تحولات مشرقية العدد:2

Page 1

‫العدد رقم ‪ - 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬

‫فـ�صـل ـيـة فـكريـة ثـقافيـة تـعنى ب�ش ـ�ؤون امل�شــرق‬

‫حممود حيدر‬ ‫العلمنة والإميان الديني‬ ‫الأ�ستاذ وديع فل�سطني‬ ‫هجرة الأدباء ال�شوام �إىل م�صر يف القرنني‬ ‫التا�سع ع�شر والع�شرين‬ ‫حممود �شريح‬ ‫حاوي‪� :‬سرية وثائقية‬ ‫جنيب البعيني‬ ‫الأديب جملة �أدبية لبنانية م�شرقية‬

‫ملف العدد‪:‬‬

‫راهنية فكر �سعاده‬ ‫د‪ .‬نذير العظمة | د‪� .‬سليم جماع�ص | د‪ .‬حيدر حاج �إ�سماعيل‬ ‫فاتن املر | زهري فيا�ض | منري حايك‬


‫تعالوا ن�شيد لأمتنا ق�صوراً من احلب واحلكمة‬ ‫واجلمال والأمل مبواد تاريخ �أمتنا ومواهبها‬ ‫وفل�سفة �أ�ساطريها وتعاليمها املتناولة ق�ضايا احلياة‬ ‫الإن�سانية الكربى‪.‬‬ ‫�أنطون �سعاده‬


‫العدد رقم ‪ - 2‬ت�رشين الأول ‪2013‬‬

‫املحتويات‬

‫فـ�صـل ـيـة فـكريـة ثـقافيـة تـعنى ب�ش ـ�ؤون امل�شــرق‬

‫كلمة التحرير‬ ‫‪3‬‬

‫م�صطلحات – بو�صلة – �ضحايا‬

‫راهنية فكر �سعاده‬ ‫‪7‬‬

‫الدين والدولة يف مر�آة النه�ضة‬ ‫| د‪ .‬نذير العظمة |‬

‫‪15‬‬

‫�أنطون �سعاده‪ :‬رجل احلق واحلقيقة‬ ‫| د‪� .‬سليم جماع�ص |‬

‫درا�سات و�أبحاث‬ ‫‪83‬‬

‫العلمنة والإميان الديني | حممود حيدر |‬

‫‪95‬‬

‫هجرة الأدباء ال�شوام �إىل م�رص يف القرنني‬ ‫التا�سع ع�رش والع�رشين (حكايات)‬ ‫| الأ�ستاذ وديع فل�سطني |‬

‫‪105‬‬

‫البعد الأكربي يف ت�صوف الأمري عبد القادر‬ ‫| مباركة حاجي |‬

‫حتوالت �أدبية‬

‫‪27‬‬

‫الإ�صالح والتجدد بنظرة جديدة اىل احلياة‬ ‫| د‪ .‬حيدر حاج �إ�سماعيل |‬

‫‪117‬‬

‫‪39‬‬

‫االقت�صاد القومي االجتماعي‪ :‬مدخل اىل التنمية‬ ‫| زهري فيا�ض |‬

‫الأديب جملة �أدبية لبنانية م�رشقية‬ ‫| جنيب البعيني |‬

‫‪125‬‬

‫حاوي‪� :‬سرية وثائقية | حممود �شريح |‬

‫‪51‬‬

‫العلمانية يف ع�رص ال ّنه�ضة‬ ‫ال ّنزعة‬ ‫ّ‬ ‫| منري حايك |‬

‫‪133‬‬

‫اللية يف جتربة نعيم‬ ‫تنامي الثّنائية ال ّد ّ‬ ‫عرية | د‪ .‬ل�ؤي زيتوين |‬ ‫تلحوق ال�شّ ّ‬

‫‪71‬‬

‫قراءة يف رواية «�أر�ض و�سماء» ل�سحر خليفة‬ ‫| فاتن املر |‬

‫‪147‬‬

‫�شذرات من وحي �سبينوزا | وليد الفاهوم |‬

‫وقائع م�رشقية‬ ‫‪155‬‬

‫ٍ‬ ‫م�ساحات خمتلفة‬ ‫امل�رشقية‪ ...‬كلمة يف‬ ‫| و�سام عبد اهلل |‬


‫حتوالت م�رشقية‬

‫ف�صلية‪ ،‬فكرية‪ ،‬ثقافية‪ ،‬تعنى ب�ش�ؤون امل�شرق واملنطقة‬

‫هيئة التحرير‬

‫د‪ .‬فاتن املر‬ ‫د‪ .‬عاطف عطية‬ ‫ح�سن حماده‬ ‫ن�صري ال�صايغ‬

‫ت�صدر بالتعاون مع م�ؤ�س�سة �سعاده للثقافة‬

‫�سعاده م�صطفى �أر�شيد‬ ‫�سليمان بختي‬ ‫�سركي�س �أبو زيد‬

‫املدير امل�س�ؤول‪� :‬سركي�س �أبو زيد‬ ‫الربيد الإلكرتوين‪abouzeid@gmail.com :‬‬ ‫هاتف‪)00961-1( 751541 :‬‬ ‫�صندوق بريد‪ 113-7179 :‬بريوت ‪ -‬لبنان‪.‬‬

‫بناية ر�سامني‪� ،‬شارع احلمرا‪ ،‬ر�أ�س بريوت‪،‬‬ ‫�صندوق بريد‪ 113-5557 :‬بريوت ‪ -‬لبنان‪.‬‬ ‫هاتف‪)00961-1( 753363 :‬‬ ‫فاك�س‪)00961-1( 753364 :‬‬ ‫الربيد الإلكرتوين‪saadehcf@idm.net.lb :‬‬ ‫املوقع الإلكرتوين‪www.saadehcf.org :‬‬ ‫ت�صدر مبوجب قرار رقم ‪ 82‬تاريخ‬ ‫�صادر عن وزارة االعالم اللبناين‬

‫‪1981/7/6‬‬

‫توزيع‪ :‬النا�رشون‬

‫بريوت ‪ -‬امل�شرفية‪� ،‬سنرت ف�ضل اهلل ‪ -‬ط‬ ‫هاتف وفاك�س‪)00961-1( 277007 - 277088 :‬‬ ‫خليوي‪)00961-3( 975033 :‬‬

‫االخراج الفني‪ :‬عالء �صقر‬ ‫ت�صدر يف طبعتني من فل�سطني ولبنان‬ ‫مدير عام طبعة فل�سطني‪� :‬سعاده م�صطفى �أر�شيد‬ ‫هاتف‪0599305248 :‬‬ ‫�صندوق بريد‪ 41 :‬جنني ‪ -‬فل�سطني‬

‫اال�شرتاك ال�سنوي‬

‫للأفراد‪ 50 :‬دوالراً �أمريكياً‬ ‫للم�ؤ�س�سات‪ 100 :‬دوالر �أمريكي‬

‫املواد املن�شورة تعرب عن ر�أي كاتبها‬

‫‪4‬‬


‫‪3‬‬

‫كلمة التحرير‬ ‫م�صطلحات – بو�صلة – �ضحايا‬ ‫امل�ستبدين يف العامل‪ ،‬امل�صطلحات‬ ‫لعل من �أبرز ما يواجه �شعوب الدول امل�ستهدفة‪ ،‬من قبل‬ ‫ّ‬ ‫التي يطلقها امل�ستبدون فت�ستقر يف اخلطاب الثقايف ‪ -‬ال�سيا�سي للم�ستهدفني وتفعل فعلها يف‬ ‫حد تعطيل قدراتهم على فهم احلقائق امليدانية التي تفر�ض عليهم‪ ،‬وبالتايل تعطيل‬ ‫عقولهم اىل ّ‬ ‫قدرتهم على الفهم والتف�سري ال�سليم للتحديات‪ ،‬فينهزمون عقلياً‪ ،‬وينقادون وفق اجتاهات بو�صلة‬ ‫�أعدائهم‪ .‬والهزمية العقلية تتبعها بال�ضرورة هزمية ثقافية ‪� -‬سيا�سية ‪ ،‬نظراً للتالزم ما بني الثقافة‬ ‫وال�سيا�سة‪ ،‬وما بني التنمية وال�سيا�سة‪ ،‬وما بني االقت�صاد والثقافة وال�سيا�سة‪ ،‬وما بني العدالة‬ ‫واالقت�صاد والتنمية والثقافة وال�سيا�سة‪ ....‬وكلها �أوعية مت�صلة‪ ،‬جمرد امل�سا�س ب�أحداها ب�شكل‬ ‫م�سا�ساً بها كلها‪.‬‬ ‫مث ًال‪:‬‬ ‫�أو ًال‪ :‬م�صطلح «العقوبات الدولية»‬ ‫لقد درجت االدارات الأمريكية املتعاقبة‪( ،‬و�سوف نخت�صرها بعبارة «االدارة الأمريكية» �إال يف‬ ‫حالة الإ�شارة �إىل �إدارة حمددة‪ ،‬كالقول «�إدارة �أوباما» �أو «�إدارة ترومان» الخ ‪ )....‬درجت االدارة‬ ‫الأمريكية على ا�ستخدام هذا امل�صطلح بحق الدول املغ�ضوب عليها من قبل وا�شنطن‪� .‬إن الإدارة‬ ‫الأمريكية ال متلك �شرعية معاقبة هذه الدولة �أو تلك من دول العامل‪ .‬فاالجراءات التي تتخذها‬ ‫وت�سميها «عقوبات» غالباً ما ت�شكل نوعاً من العدوان االقت�صادي الذي‪ ،‬بدوره ي�شكل خطوة نحو‬ ‫العدوان الع�سكري‪� ،‬أي احلرب العدوانية‪ ،‬واحلرب العدوانية هي «اجلرمية الدولية الأرفع» ح�سب‬ ‫ما جاء يف الفقرة احلكمية من حماكمات نورمبريغ‪ .‬و «اجلرمية الدولية الأرفع» م�صطلح يف غاية‬ ‫اخلطورة‪ ،‬لذا تالحظ �أن االعالم املهيمن عليه من ال�صهيونية العاملية‪ ،‬واخلادم الأمني مل�صالح‬ ‫الواليات املتحدة‪ ،‬والذي ي�شكل �ستاراً حديدياً يحجب احلقائق وي�شيع االكاذيب واال�ضاليل‬ ‫حد �أنه �صار غري معروف‬ ‫وي ّروج للحروب وللفنت‪ ،‬يحجب هذا امل�صطلح ويعمد �إىل «تفطي�سه» �إىل ّ‬ ‫�إال يف الدوائر ال�ضيقة جداً داخل االو�ساط التي تهتم‪ ،‬بجدية‪ ،‬بالقانون الدويل‪.‬‬

‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬


‫‪4‬‬ ‫كلمة التحرير‬

‫واملذهل هو �أن �ضحايا هذه «العقوبات» من الدول املغ�ضوب عليها من جانب الواليات املتحدة‪،‬‬ ‫تتلقف امل�صطلح وتقوم بتداوله من دون الطعن مب�شروعية الواليات املتحدة ال�ستخدامه‪ ،‬فرتاها‬ ‫عما ٌدرج على‬ ‫ت�ستنكر «العقوبات اجلائرة» التي ت�ستهدفها‪ ،‬كما لو �أن هذه «العقوبات» �صادرة ّ‬ ‫ت�سميته بـ «ال�شرعية الدولية» املج�سدة مبنظمة الأمم املتحدة ح�صراً وذلك على الرغم من كون‬ ‫هذه املنظمة وجدت �أ�سا�ساً‪ ،‬يف ال�صيغة التي وجدت فيها‪ ،‬لتخدم �صالح الدول املنت�صرة‬ ‫يف احلرب العاملية الثانية ح�صراً‪ ،‬وبالتايل �أ�صبح من الواجب �إدخال تعديالت جذرية على‬ ‫تركيبتها مبا ي�ستحيب لطموحات الدول ال�صاعدة اقت�صادياً‪ ،‬باال�ضافة �إىل دولتي اليابان واملانيا‬ ‫املهزومتان يف احلرب العاملية الثانية واملنت�صرتان اقت�صادياً بعد تلك احلرب‪� .‬صحيح �أن ال�صيغة‬ ‫اجلديدة املن�شودة للأمم املتحدة �ستظل قائمة على التمييز والتف�ضيل بني الدول �أكرث مما �ستقوم‬ ‫على امل�ساواة �أمام القانون الدويل‪� ،‬إال �أن �أف�ضلية ال�صيغة اجلديدة على تلك القائمة حالياً‬ ‫تعود �إىل مبد�أ «التعددية»‪� ،‬أي تو�سيع �إطار دائرة القرار الدويل بد ًال عن تقلي�صها �أو جتميدها‪.‬‬ ‫فكلما تو�سعت الأطر تزداد قدرة الدول امل�ست�ضعفة على التنف�س‪ .‬ففي مطلق االحوال‪ ،‬ان‬ ‫«ال�شرعية الدولية» وفق الآلية التي ت�ؤلفها‪� ،‬أي وفق تركيبتها‪ّ ،‬‬ ‫تظل �أف�ضل من الأحادية التي‬ ‫عاثت بالأر�ض ف�ساداً و�إجراماً على مدى ‪� 23‬سنة‪ ،‬بال انقطاع‪ ،‬وهي‪� ،‬أي «ال�شرعية الدولية» هي‬ ‫الوحيدة التي ميكن �أن تتخذ عقوبات بحق هذه الدولة �أو تلك‪.‬‬ ‫جمرد ا�ستخدام الدول امل�ستهدفة مل�صطلح «العقوبات» من خارج الأمم املتحدة‪ ،‬فيه دون ّية‬ ‫�إن ّ‬ ‫ٍواعرتاف للواليات املتحدة ب�شرعية ال متتلكها �أ�سا�ساً‪ .‬وبحكم ال�ضرورة ف�أن هذا املوقف ينعك�س‬ ‫على �سلوك الدولة امل�ستهدفة لناحية ردود فعلها وخياراتها‪.‬‬ ‫ثانياً‪ :‬م�صطلح «ال�ضربة الع�سكرية» وم�صطلح «اخلروقات»‬ ‫لقد كرث احلديث‪ ،‬مبنا�سبة احلرب العدوانية التي ت�شنها الواليات املتحدة‪ ،‬ومن خلفها دول‬ ‫أ�شد كفراً ونفاقاً» (وفق الن�ص القر�آين)‬ ‫احللف الأطل�سي و�إ�سرائيل وحكومات «الأعراب ال ّ‬ ‫ومنظمات القتل والإجرام والإرهاب التي تنتحل �صفة اال�سالم وهي مم�سوكة من ر�ؤو�سها‬ ‫ورقابها ولي�س بال�ضرورة من قواعدها من قبل اال�ستخبارات الأمريكية والربيطانية‪ ....‬مبنا�سبة‬ ‫هذه احلرب العدوانية التدمريية ال�شاملة �صار م�صطلح «ال�ضربة الع�سكرية» يجول على كل �شفة‬ ‫ول�سان‪ .‬امل�صطلح من انتاج الواليات املتحدة‪ ،‬و�إعالمها ومن خلفه الإعالم الأطل�سي و�إعالم‬


‫‪5‬‬ ‫كلمة التحرير‬

‫الأعراب‪ ،‬وجرى ا�ستخدامه �ضد اجلمهورية اال�سالمية االيرانية ثم �ضد العراق و�صو ًال �إىل‬ ‫�سورية اليوم‪.‬‬ ‫امل�صطلح جرى �إطالقه ليحجب كلمة حرب‪� ،‬أو عدوان‪� ،‬أو حرب عدوانية‪ ،‬كما جرى �إطالقه‬ ‫يف �صيغة توحي ب�أن «ال�ضربة» هي «عقوبة ع�سكرية» �صادرة عن الواليات املتحدة التي ن�صبت‬ ‫نف�سها ك�سلطة �أمر واقع على امل�ستوى الدويل‪ ،‬يحق لها ما ال يحق لغريها‪ ،‬تكافىء من تراه‬ ‫ي�ستحق املكاف�أة وتعاقب من تراه ي�ستحق العقاب‪ ،‬خمت�صرة بنف�سها �سلطة الو�صاية على ح�سن‬ ‫�سري الأمور يف العامل‪.‬‬ ‫ولقد جنح الإعالم احلربي التابع حلكومة الواليات املتحدة‪ ،‬والذي يطغى على الإعالم داخل‬ ‫الواليات‪ ،‬وعلى امل�ساحة الأطل�سية ويف دنيا «الأعراب» ومن هم على �شاكلة الأعراب‪ ،‬جنح‬ ‫يف فر�ض امل�صطلح وجعله يتجول على كل �شفة ول�سان ويخرتق العقل الباطني للب�شر‪ ،‬بدءاً‬ ‫من امل�ستهدفني من «ال�ضربة»‪ ،‬وهنا بالذات يبلغ الإعالم احلربي لوا�شنطن ذروة جناحه �إذ �أن‬ ‫�ضحاياه �صاروا يتداولون م�صطلحه‪ ،‬وبتداولهم هذا يخففون‪ ،‬من حيث ال يعلمون‪ ،‬من خطورة‬ ‫الأمر علماً �أنهم‪ ،‬كمجتمعات ب�شرية‪ ،‬كمدنيني‪ ،‬يتم �إخ�ضاعهم حلاالت من الرعب امل�ستدام‪،‬‬ ‫لأنه رعب متوا�صل يومياً‪ ،‬ي�ستهدف �أع�صابهم وعقولهم وهو �أعلى درجات االرهاب و�أكرثها‬ ‫فتكاً و�إجراماً‪.‬‬ ‫ا�ستخدام امل�صطلح هذا‪ ،‬من جانب ال�ضحايا‪ ،‬فيه �أي�ضاً «دونية» ت�ضفي على �أ�صحاب احلرب‬ ‫العدوانية �شيئاً من ال�شرعية التي يفتقدون �إليها بالكامل‪ ،‬ف�إذا بهم يح�صلون عليها من‬ ‫�ضحاياهم‪ ....‬يا للمفارقة‪.‬‬ ‫ولعل �أبرز الآثار التخفيفية ال�ستخدام م�صطلح «ال�ضربة» من قبل ال�ضحايا كونها ت�ضع املعتدي يف‬ ‫من�أى عن �أية م�س�ؤولية حتتمها عليه اجلرائم التي يرتكبها‪ ،‬عرب الرعب املتوا�صل‪ ،‬و�سوف يرتكبها‪،‬‬ ‫وهي جرائم «حرب عدوانية»‪ ،‬واحلرب العدوانية‪ ،‬كما ذكرنا يف الف�صل الأول‪ّ ،‬ت�صنف يف الفقرة‬ ‫احلكمية من حماكمات نورمربغ باعتبارها «اجلرمية الدولية الأرفع» ‪Le Crime international‬‬ ‫‪.Supreme‬‬ ‫متخ�ص�ص بغية حماكمتهم‬ ‫واجلرمية الدولية الأرفع «حتتم �سوق �أ�صحابها �أمام ق�ضاء دو ّيل‬ ‫ّ‬ ‫كمجرمي حرب‪ ،‬وهي معركة ال ّبد من خو�ضها‪ ،‬كحق مكت�سب �أو ًال‪ ،‬ومن منطلق احرتام‬ ‫القانون الدويل وحقوق االن�سان و�أولها حق االن�سان يف احلياة‪.‬‬

‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬


‫‪6‬‬ ‫كلمة التحرير‬

‫�إن عدم اعتماد هذه الطريقة يف مواجهة قوى الإجرام العاملي والهيمنة الكريهة ي�شجع هذه‬ ‫القوى على امل�ضي يف نهجها التدمريي االرهابي‪ ،‬ويحرم ال�ضحايا من حماية م�صاحلهم‪.‬‬ ‫وباال�ضافة �إىل ذلك‪ ،‬يالحظ �أن ا�ستخدام ال�ضحايا مل�صطلح «ال�ضربة» بد ًال عن احلرب العدوانية‬ ‫�أن�ساها ما حتمله هذه احلرب من �أهوال خ�صو�صاً �أن املعتدي مل يخف وللحظة واحدة �أن هذه‬ ‫احلرب �ست�شن بوا�سطة ما يعتربه هو �أ�سلحة دمار �شامل‪� ،‬أي بوا�سطة �صواريخ عابرة للقارات‬ ‫من ف�صيلة «توما هوك» ناهيك عن كون هذه حتمل ر�ؤو�ساً مزودة مبادة اليورانيوم املن�ضب الذي‬ ‫�أخترب على نطاق وا�سع يف العراق ويف ليبيا‪ ،‬ح�سب ما ي�ؤكده كبار اخلرباء الدوليني مثل هان�س‬ ‫كري�ستوفر فون �سبونك ودني�س هاليداي وغريهما من املرجعيات التي حتملت م�س�ؤوليات‪ ،‬يف‬ ‫�إطار الأمم املتحدة‪ ،‬يف متابعة امللف العراقي حيث ي�ؤكد االثنان �أن الواليات املتحدة ا�ستخدمت‬ ‫يف حرب تدمري العراق �أكرث من ‪ 4500‬طن من اليورانيوم املن�ضب وا�ستخدمت يف حرب‬ ‫وتدمر البيئة‪ ،‬والتي‬ ‫افغان�ستان �أكرث من �ألف طن من هذه املادة النووية التي تن�شر اال�شعاعات ّ‬ ‫ا�ستخدمها العدوان الأمريكي للتخفيف من تكلفة احلرب نظراً لقدراتها التدمريية الهائلة‪.‬‬ ‫لذا ف�إن عدم اعرتاف الدولة العراقية بوقوع حرب عدوانية عليها من جيو�ش الواليات املتحدة‬ ‫يحرمها‪ ،‬يا ل�سخرية القدر من مقا�ضاة االدارة الأمريكية املجرمة كما يحرمها من احل�صول على‬ ‫تعوي�ضات عن الأ�ضرار البيئية الهائلة والت�شوهات احلا�صلة بالب�شر خ�صو�صاً املواليد‪.‬‬ ‫وما ينطبق على م�صطلح «ال�ضربة» ينطبق على م�صطلح «اخلروقات»‪ .‬فهذا امل�صطلح درج على‬ ‫ا�ستخدامه يف ما يخ�ص الطريان احلربي اال�سرائيلي الذي جتاوزت عملياته احلربية العدوانية‬ ‫�ضد االجواء االقليمية اللبنانية الع�شرة الآف عمل حربي عدواين فمن �سخرية القدر �أن‬ ‫الدولة اللبنانية هي التي ت�ستخدم م�صطلح «اخلروقات»‪ ،‬الأمر الذي ّي�سر اال�سرائيليني �إىل‬ ‫�أق�صى احلدود‪ .‬وعلى هذا ال�صعيد يالحظ تقاع�س الدولة اللبنانية عن املطالبة بحقوق ال�شعب‬ ‫اللبناين وعن مقا�ضاة جمرمي احلرب اال�سرائيليني‪.‬‬ ‫يتبع‪..‬‬ ‫التحرير‬


‫‪7‬‬

‫راهنية فكر �سعاده‬

‫الدين والدولة يف مر�آة النه�ضة‬ ‫| د‪ .‬نذير العظمة | �شاعر و�أكادميي‬

‫�أجزاء من حما�ضرة �ألقاها الدكتور نذير العظمة بدعوة من م�ؤ�س�سة �سعاده للثقافة يف دار الندوة‪.‬‬ ‫�أنطون �سعاده ورواد الإ�صالح الديني‬

‫«الإ�سالم يف ر�سالتيه» ل�سعاده درا�سة معمقة ومنهجية معرفية لن�شوء الإ�سالم املحمدي يف‬ ‫مرحلتي مكة واملدينة من خالل الن�ص القر�آين درا�سة قائمة على التحليل املعريف واال�ستنتاج‬ ‫العلمي املوثق بالن�صو�ص‪ .‬وم�ؤ�س�سة على تاريخ الأديان املوحدة اليهودية وامل�سيحية والإ�سالم‪.‬‬ ‫ت�ؤكد الدرا�سة على مفهوم الإ�سالم الإبراهيمي كما ورد يف القر�آن‪ .‬فالإ�سالم عنده لي�س املحمدي‬ ‫فح�سب بل �أنه يت�ضمن الإ�سالم امل�سيحي والإ�سالم العرباين‪ .‬جوهره التوحيد وعبادة اهلل وجتنب‬ ‫ال�شر وفعل اخلري وخلود الروح يف النعيم ال�سماوي وحتقيق الثواب والعقاب‬ ‫مفهوم اهلل يف الإ�سالم بر�سالتيه مل يتغري والأديان املوحدة تدعو كلها �إليه‪.‬‬ ‫الإ�سالم جاء لهداية العرب �إىل التوحيد و�صرفهم عن عبادة الأوثان‪ .‬وتوقع حليفا يف امل�سيحية‬ ‫واليهودية تاريخاً ون�صو�صاً و�سرية‪.‬‬ ‫وظل املعتقد يف املدينة كما كان يف مكة رغم �أنه ّركز على ت�أ�سي�س الدولة الدينية‪ .‬الدولة وا�سطة‬ ‫لإقامة الدين‪ .‬لكن حقائق الإميان ظلت واحدة دين �ضد الأوثان‪ .‬ولي�س �ضد الأديان‪ .‬حتقق له‬ ‫الن�صر (�إذا جاء ن�صر اهلل)‪.‬‬ ‫ومع متيز يف النظر �إىل النا�سخ واملن�سوخ‪ ،‬فالقر�آن وحدة‪.‬‬ ‫الدولة لإقامة الدين‪ .‬ولي�س الدين لإقامة الدولة‪ .‬لكن الدولة الثيوقراطية يف الأزمنة احلديثة‬ ‫جتاوزتها التطورات الإن�سانية �إىل ف�صل ال�سيا�سة عن الدين والدين عن ال�سيا�سة بالن�سبة ل�سعادة‪.‬‬ ‫التب�ست الهوية القومية بالدين عند جماعة العروة الوثقى فاجلن�سية عندهم دينية ومتيز عبد‬ ‫الرحمن الكواكبي فالدولة عنده تتدبر الدنيا‪ .‬والدين يتدبر الآخرة‪.‬‬ ‫تطورات الر�ؤية ومتيزها عند ال�شيخ حممد عبده عن ر�ؤيا الوحدة الإ�سالمية ال�سيا�سية عند الأفغاين‪.‬‬ ‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬


‫‪8‬‬

‫لكن �سعادة ينظر �إىل جماعة العروة الوثقى حزمة واحدة‪ .‬والف�صل بني ال�شيخني �أوجب‪.‬‬ ‫التب�ست اجلن�سية (الهوية) بالدين عند الأفغاين‪.‬‬ ‫بينما ال�شيخ عبده التم�س طريق النه�ضة املعرفية عن طريق �إيقاظ العقل وركز الأفغاين على‬ ‫االقرتاب ال�سيا�سي حلل �أزمة التحديات الغربية للإ�سالم حمل االقرتاب املعريف‪.‬‬ ‫وبرزت! �إرها�صات ف�صل ال�سيا�سي عن الديني‪ .‬والديني عن ال�سيا�سي عند الكواكبي يف �أم‬ ‫القرى وطبائع اال�ستبداد‪.‬‬ ‫فالدولة تتدبر الدنيا‪ .‬والدين يتدبر الآخرة‪ .‬وليحيى الوطن حراً‪ .‬وجتلت يف فكره مكا�شفة فكرية‬ ‫و�صراحة علمية وا�صطالح حتري�ضي على يقظة الفكر واملعرفة العلمية يف معاجلة امل�س�ألة القومية‪.‬‬ ‫ت�أثري البيئة على ن�شوء الأديان واحل�ضارة والتيارات الفكرية واملعرفية �أ�سا�سي يف فكر �سعادة‪.‬‬ ‫فالوراثة احل�ضارية مل تعط �أي م�ساحة يف بحوثنا العلمية عن الأديان‪ .‬امل�سيحية ح�ضارياً نتاج‬ ‫�آرامي‪ .‬وكذلك الإ�سالم وقري�ش هي من العرب امل�ستعربة ال العاربة وهي �أ�ص ًال من الأنباط‪.‬‬ ‫ورغم تقارب الإ�سالم مع اليهودية بالت�شريع ف�إن امل�سيحية والإ�سالم من ينابيع روحية واحدة‬ ‫بخالف اليهودية التي تكمن مرجعيتها يف العن�صر والإرث وتلفيق الأن�ساب‪� .‬إن النظر �إىل امل�سيح‬ ‫ومرمي يف القر�آن يناق�ض ما ذهب �إليه اليهود‪.‬‬ ‫ �إن مكانة امل�سيح يف الإ�سالم ومفهوم اهلل الرحمن الرحيم وحممد النور واحلب واحلقيقة يف‬‫الت�صوف الذي ي�ؤكد على وحدة الأديان والتوحيد العاملي ال العن�صري �أحل الإرث الروحي‬ ‫حمل الإرث املادي‪ .‬ف�إذا كان يهوه وامليثاق واملعاد لإ�سرائيل وحدها‪ .‬فاهلل (يف ر�ؤيا النا�صري‬ ‫والنبي العربي) للعامل كله والكون وكل الب�شر‪.‬‬ ‫�إن العود بعد �آالف ال�سنني �إىل القتل وال�صلب والث�أر واملحرقة الفل�سطينية يناق�ض مفهوم اهلل‬ ‫الرحمن الرحيم واملحبة الكونية عند امل�سيح‪.‬‬ ‫ويقرر �سعادة باحلقائق التاريخية والآيات القر�آنية ت�سل�سل الإ�سالم الإبراهيمي من مو�سى �إىل‬ ‫امل�سيح �إىل حممد‪.‬‬ ‫�إال �أنه مع انت�شار امل�أ�ساة يف فل�سطني ي�ؤكد على التايل‪ :‬لي�س من �سوري �إال وهو م�سلم لرب العاملني‬ ‫فاتقوا اهلل واتركوا ت�آويل احلزبيات الدينية العمياء‪ :‬فقد جمعنا الإ�سالم منا من �أ�سلم هلل بالإجنيل‬ ‫ومنا من �أ�سلم هلل بالقر�آن ومنا من �أ�سلم هلل باحلكمة فلي�س لنا من عدو يقاتلنا يف ديننا وحقنا ووطننا‬ ‫غري اليهود فلنكن �أمة واحدة يف ق�ضيتنا الواحدة ونظامنا الواحد»‬ ‫وهكذا ف�إن كتاب الإ�سالم يف ر�سالتيه ي�صحح عالقة الأديان بع�ضها مع بع�ض وينطلق من �إرث‬ ‫�إبراهيم املوحد فالدين لي�س قومية �أو جن�سية �إنه �إميان وعقيدة هلل فيها القول الف�صل �أما اقتتالنا‬


‫الدين والدولة يف مر�آة النه�ضة‬

‫راهنية فكر �سعاده‬

‫‪9‬‬

‫على ال�سماء فيفقدنا الأر�ض‪.‬‬ ‫وهكذا ف�إن الإ�سالم يف ر�سالتيه �ألقى �أ�ضواء كا�شفة على عالقة القومية بالدين من جهة وعالقتها‬ ‫بالعلمانية وعالقة الأديان فيما بينها يف الإطار القومي‪.‬‬ ‫عي�سى بن مرمي‬ ‫بالن�سبة للإ�سالم النفخة يف الطني هي النفخة يف الرحم‪ .‬الأوىل خلقت �آدم والثانية خلقت من‬ ‫نطق يف املهد �صبياً‪� .‬أما معجزة اخللق فهي نف�سها معجزة النطق واملعجزات التي �أعطيت للم�سيح‬ ‫ب�إذن من اهلل‪ .‬اعرتف بها القر�آن جميعاً‪.‬‬ ‫احلبل بال دن�س �إذن من معتقدات القر�آن‪ .‬و�سورة مرمي التي جت�سد ذلك تعود �إىل تاريخ مبكر يف‬ ‫الإ�سالم �إىل املرحلة املكية‪� .‬إنه �إميان خال�ص [جاء ذكر مرمي يف ثالث وثالثني �آية و�سورة مكية‬ ‫ومدنية كما جاء ذكر امل�سيح يف �أحد ع�شر �آية]‬ ‫ال القتل وال ال�صلب ميكن �أن يطال امل�سيح «كلمة اهلل» ومن روحه ــ من يقتل اجلزء له قدرة على‬ ‫قتل الكل‪ .‬وهذا غري مقبول منطقاً و�شرعاً بالن�سبة للم�سلم‪.‬‬ ‫ورفع اهلل امل�سيح وكرمه‪ .‬و�سيعود ممهداً لظهور املهدي الذي ينظف الأر�ض من الظلم وال�شرك‪.‬‬ ‫�أما كونه مات ورفع‪� .‬أو رفع و�سيموت فيما بعد‪ .‬ق�ضايا يقت�ضيها الهيكل الب�شري‪ .‬ميوت اجل�سد‬ ‫وتبقى الروح التي تعود �إىل بارئها‪.‬‬ ‫هناك فرق م�سيحية تخالف امل�سيحية الأرثوذك�سية واخلالف على طبيعة امل�سيح الواحدة‬ ‫والطبيعتني الذي كان وراء فرق اليعاقبة والناطرة ال يزيد املو�ضوع اخلاليف على ال�صلب �إي�ضاحاً‬ ‫بني الإ�سالم املحمدي وامل�سيحي‪.‬‬ ‫الفداء وال�صلب جوهر امل�سيحية‪ .‬ال�صلب حدث تاريخياً لكن تف�سري ذلك يف الت�صور املحمدي‬ ‫تركز على الرفع ال القتل وال�صلب‬ ‫الن�ساء‬ ‫وبكفرهم وقولهم على مرمي بهتاناً عظيماً ‪156‬‬ ‫وقولهم �إنا قتلنا امل�سيح عي�سى ابن مرمي ر�سول اهلل‬ ‫وما قتلوه وما �صلبوه ولكن �شبه لهم‬

‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬


‫‪10‬‬

‫و�إن الذين اختلفوا فيه لفي �شك منه وما لهم به من علم �إال اتباع الظن‪ ،‬وما قتلوه يقيناً‪.‬‬ ‫بل رفعه اهلل �إليه وكان اهلل عزيزاً حكيماً ‪158‬‬

‫‪157‬‬

‫�إ�ضاءة‬

‫الهجرة �إىل احلب�شة‬ ‫ملاذا كانت الهجرة الأوىل �إىل احلب�شة والثانية �إىل يرثب املدينة فالهجرة �إىل احلب�شة كانت �إىل مملكة‬ ‫م�سيحية‪ .‬والثانية �إىل مدينة الأو�س واخلزرج الذين ن�صروا الإ�سالم وبايعوا الر�سول حتت ال�شجرة‬ ‫فالأن�صارهم الذين ح�ضوا الر�سول على الهجرة ال القبائل اليهودية يهود خيرب وبنو قينقاع وبنو‬ ‫الن�ضري وغريهم‪.‬‬ ‫فالإ�سالم هذا الدين اجلديد يف �أر�ض اجلزيرة وامل�سيحية التي انت�شرت قبله يف العامل من م�شكاة‬ ‫واحدة يف عبارة النجا�شي بعد ا�ستماعه �إىل �سورة قر�آنية (كهيع�ص)‬ ‫حاول وفد قري�ش الوثنية الوقيعة بني املهاجرين والنجا�شي بلغوا (‪� )83‬شخ�صاً فيهم الرجال‬ ‫والن�ساء ما عدا الأوالد الذين ولدوا يف الهجرة‪ .‬لريد املهاجرين �إىل قري�ش الوثنية لكن النجا�شي‬ ‫اقتنع ب�أن الإ�سالم يقول يف امل�سيح عي�سى بن مرمي �شيئاً عظيماً وحني ا�ستدعى النجا�شي جعفر بن‬ ‫�أبي طالب و�س�أله ماذا تقولون يف عي�سى بن مرمي �أجابه ما يقوله نبينا‪ :‬هو عبد اهلل ور�سوله وروحه‬ ‫وكلمته �ألقاها �إىل مرمي العذراء البتول فرد النجا�شي وفد قري�ش خا�سئاً خا�سراً وحمى املهاجرين‬ ‫ودينهم الذي �شع هو وامل�سيحية من م�شكاة واحدة‪ .‬لذلك نفهم كيف ي�صلي الر�سول العربي على‬ ‫النجا�شي ويرتحم عليه عندما بلغ وفاته‪.‬‬

‫�إ�ضاءة‬

‫�صحيفة املدينة‬ ‫«كتاب الر�سول بني املهاجرين والأن�صار وموادعة يهود»‬ ‫وكتب ر�سول اهلل (�ص) كتاباً بني املهاجرين والأن�صار‪ ،‬وادع فيه اليهود وعاهدهم‪ ،‬و�أقرهم على‬ ‫دينهم و�أموالهم و�شرط لهم‪ ،‬وا�شرتط عليهم‪:‬‬ ‫ب�سم اهلل الرحمن الرحيم هذا كتاب من حممد النبي (�ص) بني امل�ؤمنني وامل�سلمني من قري�ش‬ ‫ويرثب‪ ،‬ومن تبعهم‪ ،‬فلحق بهم‪ ،‬وجاهد معهم‪� ،‬أنهم �أمة واحدة من دون النا�س و�إن اليهود يتفقون‬


‫الدين والدولة يف مر�آة النه�ضة‬

‫راهنية فكر �سعاده‬

‫‪11‬‬

‫مع امل�ؤمنني ما داموا حماربني‪ ،‬و�إن يهود بني عوف �أمة مع امل�ؤمنني‪ ،‬لليهود دينهم وللم�سلمني‬ ‫دينهم‪ ،‬مواليهم و�أنف�سهم‪� ،‬إال من ظلم و�أثم‪ ،‬ف�إنه ال يوقع �إال نف�سه و�أهل بيته‪.‬‬ ‫ومثل يهود بني عوف‪ :‬يهود بني النجار‪ ،‬ويهود بني احلارث ويهود بني �ساعدة ويهود بني ج�شم‬ ‫ويهود بني الأو�س ويهود بني ثعلبة‪.‬‬ ‫و�إن على اليهود نفقتهم وعلى امل�سلمني نفقتهم و�إن بينهم الن�صر على من حارب �أهل هذه‬ ‫ال�صحيفة فلليهود النفقة يف احلروب كما لهم املغنم �إذا قاتلوا مع امل�سلمني‪.‬‬ ‫ال�سرية النبوية البن ه�شام جــ (‪ - 1‬ج) دار الكنوز الأدبية (ال تاريخ) �صفحة ‪505 - 501‬‬ ‫و�إنه من تبعنا من يهود ف�إن له الن�صر والأ�سوة غري مظلومني وال متنا�صرين عليهم‪ .‬و�إن �سلم‬ ‫امل�ؤمنني واحدة‪ ،‬ال ي�سامل م�ؤمن دون م�ؤمن يف قتال يف �سبيل اهلل‪� ،‬إال على �سواء وعدل بينهم‪.‬‬ ‫علينا هنا �أن نتفح�ص مفهوم امل�ؤمن ومفهوم امل�سلم‪ ،‬ومفهوم امل�شرك �أنه من �آمن باهلل واليوم الآخر‪.‬‬ ‫و�إنه ال يحل مل�ؤمن �أقر مبا يف هذه ال�صحيفة و�آمن باهلل واليوم الآخر‪� .‬أن ين�صر حمدثا وال ي�ؤويه‪ .‬و�أنه‬ ‫من ن�صره �أو من �أواه‪ ،‬ف�إن عليه لعنة اهلل وغ�ضبه يوم القيامة (�ص ‪)503‬‬ ‫ا�ستخال�ص‬ ‫ العقل هو هبة اهلل للإن�سان‪ ،‬والعلم هو هبة العقل‬ ‫ والوحي هو هبة اهلل للأنبياء واخللق‬ ‫ واهلل ال يعطل هباته �إال �إذا كفر الإن�سان بهبات اهلل و�أجملها الإميان‪.‬‬ ‫ والعقل والعلم يعززان ما يعلمنا �إياه الإميان من وحدة الر�سالة ووحدة الكون ووحدة الوحي‬ ‫التي جتلت يف الأديان التوحيدية ال �سيما امل�سيحية والإ�سالم‪« .‬كلنا م�سلم لرب العاملني‪»...‬‬ ‫والقر�آن الكرمي الذي يعرب عن كمال هذه الر�سالة‪� ،‬إمنا يتوجه �إىل الإن�سان يف ع�شرات الآيات‬ ‫امل�ضيئة �إىل التفكر والتدبر والعقل لريى الإن�سان �ضوء اهلل الذي يتج�سد يف الوحي والعقل‬ ‫على حد �سواء‪.‬‬ ‫�إمنا جاء الوحي لي�ؤكد على �أهمية الإن�سان واحلرية والعقل يف م�سرية الإن�سان التاريخية �إىل اهلل‬ ‫مطلق احلق واخلري واجلمال والعزوف عن طريق ال�شيطان وال�شر‪.‬‬ ‫وقد �سجلت ح�ضاراتنا منذ فجر التاريخ على �أر�ض �سورية والعروبة �إجنازات رائعة للإميان كما‬ ‫للعقل والعلم فبالدنا هي مهد الأديان التوحيدية جمعاء و�إجنازاتها احل�ضارية يف املعرفة والعلم‬ ‫وثمار العقل هي �أ�سا�س ما تو�صلت �إليه الب�شرية من رقي وتقدم‪.‬‬ ‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬


‫‪12‬‬

‫والب�شرية كما �أ�ضاء الكتاب الكرمي هي بحاجة للإميان والوحي كما هي بحاجة للعقل كالهما‬ ‫يتمم الآخر ويكمله لذلك فالإن�سانية يف تقدمها اكت�شفت يف �أعلى �أوجها و�صعودها �إىل الكواكب‬ ‫�أن الإن�سان ال ي�صل �إليها �إال ب�سلطان العلم والعقل واملكت�شفات العلمية قادت جل العلماء‬ ‫�إىل الإميان كما قادت امل�ؤمنني بدء من �آيات اهلل الب ّينات �إىل �إدراك �أهمية املعرفة والعلم والعقل‬ ‫يف الكتاب الكرمي وانتهاء ب�صفحات الكون واكت�شافات العلم‪ .‬وما �أبعدنا نحن و�أبعد تاريخنا‬ ‫ومنجزات فكرنا وح�ضارتنا عن مقوالت الإحلاد املادي‪ .‬من �أراد �أن يعبد املادة فليعبدها فنحن ال‬ ‫نعبد غري اهلل‪ .‬ومن �أراد �أن ي�صنم العلم ويجعله هبل احلياة احلديثة كما يف الثورة الفرن�سية التي‬ ‫�أ�س�ست عبادة العلم فنحن ال نخلط عبادتنا وال نلب�سها مبثل هذه ال�ضالالت‪.‬‬ ‫قادة الثورة الفرن�سية �أرادوا �أن يتخل�صوا من �سطوة الكني�سة ف�أ�س�سوا عبادة العلم لكنهم ما عتموا‬ ‫�أن اكت�شفوا خط�أهم عندما انح�سرت هذه ال�سلطة وعادوا �إىل الإميان و�أعطوا ما هلل هلل وما لقي�صر‬ ‫لقي�صر‪.‬‬ ‫�أمل ينحن نابليون �أمام القي�صر ليتوجه �إمرباطوراً ويبارك زواجه؟! واملارك�سية يف م�ؤ�س�ساتها‬ ‫ال�شيوعية �أي�ضاً عادت لل�سلطة الدينية و�أعطت م�ساحة وا�ضحة حلرية املعتقد و�إن ظل اجلدل قائماً‬ ‫على امل�ستوى الفل�سفي‪.‬‬ ‫�أما نحن‪ ...‬فالعقل عندنا ال يناق�ض الإميان والإميان ال يناق�ض العقل والعلم‪.‬‬ ‫وقد تبني املفكرون من خالل التجارب التاريخية ف�شل العلمانية الإحلادية كما تبينوا اال�ستفادة‬ ‫من هبات اهلل يف العقل والعلم والوحي‪.‬‬ ‫لذلك �أقول �إن العلمانية عندنا هي علم ‪� +‬إميان ومن يذهب �إىل غري ذلك �إمنا ي�ضل �سواء ال�سبيل‪.‬‬ ‫واهلل الذي �أفادنا بالإميان والوحي يتمم علينا النعمة باحلرية‪� .‬إن �أهمية الإن�سان والعقل يف بناء كون‬ ‫�أف�ضل يجعل م�سرية الب�شرية �سبي ًال �إىل اخلري والر�شاد واحلق ال �إىل الظالم والنار �إن العلمانية هي‬ ‫هذه علمانية م�ؤمنة و�إميان يقدر قيم احل�ضارة والعلم‪.‬‬ ‫�إ�ضاءة‬

‫ اهلل واحد والوحي واحد والعامل واحد‪.‬‬ ‫ ال حقيقة بال �شريعة وال �شريعة بال حقيقة‪.‬‬ ‫ الأديان للإن�سان ولي�س الإن�سان للأديان‪.‬‬ ‫ �أن حياة الإن�سان وم�صاحله العليا‪ ،‬جاءت الأديان لتحقق العدالة وال�سعادة للب�شر‪.‬‬


‫الدين والدولة يف مر�آة النه�ضة‬

‫راهنية فكر �سعاده‬

‫‪13‬‬

‫هناك قوا�سم م�شرتكة بنيوية بني امل�سيحية والإ�سالم‬ ‫ املفهوم القر�آين للإ�سالم وحقائق اجلغرافيا والتاريخ واملواريث احل�ضارية‪.‬‬ ‫ الإ�سالم يف ر�سالتيه املحمدية وامل�سيحية ل�سعادة يتفق مع املفهوم القر�آين للإ�سالم‪.‬‬ ‫ الدولة من �صنع الإن�سان �أما الدين فمن وحي اهلل‪.‬‬ ‫ العدالة واحلق هي مقا�صد الرحمة والغفران الإلهيني‪.‬‬ ‫ الإ�سالم وامل�سيحية ينبثقان من نبع واحد وهذا مفهوم قر�آين‪.‬‬ ‫كانت القد�س قبلة اال�سالم الأوىل وظل امل�سلمون يديرون وجوههم اليها يف �صالتهم لثمانية‬ ‫ع�شر �شهراً وحني قويت �شوكة اال�سالم انتقلت القبلة �إىل مكة فالقوا�سم امل�شرتكة بني امل�سيحية‬ ‫واال�سالم عقائدياً عديدة بينما انح�صرت مع اليهودية يف بع�ض جوانب الت�شريع‪.‬‬ ‫ويعلمنا الأزرقي يف تاريخه‪:‬‬ ‫عندما متت ال�سيطرة على مكة للر�سول العربي �أر�سل علي بن ابي طالب �إىل الكعبة و�أمره �أن ميحو‬ ‫كل ال�صور املوجودة على جدرانها �إال �صورة ابراهيم اخلليل و�صورة مرمي وهي حتمل امل�سيح الطفل‬ ‫يف ح�ضنها ‪.‬‬ ‫فابراهيم �أبو التوحيد الذي جاء الر�سول العربي لت�أ�سي�سه من جديد يف اجلزيرة العربية والعامل‬ ‫ومرمي �سيدة احلبل بال دن�س �أم امل�سيح كلمة اهلل كما جاء يف الكتاب الكرمي‪.‬‬

‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬


‫دار كتب للن�شر �ش‪.‬م‪.‬ل‬

‫بناية الربج‪ ،‬الطابق الرابع‪� ،‬ساحة ال�شهداء الو�سط التجاري‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‬ ‫�صندوق بريد‪ ،11-4353 :‬بريوت ‪ -‬لبنان‪.‬‬ ‫هاتف‪)961-1( 983008 /9 :‬‬ ‫فاك�س‪)961-1( 980630 :‬‬ ‫الربيد الإلكرتوين‪kutub@kutubltd.com :‬‬ ‫املوقع الإلكرتوين‪www.kutubltd.com :‬‬


‫‪15‬‬

‫راهنية فكر �سعاده‬

‫�أنطون �سعاده‪ :‬رجل احلق واحلقيقة‬ ‫| د‪�.‬سليم جماع�ص | باحث وطبيب‬ ‫�ألقيت �أجزاء من هذه املحا�ضرة يف اللقاء ال�سنوي اخلام�س مع �سعاده‪ ،‬يف �ضهور ال�شوير‪.‬‬ ‫م�سا ُء اخلري‪ ،‬يا �أهل اخلري!‬ ‫م�سا ُء اخلري‪ ،‬يا �أهل �سعاده!‬ ‫م�سا ُء اخلري يا �أهلي!‬ ‫ألقاب ال�ساد ِة وال�سيدات‪ ،‬واملعايل والت�شريفات‪ ،‬فمن يدخُ ُل على‬ ‫ال يغيظكم �إن مل �أتوجه �إليكم ب� ِ‬ ‫ِ‬ ‫نت!‬ ‫يحتاج �إىل‬ ‫الكفوف البي�ضاء‪� ... ،‬أو هكذا ظ َن ُ‬ ‫�أهله ال ُ‬ ‫جبل �سعاده‪ ،‬ف�صريورتنا امل�ساواة‪ ،‬و�إن انتفت امل�ساوا ُة من‬ ‫نحن هنا‪ ،‬يف هذا املكانِ املبارك‪ ،‬على ِ‬ ‫الوطن امله�شم‪ .‬كلنا �سوريون يف عينه ويف قلبه‪ ،‬فهل نفرق بني ما جمعت ُه حمب ُته؟‬ ‫�أماكن كثرية من ِ‬ ‫كلنا هنا �سوريون! ال �سادة وال عبيد!‬ ‫و�إىل �أهلنا يف بكفيا القريبة‪ُ ،‬‬ ‫اجلبل‬ ‫منبت ِ‬ ‫نقول بكل حمبة‪� ،‬أنتم �أي�ضا �سوريون! �أل�سنا و�إياكم َ‬ ‫ال�ضباب ال�صاعد �إليها من‬ ‫الواحد؟ �ألي�ست ميا ُه ينابيعكم من الثلج على �ضهور مرحاتا؟ و�ألي�س‬ ‫ُ‬ ‫تنهدات �أوالدكم و�صلوات �أمهاتكم؟‬ ‫و�إىل �أهلنا يف ك�سروان املُطِ ل‪ ،‬نقول بكل حمبة‪ ،‬و�أنتم �أي�ضا ف�أنوار �سمركم �أبعدت كرب الليل‬ ‫وذكرتنا �أن من عندكم جاء ف�ؤاد ال�شمايل وحبيب كريوز‪.‬‬ ‫و�إىل �أهلنا يف حيفا ويافا‪ ،‬نقول بكل حمبة‪ ،‬و�أنتم �أي�ضا فقد �سمعنا من حناجركم ندا َء �إ�سكندرونا!‬ ‫�شرفتموين بح�ضوركم‪ ،‬و�شرفتني امل�ؤ�س�سة بدعوتها‪ ،‬و�أكرمني رفيقنا املقدم بلطفه ولغته ال�شريفة‪،‬‬ ‫هم ُه �إىل‬ ‫وال�شرف الأكرب �أن �أحدثكم عن الرجل الذي ا�ستحوذ على �سني �شبابي وي�سري معي ُ‬ ‫درجات الكهولة‪.‬‬ ‫تن�ساب �إىل الل�سانِ بعد ثالثني �سنة يف‬ ‫مل يحذركم رفيقُنا املقدم‪ ،‬لكيا�سته‪ ،‬من لكن ٍة �أعجمي ٍة قد ُ‬ ‫املهجر!‬ ‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬


‫‪16‬‬

‫�سوري �سليم و�إن ع�صته‬ ‫فالقلب‪� ،‬أ� ُ‬ ‫ؤكد لكم‪ٌ ،‬‬ ‫ف�إن َف َع َلت‪ ،‬فال تعريوها �ش�أنا �أك َرث من ابت�سام ٍة عابرة‪ُ ،‬‬ ‫�أحياناً‬ ‫العبارات ال�صحاح‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫رجل احلق‪� ،‬صديق �صنني وجبل ال�شيخ‪ ،‬وجبل الكرمل وجبل �إنطاكية!‬ ‫حديثي الليلة �إليكم عن ِ‬ ‫حديثي الليلة عن �أمثوالت درا�سة حياته ودرا�سة فكره‪.‬‬ ‫باحرتام‪ ،‬فال نلو ُنها �أو‬ ‫نلهج بحقيقته‪ ،‬ب�صدقٍ ‪ ،‬مب�س�ؤولي ٍة‪،‬‬ ‫� ُأقل واجباتنا نحو رجل احلق القومي �أن َ‬ ‫ٍ‬ ‫نتالعب بها‪.‬‬ ‫نلويها‪ ،‬وال نعل ُبها �أو‬ ‫ُ‬ ‫إحرتام‪ ،‬بجدي ٍة وتقدير‪.‬‬ ‫ب�صدقٍ ‪ ،‬مب�س�ؤولي ٍة‪ ،‬ب� ٍ‬ ‫أرحام الن�سا ِء يف �سورية �أن‬ ‫اللئيم �أن على � ِ‬ ‫يكتب حمر ُر جريدة الإخاء الأرجنتينية غداة ال ِ‬ ‫إعدام ِ‬ ‫ترتاح لألف �سنة حتى تلد �شبي َه �أنطون �سعاده!‬ ‫َ‬ ‫لقد �أغرى هذا ُ‬ ‫القول الكثريين من رفقائنا وحمبينا فا�ستعادوه ودونوه و�أعادوا طبعه يف كتبهم‬ ‫ومقاالتهم‪.‬‬ ‫لكني �أُ�صارحكم �إين �سعيد �أن �أرحا َم ن�سا ِء �سورية مل ت�سرتح لأن يف ذلك فناء الأمة‪ ،‬وبني �شبي ٍه‬ ‫ل�سعاده وحياة الأمة نختا ُر حيا َة الأمة!‬ ‫إجناب �سعاده لأن عطا َء الأمة ال�سورية ال يبد�أ ب�سعاده وال‬ ‫و�أرحا ُم ن�سا ِء �سورية مل ت�سرتح قبل � ِ‬ ‫ينتهي بهِ‪ ،‬ومن يدعي غري ذلك مل يفهم كيف اختار �سعاده �أن يحيا لأجل �سورية و�أن ميوت يف‬ ‫�سبيلها‪.‬‬ ‫ذليل‬ ‫رجل ٍ‬ ‫يقول الكاتب‪ :‬يجب على �أرحام ن�ساء �سورية �أن ترتاح لألف �سنة! هذا كال ُم ذل من ٍ‬ ‫ال يعرف حقيق َة رجل احلق‪.‬‬ ‫�أن�سمع ملثل هذا الذليل ويف �أمتنا امر�أ ٌة ابتنت لها قبل عقدين من عودة �سعاده الأوىل‪ ،‬عرزا ًال‬ ‫كوخها الأخ�ضر ومنه كان �شع�شعان فك ٍر و�أدب‪ .‬وقد حولت مي زيادة‬ ‫على هذه التالل �أ�سمته َ‬ ‫عرزا َلها الب�سيط املتوا�ضع الذي بناه لها � ُ‬ ‫�صرح فك ٍر‬ ‫أهل ال�شوير يف �ضهور مرحاتا �سنة ‪� 1911‬إىل ِ‬ ‫وخيالٍ ومعرف ٍة و�إبداع‪.‬‬ ‫َ‬ ‫عرازيل‬ ‫�إن يف هذه الأمة عادة م�ستع�صية‪ ،‬كل عرزال مدر�سة فكر وطود نبوغ! �أ�سرعوا وابتنوا لكم‬ ‫تكلل َ‬ ‫ُ‬ ‫التالل فهي �أجن ُع من جامعات امل�ستعمرين!‬ ‫�أن�سمع ملثل هذا الذليل ويف �أمتنا امر�أة عانت يف حداثتها ويل احلرب العاملية الأوىل مثلما عانى‬ ‫�سعاده‪ ،‬وحملتها الأقدا ُر مثلما حملته �إىل مهج ٍر م�ؤ ٍمل عانت فيه الإنقطاع عن الوجدانِ القومي‬ ‫ونربا�س ذكراه بعد رحيله‬ ‫الأكرب‪ ،‬وكانت رغم ذلك �ضيا َءه يف ظلم ِة منفاه‪َ ،‬‬ ‫و�سنده يف جها ِد عودته‪َ ،‬‬ ‫املوجع‪ ،‬و�أمين ًة �أوىل على ق�ضيته‪.‬‬


‫�أنطون �سعاده‪ :‬رجل احلق واحلقيقة‬

‫راهنية فكر �سعاده‬

‫‪17‬‬

‫أحتتاج الأرحا ُم �أن ترتاح وقد �أجنبت مباركة مثل جولييت املري؟!‬ ‫� ُ‬ ‫تناولت هذا القول لأمثل لكم حالة الوهم باحلقيقة وتراكب العفن الفكري الرباق‪ ،‬ولأمثل لكم‬ ‫�ضرورة اجلدية وامل�س�ؤولية يف الكالم عن رجل احلق‪.‬‬ ‫يف رحلتي مع الرجل العظيم مررت بوديان وقمم‪ .‬فلنبد�أ من الوديان لأنه جميل �أن ننتهي عند‬ ‫القمم!‬ ‫يف هذه ال�سنني الطوال‪ ،‬در�ست كل ما توفر يل من الكتابات عنه يف الكتب والدوريات‪ .‬وكلما‬ ‫قر�أت ما قاله الآخرون وما قلته �أنا يف �شبابي‪ ،‬كلما �شعرت �أنني �أفقده و�أفقد حقيقته‪ .‬لك�أن كل‬ ‫مقال عنه حجاب يلقى على حقيقته و�ساتر يرتفع دون نوره‪ .‬قولناه ما يف �أنف�سنا من ليربالية �إىل‬ ‫مارك�سية‪ ،‬ومن واقع لبناين �إىل ما ي�ستحيل عليه قوله عن �أرومة �أرامية عروبية دهرية وغري ذلك‬ ‫من الر�صف الكالمي املختال!‬ ‫كتاباتنا عنه منها الغث ومنها ال�سمني‪ ،‬منها املتحرك ومنها البدين‪ ،‬الب�سيط والغليظ‪ ،‬وال�سخيف‬ ‫واملخيف‪.‬‬ ‫فلو �أخذنا هذه الكتابات‪ ،‬كتاباتنا جميعا‪ ،‬و�أزلنا عنها روا�سب بديهيات الزمان واملكان‪ ،‬و�أخبار‬ ‫الع�شرية والأعمام‪ ،‬واملدر�سة الأوىل وال�صديقة الأوىل والوظيفة الأوىل‪ ،‬و�أزلنا املواعظ واحلكم‬ ‫املنقولة ودرو�س احلياة امل�ستقاة‪ ،‬و�إن �أزلنا ال�صفحات ال�صفحات من الطعن واللعن‪ ،‬ومن املدح‬ ‫والقدح‪ ،‬ومن الرتبيت على الأكتاف وحكايات بطوالتنا ال�شخ�صية وهواج�سنا الفردية‪.‬‬ ‫�إن �أزلنا كل هذه‪ ،‬ماذا يبقى بني �أيدينا؟‬ ‫يبقى �س�ؤال �أليم‪ :‬رافقنا‪� ،‬أو رافق بع�ضنا‪ ،‬هذا الرجل الكبري ل�ساعة‪ ،‬ليوم‪ ،‬لأ�سبوع‪ ،‬ل�شهر‪ ،‬ل�سنة‪،‬‬ ‫لعقد من ال�سنني‪ ،‬وهذا كل ما �إ�ستطعنا �أن نرتك مرياثا جليل التا�سع من متوز؟‬ ‫ولو! �أال نخجل و�أال يخجلون!‬ ‫م�ضينا �إىل النبع الدافق وعدنا بجرار مك�سورة!‬ ‫نعملق الأمر العادي البديهي فعندما ن�صل �إىل العمل الفريد الفذ تكون التكبريات قد ا�ستنفذت‬ ‫�أبعادها و�صغرت وذبلت‪:‬‬ ‫حمل �أخته �إىل الطبيب‪ ،‬يقولون‪� ،‬أي �أخ برعمت يف قلبه طيبة النف�س ال�سورية ال يفعل ذلك ويا‬ ‫عيبه �إن مل يفعل!‬ ‫�أنزل العلم العثماين بعد ان�سحاب جي�ش بني عثمان‪ ،‬يقولون‪ .‬كم من هذه الأعالم نزع يف الثغور‬ ‫واملدائن!‬

‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬


‫‪18‬‬

‫بد�أ يعمل للإرتزاق يف ال�ساد�سة ع�شر من عمره‪ ،‬يقولون‪ .‬و�أين العجب وذلك �ش�أن غالبية �أترابه‬ ‫وبنات خاله‪.‬‬ ‫بد�أ العمل كمراقب يف �شركة خطوط حديدية‪ ،‬يقولون‪« ،‬معر�ضاً نف�سه لتقلبات الطق�س والربد‬ ‫القار�س و�صعوبات اخلدمة ونظامها القا�سي ال�شديد»‪ .‬لكن عمل املراقبة يا رفيقي عمل �شبه‬ ‫مكتبي و�سعاده بلغ بلدة خاله يف منت�صف الربيع وغادرها مع نهاية اخلريف‪ .‬ف�أين الربد القار�س‪.‬‬ ‫وهل نظام احل�ضور يف الوقت املعني �إىل العمل نظام قا�س و�شديد! يف �أي وهم حتيا يا رفيقي!‬ ‫�أخذ ي�صف مقاله على من�ضد احلروف دون م�سودة مكتوبة‪ ،‬يقولون! �أ�سمعتم بالآلة الكاتبة‬ ‫واحلا�سوب!‬ ‫�أمام هذه الأمثلة علينا �أن ن�س�أل‪� :‬إن �أذهلتنا البديهيات فما نوعية مقايي�سنا وجتارب حياتنا وم�ؤهالتنا‬ ‫ال�شخ�صية؟‬ ‫�أبهذه البديهيات نقدم رجل احلق �إىل الأمة‪� .‬أال نخ�شى �أن يذكرنا �أحد ب�شاعر �أمري حلب‪:‬‬ ‫وتعظم يف عني ال�صغري �صغارها‪...‬‬ ‫�أال ن�ستحي وي�ستحون!‬ ‫يقول لنا واحد �أنه ولد يف غياب والده يف م�صر فقام جده بت�سميته على نف�سه! ولد �أنطون احلفيد‬ ‫يف �آذار‪ ،‬وتويف �أنطون اجلد يف كانون الأول من ال�سنة ال�سابقة‪ ،‬فكيف �أتى الأمر العجيب!‬ ‫لقد جرى الدكتور �سعاده على عادة ت�سمية �أوالده ب�أ�سماء غربية‪� :‬أرن�ست‪� ،‬آرثر وما �شابه‪ .‬وقد �شذ‬ ‫عن هذه القاعدة مرتني ويف احلالتني بعد وفاة قريب حبيب‪ .‬املرة الأوىل وفاة اجلد �أعطت احلفيد‬ ‫�إ�سمه‪ .‬املرة الثانية حني تويف �أخ الدكتور �سعاده �سليم‪ ،‬فكان �أن �سمى الدكتور �إبنه على �إ�سم الأخ‬ ‫الراحل و�أهدى كتابه حول ال�سل الرئوي لذلك الأخ وكلل الكتاب بر�سم الأخ ذاك‪ .‬وبعد ذلك‬ ‫عاد الدكتور �سعاده �إىل نهج الت�سمية الأجنبية مع �إدوراد وغري�س‪.‬‬ ‫ويقول لنا واحد �أنه بد�أ العمل كمراقب يف �سكة احلديد يوم الأول من �آذار‪ ،‬لكن �سعاده مل ي�صل‬ ‫�إىل الواليات املتحدة حتى ني�سان فكيف يقا�سي نظام العمل ال�شديد قبل �أن يركب الباخرة التي‬ ‫�سوف تقله �إىل بالد تلك ال�شركة!‬ ‫ونحاول �سبك ا�ستثناءات طفيفة يف وهم التعظيم‪.‬‬ ‫مل ّيد ِع �سعاده يوماً �أن ما عاناه من ويل احلرب العاملية الأوىل �أمر انفرد به عن �أقرانه‪ .‬قال ما الذي‬ ‫جلب على �شعبي هذا الويل‪ ،‬لي�س ما جلبه علي‪ .‬فعندما دفعه الفقر واجلوع �إىل خميم برمانا‬ ‫�صحب بالإ�ضافة �إىل �أخوته ثمانني طف ًال من ال�شوير منهم طفلتان من عائلتي‪ .‬فمعاناته معاناة‬ ‫م�شرتكة‪ ،‬لكن فرادته هي يف ما قادته تلك املعاناة �إىل ابتكاره لإنقاذ الأمة‪.‬‬


‫�أنطون �سعاده‪ :‬رجل احلق واحلقيقة‬

‫راهنية فكر �سعاده‬

‫‪19‬‬

‫وال عالقة لذلك املخيم الإنقاذي مبدر�سة الفرندز كما يدعون‪ .‬هو خميم �أقامه دكتور �إنكليزي‬ ‫مبعاونة ال�صليب الأحمر الأمريكي‪.‬‬ ‫كانت املهمة الأوىل يف ذلك املخيم البقاء على قيد احلياة‪� .‬أما �أن يقول �أحدهم‪ :‬ودرجة حت�صيله يف‬ ‫مدر�سة الفرندز يف برمانا حيث كان يدر�س �أثناء احلرب تعادل درجة الكفاءة‪ ،‬مع فارق �أن الدرو�س‬ ‫التي كانت تعطى ل�صف الكفاءة يف تلك الأيام من علوم وتاريخ ولغات عربية وفرن�سية و�إنكليزية‬ ‫وجرب وهند�سة و�آداب عربية وغريها‪ ،‬كانت �أو�سع و�أعمق منها اليوم‪ .‬ولعلها تعادل حاليا الدرو�س‬ ‫التي تعطى يف �صف البكالوريا �أو تفوقها»‪.‬‬ ‫ونعجب �أنه مل ي�ضف الطب والزراعة وعلوم والفلك وبواطن النجوم‪.‬‬ ‫�أن يقول �أحدهم مثل هذا الكالم فجهل حليثيات الزمان وخرق ل�سنة الن�شوء الإرتقاء الواجبة‬ ‫الإحرتام‪ .‬الدرو�س التكميلية (�إن �سلمنا �أنها ح�صلت) يف ظل �شبح املوت واجلوع‪ ،‬توازي الدرجة‬ ‫الثانوية بل اجلامعية – �أمعقول هذا الهفت؟ فلماذا ال نرجع ب�أوالدنا �إىل هاتيك الع�صور لنتقدم‬ ‫�إىل الوراء! لو �سلمنا �أن الكاتب �أراد �أن يعظم ثقافة �سعاده الر�سمية �أمل يفهم �أنه بذلك يقلل من‬ ‫م�آتي درا�سة �سعاده على نف�سه و�أن لعمله نتيجة معكو�سة؟‬ ‫ونبتدع لأنف�سنا الألقاب والرتب في�سمي �أحدنا نف�سه تكرارا نائباً للزعيم وي�صمت الآخرون حري ًة‬ ‫�أو ت�صديقا �أو عجباً �أو �سخرية‪ .‬لقد عني �سعاده نائباً له‪ ،‬على ما نعلم‪ ،‬يف فرتات الأ�سر الثالث‬ ‫ح�صراً‪ ،‬فاختار �صالح لبكي مرتني وفخري معلوف يف املرة الثالثة‪ ،‬وهذه جميعها موثقة‪ .‬فمن �أين‬ ‫جاءت رتبة الكاتب ويف �أي ظرف وملاذا يعوز الدليل؟‬ ‫ويدعي �أحدنا �أن �سعاده تابع يف �سجنه الربازيلي الكتابة ل�صحيفة �سورية اجلديدة الأ�سبوعية‪،‬‬ ‫ويعني لنا الكاتب بالتحديد الواثق والإعالن ال�صريح ال�صارم تلك املقاالت اجلليالت وينحو‬ ‫بالالئمة على رفقاء �أهملوا �إدراجها يف جمموعات �أعمال �سعاده‪ .‬ونحن اجلائعون �إىل فكر املعلم‪،‬‬ ‫�أال يجب �أن نفرح ونهلل ونعلن رفيقنا بط ًال للفكر والك�شف!‬ ‫مه ًال �أيها الفرح! كان �سعاده يف الربازيل قيد توقيف �شبه عريف‪ ،‬يف �سجن �إنفرادي‪ ،‬على �أ�سا�س‬ ‫مر�سوم جمهوري لقمع �أعمال الدعاوة للدول الأجنبية‪ ،‬وقد منعت عنه الزيارات حتى من ممثلي‬ ‫نقابة ال�صحافة الربازيلية �أو املحامني‪ ،‬ومنعت عنه حتى �أب�سط حاجات ال�سجني من وقت يف‬ ‫الهواء الطلق والعناية الطبية‪ .‬لكنه وفق رفيقنا �أر�سل مقاالت جليالت �إىل ال�صحيفة التي �أ�س�سها‬ ‫قبل ب�ضعة �أ�سابيع والتي ال ت�شري ال من قريب وال من بعيد �إىل الإعتقال خ�شية مالحقة ال�سلطة‬ ‫الربازيلية؟‬ ‫نقد �ضعيف مهلهل‪ ،‬تقولون! ال بد �أن املعلم وجد و�سيلة �إىل ذلك‪.‬‬ ‫لكن ما قولكم �إن وجدنا يف ر�سائل �سعاده كالماً عن تلك املقاالت اجلليالت يعلنها منوذجاً‬ ‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬


‫‪20‬‬

‫للإنحراف الفكري الذي ظهر يف ال�صحيفة خالل �أ�سره؟ �أبهذا الإ�ستخفاف نعني مكنونات الفكر‬ ‫ال�سعادي؟ �أم �أن ن�شوة الإكت�شاف املنفرد املظفر تربر الإعالن امل�ستبد؟‬ ‫ف�إن كان هذا �ش�أننا‪� ،‬ش�أن من ن�سبوا �أنف�سهم �إليه فماذا ننتظر من معار�ضيه؟‬ ‫يقول خريجو مدر�سة الك�سل الفكري �أن �سعاده ا�ستقى فكرة القومية ال�سورية من كتابات الأب‬ ‫المن�س الي�سوعي وخ�صي�صا كتاب هذا الأخري املو�سوم خال�صة تاريخ �سورية!‬ ‫لننظر قليال يف هذا ال�سخف الباهر‪ :‬كان كتاب المن�س ال�صادر يف �أوائل الع�شرينات‪ ،‬ملخ�ص‬ ‫حما�ضرات �ألقاها الأب الي�سوعي على طاقم الإنتداب الفرن�سيني بطلب من اجلرنال غورو‬ ‫وبتوجيه من �سيا�سته‪� .‬أي �أن كتاب المن�س ي�شكل �إحدى وجهات الدعاية ال�سيا�سية الإ�ستعمارية‬ ‫الفرن�سية املتلونة امل�ؤيدة حينا للوحدة ال�سورية‪� ،‬إن قاد ذلك �إىل تو�سيع اطار انتدابها على ح�ساب‬ ‫بريطانيا‪ ،‬وامل�ؤيدة حينا �آخر للتق�سيمات الإدارية الدينية والإتنية متى كان ذلك يثبت �أركان‬ ‫نفوذها‪.‬‬ ‫ففي ن�سبة اجتاه �سعاده نحو القومية ال�سورية �إىل ت�أثري الأب الي�سوعي ل�ؤم فكري معيب ود�سا�س‪.‬‬ ‫فلننظر يف احلقيقة التاريخية‪� :‬سعاده الفتى يف فرتة �صدور كتاب المن�س نزيل الربازيل‪ ،‬يتدرب‬ ‫يف فكره القومي على يدي والده الدكتور خليل‪ ،‬املناه�ض الأق�صى يف املهجر للإحتالل الفرن�سي‬ ‫ل�سورية‪ ،‬املر�سل �صواعقه ال�سيا�سية باجتاه الإنتداب و�أ�صحابه‪ ،‬امللقب اجلرنال غورو بغورو با�شا‬ ‫الغازي‪ ،‬على طراز العثمانيني الفاحتني‪ ،‬الوا�صف الفرن�سيني ب�أتراك �أوروبا موازاة يف الغ�شم القاهر‬ ‫لأتراك �آ�سيا‪ .‬الإبن املتدرب على يدي هكذا �أب‪� ،‬أيحتاج �أن ي�ستمد الفكرة ال�سورية من بوق‬ ‫الدعاية الإ�ستعمارية الفرن�سية!؟‬ ‫كم هي جميلة م�آتي مدر�سة الك�سل الفكري! �أنعزو �سورية مي زيادة �إىل المرتني؟ و�سورية يعقوب‬ ‫�صروف وفار�س منر �إىل الدكتور فانديك؟ ولعل �سورية جربان والريحاين قامت على �أيدي ماري‬ ‫ها�سكل و�شارلوت تلر؟‬ ‫يقولون كان الرجل م�ستبداً انفرد يف الأمر والنهي!‬ ‫لكن تعالوا ننظر كيف ا�ستبد القوميون بزعيمهم الذي مل يكلف نف�سا �أو نفو�ساً جمموعة ن�صف‬ ‫ما كلف ذاته و�أمينته! �أنظروا كيف ا�ستبد القوميون بزعيمهم يف حياته وال نطرق ا�ستبدادنا به بعد‬ ‫ا�ست�شهاده!‬ ‫مثل واحد يكفي‪:‬‬ ‫«ال يجوز للزعيم �أن يتزوج»‪ ،‬قالوا عندما �أعلن خطبته �إىل جولييت املري‪« ،‬عليه �أن يقف نف�سه‬ ‫ل�سورية‪ ،‬فهو �إن تزوج �أ�صبح رج ًال عادياً ال ي�صلح للقيادة!»‬


‫�أنطون �سعاده‪ :‬رجل احلق واحلقيقة‬

‫راهنية فكر �سعاده‬

‫‪21‬‬

‫هل �سمعتم ب�أعتداء على �أب�سط احلقوق الإن�سانية �أ�شنع من هذا الكالم وهذا املوقف؟‬ ‫نعم‪ ،‬كان الرجل م�ستبداً لأنه يبدو يل �أنه يف بع�ض الأحيان انفرد وحيداً ي�صون املبادئ ال�شريفة‬ ‫التي تكرم احلياة‪.‬‬ ‫نعم‪ ،‬كان م�ستبداً لأنه �أبى على ن�سر الزعامة ال�سري يف الوحول �أو معا�شرة الزرازير‪.‬‬ ‫�أهو امل�ستبد �أم نحن؟‬ ‫طفيليات فكرية‪ ،‬وك�سل منهجي‪ ،‬وق�ص�ص املوقد والفانو�س هي بع�ض من ا�ستبدادنا به‪.‬‬ ‫عجب كثريون من معلومات �أدرجتها يف املجلدين الأولني من �سرية �سعاده لدرجة عدم الت�صديق‬ ‫والإمتعا�ض‪ .‬من �أين �أتى هذا الكاتب بهذه الأخبار ليتحدى بها ما ارحتنا �إليه من ت�صوراتنا عن‬ ‫�سعاده ووالده؟ كيف تختفي فج�أة عدة كتب من ن�سبها �إىل الدكتور �سعاده و�أين الق�ص�ص الأليفة‬ ‫عن فتوة �سعاده الإبن؟‬ ‫ال�س�ؤال الأم ُّر هو ملاذا مل ِ‬ ‫تختف من قبل؟‬ ‫و�أ�س�أل نف�سي‪ :‬هذه احليثيات كانت دوما متوفرة فلماذا مل ينظمها قبل اليوم �أحد؟ املكتبات‬ ‫وال�سجالت واملرا�سالت واملرويات يف م�ستطاع اجلميع ومتر �ستون �سنة وال من عمل ر�صني؟‬ ‫قلت يف م�ستطاع اجلميع مع ا�ستثناء ما حجب عن النا�س وعني خ�شية �سوء ا�ستعمال �أو لغرية‬ ‫فائقة �أو �أنانية دفينة‪.‬‬ ‫لكن الرجل الكبري فر�ض حقيقته على هذا الوجود!‬ ‫فما �سر ثباته؟ ما �سر هذا التالزم الواثق املحكم بني عنا�صر فكره؟‬ ‫�إنه يف طم�أنينته الفل�سفية �أنه عرف احلق واحلقيقة‪.‬‬ ‫�إنه يف طم�أنينته الفل�سفية الناجتة عن ت�أمله الطويل ودر�سه العميم و�صراعه احلثيث‪.‬‬ ‫�إنه يف ال�صفاء الفل�سفي الذي مييز فكره‪.‬‬ ‫هذه الطم�أنينة الفل�سفية وال�صفاء الفكري اللذان يتمثالن يف املواقف املبدئية اجللية حول �ش�ؤون‬ ‫الأمة والوطن‪ ،‬وحول �ش�ؤون حياة الأمة ونه�ضتها‪.‬‬ ‫لننظر يف بع�ض الأمثلة‪.‬‬ ‫�إىل اجلنوب من هنا يف الثغر‪ ،‬يف بريوت‪ ،‬يتحاورون حول احلق الن�سوي‪ ،‬احلق بالعمل‪ ،‬احلق‬ ‫بالإرث‪ ،‬احلق بالهوية‪ ،‬احلق بالكرامة وبرفع العدوان الذكوري �ضمن العائلة وخارجها‪.‬‬ ‫نحن ن�س�أل‪ :‬هل يت�ساوى حق �سناء يف ال�شهادة مع حق وجدي؟‬ ‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬


‫‪22‬‬

‫ف�إذا كان اجلواب نعم‪ ،‬فلماذا ال يت�ساويان يف كل احلقوق‪ ،‬يف حق الإرث وحق العمل وحق الهوية‬ ‫وحق احلرية وحق العدل؟ �أن�ساويهما يف احلق الأق�صى وال ن�ساويهما يف املا دون؟ فال يعجب‬ ‫الباحثون �إن مل يجدوا يف تراث �سعاده كالما عن حق املر�أة فلي�س يف تراثه كالم عن حق الرجل‬ ‫كرجل‪.‬‬ ‫هو يقول بحقوق ال�سوريني باجلمع‪ ،‬وما جمع املذكر �إال �صيغة لغوية ولو وفى جمع امل�ؤنث باملعنى‬ ‫والتقليد لقال به!‬ ‫�إىل اجلنوب من هنا‪ ،‬يف الثغر‪ ،‬يف بريوت‪ ،‬يت�شامتون حول حق امل�شردين الفل�سطينيني يف العي�ش‬ ‫ال�شريف ويف احلقوق الإن�سانية البديهية الأ�سا�سية من الكرامة ال�شخ�صية وحق العمل وحق‬ ‫احلماية القانونية‪ .‬ويثريون م�س�ألة «التوطني» لك�أنها غول خميف يبتلع الأطفال والأرزاق‪.‬‬ ‫ويتحججون‪ ،‬يا حلميتهم املخل�صة‪� ،‬أن يف التوطني يف �سفح هذا اجلبل خ�سارة للحق يف العودة! لقد‬ ‫حموا هذا احلق‪ ،‬يا لإخال�صهم‪ ،‬لأكرث من �ستني عاما فلم يفد يف العودة لكنه �أفاد يف ا�ستمرارية‬ ‫الب�ؤ�س واللوعة‪.‬‬ ‫�ألي�س من العار �أننا قبلنا �أن يولد طفل واحد يف خميمات الت�شريد‪ ،‬و�أن تنمو �أجيال و�أجيال يف‬ ‫ظلم الغربة امل�ستع�صية؟! �أال يكفي ما �سلبهم اليهود فهل �ش�أننا �أن ن�ضيف فوق النكبة نكبات!‬ ‫�أمل يعلمنا �أن �سورية لل�سوريني جميعهم بدون ا�ستثناءات �إقليمية وتف�ضيالت مذهبية‪ ،‬و�أن الوطن‬ ‫ملك عام فال يكون ال�سوري �شريدا يف وطنه �أكرث من حني طارئ‪.‬‬ ‫ال�صفاء الفل�سفي والطم�أنينة �إىل احلقيقة الفل�سفية تتمثالن يف و�ضوح احلكمة و�شع�شعان العقل‬ ‫النافذ‪:‬‬ ‫�إىل ال�شرق من هنا يتباحثون يف احلريات والإ�صالح!‬ ‫جواب فكره على كل الت�سا�ؤالت حول م�سائل القمع والرقابة والكبت الثقايف وا�ضح – م�شكلة‬ ‫احلرية حتل باحلرية!‬ ‫لتخرج كل الأفكار والعقائد �إىل �ساحة النور لتعرف منها احلرباء من الطري املغرد‪،‬‬ ‫لتخرج �إىل �ساحة النور من �أ�سودها �إىل �أبهاها‪ ،‬من �أرذلها �إىل �أ�سماها‪،‬‬ ‫�أيحتاج الفكر النري �إىل مق�صلة حتميه؟‬ ‫�أيخاف �أبناء النور من الف�ضاء الف�سيح؟‬ ‫�أمل يعلمنا �أن الدولة هي جمعية ال�شعب الكربى و�أن للمواطن احلق يف �إبداء الر�أي يف م�صري‬ ‫جمعيته الكربى ومن مينعه من هذا احلق يتمرد على �سيادته؟‬ ‫و�إذا كانت الدولة جمعية ال�شعب الكربى فالأحرى بال�شعب �أن ال يدمر جمعيته ويعي م�س�ؤوليته‬


‫�أنطون �سعاده‪ :‬رجل احلق واحلقيقة‬

‫راهنية فكر �سعاده‬

‫‪23‬‬

‫عن خريه الذاتي ودم قومه!‬ ‫الدولة هي جمعية ال�شعب الكربى‪ ،‬لكنها لي�ست جمعية املرتزقة!‬ ‫�إن ا�ستفحال �شر املذهبية الدينية ال يقاوم بالإخرتاعات الالهوتية �أو الكالم املع�سول واملغ�سول‬ ‫عن التعاي�ش ‪ -‬الذئاب وال�ضباع تتعاي�ش �إىل حني! جميل �أن تتناغم امل�آذن والنواقي�س يف �أحالم‬ ‫لطاف الأدباء‪.‬‬ ‫لكن امل�صري القومي يحتاج �إىل درع مبادئ ح�صينة‪ ،‬مبادئ �إ�صالحية ثالثة عربت عن ر�ؤية تامة‬ ‫متكاملة ملكان الدين واملذاهب يف الهيئة الإجتماعية‪� .‬أنت�ساهل بها �إن نطق رجل دين خرياً يف‬ ‫ال�سيا�سة؟ وماذا نفعل �إن نطق �آخر �شراً؟‬ ‫والطم�أنينة الفل�سفية تنتج �شجاعة يف الوقت الع�صيب وهدوء �أع�صاب وثبات قيادة يف زمن‬ ‫الزعازع‪ ،‬فهي ال تنح�صر يف الفكر بل ت�شمل املمار�سة‪.‬‬ ‫لننظر كيف انتزع �أفراد النخبة الت�أ�سي�سية حلزبه من براثن القوى املعطلة‪ .‬الأع�ضاء الأول من‬ ‫اجلامعة الأمريكية يف بريوت‪ .‬هل من قوة معطلة للح�س القومي تفوق هذه امل�ؤ�س�سة الإ�ستعمارية‬ ‫بامتياز؟ لكن من براثنها انتزع رفقاء �أ َو ًال!‬ ‫و�أع�ضاء �أول من خريجي مدر�سة احلقوق الي�سوعية ‪ -‬وهل من قوة معطلة للح�س القومي تفوق‬ ‫هذه امل�ؤ�س�سة الإ�ستعمارية بامتياز التي خ ّرجت �أئمة الرجعة وقيادييها؟ لكن من براثنها انتزع‬ ‫رفقاء �أ َو ًال!‬ ‫و�أع�ضاء �أول من مدر�سي املقا�صد الإ�سالمية‪ ،‬ومن �أبناء �أعيان الإقت�صاد البريوتي‪ ،‬ومن �سلك �أمن‬ ‫دولة الإنتداب وغريهم وغريهم‪...‬‬ ‫ظن ‪ -‬من براثن الإجتاهات العدمية‪.‬‬ ‫العمل الت�أ�سي�سي عرب انتزاع نخبة قيادية ‪� -‬أو هكذا َّ‬ ‫مل يقف يف جمع من ع�شريته �أو طائفته ويقول الأمر يل! بل وقف يف عرين الرجعيات والإ�ستعماريني‬ ‫وقال ه�ؤالء رفقائي ف�إرفعوا �أيديكم عن ال�شباب ال�سوري فهو يل ول�سورية!‬ ‫�إن بروز فرادة �سعاده القيادية عملية تاريخية باهرة يف معانيها ودرو�سها ويف حتدياتها و�إنت�صاراتها‬ ‫َ‬ ‫فلنتحا�ش الإ�سقاطات الدينية والوحي املكتمل من لوح م�سطور ‪� -‬إن عملية ال�صقل‬ ‫وانك�ساراتها‪،‬‬ ‫القيادي واملعريف والفكري للحركة القومية مل تتوقف يف حياة �سعاده لأنه من حق �سورية عليه‬ ‫وعلينا �أن يكون لها دائما �أف�ضل ما ن�ستطيع!‬ ‫لكن يف دربنا مع هذه الطم�أنينة الفل�سفية وال�صفاء الفكري حتديات لعل �أكرثها �صعوبة عبارة «كلنا‬ ‫م�سلمون» التي حتريين! يقول «لي�س لنا من عدو يقاتلنا يف حقنا وديننا ووطننا �إال اليهود»‪ .‬يف حقنا‬ ‫فهمنا‪ ،‬يف وطننا �سلمنا‪ ،‬لكن يف ديننا؟ �أي دين هذا؟ �أيتحدث هنا عن دين القومية اجلامعة من‬ ‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬


‫‪24‬‬

‫قوله يف الكورة يف الثالثينات �أن هذه الأر�ض عرفت �أديانا هابطة من ال�سماء �إىل الأر�ض �أما اليوم‬ ‫فت�شهد ديناً جديداً �صاعداً من الأر�ض �إىل ال�سماء‪ .‬ف�إن كان كذلك زال العجب‪.‬‬ ‫لكن هذا احلل الطبيعي ال ير�ضي النظر النقدي‪ .‬لأنه يف كالم احلق يعلن �أن الإ�سالم قد جمعنا‬ ‫و�أيد كوننا �أمة واحدة فمنا من �أ�سلم بالقر�آن ومنا من �أ�سلم بالإجنيل ومنا من �أ�سلم باحلكمة!‬ ‫ترى ماذا حل بالذين �أ�سلموا بالتوراة �إذا �أردنا �أن نتبع الن�ص القر�آين‪ ،‬وما هو مكان املالحدة من‬ ‫ال�سوريني فهل ينتفي انتما�ؤهم �إىل الأمة التي جمعها الإ�سالم؟ وكيف نوازن هذا الكالم مع‬ ‫معنى الأمة و�صفتها والدقة الباهرة التي بها حددها يف ن�شوء الأمم؟‬ ‫ولك�أن هذه التحديات ال تكفي حتى يقوم رفيق لنا يدعونا �أىل تنكب م�س�ؤولية التو�سع الالهوتي‬ ‫يف هذه الوحدانية الإ�سالمية! ون�س�أل هذا الرفيق ماذا حل بف�صل الدين عن الدولة �إذا تنكبنا‬ ‫هذه املهمة الالهوتية؟ �أن ف�صل الدين عن الدولة هو �أي�ضا ف�صل للدولة عن الدين‪.‬‬ ‫ومنذ اخلم�سينات ونحن نهرق احلرب حول املثالب التاريخية لليهود ومي�ضي كتابنا ال�شهور يف تدبيج‬ ‫التحليالت التاريخية الأنرتوبولوجية‪.‬‬ ‫لكننا بد ًال من �إهراق احلرب و�إرهاق الفكر يف هذه امل�سائل‪ ،‬علينا �أن نعود �إىل ال�صفاء الفكري‬ ‫والطم�أنينة الفل�سفية يف معاجلة �ش�ؤون الأمة والوطن‪� ،‬أن نعود �إىل مبد�أ �أن �سورية لل�سوريني ولي�ست‬ ‫لليهود �أو غريهم‪ ،‬و�أن الأمة ال�سورية جمتمع واحد ولي�س خليطاً متعاي�شاً من القنافذ‪.‬‬ ‫نحن ل�سنا يف حرب دينية مع �أهل الطوطم! ما همنا ما عبدوا �أكان ه�شيماً م�شتع ًال �أو عج ًال مذهباً!‬ ‫ليعبدوا ما �شا�ؤوا فال �ش�أن لنا بهم ما �أن يغادروا �أر�ضنا‪.‬‬ ‫وقد يقول �أحدهم �أن هناك ثوابت ل�ؤم تاريخي يف ذلك ال�شعب متلأ �صفحات كتبه الدينية و�أن يف‬ ‫تلك الكتب درو�ساً جليلة‪.‬‬ ‫�أنحتاج �أن نعود �إىل كتاب الزبور و�أمامنا دير يا�سني وقانا وغزة؟! �ألي�س الد ُم امل�سفوك �أقوى حج ًة‬ ‫من احل ِرب املهرتئ!‬ ‫يريد اليهود القد�س عا�صمة �أبدية لدولتهم!‬ ‫ويقوم بيننا من يزايد عليهم مدعياً �أحقية دينية خمالفة‪ ،‬وتتيه م�س�ألة احلق القومي بني الأحقيات‬ ‫الدينية وتداخالت الأوقاف‪ ،‬ومن له مرقد ق�س �أو �شيخ �أو حاخام‪.‬‬ ‫يريد اليهود القد�س‪ ،‬ونحن نريد حيفا ويافا وعكا وع�سقالن‪ ،‬نريد النا�صرة وتالل اجلليل وبي�سان‪،‬‬ ‫والقد�س �أي�ضاً وبيت حلم! لي�س لداللة دينية بل النت�سابها �إىل الوطن‪ .‬نحن ال نفا�ضل دينياً بني‬ ‫مدننا وبقاعنا‪ ،‬كلها يف املنظار القومي واحد‪� .‬أمل تغن فريوز لبي�سان مثلما غنت للقد�س!‬


‫�أنطون �سعاده‪ :‬رجل احلق واحلقيقة‬

‫راهنية فكر �سعاده‬

‫‪25‬‬

‫يا �أهل اخلري‪،‬‬ ‫ما حدثتكم بجديد بل مبا يعتمل يف نفو�سكم ويتحرك يف وجدانكم‪� ،‬إن �أ�صبت‪.‬‬ ‫و�إن زاغ املراد فرمبا لأننا �سرنا يف زمانني خمتلفني‪� ،‬أنا يف زمن املهجر والكتب و�أنتم يف زمن احلياة‬ ‫املتحرك‪.‬‬ ‫ال �أخفيكم �أن بع�ضنا ي�شعر بغربة فكرية و�أدبية عندما ننظر �إىل املكتبة احلزبية يف كتبها ودورياتها‬ ‫اً‬ ‫احتفال ب�أمري �إر�سالين وتقريظا ل�شعر قروي‪ .‬ن�ستفقد لغة ربينا عليها ومفاهيم �شببنا نلهج بها!‬ ‫وجند‬ ‫�أجل‪� ،‬أنا من امل�ؤمنني ب�سنة الن�شوء والإرتقاء فال تخ�شوا تردداً يف قبول الأف�ضل والأجود‪.‬‬ ‫�أجل‪� ،‬أنا من امل�ؤمنني ب�سنة الن�شوء والإرتقاء لكني �أ�ستفقدها لأهتف لها!‬ ‫واجبنا نحو رجل احلق هو احلقيقة‪ ،‬بجدية‪ ،‬مب�س�ؤولية‪ ،‬باحرتام وتقدير‪.‬‬ ‫فيا �أهل اخلري‪،‬‬ ‫لرجل احلقِ ِل َتحيا به و ِل َيحيا بها �سعاده‪.‬‬ ‫�إفتحوا قلو َب ُكم ِ‬ ‫يا �أهل اخلري‪،‬‬ ‫َ�س ِل َمت قلو ُب ُكم َفبِها حتيا �سوريا‪.‬‬ ‫وبتحية �سورية تنتهي كلمتي فلنتحاور قلي ًال‪.‬‬

‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬


‫دار كتب للن�شر �ش‪.‬م‪.‬ل‬

‫بناية الربج‪ ،‬الطابق الرابع‪� ،‬ساحة ال�شهداء الو�سط التجاري‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‬ ‫�صندوق بريد‪ ،11-4353 :‬بريوت ‪ -‬لبنان‪.‬‬ ‫هاتف‪)961-1( 983008 /9 :‬‬ ‫فاك�س‪)961-1( 980630 :‬‬ ‫الربيد الإلكرتوين‪kutub@kutubltd.com :‬‬ ‫املوقع الإلكرتوين‪www.kutubltd.com :‬‬


‫‪27‬‬

‫راهنية فكر �سعاده‬

‫الإ�صالح والتجدد‬

‫بنظرة جديدة اىل احلياة‬

‫| د‪.‬حيدر حاج �إ�سماعيل | باحث و�أكادميي‬

‫يف بوان�س �أير�س عام ‪ ،1943‬يظهر ل�سعاده كتاب بعنوان‪ :‬ال�صراع الفكري يف الأدب ال�سوري‪ ،‬فيه‬ ‫يعود �إىل بحث ق�ضية الأدب عموماً‪ ،‬وم�س�ألة التجديد الأدبي خ�صو�صاً‪ ،‬بحثاً فل�سفياً دقيقاً‪ .‬وقد‬ ‫كانت منا�سبة هذا البحث‪ ،‬كما يقول يف املقدمة‪ ،‬ما الحظه من احتكاك وت�صادم فكريني يف النظر‬ ‫�إىل ال�شعر و�أغرا�ضه‪ ،‬عند �أثنني من كبار �أدباء ذلك الزمان‪ ،‬مبنا�سبة تعليقهم على ديوان‪ :‬االحالم‪،‬‬ ‫لل�شاعر �شفيق املعلوف»‪ .‬وقد ن�شرت �آراء هذين االديبينن الواردة يف ر�سالتيهما اىل ال�شاعر‪ ،‬مع‬ ‫تعليق لل�شاعر يف جملة‪ :‬الع�صبة‪ :‬التي كانت ت�صدر يف �سان باولو‪ ،‬وذلك يف عدد �شباط ‪.1935‬‬ ‫وكان �أهم ما ورد يف ر�أي الريحاين‪ ،‬و�صفه لل�شاعر احلقيقي‪ ،‬ب�أنه «مر�آة اجلماعات‪ ،‬وم�صباح يف‬ ‫الظلمات‪ ،‬وعون يف امللمات و�سيف يف النكبات‪ .‬ال�شاعر احلقيقي ي�شيد للأمم ق�صوراً يف احلب‪،‬‬ ‫واحلكمة‪ ،‬واجلمال‪ ،‬واالمل»‪.‬‬ ‫�أما عم ال�شاعر ال�سيد يو�سف نعمان معلوف فقد حر�ص يف الدرجة االوىل‪ ،‬على تعليم ابن �أخيه‪،‬‬ ‫و�إر�شاده يف مثل قوله ‪ « :‬اعنت يف م�ؤلفاتك املقبلة‪� ،‬أن تكون مبتكرا فيما تنزع �إليه �سواء �أكان‬ ‫بالفكر �أو بالعمل‪ ،‬و�أن تكون مقلدا ال مقلداً‪ ،‬يف �سائر �أعمالك‪ ،‬لأن على هذه القاعدة الأ�سا�سية‪،‬‬ ‫تتوقف �شهرة املرء يف احلياة‪ ،‬وقبل كل �شيء‪� ،‬أترك اخليال الذي ال روح فيه وال حقيقة»‪.‬‬ ‫يف تعليقه على ر�سالة عمه‪ ،‬يقول ال�شاعر �شفيق املعلوف‪ ،‬حمدداً ال�شعر‪ ،‬ما يلي‪« :‬فهو يف عريف‬ ‫ذلك ال�شعور الناب�ض ي�صور للنا�س نفو�س النا�س‪ ،‬وال تتعدى فائدته يف �أحايني كثرية منفعة ي�صيبها‬ ‫املرء‪ ،‬لدى �سماع قطعة مو�سيقية جميلة‪ ،‬مطربة كانت �أم م�شجية‪ .‬ثم ي�ضيف ً‬ ‫قائل‪ « :‬وقد �أكون‬ ‫على خط�أ‪ ،‬من الوجه العملي النافع‪ ،‬ولكنني على حق‪ ،‬من وجهة الفن اخلالد»‪ .‬ويختم كالمه‬ ‫بقوله‪ « :‬و�أنا من هواة ال�شعر اخلالد‪ ،‬الذي ال يرتبط بالأزمنة»‪.‬‬ ‫لنتحول الآن‪� ،‬إىل �شرح نظرية �سعاده نف�سه‪ ،‬يف الأدب ويف التجديد الأدبي‪ .‬يعرف �سعاده الأدب‪،‬‬ ‫قبل كل �شيء فيقول ‪�« :‬إن الأدب‪ ،‬نرثه ونظمه‪ ،‬هو �صناعة يق�صد منها �إبراز الفكر وال�شعور‪ ،‬ب�أكرث‬

‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬


‫‪28‬‬

‫ما يكون من الدقة‪ ،‬و�أ�سمى ما يكون من اجلمال‪ .‬يفهم من ذلك �أن الأدب‪ ،‬ال ميكنه �أن يحدث‬ ‫جتديدا من تلقاء نف�سه‪ .‬ومعناه �أن التجديد الأدبي‪ ،‬لي�س ق�ضية �أدبية بحت‪ .‬ومعنى ذلك‪� ،‬أن‬ ‫التجديد يف الأدب‪ ،‬يتبع التجديد يف الفكر وال�شعور‪ ،‬كما تتبع النتيجة علتها‪ .‬ولكن التجديد‬ ‫يف الفكر وال�شعور‪ ،‬غري ممكن دون ح�صول نظرة جديدة �إىل احلياة‪� .‬أو كما يحب �سعاده �أن يقول‪:‬‬ ‫«الأدب هو ح�صول ثورة روحية مادية‪ ،‬اجتماعية �سيا�سية‪ ،‬تغري حياة �شعب ب�أ�سره‪ ،‬و�أو�ضاع حياته‪،‬‬ ‫وتفتح �آفاقاً جديدة للفكر وطرائفه‪ ،‬وال�شعور ومناحيه‪ .‬وكما �أن التجديد الأدبي‪ ،‬لي�س ق�ضية �أدبية‬ ‫بحت‪ ،‬فهو لي�س ق�ضية م�ؤرخي الأدب‪ ،‬فالأحداث يراها �سعاده نتيجة البتداء تغري النظرة �إىل‬ ‫احلياة يف �شعب‪� ،‬أي نتيجة حل�صول معتقدات جديدة ومثل عليا‪ ،‬روحية ‪ -‬مادية جديدة ولي�س‬ ‫�سببا يف التجديد الأدبي‪.‬‬ ‫وبكلمة �أخرى نقول‪� ،‬إن الأدب وال�سيا�سة يتجددان بتجدد االن�سان‪ ،‬فما دام االن�سان قدميا يف‬ ‫عقليته‪ ،‬رجعياً يف نظرته �إىل احلياة‪ ،‬ظل الأدب وال�سيا�سة رجعيني‪ ،‬وعندما يتكون �إن�سان جديد‬ ‫على مبادىء وتعاليم جديدة‪ ،‬تبد�أ يف الأدب وال�سيا�سة عهود جديدة‪ ،‬على طراز املجتمع االن�ساين‬ ‫اجلديد‪ .‬على هذا اال�سا�س الفل�سفي العميق‪ ،‬ال يعود التجديد الأدبي‪ ،‬كالماً يف اجلديد الأدبي‪،‬‬ ‫هو الهفت بعينه‪ ،‬بل ي�صبح الق�ضية‪ ،‬دعوة �إىل جميع الأدباء ناثريهم وناظميهم �إىل نبذ عقلية‬ ‫العهود الرجعية االنحطاطية وبناء نفو�سهم يف مطلب حياة جديدة‪ ،‬ومثل عليا‪ ،‬تتفق مع متطلبات‬ ‫النهو�ض احلقيقي والتقدم احلقيقي‪.‬‬ ‫�إن القاعدة الفل�سفية العميقة‪ ،‬التي و�ضعها �سعاده حل�صول التجديد يف الأدب‪ ،‬مل يبقها جمرد‬ ‫قاعدة نظرية‪ ،‬بل �إنه �أجاب على ال�س�ؤال اخلطري‪ ،‬الذي ّيحول هذه القاعدة النظرية �إىل واقع‬ ‫ملمو�س‪� ،‬أعنى كيف ميكن تغيري احلياة ال�سورية؟ وكان جوابه ماث ًال يف �إن�شائه احلزب ال�سوري‬ ‫القومي االجتماعي‪ ،‬على قاعدة نظرة جديدة للحياة االن�سانية‪ ،‬تعترب االمة جمتمعا واحدا وتعترب‬ ‫�أ�سا�س التقدم واالرتقاء �أ�سا�سا مادياً ‪ -‬روحياً‪.‬‬ ‫نح�صل مما تقدم �أن التجديد يف الأدب نرثاً و�شعراً يكون بتجديد النظرة �إىل احلياة والتعبري عنها‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫فادا كانت النظرة ا�سطورية دنيوية �أو دينية �سماوية فان االدب يتبعها‪ ،‬فنقر�أ �أدبا ا�سطوريا �أو دينياً‪.‬‬ ‫وقد يكون طائفيا كما يف زماننا‪ .‬واذا كانت النظرة فردية نقر�أ نرثا و�شعراً ميجد الأنا ويهجو الأنت‬ ‫كما ظهر يف زمان الهجاء واملديح بني جرير والفرزدق‪ .‬على �سبيل املثال‪� ،‬أما �إذا كانت النظرة قومية‬ ‫ف�سرعان ما ينه�ض الأدب القومي‪.‬‬ ‫وقبل الرتكيز على �أهمية النظرة القومية التجديدة يف زماننا‪� ،‬أود �أن �أتو�سع ومبقدار للكالم على‬ ‫�أهمية النظرة �إىل احلياة عند �سعاده ويف زماننا عند �أ�شهر فال�سفة العلوم وتاريخها‪ ،‬فاذكر ما يلي‪:‬‬ ‫يف �شرح �سعاده لغاية حزبه (احلزب القومي االجتماعي) ي�صف فل�سفة احلزب ب�أنها نظرة �إىل احلياة‬ ‫كاملة‪ ،‬يقول‪:‬‬


‫الإ�صالح والتجدد‬

‫راهنية فكر �سعاده‬

‫‪29‬‬

‫«�إن غاية احلزب ال�سوري القومي االجتماعي هي ق�ضية �شاملة تتناول احلياة القومية من �أ�سا�سها‬ ‫ومع جميع وجوهها‪ .‬انها غاية ت�شمل جميع ق�ضايا املجتمع القومي‪ ،‬االجتماعية واالقت�صادية‬ ‫وال�سيا�سية والروحية واملناقبية و�أغرا�ض احلياة الكربى‪ .‬فهي حتيط باملثل العليا القومية وبالغر�ض‬ ‫من اال�ستقالل وب�أن�شاء جمتمع قومي �صحيح‪ .‬وينطوي حتت ذلك ت�أ�سي�س عقلية �أخالقية جديدة‬ ‫وو�ضع �أ�سا�س مناقبي جديد وهو ما ت�شتمل عليه مبادىء احلزب ال�سوري القومي االجتماعي‬ ‫اال�سا�سية واال�صالحية‪ ،‬التي تكون ق�ضية ونظرة اىل احلياة كاملة‪ ،‬اي فل�سفة كاملة‪.‬‬ ‫ويقول موجها كالمه �إىل فايز �صايغ الذي كان عميداً لالذاعة والثقافة‪ ،‬منتقداً �إياه لإهمال در�س‬ ‫نظرة احلزب �إىل احلياة املمثلة يف عقيدته ‪:‬‬ ‫«�إن اجتهادكم ال�شخ�صي يف تعليم النظرة الربديايفية من مراكز احلزب العالية التي و�صلتم �إليها‬ ‫يدل على �أنكم مل تهتموا بدر�س العقيدة القومية االجتماعية ونظرتها ومل ت�أخذوا بعني االعتبار‬ ‫�أن احلركة ن�ش�أت على عقيدة �أي فل�سفة اجتماعية كاملة موجودة يف املبادىء ويف كتابات املعلم‬ ‫و�شروحه يف كتبه وخطبه وحما�ضراته و�أحاديثه ويف قدوته‪ .‬و�أن الواجب الطبيعي لهذه احلركة‬ ‫تثبيت عقيدتها وانت�صارها ككل حركة يف العامل تقومي بتعاليم �أ�سا�سية‪».‬‬ ‫ويف م�ؤمتر املدر�سني القوميني االجتماعيني الذي انعقد عام ‪ 1948‬يعود �سعاده وي�ؤكد على �ضرورة‬ ‫تدري�س املدر�سني �أبناء وبنات اجليل اجلديد النظرة اجلديدة �إىل احلياة‪ ،‬ويعترب هذه املهمة اخلطوة‬ ‫الأوىل التي يجب اال ت�سبقها خطوة‪ ،‬معترباً كل ما عدا هذه النظرة اجلديدة من �سيا�سة وتنظيم ال‬ ‫نفع منهما �إذا كانا منفكني عنها‪ ،‬يقول‪:‬‬ ‫«�إن �أول خطوة كان يجب على احلركة ال�سورية القومية االجتماعية القيام بها لتتقدم هي تعليم‬ ‫العقيدة ال�سورية القومية االجتماعية والغاية الرامية �إليها‪ ،‬لأنها هي احلقيقة الأ�سا�سية التي بها‬ ‫نوجد �شعباً و�أمة ولها نعمل‪ .‬كل عمل �آخر من �سيا�سة وتنظيم ال فائدة منه بدونها وال يجدي‬ ‫القيام به �إن مل يكن متفرعاً عنها وعائداً �إليها‪ .‬انها حمور احلياة والفكر اال�سا�سي‪ ،‬فكل عمل يجب‬ ‫ان يدور عليها‪ .‬ولذلك كان الغر�ض اال�سا�سي من احلركة ال�سورية القومية االجتماعية جعلها عامة‬ ‫ومنت�صرة يف االمة ال�سورية وحيثما �أمكن حتقيق ر�سالتها االجتماعية وفل�سفتها املدرحية‪ .‬ولقد ظن‬ ‫بع�ض املغرورين ان العمل العقدي اال�سا�سي كالبحث يف االمة وقوميتها وحقيقتها و�أهدافها‪� ،‬أمر‬ ‫ميكن اال�ستغناء عنه واال�ستعا�ضة عنه بامل�ساومات ال�سيا�سية املطوحة بالعقيدة القومية االجتماعية‬ ‫وغاية هذه احلركة العظيمة فكادت الق�ضية املقد�سة ت�سقط من �أ�سا�سها وابتد�أ امليعان والفو�ضى‬ ‫يهددان احلركة بالتفكك العام‪ ،‬فلما كان من وراء عودتي من غيبتي عودة احلركة �إىل العقيدة‬ ‫والغاية فق�ضي على امليعان والفو�ضى وعادت احليوية �إىل احلركة وعاودتها روح البطولة واملثالية‬ ‫الأوىل‪ .‬فتعلمون الآن باالختبار يف �أي مهوى �سحيق ت�سقط احلركات والأمم التي تفقد عقادئدها‬ ‫ومقا�صدها‪.‬‬ ‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬


‫‪30‬‬

‫وتت�ألف النظرة القومية االجتماعية من مبادىء �أ�سا�سية ثمانية متثل �صورةاملجتمع املدين اجلديد‪،‬‬ ‫�أو �صورة الأمة الناه�ضة‪ ،‬كما يحب �سعاده �أن يقول‪ ،‬وفيما يلي و�صف �سريع لهذه املبادىء‬ ‫الأ�سا�سية الثماينة‪:‬‬ ‫ «مبد�أ �سورية لل�سوريني وال�سوريون �أمة تامة» وجوهره ت�سمية ملكية الأمة‪.‬‬ ‫ «الق�ضية ال�سورية ق�ضية قومية قائمة بنف�سها م�ستقلة كل اال�ستقالل عن �أي ق�ضية �أخرى»‪.‬‬ ‫وجوهره حتديد اال�ستقالل احلقوقي للأمة‪.‬‬ ‫ الق�ضية ال�سورية هي ق�ضية الأمة ال�سورية والوطن ال�سوري‪ .‬وجوهره حتديد نوع ق�ضية الأمة‪.‬‬ ‫ «الأمة ال�سورية هي وحدة ال�شعب ال�سوري املتولدة من تاريخ طويل يرجع �إىل ما قبل الزمن‬ ‫التاريخي اجللي»‪ .‬وجوهره تعريف الأمة ون�شوئها االجتماعي‪.‬‬ ‫ «الوطن ال�سوري هو البيئة الطبيعية التي ن�ش�أت فيها الأمة ال�سورية‪ ،‬ويعرب عنها بلفظ عام‪:‬‬ ‫«الهالل ال�سوري اخل�صيب وجنمته جزيرة قرب�ص»‪ .‬وجوهر هذا املبد�أ حتديد ملكية الأمة‪.‬‬ ‫ «الأمة ال�سورية جمتمع واحد»‪ .‬وجوهره �إعالن وحدة الأمة‪.‬‬ ‫ «ت�ستمد النه�ضة ال�سورية القومية االجتماعية روحها من مواهب الأمة ال�سورية وتاريخها‬ ‫الثقايف ال�سيا�سي القومي»‪ .‬وجوهره حتديد اال�ستقالل الروحي لالمة‪.‬‬ ‫ «م�صلحة �سورية فوق كل م�صلحة»‪ .‬وجوهره حتديد املقيا�س املناقبي للعاملني للأمة‪.‬‬ ‫وامل�صور التايل يو�ضح �أن املبادىء الأ�سا�سية كلها تدور حول الأمة‪� ،‬أو تتجه �إليها‪ ،‬حيث كل مبد�أ‬ ‫يتناول ناحية من نواحيها‪.‬فتكون االمة هي املبد�أ املركزي للمبادىء الأ�سا�سية ‪:‬‬ ‫)‬ ‫ ‬ ‫من حيث ت�سمية ملكيتها‬ ‫)‬ ‫من حيث ا�ستقاللها احلقوقي ‬ ‫)‬ ‫ ‬ ‫من حيث حتديد نوع ق�ضيتها احلقوقية‬ ‫) الأمـــة‬ ‫ ‬ ‫من حيث تعريفها‬ ‫)‬ ‫ ‬ ‫من حيث حتدبد ملكيتها‬ ‫)‬ ‫ ‬ ‫من حيث وحدتها‬ ‫)‬ ‫من حيث ا�ستقاللها الروحي ‬ ‫)‬ ‫من حيث مقيا�س العمل لها ‬


‫الإ�صالح والتجدد‬

‫راهنية فكر �سعاده‬

‫‪31‬‬

‫وجتدر املالحظة �أنه بالفل�سفة القومية االجتماعية ميكن توحيد ال�شعوب العربية يف �أقطارها وعندما‬ ‫ينه�ض كل �شعب يف كل قطرتنه�ض مع نهو�ض ال�شعوب رابطة العروبة احلقة التي هي رابطة‬ ‫�شعوب العامل العربي‪ ،‬ممثلة بدولها‪ ،‬يف اجلبهة العربية الواحدة‪.‬‬ ‫امل�صور التايل يو�ضح بطريقة هند�سية اجتاه �سعاده التوحيدي وخطته الثباته ‪:‬‬ ‫خمطط العروبة الواقعية‬

‫الأفراد ال�سوريون‬ ‫الأفراد امل�صريون‬ ‫الأفراد املغربيون‬ ‫�أفراد �شبه اجلزيرة العربية‬

‫وا�ضح من هذا امل�صور �أن وحدة �سورية وحياتها ووحدة م�صر وحياتها ووحدة �شبه اجلزيرة العربية‬ ‫وحياتها ووحدة املغرب العربي وحياته‪ ،‬كل هذه الوحدات املجتمعية ال تتناق�ض مع التوحيد‬ ‫العربي اجلبهوي‪ .‬الوحدة العربية اجلبهوية ال تكون وال تقوم بله ال تتعزز مبوت �سورية وموت م�صر‬ ‫وموت �شبه اجلزيرة العربية وموت املغرب العربي بل بحياة �سورية وحياة م�صر وحياة �شبه اجلزيرة‬ ‫العربية وحياة املغرب العربي‪ .‬فهل يفقه الواغلون على العلوم‪.‬‬ ‫بكلمة �أخرى‪ ،‬هناك م�س�ؤوليتان‪ :‬م�س�ؤولية الفرد جتاه �أمته وم�س�ؤولية �أمته جتاه عاملهما‪ .‬وقد عبرّ‬ ‫�سعاده عن ذلك بقوله‪� « :‬أريد �أن �أفعل واجبي جتاه �أمتي اوال لت�ستطيع �أمتي �أن تفعل واجبها‬ ‫نحو عاملنا العربي»‪ .‬وقد جاءت �أحداث التاريخ‪ ،‬بخا�صة ما �سمي «بال�صراع العربي ‪ -‬اال�سرائيلي»‬ ‫لت�ؤيد ما ذهب �إليه �سعاده عندما نظر الفل�سطينيون حولهم وبعدهم اللبنانيون والآن العراقيون‬ ‫ومل يجدو �أمتهم العربية الواحدة التي ر�أها م�ؤ�س�س حزب البعث يف النظرة القدمية عندما قال يف‬ ‫كتابه‪ ،‬يف �سبيل البعث ‪« :‬العروبة ج�سم روحه اال�سالم»‪!.‬‬ ‫�إن فكرة النظرة �إىل احلياة والكون التي كان ل�سعاده الف�ضل يف توظيفها‪ ،‬دون �سواه يف العامل‬ ‫العربي‪ ،‬على االقل‪ ،‬دخلت ميدان العلم وفل�سفته وتاريخه وكان دخولها قوياً ومثرياً‪ ،‬حقاً‪ .‬فهذا‬ ‫طوما�س كون ‪ Thomas Kuhn‬يعتمدها ل�شرح فل�سفته العلمية التي �أحدثت �ضجة ما بعدها‬ ‫�ضجة يف عامل الفكر الفل�سفي املعا�صر‪ ،‬فبها يرى تاريخ العلوم تاريخ ثورات‪ ،‬ولكل ثورة منها نظرة‬ ‫جديدة �إىل العامل (الطبيعة) ال ميكن مقارنتها بالنظرات القدمية‪ .‬فالتجديد العلمي يكون بنظرة‬ ‫جديدة تتج�سد يف منوذج يعنمده العلماء يف ممار�ساتهم‪.‬‬ ‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬


‫‪32‬‬

‫يف كتابه‪ :‬بنية الثورات العلمية ‪ The Structure of Scientific Revolutions‬ينتقد ويرف�ض‬ ‫طوما�س كون النظرة االحادية للعلم التي ي�سميها النظرةالرتاكمية الثابتة التي ال تتبدل‪ .‬ويرى يف‬ ‫تاريخ العلم �شبيهاً لتاريخ ال�سيا�سة وحتى للداروينية ‪ Darwinism‬والتغيري‪ ،‬عنده‪ ،‬يكون بوا�سطة‬ ‫ما ي�سميه مناذج ‪ paradigms‬ا�صلها نظرات �إىل الطبيعة (�أو الكون) خمتلفة‪ ،‬بل هي جت�سيد لتلك‬ ‫النظرات‪ .‬والنظرات املتباينة تت�صف بعدم امكان مقارنتها‪.‬‬ ‫فيما يلي مقتطفات من ترجمتنا ملا قال ‪:‬‬ ‫«فنظرية كنظرية حفظ الطاقة مل تتطور تاريخياً‪ ،‬بدون هدم لنموذج وهي النظرية التي تبدو‪ ،‬اليوم‬ ‫مبثابة بنية فوقية منطقية ال عالقة لها بالطبيعة �إال عرب نظريات ت�أ�س�ست على نحو م�ستقل‪ .‬فبد ًال‬ ‫من ذلك‪ ،‬ن�ش�أت تلك النظرية من �أزمة كان �أحد مكوناتها اجلوهرية عدم االت�ساق بني ا لديناميكا‬ ‫ال�سيال احلراري‪ .‬ومل ميكن �أن تبدو نظرية‬ ‫النيوتونية وبع�ض النتائج‪ ،‬الذي �صيغ حديثا لنظرية ّ‬ ‫من طراز ذي م�ستوى منطقي �أعلى غري متعار�ضة مع �سابقاتها‪� ،‬إال بعد �أن �صارت جزءاً من العلم‬ ‫لبع�ض الوقت‪ ،‬و�إنه ملن ال�صعب رواية كيف ميكن لنظريات جديدة �أن تظهر بدون هذه التغيريات‬ ‫الهادمة للمعتقدات املتعلقة بالطبيعة‪.‬‬ ‫تطبيقات �سعاده لنظرته اجلديدة اىل احلياة‬

‫بوحي من هذه النظرة اجلديدة �إىل احلياة‪ ،‬يقول �سعاده موجهاً كالمه �إىل ال�سوريني جميعاً يف‬ ‫الهالل اخل�صيب ما يلي‪� ،‬أيها ال�سوريون لي�س من �سوري �إال وهو م�سلم لرب العاملني‪ .‬فاتقوا اهلل‬ ‫واتركوا ت�أويل احلزبيات الدينية العمياء‪ .‬فقد جمعنا اال�سالم‪ :‬منا من �أ�سلم هلل باالجنيل ومنا من‬ ‫�أ�سلم هلل بالقر�آن ومنا من �أ�سلم هلل باحلكمة»‪.‬‬ ‫كما ّيحذر من الفنت الطائفية قائال‪« :‬ما دمنا نقتتل على ال�سماء فلن نربح االر�ض» ويتابع موجهاً‬ ‫وقائال‪�« :‬إن ق�ضايا ال�سماء ّ‬ ‫حتل يف ال�سماء‪� .‬إنها ق�ضايا بني الفرد واهلل ال بني جماعة وجماعة‪.»...‬‬ ‫ويطلب �سعاده من �أع�ضاء حزبه �أن يكافحوا النزعة الفردية مكافحتهم االحتالل الأجنبي» عانيا‬ ‫تلك النزعة التي جتعل الفرد �ضاربا امل�صلحة العامة عر�ض احلائط وجتعله م�ستهرتا مب�صري �شعبه‬ ‫ووطنه طلبا لثالثني من الف�ضةن وما �شابه‪.‬‬ ‫ويقول �سعاده‪�« :‬إن علل االمة لي�ست فقط اجتماعية مبعنى اقت�صادي بحت �أو �سيا�سية حم�ض‪،‬‬ ‫بل هنالك ق�ضيتان ا�سا�سيتان بدون حلهما تبقى العلل �آخذة بع�ضها بع�ض هما ق�ضية املجتمع‬ ‫بكامله ‪ -‬ق�ضية وجوده و�شخ�صيته احلقوقية وال�سيا�سية ‪ -‬وق�ضية نف�سية املجتمع ومناقبيته»‪.‬‬


‫الإ�صالح والتجدد‬

‫راهنية فكر �سعاده‬

‫‪33‬‬

‫ويتابع قائ ًال‪�« :‬إن الأمم التي تعالج اليوم م�شاكل االجتماع االقت�صادية على �أنها هي كل م�شاكلها‪،‬‬ ‫هي �أمم قد حلت من زمان الق�ضيتني املذكورتني‪ ،‬واالمم التي مل ّحتلهما قد يقيدها تطبيق بع�ض‬ ‫اجلزئيات ولكنها ال تخرج بوا�سطته �إىل حياة جديدة وعهد جديد»‪.‬‬ ‫ويتابع‪ ،‬فيقول‪« :‬ال تنه�ض الأمة �إال بق�ضية عظمى كاملة‪ ،‬وال تنتقل من حياة �إىل حياة �إال بحركة‬ ‫خلق ت�أ�سي�سية‪� ،‬شاملة جميع نواحي احلياة ‪ -‬بحركة �شعبية تن�ش�أ من �صميم ال�شعب واالمة‬ ‫وت�صارع ب�أمانة كلية حلقيقة ال�شعب وق�ضيته»‪.‬‬ ‫ويف مو�ضع �آخر‪ ،‬نعنى يف مقال بعنوان ‪« :‬االمة تريد نه�ضة ال ح ّلة»‪ .‬ينتقد �سعاده‪ ،‬بل يهاجم «طفرة‬ ‫ت�أليف االحزاب وت�صور اال�صالح يف �أ�شكال و�أ�شكال واحللم باالنقالبات احلكومية‪ ،‬واالهتمام‬ ‫باالنقالبات‪ »...‬لأنه ر�أى �أن حاجة الأمة هي �إىل عقيدة ومبادىء تن�شىء جي ًال جديداً ونظاماً‬ ‫جديداً وجما ًال جديداً‪»...‬‬ ‫وبعد ذلك‪ ،‬يخاطب ال�شباب قائال وم�ؤكداً «�أن ال تغيري حلالة البالد وم�صري الأمة �إال بالنه�ضة‬ ‫القومية االجتماعية التي و�ضعت �أ�سا�س بناء نف�س ‪ -‬اجتماعي ‪� -‬سيا�سي جديد ونظرة مدرحية‬ ‫�إىل احلياة والكون والفن»‪.‬‬ ‫وي�صف �سعاده حالة ال�شعب يف بالده بكالم وا�ضح ال لب�س فيه‪ ،‬يقول‪« :‬يف �سورية ف�ساد احلكم‬ ‫هو من ف�ساد ال�شعب‪ ...‬يف �سورية تع ّلم الفرد �ألأ يهتم ل�ضرر ال�شعب بل ملنفعته الفردية فقط»‪.‬‬ ‫ويتابع �شارحاً‪« :‬يف �سورية املناقب حتو ّلت �إىل مثالب‪ ،‬واالخالق ّ‬ ‫انحطت‪ ،‬فالف�ساد يف ال�شعب‬ ‫وال�شعب الفا�سد الروحية يحتاج �إىل �إ�صالح»‪� .‬أما الإ�صالح‪ ،‬فال يراه �سعاده متحققاً ب�أن يتقم�ص‬ ‫حزب فئة رجعية من فئات ال�شعب الفا�سد‪ ،‬طائفية �أو طبقية �أو عن�صرية‪� ،‬أو خملية‪� ،‬أو ما قارن‪ ،‬بل‬ ‫ي�ؤكد �أن «اال�صالح الذي ال ميكن �أن يكون �إال من الداخل‪ ،‬يجب �أن يكون من فرد ان�شق على‬ ‫ف�ساد املجموع وتغ ّلب على �أهوائه»‪.‬‬ ‫و�إذا مل يكن احلزب هو منظمة اال�صالح والتجديد والتغيري بنظرته اجلديدة اىل احلياة‪ ،‬فان �سعاده‬ ‫أف�ضل �أن تزول‬ ‫�أعلن‪ ،‬ويف �أكرث من منا�سبة �إ�ستعداده حل ّله‪ .‬هذا ما يقول بهذا اخل�صو�ص‪�« :‬إين � ّ‬ ‫احلرية و�أن يزول احلزب كله على �أن يقوم �أحدهما �أو كالهما على �أ�سا�س الفو�ضى �أو االمتيازات‬ ‫ال�شخ�صية غري امل�ستحقة»‪ .‬ويتابع مبا�شرة قائ ًال‪ :‬ف�أنا قد جئت لأن�شىء �شيئاً جديداً ال لأ�سري‬ ‫ح�سب النظام او الو�ضع القدمي»‪.‬‬ ‫ويف خطابه يف مدينة الالذقية يف ‪ 29‬ت�شرين الثاين‪ ،1948 ،‬ي�صف �سعاده حالة االمة مبا يلي‪:‬‬ ‫«لقد كانت �أمتنا قبل ن�شوء احلزب القومي االجتماعي يف درك قطعان من الب�شر ت�سيرّ باالرادات‬ ‫الأجنبية ت�سيرياً فيه كل الغباوة وكل العمى عن امل�صري املنحط الذي ت�سري �إليه وتنحدر فيه‬ ‫ب�إذعان غريب»‪.‬‬ ‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬


‫‪34‬‬

‫ويف تعريفه للحزب‪ ،‬جند �أن �سعادة مييزه عن غريه من الأحزاب بف�ضل نظرته اجلديدة �إىل احلياة‪،‬‬ ‫يقول‪�« :‬إننا نه�ضة قومية �إجتماعية �أكرث منا حزباً �سيا�سياً‪ ،‬والنظرة القومية االجتماعية هي التي‬ ‫متلي علينا �سيا�ستنا»‪.‬‬ ‫املجتمع املدين القومي اال�سا�سي والدولة القومية احلديثة‬

‫كنا ذكرنا‪ ،‬ونحن ن�شرح املبادىء اال�سا�سية �أنها العقيدة �أو مبادىء النظرة اجلديدة �إىل احلياة‬ ‫توحد رجال الأمة ون�ساءها‪ .‬والآن نقول‪� ،‬إنه ال معنى لدولة حقيقية وحديثة من غري �أ�سا�س‬ ‫التي ّ‬ ‫اجتماعي �إ�سمه املجتمع املدين امل� ّؤحد النظرة اىل احلياة‪.‬‬ ‫ويف هذه املنا�سبة نذكر‪ ،‬وعلى �سبيل املثال‪ ،‬حالة لبنان املنق�سم‪ .‬فقد كان من املمكن االختالف‬ ‫يف �أي �شيء وحول كل �شيء ما عدا النظرة الواحدة �إىل احلياة‪ ،‬والتي يدعوها �صحفيو و�إعالميو‬ ‫و�سيا�سيو هذا الزمان الردىء «الوحدة الوطنية» ويظنون �أنها تكون باحلوار ال�سيا�سي املخادع‪،‬‬ ‫ويل بالرتبية امل�ستدمية يف الأ�سرة ويف املدر�سة ويف ال�شارع ويف القدوات من الرجال والن�ساء‪ ،‬ويف‬ ‫م�ؤ�س�سات الدولة‪ .‬النظرة �إىل احلياة‪ ،‬وبخا�صة �إذا كانت جديدة‪ ،‬يجب �أن ير�ضعها الأطفال قبل‬ ‫حليب الأمهات �أو معه‪.‬‬ ‫نتقدم الآن �إىل الكالم على مفهوم �سعاده للدولة و�إ�صالحها وجتديدها‪ .‬يقول �سعاده‪� ،‬إن الدولة‬ ‫احلديثة قامت على مبد�أين هما‪ :‬مبد�أ القومية ومبد�أ الدميقراطية‪ ،‬و�أكد �أن املبد�أين متجان�سان فال‬ ‫قومية حقيقية بدون دميقراطية وال دميقراطية حقيقية بدون قومية‪ .‬الدولة احلديثة �إذن هي الدولة‬ ‫القومية الدميقراطية التي جوهرها‪ :‬ال�شعب مل يوحد للدولة بل الدولة لل�شعب‪.‬‬ ‫وا�ضح مما تقدم �أن �أ�سا�س الدولة احلديثة يتناق�ض تناق�ضاً قوياً مع اال�سا�س الذي قامت عليه الدول‬ ‫ال�سابقة كلها والذي كان القوة اال�ستبدادية ولي�س االرادة ال�شعبية احلرة‪ .‬واالنقالب العظيم‬ ‫ح�صل بف�ضل ظهور الوجدان القومي‪ .‬يقول �سعادة‪« :‬حتت هذاالعامل اجلديد‪ ،‬عامل القومية‬ ‫الطاهر يف تولد روح اجلماعة والر�أي العام‪ ،‬تغري معنى الدولة من القوة احلاكمة امل�ستبدة �إىل �سيادة‬ ‫امل ّتحد وحكمه نف�سه» ثم ي�ضيف فيقول‪�« :‬إن الو�سيلة كانت التمثيل ال�سيا�سي �أي االنتخابات‬ ‫ال�شعبية يف الدولة احلديثة بلغت القوانني احلقوقية �أو�سع دوائرها و�صار احلكم فيها للمبادىء‬ ‫ال�شعبية احلقوقية»‪.‬‬ ‫نظرة �سعاده للدولة نقع عليها يف املبادىء اال�صالحية اخلم�سة التي و�ضعها والتي تر�سم �صورة‬ ‫للدولة التي على �أع�ضاء احلزب ت�أ�سي�سها‪ ،‬وهي ذات خم�س خ�صائ�ص‪ ،‬هي‪:‬‬ ‫ الدنيوية‪� ،‬أي �أن تكون الدولة خمت�صة ب�ش�ؤون هذه الدنيا �أو هذا العامل وقائمة على مبد�أ الأمة‪.‬‬


‫الإ�صالح والتجدد‬

‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬

‫راهنية فكر �سعاده‬

‫‪35‬‬

‫لذلك ن�ص املبد�أ على «ف�صل الدين عن الدولة» بعد �أن انتهى دور الدولة الدينية يف ع�صر‬ ‫الأمم والقوميات‪.‬‬ ‫العلمية �أو االخت�صا�صية فال يجوز لغري االخت�صا�صيني مثل رجال الدين �أن يتدخلوا يف �ش�ؤون‬ ‫الدولة من �أي وجه بخا�صة ال�ش�ؤون ال�سيا�سية والق�ضائية‪.‬‬ ‫امل�ساواتية التي تق�ضي ب�أن يكون نظام الدولة خالياً من االمتيازات لأية جهة �أو فئة �أو جماعة‬ ‫�أي �أن يكون نظام امل�ساواة يف احلقوق والواجبات هو يف �أ�سا�س نظام الدولة‪.‬‬ ‫العدالة االجتماعية ‪ -‬االقت�صادية‪� ،‬أي �أن يكون النظام االقت�صادي للدولة نظاما �أ�سا�سه‬ ‫االنتاج‪ ،‬واالنتاج للمنتجني غال ًال و�صناعة وفكراً‪.‬‬ ‫الأمن وال�سالم يثّبت �أركانهما ويوفرهما اجلي�ش القومي الدفاعي القوي ذو القيمة الفعلية يف‬ ‫تقرير م�صري االمة والوطن‪.‬‬

‫تلك باخت�صار �شديد �صورة الدولة القومية االجتماعية كما ر�سمها �سعاده‪.‬‬ ‫نخل�ص مما تقدمن كله‪� ،‬إىل النتيجة الآتية وهي �أنه‪ :‬ال �إ�صالح وال جتديد وال تغيري يف حالة �أمتنا‬ ‫من غري تطبيق نظرة جديدة �إىل احلياة والكون والفن‪ .‬وهذه النظرة‪ ،‬لتكون مب�ستوى الع�صر‪( ،‬مثل‬ ‫�سياراتنا عو�ضا عن الدواب وهواتفنا بدال من ال�صراخ ومنازلنا احلجرية بدال من خيم املا�ضي)‬ ‫يجب �أن تكون قومية‪ .‬وملا كانت املدار�س القومية العن�صرية وال�سيا�سية والدينية وما قارنها قد‬ ‫�أخفقت �أميا �إخفاق يف �أملانيا النازية و�إيطاليا الفا�شية‪ ،‬والبالد العربية حيث نودي باالمة اال�سالمية‬ ‫ودولة احللفاء‪ ،‬فان النظرة القومية االجتماعية التي تعترب الأمة جمتمعاً واحداً‪ ،‬هي النظرة اجلديدة‬ ‫القادرة على جتديد حياتنا و�إ�صالح دولتنا‪ ،‬و�إنها�ضنا من قرب التاريخ �إىل املكان الالئق بنا‪ ،‬ك�أمة‪،‬‬ ‫حتت ال�شم�س‪.‬‬ ‫ملحق‬

‫ننقل فيما يلي مقطعاً من الف�صل التا�سع من كتاب الفيل�سوف توما�س كون‬ ‫الذي ر�أى �أن فل�سفة العلوم وتاريخها عبارة عن نظرات �إىل الطبيعة خمتلفة اختالفاً جذرياً كام ًال‪.‬‬ ‫وكل نظرة حتققت بثورة ق�ضت على كل ما �سبقها من فكر وم�ؤ�س�سات وتقاليد علمية متاماً مثل‬ ‫الثورات ال�سيا�سية‪.‬‬ ‫‪Thomas Kuhn‬‬

‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬


‫‪36‬‬

‫طبيعة الثورات العلمية و�رضورتها‬

‫ت�سمح لنا تلك املالحظات �أخريا ب�أن ننظر يف امل�شكالت التي وفرت لهذه املحاولة عنوانها‪ .‬فما‬ ‫هي الثورات العلمية‪ ،‬وما هي وظيفتها يف التطور العلمي؟ لقد ح�صل توقع ملعظم اجلواب عن هذه‬ ‫اال�سئلة يف الف�صول ال�سابقة‪ .‬وب�صورة خا�صة‪ ،‬دلت املناق�شة ال�سابقة على �أن الثورات العلمية‬ ‫اعتربت هنا ب�أنها ت�ؤلف �سل�سلة الأحداث التطويرية الالتراكمية التي يحل فيها‪ ،‬كلياً �أو جزئياً‪،‬‬ ‫براديغم (منوذج) جديد حمل براديغم �أقدم منها‪ ،‬وال يكون مت�سقاً معه‪ .‬غري �أن هناك الكثري مما‬ ‫يجب �أن يقال‪ ،‬وجزء منه ميكن تقدميه عن طريق طرح �س�ؤال �إ�ضايف‪ .‬ما الذي يوجب ت�سمية تغيري‬ ‫الرباديغم ثورة؟ ويف وجه الفروقات الوا�سعة واجلوهرية بني التطور ال�سيا�سي والتطور العلمية‪� ،‬أي‬ ‫املوازاة تربر اال�ستعارة التي جتد ثورات يف كليهما؟‪.‬‬ ‫�إن �أحد نواحي املوازاة ال بد �أن يكون قد �صار ظاهراً يف ما �سبق‪ .‬فالثورات ال�سيا�سية بتد�أ بتزايد‬ ‫�شعور النا�س‪ ،‬الذي يكون غالبا حم�صوراً يف ق�سم من املجتمع ال�سيا�سي‪ ،‬ب�أن امل�ؤ�س�سات القائمة‬ ‫توقفت عن احلل الكايف مل�شكالت بيئية كانت قد �أوجدتها جزئياً‪ .‬وبطريقة مماثلة تكون الثورات‬ ‫العلمية التي تبد�أ بن�شوء �شعور متزايد‪ ،‬بكون وهو غالباً ما يكون مقت�صرا على فئة �ضيقة من‬ ‫املتحد العلمي‪ ،‬ب�أن م�ؤ�س�سات قائمة توقفت عن العمل مبا يف الكفاية يف الك�شف عن ناحية من‬ ‫نواحي الطبيعة �سبق لذلك الرباديغم ذاته �أن �أدى اليها‪ .‬ويف كال التطور ال�سيا�سي والعملي‬ ‫كان ال�شعور بتعطل العملي امل�ؤدي �إىل �أزمة �شرط �ضروري لظهور ثورة‪ .‬وزيادة على ذلك‪ ،‬مع‬ ‫الت�سليم ب�أن هذا اال�ستعمال للت�شبيه ّميطه اىل �أق�صى حد‪ ،‬فان تلك املوازاة ال تنطبق على تغريات‬ ‫الرباديغم الكربى وحدها مثل تلك املن�سوبة اىل كوبرنيكو�س والفوازييه‪ ،‬ولكنها تنطبق �أي�ضا‬ ‫على تغريات �أقل مرتبطة بتمثل نوع جديد من الظواهر‪ ،‬مثل االوك�سجني �أو اال�شعة ال�سينية‪.‬‬ ‫�إن الثورات العلمية‪ ،‬وكما الحظنا يف نهاية الف�صل اخلام�س‪ ،‬ال تبدو ثورية �إال عند �أولئك الذي‬ ‫ت�أثرت براديغمات‪ ،‬فيمكن ان تبدو وك�أنها مراحل عادية يف العلمية التطويرية‪ ،‬مثل ثورات البلقان‬ ‫يف �أوائل القرن الع�شرين‪ .‬فقد يقبل الفلكيون‪ ،‬على �سبيل املثال‪ ،‬اال�شعة ال�سينية كمجرد �إ�ضافة‬ ‫�إىل املعرفة‪ ،‬وذلك لأن براديغماتهم مل تت�أثر بوحود اال�شعاع اجلديد‪ .‬ولكن بالن�سبة �إىل علماء‬ ‫مثل كالفن‪ ،‬وكروك�س‪ ،‬ورونتغن‪ ،‬الذين بحثوا يف نظرية اال�شعاع �أو يف �أنابيب الأ�شعة املهبطية‬ ‫(الكاثودية) فان ظهور اال�شعة ال�سينية قد كان بال�ضرورة خروجاً عن براديغم‪ ،‬وخلقاً لرباديغم �آخر‪.‬‬ ‫وذلك هو ال�سبب يف �أن تلك اال�شعة مل تكت�شف �إال عرب حدوث خطب ما يف البحث العادي‪.‬‬


‫الإ�صالح والتجدد‬

‫راهنية فكر �سعاده‬

‫‪37‬‬

‫الهوام�ش‬

‫‪� .1‬أنطون �سعاده‪ ،‬الآثار الكاملة‪ ،‬اجلزء ‪ 1‬بريوت ‪� ،1960‬ص ‪.9‬‬ ‫‪ .2‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪10‬‬ ‫‪ .3‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪11‬‬ ‫‪ .4‬املرجع ال�سابق ‪� ،‬ص ‪12‬‬ ‫‪ .5‬من مقال‪ :‬ال�شهرة على ح�ساب احلزب ال�سوري القومي �ص‪29 ،‬‬ ‫‪ .6‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪29 28-‬‬ ‫‪ .7‬املرجع ال�سابق �ص ‪30 – 29‬‬ ‫‪� .8‬أنطون �سعاده‪ .‬املحا�ضرات الع�شر‪� ،‬سل�سلة النظام اجلديد ‪� ، 2‬ص ‪177 – 176‬‬ ‫‪� .9‬أنطون �سعاده‪ .‬كتاب ‪� :‬شروح يف العقيدة‪� ،‬ص ‪ ،139‬من ر�سالة �سعاده �إىل عميد الثقافة واالذاعة فايز �صايغ يف‬ ‫‪ 30‬ت�شرين الثاين ‪.1947‬‬ ‫‪ .10‬املرجع ال�سابق‪ ،‬حما�ضرة �سعاده يف م�ؤمتر املدر�سني يف ‪.1948‬‬ ‫‪ .11‬حيد حاج ا�سماعيل‪� .‬سل�سلة التعريف بفكر �سعاده‪ ،2 ،‬القومية الدميقراطية والعوملة عند �سعاده‪ ،‬دار فكر‬ ‫لالبحاث والن�شر‪ ،‬بريوت‪� ،‬أيلول ‪� 2004‬ص ‪.272-274‬‬ ‫‪ .12‬طوما�س كون‪ .‬بنية الثورات العلمية‪ ،‬ترجمة د‪.‬حيدر حاج ا�سماعيل‪ ،‬املنظمة العربية للرتجمة‪ ،‬بريوت‪� ،‬ص ‪.98‬‬ ‫‪� .13‬أنطون �سعاده‪� .‬سل�سلة النظام اجلديد‪ 4 ،‬مراحل امل�س�ألة الفل�سطينية ‪ ،‬من ر�سالة �سعاده �إىل القوميني االجتماعيني‬ ‫والأمة ال�سورية يف ‪ 2‬نوفمرب ‪� ، 1947‬ص ‪.110‬‬ ‫‪ .14‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪ ،112‬من مقال ‪� :‬إقتتالنا على ال�سماء �أفقدنا االر�ض»‪.‬‬ ‫‪� .15‬أنطون �سعاده ‪ :‬الآثار الكاملة‪� 10 ،‬ص ‪ ،87‬من مقال «النزعة الفردية يف �شعبنا»‪.‬‬ ‫‪� .16‬أنطون �سعاده ‪ .‬الآثار الكاملة‪ ،16 ،‬مقال ‪ « :‬الئحة العقاقري ال ت�صنع طبيباً»‪� ،‬ص ‪ .80‬وكان املقال قد ن�شر يف‬ ‫جريدة «اجليل اجلديد» العدد ‪ 14‬يف ‪ 11‬ني�سان ‪.1949‬‬ ‫‪ .17‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.71-72‬‬ ‫‪� .18‬أنطون �سعاده ‪ .‬الآثار الكاملة‪� 8 ،‬ص ‪ 4‬من مقال «�سلطة الزعيم»‬ ‫‪� .19‬أنطون �سعاده‪ .‬جملد الر�سائل‪� 2 ،‬ص ‪ 250‬من ر�سالة اىل الرفيق وديع عبد امل�سيح امل�ؤرخة يف ‪ 7‬كتنون الثاين‬ ‫‪.1941‬‬ ‫‪� .20‬أنطون �سعاده‪ .‬الآثار الكاملة ‪� 15‬ص ‪ 224‬خطاب �سعاده يف حم�ص يف ‪ 29‬ت�شرين الثاين ‪.1948‬‬ ‫‪� .21‬أنطون �سعاده ‪� .‬أعداء العرب! �أعداء لبنان! �ص ‪ ،16‬من ت�صريح �سعاده �إىل جريدة «النه�ضة» يف ‪ 14‬ت�شرين‬ ‫االول ‪.1937‬‬ ‫‪� .22‬أنطون �سعاده‪ .‬الآثار الكاملة‪ ، 2 ،‬ن�شوء االمم �ص ‪.124‬‬ ‫‪ .23‬املرجع ال�سابق �ص ‪.130‬‬ ‫‪� .24‬أنطون �سعاده‪ .‬مبادىء احلزب ال�سوري القومي االجتماعي وغايته‪ ،‬بريوت ‪ 1972‬املبادىء اال�صالحية �ص‬ ‫‪.57-80‬‬ ‫‪ .25‬توما�س �س ‪ .‬كون ‪ .‬بنية الثورات العاملية‪ ،‬ترجمة د‪.‬حيدر حاج �إ�سماعيل ومراجعة د‪.‬حممد دب�س‪ ،‬املنظمة‬ ‫العربية للرتجمة‪ ،‬بريوت �أيلول ‪ 2007‬الف�صل ‪� 9‬ص ‪.180 - 179‬‬

‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬


‫دار كتب للن�شر �ش‪.‬م‪.‬ل‬

‫بناية الربج‪ ،‬الطابق الرابع‪� ،‬ساحة ال�شهداء الو�سط التجاري‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‬ ‫�صندوق بريد‪ ،11-4353 :‬بريوت ‪ -‬لبنان‪.‬‬ ‫هاتف‪)961-1( 983008 /9 :‬‬ ‫فاك�س‪)961-1( 980630 :‬‬ ‫الربيد الإلكرتوين‪kutub@kutubltd.com :‬‬ ‫املوقع الإلكرتوين‪www.kutubltd.com :‬‬


‫‪39‬‬

‫| زهري فيا�ض | باحث و�أكادميي‬

‫مقدمة‬

‫يحتل االقت�صاد وامل�سائل املتعلقة به �أهمية حمورية يف حياة االن�سان واملجتمع‪ ،‬ويقع يف ر�أ�س‬ ‫ل�صيق‬ ‫�أولويات اهتمامات احلكومات والدول على مدى العامل‪ ،‬ذلك �أن ال�ش�أن االقت�صادي �ش�أنٌ ٌ‬ ‫بحياة االن�سان وبنوعية هذه احلياة وم�ستوياتها املختلفة ويحدد �إىل حد كبري م�سار النمو والتطور‬ ‫االقت�صادي واالجتماعي وانعكا�س هذا التطور على اال�ستقرار ال�سيا�سي والأمني واالجتماعي‬ ‫وعلى غريها من امل�ستويات‪.‬‬ ‫بالطبع‪ ،‬مفهوم االقت�صاد وا�سع و�شامل وعميق‪ ،‬وله �أبعاد خمتلفة ومتنوعة ومت�شعبة‪ ،‬وكلها ذات‬ ‫ت�أثري مبا�شر على حياة االن�سان بتفا�صيلها و�آفاقها يف احلا�ضر وامل�ستقبل‪.‬‬ ‫ويعترب الن�شاط االقت�صادي �أ�سا�سياً يف حركة االن�سان‪ ،‬فمن خالله ي�سعى �إىل ت�أمني متطلبات‬ ‫عي�شه التي �أ�صبحت يف ع�صرنا احلا�ضر مت�شعبة ومتفرعة‪ ،‬وتتعدى احلاجات ال�ضرورية املادية‬ ‫وا�شباعها لت�أمني ا�ستمرار احلياة‪� ،‬إىل متطلبات ت�أمني وا�شباع احلاجات الروحية والنف�سية املت�أتية‬ ‫من اقتناء الأ�شياء املادية التي ت�ضيف �إىل االن�سان بعداً نف�سياً هاماً يكون يف كث ٍري من الأحيان‬ ‫حا�سماً يف حتديد م�ستويات العي�ش والرفاهية على م�ستوى دول ٍة ما‪.‬‬ ‫لذا ومع التطور العلمي والتقني والتكنولوجي‪ ،‬والتقدم الهائل احلا�صل يف العقود الأخرية من‬ ‫القرن الع�شرين‪ ،‬وبداية القرن الواحد والع�شرين‪ ،‬وال�سيما على م�ستوى تقنيات التوا�صل بني‬ ‫الب�شر‪ ،‬وعلى م�ستوى و�سائل املوا�صالت على �أنواعها‪ ،‬وت�صاعد فكرة العوملة مع فتح الأ�سواق‬ ‫العاملية على بع�ضها البع�ض‪ ،‬و ُي�سرانتقال الر�ساميل واال�ستثمارات النقالة حول العامل‪ ،‬و�سهولة‬ ‫انتقال ال�سلع والب�ضائع من دول املن�ش�أ �إىل �أ�سواق اال�ستهالك‪ ،‬كل هذا التطور �أعطى لالقت�صاد‬ ‫حمركة وحمفِّزة للنمو االقت�صادي وانعكا�ساته املبا�شرة على ق�ضايا النمو والتنمية‬ ‫ديناميات جديدة ِّ‬ ‫يف عاملنا املعا�صر‪.‬‬ ‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬

‫راهنية فكر �سعاده‬

‫االقت�صاد القومي االجتماعي‪ :‬مدخل اىل التنمية‬


‫‪40‬‬

‫لذا وكي ت�سهل قدرتنا على مواكبة كل هذا املتغري على م�ستوى االقت�صاد العاملي وخ�صائ�صه‬ ‫الأ�سا�سية‪ ،‬كان ال بد من اعادة قراءة معمقة لهذا االقت�صاد على �ضوء قواعد وحمددات وا�ضحة‬ ‫وال لب�س فيها يف الفكر القومي االجتماعي‪ ،‬والت�أ�سي�س لر�ؤى اقت�صادية ت�شكل الأ�سا�س النظري‬ ‫للربامج واخلطط االقت�صادية العملية التي من املفرت�ض �أن ت�شكل االطار الوا�سع والرحب ملجمل‬ ‫حركتنا االقت�صادية حا�ضراً وم�ستقب ًال‪� ،‬سواء على م�ستوى الدول‪� ،‬أي حتديداً القطاعات احلكومية‬ ‫فيها‪ ،‬وكذلك على م�ستوى القطاعات اخلا�صة من م�ؤ�س�سات و�شركات وبنى وحتى �أفراداً‪.‬‬ ‫واالجتاه الذي يطبع ال�سنوات الأخرية على م�ستوى العامل كله‪ ،‬يتمثل يف �إعادة االعتبار �إىل‬ ‫واملخ ِّطط والقائد واملم ِّول للعمليات االقت�صادية الرئي�سية‪ ،‬واملق ِّرر يف حتديد‬ ‫املوجه َ‬ ‫الدولة باعتبارها ِّ‬ ‫قطاعات اال�ستثمار واالنتاج وفق ما متليه م�صالح هذه الدول وال�شعوب‪ ،‬ولنا يف تداعيات الأزمة‬ ‫املالية العاملية التي �ضربت العامل واقت�صادياته الكربى منذ العام ‪ 2008‬خ ُري دليل على عودة‬ ‫«الدولة» باعتبارها العباً اقت�صادياً �أ�سا�سياً و�صاحبة الكلمة الف�صل يف القرارات االقت�صادية‬ ‫الكربى‪.‬‬ ‫ما هو مفهوم االقت�صاد القومي االجتماعي؟ ما هي حمدداته؟ ما هي اجتاهاته؟ ما هي �أولوياته؟‬ ‫حاولت الإجابة عنه يف هذا البحث‪.‬‬ ‫هذه الأ�سئلة هي بال�ضبط ما‬ ‫ُ‬

‫دور االقت�صاد احلا�سم يف تطور املجتمع‬

‫مل ت�صل املجتمعات االن�سانية �إىل م�ستوى التطور الذي و�صلت �إليه اليوم �إال يف �سياق مت�صل‬ ‫تطورات متالحقة تاريخية ارتبطت بنقالت يف �أمناط املعي�شة واحلياة و�أ�ساليب االنتاج التي مت‬ ‫اعتمادها يف حت�صيل القوت والغذاء ويف ت�أمني كل االحتياجات واملتطلبات النف�سية واملادية‬ ‫للب�شر‪.‬‬ ‫وهذا التطور احلا�صل يف كل هذه املجاالت ينتج عن حركة تفاعل االن�سان بالبيئة التي قادها‬ ‫العقل الب�شري والتي �أدت �إىل منو قدراته الذهنية يف عقل البيئة واملحيط والأ�شياء وا�ستخدامها‬ ‫يف ت�أمني حياته ومعي�شته وتطوير نوعية هذه احلياة‪ ،‬التي ت�ؤدي نتيجة الرتاكم امل�ستمر واملتوا�صل‬ ‫�إىل تطوير بنية املجتمع وخ�صائ�صه و�سماته وميزاته االقت�صادية والثقافية واالجتماعية وعلى كل‬ ‫امل�ستويات‪.‬‬ ‫يف كتابه «ن�شوء الأمم» �ص‪ 92 .‬حتت عنوان «املجتمع ال�سابق العمران وتطوره» يقول �أنطون �سعاده‪:‬‬ ‫«ال م�شاحة يف �أن املجتمع العمراين‪� ،‬أو جمتمع ال�سالالت العمرانية الأ�سيورية (الأ�سيوية‬


‫االقت�صاد القومي االجتماعي‪ :‬مدخل اىل التنمية‬

‫راهنية فكر �سعاده‬

‫‪41‬‬

‫الأوروبية)‪ ،‬مل ين�ش�أ منذ البدء مع �أول ن�شوء هذه ال�سالالت الراقية‪ ،‬بل ن�ش�أ مع تطور جماعات‬ ‫هذه ال�سالالت �إىل حني بلوغها الدرجة العمرانية التي هي درجة الزراعة واالقامة يف الأر�ض»‪،‬‬ ‫�أي �أن تطور اجلماعات االن�سانية �إىل حني و�صولها الدرجة العمرانية ما كان ليحدث لوال تطور‬ ‫مرتاكم لأمناط انتاج خمتلفة و�صو ًال �إىل اعتماد منط االنتاج الزراعي‪� ،‬أي بكالم �أخر‪ ،‬الزراعة هي‬ ‫يف �أ�سا�س فكرة اال�ستقرار يف املكان والتفاعل مع البيئة ون�شوء العمران ومراكمة �أ�سباب احل�ضارة‬ ‫الأخرى وما ن�ش�أ عنها من تطورات الحقة يف �أمناط و�أ�ساليب عي�ش ال�سكان‪.‬‬ ‫نالحظ اذاً مدى الرتابط بني تطور املجتمع االن�ساين ومنط االنتاج الذي يعتمده هذا املجتمع يف‬ ‫احلياة االقت�صادية التي يعي�شها‪ ،‬والذي يج�سد م�ستوى التطور العقلي والذهني ودوره وفعاليته‬ ‫يف قيادة حركة الفعل االقت�صادي االنتاجي على م�ستوى املجتمع االن�ساين‪ .‬وهذا �إن دل على‬ ‫�شيئ فامنا يدل على رمزية وقيمة االنتاج و�أمناطه يف تطور املجتمع على ال�صعد الثقافية وال�سيا�سية‬ ‫واالجتماعية املختلفة‪.‬‬ ‫وم َّر يف مكان �آخر‪ ،‬قوله «�إن االن�سان هو الوحيد من بني جميع الكائنات احلية الذي �أمكنه �إيجاد‬ ‫عالقة تفاعلية مع الطبيعة‪ ،‬وخ�صو�صاً مع بيئته‪ .‬وما ذلك �إال باجابته على مطالب البيئة بنمو اجلهاز‬ ‫الذي �أعطاه �أن يعقل الطبيعة‪ :‬الدماغ»‪.‬‬ ‫�إذاً االنتاج ‪ -‬باملعنى االقت�صادي‪ -‬ومبا �أنه حا�صل هذا االحتكاك بني االن�سان والطبيعة والذي‬ ‫ارتقى يف مراحل الحقة من درجة االحتكاك �إىل درجة التفاعل احلقيقي هو الذي يقود عملية‬ ‫تطور املجتمع االن�ساين ورفع م�ستوى امكاناته يف ت�أمني االحتياجات واملتطلبات احلياتية‪ ،‬ومدى‬ ‫ا�ستجابته ملطالب البيئة وحتدياتها‪ ،‬وهذا هو لب وجوهر علم االقت�صاد احلديث‪.‬‬ ‫�إن تتبع الثقافة االن�سانية يف ارتقائها يبد�أ بحفظ الأع�صر الثقافية التي رتبها علم االن�سان وعلم‬ ‫طبقات الأر�ض‪ ،‬والعالقة بني هذه الأع�صر الثقافية و�أدوات االنتاج و�أمناطها وا�ضحة �إن مل نقل‬ ‫مرتابطة ب�شكل ي�صعب الف�صل بينها‪.‬‬ ‫�إن احتكاك االن�سان الأول بالطبيعة �أدى �إىل اكت�شاف النار و�إىل تناولها وا�ستعمالها لأغرا�ض‬ ‫متعددة‪ ،‬وا�ستعمال النار هو اخلطوة الفا�صلة التي عينت لالن�سان ال�سابق اجتاهه‪.‬‬ ‫يقول �سعاده (نف�س امل�صدر‪� -‬ص‪« )94 .‬و�أهمية النار العظيمة حلياة االن�سان وارتقائه هي يف كونها‬ ‫عام ًال اقت�صادياً كبري النتيجة حتى يف ذلك العهد ال�سحيق‪ .‬فال بد �أنها خدمت االن�سان ال�سابق‬ ‫يف �صد ال�سباع املفرت�سة عنه ويف االنارة لي ًال ويف تدفئته و�شي حلم فرائ�سه فجذبته �إىل حرارتها‬ ‫و�ضوئها و�أوجدت لذة يف جتمع قطعانه حولها‪ ،‬وهي لذة م�صحوبة باالطمئنان‪ .‬واللذة واالطمئنان‬ ‫وتوفري اجلهد والتعب هي ال�ضرورات التي ي�ؤدي ح�صولها اىل تولد االح�سا�سات النف�سية الفردية‬ ‫واالجتماعية»‪ ...‬ويكمل‪« :‬ال �شك يف �أن النار قوت الرابطة االجتماعية يف االن�سان ال�سابق‬ ‫ومهدت له كثرياً �إظهار ا�ستعداده لالرتقاء ف�ساعدت كثرياً على ن�شوء النطق‪ ..‬النطق وحده‬ ‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬


‫‪42‬‬

‫كفل حتويل االكت�شافات واالختبارات التطورية الأولية �إىل معارف اجتماعية وراثية (اجتماعياً)‪.‬‬ ‫�أعدت النار االن�سان ال�سابق لدخول الع�صر احلجري»‪.‬‬ ‫فنجد الحقاً �أن تاريخ االرتقاء الب�شري غري املكتوب يق�سم �إىل ق�سمني عامني هما‪ :‬الع�صر احلجري‬ ‫والع�صر املعدين‪ ،‬وكل من هذين الع�صرين ينطوي على �أجزائه اخلا�صة‪ ،‬فرنى �أن الع�صر احلجري‬ ‫ي�شتمل على ثالثة �أجزاء‪ :‬الع�صر احلجري القدمي (ال�سابق)‪ -‬الع�صر احلجري املتو�سط (الالحق)‬ ‫ الع�صر احلجري اجلديد �أو املت�أخر‪ ،‬ثم يدخل الع�صر املعدين مبتدئاً باحلقبة النحا�سية ثم با�سقاط‬‫هذه واالبتداء باحلقبة الربونزية التي حل حملها �أخرياً احلقبة احلديدية التي ال نزال فيها‪.‬‬

‫املجتمع العمراين‬

‫ال�شك �أن الزراعة هي �أ�سا�س الثقافة العمرانية‪ ،‬حيث �أنها ج�سدت التفاعل بني االن�سان والبيئة‬ ‫التي عرب عنها باال�ستقرار يف الأر�ض والبيئة‪ ،‬وارتقاء عالقته بها �إىل درجة التفاعل االيجابي‪ .‬بيد‬ ‫�أن الزراعة مرت �أي�ضاً مبراحل ومراتب تطورية ارتقائية فمن زراعة املعزق اىل زراعة املحراث اىل‬ ‫زراعة الب�ستان و�صو ًال اىل االنتاج التجاري‪� ،‬أطوار امتدت يف الزمن لت�شهد على تطور عالقات‬ ‫االن�سان ببيئته و�أر�ضه و�صو ًال اىل الع�صور احلديثة‪.‬‬ ‫يقول ويدال دالبال�ش يف كتابه «مبادئ اجلغرافيا االن�سانية»‪« :‬الزراعة كانت �أ�سلوب العي�ش‬ ‫الوحيد الذي مكن النا�س منذ البدء‪ ،‬من �أن يحيوا معاً يف مكان معني و�أن يح�شدوا فيه مقومات‬ ‫احلياة»‪ .‬ويزيد «لي�س زارعاً الذي يحرق الع�شب وينرث مكانه ب�ضع حفنات من البذور‪ ،‬ثم يرحل‬ ‫عن املكان‪ ،‬بل الذي يح�صد الغالل ويخزنها هو الزارع»‪.‬‬ ‫اذاً‪ ،‬مع اعتماد الزراعة منطاً للعي�ش‪� ،‬أ�صبحت احلاجة ملحة لأن يحيا النا�س مع بع�ضهم البع�ض‬ ‫على �أر�ض واحدة‪ ،‬ويتعاونوا على ت�أمني م�ستلزمات عي�شهم ومتطلبات حياتهم املختلفة‪ ،‬ولي�ساعدوا‬ ‫بع�ضهم بع�ضاً يف حرث الأر�ض وزرعها وح�صد الغالل وتخزينها ومن ثم توزيعها �أو اجراء عمليات‬ ‫مقاي�ضة �أو مبادلة‪.‬‬ ‫يقول �سعاده يف نف�س امل�صدر (ن�شوء الأمم �ص‪« :) 107 .‬ال ميكننا �أن ندر�س الثقافة ومراتبها وتتبع‬ ‫تطورها �إال يف �سياق التفاعل‪� ،‬أي يف تتبع �أعمال االن�سان على م�سرح الطبيعة‪ .‬واملقيا�س الذي‬ ‫نقي�س به قيمة �أية مرتبة ثقافية هو ن�سبة ما بني ح�صول �أ�سباب العي�ش والعمل املبذول يف هذا‬ ‫ال�سبيل‪ ،‬لأن كل تطور يف احلياة االجتماعية و�أنظمة االجتماع ال ميكن �أن يحدث �إال �ضمن نطاق‬ ‫هذه العالقة»‪.‬‬


‫االقت�صاد القومي االجتماعي‪ :‬مدخل اىل التنمية‬

‫راهنية فكر �سعاده‬

‫‪43‬‬

‫ليخل�ص �إىل تقرير حقيقة �أ�سا�سية مفادها �أن النظام االجتماعي برمته هو دائماً حا�صل تفاعل‬ ‫االن�سان والطبيعة �أي بكالم �أخر حا�صل التطور يف االنتاج كماً ونوعاً وطرائق و�أمناط انتاج‪.‬‬

‫حمورية ال�ش�أن االقت�صادي‬

‫التطور االجتماعي يكون دائماً على ن�سبة التطور االقت�صادي‪ ،‬هذه حقيقة ال بد من �أخذها بعني‬ ‫االعتبار والبناء عليها‪ ،‬عند مقاربة امل�س�ألة االجتماعية ‪ -‬االقت�صادية وتفرعاتها و�أزماتها وم�شكالتها‬ ‫والتحديات التي تطرحها‪ ،‬فامل�ستوى االقت�صادي يحدد �إىل حد بعيد الكثري من الو�ضعيات‬ ‫االجتماعية على م�ستوى املجتمع ككل‪ ،‬والتطور االقت�صادي يرتبط �إىل حد بعيد ب�أمناط االنتاج‬ ‫املعتمدة يف �إنتاج ال�سلع واخلدمات التي ت�شبع حاجات ال�سكان‪ ،‬هذا يعني �أن احلديث عن �أمناط‬ ‫االنتاج لي�س م�س�ألة هام�شية بل هو لب املو�ضوع االقت�صادي‪ ،‬ومرتكز التطور والنمو االقت�صادي‪،‬‬ ‫ال بل �أكرث من ذلك‪ ،‬حتدد �أمناط االنتاج املعتمدة درجة التطور الثقايف ‪ -‬االجتماعي لدولة ما‪،‬‬ ‫وحتدد اخل�صائ�ص لأمة ما‪� ،‬أو ملجتمع ما‪.‬‬ ‫(دولة زراعية‪� ،‬صناعية‪ ،‬تكنولوجية �إىل ما هنالك)‬ ‫�إن العامل االقت�صادي ي�شكل املرتكز الأ�سا�س للدورة االقت�صادية االجتماعية ‪ -‬احلياتية التي‬ ‫ت�شرتك فيها اجلماعة الب�شرية على مدى بيئتها الطبيعية والتي ت�ؤدي �إىل ن�شوء الأمة عرب عملية‬ ‫تفاعلية طويلة الأمد ‪ -‬م�ستمرة يف التاريخ ‪.‬‬ ‫يقول �أنطون �سعاده يف كتابه «ن�شوء الأمم» ويف معر�ض تعريفه للأمة ‪« :‬الأمة جماعة من الب�شر حتيا‬ ‫حياة موحدة امل�صالح‪ ،‬موحدة امل�صري‪ ،‬موحدة العوامل النف�سية ‪ -‬املادية يف قطر معني يك�سبها‬ ‫تفاعلها معه‪ ،‬يف جمرى التطور‪ ،‬خ�صائ�ص ومزايا متيزها عن غريها من اجلماعات» (‪.)6‬‬ ‫ن�شوء الأمة اذاً مل يت�أ�س�س على فراغ‪ ،‬بل هو وليد عملية تفاعلية يف اجتاهني �أ�سا�سيني‪ :‬االجتاه‬ ‫الأول‪ -‬تفاعل االن�سان مع البيئة‪ ،‬واالجتاه الثاين‪ -‬تفاعل االن�سان مع االن�سان‪.‬‬ ‫االجتاه الأول له مدلول االنتاج لأن تفاعل االن�سان مع البيئة له م�ضمون اقت�صادي يف‬ ‫الغالب(خا�ص ًة ونحن نعرف �أن ‪ % 90‬من ن�شاط االن�ساين هو ذو طابع اقت�صادي) بهدف ت�أمني‬ ‫االحتياجات املعي�شية املتطورة مبعزل عن �شكل هذا التفاعل �إن كان مبا�شراً �أو غري مبا�شر‪ ،‬وهذا‬ ‫االجتاه التفاعلي مع البيئة يكمن يف جوهر فكرة اال�ستقرار يف الأر�ض و�إن�شاء العمران الذي بد�أ‬ ‫تاريخياً مع اعتماد النمط االنتاجي الزراعي‪.‬‬

‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬


‫‪44‬‬

‫االجتاه الثاين (�أي تفاعل االن�سان مع االن�سان ) له مدلول الدورة االجتماعية االقت�صادية –‬ ‫احلياتية التي متتد لت�شمل كل اجلماعات االن�سانية على مدى البيئة الطبيعية كلها �أي �ضمن ما‬ ‫ي�سميه �سعادة «املتحد الأمت» �أي البيئة اجلغرافية الطبيعية التي تقدم لالن�سان كل �إمكانات التطور‬ ‫واالرتقاء والتقدم‪.‬‬ ‫ويف مكان �أخر يقول �سعاده يف معر�ض تعريفه للأمة‪« :‬الأمة �أ�سا�س مادي يقوم عليه بناء روحي»‬ ‫ �أي �أن الأ�سا�س املادي ي�شكل مرتكزاً للبناء الروحي للأمة‪ ،‬فاالقت�صاد والدورة االقت�صادية‬‫واالنتاج كلها ت�ؤ�س�س لوحدة احلياة‪ ،‬ووحدة احلياة ال تقوم خارج وحدة امل�صالح االقت�صادية ‪-‬‬ ‫احلياتية‪ ،‬ووحدة امل�صالح ت�ؤ�س�س لوحدة امل�صري‪ ،‬ووحدة امل�صري ت�ؤ�س�س لل�شعور باالنتماء‪ ،‬وهذا‬ ‫ال�شعور يعترب �أ�سا�ساً يف بناء الهوية مبكوناتها الثقافية واالجتماعية ‪.‬‬ ‫�إذاً العامل االقت�صادي ب�أبعاده املختلفة من العوامل الأ�سا�سية التي ت�ساهم يف ن�شوء الأمة وبنائها‬ ‫وتطورها‪ ،‬لذا فهو مكون �أ�سا�سي من مكونات الأمة ن�شوءاً وارتقاءاً‪.‬‬ ‫اذاً‪ ،‬لالقت�صاد مدلوالن‪ ،‬مدلول الدورة االجتماعية االقت�صادية التي هي وحدة احلياة النا�شئة‬ ‫عن تفاعل اجلماعة الب�شرية مع البيئة الطبيعية‪ ،‬وهذا �ش�أن قومي مبعنى �أنه ي�شمل �أبناء البيئة‬ ‫الطبيعية القومية الواحدة مبجرد ت�شابكهم يف احلياة الواحدة على الأر�ض الواحدة‪� ،‬أياً كان النظام‬ ‫االجتماعي االقت�صادي فالروابط التي تربط لبنان بال�شام وتربط ال�شام بالأردن‪ ،‬وتربط العراق‬ ‫بالأردن والأردن بفل�سطني ولبنان‪ ،‬هذه الروابط هي روابط قائمة بحد ذاتها وتت�أ�س�س على التفاعل‬ ‫احلياتي ‪ -‬اليومي االقت�صادي ‪ -‬االجتماعي عرب حركة ال�سكان والب�ضائع بني هذه املناطق‬ ‫يف البيئة الطبيعية واجلغرافية الواحدة‪ ،‬هذه الروابط هي روابط حياتية �أوجدتها احلياة نف�سها‪،‬‬ ‫وتطورت هذه الروابط عرب الزمن لت�أخذ �أ�شكا ًال خمتلفة ومتعددة‪ ،‬ولكنها عربت دوماً عن حقيقة‬ ‫وحدة احلياة ووحدة امل�صالح املت�أتية عنها‪.‬‬ ‫ال يهم وفق هذا املدلول �شكل النظام االقت�صادي �أو االجتماعي املهيمن �سواء �أكان ر�أ�سمالياً �أو‬ ‫ا�شرتاكياً �أو غريه‪ ،‬هذا املدلول يرتكز على القاعدة القومية لالقت�صاد واالنتاج واال�ستهالك‪.‬‬ ‫�أما املدلول الآخر فهو مدلول النظام االقت�صادي �أي عالقات االنتاج و�أ�شكال هذه العالقات‬ ‫وم�ضامينها و�أبعادها‪.‬‬ ‫لقد �أوجد �أنطون �سعاده مفهوماً جديداً لالقت�صاد والتنمية بعد �أن ف�شل النظام الر�أ�سمايل يف حل‬ ‫م�شاكل املجتمع ال بل �أدى �إىل ت�شنجات وم�شاكل جديدة بهذا املعنى‪ ،‬وهذا املفهوم اجلديد‬ ‫الذي �أر�ساه يرتكز على الغاء التناق�ض (بعد الثورة ال�صناعية وادخال الآلة) بني جماعية االنتاج‬ ‫وفردية الر�أ�سمال‪ .‬فالنظام الر�أ�سمايل هو نظام الهدر بامتياز مبعنى �أن الطاقة تهدر مل�صلحة قلة‪ ،‬وال‬ ‫و�صف �سعاده الثورة ال�صناعية يف ن�شوء الأمم‪ ،‬واعترب‬ ‫ي�ستفيد منها املجموع‪ .‬على هذا الأ�سا�س‪ّ ،‬‬ ‫�أنها و�ضعت االقت�صاد على �أ�سا�س جديد ولكنه �سيئ لأنها اجتهت نحو اقت�صاد اجلماعة باعتبار‬


‫االقت�صاد القومي االجتماعي‪ :‬مدخل اىل التنمية‬

‫راهنية فكر �سعاده‬

‫‪45‬‬

‫الآلة ت�ستقطب جمموعة كبرية من العمال مل يكن االقت�صاد احلريف ال�سابق ي�ستقطبهم بينما‬ ‫امل�ستفيد من هذا االقت�صاد اجلماعي هم �أفراد قلة‪ ،‬فح�صل التناق�ض الأ�سا�سي بطبيعة النظام‬ ‫الر�أ�سمايل بعد ت�صنيفه‪.‬‬ ‫وبهذا املعنى‪ ،‬اعترب �سعاده �أن االقت�صاد الر�أ�سمايل يخ�ضع مل�صالح الدول الكربى التي متلك‬ ‫ال�صناعات الأكرب والر�ساميل الأكرب لذلك اجته هذا االقت�صاد �إىل منط من الطفيلية واالنتهازية‬ ‫املعرقلة لالمناء والتنمية على امل�ستوى الوطني والقومي‪.‬‬ ‫يعني يتجه االقت�صاد الر�أ�سمايل وما بعد الر�أ�سمايل يف ع�صر ما ي�سمى العوملة وفتح الأ�سواق �إىل‬ ‫ابقاء الدول النامية �أو املتخلفة يف حلقة �سوقه ومينع الت�صنيع الثقيل فيها ومينع التقدم ال�صناعي‬ ‫فيها ويبقيها ك�سوق ا�سترياد لل�سلع ال�صناعية التي ينتجها‪.‬‬ ‫لذا ال بد �أن ترتكز التنمية ال�صحيحة على بناء اقت�صاد وطني �أي اقت�صاد قومي‪ ،‬وهذا يق�ضي‬ ‫بالتحرر من �شبكة العالقات الر�أ�سمالية الدولية التي ترتبط بالنظام الر�أ�سمايل املحلي‪ ،‬و�إقامة‬ ‫�شبكة انتاجية ‪ -‬اقت�صادية على كامل البيئة الطبيعية ‪ -‬اجلغرافية حتقق املناعة االقت�صادية احلقيقية‬ ‫واالكتفاء الذاتي ويتم ربطها الحقاً وعلى قاعدة امل�صالح القومية وت�أمينها ب�شبكة عالقات اقت�صادية‬ ‫على امل�ستوى االقليمي وبعدها الدويل‪.‬‬

‫ما هو البديل الذي تقدمه الر�ؤية القومية االجتماعية يف ال�ش�أن االقت�صادي‬

‫يف املحا�ضرة الثامنة من كتاب «املحا�ضرات الع�شر» ن�ص وا�ضح ل�سعاده جاء فيه‪�« :‬إن االنتاج‬ ‫امل�شرتك هو حق عام ال حق خا�ص‪ ،‬والر�أ�سمال الذي هو �ضمان ا�ستمرار االنتاج وزيادته هو‪،‬‬ ‫بالتايل‪ ،‬ملك قومي عام مبدئياً و�إن كان الأفراد يقومون على ت�صريف �ش�ؤونه ب�صفة م�ؤمتنني عليه‬ ‫وعلى ت�سخريه لالنتاج» ‪ ،‬ويف مكان �أخر‪« :‬ما من عمل �أو انتاج يف املجتمع �إال وهو عمل �أو انتاج‬ ‫م�شرتك �أو تعاوين» ‪.‬‬ ‫لقد �أر�سى �سعاده القاعدة ‪ -‬الأ�سا�س ب�أن املجتمع هو املالك الأ�سا�س لالنتاج ولو�سائله ولأدواته‬ ‫وا�ستطراداً حلا�صل االنتاج الذي هو ر�أ�س املال‪ ،‬وهذا نق�ض للمفهوم الر�أ�سمايل من جذوره الذي‬ ‫يعترب االنتاج حقاً خا�صاً‪ .‬اذاً‪ ،‬القاعدة هي �أن الر�أ�سمال ملك قومي عام مبدئياً‪ ،‬يجوز للمجتمع‬ ‫�أن يجعل الأفراد يت�صرفون به بالقيمومة يف مرحلة ولكن القاعدة تبقى ب�أنه ملك عام مبعنى �أن‬ ‫ت�صرف الأفراد يف كل العالقات الر�أ�سمالية حتى املحدودة منها هي ا�ستثناء للقاعدة ميكن الغا�ؤه‬ ‫يف �أية حلظة‪ ،‬يعني ت�أكيد على اجتماعية الر�أ�سمال وقوميته‪ ،‬ورف�ض لفرديته‪.‬‬ ‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬


‫‪46‬‬

‫وي�ضيف يف تو�صيف م�أزق الر�أ�سمالية والنظرة الفردية االقت�صادية‪ « :‬من هذه الناحية نحن ن�سري‬ ‫نحو نظام جديد ال نهرب فيه من الآلة بل نتقدم �إليها‪ ،‬ال نعد الآلة م�صيبة للب�شرية و ال م�ستعبدة‬ ‫للنا�س بل نعمة للب�شرية وحمررة للنا�س‪ .‬ولكن بع�ض النا�س الذين ا�ستعملوا الآلة احلديثة ر�أوا‬ ‫�أن ي�ستعبدوا النا�س الذين مل يكن لهم ما ميكنهم من احليازة على الآالت ال�ضخمة احلديثة‪� .‬إن‬ ‫�سوء احلالة االقت�صادية لي�س من الآلة بل من النظام ال�سيء تنميه النظرة الفردية الالم�س�ؤولة عن‬ ‫امل�صري القومي يف ا�ستخدام الآلة احلديثة»‪ .‬وي�ؤكد‪« :‬نه�ضتنا تريد �أن ت�ضع حداً لهذا اال�ستعباد‬ ‫ولأ�صحاب الر�ساميل الفردية الذين ي�ستعبدون بوا�سطتها النا�س»‪.‬‬ ‫اذاً‪ ،‬النظرة القيمية يف طرح امل�سائل �أ�سا�سية لأنها املرتكز ملعاجلة �أي �ش�أن‪ ،‬مبا فيه امل�سائل‬ ‫االقت�صادية االجتماعية‪ .‬وبالتايل‪ ،‬فالنظرة الأخالقية التي تقود العملية االنتاجية ‪ -‬االقت�صادية‬ ‫هي املعيار الذي يتم احلكم على �أ�سا�سه ب�صالح االجراءات و�صدقيتها ومدى �شمولها باخلري العام‬ ‫�أو�سع �شرائح ممكنة يف املجتمع القومي‪ ،‬وعندما تت�أ�س�س «العملية االقت�صادية» على هذا الأ�سا�س‬ ‫الأخالقي االن�ساين‪ ،‬ت�صبح الآلة نعمة وخرياً وراح ًة وحتريراً للعمال‪ ،‬وعلى العك�س‪� ،‬إذا كان‬ ‫العقل الفردي الأناين هو الذي يحكم الآلة‪ ،‬عندها تتحول وبا ًال و�شراً وا�ستعباداً للب�شرية‪.‬‬ ‫اذاً‪ ،‬اعترب �سعاده �أن متلك بع�ض النا�س للآلة احلديثة كان طريقهم ملحاولة ا�ستعباد الذين ال‬ ‫ميلكون هذه الآلة‪.‬‬ ‫�أي �أن امللكية الفردية املطلقة‪ ،‬والغري خا�ضعة ل�ضوابط امل�صلحة العامة ت�ؤدي �إىل ا�ستغالل‬ ‫وا�ستعباد وخلل يف توزيع املوارد والرثوات و�إىل انتفاء امل�ساواة والعدالة االجتماعية‪ ،‬وهذا ي�ؤدي‬ ‫�إىل اختالالت بنيوية �سيا�سية واجتماعية خطرية‪.‬‬ ‫وما ينطبق على العالقات داخل املجتمع الواحد ينطبق �إىل درجة كبرية على واقع العالقات بني‬ ‫الدول والأمم‪ ،‬ولعل واقع العامل املعا�صر يف العقد الأول من الألفية الثالثة‪ ،‬هو واقع م�أ�ساوي بكل‬ ‫املقايي�س‪ ،‬حيث النظرة الفردية الال �أخالقية والال ان�سانية �أدت �إىل اختالالت كبرية تهدد مب�آ�سي‬ ‫وكوارث وحروب و�أحقاد و�صراعات ال متناهية لن يكون فيها منت�صر و�ستكون عنوان النهاية لهذا‬ ‫العامل احلزين واملوبوء‪.‬‬ ‫وما عامل العوملة «البعيد عن االن�سانية» وطبيعة العالقات التي تقوده �إال الدليل الدامغ على عمق‬ ‫املخاطر التي تتهدد ال�سالم والأمن واال�ستقرار على امل�ستوى العاملي الكبري‪.‬‬ ‫يف مرحلة �سابقة‪ ،‬متت التعمية على هذه احلقائق املت�صلة بحياة النا�س وم�صالح حياتهم العليا‪،‬‬ ‫ومت التطبيل والتزمري لظاهرات «فتح الأ�سواق»‪ ،‬و «العوملة» و «حترير التجارة العاملية» و «حترير‬ ‫اال�ستثمارات»‪ ،‬ورفع �شعار حتول العامل �إىل «قرية كونية واحدة»‪ ،‬ولكن‪ ،‬غاب عن بال كل ه�ؤالء‬ ‫ال�س�ؤال الأ�سا�سي‪ :‬هل تقدم موقع االن�سان ومكانته و�سط كل هذه الظاهرات؟ هل احرتم االن�سان‬ ‫كقيمة؟ هل ت�أمنت م�صالح الأو�ساط ال�شعبية يف بلدانها و�أوطانها وجمتمعاتها؟ هل حتققت العدالة‬


‫االقت�صاد القومي االجتماعي‪ :‬مدخل اىل التنمية‬

‫راهنية فكر �سعاده‬

‫‪47‬‬

‫الن�سبية يف توزيع املوارد الطبيعية واالقت�صادية على م�ستوى كل ال�شعوب والأمم؟ هل راعت كل‬ ‫هذه العالقات اجلديدة النا�شئة معايري امل�ساواة واحلق االن�ساين يف اال�ستفادة املتوازنة من البيئة‬ ‫وما تقدمه من امكانيات؟ هل تقدم مفهوم «التنمية امل�ستدامة»؟ هذا ال�شعار الذي يتم حمله اليوم‬ ‫وال�سعي �إىل ت�سويقه دون الأخذ بعني االعتبار ال�شروط احلقيقية التي ت�ؤدي اىل حتقيقه؟‬ ‫ما هي هذه القرية الكونية املوعودة؟ وهل تطبق فيها �أخالقيات «القرية ال�صغرية» يف التعاون‬ ‫واالنتاج والتوزيع والتبادل واال�ستهالك مبا يحفظ حقوق كل �سكان هذه القرية؟ �إنها �أ�سئلة جدية‬ ‫تطرح يف ظل واقع يك�شف عن خلل �أ�سا�سي كبري �أدى �إىل �أزمات حقيقية و�إىل ت�صدع بنيان‬ ‫اقت�صادات وطنية يف كل القارات‪ ،‬و�إىل �أزمة مالية عاملية ن�شهد تداعياها اخلطرية‪ ،‬و�إىل تراجع للنمو‬ ‫االقت�صادي العاملي‪ ،‬و�إىل احتكارات كبرية‪ ،‬و�إىل قب�ض قلة من الدول على خريات امل�سكونة‬ ‫والعامل وعلى ثرواته الطبيعية واال�سرتاتيجية‪ ،‬و�إىل تف�شي ظاهرة الفقر والبطالة يف االقت�صادات‬ ‫ال�ضعيفة والنامية وحتى يف الدول القوية �صناعياً وانتاجياً‪.‬‬ ‫�إن مفهوم «ال�شركة العابرة للقوميات» يحمل يف طياته م�ضمون الظلم وانتفاء العدالة وعدم‬ ‫امل�ساواة‪ ،‬وخلل يف موازين القوى االقت�صادية وغريها‪ ،‬وكل هذه اال�ستثمارات العاملية التي حتط‬ ‫رحالها يف �أ�صقاع الأر�ض لي�ست مقطوعة اجلذور القومية‪ ،‬فالعائدات اال�ستثمارية تعود غالباً �إىل‬ ‫القاعدة اال�ستثمارية الأ�صلية‪ ،‬فيما ال ي�صيب الأطراف �أو الأماكن التي تقيم هذه اال�ستثمارات‬ ‫فيها مكانياً اال الفقر والنهب املنظم وال�سرقة املو�صوفة خارج �أية �ضوابط يف القانون املحلي �أو‬ ‫الدويل �أو الأممي �أو حتى االن�ساين!‬ ‫هذه اال�ستثمارات «النقالة» تنهب الأمم وال�شعوب وتزيد الهوة ال�سحيقة بني الأمم وال�شعوب‪ ،‬فيما‬ ‫امل�ستفيد احلقيقي هو قلة من حمتكرين وقلة من ج�شعني م�ستغلني يف املراكز والأطراف‪ ،‬وهذا‬ ‫واقع وجب تغيريه‪.‬‬ ‫ونحن نلج يف العقد الثاين من الألفية الثالثة‪ ،‬جند �أنف�سنا يف بالدنا �أمام ثالث حاالت اقت�صادية‬ ‫واقعية‪:‬‬ ‫ �سيطرة «الر�أ�سمالية الدولية املتوح�شة» على جمتمعنا‪.‬‬ ‫ �سيطرة االقطاع القدمي اجلديد على حيازاتنا الزراعية‪.‬‬ ‫ �سيطرة �أ�صحاب الر�ساميل الفردية‪ ،‬ورموز �سلطة املال على كل القطاعات االنتاجية يف الدولة‪.‬‬ ‫القومية االجتماعية اذاً ‪ -‬يف امل�س�ألة االقت�صادية ‪ -‬هي تطبيق االجتماعية على االقت�صاد‪.‬‬ ‫االجتماعية يف �شمولها واالجتماعية يف انبثاقها من القاعدة القومية‪ .‬لذا ف�إن اخلط االقت�صادي‬ ‫العام مت ر�سمه يف النظرة اال�سرتاتيجية القومية االجتماعية‪� ،‬أما الأمناط االنتاجية‪ ،‬والعالقات‬ ‫املتفرعة عنها‪ ،‬و�أمناط امللكية وغريها‪ ،‬دور القطاع العام‪ ،‬دور القطاع اخلا�ص‪ ،‬اخل�صخ�صة‪ ،‬الت�أميم‪،‬‬ ‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬


‫‪48‬‬

‫ال�شراكة بني القطاعني اخلا�ص والعام‪ ،‬كلها م�سائل تخ�ضع لظروف التطور االقت�صادي واالجتماعي‬ ‫للمجتمع �أو الدولة املعنية‪ ،‬وهذه الظروف والبيئة االقت�صادية امل�صاحبة هي التي متلي اجراءات‬ ‫اقت�صادية معينة كالت�أميم �أو اخل�صخ�صة �أو غريها من امل�سائل االجرائية �أو التوجهات العملية‪ ،‬وقد‬ ‫�أثبتت تطورات ال�سنوات القليلة املا�ضية‪،‬وخا�ص ًة يف �أعقاب الأزمة املالية العاملية‪ ،‬واالجراءات‬ ‫التي اتخذتها حكومات ودول خمتلفة يف هذا العامل‪� ،‬أنه ال �شيء مطلق يف االقت�صاد‪ ،‬كما يف كل‬ ‫مناحي حياة املجتمعات االن�سانية‪ ،‬وكل الق�ضايا ت�صبح ن�سبية على �إطالقها‪ ،‬وتتم مقاربتها وفق‬ ‫الظروف والبيئة والواقع‪ .‬وما االجراءات احلمائية التي اتخذتها دول ترفع لواء «احلرية االقت�صادية»‬ ‫و «الر�أ�سمالية» و «االقت�صاد احلر» (ك�شراء ح�ص�ص يف م�صارف وبنوك ‪� ،‬أو ت�أميم �شركات خا�صة‪� ،‬أو‬ ‫دخول الدولة �شريكاً يف االنتاج‪ ،‬وغريها‪� )...‬إال دليل على �أن القاعدة الأ�سا�س تتج�سد يف مقولة «‬ ‫�أن م�صلحة الأمة �أو املجتمع هي الأ�سا�س»‪� ،‬أما التطبيقات والآليات فتخ�ضع دائماً للن�سبية‪ ،‬فزمن‬ ‫النظريات االقت�صادية املعلبة قد وىل �إىل غري رجعة‪.‬‬ ‫�أما احلقيقة الثانية املهمة تكمن يف ارتباط االقت�صاد مب�صالح الأمم ومبرحلة التطور القومي وهذا‬ ‫�أكدته كل التجارب االقت�صادية من �أق�صى الي�سار اىل �أق�صى اليمني‪ ،‬وكل هذه التجارب كان‬ ‫معيار جناحها مدى مالءمتها �أو م�ساكنتها �أو جتان�سها مع الواقع القومي‪.‬‬ ‫اخلال�صة‪ ،‬ان املناهج االقت�صادية خا�ضعة دائماً للتبديل والتعديل ح�سب م�صلحة املجتمع يف‬ ‫كل مرحلة من مراحل تطوره االقت�صادي االجتماعي �شرط �أن ترتكز هذه املناهج العملية على‬ ‫القواعد الأ�سا�سية التي هي اجتماعية مطلقة منافية للفردية ب�أ�شكالها املختلفة‪.‬‬ ‫اقت�صاد املعرفة‪ :‬مقاربة قومية اجتماعية‬ ‫ثمة �إقرار �أن املعرفة بوجوهها املختلفة واملتعددة هي مفتاح القوة يف مواجهة التحديات التي تعر�ض‬ ‫يف الواقع احلياتي ‪ -‬االجتماعي ب�أبعاده ال�سيا�سية والثقافية واالقت�صادية وعلى كل امل�ستويات‪.‬‬ ‫فمن ميتلك املعرفة والعلوم والتقنيات ي�ستطيع �أن يفر�ض معادالت جديدة يف الواقع القومي‬ ‫واالن�ساين العام‪ ،‬فاملعرفة ت�ؤ�س�س وت�ضيف قدرات وامكانات هائلة‪ ،‬اذا �أح�سن توظيفها‪ ،‬وا�ستعمالها‪،‬‬ ‫�ست�ؤدي حتماً �إىل مزيد من اخلري العام والرفاهية والبحبوحة واالزدهار على كل امل�ستويات‪.‬‬ ‫لأنطون �سعاده قول م�أثور‪« :‬املجتمع معرفة واملعرفة قوة»‪ ،‬وهو يعرب تعبرياً �صارخاً على �أهمية‬ ‫امتالك املعرفة والعلم وامتالك �أدوات املعرفة وعلومها وتقنياتها يف معارك احلياة وعلى دروبها‬ ‫الوعرة وال�صعبة‪.‬‬ ‫فمن ميتلك تقنيات زمانه هو الذي يفر�ض �سيطرته‪ ،‬على الزمان واملكان‪ ،‬ويطبع الع�صر بطابعه‬ ‫وميزته‪ ،‬ويفر�ض قيمه ومفاهيمه ومثله العليا‪ ،‬وهذه املعادلة هي التي قادت الب�شرية منذ ع�صورها‬ ‫الأوىل‪ ،‬وهي ما تزال حتكم عاملنا املعا�صر‪.‬‬


‫االقت�صاد القومي االجتماعي‪ :‬مدخل اىل التنمية‬

‫راهنية فكر �سعاده‬

‫‪49‬‬

‫بيد �أن اال�شكالية التي تفر�ض ذاتها يف هذا امل�ضمار تتمثل يف الربط الدقيق وال�ضروري بني‬ ‫الذهنية التي حتمل هذا «الكنز املعريف» واملثل والقيم التي تقود هذه الذهنية‪ ،‬فاملعرفة امللت�صقة‬ ‫مبنظومة القيم التي ت�ؤمن باالن�سان باعتباره قيمة اجتماعية‪ ،‬والتي ت�ؤمن باملجتمع باعتباره احلقيقة‬ ‫االن�سانية الكربى‪ ،‬هي املعرفة التي تغني املجتمع واالن�سان وتدفع به �إىل معارج دروب الرتقي‬ ‫والنهو�ض والتنمية احلقيقية‪ ،‬واالزدهار ون�شر العدالة االجتماعية واحلقوقية‪ ،‬والعدل االقت�صادي‬ ‫ االجتماعي االن�ساين الذي ي�شكل املرتكز ال�ستقرار املجتمع القومي‪ ،‬ولإر�ساء قواعد را�سخة‬‫من التعاون وت�ضافر اجلهود االن�سانية على م�ستوى العامل‪.‬‬ ‫لذا‪ ،‬ف�إن «املعرفة» هي اللبنة التي تت�أ�س�س عليها لي�س فقط حركة االقت�صاد‪ ،‬بل كل حركة املجتمع‬ ‫بكليته وهي الأ�سا�س للتطور والتنمية يف جماالتها املختلفة‪.‬‬ ‫�أردت يف هذا البحث حول «اقت�صاد املعرفة» �أن �أنطلق من مقولة �أ�سا�سية ارتكز عليها �سعاده‬ ‫كرافعة وقاطرة للنه�ضة القومية االجتماعية ككل‪ ،‬وهي مقولة «�إن العقل هو ال�شرع الأعلى يف‬ ‫املجتمع»‪ ،‬وكل �إ�شكاليات الواقع االجتماعي تقارب على قاعدة هذا العقل‪ ،‬الذي وجد ليعقل‪،‬‬ ‫ليفكر‪ ،‬ليفعل‪ ،‬وكل منظومة املعرفة «االن�سانية» هي نتاج هذا الفعل «العقلي»‪ ،‬وهي ثمرة هذا‬ ‫«العقل» وما قدمه من �إجابات منذ القدم‪.‬‬ ‫و «االقت�صاد» لي�س حالة خا�صة �أو �شاذة بهذا املعنى‪ ،‬فكل حركة ون�شاط االن�سان االقت�صادية‬ ‫يعقلها العقل ويطورها العقل‪ ،‬ويهذبها العقل‪ ،‬وينميها العقل‪ ،‬وي�صوغها العقل‪ .‬واملعرفة ‪ -‬بهذا‬ ‫املعنى ‪ -‬هي نتاج هذا العقل وحا�صل تفاعله مع البيئة املحيطة باملعنى االجتماعي وباملعنى‬ ‫الطبيعي ‪ -‬اجلغرايف‪.‬‬ ‫فاملعرفة وثيقة ال�صلة باالقت�صاد‪ ،‬لأن االقت�صاد نف�سه وثيق ال�صلة باملجتمع االن�ساين القومي‪ ،‬وهو‬ ‫يحتل مرتبة عالية يف منظومة الفكر القومي االجتماعي‪ ،‬وهو ‪ -‬يف معنى من املعاين ‪ -‬يدخل‬ ‫يف �أ�سا�س ن�شوء الأمة واملجتمع القومي‪ ،‬فالتفاعل بني االن�سان واالن�سان‪ ،‬والتفاعل بني االن�سان‬ ‫والبيئة‪ ،‬عامالن �أ�سا�سيان يف ن�شوء الأمة ذاتها‪ ،‬ويف كلتا احلالتني «التفاعل» له طابع اقت�صادي‬ ‫غالب‪ ،‬فالن�شاط االن�ساين التفاعلي بني اجلماعات داخل البيئة اجلغرافية الواحدة م�س ّب ُبه‬ ‫اقت�صادي ‪ -‬حياتي ‪ -‬معي�شي‪ ،‬وكذا احتكاك االن�سان ببيئته‪ ،‬وارتقاء هذا االحتكاك �إىل مرتبة‬ ‫التفاعل بالعقل‪� ،‬أي بعقل الأ�شياء والظاهرات هو ذو طابع �إنتاجي ‪ -‬اقت�صادي غالب‪ ،‬وبالتايل‪،‬‬ ‫املعرفة االن�سانية الناجتة عن فعل «العقل « هي التي قادت وتقود م�سرية النمو والتنمية والرتقي‬ ‫االقت�صادي ‪ -‬االجتماعي للجماعات االن�سانية التي �سكنت الأر�ض وتفاعلت معها وتبنت‬ ‫فكرة اال�ستقرار يف املكان‪ ،‬و�أ�س�ست للعمران مبظاهره املختلفة‪ ،‬و�صو ًال �إىل تكوين «الهوية القومية‬ ‫االجتماعية» االن�سانية املتلونة بتالوين التفاعالت التي �أ�س�ست لتبلورها و�صريورتها‪.‬‬ ‫لذا‪ ،‬عندما نقارب مو�ضوع «اقت�صاد املعرفة» ‪ -‬فنحن ال نتحدث عن تغري يف املفهوم والتعريف‪� ،‬أي‬ ‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬


‫‪50‬‬

‫تعريف «االقت�صاد» ومفهومه‪ ،‬بل املق�صود هو التغري يف القيمة وحجم الدور الذي تلعبه «املعرفة»‬ ‫بوجوهها املختلفة يف العملية االقت�صادية مبراحلها املختلفة‪ ،‬لدرجة حتولت «املعرفة» ‪ -‬بهذا املعنى‬ ‫ من عن�صر م�ساعد يف التطور االقت�صادي ‪ -‬االنتاجي �إىل عن�صر �أ�سا�سي من عنا�صر الإنتاج‪.‬‬‫وهنا‪ ،‬يربز دور التطور التقني ‪ -‬العلمي والتكنولوجي وعالقته باملعرفة واملعلومات التي يتم‬ ‫توظيفها يف احلركة االقت�صادية من مرحلة الإنتاج �إىل مراحل اال�ستهالك‪.‬‬ ‫خامتة‬

‫العقل �إذاً هو البداية‪ ،‬فالعقل املتفاعل مع املحيط‪ ،‬هو م�صدر املعرفة‪ ،‬واملعرفة املعرب عنها مبجموعة‬ ‫املعارف واملعلومات والعلوم والآليات والتقنيات والأدوات والو�سائل هي التي تعطي االن�سان ‪-‬‬ ‫العقل القوة الأ�سا�سية‪ ،‬وهذه املعرفة هي تقود وترافق االقت�صاد من مرحلة الإنتاج‪� ،‬إنتاج الرثوة‬ ‫واحل�صول عليها من م�صادرها الأوىل �إىل مرحلة اال�ستهالك اجلماهريي الأخري‪.‬‬

‫املراجع‬

‫ كتاب «ن�شوء الأمم» ‪� -‬أنطون �سعاده‪.‬‬‫ التاريخ االقت�صادي للبلدان الأجنبية (ع�صر الر�أ�سمالية)‪ .‬بوليان�سكي ‪ -‬مو�سكو‪.1961 ،‬‬‫ التنمية والتخطيط االقت�صادي ‪ -‬دار النه�ضة العربية‪ ،‬بريوت ‪.1972‬‬‫ «مبادئ اجلغرافيا االن�سانية» ويدال دالبال�ش‪.‬‬‫ حماولة يف �إي�ضاح قواعد «االقت�صاد القومي االجتماعي» ‪� -‬إنعام رعد‪.‬‬‫‪« -‬املحا�ضرات الع�شر» ‪� -‬أنطون �سعاده‪.‬‬


‫‪51‬‬

‫راهنية فكر �سعاده‬

‫العلمانية يف ع�رص ال ّنه�ضة‬ ‫ال ّنزعة‬ ‫ّ‬

‫ال�شميل ‪ -‬خليل �سعادة ‪ -‬فرح �أنطون‬ ‫�شبلي‬ ‫ّ‬ ‫| منري حايك | باحث‬

‫نهائي لتاريخ بداية ونهاية و�إجنازات‬ ‫لي�س من �إجماع بني امل�ؤ ّرخني والباحثني على حتديد ّ‬ ‫وخ�صو�ص ّيات ع�صر النه�ضة يف العالمَ‬ ‫العربي‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ويذهب «جان داية» مث ًال‪� ،‬إىل «التمييز بني ع�صر النه�ضة يف بالد ال�شام وع�صر النه�ضة يف م�صر‬ ‫العربي‪ ،‬حيث يتم ّيز ّ‬ ‫كل واحد منها بخ�صو�ص ّية‪،‬‬ ‫انطالقاً من وجود ب�ضعة ع�صور نه�ضة يف العامل ّ‬ ‫بدءاً بتاريخ والدته‪ ،‬ومروراً باملع�ضالت ا ّلتي عاجلها‪ ،‬وانتها ًء باملنهج الذي ا ّتبعه الر ّوا ّد» ‪� .‬أ ّما «ع�صر‬ ‫ال ّنه�ضة يف بالد ال�شّ ام فقد ولد يف العام ‪ 1846‬بوالدة باكورة اجلمع ّيات الثقاف ّية يف عموم العامل‬ ‫العربي‪ ،‬وا ّلتي �أطلق عليها م� ّؤ�س�سوها ومنهم املع ّلم بطر�س الب�ستاين وال�شيخ نا�صيف اليازجي‬ ‫ّ‬ ‫وامل�ست�شرق كورنيليو�س فانديك ا�سم «جممع ال ّتهذيب» ‪ .‬على �أنّ ع�صر ال ّنه�ضة يف م�صر (�إن �أردنا‬ ‫املمتدة ما بني عا َمي‬ ‫املدة ّ‬ ‫تب ّني ر�أي جان داية) �سبق ع�صر ال ّنه�ضة يف بالد ال�شام‪ ،‬وهو يرجع �إىل ّ‬ ‫املدة ا ّلتي ق�ضاها «رفاعة ّ‬ ‫الطهطاوي» يف باري�س على ر�أ�س البعثة الأوىل ا ّلتي‬ ‫‪ 1826‬و ‪ ،1831‬تلك ّ‬ ‫حممد علي للدرا�سة هناك‪ ،‬وعاد بعدها مطالعاً كتباً يف التاريخ القدمي والفل�سفة الإغريق ّية‬ ‫�أر�سلها ّ‬ ‫وامليثولوجيا واجلغرافيا والريا�ض ّيات واملنطق‪ ،‬وقارئاً �سرية نابوليون و�أفكاره و �إجنازاته‪ّ ،‬‬ ‫ومطلعاً على‬ ‫أهم ّ‬ ‫ورو�سو ومونت�سكيو ‪...‬‬ ‫املفكرين الفرن�س ّيني كـ را�سني وفولتري وكوندياك ّ‬ ‫م�ؤ ّلفات � ّ‬ ‫ولك ّننا نرى �أنّ ّ‬ ‫كل من عمل وبحث يف هذا املو�ضوع‪ ،‬ال يختلف مع غريه من النقّاد حول �أنّ‬ ‫بدايات القرن التا�سع ع�شر‪ ،‬هي بداية بزوغ فجر ال ّنه�ضة العرب ّية احلديثة‪ ،‬ب�ش ّتى �أ�شكالها الثقاف ّية‬ ‫والفكر ّية وال�سيا�س ّية‪.‬‬ ‫�أ ّما ال ّنه�ضة ا ّلتي نبحث عنها فهي ال ّنه�ضة الفكر ّية‪ ،‬ال ال ّنه�ضة الأدب ّية �أو الف ّن ّية �أو ال�شّ عر ّية‪،‬‬ ‫وامل�شاكل ا ّلتي �ستتناولها هي تلك امل�شاكل ا ّلتي �شغلت ّ‬ ‫مفكري ذلك الع�صر‪ ،‬حني �أخذوا‬ ‫‪1‬‬

‫‪2‬‬

‫‪3‬‬

‫ ‬

‫‪1‬‬

‫‪ 2‬‬ ‫ ‪3‬‬

‫جان‪ ،‬داية‪« ،‬علمان ّيو بالد ال�شام امل�سلمون يف ع�صر ال ّنه�ضة»‪ ،‬يف جريدة «حت ّوالت»‪ ،‬العدد الرابع والع�شرون‪،‬‬ ‫ال�سبت ‪ 14‬متّوز ‪.2007‬‬ ‫املرجع ال�سابق‪ .‬‬ ‫العربي يف ع�صر ال ّنه�ضة‪ ،‬دار النهار للن�شر‪ ،‬الطبعة الثالثة‪ ،‬بريوت‪� ،1977 ،‬ص ‪.94 - 92‬‬ ‫الفكر‬ ‫حوراين‪،‬‬ ‫راجع‪� ،‬ألربت‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬


‫‪52‬‬

‫يغو�صون يف �أعماق احلياة املعا�صرة‪ ،‬بغية حتديد هو ّيتهم الثقاف ّية واحل�ضار ّية‪ ،‬ومق ّومات املدن ّية‬ ‫املعا�صرة‪ ،‬وخ�صائ�ص احل�ضارة الغرب ّية و�صلتها باحل�ضارة ال�شرق ّية والعرب ّية‪ .‬وعن هذه امل�شاكل‬ ‫تقدم‬ ‫تف ّرعت ق�ضايا العلم احلديث و�صلته بالدين‪ ،‬والدولة الع�صر ّية ومق ّوماتها‪ ،‬ودور املر�أة يف ّ‬ ‫املجتمع وتخ ّلفه‪ ،‬وموقف ّ‬ ‫والوطني‪ ،‬ومن‬ ‫القومي‬ ‫املفكر من املا�ضي وامل�ستقبل‪� ،‬أي من الترّ اث‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الأهداف القوم ّية ا ّلتي ينبغي �أن تنحو نحوها احلياة املعا�صرة ‪.‬‬ ‫أهم عوامل ال ّنه�ضة الفكر ّية عند العرب يف القرن الت�سع ع�شر هي‪:‬‬ ‫و� ّ‬ ‫احلملة الفرن�س ّية على م�صر (‪)1801 - 1798‬‬ ‫ البعثات العلم ّية �إىل �أوروبا‬ ‫ الإر�سال ّيات التب�شري ّية يف البالد العرب ّية‬ ‫ الطباعة‬ ‫ ال�صحافة‬ ‫ الرتجمة‬ ‫ اجلمع ّيات العلم ّية‬ ‫ اال�ست�شراق‬ ‫‪4‬‬

‫‪5‬‬

‫�أ ّما �أبرز ّ‬ ‫مفكري ع�صر النه�ضة فهم‪:‬‬ ‫ال�شيخ نا�صيف اليازجي (‪� ،)1871 - 1800‬أحمد فار�س ال�شدياق (‪ ،)1873 - 1801‬رفاعة‬ ‫الطهطاوي (‪ ،)1873 - 1801‬علي مبارك (‪ ،)1886 - 1816‬بطر�س الب�ستاين (‪،)1883 - 1816‬‬ ‫جمال الدين الأفغاين (‪� ،)1896 - 1839‬سليم الب�ستاين (‪� ،)1884 - 1848‬أديب ا�سحاق (‪1856‬‬ ‫حممد ر�شيد ر�ضا (‪� ،)1935 - 1865‬شبلي‬ ‫ ‪ ،)1885‬ال�شيخ ح�سني اجل�سر (‪ّ ،)1909 - 1845‬‬‫ال�شم ّيل (‪ ،)1917 - 1850‬ابراهيم اليازجي (‪ ،)1906 - 1847‬فرح �أنطون (‪ ،)1922 - 1874‬الإمام‬ ‫حممد عبده (‪ ،)1905 - 1849‬خليل �سعادة (‪ ،)1934 - 1857‬الأمري �شكيب �أر�سالن (‪- 1870‬‬ ‫ّ‬ ‫‪ ،)1946‬عبد الرحمن الكواكبي (‪� ،)1902 - 1846‬سليمان الب�ستاين (‪ ،)1925 - 1856‬قا�سم �أمني‬ ‫(‪ ،)1908 - 1865‬جرجي زيدان‪ ،‬يعقوب �ص ّروف‪... ،‬‬ ‫أهمهم‪:‬‬ ‫�إ�ضافة �إىل كثريين من امل�ست�شرقني الذين �أ�سهموا يف بزوغ فجر النه�ضة‪ّ � ،‬‬ ‫ الفرن�س ّيون‪ :‬بارون دو �سا�سي ‪ ،Baron de Sacy‬اتيان كاترمري ‪ ،E. Quatremire‬دي ال غراجن‬ ‫‪ ،de la grange‬جوزف رينو ‪ ،J. reinaud‬كا�سان دو بر�سفال ‪ ،Caussin de Perseval‬دو تا�سي‬ ‫‪ 4‬‬ ‫‪ 5‬‬

‫راجع‪ ،‬ماجد‪ ،‬فخري‪ ،‬احلركات الفكر ّية ور ّوادها اللبنان ّيون يف ع�صر ال ّنه�ضة‪ ،‬دار ال ّنهار للن�شر‪ ،‬بريوت‪� ،1992 ،‬ص‪.8‬‬ ‫علي‪ ،‬املحافظة‪ ،‬جّ‬ ‫االتاهات الفكر ّية عند العرب يف ع�صر النه�ضة‪ ،‬الأهل ّية للن�شر والتوزيع‪ ،‬بريوت‪� ،1975 ،‬ص‪.32 - 23‬‬


‫راهنية فكر �سعاده‬

‫ال ّنزعة العلمان ّية يف ع�صر ال ّنه�ضة‬

‫‪53‬‬

‫‪ ،G. de Tassy‬غويار ‪.Guyard‬‬ ‫ الأملان‪� :‬إيفالد ‪ ،H. Ewald‬روديجر ‪ ،H. Rodiger‬فون كرمير ‪� ،Von Kremer‬شربجنر ‪.Sprenger‬‬ ‫ الهولند ّيان‪ :‬بول دي يونغ ‪ ،P. de Jong‬راينهارت دوزي ‪.R Dozy‬‬ ‫ الإنكليز ّيان‪� :‬إدوارد باملر ‪ ،E. Palmer‬وليم رايت ‪...W. Wright‬‬ ‫‪6‬‬

‫حتدثنا عن مفهوم ال ّنه�ضة وبداياتها وعواملها ور ّوادها‪� ،‬سننتقل للحديث عن مفهوم‬ ‫�أ ّما وقد ّ‬ ‫العلمان ّية‪.‬‬ ‫العلمان ّية هي الترّ جمة العرب ّية لكلمة ٍ «‪ ،»Secularie« ،«Secularism‬يف اللغات الأورو ّب ّية‪ .‬و «هي‬ ‫من العِلم فتكون بك�سر العني‪� ،‬أو من العالمَ فتكون بفتح العني‪ ،‬وهي ترجمة غري دقيقة وغري‬ ‫الدنيو ّية �أو ال‬ ‫�صحيحة‪ ،‬لأنّ الترّ جمة احلقيق ّية للكلمة الإجنليز ّية هي «ال دين ّية �أو ال غيب ّية �أو ّ‬ ‫لكن امل�س ّوقني الأُ َّول ملبد�أ العلمان ّية يف بالد الإ�سالم علموا �أ ّنهم لو ترجموها الرتجمة‬ ‫ّ‬ ‫مقد�س»‪ّ ،‬‬ ‫احلقيق ّية لمَ ا قبلها النا�س ولر ّدوها ونفروا منها» ‪� .‬أ ّما دائرة املعارف الربيطان ّية فتقول يف تعريف كلمة‬ ‫«‪:»Securalism‬‬ ‫«هي حركة اجتماع ّية تهدف �إىل �صرف النا�س عن االهتمام بالآخرة �إىل االهتمام باحلياة الدنيا‬ ‫وحدها‪ ،‬ذلك �أ ّنه كان لدى النا�س يف الع�صور الو�سطى رغبة �شديدة يف العزوف عن الدنيا والت�أ ّمل‬ ‫يف اهلل واليوم الآخر‪ .‬ومن �أجل مقاومة هذه الرغبة طفقت الـ «‪ »Securalism‬تعر�ض نف�سها‬ ‫من خالل تنمية النزعة الإن�سان ّية‪ ،‬حيث بد�أ النا�س يف ع�صر النه�ضة ُيظهرون تع ّلقهم ال�شديد‬ ‫بالإجنازات الثقاف ّية الب�شر ّية‪ ،‬وب�إمكان ّية حتقيق طموحاتهم يف هذه احلياة القريبة‪ّ .‬‬ ‫وظل االتجّ اه �إىل الـ‬ ‫«‪ »Securalism‬يتط ّور با�ستمرار خالل التاريخ احلديث ك ّله باعتبارها حركة م�ضا ّدة للدين وم�ضا ّدة‬ ‫للم�سيح ّية» ‪.‬‬ ‫اال�صطالحي‪ ،‬والتي تب ّناها كثريون من ّ‬ ‫مفكري ع�صر النه�ضة العرب ّية‪ ،‬واعتربوها‬ ‫�أ ّما معنى العلمان ّية‬ ‫ّ‬ ‫ال�سبيل الوحيد لتخلي�ص بالدهم من نري الظلمة والتقهقر واالنحطاط‪ ،‬فهو ف�صل ال�سلطة الدين ّية‬ ‫التدخل يف �ش�ؤون ال�سيا�سة‪ ،‬وبالتايل قيام الدولة املدن ّية‪.‬‬ ‫عن ال�سلطة املدن ّية‪ ،‬ومنع رجال الدين من ّ‬ ‫مف�صل عن ال ّنزعة العلمان ّية لدى ثالثة من كبار ّ‬ ‫املفكرين يف ع�صر النه�ضة‪،‬‬ ‫ويف ما يلي بحث ّ‬ ‫�شبلي ال�شم ّيل‪ ،‬خليل �سعادة‪ ،‬وفرح �أنطون‪.‬‬ ‫‪7‬‬

‫‪8‬‬

‫‪ 6‬‬ ‫ ‪7‬‬ ‫ ‪8‬‬

‫راجع‪ ،‬علي‪ ،‬املحافظة‪ ،‬جّ‬ ‫االتاهات الفكر ّية عند العرب يف ع�صر ال ّنه�ضة‪ ،‬مرجع �سابق‪� ،‬ص ‪.35 - 34‬‬ ‫حممد)‪« ،‬العلمان ّية التاريخ والفكرة»‪ ،‬موقع �صيد الفوائد الإلكرتوين‪.‬‬ ‫عو�ض‪ ،‬القرين (بن ّ‬ ‫ين‪.‬‬ ‫إلكرتو‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫الفوائد‬ ‫�صيد‬ ‫موقع‬ ‫ة)»‪،‬‬ ‫ي‬ ‫(العلمان‬ ‫معا�صرة‬ ‫ة‬ ‫ي‬ ‫فكر‬ ‫«مذاهب‬ ‫حممد‪ ،‬قطب‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫نق ًال عن ّ‬ ‫ّ‬ ‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬


‫‪54‬‬

‫ال�شميل (‪)1917 - 1850‬‬ ‫�شبلي‬ ‫ّ‬

‫ُولِد �شبلي ال�شم ّيل يف قرية كفر�شيما �إىل اجلنوب من بريوت �سنة ‪ 1850‬وتلقّى علومه اجلامع ّية يف‬ ‫الطب فيها �سنة‬ ‫الك ّل ّية ال�سور ّية الإجنيل ّية (اجلامعة الأمريك ّية يف بريوت اليوم)‪ ،‬فتخ ّرج من معهد ّ‬ ‫خ�ص�ص‪.‬‬ ‫‪ّ ،1871‬ثم �سافر �إىل باري�س لل ّت ّ‬ ‫الطب والت�أليف‪ ،‬ف� ّأ�س�س جم ّلة‬ ‫وفد على م�صر وهو يف اخلام�سة والع�شرين‪ ،‬و�أقام فيها ممار�ساً مهن َتي ّ‬ ‫«ال�شفاء» �سنة ‪ ،1886‬ون�شر طائفة كربى من املقالت العلم ّية والفل�سف ّية يف «م�صر الفتاة» و«الفتاة»‬ ‫و«الب�صري» و«املقتطف» ّ‬ ‫و«املقطم» و�سواها‪.‬‬ ‫أهم م�ؤ ّلفاته العلم ّية املو�سوم بـ «�شرح بخرن على مذهب دارون» ا ّلذي �أُعيد‬ ‫ويف �سنة ‪ 1884‬ن�شر � ّ‬ ‫طبعه �سنة ‪ 1910‬بعنوان «فل�سفة الن�شوء واالرتقاء»‪ ،‬وهو اجلزء الأ ّول من «جمموعة» مقاالته و�أبحاثه‬ ‫امل�شتملة على جوهر فل�سفته العلم ّية واالجتماع ّية‪ .‬وتوفيّ يف القاهرة �سنة ‪.1917‬‬ ‫يتبينّ يف ثنايا فل�سفة ال�شم ّيل العا ّمة‪� ،‬إ�ضافة �إىل ت�أثّره بنظر ّيات ت�شارلز داروين ا ّلتي ال ينكرها‪،‬‬ ‫الب�شري‪ ،‬من جهة‪،‬‬ ‫�أثر هربرت �سبن�سر و�أوغ�ست كونت يف تكوين نظرته ال�شاملة �إىل تط ّور الفكر‬ ‫ّ‬ ‫ون�شوء املجتمعات وتد ّرجها يف معارج ال ّر ّقي من جهة �أخرى ‪.‬‬ ‫مي ّهد �شبلي ال�شم ّيل لب�سط فل�سفته املا ّد ّية بعر�ض املراحل ا ّلتي �سبقت قيام تلك الفل�سفة يف‬ ‫الب�شري من ريقة‬ ‫الع�صور احلديثة‪ ،‬والعقبات ا ّلتي كانت حتول‪ ،‬وما زالت‪ ،‬دون حت ّرر العقل‬ ‫ّ‬ ‫املعتقدات واخلرافات الدين ّية واخللق ّية والرتبو ّية‪.‬‬ ‫ويبد�أ بالإ�شـارة �إىل �أثر الرتبيـة اخللقـ ّية والدين ّية ال�شـائعة يف تخ ّلف ال�شـعوب‪ ،‬يف كِ ال ال�شـرق‬ ‫والغرب‪ .‬فهـذه الرتبيـة تلقّن الط ّالب املبـادئ والتقاليـد املتوارثة دون متحي�ص‪ ،‬فتف�ضي �إىل خنق‬ ‫روح ال ّنقـد واال�سـتقالل يف احلكـم‪ ،‬وتبعـده ّ‬ ‫كل البعد عن التفكري‬ ‫العلمي ‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الطبيعي بالك ّل ّية‪ ،‬وال يبقى �إ ّال الإن�سان امل�صنوع على خالف الطبيعة» ‪.‬‬ ‫«فيزول الإن�سـان‬ ‫ّ‬ ‫وكان العلم عنده يعني النظام امليتافيزيقي ا ّلذي بناه هك�سلي و�سبن�سر يف �إنكلرتا‪ ،‬وهاكل وبوخرن‬ ‫يف �أملانيا على فر�ض ّيات داروين احلذرة [‪ ]...‬وكان �أ�سا�س ذلك فكرة وحدة الكائنات‪.‬فجميع‬ ‫جدت منذ الأزل و�ستبقى �إىل الأبد‪ .‬وبالأ�شكال املتك ّونة‪،‬‬ ‫الأ�شياء تتك ّون من املا ّدة بحركة عفو ّية ُو َ‬ ‫�أي املعادن والنبات واحليوان والإن�سان‪ ،‬تكون يف ّ‬ ‫كل مرحلة �أكرث مت ّيزاً بع�ضها عن بع�ض‪ ،‬و�أكرث‬ ‫تعقّداً منها يف املرحلة ال�سابقة‪ّ .‬‬ ‫وكل مرحلة تنبثق عن املرحلة ا ّلتي �سبقتها بدون انف�صال‪ ،‬بحيث‬ ‫‪9‬‬

‫‪10‬‬

‫‪11‬‬

‫‪12‬‬

‫‪ 9‬راجع‪ ،‬ماجد فخري‪ ،‬احلركات الفكر ّية ور ّوادها اللبنان ّيون يف ع�صر النه�ضة‪ ،‬مرجع �سابق‪� ،‬ص ‪.70‬‬ ‫‪ 1 0‬املرجع ال�سابق �ص‪.71‬‬ ‫‪ 1 1‬املرجع ال�سابق �ص‪.71‬‬ ‫‪� 1 2‬شبلي‪ ،‬ال�شم ّيل‪ ،‬فل�سفة الن�شوء واالرتقاء‪ ،‬دار مارون عبود‪ ،‬طبعة جديدة‪� ،1983 ،‬ص‪.18‬‬


‫راهنية فكر �سعاده‬

‫ال ّنزعة العلمان ّية يف ع�صر ال ّنه�ضة‬

‫‪55‬‬

‫ما يبد�أ نوراً ي�صبح حركة ّثم جاذب ّية ّثم رغبة ّثم ح ّباً ‪.‬‬ ‫والإن�سان هو ّقمة هذا ال ّتط ّور والكائن الأ ّول القادر على ال�سيطرة عليه وامل�ساهمة فيه عن وعي‪،‬‬ ‫إداري‪ ،‬والرغبة‬ ‫وذلك بتغيري ظروفه اخلارج ّية وباال�ستعا�ضة عن ال ّنزاع بالتعاون والإكراه بالتنظيم ال ّ‬ ‫اخلا�صة بال�سعي وراء �سعادة اجلميع ‪.‬‬ ‫الأنان ّية يف �سعادته ّ‬ ‫وي�أخذ ال�شم ّيل على الرتبية الدين ّية ف�صلها الإن�سان عن هذا العامل‪ ،‬ح ّتى ال يعود ي�أبه به‪ ،‬وعلى‬ ‫الرتبية الأدب ّية ت�صويرها للإن�سان كما تتخ ّيله هي و�أ�صحابها‪ ،‬ال كما هو على حقيقته‪ ،‬فتزيده �ضعفاً‬ ‫على �ضعف‪ ،‬وتغر�س فيه روح التك ّلف والرياء‪ّ .‬‬ ‫ويحذر من االنخداع مبا يظهر من انطباق بع�ض‬ ‫املبادئ والت�شاريع الدين ّية على العقل والعدل‪ ،‬فالعربة يف التطبيق ال يف التجريد‪� ،‬إ�ضافة �إىل �أنّ‬ ‫ال�سلطة الروح ّية قد تذ ّرع بها حماتها لل�سيطرة على عقول ال�شعب وعواطفه‪ ،‬ح ّتى ا�ست�سلم �إىل‬ ‫الق�ضاء والقدر‪ ،‬وقنع بحاله من التخ ّلف والفقر‪ ،‬بينما تذ ّرع امللوك والر�ؤ�ساء املدن ّيون بال�شرائع‬ ‫االتوقراط ّية واال�ستبداد ّية ال�ستعباد ال�شعب و�إذالله و�سلبه ح ّر ّياته وحقوقه ‪.‬‬ ‫بنى �شبلي ال�شم ّيل فل�سفته الكون ّية كما ر�أينا‪ ،‬على نظر ّيات داروين و�سبن�سر وكونت‪ ،...‬وانطلق‬ ‫والعلمي‪ ،‬فحمل على الدين و�شرائعه‬ ‫االجتماعي‬ ‫منها للخو�ض يف م�س�ألة الدين و�صلته بالتط ّور‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫من جه َتني‪:‬‬ ‫ الأوىل �أ ّنه ذريعة يتذ ّرع بها الر�ؤ�ساء والزعماء لل�سيطرة على ذوي العقول ال�ساذجة‪.‬‬ ‫الب�شري‪ .‬ناهيك ب�أ ّنها‬ ‫التقدم‬ ‫ والثانية �أنّ املعتقدات الدين ّية املناق�ضة للعلم‪ ،‬عقبة يف �سبيل ّ‬ ‫ّ‬ ‫التع�صب والتباغ�ض والتناحر بني الأمم‪.‬‬ ‫�أ�سا�س ّ‬ ‫‪13‬‬

‫‪14‬‬

‫‪15‬‬

‫«ولذلك كان انتقال الإن�سان ب�شرائعه ونظاماته يف التاريخ م�صحوباً دائماً بثورات جتري الدماء فيها‬ ‫�أنهاراً وكثرياً ما ترجع باالجتماع القهقرى �أو تقف به ع�صوراً متطاولة» ‪.‬‬ ‫وب�أنّ تلك املعتقدات هي تقييد حل ّر ّية الفكر وا�ستحواذ للخوف والرعب على �أ�صحابها‪ ،‬وتع ّلقهم‬ ‫بالأوهام واخلرافات‪ّ ،‬‬ ‫وكل ذلك مناق�ض ملبادئ العلم ‪.‬‬ ‫ورقي ال�شعوب‪،‬‬ ‫وينطلق للحديث عن وجوب الف�صل بني الدين واالجتماع يف �سبيل ّ‬ ‫تقدم ّ‬ ‫ومتمدنة‪ ،‬فع ًال‪� ،‬إ ّال عندما ّ‬ ‫حطم الإ�صالح (�إ�صالح لوثر)‬ ‫وي�ضرب مث ًال �أوروبا ا ّلتي مل ت�صبح قو ّية ّ‬ ‫‪16‬‬

‫‪17‬‬

‫‪� 13‬ألربت حوراين‪ ،‬الفكر العربي يف ع�صر النه�ضة‪ ،‬مرجع �سابق‪� ،‬ص‪.298‬‬ ‫‪ 1 4‬راجع‪� ،‬شبلي ال�شم ّيل‪ ،‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.31‬‬ ‫‪ 15‬راجع‪ ،‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.51‬‬ ‫‪� 1 6‬شبلي ال�شم ّيل‪ ،‬فل�سفة الن�شوء واالرتقاء‪ ،‬مرجع �سابق‪� ،‬ص ‪.52‬‬ ‫‪ 1 7‬راجع‪ ،‬ماجد فخري‪ ،‬احلركات الفكر ّية ور ّوادها اللبنان ّيون يف ع�صر النه�ضة‪ ،‬مرجع �سابق‪� ،‬ص ‪.104 - 103‬‬ ‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬


‫‪56‬‬

‫ي�صح �أي�ضاً على املجتمعات‬ ‫والثورة الفرن�س ّية �سلطة الإكلريو�س على املجتمع‪ .‬ويقول �إنّ هذا ّ‬ ‫الإ�سالم ّية‪� ،‬إذ �إنّ ما �أ�ضعف الأ ّمة لي�س الإ�سالم �أو القر�آن‪ ،‬بل �سلطة رجال الدين ‪.‬‬ ‫فرجال الدين و�أن�صارهم من ّ‬ ‫ي�سخرون الأديان‬ ‫خا�صةً‪ ،‬كانوا ومازالوا ّ‬ ‫احلكام‪ ،‬يف الأمم الإ�سالم ّية ّ‬ ‫التقدم‪� .‬أ ّما القوانني‬ ‫اخلا�صة‪ ،‬وهي ا�ستعباد ال�شعوب واال�ستطالة عليها واحل�ؤول بينها وبني ّ‬ ‫مل�آربهم ّ‬ ‫ا ّلتي يجب �أن ّ‬ ‫تتحكم بتط ّور املجتمعات الب�شر ّية‪ ،‬فتبد�أ ب�إبراز وا�ستيعاب الرتابط ما بني الفرد‬ ‫واملجتمع الناجم عن وحدة القوانني ا ّلتي تفعل فيهما‪ ،‬قوانني علم احلياة وقوانني علم الطبيع ّيات‪.‬‬ ‫ويتحدث عن الرتابط بني علوم االجتماع واحلياة والطبيعة‪ ،‬ح ّتى �أ ّنه يقول ب�أ ّنها علم واحد‪ .‬وع ّلة‬ ‫ّ‬ ‫مركب من �أع�ضاء‪ٍّ ،‬‬ ‫احلي واملجتمع يكاد يكون تا ّماً‪ٌّ .‬‬ ‫فكل منهما ّ‬ ‫ولكل‬ ‫ذلك �أنّ التكاف�ؤ بني الكائن ّ‬ ‫خا�ص مالزم لأعمال �سائر الأع�ضاء الأخرى ومفتقر �إليها‪ .‬فالقلب مث ًال‪،‬‬ ‫من هذه الأع�ضاء عمل ّ‬ ‫الدماغ �أو املعدة‪� ،‬إ ّال �أ ّنه يفتقر �إليهما‪ ،‬ويرتبط بهما‪ .‬وكذلك الزارع يعمل يف‬ ‫يعمل غري ما يعمله ّ‬ ‫املجتمع غري ما يعمله ال�صانع �أو احلاكم‪� ،‬إ ّال �أ ّنه ي ّت�صل بهما‪ ،‬ويفتقر �إليهما‪ .‬وي�ست�شهد هنا بقول‬ ‫احلي مقابلة للقوى الكربى يف املجتمع‪:‬‬ ‫هربرت �سبن�سر �إنّ القوى الكربى يف الكائن ّ‬ ‫ فال�صناعة تقابل الق ّوة الغاذ ّية ا ّلتي من �ش�أنها �أن ته ِّيئ الغذاء‪.‬‬ ‫ واحلكومة تقابل املد ّبرة ومن �ش�أنها حت�صيل الغذاء‪.‬‬ ‫ والتجارة تقابل املو ّزعة ومن �ش�أنها توزيع الغذاء على باقي �أع�ضاء اجل�سم ‪.‬‬ ‫ ويقول ال�شم ّيل �إنّ اجل�سد يكون �صاحلاً للبقاء عندما تعمل �أجزا�ؤه بتعاون‪ ،‬هكذا يقوم املجتمع على‬ ‫�أح�سن وجه عندما تعمل �أجزا�ؤه معاً يف �سبيل خري اجلميع‪ ،‬فـ «ال ّتعاون نامو�س املجتمع الأعلى» ‪.‬‬ ‫‪18‬‬

‫‪19‬‬

‫‪20‬‬

‫وعن هذا ينتج �أنّ القوانني وامل� ّؤ�س�سات ما هي �سوى تدابري يف حقل احلياة االجتماع ّية‪ ،‬تقا�س‬ ‫قيمتها مبقدار ما تخدم اخلري العا ّم‪ ،‬على �أ ّنه ال ميكن اال ّتفاق على ما هو اخلري العا ّم �إذا مل تتوافر‬ ‫أخ�ص ح ّر ّية الفكر‪ ،‬وكذلك ال تقوم �إرادة عا ّمة بدون وحدة اجتماع ّية تقوم عليها‪ّ ،‬مما‬ ‫احل ّر ّية‪ ،‬وبال ّ‬ ‫يق�ضي ف�صل الدين عن احلياة ال�سيا�س ّية ‪.‬‬ ‫وال�س ّنة ا ّلتي ّ‬ ‫مكمل �أحدهما‬ ‫تتحكم باملجتمعات عنده‪ ،‬وهي كائنات ح ّية‪ ،‬يتجاذبها قانونان ّ‬ ‫ّ‬ ‫للآخر‪ :‬الأ ّول قانون حفظ الذات اخلا�ضع ل�س ّنة تنازع البقاء‪ .‬والثاين قانون التفاعل مع الكائنات‬ ‫الطبيعي‪.‬‬ ‫الأخرى اخلا�ضع ل�س ّنة االنتخاب‬ ‫ّ‬ ‫‪21‬‬

‫ ‬ ‫‪1 9‬‬ ‫‪2 0‬‬ ‫‪2 1‬‬ ‫‪18‬‬

‫راجع‪� ،‬ألربت حوراين‪ ،‬الفكر العربي يف ع�صر النه�ضة‪ ،‬مرجع �سابق‪� ،‬ص‪.300‬‬ ‫راجع‪ ،‬ماجد فخري‪ ،‬احلركات الفكر ّية ور ّوادها اللبنان ّيون يف ع�صر النه�ضة‪ ،‬مرجع �سابق‪� ،‬ص‪.105 - 104‬‬ ‫�شبلي ال�شم ّيل‪ ،‬فل�سفة الن�شوء واالرتقاء‪ ،‬مرجع �سابق‪� ،‬ص ‪. 55 - 54‬‬ ‫راجع‪� ،‬ألربت حوراين‪ ،‬الفكر العربي يف ع�صر النه�ضة‪ ،‬مرجع �سابق‪� ،‬ص‪.300‬‬


‫راهنية فكر �سعاده‬

‫ال ّنزعة العلمان ّية يف ع�صر ال ّنه�ضة‬

‫‪57‬‬

‫وي�ستنبط من ذلك النتائج ال�سيا�س ّية التالية‪:‬‬ ‫�أ ّو ًال‪ :‬على احلاكم �أن يعتني ب�سائر فئات املجتمع كما يعتني الطبيب ب�سائر �أع�ضاء اجل�سم �إذا �أراد‬ ‫�شفاء املري�ض‪.‬‬ ‫الطبيعي‪� ،‬أي �أن ينبثق عن الإرادة العا ّمة انبثاقاً‬ ‫ثانياً‪� :‬إنّ الإ�صالح يجب �أن يجري على املجرى‬ ‫ّ‬ ‫حتمل التغيريات العنيفة‪� ،‬أي اله ّزات‪ .‬فوجب‬ ‫حي‪ ،‬ال ي�ستطيع ّ‬ ‫طبيع ّياً‪ ،‬لأنّ املجتمع‪ ،‬وهو كائن ّ‬ ‫الإ�صالح على الرتا�ضي‪� ،‬إ ّما بني الأكرث ّية �أو بني �سائر �أفراد املجموع‪ ،‬و�إ ّال مل يكن �إ�صالحاً طبيع ّياً‬ ‫بل ق�سر ّياً‪ ،‬من �ش�أنه �أن ي�ض ّر باملجتمع‪.‬‬ ‫ثالث ًا‪� :‬إنّ تط ّور املجتمعات يخ�ضع ل�س ّنة الن�شوء واالرتقاء التدريج َّيني‪ ،‬القا�ضية ب�ضرورة التد ّرج‬ ‫يف�ضل الن�شوء‬ ‫يف االنتقال من حال �إىل حال‪ ،‬ولأنّ قانون «ف�سيولوجيا االجتماع» العظيم‪ّ ،‬‬ ‫التدريجي املنبثق عن الرتا�ضي على الثورة‪� .‬إ ّال �أنّ الثورة يجب �أن تكون «�صادرة عن �صوت‬ ‫ّ‬ ‫ال�شعوب‪ ،‬وعندها تكون ثورة ال ُتقا َوم» ‪.‬‬ ‫احلي وبني املجتمع‪ ،‬م�ستنبطاً يف ذلك �أحكاماً �سيا�س ّية �أخرى‪،‬‬ ‫ومي�ضي يف املقارنة بني الكائن ّ‬ ‫احلي‪ ،‬ثالثة �أنواع من الأفعال‪:‬‬ ‫ففي املجتمع‪ ،‬كما يف الكائن ّ‬ ‫ ما كان من اخت�صا�ص الفرد �أو اجلزء‪.‬‬ ‫ ما كان من اخت�صا�ص مراكز (�أو �أجهزة) ثانو ّية‪.‬‬ ‫ ما كان من اخت�صا�ص املجموع‪.‬‬ ‫‪22‬‬

‫‪23‬‬

‫ويف حديثه املبا�شر عن الدولة‪ ،‬اعترب ال�شم ّيل �أنّ احلكومة نائبة عن املجتمع يف حاجاته النفع ّية‬ ‫واحلب ّية‪ ،‬فلم يكن عليها واحلالة هذه �أن ت�ؤ ّدي دوراً �آخر �سوى «التعديل» بني م�صالح الأفراد‬ ‫قا�ض ب�سيط يق�ضي يف م�صالح الأ ّمة لتعديلها‪ ،‬مقت�صرة‬ ‫املختلفة‪ .‬ولك ّنها ينبغي �أ ّال تكتفي بدور ٍ‬ ‫على احلا�ضر القريب‪ ،‬بل يلزمها �أن ترتفع فوق نف�سها وفوق م�صلحة البع�ض‪ ،‬للنظر يف امل�ستقبل‬ ‫البعيد‪� .‬أي على الدولة �أن ت�ؤ ّدي دوراً �إيجاب ّياً يف تنظيم �ش�ؤون املجتمع‪ ،‬وت�أمني بع�ض احلاجات‬ ‫إلزامي‪ ،‬والدفاع عن �سالمة الأ ّمة‪ ،‬والدفع بها ُقدماً يف معارج ال ّت ّقدم‪.‬‬ ‫الأ�سا�س ّية‪ ،‬كالتعليم ال ّ‬ ‫ومنزلة ّ‬ ‫الدماغ من �سائر الأع�ضاء‪ .‬والدماغ بحكم اخلربات التي جتتمع لديه‬ ‫احلكام عنده كمنزلة ّ‬ ‫احلي توجيهاً فعل ّياً‪ .‬ف�إذا اعتربنا‬ ‫عن طريق ّ‬ ‫إيجابي يف توجيه الكائن ّ‬ ‫احل�س‪ ،‬ال ّبد �أن يقوم بدور � ّ‬ ‫‪ 2 2‬راجع‪ ،‬ماجد‪ ،‬فخري‪ ،‬احلركات الفكر ّية ور ّوادها اللبنان ّيون يف ع�صر النه�ضة‪ ،‬مرجع �سابق‪� ،‬ص ‪.106‬‬ ‫‪ 23‬راجع‪ ،‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص‪.107‬‬ ‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬


‫‪58‬‬

‫الدور ‪.‬‬ ‫احلكومة مبثابة الدماغ يف املجتمع‪ ،‬كان ال ّبد لها �أي�ضاً من القيام مبثل هذا ّ‬ ‫القومي‪ ،‬كما فعل‬ ‫الديني بالت�ضامن‬ ‫لكن ال�شم ّيل مل يكن يحاول اال�ستعا�ضة عن الت�ضـامن‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫اجلزئي خطر‬ ‫الكثريون من الك ّتاب من معا�صريه‪ ،‬بل راح �أي�ضـاً يعلن �أنّ جلميع �أنواع الت�ضـامن ّ‬ ‫القومي الأعمـى ال ّ‬ ‫يقل �ش ّراً عن‬ ‫ع�صب‬ ‫الديني‪ ،‬لأ ّنها جت ِّزئ املجتمع‬ ‫الت�ضامن‬ ‫ّ‬ ‫الب�شـري‪ .‬فال ّت ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫حتل‪ ،‬عاج ًال �أم �آج ًال‪ ،‬الوطن ّية العامل ّية ّ‬ ‫الديني الأعمى‪ .‬لذلك كان ال ّبد �أن ّ‬ ‫حمل الوالء‬ ‫ّ‬ ‫التع�صب ّ‬ ‫للوطن املحدود ‪.‬‬ ‫حتدث عن‬ ‫تقدم‪� ،‬أنّ �شبلي ال�شم ّيل كان ي�ؤمن بالعقيدة اال�شرتاك ّية‪ ،‬وقد ّ‬ ‫ن�ستنتج من خالل ما ّ‬ ‫ّ‬ ‫اال�شرتاك ّية يف مقال َتني ُن�شِ رتا يف «امل�ؤ ّيد»‬ ‫و»املقطم» �سنة ‪ ،1908‬واعتربها نتيجة لتط ّور املجتمع‬ ‫الب�شري‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫فاال�شرتاك ّية‪ ،‬كما يقول‪ ،‬لي�ست مذهباً من املذاهب ال�سيا�س ّية‪ ،‬بل نتيجة الزمة لتط ّور هذا‬ ‫اللذين ّ‬ ‫املجتمع‪ ...‬وهو يع ّلل ظهورها بال ّرجوع �إىل املبد�أَين الأ�صل َّيني َ‬ ‫يتحكمان بالطبيعة والعمران‬ ‫على ال�سواء‪ ،‬وهما التنازع املف�ضي �إىل تكاف�ؤ القِوى‪ ،‬والتكاف�ؤ املف�ضي �إىل التعاون‪ ،‬و�آفة الإن�سان‬ ‫�أ ّنه �شديد التنازع قليل التكافل‪� .‬إ ّال �أ ّنه كان واثقاً من �أنّ انت�شار العلم وانت�شار اال�شرتاك ّية‪ ،‬وهما‬ ‫�صنوان ال ينف�صالن‪ٍ � ،‬آت ال حمالة‪ ،‬وبو�سع الإن�سان �إذا تذ ّرع بالعقل واالختيار‪ ،‬تعجيل خُ طا‬ ‫فتحل ّ‬ ‫اال�شرتاك ّية‪ّ ،‬‬ ‫حمل الأنظمة القدمية املخالفة للطبيعة‪ ،‬بعد �أن تكون الب�شر ّية قد م ّرت مبا ال ّبد‬ ‫منه من ا�ضطرابات وثورات وقالقل‪ ،‬ما هي �إ ّال جزء من «نف�ض الغبار القدمي» ‪.‬‬ ‫‪24‬‬

‫‪25‬‬

‫‪26‬‬

‫ونهاي ًة نن�شد مع �شاعر النيل حافظ ابراهيم بع�ض الأبيات من ق�صيدته التي �ألقاها يف حفل رثاء‬ ‫الدكتور �شبلي ال�شم ّيل يف التا�سع من فرباير ‪:1917‬‬ ‫�صواب»‬ ‫ ‬ ‫ثــم يرتـ‬ ‫ُّـد �إىل ال ِ‬ ‫أر�ض باحثاً عن ِ‬ ‫«يقرع َ‬ ‫النجم �ســـائ ًال ّ‬ ‫واهد�أْ‬ ‫ــراب‬ ‫ ‬ ‫«فا�سـترَ ِْح �أ ّيها املجــاهِ ُد َ‬ ‫بلغــت املـرا َد َ‬ ‫قد َ‬ ‫حتـت ال ّت ِ‬ ‫ِّ‬ ‫هل � َ‬ ‫ـك ُّ‬ ‫ال�صواب»‬ ‫ف�شك احلكيم بدء‬ ‫ ‬ ‫أتاك اليق ُني من ط ُرقِ ال�شـ‬ ‫ِ‬ ‫‪27‬‬

‫‪ 24‬‬ ‫‪2 5‬‬ ‫‪2 6‬‬ ‫‪2 7‬‬

‫راجع‪ ،‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.111‬‬ ‫راجع‪� ،‬ألربت حوراين‪ ،‬الفكر العربي يف ع�صر النه�ضة‪ ،‬مرجع �سابق‪� ،‬ص‪.301‬‬ ‫راجع‪ ،‬ماجد فخري‪ ،‬احلركات الفكر ّية ور ّوادها اللبنان ّيون يف ع�صر النه�ضة‪ ،‬مرجع �سابق‪� ،‬ص‪.112‬‬ ‫العربي‪� ،1993 ،‬ص‪125‬‬ ‫جابر ع�صفور‪ ،‬هوام�ش على دفرت التنوير‪ ،‬املركز الثقا ّيف ّ‬


‫راهنية فكر �سعاده‬

‫ال ّنزعة العلمان ّية يف ع�صر ال ّنه�ضة‬

‫‪59‬‬

‫خليل �سعاده (‪)1934 - 1857‬‬

‫ولد خليل �سعادة يف ال�شوير‪ ،‬يف منطقة املنت يف جبل لبنان‪ ،‬عام ‪ 1857‬وتلقّى علومه الأوىل‬ ‫يف املدر�سة الأمريك ّية هناك‪ّ .‬ثم التحق �سنة ‪ 1878‬بالك ّل ّية ال�سور ّية الإجنيل ّية يف بريوت وانت�سب‬ ‫الطب التابع للك ّل ّية‪ .‬ونبغ يف هذا العلم‪ ،‬ح ّتى �أ ّنه كان ُيختار لإلقاء حما�ضرات فيه‬ ‫�إىل معهد ّ‬ ‫على الطلبة وهو بعد طالب‪ .‬وقد ك�شفت �سنوات الدرا�سة اجلامع ّية عن اجتاهاته الوطن ّية ومواقفه‬ ‫ال�سيا�س ّية املم ّيزة ‪.‬‬ ‫ن�شر عدداً من املقاالت الأدب ّية (وهو ما يزال طالباً) يف جم ّل َتي «اجلنان» و»الطبيب»‪ .‬وعرف تط ّوراً‬ ‫الفكري‬ ‫أكادميي ت�أثرياً عميقاً يف �إعداده‬ ‫ّ‬ ‫فكر ّياً خطرياً يف فرتة الدرا�سة اجلامع ّية‪ ،‬فقد �أثّر الو�سط ال ّ‬ ‫والنف�سي‪ ،‬وكانت الك ّل ّية يومذاك م�سرحاً حلوار عنيف يتع ّلق بنظر ّية التط ّور لداروين‪ ،‬ا ّلتي �شرحها‬ ‫ّ‬ ‫(كما �سبق وعرفنا) د‪� .‬شبلي ال�شم ّيل يف ر�سالة تخ ّرجه عام ‪ ،1871‬وا ّلتي �أ�شار �إليها الدكتور‬ ‫«�إدوين لوي�س» يف خطاب �ألقاه يف طلبة الك ّل ّية يف حفل توزيع ال�شهادات يف متوز �سنة ‪ .1882‬لقد‬ ‫ري اجلديد‬ ‫ري وتب ّنى النظر ّية اجلديدة‪ .‬ويظهر اتجّ اهه ال ّتط ّو ّ‬ ‫الطب �إذاً يف هذا املناخ التط ّو ّ‬ ‫در�س ّ‬ ‫العربي) ا ّلذي ن�شره يف القاهرة �سنة ‪ ،1911‬وا ّلتي عالج فيها‬ ‫باكراً يف ّ‬ ‫مقدمة قامو�سه (ال ّ‬ ‫إنكليزي ‪ّ -‬‬ ‫م�س�ألة اللغة‪ ،‬ن�شوءاً وتط ّوراً من وجهة نظر تط ّور ّية ‪.‬‬ ‫الطب وال�صيدلة يف الك ّل ّية‬ ‫احتج فيها ط ّالب ّ‬ ‫�شارك �سعادة باالنتفا�ضة الطالب ّية �سنة ‪ 1882‬ا ّلتي ّ‬ ‫ال�سور ّية الإجنيل ّية على ا�ستبدال العرب ّية بالإنكليز ّية كلغة وحيدة للتدري�س‪ ،‬تلك االنتفا�ضة ا ّلتي‬ ‫ذكرها جرجي زيدان يف ّ‬ ‫«ت�ستحق االهتمام والدرا�سة لأ ّنها بداية نه�ضة جديدة‬ ‫مذكراته ب�أ ّنها حركة‬ ‫ّ‬ ‫العربي مل يعرف مثي ًال لها من قبل‪ .‬ويف العا�شر من ني�سان ‪ 1934‬توفيّ الدكتور خليل‬ ‫يف ال�شرق ّ‬ ‫�سعادة يف �سان باولو عن عمر يناهز ال�سابعة وال�سبعني ‪.‬‬ ‫أهم م�ؤ ّلفاته‪:‬‬ ‫� ّ‬ ‫ الطوالع ال�سعد ّية يف �آداب اللغة الإنكليز ّية (القاهرة ‪)1886‬‬ ‫ال�سوري (‪ )1892‬رواية بالإنكليز ّية نقلها عادل �أ ّيوب �إىل العرب ّية و ُن�شرت �سنة ‪1981‬‬ ‫ الأمري‬ ‫ّ‬ ‫ قي�صر وكليوبرتا (لندن ‪ )1898‬رواية بالإنكليز ّية نقلها بنف�سه �إىل العرب ّية ون�شرها يف �سان باولو‬ ‫�سنة ‪1925‬‬ ‫ �أ�سباب الثورة الرو�س ّية (م�صر ‪)1906‬‬ ‫‪28‬‬

‫‪29‬‬

‫‪30‬‬

‫‪ 2 8‬راجع‪ ،‬علي حم ّية‪ ،‬خليل �سعادة �سريته و�أعماله‪ ،‬دار الفرات‪ ،‬بريوت‪ ،‬متوز ‪� ،2007‬ص‪.36‬‬ ‫‪ 29‬راجع‪ ،‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص‪.39‬‬ ‫‪ 30‬راجع‪ ،‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص‪.40‬‬ ‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬


‫‪60‬‬

‫ �إجنيل برنابا (ترجمة) (م�صر ‪)1908‬‬ ‫ قامو�س �سعادة (القاهرة ‪)1911‬‬ ‫ وله ثالث روايات تعترب يف حكم املفقودة‪� :‬أنطونيو�س وكليوبرتا‪� ،‬أ�سرار البا�ستيل‪ ،‬وال�شرك�س ّية‬ ‫عدة منها «املج ّلة»‪ ،‬و«اجلريدة»‪ ،‬و«الطبيب»‪ ،‬و«اجلنان»‪،‬‬ ‫احل�سناء‪ .‬كما وكتب يف جم ّالت وجرائد ّ‬ ‫و«الرابطة»‪ ،‬و«الأهرام»‪ ،‬وغريها‪...‬‬ ‫‪31‬‬

‫�أ ّما �أفكاره الأ�سا�س ّية ا ّلتي متحورت حولها كتاباته املختلفة وعبرّ ت عن مواقفه من م�شكالت‬ ‫الوطن وق�ضايا الع�صر‪ ،‬فقد ارتبطت بظواهر ثالث م ّيزت تلك املرحلة التاريخ ّية من حياة ال�شرق‬ ‫ين على املنطقة‪ ،‬عنيت بذلك ظاهرة‬ ‫ين وفرتة االنتداب‬ ‫الفرن�سي ‪ -‬الربيطا ّ‬ ‫�إ ّبان احلكم العثما ّ‬ ‫ّ‬ ‫الديني والدعوة �إىل الف�صل ما‬ ‫اال�ستبداد ومطلب احل ّر ّية واال�ستقالل من جهة‪ ،‬وظاهرة ّ‬ ‫التع�صب ّ‬ ‫االجتماعي‬ ‫االقت�صادي والالم�ساواة والتمايز‬ ‫بني الدين والدولة من جهة ثانية‪ ،‬وظاهرة التخ ّلف‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫واحلاجة �إىل نظام‬ ‫التقدم والعدالة وامل�ساواة للجميع من جهة ثالثة ‪.‬‬ ‫اجتماعي جديد‪ ،‬ي�ؤ ّمن ّ‬ ‫ّ‬ ‫الديني ودعوته �إىل ف�صل‬ ‫التع�صب‬ ‫يهمنا يف درا�ستنا هذه فهو ر�أي خليل �سعادة بظاهرة ّ‬ ‫�أ ّما ما ّ‬ ‫ّ‬ ‫ال�سلطة الدين ّية عن ال�سلطة املدن ّية‪.‬‬ ‫عن �سعادة بالبحث عن م�صدر الدين وطبيعته وغايته‪ ،‬بل نظر �إليه بو�صفه ظاهرة اجتماع ّية لها‬ ‫مل ُي َ‬ ‫عواملها وقوانينها‪ ،‬وبالتايل مفاعيلها يف املجتمع‪ .‬وقد تناول الدين يف مقاله الأ ّول يف «اجلنان» �سنة‬ ‫‪ ،1879‬م�ص ّنفاً �إ ّياه بني جمموعة العنا�صر الآيلة �إىل «االن�شقاقات الداخل ّية» وا ّلتي ت�ؤ ّدي‪ ،‬يف حال‬ ‫ا�ستمرارها‪� ،‬إىل خراب البالد وت� ّأخرها‪ .‬وتط ّرق �إىل تداعيات امتداد الدين يف الدولة واملجتمع‪،‬‬ ‫الديني‪ ،‬وح ّر ّية االعتقاد‪ ،‬ومبد�أ الف�صل بني ال�سـلطة الدين ّية وال�سـلطة املدن ّية ‪.‬‬ ‫كم�س�ألة ّ‬ ‫التع�صب ّ‬ ‫اجتماعي خبيث «�أكل قلب ال�شرق‪ ،‬وهر�أ بنيته و�أف�سد‬ ‫الديني مر�ض‬ ‫التع�صب‬ ‫فقد اعترب �أنّ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫و�سمم دمه‪ ،‬و�صرعه كما ت�صرع امليكروبات ال�سا ّمة ج ّباراً عظيماً» ‪.‬‬ ‫�أن�سجته‪ّ ،‬‬ ‫الديني مبر�ض الـ«تتنو�س» ا ّلذي ي�صيب اجل�سم عن طريق خد�ش‬ ‫التع�صب‬ ‫�ش ّبه خليل �سعادة ّ‬ ‫ّ‬ ‫ب�سيط‪ ،‬وو�صف �أعرا�ضه بالت�ش ّنجات ا ّلتي ما �إن تهجع لفرتة ح ّتى تعود �إىل الظهور م ّرة �أخرى‪ ،‬وال‬ ‫تزال كذلك‪ ،‬بني ثورات وهجوع‪ ،‬ح ّتى تنهك قوى العليل وميوت بالإعياء‪ .‬وت�ساءل عن الأ�سباب‬ ‫‪32‬‬

‫‪33‬‬

‫‪34‬‬

‫ ‬ ‫‪ 32‬‬ ‫‪ 33‬‬ ‫‪3 4‬‬

‫‪31‬‬

‫راجع‪ ،‬علي حم ّية‪ ،‬خليل �سعادة �سريته و�أعماله‪ ،‬مرجع �سابق‪� ،‬ص‪.305‬‬ ‫راجع‪ ،‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص‪.201‬‬ ‫راجع‪ ،‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص‪.229‬‬ ‫املج ّلة‪ ،‬بون�س �أير�س‪ ،‬ال�سنة الأوىل‪ ،‬العدد ‪ ،13‬يف ‪ 15‬ك‪� ،1915 1‬ص‪ .356‬نقال عن علي‪ ،‬حم ّية‪ ،‬خليل �سعادة‬ ‫�سريته و�أعماله‪� ،‬ص‪.230‬‬


‫راهنية فكر �سعاده‬

‫ال ّنزعة العلمان ّية يف ع�صر ال ّنه�ضة‬

‫‪61‬‬

‫الديني قائ ًال «لمِ َ ت� ّأ�صل فيه هذا املر�ض ا ّلذي‬ ‫التي �أ ّدت بال�شرق �إىل اال�ستمرار يف جموده ّ‬ ‫وتع�صبه ّ‬ ‫نه�ش حلمه‪ ،‬ونخر عظمه‪ ،‬و�أعمى ب�صريته‪ ،‬و� ّ‬ ‫أ�ضل خطراته‪ ،‬وط ّوق عنقه بطوق من فوالذ‪ ،‬وط ّوق‬ ‫رجليه ب�سال�سل من حديد‪ ،‬وو�ضع �شكيمة يف �أنفه وجلاماً يف فيه‪ ،‬وقاده �صاغراً ذلي ًال ال يب�صر‬ ‫التع�صب‬ ‫الديني‪ ،‬وال يلم�س بيديه �إ ّال ّ‬ ‫الديني‪ ،‬وال ي�سمع ب�أذنيه �إ ّال ّ‬ ‫بعينيه �إ ّال ّ‬ ‫التع�صب ّ‬ ‫التع�صب ّ‬ ‫أ�شد �أمرا�ض ال�شرق فتكاً يف ال ّنفو�س‪.‬‬ ‫الديني هو � ّ‬ ‫الديني» ‪ .‬ويخل�ص �إىل القول �إنّ ّ‬ ‫التع�صب ّ‬ ‫ّ‬ ‫الديني و�أ�شكاله عند ال�شعوب‪ ،‬فوجد �أ ّنه يرجع �إىل‬ ‫التع�صب‬ ‫بعدها بحث �سعادة عن �أ�صل ّ‬ ‫ّ‬ ‫وكل مدينة ّ‬ ‫كل �شعب ّ‬ ‫�أع�صر قدمية ويكمن يف الت�صارع قدمياً ما بني الآلِهة الوثن ّية‪� ،‬آلهة ّ‬ ‫وكل فئة‬ ‫اجتماع ّية‪ ،‬لذلك وجد �أنّ حياة ال�شرق «�سل�سلة م ّت�صلة من الأعمال الدين ّية»‪ .‬وذهب يف و�صفه‬ ‫للتع�صب �إىل قوله �إ ّنه مر�ض من �أمرا�ض الأخالق ينتقل بالوراثة كما تنتقل الأمرا�ض الطبيع ّية‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫فكما يولد ابن ّ‬ ‫التع�صب‪ .‬وهو �إذ‬ ‫املتع�صب م ّيا ًال �إىل ّ‬ ‫ال�سكري م ّيا ًال �إىل ال�سكر‪ ،‬كذلك يولد ابن ّ‬ ‫تع�صباً منهم و�أكرث رحمة لأنّ‬ ‫التع�صب‪ ،‬ي�شري �إىل �أنّ الأ ّم ّيني � ّأقل ّ‬ ‫ينتقد موقف املتع ّلمني من ّ‬ ‫تع�صب مدرو�س‪ ،‬وفيه‬ ‫تع�صب �أولئك فهو ّ‬ ‫تع�صب موروث‪� ،‬أ ّما ّ‬ ‫تع�صب ه�ؤالء‪� ،‬إذا كان موجوداً‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫يكمن اخلطر على املجتمع ‪.‬‬ ‫والتع�صب‪ ،‬فهو ال يربط بينهما‪ ،‬وال يعتربهما �شيئاً واحداً‪ .‬فالتد ّين يف‬ ‫ومي ّيز �سعادة بني التد ّين‬ ‫ّ‬ ‫نظره هو حالة امل�ؤمن ا ّلذي ميار�س �إميانه دون �أن يتعار�ض يف �إميانه مع معتقدات الآخرين ا ّلذين ال‬ ‫تع�صب‪ .‬وعليه‪� ،‬إنّ‬ ‫ي�ؤمنون �إميانه‪� .‬أ ّما �إذا وقع تعار�ض بينه وبني م�ؤمن �آخر‪ ،‬فعندها يتح ّول �إميانه �إىل ّ‬ ‫احلد الفا�صل بني ح ّر ّيتني على و�شك اال�صطدام‪ .‬وطرح‬ ‫احلد الفا�صل بني التد ّين‬ ‫والتع�صب هو ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الديني؟‬ ‫املتع�صب دين ّياً؟ وهل ميكن الق�ضاء على ّ‬ ‫�س�ؤا ًال هل ميكن �شفاء ّ‬ ‫التع�صب ّ‬ ‫حدد له ثالثة �شروط �أ�سا�س ّية‪،‬‬ ‫ويجيب �سعادة عن ال�س�ؤال ا ّلذي طرحه ب�أنّ امل�س�ألة تتط ّلب عالجاً ّ‬ ‫هي ال�شروط عينها ال�ضرور ّية ل�شفاء � ّأي مري�ض‪:‬‬ ‫ �أن ي�شعر امل�صاب ب�أ ّنه مري�ض‪.‬‬ ‫ �أن يكون راغباً يف ال�شفاء‪.‬‬ ‫ �أن ي�ستعمل العالجات ا ّلتي ي�أمر بها الطبيب‪.‬‬ ‫امل�سيحي وامل�سلم‬ ‫الديني‪ ،‬وب�أ ّنه على‬ ‫التع�صب‬ ‫التع�صب‬ ‫القومي مقام ّ‬ ‫ويختم ب�أ ّننا يجب �أن نقيم ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الديني الذميم ‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫تع�صباً وطن ّياً حميداً ي�صرفه عن ّ‬ ‫والدرزي �أن ي�شعر ب�أنّ له ّ‬ ‫التع�صب ّ‬ ‫‪35‬‬

‫‪36‬‬

‫‪37‬‬

‫‪38‬‬

‫ ‬ ‫‪3 6‬‬ ‫‪ 37‬‬ ‫‪3 8‬‬ ‫‪35‬‬

‫املج ّلة‪ ،‬املرجع ال�سابق‪.‬‬ ‫راجع‪ ،‬علي حم ّية‪ ،‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص‪.233‬‬ ‫راجع‪ ،‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص‪.234‬‬ ‫راجع‪ ،‬علي حم ّية‪ ،‬خليل �سعادة �سريته و�أعماله‪ ،‬مرجع �سابق‪� ،‬ص‪.239‬‬ ‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬


‫‪62‬‬

‫الديني ومفاعيله املد ّمرة للهيئة االجتماع ّية‪ ،‬انطالقاً من وجهة نظر خليل‬ ‫للتع�صب‬ ‫بعد عر�ضنا ّ‬ ‫ّ‬ ‫تدخل‬ ‫الدين‬ ‫�ضروري للدولة �أم ال؟ وبالتايل ّ‬ ‫�سعادة‪ ،‬ننتقل �إىل نظرته عن الدين والدولة‪ .‬هل ّ‬ ‫ّ‬ ‫رجال الدين يف ال�سيا�سة‪ ،‬هل هو مقبول �أم مرفو�ض؟‬ ‫للإجابة عن ال�س�ؤال الأ ّول‪ ،‬يعر�ض �سعادة يف مقال بعنوان «الوطن والدين وال�سيا�سة» ‪� ،‬إىل‬ ‫�أنّ الدين كان �ضرور ّياً للدولة يف الع�صور الغابرة‪ ،‬وخ�صو�صاً لدى الأمم املدع ّوة «وثن ّية» ا ّلتي هي‬ ‫مزيج غريب من الوطن ّية والدين وال�سيا�سة‪ ،‬و�ضرب �أمثلة على هذه احلالة من تواريخ م�صر و�سوريا‬ ‫واليونان‪� ...‬أ ّما يف حديثه عن �سلطة رجال الدين‪ ،‬فيقول �إ ّنه بعد انت�شار امل�سيح ّية ور�سوخها بني‬ ‫ال�شعوب ا ّلتي تب ّنتها‪ ،‬حدث تط ّور خطري على �صعيد التداخل بني الدين وال�سيا�سة‪� ،‬إذ انتقلت‬ ‫الزعامة ال�سيا�س ّية �إىل رجال الدين‪ ،‬ومار�ست الكني�سة عموماً والإكلريو�س خ�صو�صاً‪ ،‬ا�ستبداداً‬ ‫على العباد واملمتلكات ال ّ‬ ‫يقل عن ا�ستبداد امللوك والأمراء‪ .‬ويف حديثه عن ف�شل التداخل بني‬ ‫الدين والدولة‪ ،‬يعطي مثا ًال الثورة الفرن�س ّية ا ّلتي جاءت بعد و�صول الفو�ضى الدين ّية ال�سيا�س ّية‬ ‫الفرن�سي من عبود ّية امللوك ومن عبود ّية الإكلريو�س‪،‬‬ ‫حداً وح ّررت ال�شعب‬ ‫�أوجها‪ ،‬فو�ضعت لها ّ‬ ‫ّ‬ ‫ت�سمى فرن�سا ابنة الكني�سة البكر‪� ،‬أ�صبحت �أبعد بناتها عنها‪ ،‬وكما ح ّررت الثورة‬ ‫فـ «بعد �أن كانت ّ‬ ‫و�سجلت ثورتها الكربى‬ ‫ال�شعوب من عبود ّية امللوك ح ّررتهم كذلك من عبود ّية الإكلريو�س‪ّ ]...[ .‬‬ ‫قانوناً عا ّماً وهو �أن ال دخل للدين يف ال�سيا�سة‪».‬‬ ‫على �أنّ �سعادة مل يطلب التب�شري مببد�أ الف�صل بني الدين والدولة ملج ّرد التب�شري مبنجزات الأمم‬ ‫الأخرى يف هذا امل�ضمار‪ ،‬بل دعا �إىل تطبيق هذا الف�صل يف بالده‪ ،‬ويف بالد ال�شرق عموماً‪.‬‬ ‫فتتلخ�ص مبا يلي‪:‬‬ ‫�أ ّما م ّربرات دعوته �إىل العلمان ّية ّ‬ ‫ اختالف الأغرا�ض بني الدين والدولة‪ :‬فالأديان‪ ،‬يف نظره‪ ،‬تع ّلم الإن�سان تع ّلم النا�س‬ ‫املقد�سة‪ ،‬يف حني �أنّ الدولة‬ ‫عبادة اهلل وممار�سة ال�شعائر الدين ّية والعمل مبوجب تعاليم الكتب ّ‬ ‫تهتم بالت�أمني على احل ّر ّيات الفرد ّية والعا ّمة‪...‬‬ ‫ّ‬ ‫يهتم ب�أمور ما وراء املا ّدة‪ ،‬وهي �أمور‬ ‫يهتم الدين �أكرث ما ّ‬ ‫ حدود الدين وحدود الدولة‪ّ :‬‬ ‫تهتم الدولة ب�ش�ؤون العلم املتغيرّ ‪.‬‬ ‫متغيرّ ة‪ .‬يف حني ّ‬ ‫ ا�ستحالة الوحدة الدين ّية‪� :‬إذا كانت الوحدة ال�سيا�س ّية مطلباً ّ‬ ‫لكل �شعب ين�شد اال�ستقالل‬ ‫وال�سيادة‪ ،‬ف�إنّ الدين عامل تفرقة‪ .‬و�إذا كان الدين كذلك‪ ،‬فما احلاجة �إليه يف هذا املجال؟‬ ‫‪39‬‬

‫‪40‬‬

‫‪ 3 9‬خليل �سعادة‪« ،‬الوطن والدين وال�سيا�سة»‪ ،‬جم ّلة «الرابطة»‪ ،‬ال�سنة الرابعة‪ ،‬العدد ‪� 30 ،103‬آذار ‪ ،1932‬عن‬ ‫كتاب الرابطة ّ‬ ‫(الذي جمعت فيه مقاالت خليل �سعادة يف جم ّلة «الرابطة»‪ ،‬وبع�ض ما ن�شر يف جم ّلة «املج ّلة»‪،‬‬ ‫وبع�ض ما قيل فيه)‪� ،‬سان باولو‪ ،‬الربازيل‪.1971 ،‬‬ ‫‪ 4 0‬كتاب الرابطة‪ ،‬امل�صدر ال�سابق‪� ،‬ص‪.254‬‬


‫راهنية فكر �سعاده‬

‫ال ّنزعة العلمان ّية يف ع�صر ال ّنه�ضة‬

‫‪63‬‬

‫ عوامل التط ّور‪ :‬وهنا يقتدي �سعادة بالأمنوذج الأ ّول للتجربة الغرب ّية يف جمال ف�صل الدين‬ ‫عن الدولة‪ ،‬وهو الثورة الفرن�س ّية ومنجزاتها‪ .‬فاكت�شف الفرق الكبري يف �أحوال الأمم ما بني فرتة‬ ‫القرون الو�سطى حيث �ساد التداخل ما بني الدين وال�سيا�سة‪ ،‬وفرتة الع�صور احلديثة حيث‬ ‫ا�ستق ّلت الدولة عن الدين‪� .‬إذ كان التداخل عامل �ضعف واقتتال يف الداخل‪.‬‬ ‫ الرغبة يف امل�ساواة‪ :‬هذه الدعوة �إىل الف�صل ما بني الدين والدولة ترجع �إىل رغبة عارمة‬ ‫عنده يف تطبيق امل�ساواة التا ّمة بني �أفراد الأ ّمة الواحدة‪ ،‬وبناء جمتمع جديد يرتكز على قواعد‬ ‫العدل وامل�ساواة وتكاف�ؤ الفر�ص ‪.‬‬ ‫‪41‬‬

‫ويخل�ص �سعادة �إىل حتديد مفهوم العلمان ّية‪ ،‬فيعترب �أ ّنها الف�صل التا ّم بني الدين وال�سيا�سة‪ ،‬فعامل‬ ‫ين وما ي ّت�صل به من‬ ‫الدين هو عامل ما وراء املا ّدة‪� ،‬أ ّما عامل ال�سيا�سة والدولة فهو املجتمع الإن�سا ّ‬ ‫وحتديات‪ .‬ويتناول الف�صل ما بني الدين والدولة‪ :‬الق�ضاء واحلكومة والت�شريع والعمل‬ ‫ق�ضايا ّ‬ ‫واالنتخابات واالقت�صاد‪� .‬إ ّنه ف�صل كامل على امل�ستويات ال�سيا�س ّية واالجتماع ّية كافّة ‪.‬‬ ‫وحد ّد �سعادة مفهوم الأ ّمة‪ ،‬ف�أ�سقط الدين �أو العرق �أو اللغة من العنا�صر املك ّونة للأ ّمة‪ ،‬واعتمد‬ ‫وحدة امل�صالح �أ�سا�ساً لن�شوء الأ ّمة وقاعدة لوحدة احلياة القوم ّية‪ .‬وانتقد الرابطة الدين ّية ا ّلتي تقوم‬ ‫بخالف الرابطة الوطن ّية على �أ�سا�س الأكرث ّية و الأق ّل ّية الدين ّية‪ ،‬فت�ستحيل معها امل�ساواة بني �أبناء‬ ‫املتعددة الطوائف واملذاهب‪ ،‬لأنّ الدولة‪ ،‬يف هذه احلال‪ ،‬تكون‬ ‫الأ ّمة الواحدة‪ ،‬وخ�صو�صاً يف الأ ّمة ّ‬ ‫دولة الأكرث ّية الدين ّية امل�سيطرة‪ ،‬ال دولة املواطنني املت�ساوين �أمام القانون‪ ،‬يف احلقوق والواجبات ‪.‬‬ ‫ويف النهاية ميكن حتديد ال�سمات الرئي�س ّية للعلمان ّية ا ّلتي ت�ص ّورها خليل �سعادة كما يلي‪:‬‬ ‫االجتماعي‪.‬‬ ‫التع�صب ي�ؤ ّدي �إىل االنق�سام‬ ‫ ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ الت�سامح �سبيل الت�ضامن والوحدة‪.‬‬ ‫الديني‪.‬‬ ‫ ت�أمني ح ّر ّية االعتقاد ّ‬ ‫تدخل الدين يف �ش�ؤون الدولة‪.‬‬ ‫ رف�ض ّ‬ ‫ تعيني الرجال الأكفّاء للوظائف الأ�سا�س ّية يف الدولة ب�صرف النظر عن انتماءاتهم الطائف ّية‪.‬‬ ‫التقدم والتط ّور ‪.‬‬ ‫ باخت�صار‪ ،‬العلمان ّية يف نظره هي طريق ّ‬ ‫‪42‬‬

‫‪43‬‬

‫‪44‬‬

‫ ‬ ‫‪ 42‬‬ ‫‪4 3‬‬ ‫‪4 4‬‬ ‫‪41‬‬

‫راجع‪ ،‬علي حم ّية‪ ،‬خليل �سعادة �سريته و�أعماله‪ ،‬مرجع �سابق‪� ،‬ص‪.243 - 242‬‬ ‫راجع‪ ،‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص‪.244‬‬ ‫راجع‪ ،‬علي حم ّية‪ ،‬خليل �سعادة �سريته و�أعماله‪ ،‬مرجع �سابق‪� ،‬ص‪.245‬‬ ‫املرجع ال�سابق‪� ،‬ص‪.248‬‬ ‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬


‫‪64‬‬

‫القروي‪ ،‬بع�ضاً من �أبيات ق�صيدته ا ّلتي �ألقاها يف ختام احلفلة‬ ‫و�أخرياً‪ ،‬نن�شد �أي�ضاً مع ال�شاعر‬ ‫ّ‬ ‫الت�أبين ّية التي �أقامتها الرابطة الوطن ّية ال�سور ّية لرئي�سها ال�شر ّيف الدكتور خليل �سعادة‪:‬‬ ‫«� َ‬ ‫عتـــاب»‬ ‫جريئــاً دار بينكـما‬ ‫ ‬ ‫أراك لدى �ســرير احلـقِّ ُح ًّرا‬ ‫ُ‬ ‫العـذاب»‬ ‫وطـن يحيق به‬ ‫ ‬ ‫جيب �أ ّنى‬ ‫ويل ٌ‬ ‫«يقول لك ا�سرت ِْح ف ُت ُ‬ ‫ُ‬ ‫ال�شـباب‬ ‫فقد ح ّنت لز�أرتــه‬ ‫ ‬ ‫«�أعِ دين للحمى و�أعِ ْـد يراعـي‬ ‫ُ‬ ‫القــراب»‬ ‫ �أتهملـني �إذا بلـي‬ ‫�أنا ال�سـيف املجـ ّرد من قـرابي‬ ‫ُ‬ ‫«�أال قُــلْ ل ّلذيـن طغـوا رويـداً‬ ‫فللأ ّيـــام والـدول‬ ‫ ‬ ‫انقـالب» ‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫‪45‬‬

‫فرح �أنطون (‪)1922 - 1874‬‬

‫ولد فرح �أنطون يف طرابل�س �سنة ‪ 1974‬وتخ ّرج من مدر�سة كفتني بالكورة‪ّ ،‬ثم وفد �إىل م�صر �سنة‬ ‫‪ 1897‬فا�شتغل بال�صحافة والت�أليف‪� .‬أن�ش�أ جم ّلة «اجلامعة» يف اال�سكندر ّية �سنة ‪ ،1899‬ووا�صل‬ ‫لكن �إقامته فيها مل تطل‪،‬‬ ‫حتريرها طيلة �سبع �سنوات‪ ،‬ويف �سنة ‪ 1906‬رحل �إىل الواليات امل ّتحدة‪ّ ،‬‬ ‫وال�صحفي‪ .‬وتوفيّ �سنة ‪.1922‬‬ ‫أدبي‬ ‫ّ‬ ‫فعاد �إىل م�صر ليتابع ن�شاطه ال ّ‬ ‫و�ضع وترجم عدداً من امل�ؤ ّلفات الفكر ّية والأدب ّية والتاريخ ّية‪ ،‬نذكر منها‪:‬‬ ‫ �أور�شليم اجلديدة (�أو فتح العرب بيت املقد�س)‬ ‫ العلم والدين واملال‪ ،‬املدن الثالث‬ ‫ �أوديب امللك‬ ‫ م�صر اجلديدة‬ ‫ حياة امل�سيح (لـ رينان)‬ ‫ املر�أة يف القرن الع�شرين (لـ جول �سيمون)‬ ‫حممد عبده على‬ ‫أهم م�ؤ ّلفاته الفكر ّية والفل�سف ّية‪� .‬أُحلقت به ردود الإمام ّ‬ ‫ ابن ر�شد وفل�سفته (� ّ‬ ‫بع�ض �أقواله الفل�سف ّية‪ ،‬وردوده هو عليها) ‪.‬‬ ‫‪46‬‬

‫‪ 4 5‬كتاب الرابطة‪ ،‬مرجع �سابق‪� ،‬ص‪.332‬‬ ‫‪ 4 6‬راجع‪ ،‬ماجد فخري‪ ،‬احلركات الفكر ّية ور ّوادها اللبنان ّيون يف ع�صر النه�ضة‪ ،‬مرجع �سابق‪� ،‬ص‪.47‬‬


‫راهنية فكر �سعاده‬

‫ال ّنزعة العلمان ّية يف ع�صر ال ّنه�ضة‬

‫‪65‬‬

‫‪ -1‬ابن ر�شد وفل�سفته‬

‫هذا الكتاب هو درا�سة طويلة عن حياة ابن ر�شد وفل�سفته‪ ،‬ن�شرها فرح �أنطون يف جم ّلته «اجلامعة»‪،‬‬ ‫حممد عبده‪ ،‬و�أ ّدت �إىل املناظرة ال�شهرية بينهما‪.‬‬ ‫وكانت م�صدر اخلالف بينه وبني الإمام ّ‬ ‫لقد ت�أثّر يف كتابه عن ابن ر�شد بـ «رينان» ونهج منهجه‪ ،‬ح ّتى �أنّ البع�ض يذهبون �أكرث من ذلك‪،‬‬ ‫«قدم عر�ضاً منهج ّياً لأفكار رينان» ‪.‬‬ ‫فيقولون �إ ّنه ّ‬ ‫وي�شرح ال�سبب ا ّلذي من �أجله يكتب عن ابن ر�شد‪ ،‬فيقول �إنمّ ا هو «تقريب الأبعاد بني عنا�صر‬ ‫يتم ب�أن يربهن‬ ‫ال�شرق وغ�سل القلوب وجمع الكلمة‪ ]...[ ،‬ونحن نعتقد �أنّ هذا التقريب ال ّ‬ ‫الفريق الواحد للفريق الثاين �أنّ دينه �أف�ضل من دينه ف�إنّ هذا الأمر قد م�ضى زمانه‪ ]...[ .‬و�إنمّ ا‬ ‫التقريب املمكن يف هذا الزمان زمان العلم والفل�سفة قائم ب�أن يحرتم ّ‬ ‫كل فريق ر�أي غريه ومعتقده‪.‬‬ ‫والتع�صب‪ ،‬التي عليها يتوقّف نهو�ض ال�شرق وارتقاء‬ ‫احلدة‬ ‫[‪ ]...‬وغر�ضنا من هذا الكتاب ك�سر ّ‬ ‫ّ‬ ‫عنا�صره املختلفة» ‪.‬‬ ‫يتحدث فرح �أنطون عن الت�ساهل (الت�سامح)‪ ،‬ويعني هذا اال�صطالح عنده �أنّ الإن�سان يجب �أ ّال‬ ‫ّ‬ ‫خا�صة بني اخلالق واملخلوق‪ ،‬فلم يكن من �ش�أن‬ ‫يدين �أخاه الإن�سان‪ ،‬لأنّ الدين عبارة عن عالقة ّ‬ ‫املخلوق �أن يدين �أخاه الإن�سان بل على ذلك املخلوق �أن يت�ش ّبه بخالقه ا ّلذي يطلع �شم�سه على‬ ‫يحق‬ ‫ال�صاحلني والأ�شرار معاً‪ .‬وملّا كانت الرابطة اجلوهر ّية بني �أبناء الب�شر جميعاً هي الإن�سان ّية‪ ،‬فال ّ‬ ‫يتدخل يف �ش�ؤون � ّأي منهم �أو ي�ضطهدهم ملعتقداتهم الدين ّية‪ .‬ف�أ�سا�س الت�ساهل �إذاً‪ ،‬هو‬ ‫المرئٍ �أن ّ‬ ‫�أ ّول �أ�س�س العلمان ّية عنده ‪.‬‬ ‫ومن مبد�أ الت�ساهل هذا‪ ،‬ينطلق فرح �أنطون �إىل الدعوة �إىل الف�صل بني ال�سلطتني املدن ّية والدين ّية‪،‬‬ ‫معتمداً على التمييز بني مدار العلم وبني مدار الدين‪� ،‬أي بني ال�ش�ؤون الدنيو ّية التي هي من‬ ‫اخت�صا�ص العقل والعلم دون �سواهما‪ ،‬وال�ش�ؤون الروح ّية ا ّلتي تقت�صر على عالقات املخلوق‬ ‫يتو�صل �إليه الواحد ال ميكن‬ ‫باخلالق‪ ،‬فكانت من اخت�صا�ص القلب والدين دون �سواهما ‪ .‬وما ّ‬ ‫للآخر دح�ضه‪ ،‬لذلك يجب �أن يحرتم الواحد الآخر‪ ،‬و�أن ال يتجاوز الواحد حدود الآخر ‪.‬‬ ‫�أ ّما دعوته �إىل الف�صل بني ال�سلطة املدن ّية (الزمن ّية) وال�سلطة الدين ّية (الروح ّية)‪ ،‬وا ّلتي هي الأ�سا�س‬ ‫الثاين للعلمان ّية لديه‪ ،‬فيعيدها فرح �أنطون �إىل خم�سة �أ�سباب‪:‬‬ ‫‪47‬‬

‫‪48‬‬

‫‪49‬‬

‫‪50‬‬

‫‪51‬‬

‫ ‬ ‫‪4 8‬‬ ‫‪4 9‬‬ ‫‪ 50‬‬ ‫‪5 1‬‬ ‫‪47‬‬

‫ه�شام �شرابي‪ ،‬املثقّفون العرب والغرب‪ ،‬دار النهار للن�شر‪ ،‬بريوت‪� ،1971 ،‬ص‪.78‬‬ ‫فرح �أنطون‪ ،‬ابن ر�شد وفل�سفته‪ ،‬دار الطليعة‪ ،‬بريوت‪� ،‬آذار (مار�س)‪� ،1981 ،‬ص‪.37‬‬ ‫راجع‪ ،‬ماجد فخري‪ ،‬احلركات الفكر ّية ور ّوادها اللبنان ّيون يف ع�صر النه�ضة‪ ،‬مرجع �سابق‪� ،‬ص‪.95‬‬ ‫راجع‪ ،‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص‪.96‬‬ ‫راجع‪� ،‬ألربت حوراين‪ ،‬الفكر العربي يف ع�صر النه�ضة‪ ،‬مرجع �سابق‪� ،‬ص‪.304‬‬ ‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬


‫‪66‬‬

‫ال�سبب الأ ّول‪ ،‬ا ّلذي يلزم الف�صل بني ال�سلطتني املدن ّية والدين ّية‪ ،‬هو �أنّ غر�ض ال�سلطة الدين ّية‬ ‫يختلف ّ‬ ‫حث الب�شر على عبادة اهلل وعلى‬ ‫كل االختالف عن ال�سلطة املدن ّية‪ ،‬فغر�ض الأوىل ّ‬ ‫الف�ضـيلة وال ّرب‪� ،‬أ ّما غر�ض الثانية فهو حفظ الأمن‪� ،‬أي �صيانة ح ّر ّية الفرد �ضمن حدود الد�ستور‪،‬‬ ‫ا ّلذي ال يجيز االعتداء على هذه احل ّر ّية �إ ّال مبقدار ما تق�ضي به م�صلحة املجموع‪.‬‬ ‫بغ�ض النظر عن‬ ‫ال�سبب الثاين ير ّده فرح �أنطون �إىل الرغبة يف امل�ساواة املطلقة بني �أبناء الأ ّمة‪ّ ،‬‬ ‫معتقداتهم الدين ّية‪ ،‬ا ّلتي تق�ضي بالف�صل بني ال�سلطتني املدن ّية والدين ّية‪� ،‬شريطة �إدراك القائمني‬ ‫ين�صبوا على الرع ّية لكي ين�صروا ديناً على دين‪� ،‬أو مبد�أً على مبد�أ‪ ،‬بل ليق ّروا‬ ‫على الدولة �أ ّنهم مل َّ‬ ‫الب�شري العا ّم‪ ،‬ا ّلذي لي�س من �ش�أن ال�سلطة الدين ّية امل�سا�س به‪ ،‬ما دام �إقراره واحلفاظ‬ ‫احلق‬ ‫مبد�أ ّ‬ ‫ّ‬ ‫عليه من اخت�صا�ص ال�سلطة املدن ّية‪.‬‬ ‫التدخل يف‬ ‫يف عر�ضه لل�سـبب الثالث‪ ،‬يقول فرح �أنطون �إ ّنه لي�س من �ش�أن ال�سلطة الدين ّية ّ‬ ‫�ش�ؤون الإن�سـان الدنيو ّية‪ ،‬لأنّ غر�ض الأديان تدبري الآخـرة ال تدبري الدنيا‪ ،‬وملّا كانت �ش�ؤون الدنيا‬ ‫تتغيرّ بتغيرّ الأحوال والأزمان‪ ،‬امتنع �أن تط ّبق عليها الأحكام الدين ّية ا ّلتي و�ضعت يف الزمان‬ ‫اخلايل‪.‬‬ ‫� ّأما ال�سبب الرابع‪ ،‬فهو ا�ستمرار �ضعف الأ ّمة وتخ ّلفها ج ّراء اخل�صام بني رجال الدين و�أهل‬ ‫الفكر‪ ،‬ولأنّ ال�سلطة م�ضط ّرة �إىل ا�سرت�ضاء وممالأة �سواد النا�س‪ ،‬ولأنّ ت�ضارب م�صالح الفئات‬ ‫الديني جل�سم الأ ّمة‪� ،‬إ�ضافة �إىل تع ّر�ض املبادئ‬ ‫الدين ّية ال ّبد �أن ي�ؤ ّدي �إىل نخر �سو�س ال�شقاق‬ ‫ّ‬ ‫املقد�سة لالمتهان‪.‬‬ ‫الدين ّية ّ‬ ‫ال�سبب اخلام�س والأخري‪ ،‬هو �أنّ الوحدة الدين ّية ا ّلتي ي�صبو �إليها ّ‬ ‫ديني م�ستحيلة‪،‬‬ ‫كل نظام ّ‬ ‫لأ ّنها تتنافى مع مبد�أ ح ّر ّية االعتقاد‪ ،‬ومع مبد�أ االختالف والتباين والتن ّوع ا ّلذي طبع عليه العقل‬ ‫الب�شري‪ ،‬بل الكون ب�أ�سره‪ ،‬وهذا ما يعنيه القر�آن بالآية ‪« :‬ولو �شاء ر ّبك جلعل النا�س �أ ّمة واحدة» ‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫‪52‬‬

‫ومن تلك الأ�سباب ينطلق فرح �أنطون للقول �إن الوحدة احلقّة ال ميكن بلوغها �إ ّال عن طريق‬ ‫الوطن ّية‪.‬‬ ‫توخى فرح �أنطون و�ضع �أ�س�س دولة علمان ّية ي�شرتك فيها امل�سلمون وامل�سيح ّيون على قدم امل�ساواة‬ ‫ّ‬ ‫فاجلوهري هو جمموعة‬ ‫العر�ضي يف جميع الأديان‪.‬‬ ‫اجلوهري عن‬ ‫التا ّمة‪ .‬لذلك ر�أى بوجوب ف�صل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫تفح�صنا جمموعة املبادئ وجدنا �أ ّنها واحدة يف جميع‬ ‫املبادئ‬ ‫والعر�ضي هو جمموعة ال�شرائع‪ .‬ف�إذا ّ‬ ‫ّ‬ ‫حث النا�س على الف�ضيلة‪ .‬فجميع الأديان‬ ‫الأديان‪� ،‬أ ّما جمموعة ال�شـرائع‪ ،‬فغايتها الوحيدة هي ّ‬ ‫‪ 5 2‬راجع‪ ،‬ماجد فخري‪ ،‬احلركات الفكر ّية ور ّوادها اللبنان ّيون يف ع�صر النه�ضة‪ ،‬مرجع �سابق‪� ،‬ص‪.99 - 97‬‬


‫راهنية فكر �سعاده‬

‫ال ّنزعة العلمان ّية يف ع�صر ال ّنه�ضة‬

‫‪67‬‬

‫بحد ذاتها‪ ،‬فما هي‬ ‫�إنمّ ا هي دين واحد يع ّلم بع�ض املبادى العا ّمة‪� ،‬أ ّما ال�شرائع الدين ّية فال قيمة لها ّ‬ ‫�إ ّال جمموعة و�سائل لغاية ‪.‬‬ ‫وقد تن ّبه فرح �أنطون �إىل �أنّ �إقرار العدالة االجتماع ّية وال�سيا�س ّية عر�ضة خلط َرين متقابلني‪ ،‬هما فرط‬ ‫قوي ال�سلطة ما مل‬ ‫�ضعف الدولة �أو فرط ق ّوتها‪ .‬وكان مدركاً �أنّ ال�شرق ّيني ال يطمحون �إىل حاكم ّ‬ ‫ت�س ّور هذه ال�سلطة بقيود د�ستور ّية ف ّعالة‪ ،‬وال �أن ت�سند ال�سلطة �إىل ّ‬ ‫حكام �ضعفاء و «�أن ال تلقى‬ ‫اجلواهر يف املزابل» فيعهد بال�سلطة �إىل من لي�س كف�ؤاً لها ‪.‬‬ ‫�أ ّما �آفات احلكم يف ال�شرق‪ ،‬فيوجزها فرح �أنطون ب�آف َتني‪:‬‬ ‫ الأوىل مرتبطة ب�ضعف ّ‬ ‫احلكام و�سيطرة بطانتهم عليهم‪ ،‬وبانتقال ال�سلطة يف معظم البالد‬ ‫ال�شرق ّية �إىل امللوك والأمراء بالوراثة‪.‬‬ ‫ الثانية مرتبطة «بالآداب ال�سيا�س ّية واالجتماع ّية» ال�سائدة‪ ،‬ويعني بالآداب االجتماع ّية‬ ‫املبادئ اخللق ّية والرتبو ّية ا ّلتي ت�صون الرابطة املدن ّية بني �أبناء ال�شعب‪ ،‬وبالآداب ال�سيا�س ّية‬ ‫ويق�سمها �إىل ثالث‪:‬‬ ‫الأ�س�س الد�ستور ّية ا ّلتي يبني احلاكم �سلطته عليها‪ّ ،‬‬ ‫تقدم الأمم املنوط بالف�صل بني ال�سلطتني‬ ‫ويتحدث هنا عن �س ّر ّ‬ ‫ املجال�س الت�شريع ّية‪ّ :‬‬‫الت�شريع ّية والتنفيذ ّية‪.‬‬ ‫تت�صدى لل�سلطة احلاكمة وت�سهر على تنفيذ القوانني واحرتامها وتدعو‬ ‫ املعار�ضة‪ :‬ا ّلتي ّ‬‫�إىل الإ�صالح وتعمل على حتقيقه‪.‬‬ ‫تتلخ�ص يف ن�شر ما يفيد ال�شعب ويرفع‬ ‫وحدد وظائفها باثنتني‪ :‬اجتماع ّية ّ‬ ‫ ال�صحافة‪ّ :‬‬‫تتلخ�ص يف �إطالع اجلمهور على �أعمال احلكومة ح ّتى‬ ‫م�ستواه‬ ‫االجتماعي‪ .‬و�سيا�س ّية ّ‬ ‫ّ‬ ‫يتبينّ له خط�ؤها من �صوابها ‪.‬‬ ‫‪53‬‬

‫‪54‬‬

‫‪55‬‬

‫يف ّ‬ ‫تقدم تكمن نظر ّية فرح �أنطون يف الدولة‪ ،‬كما وردت يف كتاب «ابن ر�شد وفل�سفته»‬ ‫كل ما ّ‬ ‫حممد عبده‪ ،‬ا ّلتي �أحلقت ن�صو�صها يف الكتاب‪ ،‬وهي تقوم على احل ّر ّية‬ ‫ويف مناظرته مع الإمام ّ‬ ‫توخي ال�سعادة يف الدنيا والق ّوة الوطن ّية وال�سلم بني الأمم‪ .‬هذه الدولة ا ّلتي ال‬ ‫وامل�ساواة‪ ،‬وعلى ّ‬ ‫ميكن �أن تتحقّق �إ ّال �إذا كانت ال�سلطة العلمان ّية م�ستق ّلة عن �سلطة �أخرى‪.‬‬ ‫‪ 5 3‬راجع‪� ،‬ألربت حوراين‪ ،‬الفكر العربي يف ع�صر النه�ضة‪ ،‬مرجع �سابق‪� ،‬ص‪.305‬‬ ‫‪ 5 4‬راجع‪ ،‬ماجد فخري‪ ،‬احلركات الفكر ّية ور ّوادها اللبنان ّيون يف ع�صر النه�ضة‪ ،‬مرجع �سابق‪� ،‬ص‪.100‬‬ ‫‪ 55‬راجع‪ ،‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص‪.102 - 101‬‬ ‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬


‫‪68‬‬ ‫‪« -2‬الدين والعلم واملال» و «�أور�شليم اجلديدة»‬

‫ال�شرقي‪ّ ،‬‬ ‫كل �إمكانات‬ ‫مل يتوقّف فرح �أنطون عن �صياغة �أحالمه بدولة مدن ّية يحقّق فيها املجتمع‬ ‫ّ‬ ‫الق�صة‬ ‫حممد عبده‪ ،‬وجد يف ّ‬ ‫الإن�سان ّية اجلديدة ا ّلتي تط ّلع �إليها‪ ،‬ولك ّنه بعد مناظرته مع الإمام ّ‬ ‫الرمز ّية و�سيلة للتج�سيد الف ّن ّي للأطروحات النظر ّية يف كتاب «ابن ر�شد وفل�سفته» ومتثي ًال لها‪.‬‬ ‫ف�أ�صدر رواي َتيه «الدين والعلم واملال» (متوز ‪ )1903‬و «�أور�شليم اجلديدة» (�شباط ‪.)1904‬‬ ‫وي ّربر هذا التح ّول بقوله �إنّ ّفن الرواية منرب ين�شر منه الكاتب �آراءه �أفكاره بطريقة تبلغها �إىل �أذهان‬ ‫الفن مرتبط بالدولة املدن ّية يف ن�ش�أته وازدهاره‪ ،‬ف�إنّ‬ ‫الق ّراء ب�سهولة‪ ،‬ولأنّ املفهوم احلديث لهذا ّ‬ ‫�ضروري الزم‪ ،‬فهو حاجة من حاجات‬ ‫ا�ستخدامه يف الدفاع عن وجودها الواعد يف ال�شرق �أمر‬ ‫ّ‬ ‫الكاتب اجلديدة يف عامله املتغي ‪.‬‬ ‫رواية «الدين والعلم واملال» دفاع جميد عن الدولة املدن ّية‪ ،‬وعن قيمة الت�ساهل (الت�سامح) ا ّلتي‬ ‫يتحدث فرح �أنطون يف الرواية حديثاً رمز ّياً عن التنازع القائم بني مدن العلم‬ ‫التقدم‪ّ .‬‬ ‫هي �أ�سا�س ّ‬ ‫أهم ّية الت�سامح ا ّلذي افتقدته هذه املدن‪ ،‬و�أ ّدى ال�صراع بينها �إىل تفاقم‬ ‫والدين واملال الثالثة‪ ،‬و� ّ‬ ‫«الع�صب ّية» (نقي�ضة الت�سامح) الأمر ا ّلذي �أ ّدى �إىل تدمري املدن الثالث تدمرياً كام ًال ‪.‬‬ ‫ين يف «يوتوبيا‬ ‫�أ ّما رواية «�أور�شليم اجلديدة» فكانت رمزاً للعهد الآتي بالدولة املدن ّية واملجتمع املد ّ‬ ‫أر�ضي للإن�سان ّية اجلديدة» ا ّلتي يحلم بها‪ .‬فـ «�إنّ �أ�صالح الأر�ض‬ ‫فرح �أنطون» �أو «الفردو�س ال ّ‬ ‫م�س�ألة علم ّية ال م�س�ألة دين ّية‪ ،‬و�إنّ �أور�شليم القدمية يجب �أن تف�سح املجال لأور�شليم اجلديدة» ‪.‬‬ ‫‪56‬‬

‫‪57‬‬

‫‪58‬‬

‫ ‬ ‫‪ 57‬‬ ‫‪ 58‬‬ ‫‪56‬‬

‫راجع‪ ،‬جابر ع�صفور‪ ،‬هوام�ش على دفرت التنوير‪ ،‬مرجع �سابق‪� ،‬ص‪.240‬‬ ‫راجع‪ ،‬جابر ع�صفور‪ ،‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص‪.241‬‬ ‫جابر ع�صفور‪ ،‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص‪.244‬‬


‫ال ّنزعة العلمان ّية يف ع�صر ال ّنه�ضة‬

‫راهنية فكر �سعاده‬

‫‪69‬‬

‫اخلامتة‬

‫ه�ؤالء ّ‬ ‫املفكرون‪ ،‬وغريهم‪ ،‬مل يطالبوا مببد�أ العلمان ّية القا�ضي بف�صل ال�سلطة الدين ّية عن ال�سلطة‬ ‫رقي لهذه البالد �إ ّال با�ستئ�صال‬ ‫املدن ّية‪� ،‬إ ّال بعد �أن �أيقنوا ب�أن ال حياة وال نه�ضة وال ّ‬ ‫تقدم وال ّ‬ ‫والتع�صب الدين َّيني من جذور �أفكار وعقائد وتقاليد هذه الأمم ال�شرق ّية‪ .‬وب�إحالل مبادئ‬ ‫التخ ّلف‬ ‫ّ‬ ‫امل�ساواة والعدل بني �أبناء هذه ال�شعوب‪.‬‬ ‫لقد ت�أثّر �شبلي ال�شم ّيل بنظر ّية داروين وتب ّناها‪ ،‬و�آمن بالعقيدة اال�شرتاك ّية ا ّلتي ر�أى فيها ّ‬ ‫احلل‬ ‫والتع�صب والتبع ّية‪ ،‬ور�أى بوجوب‬ ‫الأن�سب بل الأوحد ل�شفاء هذا ال�شرق من �أمرا�ض التخ ّلف‬ ‫ّ‬ ‫تعجيل خطا اال�شرتاك ّية و�إحالل الوطن ّية العامل ّية ونف�ض الغبار القدمي‪ .‬بينما دعا ّ‬ ‫كل من خليل‬ ‫الديني‪ ،‬لأنّ من �ش�أن ذلك‬ ‫القومي‬ ‫التع�صب‬ ‫والوطني بد ًال من ّ‬ ‫�سعادة وفرح �أنطون �إىل ّ‬ ‫التع�صب ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫�إر�ساء مفهوم املواطن ّية لدى النا�س‪ ،‬وتوحيد �أفكارهم و�آرائهم من �أجل النهو�ض ب�أوطانهم‪.‬‬ ‫هذه الأفكار جاء بها ه�ؤالء منذ قرن خال تقريباً‪ ،‬وال�س�ؤال ا ّلذي يطرح نف�سه هنا‪� ،‬أين �أ�صبحت‬ ‫تلك الأفكار‪ ،‬ا ّلتي �ساهمت منذ �أكرث من قرن يف نه�ضة �أوروبا مث ًال؟ وهل ا�ستطاعت بالدنا‬ ‫النهو�ض فع ًال؟ وعليه‪ ،‬هل ح ّقاً ميكننا اعتبار ذلك الع�صر ع�صر نه�ض ٍة ونحن نرى بالدنا يف القرن‬ ‫احلادي والع�شرين ال تزال تتخ ّبط يف ع�صب ّياتها الطائف ّية واملذهب ّية والع�شائرية واملناطقية‪ ...‬ونرى‬ ‫ي�سمى بربيعها يحمل لواءه َحـ َملة رايات التخ ّلف والتكفري والتبعية‪...‬‬ ‫ما ّ‬

‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬


‫‪70‬‬ ‫امل�صادر‬

‫‪� -1‬أنطون‪ ،‬فرح‪ ،‬ابن ر�شد وفل�سفته‪ ،‬دار الطليعة‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪� ،‬آذار (مار�س)‪،‬‬ ‫ي�ضم معظم مقاالت الدكتور خليل �سعادة التي ن�شرت‬ ‫‪ -2‬كتاب الرابطة‪( ،‬تقدمي نواف حردان‪ّ ،‬‬ ‫يف جم ّل َتي «الرابطة» و»املج ّلة» وبع�ض ما قيل فيه)‪� ،‬سان باولو‪1971 ،‬‬ ‫‪ -3‬ال�شم ّيل‪� ،‬شبلي‪ ،‬فل�سفة الن�شوء واالرتقاء‪ ،‬دار مارون ع ّبود‪ ،‬طبعة جديدة‪1983 ،‬‬ ‫‪1981‬‬

‫املراجع‬

‫‪- 1‬‬ ‫‪ -2‬‬ ‫‪ -3‬‬

‫‪- 4‬‬ ‫‪ -5‬‬ ‫‪ -6‬‬ ‫‪ -7‬‬ ‫‪ -8‬‬ ‫‪ -9‬‬

‫حم ّية‪ ،‬علي‪ ،‬خليل �سعادة �سريته و�أعماله‪ ،‬دار الفرات‪ ،‬بريوت‪،‬‬ ‫العربي يف ع�صر النه�ضة‪ ،‬ترجمة كرمي عزقول‪ ،‬دار النهار للن�شـر‪،‬‬ ‫حوراين‪� ،‬ألربت‪ ،‬الفكر‬ ‫ّ‬ ‫بريوت‪ ،‬الطبعة الثالثة ‪1977‬‬ ‫داية‪ ،‬جان‪« ،‬علمان ّيو بالد ال�شام امل�سلمون يف ع�صر ال ّنه�ضة»‪ ،‬يف جريدة حت ّوالت‪ ،‬العدد‬ ‫الرابع والع�شرون‪ ،‬ال�سبت ‪ 14‬متّوز ‪2007‬‬ ‫�شرابي‪ ،‬ه�شام‪ ،‬املث ّقفون العرب والغرب‪ ،‬دار النهار للن�شر‪ ،‬بريوت‪1971،‬‬ ‫العربي‪1993 ،‬‬ ‫ع�صفور‪ ،‬جابر‪ ،‬هوام�ش على دفرت التنوير‪ ،‬املركز الثقا ّيف ّ‬ ‫فخري‪ ،‬ماجد‪ ،‬احلركات الفكر ّية ور ّوادها اللبنان ّيون يف ع�صر النه�ضة‪ ،‬دار النهـار‬ ‫للن�شـر‪ ،‬بيـروت‪1992 ،‬‬ ‫حممد)‪« ،‬العلمان ّية التاريخ والفكرة»‪ ،‬موقع �صيد الفوائد الإلكرتوين‬ ‫القرين‪ ،‬عو�ض‪( ،‬بن ّ‬ ‫(‪)saaid.net‬‬ ‫إلكرتوين‬ ‫حممد‪« ،‬مذاهب فكر ّية معا�صرة (العلمان ّية)»‪ ،‬موقع �صيد الفوائد ال‬ ‫ّ‬ ‫قطب‪ّ ،‬‬ ‫(‪)saaid.net‬‬ ‫املحافظة‪ ،‬علي‪ ،‬جّ‬ ‫االتاهات الفكر ّية عند العرب يف ع�صر النه�ضة‪ ،‬الأهلـ ّية للن�شـر‬ ‫والتوزيـع‪ ،‬بريوت‪1975 ،‬‬ ‫‪2007‬‬


‫‪71‬‬

‫راهنية فكر �سعاده‬

‫قراءة يف رواية «�أر�ض و�سماء» ل�سحر خليفة‪:‬‬ ‫املتخيل والتاريخي‬ ‫�أنطون �سعاده بني‬ ‫َّ‬ ‫| فاتن املر | باحثة و�أ�ستاذة جامعية‬

‫يف رواية «�أر�ض و�سماء» تختم �سحر خليفة ثالثيتها بعد روايتي «�أ�صل وف�صل» و«حبي الأول»‪،‬‬ ‫كما تختتم بحثها عن ما�ض يجيب على �أ�سئلة ت�ؤرقها حول الأ�سباب التي �أدت �إىل �ضياع فل�سطني‬ ‫و�إىل الفو�ضى التي ت�ضرب اليوم املفاهيم والقيم وتعيث خراباً وانق�ساماً يف املجتمع‪ .‬ف�سحر خليفة‬ ‫التي واكبت يف رواياتها ال�سابقة حياة الفل�سطينيني حتت االحتالل‪ ،‬ن�ضالهم والأزمات التي‬ ‫يعي�شونها‪� ،‬آثرت‪ ،‬يف هذه الثالثية �أن ترجع �إىل الأ�صل‪� ،‬أن تنظر �إىل امل�سببات التي �أدت �إىل هذا‬ ‫احلا�ضر امل�أزوم‪� ،‬أن تلج�أ �إىل التاريخ باحثة عن وجوه رجال قادوا ثورات ورهنوا حياتهم للن�ضال يف‬ ‫�سبيل حترير الوطن ورقيه‪ ،‬ولكنهم كانوا �ضحية للجهل واالنق�سامات وامل�ؤامرات‪� ،‬ضحية ملتزعمني‬ ‫يخافون على منا�صبهم ومكا�سبهم �أكرث من خوفهم على الوطن‪ ،‬فريف�ضون �أن ميدوا يد العون‬ ‫له�ؤالء املنا�ضلني الذين يقودون ثورات حمكومة بالف�شل‪ ،‬ال يتوخون منها �إال وقفات العز واملثال‬ ‫الذي قد تقدمه للأجيال الآتية‪� ...‬أ�سباب داخلية و�أخرى خارجية ل�شعب ال يراد له �أن يدرك‬ ‫النه�ضة وهو ال يعرف كيف ينه�ض‪ .‬لذلك جل�أت �إىل النوع الأدبي الذي يخدم تلك الأهداف‪،‬‬ ‫�أال وهو الرواية التاريخية التي متزج بني احلدث الواقعي امل�أخوذ من الت�أريخ وبني �أحداث متخيلة‪،‬‬ ‫بني �شخ�صيات تاريخية عا�شت وكتب عنها امل�ؤرخون وكتاب ال�سري الذاتية و�شخ�صيات من ن�سج‬ ‫خيال الكاتب‪.‬‬ ‫يف ملتقى القاهرة للإبداع الثقايف‪ ،‬عام ‪ 2008‬خل�صت خليفة اال�سئلة التي ت�شكل احلافز الفكري‬ ‫لدي �س�ؤال‪� .‬أنا املهزومة‬ ‫لدي �س�ؤال‪� .‬أنا املحتلة ّ‬ ‫الذي تن�سج حوله رواياتها بقولها‪« :‬لدينا �س�ؤال‪ّ ،‬‬ ‫زمت؟ �أين الق ّوة ونقاط ال�ضعف؟ َمن �أنا‪،‬‬ ‫لدي �س�ؤال‪ .‬و�س�ؤايل هو‪ :‬ملاذا ُه ُ‬ ‫لدي �س�ؤال‪� .‬أنا امل�أزومة ّ‬ ‫ّ‬ ‫َمن هم‪َ ،‬من يعرفني؟ وال�س�ؤال الأهم‪ :‬هل �أعرفني؟» وت�ضيف‪« :‬هذا ما �أ�سعى لتحقيقه‪ .‬لأين قبل‬ ‫�أن �أكون ف ّنانة‪� ،‬أنا �إن�سانة‪ ،‬بنت البيئة‪ ،‬واالحتالل‪ ،‬والهزمية‪ .‬وف ّني هذا خلدمة ذاتي‪ ،‬دفاعاً عنها‪،‬‬ ‫أغ�ض النظر‬ ‫ذاتي الكربى يف جمتمعي‪ ،‬لأين حمروقة من الداخل ومن اخلارج‪ ،‬وال يمُ كنني �أن � ّ‬ ‫عن هذا الوجع و�آالمه»‪.‬‬ ‫يف «�أر�ض و�سماء»‪ ،‬يلقى القارئ ال�شخ�صيات املتخيلة التي رافقها منذ الرواية الأوىل‪ ،‬فيتجدد‬ ‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬


‫‪72‬‬

‫ارتباطه بها ك�صداقة قدمية ن�سج معها‪ ،‬على مدار ال�صفحات‪ ،‬عالقات وطيدة‪ .‬فن�ضال مث ًال‪ ،‬الراوية‪،‬‬ ‫عرفناها طفلة‪ ،‬منذ رواية «�أ�صل وف�صل»‪ ،‬تتعلق بثوب جدتها وت�ستمع �إىل حكاياتها وتنب�ؤاتها‪ ،‬تنقل‬ ‫روايات عن املغامرات التي يعي�شها �أفراد عائلتها‪ ،‬منذ اندالع ثورة عام ‪ 1936‬يف فل�سطني وخيار‬ ‫اخلال الأكرب وحيد االن�ضمام �إىل �أفواج املقاتلني �ضد االنتداب الربيطاين مع عز الدين الق�سام‪،‬‬ ‫ثم اخلال الثاين �أمني الذي ان�ضم �إىل اجلهاد املقد�س مع عبد القادر احل�سيني يف ال‪ ،48‬ومعه ربيع‪،‬‬ ‫ال�شاب الذي كان حبها الأول‪ .‬كانت فتاة �صغرية يف رواية «حبي الأول» ت�سرتق النظر من خلف‬ ‫الباب لرتى ما يجري خالل اجتماع خالها مع رفقائه‪ ،‬وتذهب مع جدتها ملالقاة الثوار يف اجلبل‬ ‫وتن�سج ق�صة حب طفولية مع الفتى ربيع الذي يرافق الثوار‪ .‬وها نحن نلقاها امر�أة �سبعينية‪ ،‬وقد‬ ‫عادت �إىل دار العائلة يف نابل�س بعد �أن طافت بلداناً عديدة و�أ�صبحت ر�سامة م�شهورة‪ ،‬ون�ستقبل‬ ‫ربيع الذي غدا كه ًال ي�أبى �أن يكرب ويقتات من ف�ضالت املا�ضي‪ ،‬يكتب ر�سائل ن�صية لن�ضال‬ ‫ليخربها كم ما زال يحبها ويطلب ع�شرات املرات يدها للزواج‪ ،‬فبالن�سبة �إليه قد توقف الزمن عند‬ ‫حدود ذكرياته الإنتقائية‪ .‬ي�صبح البحث عن املا�ضي الذي يتماهى مع الفردو�س املفقود �ضرورة‬ ‫حيوية تعطي معنى حلياتهما‪ .‬لتنفيذ هذا الغر�ض‪ ،‬تعمل ال�شخ�صيات يف احلكاية على التنقيب‬ ‫يف الر�سائل وعلى تداول الرواية‪ ،‬وتعمل الكاتبة من جهتها‪ ،‬كما فعلت يف رواية حبي الأول‪ ،‬على‬ ‫التنقل بني زمنني‪ ،‬الزمن الراهن الذي يتطابق مع زمننا احلا�ضر‪ ،‬واملا�ضي امل�ستعاد‪� ،‬أي عامي‬ ‫‪ 1948‬و‪.1949‬‬ ‫تغدو ا�ستعادة الزمن املفقود هي ال�شغل ال�شاغل لهاتني ال�شخ�صيتني املحا�صرتني يف منزل �آل‬ ‫القحطان يف نابل�س بح�صار الإ�سرائيليني الذين يفر�ضون منع التجول يف املدينة وبح�صار العمر‬ ‫الذي تقدم بهما دون �أن ت�صال �إىل ا�ستنتاجات وا�ضحة حول ما مر بهما وبالوطن من نك�سات‪.‬‬ ‫وتن�ضم �إليهما �شخ�صية ثالثة يف البحث عن املا�ضي‪ ،‬الرا‪� ،‬إبنة �أمني القادمة من بريوت التي‬ ‫عا�شت يف فرن�سا بعيدة عن والدها‪ ،‬ف�أرادت �أن تتعرف �إليه �أكرث وهو ي�شارف على املوت و�أن‬ ‫ت�ساعده يف كتابة مذكراته‪ ،‬فجاءت �إىل بيت العائلة يف نابل�س لتبحث عن الر�سائل التي كان قد‬ ‫خب�أها يف القبو‪.‬‬ ‫كما ت�سري الرواية على وقع خطوات ال�شخ�صية التاريخية التي اختارتها لتكون املحطة النهائية‬ ‫لثالثيتها‪� :‬أنطون �سعاده‪ ،‬م�ؤ�س�س وزعيم احلزب ال�سوري القومي االجتماعي‪ .‬معه تطرح �أ�سئلتها‬ ‫ال�صعبة‪ ،‬تواجه الإ�شكاليات‪ ،‬وتن�سج‪ ،‬بوا�سطة ال�سرد‪ ،‬معرباً للأجيال الآتية‪ .‬‬ ‫�سوف نبحث يف اجلزء الأول من درا�ستنا يف م�س�ألة اال�صوات الروائية وتداول الرواية‪ ،‬بينما ننظر‬ ‫يف اجلزء الثاين يف خ�صائ�ص الرواية التاريخية وا�ستعادة املا�ضي‪.‬‬


‫راهنية فكر �سعاده‬

‫قراءة يف رواية «�أر�ض و�سماء» ل�سحر خليفة‬

‫‪73‬‬

‫�أ‪ -‬الأ�صوات الروائية‬

‫يف امل�ستوى االول‪ ،‬ي�أتي �صوت الراوية الأوىل‪ ،‬ن�ضال القحطان‪ ،‬التي تروي ما يح�صل معها يف‬ ‫زمن الق�ص �أي الزمن احلا�ضر‪ ،‬حتكي عن عالقتها بال�شخ�صيات الأخرى‪ ،‬وعن �سعيهم �إىل تدبر‬ ‫�أمورهم يف ظل احل�صار‪ ،‬عن انقطاع املاء الذي ي�سرقه امل�ستوطنون وا�ستعادته من قبل جمموعة من‬ ‫ال�شباب‪ ...‬وت�سرتجع‪ ،‬يف رواية تكرارية بع�ض املقاطع التي �سبق وروتها يف رواية «حبي الأول»‪،‬‬ ‫لكي تعيد ربطها بزمن الق�ص‪ ،‬ولكنها هنا رواية ملخ�صة‪ ،‬تكتفي بال�ضروري من الأحداث‪ .‬هي‬ ‫الراوية الأوىل‪ ،‬تلك التي توزع دور الرواية على الرواة الآخرين‪ ،‬تتوىل �إدارة الروايات املختلفة‪،‬‬ ‫فهي‪ ،‬بحكم طبعها وجتاربها‪ ،‬تدرك �أن «الأمور لي�ست حمددة ببعد واحد» ‪ ،‬و�أن لكل راو �إ�ضافته‬ ‫على املا�ضي الذي ي�سعى اجلميع �إىل �سرب �أغواره‪ .‬هي‪ ،‬يف زمن الق�ص‪ ،‬راوية‪-‬ذاتية‪� ،‬أي �أنها‬ ‫تروي �أحداثاً تكون هي ال�شخ�صية الرئي�سية فيها‪ ،‬ولكنها‪ ،‬كما كل ال�شخ�صيات الرئي�سية يف‬ ‫الرواية العربية احلديثة‪ ،‬موجلة بطرح الأ�سئلة‪ ،‬ال بعر�ض قناعات مطلقة‪ ،‬خطابها «ين�سج عالقاته‬ ‫البنائية‪ ،‬راو �شاهد‪ ،‬دوره الإيحاء �إىل جمرد م�سار‪� ،‬أو الإ�شارة �إىل جمرد راهن‪ ،‬وبلورة �أ�سئلة‪ ،‬حائرة‬ ‫�أحياناً‪� ،‬أو م�ضمرة �أحياناً �أخرى‪ ،‬لكنها تطلب الت�أمل واملجادلة والبحث عن حقيقة معرفية قابلة‬ ‫لأن ترف�ض‪ ، ».‬كما ت�صبح ن�ضال‪ ،‬جمرد �شاهد يف كل ما يتعلق بزمن احلكاية‪� ،‬أي املا�ضي الذي‬ ‫مل تلعب فيه دوراً فاع ًال‪ ،‬فن�ضال يف ذلك الزمن‪ ،‬مل تكن موجودة مع خالها �أمني وربيع اللذين‪،‬‬ ‫بعد النكبة واخلروج من فل�سطني‪ ،‬التحقا ب�أنطون �سعاده يف �ضهور ال�شوير‪ .‬كانت �شابة �صغرية‬ ‫�أودعها خالها يف دير للراهبات يف القد�س لكي تكمل تعليمها‪ ،‬كما غابت بعدها عن التطورات‬ ‫التي حلقت باملجتمع يف فل�سطني املحتلة ب�سبب �سفرها ودورانها بني املعار�ض وامل�ؤمترات ونوادي‬ ‫الفن‪ .‬مل تكن يف فل�سطني وال كانت يف لبنان‪ .‬تقول‪« :‬ع�شت �أجواء �أن�ستني حقيقة بلدي وعمق‬ ‫جذوري» ‪ .‬عليها �إذن‪ ،‬لكي تعو�ض الغياب وتزيل الغمو�ض عن املا�ضي‪ ،‬بهدف الت�صالح معه‬ ‫�أو �إيجاد بع�ض الإجابات على �أ�سئلتها‪� ،‬أن تلج�أ �إىل رواة ثانويني يف�صحون عن ر�ؤيتهم للحكاية‬ ‫وتتحول هي �إىل م�ستمعة تتلقف روايتهم‪.‬‬ ‫يف امل�ستوى الثاين‪ ،‬رواة ثانويون بع�ضهم تنطلق حكايته من زمن الق�ص لت�سرتجع املا�ضي‪،‬‬ ‫و�آخرون رووا يف املا�ضي واطلعت الراوية الأوىل‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل ال�شخ�صيات التي ترافقها‪ ،‬على‬ ‫رواياتهم من خالل ر�سائلهم املخب�أة يف قبو البيت‪ .‬وجدوها يف عمود �سرير‪� ،‬أو يف فرا�ش عتيق �أو‬ ‫يف قعر �صندوق‪...‬‬ ‫الرواة الذين يروون انطالقاً من زمن الق�ص هم‪ :‬يا�سمني اجلارة التي حتكي‪ ،‬يف رواية ملخ�صة تكرر‬ ‫‪1‬‬

‫‪2‬‬

‫‪3‬‬

‫‪ 1‬‬ ‫‪ 2‬‬ ‫‪ 3‬‬

‫�سحر خليفة‪�« ،‬أر�ض و�سماء»‪ ،‬دار الآداب‪ ،‬بريوت‪� ،2013 ،‬ص‪.‬‬ ‫مينى العيد‪« ،‬فن الرواية العربية بني خ�صو�صية احلكاية ومتيز اخلطاب»‪ ،‬دار الآداب‪ ،‬بريوت‪� 1998 ،‬ص‪124 .‬‬ ‫�سحر خليفة‪�« ،‬أر�ض و�سماء»‪� ،‬ص‪411 .‬‬ ‫‪94‬‬

‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬


‫‪74‬‬

‫م�شهداً يف حبي الأول‪ ،‬ق�صة الولد �سعد الذي هرب من اليهود وخب�أته هي خلف اخلزانة‪ ،‬الرا‬ ‫التي تخرب ما ح�صل لوالدها بعد غيابه عن �أهله طوال ال�سنني املا�ضية‪ ،‬كاهن الكني�سة ال�سامرائية‬ ‫الذي يخرب عن هجوم امل�ستوطنني اليهود على الكني�سة وتنكيلهم ب�أحد كهنتها الذي رف�ض‬ ‫املغادرة‪ ،‬و�أخرياً ربيع الذي يتقا�سم مع �أمني رواية املا�ضي‪ ،‬ي�سد بع�ض الثغرات املوجودة يف ر�سائل‬ ‫�أمني‪ ،‬يحكي وجهة نظره ليربر هروبه وتركه لن�ضال ولكل املبادئ التي بنى عليها �أحالمه‪ ،‬كما‬ ‫يروي ب�شكل خا�ص عن ليزا‪ ،‬رفيقة الثورة‪ ،‬ك�أنه يريد �أن يدافع عنها يف مواجهة اتهامات الرا‬ ‫وحقدها‪ .‬تقول ن�ضال يف عبارة تظهر فيها م�سوغات تداول الرواية‪« :‬يف امل�ساء‪ ،‬حكى يل ربيع ق�صة‬ ‫ليزا وما ر�آه ب�أم عينيه‪».‬‬ ‫�أما الأ�صوات الروائية الآتية من املا�ضي فهي �أو ًال �صوت �أمني الذي يحكي يف ر�سائله التنازع‬ ‫الذي يعي�شه من جراء حبه لليزا التي ال تبادله امل�شاعر بل تكن حباً جمنونا لأنطون �سعاده‬ ‫و�شعوره بالغرية جتاه زعيم احلزب الذي انتمى �إليه والذي يكن له يف نف�س الوقت م�شاعر‬ ‫الإعجاب والتقدير‪ .‬يكتب‪« :‬العقل بواد والقلب بواد و�أنا كورقة معلقة على غ�صن خريفي نا�شف‬ ‫والربد �شديد» ‪.‬‬ ‫ليزا �أي�ضاً راوية ثانوية‪ ،‬ي�أتي �صوتها من املا�ضي عرب ر�سائلها �إىل ربيع �صديقها‪ ،‬ر�سائل ت�شرح له فيها عمق‬ ‫النزاع الذي تعي�شه هي الأخرى بني �إعجابها ب�سعاده وتقديرها لزوجته جولييت وم�شاعر الغرية التي‬ ‫تنه�شها‪ ،‬ف�سعاده الذي تخطى ق�صة حبهما القدمية بعد �أن رف�ضت �أن تكون �إىل جانبه يف رحالته كما‬ ‫يف ن�ضاله‪ ،‬تزوج يف املغرتب وعاد مع زوجته وبناته �إىل الوطن ليعمل على بناء حزبه و�أدركت ليزا �أنها‬ ‫ما زالت حتبه وراحت جتري املقارنات بينها وبني زوجته‪ ،‬فتكرهها حيناً وتعجب بها �أحياناً‪.‬‬ ‫هكذا تعمل روايتا ليزا و�أمني على �أن�سنة �سعاده‪ ،‬ال�شخ�صية التاريخية الرئي�سية يف الرواية‪� ،‬إذ‬ ‫تظهران �صورته لي�س من خالل لوحة تاريخية جامدة بل عرب ق�ص�ص احلب والغرية التي تركز على‬ ‫اجلانب الإن�ساين منه وجتعله �أقرب �إىل القارئ‪.‬‬ ‫�أما �سعاده‪ ،‬فيغدو هو الآخر راوياً ثانوياً حني يروي‪ ،‬خالل ق�صة احلب التي جمعته بليزا‪ ،‬ما يح�صل‬ ‫معه يف ر�سائل �إىل ليزا‪� ،‬أودعتها هذه الأخرية لدى ربيع‪.‬‬ ‫ولكن الرواة الثانويني ال يتفردون بدورهم يف الرواية‪ ،‬وقد مينحون التداول �إىل رواة من امل�ستوى‬ ‫الثالث ليخربوا �أحداثاً غابوا هم عنها �أو ليرتكوا لهم �أن يبدوا وجهة نظرهم يف احلكاية‪ .‬فق�صة‬ ‫�إعدام �سعاده يرويها الكاهن الذي عرفه ورافقه يف اللحظات الأخرية لأمني وربيع اللذين يرويانها‬ ‫لن�ضال‪ ،‬وليزا قد تتحول راوية من امل�ستوى الثالث حني حتكي ق�صتها لربيع الذي يحكي بدوره‬ ‫الق�صة لن�ضال‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪5‬‬

‫‪ 4‬‬ ‫‪ 5‬‬

‫�سحر خليفة‪�« ،‬أر�ض و�سماء»‪� ،‬ص‪.‬‬ ‫�سحر خليفة‪�« ،‬أر�ض و�سماء»‪� ،‬ص‪.‬‬

‫‪61‬‬ ‫‪150‬‬


‫راهنية فكر �سعاده‬

‫قراءة يف رواية «�أر�ض و�سماء» ل�سحر خليفة‬

‫‪75‬‬

‫م�ستوى خا�ص تتبو�أه جولييت املري �سعاده التي تروي حياتها يف املغرتب الق�سري مع �سعاده �إىل‬ ‫ليزا التي تنقل هذه احلكاية �إىل ربيع الذي يخربها �إىل ن�ضال‪ ،‬فهي �إذاً راوية من امل�ستوى الرابع‬ ‫وهو م�ستوى يندر �أن جنده يف الرواية وفق جريار جونيت‪.‬‬ ‫يف احلكاية ا�ستعادة للما�ضي ويف ا�ستعادة املا�ضي مزيج من الفرح والأمل‪ ،‬فرح ا�ستذكار �أيام‬ ‫ال�صبا التي حملت �آما ًال كباراً وم�شاعر حب ترفع ال�شخ�صيات فوق �صعوبات الواقع‪ ،‬و�أمل �إدراك‬ ‫التناق�ض احلا�صل بني الزمنني‪ ،‬بني املا�ضي املبارك واحلا�ضر امل�أزوم‪ .‬تقول ن�ضال وهي ت�ستمع �إىل‬ ‫ربيع‪« :‬حني يحكي �أن�سى مر�ضه و�أعود �صبية تتلهف على كلمة حب قد تن�سيني نكبة بلدي‬ ‫وفراق الأهل؟»‬ ‫ي�صبح فعل الق�ص و�سيلة لتملك ما�ض يهرب من ال�شخ�صيات‪ ،‬و�سيلة لإدراك التاريخ وعربه‬ ‫�إدراك الذات‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل كون التداول الروائي مينح الق�صة �شرعية وم�صداقية‪ ،‬بالأخ�ص حني‬ ‫تلج�أ الكاتبة �إىل �أ�سلوب افتتحته مع رواية «�أ�صل وف�صل» وهو �أ�سلوب التوثيق الذي ي�شكل ج�سر‬ ‫عبور بني الرواية والتاريخ‪.‬‬ ‫‪6‬‬

‫ب‪ -‬الزمن امل�ستعاد‬

‫متزج الرواية التاريخية بني الأحداث املتخيلة والأحداث احلقيقية‪ ،‬بني �شخ�صيات متخيلة و�أخرى‬ ‫تاريخية‪ .‬وغالباً ما حتتل ال�شخ�صيات املتخيلة ال�صف الأول‪ ،‬بينما تكون ال�شخ�صيات التاريخية‬ ‫�شخ�صيات ثانوية‪ .‬يف رواية «�أر�ض و�سماء»‪ ،‬ال�شخ�صيات املتخيلة الرئي�سية هي ن�ضال وربيع و�أمني‬ ‫والرا و�سعد ويا�سمني‪� ،‬أما ليزا‪ ،‬فهي �أي�ضاً �شخ�صية متخيلة ن�سجتها الكاتبة منذ رواية «حبي الأول»‬ ‫ولكنها ا�ستعارت لها بع�ض الر�سائل من تلك التي �أر�سلها �سعاده �إىل �إدفيك جريديني �شيبوب‬ ‫يف الفرتة التي �شهدت ق�صة حبهما قبل رحيله �إىل املغرتب‪ .‬ال�شخ�صية التاريخية الرئي�سية هي‬ ‫�شخ�صية �أنطون �سعاده‪ ،‬وهناك �شخ�صيات تاريخية تلعب دوراً �أقل �أهمية كجولييت املري �سعاده‬ ‫وح�سني الزعيم‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل بع�ض ال�شخ�صيات احلقيقية التي تعرب الرواية ب�سرعة‪ ،‬دون �أن يكون‬ ‫لها ت�أثري يذكر يف احلكاية ‪.‬‬ ‫�إن وجود �أنطون �سعاده يف الرواية هو تكملة لرحلة البحث التي بد�أتها الكاتبة مع «�أ�صل وف�صل»‬ ‫عن قادة تاريخيني خا�ضوا املعارك يف �سبيل الذود عن الوطن وحملوا يف نف�سهم نقاء القادة‬ ‫احلقيقيني‪ ،‬كما هو ا�ستكمال ال�ستق�صائها حول خطة نخ�شون ‪-‬اخلطة حملت ا�سم نخ�شون وهو‬ ‫�أول جندي يهودي و�صل �إىل فل�سطني‪ -‬التي تق�ضي بالق�ضاء على القادة العرب يف �سبيل �سحق‬ ‫مقاومة ال�شعب‪ .‬يف رواية «حبي الأول» يكتب �أمني بعد معركة الق�سطل‪« :‬ذهب القائد فتيتمنا‪».‬‬ ‫‪ 6‬‬

‫�سحر خليفة‪�« ،‬أر�ض و�سماء»‪� ،‬ص‪.‬‬

‫‪13‬‬

‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬


‫‪76‬‬

‫بعد النكبة‪ ،‬بحث ربيع عن �سبيل جديد لتحرير فل�سطني‪ ،‬فرافق �أمني‪� ،‬شقيق رفيقه ومربيه وحيد‬ ‫الذي ا�ست�شهد يف الق�سطل مع احل�سيني‪� ،‬إىل لبنان لاللتحاق ب�صفوف احلزب ال�سوري القومي‬ ‫االجتماعي لذي كان �أمني ع�ضواً فيه‪ .‬ف�سعاده الذي‪ ،‬كما تقول الرواية‪ ،‬كان �أول من حذر من‬ ‫اخلطر املحدق بفل�سطني‪« .‬حني كتب عن فل�سطني يف �سان باولو‪� ،‬سبق من كانوا يف قلب القد�س‪».‬‬ ‫�سعاده كان �سبيلهما للعودة �إىل الكفاح يف �سبيل ا�ستعادة �أر�ضهم امل�سلوبة‪.‬‬ ‫وظيفة �أمني الأوىل تتجلى يف ربط التجربة التي يعي�شونها مع �سعاده بالتجربة التي عا�شوها مع‬ ‫احل�سيني للو�صول �إىل ا�ستنتاجات حول �أ�سباب اخل�سارة‪ ،‬فتجري روايته على وقع اال�سرتجاع‪.‬‬ ‫هذه التقنية تعود ب�أمني �إىل زمن الق�سطل وموت القائد هناك‪ ،‬كما يح�صل حني ي�سمع �سعاده وهو‬ ‫يتناق�ش مع امل�س�ؤولني يف حزبه الذين‪ ،‬وفق �أمني‪ ،‬ال يقدرون تعقيدات الواقع‪ ،‬بل ينجرون وراء‬ ‫�أحالمهم‪ ،‬وهذا ما يعيده �إىل �أ�سباب ف�شل ثورة احل�سيني‪ .‬قد ينطلق اال�سرتجاع من رائحة‪ ،‬تعيد‬ ‫�إليه الزمن املفقود‪ ،‬كما يف جتربة «املادلني» ملار�سيل برو�ست‪�« .‬سماء بريوت تت�ضوع برائحة البحر‬ ‫وزهر الربتقال وكعك ب�سم�سم‪ .‬رائحة بريوت تخدرين وتذكرين ب�شاطئ يافا وحواري القد�س‪.‬‬ ‫بريوت �أدف�أ من القد�س لأنها متتد على ال�ساحل و�ضفاف البحر‪ ».‬ووفق توارد اخلواطر‪ ،‬يعود‬ ‫�أمني �إىل م�شهد قائد القوات جي�ش الإنقاذ وهو ي�س�أل احل�سيني �إن كانت القد�س لي�ست مدينة‬ ‫�ساحلية‪ ،‬فلماذا يولونها كل هذا االهتمام‪ ،‬ويرف�ض مدهم بال�سالح لكي يدافعوا عن تلك املدينة‬ ‫التي تبدو لهم �أقل �أهمية من يافا‪ .‬تظهر تقنية اال�سرتجاع ب�شكل مكثف يف ذكريات �أمني بحيث‬ ‫لن نح�صيها كلها يف درا�ستنا هذه‪ ،‬لذلك �سنكتفي ب�إ�ضافة مثال �أخري على ما �أوردناه وهو ربطه‬ ‫خيانة ح�سني الزعيم لأنطون �سعاده بخيانة الزعماء العرب للح�سيني وا�ستنتاج العنا�صر امل�شرتكة‬ ‫بني التجربتني �أعني بذلك اخليانة يف مواجهة ال�صدق‪ ،‬التكتيك يف مواجهة الأحالم واحلنكة يف‬ ‫موجهة املناقب وعزة النف�س‪ ،‬القوة الفعلية يف مواجهة �أنا�س م�ؤمنني مل ي�سمح لهم باقتناء ال�سالح‬ ‫الفعال‪ .‬ويخل�ص �أمني �إىل القول �إن �سعاده‪ ،‬كما �أبو كمال‪ ،‬كما احل�سيني‪ ،‬كان يعرف م�صريه‬ ‫ولكنه اختار طريقه‪ .‬ي�ضيف‪« :‬كلهم ا�ستجاروا بالعروبة وخذلتهم‪ .‬مال و�سالح يف املخازن ونحن‬ ‫نقاتل بلحم الأج�ساد والأظافر‪ .‬هكذا اجتهد احل�سيني يف ذلك الوقت‪ ،‬كما اجتهدنا و�سعاده‪ .‬هذا‬ ‫ما كان‪ ».‬ربيع �أي�ضاً يلج�أ �إىل اال�سرتجاع يف روايته ليربر هروبه �إىل كندا يف ال�ساعات الأخرية‬ ‫من الثورة‪ ،‬فهو مل ي�ستطع حتمل فكرة تكرار التجارب املريرة وف�شل الثورة وموت القائد‪« :‬تراءت‬ ‫يل �صورة �سعاده خلف الق�ضبان‪ ،‬ورمبا تعذيبه و�إعدامه‪ .‬وتذكرت الق�سطل وفجيعتنا‪ ،‬و�سقوط‬ ‫‪7‬‬

‫‪8‬‬

‫‪9‬‬

‫‪10‬‬

‫‪� 7‬سحر خليفة‪�« ،‬أر�ض و�سماء»‪� ،،‬ص‪.‬‬ ‫ ‪ 8‬املادلني كعكة تذوقها مرة الكاتب الفرن�سي مار�سيل برو�ست مغم�سة بالزهورات‪ ،‬ف�أعاده طعمها �إىل زمن طفولته‬ ‫حني كان ي�أكلها مع الزهورات وهو يف �ضيافة قريبة له‪ ،‬ومن هذا الطعم انطلق نحو ا�ستذكار املا�ضي‪.‬‬ ‫�سحر خليفة‪�« ،‬أر�ض و�سماء»‪� ،‬ص‪234 .‬‬ ‫‪ 9‬‬ ‫‪� 1 0‬سحر خليفة‪�« ،‬أر�ض و�سماء»‪� ،‬ص‪287 .‬‬ ‫‪117‬‬


‫راهنية فكر �سعاده‬

‫قراءة يف رواية «�أر�ض و�سماء» ل�سحر خليفة‬

‫‪77‬‬

‫الق�سطل ثانية‪ ،‬ثم دير يا�سني وكل القرى يف حميط القد�س‪ ،‬وما تال ذلك من فجائع وهزائم‪».‬‬ ‫وقد تلج�أ الكاتبة �أي�ضاً �إىل تقنية اال�ستباق التي ت�شري �إىل راو عليم يفتح �سبي ًال ملعرفة م�ستقبل‬ ‫الأحداث‪ ،‬ثم يعود بعدها �إىل حيث انقطع حبل الرواية فبينما يروي �أمني م�شهد الأول من �آذار‬ ‫واخلطاب الذي طلب منه �سعاده �أن يلقيه يف املنا�سبة‪ ،‬ينطلق بنا نحو م�ستقبل يعرفه هو كراو عليم‬ ‫يحيط باحلكاية بكاملها ويجهله القارئ وال�شخ�صيات يف تلك املرحلة من الرواية‪ ،‬انطالقاً من‬ ‫و�صفه للتعابري التي ارت�سمت على وجه �سعاده‪ ،‬في�شري �إىل تفوقه املعريف على ال�شخ�صيات قائ ًال‪:‬‬ ‫«ما كان يعرف ما كان ينتظر ذاك الآذار‪� ،‬آخر �آذار‪ ،‬له ولنا ولكل الرفاق‪ .‬من منهم عا�ش ومن منهم‬ ‫مات‪ ،‬من منهم بقي لأحزانه ووخز �ضمريه‪ ،‬من منهم هرب �إىل اخلارج‪ »...‬ويعود بعدها الراوي‬ ‫�إىل املكان الذي انقطع فيه حبل الرواية‪ ،‬وينزل عن املنرب ويتلقى التهنئة من �سعاده‪ .‬ون�سمع من‬ ‫ربيع رواية عن م�شاهدته لرجل غريب بزي ال�ضباط ال�سوريني يزور ح�سني الزعيم ب�شكل �سري‬ ‫وت�سا�ؤله عن هذا الرجل‪ .‬وبوا�سطة اال�ستباق‪ ،‬ي�أخذنا �إىل فرتة زمنية م�ستقبلية يكون خاللها يف‬ ‫كندا ويتعرف على الرجل من خالل �صورة له عل غالف �صحيفة التاميز‪ ،‬ف�إذا هو مو�شي �شاريت‪،‬‬ ‫وزير خارجية �إ�سرائيل‪.‬‬ ‫يف رواية �سحر خليفة لي�س التاريخ جمرد خلفية للوحة تظهر يف مقدمتها ال�شخ�صيات املتخيلة‬ ‫التي تتفاعل مع احلدث‪ ،‬بل يتحول التاريخ �إىل حمور للحكاية وللق�صة‪ ،‬كما للتفكري‪ .‬تدور حياة‬ ‫ال�شخ�صيات ووظائفهم حول ا�ستعادة التاريخ بوا�سطة الق�صة ال�ستخال�ص العرب اي�صالها �إىل‬ ‫الأجيال الآتية التي حتمل الأمل الهارب من املا�ضي والذي غاب عن احلا�ضر املحا�صر بالأزمات‪.‬‬ ‫‪11‬‬

‫‪12‬‬

‫ج‪ -‬الزمن الدائري‬

‫حني ال يتعلم املجتمع من �أخطائه‪ ،‬يعيد التاريخ نف�سه حام ًال نف�س املعاناة ونف�س الف�شل‪ ،‬ولعل‬ ‫�أف�ضل ما يدل على امل�سار الدائري للزمن الأغنية التي اختارتها ن�ضال لتكون رنة لهاتفها اجلوال‪:‬‬ ‫«نلف بدواير والدنيا بتلف بينا‪ ،‬ودامياً ننتهي ملطرح ما ابتدينا‪ »...‬لكن تلك الدوائر ال حتا�صر �إال من‬ ‫ا�ست�سلم لدورانها العقيم‪ ،‬بينما يجد البع�ض له منفذاً �إىل خارجها‪ .‬هذا البع�ض هو بالدرجة الأوىل‬ ‫اجليل اجلديد‪ ،‬املنفتح على املا�ضي دون �أن يتبنى بال�ضرورة كل خيارات من �سبقوه‪ ،‬فالفتى �سعد‬ ‫مث ًال‪ ،‬الذي يختار مواجهة املحتل‪ ،‬يرف�ض عر�ضاً لل�سفر �إىل كندا ليكمل تعليمه‪ ،‬خمالفاً مثال ربيع‬ ‫الذي هجر من يحب وانقلب على ما �آمن به ورحل‪ .‬ولعل يف موقفه من �أزمة انقطاع املاء داللة‬ ‫وا�ضحة على تبنيه خليار ال�صراع‪.‬‬ ‫‪� 1 1‬سحر خليفة‪�« ،‬أر�ض و�سماء»‪� ،‬ص‪.‬‬ ‫‪� 1 2‬سحر خليفة‪�« ،‬أر�ض و�سماء»‪� ،‬ص‪.‬‬

‫‪291‬‬ ‫‪123‬‬

‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬


‫‪78‬‬

‫تتجلى يف احلا�ضر �أزمة انقطاع املاء من نابل�س التي كانت يف ما م�ضى تعوم فوق «بحرية من املاء‬ ‫العذب يكاد لغزارته يتفجر مبجرد احلفر عدة �أقدام» ‪ .‬حني ي�سرق امل�ستوطنون املاء‪ ،‬يتعر�ضون‬ ‫له لي�س فقط كم�صدر للحياة بل كرمز للطهارة‪� ،‬إذ عندما يعود الفل�سطينيون لي�شرتوه منهم‪،‬‬ ‫ير�سلونه مليئاً بالأو�ساخ‪ ،‬مثرياً للقرف‪ .‬كما الأر�ض التي اغت�صبها الإ�سرائيليون والتي ي�ساوم‬ ‫البع�ض اليوم ويعقد ال�صفقات لي�ستجدي جزءاً �ضئي ًال منها‪� .‬إن انقطاع املاء يف الزمن الراهن‬ ‫هو من نتائج الأخطاء التي ارتكبتها الأجيال املا�ضية والتي �أدت �إىل �ضياع املاء والأر�ض‪ ،‬ولكن‬ ‫ا�سرتدادها من قبل جمموعة من ال�شباب الفل�سطينيني الذين ال يتوانون عن تفجري امل�ضخات‬ ‫والأنابيب التي تنقلها �إىل الإ�سرائيليني دليل على �أن اخلال�ص منوط بهذه الأجيال التي تودعها‬ ‫الكاتبة كل �آمال جيلها املتعب من الأخطاء والهزائم‪ .‬عط�ش �أهل املدينة هدد حياتهم‪ ،‬فما كان‬ ‫رد فعلهم؟ «كبارنا تبلدوا وا�ستكانوا وتكل�سوا مبرور الوقت‪ ،‬لكن ال�شباب هبوا فج�أة‪ ،‬وقاموا بعملية‬ ‫نوعية‪ ،‬ون�سفوا م�ضخات و�أنابيب م�ستوطنة كريات �شالوم‪ ».‬الرا �شخ�صية تنتمي �أي�ضاً �إىل هذا‬ ‫اجليل اجلديد‪ ،‬تطرح الأ�سئلة‪ ،‬تفكر‪ ،‬تقارن بني املا�ضي واحلا�ضر وت�أخذ خياراتها بحرية ووعي‪.‬‬ ‫كذلك �أوالد ليزا الذين �أكملوا الن�ضال‪ ،‬ولكن على طريقتهم‪ ،‬طريقة قد ال يفهمها �أهلهم‪� .‬سعاده‪،‬‬ ‫ال�شخ�صية التاريخية يف الرواية‪ ،‬راهن على الأجيال الآتية‪ ،‬لذلك كان م�صراً‪ ،‬قبل �أن ينفذ فيه‬ ‫حكم الإعدام‪� ،‬أن يحمل �أمني خال�صة جتربته وو�صيته‪« :‬قال �إن احلرب مد وجزر‪ ،‬وما هي �إال‬ ‫املحاولة الأوىل‪ ،‬ومنها ن�ستفيد ونتعلم‪ ،‬هي الثورة القومية الأوىل و�ستتلوها العديد من الثورات‪� ،‬إن‬ ‫مل نكن نحن من يقوم بها‪ ،‬ف�آخرون يتعلمون من جتربتنا ويتفادون �أخطاءنا ويقطفون الثمار‪� .‬إن مل‬ ‫يكن جيلنا‪� ،‬أجيال �أخرى �ستقطفها‪ ».‬تقدم الرواية على ل�سان جولييت املري مثا ًال ي�ضفي معنى‬ ‫على تداول الر�سالة من جيل �إىل جيل‪ ،‬وهو مثال طيور البطريق التي‪� ،‬إذا ما �شعرت باخلطر‪ ،‬تر�سل‬ ‫ا�ست�شهاديني ي�ضحون ب�أنف�سهم يف �سبيل املحافظة على حياة فراخها‪ .‬ويف خامتة الرواية‪ ،‬يبدو‬ ‫م�شهد يجمع الأجيال‪ ،‬وهو م�شهد تخرج الرا يف اجلامعة الأمريكية يف بريوت‪ ،‬حني يعود الزمن‬ ‫بربيع ون�ضال �إىل �أيام �شبابهما عرب امل�شاركة يف الغناء‪« .‬لكن الغد �صار فيهم‪ ،‬يف هذا ال�شباب على‬ ‫امل�سرح‪ ،‬والن�شيد البديع‪ ،‬وغناء اجلمهور مع الكور�س‪».‬‬ ‫ال�صفة امل�شرتكة بني �أبناء هذا اجليل وبني جميع من جنحوا يف التخل�ص من الدائرة هو قهرهم‬ ‫للخوف‪ .‬فالعدو ال ميكن �أن ينت�صر �إال عرب بث اخلوف يف النفو�س‪ .‬تلك كانت �سيا�سته منذ‬ ‫الفظائع التي ارتكبتها الع�صابات اليهودية يف ال‪ 48‬وجمزرة دير يا�سني واملجازر الأخرى‪ .‬ولكن‬ ‫املرء‪ ،‬حني يتغلب على �شعور اخلوف من املوت يتجاوز كل ما ميكن �أن يعيق م�ساره نحو الغر�ض‬ ‫‪13‬‬

‫‪14‬‬

‫‪15‬‬

‫‪16‬‬

‫ ‬ ‫‪1 4‬‬ ‫‪1 5‬‬ ‫‪1 6‬‬ ‫‪13‬‬

‫�سحر خليفة‪�« ،‬أر�ض و�سماء»‪� ،‬ص‪.‬‬ ‫�سحر خليفة‪�« ،‬أر�ض و�سماء»‪� ،‬ص‪227 .‬‬ ‫�سحر خليفة‪�« ،‬أر�ض و�سماء»‪� ،‬ص‪290 .‬‬ ‫�سحر خليفة‪�« ،‬أر�ض و�سماء»‪� ،‬ص‪487 .‬‬ ‫‪55‬‬


‫راهنية فكر �سعاده‬

‫قراءة يف رواية «�أر�ض و�سماء» ل�سحر خليفة‬

‫‪79‬‬

‫الذي ي�سعى �إليه‪� .‬سعاده واجه املوت دون خوف‪ .‬ما �أذهل �أمني الذي كان يكلمه عرب جدار‬ ‫ال�سجن �أنه ا�ستطاع �أن يغفو وهو مدرك حلكم الإعدام الذي اتخذ بحقه قبل حماكمته‪ ،‬كما ظهر‬ ‫تغلبه على اخلوف يف رواية الكاهن الذي رافقه يف اللحظات الأخرية قبل �إعدامه‪� ،‬إذ طلب �إزالة‬ ‫احل�صى من حتت قدميه و�شكر اجلندي الذي قام بذلك‪.‬‬ ‫من جهته‪ ،‬ال يخ�شى كاهن كني�سة بئر ال�سامرية امل�ستوطنني الذين يحاولون دفعه �إىل الرحيل عرب‬ ‫ال�سعي �إىل بث الرعب يف قلبه ب�أعمالهم العدوانية وعنفهم املدرو�س‪ .‬يقول عنه راعي العهدة �إنه‬ ‫يعرف �أنه �سيموت وقد ا�ستعد لذلك فبنى قربه‪« ،‬هو بانتظار �ساعة دفنه»‪� .‬أية قوة ميكن �أن تنت�صر‬ ‫على �إن�سان تخطى خوف املوت؟ فبدل �أن يكون اخلوف عائقاً‪ ،‬ي�صبح تخطيه قوة م�ساعدة للخروج‬ ‫من متاهة الأخطاء والف�شل‪ ،‬ولكن‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل القوة املعنوية‪ ،‬يحتاج الثوار �إىل القوة الفعلية‪،‬‬ ‫فهي‪ ،‬كما قال �سعاده‪« ،‬القول الف�صل يف �إثبات احلق القومي �أو �إنكاره‪ ».‬يقابل هذا القول يف رواية‬ ‫«�أ�صل وف�صل» عبارة لعز الدين الق�سام ‪ « :‬كيف نقاوم؟ باملظاهرات؟ بامل�ؤمترات؟ بالعرائ�ض؟ ال‬ ‫�أرى �إال ال�سالح طريقاً ينفعنا‪ ».‬وت�سوق الرواية‪ ،‬يف زمن الق�ص‪ ،‬م�شهداً يثبت بطالن فعالية‬ ‫احللول ال�سلمية مع العدو‪� ،‬إذ يقرتح امللحق الثقايف الكندي على ن�ضال والرا والكاهن �أن يزوروا‬ ‫الراباي الأعظم الذي يتعاىل على ال�ش�ؤون ال�سيا�سية والع�سكرية للطلب منه بالتو�سط لدى‬ ‫م�ستعمرة كريات �شالوم للو�صول �إىل حلول �سلمية مل�س�ألة �سرقة املاء‪� .‬أمام الراباي يتكلم امللحق‬ ‫عن الفالحني الفل�سطينيني الب�سطاء الذين ال هم لهم �إال عي�ش ب�سيط خال من امل�شاكل‪ ،‬فيجيبه‬ ‫الراباي �أن ه�ؤالء ال حق لهم �أ�ص ًال يف الأر�ض التي يعي�شون عليها و�أنهم لي�سوا �إال بدواً رح ًال‬ ‫ولي�س عليهم �إال الرحيل‪ .‬خالل الزيارة تظاهرت ن�ضال والرا �أنهما �أجانب‪ ،‬لذلك ي�شعر الراباي‬ ‫بحرية الإف�صاح عن �أفكاره وي�صفهم ب�أنهم حيوانات يجب تنظيف البيت اليهودي منهم‪ .‬القوة‬ ‫هي التي تتحكم بالعالقات بني ال�شعوب ال املنطق‪ ،‬كما �أخربنا ال فونتني يف ق�صيدته حول الذئب‬ ‫واحلمل‪.‬‬ ‫القوة النف�سية يجب �أن تقرتن بقوة فعلية تفر�ض منطقها على ال�صراع‪ ،‬ولكن الكاتبة ال تن�سى املقاومة‬ ‫الفكرية التي تق�ضي بالدرجة الأوىل مبتابعة امل�ؤامرة الإ�سرائيلية التي تعمل على ت�شويه التاريخ‬ ‫الفل�سطيني‪ ،‬لأن زج تاريخ لليهود يف منطقتنا يربر ا�ستيالءهم على الأر�ض‪ .‬الكاهن يف الكني�سة‬ ‫ال�سامرائية حذر من هذا اخلطر وا�ستخف باجلهود التي يدعي القادة ال�سيا�سيون �أنهم يبذلونها‪،‬‬ ‫عاقدين ال�صفقات واملعاهدات‪ ،‬وهم غافلون عن اخلطر احلقيقي املتمثل يف تزوير التاريخ‪ .‬قال‪�« :‬إننا‬ ‫كنعانيون‪ ،‬يعني اجلذور والأ�صل لهذه البالد املنكوبة‪ ،‬فكيف ن�سمح للعربانيني مب�سخ تاريخنا وادعاء‬ ‫�أنهم كانوا الأقدم؟» و�أخربهم كيف يهدمون البيوت القدمية واملعابد وي�أخذون حجارتها ويعيدون‬ ‫بناءها من جديد ليدعوا �أنها بقايا ح�ضارتهم‪ .‬ويف م�شهد الزيارة �إىل مدر�سة الراباي الأكرب يتجلى‬ ‫‪17‬‬

‫‪18‬‬

‫‪� 1 7‬سحر خليفة‪�« ،‬أ�صل وف�صل»‪ ،‬دار الآداب‪ ،‬بريوت‪� ،‬ص‪.‬‬ ‫‪� 1 8‬سحر خليفة‪�« ،‬أر�ض و�سماء»‪� ،‬ص‪326.‬‬

‫‪227‬‬

‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬


‫‪80‬‬

‫دليل على قوله هذا‪� ،‬إذ يدعي الراباي �أن املدر�سة كانت كني�ساً يهودياً يف الزمن الغابر ويكت�شف‬ ‫الكاهن كتابة بالأحرف الكنعانية على �أحد احلجارة التي بنيت منها املدر�سة‪.‬‬ ‫�إن ت�شويه التاريخ والعمل على حمو الذاكرة هما من الأهداف الرئي�سية للحرب التي ي�شنها‬ ‫العدو على �شعبنا‪ .‬يعاونه يف ذلك بع�ض القادة الغارقني يف امل�صالح ال�ضيقة وال�شعب الغارق يف‬ ‫ال�صعوبات اليومية واملعي�شية التي وجدت خ�صي�صاً لإلهائه عن ال�سعي وراء ما يجب �أن يكون‬ ‫هدفه الأول‪� ،‬أال وهو الدفاع عن تاريخه والعمل على ا�ستعادة املا�ضي املهدد‪.‬‬ ‫«يف وجع اليوم‪ ،‬تن�سى التاريخ ومن راحوا وتركز ب�شكل كابو�سي ومعقد على ما تراه �أمام عينيك‬ ‫والوجع املتجدد يف قلبك‪ .‬رمبا لهذا مل نتعلم من درو�س الأم�س‪ .‬رمبا لهذا تاه كثريون ممن رحلوا‬ ‫واختب�أوا عنا يف ظالل اليوم‪ .‬ورمبا‪ ،‬بل الأكيد‪� ،‬أن عدد الباحثني قل ونق�ص‪ ،‬وطريقتنا يف البحث‬ ‫�صارت �أفرت‪».‬‬ ‫لهذه الأ�ساب كان الغر�ض الأول ل�سحر خليفة يف ثالثيتها هو عك�س امل�سار امل�ؤدي �إىل فقدان‬ ‫الذاكرة وبالتايل فقدان الهوية‪ .‬طريقتها بالبحث مل تفقد حرارتها واميانها مل ي�صبح «�أفرت»‪ .‬اكت�شفت‬ ‫يف ال�سبيل الذي �سلكته �شخ�صيتها التاريخية‪� ،‬أنطون �سعاده‪ ،‬منفذاً من الدائرة املفرغة التي غرق‬ ‫فيها �أبطال روايتها كما غرق جيل كامل من املنا�ضلني الذين حالت الفو�ضى وامل�ؤامرات بينهم‬ ‫وبني هذا القائد الذي جاء للأمة بر�ؤية متوهجة تعيد �إليها �ألقها وحترر نفو�س �أبنائها من كل مظاهر‬ ‫ال�ضعف والعبودية‪ .‬ك�شفت خليفة يف روايتها �أبعاداً رمبا يجهلها من هم من غري احلزب ال�سوري‬ ‫القومي االجتماعي عن امل�ؤامرة التي �أدت �إىل �إعدام �سعاده‪ ،‬م�ؤامرة ا�ستمرت بعد ا�ست�شهاده من‬ ‫خالل ال�سعي �إىل تغييبه عن الذاكرة الوطنية وح�صر كل ذكر حلياته �أو فكره �ضمن �أدبيات �أع�ضاء‬ ‫حزبه‪� .‬أم�ضت خليفة �أكرث من �سنتني يف قراءة كل ما كتبه �سعاده وما كتب عنه قبل �أن ت�شرع يف‬ ‫كتابة الرواية‪ ،‬جالت يف الأماكن التي عا�ش فيها وحتدثت مطو ًال �إىل �أنا�س عرفوه‪ ،‬حتى �أح�ست‬ ‫�أنها غدت مدركة لكل �ش�أن من �ش�ؤون فكره �أو حياته‪ ...‬ولكنها ما زالت �إىل اليوم تعجب ملا يلقاه‬ ‫هذا «املفكر العظيم» كما ت�سميه من ا�ضطهاد ما زال يالحقه حتى بعد مماته‪ .‬وهي تعزو ذلك �إىل‬ ‫�سيطرة الع�صبيات املذهبية والطائفية وا�ستغاللها من قبل القوى التي ت�سعى �إىل تفتيت جمتمعنا‬ ‫وهدمه‪ .‬لهذا ال�سبب اطلقت على روايتها عنوان «�أر�ض و�سماء» و�صدرتها بعبارة ل�سعاده‪�« :‬إقتتالنا‬ ‫على ال�سماء �أفقدنا الأر�ض»‪ .‬كتبت �إيل يف �إحدى ر�سائلها حول نقا�ش دار بينها وبني �أحد قراء‬ ‫م�سودة الرواية‪�« :‬أنا حكيت ما لدي حول املوقف التقليدي املبيت من �سعادة وهو الذي تنب�أ مبا‬ ‫يدور الآن يف العامل العربي من متزق �أ�سا�سه التحزب الديني والطائفية‪ ،‬و�أن على اللبنانيني �أن‬ ‫يفخروا بذاك املفكر العظيم ال �أن ي�ستمروا ب�شكل �أعمى با�ضطهاده حتى بعد مماته‪� ...‬سعادة‬ ‫�سيعود لأن عطاءه خالد‪».‬‬ ‫‪19‬‬

‫‪� 1 9‬سحر خليفة‪�« ،‬أر�ض و�سماء»‪� ،‬ص‪.‬‬

‫‪453‬‬


‫قراءة يف رواية «�أر�ض و�سماء» ل�سحر خليفة‬

‫راهنية فكر �سعاده‬

‫‪81‬‬

‫«�أر�ض و�سماء» مل تكن جمرد رواية بالن�سبة ل�سحر خليفة‪ ،‬بل غدت «جتربة فكرية على �أعلى‬ ‫امل�ستويات» لهذا‪ ،‬كان كل ما يتعلق ب�سعاده م�أخوذاً من م�صدر موثق لكي تكت�سب الرواية‬ ‫م�صداقية ت�سمح لها بت�أدية الر�سالة التي من �أجلها ُكتبت و�أُدرجت �ضمن الثالثية‪ :‬تذكري الأمة‬ ‫بالفر�ص التي �أ�ضاعتها من خالل رجال عظام مل ت�ستفد من عطاءاتهم ب�سبب اجلهل واالنق�سامات‬ ‫و�أنانية متنفذيها و�أمية ال�شعب الذي منعوا عنه املعرفة احلقيقية‪.‬‬ ‫«�أر�ض و�سماء» �أكرث من رواية‪ ،‬هي ر�سالة من كاتبة ال ت�أبه بالتيارات الأدبية الرائجة وال�صيحات‬ ‫التي ت�سعى �إىل نيل اجلوائز الأدبية (وهي على ذلك نالت عدداً كبرياً منها)‪ ،‬ر�سالة من كاتبة ال‬ ‫تعمل �إال من �أجل احلق واخلري واجلمال يف وطنها ويف العامل العربي‪.‬‬

‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬


‫الدولية للمعلومات �ش‪.‬م‪.‬ل‬

‫بناية الربج‪ ،‬الطابق الرابع‪� ،‬ساحة ال�شهداء الو�سط التجاري‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‬ ‫�صندوق بريد‪ ،11-4353 :‬بريوت ‪ -‬لبنان‪.‬‬ ‫هاتف‪)961-1( 983008 /9 :‬‬ ‫فاك�س‪)961-1( 980630 :‬‬ ‫الربيد الإلكرتوين‪infointl@information-international.com :‬‬ ‫املوقع الإلكرتوين‪www.information-international.com :‬‬


‫‪83‬‬

‫درا�سات وابحاث‬

‫العلمنة والإميان الديني‬

‫نحو �أم ٍر بني �أمرين‬

‫| حممود حيدر | باحث‬

‫ّقل �أن نقر�أ يف عامل املفاهيم عن ثنائيات مثرية للإ�شكال وااللتبا�س كثنائية الدين والعلمانية‪.‬‬ ‫حتى لتبدو ال�صورة وك�أن ثمة اخت�صاما وجودياً ال يقبل الت�سوية بينهما‪.‬‬ ‫والإ�شكالية بني الدين والعلمنة ال تتوقف على عامل ال�سيا�سة واالجتماع‪ ،‬و�إمنا متتد �أي�ضا و�أ�سا�ساً‬ ‫�إىل عامل املابعد‪� ..‬إىل عامل امليتافيزيقا‪ .‬وبذلك يدخل ال�سجال يف هذه الثنائية املعقدة يف �صميم‬ ‫كل ما له �صلة بعامل الإن�سان‪ .‬ذلك لأن مقاربتها هي مقاربة للإن�سان نف�سه‪ ،‬يف وجوده ون�ش�أته‬ ‫وتاريخيته ال�سيا�سية واالجتماعية‪ ،‬ويف بعده املعنوي والروحي‪.‬‬ ‫لكن ال بد لنا‪ ،‬ونحن يف مقام مراجعة امل�صطلح‪� ،‬أن منيز بني العلمنة والعلمانية‪ .‬و�سعينا �إىل‬ ‫التمييز يعود �إىل �أن التالب�س بني امل�صطلحني وا�ستدخال كل منهما بالآخر‪ ،‬هو �أ�صل من �أ�صول‬ ‫الإ�شكال املعريف الذي غالباً ما �شاع يف الفكر العربي ف�ض ًال عن الغرب‪ .‬الأمر الذي �أدى �إىل �سوء‬ ‫اال�ستعمال يف ميدان التفكري وكذلك يف املمار�سة‪.‬‬ ‫�أطلت العلمانية يف التجربة الأوروبية كمقرتح �سيا�سي اجتماعي قانوين‪ ،‬غايته ت�شكيل منف�سح‬ ‫عقالين يقوم مبهمة فك اال�شتباك بني تطور حركة احلداثة وح�ضور الإميان الديني‪ .‬لكنها مل تلبث‬ ‫حتى حتولت �إىل فل�سفة �شاملة يف نظرتها للكون‪ ،‬ا�ستطراداً �إىل عقيدة تقطع مع كل ما له �صلة بعامل‬ ‫امليتافيزيقا‪.‬‬ ‫وهذا هو وجه التمييز الأبرز بني العلمانية كحادث تاريخي والعلمنة كعقيدة وكهند�سة فل�سفية‬ ‫�أيديولوجية للعامل‪.‬‬ ‫تريد العلمانية �أن تقيم دولة حترتم الإميان على �أال يكون جلماعة امل�ؤمنني �سلطان �سيا�سي عليها‪.‬‬ ‫ميكن للمتدين �أن يجد له حم ًال يف الدولة ال ب�صفته الدينية و�إمنا ب�صفته مواطناً م�س�ؤو ًال �أمام‬ ‫القانون الذي يوفره له‪.‬‬ ‫بذلك تظهر هوية العلمانية ب�صفة كونها نظرياً للقانون‪ ،‬وجتلياً للعقد االجتماعي املجمع عليه‪ .‬ولئن‬ ‫اكتفت العلمانية بهذه الغاية تكون قد اكت�سبت �صفة تنظيمية و�إدارية تتيح للمجتمع املتنوع �أن‬ ‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬


‫‪84‬‬

‫يتكيف مع تعقيداته‪ ،‬ويتخذ �سبيله �إىل التفاعل اخلالق بني �أبنائه �سواء كانوا م�ؤمنني متدينني‬ ‫�أو علمانيني ال ي�ؤمنون باملمار�سة الدينية‪� ،‬أو مواطنني يف�صلون بني �إميانهم الديني وبني دنياهم‬ ‫ال�سيا�سية واالجتماعية واالقت�صادية‪.‬‬ ‫وعلى خالف العلمانية املجردة من �أغرا�ض الإيديولوجيا‪ ،‬هي غري العلمنة مبا هي �أيديولوجيا‬ ‫تريد �أن ت�ؤ�س�س لنظام ال يكتفي بالف�صل بني الإميان الديني والدولة‪ ،‬و�إمنا لتحدث قطيعة بني‬ ‫اهلل والعامل‪ .‬العلمنة بهذه املنزلة هي عقيدة و�شريعة‪ ،‬وبالتايل فهي ر�ؤية وجودية للعامل تقوم على‬ ‫�إبطال كل ما ال برهان عليه وفقاً ملعيارية الواقع الفيزيائي‪.‬‬ ‫ف�صلنا هذه الق�ضية‪...‬‬ ‫ل َرن كيف َّ‬ ‫‪ 1‬ـ العلمنة املولودة من رحم الدين‬

‫ال ينف�سح ال�ضباب عن �صورة العلمنة �إال �إذا و�ضعت يف مقابل الدين‪ .‬ولقد دلتنا التجربة التاريخية‬ ‫يف الغرب على �أنها ولدت من الرحم احلار للديانتني اليهودية وامل�سيحية‪ .‬ولذا ف�إن العلمنة بهذه‬ ‫ال�صورة ما كانت لتتخذ ماهيتها وهويتها �إال �ضمن لعبة يحتل الدين فيها مكانة حمورية‪.‬‬ ‫املفارقة اجلوهرية يف والدة العلمنة �أنها تالزمت وتزامنت وتبلورت مع حركة الإ�صالح الديني‬ ‫ابتدا ًء من اخلام�س ع�شر امليالدي‪ .‬حتى جلاز القول �إنه لوال هذا االحتدام يف ف�ضاء امل�سيحية ما‬ ‫كان لنظرية العلمنة �أن جتد لها �سبي ًال للظهور‪.‬‬ ‫احلادث التاريخي امل�ؤ�س�س لهذه املفارقة جرى يف ا�سبانيا من خالل ثالثة وقائع �سيكون لها �أثر‬ ‫هائل يف قلب �أوروبا وعقلها على مدى ثالثة قرون الحقة‪.‬‬ ‫الأول‪ :‬حني متكنت جيو�ش امللك فريديناند وامللكة ايزابيال‪ ،‬من هزمية دولة املدينة يف غرناطة وهي‬ ‫املعقل الإ�سالمي الأخري يف العامل امل�سيحي‪.‬‬ ‫الثاين‪ :‬حني و ّقّع فرديناند وايزابيال مر�سوم الطرد الذي �أ�صدراه لتخلي�ص ا�سبانيا من اليهود‬ ‫الذين خُ يرّ وا بني قبول التعميد �أو الطرد‪.‬‬ ‫الثالث‪ :‬حني �أبحر كري�ستوف كولومبو�س يف �شهر �آب �أغ�سط�س من ذلك العام انطالقا من‬ ‫ال�سواحل اال�سبانية ليكت�شف �أر�ض امل�سيح يف �أمريكا ال�شمالية‪.‬‬ ‫يف �أواخر القرن اخلام�س ع�شر مل يكن با�ستطاعة الأوروبيني مبن فيهم اال�سبان التنبوء بفداحة‬ ‫التغيرّ الذي د�شنوه‪ .‬فما جرى يف ا�سبانيا حيث ت�أ�س�ست �أول �أمرباطورية مركزية حديثة للعامل‬ ‫امل�سيحي‪� ،‬سوف لن يتوقف مفعوله على �إطالق ثورة �سيا�سية واقت�صادية‪ ،‬بل �سينجز ثورة ثقافية‬ ‫معرفية بعيدة الأثر‪ ،‬و�ستغدو العقالنية العلمية هي املنظومة التي حتكم مناهج التفكري‪ .‬كانت‬


‫العلمنة والإميان الديني‬

‫درا�سات و�أبحاث‬

‫‪85‬‬

‫امل�سيحية تتغري على الرغم من كل حماوالت الإطاحة مبنظومتها الالهوتية‪ .‬ولذا �سرنى �أن‬ ‫امل�ساهمة اال�سبانية الرئي�سية يف حركة اال�صالح كانت ذات �سمة �صوفية‪ .‬فقد �أ�صبح م�ستك�شفو‬ ‫العامل الروحي هم مت�صوفو �شبه اجلزيرة الإيربية‪ ،‬متاماً كما كان املالحون يكت�شفون بالتوازي‬ ‫مناطق جديدة من العامل املادي‪.‬‬ ‫كانت العلمنة مت�ضمنة‪ ،‬بوعي �أو بغري وعي‪ .‬يف الإ�صالح الربوت�ستانتي‪ .‬و�سنجد ذلك على نحو‬ ‫بينِّ من ا�ستقراء �إجمايل لرحلة االحتدام املرير مع الكاثوليكية‪.‬‬ ‫لقد طور الربوت�ستانت ما �أ�سموه الإجنيل االجتماعي لكي ي�ضفوا القدا�سة على املدن وامل�صانع‬ ‫رب لها‪ .‬وهذا «الإجنيل» هو ما ميكن �أن ن�سميه بـ «الهوت العلمنة» كما �سرنى بعد قليل‪...‬‬ ‫التي ال َّ‬ ‫لنقر�أ هذه الق�صة‪ :‬يف عام ‪� 1909‬ألقى اال�ستاذ املتقاعد من جامعة هارفرد جورج �إليوت خطاباً‬ ‫بعنوان «م�ستقبل الدين» �أوقع الي�أ�س يف قلوب من هم �أكرث حمافظة‪ .‬فالدين اجلديد ـ كما اعتقد‬ ‫�إليوت ـ �سيكون لديه و�صية واحدة هي‪ :‬حب اهلل الذي يلقى تعبرياً عنه يف خدمة الآخرين‬ ‫عملياً‪ .‬فلن يكون فيه كنائ�س �أو كتب مقد�سة‪ .‬وال الهوت حول اخلطيئة‪ ،‬وال حاجة للعبادة‪،‬‬ ‫فح�ضور اهلل �سيكون جلياً جداً‪ ،‬وغامراً تابعيه لدرجة �أنه لن يكون هناك حاجة �إىل طق�س القربان‬ ‫املقد�س‪ .‬مع هذا االجنيل لن يدعي امل�سيحيون احتكار احلقيقة لأن �أفكار العلماء‪ ،‬والعلمانيني‪،‬‬ ‫�أو من ينتمون �إىل دين خمتلف �ستكون �سارية فيه متاماً كما هو �سريان احلقيقة امل�سيحية‪ .‬الدين‬ ‫امل�ستقبلي ـ يف اهتمامه بالآخرين ـ لن يكون خمتلفاً عن املثل العليا كالدميقراطية والتعليم‬ ‫والإ�صالح الإجتماعي والطب الوقائي‪ .‬كان �إليوت يحاول ـ عرب هذه املخاطرة ـ العودة �إىل ما كان‬ ‫يعتربه حقيقة الإجنيلي الأ�صلي‪ .‬وذلك من خالل البحث عن جتاوز املعتقد وتخطيه‪ :‬حب اهلل‬ ‫وحمبة اجلار‪ .‬فالأديان العاملية جميعاً قد �أكدت �أهمية العدالة االجتماعية والإهتمام بال�ضعفاء‪.‬‬ ‫وبهذا ال�سياق حاول �إليوت الت�صدي �إىل الأحجية الواقعية لدى امل�سيحيني يف العامل احلديث‬ ‫من خالل بناء دين قائم على املمار�سة �أكرث من اعتماده على معتقدات متزمتة ‪.‬‬ ‫غري �أن هذا االحتدام مل يكن ليمر من دون مفارقات‪� .‬إذ بقدر ما كان امل�صلحون الربوت�ستانت‬ ‫ثوريني كانوا يف الوقت نف�سه رجعيني كما تقول عاملة الإجتماع الأمريكية كارين �آرم�سرتونغ‪ .‬ذلك‬ ‫ب�أنهم فعلوا كما فعل م�سلمو �إبن تيمية حني رف�ض الفقه والكالم لكي يعود �إىل القر�آن وال�س ّنة‪.‬‬ ‫ولكن مع فارق كبري يف التجربة‪ ،‬حيث انطلقت الربوت�ستانتية بثورتها �إىل �آفاق احلداثة الوا�سعة‬ ‫بينما ا�ستنقعت املدر�سة ال�سلفية التيماوية قالعها املغلقة ومل تغادر بداوتها‪.‬‬ ‫قامت نظرية اال�صالح الديني على قاعدة الهوتية قوامها اجلمع بني الإميان باهلل واالميان بالعامل‬ ‫مع �إ�سقاط الع�صمة‪� :‬سلطة الكني�سة‪ .‬ولقد تبلورت هذه النظرية مع مارتن لوثر (‪)1556 - 1483‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ 1‬‬

‫كارين �آرم�سرتونغ ـ النزعات الأ�صولية يف اليهودية وامل�سيحية والإ�سالم ـ ترجمة حممد اجلورا ـ دار الكلمة ـ‬ ‫دم�شق ‪ 2005‬ـ �ص ‪.190‬‬ ‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬


‫‪86‬‬

‫وجون كالفن (‪ )1564 - 1509‬وهولدري�ش زفينغلي (‪ )1531 - 1484‬الذين عادوا �إىل منابع الرتاث‬ ‫امل�سيحي‪� .‬شدد لوثر على �أهمية الإميان لكنه رف�ض العقل ب�شدة لأنه ي�ؤدي �إىل الإحلاد‪ .‬ذلك ب�أن‬ ‫معرفة اهلل عن طريق التفكري يف نظام الكون العجيب كما فعل الالهوتيون املدر�سيون ـ مل يكن‬ ‫ذلك �أمراً م�سموحاً‪ .‬يف م�ؤلفات لوثر كان اهلل قد بد�أ ين�سحب من العامل املادي الذي مل يعد له‬ ‫�أهمية اطالقاً‪ .‬وهذا ما دفعه �إىل علمنة ال�سيا�سة‪ .‬وح�سب ت�صوره �أن الكني�سة والدولة يجب �أن‬ ‫تعمال م�ستقلتني عن بع�ضهما‪ ،‬و�أن حترتم كل منهما العامل املالئم لن�شاطها‪ .‬و�سرنى تبعا لذلك‬ ‫كيف �أن هذه الر�ؤية �ستجعل لوثر من �أوائل االوروبيني املدافعني عن ف�صل الكني�سة عن الدولة‪.‬‬ ‫فقد جاءت علمنة ال�سيا�سة عنده مبثابة طريقة جديدة للتدين‪� .‬أما كالفن وزفينغلي فذهبا �أبعد‬ ‫مما ذهب �إليه «املعلم» يف الت�أ�سي�س الالهوتي للعلمنة‪� .‬آمنا ب�ضرورة اجلمع بني روحيانية الكتاب‬ ‫املقد�س وواقعية احلياة الب�شرية‪ .‬لقد وجدا �أن على امل�سيحيني �أن يعبرّ وا عن �إميانهم بامل�شاركة يف‬ ‫يقد�سوا العمل‬ ‫احلياة االجتماعية وال�سيا�سية بدال من االن�سحاب �إىل داخل الدير‪ .‬و�أن عليهم �أن ّ‬ ‫من خالل تعميد �أخالق ر�أ�س املال ال�صاعد‪ .‬ذلك ب�أن العمل هو �سعي مقد�س نحو الألوهة‬ ‫ولي�س عقاباً �إلهياً على اخلطيئة الآدمية االوىل‪ .‬لقد اعتقد كالفن �أن ر�ؤية اهلل يف خلقه �أمراً ممكناً‪،‬‬ ‫فلم ير تعار�ضاً بني العلم والكتاب املقد�س‪ .‬فالإجنيل مل يقدم معلومات حرفية حول اجلغرافيا‬ ‫ون�ش�أة الكون بل �إنه عبرّ عن حقيقة ع�صية على الو�صف من خالل كلمات لي�س يف و�سع الب�شر‬ ‫املحدودين فهمها و�إدراك �س ِّرها‪.‬‬ ‫ت�ضيء لنا هذه املقدمات على حقيقة �أن العلمنة التي كانت تنمو ببطء يف �أوروبا مل يكن منوها‬ ‫خارج �سريورة اال�صالح الديني‪.‬‬ ‫يف مثل هذه احلال‪ ،‬بدت ال�صورة وك�أن الربوت�ستانتية املحتجة الهوتياً على �إكراهات الكني�سة‬ ‫الكاثوليكية الرومانية‪ ،‬هي التي فتحت الباب العايل لنظرية العلمنة ولثورتها ال�شاملة فيما بعد‪.‬‬ ‫و�سي�أتي من رواد حركة احلداثة من ي�ضفي على هذه ال�صورة م�شروعيتها العلمية‪.‬‬ ‫ففي م�ستهل احلداثة �سي�شارك العامل الفلكي الهولندي كوبر نيكو�س (‪ )1543 - 1473‬كالفن‬ ‫ر�ؤيته الالهوتية املعلمنة ملا قال �إن ما �أجنزته حول مركزية ال�شم�س‪ ،‬هو �أكرث �إلهية مما هو ب�شري‪� .‬أما‬ ‫غاليلي الذي اخترب فر�ضية كوبرنيكو�س عملياً فقد كان مقتنعاً ب�أن ما �أجنزه كان نعمة �إلهية‪ .‬كذلك‬ ‫�سيحذو �إ�سحق نيوتن (‪ )1727 - 1642‬حذو نظرييه حيث �أعرب عن قناعته ب�أن فكرة اجلاذبية‬ ‫كقوة كونية جتعل الكون كله متما�سكاً ومتنع الأجرام ال�سماوية من اال�صطدام بع�ضها ببع�ض‪ ،‬وب�أن‬ ‫ما تو�صل اليه يثبت وجود اهلل العظيم ميكانيكياً‪.‬‬ ‫وهكذا �سن�ستمع �إىل اين�شتاين وهو يعلن يف �أواخر عمره �أن اهلل ما كان يلعب الرند‪ ،‬وهو يهند�س‬ ‫الكون الأعظم‪.‬‬ ‫لكن املفارقة التي نلحظها يف الت�ساوق بني الإ�صالح الديني وحركة احلداثة هي التالية‪ :‬م�صاحلة‬


‫العلمنة والإميان الديني‬

‫درا�سات و�أبحاث‬

‫‪87‬‬

‫االعتقاد باهلل مع العلم‪ ،‬وتناق�ضه الفكر الديني و�سلطة الكني�سة يف الآن عينه‪.‬‬ ‫و�سيب ُني لنا‪ ،‬وبحلول القرن ال�سابع ع�شر‪ ،‬كيف �ستبد�أ رحلة معرفية جديدة يف �أوروبا قوامها �سطوة‬ ‫العلم وك�شوفات العقل على �سلطان الأ�سطورة‪� .‬سيظهر ذلك بقوة مع كتاب «تقدم التعلم» (‪)1605‬‬ ‫لفران�سي�س بيكون (‪ )1626 - 1561‬م�ست�شار ملك انكلرتا جيم�س الأول‪ .‬لقد �أكد بيكون �أن كل‬ ‫حقيقة يجب �إخ�ضاعها للنقد ال�صارم عرب العلم التجريبي حتى تلك املتعلقة ب�أكرث االعتقادات‬ ‫الدينية قدا�سة‪ .‬ف�إذا تناق�ضت مع حقائق متت الربهنة عليها ومع دليل حوا�سنا عندئذ ينبغي رميها‬ ‫جانباً‪.‬‬ ‫هذه كانت حلظة مف�صلية يف نظرة العقل الغربي �إىل العلم‪ .‬ومع �أنها كانت حلظة تقدي�س للعلم‬ ‫ف�إنها مل ت�صل �إىل الإحلاد‪� ،‬إال �أنها �ست�ؤ�س�س ملا ميكن اعتباره ف�ص ًال وظيفياً بني اهلل والعامل‪ .‬وكان‬ ‫ذلك �ضرباً من علمنة تعرتف باخلالق وتعطل يف الوقت نف�سه ت�أثري هذا االعرتاف على االجتماع‬ ‫الب�شري‪.‬‬ ‫مثل هذه الطريقة جندها يف فل�سفة ديكارت الذي كان قادراً على التكلم بلغة عقالنية‪ ،‬لكنه وهو‬ ‫الكاثوليكي الورع‪� ،‬أراد �أن يقنع نف�سه بوجود اهلل مع رف�ضه العودة �إىل معتقدات الكني�سة‪ .‬ور�أى‬ ‫�أن ال�شيء الوحيد الذي ميكننا الت�أكد منه هو جتربة ال�شك العقلي يف �إطار بديهيته املعروفة «�أنا‬ ‫�أفكر �إذاً �أنا موجود»‪.‬‬ ‫بالتزامن ديكارت اعتقد الفيل�سوف الربيطاين توما�س هوب�س �أن هناك �إلهاً لكن لأ�سباب عملية‬ ‫قد ال يكون اهلل موجوداً‪ .‬ورمبا لت�أثره باجلذر التوراتي ر�أى هوب�س مثلما ر�أى لوثر ـ �أن العامل املادي‬ ‫خال من الإلهي‪ ،‬و�أن اهلل قد ك�شف ذاته يف فجر التاريخ الب�شري و�سوف يك�شف نف�سه يف نهايته‪.‬‬ ‫وحتى ذلك الوقت ـ يقول هوب�س ـ علينا اال�ستمرار يف العي�ش من دونه‪ ،‬وك�أننا ننتظر يف الظالم‪.‬‬ ‫�أما جون لوك (‪ )1704 - 1623‬الذي كان �أول الفال�سفة من الذين �أدخلوا التنوير الفل�سفي يف‬ ‫القرن الثامن ع�شر‪ ،‬فل�سوف ُيدخل العلمنة �إىل احليز ال�سيا�سي االجتماعي‪ .‬فكان عليه �أن ي�س ِّيلها‬ ‫كفل�سفة وعقيدة يف حركة الواقع‪ ،‬وكانت ما ن�سميه العلمانية كتجربة حية‪ .‬فمن �أجل الو�صول �إىل‬ ‫دين �صحيح ينبغي على الدولة ـ ح�سب ر�أيه ـ �أن تت�سامح جتاه جميع �أ�شكال االعتقاد‪ ،‬ويجب �أن‬ ‫تن�شغل باالدارة العلمية وحكم املجتمع فقط‪ .‬وينبغي �أن تكون الدولة منف�صلة عن الكني�سة و�أال‬ ‫يتدخل �أي منهما يف �ش�ؤون الآخر‪ ،‬بذلك �سيكون النا�س لأول مرة يف التاريخ الب�شري �أحراراً‪،‬‬ ‫بالتايل قادرين على �إدراك احلقيقة‪.‬‬ ‫يف مرحلة تالية‪ ،‬وبينما كان ه�ؤالء الالهوتيون والفال�سفة يعلنون �سيادة العقل العقالين راح االملاين‬ ‫�إميانويل كانط (‪ )1804 - 1724‬ي�شتغل على تنقية م�شروع التنوير من التبا�ساته وغمو�ضه فقال‪ :‬يجب‬ ‫�أن يكون لدى النا�س ال�شجاعة الكافية كي يتخلوا عن الكنائ�س وال�سلكات و�أن يبحثوا عن احلقيقة‬ ‫ب�أنف�سهم‪ .‬فالتنوير بر�أيه هو خروج االن�سان من الو�صاية التي ابتلي بها‪ .‬لكن العزاء الوحيد الذي متكن‬ ‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬


‫‪88‬‬

‫كانط من تقدميه هو �أن من املحال دح�ض وجود اهلل‪ .‬فعلى ال�صعيد ال�شخ�صي كان كانط تقياً‪ ،‬ومل‬ ‫تكن �أفكاره معادية للدين‪ ،‬و�إن كان مقتنعاً �أن القانون الأخالقي منقو�ش داخل كل كائن ب�شري‪.‬‬ ‫لكنه �سيبني يف كتابه املعروف «نقد العقل العملي»‪� :‬أنه من دون �ألوهة ومن دون �إمكانية حياة �أخرى‪،‬‬ ‫من ال�صعب �أن نرى ملاذا ينبغي علينا �أن نت�صرف بطريقة �أخالقية‪ .‬غري �أن الإعالء من �ش�أن العقل‬ ‫بو�صفه املنطلق الوحيد للحقيقة يف الغرب �سوف يتزامن مع انفجار نزعة ال عقالنية دينية‪ .‬وهذه‬ ‫الفرتة كانت مرعبة ل�سكان الغرب على جانبي الأطل�سي‪ .‬لقد ق�سمت حركة اال�صالح �أوروبا �إىل‬ ‫مع�سكرات متعادية واندلعت حروب الربوت�سانت والكاثوليك على مدى ثالثني عاماً (‪- 1618‬‬ ‫‪ )1648‬وامل�ؤ�س�سات الدميقراطية التي كانت تنه�ض يف الغرب كان ثمنها املذابح والآالم‪� .‬أما الثورة‬ ‫الفرن�سية فكانت �آثارها كارثية‪ .‬فلقد ولد يف الغرب نظام اجتماعي �أكرث عدالة وت�ساحماً لكنه مل‬ ‫يتحقق ذلك �إال بعد انق�ضاء قرنني كاملني من العنف الأعمى ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪ 2‬ـ العلمنة يف م�ستوعب الإميان الأعلى‬

‫قد تكون املنطقة املعرفية الأكرث �إثارة للجدل هي تلك التي عبرَّ ت عنها مطارحات فال�سفة‬ ‫الأخالق واملت�صوفني يف مرحلة ما بعد احلداثة‪ .‬ولقد د ّلت االختبارات الدينية لدى املت�صوفني‬ ‫وال �سيما منهم طبقة العرفاء والقدي�سني‪ ،‬على م�سعى مركب قوامه بلوغ احلد الأعلى من الإميان‪.‬‬ ‫املعني بهذا احلد للإميان هو الدرجة التي ي�صل �إليها املت�صوف بال�سري وال�سلوك والتعرف على‬ ‫حقائق الوجود‪ ،‬ومتكنه من معرفة نف�سه ومعرفة املوجودات و�صو ًال �إىل معرفة اهلل‪ .‬والذين ي�صلون‬ ‫�إىل هذه الدرجة املتعالية هم الذين يطلق على كل فرد منهم �صفة العارف �أو الإن�سان ال�سالك يف‬ ‫طريق الكمال‪ .‬وه�ؤالء مل يقطعوا مع الأحكام الدينية �أو القوانني الكن�سية‪.‬‬ ‫ذلك ب�أنهم بد�أوا من الدر�س الديني‪� ،‬أو مما ي�سمى بالعلوم النقلية التي ال نقا�ش يف حرف من‬ ‫حروفها حيث يتجاوز العارف الوا�صل حرفية الن�ص الديني من دون �أن يفارق �أبعاده ومراتبه‬ ‫وخفاياه‪ .‬فالإميان الأق�صى هو الذي يوفّر ل�صاحبه القدرة على التجاوز والتعايل واال�ستيعاب‬ ‫والإحاطة‪ .‬ومن يبلغ تلك الدرجة الق�صوى ي�ستطيع �أن يعي�ش الأ�سطورة واحلقيقة بنف�س املقدار‪.‬‬ ‫�أن يعي�ش الغيب وال�شهود كما لو كان يف عامل واحد‪ .‬فهو يف حالة ان�سجام ووئام ولو ظن الآخرون‬ ‫خالف ذلك‪� .‬إميان امل�ؤمن مبا ي�ؤمن ال ميكن و�صفه‪ ،‬بل ال ميكن حتديده‪ .‬فهو لي�س جمرد ظاهرة جتاور‬ ‫الظاهرات الأخرى‪ ،‬بل �إنه الظاهرة املركزية يف حياة الإن�سان ال�شخ�صية اجللية واخلفية يف الوقت‬ ‫نف�سه‪ .‬فالإميان يف حده الأق�صى كما يقول الالهوتي والفيل�سوف الوجودي الأملاين بول تيلت�ش ‪،‬‬ ‫ديني ويتعاىل عن الدين‪ ،‬وهو كلي وجزئي يف الآن عينه‪ ،‬وهو متنوع بال نهاية‪ ،‬وهو نف�سه دائماً‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪� 2‬آرم�سرتونغ امل�صدر نف�سه �ص ‪.90‬‬ ‫ ‪ 3‬بول تيليت�ش ـ بواعث الإميان ـ ترجمة �سعيد الغامني ـ من�شورات اجلمل ـ ‪2007‬ـ �ص ‪.145‬‬


‫العلمنة والإميان الديني‬

‫درا�سات و�أبحاث‬

‫‪89‬‬

‫ذلك ب�أن الإميان هو �إمكانية جوهرية للإن�سان‪ ،‬ولذلك فوجوده �ضروري وكلي‪ ،‬وهو ممكن و�ضروري‬ ‫هم �أق�صى‪ ،‬فال ميكن �إذ ذاك �أن يثلمه‬ ‫�أي�ضاً يف زماننا هذا‪ .‬و�إذا ُف َ‬ ‫هِم الإميان يف جوهره على �أنه ُّ‬ ‫العلم احلديث �أو �أي نوع من الفل�سفة‪ .‬وهو ي�سوغ ذاته �ضد من يهاجمونه‪ ،‬لأنهم ال ي�ستطيعون �أن‬ ‫يهاجموه �إال با�سم �إميان �آخر‪ .‬ولعل �أبرز ما يف واقعية الإميان �أن الذين يرف�ضونه �إمنا يعبرِّ ون‪ ،‬وهم‬ ‫يفعلون ذلك عن �إميان ما‪.‬‬ ‫مع ذلك ف�إن جانباً مهماً يف الإ�شكال يبقى مفتوحاً على ف�ضاء ال متناه من الغمو�ض‪ .‬هو الإ�شكال‬ ‫الناجم من احتدام الدين بالعلمنة على م�ستوى املفهوم النظري واالختبار العملي‪ .‬وهو ما يتمثل‬ ‫بالتناظر ال�ضدي بني الإميان والعقل‪ .‬فعلى هذا ال�صعيد يجب �أن ي�س�أل املرء �أو ًال‪ :‬ب�أي معنى‬ ‫واجه بالإميان؟ هل املق�صود بها‪ ،‬كما هي احلالة يف الغالب اليوم‪� ،‬أن‬ ‫ُت�ستعمل كلمة «عقل» حني ُت َ‬ ‫ُتط ّلق مبعنى املنهج العلمي وال�صرامة املنطقية واحل�ساب التقني؟ �أم �أنها ُت�ست َعمل‪ ،‬كما كان احلال‬ ‫يف كثري من حقب الثقافة الغربية‪ ،‬مبعنى منبع املعنى والبنية واملعايري واملبادئ؟‬ ‫يف احلالة الأوىل‪ ،‬يوفر العقل الأدوات الالزمة ملعرفة الواقع وال�سيطرة عليه‪ ،‬ويوفر الإميان االجتاه‬ ‫الذي تتم فيه ممار�سة هذه ال�سيطرة‪ .‬وقد يطلق املرء على هذا النوع من العقل ا�سم العقل التقني‪،‬‬ ‫الذي يوفر الو�سائل‪ ،‬دون الغايات‪ .‬ويهتم العقل بهذا املعنى باحلياة اليومية لكل �إن�سان‪ ،‬وهو القوة‬ ‫التي حتدد احل�ضارة التقنية لع�صرنا‪ .‬ويف احلالة الثانية‪ ،‬يتماهى العقل ب�إن�سانية الإن�سان يف مقابل‬ ‫جميع الكائنات الأخرى‪ .‬فهو �أ�سا�س اللغة‪ ،‬واحلرية‪ ،‬والإبداع‪ .‬وهو داخل يف عملية البحث عن‬ ‫املعرفة‪ ،‬ويف جتربة الفن وحتقيق الأوامر الأخالقية‪ ،‬حيث يجعل من احلياة ال�شخ�صية امل�شاركة يف‬ ‫اجلماعة �أمراً ممكناً‪.‬‬ ‫لو كان الإميان نقي�ضاً للعقل ـ ح�سب تيليت�ش ـ لكان مييل �إىل نزع ال�صفة الإن�سانية عن الإن�سان‪.‬‬ ‫فالإميان الذي يد ِّمر العقل يدمر يف املقابل نف�سه ويدمر �إن�سانية الإن�سان‪� .‬إذ ال يقدر �سوى كائن‬ ‫ميتلك بنية العقل على �أن يكون لديه هم �أق�صى‪� .‬أي �أن يكون �شغوفاً باهلل والإن�سان يف �آن‪ ،‬وذلك‬ ‫�إىل الدرجة التي ي�ؤول به هذا ال�شغف �إىل تخطي الثنائية ال�سلبية التي ت�صنع القطيعة بني طرفيها‪.‬‬ ‫وحده من ميتلك ملكة «العقل املت�صل» ـ �أي العقل اجلامع بني الإميان باهلل والإميان بالإن�سانية ـ هو‬ ‫الذي يفلح بفتح البـاب العايل على الو�صل بني الواقع الفيزيائي وح�ضـور املقـد�سي‪ .‬يف هــذا‬ ‫الواقــع‪ .‬وما نعنيــه بالعقل املت�صل هـو العقــل الذي ي�شكل البنية املعنويــة للذهن والواقع‪ ،‬ال‬ ‫العقل بو�صفه �أداة تقنية بحتة‪ .‬وبهذا املعنى ي�صري العقل �شرطاً ت�أ�سي�سياً للإميان‪ :‬ذلك لأن الإميان‬ ‫هو الفعل الذي ي�صل به العقل يف ن�شوته الإجنذابية �إىل ما وراء ذاته‪� .‬أي �إىل ما بعد �أنانيته التي‬ ‫يتجاوزها بالإيثار والعطاء والغريية‪ .‬بتو�ضيح �أن عقل الإن�سان متنا ٍه وحمدود‪ .‬فهو يتحرك داخل‬ ‫عالقات متناهية وحمددة حني يهتم بالعامل وبالإن�سان نف�سه‪ .‬وجلميع الفعاليات الثقافية التي‬ ‫يتلقى فيها الإن�سان عامله هذه اخلا�صية يف التناهي واملحدودية‪ .‬لكن العقل لي�س مقيداً بتناهيه‪،‬‬ ‫بل هو يعيه‪ ،‬بهذا الوعي يرتفع فوقه وعندها يجرب الإن�سان انتما ًء �إىل الالمتناهي الذي هو مع‬ ‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬


‫‪90‬‬

‫ذلك لي�س جزءاً منه وال يقع يف متناوله‪ ،‬ولكن ال بد له من اال�ستحواذ عليه‪ .‬وحني ي�ستحوذ على‬ ‫الإن�سان ي�صري بالن�سبة �إليه هماً ال متناهياً �أي مقد�ساً ونبي ًال‪.‬‬ ‫وحني يكون العقل ـ بهذه ال�صريورة ـ م�س ّلمة للإميان‪ ،‬يكون حتققاً للعقل‪ .‬والإميان بو�صفه حالة هم‬ ‫�أق�صى هو العقل يف طور ن�شوته الإجنذابية‪ .‬والنتيجة �أن ال تناق�ض بني طبيعة الإميان وطبيعة العقل‬ ‫بل يقع كل منهما يف داخل الآخر ‪� .‬إذن‪ ،‬ما الذي ميكن �أن ي�ؤدي اليه متازج االميان والعقل من‬ ‫�آثار على حل الإ�شكال بني الإميان الديني والعلمنة‪.‬‬ ‫تبد�أ الإجراءات التنظريية بتقديرنا من خالل ال�سعي �إىل العثور على ما ميكن و�صفه مبنطقة اجلاذبية‬ ‫التي يلتقي فيها الإميان الديني بالإن�شغال بق�ضايا العامل‪ .‬و�إذا كانت مهمة الفل�سفة الأوىل تركزت‬ ‫على فهم �سر العالقة بني اهلل والعامل‪ ،‬ف�إن الفل�سفة الالحقة يف حقبة ما بعد احلداثة مل ت�ستطع‬ ‫مغادرة هذا امل�سعى‪ .‬ظل العقل الب�شري على قلقه وحريته ومل يقدر �أن يجتاز لعبة االختيار احلر‬ ‫بني الثنائيات‪ :‬اهلل �أو العامل‪ ،‬العقل �أو الوحي‪ ،‬الإميان �أو العلم‪ ،‬العلمنة �أو الدين‪ ،‬الدولة العلمانية‬ ‫�أو الدولة الدينية‪.‬‬ ‫ذلك يدل على �أن الإ�شكال الناجم عن هذه اللعبة هو �إ�شكال فل�سفي من قبل �أن يكون �إ�شكا ًال‬ ‫�إيديولوجياً و�سيا�سيا وثقافياً‪.‬‬ ‫لننظر �إذاً �إىل الدائرة الأ�صلية التي �صدر منها الإ�شكال؟‬ ‫يذهب عدد من الالهوتيني وفال�سفة الأخالق �إىل عر�ض الق�ضية على النحو التايل‪:‬‬ ‫�أو ًال‪ ،‬يجب االعرتاف ب�أن الإن�سان يعي�ش حالة اغرتاب عن طبيعته احلقيقية‪ .‬ما يف�ضي �إىل �سوء‬ ‫ر�ؤية فعلية تعود �إىل اال�ستعمال امل�شوه لكل من العقل والإميان‪ .‬وثم يقولون �إنه ال ميكن �أن ي�صل‬ ‫احلل فيما يتعلق بالطبيعة احلقيقية للإميان والطبيعة احلقيقية للعقل �إىل نهايته املن�شودة‪ ،‬من دون‬ ‫ت�أهيل جذري للطبيعتني يف ظل ظروف الوجود الإن�ساين‪.‬‬ ‫والنتيجة التي ترتتب على هذا الت�أهيل هي وجوب التغلب على هذا االغرتاب‪ .‬والتجربة التي‬ ‫يحدث فيها هذا االجراء كما يقر ّرون هي جتربة الوحي‪.‬‬ ‫ا�ستخدام مفردة «الوحي» �سواء من جانب ال�سلطة املعرفة الدينية �أو من جانب املتح ّيزين �إىل الفكر‬ ‫الع ْلمني‪ .‬و�أما ح�صيلة مثل هذا اال�ستخدام فهو �صدور �أحكام تعيد ثنائية الوحي و�صلته بالواقع‬ ‫�إىل معاركها الأوىل‪ُ .‬يفهم من الوحي �شعبياً �أنه معلومات �إلهية عن ق�ضايا �إلهية‪َ ،‬‬ ‫تعطى للأنبياء‬ ‫والر�سل‪ ،‬متليها الروح الإلهية على كتاب «الكتاب املقد�س» �أو «القر�آن» ف�ض ًال عن بقية الكتب‬ ‫املقد�سة‪ .‬والقبول بهذه املعلومات‪ ،‬مهما تكن حمالة وال عقلية‪ ،‬هو الذي ي�سمى بعدئذ بالإميان‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪ 4‬‬

‫بول يلييت�ش امل�صدر نف�سه‪.‬‬


‫العلمنة والإميان الديني‬

‫درا�سات و�أبحاث‬

‫‪91‬‬

‫و�إىل هذا ف�إن الوحي‪ ،‬بح�سب فل�سفة الدين هو التجربة التي ي�ستحوذ فيها هم �أق�صى على العقل‬ ‫الإن�ساين ثم ي�سود و�سط جماعة ح�ضارية بحيث يعبرّ فيها هذا الهم عن نف�سه عن طريق رموز‬ ‫الفعل واخليال والفكر‪ .‬وحيثما حت�صل جتربة الوحي هذه‪ ،‬يتجدد كل من الإميان والعقل‪ .‬ويتم‬ ‫قهر �صراعاتهما الداخلية واملتبادلة‪ ،‬وي�ستبدل التغريب بامل�صاحلة‪ .‬هذا هو ما يعنيه الوحي‪� ،‬أو‬ ‫ما يجب �أن يعنيه‪ .‬فهو احلدث الذي يتجلى به الإميان الأق�صى يف هم �أق�صى‪ ،‬وحمو ًال �إيــاه يف‬ ‫الديـن والثقافة‪ .‬يف مثل هـذه التجربـة‪ ،‬ال ميكن �أن يوجد �صراع بني الإميان والعقل‪ ،‬لأن بنية‬ ‫للهم الأق�صى ويغريها‪.‬‬ ‫الإن�سان ال�شاملة من حيث هو كائن عقلي ي�ستحوذ عليها جت ّلي الوحي ّ‬ ‫وهذا ما ذهب اليه فيل�سوف الدين الرو�سي نيقوال برديا�شيف حني ر�أى �أن لليقظات الفل�سفية‬ ‫دائماً م�صدراً دينياً‪ .‬وظل مييل �إىل الإعتقاد ب�أن الفل�سفة احلديثة عموماً‪ .‬والأملانية خ�صو�صاً هي‬ ‫�أ�شد م�سيحية يف جوهرها من فل�سفة الع�صر الو�سيط‪ .‬حيث نفذت امل�سيحية بر�أيه �إىل ماهية الفكر‬ ‫نف�سه ابتدا ًء من فجر ع�صور احلداثة‪.‬‬ ‫و�إذن‪ ،‬ما من �صراع بني الإميان يف طبيعته احلقيقية والعقل يف طبيعته احلقيقية‪ .‬وي�شمل هذا‬ ‫الت�أكيد �أنه ال يوجد �صراع جوهري بني الإميان والوظيفة الإدراكية للعقل‪.‬‬ ‫هِم ذلك‪ ،‬ظهرت ال�صراعات ال�سابقة بني الإميان والعلم يف �ضوء خمتلف متاماً‪ .‬فال�صراع يف‬ ‫و�إذا ُف َ‬ ‫احلقيقة مل يكن بني الإميان والعلم‪ ،‬بل بني �إميان وعلم ال يعي كالهما بعده ال�صحيح‪.‬‬ ‫فلم يكن ال�صراع ال�شهري بني نظرية التطور والهوت بع�ض الطوائف امل�سيحية �صراعاً بني العلم‬ ‫والإميان‪ ،‬بل �صراع بني علم يجرد �إميان الإن�سان من �إن�سانيته‪ ،‬و�إميان �شوه الت�أويل احلريف للكتاب‬ ‫املقد�س تعبرياته‪ .‬ويف�ضي هذا التمييز بني حقيقة الإميان وحقيقة العلم �إىل حتذير ال بد من توجيهه‬ ‫لالهوتيني وعلماء الدين يف �أال ي�ستخدموا املكت�شفات العلمية احلديثة لت�أكيد حقيقة الإميان‪.‬‬ ‫و�سرعان ما �صار الكتاب الدينيون يوظفون هذه املكت�شفات لت�أكيد �أفكارهم عن احلرية الإن�سانية‪،‬‬ ‫والإبداع الإلهي‪ ،‬واملعجزات‪ .‬ولكن ال م�سوغ ملثل هذا الإجراء‪ ،‬ال من وجهة نظر الفيزياء وال من‬ ‫وجهة نظر الدين‪ .‬فالنظريات الفيزيائية امل�شار �إليها ال عالقة لها مبا�شرة بالظاهرة املعقدة تعقيـداً‬ ‫ال نهائياً عن احلرية الإن�سانيــة‪.‬‬ ‫‪ 3‬ـ معيار الأخالق والإميان يف جمع املتناق�ضني‬

‫�إذا اتفقنا على املبدا الأخالقي كمعيار ت�أ�سي�سي لإجراء امل�صاحلة بني الإميان الديني والعلمنة‪،‬‬ ‫نكون قد و�ضعنا الفر�ضية الأوىل لأطروحتنا‪ .‬ف�إذا كانت غاية الدين ومقا�صد ال�شريعة قائمة على‬ ‫اخلري والعدل واحلب واجلمال‪ ،‬و�إذا كانت غاية العلمنة هي الو�صول بالإن�سان ليكون �سيد نف�سه‬ ‫و�سيداً على الكون‪ ..‬ف�إن الغايتني �سوف تلتقيان بال�ضرورة على اجلوهر الواحد وهو اخلريية‪.‬‬

‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬


‫‪92‬‬

‫وهنا ميكن القول �إن الإميان الديني املتجرد من الأغرا�ض يت�ضمن يف منطقه الداخلي كل ما له‬ ‫�صلة بخري االن�سان وبهذه الرابطة اجلدلية لن ُيرى الإن�سان ومن موقعية الإميان الأعلى �إال ككائن‬ ‫نبيل ومك ّرم ت�ستحيل ف�صل علمانيته عن روحانيته‪.‬‬ ‫التوحد ال�ضروري �سوى حتويل الإميان �إىل ر�أي والعلمنة �إىل �أيديولوجيا‪.‬‬ ‫ال �شيء يحول دون هذا ّ‬ ‫ومثل هذا التحويل هو من طبيعة ال�سلطة كل �سلطة �سواء كانت دينية �أو علمانية‪ .‬وال�سلطة الدينية‬ ‫ب�سبب من غر�ضيتها وحت ّيزها وا�ستئثارها مبا لها وما لغريها تروح توظف مبادئ اخلري واجلمال‬ ‫لأغرا�ضها و�أهوائها ودميومتها‪.‬‬ ‫كذلك تفعل ال�سلطة العلمانية ملا ي�أخذها الغرور لتنتزع من الإن�سان عامله املعنوي وتلقي به يف‬ ‫ال�صماء‪ .‬ويف اختباراتها ال�سيا�سية والثقافية والأمنية على مدى قرون احلداثة ما‬ ‫عواملها الأر�ضية ّ‬ ‫ي�ستظهر م�شاهد مدوية يف ميادين القهر والإق�صاء والنفي‪ .‬الإميان بوجود قانون �أخالقي مطلق ال‬ ‫يتناق�ض مع القول ب�أن الأفكار الأخالقية تختلف باختالف البلدان والع�صور واحل�ضارات‪ .‬والقول‬ ‫ب�أن ال�شيء نف�سه يكون خرياً يف ثقافة معينة و�شراً يف ثقافة �أخرى ال يعني �أن االخالق ن�سبية‪،‬‬ ‫مبعنى �أن ال�شيء نف�سه هو خري يف ثقافة و�شر يف �أخرى‪ .‬الذين ي�ؤمنون بذلك رمبا جهلوا القانون‬ ‫الأخالقي احلقيقي‪ .‬والدليل العقلي �أنه �إذا كانت ال�سرقة خط�أ فهي يف كل مكان وعلى الدوام‪،‬‬ ‫وكذلك الظلم والقتل و�سائر �صنوف ال�شر‪.‬‬ ‫تلك ر�ؤية الأديان على اجلملة فكل �إن�سان ي�ؤمن ب�أن العامل ميثل نظاماً �أخالقياً ال بد له بال�ضرورة‬ ‫من �أن يعتنقها لكي يكون �إن�ساناً �سوياً ولو كانت القيم الأخالقية مو�ضوعية‪ ،‬فهي م�ستقلة عن‬ ‫معتقدات النا�س و�آرائهم‪ .‬فال يكون ال�شيء خرياً لأن بع�ض الثقافات يعتقد �أنه خري‪ .‬فما هو‬ ‫�صواب �سوف يكون ما هو عليه يف ان�سجام مع النظامي الكوين‪ ،‬ومعنى ذلك على اجلملة‪� ،‬إن �أي‬ ‫نوع من املو�ضوعية الأخالقية ينطوي على القول بوجود �أخالق كلية واحدة‪.‬‬ ‫معرت�ض على فكرة �أن املنزلة املعنوية للإميان الأق�صى ال ت�ستطيع �أن تفعل �شيئاً ينطوي على‬ ‫رب‬ ‫ٍ‬ ‫�آثار اجتماعية وهي حتاول اجلمع بني الوحي والعامل ما دامت خارج االحتدام‪ .‬واجلواب �أن‬ ‫ال�صفوة املتعالية الآخذة بالإميان الأق�صى هي نخبة تعي�ش الواقع‪ ،‬وتعاينه وت�ؤثّر فيه من دون �أن‬ ‫ت�ستغرق يف �ش�ؤون التف�صيلية‪ .‬فهي مت�صلة بالواقع منف�صلة عنه يف الوقت عينه‪ .‬ومثل هذه اجلدلية‬ ‫املعقدة والدقيقة �سوف حتد من �سلبية التحيز ومن �أ�ضرار االنحياز �إىل هذه اجلهة �أو تلك‪ .‬كما �أنها‬ ‫تخفف عيوب‪ ،‬حتول الإميان �إىل �أيديولوجيا بحيث تعيد التناق�ض بني الإميان الديني والعلمنة �إىل‬ ‫�سابق عهده‪.‬‬ ‫ي�ستطيع الإميان الأعلى‪ ،‬وهو �إميان ال�صفوة من القدي�سني والأولياء واحلكماء والفال�سفة وعلماء‬ ‫الأخالق‪� ،‬أن يحتوي بحكمته ورحمانيته وعقالنيته الفكر ال�سلطوي يف حقل امل�ؤ�س�سة الدينية‬ ‫وحقل امل�ؤ�س�سة العلمانية على ال�سواء‪.‬‬


‫العلمنة والإميان الديني‬

‫درا�سات و�أبحاث‬

‫‪93‬‬

‫ولأن القرن الواحد والع�شرين هو القرن الفا�صل بني ع�صرين‪ ،‬ف�إنه يف مرحلة انتقالية يلتب�س فيه‬ ‫القدمي املتداعي باجلديد الواعد‪� .‬أي �أنه قرن االحتماالت املفتوحة يف �ساحة الأفكار والنظريات‬ ‫واملفاهيم‪ .‬ولأنه كذلك فهو يحتاج اىل جهد تنظريي ليملأ الفراغات التي ع�صفت بعامل املفاهيم‪.‬‬ ‫مل يعد العقل الذي ابتنت عليه احلداثة منجزاتها العظمى على امتداد خم�سة قرون متوا�صلة‪،‬‬ ‫قادراً وب�أدواته املعرفية امل�ألوفة على مواجهة عامل ممتلئ باملفارقات والتناق�ضات‪ .‬مل تعد العلمنة‬ ‫التي تقد�ست م�سالكها ونعوتها و�أ�سما�ؤها م�ؤهلة ملوا�صلة حروبها مع من يخالفها ثقتها املفرطة يف‬ ‫بناء مدينتها الفا�ضلة‪ .‬وال الدين الذي �صنعته اجلماعات احل�ضارية على قيا�سها‪ ،‬قادراً على نيل‬ ‫ر�ضى اهلل يف خلقه‪.‬‬ ‫هذا �ضرب من الإدعاء‪ ،‬قد تقولون‪ ،‬لكن ال بد من الإدعاء بعدما ا�ستغرق الإن�سان �شرقاً وغرباً يف‬ ‫فو�ضاه وقلقه وحريته‪.‬‬ ‫حني انتهت ما بعد احلداثة �إىل احلديث عن الإن�سان الأخري وعن موته فبديهي �أن ين�صب احلديث‬ ‫الذي �سيلي على احلاجة �إىل �إن�سان م�ست�أنف‪ ،‬يجمع وال يفرق ويجتمع حيث ينبغي االجتماع‪.‬‬

‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬


‫دار كتب للن�شر �ش‪.‬م‪.‬ل‬

‫بناية الربج‪ ،‬الطابق الرابع‪� ،‬ساحة ال�شهداء الو�سط التجاري‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‬ ‫�صندوق بريد‪ ،11-4353 :‬بريوت ‪ -‬لبنان‪.‬‬ ‫هاتف‪)961-1( 983008 /9 :‬‬ ‫فاك�س‪)961-1( 980630 :‬‬ ‫الربيد الإلكرتوين‪kutub@kutubltd.com :‬‬ ‫املوقع الإلكرتوين‪www.kutubltd.com :‬‬


‫‪95‬‬

‫درا�سات وابحاث‬

‫هجرة الأدباء ال�شوام �إىل م�رص يف القرنني‬ ‫التا�سع ع�رش والع�رشين (حكايات)‬ ‫| الأ�ستاذ وديع فل�سطني | ناقد وم�ؤرخ �أدبي‬

‫�أنا متهم ب�أنني �شامي‪ ،‬وهي تهمة ال �أدفعها و�شرف ال �أ ّدعيه ‪.‬‬ ‫فب�سبب �أ�سمي اجلغرايف‪ ،‬الذي ال يوحي ب�أنني �أنتمي اىل ال�صعيد اجلغرايف يف م�صر‪ ،‬توهم النا�س‬ ‫ب�أنني ال ّبد ان �أكون م�ستورداً من اخلارج‪ ،‬حتى �س�ألني واحد منهم وكنت نحيل اجل�سم هل �أنت‬ ‫من بيت حلم؟ فقلت له‪ :‬كال‪ ،‬ف�أنا من بيت عظم‪.‬‬ ‫وعندما كانت منطقة غزة تابعة للحكم امل�صري‪ ،‬كانت جميع الر�سائل املوجهة �إ ّيل من اخلارج‬ ‫تر�سل �أو ًال �إىل غزة‪ ،‬ومن هناك ّيحول الربيد هذه الر�سائل �إىل القاهرة‪.‬‬ ‫ودفعاً لتهمة ال�شامية‪ ،‬فعندما ا�ستدعيت �إىل مباحث �أمن الدولة العليا‪ ،‬بادرين ال�ضابط الهمام‬ ‫مبجرد دخويل غرفته قائ ًال‪ :‬متى �شرفت م�صريا �أ�ستاذ وديع؟ فقلت له! �إنني �شرفت م�صر من �سبعة‬ ‫وجدي الأكرب رم�سي�س الثاين!‬ ‫الآف �سنة ف�أنا �صعيدي وقبطي وفرعوين ّ‬ ‫ولكن تعاظم االعتقاد ب�أنني من �شوام م�صر عندما �ألقيت نف�سي يف فجر حياتي العملية غارقاً يف‬ ‫«�أوقيانو�س» من ال�شوام‪ .‬فهم امامي وخلفي يحيطون بي احاطة ال�سوار باملع�صم‪ .‬ذلك �أنني بعد‬ ‫نيلي �شهادة ال�صحافة من اجلامعة االمريكية بالقاهرة‪ ،‬زرت �أ�ستاذي ف�ؤاد �ص ّروف ‪ -‬وهو �أي�ضاً‬ ‫�شامي ف�س�ألني‪ :‬هل اهتديت �إىل عمل؟ فقلت له‪� :‬إنني مل �أحاول حتى الآن‪ .‬فقال‪ :‬هل حتب‬ ‫�أن تعمل يف جريدة «االهرام» فقد كنت من يومني مع قريبي فريديك �شقري مدير «االهرام» الذي‬ ‫�أعرب يل عن رغبته يف تعيني �شباب يف اجلريدة؟ فقلت له‪ :‬طبعاً‪ .‬وعلى الفور �أعطاين خطاباً اىل‬ ‫�شقري بك‪ ،‬وبعد �أيام القيت نف�سي موظفاً يف «االهرام» ال يف ق�سم التحرير كما كنت �أحب بل‬ ‫يف االدارة‪ ،‬وعلى وجه التحديد يف ق�سم التوزيع‪ .‬واكت�شفت �أن كل العاملني يف هذا الق�سم من‬ ‫ال�شوام‪� :‬سوقي وحبيقة و�شيخاين و�أبي نا�ضر و�ضاهر وبحري و�شدياق وب�شارة و�صيقلي وخطار‪،‬‬ ‫ولكنني مل �أح�س بالغربة يف و�سطهم ال �أنا وال زميلي ال�شاعر �صالح جودت الذي كان يعمل‬ ‫بدوره يف االدارة ولكن يف ق�سم االعالنات‪ .‬واحلقيقة �أنني طوال ال�سنني الثالث التي عملت فيها‬ ‫و�سط ه�ؤالء ال�شوام‪ ،‬مل تكن تربطني بهم �إال زمالة كرمية بل كانوا يدعونني �إىل منا�سباتهم العائلية‪.‬‬ ‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬


‫‪96‬‬

‫وكنت الأحظ �أن معظم ال�شوام يقيمون �أما يف حي الفجالة �أو يف حي الظاهر القريب منه‪،‬‬ ‫و�سبب ذلك على ما �أعتقد‪� -‬أنه عندما بد�أت هجرة ال�شوام �إىل م�صر‪ ،‬كانوا ي�صلون بالبواخر �إىل‬ ‫اال�سكندرية �أو بور�سعيد‪ ،‬ثم ي�ستقلون القطار �إىل نهاية اخلط يف باب احلديد‪ .‬ولأن حي الفجالة‬ ‫كان هو االقرب اىل حمطة م�صر‪ ،‬فقد كانوا يف�ضلونه لل�سكن‪ ،‬وما زال احلي �إىل هذا اليوم يحتفظ‬ ‫مبعامل �شامية‪ ،‬منها دار املعارف مببناها القدمي‪ ،‬ومنها مكتبة العرب ل�صاحبها يو�سف توما الب�ستاين‪.‬‬ ‫وهناك �أي�ضا حي ال�سكاكيني القريب‪ ،‬وفيه ق�صر �شامخ كان ي�سكنه حبيب �سكاكيني با�شا‪ ،‬وهو‬ ‫�أي�ضاً من ال�شوام‪.‬‬ ‫اما ق�سم التحرير يف «االهرام» فكان ير�أ�سه �أنطون اجلميل با�شا وي�ستعني بنجيب كنعان �سكرتري‬ ‫التحرير وحمررين منهم توفيق حنا ال�شمايل والبري عمون‪ ،‬وه�ؤالء جميعا من ال�شوام‪.‬‬ ‫علي ذلك بدعوى �أن ق�سمي االدارة والتحرير‬ ‫وكانت مناي �أن �أعمل يف التحرير‪ ،‬فا�ستحال ّ‬ ‫ي�ستقل كل منهما ببناية خا�صة وال �سبيل �إىل االنتقال بينهما حتى مع وجود كوبري معدين معلق‬ ‫بني البنايتني‪ .‬وما �أكرث ما عربت عليه‪ .‬ولهذا رحبت بدعوة كرمي ثابت با�شا للعمل معه يف «دار‬ ‫املقتطف واملقطم» كواحد من املحررين‪.‬‬ ‫ويف هذه الدار �أي�ضا ا�ستقبلني ثالثة با�شوات‪ ،‬وكلهم من ال�شوام‪ ،‬هم الدكتور فار�س منر با�شا الباقي‬ ‫على قيد احلياة من امل�ؤ�س�سني الثالثة للدار بعد رحيل �شريكيه الدكتور يعقوب �صروف و�شاهني‬ ‫مكاريو�س‪ ،‬وخليل تابت با�شا وابنه كرمي تابت با�شا‪ .‬وكان معنا �شوام �آخرون منهم قربة ومكاريو�س‬ ‫واليازجي و�أي�ضاً ماري كاثرين بوالد‪� .‬أما جملة «املقتطف» فكان لل�شوام دور فيها‪ .‬هم ف�ؤاد �صروف‬ ‫وب�شري فار�س ونقوال احلداد مرتجم نظرية الن�سبية الن�شتني و�سكرتري التحرير ا�سبريو ج�سري الذي‬ ‫غري ا�سمه �إىل �سامي اجل�سري‪.‬‬ ‫يف عام ‪ 1948‬قرر خليل ثابت با�شا حمرر جريدة « املقطم» امل�س�ألية �أن يتقاعد عن عمله الذي ق�ضى‬ ‫فيه نحو ‪ 40‬عاماً م�ستمراً على مقعده يف اجلريدة‪ ،‬بل كان مكتبه جزءاً ل�صيقاً من بيته‪ ،‬فاذا ا�ستيقظ‬ ‫يف ال�صباح املبكر توجه �إىل �آلة التيكر (املربقة الكاتبة) وهي الآلة التي كانت تخرج منها ن�شرات‬ ‫الأخبار العاملية‪ ،‬ومتى فرغ من قراءتها‪ ،‬عكف على كتابة مقاله االفتتاحي اليومي الذي كان ين�شر‬ ‫يف �صدر ال�صفحة االوىل مع ذيول من التعليقات املوجزة يف �صفحة داخلية‪.‬‬ ‫يا كيكي كيكي‬

‫بعدما حترر خليل ثابت با�شا من «عبودية» الوظيفة‪ ،‬قرر ال�سفر �إىل لبنان لال�صطياف يف م�سقط‬ ‫ر�أ�سه دير القمر‪،‬وعند عودته �س�أله �أ�صدقا�ؤه عن انطباعاته �أو ارت�ساماته عن االو�ضاع يف لبنان‪ ،‬فقرر‬ ‫�أن يلقي حما�ضرة عامة يف النادي ال�شرقي الذي كان ير�أ�سه‪ ،‬وهو ناد اجتماعي ولي�س ريا�ضياً‪،‬‬


‫هجرة الأدباء ال�شوام �إىل م�صر يف القرنني التا�سع ع�شر والع�شرين (حكايات)‬

‫درا�سات و�أبحاث‬

‫‪97‬‬

‫وكان �أكرب الأندية ال�شامية يف م�صر حيث كان هناك ناديان �آخران �صغريان هما نادي لبنان ونادي‬ ‫االرز‪.‬‬ ‫وبحكم تلمذتي املهنية على خليل ثابت با�شا و�أي�ضاً بحكم عملي ال�صحفي كنت حري�صاً على‬ ‫اال�ستماع �إىل هذه املحا�ضرة التي �ألقيت ارجتا ًال‪ ،‬وت�سجيل وقائعها يف اجلريدة اعتماداً على ذاكرتي‬ ‫وعلى ما كنت �أخطه يف وريقاتي حيث مل نكن نعرف �أحهزة الت�سجيل املنت�شرة اليوم‪.‬‬ ‫وكان مما قاله خليل ثابت با�شا ان احلكومة اللبنانية رغبت يف درا�سة الو�ضع االقت�صادي يف البالد‪،‬‬ ‫فا�ستقدمت اخلبري البلجيكي العاملي فان زيلند لكي يدر�س هذا الو�ضع وي�شري على احلكومة ب�آرائه‬ ‫ون�صائحه يف ختام مهمته الر�سمية‪.‬‬ ‫وكان فان زيلند يطلب موافاته بتقارير من اجلهات احلكومية املختلفة لي�سرت�شد بها يف فهم جميع‬ ‫جوانب الو�ضع االقت�صادي للبنان‪ ،‬وهي تقارير ر�سمية ا�ستندت �إىل ما توافر لدى اجلهات احلكومية‬ ‫من بيانات ر�سمية‪ .‬وبعد درا�سة معمقة لكل هذه التقارير انتهى فان زيلند �إىل النتيجة التي فاج�أ‬ ‫بها احلكومة اللبنانية وهي �أن لبنان دولة مفل�سة متاماً! ولكنه ا�ستدرك قائ ًال �أن يرى الرخاء �سائداً‬ ‫يف لبنان فكيف تعللون هذه املفارقة؟ فالرخاء بكل مظاهرة يتعار�ض متاما مع حالة االفال�س التي‬ ‫تنطق بها التقارير الر�سمية‪.‬‬ ‫فقيل لفان زيلند �إن لبنان يتميز بجوانب اقت�صادية �أخرى ال تظهر يف التقارير الر�سمية‪ .‬فاملهاجرون‬ ‫من اللبنانيني يبعثون �إىل عائالتهم ب�أموال من مدخراتهم‪ .‬وهذه ت�صب يف االقت�صاد اللبناين ثم‬ ‫�إن لبنان دولة �سياحية ي�ؤمها الآالف من ال�سياح �سنويا �شتاء و�صيفاً‪ ،‬وه�ؤالء ينفقوا �أموا ًال طائلة‬ ‫على �أن�شطتهم ال�سياحية‪ ،‬وهي �أموال ت�صب يف االقت�صاد الوطني‪ ،‬كما �إن لبنان دولة مفتوحة �أمام‬ ‫التعامل يف العمالت الأجنبية‪ ،‬واملعادي النفي�سة كالذهب والف�ضة‪ ،‬وهذا الن�شاط ي�صب بدوره‬ ‫يف االقت�صاد القومي‪ ،‬وال تن�س �أن لبنان يزرع احل�شي�ش وي�صدره �إىل الأ�سواق اخلارجية‪ ،‬وال �سيما‬ ‫م�صر‪ ،‬وااليرادات املتح�صلة من هذا الن�شاط ت�صب يف االقت�صاد اللبناين‪.‬‬ ‫وعندما �أ�سمع فان زيلند هذا التف�سري من احلكومة اللبنانية قال للم�س�ؤولني فيها‪ :‬ما دام هذا هو‬ ‫حالكم‪ ،‬فا�ستمروا كما �أنتم وال تتغريوا وال تفكروا يف ا�ستقدام �أي خبري اقت�صادي مهما تكن‬ ‫�سمعته �أو �شهرته‪.‬‬ ‫والتقط املطرب اللبناين عمر الزعني هذه النتيجة ونظم مقطوعة غناها �أذكر مما جاء فيها قوله‪ :‬يا‬ ‫كيكي كيكي‪ ،‬تعايل ملا احكيكي‪ ،‬ال ينفع فيك خبري بلجيكي وال بروف�سري �أمريكي!‬ ‫ن�شرت يف «املقطم» وهي جريدة م�سائية ‪ -‬حما�ضرة خليل ثابت با�شا كما ا�ستطعت ت�سجيلها ب�أمانة‬ ‫ويف �صباح اليوم التايل تلقيت مكاملة هاتفية من خليل با�شا يهنئني فيها على دقتي يف ت�سجيل‬ ‫كالمه‪.‬‬ ‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬


‫‪98‬‬

‫ومبجرد ظهور اجلريدة كتب �إ�سماعيل �صدقي با�شا مقا ًال يف جريدة «امل�صري» تعليقاً على حكاية‬ ‫احل�شي�ش‪ ،‬وكان �صدقي با�شا معروفاً بكراهيته للعرب والعروبة‪ ،‬بل كان يطالب م�صر باخلروج من‬ ‫جامعة الدول العربية لأن كل هذه الدول العربية �ستكون عالة على م�صر‪ ،‬ومما قاله يف تعليقه‬ ‫املن�شور (ولي�س هذا كالمه بالن�ص ولكنه ميثل فحواه) ت�صوروا �أن لبنان الذي نزامله يف اجلامعة‬ ‫العربية ال هم له �إال تدمري �صحة امل�صريني مبا ي�صدره �إلينا من احل�شي�ش‪� .‬إن �أول واجب على‬ ‫احلكومة امل�صرية هو قطع عالقاتها مع لبنان واالن�سحاب من اجلامعة العربية التي جتمعنا مع �أمثال‬ ‫هذه الدويلة‪.‬‬ ‫مل تكد مقالة �إ�سماعيل �صدقي با�شا تظهر‪ ،‬حتى انربى له حبيب جاماتي فرد عليه يف نف�س‬ ‫جريدة «امل�صري» مبا م�ؤداه �أن الدول العربية فرادى هي دول �ضعيفة‪ ،‬ولكن وحدتها من خالل‬ ‫اجلامعة العربية تك�سبها قوة وجتعل لها منزلة مرموقة �أمام دول العامل‪� ،‬أما م�شكلة احل�شي�ش فهي‬ ‫م�شكلة ثانوية ميكن حلها بني احلكومتني امل�صرية واللبنانية‪.‬‬ ‫ومع �أنني كنت ‪ -‬وما زلت ‪ -‬من دعاة العروبة‪ ،‬فقد �أغناين ال�صديق حبيب جاماتي عن ا�ستخدام‬ ‫املنطق ال�سيا�سي يف الرد على ا�سماعيل �صدقي با�شا‪ .‬ولهذا رددت على دولته ‪ -‬بل�ساين الطويل‬ ‫قائ ًال‪ :‬يا دولة البا�شا‪ ،‬لقد توليت ريا�سة الوزارة مرات من قبل‪ ،‬ورمبا �أ�سندت اليك يف امل�ستقبل‪.‬‬ ‫فلماذا ف�شلت ف�ش ًال ذريعاً يف الق�ضاء على جتارة احل�شي�ش اللبناين‪� ،‬سواء بالقانون �أو بالزجر �أو ب�أي‬ ‫�أ�سلوب �آخر؟ ولو �أنك جنحت يف �إقناع مواطنيك بالكف عن التح�شي�ش‪ ،‬لكف لبنان عن زراعة‬ ‫هذا العقار لبوار �سوقه‪ ،‬فال تلم اللبنانيني بل مل مواطنيك امل�صريني‪ ،‬وقبل ذلك مل نف�سك على‬ ‫ف�شلك يف عالج امل�شكلة من جذورها‪.‬‬ ‫ومل يحاول �إ�سماعيل �صدقي با�شا بعد ذلك الرد‪� ،‬سواء على حبيب جاماتي �أو على كاتب هذه‬ ‫ال�سطور‪.‬‬ ‫ويف �أثناء عملي يف «املقطم» مل ينقطع توا�صلي مع ال�شوام ففي �أحد االيام زارين ال�شاعر اللبناين‬ ‫اليا�س خليل زخريا وكان يركب �سيارة فارهة ب�سائق‪ .‬ف�س�ألته هل جئت بهذه ال�سيارة من بريوت‬ ‫�أو �أ�ست�أجرتها من القاهرة؟ فقال‪� :‬إنها �سيارة زوجتي‪ .‬ف�س�ألته‪ :‬وهل �أنت متزوج من م�صرية؟‬ ‫فقال‪� :‬إن زوجتي هي بديعة م�صابني‪ .‬ولده�شتي �س�ألته‪ :‬هل هي الفنانة‪ ،‬منحرجاً من �أن �أ�صفها‬ ‫بالراق�صة‪ .‬فقال نعم‪ ،‬فقد تزوجنا بعد وفاة زوجها املمثل جنيب الريحاين ب�سبب ا�ستحالة الطالق‬ ‫بينهما يف حياته ح�سب املذهب الكاثوليكي‪.‬‬ ‫وذات يوم تلقيت بالربيد امل�سجل ر�سالة يف مظروف يحمل �أ�سم «جمل�س النواب اللبناين»‪ ،‬وهو‬ ‫ما �أثار ف�ضويل‪ .‬وعندما ف�ض�ضت الر�سالة تبينت �أنها من ال�شاعر �أمني نخلة ‪ -‬ومل �أكن �أعرفه‪..‬‬ ‫يقول فيها �إنه يجمع تراث ال�شاعر ويل الدين يكن الذي كان ين�شر يف «املقطم» حوايل عام ‪1912‬‬ ‫�سل�سلة من املقاالت بعنوان ال�صحائف ال�سود‪ ،‬ورجاين �أن �أنقلها �إليه فقمت بن�سخها ومل يكن‬


‫هجرة الأدباء ال�شوام �إىل م�صر يف القرنني التا�سع ع�شر والع�شرين (حكايات)‬

‫درا�سات و�أبحاث‬

‫‪99‬‬

‫هناك ت�صوير ووافيته بها‪.‬‬ ‫ثم تلقيت ر�سالة دورية بتوقيع ر�شيد بك بي�ضون يقول فيها �إنه تقرر �إقامة حفل كبري لتكرمي ال�شاعر‬ ‫بول�س �سالمة ‪� -‬شاعر املالحم‪ .‬وو�صف يف الر�سالة حالته املر�ضية التي تكاد تقعده �إال عن الكتابة‬ ‫ونظم ال�شعر‪ ،‬ودعاين �إىل امل�شاركة يف حفل التكرمي‪ ،‬فما كان مني �إال �أن ن�شرت مقا ًال عن بول�س‬ ‫�سالمة ‪ -‬الذي ال �أعرفه وال قر�أت �شيئاً من �آثاره‪ .‬وبعثت بهذا املقال �إىل جلنة التكرمي التي ن�شرته‬ ‫يف الكتاب التذكاري الذي �أ�صدرته عام ‪ .1950‬واتفق يف ذلك الوقت �أن زارت م�صر �شقيقة‬ ‫مي�شال مكرزل �صاحب جملة «الدبور» اللبنانية و�س�ألت زمي ًال يل عما �إذا كان يرغب يف حتقيق‬ ‫رجاء هذه ال�سيدة ب�أن ي�صبح مرا�س ًال للمجلة يف م�صر‪ ،‬فرحبت ب�أن �أكون املرا�سل املتطوع‪ .‬و�أتفق‬ ‫وقتها ان القيت قنبلة على دار �سينما مرتو بالقاهرة‪ ،‬وهي �أكرب و�أحدث دار �سينمائية‪ ،‬فقام رئي�س‬ ‫الوزراء ا�سماعيل �صدقي با�شا امل�شهور بالدكتاتورية والطغيان بالقاء القب�ض على ‪ 40‬من املعروفني‬ ‫باالجتاه الي�ساري‪ ،‬ومنهم �سالمة مو�سى والدكتور حممد مندور وال�صحفي حممد زكي عبد القادر‬ ‫وفتحي الرملي والد الكاتب امل�سرحي لينني الرملي وغريهم‪ .‬وجاءين ابن �سالمة مو�سى ومعه‬ ‫ر�سالة من �أبيه حول اعتقاله‪ ،‬فحاولت ن�شر اخلرب يف اجلريدة‪ .‬ولكن الرقيب حذفه‪ .‬فكتبت مقا ًال‬ ‫حملت فيه حملة �شعواء على �صدقي با�شا و�سخرت من اتهامه ه�ؤالء املفكرين بالقاء قنبلة على‬ ‫دار �سينما‪ ،‬وبعثت باملقال �إىل جملة «الدبور» ومبجرد ظهوره ا�ستدعى ال�سفري امل�صري يف بريوت‬ ‫�صاحب املجلة واحتج على هذه املجلة التي من �ش�أنها اال�ساءة �إىل العالقات بني م�صر ولبنان‪.‬‬ ‫فدافع مي�شال مكرزل عني وقال لل�سفري ان مرا�سلنا يف القاهرة يعرف احلقيقة وال يكتب اال �صدقاً‪،‬‬ ‫و�أن املجلة �ستن�شر �أي ر�سائل ت�أتيها منه‪ .‬وعرف ال�سفري ان جهده مل يوفق‪ ،‬وتلقيت من مكرزل‬ ‫ر�سالة و�صف فيها ما دار بينه وبني ال�سفري امل�صري ولكنه ن�صحنى بتخفيف لهجتي‪.‬‬ ‫تعرفون �أن ال�شوام هم الذين �أن�ش�أوا �أكرب دور لل�صحافة والن�شر يف القاهرة‪ :‬دار املقتطف واملقطم‬ ‫التي هجرناها يف عام ‪ 1952‬عندما نا�صبتنا الثورة العداء‪ .‬ودار االهرام التي �أن�ش�أها �سليم وب�شارة‬ ‫تقال والتي �آلت ملكيتها بعد وفاة جربائيل تقال با�شا �إىل جنله ب�شارة تقال‪ ،‬وهذا تنازل بعد الت�أمني‬ ‫على كل حقوقه حيث مل يكن له ورثة‪ .‬ودار الهالل التي كان املعتقد بعد الت�أميم �أن ت�ؤول‬ ‫ملكيتها �إىل حفيد جرجي زيدان‪ ،‬وهو زميلنا اميل �سمعان‪ ،‬ولكن احلفيد كان مهوو�ساً بريا�ضة‬ ‫اليوغا الهندية‪ ،‬فهاجر �إىل الهند وعا�ش هناك مثل �أي فقري هندي‪ ،‬وعند وفاته من ب�ضع �سنني‬ ‫�أحرق جثمانه طبقاً للمنا�سك الهندوك�سية‪.‬‬ ‫�أما دار املعارف التي عوملت بعد الت�أميم بانها دار �صحفية ب�سبب جملة «اكتوبر» التي احلقت بها‪،‬‬ ‫فقد ارت�أى امل�س�ؤولون عنها بعد الت�أميم االبقاء على �صاحبها �شفيق مرتي لكي يالحق املطابع‬ ‫والعمال مقابل «نفقة» �شهرية قدرها مئة جنيه ولي�ست مرتباً �أو مكاف�أة‪ .‬وعندما التقيت به للمرة‬ ‫االخرية يف الطريق �أخربين �أنه توجه �إىل مدير الدار وقال له‪ :‬كيف �أعي�ش مبئة جنية يف ال�شهر‬ ‫مع �أن �أجرة ال�شقة التي �أقيم فيها هي مئة جنيه؟ فقال له املدير‪� :‬أحمد ُ‬ ‫ربك لأننا �أبقينا عليك‪.‬‬ ‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬


‫‪100‬‬

‫فما كان منه �إال �أن هاجر �إىل فرن�سا للحاق بنجله الوحيد الذي كان يعمل يف دار ها�شيت لطباعة‬ ‫القوامي�س‪.‬‬ ‫ولأن كرمي ثابت با�شا كان يعمل �إىل جانب رئا�سة حترير «املقطم» م�ست�شاراً �صحفياً جلاللة امللك‬ ‫فاروق‪ ،‬فقد متت حماكمته مرتني �أمام حماكم ا�ستثنائية وحكم عليه بال�سجن وم�صادرة كل �أمالكه‬ ‫حتى �أثاث بيته‪ .‬فقامت زوجته وهي ابنة ال�صحفي اللبناين �سليم �سركي�س ‪ -‬ب�شراء هذا الأثاث‬ ‫مرتني‪.‬‬ ‫وعند وفاة كرمي ثابت اقت�صر النعي املن�شور يف ال�صحف على ا�سم وعنوان الكني�سة التي تقام فيها‬ ‫�شعائر اجلنازة‪ .‬وكان طبعياً �أن �أتوجه �إىل الكني�سة حيث جاء جمل�سي �إىل جوار ال�صحفي حبيب‬ ‫حاماتي‪ .‬وملا بد�أ الق�س اخلدمة الكني�سية قال‪ :‬نزو ًال على رغبة من ال �أ�ستطيع لرغبتهم رداً‪ ،‬لن‬ ‫�أذكر �أ�سم الفقيد طوال اخلدمة وهي عبارة رددها يف ختام اخلدمة معرباً عن �أ�سفه لأنه ال ي�ستطيع‬ ‫ذكر �أ�سم الفقيد فالتفت �إىل حبيب حاماتي وقلت له‪ :‬لو كان يف و�سعي �أن �أكتب مقا ًال جلعلت‬ ‫عنوانه «ثورة ترتعب من جثة»‪.‬‬ ‫وب�سبب حركات الت�أميم والرقابة‪� ،‬صرح الدكتور طه ح�سني قائ ًال �إن مركز اال�شعاع انتقل من‬ ‫القاهرة �إىل بريوت‪ .‬وكان ال�شاعر �أحمد �شوقي قد �سبقه �إىل تعظيم لبنان بقوله‪ :‬لبنان واخللد‬ ‫اخرتاع اهلل‪.‬‬ ‫وكنت �أجد يف املجالت الأدبية اللبنانية متنف�ساً يل ونافذة حرة للتعبري بعيداً عن ال�سيا�سة ومزالقها‪،‬‬ ‫فبد�أت �أتوا�صل مع جملة «الأديب» ل�صاحبها �ألبري �أديب منذ عام ‪ 1945‬وا�ستمر التوا�صل طوال‬ ‫عمر هذه املجلة‪ .‬كما كتبت يف جملة «الآداب» ل�سهيل �إدري�س يف �سنواتها االوىل‪ .‬ون�شرت ف�صو ًال‬ ‫يف جمالت �أخرى منها «الر�سالة» جلان كميد‪ ،‬و»الغربال» ل�سليم مكرزل و»ر�سالة الرتبية» وكان‬ ‫يحررها فوزي عطوي‪ ،‬و«العلوم» ملنري البعلبكي ولكن جملة «االديب» هي التي �أف�سحت يل �صدرها‬ ‫وبف�ضلها عرفت �إىل العامل العربي ويف املهاجر الن املجلة كانت غري معنية بال�سيا�سة وكانت تدخل‬ ‫جميع البلدان العربية دون �أن تتعر�ض للوقف �أو امل�صادرة باعتبارها ر�سو ًال عاملياً للأدب العربي‪.‬‬ ‫ويف جملة «الأديب» ن�شرت ثالث �سال�سل كانت االوىل بعنوان «�صورة و�صفية» تناولت فيها‬ ‫ر�سم لوحات �أدبية لرائدات عرفتهن متثل كل منهن منوذجاً جمي ًال للمر�أة‪ .‬فهناك الر�سامة وعازفة‬ ‫البيان والكاتبة وامل�ضيفة اجلوية واملهمومة بق�ضايا املجتمع ‪ -‬التي �أ�صبحت مع الوقت مديرة ملنظمة‬ ‫اليوني�سيف يف جنيف ‪ -‬و�سيدة املجتمع التي تفتح بيتها ل�صفوة املجتمع‪ .،‬وهلم جرا‪ .‬واتفق يف‬ ‫ذلك الوقت ان كان هناك �شاعر لبناين ‪ -‬ن�سيت ا�سمه الآن‪ -‬يقيم يف دولة �أفريقية وهو قد حر�ص‬ ‫على �إهدائي ديوانه مطرزاً بعبارة «�إىل �صاحب ال�صور الو�صفية» ولأنه مل يكن يعرف عنواين فقد‬ ‫بعث بديوانه �إىل جملة «الأديب» التي وافتني به‪.‬‬ ‫امل�ضيع» كنت �صديقاً لل�شاعر الدكتور ابراهيم‬ ‫�أما ال�سل�سلة الثانية فكان عنوانها «�شعر ناجي ّ‬


‫هجرة الأدباء ال�شوام �إىل م�صر يف القرنني التا�سع ع�شر والع�شرين (حكايات)‬

‫درا�سات و�أبحاث‬

‫‪101‬‬

‫ناجي‪ ،‬وعند وفاته �أ�صدرت وزارة الثقافة ديوانه وقال حمققوه �أن ي�ضم كل �شعره‪ .‬ولكن �صدور‬ ‫الديوان اقرتن بف�ضيحتني �أوالهما �أنه ال ي�ضم كل �شعره‪ ،‬والثانية انه قد ت�سللت �إىل الديوان‬ ‫ق�صائد لل�شاعرين علي حمود طه وكمال ن�ش�أت‪ ،‬مما ترتب عليه م�صادرة الديوان‪ ،‬وهو ما حفزين‬ ‫على حماولة جمع �شعر ناجي ال�ضائع �سواء من جمالت قدمية �أو ممن كانوا يحتفظون ب�شعر نظمه‬ ‫ال�شاعر حول ان�شطتهم‪.‬‬ ‫و�أما ال�سل�سة الثالثة التي ا�ستمرت �ست �سنني فكان عنوانها «الأدب والأحذية» ذلك �أن �صديقي‬ ‫ال�شاعر نزار قباين كان مدعواً �إىل مهرجان املربد ال�سنوي الذي يقام يف بغداد‪ ،‬حيث القي ق�صيدة‬ ‫كان مما جاء فيها بقوله‪:‬‬ ‫واذا �أ�صبح املفكر بوق اً ي�ستوي الفكر عندها واحلذاء‬ ‫�أنا حريتي ف�إن �سلبوها ت�سقط االر�ض دونها ال�سـماء‬ ‫فقلت لنف�سي‪ :‬هذا كالم ُمنزل‪.‬وعقدت مقا ًال بعنوان « الأدب والأحذية» رويت فيه حكايات‬ ‫تدور حول احلذاء‪ ،‬منها مث ًال �أن الأديب عبد الرحمن اخلمي�سي ‪ -‬وهو �أديب و�شاعر وملحن‬ ‫ومو�سيقار وخمرج �سينمائي ورقا�ص! نقل يف حركة بط�ش بال�صحفيني �إىل م�ؤ�س�سة باتا لالحذية‪.‬‬ ‫فتوجه وهو ال�شيوعي �إىل �صديقه ال�شاعر كامل ال�شناوي ي�شكو همه‪ ،‬فما كان من ال�شناوي �إال �أن‬ ‫عزاه بقوله‪ :‬هون عليك فان ا�ستاذك غوركي بد�أ ا�سكافياً وانتهى �أديباً‪ ،‬وها �أنت قد عك�ست الآية‬ ‫وحتولت من �أديب �إىل ا�سكايف!‬ ‫ورويت ق�صة �أخرى حول الأديب حبيب الزحالوي الذي كان يبيع االحذية يف متجر �صيدناوي‬ ‫يف القاهرة وانتهى به احلال اىل بيع خردة احلديد يف حي بوالق القدمي‪.‬‬ ‫وعلي تعليقات كثرية حتى من امل�ست�شرق جرمانو�س‬ ‫ومبجرد ن�شر املقال انهالت على جملة «الأديب» ّ‬ ‫يف املجر‪ ،‬مما �شجعني على موا�صلة ال�سل�سلة وكنت يف كل حلقة منها �أكرر قول نزار قباين‪:‬‬ ‫و�إذا �أ�صبح املفكـر بوقــاً‬ ‫ي�ستوي الفكر عندها واحلذاء‬ ‫ ‬ ‫على �أمل �أن يحفظ كل حامل قلم هذا البيت وي�ستظهره يف حياته‪.‬‬ ‫و�إن كان �صديقنا ال�شاعر القروي ر�شيد �سليم اخلوري يحر�ص على و�صف نف�سه ب�أنه «بوق العروبة»‬ ‫ويف عام ‪ 1948‬تلقيت ر�سالة غا�ضبة من �ألبري �أديب يرجوين فيها �أن �أبحث �إمكانيات انتقاله هو‬ ‫وجملة «الأديب» اىل القاهرة ال�صدارها من العا�صمة امل�صرية‪ .‬و�سبب ذلك ان قانونا جديدا �صدر‬ ‫يف لبنان «يعيدنا �إىل العهد الذي كان يلقي القب�ض فيه على الكاتب الذي ينعت الأ�سد مبلك‬ ‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬


‫‪102‬‬

‫الغاب باعتبار �أن ال�سلطان وحده هو «ملك الغاب»‪ .‬وقال‪�« :‬أن من ح�سنات القانون ال�سوداء �أن‬ ‫يفر�ض علينا تقدمي �ضمانة مالية نقدية قدرها ثالثة الآف لرية‪ .‬وجتدين الآن �أحاول �أن �أجد قيمة‬ ‫ال�ضمان املايل‪ ،‬واال ا�ضطررت �إىل وقف «الأديب»‪.‬‬ ‫ا�ستفزتني هذه الر�سالة وكنت يف ذلك الوقت �أجمع بني عملي وجريدة « املقطم» وبني تدري�س‬ ‫علوم ال�صحافة يف اجلامعة االمريكية‪ ،‬وكانت ق�ضايا حرية ال�صحافة والر�أي ت�ست�أثر بكل اهتمامي‪.‬‬ ‫ن�شرت مقا ًال �أفتتاحياً يف «املقطم» حول هذا القانون �أبديت فيه عجبي من �صدوره يف وقت كان فيه‬ ‫الأديب خليل تقي الدين �شقيق �صديقي �سعيد تقي الدين م�س�ؤو ًال عن دائرة الدعاية والن�شر يف‬ ‫لبنان‪ .‬وكانت جريدة «املقطم» م�سموعة الر�أي يف لبنان وكنت مكلفاً من �صاحب اجلريدة الدكتور‬ ‫فار�س منر با�شا ب�أن �أعقد مقاالت ال�صدر اليومية بعدما توقف عن كتابتها خليل ثابت با�شا‪.‬‬ ‫املدوي تلقيت ر�سالتني من خليل تقي الدين و�شقيقه بهيج تقي الدين‬ ‫وعلى �أثر �صدور مقايل ّ‬ ‫املحامي وع�ضو جمل�س النواب اللبناين‪ ،‬فبادرت بن�شرها يف اجلريدة بن�صها الكامل‪ ،‬وال ب�أ�س من‬ ‫تلخي�صها هنا لأن الأجيال احلالية يف لبنان قد ال تكون على دراية بهذه الق�ضية‪.‬‬ ‫�أما خليل تقي الدين فقد قال �إنه مل يبق مديراً للمطبوعات يف لبنان حيث ا�ستقال من هذه املهمة‬ ‫امل�ؤقتة التي كانت قد وكلت �إليه قبل �صدور قانون املطبوعات اجلديد‪ ،‬و�أنه ما زال يف ال�سلك‬ ‫الدبلوما�سي اللبناين‪.‬‬ ‫و�أ�ضاف �أن فريقا من �صحفيي لبنان كانوا من العاملني على و�ضع هذا القانون الذي جعل للق�ضاء‬ ‫وحده الف�صل يف ق�ضايا ال�صحافة‪ ،‬بينما كان القانون القدمي يعطي احلكومة حق تعطيل اجلريدة‬ ‫�إدارياً تعطيال يتجاوز ال�شهور وال�سنني‪� .‬أما القيود التي يفر�ضها القانون حيث مبلغ الت�أمني فرياد‬ ‫منه ا ّحلد من فو�ضى ال�صحافة الطاغية يف لبنان‪ .‬وح�سبك �أن تعلم �أن يف ٍ‬ ‫بلد ال يزيد عدد �سكانه‬ ‫املليون �أكرث من مئة وخم�سني �صحيفة‪ .‬فلما ُبدىء يف تنفيذ القانون توارت من الوجود ال�ستون‬ ‫�صحيفة التي �أ�شرمت اليها يف مقالكم‪ .‬وذلك ال بقرار من احلكومة كما ذكرمت‪ .‬بل لعجزها عن‬ ‫ايفاء �شروط القانون من حيث ال�ضمانة وال�شهادة التي يجب ان يحملها �صاحب اجلريدة ورئي�س‬ ‫التحرير‪.‬‬ ‫وختم ر�سالته بقوله‪� :‬أرجو خمل�صاً �أن ت�صدقوا �أن يف تواربها اخلري والربكة‪� ،‬إذ ال يزال عندنا يف‬ ‫لبنان اكرث من خم�سني جريدة وهو عدد �أكرث من ٍ‬ ‫كاف‪.‬‬ ‫�أما املحامي بهيج تقي الدين الذي كان ع�ضواً يف جمل�س النواب عند �إقرار هذا القانون فقال يف‬ ‫ر�سالته التي قمت بن�شرها يف «املقطم»‪:‬‬ ‫«�إنني �أ�شاطرك ر�أيك ب�ش�أن املفعول ال�سلفي (�أي االثر الرجعي) للقانون‪ ،‬ولقد كنت بني النواب‬ ‫الذين اقرتعوا �ضد �إعطاء الن�ص املعلق بدفع ال�ضمانة الآن‪� ،‬أي مفعول رجعي‪ .‬ولكن الأكرثية‬


‫هجرة الأدباء ال�شوام �إىل م�صر يف القرنني التا�سع ع�شر والع�شرين (حكايات)‬

‫درا�سات و�أبحاث‬

‫‪103‬‬

‫وافقت على امل�شروع كما ورد من احلكوكة‪ .‬ونقابة ال�صحافة اللبنانية �ساعية الزالة تلك ال�سيئات»‪.‬‬ ‫وختم ر�سالته بقوله‪« :‬ميكنني �أن ا�ؤكد حل�ضرتك �أنني �س�أقف مع التعديل الذي يطلبه ال�صحافيون‬ ‫علي واجبي و�ضمريي‪ ،‬ذلك �أنني �أعترب �أن الدفاع عن حرية الفكر واجب‬ ‫وهو املوقف الذي ميليه ّ‬ ‫مقد�س وفر�ض على كل من ي�ؤمن بالنظام الدميقراطي وال ير�ضى عنه بدي ًال‪ .‬و�إنني واثق من �أن‬ ‫زمالئي يف املجل�س �سيقفون من القانون املوقف نف�سه النهم يف ممار�ستهم لر�سالتهم النيابية امنا‬ ‫ي�سرتوحون الروح نف�سها»‪.‬‬ ‫املن على لبنان �أن �أ�سجل �أن دفاعي عن حرية ال�صحافة يف لبنان يف مقاالت‬ ‫ولي�س من قبيل ّ‬ ‫ال�صور التي ن�شرتها يف «املقطم» قد �أثمرت عدول حكومة لبنان عن هذا القانون اجلائر‪.‬‬ ‫وعندما زرت لبنان للمرة الأوىل يف عام ‪ 1955‬حر�صت على التوا�صل �شخ�صياً مع من كنت‬ ‫�أعرفهم باملرا�سلة ال بامل�شافهة‪ .‬فزرت ال�شاعر بول�س �سالمه يف منزله القدمي‪ ،‬و�ألقيته راقداً على‬ ‫ن�صف �سرير لأن الن�صف الآخر كان يختفي حتت �أكدا�س من الكتب‪ .‬و�س�ألني �أن �أعرف من‬ ‫زوجته �أنه مل ي�ستطع النهو�ض ال�ستقبايل ب�سبب اجلراحات اخلاطئة التي �أجريت له بالع�شرات‬ ‫يف العمود الفقري‪ .‬ومع �إ�شفاقي عليه من طول الزيارة ّ‬ ‫علي حما�ضرات يف‬ ‫ظل ي�ستبقني ويلقي ّ‬ ‫الأدب وال�شعر والأخالق والفل�سفة‪ -‬لقد كان بحراً يف العلم ّقل نظريه‪ .‬وان�صرفت من داره و�أنا ال‬ ‫�أملك �إال �أن �أدعو له بال�شفاء‪.‬‬ ‫وبعد �سنوات زرته يف بيته اجلديد بعد ما حدثت معه معجزة يف مدينة لورد الفرن�سية‪ ،‬وطار �صوابي‬ ‫و�أنا �أراه مي�شي على قدميه متوكئاً على عكازه ويحيط خا�صرته بحزام عري�ض‪.‬‬ ‫وزرت ال�شاعر �أمني نخلة يف مكتب املحاماة الذي كان يديره يف طريق ال�شام‪ ،‬حيث قال يل �إنه‬ ‫يعتقد �أنه �أحق النا�س مبن�صب رئي�س اجلمهورية و�أنه �سري�شح نف�سه يف االنتخابات املقبلة‪.‬‬ ‫وزرت الأديب �سعيد تقي الدين بعد ان ا�ستقر يف لبنان عائداً من مهجره يف الفليبني و�أخربين‬ ‫�أن يعتزم �إ�صدار جريدة ا�سمها «الزوابع» وعلمت فيما بعد �أنه هاجر من جديد ولكن �إىل �أمريكا‬ ‫اجلنوبية‪.‬‬ ‫وزرت البري �أديب الذي ن�صحني ب�أن �أركب ترام بريوت و�أهبط �أمام الطبية االفرن�سية لأن بيته‬ ‫ومكتبه يقعان يف البناية املقابلة لها‪ .‬و�أثناء الزيارة جاءت ابنتاه هدى وندى من املدر�سة حاملتني‬ ‫بريد جملة «الأديب» حيث كانتا تع ّرجان على مكتب الربيد واحل�صول على بريد املجلة من‬ ‫ال�صندوق املخ�ص�ص لها بنا ًء على تعليمات �أبيهما‪.‬‬ ‫والحظت �أن �ألبري �أديب يخاطبني باللهجة امل�صرية وظننته يجاملني‪ ،‬ولكنه �أخربين �أنه �أكت�سب‬ ‫هذه اللهجة من �إقامته يف م�صر ومل تفارقه بعد ذلك‪.‬‬ ‫وزرت حممد جميل بيهم الذي �أخذ يحدثني عن عروبة لبنان يف التاريخ لي�ؤكد يل �أن لبنان لي�س‬ ‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬


‫‪104‬‬

‫فينيقياً كما يزعمون بل هو عربي �صريح العروبة‪.‬‬ ‫وطبعاً زرت �أ�ستاذي ف�ؤاد �ص ّروف الذي �أ�صبح نائب رئي�س جامعة بريوت االمريكية وهو �صاحب‬ ‫علي‪ ،‬بل لقد كنت �أمتنى �أن �أ�صبح امتداداً له‪ ،‬ولكن هيهات‪.‬‬ ‫�أف�ضال كثرية ّ‬ ‫ولدى عودتي من لبنان ن�شرت مقا ًال يف م�صر قلت فيه �إن �أجمل ما يف لبنان هو احلرية حتى ولو‬ ‫خالطتها الفو�ضى‪ ،‬كما قلت �إن كل لبناين يعتقد �أنه هو الأحق مبن�صب رئي�س اجلمهورية‪ ،‬و�أن‬ ‫الدميقراطية ال�سائدة يف لبنان ت�سمح لكل لبناين ب�أن يحقق هذه الأمنية‪.‬‬ ‫وبعد تقبلوا مني �آيات ال�شكر القلبية على ح�سن ا�ستماعكم‪ ،‬و�أرجو �أال �أكون قد �أمللتكم بحديث‬ ‫عن لبنان الذي تعرفونه �أكرث م ّني‪ ،‬والذي �أعتربه دائماً وطني الثاين‪.‬‬


‫‪105‬‬

‫درا�سات وابحاث‬

‫البعد الأكربي يف ت�صوف الأمري عبد القادر‬ ‫| مباركة حاجي | �أ�ستاذة يف كلية العلوم الإن�سانية واالجتماعية‪،‬‬ ‫ق�سم الفل�سفة جامعة اجلزائر ‪2‬‬

‫يعد ت�صوف الأمري عبد القادر منوذجاً حياً لتجربة روحية وفكرية ثرية فريدة من نوعها يف الع�صر‬ ‫احلديث‪ ،‬ذلك �أن هذا الرجل قد جمع بني ال�سبق والف�ضل يف ت�أ�سي�س الدولة اجلزائرية والت�صدي‬ ‫للعدوان اال�ستعماري الغا�شم باجلهاد الطويل واملرير‪ ،‬وبني البحث امل�ضني عن اليقني والكمال‪،‬‬ ‫الذي يقربه من �أهل العرفان‪ ،‬حيث يعد الأمري تلميذا لل�شيخ الأكرب حمي الدين بن عربي‪ ،‬بل‬ ‫ووارثا ملعارفه الك�شفية و�إ�شاراته العرفانية‪.‬‬ ‫ولعل ح�ضور بع�ض امل�صطلحات العرفانية يف كتابه «املواقف كالإن�سان الكامل‪ ،‬مث ًال‪ ،‬و�إجالله‬ ‫الكبري ل�شيخه حمي الدين كما يكنيه لدليل على ذلك‬

‫مقدمة‪:‬‬

‫�إن الكتابة عن الأمري عبد القادر هي مغامرة حتتاج �إىل الكثري من البحث والت�أين يف التحليل‪،‬‬ ‫ذلك لأنه �شخ�صية متعددة الأبعاد فهو «رجل يخت�صر يف كيانه �أمة بكاملها‪ ،‬ويوجز يف حياته ع�صراً‬ ‫ب�أكمله»(‪ ،)1‬فهو مثل الكثري من عظماء التاريخ ال ميكن �أن تختزل حياته يف رافد من روافد الن�شاط‬ ‫الإن�ساين‪ ،‬ميكن الإحاطة به‪ ،‬فهو الفار�س والقائد واملجاهد ورجل الدولة ال�سيا�سي احل�صيف‬ ‫وال�شاعر امللتزم‪ ،‬والفقيه امللم بل والعارف املت�صوف الذي خرب ال�سهل والوعر يف جميع ميادين‬ ‫الت�صوف ال�سلوكي والعرفاين‪ ،‬مع �شغف كبري باملطالعة فتحت له املجال للإطالع على كتب‬ ‫«العلم والفل�سفة و�أعمال �أفالطون وفيثاغور�س و�أر�سطو‪،‬كما �أ�شرب الت�صوف من خالل كتب‬ ‫ال�شيخ حمي الدين بن عربي‪ ،‬ابن �سينا وغريهم»(‪ )2‬بل وا�ستوقفته جتربة �أ�ستاذه ال�شيخ الأكرب‬ ‫عد وارثاً لتجربته العرفانية‪.‬‬ ‫حتى ّ‬

‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬


‫‪106‬‬ ‫الأمري عبد القادر تلميذ ال�شيخ الأكرب ووارثه‪:‬‬

‫ال �شك �أن الباحث يف �أدبيات الأمري ال�شعرية وال�صوفية العرفانية ت�ستوقفه �أقواله وثنا�ؤه على‬ ‫�شخ�ص ال�شيخ الأكرب حمي الدين بن عربي حيث ي�صفه بالوارث املحمدي مرة بقوله‪�« :‬إن ال�شيخ‬ ‫الأكرب على قدم حممد �صلى اهلل عليه و�سلم وهو خامتهم ولي�س بعده وارث حممدي»(‪.)3‬‬ ‫كما يكنيه مرة �أخرى ب�إمام الكا�شفني حيث يقول‪« :‬قال يل �إمام الكا�شفني من الأولياء حمي‬ ‫الدين اجل�سم ال�صقيل �أحد الرموز التي تظهر �صورة الربزخ املثال يجري العادة الإلهية ولهذا ال‬ ‫تتعلق الر�ؤية فيها بالأج�سام‪ ،‬هذا �إذا كانت املر�أة على �شكل خم�صو�ص ومقدار جرم خم�صو�ص‪،‬‬ ‫ف�إن مل تكن كذلك مل ت�صدق املر�أة يف كل ما تعطيه بل ت�صدق يف البع�ض دون بع�ض»(‪.)4‬‬ ‫وي�شري يف مواقفه «�أنه �أح�سن النا�س فهما لـ «ف�صو�ص احلكم» �إمدادا ويف الر�ؤى‪ ،‬كما تلقاها هو من‬ ‫النبي �صلى اهلل عليه و�سلم(‪ ،)5‬يقول يف هذا املعنى‪« :‬وملا كتبت هذا املوقف ر�أيت �أنني �أوتيت‬ ‫بكتاب‪ ،‬وقيل يل‪ :‬هذا كتاب حمي الدين بن العربي ر�ضي اهلل عنه الذي �ألفه يف الروح فت�صفحته‬ ‫واحلمد هلل رب العاملني»(‪.)6‬‬ ‫كما جنده يت�صدر ل�شرح �أقوال ال�شيخ الأكرب كما فعل يف «املوقف» رقم ‪ 250‬بل ويدافع عن �صحة‬ ‫�أقواله وب�أنه مل يقل �شيئا من عنده و�إمنا هو كما قال يف «الفتوحات املكية» وما و�ضعت الكلمة �إال‬ ‫ب�إلقاء روحاين يف قلب كياين» �أو كما قال «فيجب االنقياد لكالمه واخل�ضوع ملعارفه ف�إنه الوارث‬ ‫الكامل ر�ضي اهلل عنه(‪.)7‬‬ ‫بل ويذهب �إىل �أبعد من هنا يف الدفاع عنه ورد �أقوال بع�ض املعرت�ضني عليه من تالميذه الروحيني‬ ‫كعبد الكرمي اجليلي يف فهم كل واحد منهم لعلم اهلل تعاىل باملخلوقات يقول‪«:‬وقد قال �إمام‬ ‫العارفني قدوتنا حمي الدين �أن معلومات احلق تعاىل �أعطته العلم من نف�سها» ‪ -‬وقد اعرت�ض على‬ ‫هذا القول العارف الكبري عبد الكرمي اجليلي مبا ن�صه‪« :‬ملا ر�أى الإمام حمي الدين احلق حكم (�أي‬ ‫احلق) للمعلومات مبا اقت�ضته من نف�سها ظن �أن علم احلق م�ستفاد من اقت�ضاء املعلومات‪ ،‬وفاته �أنها‬ ‫اقت�ضت ما علمها عليه بالعلم الأ�صلي الكلي النف�سي‪ ،‬قبل خلقها و�إيجادها ف�إنها ما تعينت يف‬ ‫العلم الإلهي �إال مبا علمها ال مبا اقت�ضته ثم اقت�ضت ذواتها بعد نف�سها �أمورا هي عني ما علمها عليه‬ ‫�أوال‪ ،‬فحكم بها ثانيا‪ ،‬مبا اقت�ضته وما حكم لها �إال مبا علمها عليه» ويعلن �أنه ال خالف بني ال�شيخني‬ ‫عند من يعلم‪ ،‬ويذكر �أنه �ألقى �إليه يف �أثناء كتابته هذا «املوقف» قوله تعاىل‪« :‬فما لهم ال ي�ؤمنون‪،‬‬ ‫و�إذا قرئ عليهم القر�آن ال ي�سجدون» ( ) ف�ألهم �أن الوارد ي�شري �إىل توبيخ من ال ي�صدق بكالم‬ ‫الإمام حمي الدين»(‪.)8‬‬ ‫ومل يقت�صر الأمري يف �إعجابه ودفاعه عن �شيخه عند حدود احلديث عن مكانته بل ذهب باال�شارة‬ ‫�إىل نف�سه بـ «احلقري» والإ�شادة ب�شيخه بعبارة «�سيدنا» يقول‪« :‬وهذا الذي ذكرناه يف جل هذه‬


‫البعد الأكربي يف ت�صوف الأمري عبد القادر‬

‫درا�سات و�أبحاث‬

‫‪107‬‬

‫الآيات هو من �أنفا�س �سيدنا ر�ضي اهلل عنه و�إمداد لهذا احلقري بالإلقاء يف الواقعة‪ ،‬و�إن كان‬ ‫مرمى �سيدنا ر�ضي اهلل عنه جل �أن‪ ،‬ي�صل �إليه رام‪ ،‬وقد كنت ر�أيته‪ ،‬ر�ضي اهلل عنه يف مب�شرة‬ ‫من املب�شرات فذاكرته يف م�سائل من «ف�صو�ص احلكم» فقال يل‪ :‬ال�شراح كلهم ما فهموا مراده‪...‬‬ ‫فجعلت �أتفكر يف نف�سي‪ ،‬ثم قال مراده ب�ضمري الغائب؟ ثم ظهر يل يف احلال �أنه يريد بذلك ر�سول‬ ‫اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم ف�إنه �صلى اهلل عليه و�سلم هو الذي جاءه بكتاب «ف�صو�ص احلكم»(‪.)9‬‬ ‫بهذا اليقني يف تف�سريه ر�ؤاه الدالة على ت�شبعه ب�آراء ال�شيخ وتعلقه وقناعته ب�أنه الأقرب فهما‬ ‫وقدرة على �شرح ف�صو�ص احلكم يقول معربا لإحدى الر�ؤى‪« :‬عربتها على �أين قاربت املراد فيما‬ ‫كتبت»(‪.)10‬‬ ‫هذا وميكن �أن جند يف حتقق �أمنية «الأمري» �أن يدفن بجوار �شيخه «حمي الدين بن عربي» �أكرب‬ ‫تقاطع بني الرجلني حيث حتقق له اجلوار الأبدي ل�شيخه يف �سفح جبل قا�سيون ب�سوريا‪ ،‬رغم‬ ‫�إظهار رفاة «الأمري» �سنة ‪ 1966‬ليعود �إىل اجلزائر‪ ،‬ويبدو �أن عالقته ب�شيخه هي عالقة برزخية‪،‬‬ ‫�صوفية عرفانية‪.‬‬ ‫وميكن �أن جنمل �أبعاد هذا التقاطع والتقارب يف ثالث‪:‬‬ ‫البعد الرتبوي‪ :‬حيث ن�ش�أ الأمري يف ظل زاوية تنتهج الطريقة القادرية‪ ،‬ثم رحالته مع والده‬ ‫�إىل امل�شرق واحلجاز وهو �صغري ال�سن‪ ،‬وزيارته ل�ضريح «ال�شيخ عبد القادر اجلياليل» وال �شك‬ ‫�أنه قد اكت�شف ن�صو�ص ابن عربي وعلى ر�أ�سها «الف�صو�ص» يف زاوية �أبيه» التي تربى فيها �إىل‬ ‫جانب خمطوطات وكتب كثرية يف الت�صوف الزهدي كمو�سوعة الإمام �أبي حامد الغزايل‪ ،‬وهذا‬ ‫ما تالحظه يف كتابيه‪ ،‬املقرا�ض احلاد» وتنبيه الغافل» وهي توجيهات يف الت�صوف الزهدي‪.‬‬ ‫الهجرة ومكابدة طريق الك�شف واخللوة واملجاهدة‪ :‬ورغبة الأمري يف ا�ستظهار كتاب �شيخه‬ ‫الربزخي ابن عربي «الفتوحات املكية» فكان �أول من قام بن�شر هذا الكتاب‪ ،‬حتى �أن الدكتور‬ ‫«عثمان يحي» حمقق هذا الكتاب �أهدى عمله كما هو مدون يف �أول �صفحة من كتاب «الفتوحات‬ ‫املكية» لـ «الأمري عبد القادر» بهذه العبارات القوية‪�« :‬إىل رب ال�سيف والقلم الأب الروحي الأول‬ ‫للثورة اجلزائرية اخلالدة الأمري عبد القادر اجلزائري‪ ،‬تلميذ ال�شيخ الأكرب يف القرن التا�سع ع�شر‬ ‫ونا�شر الفتوحات املكية لأول مرة»(‪.)11‬‬ ‫اعتماد الرمز والإ�شارة‪ :‬لقد وجد الرمز والإ�شارة كطريقة يف التعبري عند امل�سلمني واعتمد يف‬ ‫النرث وال�شعر تعبريا عن م�سائل وجدانية خمتلفة مما يتيح للقارئ وال�سامع �إمكانية الت�أويل وكذا‬ ‫وجد الرمز والإ�شارة يف ق�ص�ص القر�آن الكرمي و�آياته املفتوحة على الت�أويل‪ ،‬وهذا ما �أتاح لل�صوفية‬ ‫حيزا لتربير اعتمادهم الإ�شارة والرمز‪ ،‬يقول �أبو حامد الغزايل‪�« :‬إن ال�صوفية يف ترقيهم الروحي‬ ‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬


‫‪108‬‬

‫واقعون حتت حرج اللفظ الذي ال يفي بو�صف ذرة من �أحوالهم فهم �ساترون من م�شاهدة ال�صور‬ ‫والأمثال �إىل درجات ي�ضيق عنها نطق الناطق‪ ،‬فال يحاول معرب �أن يعرب عنها �إال ا�شتمل لفظه على‬ ‫خط�أ �صريخ ال ميكنه االحرتاز عنه»(‪)12‬‬ ‫هذا وميكن �إجمال �أهم الأ�سباب التي دفعت ال�صوفية �إىل انتهاج �أ�سلوب الرمز والتعقيد يف‪:‬‬ ‫ �صون �أ�سرارهم ودرر حقائقهم من �أن تتف�شى يف غري �أهلها‪.‬‬ ‫ عجز اللغة عن احتواء عظمة احلقائق التي ي�صل �إليها العارف عن طريق الذوق من لدن ربه‪.‬‬ ‫ تقريب الفهم واملعنى فيما بينهم‪.‬‬ ‫ويعد الأمري واحداً من الذين اعتمدوا الإ�شارة والرمز يف التعبري عن �أفكارهم‪ ،‬ولعل م�س�ألة الرمز‬ ‫والإ�شارة قد فتحت على ال�صوفية وحتى الفال�سفة لأهل الظاهر املجال للقدح والنيل من عقيدة‬ ‫هذا �أو ذاك‪.‬‬ ‫وحتى ال ندخل يف دوائر اللغط الذي ي�ؤدي �إىل النيل من عقيدة الأمري �أو �شيخه ابن عربي‪ ،‬ميكن‬ ‫الإ�شارة �سريعا �إىل هذا اجلدل الدائر حول رف�ض ت�صوف الأمري‪ ،‬واحلرية يف ن�سبة كتابه «املواقف»‬ ‫ويف هذا ي�شري الدكتور عبد اهلل الركيبي رحمه اهلل بقوله‪ :‬قلد الأمري عبد القادر �شعراء الت�صوف‬ ‫الأقدمني‪ ،‬قلدهم يف املو�ضوعات والأفكار وال�صيغ‪ ،‬وكان �صدى ملا �ساد البيئة ال�صوفية من �آراء‬ ‫جتنح �إىل الإ�سراف واملبالغة وال�شطط يف معاجلة ق�ضايا الفكر ال�صويف حتى �أنه ميكن القول ب�أن‬ ‫الأمري امتداد البن عربي‪ ،‬يف بع�ض �آرائه وق�صائده‪ ،‬وبالرغم من �أن الأمري كان �صوفياً �س ّنياً‪ ،‬وكان‬ ‫يلح على ذلك يف منا�سبات كثرية‪ ،‬ومن �أن حياته الن�ضالية تقوم على �أنه كان يقرن القول بالعمل‬ ‫و�أنه كان ي�ؤمن باجلهاد يف �سبيل اهلل كما �آمن مبجاهدة النف�س وريا�ضتها على عبادة اهلل‪ ...‬وهذا ما‬ ‫يدفع �إىل القول ب�أن ما جنده يف �شعره من �آراء �صوفية فيها �شطط هي من ت�أثره ب�أفكار غريه وتقليده‬ ‫لهم يف ال�شكل وامل�ضمون معا « (‪ )13‬وهذا الن�ص ميكن اعتباره �شهادة للأمري من وجهني‪ :‬الأول‬ ‫هو االعرتاف من دون موارية ب�صوفية الأمري‪ ،‬والثاين ت�صنيفه �ضمن تالميذ ابن عربي مع رف�ض‬ ‫�ضمني للم�سائل الإ�شارية الرمزية التي �أ�شار �إليها الدكتور الركيبي بعبارة ال�شطط»‪ .‬ولعل الأمري‬ ‫كان ح�صيفا يف دفاعه عن �أهل الطريقة بقوله‪« :‬و�أهل طريقتنا ر�ضي اهلل عنهم ما ادعوا الإتيان يف‬ ‫الدين بجديد‪ ،‬و�إمنا ادعوا الفهم اجلديد يف الدين التليد‪ ،‬و�ساعدهم اخلرب املروي �أنه ال يكمل فقه‬ ‫الرجل حتى يرى للقر�آن وجوها كثرية»(‪.)14‬‬ ‫وقد ا�ستهل كتابه املواقف بحديث طويل عن عقيدته الإ�سالمية امللتزمة بالكتاب وال�سنة حتى ال‬ ‫يرمى بالتكفري‪ ،‬ومع ذلك ف�إن كتابه املواقف و�أ�شعاره التي جمعت يف ديوان يعج بالرمز والإ�شارة‬ ‫ت�ضاهي رمزية ال�شيخ الأكرب‪ ،‬واحلالج والنفري وابن �سينا وغريهم‪.‬‬


‫البعد الأكربي يف ت�صوف الأمري عبد القادر‬

‫درا�سات و�أبحاث‬

‫‪109‬‬

‫هذا وقد ف�صل حمقق كتاب «املواقف» عبد الباقي مفتاح يف مقدمة وافية حول حياة الأمري‬ ‫وت�صوفه الذي مل يكن عار�ضا بل مر مبراحله املتدرجة‪ :‬التعلق والتخلق ثم التحقق م�ؤكدا �أنه كان‬ ‫من ورثة الطريقة احلامتية‪� ...‬أو الأكربية‪ ...‬طريقة لل�شيخ الأكرب حمي الدين حممد بن علي بن‬ ‫العربي احلامتي الطائي‪� ،‬أجازه فيها املحدث ال�صويف ال�شهري ال�سيد حممد مرت�ضى الزبيدي(‪.)15‬‬ ‫بل ويذكر من �شدة تعلق «الأمري» بكتب ابن عربي وت�شربه لنهجه قوله يف املوقف ‪ 358‬عن كتاب‬ ‫«التجليات» البن عربي‪« :‬لو كتب مباء العيون كان قليال يف حقه وهو �أحق بقول القائل‪ :‬هذا كتاب‬ ‫لو يباع بوزنه ذهبا لكان البائع مغبونا‪ ،‬ذكر فيه ‪ 97‬جتليا �أودع فيه من احلقائق والعلوم الإلهية ماال‬ ‫ي�صدر �إال منه‪ ،‬وال �أقول ال ي�صدر �إال من مثله‪ ،‬ف�أفهم»(‪)16‬‬ ‫ثم �إن الأمري يف اتباعه طريق الإ�شارة والرمز على خطى �شيخه ويف حماولة لتجاوز رمزية �أ�ستاذه‬ ‫وهو ي�سرد ق�صة �سفره نحو املطلق للتحقق بالإت�صال باهلل بطريقة رمزية على ل�سان جلي�سه يف ناد‬ ‫من �أندية العرفاء قال‪�« :‬أحدثكم بحديث هو �أغرب من حديث عنقاء مغرب فا�شر�أبوا ل�سماعه‪،‬‬ ‫ومدوا �أعناقهم وفرغوا قلوبهم‪ )17(»...‬ثم ي�سرد «الأمري» بطريقة رمزية على ل�سان �صاحبه حديثا‬ ‫عن احلقيقة املطلقة والطريق املو�صل �إليها‪ ،‬وعن عجز الل�سان عن التعبري عنها‪ ،‬ثم عن تكذيب‬ ‫القوم ملا يخربهم به واتهامه باجلنون وال�سفه والعته»(‪.)18‬‬ ‫وما كانت هذه املع�شوقة �إال رمزاً للحقيقة املطلقة التي ين�شدها العارفون عرب �سلوك نهج الت�صفية‬ ‫واملكابدة بل هو �سفر للبحث عن اليقني الذي ي�صل الطالب واملطلوب‪ ،‬وقد عرب عنها بقوله‪:‬‬ ‫«وبعد التعب والعناء‪ ،‬ومعاناة ال�ضنا وجدت هذه املع�شوقة‪� :‬أنا وتبني يل �أنني الطالب واملطلوب»‪،‬‬ ‫وهذا ما يعرب عنه �شعرا بقوله‪:‬‬ ‫ �أرى ح�شو �أح�شائي من ال�شوق نريانا‬ ‫عن احلب مايل كلما رمت �سلوانا‬ ‫�صبني لكان احلر �أ�ضعـاف مــا كــانا‬ ‫ ‬ ‫لواعج لـو �أن البحــار جميعـهــا‬ ‫وال ع�شقت نف�سي �سواهـا ومــا كانـا‬ ‫ ‬ ‫ومن عجب ما همت �إال مبهجتـي‬ ‫ �أنـا العا�شـق واملع�شوق �سـراً و�إعالنـا (‪)19‬‬ ‫�أنا احلب واملحبوب واحلب جملة‬ ‫فما �أقرب هذه الأبيات من قول ابن عربي يف احلب الإلهي‪:‬‬ ‫ذات يقد�س لفظهـا معناهــا‬ ‫�إن التي كان الوجود يك�سوها ‬ ‫مني و�أهوى كل من يهواهـا‬ ‫و�إين لأهواهــا و�أهوى قربهــا ‬ ‫ليلى ولبنى والربــاب وزينب �أتراب من حبي لها حمباهـا‬

‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬


‫‪110‬‬

‫لو مت مات وجودهــا مبماتنا ‬ ‫عجباً لنــا ولهـا ف�إن وجودنــا ‬

‫فوجودنـا عني لهـا و�سراهــا‬ ‫فرد فال ثــان فمن ث ّنـاهــــا (‪)20‬‬

‫ويذهب يف رمزية الق�صة مذهبا بعيدا لريى نف�سه النموذج القادر على حتمل م�شاق ال�سفر نحو‬ ‫املطلق والتنعم مبجاورته‪ ،‬بل والفناء فيه‪ ،‬حيث يقول‪ :‬فلما متت الق�صة‪ ...‬وما كاد �أن ينق�ضي‬ ‫�إعجابنا منها‪ ،‬وا�ستغرابنا لها‪ ،‬قلت لهم‪ :‬يا قوم �أل�ستم تعلمون �أين طالع الثنايا؟ و�سياق الكتيبة‬ ‫�إىل معرتك املنايا؟ ف�إن �آتيكم بحقيقتها وجمازها‪ ،‬و�أفك لكم املعمي من �ألغازها‪� ،‬أو �أموت ف�أعذر‪،‬‬ ‫علي �إن مل �أقرب‪ ...‬فقال يل بع�ض امل�ستب�صرين‪ ،‬وكان ممن جرب هذا الأمر وفر عن جتربة الدهر‪:‬‬ ‫وال ّ‬ ‫�إن �صدقت لهجتك وهانت عليك مهجتك و�أردت الو�صل �إىل ذلك اجلناب‪ ،‬وقطع تلك اجلبال‬ ‫والبحار واله�ضاب‪ ،‬فاركب ن�سرا �أو غرابا‪ ،‬و�إنه ال ينال ما ق�ص�صت �إال من كان على الهمة قوي‬ ‫العزمة‪.‬‬ ‫ونكب عن طرق العواقب جانبا (‪)21‬‬ ‫�إذا هم �ألقى بني عينيـه عزمـه ‬ ‫ومن �شواهد الرمزية عند الأمري كذلك‪ ،‬انتهاجه للتف�سري الإ�شاري للقر�آن الكرمي الذي يعرفه‬ ‫ال�شريازي ب�أنه «علم احلق الذي ال نهاية له» (‪� )22‬أو هو ان�شراح القلب عند تعهد القر�آن بالتالوة‬ ‫وتدبر معانيه بقوة الإميان مع �شرط املواظبة» (‪ ،)23‬وبتعبري عبد احلليم حممود «هو العلم الوهبي‬ ‫الذي مينحه اهلل لبع�ض عباده» (‪.)24‬‬ ‫وال �شك �أن الأمري قد وقف كما مر معنا مع ق�صة «املع�شوقة» على التحقق بعلوم وهبية بعد جتربة‬ ‫ذوقية روحية �شفافة‪ ،‬تلتقي مع جتربة �شيخه ابن عربي العرفانية‪ ،‬فقد انتهج املنهج الباطني يف كتابه‬ ‫«املواقف الروحية والفيو�ضات ال�سبوحية» وهو �أ�شهر كتبه وقد «ف�سر به بع�ض الآيات الكرمية‬ ‫والأحاديث ال�شريفة تف�سريا مزجه بالفقه والتاريخ ب�أ�سلوب �صويف‪ ،‬وكان يلقي مواقفه يف جمال�سه‬ ‫اخلا�صة (‪ .)25‬كما جاء يف «املوقف الأول» يف تف�سري قوله تعاىل‪« :‬لقد كان لكم يف ر�سول اهلل �أ�سوة‬ ‫ح�سنة»(‪ )26‬يقول‪« :‬هذه الآية الكرمية تلقيتها تلقيا غيبيا روحانيا‪ ،‬ف�إن اهلل تعاىل قد عودين‪� ،‬أنه‬ ‫مهما �أراد �أن ي�أمرين �أو ينهاين‪� ،‬أو يب�شرين �أو يحذرين‪� ،‬أو يعلمني علما‪� ،‬أو يفتيني يف �أمر ا�ستفتيه‬ ‫فيه‪� ،‬إال وي�أخذين مني مع بقاء الر�سم‪ ،‬ثم يلقي �إيل ما �أراد ب�إ�شارة �آية كرمية من القر�آن‪ ،‬ثم يردين‬ ‫�إيل‪ ،‬فارجع بالآية قرير العني ملآن اليدين‪ ،‬ثم يلهمني ما �أراد بالآية‪ ،‬و�أتلقى الآية من غري حرف‬ ‫وال �صوت وال جهة‪ ،‬وقد تلقيت واملنة هلل تعاىل‪ ،‬نحو الن�صف من القر�آن بهذا الطريق‪ ،‬و�أرجو من‬ ‫كرم اهلل تعاىل �أن ال �أموت حتى �أ�ستظهر القر�آن كله (‪.)27‬‬ ‫وابن عربي ي�ؤكد قبله م�س�ألة النفث الروحاين حيث يقول‪«:‬فالعلم الإلهي هو الذي كان اهلل‬ ‫�سبحانه وتعاىل يقدمه بالإلهام والإلقاء‪ ،‬وب�إنزال الروح الأمني على قلبه‪ ،‬وهذا الكتاب‪ -‬الفتوحات‬


‫البعد الأكربي يف ت�صوف الأمري عبد القادر‬

‫درا�سات و�أبحاث‬

‫‪111‬‬

‫ من ذلك النمط عندنا‪ ...‬ما كتبت منه حرفاً �إال عن �إمالء �إلهي و�إلقاء رباين �أو نفث روحاين‬‫يف روع كياين» (‪.)28‬‬ ‫وقد جاء يف املوقف رقم (‪ )314‬الذي جاء فيه تف�سري �سورة الفاحتة‪ ،‬قال تعاىل‪ :‬ب�سم اهلل الرحمن‬ ‫الرحيم‪« :‬احلمد هلل رب العاملني الرحمن الرحيم‪ »...‬قال �سيدنا يف باب الو�صايا وهو الباب الأخري‬ ‫من الفتوحات املكية‪ ،‬و�صية يقول فيها �إذا قر�أت فاحتة الكتاب ف�صل ب�سملتها معها يف نف�س‬ ‫واحدة من غري قطع ف�إن اهلل تعاىل قال‪« :‬يا �إ�سرافيل بعزتي وجاليل وجودي وكرمي من قرا ب�سم‬ ‫اله الرحمن الرحيم مت�صلة بفاحتة الكتاب مرة واحدة‪ ،‬ا�شهدوا على �أين غفرت له وقبلت منه‬ ‫احل�سنات وجتاوزت عن ال�سيئات‪ ،‬وال �أحرق ل�سانه بالنار‪ ...‬و�أجريه من عذاب القرب وعذاب النار‪،‬‬ ‫وعذاب القيامة» (‪.)29‬‬ ‫وللإ�شارة ف�إن املت�صوفة مل يكونوا» بادئ الأمر مييلون �إىل الت�أليف يف الت�صوف مكتفني ب�إلقاء درو�س‬ ‫يف ذلك يح�ضرها اخلا�صة والعامة» (‪ )30‬فقد كانت املرحلة الأوىل يف ع�صر التابعني‪ ،‬ومن جاء من‬ ‫بعدهم كما ينقل الدكتور قا�سم غني على ل�سان العارف �أبو �سعيد �أبو اخلري وهي متزيق الدفاتر‬ ‫وتنا�سي العلوم» (‪ )31‬فخا�صية الإ�شارة والرموز مل تكن وقفا على التف�سري بل كان �شامال لكل‬ ‫امل�ؤلفات ال�صوفية‪ ،‬فمن �أهم خ�صائ�ص التف�سري الإ�شاري هي م�س�ألة الإيحاء �أو الإمياء بحيث ت�صري‬ ‫الآيات توميء لبع�ضها البع�ض‪ ،‬فهم بحكم كونهم ينطقون من منطقة الإميان العميق‪ ،‬وبحكم �أن‬ ‫الآية املاثلة �أمامهم �أو التي تراءت لهم �أثناء وجدهم ذكرتهم بل �أ�شارت لهم يف ب�صريتهم �إىل �آية‬ ‫�أخرى كانت وتدا لتلك الأنوار‪ ،‬فا�ستح�ضروها انطالقا من الإ�شارة (‪ )32‬من دالئل �إ�شارتهم الدالة‬ ‫على فهم الأبعاد الباطنية لرتتيب الآيات القر�آنية والكلمات و�ضع مغاير ملا هو موجود يف امل�صحف‬ ‫ال�شريف‪ ،‬ففي تف�سري قوله تعاىل مثال‪« :‬ثم �أورثنا الكتاب الذين ا�صطفينا من عبادنا فمنهم ظامل‬ ‫لنف�سه ومنهم مقت�صر ومنهم �سابق باخلريات ب�إذن اهلل ذلك هو الف�ضل الكبري» (‪.)33‬‬ ‫يقول ال�شيخ حمي الدين بن عربي يف �ش�أن املقت�صد (ومنهم مقت�صد) هو‪ :‬الذي ي�سلك طريق‬ ‫اليمني‪ ،‬ويختار ال�صاحلات من الأعمال‪ ،‬واحل�سنات‪ ،‬ويكتب الف�ضائل‪ ،‬والكماالت يف مقام‬ ‫القلب (ومنهم �سابق باخلريات)‪� ،‬أي هي جتليات ال�صفات �إىل الفناء يف الذات» فهم ال يكتفون‬ ‫بذكر وجه واحد للآية �أو للحديث و�إمنا ي�أتونك ب�شتات من الأوجه التف�سريية يرجحون لك وجها‬ ‫على �آخر‪ ،‬و�إمنا ي�سلكون م�سلك اجلمع بينها‪ ،‬باعتبارها تنبع من الباطن الذي ال جمال للباطن فيه‪،‬‬ ‫وباعتبارها جميعا تنهل من منهل واحد وتهدف �إىل هدف واحد‪� ،‬أال وهو تعميق التوحيد باهلل‪،‬‬ ‫فكل وجه له جانب من احلقيقة‪ ،‬وطريق �إليها ف�أهل الإ�شارة ب�إتباعهم ذلك يريدون متكينك من‬ ‫املعرفة الباطنية‪ ،‬والتوق بك �إليها‪ ،‬وال�سعي �إليها بذاتك» (‪.)34‬‬ ‫بهذه الطريقة الإ�شارية كما �سبق جاء كتاب «املواقف» للأمري الذي ال تخرج عن تف�سري لآيات‬ ‫الذكر احلكيم �أين طغى على �أغلب مواقف اجلزء الأول �إىل جانب �شرح لبع�ض الأحاديث‬ ‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬


‫‪112‬‬

‫النبوية‪ ،‬كما جند فيها �شرحا وتعليقا وانت�صارا ل�شيخه �إمام العارفني كما يكنيه‪ ،‬يقول يف املوقف‬ ‫الثالث والأربعون‪ »:‬قال تعاىل‪« :‬كال �إنهم عن ربهم ٍ‬ ‫يومئذ ملحجوبون» (‪ .)35‬يقول‪« :‬كل من ي�سمع‬ ‫ذكر احلجاب من غري العارفني‪ ،‬يتوهم �أن هناك حجابا وحمجوبا عنه‪ ،‬كما هو املتبادر من جوهر‬ ‫اللفظ‪ ،‬وهذا وهم باطل‪ ،‬لأنه لي�س ثمة �إال احلق‪ - ،‬تعاىل‪ -‬واخللق‪� ،‬أعني مرتبة الوجوب والإمكان‪،‬‬ ‫وال وا�سطة بينهما» (‪.)36‬‬ ‫وجاء كذلك يف املوقف الأربعون قال تعاىل‪« :‬و�شهد �شاهد» (‪ )37‬يقول‪� :‬س�أل بع�ض الأ�صحاب‬ ‫عن الأف�ضلية بني امللك وخوا�ص الب�شر‪ ،‬وذكر اختالف �أهل الظاهر والباطن‪ ،‬وما رد على كل‬ ‫دليل‪ ،‬بحيث ما �سلم دليل من معار�ضة ونق�ض واحتمال‪� ...‬إىل �أن يقول‪ :‬ويف �صبيحة تلك الليلة‬ ‫توجهت �إىل احلق‪ -‬تعاىل‪ -‬يف ك�شف هذه امل�س�ألة ف�أخذين احلق عن العامل وعن نف�سي‪ ،‬و�ألقى‬ ‫�إيل قوله‪« :‬و�شهد �شاهد من بني �إ�سرائيل على مثله ف�آمن وا�ستكربمت»(‪.)38‬‬ ‫فلما رجعت �إىل احل�س فهمت من �إ�شارة الآية الكرمية �أن ال�شاهد الذي �شهد يف هذه امل�س�ألة هو‬ ‫ال�شيخ الأكرب‪ ،‬على مثله يف الب�شرية واجلن�سية‪ ،‬يعني الكل من الب�شر‪ ،‬و�شهادته عليهم للمالئكة‪،‬‬ ‫بثبوت الأف�ضلية من جهة‪ ،‬واعتبار «ف�آمن» يعني ال�شيخ الأكرب‪ ،‬مبا �أ�شهده احلق من ثبوت الأف�ضلية‬ ‫للملك باعتباره» (‪.)39‬‬

‫خامتة‪:‬‬

‫لقد عمل الأمري على �إحياء الت�صوف من خالل جتربته الروحية الذوقية واملعرفية‪ ،‬فمهما كرث‬ ‫احلديث عن ماهية هذه التجربة هل هي ذوقية عرفانية �أم �سلوكية �أخالقية ف�إن الأمري عبد القادر‬ ‫القائد الع�سكري املجاهد املقدام م�ؤ�س�س الدولة اجلزائرية احلديثة هو تلميذ ال�شيخ الأكرب‪ ،‬الذي‬ ‫�ساهم يف بعث تراث ال�شيخ‪ ،‬بل وكان ج�سرا للكثري من الباحثني الغربيني لفهم ما ا�ستغلق من‬ ‫�آرائه‪ .‬كما �ساهم ب�آرائه املتفتحة يف ا�ست�شراف دور امل�سلم يف زمن العوملة‪ ،‬كما يرى الباحث �أحمد‬ ‫بويردان يف كتابه «الأمري عبد القادر تناغم الأ�ضداد»‬ ‫فلي�س بربك الر�سم �صورتنا العظمى‬ ‫لئن كان هذا الر�سم يعطيك ظاهري ‬ ‫لـه همة تعلـو ب�أخم�صهــا النجـمــا‬ ‫ ‬ ‫فثـم وراء الر�ســم �شخ�ص حمـجب‬ ‫ولكــن بالعقل واخللـق الأ�سمـــى‬ ‫ ‬ ‫ومــا املرء بالوجه ال�صبيـح افتخـاره‬ ‫فـذاك الـذي ال يبتغي بعده نعمـى‬ ‫ ‬ ‫و�إن جمعـت للمرء هــذي وهــذه‪،‬‬


‫البعد الأكربي يف ت�صوف الأمري عبد القادر‬

‫درا�سات و�أبحاث‬

‫‪113‬‬

‫الهوام�ش‪:‬‬ ‫(‪ )1‬‬ ‫(‪ )2‬‬ ‫(‪ )3‬‬ ‫(‪ )4‬‬ ‫(‪ )5‬‬ ‫(‪ )6‬‬ ‫(‪ )7‬‬ ‫(‪ )8‬‬ ‫(‪ )9‬‬ ‫(‪ )10‬‬ ‫(‪ )11‬‬ ‫(‪ )12‬‬ ‫(‪) 13‬‬ ‫(‪ )14‬‬ ‫(‪ )15‬‬ ‫(‪ )16‬‬ ‫(‪ )17‬‬ ‫(‪ )18‬‬ ‫(‪ )19‬‬

‫عبد العزيز البابطني‪ ،‬مقدمة كتابك �أ‪ /‬عبد الرزاق بن �سبع‪ ،‬الأمري عبد القادر اجلزائري و�أدبه‪ ،‬م�ؤ�س�سة جائزة‬ ‫عبد العزيز �سعود البايطني للإيداع ال�شعري‪� ،2000 ،‬ص ‪.03‬‬ ‫ف�ؤاد �صالح ال�سيد‪ ،‬الأمري عبد القادر مت�صوفا و�شاعرا‪ ،‬وزارة الثقافة‪� ،2007 ،‬ص ‪.43‬‬ ‫الأمري عبد القادر اجلزائري‪ :‬املوقف‪ ،‬دم�شق‪ ،‬دار اليقظة العربية‪ ،1967 ،‬ج‪� ،2‬ص ‪.872‬‬ ‫امل�صدر ال�سابق‪.‬‬ ‫ابن عربي‪ ،‬ف�صو�ص احلكم‪ ،‬حتقيق �أبو العال عظيمي‪ ،‬ج‪� ،1‬ص ‪.47‬‬ ‫الأمري عبد القادر‪ ،‬املواقف‪ ،‬ج‪�،2‬ص ‪514‬‬ ‫امل�صدر ال�سابق‪ ،‬ج‪� ،2‬ص ‪.270‬‬ ‫�سورة االن�شقاق �آية ‪.21‬‬ ‫الأمري‪ ،‬املواقف‪ ،‬دم�شق‪ ،‬دار اليقظة العربية ‪ ،1967‬ج‪� ،1‬ص ‪.270‬‬ ‫الأمري‪ ،‬املواقف‪ ،‬ج‪� ،2‬ص ‪.917‬‬ ‫الأمري‪ ،‬املواقف‪ ،‬ج‪� ،2‬ص ‪.917‬‬ ‫الفتوحات املكية‪ ،‬ابن عربي‪ ،‬حتقيق عثمان يحي الإهداء‪.‬‬ ‫�أبو حامد الغزايل‪ ،‬املنقذ من ال�ضالل‪ ،‬حتقيق الدكتور عبد احلكيم حممود‪ ،‬ط‪ 3‬دار املعارف‪ ،‬مب�صر ‪� ،1988‬ص ‪.378‬‬ ‫عبد اهلل الركيبيبي‪ ،‬ال�شعر الديني احلديث اجلزائري‪ ،‬دار ال�سويدي للن�شر والتوزيع ‪� ،1972‬ص ‪.242‬‬ ‫الأمري‪ ،‬املواقف‪ ،‬ج‪( 1‬دم�شق‪ :‬دار اليقظة العربية)‪.‬‬ ‫الأمري عبد القادر‪ ،‬املواقف‪ ،‬ج‪� ،1‬ص ‪( 13‬حتقيق عبد الباقي مفتاح)‪.‬‬ ‫املواقف‪ ،‬ج‪� ،1‬ص ‪.18‬‬ ‫املواقف‪ ،‬ج‪� ،1‬ص ‪.86‬‬ ‫«�إن يف الوجود مع�شوقة غري مرموقة‪ ،‬الأهوية �إليها جانحة‪ ،‬والقلوب بحبها طافحة‪ ،‬والأب�صار �إىل ر�ؤيتها طاحمة‪،‬‬ ‫ب�صري النا�س �إليها كل م�صار‪ ،‬ويرتكبون الأخطار‪ ،‬وي�ستخدمون دونها الأحمر‪ ،‬ويركبون لطلبها املكعب الأ�سمر‪،‬‬ ‫وال ي�صل �إليها �إال الواحد بعد الواحد يف الزمان املتباعد‪ ،‬ف�إذا قدر لأحد م�شارفة حماها ومقاربة مرماها‪� ،‬ألقت‬ ‫عليه �إك�سريا له مادة وال مدة‪ ،‬وال هو عني معتدة‪ ،‬فيح�صل �إنقالب عينه‪ ،‬الأعيان يف عينه‪� ،‬إىل عني هذه‬ ‫املع�شوقة‪ ،‬التي هي غري مرموقة املعلومة املجهولة‪ ،‬امل�ستورة امل�سلولة‪ ،‬الباطنة‪ ،‬الظاهرة‪ ،‬امل�ستورة‪.‬ال�ساترة‪ ،‬اجلامعة‬ ‫للت�ضاد بل وجلميع �أنواع املنافاة والعناد‪ ،‬وال يقدر �أن يعرب عنها بعربة وال ي�شري �إليها ب�إ�شارة �أكرث من قوله‪� :‬إين‬ ‫و�صلتها وح�صلتها‪ ،‬وبعد التعب والعناء ومعاناة وجدت هذه املع�شوقة‪� :‬أنا ويتبني يل �أنني الطالب واملطلوب‬ ‫والعا�شق واملع�شوق‪ ،‬فما كان هجري للذاتي‪� ،‬إال يف طلب ذاتي‪ ،‬وال كانت رحلتي �إال لنحلتي‪ ،‬وال و�صويل �إال‬ ‫�إيل وال تفتي�شي �إال علي‪ ،‬وال كان �سفري �إال مني �إيل‪:‬فيقال له‪ :‬هل ر�أيت حمياها‪ ،‬و�شممت رياها‪ ،‬حتى قلت‬ ‫�أنا �إياها؟ فيقول‪ :‬ر�أيت‪ ،‬وما ر�أيت وما رميت �إذ رميت وي�أتي ب�أو�صافها مبا تنبو عنه العقول‪ ،‬وال حتتمله ظواهر‬ ‫النقول‪ ،‬ما طرق الأ�سماع‪ ،‬وال طمعت يف فهمه الأطماع‪ ،‬يرفع ال�ضدين تارة وتارة بجمعهما ويجمع النقي�ضني‬ ‫وي�ضمهما فيقال له‪ :‬هذا الذي تقول ثبت عندك بدليل �أو برهان؟ فيقول ال دليل بعد عيان‪ ،‬وكيف ي�صح يف‬ ‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬


‫‪114‬‬

‫(‪ )20‬‬ ‫(‪ )21‬‬ ‫(‪ )22‬‬ ‫(‪ )23‬‬ ‫(‪ )24‬‬ ‫(‪ )25‬‬ ‫(‪ )26‬‬ ‫(‪ )27‬‬ ‫(‪ )28‬‬ ‫(‪ )29‬‬ ‫(‪ )30‬‬ ‫(‪ )31‬‬ ‫(‪ )32‬‬ ‫(‪ )33‬‬ ‫(‪ )34‬‬ ‫(‪ )35‬‬ ‫(‪ )36‬‬ ‫(‪ )37‬‬ ‫(‪ )38‬‬ ‫(‪ )39‬‬ ‫(‪ )40‬‬ ‫(‪ )41‬‬

‫الأذهان �شيء �إذا احتاج النهار �إىل دليل؟ فرياجع فال يرجع ويغلط فال ي�سمع‪ ،‬وحينئذ يحكم النا�س عليه‬ ‫باجلنون والعته وال�سفه والبله‪ ،‬ويجهلونه ولو كان �أعلمهم‪،‬وي�سفهونه ولو كان �أحلمهم وي�ستبيحون منه العر�ض‬ ‫يف الطول والعر�ض ويجعلونه مرمى غمزهم وملزهم ونبزهم ووكزهم‪ ،‬يهجره احلميم العاطف‪ ،‬ويقليه ال�صدق‬ ‫املالط‪ ،‬وهو ما هو مع هذا ناعم البال مبا لديه‪ ،‬قرير العني مبا ح�صل بني يديه‪ ،‬ال يلتفت �إىل قطعهم وهجرهم وال‬ ‫يبايل بلوغهم فيه وهجرهم‪.‬‬ ‫الأمري‪ :‬املواقف‪ ،‬ج‪� 1‬ص ‪.86‬‬ ‫الأمري عبد القادر ديوان ال�شاعر الأمري جمع وحتقيق الدكتور العربي دحو راجعه الدكتور ر�ضوان الداية‪،‬‬ ‫م�ؤ�س�سة عبد العزيز بن �سعود البايطني للإيداع‪.256-257 ،‬‬ ‫ابن العربي‪ :‬الفتوحات املكية‪ ،‬اجلزء ‪� 3‬ص ‪.314‬‬ ‫املواقف‪ ،‬ج ‪� 1‬ص ‪.87‬‬ ‫ال�شريازي‪ :‬عرائ�س البيان‪ ،‬ج‪ ، 1‬ط الهند ‪� ،1301‬ص ‪.591‬‬ ‫حمي بن عربي‪ :‬تف�سري القر�آن الكرمي‪ ،‬ج‪( 1‬حتقيق د‪ .‬م�صطفى غالب)‪ ،‬بريوت‪� ،1978 ،‬ص ‪.14‬‬ ‫عبد احلليم حممود‪ ،‬ابراهيم �أدهم �شيخ ال�صوفية (د‪.‬ت) �ص ‪.21‬‬ ‫الأمري عبد القادر‪ :‬بغية الطالب على ترتيب التجلي بكلية املراتب‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط ‪2004 1‬‬ ‫‪1425‬هـ �ص ‪.21‬‬ ‫�سورة الأحزاب‪ ،‬الآية ‪.21-22‬‬ ‫الأمري‪ ،‬املواقف‪ ،‬املوقف الأول‪� ،‬ص ‪.101‬‬ ‫ابن عربي‪ :‬الفتوحات‪ ،‬ج‪ 3‬م�صر ‪1393‬هـ ‪� ،‬ص ‪.504‬‬ ‫الأمري‪ :‬املواقف ج‪.2‬‬ ‫د‪�/‬صالح الدا�سي‪ :‬التف�سري الإ�شاري عند �أهل ال�سنة ‪ ،‬من�شورات دار عالء الدين ط ‪�.2010 1‬ص ‪.336‬‬ ‫د‪ /‬قا�سم غني‪ :‬تاريخ الت�صوف يف الإ�سالم‪ ،‬ترجمة �صادق ن�ش�أت‪ ،‬م�صر ‪� ،1970‬ص ‪.80‬‬ ‫امل�صدر ال�سابق‪� ،‬ص ‪.340‬‬ ‫�سورة فاطر‪� ،‬آية ‪.32‬‬ ‫�صالح الدا�سي‪ :‬التف�سري الإ�شاري عند �أهل ال�سنة‪� ،‬ص ‪.350‬‬ ‫�سورة املطففني‪� ،‬آية ‪.83‬‬ ‫املواقف‪ ،‬ج‪� ،1‬ص ‪.152‬‬ ‫�سورة يو�سف‪� ،‬آية ‪.12‬‬ ‫�سورة الأحقاف‪ ،‬الآية ‪.45‬‬ ‫املواقف‪ ،‬املوقف الأربعون‪� ،‬ص ‪.150-149‬‬

‫‪(42) Ahmed Bouyrdene; Abdel-El-Kader (Larmonie des contreres- preface par Eric Geoffrey; Editions‬‬ ‫‪du Seuil p.10‬‬


‫البعد الأكربي يف ت�صوف الأمري عبد القادر‬

‫درا�سات و�أبحاث‬

‫‪115‬‬

‫امل�صادر واملراجع‬

‫ ‪-‬‬ ‫‪ -‬‬

‫ ‪-‬‬ ‫ ‬‫ ‬‫ ‬‫ ‬‫ ‪-‬‬ ‫ ‬‫ ‪-‬‬ ‫ ‬‫ ‬‫ ‬‫ ‪-‬‬ ‫‪ -‬‬

‫القر�آن الكرمي‪:‬‬ ‫الأمري عبد القادر اجلزائري و�أدبه‪ ،‬عبد الرزاق بن �سبع (مقدمة الكتاب)‪ ،‬م�ؤ�س�سة جائزة عبد‬ ‫العزيز �سعود البايطني للإيداع ال�سعري ‪.2005‬‬ ‫الأمري عبد القادر مت�صوفا و�شاعراـ ف�ؤاد �صالح ال�سيد‪ ،‬وزارة الثقافة ‪.2007‬‬ ‫الأمري عبد القادر‪ ،‬املواقف‪ ،‬دم�شق‪ ،‬دار اليقظة‪ ،‬العربية ‪.1967‬‬ ‫ف�صو�ص احلكم‪ ،‬ابن عربي‪ ،‬حتقيق �أبو العال عفيقي‪.‬‬ ‫الفتوحات املكية‪ ،‬ابن عربي‪ ،‬حتقيق عثمان يحي‪.‬‬ ‫املنقذ من ال�ضالل‪� ،‬أبو حامد الغزايل‪ ،‬حتقيق الدكتور عبد احلليم حممود‪ ،‬ط‪ ،3‬دار املعارف‪،‬‬ ‫مب�صر ‪.1988‬‬ ‫ال�شعر الديني اجلزائري احلديث‪ ،‬عبد اهلل الركيبي‪ ،‬دار ال�سويدي للن�شر والتوزيع‪.‬‬ ‫ديوان ال�شاعر الأمري‪ ،‬الأمري عبد القادر‪ ،‬جمع وحتقيق الدكتور العربي دحو‪ ،‬راجعه الدكتور‬ ‫ر�ضوان الداية‪ ،‬م�ؤ�س�سة عبد العزيز بن �سعود البابطني للإيداع‪.‬‬ ‫عرائ�س البيان‪ ،‬ال�شريازي‪ ،‬ط الهند ‪.1301‬‬ ‫تف�سري القر�آن الكرمي‪ ،‬حمي الدين بن عربي‪ ،‬حتقيق م�صطفى غالب‪ ،‬بريوت ‪.1978‬‬ ‫ابراهيم ابن �أدهم �شيخ ال�صوفية‪ ،‬عبد احلليم حممود‪.‬د ت‬ ‫بغية الطالب على ترتيب التجلي بكليات املراتب‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪2004 ،1‬‬ ‫‪425‬هـ‬ ‫التف�سري الإ�شاري عند �أهل ال�سنة‪ ،‬د‪� /‬صالح الدا�سي‪ ،‬من�شورات دار عالء الدين ط‪.2010 ،1‬‬ ‫تف�سري القر�آن الكرمي‪ ،‬حمي بن عربي‪( ،‬حتقيق د‪ .‬م�صطفى غالب) بريوت‪.1978 ،‬‬

‫‪- Ahmed Bouyerdene; Abdel-Kader(Larmonie des contraires; preface par Eric‬‬ ‫‪Geoffray ; editions du seuil.‬‬

‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬


‫دار كتب للن�شر �ش‪.‬م‪.‬ل‬

‫بناية الربج‪ ،‬الطابق الرابع‪� ،‬ساحة ال�شهداء الو�سط التجاري‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‬ ‫�صندوق بريد‪ ،11-4353 :‬بريوت ‪ -‬لبنان‪.‬‬ ‫هاتف‪)961-1( 983008 /9 :‬‬ ‫فاك�س‪)961-1( 980630 :‬‬ ‫الربيد الإلكرتوين‪kutub@kutubltd.com :‬‬ ‫املوقع الإلكرتوين‪www.kutubltd.com :‬‬


‫‪117‬‬

‫حتوالت �أدبية‬

‫الأديب جملة �أدبية لبنانية م�رشقية‬

‫�أ�ستمرت يف ال�صحافة االدبية من �سنة ‪ 1942‬اىل �سنة ‪1983‬‬ ‫| جنيب البعيني | باحث و�صحايف‬ ‫[تعترب جملة «الأديب» جتربة مهمة يف ال�صحافة االدبية ا�ستمرت من العام‬ ‫وحتى العام ‪ 1982‬وجمعت على �صفحاتها رموز و�أقطاب االدب والفكر يف لبنان و�سوريا‬ ‫وم�صر والعامل العربي‪ .‬ولبثت �أمنية خلطها التجديدي اجلامع و�شكلت حت ً‬ ‫وال مهماً‬ ‫يف احلياة الثقافية واالدبية‪ .‬هنا �إ�ضاءة مف�صلة يف تاريخ املجلة ودورها و�إجنازاتها‪[.‬‬ ‫‪1942‬‬

‫«الأديب» جملة لبنانية كانت ت�صدر يف مطلع كل �شهر‪� ...‬أن�ش�أها �ألبري �أديب‪ ..‬كان عنوانها‬ ‫«الأديب» جملة تبحث يف الآداب والفنون والعلوم وال�سيا�سة واالجتماع‪ .‬وكان عدد �صفحاتها‬ ‫اربعاً و�ستني �صفحة من القطع الكبري‪.‬‬ ‫�صدر العدد الأول منها يف �أول كانون الثاين �سنة ‪ ،1942‬وكان غالفها اخلارجي الذي مل يتغري‬ ‫طوال مدة �صدورها من ت�صميم الفنان ر�أفت بحريي‪.‬‬ ‫�ضم ك ّال من‪ :‬ال�شاعر الدكتور نقوال‬ ‫�أما فكرة �إن�شاء املجلة فقد انطلقت �أو ًال يف جمل�س �أدبي خا�ص ّ‬ ‫فيا�ض وال�شاعر الدكتور حبيب ثابت ورئيف �أبي اللمع وخليل تقي الدين‪ ،‬الذين �شجعوا �ألبري‬ ‫�أديب على �إ�صدار جملة �أدبية خا�صة به‪ ،‬وكان هذا الأخري يعمل يف جريدة «املك�شوف» ل�صاحبها‬ ‫ال�شيخ فوزي حبي�ش‪ ،‬ما حداه �إىل تنفيذ الفكرة يف �أ�سرع وقت ممكن‪.‬‬ ‫وكان �أن ت�شكلت �أ�سرة «الأديب» يف �أواخر عام ‪ 1943‬وكان من �أع�ضائها‪ :‬ال�شيخ عبداهلل العاليلي‬ ‫وال�شيخ اليا�س خليل زحريا والدكتور نقوال فيا�ض ونور الدين بيهم وال�شاعر حممد علي حوماين‬ ‫وال�شاعر �صالح الأ�سري و�ألبري �أديب‪ ،‬ومن ثم حت ّول مكتب املجلة يف غ�ضون �أ�شهر �إىل ملتقى‬ ‫للزعماء ورجال ال�سيا�سة �أمثال‪ :‬كمال جنبالط وعبد احلميد كرامي وكميل �شمعون و�سامي‬ ‫ال�صلح و�أحمد الأ�سعد‪ .‬ولكن ما عتم �أن ابتعدت املجلة عن ال�سيا�سة بعد عدة �أ�شهر و�صار‬ ‫منهجها التوجيه الوطني والقومي‪ ،‬لأن �صاحبها وجد �أن ال�سيا�سة بتداعياتها �ست�ؤدي به �إىل‬ ‫م�شاكل هو بغنى عنها‪ ،‬فقد كان يريد �أن تنت�شر «الأديب» يف جميع الأقطار العربية ب�شكل ف ّعال‪،‬‬ ‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬


‫‪118‬‬

‫و�أن تبتعد عن تناول الدين واجلن�س والطائفية‪ ،‬كي ت�ضمن ا�ستمرارها وم�سريتها االدبية والثقافية‪،‬‬ ‫و�أن تكون ل�سان حال املثقفني واالدباء وال�شعراء يف كل مكان‪ .‬جاء يف ال�صفحة االوىل‪ ،‬يف العدد‬ ‫االول‪ ،‬يف ال�سنة االوىل‪ :‬ثمن اجلزء �أربعون غر�شا‪ ،‬بدل اال�شرتاك يف لبنان و�سوريا خم�س لريات‬ ‫لبنانية‪ ،‬يف اخلارج جنيه م�صري‪ ،‬جميع املخابرات با�سم من�شئها‪ ،‬بريوت‪� ،‬صندوق الربيد رقم‬ ‫‪ ،878‬االدارة يف بريوت‪ ،‬مطابع دار االحد‪� ،‬شارع فينيقيا‪.‬‬ ‫يف عام ‪ 1958‬وابتداء من �شهر كانون الثاين �أ�صبحت اال�شرتاكات كما يلي‪ :‬بدل اال�شرتاك عن‬ ‫�سنة كاملة يف لبنان و�سوريا ‪ 12‬ل‪.‬ل‪ .‬امل�ؤ�س�سات وال�شركات والدوائر الر�سمية ‪ 25‬ل‪.‬ل‪ .‬يف اخلارج‬ ‫‪ 35‬ل‪.‬ل‪ .‬يف الواليات املتحدة ‪ 10‬دوالرات امريكية‪.‬‬ ‫�أما �أبواب املجلة الثانية ومنذ �صدور العدد الأول منها فهي ‪:‬‬ ‫مكتبة الأديب‪ ،‬جولة االديب يف �شهر‪ ،‬برقيات �أدبية‪� ،‬أنباء العامل يف �شهر‪ ،‬ظهر حديثا‪� ،‬أخبار‬ ‫علمية‪ ،‬باال�ضافة �إىل املقاالت والق�صائد واملوا�ضيع التي تدرج حتت عناوينها وخطوطها دون ذكر‬ ‫الأبواب‪.‬‬ ‫والذين كتبوا يف جملة «الأديب» ال يح�صى لهم عدد بع�ضهم �أ�صبح يف ديار احلق وبع�ضهم الآخر‬ ‫ال يزال حياً‪ ،‬وكلهم تتلمذوا يف مدر�سة «الأديب» وكان لهم �ش�أن عظيم يف عامل الكتابة عرباً‬ ‫ولبنانيني‪ ،‬نذكر منهم‪:‬‬ ‫حممد كرد علي و�أمني نخلة وقدري حافظ طوقان واليا�س �أبو �شبكة ود‪.‬حبيب ثابت وعبداهلل‬ ‫امل�شنوق وحميي الدين الن�صويل وبهيج عثمان ورئيف خوري وراجي الراعي ود‪.‬نقوال فيا�ض‬ ‫ويو�سف اخلال وزكي حما�سني و�سامي كيايل و�شفيق طبارة ومي�شال ابو �شهال ووليم �صعب‬ ‫و�أمني الغريب وغنطو�س الرامي وعمر فاخوري وعبداهلل العاليلي و�أنور اجلندي وعلي حممد‬ ‫�شلق وحممد يو�سف حمود وخليل تقي الدين و�صالح الأ�سري ومارون عبود واليا�س خليل زخريا‬ ‫ور�شاد املغربي دارغوث وعي�سى الناعوري وفار�س مراد �سعد وايليا حاوي وف�ؤاد اخل�شن وفوزي‬ ‫عطوي وطه الويل وعجاج نويه�ض وزكي قن�صل وعبد ال�سالم العجيلي ويو�سف �أ�سعد داغر‬ ‫و�أمني ابو عز الدين وكرم ملحم كرم ووداد �سكاكيني و�سهيل ادري�س وحربان التويني وجرجي‬ ‫نقوال باز ور�شدي املعلوف وحممد جميل بيهم وقدري قلعجي و�أحمد ال�صايف النجفي وخلدون‬ ‫�ساطع احل�صري وجربائيل جبور ور�ضوان ال�شهال وعي�سى ا�سكندر املعلوف ونازك املالئكة‬ ‫ووديع فل�سطني وعبد اللطيف �شراره وحممد روحي في�صل وعبداهلل عبد الدائم وعي�سى ابراهيم‬ ‫الناعوري وح�سن االمني وق�سطنطني زريق ود‪.‬رئيف �أبي اللمع وحممود تيمور وجبور عبد النور‬ ‫وريا�ض ال�صلح ود‪.‬ح�سن �صعب ود‪� .‬أحمد �أبو �سعد وكمال جنبالط ونزار قباين وخليل مطران‬ ‫و�أني�س اخلوري املقد�سي و�سعيد �أبو احل�سن وجورج �صيدح‪ ،‬و�سهيل ادري�س‪ ،‬و�أن�سي احلاج‪ ،‬وثريا‬ ‫ملح�س‪ ،‬وغريهم كثريون‪.‬‬


‫الأديب جملة �أدبية لبنانية م�شرقية‬

‫حتوالت �أدبية‬

‫‪119‬‬

‫طبع العدد االول يف املطبعة احلديثة‪ ،‬طريق ال�شام‪ ،‬بريوت ‪ .‬جاء يف العدد االول‪ ،‬ال�سنة االوىل‪،‬‬ ‫حتت عنوان «كلمتنا» بقلم �ألبري �أديب عن �أهداف املجلة وم�سريتها االدبية ما يلي‪:‬‬ ‫«نتقدم �إىل قراء العربية بهذه املجلة اجلديدة «الأديب» يف مطلع العام اجلديد‪ ،‬راجني �أن يكون عام‬ ‫طم�أنينة للعامل‪ ،‬و�سعادة للقراء‪ ،‬وجناحاً للم�شروع الذي �أخذنا على عاتقنا حتقيقه‪ ،‬وال�سري به من‬ ‫ح�سن �إىل �أح�سن‪ .‬ونحن على مثل اليقني ب�أننا‪ ،‬رغم امل�صاعب الكثرية الراهنة‪ ،‬بالغون ان �شاء‬ ‫اهلل الغاية التي نتوخاها‪ ،‬بعون امللإ ال�صالح من �أ�صدقائنا الأدباء و�أهل الر�أي وذوي االخت�صا�ص‬ ‫يف خمتلف املعارف والفنون‪ .‬فهذه املجلة جملتهم‪ ،‬يخرجونها يف م�ستهل كل �شهر وفقا للخطة‬ ‫الر�شيدة التي اختطوها‪� ،‬سعيا نحو املقا�صد الرفيعة التي جعلوها ن�صب �أعينهم‪.‬‬ ‫�سد ما يح�سب بحق فراغاً يف مكتبة الأديب العربي‪ ،‬ف�ألهمنا �أن ن�ساهم‬ ‫«لقد ر�أينا احلاجة ما�سة �إىل ّ‬ ‫يف ذلك مبجلة نطمح �إىل �أن تكون معر�ضاً لالنتاج الفني والأدبي والعلمي‪ ،‬ومنرباً للر�أي ال�سيا�سي‬ ‫املنبثق من العقيدة ال�صادقة واالميان اخلال�ص‪ ،‬ثم ال تلبث �أن ت�صري همزة الو�صل بني �أقطاب‬ ‫الفكر احلر يف االقطار العربية جمعاء»‪.‬‬ ‫«�أما اخلطوط الأ�سا�سية لهذا امل�شروع فتتجلى بو�ضوح يف مو�ضوعات هذا اجلزء من «الأديب»‬ ‫الذي يجمع ‪ -‬كما ترون ‪ -‬بني طرائف القدمي ونفائ�س احلديث‪ ،‬مما ن�شر �أو مل ين�شر‪ ،‬يف �شتى‬ ‫الفنون وال�ش�ؤون»‪.‬‬ ‫«و�إذا كان لنا ما نقوله‪ ،‬ونحن يف املرحلة الأوىل من عملنا‪ ،‬فهو �أن ن�س�أل جمهرة القراء م�ساعدتنا‬ ‫على �إجناح هذا العمل‪ ،‬كي ت�صبح «الأديب» جملة القراء الذين يطالعونها كما هي جملة الك ّتاب‬ ‫الذين ين�شئونها ‪ ،‬واهلل من وراء الق�صد»‪.‬‬ ‫يقول �ألبري �أديب يف العدد الأخري من ال�سنة االوىل ل�صدور املجلة ( يف �سنة ‪ )1943‬ما يلي‪:‬‬ ‫«بهذا العدد تو ّدع «الأديب» �سنتها االوىل وت�ستقبل ال�سنة الثانية‪ .‬ال �شك �إنك قد �شعرت �أيها‬ ‫القارىء الكرمي مبدى اجلهود التي نبذلها لنتغ ّلب على العقبات التي ال ّبد �أن تالقيها االعمال‬ ‫الأدبية يف مثل هذه الظروف‪.‬‬ ‫ولي�س لنا م�سافة ما ن�شكوه‪ ،‬ف�إن الت�شجيع الذي �صادفناه يف خمتلف الأقطار العربية خلري حافز‬ ‫لنا على امل�ضي قدماً‪ ،‬ولي�س � ّ‬ ‫أدل على هذا الت�شجيع من امل�ساهمة الأدبية التي تك ّرم بها علينا‬ ‫االدباء يف كل قطر عربي‪ ،‬ولنا �أمل يف املزيد‪ .‬ف�إذا جنحت «الأديب» ب�أن تظل �صوتاً للأدب والفكر‬ ‫واملبادىء القومية ال�صحيحة يف الأقطار العربية يف هذه الفرتة التي ّقل فيها االن�صراف اىل االدب‬ ‫جد �سعداء‪ .‬ولكن ذلك يتوقف عليك‪� ،‬أيها الأديب العربي‪ ،‬كما يتوقف علينا‪،‬‬ ‫ف�إننا لنعترب �أنف�سنا ّ‬ ‫ويتوقف عليك �أيها القارىء الكرمي �أي�ضاً‪ ،‬ف�إن «الأديب» مل تبلغ ما بلغت �إال مبعا�ضدتك املعنوية‬ ‫واملادية‪ ،‬وهي مكملة �سريها يف طريق التقدم‪ ،‬معتمدة عليك وح�سب»‪.‬‬ ‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬


‫‪120‬‬

‫ويقول ال�شيخ عبداهلل العاليلي يف عدد �شهر كانون الثاين‪ ،‬يف ال�سنة اخلام�سة‪ 1946 ،‬حتت عنوان‬ ‫«�أعداء الوطن هم �أدعياء الوطنية» ما يلي‪:‬‬ ‫«لقد �أردنا «الأديب» ر�سالة‪ ،‬ور�سالة انفطار جديد‪ ،‬فم�ضت عاملة مطمئنة‪ ،‬غري ثابتة �أو حافلة‪ ،‬مبا‬ ‫قد �أقيم لها وما �سوف يقام لها‪ .‬فهي ت�ستلهم عنا�صر خالدة‪ ،‬تثبت يف �أ�صول طبيعة عربية خالقة‪،‬‬ ‫�أعطت االبداع �أول ما �أعطت‪ ،‬و�أنها وراء م�ستوفز حركتها ‪ -‬رغم اجلاحدين الآفنني ‪� -‬سوف تخط‬ ‫غاية ابداع جديد‪ ،‬لوجه ان�سانية جديدة‪.‬‬ ‫م�ضت «الأديب» ت�شق الطريق �صعداً‪ ،‬هادرة حيناً وهادئة حيناً‪ .‬وهي بني قوة من هديرها ووعي‬ ‫من هدوئها‪ ،‬تبني وتعلي يف ذيالك البناء‪ ،‬كما متيل فتم�س ما اخلولق بالهدم‪ ،‬فان يف بع�ض من‬ ‫معنى الهدم لكثرياً من معنى البناء فالهدم ‪� -‬أي الثورة الفكرية ‪ -‬رجة عنيفة مت�س االفئدة‬ ‫والعقول‪ ،‬فتنبعث فيها تيارات مطورة جديدة تختلف قوة و�ضعفاً‪ ،‬وال تخلو مالب�ساتها عن تغيري‬ ‫يف ارتكاز الآفاق العامة للأو�ضاع �أو تعديل يف ال�سنن املفرو�ضة‪ .‬وال �شك يف �أن عملية البعث التي‬ ‫ت�ستنها الثورة‪ ،‬ثم ما توايل به من �ضروب االلوان والت�شكالت‪ ،‬تعد الكائن يف خا�صيانة النف�سية‬ ‫ويف حاالت اجتماعية ل�شيء جديد‪.‬‬ ‫و«الأديب» �أغ�ضبت‪ ،‬يف اجتاه غايتها‪ ،‬قوماً ع�ش�شوا يف الطلل املخلولق‪ ،‬الذي �آن�سوه يف �أنف�سهم‬ ‫حبوراً‪ ،‬و�أروه للنا�س ب�إفكهم ق�صوراً‪ ،‬فنرثوا ال�صعاب بني يديها ومن �أمامها‪ .‬ولكن «الأديب»‬ ‫م�ضت جاهدة �صابرة‪ ،‬وم�ستعلية قاهرة‪ .‬وكانت تعزيتها ‪ -‬رغم ما اتهمت به كله ‪ -‬كلمة «رينان»‬ ‫حينما قال يف ذكرى �سبينوزا ‪ -‬و�أ�شار �إىل النافذة التي كان يطل منها‪ ،‬وكانت رمز التجديف �إىل‬ ‫زمن غري بعيد ‪ -‬لعل اهلل كان �أقرب �إىل هذه النافذة من �أي مكان �آخر‪.‬‬ ‫وماذا �أخذوا عليها؟ �أخذوا عليها �أنها �آمنت وكفروا‪ ،‬و�أنها �أخل�صت ومانوا‪ ،‬و�أنها جدت وعبثوا‪،‬‬ ‫و�أنها جتردت وانتهزوا‪ .‬ولكن «الأديب» لن تغ�ضي‪ ،‬وهى ترى ك ّال يذوب وفردية تتحكم‪ ،‬ولن‬ ‫تعدل عن حتديها‪ ،‬وهي ترى الدائرة تذوب كلها يف نقطة‪ ،‬واملعروف يف املنطق الريا�ضي‪ ،‬ان النقطة‬ ‫ت�صحح احلط الدائري وال تبتلعه‪.‬‬ ‫مرت «الأديب» �إىل �سنتها اجلديدة‪ ،‬وهي جتاهد وجتالد‪ .‬جتاهد ب�سبيل الغاية التي قد�ستها‪ ،‬وجتالد‬ ‫ال�صعاب التي نرثت بني يديها‪ ،‬وما نرثها اال اولئك الذين غرروا بالنا�س‪ ،‬ف�أحلوهم حمل الزعامة‬ ‫من �أنف�سهم‪.‬‬ ‫ولكننا نقول لل�شعب ‪ -‬وال�شعب هو الكل ال�صالح ‪� -‬إن حاجتك �إىل زعيم غ�سل نف�سه من االنانية‬ ‫يف الوطن فال ي�ست�أثر به‪ ،‬وتوافر لديه ال�شعور بالواجبات فال يغفل عنك‪.‬‬ ‫و�أما �أولئك الذين تعرفهم‪ ،‬فاحذرهم لأنهم جتار يبحثون من وراء الزعامة عن �سوق ل�سلعهم‪ ،‬وعن‬ ‫منهل عذب يربدون به حرقة �أنانيتهم الظامئة‪.‬‬


‫الأديب جملة �أدبية لبنانية م�شرقية‬

‫حتوالت �أدبية‬

‫‪121‬‬

‫نحن ال نعرف االر�ستقراطية �إال يف الوطنية واخلدمة العامة واالنتاج املثمر‪ ،‬ف�أي امرىء كان‬ ‫�أكرث وطنية � ّأي �أكرث خدمة و�أكرث جهاداً وانتاجاً‪ ،‬فهو االر�ستقراطي فينا‪ ،‬و�أما كل ما وراء ذلك‬ ‫فل�صو�صية اجتماعية ال نغتفرها‪ .‬على �أن الأمة �إذا ا�ستفاقت ال بد �أن تن�شر قانون اجلزاء الوطني‪،‬‬ ‫وتنطق على ل�سانها العدالة‪.‬‬ ‫يجب �أن تعلم ‪ -‬واملجتمع كالكائن احلي بدون قيا�س الفارق ‪� -‬أن ميزة الع�ضو ال مبقدار ما ميلك‬ ‫من الدم‪ ،‬بل مبقدار ما يحرق منه ويجهد ب�سبيل الأع�ضاء االخرى‪ ،‬فالدماغ والقلب رمبا كانا �أفقر‬ ‫االع�ضاء بالدم كمح�صول ولكنهما �أ�شرف ما يف االن�سان‪ ،‬فاالول يحرق ل�ضياء الفكر والثاين‬ ‫يجهد لبقاء احلياة‪.‬‬ ‫�أيها ال�شعب‪ :‬الزعيم والأمة �شيئان‪ ،‬ولكن الزعيم من الأمة‪ ،‬فلم يبق �إال الأمة وحدها فقط ف�إذا‬ ‫فكر بنف�سه دونها �أو معها ‪ ،‬فقد �سقط خائنا وعاد �شخ�صا مزرياً‪.‬‬ ‫�أكرب اال�ضرار �أن تكون الأمة بدون زعيم‪ ،‬و�أكرب الأخطاء �أن تعفل الأمة عن تخري بالزعيم‪،‬‬ ‫فلتنتخب الأمة زعيماً‪ ،‬ولكن لتحذر جيدا كي ال ينقلب االنتخاب انتحاباً»‪.‬‬ ‫من هو �ألبري �أديب‪ ،‬وما هي �سريته االدبية واالعمال التي قام بها و�أجنزها يف حياته؟‬ ‫ولد �ألبري �أديب يف املك�سيك �سنة ‪ ،1908‬من �أبوين لبنانيني‪� .‬أر�سله والده عندما بلغ اخلام�سة من‬ ‫عمره‪ ،‬مع �أمه ليقيم عند جده بطر�س ديب يف دير القمر بلبنان‪ ،‬لتلقي العلوم العربية‪ ،‬ثم دخل‬ ‫مدر�سة «الفرير» وظل فيها �إىل العام ‪ ،1918‬ثم انتقل �إىل املدر�سة املارونية يف القاهرة لإتقان اللغة‬ ‫العربية العالية ف�أم�ضى فيها �ست �سنوات‪ ،‬ثم دخل اجلامعة امل�صرية لدرا�سة التجارة واحلقوق‬ ‫فف�شل فيهما وطرد من كلية احلقوق ب�سبب قيادته �إحدى املظاهرات‪� .‬أخذ يرا�سل «اجلريدة‬ ‫التجارية امل�صرية»‪ ،‬وكتب يف جملة «الرقيب» وعمل يف جملة «الروايات امل�صورة» وجملة «اال�سبوع»‬ ‫البراهيم عبد القادر املازين‪ ،‬وا�شرتك يف التظاهرات الوطنية امل�صرية‪ ،‬وكان اجتاهه عربياً بحيث �أثار‬ ‫حفيظة تالميذ املدار�س لال�شرتاك يف الأعمال الوطنية متخذا مواقف �إيجابية منها‪.‬‬ ‫�سافر �إىل ال�سودان يف عام ‪ 1927‬وعمل يف جملة «ح�ضارة ال�سودان» لثالث �سنوات‪ ،‬ثم عاد �إىل‬ ‫لبنان فعمل يف جريدة «النداء» ثم تركها يف عام ‪ 1931‬حيث عمل يف جملة «املعر�ض»‪ .‬ويف عام‬ ‫‪ 1938‬كلف بان�شاء «راديو ال�شرق» فبقي يعمل فيها‪� ،‬إىل �سنة ‪ 1943‬حيث عينّ رئي�ساً الكادميية‬ ‫املو�سيقى ال�شرقية‪ ،‬ثم عمل يف جريدة «املك�شوف» ثم عكف على �إ�صدار جملة «الأديب» التي‬ ‫ا�ستمرت من �سنة ‪ 1942‬اىل �سنة ‪ ،1983‬وا�ضطر �إىل نقل مكاتب املجلة عدة مرات من بناية‬ ‫اللعازارية �إىل باب �إدري�س‪ ،‬ثم �أ�صدرها من بيته‪ ،‬ثم من بيت ابنته يف ر�أ�س بريوت‪ ،‬وكان برغم‬ ‫�ضعف نظره يلج�أ �إىل كتابة عناوين امل�شرتكني بقلم «الفلوما�سرت» بخط كبري ووا�ضح لعدم الوقوع‬ ‫يف اخلط�أ‪.‬‬

‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬


‫‪122‬‬

‫وكان ي�ضع مكربين كهربائيني الواحد فوق االخر لي�ستطيع القراءة والكتابة‪ .‬وكان الدكتور فوزي‬ ‫عطوي ي�ساعده يف بع�ض االحيان يف ترتيب املواد التي ت�صله قبل دفعها �إىل املطبعة‪ .‬وتوقفت‬ ‫املجلة نهائياً عن ال�صدور يف عام ‪ 1983‬ب�سبب تعر�ض منزله ومكتبه للق�صف الع�شوائي �إبان احلرب‬ ‫اللبنانية‪ ،‬فا�ضطر �إىل االنتقال �إىل بريوت الغربية‪ ،‬لي�سكن مع ابنتيه ندى وهدى يف منطقة احلمراء‬ ‫ ر�أ�س بريوت تاركاً �أوراقه ور�سائله ومكتبته وثالثة واربعني جملداً من «الأديب» وكتباً �أدبية‬‫خمطوطة‪ ،‬وكتاباً �شعريا خمطوطاً‪ ،‬عر�ضة لل�سرقة والنهب‪ .‬وله درا�سات منها‪:‬‬ ‫توفيق يو�سف عواد والق�صة ‪ .‬وعا�ش بعد ذلك بعيداً عن جملته وكتبه �إىل �أن وافته املنية يف ‪26‬‬ ‫�أيلول �سنة ‪ 1985‬يف منزل ابنته يف ر�أ�س بريوت‪.‬‬ ‫خال�صة الكالم‪� :‬أن جملة «الأديب» كانت �سج ًال �أدبياًحاف ًال للحركة الثقافية يف لبنان والوطن‬ ‫العربي‪ .‬وكان لكبار الك ّتاب وال�شعراء العرب مرا�سالت ومقاالت مع هذه املجلة‪ ،‬ومن ال�شعراء‬ ‫الذين را�سلوها وكتبوا فيها �أعذب ق�صائدهم‪ ،‬نذكر على �سبيل املثال‪ :‬يو�سف اخلال وعيد الوهاب‬ ‫البياتي ونازك املالئكة و�أحمد ال�صايف النجفي وبلند احليدري و�صفاء احليدري وبدر �شاكر ال�سياب‬ ‫ونزار قباين وعبد القادر ر�شيد النا�صري و�صالح اال�سري واليا�س �أبو �شبكة وغريهم‪ .‬ففيها ن�شرت‬ ‫�أوىل ق�صائدهم كما ن�شر البري �أديب ق�صائد جديدة من جمموعته ال�شعرية «ملن» التي �صدرت عن‬ ‫دار املعارف‪ ،‬مب�صر‪ ،‬يف عام ‪.1952‬‬ ‫كان لوفاة البري �أديب رنة ا�سى وحزن وغياب بعيد الأثر ‪ -‬اذ كانت حياته �صفحة م�ضيئة م�شرقة‬ ‫يف �سبيل حرية الكلمة ‪ ،‬واملبادىء القومية‪ ،‬وال�سرية احل�سنة ‪ ،‬واالخالق الرفيعة‪ ،‬والتوا�ضع ا ّجلم‪.‬‬ ‫عا�ش البري �أديب حياته ا ّبي النف�س‪ ،‬ال ير�ضى ب�أن متده دولة باملال‪� ،‬أو يعطيه �أحد رجال ال�سيا�سة‬ ‫م�ساعدة مادية‪� ،‬أو يتعهد نتاجه �أحد‪ ،‬فبقيت موارد املجلة يف نطاق مواردها ال�شريفة‪� ،‬ضئيلة‪ ،‬يف ظل‬ ‫االو�ضاع املادية املرتد ّية‪ .‬اعرتف الدكتور �سهيل ادري�س ‪� -‬أحد تالميذ جملة «الأديب» ‪� -‬صراحة‬ ‫مبكانة هذه املجلة‪ ،‬بالرغم �أنه �أ�صدر جملة «الآداب» التي راحت تناف�س جملة «االديب» يف وقت‬ ‫من االوقات‪.‬‬ ‫قال‪:‬‬ ‫«�أول ما ن�شرت من نتاجي ن�شرته على �صفحات «الأديب»‪ .‬كنت �أكتب عرو�ضاً نقدية ومقاالت‬ ‫ولكن عندما �صدرت «الآداب» انقطعت عالقتي ب�صاحب الأديب فهو كانت لديه �آراء خمالفة‬ ‫ملا ا�ستجد لدينا نحن كجيل جديد يطمح �إىل الدخول يف مغامرة جديدة على �صعيد االبداع‬ ‫والنقد الأدبي‪ ،‬وما دار على �صفحات «الآداب» من م�ساجالت نقدية وفكرية ما كان ليدور على‬ ‫�صفحات «االديب» يف ذلك الوقت‪ .‬فالرجل كان يف�ضل �أن يبقى يف من�أى عن ال�صراعات‪ ،‬ولكن‬ ‫«الأديب» �أدت ق�سطها الوافر والكبري يف ن�شر االبداع الأدبي وت�شجيع املبدعني وكلنا خرجنا من‬ ‫معطفها»‪.‬‬


‫الأديب جملة �أدبية لبنانية م�شرقية‬

‫حتوالت �أدبية‬

‫‪123‬‬

‫وقال فيه الأديب وامل�ؤرخ عي�سى فتوح‪:‬‬ ‫«لقد ظ ّلت جملة «الأديب» على مدى �أربعة عقود ونيف املجلة الوحيدة الر�صينة التي تعتمدها‬ ‫املكتبات الوطنية ودوائر اال�ست�شراق يف العامل وت�سعى �إىل طلبها واقتنائها‪ ،‬نظراً لعراقتها ومكانتها‬ ‫الرفيعة‪ ،‬و�أبحاثها القيمة واعتدال لهجتها واتزان كل ما ين�شر فيها‪ ،‬فقد كان �ألبري �أديب يزن كل‬ ‫مادة ت�صله مبيزان دقيق وح�سا�س ال بتع�صب جلن�س ادبي �آخر �أو لطريقة يف النظم دون �أخرى كل‬ ‫ما كان يهمه هو اجلودة قبل كل �شيء ‪.‬فن�شر جميع االنواع ال�شعرية‪ :‬ال�شعر العمودي وال�شعر احلر‬ ‫لكن ال�شرط الوحيد هو التميز والفرادة»‪.‬‬ ‫ونظم ال�شاعر ريا�ض املعلوف �أبياتاً مبنا�سبة بلوغ «الأديب» عامها الأربعني‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫فك�أنه طي الدجـــى قنديــــل‬ ‫ ‬ ‫قلم به نور العيــــــون ي�سيــــل‬ ‫حمـرراً‬ ‫تلك ال�صحائف د�أبك التحليل‬ ‫ ‬ ‫�أفـنيت عمـرك والعيـون ّ‬ ‫وبها ا�ستنار من الثقـــافة جيـل‬ ‫ ‬ ‫تلك احلروف ك�سوتها دم مهجـة‬ ‫جاهدت فيهـا اجلهـاد طويــــل‬ ‫ ‬ ‫الأربعـون من ال�سـنني ت�ص ّرمـت‬ ‫وقال فيه �صديقه د‪.‬علي �شلق بعد وفاته يف جريدة «ال�سفري» بتاريخ ال�سبت ‪� 28‬أيلول �سنة ‪:1985‬‬ ‫«ويف هذا الزمن‪ ،‬ومن املكان املطحلب بالطني والدم وال�صديد‪ ،‬حزم �ألبري �أديب حقائبه و�سافر‬ ‫وحيداً يف قطار الوح�شة‪ ،‬واملر�ض‪ ،‬والرعب �إىل مدينة الذكريات‪ ،‬ومل يجد على الر�صيف واحداً‬ ‫ممن كانوا يتهافتون على جمل�سة االني�س يف بار م�سعود‪ ،‬ومنزله بفرن ال�شباك»‪.‬‬ ‫وختم �شلق مت�أ�سفا على رحيله‪« :‬فيا رفيق ال�سنني‪ ،‬وحبيب الروح‪ ،‬ح�سبك الغار املن�ضود �أبداً‬ ‫على تاج ا�سمك‪ ...‬واملجد الذي رفت قبابه �إىل مطارح النجوم‪ ،‬وللج ّر والورق زهو كلما الحت‬ ‫م�آتيك اخلالدة من وجوه الأيام‪ ،‬وجلدتك املطهر �أكاليل من زهر القلوب‪ ،‬والآداب ال ينطفىء‬ ‫عبريها على مدى الزمان»‪.‬‬ ‫احتفل العامل العربي بيوبيل «الأديب» الف�ضي يف االوني�سكو يف عام ‪ 1970‬يف �صالة وزارة الرتبية‬ ‫الوطنية يف بريوت‪ ،‬ونال عدة �أو�سمة وتناويه ور�سائل �شكر وثناء من كل الأقطار العربية‪ .‬ومن‬ ‫جميع الأدباء وال�شعراء يف بريوت والعامل العربي الذين �أثنوا على م�سرية «الأديب» و�إغنائها‬ ‫النه�ضة العربية والفكرية‪.‬‬ ‫كما �أقام املجل�س الثقايف للبنان اجلنوبي بتاريخ اجلمعة ‪ 1985/11/8‬ندوة تكرميية يف �أربعة �أ�صوات‬ ‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬


‫‪124‬‬

‫«حتية وفاء �إىل �ألبري �أديب «�شارك فيها كل من‪ :‬د‪ .‬علي �سعد و�أحمد �سويد وحممد عيتاين وحممد‬ ‫دكروب‪ ،‬وقدم للندوة اال�ستاذ حبيب �صادق‪ .‬وقد تكلم املنتدون عن ر�سالة �ألبري �أديب والفر�ص‬ ‫التي قدمها للنا�شئني �أ�صحاب املواهب الأدبية‪ ،‬وكيف �أن جملة «الأديب» كانت امتدادا ملجلة‬ ‫«املك�شوف» التي اكدت على الأدب والثقافة والفكر‪ .‬وكانت املجلة‪ ،‬ت�صدر بجهد رجل‪ ،‬و�سردوا‬ ‫ذكرياتهم مع �صاحب «الأديب» الذيك كان له �أ�سلوبه اخلا�ص بالتعاطي مع الأدب والأدباء تعاطياً‬ ‫ممتازا‪ ،‬وخلق املواطن ال�صالح امل�سلح باملعرفة والعلم والثقافة‪.‬‬ ‫رحم اهلل �صاحب جملة «الأديب» الذي عرفته يف �أواخر �أيامه‪ ...‬يوم كان ي�صدر «الأديب» يف‬ ‫�إحدى بنايات �شارع طريق ال�شام‪ ،‬يف الطابق الثاين‪ ،‬يف بناية قدمية العهد‪ ،‬وكانت تعاونه يف بع�ض‬ ‫الأحيان ابنته ال�شاعرة بالفرن�سية هدى‪.‬‬ ‫انتقل �ألبري �أديب �إىل جوار ربه ولكن «الأديب» بقيت بني �أيدي القراء مرجعاً مهماً لكثري من‬ ‫املوا�ضيع الأدبية والتحقيقات الفكرية والق�صائد اجلديدة‪ .‬لقد توقفت هذه املجلة عن ال�صدور‪،‬‬ ‫خملداً‪ .‬و�ستبقى «الأديب» مرجعاً وم�صدراً‬ ‫وتوقف نب�ض كاتبنا و�شاعرنا املجيد ولكن ا�سمه بقي ّ‬ ‫من م�صادر العلم والثقافة واملعرفة والأدب‪ ،‬وم�شع ًال ح�ضارياً راقياً‪ ،‬يعود �إليها الباحثون والدار�سون‬ ‫واملهتمون ب�ش�ؤون الأدب حلقبة تاريخية علمية فكرية من تاريخ الأدب العربي احلديث وفكره‬ ‫املعا�صر‪.‬‬


‫‪125‬‬

‫حتوالت �أدبية‬

‫حاوي‪� :‬سرية وثائقية‬ ‫| حممود �شريح | م�ؤرخ �أدبي وناقد‬

‫كان لن�ش�أة حاوي يف ال�شوير و�ضهورها �أثر بالغ يف �صوغ تركيبه النف�سي وغوره الفكري‪ .‬ففي هذه‬ ‫القرية الوادعة حتت ّ‬ ‫ظل �صنني ت�شرب رومان�سية حاملة ا�ستحالت رمزية واقعية‪ .‬وهناك ان�ضوى‬ ‫حتت بريق احلزب ال�سوري القومي االجتماعي ثم تعرف على م�ؤ�س�سه ووا�ضع د�ستوره �أنطون‬ ‫لتبحره يف العقيدة‪.‬‬ ‫�سعاده فرافقه وكان الحقاً �أحد حرا�سه فمق ّرباً منه ّ‬ ‫ميكن للباحث �أن ينظر �إىل �سرية حاوي على مدى ثالثة و�ستني عاماً منق�سمة �إىل �أربع مراحل‬ ‫�أ�سا�سية‪:‬‬ ‫‪ . 1‬من ‪ 1919‬اىل ‪ 1933‬حني كان مد ّلل ًال هانئا يف رفقة والديه وعطف �أمه �سليمة عطايا حتديداً‪.‬‬ ‫‪ . 2‬من ‪ 1934‬اىل ‪ 1946‬حني انت�سب �إىل احلزب القومي وامتهن العمل اليدوي املرهق‪.‬‬ ‫‪ . 3‬من ‪ 1946‬اىل ‪ 1959‬حني عاد �إىل الدر�س والبحث يف بريوت وكيمربدج‪.‬‬ ‫‪ . 4‬من ‪ 1959‬اىل ‪ 1982‬حني كان حما�ضراً يف الدائرة العربية يف اجلامعةاالمريكية يف بريوت‪ .‬وهي‬ ‫مرحلة حرية و�أرجوحة �شك ويقني‪.‬‬ ‫هذه هي مراحل حاوي الأربع على ظهر هذه الفانية‪� ،‬أما تفا�صيل حياته الدقيقة فهي على النحو‬ ‫التايل‪:‬‬ ‫‪� 1919/12/31‬أب�صر خليل حاوي النور يف قرية ُالهو ّية‪ ،‬يف حوران يف �سوريا‪ ،‬حيث عمل والده يف‬ ‫والدي حاوي يف جبل لبنان‪.‬‬ ‫العمار والتوريق والتطيني وهي مهنة ا�شتهر بها �أهايل ال�شوير م�سقط ر�أ�س ّ‬ ‫يف ربيع ‪ 1920‬عادا به �إىل ال�شوير حيث ن�ش�أ طف ًال مدل ًال يف كنف والديه‪ .‬د ّر�سته �أمه وهو �صغري‪.‬‬ ‫‪ 1925‬دخل مدر�سة املعلمة ملكة (املدر�سة الإجنيلية ال�صغرى يف ال�شوير) وبرع بني رفاقه وحفظ‬ ‫املزامري عن ظهر قلب‪ .‬وهناك �أتقن خليل القراءة والكتابة واملبادىء االوىل من علم احل�ساب‬ ‫وقرمزات من اللغة الفرن�سية واالجنليزية‪.‬‬ ‫‪ 1928‬انتقل خليل �إىل املدر�سة الي�سوعية التي كان يقوم عليها الآباء الي�سوعيون الذين يفدون‬ ‫�إىل ال�شوير من بكفيا‪ .‬فدر�س يف جماين الأدب للأب لوي�س �شيخو وامل�شّ وق‪ .‬وخرب الق�صا�ص‬ ‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬


‫‪126‬‬

‫نف�سي حني رف�ض �أن يردد �أن الهراطقة هم االرثوذك�س‪ ،‬وهو‬ ‫ال�شديد من �ضرب مربح وتعذيب ّ‬ ‫يف العا�شرة من عمره‪ ،‬ومتادى يف الرف�ض فحمل الكاهن ق�ضيباً من الر ّمان وانهال به على خليل‬ ‫�ضد كل طاغ بالفكر واالرادة‪.‬‬ ‫ف�أثرت تلك احلادثة فيه طوال حياته من ناحية الع�صيان ّ‬ ‫‪ 1929‬نقل خليل �إىل املدر�سة الوطنية العالية التي ي�سميها بع�ض �أبناء ال�شوير «مدر�سة عني‬ ‫الق�سي�س» وكانت كربى املدار�س يف منطقة ال�شوير و�ضهورها‪ .‬يف هذه املدر�سة برع خليل يف‬ ‫احلطابة وكان ينال جائزتها االوىل كل عام‪ .‬لكن مر�ض والده يف مطلع الثالثينات دفعه �إىل ترك‬ ‫املدر�سة طلباً للعمل لإعالة والديه واخوته فت ّعلم مهنة اال�سكافية يف حانوت املعلم فيليب توما يف‬ ‫ال�شوير‪ ،‬ثم انتقل �إىل العمل عند املعلم اال�سكايف توفيق �أنطون‪ ،‬وملّا �أتقن املهنة تدرج عند معلمني‬ ‫�آخرين ف�ضمن حياة كرمية لأهله‪ ،‬بيد انه مل ينقطع عن التوحد والت�أمل ونظم ال�شعر الزجلي عند‬ ‫ال�صرفد‪.‬‬ ‫عني ّ‬ ‫‪ 1937-1933‬عكف خليل على العمل يف كرم لأهله ّفجدد دواليه واعتنى بها وما عتم �أن غدا‬ ‫�أف�ضل مق ّلمي الكروم يف البلدة‪ .‬ثم �إنه كان ووالدته يزرعان البندورة واخل�س والبقدون�س والنعناع‬ ‫واخليار واحلبق والفرفحني يف «بيدر» العائلة‪ ،‬و ّتوج «هند�سته الزراعية» بتقليم �شجر ال�صنوبر وفرطه‬ ‫يف اخلريف وجمع �أكوازه ثم تركها حتى ال�صيف حني ت�شم�س وتفقى وتك�سر‪ ،‬فيبني فيها القلب‬ ‫ال�صنوبري الأبي�ض الغايل الثمن‪.‬‬ ‫ويف هذه الفرتة بالذات �أخذ خليل ن�شر �شعره الزجلي يف جملة العرائ�س التي كان ي�صدرها‬ ‫عبداهلل ح�شيمة من بكفيا‪ ،‬ويلقيه يف منا�سبات البلدة �أمام اهلها‪ .‬وكان ي�ؤم املظاهرات الوطنية‬ ‫وينظم �شعراً يردده املتظاهرون كما جرى حني قام �أبناء ال�شوير مبظاهرة مطالبني �سلطات االنتداب‬ ‫الفرن�سي باالعا�شة فقال يف ر ّدة‪:‬‬ ‫بدنــا ناكـل جوعـــانني‬ ‫بدنا خبز بدنـا طحني ‬ ‫وحمــرومني الإعــا�شي‬ ‫ما عنـا �شغل ما�شي ‬ ‫اللي جناحاتا مق�صو�صني‬ ‫�صرنـا مثل الفرا�شي ‬ ‫ثم �إن احلاجة �أكرهت خليل على العودة �إىل العمل اليدوي من جديد‪ ،‬فعمل يف الورقة‪� ،‬أي يف‬ ‫«تلبي�س» الباطون على جدران املنازل الداخلية‪ ،‬ويف تكحيل اجلدران اخلارجية‪ ،‬وكانت هذه املهنة‬ ‫تقت�ضي منه ت�سلق اجلدران وك�سوها بالطني‪.‬‬ ‫‪ّ 1934‬تعرف خليل على انطون �سعاده وان�ضم �إىل احلزب ال�سوري القومي االجتماعي وتوثقت‬ ‫ال�صالت الفكرية والروحية بينهما‪.‬‬ ‫‪� 1940 - 1938‬أ�صبح حاوي م�س�ؤو ًال عن مديرية ال�شوير يف احلزب القومي‪.‬‬ ‫‪ 1941 - 1940‬التحق بخاله يف الغور ال�صايف وعمل معه هناك يف �شركة البوتا�سيوم على �ضفاف‬


‫حاوي‪� :‬سرية وثائقية‬

‫حتوالت �أدبية‬

‫‪127‬‬

‫البحر امليت وعاد �إىل لبنان ومعه خم�سون لرية فل�سطينية‪.‬‬ ‫‪� 1944 - 1942‬أ�شرف على بع�ض ور�شات وم�ستودعات اجلي�ش الربيطاين‪.‬‬ ‫‪ 1945‬ع ّلم نف�سه الفيزياء والكيمياء والريا�ضيات‪.‬‬ ‫‪ 1946‬نال ال�شهادة الثانوية «الهاي �سكول»‪.‬‬ ‫‪ 1946‬هجر العمل اليدوي وعاد �إىل الدرا�سة املنظمة يف كلية ال�شويفات الوطنية‪.‬‬ ‫‪� 2‬آذار ‪� 1947‬شارك يف ا�ستقبال �سعادة العائد من املهجر‪.‬‬ ‫ت�شرين االول ‪ 1947‬دخل اجلامعة االمريكية يف بريوت‪.‬‬ ‫‪ 1948‬اختلف �إىل حما�ضرات �سعادة الع�شر وندواته‪.‬‬ ‫‪ 1948‬يف اجلامعة �سكن خليل ي�أكل يف مطاعمها وينام يف غرفتها ويختلف �إىل حما�ضرات‬ ‫املجلني‪ .‬و�سرعان ما انخرط يف �سلك العاملني يف �إ�صدار جملة «العروة الوثقى»‪ ،‬ون�شر‬ ‫�أ�ساتذتها ّ‬ ‫فيها �أوىل ق�صائده يف الف�صحى‪ .‬وتع ّرف �إىل القوميني العرب يف اجلامعة‪ .‬وحر�ص على ح�ضور‬ ‫بع�ض الدرو�س التي كان يعطيها �سعيد عقل يف مدر�سة الآداب العليا‪ .‬ويف اجلامعة االمريكية‬ ‫در�س حاوي العربية على جربائيل ّجبور و�أني�س فريحة و�إ�سحاق مو�سى احل�سيني‪ ،‬والفل�سفة على‬ ‫ريت�شارد �سكوت‪ .‬ومال بت�أثري �أحداث فل�سطني وبدء االنقالبات يف �سوريا �إىل رفقة دعاة القومية‬ ‫العربية يف �صفوف طالب اجلامعة (منح ال�صلح‪ ،‬ف�ؤاد النمري‪� ،‬سالمة عبيد)‪ ،‬لكنه بقي متحم�ساً‬ ‫لرئي�س احلزب ال�سوري القومي االجتماعي‪ ،‬وظل يرافقه يف نزهاته داخل حرم اجلامعة‪.‬‬ ‫‪ 1949‬وجد خليل يف �إعدام �سعاده (‪ )1949/7/8‬منكراً طا�شت �ألبابه �أثره وكان يخيل �إليه �أنه‬ ‫غادر الزعيم �إبان حمنته‪ ،‬فهام يف الطرقات والرباري‪ ،‬و�أخذ يتلو على رفاقه القدامى واجلدد ق�صائد‬ ‫نظمها يف �إعدام �سعادة‪ ،‬فذاعت كل ذيوع وانت�شرت يف لبنان و�سوريا وبع�ض االردن‪.‬‬ ‫‪ 1951 - 1950‬ن�شب �صراع عقائدي بني حاوي ورئي�س احلزب القومي‪ ،‬جورج عبد امل�سيح‪ ،‬على‬ ‫ق�ضايا فل�سفية انتهى �إىل انف�صال حاوي عن احلزب‪.‬‬ ‫‪ 1952‬انتخب ع�ضواً يف جمل�س بلدية ال�شوير و�شغل هذا املن�صب حتى �سنة ‪ 1960‬بت�أييد من‬ ‫احلزب القومي فكان ممثله يف جمل�س بلدية ال�شوير‪.‬‬ ‫‪ 1955‬مع اغتيال املالكي وخروج احلزب من واجهة الأحداث يف �سوريا ب�أكملها‪ ،‬ان�شق احلزب‬ ‫�إىل جناحني‪.‬‬ ‫�أيار ‪� 1955‬أ�صدر حاوي ق�صيدة «الذرى البي�ضاء» يف جملة الآداب‪ ،‬تعبرياً يف نهاية جتربته يف‬ ‫احلزب رغم �إميانه مب�ؤ�س�سه‪.‬‬ ‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬


‫‪128‬‬

‫‪ 1955‬تخرج من اجلامعة االمريكية يف بريوت بدرجة ماج�ستري‪.‬حملت �أطروحته عنوان «العقل‬ ‫والإميان بني ابن ر�شد والغزايل»‪ ،‬وكتبها حتت �إ�شراف �إ�سحاق مو�سى احل�سيني‪.‬‬ ‫‪ 1956‬انتقل �إىل جامعة كيمربدج ودر�س على عميد امل�ست�شرقني �آربري‪ ،‬ف�أن�س به وان�صرف‬ ‫�إىل درا�سة �أدب ع�صر النه�ضة‪ ،‬فغذته مطالعاته يف هذا ال�ش�أن لي�ستمد كثرياً من الوقائع والرموز‬ ‫التي جت�سدت يف ديوانيه «نهر الرماد» و «الناي والريح»‪ .‬بيد �أنه كان يعاين وحدة داخلية‪ ،‬ف ّعرب عن‬ ‫معاناته تلك يف «حب وجلجلة»‪ .‬ويف كيمربدج توثقت �صداقته بال�شاعر توفيق �صايغ (‪- 1923‬‬ ‫‪ )1971‬الذي كان �آنذاك �أ�ستاذاً يف اجلامعة نف�سها‪ ،‬وتوطدت عالقته بديزي الأمري مع انتقالها �إىل‬ ‫لندن لإكمال علومها‪.‬‬ ‫�أيلول ‪� 1957‬أ�صدر يف بريوت ديوانه الأول «نهر الرماد» وهو جمموعة ق�صائد نظم بع�ضها يف‬ ‫كيمربدج فيما كان نظم بع�ضها االخر يف لبنان بني ‪ 1953‬و ‪ 1957‬عن دار جملة �شعر ومطبعة‬ ‫الريحاين‪ .‬قدمت للديوان �صديقته عفاف بي�ضون يف درا�سة نقدية رائدة‪� .‬أ�شرف حاوي بنف�سه‬ ‫على طباعة «نهر الرماد» يف دار الريحاين خالل �شهري �آب وايلول ‪ .1957‬وكان قد عاد من‬ ‫كيمربدج �إىل بريوت يف حزيران ليجمع م�صادر تعينه على كتابة �أطروحته عن جربان‪ .‬يف ربيع‬ ‫‪ 1957‬ن�شر حاوي ق�صيدة يتيمة يف جملة �شعر بعنوان «ال�سجني» ثم انقطعت ال�صلة نهائياً بينه وبني‬ ‫القائمني على �شعر‪ .‬يف ‪ 1957/8/31‬كتب حاوي من دار الريحاين يف بريوت ر�سالة �إىل توفيق‬ ‫�صايغ يف كيمربدج يعلمه فيها �أنه يتعنت «على النا�شر والطابع» لكنه يخ�شى �أن يكون ديوانه االول‬ ‫«نهر الرماد» فاحتة ال�شعر يف حياته وخامتته‪.‬‬ ‫‪ 1958‬كان لدخول احلزب القومي �إىل جانب النظام يف حرب ‪ 1958‬االهلية يف لبنان �أثره يف تر�سخ‬ ‫قطيعة حاوي مع حزبه القدمي‪ ،‬وكان العالن الوحدة بني م�صر و�سوريا يف ‪� 1958‬أن حتدث يف نف�س‬ ‫حاوي يقظة تطال بنية ق�صيدته‪ .‬وكان م ّهد لتحوله �إىل القومية العربية حني ر�سخ وجوده يف جملة‬ ‫الآداب فن�شر فيها بني نهاية ‪ 1953‬ونهاية ‪ 1957‬اثنتي ع�شرة ق�صيدة �شكل معظمها �أنا�شيد نهر الرماد‪.‬‬ ‫‪ 1961 - 1958‬ملا ات�سعت هوة اخلالف مع جماعة �شعر بعث حاوي من كيمربدج �إىل الآداب‬ ‫ب�أربع ق�صائد «وجوه ال�سندباد» (‪« ،)1958/1‬ال�سندباد يف رحلته الثامنة»‪« ،)1958/8-6( ،‬اجلزار»‬ ‫(‪« ،)1959/1‬الناي وريح الرمل يف ال�صومعة» (‪ .)1959/2‬وما �أن عاد يف ‪ 1959‬حما�ضراً �إىل‬ ‫اجلامعة االمريكية حتى كانت �شهرته قد �سبقته �إىل بريوت على �أنه �أحد �أركان احلداثة‪ .‬ثم ن�شر‬ ‫يف الآداب �ست ق�صائد «عند الب�صارة» (‪« ،)12/1960‬دعوى قدمية» (‪« ،)1961/6‬جنية ال�شاطىء»‬ ‫(‪« ،)1961/7‬اجلروح ال�سود» (‪« )1961/8‬الكهف» (‪« ،)1962/2‬لعازر» (‪ ،)1962/6‬وقد دفع‬ ‫حاوي ببع�ض هذه الق�صائد لتظهر يف ديوان «الناي والريح» عن دار الطليعة يف بريوت (‪.)1961‬‬ ‫‪ 1982 - 1959‬عمل حاوي حما�ضراً يف الدائرة العربية يف اجلامعة الأمريكية واتخذ م�سكناً قريباً‬ ‫من اجلامعة‪.‬‬


‫حاوي‪� :‬سرية وثائقية‬

‫حتوالت �أدبية‬

‫‪129‬‬

‫‪ 1962 - 1961‬هجرحاوي احلزب نهائياً �إثر حماولة احلزب االنقالبية يف لبنان‪.‬‬ ‫كانون الثاين‪ 1961‬ن�شريف الآداب مبحثه «اخللق الع�ضوي يف نظرية ال�شعر ونقده»‪.‬‬ ‫‪� 1965‬أ�صدر «بيادر اجلوع» عن دار الآداب تعبرياً عن م�أ�ساة العقم والفراغ والعجز عن تغيري‬ ‫الواقع الذي حتجر فيه الزمن وا�ستحالت فيه الدقائق اىل ع�صور‪.‬‬ ‫كانون الثاين ‪ 1971‬ن�شر يف الطريق مبحثه «ال�شعر واملوقف والفكرالفل�سفي»‪.‬‬ ‫�آذار ‪ 1971‬ن�شرق�صيدته «الأم احلزينة» يف الثقافة العربية يف بريوت‪.‬‬ ‫�آذار ‪ 1972‬ن�شر ق�صيدته «�ضباب وبروق» يف الآداب‪.‬‬ ‫�أيلول ‪ 1975‬ن�شر ق�صيدته «ر�سالة الغفران من �صالح �إىل ثمود» يف الثقافة العربية يف طرابل�س‬ ‫الغرب‪.‬‬ ‫نغّ�صت �أحداث احلرب االهلية حياة حاوي ودفعت به �إىل قنوط و�أ�سى فكان ديواناه االخريان‬ ‫«الرعد اجلريح» (‪ )1979‬و «من جحيم الكوميديا» (‪ )1979‬داللة وا�ضحة على تربمه مبا �آلت‬ ‫التطورات العربية واللبنانية ف�أدرك زوال نعيمه و�أح�س باختناق‪.‬‬ ‫‪� 1976‬سافر حاوي �إىل �أوروبا و�أمريكا وتون�س‪ .‬يف �أمريكا �أقام عند �أخيه �سامي �أ�ستاذ الفل�سفة يف‬ ‫جامعة «ميلواكي» يف والية «و�سكن�سن»‪.‬‬ ‫حزيران ‪� 1980‬أ�صدر مقالة «العقل واالميان يف احل�ضارة العربية» يف جملة الفكر العربي املعا�صر‬ ‫وكان من هيئة م�ست�شاريها‪.‬‬ ‫�آب ‪� -‬أيلول ‪� 1980‬أ�صدر مقالة « العقل واالميان يف احل�ضارة الغربية احلديثة» يف الفكر العربي‬ ‫املعا�صر‪.‬‬ ‫كانون االول ‪ - 1980‬كانون الثاين ‪� 1981‬أ�صدر مقالة «االميان ال�صويف يف مذهب الغزايل» يف‬ ‫الفكر العربي املعا�صر‪.‬‬ ‫‪� 1981‬أهدى ق�صيدة «الأ�صيل واملارق» �إىل �إح�سان عبا�س يف كتاب درا�سات عربية وا�سالمية‬ ‫مهداة �إىل �إح�سان عبا�س‪ ،‬حترير وداد القا�ضي‪ ،‬عن اجلامعة االمريكية يف بريوت ‪.1981‬‬ ‫‪� 1981‬أ�شرف على ترجمة اطروحته عن جربان وكان عهد بها �إىل �سعيد فار�س باز فن�شر منها‬ ‫ف�صلني قبل وفاته‪� ،‬أحدهما يف الفكر العربي املعا�صر بعنوان «النه�ضة والبحث عن الهوية (كانون‬ ‫االول ‪ - 1981‬كانون الثاين ‪ )1982‬وثانيهما يف الآداب بعنوان « حتليل ال�شكل واال�سلوب يف‬ ‫�أدب جربان (�أيار ‪ -‬كانون االول ‪ )1982‬و وكانت نينا جريج قد ترجمت ال�صفحات الأخرية من‬ ‫�أطروحته‪� ،‬أي خال�صة ر�أيه يف �أدب جربان و�أ�سلوبه وقيمته العامة‪ .‬وقد دقق ن�ص الرتجمة وراجعه‬ ‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬


‫‪130‬‬

‫حاوي بنف�سه (امل�صباح ‪� ،1981/6/5‬ص ‪� .)25-23‬أما الرتجمة كاملة ف�أجنزها �سعيد فار�س باز‬ ‫با�شراف حاوي ومراجعته‪ ،‬ف�صدرت بعنوان جربان خليل جربان‪� :‬إطاره احل�ضاري و�شخ�صيته‬ ‫و�آثاره (بريوت‪ :‬دار العلم للماليني ‪.)1982‬‬ ‫�شتاء ‪� 1981‬أقدم حاوي على حماولة انتخار بتناوله حبوباً منومة‪ .‬عولج يف م�ست�شفى اجلامعة‪.‬‬ ‫ا�ستعاد وعيه بعد �أن مت غ�سل معدته و�إنعا�شه‪ ،‬وهناك نظم ق�صيدة توجز حمنته‪:‬‬ ‫طال �صمتي‬ ‫من ترى ت�سمع �صوتاً �صارخاً يف �صمته‬ ‫ي�سمع �صوتي (‪)....‬‬ ‫فلأمت غري �شهيد‬ ‫غ�صة الإف�صاح يف قطع الوريد‪.‬‬ ‫مف�صحاً عن ّ‬ ‫‪ 1981‬نال حاوي من اجلامعة االمريكية لقب �أ�ستاذية ال�شعر «كر�سي مرغريت وايرهوزر جويت»‪.‬‬ ‫(‪.)Margaret Weyerhaeuser Jewett Professor of Arabic‬‬ ‫‪ 1982‬يف �أيار طلب من والدته �أن تهيء منزل العائلة يف ال�شوير لأنه كان يعتزم ق�ضاء ال�صيف‬ ‫يف قريته على مقربة من �صنني‪.‬‬ ‫‪ 1982/6/6‬اجتاحت ا�سرائيل لبنان‪� .‬أن�صت حاوي �إىل ن�شرة االخبار امل�سائية يف منزل �صديقه‬ ‫�شفيق عطايا‪� .‬أن�شد ق�صيدته «يف اجلنوب» ثم قال لرفيقه‪« :‬اجلنوب يف قلبي‪ ،‬من �سيمحو العار‬ ‫عني؟ الأف�ضل �أن �أنتحر»‪.‬‬ ‫قرابة العا�شرة والن�صف م�ساء لعلع �صدى ر�صا�صة يف ليل بهيم‪ .‬انتحر حاوي على �شرفة منزله‬ ‫املطلة على �ساعة اجلامعة باطالق النار على نف�سه من بندقية �صيد كان اقتناها يف �صباه‪ .‬رفعها‬ ‫قلي ًال �إىل �أعلى و�سددها �إىل دماغه و�ضغط زنادها‪.‬‬ ‫عل ملقى على �شرفة منزله‪ .‬حدثت جلبة يف �شارع‬ ‫‪ 1982/6/7‬يف ال�صباح �شوهد حاوي من ٍ‬ ‫اخلالدي ‪ -‬املكحول‪ .‬و�صلت ال�شرطة وقبلها �أم خليل التي �صرخت �صوتاً �شق عنان �سماء تزدحم‬ ‫بطائرات مغرية‪ .‬قال الطبيب ال�شرعي يف تقريره �أن الطلق الناري «دخل من الزاوية بني العني‬ ‫اليمنى والأنف‪ ،‬ففجر اجلمجمة وعظام اجلبهة‪ ،‬مما �أحدث نزيفاً داخلياً �سبب الوفاة‪ .‬ووجد و�شم‬ ‫بارودي وهذا ّ‬ ‫يدل على �أن �إطالق النار ح�صل من م�سافة قريبة‪ .‬نقلت اجلثة �إىل م�ست�شفى اجلامعة‬ ‫الأمريكية ‪.‬‬ ‫‪� 1982/6/9‬صلي على جثمان ال�شاعر يف كني�سة ال�سيدة االرثوذك�سية يف �شارع املكحول ثم‬ ‫�شيع يف ال�شوير �إىل مدافن �آل احلاوي‪.‬‬ ‫‪� 1983‬أعلن حممود دروي�ش يف مطولته «مديح الظل العايل» �أمام �أع�ضاء املجل�س الوطني‬


‫حاوي‪� :‬سرية وثائقية‬

‫حتوالت �أدبية‬

‫‪131‬‬

‫الفل�سطيني يف دورته ال�ساد�سة ع�شرة املنعقدة يف اجلزائر �أن لبريوت ال�صدارة يف الذاكرة‬ ‫الفل�سطينية فهي «زمن م�ضى لك ّنه ال ينتهي‪ ،‬و�أن هذا الزمن نف�سه دفع بحاوي �إىل االنتحار»‪.‬‬ ‫‪� 9‬إىل ‪� 12‬آذار ‪ 1983‬عقدت جلنة قدامى كلية الرتبية يف اجلامعة اللبنانية ندوة �أكادميية عنوانها‬ ‫«اجل�سر» �إحياء لذكرى حاوي يف مبنى الفرع االول لكلية الرتبية يف حي االوني�سكو‪.‬‬ ‫خ�صت �صحيفة «ال�سفري» �صفحتها الثقافية حلاوي‪.‬‬ ‫‪ّ 1983/3/13‬‬ ‫‪� 1983‬أنهى املو�سيقار مار�سيل خليفة و�ضع حلن لق�صيدة حاوي «اجل�سر» الذي �أ�صبح فيما بعد‬ ‫ن�شيد احلزب التقدمي اال�شرتاكي‪ .‬وكانت �إذاعة مو�سكو يف ق�سمها العربي ت�ستهل به براجمها‬ ‫اليومية‪.‬‬ ‫‪� 1983/6/10‬أحيا النادي الثقايف العربي ندوة حول حاوي‪.‬‬ ‫حزيران ‪ -‬متوز ‪� 1983‬صدر عدد خا�ص من الفكر العربي املعا�صر حموره «خليل حاوي‪/‬ال�شاهد‬ ‫ال�شهيد» ا�شتمل على درا�سات و�أبحاث و�شهادات تناولت حياة ال�شاعر وق�صائده و�شخ�صيته‪.‬‬ ‫�صيف ‪� 1983‬أفردت جملة حتوالت ملفا خا�صا بحاوي‪.‬‬ ‫‪� 1983‬أ�صدرت ريتا عو�ض كتاباً تناول �سرية حاوي ونتاجه ومذهبه ال�شعري‪ :‬خليل حاوي‬ ‫(بريوت‪ :‬امل�ؤ�س�سة العربية للدرا�سات والن�شر)‪.‬‬ ‫خريف ‪ 1983‬انتهى �أ�سعد خرياهلل املحا�ضر يف جامعة فرايبورغ من و�ضع درا�سة باالملانية حمورها‬ ‫م�ضمون البعث واملنحى التموزي يف ق�صائد حاوي و�أدوني�س‪ ،‬يف هذه الدرا�سة �أحاط خرياهلل‬ ‫بامل�ؤثرات الفكرية التي حددت وجهة حاوي يف �إطار احلداثة العربية و�أملح اىل ع�ضوية حاوي‬ ‫ال�سابقة يف احلزب ال�سوري القومي االجتماعي فجاءت درا�سته تلقي �ضوءاً على عالقة متوزية‬ ‫حاوي بالنهو�ض القومي‪.‬‬ ‫‪ 1984‬ترجم عدنان حيدر ومايكلبريد ديوان حاوي «بيادر اجلوع» �إىل االنكليزية ‪ .‬و�ضمت هذه‬ ‫الرتجمة حتلي ًال م�سهباً وثبتاً بالق�صائد ومقابلها الرتجمة وببليوغرافيا �شاملة ملقاالت ودرا�سات‬ ‫و�أبحاث و�أطروحات حول حاوي‪� ،‬إ�ضافة �إىل �سرد املقابالت مع ال�شاعر يف ال�صحف واملجالت‪.‬‬ ‫وقد ن�شر امل�ؤلفان ق�صيدة «يا �صبية» بخط حاوي (‪ )1981/4/14‬وهي من �آخر ق�صائده‪ .‬توجز هذه‬ ‫«غ�صة» التي‬ ‫الق�صيدة جتربة حاوي �إذ تظهر فيها مفردات «رماد» و «�صقيع» و «جمر» و «طري» و ّ‬ ‫مدى وا�سعاً‬ ‫تك ّرر �أجواء «لعازر ‪ »1962‬وتتخذ �شك ًال جن�سياً وت�ؤرخ اللحظة اجلمالية التي ت�ضيء ً‬ ‫من الأمل واخليبة‪� .‬أما عنوان الدرا�سة فهو‪:‬‬ ‫‪Naked in Exile: Khalil Hawi’s the Threshing Floors of Hunger: Interpretation‬‬ ‫‪and Translation by Adnan Haidar and Michael Beard. Washington, D.C. Three‬‬ ‫‪Continents Press 1984.‬‬

‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬


‫‪132‬‬

‫خ�صت جملة الفكر العربي املعا�صر حاوي مبلف ثقايف ‪.‬‬ ‫حزيران ‪ّ 1986‬‬ ‫خ�صت جملة �ش�ؤون �أدبية ال�صادرة يف ال�شارقة حاوي مبلحق �شعري ونقدي‪.‬‬ ‫خريف ‪ّ 1987‬‬ ‫‪ 1987‬ن�شرت ديزي الأمري‪ ،‬عن دار الن�ضال‪ ،‬جمموعة ر�سائل بعث بها حاوي �إليها خالل‬ ‫ال�سنوات املمتدة من ‪ 1955‬اىل ‪ 1962‬من دون �أن تورد �أ�سمها يف الر�سائل‪.‬‬ ‫‪� 1987‬أ�صدر منح خوري كتاباً باالجنليزية عن احلداثة خ�ص فيه حاوي بف�صل �أ�شار فيه �إىل فهم‬ ‫حاوي الواعي للعالقة بني التجربة والر�ؤيا‪ .‬ودر�س مناذج من �شعره ّ‬ ‫مركزاً على «لعازر ‪،»1962‬‬ ‫فوجد فيها ق�صيدة متعددة اجلوانب يف ا�ستخدامها الرمز وااليحاء واال�سطورة والوزن وااليقاع‪،‬‬ ‫ومن هنا �أطلق عليها خوري لقب «�أر�ض يباب ال�شعر العربي احلديث»‪� ،‬إ�شارة �إىل عنوان ق�صيدة‬ ‫اليوت «الأر�ض اليباب»‪.‬‬ ‫‪Mounah Khoury, studies in Contemporary Arabic Poetry and Criticism. Piedmont,‬‬ ‫‪California: Johan Book Co. 1987.‬‬

‫وكان منح خوري باال�شرتاك مع حامد اجلر قد ترجم «البحار والدروي�ش» �إىل االنكليزية يف كتابهما‪:‬‬ ‫‪ Anthology of Modern Arabic Poetry‬ال�صادر عن جامعة كاليفورنيا يف بريكلي يف ‪.1974‬‬ ‫‪� 1990/9/6‬أحيت كلية مبربوك يف جامعة كامربدج ذكرى حاوي ف ّتم تعليق لوحة حتمل ر�سم‬ ‫الر�سام االنكليزي �أجنز فيما م�ضى لوحات‬ ‫ال�شاعر �أجنزها ت�شارلز وايت يف تلك الكلية وكان هذا ّ‬ ‫مفكرين وك ّتاب �آخرين مثل كينز (‪ )John Mayard Keynes‬ور�صل (‪)Bertrand Russell‬‬ ‫وولف (‪ )Virginia Wolf‬واليوت (‪.)T.S.Eliot‬‬ ‫‪� 1991‬أ�صدر جميل جرب كتاباً عنوانه «خليل حاوي» (بريوت‪ :‬دار امل�شرق) عر�ض فيه عالقات‬ ‫حاوي ال�شخ�صية منذ الثالثينات وحتى بداية الثمانينات وو�ضعه يف مكانه املنا�سب يف �إطار‬ ‫ال�شعر احلديث و�سرد ق�صة حياته وتطوره الفكري وتناول �شخ�صيته وثقافته وت�أثرياته وم�ضامني‬ ‫وتق�صى م�صادر رموزه واختار مناذج من �شعره‪.‬‬ ‫دواوينه وح ّلل �شعره ّ‬ ‫‪� 1991/7/26‬سا�سني ع�ساف يتحدث �إىل جملة احلوادث (�أجرى احلديث جهاد فا�ضل) عن‬ ‫معرفته ب�أ�ستاذه حاوي ثم عن معرفته بحاوي عن كثب ال �سيما بني ‪ 1974‬و ‪ 1977‬حني خربه عن‬ ‫قرب يف لقاءات �صيف ّية يف منزل حاول يف ال�شوير ويف مقهى «احلاوي» يف �ضهور ال�شوير‪ ،‬وهو ينهي‬ ‫�أطروحته‪« :‬خليل حاوي يف �إطار ال�شعر املعا�صر» باال�سبانية يف جامعة مدريد‪ ،‬ف�أ�شار �إىل بع�ض ما‬ ‫قاله حاوي له يف �صيف ‪ 1975‬ومل يكن قد ن�شره حتى ذلك التاريخ‪.‬‬ ‫على مدى اخلم�سة ع�شر عاماً الأخرية اغتنت املكتبة العربية ب�أبحاث ودرا�سات وكتب وحتى‬ ‫ر�سوم و�أغان ومنحوتات تناولت ريادة حاوي وطليعيته وهذه كلها بحاجة �إىل بحث �آخر م�ستقل‪.‬‬


‫‪133‬‬

‫حتوالت �أدبية‬

‫اللية‬ ‫تنامي الثّنائية ال ّد ّ‬

‫عرية‬ ‫يف جتربة نعيم تلحوق ال�شّ ّ‬

‫| د‪ .‬ل�ؤي زيتوين | باحث و�أكادميي‬

‫ال�ضوء على‬ ‫العربي الذي ُي�ص َّنف باحلديث دون �إلقاء ّ‬ ‫ال�سهل ّ‬ ‫من غري ّ‬ ‫الدخول يف بنية ال�شّ عر ّ‬ ‫وا�سع وحا ّد‪� ،‬إىل جانب كونه‬ ‫اخل�صو�ص ّية الف ّن ّية التي ُيبنى عليها؛ ال �س ّيما �أ ّنه ما يزال مثار جدالٍ ٍ‬ ‫مبعث االلتبا�س ال�شّ ديد لدى املتلقّي‪ .‬وانطالقاً من ذلك‪ ،‬ت�صبح عمل ّية الغو�ص يف هذا ال ّنوع من‬ ‫ال�شّ عر م�سري ًة مليئ ًة بالأ�سالك ال�شّ ائكة‪ ،‬لك ّنها يف الوقت عينه عمل ّية مغرية‪ ،‬لأ ّنها اخلو�ض يف عا ٍمل‬ ‫جمهولٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ال�سياق‪ ،‬تدخل ال ّتقنية القائمة على ح�ضور‬ ‫مفتوح على‬ ‫احتماالت ال ّ‬ ‫ٍ‬ ‫حتد‪ ...‬ويف هذا ّ‬ ‫عري احلديث‪ ،‬ركيز ًة حمور ّي ًة يف فهمه ويف ا�ستكناه �أبعاده‪ .‬ومن‬ ‫الثّنائ ّية ّ‬ ‫الدالل ّية داخل العمل ال�شّ ّ‬ ‫خالل قراءة ال ّتجارب ال�شّ عر ّية التي تدور يف هذا الإطار‪ ،‬نالحظ هذا احل�ضور الكثيف لثنائ ّي ٍات‬ ‫الوجودي‬ ‫متثّل احلال الكيان ّية التي ت�سيطر على ال�شّ اعر احلديث‪� ،‬أو مبعنى �أو�ضح متثّل الهاج�س‬ ‫ّ‬ ‫الذي يطغى على فكره وكيانه بعا ّمة‪.‬‬ ‫ومن هذا املنطلق تنه�ض جتربة نعيم تلحوق بو�صفها واحدة من ال ّتجارب ال�شّ عر ّية احلديثة التي‬ ‫حموري ومتن ّوع‪� ،‬إ�ضاف ًة �إىل ال ّتف ّرد يف كيف ّية ا�ستخدامها‪،‬‬ ‫ب�شكل‬ ‫يربز فيها ح�ضور تلك الثّنائ ّيات ٍ‬ ‫ّ‬ ‫ال �س ّيما يف املرحلة الثّانية من م�سريته ال�شّ عر ّية‪ ،‬والتي تبتدئ بديوان «�أظ ّنه وحدي» مروراً بدواوينه‬ ‫ال�صادر م� ّؤخراً حتت عنوان «�شهوة‬ ‫«يغ ّني بوحاً» و «يرق�ص كفراً» و «لأنّ ج�سدها»‪ ،‬و�صو ًال �إىل ديوانه ّ‬ ‫ّنائي؛ فالأ ّول‬ ‫القيامة»‪ .‬ومن َ‬ ‫املالحظ �أنّ العناوين التي اختارها ال�شّ اعر كانت قائم ًة على ال ّنمط الث ّ‬ ‫يدور بني �ضمريي الغائب واملتك ّلم‪ ،‬يف حني �أنّ الثّاين والثّالث قائمان على املزج بني فعلني‬ ‫الدواوين‬ ‫ال�سبب وامل�س ِّبب؛ �أ ّما الأخري بني هذه ّ‬ ‫متباعدين‪ ،‬بينما ال ّرابع يظهر االرتباط بني طرفني ّ‬ ‫ين وثانيهما‬ ‫فيتبدى منه وجهان من طبيعتني خمتلفتني ومتكاملتني يف �آن‪� ،‬أولهما‬ ‫ج�سدي �إن�سا ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫مقد�س‪ .‬ف�إن كانت احلال هذه يف العناوين وح�سب‪ ،‬فكيف يتمظهر ذلك يف ن�صو�ص‬ ‫إعجازي ّ‬ ‫� ّ‬ ‫ال�شّ عر ّية بذاتها؟ وكيف ميكننا من خالل ا�ستطالع هذه الثّنائ ّيات اكتناه طبيعة جتربته؟‬

‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬


‫‪134‬‬

‫اعية لنتاج نعيم تلحوق‪:‬‬ ‫الوجهة ال�صرّ ّ‬

‫ّ‬ ‫الطبيعة العا ّمة لثنائ ّياته‪:‬‬

‫بنظر ٍة عا ّمة �إىل �أعمال ال�شّ اعر يف املرحلة الثّانية من حياته ال�شّ عر ّية‪ ،‬نالحظ تن ّوعاً وا�ضحاً يف‬ ‫الدواوين‪ ،‬ميكننا �أن نخت�صر‬ ‫الثّنائ ّيات التي نعرث عليها يف دواوينه‪ .‬و�إن قمنا بالغو�ص يف تلك ّ‬ ‫الوجودي الذي ميتلئ به ال�شّ اعر؛‬ ‫طبيعتها الأوىل بالوجود ّية‪� .‬إذ �أنّ جميع الثّنائ ّيات تلتزم الهاج�س‬ ‫ّ‬ ‫«حوذي ال ّزمان»‪ ،‬ال �س ّيما‬ ‫فعلى �سبيل املثال‪ ،‬جند ح�ضوراً مكثّفاً للثّنائ ّيات �ضمن ق�صيد ٍة بعنوان‬ ‫ّ‬ ‫حينما يقول‪:‬‬ ‫ ‬ ‫احلوذي‪،‬‬ ‫«[‪ ]...‬قلْ ماذا تخ ّبئ �أ ّيها‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫�صدرك من �أخبار؟‬ ‫يف‬ ‫ ‬ ‫ي�صادقك ّ‬ ‫َ‬ ‫الطري‪،‬‬ ‫ح ّتى‬ ‫ ‬ ‫ويناجيك ال ّرعد‪،‬‬ ‫ ‬ ‫ويخ�شاك امللوك‪،‬‬ ‫ ‬ ‫فت�صادف َ‬ ‫نف�سك‬ ‫ ‬ ‫وجهاً تائهاً يف املر�آة‪،‬‬ ‫ ‬ ‫ ال ت�س�أل البحر قربك‪،‬‬ ‫عدك‪»]...[ ،‬‬ ‫وال‬ ‫ ‬ ‫الع�شب ُب َ‬ ‫َ‬ ‫املوجه‬ ‫من خالل هذا املقطع‪ ،‬ن�ستطيع �أن ن�ستطلع ثنائ ّي ٍات مرتبط ًة‬ ‫ّ‬ ‫باحلوذي بو�صفه قائد امل�سري‪� ،‬أو ِّ‬ ‫ومبهمته التي‬ ‫(الوعي‪/‬ال�ضياع)‪� ،‬أي ما يرتبط بحقيقة هذا‬ ‫ال�سفر‪ .‬من تلك الثّنائ ّيات‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫احلوذي ّ‬ ‫يف ّ‬ ‫تكمن يف وعي ّ‬ ‫الطريق من �أجل الإي�صال �إىل غاي ٍة مع ّينة‪ ،‬يف مقابل وجهه ال ّتائه يف املر�آة‪ .‬وتعك�س‬ ‫حمتدم داخل ال�شّ اعر بني تط ّلع الآخر‬ ‫نف�سي‬ ‫ٍ‬ ‫هذه الثّنائ ّية هاج�ساً وجود ّياً يكمن يف ح�ضور ٍ‬ ‫�صراع ٍّ‬ ‫ٍ‬ ‫ت�شكيك يف حقيقة وجهته؛‬ ‫املوجه للم�سرية‪ ،‬بينما يعاين يف داخله من‬ ‫نحو هذا ال ّنموذج بو�صفه ّ‬ ‫وهو الأمر الذي ين�سحب ال على حياة ال�شّ اعر فح�سب‪ ،‬بل على ما ميثّله من تط ّل ٍ‬ ‫عات وقيم‪.‬‬ ‫من ناحي ٍة �أخرى ميكننا �أن نر�صد طبيع ًة �أخرى للثّنائ ّيات يف �شعر تلحوق‪ ،‬تتج ّلى يف ذات ّيتها‪� ،‬أي‬ ‫لحوقي ي�شهد �صراعاً بني‬ ‫قيم و�أفكار‪ .‬فال ّن ّ�ص ال�شّ ّ‬ ‫متحورها حول ذات ال�شّ اعر وما متثّله من ٍ‬ ‫عري ال ّت ّ‬ ‫ّ‬ ‫وقيم معاك�سة‪ّ .‬‬ ‫ولعل‬ ‫الذات وبني ق ّو ٍة �أخرى طبيعتها خمتلفة ترتبط بالآخر‪-‬الآخرين‪� ،‬أو ب�أفكا ٍر ٍ‬ ‫املقطع ال ّتايل يعطينا فكر ًة �أو�ضح عن ذلك اجلانب‪:‬‬ ‫ ‬ ‫كنت بال �أنتم‪...‬‬ ‫«[‪ُ ]...‬‬ ‫�سحر �سوا ٍد ُيعا ُد �إ ّيل‪،‬‬ ‫ ‬ ‫‪1‬‬

‫ ‬

‫‪1‬‬

‫نعيم تلحوق‪ :‬لأنّ ج�سدها‪ .‬بريوت‪ ،‬دارفكر للأبحاث وال ّن�شر‪ّ ،‬‬ ‫الطبعة الأوىل‪� ،2012 ،‬ص‪.16‬‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫تنامي الثّنائية الدّ الل ّية‬

‫‪135‬‬

‫وعطراً �أو�س َع من احلرب‪،‬‬ ‫ ‬ ‫مقلتي‪»...‬‬ ‫ ‬ ‫وهام ًة تعاند ّ‬ ‫مقلتـي)‬ ‫إلـي‪-‬‬ ‫تربز الثّنائ ّية هنا من خالل ّ‬ ‫ال�ضمائر التي تن�شطر بني املتك ّلم املفرد ُ‬ ‫ّ‬ ‫(كنت‪ّ � -‬‬ ‫َ‬ ‫بال�سحر الذي ّ‬ ‫واملخاطب اجلمع (�أنتم)‪ ،‬حيث تبدو ّ‬ ‫يدل على ال ّتف ّرد والعطر‬ ‫الذات‪ /‬الأنا م ّت�صف ًة ّ‬ ‫الذي ي�شري �إىل الأثر يف املحيط والهامة التي ّ‬ ‫ال�صفات التي ميلكها‬ ‫تدل على املواجهة والفخر‪ ،‬وهي ّ‬ ‫حينما يتج ّرد من الآخر‪ /‬الأنتم الذي ي�شري �إىل اجلماعة احلاملة لأفكار موروث ٍة �أو ٍ‬ ‫عادات م ّيتة‪،‬‬ ‫وهي بال ّتايل التي تناق�ض موا�صفات �أناه‪ .‬بنا ًء عليه‪ُ ،‬تظهر هذه الثّنائ ّية ح�ضور ّ‬ ‫املحوري لدى‬ ‫الذات‬ ‫ّ‬ ‫ال�شّ اعر وفاعل ّيتها‪.‬‬ ‫ومع كون ّ‬ ‫الدالل ّية‪� ،‬إ ّال �أنّ خلف ّياتها حتمل �أبعاداً‬ ‫الذات متثّل املحور الذي تقوم عليه ثنائ ّيات تلحوق ّ‬ ‫ؤيوي يجعل من الأنا وجهاً من وجوه‬ ‫ثقاف ّي ًة وح�ضار ّي ًة واجتماع ّية وا�ضحة‪ ،‬انطالقاً من منظو ٍر ر� ٍّ‬ ‫املحيط الذي ّ‬ ‫تتجذر فيه‪� ،‬أي نتاجاً لأفكار جمتمعها وثقافته؛ �أو يجعل منها متثي ًال حلالٍ فكر ّي ٍة‬ ‫وقوم ّي ٍة متن ّوعة الأوجه واملنطلقات‪ .‬ميكن ا�ست�شفاف هذا اجلانب من خالل خماطبته لل�شّ هيد‬ ‫الد ّرة بالقول‪:‬‬ ‫حممد ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫برم�شيك‪،‬‬ ‫«ك�سرت عمري‬ ‫ ‬ ‫ُ‬ ‫رب َ‬ ‫حالك‪،‬‬ ‫ ‬ ‫مل ّا �س� ُ‬ ‫ألت ال ُع َ‬ ‫َ‬ ‫ال�شتعالك‪»]...[ ،‬‬ ‫فقالوا‪ :‬ال مكان يف بالنا‬ ‫ ‬ ‫بو�ضوح هذا ال ّتقابل الذي يح�ضر بني ق ّوتني‪( :‬االنتماء‪/‬اخلذالن)‪� ،‬إذ �أنّ‬ ‫ال�سابق‪ ،‬نرى‬ ‫ٍ‬ ‫يف املقطع ّ‬ ‫ق ّوة االنتماء يتج ّلى ب�ضمري املخاطب املف َرد امل�سيطر على الأ�سطر والذي يوحي بال�شّ هيد‪ ،‬بينما‬ ‫القومي لثنائ ّياته‪.‬‬ ‫تتمثَّل ق ّوة اخلذالن يف لفظة ال ُعرب ويف �ضمري اجلمع الذي حلق بها؛ ما يربز البعد ّ‬ ‫على �أنّ طبيعة تلك الثّنائ ّيات ت�أخذ بال ّتط ّور لتعبرّ عن املنطلقات الفكر ّية التي يعتنقها ال�شّ اعر‪،‬‬ ‫هاج�س عا ٍّم ي�شمل جمتمعاً ب�أكمله‪ .‬فها هو يعلن عن �أمله من نفاق البع�ض يف حمل‬ ‫والتي تعبرّ عن ٍ‬ ‫املبادئ التي ي�ؤمن بها‪:‬‬ ‫«يل ق�ض ّية حتمل تاريخاً من املع ّلبات‬ ‫ ‬ ‫ال�سنني‪،‬‬ ‫ ‬ ‫واملك�سرات خمر ّ‬ ‫ّ‬ ‫ويل �أح ّبة يحملونها يف جيوبهم‪،‬‬ ‫ ‬ ‫متعة الفجر ّ‬ ‫املطل على اجلبني‪.‬‬ ‫ ‬ ‫حمظي ب�أ�صدقاء يغرقونها‬ ‫ ‬ ‫و�أنا ّ‬ ‫‪2‬‬

‫‪3‬‬

‫‪ 2‬‬ ‫ ‪3‬‬

‫نعيم تلحوق‪ :‬لأنّ ج�سدها‪� .‬ص‪.63 - 62‬‬ ‫نعيم تلحوق‪ :‬يغ ّني بوحاً‪ .‬بريوت‪� ،‬إتحّ اد الك ّتاب ال ّلبنان ّيني‪ّ ،‬‬ ‫الطبعة الأوىل‪� ،2005 ،‬ص‪.58‬‬ ‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬


‫‪136‬‬

‫الدفني‪»...‬‬ ‫ ‬ ‫بنميمة احلقد ّ‬ ‫فاملالحظ ي�ستطيع �أن يجد اجلموع �إىل جانب �ضمائر اجلمع معبرّ ًة عن ال ّنفاق و�ضعف االنتماء‪،‬‬ ‫خمل�ص يف انتمائه‪ ،‬وهذا ما ّ‬ ‫بينما يرى �ضمري املتك ّلم املفرد ليكون مم ّث ًال ّ‬ ‫ي�شكل �صراعاً تظهره‬ ‫لكل ٍ‬ ‫ثنائ ّية (االنتماء‪/‬ال ّنفاق)‪.‬‬ ‫�إ�ضاف ًة �إىل هذا ك ّله‪ ،‬ال ميكن �إ ّال �أن ننظر �إىل غائ ّية الثّنائ ّية لدى نعيم تلحوق‪ ،‬انطالقاً من كون‬ ‫ال�سياق‪ ،‬نرى �أنّ الغاية التي ت�سعى �إليها ثنائ ّياته‬ ‫تلك الغائ ّية جزءاً يف طبيعتها ّ‬ ‫ال�صراع ّية‪ .‬ويف هذا ّ‬ ‫منحى يهدف �إىل مواجهة‬ ‫ترتبط بطبيعتها الأوىل الوجود ّية‪� ،‬إذ �أن ق�صيدة ال�شّ اعر تنحو با�ستمرا ٍر ً‬ ‫الكلي لرفع قيمة وجود الإن�سان فرداً وجماعةً‪ ...‬وعلى هذا الأ�سا�س ميكننا قراءة‬ ‫امل�صري الإن�سا ّ‬ ‫ين ّ‬ ‫املقطع ال ّتايل‪:‬‬ ‫مت ّ‬ ‫الطريق � ِ‬ ‫إليك‪ ،‬بعدما فارقتني الأنبياء و�أحجم ع ّني‬ ‫ ‬ ‫«تع ّل ُ‬ ‫ّ‬ ‫املتنكرون بالعلم‪،‬‬ ‫ ‬ ‫وكفّرين ّجتار ال ّرغيف‪،‬‬ ‫ ‬ ‫وال�ص ّديق ّيون‬ ‫ ‬ ‫وبايعني القدي�س ّيون ّ‬ ‫وباعتني الآلهة عقودها ومزامريها‪..‬‬ ‫ ‬ ‫وانتخبتني املالئكة والكهنة و�ص ّياً على العر�ش‪،‬‬ ‫ ‬ ‫و�صرت �أفرح ك ّلما دقّت ال ّريح باب نافذتي و�أهوائي‪ ،‬لت�صيرّ ين ِ‬ ‫منك �إله‬ ‫ ‬ ‫ُ‬ ‫الع�صافري ّ‬ ‫والظنون‪».‬‬ ‫ ‬ ‫ن�ست�شف حالني متثّلهما الأفعال التي تو ّزعت بني املا�ضية التي د ّلت‬ ‫ميكننا من خالل ما �سبق �أن‬ ‫ّ‬ ‫على حاله قبل �أن يتع ّلم ّ‬ ‫الطريق �إىل املر�أة املجهولة‪ ،‬وبني امل�ضارعة التي مثّلت حاله بعد �أن تع ّلم؛‬ ‫الذات وفاعل ّيتها‪ .‬فقد ّ‬ ‫لتكون الثّنائ ّية ّ‬ ‫املت�شكلة هنا هي (اجلهل‪/‬العلم) املرتبطة ببح�ضور ّ‬ ‫�شكلت‬ ‫العوامل واملعاناة التي ّقدمتها الأفعال املا�ضية حا ًال م�ؤ ّهل ًة ملرحلة العلم‪ ،‬بينما دفعت املعرفة نحو‬ ‫ال�سعي‬ ‫حت ّول ال�شّ اعر �إىل «�إله»‪� ،‬أي �إىل رم ٍز للعارف والقادر يف الوقت عينه‪ ...‬وهذا ك ّله من خالل ّ‬ ‫للو�صول �إىل �ضمري َ‬ ‫املخاطب امل�ؤ َّنث‪ ،‬والذي ي�شري �إىل امر�أ ٍة جمهول ٍة قد تكون رمزاً �إىل ّ‬ ‫الذات‪ .‬ف�أن‬ ‫كل ما عاناه وما م ّر به ّ‬ ‫يدل على غاي ٍة تتع ّلق مب�صري تلك ّ‬ ‫يعلم ال�شّ اعر كيف ّية بلوغ ذاته بعد ّ‬ ‫الذات‬ ‫وبتحقيق ح�ضورها الفاعل‪.‬‬ ‫تقدم‪ ،‬ميكننا ا�ستنتاج الطبيعة العا ّمة للثّنائ ّيات املتبلورة داخل املرحلة الثّانية‬ ‫ا�ستناداً �إىل ما ّ‬ ‫من �شعر نعيم تلحوق‪ ،‬والتي ميكن تلخي�صها بكونها ثنائ ّيات وجود ّية ّذات ّية متتلك �أبعاداً ثقاف ّية‬ ‫وح�ضار ّية واجتماع ّية‪ ،‬وغايتها مواجهة ّ‬ ‫ين الذي‬ ‫الذات مل�صريها من �أجل ترقية الوجود االن�سا ّ‬ ‫‪4‬‬

‫‪5‬‬

‫‪ 4‬‬ ‫‪ 5‬‬

‫نعيم تلحوق‪ :‬يغ ّني بوحاً‪� .‬ص‪.80 - 79‬‬ ‫املرجع نف�سه‪� ،‬ص‪.11‬‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫تنامي الثّنائية الدّ الل ّية‬

‫‪137‬‬

‫لكن الباب هنا ُيفتح على م�صراعيه لل ّت�سا�ؤل حول مدى ان�سحاب طبيعة‬ ‫يهج�س فيه ال�شّ اعر‪ّ .‬‬ ‫ال�سياقات التي تتج ّلى فيها‬ ‫هذه الثّنائ ّيات على ديوانه «�شهوة القيامة»‪ ،‬وحول درجة ال ّتن ّوع يف ّ‬ ‫الديوان‪.‬‬ ‫�ضمن هذه ّ‬ ‫ّنائيات يف ديوان «�شهوة القيامة»‪:‬‬ ‫م�سار الث ّ‬

‫ال�سقوط‪:‬‬ ‫‪ .1‬جت�سيد حال ّ‬

‫مهماً يف‬ ‫بالقراءة املتم ّعنة لديوان «�شهوة القيامة»‪ ،‬نالحظ �أنّ الثّنائ ّيات ّ‬ ‫الدالل ّية قد �أخذت ح ّيزاً ّ‬ ‫منحى متد ّرجاً يف امل�ضامني والأبعاد التي ت�شتمل عليها‪ّ .‬‬ ‫ولعل احلال الأوىل‬ ‫تكوينه؛ �إ ّال �أ ّنها تنحو ً‬ ‫التي ميكن �أن نلحظها يف ُ‬ ‫ال�ضياع‪ ،‬مبا تعنيانه‬ ‫ال�سقوط‪� ،‬أو حال ّ‬ ‫متو�ضع ثنائ ّيات تلحوق هي حال ّ‬ ‫من جوانب �سلب ّي ٍة يف حياة االن�سان‪� .‬أ ّما عن �أبعاد تلك احلال‪ ،‬فيمكننا �أن جندها يف امل�ستويات‬ ‫االجتماع ّية والثّقاف ّية واحل�ضار ّية‪ ...‬وهو الأمر الذي نر�صده يف الأ�سطر ال ّتالية‪:‬‬ ‫«�إثنان �سقطا يف امتحان املتاهة‪،‬‬ ‫ ‬ ‫ج�سدي‪،‬‬ ‫ ‬ ‫و�أفكار �أبي ع ّني‪...‬‬ ‫ ‬ ‫حدين �أغ ّني‪»...‬‬ ‫ ‬ ‫و�أنا بني ّ‬ ‫وجودي يقع بني الأنا التي مل متتلك‬ ‫�صراع‬ ‫ٍّ‬ ‫يف ما �سبق‪ ،‬نرى ح�ضوراً لثنائ ّي ٍة حا ّد ٍة تتج ّلى يف ٍ‬ ‫يقدم الأفكار القدمية حول تلك الأنا؛ وذلك ما ّ‬ ‫ي�شكل ثنائ ّية‬ ‫�إ ّال اجل�سد‪ ،‬وبني رمز الأب الذي ّ‬ ‫ال�صراع مل�صلحة الأفكار املوروثة على‬ ‫(املوروث‪/‬املعا�صر)‪ .‬غري �أنّ الغلبة تبدو وا�ضح ًة يف هذا ّ‬ ‫ال�سقوط‪ .‬وباخت�صار‪ ،‬ف�إنّ هذه احلال تبدو‬ ‫ح�ساب اجل�سد املعا�صر‪ ،‬وهو الأمر الذي �أ ّدى �إىل حال ّ‬ ‫من خالل اال�ست�سالم للما�ضي ولأفكاره البالية‪� .‬أ ّما ح�ضور رمز الأب في�ضيف �إىل معنى املوروث‬ ‫لل�سلطة الأبو ّية و�أفكارها اال�ستبداد ّية التي ال تقبل ال ّنقا�ش‪ ،‬والتي‬ ‫بعداً �آخر يربز يف اخل�ضوع ّ‬ ‫ت�سعى �إىل فر�ض �أفكار الأب‪� ،‬أو منوذجه‪ ،‬على اجليل ال ّتايل ليكون جي ًال خاوياً فارغاً من �أفكاره‬ ‫اخلا�صة‪ ،‬وال ي�ستطيع �أن يعي�ش �إ ّال بتفكري «الأب»‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ال�سقوط ال تتوقّف على ذلك‪� ،‬إذ �أ ّنها ترتبط �أي�ضاً بطبيعة الإن�سان وبعواطفه‪ ،‬ففي‬ ‫على �أنّ حال ّ‬ ‫نظر ال�شّ اعر تبقى العاطفة عام ًال حمور ّياً يف تو�صيف الإن�سان ّية‪ .‬على هذا امل�ستوى‪ ،‬ميكن قراءة ما‬ ‫يلي لتو�ضيح ما ن�صل �إليه‪:‬‬ ‫«العامل مقرب ٌة عظمى‪،‬‬ ‫ ‬ ‫موتاه �أكرث من املوت‪،‬‬ ‫ ‬ ‫‪6‬‬

‫ ‬

‫‪6‬‬

‫نعيم تلحوق‪� :‬شهوة القيامة‪ .‬بريوت‪ ،‬دار الفرات لل ّن�شر وال ّتوزيع‪ّ ،‬‬ ‫الطبعة الأوىل‪� ،2013 ،‬ص‪.13‬‬ ‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬


‫‪138‬‬

‫لأنّ قلوبهم � ّأقل‪»...‬‬ ‫ ‬ ‫ال�سابقة ثنائ ّي ًة قائم ًة على (القلب‪/‬املوت)‪ ،‬فمن الوا�ضح �أنّ العامل �صار عبار ًة عن‬ ‫جند يف الأ�سطر ّ‬ ‫مقرب ٍة ب�سبب تق ّل�ص حجم العاطفة فيه‪ ،‬وذلك يعود �إىل �أنّ قلوب ال ّنا�س قد ق ّلت فح ّولتهم �إىل‬ ‫ال�سقوط الأخالقي التي يعاين منها املجتمع‪،‬‬ ‫�أموات يف نظر ال�شّ اعر‪ .‬يدخلنا هذا يف تو�صيف حلال ّ‬ ‫�إذ �أنّ الب�شر جت ّردوا من �إن�سان ّيتهم من خالل جت ّردهم من عاطفتهم‪ ،‬مع ما ي�شمله ذلك من انتفا ٍء‬ ‫ملعايري ال ّرحمة وال ّتعاطف‪...‬‬ ‫الفكري‪� ،‬أي يف‬ ‫ال�سقوط وتكمن يف امل�ستوى‬ ‫ّ‬ ‫ي�ضاف �إىل ما �سبق‪ ،‬عنا�صر �أخرى تكمل م�شهد ّ‬ ‫الفكر الذي ي�سيطر على عقول ال ّنا�س‪ ،‬ال �س ّيما الأفكار التي تدعو لال�ست�سالم واالنهزام ّية‪ .‬ويف‬ ‫ال�سياق نقر�أ‪:‬‬ ‫هذا ّ‬ ‫ ‬ ‫ال�صوم‪،‬‬ ‫«قال يل [�صوت يف املنام] بعد ّ‬ ‫عما �أنت‪،‬‬ ‫ � َإبق را�ضياً ّ‬ ‫َ‬ ‫�سراحك الآخرون‪»...‬‬ ‫ليطلق‬ ‫ ‬ ‫ال�سابقة عن معانٍ مرتبطة مب�س�ألة اال�ست�سالم للواقع املفرو�ض‪ ،‬وبعمل ّية ال ّتخ ّلي‬ ‫تك�شف الأ�سطر ّ‬ ‫عن فكرة املواجهة من �أجل اخلال�ص من ف�ساد هذا الواقع‪ .‬وهذا ما ي�ضعنا �أمام ثنائ ّية (املواجهة‪/‬‬ ‫ال�سياق‪ ،‬تظهر لفظة‬ ‫اال�ست�سالم) التي ت�ضيء الوجه‬ ‫احلقيقي للواقع‪ ،‬وتدفع �إىل تغيريه‪ .‬يف هذا ّ‬ ‫ّ‬ ‫(ال�صوم) لتوحي لنا �أبعاداً دين ّي ًة تعمل على �إ�شاعة �أفكار مفادها ال ّتخ ّلي عن � ّأي حماولة للخروج‬ ‫ّ‬ ‫من ذاك الواقع‪ ،‬وال ّتعوي�ض بانتظار الفرج من الغيب �أو من قوى �أخرى خارجة عن �إطار العامل‬ ‫ين هذه‪ .‬وبنا ًء عليه‪ ،‬ف�إنّ‬ ‫الواقعي؛ وذلك يربز بلفظة (الآخرون) التي تبينّ طبيعة ال ّتفكري الإميا ّ‬ ‫حتدي الأزمات‪ ،‬وهو ما يعني �سقوطاً ّ‬ ‫بكل ما للكلمة‬ ‫يعد هذا تعطي ًال للعقل ولقدرته على ّ‬ ‫ال�شّ اعر ّ‬ ‫من معنى‪.‬‬ ‫وقريب من هذا املعنى �إنمّ ا بثنائ ّي ٍة خمتلفة‪ ،‬نقر�أ انتقاداً �صريحاً لالنحدار الذي و�صل �إليه العرب‬ ‫يحدد حال الف�شل‬ ‫وال�ضياع‬ ‫أخالقي ّ‬ ‫اليوم‪ ،‬حيث يجتمع ّ‬ ‫الفكري ليو�ضح الفراغ الذي ّ‬ ‫ّ‬ ‫ال�ضياع ال ّ‬ ‫الذي نقع فيه‪ .‬فري ّدد ال�شّ اعر‪:‬‬ ‫«غ�ضب‪ ...‬غ�ضب‪...‬‬ ‫ ‬ ‫الدا�شرين‬ ‫ ‬ ‫عروبة �أ�سقطتها �أحالم ّ‬ ‫خلف امل�ؤمنات‪،‬‬ ‫ ‬ ‫واملكرثين من الأدعية واملوعظات‪»..‬‬ ‫ ‬ ‫‪7‬‬

‫‪8‬‬

‫‪9‬‬

‫‪ 7‬‬ ‫‪ 8‬‬ ‫‪ 9‬‬

‫نعيم تلحوق‪� :‬شهوة القيامة‪� .‬ص‪.42‬‬ ‫املرجع نف�سه‪� .‬ص‪.17‬‬ ‫نعيم تلحوق‪� :‬شهوة القيامة‪� .‬ص ‪.72‬‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫تنامي الثّنائية الدّ الل ّية‬

‫‪139‬‬

‫(االنتماء‪/‬ال�ضياع) ت ّت�ضح من خالل ال ّتقابل بني االنتماء للعروبة وال�شّ عارات التي ترافق‬ ‫فثنائ ّية‬ ‫ّ‬ ‫هذا االنتماء‪ ،‬وبني �ضياع تلك ال�شّ عارات ب�أكملها خلف ال ّن�ساء وخلف ّمدعي الإميان‪ ...‬انطالقاً‬ ‫ال�سقوط ي�شمل َمن ي�ص ّنفون �أنف�سهم بـ»العرب»‪ ،‬لأ ّنهم جماعة ال تقوى على‬ ‫من ذلك‪ ،‬نرى �أنّ ّ‬ ‫الدفاع عن نف�سها‪.‬‬ ‫الفعل‬ ‫احل�ضاري �أو على ّ‬ ‫ّ‬ ‫قدي هذا‬ ‫لكن هذا الإطار ال ميثّل‪ ،‬بطبيعة احلال‪ ،‬ديوان «�شهوة القيامة» بالكامل‪� ،‬إذ �أنّ طرحه ال ّن ّ‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫واحل�ضاري‪ .‬فكيف عمل نعيم تلحوق على‬ ‫بحاالت �أخرى على امل�ستوى الثّقاف ّية‬ ‫ال ّبد �أن ُي�ستت َبع‬ ‫ّ‬ ‫مواجهة تلك احلال؟‬ ‫الرف�ض واملواجهة‪:‬‬ ‫‪ .2‬حال ّ‬

‫حد تو�صيف الواقع وما ي�شتمل عليه‬ ‫ي�ستطيع القارئ �أن يدرك‬ ‫بو�ضوح عدم توقّف ال�شّ اعر عند ّ‬ ‫ٍ‬ ‫من ٍ‬ ‫تقم ٍ�ص‬ ‫أخالقي وثقا ّيف‪ ،‬و�إ ّال لكان �شعره جم ّرد‬ ‫ٍ‬ ‫انعكا�س للواقع‪ ،‬وبال ّتايل جم ّرد عمل ّية ّ‬ ‫�سقوط � ٍّ‬ ‫للف�ساد فيه‪ .‬لك ّنه ّ‬ ‫تقدماً و�أكرث فاعل ّي ًة تخت�صرها �صفة ال ّرف�ض‬ ‫يتخطى تلك احلدود ليبلغ حا ًال �أكرث ّ‬ ‫تو�سل م�سا ٍر متد ّرج امل�ستويات‪ .‬وانطالقاً من ذلك‪ ،‬نرى‬ ‫واملواجهة‪ ،‬والتي تكتمل من خالل ّ‬ ‫امل�ستوى الأ ّول يتبلور على �شكل ت�سا� ٍ‬ ‫ال�سقوط تلك‪ ،‬وهو‬ ‫ؤالت حول �إمكان ّية اخلروج من و�ضع ّية ّ‬ ‫الأمر الذي يظهره لنا اال�ستفهام الوارد �ضمن املونولوج ال ّتايل‪:‬‬ ‫بال�سر الذي �أخرجنا‬ ‫ ‬ ‫«ماذا َ‬ ‫فعلت ّ‬ ‫لنب�صر �صحوة‪»]...[ ،‬‬ ‫ ‬ ‫ال�سابقان‬ ‫توجه هذا ال ّت�سا�ؤل تربز يف ّ‬ ‫فالثّنائ ّية التي ّ‬ ‫ال�سطران ّ‬ ‫(ال�صحوة‪/‬الركون)‪ ،‬حيث ّقدم ّ‬ ‫«ال�س ّر» الذي يدفع �إىل الوعي بحقيقة الواقع وف�ساده‪ ،‬بينما ي�ستبطن الكالم‬ ‫ا�ستفهاماً حول ّ‬ ‫جتمل هذا الواقع �أو تقلب �صورته‪ّ .‬‬ ‫ولعل ا�ستخدام‬ ‫هنا ح�ضوراً فاع ًال لل ّركون �إىل الأفكار التي ّ‬ ‫ال�س�ؤال درجة �أوىل درجات املعرفة‪ ،‬ما يعني �أ ّنه ّ‬ ‫ي�شكل عالم ًة من‬ ‫اال�ستفهام هنا ي�شري �إىل �أنّ ّ‬ ‫ال�صحوة �أو الوعي‪ .‬وهذا ما يبينّ هاج�س ال�شّ اعر يف دفع املتلقّي �إىل م�ستوى الوعي ذاك‪،‬‬ ‫عالمات ّ‬ ‫تقدم �أو تغي ٍري يف املجتمع‪.‬‬ ‫لأنّ بدونه لن يحدث � ّأي ّ‬ ‫ويقود هذا الوعي بالواقع �إىل م�ست ًوى �آخر من هذه احلال‪� ،‬أال وهو م�ستوى ال ّرف�ض للف�ساد املتف�شّ ي‬ ‫يف جمتمعنا املعا�صر‪� .‬إذ �أنّ هذا الفعل لي�س جم ّرد ٍ‬ ‫حموري يبينّ القطيعة‬ ‫موقف عابر‪ ،‬بل هو فعل‬ ‫ّ‬ ‫ال�ساقطة التي حت ّولت �إىل تفا�صيل يوم ّية اعتياد ّية‪ .‬وعلى هذا الأ�سا�س‪ ،‬ي�صدر‬ ‫ال ّتا ّمة عن املفاهيم ّ‬ ‫ا�ستهجان ال�شّ اعر ومت ّرده يف قوله‪:‬‬ ‫«حني �أغيب‪،‬‬ ‫ ‬ ‫‪10‬‬

‫‪ 10‬نعيم تلحوق‪� :‬شهوة القيامة‪� .‬ص‪.18‬‬ ‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬


‫‪140‬‬

‫ ال �أريد جلثّتي �أن تف ّرخ‪،‬‬ ‫عد‪...‬‬ ‫ ‬ ‫ودجالني مباال ُي ّْ‬ ‫مرائني ّ‬ ‫وال �أن يتبادل �شهو ٌد لعناء‬ ‫ ‬ ‫و�ص ّيتي‪» ،‬‬ ‫ ‬ ‫والد ّجالني الذين ي�ستغ ّلون املوت لبناء‬ ‫نوع جديد تقع بني املنافقني ّ‬ ‫ّ‬ ‫يقدم لنا هذا املقطع ثنائ ّي ًة من ٍ‬ ‫منافعهم ال�شّ خ�ص ّية‪ ،‬وبني احلقيقة �أو حقيقة ّ‬ ‫الذات؛ وهو ما ُيخ َت َ�صر يف ق ّو َتي (احلقيقة‪/‬ال ّنفاق)‪.‬‬ ‫فال�شّ اعر يعمل على توجيه ٍ‬ ‫ال�صغرية‪،‬‬ ‫نقد حا ٍّد لأولئك امل�ستغ ّلني للمواقف من �أجل املكا�سب ّ‬ ‫وهي حال م�ست�شرية يف حياتنا اليوم ّية‪ .‬وقد يغمز �أي�ضاً هنا من قناة املز ّورين لل ّتاريخ و�شخ�ص ّياته يف‬ ‫ٍ‬ ‫مناح �أيديولوج ّي ٍة �آن ّية‪.‬‬ ‫�سبيل‬ ‫طموحات �ض ّيقة‪� ،‬أو ٍ‬ ‫�إ ّال �أنّ هذا ال ّرف�ض ال يبقى �ضمن هذا الإطار فح�سب‪� ،‬إذ ميكننا �أن جند خروجاً على جوانب‬ ‫�أخرى من احلياة املعا�صرة يف جمتمعنا‪ .‬فال�شاعر يبينّ �إميانه بخ�صو�ص ّية ال ّتجربة احل�ضار ّية ّ‬ ‫للذات‬ ‫ال�ضغوطات والقيود التي ُتف َر�ض عليها‪ .‬ويف هذا الإطار‪ ،‬يقول ال�شّ اعر‪:‬‬ ‫يف ع�صرنا‪ ،‬وما تعانيه من ّ‬ ‫ّ‬ ‫«كل �شي ٍء بي يرك�ض � ِ‬ ‫إليك‪،‬‬ ‫ ‬ ‫لأتعافى من �سكرة ال ّتقليد‪» ،‬‬ ‫ ‬ ‫جدد‪/‬ال ّتقليد)‪ ،‬ن�ستطيع اكت�شافها من خالل لفظة «ال ّتقليد» مبا‬ ‫جند هنا ح�ضوراً جل ّياً لثنائ ّية (ال ّت ّ‬ ‫احل�ضاري الأرقى؛ ويف احلالني‪،‬‬ ‫تظهره لنا من �أبعا ٍد تتع ّلق مبحاكاة القدمي‪� ،‬أو مبحاكاة ال ّنموذج‬ ‫ّ‬ ‫نلحظ جموداً وانعدام قدر ٍة على الإنتاج‪ .‬يف حني �أنّ لفظة «يرك�ض» توحي باحلركة املت�سارعة التي‬ ‫متجددة‪.‬‬ ‫الدخول يف و�ضع ّي ٍة ّ‬ ‫ال�سكون‪ ،‬وبال ّتايل ّ‬ ‫ت�سعى �إىل اخلروج من و�ضعية ّ‬ ‫لكن عمل ّيتي الوعي وال ّرف�ض اللتني ر�صدناهما يف ما �سبق‪ ،‬تبقيان خطوتني قا�صرتني �إن مل ُتت َبعا‬ ‫ّ‬ ‫بخطو ٍة ثالث ٍة تعمل على ا�ستكمال تو�صيف هذه احلال لدى ال�شّ اعر‪ .‬لذلك ن�ستطيع �أن نرى‬ ‫ح�ضوراً مل�ست ًوى �آخر من م�ستويات حال ال ّرف�ض هذه‪ ،‬و�أعني م�ستوى املواجهة بغ�ض ال ّنظر عن‬ ‫ب�شكل‬ ‫ال�سياق‪ ،‬جند عامل ال ّت ّ‬ ‫حدي حا�ضراً ٍ‬ ‫ال ّنتيجة التي ميكن �أن نتلقاها من ج ّرائها‪ .‬ويف هذا ّ‬ ‫حموري يف ديوان «�شهوة القيامة»‪ّ .‬‬ ‫ولعل هذا ما ن�ست�شفّه يف ما يلي‪:‬‬ ‫ٍّ‬ ‫«�أكرث من عنا ٍد هناك‪،‬‬ ‫ ‬ ‫�سط ٌر ي�صف وجه الأر�ض‪،‬‬ ‫ ‬ ‫ال�سماء‪،‬‬ ‫ ‬ ‫ويع ّرج على ّ‬ ‫تلحظ �أ ّن َك �ست�ستقبل �أحداً‪،‬‬ ‫ ‬ ‫ �أكرب من املوت‪،‬‬ ‫‪11‬‬

‫‪12‬‬

‫‪ 1 1‬املرجع نف�سه‪� .‬ص‪.45‬‬ ‫‪ 12‬نعيم تلحوق‪� :‬شهوة القيامة‪� .‬ص‪.14‬‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫تنامي الثّنائية الدّ الل ّية‬

‫‪141‬‬

‫و�أبهى من احل ّر ّية‪»...‬‬ ‫ ‬ ‫نوع من �أنواع الهزمية‪ .‬وي ّت�ضح من خالل‬ ‫يرى القارئ يف هذا املو�ضع تلك الق ّوة التي تواجه � ّأي ٍ‬ ‫ميتد على �شكل �سط ٍر‬ ‫العنوان الذي ُو�ض َع للق�صيدة «�شجر ال ّنهايات» �أنّ الق ّوة متثّلت بال�شّ جر الذي ّ‬ ‫وليقدم لنا منوذجاً متف ّرداً قد تف ّوق على الهزمية‪ .‬وعليه‪،‬‬ ‫ال�سماء �إىل الأر�ض ليقهر املوت‪ّ ،‬‬ ‫بني من ّ‬ ‫ف�إن ثنائ ّية (ال�شّ موخ‪/‬الهزمية) هي التي ّ‬ ‫حدي الذي ميكن �أن ُي َّعد‬ ‫تتحكم بامل�شهد لتبينّ عن�صر ال ّت ّ‬ ‫بحد ذاته انت�صاراً‪ ،‬وهو الأمر الذي ينطبق على ال�شّ عوب التي ّ‬ ‫تتمكن من هزمية املعتدين عليها‬ ‫ّ‬ ‫بق ّوة ثباتها ّ‬ ‫ومت�سكها بالإ�صرار على كتابة م�ستقبلها‪.‬‬ ‫وجتذرها يف قيمها ّ‬ ‫ال�سقوط وال ّرف�ض لدى ال�شّ اعر‪ ،‬هو‬ ‫على �أنّ ما يطالعنا يف هذا املجال‪ ،‬بنا ًء على �إدراكنا ملفهومي ّ‬ ‫للديوان‪ .‬وهذا ما يو�ضحه لنا ال�شّ اعر نف�سه‬ ‫ؤيوي ّ‬ ‫الكيف ّية التي ميكن من خاللها متابعة امل�سار ال ّر� ّ‬ ‫بقوله‪:‬‬ ‫«�أنا هو‪...‬‬ ‫ ‬ ‫املغ ّني الوحيد‪،‬‬ ‫ ‬ ‫ال�س ّر‪...‬‬ ‫ �أبحث عن �س ٍّر خلف ّ‬ ‫لأ�ستنطق عدمي‪»...‬‬ ‫ ‬ ‫ال�سابق �أن يجد �صراعاً يف �إطار ثنائ ّية (اخللود‪/‬العدم)‪ ،‬فمن املوا�ضح هنا �أنّ‬ ‫ميكن لقارئ املقطع ّ‬ ‫املحوري الذي ي�سعى �إىل اكت�شاف احلقيقة التي ترقّيه �إىل مرتبة اخللود‪.‬‬ ‫ال�شّ اعر ي ّتخذ دور الفاعل‬ ‫ّ‬ ‫و�صل �إىل ّ‬ ‫وهو بال ّتايل يتح ّول �إىل ٍ‬ ‫الطريقة التي ّمتكنه من اخلروج عن العامل‬ ‫باحث يعمل على ال ّت ّ‬ ‫تو�صل تلحوق‬ ‫ال�سقوط‪ ،‬ال بل وجمابهته ليبلغ القيم اجلديدة التي ين�شدها‪ .‬لكن هل ّ‬ ‫الواقع يف ّ‬ ‫ال�سبيل؟‬ ‫يف ديوانه �إىل ذلك ّ‬ ‫‪13‬‬

‫‪14‬‬

‫‪ .3‬حال القيامة‪:‬‬

‫الديوان «�شهوة القيامة»‪ ،‬وهو عنوان يطلق فكر ًة �صراع ّي ًة‬ ‫تطالعنا هذه احلال منذ التفاتنا �إىل عنوان ّ‬ ‫ب�شكل عا ٍّم ين�ضوي يف �إطار هذه الثّنائ ّية التي‬ ‫حتمل ثنائ ّية (املوت‪/‬احلياة)‪ ،‬وبال ّتايل ف�إنّ ّ‬ ‫الديوان ٍ‬ ‫يت�ضمن ح�ضور الق ّوة‬ ‫تنطلق من مرحلة املوت �إىل مرحلة احلياة‪ ،‬خ�صو�صاً �أنّ العنوان الذي ّ‬ ‫ّ‬ ‫الطبيع ّية التي تدفع نحو القيامة وال ّنهو�ض من خالل لفظة «�شهوة»‪ .‬وعلى هذا الأ�سا�س‪ ،‬ميكننا �أن‬ ‫«قيامي» ي�ؤ ّدي به �إىل بلوغ احلياة احلقيق ّية التي ين�شد قيمها‪.‬‬ ‫نفهم نزعة ال�شّ اعر ّ‬ ‫للدخول يف م�سا ٍر ّ‬ ‫الديوان‪ ،‬وذلك ا�ستناداً �إىل �أنّ ال�شّ هوة‬ ‫ي ّتخذ امل�سار‬ ‫«القيامي» هذا مفهوم ال�شّ هوة منطلقاً له يف ّ‬ ‫ّ‬ ‫‪ 13‬نعيم تلحوق‪� :‬شهوة القيامة‪� .‬ص‪.50 - 49‬‬ ‫‪ 1 4‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص‪.30‬‬ ‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬


‫‪142‬‬

‫ّ‬ ‫وال�سقوط‪ .‬لذلك نعرث على ّ‬ ‫الذات تقوم‬ ‫ت�شكل ح�ضوراً حلرارة احلياة التي تبعد عن قيم املوت ّ‬ ‫مبناجاة ال�شّ هوة التي تعطيها الأمل بالقيامة‪ ،‬يف ما يلي‪:‬‬ ‫«بعيداً‪� ،‬أبحث عنها‪،‬‬ ‫ ‬ ‫ �أجدها قرب عمري‪،‬‬ ‫تنب�ش ال ّلظى من رمو�شي‪»...‬‬ ‫ ‬ ‫فالثّنائ ّية هنا تبدو من خالل عبارة «تنب�ش ال ّلظى» التي حتمل يف ط ّياتها ق ّوتني مت�ضادتني تظهر‬ ‫الأوىل يف فعل ال ّنب�ش الذي ّ‬ ‫الدفن‪� ،‬أي �أ ّنه يعطينا �إيحا ًء ب�أ�سبق ّية حال املوت‪� ،‬أو‬ ‫يدل على حال ّ‬ ‫ب�أ ّنها احلال الأ ّول ّية يف املقطع‪ .‬يف حني �أنّ ح�ضور «ال ّلظى» ي�شري �إىل حرارة احلياة التي تكمن يف‬ ‫الذات لبلوغ حال القيامة‪ ،‬وهو الأمر الذي ّ‬ ‫الذات‪ ،‬والتي ته ّيئ هذه ّ‬ ‫داخل ّ‬ ‫ي�شكل الق ّوة الثّانية‪.‬‬ ‫وبذلك تكون الثّنائ ّية امل�سيطرة هنا هي (املوت‪/‬ال ّنار)‪.‬‬ ‫ال�سابق فح�سب‪ ،‬بل يتجاوزه ليتح ّول �إىل رم ٍز لل ّت�ضحية �أو لعمل ّية‬ ‫�إ ّال �أنّ رمز «ال ّنار» ال ي ّتخذ البعد ّ‬ ‫ال�سياق يطالعنا قول ال�شّ اعر‪:‬‬ ‫الفداء‪ ،‬بحيث تكون عتب ًة للخال�ص‪ .‬ويف هذا ّ‬ ‫«لكن ال ّنار �أو�شكت �صدري‪،‬‬ ‫ ‬ ‫ّ‬ ‫عب جنانك‪»،‬‬ ‫ ‬ ‫و�أنا يف ِّ‬ ‫إرادي‬ ‫نرى‬ ‫ال�صدر مبا يعطي �صور ًة توحي باملوت‪ ،‬غري �أ ّنه موت � ّ‬ ‫بو�ضوح انق�ضا�ض ال ّنار على ّ‬ ‫ٍ‬ ‫الذات (�أنا) يف عمق اجلنان‪� ،‬أي دخول ّ‬ ‫اختياري يظهر من خالل ح�ضور ّ‬ ‫طوعي‬ ‫الذات ٍ‬ ‫ّ‬ ‫ب�شكل ٍّ‬ ‫يدل على ارتباط جانبني متعاك�سني ّ‬ ‫�إىل املكان املن�شود‪ .‬وهذا ما ّ‬ ‫ي�شكالن ثنائ ّية (املوت‪/‬احلياة)‬ ‫التي تربط طرفيها ب�إردا ّية الفعل بحيث يتح ّول املوت �إىل ت�ضحية‪.‬‬ ‫تو�سل‬ ‫ويف جال ٍء لهذه الفكرة‪ ،‬حت�ضر ال ّت�ضحية يف مو�ضع �آخر من ّ‬ ‫الديوان‪ ،‬مب ّين ًة ال ّرغبة العارمة يف ّ‬ ‫هذا الفعل �سبي ًال نحو القيامة‪ ،‬فنقر�أ‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ح�ضنك �شتلةً‪،‬‬ ‫«�إزرعيني يف‬ ‫ ‬ ‫دون ماء‪،‬‬ ‫ ‬ ‫ال�سبيل عط�شاً‪،‬‬ ‫ف�أنا ما‬ ‫ ‬ ‫ُ‬ ‫اخرتت ّ‬ ‫كنت �أدرك �أ ّن ِك ال ّنار‪،‬‬ ‫ ‬ ‫ُ‬ ‫التي تربي ال�شّ وك ورداً‪،‬‬ ‫ ‬ ‫وكنت � ّ‬ ‫أغط ِ‬ ‫يك مبائي‪...‬‬ ‫ ‬ ‫ُ‬ ‫فتد ّللي ما ِ‬ ‫�شئت‪،‬‬ ‫ ‬ ‫‪15‬‬

‫‪16‬‬

‫‪ 15‬نعيم تلحوق‪� :‬شهوة القيامة‪� .‬ص‪.19‬‬ ‫‪ 1 6‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص‪.23‬‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫تنامي الثّنائية الدّ الل ّية‬

‫‪143‬‬

‫واحرقي عمري بنارك‪»،‬‬ ‫ ‬ ‫ال�صورة يف هذه الأ�سطر‪ ،‬ابتدا ًء من �إرادة ال�شّ اعر يف �أن يجعل من نف�سه نبت ًة يف ح�ضن‬ ‫تتد ّرج ّ‬ ‫الآخر امل�ؤ ّنث‪ ،‬مبعنى �أ ّنه يعمل على �أن يكون نابتاً من خاللها‪ ،‬وهو ما ّ‬ ‫يدل على عمل ّية نهو�ض‪� .‬إ ّال‬ ‫فعل �سابقٍ ‪ ،‬يو�ضحه ال�شّ اعر با�ستكمال امل�شهد الذي يبينّ �أ ّنه اختار‬ ‫يتم �إ ّال من خالل ٍ‬ ‫�أنّ هذا ال ّ‬ ‫ّ‬ ‫الطريق التي ت�ؤ ّدي �إليها‪ ،‬مع �أ ّنه علم �أ ّنها ال ّنار‪ ،‬وبال ّتايل ف�إنّ و�صوله �إليها يعني دخوله يف ال ّنار‪� ،‬أو‬ ‫اختيار ال ّت�ضحية‪ ،‬من �أجل �أن يتح ّول �إىل نبتة‪� ،‬أو �إىل مظه ٍر من مظاهر احلياة‪ .‬ومن الوا�ضح �أنّ هذه‬ ‫ال�صورة تتك ّون �ضمن ثنائ ّية (ال ّت�ضحية‪/‬الوالدة)‪ ،‬حيث �أنّ الفعل الأ ّول ي�ؤ ّدي �إىل الثّاين‪ ،‬وينتفي‬ ‫ّ‬ ‫ال ّتناق�ض �أو االختالف بني الق ّوتني‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫حدت بال�شّ اعر نعيم تلحوق �إىل �إعالن توقه لبلوغ احلال‬ ‫ولعل �صورة ال ّتكامل تلك هي التي ّ‬ ‫االنبعاث ّية مهما كان ثمن ال ّت�ضحية قا�سياً‪ ،‬الأمر الذي جنده يف قوله‪:‬‬ ‫«�أح ّب ِك لأ ّن ِك باب ال ّنهاية‪،‬‬ ‫ ‬ ‫ولأنّ القيامة ِ‬ ‫معك بدايات‪»...‬‬ ‫ ‬ ‫الدخول يف �سياق الثّنائ ّية نف�سها‪ ،‬و�أعني (ال ّت�ضحية‪/‬االنبعاث)‪ ،‬حيث جند �أ ّنه‬ ‫نالحظ يف ما �سبق ّ‬ ‫يقبل عليـ(ها) مع �أ ّنها تودي به �إىل ال ّنهاية‪ ،‬غري �أ ّنه �سرعان ما ي�ستكمل الفكرة ليقول ب�أنّ القيامة‬ ‫عري‬ ‫التي �سي�صل �إليها لي�ست بداي ًة وح�سب‪ ،‬بل بدايات �أو حيوات جديدة‪ .‬على �أنّ امل�شهد ال�شّ ّ‬ ‫هذا يحيلنا �إىل �أبعا ٍد �أ�سطور ّي ٍة ت�ضفي على فكرته وجهاً من العظمة‪ ،‬فهي ّ‬ ‫ت�شكل م�شهداً متّوز ّياً‪،‬‬ ‫تعيدنا �إىل ال ّنموذج الأ ّول من مناذج �أ�ساطري االنبعاث‪ ،‬و�أعني رمز «دوموزي �أب�سو» الذي يعني‬ ‫«االبن البا ّر للمياه العذبة»‪� .‬أ ّما عن م�ضمون �أ�سطورته‪ ،‬فهي تتك ّلم عن ت�ضح ّية «دوموزي» بال ّنزول‬ ‫ال�سفلي من �أجل �إنقاذ حبيبته «ع�شتار» ‪ .‬ومن الوا�ضح �أنّ ال�شّ اعر قد ا�ستفاد من هذه‬ ‫�إىل العامل ّ‬ ‫الأ�سطورة ّ‬ ‫احل�ضاري للمجتمع الذي‬ ‫ليوظفها يف �سبيل الغاية التي ين�شدها‪ ،‬وهي حتقيق االنبعاث‬ ‫ّ‬ ‫ميثّله‪.‬‬ ‫لتقدم لنا رمزاً انبعاث ّياً �أو قيام ّياً‪ ،‬ولكن‬ ‫وا�ستناداً �إىل ح�ضور هذه الأ�سطورة‪ ،‬حت�ضر ق�صيدة «ماء» ّ‬ ‫بوج ٍه متف ّر ٍد عن غريه َّممن ا�ستعانوا بهذا ال ّرمز‪ .‬وقد جاء فيها‪:‬‬ ‫‪17‬‬

‫‪18‬‬

‫‪19‬‬

‫‪ 17‬نعيم تلحوق‪� :‬شهوة القيامة‪� .‬ص‪.84 - 83‬‬ ‫‪ 1 8‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص‪.24‬‬ ‫‪ 1 9‬ميكن مراجعة م�ؤ ّلفي ال ّتايل حول مفهوم الأ�سطورة‪:‬‬ ‫للدرا�سات وال ّن�شر‪ّ ،‬‬ ‫الطبعة الأوىل‪،2009 ،‬‬ ‫ ل�ؤي زيتوين‪ :‬مفهوم الأ�سطورة ورمز ّيتها الأدب ّية‪ .‬بريوت‪ ،‬دار فكر ّ‬ ‫�ص‪.73 - 72‬‬ ‫ كما ميكن مراجعة‪:‬‬ ‫آ�سيوي القدمي‪ .‬بريوت‪ ،‬دار ال ّنهار‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫الطبعة‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫طي‬ ‫املتو�س‬ ‫رق‬ ‫يف‬ ‫ة‬ ‫ي‬ ‫احل�ضار‬ ‫ة‬ ‫ي‬ ‫هن‬ ‫الذ‬ ‫البنية‬ ‫ يو�سف احلوراين‪:‬‬ ‫ال�شّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ ّ‬ ‫الأوىل‪� ،1978 ،‬ص ‪.215 - 214‬‬ ‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬


‫‪144‬‬

‫«ما ٌء‪ ،‬لأنّ ظ ّلنا �شار ٌد وغريب‪،‬‬ ‫ ‬ ‫ال�س َيل من ِ‬ ‫خطف رهجته‪...‬‬ ‫ ‬ ‫يخاف ّ‬ ‫اب‬ ‫ ‬ ‫ما ٌء‪ ،‬لي ّتفق الترّ ُ‬ ‫َ‬ ‫فينقذ ال ّنار من طني �سمعته‪»...‬‬ ‫ ‬ ‫وال�ضعيف الذي مثّله ّ‬ ‫(الظ ّل ال�شّ ارد‬ ‫يربز املاء يف الق�صيدة بو�صفه ق ّو ًة تقف يف وجه احل�ضور املز ّيف ّ‬ ‫والغريب) واخلائف من �أن يكون �ضح ّية املاء‪ ،‬وبو�صفه ق ّو ًة تفعل لتجعل الترّ اب متما�سكاً بحيث‬ ‫يحمل نار احلياة واالرتقاء يف داخله بعيداً عن و�ضاعة حال ّ‬ ‫الطني االعتياد ّية‪ ،‬مبعنى �أ ّنه ما ٌء مينح‬ ‫احلياة ويرفع من قيمتها ويجعل من الإن�سان كائناً �سامياً بالفعل‪ .‬وهنا تتبلور ثنائ ّية (املوت‪/‬احلياة)‬ ‫ليكون املاء هو العامل الذي ينقل الب�شر من حال ّ‬ ‫الظ ّل (املوت) �إىل حال ال ّنار (احلياة)‪ ،‬الأمر‬ ‫الذي ّ‬ ‫الدور امللقى على رمز املاء يف الأ�ساطري االنبعاث ّية مبعظمها بو�صفه رمزاً للخ�صوبة‬ ‫ي�شكل ّ‬ ‫الإن�سان ّية وال ّزراع ّية‪ ،‬ومتثي ًال لدور �إله اخل�صب «متّوز»‪ ،‬وهو ال ّتوا�ؤم الذي حدث لدى �شعوب الهالل‬ ‫اخل�صيب القدمية‪.‬‬ ‫بتلم�س حرارة احلياة‬ ‫تقدم نرى �أنّ ال�شّ اعر تل ّب�س امل�سار‬ ‫يف خال�ص ٍة ملا ّ‬ ‫االنبعاثي الذي ابتد�أ ّ‬ ‫ّ‬ ‫احلا�ضرة يف قلب املجتمع‪ّ ،‬ثم انتقل ليدخل يف عمل ّية ال ّت�ضحية الراقية التي ت�ؤ ّدي �إىل بلوغ حال‬ ‫ولعل هذا ما ّ‬ ‫القيامة يف حياة هذا املجتمع �أو الأ ّمة‪� ،‬أو ح ّتى الب�شر‪ّ ...‬‬ ‫ال�سبيل الوحيد الذي‬ ‫�شكل ّ‬ ‫ي�ؤ ّدي �إىل �سيادة قيم احلياة اجلديدة التي ميثّلها ال�شّ اعر‪ ،‬وهو ما عبرّ عنه قائ ًال‪:‬‬ ‫عما ي�ؤول‬ ‫ ‬ ‫«�س� ُ‬ ‫ألت عمري ّ‬ ‫ �إليه م�صريي‬ ‫عما ا�شتكيت‪...‬‬ ‫ ‬ ‫وكيف ت�س�أل ّ‬ ‫ال�صوت يحمل حرباً‪،‬‬ ‫ ‬ ‫فجاءين ّ‬ ‫وي�صرخ ع ّني‪ ،‬الآن‪ ،‬الآن‪،‬‬ ‫ ‬ ‫أنت ابتديت» ‪.‬‬ ‫ � َ‬ ‫‪20‬‬

‫‪21‬‬

‫‪ .4‬اخلامتة‪:‬‬

‫الدالل ّية لدى نعيم‬ ‫حم�صل ٍة ملا ّمت بحثه �سابقاً‪ ،‬ميكننا �أن نرى املدار الذي تدور فيه الثّنائ ّيات ّ‬ ‫يف ّ‬ ‫تلحوق‪� ،‬إذ �أنّ البحث يف املرحلة الثّانية من م�سريته ال�شّ عر ّية بينّ لنا �أنّ الثّنائ ّيات ا ّت�سمت لديه‬ ‫الذات ّية التي �أخذت �أبعاداً ح�ضار ّي ًة وثقاف ّي ًة واجتماع ّية‪ ،‬وبتعب ٍري �أو�ضح ّ‬ ‫بال ّنزعة الوجود ّية ّ‬ ‫�شكلت‬ ‫‪ 20‬نعيم تلحوق‪� :‬شهوة القيامة‪� .‬ص‪.38‬‬ ‫‪ 21‬نعيم تلحوق‪� :‬شهوة القيامة‪� .‬ص‪.37 - 36‬‬


‫تنامي الثّنائية الدّ الل ّية‬

‫حتوالت �أدبية‬

‫‪145‬‬

‫يتهدد‬ ‫الهم‬ ‫أخالقي الذي ّ‬ ‫ّ‬ ‫تلك الثّنائ ّيات حموراً للبحث يف ّ‬ ‫الوجودي لالن�سان واملتع ّلق باخلطر ال ّ‬ ‫ّ‬ ‫الذات ويعمل على تهدمي القيم االن�سان ّية العليا‪ ،‬وهذه القيم هي التي ترفع احلياة وترقّيها على‬ ‫لحوقي‬ ‫امل�ستويات احل�ضار ّية والثّقاف ّية واالجتماع ّية‪ .‬من هذا املنطلق نرى �أنّ ال ّن ّ�ص ال�شّ ّ‬ ‫عري ال ّت ّ‬ ‫�صراع �شامل ٍة لتحقيق قيم احلياة اجلديدة‪.‬‬ ‫يدخل يف عمل ّية ٍ‬ ‫�إ ّال �أنّ تط ّرقنا لديوانه «�شهوة القيامة» حتيلنا �إىل وجه ٍة متف ّرد ٍة �ضمن �إطار ّ‬ ‫الطبيعة العا ّمة لثنائّيات‬ ‫ٍ‬ ‫ال�سقوط‬ ‫متد ٍرج ينتظم يف‬ ‫تلحوق‪ ،‬فهي تندرج داخل م�سا ٍر ّ‬ ‫جت�سد حال ّ‬ ‫حاالت ثالث‪ :‬الأوىل ّ‬ ‫تقدم لنا حال ال ّرف�ض واملواجهة التي ترتبط بوعي عوامل‬ ‫التي يقع فيها املجتمع املعا�صر‪ ،‬والثّان ّية ّ‬ ‫الف�ساد وعدم اال�ست�سالم لها‪� ،‬أ ّما احلال الثّالثة فتتع ّلق بفعل القيامة الذي ّ‬ ‫ي�شكل الغاية الأخرية‬ ‫الكامنة يف عمل ّي ٍة انبعاث ّي ٍة لقيم املجتمع العليا‪� ،‬أو للقيم االن�سان ّية العليا التي تقود احلياة اجلديدة‪.‬‬ ‫وبنا ًء على هذا ال ّر�صد مل�سار الثّنائ ّيات داخل «�شهوة القيامة»‪ ،‬نالحظ �أ ّنها ال تخرج عن طبيعة‬ ‫خا�صاً ي�ستقي دالالته من ال ّرموز الأ�سطور ّية‬ ‫الثّنائ ّيات يف �شعر تلحوق‪ ،‬لك ّنها ت ّتخذ م�ساراً متّوز ّياً ّ‬ ‫ال�سياق جند �إ�شارات رمز ّي ًة من مثال‪ :‬املاء‪ ،‬ال ّنار‪...‬‬ ‫التي تتع ّلق بعمل ّية اخل�صب واالنبعاث‪ ،‬ويف هذا ّ‬ ‫لتقدم � ٍ‬ ‫الديوان‪ ،‬والتي‬ ‫إحاالت نحو البعد‬ ‫الدالل ّية يف هذا ّ‬ ‫«القيامي» الذي ت�شتمل عليه الثّنائ ّية ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ميكن اخت�صارها يف ثنائ ّي َتي (املوت‪/‬احلياة) و(ال ّت�ضحية‪/‬الوالدة)‪.‬‬ ‫ا�ستناداً �إىل ذلك ك ّله‪ ،‬جند �أنّ ديوان «�شهوة القيامة» ّ‬ ‫الدواوين التي‬ ‫�شكل ا�ستكما ًال ل�سل�سلة ّ‬ ‫ال�سياق‬ ‫�أ�صدرها ال�شّ اعر يف املرحلة الثّانية من �شعره التي ت ّتخذ بني ًة ع�ضو ّي ًة ّ‬ ‫موحدة �ضمن ّ‬ ‫ال�سياق‬ ‫ال ّتايل‪�« :‬أظ ّنه وحدي يغ ّني بوحاً يرق�ص كفراً لأنّ ج�سدها �شهوة القيامة»‪ .‬فيعطينا هذا ّ‬ ‫دالل ًة انبعاث ّي ًة تنطلق من وعي ّ‬ ‫الذات بالآخر الذي يحمل يف ط ّياته حراكاً غريباً من �أجل ج�سد‬ ‫«الق�ض ّية» �أو «الأر�ض» �أو «الأ ّمة» والذي ّ‬ ‫بحد ذاته م�ساراً للقيامة �أو االنبعاث‪ .‬ولذلك ميكننا‬ ‫�شكل ّ‬ ‫وزي‬ ‫�أن نرى �أنّ ّ‬ ‫الديوان الأخري يختزن عن�صر الأمل �ضمن �صفحاته‪ ،‬لكونه ي�ضيء لنا امل�سار ال ّت ّم ّ‬ ‫الذي يو�صل نحو اخلال�ص �أو حتقيق احلياة اجلديدة‪.‬‬ ‫�إ ّال �أنّ م�س�ألة البحث يف �شعر نعيم تلحوق تبقى بحاج ٍة �إىل الكثري من الإ�ضاءة على جوانب‬ ‫الدالل ّية والف ّن ّية‪ّ .‬‬ ‫الدرا�سة‬ ‫ولعل من �أبرز هذه اجلوانب‪ ،‬هو الذي تطرحه هذه ّ‬ ‫�أخرى من امل�ستويات ّ‬ ‫واملتع ّلق ببحث ال ّرموز يف نتاجه والأبعاد التي حتيل �إليها‪.‬‬ ‫قدي‪ ،‬كما‬ ‫ختاماً‪ ،‬نقول ب�أنّ ال ّتجربة ال�شّ عر ّية لدى نعيم تلحوق ما تزال بعيد ًة عن اال�ستهالك ال ّن ّ‬ ‫الدرا�سة‬ ‫ال تزال تفا�صيلها الف ّنية وال ّر�ؤيو ّية بحاج ٍة �إىل اال�ستقراء وال ّت ّعمق‪ ،‬على �أمل �أن تكون هذه ّ‬ ‫ٍ‬ ‫�شعري متف ّر ٍد ورا ٍء يف الآن‬ ‫تو�سعاً وتن ّوعاً يف جماالت بحثها‬ ‫الب�سيطة فاحت ًة‬ ‫مل�شروع ٍّ‬ ‫لدرا�سات �أكرث ّ‬ ‫ٍ‬ ‫عينه‪.‬‬

‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬


‫دار كتب للن�شر �ش‪.‬م‪.‬ل‬

‫بناية الربج‪ ،‬الطابق الرابع‪� ،‬ساحة ال�شهداء الو�سط التجاري‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‬ ‫�صندوق بريد‪ ،11-4353 :‬بريوت ‪ -‬لبنان‪.‬‬ ‫هاتف‪)961-1( 983008 /9 :‬‬ ‫فاك�س‪)961-1( 980630 :‬‬ ‫الربيد الإلكرتوين‪kutub@kutubltd.com :‬‬ ‫املوقع الإلكرتوين‪www.kutubltd.com :‬‬


‫‪147‬‬

‫(ترجمة ح�سن حنفي ومراجعة ف�ؤاد زكريا – دار التنوير ‪ 2005‬ط‪ 1‬بريوت)‬

‫| وليد الفاهوم | باحث من فل�سطني‬

‫باروخ �سبينوزا فيل�سوف يهودي هولندي م�شاك�س‪ ،‬عا�ش يف القرن ال�سابع ع�شر‪ ،‬وكان ذا نزعة‬ ‫�إن�سانية عاملية‪ .‬حارب طوال حياته الإ�ستعالء والتف ّوق العن�صري‪ .‬دعا �إىل ف�صل الدين عن الدولة‬ ‫�أو ف�صل الدين عن ال�سيا�سة‪ .‬وكان �ضد �إقامة �أي دولة على �أ�سا�س ديني‪� .‬إنتقد عن�صرية وتقوقع‬ ‫الدين اليهودي الذي ينتمي �إليه‪ ،‬ولذلك ا�ضطهده ر�ؤ�ساء اجلالية اليهودية الهولندية‪ ،‬مما زاده متر ًدا‬ ‫عليها‪ ،‬فر�ضوا عليه احلرمان الديني ‪ ،‬مما ا�ضطره �إىل الهرب للربتغال‪ .‬ونتيجة لعظمته الفكرية حاول‬ ‫بع�ض املفكرين اليهود �إعادته �إىل احلظرية دون جدوى‪ ،‬حتى �أنهم حاولوا تلفيقًا وزو ًرا‪ ،‬خالل‬ ‫القرون الثالثة املا�ضية‪� ،‬أن ير ّدوا نزعته الإن�سانية ال�شاملة �إىل جذور دينية �ض ّيقة‪.‬‬ ‫�إن ما مي ّيز �سبينوزا هو �أ�سلوبه العقلي العلمي الهند�سي يف الكتابة‪ .‬كان ي�ؤمن بال حمدودية العقل‬ ‫الب�شري‪ ،‬و�أن الوجود ينتمي �إىل طبيعة اجلوهر‪ .‬ومن �أهم �آرائه ال�سيا�سية يف وظيفة الدولة «�أن‬ ‫من واجبها �أن تتعهد عقول رعاياها وحتكمهم بالإقناع ال بالإكراه‪ ،‬فالهدف النهائي للحكم لي�س‬ ‫ال�سيطرة‪� ...‬إمنا هو حترير كل �شخ�ص من اخلوف‪ ...‬حتى يعي�ش يف �أمان ككائن عاقل دون حتويله‬ ‫�إىل بهيمة تطيع طاعة عمياء ‪ ،‬فهدف احلكم هو احلرية‪».‬‬ ‫هذا الكتاب امل�شار �إليه �أعاله ‪ ،‬كتاب �صعب لأن مو�ضوعه �صعب و�إ�شكايل‪ ،‬ال ميكن تلخي�صه �أو‬ ‫اختزاله‪ ..‬لذلك ارت�أيت يف هذه املقالة �أن �أقدمه على �شكل �شذرات من وحي هذا الفيل�سوف‪،‬‬ ‫حي ًنا من كالمه ذاته بني مزدوجني ‪ ،‬وحي ًنا �آخر من كالمي‪ ،‬وبحيث تختلط ومتتزج �أناي ب�أناه من‬ ‫خالل الن�ص‪.‬‬ ‫ال�شدة فهم يلتم�سون الن�صح من �أقل النا�س‬ ‫ن�صح النا�س يف �أيام الرخاء ُيعد �إهانة‪� ،‬أما يف �أيام ّ‬ ‫ ُ‬‫ر�شداً‪ ،‬ويعملون ب�أكرث الن�صح بطالناً وتناق�ضاً وزيفاً وخرافة‪.‬‬ ‫ اخلوف �أ�سا�س اخلرافة‪ ..‬ا�ست�سلم الإ�سكندر الكبري للخرافة وجل�أ �إىل الع ّرافني حني خاف على‬‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬

‫حتوالت �أدبية‬

‫�شذرات من وحي �سبينوزا ملن يريد �أن يفكر عن ر�سالته يف الالهوت وال�سيا�سة‬


‫‪148‬‬

‫م�صريه‪ ..‬لكنه عندما انت�صر على داريو�س مل يلج�أ �إىل تكهنات الع ّرافني‪.‬‬ ‫ اخلرافة حتتقر العقل الب�شري‪ ،‬تعتمد على املبالغة وال تقوم على العقل‪ ،‬و�إنمّ ا على الإنفعال‬‫وحده‪ .‬وهي «�أكرث الو�سائل فاعل ّية حلكم العا ّمة‪ .‬وال يحكم ُ‬ ‫العقل العا ّمةَ‪ ،‬بل ي�سريهم الإنفعال ‪...‬‬ ‫لذلك ال �أدعو العامة اىل قراءة هذا الكتاب»‪ .‬هكذا تك ّلم �إ�سبينوزا ‪.‬‬ ‫ «ولكم ي�سعد ع�صرنا (القرن ‪ )17‬لو �أمكننا �أن نرى الدين وقد حترر من كل خرافة‪».‬‬‫ املعجزات يف احلقيقة �أ�شياء طبيعية يعزوها النا�س اىل تدخل خارجي من اهلل يف الطبيعة لإثارة‬‫اخليال وحتريك النفو�س‪ ..‬وذلك حني يعجز النا�س عن تف�سري الأ�سباب‪.‬‬ ‫ املعرفة فعل عقلي‪ ..‬كلما عرف الإن�سان �أكرث اقرتب من اهلل الكامل‪.‬‬‫ ما مي ّيز الأنبياء هو اخليال اخل�صب ال املعرفة‪ .‬النبي لي�س فيل�سوفاً ومن املمكن �أن يكون جاه ًال‬‫يف العلوم على �أنواعها‪ ،‬وهو كذلك‪.‬‬ ‫لقد �أوحى اهلل للأنبياء بالكالم �أو باملظاهر احل�س ّية �أو بالر�ؤية والأحالم و ب�أحالم اليقظة‪ ،‬على‬‫نحو يجعلهم يتخيلون بو�ضوح‪.‬‬ ‫عندما حتدث هيجل عن «حياة ي�سوع» طرح املعجزات جانباً‪� .‬أكرث منه ‪ ..‬ينكر �سبينوزا �ألوهية‬‫امل�سيح �صراحة‪ ،‬ويرى ا�ستحالة �أن ي�صبح اهلل �إن�ساناً‪ .‬امل�سيح فيل�سوف ( حمب للحكمة)‪ ،‬حكيم‬ ‫فريد‪ ،‬عرف احلب العقلي و�أراد تعليم الب�شر عن طريق املثل‪ ،‬وهو احلكمة الأبدية‪� « .‬إنه فم اهلل»‪،‬‬ ‫لذلك فهو �أكرب الفال�سفة‪ .‬فم اهلل جمازاً‪« ،‬وكان من عادة القدماء �أن ين�سبوا �إىل اهلل كل ما يتف ّوق‬ ‫فيه �إن�سان على الآخرين‪».‬‬ ‫ج�سد الإن�سانُ اهلل نتيجة للجهل وق ّلة املعرفة وعدم‬ ‫ ن�سب العربانيون جميع اخلطايا �إىل البدن‪ّ ..‬‬‫القدرة على التجريد‪.‬‬ ‫الوحي يحدث مبقدرة اهلل ‪ .‬وقد �أدركه الأنبياء بالإ�ستعانة باخليال‪ .‬كل بح�سب طاقته وقدرته‬‫على التخ ّيل‪ .‬الوحي نور فطري و�شيء طبيعي‪ .‬والأنبياء ب�شر ذوو قدرة فائقة على اخليال وعلى‬ ‫الطاعة وعلى تطبيق مبادئ الأخالق‪ .‬الوحي يهبط على الأنبياء مبا يتنا�سب مع �آرائهم وثقافتهم‬ ‫وم�ستوى وعيهم‪.‬‬ ‫ اخليال ال يعني فكراً �أكمل ‪ ..‬وهو يعتمد على املزاج والبيئة والثقافة‪« .‬كلما زاد اخليال َّقل‬‫الإ�ستعداد ملعرفة الأ�شياء بالذهن اخلال�ص»‪.‬‬ ‫ �سبينوزا فيل�سوف مق ّنع‪ ،‬جاء ليهدم �سلطة الكتاب املقد�س‪ ،‬قيل عنه �أنه يهودي من الهاي يعلن‬‫الثورة‪ ،‬وهو اليهودي املتم ّرد على يهوديته‪.‬‬ ‫‪« -‬النبوات �أو التمثالت كانت تختلف باختالف �آراء الأنبياء‪ ...‬النب ّوة مل جتعل الأنبياء �أكرث‬


‫�شذرات من وحي �شبينوزا‬

‫حتوالت �أدبية‬

‫‪149‬‬

‫حل من ت�صديقهم فيما يتعلق‬ ‫علماً‪ ،‬بل تركتهم على �آرائهم التي ك ّونوها �سلفاً‪ ،‬ومن ثم نكون يف ٍ‬ ‫بالأمور النظرية اخلال�صة‪ ...‬بع�ض ن�صو�ص الكتاب تخربنا بو�ضوح تام ب�أن بع�ض الأنبياء قد جهلوا‬ ‫بع�ض الأ�شياء‪ ،‬ف�إن النا�س يف�ضلون �أن ي�ص ّرحوا ب�أنهم ال يفهمون هذه الن�صو�ص‪ ،‬على �أن ي�س ّلموا‬ ‫ب�أن الأنبياء قد جهلوا �شيئاً ما‪� ،‬أو هم يتع�سفون يف ت�أويل ن�ص الكتاب لكي يخرجوا منه مبا مل يقل‬ ‫الن�ص �صراحة‪�( ».‬ص ‪.)151‬‬ ‫ من بع�ض ن�صو�ص التوراة يظهر �أن اهلل هو رب الأرباب �أي كبري الآلهة‪ ...‬وعليه ف�أين التوحيد؟‬‫هذا الكبري ا�صطفى العربانيني وترك باقي الأمم يف رعاية الآلهة الأخرى التي حل حملها‪ .‬ومن‬ ‫هنا �سمي ب�إله �إ�سرائيل‪ .‬هذا الكبري هو اهلل يف اعتقاد مو�سى‪ ،‬وهو يقطن ال�سماوات‪ .‬كذلك تقطن‬ ‫�آلهة الوثنيني يف ال�سماوات‪ .‬هذه الفكرة كانت وما زالت �شائعة عند جميع الأمم‪.‬‬ ‫ «ل�سنا ملزمني بالإميان بالأنبياء � اّإل فيما يتعلق بغاية الوحي وجوهره‪� .‬أما فيما عدا ذلك في�ستطيع‬‫كل فرد �أن ي�ؤمن مبا ي�شاء بحر ّية تا ّمة»‪�( .‬ص ‪ )162‬يتك ّيف الوحي ح�سب �آراء الأنبياء‪ ،‬و�إن الوحي‬ ‫والنبوءات تتكون من خلق اخليال الذاتي (احلا�شية)‪ .‬وهذه النظر ّية التي ي�ضعها �سبينوزا تق�ضي‬ ‫على ما بقي من �سلطة الكتاب‪ ..‬وغايته التمييز بني الفل�سفة والالهوت‪.‬‬ ‫ جاء مو�سى «ليعلم العربانيني عبادة اهلل و�أن يربطهم به بطريقة تنا�سب روحهم ال�ساذجة‪�( ».‬ص‬‫‪)166‬‬ ‫ يعتقد �سبينوزا �أن الإلهى هو نظام الطبيعة الثابت‪« ،‬و�أن قوانني الطبيعة ال�شاملة‪ ...‬لي�ست �سوى‬‫�أوامر اهلل الأزلية‪�( ».‬ص ‪)167‬‬ ‫ اليهود لي�سوا �شعب اهلل املختار كما يظ ّنون‪ ..‬اهلل ال مي ّيز بني �أبنائه‪ ..‬هذه نظرية عن�صرية تريد‬‫تف�ضيل �شعب معني على باقي �شعوب الأر�ض‪ .‬اليهودية دين مغلق‪ ،‬ينح�صر يف �أ ّمة واحدة‪...‬‬ ‫حتى لو كان اهلل قد ا�صطفاهم فقد كان ذلك يف زمن معني وظروف معينة ولي�س على َم ِّر الزمان‪.‬‬ ‫ «النب ّوة مل تكن قا�صرة على العربانيني» (�ص ‪ ،)173‬عدا ذلك فكثري من �أنبياء بني ا�سرائيل‬‫تنب�أوا لكل الأمم وجلميع النا�س‪.‬‬ ‫�أيوب مل يكن يهودياً وهنالك �شخ�ص ّية عند البابليني تطابق �شخ�ص ّية �أيوب ال�صابر‪ .‬كذلك‬ ‫حكاية امليالد العذري ل�سرجون الأول حيث و�ضعته �أمة يف النهر ب�س ّلة دهنتها بالقار وجرفه التيار‬ ‫�إىل ب�ستان �آكي‪ ،‬الذي تبناه �إىل �أن ا�صطفته ع�شتار وجعلت منه ً‬ ‫ملكا‪ ...‬كذلك ت�شبه هذه احلكاية‬ ‫حكاية مو�سى والنيل وزوجة فرعون التوراتية‪.‬‬ ‫ التوراة لي�ست مل�ؤلف واحد‪ .‬كتبت التوراة على مدار �ألفي �سنة‪ُ .‬حذفت منها �أجزاء ال تنا�سب‬‫ق�صة اخلليقة تطابق حكايات و�أ�ساطري البابليني وال�سومريني (الإينوما ايلي�ش)‪ ،‬وكذلك‬ ‫الأحبار‪ّ .‬‬ ‫�أ�ساطري اخللق يف تراث الهنود احلمر‪ .‬حكاية �آدم تطابق �أ�سطورة خلق �أنكيدو �صديق جلجام�ش‬ ‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬


‫‪150‬‬

‫(‪ 800‬ق‪.‬م‪ .).‬الثقافات تتالقح و�سل�سلة احل�ضارات مت�شابكة‪ ،‬كل حلقة ترتبط مبا قبلها ومبا بعدها‬ ‫حتى يومنا هذا‪ .‬تلتقى بع�ض الأ�ساطري اليونانية والرافدية والفرعونية مع بع�ض حكايات التوراة‪،‬‬ ‫وهذا لي�س بغريب على �أذهان الب�شر‪.‬‬ ‫ اليهودية دين خا�ص‪�« ،‬أر�سل اهلل م�سيحه لكل الأمم ليخ ّل�صها باملثل من عبودية ال�شريعة» بهدف‬‫�إدراك املعنى احلقيقي لل�شريعة‪�( .‬ص ‪.)178‬‬ ‫ «اهلل مل يخرت العربانيني اىل الأبد‪ ،‬بل اختارهم يف نف�س الظروف التي �إختار فيها الكنعانيني»‬‫منذ خم�سة �آلآف �سنة‪.‬‬ ‫ انعزال اليهود عن باقي الأمم جلب لهم الكراهية ‪ ..‬تلك الكراهية التي هي �أ�سا�س بقائهم‬‫وتوحدهم‪ .‬هذا بالإ�ضافة �إىل طقو�سهم يف اخلتان والعبادات التي ت�ضمن وجودهم الأزيل‪ .‬يقول‬ ‫�سبينوزا �ساخراً‪« :‬ب�أن اليهود �سيعيدون بناء �أمرباطوريتهم يف وقت ما‪ ،‬و�إن اهلل �سيختارهم من‬ ‫جديد» (�ص ‪� .)182‬ساخراً‪ ،‬لأنه ال يعتقد �أن اليهود �شعب اهلل املختار ولأن عدالته الطبيعية‬ ‫تقت�ضي عدم التمييز فيما بني الأمم‪.‬‬ ‫ القانون الإلهي هو القانون الطبيعي‪ ..‬الطبيعية هي الأم التي ال مت ّيز بني �أبنائها‪ .‬وهو اخلري‬‫الأق�صى واملعرفة احلقة وحب اهلل‪�( .‬ص ‪ « .)185‬خرينا الأق�صى وكمالنا يعتمدان على معرفة اهلل‬ ‫وحدها‪ ..‬كلما ازدادت معرفتنا بالأ�شياء يف الطبيعة كانت املعرفة التي نح�صل عليها باهلل �أعظم‬ ‫و�أكمل‪ ...‬كلما عرفنا �أ�شياء �أكرث يف الطبيعة كانت معرفتنا ملاهية اهلل‪( ...‬علة الأ�شياء جميعها)‬ ‫�أكمل‪ ...‬اهلل نف�سه من حيث وجوده فينا كفكرة‪ ،‬ميكن �أن ت�سمى �أوامر اهلل‪ ،‬لأن اهلل نف�سه هو‪ ،‬على‬ ‫ن�سمي قاعدة احلياة‬ ‫نحو ما‪ ،‬م�صدرها بقدر ما يوجد يف �أنف�سنا‪ .‬ومن هنا ف�إن لنا كل احلق يف �أن ّ‬ ‫التي ت�ستهدف هذه الغاية قانوناً �آلهيا‪.)186 ( ».‬‬ ‫ ذلك يجعل حب اهلل ال خوفاً من عذابه‪ ،‬وال طمعاً يف نعمه‪ ،‬ح ّباً خال�صاً لأن اهلل كامل و «‬‫�أوامره وم�شيئته حقائق �أزلية تنطوي دائماً على �ضرورة» (‪)193‬‬ ‫ هنالك وحدة بني القانون الإلهي والقانون ال�شامل‪ ،‬ال بني القانون الإلهي وال�شعائر‪ .‬كل يعبد‬‫اهلل بطريقته‪ ،‬تختلف ال�شعائر والطقو�س ويبقى القانون الإلهي واحداً‪.‬‬ ‫ مو�سى بنى دولة ‪ -‬مملكة الأر�ض‪ .‬وعي�سى بني مملكة ال�سماء‪ .‬مو�سى بالتهديد والوعيد وعي�سى‬‫باملحبة‪ ..‬مو�سى بالإنكفاء على الذات وعي�سى بالإنفتاح على باقي الأمم‪.‬‬ ‫مو�سى �أدخل الدين يف الدولة وعي�سى حرر الدين من الدولة فما لقي�صر لقي�صر وما هلل هلل‪.‬‬ ‫«�شريعة مو�سى كلها تتعلق بدولة العربانيني وحدها «‪�( .‬ص‪)205‬‬ ‫‪ -‬ال�صهيونية اليوم مثل ال�صهيونية امل�سيحية تقتفي �أثر مو�سى وترتكز على العهد القدمي يف اخللط‬


‫�شذرات من وحي �شبينوزا‬

‫حتوالت �أدبية‬

‫‪151‬‬

‫ما بني الدين والدولة‪ ،‬حتكم با�سم الإله‪ ،‬وتقحم الدين يف ال�سيا�سة وال�سيا�سة بالدين وال تف ّرق‬ ‫بني الثابت واملتحرك‪ .‬قبل قرون �أ�صدر البي�ض يف �أمريكا قوانني للإ�ستيالء على �أرا�ضي الهنود‬ ‫احلمر ب�صورة فورية ا�ستنا ًدا �إىل �أ�س�س �إجنيلية وكانوا يزعمون �أن اهلل منحهم هذه الأرا�ضي و�أنهم‬ ‫�شعبه املختار‪.‬‬ ‫ �إن ق�ص�ص الكتب املقد�سة �ضرورة‪ ،‬لأن �أذهان العامة ال تقوى على �إدراك الأ�شياء بو�ضوح‬‫ومتييز‪�( .‬ص ‪« )208‬الت�صديق بالروايات‪ ...‬ال �صلة له بالقانون الإلهي» (�ص ‪)210‬‬ ‫ ي�سمي العامة خوارق الطبيعة معجزات �أو �أعمال اهلل وقد «اعتاد النا�س ت�سمية الذي يجهل‬‫العامة �سببه عم ًال �إلهياً»‪ .‬وك�أن من يبذل جهده يف تف�سريه بالعلل الطبيعية قد �ألغى اهلل‪.‬‬ ‫ اخلوف واجلهل مثل الربد �أ�سا�س كل عِ ّلة‪ .‬اجلهل الإن�ساين يخلط بني �أوامر اهلل و�أوامر الب�شر‪.‬‬‫«القوانني العامة للطبيعة لي�ست �إال �أوامر �إلهية ت�صدر عن �ضرورة الطبيعة الإلهية وكمالها‪ ...‬ال‬ ‫يحدث �شيء يف الطبيعة مناق�ضاً لقوانينها العامة‪ ...‬قدرة الطبيعة ال نهائية‪ ...‬القدماء �أدخلوا يف‬ ‫باب املعجزات كل ما مل ي�ستطيعوا تف�سريه»‪�( .‬ص ‪.)215-216‬‬ ‫«كلما ازدادت معرفتنا بالأ�شياء الطبيعية‪ ...‬ازددنا معرف ًة باهلل وب�إرادته» (�ص ‪ .)218‬ي�ستطيع‬ ‫الإن�سان �أن ي�صل �إىل اهلل مبا يعرف ال مبا يجهل‪( .‬الهام�ش)‬ ‫الكتاب (يق�صد التوراة) ال يريد �إقناع العقل‪ ،‬بل يريد �إثارة اخليال و�شحذ قدرته على الت�صوير‪..‬‬ ‫«كل ما يناق�ض الطبيعة يناق�ض العقل»‪�( .‬ص ‪)225‬‬ ‫احلادثة الواحدة‪ ،‬حني تروى من قبل �شخ�صني خمتلفني يف ر�أيهما تظهر وك�أنها حادثان خمتلفان‪.‬‬ ‫أنا�س ك�أنها وقائع‪.‬‬ ‫�إذن كيف يكون الأمر حني نتحدث عن ر�ؤى و�أمور خيالية ّ‬ ‫ق�صها علينا � ٌ‬ ‫يعرتف اجلميع ب�أن الكتاب املقد�س هو كالم اهلل‪ .‬ونرى اجلميع تقريباً قد ا�ستبدلوا بدعهم بكالم‬ ‫اهلل‪« ،‬يبذلون جهدهم با�سم الدين من �أجل �إرغام الآخرين على �أن يفكروا مثلهم» فهم ي�ؤولون‬ ‫ويدعون �أنه من عند اهلل‪�( .‬ص‬ ‫الكتاب ق�سراً لتربير هذه البدع واحلكم با�سم اهلل‪ .‬الب�شر يكتبون ّ‬ ‫‪)233‬‬ ‫قال الفيل�سوف العربي الإ�سالمي ‪ -‬الكندي ‪ -‬قبل �سبينوزا بثمانية قرون‪� :‬إن بع�ض رجال الدين‬ ‫يقذفون الفال�سفة بالكفر والإحلاد «ذباً عن كرا�سيهم املز َّورة التي ن�صبوها (لأنف�سهم) من غري‬ ‫ا�ستحقاق‪ ،‬بل للرت�ؤ�س والتجارة بالدين‪ ،‬وهم عدماء الدين‪ ،‬لأن من تاجر ب�شيء باعه‪ ،‬ومن باع‬ ‫�شيئاً مل يكن له‪ .‬فمن تاجر بالدين مل يكن له دين‪ ».‬وقد ع ّرف الكندي الفل�سفة ب�أنها «علم‬ ‫الأ�شياء بحقائقها»‪( .‬ح�سني مروة‪ -‬النزعات املادية يف الفل�سفة العربية ‪ -‬الإ�سالمية‪ .‬دار الفارابي‬ ‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬


‫‪152‬‬

‫‪ 1981‬ط ‪� 4‬ص ‪)59‬‬ ‫«بع�ض �أحبار العربانيني‪ ،‬كفرة فا�سقون و�صلوا �إىل احلربوية بو�سائل �إجرامية» (�ص ‪.)254‬ذلك ال‬ ‫يقت�صر على الأحبار‪.‬‬ ‫يجب علينا تف�سري الكتاب بالعقل النقدي �أو بالنقد الداخلي الذي يعتمد على العقل وفهم‬ ‫الناحية التاريخية التي �أحاطت بكتابة الن�صو�ص‪ ،‬وبظروف الرواة‪ ،‬ومبدى علمهم وثقافتهم يف‬ ‫حينه‪ ،‬ومبزاجهم و�سيرَ هم الذاتية‪ ،‬وب�أحوالهم املادية وتكوينهم الذهني‪ ،‬وبخ�صائ�ص اللغة التي‬ ‫ُد ّونت بها �أ�سفار الكتاب املقد�س‪ ،‬وبفهم املعنى من ال�سياق‪ ،‬ال الإلت�صاق بالن�ص احلريف‪.‬‬ ‫يف التوراة ا�ضطراب زماين‪ ،‬فهي تن�سب �إىل مو�سى ما ال ميكن �أن يقوله من الناحية التاريخية‪،‬‬ ‫خا�صة ما يتعلق بالكنعانيني الذين كانوا ميلكون هذه الأر�ض يف زمن مو�سى‪ .‬وكذلك « �سفر‬ ‫ي�شوع لي�س من و�ضع ي�شوع نف�سه»‪�( .‬ص ‪� )265‬أ ّما �سفر الق�ضاة « فال �أظن �أن �شخ�صاً �سليم العقل‬ ‫يعتقد �أن الق�ضاة �أنف�سهم كتبوه‪ ...‬و�أ�سفار �صموئيل‪ ...‬الق�صة ت�ستمر بعد وفاته بوقت طويل‪...‬‬ ‫�أ�سفار امللوك قد مت اقتبا�سها‪ ...‬من كتب حكومة �سليمان ومن �أخبار ملوك يهوذا ومن �أخبار ملوك‬ ‫�إ�سرائيل‪ ...‬كتبها م�ؤرخ واحد» (�ص ‪ )267‬هو عزرا كما يقول �سبينوزا‪.‬‬ ‫� اّإل �أن عزرا «مل يكن �آخر من �صاغ الروايات املت�ضمنة يف هذه الأ�سفار و�أنه مل يفعل �أكرث من‬ ‫جمع روايات موجودة عند ك ّتاب متعددين» (�ص ‪ )275‬دون فح�ص �أو ترتيب‪ .‬لذلك نرى التكرار‬ ‫ون�شهد اختالف الأ�سلوب‪ ،‬والإختالف يف ح�سابات ال�سنني‪�( .‬ص ‪ )277‬واخللط يف الأزمنة‪.‬‬ ‫الن�ساخ (�ص ‪ ،)289‬ال كما يقول بع�ض القباليني �إن‬ ‫(�ص ‪ )280‬والن�صو�ص املبتورة نظ ًرا لعجز فهم ّ‬ ‫وراءها �أ�سراراً يف غاية العمق متاماً مثل ما تقوم عليه تقوى العجائز املخرفني من ت ّرهات‪�( .‬ص ‪)289‬‬ ‫وكذلك يبدو الإ�ضطراب «يف تكري�س النبوات دون �أ ّية مراعاة لرتتيبها الزمني»‪�( .‬ص ‪)301‬‬ ‫الق�صة رمزية‪ ،‬والبع�ض الآخر‬ ‫�أما �أذا عدنا �إىل �سفر �أيوب‪ ،‬فالبع�ض يظن �أن مو�سى هو م�ؤلفه و�أن ّ‬ ‫يظن �أنها ق�صة حقيقية‪� .‬أما عزراً فيعتقد �أنها ترجمت �إىل العربية من لغة �أخرى‪ .‬ومل يكن �سبينوزا‬ ‫ليعلم ان ايوب هذا بابلي عا�ش يف الألف ّية الثالثة ق‪.‬م‪� .‬أي قبل �أيوب التوراتي مبئات ال�سنني‪.‬‬ ‫�إنه ّ‬ ‫«املعذب البابلي» �أو «ال�صالح املت�أمل» وقد اكت�شفت �ألواح من ال ُآجر يف العراق تتحدث‬ ‫�شعراً عن هذا الرجل ال�صالح ‪� -‬شو ب�ش ي�شري �شاقان‪ ،‬املعذب البابلي‪ ،‬حيث نرى مدى ت�أثر‬ ‫العربانيني ب�سفر �أيوب بهذه الق�صيدة‪( .‬الأ�سطورة والتوراة ‪ -‬ناجح املعموري �إ�صدار امل�ؤ�س�سة‬ ‫العربية للدرا�سات والن�شر ظ‪� 2002 1-‬ص ‪ )83-111‬كذلك الأمر بالن�سبة لطوفان نوح التوراتي‬ ‫الذي جاء على �شكل طوفان اتراح�سي�س يف الأدب العراقي القدمي‪ ،‬حيث �أراد الإله «�أيا» (�إله‬ ‫احلكمة) جت ّنب فناء الب�شر‪ ،‬ف�أوحى �إىل «نوح البابلي» بقرب الكارثة‪ ،‬وعلى الأغلب �أنه �أوتنا ب�شتيم‬ ‫الذي جاء ذكره يف ملحمة جلجام�ش‪ .‬وكانت هذه امللحمة و�ألواح �سومر قد اكت�شفت يف القرن‬ ‫التا�سع ع�شر‪� .‬أي بعد �سبينوزا بقرنني‪ .‬ا�ستلهم يهود ال�سبي البابلي (‪ 538‬ق‪.‬م‪� ).‬سرية لوط يف‬


‫�شذرات من وحي �شبينوزا‬

‫حتوالت �أدبية‬

‫‪153‬‬

‫�سفر التكوين من الأ�سطورة البابلية لإله الطاعون �إيرا‪ ،‬الذي د ّمر مدينتي بابل و�إيريك‪ ،‬حني‬ ‫طغت بابل وفجرت �إيريك‪ ،‬مدينة البغايا املقد�سات والغلمان واخل�صيان واملثليني‪ ،‬يف معبد ع�شتار‪.‬‬ ‫يتح ّول �إيرا �إىل يهوا وت�صبح مدينتي بابل و�إيريك �سدوم وعمورة‪.‬‬ ‫�إن تاريخ الديانات مليء مبثل هذه املقاربات‪ .‬و�إن م�ستوى التنا�ص وا�ضح و�ضوح ال�شم�س يف‬ ‫خ�صو�صا‬ ‫بع�ض الأحيان‪� ،‬إذ يبلغ حد التماثل يف ن�صو�ص التوراة ون�صو�ص ال�شرق الأدنى القدمي ‪،‬‬ ‫ً‬ ‫الرافدي والفرعوين‪.‬‬ ‫«مل تكن هناك جمموعة مقننة من الكتب املقد�سة قبل ع�صر املكابيني»‪�( .‬ص ‪)313‬‬ ‫«القانون الإلهي م�سطور يف القلوب‪� ...‬أخ�شى �أن ي�ؤدي التطرف يف التقدي�س اىل حتويل الدين �إىل‬ ‫خرافة‪ ،‬و�أن ين�صرف النا�س �إىل عبادة التماثيل وال�صور‪�،‬أي الورق امل�س ّود‪ ،‬بد ًال من كالم اهلل»‪.‬‬ ‫(�ص ‪)328‬‬ ‫غاية الالهوت هي الطاعة والتقوى وغاية الفل�سفة هي احلق والعقل واحلرية‪ ،‬وال ميكن �أن يلتقي‬ ‫الالهوت مع الفل�سفة‪�( .‬ص ‪)353‬‬ ‫للاّ هوت مملكة التقوى واخل�ضوع وللعقل مملكة احلقيقة واحلكمة واحلرية‪�(.‬ص ‪)360‬‬ ‫عند العربانيني القدامى �أ�صبحت الدولة مملكة اهلل و «�أ�صبح اهلل ي�سمى بحق ملك العربانيني»‬ ‫وهذا احلكم الثيوقراطي ف ّو�ض مو�سى « يف الت�شاور مع اهلل وتف�سري �أوامره»‪�( .‬ص ‪ )389‬ومن بعد‬ ‫غزو بالد الكنعانيني با�سم اهلل‪ ،‬وكان اجلي�ش هو جي�ش اهلل‪ ،‬واهلل ذاته �أ�صبح �إله اجليو�ش التي‬ ‫�شكلتها الأ�سباط املتحالفة‪ .‬وقد �أ�صبح «حب الوطن» تقوى وكراهية الأغيار «واجب ديني» ‪-‬‬ ‫«كراهية تتولد عن الإميان والتقوى»‪�( .‬ص ‪ )401‬وعندما عال �ش�أن الطبقة احلاكمة (الكهنوت)‬ ‫ومتيزت وحكمت ‪ ،‬بد�أت اخلالفات الداخلية واملنازعات وانهارت هذه الدولة الثيوقراطية �أمام‬ ‫اخلارج‪ .‬لذلك يعتقد بع�ض املفكرين ‪ -‬و�أنا منهم ‪� -‬أنه لو عا�ش �سبينوزا يف القرن الع�شرين ملا كان‬ ‫ليوافق على قيام دولة �إ�سرائيل ال�صهيونية بالأ�سلوب وبال�شكل الذي قامت عليه‪.‬‬ ‫انتهت �سلطة الكهنوت لي�س نتيجة الع�صيان �أو غ�ضب الرب �إمنا نتيجة لأ�سباب مو�ضوعية مثل‬ ‫الإنغالق وال�شعور بالتم ّيز والطغيان و�سعي الأحبار للو�صول �إىل ال�سلطة البطريركية على ح�ساب‬ ‫الدين‪�( ،‬ص ‪ )413‬والت�سرت وراء الدين (‪.)416‬‬ ‫«من اخلطورة على الدين وعلى الدولة على ال�سواء �إعطاء من يقدمون ب�ش�ؤون الدين احلق يف‬ ‫�إ�صدار القرارات‪� ،‬أ ًيا كانت‪� ،‬أو التدخل يف �ش�ؤون الدولة‪.‬‬ ‫من اخلطورة �أن جنعل القانون الإلهي معتمداً على املذاهب التي تقوم على النظر البحت‪ ،‬و�أن‬ ‫ن�ضع القوانني على �أ�سا�س من الآراء التي هي على الأقل مو�ضوع خالف دائم بني النا�س‪.‬‬ ‫من ال�ضروري الإعرتاف لل�سلطة العليا باحلق يف تقرير ماهو �شرعي وماهو غري �شرعي‪ ،‬وذلك حتقيقاً‬ ‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬


‫‪154‬‬

‫مل�صلحة الدين والدولة على ال�سواء‪�( ».‬ص ‪.)417-416‬‬ ‫«ال�سلطة احلاكمة هي وحدها �صاحبة احلق يف تنظيم ال�ش�ؤون الدينية‪�( ».‬ص ‪)421‬‬ ‫«م�صلحة ال�شعب هي القانون الأ�سمى الذي يجب �أن تخ�ضع له كل الت�شريعات الإن�سانية‬ ‫والإلهية!» (�ص ‪ )426‬وبذلك ي�صبح الدين عند �سبينوزا ديناً مدنياً‪ .‬بناء عليه ف�إن �سبينوزا ال‬ ‫ي�ؤمن بف�صل الدين عن الدولة وح�سب‪� ،‬إمنا على الدولة �أن ترعى ال�ش�ؤون الدينية �أي�ضا‪.‬‬ ‫ال ميكن لأي �إن�سان �أن يتخلى عن حر ّيته‪ ،‬احلرية هي �شرط �أ�سا�سي لتقدم العلوم والفنون‪« .‬كلما‬ ‫حاول املرء �سلب النا�س حريتهم يف التعبري ا�ستثار مقاومتهم» (�ص ‪ )440‬يف بع�ض الدول املتقدمة‬ ‫قوانني متنع العامل من التنازل عن حقوقه‪.‬‬ ‫يختتم �سبينوزا ر�سالته بقوله‪�« :‬أدرك �أنني ب�شر و�أن من املمكن �أن �أكون قد �أخط�أت‪ .‬ولكنني على‬ ‫الأقل حاولت بقدر طاقتي �أال �أقع يف اخلط�أ‪�( ».‬ص ‪)444‬‬


‫‪155‬‬

‫وقائع م�رشقية‬

‫ٍ‬ ‫م�ساحات خمتلفة‬ ‫امل�رشقية‪ ...‬كلمة يف‬ ‫| و�سام عبد اهلل | �صحايف‬

‫تعددت الأحزاب وال�شخ�صيات وامل�ؤ�س�سات االعالمية التي ا�ستخدمت يف الفرتة املا�ضية كلمة‬ ‫«امل�شرقية» �أو «امل�شرق العربي»‪ ،‬وااللتقاء على هذه الكلمات يعود �إىل ارتباط دول امل�شرق العربي‬ ‫ببع�ضها جغرافيا واجتماعيا وح�ضاريا من جهة وكونها متر جميعها ب�أزمة وجودية واحدة‪ ،‬ففر�ضت‬ ‫نف�سها على كل التيارات ال�سيا�سية واالقت�صادية والدينية والثقافية ف�إما مت ا�ستخدامها للتعبري عن‬ ‫عقيدة او نظرة اقت�صادية او �أحداث �سيا�سية مرتابطة‪ .‬نحاول فيما يلي �إعطاء ملحة عن التنوع يف‬ ‫ا�ستخدام هذه امل�صطلحات على الرغم من االختالف يف منطلق كل جهة ا�ستخدمتها لإي�صال‬ ‫فكرة حمددة منها تتنا�سب مع توجهاتها ومنطلقاتها‪.‬‬ ‫امل�رشقية «�إعالميا»‬

‫على �شا�شة قناة «امليادين» تقدم فكرة امل�شرق العربي مبحاور خمتلفة‪ ،‬فيعر�ض برنامج �أجرا�س‬ ‫امل�شرق الذي يقدمه ويعده الباحث غ�سان ال�شامي‪ ،‬وهو برنامج «يهتم ب�ش�ؤون امل�سيحني يف امل�شرق‬ ‫وامل�شكالت الراهنة التي تعرت�ض امل�سيحني امل�شرقيني»‪ ،‬يحاور يف احل�ضارة امل�شرقية م�ست�ضيفاً‬ ‫رجال دين ومفكرين للبحث يف البعد الثقايف والفكري يف امل�شرق‪ ،‬وكانت مروحة احلوارات‬ ‫متنوعة بتنوع ال�ضيوف‪ ،‬فمن مطران حلب لل�سريان الأرثوذك�س ابراهيم حنا و�أمني عام احلوار‬ ‫اال�سالمي امل�سيحي حممد ال�سماك واملفكر فرا�س �سواح والدكتور حممد حمفل ومطران االرمن‬ ‫الأرثوذك�س يف دم�شق �أرما�ش نالبنديان والنائب العراقي يونادم كنا وغريهم‪� ،‬ضمن عملية ربط‬ ‫التاريخ باحلا�ضر وامل�ستقبل‪ ،‬يف م�ساحة لإظهار امل�شرتك من احل�ضارات القدمية �إىل امل�سيحية‬ ‫واال�سالم‪� .‬ضمن ن�شرات االخبار اليومية تقدم ن�شرة حتت عنوان «العراق و�سوريا» يعر�ض يف‬ ‫الن�شرة االخبار واالحداث االقت�صادية وال�سيا�سية واالجتماعية واالمنية يف البلدين بهدف‬ ‫�إي�صال �صورة ارتباط م�سار وم�صري البلدين معا يف خمتلف الق�ضايا امل�شرتكة‪.‬‬

‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬


‫‪156‬‬

‫جريدة «الأخبار» اللبنانية �أفردت زاوية خا�صة يف ق�سم الر�أي حتت عنوان «ق�ضايا امل�شرق»‪ ،‬يعر�ض‬ ‫فيها م�ساهمات يف ق�ضايا (�سوريا‪ ،‬لبنان‪ ،‬االردن‪ ،‬فل�سطني‪ ،‬العراق)‪ ،‬فتناولت اجلريدة يف عددها‬ ‫ال�صادر يف ‪� 2‬آب ‪ 2013‬ق�ضية العالقات ال�سورية ‪ -‬اللبنانية ففتحت باب امل�ساهمة يف حوار يهدف‬ ‫للو�صول �إىل «�إطار �سيا�سي جديد‪ ،‬ي�سمح للمثقفني ال�سوريني واللبنانيني‪ ،‬بالت�أثري على جمرى‬ ‫التطورات‪ ،‬وامل�شاركة يف بناء ال�صيغة ال�سورية ـ اللبنانية اجلديدة»‪ ،‬فاعترب الكاتب عالء املوىل �أنه‬ ‫حني يكون ال�ش�أن يتعلق ب�سوريا ف�إن انتماء االق�ضية االربعة يف لبنان «حمفور يف الوجدان وحتت‬ ‫الطبقات املرتاكمة فوق �سطح الوعي اجلمعي‪ .‬وهذه احلقيقة ال تزال حا�ضرة بقوة‪ ،‬وتزداد �صالبة»‪.‬‬ ‫يف عددها ال�صادر يف ‪� 17‬آب ‪ 2103‬تناولت ق�ضية العالقات الأردنية ‪ -‬الفل�سطينية وو�ضعهما‬ ‫على مذبح املفاو�ضات التي ت�سعى الواليات املتحدة االمريكية على تنفيذها بالتزامن مع االزمة‬ ‫ال�سورية‪ ،‬فحذر الكاتب م�صطفى �أر�شيد من فل�سطني من خطورة املفاو�ضات التي ت�سعى الواليات‬ ‫املتحدة االمريكية لتنفيذها ب�أ�سرع وقت يف زمن يعاين البيت الفل�سطيني من اخللل «الذي �أوقف‬ ‫كل �أ�شكال العمل ال�سيا�سي املقاوم والدبلوما�سي‪ ،‬العتقاده �أن ال خيار �إال خيار التفاو�ض‪ ،‬ثم‬ ‫�أعلن وقف خيار التفاو�ض‪ ،‬و�أن ال عودة �إىل هذا اخليار �إال بعد وقف اال�ستيطان‪ ،‬معطياً الإ�سرائيلي‬ ‫كامل الوقت والفر�صة لال�ستيطان»‪.‬‬ ‫ون�شرت « الأخبار» نداء للجماهري يف امل�شرق العربي يف عددها ال�صادر يف ‪ 8‬متوز ‪ ،2013‬ا�ستعر�ضت‬ ‫فيه تاريخ وتنوع دول امل�شرق العربي واالخطار التي متر بها والفر�ص املتاحة �أمامها‪ ،‬فدعت �إىل‬ ‫تطوير العالقات ال�سورية العراقية واالردنية العراقية والتكامل بني عوا�صم امل�شرق العربي بهدف‬ ‫�أ�سا�سي هو حترير فل�سطني‪ ،‬و�أ�شار النداء �أن االحتاد امل�شرقي (لي�س جمرد فكرة ثقافية �أو عقائدية‪،‬‬ ‫بل م�شروع جيو�سيا�سي تاريخي)‪ ،‬م�شرياً �إىل �أهمية وقوف خمتلف التيارات الوطنية والقومية وراء‬ ‫هذا امل�شروع‪.‬‬ ‫مل تكن جريدة «ال�سفري» بعيدة عن الفكرة امل�شرقية‪ ،‬فكتب رئي�س حتريرها طالل �سلمان يف ‪24‬‬ ‫ني�سان ‪ 2013‬افتتاحية بعنوان «قراءة م�شرقية للهالل ال�شيعي‪ :‬اعتماد النموذج اال�سرائيلي؟» وقد‬ ‫انتقد فيه ت�صريح امللك االردين عبد اهلل بن احل�سني حول ت�سميته اخلطر احلايل باملنطقة بالهالل‬ ‫ال�شيعي واعتبار الكاتب �أن خرائط الدول التي �أقيمت يف بدايات القرن الع�شرين بيد امل�ستعمر‬ ‫هي الآن مهددة باحتمال تق�سيمها على �أ�س�س طائفية ومذهبية‪ ،‬و�أ�ضاف �أن �إ�سرائيل هي الدولة‬ ‫الدينية الوحيدة يف العامل القوية واملح�صنة التي ال يطالها الهالل ال�شيعي‪ .‬واعترب فريد اخلازن‬ ‫يف مقالته ال�صادرة يف ‪ 22‬حزيران ‪� 2013‬أن امل�س�ألة ال�شرقية اجلديدة هي بناء الدولة الوطنية �أو ًال‪،‬‬ ‫فالكاتب يعترب �أن «الدولة الوطنية بحدودها احلا�ضرة قائمة ولي�س ثمة فراغ يجب مل�ؤه بدول‬ ‫جديدة‪ ،‬ت�أميناً مل�صالح الدول الكربى‪ ،‬مثلما كانت عليه احلال يف زمن �سايك�س ‪ -‬بيكو‪ .‬ويف‬ ‫�سوريا‪ ،‬الأكرث عر�ضة للت�شرذم‪ ،‬فال م�صلحة لأي طرف �أن تن�ش�أ كيانات جديدة على �أنقا�ض‬ ‫الدولة»‪ .‬واعترب الف�ضل �شلق �أن التنوع يف امل�شرق العربي مهدد بالتال�شي نتيجة احلرب التي‬


‫ٍ‬ ‫م�ساحات خمتلفة‬ ‫امل�شرقية‪ ...‬كلمة يف‬

‫وقائع م�رشقية‬

‫‪157‬‬

‫تخا�ض �ضد دوله‪ ،‬و�أو�ضح يف مقالته يف ‪� 31‬أيار ‪� ،2013‬أن احلل للوقوف يف وجه هذا املخطط هو‬ ‫«�أن ت�صري الدولة مكوناً اجتماعياً و�سيا�سياً وحيداً‪ .‬ال حتمي الطوائف نف�سها ب�أن ت�صري مكونات‬ ‫�سيا�سية‪ .‬يحمي �أفراد الطوائف �أنف�سهم باالن�صهار يف الدولة»‪.‬‬ ‫امل�رشقية يف احلراك اال�سالمي‬

‫مل تكن احلركات ال�سلفية واجلهادية خارج دائرة امل�شرقية حتى و�إن مل تعتمدها باال�سم‪ ،‬و�إمنا‬ ‫�ضمن ر�ؤيتها اال�سالمية فهي ترى هذه املنطقة اجلغرافية واحدة ت�سعى لتحقيق �إمارة �إ�سالمية‬ ‫فيها‪ ،‬فحركة القاعدة يف العراق اتخذت بعد دخولها احلرب يف �سوريا وعدم �إمكانية توحدها مع‬ ‫جبهة الن�صرة ا�سم دولة العراق وال�شام اال�سالمية وهو ما دعا �إليه �أبو بكر البغدادي �أمري القاعدة‬ ‫يف العراق‪ ،‬و�أ�شارت �صحيفة فاينن�شال تاميز �إىل �إن تنظيم الدول اال�سالمية يف العراق وال�شام‬ ‫يتخذ �شعار «من ديايل �إىل بريوت» ليعرب فيه عن �أهدافه وطموحاته يف ال�سيطرة على كامل املنطقة‪.‬‬ ‫دخول التيارات التكفريية يف العراق و�سوريا ولبنان بد�أ يطرح فكرة اال�سالم امل�شرقي وتيار �أهل‬ ‫ال�شام املعتدل‪ ،‬فكتب عالء احللبي يف �صحيفة ال�سفري مقاال يف ‪ 3‬ني�سان ‪، 2013‬بعد اغتيال‬ ‫العالمة حممد �سعيد رم�ضان البوطي‪� ،‬أن امل�شهد الأعمق يف الأزمة ال�سورية هو حرب وهابية على‬ ‫اال�سالم ال�صويف الذي يتميز به �أهل ال�شام‪.‬‬ ‫م�شاريع م�رشقية‬

‫عقد يف بريوت بدعوة من مركز اللقاء امل�شرقي يف ‪ 5‬متوز ‪ 2013‬لقاء حتت عنوان «اللقاء امل�شرقي‬ ‫للدفاع عن �سوريا»‪ ،‬فدعا الكاتب االردين ناه�ض حرت �إىل «التدخل امل�شرقي يف �سوريا ل�ضمان‬ ‫االنت�صار يف �أربع معارك‪ :‬ا�ستئ�صال الإرهاب‪ ،‬معركة �إعادة البناء‪ ،‬معركة جتديد الدولة الوطنية‬ ‫املدنية العلمانية الدميوقراطية‪ ،‬ومعركة تعزيز خط املقاومة»‪ ،‬كما �أ�شار الكاتب الفل�سطيني �سعادة‬ ‫�أر�شيد �إىل وحدانية املعركة من الب�صرة حتى غزة وحلب وحم�ص والق�صري و�صيدا‪ ،‬و�أ�ضاف‬ ‫الكاتب العراقي فا�ضل الربيعي �أن «ك ّتاب التاريخ ارتكبوا خط�أً فادحاً حني لفقوا م�صطلح‬ ‫(الأمرباطورية الآ�شورية) وان�صرفت الأذهان دائماً �إىل �أن املق�صود منه هو العراق وحده‪ ،‬والأدق‬ ‫هو (الإمرباطورية الآ�شورية ‪ -‬ال�سورية) وهي خال�صة اندماج العراق و�سوريا الطبيعية»‪ .‬وقد اختتم‬ ‫امل�ؤمتر �أعماله بعد �أن مت توزيع امل�شاركني على خم�س جلان متنوعة يف موا�ضيعها و�أنهت حواراتها‬ ‫بقرارات وتو�صيات يف جماالت بحثها‪.‬‬ ‫وبدوره قدم احلزب ال�سوري القومي االجتماعي م�شروعه حول ر�ؤية احلزب يف �إن�شاء جمل�س‬ ‫التعاون امل�شرقي‪ ،‬وقد التقى وفد من احلزب رئي�س احلكومة العراقية نوري املالكي ورئي�س املجل�س‬ ‫عدد رقم ‪ | 2‬ت�شرين الأول‬

‫‪2013‬‬


‫‪158‬‬

‫وفد منه ال�سفري‬ ‫الأعلى الإ�سالمي ال�سيد عمار احلكيم وغريهم من القادة العراقيني ‪ ،‬كما �سلم ٌ‬ ‫الفل�سطيني يف لبنان �أ�شرف دبور مذكرة املجل�س‪ ،‬ويف ‪ 3‬متوز ‪ 2013‬عقد احلزب برئا�سة النائب‬ ‫�أ�سعد حردان م�ؤمتر �صحفي �أعلن خالله عن املذكرة التي �سلمها �إىل قادة دول امل�شرق العربي‪،‬‬ ‫وقال النائب حردان �إن اختيار احلزب الطالق م�شروع م�شرقي هدفه هو ت�أمني م�صالح ال�شعب‬ ‫العليا وي�صلب مواجهة امل�شروع لتفتيت املنطقة‪.‬‬ ‫يف البعد االقت�صادي للفكر امل�شرقي دعا رئي�س احتاد غرف ال�صناعة ال�سورية املهند�س فار�س‬ ‫ال�شهابي �إىل م�شروع الهالل االقت�صادي والذي ي�شمل �سوريا والعراق و�إيران‪ ،‬و�أ�شار ال�شهابي �إىل‬ ‫�ضرورة توحيد القوانني اال�ستثمارية بني البلدان الثالثة و�أن يكون لال�ستثمار ميزانية ا�ستثنائية يف‬ ‫الهالل االقت�صادي الذي ميكن �أن يت�سع لي�شمل دو ًال مثل لبنان و�صو ًال �إىل تكامله مع دول رو�سيا‬ ‫االحتادية وغريها‪ .‬وي�شري املهند�س �شهابي �إىل �أن الهالل االقت�صادي مرتبط جغرافيا وم�صرييا وهو‬ ‫لن يلغي اتفاقية ال�سوق العربية بل �سيولد نظاما اقت�صاديا متكامال �أكرث عرب التكامل بني الأ�سواق‬ ‫امل�شرقية‪.‬‬




‫من �أعمال ال�شاعر كمال خري بك‬


‫َ�أ ُّيها ال�شَ رق ُِّي �شَ ِّمر ال َت َنم‬ ‫َواِن ُف ِ�ض ال َعج َز َف ِ�إنَّ اجل َِّد قاما‬ ‫ ‬ ‫َواِم َتطِ ال َعز َم َجواداً لِل ُعال‬ ‫َواِج َع ِل احلِك َم َة لِل َع ِزم زِماما‬ ‫ ‬

‫حافظ �إبراهيم‬

‫�إمنا الأمم ا‬ ‫لأخالق ما بقيت‬ ‫ ‬ ‫ف�إن‬ ‫ه‬ ‫م‬ ‫ذ‬ ‫هب‬ ‫ت‬ ‫�‬ ‫أ‬ ‫خ‬ ‫الق‬ ‫هم ذهبوا‬

‫�أحمد �شوقي‬

‫احلرية �شم‬ ‫�‬ ‫س‬ ‫ي‬ ‫ٌ‬ ‫ج‬ ‫ب‬ ‫أ‬ ‫�‬ ‫نت‬ ‫ن‬ ‫ف ف� ٍس‪ ،‬فمن عا�ش حمروم ً�شرق يف كل‬ ‫ا ى ظلمة حالكة يت�صل ا منها عا�ش‬ ‫لرحم و�آخرها بظلمة الق �أولها بظلمة‬ ‫رب‪.‬‬ ‫م�صطفى لطفي املنفلوطي‬

‫لبنان ‪ 5000‬لرية | الأردن‪ 2 :‬دينار | �سوريا‪ 100 :‬لرية | م�صر‪ 10 :‬جنيه | تون�س ‪ 1.5 :‬دينار | املغرب‪ 20 :‬درهم | م�سقط‪ 1 :‬ريال‬ ‫ال�سعودية‪ 10 :‬ريال | البحرين‪ 1.5 :‬دينار | الكويت‪ 1.5 :‬دينار | قطر‪ 10 :‬ريال | الإمارات‪ 10 :‬درهم‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.