العدد رقم - 4
متوز 2014
فـ�صـل ـيـة فـكريـة ثـقافيـة تـعنى ب�ش ـ�ؤون امل�شــرق
عاطف عطيه العرب والغرب -العالقة امل�أزومة �شوقي �أبي �شقرا �أمني نخلة – ورقات الدلب وم�شق الزعرورة حممود حيدر فل�سفة العلم مبا هي مقولة �إيديولوجية وليد زيتوين �إ�ستمرار �ضياع الهوية القومية حممود �شريح العودة �إىل �سعاده :يف ال�صراع الفكري يف الأدب ال�سوري
الأدب املقاوم الكلمة والفعل فاتن املر | ل�ؤي زيتوين | غ�سان التويني | �سليمان بختي
العدد رقم - 4
متوز 2014
فـ�صـل ـيـة فـكريـة ثـقافيـة تـعنى ب�ش ـ�ؤون امل�شــرق
املحتويات الأدب املقاوم
ر�أي الأدب املقاوم �أو الكلمة الفعل �سليمان بختي
3
مئوية احلرب العاملية الأوىل العرب والغرب -العالقة امل�أزومة عاطف عطيـه
5
�إ�ستمرار �ضياع الهوية القومية وليد زيتوين
17
1914قابلة احلرب التي مل تلد نظاماً عامل ّياً �إن�سان ّياً �أحمد من�صور
25
ال�سلطان عبد احلميد الثاين واجلامعة اال�سالمية بني �شيوخ ال�صوفية ومثقفي التنوير 37 �سعيد �أحمد عبد الرحمن
فكـــر
فعل ال�سرد وال�صراع يف رواية «الطنطورية» لر�ضوى عا�شور فاتن املر
93
البعد املقاوم يف رواية «�أر�ض و�سماء» ل�ؤي زيتوين
115
الن�ص ال�شعريّ عند كمال خري بك البعد املقاوم يف ّ 129 غ�سان التويني
حتوالت �أدبية �أمني نخلة -ورقات الدلب وم�شق الزعرورة �شوقي �أبي �شقرا
137
فلنجرب هذا الرجل (حمـمد معـتـوق) وفيق غريزي
139
�أمني تقي الدين وق�صائد جمهولة جنيب البعيني
147
توقيع كتاب «حوار الأنهر» للدكتورة حياة احلويك
159
العودة �إىل �سعادة :يف ال�صراع الفكري يف الأدب ال�سوري حممود �شريح
49
فل�سفة العلم مبا هي مقولة �إيديولوجية حممود حيدر
55
احلراك الإجتماعي يف املجتمعات العربية «اجلزائر منوذجا» عبدالعزيز را�س مال
عملية �سطو ممنهج وانتحال �شخ�صية وتزوير ح�ضاري� ،أم حماولة بحث عن هوية وانتماء؟ 165 فيفيان حنا ال�شويري
79
وثائق تاريخية نهاية نظام القائمقاميتان ون�شوء نظام املت�صرفية ()1861-1860
تراث
175
حتوالت م�رشقية
ف�صلية ،فكرية ،ثقافية ،تعنى ب�ش�ؤون امل�شرق واملنطقة
هيئة التحرير
فاتن املر عاطف عطية ح�سن حماده ن�صري ال�صايغ
�سعاده م�صطفى �أر�شيد �سليمان بختي �سركي�س �أبو زيد
املدير امل�س�ؤول� :سركي�س �أبو زيد الربيد الإلكرتوينabouzeid@gmail.com : هاتف)00961-1( 751541 : �صندوق بريد 113-7179 :بريوت -لبنان. االخراج الفني :عالء �صقر
ت�صدر بالتعاون مع م�ؤ�س�سة �سعاده للثقافة
بناية ر�سامني� ،شارع احلمرا ،ر�أ�س بريوت، �صندوق بريد 113-5557 :بريوت -لبنان. هاتف)00961-1( 753363 : فاك�س)00961-1( 753364 : الربيد الإلكرتوينsaadehcf@idm.net.lb : املوقع الإلكرتوينwww.saadehcf.org : ت�صدر مبوجب قرار رقم 82تاريخ �صادر عن وزارة االعالم اللبناين
1981/7/6
ت�صدر يف طبعتني من فل�سطني ولبنان مدير عام طبعة فل�سطني� :سعاده م�صطفى �أر�شيد هاتف0599305248 : �صندوق بريد 41 :جنني -فل�سطني
اال�شرتاك ال�سنوي -لبنان
للأفراد 50 :دوالراً �أمريكياً للم�ؤ�س�سات 100 :دوالر �أمريكي
توزيع :النا�رشون
اال�شرتاك ال�سنوي -خارج لبنان
بريوت -امل�شرفية� ،سنرت ف�ضل اهلل -طابق هاتف وفاك�س)00961-1( 277007 - 277088 : خليوي)00961-3( 975033 :
4
للأفراد 100 :دوالر �أمريكي للم�ؤ�س�سات 200 :دوالر �أمريكي
املواد املن�شورة تعرب عن ر�أي كاتبها
ر�أي الأدب املقاوم �أو الكلمة الفعل يحيلنا �أدب املقاومة �إىل �أ�سئلة �ستظل تطرح على كاهل املجتمع امل�أزوم .ويظل ال�س�ؤال :ما هو دور الأدب والفن يف احلياة ،وعلى م�ستوى الأمرالواقع والتحديات التي جتبهنا؟ ما هي وظيفة الأدب يف املجتمع يف زمن املحنة والعرثات؟ كيف حت�ضرالكتابة اىل �ساحة املوقف؟ وكيف تلتقي الكلمة والفعل يف �سياق واحد؟ كان ال�شاعر الراحل حممود دروي�ش يقول« :كنت �أبحث عن موطىء يف املكان وعن ملج�أ يف الزمان ،ولكنني �أبحث الآن عن بلدي يف العبارة». كيف جند بالدنا يف �أدبنا؟ كيف نعمل على عودة الروح �إىل االرادة ملوا�صلة الطريق �إىل �أر�ض الغد� ،إىل �إ�صالح اخللل� ،إىل حتقيق الكرامة االن�سانية؟ كيف يقاوم املرء بهوية مفتوحة على حداثة مرتبطة مب�شروع حترر �شامل امل�ستويات؟ لطاملا حاول ال�شعر تثبيت املكان يف اللغة .ولبث ل�صيقاً بحياتنا العامة يف �صراعها اجلماعي لإثبات وجودها ومواجهة الظلم وافول املعنى. �إن دور الأدب املقاوم يكمن يف بلورة الهوية وتعزيز االنتماء بوعي جماعي ووجدان مرهف متوتر بق�ضايا املجتمع و�صراعاته الكربى .و�إذا كان حترير االرادة وتوحيد الر�ؤية �شرطان لتحرير الأر�ض ف�إن حترير الفكر واللغة �شرطان �سابقان �أي�ضاً. ولعل من ميزات الأدب املقاوم عموماً انه يجمع ويوحد ويزخم وي�شرتك يف النهو�ض الذاتي والقومي ويف حركة الن�ضال االن�ساين عموماً. املهم يف الأمر �أن ي�ستطيع الأدب املقاوم �إبداع ال�شكل الفني الذي يبقيه يف زمام املبادرة ويف قلب املعنى ،ويف �إغناء ثقافة املقاومة من حيث توازنها الدقيق بني الدفاع عن احلق و�إدراك املمكن .ولكن الأهم �أن ت�صبح هذه الثقافة جزءاً ال يتجز�أ من ن�سيج املجتمع ككل 3
ر�أي
ومن مقومات وجوده .وكل مقاومة بحاجة �إىل �إمداد فكري وروحي وثقايف وتراثي متجدد ت�ستند �إليه وت�ستلهمه وت�ستوحيه .راجت يف ال�سبعينات والثمانينات من القرن املا�ضي ت�سميات وم�صطلحات مثل «�شعراء املقاومة» �أو «�شعراء اجلنوب» ولكن هذه الت�سميات �أو امل�صطلحات ق�صرت �أو فا�ضت عن املعنى �أو احتكرت لنف�سها ما ال ميلكه غريها� .س�ؤل غري مرة ال�شاعر حممود دروي�ش ماذا يعني «�شعراء املقاومة»؟ ف�أجاب« :ان نكتب حياتنا كما وندون �أحالمنا باحلرية و�إ�صرارنا على �أن نكون كما نريد». نعي�شها ونراهاّ . �إن �أدب املقاومة يعيدنا دائماً �إىل احلرية� ،إىل حركة التاريخ� ،إىل حركة الفعل االن�ساين� ،إىل التفاعل مع تفا�ؤل االرادة .لأن الواقع بالنهاية هو كالتاريخ من �صنع الب�شر القادرين على و�ضع الزمان ال�صحيح يف املكان ال�صحيح �أي �صناعة التاريخ. و�إذا كان الأدب عموماً يعي�ش يف حلظته التاريخية فهو يعي�ش �أي�ضاً يف حلظة تاريخية م�ستعادة �أو م�ست�شرقة .فهو �أي�ضاً �أدب يقاوم قبل حدوث املحنة ،و�أدب يقاوم وي�ستنه�ض الهمم يف �أثناء املعركة ويف خ�ضمها ،وهو �أدب يقاوم وي�ؤرخ للأزمة بعيد انتهائها. بالنهاية كل �إبداع هو مقاوم متى كان حقيقياً وثاقباً ،والأدب �صراع مثلما احلرية �صراع على ما يقول �أنطون �سعاده ،دورالأدب توليد ال�صراع يف نف�س االن�سان والكون ،ويف مقاومة عوامل ال�ضعف يف النف�س الب�شرية ،ويف جتديد ح�س املقاومة �إذا ما خبا مع الأيام. ويبقى ان ما مييز الأدب املقاوم هو الوعي االن�ساين ،الوعي الوطني ،الوعي القومي ،الوعي احل�ضاري .هذا الوعي الذي يخلق املعنى اجلديد بكلمات �أدوني�س ،هذا الوعي هو فعل قوة ومعرفة يف امتالك امل�صري وحترير الأر�ض والإن�سان. �سليمان بختي
4
مئوية احلرب العاملية الأوىل
العرب والغرب
العالقة امل�أزومة
عاطف عطيـه -باحث و�أ�ستاذ جامعي
ع�شية مرور قرن كامل على ن�شوب احلرب العاملية الأوىل يحفزنا ت�سا�ؤل رئي�س حول العالقة بني العرب والغرب يف ال�شكل املبا�شر الذي متخ�ضت عنه املرا�سالت االنكليزية -العربية 1حول م�صري البلدان العربية بعد انفكاكها عن عهدة ال�سلطنة العثمانية الآيلة �إىل الزوال مبجرد انتهاء احلرب ،وهو الزوال الذي ما كان يختلف عليه اثنان نتيجة حالة التفكك واالنق�سام اللذين ابتليت بهما ال�سلطنة ،والنا�شئني عن ت�ضخم الدين العمومي العثماين ،من ناحية؛ وا�ستالم ال�سلطة من قبل جمعية االحتاد والرتقي امل�شكوك بانتمائها �إىل اال�سالم ،بنظر الكثري من امل�سلمني ،2من ناحية ثانية؛ ومترد الواليات الق�صية وانف�صالها عن ج�سم ال�سلطنة يف غمرة الأحداث العاملية املتجهة بعنف متزايد �إىل اخلراب نتيجة االحرتاب العاملي ودخول العثمانيني طرفاً �إىل جانب املحور،3 من ناحية ثالثة. []1
مل يرتك االنكليز العنان للأعمال احلربية كطرف �أ�سا�سي يف ال�صراع العاملي حتت لواء احللفاء، بل �سارت يف خطوط متوازية مع العمل والن�شاط ال�سيا�سيني اللذين يعمالن على ت�أمني الو�سائل الالزمة ل�ضمان �سالمة اجلبهات اللوج�ستية ،وت�أليب �أهل احلل والربط ،وقادة املجتمعات
1
2 3
للتف�صيل حول املرا�سالت االنكليزية -العربية املعروفة با�سم مرا�سالت ح�سني مكماهون� ،أنظر: زين نور الدين زين ،ال�صرا ع الدويل يف ال�شرق الأو�سط ،دار النهار للن�شر ،الطبعة الأوىل ،1971 ،بريوت، �ص .68-66وحول الن�ص احلريف للر�سائل الع�شر �أنظر امل�صدر نف�سه� ،ص.298-281 حول ابتعاد جمعية االحتاد والرتقي عن اال�سالم وانتماء اكرثية قادتها �إىل املا�سونية العاملية واليهودية� ،أنظر: �سليمان مو�سى ،احلركة العربية ،دار النهار للن�شر ،الطبعة ا؟لأوىل ،1977 ،بريوت� ،ص.61 للمزيد من التف�صيل حول حركات اال�ستقالل واالنف�صال عن ال�سلطنة العثمانية ،حتى قبل ن�شوء احلركة القومية العربية� ،أنظر :امل�صدر نف�سه� ،ص.30-27 5
املحلية ،واملحميات ،والقبائل� ،ضد الدولة العثمانية 4التي ما كان لها �أن تفعل �إال الدفاع عن وجودها ،وحماكمة رعاياها املتمردين على ال�سلطان ،والعاملني على خيانته باالت�صال بقوى العدو، ع�سكرياً و�سيا�سياً ،وحماكمتهم بتهمة اخليانة العظمى ب�إعدام من ح�ضر �أو نفيه� ،أو احلكم عليه غيابياً باالعدام �أو ال�سجن.5 هذا على م�ستوى البلدان التي كانت ال تزال بعهدة ال�سلطنة وحتت �سيطرتها� .أما البلدان الأخرى التي كانت حتت �سلطة ال�شريف ح�سني� ،أمري مكة وخادم احلرمني ال�شريفني ،و�أبنائه ،فكان لها �ش�أن �آخر ،حتارب �إىل جانب احللفاء ،املختلفني يف الدين والنوايا والتوجه ،وتقارع الدولة العثمانية املتماثلة يف الدين والنوايا والتوجه ،وتلقى التعاطف والدعم من مناطق العرب الأخرى ،و�إن كان ثمة اختالف يف الت�صرف النا�شئ �إما عن املطالبة باال�ستقالل الناجز� ،أو البقاء يف كنف ال�سلطنة مع املطالبة باالن�ضواء حتت لواء الالمركزية امل�أمولة باال�صالح واالحتكام �إىل الد�ستور وحمتوياته.6 []2
املفارقة يف العالقات الدولية املن�سوجة ع�شية احلرب و�أثناء اندالعها ،لي�ست يف انق�سام العامل املعني بها �إىل فريقني متنازعني ،فهذه �س ّنة احلروب و�ضريبتها وخرابها؛ بل يف انق�سام العثمانيني بني هذا الفريق العاملي وذاك .واالنق�سام هذا مل يبق يف �إطار الت�أييد والعاطفة ،بل دخل يف عمق العمليات الع�سكرية بني جبهة عربية �إ�سالمية يقودها �صاحب �أعلى مقام ديني يتمثل بخدمة احلرمني ال�شريفني ،مركز اال�سالم يف العامل ،وال�سلطنة العثمانية التي كانت ال تزال حتى ذلك احلني متثل اخلالفة اال�سالمية املتوارثة من ع�صر املماليك .وقد عرب عن هذه املفارقة زين نور الدين زين بقوله« :من املمتع �أن ن�شري �أن ثورة ال�شريف ح�سني �ضد ال�سلطان الذي هو �أي�ضاً خليفة امل�سلمني نزلت كال�صاعقة على كثريين من امل�سلمني ال�سنيني يف جميع �أنحاء العامل ،وال�سيما بني م�سلمي الهند» .7ولكي ت�ستقيم الأمور ،على الأقل من الوجهة ال�شكلية ،عينت ال�سلطنة � 4أنظر االت�صاالت ال�سيا�سية التي �أجرتها ال�سلطات الربيطانية لت�أمني حياد اجلزيرة العربية� ،إذا مل يكن دعمها، يف حال ن�شوب حرب مع الأتراك ،مقابل عدم التدخل يف �ش�ؤون اجلزيرة العربية الداخلية ،يف: زين ،ال�صراع الدويل يف ال�شرق الو�سط ،مذكور �سابقاً� ،ص �ص.66-60 5حول حماكمة املتعاملني مع احللفاء يف بالد ال�شام والقرار ب�إعدامهم �أو نفيهم� ،أنظر: جمال با�شا (النا�شر) ،حماكمة احلركة العربية يف لبنان ،من خالل كتاب» �إي�ضاحات عن امل�سائل ال�سيا�سية التي جرى تدقيقها بديوان احلرب العريف املت�شكل( ،)1918دار الرائد العربي ،الطبعة الثانية ،1982 ،بريوت� ،ص.278 6يعترب زين نور الدين باال�ستناد �إىل م�صادر �أ�سا�سية� ،أن النقطة الهامة التي كانت مدار �سوء فهم بني ال�شريف ح�سني هي �أن هذا الأخري كان يعترب �أنه ميثل العرب جميعاً بينما مل ي�أخذه االنكليز على هذا املحمل� .أنظر: زين ،ال�صراع الدويل ،مذكور �سابقاً �ص.68 7امل�صدر نف�سه� ،ص.72-71 6
مئوية احلرب العاملية الأوىل
العثمانية �أمرياً على مكة بدي ًال عن ال�شريف ح�سني ،و�إن مل ي�ستطع ا�ستالم مهامه. كان االنكليز يدركون متاماً �صعوبة ت�أليب امل�سلمني �ضد بع�ضهم بع�ضاً .وخ�صو�صاً �أن مفهوم القومية العربية كان طري العود ،ومن �صنع امل�سيحيني الذين بد�أوا ين�سجونه يف امل�شرق مع بطر�س الب�ستاين ونفري �سورية ،ومن م�سيحيني كثريين عرفوا برواد النه�ضة قبل �أن يدركها النه�ضويون امل�سلمون بفرتة طويلة ،با�ستثناء �أقلية �ضئيلة منهم على ر�أ�سهم املفكر احللبي عبد الرحمن الكواكبي� ،إما ب�سبب اعتبار ال�سلطنة دولتهم و�إن كانت بحاجة �إىل اال�صالح� ،أو باعتبار �أنهم ال يريدون اال�ستقالل عنها ،لهذا ال�سبب بعينه؛ فجاهروا باملطالبة بنظام الالمركزية.8 []3
هذا االختالف الذي ن�شط يف امل�شرق ،ويف م�صر من املغرب على اخل�صو�ص ،بني دعاة القومية العربية الغريبة على �أ�سماع امل�سلمني ،واخلالفة اال�سالمية بقيادة العثمانيني حتت عنوان الالمركزية، مل يكن له �صنو يف اجلزيرة العربية املتفلتة من قب�ضة العثمانيني ،والطاحمة ،بقادة �أمرائها وم�شايخ القبائل فيها� ،إىل لعب دور رئي�س ال يقل عن الرتبع على عر�ش مملكة عربية حتاكي مو�ضة الع�صر ال�سيا�سي يف الغرب ،وتبطن توجهاً �سيا�سياً دينياً يكون يف الظاهر وامل�ضمون حام ًال �إرث اخلالفة اال�سالمية من �سلطنة مل يعد مبقدورها حمله� ،إما لعجزها عن اال�ستمرار اقت�صادياً و�سيا�سياً وع�سكرياً ،و�إما لعدم قدرتها على اال�ستمرار يف حمل لواء اال�سالم؛ وذلك يعود ل�سببني ،الأول، عدم تد ّين قادة الدولة الذين يدعون �إىل العقيدة الطورانية ،املتعالية على العرب واملناوئة لهم� ،9أو الن�ضمام �أكرثيتهم �إىل احلركة املا�سونية� ،أو لوجود عدد من القادة يعودون يف �أ�صلهم �إىل اليهودية. هذا ما عمل عليه االنكليز ل�ضمان وفاء عرب اجلزيرة لهم ،مع ما ميكن ان ين�ضم �إليهم من عرب امل�شرق .والثمن املعلن وعد لل�شريف ح�سني بتن�صيبه ملكاً على مملكة عربية مرتامية الأطراف تبد�أ من اجلزيرة العربية وت�شمل �شمايل �أفريقيا وامل�شرق .وهو وعد ال ي�ضمن وفاء عرب اجلزيرة فح�سب ،بل �أي�ضا ،كما تهي�أ لل�شريف ح�سني ،وفاء العرب امل�ؤيدين للمملكة العربية يف كل مكان، �إذ يكفي �أن يعود للعرب جمدهم التليد ويعود احلق �إىل �أ�صحابه يف ن�شر الر�سالة ،وقيادة اجلغرافيا، �أر�ضاً وجمتمعاً ،والتطلع �إىل قيادة امل�سلمني يف العامل .هذا الأمل املن�شود دفع العرب �إىل �أبعد من الت�أييد ،دفعهم �إىل االنخراط املبا�شر يف احلرب ،و�إىل خو�ض املعارك وقطع املوا�صالت على االمدادات العثمانية ،ومهاجمة قوافلهم يف املدن والأرياف وال�صحراء. � 8أنظر يف هذا اخل�صو�ص للتف�صيل: كمال ال�صليبي ،تاريخ لبنان احلديث ،دار النهار للن�شر ،الطبعة ال�سابعة ،1991 ،بريوت� ،ص.200-199 9حول نظرة العقيدة الطورانية الدونية �إىل العرب� ،أنظر: مو�سى ،احلركة العربية ،مذكور �سابقاً� ،ص.32-25 7
[]4
ولأن االنكليز عولوا على وفاء العرب وعلى امل�ساهمة يف تنفيذ خمططاتهم يف امل�شرق ويف اجلزيرة العربية� ،أفرزوا للأمري في�صل �ضابطاً انكليزيا حمنكا ،وعاملاً ب�أحوال العرب وبعاداتهم وتقاليدهم، هو ال�ضابط لورن�س ،10الذي كان يرافق الأمري في�صل كظله .وما كان له �أن يكون يف هذا املوقع لوال احلاجة املا�سة ملعرفة �أ�صغر التفا�صيل يف حتركات الأمري ويف ت�صرفاته ،لتبقى القيادة الع�سكرية الإنكليزية على معرفة تامة بكل �شيء �صدر� ،أو ميكن �أن ي�صدر ،عن الأمري ،وعن التحركات العربية. �ساهمت احلركة العربية بتقطيع �أو�صال اجلغرافيا العثمانية ،كما �ساهمت يف خ�سارتها للكثري من املواقع التي لوالها ما كانت لتخ�سرها يف هذه ال�سرعة ،و�إن كانت لن ت�ؤثر على املدى البعيد يف تقرير م�صري احلرب� .إال �أن الثابت لدى االنكليز �أن الأمور املتعلقة باحلرب �سيا�سياً وع�سكرياً وا�سرتاتيجيا ال تو�ضع ،وال ميكن �أن تو�ضع يف �سلة واحدة� ،إال �سلة ال�سيا�سة العليا ل�صاحب اجلاللة .ذلك �أن ما كان يقوم به لورن�س على �صعيد املناو�شات الع�سكرية مع في�صل ،كان يقوم به مكماهون على �صعيد ترتيب املنطقة امل�شرقية مع ال�شريف ح�سني ليوجد له مكاناً على ر�أ�س مملكة لي�س من ال�ضرورة �أن تكون كل �أجزاء اجلغرافيا من�ضوية حتت لوائها ،ويف الوقت نف�سه ترتيب هذه املنطقة بح�سب منطق مغاير �أجمع عليه احللفاء بعد االجتماعات املتوا�صلة التي قام بها �سايك�س مع نظريه الفرن�سي ،ويف اجلانب املحاذي يقوم بلفور ب�إغداق الوعود على اليهود ،با�سم �صاحب اجلاللة ،ب�إقامة وطن قومي لهم يف فل�سطني ،وهي القطعة املزمع �سلخها ،وقد �سلخت بالفعل ،يف مرا�سالت ح�سني -مكماهون. []5
تكمن �أهمية هذه املحادثات التي بد�أت يف منت�صف 1915وانتهت يف ال�شهر الثالث من العام 1916يف �أنها بد�أت با�ستمالة ال�شريف ح�سني و«حمله على اخلروج على �سلطة الأتراك...وذلك بتقدمي العون له ،وب�ضمانة ا�ستقالله و�سيادته يف امل�ستقبل».11 ك�شف النقاب عن هذه الر�سائل �سنة 1939بعد انتفاء �صفة ال�سرية عنها .وقد كان �أهم ما احتوت عليه يختلف عن الأ�سباب التي �أدت يف البداية �إىل قيام هذه املرا�سالت .وقد �أف�صحت عن م�ضمون هام جداً يبني لل�شريف ح�سني ما هي املناطق التي ميكن �أن تكون حتت �سلطته يف اململكة املوعودة ،وما ال ميكن اعتباره داخ ًال يف املناطق العربية .ويبدو من هذه املرا�سالت �أن النقطة 10حول ن�شاطات لورن�س الع�سكرية وتفا�صيل حياته اليومية مع املري في�صل� ،أنظر: ت� .أ .لورن�س� ،أعمدة احلكمة ال�سبعة ،دار الآفاق اجلديدة ،الطبعة الرابعة ،1980 ،بريوت� ،ص.402 11زين ،ال�صراع الدويل ،مذكور �سابقاً� ،ص.66 8
مئوية احلرب العاملية الأوىل
اجلوهرية التي ا�سرتعت انتباه ال�شريف ح�سني ،يف ر�سالته امل�ؤرخة يف 14متوز ،هي �إظهار حدود الدولة املزمع �إن�شا�ؤها حتت قيادته .وقد جاءت ر�سالة مكماهون امل�ؤرخة يف 24ت�شرين الأول ،لت�ؤكد لل�شريف ح�سني ما كان م�ضمراً يف ا�سرتاتيجية االنكليز ال�سيا�سية ،وهي �أن «بريطانيا العظمى م�ستعدة �أن تعرتف با�ستقالل العرب و�أن ت�ؤيد ذلك اال�ستقالل يف جميع الأقاليم الداخلة يف احلدود التي يطلبها دولة �شريف مكة» ...12ولكن ..هنا تبد�أ ال�سيا�سة امل�ضمرة بالظهور .ولكن هذه احلدود عر�ضة لبع�ض التعديالت التي تتالءم مع ال�سيا�سة االنكليزية �إن كان مع حليفتها فرن�سا، �أو مع ما ميكن �أن ي�شكل الأ�سا�س للمعاهدة امل�ستقبلية مع الأتراك� ،أو لوطن اليهود يف فل�سطني، ورمبا لوطن امل�سيحيني يف لبنان 13ان�سجاماً وم�سايرة للتطلعات الفرن�سية .وقد ظهر الرد يف هذا اخل�صو�ص على ال�شكل التايل�« :أو ًال �إ�ستثناء واليتي مر�سني وا�سكندرونة ،و�أجزاء من بالد ال�شام الواقعة يف اجلهة الغربية لواليات دم�شق وال�شام وحم�ص وحلب وحماه التي ال ميكن �أن يقال �إنها عربية حم�ضة وثانياً با�ستثناء بع�ض املناطق الداخلة يف احلدود التي ت�شعر بريطانيا �أنها لي�ست حرة الت�صرف فيها دون �أن مت�س م�صالح حليفتها فرن�سا» .14وهنا يظهر مبا ال يقبل اللب�س �إلتزامات بريطانيا املغايرة لطموحات العرب و�آمالهم .وقد ظهر فيما بعد ما كانت تعده بريطانيا وفرن�سا للتنفيذ� ،إن كان بالن�سبة للمناطق التي �أعطيت لرتكيا �سنة ،1939مبوجب املعاهدة الفرن�سية - الرتكية التي انعقدت يف العام ،1938لظروف لها عالقة باحلرب العاملية الثانية15؛ �أو بالن�سبة لقيام دولة �إ�سرائيل يف ،1948و�إن بقي لبنان حتت العهدة الفرن�سية بنظام �أعطى للم�سيحيني ،ولو �إىل حني ،القيادة يف احلكم ،بعد فقدان الأمل ب�إن�شاء وطن قومي لهم بعدما �أر�سل املوارنة �إىل م�ؤمتر ال�سالم يف باري�س وفداً للمطالبة بـ «�إقامة دولة م�سيحية يف لبنان مرة واحدة و�إىل الأبد».16 []6
كان االنكليز بحنكتهم ال�سيا�سية املعهودة ،وبقوتهم الع�سكرية ،يعملون يف املنطقة العربية على موجات متعددة ،ولكن متناغمة� ،إن كان يف عالقتهم التحالفية مع الفرن�سيني� ،أو يف تعهدهم باحت�ضان امل�شروع ال�صهيوين -اليهودي يف فل�سطني� ،أو يف عالقتهم الرجراجة مع العرب� ،أو 1 2امل�صدر نف�سه� ،ص.67 � 13أنظر يف هذا اخل�صو�ص حول �إمكانية �إن�شاء وطن للم�سيحيني يف لبنان من خالل حتالف الأقليات الذي يجمع املوارنة مع احلركة ال�صهيونية ،واجلهر باملطالبة بوطن قومي للم�سيحيني قبيل مومتر باري�س و�أثناءه� ،أنظر: لورا زيرتاين �إيزنربغ ،عدو عدوي ،ترجمة فادي حمود ،ريا�ض الري�س للكتب والن�شر ،1997 ،بريوت� ،ص58-49 14زين ،ال�صراع الدويل ،مذكور �سابقاً� ،ص.67 � 15أنظر يف هذا اخل�صو�ص للتف�صيل: زاهية قدورة ،تاريخ العرب احلديث ،دار النه�ضة العربية ،1968 ،بريوت� ،ص.239 � 16إيزنربغ ،عدو عدوي ،مذكور �سابقاً� ،ص.98 9
يف م�ساعدتهم الع�سكرية لهم ،مبا يرتئيه ويطلبه لورن�س .بينما كان العرب منق�سمني بني م�ؤيد ومعار�ض ملا يقوم به ال�شريف ح�سني و�أبنا�ؤه ،وخ�صو�صاً الأمري في�صل ،امللك على العراق فيما بعد .واملعار�ض هنا ،ما كانت معار�ضته تقوم مبعزل عن ن�صرة الأخ ظاملاً �أو مظلوماً .والأخ يف الدين �أعلى مرتبة من الأخ يف العن�صر �أو القومية ،و�إن كان �أقلها يف رابطة الدم والن�سب .العرب ه�ؤالء كانو يعملون على موجة واحدة� ،إما تطلب ال�سلطة ،من ناحية ،كما يف جانب احلركة العربية؛ �أو امل�ساعدة يف املحافظة عليها ،كما يف جانب ال�سلطنة العثمانية ،ومن يقودها من الطورانيني املكروهني من �أكرث العرب ،من ناحية ثانية .وقد جت�سد هذا االنق�سام يف م�شهد ثنائي ،على غرار كل االنق�سامات ال�سابقة والالحقة :عرب اجلمعية اال�صالحية املوالية لل�سلطنة التي حتكم با�سم الدين وامللل �شبه امل�ستقلة ،وعرب جمعية االحتاد والرتقي القومية� ،صاحبة العقيدة الطورانية، الأقرب �إىل التوجه الدنيوي .وعلى هذه املوجة املق�سومة ،ما كان للعرب �أن ي�ساهموا وينجحوا يف املحافظة على ال�سلطة وال�سلطنة ،وال على الو�صول �إىل ما كانوا ي�أملون يف بناء مملكة عربية متحدة من املحيط �إىل اخلليج. اعتمد احللفاء يف ت�أمني م�صاحلهم على الذراع الع�سكرية ومعاهداتهم ال�سيا�سية .واعتمد العرب على وعود االنكليز والفرن�سيني املختلفة يف توجهها ،باختالف م�صاحلهم الوطنية ،وانبنى االعتماد على املرا�سالت والكالم .وجاءت النتائج خميبة .واخليبة انبثقت من االختالف يف النظرة �إىل الوعود .بالن�سبة لالنكليز مل تكن الوعود �أكرث من كالم خا�ضع للمتغريات ال�سيا�سية وامليدانية، وبالتايل ميكن �أن تتغري بتغري ال�سيا�سة واملوقع على الأر�ض؛ وبالن�سبة للعرب ،وعود الأحرار َدين عليهم .وميكن �أن ُيخت�صر امل�شهد على ال�شكل التايل :ت�أمني امل�صالح باالعتماد على ما ميكن �أن تنتهي �إليه املتغريات ال�سيا�سية ،مقابل انتظار حتقيق الوعود باالعتماد على الثبات الأخالقي .وقد عبرّ عن ذلك ،بعد �أكرث من ثمانية عقود ،ويف موقف مماثل ،وزير اخلارجية الأمريكية �آنذاك هرني كي�سنجر بعبارته امل�شهورة « ينبغي �أال نخلط بني ال�سيا�سة اخلارجية والعمل التب�شريي» ،17وهي ال�سيا�سة التي ما زالت م�ستمرة لدى الغرب ،وقد ورثتها الواليات املتحدة عن الربيطانيني .وما زال العرب يعتمدون على الوعود والكالم باعتبارها ثوابت ال حتول وال تزول .الغرب يح�صد ما تزرعه ا�سرتاتيجيته ،والعرب يح�صدون العا�صفة. []7
كان من نتائج هذه ال�سيا�سة �أن عرف العرب ب�أن لهم ح�صة بانت�صار احللفاء .ولكنها ح�صة غري حمددة اجلوانب وال ذات تفا�صيل وا�ضحة .وهذا ما �أ�ص ّر ال�شريف ح�سني على معرفته من املعتمد 1 7نعوم ت�شوم�سكي و�آخرون ،العوملة واالرهاب ،حرب �أمريكا على العامل ،ترجمة ترجمة حمزة املزيني ،مكتبة مدبويل ،2002 ،القاهرة� ،ص.86 10
مئوية احلرب العاملية الأوىل
الربيطاين يف م�صر ،مكماهون ،و�إن و�صل �إىل جواب ال ي�شفي الغليل .وي�ؤكد هذا اجلواب، على �سبيل التذكري ،ب�أن البالد العربية ال ميكن �أن تكون كلها ملكاً لل�شريف ح�سني� ،أو حتت �سلطته .وعرف اليهود �أن لهم ح�صة يف «�أر�ض امليعاد» ح�سب ما تقول الأ�سطورة اليهودية .وعرف الفرن�سيون �أن ح�صتهم م�أمونة عند اقت�سام الرتكة العثمانية .وعرف االنكليز باملقابل �أن وعودهم للعرب �ستذهب بح�صتهم من الغنيمة �إذا ما وفوا بها ،فيخرجوا من املنطقة بوفا�ض خال ،وهو ما ال يتنا�سب مع موقعهم يف العامل ،وال مع جهودهم املبذولة القت�سام تركة الرجل العثماين املري�ض. فبد�أ ال�سباق بني جيو�ش االنكليز بقيادة اللنبي واجلي�ش العربي بقيادة في�صل الحتالل دم�شق، قلب امل�شرق الناب�ض والعا�صمة امل�أمولة للمملكة العربية.18 مل ي�ستعجل االنكليز الدخول �إىل دم�شق �إال لالبقاء على زمام االمور يف �أيديهم ،وليت�صرفوا ح�سب ما التزموا به جتاه احللفاء والأ�صدقاء� ،إن كان بالن�سبة لاليفاء بوعودهم جتاه العرب� ،أو عدمه� ،أو لتنفيذ املعاهدة ال�سرية التي بقيت كذلك حتى قيام الثورة البل�شفية ال�شيوعية يف رو�سيا ،19باال�ضافة �إىل الوعد الذي قطعه بلفور ،با�سم امللك الربيطاين ،لليهود .ومن املهم ،هنا، �إدراج ما قاله تروت�سكي ،وزير اخلارجية الرو�سية� ،إبان الثورة�« ،إن جميع املعاهدات ال�سرية هي الآن يف متناول يدي .وهذه الوثائق التي ثبت �أن بنودها تنطوي على ل�ؤم يفوق ما كنا نتوقعه، �ستن�شر قريباً.20».. []8
يف هذه احلالة ،كان على االنكليز �أن يطرحوا على �أنف�سهم الت�سا�ؤالت التالية :ماذا عليهم �أن يفعلوا؟ �أيفوا بوعودهم للعرب� ،أم ينفذوا معاهدة �سايك�س -بيكو التي �أعطت بالد ال�شام للفرن�سيني ،وهي البالد الداخلة �ضمن اململكة العربية املوعودة؟ و�أين تذهب م�صداقيتهم يف حال عدم التنفيذ ،علماً �أن فل�سطني كانت من ح�صتهم ،ح�سب �سايك�س -بيكو ،ليفوا بوعدهم الذي قطعوه لليهود؟ فجاءت املح�صلة كما يلي: تنفيذ معاهدة �سايك�س بيكو بحذافريها ح�سب ما ن�صت عليه بالن�سبة لالنكليز والفرن�سيني ،و�إن حلقها بعد ذلك ،بع�ض التعديالت الطفيفة. � 18أنظر يف هذا اخل�صو�ص الرواية املمتعة للأحداث التي ح�صلت يف هذه الفرتة على ل�سان الأمري في�صل: خالد زيادة ،حكاية في�صل ،دار النهار للن�شر ،1999 ،بريوت� ،ص.208 19مل تظهر معاهدة �سايك�س -بيكو ،وال وعد بلفور� ،إىل العلن� ،إال بعد انت�صار الثورة البل�شفية يف رو�سيا .وكان ن�شرها من قبل الرو�س مبثابة الف�ضيحة ال�سيا�سية على امل�ستوى العاملي� ،أنظر يف هذا اخل�صو�ص: زين ،ال�صراع الدويل ،مذكور �سابقا� ،ص.74 2 0امل�صدر نف�سه� ،ص.74 11
ن�شر وعد بلفور الذي يقول ب�أن حكومة ملك االنكليز «تنظر بعني الر�ضا �إىل ت�أ�سي�س وطن قومي لل�شعب اليهودي يف فل�سطني ،و�ستبذل جهدها لت�سهيل حتقيق هذه الغاية» ،21مع التجاهل التام حلقوق الفل�سطينيني امل�شروعة يف �أر�ضهم ووطنهم وجن�سيتهم .وقد نفذ االنكليز الوعد ،ببذل اجلهود املثمرة ،ومب�شاركة مبا�شرة من الع�صابات ال�صهيونية ،من �أجل قيام دولة �إ�سرائيل .وقد قامت بغري �إعالن عن حدودها �أو عن نظامها ال�سيا�سي ،باعتبارها دولة ،مل تكتمل بعد ،متتد من الفرات �إىل النيل ،ووطناً نهائياً لليهود يف العامل. التخلي عن الوعود للعرب ،بنتيجة اتفاق �سايك�س -بيكو ،وم�ؤمتر �سان رميو ،1920وهو التخلي الذي و�صل �إىل اجلهر باخلالف مع في�صل ،فكان �أن �أعلن حكومته من دم�شق ،وان�ضم �إليه عروبيو لبنان �ساح ًال وجب ًال .ما يعني ،بالن�سبة لالنكليز ،االخالل باملعاهدة مع الفرن�سيني ،وخ�صو�صاً �أنها املنطقة التي ت�شكل ح�صتهم ،وعلى االنكليز ت�سليمها لهم باعتبارهم �أ�صدقاء احلركة العربية ومنا�صريها ،وميكن التفاهم معها على هذا الأ�سا�س .وت�ضارب امل�صالح بني ما اعتربه العرب من حقهم ،وما اعتربه االنكليز �إخال ًال مبعاهداتهم وم�صداقيتهم� ،أو�صل �إىل املواجهة الع�سكرية يف مي�سلون بني الفرن�سيني واجلي�ش العربي .وهي املواجهة التي كان ال بد منها ،حتت �أ�سماع االنكليز وعلى مر�أى من �أب�صارهم ،بعد التن�صل من وعودهم� ،أو من ج ّلها على الأقل .22وهي املواجهة التي �أدت �إىل ا�ست�شهاد وزير الدفاع يف احلكومة العربية يو�سف العظمة واحتالل دم�شق و�إ�سقاط احلكومة العربية ونفي الأمري في�صل ،ومن ثم تثبيت االنتداب كما �أعلن يف �سان رميو ،وتق�سيم امل�شرق كما جاء حرفياً يف ن�صو�ص املعاهدة. تقزمي اململكة العربية املوعودة وتق�سيمها بني ولدي امللك ح�سني ،الأمري في�صل ملكاً على العراق، والأمري عبداهلل ملكاً على الأردن ،23مبا يتنا�سب مع توجه االنكليز بانتداب مبا�شر ،وتكري�س كياين يبعد �أي �إمكانية للوحدة �أو التقارب� ،إن كان يف ح�صتهم� ،أو يف ح�صة الفرن�سيني. �إعالن دولة لبنان الكبري مبلحقات �سلخت من واليات عثمانية �سابقة ،وان�ضمت �إىل جبل لبنان لت�صري مع اجلبل ،اجلمهورية اللبنانية بحدودها احلا�ضرة وبتغري دميوغرايف مل يعهده جبل لبنان من قبل .وتقا�سمت الطائفتان الوازنتان املارونية والدرزية طائفتني كانتا ت�شكالن الأقلية ،هما ال�سنية وال�شيعية� ،إ�شغال م�ساحة اجلمهورية اجلديدة ،بحيث �أ�صبحتا زاويتي مثلث �شبه متوازي الأ�ضالع بن�سبة ترتاوح بني 23و 24و %25من �سكان لبنان ،وتراجعت ن�سبة الدروز ،باال�ضافة �إىل تخليها 21مو�سى ،احلركة العربية ،مذكور �سابقاً� ،ص.367 � 22أنظر تفا�صيل النقا�ش الذي دار بني في�صل وامل�س�ؤولني الربيطانيني ،وكيف �ضاق ذرع ه�ؤالء من �إحلاح الأمري في�صل ،مع الت�أكيد الدائم �أنهم �إىل جانب العرب يف ا�ستقاللهم .يف: زين ،ال�صراع الدويل ،مذكور �سابقاً� .ص .136-131 � 23أنظر للتف�صيل: قدورة ،تاريخ العرب احلديث ،مذكور �سابقاً� ،ص.139-138 12
مئوية احلرب العاملية الأوىل
عن مركز ال�صدارة يف �سيا�سة اجلبل ،لتلتحق بالأقليتني الوازنتني الأرثوذك�سية والكاثوليكية، باال�ضافة �إىل �إثنتي ع�شرة طائفة غريهاّ ،قل عددها �أو كرث .وهي جميعاً ،ت�شكل جمموع �سكان لبنان ،البلد الذي ال يزال يعاين نتيجة هذا التعدد الطائفي الذي �أو�صل �أيديولوجياً �إىل تعدد ثقايف ليربر انق�سام اللبنانيني .وهو االنق�سام الذي ك ّر�سه وال يزال يكر�سه ،نظام �سيا�سي -اجتماعي يجعل من الطائفة وحدة االهتمام بدل املواطن واملواطنية. []9
كان لبنانيو اجلبل املتنورون ،وعلى ر�أ�سهم بطر�س الب�ستاين ،يف جمال تفكري �آخر .فقد كان يدعو، ب�أفكار عامة� ،إىل الت�آخي ونبذ التع�صب واالن�صهار يف البوتقة الوطنية الواحدة .ومل يدع يف كل ما كتبه يف «نفري �سورية»�إىل التحرر من نري الأتراك �صراحة� .إال �أن هذا التوجه تبلور فيما بعد باملناداة ال�صريحة بالقومية العربية التي ميكن �أن تربط العرب برباطها على اختالف �أديانهم ومذاهبهم، �إذا ح�صل االنف�صال عن الدولة العثمانية .ومن الطبيعي �أن يكون �أ�صحاب هذه الدعوة من امل�سيحيني ،لي�س باعتبارهم �أ�صحاب نظريات يف القومية� ،أو يف العنا�صر الأ�سا�سية امل�شكلة للأمة، �أو يف كيفية ن�شوء الأمم ،بل نظروا �إىل امل�س�ألة نظرة �سيا�سية ،تقربهم من نظرائهم امل�سلمني ،وت�سهل عليهم �إمكانية االنف�صال عن ال�سلطنة العثمانية .وهو املربر الذي يحررهم ،يف حال ح�صوله ،من �سلطة دينية مغايرة ،ومن دولة تعتمد ال�شريعة يف حكمها ،و�إن يف الظاهر ،وتخلت بكل �سهولة عن الد�ستور� ،إبان حكم عبد احلميد. من الطبيعي �أن ال يجاري املتنورون امل�سلمون زمالءهم من امل�سيحيني ،لي�س لتع�صب مت�أ�صل فيهم ،بل لأنهم يعتربون �أن ال�سلطنة العثمانية متثل طموحهم ،وقادرة على �إظهار �شخ�صيتهم كم�سلمني وعرب ،و�إن كانت بحاجة �إىل اال�صالح ،واعتماد الالمركزية .كما �أن مفهوم القومية، كان غريباً عنهم ،كما مفهوم العلمانية .وميكن �أن ي�ستثنى من ذلك عبد الرحمن الكواكبي احللبي الذي كان يفرق تفريقاً دقيقاً بني الدين والقومية .وي�ؤمن ب�أحقية العرب يف قيادة امل�سلمني.24 يعترب ال�صليبي يف هذا االطار �أن القومية العربية «امل�سيحية» مل تختلف عن القومية العربية «امل�سلمة» التي دعا �إليها الكواكبي �إال يف العالقة مع العثمانيني .الأوىل تدعو �إىل االنف�صال، والثانية �إىل رفع راية اال�سالم بقيادة العرب .لذلك مل يكن مبقدور املتنورين امل�سلمني ،حتى ذلك احلني ،الف�صل عملياً بني العروبة واال�سالم.25 بد�أ التقارب بني دعاة القومية ،حتت �أي عنوان كان ،عربية� ،سورية� ،أو لبنانية ،عندما بد�أت جمعية 24ال�صليبي ،تاريخ لبنان احلديث ،مذكور �سابقاً� ،ص.200 25ال�صليبي ،امل�صدر نف�سه� ،ص.201 13
االحتاد والرتقي احلكم با�سم القومية الرتكية .وكان هذا التقارب م�ؤ�شراً لبداية التعاون بني العرب على اختالفهم للتخل�ص من العثمانيني .وهذا ما ح�صل فعال. �إال �أن املوقف بد�أ بالتغري بعد �إعالن الثورة العربية �ضد العثمانيني .وهي الثورة التي �أخذت لواء العروبة من امل�سيحيني .ور�أى ه�ؤالء �أن ثمة �إمكانية لقيام دولة عربية قوية مرتامية الأطراف، �سي�ضيعون جمدداً يف خ�ضمها .ومل يظهر الأمر على هذا ال�شكل �إال بعد انخراط الأتراك يف الطورانية ،ويف قومية تركية تناق�ض توجه العرب ،وتعلو على قوميتهم وتاريخهم ،فوجد ه�ؤالء يف القومية العربية �ضالتهم .و�إذا مت�سك امل�سيحيون بعروبتهم ليتخل�صوا من العثمانيني ،فماذا عليهم �أن يفعلوا ليتخل�صوا من عروبتهم التي عليها �أن ت�ضيع جمدداً يف بحر من امل�سلمني؟ وهي العروبة التي ي�ستحيل عليهم �إيجادها مف�صولة عن اال�سالم؟ فكانت العودة �إىل الروابط الأهلية الأوىل الدالل َة الثانية على التم�سك ال�سيا�سي بالقومية لبلوغ م�أرب ذاتي ،طاملا الروابط الأهلية ذاتية التوجة يف �أ�صلها وف�صلها ،ولي�س التم�سك املو�ضوعي املبني على مبادئ املجتمع وفهم ظواهره� ،أو وعي مفهوم املواطنية فكراً وممار�سة ،ح�سب ما ينطق به الفكر العقالين .وعند بلوغ امل�أرب اال�ستقاليل عن العثمانيني ،ظهر م�أرب �آخر يبغي احلفاظ على الوجود ،مقابل وجود �آخر �أعم و�أغلب :الوجود امل�سلم بتوجه �سيا�سي �إ�سالمي ،با�سم القومية العربية؛ وهو التوجه الذي ال ي�ستقيم معه ،بعرف املتنورين امل�سيحيني� ،إال توجه مماثل بنيوياً ،وهو الوجود امل�سيحي ،با�سم القومية اللبنانية ،ويدركون متاماً �أن ال �إمكانية لوجوده �إال بالدعم والو�صاية الفرن�سيني. []10
ظهر الأمر وك�أن فرن�سا تعمل على ا�ستقالل لبنان مبعزل عن �أماين العرب يف �إن�شاء دولتهم امل�ستقلة .كما ظهر �أن االنكليز يعملون على �إقامة اململكة العربية مبعزل عن �أماين اللبنانيني امل�سيحيني باال�ستقالل. �أظهرت الأحداث املتعلقة باملنطقة ،والن�شاطات التي �أعقبتها العادة تق�سيمها بانتهاء احلرب العاملية الأوىل �أن التناق�ضات الطائفية تهيمن على التفكري ال�سيا�سي والوطني للمهتمني كافة ب�ش�ؤون بالدهم .فاملطالبون با�ستقالل لبنان وتو�سيعه لتوفري �أ�سباب املعي�شة هم امل�سيحيون الذين يخافون ،كما كانوا يف ال�سابق ،الذوبان يف بحر من امل�سلمني .كما �أن املطالبني بالدولة العربية بقيادة في�صل هم من امل�سلمني الذين وجدوا يف ال�شريف ح�سني القائد الذي ي�ستطيع �إعادة جمد امل�سلمني وقوتهم« .ورمبا الفئة الثالثة التي طالبت با�ستقالل �سورية كانت تعي تلك التناق�ضات الطائفية ،وتعترب �أن االنت�صار على هذه التناق�ضات يكمن يف رف�ض منطق كل من الدعوتني الطائفيتني ال�سابقتني ،والدعوة �إىل نوع من الالطائفية ،وذلك بف�صل الدين عن الدولة ،بدليل �أن 14
مئوية احلرب العاملية الأوىل
اللجنة املركزية ال�سورية كانت ت�ضم �أع�ضاء من امل�سيحيني وامل�سلمني».26 توافقت امل�صالح الفرن�سية مع �أماين البطريرك احلويك املدعومة من قوى دينية و�سيا�سية ،وظهر �أن ا�ستقالل لبنان كما يريده املوارنة �أ�صبح قريب املنال ،و�إن كان على ح�ساب التوافق الداخلي، يف البداية .وانعك�س ذلك يف طريقة ا�ستقبال الفرن�سيني بني م�ؤيد ومعار�ض ،مع ما تلب�سه املواقف امل�ؤيدة واملعار�ضة من �أردية طائفية .وزاد املوقف توتراً بعد �إعالن الأمري في�صل ملكاً على �سورية يف امل�ؤمتر ال�سوري العام �سنة « ،1919على �أن تراعى �أماين اللبنانيني الوطنية يف كيفية �إدارة مقاطعتهم لبنان �ضمن حدوده املعروفة قبل احلرب العامة ،ب�شرط �أن يكون مبعزل عن كل ت�أثري �أجنبي».27 []11
وهكذا ظهر لبنان الكبري �إىل العلن يف العام 1920على �أنقا�ض طموحات العاملني على ا�ستقالل �سورية بعد مي�سلون .ظهر وتتنازعه قوتان ترتديان �ألب�سة قومية من عربية ولبنانية على ج�سمني متوهجني يف لونيهما الديني .وا�ستمر الأمر كما كان ،وت�شرعن �أكرث ،و�صار النظام الطائفي دين الوطن وديدنه .وو�صل الأمر �إىل خلع الأردية الرباقة ،وظهرت الأج�سام على حقيقتها ،لي�س على الوجهني الدينيني ،امل�سيحي وامل�سلم ،فح�سب ،بل باال�ضافة �إىل ذلك ،على �أوجه املذاهب والطوائف وامللل والنحل ،وبتنا نرتحم على ما م�ضى من الأيام ،ونخ�شى من �أن يكون حا�ضرنا �أف�ضل بكثري مما �سي�أتي.
� 26أنظر يف هذا اخل�صو�ص: عاطف عطيه ،الدولة امل�ؤجلة ،دار �أمواج ومكتبة بي�سان ،2000 ،بريوت� ،ص .90-89وللتف�صيل حول ال�صراعات التي حدث �إبان تقرير م�صري املنطقة� ،أنظر: وجيه كوثراين ،االجتاهات االجتماعية -ال�سيا�سية يف لبنان وامل�شرق العربي ،معهد االمناء العربي،1976 ، بريوت� ،ص.310-303 2 7امل�صدر نف�سه� ،ص.334 15
�صدر حديثا ً
م�ؤ�س�سة �سعاده للثقافة
بناية ر�سامني� ،شارع احلمرا ،ر�أ�س بريوت ،لبنان �صندوق بريد 113-5557 :بريوت -لبنان هاتف)00961-1( 753363 : فاك�س)00961-1( 753364 : الربيد الإلكرتوينsaadehcf@idm.net.lb : املوقع الإلكرتوينwww.saadehcf.org :
مئوية احلرب العاملية الأوىل
�إ�ستمرار �ضياع الهوية القومية وليد زيتوين -باحث ا�سرتاتيجي
د�شنت احلرب العاملية االوىل مرحلة �ضياع الهوية القومية يف منطقتنا ،باتفاقية احتفالية� ،أ�سمتها �سايك�س-بيكو .اتفاقية و�ضعتنا على خط اال�شتباك اال�سرتاتيجي املحدد بجغرافيا الطوائف وامللل والنحل. غري �أن النتائج التي ر�سمتها االتفاقية ،مل تكن وليدة �ساعتها عام ،1916و�إمنا كان التح�ضري لها على قدم و�ساق من امدية بعيدة زمنياً .ففي حلظة بروز الدولة القومية يف القرن التا�سع ع�شر، مل نكن جاهزين مادياً ومعنوياً لتتلقف فكرة التحول العاملي احلا�صل على امل�ستوى ال�سيا�سي، وبالتايل مل نتلم�س بعد معنى وم�ضمون الهوية القومية لال�سباب التالية: �أو ًال :وجودنا حتت �سيطرة االمرباطورية العثمانية التي كانت تعاين �سكرات املوت نتيجة �أو�ضاعها االقت�صادية املرتدية ،وخ�سارتها الع�سكرية �أمام القوى اال�ستعمارية �آنذاك وخا�صة تدمري ا�سطولها البحري يف نافرين عام ،1826ومن ثم عدم ا�ستقرار �أو�ضاعها الداخلية �إثر انقالب الثالثي القومي الطوراين على اخلالفة العثمانية املتلب�سة اللبو�س الأيديولوجي الديني؛ ثاني ًا :تدخل الدول الكربى يف املناطق التي ت�سيطر عليها اخلالفة العثمانية حتت عناوين رعاية االقليات الطائفية ،ومن خاللها ،رك ّزت على امل�ست�شرقني والداللني واالر�ساليات ل�ضرب البنى اجليو-ثقافية املوجودة ،التي كانت حتتفظ لتاريخه بخ�صو�صياتها القومية؛ ثالث ًا :كانت املنطقة تعي�ش حالة اقت�صادية مزرية كمح�صلة للج�شع االمرباطوري العثماين من جهة ،وكنتيجة للهجمة البدوية ال�صحراوية التي قامت بها قبائل العنزي القادمة من اجلزيرة العربية من جهة �أخرى ،حيث فاقت بهمجيتها وات�ساعها ما فعله هوالكو .لقد دمرت هذه الهجمة �سبعة �آالف قرية وبلدة من حلب �شما ًال �إىل �صفد وحيفا ويافا جنوبا ،فحرقت جميع املحا�صيل الزراعية وقطعت اال�شجار ّ ونكلت بال�سكان قتال وتهجرياً ،حتت الرعاية العثمانية وانظار القنا�صل االوروبيني؛ رابع ًا :تر ّدي الو�ضع العلمي والثقايف ودخول املنطقة يف مرحلة االنحطاط ب�سبب املمار�سات 17
القمعية العثمانية وهجرة الكوادر العلمية ،وتغلغل ثقافات غربية متعار�ضة مع القيم ال�سائدة ،مل ُت�س َتغ ،حينها ،من قبل النخب املتلقّية؛ خام�س ًا :حت ّول ع�صبة االمم �إىل منظمة �ضامنة حلقوق الدول الكربى املنت�صرة باحلرب ،على ح�ساب الدول وال�شعوب التي كانت حتت مظلة الدول املهزومة ،حيث انتقلت هذه ال�شعوب من ا�ستعمار �إىل ا�ستعمار �آخر دون �أن يكون لها �أي دور يف تقرير م�صريها. حتت مظلة هذا الواقع ،ويف غياب االطر ال�سيا�سية والثقافية واالقت�صادية املحلية الناظمة ،متددت امل�شاريع اجليوبولتيكة االقليمية والدولية لت�أمني م�صاحلها ،ا�شتبكت وت�شابكت على �أر�ضنا وعلى ح�ساب م�صاحلنا ،فدخلنا يف دوامة ا�شتباك دائم ما زال م�ستمراً حتى يومنا هذا ،من خالل دوائر ثالث: دائرة ذاتية :تختلط فيها قواعد ال�صراع ما بني ويف الهوية القومية ،والهوية الدينية، والهوية املذهبية ،والهوية االتنية ،والهوية االجتماعية (مدنية وع�شائرية) واالنظمةال�سيا�سية واالقت�صادية ،والت�شكيالت الكيانية التي �أفرزتها �سايك�س-بيكو؛ دائرة �إقليمية :تتنازع فيها م�شاريع الدول االقليمية التي بل ّورت هويتها القومية وعملت على �أ�سا�سها مثل تركيا وايران ،وتلك التي مل تتبلور هويتها وت�سعى �إىل دور قيادي �إقليمي «ا�سرائيل» ،وم�صر وادي النيل ،وال�سعودية ممثلة للجزيرة العربية؛ دائرة دولية :وقد تد ّرج فيها اال�شتباك تاريخياً ،من �صراع بني االمرباطوريات القدمية ،ثم بعد احلرب االوىل بني الدول اال�ستعمارية احلليفة الذي انتج �سايك�س-بيكو ،مروراً باحلرب الباردة صوال �إىل اليوم بني اجليوبولتيك بني الواليات املتحدة االمريكية واالحتاد ال�سوفياتي ال�سابق ،و� ً االمريكي املدعوم من �أوروبا واحللف االطل�سي واجليوبولتيكي الرو�سي املتجدد املدعوم من ال�صني ودول الربك�س. بالواقع ،الميكن الف�صل ب�شكل كامل بني الدوائر الثالث �إال لأ�سباب منهجية بغية تو�ضيح ما ميكن ت�سميته بهوام�ش حرية احلركة املر�سومة بدقة من قبل الدائرة الكربى ،حيث برزت �إ�شكالية تقدم نف�سها على ال�شكل التايل :هل اال�ستعمار هو من �أوجد املتناق�ضات التي ت�شتملها الدائرة االوىل؟ �أم ان هذه التناق�ضات البنيوية هي التي ا�ستجلبت اال�ستعمار �إىل بقعة �صراعاتها؟ مبعنى �آخر «ما الذي جلب على �أمتي هذا الويل؟» ،كما قال انطون �سعادة ،و�أردفه ب�س�ؤال �آخر «من نحن؟». هنا يتبادر �إىل الذهن ،الت�سميات التي اطلقت على هذه املنطقة .من «ال�شرق االدنى» �إىل «ال�شرق االو�سط اجلديد» و«ال�شرق االو�سط الكبري �أو املو�سع» التي �إن دلت على �شيء ف�إنها ّتدل على م�ضمون امل�شروع اجليوبولتيكي وا�ستهدافاته .هي ت�سميات جغرافية متعالية ت�ؤكد على مركزية 18
مئوية احلرب العاملية الأوىل
الغرب وتبعيتنا ،وبالتايل تر�سم حدودنا ا�ستناداً خلطوط �أمنها القومي باجليو�ش اجلرارة واال�ساطيل املنت�شرة يف البحار املحيطة ،والهيمنة ال�سيا�سية وال�سيطرة االقت�صادية على ب ّرنا .وعليه ا�ستنادا حلقائق التاريخ واجلغرافية والفكر العلمي احلديث� ،سن�ستعيد تعبري «�سورية الطبيعية» ك�إ�سم لهذه املنطقة ،باعتبارهذا اال�سم االكرث غلت�صاقاً بح�ضارة املنطقة وثقافتها. ال �شك �أن اال�ستعمار بكافة ا�شكاله ،قد ّركز يف املرحلة االوىل على تدمري البنى الثقافية احل�ضارية/ الروحية باعتبارها جزءاً من العوامل املتغرية يف ت�شكيل االمة ،ليت�سنى له يف مرحلة الحقة ،النفاذ من الت�شرذم النف�سي والثقايف لتق�سيم اجلغرافية ب�شكل يتنا�سب مع �أهدافه �أو ًال ،وثانياً كي ي�ؤمن هذا التق�سيم بقاء االقليم اجلغرايف بعيداً عن امكانية التفكري با�ستعادة وحدته. �إن �سايك�س-بيكو ،وهي اتفاق توزيع نفوذ بني قوتني ا�ستعماريتني ،حلظت من خالل تر�سيمها ل�سوريا الطبيعية امل�سائل التالية: ف�صل مناطق اجلذب احل�ضارية (ما بني النهرين ،بالد ال�شام)؛ �إ�ضعاف العمق اال�سرتاتيجي (لبنان بعمق 40كلم كذلك فل�سطني)؛ �سلخ املناطق ال�ساحلية عن الداخل .مثال رغم ات�ساع العراق فهو ال ميلك منفذاً بحرياً يتنا�سب مع م�ساحته (4كلم على اخلليج ،ال�شام 200كلم على البحر املتو�سط) رغم ان طول ال�شواطئ ال�سورية على هذا البحر تبلغ اكرث من 800كلم؛ التح�ضري من خالل هذا التق�سيم ملا ا�صبح واقعاً فيما بعد ،دولة يهودية يف فل�سطني ،و�سلخ لواء صوال �إىل ماردين ،ورمبا دولة كردية يف ال�شمال ال�شرقي؛ اال�سكندرون وكيليكة و� ً التق�سيم على اال�سا�س الطائفي. �أفقدت هذه االتفاقية �سوريا الطبيعية ال�سيطرة املبا�شرة على �شرق البحر االبي�ض املتو�سط من خليج اال�سكندرون حتى قناة ال�سوي�س ،كما �أفقدتها القدرة على التحكم باملمرات املائية وحركة وحجمت بنف�س الوقت قدرتها الطبيعية التجارة والنقل ،وابعدتها عن موقع قرب�ص اال�سرتاتيجيّ ، من امل�شاركة مبياه اخلليج والبحر االحمر. ب�إخت�صار ،و�ضعت هذه االتفاقية حدا�ص ملعادلة قوة�/سيادة التي تتمتع بها عادة الأمم بالعامل، وهو ما �أفقدها مركزها ودورها اجليو�-سيا�سي واجليو�-سرتاتيجي بعد �أن �أفقدها دورها اجليو-ثقايف احل�ضاري يف العامل .ومل ت�ستطع منذ ذاك التاريخ ان تك ّون و�ضعاً يليق بها يف مرحلة تنازع االمم البقاء ،بل جعلها يف مهب م�شاريع االخرين. ي�صعب الآن يف ظل الت�شرذم احلا�صل على م�ستوى كيانات االمة فيما بينها وداخل كل كيان، ويف ظل احلرب احلقيقة الدائرة على �أر�ضها ،ي�صعب و�ضع ت�صور ا�سرتاتيجي لدور م�ستقبلي ،دون 19
حتديد نقطة بداية م�ستقرة ونقطة نهاية وا�ضحة املعامل ،موزعة على مراحل تكتيكية زمنية ،والعمل ب�شكل متوازن بني ما هو ا�سرتاتيجي وما هو تكتيكي� ،شرط توفر االرادة ال�سيا�سية ،والتي يبدو �أنها بعيدة املنال حالياً ،الرتباط النخب املحلية مب�شاريع تكتيكية مف�صلة على قيا�ساتها ،وعلى حجم طوائفها و»جماهريها» واثنياتها وع�شائرها ،وارتباط م�شاريعها باخلارج .ويتعذر ،بنف�س الوقت، ر�سم النقاط املطلوبة للنهو�ض ،دون قراءة فعلية مت�أنية ال�سرتاتيجيات االخرين االقليمية والدولية، ومدى ت�أثريها ومكامن ال�ضعف والقوة فيها. تعترب اال�سرتاتيجية ب�شكل عام ن�سقاً فكرياً خمزوناً يف الذاكرة اجلمعية ل�شعب ما ،وهي بالتايل جامدة ن�سبياً الرتباطها بالعوامل الثابتة والثقافية لت�شكل االمة .فاملوقع وامل�ساحة والطبوغرافيا، والرثوة الطبيعية متاماً كما التطلعات العامة وامل�صالح هي من يقرر �أ�صول اال�سرتاتيجية وجذورها التاريخية واحلالية .من الطبيعي �أن يتغري منهج العمل اال�سرتاتيجي تبعا لالدارة وتبعا للظروف الذاتية واملو�ضوعية لالمة فتتحقق عندما تكون االمة قوية (ع�سكرياً� ،سيا�سياً ،اقت�صادياً ،ثقافياً) وترتاجع �إىل حد ت�صبح معها اال�سرتاتيجية فكرة معيارية ،حني تكون يف حالة �ضعف �أمام الأمم االخرى �أو يف حال الت�شرذم ا�ستناداً للعوامل الذاتية ،فت�سلب �إرادتها وتفقد �سيادتها وت�صبح عر�ضة لتداخل اال�سرتاتيجيات االخرى .وهذا ،بالواقع ،هو حال امتنا منذ بداية ادراك معنى االمة وظهور الدولة القومية احلديثة. هنا تربز م�س�ألة االدراك والفهم والتحليل ومن ثم و�ضع االولويات واخليارات على م�ستوى بناء القدرة الذاتية والعوائق الناجتة عن التدخل اخلارجي على قاعدة عقلية بحته ،لأن العقل هو ال�شرع االعلى ،وهو بالتايل يحدد الغايات واال�ساليب الواجب اتباعها للو�صول �إىل الأهداف املر�سومة� ،شرط مرحلتها والعمل على �إقامة التوازن بني الغايات اال�سرتاتيجية والأهداف املرحلية دون طغيان �أو تعار�ض بني الغايات والأهداف م�صحوبة بتوفر االرادة ال�سيا�سية. تكاد ال توجد طريقة علمية �أخرى للخروج من م�أزقنا ،رغم �أن العوائق الداخلية كثرية ومت�شعبة ومعقدة لدرجة تدفع البع�ض �إىل الي�أ�س .غري �أن وجود م�شروع بنائي م�ستهدف وا�ضح املعامل يبعث على االمل وي�شحذ الهمم خا�صة �أن �شعبنا يتمتع بدينامية عالية ،وقدرة �أقرب ما تكون اىل املثالية على العمل واملثابرة الجناز ما ميكن ت�صوره وو�ضعه مو�ضع التنفيذ. �إن العامل مل يعد لعبة �شطرجن حم�صورة بني الأ�سود والأبي�ض كما كانت خالل احلرب الباردة وبني قطبني �أ�سا�سيني فقط ،بل حت ّول �إىل لعبة �أخرى ،مبا ميكن ت�سميته بـ «املكعبات البلغارية» ذات االبعاد وااللوان ال�ستة ،تلزم العبها �أن يداخل بني االبعاد وااللوان لتحقيق االن�سجام املطلوب والتوازن بني البعد واللون. ي�ستوجب فهم اللعبة الدائرة مبنطقتنا ،االطالل على امل�شروع االمريكي الغربي بالدرجة االوىل وحتديد ماهية �أهدافه ،والتحوالت ال�سيا�سية وامليدانية مل�ساره كونه امل�شروع اال�سا�س ،واالكرث 20
مئوية احلرب العاملية الأوىل
ّ جتذراً ،كي ن�ستطيع من خالل هذا الفهم النفاذ �إىل �إدراك امل�شاريع الأخرى املوازية �أو املعار�ضة، ليت�سنى لنا فيما بعد حتليل نقاط القوة وال�ضعف فيه ويف م�شاريع االخرين وبالتايل �إيجاد امل�ساحة املمكن العمل عليها ومن خاللها لتحقيق مكان مل�شروعنا. �إن الواليات املتحدة ،التي تبنت ا�سرتاتيجية احلفاظ على الدوالر ،واالن�صهار املجتمعي الداخلي وذلك من خالل النهب اخلارجي وخلق عدو دائم ،اعتمدت نظرية الفرد ماهان يف بداية القرن املا�ضي ،والقا�ضية بتطويق الدولة البحرية للدولة القارية الربية ومن ثم العمل على �إ�سقاطها من الداخل ،وقد جنحت �إىل حد بعيد يف تعاملها مع االحتاد ال�سوفياتي ال�سابق من خالل تعاظم قدراتها البحرية وان�شائها لالحالف الع�سكرية (الناتو� ،أ�سيان ،واحللف املركزي) وام�ساكها باملفا�صل االقت�صادية العاملية ،وجر القطب ال�سوفياتي �إىل �سباق الت�سلح .بعد هذا النجاح التاريخي ،تطلعت �إىل تطويق ال�صني ،فمددت حلف �شمايل االطل�سي �إىل دول �أوروبا ال�شرقية وعززت وجودها يف جنوب �شرق ا�سيا بالقواعد الع�سكرية ،وذهبت �إىل تنظيف امل�سرح العاملي الو�سيط املمتد من حدود ال�صني �إىل البحر املتو�سط. كانت الأهداف التي ت�سعى الواليات املتحدة االمريكية لتحقيقها ،يف امل�سرح اال�سرتاتيجي الو�سيط وهو امل�سرح الذي ي�شمل منطقتنا ،تتلخ�ص بالبنود التالية: احلفاظ على �أمن «�إ�سرائيل» ،وعلى «�إ�سرائيل» كقاعدة ع�سكرية متقدمة؛ �أمن الآبار النفطية و�أمن تدفقها من خالل ال�سيطرة البحرية وحرية املالحة التجارية وم�سك املنافذ املطلة من و�إىل البحر االبي�ض املتو�سط؛ دعم الأنظمة القائمة التي تتبع �سيا�ستها للحفاظ على حالة ا�ستقرار �أمنية وع�سكرية ت�ؤمن موجبات النهب ال�سهل للرثوات املحلية؛ ير�سخ وجود «�إ�سرائيل». الو�صول �إىل حل نهائي يف «ال�شرق االو�سط» ّ وزادت الواليات املتحدة على الركائز االربعة ال�سابقة بعد � 11أيلول 2001بنداً خام�ساً وهو حماربة االرهاب ،متا�شياً مع قاعدة ا�سرتاتيجيتها (خلق عدو خارجي). �إال �أن االولويات االمريكية قد تبدلت منذ عام ،2013فت�صدرتها م�س�ألة حماربة االرهاب نظراً لربوز ما ا�سمته بـ «اال�سالم الراديكايل» على ح�ساب اال�سالم املعتدل الذي �أ�صبح ي�شكل خطراً داهماً على م�صاحلها يف املنطقة وحتى يف �أوروبا والعامل .وهو ما دفعها بالفعل �إىل القبول بعقد م�ؤمتر جنيف ،2وتثبيت حتالفها مع دول اال�سالم املعتدل وهو �أي�ضاً ما جعلها بحالة �إرباك بعد �إزاحة االخوان امل�سلمني عن احلكم يف م�صر خالل حترك اجلي�ش يف 30حزيران املا�ضي. �أما التح ّول الثاين ،فيربز من خالل العمل لعدم انت�شار �أ�سلحة الدمار ال�شامل ،وقد ظهر موقفها جلياً فيما يتعلق بامللف النووي الإيراين ،واالتفاق مع رو�سيا على تدمري الرت�سانة الكيماوية 21
ال�سورية .وهو بالواقع ما اعتربته �إجنازاً لها ب�إبقاء «�إ�سرائيل» متفوقة ع�سكرياً المتالكها منفردة ال�سالح النووي ،وبالتايل ا�ستقرار املنطقة ل�ضمان تدفق النفط. رغم ذلك تراجع ،دور الواليات املتحدة ب�شكل درامتيكي يف هذه املنطقة لأ�سباب عدة منها االزمة االقت�صادية التي طاولتها بدءاً من العام 2008نتيجة حلروبها اخلارجية يف افغان�ستان والعراق، وتكاليف انت�شار قواتها على امتداد العامل ،ورمبا ل�سبب جوهري �آخر وهو بروز مناف�سني جديني على ال�ساحة العاملية كرو�سيا وال�صني والهند وبقية دول الربيك�س .وقد يكون من اال�سباب �أي�ضاً، تراجع اهمية هذه املنطقة ا�سرتاتيجياً الكت�شاف م�صادر طاقة ذات �أهمية �أكرب ،و�أ�سواق جتارة عاملية �أو�سع يف �آ�سيا واملحيط الهادئ. �أما القطب الثاين الذي يناف�س الواليات املتحدة االمريكية يف املنطقة فهي بالت�أكيد رو�سيا االحتادية، التي ا�ستعادت حركتها اال�سرتاتيجية بعد و�صول فالدميري بوتني �إىل احلكم .واال�سرتاتيجيا الرو�سية هي ا�سرتاتيجيا ثابتة كما قلنا �سابقاً ،وتتلخ�ص بالو�صول �إىل املياه الدافئة .وهي ا�سرتاتيجيا مل صوال �إىل تتغري من عهد القيا�صرة (كاترين الثانية ،بطر�س الأكرب) مروراً باالحتاد ال�سوفياتي و� ً الوقت احلا�ضر مع االحتاد الرو�سي� .أما �أهم املالمح التي تعمل على �أ�سا�سها رو�سيا الآن خلدمة ا�سرتاتيجيتها ،فتتلخ�ص بالنقاط االتية: حماربة القوى التكفريية البعاد �شبحها عن االرا�ضي الرو�سية وخا�صة يف ال�شي�شان ،التي عانت طويال من العمليات االرهابية؛ االحتفاظ ب�سورية كحليف ا�سرتاتيجي مطل على البحر الأبي�ض املتو�سط ،وخا�صة قاعدة طرطو�س التي ت�شكل ع�صب الأ�سطول الرو�سي على هذا البحر بعد فقدان رو�سيا قواعدها يف ليبيا وم�صر واجلزائر .وهو ما يف�سر وقوفها بقوة مع �سوريا على امل�ستويات الع�سكرية وال�سيا�سية والديبلوما�سية خا�صة يف جمل�س الأمن الدويل؛ التواجد وب�شكل قوي خلف الدرع ال�صاروخي االمريكي املمتد من بولندا اىل تركيا مروراً ببلغاريا؛ ت�أمني تدفق الغاز عرب ال�سيل اجلنوبي ل�شركة غازبروم �إىل �أوروبا ،متاماً كال�سيل ال�شمايل الذي مير يف �أوكرانيا. ت�سعى رو�سيا الآن �إىل ا�ستعادة دور ونفوذ االحتاد ال�سوفياتي ال�سابق مع جتنب الو�صول �إىل �سباق ت�سلح مع الواليات املتحدة بغية احلفاظ على النمو امل�ضطرد القت�صادها .غري �أن الواليات املتحدة، وبتمويل �صهيوين ،ا�ستخدمت قوتني حمليتني لزعزعة الو�ضع الرو�سي« :اال�صولية اال�سالمية املت�شددة» ،و«احلركات النازية املت�شددة» يف �أوروبا ال�شرقية ويف اجلمهوريات ال�سوفياتية ال�سابقة. 22
مئوية احلرب العاملية الأوىل
�أما اال�سرتاتيجيات االقليمية ورغم �أهميتها ال ت�ستطيع العزف منفردة خارج دائرة اال�شتباك الدويل .قد ت�ستفيد كل منها من التقاطعات املرحلية بني ما هو �إقليمي وما هو دويل� ،إال �أن ت�صب �أ�سا�ساً يف خانة االقطاب الدولية. حركتها مهما تو�سعت ّ من املهم جداً حتليل مقومات العمل االقليمي وخا�صة «الإ�سرائيلي» والرتكي وااليراين والعربي فيما يتعلق مب�صر وال�سعودية وت�أثرياتهم على �سوريا الطبيعية ،كما �أنه من املهم قراءة اال�سرتاتيجيات ال�صينية وتطلعات الدول الكربى االخرى .غري �أنها واقعياً وعملياً لي�ست خارج �أداء كل من الواليات املتحدة ورو�سيا يف الوقت الراهن. �إن االطاللة ال�سريعة على امل�شاريع اجليو-بوليتيكية التي ت�ستهدف منطقتنا ودينامياتها ،ال تعفينا من الدرا�سات املت�أنية لكل منها .لكن االولوية تبقى يف و�ضع احلجر اال�سا�س للخروج من م�أزقنا وتبني ر�ؤية وا�ضحة للنهو�ض على قاعدة اال�سئلة التالية: من نحن؟ �أين نحن؟ �إىل �أين؟ ما هي �سبل الو�صول؟
املراجع :
�أحمد داوود �أوغلو ،العمق اال�سرتاتيجي ،الدار العربية للعلوم ،الطبعة الثانية2010 ،؛ وليد زيتوين ،مقاربات جيوبوليتيكية ،دار فكر لالبحاث والن�شر2012 ،؛ بيار �سيلريييه ،اجليوبوليتيكا واجليو�سرتاتيجيا ،تعريب عاطف علبي ،مركز الدرا�سات اال�سرتاتيجية والبحوث والتوثيق1993 ،؛ رميون �آرون ،اجلدل الكبري حول اال�سرتاتيجية الذرية ،دار طال�س؛ �أنطون �سعاده ،املحا�ضرات الع�شر ،جلنة الن�شر.1952 ،
23
ي�صدر قريبا ً
م�ؤ�س�سة �سعاده للثقافة
بناية ر�سامني� ،شارع احلمرا ،ر�أ�س بريوت ،لبنان �صندوق بريد 113-5557 :بريوت -لبنان هاتف)00961-1( 753363 : فاك�س)00961-1( 753364 : الربيد الإلكرتوينsaadehcf@idm.net.lb : املوقع الإلكرتوينwww.saadehcf.org :
مئوية احلرب العاملية الأوىل
1914قابلة احلرب التي مل تلد
عامليا ً � إن�سانيا ً نظاما ً ّ ّ �أحمد من�صور� - 1شاعر وباحث
ُ منذ �أ�سطورة «قايني وهابيل» والعامل ال يعرف �إ ّال ال�صراع �أو العنف الذي بد�أ بني الأخوين، والدول القوم ّية و�سواها ف�إىل التحالفات والدول ّ وتو�سع يف جتمعات كالأ�سر والقبائل واملدن ّ ومنا ّ واملع�سكرات امل�ؤدجلة. يتج�سد مببد�أ املنفعة وامل�صلحة الذي كل ذلك كان فيه املحور هو الإقت�صاد الالعب الأكرب الذي ّ ي�ستلزم النفوذ والهيمنة وال�سيطرة والإ�ستعمار والإمربيالية. القومية زنربك القرن: ّ
عدة �أمرباطور ّيات :الربيطانية -الفرن�سية كان على ال�صعيد الأورا�سي والإفريقي يف ذلك الع�صر ّ الأملانية -النم�ساوية -املجر ّية -الإيطالية -الرو�سية والعثمانية ،والتناف�س فيما بينهما كان علىأ�شده �س ّيما بعد الثورة ال�صناعية التي زلزلت طبيعة الأ�سواق كما ط ّورت تقن ّية الأ�سلحة وق ّوت � ّ قدرتها النار ّية وكذلك غيرّ ت منهج ّية القتال .ومبا �أن يف قانون ال�صراع �أو احلرب ي�سيطر مبد�أ البقاء لي�س ال�سالح فح�سب بل ا ُجل ْن ُد والق ّيمون عليهم من للأقوى ف�إنّ الإنت�صارات الع�سكرية يفر�ضها َ قادة عباقرة. واحلرب غالباً ما تكون بني قادة ع�سكريني و�سيا�سيني يعرفون بع�ضهم البع�ض� .أ ّما اجلنود فهم يتح ّركون -معظم الأحيان -كالبيادق بل كالقطعان الب�شر ّية وال يدرون من الأمر �إ ّال القليل الذي ال يكون عاد ًة �سوى اخلطاب ال�سيا�سي الذي قد ال يفهمه معظمهم ...وواحدهم ما ر�أى �سابقاً الذي عليه قتله يف املواجهة. والدولة والقوم ّية منها ب�شكل خا�ص يقودها �صنفان متوائمان غالباً هم ال�سا�سة ورجال الأعمال... واملقودون دائماً الع�سكر ح�سب �سلمهم الرتاتب ّية.
1
مدير مكتبة الأمري �شكيب �أر�سالن الدول ّية يف مدينة ال�شويفات. 25
أر�ضية احلرب جاهزة وا�شتعالها رهن �رشارة: � ّ
ال�صغري يف الوقت املنا�سب وهذا ما يدفع ّ الدول كال�شركات تر�صد بع�ضها البع�ض ليلتهم كبريها ّ الدول �إىل التحالف مع دول �أخرى لتحمي نف�سها من جهة وتقت�سم الغنائم مع الأقوى من جهة ثانية. َ حرب �سابقة ينتظر احلاكمون ح ّلها يف الوقت املنا�سب كمقاطعتي الألزا�س ناهيك عن ب�ؤر ٍ واللورين اللتني �ضمتهما �أملانيا من فرن�سا عام 1870بعد معركة �سدان ال�شهرية ،فلهذا هناك اتفاق دفاعي بني فرن�سا وبني رو�سيا وبني اليابان و�أنكلرتا منذ 1902فاملطلوب �إذن توزيع القوة الرو�سية تو�سعها وتريده �أكرث ف�أكرث فيثري بني ال�شرق الأق�صى والغرب الأوروبي كتحرير �ضفاف �أملانيا يف ع ّز ّ �أزمة طنجة عام 1905و�أغادير عام .1911 �أ�ضف �إىل ذلك حت�ضري خطط حرب ّية للم�ستقبل من جانب القيادات الع�سكرية العليا ملهاجمة جماوريها �أو مناف�سيها. الثورة ال�صناعية تدفع العلم والتكنولوجيا يف �أوروبا �إىل الأمام .و�أملانيا يف جمال العلوم تفوز بح�صة الأ�سد من جوائز نوبل تتجاوز جارتها اللدودة فرن�سا مب�سافة بعيدة �ساطعة ،والتف ّوق الأملاين بدا الدول الأوروب ّية بارزاً للعيان فاجلميع ير�صدون ال ّنمر الإقت�صادي الأملاين الذي �ضاقت عليه �أملانيا ّ ي�سن نواجذه الفرتا�س الأ�ضعف منه حاملا ت�سمح ب�إمتياز ترت ّب�ص بع�ضها البع�ض ،والأقوى ّ الظروف بذلك .كذلك هناك مو�ضوع اخلالف بني الأمرباطورية النم�ساوية والأمرباطور ّية الرو�س ّية ال�سالف العرق ّية والدينية (الأرثوذك�سية بخ�صو�ص البلقان املت�صلة بامل�س�ألة ال�شرقية ،فرو�سيا حامية ّ ديانتهما امل�شرتكة) تبحث عن ّمد نفوذها هناك نحو املتو�سط. تك�سر القوميات املدعومة من ال�سالف تريد �أن ّ الأمرباطورية النم�ساوية حتوي �أقل ّيات قوية من ّ اخلارج من قبل �صربيا منذ و�صول امللك بطر�س الأول .1903 الأزمة التي �أحدثتها ثورة تركيا الفتاة يف الأمرباطورية العثمانية عام 1908كانت الفر�صة للأمرباطورية النم�ساوية املجرية ل�ضم البو�سنة والهر�سك بالق ّوة وبالن�سبة لبلغاريا فر�صة لإعالن لإ�ستقاللها. ب�شكل بارز �صربيـا (معاهـدة حروب البلقان 1913 - 1912ج ّز�أت تركيا الأوروبية وكبرّ ت ٍ بوخار�ست عـام .)1913 ال�سالفية يف �صربيا وذلك بالتن�سيق مع �أملانيا �إثر دخول القوات النم�سا �أرادت احل�سم مع معقل ّ هددت فرن�سا �أملانيا باللجوء �إىل الق ّوة ولكن يف نهاية الأمر ا�ضط ّرت فرن�سا �إىل التنازل عن الأملانيةّ ، جزء من م�ستعمرة الكونغو لأملانيا مقابل �إطالق �أيديها يف املغرب الأق�صى طنجة و�أغادير وهذا 26
مئوية احلرب العاملية الأوىل
ما كان .وهذا ما يندرج يف مبد�أ «�إعطني �أعطك» ...و «دعني �أدعك ح�سب املُتفق عليه» �أي الرتا�ضي الذي عليه ميزان توازن القوى. ال�شّ ـرارة:
مل يكن ينتظر �إ�شغال هذا الغاب الوا�سع من املتناق�ضات �سوى �شرارة ،فكان اغتيال ويل عهد �صربي �أمرباطور النم�سا-املجر فرن�سوا فرديناند يف �سراييفو عا�صمة البو�سنة والهر�سك من قبل ّ ومتخ�ضت عنه نتائج خطرية جديدة بالن�سبة للعامل القادم قومي متط ّرف فا�شتعل العامل القدمي ّ والعامل الذي يقدم بعده. فربيطانيا �سارعت الحتالل قرب�ص وح�شدت ٍ قوات حلماية قناة ال�سوي�س ،و�أنزلت ق ّوات يف جنوب العراق ،و�أقنع ثعلبها ال�شهري لورن�س �شريف ّ بالدهاء والرياء �إىل امل�شاركة فيها يف الوقت مكة ّ الذي كان م�شروع �سايك�س-بيكو ير�سم معامل تق�سيم املدى العربي �سيما ال�شرقي منه ب َني فرن�سا و�أنكلرتا ورو�سيا عام ،1916وهنا تنت�صب �أمامنا عالمة ا�ستفهام عالية كاملئذنة؛ ملاذا �إذاً دائماً احلرب؟ يعطينا اجلواب بكل ب�ساطة كالووزفيتز ّ املنظر الع�سكري الأملاين ال�شهري« :لأ ّنها امتدا ٌد لل�سيا�سة بو�سائل �أخرى يق�صد من ُه اخل�ضوع لإرادتنا»� ،أو ُت ْف َهم ب�شكل عام ب�أنها ظاهرة ا�ستخدام العنف والأكراه كو�سيل ٍة حلماية م�صالح �أو لتو�سيع نفوذ �أو حل�سم خالف حول م�صالح �أو مطالب متعار�ضة بني جماعتني من الب�شر. احلرب التي �أرادوها نزهة حتولت �إىل جمازر جيل:
لتو�سعها االقت�صادي كل �أمرباطورية �أو دولة ت� ّصورت احلرب العظمى التي غدت عاملية -ميداناً ّ ذاهب من عر�س ِه الذي واحلدودي والع�سكري فكان اجلندي ب�إجتاهه �إىل اجلبهة تو ّدع ُه حبيبت ُه ك�أ ّن ُه ٌ مل يتم بعد �إىل عر�س ِه الوطني �أو القومي الآخر الذي يف دور الإمتام. ال�سذج منهم ف�أعطوهم الإنطباع العابق فالقاد ُة وال�صحافيون وال�سيا�سيون مغنطوا النا�س �سيما ّ العك�س متاماًَ ، وهناك دول يف ٍ حلف ثبت بطالنه بل بالن�صر ال�سريع والغنائم ال�سريعة ،وهذا ما َ ُ حد ال�سنة قبل دخولها احلرب لأنَّ ِّ تريد «املغامرة لكل دول ٍة ح�ساباتها اخلا�صة ُ تريثت طوي ًال �إىل ّ امل�ضمونة» النتائج لأنَّ احلرب ت�ستلزم املال والرجال واخلراب فالتدمري �أ�سهل بكثري من التعمري والإبن الذي تربيه والدته كي يغدو رج ًال ي�ستوجب عقدين من الزمن بينما ر�صا�ص ٌة واحدة تختطف روح ُه يف ثانية. 27
يف هذه احلرب املتم ّيزة ،فرن�سا حتديداً ،كان عدد الأ�ساتذة والطلبة والأطباء واملهند�سني والفنانيني والك ّتاب الذين �شاركوا فيها قد ا�ست�شهدوا باملئات بلْ بالآالف. واملهم فقط هو ك�سب يف ٍ حرب كهذه ِ ت�سو ُد املكيافلية بامتياز ،فالو�سيل ُة ترب ّرها الغاية �إذ ّ املهم ُّ احلرب كيفما اتفق فلذلك لأول مرة ٍ انق�صف املدنيون من ال�سماء كما ا�ستخدمت الأ�سلحة َ ِعت فيما بعد بقوانني دول ّية ،كذلك َ حتت �سقط احلياد املعرتف ب ِه دول ّياً َ الكيماوية و�سواها التي ُمن ْ اجلزمات ،ف�أملانيا �ضربت حياد بلجيكا بعر�ض احلائط لت�سريع اجتياحها لفرن�سا ،وظهرت حرب �سنني ونيف ،ففي منطقة ي�صبح فيها التقدم م�س�أل ًة �صعبة ،فا�ستمرت املعارك �أربع ٍ اخلنادق التي ُ فردان ت�ساقط مئات الآالف من الأملان والفرن�سيني (الأملان تكبدوا 240.000قتيل وجريح، والفرن�سيون )275.000وبنيت َم�ستودعات هرمية هائلة الحتواء عظم مئات الآالف من ال�ضحايا. كان هناك نوع من التوازن العددي من حيث الدول ،فهناك الوفاق الثالثي واحللف الثالثي الأول ي�شمل :رو�سيا وفرن�سا وبريطانيا والثاين :النم�سا-املجر و�أملانيا و�إيطاليا. لقد �أ ّدت هذه التحركات �إىل متديد �سنوات اخلدمة الع�سكرية وزيادة عدد القوات امل�سلحة يف ٍّ كل من �أملانيا وفرن�سا ورو�سيا ...علماً �أنَّ هذا النهج قد بد�أ مع الثورة الفرن�سية عام .1789 الواليات املتحدة كانت معزول ًة عز ًال ذاتياً �إراد ّياً وراء البحار ال تريد احلروب .الدولة العثمانية عد ّو رو�سيا الأول ت�أخرت كثرياً فدخلت احلرب يف 1914/10/29بق�صفها املوانىء الرو�سية على البحر الأ�سود. �أعلنت اليابان احلرب على �أملانيا يف �آخر �آب ،1914وطردت الأملان من عدة جزر من املحيط ٍ م�ستعمرات �أملانية جماورة وذلك الهادىء وا�ستفادت �أو�سرتاليا ونيوزيلندا من الفر�صة فاحتلتا حتتاج في ِه �إىل جنودها يف جبهاتها لأنَّ اخلطوط اللوج�ستية غدت طويلة على �أملانيا يف الوقت الذي ُ القريبة واملبا�شرة. �إيطاليا بقيت خارج جهنم احلرب طيلة عام .1914 الرو�س يف بع�ض انت�صاراتهم على الأملان تك ّلفوا � 325.000أ�سري مما من َع اجلي�ش الرو�سي من ا�سرتداد قوته. ت�صد َع �أثناء القتال بد�أت تتواىل الإخرتاعات فظهرت الدبابة والغوا�صة «الأملانية» التي �أرادت �أن ّ �سيطرة بريطانيا على البحار.
28
مئوية احلرب العاملية الأوىل
هزمية الإ�سالم يف �إ�سالم �ض ّد �إ�سالم:
معروف عن الإجنليز �أ ّنهم �شياطني الدبلوما�سية وثعالب ال�سيا�سة ،ولوال ذلك ملا كانت اجلزيرة الربيطانية املحدودة �سيطرت على املحيطات وحكمت ياب�سة �أو�سع منها و�أكرث �سكاناً �أ�ضعافاً العربي فدخلت م�ضاعفة .فمن هنا ،ارت�أت ك�سر اجلناح الغربي للن�سر الأملاين يف املدى امل�شرقي ّ ّ يف مفاو�ضات �س ّرية عرب مرا�سالت ح�سني-مكماهون التي كان يكتب فيها الثاين ب�إجنليزية عربية بينما الأول بعرب ّية �إجنليزية خادعة غام�ضة كان بيت الق�صيد فيها :اتركوا الأتراك وحاربوا معنا وخذوا م ّنا دولة عربية كربى ت�شمل خمتلف �أرجاء الوطن العربي با�ستثناء م�صر وال�شمال ولكن العرب بلعوا الإفريقي .لقد كان االختالف ب ّييناً حول حدود الدولة العربية املوعودةّ ... الطعم رغم ف�ضح الأمري �شكيب �أر�سالن ّ للمخطط الغربي �آنذاك وتنبيهه املتك ّرر� .أ�ضف �إىل ذلك يتج�سد يف وعد ٍ ب�إن�شاء كيان قومي لليهود. كان هناك دور بريطاين موازياً يف نف�س الوقت تقريباً ّ والإجنليز مل يعرتفوا مبلك ّية ال�شريف ح�سني �إ ّال على احلجاز و�شرق الأردن .وبعد متليك امللك ح�صة فرن�سا هاجمت فرن�سا اجلي�ش في�صل على �سـور ّية ّ الداخلة يف �إتفاقية �سايك�س-بيكو ،يف ّ ال�سوري النا�شىء يف معركة مي�سلون و�سحقته ،وبعد ذلك �أر�ضت امللك في�صل الأول بتمليكه ّ على العراق تعوي�ضاً عن �سور ّية. ون�ص َب الأجنليز �إبن ُه ح�صلت تط ّورات ،فقد عُينّ امللك ال�شريف ح�سني ملكاً يف اجلزيرة العرب ّية ّ عبداهلل �أمرياً على �شرقي الأردن الذي غدا ملكاً فيما بعد. نظراً لنجاح هذه ّ اخلطة الرهيبة� ،أعاد الفرن�س ّيون لعب نف�س الدور ب�شكل �آخر كي ال يدخل الأتراك يف جانب الأملان يف احلرب الكونية الثانية ف�أقطعوهم لواء ا�سكندرون مقابل ذلك. وهكذا �أ�صبحت تركية مبتورة عن البلقان وبالد امل�سلمني العرب وجهها جتاه �أوروبا التي ال تريدها وجتاه امل�سلمني الذين �أنهت خالفتهم عام 1923وغدا العداء متباد ًال بني ّ الطرفني فهي حما�صرة من الغرب وال�شريف. نتـائج احلـرب:
احلرب العاملية الأوىل كانت �أُ ّم احلرب العامل ّية الثانية وقابلتها ،فاحلروب ال حت�سم دائماً امل�سائل لي�س بال�ضرورة �أقوى الغد وروح ال�شعوب احل ّية قد تخ�سر معرك ًة �أو حرباً املع ّلقة للأبد ف�أقوى اليوم َ ولكن ال ميكن �أن ت�ستمر مهزومة للأبد فهي تتم�سكن حتى ّ تتمكن من جديد وتعود �إليها الراية من جديد كما جرى لأملانيا على �سبيل املثال التي خ�سرت احلرب و�أذ ّلوها مبعاهدات و�شروط ولئن نقّذت على املدى القريب. ي�صعب على ال�سلطة تنفيذها على املدى البعيد ْ 29
وهكذا تراها قد ف ّرخت النازية التي �أذهلت العامل �إذ فعلت يف �ست �سنوات 1938 - 1933ما ال تفعله �أمم يف عقو ٍد وقرون� ،إ ّال انها خ�سرت احلرب الكونية الثانية بعد �أن �أربكت العامل الأوروبي ود ّمرت فيه الأخ�ضر والياب�س والب�شر غري �أنها عادت من جديد هذه امل ّرة ولكن على ريح �سالح الإقت�صاد الذي هو الو�سيلة والغاية ،ف�أ�صبحت الدولة ال�ساد�سة بني �أع�ضاء جمل�س الأمن الدويل والقوة الثانية بعد الواليات املتحدة يف الغرب و�أوروبا التي مل ت�ستطع توحيدها بالق ّوة املع ّراة وحدتها بالإقت�صاد .ففرانكفورت غدت عا�صمة للإحتاد الأوروبي ال�سائر نحو الأمام .وما الف�ضل ّ يف ذلك �إ ّال للعمالقني �أديناور الأملاين وديغول الفرن�سي اللذين فهما التاريخ وا�ست�شرفا امل�ستقبل ال�سالح وحده ال ميكن �أن يوحد �أوروبا بل الإقت�صاد وحده. بعد �أن �أيقنا �أنّ ّ من نتائج احلرب: �ضمتهما �أملانيا �إثر هزمية فرن�سا يف معركة �سدان عادت الألزا�س واللورين �إىل فرن�سا بعد �أن ّ .1870 �سقط النظام القي�صري يف رو�سيا و�سيطرت البل�شف ّية فيها وخرجت مو�سكو من احلرب بعد �أن وقّعت معاهدة لتوف�سك مع �أملانيا. انت�صر الدوالر الأمريكي الذي ّوظف الكثري و�أ�ص ّر على ا�سرتداده كما ا�ص َّر على تو�سيع يحلمن �أحد بال�سيطرة �أ�سواقه املزدهرة يف �أوروبا املد ّمرة ،كذلك قالت �أمريكا كلمتها يف �أ ّن ُه ال َّ على �أوروبا �أو العامل طاملا هي موجودة يف العامل وهذا ما برهنه التاريخ. ظهرت الفا�ش ّية و�سقطت فيما بعد يف احلرب العاملية الثانية. حد كبري. الدور الرائد لأوروبا بقيادة العامل �إىل ٍّ تراج َع ّ اختفت الأمرباطورية النم�ساوية-املجر ّية من اخلارطة والعودة �إىل دولتني من الدرجة الع�شرين �أو ما �شابه. ك ّلفت ال�ساعة يف احلرب مبقايي�س ذلك ال ّزمان ع�شرة ماليني دوالر ومئات املليارات من الدوالرات واخل�سائر و�أكرث منها للعودة �إىل �إعادة البناء. ك ّلفت احلرب ع�شرة ماليني قتيل وواحداً وع�شرين مليون جريح وثالثة ماليني �أ�صحاب عاهات دائمة عدا املاليني التي فتكت بها الأمرا�ض واجلراد واملجاعات. و�ض ّمت �إىل بولندا والدمنارك (م�ستحيل جرد ّ �إق ُتطعت 25.000ميل مربع من �أملانيا ُ كل �شيء يف هذه العجالة).
30
مئوية احلرب العاملية الأوىل
�أمريكا �أجه�ضت انت�صار �أملانيا وعادت �إىل جزيرتها:
وافقت �أوروبا بر�ؤ�ساء وفودها امل�شاركة يف م�ؤمتر ال�صلح بالإجماع على قيام منظمة «ع�صبة الأمم»، و�أق ّرت �أن تكون جنيف مق ّرها� ،إلأّ �أ ّن ُه مل يكن خمططاً ُ منذ �إن�شائها قيا ُم �أي ِة ق ّو ٍة ع�سكري ٍة قادر ٍة على تنفيذ ِمق ّرراتها ،فكانت يف الواقع �أداة م�صالح املنت�صرين وهذا ما دفع امريكا �إىل عدم امل�شاركة يف ع�ضويتها رغم �أنها �صاحبة الفكرة. تطاحن احليتان الكبار :التاريخ يف م�صلحة اجلغرافيا واجلغرافيا يف م�صلحة التاريخ:
لقد كانت احلرب الكون ّية الثانية وليدة الأوىل �أخطر و�أعنف و�أكلف على العامل ا�ستخدمت فيها الأ�سلحة الذر ّية وغدا ي�سيطر على العامل قطبان فقط :ال�سوفياتي والأمريكي� .إال �أنَّ احلرب ا�ستم ّرت �إنمّ ا عن طريق دول و�سيطة ككوريا وفيتنام واليونان وخ ّيم على العامل «احلرب الباردة» لأنَّ خمزون احلرب ال�ساخنة ب�إمكان ِه تدمري العامل عدة مرات .فلذلك َّمد اخلط الأحمر بني مو�سكو ووا�شنطن كي ال تنفجر احلرب فج�أ ًة نتيجة خط�أ عار�ض. �أ ّما يف بلدان العامل الثالث ك�أفريقيا و�آ�سيا العربية فاحلروب �شبه متوا�صلة. �إنَّ الواليات املتحدة الأمريكية ك ّلما بدت عليها معامل ال�ضعف الإقت�صادي كونها �أكرب ٍ بلد مدين لتكبح التطور الذي لي�س يف م�صلحتها يف العامل ،ك ّلما تلج�أ �إىل قوتها الع�سكرية الأوىل يف العامل َ وتوجه ُه كما ينا�سبها. ّ ب�شن حربني كبريتني يف العامل ب�أفغان�ستان والعراق والبدعة الأخرية للمحافظني اجلدد كانت ّ وذلك باخرتاع الأرهاب و�صياغة قانون احلرب على الأرهاب .هاتان احلربان اللتان �أنهكتا �أمريكا رئي�س �أ�سود ع ّل ُه ينقذها وك ّرهت العامل بها دفعت غرفتها ال�شيطانية القياد ّية اخلفية على �إطالق ٍ ب�شكل من الأ�شكال من حمنتها ال�سوداء التي لن متحى يف القريب العاجل ،مما دف َع القيادة ٍ الأمريكية (حفاظاً على حياة الإن�سان الأمريكي) من الإعتماد على الآلة التي تقتل الإن�سان كالطائرة دون ط ّيار لتوفري الإن�سان الذي � َ أخذ يتململ منها ال بلْ يثور. ي�شهد على ذلك فهي تعترب �أكرب �إنَّ �أمريكا وليدة احلروب بحاج ٍة دائماً �إىل حروب وتاريخها ُ م�صد ٍر لل�سالح يف العامل ولديها الأ�ساطيل يف املحيطات ومئة و�سبع وخم�سون قاعدة ع�سكرية تقف وراءها بعيداً بعيداً ميزاني ُة �أية الدول ُ مو ّزعة على العامل وتعتمد �أكرب ميزانية ع�سكر ّية ب َني ّ دولة ثانية �أخرى. 31
الدول ال تبني �سيا�ستها على �أ�سا�س الأخالق بلْ على �أ�سا�س الأرقام وما ير ّدد يف الإعالم �إنَّ ّ لي�س �سوى ح ٍرب على ورق وكمائن للتعمية وال�صطياد الب�شر. والد�ساتري واملواثيق َ بعد هدرها للآالف �إنَّ احلروب �أحياناً ت�ستخدم لتخفيف ال�ضغط ال�سكاين فتلتقط الأنظم ُة �أنفا�سها َ والك ّرات ال بل للماليني. الب�رشية من احلروب ح�سب منطق جربان ونعيمة؟ كيف ننقذ ّ
لقـد ر ّدد النا�س بعد الويالت ال ّرهيبة التي عرفـوها يف احلرب العامل ّية الأولـى «�أبداً لـن يعـود هـذا» لكن الواقع ّ دماء «ّ »Plus Jamais ça كذب هذا ال�شعار ّ ال�صارخ ،فاحلرب العامل ّية الثانية كانت �أكرث ً أ�شد �إيالماً تت ّوجت همج ّيتها غري املحدودة با�ستخدام القنبلة الذر ّية ذات التدمري ودماراً وخراباً و� ّ غري املحدود ،وتوا�صلت مئات احلروب املح ّلية والإقليم ّية الأوروب ّيـة (حرب ال�سوي�س ،)1956 وتدخالت الدول واحلروب بالوكالـة وعبـر املحيطات (حرب مالوين بني بريطانيا والأرجنتني)ّ ، الكربى والعظمى يف احلروب حيث املواد الأول ّية ف�سقطت �سقوطاً مدو ّياً فكرة الإن�سان �صورة لل�سخرية من ِق َبل الأقوياء اهلل على الأر�ض والغاية الأ�سمى ل ّأي عمل يف الوجود وغدت مدعاة ّ على اختالف درجاتهم ،و�أحالم طاغور وتول�ستوي و�سواهم مب�ستقبل الب�شر �أثارت الإ�ستهجان والإ�ستغراب. الدم ..لكن هذه احلرب �ستق ّرر م�صري يح�س بطعم ّ يقول جربان «لي�س مبقدور املرء �أن يتنفّ�س دون �أن ّ اجلن�س الب�شري ملئة �سنة على الأقل و�أنا واثق من �أ ّنها �ستعطي العامل ر�ؤيا للحياة �أف�ضل و�أ�صفى». �إنّ الق�سم الأول من الفقرة يعك�س حالة ال�شاعر جربان خليل جربان الوجدانية وهو �صحيح. �أ ّما توقّعاته يف الق�سم الثاين فتعود �إىل خياله ومت ّنيه ال �إىل الواقع الذي ال يدركه بال�شكل الكايف فالتاريخ ال ينتهي كما الظلم واال�ستغالل بخط�شة قلم. جربان يف تفا�ؤله (اخلادع) يف مكانٍ �آخر يقول: «�إنّ الذين يعملون من �أجل �سالم دائم على الأر�ض ال يختلفون عن ال�شعراء ال�شباب الذين ي�أملون يف ربيع دائم». «�إنّ هذه احلرب مل يكن منها ُب ّـد كما الأيام والليايل ال ُب َّـد منها مل ت�شعلها �أ ّية بالد من البلدان، اهلل هو الذي ا�شعلها». «علينا تهيئة عقل الإ�سالم يف حال ك�سب احللفاء احلرب لإدراك �أن الن�صر لي�س قهراً للإ�سالم و�إنمّ ا هو حترير له وتقدمي فر�صة له». 32
مئوية احلرب العاملية الأوىل
«هذه احلرب كان ال ُب َّـد منها» ال نخالفه يف هذا الإفرتا�ض امللمو�س بل «اهلل هو الذي �أ�شعلها» يبقى يف جمال املجاز املج ّنح الذي يطلقه خيال �شاعرنا اخل�صب. الدول عندما تكون امل�صالح م�س�ألة وجود في�ضع �إنكلرتا «�أ�شد يوحد امل�ستبدين يف منطق ُ ّ �إنَّ جربان ّ البلدان عدالة» يف داخل جزيرتها مع ترك ّيا �أ�شر�سهم عنفاً فيقول: «�إنَّ حوادث الإعدام التي نفّذتها �إنكلرتا يف ثوار �إيرلنده يف تلك الأيام قد �شجعت تركيا على القيام بعمل ال�شيء ذاته فقتلت الأطباء والق�ضاة واملحامني و�أ�صحاب امل�صارف والأ�ساتذة ورجال الدين والك ّتاب وال�شعراء والفال�سفة واحلكام والأمراء كما �شنقت الأحرار يف �سور ّيا ولبنان»... أ�شد البلدان عدالة ب�إعدام الثوار فلماذا ال تفعل تركيا ال�شيء �إذ بعدما قامت �إنكلرتا وهي � ّ نف�سه؟... �إ ّنه يدين كذلك �شعراء �إنكلرتا «الذين مل ُيعطوا ّقط جما ًال لأن يخدموا وطنهم كما يخدم �شعراء الأقطار الأخرى �أوطانهم» .وهنا يغرز الإ�سفني �أكرث يف قلب بريطانيا في�صرخ بعنفوان« :على �إنكلرتا �أن متوت قبل �أن ّ تتمكن من �أن حتيا خارج املحارة». �إنّ جربان يف هذه التعبريات الفائرات من القلب يبدو ال�شاعر احلقيقي املدافع يف املطلق عن والدجل� ..إ ّنه حمكمة الهاي ّ مبكرة جمهولة يف �أمريكا الإن�سان احلقيقي خارج امل�صالح واملراءاة ّ برجل واحد �أمام جربوت ّ الظلم. يعر�ض جربان لوحة دراماتيكية �أخرى من الو�ضع العربي فيقول «كان ال�سوريون يف فل�سطني فانق�ض اليهود والأثرياء من �إنكلرتا وفرن�سا و�شرعوا ي�شرتون �أرا�ضي القوم يت� ّضورون جوعاً َّ أرا�ض ثمنها �أربعون الفاً مبقدار خم�سمئة». املت� ّضورين جوعاً ،كانوا يح�صلون على � ٍ ال�ساطع: ويقول يف مكان �آخر كال�ضوء ّ «�أنا �أعتقد �أنّ اليهودية �ستزول عن وجه الب�سيطة كلها ف�سيدرك اليهود ا ّنه �إذا �شا�ؤوا �أن يقبل بهم الآخرون ف�إنّ عليهم ان يت�ش ّتتوا ويتف ّرقوا بني ال�شعوب الأخرى ويبطلوا �شعباً له خ�صائ�ص فارقة». ر�أي جربان بالثورة العربية ولبنان:
يقول بانت�شاء «�إنّ الثورة العرب ّية هي حقاً �أمر مده�ش ال يعرف �أحد خارج البالد العربية �إىل �أي حد قد جنحت و�أي ٍ وعملت حلمت به ّ ُ �شوط �ست�صل ،لكن ح�صول احلركة هو �أمر عظيم ج ّبار� ،أم ٌر ُ لأجله خالل ال�سنوات الع�شر الأخرية� .إذا ح�صل العرب على عونٍ من احللفاء ف�إ ّنهم لن يخلقوا �سيقدمون �شيئاً للعامل� .أنا �أعرف احلقيقة التي جتثم يف النف�س العربية� .إنّ مملك ًة فح�سب بل �إ ّنهم ّ 33
العرب لي�س مبقدورهم �أن ّ ينظموا بدون عون �أوروبا� ،إنّ للعرب ر�ؤيا للحياة ال ميتلكها �أي �شعب �آخر». يف هذه الر�ؤيا الرائعة ينت�صب �أمامه العرب بطاقاتهم اخل ّالقة عرب املا�ضي واحلا�ضر وامل�ستقبل ،فك�أ ّنه هو روحهم املتحركة الوثّابة التي ال حتكم �إ ّال بالتح ّرر والإنطالق الذي �سيده�ش العامل. �أ ّما عن لبنان الذي ي�صفه مبكان �آخر باجلبل الأ�سود يف «يوغو�سالفيا» «املونتنغرو» فهو لن يقهر. «�إنني �سوري �أو بالأحرى لبناين ولبنان خ ّالق ،مده�ش ،وال �أ�شعر ب�أنّ الدول الكربى �ست�ص ّر �سي�ضحى به يف �سبيل رفاهية الدول الكربى .هذا هو القلق الذي على نواله احل ّرية»� ...أ�شعر �أنه ّ ال�صدد وما تزال تن�سحب يعطيني �صراعاً روح ّياً طيلة الوقت .لقد كان نب ّياً جربان بالفعل يف هذا َّ نبوءته حتى يومنا هذا و�إىل �أجل غري معروف ولكالم ٍ كهذا كاف�أه الأتراك ب�إطالق النار عليه يف باري�س. الغربية وكيف يرى اخلال�ص؟ املدنية كيف يرى نعيمة ّ ّ
ال �أزال �أعتقد �أن املدن ّية الغربية قد �أو�شكت على نهايتها ،يف الوقت احلا�ضر� .أخذت عنا�صر يتم كوالدة طفل يف �ساعات �أو �أ ّيام فهذا قد ي�ستغرق تتجمع خللق مدنية جديدة ،وخلق املدن ّية ال ّ مائة �سنة �أو �أكرث. عالمات هذه احل�ضارة اجلديدة هي القلق الهائل يف العامل كله ،وهذا االن�سياق يف ركاب الت�س ّلح، ّ حرب طاغية ...يكفي �أن تبلغ املدن ّية يوماً تخ�شى فيه من الأنهيار لتعرف �أنها بلغت والذعر من ٍ نهاية �شيخوختها و�أ ّنها حتيا بعقلها وقلبها يكاد يكون ال وجود له .مدن ّية ت�صنع ال�صواريخ وال تعرف نتيجتها ،مدنية تخلق وتخاف وتخ�شى �صنع يديها وهذا يعني �أن زمام �أمرها �أفلت من يدها .لقد ال�صناعية وقلبها ينتج ّ ت�ضخم عقلها كثرياً على ح�ساب قلبها ،عقلها ينتج ال�صواريخ والأقمار ّ البغ�ض والكراهية والقلق ّ والذعر.... (يكون) اخلال�ص �أن نوجد توازناً بني العقل والقلب ،ندرب القلب على ال�صالح وال�صفاء واملح ّبة، مثلما ند ّرب العقل على ارتياد الف�ضاء الأو�سع و�أن نتخ ّل�ص من مفاهيم كثرية بالية مثل مفاهيم احلدود اجلغرافية واحلواجز واللون والدين واللغة وما �أ�شبه. �إن مل ن�صل �إىل عامل واحد فم�صرينا الهالك... الب�شري حما ّ كل احلدود مع وجود الراديو والتلفزيون وال�سينما والطائرة وال�صاروخ والأقمار الفكر ّ وهمية ،فنحن اليوم نتناول �أفكاراً من كل �أقطار الأر�ض مثلما ا�شياء ّ ال�صناعية �أ�صبحت احلدود ً 34
مئوية احلرب العاملية الأوىل
نتناول غذاءنا وك�ساءنا .فماذا يبقى لك من حدود و�أنت جتتازها يف ّ كل دقيقة من وجودك؟ �إ ّنها �أوهام ال �أكرث ودفاعنا عنها �إنمّ ا هو دفاع عن وهم ،وهذا الوهم هو الذي يجعل النا�س يت�س ّلحون وينفقون ّ جل تعبهم ودخلهم القتناء �سالح قد ي�ضط ّرون غداً �إىل حرقه �أو طرحه يف البحر� ...إنّ مل يكن هذا جنوناً فما هو اجلنون �أذن؟ 2014هل تكون قابلة لنظام عاملي �إن�سا ّ ين جديد بعك�س �سابقاتها؟:
يف التحليل ال�سيا�سي ال يدخل عامل �إرادة الباحث بل الواقع املو�ضوعي كما هو منعز ًال عنه .ف�إذا الدول وامل�صالح هي امل�صالح. نظرنا �إىل البانوراما العامل ّية ،نرى ب�أنّ الإن�سان هو الإن�سان والدول هي ّ هناك م�شاريع حروب حتت ال ّرماد مجُ ّمدة كبرية بني الكبار ّ بالذات: ينجل م�شروع حرب بني رو�سيا واليابان ب�سبب اجلزر اليابانية التي احتلها اجلي�ش الأحمر ومل ِ عنها ح ّتى الآن. وال�صني ب�سبب التنازع على جزر يف املحيط الهادئ. م�شروع حرب بني اليابان ّ م�شروع حرب بني الهند وال�صني ب�سبب الأرا�ضي املتنازع عليها على احلدود والتي انفجرت �سابقاً و ُب ِّر َد ْت. م�شروع حرب بني الهند وباك�ستان ب�سبب ك�شمري. م�شروع حرب بني رو�سيا وال�صني ب�سبب التنازع على مناطق حدود ّية كبرية الذي التهب يف وهد�أوه. املا�ضي القريب َّ هذا غي�ض من في�ض� .أ ّما على م�ستوى الدول الأخرى فهناك حروب �سائرة م�ستم ّرة وهناك حروب ال�سالح ويزداد عدد العاطلني عن قابلة للتحريك يح ّركها ّجتار الأ�سلحة الكبار عندما يتد ّنى �إنتاج ّ العمل. وجمل�س الأمن الذي يتوقف على �سيا�سته م�صائر ال�شعوب ،ال يب�شّ ر باخلري طاملا �أع�ضا�ؤه مل يجمعهم الإن�سان الإن�سان ال دافع امل�صلحة الذي يفر�ض النفاق بجميع �أ�شكاله و�ألوانه. هناك حت ّركات على م�ستوى قطاعات من ال�شعوب لغ�سل الأدمغة وتعرية النفو�س وتطهري الأيدي ولك ّنها كقطرات ماء متف ّرقة ال ميكن �أن تروي الربع اخلايل لتجعل من ُه ج ّنة اهلل على الأر�ض.
35
�صدر حديثا ً
دار كتب للن�شر �ش.م.ل.
بناية الربج ،الطابق الرابع� ،ساحة ال�شهداء الو�سط التجاري ،بريوت ،لبنان �صندوق بريد ،11-4353 :بريوت -لبنان. هاتف)961-1( 983008 /9 : فاك�س)961-1( 980630 : الربيد الإلكرتوينkutub@kutubltd.com : املوقع الإلكرتوينwww.kutubltd.com :
مئوية احلرب العاملية الأوىل
ال�سلطان عبد احلميد الثاين واجلامعة اال�سالمية بني �شيوخ ال�صوفية ومثقفي التنوير �سعيد �أحمد عبد الرحمن � -أ�ستاذ يف اجلامعة اللبنانية
مقدمة:
مرت اخلالفة العثمانية منذ ن�ش�أتها �سنة 699هـ 1299/م .على يد م�ؤ�س�سها عثمان الأول بعدة �أطوار متعاقبة بني قوة و�ضعف وتو�سع وانح�سار ،اال �أن االنحدار وال�ضعف الذي عرفته تلك الدولة قد ا�ستمر لفرتة طويلة (قرابة الثالثة قرون) تعاقب على حكمها خالل هذه احلقبة ثمانية وع�شرون خليفة ،حاولوا �أن ي�ستعيدوا قوة الدولة وهيبتها ال�سابقة ،وكان ال�سلطان عبد احلميد �أقوى ه�ؤالء اخللفاء الذي حاول �أن يعيد القوة �إىل الدولة يف ظروف عرف فيها العامل اال�سالمي منذ �أواخر القرن الثامن ع�شر ،العديد من احلركات الدينية التي ا�ستطاعت �أن ت�ؤثر يف احلياة الدينية والفكرية يف امل�شرق العربي ،ومنها «اجلامعة اال�سالمية» ،التي ظهرت عند جمال الدين ()1 االفغاين يف البداية ،وتبناها ال�سلطان عبد احلميد الثاين.. لقد عرف ال�سلطان عبد احلميد الثاين« ،بحنكته ال�سيا�سية» ،لقد كان« :رج ًال �أملعياً �أديباً ح�سا�ساً ذا فكر ثاقب يدرك كل ما يدور من حوله بفطنة و�سرعة بديهة .وكان جمدا وجمتهدا يتمتع بطاقة وحيوية عظيمتني ويهتم بكل �شيء ويتابع كل �صغرية وكبرية يف ق�ضايا االمة»(.)2 لقد متيزت فرتة حكم ال�سلطان عبد احلميد الثاين ،يف حماولة لإعادة بناء ما تهدم من ركائز ال�سلطنة العثمانية ،حيث �أدرك ال�سلطان العثماين �أن ا�ستمرارية الدولة التكون �إال يف ك�سب ود امل�سلمني والعرب يف مواجهة التدخالت االوروبية يف ال�سلطنة وحماوالت تفتيتها ،فعمد عندها عبد احلميد الثاين �إىل رفع �شعار اجلامعة اال�سالمية ،بهدف حتقيق مكا�سب �سيا�سية وتوحيد العامل اال�سالمي من حوله ،لقد كانت فكرة اجلامعة اال�سالمية �إحدى االدوات التي اعتمدها عبد احلميد يف تقوية �سلطته وهو بذلك ا�ستطاع من ان يحافظ على والء العنا�صر اال�سالمية من حوله(.)2 وقد متكن ال�سلطان عبد احلميد الثاين من اال�ستفادة من �شعار اجلامعة اال�سالمية يف امليدان ال�سيا�سي ،ويف نف�س الوقت اندفع نحو الطرق ال�صوفية اال�سالمية بهدف ك�سب ت�أييدها ،كونها 37
كانت متلك �شعبية وا�سعة يف العامل اال�سالمي من ترك�ستان حتى �شمال افريقيا لقد كان اهتمام عبد احلميد بالعرب يعود �إىل اخلوف من الدعوة العربية �إىل االنف�صال ،الذي ظهرت بوادره مع اجلمعيات ال�سرية ومنها «جمعية بريوت ال�سرية» ،وموقف اوروبا ال�ساعي �إىل تفتيت ال�سلطنة ،وحماوالت خديوي م�صر عبا�س حلمي الثاين الداعية �إىل خالفة م�صرية ،وظهور الوهابية وتو�سعها يف �شبه اجلزيرة العربية ،و�أفكار وكتابات عبد الرحمن الكواكبي الداعية �إىل تعريب اخلالفة اال�سالمية عرب كتابه «�أم القرى» ،وجنيب عازوري وافكاره التي ظهرت من خالل كتاب «يقظة االمة العربية» الداعي �أي�ضا �إىل خالفة عربية يف احلجاز ودولة غري دينية يف ال�شام والعراق ،وهو ما �أثار خيفة ال�سلطان ،ويذكر امل�ؤرخ عبد الر�ؤوف �سنو �أن ال�سبب الثاين الذي دفع بال�سلطان عبد احلميد �إىل التقرب من العرب ،هو �سبب اقت�صادي ،حيث اهتم ال�سلطان برفع م�ستوى ازدهار االقت�صاد يف واليات �سوريا وحلب وا�ضنة ،لتكون بديال اقت�صاديا من الواليات التي خ�سرتها ال�سلطنة يف �آ�سيا وافريقيا والبلقان .لذلك عمد عبد احلميد �إىل تقريب بع�ض ال�شخ�صيات العربية واحتوائها �ضمن الوظائف الكربى يف الدولة( .)4كما الحظ منو الطرق ال�صوفية ،فقرب �إليه �شيوخ من ال�صوفية العرب ،ملا له�ؤالء من التاثري على العامة فكان املطلوب من ه�ؤالء الرتويج لفكرة «ال�سلطان -اخلليفة»،كما انتمى ال�سلطان نف�سه �إىل الطريقة ال�شاذلية الي�شرطية ،وا�صبح من مريدي ال�شيخ حممود �أبو ال�شامات املوجود يف دم�شق(.)5 وقد القت فكرة اجلامعة اال�سالمية ار�ضا خ�صبة يف م�صر بالتحديد ،وا�ستمرت الدعوة اليها ،بعد خلع ال�سلطان عبد احلميد الثاين عام 1909م ،من قبل االحتاديني(.)6 ()3
�أ -ال�سلطان عبد احلميد الثاين:
حكم ال�سلطان عبد احلميد الثاين الدولة العثمانية فرتة تزيد على الثلث قرن (1909-1876م) متيز عهده ب�أتخاذ ال�سيا�سات التي هدفت �إىل: -1مواجهة �أطماع العامل الأوروبي يف ال�سلطنة العثمانية. -2حماوالت متزيق ال�سلطنة التي ظهرت من خالل :ثورات البلقان� ،سقوط �شمال �أفريقيا يف �أيدي اال�ستعمار الفرن�سي والربيطاين وااليطايل (م�صر -ليبيا ،)...نظام مت�صرفية جبل لبنان، ()7 املخططات ال�صهيونية يف فل�سطني... -3تبنى �سيا�سة اجلامعة الإ�سالمية ،ودعا �إىل �إحياء اخلالفة والتم�سك بها ،وقرب �إليه الكثري من العلماء ورجال الدين والوعاظ واملت�صوفية ،وفتح املدار�س الدينية وزاد من خم�ص�صاتها، و�أدخل �إىل مناهج التدري�س درو�ساً عن اال�سالم ،و�أنفق الكثري من الأموال على العلماء والدعاة ،و�أر�سل البعثات �إىل البالد الإ�سالمية ل�شرح �سيا�سته وك�سب الأن�صار لها(.)8 38
مئوية احلرب العاملية الأوىل
� -4أكرث من بناء و�إ�صالح امل�ساجد ال �سيما يف مكة واملدينة والقد�س ،و�إقامة االحتفاالت الدينية العلنية و�أن�ش�أ الزوايا والتكايا و�شجع النا�س على احلج و�سهله لهم عن طريق بناء خط حديد احلجاز(.)9 -5وترافقت �سيا�سة عبد احلميد هذه ب�سلوك �شخ�صي حيث مال �إىل االقت�صاد وعدم التبذير، وعدم �شرب اخلمر ،و�أحاط حياته بالتقى والتق�شف .وكان يقوم بواجباته الدينية كال�صالة وال�صيام يف رم�ضان .وتوزيع ال�صدقات ،يف حماولة وا�ضحة منه �إىل جمع امل�سلمني من حوله، ليعلن بعدها تبنيه لفكرة «اجلامعة اال�سالمية»(.)10 �إن تبني ال�سلطان عبد احلميد فكرة اجلامعة اال�سالمية �أتت نتيجة لعوامل خمتلفة �أبرزها: حماولة منه ملواجهة الغزو الثقايف االوروبي للدولة العثمانية . حماولة النهو�ض بالدولة بعد فرتة من ال�ضعف الذي �أ�صابها . حماولة توحيد العامل اال�سالمي يف �إطار الدولة العثمانية من جديد(.)11 وكان من �أبرز �إجنازاته حتت �إطار اجلامعة اال�سالمية ،بناء خط �سكة حديد احلجاز 1901م ،الذي ربط بني الآ�ستانة واملدينة املنورة مرورا ب�سوريا ،وكان هذا امل�شروع قد نفذ ب�أموال جمعت من تربعات امل�سلمني من خمتلف بلدانهم ،ويذكر جورج انطونيو�س «�أن تنفيذ امل�شروع كان �ضربة خبري يف ال�سيا�سة ،فقد �أثار احلما�سة البالغة يف جميع ديار اال�سالم ،ورمبا كان له من الآثار يف تثبيت مكانة اخلالفة اكرث من جميع خطط عبد احلميد االخرى(.)12 ب _ال�سلطان عبد احلميد واجلامعة اال�سالمية ودور �شيوخ ال�صوفية:
يعتقد �أن ال�سلطان عبد احلميد الثاين تبنى فكرة اجلامعة الإ�سالمية ،بعد �أن تبنى �أفكار �أبرز دعاة العامل اال�سالمي حينها ممن حمل هذا امل�شروع وهم :نامق كمال يف املجتمع الرتكي وجمال الدين الأفغاين وحممد عبده يف العاملني العربي واال�سالمي( .)13و�أخذ ال�سلطان عبد احلميد الثاين على عاتقه تنفيذ هذه الفكرة عملياً .بغ�ض النظر عن �أهدفه االخرى التي ت�سعى �إىل تثبيت حكمه وحكم بني عثمان والتي تعترب هدفه اال�سا�س(.)14 بد�أت الدعوة �إىل اجلامعة الإ�سالمية يف الن�صف الثاين من القرن التا�سع ع�شر ،من خالل عدد من املفكرين امل�سلمني الذين دعوا �إىل وحدة امل�سلمني يف كفاحهم �ضد الغزاة وقيام نه�ضة حقيقية يف كل امليادين ،تعتمد مبادئ اال�سالم والعلم احلديث والرتبية املعا�صرة والتجديد يف خمتلف جوانب احلياة وكان �أبرز ه�ؤالء :جمال الدين االفغاين ،وال�شيخ حممد عبده ،وحممد 39
ر�شيد ر�ضا ،وعبد الرحمن الكواكبي ،والطهطاوي وغريهم... يف الوقت نف�سه الذي دعت الطرق ال�صوفية �إىل �إعطاء م�سحة مقد�سة لل�سلطان فهو يف نظرهم �شخ�صية دينية جليلة ال يجوز �أن تطالها يد النقد والتجريح ،وهو رمز لوحدة امل�سلمني ،وعزتهم وفخرهم ،وحامي ال�شريعة الإ�سالمية ،والقيم على تنفيذها(.)16 لقد حاول ال�سلطان عبد احلميد من �أن ي�ستفيد من هذه الفئات من املتنورين من جهة وال�صوفية من جهة ثانية (مع عدم قبول املتنورين لل�صوفية) ل�صالح متتني حكمه ،لقد كانت �سيا�سة حمنكة حاولت جمع املتناق�ضات داخل العامل اال�سالمي وو�ضعها يف خدمة ال�سلطان. وهنا �سنحاول �أن نطلع على الدور الذي قامت به الطرق ال�صوفية جتاه اجلامعة اال�سالمية يف هذه الظروف ال�صعبة التي متر بها ال�سلطنة . من �أبرز اال�سباب التي دفعت بال�سلطان عبد احلميد الثاين �إىل اعتماده على الطرق ال�صوفية: � -1أن الدولة العثمانية كانت تعتمد على بع�ض ال�شيوخ ال�صوفية يف متتني عالقتها مع امل�سلمني وخ�صو�صا يف االماكن التي كان يراد فتحها .حيث كانوا ي�ؤدون دورا اعالميا دعائيا لل�سلطنة. -2كانت ال�سلطنة تتعرف على الر�أي العام اال�سالمي من خالل �شيوخ هذه الطرق يف خمتلف انحاء العامل اال�سالمي من بالد ترك�ستان حتى �شمال افريقيا(.)17 -3اتخذ ال�سلطان عبد احلميد الثاين من ه�ؤالء املت�صوفة متطوعني خلدمة �سيا�سته و�شكل رابطة بني مقر اخلالفة- .ا�ستانبول -وبني تكايا وزوايا الطرق يف كافة �أنحاء العامل اال�سالمي. وكان ال�سلطان عبد احلميد الثاين كما �أوردنا قد ت�أثر �شخ�صيا بالت�صوف وبالتحديد بالطريقة ال�شاذلية ،حيث كان ل�شيخها حممود �أبو ال�شامات مكانة خا�صة لديه ا�ستمرت حتى وفاته(.)18 وال �شك �أن نزعته الت�صوفية وميله للم�شايخ وف�ضوليته للتنب�ؤ بامل�ستقبل وتعلقه بالعرافني �ساعده يف ا�ستقطاب عدد منهم. ()15
ج� -شيوخ ال�صوفية يف بالط عبد احلميد ورجال التنوير:
لقد قرب ال�سلطان عبد احلميد �إليه جمموعة من �شيوخ الطرق ال�صوفية من �أمثال: ال�شيخ �أبو الهدى ال�صيادي من حلب وال�شيخ حممد ظافر املدين من طرابل�س الغرب .وال�شيخ �سعيد من حم�ص ،وال�شيخ �أحمد القي�صريل من املدينة املنورة وف�ضل العلوي من ح�ضرموت(.)19 وقد عملت هذه املجموعة من ال�شيوخ على تدعيم فكرة اخلالفة الإ�سالمية ،وحق ال�سلطان عبد احلميد يف هذه اخلالفة .ودعت كافة امل�سلمني �إىل االلتفاف حول عر�شه� ،إذ �أكد �أبو الهدى 40
مئوية احلرب العاملية الأوىل
ال�صيادي�« :أن اخلالفة �ضرورة �شرعية ،و�إنها انتقلت من �أبي بكر ال�صديق عرب الع�صور الإ�سالمية حتى ورثها العثمانيون و�أدعى �أن اخلليفة هو ظل اهلل على الأر�ض ،ومنفذ م�شيئته و�شريعته على امل�سلمني كافة �إطاعته(.)20 وتو�سع نفوذ �أبو الهدى ال�صيادي �إىل ال�ش�ؤون ال�سيا�سية واالدارية والع�سكرية ،وكانت له �أعني ت�أتيه بكل الأخبار ،ومما زاد يف نفوذه اعتقاد ال�سلطان عبد احلميد الثاين �أن �أبا الهدى كان �أحد ال�شيوخ الكبار للطريقة الرفاعية(.)21 وبالفعل ف�إن �أبا الهدى ب�صفته �شيخاً للرفاعية ومر�شداً لل�سلطان عبد احلميد ،و�ضع حتت ت�صرفه عدداً كبرياً من الوعاظ الذين كانوا يجوبون امل�شرق ويزرعون بني �سكانه الدعوة للطريقة الرفاعية ولت�أييد ال�سلطة العثمانية(.)22 كما اعتمد على �أحد كبار �أ�شراف مكة (ال�شريف عون) الذي كان ع�ضواً يف الطريقة الرفاعية. وقد جنح هذا الأخري يف التو�صل �إىل من�صب «�شيخ �شيوخ الطرق» وبالتايل ا�ستطاع �أن ي�ستقطب اتباع الزوايا املعار�ضة له حول فكرة اخلطر الأوروبي على الإ�سالم و�ضرورة التكتل �ضد هذا اخلطر. لي�صبح �شريف مكة عرب هذا التنظيم امل�ساعد املخل�ص لل�شيخ �أبي الهدى ال�صيادي ،واخلادم الأمني لل�سلطان(.)23 ومن جهة �أخرى كان ل�شريف مكة ت�أثريه الكبري على احلجاج حيث �أر�سل �إليهم املر�شدين يدعون للجامعة الإ�سالمية ولقائدها ال�سلطان العثماين وهكذا �أ�صبحت مكة املكرمة بف�ضل �شريفها و(مر�شدي احلجاج) وبف�ضل من�صبه ك�شيخ للطرق .حموراً لل�سيا�سة الإ�سالمية املعا�صرة .فمن هناك انت�شرت هذه الدعوات ،وانتقلت �إىل العامل اال�سالمي كله ،عرب احلجاج الذين نقلوا �إىل بالدهم بذرة احللم الكبري الذي كان يدغدغ خميلة ال�سلطان عبد احلميد يف جمع �شمل كلمة العامل اال�سالمي من جديد حوله و�إعادتهم �إىل كنف الدولة حتت �شعار «اجلامعة اال�سالمية»(.)24 وقد بلغت مكانة ال�شيخ �أبي الهدى ال�صيادي عند ال�سلطان عبد احلميد� ،أن ال�سلطان كان ال يرف�ض له �أمراً حتى ر�سخ يف ذهن معا�صريه �أنه �صاحب الكلمة االوىل عنده(.)25 وكان لل�صيادي �أن ا�ستدعي جمال الدين االفغاين �إىل ا�ستانبول بعد �أن �أقنع ال�سلطان بذلك ليظهر للعامل اال�سالمي اهتمام ال�سلطان بالعلماء ويف حماولة ال�ستمالة االفغاين اىل جانب م�شروع ال�سلطان �إال �أن معظم امل�صادر تذكر �أن ال�صيادي كان اليطيق �أن يزاحمه يف مكانته وقربه �إىل ال�سلطان �أحداً ،لذلك نقم على االفغاين وعبداهلل بن الندمي ،و�أخذ يد�س عليهما لدى ال�سلطان(.)26 منها �أن الأفغاين والندمي كانا يتنزهان يف «الكاغد خانة» �أحد منتزهات ا�ستانبول امل�شهورة .ف�صادفا 41
عبا�س حلمي خديوي م�صر الذي كان يف �إحدى زياراته �إىل العا�صمة العثمانية ،و�سلم بع�ضهم على بع�ض وحتادثوا نحو ربع �ساعة حتت �شجرة هناك فعلم ال�صيادي ب�أمر هذه املقابلة وقدم تقريراً �إىل ال�سلطان ،قال فيه� :أن الأفغاين والندمي قد تواعدا مع اخلديوي على االجتماع هناك ،وقد بايعاه حتت ال�شجرة على �أن تكون له اخلالفة .فتغري قلب ال�سلطان نحو الأفغاين وخ�شي منه و�شدد عليه الرقابة(.)27 يف الواقع فان ال�سلطان عبد احلميد كان يحاول �أن يقرب االفغاين منه ،فا�ستقبله وكرمه وادعى قبول م�شاريعه اال�صالحية داخل ال�سلطنة ،كما عر�ض عليه من�صب �شيخ اال�سالم� ،إال �أن االفغاين رف�ض هذا املن�صب طالبا من ال�سلطان �أن يعهد �إليه بعمل اال�صالحات داخل البالد مع رف�ض ال�سلطان لهذه الفكرة(.)28 �إال �أن هذا الود من قبل ال�سلطان تغري ،حيث ينقل �أحد ال�سياح الأملان عن االفغاين عام 1896قوله: «انه يعي�ش بني مظاهر عطف من ال�سلطان ،ود�سائ�س الحت�صى يبيتها له رجال الق�صر ،وكم ت�ضرع اليهم ( )29 لي�سمحوا له بال�سفر ف�أم�سكوه حيث يق�ضي بقية عمره يف نوع من اال�سر مموه بالذهب» لقد كان ملوقف �أبو الهدى ال�صيادي الذي كان يح�سد االفغاين ويخ�شاه� ،أن �أخذ يعمل على االيقاع بينه وبني ال�سلطان وايذاء كل من ميت �إليه ب�صلة ،حيث كتب ال�صيادي �إىل حممد ر�شيد ر�ضا �صاحب املنار قائال له�« :إين �أرى جريدتك طافحة ب�شقا�شق املت�أفغن جمال الدين امللفقة ،وقد تدرجت به �إىل احل�سينية التي كان يتزعمها زورا ،وقد ثبت يف دوائر الدولة ر�سميا انه ()30 مازندراين من �إجالف ال�شيعة ...وهومارق من الدين كما مرق ال�سهم من الرمية وكانت نهاية جمال الدين االفغاين عرب مر�ض �أ�صابه يف حنكه� ،إىل �أن مات يف اخلام�س من �آذار من العام .)31(1896 و�أمر ال�سلطان ب�أن يدفن جمال الدين من دون احتفال ،وم�صادرة �أوراقه وكتبه ،وبعدم كتابة �أي ()32 خرب حول وفاته ،كما �صودرت ال�صحف امل�صرية التي رثته يف �سوريا ،ودفن يف مقربة جمهولة كما عمل ال�صيادي على �إزاحة �أ�سرة الكواكبي من نقابة الأ�شراف يف حلب بعد �أن كانت حكراً على هذه الأ�سرة من �أمد بعيد .وذلك نظرا للكراهية ال�شخ�صية التي كان يكنها ال�صيادي لهذه العائلة.ويعتقد ان ال�صيادي كان يقف وراء م�ؤامرة مقتل عبد الرحمن الكواكبي بال�سم يف القاهرة عام ،1902بعدها عمد �أحد �أتباع عبد احلميد �إىل ق�صد حمل �إقامة الكواكبي وو�ضع يده على جميع �أوراقه وار�سلها �إىل اال�ستانة(.)33 لقد كان الكواكبي يهاجم رجال الت�صوف بحدة ،متهما �إياهم بادخال اال�ساطري على الدين�« :إن الطامة من ت�شوي�ش الدين والدنيا على العامة ،ب�سبب العلماء املدل�سني وغالة املت�صوفني الذين ()34 ا�ستولوا على الدين ف�ضيعوا �أهله» 42
مئوية احلرب العاملية الأوىل
حتى �أن ال�شيخ ر�شيد ر�ضا عانى من �أذى ال�صيادي �أي�ضاً ،فها هو ال�شيخ ر�ضا يت�ساءل عن الطريقة الرفاعية التي ين�شرها ال�صيادي التي تغرر مبن ينت�سبون اليها ،فيهاجم ال�سيد احمد الرفاعي الكبري قائال�« :إن ال�سيد �أحمد الرفاعي قال :ان الويل ي�صل �إىل درجة يقول فيها كن فيكون» وي�ضيف ر�ضا مت�سائ ًال« :من يلم�س يد الرفاعي �أو �أحد خلفائه وذريته حترقه النار ،رغم ان هذا ال�شيخ كان ي�شتم ويهان «وما كان يحل على من ي�شتمه اي بالء !!! لقد كان رد فعل ال�صيادي �أن منع تداول جملة املنار يف االرا�ضي العثمانية لينح�سر قراءها يف م�صر و�شمال افريقيا ،ومل يكتف ابو الهدى بذلك وامنا اوعز اىل مت�صرف طرابل�س العثماين ،ب�أن يالحق �أ�سرة ال�شيخ ر�شيد ر�ضا والت�ضييق عليهم ،كما حاول �أن يبعث ب�شخ�ص من قبله �إىل م�صر بهدف اغتيال ر�شيد ر�ضا ،وقد تعجب ال�شيخ ر�شيد ر�ضا من هذه االجراءات التع�سفية من قبل ال�سلطة العثمانية ،ملجرد انه ن�صح امل�سلمني ب�أن «اليتخذوا اربابا من دون اهلل» ،وحمل ر�شيد ر�ضا على �شيوخ الطرق ال�صوفية ولقبهم «�أف�سق الف�ساق و�أفجر الفجار» و�أتهمهم ب�أنهم يدعون الت�صرف يف الكون واالنتقام مما اليخ�ضع له ف�ضال عمن ينال منه بقول او عمل»(.)35 و�أورد الكاتب حممد �سعيد العريان يف ذكره لهذا الواقع قائال�« :أما يف بالط ال�سلطان عبد احلميد فكان اخلليفة الذي يزعم �أنه با�سم اهلل يحكم وي�ستبد وي�سيطر ،وبا�سمه يخنق ويغرق ويحرق. وبا�سمه يظلم ويفتك ويهتك ومن حوله ذوو حلى وعمائم بينهم �أبو الهدى ال�صيادي يزعمون للخليفة والنف�سهم وللنا�س �أن هذا اللون الفا�سد من احلكم هو �شرع اهلل ،وهو الدين ،وبا�سم اهلل، وبا�سم الدين يجب �أن يذل النا�س و�أن تط�أطئ الر�ؤو�س ،و�أن يعي�ش الب�شر كالرقيق �أو كقطعان املا�شية لي�س لها حرية ،وال ر�أي وال �إرادة ،لأن احلرية والر�أي والإرادة هي حق اخلليفة اجلال�س على عر�ش اهلل وحده .ولي�س لها عزة وكرامة وال نعمة ،لأن العزة والكرامة والنعمة حق �أبي الهدى ال�صيادي دون �سائر املحكومني من رعية اخلليفة»(.)36 كما �أن ال�صيادي حاول �أن ي�ستميل حممود الألو�سي العراقي �إىل الطريقة الرفاعية ،فرف�ض الألو�سي و�أخذ مبهاجمة الطرق ال�صوفية يف ع�صره ،فدبر له �أبو الهدى ال�صيادي النفي �إىل بالد الأنا�ضول(.)37 د -دور املت�صوفة يف دعم ال�سلطان عبد احلميد الثاين:
كان ال�شيخ ظافر ،املعلم الروحي لل�سلطان عبد احلميد و�شيخ الطريقة ال�شاذلية املدنية ،قد احتل مكانة مرموقة يف البالط ال�سلطان يف العا�صمة ا�ستانبول حيث كان ال�شيخ ظافر يوجه من مركزه هناك حركة الدعوة �إىل اجلامعة الإ�سالمية التي تخدم ال�سلطان ،فالطريقة التي كان �شيخاً لها كانت تنت�شر يف تون�س واجلزائر وقد �أر�سل ال�شيخ ظافر �أحد �أقاربه �إىل املناطق التي احتلتها فرن�سا يف اجلزائر وتون�س فقام بزيارة امل�شايخ وقدم لها الهدايا با�سم ال�سلطان عبد احلميد. 43
وا�ستطاع هذا املبعوث من �أن ير�سل �إىل ا�ستانبول �أكرث من ثمانية �آالف فرنك (�أموال زكاة) للم�ساهمة يف دعم �سيا�سة اجلامعة الإ�سالمية(.)38 يف الواقع فان عبد احلميد ا�ستخدم ه�ؤالء ال�شيوخ يف تدعيم �سلطانه كل يف املكان الذي تواجد فيه ،فال�شيخ حممد ظافر املدين كان م�س�ؤوال عن الدعاية اال�سالمية يف �شمال افريقيا ومناه�ضة النفوذ الفرن�سي هناك ،وعربه كان التوا�صل مع �شيخ الطريقة ال�سنو�سية يف ليبيا «حممد املهدي ال�سنو�سي» ،والتن�سيق حلركة املقاومة يف �شمال افريقيا �ضد التو�سع االوروبي فيها ،كما ان العالقة التي ربطته مع ال�شيخ ف�ضل العلوي من ظفار ،كان ان جعله م�ساعدا ل�شريف مكة «عبد املطلب «عام ،1880بهدف ك�سر التحالفات القبلية العربية املوالية لربيطانيا(.)39 وقد و�صف �أحمد ال�شوابكة ن�شاط الطرق ال�صوفية يف تنفيذ �سيا�سة اجلامعة الإ�سالمية ومقاومة اال�ستعمار الأوروبي ،وتعبئة الأهايل �ضد امل�ستعمرين وخ�صو�صاً يف �شمال �أفريقيا .فتحدث عن �أ�سلوب املقاومة ال�سرية التي نفذها �أتباع الطرق ال�صوفية ومرابطو الزوايا ،وذكر �أن هذه املقاومة كانت تدار من قبل جلنة مركزية يف العا�صمة ا�ستانبول تت�ألف من جمموعة من علماء الدين وم�شايخ الطرق ال�صوفية .وحتدث عن وجود هيئات فرعية تعمل يف �أقاليم خمتلفة من الدولة العثمانية �أبرزها تلك املوجودة يف مكة املكرمة والتي كانت تعمل حتت �إ�شراف �شريف مكة وتن�شط يف مو�سم احلج لن�شر فكرة اجلامعة الإ�سالمية بني احلجاج .و�أخرى يف بغداد ،وكانت تن�شط بني القادمني من �شمال �أفريقيا لزيارة �ضريح ال�شيخ عبد القادر اجليالين ،وقد قدر عددهم يف �إحدى ال�سنوات بخم�س وع�شرين �ألفاً ،لقد �سعت هذه الطرق ال�صوفية املوالية ل�سيا�سية اجلامعة الإ�سالمية كال�شاذلية والقادرية واملدنية �إىل مواجهة امل�ستعمر الفرن�سي يف �شمال افريقيا وتعبئة االهايل �ضده(.)40 وقد خ�ضعت هذه الهيئات لتنظيم �إداري فو�ضعت كل زاوية حتت �إ�شراف مقدم وتر�أ�س املقدمني �شيخ الطريقة وحدت اجتماعات دورية مل�شايخ الطرق حتت �إ�شراف الهيئة الفرعية ل�شمال �أفريقيا برئا�سة ال�شيخ حممد ظافر املدين وذكر �أن الطبيعة املدنية يف طرابل�س الغرب والتي يتزعمها ال�شيخ ظافر املدين قامت بجمع الأموال عام 1897ل�صالح الدول العثمانية مل�ساعدتها يف حربها �ضد اليونان(.)41 كما كان للدور الذي قامت به الطريقة ال�سنو�سية يف تعاطفها مع الدولة العثمانية ،وت�أييد ال�سيا�سة الإ�سالمية التي انتهجها ال�سلطان عبد احلميد ،ذلك �أن ال�سنو�سيني كانوا ينظرون �إىل اخلالفة العثمانية على �أنها �ضرورة دينية و�سيا�سية. وقد را�سل ال�سلطان عبد احلميد الثاين حممد املهدي ال�سنو�سي طالباً �إليه امل�ساعدة يف الوقوف بوجه الأوروبيني مذكراً �إياه بواجبه اجتاه اخلالفة .وقد كرثت املرا�سالت بني االثنني فرداً على بعثة ال�سنو�سي �إىل عبد احلميد يف �أيلول � 1895أر�سل عبد احلميد �صادق امل�ؤيد مرة ثانية �إىل الكفرة 44
مئوية احلرب العاملية الأوىل
مزوداً بالهدايا التي هي عبارة عن �صحيح البخاري و�ساعة ولكي يطمئن ال�سنو�سي ال�سلطان عبد احلميد �إىل �سالمة نواياه �أر�سل ال�شيخ عبد العزيز العي�ساوي من املت�صوفني ال�سنو�سيني يف �أيلول � 1895إىل الأ�ستانة حيث �أكد والء ال�شيخ املهدي لل�سلطان وت�أييده لل�سلطنة(.)42 وذكرت امل�صادر �أن ال�سلطان عبد احلميد �أر�سل قافلة من املت�صوفة �إىل الهند حيث عملت هناك على تدعيم فكرة اخلالفة العثمانية ،وحماربة الدعاية الربيطانية الداعية �إىل جعلها للعرب ،وقد زارت هذه القافلة بع�ض حكام �شبه اجلزيرة العربية وال �سيما احلجاز طالبة ت�أييد ه�ؤالء احلكام لل�سلطان عبد احلميد يف �سيا�سته الداعية اىل اجلامعة اال�سالمية(.)43 كما �أن هناك ات�صاالت جرت بني ال�سلطان عبد احلميد بو�صفه رئي�ساً للجامعة الإ�سالمية، وجتمعات الطرق ال�صوفية و�شيوخها يف ترك�ستان وجنوب افريقيا وال�صني(.)44 ا�ستنتاج:
لقيت فكرة اجلامعة الإ�سالمية يف عهد اال�سلطان عبد احلميد جناحاً الفتاً و�أحياناً واجهت م�صاعب �أمام الدعوات الراف�ضة لها كفكرة دينية .وعلى الرغم من ذلك ف�إن الطرق ال�صوفية لعبت دوراً بارزاً يف جناح فكرة اجلامعة ون�شرها .وقد �شعرت الدول الأوروبية ب�أن ال�سلطان عبد احلميد قد ا�ستطاع ا�ستغالل م�شاعر امل�سلمني الدينية و�أن ب�إ�ستطاعته �أن يهدد النفوذ االوروبي يف املناطق العثمانية واملناطق الإ�سالمية اخلا�ضعة لل�سيطرة الأوروبية. فهو قد هدد عرب حركة اجلامعة الإ�سالمية النم�سا مب�سلمي �ألبانيا ،ورو�سيا مب�سلمي التتار ،وبريطانيا مب�سلمي الهند وفرن�سا بوا�سطة م�سلمي �شمال �أفريقيا .وقد بلغ من نفوذ هذه احلركة يف �شمال �أفريقيا �أن و�صفتها �إدارة املخابرات الفرن�سية ...« :وميكن لل�سلطان عبد احلميد -ب�صفته رئي�ساً للجامعة الإ�سالمية � -أن يجمع -من خالل ارتباطاته الوثيقة باجلماعات الدينية يف �شمال �أفريقيا جي�شاً حملياً منظماً يتمكن � -إّذا لزم الأمر � -أن يقاوم به �أي قوة �أجنبية»(.)45وكان العرتاف �أملانيا بحركة اجلامعة الإ�سالمية و بال�سلطان عبد احلميد الثاين خليفة للعامل اال�سالمي ،وزناً �سيا�سياً بارزا كونه �صادر عن امرباطور.دولة �أوروبية كربى فا�ستغلها عبد احلميد يف الدعوة لنف�سه ،وتر�سيخ حركة اجلامعة الإ�سالمية . �إال �أنه ي�ؤخذ على عبد احلميد الثاين عدم متكنه من اال�ستفادة من مواهب الأفغاين ورجال التنوير العرب امل�سلمني �أمثال الكواكبي ور�شيد ر�ضا وغريهم يف دعم حركة اجلامعة الإ�سالمية، مما �أتاح خل�صومه فر�صة الت�شهري به ،والت�سجيل عليه �أنه ا�ستمع �إىل و�شايات ود�سائ�س خ�صوم الأفغاين وعلى ر�أ�سهم ال�شيخ �أبو الهدى ال�صيادي ،الذي كان يكره �أن يظفر غريه بثقة ال�سلطان 45
ف�إن عبد احلميد مل ي�سقط من ح�ساباته �أن الطرق ال�صوفية مرتكز �سيا�سي هام من حيث االنت�شار والدعاية ،ومل يخفف احرتامه لهذه الطرق و�شيوخها. �إال �أن اجلامعة الإ�سالمية تبقى جتربة مهمة لل�سلطان عبد احلميد يف �سيا�سته الإ�سالمية لعبت فيها الطرق ال�صوفية دور و�سائل االعالم �إال �أنها ف�شلت ب�سبب تعنت �شيوخ ال�صوفية من جهة وت�صديهم لرجال التنوير وطغيان عبد احلميد الذي تعامل بقوة مع معار�ضيه داخل ال�سلطنة فدفعت ب�أعداء ال�سلطان عبد احلميد لال�سراع يف العمل على عزله و�إنهاء اخلالفة والدولة العثمانية قبل �أن يحقق م�شروعه الوحدوي حول �سلطانه وبني عثمان.
الهوام�ش:
(� )1إكمال الدين �أوغلو ،قراءة لتاريخ الدولة العثمانية وعالقاتها بالعامل العربي من خالل كتب التاريخ املدر�سية املقررة يف م�صر بني عامي ،1980-1912جملة منرب احلوار ،العدد ،36ال�سنة � ،1998ص.164 ( )2فدوى ن�صريات ،عبد احلميد الثاين ودوره يف ت�سهيل ال�سيطرة ال�صهيونية على فل�سطني ،جملة امل�ستقبل العربي ،العدد ،422ني�سان � ،2014ص.39 ( )3ح�سان حالق ،دور اليهود والقوى الدولية يف خلع ال�سلطان عبد احلميد الثاين من العر�ش ،بريوت :دار بريوت املحرو�سة ،الطبعة الأوىل� ،1982 ،ص.48-45 ( )4عبد الر�ؤوف �سنو ،ال�سلطان عبد احلميد الثاين والعرب :اجلامعة اال�سالمية واثرها يف احتواء القومية العربية، حوار العرب ،بريوت� ،2005 :ص ،5-4بحث من�شور على �شبكة االنرتنت. ( )5عبد الكرمي رافق ،تاريخ اجلامعة ال�سورية البداية والنمو ،1946-1901دم�شق� ،2004 :ص.11-10 (� )6إكمال الدين �أوغلو ،املرجع ال�سابق� ،ص.164 ( )7رفيق �شاكر النت�شه ،ال�سلطان عبد احلميد الثاين وفل�سطني ،القاهرة :مكتبة مدبويل ،الطبعة � ،1990 ،5ص-161 .153-115 ( )8علي �سلطان ،تاريخ الدولة العثمانية ،طرابل�س الغرب :مكتبة طرابل�س العلمية العاملية� ،1991 ،ص.394 (9) William oschsenwold. the hijaz, rail road. vergina 1980 pp.118-150.
46
مئوية احلرب العاملية الأوىل
( )10علي �سلطان ،املرجع ال�سابق� ،ص.349 �صالح �سعداوي ،مذكرات االمرية عائ�شة عثمان �أوغلي ،عمان :دار الب�شري للن�شر والتوزيع ،الطبعة الأوىل، � ،1991ص.80 ( )11عبد املنعم الها�شمي ،اخلالفة العثمانية ،بريوت :دار ابن حزم ،الطبعة الأوىل� ،2004 ،ص.530-529 ( )12جورج �أنطونيو�س ،يقظة االمة العربية ،بريوت:دار العلم للماليني ،الطبعة � ،1987 ،8ص142 ( )13عبد العزيز ال�شناوي ،الدولة العثمانية دولة ا�سالمية مفرتى عليها ،اجلزء � ، 3ص.1186-1182 �سمري �أبو حمدان ،جمال الدين االفغاين وفل�سفة اجلامعة اال�سالمية ،بريوت :دار الكتاب العاملي� ،1992 ،ص .87-78 (14) Bernard lewis, the ottman empire in the mid nineteenth century : a review in m.e.s vol 4 . no. 3 1965
( )15حممد جالل ك�شك ،القومية والغزو الفكري ،الكويت :مكتبة االمل ،د.ت� ،ص.192 ( )16علي املحافظة ،اجلامعة اال�سالمية ،مقال مقدم �إىل امل�ؤمتر الدويل الثاين لتاريخ بالد ال�شام� ،ص.299-298 ( )17حممد حرب �سلطان ،عبد احلميد الثاين �آخر �سالطني العثمانيني الكبار ،دم�شق :دار القلم ،الطبعة الأوىل، � ،1990ص.195 ( )18بطر�س �أبو منه ،ال�سلطان عبد احلميد الثاين وال�شيخ ابو الهدى ال�صيادي ،جملة االجتهاد ،ال�سن الثانية ،خريف � ،1989ص.72 ( )19جملة الهالل ،املجلد ،17اجلزء ،10ال�سنة � ،1908ص.594-593 (20) commins, phd. pp. 294-295.
( )21ويل الدين يكن ،املعلوم واملجهول ،القاهرة ،1911-1909 :اجلزء � ،1ص.98 عبد العزيز ال�شناوي ،املرجع ال�سابق ،اجلزء � ،3ص.1214 ( )22بطر�س ابو منه ،املرجع ال�سابق� ،ص.77-76 (23) depont et coppolani op. p. 262
(� )24أحمد ال�شوابكة ،حركة اجلامعة اال�سالمية� ،ص.266 ( )25ويل الدين يكن ،املرجع ال�سابق ،اجلزء � ،1ص.97 ( )26بطر�س ابو منه ،املرجع ال�سابق� ،ص.81 ( )27لوثروب�ستودارد ،حا�ضر العامل الإ�سالمي -دار الفكر ،1971اجلزء � ،2ص.202 ( )28قدري قلعجي ،ثالثة من �أعالم احلرية ،بريوت� :شركة املطبوعات للتوزيع والن�شر ،الطبعة � ،2013 ،3ص103 ،99 ( )29قلعجي� ،ص.101 ( )30املرجع نف�سه� ،ص.104 ( )31حممدعمارة ،تاريخ اال�ستاذ االمام حممدعبده; القاهرة دارال�شروق ،اجلزء� ،1ص.94-89 ( )32املرجع نف�سه ،تاريخ اال�ستاذ ،اجلزء � ،1ص.94
47
( )33من مقدمة كتاب �أم القرى لعبد الرحمن الكواكبي ،حتقيق حممد جمال الطحان ،دم�شق :دار �صفحات، الطبعة � ،2012 ،5ص.)24-23 ( )34عدنان عوي�ض ،ا�شكالية النه�ضة يف الوطن العربي ،دم�شق :دار التكوين� ،2007 ،ص.)82 ( )35ح�سني �سليمان ،ال�شيخ جملة �أوراق جامعية ،العدد ،35-34-33ال�سنة � ،1/2010 ،18ص.187-186 ( )36حممد �سعيد العريان ،مهرجان عبد الرحمن الكواكبي ،دم�شق :املجل�س االعلى لرعاية الفنون واالداب والعلوم االجتماعية� ،1960 ،ص 73وما بعدها. ( )37حممد بهجت االثري ،حممود �شكري االلو�سي وارا�ؤه اللغوية ،القاهرة :معهد الدرا�سات العربية العليا،1958 ، �ص.89-76 ( )38بطر�س �أبو منه ،املرجع ال�سابق� ،ص.75-74 ( )39عبد الر�ؤوف �سنو ،املرجع ال�سابق� ،ص.6 ( )40احمد ال�شوابكة ،املرجع ال�سابق� ،ص.264-263 (41) og9 no 1 vol 2, Oppenheim and Hohenlohe. cairo 2-6 1897 no. 38 a 7587.
( )42حممد ف�ؤاد �شكري ,ال�سنو�سية دينودولة مركز الدرا�سات الليبية �أك�سفورد ،طبعة � ,2002ص.85-86 ( )43حممدحرب ,مذكرات ال�سلطان عبداحلميد الثاين ,دارالقلم دم�شق� ،ص.198 ( )44حممدحرب ,املرجع ال�سابق نف�سه� ,ص.198 ( )45علي حممد �صالبي ،الدوله العثمانية عوامل النهو�ض وا�سباب ال�سقوط ،م�صر :دار التوزيع والن�شر اال�سالمية، الطبعة الأوىل� ،2001 ،ص.424
48
فكــــر
العودة �إىل �سعادة :يف ال�رصاع الفكري يف الأدب ال�سوري حممود �شريح -ناقد و�أكادميي
يف م�ؤلفه النفي�س ال�صراع الفكري يف الأدب ال�سوري ال�صادر �أو ًال يف بوان�س �أير�س ( )1942قال �أنطون �سعادة ب�ضرورة حدوث «نظرة فل�سفية جديدة �إىل احلياة والكون والفن» ين�ش�أ عنها «تغيري يف جمرى احلياة ومظاهرها» ،و�إن النظرة الفل�سفية ال�سورية القومية االجتماعية مل ت�ؤثر فقط يف الأدب والفن ،بل ّ تخطت ذلك لت�شتمل على «الأعمال والأخالق واملناقب» .وعني �سعادة �أبداً على الأخالق واملناقب ،فح�صول «النظرة الفل�سفية اجلديدة �إىل احلياة والكون والفن يفتح �آفاقاً جديدة للفكر ومناحي جديدة لل�شعور» .هذه هي �إذن «نقطة االبتداء لطلب �سيا�سة جديدة و�أ�شكال �سيا�سية ولفتح تاريخ �أدب وفن جديدين» ،فال يف�صل �سعادة بني نه�ضة �أدبية ونه�ضة فكرية. كالهما رهن بحدوث نظرة فل�سفية �سورية قومية اجتماعية« ،فالأدب والفن ال ميكن �أن يتغيرّ ا �أو يتجددا �إال بن�شوء نظرة فل�سفية جديدة يتناوالن ق�ضاياها الكربى� ،أي ق�ضايا احلياة والكون والفن ّ التي ت�شتمل عليها هذه النظرة» .ثم ينتقل �سعادة �إىل القول هل من ال�ضروري �أن يكون التجديد الأدبي خا�صاً مبوا�ضيع �أ ّمة مع ّينة« ،ف�إذا تناول غريها ُبط َل �أن يكون جتديداً وفقد قيمته الأدبية»، فيق ّرر �أن القيمة الأدبية �أو الفنية «لي�ست يف هوية �أو (جن�سية) املو�ضوع ،بل يف الق�ضايا ويف النتائج الروحية احلا�صلة من هذه املعاجلة» ،ومع ذلك يرى �سعادة �أن ذاتية املو�ضوع وزمانه ومكانه لها ناحية �شعورية خا�صة ّ «وتقل �أهميتها �أو تعظم على ن�سبة الغر�ض اخلفي �أو املُعلن الذي ي�سوق يلح على �أن االجتاهات الفكرية وال�شعورية تت�أثر باملو�ضوع ،ف�إن كان خا�صاً كما املو�ضوع �إليه» ،لكنه ّ يف بنت يفتاح ل�سعيد عقل« ،تع ّر�ض لفقد كل م ّربر عام» وخالف املثل العليا التي يبغيها ال�شعب املكتوب له املو�ضوع �أو ناق�ض تلك املثل واخلطط النف�سية التي تربز بها مواهبه اجلديرة بالإعجاب والبقاء .وعند �سعادة �أن بنت يفتاح «تدخل يف الأدب اليهودي اخلا�ص �أكرث مما تدخل يف الأدب ال�سوري» ،و�إن عبقر ل�شفيق املعلوف «هي �أي�ضاً ق�صيدة �سورية يف مو�ضوع غريب»: تعالوا ن�أخذ بنظرة جديدة �إىل احلياة والكون والفن وبفهم جديد للوجود وق�ضاياه ،جند فيهما حقيقة نف�سيتنا ومطاحمنا ومثلنا العليا ،تعالوا �إىل احلرية والواجب والنظام والقوة ،لي�س لأنها �صارت �شعار حزب �سيا�سي 49
اجتماعي ،بل لأنها رمز فكرنا و�شعورنا يف احلياة ولذلك �صارت �شعار حركة البعث القومي ،التي و�ضعنا فيها كل رجائنا وكل قوتنا وكل �إرادتنا. تعالوا نقيم �أدباً �صحيحاً له �أ�صول حقيقية يف نفو�سنا ويف تاريخنا .تعالوا نفهم �أنف�سنا وتاريخنا على �ضوء نظرتنا الأ�صلية اىل احلياة والكون والفن .بهذه الطريقة نوجد �أدباً حياً جديراً بتقدير العامل وباخللود. منطلق �سعادة رف�ض القاعدة الفردية التي تتوقف عليها �شهرة ال�شاعر ،فهذه قاعدة ت�ؤدي �إىل اال�ستعالء والتفرقة والفو�ضى والعداوة واحل�سد .يطمح �سعادة �إىل ح�شد «جميع القوى النف�سية لرف�ض عامل النزعة الفردية والغايات املادية .القاعدة الذهبية التي ال ي�صلح غريها للنهو�ض باحلياة والأدب ،هي هذه القاعدة :طلب احلقيقة الأ�سا�سية الكربى حلياة �أجود يف عامل �أجمل وقيم �أعلى» .التوكيد �إذن على الأ�صالة ،ونف�ض املوروث وكان �سعادة ر�أى �أن بعث �أدب قومي هو نقطة االنطالق ،و«�أن يف �سورية حاجة �إىل التجديد الأدبي ،لي�س ملجرد التجديد وتغيري الأ�ساليب و�إظهار �أ�شباح جديدة ،بل للو�صول �إىل التعبري عن نظرة �إىل احلياة والكون والفن جديدة ،قادرة على ا�ستيعاب املطالب واملطامح النف�سية املنطبقة على خطط النف�س ال�سورية» .من �شروط النظرة اجلديدة �إىل احلياة والكون «ال�صاحلة لتقدم احلياة الإن�سانية وارتقائها� ،أن تكون نظرة ذات [�أ�صل] و�إال كان عار�ضاً من العوار�ض التي تلغي ال�شخ�صية والنف�سية وخ�صائ�صها ّ فت�ضل النف�س وحتار وال تدري ما هي حقيقتها» .ال يق ّلل �سعادة من �ش�أن الوافد الأجنبي الذي يلقّح املوروث ،لكن على الأدب القومي �أن ينه�ض �أو ًال ومعياره الأ�صالة ،ذلك «�أن االعتماد على املوا�ضيع الغربية ال ين�شئ �أدباً �شخ�صياً ملجتمع له خ�صائ�صه التي ميكن �أن ت�ضاف �إىل جمموعة الآداب العاملية ووحدات خ�صائ�صها� .إنه لي ّربر تناول بع�ض املوا�ضيع الأجنبية ،بعد ن�شوء الأدب القومي �أو اخلا�ص على نظرة �إىل احلياة والكون والفن وا�ضحة فيكون تناول تلك املوا�ضيع بهذه النظرة �أو بهذا الوعي يلح �سعادة �إذن الذي له خ�صائ�صه فيك�سبها من خ�صائ�صه ما ي�ضيف �إليه �ألواناً و�أ�شكا ًال متميزة»ّ . على �أن تكون النظرة اجلديدة [�إىل احلياة والكون والفن] «نظرة ذات �أ�صل». تعالوا نرفع لهذه الأمة التي تتخبط يف الظلمات م�شعا ًال فيه نور حقيقتنا و�أمل �إرادتنا و�صحة حياتنا .تعالوا ن�شيد لأمتنا ق�صوراً من احلب واحلكمة واجلمال والأمل مبواد تاريخ �أمتنا ال�سورية ومواهبها وفل�سفات �أ�ساطريها وتعاليمها املتناولة ق�ضايا احلياة الإن�سانية الكربى .تعالوا ن�أخذ بنظرة �إىل احلياة والكون والفن نقدر ،على �ضوئها� ،أن نبعث حقيقتنا اجلميلة العظيمة من مرقدها.
50
فكـــــر
يدعو �سعادة «�شعراء �سورية» �إىل الأخذ «بنظرة جديدة للوجود وق�ضاياه ،وبهذه النظرة وهذا الفهم تت�ضح «حقيقة نف�سيتنا ومطاحمنا ومثلنا العليا» .يف دعوة �سعادة هذه عودة �إىل اجلذور ور ّد اعتبار �إىل الأ�صالة .ي�ص ّر على �ضرورة توظيف �أ�سطورة متّوز« :لي�ست ق�صة �أدون �أو �أدوني�س جمهولة. وكل مت�أمل فيها يجد لها مغزى وعالقة وثيقة مبجرى احلياة .وهذه لي�ست الق�صة الأ�سطورية الوحيدة .ففي اكت�شافات ر�أ�س �شمرا ،قرب الالذقية ،ظهرت حقائق رائعة عن عظمة التخ ّيل ال�سوري والتفكري ال�سوري يف احلياة وق�ضاياها الكربى». بهذه الإ�شارة فتح �سعادة باباً جديداً يف القول ال�شعري ،ال �سيما حتت خانة ما �أ�صلح على ت�سميته ال�شعر التموزي وما ينطوي عليه من م�ضامني البعث بعد املوت واخل�صب اليباب ،فالتفت التموزيون ،وج ّلهم قوميون �سوريون ،ن�ش�أة� ،أو هوى� ،أو قرابة� ،إىل توظيف �أ�سطورة متوز ،وغريها من الأ�ساطري: لي�ست ق�صة �أدون �أو �أدوني�س جمهولة .وكل مت�أمل فيها يجد لها مغزى وعالقة وثيقة مبجرى احلياة .وهذه لي�ست الق�صة الأ�سطورية الوحيدة .ففي اكت�شافات ر�أ�س �شمرا ،قرب الالذقية ،التي ورد ذكرها فوق ،ظهرت حقائق رائعة عن عظمة التخ ّيل ال�سوري والتفكري ال�سوري يف احلياة وق�ضاياها الكربى .وهذه احلقائق ال ُتعلن �شيئاً �أقل من هذا الواقع� :إن �أهم الأ�ساطري اليونانية و�أهم ق�ص�ص اليهود الأ�سا�سية املثبتة يف التوراة م�أخوذ عن �أ�صول �سوريةُ ،ك�شف عن ق�سم كبري منها يف روايات وق�صائد وجدت يف تنقيبات ر�أ�س �شمرا بني 1929و ،1932كما كان قد ُك�شف عن ق�سم هام منها يف نينوى و�آ�شور ومنرود وبابل و�سواها. كم مجُ ّ د امل�ؤرخون والدار�سون اليونان من �أجل عظمة �أ�ساطريهم التي يعود معظمها �أو �أهمها اىل �سورية .فحكاية انتقام �أناة من معط باملنجل ،وذ ّر بقاياه يف احلقول لينبت الزرع وي�سقط حتت املنجل ،و�أ�ساطري كثرية غريها منقولة بحذافريها تقريباً �إىل الأ�ساطري الإغريقية والعامل يعيرّ نا ب�أننا نحن الذين نقلنا عن الإغريق. والعامل مديون لنا بفل�سفات جليلة ويقول �إننا جميعاً مديونون لليونان فقط. حدده �سعادة عقيدة ارتبط وثيقاً بالفكر ال�سيا�سي النه�ضوي «فحيث ال فكر وال �شعور جديدين ما ّ يف ال�سيا�سة ال توجد �سيا�سة جديدة وال نه�ضة �سيا�سية ،وكذلك يف الأدب .فحيث ال فكر وال �شعور جديدين يف احلياة ال ميكن �أن تقوم نه�ضة �أدبية �أو فنية» .للنه�ضة [القومية] عند �سعادة والتف�سخ الروحي بني خمتلف العقائد �إىل «مدلول وا�ضح ،وهو خروجنا من التخ ّبط والبلبلة ّ عقيدة جلية �صحيحة وا�ضحة ن�شعر �أنها ُتعبرّ عن جوهر نف�سيتنا و�شخ�صيتنا القومية االجتماعية» 51
[الدليل اىل العقيدة] ،وهذا يتطلب «الو�ضوح يف الق�صد والو�ضوح يف الأهداف» و «�إيجاد و�سائل ت�ؤ ّمن حماية النه�ضة القومية االجتماعية اجلديدة يف �سريها» [من ر�سالة �سعادة،1935/12/10 ، وهو يف �سجن الرمل يف بريوت� ،إىل حماميه حميد فرجنية] ،فالقومية هي «الروحية الواحدة �أو ال�شعور الواحد املنبثق من الأ ّمة ،من وحدة احلياة يف جمرى الزمان� .إنها عوامل نف�سية منبثقة من روابط احلياة االجتماعية املوروثة واملعهودة ،قد تطغى عليها ،يف �ضعف تن ّبهها ،زعازع الدعاوات واالعتقادات ال�سيا�سية ،ولكنها ال تلبث �أن ت�ستيقظ يف �سكون الليل و�ساعات الت�أمل والنجوى» [�سعادة ،ن�شوء الأمم ،1937 ،يف :الدليل اىل العقيدة]. يلح �سعادة على الأخذ بنظرة جديدة �إىل احلياة والكون والفن ،مبعنى يرتافق يف ال�صراع الفكري ّ فيه الأدب واحلياة «فيكون لنا �أدب جديد حلياة جديدة فيها فهم جديد للوجود الإن�ساين وق�ضاياه». هذا الأدب يجب �أن يكون «الوا�سطة املُثلى لنقل الفكر وال�شعور اجلديدين ،ال�صادرين عن النظرة اجلديدة� ،إىل �إح�سا�س املجموع و�إدراكه اىل �سمع العامل وب�صره في�صري �أدباً قومياً وعاملياً لأنه يرفع الأمة اىل م�ستوى النظرة اجلديدة وي�ضيء طريقها �إليه ،ويحمل ،يف الوقت عينه ،ثروة نف�سية �أ�صلية يف الفكر وال�شعور و�ألوانهما اىل العامل». الرثوثة النف�سية هذه هي �إحدى اخل�صائ�ص القومية التي ر�آها �سعادة ح�صيلة تفاعل ين�ش�أ عنه االحتاد يف احلياة� ،أي �أن حياة واحدة جتري يف مفا�صل الأمة ،حياة واحدة «ذات دورة اجتماعي اقت�صادية ت�شد الأمة ّ وت�شكل رابطتها الأ�سا�سية ف�إن واحدة» [�سعادة ،ن�شوء الأمم] ،وهي هذه الدورة التي ّ «كل ميزة من ميزات الأمة �أو �صفة من �صفاتها تابعة ملبد�أ االحتاد يف احلياة الذي منه تن�ش�أ التقاليد والعادات واللغة والأدب والدين والتاريخ» .الوعي الذاتي لهذا املنطلق النه�ضوي �أ�سا�س النظرة اجلديدة التي يدعو �سعادة �إىل �إر�سائها يف ح ّيز ح�ضاري ُم�شبع باحلرية: القاعدة الذهبية ،التي ال ي�صلح غريها للنهو�ض باحلياة والأدب ،هي هذه القاعدة :طلب احلقيقة الأ�سا�سية الكربى حلياة �أجود يف عامل �أجمل وقيم �أعلى. على هذا النحو يرى �سعادة �أن الأدب الذي له قيمة يف حياة الأمة هو الأدب الذي يعنى بق�ضايا الفكر وال�شعور الكربى ،يف نظرة �إىل احلياة والكون والفن عالية �أ�صلية ،ممتازة ،لها خ�صائ�ص �شخ�صيتها .وعليه ف�إنه �إذا ن�ش�أت هذه النظرة اجلديدة �إىل احلياة والكون والفن �أوجدت فهماً جديداً للق�ضايا الإن�سانية ،كق�ضية الفرد واملجتمع وق�ضية احلرية وق�ضية الواجب وق�ضية النظام وق�ضية القوة وق�ضية احلق وغريها .ومي�ضي �سعادة �إىل �أبعد من ذلك فريى �أن بع�ض هذه الق�ضايا يكون قدمياً فيتجدد بح�صول النظرة اجلديدة �إىل احلياة و�أن بع�ضها ين�ش�أ بن�شوء هذه النظرة .فاحلرية، مث ًال ،كانت ُتفهم قبل النظرة اجلديدة �إىل احلياة يف �أ�شكال واعتقادات ال و�ضوح وال �صالح لها 52
فكـــــر
يف النظرة اجلديدة .فلما جاءت النظرة اجلديدة �إىل احلياة والكون والفن ،التي ن�ش�أت ب�سببها وف�صلت احلرية احلركة ال�سورية القومية االجتماعية ،وقرنت احلرية بالواجب والنظام والقوةّ ، �ضمن املجتمع وجتاه املجتمعات الأخرى هذا التف�صيل الوا�ضح ،الظاهر يف تعاليمها ،ن�ش�أت ق�ضية جديدة للحرية ذات عنا�صر جديدة يب ّينها فهم جديد يتناول �أ�شكال احلياة كما تراها النه�ضة القومية االجتماعية ،وفعل احلرية و�ش�أنها �ضمن هذا الأ�شكال. هكذا قرن �سعادة ال�صراع باحلرية ،فال حياة فكرية جديدة دون نظرة فل�سفية جديدة ،وال حرية يج�سد الفكر القوي. دون نظام ،ذلك �أن الأدب �صراع يف حت ّوله �إىل واقع ّ
53
دار كتب للن�شر �ش.م.ل.
بناية الربج ،الطابق الرابع� ،ساحة ال�شهداء الو�سط التجاري ،بريوت ،لبنان �صندوق بريد ،11-4353 :بريوت -لبنان. هاتف)961-1( 983008 /9 : فاك�س)961-1( 980630 : الربيد الإلكرتوينkutub@kutubltd.com : املوقع الإلكرتوينwww.kutubltd.com :
فكــــر
فل�سفة العلم مبا هي مقولة �إيديولوجية
مناظرة يف �أطروحات كـارل بوبـر
حممود حيدر -مفكر وباحث يف الفل�سفة ال�سيا�سية
متهيد
مهمة هذه الدرا�سة ،هي البحث يف عامل كارل بوبر Karl Popperك�شخ�صية �شغلت القرن الع�شرين يف واحدة من �أهم منجزات العقل الإن�ساين ،عنينا بها فل�سفة العلم. ومن�ش�أ هذا املنجز العلمي الذي �سيت�صدى له بوبر ب�شغف نادر ،يعود �إىل الفو�ضى الفكرية التي عمت ف�ضاء الفيزياء اجلديدة خالل الربع الأول من القرن املن�صرم .فل�سوف يكون على فيل�سوف َّ العلوم النم�ساوي �أن ينكب على طائفة من امل�سائل وامل�شكالت العلمية الو�ضعية الكربى ،بغية العثور على حلول لها .ولقد كان له �أن يقطع م�سافة ثورية يف هذا االجتاه ليتو�صل �إىل و�ضع جملة من امل�سلمات املركزية لفل�سفة الو�ضعية ،جاءت على الن�سق التايل: االفرتا�ض �أن النظريات العلمية تقبل ال�صدق �أو الإثبات املطلق. الإعالء من �ش�أن املعطيات احل�سية على ح�ساب الأفاهيم النظرية. االعتقاد بوجود لغة خال�صة للحوا�س. تقدمي اال�ستقراء على اال�ستنباط. �إق�صاء امليتافيزيقا من جمال املعنى. حني و�ضع كتابه «املعرفة املو�ضوعية» ،Objective Knowledgeك�شف كارل بوبر عن مهمته الر�سالية فقال�« :أعتقد �أنني متكنت من حل م�شكلة فل�سفية كبرية :م�شكلة اال�ستقراء (وقد تو�صلت للحل يف عام � 1927أو نحو ذلك) لقد كان هذا احلل مثمر ًا متام ًا .ومكنني من حل عدد كبري من امل�شكالت الفل�سفية الأخرى .ومع ذلك ,ف�إن قلي ًال من الفال�سفة �سي�ؤيدون ر�أيي يف �أنني حللت م�شكلة اال�ستقراء� ..إن بع�ض الفال�سفة وجدوا م�ش ّقة يف 55
درا�سة وجهة نظري يف امل�شكلة ...وقد ن�شرت كتب كثرية منذ فرتة قريبة يف املو�ضوع ال ()1 ت�شـري �إىل �أي من �أعمايل». �سوف تتع َّر�ض هذه الدرا�سة �إىل بيان الأركان الت�أ�سي�سية للعقالنية النقدية يف نظرية العلم وفل�سفة االجتماع الإن�ساين .ثم �ستتجه �إىل ر�صد �أواليات فل�سفة بوبر املرتكزة على الإميان باحلقيقة املو�ضوعية ،وامل�آالت التي بلغتها عمليات توظيف البوبرية يف �إعادة ت�شكيل عامل ما بعد احلداثة. *****
لو كان ثمة من تو�صيف فل�سفي للقرن الع�شرين لر�أينا �إليه بو�صفه قرن فل�سفة العلم .ف�إن �أكرث ما ا َّت�صف فيه ،على امتداد متوالياته التاريخية املت�صلة� ،إمنا هي �صفة العلم .و�إذا كانت ال�سمة امل�صدق «التكنوترونية» هي التي �ألقت بظ ِّلها على تلك ال�صفة ،فذلك هو �أدنى �إىل اال�ستثناء ِّ للقاعدة .والذين ق َّرروا �أن القرن الع�شرين هو بداية ع�صر العلم التكنوـ �إلكرتوين كانوا ي�شهدون على ظاهرة االزدياد الهائل للعلم ،والتكنولوجيا ب�أحيازها املختلفة واملتنوعة وت�أثر املجتمع الب�شري احلديث بها ت�أثُّراً م�شهوداً .ففي الواليات املتحدة الأمريكية و�أوروبا الغربية ،وبدرجة �أقل يف اليابان واالحتاد ال�سوفياتي ال�سابق َظ َه َر ,يف �شكل َّ منظم ,عدد من اجلهود الأكادميية �سحابة الن�صف الأول من القرن املن�صرم� ،سعى فيه العلماء �إىل �إظهار ما يخ ِّبئه امل�ستقبل �أو يتن َّب�أ به� ،أو يدركه. وبوجه �أكرث حتديداً ,ف�إن التحول الذي عا�شته جمتمعات احلداثة يف تلك احلقبةَّ ، دل على �أن العامل الذي فارق املجتمع ال�صناعي� ،إىل املجتمع ما بعد ال�صناعي ـ بح�سب تعبري دانيال بل ـ �سيدخل ب�سرعة فائقة �ضمن طور جديد لي�صبح جمتمعاً تكنوترونياً� .إن ذلك على التعينُّ هو ما ذهب �إليه املفكر اال�سرتاتيجي الأمريكي زبينغيو بريجن�سكي يف معر�ض مقالته ال�شهرية «�أمريكا يف الع�صر التكنوتروين املن�شورة» يف العام .1968 �سوف يبينِّ بريجن�سكي خ�صي�صة هذا املجتمع املابعد �صناعي ,فيالحظ �أن املجتمع التكنوتروين هو ذاك الذي ِّ ي�شكله ثقافياً ونف�سياً واجتماعياً واقت�صادياً ت�أثري وفعل التكنولوجيا والإلكرتونيات. وبوجه خا�ص يف جمال العقول الإلكرتونية واالت�صاالت. منذ العقد الأول من الن�صف الثاين للقرن الع�شرين �سوف يقطع علماء الغرب احلداثي ،وبالأخ�ص منهم علماء الأنكلو ـ �ساك�سونية ،ب�شاهد التح ُّول هذا .لقد وجدوا �أن العملية ال�صناعية مل تعد هي العامل املق ِّرر الرئي�سي يف التغيري االجتماعي ،وال يف قيم املجتمع .ففي املجتمع ال�صناعي كانت املعرفة التقنية تطبق �أ�سا�ساً من �أجل غاية حمددة واحدة :هي الإ�سراع بتقنيات الإنتاج وحت�سينها .وكانت املرتتبات االجتماعية نتاجاً ثانوياً مت�أخراً لهذا الهدف الأعم� .أما يف املجتمع التكنوتروين ,ف�إن املعرفة التقنية والعلمية تطغى ب�سرعة لت�ؤثر يف معظم �أوجه احلياة مبا�شرة. بالإ�ضافة �إىل �أنها تق ِّوي �إمكانيات الإنتاج .وبالتايل �سوف جند �أن منو املقدرة على �إجراء ح�سابات 56
فكـــــر
فورية ملعظم العمليات املعقَّدة املتداخلة ،وازدياد �إمكانية احل�صول على الو�سائل الكيميائية احليوية امل�سيطرة على اجل�سم الإن�ساين ،من �ش�أنها م�ضاعفة املجاالت املحتملة لعملية االختيار الواعي ()2 لالجتاه املعينَّ ،وكذلك ت�ضاعف ال�ضغوط من �أجل التوجيه واالختيار والتغيري. حلظـة كارل بوبر
�إذا كانت �أزمنة فل�سفة العلوم� ،سبقت بقرون تطورات القرن الع�شرين العلمية ،ف�إن هذا القرن �سيكون �شاهداً على التقاء حميم بني املفاهيم النظرية للحداثة وم�صاديقها التكنو ـ �إلكرتونية. عند ذاك ميكن الكالم على حلظة �أخذت فيها فل�سفة العلم ح�ضورها الوقائعي .القرن الع�شرون، يف هذه املثابة ،هو اللحظة املعرفية التي احتد فيها العقل النظري املح�ض للغرب مع منجزه العلمي. غري �أن �سريورة االحتاد هنا مل تكن لتخ�ضع �إىل جدلية انف�صال وات�صال بني �أمرين متباينني� .إمنا هي �سريورة احتاد �ضمن الوحدة� ,إذا جاز القول .فالعلوم التجريبية التي �أطلقت املجتمعات التكنو ـ �إلكرتونية يف الغرب ثم الثورة ال�سيربنيطقية (االت�صال والتوا�صل) يف الف�ضاء العاملي كله ،قد تو َّلدت من م�ستهل تلك ال�سريورة� .أي من اجلدل التاريخي لفكر احلداثة الفل�سفي. َّ لعل كارل بوبر 28( Karl Popperمتوز (يوليو) 1902ـ � 17أيلول (�سبتمرب) )1994هو فيل�سوف هذا القرن العلمي بامتياز .لقد نظر �إىل العلم واملعرفة نظرة واحدة .لي�س العلم ،عنده� ،إ َّال مرحلة متقدمة من املعرفة .بل من عالقة الكائن احلي بالبيئة .حتى �أننا لو ك�شفنا احلكاية كلها مرة واحدة منذ «الأميبا» حتى �أين�شتاين ,لوجدناها تعر�ض النمط نف�سه :حل امل�شكالت عن طريق تف�سر �أي �سلوك �إيجابي مثمر تف�سر ما يفعله العامل يف قلب املعمل .مثلما ِّ �آلية املحاولة واخلط�أ التي ِّ ()3 على وجه الأر�ض. �سيكون لهذا الفيل�سوف ّ حظ االنتها�ض بت�أريخ حلظة فل�سفة العلم .اللحظة التي ُ�س ِّيلت فيها الفل�سفة يف حقول املعارف لت�ستحيل ٍ وم�س َّدداً به .يف هذا بعدئذ علماً م�شبعاً بالروح الفل�سفي َ املعنى ميكن النظر �إىل بوبر بو�صفه م�ؤرخ اللحظة الفل�سفية للعلم .وقد يكون الوحيد ,من بني فال�سفة القرن الع�شرين ,الذي متثَّل روح العلم ،رائياً �إليه كخال�صة منطقية مكثَّفة ملنجزات العقل الإن�ساين منذ اليونان مروراً ب�سل�سلة الوارثني وحتى نهايات القرن املن�صرم .هكذا �سيمثل كارل بوبر عالمة فارقة ،ونقطة حت ُّول يف م�سار فل�سفة العلم .حيث انتقلت هذه الفل�سفة من منطق تربير املعرفة العلمية ،وتعيني م�سوغات وثوقها وم�صداقيتها �إىل منطق التقدم العلمي. ذلك �أن فل�سفة العامل حني ن�ش�أت يف �أوا�سط القرن التا�سع ع�شر كانت امتداداً ل�س�ؤال فل�سفة املعرفة (الإب�ستمولوجيا) العريق واملتمحور حول ماذا ميكن �أن يعرف الإن�سان ..ما �شروط املعرفة ليت�صدر وما و�سائلها ..وما طبيعتها وما حدودها...؟ وقد ا�ستقام ن�سق العلم احلديث عمالقاً، َّ 57
بامتياز وباقتدار م�سرية املعرفة الإن�سانية ،وميثل حالة فريدة لنجاح امل�شروع املعريف للإن�سان .لقد �أ�صبح �س�ؤال الإب�ستمولوجيا املتمثل يف فل�سفة العلم� ،س�ؤا ًال يدور حول عوامل هذا النجاح وحيثياته ومربراته .من هنا ,ن�ش�أت فل�سفة العلم وهي معنية بتربير املعرفة العلمية كمح�صلة جاهزة ومعطاة؛ �أي تربير ن�سق العلم كمنجز راهن ،ميكن �أن ي�ستوعب تقدماً �أبعد .ا�ستند هذا التربير �أ�سا�ساً �إىل �إحكام العالقة بني الوقائع التجريبية ،وبني النظرية العلمية �أو القانون وذلك يف �صورة املنهج العلمي ـ �صلب فل�سفة العلم ـ هكذا متثَّل املنهج العلمي كتربير لنجاح املعرفة العلمية .وهو ما جرى يف املرحلة الأ�سبق على فل�سفة العلم التي تعرف باملرحلة الو�ضعية. لقد َّ ظل الأمر على هذا النحو حتى جاء كارل بوبر حام ًال لواء املرحلة «البعد ـ و�ضعية» .ف�إذا به ينتقل بفل�سفة العلم من منطق التربير �إىل منطق التقدم� ،إىل منطق الك�شف العلمي واملعاجلة املنهجية له على �أ�سا�س من قابليته امل�ستمرة لالختبار التجريبي والتكذيب ،وكذلك قابليته لتعيني اخلط�أ كي يحل حمله ك�شف �أف�ضل و�أكف�أ و�أقرب �إىل ال�صدق ،ف�إن الك�شف يكون علمياً بقدر ما يكون قاب ًال لالختبار احلقيقي الهادف �إىل التكذيب؛ �أي بقدر ما يفتح طريقاً لتقدم �أعلى .هكذا يو�ضح بوبر �أن معيار العلم �أو اخلا�صية املنطقية املميزة لق�ضاياه هي القابلية لالختبار التجريبي احلقيقي الذي ميكن �أن يف�ضي �إىل التكذيب :فيقف على اللحظة الدراماتيكية الكربى يف حركية العلم التقدمية .حلظة التكذيب والتنفيذ .تكذيب النظرية املقبولة املعمول بها ،واكت�شاف اجلديد الأقدر منها والأجدر .لي�س منطق الك�شف العلمي ،جمرد لبنة جديدة ت�ضاف �إىل �صرح العلم، ()4 بقدر ما هو منطق فتح جديد للتقدم العلمي� .إنه فل�سفة التقدم امل�ستمر. يذهب عدد من ِّ املفكرين املا بعد حداثيني يف معر�ض تو�صيفهم لفل�سفة بوبر� ،إىل �أن �أفكاره متثل �أهم تطور حدث يف فل�سفة القرن الع�شرين .وحتى قبل وفاته بقليل كان ثمة من ه�ؤالء َمن م�ضى �إىل االعتقاد �أن بوبر هو �أعظم الفال�سفة الأحياء .بل �إن علماء التاريخ الطبيعي ي�ؤكدون �أن �أهميته ترجع �إىل فكرته عن قابلية التكذيب ( )Falsifiabilityكت�صور له �أهمية مبا�شرة بالعلم .كذلك ي� ِّؤكد عدد كبري من علماء االجتماع �أن مفهوم اختبار الفرو�ض ( )Testing of Hypotnesesيف مقابل الوقائع ( )Factsيعد خا�ص ّية مهمة ومميزة لالنت�صار العلمي �إذا ما اتبعنا فكرة بوبر .والواقع ـ على ما يالحظ العلماء ـ �أن ت�صور بوبر للعلم هام جداً؛ لأنه مي ِّيز فيه بني امليتافيزيقا والعلم من ناحية ،وبني « العلم الكاذب» ( )Pseudo Scienceمن ناحية �أخرى .لئن كان هذا ي�شري �إىل �شيء, ف�إمنا ي�شري �إىل مدى ما تتم َّيز به عقلية بوبر من نزعة علمية �أ�صيلة يندر �أن جندها لدى الكثريين من �أقرانه (� )...إ َّال �أنه �سيظهر لنا �أن مدخل بوبر يف معاجلة نظرية العلم يختلف عن املداخل الأخرى؛ �أي تلك التي يتخذها الفال�سفة واملناطقة وفال�سفة العلم .وال�سبب يف هذا �أن بوبر ي�ضع نقطة انطالق رئي�سية يتخذها مدخ ًال حيوياً للمو�ضوع :فهو �أو ًال ي�شري �إىل امل�شكلة التي يريد �أن يتناولها ،ثم يقدم �صياغة لها ..ومن خالل حتديد امل�شكلة و�صياغتها ،يقوم بتحليلها من اجلوانب كافة ب�صورة نقدية توحي �إىل القارئ ب�أهميتها وحيويتها ..ومن خالل النقد ي�ستطيع �أن يدفع 58
فكـــــر
باحللول املمكنة مل�شكلته ،ثم ي�ستبعدها واحداً تلو الآخر لتبقى ح ًال واحداً ،وتكون امل�شكلة من خالله قد ات�ضحت بكل �أبعادها. والواقع �أن بوبر حني يتحدث عن العلم كنظرية من خالل كتاباته ،يتناول بالتحليل م�شكالته يف �صورة ت�سا�ؤالت و�آراء قد ال يعتقد القارئ بها .على �سبيل املثال م�شكلة اال�ستقراء (Problem of )inductionوالتي هي �أول حديث لبوبر يف «املعرفة املو�ضوعية» ،وهي كذلك يف منطق الك�شف املوجهة ملجريات العلمي» تعترب �أول �أعمال بوبر و�أحد �أبرز الكال�سيكيات الفل�سفية الرائدة ِّ فل�سفة العلوم .يف هذا العمل يبينِّ بوبر «�أن م�شكلة اال�ستقراء ،لكي تو�ضع و�ضعاً �صحيحاً ،يجب علينا �أن من ِّيز �أو ًال بني العلم ( )Scienceوال َّال ـ علم ( ،)Non – Scienceثم من ِّيز منطق املعرفة ( )Logic of Knowledgeمن �سيكولوجية املعرفة ( .)Psychology of Knowledgeكما يبدو من ال�ضروري طاملا نحن يف ميدان العلم �أن ن�ستبعد الذاتية ،))Subjectivismالتي قد تف�سد على العلم مو�ضوعيته ،و�أخرياً ال بد من اتخاذ قرار يف امل�شكلة ،وهو ما يعرف عند بوبر بـ«القرارات املنهجية» وهكذا نكون قد بد�أنا بتحديد امل�شكلة ،وح�صرها يف �أ�ضيق نطاق ممكن من الت�سا�ؤالت، ثم انتهينا بقرار منهجي حولها يحدد �أهميتها يف ال�سياق العلمي ،ويلقي ال�ضوء عليها ب�صورة كافية ()5 ِّمتكن القارئ من الإملام بجوانبها املختلفة. قواعـد اال�سـتقراء املنهجـي
تو�صل �إليه ق َّراء كارل بوبر ،مكثَّفات للقواعد املنهجية� ،أو ما ي�سميها هو بـ«القرارات لدينا هنا مما َّ املنهجية» ،التي ينبني عليها منطقه اال�ستقرائي .وهاكم يف ما يلي �أبرزها: �أ .اال�ستقراء والتمييز بني العلم والالَّعلم:
يبينِّ بوبر �أن العالمِ ي�ضع ق�ضايا �أو �أن�ساقاً من الق�ضايا�[ ،سواء كان هذا العالمِ نظرياً �أم جتريبياً] ثم يختربها تدريجياً يف ميدان العلوم الأمربيقية (التجريبية) ،ب�صفة خا�صة يك ِّون فرو�ضاً �أو �أن�ساقاً من نظريات ويجري عليها اختباراً يف مواجهة اخلربة عن طريق املالحظة والتجربة )6(. ب .منطق املعرفة و�سيكولوجية املعرفة:
يقول بوبر يف «منطق الك�شف العلمي» �إن «ال�س�ؤال حول كيف يحدث �أن يدور بخلد �إن�سان فكرة جديدة ـ �سواء �أكانت معزوفة مو�سيقية �أو �صراعاً درامياً� ،أو نظرية علمية ـ رمبا تكون ذات �أهمية عظمى لل�سيكولوجية الأمربيقية ،لكنها لي�ست وثيقة ال�صلة بالتحليل املنطقي للمعرفة العلمية 59
من حيث هي غري معنية ب�أ�سئلة عن الواقعة ,و�إمنا معنيـة فح�سب ب�أ�سئلة التربير �أو ال�صحة».
()7
ج .نزعة �ضد الذاتية:
عند بوبر يكون العلم مو�ضوعياً ,مبعنى �أن نظرياته ال ميكن �أن ترد �إىل حمتوى ال�شعور لأي فرد، فبمجرد قيام النظرية تعر�ض لالختبار يف مقابل حاالت الأ�شياء املالحظة .ويف ما يتعلق ب�أي اختبار تتعر�ض له النظرية ،ف�إنه �إما �أن تبقى النظرية �أو ُترف�ض .على �أن عملية اختبار النظريات العلمية، على النحو امل�شار �إليه ،ال تت�ضمن � ،أو ال تعتمد على االعتقادات الذاتية ()Subjective Beliefs لأي فرد .فما دام االختبار �سيقوم به فرد ،ف�إنه ميكن تكراره مرات ومرات بوا�سطة �أي فرد �آخر يف �أي زمان ومكان .فكما يتطلب �ضرورة مو�ضوعية النظرية ،كذلك فال بد و�أن تكون ق�ضايا املالحظة ال�شخ�صية ـ التي ُتخترب النظرية يف مقابلها ـ مو�ضوعية �أي�ضاً� ،أي ال ُتر ّد �إىل حمتوى ال�شعور لأي فرد .وهنا فقط ،وفقط عند هذا التف�سري ،ميكننا �أن نلم�س �أن بوبر لي�س و�ضعياً ()Positivisit؛ لأنه يت�ساءل عن كيفية رد م�ضمون النظرية العلمية �إىل عنا�صر �أولية مفرت�ضة وغري قابلة للر ّد؛ ولأنه يف �إطار املعرفة املو�ضوعية عنده ال يوجد مكان �إطالقاً لعنا�صر معرفية غري قابلة للرد .فبينما يفرت�ض كارناب دائماً� ،إمكانية وجود لغة مالحظة نظرية (، )Theoretical Observation Language جند �أن بوبر ي�صر على �أن كل املالحظات ،من دون ا�ستثناء ،ال بد و�أن تجُ رى يف �ضوء نظرية� .أي �أنه ال توجد ق�ضايا مالحظة �أولية تتجاوز ما هو نظري ( )Extra – Theoreticalميكن �أن ت�ش ِّيد النظرية العلمية على متنها .ولذا ف�إن بوبر ي� ِّصور لنا العالقة بني النظرية واملالحظة كما يلي�« :إذا كان مطلبنا �أن الق�ضايا العلمية يجب �أن تكون مو�ضوعية� ،إذن فالق�ضايا التي تنتمي للأ�سا�س ()8 الأمربيقي للعلم يجب �أن تكون مو�ضوعية �أي�ضاً؛ �أي غري قابلة لالختبار الذاتي املتبادل. د .القرارات املنهجية:
وهذه �آلية عليها �أن تخترب النظريات يف مقابل احلاالت الو�صفية للأ�شياء املالحظة .وهي �إما �أن ترف�ض� ،أو تقبل م�ؤقتاً ،ثم تتعر�ض الختبارات �أكرث؛ ولكن ل�سوء احلظ ـ وهذا من امل�آخذ التي ت�ساق �ضد بوبر ـ ف�إن الأ�شياء لي�ست بهذه الب�ساطة ،وهذا ما ميثل �أحد التعقيدات الهامة حول النظرية؛ لأن االختبار اال�ستنباطي لأي نظرية يجب �أن يت�ضمن �إ�شارة �إىل ق�ضايا �أولية هي �أي�ضاً ق�ضايا قابلة لالختبار( )...يف �سياق حتقيقه لكتاب «منطق الك�شف العلمي» يع ِّلق ماهر عبد القادر حممد علي على ما �سبق ،فيجد «�أن الق�ضايا الكلية والق�ضايا الأولية تت�سمان بالطابع الو�ضعي، وينتج من هذا �أنه �إذا كانت ق�ضية كلية معطاة لدينا ،تناق�ض ق�ضية �أولية معطاة� ،إذن ،ف�إحداهما على الأقل يجب �أن تكون كاذبة .ويف حالة االختبار الناجت يف مثل هذا التناق�ض ،ف�إنه يبدو �ضرورة �أن نرف�ض �إما النظرية �أو الق�ضية الأولية �أو كالهما .ومن ثم ف�إن القرار Decisionلرف�ض نظرية 60
فكـــــر
ما على �أ�سا�س �أي اختبار يتطلب قراراً قبلياً apriori decisionلنقبل ق�ضايا �أولية معينة؛ �أي �أن قبول الق�ضايا الأولية ميكن �أن يز ّودنا فقط بالأ�س�س املنطقية Logical Groundsالتي تتطلبها نظرية بوبر لرف�ض النظريات التي تناق�ض الق�ضايا الأولية� .أما من الناحية العملية ف�إن املوقف يبدو ،للمحقق ،على نحو �أ�شد تعقيداً من هذا؛ ذلك لأن ا�شتقاق تنب�ؤات من ق�ضايا كلية غالباً ما يتطلب بع�ض التخ�صي�ص لل�شروط الأمربيقية ( )Empirical Conditionsيف قطاع معينَّ من املكان والزمان ،مثل ا�ستخدام نظريات �أخرى ،وبع�ض تطبيقات املنطق �أو الريا�ضيات البحتة. ويف مثل هذه احلاالت ف�إن ما ُيخترب لي�س هو الق�ضية الكلية كنظام معقَّد من النظريات ،و�إمنا هو الق�ضايا ال�شخ�صية� ،أو الو�صفية ،وعنا�صر املنطق والريا�ضيات .ف�إذا �أخفق هذا الن�سق ف�إن اختباره كنتيجة لقرارنا بقبول بع�ض الق�ضايا الأولية يواجهنا بال�س�ؤال الآتي� :أي جزء من الن�سق ينبغي رف�ضه؟ لقد ر�أينا �أن كل النظريات ،وكل الق�ضايا ال�شخ�صية الو�صفية قابلة لالختبار ،و ال�شيء ()9 نف�سه ي�صدق على املنطق والريا�ضيات» «يقينيـات» بوبريـة ّ
يف �آخر كتاب حتت عنوان «�أ�سطورة الإطار» �أج َم َل لنا كارل بوبر نظريته يف عدد من الأطروحات، متحدية .كما لو �أنه يريد مبثل هذا الت�أكيد� ،أن ولقد َج َه َر ب�أنه يب�سطها �أمام القارئ يف �أقوى �صورة ِّ يظهر �شغفه الأق�صى مبا َّفكر فيه ،و�أجنزه على مدى �أكرث من ن�صف قرنَّ . ولعل الذي حمله على هذا� ،أن �أطروحاته يف تقدي�س العلم والعقالنية النقدية والليربالية املفتوحة ،هي �أنها ا�ستقامت ك�شريعة ال ت�ضارع يف مرحلة عوملة �آخر القرن الع�شرين .هكذا �سنجد بوبر ي�سوق �أطروحاته كمن يب�سط على امللأ يقينيات ال را َّد لها .ولقد ب�سطها على الوجه التايل: املعرفة العلمية ب�أ�سرها ،فر�ضية �أو حد�سية ،هي معرفة افرتا�ضية. يتوقف منو املعرفة ،خ�صو�صاً املعرفة العلمية ،على التع ُّلم من �أخطائنا. ن�سميه منهج العلم يتوقف على التع ُّلم النظامي من �أخطائنا� :أو ًال ،عن طريق �إن ما ميكن �أن ّ اال�ضطالع مبخاطرات عن طريق الإقدام على �صنع �أخطاء؛ �أي عن طريق الطرح اجلريء لنظريات جديدة .وثانياً ،عن طريق البحث النظامي عن الأخطاء التي وقعنا فيها� ،أي عن طريق املناق�شة النقدية والفح�ص النقدي لنظرياتنا. احلجج امل�ستقاة من االختبارات التجريبية هي �أقوى احلجج امل�ستخدمة يف هذه املناق�شة النقدية. التجارب ت�سرت�شد دائماً بالنظرية ،بح�س باطني نظري غالباً ما يكون املج ِّرب على غري وعي 61
به ،بفرو�ض متعلقة بامل�صادر املحتملة للأخطاء التجريبية ،وبتطلعات �أو بفرو�ض حد�سية ب�ش�أن ما �سيكون جتربة خ�صيبة مثمرة نظرياً. (يق�صد بوبر باحل�س الباطني ،تكهنات ب�أن جتارب من نوع معينَّ �سوف تكون خ�صيبة مثمرة نظرياً). ي�سمى باملو�ضوعية العلمية يتوقف على املقاربة النقدية فقط ال غري :على واقعة مفادها �إن ما ّ �أنك �إذا كنت منحازاً لتحبيذ نظريتك الأثرية� ،سوف يتل َّهف فريق من �أ�صحابك وزمالئك على نقد ما �أجنزته ـ �أي على تفنيد نظرياتك الأثرية �إذا ا�ستطاعوا ( و�إذا مل يفعلوها ،ف�سيفعلها بع�ض العاملني من اجليل الثاين). ينبغي �أن ت�شجعك هذه الواقعة على �أن حتاول تفنيد نظرياتك بنف�سك ،ومعنى هذا �أنها قد تفر�ض عليك نظاماً در�سي ُاً معيناً. وعلى الرغم من هذا ،يخطئ من يعتقد �أن العلماء �أكرث مو�ضوعية من �سواهم من الب�شر� .إنها لي�ست مو�ضوعية �أو جت ُّرد العامل كفرد ،بل العلم ذاته هو الذي يتجه نحو املو�ضوعية (التي يجوز �أن نطلق عليها :تعاون الأ�صدقاء الألداء من العلماء» �أي (اال�ستعداد للنقد املتبادل). ومع هذا ثمة �شيء ي�شبه التربير املنهجي للعلماء ك�أفراد لكي يكونوا دوغماطيقيني وحمابني. ما دام منهج العلم هو منهج املناق�شة النقدية ،ف�إن الدفاع امل�ستميت عن النظريات املنقودة هو على جانب كبري من الأهمية ،فلن نعرف قواها احلقيقية �إ َّال بهذه الطريقة .ولن نعرف القوة الكاملة للحجة النقدية� ,إ َّال �إذا واجه النقد مقاومة با�سلة. �إن الدور الأ�سا�س الذي تلعبه النظريات �أو الفرو�ض �أو احلدو�س االفرتا�ضية يف العلم يجعل من الأهمية مبكان �أن من ِّيز بني النظريات القابلة لالختبار ( �أو القابلة للتكذيب) وبني النظريات غري القابلة لالختبار ( �أو غري القابلة للتكذيب). ال نظرية قابلة لالختبار �سوى النظرية التي تقر �أو تت�ضمن� ،أن �أحداثاً معينة ميكن ت�صورها لن حتدث يف الواقع .يت�ألف االختبار من املحاولة ،بكل الو�سائل امل�ستطاعة� ،أن ن�ستح�ضر على وجه الدقّة تلك الأحداث التي تخربنا النظرية �أنها ال ميكن �أن حتدث. هكذا ميكن القول� :إن كل نظرية قابلة لالختبار متنع حدوث �أحداث مع َّينة .و�إن النظرية تتحدث عن الواقع التجريبي فقط على قدر ما تعينِّ حدوداً فيه. وعلى هذا ميكن و�ضع كل نظرية قابلة لالختبار يف �صورة كذا وكذا ال ميكن �أن يحدث مث ًال: القانون الثاين للديناميكا احلرارية ميكن �صياغته بالقول� :إن الآلة الدائمة احلركة من النوع الثاين ال ميكن �أن توجد. ال ميكن �أن حتمل نظرية خرب ُاً عن العامل التجريبي ما مل تدخل ,من حيث املبد�أ ,يف �صدام مع 62
فكـــــر
العامل التجريبي .وهذا يعني ،على وجه الدقة� :أنها يجب �أن تكون قابلة للتفنيد. القابلية لالختبار لها درجات :النظرية التي تع ِّزز �أكرث ،وبالتايل النظرية التي ت�ضطلع مبخاطر �أعظم ،تكون �أف�ضل يف القابلية لالختبار من النظرية التي تق ِّرر النزر الي�سري .وباملثل ميكن ت�صنيف االختبارات عن طريق تقدير درجة ق�سوتها .مث ًال ،االختبارات الكيفية بوجه عام �أقل ق�سوة من االختبارات الكمية .واالختبارات ذات التنب�ؤات الكمية الأكرث دقة تكون �أق�سى من االختبارات ذات التنب�ؤات الكمية الأقل دقة. كان املذهب ال�سلطوي يف العلم مرتبطاً بفكرة الت�أ�سي�س ،مبعنى �إثبات نظرياته �أو التحقق منها. بينما ترتبط املقاربة النقدية للعلم بفكرة االختبار ،مبعنى حماولة تفنيد حدو�سه االفرتا�ضية� ،أو ()10 تكذيبها. �سيكون من البديهي ،تبعاً للأطروحات �آنفة الذكر� ،أن ت�شق البوبرية �سبيلها نحو الت�صعيد� .أي يف االجتاه الذي يجعل من تلك الأطروحات �أدنى �إىل �أن تكون ثوابت وا�سرتاتيجيات يجري على �أ�سا�سها حتقيق �أمرين: �أو ًال� :إثبات م�شروعية العقالنية الليربالية امل� َّؤ�س�سة على العلوم الأمبرييقية. ثانياً :نفي كل ما يخالفها ،باعتبار الذي يخالف هو خارج حلبة الواقع الإن�ساين احلي. لكن امل�شروع البوبري وهو يتجه نحو م�سعاه لن يلبث عند حدود الت�أ�صيل النظري لفاعليات فل�سفة العلم؛ �إذ �سرعان ما �سيحفر هذا امل�سعى جمراه يف الزمن العاملي ليكون ،بالفعل� ،أحد �أبرز عالمات احلداثة ال َبعدية� .أو ما ميكن و�ضعه يف ف�ضاء التنظري التكنوـ �إلكرتوين وع�صر املعلومات. ولكي جتري العملية البوبرية يف م�سراها النظري الواقعي املركب .كان عليها �أن تدخل يف �سجال ال هوادة فيه مع خ�صومها املبا�شرين .لقد كان يف مقدم �أولوياتها �أن تعينِّ �آليات عملها وا�سرتاتيجياتها ا�ستعداداً لطورها اجلديد ،وذلك على قاعدة الإثبات والنفي. لقد ر�أينا كيف ب َّينت البوبرية تعريفها لذاتها ،من خالل حتديد ماهياتها النظرية واملعرفية واملنطقية، بو�صفها فل�سفة علم �أمبرييقية .يف حني �أنها �س ُتدخِ ل نقد خ�صومها كعامل م� ِّؤ�س�س لهند�ستها وال ع�ضوياً يف �إظهار ماهيتها الذاتية. املعرفية؛ بحيث يدخل النقي�ض دخ ً �أول ما كان على البوبرية �أن تواجهه هو املارك�سية بنظريتها الديالكيتية ،وا�ستطراداً املارك�سية كج�سد �سيا�سي واقت�صادي وثقايف ممث ًال بال�شيوعية الدولية. ل َرن الآن كيف جرت هذه املواجهة... 63
نقـد �أهـل التاريخانيـة
وقف بوبر �ضد التاريخانية بو�صفها حكم قيمة على التاريخ؛ ولذا و�ضعها خارج قلعته العقالنية ال�صارمة .ال يتوقف حكمه على �سو�سيولوجيا التاريخ يف كونها غري علمية؛ لأنها تنطوي على يقينيات ال تقبل التكذيب ،و�إمنا بلغ به الأمر لكي يرى �إىل فل�سفة التاريخ باعتبارها جواباً �إميانياً على �أي �س�ؤال يطرح عليها .يف كتابه الذي �صدر العام 1997حتت عنوان « �أ�سطورة الإطار ـ يف دفاع عن العلم والعقالنية» يقول بوبر حول ما ي�سميه «فل�سفة التاريخ»� :إنها تدور دائماً حول ثالثة �أ�سئلة كربى: هل هناك خطة للتاريخ ،و�إذا كان ثمة خطة ،فما هي؟ ما فائدة التاريخ ؟ كيف ينبغي علينا كتابة التاريخ� ،أو ما هو منهج التاريخ؟ وهذا ال�س�ؤال يت�ضمن بر�أيه �أي�ضاً «م�شكلة املعرفة التاريخية». ثم مي�ضي �إىل القول« :لقد طرحت �إجابات� ،صريحة و�ضمنية على هذه الأ�سئلة الثالثة ،منذ صوال �إىل يومنا هذا .ومما يثري الده�شة �أن الإجابات مل تتغيرَّ �إ َّال الإجنيل و�أ�شعار هومريو�س ،و� ً قلي ًال». غري �أنه ال يلبث �أن ي�ستطرد يف ما ي�شبه التمهيد جلوابه عرب التاريخ وفل�سفته فيقرر�« :أن الإجابة الإميانية تعد �أقدم الإجابات على �س�ؤالنا الأول� ،إنها �إجابة الإجنيل و�أ�شعار هومريو�س .فثمة خطة للتاريخ ولكن ال ميكن �إدراكها �إ َّال ب�صورة مبهمة؛ لأنها ناجتة عن م�شيئة الرب� ،أو الأرباب .ولكن لي�س من ال�سهل �أن ندرك ُكن َهها ،على الرغم من �أنها قد ال تكون م�ستغلقة متاماً .وعلى �أي حال ـ ي�ضيف بوبر ـ هناك �شيء ما من قبيل ال�سر املطمور خلف �سطح الأحداث .وال بد �أن ترتبط هذه اخلطة بالثواب والعقاب ،بنوع ما من التوازن املقد�س �أو العدل الإلهي ،على الرغم من �أنها عدالة ()11 ال ي�ستطيع �أن يتبينَّ فعلها �إ َّال ذوو الب�صائر النافذة». هذا �أحد الت�أ�سي�سات النظرية التي يعبرِّ فيل�سوف العقالنية النقدية �أطروحاته من خاللها ليقيم احلد على التاريخانية بو�صفها نظرية غري علمية .ول�سوف يظهر لنا الحقاً كيف �أن رحلته الإق�صائية هذه �ست�ؤول �إىل حقول النزاع الأيديولوجي مع الر�ؤية املارك�سية للتاريخ .وللتاريخانية مبا هي ر�ؤية للتاريخ على �أ�سا�س كونه �صراع طبقات .وها هو يالحظ يف هذا ال�صدد �أن «النزعة التاريخانية» � Historicismأطلقت على النظرية التي تقول بوجود خطة للتاريخ� ،سواء �أكانت �إميانية �أم �إحلادية. �إنه (�أي بوبر) يعرتف ب�أن ا�ستخدامه لهذا التعريف ب�ش�أن التاريخانية تع َّر�ض لنقد �شديد من قبل 64
فكـــــر
البع�ض ـ يق�صد املفكرين املارك�سيني ـ �إ َّال �أن نقدهم ـ كما يقول ـ ال يبدو له ف ّعا ًال؛ ذلك لأن ناقديه ،يعتمدون على نظرية خاطئة ترى �أن الأ�سماء �أو امل�صطلحات هي التي تعنينا .والواقع �أن ا�سم النزعة التاريخانية ال يعدو �أن يكون بطاقة ا�صطالحية يقدمها كطريقة للحديث عن نظريات �شتى مت�صلة معاً يف �سياق �شرحه ومناق�شته لها .وهكذا يق ِّرر بوبر �أن الق َّلة ال�ضئيلة هي التي ال تزال تدافع عن التاريخانية .ويف هذا ال�صدد ـ ي�ضيف ـ �أنه حتى �أ�صوات املارك�سيني و�أتباع الربوف�سور �أرنولد توينبي � A.Toynbeeأ�صبحت خافتة� ،إن مل تكن غري م�سموعة .ومع ذلك ،ف�إن بوبر يعود ليخربنا يف ح�سرة الفتة ،ب�أنه ال يفت�أ ي�شعر ـ بالرغم من كل ما ح�صل من م� ٍآ�س للتاريخانية ()12 ـ كما لو كان ال يزال غارقاً يف غمرتها. التاريخانية بو�صفها �إيديولوجيا
ال يكتفي كارل بوبر حني ي�صدر حكم الإق�صاء على التاريخانية ،ببيان ما تدعيه جلهة القول بالتنب�ؤ التاريخي كغاية رئي�سية لها؛ �أو جلهة افرتا�ضها �إمكان الو�صول �إىل هذه الغاية بالك�شف عن «القوانني» �أو «االجتاهات» �أو «الأمناط» �أو «الإيقاعات» التي ي�سري التطور التاريخي وفقاً لها. �سوف يق ِّرر �أنها ـ التاريخانية ـ جمرد �إيديولوجيا بائ�سة .فحني يق ِّرر املذهب التاريخاين �أن ات�صاف القوانني االجتماعية بالن�سبية التاريخية هو الذي مينع من تطبيق املناهج الفيزيقية وعلم االجتماع، ف�إن احلجج التي يبني عليها هذا االعتقاد تتعلق ـ بر�أي بوبر ـ بالتعميم والتجربة وتعقُّد الظواهر ، و�صعوبة التنب�ؤات الدقيقة. َّ ولعل �أحد �أبرز م�آخذ بوبر على التاريخانية بن�سختها املارك�سية �أنها االبنة ال�شرعية للنزعة الكلية. فالكل ُّيون ـ كما يقول ـ ال يهدفون فقط �إىل درا�سة املجتمع بوا�سطة منهج ميتنع على التحقيق ،بل �إنهم يق�صدون �أي�ضاً �إىل ُّ التحكم يف هذا املجتمع و�إعادة �إن�شائه «ككل»� .أي �أنهم يتك َّهنون ب�أنَّ ، �سلطة الدولة �صائرة �إىل ازدياد حتى ت�صبح الدولة واملجتمع �شيئاً واحداً تقريباً .والفكرة احلد�سية ()13 التي تعبرِّ عنها هذه الكلمات فكرة وا�ضحة مبا فيه الكفاية ،فهي فكرة نظام احلكم اجلامع. من باب جعل التاريخانية ،ب�أ�صنافها الت�أ�سي�سية واملت�أخرة� ،ضمن دوائر الكلية �أو «الكليانية» �أدخل كارل بوبر الأطروحة الأكرث حتدياً للر�أ�سمالية الليربالية وللمجتمع املفتوح� ،أي املارك�سية ،يف عامل الإيديولوجيا .ول�سوف ُي�صدر عليها حكماً مربماً يف املراحل املت�أخرة من حياته ،فيقول �إنها �إيديولوجية رجعية .هو يعرتف باجلاذبية العاطفية للتاريخانية ،ويبينِّ �أن هذه الأخرية مذهب عريق يف القدم ( )...ويف كل �صورة من �صور هذا املذهب تعبري عن ال�شعور باالن�سياق نحو امل�ستقبل قوى ال ميكن مقاومتها ( )...لكن املحدثني من �أ�صحاب املذهب التاريخاين ال يدركون، بت�أثري ً يف ما يبدو ،ق َِدم مذهبهم .فهم يعتقدون ،ومل يكن لهم خيار يف هذا نتيجة لت�أليههم كل جديد، 65
ب�أن املذهب التاريخاين يف �صورته التي ي�أخذون بها هو �آخر ما حققه العقل الإن�ساين من نتائج. جدته ،بحيث ال يقوى على �إدراكه �إ َّال القليلون. و�أكرثها جر�أة .و�أن هذا العمل العظيم باهر يف ّ هذا العر�ض الذي يقدمه بوبر على ل�سان التاريخانيني �أنف�سهم ال يلبث �أن يتحول �إىل مادة ي�ست�أنف على �أ�سا�سها نقده ال�صارم ملارك�سية �آخر القرن الع�شرين ،فيما هي تعي�ش نزاعها الأخري مع �إمربيالية الع�صر التكنو الكرتوين. يعرب بوبر عن اعتقاده ب�أن ادعاء التاريخانية� ،أنها القوة اخل ّالقة والتقدمية يف العامل احلديث ،هو �شيء جريء وثوري لكنه يتم بنزعة رجعية غري واعية .ثم يوا�صل نقده لهذا االدعاء على �شكل عما �إذا كان احلما�س ت�سا�ؤالت� :إن من حق املت�أمل يف هذا احلما�س العظيم للتغيري �أن يت�ساءل ّ يعك�س وجهاً واحداً فقط ملوقف مزدوج؟ ثم يتوجه بال�س�ؤال� :أفال يخفي هذا احلما�س وراءه �شدتها ومن الواجب التغلب عليها؟ ي�ضيف� :إذا �أُجيب على هذا الت�سا�ؤل مقاومة ال تقل عنه يف ّ بالإيجاب ،كان يف ذلك تف�سري للحمية الدينية التي ا�صطبغ بها القول �إن هذه الفل�سفة العتيقة البالية هي �آخر ما تك�شَّ ف عنه العلم و�أعظمه ( )...ومن يدريَّ ، فلعل ا�صحاب املذهب التاريخاين (والكالم لبوبر) خائفون من التغيري� .أهو اخلوف من التغيري يجعلهم عاجزين عن مواجهة النقد مبا يتفق واملوقف العقلي؟ وهل كان هذا اخلوف هو ال�سبب يف ا�ستجابة غريهم لتعاليمهم؟ ..ثم يختم فيقول :احلق �أن التاريخانيني يبدون ك�أنهم يحاولون تعوي�ض �أنف�سهم عن فقدان عامل ال يتغري، ()14 فيت�شبثون باالعتقاد ب�أن التغيرُّ ميكن التن ّب�ؤ به؛ لأنه حمكوم بقانون ال يتغيرَّ . �إن الذي تق ِّرره البوبرية بعدما �أجنزت ق�سطاً موفوراً من �أمان ّيها ب�سقوط التاريخانية ال�سيا�سية مع نهاية القرن الع�شرين ،هو ممار�سة فكرية على قاعدة النفي والإثبات .كان نفي و�إق�صاء التاريخانية مقدمة لإثبات العقالنية وبهتان ـ ما ي�سميه بوبر ـ «�أ�سطورة الإطار» .فمن الوا�ضح ـ كما يبينِّ �صاحبها ـ �أن «�أ�سطورة الإطار» هي ذاتها املبد�أ القائل� :إن املرء ال ي�ستطيع الدخول يف مناق�شات عقالنية لأي �شيء �أ�سا�سي� ،أو �أن املناق�شة العقالنية للمبادئ م�ستحيلة. كمح�صلة للنظرة اخلاطئة ،القائلة� :إن كل مناق�شة عقلية من الناحية املنطقية ،يجد بوبر هذا املبد�أ ِّ ال بد �أن تبد�أ من مبادئ� .أو من بديهيات كما ت�سمى �أحياناً ،وهذه بدورها ال بد �أن تكون مقبولة وال دوغماطيقياً� ،إذا رغبنا يف تفادي ارتداد ال نهائي ،ارتداداً يعود �إىل واقعة تزعم �أننا حني قب ً نخ�ضع �صحة مبادئنا �أو بديهياتنا للنقا�ش العقالين ،ال بد من �أن نلتجئ جمدداً �إىل مبادئ �أو بديهيات .ويف العادة ,ف�إن �أولئك الذين يرون املوقف هكذا ـ كما يالحظ بوبر ـ فهم �إما �أن ي�ؤكدوا على �صدق �إطار من املبادئ �أو البديهيات ،و�إما �أن ي�صبحوا ن�سبويني :يقولون� :إن ثمة �أطراً ()15 خمتلفة ،ولي�س ثمة مناق�شة يف ما عقلية بينها ،وبالتايل ال خيار عقالنياً. هكذا تكون الأيديولوجيا ـ بح�سب البوبرية ـ هي الإطار� .أي ال�سجن الذي ال ميكن �أن تكون الر�ؤية فيه رائية بعقل .ف�إن خال�صة ما تذهب �إليه ت�أويلية بوبر للأطر ،هي �أنها مثل اللغات .قد 66
فكـــــر
تكون حواجز ،بل قد تكون �سجوناً .ولكن �إطار املفاهيم الغريب ،هو متاماً كاللغة الأجنبية ،لي�س البتة حاجزاً� .إننا ن�ستطيع اقتحامه ،متاماً كما ن�ستطيع الهروب الكبري من �إطار اخلا�ص ،من �سجننا اخلا�ص .وا�ستطراداً ـ من �إيديولوجيتنا �إذا كان لنا �أن نعينِّ ما يق�صده كارل بوبر يف هذا ال�ش�أن ـ ذلك �أن اقتحام ال�سجن امل�شار �إليه ـ على ما يبينِّ ناقد «�أ�سطورة الإطار» هو متاماً كاخرتاق حاجز يو�سع اللغة ،اقتحام ع�سري ،ولكنه ي�ستحق كل اهتمام وجهد وميكن �أن يكون لهذا اجلهد مردود ِّ ()16 �أفق العقل ،وي�ؤدي �إىل املتعـة. م� ِّؤديات �إيديولوجية ملقا�صد البوبرية
�إن حتول العلوم التجريبية �إىل قيم هو من امل�ؤ ِّديات املنطقية ل�سريورة الزمان التاريخي .وهنا عن�صر االت�صال التداويل بني القيمة والواقع .ف�إذا كان بوبر �سعى انطالقا من منهجه الأمبرييقي (التجريبي) �إىل الف�صل ،واعتبار التجربة معياراً للحكم على �صدق الفكرة �أو كذبها ،ف�إن ال�سياق امليداين ،الوقائعي ملنهجه �سيف�ضي �إىل التحول .بحيث ت�ستولد التجريبية قيمها و�أبنيتها الأخالقية� .سوف يظهر لنا م�سار االت�صال التداويل عرب ظاهرة دخول العامل يف ع�صر املعلومات؛ �إذ من ال�شائع الآن� ،أن يتم النظر �إىل تعاقب النماذج االقت�صادية منذ الع�صور الو�سطى باعتبارها حتددت كل منها بالقطاع امل�سيطر يف االقت�صاد ،حيث جت َّلى �أول مناذجها حني حلظات متمايزةَّ ، �سيطرت الزراعة وا�ستخراج املواد اخلام على االقت�صاد .ومنوذج ثانٍ حني احت َّلت ال�صناعة و�إنتاج املعمرة املوقع املتم ِّيز ،ومنوذج ثالث ،ي�شكل فيه توفري اخلدمات وتوظيف املعلومات قلب ال�سلع ّ الإنتاج االقت�صادي .وبالتايل ,ف�إن املوقع امل�سيطر انزلق من القطاع الأول� ،إىل الثاين ،فالثالث. وهكذا ينطوي التحديث االقت�صادي على االنتقال من النموذج الأول �إىل الثاين ،من �سيطرة الزراعة �إىل �سيطرة ال�صناعة .فالتحديث يعني الت�صنيع� .أما االنتقال من النموذج الثاين �إىل الثالث من �سيطرة ال�صناعة �إىل �سيطرة اخلدمات واملعلومات ،فمن املمكن �أن نطلق عليه ا�سم ()17 �شيوع ما بعد احلداثة� ،أو الدخول يف ع�صر املعلومات. �أما الكيفيات التي جتري فيها عملية التحول بني هذه النماذج الثالثة ،فهي �ستظهر عرب �سريورة من التعقيد؛ مع �أنها �ست�ؤول يف النهاية �إىل نظام حياة .فلقد د�أبت عمليات التحديث والت�صنيع على حتويل جميع عنا�صر امل�ستوى االجتماعي و�إعادة حتديدها .فحني جرى حتديث الزراعة ك�صناعة، حتولت املزرعة تدريجياً �إىل م�صنع ،بكل ما ينطوي عليه من ان�ضباط وتكنولوجيا وعالقات �أج ٍر وما �إليها .لقد َّمت حتديث الزراعة ك�صناعة ،وب�صورة �أعم� ،أ�صبح املجتمع نف�سه م�صنعاً� ،شيئاً ف�شيئاً، حتى على �صعيد حتويل العالقات والطبيعة الإن�سانيتني .يف �أوائل القرن الع�شرينَّ ،قدم روبرت مو�سيل �صورة جميلة عن حت ُّول الب�شرية ،يف �أثناء العبور من العامل الزراعي الرعوي �إىل م�صنع اجتماعي قائ ًال«:لقد انق�ضت �أزمان كان النا�س يعي�شون النمو فيها ب�صورة طبيعية ،ويندجمون 67
نف�سه� .أما بالظروف التي يجدونها يف انتظارهم ،وقد كان ذلك �أ�سلوباً �سليماً جداً؛ لأن ي�صبح املر ُء َ صوال عن الرتبة التي منا فيها ،فنجد الآن ،حيث كل هذا اخللط للأمور ،حيث ي�صبح كل �شيء مف� ً تخ�ص �إنتاج الروح ،با�ستبدال ا ِحل َرف اليدوية �أن املرء يكاد �أن يكون ُم ْل َزماً ،حتى يف الأمور التي ُّ ()18 التقليدية بنوع من الذكاء الذي يواكب الآلة وامل�صنع». وهكذا ،فلقد تعر�ضت عمليات التح ُّول �إىل ما هو �إن�ساين ،والطبيعة الإن�سانية نف�سها ،لتح ّول جذري يف �أثناء عملية العبور املعروفة با�سم :التحديث( .)...غري �أن التحديث هذا بات مهنياً، يف �أيامنا ـ كما يق ِّرر عدد من علماء اجتماع ما بعد احلداثة يف الغرب ـ .بعبارة �أخرى مل يعد الإنتاج ال�صناعي دائباً على تو�سيع دائرة �سيطرته على الأ�شكال االقت�صادية والظواهر االجتماعية الأخرى. ثمة َع َر ٌ�ض من �أ ْعرا�ض هذا التح ُّول يتجلى يف التغيرُّ ات الكمية على �صعيد اال�ستخدام .ففي حني �أن عملية التحديث كانت تحُ دِ ث هجرة للعمالة من الزراعة واملناجم (القطاع الأول) �إىل ال�صناعة (القطاع الثاين) ،ف�إن عملية �إ�شاعة ما بعد احلداثة� ،أو الدخول يف ع�صر املعلومات تتج َّلى عرب الهجرة من ال�صناعة �إىل اخلدمات (القطاع الثالث) .وذلك يف حت ُّولٍ جرى يف البلدان الر�أ�سمالية امل�سيطرة ،وخ�صو�صاً يف الواليات املتحدة منذ �أوائل ال�سبعينات .كان قطاع اخلدمات يغطي دائرة وا�سعة من الن�شاطات من الرعاية ال�صحية والتعليم واملال �إىل النقل وال�ضيافة والإعالن .وتكون الوظائف يف �أكرث الأحيان كثرية احلركة ،ومنطوية على مهارات َمرِنة .وما هو �أهم من ذلك �أنها متم ِّيزة ،عموماً ،بالدور املركزي الذي ت�ضطلع به املعرفة واملعلومات وامل�شاعر واالت�صاالت .ومن ()19 هذا املنطلق ،ف�إن كثريين يعتربون االقت�صاد ما بعد ال�صناعي اقت�صاداً معلوماتياً. لو تناهى لكارل بوبر �أن ثمة من �سيقر�أ �أطروحته بو�صفها احتما ًال �أيديولوجياًَ ،ل َ�سا َءه ما تناهى �إليه. فالرجل الذي غمرته الغبطة �سحابة عمره الفكري املديد ،باعتباره فيل�سوف التجربة ،لن ير�ضى ل�صفته هذه من تبديل .لكن البوبرية التي �ستجري جمرى عمليات التحول التاريخي وتطوراته تتجمد لدى الت�صنيف الإرادوي مل�ؤ�س�سها .ف�إنها ككل نظرية �أو فكرة ال منا�ص لها، لن ت�سكن �أو َّ حني تتم�أ�س�س (من م�ؤ�س�سة) �أو تنتظم (من نظام) ،من �أن تلج حقول التوظيف .ولأن البوبرية نظرية ِّ مت�شكلة من جمموعة �أفكار ،ف�إنها تريد �أن تقول �شيئاً ما� .أي �أنها ذات غائية �سوف ي�شهد عليها� ،أو لها ،احلقل الذي ت�شتغل فيه .عنينا به حقل التجربة؛ �إذ من هذا احلقل بالذات� ،سيظهر لنا بعد املعاينة ،درجات �صدق البوبرية �أو كذبها .ذلك بال�ضبط ،ما ذهب �إليه بوبر ب�شغف نادر. وهو ال�شيء نف�سه الذي �سيكابده طيلة حياته الفل�سفية .لقد �سبق و�أ�شرنا �إىل مذهب بوبر القائل ب�أن �إثبات علمية �أي نظرية ،ي�ستلزم انطواءها على قابلية التكذيب .وب�صورة موجزة لأطروحته ,ف�إن كل نظرية ت�ؤدي بال�ضرورة �إىل نتائج مع َّينة� ،سواء كانت ذهنية �أو جتريبية .ف�إذا كانت هذه النتائج كاذبة ت�صبح النظرية كاذبة .وال�سبيل امل ّتبع للتكذيب �أو الت�صديق �إمنا مير عرب معاينة النتائج .وعلى 68
فكـــــر
هذا �ستتعني ثورة بوبر يف فل�سفة العلم يف �أنه نقل الأحكام من ح ِّيز القيمة �إىل ح ِّيز الواقع ،ومن ح ِّيز الذهن �إىل ح ِّيز اخلارج ،ومن العقل املجرد �إىل دائرة املعاينة واالختبار. لكن ،كيف ت�سللت الأيديولوجيا التي ذ َّمها بوبر بقوة� ،إىل قلعته الفكرية ال�صارمة؟ قبل البحث يف �أ�سباب هذا ال�س�ؤال ل َرنكيف م�ضت البوبرية �إىل «�أدجلة» نف�سها ،من خالل ت�سييل فل�سفتها للعلوم يف التاريخ االجتماعي وال�سيا�سي للعامل املعا�صر. م�ؤ َّدى املجتمـع املفتـوح
َّ �شكلت مقولة املجتمع املفتوح الباب العايل للدخول يف عمليات الت�سييل .فهي مقولة �سو�سيوـ تاريخية بامتياز .ثم �إنها غري بعيدة من حقول اال�سرتاتيجيات ال�سيا�سية .بل هي يف موقع القلب منها .تقوم هذه املقولة ـ بح�سب كارل بوبر ـ على رف�ض مفهوم التغيري اجلذري كما فهمه �أفالطون ومارك�س؛ �أي ذلك التغيري املنطلق من ال�صفر .حيث ُيعاد بناء املجتمع على �أ�س�س جديدة عما �سبق .و�سي�شري وا�ضع املقولة �إىل �أن التقاليد وامل�ؤ�س�سات ال�سائدة هي قيمة خمتلفة كلياً ّ حياتية براغماتية؛ لأنه من دونها ال ي�ستطيع الأفراد �أن يقوموا ب�أدوارهم االجتماعية املتوقعة منهم. وبالتايل ,ينهار �صرح الن�شاط االجتماعي كله .فمهما بلغت م�ساوئ النظام القائم ،فهو ال ينفك عن �أن يكون نظاماً تندرج احلياة االجتماعية حتت لوائه منذ مئات ال�سنني ،ذلك على النقي�ض من احللول الثورية الطوباوية التي تغامر بن�شر الفو�ضى والدمار م�ستخدمة مفاهيم �أخالقية جمردة ()20 كالعدالة (�أفالطون) وامل�ساواة (مارك�س). مل تكن فكرة املجتمع املفتوح عند بوبر� ،آتية من فراغ .فلقد اب ُتنيت هذه الفكرة على �سريورة تطور تاريخي واجتماعي واقت�صادي ،وثقايف .وكانت احلداثة يف �أطوارها املت�أخرة باعثتها �إىل جمال التداول. ومنذ بداية الن�صف الثاين من القرن املن�صرم ،حيث ال�صدام مع التوتاليتارية ي�أخذ مداه العميق عدد دانيال بل بني ال�شرق والغرب ،جرى تعيني املوا�صفات النظرية لفكرة املجتمع املفتوح .لقد ّ يف معر�ض حتليله للتحوالت االجتماعية التي �أطلقتها التكنولوجيا ،خم�سة جماالت رئي�سة للتغيري: ب�إنتاج مزيد من الب�ضائع بتكلفة �أقل� ،أ�صبحت التكنولوجيا الآلة الرئي�سية لرفع م�ستويات املعي�شة يف العامل. ا�ستولدت التكنولوجيا طبقة جديدة مل تكن معروفة من قبل املجتمع ،قوامها املهند�س والتقني... �أنتجت التكنولوجيا تعريفاً جديداً للعقالنية و�أ�سلوباً جديداً للتفكري ي�ؤكدان على العالقات الوظيفية والكمية. 69
�إن الثورة يف النقل واالت�صاالت التي ترتبت على التكنولوجيا و َّلدت �شك ًال جديداً من االعتماد االقت�صادي املتبادل والتفاعل االجتماعي اجلديد. ()21 تبد َّلت ب�شكل جذري املفاهيم اجلمالية وبوجه خا�ص بالن�سبة �إىل الزمان واملكان. بالن�سبة لكارل بوبر ف�إن املجتمع املفتوح الذي �سيتبلور على يديه� ،سريتكز على منظومة قيم, ي�شكل العلم ومنجزاته حمورها املركزي .ومن الوا�ضح �أن مفهومه لهذا النوع من املجتمعات، يحوي عنا�صر نظرية و�أخالقية وبراغماتية من�صهرة يف ما بينها يف �شدة .فلو �أردنا فهم نقده للكلية لتوجب �إدخال مبد�أ الفردية الإن�سانية ،وهي عقيدة �أخالقية وت�شديده على دور الأفراد يف املجتمع ّ تقول ب�أولوية الفرد وحاجاته الأ�سا�سية على �أي بنى �أو نظم كلية؛ كذلك تف�ضيل بوبر للدميقراطية على ما عداها من �أ�شكال ال�سلطة ي�صب يف خانة احلفاظ على �أرواح الأفراد برف�ضه للعنف كو�سيلة للتغيري االجتماعي( )...ومن اخلال�صات التي تف�ضي �إىل املجتمع املفتوح وت�ؤ�س�س له هي االعتقاد ب�أن العامل االجتماعي لي�س حمكوماً بال�ضرورة ب�أن يبقى �أ�سري معايري �أيديولوجية� ،أخالقية و�سيا�سية ،متنعه من الر�ؤيا ال�صحيحة ،و�أن الدواء ال�شايف لل�ضباب الأيديولوجي هو االنفتاح على كل املقاربات والأطر املفهومية والنظرية من دون االلتزام امل�سبق ب�صحة � ٍأي منها ( )...لكن بلوغ هذا الأمر ،لي�س ي�سري املنال ـ كما يالحظ الباحثون يف البوبرية ـ ذلك �أن ثمة عوائق نف�سية و�أخالقية و�سيا�سية متنع الكثريين من االقرتاب من املو�ضوعية املرجوة� .إ َّال �أنَّ ذلك ال يعني �أن ()22 عامل االجتماع �أو امل�ؤرخ هو يف و�ضع مي�ؤو�س منه من طلب احلقيقة االجتماعية والتاريخية. َّ لعل من مفارقات البوبرية يف تنظريها للمجتمع املفتوح ،ذلك التناظر بني الدعوة الفل�سفية �إليه، وقياماته الفعلية يف زمن ما بعد احلداثة� ،أو ما اتفقنا على ت�سميتها بالزمن التكنو ـ �إلكرتوين وع�صر املعلومات. كان بوبر ي�ساجل النظريات التوتاليتارية ليدفع بنظريته نحو دائرة ال�ضوء ،بينما كانت �سريورة بخطى ت�صاعدية هائلة الختزال الزمان واملكان .كانت هذه ال�سريورة حركة ر�أ�س املال تتوثَّب ً معقَّدة �إىل �أعلى درجات التعقيد ،ومل يفلح التحليل التاريخاين املارك�سي ب�صيغته ال�سوفياتية يف مقاربة دقيقة ذات معرفة مطابقة باملايحدث .ولقد �أ�شار بريجن�سكي يف كتابه ال�شهري الذي و�ضعه يف بداية ال�ستينات« .بني ع�صرين» (� )Between Two Agesإىل ذلك بالقول� :إن حداثة العالقة الأمريكية بالعامل ـ املعقدة والوثيقة ـ �ستبينِّ ف�شل التحليالت الأرثوذك�سية ،وبخا�صة املارك�سية حول الإمربيالية ،من الإحاطة بها .ذلك �أن ر�ؤية هذه العالقة باعتبارها تعبرياً عن دافع �إمربيايل فح�سب ،معناه جتاهل اجلزء الذي يلعبه فيها البعد احليوي للثورة التكنولوجية ـ العلمية .فهذه الثورة ال ت�أ�سر خيال الإن�سانية فح�سب ( من الذي ال ميكن �أن يح ِّركه م�شهد الإن�سان وهو يط�أ بقدميه �سطح القمر؟) و�إمنا ال مفر من �أن تدفع �أي�ضاً من هو �أقل تقدماً لتقليد الأكرث تقدماً ،وتن�شط 70
فكـــــر
ت�صدير التقنيات اجلديدة واملناهج اجلديدة ،واملهارات التنظيمية من الثانية �إىل الأوىل». ي�ضيف بريجن�سكي»:ال �شك يف �أن ذلك ي�ؤدي �إىل عالقة غري مت�ساوية ،ولكن حمتوى عدم ()23 الت�ساوي هذا ،يجب �أن ُيفح�ص قبل �أن ُي�سمى �إمربيالية». يف الت�سعينات حدث ما ي�شبه الإع�صار .انتهت احلرب الباردة �إىل انت�صار �أمريكي �ساحق .ثم �إىل تفكك متدرج للإمرباطورية ال�سوفياتية ومالحقها يف �أوروبا ال�شرقية .ثم �إىل ميل �إجمايل لدى تلك الدول وال�شعوب نحو «لربلة» اقت�صاداتها و»دمقرطة» جمتمعاتها ال�سيا�سية .وتبينَّ لليربالية ومنظ ِّريها �أن الأيديولوجيا امل�سلحة برت�سانات الرعب النووي ،قد حكمت على نف�سها بال�ضمور واملوت .التنظري الفل�سفي ال�سيا�سي الأمريكي هو الذي َّ ا�ستهل تو�صيف الزلزال العاملي ،ور�سم له �أحداثه و�آفاقه ودالالته الرمزية؛ وذهب امل�شتغلون فيه �إىل �أن اال�ستعداد للقرن احلادي والع�شرين ي�ستلزم ت�صفية ما تبقّى من �شوائب القرن الع�شرين .وهي ت�صفية �ضرورية لكي ي�سرتيح «الإن�سان الأخري» على حد تعبري نيت�شه ،من �أغالل اال�ستالب وال�ضعف ومن �صراعات ال طائل حتتها. ولئن كان بول كينيدي امل�ؤرخ واالقت�صادي الأمريكي ،قد عالج �صورة العامل بطريقة دائرية� ،شمولية، معترباً �أن النظامني ال�سوفياتي والأمريكي قاما معاً و�سي�سقطان معاً ولو مب�سافة زمنية مع َّينة بني كل منهما ،ف�إن فرن�سي�س فوكوياما راح بعيداً يف �إ�ضفاء بعدٍ فل�سفي وجودي على االنت�صار ال�سيا�سي للدميقراطية الأمريكية .لقد �سبق وقر�أناه يف مقدمة مقالته ال�شهرية «نهاية التاريخ» يقول� :إن القرن الع�شرين �شهد على �أن العامل املتقدم يغرق يف ذروة العنف الأيديولوجي .كان ال�صراع الأول بني الليربالية و�آخر قواعد اال�ستبداد ،ثم �ضد البل�شفية والفا�شية ،و�أخرياً �ضد املارك�سية املحدثة التي كانت تهدد بجر العامل �إىل نهايته يف حرب نووية .ولكن هذا القرن ،الذي كان يف بداياته واثقاً بانت�صار الدميقراطية الليربالية الغربية ،يبدو �أنه يف نهايته �سيعود ليختم الدولة الكاملة� ،إىل حيث انطلق لي�س �إىل «نهاية الأيديولوجيات� ،أو �إىل التالقي بني الر�أ�سمالية واال�شرتاكية ،كما جرى التنبوء �سابقاً ،ولكن �إىل انت�صار �ساحق لليربالية االقت�صادية وال�سيا�سية ( )...فانت�صار الغرب ـ بر�أي فوكوياما ـ �أو املثال الغربي ظهر يف البداية يف مقولة �أن النظام القابل للحياة الذي ي�ستطيع �أن يحل حمل الليربالية الغربية قد فقد �أمله متاماً يف الوجود .فخالل ال�سنوات الع�شر الأخرية (من القرن املن�صرم) �شهدنا تغيريات بارزة يف املناخ الفكري لأكرب بلدين �شيوعيني يف العامل .كما �شهدنا بداية حركات �إ�صالحية يف هذا البلد �أو ذاك .وهذه الظاهرة تتجاوز املجال ال�سيا�سي وميكننا �أن نالحظ ذلك يف االنت�شار الكبري لثقافة اال�ستهالك الغربية .الأ�سواق الفالحية ـ بيع �أجهزة التلفاز امللونة يف ال�صني ،املطاعم التعاونية ودور الأزياء التي فتحت وا�ست�شرت يف مو�سكو ـ مو�سيقى بيتهوفن يف املخازن اليابانية ،وع�شق الروك الذي اجتاح ك ًال من براغ ورانغون وطهران ( .)...ثم ير�سم ِّ املنظر الأمريكي من �أ�صل ياباين خال�صة اجتاه العامل عندما يعترب �أن الذي ن�شاهده لي�س فقط نهاية احلرب الباردة� ،أو نهاية حقيقية خا�صة بعد احلرب بل نهاية للتاريخ بالذات� .أي نهاية التطور الأيديولوجي للب�شرية كلها ،وتعميم الدميقراطية ـ الليربالية الغربية ك�شكل نهائي لل�سلطة على الب�شرية جمعاء. 71
مـ�ؤ َّدى الداروينيـة
لكن ما �صلة هذا التنظري بالأطروحة البوبرية؟ مي�ضي كارل بوبر يف �سياق رحلته الفل�سفية لبلورة فكرة املجتمع املفتوح� ،إىل االتكاء على جملة من نتائج نظرية الن�شوء واالرتقاء الداروينية .مل يكن هذا املنحى بالن�سبة �إليه جمرد نزوع ر َّتبته مدافعاته عن جمتمعه امل�ؤ َّمل يف وجه الر�ؤى واملطارحات الأفالطونية واملارك�سية ,و�إمنا ق�صد �إىل جعل الداروينية واحدة من الأعمدة الأ�سا�سية الت�أ�سي�سية لأطروحته .و�أما الوجهة التي اعتمدها يف التوظيف ,فهي جلهة فاعلية التغيريات اجلزئية التدريجية يف احلفاظ على وجود الأنواع احليوية وا�ستمرارها ,مقابل القفزات املت�سارعة يف البنية الوراثية والتي غالباً ما ت�ؤدي �إىل ت�شويه يف العالقة بني النوع احليوي وحميطه يكون قا�ضياً بالن�سبة للأول .وتقوم املقارنة البوبرية ,على اعتبار جمتمع ب�شري معني ,مثل حيوان قابل للتطور نتيجة تغيريات داخلية تطر�أ على بنيته االجتماعية ,متاماً كما يتطور احليوان بفعل ما يطر�أ على بنيته ( )...ولقد ع َّلق باحثون على هذه النقطة بالذات� .إن التجاء بوبر �إىل نظرية التطور الدارويني لي�س تربيراً مو�ضوعياً لأهلية املجتمع املفتوح ،و�إمنا عم ًال ()24 دعائياً لت�أييد غاية �أو قيمة اجتماعية معينة هي الالعنف. �سوف يكون من �ش�أن فل�سفة بوبر املب َّينة ،خ�صو�صاً ،يف «منطق الك�شف العلمي» �أن تقود �صاحبها �إىل االت�صال احلميم بنظرية الن�شوء واالرتقاء الداروينية ,ومن خاللها �سوف ين�ش�أ التوظيف الأيديولوجي والثقايف النت�صارات الأمركة ،كما �سرنى الحقاً� .إن هذا االنقياد املنطقي من جانب بوبر باجتاه داروين ,جرى بطريقة تطورية متاماً كمنطق الداروينية يف ر�ؤيتها للوجود والطبيعة. تقوم الداروينية على افرتا�ضني �أ�سا�سيني هما� :أن الكائنات احل َّية عرفت تطوراً عرب الزمن بد�أ باملخلوقات ذات اخللية الواحدة ،و�أف�ضى �إىل الكائنات الأخرى مبا فيها الب�شر ،و�أن جممل هذه العملية التطورية املعقدة من �أب�سط املخلوقات �إىل �أكرثها تعقيداً هي نتاج لقانون البقاء للأ�صلح، والت�أقلم يف �سبيل البقاء؛ ذلك �أن كائناً حياً ال يت�أقلم مع حميطه ،ال ميكنه البقاء طوي ًال والإكثار من نوعه بوا�سطة الإجناب .فتكون النتيجة �أن املخلوقات ال�صاحلة؛ �أي القادرة على الت�أقلم ومن ثم ()25 الإجناب ،هي الوحيدة املر�شحة للبقاء واال�ستمرار ك�أنواع �إن مل يكن ك�أفراد. لكن ،كيف ح�صل ذاك االت�صال احلميم ,لكن املعقَّد بني تطور العلوم عند بوبر وتطور الأحياء عند داروين؟ ثم على �أي ن�سقٍ منطقي و�ضع بوبر هذين التطورين ويف �أي �سياق �سيوظفها؟ يرى بوبر� ,أن مبد�أ الداروينية القائم على منطق التجربة والق�ضاء على اخلط�أ ,ما هو �إ َّال تعميم ملنطق االكت�شاف العلمي؛ حيث ينطلق العامل من م�شكلة حمددة قيد الدر�س� ،إىل نظرية موقتة حللها، �إىل التجربة العمالنية الختبار النظرية� ،إىل م�شكالت عملية جديدة ناجتة من التقييم النقدي للم�ضمون االختباري للنظرية(� )...إن عملية التقييم هي �إذن ،دائماً عملية نقدية ،وهدفها هو 72
فكـــــر
اكت�شاف و�إزالة الأخطاء .ثم �إن منو املعرفة �أو فعل التع ُّلم لي�س عملية تكرارية �أو تراكمية ,بل هو �إزالة للخط�أ .وبالرغم من كون هذا و�صفاً ملنطق منو املعرفة املو�ضوعية ،ف�إنه ينطبق �أي�ضاً على التطور البيولوجي( )...ينطلق بوبر �إذن ،من منطق املعرفة املو�ضوعية ،كما ي�صفه ،كفعل نقدي م�ضاد للدوغمائية والتكرارية ،فيجعل من القفزات االبتكارية اخل ّالقة القا�سم امل�شرتك بني منو العلوم وتطور الكائنات احل ّية؛ حيث ال ي�أتي اجلديد �سواء يف املعرفة �أم يف الأع�ضاء احليوية نتيجة ت�أقلم عما �سبق( )...وهكذا ،ف�إنَّ املقارنة تكراري مع املحيط ،و�إمنا كفعل بزوغ وانبثاق ملا هو خمتلف ّ التي يقيمها بوبر بني منطق االكت�شاف العلمي من جهة ومنطق التطور احليوي من جهة ثانية، ت�ؤدي به �إىل �إعادة �صياغة للمبادئ الداروينية من دون التخلي عن جوهرها( )...ول�سوف يظهر لنا، �أن املنطق الإ�شكايل التطوري الذي يراه بوبر �سمة م�شرتكة بني ن�شوء الأنواع احليوانية وارتقائها، ومنو املعرفة الب�شرية وتطورها ،لي�س جمرد �إ�سقاط� ،أو تطبيق ملقوالت الداروينية على مفهوم املعرفة, فها هو يبينِّ يف كتابه «املعرفة املو�ضوعية» �أن املهمة الرئي�سية لنظرية املعرفة الإن�سانية ,هي فقه هذه املعرفة كا�ستمرار للمعرفة احليوانية�« ...إن نظرية املعرفة التي �أود اقرتاحها ،ـ يقول بوبر ـ هي يف ()26 الدرجة الأوىل نظرية داروينية يف منو املعرفة». على هذا النحو ر�أينا كيف ذهب بوبر �إىل داروين ،ليتمثل منطقه التطوري .ويقرتح علينا ،يف ما ي�شبه االعتقاد ،نظرية للمعرفة تطابق الداروينية يف منو املعرفة .لكننا �سرنى يف ما بعد كيف �أن الت�سل�سل املنطقي القرتاح من هذا النوع� ،سيف�ضي �إىل ر�ؤية متكاملة لتطور االجتماع الب�شري, تتكئ ب�شكل جذري على نظرية الن�شوء واالرتقاء� .أي على مبد�أ الوجود للأقوى وللمقتدر، وا�ستطراداً للذي عرب قوته واقتداره لن يف�سح يف املجال للخط�أ ،بل �إنه يجعل اخلط�أ خارج دائرة الذات فيلقيها ,يف دائرة الآخر ويجعل من �ضعفه خط�أ وجودياً ينبغي �إزالته. لقد �أخذ اجلدل حول نظريات التطور مدياته الوا�سعة يف خالل الأطوار املت�أخرة للحداثة الغربية. فلو عقدنا مقاربة عجولة بني تيارين فل�سفيني ،الأول ميثله الفرن�سي روجيه غارودي والثاين الأمريكي بول كنيدي ,يت�ضح جانب مهم من �صورة ذلك النوع من اجلدل .ير�صد غارودي ـ مثل كنيدي وقبله ب�سنوات -التحوالت التي يحدثها التحديث الثقايف اليربنطيقي (تقنيات االت�صال) يف بنية القوى املنتجة وعالقات الإنتاج .وهو ي�ستدل باجلداول الإح�صائية وامل�ؤ�شرات البيانية املتوافرة يف حقبته على التنامي املت�سارع الوتائر لأ�صحاب الياقات البي�ض ,يف مقابل الهبوط املت�سارع لأ�صحاب الياقات الزرق ,والعمال اليدويني بوجه عام مبن فيهم العاملون يف الزراعة .ثم يبينِّ �أن ال�صناعات امل�ؤمتتة ( )Robotised Industryوالآالت الذكية هي �آالت طاردة للعمالة الأمية ،وهي ت�ستدعي الذكاء �إىل مواقع الإنتاج والإدارة والتخطيط والربجمة؛ �أي �أنها تتطلب �أعداداً ال تكف عن التزايد من املهند�سني والفنيني. يرتجح يف وعيه لكن عند مف�صل الت�سامي؛ �أي يف حمطة الغايات والقيم ،يفرتق غارودي الذي َّ الأممي املتداخل بالروحانية امل�سكونية� ،أو بال�صوفية الكونية ،عن كنيدي الذي يتك َّون وع ُي ُه من 73
روافد نفعية براغماتية طاردة للروح واملعنى واملثال .الأمر الذي ي�ضفي على ِّن�صه ملمحاً و�صفياً و�ضعياً يجتهد يف متثيل الواقع املعطى ،وال يتخطاه يف الأغلب ب�أداة الفكر النقدي� .إن كنيدي مث ًال ،يق�صر معاجلته ملفاعيل الهند�سة الوراثية على الإنتاج الزراعي� ،أما غارودي ،املعني بجدلية الإن�سان ـ الإله واملخلوق ـ ِّ فريكز النظر على �أثر الهند�سة الوراثية الأخطر يف تكوين الإن�سان نف�سه؛ ذلك «�أن الأهداف البعيدة لعلم احلياة هي تركيب احلياة ,والأخذ بقيادة تطور الأنواع»(.)27 �إن هذا يعني كما يالحظ الباحثون ـ �أن عملية الن�شوء واالرتقاء ح�سب داروين ،مل تعد مرتوكة لقانون التطور التدريجي� ،أو التحول الفجائي النوعي ( )Mutationالذي يتم بطريق امل�صادفة، و�إمنا بات خا�ضعاً ٍ واع .وهذا يطرح على جدول الأعمال اليومي املبا�شر الت�سا�ؤل« :على جلهد ٍ �أية �صورة يريد الإن�سان �أن يخلق نف�سه من جديد؟ �أين يتعلم املرء مهنة اهلل ـ �إن الإن�سان ـ يقول غارودي ـ مل يعد ذلك التطور الواعي لذاته ،فح�سب ،بل هو على الطريق لأن ي�صبح املتطور ال�سيد لذاته� ،أي �أن ي�صبح �أحد عوامل التطور ،وقادراً على توجيه الوراثة ،وعلى التوجيه ()28 البيولوجي لطاقات الفرد». عند هذه النقطة ميتد ال�سجال بني تيارات احلداثة البعدية ،لتنجلي مع �صعود «الأمركة» الإحداثيات الأوىل لظهور الداروينية االجتماعية .وهي نف�سها الداروينية التي �ست�ؤ�س�س لها فل�سفة بوبر يف �سياق ما ي�سمى بالعقالنية النقدية. فعلى الرغم من �أن مرجعية كنيدي الرباغماتية الأمبرييقية الغالبة �ست�ستبعد امل�ساءالت الفل�سفية حول غايات الإنتاج واغرتاب املنتجني ،وتكتفي مبعايري الفاعلية والنجاعة ،ف�إنه مي ِّيز بني ر�أ�سمالية عاقلة هي املناف�سة احلرة الطاردة لالحتكار والتمركز ،الداعية �إىل ال�سلم ك�شرط الزدهار التبادل التجاري احلر بني الأمم على قاعدة امل�صلحة العقالنية ،وهذه هي ر�أ�سمالية امل�ؤ�س�سني الربيطانيني بدءاً ب�شيخهم �آدم �سميث والليرباليني الأمريكيني الكبار ،جفر�سون وويل�سون ،وجاك�سون، وروزفلت ،وبني ر�أ�سمالية غري عاقلة .وهي الر�أ�سمالية االحتكارية التي تتوىل �إدارة النظام العاملي اجلديد .وهي نف�سها التي �سعت �إىل نقل فل�سفة داروين الطبيعية �إىل امليدان االجتماعي وتعميمها على م�ستوى الكرة الأر�ضية ،مو�سعة اله ّوة بني الطبقات على ال�صعيدين القطري والعاملي ودافعة ()29 بالتناق�ضات االجتماعية الطبقية والفوارق الثقافية العرقية �إىل حدود االنفجار. ويبدو كنيدي مدركاً للتناق�ض بني « عقالنية ال�سوق» و «العدالة االجتماعية» ,وهو تناق�ض ال ميكن �أن ُيحل يف �إطار النظام الر�أ�سمايل يف ر�أي غارودي( )...ويف حني يتجه كنيدي و�إن على نحو َع َر�ضي �إىل نقد الرا�سمالية الأ�صولية التي اعتادت تربير الهيمنة الإمربيالية الأمريكية باملزاعم البالغية القائلة مبميزات �أخالقية خا�صة بالأمريكيني ،وبدور قيادي عاملي �أوكله القدر للأمة الأمريكية» ..ف�إنه يرفع الغطاء عن االنحيازات العرقية املت�ضمنة يف الداروينية االجتماعية()... وهكذا يعر�ض كنيدي �إىل تاريخ العنف الع�سكري الأمريكي املديد �ضد قوى �أوروبية جتمعها 74
فكـــــر
ب�أمريكا �أ�صول ثقافية ـ �سيا�سية م�شرتكة .حيث ي�شف ن�ص كنيدي عن القناعة ب�أن �سيا�سة الرئي�س رونالد ريغان افتتحت الرتجمات الأ�صولية َّ الفظة للداروينية االجتماعية ،وهي �إحدى �أخطر ()30 االنحرافات عن قيم الثورة الأمريكية. «�أدجلـة» البوبريـة الداروينيـة
ر�أينا كيف وجدت عقالنية بوبر النقدية يف الداروينية �أحد �أهم م�صادرها املعرفية .لكنها �ست�ؤول مع الثورة التكنو ـ �إلكرتونية التي حملت الأمركة �إىل عر�ش العامل مع نهاية القرن الع�شرين� ،إىل متك�أ فل�سفي �سيا�سي اجتماعي وا�ضح املعامل والغايات� .إن �أهم حتول بلغته الأمركة على هذا ال�صعيد� ،إمنا يتمثل يف انقالبها �إىل م�شروع برجمة حل�ضارة كاملة ،منذ بدايتها الأوىل .و�سوف يتم التغني بها ،على �أنها الطريقة الأمريكية للحياة .غري �أن هذه الطريقة �سوف تتحول �إىل �أيديولوجيا تنجح يف التخل�ص من كل �إحباطات الأيديولوجيات التقليدية يف القارة الأوروبية الهرمة؛ ذلك �أنها تخ�شى من حتديد هدفها من دون �أية �أقنعة فكرية �أو �أخالقية ،ت�سميه النجاح دفعة واحدة. ذلك �أن مذهب املنفعة ،العريق يف منبته الأنغلو�ساك�سوين يتطور �إىل عملية النجاح املتداولة يف ور�شة العمل التي يتطلبها بناء �أ�سطورة العامل اجلديد( )...هكذا حتقق «الأمركة» ،بالن�سبة لنواتها الأوىل املنحدرة عنها التي هي «الغربنة» ،تقدماً «معرفياً» �أنطولوجياً ،انطالقاً من تخ�ص�ص «الغربنة» ب�إنتاج الإيديولوجيات ،وحت�صر فاعليتها يف �إنتاج القولبة نف�سها .فهي لن تكون ح�ضارة ال�صراع بني النماذج ،كما هو حال تاريخ امل�شروع الغربي يف مرحلته الأوروبية ،لكنها �سرتفع جهدها �إىل م�ستوى القولبة نف�سها .فهي �صانعة القولبة فح�سب ،وال يهمها بعد ذلك ماذا �ست�صنع هذه القولبة من مناذج لن ت�شغل �إ َّال ح ِّيزاً وم�ستوى من الدرجة الثانية .فالتخ�ص�ص يف «القولبة» ـ �أي ت�شكيل الأو�ضاع وفقاً ملنفعة ِّ امل�شكل و�إلزام الآخر بها �أو تكييفه معها بالقوة ـ �إمنا هو اكت�شاف معريف كبري يحمي �صاحبه من التورط يف تبني �إحدى� ،أو بع�ض �إنتاجاتها دون �سواها ،من مناذج و�إيديولوجيات متنوعة. فالقولبة ،هي �أ�صولية بدون م�ضمون حمدد �أو ثابت� .إنها �شكلية الأ�صولية من دون �أن تتمثَّل �أ�صولية هذا املذهب �أو ذاك .وهذا يعني ـ كما يبينِّ نقّاد الليربالية املفتوحة ـ �أن الأمركة لي�ست جتديداً لليهودية واحتادها بالتطهرية الربوت�ستانتية ،بالرغم من انحدار �أرومتها الإيديولوجية منها .بل كل ما يهمها منهما معاً ،اال�ستفادة الدائمة عرب تطورات امل�شروع الأمريكي ،من �أ�صوليتهما)...(. من هنا ,ميكن �أن نفهم ملاذا حتر�ص لغة الإعالم اليومية على طرح الأمركة باعتبارها جمرد طريقة حياة ,فهي يف واقع الأمر تلك الطريقة التي ال تناف�س طرق احلياة لل�شعوب واحل�ضارات الأخرى، بل جتعلها غري ذات مو�ضوع جميعها� .إنها ُتبطل جدارتها بعني ذاتها� .إنها «القولبة» التي تد ِّمر م�ضامني القوالب الأخرى .لكن تدمري قوالب الآخرين ال يعني جتريدهم من هوياتهم العرقية �أو 75
احل�ضارية فح�سب ،بل �إن مثل هذه املناورة هي ما مييز جتاوز «الأمركة» لـ»الغربنة» بالذات()... و�إن ذلك ما �سمح للر�أ�سمالية الأمريكية �أن تقفز قفزاتها الكربى يف الن�صف الأول من القرن الع�شرين ،من دون اال�صطدام الدائم بالعقبات التقليدية التي كانت تواجهها يف وطنها الأول ()31 �أوروبا. مل تن�أَ فل�سفة كارل بوبر من حقول «الأمركة» .بل هي �ستدخل �إىل قلب احلداثة البعدية دخول الفاحت ،بعدما ر�أى �صاحب الأطروحة باملعاينة كيف �آلت دعواه �إىل �أن ت�صبح منط حياة .غري �أنه ، على غالب الظن مل يكن ليتوقع نب�أً �سعيداً ،مما بدا له من �آثار االنت�صار ال�ساحق لليربالية املفتوحة. فالوجه الأخالقي الذي ر�سمه ب�إتقان على طريقة املدن الفا�ضلة ،ما لبث �أن انطوى على تلك «الذئبية» التي �سبق َّ وحذر منها توما�س هوبز �أيمَّ ا حتذير. ذلك ما عبرَّ عنه واحد من تالميذه النجباء وهو جورج �سورو�س (املتمول الأمريكي العاملي و�أحد �أ�سياد العامل اخلم�سني) منذ بداية ت�سعينيات القرن الع�شرين من �أن «خطر ال�شيوعية مل يعد هو العدو الرئي�سي لليربالية ،بل �إن خطر الر�أ�سمالية نف�سها هو العدو احلقيقي .غري �أن �سورو�س وهو ينقد ما �سعى �إليه و�أجنزه باقتدار باجتاه �سيطرة الليربالية اجلائرة ،كان ي�شتغل على وجوب �إ�صالح اختالالتها وعيوبها .وقد يكون من ح�سن طالع الفكر الليربايل ،الذي �أ�س�ست البوبرية لتجلياته املت�أخرة يف �أمريكا �أنه ا�ستخدم �سالح النقد ملنجزات الليربالية املفتوحة لكي يعيد �إنتاج �آليات ال�سيطرة الر�أ�سمالية ونظام ال�سوق .وب�صرف النظر عما تك�شفه هذه املقا�صد من حقائق ،وال �سيما حقيقة حتويل الفكر الليربايل الدميقراطي �إىل �أيديولوجيا خادعة ،ف�إن ا�ستخدام هذا ال�سالح �سي�ؤدي ،على ما يظهر ،الأغرا�ض التي ترنو �إليها الليربالية املفتوحة وفق قاعدة بوبر «دعه يفعل ..دعه مير» .ولقد بدا وا�ضحاً �أن «التقانة» التي �أم�ست واقعاً م� ِّؤ�س�ساً حلياة جديدة لإن�سان القرن الواحد والع�شرين ،ف�إن منجزها هذا مل يكن ليتم على النحو الذي َّمت فيه لوال الرداء الأيديولوجي ال�صارم الذي وجد مرجعيته الفكرية والفل�سفية والدينية مع توليِّ الربوت�ستانتية احلادة قيادة النظام العاملي.
76
فكـــــر
الهوام�ش: K.R. Popper, Objective Knowledge, the Clarendon press, Oxford, 1972, p.1
2
3 4 5
1
زبيغنيو بريجن�سكي ،بني ع�صرين� :أمريكا والع�صر التكنوتروين ،ترجمة وتقدمي حمجوب عمر ،الطبعة ،1 دار الطليعة ،بريوت� ،1980 ،ص.29 مينى طريف اخلويل ،جملة وجهات نظر ،العدد � ،43آب (�أغ�سط�س).2002 ، مينى طريف اخلويل ،م�صدر �سابق. كارل بوبر ،منطق الك�شف العلمي ،حتقيق ماهر عبد القادر حممد علي ،دار النه�ضة العربية ،بريوت، �ص.29 K. R. Popper, The logic of Scientific Discovery, Hutchinson of London, London, p.27.
6
Ibid, p.31.
7
8منطق الك�شف العلمي ،م�صدر �سابق� ،ص.38 9راجع :منطق الك�شف العلمي ،م�صدر �سابق� ،ص 36ـ .40 1 0كارل بوبر� ،أ�سطورة الإطار :يف دفاع عن العلم والعقالنية ،حترير مارك �أ .نوترنو ،ترجمة :مينى طريف اخلويل� ،سل�سلة عامل املعرفة ،العدد 292ـ الكويت � ،2003ص.122 � 11أ�سطورة الإطار :يف دفاع عن العلم والعقالنية ،م�صدر �سابق. 12كارل بوبر� ،أ�سطورة الإطار ،امل�صدر نف�سه� ،ص.161 1 3كارل بوبر ،ب�ؤ�س الأيديولوجيا :نقد مبد�أ الأمناط يف التطور التاريخي ،ترجمة عبد احلميد �صربه ،دار ال�ساقي ،لندن� ،1992 ،ص.93 14كارل بوبر ،ب�ؤ�س الأيديولوجيا ،م�صدر �سابق� ،ص.163 15راجع :كارل بوبر� ،أ�سطورة الإطار ،م�صدر �سابق� ،ص.89 1 6امل�صدر نف�سه� ،ص.90 1 7مايكل هاردت و�أنطونيو نيغري ،الإمرباطورية� :إمرباطورية العوملة اجلديدة ،تعريب :فا�ضل جتكر، مراجعة :ر�ضوان ال�سيد ،مكتبة العبيكان ،الريا�ض .2002
18 Robert Musil, The Man without Qualities, trans. Sophie Wilkins, New York: Knopf, 1995, 2:367.
19راجع :الإمرباطورية ،م�صدر �سابق� ،ص.419 � 20أنظر :كارل بوبر ،مدخل �إىل العقالنية النقدية ،حتقيق �أ�سامة عرابي ،امل�ؤمتر الدائم للحوار ،بريوت،1994 ، �ص.182 21دانيال بل ،قيا�س املعرفة والتكنولوجيا يف م�ؤ�شرات التغري االجتماعي (Indicators of Social ،)Changeنيويورك� ،1968 ،ص.149 77
22 23 24 25 26 2 7 2 8 29 3 0 31
78
مدخل �إىل العقالنية النقدية ،م�صدر �سابق� ،ص.186 ،184 بريجن�سكي ،بني ع�صرين� ،أمريكا والع�صر التكنوتروين ،م�صدر �سابق� ،ص.52 مدخل �إىل العقالنية النقدية ،م�صدر �سابق� ،ص.186 كارل بوبر ،مدخل �إىل العقالنية النقدية ،م�صدر �سابق� ،ص.127 راجع :كارل بوبر ،مدخل �إىل العقالنية النقدية� ،ص.131 روجيه غارودي ،مارك�سية القرن الع�شرين ،تعريب نزيه احلكيم ،ط ،2دار الآداب ،بريوت � ،1968ص.47 راجع :عفيف فراج ،ثورة بالعلم ويف العلم ،بني ر�ؤية روجيه غارودي ور�ؤية بول كينيدي ،جملة بعاد، العدد ال�ساد�س� ،أيار (مايو).1997 ، عفيف فراج ،امل�صدر نف�سه. امل�صدر نف�سه� ،ص.172 مطاع �صفدي ،نقد ال�شر املح�ض ،مركز الإمناء القومي ،بريوت� ،2001 ،ص .216
فكــــر
احلراك الإجتماعي يف املجتمعات العربية «اجلزائر منوذجا» عبدالعزيز را�س مال � -أ�ستاذ حما�ضر (جامعة اجلزائر )2
مقدمة:
يف �إطار الرتب�ص الق�صري املدى الذي مت يف جامعة ماربورغ والذي مل يتعد ت�سعة �أيام من -31 � 2014-3إىل غاية ،2014-4-8مت الرتكيز على م�صطلح احلراك الإجتماعي Social Mobility يف املجتمعات العربية ،ونظراً لأنني �أ�ستاذ حما�ضر يف علم الإجتماع بجامعة اجلزائر -2اجلزائر، تناولت هذا املو�ضوع يف الفرتة التي كان ُيجهل فيها هذا امل�صطلح� ،أي بداية الثمانينات ف�إنني ُ من القرن املا�ضي ،يف العامل العربي ب�إنتاج كتاب ،عنوانه :كيف يتحرك املجتمع؟ ...خال بع�ض الدرا�سات التي قام بها املركز القومي للبحوث الإجتماعية واجلنائية مب�صر� ،أو بع�ض البحوث يف �إطار الدرا�سات العمالية يف البلد نف�سه ..وبا�ستثناء �أحد الطلبة اجلزائريني يف الدرا�سات العليا بجامعة �سرتا�سبورغ بفرن�سا املتمر�سني ،ف�إنه مل تكن لدينا �أي فكرة عن البحث يف هذا املو�ضوع يف �أي بلد عربي �آخر.. ونظراً ،لأن اجلزائر حتتل اجلزء الأهم من هذا البحث ،ف�إنني اخرتت �أن �أكتب عن ظواهر التهمي�ش والفقر والإق�صاء التي يعاين منها ال�شباب اجلزائري يف بداية هذا القرن �أي القرن 21م.. االختالالت يف احلراك الإجتماعي:
فقد تناولت ال�شبكة الإجتماعية والعائلية التي بد�أت يف التمزق قبل �أحداث �أكتوبر 1988م، واملعاناة التي كان يعي�شها ال�شباب املهم�ش املنحدر من الفئات الإجتماعية املحرومة يف املدن الكربى والداخلية والأحياء ال�شعبية والق�صديرية بني الواقع املزري والطموح الذي ربته يف نف�سه �إيديولوجيا امل�ساواة الإجتماعية ،والثقافة امل�ضادة التي تبحث عن غياب م�ؤ�س�سات الدولة التام كفاعلة يف احلياة الإجتماعية ،فالدولة ال�ضعيفة يف جمتمع متخلف� ،أو الدولة القوية التي تخدم الأقلية ي�شكالن �سويا ممرا خمت�صرا لب�ؤ�س مت�صاعد للأمة ،ومن هنا يعلن احممد بوخبزة -رحمه 79
اهلل -ب�أن دولة الأ�شخا�ص الأكرث رداءة هي يف حد ذاتها دولة رديئة ،وال تكون �إال يف خدمة ه�ؤالء الأ�شخا�ص ،وهذا �أدى �إىل تراكم الأحقاد التي �أ�صابت اجل�سم الإجتماعي. (�أنظر)Boukhobza (M ‘): Octobre 1988, evolution ou rupture… 1991 : الإرهاب واحلراك:
�أما الإرهاب الإجرامي ،وهو ال�سمة الغالبة قي نهاية القرن الع�شرين يف اجلزائر� ،أي ابتداء من 1991م ،بعد توقيف امل�سار الإنتخابي �إىل غاية 2000م� ،أي بداية القرن 21م من خالل ت�شريح امل�أ�ساة اجلزائرية ،فقد حلل الكاتب بن ال�شيخ االندفاع الإجرامي لفئات من ال�شباب وبني �أن الأ�سباب احلقيقية الكامنة وراءه تتمثل يف �إ�ضعاف الرقابة الإجتماعية التي تنظم البناء الإجتماعي ،وغياب الكلمة ملدة تزيد عن � 30سنة ،من ال�صمت والقهر والإذالل ،رغم �أن هذا املجتمع ورث ثورة من �أهم الثورات يف هذا القرن ،وقد حذرمن ر�ؤية الإجرام بطريقة فردانية ،بل ال بد من و�ضعه يف �سياقه العام� ،أي �أنه �إجرام جماعي ح�سب حتديد غو�ستاف لو بون Gustave � ،le Bonأي ت�أثري القنوات -الإجتماعية النف�سية يف التالعب بالعقول من خالل دور القادة les meneursالذين ي�ستغلون جهل احل�شود ، les foulesوعفويتها وعدم تنظيمها وقلة حيلتها وعنفها و�سلبيتها يف اال�ستجابة للتعقل فهي ال حت�سن �إال الهدم� ،أي الإجهاز على املدنية واملدينة ،عن طريق ال�سلطة والنفوذ والتطرف ،وما يح�سنه القادة هو ا�ستعمال الألفاظ واجلمل وال�صور التي لها قوة �سحرية ترتبط باخليال اجلمعي ،ومن ثم فاحل�شود تف�ضل الوهم على احلقيقة ،حيث ي�صبح التع�صب مبعايريها اخلا�صة �أحد الف�ضائل.. (�أنظر)Bencheikh. F: «Du terrorisme»1995» : قامت �آمال قا�سمي بدرا�سة مقارنة بني ر�سامي الكاريكاتور ،لكل من ديالم :جريدة ،Liberté -Dilem واخلرب� :أيوب) حيث حت�صلت من خالل حتليل املحتوى على املعلومات التالية: لقد ا�ستهدف الإرهاب الفئات الإجتماعية التالية: بني :1995-1990ال�شرطة -اجلي�ش -الدرك الوطني. بني :1998-1996موظفون يف احلكومة � -سيا�سيون � -صحافيون -مثقفون � -أ�ساتذة جامعيون (نخبة املجتمع). بني :2002-1999الفئات الإجتماعية املختلفة ،بدون ا�ستثناء ،خا�صة الفئات الإجتماعية يف الأرياف و�ضواحي املدن... (�أنظر� :آمال قا�سمي )2013 80
فكـــــر
دور العائلة:
�أ�صبحت العائلة اجلزائرية �ضحية ثالثة �أبعاد من الإغرتاب - :البعد القطري -البعد احل�ضاري البعد العاملي.فنتيجة للتجزئة والتفكيك الذي عانت منه �أثناء امل�أ�ساة الوطنية وهو ما وقع لها يف ظل االحتالل الفرن�سي ،ومن خالل هجوم مركز على املر�أة والرجل با�ستهدافهما كمو�ضوع «»comme un objet �أدى ذلك �إىل تف�شي ظاهرة االنحراف ،واجلنوح الذي م�س املجتمع يف عمقه ،وخا�صة املر�أة ككائن �إن�ساين له قيمته واعتباره الإجتماعي� ،أي �أنه ال يهدف �إىل �إذاللها كامر�أة ،و�إمنا كبنت للمجموعة الإجتماعية ،كزوجة م�س�ؤولة يف البيت �أو العمل �أو كمربية �أجيال. التميز الل�ساين لل�شباب:
ال�شباب ي�ستعمل لغة ال يفهمها الكبار وينكرونها ،لكنها باملقابل تعرب عن حاجة يف التعامل مع احلياة اليومية وبالتوافق مع املتغريات التي حتدث يف عامل االت�صال� ..إنه ف�ضاء جديد للتميز والبحث عن االعتبار الإجتماعي ودليل للهوية ، code idenditaireفال�شباب ينتج قيمه ومعايريه اخلا�صة ،تعرب عن رف�ضه ملا ي�سوق يف املجتمع ومترده عليه ،فال اخلطب العاطفية تغريه ،بل يبتكر م�صطلحات خمتلفة ومزج رهيب يف اللغة ،وقد يكون ذلك تعبري عن طموحه يف الو�صول �إىل لغة ات�صال تعرب عن ثقافة املواجهة جتاه الغرب� ،أو لتجنب البوح ب�أ�سرار يف الو�سط العائلي �أو اجلريان �أو احلي ،ويف اماكن تبتعد عن �أعني الرقابة ال�سلطوية. فكما علمنا برورديو «� »Bourdieu. P.إن من يتكلم لي�ست الكلمة �أو اخلطاب ،و�إمنا ال�شخ�صية االجتماعية ،هذه امل�صطلحات ماهي �إال تعبري عن حالة القلق واال�ضطراب التي يعي�شها ال�شباب باعتبارهم جزءاً من املجتمع املت�صدع ،لغة خليط من العربية والفرن�سية والأمازيغية والإ�سبانية والرتكية والإيطالية واملالطية واليوغو�سالفية� ..أي كل لغات البحر الأبي�ض املتو�سط ،فهو ال يبحث عن هوية و�إمنا عن وجود تناف�سي جتاه الآخر .هذا الف�ضاء اللغوي تعبري عن االغرتاب و�أحالم العامل العجيب املفتوح الذي ال حدود وال �ضوابط له ،ين�سيه �آالمه و�أحزانه. ظهرت اجلماعات التي تت�سم بالالمتايز �أو نقول عنها الهجينة والتي تنتج ظواهر خطرية تتمثل يف االنحراف ،فالرتبية الدينية ال�صحيحة -كما �سنعرف الحقاً -غائبة �أو مغيبة يف املدار�س الر�سمية، وال تطرح �إال مو�ضوعات هام�شية ال ت�ؤثر يف التلميذ املتمدر�س� ،أما االرتداد �إىل الأمية ،فهي ظاهرة خطرية ،بد�أت تظهر مع ت�أزم الأو�ضاع الإجتماعية ومنه ظهرت كما �سنبني عند الكاتب «علي الكنز» �آثار �سلبية �أثرت على املجتمع برمته.. 81
الظواهر الإنحرافية:
البد �أال نن�سى �أن تعاطي املخدرات انت�شر ب�شكل مريع يف الثانويات واجلامعات (�أنظر :م�صطفى ع�شوي 1995 -م). �أما ظاهرة الت�سول التي انت�شرت تعرب �أي�ضاً عن االنحراف �سواء تلك اجلماعية التي تعرفها اجلزائر (بني عدا�س) ،التي ت�شبه الغجر �أو الروم الآتني من رومانيا يف �أملانيا وغريها من البالد الأوروبية، الذين ي�شكلون ع�صابات منظمة� ...أو املت�سولني الفرادى ،الذين امتهنوا الت�سول للحاجة �إىل البقاء ،من ه�ؤالء الأطفال غري ال�شرعيني� ،أو الوالدين املطلقني ،دون �سكن قار� ،أو الفارين من خطر الإرهاب... *�أهم م�شكلة معوقة للحراك الإجتماعي ،فهي ظاهرة الهجرة غري ال�شرعية «احلراقة» �أو قوارب املوت ،فهي فئات ينح�صر عمرها بني � 23-16سنة ،تقطن بالأحياء ال�شعبية والق�صديرية، وبالواليات الكثيفة ال�سكان ،وبال�سواحل ،ه�ؤالء لهم �أفراد من العائلة و�أ�صدقاء باخلارج وعدوهم مبد يد امل�ساعدة لتهجريهم ولو بطريقة غري �شرعية ،كما �أن لهم �أ�صدقاء موظفني يف الباخرة �أو امليناء ي�ساعدونهم يف هذه العملية املت�سمة باملخاطر ،م�ستواهم الدرا�سي يف �أغلب الأحيان متوا�ضع ،بل يوجد �شباب جامعي يلج�أ �إىل هذا النوع من الهجرة هروباً من اخلدمة الوطنية� ،أو �إمتام �صفقة ما بعد -الرتب�ص. وقد كلفت بع�ض الطلبة بالقيام بهذه الدرا�سة يف �سنتني متباعدتني ن�سبيا ً ( )2011-2000لكنني تفاج�أت ب�أن نف�س الأ�سباب والأحداث والنتائج كامنة وراء هذه العملية ،فالأ�سباب ترجع دائماً �إىل الظروف الإجتماعية القا�سية ،واحللم يف جمتمع املالئكة (املجتمع الأوروبي) ،والأحداث تتمثل دائماً يف ظواهر كارثية (الغرق يف البحر ،اغتيال يف نقطة الذهاب �أو الو�صول ،وهناك من رمي به يف البحر ،من تعر�ض لللتحر�ش اجلن�سي..الخ)� ،أما من حيث النتائج فقد �أدجموا يف الرقيق الأبي�ض داخل الع�صابات املنظمة التي تتاجر بهم عن طريق و�سطاء من اجلزائر ،ومن جنح يف العبور ،ف�إنه ال يتوفر على �أوراق ثبوتية ور�سمية..و يطمئن نف�سه ب�أن ذلك ممكن مع تقادم الزمن. الي�أ�س الإجتماعي يتمثل يف بروز ظاهرة الإنتحار ،التي ترجع �إىل التفكك الأ�سري ،وامل�شاكل العائلية ،والقلق الوجودي ،والإق�صاء والتهمي�ش ،وكل ما ذكر �سابقاً .املدينة جمال وا�سع للحراك الإجتماعي ،لكن ال�ضعف يظهر يف �أنها تختل فيها املعايري ،كما يحدد ذلك عامل الإجتماع امل�شهور «�إمييل دوركهامي» « E. Durkheimخا�صة يف مرحلة الأزمات ،فحاالت االنتحار ما زالت تزداد يوماً بعد يوم يف مدننا الكربى كالعا�صمة وق�سنطينة وبجاية وتيزي وزو وبدرجة �أقل عنابة ووهران ،وخا�صة يف املجال احل�ضري الذي يتو�سط هاته املدن ،الذي يتمثل يف كرثة الفنادق والتنقل واحلركة ،هم من الأحياء ال�شعبية املجاورة للمركز� ...أو من مناطق العبور التي تعاين من ات�ساع امل�سافة الإجتماعية بني الأ�شخا�ص ،ت�ؤدي كلها �إىل ارتفاع مذهل يف تهيئتهم للإقدام على 82
فكـــــر
االنتحار�( ...أنظر :تكفي كلثوم «الإنتحاريف املجتمع اجلزائري» .)1996 التدين ووتائر احلراك الأحادي:
�أما علي الكنز ،في�ؤكد لنا على �صيغة �أخرى من هذا احلراك الإجتماعي ،وهو ارتباطه بظاهرة «التدين احل�ضري» التي �سيطرت على احلقل الإجتماعي والثقايف يف غياب التجارب ال�سيا�سية الناجحة يف تنظيم املجتمع اجلزائري« :االقت�صاد كاملجتمع ،واملا�ضي كامل�ستقبل حدث فيهما انقالب كبري ( )...مما �أدى �إىل امللج�أ الأخري وهو الدين «لذلك فمجموع الن�سق الرمزي هو الذي ميكننا من ت�أويل املجتمع اجلزائري.. وكما �أ�شار «طارق حقي» يف حما�ضرة بجامعة �أك�سفورد ( ،)2003ف�إن «علي الكنز» يرى نف�س الر�أي� ،أن احلركة الوهابية ،قد �أعادت ترتيب املذاهب ،وهدمت الروابط الإجتماعية التي ُن�سجت يف قرون من التعاي�ش ،وهذا ما �أ�س�سه اخللفاء الرا�شدون �أو غريهم من اخللفاء الذين تعاملوا مع احل�ضارات املجاورة بروح �إ�سالمية مت�ساحمة ...يقول �أن ال�صراعات املدنية� ،أي التعار�ض بني الأ�شخا�ص� ،أ�صبحت جارية يف العمارة ،يف امل�سجد ،حيث تزداد كرثة ،قد تكون حركة �أو ت�صرفاً ما� ،أو كلمة �أو طريقة اللبا�س� ،أو الهيئة..الخ». ويف اجلزائر �أخذت �شك ًال مو�سعاً وخطرياً �إذ غطت كل �سجل يف احلياة الإجتماعية :ال�سلوك الغذائي ،اللبا�س ،امل�سائل اخلا�صة ..بل �أخذ ال�سلوك الفردي �إىل التعر�ض �إىل الثنائية ال�صارمة: امل�سموح -املحظور ،ب�إ�ضفاء الطابع املقد�س عليه ..ثم برز تدخل طوائف �سيا�سية ومدنية ،لغاية ال�شعائر املحلية مثل :اجلنازة �أو الفرح ،وكذا التدخل يف الن�سق الرتبوي لغاية حترمي الفنون وو�سائل الرتفيه الأخرى� ،أ�صبح كل �أمر قاب ًال للنقا�ش و�إعادة الت�أويل ،وبالتايل �أدت اخلالفات �إىل العنف املدين ..تدني�س املقابر والأ�ضرحة التي تتعار�ض مع العقيدة الوهابية ،وحتى ال�شهداء مل ي�سلموا من ذلك� ،إلغاء كلمة «�صباح اخلري» -على اعتبار �أن «الكفار» هم الذين يقولونها - ..الخ ،وهذه النمذجة التي امتدت من اخلليج �إىل املحيط ،انت�شرت كمظهر من مظاهر التثاقف ،acculturationو�ألغت منط احلياة الذي يعطي لكل قطر خ�صو�صيته التاريخية والثقافية.. �أ�صبح هذا العائق ال�سو�سيولوجي للحراك الإجتماعي ،يتمثل يف ت�أثري اخلطب امللتهبة «خطب اجلمعة « خا�صة ،التي تعمل دون هوادة لإعادة تنميط ال�شعائر الدينية ،بل امتدت حتى �إىل معايري ال�سلوك :الأخالق -اجلانب اجلمايل -املمار�سات الإقت�صادية -الإجتماعية ،وال�سيا�سية، التي تنظم حياة املجتمعات والأفراد..لكي تكون منوذجاً واحداً وموحداً. �أ�صبحت «خطبة اجلمعة» للإمام �أكرث �إقناعاً ،باملقارنة مع خطاب الرجل ال�سيا�سي ،لأن الأول ُيعترب «خمل�صاً» ،بينما الثاين ُيعترب «منافقاً» ..ما �أ�صبحت «ال�سوق العاملية» للفتاوى من خالل 83
و�سائل االت�صال (التلفزيون ،الأنرتنت) ،هي العامل امل�ساعد على عوملة النظام الوهابي ،وطريقته يف التعامل مع الأحداث ...فالبور�صة العاملية للقيم املالية ،والتي ت�سمح لكل �شخ�ص �أن ينتقي الأ�سهم التي ي�ستثمر فيها ،هي نف�سها بالن�سبة للفتاوى التي ت�سمح لكل �شخ�ص �أو جماعة �أن يختار تلك املنا�سبة له. الوهابية تعطي �أهمية «للدنيا» من خالل املمار�سات واملعامالت ،وال تعتني باجلانب الروحي �إال قلي ًال ،بال�شعائر فقط ُيقيم ال�سلوك ال�سليم�! إنها تعفي ال�ضمري من التفكري ،بل تعترب الت�صوف انحراف ورفه للخا�صة (�أي النخبة)! عن�صر مهم يذكره «على الكنز» ،وهو �أن الوهابية مثل الربوت�ستانتية ،كما حددها ماك�س فيرب Max ،Weberتتجه �إىل الدنيوي كهند�سة �إجتماعية ،بن�سق معياري ي�ؤطر عدداً ال نهائياً من املمار�سات الفردية يف املجتمع؛ لكن الفرق ،هو �أن الربوت�ستانتية تتعامل مع االقت�صاد بالروح الفردية وبفكرة املقاولة العقالنية التي تخ�ضع للقيمة الإ�ستعماليةو التبادلية ،بالربح الذي جتنيه من ذلك..بينما الوهابية تتعامل مع «الأ�سفل» �أي اال�ستثمار من خالل «اجلماهري الوا�سعة» �أي الأمة الإ�سالمية التي ف�شلت فيها جتربة الدولة -الأمة بعد الإ�ستقالل ،يف النظام اجلديد. الوهابية اجلديدة ،على غري ما يعتقد البع�ض قد اندجمت يف النظام الر�أ�سمايل ،ويف التكنولوجيا، والإعالم الآيل والعمران ...لكن ب�صرامة متناهية حني يتعلق الأمرباملراقبة الأخالقية.. (.)Elkenz.A: colloque..24 Mai 2010 تعر�ض �أي�ضاً روائيون كبار ملظاهر الأزمة و�أثرها يف احلراك من خالل رواياتهم ( ُيذكر :الأعرج وا�سيني ،مرزاق بقطا�ش ،حممد �ساري..الخ).. (�أنظر ف .فاطمة درو�ش )2013 ر�أ�س املال الثقايف وتغري الأجيال:
هذه التعددية كانت ممار�سة �أثناء االحتالل ،واختارت اجلزائر احلزب الواحد (ج.ت.و) كحل، لكنها واجهت بحدة التعدد الثقايف والإثني والإجتماعي (�أنظر )Jorge Bula1990:مما ا�ضطرها �إىل فتح املجال �أمام التعددية احلزبية. وجد النظام القائم �صعوبات يف �إعادة �إنتاجه..حيث برزت مرحلة انتقالية تتداخل فيها �سل�سل�سة من امل�صالح املتناق�ضة طبقياً ،جماعات دينية و�إثنية ( ما حدث �أخرياً يف غرداية ،) 2014وبروز �أ�ساليب جديدة لإر�ضاء احلاجات حيث تعمل كل جمموعة على �إدخالها �إىل املجتمع.
84
فكـــــر
هذه املجموعات ميكن ح�صرها فيما يلي: املجموعات املت�ضررة من التغيري احلا�صل من الداخل �أو اخلارج الذي ي�ستخدم جماعات �أخرى من الداخل للت�أثري. املجموعات الثورية التي تعمل على قلب النظام ،والبحث عن برنامج موازي. جماعات مهم�شة تتحرك دون تقدمي امل�شروع البديل. املجموعات التي تعيق ومتنع �أي تعديل ،وت�سعى بالإبقاء على الو�ضع كما هو. مناذج للحراك الإجتماعي من خالل بع�ض البحوث:
املعوقات يف البحث العلمي:
ميكن تلخي�ص معوقات احلراك مبا يلي: منط اقت�صاد الريع ،حيث االعتماد على اخلربة الأجنبية ،وتهمي�ش الطلب املحلي على املعرفة. الهرمية البريوقراطية املفرطة يف م�ؤ�س�سات البحث العلمي. انخفا�ض عدد امل�ؤهلني يف البحث العلمي. ارتباط البحث بالأ�شخا�ص ولي�س بامل�ؤ�س�سات اال�سرتاتيجية. هجرة الكفاءات �إىل اخلارج. تخلف يف �أنظمة املعلومات احلديثة (غائبة �أو �ضعيفة). غياب مراكز البحث الفعالة ،وعدم وجود املدن التكنولوجية. �ضعف م�شاركة امل�س�ؤولني يف اقرتاح البحوث العلمية ،يف قطاعات خمتلفة.. (�أنظر� :شهرزاد زغيب ،وفاء تنقوت )2013
امل�س�ألة اللغوية واحلراك:
ال �شك �أن امل�س�ألة اللغوية �أدت دوراً ال ُي�ستهان به ،يف التمايز الإجتماعي داخل املجتمع ،بل �أن�ش�أت �صراعات كبرية� ،أدت �إىل �إعاقة التطور الإجتماعي للبع�ض ،وال�سماح للبع�ض ب�أن يخرتق م�ستويات الرتاتب الإجتماعي ،ال عن كفاءة ،ولكن بامتالك اللغة الفرن�سية بالتحديد ،وميكن 85
تلخي�ص ذلك مبا يلي: تويل م�س�ؤوليات التوظيف �أ�صبحت حكراً على كبار ال�سن ،وحمدودي الكفاءة العلمية الذين ُيبدون مقاومة �شديدة �ضد �أي تغيري� ،أثبت الواقع العملي انتماءهم �إىل دائرة املفرن�سني. �صراع الأجيال ،حيث ُيتهم اجليل اجلديد بعدم الكفاءة ،على �أ�سا�س اللغة امل�ستعملة يف الت�سيري (العربية) ،مع �أن اجليل القدمي ال يفقه يف الت�سري احلديث � Managementإال ال�شيء القليل ،وهذا يظهر حر�ص هاته الإطارات على تعزيزمواقع نفوذهم با�ستعمال اللغة الفرن�سية. ال�صراع اللغوي� ،أدى �إىل العطالة ،ونق�ص يف فعالية وكفاءة الأداء. (�أنظر :بولرباح ع�سايل )2013 ازدواجية النخبة الإعالمية :
الإزدواجية لي�ست وليدة اال�ستقالل ،وال �أثر لها يف املرحلة الرتكية ( ،)1830-1516و�إمنااحتلت عملية التعليم والتكوين االجتماعي موقعاً هاماً يف ال�سيا�سة الفرن�سية منذ االحتالل 1830م. املدر�سة الفرن�سية التي �أعدها � Jules Ferryساهمت يف ن�شر الثقافة والقيم الفرن�سية بني اجلزائريني، لقد اعتمدت فرن�سا على النخب املثقفة قبل 1954والتي تكونت يف مدار�سها فيقول �أن ¾ اجلزائريني املتعلمني كانوا من ذوي الثقافة الفرن�سية جزئياً �أو كلياً.)Guy Perville - 1997 ( ......... مل ترغب فرن�سا من تكوين اجلزائريني� ،إنتاج مثقفني كبار ،بقدر ما كان الغر�ض �إنتاج مثقفني متو�سطي التكوين والآفاق يتو�سطون بني الإدارة الإحتاللية والأهايل. هنا �أي�ضاً يحتل ال�صدام بني الثقافتني (الفرن�سية -العربية) دوراً مهماً يف تعطيل حركية املجتمع،فالنخبة الإعالمية وهي نخبة مثقفة ،اختلفت يف امل�شروع احل�ضاري للمجتمع من خالل جزئيات مثل :اللغة والدين والتقاليد والتاريخ ...الخ حيث تنظر نخبة جريدة الوطن �إىل الدين على �أنه �أحد الرموز امل�شكلة لل�ضمري اجلمعي ،ولكن ينبغي اعتماد الالئكية، �أي ف�صل الدين عن ال�سيا�سة ،وبالتايل بناء دولة وح�ضارة ع�صرية ت�ضمن توحيد وتطوير وا�ستمرارية املجتمع ؛بينما امل�شروع الثاين للنخبة املعربة ،من خالل جريدة ال�شروق ،تتم�سك بفكرة االحتفاظ بكيان منف�صل عن فرن�سا ،واحلفاظ على املقومات والقيم الوطنية،و ترف�ض االن�صهار يف الغرب. عو�ض �أن ي�ساهم ه�ؤالء كما �أكد -علي الكنز -يف ترتيب البيت الثقايف وحتقيق الوحدة الع�ضوية واالن�سجام يف املجتمع ،ف�إنهم ف�ضلوا« :الهروب واالن�سالخ عن جمتمعهم ( )..حيث التج�أ البع�ض �إىل �أبطال �شرق �أو�سطيني ،بحثاً عن طرق وقيم متكنهم من فر�ض �أنف�سهم يف احلقل الثقايف 86
فكـــــر
اجلزائري ،والآخرون راحوا ي�ستمدون مرجعيتهم من الرتاث الثقايف لفرن�سا وقيمها فلم ي�ستطيعوا التغلغل داخل الوعي الوطني اجلزائري. هما نظرتان متناق�ضتان ال ثلث لهما يف الت�صور حول كيفية بناء الدولة وت�أ�سي�س املجتمع ،و�أن قدر اجلزائر يبقى يف خانة اال�ستثناء (قريد جمال�( ،)2007 :أنظر �أم اخلري تومي.)2013 : النخبة اجلامعية من خالل ال�صحافة الإلكرتونية والأنرتنت: �إن فئة ال�شباب �أ�صبحت الأقدر على التعامل مع معطيات التكنولوجيا احلديثة ،وعلى تبني الأفكار والو�سائل الإعالمية امل�ستحدثة ون�شرها ،وهذا بحد ذاته يعترب خطوة يف احلراك بني الأجيالعلى م�ستوى الذكور والإناث ،لإعداد البحوث واحل�صول على املعلومات والبيانات من املواقع املتنوعة ومن املنتديات (� )% 58.50أما البع�ض الآخر فقد اختار الأنرتنت ب�سهولة وي�سر لينقل املعلومات ( )% 22.73من عدد املبحوثني الكلي. لكن ما ُيالحظ �أن الإدمان قد ينقلب �إىل جانب �سلبي ،وحتدث ا�ضطرابات نف�سية وع�ضوية :قلق يف النوم وال�صداع والأمل ،وقد تكون �سبباً يف الإحباط والك�سل والف�شل الإجتماعي وتراجع امل�ستوى العلمي والدرا�سي ..بل �أ�صبح الإدمان على الألعاب ،واالت�صال الهاتفي والدرد�شة والت�سلية الزائدة ل�ساعات مت�أخرة من الليل �إىل جانب املواقع الإباحية التي ُتثري الغريزة اجلن�سية! هذا �أدى �إىل نتائج ت�شل وتائر احلراك ،منها عدم الوعي مبا يقوم به ال�شاب ،والعنف ،وتعاطي املخدرات واخلمور ،والعالقات غري ال�شرعية ،والتحر�ش اجلن�سي..الخ. (�أنظر :حممد الفاحت حمدي)2013 : احلراك املهني -اجليلي:
لقد تناولت يف الكتاب املذكور �سابقاً «كيف يتحرك املجتمع؟» عينة من العمال يف م�ؤ�س�سة �صناعية جزائرية مبدينة و�سطى «�سعيدة» �سنة ،1981وقمت بدرا�سة �أخرى �سنة 1985يف جمتمع خمتلف ن�صف -بدوي يف منطقة «ع�سلة» قرب عني ال�صفراء ،يف اجلنوب الغربي اجلزائري.. يف 1981م ،الحظت ب�صورة عامة �أن وتائر احلراك بطيئة لدى بنات العمال ،عن �أبناء العمال ،نظراً �إىل ال�صعوبات يف �إدماج البنت يف �سوق العمل ،بالإ�ضافة �إىل القيود الإجتماعية املفرو�ضة على عمل البنت ..كما الحظت �أن الرتقية املهنية للعمال �أنف�سهم ال ت�سري وفق الإ�ستحقاق �أو اجلدية يف العمل ،و�إمنا وفق العالقات الزبائنية التي تربط العمال بالإدارة ،والعالقات القرابية التي ت�ؤدي الدور املهيمن. 87
�أما عن احلراك بني الأجيال ،فلي�ست هناك م�ؤ�شرات وا�ضحة للتغري� ،إال امل�ستوى التعليمي بني الأبناء والآباء ،حيث يظهر الفارق وا�ضحاً ،نظراً للأ�صول الزراعية للعمال الذين مل ي�ستفيدوا من خدمة التعليم الر�سمي� ،أما �أبنا�ؤهم فهم �أح�سن حظاً..لذلك ف�إن �آمال العمال هو �أن ي�صبح �أبنا�ؤهم من ذوي املهن احلرة� :أطباء -مهند�سني � -أ�ساتذة جامعيني -حمامني كبار...الخ ،التي متنحهم اعتباراً اجتماعياً يف املجتمع. �أما الدرا�سة الثانية 1985م ،فقد بينت خمتلف التناق�ضات التي يعي�شها العامل ن�صف -البدوي، يف قرية مل ت�شهد حت�ضراً �إال يف الفرتة الأخرية ،فالثورة الزراعية التي د�شنها الرئي�س هواري بومدين يف مرحلتها الثالثة ،مل ت�ؤد �إال �إىل دور ثانوي يف حت�سني و�ضعية البدو� ،أو ن�صف -البدو ،حيث مل َ تتما�ش مع وتائر احلراك املرجوة ،حيث ازداد الفقراء فقراً ،والأغنياء غنى (خا�صة املوالني الكبار) ..وكان العامل الإقت�صادي -الثقايف هو الكابح لهذ الو�ضعية ،ب�إدخال اال�ستفادة من ر�ؤو�س املا�شية ،بدون حتريك لأ�صول ر�أ�س املال ،كما ي�ؤكد -دو �سوتو ،-وبدون االهتمام مبا هو كاف بثقافة ه�ؤالء ،وبطريقة حياتهم ..لذلك ر�أى ه�ؤالء �أن �إدخال �أبنائهم �إىل املدر�سة الر�سمية �أو املدر�سة القر�آنية هو املالذ الوحيد الذي ميكنهم من �إنقاذ �أبنائهم من حياة القهر والغنب التي يعي�شونها.. الباحث عمر درا�س ،قام بدرا�سة للحراك يف ال�سنوات التالية 1990-1998-2004-2005 :فقد �أخذ عينة ممثلة ،يف وهران باجلزائر ،وتو�صل �إىل 18فئة مهنية يف البحث الأول ويبدو �أنه كان ي�ستطيع تقلي�ص الفئات املهنية -الإجتماعية �إىل عدد �أقل ،وهذا ما قمت به يف جتربتي حول احلراك املهني.. املهم! النتائج التي تو�صل �إليها الباحث قيمة ،ال ميكن التغا�ضي عنها ،خا�صة �أنه تناول الفئات التالية - :الأجراء ،الأكرث من � 40سنة ولديهم خربة � 20سنة يف العمل -املر�أة العاملة -الطلبة اجلامعيون...على مدار ال�سنوات املذكورة. لقد قام بقيا�س احلراك الإجتماعي ،واكت�شف �أن املجتمع اجلزائري �شهد انقالبات بنيوية� ،أدت �إىل والدة طبقتني اجتماعيتني متمايزتني هما - :حديثو النعمة واملعوزون (الطبقات املتو�سطة وعامل الأجراء). و�أن الأزمة الإقت�صادية بعد ،1990قد �سببت يف �إبطاء احلراك الإجتماعي ،ولكنه اعتمد على خمتلف امل�سارات املهنية لنف�س اجليل يف امل�ؤ�س�سة ،والتي �أخذت ُتقدم �أجوراً مميزة و�أخذت يف تطوير جديد للم�سار املهني. اعتمد الباحث على عملية الت�صنيف الآتية - :احلراك البنيوي -احلراك الدائري -امل�صري - التوظيف. 88
فكـــــر
حيث عو�ض م�صطلح احلراك ،م�صطلح «العمل الدائم»؛ و«املرونة يف امل�سار»« ،ال�صالبة واال�ستقرار يف العمل» ،لكن �صريورة احلراك يف املجتمع اجلزائري ،ال تتبع ال�صريورة الأحادية بل ال ي�ستطيع الو�صول �إىل الرتاتب الفج ،وحتى عدم امل�ساواة الإجتماعية متيل �إىل التعقيد حني ندر�س �ألواح احلراك الإجتماعي ،رغم �أن امل�ساواة يف احلظوظ املدر�سية متيل �إىل فكرة «الإ�ستحقاق» ،و�أن الأ�صل الإجتماعي له ثقل كبري على الو�ضعية الإجتماعية النهائية. لكن كرثة ال�شهادات وتزاحمها وت�ضخمها ال ي�ؤدي بال�ضرورة �إىل الو�ضعيات الإجتماعية اجليدة.. وهنا ت�ؤدي املمار�سات الإجتماعية والإ�سرتاتيجيات العائلية دورها يف حظوظ النجاح الإجتماعي غري املت�ساوي. �أما بخ�صو�ص املر�أة امل�شتغلة ،فيالحظ الكاتب �أنهن يعانني من �آثار �سلبية� ،أي عدم امل�ساواة يف اجلانب الإجتماعي -املهني ،على ح�سب كفاءتهن وقدراتهن. هذه امل�ؤ�س�سات الإجتماعية :امل�ؤ�س�سة ال�صناعية -املدر�سة -العائلة ،ينبغي البحث فيها لتف�سري احلراك ،ويت�ساءل عن �أثر ذلك على ال�شبكة الإجتماعية ،التي هي م�صدر التوترات الكربى يف ظل تنامي البطالة ،لذلك فالأمل يف االحتفاظ باملن�صب �أكرث �أهمية من البحث عن الرتقية. احلراك املجايل وال�سكني:
الباحث �صفار زيتون مدين ،قام بت�أطري بحث جماعي حول عالقة احلراك ال�سكني باحلراك الإجتماعي يف اجلزائر العا�صمة ،ومت الرتكيز على العنا�صر التالية: ح�سب حتليل بورديو ،Bourdieuف�إن �إبعاد الأفراد يف �شبكات وفروع تت�أ�س�س على «الزبونية»، وانتمائهم �إىل جمموعات متتلك قوة وطاقة يف التجنيد اجلماعي ،ي�ؤدي دوراً مهيمناً �أكرث من امتالك امل�صادر الإقت�صادية. الفئة الإجتماعية -املهنية ،ال تعترب ح ًال كافياً للبحث يف احلراك ،حيث �أن احلراك ال�سكني، واملجايل ُي�ساهم بطريقة قوية -من خالل التحديد الإح�صائي -للأفراد يف الفئات املتواجدة �سابقاً ،وي�سمح بتحديد :هل هناك حراك اجتماعي ت�صاعدي؟ الطبيعة ال�سكنية للأحواز اخلا�صة باجلزائر العا�صمة (ال�سكنات العادية ،اخلفية� ،أو املخفية) ال ت�سمح بالتحديد الإح�صائي �إال من خالل درا�سات جزئية! بينما ال�سكنات املوجودة يف الأحياء املخططة ذات الأ�صل العمومي ،ميكن حتديدها من خالل معايري االنتقاء الإداري. ميكن الو�صول �إىل الفئات الإجتماعية من خالل الربامج ال�سكنية (ال�سكن الإجتماعي الإيجاري ال�سكن بالإيجار -البيع (�أو ما ي�سمى ب�سكنات عدل )A A D Lوال�سكن الرتقوي).89
الأول ،مو�ضوع حتت ت�صرف ال�سكان الذين ال ميلكون �إال مداخيل عائلية �ضعيفة (� 120أورو / �شهرياً). الثاين ،خم�ص�ص للفئات الو�سيطة الذين ميلكون مداخيل م�ساوية �أو �أربع مرات احلد الأدنى للأجور �أي ما يقارب � 500أورو. الثالث ،ال�سكن الرتقوي ،املخ�ص�ص للفئات العليا ،والذين هم غائبون عن الأحواز العا�صمية... جند ذلك يف باينام ،والأحياء الراقية. ما حدث هو �أنه مت بيع الأرا�ضي ومعظمها فالحية� ،أ�صبحت ور�شات للبناء ،ومت التنازل عنها بطريقة غري �شرعية يف الفرتة التي ظهرت فيها املندوبيات -بعد - 1990مكان املجل�س ال�شعبي البلدي ( ،)A P Cوذلك لزبائن خارج اجلزائر العا�صمة. ما مييز ال�سوق العقاري والثابت بعد هاته ال�سنة ،هو التوزيع غري الر�سمي الذي جعل من اجلزائر العا�صمة ف�سيف�ساء ملقاطعات ح�ضرية ملت�صقة ببع�ضها البع�ض ،ولكن دون مبد�أ تنظيمي ومنظم ح�ضرياً .فالإختالط الإجتماعي �أ�صبح ميثل القاعدة ،حتى ولو الحظنا هاته ال�سنوات الأخرية مظاهر لإعادة الرتتيب ال�سكني بفعل �ضغط امل�ضاربة. التنوع الذي ي�سم الأحياء هو بني ال�سكنات ذات الطابع الإداري ،امل�شروعة وغري امل�شروعة التي جتمع �شبكة من الزبائن ،وبع�ض املجموعات الفئوية (موظفون -جي�ش ..الخ) ،والأحياء التلقائية ذات الطابع املعماري «احل�ضري» ال�ضعيف ،والتي جتمع بع�ض الأ�صول العائلية الكاملة� ،أو الذين ينحدرون من نف�س الدوار..الو�ضعيات هنا ،تبدو متناق�ضة. بجانب ال�صريورة التلقائية للحراك ،والتي ال يدعمها �أي منطق خمطط ،ولكن مبنطق متناق�ض، من خالل البناء الذاتي Auto-constructeursالذي يخ�ضع للفروع ولل�شبكات التي تتعامل مع الإدارة وتخ�ضع لقواعد امل�ضاربة التجارية. �أما احلراك ال�سكني الذي تخطط له الدولة ،فيتمثل يف نقل ال�سكان من و�سط العا�صمة� ،أي من الأحياء التقليدية كالق�صبة وباب الوادي �إىل الأحواز ...حيث ُيالحظ �أنها تهم الفئات املعوزة، والفئات الو�سطى. حي «قريدي» يف اجلزائر العا�صمة ،وهو بجوار احلي الذي �أ�سكنه ،يتميز ب�أنه �أن�شيء فقط منذ 1980م ،كانت ت�سيطر عليه فئة احلرفيني والتجار ور�ؤ�ساء امل�ؤ�س�سات (ال�شركات)؛ �أما يف 2003م، ومن خالل برنامج عدل ،مت جتديد ال�سكان من خالل �إعادة البيع التي �أخذت �أ�شكا ًال خمتلفة، وب�أ�سعار م�ضاربة مهمة مل تقدر عليها �إال النخب من رجال الأعمال ،بعد حترير الإقت�صاد الذي حتول �إىل «اقت�صاد البازار». 90
فكـــــر
هذا كله ي�ساهم يف الت�شطري الإجتماعي للأحواز يف اجلزائر العا�صمة ،من خالل مع�ضلة «املقاطعات» يف هذه الأحياء اجلديدة التي ُنقل �إليها ال�سكان ،ميتلكون �سيارات خا�صةُ ،ي�ساهمون يف ن�ضج احلركات التزامنية اليومية (وكذا اختناق املوا�صالت يف �أحيان �أخرى) ُيفرغون مركز العا�صمة من احليوية التي افتقدها الآن. اخلامتة:
حاولت يف هذا التقرير �أن �أر�صد بع�ض مظاهر احلراك الإجتماعي يف اجلزائر ،على �أن �أكمل هذه الدرا�سة الأولية من خالل بع�ض البحوث اجلاهزة يف هذا املجال والأكرث عمقاً ،ويف م�شروع يهم مركز البحث حول ال�شرق الأو�سط واملغرب بالإندراج يف مو�ضوع ال�شباب ،واحلراك داخل املجتمعات العربية.
املراجع: *Derras.O: mobilité professionnelle et mobilité sociale en Algérie –présentation de Hadjij.E ; in: revue Insanyat N 41/200 ( crasc – Oran- Algerie). –*El – Kenz: Le monde arabe aujourd’hui–nouvelle polarité, nouvel ordre symbolique ; in revue signe discours –sociétés - coll: Nantes –Galatasaray- 24 mai 2014 ; France. *Haggi.T: l’avenir de l’esprit musulman – conférence a Merton Collège- Oxford Université - Jeudi 16/10/2013. Angleterre - 2013.
قا�سمي �آمال و�آخرون :اجلزائر � -إ�شكاليات الواقع ور�ؤى امل�ستقبل.....
A Kacimi
مركز درا�سات الوحدة العربية -بريوت -لبنان � -سبتمرب .2013 ر�أ�س مال .ع :كيف يتحرك املجتمع ؟ ديوان املطبوعات اجلامعية A. *Rasmal..-الطبعة الثانية اجلزائر1999..م. ر�أ�س مال.ع :التهمي�ش والإق�صاء لدى ال�شباب اجلزائري -مداخلة
……A. *Rasmal
يف امللتقى الدويل للفقر والتفقري -نادي ال�صنوبر -اجلزائر 2000م. *Safar. Z. M: mobilité résidentielle et mobilité sociale dans l’agglomération algéroise …projets... EMAM … 16/2008..France.. 2008.
91
دار كتب للن�شر �ش.م.ل.
بناية الربج ،الطابق الرابع� ،ساحة ال�شهداء الو�سط التجاري ،بريوت ،لبنان �صندوق بريد ،11-4353 :بريوت -لبنان. هاتف)961-1( 983008 /9 : فاك�س)961-1( 980630 : الربيد الإلكرتوينkutub@kutubltd.com : املوقع الإلكرتوينwww.kutubltd.com :
الأدب املقاوم
فعل ال�رسد وال�رصاع يف رواية «الطنطورية» لر�ضوى عا�شور فاتن املر -باحثة و�أ�ستاذة جامعية
«كل احلكايات تبد�أ من «هناك»� ،أي من فل�سطني .مثل العجائز يف املخيمات الذين تنقل الرواية ق�ص�صهم ،بد�أت الكاتبة امل�صرية ر�ضوى عا�شور من «هناك» رواية �أهدتها �إىل زوجها ،ال�شاعر الفل�سطيني مريد الربغوتي .وهناك من الطنطورة حتديداً ،فالطنطورة هي بطلة الرواية احلقيقية، تلك القرية الواقعة على ال�ساحل الفل�سطيني جنوب حيفا التي �أدرجتها الع�صابات اليهودية �ضمن الئحة جمازرها عام 1948ومل يدرجها التاريخ املعروف كدير يا�سني وغريها من املدن والبلدات التي ُعرِفت مبا وقع فيها من �سفك للدماء الربيئة .تنفتح الرواية مب�شهد ميكن ت�صنيفه �ضمن الو�ضع الأويل ( )situation initialeالذي ي�صور لنا قرية هادئة ترتبى يف �أح�ضانها فتاة �صغرية ،رقية ،الراوية ،التي ال هم لها �إال اللعب مع �أقرانها والتفرج على البحر وح�ضور الأعرا�س، �ضيعة هانئة بق�ص�صها التي ال �ضرورة لأن حتكى ،فالنا�س ال�سعداء ،كما يقول تول�ستوي ،ال ق�صة لهم .البحر ،بحر الطنطورة كما ي�سمونه يف الرواية� ،شخ�صية رئي�سية �أخرى ،ي�شارك يف كل �أوجه احلياة ،خا�صة يف الأعرا�س ،ويقدم لرقية ال�صغرية هديته يف هيئة �شاب كان ي�سبح فيه ويخرج لرياها وليتبادل معها ب�ضع كلمات كانت كافية ليقرر الزواج منها وير�سل �أهله خلطبتها .يف الو�ضع الأويل للطنطورة امللون بالهدوء والفرح ال يتعدى م�ستوى الهموم ان�شغال بال والدة رقية لأن ابنتها �ستتغرب وتتزوج �إىل حيفا ...ولكن العن�صر امل�شاغب ( )élément perturbateurيكمن يف اال�شتباكات التي ح�صلت يف حيفا بني اليهود والعرب والتي و�صلت �أ�صدا�ؤها �إىل الطنطورة ويف بدء و�صول الالجئني املهجرين من قراهم ،ليبلغ التوتر ذروته مع بداية الهجوم على الطنطورة وذبح الرجال وال�شبان ومن بينهم والد رقية و�شقيقاها وتهجريها ووالدتها داخل فل�سطني ثم �إىل الأردن ف�صيدا يف لبنان .تتوقف الطنطورة عند مرحلة العن�صر امل�شاغب ( )élément perturbateurلأن الراوية تفك ارتباطها بها حتى نهاية الرواية ،ارتباطها الفيزيائي ،لأن القرية الفل�سطينية ال تنفك ت�سكن فكرها وذكرياتها وت�شكل املحور الذي تدور حوله «�أنا» رقية وكل من بقي من �أفراد العائلة. �أما احلل الذي ي�صل �إىل الو�ضع النهائي ( ،)situation finaleفال تعرفه الطنطورة ،بل يبقى معلقاً مثل الق�ضية الفل�سطينية وتبقى الطنطورة حلماً بعيداً للراوية ،حمم ًال بالأ�شواق والذكريات .ولأن 93
االنقطاع الق�سري عن الطنطورة �شتت ذات رقية ،كان عليها �أن تبحث عما يعيد اللحمة �إىل كيانها، فكانت احلكاية .واحلكاية غدت املحور الذي تدور حوله حياتها كما حياة الكثريين من الالجئني الفل�سطينيني .باحلكاية ا�سرتجعت الطنطورة التي مل يعد لها وجود فعلي وحتولت �إىل م�ستعمرة �شوهت كل معامل القرية الأولية ،باحلكاية ا�سرتجعت بحر الطنطورة الذي ما فتئت تبحث عنه يف بحور كل املدن التي عا�شت فيها .بو�ساطة احلكاية ا�ستعادت يحيى ،حبها الأول الذي خرج من البحر وانقطعت �أخباره بعد النكبة ،كما ا�ستعادت الأب وال�شقيقني الذين ذبحوا هناك ودفنوا يف مقربة جماعية ،وعادت �إليها رقية ال�صغرية التي �أ�صبحت غريبة عنها بعد �أن ف�صلها عن طفولتها زلزال غري عاملها وقلب مقايي�س الزمان واملكان التي كانت ت�ألفها .يف مثل هذه الظروف ال�صعبة، لكل امرئ �سالحه الذي يحميه من اجلنون �أو الي�أ�س املطلق .والدة رقية هربت �إىل كذبة اخرتعها خيالها اجلريح و�صدقتها ،عن رحيل زوجها وولديها �إىل م�صر ،وبقيت حتى مماتها مقتنعة بكذبتها هذه� .أما رقية ،فكان لها فعل الق�ص الذي فر�ضه عليها ابنها يف البداية ف�أعطى معنى حلياتها: «ح�سن هو الذي اقرتح علي كتابة حكايتي .قلت :ل�ست بكاتبة! قال :احكي احلكاية� ،أكتبي ما ر�أيته وع�شته و�سمعته ،وما تفكرين فيه .هذا مهم يا �أمي� ،أهم مما تتخيلني�( ».ص)204 تتجلى �أهمية الكتابة �أو الق�ص على ال�صعيد الوطني حيث حتفظ تاريخاً ي�سعى العدو �إىل طم�سه، كما تظهر على ال�صعيد ال�شخ�صي� ،إذ ت�شكل خ�شبة خال�ص تعيد ترتيب ذكريات الراوي و�أفكاره .عاونها الق�ص كذلك على مللمة �شمل لعائلتها امل�شتتة التي مل يعد يجمعها �إال بع�ض �أيام من العطلة ال�صيفية �أو منا�سبة زواج واحد من الأبناء ،فتحولت الرواية �إىل ق�صة مطولة ()saga تتابع رقية منذ �أن كانت يف الثالثة ع�شرة من عمرها �إىل �أن �أ�صبحت يف منت�صف ال�ستينات مع ق�ص�ص �أهلها و�أوالدها الذين نتعرف بهم منذ والدتهم لن�صل �إىل نهاية الرواية وقد تزوجوا و�أجنبوا بدورهم و�أ�صبحت رقية جدة .الوحدة الإجتماعية التي متثلها العائلة امل�ؤلفة من �شخ�صيات متخيلة تعك�س واحدة من �صور «املجتمع املرجعي» كما ي�سميها كلود دو�شيه� ،أي املجتمع الذي يعي�ش �ضمنه الفل�سطينيون الذين هجروا من �أر�ضهم.1 بني الأنا الراوية والأنا املروية
رقية ،املر�أة ال�ستينية تروي ق�صة حياتها .هي �إذن راوية �ضمنية-ذاتية (،2)autodiégétique تروي ب�صيغة «الأنا» التي جتعلنا نقر�أ الأحداث التي عا�شتها وعا�شها �أهلها من خالل حتليلها لتفاعالتها الداخلية مع كل الأحداث اخلارجية ،م�ستعينة ،يف مفا�صل عديدة ،بال�سرد املناجاتي ( )monologue intérieurالذي ي�سرب �أعماق نف�س ال�سارد�« .إن «الأنا» �أو �ضمري Claude Duchet, "Positions et perspectives", Sociocritique, Paris, Nathan, 1979. Gerard Genette, Figures III, Ed. du Seuil, 1972.
94
1 2
الأدب املقاوم
املتكلم ( ،)»le «jeيذيب الن�ص ال�سردي يف النا�ص؛ ف�إذا القارئ ين�سى امل�ؤلف» .3هكذا تختفي ر�ضوى عا�شور لتهيمن الراوية ر قية على الرواية منذ العنوان حتى اخلامتة. تلك الراوية الذاتية-ال�ضمنية تنق�سم �شخ�صيتني ،الأنا الراوية (التي تفكر مبنطق املر�أة النا�ضجة وتت�ساءل عن معنى بع�ض تفا�صيل احلكاية وعن دقة الذكريات) والأنا املروية التي ال تعرف �إال ما ي�سمح لها عمرها الفتي وخربتها القليلة مبعرفته. تتدخل الأنا الراوية بكرثة يف الرواية ،تقطع ال�سرد وتنقلنا للحظات من زمن الق�صة يف املا�ضي �إىل زمن ال�سرد لن�سمعها وهي تتذكر�« :أتخيل �أمي يف تلك الأيام� .أ�ستعيد ما قالته وما مل تقله. �أ�سمعها وهي تكرر على جارة من اجلارات ما �سبق �أن قالته خلالتي» (�ص .)15تروي كيف تتذكر وكيف ت�ستح�ضر ال�شخ�صيات فتمار�س ما ي�سميه جريار جونيت وظيفة الإدارة التي يروي فيها الراوي كيف يروي ( . )fonction de régieي�ضفي تدخل الراوي يف الق�صة واقعية تكاد تقطع ان�سجام القارئ مع ما ي�سمى «وهم الواقع» ( )illusion du réelولكنها تقحمه يف العمل ال�سردي في�صبح �شريكاً فيه ،كما يح�صل حني تطرح الراوية �أ�سئلتها حول �أفكار بع�ض �شخ�صيات الق�صة وم�شاعرها : «هل تخيلت �أمي وخالتي وهما تت�سامران يف جل�ساتهما اليومية �أن ما حدث لأهل قي�سارية ميكن �أن يحدث لهما؟ �أرجح قيا�ساً على نف�سي وحديثهما اليومي �أن قي�سارية بدت بعيدة ،بلد �آخر مل نره �أبداً �أملت ب�أهله كارثة فتعني علينا �أن ن�شفق عليهم ون�ساعدهم�( ».ص)36 هكذا ،يف مثل هذه املقاطع ،ي�أخذ ال�سرد طابع حديث تتبادله الراوية مع م�ستمع تتقا�سم معه �شكوكها وت�سا�ؤالتها والأجوبة التي تكتفي باقرتاحها تاركة املجال مل�شاركة امل�ستمع يف التفكري. قد يوحي تدخل الراوية يف الق�صة بنق�ص يف معرفة ما ح�صل فع ًال يف زمن الق�صة ب�سبب خيانة الذاكرة التي ال تنقل ب�شكل دقيق ما ح�صل يف امل�شهد الذي ترويه� ،أو نق�ص يف القدرة على حتميل الكالم �أحداثاً هائلة وم�شاعر �أقوى من �أن يتمكن من التعبري عنها .ولكن التدخل يف الغالب يدل على تفوق معريف من الأنا الراوية على الأنا املروية ،كما يح�صل حني تروي بداية الأحداث التي �ست�ؤدي �إىل اغت�صاب فل�سطني: « مل �أكن �أعرف كل التفا�صيل ،ماذا حدث يف حيفا يوم كذا ،وكم قتيل راح من برميل البارود الذي دحرجه امل�ستوطنون على جبل الكرمل ،...ولكنني ،كباقي �صبايا البلد ،كنت �أعرف �أن الو�ضع خطري�( »...ص)24 هذا التفوق املعريف �سببه �صغر �سن الأنا املروية يف زمن احلكاية وعدم قدرتها على فهم �أحداث تتخطى م�ستوى تفكريها ،فال يبقى للأنا ال�ساردة �إال تقدمي اقرتاحات ت�سد هذا الفراغ املعريف
3
د .عبد امللك مرتا�ض« ،يف نظرية الرواية ،بحث يف تقنيات ال�سرد» ،عامل املعرفة ،الكويت� ،1998 ،ص .185 95
بو�ساطة اخلربة التي اكت�سبتها من احلياة« .ي�صعب علي الآن نقل م�شاعر �أهل البلد ،رمبا لأنني �ساعتها كنت �أعي�ش حالة ال ت�سمح �سني بالإحاطة بها .رمبا ت�ساءلت مثل باقي النا�س! متى ي�أتي علينا الدور؟ رمبا كنت مثلهم �أت�شبث بق�شة الغريق�( »...ص� .)39إن «معاينة املا�ضي يف حلظة �آنية تقدم _بال�ضرورة_ وعياً جديداً ،مل يكن مطروحاً حلظة املرور بالتجربة �سابقاً».4 ولكن التقدم يف ال�سن والن�ضج الذي يرتافق معه قد ال يكفيان لتف�سري التفوق املعريف للأنا الراوية على الأنا املروية� ،إذ يجب �أال نغفل الواقع الذي كانت تعي�شه رقية ال�صغرية ،فو�ضعها ب�صفتها فتاة مل يكن ي�سمح لها بامل�ساواة املعرفية مع الرجال يف قريتها .الرجال هم املوجلون مبتابعة الأخبار عن الو�ضع اخلطري الذي كانوا يعي�شونه .حتى قرار تق�سيم فل�سطني ،مل تعرف به ن�ساء القرية يف حينه على الرغم من ثقة الراوية ب�أن الرجال تداولوا اخلرب يف جمال�سهم من دون �أن يت�سرب �إىل ن�سائهم. وحني يحاول والد رقية �أن ي�شرح البنته وزوجته بع�ض خفايا اللعبة ال�سيا�سية ،ال تعريه الوالدة االهتمام الكايف ،بل ي�ضجرها طول حديثه فتقوم لأ�شغالها ،فهي اعتادت ان ال تنتمي �إىل �صف املهتمني و�أ�صحاب الر�أي والقرار واكتفت باالحتماء بقلق مبهم ي�ستكني �إىل العن�صر القوي الذي ليتمكن من ت�سلمه زمام م�صريها .كان على الن�ساء �أن يعرفن املوت والت�شرد وخ�سارة الرجال َّ حتليل ما يجري حولهن ومن ممار�سة حقهن يف القرار .هكذا فعلت رقية التي عادت �إىل الدرا�سة بعد �أن كرب �أوالدها والتي طورت قدراتها الفكرية من خالل عملها يف املخيم .وللأ�سباب نف�سها، قد يكون يف بع�ض الأحيان تفوق الأنا الراوية على الأنا املروية مرده �إىل تفوق يف القدرة على التعبري عن �أفكار مل تكن ،يف زمن احلكاية ،قادرة على �صياغتها ب�شكل وا�ضح كما ت�ستطيع �أن تفعل الآن ،وهي «على م�شارف ال�سبعني ،قادرة على النظر من فوق تلة العمر»�( .ص)79 و�إن كان للنظرة «من فوق تلة العمر» الوعي والن�ضج اللذان مينحانها و�ضوحاً يف التعبري عن املكامن، فالنظرة الفتية للأنا املروية ت�ضفي على الن�ص جواً منع�شاً يربط الأحداث بر�ؤية رقية ال�صبية التي مل تكد تغادر عمر الطفولة .ففي افتتاحية الرواية تطالعنا جملة تعرب عن ده�شة رقية ابنة الثالثة ع�شر ربيعاً وهي ت�شاهد يحيى الذي �سي�صبح خطيبها فيما بعد يخرج من البحر« :خرج من البحر، �أي واهلل ،خرج من البحر ك�أنه منه وطرحته الأمواج .مل حتمله كال�سمك �أفقياً ،ان�شقت عنه .تابع ُته وهو مي�شي ب�ساقني م�شدودتني باجتاه ال�شاطئ »...وهكذا ي�صبح التبئري تبئرياً داخلياً (focalisation )interneيتابع نظرة رقية ب�صفتها �شخ�صية من �شخ�صيات الق�صة .من خالل نظرتها ،نتعرف ،يف الف�صل االول للرواية على حياة الطنطورة الهادئة التي ال تغري وتريتها �إال الأعرا�س التي تقام فيها وعلى حياة رقية يف �إطار عائلي دافئ يرتك لها هام�شاً من احلرية .يتخلل هذا الف�صل بع�ض التدخالت للأنا الراوية التي تظهر بني احلني والآخر لتذكرنا بتلك االزدواجية التي اتخذتها �أ�سلوباً لنقل الق�صة من منظارين خمتلفني ،ولكن ذلك ال يحول م�سار التبئري �إىل وجهة نظر
4
96
عادل �ضرغام« ،يف ال�سرد الروائي» ،الدار العربية للعلوم نا�شرون� ،2010 ،ص .33
الأدب املقاوم
الراوي العليم ( )narrateur omniscientبل يبقي على وجهة نظر �شخ�صية رقية ال�صغرية� .أما الف�صل ال�سابع الذي يحمل عنوان «حني احتلوا البلد» ،فيف�سح يف املجال كام ًال �أمام وجهة نظر الأنا املروية وي�صمت �صوت الأنا الراوية التي ال تتدخل يف ر�ؤية الفتاة ال�صغرية لليوم الأخري يف الطنطورة ،يوم املجزرة والرحيل ،ففي حكاية هذا اليوم ،م�أ�ساة خال�صة يكفي �أن ُتعر�ض ليظهر هولها ،وال ي�ستطيع �أي تعليق من الأنا الراوية �أن يزيد من وقعها على امل�سرود له .يبد�أ الف�صل بهذه العبارة« :مل �أ�سمع الأ�صوات .كنت نائمة .وعندما �أيقظتني �أمي �سمعت ف�س�ألت�( ».ص)58 وهكذا مي�ضي الف�صل ب�سرد يتوافق متاماً مع وجهة نظر رقية يف ذلك الوقت ،فال يرى القارئ �إال ما تراه هي وال ي�سمع �إال ما ت�سمعه ويتابع ما تلتقطه حا�سة ال�شم لديها« :انتبهت وهم ي�سوقوننا باجتاه املقربة �أن للبلد رائحة غريبة تختلط برائحة البحر والزنبق االبي�ض» (�ص )61فالتبئري ،كما يقول جونيت ،ال يقت�صر على حا�سة الب�صر بل ي�شمل جميع احلوا�س .كذلك نتابع �أفكار رقية ال�صغرية وم�شاعرها كما وردتها يف ذلك الوقت�« :أمي ...بدت امر�أة �أخرى ،تعطي الأوامر ،تدير �ش�ؤون قطيعها ال�صغري بح�سم و�سرعة ،و�إن مل �أفهم منطق هذه الإدارة» (�ص .)60نتبعها يف �أثناء التح�ضري ملغادرة املنزل ،معها نرى الأم تدير املفتاح بالباب ،نلحق بها حني يقتادهم امل�سلحون �إىل ال�شاطئ، نراقب معها املجندات اليهوديات وهن يجردهن من كل ما كانوا يحملونه من مال وم�صاغ ،نتابع أخوي .مل بحثها عن والدها و�شقيقيها« :ال تتوقف عيناي عن التطلع �أم ًال يف ر�ؤية ابي �أو �أي من � ّ �أرهم .قدرت �أنهم �شردوا يف اجلبال �أو اختفوا يف مغارة من املغر�( ».ص )61عند هذه املرحلة ،ال يعرف القارئ عن م�صري الوالد وولديه �إال ما تعرفه رقية ال�صغرية لأن التبئري الداخلي التام ال مينح فر�صة التدخل للراوي العليم مبا حل بهم ،وال نكت�شف �أنهم قتلوا مع من قتل يف املذبحة �إال حني ت�شاهد رقية ال�صغرية جثثهم فتحاول �أن ت�شري �إىل �أمها �إىل مكانهم« :كانت جثثهم بجوار جثة جميل (ابن خال الأم) ،مكومة بع�ضها ل�صق بع�ض على بعد امتار قليلة منا�( ».ص)62 هذا الهام�ش من احلرية التي متنحه الأنا الراوية �إىل الأنا املروية قد يتطور �إىل ما ي�شبه االنف�صال بني ال�شخ�صيتني فت�أخذ الراوية بالتكلم ب�صيغة الغائبة عن الأنا املروية وت�صبح ،لوقت ق�صري ،رقية �شخ�صية غريبة عنها .وقد يكون هذا االنف�صال �سالحاً للدفاع عن النف�س يف مواجهة ذكريات قامتة �أفقدت الأنا املروية توازنها يف زمن احلكاية ،فما كان من الأنا الراوية �إال �أن ا�ستعادتها بعد �إقامة حائط عازل خوفاً من �أن ت�سرتجع معها احلزن الذي �أمل بها ،كما يف الفرتة التي تلت اغتيال غ�سان كنفاين .ت�صفها الراوية تتكلم على رقية التي كانت مت�شي يف جنازته ب�صيغة الغائبة�« :أنظر من بعيد .امر�أة خرجت مع زوجها و�أوالدها الثالثة�( »...ص )142وتعود �إىل تقنية التبئري الداخلي فريى القارئ ما تنظر �إليه رقية وي�سمع ما ت�سمع ويقر�أ �أفكارها وحدها .وقد تنتقل الراوية �إىل التكلم على الأنا املروية ب�صيغة الغائبة حني يعزلها عنها الفزع الذي �سيطر عليها خالل احلرب الأهلية يف بريوت واو�صلها �إىل �شفري اجلنون« :هل كانت رقية يف كامل عقلها يف تلك الأيام؟ 97
قبل �أن ي�ستيقظ الأوالد ،قبل �صباح اخلري وغلي القهوة ،تنزل �إىل ال�شارع ل�شراء اجلرائد .حتملها �إىل البيت ،تقر�أ العناوين الكبرية وال�صغرية ،والتفا�صيل والتعليقات واملقاالت ،ال�صفحة الأوىل والأخرية وما بينهما�( »...ص)177 تتحكم الراوية بروايتها ،تديرها مبا يتالءم والر�سائل التي ت�سعى �إىل �إي�صالها ،وكما �سبق وقلنا، غالباً ما ت�شرك امل�ستمع يف �شرحها لطريقة �إدارة الق�ص يف �سياق الوظيفة الإدارية (fonction de )régieفتت�ساءل معه عن كيفية تنظيم ال�سرد واحياناً عن جدواه« ،هل �أحكي حياتي حقاً �أم �أقفز عنها؟ وهل ميكن �أن يحكي �شخ�ص ما حياته فيتمكن من ا�ستح�ضار كل تفا�صيلها؟» (�ص)84 قد تطرح �أ�سئلة حتمل هماً �أدبياً تقنياً �إذ تت�ساءل عن كيفية ربط الأحدات ال�شخ�صية بالأحداث العامة اتي كانت مبجملها �أهوا ًال ،وت�س�أل �أي�ضاً عن جدوى ال�سرد �أمام �أحداث ال يطيق العقل ا�ستيعابها فكيف بالكالم ،مثل جمزرة �صربا و�شاتيال التي تتخطاها يف الف�صل املخ�ص�ص لها، عاجزة عن التعبري عن هولها ،ملتحفة بال�صمت ،حتذفها ،مكتفية بالتلميح عرب ذكر الذباب الذي حتمل فكرة اجتاح املخيمني يف ف�صل م�ؤلف من �صفحتني فقط .فهي ،عندما تعجز عن الروايةّ ، املوت لرمز الذباب الذي ،بالإ�ضافة �إىل وجوده الفعلي فوق اجلثث ،يحمل داللة املوت وال�شر املطلق ،ورمبا ،كما يف م�سرحية جان -بول �سارتر التي حتمل ا�سمه «الذباب»� ،شيئاً من ال�شعور بالذنب وهو �شعور متالزم مع فكرة املوت ،موت املقربني الذين عجزنا عن حمايتهم �أو مل نولهم االهتمام الكايف. وتتابع الراوية �سردها �شارحة احلذف واال�ستباق «قفزت قفزة تختزل من احلكاية خم�س �سنني». (�ص )191ثم تعود �إليها لرتويها ب�شكل ملخ�ص �أو على ل�سان رواة ثانويني من دون �أن تكف عن ال�س�ؤال الذي يعك�س خ�شيتها وترددها« :ما املنطق يف �أن �أرك�ض وراء الذاكرة وهي �شاردة ت�سعى �إىل الهروب من نف�سها� ،شعثاء ،معفرة ،مروعة م�سكونة بهول ما ر�أت؟»(�ص )188ففي هذه املجزرة� ،سوف تفقد زوجها وابن عمها الطبيب �أمني. ولعل النظر يف الوظيفة الإدارية يرفع الغطاء عن الراوية التي تتخفى يف مظهر امر�أة عادية ،ال حتمل ثقافة �سيا�سية وعلمية معمقة وال تلعب دوراً قيادياً يف الأحداث ،ولكنها تتحكم بالرواية ب�شكل مطلق .وهذا ما ي�سميه �سعيد بنكراد «التوجيه ال�سردي» ،فيتكلم على «الدميوقراطية املغ�شو�شة» يف الروايات التي حتمل بعداً �أيديولوجياً ،تلك التي توهم امل�سرود له �أن للأحداث ،كما للأ�صوات الروائية الأخرى ا�ستقاللية ما .ولكن «الت�صديق على كل املعارف املنت�شرة يف الن�ص ،مير عرب �صوت واحد هو �صوت الراوي الكلي املعرفة ،ورغم كرثة الكالم يف هذا النوع من الروايات ،ف�إن هذا الكالم ال يخرج عن دائرة �إنتاج ما ي�صدر عن ال�صوت املركزي� ،إنها دميوقراطية مغ�شو�شة، لها احلق يف �أن تقول وتفعل ما يريده ال�صوت اخلالق للن�ص» .5فنقل حكاية العائلة الفل�سطينية
5
98
�سعيد بنكراد« ،الن�ص ال�سردي نحو�سينميائيات الأيديولوجية» ،دار الأمان� ،1996 ،ص .45
الأدب املقاوم
التي خ�سرت �أر�ضها وت�شردت مهمة حيوية� ،إذ �أن الذاكرة مبا حملت ونقلت تغدو علة وجود الفل�سطينيني الذين يعمل العدو على حمو تاريخهم .هكذا يعرب الوعي الفردي لل�ساردة عن الواقع الفل�سطيني. �أما عالقة الراوية بالزمن فتتجلى �أوال يف تنبهها الدائم خلطورته وللغلبة احلتمية مل�ساره .تقول« :ال �أحد ي�ستع�صي على الزمن�( ».ص )17وتت�ساءل عن كيفية مروره من دون �أن تتنبه له ،ولعل �إعادة احلكاية من �أولها هي حماولة منها لتدجينه تنظيمه ولرتتيبه �ضمن �إطار وا�ضح� .أما على �صعيد اخلطاب ال�سردي فيتجلى �إدراكها خلطورة الزمن باخلطط التي ت�ضعها الراوية لتبقيه حتت �سيطرتها من دون �أن تقع يف رتابة ال�سرد .فهي تعود �إىل زمن الطفولة يف الطنطورة ،يف حلظة حمددة وهي خروج يحيى من البحر ،وتعتمد ال�سرد الت�صاعدي حتى ت�صل �إىل اخلامتة حيث يتالحم زمن احلكاية بزمن ال�سرد وتظهر الراوية وهي يف مرحلة الكهولة .ولكنها ،مع املحافظة على هذا اخليط الأ�سا�سي الذي يقود زمن ال�سرد ،ت�سمح للزمن ب�سلوك م�سارات ثانوية تتوافق والقفزات التي ت�أخذ الذاكرة �إىل الأمام �أو �إىل الوراء يف �سياق الذكريات. �إن الرواية ،كما الذاكرة ،كما الأفكار يف تيار الوعي ،ال مت�ضي ب�شكل منتظم ،على وترية واحدة، بل ترك�ض يف اجتاهات خمتلفة ،ت�سرع �أحياناً وترتجم عجالها مبوجز يخفف من وقع الذكريات ال�سوداء ،كما يف �سردها لتلقيها و�أوالدها �أخبار اتفاقية او�سلو التي جردتهم كما جردت كل الفل�سطينيني من حقهم يف �أر�ضهم عامة ويف الطنطورة خا�صة ،وقتل رابني وم�شهد عرفات يف اجلنازة وهو يقبل يد زوجة هذا الأخري .تعك�س الكتابة التغريات يف مزاج الراوية ،فت�سهل حيناً وت�صعب �أحياناً .عندها ت�أبى �إال �أن ت�شارك القارئ يف ال�صعوبات التي تعرت�ض طريق �سردها. ولكنها تلج�أ �إىل كل التقنيات املتوافرة لكي يحاكي ال�سرد حركة تيار الوعي ،فتلج�أ ،بني احلني والآخر� ،إىل رواية تكرارية موجزة تختزل فيها مراحل حياتها �إىل �أن ت�صل �إىل الزمن املعا�صر لزمن الق�ص يف ما ي�سميه جونيت تطابقاً زمنياً ( .)isotopie temporelleتلك الرواية التكرارية تبد�أ دائماً بعبارة «�أَ ُنظ ُر من بعيد» ،تنظر فرتى نف�سها فتاة �صغرية تلعب مع ابن عمها على �شاطئ الطنطورة (�ص ،)73وترى نف�سها مت�شي يف جنازة غ�سان كنفاين ،ثم امر�أة يف ال�سابعة والثالثني من عمرها تلتقط در�ساً عن املوت واحلياة. ولعل �أبرز ما مييز الت�أرجح الزمني الذي يجعل ال�سرد رفيقاً للمد واجلزر الذي يحرك الأفكار والذكريات تقنية اال�ستباق التي تدل على راو عليم ،يعرف كل تفا�صيل احلكاية ويفتح نافذة يطل منها على امل�ستقبل ،ثم يعود �إىل �سرد الوقائع حيث تركها .ولكن اال�ستباق يف رواية «الطنطورية» غالباً ما يحمل لون احلزن لأن احلزن كان هو الغالب يف م�ستقبل الفل�سطينيني .فعندما تروي رقية عن خوف والدتها من زواج ابنتها �إىل حيفا وابتعادها عنها ،ت�ستبق هجرتهم من �أر�ضهم وتقول: «�سريحمها اهلل من رحلة حيفا وكيلومرتاتها الأربعة والع�شرين .لن يعمل ال�شاب يف حيفا ولن ت�سكن ابنتها فيها�( ».ص )16وعند موت عمها �أبو الأمني ،ت�ستبق تعليق عز ابن عمها عن كون 99
موته رحمة له �إذ جنبه الأهوال القادمة على الفل�سطينيني يف لبنان مثل ح�صار تل الزعرت وحرب املخيمات ...ولكن اال�ستباق يرتبط بالفرح عندما يتعلق الأمر مبرمي ،الطفلة املتبناة ،التي عرفت كيف تعيد ال�ضحكة �إىل عامل رقية« :كنا يف الإ�سكندرية ومرمي تدر�س الطب يف جامعتها .لمِ َ �أ�ستبق الأحداث؟ مل �أنته من حكاية �أبوظبي .ما زلنا هناك»�( .ص)342 عندما تتكلم على مرمي فقط ،ي�صبح �أمني ،زوجها الراحل ،م�سرداً �إليه وتربز �صيغة املخاطب يف الن�ص حني تخربه �أنها �صارت �صبية جميلة جتيد الكالم .يف ما عدا ذلك ،يكون امل�سرود له مطنباً. ا�ستعان الفل�سطينيون بال�سرد حلماية ذاكرة حملت تاريخاً يحفظ كيانهم املهدد .يروون ملن ي�أتون بعدهم حكاية وطنهم الذي قال عنه ال�صهاينة �إنه «وطن بال �شعب ل�شعب بال �أر�ض» ليدح�ضوا هذه املقولة ،يحكون ليحفظوا التاريخ كما عا�شوه بعد �أن د�أب العدو على حماولة ت�شويهه .يف رواية «الطنطورة» يكرث الرواة الذين يحملون احلكاية لأبنائهم و�أحفادهم و�أقاربهم وكل م�ستمع يكفل عدم موتها ،ففي ا�ستمرار فعل الق�ص �ضمان لبقائهم .ت�سلم الراوية االوىل زمام ال�سرد �إىل رواة ثانويني يخربونها عن جتربتهم ،فتخف ،و�إن ظاهرياً فقط ،هيمنتها على احلكاية ،وتتحول هي �إىل م�سرد �إليه ،ت�ستمع وت�ضم حكاياتهم �إىل حكايتها لتعبد طريق الطنطورة بالذكريات. الرواة الثانويون وتداول الرواية
يبد�أ تداول الرواية من «هناك» ،من الطنطورة حيث ت�ستح�ضر الراوية الأوىل ،رقية ،الق�ص�ص التي �سمعتها من �أقاربها والتي بد�أت تلفت انتباهها بعد �أن ارتبطت بخطر ا�ست�شعرته الفتاة ال�صغرية فحاولت �أن تفهمه �أكرث عرب الإ�صغاء .ولكنها ،بعد مرور ال�سنني ،تعجز عن التمييز بني الرواة، خ�صو�صاً يف ما يتعلق ب�سقوط حيفا الذي كان له وقع ال�صاعقة على �أهل القرية الذين ظلوا حتى ذلك احلني يعتقدون �أن اخلطر ما زال بعيداً .تقول« :ال ميكنني الآن �أن �أن�سل اخليوط من بع�ضها أخوي بعد عودتهما ،وما الذي و�صلني مما تناقلته البنات عن لأعرف ما الذي �سمعته من �أبي و� َّ �آبائهن ،وما حكاه يل عمي الحقاً يف �صيدا�( ».ص )38.هكذا يختلط الرواة الثانويون (narrateurs )intradiégétiquesيف ذهنها يف هذه اللحظة احلرجة التي قلبت عاملها وعاملهم ر�أ�ساً على عقب. قبل ذلك ،مل يكن لل�سرد الأهمية الوجودية التي �سيكت�سبها بعد �سقوط حيفا و�ضياع الطنطورة. بعد هذا التحول� ،سي�صبح لكل را ٍو ثانوي دور �أ�سا�سي يف �إعادة �صوغ الهوية امل�شتتة .لهذا ال�سبب، جند �أن �أكرث الرواة الثانويني هم رواة �ضمنيون يحكون ق�صة كانوا موجودين فيها� ،سواء كانوا جمرد �شهود �أم كانوا م�ؤدي �أدوار رئي�سية فيها .ترى الدكتورة مينى العيد يف هذا الإطار: «�إن تعدد مواقع الر�ؤية الذي يطرح تعدد الأ�صوات ،والذي يطول هوية ال�شخ�صية كما يطول املنطوق وعمليته �أي�ضاً ،هو الذي ي�شق نافذة يف اجتاه خلق بنية ميكن ت�سميتها بالبنية الواقعية. 100
الأدب املقاوم
هذه البنية لي�ست بنية القول املقيم على م�ستوى الأيديولوجية امل�سيطرة� ،أو الراكن �إىل م�ستواه الأيديولوجي .بل هي بنية القول املتمرد على ركونه هذا ،يف اجتاه حركة ال�صراع� .أو يف اجتاه دينميته املحركة له ،والتي تبني زمنه».6 تتوىل الأم وظيفة ا�ستعادة العائلة ومللمة �أنقا�ضها ،فتخرب عن التقارب الذي عا�ش فيه زوجها و�شقيقه اللذان عمال �سوية وتزوجا من �شقيقتني ،كما نا�ضال معاً �ضد الإنكليز� .أما اخلالة ،الفرد الوحيد من العائلة الذي بقي لرقية من �أهلها بعد وفاة �أمها وعمها ،والتي ،بعد مرور ال�سنني الطويلة ،ما زالت حتن �إىل الطنطورة ،فردو�سها املفقود .دورها يكمن يف تذكر ذلك الفردو�س والكالم عليه البنة �شقيقتها املعنية مبا�شرة باملو�ضوع ،ولكن �أي�ضاً للجريان يف امللج�أ ،حتت الق�صف ،رمبا لت�ستح�ضر و�سط احلرب وال�شرور �سالم الطنطورة وجمالها اللذين مل يعد لهما وجود �إال يف ذكرياتها ويف حلم العودة. « يف امللج�أ تتكلم وت�ستفي�ض يف الكالم يف مو�ضوع واحد ال حتيد عنه :الطنطورة .حتكي عنها حكياً مت�ص ًال ومف�ص ًال جتذب به انتباه ال�سامعني .ودائماً ما تنهي الكالم بالعبارة نف�سها« :ملا نرجع بلدنا، �أمانة عليكم تزورونا .بلدنا جميلة ت�ستاهلكم وت�ستاهلوها�( ».ص)213 �أما عم رقية ،فهو راو ثانوي ي�ؤدي دوراً مهماً يف بناء �صرح الذكريات .قبل ذلك ،يف الطنطورة ،روى ل�شقيقه �سقوط حيفا الذي كان �شاهداً عليه .ومنذ ذلك احلني� ،صارت الرواية مهمته الرئي�سية، ورقية هي امل�سرود له الذي يتلقى الق�صة حتى ولو �سبق لها �أن عا�شت �أحداثها .يروي لها امل�شادة التي وقعت بينه وبني �شقيقه حني حاول عبثاً �إقناعه بوجوب الرحيل .فهو قد �أح�س باخلطر القادم عليهم وعرف �أن ال �سبيل لدرئه ،والأخ كان مقتنعاً ب�ضرورة البقاء يف البلد وبحتمية انت�صارهم على اليهود .رحل من دون �أن ينجح حتى يف حمل �شقيقه على الكالم معه ،وفقده من دون �أن يتمكن من توديعه .بقيت م�شادتهما الأخرية تدور يف ذهنه هاج�ساً حاول �أن يطرده بالكالم عليه. في�صبح للرواية وظيفة عالجية تتيح للراوي تكرير امل�شاعر والأفكار من ال�صخب الذي ولدت فيه. ما حكاه ل�شقيقه يف الطنطورة عن �سقوط حامية حيفا ردده على م�سامع كل �أفراد العائلة يف رواية تكرارية تهدف �إىل ت�سليم وديعة الذاكرة �إىل جيل �شاب ي�ستطيع �أن يغري �شيئاً يف املعادلة� ،أو على الأقل ينقلها ملن ي�أتون بعده�« :إ�سمع يا ولد .قد تروي احلكاية يوماً لأوالدك�( ».ص )169وخالفاً لرقية التي يرهقها فعل الق�ص ،كان ي�ستفي�ض يف الكالم الذي غدا ،بعد �أن تقدم يف ال�سن� ،سبب وجوده .ت�صف الراوية الأوىل الراوي الثاين وهو يتكلم ،فيبدو ك�أنه قد توحد مع روايته ،ف�صارت هي هويته: «يجمع حبات الكالم من هنا وهناك .ي�سل�سلها �أمام عيوننا كامل�سبحة .يحدد املكان .يحدد الزمان. ينتقل من زمان �إىل زمان ،ومن مكان �إىل مكان �سواه .من تاريخ معلوم �إىل وقائع �شخ�صية كان هو
6
د .مينى العيد« ،يف معرفة الن�ص» ،دار الآداب ،بريوت� ،1999 ،ص .91-90 101
نف�سه �شاهداً عليها وطرفاً فيها .يذكر القادة والزعماء« ،اهلل ال ي�ساحمهم» .يذكر رفاقه« ،يرحم اهلل ال�شهداء» .ي�ستح�ضر �صورهم .يرتكها معلقة على اجلدار يف خلفية الكالم�( ».ص)168 حني تراه رقية يتكلم ك�أنه يحيا ،تقول يف نف�سها �إنه �سيطرد املر�ض والعجز و�سيعي�ش طوي ًال. ولكنه ميوت ،وعندما ميوت يت�سلم غريه من الرواة الثانويني تداول الرواية مثل عبد� ،شقيق �صديقتها و�صال ،الذي يروي لها ،بعد لقائهما يف بريوت ،ما ح�صل بعد انف�صالهم بعد الرحيل من الطنطورة وكيف �أعادوا بناء حياتهم يف خميم جنني .تلج�أ الراوية الأوىل �إىل ا�ستعارة تعرب عن املوجز الذي قدمه لها عبد ،الراوي ال�ضمني-الذاتي عن حياة عائلته�« :صر ربع قرن من جمريات حياته يف منديل وقال هذا ما حدث�( ».ص )126هنا تربز �أي�ضاً وظيفة الإدارة للراوية (fonction )de régieحيث تت�سلم الراوية الأوىل من الرواة الثانويني ق�ص�صهم فتدرجها �ضمن ق�صتها كما وردت باخلطاب املبا�شر (� )discours directأو تعيد �صياغتها بكلماتها هي. العجائز يف خميم �شاتيال رواة ثانويون حتب الراوية الأوىل �أن تن�صت �إىل حكاياتهم التي تبد�أ دائما بـ«هناك»� ،أي بقرية من قرى فل�سطني .و�إن كانت الروايات كلها حزينة يف بداياتها ،ف�إنها ت�شرق بالأمل بعد حني وقد تتلون باملرح مثل الق�صة التي روتها �أم حممد عن ابنها ال�صغري الذي �أ�صر على ارتياد املدر�سة وذهب �إليها حايف القدمني لأن �شقيقه االكرب انتعل «احلفاية» الوحيدة التي معد له يف ال�صف ،تربع على احلو�ض يف طرف القاعة وطلب ميلكونها ،وحني قال املعلم �إن ال مكان ّ �إىل اال�ستاذ �أن يكمل �شغله ،وبهذا الإ�صرار ،متكن من �إنهاء علومه .ولكن رواياتهن تبقى دائماً مربوطة بحبل �سري �إىل «هناك»� ،إىل نقطة البداية ،تعود �إليها كلما ابتعدت يف الزمان واملكان، لذلك ال متلك �أن تتطور مثل غريها من احلكايات من و�ضع �أويل �إىل و�ضع نهائي« .مت�ضي احلكاية، وال مت�ضي متاماً ،لأنها ،وهي تتقدم �إىل الزمن التايل ،تظل ترجع وت�سرتجع .تت�شابه احلكايات، و�أي�ضاً تختلف كالوجه وهو يحكي�( ».ص� )148أم نبيل حتكي عن �شجرة الرمان قرب باب دارها «هناك» ،و�أم اليا�س حتكي عن احتالل اليهود للأرا�ضي الزراعية ،قبل �أن يحتلوا البلدة وعن اخلطة التي و�ضعها �أهل البلدة لي�سرقوا حم�صولهم من التبغ يف الليل ممن ا�ستولوا عليه ،و�أم الناه�ض حتكي حكاية مماثلة عن حم�صولهم من القمح .ثم املراحل التي تلت التهجري من العي�ش يف املخيمات ،يف البدايات ،مع اخليم و�سقوف الزنكو التي يطريها الهواء وطوابري املاء وم�ضايقات رجال الأمن والتهديد بالطرد ...تقول الراوية الأوىل التي غدت امل�سرود لها« :ومبع�ضلة غريبة عجيبة ال �أفهم كيف ،ت�ؤمنني احلكاية�( ».ص )152ت�صبح هي هن وت�صبح احلكاية. هي حتتاج �إىل رواية كل من كانوا «هناك» ليخربوها مبا غابت عنه ومل تتمكن من اختباره ،حتتاج �إىل ق�صة و�صال عن االنتفا�ضة لكي تتعرفها ب�شكل �شخ�صي ،ال كما ت�سمعها عرب القنوات التلفزيونية والإذاعات ،كما حتتاج �إىل ق�صة �أبو حممد ،العجوز الذي التقت به �صدفة يف �أبو ظبي واكت�شفت �أنه من الطنطورة و�سلمها حكايته عما جرى له بعد �أن اعتقله اليهود يف الثمانية والأربعني ،فتطلق 102
الأدب املقاوم
الراوية الأوىل على الف�صل الذي تورد فيه �سرد الراوي الثاين حلكايته بو�ساطة اخلطاب املبا�شر عنوان« :حديث املعتقل» .حتتاج الراوية كذلك �إىل ق�صة املمر�ضة هنية لتعرف ما الذي حدث فع ًال يف ملج�أ �أبو يا�سر يف �أثناء جمزرة �صربا و�شاتيال. لهذه املجزرة رواتها املخت�صون ،العديدون ممن �أح�سوا بخطر دفن الوقائع كما حاولت اجلرافات العميلة دفن عدد من جثث ال�ضحايا ،فكان الت�أريخ لهذا احلدث اخلطري خ�شبة خال�ص للرواة الذين حملوا مهمة الك�شف عن احلقيقة .عبد ،ابن رقية روى ما حدث وما كان �شاهداً عليه من رحيل املقاتلني الفل�سطينيني �إىل جمزرة �صربا و�شاتيال بناء على طلب الكاتبة وامل�ؤرخة بيان احلوت التي ت�صبح م�سروداً لها يتوجه �إليها ب�شكل مبا�شر ،فتربز يف ال�سرد �صيغة �ضمري املخاطبة�( ،أنا يا �ست بيان ولدت عام 1960-نعم احلق معك يا �ست بيان) بالإ�ضافة �إىل ر�سالة كتبها عبد �إىل �شقيقيه ليطلعهما فيها عما تو�صل �إليه بعد �أبحاثه من معلومات عن الذي حدث يف م�ست�شفى عكا يوم اجلمعة ال�سابع ع�شر من ايلول ،خالل املجزرة علهم ي�صلون �إىل خيط ما ملعرفة ما ح�صل لوالدهم الذي اختفى يف ذلك اليوم ومل يعرفوا �إن كان خمطوفاً �أو �شهيداً .يف هذه الر�سالة يكون �شقيقا عبد� ،صادق وح�سن ،هما امل�سرود لهما ،ولكن رقية ،بعد مرور ال�سنوات ،تلج�أ �إىل رواية عبد امل�سجلة على �شريط �إىل بيان احلوت ور�سالته �إىل �شقيقيه لت�ست�شهد بهما يف �سردها ،وت�سلم ال�سرد �إىل عبد وت�صبح امل�سرود لها. ابنها ح�سن ال يروي ب�شكل مبا�شر ،فهو الذي كان م�شلعاً بني �أمه وفل�سطني ،اختار زيارة فل�سطني من كندا وهو يدرك �أن تلك الزيارة �ستحرمه من املجيء �إىل لبنان ور�ؤية �أمه ،ولكنه ،بعد �أن ذهب �إىل «هناك» مل ي�ستطع رواية ما ر�آه لأمه وبقيت روايتها تفتقر �إىل �شواهد عن فل�سطني يف الزمن املعا�صر .تعلل الأم تق�صريه يف ال�سرد �إىل �صمت يطبق ك�سجن على من �شهد �أمراً يفوق احتماله. ت�شبه �صمته ب�صمتها بعد �أن ر�أت جثث والدها و�شقيقيها على �شاطئ الطنطورة .رمبا هو كان �شاهداً على موت فل�سطني كما و�صفها له الرواة الذين حكوا عنها .عو�ضاً عن �سرد ما ر�آه يف فل�سطني، يكتب رواية بطلتها البارجة الأمريكية نيو جري�سي ،رمبا لأنه �أراد �أن يذهب �إىل عمق الأ�سباب التي �أدت �إىل �ضياع فل�سطني. �أخرياً تربز يف الرواية �أ�صوات روائية من امل�ستوى الثالث ،مثل الرواة الذين يروون لعبد وقائع جمزرة بناية جاد يف �صيدا .ي�ستمع عبد �إىل �سردهم ما ح�صل حني ق�صف الإ�سرائيليون البناية فقتلوا عدداً كبرياً من املدنيني الذين كانوا يحتمون يف ملجئها ،وعادوا وق�صفوا مدخل املبنى ليمنعوا فرق الإ�سعاف من الو�صول �إليهم ،كما ي�ستمع �إىل مدير املدر�سة التي ق�صفت بدورها ويجمع رواياتهم لريويها �إىل والدته ثم لي�ضمها �إىل امللف يف الق�ضية التي ينوي رفعها �ضد �إ�سرائيل. مدير املدر�سة راو من امل�ستوى الثالث ( )métadiégétiqueيخرب �أنه �سمح لعدد من الأهايل الذين كانوا قادمني من �صور هرباً من الإجتياح باملبيت يف قبو املدر�سة 120« :كلهم تقريباً ن�ساء و�أطفال. 103
عدد قليل من الرجال امل�سنني وثالثة �شباب�( ».ص )444كما يخربه �أنهم بعد املجزرة ،نقلوا عدداً من اجلثث �إىل مقربة جمعية بينما بقي ق�سم منها حتت امللعب الذي �أعيد ترميمه. م�س�ؤول الدفاع املدين يف تلك املرحلة راو من امل�ستوى الثالث �أي�ضاً ،روى لعبد �أن عدد الذين ق�ضوا يف بناية جاد هو مئة وخم�سة وع�شرون و�أخربه �أن هناك �شهوداً �أحياء ممن كانوا خارج املبنى يف �أثناء الق�صف وفقدوا �أ�سرهم ولكنهم قد يكونون فقدوا قدرتهم على تقدمي ال�شهادة ب�سبب هول املا�ساة التي �أملت بهم. ما يجمع بني جميع الرواة ،من الراوية الأوىل �إىل الرواة من امل�ستوى الثالث ،هو �أن حكاياتهم و�إن كانت تدور حول �سرية حياتهم �أو مراحل منها ،لي�ست خا�صة متاماً� ،إمنا هي مرتبطة بالعام ،بالواقع الفل�سطيني ،بتاريخ من ال�صراع واالنت�صارات والهزائم. الواقع وال�رصاع
الواقع ،واقع رقية وعائلتها ،كما واقع كل الفل�سطينيني ،يلخ�ص بعنوانني :االغت�صاب واحلرب� .أو ًال اغت�صاب الأر�ض من قرويني مل يكونوا حم�ضرين للهجوم الذي �شن عليهم� .إذ كانوا يفتقرون �إىل القوة املعرفية كما القوة املادية� ،أي ال�سالح ال�ضروري ل�صد العدوان .يف البدء ظن �أهل الطنطورة �أنهم �إذا �أخفوا وجود الآثار يف قريتهم� ،سوف يحمونها من هجوم اليهود عليها ،لأنهم الحظوا �أن الآثار كانت الهدف الأول العتداءات الع�صابات اليهودية على باقي القرى .اجلهل التام لأمور ال�سيا�سة لدى الن�ساء ،مل يكن يقابله �إال معرفة منقو�صة لدى الرجال الذين اعتمدوا على الأخبار القليلة التي ينقلها بع�ض من يخرجون من القرية وعلى ما تنقله الإذاعات ،علماً �أن املذياع و�صل مت�أخراً �إىل القرية ،بعد �أن �أ�صبح اخلطر داهماً فغدا من ال�صعب العمل على درئه .بالإ�ضافة �إىل غياب النظرة الواقعية وت�سليم �أمرهم بكثري من ال�سذاجة �إىل العناية الإلهية وحدها .مل تخفهم املقارنة بني قواهم وقوى ع�صابات العدو« .هم معهم الإنكليز وال�سالح ونحن معنا ربنا لأننا �أ�صحاب حق» (�ص )43ال تعلق الراوية على الت�ضارب بني �سذاجة نظرتهم وبني واقع احلرب الذي ال يفر�ض الن�صر �إال مبنطق القوة التي ت�شكل القول الف�صل يف تقرير حق الأوطان ،بل ترتك للقارئ �أن ي�صل وحده �إىل نتيجة تف�سر واحداً من �أ�سباب �ضياع الأر�ض .ورمبا يرمز اخلالف الذي وقع بني الوالد والعم حول اخلطوات التي يجب على العائلة �أن تتخذها �إىل �سبب ثانٍ للتقهقر واخل�سارة وهو االنق�سام بني �أبناء ال�شعب الواحد حول و�سائل ال�صراع يف �سبيل ق�ضية واحدة .هكذا ،لطاملا الحقت االنق�سامات واالن�شقاقات الفل�سطينيني ب�شكل خا�ص ،و�أبناء وطننا ب�شكل عام ،لتعطل النتائج املرجوة من ال�صراع الذي تخو�ضه جمموعات تتحلى بالإميان ولكنها تفتقر �إىل الر�ؤية التي تدر�س الواقع وتدرك �أن ت�شتت القوى ال ميكن �إال �أن يكون عام ًال �سلبياً يف هذا ال�صراع. 104
الأدب املقاوم
يحمل الف�صل الرابع من الرواية عنواناً �شديد التعبري ،كلمة واحدة« :كيف؟» �س�ؤا ًال يلخ�ص �صعوبة �إدراك ما ح�صل يف النكبة .من الوا�ضح �أنه ،عندما بد�أ �أهل الطنطورة ب�شراء ال�سالح والتدرب على ا�ستعماله وتنظيم الفرق حلرا�سة البلدة كان الوقت قد ت�أخر ،بالإ�ضافة �إىل ال�شح يف ال�سالح وعدم القدرة على التزود باحلديث منه والفعال .وتتواىل الأ�سئلة يف هذا الف�صل لتعرب عن عدم قدرة رقية و�أهلها على ا�ستيعاب ما كان يح�صل لهم« .كيف �سقطت حيفا؟»« ،ماذا حدث للحامية؟»« ،ما الذي جرى ليخرج النا�س جماعياً �إىل امليناء ملغادرة املدينة؟»« ،ما الذي حدث يف �صفد؟»�« ،أين ذهب جي�ش الإنقاذ؟»« ،متى �سي�أتي علينا الدور؟»� .أ�سئلة مل يتمكن �أهل الطنطورة من الإجابة عنها يف حينه ورمبا بقي بع�ضها من دون �إجابة وا�ضحة ،فو�ضعتها الراوية بر�سم التاريخ. �أما الف�صل اخلام�س ،فقد ح َملته الراوية عنواناً موجز�أ �أي�ضاً ،عنواناً ال يحتاج �إىل �شرح ،تاريخاً �أ�صاب جرحاً يف �شرايني الوطن التي ما زالت �إىل اليوم تنزف من �آثاره« :ال�سبت ،»15-5تاريخ تق�سيم فل�سطني .و�صل العدو �إىل الطنطورة يف غفلة عن �أهلها ،يف غفلة ب�شكل خا�ص عن رقية ال�صغرية و�أمها التي �آمنت بالن�صر �إثر حلم �أخربتها به الفتاة عن زيارتها للمدينة املنورة ...كان الإغت�صاب ورحلوا .بعدها مل تتوقف احلروب التي ت�شن عليهم ،بل اتخذت وجوهاً �أخرى. يف لبنان� ،سيعرفون معنى �أن يكونوا الجئني و�إن مل يختربوا احلرمان كغريهم بف�ضل �أو�ضاعهم املادية املي�سورة ،لكنهم �سي�شرتكون مع بقية الفل�سطينيني يف اختبار ال�شعور بالإق�صاء واال�ضطهاد من قبل بع�ض الفئات من �سكان البلد الذي جل�أوا �إليه ،خا�صة مرارة حتول ال�صديق �إىل عدو� .أما املخيم ،فيلخ�ص ق�صة حياتهم ،و�إن مل يعي�شوا فيه ،يو�صمون ب�أنهم �أبناء املخيم ك�أنهم ينتمون �إىل طائفة غريبة وخميفة. «زميلك يف ال�صف ينقلب عليك فج�أة فال تعرف ما الذي �أغ�ضبه ،لتكت�شف بعد يوم �أو يومني �أنه عرف �أنك فل�سطيني و�أنك �أنت ال غريك �أمر م�ستفز يثري الغ�ضب �أو اال�ستياء على �أقل تقدير، القرف .ك�أنك ح�شرة �سقطت ،ل�سوء حظه يف �صحن احل�ساء�( ».ص)77 �سيختربون من جهة �أخرى خيانة القادة وتخاذلهم ،فمنهم من يقدم تنازالت جمانية (يا�سر عرفات واتفاقية او�سلو) ومنهم من ين�شغل باالنق�سامات الداخلية وي�ضيع الهدف احلقيقي ،و�سيعرفون �سوء الإدارة لدى البع�ض منهم .ولي�س �أدل على �سوء التنظيم لدى القيادات الفل�سطينية �سوى الق�صة التي يرويها ح�سن عن مركز االبحاث الفل�سطيني الذي �أن�ش�أه الدكتور �أني�س ال�صايغ. يتتبع ح�سن ق�صته منذ �إن�شائه حتى اجتياح عام 82وم�صادرة الإ�سرائيليني ملعظم الوثائق وامللفات املوجودة فيه .نقلوا ما يقارب الع�شرة �آالف كتاب ف�ض ًال عن خمطوطات نادرة وخرائط قيمة .ولكن، بعد املفاو�ضات مع منظمة التحرير ،مت االتفاق على ا�ستعادة حمتويات املكتبة .وهنا تبد�أ الق�صة برتجمة امل�أ�ساة الفل�سطينية ،فب�سبب الفو�ضى وقلة الإدراك لقيمة هذا النتاج الفكري الهائل، ت�ضيع املكتبة وتت�شتت بني قرب�ص واجلزائر وعوا�صم عربية �أخرى .حني يذكر ح�سن �ضياع املكتبة بالتوازي مع و�صفه ملجزرة �صربا و�شاتيال ،يكاد �أن ي�ساوي بني خ�سارة الأرواح الب�شرية وخ�سارة 105
ع�صارة الفكر واحل�ضارة يف الكتب التي �ضلت طريق فل�سطني .يقول�« :إن امل�شاركة يف تبديد هذا ال�صرح �أو العبث به جرمية مركبة تت�ضمن من بني ما تت�ضمن اال�ستخفاف باال�سم الفل�سطيني والدماء التي �أعطته هويته ومعناه�( ».ص)375 هذا يف ما يتعلق بالفل�سطينيني ب�شكل خا�ص .ولكن كان على الالجئني ،بالإ�ضافة �إىل حروبهم اخلا�صة� ،أن يتقا�سموا مع اللبنانيني �أهوال احلرب الأهلية ،تلك التي وجدت يف الأ�صل لتحرف النظر عن ق�ضيتهم .هذا اجلزء من احلكاية كان ي�ؤرق الراوية منذ البداية ،فهي التي مل تكد ت�صدق �أنها جنحت يف تخطي �أهوال احلرب ،تت�ساءل كيف �ستعود وتوقظ تلك الذكريات الرهيبة بو�ساطة الق�ص .عندما �أ�س ّرت بتلك الهواج�س �إىل ابنها ح�سن ،حاول �أن يجد لها منفذاً من املتاهة ،قال�« :أما الكوارث ،فاكتبي منها ما تطيقني ،والإ�شارة ،حتى الإ�شارة قد تفي بالغر�ض». (�ص )207وهي �ست�أخذ بن�صيحته وتلج�أ �إىل الإيجاز ( )sommaireعندما تقارب املحطات التي �سيطرت عليها �أجواء احلرب ،ولتثبيت هذا الإيجاز ت�ستعني بال�سرد (التواتري) ()récit itératif �إذ تروي مرة ما ح�صل عدة مرات ،كما ت�ستعمل اجلمل التي تق�صر حتى توازي العناوين ،عناوين حرب ال حتتمل الو�صف املطول: «طائرات تق�صف .بوارج .مدفعيات ثقيلة .قنابل .عبوات نا�سفة تنفجر بها �سيارات تبدو قبل دقائق من الإنفجار �أليفة كقطط نائمة .حرائق .ينقطع املاء .تنقطع الكهرباء .واخلبز ينقطع .تذهب للبحث عنه ،تنفجر الأر�ض بني قدميك�( »...ص)208 وال ريب �أن الإيجاز يف زمن احلرب يتجلى �أي�ضاً يف عناوين الف�صول ،حيث تعود الراوية �إىل الإ�ستعانة بالتاريخ املجرد الذي ُيفقده ال�شرح �شيئاً من ت�أثريه .في�أتي عنوان الف�صل الثاين والع�شرين جمرد تاريخ ل�سنة ال ميكن �أن متحى من ذهن �أي عربي .»1982« :و�إن كانت الراوية تخت�صر ال�سرد يف كل ما يخت�ص بزمن احلرب ،ف�إنها تف�صح ب�شكل م�سهب عن تفاعلها مع تلك احلرب .ت�صف ب�شكل خا�ص اخلوف الذي يالزمها كما يالزم كل من يعي�شون يف ظل العنف ال�سائد ،خوفاً قد يكون �ضرورياً حني يرافق غريزة البقاء ،فمن دونه ميكن للمرء �أن يعر�ض نف�سه للخطر من دون �أن يدرك ذلك .ولكن هناك من�سوب معني عليه �أن يحافظ عليه ،فهذا املن�سوب �إذا عال ،ي�أكل اخلوف �صاحبه كاملر�ض اخلبيث .عندما ت�شرح الراوية ما كان ي�صيبها من جراء الق�صف واالنفجارات ،تتباط�أ وترية ال�سرد حتى تبلغ الوقف.)la pause( . ما من حل للفل�سطيني العالق بني النريان املختلفة �سوى االنتظار .وتتنوع طرق االنتظار بتنوع الطبائع والأعمار .فبع�ضهم يت�صرب على االنتظار بالإنكار ،مثل والدة رقية التي �أنكرت موت زوجها وولديها وبقيت تنتظر الفر�صة لتذهب للبحث عنهما يف م�صر حيث تعتقد �أنهما موجودان ،والعم ينتظر العودة �إىل فل�سطني وال ير�ضى �أن ي�سمى الجئاً و�أن يت�سجل على لوائح الأمم املتحدة. ال�شباب ينخرطون يف العمل امليداين وين�سون �أنهم ينتظرون ،ورقية جتمع احلكايات وتربي �أوالدها 106
الأدب املقاوم
وتهتم ب�أمها وعمها وخالتها بينما هي تنتظر .كان ميكن لالنتظار �أن يكون عنوان الرواية ،كما هو عنوان حلياة الفل�سطينيني .ت�صحح رقية حكاية بينيلوب التي مت�ضي ال�سنني وهي تنتظر عودة زوجها بينما تغزل وتفك كل يوم ما غزلته يف اليوم ال�سابق وتعيد الغزل .تقول« :لي�س هكذا االنتظار ،فهو مالزم للحالة ،ال بديل لها�( ».ص )114ت�شبه االنتظار مبحطة قطار .تنتظر وجهتك، ولكنك ،يف نف�س الوقت تركب قطارات �أخرى حتملك يف خمتلف الإجتاهات. ال تبقى الراوية م�سمرة يف مكانها بانتظار العودة �إىل وطنها ،بل تختار اجتاهات متعددة ت�سلكها لرتو�ض زمن االنتظار ويف ذلك تكون م�ساهمتها يف ال�صراع. �أوىل الو�سائل يف ال�صراع مع املوت الذي �أراده العدو ل�شعبها تكمن ،عند الراوية ،يف ممار�سة �أمومتها ب�شكل مطلق ،الأمومة ب�صفتها فعل وجود ،يف وظيفة الأم الأولية التي تكمن يف تقدمي الغذاء لأوالدها ،يف ال�سعادة التي جتدها يف حت�ضري الطعام ،يف ح�ضورها الدائم �إىل جانبهم ،يف م�شاركتهم همومهم واهتماماتهم حتى بعد �أن �سافروا وباعدت امل�سافات بينهم .وي�شكل ح�ضور مرمي يف حياتها ،مرمي الفتاة اليتيمة التي حملها زوجها بعد �أن ق�ضى �أهلها حتت الق�صف ،تتويجاً لتلك الأمومة التي تكر�س احلياة �سالحاً .وقد يكون ح�س الأمومة املتالزم وحياة الراوية هو ما يبعد طيف اخليبة الذي غالباً ما يطغى على ف�ضاء الرواية العربية ب�شكل عام وعلى الرواية التي تتخذ من فل�سطني مو�ضوعاً وعنواناً ب�شكل خا�ص� .إذ �أن هذا ال�شعور متجدد بطبيعته ،ال ين�ضب، فبعد الأوالد الأحفاد .هكذا يتجلى م�شهد الوقوف عند ال�شريط احلدودي يف نهاية الرواية بو�صفه م�شهداً حمورياً� ،إذ حتمل رقية حفيدتها التي ينقلها �إليها ابنها من خلف ال�شريط وتعلق يف رقبتها مفتاح البيت يف الطنطورة. وقد ترتجم �أمومتها يف ن�شاطات ثانوية كاالهتمام بالزرع الذي ي�شبع توقها �إىل اخللق� ،إىل �إنتاج احلياة بعد �أن كرب �أوالدها وفقدت الوظيفة الأولية التي عا�شت لأجلها .بعد تربية الأوالد ،اعتنقت تربية ال�شتول لتن�شئ جنينتها .وت�شري رقية �إىل �إعجابها بكلمة جنينة لأنها ت�صغري لكلمة جنة ،ويف هذا داللة وا�ضحة �إىل االن�سجام بني احلياة الدنيوية والأبدية الذي يج�سده التقارب بني كلمتي جنينة وجنة .الزراعة �أعطت معنى جديداً حلياتها بعد انق�ضاء مرحلة الأمومة الأولية ،وكذلك فعل الق�ص الذي امت�شقته �سالحاً يف وجه املوت ،موت الذاكرة الذي يهدد مبوت التاريخ .وال �شك �أن فعل الق�ص ال ينف�صل عن حمور االمومة والأمومة تن�سجم والأر�ض واجتماع هذه املحاور تلخ�صه عبارة معربة تعلق فيها رقية على احلكايات التي ترويها العجائز يف املخيمات :حني ت�ستمع �إليهن« ،الأر�ض تتكور كح�ضن�( ».ص)152 تختار الراوية فعل الق�ص و�سيلة لل�صراع ،وال�صراع هو ال�سبيل الأوحد للبقاء ،للحفاظ على الذات والهوية�« .إذا نظرنا �إىل واحد من �أقدم النماذج الأدبية يف التاريخ ،و�أق�صد بذلك ملحمة «جلجام�ش» و�أ�سطورة الطوفان التي تت�ضمنها ،نرى �أن املنطق ال�صراعي كان حيوياً يف �إطار هاج�س 107
الإن�سان ملواجهة عامل الفناء واملوت الذي �أخافه ،وهذا ما يجعل ال�صراع فيها يدخل �ضمن ثنائية (الفناء/البقاء) وينتهي بعجز الإن�سان عن حتقيق البقاء املادي واالكتفاء بالبقاء يف وجدان املجتمع وا�ستمراريته التي �شكلت نوعاً من اخللود».7 تتوجه ق�صة الراوية �إىل «قارئ �ضمني» ممثل بجهتني :وجدان املجتمع الذي يجب �أن يحافظ على الذاكرة حمافظته على وجوده وقارئ يجهل حقيقة ما ح�صل يف فل�سطني وللفل�سطينيني بعد خروجهم من �أر�ضهم فت�أتيه حكاية عائلة رقية بيومياتها و�أحزانها وافراحها ال�صغرية والكبرية ملتفة بالأحداث التاريخية على ل�سان امراة عادية تكتفي بالرواية وبعر�ض املتخيل والتاريخي من الأحداث .تعر�ض الوقائع وترتك لقارئها ال�ضمني �أن يدرك املحركات ال�سيا�سية اخلفية التي تديرها. وقد يتجلى ال�صراع يف الرواية يف اخليار الأخري الذي �أخذه عبد ،ابن رقية املحامي ،الذي يعمل على م�شروع ملقا�ضاة �إ�سرائيل على اجلرائم التي ارتكبتها ويقنع �أخاه �صادق بتمويل م�شروعه. يت�ساءل القارئ �أمام خيارات ال�صراع هذه التي ت�أخذها الراوية وال�شخ�صيات الأخرى يف الرواية �إن كان خيار ال�صراع الع�سكري �أو ما يعرف باملقاومة امل�سلحة ملغى من تفكريها .رمبا كان عدم انخراط ال�شخ�صيات يف الكفاح امل�سلح عائداً لكون الكاتبة مل ت�ش�أ �أن تقحمها يف االن�شقاق الذي رافق املقاومة الفل�سطينية .لذلك اختارت �أن تخرب عن حترير اجلنوب وو�ضعت على ل�سان امر�أة عجوز يف البا�ص الذي كان يحمل الفل�سطينيني نحو ال�شريط احلدودي العبارة التالية« :اهلل يحمي ال�سيد ح�سن .لواله ولوال املقاومة ما كان ب�إمكاننا �أن نط�أ هذه الأر�ض .اثنني وع�شرين �سنة احتالل وراحوا بال رجعة» (�ص )447وعلى الرغم من اعرتا�ض �أحد ال�شبان يف البا�ص على كالمها هذا بقوله �إن قائدهم هو �أبو عمار ،ت�شكل ال�صورة املقدمة عن عر�س التحرير منارة تبعد ظالم الطريق عن الراوية. رموز اخلال�ص
احلكاية يف «الطنطورية» هي حكاية امر�أة عادية وعائلة فل�سطينية عادية ال يكاد يخرج يف تفا�صيلها �شيء عن امل�ألوف ،فالكاتبة �سعت �إىل البناء على �أ�س�س ت�شبه تلك التي حتمل حيوات الأكرثية من �أبناء فل�سطني املُغَربني عن �أر�ضهم .ولكن العمق يتك�شف �أمام القارئ يف الذكاء الذي مييز �أ�سلوب ال�سرد ،كما يف ر�سائل خفية حتملها بع�ض الرموز يف الن�ص .تلك الرموز تن�سج بني الالوعي الفردي واجلمعي وبني الن�ص عالقة تتبدى يف جمموعة من املفاهيم امل�ستقلة يف الظاهر املرتبطة يف العمق �ضمن منظومة حتمل عنوان الأمل .منظومة الدالالت هذه تنقل احلكاية من جو امل�أ�ساة
7
108
ل�ؤي زيتوين« ،املنطق ال�صراعي يف الأدب احلديث» ،دار فكر للأبحاث والن�شر� ،2011 ،ص .7
الأدب املقاوم
الذي يطبع التاريخ الفل�سطيني �إىل جو يحمل يف حناياه بقعاً من ال�ضوء ت�صل عندما يربطها القارئ بع�ضها ببع�ضها الآخر �إىل �أفق من التفا�ؤل. نبد�أ من الرموز التي ت�شري �إىل احلكاية ،تلك احلكاية التي حتملها الكاتبة مهمة اخلال�ص من متاهة الزمن وتبلبل الأفكار. -1ال�صرة :تقول رقية« :هل ميكن �أن ي�صر �شخ�ص ما حكايته يف منديل وميد به يده �إىل الآخرين قائ ًال :هذه حكايتي ،ن�صيبي من الدنيا؟ ثم كيف تنقل �صرة بحجم الكف �أو �صرة كبرية كتلك التي حتملها الن�سوة على ر�ؤو�سهن وهن ي�شردن �شرقاً عرب اجل�سر ،حكاية عمر ب�أكمله، م�شتبك بطبيعة احلال مع �أعمار الآخرين؟» (�ص )85-84كما ت�شري الكاتبة يف موقع �آخر �إىل وقدمها �إىل رقية .حتمل ال�صرة داللة الرتحال ،في�صبح ال�صرة التي جمع فيها عبد حكايته ّ الراوي حكواتياً متنق ًال ،يحمل حياته يف �صرة لينقذها مما يهددها ،كم يجمل الفل�سطيني املبعد عن �أر�ضه حكايته التي تكون ،يف بع�ض الأحيان ،كل ما ميلك .هكذا ،تكون ال�صرة هي الرواية ال�شفوية �أو الن�ص وم�ضمون ال�صرة هو حكاية احلامل .يف ال�صرة تربز �صورة الدائرة التي حتمل كل الإمكانات ،وقد ترمز �إىل الكمال .يف ال�سياق نف�سه ،متثل الدائرة �صورة رحم الأم الذي عا�ش فيه اجلنني يف جو من الأمان ال ّ ينفك الإن�سان النا�ضج يبحث عنه. -2املنجم :وقد ت�شري الكاتبة �إىل احلكاية بو�صفها منجماً ،عندها ي�صبح فعل الق�ص مرادفاً للغو�ص يف �أعماقه للتنقيب عن خفاياه« .منجم عجيب غريب يتعني عليك النزول �إليه مفرداً يك�سرها لأنه ال يخ�ص �سواك و�إن وجدت فيه ما يخ�صهم .ثم �إنه قد ي�سقط فج�أة على ر�أ�سكّ ، �أو يطمرك كام ًال بركامه�( ».ص .)84يف رواية جرمينال لإميل زوال ،يرمز املنجم �إىل اجلحيم، منطقة مظلمة حيث ي�سود املوت ،وهي �أي�ضاً مكونة من ممرات مت�شعبة ومتداخلة حيث لكل عامل وظيفة حمددة .يحول زوال املنجم �إىل وح�ش �ضار يبتلع الرجال .واخلطر الذي ت�شري �إليه الكاتبة يف ما �سبق لي�س خطراً خارجياً� ،إذ �أن املنجم ميثل الالوعي الذي ي�سعى الراوي �إىل ا�ستك�شافه مع �إمكانية التو�صل �إىل ما ميكن �أن يهدم الهدوء املزيف الذي يعي�ش فيه والذي يخفي حتته عوامل مهددة لتما�سكه النف�سي .ولكن يبقى على امل�ستك�شف �أن يتحدى هذا اخلطر ويغو�ص يف الأعماق لي�سربها ويتمكن من خالل بحثه العميق ور�ؤيته الوا�ضحة ملا يف داخله �أن يفهم ما ح�صل يف العامل اخلارجي .يكتب فيكتور هيغو حول داللة النظر �إىل �أعماق بئر�« :إنه لأمر عجيب ،على الإن�سان �أن ينظر �إىل اخلارج من خالل داخله هو». � -3أغاين القرية القدمية :تنقلها الكاتبة حني ت�صف م�شاهد الأعرا�س يف الرواية وهي حتمل دالالت عديدة .تلك الأغاين ال تكتفي ب�إعادة ال�شخ�صيات �إىل زمن القرية الفل�سطينية 109
الهانئ ،بل تتحول �سالحاً ي�شهره الفل�سطينيون يف وجه عدو �سوغ اغت�صابه الأر�ض بنفي احل�ضارة التي كانت قائمة عليها .والأغاين الفلكلورية حتمل بعداً اجتماعياً ينقل ن�سق حياة املجتمع الذي ولدت فيه ،العادات والتقاليد ،النظرة �إىل احلياة ،الإميان� ...إلخ ،فهي تحُ َمل الن�ص مهمة حماية املا�ضي املهدد .وغالباً ما تن�شد تلك الأغاين يف الأعرا�س ،تلك االحتفاالت التي جت�سد �شغف الإن�سان باحلياة ،والتي ما فتئ �أبناء �شعبنا يقيمونها يف ظل �أ�شد الظروف ق�ساوة .من جهة �أخرى ارتبطت الأغاين باحل�س اجلمعي للمقاومة وال�صراع. هي �إذن رمز لل�صراع يف �سبيل �إنقاذ املا�ضي و�شد الهمم يف احلا�ضر. -4ال�شجرة« :كل امر�أة �شجرة�( ».ص )149تقولها رقية عن ن�ساء املخيم اللواتي ت�شبههن بال�شجرات التي كانت مزروعة قرب دورهن يف فل�سطني .حتمل ال�شجرة يف خمتلف الثقافات داللتي التغذية واحلماية وهما داللتان ترتبطان �أي�ضاً ب�صورة الأم ،لذلك جاءت اال�ستعارة لتلقي ال�ضوء على هذا التالقي .وترمزال�شجرة �أي�ضاً �إىل العالقة بني الأر�ض وال�سماء ،كما �أن ال�شكل العمودي يحمل معاين البطولة والتحدي .هكذا ي�صبح «الوقوف مرادفاً لقيم 9 البطولة وال�صراع 8».يكتب با�شالر �أن «الإن�سان كال�شجرة كائن تنت�صب فيه قوى خفية». وقد ارتبطت �صورة ال�شجرة ،منذ الن�صو�ص ال�شفوية ،ارتباطاً وثيقاً بثقافة اجلماعة ،فجعلتها الأ�ساطري والق�ص�ص كما الن�صو�ص الدينية رمزاً �أ�سا�سياً ،وكان لل�شجرة ،يف بع�ض الأحيان طابع مقد�س .لذلك يحمل ت�شبيه املر�أة الفل�سطينية بال�شجرة بعداً ثقافياً يجعل من املر�أة الرابط بني الأر�ض وال�سماء ،وجت�سيداً لفكرة القيامة يف جتددها الدائم .عرب رمز ال�شجرة، تنت�صر املر�أة الفل�سطينية على املوت وتعيد ربط �أبنائها باحلياة وب�أر�ضهم ،كما تتغلب على �شعور اخلوف من الزمن الذي يعرب م�سرعاً ،حام ًال معه �شبابها الذي يذوي وحياة �أهلها التي انطف�أت بعيداً عن الوطن .الت�شبيه بال�شجرة يحمل يف طياته بعداً تفا�ؤلياً« ،فهذا الت�شبيه ب�شجرة معمرة ال يتمكن منها الزمن ،ويرتافق حتولها بجاللة جذورها وبجمال �أزهارها» 10مينح املر�أة قدرة االنت�صار على الزمن والتجدد الدائم. -5البيت :هو رمز مرتبط ب�صورة �أولية بالأمومة ،هو مكان �شبيه برحم الأم حيث ينعم اجلنني بالأمان وحيث ي�ستح�صل على القوة ال�ضرورية للخروج �إىل العامل .يف البيت متكنت رقية� ،إىل املهدد ،وقد جنحت يف حتقيق ذلك على الرغم حد ما ،من خلق م�ساحة حتمي عائلتها من اخلارج ِّ Pascal Galvani, L’eau, élément d’éco formation concrète et symbolique, www.barbier-rd.nom.fr/ PGalvaniEauEcoformation.htm. 9 Gastond Bachelard, L’Air et les Songes, José-Corti, 1943, p.237. 10 Gilbert Durand, Les Structures anthropologiques de l’imaginaire, Dunod, 1984, p.396.
8
110
الأدب املقاوم
من تنقلها الدائم وعائلتها بني البيوت املختلفة ب�سبب التهجري .ولكن تلك البيوت �ساهمت يف تكوين الأنا لل�شخ�صيات« .لي�س فقط لذكرياتنا ،بل لن�سياننا �أي�ضاً م�سكن .روحنا منزل، وعندما نتذكر البيوت والغرف ،نتعلم �أن ن�سكن يف داخلنا� .صور البيت ت�سري يف اجتاهني: هي فينا كما نحن فيها» .11ويرتبط البيت يف الرواية ب�صورة الطعام الذي تعده الأم والذي يدل ،كما �سبق و�أ�شرنا� ،إىل وظيفة الأم الأولية التي تتمثل يف تقدمي الغذاء لأوالدها ،كما يرتبط ب�صورة غالية القهوة (البكرج) وهي �ش�أن ثقايف يرمز �إىل االجتماع واحلوار العائليني. عا�شت رقية يف بيوت عدة ،منها ما �أحبتها ،كبيتها يف الطنطورة ،ومنها ما �سعت �إىل تروي�ضها و�إ�ضفاء مل�سة خا�صة عليها ،كالبيت يف �أبو ظبي حيث بقيت غريبة فهربت منه �إىل وظيفة تعيد ربطها مع داخلها وهي حياكة ال�صوف ،والبيت يف الإ�سكندرية الذي حولته �إىل جمموعة من «اجلنينات» ،حتى و�صلت �إىل البيت الأخري� ،أو «البيت ال�سابع» .يف هذا البيت ،نراها يف بداية الرواية ،يف زمن ال�سرد احلا�ضر ،تنتظر عودة ال�صيف لت�ستقبل الأوالد والأحفاد العائدين من اغرتابهم لي�ستظلوا ،ولو ملدة زمنية ق�صرية اجلو العائلي احلميم .كما نراها ،يف نهاية الرواية ،عند عودتها �إىل زمن قريب من زمن الق�ص ،عندما خريها الأوالد بني �أماكن �سكنهم يف بلدان خمتلفة ،وقد اختارت العودة �إىل �صيدا« .البيت ال�سابع �سيكون هناك يف �صيدا .عند الباب� .أحب الرقم �سبعة .لعله الأخري�( ».ص )428هكذا ت�ضاف �إىل رمزية البيت رمزية الرقم �سبعة الذي ي�شري يف �أكرث الثقافات �إىل التكامل (عدد �أيام الأ�سبوع ،الدورات حول الكعبة املقد�سة ،خلق العامل يف �ستة �أيام واليوم ال�سابع للراحة ،ال�سموات ال�سبع... �إلخ) ت�ستقر رقية يف البيت الذي تقول �إنه �سيكون الأخري عند بوابة فل�سطني ،تقرتب قدر الإمكان من بيتها الأول ،تق�صر امل�سافة بينها وبينه ،فتكتمل حياتها ببنيان داخلي �شيدته لتعو�ض اخلراب وال�ضياع اخلارجيني� .إن مل تتمكن ،لظروف خارجة عن �إرادتها ،من العودة �إىل الوطن املغت�صب ،فقد جنحت يف ابتداع وطن بديل داخل جدران دافئة ،جمعت �أفراد عائلة متفاهمني على تناق�ضاتهم ،ويحملون ،متث ًال بالأم ،فل�سطني يف قلبهم وفكرهم .وترتبط �صورة البيت الفل�سطيني ب�صورة املفتاح .ويح�ضر الرقم �سبعة لي�صبغ املفتاح بطابع مقد�س �إذ �أن �أم رقية �أدارته �سبع مرات يف قفل باب بيتهم يف الطنطورة قبل �أن يغادروا مطاردين من الع�صابات اليهودية .ي�صبح املفتاح �إذن رمزاً حلقهم يف ملكية البيت ،حقاً مقد�ساً ،لذلك حملته �أم رقية ومن ثم رقية نف�سها ،كما �أكرث ن�ساء املخيم معلقاً يف حبل ال ينزعنه عنهن �أبداً ويالزمهن حتى مماتهن .بعدها ينتقل �إىل �أعناق الأبناء ،كما تنتقل ملكية البيوت والعهد بالعودة �إليها.
11 Gaston Bachelard, La Poétique de l’Espace, Ed. José-Corti, p.19.
111
-6البحر :هو ،يف الرواية ،مرادف للوطن .فكما يقول با�شالر�« ،إن الوطن قد يكون مادة �أكرث منه م�ساحة .هو �صخرة غرانيت �أو �أر�ض ،هواء �أو جفاف ،ماء �أو �ضوء 12»...تكر�س له الراوية الف�صل الأول الذي يحمل عنوان «طرح البحر» ،فتخرب فيه عن يحيى ،حبيبها الأول الذي خرج من الأمواج ،كما ت�صف حياة الطنطورة التي ي�شكل البحر عمادها .يرافق البحر مظاهر احلياة االجتماعية ،فالعر�س «يفرت�ش �شاطئ البحر» ،وبو�ساطة الت�شخي�ص يتحول البحر �إىل م�شارك يف مظاهر الفرح «ورمبا يكون البحر مثلنا م�أخوذاً بالفرجة فين�سى نف�سه وي�ستكني». (�ص )11هو مطرح اللعب الأول ،و�أبناء الطنطورة يتعلمون ال�سباحة كما يتعلمون امل�شي والكالم .فيما بعد �ستبحث عنه رقية يف كل املدن التي �ستعي�ش فيها ولكنه �سيبقى غريباً �إذ �سيف�صلها عنه �سياج �أو هوة و�ست�أتي �إليه ك�سائحة �أو زائرة ولن يكون ،كما يف الطنطورة، فردو�سها املفقود ،جزءاً من حياتها اليومية ،واحداً من �أهل البلد .ال يكاد ف�صل يف الرواية يخلو من ذكر البحر فالراوية تلج�أ �إليه كلما �ضاقت بها الدنيا ،تبحث فيه عن جت�سيد للتاريخ الهارب وللجغرافيا املغت�صبة .وللبحر دالالت عميقة يف النف�س التي تتوق �إليه ،فهو «يرمز �إىل حيوية احلياة واملوت .مكان للوالدات ،للتحوالت ،للقيامات ،وهو ي�شكل حالة و�سطية بني الوقائع املعا�شة وبني العوامل املحتملة .ويف مفهوم الأ�ساطري التقليدية ،ترتبط رمزية البحر باملياه الأ�صلية التي تتمتع بامليزة الإلهية التي متنح وت�أخذ احلياة» .13من �صورة البحر ننتقل �إىل �صورة املاء التي ت�شكل عن�صراً �أ�سا�سياً من العنا�صر الكونية .يف الطنطورة «بئر من املاء العذب م�ستقرة بني �أمواج املالح» (�ص )10وحتمل هذه البئر رمزية الأمومة الرتباطها بالعذوبة وبالأعماق التي تولد منها املياه حاملة احلياة .وتبقى ذاكرة الراوية معلقة بتلك ال�صورة�« .أن حتب �صورة ما يعني �أن جتد ،من دون �أن تعي ذلك ،ا�ستعارة جديدة حلب قدمي» .14ذلك احلب القدمي هو الأر�ض التي غادرتها وما فتئت تتوق �إىل لقياها .بني الأر�ض والأمومة �صلة تظهرها �صورة املاء .وتتجلى تلك العالقة بينهما عرب �صورة املاء يف م�شهد التحرير الذي تراقبه رقية عرب �شا�شة التلفاز .ت�شبه �شعورها لدى ر�ؤيتها مل�شهد ا�ستعادة الأر�ض من املحتل ب�شعورها يف �أثناء الوالدة« :كنظرة عينيك حني مي�سك �أحدهم بوليد انزلق للتو منك» وبنبع من املاء« :نبع، يف مكان غام�ض من اجل�سم �أو الروح �أو الأر�ض ،كذلك النبع يف الكهف القبلي �شرق البلد». (�ص )426يعيد �إليها التحرير الزمن املفقود فت�ستعيد ذاكرتها �صورة النبع يف الطنطورة ،يعيد �إليها الزمان مانحاً الأمل با�ستعادة املكان.
12 Gastond Bachelard, L’eau et les rêves, Ed. José-Corti, 1963, p.11-12. 13 Jean Chevalier et Alain Gheerbrant, Dictionnaire des symboles: mythes, rêves, coutumes, gestes, formes, figures, couleurs, nombres, ed. Pierre Laffont, 1997, p 219. 14 Gastond Bachelard, L’Eau et les Rêves, p.57.
112
الأدب املقاوم
اخلامتة
«كيف يحتمل كتاب �صغري �أو كبري �آالف اجلثث .قدر الدم .كم الأنقا�ض .الفزع .رك�ضنا طلباً للحياة ونحن نتمنى املوت». وقفت رقية مت�سائلة �أمام الرواية التي طلب منها ابنها �أن تكتبها ،خائفة من املحتوى الذي �ستنقله والذي حمل �أهوا ًال مل يعرفها �شعب يف التاريخ احلديث .ولكنها تنجح يف النهاية ،لي�س فقط يف التغلب على اخلوف بل يف التغلب على املوت عرب ممار�ستها لفعل الق�ص الذي ي�سرب الأعماق ويخرج الذكريات �إىل امللأ وي�ستبعد الن�سيان الذي ي�شكل اخلطر احلقيقي على الفل�سطينيني، فكانت �صراعية الرواية قائمة على ثنائية التذكر والن�سيان .كما جنحت يف ا�ستح�ضار رموز احلياة والأمومة على الورق مبعدة �أ�شباح احلرب واغت�صاب الأر�ض .عندها ،مل يعد الوطن عنوان امل�أ�ساة التي ال حل لها ،بل �أ�صبح عنواناً لفرح املا�ضي امل�ستعاد وللأمل مب�ستقبل يحمل القيامة.
113
الأدب املقاوم
البعد املقاوم يف رواية «�أر�ض و�سماء»
قراء ٌة جديد ٌة لل ّتاريخ وللحا�رض مقاربة مو�ضوعات ّية للف�ضاء يف رواية «�أر�ض و�سماء» ل�سحر خليفة ل�ؤي زيتوين -باحث و�أكادميي
بال�صراع يف مواجهة ّ املحتل ،من �أبرز املحاور التي ي ّت�سم بها الأدب ّ تعد م�س�ألة الهوية وااللتزام ّ مبدع و�آخرّ ، ولعل القدرة التي ّمتكنه الفل�سطيني� ،إ ّال �أنّ عمل ّية طرح هذه اجلوانب تختلف بني ٍ ّ ٍ والفن هي التي تربز الفرادة التي يتم ّتع بها والكون احلياة إىل � ة فريد ؤية � بر امل�سائل هذه من �شبك ّ وائي ميتلك خ�صو�ص ّي ًة وا�ضح ًة يف هذا الإطار، أدبي مهما كان جن�سهّ . لكن العمل ال ّر ّ العمل ال ّ نظراً لكونه يعتمد �آل ّيات تق ّرب القارئ من ال ّر�ؤية التي ينطلق منها الكاتب ،كما �أ ّنه الأقدر على الو�صول �إىل خم ّيلة املتلقّي ب�أ�سرع ّ الطرق .ولذلك ف�إنّ ال ّتعامل مع هذا ال ّنوع من الأعمال ال ّبد �أن الدقّة تت ّبع العمل والق�ض ّية أهم ّية العمل املدرو�س ،وهذا ي�ستح�ضر ّ ي ّت�سم ّ بالدقة ليكون على قدر � ّ التي يطرحها .وا�ستناداً �إىل ذلك وقع اختياري على ٍ ريادي ا�ستطاع �أن يفر�ض �صوت فل�سطيني ٍّ ٍّ العربي� ،إن مل نقل �أبعد ،ال �س ّيما بو�صفه �صوتاً �أنثو ّياً نف�سه يف احلياة الأدب ّية على م�ستوى العامل ّ يخرج من عباءة ال ّر�ؤية الباباو ّية ،ويدخل يف عمل ّية ٍ نقد لل ّتاريخ واحلا�ضر معاً ،وهو �صوت الكاتبة �سحر خليفة يف روايتها ال�صادرة يف العام الفائت حتت عنوان «�أر�ض و�سماء». وال ّرواية جزء من ثالث ّي ٍة روائ ّي ٍة تتناول مفا�صل رئي�سة من حياة الأ ّمة ،وتعمل على �أبراز ٍ ثالث من �ضد االحتالل والف�ساد .وقد كان ن�صيب هذا اجلزء الكالم عن جتربة حماوالت ال ّتح ّرر والثّورة ّ ال�سائدة فيه �أنطون �سعادة يف �سعيه لتوحيد الأ ّمة وتخلي�صها من عوامل ال ّتخ ّلف والأفكار ال ّرجع ّية ّ ال�ضوء على عرب ؤيوي كامل ،وارتباط امل�س�ألة الفل�سطين ّية بهذا امل�شروع .و�إلقاء ّ ري ر� ٍّ م�شروع حت ّر ٍّ ٍ �ضد االحتالل ال�صراع ّ هذه ال ّتجربة جاء بال ّتوازي مع ح�ضور م�سار احلا�ضر الذي يكمن فيه تط ّور ّ جديد ي�ؤمن ٍّ جيل ٍ مبني على الكثري من مبادئ �سعادة بخط ال إ�سرائيلي ،وبروز ٍ �صراعي جديد ٍّ ٍّ ّ ال�سعي نحو بناء ٍ غد نف�سها� ،إ�ضاف ًة �إىل كونه يفيد من الأخطاء التي وقعت يف املا�ضي من �أجل ّ لوطن ما زال الق ّيمون عليه يعبثون مب�صريه .مع الإ�شارة �إىل �أنّ الثالث ّية كانت قد انطلقت خمتلف ٍ مع روايتي «�أ�صل وف�صل» و«ح ّبي الأ ّول» ال ّلتني طرحتا ّ الظروف التي �أحاطت مب�شروعني حت ّرريني اجلزائري ،وخليفة تعمل على البحث الق�سام وثورة عبد القادر �آخرين متثّال بحركة عز ّ ّ الدين ّ يف الأ�سباب العمل ّية التي �أ ّدت �إىل �ضعف احلظوظ يف جناح ّ كل جترب ٍة منها ،و�إىل �إبراز العوامل 115
ّ ال�ضوء على الكثري من اجلوانب املجهولة عن تلك ال�شّ خ�ص ّية الذاتية واملو�ضوع ّية يف ف�شلها ،ملقي ًة ّ ال ّتار ّيخ ّية �أو تلك. �شعرية املخزون ال ّداليلّ: �سيمائية العنوان / -I ّ ّ
إيحاء وا�ضحاً حول امل�ضمون الذي تدور حوله ،فهما قد ال يعطينا عنوان رواية «�أر�ض و�سماء» � ً تقدمه من معنى ،خ�صو�صاً مع ا�ستعمالهما يف حال ال ّتنكري. لفظتان تبدوان �ضباب ّيتني من حيث ما ّ «ال�ضباب ّية» قد ُي َنظر �إليها بو�صفها ميز ًة ت�ضفي على ال ّرواية وجهاً من وجوه مت ّيزها الف ّن ّي، لكن هذه ّ ّ أر�ض تلك؟ و� ّأي وذلك انطالقاً من ا ّت�ساع ح ّيز ال ّت�سا�ؤالت الذي تبعثه يف ذات املتلقّي .ف� ّأي � ٍ عما هو يف متناول احلوا�س ،من �سماء؟ ففي املعنى املبا�شر لهاتني ال ّلفظتني ،تبدو الأوىل معبرّ ة ّ وعما عما ميثّل العل ّو واالرتقاءّ ، وعما تقوم عليه احلياة من ناحي ٍة �أخرى� .أ ّما الثّانية فتعبرّ ّ ناحيةّ ، يرتبط لدى الإن�سان باجلانب املتخ ّيل واالعتقادي. ال�س�ؤال :ما مدى ارتباطهما �أو تناق�ضهما؟ باال�ستناد �إىل داللتيهما ال ّلتني بناء على ذلك ،يجوز ّ ً أنّ الدين ّية املعتقدات يف ت�شري أر�ض ل ا � نالحظ أن � ميكننا أخرى، ل ل الواحدة مناق�ضة تفيدان ّ الدنيا ،يف حني �أنّ الأخرى ّ تدل على املو�ضع الذي يوحي ال�سائدة �إىل املو�ضع املرتبط باحلياة ّ ّ ّ أنّ البديهي بني املدلولني يف طبيعة حياة االن�سان، بط ر ال تربزان فظتني ل ال � كما أخرى. ل ا باحلياة ّ ّ وال�سماء عبار ًة عن وهو الأمر الذي تط ّور مع تعاقب احل�ضارات القدمية التي جعلت من الأر�ض ّ زوجني �إله ّيني تتو ّلد احلياة من خالل تزاوجهما� ،أي �أنّ عمل ّية ال ّتزاوج املتمثّلة بهبوط املطر هي التي متنح احلياة. �إ�ضاف ًة �إىل ذلكُ ،تظهر م�س�ألة الترّ تيب الذي ترد فيه عنا�صر العنوان �إ�شار ًة دالل ّي ًة وا�ضحة ،فلفظة أهمية الأوىل على الثانية ،وهذا ما يعيدنا ال�سماء ،وقد يكون يف ذلك �إبراز ل ّ الأر�ض �سبقت لفظة ّ �إىل مفاهيم احل�ضارة الكنعان ّية التي �أعطت عمل ّية االرتباط بالأر�ض الأولو ّية يف حياة الإن�سان، وهو الأمر الذي كان ّ حمط انتقاد ال�شّ عوب الأخرى� ،إذ و�صف الإغريق هذا الفعل بـ «الإثم ين» ،لأن فيه ابتعاداً عن ا ّتباع الآلهة ومع�صية لهم. الكنعا ّ �أ ّما عن �سبب ح�ضور ال ّلفظتني ب�صيغة ال ّتنكري ،فقد يكون من باب الإ�شارة �إىل مكانٍ معينّ ما تزال حقيقته جمهولة� ،أو ّمت �إهماله بحيث بات بعيداً عن الوعي بحقيقته ،وال ّبد من ح�ضور ال�سماء .وعلى هذا الأ�سا�س يربز العقل الواعي من �أجل الو�صول �إىل حقيقة هذه الأر�ض وتلك ّ عن�صر ال ّت�شويق بق ّو ٍة يف العنوان ّ لي�شكل �إطاراً حتري�ض ّياً للقارئ من �أجل ال ّتع ّرف على حقيقة تلك ال�سماء ،والك�شف عن طبيعتهما املتكاملة �أو املتناق�ضة. الأر�ض وتلك ّ 116
الأدب املقاوم
مني-املكاينّ: -II ّ حيوية ال ّتداخل ال ّز ّ
انطالقاً من عنوان ال ّرواية ،نالحظ �أنّ املكان ي�ؤ ّدي دوراً حمور ّياً يف امل�ضمون العام ،فهو يعطينا ينم عن كون ال ّرواية تلقي �إ�شار ًة �إىل ح ّي ٍز مكا ٍّ ين ذي طبيع ٍة جمهولة (�أر�ض و�سماء) ،الأمر الذي ّ خا�ص ًة نحوه� .إ ّال �أنّ اخلو�ض يف ال ّرواية يبينّ لنا تن ّوع م�سارح �ضوءاً على هذا احل ّيز ّ لتقدم لنا نظر ًة ّ ين. الأحداث ،ما قد يبدو نفياً حل�صر ّية احل ّيز املكا ّ املفتاحي: .1املكان ّ
جند بداء ًة مدينة نابل�س الفل�سطين ّية التي ّ �شكلت املكان الأ ّول الذي تنطلق منه الأحداث ،والذي ال�سابقتني: مت ّتع ب� ّ أهم ّي ٍة حمور ّي ٍة ،نظراً �إىل �أ ّنها عملت على ربط ال ّرواية التي بني �أيدينا بال ّروايتني ّ «�أ�صل وف�صل» و«ح ّبي الأ ّول» ،لت�ستكمل الثّالث ّية ال ّتاريخ ّية يف �أدب الكاتبة .على �أ ّنه مل يكن مكاناً هام�ش ّياً ،بل دخل بو�صفه عام ًال يف تطوير ٍ روائي متع ّلق بال ّراوية الأوىل «ن�ضال» ومن خيط ٍّ يحيط بها من �شخ�صيات ،وب�أجواء االحتالل التي تعاين منها هي و�أقرانها .ففي منزلها بنابل�س كانت ن�ضال قد ا�ستقبلت ح ّبها الأ ّول «ربيع» بعد زمن طويل من الفراق ،وبعد �أن ذهب �إىل كندا ال�س ّن ،بحيث وجد ربيع يف ا�ستعادة حبيبته القدمية وبنى حياته وثروته هناك ،وبعد �أن ّ تقدما يف ّ ّ والذكريات التي كانت عا�شها معها ومع خالها ملج�أ لل ّتنفي�س غري املبا�شر عن ما ارتكبه من �أخطاء. لكن هذا املكان مل ّ ي�شكل حا�ضناً حياد ّياً بل عمل على ت�سيري الأحداث التي تدور يف حا�ضر ّ ال�سرد� ،إذ �أنّ املالحظة الأوىل تتج ّلى يف حاليَ احل�صار واخلوف اللتني �أجربتا ربيع على متديد ّ 1 وائي العام الذي ّ ي�شكل املح ّر�ض للأحداث �إقامته لديها ،وهذا ما �أتاح للرواية ب�إطالق اخليط ال ّر ّ وال ّرابط لها يف �آنٍ واحد ،والذي متثّل يف �إمكان ّية ح�ضور الأمل بعد ّ كل ما ر�أته وعانته بو�صفه امر�أة 2 ظل لنا �أمل يف �شيء؟ هل ّ بالدرجة الأوىل« :قلت لنف�سي هل ّ ظل لنا �أمل يف غد؟»... فل�سطين ّية ّ وهذا ما ّ �شكل �إ�شار ًة مفتاح ّي ًة يف ال ّرواية ومتهيداً ملا �ستو�صلنا �إليه الأحداث يف ال ّنهاية. �إ�ضاف ًة �إىل ذلك ،فتح هذا املكان الباب للعبور �إىل �أمكن ٍة �أخرى تتع ّلق بذكريات «ربيع» و«�أمني». ال�سياق ،نالحظ �أنّ هذا املكان ك ّون ال ّزمن احلا�ضر الذي تنطلق منه الأحداث وتنتهي به. يف هذا ّ فهو ال ّزمن املرتبط مبا تعانيه الأرا�ضي املحت ّلة ،يف الوقت الذي تدور فيه �أحداث العامل العربي حتت ي�سمى بـ «الربيع العربي» الذي ت�ص ّرح ال ّراوية �أنّ ال�شّ عب الفل�سطيني مل ينله �شيء منه.3 عنوان ما ّ ّ العربي» واحل�صار وبال ّتايل ف�إنّ امل�سرح الأ ّول املتمثّل يف مبنزل «ن�ضال» يف نابل�س يف زمن «ال ّربيع ّ 2 3 1
�سحر خليفة� :أر�ض و�سماء .بريوت ،دار الآدابّ ، الطبعة الأوىل� ،2013 ،ص.8 ال�صفحة نف�سها. املرجع نف�سهّ ، املرجع نف�سه� ،ص 12و�ص.16 117
إ�سرائيلي ّ �شكل احلا�ضن الذي انبثقت منه الأحداث بخطوطها املت�ش ّعبة. ال ّ ال�سياق ،ال ّبد من االلتفات �إىل رمزية احل�ضور داخل منزلها يف تلك املدينة ،لأنّ هذا ويف هذا ّ ب�شكل غري مبا�شر ،لذا ي�صبح التهديد احل�ضور يربز طبيعة احل�صار القائم على الأرا�ضي املحت ّلة ٍ الذي يع�شيه ذلك امل�سرح ال�ض ّيق حا ًال عا ّم ًة للأر�ض املحت ّلة بكاملها .كما تتح ّول ّ ال�صدر ّية الذبحة ّ التي �أ�صيب بها ربيع داخل هذا املنزل وذاك احل�صار يف ظل ما ُيع َرف بال ّربيع� ،إ�شار ًة رمز ّي ًة وا�ضح ًة املتعمد ،وهو �إىل �أنّ التهديد يطال وجود الإن�سان الفل�سطيني بتعميق �آالمه من ّ الداخل وبتجالها ّ ّ إيحائي الذي �أقامته ال ّراوية بني ال ّربيع املفرت�ض واخلريف الذي ما ميكن �أن نفهمه من ال ّربط ال ّ «ا�صح يا ربيع ،بد�أنا نخ ّرف ،ربيع العرب مل ي�صل ال�سواءَ : و�صال �إليه يف حياتهما وعالقتهما على ّ الدنيا خريف!».4 هنا ،يف هذا احل�صارّ ، ال�سياق �إىل �أنّ هذا املكان �أي�ضاً ،بو�صفه م�سرحاً مفتاح ّياً النطالق وال ّبد من الإ�شارة يف هذا ّ الأحداث ،هو الذي ع ّرف القارئ على �شخ�ص ّيات ال ّرواية املحور ّية منها �أو امل�ساعدة .ف�إىل جانب ال�سابقة، �شخ�ص ّيات ن�ضال وربيع ويا�سمني و�سعد التي انطلق احلديث عنها منذ �أحداث ال ّرواية ّ يتم ذكر �أمني بو�صفه والداً لالرا وخا ًال جند ح�ضوراً لأبي يحيى والرا داخل املنزل املذكور ،كما ّ ال�ض ّيق ّ �شكل الإطار الذي يطلق لن�ضال ...وهذا احل�ضور لتلك ال�شّ خ�ص ّيات �ضمن امل�سرح ّ ال�سرد املتزامن مع احلا�ضر على ل�سان ن�ضال ،وتار ًة �أخرى ال�سرد املت�ش ّعبة ،تار ًة من خالل ّ خيوط ّ اخلا�صة ب�أمني عن ل�سانه �أو عن ل�سان ال�سرد اال�سرتجاعي من خالل الأوراق وال ّر�سائل ّ من خالل ّ ّ ليزا حبيبته� ،أو من خالل ذكريات ربيع �أي�ضاً. وهنا ال ّبد من �أن نذكر �أن منزل ن�ضال ّ �شكل احلا�ضن لأوراق �أمني وال ّر�سائل التي تبادلها مع ليزا، أهم ّية البحث عن حقيقة ّ يقدمه ال ّتاريخ واجلذور الذات يف ما ّ وهذا ما يوحي ب�إ�شار ٍة رمز ّي ٍة تبينّ � ّ بحد يعد ّ الثّقاف ّية للأ ّمة� .إذ �أنّ جت ّند �شخ�ص ّيات ال ّرواية من �أجل البحث عن ذكريات �أمني وتاريخه ّ يتم ال�سطح بل ما ّ ذاته �إ�شارة ٍ قومي ،باعتبار �أنّ ال ّتاريخ لي�س ما يظهر للعيان �أو على ّ وعي ثقا ٍّيف ّ وبناء عليه ،ت�صبح الأر�ض هي احلقيقة� ،سوا ٌء �أكانت �أر�ض نابل�س� ،أو �أر�ض العثور عليه يف العمقً . فل�سطني� ،أو �أبعد من ذلك. .2املكان بو�صفه عن�رص ك�شف:
على �أنّ منزل ن�ضال ومدينة نابل�س مل ي�ستق ّرا بو�صفهما املو�ضع الذي يحت�ضن الأحداث ،فم�سار إ�سرائيلي ،وان�سحابها على املاء الذي �أخذ ال ّرواية يربز تفاقم �أزمة احل�صار التي ميار�سها االحتالل ال ّ ي�شح �أو ينفد يتم ّرد ال�ضعيف يندر وي�صيب املجتمع باال�ضطراب ّ «لكن املاء هو �س ّر احلياة .وحني ّ 4 118
املرجع نف�سه� ،ص.12
الأدب املقاوم
االعتقادي على ويهب لينجو من عط�شه وجفاف احلياة» .5ومبا �أنّ املاء مرتبط يف الفكر ّ على �ضعفه ّ تن ّوعه بوجود الإن�سان ،ف�إنّ هذه الأزمة ّ �شكلت �أزم ًة كيان ّي ًة وجود ّية بال ّن�سبة للمجتمع ،انفتحت من متعدد ٍة ،وبال ّتايل مكانٍ �آخر ميكن �أن يع ّو�ض االفتقار �إىل املياه. خاللها الأحداث على احتماالت ّ ومن هذا املنطلق ،يطالعنا بئر ال�سامر ّية ال ّتابعة لأرا�ضي الكني�سة ال ّروم ّية ،وموقع ّ الدير بو�صفه �إطاراً مط ّوراً لأحداث احلا�ضر. قوي يف الأحداث ،لأ ّنه ّ �شكل �إنقاذاً من الأزمة جند هذا احل ّيز املكا ّ ين من نابل�س حا�ضراً ٍ ب�شكل ٍّ حد ما ،لأنّ والدير قد �سمح بتحويل ماء البئر �إىل نابل�س. املائ ّية �إىل ٍّ اخلوري الق ّيم على الكني�سة ّ ّ ق�صة البئر و�شرب امل�سيح منها على يد امر�أ ٍة �سامر ّية، وهذا العمل ظهر بو�صفه فع ًال من�سجماً مع ّ باخلوري �إىل القول« :امل�سيح الدافع الذي حدا ال�سبب يف ت�سمية هذه البئر بهذا اال�سم ،وهو ّ ّ وهو ّ 6 احلي ونور احلياة الأبد ّية .با�سم الأب والإبن وال ّروح القد�س ابد�أوا باحلفر» . وعد نابل�س باملاء ّ �شددت احل�صار على املدينة ح ّتى ال ي�ستفيد �أهلها من ماء البئر� ،إىل ومع �أنّ �سلطات االحتالل ّ اليهودي� ،إ ّال �أنّ هذا احل ّيز بقي املنفذ الوحيد لإنقاذ حق الكيان جانب اال ّدعاء ب�أنّ مياهه من ّ ّ ال�سياح �إىل خارج البالد، �إحدى �شخ�ص ّيات ال ّرواية ،و�أعني ال�شّ اب �سعد ،بت�سهيل هروبه مع ّ ال�سفارة الكند ّية.7 مب�ساعدة �أحد معارف ربيع يف ّ أهم ّيته ف�ض ًال عن ذلك ،فقد �أظهر ال ّتع ّرف �إىل هذا املكان �سبي ًال ملعرفة احلقيقة ،وهذا ما جعل � ّ توازي املكان الأ ّول .ففيه نتع ّرف �إىل تاريخ نابل�س بو�صفها مدين ًة كنعان ّي ًة بامتياز ،وقد �أطلق عليها يهودي فيها، وال�سلطات اليهود ّية عجزت عن �إثبات وجود �أي معلم ٍّ الكنعان ّيون ا�سم «�شكيم»ّ ، لأنّ ّ نقدي كل �آثارها كنعان ّية ،8وقد وردت هذه املعلومات على ل�سان اخلوري نف�سه يف �سياقٍ ّ لأبناء البالد التي يجهلون تاريخها. كذلك ف�إنّ احل�ضور يف هذا املكان قد �أتاح ال ّتع ّرف �إىل ّ الطبيعة اليهود ّية التي ت ّت�صف بالعدائ ّية والإرهاب� ،إذ �أنّ اخلوري نف�سه ي�سرد لل ّراوية ن�ضال ولربيع والبنة خالها الرا ما قام به امل�ستوطنون ّ �ضده وم�شهد ال ّت�شفّي الذي قاموا به �ضد ال ّراهب «فيليمنو�س» بتقطيعه �إىل 36قطعة، اليهود ّ الدير وعلى البئر ومائها .9وبهذا يتح ّول ح ّيز وذلك لأ ّنهما وقفا يف وجه اال�ستيالء على �أر�ض ّ ٍ اليهودي وك�شف للحقيقة يف �آن ،ح ّيز مواجه ٍة للإرهاب الدير والكني�سة والبئر �إىل ح ّيز مواجه ٍة ّ ّ �شكل من الأ�شكال ،وح ّيز ٍ ك�شف عن حقيقة هذا الإرهاب ومظاهره التي ال ميكن �أن ت َّربر ب�أي ٍ 5 6 7 8 9
�سحر خليفة� :أر�ض و�سماء� .ص.227 -226 املرجع نف�سه� ،ص.80 املرجع نف�سه� ،ص.483 املرجع نف�سه� ،ص.326 �سحر خليفة� :أر�ض و�سماء� .ص.332 -329 119
احلقيقي لبالدنا ،ولهذا ي�صبح هذا احل ّيز عامل حت ّولٍ يف م�سار ّ وائي املتع ّلق وعن ال ّتاريخ اخلط ال ّر ّ ّ ب�شخ�ص ّيات �سعد والرا وح ّتى ن�ضال نف�سها... �سلبية احل�ضور املكاينّ: .3 ّ
وي�ستتبع الكالم عن الكنيي�سة ال ّروم ّية ،االلتفات �إىل قرية «عني غزالن» ،فهي القرية التي جل�أت �إليها �شخ�ص ّيات ال ّرواية بعد �أن هرب �إليها «�سعد» من �سلطات االحتالل .وقد ّ �شكلت مكاناً موجهاً نحو ال ّتع ّرف �إىل حقيقة االنتماء لتلك الأر�ض ،وهذا ما توحي به عبارة ال ّراوية« :جل�سنا ّ 10 حتت �شجرة جوز وارفة عمرها مليون» ،فلي�س االرتباط بهذه ال�شجرة (الأر�ض) م�س�ألة عابرة وال لبي للمكان إيجابي مل مينع من بروز الإطار ّ ال�س ّ ميكن لأي عامل زعزعتها� .إ ّال �أنّ هذا العن�صر ال ّ �إنطالقاً من عوامل تنبع من داخل املكان نف�سه �أو من خارجه. هذا املكان عمل على �إظهار بع�ض ّ الظواهر االجتماع ّية املت�أثّرة بالعن�صر ّية اليهود ّية ،التي ظهرت بو�صفها عن�صر تق�سيم للمجتمع نف�سه ،بحيث بات الهدف بعيداً ّ الوجودي ال�صراع ّ كل البعد عن ّ يف مواجهة خطر االحتالل .وهذا ما نراه مع احل�ضور املتز ّمت ل�شخ�ص ّية «احلاجة فطمة» �شقيقة ال�ضيوف وعدم تق ّبلها ملظاهرهم �أو �أبي يحيى التي كانت تظهر امتعا�ضها من الآخرين �أو من ّ م�سك ديني كان قد دفعها �إىل تغيري م�سار حياتها نحو ال ّت ّ �أفكارهم ،م�ستند ًة يف ذلك �إىل فهمٍ ٍّ ع�صب مبحاولة فر�ض ما تعتقده على الآخرين .وبهذا برز املكان هنا بو�صفه الأعمى ّ بالدين وال ّت ّ الفل�سطيني بالكامل. مم ّث ًال للواقع ّ من ناحي ٍة �أخرى ،نالحظ �أنّ �أزمة املياه تفاقمت يف القرية لتتح ّول �إىل مواجه ٍة مع امل�ستوطنني ومع جي�ش االحتالل� ،شارك فيها �سعد مع �ش ّبان القرية ،ف�أ�صبحت القرية �ساحة �صراع من �أجل الدولة اليهود ّية ال�صراع الفل�سطيني �ضد ّ املاء/الوجود ،الأمر الذي يحيلنا �إىل القناعة مبقولة �أنّ ّ ّ لي�س �صراع حدود كما يربزه الإعالم عموماً ،بل �صراع وجود .ف�ض ًال عن ف�إنّ هذا املكان ح�ضر يف مواجهة مكانٍ �آخر مناق�ض ،وهو م�ستوطنة «يت�سهار» التلمود ّية التي ب ّينت زيارة بع�ض ال�شّ خ�ص ّيات �إليها من �أجل ّ حل م�س�ألة املياه م�ستوطنة «كريات �شالوم» ،بروز العن�صر ّية بو�صفها �سمة كيان ّية من اليهودي ّ الدين ّية التي �سمات املحتل م�ستوطناً �أو ع�سكر ّياً ،وهي العن�صر ّية النابعة من ال ّتعاليم ّ ّ ظهرت يف كالم ال ّراباي الأعظم« :ل�سنا م�س�ؤولني عن ه�ؤالء فهم ي�سكنون �أر�ضاً لي�ست لهم .هم ين�ص على �أنّ هذه الأر�ض هي �أر�ض �إ�سرائيل التي يخالفون �شريعة اهلل ون�صو�ص الوعد .الوعد ّ 11 بال�سكن هنا . »...وهذا ما يعطينا وهبها اهلل لبني �إ�سرائيل ،واخلارجون ،وهم الأغيار ،ال يحق لهم ّ 1 0املرجع نف�سه� ،ص .390 � 11سحر خليفة� :أر�ض و�سماء� .ص .444 120
الأدب املقاوم
�إ�شار ًة �إىل م�صدر العن�صرية والإرهاب يف احلقيقة ،و�أ ّنهما نابعان من حقد ّ متجذ ٍر جتاه الآخر ،وتب ّني لمودي. هذه الأفكار يعني ت�أثّراً وا�ضحاً بالفكر اليهودي ال ّت ّ ّ الدين فال�سماء كما يربزها ممثّلو ّ وهنا تتج ّلى م�س�ألة ّ ال�صراعات احلا�ضرة مكان ّياً على نح ٍو مت�ش ّعبّ ، هنا ت�صبح م�صدراً للحقد واالقتتال على الأر�ض من جهة ،وم�صدراً لالنق�سام بني الأفكار ،ولكره تتجلى الأر�ض بكونها �ساحة �صراع من �أجل احلياة بال ّن�سبة للفل�سطيني ،وح ّيزاً الآخر؛ بينما ّ ّ حل�ضور ال ّتناق�ضات داخل املجتمع نف�سه ،وخارجه. حيز الأمل: ّ .4
مل يكن امل�سار ال ّزمني احلا�ضر وانتقاالته املكان ّية م�ساراً ثابتاً و�أحاد ّياً يف ال ّرواية ،لأنّ الكاتبة زمني موا ٍز يرتبط ب�أوراق «�أمني» تعمدت �إيقاف ال ّزمن ٍ ّ ب�شكل متك ّرر من �أجل ّ ال�سري يف �سياقٍ ٍّ املكملة لتلك املرحلة .وهذا الإيقاف التي تروي مرحلة ن�ضاله مع �أنطون �سعادة ،وبذكريات «ربيع» ّ ٍ ال�ضوء على �شخ�ص ّية �أنطون �سعادة ظهر على �شكل ا�سرتجاعات متالحق ٍة ت�سعى �إىل �أن تلقي ّ ه�ضوي. ال ّتاريخ ّية وعلى م�شروعه ال ّن ّ فيحيلنا املكان/احلا�ضر ذاك من خالل تيار الوعي املنبعث من �أوراق «�أمني» ور�سائل «ليزا» «ال�ضهور ال�شّ وير» يف جبال وذكريات «ربيع» �أو ر�سائل «�سعادة»� ،إىل �أمكنة متن ّوعة �أ ّولها منطقة ّ لبنان ،حيث جل�أ ّ احل�سيني ،وحماولتهما العثور كل من �أمني وربيع بعد �أن �سقطت جتربة عبد القادر ّ ال�صهيون ّية .فبعد يوحد الأ ّمة يف مواجهة احلركة اليهود ّيةّ - على امل�شروع اجلامع الذي ي�ستطيع �أن ّ انخراطه يف هذا املكان �ضمن �صفوف ال ّنه�ضة ،جنده يقول�« :شيء غريب! مل �أ�شعر بتلك ال ّرهبة أح�س�ست �أنيّ �أقيم �صالة الغائب توجهنا �إىل الق�سطل� ... أن�ضم للجهاد ّ ُ املقد�س ،وال حني ّ و�أنا � ّ عما نتم ّنى أح�س ب�شي ٍء ّ علوي ي�سحبني ويرفع ر�أ�سي .كان يقر�أ ّ على �أرواح َمن �سبقونا ...وبد� ُأت � ّ 12 �أو نحلم ،انتفا�ضة الوطن ونهو�ض ال ّنا�س ونحن ال�شّ باب �شهداء الغد فداء للعدل واحلر ّية» . كالدير والعرزال ومغارة �أذن اجل ّرة ،نتع ّرف �إىل يف هذا املكان مبا ي�شتمل عليه من �أمكنة فرع ّي ٍة ّ العائلي وعالقته ّ بكل من ليزا و�أمني وربيع .فيو�صف يف �شخ�ص ّية �سعادة عن قرب ،و�إىل ح�ضوره ّ 13 ال ّرواية ب�أ ّنه« :جاع وبرد وعط�ش مثل ّ كل ال ّنا�س ،لك ّنه مل ي�ست�سلم .كان خمتلفاً عن �أقرانه» . ين ،فقد ّ القومي وهنا تربز الهالة التي ُو�ضع �ضمنها �سعادة يف هذا احل ّيز املكا ّ �شكل منطلقاً مل�شروعه ّ 14 ه�ضوي� .إ�ضاف ًة �إىل �أنّ هذا احل ّيز ك�شف عن عالقة �سعادة احلميمة قدمياً بـ«ليزا» حبيبة �أمني ، ال ّن ّ � 12سحر خليفة� :أر�ض و�سماء� .ص .52 1 3املرجع نف�سه� ،ص .59 1 4املرجع نف�سه� ،ص .63 62- 121
اخلا�صة بحزبه، املهمات ّ وهو ما تب ّينه مغارة «�أذن اجل ّرة» ،وعن اعتماده على �أمني وربيع يف معظم ّ اال�سرتجاعي يف الإحالة �إىل مرحلتني زمن ّيتني الدير والعرزال .وهنا نرى ال ّتوالد خ�صو�صاً يف ّ ّ داخل املا�ضي ،فالإحالة ال ّرئي�س ّية تتمحور حول الفرتة التي حلقت ح�ضور �أمني وربيع �إىل ال�شّ وير، لكن تلك املرحلة نف�سها تعيدنا يف الكثري من الأحيان ،ال �س ّيما على �أي حوايل العام ّ .1948 15 ل�سان ليزا� ،إىل مرحلة الثالثينات لتبينّ عمق العالقة التي كانت قائم ًة بينها وبني �سعادة . وال نن�سى يف هذا املجال �أنّ هذا املكان ،وخ�صو�صاً العرزال وحميطه ،قد عبرّ عن �أفكار �سعادة نف�سه جتاه الكثري من امل�سائل املحور ّية يف احلياة ،ومنها ر�أيه باحلياة نف�سها وارتباطها بالفن�« :أهناك دنيا بال �أ�شعار و�أحالم ومو�سيقى؟ �أل�سنا يا �أمني �أبناء احلياة؟ وما احلياة �إال هذا؟ ن�ضال و�شعر ومو�سيقى».16 نالحظ من خالل ما �سبق� ،أن هذا املكان ّ أمل لل�شّ خ�ص ّيات الأ�سا�س ّية يف ال ّرواية، �شكل عن�صر � ٍ تفاعل جذب للق ّراء وم�صدر ٍ حيث كانت الأ�صوات ال ّروائية املذكورة (�أمني وربيع و�سعادة) م�صدر ٍ ال�سعيد»� .إذ جند �أنّ �سعادة نف�سه يعلن مع امل�شروع الذي �شرع «�سعادة» ب�إطالقه حتت ا�سم «الوادي ّ ين �صغري يف الوادي الكبري» ،17وهذا ما يظهر �أنّ هذا يف حواره مع �أمني« :هذه منطقتنا ،وطن مد ّ امل�شروع ّ وطن على �أ�س�س جديد ٍة يف كا ّفة املجاالت ،من تربية وتعليم ،وزراعة �شكل الأمل يف بناء ٍ جذب للنا�س من بلدي و�صناعة ،وتنظيم ّ واجتماعي ،الأمر الذي جعل من هذا الوادي م�صدر ٍ ّ ٍ ي�شدد على فاعل ّية املكان يف تغيري احلياة و�إبراز �سياقٍ خمالف للم�سار خمتلف املناطق .الأمر الذي ّ الذي يحيط به والذي يعمل على حتطيمه ،فامل�شروع ناجت عن حتقّق ال ّتغيري ّ الذاتي يف هذا املكان، ين وعلى �أ�سا�س الإنتاج. قائم على الفكر املد ّ والذي �أ ّدى بال ّتايل �إىل �إظهار الأمل يف بناء ٍ نظام جديدٍ ٍ ال�سعيد» ال ّنموذج الذي يجب �أن ُيحتذى وهنا نرى �إ�شار ًة مكان ّي ًة وا�ضحة� ،إذ مثّل م�شروع «الوادي ّ الدولة ،وهو ما ّ �ضد املدينة وما حملته من معانٍ يف �سياق ال ّرواية. ال�صراع ّ يف بناء ّ �شكل طرفاً يف ّ حيز املواجهة /ال�صرّ اع �ض ّد املدينة: ّ .5
ال�صراع ،لأنّ فيها برز ال ّتكوين ّ يف هذا املجال ،تربز بريوت بو�صفها ّ ائفي الطرف الآخر لهذا ّ الط ّ فر�ض لالنق�سام ّ ائفي الب�شع، الفا�سد للبنان ،فا�سرتجاع «�أمني» ملا م ّر به يف هذه املدينة من ٍ الط ّ ال�صراع بني ّ الطرفني وجتاهل للفكر الذي يعمل على الوحدة وبناء املجتمع� ،أعطى انطباعاً ّ ٍ بحدة ّ وب�شدة االنحطاط الذي يحاول طرف املدينة �إغراق املجتمع فيه .فاالنطباع الأ ّول الذي خرج به ّ �أمني عند دخوله بريوت هو املظهر املقيت الذي متثّل يف املظاهرتني املتقابلتني ال ّلتني ال حتمالن 1 5املرجع نف�سه� ،ص .76 -70 1 6املرجع نف�سه� ،ص .151 1 7املرحع نف�سه� ،ص.184 122
الأدب املقاوم
مطالب مع ّينة ،بل ال�شّ تائم والأحقاد فقط الغري« :مل تكن مطالب وال احتياجات ،بل احتجاجات يندد مبذهب ذاك و�شيوخه ،وذاك ي�سخر من الدين واملذهب .هذا ّ وتهديدات وبذاءات تطال ّ �شيوخ ذاك ومذهبه وتعاليمه .والغريب �أنّ رموز ّ الطرفني يلقّبون بال�شّ يوخ وامل�شايخ .ال�شّ يخ حممد وال�شّ يخ جوزف ،وال�شّ يخ حممود وال�شّ يخ بيري».18 ال�سعيد، هذا ما �أو�ضح عمل ّية االنق�سام يف املدينة املقابلة للمفهوم اجلامع الذي ر�أيناه يف الوادي ّ الدائر ال�صراع ّ وهي عمل ّية مفرو�ضة على ال�شّ عب ،ح ّتى عملت على جعل �أ ّتباع �سعادة يذوبون يف ّ بني ّ الطرفني بالق ّوة ،لأنّ حماولة ترديد هتاف ينادي بوحدة ال�شّ عب من ّ كل الأديان ا�ستجلبت نعي ماذا يحدث ،هجم علينا �أفراد من هذا الفريقّ ،ثم من ر ّد ٍ فعل عنيف« :وللغرابة ،ودون �أن َ 19 ذاك الفريق ،ونزلوا بنا �ضرباً وبوك�سات و�شالليت ،ثم بالهراوات ففقدنا الوعي» .وك�أنّ امل�شهد يحمل رمز ّية �أن ال �صوت يف املدينة خارج ال ّنداء ّ ائفي ،وال ُيعترَ ف بوجود � ّأي ٍ �صوت ما مل الط ّ ق�سيمي املق�صود. يكن داخل الفعل ال ّت ّ ّ بع�ض من �أ�صحاب ب�شكل �أو�ضح من خالل احلوار الذي دار بني �أمني وبني ٍ ولعل ذلك الأمر يبدو ٍ الدكاكني �إثر فقدانه الوعي ،فقد كان ّ جل احلديث عن ع�ص ّبي ال ّت ق�سيمي داخل �أحد ّ الفكر ال ّت ّ ّ واحد مع �أتباع ّ عدم �إمكانية البقاء يف �إطا ٍر ٍ الطرف الآخر ،وعن ا�ستحالة قيام جمتمع مدين لديهم يتم احل�صول على احلق املفرت�ض .20يدعم لأ ّنهم �أف�ضل دين ولأنّ البالد حتتاج �إىل الق ّوة لكي ّ 21 ذلك قيام الهجوم على مكتب جم ّلة احلزب يف �إحدى مناطق بريوت ،الذي �أودى �إىل حما�صرة ال�صور ّية .وقد � ّأججت هذه امل�شاهد احلزب وا�ضطهاده ومالحقة زعيمه ح ّتى ت�سليمه للمحكمة ّ ال�سعيد» ،بينما ّ �شكلت «املدينة»، ّ ال�صراع بني قطبني مكان ّيني ،متثّل الأ ّول يف قطب «الوادي ّ وبال ّتحديد بريوت ،القطب الآخر ،دون �أن تكون الق ّوة التي ت�سيطر على ٍّ كل من املكانني ق ّو ًة �صافي ًة� ،إذ نرى ال ّتداخل وا�ضحاً يف هذا الإطار. ال�سعيد/املدينة) من خالل ح�ضور قيم الق ّوة الأوىل يف املدينة ويربز ال ّتداخل بني ق ّو َتي (الوادي ّ بال�شّ عارات التي �أطلقها �أمني ورفاقه هناك يف امل�شهد املذكور ،ومن خالل ح�ضور جم ّلة احلزب �إىل حمدد .بينما نرى ح�ضور قيم الق ّوة الأخرى ديني ّ �إحدى مناطق بريوت التي يغلب عليها تلوين ّ متوعداً خالل �إقامة معر�ض املنتوجات ال ّزراع ّية ،وبتهدمي م�شروع ب�أفكار ال�شّ يخ الذي ّ يهدد �أمني ّ ال�صورية ل�سعادة و�إعدامه� .أ ّما عن داللة هذا ال ّتداخل ف�إ ّنه ال�سعيد ،وكذلك يف املحاكمة ّ الوادي ّ ال�صراع من جه ٍة ،وعن طبيعة املكانني من ناحية البيئة االجتماع ّية ،فالبيئة يك�شف عن ّ حدة ّ 18 1 9 20 2 1
�سحر خليفة� :أر�ض و�سماء� .ص .159 املرجع نف�سه� ،ص .161 �سحر خليفة� :أر�ض و�سماء� .ص .173 -162 املرجع نف�سه� ،ص .237 235- 123
اجلبل ّية ال ّريف ّية �أتاحت للم�شروع ال ّنه�ضوي اال ّت�ساع ب�سبب حاله امل ّت�سمة بالب�ساطة وب�سم ّو القيم، يف حني �أنّ البيئة املدين ّية عملت على تقييد هذا اال ّت�ساع نتيجة احل�ضور املعقّد للعالقات النفع ّية الدنيا البحتة. ّ ال�ضيقة ولل�سلوك ّيات املا ّد ّية ّ خا�صاً بها تطالعنا �أي�ضاً يف ال ّرواية املدينة الأخرى ،و�أعني دم�شق ،بو�صفها مكاناً يحوي �صراعاً ّ ين الأ ّول� ،إذ تدخلنا الأ�صوات ال ّروائ ّية الثّالثة (�أمني وربيع وليزا) يف ال�صراع املكا ّ على �ضوء ّ نوع �آخر يتمثّل يف اخل�ضوع للإرادات اخلارج ّية وم�شيئتها واالن�سياق املواجهة املبا�شرة مع ف�سا ٍد من ٍ لل�سلطة ال ّلبنان ّية .فال ّرئي�س وراء املال ،وبال ّتايل يف اخليانة ،وهو الأمر الذي �أ ّدى �إىل ت�سليم �سعادة ّ ح�سني ال ّزعيم الذي ُعقدت عليه �آمال كربى �آنذاك ،قد ت�آمر على �سعادة من �أجل ت�سليمه ،وهو حمملني بالآمال والأحالم وال ّنوايا ،و�إذا به �أجري مد�سو�س ما يو�ضحه ربيع بالقول« :ذهبنا �إليه ّ 22 مهمة �سحق احلركات الثّور ّية ح ّتى نظل عبيداً كما ك ّنا ومزرعة ال ّنفط العرب ّية» .وهذا �أوكلت �إليه ّ الأمر قد تبينّ يف �سياق ال ّرواية من خالل �أحد �أ�صدقاء ربيع الذي �سرد له عن ال ّلقاء الذي جمع ح�سني ال ّزعيم مبو�شي �شرتوك �أو مو�شي �شاريت الذي كان وزيراً خلارج ّية �إ�سرائيل.23 بالدور الذي قامت به بريوت� ،إذ ّ �شكلت من هذا املنطلق ،جند �أنّ مدينة دم�شق �أ ّدت دوراً �شبيهاً ّ ال�سعيد قائماً على مبد�أ ال ّتح ّرر ال�سعيد» .ففي حني كان الوادي ّ طرف نقي�ض مع م�شروع «الوادي ّ وائي تتمحور حول االرتباط وال ّتخ ّلي عن ال ّنفوذ اخلارجي ،كانت مدينة دم�شق يف الإطار ال ّر ّ ّ أ�صح بالعد ّو. باخلارج� ،أو على ال ّ ا�ستناداً �إىل ذلك ،ت�صبح ثنائ ّية (الوادي/املدينة) ثنائ ّي ًة مكان ّي ًة ّ متحكم ًة بتط ّور ّ وائي اخلط ال ّر ّ اال�سرتجاعي القائم على ا�ستعادة مرحلة �سعادة بال ّتحديد ،انطالقاً من كون هذا التط ّور يخ�ضع ّ الدائر بني طرفيَ هذه الثّنائ ّية. راع ال�ص ّ لتجاذبات ّ القيامي: .6املكان ّ
ال�سياق �إىل ال ّنهاية التي �أو�صلت �سعد ون�ضال وربيع �إىل بريوت حل�ضور حفل تبقى الإ�شارة يف هذا ّ تخ ّرج الرا يف اجلامعة الأمِريك ّية ،24وهو املكان الذي �أطلق فيه �سعادة حزبه .و�أن يكون هذا املكان مو�ضعاً لنيل درج ٍة علم ّي ٍة يعني �أ ّنه ّ جدد ،وبال ّتايل �أم ًال يف ٍ قائم على �أفكار �سعادة ي�شكل ح ّيزاً لل ّت ّ غد ٍ نف�سها وا�ستفاد ٍة من جتارب املا�ضي ،وهو ما �سبق �أن �أبرزته الرا نف�سها يف بداية ظهورها داخل ال ّرواية.25 23 2 4 2 5 22
124
املرجع نف�سه� ،ص .245 �سحر خليفة� :أر�ض و�سماء� .ص .285 -284 املرجع نف�سه� ،ص .484 املرجع نف�سه� ،ص .39 -37
الأدب املقاوم
أهم ّية هذا املو�ضع يتج ّلى يف �أ ّنه جمع م�سارين روائ ّيني متوازيني :الأ ّول هو �إ�ضاف ًة �إىل ذلك ،ف�إنّ � ّ الذي يدور يف احلا�ضر مع ن�ضال و�سعد والرا وربيع ،وامل�سار الثّاين الذي يرتبط ب�سعادة و�أمني. ين ّ �شكل املو�ضع الذي تربز منه انطالقة جديدة تتخ ّل�ص من �شوائب وبناء عليه ف�إنّ هذا احل ّيز املكا ّ ً ال ّزمنني احلا�ضر واملا�ضي يف �سبيل بنا ٍء جديد. وي�شري كذلك �أي�ضاً �إىل �أنّ حياة هذه الأ ّمة �ستبقى واحد ًة ،كما �سيبقى ن�ضالها واحداً مهما حاول ال�صراع .ف�ض ًال عن ذلك ،قد ي�شري �إىل �أنّ ّ الطريق التي اختارها �سعادة هي املت�آمرون حرف بو�صلة ّ ال�صحيح نحو قيامة هذه الأمة. امل�سار ّ ال�سياق ،تربز حيو ّية هذا املكان وطبيعته القيام ّية من خالل م�شهد غناء ال ّن�شيد اجلماعي يف هذا ّ «نحن ال�شّ باب»� .إذ �أنّ هذا املكان يف ختام ال ّرواية احت�ضن ذاك ال ّن�شيد معطياً �أبعاداً دالل ّي ًة اجلماعي بالغناء« :واندلع هتافّ ،ثم ارتفع �صوت اجلمهور متعددة ،يتمثّل �أ ّولها يف االنخراط ّ ّ 26 م�صاحباً الغناء ٍ ب�صوت هادر» ،وهو ما يعني اخلروج من احلال الفرد ّية �إىل �إطار املجتمع ،وبال ّتايل ي�شري �إىل �أنّ اخلال�ص يف املجتمع ال ميكن �أن يكون فرد ّياً �أو فئو ّياً �أو مناطق ّياً ،بل ي�شمل الأ ّمة جمعاء ،وم�س�ألة فل�سطني منها. الدال ّيل الثّاين فيتج ّلى يف م�شاركة ربيع التي جعلته ي�ستعيد حيو ّيته القدمية و�شبابه: �أ ّما البعد ّ «التفت ربيع وهو يغني مع الكور�س ومع اجلمهور .ورغم ال�شّ يب وجتاعيده ر�أيته يعود �إىل ما كان واجلميزة و�أ ّيام ك ّنا يف �صانور مثل الع�صافري نحلم بالغد» .27وكذلك م�شاركة ال ّراوية يوم الق�سطل ّ ن�ضال للجمهور يف الغناء ،التي �أوحت بن ٍرب ابتها ٍّيل ّ يدل على عظمة الأيام الآتية« :لكزين ربيع بخجل يف البدء ٍ ب�صوت هام�س .وحني ارتفع �صوت اجلمهور �أعلى و�أعلى ،ن�سيت لأغ ّني فغ ّنيت ٍ 28 ال�صوت ،ومل �أدمع» ،مع �أ ّنها هي وربيع جتاوزا مرحلة ال�شّ باب بزمن خجلي ودموعي ورفعت ّ طويل� ،إ ّال �أنّ هذه ال ّنهاية يف ذاك احل ّيز املكا ّ ين �أ�سهمت يف �إبراز عمل ّية ال ّت ّ جدد ويف ال ّتفا�ؤل عو�ضاً عن الي�أ�س ،لأن ال�شّ باب �سيحقّقون احللم الذي عجز جيل ال ّراوية عن بلوغه. من هذا املنطلق ،يتح ّول املكان الذي اخ ُتتمت فيه ال ّرواية �إىل نقط ٍة حمور ّي ٍة جت ّلت فيها ر�سالية اخلطاب الذي ت�سعى الكاتبة �إىل �إي�صاله ،فهي ال ّنقطة التي ّ الدافع من �أجل �إيقاظ روح ت�شكل ّ الوعي والأمل يف نفو�س �أبناء الأمة وهديهم �إىل الطريق القومي.
� 26سحر خليفة� :أر�ض و�سماء� .ص .486 ال�صفحة نف�سها. 2 7املرجع نف�سهّ ، 2 8املرجع نف�سه� ،ص .487 125
خامتة:
ميكن للمتلقّي �أن يالحظ ،من خالل ما ر�أيناه �سابقاً� ،أنّ املكان ّ �شكل عن�صراً حمور ّياً يف بناء الدالل ّية .فمن ناحي ٍة ّ املحدد ل�سري الأحداث �شكل بو�صفه الإطار ّ ال ّرواية ،ويف الإم�ساك ب�أبعادها ّ ال�صراعات التي تتم ّلك ال ّرواية ق ّو ًة فاعل ًة �إن ٍ �سلبي .ومن ناحي ٍة �أخرى ،ظهرت ّ ب�شكل � ٍّ إيجابي �أو ّ ال�صراعات بني الأمكنة ،ومنها على �سبيل املثال� ،صراع نابل�س /م�ستوطنة كريات من خالل ّ اليهودي ال�صراعان ال ّلذان ب ّينا حقيقة احلقد ّ �شالوم ،و�صراع عني الغزال /م�ستوطنة يت�سهار ،وهما ّ ال�سعيد /املدينة ،مبا جتاه ال�شّ عب الفل�سطيني .كذلك ينطبق على هذا الو�صف �صراع الوادي ّ ّ يج�سده من نقاط مواجه ٍة بني ق ّوة ال ّتغيري وال ّتح ّرر وبني قوى ال ّرجع ّية وال ّتبع ّية. ّ ومن الوا�ضح للقارئ بروز ال ّتداخل بني الأمكنة وبني الأزمنة يف ال ّرواية ،بحيث جند تناوباً يف ال�ضفّة الغرب ّية، ح�ضورها ويف ت�أثرياتها .فاملعاناة التي كانت مت ّر بها ال�شّ خ�ص ّيات يف احلا�ضر داخل ّ وبال ّتحديد يف منطقة نابل�س ،القتها املعاناة التي عانت منها بع�ض تلك ال�شّ خ�ص ّيات يف املا�ضي يف لبنان وال�شّ امّ . ولعل هذا ال ّتداخل يف الأطر املكان ّية وال ّزمن ّية هي التي �أوحت بتحديد املعنى من لفظة «�أر�ض» يف العنوان� ،إذ قد يكون يف ذلك �إيحاء �إىل �أنّ هذه الأمكنة بزمنيها ّ ت�شكل موحد ،فت�صبح فل�سطني ولبنان وال�شّ ام �أر�ضاً واحد ًة ان�سجاماً مع ما تنادي به بتاريخ ّ �أر�ضاً واحد ًة ٍ ال�شّ خ�ص ّية ال ّتاريخ ّية التي متحورت حولها �أفكار ال ّرواية ،و�أعني �شخ�ص ّية �أنطون �سعادة. ال�سماء من خالل ح�ضورها يف الأفكار ّ غطاء الطائف ّية التي ت�ستخدم ّ ا�ستناداً �إىل ذلك ،تربز ّ الدين ً يوحد الأر�ض واملجتمع ،فح�ضور ال�شّ يخ ّ حتدياً لفكر ائفي بو�صفه ّ مل�صاحلها يف مواجهة �أي فكر ّ الط ّ �سعادة العلماين ،ومرور �أمني بتجربته يف بريوت وا�ستماعه لل ّتهديدات ّ الدين املبطنة من قبل رجل ّ و�صاحب ّ «احلاجة فطمة» �شقيقة «�أبي يحيى» ب�شخ�ص ّيتها املتز ّمتة يف ّ ظل الطربو�ش� ،إ�ضاف ًة �إىل بروز ّ ال�سماء م�ستوحي ًة ال�ضغط ال ّ إ�سرائيلي على ال�شّ عب؛ ك ّلها جعلت من الأر�ض يف مواجهة هذه ّ ّ ال�سماء �أفقدنا الأر�ض» ،وهو القول الذي عنونت به القول ال�شّ هري �سعادة نف�سه« :اقتتالنا على ّ الدين ّية اليهود ّية التي ت ّربر الكاتبة افتتاح ّية اجلزء الأ ّول من كتابها .29وذلك دون �أن نن�سى العقل ّية ّ العدائي و�أفكارها احلاقدة باملرجع ّية ال ّتورات ّية-ال ّتلمود ّية ،ما ي�شري �إىل �أنّ الكاتبة تبينّ �أنّ �سلوكها ّ ال�سماء ح�ضرت بو�صفها م�صدراً لالنق�سامات ال م�ساح ًة للجمع كما هو مفرت�ض. ّ وال ّبد من ال ّتنويه يف هذا املجال �إىل جناح الكاتبة يف �سعيها �إىل جت�سيد �أفكار �سعادة ب�صور ٍة غري مبا�شرة ،الأمر الذي ميكننا ر�صده من خالل تلك الإ�شارات املكان ّية وال ّزمن ّية .فمن املعروف قوله ال�صراع مع اليهود �صراع وجود ال �صراع حدود ،وهو ما بدا يف طبيعة الفكر الذي �أبرزه ال ّراباي ب�أنّ ّ الأعظم يف م�ستوطنة يت�سهار التلمود ّية .ومن املعروف كذلك قوله عن ّ الطلبة ب�أنهم نقطة االرتكاز � 29سحر خليفة� :أر�ض و�سماء� .ص .5 126
الأدب املقاوم
القومي ،وهو ما ر�أيناه يف م�شهد اخلامتة مع ن�شيد «نحن ال�شّ باب» عند تخ ّرج الرا .وق�س يف العمل ّ الدولة ،وب�أنّ امل�س�ألة الفل�سطين ّية هي م�س�ألة تخ�ص الأ ّمة الدين عن ّ على ذلك قوله مببد�أ ف�صل ّ ال�صميم ،وقيام االقت�صاد على �أ�سا�س الإنتاج... ال�سور ّية يف ّ ّ روري هنا �أن ن�شري �إىل �أنّ عملنا حول م�س�ألة املكان وال ّتداخل ال ّزمني حتتاج �إىل درا�سة ومن ّ ال�ض ّ ال�سياق تلك املتع ّلقة جوانب �أخرى يف ال ّرواية ح ّتى تكتمل ،ومن �أبرز اجلوانب ّ الدالل ّية يف هذا ّ راعي لل�شّ خ�ص ّيات ورمز ّيتها ،نظراً لكون هذا اجلانب ميتلك �أبعاداً غن ّية وعميقة بدرا�سة امل�سار ّ ال�ص ّ الدالالت التي تختزنها ال ّرواية ،وهي التي تعطي �صور ًة �أو�ضح عن الف�ضاء املكاين يف ال ّتعبري عن ّ ال ّزمني فيها. ومهما يكن ،ففي اخلال�صة ميكننا �أن نرى بو�ضوح �أنّ الأمكنة بتداخالتها يف ال ّرواية ،وبتناوب ح�ضورها بني احلا�ضر مع ن�ضال يف نابل�س وبني املا�ضي مع ربيع و�أمني و�سعادة وليزا يف لبنان وال�شّ ام ،قد ّ �شكلت عن�صراً حيو ّياً يف طرح ر�ؤية الكاتبة نحو هذه البالد التي ما تزال ت�أبى القرب مكاناً لها حتت ال�شّ م�س.
127
دار كتب للن�شر �ش.م.ل.
بناية الربج ،الطابق الرابع� ،ساحة ال�شهداء الو�سط التجاري ،بريوت ،لبنان �صندوق بريد ،11-4353 :بريوت -لبنان. هاتف)961-1( 983008 /9 : فاك�س)961-1( 980630 : الربيد الإلكرتوينkutub@kutubltd.com : املوقع الإلكرتوينwww.kutubltd.com :
الأدب املقاوم
ال�شعري الن�ص البعد املقاوم يف ّ ّ عند كمال خري بك
غ�سان التويني -باحث
تقدمي:
حياته وم�سريته االدبية1935( :ـ)1980من موليد القرداحة حمافظة الالذقية يف �سوريا، العربي احلديث� ،إذ ن�شطت يف هذه املرحلة ،عنيت مرحلة �شهد مرحلة زمنية ا�ستثنائ ّية من تاريخنا ّ تيارات فكر ّي ٌة متنوعة ي�سار ّية وعروب ّية وقوم ّية يف مناه�ضة اخلم�س ّينات وال�ست ّينات وال�سبع ّينياتٌ ، ين القائم على القتل والتدمري والتو�سع. امل�شروع ال�صهيو ّ مهمة تركت ب�صماتها على �ساحتنا حتمل املراحل الت�أريخ ّية التي تفي�أ ال�شاعر حتت ظاللها �أحداثاً ّ العرب ّية من جهة ،وعلى احلركة ال�شعر ّية من جهة ثانية. يف مرحلة اخلم�سينات كانت االمة التزال حتت وط�أة نكبة العام 1948واملجازر التي ارتكبت بحق الفل�سطيني. ال�شعب ّ يف مرحلة ال�ست ّينات ن�شهد انطالقة الر�صا�صة االوىل للكفاح امل�سلح ،التي �أطلقتها منظمة التحرير اال�سرائيلي. الفل�سطين ّية العام � 1965ضد العدو ّ العربي وكل الت ّيارات الفكر ّية على ال�ساحة العرب ّية يف مواجهة العدو ون�شهد نك�سة النظام ّ اال�سرائيلي العام .1967 ّ يف مرحلة ال�سبع ّينات ن�شهد اندالع احلرب االهل ّية اللبنان ّية العام ،197وانت�صار اجلي�شني العربيني وامل�صري. ال�سوري ّ ّ العربي يتخبط بني الت�شا�ؤم هذه االحداث التاريخ ّية وحركة م�سارها كانت عالمة فارقة تركت ّ والتفا�ؤل بني الرجاء واالحباط ،كما �أرقت وجدان ال�شعراء ،وفر�ضت عليهم م�س�ؤولية قراءة احلدث يف هذه املرحلة ،مت�صال باملناخ الثقا ّيف الذي يتظلل ال�شاعر �أفياءه.
129
ال�ساحة العرب ّية فكان من هنا مل يكن كمال خري بك خارج ال ّزمان واملكان اللذين حتركت فيهما ّ يف قلب الربكان الذي ع�صف ب�ساحتنا العرب ّية ،فو�ضع العام 1960جمموعته (الربكان) ،ويف العام 1965جمموعته (مظاهرات �صاخبة للجنون). ثم جمعت جلنة �أ�صدقاء ال�شاعر بعد وفاته ثالث جمموعات �شعر ّية: وداعا �أ ّيها ال�شعر ،العام .1982 دفرت الغياب ،العام .1987 االنهار ال تتقن ال�سباحة يف البحر. مت�سك عناوين املجموعات مبراحل زمن ّية خمتلفة� ،إذ ت�شكل بنيتها ال ّلغو ّية وابعادها الداللية ات�صاال وثيقا مب�ضمون التجربة ال�شعر ّية التي عا�شها كمال خري بك. من يدخل �إىل عامل الق�صيدة عند كمال حري بك ،يجد �شاعرا ملتزما ق�ضايا اال ّمة وهمومها ،مازجا احلزبي ،وهذا لي�س غريبا على �شاعر كان منتميا �إىل احلزب االداء ال�شعري باالداء االيديولوجي ّ ّ االجتماعي� ،إذ كانت هذه الثقافة حترك ّن�صه وت�ؤ�س�س ر�ؤيته التي ت�ؤمن بفكرة القومي ال�سوري ّ ّ ّ اخل�صوبة واالنبعاث املرتكز على ثنائ ّية (املوت/احلياة). العربي اال�سرائيلي،م�ؤمنا با�سرتداد احلق انطالقا من هذه الثقافة كان �شر�سا يف مقاومة العدو ّ ّ باملقاومة ،راف�ضا ّ كل �أ�شكال الت�سو ّيات ،ها هو يقول العام 1977خماطباً القد�س: قد�س عفوكُ .. بال ر�صيد �سوى التهريج والكذب �صك البيـع مهزلـة يا ُ �إال ال�سـمك رغم الدمـع وا ّللهـب قد�س ع�شاقك االحرا ُر ما �سجدوا يا ُ ()1 جرح ومل يخب بـاعـوا دماءهـم كي ي�شتـروا وطنـــا ومل ي�ساو ْم لهم ٌ اال�سرائيلي ،وجبهة الكلمة حارب كمال خري بك على جبهتني ،جبهة العمل الفدائي �ضد العدو ّ أدبي يكون قادراً التي تبنى بو�ساطتها �ضرورة التغيريواالنطالق اىل الق�صيدة الر�ؤيا وت�أ�سي�س ّ ن�ص � ّ على �إنتاج الواقع من جديد. يف �ساحة املواجهة مع العدو� ،سقط ال�شاعر بر�صا�ص مل يكن يرغب ال�سقوط به ،لذلك �أعلنت االرهابي كمال خريبك». �إذاعة العدو اخلرب بالقول« :قتل اليوم يف بريوت ّ املرجعي يف ق�صيدته مر�آة ملا تراه اجلماعة وتعي�ش �أحداثه ،هو القائل: ينعك�س العامل ّ �س�أر ُّدعن هذاالترّ اب نيو َبهم أزيح عن �شعبي ردا َء العار و� ُ 130
الأدب املقاوم
أ�سرعت �إن قطعوا مييني � ْ لتعيد ملحم َة ال ّن�ضال ي�ساري َ وال يتخذ ال�شاعرموقفاً من الواقع ،بقدرما يحاول �إعادة �إنتاجه بالثورة: زحزحت �صخري غري �أنيّ اليوم قد ُ عثت من رماد التجربة و ُب ُ ونه�ضت ُ خارجاً من لوحة الر�سام من �أنقا�ض مر�آتي ال�صغرية الب�ساً عريي و�صوتي و�شراري ()3 �صاهراً وجهي يف نار امل�سرية . ()2
�إذا كانت بنية ال ّلغة يف ن�ص كمال خري بك ت�شكل الن�سيج اال�سلوبي يف تقدمي جتربة ال�شاعر، ف�أن العالمات ال�سيميائية امل�شفوعة مبكوناته الثقاف ّية ،هي القادرة على الك�شف يف التقاط حركة التاريخ وم�ساراتها� ،إذ يتمكن ال�شاعر بو�ساطة هذين املكونني ،البنيوي/الثقايف من �أن يرى ما ال تراه �أية ر�ؤية �أخرى. املرجعي بو�ساطة عالمات لغو ّية و�أ�ساليب تعبري ّية متنوعة يف من هنا قر�أ كمال خري بك عامله ّ مقدمتها الرمز .فكيف تعامل مع رموزه يف التعبري عن همومه وقناعاته واهتماماته؟ وكيف جتلى البعد املقاوم بو�ساطة رموزه؟ �س�أقدم �أربعة رموز قر�أ ال�شاعر بو�ساطتها واقع االمة ،اذ حتركت هذه الرموز على ايقاع الثقافة التموز ّية من جهة ،وايقاع الواقع من جهة ثانية. رمز الدم :ميثل الدم معامل الهو ّية التي يبحث عنها ال�شاعر ،وميثل اخليارات التي �آمن بها وجعلها �سبيال للعبور على ج�سر اخلال�ص و� ً ح�ضاري ثقا ّيف مقاوم. صوال �إىل م�شروع ّ يف حلظة تخبط االمة و�سلب جزء عزيز من �أر�ضها يف فل�سطني ،يرى ال�شاعر يف ق�صيدة «اجلرح املجنون» امل�ؤرخة العام � 1955أن الدم العربي النازف على �أر�ض فل�سطني هو ال�سبيل الوحيد لإعادة احلقوق �إىل �أ�صحابها: هذي دما�ؤكم تفور على الرتاب وتزبد وحتيك جلجلة النفري ،مع ال�صباح ،وترعد �إين مع امل�أ�ساة� ،أكف ُر بالوعود واحلد جرح ثائ ٌر يتف�صد �إين،مع امل�أ�ساةٌ ، 131
ملحاً ..وكربيتاً ..وحقداً عا�صفاً ال يخمد حتى �أر ّد العا َر عن �شعبي ،وي�أتي املوعد
()4
ت�ستقطب كلمة (دما�ؤكم) �أربعة �أفعال (تفور ،تزبد ،حتيك ،ترعد) ت�ضج باحلياة واحلركة وتقدم الدم اال�سرائيلي من رمزا للت�ضحية والعطاء �سابغة عليه لونا من التفا�ؤل مع كل ما يتعر�ض له من العدو ّ قتل وت�شريد �أمام مر�أى العرب وعجزهم املطبق. تنه�ض اال�ستعارة لتو�ضح مفاعيل رمزالدم يف هذه املرحلة «هذه دما�ؤكم تفور/تزبد/حتيك/ترعد» �إن �إ�سناد هذه االفعال اىل دماء ال�شعب ،يخرج اللغة من عالمة عادية �إىل عالمات �سيميائ ّية تعرب عن هم ال�شاعر اجتاه الق�ضية الفل�سطين ّية وتقدميه الدم حركة فاعلة يف ح�سم الق�ضايا مل�صلحتنا� ،إال �أن الدماء التي تدفق على الترّ اب هي التي جتنب الرتاب املوت والعفن وحتوله �إىل تراب خ�صب وموظف ،والدماء التي حتيك اللبا�س لال ّمة العارية هي احلا�ضن احلقيقي مل�صالح اال ّمة ،والدم الذي يتحول �إىل مطر «ترعد» هو الذي يواجه ت�صحر اال ّمة ويعيدخ�صبها. الفل�سطيني اىل ال يرى كمال خري بك يف هذه الدماء اال تلك اجللجلة التي �ستو�صل ال�شعب ّ ا�سرتجاع حقوقه املغت�صبة «حتيك جلجلة النفري». الفل�سطيني يف حني كان لقد اكت�شف ال�شاعر مبكرا �أنّ ْبذل الدماء ،هو ال�صبح القريب لل�شعب ّ حكام العرب يجرتون الوعود الكاذبة من الغرب باعادة احلقوق �إىل �أ�صحابها�« ،أكفر بالوعود و�أحلد». الن�ص من دنيا الكوابي�س العر ّبية التي ت�أ�سره عن التوهج واحلياة ويك�شف زيف يخرج الدم يف هذا ّ املواجهة التي كانت تخا�ض �ضد العدو اال�سرائي ّلي. مت�سك ال�شاعر بهذا الرمز،وا�ستحوذ على اهتمامه ،لأنه ي�ؤمن بفكرة رمز ال�سيد امل�سيح(ع)ّ : الفداء واالنبعاث التي ت�شكل خال�ص اال ّمة وقيامها. ح�ضر ال�سيد امل�سيح(ع) من خالل معجزة الوالدة يف ق�صيدة «معجزة واحدة» من جمموعة «وداعا �أ ّيها ال�شعر» امل�ؤرخة العام :1964 خ ّي ْم هنا على ر�ؤو�س احلراب وارحل معي يف نزهة للعذاب �إرحل معي يف �صخرتي اخلالدة ال�سراب �إرحل معي يف هذا ّ باب، هم �أنا ك ّلما ُ اجتزت ْ ما ّ 132
الأدب املقاوم
باب، هاجمنا من �صلبه �ألف ْ هم ،نحن ُ الطفل والوالدة ما َّ ()5 نحبل من معجزة واحدة . ترى من هو هذا الذي يتوجه اليه ال�شاعر باخلطاب املبا�شر؟ هل هو احللم الذي يرجوه؟ هل هو القائد الذي يرى فيه خال�صا للأمة؟ �إن ا�ستدعاء املخاطب امللتب�س بو�ساطة فعل االمر «خ ّيم هنا» ي�شكل عالمة اطمئنان وتفا�ؤل للوالدة املعجزة التي تراها عني ال�شاعر يف هذه املرحلة الع�صيبة من عمر اال ّمة .واالقامة على ت�صدر فعل االمر «ارحل معي» اجلمل ثالث «ر�ؤو�س احلراب» ،ال تعني غياب الرحيل ،فقد ّ ال�سيميائي اللغوي القائم على التكرار انتقل �إىل نظام بديل هو النظام مرات ،ما يعني �أن النظام ّ ّ الذي و�ضعنا �أمام رحيل مل يك�شف عن نهايته ،وك�أننا �أمام رحيل ال قرار له ،وال غاية له� ،إنه الرحيل «يف نزهة العذاب». فهل هذه النزهة التي يقوم به ال�شاعرب�صحبة املخاطب هي ذاتها رحلة االالمل والعذابات التي تعر�ض لها ال�سيد امل�سيح (ع) يف حياته؟ ّ لعل هذه الرحلة الطويلة عند كمال خري بك متثل اال ّمة ووالدتها من جديد . وال يكتفي ال�شاعر بعذابات ال�سيد امل�سيح (ع) ،بل ي�ستقدم �صخرة �سزيف ليزيد امل�شهد م�أ�سو ّية «�إرحل معي يف �صخرتي اخلالدة» ،مل ي�ستح�ضر ال�شاعر �صخرة �سزيف يف قلب هذا الرحيل �إال لي�شري �إىل ثقافة تلك املرحلة من العام 1964زمن كتابة الق�صيدة .فالرحيل مل يكن مع �صخرة �سزيف نحو القمة امل�ستحيلة ,بل هو رحيل مع ال�صخرة التي ترب�ض على �صدر اال ّمة ،وال يجد ال�سراب». ال�شاعر �سبيال لزحزحتها ،وهذا الرحيل لي�س وا�ضحا ،هو رحيل «يف قلب هذا ّ �أقفلت فعل الأمر «�إرحل» الذي تكرر ثالث مرات ،االبواب �أمام الأمل يف تغري �أحوال اال ّمة، هم» الذي تكرر مرتني ليفتح االبواب املو�صودة يف الوالدة املعجزة� ،إذ �شكل وي�أتي الرتكيب «ما ّ «ماهم نحنا حتمله ال�شاعر ّ «للهم» الذي ّ وقدم للولوج اىل الوالدة املعجزة بقولهّ : هذا الرتكيب نفيا ّ لطفل والوالدة ،نحبل من معجزة واحدة». الديني الذي متثّل مبعجزة ال�سيدة مرمي (ع) ،لكي ي�شري �إىل �إمكانية قيامة ّقدم ال�شاعر املوروث ّ اال ّمة يف ظل ظروف قا�سية جتتاح �ساحتها ،وهذه الوالدة املعجزة �سابقة حلدث تاريخي ،ربمّ اكان الديني ،وهو انطالق الر�صا�صة االوىل للمقاومة الفل�سطين ّية العام ال�شاعر يراه من خالل رمزه ّ اال�سرائيلي ،هذه عالمة تفا�ؤل ّية ّقدمها الرمز يف خ�ضم العا�صفة 1965يف �صراع اال ّمة مع العدو ّ التي تتعر�ض لها اال ّمة يف تلك املرحلة ،و�إ�شارة وا�ضحة لتبني الفعل املقاوم عند كمال خري بك. 133
رمز متوز :ح�ضر رمز متوز بقوة يف ن�صو�ص كمال خري بك ،وهذا لي�س غريباً على �شاعر ينتمى االدوني�سي نتاج اال ّمة ال�سور ّية التموزي يعد الرمز القومي ال�سوري �إىل احلزب االجتماعي ،الذي ّ ّ ّ ّ ّ ّ يف مراحل تكونها. يف ق�صيدة «اخليام» التي كتبت بعيد هزمية العام ّ 1967 تتعطل قدرة متوز على اجرتاح معجزة االنبعاث التي يعي�ش ال�شاعر حلمها: كان مثلي غيم ًة ّثم انهمر فوقَ �صحراء الوجوه القاحلة ْ وت�ساقط َنا معا ..يف طريق القافلة ألف عام وانتظرنَا � َ ْ كي نرى فوقَ الغ�صون الراحلة بعثَنا ،ع َرب الثمر تنبئ عنا زهر ًة ُ يهم�س �أ ّنا �صدف ًة، برعما ُ تقم�صنا املطر من الف عام ،قد ّ و�سقطنا فوقَ �صحراء الوجوه القاحلة، فعر ْف َنا �صدفة، مرت حت َتنا.. �أي�ضا،ب�أنّ القافل َة حني ْ ()6 حتت اخليام هر َع ْت واختب�أَ ْت َ وحد الت�شبيه بني ال�شاعر ومتوز اخل�صب واخلري «كان مثلي غيمة ّثم انهمر» لي�صبحا فعل ا�ست�سقاء ّ االر�ض القاحلة «فوق �صحراء الوجوه القاحلة» ،هذا املطر املت�ساقط يف طريق القافلة من املفرو�ض ان يعطي نتائج طيبة انتظرها ال�شاعر منذ «�ألف عام» لت�ضع حدا للت�صحر الذي يجتاح واقعنا العربي ،خ�صو�صا ،الت�صحر الذي تركته هزمية العام 1967يف �ساحتنا العرب ّية. ّ يف �أجواء التفا�ؤل التي ي�شيعها متوز يف الن�ص ،بامكانية ان تثمر (الغ�صون) و�أن تزهر (الرباعم) �أم ًال يف عودة احلياة �إىل الطبيعة وازالة الوجوه القاحلة ،هذا ك ّله عالمات تب�شر بانتاج واقع عربي جديد «قدتقم�صنا املطرو�سقطنا يتجاوز حمنة الهزمية وي�ؤ�س�س لواقع جديد� ،إال �أ ّنك تفاج�أ برتاجع القافلة ّ فوق �صحراء الوجوه القاحلة». الن�ص ي�سري يف الوجهة التي حددها كمال خري بك ،لأن قدرة املطر تعطلت فوق مل يعد متوز ّ 134
الأدب املقاوم
ال�صحراء ،مايعني �أن ظروفا قا�سية عجز متوز يف مواجهتها ،وهذا يظهر وا�ضحاً يف اختباء القافلة حتت اخليام «هرعت واختب�أت حتت اخليام». يبدو �أن االرث البدو الذي متثله اخليام بو�صفها بعدا ثقاف ّيا منك�سرا حتت وط�أة احلدث (الهزمية)، التموزي فيها� ،أن الك�سر الذي �أ�صاب الرمز هوما �أدى �إىل االم�ساك بثقافة اال ّمة وتعطيل البعد ّ الن�ص ،هو ذاته الك�سر العام الذي �أ�صاب ثقافة اال ّمة ووجدانها. التموزي يف هذا ّ يف ق�صيدة �أخرى ي�ستعيد متوز �أنفا�سه ،ليقف �أمام االعا�صري التي جتتاح �أ�شرعة كمال خري بك، ويت�صدى للتما�سيح التي متزق ج�سد �شعبه. ّ يقول ال�شاعر يف ق�صيدة «�صخرة البعث»: املوت ..وانطلق يف ن�شيدي ّفجر َ وق�صف رعود نغما ثائرا َ عرب هذي اجلبال من غوطتي اخل�ضراء... من بلدتي ..و�أر�ض جدودي... ()7 دم�شق الثكلى �س�أطلقُ بركاين من َ «فجر/انطلق» وظيفة ا�ستثنائية ت�ؤ�شر �إىل تغليب فكرة احلياة على فكرة املوت، ي�ؤدي فعال االمر ّ التموزي الذي �أرجع لل�شاعر ن�شيد احلياة «نغما ثائرا» و�أمطاراً لذلك متاهت �شخ�صية ال�شاعر بالبعد ّ غزيرة و«ق�صف رعود». ت�ضرب جذوة التموز ّية يف �أعماق اجلغرافيا التي �أمن بها ال�شاعر بعدا وجود ّيا وكيان ّيا يحقّق وجود اال ّمة وقوتها .من دم�شق اخل�ضراء التي ّ ت�شكل عمق اال ّمة� ،سيطلق كمال خري بك بركانه املنتظر «من دم�شق الثكلى �س�أطلق بركاين». ّ ال�صراع الذي لعل ال�شاعر يرى قوة اال ّمة و�ضعفها يرتبط مبا ت�ؤديه دم�شق من قدرة على �إدارة ّ يو�صل اال ّمة �إىل ب ّر االمان. لعل هذا الك�شف يف زمن كتابة الق�صيدة يتماه مع مات�شهده دم�شق من غزوات بربر ّية ترغب يف �إلغاء دورها املنا�صر حلركات املقاومةيف مواجهة امل�شاريع الغرب ّية ويف مقدمتها الكيان الغا�صب. اال�سرائيلي فالربكان الذي حتدث عنه ال�شاعر والذي كان يرعب النظام العربي املتواطئ مع العدو ّ من جهة ،والدول الغرب ّية التي ت�ساند ا�سرائيل من جهة ثانية،هو ذاته يرعب الكيان الغا�صب الغربي اليوم. العربي والعامل ّ وحلفاءها يف العامل ّ بناء ملا تقدم ميكن �إن نقول ان ال�شاعر �ساق رموزه وفاق ر�ؤيته التي تر�صد حركة التاريخ يف م�سارات قوتها و�ضعفها ،وا�ضعاً رمزه يف معظم االحيان يف مواجهة الثقافة التي يقر�أ �ساحتها بدقة وعناية. 135
االحباطي والتفا�ؤ ّيل على �ضرورة �إعادة الأمور �إىل ن�صابها الن�صو�ص ببعد ّيه، ك�شف الرمز يف هذه ّ ّ وحت�س�سه املوا�ضع ال�ضعف احلقيق ّية يف اال ّمة ،كان الرمز عالمة ت�شري �إىل هواج�س كمال خري بك ّ والقوة يف االمة ،يف �سبيل ت�أ�سي�س ثقافة املقاومة التي تو�صل �إىل الهدف املر�سوم (�أن ما �أخذ ب�ألقوة ال يرد �إال بالقوة). الهوام�ش
1ـ من جمموعة «االربكان» �ص80ـ.81 2ـ من جمموعة «الربكان» ،بريوت ،دار الفكر للن�شر� ،ص.60 3ـ من جمموعة «وداعاً �أ ّيها ال�شعر» ،ق�صيدة النزيف� ،ص.70 4ـ من جمموعة «الربكان»� ،ص 22ـ. 23 5ـ من جمموعة «وداعاً �أ ّيها ال�شّ عر» �ص.11 6ـ من جمموعة «وداعاً �أ ّيها ال�شعر» �ص.31 7ـ من جمموعة «الربكان» �ص.49
136
حتوالت �أدبية
�أمني نخلة
ورقات الدلب وم�شق الزعرورة
�شوقي �أبي �شقرا � -شاعر القامة التي لهم ،من حيث ال�شهامة الكاملة ،غري التي لغريهم ،غري التي لنا ،غري التي توالت كال�سحابة من �سماء �إىل �سماء ،ومن لغة �إىل لغة ،ومن قلم �إىل قلم .منذ ذلك القبل �أي هم� ،إىل ذلك البعد �أي الذين �سبقوا والذين �أقبلوا على اجلنائن يف م�سار الأيام واحلقبة التي �أعقبت حقبة ما فعلوا وما �أنتجوا وما جرجروا من �أذيال على �ساحات و�ساحات هنا وهنالك حتى �إىل املحافل الواقعة يف اجلوار ويف البالد ،بالد ال�ضاد .ويف البالد التي عكفت عليهم وحاولت �أن تزور �أبعادهم وحتنو على �سرائر ف�صولهم. والقامة تلك ،قامة �أمني نخلة ،ورقة دلب كما و�صفتها ذات مرة يف جريدة النهار ،يف نطاق ن�صو�ص عن �صداح ذلك البلبل� ،أي ذلك الطائر الذي طاملا �أخذه �إليه يف الطبيعة ال�شوفية الو�ضاءة ،يف طبيعة الباروك حيث هو ولد ون�ش�أ وانغم�س وط ّوف يف عذباتها ،يف �أ�شجارها ،يف ال�شيح والأخ�ضر الأخ�ضر والأطرى والأطرى واملزهر املزهر .وحيث ال�شوق �أ ّمل به وحيث الريف �أو�صله �إىل املفكرة، و�إىل �أن ميجد ما يحتويه من �ألطف اللطائف ومن �أعذب العذوبة .وحيث الطل الذي يكاد كالغيث يهمي وحيث ذلك املطرب البلبل تكراراً الذي هو يذكره واحداً من ال�سكان القدامى والنزالء الأوفياء يف تلك الناحية ،يف تلك ال�ضاحية الغناء. وقامة �أمني نخلة �إمنا تنه�ض عموداً بل �أعمدة يف النرث اللبناين ،يف الإن�شاء العربي جملة ويف حم ّياه �إحدى ال�شامات� ،إحدى الطرف� ،إحدى العالمات .وتنه�ض �أجمل و�أو�ضح من قنطرة القناطر ومن املندلون الذي لنا ،كما لها الرندحة الغنائية من فرط بيانها الأ�صيل والذي يظل ك�أنه يفرك عينيه مثلما هي �إمر�أة الدالل و�صبايا الغنج وم�شق الزعرورة .ومثلما هن هاتيك احللوات يف م�سقطه ذي الطيب و�ألوان امل�سك والإثمد وكالهما منب�سطان .ووالده امللهم ر�شيد �إمنا هو ال�ساهر لهن ،ويحر�ص على �أن ينقل عطورهن وح�ضورهن �إىل الهودج� ،إىل نف�سه يف ق�صائده التي ذاعت والتي ،من كونها متيل �إىل املي�سم اخلا�ص واملعا�صر ،هي �أ�سا�س ويف �صدارة خروج ال�شعر اللبناين املحكي� ،إىل �أن يكون يف ما هو عليه من جماراة خل�صمه الف�صيح. ولئن مل يكن �أمني نخلة ،يف ملء غرار والده ،وعلى حد �سيفه يف جمال الغزل ،ويف جلب املر�أة �إىل الديوان� ،إىل ال�سطور ،ف�إنه جعل ن�صه غز ًال ،ورمبا يكون ذلك يطابق كتاباته التي ك�أنها تقا�سيم 137
على العود وعلى خطاب الأنثى .وهي ك�أنها نقلة حجل من خطوة �إىل �أخرى �إىل نقلة �أخرى. وتهد�أ العا�صفة كل مرة ويطرب الأمني �إبن الر�شيد �أكرث مما هي املر�أة له� ،أي الثانية اجلديدة ومن �أن تكون موجودة بني يديه ،بني ذراعيه. و�إمنا هي اللغة العربية ،هي �صنيعه هي التي من نادلة بني �أ�صابعه ،بني ت�ضاعيف القلم ،من مغنية جمهولة ،من جارية يف الرتاث لكنها جذابة له يف قرارته دائماً ،رفعها ،كما يف احلكايات ،مما �سلف �صماء وخفيفة ومثقلة �إىل مرهفة جد الرهافة� ،إىل التي تبدي وتعيد� ،إىل التي ومما خلف ،من جارية ّ جتيد كل الإجادة والتي متيل باجل�سد ومتيل باجليد ،وترق�ص ليل نهار. وال يخفى عن �أحد من �أي طبقة �أمني نخلة ،لأنه �صنع الرداء والنكهة يف لبنان ولأنه مك ّر مفر وي�شتهى كالتفاحة وي�شع يف وجوه اجلميع ،يف قاطبة الأقطار والبلدان ،يف قاطبة الأذواق وم�ضطربات الأفكار. ولأنه هو امللك الذي يف الرواية ولأنه هو الغرام والتمثال ولأنه بغماليون كان �أياها تلك اللغة وكان العا�شق الذي نالها فائزاً معانق َا �إىل ال نهاية وال نهايات لل�سعادة املحفورة يف خوامته هذه املجلوبة من مطارح اخلربة وم�سارح املعرفة ومن داخل منجمه ليكون ذلك الك ّلي املهارة واحلاذق يف نحت �أطباق الكلم وعلوقه مبا هو �إما من ف�ضة و�إما من ذهب� ،إفتتان َا مبا كانت عليه �إرم ذات العماد اللماعة حتى يف م�صائرها �إىل الهاوية واخلراب. التي تراوده ويراودها ،ووقوفاً على �أطاللها الكرمية ّ ورمبا تغ�ضب عليه بقية معادن ومعادن ،ورمبا يغار زبرجد وياقوت يف تلك العمارة ،وبقية الأ�سواق والأبواب املفتوحة على هذه الآونة حيث ال�صعوبات املتعاقبة �أغاريد وتن�شر خمالبها .وحيث ال�سهوالت يف الفنون وحدها يف الأمداء ويف الأفنان ويف الأقفا�ص.
138
حتوالت �أدبية
فلنجرب هذا الرجل (حممد معتوق) وفيق غريزي � -شاعر ،ناقد وباحث
الناقد وفيق غريزي يف مراجعة نقدية لكتاب حممد معتوق «فلنجرب هذا الرجل» كا�شفاً التحوالت والأحداث التناق�ضات التي تركت ت�أثرياتها وباحثاُ عن م�سعى وخال�ص للفكر القومي يف مواقف �سعاده الفكرية وال�سيا�سية والأجتماعية. يحملنا الدكتور حمـمد معـتـوق يف هذا الكتاب �إىل �أنطـون �سعــادة .فكراً ومنهجاً ،ونحن نواكب، مذهولني ،التطورات العلمية والإقت�صادية وال�سيا�سية واملعرفية التي ي�شهدها العامل والتي ما فتئت ترتاءى ،الواحدة تلو الأخرى ،والتي على زخمها وتنوعها وت�سارعها ،مل تعد تعطي الإن�سان فر�صة كافية لتطويعها � ,أو حتى لإلتقاط �أنفا�سه ،و هو يحاول �أن يتكيف معها . ففي معر�ض كالمه عما �أ�سماه (الإ�ضطراب والتناق�ض يف فهم القوميني الإجتماعيني) ،ال�سيما يف فئاتهم املثقفة ،لعقيدتهم التي ال ي�شك �أحد ،بر�أيه ،يف متا�سكها وغناها و�شمولها ،ي�ستعر�ض الدكتور معـتـوق موقف ه�ؤالء املثقفني من الدميوقراطية والليربالية والإ�شرتاكية الذي كان ،يف �أحايني كثرية ،متناق�ضاً مع عقيدتهم الأ�صلية ،الأمر الذي وعى �سعادة ،بعد عودته من املغرتب الق�سري يف مطلع العام � ،1947إىل �شرح تعاليمه و مبادئه يف �سل�سلة حما�ضرات تثقيفية يف �إطار ي�سمى الندوة الثقافية ،وبوا�سطة املطبوعات احلزبية ،بغر�ض �إظهار �شمولية الفكرة القومية ما كان ّ الإجتماعية من جهة ،وتوحيد الفهم لهذه الفكرة من جهة �أخرى ،وبالتايل توحيد النظر �إىل �سمى معـتـوق ه�ؤالء املثقفني ب�أ�سمائهم ،معترباً �أنّ الق�ضايا املنبثقة منها من جهة ثالثة ،وقد ّ �إنتاجهم كان �ضئي ًال ،يكاد يكون غري ذي قيمة . «فبعد املحاولة الإنقالبية الفا�شلة عام � 1962 - 1961أ�صاب احلزب القومي الإجتماعي �ضمور كبري و �أخذ ح�ضوره ال�شعبي يرتاجع وتفاقم �شعور القوميني بالإ�ضطهاد ،الأمر الذي دفع ّ مفكريه الذين ي�ؤ ّدون �ضريبة الأ�سر يف ال�سجون ا ّللبنان ّية ،ك�أ�ســد الأ�شـقـر و عـبدهلل �سعـادة و �شوقـي خيـرالـله� ،إىل نقد ال�سيا�سة ا ّلليربال ّية ال ّتي توجهها الواليات املتحدة ،والإنفتاح فج�أة على املع�سكر الإ�شرتاكي .وما �إن خرج ه�ؤالء من ال�سجون حتى نحوا منحى ي�سارياً عنيفاً فاج�أ اجلميع 139
يف لبنان واملنطقة ،فاحلزب الذي حارب ال�شيوعية يف اخلم�سينات من القرن املا�ضي ،يتح ّول بني ليل ٍة و�ضحاها �إىل حزب ي�ساري �إ�شرتاكي عروبي . فلنجرب هذا الرجل ّ
ّثمة �س�ؤال يخطر يف البال :ملاذا هذا الإ�ضطراب والتناق�ض يف فهم القوميني الإجتماعيني لعقيدة ال ي�شك �أحد يف متا�سكها و غناها و �شمولها ؟ بقول الدكتور معـتـوق« :قبل الإجابة يجدر بنا �أن ّ نذكر بالظروف ال�سيا�س ّية و احلزب ّية ال ّتي جرى فيها �إعدام �سعادة و عودة احلزب ّ أ�س�سه �إىل العمل بعد غيابه .ونبد�أ بالإ�شارة �إىل �أن �سعــادة الذي � ّ عاد يف عام 1947من الإغرتاب الق�سري ّ الذي دام ت�سع �سنوات ليجد احلزب ال�سوري القومي ّ الذي � ّأ�س�سه عام 1932قد تخ ّلى عن الهو ّية ال�سورية وغيرّ �شعارات احلزب ومبادئه ،وتب ّنى الواقع الذي ن�ش�أ عن الإ�ستقالل عام ،1943وحت ّول �إىل احلزب القومي ّ اللبناين ّ الذي يعمل برخ�صة من وزارة الداخل ّية يف حكومة الإ�ستقالل». مل يجد �سعادة يف نيل لبنان �إ�ستقالله عن فرن�سا ما يدعو �إىل �إحداث تغيريات يف املبادئ والأغرا�ض. ويف مواجهة الواقع ا ّللبناين الذي �أريد من تب ّنيه حتويل احلزب �إىل منظمة �سيا�س ّية لبنان ّية غري معينة بالوحدة والق�ضية ال�سور ّيتني ،فتقدم بخطاب واقعي ر�صني حافظ فيه على غاية احلزب ومبادئه، فقال� :إنّ احلزب يعرتف بالكيان ا ّللبناين ،دائرة �ضمان لينطلق منها الفكر ،ولأ ّنه قام برعاية ا ّللبنانيني ويبقى رهن �إرادتهم . وبقينا على حد قول املعـتـوق� ،إنّ هذا اخلطاب ّقدم �أ�سمى �صور التع ّلق بالدميوقراطية واحرتام الإرادة ال�شعب ّية حني ربط الكيان اللبناين ب�إرادة اللبنانيني ،ف�إليهم وحدهم يعود تقرير م�صري يح�ض على �إخراج الكيان وب�إرادتهم وحدهم يبقى �أو يتح ّول .و�إنمّ ا �أراد �سعادة من هذا اخلطاب �أن ّ ال�صراع من دائرة امل�صالح الطائف ّية -الإقطاع ّية ال�ض ّيقة �إىل دائرة الفكر ،وعلى احرتام حر ّية املعتقد وحق �إبداء الر�أي ح ّتى يت�س ّنى للبنانيني التع ّرف بحر ّية تا ّمة �إىل وجهة النظر الأخرى، وال ّتي ترى حياة لبنان يف توثيق �إرتباطه احلياتي مبحيطه القومي ال�سوري ،وح ّتى يتبينّ اللبنان ّيون تقدمه الهو ّية ال�سور ّية لوقف التنا�صر بني احلزبيات الدين ّية املتل ّب�سة لبو�س �أي خمرج نظري عبقري ّ الإنعزال اللبناين والإنفال�ش العروبي . وي�شري الدكتور معـتـوق �إىل �أن �سعــادة �أق�صى دعاة القبول بالواقع اللبناين عن احلزب ،وعمد يف الوقت نف�سه� ،إىل �شرح تعاليمه ومبادئه بغر�ض �إظهار �شمول ّية الفكرة القوم ّية ال ّتي ُجعلت �أ�سا�ساً 140
حتوالت �أدبية
للعمل احلزبي القومي .كما �أق�صى دعاة الليربال ّية الذين �أرادوا احلزب حركة �سيا�س ّية �ضئيلة ت�ستعري من الوجوديني وغريهم ما يروق له�ؤالء الليرباليني من �أفكار . البحث التاريخي عن اخلال�ص
هناك �صراع دائم بني فكرين ونهجني يف التاريخ ،نهج ما ّدي ،ح�سابي ،ميكانيكي و�ضعي ونهج متح ّرك ناب�ض هادف .الفكر اليهودي يندرج حتت عنوان النهج الأ ّول ،ماركـ�س ،فرويـد، و�آيـن�شـتاين ...فكر م ّوب «فايالت» يف �أدراج معادالت تغني عن املو�ضوع وحتم ّياته« ،الفكر ال�سوري القومي الإجتماعي ،يندرج حتت عنوان النهج الثاين. الأ ّول يعي الإحتكاك الأفقي الإجتماعي �أحياناً ،الإحتكاك مع ال�شخ�ص الآخر ،و الثاين يعي يتحدث فقط لغة الكومبيوتر املربجمة والثاين الإحتكاك العمودي -الأر�ض و الغيم .-الأ ّول ّ يراهن على الإحتمال ال�ضئيل على هام�ش معادالت الكومبيوتر لأ ّنها �إ�ستكمال للإن�سان �أو ربمّ ا ُيقال لأ ّنها �أن�سن ٌة للمعادالت ال ّتي تخت�صر الإن�سان يف الكومبيوتر» على ح�سب قول امل�ؤ ِّلف . �أنطـون �سعـادة كان يبحث عن حل لإ�شكال ّية احلر ّية والعطاء الإن�ساين احلر مو�ضوع الأ ّمة ال�سور ّية جاء يف �إطار البحث عن احلل ،التوحيد ا ّلذي هو من الفكر ال�سوري كان احلل بالن�سبة �إليه. فو�ضع قواعد التوحيد؛ الإنتماء �إىل جمتمع واحد ،دورة حياة واحدة� ،أ ّمة واحدة ،وطن واحد، م�صري واحد ،دولة واحدة ،مثل عليا واحدة . «والعلمان ّية التي تنقل التوحيد من قاعدة الدين �إىل قاعدة الإجتماع الواحد ،دورة احلياة الواحدة، فتزيل الإ�شكال النا�شئ عن تعدد الأديان واملذاهب والأ�صول الإثن ّية و �أمثالها». كان اختيار �سعــادة للنهج القومي وا�ضحاً ،طرحه على نف�سه �س�ؤال :من نحن؟ و ربمّ ا مل�صلحة هذا الإختيار �صعود الت ّيار القومي يف �أوروبا � ،اّإل �أنَّ �سعــادة كان قد �أنهى كل ت�شكك ب�سالمة هذا املنهج قبل ت�أ�سي�س احلزب . ويرى امل�ؤ ّلف الدكتور معــتوق يف منظومات الأفكار الر�سول ّية الغيب ّية وخالفها ،هناك دائماً نهاية حمددة وحمتومة ،يف اليهود ّية بناء الهيكل تب�شّ ر مبجيء امل�سيح ،يف املحمد ّية ،حممد �آخر الأنبياء، يف امل�سيح ّية �أو بالأحرى مذاهبها وبدعها نهاية العامل قريبة ،يف الباطن ّية ح ّتى ،لدى ال�شيعة املهدي هو �آخر الأئمة ،عند الدروز املوحدين احلاكم هو التج�سيد ال�سابع والأخري للخالق ،ح ّتى املارك�س ّية ،الطبقة الربوليتار ّية هي �آخر الطبقات ،فال طبقات بعدها. بالتمدن ولكن ال حتم ّيات و ال نهاية .من يدري وي� ّؤكد �أ ّنه مع �سعــادة الوجدان القومي ظاهرة مرتبطة ُّ ّ تقدم الإمكان ّيات ال احلتم ّيات� ،ستغيرِّ وجه التاريخ. لعل العامل ي�صبح �أ ّمة واحدة ،الأر�ض ال ّتي ّ 141
القومية اخل�صو�صية �سعــادة و ّ ّ
اخل�صو�ص ّية �سمة �أ�سا�س ّية يف الأيديولوجيا القوم ّية ،فالأ ّمة ملك ّية حمدودة �إ�ستثنائ ّية� ،أي �أ ّنها مقت�صرة على �أبنائها دون غريهم ،و بهذا املعنى ف�إنَّ ثروتها حالل لهم و حرام على غريهم ،وتراثهم يقد�سونه و مياهون بينه و بني �شرفهم و �صورتهم و مكانتهم يف العامل . عزيز عليهم ،و هم ّ واملق�صود بهذا الكالم من وجهة نظر معتوق هو الأيديولوجيا القوم ّية عموماً التي ن�ش�أت يف القرن التا�سع ع�شر يف الن�صف الثاين منه على وجه اخل�صو�ص ،ففي هذه الفرتة التاريخ ّية بد�أ احلديث عن وحدة لغو ّية وثقاف ّية ،ويف «الت�سعينات منه ،مع الفرن�سي فـا�شـيه دو البــوج والإنكليزي ودخلت اخلطاب العن�صري عبارة: هيـو�سـنت �ستــيوارت ت�شـامبـرلني عن وحدة �إثولوج ّيةّ ، ( ،)NORBIESالتي توحدت مع التف ّوق و �أخذت �شك ًال ت�شريح ّياً ميكن تلخي�صه بال�شقرة و طول الر�أ�س». تعمقت اخل�صو�ص ّية القوم ّية مع مبد�أ الرئي�س الأمريكي وِل�ســن الذي ّ حل حمل قوم ّية فرنيتي وقد ّ خا�صة بالدول الكربى وحدها كربيطانيا و يف احلقيقة الليربال ّية ،والتي كانت تعترب القوم ّية �صفة ّ فرن�سا وا ّلتي �أنكرت على �إيرلندا مثال حقّها يف �أن تكون �أ ّمة -دولة . متثِّل اخل�صو�ص ّية القوم ّية معلماً رئي�س ّياً من معامل الفكر القومي الإجتماعي ،وهو معلم ي�صعب �إغفاله ملطالع �آثار �سعــادة يف �ش�ؤوون ال�سيا�سة والإجتماع والإقت�صاد واحلقوق والأنرثبولوجيا و علم النف�س الإجتماعي . َّ ولعل احلا�ض على الت�شديد الظاهر على هذه اخل�صو�ص ّية هو �أنّ احلركة ن�ش�أت يف ظل حالة �سيا�س ّية كان فيها الإ�ستقالل ال�سيا�سي م�صادراً من جانب ق ّوتني �أجنب ّيتني عظيمتني ،هما فرن�سا وبريطانيا، وكانت الهوية القومية حمل تنازع بني �أهواء و اعتبارات �سيا�س ّية مذهب ّية ر�أى �سعــادة محُ ِ قّا ً� ،أ ّنها ال ت�صلح �أ�سا�ساً لتعيني تلك الهو ّية . ويقول الدكتور معــتوق« :انطلق العمل القومي الإجتماعي من �س�ؤال فل�سفي هو ،من نحن؟ و�سعي �سعــادة الذي طرح على نف�سه هذا ال�س�ؤال للإجابة عليه» .فيقول �سعــادة« :واملبادئ الأ�سا�س ّية ت� ِّؤكد �إ�ستقالل ّية الق�ض ّية القوم ّية عن � ّأي ق�ض َّية �أخرى ،وعلى خ�صو�صية املثل العليا التي تر�سمها هذه الق�ض ّية وزودة احلفاظ على �إ�ستقاللها عن � ّأي مثل عليا لأ ّمة �أخرى ،وعلى جدارة ال�سوريني لإ�ستيعاب ق�ضايا ا�ستقاللهم هم جميعاً والعمل لها ،بعيداً عن � ّأي و�صاية� ».إنَّ النف�س ال�سور ّية فيها كل علم وكل فل�سفة وكل فن يف العامل». إجتماعي للخ�صو�ص ّية القومية قول �سعــادة يف �سوريا املادي -ال يكاد ّ يلخ�ص الأ�سا�س ّ ّ وال�سوريني« :هذا الوطن املمتاز لهذه الأ ّمة املمتازة» .فقطبا التفاعل الإن�ساين يف فكر �سعــادة هما 142
حتوالت �أدبية
البيئة واجلماعة ،ويف مو�ضوع �سوريا الكربى هما البيئة ال�سور ّية بخ�صائ�صها املتن ِّوعة من �سهول أرا�ض وبروز حدود وموقع جغرايف ا�سرتاتيجي ،واجلماعة ال�سور ّية ووديان و بال و�أنهار وخ�صب � ٍ املك ّونة من �أ�صول عرق ّية خمتلفة بينها الكنعان ّيون والأ ّموريون واحلثّيون والكلدان والآرام ّيون . وقد اعتمد �سعــادة ،كما يرى الدكتور معــتوق ،يف ت�سمية الأ�صول العرق ّية لل�سور ّيني على ما جاء يف كتب التاريخ امل�ستندة حتى الع�شرينات على كتب التوراة ،و� اّإل �أ َّنه �أخ�ضع هذه الأ�صول للتدقيق يف �ضوء الإكت�شافات الأثر ّية التي �أوالها �إهتماماً كبرياً .ومن املهم الإ�شارة هنا �أ َّنه �أدخل العرب يف هذه الأ�صول العرق ّية يف الفرتة الزمن ّية الأوىل من حياة احلزب ال�سوري القومي الإجتماعيّ ،ثم مل يلبث �أن �أخرجهم من دون �أن يو�ضح ب�صورة جل َّية متاماً �شروط ت�أهيل اجلماعة املر�شَّ حة للإن�ضمام �إىل الأ�صول العرق ّية املك ِّونة لل�شعب ال�سوري ،وهو يقفل الباب ،باب الت�أهيل مع تك ُّون مزيج �ساليل ما ؟ وما �شروط تك ُّون هذا املزيج؟ املو�ضوع ّية؟ ولكن ُي�ستفاد من �إ�سقاط العرب من عنا�صر املزيج ال�ساليل ال�سوري ،مث ًال� ،إنَّ هذا املزيج قد تك َّون ب�صورة نهائ ّية قبل الفتح العربي � ،اَّإل �أننا ال نعرف متى اكتملت �صيغته النهائ ّية و ما ظروف هذا الإكتمال . وتب ّنى �سعــادة الإتجِّ اه التجريبي يف الإ�ستدالل على ال�سالالت يتناق�ض مع الر�أي التقليدي املقد�سة عن �أ�سطورة نوح و عر ِّيه ولعناته املو ّزعة على �أبنائه القدمي امل�ستند �إىل ما جاء يف الكتب ّ والتي التقطتها املدار�س العرق ّية يف �أوائل القرن الع�شرين لت�صيغ منها نظر ّيات التف ُّوق ال�ساليل اخلداعة اللغو ّية ،وهذه «الأد ّلة واهية يف تقدير وخال�ص العرق ،وت�ستند يف �إ ِّدعاءاتها �إىل الأد ّلة ّ �سعــادة ،وهو ينق�ض هذه الإ ِّدعاءات « ويقول �سعــادة يف هذا املجال «نتك ّلم عن عدد من الأقوام لغات م�شتقّة من �أ�ساليب لغو ّية موحدة قد يفيد �أنّ هذه الأقوام كانت يف بع�ض الأزمنة الغابرة متقاربة يف الإجتماع �أو �أنَّ �أ�صولها كانت تعي�ش معا ،و لك َّنها ال تعني �أبداً وجوب كون هذه الأقوام م�شتقّة من �أ�صل واحد �أو ن�ش�أة �ساللة واحدة». ال�سامي ن�سبة �إىل �سام ،وال بالت�صنيف التوراتي لل�سالالت، و�سعــادة ال يقول مع القائلني بالعرق ّ ٍ �سالالت م�سا ٍو لعدد �ألوان الب�شرة ،وال مع الآر ّيني كما ال يقول مع علماء القرن الثامن ع�شر بعدد امل�سماة الهند ّية بتف ُّوق عرقهم الذي ي�ستد ّلون عليه من الأ�سا�س اللغوي امل�شرتك لبع�ض ال�شعوب ّ الأوروب ّية ،و هو الربهان الذي نق�ضه �سعــادة .وي�شري الدكتور معــتوق �إىل �أنَّ �سعــادة يذهب مذهب مــاك�س مــولر ال�شهري الذي يعترب اجلن�س مفهوماً وراث ّياً ،ال ميكن �أن ُي ّ �ستدل عليه من ال ّلغة التي هي �ش�أن غري متوارث ،وي�شبه هذا الإجتاه للتعامل مع ا ّللغة �إجتاه �سعــادة الذي رف�ض �إعتبار ا ّللغة من العنا�صر امل�ساعدة على ن�شوء الأمم ،بل هي «�أمر حا�صل بالإجتماع يف الأ�صل ال �أنّ الإجتماع �أمر حادث با ّللغة».
143
ف�صل الدين عن الدولة
ترك �سعــادة نظر ّية و�شروحات تناول فيها الدين يف طبيعته وعالقته بالإجتماع و�أثره على الوحدة الروح ّية الإجتماعية ون�سبته �إىل الإرتقاء الفكري والفل�سفي. النظري وتو�سعاته يف موقفه ّ ويقول الدكتور معــتوق« :وكانت ل�سعــادة �أي�ضاً يف �أُطر �شروحه ُّ �شدد فيها على �أمرين بارزين الأ ّول وحدة الأ�سا�س املناقبي للدينني م�ساجالت ومناظرات ّ واملحمدي وح�صر اختالفاتهما يف مقت�ضيات و�ضرورات البيئة التي ظهر فيها كل من امل�سيحي ّ هذين الدينني .و�أ َّما الثاين فرف�ض ت�أ�سي�س الإجتماع على الدين وحتذيره من احلروب الدين ّية والدعوات الدين ّية مبختلف الأ�شكال التي تظهر بها». وت�أ�سي�ساً على فكرة وحدة الأ ّمة التي تبلورت يف املبادئ الأ�سا�س ّية للحزب ال�سوري القومي الإجتماعي دعت املبادئ الإ�صالح ّية �إىل ف�صل الدين عن الدولة و�إزالة احلواجز بني املذاهب والطوائف ومنع رجال الدين من التدخل يف �ش�ؤون ال�سيا�سة والق�ضاء القوم َّيني. والقول بف�صل الدين عن الدولة من وجهة نظر امل�ؤلف هو تعايل العلمانيني والالطائفيني بالإ�ضافة �إىل اتباع العقائد املاد ّية الذين ينكرون وجود اهلل. ولذلك مل ي�أمن احلزب من تهمة الإحلاد التي رماه بها رجال الدين منذ ذاعت مبادئه باكت�شاف باملادي وا ُّتهِ م بالإحلاد ح ّتى �أمره عام .1935كما تق َّول الباحثون يف حقيقة �إميان �سعــادة ،ف ُنعِت ّ حتدثوا عن مثال ّيته التي هي من �أقرب املق ّربني �إليه و ُو ِ�صف �أحياناً بالن�صف ميتافيزيقي ،وكثريون َّ نقي�ض املاد ّية . يقول �سعادة �إنَّ الدين ظاهرة من ظواهر الإجتماع الب�شري ،ن�ش�أ بعامل تطور الإن�سان ّية نحو �سيطرة النف�س وحاجتها يف �ش�ؤون احلياة و تط ّور وارتقى بالعامل النف�سي نف�سه ،كما ورد يف كتابه ن�شوء الأمم، فالدين �إذن �شحنة نف�س ّية روح ّية ت�صدر عن اجلماعة الب�شرية �أو تتلقاها هذه اجلماعة من جماعة �أخرى �سدها ،وعند �سعـادة �إنّ الدين تطور مع تطور لرتد بها على تعقُّد احلياة و احلاجات املاد ّية وتزايد �صعوبة ّ الب�شرية ولن ينفك يتطور بتطورها ،ولكن تطوره بطيء ،ويف هذا البطء �س ّر خطورته. يتبينّ هنا من هذا القول �أنّ التطور خا�ص ّية يف الدين و�إن تكن �إ�ستجابته لدواعي التطور بطيئة. اليهودية �سعــادة و امل�س�ألة َّ
فر�ض اليهود �أنف�سهم على فل�سطني والعامل العربي منذ بدء �أزمة فل�سطني التي و�صلت �إىل ذروتها بقيام دولة �إ�سرائيل على اجلزء الأكرب من فل�سطني احلديثة ،وحت ّولوا �إىل العدد الذي اغت�صب 144
حتوالت �أدبية
الأر�ض ال�سور ّية العرب ّية التي للإ�سالم و امل�سيح ّية روابط متينة ببع�ض مقد�ساتها. وبينّ الدكتور معــتوق �أ ّنه ت�سبق عالقته القومية الإجتماعية باليهود تاريخاً قيام دولة �إ�سرائيل امل�صطنعة عام ،1948فمنذ عام 1936عندما �شرح �سعادة مبادئ احلزب ال�سوري القومي الإجتماعي �أثناء فرتة �سجنه الثانية ،و�صلت امل�س�ألة اليهودية �إىل البنيان الفكري ال�سوري وحقيقة الوطن ال�سوري وحقيقة النف�س ّية ال�سور ّية. فتناول م�س�ألة اليهود يف �إطار تناوله لرتكيب الأ ّمة ال�سورية التي اعتربها ح�صيلة متازج �سالالت �سمى منها الكنعانية والكلدانية والآرامية والآ�شورية والأمورية واحلث ّية متجان�سة و�أ�صول م�شرتكة َّ واملتنية وال ّأكادية التي «وجودها و امتزاجها حقيقة علم ّية تاريخ ّية ال جدال فيها ،والتي هي �أ�سا�س �أثني -نف�سي -تاريخي -ثقايف». اليهودي يف الإطار نف�سه تط ّرق �سعادة �إىل اليهود ،ف�أعلن �أ َّنه «ال ميكن �أن ي�ؤول هذا املبد�أ ب�أنه يجعل ّ لل�سوري داخ ًال يف معنى الأ ّمة ال�سور ّية. م�ساوياً يف احلقوق واملطالب ّ فتناول كهذا بعيد جداً عن مدلول هذا املبد�أ الذي ال يقول مطلقاً باعتبار العنا�صر املحافظة على خا�صة غرب ّية داخلة يف معنى الأ ّمة ال�سور ّية� .إنّ هذه العنا�صر لي�ست ع�صب ّيات �أو نعرات قوم ّية �أو ّ داخلة يف وحدة ال�شعب. خا�صة« :فقد تطرق �إىل عالقة اجل�سم ونرى �أنّ �سعــادة قارب امل�س�ألة اليهود ّية من زاوية �إثن ّية ّ اليهودي باملزيج ال�ساليل الذي تك ّون من الأ�صول الإثن ّية امل�شرتكة للأقوام التي نزلت �سوريا الكربى» .وت�صادمت و متازجت وك ّونت هذه ال�شخ�ص ّية الوا�ضحة القو ّية التي هي ال�شخ�ص ّية ال�سور ّية و حبتها البيئة ال�سور ّية مبقومات البقاء يف تنازع احلياة»� .أ ّما الهجرة اليهود ّية ،وكذلك الهجرات الأخرى كالأرمن و الأكراد وغريهم ،ف�شرط قبولها هو � اّأل تكون حمافظة« :على ع�صبيات خا�صة غربية ،وهو �شرط على اجلماعات العرق ّية و الوافدة. �أو نعرات قوم ّية �أو ّ وهناك �شرط ثانٍ هو قدرة اجل�سم امل�ستقبِل� ،أي الأ ّمة ال�سور ّية ،على ه�ضم العنا�صر اجلديدة و�إزالة ع�صبياتها اخلا�صة ،وهو ما يحتاج �إىل �شرط ثالث هو الوقت الكايف لذلك». ويف �أ�سا�س الهجرة اليهود ّية املعا�صرة التي يتناولها �سعــادة الإ ّدعاء ب�أنّ اليهود �أقاموا يف �سوريا و�أقاموا ممالك لهم فيها ،و�إ ّنهم يهودون �إىل الأر�ض التي عا�ش فيها �أجدادهم الأقدمون قبل ما يزيد على ثمانية ع�شر قرناً ،و �أنّ هذه الأر�ض هي جزء من �أر�ض موعودة �أعطاعم �إ ّياها اهلل الذي جعله اليهود ال�صهاينة «�سم�سار العقارات الكربى» وقد تناول �سعــادة هذه النقطة يف غري منا�سبة، ف�شكك مع امل�شككني يف �أن يكون لليهود احلاليني �صلة باليهود القدماء م�شرياً يف الوقت نف�سه �صح «كان بطريقة غري �شرع ّية». �إىل �أنّ دخول ه�ؤالء اليهود الأر�ض ال�سور ّية� ،إذا ّ 145
صوال وم�ضى يف الإطار نف�سه �إىل حتليل عالقة اليهود باملدينة ال�سور ّية قبل ظهور امل�سيح و بعده ،و� ً اليهودي عن �سوريا كان من�ش�أه هذا الت�صادم بني العقليتني و النف�س ّيتني قبل �أن �إىل �أنَّ الإغرتاب ّ ُتفر�ض العوامل ال�سيا�س ّية. ي� ِّؤكد امل�ؤ ِّلف �أنّ الفكر القومي الإجتماعي يرف�ض متاماً قيام الدولة اليهود ّية ويكافح بقاءها ويعمل لإزالتها ،وذلك لأنّ وجودها تعطيل للحياة القوم ّية واعتداء على ال�سيادة القوم ّية .وما امل�صادقة على بقائها يف � ّأي �صيغة كانت � اّإل نفياً ملبد�أ وحدة الأر�ض ال�سور ّية ،و يندرج حتت العنوان نف�سه، رف�ض الفكر القومي الإجتماعي مبد�أ الدولة الدين ّية والأتن ّية لأ ّنه ُي ِّعطل وحدة الأ ّمة وي�ض ّر با�ستقالل الق�ض ّية القوم ّية. يقول �سعــادة يف هذا ال�سياق« :الطريقة الوحيدة ل�صهر هذه العنا�صر -الأقوام الأتنولوج ّية، هي طريقة ت�سليط عامل روحي � -إجتماعي -ثقايف عليها» .وي�ضيف �سعــادة�« :أوجدت مبادئ احلزب ال�سوري القومي الإجتماعي العامل الروحي -الإجتماعي -الثقايف الذي يتمكن من �صهر اجلماعات الدين ّية والأتن ّية يف �سوريا وحتويلها �إىل عنا�صر متجان�سة متالحمة يف �صلب الأ ّمة ال�سور َّية»...
146
حتوالت �أدبية
�أمني تقي الدين وق�صائد جمهولة
ق�صائد مل ُتن�رش يف ديوانه ..و�صفحات من�سية من تاريخ الأدب العربي احلديث
جنيب البعيني -كاتب و�صحايف �أمني تقي الدين علم من �أعالم ال�شعر العربي لبثت �أ�شعاره ردحاً خارج �سربها وظلت �سرية مطوية. يف هذا البحث يعيد الأديب والباحث جنيب البعيني االعتبار للق�صائد التي غابت وللدور الذي مل ينل حقه. كان �أمني عمالق �شعر ونرث ...ن�شر �إنتاجه يف معظم جرائد وجمالت يف لبنان وم�صر وال�شام ,كما تناقلت ق�صائده جميع الدوريات والن�شرات يف حينه وهو على مقاعد مدر�سة «احلكمة» يف بريوت بدءاً من �سنة 1900ومابعد �إىل تاريخ رحيله يف � 31آيار �سنة .1937 وبعد وفاته ب�سنوات بقي �صدى �أخباره و�أعماله يرت ّدد من خالل الكتابة عنه يف ال�صحف واملج ّالت �أو من خالل �إقامة حفالت الذكرى يف بريوت يف عدد من االمكنة .وبالرغم من كل ي�ضم بني دفتيه جميع ق�صائده .وكنت �أ�صدرت كتاباً عنه �أ�سميته : ذلك مل ي�صدر له ديوان �شعر ّ «�أمني تقي الدين يف ال�شعر والنرث» ,ين�صف هذا ال�شاعر الذي ملأ الآفاق ب�شعره . وقد قامت يومها قيامة املرحوم الدكتور �سامي مكارم معرت�ضاً على �إ�صداري كتاباً عن �أمني تقي الدين ,فعمد �إىل نقل ّ كل ق�صائدي يف كتابي و�إدراجها يف كتاب �أ�سماه« :ديوان �أمني تقي الدين» �أ�صدره يف �سنة .2000على �أنّ هناك ع�شرات الق�صائد التي بقيت خارج الديوان ,ولكنني عدت فعرثت على ق�صائد غري من�شورة يف كتابي �أو كتاب مكارم ,نن�شرها يف هذه ال�صفحات وفاء وتقديراً لأدبه. -1عن دار العلوم العربية يف بريوت �سنة 1996
ولكن قبل �أن �أن�شر هذه الق�صائد املن�سية ال ّبد �أن �أعطي ُه حقه يف ن�شر بع�ض �أعماله التي مل ي�شر �إليها �أحد قب ًال. 147
البد من ب�سط �شيء عن �سريته الذاتية وجهاده الوطني ونتاجه يف �إغناء الأدب العربي احلديث. كما ّ والدته وعلومه: ولد ال�شاعر �أمني تقي الدين يف «بعقلني» من ق�ضاء ال�شوف ,يف � 21أيلول �سنة .1884تعلم مبادئ اللغتني العربية والفرن�سية يف مدر�سة القرية ,وعندما بلغ احلادية ع�شرة من عمره �أدخله والده مدر�سة «احلكمة» يف بريوت ,ف�أ ّمت فيها درو�سه العالية ,وكان تلميذاً للمربي الكبري اخلور �أ�سقف يو�سف احلداد وتلميذاً للغوي ال�ضليع بطر�س الب�ستاين .وكان بني رفاقه جنيباً المعاً ن�شيطاً ومن أ�شدهم امتالكاً لناحية اللغة والأدب, �أقوى التالميذ بياناً وبالغاً ,و�أمتنهم عبار ًة وكالماً ,ومن � ّ وه�ضم مفرداتها ال�صعبة وكلماتها العوي�صة. كان �أمني تقي الدين يف �أوج �شبابه ,وقد روت مدر�سة «احلكمة» يف بريوت ظم�أه املتعط�ش �إىل مناهل العلم واملعرفة ,وزادته ثقافة وا�سعة ,و�أر�ضت ميوله ورغباته وطموحاته ونف�سه التواقة �إىل اكت�ساب العلوم والثقافة الوا�سعة ,والعلم الوفري ,وكان معهد احلكمة �آنذاك من �أكرب معاهد لبنان و�أعالها كعباً يف اللغة العربية ,فقد جمع هذا املعهد باقة مميزة من املبدعني واملفكرين الذين وحدت بينهم وحدة علمية ,فتالقت حتت �سقف واحد وعلى طاولة واحدة .وكان يف طليعتهم: ّ جربان خليل جربان ,ب�شارة اخلوري ,الأخطل ال�صغري ,ويو�سف ال�سودا ,والأمري �شكيب �أر�سالن, ووديع عقل ,و�شبلي امل ّالط ,وبول�س �سالمة وغريهم وغريهم. كانت احلكمة ّ ت�شد ه�ؤالء برغبة �صادقة يف �أن يجعلوا من هذا املعهد مركزاً علمياً و�صرحاً ثقافياً يعربون فيه عن �آرائهم و�أفكارهم يف بع�ض طروحات فكرية و�أدبية واجتماعية وان�سانية ,فيجعلون «احلكمة» مدر�سة بكل معنى الكلمة ,و�صرحاً ثقافياً ومنتدى الأدب وال�شعر والفل�سفة واالجتماع لكي يكونوا وحد ًة مرتا�صة ,وحدة م�شاعر وطموحات و�أحا�سي�س م�شرتكة ,يف لبنان والعامل العربي .و�أن ي�صدحوا ب�أروع ق�صائدهم .فكان ال�شرق على �أل�سنتهم �أن�شودة حب وحياة وكرامة, و�أ�صبح لبنان على �أقالمهم ويف كتاباتهم رمزاً لر�سالة من الوحي وااللهام واحلب واحلنني ,فو�صفوه �أبلغ و�صف و�أ ّدق معامل ,وحملوه م�شعل نور وهداية بني جميع املدار�س الأخرى ,وطافوا به بني الكواكب وال�شمو�س لي�ضي�ؤوا به العامل واالقطار العربية قاطبة. كان ال�شيخ �أمني تقي الدين بني رفقائه ه�ؤالء �أحد اجلنود املجهولني ,فهو واحد من ال�شعراء جلى �صادقة �أمينة وحفظها من ال�ضياع واللحن ج ّند نف�سه ل�صيانة اللغة العربية وخدمتها خدمة ّ وال�ضعف واالنهيار .كما خدم هذا ال�شاعر وطنه والآداب العربية ,وغر�س بذور الفكر ال�صحيح واملبادئ ال�سامية ,فوزع ن�شاطه يف كل ّمكان . وكان هو وزمال�ؤه يجتمعون يف «بار الروك�سي» يف الثالثينات من القرن املا�ضي ,يف �ساحة الربج, ببريوت .وكان ي�أتي �إىل هذا االجتماع كل من: 148
حتوالت �أدبية
�إليا�س �أبو �شبكة ,ومي�شال �أبو �شهال ,و�صالح لبابيدي ,واليا�س فيا�ض ونقوال فيا�ض ,ويو�سف �إبراهيم يزبك ,ومو�سى منور ,ومي�شال زكور ,و �أديب مظهر ,باال�ضافة �إىل ب�شارة اخلوري ,ووديع عقل ,وبول�س �سالمة ,و�شبلي امل ّالط ,ويو�سف ال�سودا ,وغريهم كثريون من �أدباء و�شعراء تلك املرحلة ومن ع�شاق الأدب وال�شعر والفكر والثقافة ,الذين �أ�شعلوا نربا�س ال�شعر يف ذلك الوقت. يقول بع�ض النقّاد� :إن هناك ثالث مراحل �أدبية عند �أمني تقي الدين .وهذه املراحل هي :ال�صحافة الأدبية ,والبحث الت�أريخي ,والن�ضال الوطني .وهذه الأقانيم الثالثة ك ّر�ست جهوده لتن�صب يف م�س�ؤولية واحدة .فما توانى يوماً عن البحث والقيام باجلهود امللقاة على عاتقه يف �أن يكون �شاعراً كبرياً «قد احلمل وزيادة» .ولكن عرقلت خطواته بع�ض العرثات .فتجاوزها بكيا�سته ومرحه وفرحه واميانه ,ومل يتقاع�س يف يوم من الأيام يف �سبيل الو�صول �إىل املبادئ العليا ,واال�ستمرار يف ت ّنوع ن�شاطاته ومهماته ورغباته وطموحاته غري عابئ بالف�شل ال ي�ستكني لأي معوقات تعرت�ض �سبيله وتقدمه. ّ �صفات ال�شاعر ومزاياه:
مت ّتع �أمني تقي الدين يف حياته ب�صفات ومزايا حميدة مل يتمتع بها غريه من �أدباء العرب ,ويف هذا ال�صدد يقول زميله ورفيقه يف الدرا�سة املرحوم الدكتور خليل باز حرف ّياً : «مل َيعر ال�شهرة اهتماماً� ,أو يتهاوى وراء الك�سب املادي �أي اعتناء ,فعمل �ساكتاً دون تظاهر �أو �إطناب ,ومباهاة ,عمل ال�صادقني يف هذه الدنيا لي�س �آبهاً يف الفخفخة ,واال�سم العري�ض ,وال�صيت البعيد ,ومل يكن طموحه لنيل مراميه نتيجة لرغبات و�صولية� ,أو ا�ست�شهادات نفعية ,فرتك اجلاه لأ�صحابه ,والزعامات لأهلها ,والرتب العالية للطامعني بها ,و�سعى خلدمة وطنه واالن�سانية مفكراً ووطنياً جماهداً ,يتعر�ض لل�سجن والأ�سر حيناً والت�شريد والنفي حيناً �آخر ويذوق مرارة الطغيان العثماين املتحكم برقاب ال�شعب� ,آم ًال بتحرير بالده ,ورفعة �ش�أنها .كذلك �سهر على �إ�صالح جمتمعه ,الأخالقي والأدبي واالجتماعي وال�سيا�سي .فكان يعمل ب�صمت وهدوء عميقني غري حافل بالأخطار ,فال يغره ال�سراب الالمع». ات�صف �أمني تقي الدين ب�أخالق ر�ض ّية ,وطباع دمثة ,و�سجايا حميدة ,ومزايا نبيلة ,فكان ل�سانه حمدثاً لبقاً ,يعرف كيف يتخل�ص يف �أحرج االوقات . دفيئاً مل يتعر�ض به ب�سوء لأحدِّ . وكان �صاحب �أنفة� ,صادق العاطفة ,وطنياً حقاً� ,شاعراً موهوباً ,وطنياً م�ؤمناً بلبنان. كيف ال وقد ن�ش�أ هذا ال�شاعر ن�ش�أة فا�ضلة ..فهو من بيت علم و�أدب وتقوى ,و�أجداده رجال دين وق�ضاة وع�سكر. 149
�سفره �إىل م�رص:
مل تطل �إقامة الأمني بلبنان .فبعد انتهاء درا�سته يف «معهد احلكمة» رحل �إىل م�صر ,وي ّرجح دخوله �إليها يف �سنة � 1903إىل �سنة .1905وبقي فيها ت�سع �سنوات ,حيث عمل يف ال�صحافة اليومية يف جريدة «الظاهر» ل�صاحبها املحامي حممد �أبو �شادي .ودخل كلية احلقوق اخلديوية ,ثم كان يذهب �أحياناً �إىل باري�س يف جامعة «ديجون» بفرن�سا ,يف نهاية كل �سنة ,فنال �شهادة اللي�سان�س يف جامعتها. وطلب �إليه �صديقه ال�شيخ �أنطون اجلميل �أن يعاونه يف حترير جملة «الزهور» ففعل و�أ�صبح �شريكاً له .ابتداء من العدد الرابع ,يف �شهر حزيران 1913وحملت هذه املجلة لواء النه�ضة العربية احلديثة ,وكانت ل�سان حال ال�شعراء امل�صريني والأدباء من الطبقة االدبية الأوىل �أمثال� :أحمد �شوقي ,وحافظ ابراهيم ,وويل الدين يكن ,وحممود �سامي البارودي ,وداود بركات ,وخليل مطران ,و�سليم �سركي�س ,وجرجي زيدان ,و�شبلي امل ّالط ,و�شبلي ال�شميل ,و �إمام العبد و�سواهم من �أ�ساطني الأدب والكتابة وال�شعر. وقد �صقلت م�صر �شعور ال�شيخ �أمني تقي الدين وجلت قريحته ب�سبب احتكاكه املبا�شر بالأدباء امل�صريني من جهة ,وبالأدباء ال�سوريني النازلني يف وادي النيل من املغرتبني من جهة ثانية. قبل �إعالن احلرب العاملية الأوىل يف �سنة ,1913عاد �أمني �إىل �أر�ض الوطن ,وما �إن ا�ستق ّر يف بلدته حتى �أر�سلت ال�سلطات الع�سكرية العثمانية مذكرة جلب بحقه ,فطلب �أهله �إليه �سراً �أن يتوارى عن الأنظار ,لأنّ قائد درك «بيت الدين» قادم �إليه مع عد ٍد من جنوده لتنفيذ هذه املذكرة ,فلج�أ �أمني �إىل مزرعة ميلكها ذووه يف �أحد �ضواحي بعقلني ,وهناك راح يدبج املقاالت وينظم القوايف ويرتجم «ق�صة �شاب فقري» من الفرن�سية �إىل العربية. و ُيقال �أنه ُحكم عليه بالإعدام فف ّر من وجه ال�سلطة الرتكية ردحاً من الزمن �إىل �أن قي�ض اهلل للبنان �أن يتخل�ص من جور حكم الأتراك وظلمهم. وقد روى �أمني تقي الدين ق�صته الكاملة عن جناته من قب�ضة االتراك يف حديث �صحايف �أدىل به �إىل جريدة «العا�صفة» ل�صاحبها كرم ملحم كرم ,يف العدد 29بتاريخ � / 8شباط �سنة .1933 وكانت للأمني عدة مواقف بعدها ,ا�شتغل يف ال�صحافة يف جريدة «البريق» ثم يف جريدة «الربق» ل�صاحبها ب�شارة اخلوري ,و�أن�ش�أ مكتباً للمحاماة يف �سنة 1919مع �صديقه جربائيل ّن�صار .وتر�شح �أكرث من مرة لالنتخابات النيابية اللبنانية ,و�أ�صبح �سكرتري نقابة املحامني يف لبنان �سنة .1921 وان�ضم �إىل عدة من اجلمعيات واالندية الثقافية �إىل حني وفاته يف �سنة .1973 ّ
150
حتوالت �أدبية
ق�صائد خارج الديوان:
مل يذكر �أمني تقي الدين ك�شاعر بني ال�شعراء �إ ّال ملاماً ,مع �أ ّنه كان �شاعراً فح ًال مربزاً بني ال�شعراء, وكان فن ال�شعر عنده ي�سمو على بقية فنون ال�شعر العربي ,له ميزة خا�صة ,وطبع خا�ص ,مييزه عن غريه ويجعله ذا مكانة عالية بني �شعراء العرب. �إنه �شاعر جميد ينقلنا من عامل �إىل عامل �آخر ,ينتقل بنا من لون �إىل لون ويجعلنا نتغلغل يف �شعره, ونتعمق يف در�سه وحتليله ,حيث نلمح هناك �آفاقاً بعيدة يف ق�صائده جتعلنا نعي�ش يف دنيا رهفة احل�س ,فيا�ضة ال�شعور� ,صادقة امل�شاعر االن�سانية التي تتجلى ب�أبهى مظاهرها ,فقد كانت نف�سه دائماً تواقة �إىل املعايل والفخر والأنفة والأدب واحلب واجلمال والأمل. يقول �أحد عارفيه وجمايليه عنه: «� ..إنّ اجلمال والأمل يبدوان ظاهرين يف ثنايا �شعره ,يف كل �سطر وكلمة� ,إىل درجة ت�شعر �أن احلرف ينب�ض ويحرتق ذائباً ب�شعوره ,والقافية ي�سلخها ال من قلبه فقط بل من عمق �أعماقه ,ففي ق�صائد الأمني ر�ؤى ومالمح ت�أملية ,يف امل�صري االن�ساين ,تفتح �أمامك نوافذ جديدة يف احلياة مل ترها من قبل ,عدا الن�شوة احلاملة ,التي يرتعك فيها ,واملناخات الفكرية املتعددة التي ينقلك بني �أجوائها» . تلهبك بع�ض املقاطع يف ق�صائده فهي مبثابة �أوهاج الروح الوطنية الثائرة امللتهبة ,ت�شمل قلوب القراء ,وتهيج العاطفني واملتحم�سني ,حيث يعالج الأمني موا�ضيع متفرقة يف احلياة ,ي�صبها يف قوالب �شعرية �أقرب �إىل الت�صوير الوا�ضح ,والدر�س والتحليل منها �إىل الغمو�ض واخليال والرمزية الك�سيحة. ويحكى �أ ّنه ملا زارت ال�سيدة �أم كلثوم لبنان للمرة االوىل ,ح ّياها �أمني بهذه الأبيات اجلميلة التي مل تن�شر من قبل ,قال فيها : النعيــم لأرواح و �أذهـــــانِ �إ ّال يــا �أ ّم كلثــوم و الأ�ســمـاع �صاغيــة َ يف م�صروال�شام يف �أنحاء لبنـــان �شـدت تن�صت الدنيـــا لنغمتهــا �إذا َ قا�ص ومن دان طارت من النيل نحو ال�شرق فابت�سمت مرابع ال�شرق من ٍ ثوب �أن�ســانِ ع�صفورة من جنــان اخلـلد قد هبطـت �أه ًال بع�صفــورة يف ِ وقال يف (بعلبك مدينة ال�شم�س) : �إن مل يكـن �أ ّال عظــام �أبي بهــا
أحب لأجلهــا لبنـانــا ف�أنــا � ٌّ 151
بني �شوقي وتقي الدين:
كان �أمري ال�شعراء �أحمد �شوقي ُمدمناً على اخلمرة ,حتى يف �شهر رم�ضان ,ف�ساءهذا الإدمان عند الر�أي العام اال�سالميُ ,وع ّد �شذوذاً يبدر من رجل �صاحب كلمة وموقف وله يف العامل اال�سالمي كلمة م�سموعة طنانة ورنانة .ور�أى �شوقي �أن يتحامى باحل�سنى ما ُيعاب عليه ,ومايقال عنه من �شذوذ ,ف�أخذ ينظم يف �آخر �شهر رم�ضان من كل عام ق�صيدة يعلن فيها �أمام النا�س احرتامه الكامل ل�شهر رم�ضان املبارك .واتفق �أنه نظم بيتني من ال�شعر ,وجاءه ال�شيخ �أمني تقي الدين ف�أن�شده �إياهما ,وقال: م�شتاقة ت�سـعى �إىل م�شتــاقِ رم�ضان ولىّ هاتها يا �ســاقي �إن كان َّثم من الذنوب بواقِ فالقلب م�شتاق وربك غاف ٌر وم ّرت �سنوات على هذه احلادثة ..وذهب �أمني �إىل ا�ستنابول لق�ضية خا�صة تتعلق به ,وفيما هو يتغدى يف �أحد املطاعم الواقعة على البحر ,وذلك يف �شهر رم�ضان املبارك �إذا ب�شوقي يدخل املطعم وب�صحبته ولده ح�سني ,وكان �شوقي �ضعيف النظر فلم يب�صر تقي الدين وهوجال�س على �إحدى الطاوالت يف �إحدى زوايا املطعم ,وجل�س مع ابنه �إىل خوان وطلب لنف�سه ك�أ�ساً من الوي�سكي ولولده كوباً من اجلعة .ف�أخذ �أمني تقي الدين قلماً وورقة و �أر�سل �إىل �أحمد �شوقي مع خادم املطعم بهذين البيتني التاليني بدون توقيع: ت�سعى مب�شتاق �إىل م�شتـــاقِ رم�ضان مــا ولىّ يـــا �ســــاقي وعليك ّثم من الذنوب بواقِ عجباً تروم على الذنوب زوائداً فما كاد �شوقي يقر�أهما حتى �صاح ب�أعلى �صوته: هذا �شعر �أمني تقي الدين� ,أين هو؟ �أحرق ف�ؤادي: عرثنا على ق�صيدة رائعة لل�شيخ �أمني تقي الدين ,وهي من �آثار مدر�سة «احلكمة» يف بريوت ,نظمها يف �سنة ,1902وكان اليزال طالباً فيها . وهذه الق�صيدة عميقة الإح�سا�س ,رقيقة املعاين ,متينة املباين ,مل تن�شر من قبل .نظمها �أمني تقي الدين يوم كان تلميذاً على مقاعد الدرا�سة . دفعها تهنئة بنوية للعالمة املطران يو�سف الدب�س عميد مدر�سة احلكمة وم�ؤ�س�سها مبنا�سبة عيد 152
حتوالت �أدبية
�شفيعة القدي�س يو�سف يف � 19آذار �سنة , 1902وقد �ضمنها ال�شاعر �أ�صدق �أمانيه و�أخل�ص و�أ�صفى مبا يجول يف �صدره من عواطف احلب والأجالل واالحرتام للحرب املوم�أ �إليه ,والتي تتدفق من بني �سطورها رقة و�إح�سا�ساً تدفق �سل�سبيل رقراق على جنة خ�ضراءّ , مايدل على �صفاء �سريرة «الأمني» وكِ رب قلبه و�صدره الوا�سع احل�صني ,وعل ّو همته ,ونيل �أ�سرته ,واحرتامه الكبري وهذه هي الق�صيدة: ولقد عرفتك عا�شقاً مع�شوقا �أيكون قلبي من هواك طليقا ولها ف�ؤداك ال يزال م�شوقا تهواك كل ف�ضيلة وحتبها من لي�س ي�سلك للكمال طريقا و�أرى خ�صالك ت�ستبي بجمالها �أتلوم قلباً باجلمال علوقا و�أرى جمالك بالطهارة م�شرقاً فاطلع بقلبي يف �سناك �شروقا �أهواك يابدر الف�ضائل والتقى ممن غدا ب�سوى هواك رفيقا �أهوى �شمائلك احل�سان وما�أنا �أحرق ف�ؤادي يف هواك حريقا ال ت�شو قلبي يف غرامك امنا �إال �أراين يف والك غريقا بللتني باحلب ال ال ارت�ضي ثم ًال ولكن ما �شربت رحيقا ا�سكرتني بهواك حتى خلتني «�أ�أفاق �صب من هوى ف�أفيقا؟ واذا �سكرت وماافقت فال تلم قد زادها قلم التقى تنميقا ولقد ر�أيت على جبينك جملة هذا الهوى من يتبعه يوقى فقر�أت فيها ما ملخ�صه غدا ب�سواك تخيي ًال وفيك حقيقا ياحبذا فيك الكمال فقد بدا وجه ال�شبه قد غدا حتقيقا �شابهت يو�سف يف العفاف وامنا بعيون كل م�سرة مرموقا فليهنك العيد ال�سعيد فقد �أتى من جئت �أوفيه الثناء حقيقا ياعيد ل�ست العيد لكن عيدنا ب�سواك بان لنا ال�سرور �شقيقا ما العيد ياموالي يطربنا فما لو مل يحكم مل ي�صب مر�شوقا لكنما هو �آلة كال�سهم �إذ عيداً يظل �شذا �صفاه عبوقا يايوم عيد احلرب يو�سف دم لنا فن�ؤمم املريخ و الع ّيوقا نرمي �سهام النار فيك �إىل العلى جنم ال�سما فلها يكون رفيقا فنخالها �صعدت لتخرب بالهنا فت�صري تنرث ل�ؤل�ؤاً و عقيقا وتعود ال تبغي هناك منز ًال تعتاد من كبد الهموم مروقا تلكم �سهاماً قو�سها �أفراحنا فاهن�أ بعيد �أنت مطلع بدره هذي فرو�ضي قد �أتتك كغادة حققت �إن جمالها ي�سبي النهى لو مل �أكن �أحوي الدراهم يف يدي والنا�س لو مل يعزفوين �شاعراً
وا�سلم بالحظة الهنا مرموقا منها عبري والك بات فتيقا فلذا �سلكت بها �إليك طريقا ماذا �أرجي لو �أتيت ال�سوقا ما�صفقوا لق�صائدي ت�صفيقا 153
فاذا ارجتفت فال تقل خوفاً الدب�س من عنب نظري اخلمر تع�صر و�أنا فتى حر الف�ؤاد طليقه فاعقد رجاءك باالله والتخف
معناك ي�سر الك�سر بات عميقا �إن ن�شا عن ا�صله حتقيقا لوكان قلبي من هواك طليقا وا�صحب طويل حياتك التوفيقا �أمني �سعيد تقي الدين �أحد طلبة مدر�سة احلكمة -بريوت �سنة 1902
رثاء ب�سرت�س وطرازي: نظم ال�شيخ �أمني تقي الدين �أحد طلبة مدر�سة «احلكمة» يف بريوت .ق�صيدة لطيفة املعنى يرثي فيها امل�أ�سوف عليها نخلة ب�سرت�س والكونت انطوان طرازي اللذين ذهبا غريقني يف حادثة «الن�سامة �سهام«. �أ�صدرت كتابي�« :أمني تقي الدين ,ال�شاعر والناثر وماقيل فيه« يف �سنة ,1990عن دار العلوم العربية ,بريوت ,و�أ�صدر املرحوم د� .سامي مكارم كتابه« :ديوان �أمني تقي الدين« يف �سنة ,1996 عن دار �صادر يف بريوت .وهناك مقطوعة �شعرية من ت�سعة �أبيات حتت عنوان« :ب�سرت�س وطرازي» يف رثاء فقيدي الوطن نخلة حبيب ب�سرت�س و�أنطوان طرازي ,ن�شرتها يف كتابي الآنف الذكر نق ًال عن جريدة «ال�صفاء» ل�صاحبها �أمني �آل نا�صر الدين ,يف 16حزيران و 4حزيران �سنة .1900وقد عرثت على هذه الق�صيدة يف كتاب قدمي جداً .عرثت على هذه الق�صيدة امل�ؤلفة من 78بيتاً من ال�شعر .فقلت يف نف�سي« :هل يجوز �أن تبقى هذه الق�صيدة خارج الكتابني ,وال �سيما يف ديوان املرحوم د� .سامي مكارم؟» لذلك ف�أنا ان�شر هذه الق�صيدة بكاملها ,كما وردت بقلمه ,و�أترك للقراء الكرام احلكم على هذا العمل. و�إليكم هذه الق�صيدة: مدامعاً فا�ض مثل البحر جاريها قفا على �ضفّة املينا فن�سقيها عقودنا انفرطت فيه لآليها الزخار ناظرنا قفا ن�سرح يف ّ يرمي بها اجلد ياهلل راميها هناك جتري «�سهام» را�سهاقد ٌر يذيبها الوجد من توديع واليها مقلة من مر�آة القوم نخبتهم «�سهام» البدع مل يخطئ م�سميها �أجرى من ال�سهم مر�شوقاً وقد دعيت هذي «�سهام» �أ�صاب احلق داعيها مل ندعها ال�سهم بل قلنا مبالغة ت�سابق الريح جرياً يف مراميها جرت ظهرية يوم ال�سبت ماخرة 154
حتوالت �أدبية
بخارها كعمود قام منت�صباً وال �أبلغ فالرايات ت�شهد يل ك�أمنا اتخذت يف ال�سري ج�ؤج�ؤها ك�أمنا املاء م�شقوق لهيبتها �أو �أنها احلب هاجته �صبابته طال ال�صدود ونار ال�شوق موقدة
يدق من كبد الزرقا دراريها �أن «الهالل» مقيم فوق �صاريها �سيفاً لديها مياه البحر يق�صيها ع�ساكر دحرت من وجه غازيها فراح مي�شي طريقاً كانت التيها فمزقته �شهيداً يف تلظيها
كذا «�سهام» فال كانت «�سهام» وال بينا ت�سري �إذا جا�شت مراجلها �ضجت لها اخللق فوق اليب�س �صارخ ٌة َّ ٌ فلم تكن حلظة حتى ر�أيت بها ويال ُه من مرف�إ في ِه ر�ست فر�سى الـ لوال االله الذي الأحكام يف يده ياب�سها ال ح َرقت زفرات القوم َ
كان البخار والكانت دواعيها ت�شقها ويبيد الركب الظيها اهلل ُ ُ اهلل خ ِّل�ص ّ كل من فيها ألقت مرا�سيها اللج قد � ْ «�سهام» يف ّ �أ�سى على ٍ اكبد كاجلم ِر يقليها جتري وال نكب ٌة ا ّال ُيداويها �أو �أغرقه عيونٌ من م�آقيها
نظرت ياوقفة فوق مينا الثغر قد ْ فالع ُني �شاخ�ص ٌة واالذن را�صد ٌة اخلطب فاندف َعت عم امل�صاب وجل ُ ّ ّ تتابع النا�س �أمواجاً يقذفها ماعدت ت�سمع �إال �صوت خمتنق َ اليم يبل ُعها عامت وديع ُتهم يف ّ َّ تقطعت منهم الآمال فانغم�سوا
بريوت فيها «�سهام» الفتك ي�شويها ُ ويف احل�شى نار هلع من يطفّيها للبحر كالبحر هاج اخلطب �ساجيها هوى النفو�س �إىل لقيا حمبيها حزناً ووا�ضعة كفاً على فيها ترجو اللقا َء و�صرف الدهر يق�صيها اللج والنف�س قد ماتت �أمانيها يف ّ
ل�سان حالهم يروي لنا خرباً ذا ٌ قائل وعباب البحر يخنق ُه ُ يارب كن لأطفايل �أباً ع�ضداً خاب الرجا ُء وخان الدهر ياولدي َ اجلميل وهل من يل ب�أين �أرى الوج َه و �أين عينيك يا ابن اال ّم تنظرين ابني تركت يتيماً يا اخي وله فكن �أباه وال تذبل ن�ضارت ُه �آن الرحيل وال ٌّ خل ي�شيعنا و�أنك�أها ما كان �أغدر دنيانا
ي�شقِّق ال�صخرة ال�صلدا وي�صميها يارب رفقاً بنف�س �أنت باريها ثانيها ويابني حبيب النف�س ِّ آمالٍ �أرجيها ُب ّني من يل ب� �أحظى بطلعته من ذا يرينيها اخي فالنف�س قد تاقت مل�صيبها ا ٌّم تراه بال عونٍ في�سليها تلك الو�صية يف ذا الكنز �أو�صيها ياقد�س هل نظرة التوديع الفيها ُ ما كان �أكدر يوم الب�شر �صافيها 155
156
فيا رفيقة عمري نث ِِئ ولدي منحد ٌر وذاك وا كبدا للج يعارك املوج واالمواج مابرحت وابتلعت حتى اجنلى الن�صر للأمواج ْ وارحمتا ُه ق�ضى والنف�س هاتف ٌة
فالنف�س فيه بذي الدنيا �أمانيها عيناه قد �شخ�صت هلل مبديها طوراً تعليه �أو طوراً يعليها واح�سرتا ج�سمه االمواه يف فيها يقول رحماك يا ربي م ّرجيها
يارب ع ِّز �أخي فيليب مكتنفاً ُّ ٍ ويال ُه من �ساعة فيها يِفاجئ ُه �أخي حبيبي عزائي �ساعدي �سندي بالأَم�س كنا جميعاً يف زفافك بال َ وحدك بال ا�صبحت اليو َم يامهجتي َ أنت يا َولدي فيكتور يا �أملي و� َ كالم عانقت �ألِفا بالأم�س كنا ٍ فمن تعانق من بعدي �أيا ولدي � ٍأف على هذه الدنيا وعي�شتها فكيف اختك ياابني يف ال�سرير �أل فكتور ياابني حبيبي مهجتي ولدي � ِ إليك �ألقي ايا هذي مقالد ُه
ا ّياه بالعون والنعمى مالقيها نعيي على غ ّر ٍة ما كان راجيها اليك �أترك ُولدي كي تربيها �أفراح و ال�صحب ت�أتينا تهانيها �أحزان م�ستقب ًال منها تعازيها �أنا حياتك قد كد َّرت �صافيها وك�أنه قلبي ي�ألفي راق�صاً تيها يا لوع ًة بت يف موتي تعانيها « ُبني ال خ َري يف الدنيا ومافيها» تقول :والدها لمِ ال يدانيها ؟ فكن لأمك من بعدي معزيها ول�ست حمتاج ٌة يف ذاك تنبيها
رمت �أنظرها هلل َطلعتكم قد ُ موتي يو�شحكم ثوب احلدا ِد ويل عليكم من غريقٍ يف املياه َ�سال ُ هلل من فجع ٍة من وقعها انت�شبت ٌ ياراحلني و�صرب الآلِ مرحتل تركتم لبينكم �شعل ٌة حرقت ُ نرثي حياتك ٌم نبكي �صبا َءكم جف م ّنا مدم ٌع بقيت �أ َّنا �إذا ٌ
ُقبيل موتي فر ّبي ما�أرنيها ٌ حلل �ألب�ستمونيها من اال�سى راحل نف�سه هلل مجُ ريها ُم ٍ براثن �ألفتك يف بريوت ُترديها معكم وال � ٌ أمل فيها يو�آ�سيها قلوبهم واغتدت ال�صرب ُيطفيها ُّ ينهل هاميها أعني بالدما ب� ٍ فينا ق�صائدنا تبكي قوافيها
يانخل ًة من ربي الف�ضال قد ُق�صفت هد فيك الردى �آمال ذي عو ٍز كم ّ تبكيك بريوت مادامت جماور ٌة وبال ُه من ذلك التنزيه كيف ق�ضى نبكيك مانظرت منا العيون �إىل ال
�أثمارها مل تزل تدنو جمانيها نف�س تراقيها بل كم وكم بلغت ٌ طلبت به للنف�س تنزيها َ بحراً ف�ضل من روابيها بق�صف نخل ِة ٍ تربيل والدمع لالجفانُ يدميها
حتوالت �أدبية
عجب غرقت يف البحر ال ٌ لي�ستا �س ٌيانِ حيث �أرى ي�شا دفنها فيه فاظهرها
فالبحر �أمثالها مازال يحويها ان قد درى البحر �أن ال ُد ّر يحكيها لالر�ض �إذ نو ُرها يجلو دياجيها
ياد ّر ٌة لكنه فلم
تبكيك دوماً �أيا انطوان ما برحت ال تعجبت �إن تكن �شُ قت «�سهام» فذي قمت من فوقها بحراً فال عجب قد َ ِقل ر�أتك باحللم مثل الطرد يف ث ٍ �سادت ظهري َة يوم ال�سبت وا�أ�سفاه ياليلة العيد ماذا � ِأنت جالب ٌة كنا ن�ؤ ّمل بالأفراح وا �أ�سفاً �أ ّنا على ال ُبعد ما ناحت مطوق ٌة
ذكراك يعبق يف الأفاق ذاكيها اعذارها ا�صبحت للنا�س ُتبديها �شق و�إن ُتهدم مبانيها �إذا ُن َ هل حملها الطو َد يوماً لي�س يوهيها الرجوع فخانتها �أمانيها ق�صد ِ بكاء و�أحزاناً نو�آخيها �إال ً فيك � ٌ خابت لنا ِ آمال ن ّرجيها نرثي «�سهام» ونبكي من ق�ضى فيها ***
مناذج من �شعره: وهنا نختار من �شعره املوجود يف كتابي كنموذج فيه �أنفة وكربياء واعتداد بالنف�س ودماثة خلق, ورقة طبع ,ودقة اح�سا�س ,ورفعة �أدب ,ونبل �شعور ال ي�ضاهي ,فقد قال: ك�أين لب�ست ال�شقاء بديدا ُت�سائلني كيف ين�سقى الكرمي و�أر�صدت للدهر خلقاً �سديدا ت�صدى يل الدهر م�ستب�س ًال ّ حديد القوى ي�ستف ُّز حديدا كالنا على عزفه ثابت فالقى والقيت خ�صماً عنيدا ما�شد �إ ّال �شددت وواهلل ّ و�إن وهن الدهر ع�شت �سعيدا �إذا الن عزمي ا�سرتاح الزمان وله ق�صيدة رائعة يف ا�ستاذه عبداهلل الب�ستاين ,وقد تتلمذ على يده و�أخذ عنه حمافظته على قد�سية اللغة وحبه لل�شعر القدمي واجلديد جلزالته ومتانة ,قلب: فتاها فل ّباها فنادتني العيد جاها تزيد َ �شجاها �أن َ �إذا �أطريت �أ�ستاذي �أباها �أنا من تعلم َني فتى القوايف
157
ويقول خماطباً �أ�ستاذه: لب�ست عباء َة َ وو�شَّ تها علو ُم وقد �أحيت لنا ك� َ كنت أنك َ ر�أى ف�أجادها
العربي ُتزهي ِّ اليوم و�ش َّياً ِ ال ُع ُ�ص َر اخلوايل رافائيل فناً ومعنى ُ�ص َوراً ً
برزت من ارتداها بها ح َّتى َ ك�أَنَّ �سنا َء ُه من َكهرباها روايات �أج َّل َك من رواها ت�ضيف لف ِّنه لغ ًة وفاها ُ و�أ�ستاذي �أجاد ومار�آها
تويف ال�شاعر عن عمر ق�صري يقارب ثالثاً وخم�سني �سنة �أي يف عمر ال�شباب ,زهرة مل تتفتح �أكمالها متاماً .خ�سره لبنان وخ�سرته البلدان العربية �شاعراً كبرياً ووطنياً وجماهداً� ,شديد الغوى بلبنان ,بعث �إليه ر�سائل غراء ودرراً وجواهر ثمينة �أطلقها يف �شعره .هو علم من �أعالم الأدب العربي ,بكت عليه املجال�س الأدبية واملنتديات الفكرية ,ووقف على قربه نحو 30خطيباً جا�ؤوا من كل �أ�صقاع لبنان لت�أبينه وتعداد �صفاته ومناقبه ومزاياه� .إ ّنه واحد من القالئل الكبارَّ ,قل �أن يجود الردي ,علم فرد �صعقت لفقده اللغة العربية الف�صحى يف ديار العرب. الزمان مثله يف هذا الزمن ّ
158
حتوالت �أدبية
توقيع كتاب «حوار الأنهر»
للدكتورة حياة احلويك
نظمت «م�ؤ�س�سة �سعاده للثقافة» ندوة وتوقيع كتاب «حوار الأنهر» للدكتورة حياة احلويك يف م�سرح بابل ،ر�أ�س بريوت ،وح�ضرها ح�شد من املهتمني. بداية عر�ض مقاطع م�صورة من الكتاب ثم كانت كلمة �سليمان بختي الذي �أدار الندوة وقدمها وقال: �أيها االحباء، ي�سعدين با�سم م�ؤ�س�سة �سعاده للثقافة وبا�سم زمالئي املنتدين وبا�سمي ال�شخ�صي �أن �أرحب بكم يف هذه االم�سية الدافئة بقلوبكم .تعتز م�ؤ�س�سة �سعاده للثقافة يف هذه املنا�سبة املميزة ويف هذا اللقاء مع الدكتورة حياة احلويك يف توقيع كتابها -احلدث «حوار االنهر» .و�سبق �أن لبت الدكتورة دعوتنا م�شكورة يف 17ني�سان 2012يف حما�ضرة م�شهودة كانت بعنوان «االعالم وا�شكالية التغيري» و�سنظل نلتقي معها دائماً على الكلمة والثقافة واالن�سان واملجتمع. هذا الكتاب ينتمي �إىل ثقافة احلوار احل�ضاري يف زمن �صدام احل�ضارات .هو احتفاء بال�شعر والنرث وال�ضوء واال�سطورة واللون واملو�سيقى والفولكلور .احتفاء باحلياة ،حياتنا بكل ما فيها من �إبداع وا�ضاءات وحتوالت .الدكتورة حياة احلويك عربت النهر مرتني ور�أت و�سجلت وقدمت لنا مادة احل�ضارة وقد �صنعت من عنا�صر الثقافة ومن روح احلرية ومن جذوة االبداع. ولعل املرء عندما يقر�أ هذا الكتاب يدرك مبلغ اجلهد والتعب املبذولني فيه .ويكت�شف اي�ضاً ان الكاتبة غدت نهراً جديداً يف «حوار االنهر» ،و�أن الثقافة هي �أي�ضاً نهر متحول مثلما هي ت�سا�ؤل عن امل�ستقبل يف منجزات املا�ضي ووقائع احلا�ضر .كل كتاب هو رافد من روافد الثقافة واحل�ضارة فكيف بكتاب يحمل عنوان «حوار االنهر» حوار الدانوب ونهر االردن يف جدلية �شرق -غرب، ويف حيز ح�ضاري متو�سطي م�شرق وغني. هناك بيت �شعري لل�شاعر االملاين رايرن ماريا ريلكه يقول فيه «مثق ًال يرتك املكان من ي�سكن قريبا من النهر» .ونحن لن نرتك �أي نهر لنا لأننا �سكناه و�سكننا ،ولأنه غدا لنا الباب واالفق والعالمة. حوار االنهر ،حوار اجلبال ،حوار ال�سهول .ولكن متى حوار الب�شر؟ 159
�إن م�ؤ�س�سة �سعاده للثقافة قد �آلت على نف�سها ان تكون يف قلب اال�ضافة واالغناء لثقافتنا وح�ضارتنا .و�أح�سب ان كتاب «حوار االنهر» هو يف قلب هذا املعنى .والن الثقافة يف جوهرها هي التجرد وامل�شاركة واحلوار ،لذا ف�إننا مقيمون يف احلوار ا�ستلهاماً ملا قاله �سعاده يف �سريته وجهاده ويف ال�سعي لأجل حياة �أجود يف عامل �أجمل وقيم �أعلى. �أرحب بكم جمدداً و�أ�شكركم على ح�ضوركم. و�أحيي الدكتورة حياة احلويك عطيه و�أهنئها يف حفل توقيعها لكتابها يف بريوت عا�صمة الثقافة يف العامل العربي. وكانت كلمة لال�ستاذ ح�سن حماده هي فكرة ...انفلتت من ينبوع اال�سطورة... الفكرة �صارت حرفاً... �صار احلرف كلمة... التج�سد ،بد�أت رحلة التحول �إىل قطرة ماء... باكتمال ّ �صارت القطرة كرة ماء... كربت كتلة املاء ف�صارت ينبوعاً... والينبوع و ّلد نهراً... والنهر ّمتدد ما بني النهرين ...ف�صار ج�سداً مائياً... ج�سد بد�أ معه لقاء االنهر... تعانق النهران ...االردن والدانوب... العناق طويل ...ابت�سامة ...دمعة �أمل ...غزيرة ...غزيرة... رفعت من من�سوب مياه النهر الثالث ...نهر الكلمة ...حتى �صار النهر يحلق يف االجواء... لوال االردن ...ملا انفلتت الفكرة غا�ضبة... �أت�صلبون النهر ...نهره ...بعد �أن �صلبتموه؟ لكل نهر وجدانه ...لكل نهر �أ�سطورته ...لكل نهر اعرتافاته... همه �إال للنهر ...بني الأنهر لغة ال يفهمها �إال النهر� ...أبجدية ماء �أ�سطورية... النهر ال ي�شكو ّ قواعدها يف ملحمة االينوما عيل ّي�شي� ...أ�سطورة اخللق االوىل ...قامو�س املعرفة االول ...حتفة اخليال الأوىل ...اليها التج�أ النهر الثالث ...ليبني باملاء حواراً بني الأنهر. 160
حتوالت �أدبية
وي�شكو االردن همه �إىل النهر الثالث ...مهده حرمون وجمراه عابر لكل اال�ساطري املقد�سة... ت�صدع الوادي الكبري فكنت يف «ق�صر الندي» �أوالد �شيخ �أبي�ض و�شهقة �شبق �أبدي وير�سلني ،من حرم ّ نبي� ،إىل بحر موت لي�س بعده حتت �سطح االر�ض» ...موت وال حياة .ويروي ويروي... اله �إىل عماد ّ فما النهر الثالث ّي�سجل ما يرويه ...يوثق كالمه باملاء ...يعرف االردن بنف�سه ب�أهله بن�سبه وبان�سبائه... «كلما �أدرك الطلق االر�ض كان يل �أخوة .احلوله وطربيا ،احلا�صباين ،اللدان ،بانيا�س ،الريموك، كلهم واحد ولكل ق�صته مع اال�سطورة» ...وموج االردن على املدن والقرى ،يذكر بحريق وجداين وي�شح �صوته ...مع جتفف ج�سده العليل املقد�س... م�صري االر�ض اخل�صبة ...ويت�أملّ ... «�أر�سم ذاتي و�أبتدع الآلهة� ،أخ�ضعها كلها الله الثمار،هو ،مل يزل بيته هناك ،بيت دجن ،يف �أر�ض فقدت ا�سماءها اال ن�سبتها �إىل� :ضفتي الغربية»... «فقدت ن�صفي ،ون�صفي �إىل زوال .وان انتهت انتهى البحر امليت .ها هو جنوبه �سيقل �شحا ال رغبة» املخل�ص ...املبارك... يتقم�ص ّ ويطول حديث النهر ،يطول ...نهر املعمو ّدية والأ�سرار ...وهو للحظهّ ... يطرد ال�شياطني ...م�ستحياً ...يدعونا جهاراً ليخرج االرواح ال�شريرة من جنوننا فتنتحر يف طربيا. يح�ضر للم�سيح القائل نهر االردن النهر املحب للنا�س ...فيلودميوم�س ...من نافذة �أ�سطورته كان ّ ورثت العامل� ،س�أخل�ص االن�سانية. حبذا يكفي لكي ي�صلب هو ونهره من بعده. فا�ضل على �ضفتيه توالد الثقافات ويرجتف ج�سد املاء ...مطالبا بالعدالة لنهر االردن ،ولكل نهر ٍ واحل�ضارات يجمع يف ما بينها بدراية ،وحكمة هي حكمة يف ذات االنهر. الذات النهر ّية مل يكت�شف منها �سوى القليل القليل قيا�سا بكثري ثمارها ...هي بيت امل�ؤونة ...هي بيت حلم االمم ...بيت جليل االمم... يرجتف ج�سد املاء ...ج�سد النهر الثالث يكاد ينقطع يتقطع �أملاً على الدانوب ...وهو ي�سمع رف طيور يتحدث بكينا االردن وطربيا .وها نحن نرجتف خوفا على الدانوب� ...أمازون �أوروبا لن يعود لنا»... يجيب الدانوب «�أنا نهر العوا�صم الع�شر ...من غابة �سوداء �أىل بحر �أ�سود � 7آالف �سنة عمر ق�صتي مع االن�سان �أنا الوحيد الذي يجري من الغرب �إليك �أيها ال�شرق»... دانوب الرومان�سية ...الدانوب اجلميل االرزق ...دانوب �شرتاو�س ...بدوره يعاين ما يعانيه من وح�شية �أبناء �آدم وحواء ...ن�سمة اخلري ر�سول الوداد... ي�شكو م�أ�ساته فيما النهر الثالث ّيدون ويوثق وينقل �إلينا بع�ض من البوح �ضاق به الدانوب املعذب 161
عن تلويث ج�سده االزرق الر�شيق بوا�سطة «التجارة وقذارة منفوثات ال�سفن واحلواجز امل�صطنعة �أمام االمواج لل�سيطرة على النهر»... يقول النهر الثالث« :هو الدانوب املقد�س يدرب على عدم الرف�ض والتلوي. يدرب على ال�سري يف م�شية ع�سكرية م�ستقمية �صارمة خلدمة التجارة وعندها �سيخلع حزامه االخ�ضر� .ستموت اال�سماك ومنوت نحن وميوت كل ما �أو�صى باملو�سيقى والر�سم وال�شعر لتعي�ش يف نارك با ابن املاء». الطيور اعرتفت ملحمود دروي�ش ب�صحة قوله �إن الدانوب لي�س �أزرق مل يعد �أزرق. الدانوب الذي عرف عن نف�سه للنهر الثالث بكلمات ت�شبهه جما ًال ور�شاقة ومو�سيقى...كلمات ن�سجتها خميلة النهر الثالث لأن الدانوب ينطق وحياً بوحي: ك�أفعى ا�سكوالب حت�ضنني الياب�سة فاح�ضنها ،نتلوى ،ننعطف ،نرت�سم �أقوا�ساً من غوايه ،ذراعني، فذراعني فال�سماء ،نخرتع الفال�س... متاما ...ككلمات النهر الثالث تن�ساب بني اللوحات اخلميلة ،بني �ضفتي ودفتي جوردانوب ،لرت�سم بحركتها اال�سطورية كوريغرافيا خا�صة بها ...من البديهي ان تتوازن مع من�سوب النهرين ...فيولد ثال�ؤث م�سكون باال�ساطري ...ال يعي�ش خارج اال�ساطري ...تليق به اال�ساطري ويليق بها ...فكان حوار االنهر ...نهر االردن ...نهر الدانوب والنهر الثالث نهر حياة .هنيئا لك يا نهر االبداع. ثم كانت كلمة اال�ستاذ ن�صري ال�صايغ الذي قال: كتاب ،لي�س كتاباً. هو وثن من ماء يثنى .دين بال لغة .بالد من �ضفتني :االردن من هنا ،والدانوب من هناك ،ويلتقيان. كخطني م�ستقيمني .على مر�أى من ح�ضارات ولغات و�أ�ساطري ومتاحف وق�صائد ومعابد ولوحات بعدد �أبعاد الآفاق. كتاب ،لي�س كتاباً. يلزمك كي تدخل يف طق�س النهر� ،أن تكون م�ؤمناً بنبوءة اجل�سد ،وهو يت�شكل يف �ضباب وتراب و�سحر النار .ج�سد يتهي�أ ليكون تيامات �أو تعامة ،م�ستل من ذراع مردوخ .ماء يلتقي مباء .ماء ال يف�صل بني ال�ضفتني/اجل�سدين .بل ي�صل ما بني االثنني يف ملتقى الرافدين البعيدين .JORDANUBE كتاب ،لي�س كتاباً. لي�س للفهم هذا الكتاب هو �سحر وتعويذة ولعبة �شيطانة تدعى حياة� .إذ ،كيف يلتقي �أردن 162
حتوالت �أدبية
بدانوب ،لوال �شطحة ال�شعر وت�صوف امل�سافات ،و�شيطانة «عبقر». هو نوع من نطفة على �شكل موجة ال تهد�أ خا�صرتها عن رق�ص وال يتوقف فخذاها عن تنهد و�شبق .اخللق مر من هنا ،وجعلنا من كل نطفة ماء .ماء يتكنى با�سماء االنهار. كتاب ،لي�س كتاباً. ينفتح على ج�سد يتحدد من «يف العلى عندما �أو ،عندما يف االعايل» او �أينوماعيلي�ش» .ج�سد �شبق ال حتده م�سام .ج�سد دائم الت�شكل من ماء ونار وع�شق .لعل اجلن�س �أ�صل املاء واحلياة .فيا لبكارة ال تنفك عن �شبقها .هنا ،يف هذا الكتاب .ذرية من �أكوان ،لي�س من �آدم �أو حواء .ذرية من �شهوة االجنحة ،عندما جتن يف ا�سرة ت�شبه لوحات الكتاب. كتاب ،لي�س كتاباً. ال تت�صفحه� ،أطمئن لن يكتم عنك �شيئاً .يدخلك من حوا�سك كلها .ال �أول له وال �آخر .ت�أتيه من كل ال�صفحات فينفتح لك على في�ض من ماء ال�شعر وماء ال�سماء .ترت�سم بابداع يقارب �إبداع الدانوب وم�ضا» ،ونوم النيل هم�سا وثرثرات االردن �صالة ،وركعات الفرات حيث جعلنا من املاء كل �شيء حي. كتاب ،لي�س كتاباً. تب�سطه في�سيل لونا ،لوحة بعد لوحة ك�أن ال�صفحة م�صب نهر �أو بكارة نبع �أو خلق �أنثى .فكل ري�شة ذكر .تختل�س ال�سمع ،فرتى .ت�سرتق النظر فت�سمع� .شيء من غلط جميل .نوع من اخلطيئة النقية :ك�أن تتعلق بلوحة �أو و�شم �أو �أ�سطورة �أو قنطرة ،فتح�ضر �أمامك من �شقوق املاء .فيينا وهي تتمايل �سكراً بغال�س ،وترى القد�س وهي تراق�ص امل�ستحيل وتداوي تاريخها بزيت امل�أ�ساة. كتاب ،لي�س كتاباً. هل تعرف ال�سومريني؟ �أثينا �أم �أخرى؟ هل تعرف بغ ّيا تر�شح زيتا مقد�سا عجائبيا» ؟ قبلة كليمت، معبد �أم طق�س ...يف منحنيات االلوان واال�سطورة ال حقيقة �إال املر�أة ال�صارخة يف وجع �إن�ساين. بلغراد زارها الدروز وعا�شوا يف زنازينها .الربتقال يطفو على الدانوب وميوت اال�سرى عط�شاً. كتاب ،لي�س كتاباً. رمبا هو من �شعر �إىل جغرافيا .االنثى من حرمون وجوالن وطربيا وعرقوب .الرجل يف �سعف ومتر ووزال .جن�س االر�ض في�ض وابتكار .فخيال االن�سان �أحياناً فوق مقام االلوهة. �شغف �أن تلم�س بعينيك حروف اال�سطورة وتالم�س �شكل املاء و�شهوة االر�ض امل�شتاقة لبعلها. طرب �أن ت�أخذك لوحات الكتاب �إىل قدا�س من رق�ص وع�صف وجنون ،وكني�سة لي�ست اال لغري القدي�سيني من خالقي ال�شعر. 163
هي امل�ؤلفة .وتدعى حياة ،ارت�ضت �أن تكون خميلتها رحما ومنه تفي�ض انهار وكلمات وافق ال يكف عن االبتعاد واال�شتهاء. كتاب حياة احلويك« ،حوار االنهر» هو �سفر من وثن حي. كتاب لتحبه ال لتقر�أه. ت�ضعه عندك ،تعويذة جمال. خرزة زرقاء ،بحجم االردن وان�سيابات الدانوب. ومن بعده � ،سيكون الطوفان اجلميل. ف�شكرا ملن ملأت ك�أ�سنا مباء ال ين�ضب كالما و�شعرا ورق�صا وذرية من االلوان. وكانت كلمة اخلتام للدكتورة حياة احلويك قالت فيها: «فكرة حوار االنهر يف احلقيقة هي فكرتي ولي�ست فكرتي مبعنى �أنا كتبت �سابقاً مع امتدادا ل�سنوات طويلة الكثري الكثري مبا يخ�ص الدانوب . يف مو�ضوع الأ�سطورة �أعتقد �إىل حد ما ب�أنني متخ�ص�صة من عمر � 18سنة و�أنا �أعمل على مو�ضوع اال�سطورة و�أ�صدرت درا�سة حول ت�أثري الأ�سطورة يف امل�سرح العربي� .إذن جتمعت عنا�صر خمتلفة حول االردن وحول الدانوب. وذكرت �إن امل�شكلة التي واجهتها هي م�شكلة �صراع �صعب جداً �أن تورد ح�صيلة معرفية معلومات متعلقة بجغرافيا والتاريخ وال�سيا�سة والت�شكيل والفلكور كما ر�أيتم دون �أن تفقد اللغة وهجها ال�شعري ال�صياغي». وختمت «مالحظتي االخرية �أنه �إذا كان الن�ص حقا يتعلق بت�صنيف ما ي�سمى بحوار احل�ضارات و�أنا ال �أنكر �أنني نا�شطة قدمية بحوار احل�ضارات واف�صل متاما بني مو�ضوع حوار احل�ضارات وبني ال�صراع ال�سيا�سي ف�أنا منا�ضلة �شر�سة فيما يتعلق بال�صراع ال�سيا�سي ولكنني من جهة �أخرى �أ�ؤمن بحوار احل�ضارات و�أ�ؤمن دائما ب�أن التطور الثقايف واحل�ضاري هو �صليب لي�س مبعنى امل�سيحي و�أق�صد بال�صليب ال تطور �إال باكتمال عن�صرين التجذر العمودي يف الذات ،يف الرتاث ،يف التاريخ ،يف الذات يف كل مكوناتها واالنفتاح االفقي على الآخر� .إذا ا�ستطعنا �أن نحقق هذا التقاطع بني االنفتاح االفقي على الآخر والتجذر العمودي يف الذات فاننا ميكن �أن نطور انف�سنا ونطورح�ضارتنا ونطور ثقافتنا».
164
تراث
عملية �سطو ممنهج وانتحال �شخ�صية وتزوير ح�ضاري� ،أم حماولة بحث عن هوية وانتماء؟ فيفيان حنا ال�شويري -باحثة و�أ�ستاذة جامعية
ال ي�ستخدم م�صطلح «الثقافة» عند احلديث على االمور االيجابية فقط ،بل �أ�صبح ي�ستغل يف م�ضمار �صناعة ال�سيا�سات واال�سرتاتيجيات الدولية بهدف الت�أثري على العقول وحتريف الفكر، خ�صو�صاً �إذا ما ت�ضمنت حتريفاً وتزويراً للوقائع ،عرب الكثري من الو�سائل .ومتكن اخلطورة عند قيا�س مدى قوة وقدرة وعي املتلقي ،فكلما كانت الن�سبة �أقل ،كلما زاد الأمر تعقيداً. تعم الكون وير ّوج لها «ما برحت ثقافة الدم والقتل بوا�سطة ال�سطو امل�سلح ل�سرقة خريات الب�شر ّ من قبل �صانعيها وفال�سفتها .ولكن �إىل متى وهل اكتفى الغرب مبا �صنعت يداه �أم �أنه يريد غري ذلك؟ ويبدو �أنه هو نف�سه ّ ويدعي ابتكاره مل من نف�سه ،فراح يبحث عن فكر �آخر ينتمي �إليه ّ وملكيته». ت�ؤثّر الأعمال الفنية ،وعلى ر�أ�سها ال�سينما ،يف ال�شعوب الغربية ب�شكل كبري ومبا�شر و ُتطبع ذاكرتهم تتحدر من مرجع ثقايف تاريخي له واقعية العلم بطابع ثقايف يرتك �أثره الكبري يف النف�س ،لأنها �أ�ص ًال ّ ومن هنا م�صداقيته .وهذه الأفالم التي تخرج �إىل �صاالت العر�ض ي�سبقها كتب وريبورتاجات تتع ّلق مبو�ضوعاتها وتلحق غالباً مبحا�ضرات ذات �صلة كما وي�ؤازرها �إعالم كبري ينت�شر على كل و�سائل الإعالم على تن ّوعها وكذلك على �شبكات التوا�صل االجتماعي مهما يكن مو�ضوعها. ّ وتركز هوليوود اهتمامها يف انتقاء مو�ضوعات �أفالمها على م�صادر ثابتة تدعم فكرة حماربة اخلري حمدداً وهو و�ضع الرجل لل�شر والذي ي�شكل املحور الأ�سا�سي لكل رواية �أو فيلم ويحمل هدفاً ّ يتحدر الأمريكي مو�ضع الآلهة ،فهو املخل�ص وهو البطل اخلارق ويحق له ما ال يحق لغريه ،فهو ّ من «�شعب اهلل املختار» بتعبري موجز .وهذه امل�صادر هي التوراة والإجنيل �أو الكتب التاريخية ذات ال�ش�أن ،فما مي ّر فيلم �إال وترى التلميحات امل�ستقاة من هذه امل�صادر وتذكر �إما جهارة و�إما تلميحاً و�إما مرموزاً �إليها �أو على �شكل تورية ّ مبطنة .وتكرث الأمثال بكرثة الأفالم وتن ّوعها ويبنى على ال�شيء مقت�ضاه في�أخذ اجلميع حقه من انت�شار الفيلم لتعم �شهرته الكون و�أكرث من ينتع�ش هو الكاتب �أو امل�ؤ ّرخ الذي ي�ضع ب�صمته على عمل متف ّرد ويركب الركب الإبداعي وي�صبح حمط �أنظار العامل من خالل ن�صه الذي ينقله الفنانون ب�أمانة ما بعدها �أمانة. 165
يتفرج فقط امل�شاهد العربي ّ
ويتلقف امل�شاهد العربي هذا العمل وير ّدد �صداه ويقوم على الرتويج الدعائي له من خالل التحدث عن �أهميته و�شهرته ،ويفتخر �أنه مواكب لع�صره ومتابع جيد للفنون واالبداعات العاملية و�أنه غري بعيد عن جمرى ما يح�صل يف العامل ،ومي�ضي مفاخراً بذلك .ولكن ال�س�ؤال هو :هل فقه امل�شاهد العربي البعد احلقيقي من هكذا �أعمال وما رمت �إليه �إيجاباً �أو �سلباً؟ هل فطن النقاد، أكرثهم املعاين احلقيقة للأعمال العاملية التي ينكبون على حتليلها لدرجة الإعجاز البالغي وما � ّ يف �أ�سلوبهم الكتابي ومبا تتمتع به لغتهم من قوة تعبري ،فيتناطحون يف انتقاء املفردات لنقل الآراء ويكرث اجلدل بني م�ؤ ّيد ومعار�ض وبني معجب وراف�ض �إىل ما هنالك من �آراء يحفل بها منهجا النقد والنق�ض .ولكن هل ا�ستوعبوا الأبعاد والنقاط الأهم من الر�سالة التي يرمي �إليها هذا العمل الذي يتناولونه بنقدهم؟ نذكر على �سبيل املثال ال احل�صر بع�ض الأمثلة ال�شهرية عن �أعمال هوليودية ،ن�ستعر�ضها للإي�ضاح ،من مثل فيلم «�سرييانا» ( )Syriana، 2006ذي العنوان البارز واملعبرّ واخلطري� ،إذ �شمل منطقة جغرافية بكاملها (�سوريا الكربى والتي ترنو �إليها وا�شنطن من خالل «م�شروع ال�شرق الأو�سط الكبري») ،و ّخل�صها ب�أر�ض الإرهاب� ،ضارباً بعر�ض احلائط تاريخها املجيد وح�ضاراتها العريقة ،ليح�صرها ب�شركات البرتودوالر ومافياتها وتكالبها على نهب النفط العربي مهما كان الثمن وب�أي و�سيلة ممكنة .و«�سرييانا» فيلم �إثارة جيو�سيا�سي ،وهو من ت�أليف و�إخراج �ستيفن كاهان ،وهو مقتب�س عن روايتي «�سقوط ال ،CIAمذكرات حمارب الظل على جبهة التط ّرف الإ�سالمي» )2002 ،و«النوم مع ال�شيطان» ،لروبرت باير العميل اال�ستخباراتي ال�سابق .وي�ستخدم «�سرييانا» عدة م�سارات ق�ص�صية لري�سم نوعاً من �صورة ق�صة عاملية ّ تركز على ت�أثريات �صناعة النفط يف ال�سيا�سات العاملية ،ويتط ّرق لل�سيا�سة اخلارجية الأمريكية يف ال�شرق الأو�سط و�آ�سيا الو�سطى .وهو رغم كونه فيلماً نقدياً ،فهو من �أكرث الأفالم �إجحافاً بحق العرب وب�شكل علني وي�سيء لهم ولتاريخهم وي� ّصورهم ب�أب�شع ما يكون من �صور االحتقار والإجحاف بجعلهم جم ّرد �إرهابيني حتى عندما يعملون ل�صون م�صاحلهم �ضد الغرب اال�ستعماري �أو يكونون مقاومني �ضد مغت�صبي �أر�ضهم .و«�سرييانا» ،هو عبارة عن الإ�سم الرمزي الذي قدمته وا�شنطن لعر�ض م�شروع �إعادة ت�شكيل منطقة ال�شرق الأو�سط امل ّتحدة الأمريكية التي يف ّو�ض ويتيح من خاللها لوكالة اال�ستخبارات الأمريكية املركزية ( )CIAبتقدمي الدعم الكبري والوا�سع للمتم ّردين واجلماعات امل�س ّلحة املقاتلة لإ�سقاط الأنظمة العربية وحتديداً يف �سوريا ،بح�سب ما جاء يف مقال لبيبي �أي�سكوبار بعنوان «�أوباما يعمل على حتويل «�سرييانا» اىل واقع» ( ُن�شر يف «�آ�سيا تاميز ،هونغ كونغ ،ترجمة فاطر يو�سف) ،وال�س�ؤال :هل هم كثريون من تن ّبهوا خلطورة الفيلم و�أهدافه ممن �شاهدوه من العرب؟ والفيلم رغم �أنه ي�سلط ال�ضوء على تكالب الواليات املتحدة للإ�ستيالء على البرتول العربي ،فهو ير ّوج لقوتها ويهدف �إىل تثبيت مقولة �إنها �سيدة العامل دون منازع .وهذا هو دور �صناعة الأفالم الهوليودية بالدرجة الأوىل .تقول مرييل بوليو ،يف مقال بعنوان «�سرييانا 166
تراث
ال�شاذ� ،أخبار ،ت�سلية �أم بروباغاندا؟»(� 2شباط ،)2006على موقع «فولتري» الإلكرتوين الفرن�سي الذي �أخذ على عاتقه مناق�شة ونقد الأفالم ذات الطابع ال�سيا�سي وتبيان زيفها و�أهدافها املبطنة بالدرجة الأوىل� ،إنه وقبل دخول الواليات املتحدة الأمرييكة يف احلرب العاملية االوىل ،قام الرئي�س ويل�سون بتكليف م�ست�شاره جورج كريل بت�أ�سي�س نظام دويل للدعاية �أو الربوباغاندا ( ،)CPIعلى غرار النموذج الربيطاين املعروف بولينغتون هاو�س ،فن�ش�أت بذلك �أول وكالة حكومية يف العامل تعتمد على ال�سينما من �أجل الو�صول �إىل �أكرب عدد من امل�شاهدين وغ�سل عقولهم و�أدجلتهم مبا يخدم م�صالح الواليات املتحدة الأمريكية ال�سيا�سية والإقت�صادية يف العامل ،وبهذا �صارت العالقة أ�شده (درجت ،ابتداء وثيقة بني هوليوود والدولة الفيديرالية الأمريكية و�صار التن�سيق بينهما على � ّ من ،1915هذه املو�ضة الرتويجية عرب ال�سينما التي اعتمدتها الدول الكربى �إىل اليوم) .وبعد �أحداث 11ايلول � ،2001أعيد ت�أهيل «جلنة التعاون احلربي» بني البيت الأبي�ض و�شركات الإنتاج ال�سينمائي والتلفزيوين الأمريكية الكربى ،ما فر�ض عليها عر�ض ن�صو�صها ذات الطابع ال�سيا�سي على الرقابة للموافقة على �إنتاجها ،ومن ال�شروط �أن تكون �أهدافها دعم �سيا�سة رئي�س الواليات املتحدة الأمريكية وحماربة الإرهاب ...وفيلم «�سرييانا» مل ي�شذ عن هذه القاعدة بتاتاً لدرجة �أنه حظي بدعم جورج بو�ش �شخ�صياً ،فمن يتعجب بعد من �أن يح�صل الفيلم على جائزة الأو�سكار رغم كل �سيئاته؟ «�أوباما لي�س �أول زعيم �أ�سود يف الغرب»
وهناك من الأعمال ما ي�ضيء بو�ضوح على الإ�شكالية التي طرحناها حول الأهداف املخفية للفن، بحيث حتمل هذه الأعمال ر�سائل �سيا�سية كربى مدعومة بالتاريخ ولكن التاريخ امل� ّشوه بغاية تزوير احلقائق من مثل فيلم «�أمري الأهرام» ل�سبيلربغ املخرج اليهودي امللتزم ،فهل فطن �أحدهم للبعد الرامي �إىل تزوير التاريخ الذي يرمي اليه فيلم �سبيلربغ بجعله اليهود هم من بنوا الأهرام ومل يكن حتى لهم وجود يف التاريخ؟ وهل ربط �أحدهم بني هذه الأعمال الفنية امللتزمة ومدى ت�أثريها على الر�أي العام الأمريكي والعاملي وجميء باراك �أوباما �إىل ال�سلطة ك�أول زعيم �أ�سود يف الغرب؟ وهل يتذكر �أحدهم كليب مايكل جاك�سون عن الفراعنة «ال�سود» الذي ملأ الدنيا و�شغل النا�س العام ،1992بعنوان «ّ »Remember the Time (تذكر الزمن) وهي الأغنية الثانية من �ألبومه «( »Dangerousخطري) ،حيث برز املغني الأ�شهر يف تاريخ الب�شرية يف ديكور ميثل م�صر القدمية؟ وقد منح هذا العمل جلاك�سون لقب «فرعون البوب» .وهذا الأمر تطور �إىل درجة الهذيان عند جاك�سون نف�سه وعند معجبيه معه بحيث غدا جاك�سون �أحد الفراعنة هو نف�سه ،ويتدفق �آالف الزوار �إىل متحف «فيلد موزيزم» يف �شيكاغو للنظر اىل متثال ن�صفي ميثل فرعوناً م�صرياً له هيئة جاك�سون بعد �أن خ�ضع لعملية تغيري مالمح وجهه الزجنية الأفريقية �إىل ال�شكل امل�سخي اجلديد 167
الذي �صار عليه �أواخر حياته .وهذا ال�شبه الكبري بني مغني البوب ووجه الفرعون امل�صري ما زال لغزاً حميرّ اً لدى الكثري من املراقبني ،وظننا �أن جاك�سون هو الذي اختار هذا النموذج وح ّول وجهه �إليه� .أما �أهمية هذه امل�س�ألة فتكمن يف الإ�شكالية التالية :ملاذا يريد رجل �شهري كجاك�سون �أن يتماهى �أو رمبا يتقم�ص يف �صورة فرعون م�صري؟ وملاذا ينحو الرجل الأول يف العامل �أوباما نحو جاك�سون؟ «�أوباما لي�س �أول زعيم �أ�سود يف الغرب» هو التعبري الذي جاء على ل�سان �أحد امل�ؤرخني الذي ربط بني باراك �أوباما ب�أ�صوله ال�سوداء وبني الفراعنة وامللوك الأفارقة يف ربيورتاج على يوتيوب ،يظهره املتحدرين من امللوك ال�سود الأفارقة .وهذا طبعاً تدجيل وهذيان ما بعده هذيان ال ي�شبهه ك�أحد ّ �إال ما يبتكره الغرب من ت ّرهات بغاية ت�شويه احل�ضارات و�أ�صحابها ،وذلك بوا�سطة الفكر الدموي والقتل املمنهج والت�سلط بالقوة على نهج الكاوبوي �أ�صحاب امل�سد�سات والبارود .وما تراجع �أوباما عن قراره ب�ضرب �سوريا �إال �سيا�سة من قبله ،فهو ما فتىء يرعب العامل ويرهبه بتهديداته وهذا هو املطلوب :احلرب النف�سية املد ّمرة ولي�س احلرب الع�سكرية اخلاطفة .حرب الربوباغندا يهدد يومياً ويقتل النفو�س قبل الأج�ساد بغية تركيع املدجج بال�سالح الذي ما برح ّ لهذا الغول ّ العامل وا�ستعباده .ثمة من يعتقد �أنه رمبا �أنزل �أوباما عن ال�شجرة ولكنه ما برح ربان ال�سفينة الدموية� .إنها جولة ُربحت ولكن املعارك ما زالت على �أ�شدها و�إن احلرب ما فتئت م�ستعرة فمن يكون الغالب؟ هل �أ�صحاب احل�ضارة املنتهكة �أم ّمدعوها؟ وال�س�ؤال :هل يعرف �أوباما �أ�ص ًال من يتحدر منهم؟ هم �أ�صحاب احل�ضارة من فراعنة وملوك �سوريني حتى ير ّوج له امل�ؤرخون زيفاً �أنه ّ وم�صدريها، هل يدرك هو ومن ي�س ّوق له على �أنه �سليل احل�ضارة ال�شرقية� ،أن �صانعي احل�ضارة ّ �أجدادنا ،مل يعرفوا احلروب �أبداً ،بل ح�ضروا العامل بال�سلم واملعرفة وفكر املحبة وركبوا البحار ك�أ�سياد وكانوا ربان �سفن ح�ضارية تنقل العلم واالنفتاح؟ وهل يعي من يريد ركوب �سفنهم اليوم ومنهم �أوباما ذاك ،بحكم لونه ال غري� ،أنه بعيد عنهم بعد ال�سماء عن الأر�ض؟ فت�صوروا! لقد �أخذ حجة ب�أن ي�صبح ربان �سفينة فينيقية فانتمى لي�س كفرد من �أفراد من لونه ،وقبله فعل جاك�سونّ ، يتحدر من �إفريقيا الكينية طاقمها بل جعل نف�سه ربانها وزعيماً عليها ،لي�س ل�سبب �إال لأنه �أ�سود ّ املنتمية �إىل احل�ضارة الكو�شية ال�سوداء وهكذا وبكل ب�ساطة ي�صبح ،على ّ حد زعم م�ؤ ّرخيه ،فينيقياً لأن الفينيقيني كانوا كو�شيي الأ�صل كما يدعي الريبورتاج املز ّور واملر ّوج لأوباما ومن �شاكله! عجباً! من هذا العلم ومن هذا العامل الغربي بعلمائه الذين مي�شون على ر�ؤو�سهم ،يدعمهم مر�ضى عقليون معقدون من جن�سهم وعرقهم ولونهم مثل مايكل جاك�سون لدرجة �أنه �أراد �أن يب ّي�ض ج�سده بالأو دو جفيل فمات نكاية بالبي�ض وبال�سود معاً! فراعنة هم ه�ؤالء كما ت�صوروا �أنف�سهم؟ هيهات �أن يكونوا منهم! بل هم �أقزام الع�صر ،ذوو ال�سحن والقلوب والأيادي ال�سوداء.
168
تراث
كيف التخل�ص من اجلهل؟
ما برح الغرب اال�ستعماري ي� ّشوه على كيفه ل�سبب واحد وهو جهل العربي حل�ضارته .ولكي وحدنا ننجو ونخل�ص نحن بحاجة جلوالت و�صوالت وما زلنا يف البداية ،يف �أول الدرب! فهل ّ جهودنا املعرفية يف �سبيل اخلال�ص والبقاء و�أنزلنا �أوباما وغريه لي�س فقط عن �شجرته التي اعتالها وذاع �صيتها العامل جاعلة منه بحق م�ستحق جائزة نوبل لل�سالم والتي ا�شرتيت له ،بل و�إنزاله عن منت �سفينة �أجدادانا ال�سوريني التي ّيدعي وراثتها بهتاناً .فما �ش�أنه و�شان الفينيقيني حتى ولو كان يهودي اجلذور؟ وما �ش�أن اليهود �أ�ص ًال بالفينيقيني بادعائهم �أنهم �أجدادهم التوراتيون؟ فالكنعانيون هم غريهم العربانيون والعربانيون ال دخل لهم باليهود وهذه امل�س�ألة يطول �شرحها... من قال �أن العربيني هم الفينيقيني؟ ومن قال �أن العربيني هم اليهود؟ من �أدعى خلط احلقبات والع�صور التاريخية بهذه الهمجية املمنهجة �صهيونياً والعرب يا غافل �إلك اهلل!؟ ما هذا الإنتماء املخلوط واملغلوط كرونولوجياً والذي يلغي �آالف ال�سنني من تاريخ �سوريا وامل�شرق القدمي ويلغي أي�ستمر التط ّور واحلقبات التي م ّرت بها ال�شعوب وي�ضع التواريخ والأقوام كيفما �شاء ورغب؟! � ّ التدجيل والتزوير على منهج التوراة الذي �أمر قور�ش اخلونة من �أبناء ال�شرق ،فرقة اليهود العميلة تلك بكتابة تاريخ مزور لها� ،سنة 555ق.م( .وهو تاريخ كتابة توراة اليهود التي �سلبت م�صادره من امل�شرق القدمي وح ّورته ل�صاحلها) وذلك حتى ي�ضرب من خاللهم دم�شق عا�صمة امل�شرق القدمي وذلك لقاء دويلة لهم انتزعوها باالغت�صاب والتزوير واخليانة؟ (وهنا ال بد من القول �إن من ينبذ اليهود من ال�شعوب ال�شرقية ب�أنه خمطىء فهم فئة من هذه الأقوام القدمية �إال �أنهم من خونة البالد وذلك لبعدهم عن الفكر احل�ضاري ورف�ضهم االندماج يف املدن ،كون طبيعتهم البدوية املتحجرة ترف�ض التطور ومتقت اجلمال و�صناعيه وتدعي الكمال والألوهية الع�شائرية املتع�صبة). ّ وي�أتي كالم ال�سيد املعلم ،ي�سوع امل�سيح ال�سوري ،بعد خم�سة قرون على تواط�ؤ اليهود مع قور�ش، لي�ؤكد ذلك يف �إجنيل متى ()14(« :)23 :14ا ْل َو ْي ُل َل ُك ْم �أَ ُّي َها ا ْل َك َت َب ُة َوا ْل َف ِّري�سِ ُّيونَ المْ ُ َرا�ؤُونَ ! َف�إِ َّن ُك ْم وت الأَ َرام ِِل َو َت َت َذ َّر ُعونَ ِب�إِ َطا َل ِة َ�ص َل َوات ُِك ْم .ل َِذل َِك َ�س َت ْنز ُِل ب ُِك ْم َد ْي ُنونَ ٌة َ�أق َْ�سى ()15ا ْل َو ْي ُل هِمونَ ُب ُي َ َت ْل َت ُ َ َل ُك ْم �أ ُّي َها ا ْل َك َت َب ُة َوا ْل َف ِّري�سِ ُّيونَ المْ ُ َرا�ؤُونَ ! َف�إِ َّن ُك ْم َت ُطو ُفونَ ا ْل َب ْح َر َوا ْلبرَ َّ ِل َت ْك َ�س ُبوا ُم َت َه ِّوداً َواحِ داً؛ َف�إِ َذا َت َه َّو َد َج َع ْل ُت ُمو ُه �أَ ْه ًال لجِ َ َه َّن َم ِ�ض ْع َف َما �أَنْ ُت ْم َع َل ْيهِ »...واملته ّود هنا مبعنى من اتخذ التهويد منهجاً �أي نهج منهج اخليانة! عجيب �أمر العرب يف �إهمال �أ�صولهم احل�ضارية! عجب! يرف�ض العربي ،وهو م� ّؤ�س�س «علم الأن�ساب» الن�سب العريق الذي ي�ضعه يف م�صاف بحجة احلداثة ،يف حني يروح من ال ن�سب له� ،إبن العظماء و�أ�صحاب االبداعات احل�ضارية ّ الأدغال والرباري والبوادي والقفار ،ذلك الراعي امل�ضري البدوي ،يبحث له عن طرف خيط 169
يربطه بالأن�ساب احل�ضارية ،حتى ولو كان قائماً على تزوير! وما �أن مي�سك بهذه ال�شعرة الدقيقة، حتى يلت�صق بهوية موغلة يف القدم والعراقة ،ولكن ملاذا؟ �أفال تكفي مايكل جاك�سون �أو باراك �أوباما �شهرة وجاهاً ومقاماً ورتبة حتى يروحا يبحثان عن م�سند يتكئان عليه يف التاريخ؟ �أيجب حد قول ال�سيد حكماً �أن يكون لإبن الإن�سان « َم َكانٌ ُي ْ�سن ُِد ِ�إ َل ْي ِه َر ْ�أ َ�س ُه» (�إجنيل لوقا )58 :9 ،على ّ امل�سيح؟ هل لهذه الدرجة هي مهمة ،عند املتيقنني من وجودهم �أو عدمه يف م�سرية الإن�سانية ّ والتجذر والعراقة؟ الإبداعية ،م�س�ألة االنتماء والهوية احل�ضارة لي�ست بالعرق واللون بل بالفكر
�إن امل�س�ألة الأهم التي تطرح هي عجز الغرب و�أمريكا و�سود �أمريكا حتديداً ،بت�أثري ترويجي يهودي مبا�شر ،التخل�ص من فكرة العرق واللون وهي الفكرة العن�صرية التي �ش ّيعها الفيل�سوف نيت�شه وط ّبقها هتلر ل�صالح اليهود يف �أوروبا ،والتي على �أ�سا�سها َب َن ْت �أوروبا نظرتها �إىل ال�شعوب وعلى �أثرها حترك اليهود وراحوا ين�شرونها ل�صاحلهم وما زالوا يعتمدونها ك�سيا�سة رغم ادعائهم رف�ضها ومعاداتها و�أنهم �ضحيتها ،و�إال كيف نفهم م�شكلة �صفاء الدم التي يقد�سونها وهم ال يتزاوجون �إال من بع�ضهم البع�ض؟ املتحدرة من تاريخ العبودية �إن الهوية التي يبحث عنها هوالء الزعماء اجلدد� ،أ�صحاب ال ِعقَد ّ الزجنية ،هو ارتباطهم باللون والعرق فلم يتوقفوا �إال عند لون الب�شرة ،كادعائهم �أن امللوك الفراعنة كانوا من الأفارقة ال�سود وك�أن احل�ضارة توقفت عند ذلك .يف الواقع� ،إن امل�س�ألة �أبعد من ذلك و�إن م�ؤرخيهم على يقني من عدم �صحة هذه النظرية العرقية اجل�سدية ،فهم يعرفون جيداً �أن م�صر حكمها بالإ�ضافة �إىل الفراعنة ال�سود وامللونني والفاحتي الب�شرة ،ال�سوريون (الهك�سو�س) و�ساهموا يف ح�ضارتها لعدة قرون ،و�أنه كانت ب�شرة امللوك والفراعنة متنوعة ،وهم ي�ؤكدون ذلك من خالل ما ي�س ّوقونه من �أن الفينيقيني �أو الكنعانيني هم من �أ�صول كو�شية �سوداء وهذا لي�س �أكيداً و�إن كانت احل�ضارة الفينيقية الم�ست �إفريقيا ال�سوداء و�ساهمت يف نقلها من طور �إىل طور ويف هذا التوا�صل ما ي�ؤدي بال�ضرورة �إىل االختالط العرقي وهذا بديهي وال مندوحة عليه ،ولكنه ال يجعل العرق �أو اللون ذا �أهمية وال ي�شكل �أي اختالف جذري يف املو�ضوع ،فاحل�ضارة التي ن�شرها ال�سوريون يف م�صر ومنها يف كل �إفريقيا ،مل تتوقف عند الأعراق والألوان فهم امتزوجوا مع كل الأقوام ح�ضروها بفكرهم ومل ي�ؤثّر لونهم مهما كان يف الأمر .وكان كل التي نزلوا يف جغرافيتها ،وكانوا �أن ّ يعد منهم وهم منه� ،أما من تخ ّلف فبقي يف �أدغاله �أو قفاره �أو من ركب ركب موجاتهم احل�ضارية ّ بواديه ومل ي�سجل �أي دخول يف التاريخ احل�ضاري ،بل بقي جمرد رقم يف املعادلة الب�شرية العددية ال �أكرث وال �أقل .و�إن احل�ضارة ال�سورية ،بف�ضل �أ�سبقيتها ،هي التي تبلورت يف حميط متو�سطي جامع للألوان والأعراق ،وهي التي ابتدعت الفكر �أو ًال وكان مركزه العوا�صم الفكرية الكربى، 170
تراث
ومراكزها الأوىل ال�ساحل ال�شرقي للبحر الأبي�ض املتو�سط والداخل ال�سوري يف بالد ال�شام وبالد ما بني النهرين ووادي النيل� ،أي على جمرى الأنهار ،ولي�س يف �أدغال كينيا �أو املوزمبيق �أو اجلزر الأوقيانية �أو حتى النوبة جنوب م�صر �أو ال�سودان واحلب�شة .لذا ،تقا�س احل�ضارة بالفكر ولي�س بالألوان والأعراق والبداوة! فهل �أراحنا الغرب و�أمريكا حتديداً من ادعاءاتهم ب�أن الفينيقيني هم الكو�شيون �أو العربيون �أو اليهود �أو غريهم من بني حام �أو �سام �أو يافث بح�سب ت�صنيف التوراة (وعلى �أ�سا�سها ت�صنيف �شلو�سرت اليهودي) وهو ت�صنيف عرقي على �أ�سا�س اللون فقط� ،ضاربني عر�ض احلائط كل تاريخ امل�شرق القدمي �أي كل ال�شرق الأو�سط �صانع احل�ضارة الإن�سانية الفكرية يف كل �أبعادها ومبجمل عنا�صرها وجوانبها؟ هال انتهينا نحن العرب من ت�صديق هكذا ادعاءات متعمد يجري للم ّرة الألف بحق تاريخ �أجدادنا وي�سلب للم ّرة الألف من قبل امل� ّشوهني وتزوير ّ والدخالء والفقراء ثقافياً واملت�س ّولني للح�ضارة؟ �أما ملاذا هذه الهجمة على �سلب الفكر وح�ضارته من ال�شرق؟ فلأن خ�صومنا فهموا والذي يفهم ي�سمو ويرتقي ،وح�سبهم �أعدا�ؤنا �أنهم فقهوا معنى تخلي الأ�صيل عن االرتقاء وال�سمو يف الفكر ،ف�أرادوه لنف�سهم دون غريهم و�ساعد على ذلك ً �أمالكه ،فالرزق ال�سايب يع ّلم احلرام ،زد على ذلك ازدراءه به وعدم وعيه لقيمته ،فانكب �أعدا�ؤنا يدر�سون الو�سيلة لال�ستيالء عليه وو�ضع ب�صمتهم عليه فهل جنحوا؟ وهل ينجحون؟ كذبة العبيد
ما من عبيد بل عمال وما من يهود بل م�صريون و�سوريون! وهنا عود على بدء مع �أهداف الأفالم الهوليودية الرامية �إىل تزوير التاريخ ل�صالح �صانعيها وج ّلهم من اليهود ،ففيلم «�أمري الأهرام» ي�س ّوق لكذبة �سائدة ،قدمية جديدة ،وهي �أن اليهود كانوا عبيداً عند الفراعنة وقد ا�ستخدموهم يف بناء الأهرام� .أو ًال ال وجود ل�شيء ي�سمى يهود يف ع�صر الفراعنة وما ورد ذكره يف التوراة عن العربيني ال دخل له باليهود حتى ولو ربط اليهود تاريخهم بالعربيني بحكم التوراة .كما �أن العبيد والعبودية هما مفهومان غربيان حديثان ومل يعرفا يف تاريخ امل�شرق قدمياً ،بل النظرة التي كانت �سائدة هي فكرة العمل مقابل �أجر� .أما اال�ستعباد فهي الفكرة التي �س ّوقها الغرب املارك�سي وما عا�صره من ثورات «ربيعية» �أوروبية وفرن�سية ملونة خلدت مبد�أ التع�سف بحق من جوعهم وقد كان لهم ،عند الإقطاعي �صاحب الأر�ض ،م�أوى ورغيف قبل ثورة الع�صابات وهمجيتهم املد ّمرة لعراقة �أوروبا امللكية! وفكرة العبودية يف امل�شرق القدمي هي تزوير وت�شوي�ش على احل�ضارة وال �إثبات البتة عليها، وال يعتمد يف التاريخ على الإ�سقاطات ال�شخ�صية والتك ّهنات غري املربوطة ب�شاهد �أكيد! فامل�شرق مل يعرف مفهوم العمل بالقهر واال�ستبداد ،بل ّ جل �أعماله ،خا�صة العمرانية منها ،كانت ل�صنع الأجماد وبقائها على الدهور �شاهدة عن مبتكريها ،لذا ا�ستعمل احلجر ال�ضخم وال�صخور العمالفة لدرجة �أن بنيانها ُن�سب اىل اجلبابرة واجلن ّ لتعذر الذهن الب�شري ت�صديق �أن ب�شراً مثلهم بنوها. 171
هذا هو مفهوم الفكر ال�سوري للعمل العادل ب�شهادة احل�ضارة نف�سها و�شواهدها املادية والكتابية الكثرية ،و�إن التزوير التوراتي ال يعدو كونه جم ّرد تخريف كاتب يف عليائه وعلى قدر املكاف�أة التي قب�ضها من قور�ش لكي ينال ح�صته من الأر�ض التي باعها له بدنانري قليلة! يقول امل�ؤرخ الأمريكي وينلوك ( )Winlock 1884-1950وهو عامل امل�صريات الكبري ،مبا معناه �أن امل�صري القدمي مل يكن موهوباً كفاية و�إن ال �شيء قام به امل�صريون من ابتكارهم اخلا�ص، متجدد ومتط ّور دخل �إليهم على يد من قدموا من �سوريا! وجممل ما �أتاهم من تطور تقني وفني ّ وهذا ما ال ميكن لأحد �أن ي�صدقه لأن الطابع امل�صري وا�ضح وجلي على ال�صناعات امل�صرية، متنا�سيني �أن ال�سوريني ،بف�ضل انفتاحهم الذهني وعقليتهم املت�أقلمة ،كانوا يعطون دون ح�ساب للون �أو عرق وال يفرقون �أحداً عنهم ،فال يعمدون اىل الت�شويه �أو التزوير وكانوا يحافظون على طابع البالد التي يحلون فيها وقد عملوا على تطويرها وكانوا يتطبعون بطابعها لرحابة ذهنيتهم ،وهكذا املد احل�ضاري الإيجابي والفريد واملعروف بالعاملية اجلامعة ان�صهرت معاملعهم بغريهم واعطوا هذا ّ �أو .cosmopolitisme تعد لدى وقد اهتم وينلوك بع�صر الدولة احلديثة يف م�صر ،وحتديداً باحلقبة الثانية الو�سيطة التي ّ �أغلب امل�ؤرخني عابرة يف التاريخ املكتوب و ُي ّلمح لها باخت�صار �شديد .كما �أن حدودها التاريخية ومعاملها غري وا�ضحة حتى اليوم وتبقى معلوماتنا عنها غري دقيقة ،مع ما تخللها من اجتياح �أو غزو الهك�سو�س مل�صر ،ال ميكن حتديد تفا�صيله بدقة �إال بعد قرن تقريباً من ت�صدع ال�سلطة املركزية. فقد ا�ستوطن الهك�سو�س يف دلتا م�صر و�أ�س�سوا مدينة �أفاري�س Avarisوهي تاني�س Tanisاليوم وجعلوها عا�صمة لهم .كما نزلوا يف الدلتا ال�شرقي للنيل و�أ�س�سوا مدناً فيها .ومل يكن الهك�سو�س جماعة �إثنية وحيدة وحمددة ،بل يقال �إنهم كانوا خليطاً من �أقوام �شرقية متعددة وفدت من �سوريا .ومل يتبق الكثري من ال�شواهد عن مرورهم مب�صر� ،إال بع�ض الأختام التي دلت على التنظيم الإداري اخلا�ص ب�إداراتهم وموظفيهم التي جندها يف كل مقاطعات م�صر .كما وال ميكن البتة اعتبار �سموا يف القدمي� ،أنهم جمرد برابرة همجيني كما هذه الأقوام املعروفة با�سم «ال�شعوب الرعاة» كما ّ كان حال الكا�شيني Kassitesالذين ،يف نف�س احلقبة ،احتلوا بابل .و�إن التقنيات املتقدمة التي كانت للهك�سو�س �سمحت لهم حكم م�صر لقرون طويلة .ويف ف�صل خا�ص من م�ؤلفاته ،عنوانه «�صادرات الهك�سو�س �إىل م�صر» ،يذكر وينلوك �أن امل�صري مل يحقق اي اخرتاع كان كفي ًال �أن يتخطى ما ابتكره �أ�سالفه يخ ّوله التقدم عليهم ،بل راوح مكانه من حيث ا�ستمراره على نهجهم ومل يعمل على ا�ستنباط ما ميكن �أن يطور حياته �إىل الأح�سن والأ�سهل .وكان يكتفي بالعي�ش كما �أجداده حتى و�صل �إليه غريب �أدخل له التقنيات احلديثة التي ت�س ّهل احلياة فاعتمدها وبد�أ يغّري ما كان عليه .هذا اجلديد �أدخله الهك�سو�س الذين جلبوا احل�صان والعربة �إىل م�صر ،والتي كانت ت�ستعمل منذ قرون طويلة يف بالد ما بني النهرين و�سوريا منذ ع�صر �سومر .و�إن �أهم ما �أدخله الهك�سو�س كان القو�س الذي كان م�صنوعاً من عدة طبقات مد ّعمة باخل�شب �أو الق�صب القا�سي. 172
تراث
يح�سنوا نوعية التقنيات يف �صناعة ال�سهام واخلناجر واخلوذ وقد تع ّلم امل�صريون من الهك�سو�س �أن ّ والرتو�س و�أدوات حربية �أخرى ،لدرجة �أن العتاد احلربي احلديث الذي �أ ّمنوه لهم ،خ ّولهم اجتياح يرجح العلماء �أنها دامت من 1550اىل 715ق.م، �آ�سيا يف عهد الدولة احلديثة .هذه الدولة التي ّ ومدت �سلطتها اىل م�صر .كما �أن �أوج الدولة حيث برزت مملكة غريبة نوبية يف �أق�صى اجلنوب ّ احلديثة عرف يف فرتة ال�سالالت ال�سابعة ع�شر والتا�سعة ع�شر (حوايل 1550-1198ق.م ).حيث عم االزدهار وطبع م�صر بطابع خا�ص .فهل ذكر �أحدهم العبيد واال�ستعباد وليد املخيلة الغربية ّ املجرمة القا�صرة؟ �إن احل�ضارة هي فكر امل�سيح ال�سوري لي�س �إال
هم �أعداء ي�سوع النا�صري وهم الذين ي�شككون �أ�ص ًال بوجوده التاريخي ،فكيف ينتمون �إىل فكره؟ ال فكر وال ح�ضارة ل�سوريا �إال مع املعلم ي�سوع امل�سيح الذي دافع عن هذا الفكر وعن �أر�ضه �ضد �أعداء الفكر واخلونة عمالئهم ،وه�ؤالء حاربوه ونكروه وغي ّبوه ،فكيف ي�سلبونه ما يدعون �أنه باطل؟ وهل للم�سيح من معنى دون فكره؟ ال ميكن لليهود و�أعوانهم ،مهما فعلوا �أو اخرتعو �أو ز ّوروا �أن ينتموا للفكر ال�سوري امل�سيحي الإن�ساين ال�شامل ،فهم عرقيون عن�صريون و«خمتارون» بعرفهم و«حمتارون» مبفهومنا ،ولي�سوا �إن�سانيني �شاملني ،فكيف ين�شرون احل�ضارة واحلرف واملعرفة والفكر ال�سمح وهم منعزلون وفردانيو النزعة؟ ال يتفاعل ح�ضارياً مع الآخرين �إال من تخ ّلى عن مبادي فكرة العرق والنقاء العرقي ونظر اىل �أخيه االن�سان بعني املحبة وامل�ساواة والإخاء وهي ْ ي�سوع ال�سوري� ،أما من عمل غري ذلك فهو من �أوالد الأفاعي وقاتل الأنبياء ومهدم املجتمعات وبائع الأر�ض والعر�ض! فكيف ّيدعي من كان على هذا النحو انتماءه لهذه احل�ضارة �أو ملكيتها بحجة اللون والعرق؟ ودائماً ّ �إن �أف�ضل من ميكن التكني به ،وجعله قدي�ساً وبط ًال قومياً لليهود ،هو هذا ال�شخ�ص الذي فهمهم و�سار على نهجهم القائم على مبد�أ «العني بالعني وال�سن بال�سن» و�صنع لهم ق�ضية وخدمهم ب�أجمل معروف وخ ّل�ص �أوروبا منهم وبلى ال�شرق بهم ،وهو هتلر العن�صري الذي ينهجون على طريقته اليوم يف ت�صنيف ال�شعوب على �أ�سا�س الأعراق والدم واللون وغريها من خزعبالت التط ّرف والتفرقة بني الب�شر رغم نفي العلم لها� .إنه بحق نب ّيهم الأعظم! ومعه كل زعماء الغرب املتطرفني� ،أما عدا ه�ؤالء ممن مت�سكوا مبق ّومات احل�ضارة والإن�سانية فال ميتون لهم ب�صلة ،ال من قريب وال من بعيد .ويهود الكيان ال�صهيوين القائم على القتل والتدمري والعن�صرية اليوم ،هو �أبعد ما يكون من �أن يك ّون جمتمعاً متما�سكاً ،وهو كيان عرقي ،ديني متط ّرف قائم على امل�صلحة ويردعه القمع املذهبي بالدرجة الأوىل وما بنى عليه ما هو �إال وهم �سوف ي�صحون منه عاج ًال ام �آج ًال لريوا �أنهم مل يبتدعوا �شيئاً يف م�سرية الإن�سانية الفكرية وارتقائها و�سم ّوها و�أنهم مل ي�سجلوا �أي نقطة لهم 173
يف �سجل احل�ضارة ،فهم �أبداً لعنة التاريخ بعلة �أجدادهم امل� ّؤ�س�سني املغت�صبني واملجرمني والقتلة وال�سفاحني وال �أحد منهم ميكنه نكران هذه احلقيقة ،فماذا يزورون ليزوروا؟ وليزوروا ما �شا�ؤوا فهذا �ش�أنهم! �أما دورنا نحن ،من انتمينا �إىل الفكر الإن�ساين ،نحن ومن �أراد �أن يكون معنا يف اللحاق بركب �صانعي احل�ضارة احلقيقية� ،أ�صحاب الفكر احلق ،فهو دور خطري وم�س�ؤول من �أجل �صيانة هذا الفكر .ونبد�أ ب�أ�سئلة حمتمة :ماذا فعلنا �أقله لنبقى ولنحافظ على ماء الوجه يف زمن العار هذا؟ هل �سوف ن�ستمر �شهود زور �إىل الأبد و ُننعت من قبل �أعدائنا باجلهالة املتعمد بحقنا و�سلبنا حقوقنا وحتديد والأمية والغباء؟ هل نقعد نتف ّرج على حمالت الت�شويه ّ م�صرينا على يد �أعدائنا؟ هل يكون م�صرينا املحو ب�شحطة قلم على اخلارطة؟ هل يروق لعظمائنا هكذا م�صري خلري �أمة �أخرجت للنا�س؟ ف�إذا ما ا�ستمرينا يف قعودنا هذا وخمولنا وجهلنا ،كيف ّندعي االنتماء �إىل الفكر اجلليل؟ وهل ال نكون بهذا متهودين �أكرث من اليهود نف�سهم؟ فلنعمل بجدية على �صون هويتنا قبل �أن يبتلعها التهويد امل�ست�شري يف الكون! ولنتذكر �أنه مل ي�ؤمن ال�سوريون ومن بينهم الفئة الأكرث ن�شاطاً الفينيقيون البحارة� ،إال بالإ�ستك�شاف وبالعمل وباخللق واالبداع وب�سمو االن�سان ،ف�أين نحن من �أجدادنا ه�ؤالء؟ حبذا لو حافظنا فقط على ذكراهم الطيبة فيخلدون يف كنفها مطمئنني! و�أين نو�ضع على خارطة الب�شر اليوم؟ هل ن�ص ّنف يف الأعراق �أم يف الألوان �أم يف ماذا ...وجاء اجلواب من الأمريكي ،من ذلك الذي ال يعرف له ال مذهب وال من�ش�أ وال فكر ،من ذلك الذي ّ يحل ويربط الأمور الدبلوما�سية على قاعدة م�صاحله �أو ًال ،ويتالعب مب�صائر الب�شر على هواه ،وهو يلعب كما املراهقون على �آلته الإلكرتونية ويلعب مب�صرينا كما يلعب البوكر بقوله «لقد مللنا من عقلية البدو تلك!» فيا لفخرنا �أين ُو�ضعنا!
174
وثائق تاريخية
نهاية نظام القائمقاميتان ون�شوء نظام املت�صرف ّية ()1861-1860
175
�إن مراجعة الر�سائل والوثائق التي وردت يف �أر�شيف اخلارجية االنكليزية للعام 1860و 1861حتت عنوان« :ا�ضطرابات يف �سوريا»� »Disturbances in Syria« ،أمر �ضروري لفهم طبيعة بالدنا وكيف ت�ؤثر القوى اخلارجية عليها �سواء يف �إثارة امل�شاكل واحلروب �أو ت�شكيل حدوداً جغرافية ت�ؤ�س�س لها. فلقد �سقط نظام القائمقاميتان بعد �أحداث 1840وبد�أت �أحداث العام 1860والتي �أدت �إىل والدة نظام املت�صرفية. ولقد وردت يف هذه الوثائق خريطتان يختلفان طبعاً عن لبنان الذي نعرفه اليوم .وكانت املفاو�ضات جتري لتحديد جغرافية املنطقة ولبنان خا�صة وذلك يف املرحلة التي �أدت فيما بعد �إىل والدة نظام املت�صرفية الذي ا�ستمر حتى العام .1918تظهر اخلريطة رقم 1حدود القائمقاميات املعتزم �إن�شا�ؤها طبعاً دون جنوب لبنان (با�ستثناء �صيدا) والبقاع (با�ستثناء زحلة) و�شمال لبنان حتى طرابل�س فقط. و�سميت هذه اخلريطة بامل�شروع الأول ونن�شرها يف هذا العدد على �أن نن�شر اخلريطة رقم 2يف العدد التايل ُ وقد كتب عليها �شرحاً يقول�« :أقرتح �أن يتم ربط «القائمقامية امل�سيحية اجلنوبية» مبمر على ال�شاطئ مع القائمقامية امل�سيحية ال�شمالية .وتذكر �أن ف�ؤاد با�شا (العثماين) �إقرتح �أن تكون «القائمقامية امل�سيحية اجلنوبية» منف�صلة وقد �أيده بذلك مندوب النم�ساوبريطانيا». و ُذكر �أي�ضاً: �أن «منطقة الكورة ال�سفلى ال تعترب حالياً جزءاً من لبنان «�إن معظم �سكانها هم من الأرثوذك�س» .كما ُذكر �أي�ضاً �أن «ف�ؤاد با�شا اقرتح �أن يكون �إقليم اخلروب منف�ص ًال عن قائمقامية الدروز ..لأن معظم �سكانه من امل�سلمني». هذا و�ست�ستمر حتوالت م�شرقية بن�شر هذه الوثائق يف الأعداد املقبلة.
176
بائع عرق�سو�س 1890تقريباً
1923-1920
2
�سورية واالنتداب الفرن�سي - 1920
1923
املجلد الثاين من كتابات الدكتور خليل �سعاده� ،سي�صدر قريباً عن م�ؤ�س�سة �سعاده للثقافة
لبنان 5000لرية | الأردن 2 :دينار | �سوريا 100 :لرية | م�صر 10 :جنيه | تون�س 1.5 :دينار | املغرب 20 :درهم | م�سقط 1 :ريال ال�سعودية 10 :ريال | البحرين 1.5 :دينار | الكويت 1.5 :دينار | قطر 10 :ريال | الإمارات 10 :درهم