ماجد فخري ،احلركات الفكر ّية ور ّوادها اللبنان ّيون يف ع�صر النه�ضة ،مرجع �سابق� ،ص.47
راهنية فكر �سعاده
ال ّنزعة العلمان ّية يف ع�صر ال ّنه�ضة
65
-1ابن ر�شد وفل�سفته
هذا الكتاب هو درا�سة طويلة عن حياة ابن ر�شد وفل�سفته ،ن�شرها فرح �أنطون يف جم ّلته «اجلامعة»، حممد عبده ،و�أ ّدت �إىل املناظرة ال�شهرية بينهما. وكانت م�صدر اخلالف بينه وبني الإمام ّ لقد ت�أثّر يف كتابه عن ابن ر�شد بـ «رينان» ونهج منهجه ،ح ّتى �أنّ البع�ض يذهبون �أكرث من ذلك، «قدم عر�ضاً منهج ّياً لأفكار رينان» . فيقولون �إ ّنه ّ وي�شرح ال�سبب ا ّلذي من �أجله يكتب عن ابن ر�شد ،فيقول �إنمّ ا هو «تقريب الأبعاد بني عنا�صر يتم ب�أن يربهن ال�شرق وغ�سل القلوب وجمع الكلمة ]...[ ،ونحن نعتقد �أنّ هذا التقريب ال ّ الفريق الواحد للفريق الثاين �أنّ دينه �أف�ضل من دينه ف�إنّ هذا الأمر قد م�ضى زمانه ]...[ .و�إنمّ ا التقريب املمكن يف هذا الزمان زمان العلم والفل�سفة قائم ب�أن يحرتم ّ كل فريق ر�أي غريه ومعتقده. والتع�صب ،التي عليها يتوقّف نهو�ض ال�شرق وارتقاء احلدة [ ]...وغر�ضنا من هذا الكتاب ك�سر ّ ّ عنا�صره املختلفة» . يتحدث فرح �أنطون عن الت�ساهل (الت�سامح) ،ويعني هذا اال�صطالح عنده �أنّ الإن�سان يجب �أ ّال ّ خا�صة بني اخلالق واملخلوق ،فلم يكن من �ش�أن يدين �أخاه الإن�سان ،لأنّ الدين عبارة عن عالقة ّ املخلوق �أن يدين �أخاه الإن�سان بل على ذلك املخلوق �أن يت�ش ّبه بخالقه ا ّلذي يطلع �شم�سه على يحق ال�صاحلني والأ�شرار معاً .وملّا كانت الرابطة اجلوهر ّية بني �أبناء الب�شر جميعاً هي الإن�سان ّية ،فال ّ يتدخل يف �ش�ؤون � ّأي منهم �أو ي�ضطهدهم ملعتقداتهم الدين ّية .ف�أ�سا�س الت�ساهل �إذاً ،هو المرئٍ �أن ّ �أ ّول �أ�س�س العلمان ّية عنده . ومن مبد�أ الت�ساهل هذا ،ينطلق فرح �أنطون �إىل الدعوة �إىل الف�صل بني ال�سلطتني املدن ّية والدين ّية، معتمداً على التمييز بني مدار العلم وبني مدار الدين� ،أي بني ال�ش�ؤون الدنيو ّية التي هي من اخت�صا�ص العقل والعلم دون �سواهما ،وال�ش�ؤون الروح ّية ا ّلتي تقت�صر على عالقات املخلوق يتو�صل �إليه الواحد ال ميكن باخلالق ،فكانت من اخت�صا�ص القلب والدين دون �سواهما .وما ّ للآخر دح�ضه ،لذلك يجب �أن يحرتم الواحد الآخر ،و�أن ال يتجاوز الواحد حدود الآخر . �أ ّما دعوته �إىل الف�صل بني ال�سلطة املدن ّية (الزمن ّية) وال�سلطة الدين ّية (الروح ّية) ،وا ّلتي هي الأ�سا�س الثاين للعلمان ّية لديه ،فيعيدها فرح �أنطون �إىل خم�سة �أ�سباب: 47
48
49
50
51
4 8 4 9 50 5 1 47
ه�شام �شرابي ،املثقّفون العرب والغرب ،دار النهار للن�شر ،بريوت� ،1971 ،ص.78 فرح �أنطون ،ابن ر�شد وفل�سفته ،دار الطليعة ،بريوت� ،آذار (مار�س)� ،1981 ،ص.37 راجع ،ماجد فخري ،احلركات الفكر ّية ور ّوادها اللبنان ّيون يف ع�صر النه�ضة ،مرجع �سابق� ،ص.95 راجع ،املرجع ال�سابق� ،ص.96 راجع� ،ألربت حوراين ،الفكر العربي يف ع�صر النه�ضة ،مرجع �سابق� ،ص.304 عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
66
ال�سبب الأ ّول ،ا ّلذي يلزم الف�صل بني ال�سلطتني املدن ّية والدين ّية ،هو �أنّ غر�ض ال�سلطة الدين ّية يختلف ّ حث الب�شر على عبادة اهلل وعلى كل االختالف عن ال�سلطة املدن ّية ،فغر�ض الأوىل ّ الف�ضـيلة وال ّرب� ،أ ّما غر�ض الثانية فهو حفظ الأمن� ،أي �صيانة ح ّر ّية الفرد �ضمن حدود الد�ستور، ا ّلذي ال يجيز االعتداء على هذه احل ّر ّية �إ ّال مبقدار ما تق�ضي به م�صلحة املجموع. بغ�ض النظر عن ال�سبب الثاين ير ّده فرح �أنطون �إىل الرغبة يف امل�ساواة املطلقة بني �أبناء الأ ّمةّ ، معتقداتهم الدين ّية ،ا ّلتي تق�ضي بالف�صل بني ال�سلطتني املدن ّية والدين ّية� ،شريطة �إدراك القائمني ين�صبوا على الرع ّية لكي ين�صروا ديناً على دين� ،أو مبد�أً على مبد�أ ،بل ليق ّروا على الدولة �أ ّنهم مل َّ الب�شري العا ّم ،ا ّلذي لي�س من �ش�أن ال�سلطة الدين ّية امل�سا�س به ،ما دام �إقراره واحلفاظ احلق مبد�أ ّ ّ عليه من اخت�صا�ص ال�سلطة املدن ّية. التدخل يف يف عر�ضه لل�سـبب الثالث ،يقول فرح �أنطون �إ ّنه لي�س من �ش�أن ال�سلطة الدين ّية ّ �ش�ؤون الإن�سـان الدنيو ّية ،لأنّ غر�ض الأديان تدبري الآخـرة ال تدبري الدنيا ،وملّا كانت �ش�ؤون الدنيا تتغيرّ بتغيرّ الأحوال والأزمان ،امتنع �أن تط ّبق عليها الأحكام الدين ّية ا ّلتي و�ضعت يف الزمان اخلايل. � ّأما ال�سبب الرابع ،فهو ا�ستمرار �ضعف الأ ّمة وتخ ّلفها ج ّراء اخل�صام بني رجال الدين و�أهل الفكر ،ولأنّ ال�سلطة م�ضط ّرة �إىل ا�سرت�ضاء وممالأة �سواد النا�س ،ولأنّ ت�ضارب م�صالح الفئات الديني جل�سم الأ ّمة� ،إ�ضافة �إىل تع ّر�ض املبادئ الدين ّية ال ّبد �أن ي�ؤ ّدي �إىل نخر �سو�س ال�شقاق ّ املقد�سة لالمتهان. الدين ّية ّ ال�سبب اخلام�س والأخري ،هو �أنّ الوحدة الدين ّية ا ّلتي ي�صبو �إليها ّ ديني م�ستحيلة، كل نظام ّ لأ ّنها تتنافى مع مبد�أ ح ّر ّية االعتقاد ،ومع مبد�أ االختالف والتباين والتن ّوع ا ّلذي طبع عليه العقل الب�شري ،بل الكون ب�أ�سره ،وهذا ما يعنيه القر�آن بالآية « :ولو �شاء ر ّبك جلعل النا�س �أ ّمة واحدة» . ّ 52
ومن تلك الأ�سباب ينطلق فرح �أنطون للقول �إن الوحدة احلقّة ال ميكن بلوغها �إ ّال عن طريق الوطن ّية. توخى فرح �أنطون و�ضع �أ�س�س دولة علمان ّية ي�شرتك فيها امل�سلمون وامل�سيح ّيون على قدم امل�ساواة ّ فاجلوهري هو جمموعة العر�ضي يف جميع الأديان. اجلوهري عن التا ّمة .لذلك ر�أى بوجوب ف�صل ّ ّ ّ تفح�صنا جمموعة املبادئ وجدنا �أ ّنها واحدة يف جميع املبادئ والعر�ضي هو جمموعة ال�شرائع .ف�إذا ّ ّ حث النا�س على الف�ضيلة .فجميع الأديان الأديان� ،أ ّما جمموعة ال�شـرائع ،فغايتها الوحيدة هي ّ 5 2راجع ،ماجد فخري ،احلركات الفكر ّية ور ّوادها اللبنان ّيون يف ع�صر النه�ضة ،مرجع �سابق� ،ص.99 - 97
راهنية فكر �سعاده
ال ّنزعة العلمان ّية يف ع�صر ال ّنه�ضة
67
بحد ذاتها ،فما هي �إنمّ ا هي دين واحد يع ّلم بع�ض املبادى العا ّمة� ،أ ّما ال�شرائع الدين ّية فال قيمة لها ّ �إ ّال جمموعة و�سائل لغاية . وقد تن ّبه فرح �أنطون �إىل �أنّ �إقرار العدالة االجتماع ّية وال�سيا�س ّية عر�ضة خلط َرين متقابلني ،هما فرط قوي ال�سلطة ما مل �ضعف الدولة �أو فرط ق ّوتها .وكان مدركاً �أنّ ال�شرق ّيني ال يطمحون �إىل حاكم ّ ت�س ّور هذه ال�سلطة بقيود د�ستور ّية ف ّعالة ،وال �أن ت�سند ال�سلطة �إىل ّ حكام �ضعفاء و «�أن ال تلقى اجلواهر يف املزابل» فيعهد بال�سلطة �إىل من لي�س كف�ؤاً لها . �أ ّما �آفات احلكم يف ال�شرق ،فيوجزها فرح �أنطون ب�آف َتني: الأوىل مرتبطة ب�ضعف ّ احلكام و�سيطرة بطانتهم عليهم ،وبانتقال ال�سلطة يف معظم البالد ال�شرق ّية �إىل امللوك والأمراء بالوراثة. الثانية مرتبطة «بالآداب ال�سيا�س ّية واالجتماع ّية» ال�سائدة ،ويعني بالآداب االجتماع ّية املبادئ اخللق ّية والرتبو ّية ا ّلتي ت�صون الرابطة املدن ّية بني �أبناء ال�شعب ،وبالآداب ال�سيا�س ّية ويق�سمها �إىل ثالث: الأ�س�س الد�ستور ّية ا ّلتي يبني احلاكم �سلطته عليهاّ ، تقدم الأمم املنوط بالف�صل بني ال�سلطتني ويتحدث هنا عن �س ّر ّ املجال�س الت�شريع ّيةّ :الت�شريع ّية والتنفيذ ّية. تت�صدى لل�سلطة احلاكمة وت�سهر على تنفيذ القوانني واحرتامها وتدعو املعار�ضة :ا ّلتي ّ�إىل الإ�صالح وتعمل على حتقيقه. تتلخ�ص يف ن�شر ما يفيد ال�شعب ويرفع وحدد وظائفها باثنتني :اجتماع ّية ّ ال�صحافةّ :تتلخ�ص يف �إطالع اجلمهور على �أعمال احلكومة ح ّتى م�ستواه االجتماعي .و�سيا�س ّية ّ ّ يتبينّ له خط�ؤها من �صوابها . 53
54
55
يف ّ تقدم تكمن نظر ّية فرح �أنطون يف الدولة ،كما وردت يف كتاب «ابن ر�شد وفل�سفته» كل ما ّ حممد عبده ،ا ّلتي �أحلقت ن�صو�صها يف الكتاب ،وهي تقوم على احل ّر ّية ويف مناظرته مع الإمام ّ توخي ال�سعادة يف الدنيا والق ّوة الوطن ّية وال�سلم بني الأمم .هذه الدولة ا ّلتي ال وامل�ساواة ،وعلى ّ ميكن �أن تتحقّق �إ ّال �إذا كانت ال�سلطة العلمان ّية م�ستق ّلة عن �سلطة �أخرى. 5 3راجع� ،ألربت حوراين ،الفكر العربي يف ع�صر النه�ضة ،مرجع �سابق� ،ص.305 5 4راجع ،ماجد فخري ،احلركات الفكر ّية ور ّوادها اللبنان ّيون يف ع�صر النه�ضة ،مرجع �سابق� ،ص.100 55راجع ،املرجع ال�سابق� ،ص.102 - 101 عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
68 « -2الدين والعلم واملال» و «�أور�شليم اجلديدة»
ال�شرقيّ ، كل �إمكانات مل يتوقّف فرح �أنطون عن �صياغة �أحالمه بدولة مدن ّية يحقّق فيها املجتمع ّ الق�صة حممد عبده ،وجد يف ّ الإن�سان ّية اجلديدة ا ّلتي تط ّلع �إليها ،ولك ّنه بعد مناظرته مع الإمام ّ الرمز ّية و�سيلة للتج�سيد الف ّن ّي للأطروحات النظر ّية يف كتاب «ابن ر�شد وفل�سفته» ومتثي ًال لها. ف�أ�صدر رواي َتيه «الدين والعلم واملال» (متوز )1903و «�أور�شليم اجلديدة» (�شباط .)1904 وي ّربر هذا التح ّول بقوله �إنّ ّفن الرواية منرب ين�شر منه الكاتب �آراءه �أفكاره بطريقة تبلغها �إىل �أذهان الفن مرتبط بالدولة املدن ّية يف ن�ش�أته وازدهاره ،ف�إنّ الق ّراء ب�سهولة ،ولأنّ املفهوم احلديث لهذا ّ �ضروري الزم ،فهو حاجة من حاجات ا�ستخدامه يف الدفاع عن وجودها الواعد يف ال�شرق �أمر ّ الكاتب اجلديدة يف عامله املتغي . رواية «الدين والعلم واملال» دفاع جميد عن الدولة املدن ّية ،وعن قيمة الت�ساهل (الت�سامح) ا ّلتي يتحدث فرح �أنطون يف الرواية حديثاً رمز ّياً عن التنازع القائم بني مدن العلم التقدمّ . هي �أ�سا�س ّ أهم ّية الت�سامح ا ّلذي افتقدته هذه املدن ،و�أ ّدى ال�صراع بينها �إىل تفاقم والدين واملال الثالثة ،و� ّ «الع�صب ّية» (نقي�ضة الت�سامح) الأمر ا ّلذي �أ ّدى �إىل تدمري املدن الثالث تدمرياً كام ًال . ين يف «يوتوبيا �أ ّما رواية «�أور�شليم اجلديدة» فكانت رمزاً للعهد الآتي بالدولة املدن ّية واملجتمع املد ّ أر�ضي للإن�سان ّية اجلديدة» ا ّلتي يحلم بها .فـ «�إنّ �أ�صالح الأر�ض فرح �أنطون» �أو «الفردو�س ال ّ م�س�ألة علم ّية ال م�س�ألة دين ّية ،و�إنّ �أور�شليم القدمية يجب �أن تف�سح املجال لأور�شليم اجلديدة» . 56
57
58
57 58 56
راجع ،جابر ع�صفور ،هوام�ش على دفرت التنوير ،مرجع �سابق� ،ص.240 راجع ،جابر ع�صفور ،املرجع ال�سابق� ،ص.241 جابر ع�صفور ،املرجع ال�سابق� ،ص.244
ال ّنزعة العلمان ّية يف ع�صر ال ّنه�ضة
راهنية فكر �سعاده
69
اخلامتة
ه�ؤالء ّ املفكرون ،وغريهم ،مل يطالبوا مببد�أ العلمان ّية القا�ضي بف�صل ال�سلطة الدين ّية عن ال�سلطة رقي لهذه البالد �إ ّال با�ستئ�صال املدن ّية� ،إ ّال بعد �أن �أيقنوا ب�أن ال حياة وال نه�ضة وال ّ تقدم وال ّ والتع�صب الدين َّيني من جذور �أفكار وعقائد وتقاليد هذه الأمم ال�شرق ّية .وب�إحالل مبادئ التخ ّلف ّ امل�ساواة والعدل بني �أبناء هذه ال�شعوب. لقد ت�أثّر �شبلي ال�شم ّيل بنظر ّية داروين وتب ّناها ،و�آمن بالعقيدة اال�شرتاك ّية ا ّلتي ر�أى فيها ّ احلل والتع�صب والتبع ّية ،ور�أى بوجوب الأن�سب بل الأوحد ل�شفاء هذا ال�شرق من �أمرا�ض التخ ّلف ّ تعجيل خطا اال�شرتاك ّية و�إحالل الوطن ّية العامل ّية ونف�ض الغبار القدمي .بينما دعا ّ كل من خليل الديني ،لأنّ من �ش�أن ذلك القومي التع�صب والوطني بد ًال من ّ �سعادة وفرح �أنطون �إىل ّ التع�صب ّ ّ ّ �إر�ساء مفهوم املواطن ّية لدى النا�س ،وتوحيد �أفكارهم و�آرائهم من �أجل النهو�ض ب�أوطانهم. هذه الأفكار جاء بها ه�ؤالء منذ قرن خال تقريباً ،وال�س�ؤال ا ّلذي يطرح نف�سه هنا� ،أين �أ�صبحت تلك الأفكار ،ا ّلتي �ساهمت منذ �أكرث من قرن يف نه�ضة �أوروبا مث ًال؟ وهل ا�ستطاعت بالدنا النهو�ض فع ًال؟ وعليه ،هل ح ّقاً ميكننا اعتبار ذلك الع�صر ع�صر نه�ض ٍة ونحن نرى بالدنا يف القرن احلادي والع�شرين ال تزال تتخ ّبط يف ع�صب ّياتها الطائف ّية واملذهب ّية والع�شائرية واملناطقية ...ونرى ي�سمى بربيعها يحمل لواءه َحـ َملة رايات التخ ّلف والتكفري والتبعية... ما ّ
عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
70 امل�صادر
� -1أنطون ،فرح ،ابن ر�شد وفل�سفته ،دار الطليعة ،بريوت ،لبنان� ،آذار (مار�س)، ي�ضم معظم مقاالت الدكتور خليل �سعادة التي ن�شرت -2كتاب الرابطة( ،تقدمي نواف حردانّ ، يف جم ّل َتي «الرابطة» و»املج ّلة» وبع�ض ما قيل فيه)� ،سان باولو1971 ، -3ال�شم ّيل� ،شبلي ،فل�سفة الن�شوء واالرتقاء ،دار مارون ع ّبود ،طبعة جديدة1983 ، 1981
املراجع
- 1 -2 -3
- 4 -5 -6 -7 -8 -9
حم ّية ،علي ،خليل �سعادة �سريته و�أعماله ،دار الفرات ،بريوت، العربي يف ع�صر النه�ضة ،ترجمة كرمي عزقول ،دار النهار للن�شـر، حوراين� ،ألربت ،الفكر ّ بريوت ،الطبعة الثالثة 1977 داية ،جان« ،علمان ّيو بالد ال�شام امل�سلمون يف ع�صر ال ّنه�ضة» ،يف جريدة حت ّوالت ،العدد الرابع والع�شرون ،ال�سبت 14متّوز 2007 �شرابي ،ه�شام ،املث ّقفون العرب والغرب ،دار النهار للن�شر ،بريوت1971، العربي1993 ، ع�صفور ،جابر ،هوام�ش على دفرت التنوير ،املركز الثقا ّيف ّ فخري ،ماجد ،احلركات الفكر ّية ور ّوادها اللبنان ّيون يف ع�صر النه�ضة ،دار النهـار للن�شـر ،بيـروت1992 ، حممد)« ،العلمان ّية التاريخ والفكرة» ،موقع �صيد الفوائد الإلكرتوين القرين ،عو�ض( ،بن ّ ()saaid.net إلكرتوين حممد« ،مذاهب فكر ّية معا�صرة (العلمان ّية)» ،موقع �صيد الفوائد ال ّ قطبّ ، ()saaid.net املحافظة ،علي ،جّ االتاهات الفكر ّية عند العرب يف ع�صر النه�ضة ،الأهلـ ّية للن�شـر والتوزيـع ،بريوت1975 ، 2007
71
راهنية فكر �سعاده
قراءة يف رواية «�أر�ض و�سماء» ل�سحر خليفة: املتخيل والتاريخي �أنطون �سعاده بني َّ | فاتن املر | باحثة و�أ�ستاذة جامعية
يف رواية «�أر�ض و�سماء» تختم �سحر خليفة ثالثيتها بعد روايتي «�أ�صل وف�صل» و«حبي الأول»، كما تختتم بحثها عن ما�ض يجيب على �أ�سئلة ت�ؤرقها حول الأ�سباب التي �أدت �إىل �ضياع فل�سطني و�إىل الفو�ضى التي ت�ضرب اليوم املفاهيم والقيم وتعيث خراباً وانق�ساماً يف املجتمع .ف�سحر خليفة التي واكبت يف رواياتها ال�سابقة حياة الفل�سطينيني حتت االحتالل ،ن�ضالهم والأزمات التي يعي�شونها� ،آثرت ،يف هذه الثالثية �أن ترجع �إىل الأ�صل� ،أن تنظر �إىل امل�سببات التي �أدت �إىل هذا احلا�ضر امل�أزوم� ،أن تلج�أ �إىل التاريخ باحثة عن وجوه رجال قادوا ثورات ورهنوا حياتهم للن�ضال يف �سبيل حترير الوطن ورقيه ،ولكنهم كانوا �ضحية للجهل واالنق�سامات وامل�ؤامرات� ،ضحية ملتزعمني يخافون على منا�صبهم ومكا�سبهم �أكرث من خوفهم على الوطن ،فريف�ضون �أن ميدوا يد العون له�ؤالء املنا�ضلني الذين يقودون ثورات حمكومة بالف�شل ،ال يتوخون منها �إال وقفات العز واملثال الذي قد تقدمه للأجيال الآتية� ...أ�سباب داخلية و�أخرى خارجية ل�شعب ال يراد له �أن يدرك النه�ضة وهو ال يعرف كيف ينه�ض .لذلك جل�أت �إىل النوع الأدبي الذي يخدم تلك الأهداف، �أال وهو الرواية التاريخية التي متزج بني احلدث الواقعي امل�أخوذ من الت�أريخ وبني �أحداث متخيلة، بني �شخ�صيات تاريخية عا�شت وكتب عنها امل�ؤرخون وكتاب ال�سري الذاتية و�شخ�صيات من ن�سج خيال الكاتب. يف ملتقى القاهرة للإبداع الثقايف ،عام 2008خل�صت خليفة اال�سئلة التي ت�شكل احلافز الفكري لدي �س�ؤال� .أنا املهزومة لدي �س�ؤال� .أنا املحتلة ّ الذي تن�سج حوله رواياتها بقولها« :لدينا �س�ؤالّ ، زمت؟ �أين الق ّوة ونقاط ال�ضعف؟ َمن �أنا، لدي �س�ؤال .و�س�ؤايل هو :ملاذا ُه ُ لدي �س�ؤال� .أنا امل�أزومة ّ ّ َمن همَ ،من يعرفني؟ وال�س�ؤال الأهم :هل �أعرفني؟» وت�ضيف« :هذا ما �أ�سعى لتحقيقه .لأين قبل �أن �أكون ف ّنانة� ،أنا �إن�سانة ،بنت البيئة ،واالحتالل ،والهزمية .وف ّني هذا خلدمة ذاتي ،دفاعاً عنها، أغ�ض النظر ذاتي الكربى يف جمتمعي ،لأين حمروقة من الداخل ومن اخلارج ،وال يمُ كنني �أن � ّ عن هذا الوجع و�آالمه». يف «�أر�ض و�سماء» ،يلقى القارئ ال�شخ�صيات املتخيلة التي رافقها منذ الرواية الأوىل ،فيتجدد عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
72
ارتباطه بها ك�صداقة قدمية ن�سج معها ،على مدار ال�صفحات ،عالقات وطيدة .فن�ضال مث ًال ،الراوية، عرفناها طفلة ،منذ رواية «�أ�صل وف�صل» ،تتعلق بثوب جدتها وت�ستمع �إىل حكاياتها وتنب�ؤاتها ،تنقل روايات عن املغامرات التي يعي�شها �أفراد عائلتها ،منذ اندالع ثورة عام 1936يف فل�سطني وخيار اخلال الأكرب وحيد االن�ضمام �إىل �أفواج املقاتلني �ضد االنتداب الربيطاين مع عز الدين الق�سام، ثم اخلال الثاين �أمني الذي ان�ضم �إىل اجلهاد املقد�س مع عبد القادر احل�سيني يف ال ،48ومعه ربيع، ال�شاب الذي كان حبها الأول .كانت فتاة �صغرية يف رواية «حبي الأول» ت�سرتق النظر من خلف الباب لرتى ما يجري خالل اجتماع خالها مع رفقائه ،وتذهب مع جدتها ملالقاة الثوار يف اجلبل وتن�سج ق�صة حب طفولية مع الفتى ربيع الذي يرافق الثوار .وها نحن نلقاها امر�أة �سبعينية ،وقد عادت �إىل دار العائلة يف نابل�س بعد �أن طافت بلداناً عديدة و�أ�صبحت ر�سامة م�شهورة ،ون�ستقبل ربيع الذي غدا كه ًال ي�أبى �أن يكرب ويقتات من ف�ضالت املا�ضي ،يكتب ر�سائل ن�صية لن�ضال ليخربها كم ما زال يحبها ويطلب ع�شرات املرات يدها للزواج ،فبالن�سبة �إليه قد توقف الزمن عند حدود ذكرياته الإنتقائية .ي�صبح البحث عن املا�ضي الذي يتماهى مع الفردو�س املفقود �ضرورة حيوية تعطي معنى حلياتهما .لتنفيذ هذا الغر�ض ،تعمل ال�شخ�صيات يف احلكاية على التنقيب يف الر�سائل وعلى تداول الرواية ،وتعمل الكاتبة من جهتها ،كما فعلت يف رواية حبي الأول ،على التنقل بني زمنني ،الزمن الراهن الذي يتطابق مع زمننا احلا�ضر ،واملا�ضي امل�ستعاد� ،أي عامي 1948و.1949 تغدو ا�ستعادة الزمن املفقود هي ال�شغل ال�شاغل لهاتني ال�شخ�صيتني املحا�صرتني يف منزل �آل القحطان يف نابل�س بح�صار الإ�سرائيليني الذين يفر�ضون منع التجول يف املدينة وبح�صار العمر الذي تقدم بهما دون �أن ت�صال �إىل ا�ستنتاجات وا�ضحة حول ما مر بهما وبالوطن من نك�سات. وتن�ضم �إليهما �شخ�صية ثالثة يف البحث عن املا�ضي ،الرا� ،إبنة �أمني القادمة من بريوت التي عا�شت يف فرن�سا بعيدة عن والدها ،ف�أرادت �أن تتعرف �إليه �أكرث وهو ي�شارف على املوت و�أن ت�ساعده يف كتابة مذكراته ،فجاءت �إىل بيت العائلة يف نابل�س لتبحث عن الر�سائل التي كان قد خب�أها يف القبو. كما ت�سري الرواية على وقع خطوات ال�شخ�صية التاريخية التي اختارتها لتكون املحطة النهائية لثالثيتها� :أنطون �سعاده ،م�ؤ�س�س وزعيم احلزب ال�سوري القومي االجتماعي .معه تطرح �أ�سئلتها ال�صعبة ،تواجه الإ�شكاليات ،وتن�سج ،بوا�سطة ال�سرد ،معرباً للأجيال الآتية . �سوف نبحث يف اجلزء الأول من درا�ستنا يف م�س�ألة اال�صوات الروائية وتداول الرواية ،بينما ننظر يف اجلزء الثاين يف خ�صائ�ص الرواية التاريخية وا�ستعادة املا�ضي.
راهنية فكر �سعاده
قراءة يف رواية «�أر�ض و�سماء» ل�سحر خليفة
73
�أ -الأ�صوات الروائية
يف امل�ستوى االول ،ي�أتي �صوت الراوية الأوىل ،ن�ضال القحطان ،التي تروي ما يح�صل معها يف زمن الق�ص �أي الزمن احلا�ضر ،حتكي عن عالقتها بال�شخ�صيات الأخرى ،وعن �سعيهم �إىل تدبر �أمورهم يف ظل احل�صار ،عن انقطاع املاء الذي ي�سرقه امل�ستوطنون وا�ستعادته من قبل جمموعة من ال�شباب ...وت�سرتجع ،يف رواية تكرارية بع�ض املقاطع التي �سبق وروتها يف رواية «حبي الأول»، لكي تعيد ربطها بزمن الق�ص ،ولكنها هنا رواية ملخ�صة ،تكتفي بال�ضروري من الأحداث .هي الراوية الأوىل ،تلك التي توزع دور الرواية على الرواة الآخرين ،تتوىل �إدارة الروايات املختلفة، فهي ،بحكم طبعها وجتاربها ،تدرك �أن «الأمور لي�ست حمددة ببعد واحد» ،و�أن لكل راو �إ�ضافته على املا�ضي الذي ي�سعى اجلميع �إىل �سرب �أغواره .هي ،يف زمن الق�ص ،راوية-ذاتية� ،أي �أنها تروي �أحداثاً تكون هي ال�شخ�صية الرئي�سية فيها ،ولكنها ،كما كل ال�شخ�صيات الرئي�سية يف الرواية العربية احلديثة ،موجلة بطرح الأ�سئلة ،ال بعر�ض قناعات مطلقة ،خطابها «ين�سج عالقاته البنائية ،راو �شاهد ،دوره الإيحاء �إىل جمرد م�سار� ،أو الإ�شارة �إىل جمرد راهن ،وبلورة �أ�سئلة ،حائرة �أحياناً� ،أو م�ضمرة �أحياناً �أخرى ،لكنها تطلب الت�أمل واملجادلة والبحث عن حقيقة معرفية قابلة لأن ترف�ض ، ».كما ت�صبح ن�ضال ،جمرد �شاهد يف كل ما يتعلق بزمن احلكاية� ،أي املا�ضي الذي مل تلعب فيه دوراً فاع ًال ،فن�ضال يف ذلك الزمن ،مل تكن موجودة مع خالها �أمني وربيع اللذين، بعد النكبة واخلروج من فل�سطني ،التحقا ب�أنطون �سعاده يف �ضهور ال�شوير .كانت �شابة �صغرية �أودعها خالها يف دير للراهبات يف القد�س لكي تكمل تعليمها ،كما غابت بعدها عن التطورات التي حلقت باملجتمع يف فل�سطني املحتلة ب�سبب �سفرها ودورانها بني املعار�ض وامل�ؤمترات ونوادي الفن .مل تكن يف فل�سطني وال كانت يف لبنان .تقول« :ع�شت �أجواء �أن�ستني حقيقة بلدي وعمق جذوري» .عليها �إذن ،لكي تعو�ض الغياب وتزيل الغمو�ض عن املا�ضي ،بهدف الت�صالح معه �أو �إيجاد بع�ض الإجابات على �أ�سئلتها� ،أن تلج�أ �إىل رواة ثانويني يف�صحون عن ر�ؤيتهم للحكاية وتتحول هي �إىل م�ستمعة تتلقف روايتهم. يف امل�ستوى الثاين ،رواة ثانويون بع�ضهم تنطلق حكايته من زمن الق�ص لت�سرتجع املا�ضي، و�آخرون رووا يف املا�ضي واطلعت الراوية الأوىل ،بالإ�ضافة �إىل ال�شخ�صيات التي ترافقها ،على رواياتهم من خالل ر�سائلهم املخب�أة يف قبو البيت .وجدوها يف عمود �سرير� ،أو يف فرا�ش عتيق �أو يف قعر �صندوق... الرواة الذين يروون انطالقاً من زمن الق�ص هم :يا�سمني اجلارة التي حتكي ،يف رواية ملخ�صة تكرر 1
2
3
1 2 3
�سحر خليفة�« ،أر�ض و�سماء» ،دار الآداب ،بريوت� ،2013 ،ص. مينى العيد« ،فن الرواية العربية بني خ�صو�صية احلكاية ومتيز اخلطاب» ،دار الآداب ،بريوت� 1998 ،ص124 . �سحر خليفة�« ،أر�ض و�سماء»� ،ص411 . 94
عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
74
م�شهداً يف حبي الأول ،ق�صة الولد �سعد الذي هرب من اليهود وخب�أته هي خلف اخلزانة ،الرا التي تخرب ما ح�صل لوالدها بعد غيابه عن �أهله طوال ال�سنني املا�ضية ،كاهن الكني�سة ال�سامرائية الذي يخرب عن هجوم امل�ستوطنني اليهود على الكني�سة وتنكيلهم ب�أحد كهنتها الذي رف�ض املغادرة ،و�أخرياً ربيع الذي يتقا�سم مع �أمني رواية املا�ضي ،ي�سد بع�ض الثغرات املوجودة يف ر�سائل �أمني ،يحكي وجهة نظره ليربر هروبه وتركه لن�ضال ولكل املبادئ التي بنى عليها �أحالمه ،كما يروي ب�شكل خا�ص عن ليزا ،رفيقة الثورة ،ك�أنه يريد �أن يدافع عنها يف مواجهة اتهامات الرا وحقدها .تقول ن�ضال يف عبارة تظهر فيها م�سوغات تداول الرواية« :يف امل�ساء ،حكى يل ربيع ق�صة ليزا وما ر�آه ب�أم عينيه». �أما الأ�صوات الروائية الآتية من املا�ضي فهي �أو ًال �صوت �أمني الذي يحكي يف ر�سائله التنازع الذي يعي�شه من جراء حبه لليزا التي ال تبادله امل�شاعر بل تكن حباً جمنونا لأنطون �سعاده و�شعوره بالغرية جتاه زعيم احلزب الذي انتمى �إليه والذي يكن له يف نف�س الوقت م�شاعر الإعجاب والتقدير .يكتب« :العقل بواد والقلب بواد و�أنا كورقة معلقة على غ�صن خريفي نا�شف والربد �شديد» . ليزا �أي�ضاً راوية ثانوية ،ي�أتي �صوتها من املا�ضي عرب ر�سائلها �إىل ربيع �صديقها ،ر�سائل ت�شرح له فيها عمق النزاع الذي تعي�شه هي الأخرى بني �إعجابها ب�سعاده وتقديرها لزوجته جولييت وم�شاعر الغرية التي تنه�شها ،ف�سعاده الذي تخطى ق�صة حبهما القدمية بعد �أن رف�ضت �أن تكون �إىل جانبه يف رحالته كما يف ن�ضاله ،تزوج يف املغرتب وعاد مع زوجته وبناته �إىل الوطن ليعمل على بناء حزبه و�أدركت ليزا �أنها ما زالت حتبه وراحت جتري املقارنات بينها وبني زوجته ،فتكرهها حيناً وتعجب بها �أحياناً. هكذا تعمل روايتا ليزا و�أمني على �أن�سنة �سعاده ،ال�شخ�صية التاريخية الرئي�سية يف الرواية� ،إذ تظهران �صورته لي�س من خالل لوحة تاريخية جامدة بل عرب ق�ص�ص احلب والغرية التي تركز على اجلانب الإن�ساين منه وجتعله �أقرب �إىل القارئ. �أما �سعاده ،فيغدو هو الآخر راوياً ثانوياً حني يروي ،خالل ق�صة احلب التي جمعته بليزا ،ما يح�صل معه يف ر�سائل �إىل ليزا� ،أودعتها هذه الأخرية لدى ربيع. ولكن الرواة الثانويني ال يتفردون بدورهم يف الرواية ،وقد مينحون التداول �إىل رواة من امل�ستوى الثالث ليخربوا �أحداثاً غابوا هم عنها �أو ليرتكوا لهم �أن يبدوا وجهة نظرهم يف احلكاية .فق�صة �إعدام �سعاده يرويها الكاهن الذي عرفه ورافقه يف اللحظات الأخرية لأمني وربيع اللذين يرويانها لن�ضال ،وليزا قد تتحول راوية من امل�ستوى الثالث حني حتكي ق�صتها لربيع الذي يحكي بدوره الق�صة لن�ضال. 4
5
4 5
�سحر خليفة�« ،أر�ض و�سماء»� ،ص. �سحر خليفة�« ،أر�ض و�سماء»� ،ص.
61 150
راهنية فكر �سعاده
قراءة يف رواية «�أر�ض و�سماء» ل�سحر خليفة
75
م�ستوى خا�ص تتبو�أه جولييت املري �سعاده التي تروي حياتها يف املغرتب الق�سري مع �سعاده �إىل ليزا التي تنقل هذه احلكاية �إىل ربيع الذي يخربها �إىل ن�ضال ،فهي �إذاً راوية من امل�ستوى الرابع وهو م�ستوى يندر �أن جنده يف الرواية وفق جريار جونيت. يف احلكاية ا�ستعادة للما�ضي ويف ا�ستعادة املا�ضي مزيج من الفرح والأمل ،فرح ا�ستذكار �أيام ال�صبا التي حملت �آما ًال كباراً وم�شاعر حب ترفع ال�شخ�صيات فوق �صعوبات الواقع ،و�أمل �إدراك التناق�ض احلا�صل بني الزمنني ،بني املا�ضي املبارك واحلا�ضر امل�أزوم .تقول ن�ضال وهي ت�ستمع �إىل ربيع« :حني يحكي �أن�سى مر�ضه و�أعود �صبية تتلهف على كلمة حب قد تن�سيني نكبة بلدي وفراق الأهل؟» ي�صبح فعل الق�ص و�سيلة لتملك ما�ض يهرب من ال�شخ�صيات ،و�سيلة لإدراك التاريخ وعربه �إدراك الذات ،بالإ�ضافة �إىل كون التداول الروائي مينح الق�صة �شرعية وم�صداقية ،بالأخ�ص حني تلج�أ الكاتبة �إىل �أ�سلوب افتتحته مع رواية «�أ�صل وف�صل» وهو �أ�سلوب التوثيق الذي ي�شكل ج�سر عبور بني الرواية والتاريخ. 6
ب -الزمن امل�ستعاد
متزج الرواية التاريخية بني الأحداث املتخيلة والأحداث احلقيقية ،بني �شخ�صيات متخيلة و�أخرى تاريخية .وغالباً ما حتتل ال�شخ�صيات املتخيلة ال�صف الأول ،بينما تكون ال�شخ�صيات التاريخية �شخ�صيات ثانوية .يف رواية «�أر�ض و�سماء» ،ال�شخ�صيات املتخيلة الرئي�سية هي ن�ضال وربيع و�أمني والرا و�سعد ويا�سمني� ،أما ليزا ،فهي �أي�ضاً �شخ�صية متخيلة ن�سجتها الكاتبة منذ رواية «حبي الأول» ولكنها ا�ستعارت لها بع�ض الر�سائل من تلك التي �أر�سلها �سعاده �إىل �إدفيك جريديني �شيبوب يف الفرتة التي �شهدت ق�صة حبهما قبل رحيله �إىل املغرتب .ال�شخ�صية التاريخية الرئي�سية هي �شخ�صية �أنطون �سعاده ،وهناك �شخ�صيات تاريخية تلعب دوراً �أقل �أهمية كجولييت املري �سعاده وح�سني الزعيم ،بالإ�ضافة �إىل بع�ض ال�شخ�صيات احلقيقية التي تعرب الرواية ب�سرعة ،دون �أن يكون لها ت�أثري يذكر يف احلكاية . �إن وجود �أنطون �سعاده يف الرواية هو تكملة لرحلة البحث التي بد�أتها الكاتبة مع «�أ�صل وف�صل» عن قادة تاريخيني خا�ضوا املعارك يف �سبيل الذود عن الوطن وحملوا يف نف�سهم نقاء القادة احلقيقيني ،كما هو ا�ستكمال ال�ستق�صائها حول خطة نخ�شون -اخلطة حملت ا�سم نخ�شون وهو �أول جندي يهودي و�صل �إىل فل�سطني -التي تق�ضي بالق�ضاء على القادة العرب يف �سبيل �سحق مقاومة ال�شعب .يف رواية «حبي الأول» يكتب �أمني بعد معركة الق�سطل« :ذهب القائد فتيتمنا». 6
�سحر خليفة�« ،أر�ض و�سماء»� ،ص.
13
عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
76
بعد النكبة ،بحث ربيع عن �سبيل جديد لتحرير فل�سطني ،فرافق �أمني� ،شقيق رفيقه ومربيه وحيد الذي ا�ست�شهد يف الق�سطل مع احل�سيني� ،إىل لبنان لاللتحاق ب�صفوف احلزب ال�سوري القومي االجتماعي لذي كان �أمني ع�ضواً فيه .ف�سعاده الذي ،كما تقول الرواية ،كان �أول من حذر من اخلطر املحدق بفل�سطني« .حني كتب عن فل�سطني يف �سان باولو� ،سبق من كانوا يف قلب القد�س». �سعاده كان �سبيلهما للعودة �إىل الكفاح يف �سبيل ا�ستعادة �أر�ضهم امل�سلوبة. وظيفة �أمني الأوىل تتجلى يف ربط التجربة التي يعي�شونها مع �سعاده بالتجربة التي عا�شوها مع احل�سيني للو�صول �إىل ا�ستنتاجات حول �أ�سباب اخل�سارة ،فتجري روايته على وقع اال�سرتجاع. هذه التقنية تعود ب�أمني �إىل زمن الق�سطل وموت القائد هناك ،كما يح�صل حني ي�سمع �سعاده وهو يتناق�ش مع امل�س�ؤولني يف حزبه الذين ،وفق �أمني ،ال يقدرون تعقيدات الواقع ،بل ينجرون وراء �أحالمهم ،وهذا ما يعيده �إىل �أ�سباب ف�شل ثورة احل�سيني .قد ينطلق اال�سرتجاع من رائحة ،تعيد �إليه الزمن املفقود ،كما يف جتربة «املادلني» ملار�سيل برو�ست�« .سماء بريوت تت�ضوع برائحة البحر وزهر الربتقال وكعك ب�سم�سم .رائحة بريوت تخدرين وتذكرين ب�شاطئ يافا وحواري القد�س. بريوت �أدف�أ من القد�س لأنها متتد على ال�ساحل و�ضفاف البحر ».ووفق توارد اخلواطر ،يعود �أمني �إىل م�شهد قائد القوات جي�ش الإنقاذ وهو ي�س�أل احل�سيني �إن كانت القد�س لي�ست مدينة �ساحلية ،فلماذا يولونها كل هذا االهتمام ،ويرف�ض مدهم بال�سالح لكي يدافعوا عن تلك املدينة التي تبدو لهم �أقل �أهمية من يافا .تظهر تقنية اال�سرتجاع ب�شكل مكثف يف ذكريات �أمني بحيث لن نح�صيها كلها يف درا�ستنا هذه ،لذلك �سنكتفي ب�إ�ضافة مثال �أخري على ما �أوردناه وهو ربطه خيانة ح�سني الزعيم لأنطون �سعاده بخيانة الزعماء العرب للح�سيني وا�ستنتاج العنا�صر امل�شرتكة بني التجربتني �أعني بذلك اخليانة يف مواجهة ال�صدق ،التكتيك يف مواجهة الأحالم واحلنكة يف موجهة املناقب وعزة النف�س ،القوة الفعلية يف مواجهة �أنا�س م�ؤمنني مل ي�سمح لهم باقتناء ال�سالح الفعال .ويخل�ص �أمني �إىل القول �إن �سعاده ،كما �أبو كمال ،كما احل�سيني ،كان يعرف م�صريه ولكنه اختار طريقه .ي�ضيف« :كلهم ا�ستجاروا بالعروبة وخذلتهم .مال و�سالح يف املخازن ونحن نقاتل بلحم الأج�ساد والأظافر .هكذا اجتهد احل�سيني يف ذلك الوقت ،كما اجتهدنا و�سعاده .هذا ما كان ».ربيع �أي�ضاً يلج�أ �إىل اال�سرتجاع يف روايته ليربر هروبه �إىل كندا يف ال�ساعات الأخرية من الثورة ،فهو مل ي�ستطع حتمل فكرة تكرار التجارب املريرة وف�شل الثورة وموت القائد« :تراءت يل �صورة �سعاده خلف الق�ضبان ،ورمبا تعذيبه و�إعدامه .وتذكرت الق�سطل وفجيعتنا ،و�سقوط 7
8
9
10
� 7سحر خليفة�« ،أر�ض و�سماء»� ،،ص. 8املادلني كعكة تذوقها مرة الكاتب الفرن�سي مار�سيل برو�ست مغم�سة بالزهورات ،ف�أعاده طعمها �إىل زمن طفولته حني كان ي�أكلها مع الزهورات وهو يف �ضيافة قريبة له ،ومن هذا الطعم انطلق نحو ا�ستذكار املا�ضي. �سحر خليفة�« ،أر�ض و�سماء»� ،ص234 . 9 � 1 0سحر خليفة�« ،أر�ض و�سماء»� ،ص287 . 117
راهنية فكر �سعاده
قراءة يف رواية «�أر�ض و�سماء» ل�سحر خليفة
77
الق�سطل ثانية ،ثم دير يا�سني وكل القرى يف حميط القد�س ،وما تال ذلك من فجائع وهزائم». وقد تلج�أ الكاتبة �أي�ضاً �إىل تقنية اال�ستباق التي ت�شري �إىل راو عليم يفتح �سبي ًال ملعرفة م�ستقبل الأحداث ،ثم يعود بعدها �إىل حيث انقطع حبل الرواية فبينما يروي �أمني م�شهد الأول من �آذار واخلطاب الذي طلب منه �سعاده �أن يلقيه يف املنا�سبة ،ينطلق بنا نحو م�ستقبل يعرفه هو كراو عليم يحيط باحلكاية بكاملها ويجهله القارئ وال�شخ�صيات يف تلك املرحلة من الرواية ،انطالقاً من و�صفه للتعابري التي ارت�سمت على وجه �سعاده ،في�شري �إىل تفوقه املعريف على ال�شخ�صيات قائ ًال: «ما كان يعرف ما كان ينتظر ذاك الآذار� ،آخر �آذار ،له ولنا ولكل الرفاق .من منهم عا�ش ومن منهم مات ،من منهم بقي لأحزانه ووخز �ضمريه ،من منهم هرب �إىل اخلارج »...ويعود بعدها الراوي �إىل املكان الذي انقطع فيه حبل الرواية ،وينزل عن املنرب ويتلقى التهنئة من �سعاده .ون�سمع من ربيع رواية عن م�شاهدته لرجل غريب بزي ال�ضباط ال�سوريني يزور ح�سني الزعيم ب�شكل �سري وت�سا�ؤله عن هذا الرجل .وبوا�سطة اال�ستباق ،ي�أخذنا �إىل فرتة زمنية م�ستقبلية يكون خاللها يف كندا ويتعرف على الرجل من خالل �صورة له عل غالف �صحيفة التاميز ،ف�إذا هو مو�شي �شاريت، وزير خارجية �إ�سرائيل. يف رواية �سحر خليفة لي�س التاريخ جمرد خلفية للوحة تظهر يف مقدمتها ال�شخ�صيات املتخيلة التي تتفاعل مع احلدث ،بل يتحول التاريخ �إىل حمور للحكاية وللق�صة ،كما للتفكري .تدور حياة ال�شخ�صيات ووظائفهم حول ا�ستعادة التاريخ بوا�سطة الق�صة ال�ستخال�ص العرب اي�صالها �إىل الأجيال الآتية التي حتمل الأمل الهارب من املا�ضي والذي غاب عن احلا�ضر املحا�صر بالأزمات. 11
12
ج -الزمن الدائري
حني ال يتعلم املجتمع من �أخطائه ،يعيد التاريخ نف�سه حام ًال نف�س املعاناة ونف�س الف�شل ،ولعل �أف�ضل ما يدل على امل�سار الدائري للزمن الأغنية التي اختارتها ن�ضال لتكون رنة لهاتفها اجلوال: «نلف بدواير والدنيا بتلف بينا ،ودامياً ننتهي ملطرح ما ابتدينا »...لكن تلك الدوائر ال حتا�صر �إال من ا�ست�سلم لدورانها العقيم ،بينما يجد البع�ض له منفذاً �إىل خارجها .هذا البع�ض هو بالدرجة الأوىل اجليل اجلديد ،املنفتح على املا�ضي دون �أن يتبنى بال�ضرورة كل خيارات من �سبقوه ،فالفتى �سعد مث ًال ،الذي يختار مواجهة املحتل ،يرف�ض عر�ضاً لل�سفر �إىل كندا ليكمل تعليمه ،خمالفاً مثال ربيع الذي هجر من يحب وانقلب على ما �آمن به ورحل .ولعل يف موقفه من �أزمة انقطاع املاء داللة وا�ضحة على تبنيه خليار ال�صراع. � 1 1سحر خليفة�« ،أر�ض و�سماء»� ،ص. � 1 2سحر خليفة�« ،أر�ض و�سماء»� ،ص.
291 123
عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
78
تتجلى يف احلا�ضر �أزمة انقطاع املاء من نابل�س التي كانت يف ما م�ضى تعوم فوق «بحرية من املاء العذب يكاد لغزارته يتفجر مبجرد احلفر عدة �أقدام» .حني ي�سرق امل�ستوطنون املاء ،يتعر�ضون له لي�س فقط كم�صدر للحياة بل كرمز للطهارة� ،إذ عندما يعود الفل�سطينيون لي�شرتوه منهم، ير�سلونه مليئاً بالأو�ساخ ،مثرياً للقرف .كما الأر�ض التي اغت�صبها الإ�سرائيليون والتي ي�ساوم البع�ض اليوم ويعقد ال�صفقات لي�ستجدي جزءاً �ضئي ًال منها� .إن انقطاع املاء يف الزمن الراهن هو من نتائج الأخطاء التي ارتكبتها الأجيال املا�ضية والتي �أدت �إىل �ضياع املاء والأر�ض ،ولكن ا�سرتدادها من قبل جمموعة من ال�شباب الفل�سطينيني الذين ال يتوانون عن تفجري امل�ضخات والأنابيب التي تنقلها �إىل الإ�سرائيليني دليل على �أن اخلال�ص منوط بهذه الأجيال التي تودعها الكاتبة كل �آمال جيلها املتعب من الأخطاء والهزائم .عط�ش �أهل املدينة هدد حياتهم ،فما كان رد فعلهم؟ «كبارنا تبلدوا وا�ستكانوا وتكل�سوا مبرور الوقت ،لكن ال�شباب هبوا فج�أة ،وقاموا بعملية نوعية ،ون�سفوا م�ضخات و�أنابيب م�ستوطنة كريات �شالوم ».الرا �شخ�صية تنتمي �أي�ضاً �إىل هذا اجليل اجلديد ،تطرح الأ�سئلة ،تفكر ،تقارن بني املا�ضي واحلا�ضر وت�أخذ خياراتها بحرية ووعي. كذلك �أوالد ليزا الذين �أكملوا الن�ضال ،ولكن على طريقتهم ،طريقة قد ال يفهمها �أهلهم� .سعاده، ال�شخ�صية التاريخية يف الرواية ،راهن على الأجيال الآتية ،لذلك كان م�صراً ،قبل �أن ينفذ فيه حكم الإعدام� ،أن يحمل �أمني خال�صة جتربته وو�صيته« :قال �إن احلرب مد وجزر ،وما هي �إال املحاولة الأوىل ،ومنها ن�ستفيد ونتعلم ،هي الثورة القومية الأوىل و�ستتلوها العديد من الثورات� ،إن مل نكن نحن من يقوم بها ،ف�آخرون يتعلمون من جتربتنا ويتفادون �أخطاءنا ويقطفون الثمار� .إن مل يكن جيلنا� ،أجيال �أخرى �ستقطفها ».تقدم الرواية على ل�سان جولييت املري مثا ًال ي�ضفي معنى على تداول الر�سالة من جيل �إىل جيل ،وهو مثال طيور البطريق التي� ،إذا ما �شعرت باخلطر ،تر�سل ا�ست�شهاديني ي�ضحون ب�أنف�سهم يف �سبيل املحافظة على حياة فراخها .ويف خامتة الرواية ،يبدو م�شهد يجمع الأجيال ،وهو م�شهد تخرج الرا يف اجلامعة الأمريكية يف بريوت ،حني يعود الزمن بربيع ون�ضال �إىل �أيام �شبابهما عرب امل�شاركة يف الغناء« .لكن الغد �صار فيهم ،يف هذا ال�شباب على امل�سرح ،والن�شيد البديع ،وغناء اجلمهور مع الكور�س». ال�صفة امل�شرتكة بني �أبناء هذا اجليل وبني جميع من جنحوا يف التخل�ص من الدائرة هو قهرهم للخوف .فالعدو ال ميكن �أن ينت�صر �إال عرب بث اخلوف يف النفو�س .تلك كانت �سيا�سته منذ الفظائع التي ارتكبتها الع�صابات اليهودية يف ال 48وجمزرة دير يا�سني واملجازر الأخرى .ولكن املرء ،حني يتغلب على �شعور اخلوف من املوت يتجاوز كل ما ميكن �أن يعيق م�ساره نحو الغر�ض 13
14
15
16
1 4 1 5 1 6 13
�سحر خليفة�« ،أر�ض و�سماء»� ،ص. �سحر خليفة�« ،أر�ض و�سماء»� ،ص227 . �سحر خليفة�« ،أر�ض و�سماء»� ،ص290 . �سحر خليفة�« ،أر�ض و�سماء»� ،ص487 . 55
راهنية فكر �سعاده
قراءة يف رواية «�أر�ض و�سماء» ل�سحر خليفة
79
الذي ي�سعى �إليه� .سعاده واجه املوت دون خوف .ما �أذهل �أمني الذي كان يكلمه عرب جدار ال�سجن �أنه ا�ستطاع �أن يغفو وهو مدرك حلكم الإعدام الذي اتخذ بحقه قبل حماكمته ،كما ظهر تغلبه على اخلوف يف رواية الكاهن الذي رافقه يف اللحظات الأخرية قبل �إعدامه� ،إذ طلب �إزالة احل�صى من حتت قدميه و�شكر اجلندي الذي قام بذلك. من جهته ،ال يخ�شى كاهن كني�سة بئر ال�سامرية امل�ستوطنني الذين يحاولون دفعه �إىل الرحيل عرب ال�سعي �إىل بث الرعب يف قلبه ب�أعمالهم العدوانية وعنفهم املدرو�س .يقول عنه راعي العهدة �إنه يعرف �أنه �سيموت وقد ا�ستعد لذلك فبنى قربه« ،هو بانتظار �ساعة دفنه»� .أية قوة ميكن �أن تنت�صر على �إن�سان تخطى خوف املوت؟ فبدل �أن يكون اخلوف عائقاً ،ي�صبح تخطيه قوة م�ساعدة للخروج من متاهة الأخطاء والف�شل ،ولكن ،بالإ�ضافة �إىل القوة املعنوية ،يحتاج الثوار �إىل القوة الفعلية، فهي ،كما قال �سعاده« ،القول الف�صل يف �إثبات احلق القومي �أو �إنكاره ».يقابل هذا القول يف رواية «�أ�صل وف�صل» عبارة لعز الدين الق�سام « :كيف نقاوم؟ باملظاهرات؟ بامل�ؤمترات؟ بالعرائ�ض؟ ال �أرى �إال ال�سالح طريقاً ينفعنا ».وت�سوق الرواية ،يف زمن الق�ص ،م�شهداً يثبت بطالن فعالية احللول ال�سلمية مع العدو� ،إذ يقرتح امللحق الثقايف الكندي على ن�ضال والرا والكاهن �أن يزوروا الراباي الأعظم الذي يتعاىل على ال�ش�ؤون ال�سيا�سية والع�سكرية للطلب منه بالتو�سط لدى م�ستعمرة كريات �شالوم للو�صول �إىل حلول �سلمية مل�س�ألة �سرقة املاء� .أمام الراباي يتكلم امللحق عن الفالحني الفل�سطينيني الب�سطاء الذين ال هم لهم �إال عي�ش ب�سيط خال من امل�شاكل ،فيجيبه الراباي �أن ه�ؤالء ال حق لهم �أ�ص ًال يف الأر�ض التي يعي�شون عليها و�أنهم لي�سوا �إال بدواً رح ًال ولي�س عليهم �إال الرحيل .خالل الزيارة تظاهرت ن�ضال والرا �أنهما �أجانب ،لذلك ي�شعر الراباي بحرية الإف�صاح عن �أفكاره وي�صفهم ب�أنهم حيوانات يجب تنظيف البيت اليهودي منهم .القوة هي التي تتحكم بالعالقات بني ال�شعوب ال املنطق ،كما �أخربنا ال فونتني يف ق�صيدته حول الذئب واحلمل. القوة النف�سية يجب �أن تقرتن بقوة فعلية تفر�ض منطقها على ال�صراع ،ولكن الكاتبة ال تن�سى املقاومة الفكرية التي تق�ضي بالدرجة الأوىل مبتابعة امل�ؤامرة الإ�سرائيلية التي تعمل على ت�شويه التاريخ الفل�سطيني ،لأن زج تاريخ لليهود يف منطقتنا يربر ا�ستيالءهم على الأر�ض .الكاهن يف الكني�سة ال�سامرائية حذر من هذا اخلطر وا�ستخف باجلهود التي يدعي القادة ال�سيا�سيون �أنهم يبذلونها، عاقدين ال�صفقات واملعاهدات ،وهم غافلون عن اخلطر احلقيقي املتمثل يف تزوير التاريخ .قال�« :إننا كنعانيون ،يعني اجلذور والأ�صل لهذه البالد املنكوبة ،فكيف ن�سمح للعربانيني مب�سخ تاريخنا وادعاء �أنهم كانوا الأقدم؟» و�أخربهم كيف يهدمون البيوت القدمية واملعابد وي�أخذون حجارتها ويعيدون بناءها من جديد ليدعوا �أنها بقايا ح�ضارتهم .ويف م�شهد الزيارة �إىل مدر�سة الراباي الأكرب يتجلى 17
18
� 1 7سحر خليفة�« ،أ�صل وف�صل» ،دار الآداب ،بريوت� ،ص. � 1 8سحر خليفة�« ،أر�ض و�سماء»� ،ص326.
227
عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
80
دليل على قوله هذا� ،إذ يدعي الراباي �أن املدر�سة كانت كني�ساً يهودياً يف الزمن الغابر ويكت�شف الكاهن كتابة بالأحرف الكنعانية على �أحد احلجارة التي بنيت منها املدر�سة. �إن ت�شويه التاريخ والعمل على حمو الذاكرة هما من الأهداف الرئي�سية للحرب التي ي�شنها العدو على �شعبنا .يعاونه يف ذلك بع�ض القادة الغارقني يف امل�صالح ال�ضيقة وال�شعب الغارق يف ال�صعوبات اليومية واملعي�شية التي وجدت خ�صي�صاً لإلهائه عن ال�سعي وراء ما يجب �أن يكون هدفه الأول� ،أال وهو الدفاع عن تاريخه والعمل على ا�ستعادة املا�ضي املهدد. «يف وجع اليوم ،تن�سى التاريخ ومن راحوا وتركز ب�شكل كابو�سي ومعقد على ما تراه �أمام عينيك والوجع املتجدد يف قلبك .رمبا لهذا مل نتعلم من درو�س الأم�س .رمبا لهذا تاه كثريون ممن رحلوا واختب�أوا عنا يف ظالل اليوم .ورمبا ،بل الأكيد� ،أن عدد الباحثني قل ونق�ص ،وطريقتنا يف البحث �صارت �أفرت». لهذه الأ�ساب كان الغر�ض الأول ل�سحر خليفة يف ثالثيتها هو عك�س امل�سار امل�ؤدي �إىل فقدان الذاكرة وبالتايل فقدان الهوية .طريقتها بالبحث مل تفقد حرارتها واميانها مل ي�صبح «�أفرت» .اكت�شفت يف ال�سبيل الذي �سلكته �شخ�صيتها التاريخية� ،أنطون �سعاده ،منفذاً من الدائرة املفرغة التي غرق فيها �أبطال روايتها كما غرق جيل كامل من املنا�ضلني الذين حالت الفو�ضى وامل�ؤامرات بينهم وبني هذا القائد الذي جاء للأمة بر�ؤية متوهجة تعيد �إليها �ألقها وحترر نفو�س �أبنائها من كل مظاهر ال�ضعف والعبودية .ك�شفت خليفة يف روايتها �أبعاداً رمبا يجهلها من هم من غري احلزب ال�سوري القومي االجتماعي عن امل�ؤامرة التي �أدت �إىل �إعدام �سعاده ،م�ؤامرة ا�ستمرت بعد ا�ست�شهاده من خالل ال�سعي �إىل تغييبه عن الذاكرة الوطنية وح�صر كل ذكر حلياته �أو فكره �ضمن �أدبيات �أع�ضاء حزبه� .أم�ضت خليفة �أكرث من �سنتني يف قراءة كل ما كتبه �سعاده وما كتب عنه قبل �أن ت�شرع يف كتابة الرواية ،جالت يف الأماكن التي عا�ش فيها وحتدثت مطو ًال �إىل �أنا�س عرفوه ،حتى �أح�ست �أنها غدت مدركة لكل �ش�أن من �ش�ؤون فكره �أو حياته ...ولكنها ما زالت �إىل اليوم تعجب ملا يلقاه هذا «املفكر العظيم» كما ت�سميه من ا�ضطهاد ما زال يالحقه حتى بعد مماته .وهي تعزو ذلك �إىل �سيطرة الع�صبيات املذهبية والطائفية وا�ستغاللها من قبل القوى التي ت�سعى �إىل تفتيت جمتمعنا وهدمه .لهذا ال�سبب اطلقت على روايتها عنوان «�أر�ض و�سماء» و�صدرتها بعبارة ل�سعاده�« :إقتتالنا على ال�سماء �أفقدنا الأر�ض» .كتبت �إيل يف �إحدى ر�سائلها حول نقا�ش دار بينها وبني �أحد قراء م�سودة الرواية�« :أنا حكيت ما لدي حول املوقف التقليدي املبيت من �سعادة وهو الذي تنب�أ مبا يدور الآن يف العامل العربي من متزق �أ�سا�سه التحزب الديني والطائفية ،و�أن على اللبنانيني �أن يفخروا بذاك املفكر العظيم ال �أن ي�ستمروا ب�شكل �أعمى با�ضطهاده حتى بعد مماته� ...سعادة �سيعود لأن عطاءه خالد». 19
� 1 9سحر خليفة�« ،أر�ض و�سماء»� ،ص.
453
قراءة يف رواية «�أر�ض و�سماء» ل�سحر خليفة
راهنية فكر �سعاده
81
«�أر�ض و�سماء» مل تكن جمرد رواية بالن�سبة ل�سحر خليفة ،بل غدت «جتربة فكرية على �أعلى امل�ستويات» لهذا ،كان كل ما يتعلق ب�سعاده م�أخوذاً من م�صدر موثق لكي تكت�سب الرواية م�صداقية ت�سمح لها بت�أدية الر�سالة التي من �أجلها ُكتبت و�أُدرجت �ضمن الثالثية :تذكري الأمة بالفر�ص التي �أ�ضاعتها من خالل رجال عظام مل ت�ستفد من عطاءاتهم ب�سبب اجلهل واالنق�سامات و�أنانية متنفذيها و�أمية ال�شعب الذي منعوا عنه املعرفة احلقيقية. «�أر�ض و�سماء» �أكرث من رواية ،هي ر�سالة من كاتبة ال ت�أبه بالتيارات الأدبية الرائجة وال�صيحات التي ت�سعى �إىل نيل اجلوائز الأدبية (وهي على ذلك نالت عدداً كبرياً منها) ،ر�سالة من كاتبة ال تعمل �إال من �أجل احلق واخلري واجلمال يف وطنها ويف العامل العربي.
عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
الدولية للمعلومات �ش.م.ل
بناية الربج ،الطابق الرابع� ،ساحة ال�شهداء الو�سط التجاري ،بريوت ،لبنان �صندوق بريد ،11-4353 :بريوت -لبنان. هاتف)961-1( 983008 /9 : فاك�س)961-1( 980630 : الربيد الإلكرتوينinfointl@information-international.com : املوقع الإلكرتوينwww.information-international.com :
83
درا�سات وابحاث
العلمنة والإميان الديني
نحو �أم ٍر بني �أمرين
| حممود حيدر | باحث
ّقل �أن نقر�أ يف عامل املفاهيم عن ثنائيات مثرية للإ�شكال وااللتبا�س كثنائية الدين والعلمانية. حتى لتبدو ال�صورة وك�أن ثمة اخت�صاما وجودياً ال يقبل الت�سوية بينهما. والإ�شكالية بني الدين والعلمنة ال تتوقف على عامل ال�سيا�سة واالجتماع ،و�إمنا متتد �أي�ضا و�أ�سا�ساً �إىل عامل املابعد� ..إىل عامل امليتافيزيقا .وبذلك يدخل ال�سجال يف هذه الثنائية املعقدة يف �صميم كل ما له �صلة بعامل الإن�سان .ذلك لأن مقاربتها هي مقاربة للإن�سان نف�سه ،يف وجوده ون�ش�أته وتاريخيته ال�سيا�سية واالجتماعية ،ويف بعده املعنوي والروحي. لكن ال بد لنا ،ونحن يف مقام مراجعة امل�صطلح� ،أن منيز بني العلمنة والعلمانية .و�سعينا �إىل التمييز يعود �إىل �أن التالب�س بني امل�صطلحني وا�ستدخال كل منهما بالآخر ،هو �أ�صل من �أ�صول الإ�شكال املعريف الذي غالباً ما �شاع يف الفكر العربي ف�ض ًال عن الغرب .الأمر الذي �أدى �إىل �سوء اال�ستعمال يف ميدان التفكري وكذلك يف املمار�سة. �أطلت العلمانية يف التجربة الأوروبية كمقرتح �سيا�سي اجتماعي قانوين ،غايته ت�شكيل منف�سح عقالين يقوم مبهمة فك اال�شتباك بني تطور حركة احلداثة وح�ضور الإميان الديني .لكنها مل تلبث حتى حتولت �إىل فل�سفة �شاملة يف نظرتها للكون ،ا�ستطراداً �إىل عقيدة تقطع مع كل ما له �صلة بعامل امليتافيزيقا. وهذا هو وجه التمييز الأبرز بني العلمانية كحادث تاريخي والعلمنة كعقيدة وكهند�سة فل�سفية �أيديولوجية للعامل. تريد العلمانية �أن تقيم دولة حترتم الإميان على �أال يكون جلماعة امل�ؤمنني �سلطان �سيا�سي عليها. ميكن للمتدين �أن يجد له حم ًال يف الدولة ال ب�صفته الدينية و�إمنا ب�صفته مواطناً م�س�ؤو ًال �أمام القانون الذي يوفره له. بذلك تظهر هوية العلمانية ب�صفة كونها نظرياً للقانون ،وجتلياً للعقد االجتماعي املجمع عليه .ولئن اكتفت العلمانية بهذه الغاية تكون قد اكت�سبت �صفة تنظيمية و�إدارية تتيح للمجتمع املتنوع �أن عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
84
يتكيف مع تعقيداته ،ويتخذ �سبيله �إىل التفاعل اخلالق بني �أبنائه �سواء كانوا م�ؤمنني متدينني �أو علمانيني ال ي�ؤمنون باملمار�سة الدينية� ،أو مواطنني يف�صلون بني �إميانهم الديني وبني دنياهم ال�سيا�سية واالجتماعية واالقت�صادية. وعلى خالف العلمانية املجردة من �أغرا�ض الإيديولوجيا ،هي غري العلمنة مبا هي �أيديولوجيا تريد �أن ت�ؤ�س�س لنظام ال يكتفي بالف�صل بني الإميان الديني والدولة ،و�إمنا لتحدث قطيعة بني اهلل والعامل .العلمنة بهذه املنزلة هي عقيدة و�شريعة ،وبالتايل فهي ر�ؤية وجودية للعامل تقوم على �إبطال كل ما ال برهان عليه وفقاً ملعيارية الواقع الفيزيائي. ف�صلنا هذه الق�ضية... ل َرن كيف َّ 1ـ العلمنة املولودة من رحم الدين
ال ينف�سح ال�ضباب عن �صورة العلمنة �إال �إذا و�ضعت يف مقابل الدين .ولقد دلتنا التجربة التاريخية يف الغرب على �أنها ولدت من الرحم احلار للديانتني اليهودية وامل�سيحية .ولذا ف�إن العلمنة بهذه ال�صورة ما كانت لتتخذ ماهيتها وهويتها �إال �ضمن لعبة يحتل الدين فيها مكانة حمورية. املفارقة اجلوهرية يف والدة العلمنة �أنها تالزمت وتزامنت وتبلورت مع حركة الإ�صالح الديني ابتدا ًء من اخلام�س ع�شر امليالدي .حتى جلاز القول �إنه لوال هذا االحتدام يف ف�ضاء امل�سيحية ما كان لنظرية العلمنة �أن جتد لها �سبي ًال للظهور. احلادث التاريخي امل�ؤ�س�س لهذه املفارقة جرى يف ا�سبانيا من خالل ثالثة وقائع �سيكون لها �أثر هائل يف قلب �أوروبا وعقلها على مدى ثالثة قرون الحقة. الأول :حني متكنت جيو�ش امللك فريديناند وامللكة ايزابيال ،من هزمية دولة املدينة يف غرناطة وهي املعقل الإ�سالمي الأخري يف العامل امل�سيحي. الثاين :حني و ّقّع فرديناند وايزابيال مر�سوم الطرد الذي �أ�صدراه لتخلي�ص ا�سبانيا من اليهود الذين خُ يرّ وا بني قبول التعميد �أو الطرد. الثالث :حني �أبحر كري�ستوف كولومبو�س يف �شهر �آب �أغ�سط�س من ذلك العام انطالقا من ال�سواحل اال�سبانية ليكت�شف �أر�ض امل�سيح يف �أمريكا ال�شمالية. يف �أواخر القرن اخلام�س ع�شر مل يكن با�ستطاعة الأوروبيني مبن فيهم اال�سبان التنبوء بفداحة التغيرّ الذي د�شنوه .فما جرى يف ا�سبانيا حيث ت�أ�س�ست �أول �أمرباطورية مركزية حديثة للعامل امل�سيحي� ،سوف لن يتوقف مفعوله على �إطالق ثورة �سيا�سية واقت�صادية ،بل �سينجز ثورة ثقافية معرفية بعيدة الأثر ،و�ستغدو العقالنية العلمية هي املنظومة التي حتكم مناهج التفكري .كانت
العلمنة والإميان الديني
درا�سات و�أبحاث
85
امل�سيحية تتغري على الرغم من كل حماوالت الإطاحة مبنظومتها الالهوتية .ولذا �سرنى �أن امل�ساهمة اال�سبانية الرئي�سية يف حركة اال�صالح كانت ذات �سمة �صوفية .فقد �أ�صبح م�ستك�شفو العامل الروحي هم مت�صوفو �شبه اجلزيرة الإيربية ،متاماً كما كان املالحون يكت�شفون بالتوازي مناطق جديدة من العامل املادي. كانت العلمنة مت�ضمنة ،بوعي �أو بغري وعي .يف الإ�صالح الربوت�ستانتي .و�سنجد ذلك على نحو بينِّ من ا�ستقراء �إجمايل لرحلة االحتدام املرير مع الكاثوليكية. لقد طور الربوت�ستانت ما �أ�سموه الإجنيل االجتماعي لكي ي�ضفوا القدا�سة على املدن وامل�صانع رب لها .وهذا «الإجنيل» هو ما ميكن �أن ن�سميه بـ «الهوت العلمنة» كما �سرنى بعد قليل... التي ال َّ لنقر�أ هذه الق�صة :يف عام � 1909ألقى اال�ستاذ املتقاعد من جامعة هارفرد جورج �إليوت خطاباً بعنوان «م�ستقبل الدين» �أوقع الي�أ�س يف قلوب من هم �أكرث حمافظة .فالدين اجلديد ـ كما اعتقد �إليوت ـ �سيكون لديه و�صية واحدة هي :حب اهلل الذي يلقى تعبرياً عنه يف خدمة الآخرين عملياً .فلن يكون فيه كنائ�س �أو كتب مقد�سة .وال الهوت حول اخلطيئة ،وال حاجة للعبادة، فح�ضور اهلل �سيكون جلياً جداً ،وغامراً تابعيه لدرجة �أنه لن يكون هناك حاجة �إىل طق�س القربان املقد�س .مع هذا االجنيل لن يدعي امل�سيحيون احتكار احلقيقة لأن �أفكار العلماء ،والعلمانيني، �أو من ينتمون �إىل دين خمتلف �ستكون �سارية فيه متاماً كما هو �سريان احلقيقة امل�سيحية .الدين امل�ستقبلي ـ يف اهتمامه بالآخرين ـ لن يكون خمتلفاً عن املثل العليا كالدميقراطية والتعليم والإ�صالح الإجتماعي والطب الوقائي .كان �إليوت يحاول ـ عرب هذه املخاطرة ـ العودة �إىل ما كان يعتربه حقيقة الإجنيلي الأ�صلي .وذلك من خالل البحث عن جتاوز املعتقد وتخطيه :حب اهلل وحمبة اجلار .فالأديان العاملية جميعاً قد �أكدت �أهمية العدالة االجتماعية والإهتمام بال�ضعفاء. وبهذا ال�سياق حاول �إليوت الت�صدي �إىل الأحجية الواقعية لدى امل�سيحيني يف العامل احلديث من خالل بناء دين قائم على املمار�سة �أكرث من اعتماده على معتقدات متزمتة . غري �أن هذا االحتدام مل يكن ليمر من دون مفارقات� .إذ بقدر ما كان امل�صلحون الربوت�ستانت ثوريني كانوا يف الوقت نف�سه رجعيني كما تقول عاملة الإجتماع الأمريكية كارين �آرم�سرتونغ .ذلك ب�أنهم فعلوا كما فعل م�سلمو �إبن تيمية حني رف�ض الفقه والكالم لكي يعود �إىل القر�آن وال�س ّنة. ولكن مع فارق كبري يف التجربة ،حيث انطلقت الربوت�ستانتية بثورتها �إىل �آفاق احلداثة الوا�سعة بينما ا�ستنقعت املدر�سة ال�سلفية التيماوية قالعها املغلقة ومل تغادر بداوتها. قامت نظرية اال�صالح الديني على قاعدة الهوتية قوامها اجلمع بني الإميان باهلل واالميان بالعامل مع �إ�سقاط الع�صمة� :سلطة الكني�سة .ولقد تبلورت هذه النظرية مع مارتن لوثر ()1556 - 1483 1
1
كارين �آرم�سرتونغ ـ النزعات الأ�صولية يف اليهودية وامل�سيحية والإ�سالم ـ ترجمة حممد اجلورا ـ دار الكلمة ـ دم�شق 2005ـ �ص .190 عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
86
وجون كالفن ( )1564 - 1509وهولدري�ش زفينغلي ( )1531 - 1484الذين عادوا �إىل منابع الرتاث امل�سيحي� .شدد لوثر على �أهمية الإميان لكنه رف�ض العقل ب�شدة لأنه ي�ؤدي �إىل الإحلاد .ذلك ب�أن معرفة اهلل عن طريق التفكري يف نظام الكون العجيب كما فعل الالهوتيون املدر�سيون ـ مل يكن ذلك �أمراً م�سموحاً .يف م�ؤلفات لوثر كان اهلل قد بد�أ ين�سحب من العامل املادي الذي مل يعد له �أهمية اطالقاً .وهذا ما دفعه �إىل علمنة ال�سيا�سة .وح�سب ت�صوره �أن الكني�سة والدولة يجب �أن تعمال م�ستقلتني عن بع�ضهما ،و�أن حترتم كل منهما العامل املالئم لن�شاطها .و�سرنى تبعا لذلك كيف �أن هذه الر�ؤية �ستجعل لوثر من �أوائل االوروبيني املدافعني عن ف�صل الكني�سة عن الدولة. فقد جاءت علمنة ال�سيا�سة عنده مبثابة طريقة جديدة للتدين� .أما كالفن وزفينغلي فذهبا �أبعد مما ذهب �إليه «املعلم» يف الت�أ�سي�س الالهوتي للعلمنة� .آمنا ب�ضرورة اجلمع بني روحيانية الكتاب املقد�س وواقعية احلياة الب�شرية .لقد وجدا �أن على امل�سيحيني �أن يعبرّ وا عن �إميانهم بامل�شاركة يف يقد�سوا العمل احلياة االجتماعية وال�سيا�سية بدال من االن�سحاب �إىل داخل الدير .و�أن عليهم �أن ّ من خالل تعميد �أخالق ر�أ�س املال ال�صاعد .ذلك ب�أن العمل هو �سعي مقد�س نحو الألوهة ولي�س عقاباً �إلهياً على اخلطيئة الآدمية االوىل .لقد اعتقد كالفن �أن ر�ؤية اهلل يف خلقه �أمراً ممكناً، فلم ير تعار�ضاً بني العلم والكتاب املقد�س .فالإجنيل مل يقدم معلومات حرفية حول اجلغرافيا ون�ش�أة الكون بل �إنه عبرّ عن حقيقة ع�صية على الو�صف من خالل كلمات لي�س يف و�سع الب�شر املحدودين فهمها و�إدراك �س ِّرها. ت�ضيء لنا هذه املقدمات على حقيقة �أن العلمنة التي كانت تنمو ببطء يف �أوروبا مل يكن منوها خارج �سريورة اال�صالح الديني. يف مثل هذه احلال ،بدت ال�صورة وك�أن الربوت�ستانتية املحتجة الهوتياً على �إكراهات الكني�سة الكاثوليكية الرومانية ،هي التي فتحت الباب العايل لنظرية العلمنة ولثورتها ال�شاملة فيما بعد. و�سي�أتي من رواد حركة احلداثة من ي�ضفي على هذه ال�صورة م�شروعيتها العلمية. ففي م�ستهل احلداثة �سي�شارك العامل الفلكي الهولندي كوبر نيكو�س ( )1543 - 1473كالفن ر�ؤيته الالهوتية املعلمنة ملا قال �إن ما �أجنزته حول مركزية ال�شم�س ،هو �أكرث �إلهية مما هو ب�شري� .أما غاليلي الذي اخترب فر�ضية كوبرنيكو�س عملياً فقد كان مقتنعاً ب�أن ما �أجنزه كان نعمة �إلهية .كذلك �سيحذو �إ�سحق نيوتن ( )1727 - 1642حذو نظرييه حيث �أعرب عن قناعته ب�أن فكرة اجلاذبية كقوة كونية جتعل الكون كله متما�سكاً ومتنع الأجرام ال�سماوية من اال�صطدام بع�ضها ببع�ض ،وب�أن ما تو�صل اليه يثبت وجود اهلل العظيم ميكانيكياً. وهكذا �سن�ستمع �إىل اين�شتاين وهو يعلن يف �أواخر عمره �أن اهلل ما كان يلعب الرند ،وهو يهند�س الكون الأعظم. لكن املفارقة التي نلحظها يف الت�ساوق بني الإ�صالح الديني وحركة احلداثة هي التالية :م�صاحلة
العلمنة والإميان الديني
درا�سات و�أبحاث
87
االعتقاد باهلل مع العلم ،وتناق�ضه الفكر الديني و�سلطة الكني�سة يف الآن عينه. و�سيب ُني لنا ،وبحلول القرن ال�سابع ع�شر ،كيف �ستبد�أ رحلة معرفية جديدة يف �أوروبا قوامها �سطوة العلم وك�شوفات العقل على �سلطان الأ�سطورة� .سيظهر ذلك بقوة مع كتاب «تقدم التعلم» ()1605 لفران�سي�س بيكون ( )1626 - 1561م�ست�شار ملك انكلرتا جيم�س الأول .لقد �أكد بيكون �أن كل حقيقة يجب �إخ�ضاعها للنقد ال�صارم عرب العلم التجريبي حتى تلك املتعلقة ب�أكرث االعتقادات الدينية قدا�سة .ف�إذا تناق�ضت مع حقائق متت الربهنة عليها ومع دليل حوا�سنا عندئذ ينبغي رميها جانباً. هذه كانت حلظة مف�صلية يف نظرة العقل الغربي �إىل العلم .ومع �أنها كانت حلظة تقدي�س للعلم ف�إنها مل ت�صل �إىل الإحلاد� ،إال �أنها �ست�ؤ�س�س ملا ميكن اعتباره ف�ص ًال وظيفياً بني اهلل والعامل .وكان ذلك �ضرباً من علمنة تعرتف باخلالق وتعطل يف الوقت نف�سه ت�أثري هذا االعرتاف على االجتماع الب�شري. مثل هذه الطريقة جندها يف فل�سفة ديكارت الذي كان قادراً على التكلم بلغة عقالنية ،لكنه وهو الكاثوليكي الورع� ،أراد �أن يقنع نف�سه بوجود اهلل مع رف�ضه العودة �إىل معتقدات الكني�سة .ور�أى �أن ال�شيء الوحيد الذي ميكننا الت�أكد منه هو جتربة ال�شك العقلي يف �إطار بديهيته املعروفة «�أنا �أفكر �إذاً �أنا موجود». بالتزامن ديكارت اعتقد الفيل�سوف الربيطاين توما�س هوب�س �أن هناك �إلهاً لكن لأ�سباب عملية قد ال يكون اهلل موجوداً .ورمبا لت�أثره باجلذر التوراتي ر�أى هوب�س مثلما ر�أى لوثر ـ �أن العامل املادي خال من الإلهي ،و�أن اهلل قد ك�شف ذاته يف فجر التاريخ الب�شري و�سوف يك�شف نف�سه يف نهايته. وحتى ذلك الوقت ـ يقول هوب�س ـ علينا اال�ستمرار يف العي�ش من دونه ،وك�أننا ننتظر يف الظالم. �أما جون لوك ( )1704 - 1623الذي كان �أول الفال�سفة من الذين �أدخلوا التنوير الفل�سفي يف القرن الثامن ع�شر ،فل�سوف ُيدخل العلمنة �إىل احليز ال�سيا�سي االجتماعي .فكان عليه �أن ي�س ِّيلها كفل�سفة وعقيدة يف حركة الواقع ،وكانت ما ن�سميه العلمانية كتجربة حية .فمن �أجل الو�صول �إىل دين �صحيح ينبغي على الدولة ـ ح�سب ر�أيه ـ �أن تت�سامح جتاه جميع �أ�شكال االعتقاد ،ويجب �أن تن�شغل باالدارة العلمية وحكم املجتمع فقط .وينبغي �أن تكون الدولة منف�صلة عن الكني�سة و�أال يتدخل �أي منهما يف �ش�ؤون الآخر ،بذلك �سيكون النا�س لأول مرة يف التاريخ الب�شري �أحراراً، بالتايل قادرين على �إدراك احلقيقة. يف مرحلة تالية ،وبينما كان ه�ؤالء الالهوتيون والفال�سفة يعلنون �سيادة العقل العقالين راح االملاين �إميانويل كانط ( )1804 - 1724ي�شتغل على تنقية م�شروع التنوير من التبا�ساته وغمو�ضه فقال :يجب �أن يكون لدى النا�س ال�شجاعة الكافية كي يتخلوا عن الكنائ�س وال�سلكات و�أن يبحثوا عن احلقيقة ب�أنف�سهم .فالتنوير بر�أيه هو خروج االن�سان من الو�صاية التي ابتلي بها .لكن العزاء الوحيد الذي متكن عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
88
كانط من تقدميه هو �أن من املحال دح�ض وجود اهلل .فعلى ال�صعيد ال�شخ�صي كان كانط تقياً ،ومل تكن �أفكاره معادية للدين ،و�إن كان مقتنعاً �أن القانون الأخالقي منقو�ش داخل كل كائن ب�شري. لكنه �سيبني يف كتابه املعروف «نقد العقل العملي»� :أنه من دون �ألوهة ومن دون �إمكانية حياة �أخرى، من ال�صعب �أن نرى ملاذا ينبغي علينا �أن نت�صرف بطريقة �أخالقية .غري �أن الإعالء من �ش�أن العقل بو�صفه املنطلق الوحيد للحقيقة يف الغرب �سوف يتزامن مع انفجار نزعة ال عقالنية دينية .وهذه الفرتة كانت مرعبة ل�سكان الغرب على جانبي الأطل�سي .لقد ق�سمت حركة اال�صالح �أوروبا �إىل مع�سكرات متعادية واندلعت حروب الربوت�سانت والكاثوليك على مدى ثالثني عاماً (- 1618 )1648وامل�ؤ�س�سات الدميقراطية التي كانت تنه�ض يف الغرب كان ثمنها املذابح والآالم� .أما الثورة الفرن�سية فكانت �آثارها كارثية .فلقد ولد يف الغرب نظام اجتماعي �أكرث عدالة وت�ساحماً لكنه مل يتحقق ذلك �إال بعد انق�ضاء قرنني كاملني من العنف الأعمى . 2
2ـ العلمنة يف م�ستوعب الإميان الأعلى
قد تكون املنطقة املعرفية الأكرث �إثارة للجدل هي تلك التي عبرَّ ت عنها مطارحات فال�سفة الأخالق واملت�صوفني يف مرحلة ما بعد احلداثة .ولقد د ّلت االختبارات الدينية لدى املت�صوفني وال �سيما منهم طبقة العرفاء والقدي�سني ،على م�سعى مركب قوامه بلوغ احلد الأعلى من الإميان. املعني بهذا احلد للإميان هو الدرجة التي ي�صل �إليها املت�صوف بال�سري وال�سلوك والتعرف على حقائق الوجود ،ومتكنه من معرفة نف�سه ومعرفة املوجودات و�صو ًال �إىل معرفة اهلل .والذين ي�صلون �إىل هذه الدرجة املتعالية هم الذين يطلق على كل فرد منهم �صفة العارف �أو الإن�سان ال�سالك يف طريق الكمال .وه�ؤالء مل يقطعوا مع الأحكام الدينية �أو القوانني الكن�سية. ذلك ب�أنهم بد�أوا من الدر�س الديني� ،أو مما ي�سمى بالعلوم النقلية التي ال نقا�ش يف حرف من حروفها حيث يتجاوز العارف الوا�صل حرفية الن�ص الديني من دون �أن يفارق �أبعاده ومراتبه وخفاياه .فالإميان الأق�صى هو الذي يوفّر ل�صاحبه القدرة على التجاوز والتعايل واال�ستيعاب والإحاطة .ومن يبلغ تلك الدرجة الق�صوى ي�ستطيع �أن يعي�ش الأ�سطورة واحلقيقة بنف�س املقدار. �أن يعي�ش الغيب وال�شهود كما لو كان يف عامل واحد .فهو يف حالة ان�سجام ووئام ولو ظن الآخرون خالف ذلك� .إميان امل�ؤمن مبا ي�ؤمن ال ميكن و�صفه ،بل ال ميكن حتديده .فهو لي�س جمرد ظاهرة جتاور الظاهرات الأخرى ،بل �إنه الظاهرة املركزية يف حياة الإن�سان ال�شخ�صية اجللية واخلفية يف الوقت نف�سه .فالإميان يف حده الأق�صى كما يقول الالهوتي والفيل�سوف الوجودي الأملاين بول تيلت�ش ، ديني ويتعاىل عن الدين ،وهو كلي وجزئي يف الآن عينه ،وهو متنوع بال نهاية ،وهو نف�سه دائماً. 3
� 2آرم�سرتونغ امل�صدر نف�سه �ص .90 3بول تيليت�ش ـ بواعث الإميان ـ ترجمة �سعيد الغامني ـ من�شورات اجلمل ـ 2007ـ �ص .145
العلمنة والإميان الديني
درا�سات و�أبحاث
89
ذلك ب�أن الإميان هو �إمكانية جوهرية للإن�سان ،ولذلك فوجوده �ضروري وكلي ،وهو ممكن و�ضروري هم �أق�صى ،فال ميكن �إذ ذاك �أن يثلمه �أي�ضاً يف زماننا هذا .و�إذا ُف َ هِم الإميان يف جوهره على �أنه ُّ العلم احلديث �أو �أي نوع من الفل�سفة .وهو ي�سوغ ذاته �ضد من يهاجمونه ،لأنهم ال ي�ستطيعون �أن يهاجموه �إال با�سم �إميان �آخر .ولعل �أبرز ما يف واقعية الإميان �أن الذين يرف�ضونه �إمنا يعبرِّ ون ،وهم يفعلون ذلك عن �إميان ما. مع ذلك ف�إن جانباً مهماً يف الإ�شكال يبقى مفتوحاً على ف�ضاء ال متناه من الغمو�ض .هو الإ�شكال الناجم من احتدام الدين بالعلمنة على م�ستوى املفهوم النظري واالختبار العملي .وهو ما يتمثل بالتناظر ال�ضدي بني الإميان والعقل .فعلى هذا ال�صعيد يجب �أن ي�س�أل املرء �أو ًال :ب�أي معنى واجه بالإميان؟ هل املق�صود بها ،كما هي احلالة يف الغالب اليوم� ،أن ُت�ستعمل كلمة «عقل» حني ُت َ ُتط ّلق مبعنى املنهج العلمي وال�صرامة املنطقية واحل�ساب التقني؟ �أم �أنها ُت�ست َعمل ،كما كان احلال يف كثري من حقب الثقافة الغربية ،مبعنى منبع املعنى والبنية واملعايري واملبادئ؟ يف احلالة الأوىل ،يوفر العقل الأدوات الالزمة ملعرفة الواقع وال�سيطرة عليه ،ويوفر الإميان االجتاه الذي تتم فيه ممار�سة هذه ال�سيطرة .وقد يطلق املرء على هذا النوع من العقل ا�سم العقل التقني، الذي يوفر الو�سائل ،دون الغايات .ويهتم العقل بهذا املعنى باحلياة اليومية لكل �إن�سان ،وهو القوة التي حتدد احل�ضارة التقنية لع�صرنا .ويف احلالة الثانية ،يتماهى العقل ب�إن�سانية الإن�سان يف مقابل جميع الكائنات الأخرى .فهو �أ�سا�س اللغة ،واحلرية ،والإبداع .وهو داخل يف عملية البحث عن املعرفة ،ويف جتربة الفن وحتقيق الأوامر الأخالقية ،حيث يجعل من احلياة ال�شخ�صية امل�شاركة يف اجلماعة �أمراً ممكناً. لو كان الإميان نقي�ضاً للعقل ـ ح�سب تيليت�ش ـ لكان مييل �إىل نزع ال�صفة الإن�سانية عن الإن�سان. فالإميان الذي يد ِّمر العقل يدمر يف املقابل نف�سه ويدمر �إن�سانية الإن�سان� .إذ ال يقدر �سوى كائن ميتلك بنية العقل على �أن يكون لديه هم �أق�صى� .أي �أن يكون �شغوفاً باهلل والإن�سان يف �آن ،وذلك �إىل الدرجة التي ي�ؤول به هذا ال�شغف �إىل تخطي الثنائية ال�سلبية التي ت�صنع القطيعة بني طرفيها. وحده من ميتلك ملكة «العقل املت�صل» ـ �أي العقل اجلامع بني الإميان باهلل والإميان بالإن�سانية ـ هو الذي يفلح بفتح البـاب العايل على الو�صل بني الواقع الفيزيائي وح�ضـور املقـد�سي .يف هــذا الواقــع .وما نعنيــه بالعقل املت�صل هـو العقــل الذي ي�شكل البنية املعنويــة للذهن والواقع ،ال العقل بو�صفه �أداة تقنية بحتة .وبهذا املعنى ي�صري العقل �شرطاً ت�أ�سي�سياً للإميان :ذلك لأن الإميان هو الفعل الذي ي�صل به العقل يف ن�شوته الإجنذابية �إىل ما وراء ذاته� .أي �إىل ما بعد �أنانيته التي يتجاوزها بالإيثار والعطاء والغريية .بتو�ضيح �أن عقل الإن�سان متنا ٍه وحمدود .فهو يتحرك داخل عالقات متناهية وحمددة حني يهتم بالعامل وبالإن�سان نف�سه .وجلميع الفعاليات الثقافية التي يتلقى فيها الإن�سان عامله هذه اخلا�صية يف التناهي واملحدودية .لكن العقل لي�س مقيداً بتناهيه، بل هو يعيه ،بهذا الوعي يرتفع فوقه وعندها يجرب الإن�سان انتما ًء �إىل الالمتناهي الذي هو مع عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
90
ذلك لي�س جزءاً منه وال يقع يف متناوله ،ولكن ال بد له من اال�ستحواذ عليه .وحني ي�ستحوذ على الإن�سان ي�صري بالن�سبة �إليه هماً ال متناهياً �أي مقد�ساً ونبي ًال. وحني يكون العقل ـ بهذه ال�صريورة ـ م�س ّلمة للإميان ،يكون حتققاً للعقل .والإميان بو�صفه حالة هم �أق�صى هو العقل يف طور ن�شوته الإجنذابية .والنتيجة �أن ال تناق�ض بني طبيعة الإميان وطبيعة العقل بل يقع كل منهما يف داخل الآخر � .إذن ،ما الذي ميكن �أن ي�ؤدي اليه متازج االميان والعقل من �آثار على حل الإ�شكال بني الإميان الديني والعلمنة. تبد�أ الإجراءات التنظريية بتقديرنا من خالل ال�سعي �إىل العثور على ما ميكن و�صفه مبنطقة اجلاذبية التي يلتقي فيها الإميان الديني بالإن�شغال بق�ضايا العامل .و�إذا كانت مهمة الفل�سفة الأوىل تركزت على فهم �سر العالقة بني اهلل والعامل ،ف�إن الفل�سفة الالحقة يف حقبة ما بعد احلداثة مل ت�ستطع مغادرة هذا امل�سعى .ظل العقل الب�شري على قلقه وحريته ومل يقدر �أن يجتاز لعبة االختيار احلر بني الثنائيات :اهلل �أو العامل ،العقل �أو الوحي ،الإميان �أو العلم ،العلمنة �أو الدين ،الدولة العلمانية �أو الدولة الدينية. ذلك يدل على �أن الإ�شكال الناجم عن هذه اللعبة هو �إ�شكال فل�سفي من قبل �أن يكون �إ�شكا ًال �إيديولوجياً و�سيا�سيا وثقافياً. لننظر �إذاً �إىل الدائرة الأ�صلية التي �صدر منها الإ�شكال؟ يذهب عدد من الالهوتيني وفال�سفة الأخالق �إىل عر�ض الق�ضية على النحو التايل: �أو ًال ،يجب االعرتاف ب�أن الإن�سان يعي�ش حالة اغرتاب عن طبيعته احلقيقية .ما يف�ضي �إىل �سوء ر�ؤية فعلية تعود �إىل اال�ستعمال امل�شوه لكل من العقل والإميان .وثم يقولون �إنه ال ميكن �أن ي�صل احلل فيما يتعلق بالطبيعة احلقيقية للإميان والطبيعة احلقيقية للعقل �إىل نهايته املن�شودة ،من دون ت�أهيل جذري للطبيعتني يف ظل ظروف الوجود الإن�ساين. والنتيجة التي ترتتب على هذا الت�أهيل هي وجوب التغلب على هذا االغرتاب .والتجربة التي يحدث فيها هذا االجراء كما يقر ّرون هي جتربة الوحي. ا�ستخدام مفردة «الوحي» �سواء من جانب ال�سلطة املعرفة الدينية �أو من جانب املتح ّيزين �إىل الفكر الع ْلمني .و�أما ح�صيلة مثل هذا اال�ستخدام فهو �صدور �أحكام تعيد ثنائية الوحي و�صلته بالواقع �إىل معاركها الأوىلُ .يفهم من الوحي �شعبياً �أنه معلومات �إلهية عن ق�ضايا �إلهيةَ ، تعطى للأنبياء والر�سل ،متليها الروح الإلهية على كتاب «الكتاب املقد�س» �أو «القر�آن» ف�ض ًال عن بقية الكتب املقد�سة .والقبول بهذه املعلومات ،مهما تكن حمالة وال عقلية ،هو الذي ي�سمى بعدئذ بالإميان. 4
4
بول يلييت�ش امل�صدر نف�سه.
العلمنة والإميان الديني
درا�سات و�أبحاث
91
و�إىل هذا ف�إن الوحي ،بح�سب فل�سفة الدين هو التجربة التي ي�ستحوذ فيها هم �أق�صى على العقل الإن�ساين ثم ي�سود و�سط جماعة ح�ضارية بحيث يعبرّ فيها هذا الهم عن نف�سه عن طريق رموز الفعل واخليال والفكر .وحيثما حت�صل جتربة الوحي هذه ،يتجدد كل من الإميان والعقل .ويتم قهر �صراعاتهما الداخلية واملتبادلة ،وي�ستبدل التغريب بامل�صاحلة .هذا هو ما يعنيه الوحي� ،أو ما يجب �أن يعنيه .فهو احلدث الذي يتجلى به الإميان الأق�صى يف هم �أق�صى ،وحمو ًال �إيــاه يف الديـن والثقافة .يف مثل هـذه التجربـة ،ال ميكن �أن يوجد �صراع بني الإميان والعقل ،لأن بنية للهم الأق�صى ويغريها. الإن�سان ال�شاملة من حيث هو كائن عقلي ي�ستحوذ عليها جت ّلي الوحي ّ وهذا ما ذهب اليه فيل�سوف الدين الرو�سي نيقوال برديا�شيف حني ر�أى �أن لليقظات الفل�سفية دائماً م�صدراً دينياً .وظل مييل �إىل الإعتقاد ب�أن الفل�سفة احلديثة عموماً .والأملانية خ�صو�صاً هي �أ�شد م�سيحية يف جوهرها من فل�سفة الع�صر الو�سيط .حيث نفذت امل�سيحية بر�أيه �إىل ماهية الفكر نف�سه ابتدا ًء من فجر ع�صور احلداثة. و�إذن ،ما من �صراع بني الإميان يف طبيعته احلقيقية والعقل يف طبيعته احلقيقية .وي�شمل هذا الت�أكيد �أنه ال يوجد �صراع جوهري بني الإميان والوظيفة الإدراكية للعقل. هِم ذلك ،ظهرت ال�صراعات ال�سابقة بني الإميان والعلم يف �ضوء خمتلف متاماً .فال�صراع يف و�إذا ُف َ احلقيقة مل يكن بني الإميان والعلم ،بل بني �إميان وعلم ال يعي كالهما بعده ال�صحيح. فلم يكن ال�صراع ال�شهري بني نظرية التطور والهوت بع�ض الطوائف امل�سيحية �صراعاً بني العلم والإميان ،بل �صراع بني علم يجرد �إميان الإن�سان من �إن�سانيته ،و�إميان �شوه الت�أويل احلريف للكتاب املقد�س تعبرياته .ويف�ضي هذا التمييز بني حقيقة الإميان وحقيقة العلم �إىل حتذير ال بد من توجيهه لالهوتيني وعلماء الدين يف �أال ي�ستخدموا املكت�شفات العلمية احلديثة لت�أكيد حقيقة الإميان. و�سرعان ما �صار الكتاب الدينيون يوظفون هذه املكت�شفات لت�أكيد �أفكارهم عن احلرية الإن�سانية، والإبداع الإلهي ،واملعجزات .ولكن ال م�سوغ ملثل هذا الإجراء ،ال من وجهة نظر الفيزياء وال من وجهة نظر الدين .فالنظريات الفيزيائية امل�شار �إليها ال عالقة لها مبا�شرة بالظاهرة املعقدة تعقيـداً ال نهائياً عن احلرية الإن�سانيــة. 3ـ معيار الأخالق والإميان يف جمع املتناق�ضني
�إذا اتفقنا على املبدا الأخالقي كمعيار ت�أ�سي�سي لإجراء امل�صاحلة بني الإميان الديني والعلمنة، نكون قد و�ضعنا الفر�ضية الأوىل لأطروحتنا .ف�إذا كانت غاية الدين ومقا�صد ال�شريعة قائمة على اخلري والعدل واحلب واجلمال ،و�إذا كانت غاية العلمنة هي الو�صول بالإن�سان ليكون �سيد نف�سه و�سيداً على الكون ..ف�إن الغايتني �سوف تلتقيان بال�ضرورة على اجلوهر الواحد وهو اخلريية.
عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
92
وهنا ميكن القول �إن الإميان الديني املتجرد من الأغرا�ض يت�ضمن يف منطقه الداخلي كل ما له �صلة بخري االن�سان وبهذه الرابطة اجلدلية لن ُيرى الإن�سان ومن موقعية الإميان الأعلى �إال ككائن نبيل ومك ّرم ت�ستحيل ف�صل علمانيته عن روحانيته. التوحد ال�ضروري �سوى حتويل الإميان �إىل ر�أي والعلمنة �إىل �أيديولوجيا. ال �شيء يحول دون هذا ّ ومثل هذا التحويل هو من طبيعة ال�سلطة كل �سلطة �سواء كانت دينية �أو علمانية .وال�سلطة الدينية ب�سبب من غر�ضيتها وحت ّيزها وا�ستئثارها مبا لها وما لغريها تروح توظف مبادئ اخلري واجلمال لأغرا�ضها و�أهوائها ودميومتها. كذلك تفعل ال�سلطة العلمانية ملا ي�أخذها الغرور لتنتزع من الإن�سان عامله املعنوي وتلقي به يف ال�صماء .ويف اختباراتها ال�سيا�سية والثقافية والأمنية على مدى قرون احلداثة ما عواملها الأر�ضية ّ ي�ستظهر م�شاهد مدوية يف ميادين القهر والإق�صاء والنفي .الإميان بوجود قانون �أخالقي مطلق ال يتناق�ض مع القول ب�أن الأفكار الأخالقية تختلف باختالف البلدان والع�صور واحل�ضارات .والقول ب�أن ال�شيء نف�سه يكون خرياً يف ثقافة معينة و�شراً يف ثقافة �أخرى ال يعني �أن االخالق ن�سبية، مبعنى �أن ال�شيء نف�سه هو خري يف ثقافة و�شر يف �أخرى .الذين ي�ؤمنون بذلك رمبا جهلوا القانون الأخالقي احلقيقي .والدليل العقلي �أنه �إذا كانت ال�سرقة خط�أ فهي يف كل مكان وعلى الدوام، وكذلك الظلم والقتل و�سائر �صنوف ال�شر. تلك ر�ؤية الأديان على اجلملة فكل �إن�سان ي�ؤمن ب�أن العامل ميثل نظاماً �أخالقياً ال بد له بال�ضرورة من �أن يعتنقها لكي يكون �إن�ساناً �سوياً ولو كانت القيم الأخالقية مو�ضوعية ،فهي م�ستقلة عن معتقدات النا�س و�آرائهم .فال يكون ال�شيء خرياً لأن بع�ض الثقافات يعتقد �أنه خري .فما هو �صواب �سوف يكون ما هو عليه يف ان�سجام مع النظامي الكوين ،ومعنى ذلك على اجلملة� ،إن �أي نوع من املو�ضوعية الأخالقية ينطوي على القول بوجود �أخالق كلية واحدة. معرت�ض على فكرة �أن املنزلة املعنوية للإميان الأق�صى ال ت�ستطيع �أن تفعل �شيئاً ينطوي على رب ٍ �آثار اجتماعية وهي حتاول اجلمع بني الوحي والعامل ما دامت خارج االحتدام .واجلواب �أن ال�صفوة املتعالية الآخذة بالإميان الأق�صى هي نخبة تعي�ش الواقع ،وتعاينه وت�ؤثّر فيه من دون �أن ت�ستغرق يف �ش�ؤون التف�صيلية .فهي مت�صلة بالواقع منف�صلة عنه يف الوقت عينه .ومثل هذه اجلدلية املعقدة والدقيقة �سوف حتد من �سلبية التحيز ومن �أ�ضرار االنحياز �إىل هذه اجلهة �أو تلك .كما �أنها تخفف عيوب ،حتول الإميان �إىل �أيديولوجيا بحيث تعيد التناق�ض بني الإميان الديني والعلمنة �إىل �سابق عهده. ي�ستطيع الإميان الأعلى ،وهو �إميان ال�صفوة من القدي�سني والأولياء واحلكماء والفال�سفة وعلماء الأخالق� ،أن يحتوي بحكمته ورحمانيته وعقالنيته الفكر ال�سلطوي يف حقل امل�ؤ�س�سة الدينية وحقل امل�ؤ�س�سة العلمانية على ال�سواء.
العلمنة والإميان الديني
درا�سات و�أبحاث
93
ولأن القرن الواحد والع�شرين هو القرن الفا�صل بني ع�صرين ،ف�إنه يف مرحلة انتقالية يلتب�س فيه القدمي املتداعي باجلديد الواعد� .أي �أنه قرن االحتماالت املفتوحة يف �ساحة الأفكار والنظريات واملفاهيم .ولأنه كذلك فهو يحتاج اىل جهد تنظريي ليملأ الفراغات التي ع�صفت بعامل املفاهيم. مل يعد العقل الذي ابتنت عليه احلداثة منجزاتها العظمى على امتداد خم�سة قرون متوا�صلة، قادراً وب�أدواته املعرفية امل�ألوفة على مواجهة عامل ممتلئ باملفارقات والتناق�ضات .مل تعد العلمنة التي تقد�ست م�سالكها ونعوتها و�أ�سما�ؤها م�ؤهلة ملوا�صلة حروبها مع من يخالفها ثقتها املفرطة يف بناء مدينتها الفا�ضلة .وال الدين الذي �صنعته اجلماعات احل�ضارية على قيا�سها ،قادراً على نيل ر�ضى اهلل يف خلقه. هذا �ضرب من الإدعاء ،قد تقولون ،لكن ال بد من الإدعاء بعدما ا�ستغرق الإن�سان �شرقاً وغرباً يف فو�ضاه وقلقه وحريته. حني انتهت ما بعد احلداثة �إىل احلديث عن الإن�سان الأخري وعن موته فبديهي �أن ين�صب احلديث الذي �سيلي على احلاجة �إىل �إن�سان م�ست�أنف ،يجمع وال يفرق ويجتمع حيث ينبغي االجتماع.
عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
دار كتب للن�شر �ش.م.ل
بناية الربج ،الطابق الرابع� ،ساحة ال�شهداء الو�سط التجاري ،بريوت ،لبنان �صندوق بريد ،11-4353 :بريوت -لبنان. هاتف)961-1( 983008 /9 : فاك�س)961-1( 980630 : الربيد الإلكرتوينkutub@kutubltd.com : املوقع الإلكرتوينwww.kutubltd.com :
95
درا�سات وابحاث
هجرة الأدباء ال�شوام �إىل م�رص يف القرنني التا�سع ع�رش والع�رشين (حكايات) | الأ�ستاذ وديع فل�سطني | ناقد وم�ؤرخ �أدبي
�أنا متهم ب�أنني �شامي ،وهي تهمة ال �أدفعها و�شرف ال �أ ّدعيه . فب�سبب �أ�سمي اجلغرايف ،الذي ال يوحي ب�أنني �أنتمي اىل ال�صعيد اجلغرايف يف م�صر ،توهم النا�س ب�أنني ال ّبد ان �أكون م�ستورداً من اخلارج ،حتى �س�ألني واحد منهم وكنت نحيل اجل�سم هل �أنت من بيت حلم؟ فقلت له :كال ،ف�أنا من بيت عظم. وعندما كانت منطقة غزة تابعة للحكم امل�صري ،كانت جميع الر�سائل املوجهة �إ ّيل من اخلارج تر�سل �أو ًال �إىل غزة ،ومن هناك ّيحول الربيد هذه الر�سائل �إىل القاهرة. ودفعاً لتهمة ال�شامية ،فعندما ا�ستدعيت �إىل مباحث �أمن الدولة العليا ،بادرين ال�ضابط الهمام مبجرد دخويل غرفته قائ ًال :متى �شرفت م�صريا �أ�ستاذ وديع؟ فقلت له! �إنني �شرفت م�صر من �سبعة وجدي الأكرب رم�سي�س الثاين! الآف �سنة ف�أنا �صعيدي وقبطي وفرعوين ّ ولكن تعاظم االعتقاد ب�أنني من �شوام م�صر عندما �ألقيت نف�سي يف فجر حياتي العملية غارقاً يف «�أوقيانو�س» من ال�شوام .فهم امامي وخلفي يحيطون بي احاطة ال�سوار باملع�صم .ذلك �أنني بعد نيلي �شهادة ال�صحافة من اجلامعة االمريكية بالقاهرة ،زرت �أ�ستاذي ف�ؤاد �ص ّروف -وهو �أي�ضاً �شامي ف�س�ألني :هل اهتديت �إىل عمل؟ فقلت له� :إنني مل �أحاول حتى الآن .فقال :هل حتب �أن تعمل يف جريدة «االهرام» فقد كنت من يومني مع قريبي فريديك �شقري مدير «االهرام» الذي �أعرب يل عن رغبته يف تعيني �شباب يف اجلريدة؟ فقلت له :طبعاً .وعلى الفور �أعطاين خطاباً اىل �شقري بك ،وبعد �أيام القيت نف�سي موظفاً يف «االهرام» ال يف ق�سم التحرير كما كنت �أحب بل يف االدارة ،وعلى وجه التحديد يف ق�سم التوزيع .واكت�شفت �أن كل العاملني يف هذا الق�سم من ال�شوام� :سوقي وحبيقة و�شيخاين و�أبي نا�ضر و�ضاهر وبحري و�شدياق وب�شارة و�صيقلي وخطار، ولكنني مل �أح�س بالغربة يف و�سطهم ال �أنا وال زميلي ال�شاعر �صالح جودت الذي كان يعمل بدوره يف االدارة ولكن يف ق�سم االعالنات .واحلقيقة �أنني طوال ال�سنني الثالث التي عملت فيها و�سط ه�ؤالء ال�شوام ،مل تكن تربطني بهم �إال زمالة كرمية بل كانوا يدعونني �إىل منا�سباتهم العائلية. عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
96
وكنت الأحظ �أن معظم ال�شوام يقيمون �أما يف حي الفجالة �أو يف حي الظاهر القريب منه، و�سبب ذلك على ما �أعتقد� -أنه عندما بد�أت هجرة ال�شوام �إىل م�صر ،كانوا ي�صلون بالبواخر �إىل اال�سكندرية �أو بور�سعيد ،ثم ي�ستقلون القطار �إىل نهاية اخلط يف باب احلديد .ولأن حي الفجالة كان هو االقرب اىل حمطة م�صر ،فقد كانوا يف�ضلونه لل�سكن ،وما زال احلي �إىل هذا اليوم يحتفظ مبعامل �شامية ،منها دار املعارف مببناها القدمي ،ومنها مكتبة العرب ل�صاحبها يو�سف توما الب�ستاين. وهناك �أي�ضا حي ال�سكاكيني القريب ،وفيه ق�صر �شامخ كان ي�سكنه حبيب �سكاكيني با�شا ،وهو �أي�ضاً من ال�شوام. اما ق�سم التحرير يف «االهرام» فكان ير�أ�سه �أنطون اجلميل با�شا وي�ستعني بنجيب كنعان �سكرتري التحرير وحمررين منهم توفيق حنا ال�شمايل والبري عمون ،وه�ؤالء جميعا من ال�شوام. علي ذلك بدعوى �أن ق�سمي االدارة والتحرير وكانت مناي �أن �أعمل يف التحرير ،فا�ستحال ّ ي�ستقل كل منهما ببناية خا�صة وال �سبيل �إىل االنتقال بينهما حتى مع وجود كوبري معدين معلق بني البنايتني .وما �أكرث ما عربت عليه .ولهذا رحبت بدعوة كرمي ثابت با�شا للعمل معه يف «دار املقتطف واملقطم» كواحد من املحررين. ويف هذه الدار �أي�ضا ا�ستقبلني ثالثة با�شوات ،وكلهم من ال�شوام ،هم الدكتور فار�س منر با�شا الباقي على قيد احلياة من امل�ؤ�س�سني الثالثة للدار بعد رحيل �شريكيه الدكتور يعقوب �صروف و�شاهني مكاريو�س ،وخليل تابت با�شا وابنه كرمي تابت با�شا .وكان معنا �شوام �آخرون منهم قربة ومكاريو�س واليازجي و�أي�ضاً ماري كاثرين بوالد� .أما جملة «املقتطف» فكان لل�شوام دور فيها .هم ف�ؤاد �صروف وب�شري فار�س ونقوال احلداد مرتجم نظرية الن�سبية الن�شتني و�سكرتري التحرير ا�سبريو ج�سري الذي غري ا�سمه �إىل �سامي اجل�سري. يف عام 1948قرر خليل ثابت با�شا حمرر جريدة « املقطم» امل�س�ألية �أن يتقاعد عن عمله الذي ق�ضى فيه نحو 40عاماً م�ستمراً على مقعده يف اجلريدة ،بل كان مكتبه جزءاً ل�صيقاً من بيته ،فاذا ا�ستيقظ يف ال�صباح املبكر توجه �إىل �آلة التيكر (املربقة الكاتبة) وهي الآلة التي كانت تخرج منها ن�شرات الأخبار العاملية ،ومتى فرغ من قراءتها ،عكف على كتابة مقاله االفتتاحي اليومي الذي كان ين�شر يف �صدر ال�صفحة االوىل مع ذيول من التعليقات املوجزة يف �صفحة داخلية. يا كيكي كيكي
بعدما حترر خليل ثابت با�شا من «عبودية» الوظيفة ،قرر ال�سفر �إىل لبنان لال�صطياف يف م�سقط ر�أ�سه دير القمر،وعند عودته �س�أله �أ�صدقا�ؤه عن انطباعاته �أو ارت�ساماته عن االو�ضاع يف لبنان ،فقرر �أن يلقي حما�ضرة عامة يف النادي ال�شرقي الذي كان ير�أ�سه ،وهو ناد اجتماعي ولي�س ريا�ضياً،
هجرة الأدباء ال�شوام �إىل م�صر يف القرنني التا�سع ع�شر والع�شرين (حكايات)
درا�سات و�أبحاث
97
وكان �أكرب الأندية ال�شامية يف م�صر حيث كان هناك ناديان �آخران �صغريان هما نادي لبنان ونادي االرز. وبحكم تلمذتي املهنية على خليل ثابت با�شا و�أي�ضاً بحكم عملي ال�صحفي كنت حري�صاً على اال�ستماع �إىل هذه املحا�ضرة التي �ألقيت ارجتا ًال ،وت�سجيل وقائعها يف اجلريدة اعتماداً على ذاكرتي وعلى ما كنت �أخطه يف وريقاتي حيث مل نكن نعرف �أحهزة الت�سجيل املنت�شرة اليوم. وكان مما قاله خليل ثابت با�شا ان احلكومة اللبنانية رغبت يف درا�سة الو�ضع االقت�صادي يف البالد، فا�ستقدمت اخلبري البلجيكي العاملي فان زيلند لكي يدر�س هذا الو�ضع وي�شري على احلكومة ب�آرائه ون�صائحه يف ختام مهمته الر�سمية. وكان فان زيلند يطلب موافاته بتقارير من اجلهات احلكومية املختلفة لي�سرت�شد بها يف فهم جميع جوانب الو�ضع االقت�صادي للبنان ،وهي تقارير ر�سمية ا�ستندت �إىل ما توافر لدى اجلهات احلكومية من بيانات ر�سمية .وبعد درا�سة معمقة لكل هذه التقارير انتهى فان زيلند �إىل النتيجة التي فاج�أ بها احلكومة اللبنانية وهي �أن لبنان دولة مفل�سة متاماً! ولكنه ا�ستدرك قائ ًال �أن يرى الرخاء �سائداً يف لبنان فكيف تعللون هذه املفارقة؟ فالرخاء بكل مظاهرة يتعار�ض متاما مع حالة االفال�س التي تنطق بها التقارير الر�سمية. فقيل لفان زيلند �إن لبنان يتميز بجوانب اقت�صادية �أخرى ال تظهر يف التقارير الر�سمية .فاملهاجرون من اللبنانيني يبعثون �إىل عائالتهم ب�أموال من مدخراتهم .وهذه ت�صب يف االقت�صاد اللبناين ثم �إن لبنان دولة �سياحية ي�ؤمها الآالف من ال�سياح �سنويا �شتاء و�صيفاً ،وه�ؤالء ينفقوا �أموا ًال طائلة على �أن�شطتهم ال�سياحية ،وهي �أموال ت�صب يف االقت�صاد الوطني ،كما �إن لبنان دولة مفتوحة �أمام التعامل يف العمالت الأجنبية ،واملعادي النفي�سة كالذهب والف�ضة ،وهذا الن�شاط ي�صب بدوره يف االقت�صاد القومي ،وال تن�س �أن لبنان يزرع احل�شي�ش وي�صدره �إىل الأ�سواق اخلارجية ،وال �سيما م�صر ،وااليرادات املتح�صلة من هذا الن�شاط ت�صب يف االقت�صاد اللبناين. وعندما �أ�سمع فان زيلند هذا التف�سري من احلكومة اللبنانية قال للم�س�ؤولني فيها :ما دام هذا هو حالكم ،فا�ستمروا كما �أنتم وال تتغريوا وال تفكروا يف ا�ستقدام �أي خبري اقت�صادي مهما تكن �سمعته �أو �شهرته. والتقط املطرب اللبناين عمر الزعني هذه النتيجة ونظم مقطوعة غناها �أذكر مما جاء فيها قوله :يا كيكي كيكي ،تعايل ملا احكيكي ،ال ينفع فيك خبري بلجيكي وال بروف�سري �أمريكي! ن�شرت يف «املقطم» وهي جريدة م�سائية -حما�ضرة خليل ثابت با�شا كما ا�ستطعت ت�سجيلها ب�أمانة ويف �صباح اليوم التايل تلقيت مكاملة هاتفية من خليل با�شا يهنئني فيها على دقتي يف ت�سجيل كالمه. عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
98
ومبجرد ظهور اجلريدة كتب �إ�سماعيل �صدقي با�شا مقا ًال يف جريدة «امل�صري» تعليقاً على حكاية احل�شي�ش ،وكان �صدقي با�شا معروفاً بكراهيته للعرب والعروبة ،بل كان يطالب م�صر باخلروج من جامعة الدول العربية لأن كل هذه الدول العربية �ستكون عالة على م�صر ،ومما قاله يف تعليقه املن�شور (ولي�س هذا كالمه بالن�ص ولكنه ميثل فحواه) ت�صوروا �أن لبنان الذي نزامله يف اجلامعة العربية ال هم له �إال تدمري �صحة امل�صريني مبا ي�صدره �إلينا من احل�شي�ش� .إن �أول واجب على احلكومة امل�صرية هو قطع عالقاتها مع لبنان واالن�سحاب من اجلامعة العربية التي جتمعنا مع �أمثال هذه الدويلة. مل تكد مقالة �إ�سماعيل �صدقي با�شا تظهر ،حتى انربى له حبيب جاماتي فرد عليه يف نف�س جريدة «امل�صري» مبا م�ؤداه �أن الدول العربية فرادى هي دول �ضعيفة ،ولكن وحدتها من خالل اجلامعة العربية تك�سبها قوة وجتعل لها منزلة مرموقة �أمام دول العامل� ،أما م�شكلة احل�شي�ش فهي م�شكلة ثانوية ميكن حلها بني احلكومتني امل�صرية واللبنانية. ومع �أنني كنت -وما زلت -من دعاة العروبة ،فقد �أغناين ال�صديق حبيب جاماتي عن ا�ستخدام املنطق ال�سيا�سي يف الرد على ا�سماعيل �صدقي با�شا .ولهذا رددت على دولته -بل�ساين الطويل قائ ًال :يا دولة البا�شا ،لقد توليت ريا�سة الوزارة مرات من قبل ،ورمبا �أ�سندت اليك يف امل�ستقبل. فلماذا ف�شلت ف�ش ًال ذريعاً يف الق�ضاء على جتارة احل�شي�ش اللبناين� ،سواء بالقانون �أو بالزجر �أو ب�أي �أ�سلوب �آخر؟ ولو �أنك جنحت يف �إقناع مواطنيك بالكف عن التح�شي�ش ،لكف لبنان عن زراعة هذا العقار لبوار �سوقه ،فال تلم اللبنانيني بل مل مواطنيك امل�صريني ،وقبل ذلك مل نف�سك على ف�شلك يف عالج امل�شكلة من جذورها. ومل يحاول �إ�سماعيل �صدقي با�شا بعد ذلك الرد� ،سواء على حبيب جاماتي �أو على كاتب هذه ال�سطور. ويف �أثناء عملي يف «املقطم» مل ينقطع توا�صلي مع ال�شوام ففي �أحد االيام زارين ال�شاعر اللبناين اليا�س خليل زخريا وكان يركب �سيارة فارهة ب�سائق .ف�س�ألته هل جئت بهذه ال�سيارة من بريوت �أو �أ�ست�أجرتها من القاهرة؟ فقال� :إنها �سيارة زوجتي .ف�س�ألته :وهل �أنت متزوج من م�صرية؟ فقال� :إن زوجتي هي بديعة م�صابني .ولده�شتي �س�ألته :هل هي الفنانة ،منحرجاً من �أن �أ�صفها بالراق�صة .فقال نعم ،فقد تزوجنا بعد وفاة زوجها املمثل جنيب الريحاين ب�سبب ا�ستحالة الطالق بينهما يف حياته ح�سب املذهب الكاثوليكي. وذات يوم تلقيت بالربيد امل�سجل ر�سالة يف مظروف يحمل �أ�سم «جمل�س النواب اللبناين» ،وهو ما �أثار ف�ضويل .وعندما ف�ض�ضت الر�سالة تبينت �أنها من ال�شاعر �أمني نخلة -ومل �أكن �أعرفه.. يقول فيها �إنه يجمع تراث ال�شاعر ويل الدين يكن الذي كان ين�شر يف «املقطم» حوايل عام 1912 �سل�سلة من املقاالت بعنوان ال�صحائف ال�سود ،ورجاين �أن �أنقلها �إليه فقمت بن�سخها ومل يكن
هجرة الأدباء ال�شوام �إىل م�صر يف القرنني التا�سع ع�شر والع�شرين (حكايات)
درا�سات و�أبحاث
99
هناك ت�صوير ووافيته بها. ثم تلقيت ر�سالة دورية بتوقيع ر�شيد بك بي�ضون يقول فيها �إنه تقرر �إقامة حفل كبري لتكرمي ال�شاعر بول�س �سالمة � -شاعر املالحم .وو�صف يف الر�سالة حالته املر�ضية التي تكاد تقعده �إال عن الكتابة ونظم ال�شعر ،ودعاين �إىل امل�شاركة يف حفل التكرمي ،فما كان مني �إال �أن ن�شرت مقا ًال عن بول�س �سالمة -الذي ال �أعرفه وال قر�أت �شيئاً من �آثاره .وبعثت بهذا املقال �إىل جلنة التكرمي التي ن�شرته يف الكتاب التذكاري الذي �أ�صدرته عام .1950واتفق يف ذلك الوقت �أن زارت م�صر �شقيقة مي�شال مكرزل �صاحب جملة «الدبور» اللبنانية و�س�ألت زمي ًال يل عما �إذا كان يرغب يف حتقيق رجاء هذه ال�سيدة ب�أن ي�صبح مرا�س ًال للمجلة يف م�صر ،فرحبت ب�أن �أكون املرا�سل املتطوع .و�أتفق وقتها ان القيت قنبلة على دار �سينما مرتو بالقاهرة ،وهي �أكرب و�أحدث دار �سينمائية ،فقام رئي�س الوزراء ا�سماعيل �صدقي با�شا امل�شهور بالدكتاتورية والطغيان بالقاء القب�ض على 40من املعروفني باالجتاه الي�ساري ،ومنهم �سالمة مو�سى والدكتور حممد مندور وال�صحفي حممد زكي عبد القادر وفتحي الرملي والد الكاتب امل�سرحي لينني الرملي وغريهم .وجاءين ابن �سالمة مو�سى ومعه ر�سالة من �أبيه حول اعتقاله ،فحاولت ن�شر اخلرب يف اجلريدة .ولكن الرقيب حذفه .فكتبت مقا ًال حملت فيه حملة �شعواء على �صدقي با�شا و�سخرت من اتهامه ه�ؤالء املفكرين بالقاء قنبلة على دار �سينما ،وبعثت باملقال �إىل جملة «الدبور» ومبجرد ظهوره ا�ستدعى ال�سفري امل�صري يف بريوت �صاحب املجلة واحتج على هذه املجلة التي من �ش�أنها اال�ساءة �إىل العالقات بني م�صر ولبنان. فدافع مي�شال مكرزل عني وقال لل�سفري ان مرا�سلنا يف القاهرة يعرف احلقيقة وال يكتب اال �صدقاً، و�أن املجلة �ستن�شر �أي ر�سائل ت�أتيها منه .وعرف ال�سفري ان جهده مل يوفق ،وتلقيت من مكرزل ر�سالة و�صف فيها ما دار بينه وبني ال�سفري امل�صري ولكنه ن�صحنى بتخفيف لهجتي. تعرفون �أن ال�شوام هم الذين �أن�ش�أوا �أكرب دور لل�صحافة والن�شر يف القاهرة :دار املقتطف واملقطم التي هجرناها يف عام 1952عندما نا�صبتنا الثورة العداء .ودار االهرام التي �أن�ش�أها �سليم وب�شارة تقال والتي �آلت ملكيتها بعد وفاة جربائيل تقال با�شا �إىل جنله ب�شارة تقال ،وهذا تنازل بعد الت�أمني على كل حقوقه حيث مل يكن له ورثة .ودار الهالل التي كان املعتقد بعد الت�أميم �أن ت�ؤول ملكيتها �إىل حفيد جرجي زيدان ،وهو زميلنا اميل �سمعان ،ولكن احلفيد كان مهوو�ساً بريا�ضة اليوغا الهندية ،فهاجر �إىل الهند وعا�ش هناك مثل �أي فقري هندي ،وعند وفاته من ب�ضع �سنني �أحرق جثمانه طبقاً للمنا�سك الهندوك�سية. �أما دار املعارف التي عوملت بعد الت�أميم بانها دار �صحفية ب�سبب جملة «اكتوبر» التي احلقت بها، فقد ارت�أى امل�س�ؤولون عنها بعد الت�أميم االبقاء على �صاحبها �شفيق مرتي لكي يالحق املطابع والعمال مقابل «نفقة» �شهرية قدرها مئة جنيه ولي�ست مرتباً �أو مكاف�أة .وعندما التقيت به للمرة االخرية يف الطريق �أخربين �أنه توجه �إىل مدير الدار وقال له :كيف �أعي�ش مبئة جنية يف ال�شهر مع �أن �أجرة ال�شقة التي �أقيم فيها هي مئة جنيه؟ فقال له املدير� :أحمد ُ ربك لأننا �أبقينا عليك. عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
100
فما كان منه �إال �أن هاجر �إىل فرن�سا للحاق بنجله الوحيد الذي كان يعمل يف دار ها�شيت لطباعة القوامي�س. ولأن كرمي ثابت با�شا كان يعمل �إىل جانب رئا�سة حترير «املقطم» م�ست�شاراً �صحفياً جلاللة امللك فاروق ،فقد متت حماكمته مرتني �أمام حماكم ا�ستثنائية وحكم عليه بال�سجن وم�صادرة كل �أمالكه حتى �أثاث بيته .فقامت زوجته وهي ابنة ال�صحفي اللبناين �سليم �سركي�س -ب�شراء هذا الأثاث مرتني. وعند وفاة كرمي ثابت اقت�صر النعي املن�شور يف ال�صحف على ا�سم وعنوان الكني�سة التي تقام فيها �شعائر اجلنازة .وكان طبعياً �أن �أتوجه �إىل الكني�سة حيث جاء جمل�سي �إىل جوار ال�صحفي حبيب حاماتي .وملا بد�أ الق�س اخلدمة الكني�سية قال :نزو ًال على رغبة من ال �أ�ستطيع لرغبتهم رداً ،لن �أذكر �أ�سم الفقيد طوال اخلدمة وهي عبارة رددها يف ختام اخلدمة معرباً عن �أ�سفه لأنه ال ي�ستطيع ذكر �أ�سم الفقيد فالتفت �إىل حبيب حاماتي وقلت له :لو كان يف و�سعي �أن �أكتب مقا ًال جلعلت عنوانه «ثورة ترتعب من جثة». وب�سبب حركات الت�أميم والرقابة� ،صرح الدكتور طه ح�سني قائ ًال �إن مركز اال�شعاع انتقل من القاهرة �إىل بريوت .وكان ال�شاعر �أحمد �شوقي قد �سبقه �إىل تعظيم لبنان بقوله :لبنان واخللد اخرتاع اهلل. وكنت �أجد يف املجالت الأدبية اللبنانية متنف�ساً يل ونافذة حرة للتعبري بعيداً عن ال�سيا�سة ومزالقها، فبد�أت �أتوا�صل مع جملة «الأديب» ل�صاحبها �ألبري �أديب منذ عام 1945وا�ستمر التوا�صل طوال عمر هذه املجلة .كما كتبت يف جملة «الآداب» ل�سهيل �إدري�س يف �سنواتها االوىل .ون�شرت ف�صو ًال يف جمالت �أخرى منها «الر�سالة» جلان كميد ،و»الغربال» ل�سليم مكرزل و»ر�سالة الرتبية» وكان يحررها فوزي عطوي ،و«العلوم» ملنري البعلبكي ولكن جملة «االديب» هي التي �أف�سحت يل �صدرها وبف�ضلها عرفت �إىل العامل العربي ويف املهاجر الن املجلة كانت غري معنية بال�سيا�سة وكانت تدخل جميع البلدان العربية دون �أن تتعر�ض للوقف �أو امل�صادرة باعتبارها ر�سو ًال عاملياً للأدب العربي. ويف جملة «الأديب» ن�شرت ثالث �سال�سل كانت االوىل بعنوان «�صورة و�صفية» تناولت فيها ر�سم لوحات �أدبية لرائدات عرفتهن متثل كل منهن منوذجاً جمي ًال للمر�أة .فهناك الر�سامة وعازفة البيان والكاتبة وامل�ضيفة اجلوية واملهمومة بق�ضايا املجتمع -التي �أ�صبحت مع الوقت مديرة ملنظمة اليوني�سيف يف جنيف -و�سيدة املجتمع التي تفتح بيتها ل�صفوة املجتمع .،وهلم جرا .واتفق يف ذلك الوقت ان كان هناك �شاعر لبناين -ن�سيت ا�سمه الآن -يقيم يف دولة �أفريقية وهو قد حر�ص على �إهدائي ديوانه مطرزاً بعبارة «�إىل �صاحب ال�صور الو�صفية» ولأنه مل يكن يعرف عنواين فقد بعث بديوانه �إىل جملة «الأديب» التي وافتني به. امل�ضيع» كنت �صديقاً لل�شاعر الدكتور ابراهيم �أما ال�سل�سلة الثانية فكان عنوانها «�شعر ناجي ّ
هجرة الأدباء ال�شوام �إىل م�صر يف القرنني التا�سع ع�شر والع�شرين (حكايات)
درا�سات و�أبحاث
101
ناجي ،وعند وفاته �أ�صدرت وزارة الثقافة ديوانه وقال حمققوه �أن ي�ضم كل �شعره .ولكن �صدور الديوان اقرتن بف�ضيحتني �أوالهما �أنه ال ي�ضم كل �شعره ،والثانية انه قد ت�سللت �إىل الديوان ق�صائد لل�شاعرين علي حمود طه وكمال ن�ش�أت ،مما ترتب عليه م�صادرة الديوان ،وهو ما حفزين على حماولة جمع �شعر ناجي ال�ضائع �سواء من جمالت قدمية �أو ممن كانوا يحتفظون ب�شعر نظمه ال�شاعر حول ان�شطتهم. و�أما ال�سل�سة الثالثة التي ا�ستمرت �ست �سنني فكان عنوانها «الأدب والأحذية» ذلك �أن �صديقي ال�شاعر نزار قباين كان مدعواً �إىل مهرجان املربد ال�سنوي الذي يقام يف بغداد ،حيث القي ق�صيدة كان مما جاء فيها بقوله: واذا �أ�صبح املفكر بوق اً ي�ستوي الفكر عندها واحلذاء �أنا حريتي ف�إن �سلبوها ت�سقط االر�ض دونها ال�سـماء فقلت لنف�سي :هذا كالم ُمنزل.وعقدت مقا ًال بعنوان « الأدب والأحذية» رويت فيه حكايات تدور حول احلذاء ،منها مث ًال �أن الأديب عبد الرحمن اخلمي�سي -وهو �أديب و�شاعر وملحن ومو�سيقار وخمرج �سينمائي ورقا�ص! نقل يف حركة بط�ش بال�صحفيني �إىل م�ؤ�س�سة باتا لالحذية. فتوجه وهو ال�شيوعي �إىل �صديقه ال�شاعر كامل ال�شناوي ي�شكو همه ،فما كان من ال�شناوي �إال �أن عزاه بقوله :هون عليك فان ا�ستاذك غوركي بد�أ ا�سكافياً وانتهى �أديباً ،وها �أنت قد عك�ست الآية وحتولت من �أديب �إىل ا�سكايف! ورويت ق�صة �أخرى حول الأديب حبيب الزحالوي الذي كان يبيع االحذية يف متجر �صيدناوي يف القاهرة وانتهى به احلال اىل بيع خردة احلديد يف حي بوالق القدمي. وعلي تعليقات كثرية حتى من امل�ست�شرق جرمانو�س ومبجرد ن�شر املقال انهالت على جملة «الأديب» ّ يف املجر ،مما �شجعني على موا�صلة ال�سل�سلة وكنت يف كل حلقة منها �أكرر قول نزار قباين: و�إذا �أ�صبح املفكـر بوقــاً ي�ستوي الفكر عندها واحلذاء على �أمل �أن يحفظ كل حامل قلم هذا البيت وي�ستظهره يف حياته. و�إن كان �صديقنا ال�شاعر القروي ر�شيد �سليم اخلوري يحر�ص على و�صف نف�سه ب�أنه «بوق العروبة» ويف عام 1948تلقيت ر�سالة غا�ضبة من �ألبري �أديب يرجوين فيها �أن �أبحث �إمكانيات انتقاله هو وجملة «الأديب» اىل القاهرة ال�صدارها من العا�صمة امل�صرية .و�سبب ذلك ان قانونا جديدا �صدر يف لبنان «يعيدنا �إىل العهد الذي كان يلقي القب�ض فيه على الكاتب الذي ينعت الأ�سد مبلك عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
102
الغاب باعتبار �أن ال�سلطان وحده هو «ملك الغاب» .وقال�« :أن من ح�سنات القانون ال�سوداء �أن يفر�ض علينا تقدمي �ضمانة مالية نقدية قدرها ثالثة الآف لرية .وجتدين الآن �أحاول �أن �أجد قيمة ال�ضمان املايل ،واال ا�ضطررت �إىل وقف «الأديب». ا�ستفزتني هذه الر�سالة وكنت يف ذلك الوقت �أجمع بني عملي وجريدة « املقطم» وبني تدري�س علوم ال�صحافة يف اجلامعة االمريكية ،وكانت ق�ضايا حرية ال�صحافة والر�أي ت�ست�أثر بكل اهتمامي. ن�شرت مقا ًال �أفتتاحياً يف «املقطم» حول هذا القانون �أبديت فيه عجبي من �صدوره يف وقت كان فيه الأديب خليل تقي الدين �شقيق �صديقي �سعيد تقي الدين م�س�ؤو ًال عن دائرة الدعاية والن�شر يف لبنان .وكانت جريدة «املقطم» م�سموعة الر�أي يف لبنان وكنت مكلفاً من �صاحب اجلريدة الدكتور فار�س منر با�شا ب�أن �أعقد مقاالت ال�صدر اليومية بعدما توقف عن كتابتها خليل ثابت با�شا. املدوي تلقيت ر�سالتني من خليل تقي الدين و�شقيقه بهيج تقي الدين وعلى �أثر �صدور مقايل ّ املحامي وع�ضو جمل�س النواب اللبناين ،فبادرت بن�شرها يف اجلريدة بن�صها الكامل ،وال ب�أ�س من تلخي�صها هنا لأن الأجيال احلالية يف لبنان قد ال تكون على دراية بهذه الق�ضية. �أما خليل تقي الدين فقد قال �إنه مل يبق مديراً للمطبوعات يف لبنان حيث ا�ستقال من هذه املهمة امل�ؤقتة التي كانت قد وكلت �إليه قبل �صدور قانون املطبوعات اجلديد ،و�أنه ما زال يف ال�سلك الدبلوما�سي اللبناين. و�أ�ضاف �أن فريقا من �صحفيي لبنان كانوا من العاملني على و�ضع هذا القانون الذي جعل للق�ضاء وحده الف�صل يف ق�ضايا ال�صحافة ،بينما كان القانون القدمي يعطي احلكومة حق تعطيل اجلريدة �إدارياً تعطيال يتجاوز ال�شهور وال�سنني� .أما القيود التي يفر�ضها القانون حيث مبلغ الت�أمني فرياد منه ا ّحلد من فو�ضى ال�صحافة الطاغية يف لبنان .وح�سبك �أن تعلم �أن يف ٍ بلد ال يزيد عدد �سكانه املليون �أكرث من مئة وخم�سني �صحيفة .فلما ُبدىء يف تنفيذ القانون توارت من الوجود ال�ستون �صحيفة التي �أ�شرمت اليها يف مقالكم .وذلك ال بقرار من احلكومة كما ذكرمت .بل لعجزها عن ايفاء �شروط القانون من حيث ال�ضمانة وال�شهادة التي يجب ان يحملها �صاحب اجلريدة ورئي�س التحرير. وختم ر�سالته بقوله� :أرجو خمل�صاً �أن ت�صدقوا �أن يف تواربها اخلري والربكة� ،إذ ال يزال عندنا يف لبنان اكرث من خم�سني جريدة وهو عدد �أكرث من ٍ كاف. �أما املحامي بهيج تقي الدين الذي كان ع�ضواً يف جمل�س النواب عند �إقرار هذا القانون فقال يف ر�سالته التي قمت بن�شرها يف «املقطم»: «�إنني �أ�شاطرك ر�أيك ب�ش�أن املفعول ال�سلفي (�أي االثر الرجعي) للقانون ،ولقد كنت بني النواب الذين اقرتعوا �ضد �إعطاء الن�ص املعلق بدفع ال�ضمانة الآن� ،أي مفعول رجعي .ولكن الأكرثية
هجرة الأدباء ال�شوام �إىل م�صر يف القرنني التا�سع ع�شر والع�شرين (حكايات)
درا�سات و�أبحاث
103
وافقت على امل�شروع كما ورد من احلكوكة .ونقابة ال�صحافة اللبنانية �ساعية الزالة تلك ال�سيئات». وختم ر�سالته بقوله« :ميكنني �أن ا�ؤكد حل�ضرتك �أنني �س�أقف مع التعديل الذي يطلبه ال�صحافيون علي واجبي و�ضمريي ،ذلك �أنني �أعترب �أن الدفاع عن حرية الفكر واجب وهو املوقف الذي ميليه ّ مقد�س وفر�ض على كل من ي�ؤمن بالنظام الدميقراطي وال ير�ضى عنه بدي ًال .و�إنني واثق من �أن زمالئي يف املجل�س �سيقفون من القانون املوقف نف�سه النهم يف ممار�ستهم لر�سالتهم النيابية امنا ي�سرتوحون الروح نف�سها». املن على لبنان �أن �أ�سجل �أن دفاعي عن حرية ال�صحافة يف لبنان يف مقاالت ولي�س من قبيل ّ ال�صور التي ن�شرتها يف «املقطم» قد �أثمرت عدول حكومة لبنان عن هذا القانون اجلائر. وعندما زرت لبنان للمرة الأوىل يف عام 1955حر�صت على التوا�صل �شخ�صياً مع من كنت �أعرفهم باملرا�سلة ال بامل�شافهة .فزرت ال�شاعر بول�س �سالمه يف منزله القدمي ،و�ألقيته راقداً على ن�صف �سرير لأن الن�صف الآخر كان يختفي حتت �أكدا�س من الكتب .و�س�ألني �أن �أعرف من زوجته �أنه مل ي�ستطع النهو�ض ال�ستقبايل ب�سبب اجلراحات اخلاطئة التي �أجريت له بالع�شرات يف العمود الفقري .ومع �إ�شفاقي عليه من طول الزيارة ّ علي حما�ضرات يف ظل ي�ستبقني ويلقي ّ الأدب وال�شعر والأخالق والفل�سفة -لقد كان بحراً يف العلم ّقل نظريه .وان�صرفت من داره و�أنا ال �أملك �إال �أن �أدعو له بال�شفاء. وبعد �سنوات زرته يف بيته اجلديد بعد ما حدثت معه معجزة يف مدينة لورد الفرن�سية ،وطار �صوابي و�أنا �أراه مي�شي على قدميه متوكئاً على عكازه ويحيط خا�صرته بحزام عري�ض. وزرت ال�شاعر �أمني نخلة يف مكتب املحاماة الذي كان يديره يف طريق ال�شام ،حيث قال يل �إنه يعتقد �أنه �أحق النا�س مبن�صب رئي�س اجلمهورية و�أنه �سري�شح نف�سه يف االنتخابات املقبلة. وزرت الأديب �سعيد تقي الدين بعد ان ا�ستقر يف لبنان عائداً من مهجره يف الفليبني و�أخربين �أن يعتزم �إ�صدار جريدة ا�سمها «الزوابع» وعلمت فيما بعد �أنه هاجر من جديد ولكن �إىل �أمريكا اجلنوبية. وزرت البري �أديب الذي ن�صحني ب�أن �أركب ترام بريوت و�أهبط �أمام الطبية االفرن�سية لأن بيته ومكتبه يقعان يف البناية املقابلة لها .و�أثناء الزيارة جاءت ابنتاه هدى وندى من املدر�سة حاملتني بريد جملة «الأديب» حيث كانتا تع ّرجان على مكتب الربيد واحل�صول على بريد املجلة من ال�صندوق املخ�ص�ص لها بنا ًء على تعليمات �أبيهما. والحظت �أن �ألبري �أديب يخاطبني باللهجة امل�صرية وظننته يجاملني ،ولكنه �أخربين �أنه �أكت�سب هذه اللهجة من �إقامته يف م�صر ومل تفارقه بعد ذلك. وزرت حممد جميل بيهم الذي �أخذ يحدثني عن عروبة لبنان يف التاريخ لي�ؤكد يل �أن لبنان لي�س عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
104
فينيقياً كما يزعمون بل هو عربي �صريح العروبة. وطبعاً زرت �أ�ستاذي ف�ؤاد �ص ّروف الذي �أ�صبح نائب رئي�س جامعة بريوت االمريكية وهو �صاحب علي ،بل لقد كنت �أمتنى �أن �أ�صبح امتداداً له ،ولكن هيهات. �أف�ضال كثرية ّ ولدى عودتي من لبنان ن�شرت مقا ًال يف م�صر قلت فيه �إن �أجمل ما يف لبنان هو احلرية حتى ولو خالطتها الفو�ضى ،كما قلت �إن كل لبناين يعتقد �أنه هو الأحق مبن�صب رئي�س اجلمهورية ،و�أن الدميقراطية ال�سائدة يف لبنان ت�سمح لكل لبناين ب�أن يحقق هذه الأمنية. وبعد تقبلوا مني �آيات ال�شكر القلبية على ح�سن ا�ستماعكم ،و�أرجو �أال �أكون قد �أمللتكم بحديث عن لبنان الذي تعرفونه �أكرث م ّني ،والذي �أعتربه دائماً وطني الثاين.
105
درا�سات وابحاث
البعد الأكربي يف ت�صوف الأمري عبد القادر | مباركة حاجي | �أ�ستاذة يف كلية العلوم الإن�سانية واالجتماعية، ق�سم الفل�سفة جامعة اجلزائر 2
يعد ت�صوف الأمري عبد القادر منوذجاً حياً لتجربة روحية وفكرية ثرية فريدة من نوعها يف الع�صر احلديث ،ذلك �أن هذا الرجل قد جمع بني ال�سبق والف�ضل يف ت�أ�سي�س الدولة اجلزائرية والت�صدي للعدوان اال�ستعماري الغا�شم باجلهاد الطويل واملرير ،وبني البحث امل�ضني عن اليقني والكمال، الذي يقربه من �أهل العرفان ،حيث يعد الأمري تلميذا لل�شيخ الأكرب حمي الدين بن عربي ،بل ووارثا ملعارفه الك�شفية و�إ�شاراته العرفانية. ولعل ح�ضور بع�ض امل�صطلحات العرفانية يف كتابه «املواقف كالإن�سان الكامل ،مث ًال ،و�إجالله الكبري ل�شيخه حمي الدين كما يكنيه لدليل على ذلك
مقدمة:
�إن الكتابة عن الأمري عبد القادر هي مغامرة حتتاج �إىل الكثري من البحث والت�أين يف التحليل، ذلك لأنه �شخ�صية متعددة الأبعاد فهو «رجل يخت�صر يف كيانه �أمة بكاملها ،ويوجز يف حياته ع�صراً ب�أكمله»( ،)1فهو مثل الكثري من عظماء التاريخ ال ميكن �أن تختزل حياته يف رافد من روافد الن�شاط الإن�ساين ،ميكن الإحاطة به ،فهو الفار�س والقائد واملجاهد ورجل الدولة ال�سيا�سي احل�صيف وال�شاعر امللتزم ،والفقيه امللم بل والعارف املت�صوف الذي خرب ال�سهل والوعر يف جميع ميادين الت�صوف ال�سلوكي والعرفاين ،مع �شغف كبري باملطالعة فتحت له املجال للإطالع على كتب «العلم والفل�سفة و�أعمال �أفالطون وفيثاغور�س و�أر�سطو،كما �أ�شرب الت�صوف من خالل كتب ال�شيخ حمي الدين بن عربي ،ابن �سينا وغريهم»( )2بل وا�ستوقفته جتربة �أ�ستاذه ال�شيخ الأكرب عد وارثاً لتجربته العرفانية. حتى ّ
عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
106 الأمري عبد القادر تلميذ ال�شيخ الأكرب ووارثه:
ال �شك �أن الباحث يف �أدبيات الأمري ال�شعرية وال�صوفية العرفانية ت�ستوقفه �أقواله وثنا�ؤه على �شخ�ص ال�شيخ الأكرب حمي الدين بن عربي حيث ي�صفه بالوارث املحمدي مرة بقوله�« :إن ال�شيخ الأكرب على قدم حممد �صلى اهلل عليه و�سلم وهو خامتهم ولي�س بعده وارث حممدي»(.)3 كما يكنيه مرة �أخرى ب�إمام الكا�شفني حيث يقول« :قال يل �إمام الكا�شفني من الأولياء حمي الدين اجل�سم ال�صقيل �أحد الرموز التي تظهر �صورة الربزخ املثال يجري العادة الإلهية ولهذا ال تتعلق الر�ؤية فيها بالأج�سام ،هذا �إذا كانت املر�أة على �شكل خم�صو�ص ومقدار جرم خم�صو�ص، ف�إن مل تكن كذلك مل ت�صدق املر�أة يف كل ما تعطيه بل ت�صدق يف البع�ض دون بع�ض»(.)4 وي�شري يف مواقفه «�أنه �أح�سن النا�س فهما لـ «ف�صو�ص احلكم» �إمدادا ويف الر�ؤى ،كما تلقاها هو من النبي �صلى اهلل عليه و�سلم( ،)5يقول يف هذا املعنى« :وملا كتبت هذا املوقف ر�أيت �أنني �أوتيت بكتاب ،وقيل يل :هذا كتاب حمي الدين بن العربي ر�ضي اهلل عنه الذي �ألفه يف الروح فت�صفحته واحلمد هلل رب العاملني»(.)6 كما جنده يت�صدر ل�شرح �أقوال ال�شيخ الأكرب كما فعل يف «املوقف» رقم 250بل ويدافع عن �صحة �أقواله وب�أنه مل يقل �شيئا من عنده و�إمنا هو كما قال يف «الفتوحات املكية» وما و�ضعت الكلمة �إال ب�إلقاء روحاين يف قلب كياين» �أو كما قال «فيجب االنقياد لكالمه واخل�ضوع ملعارفه ف�إنه الوارث الكامل ر�ضي اهلل عنه(.)7 بل ويذهب �إىل �أبعد من هنا يف الدفاع عنه ورد �أقوال بع�ض املعرت�ضني عليه من تالميذه الروحيني كعبد الكرمي اجليلي يف فهم كل واحد منهم لعلم اهلل تعاىل باملخلوقات يقول«:وقد قال �إمام العارفني قدوتنا حمي الدين �أن معلومات احلق تعاىل �أعطته العلم من نف�سها» -وقد اعرت�ض على هذا القول العارف الكبري عبد الكرمي اجليلي مبا ن�صه« :ملا ر�أى الإمام حمي الدين احلق حكم (�أي احلق) للمعلومات مبا اقت�ضته من نف�سها ظن �أن علم احلق م�ستفاد من اقت�ضاء املعلومات ،وفاته �أنها اقت�ضت ما علمها عليه بالعلم الأ�صلي الكلي النف�سي ،قبل خلقها و�إيجادها ف�إنها ما تعينت يف العلم الإلهي �إال مبا علمها ال مبا اقت�ضته ثم اقت�ضت ذواتها بعد نف�سها �أمورا هي عني ما علمها عليه �أوال ،فحكم بها ثانيا ،مبا اقت�ضته وما حكم لها �إال مبا علمها عليه» ويعلن �أنه ال خالف بني ال�شيخني عند من يعلم ،ويذكر �أنه �ألقى �إليه يف �أثناء كتابته هذا «املوقف» قوله تعاىل« :فما لهم ال ي�ؤمنون، و�إذا قرئ عليهم القر�آن ال ي�سجدون» ( ) ف�ألهم �أن الوارد ي�شري �إىل توبيخ من ال ي�صدق بكالم الإمام حمي الدين»(.)8 ومل يقت�صر الأمري يف �إعجابه ودفاعه عن �شيخه عند حدود احلديث عن مكانته بل ذهب باال�شارة �إىل نف�سه بـ «احلقري» والإ�شادة ب�شيخه بعبارة «�سيدنا» يقول« :وهذا الذي ذكرناه يف جل هذه
البعد الأكربي يف ت�صوف الأمري عبد القادر
درا�سات و�أبحاث
107
الآيات هو من �أنفا�س �سيدنا ر�ضي اهلل عنه و�إمداد لهذا احلقري بالإلقاء يف الواقعة ،و�إن كان مرمى �سيدنا ر�ضي اهلل عنه جل �أن ،ي�صل �إليه رام ،وقد كنت ر�أيته ،ر�ضي اهلل عنه يف مب�شرة من املب�شرات فذاكرته يف م�سائل من «ف�صو�ص احلكم» فقال يل :ال�شراح كلهم ما فهموا مراده... فجعلت �أتفكر يف نف�سي ،ثم قال مراده ب�ضمري الغائب؟ ثم ظهر يل يف احلال �أنه يريد بذلك ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم ف�إنه �صلى اهلل عليه و�سلم هو الذي جاءه بكتاب «ف�صو�ص احلكم»(.)9 بهذا اليقني يف تف�سريه ر�ؤاه الدالة على ت�شبعه ب�آراء ال�شيخ وتعلقه وقناعته ب�أنه الأقرب فهما وقدرة على �شرح ف�صو�ص احلكم يقول معربا لإحدى الر�ؤى« :عربتها على �أين قاربت املراد فيما كتبت»(.)10 هذا وميكن �أن جند يف حتقق �أمنية «الأمري» �أن يدفن بجوار �شيخه «حمي الدين بن عربي» �أكرب تقاطع بني الرجلني حيث حتقق له اجلوار الأبدي ل�شيخه يف �سفح جبل قا�سيون ب�سوريا ،رغم �إظهار رفاة «الأمري» �سنة 1966ليعود �إىل اجلزائر ،ويبدو �أن عالقته ب�شيخه هي عالقة برزخية، �صوفية عرفانية. وميكن �أن جنمل �أبعاد هذا التقاطع والتقارب يف ثالث: البعد الرتبوي :حيث ن�ش�أ الأمري يف ظل زاوية تنتهج الطريقة القادرية ،ثم رحالته مع والده �إىل امل�شرق واحلجاز وهو �صغري ال�سن ،وزيارته ل�ضريح «ال�شيخ عبد القادر اجلياليل» وال �شك �أنه قد اكت�شف ن�صو�ص ابن عربي وعلى ر�أ�سها «الف�صو�ص» يف زاوية �أبيه» التي تربى فيها �إىل جانب خمطوطات وكتب كثرية يف الت�صوف الزهدي كمو�سوعة الإمام �أبي حامد الغزايل ،وهذا ما تالحظه يف كتابيه ،املقرا�ض احلاد» وتنبيه الغافل» وهي توجيهات يف الت�صوف الزهدي. الهجرة ومكابدة طريق الك�شف واخللوة واملجاهدة :ورغبة الأمري يف ا�ستظهار كتاب �شيخه الربزخي ابن عربي «الفتوحات املكية» فكان �أول من قام بن�شر هذا الكتاب ،حتى �أن الدكتور «عثمان يحي» حمقق هذا الكتاب �أهدى عمله كما هو مدون يف �أول �صفحة من كتاب «الفتوحات املكية» لـ «الأمري عبد القادر» بهذه العبارات القوية�« :إىل رب ال�سيف والقلم الأب الروحي الأول للثورة اجلزائرية اخلالدة الأمري عبد القادر اجلزائري ،تلميذ ال�شيخ الأكرب يف القرن التا�سع ع�شر ونا�شر الفتوحات املكية لأول مرة»(.)11 اعتماد الرمز والإ�شارة :لقد وجد الرمز والإ�شارة كطريقة يف التعبري عند امل�سلمني واعتمد يف النرث وال�شعر تعبريا عن م�سائل وجدانية خمتلفة مما يتيح للقارئ وال�سامع �إمكانية الت�أويل وكذا وجد الرمز والإ�شارة يف ق�ص�ص القر�آن الكرمي و�آياته املفتوحة على الت�أويل ،وهذا ما �أتاح لل�صوفية حيزا لتربير اعتمادهم الإ�شارة والرمز ،يقول �أبو حامد الغزايل�« :إن ال�صوفية يف ترقيهم الروحي عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
108
واقعون حتت حرج اللفظ الذي ال يفي بو�صف ذرة من �أحوالهم فهم �ساترون من م�شاهدة ال�صور والأمثال �إىل درجات ي�ضيق عنها نطق الناطق ،فال يحاول معرب �أن يعرب عنها �إال ا�شتمل لفظه على خط�أ �صريخ ال ميكنه االحرتاز عنه»()12 هذا وميكن �إجمال �أهم الأ�سباب التي دفعت ال�صوفية �إىل انتهاج �أ�سلوب الرمز والتعقيد يف: �صون �أ�سرارهم ودرر حقائقهم من �أن تتف�شى يف غري �أهلها. عجز اللغة عن احتواء عظمة احلقائق التي ي�صل �إليها العارف عن طريق الذوق من لدن ربه. تقريب الفهم واملعنى فيما بينهم. ويعد الأمري واحداً من الذين اعتمدوا الإ�شارة والرمز يف التعبري عن �أفكارهم ،ولعل م�س�ألة الرمز والإ�شارة قد فتحت على ال�صوفية وحتى الفال�سفة لأهل الظاهر املجال للقدح والنيل من عقيدة هذا �أو ذاك. وحتى ال ندخل يف دوائر اللغط الذي ي�ؤدي �إىل النيل من عقيدة الأمري �أو �شيخه ابن عربي ،ميكن الإ�شارة �سريعا �إىل هذا اجلدل الدائر حول رف�ض ت�صوف الأمري ،واحلرية يف ن�سبة كتابه «املواقف» ويف هذا ي�شري الدكتور عبد اهلل الركيبي رحمه اهلل بقوله :قلد الأمري عبد القادر �شعراء الت�صوف الأقدمني ،قلدهم يف املو�ضوعات والأفكار وال�صيغ ،وكان �صدى ملا �ساد البيئة ال�صوفية من �آراء جتنح �إىل الإ�سراف واملبالغة وال�شطط يف معاجلة ق�ضايا الفكر ال�صويف حتى �أنه ميكن القول ب�أن الأمري امتداد البن عربي ،يف بع�ض �آرائه وق�صائده ،وبالرغم من �أن الأمري كان �صوفياً �س ّنياً ،وكان يلح على ذلك يف منا�سبات كثرية ،ومن �أن حياته الن�ضالية تقوم على �أنه كان يقرن القول بالعمل و�أنه كان ي�ؤمن باجلهاد يف �سبيل اهلل كما �آمن مبجاهدة النف�س وريا�ضتها على عبادة اهلل ...وهذا ما يدفع �إىل القول ب�أن ما جنده يف �شعره من �آراء �صوفية فيها �شطط هي من ت�أثره ب�أفكار غريه وتقليده لهم يف ال�شكل وامل�ضمون معا « ( )13وهذا الن�ص ميكن اعتباره �شهادة للأمري من وجهني :الأول هو االعرتاف من دون موارية ب�صوفية الأمري ،والثاين ت�صنيفه �ضمن تالميذ ابن عربي مع رف�ض �ضمني للم�سائل الإ�شارية الرمزية التي �أ�شار �إليها الدكتور الركيبي بعبارة ال�شطط» .ولعل الأمري كان ح�صيفا يف دفاعه عن �أهل الطريقة بقوله« :و�أهل طريقتنا ر�ضي اهلل عنهم ما ادعوا الإتيان يف الدين بجديد ،و�إمنا ادعوا الفهم اجلديد يف الدين التليد ،و�ساعدهم اخلرب املروي �أنه ال يكمل فقه الرجل حتى يرى للقر�آن وجوها كثرية»(.)14 وقد ا�ستهل كتابه املواقف بحديث طويل عن عقيدته الإ�سالمية امللتزمة بالكتاب وال�سنة حتى ال يرمى بالتكفري ،ومع ذلك ف�إن كتابه املواقف و�أ�شعاره التي جمعت يف ديوان يعج بالرمز والإ�شارة ت�ضاهي رمزية ال�شيخ الأكرب ،واحلالج والنفري وابن �سينا وغريهم.
البعد الأكربي يف ت�صوف الأمري عبد القادر
درا�سات و�أبحاث
109
هذا وقد ف�صل حمقق كتاب «املواقف» عبد الباقي مفتاح يف مقدمة وافية حول حياة الأمري وت�صوفه الذي مل يكن عار�ضا بل مر مبراحله املتدرجة :التعلق والتخلق ثم التحقق م�ؤكدا �أنه كان من ورثة الطريقة احلامتية� ...أو الأكربية ...طريقة لل�شيخ الأكرب حمي الدين حممد بن علي بن العربي احلامتي الطائي� ،أجازه فيها املحدث ال�صويف ال�شهري ال�سيد حممد مرت�ضى الزبيدي(.)15 بل ويذكر من �شدة تعلق «الأمري» بكتب ابن عربي وت�شربه لنهجه قوله يف املوقف 358عن كتاب «التجليات» البن عربي« :لو كتب مباء العيون كان قليال يف حقه وهو �أحق بقول القائل :هذا كتاب لو يباع بوزنه ذهبا لكان البائع مغبونا ،ذكر فيه 97جتليا �أودع فيه من احلقائق والعلوم الإلهية ماال ي�صدر �إال منه ،وال �أقول ال ي�صدر �إال من مثله ،ف�أفهم»()16 ثم �إن الأمري يف اتباعه طريق الإ�شارة والرمز على خطى �شيخه ويف حماولة لتجاوز رمزية �أ�ستاذه وهو ي�سرد ق�صة �سفره نحو املطلق للتحقق بالإت�صال باهلل بطريقة رمزية على ل�سان جلي�سه يف ناد من �أندية العرفاء قال�« :أحدثكم بحديث هو �أغرب من حديث عنقاء مغرب فا�شر�أبوا ل�سماعه، ومدوا �أعناقهم وفرغوا قلوبهم )17(»...ثم ي�سرد «الأمري» بطريقة رمزية على ل�سان �صاحبه حديثا عن احلقيقة املطلقة والطريق املو�صل �إليها ،وعن عجز الل�سان عن التعبري عنها ،ثم عن تكذيب القوم ملا يخربهم به واتهامه باجلنون وال�سفه والعته»(.)18 وما كانت هذه املع�شوقة �إال رمزاً للحقيقة املطلقة التي ين�شدها العارفون عرب �سلوك نهج الت�صفية واملكابدة بل هو �سفر للبحث عن اليقني الذي ي�صل الطالب واملطلوب ،وقد عرب عنها بقوله: «وبعد التعب والعناء ،ومعاناة ال�ضنا وجدت هذه املع�شوقة� :أنا وتبني يل �أنني الطالب واملطلوب»، وهذا ما يعرب عنه �شعرا بقوله: �أرى ح�شو �أح�شائي من ال�شوق نريانا عن احلب مايل كلما رمت �سلوانا �صبني لكان احلر �أ�ضعـاف مــا كــانا لواعج لـو �أن البحــار جميعـهــا وال ع�شقت نف�سي �سواهـا ومــا كانـا ومن عجب ما همت �إال مبهجتـي �أنـا العا�شـق واملع�شوق �سـراً و�إعالنـا ()19 �أنا احلب واملحبوب واحلب جملة فما �أقرب هذه الأبيات من قول ابن عربي يف احلب الإلهي: ذات يقد�س لفظهـا معناهــا �إن التي كان الوجود يك�سوها مني و�أهوى كل من يهواهـا و�إين لأهواهــا و�أهوى قربهــا ليلى ولبنى والربــاب وزينب �أتراب من حبي لها حمباهـا
عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
110
لو مت مات وجودهــا مبماتنا عجباً لنــا ولهـا ف�إن وجودنــا
فوجودنـا عني لهـا و�سراهــا فرد فال ثــان فمن ث ّنـاهــــا ()20
ويذهب يف رمزية الق�صة مذهبا بعيدا لريى نف�سه النموذج القادر على حتمل م�شاق ال�سفر نحو املطلق والتنعم مبجاورته ،بل والفناء فيه ،حيث يقول :فلما متت الق�صة ...وما كاد �أن ينق�ضي �إعجابنا منها ،وا�ستغرابنا لها ،قلت لهم :يا قوم �أل�ستم تعلمون �أين طالع الثنايا؟ و�سياق الكتيبة �إىل معرتك املنايا؟ ف�إن �آتيكم بحقيقتها وجمازها ،و�أفك لكم املعمي من �ألغازها� ،أو �أموت ف�أعذر، علي �إن مل �أقرب ...فقال يل بع�ض امل�ستب�صرين ،وكان ممن جرب هذا الأمر وفر عن جتربة الدهر: وال ّ �إن �صدقت لهجتك وهانت عليك مهجتك و�أردت الو�صل �إىل ذلك اجلناب ،وقطع تلك اجلبال والبحار واله�ضاب ،فاركب ن�سرا �أو غرابا ،و�إنه ال ينال ما ق�ص�صت �إال من كان على الهمة قوي العزمة. ونكب عن طرق العواقب جانبا ()21 �إذا هم �ألقى بني عينيـه عزمـه ومن �شواهد الرمزية عند الأمري كذلك ،انتهاجه للتف�سري الإ�شاري للقر�آن الكرمي الذي يعرفه ال�شريازي ب�أنه «علم احلق الذي ال نهاية له» (� )22أو هو ان�شراح القلب عند تعهد القر�آن بالتالوة وتدبر معانيه بقوة الإميان مع �شرط املواظبة» ( ،)23وبتعبري عبد احلليم حممود «هو العلم الوهبي الذي مينحه اهلل لبع�ض عباده» (.)24 وال �شك �أن الأمري قد وقف كما مر معنا مع ق�صة «املع�شوقة» على التحقق بعلوم وهبية بعد جتربة ذوقية روحية �شفافة ،تلتقي مع جتربة �شيخه ابن عربي العرفانية ،فقد انتهج املنهج الباطني يف كتابه «املواقف الروحية والفيو�ضات ال�سبوحية» وهو �أ�شهر كتبه وقد «ف�سر به بع�ض الآيات الكرمية والأحاديث ال�شريفة تف�سريا مزجه بالفقه والتاريخ ب�أ�سلوب �صويف ،وكان يلقي مواقفه يف جمال�سه اخلا�صة ( .)25كما جاء يف «املوقف الأول» يف تف�سري قوله تعاىل« :لقد كان لكم يف ر�سول اهلل �أ�سوة ح�سنة»( )26يقول« :هذه الآية الكرمية تلقيتها تلقيا غيبيا روحانيا ،ف�إن اهلل تعاىل قد عودين� ،أنه مهما �أراد �أن ي�أمرين �أو ينهاين� ،أو يب�شرين �أو يحذرين� ،أو يعلمني علما� ،أو يفتيني يف �أمر ا�ستفتيه فيه� ،إال وي�أخذين مني مع بقاء الر�سم ،ثم يلقي �إيل ما �أراد ب�إ�شارة �آية كرمية من القر�آن ،ثم يردين �إيل ،فارجع بالآية قرير العني ملآن اليدين ،ثم يلهمني ما �أراد بالآية ،و�أتلقى الآية من غري حرف وال �صوت وال جهة ،وقد تلقيت واملنة هلل تعاىل ،نحو الن�صف من القر�آن بهذا الطريق ،و�أرجو من كرم اهلل تعاىل �أن ال �أموت حتى �أ�ستظهر القر�آن كله (.)27 وابن عربي ي�ؤكد قبله م�س�ألة النفث الروحاين حيث يقول«:فالعلم الإلهي هو الذي كان اهلل �سبحانه وتعاىل يقدمه بالإلهام والإلقاء ،وب�إنزال الروح الأمني على قلبه ،وهذا الكتاب -الفتوحات
البعد الأكربي يف ت�صوف الأمري عبد القادر
درا�سات و�أبحاث
111
من ذلك النمط عندنا ...ما كتبت منه حرفاً �إال عن �إمالء �إلهي و�إلقاء رباين �أو نفث روحاينيف روع كياين» (.)28 وقد جاء يف املوقف رقم ( )314الذي جاء فيه تف�سري �سورة الفاحتة ،قال تعاىل :ب�سم اهلل الرحمن الرحيم« :احلمد هلل رب العاملني الرحمن الرحيم »...قال �سيدنا يف باب الو�صايا وهو الباب الأخري من الفتوحات املكية ،و�صية يقول فيها �إذا قر�أت فاحتة الكتاب ف�صل ب�سملتها معها يف نف�س واحدة من غري قطع ف�إن اهلل تعاىل قال« :يا �إ�سرافيل بعزتي وجاليل وجودي وكرمي من قرا ب�سم اله الرحمن الرحيم مت�صلة بفاحتة الكتاب مرة واحدة ،ا�شهدوا على �أين غفرت له وقبلت منه احل�سنات وجتاوزت عن ال�سيئات ،وال �أحرق ل�سانه بالنار ...و�أجريه من عذاب القرب وعذاب النار، وعذاب القيامة» (.)29 وللإ�شارة ف�إن املت�صوفة مل يكونوا» بادئ الأمر مييلون �إىل الت�أليف يف الت�صوف مكتفني ب�إلقاء درو�س يف ذلك يح�ضرها اخلا�صة والعامة» ( )30فقد كانت املرحلة الأوىل يف ع�صر التابعني ،ومن جاء من بعدهم كما ينقل الدكتور قا�سم غني على ل�سان العارف �أبو �سعيد �أبو اخلري وهي متزيق الدفاتر وتنا�سي العلوم» ( )31فخا�صية الإ�شارة والرموز مل تكن وقفا على التف�سري بل كان �شامال لكل امل�ؤلفات ال�صوفية ،فمن �أهم خ�صائ�ص التف�سري الإ�شاري هي م�س�ألة الإيحاء �أو الإمياء بحيث ت�صري الآيات توميء لبع�ضها البع�ض ،فهم بحكم كونهم ينطقون من منطقة الإميان العميق ،وبحكم �أن الآية املاثلة �أمامهم �أو التي تراءت لهم �أثناء وجدهم ذكرتهم بل �أ�شارت لهم يف ب�صريتهم �إىل �آية �أخرى كانت وتدا لتلك الأنوار ،فا�ستح�ضروها انطالقا من الإ�شارة ( )32من دالئل �إ�شارتهم الدالة على فهم الأبعاد الباطنية لرتتيب الآيات القر�آنية والكلمات و�ضع مغاير ملا هو موجود يف امل�صحف ال�شريف ،ففي تف�سري قوله تعاىل مثال« :ثم �أورثنا الكتاب الذين ا�صطفينا من عبادنا فمنهم ظامل لنف�سه ومنهم مقت�صر ومنهم �سابق باخلريات ب�إذن اهلل ذلك هو الف�ضل الكبري» (.)33 يقول ال�شيخ حمي الدين بن عربي يف �ش�أن املقت�صد (ومنهم مقت�صد) هو :الذي ي�سلك طريق اليمني ،ويختار ال�صاحلات من الأعمال ،واحل�سنات ،ويكتب الف�ضائل ،والكماالت يف مقام القلب (ومنهم �سابق باخلريات)� ،أي هي جتليات ال�صفات �إىل الفناء يف الذات» فهم ال يكتفون بذكر وجه واحد للآية �أو للحديث و�إمنا ي�أتونك ب�شتات من الأوجه التف�سريية يرجحون لك وجها على �آخر ،و�إمنا ي�سلكون م�سلك اجلمع بينها ،باعتبارها تنبع من الباطن الذي ال جمال للباطن فيه، وباعتبارها جميعا تنهل من منهل واحد وتهدف �إىل هدف واحد� ،أال وهو تعميق التوحيد باهلل، فكل وجه له جانب من احلقيقة ،وطريق �إليها ف�أهل الإ�شارة ب�إتباعهم ذلك يريدون متكينك من املعرفة الباطنية ،والتوق بك �إليها ،وال�سعي �إليها بذاتك» (.)34 بهذه الطريقة الإ�شارية كما �سبق جاء كتاب «املواقف» للأمري الذي ال تخرج عن تف�سري لآيات الذكر احلكيم �أين طغى على �أغلب مواقف اجلزء الأول �إىل جانب �شرح لبع�ض الأحاديث عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
112
النبوية ،كما جند فيها �شرحا وتعليقا وانت�صارا ل�شيخه �إمام العارفني كما يكنيه ،يقول يف املوقف الثالث والأربعون »:قال تعاىل« :كال �إنهم عن ربهم ٍ يومئذ ملحجوبون» ( .)35يقول« :كل من ي�سمع ذكر احلجاب من غري العارفني ،يتوهم �أن هناك حجابا وحمجوبا عنه ،كما هو املتبادر من جوهر اللفظ ،وهذا وهم باطل ،لأنه لي�س ثمة �إال احلق - ،تعاىل -واخللق� ،أعني مرتبة الوجوب والإمكان، وال وا�سطة بينهما» (.)36 وجاء كذلك يف املوقف الأربعون قال تعاىل« :و�شهد �شاهد» ( )37يقول� :س�أل بع�ض الأ�صحاب عن الأف�ضلية بني امللك وخوا�ص الب�شر ،وذكر اختالف �أهل الظاهر والباطن ،وما رد على كل دليل ،بحيث ما �سلم دليل من معار�ضة ونق�ض واحتمال� ...إىل �أن يقول :ويف �صبيحة تلك الليلة توجهت �إىل احلق -تعاىل -يف ك�شف هذه امل�س�ألة ف�أخذين احلق عن العامل وعن نف�سي ،و�ألقى �إيل قوله« :و�شهد �شاهد من بني �إ�سرائيل على مثله ف�آمن وا�ستكربمت»(.)38 فلما رجعت �إىل احل�س فهمت من �إ�شارة الآية الكرمية �أن ال�شاهد الذي �شهد يف هذه امل�س�ألة هو ال�شيخ الأكرب ،على مثله يف الب�شرية واجلن�سية ،يعني الكل من الب�شر ،و�شهادته عليهم للمالئكة، بثبوت الأف�ضلية من جهة ،واعتبار «ف�آمن» يعني ال�شيخ الأكرب ،مبا �أ�شهده احلق من ثبوت الأف�ضلية للملك باعتباره» (.)39
خامتة:
لقد عمل الأمري على �إحياء الت�صوف من خالل جتربته الروحية الذوقية واملعرفية ،فمهما كرث احلديث عن ماهية هذه التجربة هل هي ذوقية عرفانية �أم �سلوكية �أخالقية ف�إن الأمري عبد القادر القائد الع�سكري املجاهد املقدام م�ؤ�س�س الدولة اجلزائرية احلديثة هو تلميذ ال�شيخ الأكرب ،الذي �ساهم يف بعث تراث ال�شيخ ،بل وكان ج�سرا للكثري من الباحثني الغربيني لفهم ما ا�ستغلق من �آرائه .كما �ساهم ب�آرائه املتفتحة يف ا�ست�شراف دور امل�سلم يف زمن العوملة ،كما يرى الباحث �أحمد بويردان يف كتابه «الأمري عبد القادر تناغم الأ�ضداد» فلي�س بربك الر�سم �صورتنا العظمى لئن كان هذا الر�سم يعطيك ظاهري لـه همة تعلـو ب�أخم�صهــا النجـمــا فثـم وراء الر�ســم �شخ�ص حمـجب ولكــن بالعقل واخللـق الأ�سمـــى ومــا املرء بالوجه ال�صبيـح افتخـاره فـذاك الـذي ال يبتغي بعده نعمـى و�إن جمعـت للمرء هــذي وهــذه،
البعد الأكربي يف ت�صوف الأمري عبد القادر
درا�سات و�أبحاث
113
الهوام�ش: ( )1 ( )2 ( )3 ( )4 ( )5 ( )6 ( )7 ( )8 ( )9 ( )10 ( )11 ( )12 () 13 ( )14 ( )15 ( )16 ( )17 ( )18 ( )19
عبد العزيز البابطني ،مقدمة كتابك �أ /عبد الرزاق بن �سبع ،الأمري عبد القادر اجلزائري و�أدبه ،م�ؤ�س�سة جائزة عبد العزيز �سعود البايطني للإيداع ال�شعري� ،2000 ،ص .03 ف�ؤاد �صالح ال�سيد ،الأمري عبد القادر مت�صوفا و�شاعرا ،وزارة الثقافة� ،2007 ،ص .43 الأمري عبد القادر اجلزائري :املوقف ،دم�شق ،دار اليقظة العربية ،1967 ،ج� ،2ص .872 امل�صدر ال�سابق. ابن عربي ،ف�صو�ص احلكم ،حتقيق �أبو العال عظيمي ،ج� ،1ص .47 الأمري عبد القادر ،املواقف ،ج�،2ص 514 امل�صدر ال�سابق ،ج� ،2ص .270 �سورة االن�شقاق �آية .21 الأمري ،املواقف ،دم�شق ،دار اليقظة العربية ،1967ج� ،1ص .270 الأمري ،املواقف ،ج� ،2ص .917 الأمري ،املواقف ،ج� ،2ص .917 الفتوحات املكية ،ابن عربي ،حتقيق عثمان يحي الإهداء. �أبو حامد الغزايل ،املنقذ من ال�ضالل ،حتقيق الدكتور عبد احلكيم حممود ،ط 3دار املعارف ،مب�صر � ،1988ص .378 عبد اهلل الركيبيبي ،ال�شعر الديني احلديث اجلزائري ،دار ال�سويدي للن�شر والتوزيع � ،1972ص .242 الأمري ،املواقف ،ج( 1دم�شق :دار اليقظة العربية). الأمري عبد القادر ،املواقف ،ج� ،1ص ( 13حتقيق عبد الباقي مفتاح). املواقف ،ج� ،1ص .18 املواقف ،ج� ،1ص .86 «�إن يف الوجود مع�شوقة غري مرموقة ،الأهوية �إليها جانحة ،والقلوب بحبها طافحة ،والأب�صار �إىل ر�ؤيتها طاحمة، ب�صري النا�س �إليها كل م�صار ،ويرتكبون الأخطار ،وي�ستخدمون دونها الأحمر ،ويركبون لطلبها املكعب الأ�سمر، وال ي�صل �إليها �إال الواحد بعد الواحد يف الزمان املتباعد ،ف�إذا قدر لأحد م�شارفة حماها ومقاربة مرماها� ،ألقت عليه �إك�سريا له مادة وال مدة ،وال هو عني معتدة ،فيح�صل �إنقالب عينه ،الأعيان يف عينه� ،إىل عني هذه املع�شوقة ،التي هي غري مرموقة املعلومة املجهولة ،امل�ستورة امل�سلولة ،الباطنة ،الظاهرة ،امل�ستورة.ال�ساترة ،اجلامعة للت�ضاد بل وجلميع �أنواع املنافاة والعناد ،وال يقدر �أن يعرب عنها بعربة وال ي�شري �إليها ب�إ�شارة �أكرث من قوله� :إين و�صلتها وح�صلتها ،وبعد التعب والعناء ومعاناة وجدت هذه املع�شوقة� :أنا ويتبني يل �أنني الطالب واملطلوب والعا�شق واملع�شوق ،فما كان هجري للذاتي� ،إال يف طلب ذاتي ،وال كانت رحلتي �إال لنحلتي ،وال و�صويل �إال �إيل وال تفتي�شي �إال علي ،وال كان �سفري �إال مني �إيل:فيقال له :هل ر�أيت حمياها ،و�شممت رياها ،حتى قلت �أنا �إياها؟ فيقول :ر�أيت ،وما ر�أيت وما رميت �إذ رميت وي�أتي ب�أو�صافها مبا تنبو عنه العقول ،وال حتتمله ظواهر النقول ،ما طرق الأ�سماع ،وال طمعت يف فهمه الأطماع ،يرفع ال�ضدين تارة وتارة بجمعهما ويجمع النقي�ضني وي�ضمهما فيقال له :هذا الذي تقول ثبت عندك بدليل �أو برهان؟ فيقول ال دليل بعد عيان ،وكيف ي�صح يف عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
114
( )20 ( )21 ( )22 ( )23 ( )24 ( )25 ( )26 ( )27 ( )28 ( )29 ( )30 ( )31 ( )32 ( )33 ( )34 ( )35 ( )36 ( )37 ( )38 ( )39 ( )40 ( )41
الأذهان �شيء �إذا احتاج النهار �إىل دليل؟ فرياجع فال يرجع ويغلط فال ي�سمع ،وحينئذ يحكم النا�س عليه باجلنون والعته وال�سفه والبله ،ويجهلونه ولو كان �أعلمهم،وي�سفهونه ولو كان �أحلمهم وي�ستبيحون منه العر�ض يف الطول والعر�ض ويجعلونه مرمى غمزهم وملزهم ونبزهم ووكزهم ،يهجره احلميم العاطف ،ويقليه ال�صدق املالط ،وهو ما هو مع هذا ناعم البال مبا لديه ،قرير العني مبا ح�صل بني يديه ،ال يلتفت �إىل قطعهم وهجرهم وال يبايل بلوغهم فيه وهجرهم. الأمري :املواقف ،ج� 1ص .86 الأمري عبد القادر ديوان ال�شاعر الأمري جمع وحتقيق الدكتور العربي دحو راجعه الدكتور ر�ضوان الداية، م�ؤ�س�سة عبد العزيز بن �سعود البايطني للإيداع.256-257 ، ابن العربي :الفتوحات املكية ،اجلزء � 3ص .314 املواقف ،ج � 1ص .87 ال�شريازي :عرائ�س البيان ،ج ، 1ط الهند � ،1301ص .591 حمي بن عربي :تف�سري القر�آن الكرمي ،ج( 1حتقيق د .م�صطفى غالب) ،بريوت� ،1978 ،ص .14 عبد احلليم حممود ،ابراهيم �أدهم �شيخ ال�صوفية (د.ت) �ص .21 الأمري عبد القادر :بغية الطالب على ترتيب التجلي بكلية املراتب ،دار الكتب العلمية ،بريوت ،ط 2004 1 1425هـ �ص .21 �سورة الأحزاب ،الآية .21-22 الأمري ،املواقف ،املوقف الأول� ،ص .101 ابن عربي :الفتوحات ،ج 3م�صر 1393هـ � ،ص .504 الأمري :املواقف ج.2 د�/صالح الدا�سي :التف�سري الإ�شاري عند �أهل ال�سنة ،من�شورات دار عالء الدين ط �.2010 1ص .336 د /قا�سم غني :تاريخ الت�صوف يف الإ�سالم ،ترجمة �صادق ن�ش�أت ،م�صر � ،1970ص .80 امل�صدر ال�سابق� ،ص .340 �سورة فاطر� ،آية .32 �صالح الدا�سي :التف�سري الإ�شاري عند �أهل ال�سنة� ،ص .350 �سورة املطففني� ،آية .83 املواقف ،ج� ،1ص .152 �سورة يو�سف� ،آية .12 �سورة الأحقاف ،الآية .45 املواقف ،املوقف الأربعون� ،ص .150-149
(42) Ahmed Bouyrdene; Abdel-El-Kader (Larmonie des contreres- preface par Eric Geoffrey; Editions du Seuil p.10
البعد الأكربي يف ت�صوف الأمري عبد القادر
درا�سات و�أبحاث
115
امل�صادر واملراجع
- -
- - - - -
القر�آن الكرمي: الأمري عبد القادر اجلزائري و�أدبه ،عبد الرزاق بن �سبع (مقدمة الكتاب) ،م�ؤ�س�سة جائزة عبد العزيز �سعود البايطني للإيداع ال�سعري .2005 الأمري عبد القادر مت�صوفا و�شاعراـ ف�ؤاد �صالح ال�سيد ،وزارة الثقافة .2007 الأمري عبد القادر ،املواقف ،دم�شق ،دار اليقظة ،العربية .1967 ف�صو�ص احلكم ،ابن عربي ،حتقيق �أبو العال عفيقي. الفتوحات املكية ،ابن عربي ،حتقيق عثمان يحي. املنقذ من ال�ضالل� ،أبو حامد الغزايل ،حتقيق الدكتور عبد احلليم حممود ،ط ،3دار املعارف، مب�صر .1988 ال�شعر الديني اجلزائري احلديث ،عبد اهلل الركيبي ،دار ال�سويدي للن�شر والتوزيع. ديوان ال�شاعر الأمري ،الأمري عبد القادر ،جمع وحتقيق الدكتور العربي دحو ،راجعه الدكتور ر�ضوان الداية ،م�ؤ�س�سة عبد العزيز بن �سعود البابطني للإيداع. عرائ�س البيان ،ال�شريازي ،ط الهند .1301 تف�سري القر�آن الكرمي ،حمي الدين بن عربي ،حتقيق م�صطفى غالب ،بريوت .1978 ابراهيم ابن �أدهم �شيخ ال�صوفية ،عبد احلليم حممود.د ت بغية الطالب على ترتيب التجلي بكليات املراتب ،دار الكتب العلمية ،بريوت ،ط2004 ،1 425هـ التف�سري الإ�شاري عند �أهل ال�سنة ،د� /صالح الدا�سي ،من�شورات دار عالء الدين ط.2010 ،1 تف�سري القر�آن الكرمي ،حمي بن عربي( ،حتقيق د .م�صطفى غالب) بريوت.1978 ،
- Ahmed Bouyerdene; Abdel-Kader(Larmonie des contraires; preface par Eric Geoffray ; editions du seuil.
عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
دار كتب للن�شر �ش.م.ل
بناية الربج ،الطابق الرابع� ،ساحة ال�شهداء الو�سط التجاري ،بريوت ،لبنان �صندوق بريد ،11-4353 :بريوت -لبنان. هاتف)961-1( 983008 /9 : فاك�س)961-1( 980630 : الربيد الإلكرتوينkutub@kutubltd.com : املوقع الإلكرتوينwww.kutubltd.com :
117
حتوالت �أدبية
الأديب جملة �أدبية لبنانية م�رشقية
�أ�ستمرت يف ال�صحافة االدبية من �سنة 1942اىل �سنة 1983 | جنيب البعيني | باحث و�صحايف [تعترب جملة «الأديب» جتربة مهمة يف ال�صحافة االدبية ا�ستمرت من العام وحتى العام 1982وجمعت على �صفحاتها رموز و�أقطاب االدب والفكر يف لبنان و�سوريا وم�صر والعامل العربي .ولبثت �أمنية خلطها التجديدي اجلامع و�شكلت حت ً وال مهماً يف احلياة الثقافية واالدبية .هنا �إ�ضاءة مف�صلة يف تاريخ املجلة ودورها و�إجنازاتها[. 1942
«الأديب» جملة لبنانية كانت ت�صدر يف مطلع كل �شهر� ...أن�ش�أها �ألبري �أديب ..كان عنوانها «الأديب» جملة تبحث يف الآداب والفنون والعلوم وال�سيا�سة واالجتماع .وكان عدد �صفحاتها اربعاً و�ستني �صفحة من القطع الكبري. �صدر العدد الأول منها يف �أول كانون الثاين �سنة ،1942وكان غالفها اخلارجي الذي مل يتغري طوال مدة �صدورها من ت�صميم الفنان ر�أفت بحريي. �ضم ك ّال من :ال�شاعر الدكتور نقوال �أما فكرة �إن�شاء املجلة فقد انطلقت �أو ًال يف جمل�س �أدبي خا�ص ّ فيا�ض وال�شاعر الدكتور حبيب ثابت ورئيف �أبي اللمع وخليل تقي الدين ،الذين �شجعوا �ألبري �أديب على �إ�صدار جملة �أدبية خا�صة به ،وكان هذا الأخري يعمل يف جريدة «املك�شوف» ل�صاحبها ال�شيخ فوزي حبي�ش ،ما حداه �إىل تنفيذ الفكرة يف �أ�سرع وقت ممكن. وكان �أن ت�شكلت �أ�سرة «الأديب» يف �أواخر عام 1943وكان من �أع�ضائها :ال�شيخ عبداهلل العاليلي وال�شيخ اليا�س خليل زحريا والدكتور نقوال فيا�ض ونور الدين بيهم وال�شاعر حممد علي حوماين وال�شاعر �صالح الأ�سري و�ألبري �أديب ،ومن ثم حت ّول مكتب املجلة يف غ�ضون �أ�شهر �إىل ملتقى للزعماء ورجال ال�سيا�سة �أمثال :كمال جنبالط وعبد احلميد كرامي وكميل �شمعون و�سامي ال�صلح و�أحمد الأ�سعد .ولكن ما عتم �أن ابتعدت املجلة عن ال�سيا�سة بعد عدة �أ�شهر و�صار منهجها التوجيه الوطني والقومي ،لأن �صاحبها وجد �أن ال�سيا�سة بتداعياتها �ست�ؤدي به �إىل م�شاكل هو بغنى عنها ،فقد كان يريد �أن تنت�شر «الأديب» يف جميع الأقطار العربية ب�شكل ف ّعال، عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
118
و�أن تبتعد عن تناول الدين واجلن�س والطائفية ،كي ت�ضمن ا�ستمرارها وم�سريتها االدبية والثقافية، و�أن تكون ل�سان حال املثقفني واالدباء وال�شعراء يف كل مكان .جاء يف ال�صفحة االوىل ،يف العدد االول ،يف ال�سنة االوىل :ثمن اجلزء �أربعون غر�شا ،بدل اال�شرتاك يف لبنان و�سوريا خم�س لريات لبنانية ،يف اخلارج جنيه م�صري ،جميع املخابرات با�سم من�شئها ،بريوت� ،صندوق الربيد رقم ،878االدارة يف بريوت ،مطابع دار االحد� ،شارع فينيقيا. يف عام 1958وابتداء من �شهر كانون الثاين �أ�صبحت اال�شرتاكات كما يلي :بدل اال�شرتاك عن �سنة كاملة يف لبنان و�سوريا 12ل.ل .امل�ؤ�س�سات وال�شركات والدوائر الر�سمية 25ل.ل .يف اخلارج 35ل.ل .يف الواليات املتحدة 10دوالرات امريكية. �أما �أبواب املجلة الثانية ومنذ �صدور العدد الأول منها فهي : مكتبة الأديب ،جولة االديب يف �شهر ،برقيات �أدبية� ،أنباء العامل يف �شهر ،ظهر حديثا� ،أخبار علمية ،باال�ضافة �إىل املقاالت والق�صائد واملوا�ضيع التي تدرج حتت عناوينها وخطوطها دون ذكر الأبواب. والذين كتبوا يف جملة «الأديب» ال يح�صى لهم عدد بع�ضهم �أ�صبح يف ديار احلق وبع�ضهم الآخر ال يزال حياً ،وكلهم تتلمذوا يف مدر�سة «الأديب» وكان لهم �ش�أن عظيم يف عامل الكتابة عرباً ولبنانيني ،نذكر منهم: حممد كرد علي و�أمني نخلة وقدري حافظ طوقان واليا�س �أبو �شبكة ود.حبيب ثابت وعبداهلل امل�شنوق وحميي الدين الن�صويل وبهيج عثمان ورئيف خوري وراجي الراعي ود.نقوال فيا�ض ويو�سف اخلال وزكي حما�سني و�سامي كيايل و�شفيق طبارة ومي�شال ابو �شهال ووليم �صعب و�أمني الغريب وغنطو�س الرامي وعمر فاخوري وعبداهلل العاليلي و�أنور اجلندي وعلي حممد �شلق وحممد يو�سف حمود وخليل تقي الدين و�صالح الأ�سري ومارون عبود واليا�س خليل زخريا ور�شاد املغربي دارغوث وعي�سى الناعوري وفار�س مراد �سعد وايليا حاوي وف�ؤاد اخل�شن وفوزي عطوي وطه الويل وعجاج نويه�ض وزكي قن�صل وعبد ال�سالم العجيلي ويو�سف �أ�سعد داغر و�أمني ابو عز الدين وكرم ملحم كرم ووداد �سكاكيني و�سهيل ادري�س وحربان التويني وجرجي نقوال باز ور�شدي املعلوف وحممد جميل بيهم وقدري قلعجي و�أحمد ال�صايف النجفي وخلدون �ساطع احل�صري وجربائيل جبور ور�ضوان ال�شهال وعي�سى ا�سكندر املعلوف ونازك املالئكة ووديع فل�سطني وعبد اللطيف �شراره وحممد روحي في�صل وعبداهلل عبد الدائم وعي�سى ابراهيم الناعوري وح�سن االمني وق�سطنطني زريق ود.رئيف �أبي اللمع وحممود تيمور وجبور عبد النور وريا�ض ال�صلح ود.ح�سن �صعب ود� .أحمد �أبو �سعد وكمال جنبالط ونزار قباين وخليل مطران و�أني�س اخلوري املقد�سي و�سعيد �أبو احل�سن وجورج �صيدح ،و�سهيل ادري�س ،و�أن�سي احلاج ،وثريا ملح�س ،وغريهم كثريون.
الأديب جملة �أدبية لبنانية م�شرقية
حتوالت �أدبية
119
طبع العدد االول يف املطبعة احلديثة ،طريق ال�شام ،بريوت .جاء يف العدد االول ،ال�سنة االوىل، حتت عنوان «كلمتنا» بقلم �ألبري �أديب عن �أهداف املجلة وم�سريتها االدبية ما يلي: «نتقدم �إىل قراء العربية بهذه املجلة اجلديدة «الأديب» يف مطلع العام اجلديد ،راجني �أن يكون عام طم�أنينة للعامل ،و�سعادة للقراء ،وجناحاً للم�شروع الذي �أخذنا على عاتقنا حتقيقه ،وال�سري به من ح�سن �إىل �أح�سن .ونحن على مثل اليقني ب�أننا ،رغم امل�صاعب الكثرية الراهنة ،بالغون ان �شاء اهلل الغاية التي نتوخاها ،بعون امللإ ال�صالح من �أ�صدقائنا الأدباء و�أهل الر�أي وذوي االخت�صا�ص يف خمتلف املعارف والفنون .فهذه املجلة جملتهم ،يخرجونها يف م�ستهل كل �شهر وفقا للخطة الر�شيدة التي اختطوها� ،سعيا نحو املقا�صد الرفيعة التي جعلوها ن�صب �أعينهم. �سد ما يح�سب بحق فراغاً يف مكتبة الأديب العربي ،ف�ألهمنا �أن ن�ساهم «لقد ر�أينا احلاجة ما�سة �إىل ّ يف ذلك مبجلة نطمح �إىل �أن تكون معر�ضاً لالنتاج الفني والأدبي والعلمي ،ومنرباً للر�أي ال�سيا�سي املنبثق من العقيدة ال�صادقة واالميان اخلال�ص ،ثم ال تلبث �أن ت�صري همزة الو�صل بني �أقطاب الفكر احلر يف االقطار العربية جمعاء». «�أما اخلطوط الأ�سا�سية لهذا امل�شروع فتتجلى بو�ضوح يف مو�ضوعات هذا اجلزء من «الأديب» الذي يجمع -كما ترون -بني طرائف القدمي ونفائ�س احلديث ،مما ن�شر �أو مل ين�شر ،يف �شتى الفنون وال�ش�ؤون». «و�إذا كان لنا ما نقوله ،ونحن يف املرحلة الأوىل من عملنا ،فهو �أن ن�س�أل جمهرة القراء م�ساعدتنا على �إجناح هذا العمل ،كي ت�صبح «الأديب» جملة القراء الذين يطالعونها كما هي جملة الك ّتاب الذين ين�شئونها ،واهلل من وراء الق�صد». يقول �ألبري �أديب يف العدد الأخري من ال�سنة االوىل ل�صدور املجلة ( يف �سنة )1943ما يلي: «بهذا العدد تو ّدع «الأديب» �سنتها االوىل وت�ستقبل ال�سنة الثانية .ال �شك �إنك قد �شعرت �أيها القارىء الكرمي مبدى اجلهود التي نبذلها لنتغ ّلب على العقبات التي ال ّبد �أن تالقيها االعمال الأدبية يف مثل هذه الظروف. ولي�س لنا م�سافة ما ن�شكوه ،ف�إن الت�شجيع الذي �صادفناه يف خمتلف الأقطار العربية خلري حافز لنا على امل�ضي قدماً ،ولي�س � ّ أدل على هذا الت�شجيع من امل�ساهمة الأدبية التي تك ّرم بها علينا االدباء يف كل قطر عربي ،ولنا �أمل يف املزيد .ف�إذا جنحت «الأديب» ب�أن تظل �صوتاً للأدب والفكر واملبادىء القومية ال�صحيحة يف الأقطار العربية يف هذه الفرتة التي ّقل فيها االن�صراف اىل االدب جد �سعداء .ولكن ذلك يتوقف عليك� ،أيها الأديب العربي ،كما يتوقف علينا، ف�إننا لنعترب �أنف�سنا ّ ويتوقف عليك �أيها القارىء الكرمي �أي�ضاً ،ف�إن «الأديب» مل تبلغ ما بلغت �إال مبعا�ضدتك املعنوية واملادية ،وهي مكملة �سريها يف طريق التقدم ،معتمدة عليك وح�سب». عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
120
ويقول ال�شيخ عبداهلل العاليلي يف عدد �شهر كانون الثاين ،يف ال�سنة اخلام�سة 1946 ،حتت عنوان «�أعداء الوطن هم �أدعياء الوطنية» ما يلي: «لقد �أردنا «الأديب» ر�سالة ،ور�سالة انفطار جديد ،فم�ضت عاملة مطمئنة ،غري ثابتة �أو حافلة ،مبا قد �أقيم لها وما �سوف يقام لها .فهي ت�ستلهم عنا�صر خالدة ،تثبت يف �أ�صول طبيعة عربية خالقة، �أعطت االبداع �أول ما �أعطت ،و�أنها وراء م�ستوفز حركتها -رغم اجلاحدين الآفنني � -سوف تخط غاية ابداع جديد ،لوجه ان�سانية جديدة. م�ضت «الأديب» ت�شق الطريق �صعداً ،هادرة حيناً وهادئة حيناً .وهي بني قوة من هديرها ووعي من هدوئها ،تبني وتعلي يف ذيالك البناء ،كما متيل فتم�س ما اخلولق بالهدم ،فان يف بع�ض من معنى الهدم لكثرياً من معنى البناء فالهدم � -أي الثورة الفكرية -رجة عنيفة مت�س االفئدة والعقول ،فتنبعث فيها تيارات مطورة جديدة تختلف قوة و�ضعفاً ،وال تخلو مالب�ساتها عن تغيري يف ارتكاز الآفاق العامة للأو�ضاع �أو تعديل يف ال�سنن املفرو�ضة .وال �شك يف �أن عملية البعث التي ت�ستنها الثورة ،ثم ما توايل به من �ضروب االلوان والت�شكالت ،تعد الكائن يف خا�صيانة النف�سية ويف حاالت اجتماعية ل�شيء جديد. و«الأديب» �أغ�ضبت ،يف اجتاه غايتها ،قوماً ع�ش�شوا يف الطلل املخلولق ،الذي �آن�سوه يف �أنف�سهم حبوراً ،و�أروه للنا�س ب�إفكهم ق�صوراً ،فنرثوا ال�صعاب بني يديها ومن �أمامها .ولكن «الأديب» م�ضت جاهدة �صابرة ،وم�ستعلية قاهرة .وكانت تعزيتها -رغم ما اتهمت به كله -كلمة «رينان» حينما قال يف ذكرى �سبينوزا -و�أ�شار �إىل النافذة التي كان يطل منها ،وكانت رمز التجديف �إىل زمن غري بعيد -لعل اهلل كان �أقرب �إىل هذه النافذة من �أي مكان �آخر. وماذا �أخذوا عليها؟ �أخذوا عليها �أنها �آمنت وكفروا ،و�أنها �أخل�صت ومانوا ،و�أنها جدت وعبثوا، و�أنها جتردت وانتهزوا .ولكن «الأديب» لن تغ�ضي ،وهى ترى ك ّال يذوب وفردية تتحكم ،ولن تعدل عن حتديها ،وهي ترى الدائرة تذوب كلها يف نقطة ،واملعروف يف املنطق الريا�ضي ،ان النقطة ت�صحح احلط الدائري وال تبتلعه. مرت «الأديب» �إىل �سنتها اجلديدة ،وهي جتاهد وجتالد .جتاهد ب�سبيل الغاية التي قد�ستها ،وجتالد ال�صعاب التي نرثت بني يديها ،وما نرثها اال اولئك الذين غرروا بالنا�س ،ف�أحلوهم حمل الزعامة من �أنف�سهم. ولكننا نقول لل�شعب -وال�شعب هو الكل ال�صالح � -إن حاجتك �إىل زعيم غ�سل نف�سه من االنانية يف الوطن فال ي�ست�أثر به ،وتوافر لديه ال�شعور بالواجبات فال يغفل عنك. و�أما �أولئك الذين تعرفهم ،فاحذرهم لأنهم جتار يبحثون من وراء الزعامة عن �سوق ل�سلعهم ،وعن منهل عذب يربدون به حرقة �أنانيتهم الظامئة.
الأديب جملة �أدبية لبنانية م�شرقية
حتوالت �أدبية
121
نحن ال نعرف االر�ستقراطية �إال يف الوطنية واخلدمة العامة واالنتاج املثمر ،ف�أي امرىء كان �أكرث وطنية � ّأي �أكرث خدمة و�أكرث جهاداً وانتاجاً ،فهو االر�ستقراطي فينا ،و�أما كل ما وراء ذلك فل�صو�صية اجتماعية ال نغتفرها .على �أن الأمة �إذا ا�ستفاقت ال بد �أن تن�شر قانون اجلزاء الوطني، وتنطق على ل�سانها العدالة. يجب �أن تعلم -واملجتمع كالكائن احلي بدون قيا�س الفارق � -أن ميزة الع�ضو ال مبقدار ما ميلك من الدم ،بل مبقدار ما يحرق منه ويجهد ب�سبيل الأع�ضاء االخرى ،فالدماغ والقلب رمبا كانا �أفقر االع�ضاء بالدم كمح�صول ولكنهما �أ�شرف ما يف االن�سان ،فاالول يحرق ل�ضياء الفكر والثاين يجهد لبقاء احلياة. �أيها ال�شعب :الزعيم والأمة �شيئان ،ولكن الزعيم من الأمة ،فلم يبق �إال الأمة وحدها فقط ف�إذا فكر بنف�سه دونها �أو معها ،فقد �سقط خائنا وعاد �شخ�صا مزرياً. �أكرب اال�ضرار �أن تكون الأمة بدون زعيم ،و�أكرب الأخطاء �أن تعفل الأمة عن تخري بالزعيم، فلتنتخب الأمة زعيماً ،ولكن لتحذر جيدا كي ال ينقلب االنتخاب انتحاباً». من هو �ألبري �أديب ،وما هي �سريته االدبية واالعمال التي قام بها و�أجنزها يف حياته؟ ولد �ألبري �أديب يف املك�سيك �سنة ،1908من �أبوين لبنانيني� .أر�سله والده عندما بلغ اخلام�سة من عمره ،مع �أمه ليقيم عند جده بطر�س ديب يف دير القمر بلبنان ،لتلقي العلوم العربية ،ثم دخل مدر�سة «الفرير» وظل فيها �إىل العام ،1918ثم انتقل �إىل املدر�سة املارونية يف القاهرة لإتقان اللغة العربية العالية ف�أم�ضى فيها �ست �سنوات ،ثم دخل اجلامعة امل�صرية لدرا�سة التجارة واحلقوق فف�شل فيهما وطرد من كلية احلقوق ب�سبب قيادته �إحدى املظاهرات� .أخذ يرا�سل «اجلريدة التجارية امل�صرية» ،وكتب يف جملة «الرقيب» وعمل يف جملة «الروايات امل�صورة» وجملة «اال�سبوع» البراهيم عبد القادر املازين ،وا�شرتك يف التظاهرات الوطنية امل�صرية ،وكان اجتاهه عربياً بحيث �أثار حفيظة تالميذ املدار�س لال�شرتاك يف الأعمال الوطنية متخذا مواقف �إيجابية منها. �سافر �إىل ال�سودان يف عام 1927وعمل يف جملة «ح�ضارة ال�سودان» لثالث �سنوات ،ثم عاد �إىل لبنان فعمل يف جريدة «النداء» ثم تركها يف عام 1931حيث عمل يف جملة «املعر�ض» .ويف عام 1938كلف بان�شاء «راديو ال�شرق» فبقي يعمل فيها� ،إىل �سنة 1943حيث عينّ رئي�ساً الكادميية املو�سيقى ال�شرقية ،ثم عمل يف جريدة «املك�شوف» ثم عكف على �إ�صدار جملة «الأديب» التي ا�ستمرت من �سنة 1942اىل �سنة ،1983وا�ضطر �إىل نقل مكاتب املجلة عدة مرات من بناية اللعازارية �إىل باب �إدري�س ،ثم �أ�صدرها من بيته ،ثم من بيت ابنته يف ر�أ�س بريوت ،وكان برغم �ضعف نظره يلج�أ �إىل كتابة عناوين امل�شرتكني بقلم «الفلوما�سرت» بخط كبري ووا�ضح لعدم الوقوع يف اخلط�أ.
عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
122
وكان ي�ضع مكربين كهربائيني الواحد فوق االخر لي�ستطيع القراءة والكتابة .وكان الدكتور فوزي عطوي ي�ساعده يف بع�ض االحيان يف ترتيب املواد التي ت�صله قبل دفعها �إىل املطبعة .وتوقفت املجلة نهائياً عن ال�صدور يف عام 1983ب�سبب تعر�ض منزله ومكتبه للق�صف الع�شوائي �إبان احلرب اللبنانية ،فا�ضطر �إىل االنتقال �إىل بريوت الغربية ،لي�سكن مع ابنتيه ندى وهدى يف منطقة احلمراء ر�أ�س بريوت تاركاً �أوراقه ور�سائله ومكتبته وثالثة واربعني جملداً من «الأديب» وكتباً �أدبيةخمطوطة ،وكتاباً �شعريا خمطوطاً ،عر�ضة لل�سرقة والنهب .وله درا�سات منها: توفيق يو�سف عواد والق�صة .وعا�ش بعد ذلك بعيداً عن جملته وكتبه �إىل �أن وافته املنية يف 26 �أيلول �سنة 1985يف منزل ابنته يف ر�أ�س بريوت. خال�صة الكالم� :أن جملة «الأديب» كانت �سج ًال �أدبياًحاف ًال للحركة الثقافية يف لبنان والوطن العربي .وكان لكبار الك ّتاب وال�شعراء العرب مرا�سالت ومقاالت مع هذه املجلة ،ومن ال�شعراء الذين را�سلوها وكتبوا فيها �أعذب ق�صائدهم ،نذكر على �سبيل املثال :يو�سف اخلال وعيد الوهاب البياتي ونازك املالئكة و�أحمد ال�صايف النجفي وبلند احليدري و�صفاء احليدري وبدر �شاكر ال�سياب ونزار قباين وعبد القادر ر�شيد النا�صري و�صالح اال�سري واليا�س �أبو �شبكة وغريهم .ففيها ن�شرت �أوىل ق�صائدهم كما ن�شر البري �أديب ق�صائد جديدة من جمموعته ال�شعرية «ملن» التي �صدرت عن دار املعارف ،مب�صر ،يف عام .1952 كان لوفاة البري �أديب رنة ا�سى وحزن وغياب بعيد الأثر -اذ كانت حياته �صفحة م�ضيئة م�شرقة يف �سبيل حرية الكلمة ،واملبادىء القومية ،وال�سرية احل�سنة ،واالخالق الرفيعة ،والتوا�ضع ا ّجلم. عا�ش البري �أديب حياته ا ّبي النف�س ،ال ير�ضى ب�أن متده دولة باملال� ،أو يعطيه �أحد رجال ال�سيا�سة م�ساعدة مادية� ،أو يتعهد نتاجه �أحد ،فبقيت موارد املجلة يف نطاق مواردها ال�شريفة� ،ضئيلة ،يف ظل االو�ضاع املادية املرتد ّية .اعرتف الدكتور �سهيل ادري�س � -أحد تالميذ جملة «الأديب» � -صراحة مبكانة هذه املجلة ،بالرغم �أنه �أ�صدر جملة «الآداب» التي راحت تناف�س جملة «االديب» يف وقت من االوقات. قال: «�أول ما ن�شرت من نتاجي ن�شرته على �صفحات «الأديب» .كنت �أكتب عرو�ضاً نقدية ومقاالت ولكن عندما �صدرت «الآداب» انقطعت عالقتي ب�صاحب الأديب فهو كانت لديه �آراء خمالفة ملا ا�ستجد لدينا نحن كجيل جديد يطمح �إىل الدخول يف مغامرة جديدة على �صعيد االبداع والنقد الأدبي ،وما دار على �صفحات «الآداب» من م�ساجالت نقدية وفكرية ما كان ليدور على �صفحات «االديب» يف ذلك الوقت .فالرجل كان يف�ضل �أن يبقى يف من�أى عن ال�صراعات ،ولكن «الأديب» �أدت ق�سطها الوافر والكبري يف ن�شر االبداع الأدبي وت�شجيع املبدعني وكلنا خرجنا من معطفها».
الأديب جملة �أدبية لبنانية م�شرقية
حتوالت �أدبية
123
وقال فيه الأديب وامل�ؤرخ عي�سى فتوح: «لقد ظ ّلت جملة «الأديب» على مدى �أربعة عقود ونيف املجلة الوحيدة الر�صينة التي تعتمدها املكتبات الوطنية ودوائر اال�ست�شراق يف العامل وت�سعى �إىل طلبها واقتنائها ،نظراً لعراقتها ومكانتها الرفيعة ،و�أبحاثها القيمة واعتدال لهجتها واتزان كل ما ين�شر فيها ،فقد كان �ألبري �أديب يزن كل مادة ت�صله مبيزان دقيق وح�سا�س ال بتع�صب جلن�س ادبي �آخر �أو لطريقة يف النظم دون �أخرى كل ما كان يهمه هو اجلودة قبل كل �شيء .فن�شر جميع االنواع ال�شعرية :ال�شعر العمودي وال�شعر احلر لكن ال�شرط الوحيد هو التميز والفرادة». ونظم ال�شاعر ريا�ض املعلوف �أبياتاً مبنا�سبة بلوغ «الأديب» عامها الأربعني ،فقال: فك�أنه طي الدجـــى قنديــــل قلم به نور العيــــــون ي�سيــــل حمـرراً تلك ال�صحائف د�أبك التحليل �أفـنيت عمـرك والعيـون ّ وبها ا�ستنار من الثقـــافة جيـل تلك احلروف ك�سوتها دم مهجـة جاهدت فيهـا اجلهـاد طويــــل الأربعـون من ال�سـنني ت�ص ّرمـت وقال فيه �صديقه د.علي �شلق بعد وفاته يف جريدة «ال�سفري» بتاريخ ال�سبت � 28أيلول �سنة :1985 «ويف هذا الزمن ،ومن املكان املطحلب بالطني والدم وال�صديد ،حزم �ألبري �أديب حقائبه و�سافر وحيداً يف قطار الوح�شة ،واملر�ض ،والرعب �إىل مدينة الذكريات ،ومل يجد على الر�صيف واحداً ممن كانوا يتهافتون على جمل�سة االني�س يف بار م�سعود ،ومنزله بفرن ال�شباك». وختم �شلق مت�أ�سفا على رحيله« :فيا رفيق ال�سنني ،وحبيب الروح ،ح�سبك الغار املن�ضود �أبداً على تاج ا�سمك ...واملجد الذي رفت قبابه �إىل مطارح النجوم ،وللج ّر والورق زهو كلما الحت م�آتيك اخلالدة من وجوه الأيام ،وجلدتك املطهر �أكاليل من زهر القلوب ،والآداب ال ينطفىء عبريها على مدى الزمان». احتفل العامل العربي بيوبيل «الأديب» الف�ضي يف االوني�سكو يف عام 1970يف �صالة وزارة الرتبية الوطنية يف بريوت ،ونال عدة �أو�سمة وتناويه ور�سائل �شكر وثناء من كل الأقطار العربية .ومن جميع الأدباء وال�شعراء يف بريوت والعامل العربي الذين �أثنوا على م�سرية «الأديب» و�إغنائها النه�ضة العربية والفكرية. كما �أقام املجل�س الثقايف للبنان اجلنوبي بتاريخ اجلمعة 1985/11/8ندوة تكرميية يف �أربعة �أ�صوات عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
124
«حتية وفاء �إىل �ألبري �أديب «�شارك فيها كل من :د .علي �سعد و�أحمد �سويد وحممد عيتاين وحممد دكروب ،وقدم للندوة اال�ستاذ حبيب �صادق .وقد تكلم املنتدون عن ر�سالة �ألبري �أديب والفر�ص التي قدمها للنا�شئني �أ�صحاب املواهب الأدبية ،وكيف �أن جملة «الأديب» كانت امتدادا ملجلة «املك�شوف» التي اكدت على الأدب والثقافة والفكر .وكانت املجلة ،ت�صدر بجهد رجل ،و�سردوا ذكرياتهم مع �صاحب «الأديب» الذيك كان له �أ�سلوبه اخلا�ص بالتعاطي مع الأدب والأدباء تعاطياً ممتازا ،وخلق املواطن ال�صالح امل�سلح باملعرفة والعلم والثقافة. رحم اهلل �صاحب جملة «الأديب» الذي عرفته يف �أواخر �أيامه ...يوم كان ي�صدر «الأديب» يف �إحدى بنايات �شارع طريق ال�شام ،يف الطابق الثاين ،يف بناية قدمية العهد ،وكانت تعاونه يف بع�ض الأحيان ابنته ال�شاعرة بالفرن�سية هدى. انتقل �ألبري �أديب �إىل جوار ربه ولكن «الأديب» بقيت بني �أيدي القراء مرجعاً مهماً لكثري من املوا�ضيع الأدبية والتحقيقات الفكرية والق�صائد اجلديدة .لقد توقفت هذه املجلة عن ال�صدور، خملداً .و�ستبقى «الأديب» مرجعاً وم�صدراً وتوقف نب�ض كاتبنا و�شاعرنا املجيد ولكن ا�سمه بقي ّ من م�صادر العلم والثقافة واملعرفة والأدب ،وم�شع ًال ح�ضارياً راقياً ،يعود �إليها الباحثون والدار�سون واملهتمون ب�ش�ؤون الأدب حلقبة تاريخية علمية فكرية من تاريخ الأدب العربي احلديث وفكره املعا�صر.
125
حتوالت �أدبية
حاوي� :سرية وثائقية | حممود �شريح | م�ؤرخ �أدبي وناقد
كان لن�ش�أة حاوي يف ال�شوير و�ضهورها �أثر بالغ يف �صوغ تركيبه النف�سي وغوره الفكري .ففي هذه القرية الوادعة حتت ّ ظل �صنني ت�شرب رومان�سية حاملة ا�ستحالت رمزية واقعية .وهناك ان�ضوى حتت بريق احلزب ال�سوري القومي االجتماعي ثم تعرف على م�ؤ�س�سه ووا�ضع د�ستوره �أنطون لتبحره يف العقيدة. �سعاده فرافقه وكان الحقاً �أحد حرا�سه فمق ّرباً منه ّ ميكن للباحث �أن ينظر �إىل �سرية حاوي على مدى ثالثة و�ستني عاماً منق�سمة �إىل �أربع مراحل �أ�سا�سية: . 1من 1919اىل 1933حني كان مد ّلل ًال هانئا يف رفقة والديه وعطف �أمه �سليمة عطايا حتديداً. . 2من 1934اىل 1946حني انت�سب �إىل احلزب القومي وامتهن العمل اليدوي املرهق. . 3من 1946اىل 1959حني عاد �إىل الدر�س والبحث يف بريوت وكيمربدج. . 4من 1959اىل 1982حني كان حما�ضراً يف الدائرة العربية يف اجلامعةاالمريكية يف بريوت .وهي مرحلة حرية و�أرجوحة �شك ويقني. هذه هي مراحل حاوي الأربع على ظهر هذه الفانية� ،أما تفا�صيل حياته الدقيقة فهي على النحو التايل: � 1919/12/31أب�صر خليل حاوي النور يف قرية ُالهو ّية ،يف حوران يف �سوريا ،حيث عمل والده يف والدي حاوي يف جبل لبنان. العمار والتوريق والتطيني وهي مهنة ا�شتهر بها �أهايل ال�شوير م�سقط ر�أ�س ّ يف ربيع 1920عادا به �إىل ال�شوير حيث ن�ش�أ طف ًال مدل ًال يف كنف والديه .د ّر�سته �أمه وهو �صغري. 1925دخل مدر�سة املعلمة ملكة (املدر�سة الإجنيلية ال�صغرى يف ال�شوير) وبرع بني رفاقه وحفظ املزامري عن ظهر قلب .وهناك �أتقن خليل القراءة والكتابة واملبادىء االوىل من علم احل�ساب وقرمزات من اللغة الفرن�سية واالجنليزية. 1928انتقل خليل �إىل املدر�سة الي�سوعية التي كان يقوم عليها الآباء الي�سوعيون الذين يفدون �إىل ال�شوير من بكفيا .فدر�س يف جماين الأدب للأب لوي�س �شيخو وامل�شّ وق .وخرب الق�صا�ص عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
126
نف�سي حني رف�ض �أن يردد �أن الهراطقة هم االرثوذك�س ،وهو ال�شديد من �ضرب مربح وتعذيب ّ يف العا�شرة من عمره ،ومتادى يف الرف�ض فحمل الكاهن ق�ضيباً من الر ّمان وانهال به على خليل �ضد كل طاغ بالفكر واالرادة. ف�أثرت تلك احلادثة فيه طوال حياته من ناحية الع�صيان ّ 1929نقل خليل �إىل املدر�سة الوطنية العالية التي ي�سميها بع�ض �أبناء ال�شوير «مدر�سة عني الق�سي�س» وكانت كربى املدار�س يف منطقة ال�شوير و�ضهورها .يف هذه املدر�سة برع خليل يف احلطابة وكان ينال جائزتها االوىل كل عام .لكن مر�ض والده يف مطلع الثالثينات دفعه �إىل ترك املدر�سة طلباً للعمل لإعالة والديه واخوته فت ّعلم مهنة اال�سكافية يف حانوت املعلم فيليب توما يف ال�شوير ،ثم انتقل �إىل العمل عند املعلم اال�سكايف توفيق �أنطون ،وملّا �أتقن املهنة تدرج عند معلمني �آخرين ف�ضمن حياة كرمية لأهله ،بيد انه مل ينقطع عن التوحد والت�أمل ونظم ال�شعر الزجلي عند ال�صرفد. عني ّ 1937-1933عكف خليل على العمل يف كرم لأهله ّفجدد دواليه واعتنى بها وما عتم �أن غدا �أف�ضل مق ّلمي الكروم يف البلدة .ثم �إنه كان ووالدته يزرعان البندورة واخل�س والبقدون�س والنعناع واخليار واحلبق والفرفحني يف «بيدر» العائلة ،و ّتوج «هند�سته الزراعية» بتقليم �شجر ال�صنوبر وفرطه يف اخلريف وجمع �أكوازه ثم تركها حتى ال�صيف حني ت�شم�س وتفقى وتك�سر ،فيبني فيها القلب ال�صنوبري الأبي�ض الغايل الثمن. ويف هذه الفرتة بالذات �أخذ خليل ن�شر �شعره الزجلي يف جملة العرائ�س التي كان ي�صدرها عبداهلل ح�شيمة من بكفيا ،ويلقيه يف منا�سبات البلدة �أمام اهلها .وكان ي�ؤم املظاهرات الوطنية وينظم �شعراً يردده املتظاهرون كما جرى حني قام �أبناء ال�شوير مبظاهرة مطالبني �سلطات االنتداب الفرن�سي باالعا�شة فقال يف ر ّدة: بدنــا ناكـل جوعـــانني بدنا خبز بدنـا طحني وحمــرومني الإعــا�شي ما عنـا �شغل ما�شي اللي جناحاتا مق�صو�صني �صرنـا مثل الفرا�شي ثم �إن احلاجة �أكرهت خليل على العودة �إىل العمل اليدوي من جديد ،فعمل يف الورقة� ،أي يف «تلبي�س» الباطون على جدران املنازل الداخلية ،ويف تكحيل اجلدران اخلارجية ،وكانت هذه املهنة تقت�ضي منه ت�سلق اجلدران وك�سوها بالطني. ّ 1934تعرف خليل على انطون �سعاده وان�ضم �إىل احلزب ال�سوري القومي االجتماعي وتوثقت ال�صالت الفكرية والروحية بينهما. � 1940 - 1938أ�صبح حاوي م�س�ؤو ًال عن مديرية ال�شوير يف احلزب القومي. 1941 - 1940التحق بخاله يف الغور ال�صايف وعمل معه هناك يف �شركة البوتا�سيوم على �ضفاف
حاوي� :سرية وثائقية
حتوالت �أدبية
127
البحر امليت وعاد �إىل لبنان ومعه خم�سون لرية فل�سطينية. � 1944 - 1942أ�شرف على بع�ض ور�شات وم�ستودعات اجلي�ش الربيطاين. 1945ع ّلم نف�سه الفيزياء والكيمياء والريا�ضيات. 1946نال ال�شهادة الثانوية «الهاي �سكول». 1946هجر العمل اليدوي وعاد �إىل الدرا�سة املنظمة يف كلية ال�شويفات الوطنية. � 2آذار � 1947شارك يف ا�ستقبال �سعادة العائد من املهجر. ت�شرين االول 1947دخل اجلامعة االمريكية يف بريوت. 1948اختلف �إىل حما�ضرات �سعادة الع�شر وندواته. 1948يف اجلامعة �سكن خليل ي�أكل يف مطاعمها وينام يف غرفتها ويختلف �إىل حما�ضرات املجلني .و�سرعان ما انخرط يف �سلك العاملني يف �إ�صدار جملة «العروة الوثقى» ،ون�شر �أ�ساتذتها ّ فيها �أوىل ق�صائده يف الف�صحى .وتع ّرف �إىل القوميني العرب يف اجلامعة .وحر�ص على ح�ضور بع�ض الدرو�س التي كان يعطيها �سعيد عقل يف مدر�سة الآداب العليا .ويف اجلامعة االمريكية در�س حاوي العربية على جربائيل ّجبور و�أني�س فريحة و�إ�سحاق مو�سى احل�سيني ،والفل�سفة على ريت�شارد �سكوت .ومال بت�أثري �أحداث فل�سطني وبدء االنقالبات يف �سوريا �إىل رفقة دعاة القومية العربية يف �صفوف طالب اجلامعة (منح ال�صلح ،ف�ؤاد النمري� ،سالمة عبيد) ،لكنه بقي متحم�ساً لرئي�س احلزب ال�سوري القومي االجتماعي ،وظل يرافقه يف نزهاته داخل حرم اجلامعة. 1949وجد خليل يف �إعدام �سعاده ( )1949/7/8منكراً طا�شت �ألبابه �أثره وكان يخيل �إليه �أنه غادر الزعيم �إبان حمنته ،فهام يف الطرقات والرباري ،و�أخذ يتلو على رفاقه القدامى واجلدد ق�صائد نظمها يف �إعدام �سعادة ،فذاعت كل ذيوع وانت�شرت يف لبنان و�سوريا وبع�ض االردن. 1951 - 1950ن�شب �صراع عقائدي بني حاوي ورئي�س احلزب القومي ،جورج عبد امل�سيح ،على ق�ضايا فل�سفية انتهى �إىل انف�صال حاوي عن احلزب. 1952انتخب ع�ضواً يف جمل�س بلدية ال�شوير و�شغل هذا املن�صب حتى �سنة 1960بت�أييد من احلزب القومي فكان ممثله يف جمل�س بلدية ال�شوير. 1955مع اغتيال املالكي وخروج احلزب من واجهة الأحداث يف �سوريا ب�أكملها ،ان�شق احلزب �إىل جناحني. �أيار � 1955أ�صدر حاوي ق�صيدة «الذرى البي�ضاء» يف جملة الآداب ،تعبرياً يف نهاية جتربته يف احلزب رغم �إميانه مب�ؤ�س�سه. عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
128
1955تخرج من اجلامعة االمريكية يف بريوت بدرجة ماج�ستري.حملت �أطروحته عنوان «العقل والإميان بني ابن ر�شد والغزايل» ،وكتبها حتت �إ�شراف �إ�سحاق مو�سى احل�سيني. 1956انتقل �إىل جامعة كيمربدج ودر�س على عميد امل�ست�شرقني �آربري ،ف�أن�س به وان�صرف �إىل درا�سة �أدب ع�صر النه�ضة ،فغذته مطالعاته يف هذا ال�ش�أن لي�ستمد كثرياً من الوقائع والرموز التي جت�سدت يف ديوانيه «نهر الرماد» و «الناي والريح» .بيد �أنه كان يعاين وحدة داخلية ،ف ّعرب عن معاناته تلك يف «حب وجلجلة» .ويف كيمربدج توثقت �صداقته بال�شاعر توفيق �صايغ (- 1923 )1971الذي كان �آنذاك �أ�ستاذاً يف اجلامعة نف�سها ،وتوطدت عالقته بديزي الأمري مع انتقالها �إىل لندن لإكمال علومها. �أيلول � 1957أ�صدر يف بريوت ديوانه الأول «نهر الرماد» وهو جمموعة ق�صائد نظم بع�ضها يف كيمربدج فيما كان نظم بع�ضها االخر يف لبنان بني 1953و 1957عن دار جملة �شعر ومطبعة الريحاين .قدمت للديوان �صديقته عفاف بي�ضون يف درا�سة نقدية رائدة� .أ�شرف حاوي بنف�سه على طباعة «نهر الرماد» يف دار الريحاين خالل �شهري �آب وايلول .1957وكان قد عاد من كيمربدج �إىل بريوت يف حزيران ليجمع م�صادر تعينه على كتابة �أطروحته عن جربان .يف ربيع 1957ن�شر حاوي ق�صيدة يتيمة يف جملة �شعر بعنوان «ال�سجني» ثم انقطعت ال�صلة نهائياً بينه وبني القائمني على �شعر .يف 1957/8/31كتب حاوي من دار الريحاين يف بريوت ر�سالة �إىل توفيق �صايغ يف كيمربدج يعلمه فيها �أنه يتعنت «على النا�شر والطابع» لكنه يخ�شى �أن يكون ديوانه االول «نهر الرماد» فاحتة ال�شعر يف حياته وخامتته. 1958كان لدخول احلزب القومي �إىل جانب النظام يف حرب 1958االهلية يف لبنان �أثره يف تر�سخ قطيعة حاوي مع حزبه القدمي ،وكان العالن الوحدة بني م�صر و�سوريا يف � 1958أن حتدث يف نف�س حاوي يقظة تطال بنية ق�صيدته .وكان م ّهد لتحوله �إىل القومية العربية حني ر�سخ وجوده يف جملة الآداب فن�شر فيها بني نهاية 1953ونهاية 1957اثنتي ع�شرة ق�صيدة �شكل معظمها �أنا�شيد نهر الرماد. 1961 - 1958ملا ات�سعت هوة اخلالف مع جماعة �شعر بعث حاوي من كيمربدج �إىل الآداب ب�أربع ق�صائد «وجوه ال�سندباد» (« ،)1958/1ال�سندباد يف رحلته الثامنة»« ،)1958/8-6( ،اجلزار» (« ،)1959/1الناي وريح الرمل يف ال�صومعة» ( .)1959/2وما �أن عاد يف 1959حما�ضراً �إىل اجلامعة االمريكية حتى كانت �شهرته قد �سبقته �إىل بريوت على �أنه �أحد �أركان احلداثة .ثم ن�شر يف الآداب �ست ق�صائد «عند الب�صارة» (« ،)12/1960دعوى قدمية» (« ،)1961/6جنية ال�شاطىء» (« ،)1961/7اجلروح ال�سود» (« )1961/8الكهف» (« ،)1962/2لعازر» ( ،)1962/6وقد دفع حاوي ببع�ض هذه الق�صائد لتظهر يف ديوان «الناي والريح» عن دار الطليعة يف بريوت (.)1961 1982 - 1959عمل حاوي حما�ضراً يف الدائرة العربية يف اجلامعة الأمريكية واتخذ م�سكناً قريباً من اجلامعة.
حاوي� :سرية وثائقية
حتوالت �أدبية
129
1962 - 1961هجرحاوي احلزب نهائياً �إثر حماولة احلزب االنقالبية يف لبنان. كانون الثاين 1961ن�شريف الآداب مبحثه «اخللق الع�ضوي يف نظرية ال�شعر ونقده». � 1965أ�صدر «بيادر اجلوع» عن دار الآداب تعبرياً عن م�أ�ساة العقم والفراغ والعجز عن تغيري الواقع الذي حتجر فيه الزمن وا�ستحالت فيه الدقائق اىل ع�صور. كانون الثاين 1971ن�شر يف الطريق مبحثه «ال�شعر واملوقف والفكرالفل�سفي». �آذار 1971ن�شرق�صيدته «الأم احلزينة» يف الثقافة العربية يف بريوت. �آذار 1972ن�شر ق�صيدته «�ضباب وبروق» يف الآداب. �أيلول 1975ن�شر ق�صيدته «ر�سالة الغفران من �صالح �إىل ثمود» يف الثقافة العربية يف طرابل�س الغرب. نغّ�صت �أحداث احلرب االهلية حياة حاوي ودفعت به �إىل قنوط و�أ�سى فكان ديواناه االخريان «الرعد اجلريح» ( )1979و «من جحيم الكوميديا» ( )1979داللة وا�ضحة على تربمه مبا �آلت التطورات العربية واللبنانية ف�أدرك زوال نعيمه و�أح�س باختناق. � 1976سافر حاوي �إىل �أوروبا و�أمريكا وتون�س .يف �أمريكا �أقام عند �أخيه �سامي �أ�ستاذ الفل�سفة يف جامعة «ميلواكي» يف والية «و�سكن�سن». حزيران � 1980أ�صدر مقالة «العقل واالميان يف احل�ضارة العربية» يف جملة الفكر العربي املعا�صر وكان من هيئة م�ست�شاريها. �آب � -أيلول � 1980أ�صدر مقالة « العقل واالميان يف احل�ضارة الغربية احلديثة» يف الفكر العربي املعا�صر. كانون االول - 1980كانون الثاين � 1981أ�صدر مقالة «االميان ال�صويف يف مذهب الغزايل» يف الفكر العربي املعا�صر. � 1981أهدى ق�صيدة «الأ�صيل واملارق» �إىل �إح�سان عبا�س يف كتاب درا�سات عربية وا�سالمية مهداة �إىل �إح�سان عبا�س ،حترير وداد القا�ضي ،عن اجلامعة االمريكية يف بريوت .1981 � 1981أ�شرف على ترجمة اطروحته عن جربان وكان عهد بها �إىل �سعيد فار�س باز فن�شر منها ف�صلني قبل وفاته� ،أحدهما يف الفكر العربي املعا�صر بعنوان «النه�ضة والبحث عن الهوية (كانون االول - 1981كانون الثاين )1982وثانيهما يف الآداب بعنوان « حتليل ال�شكل واال�سلوب يف �أدب جربان (�أيار -كانون االول )1982و وكانت نينا جريج قد ترجمت ال�صفحات الأخرية من �أطروحته� ،أي خال�صة ر�أيه يف �أدب جربان و�أ�سلوبه وقيمته العامة .وقد دقق ن�ص الرتجمة وراجعه عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
130
حاوي بنف�سه (امل�صباح � ،1981/6/5ص � .)25-23أما الرتجمة كاملة ف�أجنزها �سعيد فار�س باز با�شراف حاوي ومراجعته ،ف�صدرت بعنوان جربان خليل جربان� :إطاره احل�ضاري و�شخ�صيته و�آثاره (بريوت :دار العلم للماليني .)1982 �شتاء � 1981أقدم حاوي على حماولة انتخار بتناوله حبوباً منومة .عولج يف م�ست�شفى اجلامعة. ا�ستعاد وعيه بعد �أن مت غ�سل معدته و�إنعا�شه ،وهناك نظم ق�صيدة توجز حمنته: طال �صمتي من ترى ت�سمع �صوتاً �صارخاً يف �صمته ي�سمع �صوتي ().... فلأمت غري �شهيد غ�صة الإف�صاح يف قطع الوريد. مف�صحاً عن ّ 1981نال حاوي من اجلامعة االمريكية لقب �أ�ستاذية ال�شعر «كر�سي مرغريت وايرهوزر جويت». (.)Margaret Weyerhaeuser Jewett Professor of Arabic 1982يف �أيار طلب من والدته �أن تهيء منزل العائلة يف ال�شوير لأنه كان يعتزم ق�ضاء ال�صيف يف قريته على مقربة من �صنني. 1982/6/6اجتاحت ا�سرائيل لبنان� .أن�صت حاوي �إىل ن�شرة االخبار امل�سائية يف منزل �صديقه �شفيق عطايا� .أن�شد ق�صيدته «يف اجلنوب» ثم قال لرفيقه« :اجلنوب يف قلبي ،من �سيمحو العار عني؟ الأف�ضل �أن �أنتحر». قرابة العا�شرة والن�صف م�ساء لعلع �صدى ر�صا�صة يف ليل بهيم .انتحر حاوي على �شرفة منزله املطلة على �ساعة اجلامعة باطالق النار على نف�سه من بندقية �صيد كان اقتناها يف �صباه .رفعها قلي ًال �إىل �أعلى و�سددها �إىل دماغه و�ضغط زنادها. عل ملقى على �شرفة منزله .حدثت جلبة يف �شارع 1982/6/7يف ال�صباح �شوهد حاوي من ٍ اخلالدي -املكحول .و�صلت ال�شرطة وقبلها �أم خليل التي �صرخت �صوتاً �شق عنان �سماء تزدحم بطائرات مغرية .قال الطبيب ال�شرعي يف تقريره �أن الطلق الناري «دخل من الزاوية بني العني اليمنى والأنف ،ففجر اجلمجمة وعظام اجلبهة ،مما �أحدث نزيفاً داخلياً �سبب الوفاة .ووجد و�شم بارودي وهذا ّ يدل على �أن �إطالق النار ح�صل من م�سافة قريبة .نقلت اجلثة �إىل م�ست�شفى اجلامعة الأمريكية . � 1982/6/9صلي على جثمان ال�شاعر يف كني�سة ال�سيدة االرثوذك�سية يف �شارع املكحول ثم �شيع يف ال�شوير �إىل مدافن �آل احلاوي. � 1983أعلن حممود دروي�ش يف مطولته «مديح الظل العايل» �أمام �أع�ضاء املجل�س الوطني
حاوي� :سرية وثائقية
حتوالت �أدبية
131
الفل�سطيني يف دورته ال�ساد�سة ع�شرة املنعقدة يف اجلزائر �أن لبريوت ال�صدارة يف الذاكرة الفل�سطينية فهي «زمن م�ضى لك ّنه ال ينتهي ،و�أن هذا الزمن نف�سه دفع بحاوي �إىل االنتحار». � 9إىل � 12آذار 1983عقدت جلنة قدامى كلية الرتبية يف اجلامعة اللبنانية ندوة �أكادميية عنوانها «اجل�سر» �إحياء لذكرى حاوي يف مبنى الفرع االول لكلية الرتبية يف حي االوني�سكو. خ�صت �صحيفة «ال�سفري» �صفحتها الثقافية حلاوي. ّ 1983/3/13 � 1983أنهى املو�سيقار مار�سيل خليفة و�ضع حلن لق�صيدة حاوي «اجل�سر» الذي �أ�صبح فيما بعد ن�شيد احلزب التقدمي اال�شرتاكي .وكانت �إذاعة مو�سكو يف ق�سمها العربي ت�ستهل به براجمها اليومية. � 1983/6/10أحيا النادي الثقايف العربي ندوة حول حاوي. حزيران -متوز � 1983صدر عدد خا�ص من الفكر العربي املعا�صر حموره «خليل حاوي/ال�شاهد ال�شهيد» ا�شتمل على درا�سات و�أبحاث و�شهادات تناولت حياة ال�شاعر وق�صائده و�شخ�صيته. �صيف � 1983أفردت جملة حتوالت ملفا خا�صا بحاوي. � 1983أ�صدرت ريتا عو�ض كتاباً تناول �سرية حاوي ونتاجه ومذهبه ال�شعري :خليل حاوي (بريوت :امل�ؤ�س�سة العربية للدرا�سات والن�شر). خريف 1983انتهى �أ�سعد خرياهلل املحا�ضر يف جامعة فرايبورغ من و�ضع درا�سة باالملانية حمورها م�ضمون البعث واملنحى التموزي يف ق�صائد حاوي و�أدوني�س ،يف هذه الدرا�سة �أحاط خرياهلل بامل�ؤثرات الفكرية التي حددت وجهة حاوي يف �إطار احلداثة العربية و�أملح اىل ع�ضوية حاوي ال�سابقة يف احلزب ال�سوري القومي االجتماعي فجاءت درا�سته تلقي �ضوءاً على عالقة متوزية حاوي بالنهو�ض القومي. 1984ترجم عدنان حيدر ومايكلبريد ديوان حاوي «بيادر اجلوع» �إىل االنكليزية .و�ضمت هذه الرتجمة حتلي ًال م�سهباً وثبتاً بالق�صائد ومقابلها الرتجمة وببليوغرافيا �شاملة ملقاالت ودرا�سات و�أبحاث و�أطروحات حول حاوي� ،إ�ضافة �إىل �سرد املقابالت مع ال�شاعر يف ال�صحف واملجالت. وقد ن�شر امل�ؤلفان ق�صيدة «يا �صبية» بخط حاوي ( )1981/4/14وهي من �آخر ق�صائده .توجز هذه «غ�صة» التي الق�صيدة جتربة حاوي �إذ تظهر فيها مفردات «رماد» و «�صقيع» و «جمر» و «طري» و ّ مدى وا�سعاً تك ّرر �أجواء «لعازر »1962وتتخذ �شك ًال جن�سياً وت�ؤرخ اللحظة اجلمالية التي ت�ضيء ً من الأمل واخليبة� .أما عنوان الدرا�سة فهو: Naked in Exile: Khalil Hawi’s the Threshing Floors of Hunger: Interpretation and Translation by Adnan Haidar and Michael Beard. Washington, D.C. Three Continents Press 1984.
عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
132
خ�صت جملة الفكر العربي املعا�صر حاوي مبلف ثقايف . حزيران ّ 1986 خ�صت جملة �ش�ؤون �أدبية ال�صادرة يف ال�شارقة حاوي مبلحق �شعري ونقدي. خريف ّ 1987 1987ن�شرت ديزي الأمري ،عن دار الن�ضال ،جمموعة ر�سائل بعث بها حاوي �إليها خالل ال�سنوات املمتدة من 1955اىل 1962من دون �أن تورد �أ�سمها يف الر�سائل. � 1987أ�صدر منح خوري كتاباً باالجنليزية عن احلداثة خ�ص فيه حاوي بف�صل �أ�شار فيه �إىل فهم حاوي الواعي للعالقة بني التجربة والر�ؤيا .ودر�س مناذج من �شعره ّ مركزاً على «لعازر ،»1962 فوجد فيها ق�صيدة متعددة اجلوانب يف ا�ستخدامها الرمز وااليحاء واال�سطورة والوزن وااليقاع، ومن هنا �أطلق عليها خوري لقب «�أر�ض يباب ال�شعر العربي احلديث»� ،إ�شارة �إىل عنوان ق�صيدة اليوت «الأر�ض اليباب». Mounah Khoury, studies in Contemporary Arabic Poetry and Criticism. Piedmont, California: Johan Book Co. 1987.
وكان منح خوري باال�شرتاك مع حامد اجلر قد ترجم «البحار والدروي�ش» �إىل االنكليزية يف كتابهما: Anthology of Modern Arabic Poetryال�صادر عن جامعة كاليفورنيا يف بريكلي يف .1974 � 1990/9/6أحيت كلية مبربوك يف جامعة كامربدج ذكرى حاوي ف ّتم تعليق لوحة حتمل ر�سم الر�سام االنكليزي �أجنز فيما م�ضى لوحات ال�شاعر �أجنزها ت�شارلز وايت يف تلك الكلية وكان هذا ّ مفكرين وك ّتاب �آخرين مثل كينز ( )John Mayard Keynesور�صل ()Bertrand Russell وولف ( )Virginia Wolfواليوت (.)T.S.Eliot � 1991أ�صدر جميل جرب كتاباً عنوانه «خليل حاوي» (بريوت :دار امل�شرق) عر�ض فيه عالقات حاوي ال�شخ�صية منذ الثالثينات وحتى بداية الثمانينات وو�ضعه يف مكانه املنا�سب يف �إطار ال�شعر احلديث و�سرد ق�صة حياته وتطوره الفكري وتناول �شخ�صيته وثقافته وت�أثرياته وم�ضامني وتق�صى م�صادر رموزه واختار مناذج من �شعره. دواوينه وح ّلل �شعره ّ � 1991/7/26سا�سني ع�ساف يتحدث �إىل جملة احلوادث (�أجرى احلديث جهاد فا�ضل) عن معرفته ب�أ�ستاذه حاوي ثم عن معرفته بحاوي عن كثب ال �سيما بني 1974و 1977حني خربه عن قرب يف لقاءات �صيف ّية يف منزل حاول يف ال�شوير ويف مقهى «احلاوي» يف �ضهور ال�شوير ،وهو ينهي �أطروحته« :خليل حاوي يف �إطار ال�شعر املعا�صر» باال�سبانية يف جامعة مدريد ،ف�أ�شار �إىل بع�ض ما قاله حاوي له يف �صيف 1975ومل يكن قد ن�شره حتى ذلك التاريخ. على مدى اخلم�سة ع�شر عاماً الأخرية اغتنت املكتبة العربية ب�أبحاث ودرا�سات وكتب وحتى ر�سوم و�أغان ومنحوتات تناولت ريادة حاوي وطليعيته وهذه كلها بحاجة �إىل بحث �آخر م�ستقل.
133
حتوالت �أدبية
اللية تنامي الثّنائية ال ّد ّ
عرية يف جتربة نعيم تلحوق ال�شّ ّ
| د .ل�ؤي زيتوين | باحث و�أكادميي
ال�ضوء على العربي الذي ُي�ص َّنف باحلديث دون �إلقاء ّ ال�سهل ّ من غري ّ الدخول يف بنية ال�شّ عر ّ وا�سع وحا ّد� ،إىل جانب كونه اخل�صو�ص ّية الف ّن ّية التي ُيبنى عليها؛ ال �س ّيما �أ ّنه ما يزال مثار جدالٍ ٍ مبعث االلتبا�س ال�شّ ديد لدى املتلقّي .وانطالقاً من ذلك ،ت�صبح عمل ّية الغو�ص يف هذا ال ّنوع من ال�شّ عر م�سري ًة مليئ ًة بالأ�سالك ال�شّ ائكة ،لك ّنها يف الوقت عينه عمل ّية مغرية ،لأ ّنها اخلو�ض يف عا ٍمل جمهولٍ ٍ ال�سياق ،تدخل ال ّتقنية القائمة على ح�ضور مفتوح على احتماالت ال ّ ٍ حتد ...ويف هذا ّ عري احلديث ،ركيز ًة حمور ّي ًة يف فهمه ويف ا�ستكناه �أبعاده .ومن الثّنائ ّية ّ الدالل ّية داخل العمل ال�شّ ّ خالل قراءة ال ّتجارب ال�شّ عر ّية التي تدور يف هذا الإطار ،نالحظ هذا احل�ضور الكثيف لثنائ ّي ٍات الوجودي متثّل احلال الكيان ّية التي ت�سيطر على ال�شّ اعر احلديث� ،أو مبعنى �أو�ضح متثّل الهاج�س ّ الذي يطغى على فكره وكيانه بعا ّمة. ومن هذا املنطلق تنه�ض جتربة نعيم تلحوق بو�صفها واحدة من ال ّتجارب ال�شّ عر ّية احلديثة التي حموري ومتن ّوع� ،إ�ضاف ًة �إىل ال ّتف ّرد يف كيف ّية ا�ستخدامها، ب�شكل يربز فيها ح�ضور تلك الثّنائ ّيات ٍ ّ ال �س ّيما يف املرحلة الثّانية من م�سريته ال�شّ عر ّية ،والتي تبتدئ بديوان «�أظ ّنه وحدي» مروراً بدواوينه ال�صادر م� ّؤخراً حتت عنوان «�شهوة «يغ ّني بوحاً» و «يرق�ص كفراً» و «لأنّ ج�سدها» ،و�صو ًال �إىل ديوانه ّ ّنائي؛ فالأ ّول القيامة» .ومن َ املالحظ �أنّ العناوين التي اختارها ال�شّ اعر كانت قائم ًة على ال ّنمط الث ّ يدور بني �ضمريي الغائب واملتك ّلم ،يف حني �أنّ الثّاين والثّالث قائمان على املزج بني فعلني الدواوين ال�سبب وامل�س ِّبب؛ �أ ّما الأخري بني هذه ّ متباعدين ،بينما ال ّرابع يظهر االرتباط بني طرفني ّ ين وثانيهما فيتبدى منه وجهان من طبيعتني خمتلفتني ومتكاملتني يف �آن� ،أولهما ج�سدي �إن�سا ّ ّ ّ مقد�س .ف�إن كانت احلال هذه يف العناوين وح�سب ،فكيف يتمظهر ذلك يف ن�صو�ص إعجازي ّ � ّ ال�شّ عر ّية بذاتها؟ وكيف ميكننا من خالل ا�ستطالع هذه الثّنائ ّيات اكتناه طبيعة جتربته؟
عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
134
اعية لنتاج نعيم تلحوق: الوجهة ال�صرّ ّ
ّ الطبيعة العا ّمة لثنائ ّياته:
بنظر ٍة عا ّمة �إىل �أعمال ال�شّ اعر يف املرحلة الثّانية من حياته ال�شّ عر ّية ،نالحظ تن ّوعاً وا�ضحاً يف الدواوين ،ميكننا �أن نخت�صر الثّنائ ّيات التي نعرث عليها يف دواوينه .و�إن قمنا بالغو�ص يف تلك ّ الوجودي الذي ميتلئ به ال�شّ اعر؛ طبيعتها الأوىل بالوجود ّية� .إذ �أنّ جميع الثّنائ ّيات تلتزم الهاج�س ّ «حوذي ال ّزمان» ،ال �س ّيما فعلى �سبيل املثال ،جند ح�ضوراً مكثّفاً للثّنائ ّيات �ضمن ق�صيد ٍة بعنوان ّ حينما يقول: احلوذي، «[ ]...قلْ ماذا تخ ّبئ �أ ّيها ّ َ �صدرك من �أخبار؟ يف ي�صادقك ّ َ الطري، ح ّتى ويناجيك ال ّرعد، ويخ�شاك امللوك، فت�صادف َ نف�سك وجهاً تائهاً يف املر�آة، ال ت�س�أل البحر قربك، عدك»]...[ ، وال الع�شب ُب َ َ املوجه من خالل هذا املقطع ،ن�ستطيع �أن ن�ستطلع ثنائ ّي ٍات مرتبط ًة ّ باحلوذي بو�صفه قائد امل�سري� ،أو ِّ ومبهمته التي (الوعي/ال�ضياع)� ،أي ما يرتبط بحقيقة هذا ال�سفر .من تلك الثّنائ ّيات: ّ ّ احلوذي ّ يف ّ تكمن يف وعي ّ الطريق من �أجل الإي�صال �إىل غاي ٍة مع ّينة ،يف مقابل وجهه ال ّتائه يف املر�آة .وتعك�س حمتدم داخل ال�شّ اعر بني تط ّلع الآخر نف�سي ٍ هذه الثّنائ ّية هاج�ساً وجود ّياً يكمن يف ح�ضور ٍ �صراع ٍّ ٍ ت�شكيك يف حقيقة وجهته؛ املوجه للم�سرية ،بينما يعاين يف داخله من نحو هذا ال ّنموذج بو�صفه ّ وهو الأمر الذي ين�سحب ال على حياة ال�شّ اعر فح�سب ،بل على ما ميثّله من تط ّل ٍ عات وقيم. من ناحي ٍة �أخرى ميكننا �أن نر�صد طبيع ًة �أخرى للثّنائ ّيات يف �شعر تلحوق ،تتج ّلى يف ذات ّيتها� ،أي لحوقي ي�شهد �صراعاً بني قيم و�أفكار .فال ّن ّ�ص ال�شّ ّ متحورها حول ذات ال�شّ اعر وما متثّله من ٍ عري ال ّت ّ ّ وقيم معاك�سةّ . ولعل الذات وبني ق ّو ٍة �أخرى طبيعتها خمتلفة ترتبط بالآخر-الآخرين� ،أو ب�أفكا ٍر ٍ املقطع ال ّتايل يعطينا فكر ًة �أو�ضح عن ذلك اجلانب: كنت بال �أنتم... «[ُ ]... �سحر �سوا ٍد ُيعا ُد �إ ّيل، 1
1
نعيم تلحوق :لأنّ ج�سدها .بريوت ،دارفكر للأبحاث وال ّن�شرّ ، الطبعة الأوىل� ،2012 ،ص.16
حتوالت �أدبية
تنامي الثّنائية الدّ الل ّية
135
وعطراً �أو�س َع من احلرب، مقلتي»... وهام ًة تعاند ّ مقلتـي) إلـي- تربز الثّنائ ّية هنا من خالل ّ ال�ضمائر التي تن�شطر بني املتك ّلم املفرد ُ ّ (كنتّ � - َ بال�سحر الذي ّ واملخاطب اجلمع (�أنتم) ،حيث تبدو ّ يدل على ال ّتف ّرد والعطر الذات /الأنا م ّت�صف ًة ّ الذي ي�شري �إىل الأثر يف املحيط والهامة التي ّ ال�صفات التي ميلكها تدل على املواجهة والفخر ،وهي ّ حينما يتج ّرد من الآخر /الأنتم الذي ي�شري �إىل اجلماعة احلاملة لأفكار موروث ٍة �أو ٍ عادات م ّيتة، وهي بال ّتايل التي تناق�ض موا�صفات �أناه .بنا ًء عليهُ ،تظهر هذه الثّنائ ّية ح�ضور ّ املحوري لدى الذات ّ ال�شّ اعر وفاعل ّيتها. ومع كون ّ الدالل ّية� ،إ ّال �أنّ خلف ّياتها حتمل �أبعاداً الذات متثّل املحور الذي تقوم عليه ثنائ ّيات تلحوق ّ ؤيوي يجعل من الأنا وجهاً من وجوه ثقاف ّي ًة وح�ضار ّي ًة واجتماع ّية وا�ضحة ،انطالقاً من منظو ٍر ر� ٍّ املحيط الذي ّ تتجذر فيه� ،أي نتاجاً لأفكار جمتمعها وثقافته؛ �أو يجعل منها متثي ًال حلالٍ فكر ّي ٍة وقوم ّي ٍة متن ّوعة الأوجه واملنطلقات .ميكن ا�ست�شفاف هذا اجلانب من خالل خماطبته لل�شّ هيد الد ّرة بالقول: حممد ّ ّ َ برم�شيك، «ك�سرت عمري ُ رب َ حالك، مل ّا �س� ُ ألت ال ُع َ َ ال�شتعالك»]...[ ، فقالوا :ال مكان يف بالنا بو�ضوح هذا ال ّتقابل الذي يح�ضر بني ق ّوتني( :االنتماء/اخلذالن)� ،إذ �أنّ ال�سابق ،نرى ٍ يف املقطع ّ ق ّوة االنتماء يتج ّلى ب�ضمري املخاطب املف َرد امل�سيطر على الأ�سطر والذي يوحي بال�شّ هيد ،بينما القومي لثنائ ّياته. تتمثَّل ق ّوة اخلذالن يف لفظة ال ُعرب ويف �ضمري اجلمع الذي حلق بها؛ ما يربز البعد ّ على �أنّ طبيعة تلك الثّنائ ّيات ت�أخذ بال ّتط ّور لتعبرّ عن املنطلقات الفكر ّية التي يعتنقها ال�شّ اعر، هاج�س عا ٍّم ي�شمل جمتمعاً ب�أكمله .فها هو يعلن عن �أمله من نفاق البع�ض يف حمل والتي تعبرّ عن ٍ املبادئ التي ي�ؤمن بها: «يل ق�ض ّية حتمل تاريخاً من املع ّلبات ال�سنني، واملك�سرات خمر ّ ّ ويل �أح ّبة يحملونها يف جيوبهم، متعة الفجر ّ املطل على اجلبني. حمظي ب�أ�صدقاء يغرقونها و�أنا ّ 2
3
2 3
نعيم تلحوق :لأنّ ج�سدها� .ص.63 - 62 نعيم تلحوق :يغ ّني بوحاً .بريوت� ،إتحّ اد الك ّتاب ال ّلبنان ّينيّ ، الطبعة الأوىل� ،2005 ،ص.58 عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
136
الدفني»... بنميمة احلقد ّ فاملالحظ ي�ستطيع �أن يجد اجلموع �إىل جانب �ضمائر اجلمع معبرّ ًة عن ال ّنفاق و�ضعف االنتماء، خمل�ص يف انتمائه ،وهذا ما ّ بينما يرى �ضمري املتك ّلم املفرد ليكون مم ّث ًال ّ ي�شكل �صراعاً تظهره لكل ٍ ثنائ ّية (االنتماء/ال ّنفاق). �إ�ضاف ًة �إىل هذا ك ّله ،ال ميكن �إ ّال �أن ننظر �إىل غائ ّية الثّنائ ّية لدى نعيم تلحوق ،انطالقاً من كون ال�سياق ،نرى �أنّ الغاية التي ت�سعى �إليها ثنائ ّياته تلك الغائ ّية جزءاً يف طبيعتها ّ ال�صراع ّية .ويف هذا ّ منحى يهدف �إىل مواجهة ترتبط بطبيعتها الأوىل الوجود ّية� ،إذ �أن ق�صيدة ال�شّ اعر تنحو با�ستمرا ٍر ً الكلي لرفع قيمة وجود الإن�سان فرداً وجماعةً ...وعلى هذا الأ�سا�س ميكننا قراءة امل�صري الإن�سا ّ ين ّ املقطع ال ّتايل: مت ّ الطريق � ِ إليك ،بعدما فارقتني الأنبياء و�أحجم ع ّني «تع ّل ُ ّ املتنكرون بالعلم، وكفّرين ّجتار ال ّرغيف، وال�ص ّديق ّيون وبايعني القدي�س ّيون ّ وباعتني الآلهة عقودها ومزامريها.. وانتخبتني املالئكة والكهنة و�ص ّياً على العر�ش، و�صرت �أفرح ك ّلما دقّت ال ّريح باب نافذتي و�أهوائي ،لت�صيرّ ين ِ منك �إله ُ الع�صافري ّ والظنون». ن�ست�شف حالني متثّلهما الأفعال التي تو ّزعت بني املا�ضية التي د ّلت ميكننا من خالل ما �سبق �أن ّ على حاله قبل �أن يتع ّلم ّ الطريق �إىل املر�أة املجهولة ،وبني امل�ضارعة التي مثّلت حاله بعد �أن تع ّلم؛ الذات وفاعل ّيتها .فقد ّ لتكون الثّنائ ّية ّ املت�شكلة هنا هي (اجلهل/العلم) املرتبطة ببح�ضور ّ �شكلت العوامل واملعاناة التي ّقدمتها الأفعال املا�ضية حا ًال م�ؤ ّهل ًة ملرحلة العلم ،بينما دفعت املعرفة نحو ال�سعي حت ّول ال�شّ اعر �إىل «�إله»� ،أي �إىل رم ٍز للعارف والقادر يف الوقت عينه ...وهذا ك ّله من خالل ّ للو�صول �إىل �ضمري َ املخاطب امل�ؤ َّنث ،والذي ي�شري �إىل امر�أ ٍة جمهول ٍة قد تكون رمزاً �إىل ّ الذات .ف�أن كل ما عاناه وما م ّر به ّ يدل على غاي ٍة تتع ّلق مب�صري تلك ّ يعلم ال�شّ اعر كيف ّية بلوغ ذاته بعد ّ الذات وبتحقيق ح�ضورها الفاعل. تقدم ،ميكننا ا�ستنتاج الطبيعة العا ّمة للثّنائ ّيات املتبلورة داخل املرحلة الثّانية ا�ستناداً �إىل ما ّ من �شعر نعيم تلحوق ،والتي ميكن تلخي�صها بكونها ثنائ ّيات وجود ّية ّذات ّية متتلك �أبعاداً ثقاف ّية وح�ضار ّية واجتماع ّية ،وغايتها مواجهة ّ ين الذي الذات مل�صريها من �أجل ترقية الوجود االن�سا ّ 4
5
4 5
نعيم تلحوق :يغ ّني بوحاً� .ص.80 - 79 املرجع نف�سه� ،ص.11
حتوالت �أدبية
تنامي الثّنائية الدّ الل ّية
137
لكن الباب هنا ُيفتح على م�صراعيه لل ّت�سا�ؤل حول مدى ان�سحاب طبيعة يهج�س فيه ال�شّ اعرّ . ال�سياقات التي تتج ّلى فيها هذه الثّنائ ّيات على ديوانه «�شهوة القيامة» ،وحول درجة ال ّتن ّوع يف ّ الديوان. �ضمن هذه ّ ّنائيات يف ديوان «�شهوة القيامة»: م�سار الث ّ
ال�سقوط: .1جت�سيد حال ّ
مهماً يف بالقراءة املتم ّعنة لديوان «�شهوة القيامة» ،نالحظ �أنّ الثّنائ ّيات ّ الدالل ّية قد �أخذت ح ّيزاً ّ منحى متد ّرجاً يف امل�ضامني والأبعاد التي ت�شتمل عليهاّ . ولعل احلال الأوىل تكوينه؛ �إ ّال �أ ّنها تنحو ً التي ميكن �أن نلحظها يف ُ ال�ضياع ،مبا تعنيانه ال�سقوط� ،أو حال ّ متو�ضع ثنائ ّيات تلحوق هي حال ّ من جوانب �سلب ّي ٍة يف حياة االن�سان� .أ ّما عن �أبعاد تلك احلال ،فيمكننا �أن جندها يف امل�ستويات االجتماع ّية والثّقاف ّية واحل�ضار ّية ...وهو الأمر الذي نر�صده يف الأ�سطر ال ّتالية: «�إثنان �سقطا يف امتحان املتاهة، ج�سدي، و�أفكار �أبي ع ّني... حدين �أغ ّني»... و�أنا بني ّ وجودي يقع بني الأنا التي مل متتلك �صراع ٍّ يف ما �سبق ،نرى ح�ضوراً لثنائ ّي ٍة حا ّد ٍة تتج ّلى يف ٍ يقدم الأفكار القدمية حول تلك الأنا؛ وذلك ما ّ ي�شكل ثنائ ّية �إ ّال اجل�سد ،وبني رمز الأب الذي ّ ال�صراع مل�صلحة الأفكار املوروثة على (املوروث/املعا�صر) .غري �أنّ الغلبة تبدو وا�ضح ًة يف هذا ّ ال�سقوط .وباخت�صار ،ف�إنّ هذه احلال تبدو ح�ساب اجل�سد املعا�صر ،وهو الأمر الذي �أ ّدى �إىل حال ّ من خالل اال�ست�سالم للما�ضي ولأفكاره البالية� .أ ّما ح�ضور رمز الأب في�ضيف �إىل معنى املوروث لل�سلطة الأبو ّية و�أفكارها اال�ستبداد ّية التي ال تقبل ال ّنقا�ش ،والتي بعداً �آخر يربز يف اخل�ضوع ّ ت�سعى �إىل فر�ض �أفكار الأب� ،أو منوذجه ،على اجليل ال ّتايل ليكون جي ًال خاوياً فارغاً من �أفكاره اخلا�صة ،وال ي�ستطيع �أن يعي�ش �إ ّال بتفكري «الأب». ّ ال�سقوط ال تتوقّف على ذلك� ،إذ �أ ّنها ترتبط �أي�ضاً بطبيعة الإن�سان وبعواطفه ،ففي على �أنّ حال ّ نظر ال�شّ اعر تبقى العاطفة عام ًال حمور ّياً يف تو�صيف الإن�سان ّية .على هذا امل�ستوى ،ميكن قراءة ما يلي لتو�ضيح ما ن�صل �إليه: «العامل مقرب ٌة عظمى، موتاه �أكرث من املوت، 6
6
نعيم تلحوق� :شهوة القيامة .بريوت ،دار الفرات لل ّن�شر وال ّتوزيعّ ، الطبعة الأوىل� ،2013 ،ص.13 عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
138
لأنّ قلوبهم � ّأقل»... ال�سابقة ثنائ ّي ًة قائم ًة على (القلب/املوت) ،فمن الوا�ضح �أنّ العامل �صار عبار ًة عن جند يف الأ�سطر ّ مقرب ٍة ب�سبب تق ّل�ص حجم العاطفة فيه ،وذلك يعود �إىل �أنّ قلوب ال ّنا�س قد ق ّلت فح ّولتهم �إىل ال�سقوط الأخالقي التي يعاين منها املجتمع، �أموات يف نظر ال�شّ اعر .يدخلنا هذا يف تو�صيف حلال ّ �إذ �أنّ الب�شر جت ّردوا من �إن�سان ّيتهم من خالل جت ّردهم من عاطفتهم ،مع ما ي�شمله ذلك من انتفا ٍء ملعايري ال ّرحمة وال ّتعاطف... الفكري� ،أي يف ال�سقوط وتكمن يف امل�ستوى ّ ي�ضاف �إىل ما �سبق ،عنا�صر �أخرى تكمل م�شهد ّ الفكر الذي ي�سيطر على عقول ال ّنا�س ،ال �س ّيما الأفكار التي تدعو لال�ست�سالم واالنهزام ّية .ويف ال�سياق نقر�أ: هذا ّ ال�صوم، «قال يل [�صوت يف املنام] بعد ّ عما �أنت، � َإبق را�ضياً ّ َ �سراحك الآخرون»... ليطلق ال�سابقة عن معانٍ مرتبطة مب�س�ألة اال�ست�سالم للواقع املفرو�ض ،وبعمل ّية ال ّتخ ّلي تك�شف الأ�سطر ّ عن فكرة املواجهة من �أجل اخلال�ص من ف�ساد هذا الواقع .وهذا ما ي�ضعنا �أمام ثنائ ّية (املواجهة/ ال�سياق ،تظهر لفظة اال�ست�سالم) التي ت�ضيء الوجه احلقيقي للواقع ،وتدفع �إىل تغيريه .يف هذا ّ ّ (ال�صوم) لتوحي لنا �أبعاداً دين ّي ًة تعمل على �إ�شاعة �أفكار مفادها ال ّتخ ّلي عن � ّأي حماولة للخروج ّ من ذاك الواقع ،وال ّتعوي�ض بانتظار الفرج من الغيب �أو من قوى �أخرى خارجة عن �إطار العامل ين هذه .وبنا ًء عليه ،ف�إنّ الواقعي؛ وذلك يربز بلفظة (الآخرون) التي تبينّ طبيعة ال ّتفكري الإميا ّ حتدي الأزمات ،وهو ما يعني �سقوطاً ّ بكل ما للكلمة يعد هذا تعطي ًال للعقل ولقدرته على ّ ال�شّ اعر ّ من معنى. وقريب من هذا املعنى �إنمّ ا بثنائ ّي ٍة خمتلفة ،نقر�أ انتقاداً �صريحاً لالنحدار الذي و�صل �إليه العرب يحدد حال الف�شل وال�ضياع أخالقي ّ اليوم ،حيث يجتمع ّ الفكري ليو�ضح الفراغ الذي ّ ّ ال�ضياع ال ّ الذي نقع فيه .فري ّدد ال�شّ اعر: «غ�ضب ...غ�ضب... الدا�شرين عروبة �أ�سقطتها �أحالم ّ خلف امل�ؤمنات، واملكرثين من الأدعية واملوعظات».. 7
8
9
7 8 9
نعيم تلحوق� :شهوة القيامة� .ص.42 املرجع نف�سه� .ص.17 نعيم تلحوق� :شهوة القيامة� .ص .72
حتوالت �أدبية
تنامي الثّنائية الدّ الل ّية
139
(االنتماء/ال�ضياع) ت ّت�ضح من خالل ال ّتقابل بني االنتماء للعروبة وال�شّ عارات التي ترافق فثنائ ّية ّ هذا االنتماء ،وبني �ضياع تلك ال�شّ عارات ب�أكملها خلف ال ّن�ساء وخلف ّمدعي الإميان ...انطالقاً ال�سقوط ي�شمل َمن ي�ص ّنفون �أنف�سهم بـ»العرب» ،لأ ّنهم جماعة ال تقوى على من ذلك ،نرى �أنّ ّ الدفاع عن نف�سها. الفعل احل�ضاري �أو على ّ ّ قدي هذا لكن هذا الإطار ال ميثّل ،بطبيعة احلال ،ديوان «�شهوة القيامة» بالكامل� ،إذ �أنّ طرحه ال ّن ّ ّ ٍ واحل�ضاري .فكيف عمل نعيم تلحوق على بحاالت �أخرى على امل�ستوى الثّقاف ّية ال ّبد �أن ُي�ستت َبع ّ مواجهة تلك احلال؟ الرف�ض واملواجهة: .2حال ّ
حد تو�صيف الواقع وما ي�شتمل عليه ي�ستطيع القارئ �أن يدرك بو�ضوح عدم توقّف ال�شّ اعر عند ّ ٍ من ٍ تقم ٍ�ص أخالقي وثقا ّيف ،و�إ ّال لكان �شعره جم ّرد ٍ انعكا�س للواقع ،وبال ّتايل جم ّرد عمل ّية ّ �سقوط � ٍّ للف�ساد فيه .لك ّنه ّ تقدماً و�أكرث فاعل ّي ًة تخت�صرها �صفة ال ّرف�ض يتخطى تلك احلدود ليبلغ حا ًال �أكرث ّ تو�سل م�سا ٍر متد ّرج امل�ستويات .وانطالقاً من ذلك ،نرى واملواجهة ،والتي تكتمل من خالل ّ امل�ستوى الأ ّول يتبلور على �شكل ت�سا� ٍ ال�سقوط تلك ،وهو ؤالت حول �إمكان ّية اخلروج من و�ضع ّية ّ الأمر الذي يظهره لنا اال�ستفهام الوارد �ضمن املونولوج ال ّتايل: بال�سر الذي �أخرجنا «ماذا َ فعلت ّ لنب�صر �صحوة»]...[ ، ال�سابقان توجه هذا ال ّت�سا�ؤل تربز يف ّ فالثّنائ ّية التي ّ ال�سطران ّ (ال�صحوة/الركون) ،حيث ّقدم ّ «ال�س ّر» الذي يدفع �إىل الوعي بحقيقة الواقع وف�ساده ،بينما ي�ستبطن الكالم ا�ستفهاماً حول ّ جتمل هذا الواقع �أو تقلب �صورتهّ . ولعل ا�ستخدام هنا ح�ضوراً فاع ًال لل ّركون �إىل الأفكار التي ّ ال�س�ؤال درجة �أوىل درجات املعرفة ،ما يعني �أ ّنه ّ ي�شكل عالم ًة من اال�ستفهام هنا ي�شري �إىل �أنّ ّ ال�صحوة �أو الوعي .وهذا ما يبينّ هاج�س ال�شّ اعر يف دفع املتلقّي �إىل م�ستوى الوعي ذاك، عالمات ّ تقدم �أو تغي ٍري يف املجتمع. لأنّ بدونه لن يحدث � ّأي ّ ويقود هذا الوعي بالواقع �إىل م�ست ًوى �آخر من هذه احلال� ،أال وهو م�ستوى ال ّرف�ض للف�ساد املتف�شّ ي يف جمتمعنا املعا�صر� .إذ �أنّ هذا الفعل لي�س جم ّرد ٍ حموري يبينّ القطيعة موقف عابر ،بل هو فعل ّ ال�ساقطة التي حت ّولت �إىل تفا�صيل يوم ّية اعتياد ّية .وعلى هذا الأ�سا�س ،ي�صدر ال ّتا ّمة عن املفاهيم ّ ا�ستهجان ال�شّ اعر ومت ّرده يف قوله: «حني �أغيب، 10
10نعيم تلحوق� :شهوة القيامة� .ص.18 عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
140
ال �أريد جلثّتي �أن تف ّرخ، عد... ودجالني مباال ُي ّْ مرائني ّ وال �أن يتبادل �شهو ٌد لعناء و�ص ّيتي» ، والد ّجالني الذين ي�ستغ ّلون املوت لبناء نوع جديد تقع بني املنافقني ّ ّ يقدم لنا هذا املقطع ثنائ ّي ًة من ٍ منافعهم ال�شّ خ�ص ّية ،وبني احلقيقة �أو حقيقة ّ الذات؛ وهو ما ُيخ َت َ�صر يف ق ّو َتي (احلقيقة/ال ّنفاق). فال�شّ اعر يعمل على توجيه ٍ ال�صغرية، نقد حا ٍّد لأولئك امل�ستغ ّلني للمواقف من �أجل املكا�سب ّ وهي حال م�ست�شرية يف حياتنا اليوم ّية .وقد يغمز �أي�ضاً هنا من قناة املز ّورين لل ّتاريخ و�شخ�ص ّياته يف ٍ مناح �أيديولوج ّي ٍة �آن ّية. �سبيل طموحات �ض ّيقة� ،أو ٍ �إ ّال �أنّ هذا ال ّرف�ض ال يبقى �ضمن هذا الإطار فح�سب� ،إذ ميكننا �أن جند خروجاً على جوانب �أخرى من احلياة املعا�صرة يف جمتمعنا .فال�شاعر يبينّ �إميانه بخ�صو�ص ّية ال ّتجربة احل�ضار ّية ّ للذات ال�ضغوطات والقيود التي ُتف َر�ض عليها .ويف هذا الإطار ،يقول ال�شّ اعر: يف ع�صرنا ،وما تعانيه من ّ ّ «كل �شي ٍء بي يرك�ض � ِ إليك، لأتعافى من �سكرة ال ّتقليد» ، جدد/ال ّتقليد) ،ن�ستطيع اكت�شافها من خالل لفظة «ال ّتقليد» مبا جند هنا ح�ضوراً جل ّياً لثنائ ّية (ال ّت ّ احل�ضاري الأرقى؛ ويف احلالني، تظهره لنا من �أبعا ٍد تتع ّلق مبحاكاة القدمي� ،أو مبحاكاة ال ّنموذج ّ نلحظ جموداً وانعدام قدر ٍة على الإنتاج .يف حني �أنّ لفظة «يرك�ض» توحي باحلركة املت�سارعة التي متجددة. الدخول يف و�ضع ّي ٍة ّ ال�سكون ،وبال ّتايل ّ ت�سعى �إىل اخلروج من و�ضعية ّ لكن عمل ّيتي الوعي وال ّرف�ض اللتني ر�صدناهما يف ما �سبق ،تبقيان خطوتني قا�صرتني �إن مل ُتت َبعا ّ بخطو ٍة ثالث ٍة تعمل على ا�ستكمال تو�صيف هذه احلال لدى ال�شّ اعر .لذلك ن�ستطيع �أن نرى ح�ضوراً مل�ست ًوى �آخر من م�ستويات حال ال ّرف�ض هذه ،و�أعني م�ستوى املواجهة بغ�ض ال ّنظر عن ب�شكل ال�سياق ،جند عامل ال ّت ّ حدي حا�ضراً ٍ ال ّنتيجة التي ميكن �أن نتلقاها من ج ّرائها .ويف هذا ّ حموري يف ديوان «�شهوة القيامة»ّ . ولعل هذا ما ن�ست�شفّه يف ما يلي: ٍّ «�أكرث من عنا ٍد هناك، �سط ٌر ي�صف وجه الأر�ض، ال�سماء، ويع ّرج على ّ تلحظ �أ ّن َك �ست�ستقبل �أحداً، �أكرب من املوت، 11
12
1 1املرجع نف�سه� .ص.45 12نعيم تلحوق� :شهوة القيامة� .ص.14
حتوالت �أدبية
تنامي الثّنائية الدّ الل ّية
141
و�أبهى من احل ّر ّية»... نوع من �أنواع الهزمية .وي ّت�ضح من خالل يرى القارئ يف هذا املو�ضع تلك الق ّوة التي تواجه � ّأي ٍ ميتد على �شكل �سط ٍر العنوان الذي ُو�ض َع للق�صيدة «�شجر ال ّنهايات» �أنّ الق ّوة متثّلت بال�شّ جر الذي ّ وليقدم لنا منوذجاً متف ّرداً قد تف ّوق على الهزمية .وعليه، ال�سماء �إىل الأر�ض ليقهر املوتّ ، بني من ّ ف�إن ثنائ ّية (ال�شّ موخ/الهزمية) هي التي ّ حدي الذي ميكن �أن ُي َّعد تتحكم بامل�شهد لتبينّ عن�صر ال ّت ّ بحد ذاته انت�صاراً ،وهو الأمر الذي ينطبق على ال�شّ عوب التي ّ تتمكن من هزمية املعتدين عليها ّ بق ّوة ثباتها ّ ومت�سكها بالإ�صرار على كتابة م�ستقبلها. وجتذرها يف قيمها ّ ال�سقوط وال ّرف�ض لدى ال�شّ اعر ،هو على �أنّ ما يطالعنا يف هذا املجال ،بنا ًء على �إدراكنا ملفهومي ّ للديوان .وهذا ما يو�ضحه لنا ال�شّ اعر نف�سه ؤيوي ّ الكيف ّية التي ميكن من خاللها متابعة امل�سار ال ّر� ّ بقوله: «�أنا هو... املغ ّني الوحيد، ال�س ّر... �أبحث عن �س ٍّر خلف ّ لأ�ستنطق عدمي»... ال�سابق �أن يجد �صراعاً يف �إطار ثنائ ّية (اخللود/العدم) ،فمن املوا�ضح هنا �أنّ ميكن لقارئ املقطع ّ املحوري الذي ي�سعى �إىل اكت�شاف احلقيقة التي ترقّيه �إىل مرتبة اخللود. ال�شّ اعر ي ّتخذ دور الفاعل ّ و�صل �إىل ّ وهو بال ّتايل يتح ّول �إىل ٍ الطريقة التي ّمتكنه من اخلروج عن العامل باحث يعمل على ال ّت ّ تو�صل تلحوق ال�سقوط ،ال بل وجمابهته ليبلغ القيم اجلديدة التي ين�شدها .لكن هل ّ الواقع يف ّ ال�سبيل؟ يف ديوانه �إىل ذلك ّ 13
14
.3حال القيامة:
الديوان «�شهوة القيامة» ،وهو عنوان يطلق فكر ًة �صراع ّي ًة تطالعنا هذه احلال منذ التفاتنا �إىل عنوان ّ ب�شكل عا ٍّم ين�ضوي يف �إطار هذه الثّنائ ّية التي حتمل ثنائ ّية (املوت/احلياة) ،وبال ّتايل ف�إنّ ّ الديوان ٍ يت�ضمن ح�ضور الق ّوة تنطلق من مرحلة املوت �إىل مرحلة احلياة ،خ�صو�صاً �أنّ العنوان الذي ّ ّ الطبيع ّية التي تدفع نحو القيامة وال ّنهو�ض من خالل لفظة «�شهوة» .وعلى هذا الأ�سا�س ،ميكننا �أن «قيامي» ي�ؤ ّدي به �إىل بلوغ احلياة احلقيق ّية التي ين�شد قيمها. نفهم نزعة ال�شّ اعر ّ للدخول يف م�سا ٍر ّ الديوان ،وذلك ا�ستناداً �إىل �أنّ ال�شّ هوة ي ّتخذ امل�سار «القيامي» هذا مفهوم ال�شّ هوة منطلقاً له يف ّ ّ 13نعيم تلحوق� :شهوة القيامة� .ص.50 - 49 1 4املرجع نف�سه� ،ص.30 عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
142
ّ وال�سقوط .لذلك نعرث على ّ الذات تقوم ت�شكل ح�ضوراً حلرارة احلياة التي تبعد عن قيم املوت ّ مبناجاة ال�شّ هوة التي تعطيها الأمل بالقيامة ،يف ما يلي: «بعيداً� ،أبحث عنها، �أجدها قرب عمري، تنب�ش ال ّلظى من رمو�شي»... فالثّنائ ّية هنا تبدو من خالل عبارة «تنب�ش ال ّلظى» التي حتمل يف ط ّياتها ق ّوتني مت�ضادتني تظهر الأوىل يف فعل ال ّنب�ش الذي ّ الدفن� ،أي �أ ّنه يعطينا �إيحا ًء ب�أ�سبق ّية حال املوت� ،أو يدل على حال ّ ب�أ ّنها احلال الأ ّول ّية يف املقطع .يف حني �أنّ ح�ضور «ال ّلظى» ي�شري �إىل حرارة احلياة التي تكمن يف الذات لبلوغ حال القيامة ،وهو الأمر الذي ّ الذات ،والتي ته ّيئ هذه ّ داخل ّ ي�شكل الق ّوة الثّانية. وبذلك تكون الثّنائ ّية امل�سيطرة هنا هي (املوت/ال ّنار). ال�سابق فح�سب ،بل يتجاوزه ليتح ّول �إىل رم ٍز لل ّت�ضحية �أو لعمل ّية �إ ّال �أنّ رمز «ال ّنار» ال ي ّتخذ البعد ّ ال�سياق يطالعنا قول ال�شّ اعر: الفداء ،بحيث تكون عتب ًة للخال�ص .ويف هذا ّ «لكن ال ّنار �أو�شكت �صدري، ّ عب جنانك»، و�أنا يف ِّ إرادي نرى ال�صدر مبا يعطي �صور ًة توحي باملوت ،غري �أ ّنه موت � ّ بو�ضوح انق�ضا�ض ال ّنار على ّ ٍ الذات (�أنا) يف عمق اجلنان� ،أي دخول ّ اختياري يظهر من خالل ح�ضور ّ طوعي الذات ٍ ّ ب�شكل ٍّ يدل على ارتباط جانبني متعاك�سني ّ �إىل املكان املن�شود .وهذا ما ّ ي�شكالن ثنائ ّية (املوت/احلياة) التي تربط طرفيها ب�إردا ّية الفعل بحيث يتح ّول املوت �إىل ت�ضحية. تو�سل ويف جال ٍء لهذه الفكرة ،حت�ضر ال ّت�ضحية يف مو�ضع �آخر من ّ الديوان ،مب ّين ًة ال ّرغبة العارمة يف ّ هذا الفعل �سبي ًال نحو القيامة ،فنقر�أ: ِ ح�ضنك �شتلةً، «�إزرعيني يف دون ماء، ال�سبيل عط�شاً، ف�أنا ما ُ اخرتت ّ كنت �أدرك �أ ّن ِك ال ّنار، ُ التي تربي ال�شّ وك ورداً، وكنت � ّ أغط ِ يك مبائي... ُ فتد ّللي ما ِ �شئت، 15
16
15نعيم تلحوق� :شهوة القيامة� .ص.19 1 6املرجع نف�سه� ،ص.23
حتوالت �أدبية
تنامي الثّنائية الدّ الل ّية
143
واحرقي عمري بنارك»، ال�صورة يف هذه الأ�سطر ،ابتدا ًء من �إرادة ال�شّ اعر يف �أن يجعل من نف�سه نبت ًة يف ح�ضن تتد ّرج ّ الآخر امل�ؤ ّنث ،مبعنى �أ ّنه يعمل على �أن يكون نابتاً من خاللها ،وهو ما ّ يدل على عمل ّية نهو�ض� .إ ّال فعل �سابقٍ ،يو�ضحه ال�شّ اعر با�ستكمال امل�شهد الذي يبينّ �أ ّنه اختار يتم �إ ّال من خالل ٍ �أنّ هذا ال ّ ّ الطريق التي ت�ؤ ّدي �إليها ،مع �أ ّنه علم �أ ّنها ال ّنار ،وبال ّتايل ف�إنّ و�صوله �إليها يعني دخوله يف ال ّنار� ،أو اختيار ال ّت�ضحية ،من �أجل �أن يتح ّول �إىل نبتة� ،أو �إىل مظه ٍر من مظاهر احلياة .ومن الوا�ضح �أنّ هذه ال�صورة تتك ّون �ضمن ثنائ ّية (ال ّت�ضحية/الوالدة) ،حيث �أنّ الفعل الأ ّول ي�ؤ ّدي �إىل الثّاين ،وينتفي ّ ال ّتناق�ض �أو االختالف بني الق ّوتني. ّ حدت بال�شّ اعر نعيم تلحوق �إىل �إعالن توقه لبلوغ احلال ولعل �صورة ال ّتكامل تلك هي التي ّ االنبعاث ّية مهما كان ثمن ال ّت�ضحية قا�سياً ،الأمر الذي جنده يف قوله: «�أح ّب ِك لأ ّن ِك باب ال ّنهاية، ولأنّ القيامة ِ معك بدايات»... الدخول يف �سياق الثّنائ ّية نف�سها ،و�أعني (ال ّت�ضحية/االنبعاث) ،حيث جند �أ ّنه نالحظ يف ما �سبق ّ يقبل عليـ(ها) مع �أ ّنها تودي به �إىل ال ّنهاية ،غري �أ ّنه �سرعان ما ي�ستكمل الفكرة ليقول ب�أنّ القيامة عري التي �سي�صل �إليها لي�ست بداي ًة وح�سب ،بل بدايات �أو حيوات جديدة .على �أنّ امل�شهد ال�شّ ّ هذا يحيلنا �إىل �أبعا ٍد �أ�سطور ّي ٍة ت�ضفي على فكرته وجهاً من العظمة ،فهي ّ ت�شكل م�شهداً متّوز ّياً، تعيدنا �إىل ال ّنموذج الأ ّول من مناذج �أ�ساطري االنبعاث ،و�أعني رمز «دوموزي �أب�سو» الذي يعني «االبن البا ّر للمياه العذبة»� .أ ّما عن م�ضمون �أ�سطورته ،فهي تتك ّلم عن ت�ضح ّية «دوموزي» بال ّنزول ال�سفلي من �أجل �إنقاذ حبيبته «ع�شتار» .ومن الوا�ضح �أنّ ال�شّ اعر قد ا�ستفاد من هذه �إىل العامل ّ الأ�سطورة ّ احل�ضاري للمجتمع الذي ليوظفها يف �سبيل الغاية التي ين�شدها ،وهي حتقيق االنبعاث ّ ميثّله. لتقدم لنا رمزاً انبعاث ّياً �أو قيام ّياً ،ولكن وا�ستناداً �إىل ح�ضور هذه الأ�سطورة ،حت�ضر ق�صيدة «ماء» ّ بوج ٍه متف ّر ٍد عن غريه َّممن ا�ستعانوا بهذا ال ّرمز .وقد جاء فيها: 17
18
19
17نعيم تلحوق� :شهوة القيامة� .ص.84 - 83 1 8املرجع نف�سه� ،ص.24 1 9ميكن مراجعة م�ؤ ّلفي ال ّتايل حول مفهوم الأ�سطورة: للدرا�سات وال ّن�شرّ ، الطبعة الأوىل،2009 ، ل�ؤي زيتوين :مفهوم الأ�سطورة ورمز ّيتها الأدب ّية .بريوت ،دار فكر ّ �ص.73 - 72 كما ميكن مراجعة: آ�سيوي القدمي .بريوت ،دار ال ّنهارّ ، ّ الطبعة ل ا طي املتو�س رق يف ة ي احل�ضار ة ي هن الذ البنية يو�سف احلوراين: ال�شّ ّ ّ ّ ّ ّ الأوىل� ،1978 ،ص .215 - 214 عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
144
«ما ٌء ،لأنّ ظ ّلنا �شار ٌد وغريب، ال�س َيل من ِ خطف رهجته... يخاف ّ اب ما ٌء ،لي ّتفق الترّ ُ َ فينقذ ال ّنار من طني �سمعته»... وال�ضعيف الذي مثّله ّ (الظ ّل ال�شّ ارد يربز املاء يف الق�صيدة بو�صفه ق ّو ًة تقف يف وجه احل�ضور املز ّيف ّ والغريب) واخلائف من �أن يكون �ضح ّية املاء ،وبو�صفه ق ّو ًة تفعل لتجعل الترّ اب متما�سكاً بحيث يحمل نار احلياة واالرتقاء يف داخله بعيداً عن و�ضاعة حال ّ الطني االعتياد ّية ،مبعنى �أ ّنه ما ٌء مينح احلياة ويرفع من قيمتها ويجعل من الإن�سان كائناً �سامياً بالفعل .وهنا تتبلور ثنائ ّية (املوت/احلياة) ليكون املاء هو العامل الذي ينقل الب�شر من حال ّ الظ ّل (املوت) �إىل حال ال ّنار (احلياة) ،الأمر الذي ّ الدور امللقى على رمز املاء يف الأ�ساطري االنبعاث ّية مبعظمها بو�صفه رمزاً للخ�صوبة ي�شكل ّ الإن�سان ّية وال ّزراع ّية ،ومتثي ًال لدور �إله اخل�صب «متّوز» ،وهو ال ّتوا�ؤم الذي حدث لدى �شعوب الهالل اخل�صيب القدمية. بتلم�س حرارة احلياة تقدم نرى �أنّ ال�شّ اعر تل ّب�س امل�سار يف خال�ص ٍة ملا ّ االنبعاثي الذي ابتد�أ ّ ّ احلا�ضرة يف قلب املجتمعّ ،ثم انتقل ليدخل يف عمل ّية ال ّت�ضحية الراقية التي ت�ؤ ّدي �إىل بلوغ حال ولعل هذا ما ّ القيامة يف حياة هذا املجتمع �أو الأ ّمة� ،أو ح ّتى الب�شرّ ... ال�سبيل الوحيد الذي �شكل ّ ي�ؤ ّدي �إىل �سيادة قيم احلياة اجلديدة التي ميثّلها ال�شّ اعر ،وهو ما عبرّ عنه قائ ًال: عما ي�ؤول «�س� ُ ألت عمري ّ �إليه م�صريي عما ا�شتكيت... وكيف ت�س�أل ّ ال�صوت يحمل حرباً، فجاءين ّ وي�صرخ ع ّني ،الآن ،الآن، أنت ابتديت» . � َ 20
21
.4اخلامتة:
الدالل ّية لدى نعيم حم�صل ٍة ملا ّمت بحثه �سابقاً ،ميكننا �أن نرى املدار الذي تدور فيه الثّنائ ّيات ّ يف ّ تلحوق� ،إذ �أنّ البحث يف املرحلة الثّانية من م�سريته ال�شّ عر ّية بينّ لنا �أنّ الثّنائ ّيات ا ّت�سمت لديه الذات ّية التي �أخذت �أبعاداً ح�ضار ّي ًة وثقاف ّي ًة واجتماع ّية ،وبتعب ٍري �أو�ضح ّ بال ّنزعة الوجود ّية ّ �شكلت 20نعيم تلحوق� :شهوة القيامة� .ص.38 21نعيم تلحوق� :شهوة القيامة� .ص.37 - 36
تنامي الثّنائية الدّ الل ّية
حتوالت �أدبية
145
يتهدد الهم أخالقي الذي ّ ّ تلك الثّنائ ّيات حموراً للبحث يف ّ الوجودي لالن�سان واملتع ّلق باخلطر ال ّ ّ الذات ويعمل على تهدمي القيم االن�سان ّية العليا ،وهذه القيم هي التي ترفع احلياة وترقّيها على لحوقي امل�ستويات احل�ضار ّية والثّقاف ّية واالجتماع ّية .من هذا املنطلق نرى �أنّ ال ّن ّ�ص ال�شّ ّ عري ال ّت ّ �صراع �شامل ٍة لتحقيق قيم احلياة اجلديدة. يدخل يف عمل ّية ٍ �إ ّال �أنّ تط ّرقنا لديوانه «�شهوة القيامة» حتيلنا �إىل وجه ٍة متف ّرد ٍة �ضمن �إطار ّ الطبيعة العا ّمة لثنائّيات ٍ ال�سقوط متد ٍرج ينتظم يف تلحوق ،فهي تندرج داخل م�سا ٍر ّ جت�سد حال ّ حاالت ثالث :الأوىل ّ تقدم لنا حال ال ّرف�ض واملواجهة التي ترتبط بوعي عوامل التي يقع فيها املجتمع املعا�صر ،والثّان ّية ّ الف�ساد وعدم اال�ست�سالم لها� ،أ ّما احلال الثّالثة فتتع ّلق بفعل القيامة الذي ّ ي�شكل الغاية الأخرية الكامنة يف عمل ّي ٍة انبعاث ّي ٍة لقيم املجتمع العليا� ،أو للقيم االن�سان ّية العليا التي تقود احلياة اجلديدة. وبنا ًء على هذا ال ّر�صد مل�سار الثّنائ ّيات داخل «�شهوة القيامة» ،نالحظ �أ ّنها ال تخرج عن طبيعة خا�صاً ي�ستقي دالالته من ال ّرموز الأ�سطور ّية الثّنائ ّيات يف �شعر تلحوق ،لك ّنها ت ّتخذ م�ساراً متّوز ّياً ّ ال�سياق جند �إ�شارات رمز ّي ًة من مثال :املاء ،ال ّنار... التي تتع ّلق بعمل ّية اخل�صب واالنبعاث ،ويف هذا ّ لتقدم � ٍ الديوان ،والتي إحاالت نحو البعد الدالل ّية يف هذا ّ «القيامي» الذي ت�شتمل عليه الثّنائ ّية ّ ّ ّ ميكن اخت�صارها يف ثنائ ّي َتي (املوت/احلياة) و(ال ّت�ضحية/الوالدة). ا�ستناداً �إىل ذلك ك ّله ،جند �أنّ ديوان «�شهوة القيامة» ّ الدواوين التي �شكل ا�ستكما ًال ل�سل�سلة ّ ال�سياق �أ�صدرها ال�شّ اعر يف املرحلة الثّانية من �شعره التي ت ّتخذ بني ًة ع�ضو ّي ًة ّ موحدة �ضمن ّ ال�سياق ال ّتايل�« :أظ ّنه وحدي يغ ّني بوحاً يرق�ص كفراً لأنّ ج�سدها �شهوة القيامة» .فيعطينا هذا ّ دالل ًة انبعاث ّي ًة تنطلق من وعي ّ الذات بالآخر الذي يحمل يف ط ّياته حراكاً غريباً من �أجل ج�سد «الق�ض ّية» �أو «الأر�ض» �أو «الأ ّمة» والذي ّ بحد ذاته م�ساراً للقيامة �أو االنبعاث .ولذلك ميكننا �شكل ّ وزي �أن نرى �أنّ ّ الديوان الأخري يختزن عن�صر الأمل �ضمن �صفحاته ،لكونه ي�ضيء لنا امل�سار ال ّت ّم ّ الذي يو�صل نحو اخلال�ص �أو حتقيق احلياة اجلديدة. �إ ّال �أنّ م�س�ألة البحث يف �شعر نعيم تلحوق تبقى بحاج ٍة �إىل الكثري من الإ�ضاءة على جوانب الدالل ّية والف ّن ّيةّ . الدرا�سة ولعل من �أبرز هذه اجلوانب ،هو الذي تطرحه هذه ّ �أخرى من امل�ستويات ّ واملتع ّلق ببحث ال ّرموز يف نتاجه والأبعاد التي حتيل �إليها. قدي ،كما ختاماً ،نقول ب�أنّ ال ّتجربة ال�شّ عر ّية لدى نعيم تلحوق ما تزال بعيد ًة عن اال�ستهالك ال ّن ّ الدرا�سة ال تزال تفا�صيلها الف ّنية وال ّر�ؤيو ّية بحاج ٍة �إىل اال�ستقراء وال ّت ّعمق ،على �أمل �أن تكون هذه ّ ٍ �شعري متف ّر ٍد ورا ٍء يف الآن تو�سعاً وتن ّوعاً يف جماالت بحثها الب�سيطة فاحت ًة مل�شروع ٍّ لدرا�سات �أكرث ّ ٍ عينه.
عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
دار كتب للن�شر �ش.م.ل
بناية الربج ،الطابق الرابع� ،ساحة ال�شهداء الو�سط التجاري ،بريوت ،لبنان �صندوق بريد ،11-4353 :بريوت -لبنان. هاتف)961-1( 983008 /9 : فاك�س)961-1( 980630 : الربيد الإلكرتوينkutub@kutubltd.com : املوقع الإلكرتوينwww.kutubltd.com :
147
(ترجمة ح�سن حنفي ومراجعة ف�ؤاد زكريا – دار التنوير 2005ط 1بريوت)
| وليد الفاهوم | باحث من فل�سطني
باروخ �سبينوزا فيل�سوف يهودي هولندي م�شاك�س ،عا�ش يف القرن ال�سابع ع�شر ،وكان ذا نزعة �إن�سانية عاملية .حارب طوال حياته الإ�ستعالء والتف ّوق العن�صري .دعا �إىل ف�صل الدين عن الدولة �أو ف�صل الدين عن ال�سيا�سة .وكان �ضد �إقامة �أي دولة على �أ�سا�س ديني� .إنتقد عن�صرية وتقوقع الدين اليهودي الذي ينتمي �إليه ،ولذلك ا�ضطهده ر�ؤ�ساء اجلالية اليهودية الهولندية ،مما زاده متر ًدا عليها ،فر�ضوا عليه احلرمان الديني ،مما ا�ضطره �إىل الهرب للربتغال .ونتيجة لعظمته الفكرية حاول بع�ض املفكرين اليهود �إعادته �إىل احلظرية دون جدوى ،حتى �أنهم حاولوا تلفيقًا وزو ًرا ،خالل القرون الثالثة املا�ضية� ،أن ير ّدوا نزعته الإن�سانية ال�شاملة �إىل جذور دينية �ض ّيقة. �إن ما مي ّيز �سبينوزا هو �أ�سلوبه العقلي العلمي الهند�سي يف الكتابة .كان ي�ؤمن بال حمدودية العقل الب�شري ،و�أن الوجود ينتمي �إىل طبيعة اجلوهر .ومن �أهم �آرائه ال�سيا�سية يف وظيفة الدولة «�أن من واجبها �أن تتعهد عقول رعاياها وحتكمهم بالإقناع ال بالإكراه ،فالهدف النهائي للحكم لي�س ال�سيطرة� ...إمنا هو حترير كل �شخ�ص من اخلوف ...حتى يعي�ش يف �أمان ككائن عاقل دون حتويله �إىل بهيمة تطيع طاعة عمياء ،فهدف احلكم هو احلرية». هذا الكتاب امل�شار �إليه �أعاله ،كتاب �صعب لأن مو�ضوعه �صعب و�إ�شكايل ،ال ميكن تلخي�صه �أو اختزاله ..لذلك ارت�أيت يف هذه املقالة �أن �أقدمه على �شكل �شذرات من وحي هذا الفيل�سوف، حي ًنا من كالمه ذاته بني مزدوجني ،وحي ًنا �آخر من كالمي ،وبحيث تختلط ومتتزج �أناي ب�أناه من خالل الن�ص. ال�شدة فهم يلتم�سون الن�صح من �أقل النا�س ن�صح النا�س يف �أيام الرخاء ُيعد �إهانة� ،أما يف �أيام ّ ُر�شداً ،ويعملون ب�أكرث الن�صح بطالناً وتناق�ضاً وزيفاً وخرافة. اخلوف �أ�سا�س اخلرافة ..ا�ست�سلم الإ�سكندر الكبري للخرافة وجل�أ �إىل الع ّرافني حني خاف علىعدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
حتوالت �أدبية
�شذرات من وحي �سبينوزا ملن يريد �أن يفكر عن ر�سالته يف الالهوت وال�سيا�سة
148
م�صريه ..لكنه عندما انت�صر على داريو�س مل يلج�أ �إىل تكهنات الع ّرافني. اخلرافة حتتقر العقل الب�شري ،تعتمد على املبالغة وال تقوم على العقل ،و�إنمّ ا على الإنفعالوحده .وهي «�أكرث الو�سائل فاعل ّية حلكم العا ّمة .وال يحكم ُ العقل العا ّمةَ ،بل ي�سريهم الإنفعال ... لذلك ال �أدعو العامة اىل قراءة هذا الكتاب» .هكذا تك ّلم �إ�سبينوزا . «ولكم ي�سعد ع�صرنا (القرن )17لو �أمكننا �أن نرى الدين وقد حترر من كل خرافة». املعجزات يف احلقيقة �أ�شياء طبيعية يعزوها النا�س اىل تدخل خارجي من اهلل يف الطبيعة لإثارةاخليال وحتريك النفو�س ..وذلك حني يعجز النا�س عن تف�سري الأ�سباب. املعرفة فعل عقلي ..كلما عرف الإن�سان �أكرث اقرتب من اهلل الكامل. ما مي ّيز الأنبياء هو اخليال اخل�صب ال املعرفة .النبي لي�س فيل�سوفاً ومن املمكن �أن يكون جاه ًاليف العلوم على �أنواعها ،وهو كذلك. لقد �أوحى اهلل للأنبياء بالكالم �أو باملظاهر احل�س ّية �أو بالر�ؤية والأحالم و ب�أحالم اليقظة ،علىنحو يجعلهم يتخيلون بو�ضوح. عندما حتدث هيجل عن «حياة ي�سوع» طرح املعجزات جانباً� .أكرث منه ..ينكر �سبينوزا �ألوهيةامل�سيح �صراحة ،ويرى ا�ستحالة �أن ي�صبح اهلل �إن�ساناً .امل�سيح فيل�سوف ( حمب للحكمة) ،حكيم فريد ،عرف احلب العقلي و�أراد تعليم الب�شر عن طريق املثل ،وهو احلكمة الأبدية� « .إنه فم اهلل»، لذلك فهو �أكرب الفال�سفة .فم اهلل جمازاً« ،وكان من عادة القدماء �أن ين�سبوا �إىل اهلل كل ما يتف ّوق فيه �إن�سان على الآخرين». ج�سد الإن�سانُ اهلل نتيجة للجهل وق ّلة املعرفة وعدم ن�سب العربانيون جميع اخلطايا �إىل البدنّ ..القدرة على التجريد. الوحي يحدث مبقدرة اهلل .وقد �أدركه الأنبياء بالإ�ستعانة باخليال .كل بح�سب طاقته وقدرتهعلى التخ ّيل .الوحي نور فطري و�شيء طبيعي .والأنبياء ب�شر ذوو قدرة فائقة على اخليال وعلى الطاعة وعلى تطبيق مبادئ الأخالق .الوحي يهبط على الأنبياء مبا يتنا�سب مع �آرائهم وثقافتهم وم�ستوى وعيهم. اخليال ال يعني فكراً �أكمل ..وهو يعتمد على املزاج والبيئة والثقافة« .كلما زاد اخليال َّقلالإ�ستعداد ملعرفة الأ�شياء بالذهن اخلال�ص». �سبينوزا فيل�سوف مق ّنع ،جاء ليهدم �سلطة الكتاب املقد�س ،قيل عنه �أنه يهودي من الهاي يعلنالثورة ،وهو اليهودي املتم ّرد على يهوديته. « -النبوات �أو التمثالت كانت تختلف باختالف �آراء الأنبياء ...النب ّوة مل جتعل الأنبياء �أكرث
�شذرات من وحي �شبينوزا
حتوالت �أدبية
149
حل من ت�صديقهم فيما يتعلق علماً ،بل تركتهم على �آرائهم التي ك ّونوها �سلفاً ،ومن ثم نكون يف ٍ بالأمور النظرية اخلال�صة ...بع�ض ن�صو�ص الكتاب تخربنا بو�ضوح تام ب�أن بع�ض الأنبياء قد جهلوا بع�ض الأ�شياء ،ف�إن النا�س يف�ضلون �أن ي�ص ّرحوا ب�أنهم ال يفهمون هذه الن�صو�ص ،على �أن ي�س ّلموا ب�أن الأنبياء قد جهلوا �شيئاً ما� ،أو هم يتع�سفون يف ت�أويل ن�ص الكتاب لكي يخرجوا منه مبا مل يقل الن�ص �صراحة�( ».ص .)151 من بع�ض ن�صو�ص التوراة يظهر �أن اهلل هو رب الأرباب �أي كبري الآلهة ...وعليه ف�أين التوحيد؟هذا الكبري ا�صطفى العربانيني وترك باقي الأمم يف رعاية الآلهة الأخرى التي حل حملها .ومن هنا �سمي ب�إله �إ�سرائيل .هذا الكبري هو اهلل يف اعتقاد مو�سى ،وهو يقطن ال�سماوات .كذلك تقطن �آلهة الوثنيني يف ال�سماوات .هذه الفكرة كانت وما زالت �شائعة عند جميع الأمم. «ل�سنا ملزمني بالإميان بالأنبياء � اّإل فيما يتعلق بغاية الوحي وجوهره� .أما فيما عدا ذلك في�ستطيعكل فرد �أن ي�ؤمن مبا ي�شاء بحر ّية تا ّمة»�( .ص )162يتك ّيف الوحي ح�سب �آراء الأنبياء ،و�إن الوحي والنبوءات تتكون من خلق اخليال الذاتي (احلا�شية) .وهذه النظر ّية التي ي�ضعها �سبينوزا تق�ضي على ما بقي من �سلطة الكتاب ..وغايته التمييز بني الفل�سفة والالهوت. جاء مو�سى «ليعلم العربانيني عبادة اهلل و�أن يربطهم به بطريقة تنا�سب روحهم ال�ساذجة�( ».ص)166 يعتقد �سبينوزا �أن الإلهى هو نظام الطبيعة الثابت« ،و�أن قوانني الطبيعة ال�شاملة ...لي�ست �سوى�أوامر اهلل الأزلية�( ».ص )167 اليهود لي�سوا �شعب اهلل املختار كما يظ ّنون ..اهلل ال مي ّيز بني �أبنائه ..هذه نظرية عن�صرية تريدتف�ضيل �شعب معني على باقي �شعوب الأر�ض .اليهودية دين مغلق ،ينح�صر يف �أ ّمة واحدة... حتى لو كان اهلل قد ا�صطفاهم فقد كان ذلك يف زمن معني وظروف معينة ولي�س على َم ِّر الزمان. «النب ّوة مل تكن قا�صرة على العربانيني» (�ص ،)173عدا ذلك فكثري من �أنبياء بني ا�سرائيلتنب�أوا لكل الأمم وجلميع النا�س. �أيوب مل يكن يهودياً وهنالك �شخ�ص ّية عند البابليني تطابق �شخ�ص ّية �أيوب ال�صابر .كذلك حكاية امليالد العذري ل�سرجون الأول حيث و�ضعته �أمة يف النهر ب�س ّلة دهنتها بالقار وجرفه التيار �إىل ب�ستان �آكي ،الذي تبناه �إىل �أن ا�صطفته ع�شتار وجعلت منه ً ملكا ...كذلك ت�شبه هذه احلكاية حكاية مو�سى والنيل وزوجة فرعون التوراتية. التوراة لي�ست مل�ؤلف واحد .كتبت التوراة على مدار �ألفي �سنةُ .حذفت منها �أجزاء ال تنا�سبق�صة اخلليقة تطابق حكايات و�أ�ساطري البابليني وال�سومريني (الإينوما ايلي�ش) ،وكذلك الأحبارّ . �أ�ساطري اخللق يف تراث الهنود احلمر .حكاية �آدم تطابق �أ�سطورة خلق �أنكيدو �صديق جلجام�ش عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
150
( 800ق.م .).الثقافات تتالقح و�سل�سلة احل�ضارات مت�شابكة ،كل حلقة ترتبط مبا قبلها ومبا بعدها حتى يومنا هذا .تلتقى بع�ض الأ�ساطري اليونانية والرافدية والفرعونية مع بع�ض حكايات التوراة، وهذا لي�س بغريب على �أذهان الب�شر. اليهودية دين خا�ص�« ،أر�سل اهلل م�سيحه لكل الأمم ليخ ّل�صها باملثل من عبودية ال�شريعة» بهدف�إدراك املعنى احلقيقي لل�شريعة�( .ص .)178 «اهلل مل يخرت العربانيني اىل الأبد ،بل اختارهم يف نف�س الظروف التي �إختار فيها الكنعانيني»منذ خم�سة �آلآف �سنة. انعزال اليهود عن باقي الأمم جلب لهم الكراهية ..تلك الكراهية التي هي �أ�سا�س بقائهموتوحدهم .هذا بالإ�ضافة �إىل طقو�سهم يف اخلتان والعبادات التي ت�ضمن وجودهم الأزيل .يقول �سبينوزا �ساخراً« :ب�أن اليهود �سيعيدون بناء �أمرباطوريتهم يف وقت ما ،و�إن اهلل �سيختارهم من جديد» (�ص � .)182ساخراً ،لأنه ال يعتقد �أن اليهود �شعب اهلل املختار ولأن عدالته الطبيعية تقت�ضي عدم التمييز فيما بني الأمم. القانون الإلهي هو القانون الطبيعي ..الطبيعية هي الأم التي ال مت ّيز بني �أبنائها .وهو اخلريالأق�صى واملعرفة احلقة وحب اهلل�( .ص « .)185خرينا الأق�صى وكمالنا يعتمدان على معرفة اهلل وحدها ..كلما ازدادت معرفتنا بالأ�شياء يف الطبيعة كانت املعرفة التي نح�صل عليها باهلل �أعظم و�أكمل ...كلما عرفنا �أ�شياء �أكرث يف الطبيعة كانت معرفتنا ملاهية اهلل( ...علة الأ�شياء جميعها) �أكمل ...اهلل نف�سه من حيث وجوده فينا كفكرة ،ميكن �أن ت�سمى �أوامر اهلل ،لأن اهلل نف�سه هو ،على ن�سمي قاعدة احلياة نحو ما ،م�صدرها بقدر ما يوجد يف �أنف�سنا .ومن هنا ف�إن لنا كل احلق يف �أن ّ التي ت�ستهدف هذه الغاية قانوناً �آلهيا.)186 ( ». ذلك يجعل حب اهلل ال خوفاً من عذابه ،وال طمعاً يف نعمه ،ح ّباً خال�صاً لأن اهلل كامل و «�أوامره وم�شيئته حقائق �أزلية تنطوي دائماً على �ضرورة» ()193 هنالك وحدة بني القانون الإلهي والقانون ال�شامل ،ال بني القانون الإلهي وال�شعائر .كل يعبداهلل بطريقته ،تختلف ال�شعائر والطقو�س ويبقى القانون الإلهي واحداً. مو�سى بنى دولة -مملكة الأر�ض .وعي�سى بني مملكة ال�سماء .مو�سى بالتهديد والوعيد وعي�سىباملحبة ..مو�سى بالإنكفاء على الذات وعي�سى بالإنفتاح على باقي الأمم. مو�سى �أدخل الدين يف الدولة وعي�سى حرر الدين من الدولة فما لقي�صر لقي�صر وما هلل هلل. «�شريعة مو�سى كلها تتعلق بدولة العربانيني وحدها «�( .ص)205 -ال�صهيونية اليوم مثل ال�صهيونية امل�سيحية تقتفي �أثر مو�سى وترتكز على العهد القدمي يف اخللط
�شذرات من وحي �شبينوزا
حتوالت �أدبية
151
ما بني الدين والدولة ،حتكم با�سم الإله ،وتقحم الدين يف ال�سيا�سة وال�سيا�سة بالدين وال تف ّرق بني الثابت واملتحرك .قبل قرون �أ�صدر البي�ض يف �أمريكا قوانني للإ�ستيالء على �أرا�ضي الهنود احلمر ب�صورة فورية ا�ستنا ًدا �إىل �أ�س�س �إجنيلية وكانوا يزعمون �أن اهلل منحهم هذه الأرا�ضي و�أنهم �شعبه املختار. �إن ق�ص�ص الكتب املقد�سة �ضرورة ،لأن �أذهان العامة ال تقوى على �إدراك الأ�شياء بو�ضوحومتييز�( .ص « )208الت�صديق بالروايات ...ال �صلة له بالقانون الإلهي» (�ص )210 ي�سمي العامة خوارق الطبيعة معجزات �أو �أعمال اهلل وقد «اعتاد النا�س ت�سمية الذي يجهلالعامة �سببه عم ًال �إلهياً» .وك�أن من يبذل جهده يف تف�سريه بالعلل الطبيعية قد �ألغى اهلل. اخلوف واجلهل مثل الربد �أ�سا�س كل عِ ّلة .اجلهل الإن�ساين يخلط بني �أوامر اهلل و�أوامر الب�شر.«القوانني العامة للطبيعة لي�ست �إال �أوامر �إلهية ت�صدر عن �ضرورة الطبيعة الإلهية وكمالها ...ال يحدث �شيء يف الطبيعة مناق�ضاً لقوانينها العامة ...قدرة الطبيعة ال نهائية ...القدماء �أدخلوا يف باب املعجزات كل ما مل ي�ستطيعوا تف�سريه»�( .ص .)215-216 «كلما ازدادت معرفتنا بالأ�شياء الطبيعية ...ازددنا معرف ًة باهلل وب�إرادته» (�ص .)218ي�ستطيع الإن�سان �أن ي�صل �إىل اهلل مبا يعرف ال مبا يجهل( .الهام�ش) الكتاب (يق�صد التوراة) ال يريد �إقناع العقل ،بل يريد �إثارة اخليال و�شحذ قدرته على الت�صوير.. «كل ما يناق�ض الطبيعة يناق�ض العقل»�( .ص )225 احلادثة الواحدة ،حني تروى من قبل �شخ�صني خمتلفني يف ر�أيهما تظهر وك�أنها حادثان خمتلفان. أنا�س ك�أنها وقائع. �إذن كيف يكون الأمر حني نتحدث عن ر�ؤى و�أمور خيالية ّ ق�صها علينا � ٌ يعرتف اجلميع ب�أن الكتاب املقد�س هو كالم اهلل .ونرى اجلميع تقريباً قد ا�ستبدلوا بدعهم بكالم اهلل« ،يبذلون جهدهم با�سم الدين من �أجل �إرغام الآخرين على �أن يفكروا مثلهم» فهم ي�ؤولون ويدعون �أنه من عند اهلل�( .ص الكتاب ق�سراً لتربير هذه البدع واحلكم با�سم اهلل .الب�شر يكتبون ّ )233 قال الفيل�سوف العربي الإ�سالمي -الكندي -قبل �سبينوزا بثمانية قرون� :إن بع�ض رجال الدين يقذفون الفال�سفة بالكفر والإحلاد «ذباً عن كرا�سيهم املز َّورة التي ن�صبوها (لأنف�سهم) من غري ا�ستحقاق ،بل للرت�ؤ�س والتجارة بالدين ،وهم عدماء الدين ،لأن من تاجر ب�شيء باعه ،ومن باع �شيئاً مل يكن له .فمن تاجر بالدين مل يكن له دين ».وقد ع ّرف الكندي الفل�سفة ب�أنها «علم الأ�شياء بحقائقها»( .ح�سني مروة -النزعات املادية يف الفل�سفة العربية -الإ�سالمية .دار الفارابي عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
152
1981ط � 4ص )59 «بع�ض �أحبار العربانيني ،كفرة فا�سقون و�صلوا �إىل احلربوية بو�سائل �إجرامية» (�ص .)254ذلك ال يقت�صر على الأحبار. يجب علينا تف�سري الكتاب بالعقل النقدي �أو بالنقد الداخلي الذي يعتمد على العقل وفهم الناحية التاريخية التي �أحاطت بكتابة الن�صو�ص ،وبظروف الرواة ،ومبدى علمهم وثقافتهم يف حينه ،ومبزاجهم و�سيرَ هم الذاتية ،وب�أحوالهم املادية وتكوينهم الذهني ،وبخ�صائ�ص اللغة التي ُد ّونت بها �أ�سفار الكتاب املقد�س ،وبفهم املعنى من ال�سياق ،ال الإلت�صاق بالن�ص احلريف. يف التوراة ا�ضطراب زماين ،فهي تن�سب �إىل مو�سى ما ال ميكن �أن يقوله من الناحية التاريخية، خا�صة ما يتعلق بالكنعانيني الذين كانوا ميلكون هذه الأر�ض يف زمن مو�سى .وكذلك « �سفر ي�شوع لي�س من و�ضع ي�شوع نف�سه»�( .ص � )265أ ّما �سفر الق�ضاة « فال �أظن �أن �شخ�صاً �سليم العقل يعتقد �أن الق�ضاة �أنف�سهم كتبوه ...و�أ�سفار �صموئيل ...الق�صة ت�ستمر بعد وفاته بوقت طويل... �أ�سفار امللوك قد مت اقتبا�سها ...من كتب حكومة �سليمان ومن �أخبار ملوك يهوذا ومن �أخبار ملوك �إ�سرائيل ...كتبها م�ؤرخ واحد» (�ص )267هو عزرا كما يقول �سبينوزا. � اّإل �أن عزرا «مل يكن �آخر من �صاغ الروايات املت�ضمنة يف هذه الأ�سفار و�أنه مل يفعل �أكرث من جمع روايات موجودة عند ك ّتاب متعددين» (�ص )275دون فح�ص �أو ترتيب .لذلك نرى التكرار ون�شهد اختالف الأ�سلوب ،والإختالف يف ح�سابات ال�سنني�( .ص )277واخللط يف الأزمنة. الن�ساخ (�ص ،)289ال كما يقول بع�ض القباليني �إن (�ص )280والن�صو�ص املبتورة نظ ًرا لعجز فهم ّ وراءها �أ�سراراً يف غاية العمق متاماً مثل ما تقوم عليه تقوى العجائز املخرفني من ت ّرهات�( .ص )289 وكذلك يبدو الإ�ضطراب «يف تكري�س النبوات دون �أ ّية مراعاة لرتتيبها الزمني»�( .ص )301 الق�صة رمزية ،والبع�ض الآخر �أما �أذا عدنا �إىل �سفر �أيوب ،فالبع�ض يظن �أن مو�سى هو م�ؤلفه و�أن ّ يظن �أنها ق�صة حقيقية� .أما عزراً فيعتقد �أنها ترجمت �إىل العربية من لغة �أخرى .ومل يكن �سبينوزا ليعلم ان ايوب هذا بابلي عا�ش يف الألف ّية الثالثة ق.م� .أي قبل �أيوب التوراتي مبئات ال�سنني. �إنه ّ «املعذب البابلي» �أو «ال�صالح املت�أمل» وقد اكت�شفت �ألواح من ال ُآجر يف العراق تتحدث �شعراً عن هذا الرجل ال�صالح � -شو ب�ش ي�شري �شاقان ،املعذب البابلي ،حيث نرى مدى ت�أثر العربانيني ب�سفر �أيوب بهذه الق�صيدة( .الأ�سطورة والتوراة -ناجح املعموري �إ�صدار امل�ؤ�س�سة العربية للدرا�سات والن�شر ظ� 2002 1-ص )83-111كذلك الأمر بالن�سبة لطوفان نوح التوراتي الذي جاء على �شكل طوفان اتراح�سي�س يف الأدب العراقي القدمي ،حيث �أراد الإله «�أيا» (�إله احلكمة) جت ّنب فناء الب�شر ،ف�أوحى �إىل «نوح البابلي» بقرب الكارثة ،وعلى الأغلب �أنه �أوتنا ب�شتيم الذي جاء ذكره يف ملحمة جلجام�ش .وكانت هذه امللحمة و�ألواح �سومر قد اكت�شفت يف القرن التا�سع ع�شر� .أي بعد �سبينوزا بقرنني .ا�ستلهم يهود ال�سبي البابلي ( 538ق.م� ).سرية لوط يف
�شذرات من وحي �شبينوزا
حتوالت �أدبية
153
�سفر التكوين من الأ�سطورة البابلية لإله الطاعون �إيرا ،الذي د ّمر مدينتي بابل و�إيريك ،حني طغت بابل وفجرت �إيريك ،مدينة البغايا املقد�سات والغلمان واخل�صيان واملثليني ،يف معبد ع�شتار. يتح ّول �إيرا �إىل يهوا وت�صبح مدينتي بابل و�إيريك �سدوم وعمورة. �إن تاريخ الديانات مليء مبثل هذه املقاربات .و�إن م�ستوى التنا�ص وا�ضح و�ضوح ال�شم�س يف خ�صو�صا بع�ض الأحيان� ،إذ يبلغ حد التماثل يف ن�صو�ص التوراة ون�صو�ص ال�شرق الأدنى القدمي ، ً الرافدي والفرعوين. «مل تكن هناك جمموعة مقننة من الكتب املقد�سة قبل ع�صر املكابيني»�( .ص )313 «القانون الإلهي م�سطور يف القلوب� ...أخ�شى �أن ي�ؤدي التطرف يف التقدي�س اىل حتويل الدين �إىل خرافة ،و�أن ين�صرف النا�س �إىل عبادة التماثيل وال�صور�،أي الورق امل�س ّود ،بد ًال من كالم اهلل». (�ص )328 غاية الالهوت هي الطاعة والتقوى وغاية الفل�سفة هي احلق والعقل واحلرية ،وال ميكن �أن يلتقي الالهوت مع الفل�سفة�( .ص )353 للاّ هوت مملكة التقوى واخل�ضوع وللعقل مملكة احلقيقة واحلكمة واحلرية�(.ص )360 عند العربانيني القدامى �أ�صبحت الدولة مملكة اهلل و «�أ�صبح اهلل ي�سمى بحق ملك العربانيني» وهذا احلكم الثيوقراطي ف ّو�ض مو�سى « يف الت�شاور مع اهلل وتف�سري �أوامره»�( .ص )389ومن بعد غزو بالد الكنعانيني با�سم اهلل ،وكان اجلي�ش هو جي�ش اهلل ،واهلل ذاته �أ�صبح �إله اجليو�ش التي �شكلتها الأ�سباط املتحالفة .وقد �أ�صبح «حب الوطن» تقوى وكراهية الأغيار «واجب ديني» - «كراهية تتولد عن الإميان والتقوى»�( .ص )401وعندما عال �ش�أن الطبقة احلاكمة (الكهنوت) ومتيزت وحكمت ،بد�أت اخلالفات الداخلية واملنازعات وانهارت هذه الدولة الثيوقراطية �أمام اخلارج .لذلك يعتقد بع�ض املفكرين -و�أنا منهم � -أنه لو عا�ش �سبينوزا يف القرن الع�شرين ملا كان ليوافق على قيام دولة �إ�سرائيل ال�صهيونية بالأ�سلوب وبال�شكل الذي قامت عليه. انتهت �سلطة الكهنوت لي�س نتيجة الع�صيان �أو غ�ضب الرب �إمنا نتيجة لأ�سباب مو�ضوعية مثل الإنغالق وال�شعور بالتم ّيز والطغيان و�سعي الأحبار للو�صول �إىل ال�سلطة البطريركية على ح�ساب الدين�( ،ص )413والت�سرت وراء الدين (.)416 «من اخلطورة على الدين وعلى الدولة على ال�سواء �إعطاء من يقدمون ب�ش�ؤون الدين احلق يف �إ�صدار القرارات� ،أ ًيا كانت� ،أو التدخل يف �ش�ؤون الدولة. من اخلطورة �أن جنعل القانون الإلهي معتمداً على املذاهب التي تقوم على النظر البحت ،و�أن ن�ضع القوانني على �أ�سا�س من الآراء التي هي على الأقل مو�ضوع خالف دائم بني النا�س. من ال�ضروري الإعرتاف لل�سلطة العليا باحلق يف تقرير ماهو �شرعي وماهو غري �شرعي ،وذلك حتقيقاً عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
154
مل�صلحة الدين والدولة على ال�سواء�( ».ص .)417-416 «ال�سلطة احلاكمة هي وحدها �صاحبة احلق يف تنظيم ال�ش�ؤون الدينية�( ».ص )421 «م�صلحة ال�شعب هي القانون الأ�سمى الذي يجب �أن تخ�ضع له كل الت�شريعات الإن�سانية والإلهية!» (�ص )426وبذلك ي�صبح الدين عند �سبينوزا ديناً مدنياً .بناء عليه ف�إن �سبينوزا ال ي�ؤمن بف�صل الدين عن الدولة وح�سب� ،إمنا على الدولة �أن ترعى ال�ش�ؤون الدينية �أي�ضا. ال ميكن لأي �إن�سان �أن يتخلى عن حر ّيته ،احلرية هي �شرط �أ�سا�سي لتقدم العلوم والفنون« .كلما حاول املرء �سلب النا�س حريتهم يف التعبري ا�ستثار مقاومتهم» (�ص )440يف بع�ض الدول املتقدمة قوانني متنع العامل من التنازل عن حقوقه. يختتم �سبينوزا ر�سالته بقوله�« :أدرك �أنني ب�شر و�أن من املمكن �أن �أكون قد �أخط�أت .ولكنني على الأقل حاولت بقدر طاقتي �أال �أقع يف اخلط�أ�( ».ص )444
155
وقائع م�رشقية
ٍ م�ساحات خمتلفة امل�رشقية ...كلمة يف | و�سام عبد اهلل | �صحايف
تعددت الأحزاب وال�شخ�صيات وامل�ؤ�س�سات االعالمية التي ا�ستخدمت يف الفرتة املا�ضية كلمة «امل�شرقية» �أو «امل�شرق العربي» ،وااللتقاء على هذه الكلمات يعود �إىل ارتباط دول امل�شرق العربي ببع�ضها جغرافيا واجتماعيا وح�ضاريا من جهة وكونها متر جميعها ب�أزمة وجودية واحدة ،ففر�ضت نف�سها على كل التيارات ال�سيا�سية واالقت�صادية والدينية والثقافية ف�إما مت ا�ستخدامها للتعبري عن عقيدة او نظرة اقت�صادية او �أحداث �سيا�سية مرتابطة .نحاول فيما يلي �إعطاء ملحة عن التنوع يف ا�ستخدام هذه امل�صطلحات على الرغم من االختالف يف منطلق كل جهة ا�ستخدمتها لإي�صال فكرة حمددة منها تتنا�سب مع توجهاتها ومنطلقاتها. امل�رشقية «�إعالميا»
على �شا�شة قناة «امليادين» تقدم فكرة امل�شرق العربي مبحاور خمتلفة ،فيعر�ض برنامج �أجرا�س امل�شرق الذي يقدمه ويعده الباحث غ�سان ال�شامي ،وهو برنامج «يهتم ب�ش�ؤون امل�سيحني يف امل�شرق وامل�شكالت الراهنة التي تعرت�ض امل�سيحني امل�شرقيني» ،يحاور يف احل�ضارة امل�شرقية م�ست�ضيفاً رجال دين ومفكرين للبحث يف البعد الثقايف والفكري يف امل�شرق ،وكانت مروحة احلوارات متنوعة بتنوع ال�ضيوف ،فمن مطران حلب لل�سريان الأرثوذك�س ابراهيم حنا و�أمني عام احلوار اال�سالمي امل�سيحي حممد ال�سماك واملفكر فرا�س �سواح والدكتور حممد حمفل ومطران االرمن الأرثوذك�س يف دم�شق �أرما�ش نالبنديان والنائب العراقي يونادم كنا وغريهم� ،ضمن عملية ربط التاريخ باحلا�ضر وامل�ستقبل ،يف م�ساحة لإظهار امل�شرتك من احل�ضارات القدمية �إىل امل�سيحية واال�سالم� .ضمن ن�شرات االخبار اليومية تقدم ن�شرة حتت عنوان «العراق و�سوريا» يعر�ض يف الن�شرة االخبار واالحداث االقت�صادية وال�سيا�سية واالجتماعية واالمنية يف البلدين بهدف �إي�صال �صورة ارتباط م�سار وم�صري البلدين معا يف خمتلف الق�ضايا امل�شرتكة.
عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
156
جريدة «الأخبار» اللبنانية �أفردت زاوية خا�صة يف ق�سم الر�أي حتت عنوان «ق�ضايا امل�شرق» ،يعر�ض فيها م�ساهمات يف ق�ضايا (�سوريا ،لبنان ،االردن ،فل�سطني ،العراق) ،فتناولت اجلريدة يف عددها ال�صادر يف � 2آب 2013ق�ضية العالقات ال�سورية -اللبنانية ففتحت باب امل�ساهمة يف حوار يهدف للو�صول �إىل «�إطار �سيا�سي جديد ،ي�سمح للمثقفني ال�سوريني واللبنانيني ،بالت�أثري على جمرى التطورات ،وامل�شاركة يف بناء ال�صيغة ال�سورية ـ اللبنانية اجلديدة» ،فاعترب الكاتب عالء املوىل �أنه حني يكون ال�ش�أن يتعلق ب�سوريا ف�إن انتماء االق�ضية االربعة يف لبنان «حمفور يف الوجدان وحتت الطبقات املرتاكمة فوق �سطح الوعي اجلمعي .وهذه احلقيقة ال تزال حا�ضرة بقوة ،وتزداد �صالبة». يف عددها ال�صادر يف � 17آب 2103تناولت ق�ضية العالقات الأردنية -الفل�سطينية وو�ضعهما على مذبح املفاو�ضات التي ت�سعى الواليات املتحدة االمريكية على تنفيذها بالتزامن مع االزمة ال�سورية ،فحذر الكاتب م�صطفى �أر�شيد من فل�سطني من خطورة املفاو�ضات التي ت�سعى الواليات املتحدة االمريكية لتنفيذها ب�أ�سرع وقت يف زمن يعاين البيت الفل�سطيني من اخللل «الذي �أوقف كل �أ�شكال العمل ال�سيا�سي املقاوم والدبلوما�سي ،العتقاده �أن ال خيار �إال خيار التفاو�ض ،ثم �أعلن وقف خيار التفاو�ض ،و�أن ال عودة �إىل هذا اخليار �إال بعد وقف اال�ستيطان ،معطياً الإ�سرائيلي كامل الوقت والفر�صة لال�ستيطان». ون�شرت « الأخبار» نداء للجماهري يف امل�شرق العربي يف عددها ال�صادر يف 8متوز ،2013ا�ستعر�ضت فيه تاريخ وتنوع دول امل�شرق العربي واالخطار التي متر بها والفر�ص املتاحة �أمامها ،فدعت �إىل تطوير العالقات ال�سورية العراقية واالردنية العراقية والتكامل بني عوا�صم امل�شرق العربي بهدف �أ�سا�سي هو حترير فل�سطني ،و�أ�شار النداء �أن االحتاد امل�شرقي (لي�س جمرد فكرة ثقافية �أو عقائدية، بل م�شروع جيو�سيا�سي تاريخي) ،م�شرياً �إىل �أهمية وقوف خمتلف التيارات الوطنية والقومية وراء هذا امل�شروع. مل تكن جريدة «ال�سفري» بعيدة عن الفكرة امل�شرقية ،فكتب رئي�س حتريرها طالل �سلمان يف 24 ني�سان 2013افتتاحية بعنوان «قراءة م�شرقية للهالل ال�شيعي :اعتماد النموذج اال�سرائيلي؟» وقد انتقد فيه ت�صريح امللك االردين عبد اهلل بن احل�سني حول ت�سميته اخلطر احلايل باملنطقة بالهالل ال�شيعي واعتبار الكاتب �أن خرائط الدول التي �أقيمت يف بدايات القرن الع�شرين بيد امل�ستعمر هي الآن مهددة باحتمال تق�سيمها على �أ�س�س طائفية ومذهبية ،و�أ�ضاف �أن �إ�سرائيل هي الدولة الدينية الوحيدة يف العامل القوية واملح�صنة التي ال يطالها الهالل ال�شيعي .واعترب فريد اخلازن يف مقالته ال�صادرة يف 22حزيران � 2013أن امل�س�ألة ال�شرقية اجلديدة هي بناء الدولة الوطنية �أو ًال، فالكاتب يعترب �أن «الدولة الوطنية بحدودها احلا�ضرة قائمة ولي�س ثمة فراغ يجب مل�ؤه بدول جديدة ،ت�أميناً مل�صالح الدول الكربى ،مثلما كانت عليه احلال يف زمن �سايك�س -بيكو .ويف �سوريا ،الأكرث عر�ضة للت�شرذم ،فال م�صلحة لأي طرف �أن تن�ش�أ كيانات جديدة على �أنقا�ض الدولة» .واعترب الف�ضل �شلق �أن التنوع يف امل�شرق العربي مهدد بالتال�شي نتيجة احلرب التي
ٍ م�ساحات خمتلفة امل�شرقية ...كلمة يف
وقائع م�رشقية
157
تخا�ض �ضد دوله ،و�أو�ضح يف مقالته يف � 31أيار � ،2013أن احلل للوقوف يف وجه هذا املخطط هو «�أن ت�صري الدولة مكوناً اجتماعياً و�سيا�سياً وحيداً .ال حتمي الطوائف نف�سها ب�أن ت�صري مكونات �سيا�سية .يحمي �أفراد الطوائف �أنف�سهم باالن�صهار يف الدولة». امل�رشقية يف احلراك اال�سالمي
مل تكن احلركات ال�سلفية واجلهادية خارج دائرة امل�شرقية حتى و�إن مل تعتمدها باال�سم ،و�إمنا �ضمن ر�ؤيتها اال�سالمية فهي ترى هذه املنطقة اجلغرافية واحدة ت�سعى لتحقيق �إمارة �إ�سالمية فيها ،فحركة القاعدة يف العراق اتخذت بعد دخولها احلرب يف �سوريا وعدم �إمكانية توحدها مع جبهة الن�صرة ا�سم دولة العراق وال�شام اال�سالمية وهو ما دعا �إليه �أبو بكر البغدادي �أمري القاعدة يف العراق ،و�أ�شارت �صحيفة فاينن�شال تاميز �إىل �إن تنظيم الدول اال�سالمية يف العراق وال�شام يتخذ �شعار «من ديايل �إىل بريوت» ليعرب فيه عن �أهدافه وطموحاته يف ال�سيطرة على كامل املنطقة. دخول التيارات التكفريية يف العراق و�سوريا ولبنان بد�أ يطرح فكرة اال�سالم امل�شرقي وتيار �أهل ال�شام املعتدل ،فكتب عالء احللبي يف �صحيفة ال�سفري مقاال يف 3ني�سان ، 2013بعد اغتيال العالمة حممد �سعيد رم�ضان البوطي� ،أن امل�شهد الأعمق يف الأزمة ال�سورية هو حرب وهابية على اال�سالم ال�صويف الذي يتميز به �أهل ال�شام. م�شاريع م�رشقية
عقد يف بريوت بدعوة من مركز اللقاء امل�شرقي يف 5متوز 2013لقاء حتت عنوان «اللقاء امل�شرقي للدفاع عن �سوريا» ،فدعا الكاتب االردين ناه�ض حرت �إىل «التدخل امل�شرقي يف �سوريا ل�ضمان االنت�صار يف �أربع معارك :ا�ستئ�صال الإرهاب ،معركة �إعادة البناء ،معركة جتديد الدولة الوطنية املدنية العلمانية الدميوقراطية ،ومعركة تعزيز خط املقاومة» ،كما �أ�شار الكاتب الفل�سطيني �سعادة �أر�شيد �إىل وحدانية املعركة من الب�صرة حتى غزة وحلب وحم�ص والق�صري و�صيدا ،و�أ�ضاف الكاتب العراقي فا�ضل الربيعي �أن «ك ّتاب التاريخ ارتكبوا خط�أً فادحاً حني لفقوا م�صطلح (الأمرباطورية الآ�شورية) وان�صرفت الأذهان دائماً �إىل �أن املق�صود منه هو العراق وحده ،والأدق هو (الإمرباطورية الآ�شورية -ال�سورية) وهي خال�صة اندماج العراق و�سوريا الطبيعية» .وقد اختتم امل�ؤمتر �أعماله بعد �أن مت توزيع امل�شاركني على خم�س جلان متنوعة يف موا�ضيعها و�أنهت حواراتها بقرارات وتو�صيات يف جماالت بحثها. وبدوره قدم احلزب ال�سوري القومي االجتماعي م�شروعه حول ر�ؤية احلزب يف �إن�شاء جمل�س التعاون امل�شرقي ،وقد التقى وفد من احلزب رئي�س احلكومة العراقية نوري املالكي ورئي�س املجل�س عدد رقم | 2ت�شرين الأول
2013
158
وفد منه ال�سفري الأعلى الإ�سالمي ال�سيد عمار احلكيم وغريهم من القادة العراقيني ،كما �سلم ٌ الفل�سطيني يف لبنان �أ�شرف دبور مذكرة املجل�س ،ويف 3متوز 2013عقد احلزب برئا�سة النائب �أ�سعد حردان م�ؤمتر �صحفي �أعلن خالله عن املذكرة التي �سلمها �إىل قادة دول امل�شرق العربي، وقال النائب حردان �إن اختيار احلزب الطالق م�شروع م�شرقي هدفه هو ت�أمني م�صالح ال�شعب العليا وي�صلب مواجهة امل�شروع لتفتيت املنطقة. يف البعد االقت�صادي للفكر امل�شرقي دعا رئي�س احتاد غرف ال�صناعة ال�سورية املهند�س فار�س ال�شهابي �إىل م�شروع الهالل االقت�صادي والذي ي�شمل �سوريا والعراق و�إيران ،و�أ�شار ال�شهابي �إىل �ضرورة توحيد القوانني اال�ستثمارية بني البلدان الثالثة و�أن يكون لال�ستثمار ميزانية ا�ستثنائية يف الهالل االقت�صادي الذي ميكن �أن يت�سع لي�شمل دو ًال مثل لبنان و�صو ًال �إىل تكامله مع دول رو�سيا االحتادية وغريها .وي�شري املهند�س �شهابي �إىل �أن الهالل االقت�صادي مرتبط جغرافيا وم�صرييا وهو لن يلغي اتفاقية ال�سوق العربية بل �سيولد نظاما اقت�صاديا متكامال �أكرث عرب التكامل بني الأ�سواق امل�شرقية.
من �أعمال ال�شاعر كمال خري بك
َ�أ ُّيها ال�شَ رق ُِّي �شَ ِّمر ال َت َنم َواِن ُف ِ�ض ال َعج َز َف ِ�إنَّ اجل َِّد قاما َواِم َتطِ ال َعز َم َجواداً لِل ُعال َواِج َع ِل احلِك َم َة لِل َع ِزم زِماما
حافظ �إبراهيم
�إمنا الأمم ا لأخالق ما بقيت ف�إن ه م ذ هب ت � أ خ الق هم ذهبوا
�أحمد �شوقي
احلرية �شم � س ي ٌ ج ب أ � نت ن ف ف� ٍس ،فمن عا�ش حمروم ً�شرق يف كل ا ى ظلمة حالكة يت�صل ا منها عا�ش لرحم و�آخرها بظلمة الق �أولها بظلمة رب. م�صطفى لطفي املنفلوطي
لبنان 5000لرية | الأردن 2 :دينار | �سوريا 100 :لرية | م�صر 10 :جنيه | تون�س 1.5 :دينار | املغرب 20 :درهم | م�سقط 1 :ريال ال�سعودية 10 :ريال | البحرين 1.5 :دينار | الكويت 1.5 :دينار | قطر 10 :ريال | الإمارات 10 :درهم