تحولات مشرقية - العدد: 4

Page 1

‫العدد رقم ‪- 4‬‬

‫متوز ‪2014‬‬

‫فـ�صـل ـيـة فـكريـة ثـقافيـة تـعنى ب�ش ـ�ؤون امل�شــرق‬

‫عاطف عطيه‬ ‫العرب والغرب ‪ -‬العالقة امل�أزومة‬ ‫�شوقي �أبي �شقرا‬ ‫�أمني نخلة – ورقات الدلب وم�شق الزعرورة‬ ‫حممود حيدر‬ ‫فل�سفة العلم مبا هي مقولة �إيديولوجية‬ ‫وليد زيتوين‬ ‫�إ�ستمرار �ضياع الهوية القومية‬ ‫حممود �شريح‬ ‫العودة �إىل �سعاده‪ :‬يف ال�صراع الفكري يف الأدب ال�سوري‬

‫الأدب املقاوم الكلمة والفعل‬ ‫فاتن املر | ل�ؤي زيتوين | غ�سان التويني | �سليمان بختي‬



‫العدد رقم ‪- 4‬‬

‫متوز ‪2014‬‬

‫فـ�صـل ـيـة فـكريـة ثـقافيـة تـعنى ب�ش ـ�ؤون امل�شــرق‬

‫املحتويات‬ ‫الأدب املقاوم‬

‫ر�أي‬ ‫الأدب املقاوم �أو الكلمة الفعل‬ ‫�سليمان بختي‬

‫‪3‬‬

‫مئوية احلرب العاملية الأوىل‬ ‫العرب والغرب ‪ -‬العالقة امل�أزومة‬ ‫عاطف عطيـه‬

‫‪5‬‬

‫�إ�ستمرار �ضياع الهوية القومية‬ ‫وليد زيتوين‬

‫‪17‬‬

‫‪ 1914‬قابلة احلرب التي مل تلد نظاماً عامل ّياً‬ ‫�إن�سان ّياً‬ ‫�أحمد من�صور‬

‫‪25‬‬

‫ال�سلطان عبد احلميد الثاين واجلامعة‬ ‫اال�سالمية بني �شيوخ ال�صوفية ومثقفي التنوير‬ ‫‪37‬‬ ‫�سعيد �أحمد عبد الرحمن‬

‫فكـــر‬

‫فعل ال�سرد وال�صراع يف رواية «الطنطورية»‬ ‫لر�ضوى عا�شور‬ ‫فاتن املر‬

‫‪93‬‬

‫البعد املقاوم يف رواية «�أر�ض و�سماء»‬ ‫ل�ؤي زيتوين‬

‫‪115‬‬

‫الن�ص ال�شعريّ عند كمال خري بك‬ ‫البعد املقاوم يف ّ‬ ‫‪129‬‬ ‫غ�سان التويني‬

‫حتوالت �أدبية‬ ‫�أمني نخلة ‪ -‬ورقات الدلب وم�شق الزعرورة‬ ‫�شوقي �أبي �شقرا‬

‫‪137‬‬

‫فلنجرب هذا الرجل (حمـمد معـتـوق)‬ ‫وفيق غريزي‬

‫‪139‬‬

‫�أمني تقي الدين وق�صائد جمهولة‬ ‫جنيب البعيني‬

‫‪147‬‬

‫توقيع كتاب «حوار الأنهر» للدكتورة حياة‬ ‫احلويك‬

‫‪159‬‬

‫العودة �إىل �سعادة‪ :‬يف ال�صراع الفكري يف الأدب‬ ‫ال�سوري‬ ‫حممود �شريح‬

‫‪49‬‬

‫فل�سفة العلم مبا هي مقولة �إيديولوجية‬ ‫حممود حيدر‬

‫‪55‬‬

‫احلراك الإجتماعي يف املجتمعات العربية‬ ‫«اجلزائر منوذجا»‬ ‫عبدالعزيز را�س مال‬

‫عملية �سطو ممنهج وانتحال �شخ�صية وتزوير‬ ‫ح�ضاري‪� ،‬أم حماولة بحث عن هوية وانتماء؟ ‪165‬‬ ‫فيفيان حنا ال�شويري‬

‫‪79‬‬

‫وثائق تاريخية‬ ‫نهاية نظام القائمقاميتان ون�شوء نظام‬ ‫املت�صرفية (‪)1861-1860‬‬

‫تراث‬

‫‪175‬‬


‫حتوالت م�رشقية‬

‫ف�صلية‪ ،‬فكرية‪ ،‬ثقافية‪ ،‬تعنى ب�ش�ؤون امل�شرق واملنطقة‬

‫هيئة التحرير‬

‫فاتن املر‬ ‫عاطف عطية‬ ‫ح�سن حماده‬ ‫ن�صري ال�صايغ‬

‫�سعاده م�صطفى �أر�شيد‬ ‫�سليمان بختي‬ ‫�سركي�س �أبو زيد‬

‫املدير امل�س�ؤول‪� :‬سركي�س �أبو زيد‬ ‫الربيد الإلكرتوين‪abouzeid@gmail.com :‬‬ ‫هاتف‪)00961-1( 751541 :‬‬ ‫�صندوق بريد‪ 113-7179 :‬بريوت ‪ -‬لبنان‪.‬‬ ‫االخراج الفني‪ :‬عالء �صقر‬

‫ت�صدر بالتعاون مع م�ؤ�س�سة �سعاده للثقافة‬

‫بناية ر�سامني‪� ،‬شارع احلمرا‪ ،‬ر�أ�س بريوت‪،‬‬ ‫�صندوق بريد‪ 113-5557 :‬بريوت ‪ -‬لبنان‪.‬‬ ‫هاتف‪)00961-1( 753363 :‬‬ ‫فاك�س‪)00961-1( 753364 :‬‬ ‫الربيد الإلكرتوين‪saadehcf@idm.net.lb :‬‬ ‫املوقع الإلكرتوين‪www.saadehcf.org :‬‬ ‫ت�صدر مبوجب قرار رقم ‪ 82‬تاريخ‬ ‫�صادر عن وزارة االعالم اللبناين‬

‫‪1981/7/6‬‬

‫ت�صدر يف طبعتني من فل�سطني ولبنان‬ ‫مدير عام طبعة فل�سطني‪� :‬سعاده م�صطفى �أر�شيد‬ ‫هاتف‪0599305248 :‬‬ ‫�صندوق بريد‪ 41 :‬جنني ‪ -‬فل�سطني‬

‫اال�شرتاك ال�سنوي ‪ -‬لبنان‬

‫للأفراد‪ 50 :‬دوالراً �أمريكياً‬ ‫للم�ؤ�س�سات‪ 100 :‬دوالر �أمريكي‬

‫توزيع‪ :‬النا�رشون‬

‫اال�شرتاك ال�سنوي ‪ -‬خارج لبنان‬

‫بريوت ‪ -‬امل�شرفية‪� ،‬سنرت ف�ضل اهلل ‪ -‬طابق‬ ‫هاتف وفاك�س‪)00961-1( 277007 - 277088 :‬‬ ‫خليوي‪)00961-3( 975033 :‬‬

‫‪4‬‬

‫للأفراد‪ 100 :‬دوالر �أمريكي‬ ‫للم�ؤ�س�سات‪ 200 :‬دوالر �أمريكي‬

‫املواد املن�شورة تعرب عن ر�أي كاتبها‬


‫ر�أي‬ ‫الأدب املقاوم �أو الكلمة الفعل‬ ‫يحيلنا �أدب املقاومة �إىل �أ�سئلة �ستظل تطرح على كاهل املجتمع امل�أزوم‪ .‬ويظل ال�س�ؤال‪ :‬ما هو‬ ‫دور الأدب والفن يف احلياة‪ ،‬وعلى م�ستوى الأمرالواقع والتحديات التي جتبهنا؟ ما هي وظيفة‬ ‫الأدب يف املجتمع يف زمن املحنة والعرثات؟ كيف حت�ضرالكتابة اىل �ساحة املوقف؟ وكيف‬ ‫تلتقي الكلمة والفعل يف �سياق واحد؟‬ ‫كان ال�شاعر الراحل حممود دروي�ش يقول‪« :‬كنت �أبحث عن موطىء يف املكان وعن ملج�أ يف‬ ‫الزمان‪ ،‬ولكنني �أبحث الآن عن بلدي يف العبارة»‪.‬‬ ‫كيف جند بالدنا يف �أدبنا؟ كيف نعمل على عودة الروح �إىل االرادة ملوا�صلة الطريق �إىل �أر�ض‬ ‫الغد‪� ،‬إىل �إ�صالح اخللل‪� ،‬إىل حتقيق الكرامة االن�سانية؟ كيف يقاوم املرء بهوية مفتوحة على‬ ‫حداثة مرتبطة مب�شروع حترر �شامل امل�ستويات؟‬ ‫لطاملا حاول ال�شعر تثبيت املكان يف اللغة‪ .‬ولبث ل�صيقاً بحياتنا العامة يف �صراعها اجلماعي‬ ‫لإثبات وجودها ومواجهة الظلم وافول املعنى‪.‬‬ ‫�إن دور الأدب املقاوم يكمن يف بلورة الهوية وتعزيز االنتماء بوعي جماعي ووجدان مرهف‬ ‫متوتر بق�ضايا املجتمع و�صراعاته الكربى‪ .‬و�إذا كان حترير االرادة وتوحيد الر�ؤية �شرطان لتحرير‬ ‫الأر�ض ف�إن حترير الفكر واللغة �شرطان �سابقان �أي�ضاً‪.‬‬ ‫ولعل من ميزات الأدب املقاوم عموماً انه يجمع ويوحد ويزخم وي�شرتك يف النهو�ض الذاتي‬ ‫والقومي ويف حركة الن�ضال االن�ساين عموماً‪.‬‬ ‫املهم يف الأمر �أن ي�ستطيع الأدب املقاوم �إبداع ال�شكل الفني الذي يبقيه يف زمام املبادرة‬ ‫ويف قلب املعنى‪ ،‬ويف �إغناء ثقافة املقاومة من حيث توازنها الدقيق بني الدفاع عن احلق‬ ‫و�إدراك املمكن‪ .‬ولكن الأهم �أن ت�صبح هذه الثقافة جزءاً ال يتجز�أ من ن�سيج املجتمع ككل‬ ‫‪3‬‬


‫ر�أي‬

‫ومن مقومات وجوده‪ .‬وكل مقاومة بحاجة �إىل �إمداد فكري وروحي وثقايف وتراثي متجدد‬ ‫ت�ستند �إليه وت�ستلهمه وت�ستوحيه‪ .‬راجت يف ال�سبعينات والثمانينات من القرن املا�ضي‬ ‫ت�سميات وم�صطلحات مثل «�شعراء املقاومة» �أو «�شعراء اجلنوب» ولكن هذه الت�سميات �أو‬ ‫امل�صطلحات ق�صرت �أو فا�ضت عن املعنى �أو احتكرت لنف�سها ما ال ميلكه غريها‪� .‬س�ؤل غري‬ ‫مرة ال�شاعر حممود دروي�ش ماذا يعني «�شعراء املقاومة»؟ ف�أجاب‪« :‬ان نكتب حياتنا كما‬ ‫وندون �أحالمنا باحلرية و�إ�صرارنا على �أن نكون كما نريد»‪.‬‬ ‫نعي�شها ونراها‪ّ .‬‬ ‫�إن �أدب املقاومة يعيدنا دائماً �إىل احلرية‪� ،‬إىل حركة التاريخ‪� ،‬إىل حركة الفعل االن�ساين‪� ،‬إىل‬ ‫التفاعل مع تفا�ؤل االرادة‪ .‬لأن الواقع بالنهاية هو كالتاريخ من �صنع الب�شر القادرين على‬ ‫و�ضع الزمان ال�صحيح يف املكان ال�صحيح �أي �صناعة التاريخ‪.‬‬ ‫و�إذا كان الأدب عموماً يعي�ش يف حلظته التاريخية فهو يعي�ش �أي�ضاً يف حلظة تاريخية م�ستعادة‬ ‫�أو م�ست�شرقة‪ .‬فهو �أي�ضاً �أدب يقاوم قبل حدوث املحنة‪ ،‬و�أدب يقاوم وي�ستنه�ض الهمم يف‬ ‫�أثناء املعركة ويف خ�ضمها‪ ،‬وهو �أدب يقاوم وي�ؤرخ للأزمة بعيد انتهائها‪.‬‬ ‫بالنهاية كل �إبداع هو مقاوم متى كان حقيقياً وثاقباً‪ ،‬والأدب �صراع مثلما احلرية �صراع‬ ‫على ما يقول �أنطون �سعاده‪ ،‬دورالأدب توليد ال�صراع يف نف�س االن�سان والكون‪ ،‬ويف مقاومة‬ ‫عوامل ال�ضعف يف النف�س الب�شرية‪ ،‬ويف جتديد ح�س املقاومة �إذا ما خبا مع الأيام‪.‬‬ ‫ويبقى ان ما مييز الأدب املقاوم هو الوعي االن�ساين‪ ،‬الوعي الوطني‪ ،‬الوعي القومي‪ ،‬الوعي‬ ‫احل�ضاري‪ .‬هذا الوعي الذي يخلق املعنى اجلديد بكلمات �أدوني�س‪ ،‬هذا الوعي هو فعل قوة‬ ‫ومعرفة يف امتالك امل�صري وحترير الأر�ض والإن�سان‪.‬‬ ‫�سليمان بختي‬

‫‪4‬‬


‫مئوية احلرب العاملية الأوىل‬

‫العرب والغرب‬

‫العالقة امل�أزومة‬

‫عاطف عطيـه ‪ -‬باحث و�أ�ستاذ جامعي‬

‫ع�شية مرور قرن كامل على ن�شوب احلرب العاملية الأوىل يحفزنا ت�سا�ؤل رئي�س حول العالقة بني‬ ‫العرب والغرب يف ال�شكل املبا�شر الذي متخ�ضت عنه املرا�سالت االنكليزية ‪ -‬العربية‪ 1‬حول‬ ‫م�صري البلدان العربية بعد انفكاكها عن عهدة ال�سلطنة العثمانية الآيلة �إىل الزوال مبجرد انتهاء‬ ‫احلرب‪ ،‬وهو الزوال الذي ما كان يختلف عليه اثنان نتيجة حالة التفكك واالنق�سام اللذين ابتليت‬ ‫بهما ال�سلطنة‪ ،‬والنا�شئني عن ت�ضخم الدين العمومي العثماين‪ ،‬من ناحية؛ وا�ستالم ال�سلطة من‬ ‫قبل جمعية االحتاد والرتقي امل�شكوك بانتمائها �إىل اال�سالم‪ ،‬بنظر الكثري من امل�سلمني‪ ،2‬من ناحية‬ ‫ثانية؛ ومترد الواليات الق�صية وانف�صالها عن ج�سم ال�سلطنة يف غمرة الأحداث العاملية املتجهة‬ ‫بعنف متزايد �إىل اخلراب نتيجة االحرتاب العاملي ودخول العثمانيني طرفاً �إىل جانب املحور‪،3‬‬ ‫من ناحية ثالثة‪.‬‬ ‫[‪]1‬‬

‫مل يرتك االنكليز العنان للأعمال احلربية كطرف �أ�سا�سي يف ال�صراع العاملي حتت لواء احللفاء‪،‬‬ ‫بل �سارت يف خطوط متوازية مع العمل والن�شاط ال�سيا�سيني اللذين يعمالن على ت�أمني الو�سائل‬ ‫الالزمة ل�ضمان �سالمة اجلبهات اللوج�ستية‪ ،‬وت�أليب �أهل احلل والربط‪ ،‬وقادة املجتمعات‬ ‫ ‬

‫‪1‬‬

‫ ‬

‫‪ 2‬‬ ‫‪ 3‬‬

‫للتف�صيل حول املرا�سالت االنكليزية ‪ -‬العربية املعروفة با�سم مرا�سالت ح�سني مكماهون‪� ،‬أنظر‪:‬‬ ‫زين نور الدين زين‪ ،‬ال�صرا ع الدويل يف ال�شرق الأو�سط‪ ،‬دار النهار للن�شر‪ ،‬الطبعة الأوىل‪ ،1971 ،‬بريوت‪،‬‬ ‫�ص‪ .68-66‬وحول الن�ص احلريف للر�سائل الع�شر �أنظر امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص‪.298-281‬‬ ‫حول ابتعاد جمعية االحتاد والرتقي عن اال�سالم وانتماء اكرثية قادتها �إىل املا�سونية العاملية واليهودية‪� ،‬أنظر‪:‬‬ ‫�سليمان مو�سى‪ ،‬احلركة العربية‪ ،‬دار النهار للن�شر‪ ،‬الطبعة ا؟لأوىل‪ ،1977 ،‬بريوت‪� ،‬ص‪.61‬‬ ‫للمزيد من التف�صيل حول حركات اال�ستقالل واالنف�صال عن ال�سلطنة العثمانية‪ ،‬حتى قبل ن�شوء احلركة‬ ‫القومية العربية‪� ،‬أنظر‪ :‬امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص‪.30-27‬‬ ‫‪5‬‬


‫املحلية‪ ،‬واملحميات‪ ،‬والقبائل‪� ،‬ضد الدولة العثمانية‪ 4‬التي ما كان لها �أن تفعل �إال الدفاع عن‬ ‫وجودها‪ ،‬وحماكمة رعاياها املتمردين على ال�سلطان‪ ،‬والعاملني على خيانته باالت�صال بقوى العدو‪،‬‬ ‫ع�سكرياً و�سيا�سياً‪ ،‬وحماكمتهم بتهمة اخليانة العظمى ب�إعدام من ح�ضر �أو نفيه‪� ،‬أو احلكم عليه‬ ‫غيابياً باالعدام �أو ال�سجن‪.5‬‬ ‫هذا على م�ستوى البلدان التي كانت ال تزال بعهدة ال�سلطنة وحتت �سيطرتها‪� .‬أما البلدان الأخرى‬ ‫التي كانت حتت �سلطة ال�شريف ح�سني‪� ،‬أمري مكة وخادم احلرمني ال�شريفني‪ ،‬و�أبنائه‪ ،‬فكان لها‬ ‫�ش�أن �آخر‪ ،‬حتارب �إىل جانب احللفاء‪ ،‬املختلفني يف الدين والنوايا والتوجه‪ ،‬وتقارع الدولة العثمانية‬ ‫املتماثلة يف الدين والنوايا والتوجه‪ ،‬وتلقى التعاطف والدعم من مناطق العرب الأخرى‪ ،‬و�إن كان‬ ‫ثمة اختالف يف الت�صرف النا�شئ �إما عن املطالبة باال�ستقالل الناجز‪� ،‬أو البقاء يف كنف ال�سلطنة‬ ‫مع املطالبة باالن�ضواء حتت لواء الالمركزية امل�أمولة باال�صالح واالحتكام �إىل الد�ستور وحمتوياته‪.6‬‬ ‫[‪]2‬‬

‫املفارقة يف العالقات الدولية املن�سوجة ع�شية احلرب و�أثناء اندالعها‪ ،‬لي�ست يف انق�سام العامل‬ ‫املعني بها �إىل فريقني متنازعني‪ ،‬فهذه �س ّنة احلروب و�ضريبتها وخرابها؛ بل يف انق�سام العثمانيني‬ ‫بني هذا الفريق العاملي وذاك‪ .‬واالنق�سام هذا مل يبق يف �إطار الت�أييد والعاطفة‪ ،‬بل دخل يف عمق‬ ‫العمليات الع�سكرية بني جبهة عربية �إ�سالمية يقودها �صاحب �أعلى مقام ديني يتمثل بخدمة‬ ‫احلرمني ال�شريفني‪ ،‬مركز اال�سالم يف العامل‪ ،‬وال�سلطنة العثمانية التي كانت ال تزال حتى ذلك‬ ‫احلني متثل اخلالفة اال�سالمية املتوارثة من ع�صر املماليك‪ .‬وقد عرب عن هذه املفارقة زين نور الدين‬ ‫زين بقوله‪« :‬من املمتع �أن ن�شري �أن ثورة ال�شريف ح�سني �ضد ال�سلطان الذي هو �أي�ضاً خليفة‬ ‫امل�سلمني نزلت كال�صاعقة على كثريين من امل�سلمني ال�سنيني يف جميع �أنحاء العامل‪ ،‬وال�سيما‬ ‫بني م�سلمي الهند»‪ .7‬ولكي ت�ستقيم الأمور‪ ،‬على الأقل من الوجهة ال�شكلية‪ ،‬عينت ال�سلطنة‬ ‫‪� 4‬أنظر االت�صاالت ال�سيا�سية التي �أجرتها ال�سلطات الربيطانية لت�أمني حياد اجلزيرة العربية‪� ،‬إذا مل يكن دعمها‪،‬‬ ‫يف حال ن�شوب حرب مع الأتراك‪ ،‬مقابل عدم التدخل يف �ش�ؤون اجلزيرة العربية الداخلية‪ ،‬يف‪:‬‬ ‫ زين‪ ،‬ال�صراع الدويل يف ال�شرق الو�سط‪ ،‬مذكور �سابقاً‪� ،‬ص �ص‪.66-60‬‬ ‫ ‪ 5‬حول حماكمة املتعاملني مع احللفاء يف بالد ال�شام والقرار ب�إعدامهم �أو نفيهم‪� ،‬أنظر‪:‬‬ ‫ جمال با�شا (النا�شر)‪ ،‬حماكمة احلركة العربية يف لبنان‪ ،‬من خالل كتاب» �إي�ضاحات عن امل�سائل ال�سيا�سية التي‬ ‫جرى تدقيقها بديوان احلرب العريف املت�شكل(‪ ،)1918‬دار الرائد العربي‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،1982 ،‬بريوت‪� ،‬ص‪.278‬‬ ‫‪ 6‬يعترب زين نور الدين باال�ستناد �إىل م�صادر �أ�سا�سية‪� ،‬أن النقطة الهامة التي كانت مدار �سوء فهم بني ال�شريف‬ ‫ح�سني هي �أن هذا الأخري كان يعترب �أنه ميثل العرب جميعاً بينما مل ي�أخذه االنكليز على هذا املحمل‪� .‬أنظر‪:‬‬ ‫ زين‪ ،‬ال�صراع الدويل‪ ،‬مذكور �سابقاً �ص‪.68‬‬ ‫‪ 7‬امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص‪.72-71‬‬ ‫‪6‬‬


‫مئوية احلرب العاملية الأوىل‬

‫العثمانية �أمرياً على مكة بدي ًال عن ال�شريف ح�سني‪ ،‬و�إن مل ي�ستطع ا�ستالم مهامه‪.‬‬ ‫كان االنكليز يدركون متاماً �صعوبة ت�أليب امل�سلمني �ضد بع�ضهم بع�ضاً‪ .‬وخ�صو�صاً �أن مفهوم‬ ‫القومية العربية كان طري العود‪ ،‬ومن �صنع امل�سيحيني الذين بد�أوا ين�سجونه يف امل�شرق مع بطر�س‬ ‫الب�ستاين ونفري �سورية‪ ،‬ومن م�سيحيني كثريين عرفوا برواد النه�ضة قبل �أن يدركها النه�ضويون‬ ‫امل�سلمون بفرتة طويلة‪ ،‬با�ستثناء �أقلية �ضئيلة منهم على ر�أ�سهم املفكر احللبي عبد الرحمن‬ ‫الكواكبي‪� ،‬إما ب�سبب اعتبار ال�سلطنة دولتهم و�إن كانت بحاجة �إىل اال�صالح‪� ،‬أو باعتبار �أنهم ال‬ ‫يريدون اال�ستقالل عنها‪ ،‬لهذا ال�سبب بعينه؛ فجاهروا باملطالبة بنظام الالمركزية‪.8‬‬ ‫[‪]3‬‬

‫هذا االختالف الذي ن�شط يف امل�شرق‪ ،‬ويف م�صر من املغرب على اخل�صو�ص‪ ،‬بني دعاة القومية‬ ‫العربية الغريبة على �أ�سماع امل�سلمني‪ ،‬واخلالفة اال�سالمية بقيادة العثمانيني حتت عنوان الالمركزية‪،‬‬ ‫مل يكن له �صنو يف اجلزيرة العربية املتفلتة من قب�ضة العثمانيني‪ ،‬والطاحمة‪ ،‬بقادة �أمرائها وم�شايخ‬ ‫القبائل فيها‪� ،‬إىل لعب دور رئي�س ال يقل عن الرتبع على عر�ش مملكة عربية حتاكي مو�ضة الع�صر‬ ‫ال�سيا�سي يف الغرب‪ ،‬وتبطن توجهاً �سيا�سياً دينياً يكون يف الظاهر وامل�ضمون حام ًال �إرث اخلالفة‬ ‫اال�سالمية من �سلطنة مل يعد مبقدورها حمله‪� ،‬إما لعجزها عن اال�ستمرار اقت�صادياً و�سيا�سياً‬ ‫وع�سكرياً‪ ،‬و�إما لعدم قدرتها على اال�ستمرار يف حمل لواء اال�سالم؛ وذلك يعود ل�سببني‪ ،‬الأول‪،‬‬ ‫عدم تد ّين قادة الدولة الذين يدعون �إىل العقيدة الطورانية‪ ،‬املتعالية على العرب واملناوئة لهم‪� ،9‬أو‬ ‫الن�ضمام �أكرثيتهم �إىل احلركة املا�سونية‪� ،‬أو لوجود عدد من القادة يعودون يف �أ�صلهم �إىل اليهودية‪.‬‬ ‫هذا ما عمل عليه االنكليز ل�ضمان وفاء عرب اجلزيرة لهم‪ ،‬مع ما ميكن ان ين�ضم �إليهم من عرب‬ ‫امل�شرق‪ .‬والثمن املعلن وعد لل�شريف ح�سني بتن�صيبه ملكاً على مملكة عربية مرتامية الأطراف‬ ‫تبد�أ من اجلزيرة العربية وت�شمل �شمايل �أفريقيا وامل�شرق‪ .‬وهو وعد ال ي�ضمن وفاء عرب اجلزيرة‬ ‫فح�سب‪ ،‬بل �أي�ضا‪ ،‬كما تهي�أ لل�شريف ح�سني‪ ،‬وفاء العرب امل�ؤيدين للمملكة العربية يف كل مكان‪،‬‬ ‫�إذ يكفي �أن يعود للعرب جمدهم التليد ويعود احلق �إىل �أ�صحابه يف ن�شر الر�سالة‪ ،‬وقيادة اجلغرافيا‪،‬‬ ‫�أر�ضاً وجمتمعاً‪ ،‬والتطلع �إىل قيادة امل�سلمني يف العامل‪ .‬هذا الأمل املن�شود دفع العرب �إىل �أبعد‬ ‫من الت�أييد‪ ،‬دفعهم �إىل االنخراط املبا�شر يف احلرب‪ ،‬و�إىل خو�ض املعارك وقطع املوا�صالت على‬ ‫االمدادات العثمانية‪ ،‬ومهاجمة قوافلهم يف املدن والأرياف وال�صحراء‪.‬‬ ‫‪� 8‬أنظر يف هذا اخل�صو�ص للتف�صيل‪:‬‬ ‫ كمال ال�صليبي‪ ،‬تاريخ لبنان احلديث‪ ،‬دار النهار للن�شر‪ ،‬الطبعة ال�سابعة‪ ،1991 ،‬بريوت‪� ،‬ص‪.200-199‬‬ ‫ ‪ 9‬حول نظرة العقيدة الطورانية الدونية �إىل العرب‪� ،‬أنظر‪:‬‬ ‫ مو�سى‪ ،‬احلركة العربية‪ ،‬مذكور �سابقاً‪� ،‬ص‪.32-25‬‬ ‫‪7‬‬


‫[‪]4‬‬

‫ولأن االنكليز عولوا على وفاء العرب وعلى امل�ساهمة يف تنفيذ خمططاتهم يف امل�شرق ويف اجلزيرة‬ ‫العربية‪� ،‬أفرزوا للأمري في�صل �ضابطاً انكليزيا حمنكا‪ ،‬وعاملاً ب�أحوال العرب وبعاداتهم وتقاليدهم‪،‬‬ ‫هو ال�ضابط لورن�س‪ ،10‬الذي كان يرافق الأمري في�صل كظله‪ .‬وما كان له �أن يكون يف هذا املوقع‬ ‫لوال احلاجة املا�سة ملعرفة �أ�صغر التفا�صيل يف حتركات الأمري ويف ت�صرفاته‪ ،‬لتبقى القيادة الع�سكرية‬ ‫الإنكليزية على معرفة تامة بكل �شيء �صدر‪� ،‬أو ميكن �أن ي�صدر‪ ،‬عن الأمري‪ ،‬وعن التحركات‬ ‫العربية‪.‬‬ ‫�ساهمت احلركة العربية بتقطيع �أو�صال اجلغرافيا العثمانية‪ ،‬كما �ساهمت يف خ�سارتها للكثري من‬ ‫املواقع التي لوالها ما كانت لتخ�سرها يف هذه ال�سرعة‪ ،‬و�إن كانت لن ت�ؤثر على املدى البعيد يف‬ ‫تقرير م�صري احلرب‪� .‬إال �أن الثابت لدى االنكليز �أن الأمور املتعلقة باحلرب �سيا�سياً وع�سكرياً‬ ‫وا�سرتاتيجيا ال تو�ضع‪ ،‬وال ميكن �أن تو�ضع يف �سلة واحدة‪� ،‬إال �سلة ال�سيا�سة العليا ل�صاحب‬ ‫اجلاللة‪ .‬ذلك �أن ما كان يقوم به لورن�س على �صعيد املناو�شات الع�سكرية مع في�صل‪ ،‬كان يقوم به‬ ‫مكماهون على �صعيد ترتيب املنطقة امل�شرقية مع ال�شريف ح�سني ليوجد له مكاناً على ر�أ�س مملكة‬ ‫لي�س من ال�ضرورة �أن تكون كل �أجزاء اجلغرافيا من�ضوية حتت لوائها‪ ،‬ويف الوقت نف�سه ترتيب هذه‬ ‫املنطقة بح�سب منطق مغاير �أجمع عليه احللفاء بعد االجتماعات املتوا�صلة التي قام بها �سايك�س‬ ‫مع نظريه الفرن�سي‪ ،‬ويف اجلانب املحاذي يقوم بلفور ب�إغداق الوعود على اليهود‪ ،‬با�سم �صاحب‬ ‫اجلاللة‪ ،‬ب�إقامة وطن قومي لهم يف فل�سطني‪ ،‬وهي القطعة املزمع �سلخها‪ ،‬وقد �سلخت بالفعل‪ ،‬يف‬ ‫مرا�سالت ح�سني‪ -‬مكماهون‪.‬‬ ‫[‪]5‬‬

‫تكمن �أهمية هذه املحادثات التي بد�أت يف منت�صف ‪ 1915‬وانتهت يف ال�شهر الثالث من العام‬ ‫‪ 1916‬يف �أنها بد�أت با�ستمالة ال�شريف ح�سني و«حمله على اخلروج على �سلطة الأتراك‪...‬وذلك‬ ‫بتقدمي العون له‪ ،‬وب�ضمانة ا�ستقالله و�سيادته يف امل�ستقبل»‪.11‬‬ ‫ك�شف النقاب عن هذه الر�سائل �سنة ‪ 1939‬بعد انتفاء �صفة ال�سرية عنها‪ .‬وقد كان �أهم ما احتوت‬ ‫عليه يختلف عن الأ�سباب التي �أدت يف البداية �إىل قيام هذه املرا�سالت‪ .‬وقد �أف�صحت عن‬ ‫م�ضمون هام جداً يبني لل�شريف ح�سني ما هي املناطق التي ميكن �أن تكون حتت �سلطته يف اململكة‬ ‫املوعودة‪ ،‬وما ال ميكن اعتباره داخ ًال يف املناطق العربية‪ .‬ويبدو من هذه املرا�سالت �أن النقطة‬ ‫‪ 10‬حول ن�شاطات لورن�س الع�سكرية وتفا�صيل حياته اليومية مع املري في�صل‪� ،‬أنظر‪:‬‬ ‫ ت‪� .‬أ‪ .‬لورن�س‪� ،‬أعمدة احلكمة ال�سبعة‪ ،‬دار الآفاق اجلديدة‪ ،‬الطبعة الرابعة‪ ،1980 ،‬بريوت‪� ،‬ص‪.402‬‬ ‫‪ 11‬زين‪ ،‬ال�صراع الدويل‪ ،‬مذكور �سابقاً‪� ،‬ص‪.66‬‬ ‫‪8‬‬


‫مئوية احلرب العاملية الأوىل‬

‫اجلوهرية التي ا�سرتعت انتباه ال�شريف ح�سني‪ ،‬يف ر�سالته امل�ؤرخة يف ‪ 14‬متوز‪ ،‬هي �إظهار حدود‬ ‫الدولة املزمع �إن�شا�ؤها حتت قيادته‪ .‬وقد جاءت ر�سالة مكماهون امل�ؤرخة يف ‪ 24‬ت�شرين الأول‪ ،‬لت�ؤكد‬ ‫لل�شريف ح�سني ما كان م�ضمراً يف ا�سرتاتيجية االنكليز ال�سيا�سية‪ ،‬وهي �أن «بريطانيا العظمى‬ ‫م�ستعدة �أن تعرتف با�ستقالل العرب و�أن ت�ؤيد ذلك اال�ستقالل يف جميع الأقاليم الداخلة يف‬ ‫احلدود التي يطلبها دولة �شريف مكة»‪ ...12‬ولكن‪ ..‬هنا تبد�أ ال�سيا�سة امل�ضمرة بالظهور‪ .‬ولكن هذه‬ ‫احلدود عر�ضة لبع�ض التعديالت التي تتالءم مع ال�سيا�سة االنكليزية �إن كان مع حليفتها فرن�سا‪،‬‬ ‫�أو مع ما ميكن �أن ي�شكل الأ�سا�س للمعاهدة امل�ستقبلية مع الأتراك‪� ،‬أو لوطن اليهود يف فل�سطني‪،‬‬ ‫ورمبا لوطن امل�سيحيني يف لبنان‪ 13‬ان�سجاماً وم�سايرة للتطلعات الفرن�سية‪ .‬وقد ظهر الرد يف هذا‬ ‫اخل�صو�ص على ال�شكل التايل‪�« :‬أو ًال �إ�ستثناء واليتي مر�سني وا�سكندرونة‪ ،‬و�أجزاء من بالد ال�شام‬ ‫الواقعة يف اجلهة الغربية لواليات دم�شق وال�شام وحم�ص وحلب وحماه التي ال ميكن �أن يقال‬ ‫�إنها عربية حم�ضة وثانياً با�ستثناء بع�ض املناطق الداخلة يف احلدود التي ت�شعر بريطانيا �أنها لي�ست‬ ‫حرة الت�صرف فيها دون �أن مت�س م�صالح حليفتها فرن�سا»‪ .14‬وهنا يظهر مبا ال يقبل اللب�س �إلتزامات‬ ‫بريطانيا املغايرة لطموحات العرب و�آمالهم‪ .‬وقد ظهر فيما بعد ما كانت تعده بريطانيا وفرن�سا‬ ‫للتنفيذ‪� ،‬إن كان بالن�سبة للمناطق التي �أعطيت لرتكيا �سنة ‪ ،1939‬مبوجب املعاهدة الفرن�سية ‪-‬‬ ‫الرتكية التي انعقدت يف العام ‪ ،1938‬لظروف لها عالقة باحلرب العاملية الثانية‪15‬؛ �أو بالن�سبة لقيام‬ ‫دولة �إ�سرائيل يف ‪ ،1948‬و�إن بقي لبنان حتت العهدة الفرن�سية بنظام �أعطى للم�سيحيني‪ ،‬ولو �إىل‬ ‫حني‪ ،‬القيادة يف احلكم‪ ،‬بعد فقدان الأمل ب�إن�شاء وطن قومي لهم بعدما �أر�سل املوارنة �إىل م�ؤمتر‬ ‫ال�سالم يف باري�س وفداً للمطالبة بـ «�إقامة دولة م�سيحية يف لبنان مرة واحدة و�إىل الأبد»‪.16‬‬ ‫[‪]6‬‬

‫كان االنكليز بحنكتهم ال�سيا�سية املعهودة‪ ،‬وبقوتهم الع�سكرية‪ ،‬يعملون يف املنطقة العربية على‬ ‫موجات متعددة‪ ،‬ولكن متناغمة‪� ،‬إن كان يف عالقتهم التحالفية مع الفرن�سيني‪� ،‬أو يف تعهدهم‬ ‫باحت�ضان امل�شروع ال�صهيوين‪ -‬اليهودي يف فل�سطني‪� ،‬أو يف عالقتهم الرجراجة مع العرب‪� ،‬أو‬ ‫‪ 1 2‬امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص‪.67‬‬ ‫‪� 13‬أنظر يف هذا اخل�صو�ص حول �إمكانية �إن�شاء وطن للم�سيحيني يف لبنان من خالل حتالف الأقليات الذي يجمع‬ ‫املوارنة مع احلركة ال�صهيونية‪ ،‬واجلهر باملطالبة بوطن قومي للم�سيحيني قبيل مومتر باري�س و�أثناءه‪� ،‬أنظر‪:‬‬ ‫لورا زيرتاين �إيزنربغ‪ ،‬عدو عدوي‪ ،‬ترجمة فادي حمود‪ ،‬ريا�ض الري�س للكتب والن�شر‪ ،1997 ،‬بريوت‪� ،‬ص‪58-49‬‬ ‫ ‬ ‫‪ 14‬زين‪ ،‬ال�صراع الدويل‪ ،‬مذكور �سابقاً‪� ،‬ص‪.67‬‬ ‫‪� 15‬أنظر يف هذا اخل�صو�ص للتف�صيل‪:‬‬ ‫ زاهية قدورة‪ ،‬تاريخ العرب احلديث‪ ،‬دار النه�ضة العربية‪ ،1968 ،‬بريوت‪� ،‬ص‪.239‬‬ ‫‪� 16‬إيزنربغ‪ ،‬عدو عدوي‪ ،‬مذكور �سابقاً‪� ،‬ص‪.98‬‬ ‫‪9‬‬


‫يف م�ساعدتهم الع�سكرية لهم‪ ،‬مبا يرتئيه ويطلبه لورن�س‪ .‬بينما كان العرب منق�سمني بني م�ؤيد‬ ‫ومعار�ض ملا يقوم به ال�شريف ح�سني و�أبنا�ؤه‪ ،‬وخ�صو�صاً الأمري في�صل‪ ،‬امللك على العراق فيما‬ ‫بعد‪ .‬واملعار�ض هنا‪ ،‬ما كانت معار�ضته تقوم مبعزل عن ن�صرة الأخ ظاملاً �أو مظلوماً‪ .‬والأخ يف الدين‬ ‫�أعلى مرتبة من الأخ يف العن�صر �أو القومية‪ ،‬و�إن كان �أقلها يف رابطة الدم والن�سب‪ .‬العرب ه�ؤالء‬ ‫كانو يعملون على موجة واحدة‪� ،‬إما تطلب ال�سلطة‪ ،‬من ناحية‪ ،‬كما يف جانب احلركة العربية؛‬ ‫�أو امل�ساعدة يف املحافظة عليها‪ ،‬كما يف جانب ال�سلطنة العثمانية‪ ،‬ومن يقودها من الطورانيني‬ ‫املكروهني من �أكرث العرب‪ ،‬من ناحية ثانية‪ .‬وقد جت�سد هذا االنق�سام يف م�شهد ثنائي‪ ،‬على غرار‬ ‫كل االنق�سامات ال�سابقة والالحقة‪ :‬عرب اجلمعية اال�صالحية املوالية لل�سلطنة التي حتكم با�سم‬ ‫الدين وامللل �شبه امل�ستقلة‪ ،‬وعرب جمعية االحتاد والرتقي القومية‪� ،‬صاحبة العقيدة الطورانية‪،‬‬ ‫الأقرب �إىل التوجه الدنيوي‪ .‬وعلى هذه املوجة املق�سومة‪ ،‬ما كان للعرب �أن ي�ساهموا وينجحوا يف‬ ‫املحافظة على ال�سلطة وال�سلطنة‪ ،‬وال على الو�صول �إىل ما كانوا ي�أملون يف بناء مملكة عربية متحدة‬ ‫من املحيط �إىل اخلليج‪.‬‬ ‫اعتمد احللفاء يف ت�أمني م�صاحلهم على الذراع الع�سكرية ومعاهداتهم ال�سيا�سية‪ .‬واعتمد العرب‬ ‫على وعود االنكليز والفرن�سيني املختلفة يف توجهها‪ ،‬باختالف م�صاحلهم الوطنية‪ ،‬وانبنى االعتماد‬ ‫على املرا�سالت والكالم‪ .‬وجاءت النتائج خميبة‪ .‬واخليبة انبثقت من االختالف يف النظرة �إىل‬ ‫الوعود‪ .‬بالن�سبة لالنكليز مل تكن الوعود �أكرث من كالم خا�ضع للمتغريات ال�سيا�سية وامليدانية‪،‬‬ ‫وبالتايل ميكن �أن تتغري بتغري ال�سيا�سة واملوقع على الأر�ض؛ وبالن�سبة للعرب‪ ،‬وعود الأحرار َدين‬ ‫عليهم‪ .‬وميكن �أن ُيخت�صر امل�شهد على ال�شكل التايل‪ :‬ت�أمني امل�صالح باالعتماد على ما ميكن �أن‬ ‫تنتهي �إليه املتغريات ال�سيا�سية‪ ،‬مقابل انتظار حتقيق الوعود باالعتماد على الثبات الأخالقي‪ .‬وقد‬ ‫عبرّ عن ذلك‪ ،‬بعد �أكرث من ثمانية عقود‪ ،‬ويف موقف مماثل‪ ،‬وزير اخلارجية الأمريكية �آنذاك هرني‬ ‫كي�سنجر بعبارته امل�شهورة « ينبغي �أال نخلط بني ال�سيا�سة اخلارجية والعمل التب�شريي»‪ ،17‬وهي‬ ‫ال�سيا�سة التي ما زالت م�ستمرة لدى الغرب‪ ،‬وقد ورثتها الواليات املتحدة عن الربيطانيني‪ .‬وما‬ ‫زال العرب يعتمدون على الوعود والكالم باعتبارها ثوابت ال حتول وال تزول‪ .‬الغرب يح�صد ما‬ ‫تزرعه ا�سرتاتيجيته‪ ،‬والعرب يح�صدون العا�صفة‪.‬‬ ‫[‪]7‬‬

‫كان من نتائج هذه ال�سيا�سة �أن عرف العرب ب�أن لهم ح�صة بانت�صار احللفاء‪ .‬ولكنها ح�صة غري‬ ‫حمددة اجلوانب وال ذات تفا�صيل وا�ضحة‪ .‬وهذا ما �أ�ص ّر ال�شريف ح�سني على معرفته من املعتمد‬ ‫‪ 1 7‬نعوم ت�شوم�سكي و�آخرون‪ ،‬العوملة واالرهاب‪ ،‬حرب �أمريكا على العامل‪ ،‬ترجمة ترجمة حمزة املزيني‪ ،‬مكتبة‬ ‫مدبويل‪ ،2002 ،‬القاهرة‪� ،‬ص‪.86‬‬ ‫‪10‬‬


‫مئوية احلرب العاملية الأوىل‬

‫الربيطاين يف م�صر‪ ،‬مكماهون‪ ،‬و�إن و�صل �إىل جواب ال ي�شفي الغليل‪ .‬وي�ؤكد هذا اجلواب‪،‬‬ ‫على �سبيل التذكري‪ ،‬ب�أن البالد العربية ال ميكن �أن تكون كلها ملكاً لل�شريف ح�سني‪� ،‬أو حتت‬ ‫�سلطته‪ .‬وعرف اليهود �أن لهم ح�صة يف «�أر�ض امليعاد» ح�سب ما تقول الأ�سطورة اليهودية‪ .‬وعرف‬ ‫الفرن�سيون �أن ح�صتهم م�أمونة عند اقت�سام الرتكة العثمانية‪ .‬وعرف االنكليز باملقابل �أن وعودهم‬ ‫للعرب �ستذهب بح�صتهم من الغنيمة �إذا ما وفوا بها‪ ،‬فيخرجوا من املنطقة بوفا�ض خال‪ ،‬وهو ما ال‬ ‫يتنا�سب مع موقعهم يف العامل‪ ،‬وال مع جهودهم املبذولة القت�سام تركة الرجل العثماين املري�ض‪.‬‬ ‫فبد�أ ال�سباق بني جيو�ش االنكليز بقيادة اللنبي واجلي�ش العربي بقيادة في�صل الحتالل دم�شق‪،‬‬ ‫قلب امل�شرق الناب�ض والعا�صمة امل�أمولة للمملكة العربية‪.18‬‬ ‫مل ي�ستعجل االنكليز الدخول �إىل دم�شق �إال لالبقاء على زمام االمور يف �أيديهم‪ ،‬وليت�صرفوا‬ ‫ح�سب ما التزموا به جتاه احللفاء والأ�صدقاء‪� ،‬إن كان بالن�سبة لاليفاء بوعودهم جتاه العرب‪� ،‬أو‬ ‫عدمه‪� ،‬أو لتنفيذ املعاهدة ال�سرية التي بقيت كذلك حتى قيام الثورة البل�شفية ال�شيوعية يف‬ ‫رو�سيا‪ ،19‬باال�ضافة �إىل الوعد الذي قطعه بلفور‪ ،‬با�سم امللك الربيطاين‪ ،‬لليهود‪ .‬ومن املهم‪ ،‬هنا‪،‬‬ ‫�إدراج ما قاله تروت�سكي‪ ،‬وزير اخلارجية الرو�سية‪� ،‬إبان الثورة‪�« ،‬إن جميع املعاهدات ال�سرية هي‬ ‫الآن يف متناول يدي‪ .‬وهذه الوثائق التي ثبت �أن بنودها تنطوي على ل�ؤم يفوق ما كنا نتوقعه‪،‬‬ ‫�ستن�شر قريباً‪.20»..‬‬ ‫[‪]8‬‬

‫يف هذه احلالة‪ ،‬كان على االنكليز �أن يطرحوا على �أنف�سهم الت�سا�ؤالت التالية‪ :‬ماذا عليهم‬ ‫�أن يفعلوا؟ �أيفوا بوعودهم للعرب‪� ،‬أم ينفذوا معاهدة �سايك�س‪ -‬بيكو التي �أعطت بالد ال�شام‬ ‫للفرن�سيني‪ ،‬وهي البالد الداخلة �ضمن اململكة العربية املوعودة؟ و�أين تذهب م�صداقيتهم يف حال‬ ‫عدم التنفيذ‪ ،‬علماً �أن فل�سطني كانت من ح�صتهم‪ ،‬ح�سب �سايك�س ‪ -‬بيكو‪ ،‬ليفوا بوعدهم الذي‬ ‫قطعوه لليهود؟ فجاءت املح�صلة كما يلي‪:‬‬ ‫تنفيذ معاهدة �سايك�س بيكو بحذافريها ح�سب ما ن�صت عليه بالن�سبة لالنكليز والفرن�سيني‪ ،‬و�إن‬ ‫حلقها بعد ذلك‪ ،‬بع�ض التعديالت الطفيفة‪.‬‬ ‫‪� 18‬أنظر يف هذا اخل�صو�ص الرواية املمتعة للأحداث التي ح�صلت يف هذه الفرتة على ل�سان الأمري في�صل‪:‬‬ ‫ خالد زيادة‪ ،‬حكاية في�صل‪ ،‬دار النهار للن�شر‪ ،1999 ،‬بريوت‪� ،‬ص‪.208‬‬ ‫‪ 19‬مل تظهر معاهدة �سايك�س ‪ -‬بيكو‪ ،‬وال وعد بلفور‪� ،‬إىل العلن‪� ،‬إال بعد انت�صار الثورة البل�شفية يف رو�سيا‪ .‬وكان‬ ‫ن�شرها من قبل الرو�س مبثابة الف�ضيحة ال�سيا�سية على امل�ستوى العاملي‪� ،‬أنظر يف هذا اخل�صو�ص‪:‬‬ ‫ زين‪ ،‬ال�صراع الدويل‪ ،‬مذكور �سابقا‪� ،‬ص‪.74‬‬ ‫‪ 2 0‬امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص‪.74‬‬ ‫‪11‬‬


‫ن�شر وعد بلفور الذي يقول ب�أن حكومة ملك االنكليز «تنظر بعني الر�ضا �إىل ت�أ�سي�س وطن قومي‬ ‫لل�شعب اليهودي يف فل�سطني‪ ،‬و�ستبذل جهدها لت�سهيل حتقيق هذه الغاية»‪ ،21‬مع التجاهل التام‬ ‫حلقوق الفل�سطينيني امل�شروعة يف �أر�ضهم ووطنهم وجن�سيتهم‪ .‬وقد نفذ االنكليز الوعد‪ ،‬ببذل‬ ‫اجلهود املثمرة‪ ،‬ومب�شاركة مبا�شرة من الع�صابات ال�صهيونية‪ ،‬من �أجل قيام دولة �إ�سرائيل‪ .‬وقد‬ ‫قامت بغري �إعالن عن حدودها �أو عن نظامها ال�سيا�سي‪ ،‬باعتبارها دولة‪ ،‬مل تكتمل بعد‪ ،‬متتد من‬ ‫الفرات �إىل النيل‪ ،‬ووطناً نهائياً لليهود يف العامل‪.‬‬ ‫التخلي عن الوعود للعرب‪ ،‬بنتيجة اتفاق �سايك�س ‪ -‬بيكو‪ ،‬وم�ؤمتر �سان رميو ‪ ،1920‬وهو التخلي‬ ‫الذي و�صل �إىل اجلهر باخلالف مع في�صل‪ ،‬فكان �أن �أعلن حكومته من دم�شق‪ ،‬وان�ضم �إليه عروبيو‬ ‫لبنان �ساح ًال وجب ًال‪ .‬ما يعني‪ ،‬بالن�سبة لالنكليز‪ ،‬االخالل باملعاهدة مع الفرن�سيني‪ ،‬وخ�صو�صاً‬ ‫�أنها املنطقة التي ت�شكل ح�صتهم‪ ،‬وعلى االنكليز ت�سليمها لهم باعتبارهم �أ�صدقاء احلركة العربية‬ ‫ومنا�صريها‪ ،‬وميكن التفاهم معها على هذا الأ�سا�س‪ .‬وت�ضارب امل�صالح بني ما اعتربه العرب من‬ ‫حقهم‪ ،‬وما اعتربه االنكليز �إخال ًال مبعاهداتهم وم�صداقيتهم‪� ،‬أو�صل �إىل املواجهة الع�سكرية يف‬ ‫مي�سلون بني الفرن�سيني واجلي�ش العربي‪ .‬وهي املواجهة التي كان ال بد منها‪ ،‬حتت �أ�سماع االنكليز‬ ‫وعلى مر�أى من �أب�صارهم‪ ،‬بعد التن�صل من وعودهم‪� ،‬أو من ج ّلها على الأقل‪ .22‬وهي املواجهة‬ ‫التي �أدت �إىل ا�ست�شهاد وزير الدفاع يف احلكومة العربية يو�سف العظمة واحتالل دم�شق و�إ�سقاط‬ ‫احلكومة العربية ونفي الأمري في�صل‪ ،‬ومن ثم تثبيت االنتداب كما �أعلن يف �سان رميو‪ ،‬وتق�سيم‬ ‫امل�شرق كما جاء حرفياً يف ن�صو�ص املعاهدة‪.‬‬ ‫تقزمي اململكة العربية املوعودة وتق�سيمها بني ولدي امللك ح�سني‪ ،‬الأمري في�صل ملكاً على العراق‪،‬‬ ‫والأمري عبداهلل ملكاً على الأردن‪ ،23‬مبا يتنا�سب مع توجه االنكليز بانتداب مبا�شر‪ ،‬وتكري�س كياين‬ ‫يبعد �أي �إمكانية للوحدة �أو التقارب‪� ،‬إن كان يف ح�صتهم‪� ،‬أو يف ح�صة الفرن�سيني‪.‬‬ ‫�إعالن دولة لبنان الكبري مبلحقات �سلخت من واليات عثمانية �سابقة‪ ،‬وان�ضمت �إىل جبل لبنان‬ ‫لت�صري مع اجلبل‪ ،‬اجلمهورية اللبنانية بحدودها احلا�ضرة وبتغري دميوغرايف مل يعهده جبل لبنان من‬ ‫قبل‪ .‬وتقا�سمت الطائفتان الوازنتان املارونية والدرزية طائفتني كانتا ت�شكالن الأقلية‪ ،‬هما ال�سنية‬ ‫وال�شيعية‪� ،‬إ�شغال م�ساحة اجلمهورية اجلديدة‪ ،‬بحيث �أ�صبحتا زاويتي مثلث �شبه متوازي الأ�ضالع‬ ‫بن�سبة ترتاوح بني ‪ 23‬و ‪ 24‬و‪ %25‬من �سكان لبنان‪ ،‬وتراجعت ن�سبة الدروز‪ ،‬باال�ضافة �إىل تخليها‬ ‫‪ 21‬مو�سى‪ ،‬احلركة العربية‪ ،‬مذكور �سابقاً‪� ،‬ص‪.367‬‬ ‫‪� 22‬أنظر تفا�صيل النقا�ش الذي دار بني في�صل وامل�س�ؤولني الربيطانيني‪ ،‬وكيف �ضاق ذرع ه�ؤالء من �إحلاح الأمري‬ ‫في�صل‪ ،‬مع الت�أكيد الدائم �أنهم �إىل جانب العرب يف ا�ستقاللهم‪ .‬يف‪:‬‬ ‫ زين‪ ،‬ال�صراع الدويل‪ ،‬مذكور �سابقاً‪� .‬ص ‪.136-131‬‬ ‫‪� 23‬أنظر للتف�صيل‪:‬‬ ‫ قدورة‪ ،‬تاريخ العرب احلديث‪ ،‬مذكور �سابقاً‪� ،‬ص‪.139-138‬‬ ‫‪12‬‬


‫مئوية احلرب العاملية الأوىل‬

‫عن مركز ال�صدارة يف �سيا�سة اجلبل‪ ،‬لتلتحق بالأقليتني الوازنتني الأرثوذك�سية والكاثوليكية‪،‬‬ ‫باال�ضافة �إىل �إثنتي ع�شرة طائفة غريها‪ّ ،‬قل عددها �أو كرث‪ .‬وهي جميعاً‪ ،‬ت�شكل جمموع �سكان‬ ‫لبنان‪ ،‬البلد الذي ال يزال يعاين نتيجة هذا التعدد الطائفي الذي �أو�صل �أيديولوجياً �إىل تعدد‬ ‫ثقايف ليربر انق�سام اللبنانيني‪ .‬وهو االنق�سام الذي ك ّر�سه وال يزال يكر�سه‪ ،‬نظام �سيا�سي‪ -‬اجتماعي‬ ‫يجعل من الطائفة وحدة االهتمام بدل املواطن واملواطنية‪.‬‬ ‫[‪]9‬‬

‫كان لبنانيو اجلبل املتنورون‪ ،‬وعلى ر�أ�سهم بطر�س الب�ستاين‪ ،‬يف جمال تفكري �آخر‪ .‬فقد كان يدعو‪،‬‬ ‫ب�أفكار عامة‪� ،‬إىل الت�آخي ونبذ التع�صب واالن�صهار يف البوتقة الوطنية الواحدة‪ .‬ومل يدع يف كل ما‬ ‫كتبه يف «نفري �سورية»�إىل التحرر من نري الأتراك �صراحة‪� .‬إال �أن هذا التوجه تبلور فيما بعد باملناداة‬ ‫ال�صريحة بالقومية العربية التي ميكن �أن تربط العرب برباطها على اختالف �أديانهم ومذاهبهم‪،‬‬ ‫�إذا ح�صل االنف�صال عن الدولة العثمانية‪ .‬ومن الطبيعي �أن يكون �أ�صحاب هذه الدعوة من‬ ‫امل�سيحيني‪ ،‬لي�س باعتبارهم �أ�صحاب نظريات يف القومية‪� ،‬أو يف العنا�صر الأ�سا�سية امل�شكلة للأمة‪،‬‬ ‫�أو يف كيفية ن�شوء الأمم‪ ،‬بل نظروا �إىل امل�س�ألة نظرة �سيا�سية‪ ،‬تقربهم من نظرائهم امل�سلمني‪ ،‬وت�سهل‬ ‫عليهم �إمكانية االنف�صال عن ال�سلطنة العثمانية‪ .‬وهو املربر الذي يحررهم‪ ،‬يف حال ح�صوله‪ ،‬من‬ ‫�سلطة دينية مغايرة‪ ،‬ومن دولة تعتمد ال�شريعة يف حكمها‪ ،‬و�إن يف الظاهر‪ ،‬وتخلت بكل �سهولة عن‬ ‫الد�ستور‪� ،‬إبان حكم عبد احلميد‪.‬‬ ‫من الطبيعي �أن ال يجاري املتنورون امل�سلمون زمالءهم من امل�سيحيني‪ ،‬لي�س لتع�صب مت�أ�صل‬ ‫فيهم‪ ،‬بل لأنهم يعتربون �أن ال�سلطنة العثمانية متثل طموحهم‪ ،‬وقادرة على �إظهار �شخ�صيتهم‬ ‫كم�سلمني وعرب‪ ،‬و�إن كانت بحاجة �إىل اال�صالح‪ ،‬واعتماد الالمركزية‪ .‬كما �أن مفهوم القومية‪،‬‬ ‫كان غريباً عنهم‪ ،‬كما مفهوم العلمانية‪ .‬وميكن �أن ي�ستثنى من ذلك عبد الرحمن الكواكبي احللبي‬ ‫الذي كان يفرق تفريقاً دقيقاً بني الدين والقومية‪ .‬وي�ؤمن ب�أحقية العرب يف قيادة امل�سلمني‪.24‬‬ ‫يعترب ال�صليبي يف هذا االطار �أن القومية العربية «امل�سيحية» مل تختلف عن القومية العربية‬ ‫«امل�سلمة» التي دعا �إليها الكواكبي �إال يف العالقة مع العثمانيني‪ .‬الأوىل تدعو �إىل االنف�صال‪،‬‬ ‫والثانية �إىل رفع راية اال�سالم بقيادة العرب‪ .‬لذلك مل يكن مبقدور املتنورين امل�سلمني‪ ،‬حتى ذلك‬ ‫احلني‪ ،‬الف�صل عملياً بني العروبة واال�سالم‪.25‬‬ ‫بد�أ التقارب بني دعاة القومية‪ ،‬حتت �أي عنوان كان‪ ،‬عربية‪� ،‬سورية‪� ،‬أو لبنانية‪ ،‬عندما بد�أت جمعية‬ ‫‪ 24‬ال�صليبي‪ ،‬تاريخ لبنان احلديث‪ ،‬مذكور �سابقاً‪� ،‬ص‪.200‬‬ ‫‪ 25‬ال�صليبي‪ ،‬امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص‪.201‬‬ ‫‪13‬‬


‫االحتاد والرتقي احلكم با�سم القومية الرتكية‪ .‬وكان هذا التقارب م�ؤ�شراً لبداية التعاون بني العرب‬ ‫على اختالفهم للتخل�ص من العثمانيني‪ .‬وهذا ما ح�صل فعال‪.‬‬ ‫�إال �أن املوقف بد�أ بالتغري بعد �إعالن الثورة العربية �ضد العثمانيني‪ .‬وهي الثورة التي �أخذت‬ ‫لواء العروبة من امل�سيحيني‪ .‬ور�أى ه�ؤالء �أن ثمة �إمكانية لقيام دولة عربية قوية مرتامية الأطراف‪،‬‬ ‫�سي�ضيعون جمدداً يف خ�ضمها‪ .‬ومل يظهر الأمر على هذا ال�شكل �إال بعد انخراط الأتراك يف‬ ‫الطورانية‪ ،‬ويف قومية تركية تناق�ض توجه العرب‪ ،‬وتعلو على قوميتهم وتاريخهم‪ ،‬فوجد ه�ؤالء‬ ‫يف القومية العربية �ضالتهم‪ .‬و�إذا مت�سك امل�سيحيون بعروبتهم ليتخل�صوا من العثمانيني‪ ،‬فماذا‬ ‫عليهم �أن يفعلوا ليتخل�صوا من عروبتهم التي عليها �أن ت�ضيع جمدداً يف بحر من امل�سلمني؟ وهي‬ ‫العروبة التي ي�ستحيل عليهم �إيجادها مف�صولة عن اال�سالم؟ فكانت العودة �إىل الروابط الأهلية‬ ‫الأوىل الدالل َة الثانية على التم�سك ال�سيا�سي بالقومية لبلوغ م�أرب ذاتي‪ ،‬طاملا الروابط الأهلية‬ ‫ذاتية التوجة يف �أ�صلها وف�صلها‪ ،‬ولي�س التم�سك املو�ضوعي املبني على مبادئ املجتمع وفهم‬ ‫ظواهره‪� ،‬أو وعي مفهوم املواطنية فكراً وممار�سة‪ ،‬ح�سب ما ينطق به الفكر العقالين‪ .‬وعند بلوغ‬ ‫امل�أرب اال�ستقاليل عن العثمانيني‪ ،‬ظهر م�أرب �آخر يبغي احلفاظ على الوجود‪ ،‬مقابل وجود �آخر‬ ‫�أعم و�أغلب‪ :‬الوجود امل�سلم بتوجه �سيا�سي �إ�سالمي‪ ،‬با�سم القومية العربية؛ وهو التوجه الذي‬ ‫ال ي�ستقيم معه‪ ،‬بعرف املتنورين امل�سيحيني‪� ،‬إال توجه مماثل بنيوياً‪ ،‬وهو الوجود امل�سيحي‪ ،‬با�سم‬ ‫القومية اللبنانية‪ ،‬ويدركون متاماً �أن ال �إمكانية لوجوده �إال بالدعم والو�صاية الفرن�سيني‪.‬‬ ‫[‪]10‬‬

‫ظهر الأمر وك�أن فرن�سا تعمل على ا�ستقالل لبنان مبعزل عن �أماين العرب يف �إن�شاء دولتهم‬ ‫امل�ستقلة‪ .‬كما ظهر �أن االنكليز يعملون على �إقامة اململكة العربية مبعزل عن �أماين اللبنانيني‬ ‫امل�سيحيني باال�ستقالل‪.‬‬ ‫�أظهرت الأحداث املتعلقة باملنطقة‪ ،‬والن�شاطات التي �أعقبتها العادة تق�سيمها بانتهاء احلرب‬ ‫العاملية الأوىل �أن التناق�ضات الطائفية تهيمن على التفكري ال�سيا�سي والوطني للمهتمني كافة‬ ‫ب�ش�ؤون بالدهم‪ .‬فاملطالبون با�ستقالل لبنان وتو�سيعه لتوفري �أ�سباب املعي�شة هم امل�سيحيون الذين‬ ‫يخافون‪ ،‬كما كانوا يف ال�سابق‪ ،‬الذوبان يف بحر من امل�سلمني‪ .‬كما �أن املطالبني بالدولة العربية‬ ‫بقيادة في�صل هم من امل�سلمني الذين وجدوا يف ال�شريف ح�سني القائد الذي ي�ستطيع �إعادة جمد‬ ‫امل�سلمني وقوتهم‪« .‬ورمبا الفئة الثالثة التي طالبت با�ستقالل �سورية كانت تعي تلك التناق�ضات‬ ‫الطائفية‪ ،‬وتعترب �أن االنت�صار على هذه التناق�ضات يكمن يف رف�ض منطق كل من الدعوتني‬ ‫الطائفيتني ال�سابقتني‪ ،‬والدعوة �إىل نوع من الالطائفية‪ ،‬وذلك بف�صل الدين عن الدولة‪ ،‬بدليل �أن‬ ‫‪14‬‬


‫مئوية احلرب العاملية الأوىل‬

‫اللجنة املركزية ال�سورية كانت ت�ضم �أع�ضاء من امل�سيحيني وامل�سلمني»‪.26‬‬ ‫توافقت امل�صالح الفرن�سية مع �أماين البطريرك احلويك املدعومة من قوى دينية و�سيا�سية‪ ،‬وظهر‬ ‫�أن ا�ستقالل لبنان كما يريده املوارنة �أ�صبح قريب املنال‪ ،‬و�إن كان على ح�ساب التوافق الداخلي‪،‬‬ ‫يف البداية‪ .‬وانعك�س ذلك يف طريقة ا�ستقبال الفرن�سيني بني م�ؤيد ومعار�ض‪ ،‬مع ما تلب�سه املواقف‬ ‫امل�ؤيدة واملعار�ضة من �أردية طائفية‪ .‬وزاد املوقف توتراً بعد �إعالن الأمري في�صل ملكاً على �سورية يف‬ ‫امل�ؤمتر ال�سوري العام �سنة ‪« ،1919‬على �أن تراعى �أماين اللبنانيني الوطنية يف كيفية �إدارة مقاطعتهم‬ ‫لبنان �ضمن حدوده املعروفة قبل احلرب العامة‪ ،‬ب�شرط �أن يكون مبعزل عن كل ت�أثري �أجنبي»‪.27‬‬ ‫[‪]11‬‬

‫وهكذا ظهر لبنان الكبري �إىل العلن يف العام ‪ 1920‬على �أنقا�ض طموحات العاملني على ا�ستقالل‬ ‫�سورية بعد مي�سلون‪ .‬ظهر وتتنازعه قوتان ترتديان �ألب�سة قومية من عربية ولبنانية على ج�سمني‬ ‫متوهجني يف لونيهما الديني‪ .‬وا�ستمر الأمر كما كان‪ ،‬وت�شرعن �أكرث‪ ،‬و�صار النظام الطائفي دين‬ ‫الوطن وديدنه‪ .‬وو�صل الأمر �إىل خلع الأردية الرباقة‪ ،‬وظهرت الأج�سام على حقيقتها‪ ،‬لي�س‬ ‫على الوجهني الدينيني‪ ،‬امل�سيحي وامل�سلم‪ ،‬فح�سب‪ ،‬بل باال�ضافة �إىل ذلك‪ ،‬على �أوجه املذاهب‬ ‫والطوائف وامللل والنحل‪ ،‬وبتنا نرتحم على ما م�ضى من الأيام‪ ،‬ونخ�شى من �أن يكون حا�ضرنا‬ ‫�أف�ضل بكثري مما �سي�أتي‪.‬‬

‫‪� 26‬أنظر يف هذا اخل�صو�ص‪:‬‬ ‫ عاطف عطيه‪ ،‬الدولة امل�ؤجلة‪ ،‬دار �أمواج ومكتبة بي�سان‪ ،2000 ،‬بريوت‪� ،‬ص‪ .90-89‬وللتف�صيل حول ال�صراعات‬ ‫التي حدث �إبان تقرير م�صري املنطقة‪� ،‬أنظر‪:‬‬ ‫ وجيه كوثراين‪ ،‬االجتاهات االجتماعية ‪ -‬ال�سيا�سية يف لبنان وامل�شرق العربي‪ ،‬معهد االمناء العربي‪،1976 ،‬‬ ‫بريوت‪� ،‬ص‪.310-303‬‬ ‫‪ 2 7‬امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص‪.334‬‬ ‫‪15‬‬


‫�صدر حديثا ً‬

‫م�ؤ�س�سة �سعاده للثقافة‬

‫بناية ر�سامني‪� ،‬شارع احلمرا‪ ،‬ر�أ�س بريوت‪ ،‬لبنان‬ ‫�صندوق بريد‪ 113-5557 :‬بريوت ‪ -‬لبنان‬ ‫هاتف‪)00961-1( 753363 :‬‬ ‫فاك�س‪)00961-1( 753364 :‬‬ ‫الربيد الإلكرتوين‪saadehcf@idm.net.lb :‬‬ ‫املوقع الإلكرتوين‪www.saadehcf.org :‬‬


‫مئوية احلرب العاملية الأوىل‬

‫�إ�ستمرار �ضياع الهوية القومية‬ ‫وليد زيتوين ‪ -‬باحث ا�سرتاتيجي‬

‫د�شنت احلرب العاملية االوىل مرحلة �ضياع الهوية القومية يف منطقتنا‪ ،‬باتفاقية احتفالية‪� ،‬أ�سمتها‬ ‫�سايك�س‪-‬بيكو‪ .‬اتفاقية و�ضعتنا على خط اال�شتباك اال�سرتاتيجي املحدد بجغرافيا الطوائف‬ ‫وامللل والنحل‪.‬‬ ‫غري �أن النتائج التي ر�سمتها االتفاقية‪ ،‬مل تكن وليدة �ساعتها عام ‪ ،1916‬و�إمنا كان التح�ضري لها‬ ‫على قدم و�ساق من امدية بعيدة زمنياً‪ .‬ففي حلظة بروز الدولة القومية يف القرن التا�سع ع�شر‪،‬‬ ‫مل نكن جاهزين مادياً ومعنوياً لتتلقف فكرة التحول العاملي احلا�صل على امل�ستوى ال�سيا�سي‪،‬‬ ‫وبالتايل مل نتلم�س بعد معنى وم�ضمون الهوية القومية لال�سباب التالية‪:‬‬ ‫�أو ًال‪ :‬وجودنا حتت �سيطرة االمرباطورية العثمانية التي كانت تعاين �سكرات املوت نتيجة �أو�ضاعها‬ ‫االقت�صادية املرتدية‪ ،‬وخ�سارتها الع�سكرية �أمام القوى اال�ستعمارية �آنذاك وخا�صة تدمري ا�سطولها‬ ‫البحري يف نافرين عام ‪ ،1826‬ومن ثم عدم ا�ستقرار �أو�ضاعها الداخلية �إثر انقالب الثالثي القومي‬ ‫الطوراين على اخلالفة العثمانية املتلب�سة اللبو�س الأيديولوجي الديني؛‬ ‫ثاني ًا‪ :‬تدخل الدول الكربى يف املناطق التي ت�سيطر عليها اخلالفة العثمانية حتت عناوين رعاية‬ ‫االقليات الطائفية‪ ،‬ومن خاللها‪ ،‬رك ّزت على امل�ست�شرقني والداللني واالر�ساليات ل�ضرب البنى‬ ‫اجليو‪-‬ثقافية املوجودة‪ ،‬التي كانت حتتفظ لتاريخه بخ�صو�صياتها القومية؛‬ ‫ثالث ًا‪ :‬كانت املنطقة تعي�ش حالة اقت�صادية مزرية كمح�صلة للج�شع االمرباطوري العثماين‬ ‫من جهة‪ ،‬وكنتيجة للهجمة البدوية ال�صحراوية التي قامت بها قبائل العنزي القادمة من اجلزيرة‬ ‫العربية من جهة �أخرى‪ ،‬حيث فاقت بهمجيتها وات�ساعها ما فعله هوالكو‪ .‬لقد دمرت هذه الهجمة‬ ‫�سبعة �آالف قرية وبلدة من حلب �شما ًال �إىل �صفد وحيفا ويافا جنوبا‪ ،‬فحرقت جميع املحا�صيل‬ ‫الزراعية وقطعت اال�شجار ّ‬ ‫ونكلت بال�سكان قتال وتهجرياً‪ ،‬حتت الرعاية العثمانية وانظار القنا�صل‬ ‫االوروبيني؛‬ ‫رابع ًا‪ :‬تر ّدي الو�ضع العلمي والثقايف ودخول املنطقة يف مرحلة االنحطاط ب�سبب املمار�سات‬ ‫‪17‬‬


‫القمعية العثمانية وهجرة الكوادر العلمية‪ ،‬وتغلغل ثقافات غربية متعار�ضة مع القيم ال�سائدة‪ ،‬مل‬ ‫ُت�س َتغ‪ ،‬حينها‪ ،‬من قبل النخب املتلقّية؛‬ ‫خام�س ًا‪ :‬حت ّول ع�صبة االمم �إىل منظمة �ضامنة حلقوق الدول الكربى املنت�صرة باحلرب‪ ،‬على‬ ‫ح�ساب الدول وال�شعوب التي كانت حتت مظلة الدول املهزومة‪ ،‬حيث انتقلت هذه ال�شعوب من‬ ‫ا�ستعمار �إىل ا�ستعمار �آخر دون �أن يكون لها �أي دور يف تقرير م�صريها‪.‬‬ ‫حتت مظلة هذا الواقع‪ ،‬ويف غياب االطر ال�سيا�سية والثقافية واالقت�صادية املحلية الناظمة‪ ،‬متددت‬ ‫امل�شاريع اجليوبولتيكة االقليمية والدولية لت�أمني م�صاحلها‪ ،‬ا�شتبكت وت�شابكت على �أر�ضنا وعلى‬ ‫ح�ساب م�صاحلنا‪ ،‬فدخلنا يف دوامة ا�شتباك دائم ما زال م�ستمراً حتى يومنا هذا‪ ،‬من خالل دوائر‬ ‫ثالث‪:‬‬ ‫ دائرة ذاتية‪ :‬تختلط فيها قواعد ال�صراع ما بني ويف الهوية القومية‪ ،‬والهوية الدينية‪،‬‬ ‫والهوية املذهبية‪ ،‬والهوية االتنية‪ ،‬والهوية االجتماعية (مدنية وع�شائرية) واالنظمةال�سيا�سية‬ ‫واالقت�صادية‪ ،‬والت�شكيالت الكيانية التي �أفرزتها �سايك�س‪-‬بيكو؛‬ ‫ دائرة �إقليمية‪ :‬تتنازع فيها م�شاريع الدول االقليمية التي بل ّورت هويتها القومية وعملت‬ ‫على �أ�سا�سها مثل تركيا وايران‪ ،‬وتلك التي مل تتبلور هويتها وت�سعى �إىل دور قيادي �إقليمي‬ ‫«ا�سرائيل»‪ ،‬وم�صر وادي النيل‪ ،‬وال�سعودية ممثلة للجزيرة العربية؛‬ ‫ دائرة دولية‪ :‬وقد تد ّرج فيها اال�شتباك تاريخياً‪ ،‬من �صراع بني االمرباطوريات القدمية‪ ،‬ثم بعد‬ ‫احلرب االوىل بني الدول اال�ستعمارية احلليفة الذي انتج �سايك�س‪-‬بيكو‪ ،‬مروراً باحلرب الباردة‬ ‫صوال �إىل اليوم بني اجليوبولتيك‬ ‫بني الواليات املتحدة االمريكية واالحتاد ال�سوفياتي ال�سابق‪ ،‬و� ً‬ ‫االمريكي املدعوم من �أوروبا واحللف االطل�سي واجليوبولتيكي الرو�سي املتجدد املدعوم من‬ ‫ال�صني ودول الربك�س‪.‬‬ ‫بالواقع‪ ،‬الميكن الف�صل ب�شكل كامل بني الدوائر الثالث �إال لأ�سباب منهجية بغية تو�ضيح ما‬ ‫ميكن ت�سميته بهوام�ش حرية احلركة املر�سومة بدقة من قبل الدائرة الكربى‪ ،‬حيث برزت �إ�شكالية‬ ‫تقدم نف�سها على ال�شكل التايل‪ :‬هل اال�ستعمار هو من �أوجد املتناق�ضات التي ت�شتملها الدائرة‬ ‫االوىل؟ �أم ان هذه التناق�ضات البنيوية هي التي ا�ستجلبت اال�ستعمار �إىل بقعة �صراعاتها؟ مبعنى‬ ‫�آخر «ما الذي جلب على �أمتي هذا الويل؟»‪ ،‬كما قال انطون �سعادة‪ ،‬و�أردفه ب�س�ؤال �آخر «من‬ ‫نحن؟»‪.‬‬ ‫هنا يتبادر �إىل الذهن‪ ،‬الت�سميات التي اطلقت على هذه املنطقة‪ .‬من «ال�شرق االدنى» �إىل «ال�شرق‬ ‫االو�سط اجلديد» و«ال�شرق االو�سط الكبري �أو املو�سع» التي �إن دلت على �شيء ف�إنها ّتدل على‬ ‫م�ضمون امل�شروع اجليوبولتيكي وا�ستهدافاته‪ .‬هي ت�سميات جغرافية متعالية ت�ؤكد على مركزية‬ ‫‪18‬‬


‫مئوية احلرب العاملية الأوىل‬

‫الغرب وتبعيتنا‪ ،‬وبالتايل تر�سم حدودنا ا�ستناداً خلطوط �أمنها القومي باجليو�ش اجلرارة واال�ساطيل‬ ‫املنت�شرة يف البحار املحيطة‪ ،‬والهيمنة ال�سيا�سية وال�سيطرة االقت�صادية على ب ّرنا‪ .‬وعليه ا�ستنادا‬ ‫حلقائق التاريخ واجلغرافية والفكر العلمي احلديث‪� ،‬سن�ستعيد تعبري «�سورية الطبيعية» ك�إ�سم لهذه‬ ‫املنطقة‪ ،‬باعتبارهذا اال�سم االكرث غلت�صاقاً بح�ضارة املنطقة وثقافتها‪.‬‬ ‫ال �شك �أن اال�ستعمار بكافة ا�شكاله‪ ،‬قد ّركز يف املرحلة االوىل على تدمري البنى الثقافية احل�ضارية‪/‬‬ ‫الروحية باعتبارها جزءاً من العوامل املتغرية يف ت�شكيل االمة‪ ،‬ليت�سنى له يف مرحلة الحقة‪ ،‬النفاذ‬ ‫من الت�شرذم النف�سي والثقايف لتق�سيم اجلغرافية ب�شكل يتنا�سب مع �أهدافه �أو ًال‪ ،‬وثانياً كي ي�ؤمن‬ ‫هذا التق�سيم بقاء االقليم اجلغرايف بعيداً عن امكانية التفكري با�ستعادة وحدته‪.‬‬ ‫�إن �سايك�س‪-‬بيكو‪ ،‬وهي اتفاق توزيع نفوذ بني قوتني ا�ستعماريتني‪ ،‬حلظت من خالل تر�سيمها‬ ‫ل�سوريا الطبيعية امل�سائل التالية‪:‬‬ ‫ ف�صل مناطق اجلذب احل�ضارية (ما بني النهرين‪ ،‬بالد ال�شام)؛‬ ‫ �إ�ضعاف العمق اال�سرتاتيجي (لبنان بعمق ‪ 40‬كلم كذلك فل�سطني)؛‬ ‫ �سلخ املناطق ال�ساحلية عن الداخل‪ .‬مثال رغم ات�ساع العراق فهو ال ميلك منفذاً بحرياً يتنا�سب‬ ‫مع م�ساحته (‪4‬كلم على اخلليج‪ ،‬ال�شام ‪ 200‬كلم على البحر املتو�سط) رغم ان طول ال�شواطئ‬ ‫ال�سورية على هذا البحر تبلغ اكرث من ‪ 800‬كلم؛‬ ‫ التح�ضري من خالل هذا التق�سيم ملا ا�صبح واقعاً فيما بعد‪ ،‬دولة يهودية يف فل�سطني‪ ،‬و�سلخ لواء‬ ‫صوال �إىل ماردين‪ ،‬ورمبا دولة كردية يف ال�شمال ال�شرقي؛‬ ‫اال�سكندرون وكيليكة و� ً‬ ‫ التق�سيم على اال�سا�س الطائفي‪.‬‬ ‫�أفقدت هذه االتفاقية �سوريا الطبيعية ال�سيطرة املبا�شرة على �شرق البحر االبي�ض املتو�سط من‬ ‫خليج اال�سكندرون حتى قناة ال�سوي�س‪ ،‬كما �أفقدتها القدرة على التحكم باملمرات املائية وحركة‬ ‫وحجمت بنف�س الوقت قدرتها الطبيعية‬ ‫التجارة والنقل‪ ،‬وابعدتها عن موقع قرب�ص اال�سرتاتيجي‪ّ ،‬‬ ‫من امل�شاركة مبياه اخلليج والبحر االحمر‪.‬‬ ‫ب�إخت�صار‪ ،‬و�ضعت هذه االتفاقية حدا�ص ملعادلة قوة‪�/‬سيادة التي تتمتع بها عادة الأمم بالعامل‪،‬‬ ‫وهو ما �أفقدها مركزها ودورها اجليو‪�-‬سيا�سي واجليو‪�-‬سرتاتيجي بعد �أن �أفقدها دورها اجليو‪-‬ثقايف‬ ‫احل�ضاري يف العامل‪ .‬ومل ت�ستطع منذ ذاك التاريخ ان تك ّون و�ضعاً يليق بها يف مرحلة تنازع االمم‬ ‫البقاء‪ ،‬بل جعلها يف مهب م�شاريع االخرين‪.‬‬ ‫ي�صعب الآن يف ظل الت�شرذم احلا�صل على م�ستوى كيانات االمة فيما بينها وداخل كل كيان‪،‬‬ ‫ويف ظل احلرب احلقيقة الدائرة على �أر�ضها‪ ،‬ي�صعب و�ضع ت�صور ا�سرتاتيجي لدور م�ستقبلي‪ ،‬دون‬ ‫‪19‬‬


‫حتديد نقطة بداية م�ستقرة ونقطة نهاية وا�ضحة املعامل‪ ،‬موزعة على مراحل تكتيكية زمنية‪ ،‬والعمل‬ ‫ب�شكل متوازن بني ما هو ا�سرتاتيجي وما هو تكتيكي‪� ،‬شرط توفر االرادة ال�سيا�سية‪ ،‬والتي يبدو‬ ‫�أنها بعيدة املنال حالياً‪ ،‬الرتباط النخب املحلية مب�شاريع تكتيكية مف�صلة على قيا�ساتها‪ ،‬وعلى‬ ‫حجم طوائفها و»جماهريها» واثنياتها وع�شائرها‪ ،‬وارتباط م�شاريعها باخلارج‪ .‬ويتعذر‪ ،‬بنف�س الوقت‪،‬‬ ‫ر�سم النقاط املطلوبة للنهو�ض‪ ،‬دون قراءة فعلية مت�أنية ال�سرتاتيجيات االخرين االقليمية والدولية‪،‬‬ ‫ومدى ت�أثريها ومكامن ال�ضعف والقوة فيها‪.‬‬ ‫تعترب اال�سرتاتيجية ب�شكل عام ن�سقاً فكرياً خمزوناً يف الذاكرة اجلمعية ل�شعب ما‪ ،‬وهي بالتايل‬ ‫جامدة ن�سبياً الرتباطها بالعوامل الثابتة والثقافية لت�شكل االمة‪ .‬فاملوقع وامل�ساحة والطبوغرافيا‪،‬‬ ‫والرثوة الطبيعية متاماً كما التطلعات العامة وامل�صالح هي من يقرر �أ�صول اال�سرتاتيجية وجذورها‬ ‫التاريخية واحلالية‪ .‬من الطبيعي �أن يتغري منهج العمل اال�سرتاتيجي تبعا لالدارة وتبعا للظروف‬ ‫الذاتية واملو�ضوعية لالمة فتتحقق عندما تكون االمة قوية (ع�سكرياً‪� ،‬سيا�سياً‪ ،‬اقت�صادياً‪ ،‬ثقافياً)‬ ‫وترتاجع �إىل حد ت�صبح معها اال�سرتاتيجية فكرة معيارية‪ ،‬حني تكون يف حالة �ضعف �أمام الأمم‬ ‫االخرى �أو يف حال الت�شرذم ا�ستناداً للعوامل الذاتية‪ ،‬فت�سلب �إرادتها وتفقد �سيادتها وت�صبح‬ ‫عر�ضة لتداخل اال�سرتاتيجيات االخرى‪ .‬وهذا‪ ،‬بالواقع‪ ،‬هو حال امتنا منذ بداية ادراك معنى‬ ‫االمة وظهور الدولة القومية احلديثة‪.‬‬ ‫هنا تربز م�س�ألة االدراك والفهم والتحليل ومن ثم و�ضع االولويات واخليارات على م�ستوى بناء‬ ‫القدرة الذاتية والعوائق الناجتة عن التدخل اخلارجي على قاعدة عقلية بحته‪ ،‬لأن العقل هو‬ ‫ال�شرع االعلى‪ ،‬وهو بالتايل يحدد الغايات واال�ساليب الواجب اتباعها للو�صول �إىل الأهداف‬ ‫املر�سومة‪� ،‬شرط مرحلتها والعمل على �إقامة التوازن بني الغايات اال�سرتاتيجية والأهداف املرحلية‬ ‫دون طغيان �أو تعار�ض بني الغايات والأهداف م�صحوبة بتوفر االرادة ال�سيا�سية‪.‬‬ ‫تكاد ال توجد طريقة علمية �أخرى للخروج من م�أزقنا‪ ،‬رغم �أن العوائق الداخلية كثرية ومت�شعبة‬ ‫ومعقدة لدرجة تدفع البع�ض �إىل الي�أ�س‪ .‬غري �أن وجود م�شروع بنائي م�ستهدف وا�ضح املعامل‬ ‫يبعث على االمل وي�شحذ الهمم خا�صة �أن �شعبنا يتمتع بدينامية عالية‪ ،‬وقدرة �أقرب ما تكون اىل‬ ‫املثالية على العمل واملثابرة الجناز ما ميكن ت�صوره وو�ضعه مو�ضع التنفيذ‪.‬‬ ‫�إن العامل مل يعد لعبة �شطرجن حم�صورة بني الأ�سود والأبي�ض كما كانت خالل احلرب الباردة‬ ‫وبني قطبني �أ�سا�سيني فقط‪ ،‬بل حت ّول �إىل لعبة �أخرى‪ ،‬مبا ميكن ت�سميته بـ «املكعبات البلغارية» ذات‬ ‫االبعاد وااللوان ال�ستة‪ ،‬تلزم العبها �أن يداخل بني االبعاد وااللوان لتحقيق االن�سجام املطلوب‬ ‫والتوازن بني البعد واللون‪.‬‬ ‫ي�ستوجب فهم اللعبة الدائرة مبنطقتنا‪ ،‬االطالل على امل�شروع االمريكي الغربي بالدرجة االوىل‬ ‫وحتديد ماهية �أهدافه‪ ،‬والتحوالت ال�سيا�سية وامليدانية مل�ساره كونه امل�شروع اال�سا�س‪ ،‬واالكرث‬ ‫‪20‬‬


‫مئوية احلرب العاملية الأوىل‬

‫ّ‬ ‫جتذراً‪ ،‬كي ن�ستطيع من خالل هذا الفهم النفاذ �إىل �إدراك امل�شاريع الأخرى املوازية �أو املعار�ضة‪،‬‬ ‫ليت�سنى لنا فيما بعد حتليل نقاط القوة وال�ضعف فيه ويف م�شاريع االخرين وبالتايل �إيجاد امل�ساحة‬ ‫املمكن العمل عليها ومن خاللها لتحقيق مكان مل�شروعنا‪.‬‬ ‫�إن الواليات املتحدة‪ ،‬التي تبنت ا�سرتاتيجية احلفاظ على الدوالر‪ ،‬واالن�صهار املجتمعي الداخلي‬ ‫وذلك من خالل النهب اخلارجي وخلق عدو دائم‪ ،‬اعتمدت نظرية الفرد ماهان يف بداية القرن‬ ‫املا�ضي‪ ،‬والقا�ضية بتطويق الدولة البحرية للدولة القارية الربية ومن ثم العمل على �إ�سقاطها من‬ ‫الداخل‪ ،‬وقد جنحت �إىل حد بعيد يف تعاملها مع االحتاد ال�سوفياتي ال�سابق من خالل تعاظم‬ ‫قدراتها البحرية وان�شائها لالحالف الع�سكرية (الناتو‪� ،‬أ�سيان‪ ،‬واحللف املركزي) وام�ساكها‬ ‫باملفا�صل االقت�صادية العاملية‪ ،‬وجر القطب ال�سوفياتي �إىل �سباق الت�سلح‪ .‬بعد هذا النجاح‬ ‫التاريخي‪ ،‬تطلعت �إىل تطويق ال�صني‪ ،‬فمددت حلف �شمايل االطل�سي �إىل دول �أوروبا ال�شرقية‬ ‫وعززت وجودها يف جنوب �شرق ا�سيا بالقواعد الع�سكرية‪ ،‬وذهبت �إىل تنظيف امل�سرح العاملي‬ ‫الو�سيط املمتد من حدود ال�صني �إىل البحر املتو�سط‪.‬‬ ‫كانت الأهداف التي ت�سعى الواليات املتحدة االمريكية لتحقيقها‪ ،‬يف امل�سرح اال�سرتاتيجي‬ ‫الو�سيط وهو امل�سرح الذي ي�شمل منطقتنا‪ ،‬تتلخ�ص بالبنود التالية‪:‬‬ ‫ احلفاظ على �أمن «�إ�سرائيل»‪ ،‬وعلى «�إ�سرائيل» كقاعدة ع�سكرية متقدمة؛‬ ‫ �أمن الآبار النفطية و�أمن تدفقها من خالل ال�سيطرة البحرية وحرية املالحة التجارية وم�سك‬ ‫املنافذ املطلة من و�إىل البحر االبي�ض املتو�سط؛‬ ‫ دعم الأنظمة القائمة التي تتبع �سيا�ستها للحفاظ على حالة ا�ستقرار �أمنية وع�سكرية ت�ؤمن‬ ‫موجبات النهب ال�سهل للرثوات املحلية؛‬ ‫ير�سخ وجود «�إ�سرائيل»‪.‬‬ ‫ الو�صول �إىل حل نهائي يف «ال�شرق االو�سط» ّ‬ ‫وزادت الواليات املتحدة على الركائز االربعة ال�سابقة بعد ‪� 11‬أيلول ‪ 2001‬بنداً خام�ساً وهو حماربة‬ ‫االرهاب‪ ،‬متا�شياً مع قاعدة ا�سرتاتيجيتها (خلق عدو خارجي)‪.‬‬ ‫�إال �أن االولويات االمريكية قد تبدلت منذ عام ‪ ،2013‬فت�صدرتها م�س�ألة حماربة االرهاب نظراً‬ ‫لربوز ما ا�سمته بـ «اال�سالم الراديكايل» على ح�ساب اال�سالم املعتدل الذي �أ�صبح ي�شكل خطراً‬ ‫داهماً على م�صاحلها يف املنطقة وحتى يف �أوروبا والعامل‪ .‬وهو ما دفعها بالفعل �إىل القبول بعقد م�ؤمتر‬ ‫جنيف ‪ ،2‬وتثبيت حتالفها مع دول اال�سالم املعتدل وهو �أي�ضاً ما جعلها بحالة �إرباك بعد �إزاحة‬ ‫االخوان امل�سلمني عن احلكم يف م�صر خالل حترك اجلي�ش يف ‪ 30‬حزيران املا�ضي‪.‬‬ ‫�أما التح ّول الثاين‪ ،‬فيربز من خالل العمل لعدم انت�شار �أ�سلحة الدمار ال�شامل‪ ،‬وقد ظهر موقفها‬ ‫جلياً فيما يتعلق بامللف النووي الإيراين‪ ،‬واالتفاق مع رو�سيا على تدمري الرت�سانة الكيماوية‬ ‫‪21‬‬


‫ال�سورية‪ .‬وهو بالواقع ما اعتربته �إجنازاً لها ب�إبقاء «�إ�سرائيل» متفوقة ع�سكرياً المتالكها منفردة‬ ‫ال�سالح النووي‪ ،‬وبالتايل ا�ستقرار املنطقة ل�ضمان تدفق النفط‪.‬‬ ‫رغم ذلك تراجع‪ ،‬دور الواليات املتحدة ب�شكل درامتيكي يف هذه املنطقة لأ�سباب عدة منها االزمة‬ ‫االقت�صادية التي طاولتها بدءاً من العام ‪ 2008‬نتيجة حلروبها اخلارجية يف افغان�ستان والعراق‪،‬‬ ‫وتكاليف انت�شار قواتها على امتداد العامل‪ ،‬ورمبا ل�سبب جوهري �آخر وهو بروز مناف�سني جديني‬ ‫على ال�ساحة العاملية كرو�سيا وال�صني والهند وبقية دول الربيك�س‪ .‬وقد يكون من اال�سباب �أي�ضاً‪،‬‬ ‫تراجع اهمية هذه املنطقة ا�سرتاتيجياً الكت�شاف م�صادر طاقة ذات �أهمية �أكرب‪ ،‬و�أ�سواق جتارة عاملية‬ ‫�أو�سع يف �آ�سيا واملحيط الهادئ‪.‬‬ ‫�أما القطب الثاين الذي يناف�س الواليات املتحدة االمريكية يف املنطقة فهي بالت�أكيد رو�سيا االحتادية‪،‬‬ ‫التي ا�ستعادت حركتها اال�سرتاتيجية بعد و�صول فالدميري بوتني �إىل احلكم‪ .‬واال�سرتاتيجيا الرو�سية‬ ‫هي ا�سرتاتيجيا ثابتة كما قلنا �سابقاً‪ ،‬وتتلخ�ص بالو�صول �إىل املياه الدافئة‪ .‬وهي ا�سرتاتيجيا مل‬ ‫صوال �إىل‬ ‫تتغري من عهد القيا�صرة (كاترين الثانية‪ ،‬بطر�س الأكرب) مروراً باالحتاد ال�سوفياتي و� ً‬ ‫الوقت احلا�ضر مع االحتاد الرو�سي‪� .‬أما �أهم املالمح التي تعمل على �أ�سا�سها رو�سيا الآن خلدمة‬ ‫ا�سرتاتيجيتها‪ ،‬فتتلخ�ص بالنقاط االتية‪:‬‬ ‫ حماربة القوى التكفريية البعاد �شبحها عن االرا�ضي الرو�سية وخا�صة يف ال�شي�شان‪ ،‬التي‬ ‫عانت طويال من العمليات االرهابية؛‬ ‫ االحتفاظ ب�سورية كحليف ا�سرتاتيجي مطل على البحر الأبي�ض املتو�سط‪ ،‬وخا�صة قاعدة‬ ‫طرطو�س التي ت�شكل ع�صب الأ�سطول الرو�سي على هذا البحر بعد فقدان رو�سيا قواعدها يف‬ ‫ليبيا وم�صر واجلزائر‪ .‬وهو ما يف�سر وقوفها بقوة مع �سوريا على امل�ستويات الع�سكرية وال�سيا�سية‬ ‫والديبلوما�سية خا�صة يف جمل�س الأمن الدويل؛‬ ‫ التواجد وب�شكل قوي خلف الدرع ال�صاروخي االمريكي املمتد من بولندا اىل تركيا مروراً‬ ‫ببلغاريا؛‬ ‫ ت�أمني تدفق الغاز عرب ال�سيل اجلنوبي ل�شركة غازبروم �إىل �أوروبا‪ ،‬متاماً كال�سيل ال�شمايل الذي‬ ‫مير يف �أوكرانيا‪.‬‬ ‫ت�سعى رو�سيا الآن �إىل ا�ستعادة دور ونفوذ االحتاد ال�سوفياتي ال�سابق مع جتنب الو�صول �إىل �سباق‬ ‫ت�سلح مع الواليات املتحدة بغية احلفاظ على النمو امل�ضطرد القت�صادها‪ .‬غري �أن الواليات املتحدة‪،‬‬ ‫وبتمويل �صهيوين‪ ،‬ا�ستخدمت قوتني حمليتني لزعزعة الو�ضع الرو�سي‪« :‬اال�صولية اال�سالمية‬ ‫املت�شددة»‪ ،‬و«احلركات النازية املت�شددة» يف �أوروبا ال�شرقية ويف اجلمهوريات ال�سوفياتية ال�سابقة‪.‬‬ ‫‪22‬‬


‫مئوية احلرب العاملية الأوىل‬

‫�أما اال�سرتاتيجيات االقليمية ورغم �أهميتها ال ت�ستطيع العزف منفردة خارج دائرة اال�شتباك‬ ‫الدويل‪ .‬قد ت�ستفيد كل منها من التقاطعات املرحلية بني ما هو �إقليمي وما هو دويل‪� ،‬إال �أن‬ ‫ت�صب �أ�سا�ساً يف خانة االقطاب الدولية‪.‬‬ ‫حركتها مهما تو�سعت ّ‬ ‫من املهم جداً حتليل مقومات العمل االقليمي وخا�صة «الإ�سرائيلي» والرتكي وااليراين والعربي‬ ‫فيما يتعلق مب�صر وال�سعودية وت�أثرياتهم على �سوريا الطبيعية‪ ،‬كما �أنه من املهم قراءة اال�سرتاتيجيات‬ ‫ال�صينية وتطلعات الدول الكربى االخرى‪ .‬غري �أنها واقعياً وعملياً لي�ست خارج �أداء كل من‬ ‫الواليات املتحدة ورو�سيا يف الوقت الراهن‪.‬‬ ‫�إن االطاللة ال�سريعة على امل�شاريع اجليو‪-‬بوليتيكية التي ت�ستهدف منطقتنا ودينامياتها‪ ،‬ال تعفينا‬ ‫من الدرا�سات املت�أنية لكل منها‪ .‬لكن االولوية تبقى يف و�ضع احلجر اال�سا�س للخروج من م�أزقنا‬ ‫وتبني ر�ؤية وا�ضحة للنهو�ض على قاعدة اال�سئلة التالية‪:‬‬ ‫من نحن؟ �أين نحن؟ �إىل �أين؟ ما هي �سبل الو�صول؟‬

‫املراجع ‪:‬‬

‫�أحمد داوود �أوغلو‪ ،‬العمق اال�سرتاتيجي‪ ،‬الدار العربية للعلوم‪ ،‬الطبعة الثانية‪2010 ،‬؛‬ ‫وليد زيتوين‪ ،‬مقاربات جيوبوليتيكية‪ ،‬دار فكر لالبحاث والن�شر‪2012 ،‬؛‬ ‫بيار �سيلريييه‪ ،‬اجليوبوليتيكا واجليو�سرتاتيجيا‪ ،‬تعريب عاطف علبي‪ ،‬مركز الدرا�سات اال�سرتاتيجية والبحوث‬ ‫والتوثيق‪1993 ،‬؛‬ ‫رميون �آرون‪ ،‬اجلدل الكبري حول اال�سرتاتيجية الذرية‪ ،‬دار طال�س؛‬ ‫�أنطون �سعاده‪ ،‬املحا�ضرات الع�شر‪ ،‬جلنة الن�شر‪.1952 ،‬‬

‫‪23‬‬


‫ي�صدر قريبا ً‬

‫م�ؤ�س�سة �سعاده للثقافة‬

‫بناية ر�سامني‪� ،‬شارع احلمرا‪ ،‬ر�أ�س بريوت‪ ،‬لبنان‬ ‫�صندوق بريد‪ 113-5557 :‬بريوت ‪ -‬لبنان‬ ‫هاتف‪)00961-1( 753363 :‬‬ ‫فاك�س‪)00961-1( 753364 :‬‬ ‫الربيد الإلكرتوين‪saadehcf@idm.net.lb :‬‬ ‫املوقع الإلكرتوين‪www.saadehcf.org :‬‬


‫مئوية احلرب العاملية الأوىل‬

‫‪ 1914‬قابلة احلرب التي مل تلد‬

‫عامليا ً �‬ ‫إن�سانيا ً‬ ‫نظاما ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫�أحمد من�صور‪� - 1‬شاعر وباحث‬

‫ُ‬ ‫منذ �أ�سطورة «قايني وهابيل» والعامل ال يعرف �إ ّال ال�صراع �أو العنف الذي بد�أ بني الأخوين‪،‬‬ ‫والدول القوم ّية و�سواها ف�إىل التحالفات‬ ‫والدول ّ‬ ‫وتو�سع يف جتمعات كالأ�سر والقبائل واملدن ّ‬ ‫ومنا ّ‬ ‫واملع�سكرات امل�ؤدجلة‪.‬‬ ‫يتج�سد مببد�أ املنفعة وامل�صلحة الذي‬ ‫كل ذلك كان فيه املحور هو الإقت�صاد الالعب الأكرب الذي ّ‬ ‫ي�ستلزم النفوذ والهيمنة وال�سيطرة والإ�ستعمار والإمربيالية‪.‬‬ ‫القومية زنربك القرن‪:‬‬ ‫ّ‬

‫عدة �أمرباطور ّيات‪ :‬الربيطانية ‪ -‬الفرن�سية‬ ‫كان على ال�صعيد الأورا�سي والإفريقي يف ذلك الع�صر ّ‬ ‫ الأملانية ‪ -‬النم�ساوية ‪ -‬املجر ّية ‪ -‬الإيطالية ‪ -‬الرو�سية والعثمانية‪ ،‬والتناف�س فيما بينهما كان على‬‫أ�شده �س ّيما بعد الثورة ال�صناعية التي زلزلت طبيعة الأ�سواق كما ط ّورت تقن ّية الأ�سلحة وق ّوت‬ ‫� ّ‬ ‫قدرتها النار ّية وكذلك غيرّ ت منهج ّية القتال‪ .‬ومبا �أن يف قانون ال�صراع �أو احلرب ي�سيطر مبد�أ البقاء‬ ‫لي�س ال�سالح فح�سب بل ا ُجل ْن ُد والق ّيمون عليهم من‬ ‫للأقوى ف�إنّ الإنت�صارات الع�سكرية يفر�ضها َ‬ ‫قادة عباقرة‪.‬‬ ‫واحلرب غالباً ما تكون بني قادة ع�سكريني و�سيا�سيني يعرفون بع�ضهم البع�ض‪� .‬أ ّما اجلنود فهم‬ ‫يتح ّركون ‪-‬معظم الأحيان‪ -‬كالبيادق بل كالقطعان الب�شر ّية وال يدرون من الأمر �إ ّال القليل الذي‬ ‫ال يكون عاد ًة �سوى اخلطاب ال�سيا�سي الذي قد ال يفهمه معظمهم‪ ...‬وواحدهم ما ر�أى �سابقاً‬ ‫الذي عليه قتله يف املواجهة‪.‬‬ ‫والدولة والقوم ّية منها ب�شكل خا�ص يقودها �صنفان متوائمان غالباً هم ال�سا�سة ورجال الأعمال‪...‬‬ ‫واملقودون دائماً الع�سكر ح�سب �سلمهم الرتاتب ّية‪.‬‬ ‫ ‬

‫‪1‬‬

‫مدير مكتبة الأمري �شكيب �أر�سالن الدول ّية يف مدينة ال�شويفات‪.‬‬ ‫‪25‬‬


‫أر�ضية احلرب جاهزة وا�شتعالها رهن �رشارة‪:‬‬ ‫�‬ ‫ّ‬

‫ال�صغري يف الوقت املنا�سب وهذا ما يدفع‬ ‫ّ‬ ‫الدول كال�شركات تر�صد بع�ضها البع�ض ليلتهم كبريها ّ‬ ‫الدول �إىل التحالف مع دول �أخرى لتحمي نف�سها من جهة وتقت�سم الغنائم مع الأقوى من جهة‬ ‫ثانية‪.‬‬ ‫َ‬ ‫حرب �سابقة ينتظر احلاكمون ح ّلها يف الوقت املنا�سب كمقاطعتي الألزا�س‬ ‫ناهيك عن ب�ؤر ٍ‬ ‫واللورين اللتني �ضمتهما �أملانيا من فرن�سا عام ‪ 1870‬بعد معركة �سدان ال�شهرية‪ ،‬فلهذا هناك اتفاق‬ ‫دفاعي بني فرن�سا وبني رو�سيا وبني اليابان و�أنكلرتا منذ ‪ 1902‬فاملطلوب �إذن توزيع القوة الرو�سية‬ ‫تو�سعها وتريده �أكرث ف�أكرث فيثري‬ ‫بني ال�شرق الأق�صى والغرب الأوروبي كتحرير �ضفاف �أملانيا يف ع ّز ّ‬ ‫�أزمة طنجة عام ‪ 1905‬و�أغادير عام ‪.1911‬‬ ‫�أ�ضف �إىل ذلك حت�ضري خطط حرب ّية للم�ستقبل من جانب القيادات الع�سكرية العليا ملهاجمة‬ ‫جماوريها �أو مناف�سيها‪.‬‬ ‫الثورة ال�صناعية تدفع العلم والتكنولوجيا يف �أوروبا �إىل الأمام‪ .‬و�أملانيا يف جمال العلوم تفوز بح�صة‬ ‫الأ�سد من جوائز نوبل تتجاوز جارتها اللدودة فرن�سا مب�سافة بعيدة �ساطعة‪ ،‬والتف ّوق الأملاين بدا‬ ‫الدول الأوروب ّية‬ ‫بارزاً للعيان فاجلميع ير�صدون ال ّنمر الإقت�صادي الأملاين الذي �ضاقت عليه �أملانيا ّ‬ ‫ي�سن نواجذه الفرتا�س الأ�ضعف منه حاملا ت�سمح‬ ‫ب�إمتياز ترت ّب�ص بع�ضها البع�ض‪ ،‬والأقوى ّ‬ ‫الظروف بذلك‪ .‬كذلك هناك مو�ضوع اخلالف بني الأمرباطورية النم�ساوية والأمرباطور ّية الرو�س ّية‬ ‫ال�سالف العرق ّية والدينية (الأرثوذك�سية‬ ‫بخ�صو�ص البلقان املت�صلة بامل�س�ألة ال�شرقية‪ ،‬فرو�سيا حامية ّ‬ ‫ديانتهما امل�شرتكة) تبحث عن ّمد نفوذها هناك نحو املتو�سط‪.‬‬ ‫تك�سر القوميات املدعومة من‬ ‫ال�سالف تريد �أن ّ‬ ‫الأمرباطورية النم�ساوية حتوي �أقل ّيات قوية من ّ‬ ‫اخلارج من قبل �صربيا منذ و�صول امللك بطر�س الأول ‪.1903‬‬ ‫الأزمة التي �أحدثتها ثورة تركيا الفتاة يف الأمرباطورية العثمانية عام ‪ 1908‬كانت الفر�صة‬ ‫للأمرباطورية النم�ساوية املجرية ل�ضم البو�سنة والهر�سك بالق ّوة وبالن�سبة لبلغاريا فر�صة لإعالن‬ ‫لإ�ستقاللها‪.‬‬ ‫ب�شكل بارز �صربيـا (معاهـدة‬ ‫حروب البلقان ‪ 1913 - 1912‬ج ّز�أت تركيا الأوروبية وكبرّ ت‬ ‫ٍ‬ ‫بوخار�ست عـام ‪.)1913‬‬ ‫ال�سالفية يف �صربيا وذلك بالتن�سيق مع �أملانيا �إثر دخول القوات‬ ‫النم�سا �أرادت احل�سم مع معقل ّ‬ ‫هددت فرن�سا �أملانيا باللجوء �إىل الق ّوة ولكن يف نهاية الأمر ا�ضط ّرت فرن�سا �إىل التنازل عن‬ ‫الأملانية‪ّ ،‬‬ ‫جزء من م�ستعمرة الكونغو لأملانيا مقابل �إطالق �أيديها يف املغرب الأق�صى طنجة و�أغادير وهذا‬ ‫‪26‬‬


‫مئوية احلرب العاملية الأوىل‬

‫ما كان‪ .‬وهذا ما يندرج يف مبد�أ «�إعطني �أعطك»‪ ...‬و «دعني �أدعك ح�سب املُتفق عليه» �أي‬ ‫الرتا�ضي الذي عليه ميزان توازن القوى‪.‬‬ ‫ال�شّ ـرارة‪:‬‬

‫مل يكن ينتظر �إ�شغال هذا الغاب الوا�سع من املتناق�ضات �سوى �شرارة‪ ،‬فكان اغتيال ويل عهد‬ ‫�صربي‬ ‫�أمرباطور النم�سا‪-‬املجر فرن�سوا فرديناند يف �سراييفو عا�صمة البو�سنة والهر�سك من قبل ّ‬ ‫ومتخ�ضت عنه نتائج خطرية جديدة بالن�سبة للعامل القادم‬ ‫قومي متط ّرف فا�شتعل العامل القدمي ّ‬ ‫والعامل الذي يقدم بعده‪.‬‬ ‫فربيطانيا �سارعت الحتالل قرب�ص وح�شدت ٍ‬ ‫قوات حلماية قناة ال�سوي�س‪ ،‬و�أنزلت ق ّوات يف جنوب‬ ‫العراق‪ ،‬و�أقنع ثعلبها ال�شهري لورن�س �شريف ّ‬ ‫بالدهاء والرياء �إىل امل�شاركة فيها يف الوقت‬ ‫مكة ّ‬ ‫الذي كان م�شروع �سايك�س‪-‬بيكو ير�سم معامل تق�سيم املدى العربي �سيما ال�شرقي منه ب َني فرن�سا‬ ‫و�أنكلرتا ورو�سيا عام ‪ ،1916‬وهنا تنت�صب �أمامنا عالمة ا�ستفهام عالية كاملئذنة؛ ملاذا �إذاً دائماً‬ ‫احلرب؟‬ ‫يعطينا اجلواب بكل ب�ساطة كالووزفيتز ّ‬ ‫املنظر الع�سكري الأملاين ال�شهري‪« :‬لأ ّنها امتدا ٌد لل�سيا�سة‬ ‫بو�سائل �أخرى يق�صد من ُه اخل�ضوع لإرادتنا»‪� ،‬أو ُت ْف َهم ب�شكل عام ب�أنها ظاهرة ا�ستخدام العنف‬ ‫والأكراه كو�سيل ٍة حلماية م�صالح �أو لتو�سيع نفوذ �أو حل�سم خالف حول م�صالح �أو مطالب متعار�ضة‬ ‫بني جماعتني من الب�شر‪.‬‬ ‫احلرب التي �أرادوها نزهة حتولت �إىل جمازر جيل‪:‬‬

‫لتو�سعها االقت�صادي‬ ‫كل �أمرباطورية �أو دولة ت� ّصورت احلرب العظمى التي غدت عاملية ‪ -‬ميداناً ّ‬ ‫ذاهب من عر�س ِه الذي‬ ‫واحلدودي والع�سكري فكان اجلندي ب�إجتاهه �إىل اجلبهة تو ّدع ُه حبيبت ُه ك�أ ّن ُه ٌ‬ ‫مل يتم بعد �إىل عر�س ِه الوطني �أو القومي الآخر الذي يف دور الإمتام‪.‬‬ ‫ال�سذج منهم ف�أعطوهم الإنطباع العابق‬ ‫فالقاد ُة وال�صحافيون وال�سيا�سيون مغنطوا النا�س �سيما ّ‬ ‫العك�س متاماً‪َ ،‬‬ ‫وهناك دول يف ٍ‬ ‫حلف‬ ‫ثبت بطالنه بل‬ ‫بالن�صر ال�سريع والغنائم ال�سريعة‪ ،‬وهذا ما َ‬ ‫ُ‬ ‫حد ال�سنة قبل دخولها احلرب لأنَّ ِّ‬ ‫تريد «املغامرة‬ ‫لكل دول ٍة ح�ساباتها اخلا�صة ُ‬ ‫تريثت طوي ًال �إىل ّ‬ ‫امل�ضمونة» النتائج لأنَّ احلرب ت�ستلزم املال والرجال واخلراب فالتدمري �أ�سهل بكثري من التعمري‬ ‫والإبن الذي تربيه والدته كي يغدو رج ًال ي�ستوجب عقدين من الزمن بينما ر�صا�ص ٌة واحدة‬ ‫تختطف روح ُه يف ثانية‪.‬‬ ‫‪27‬‬


‫يف هذه احلرب املتم ّيزة‪ ،‬فرن�سا حتديداً‪ ،‬كان عدد الأ�ساتذة والطلبة والأطباء واملهند�سني والفنانيني‬ ‫والك ّتاب الذين �شاركوا فيها قد ا�ست�شهدوا باملئات بلْ بالآالف‪.‬‬ ‫واملهم فقط هو ك�سب‬ ‫يف ٍ‬ ‫حرب كهذه ِ ت�سو ُد املكيافلية بامتياز‪ ،‬فالو�سيل ُة ترب ّرها الغاية �إذ ّ‬ ‫املهم ُّ‬ ‫احلرب كيفما اتفق فلذلك لأول مرة ٍ‬ ‫انق�صف املدنيون من ال�سماء كما ا�ستخدمت الأ�سلحة‬ ‫َ‬ ‫ِعت فيما بعد بقوانني دول ّية‪ ،‬كذلك َ‬ ‫حتت‬ ‫�سقط احلياد املعرتف ب ِه دول ّياً َ‬ ‫الكيماوية و�سواها التي ُمن ْ‬ ‫اجلزمات‪ ،‬ف�أملانيا �ضربت حياد بلجيكا بعر�ض احلائط لت�سريع اجتياحها لفرن�سا‪ ،‬وظهرت حرب‬ ‫�سنني ونيف‪ ،‬ففي منطقة‬ ‫ي�صبح فيها التقدم م�س�أل ًة �صعبة‪ ،‬فا�ستمرت املعارك �أربع ٍ‬ ‫اخلنادق التي ُ‬ ‫فردان ت�ساقط مئات الآالف من الأملان والفرن�سيني (الأملان تكبدوا ‪ 240.000‬قتيل وجريح‪،‬‬ ‫والفرن�سيون ‪ )275.000‬وبنيت َم�ستودعات هرمية هائلة الحتواء عظم مئات الآالف من ال�ضحايا‪.‬‬ ‫كان هناك نوع من التوازن العددي من حيث الدول‪ ،‬فهناك الوفاق الثالثي واحللف الثالثي‬ ‫الأول ي�شمل‪ :‬رو�سيا وفرن�سا وبريطانيا والثاين‪ :‬النم�سا‪-‬املجر و�أملانيا و�إيطاليا‪.‬‬ ‫لقد �أ ّدت هذه التحركات �إىل متديد �سنوات اخلدمة الع�سكرية وزيادة عدد القوات امل�سلحة يف ٍّ‬ ‫كل‬ ‫من �أملانيا وفرن�سا ورو�سيا‪ ...‬علماً �أنَّ هذا النهج قد بد�أ مع الثورة الفرن�سية عام ‪.1789‬‬ ‫الواليات املتحدة كانت معزول ًة عز ًال ذاتياً �إراد ّياً وراء البحار ال تريد احلروب‪ .‬الدولة العثمانية‬ ‫عد ّو رو�سيا الأول ت�أخرت كثرياً فدخلت احلرب يف ‪ 1914/10/29‬بق�صفها املوانىء الرو�سية على‬ ‫البحر الأ�سود‪.‬‬ ‫�أعلنت اليابان احلرب على �أملانيا يف �آخر �آب ‪ ،1914‬وطردت الأملان من عدة جزر من املحيط‬ ‫ٍ‬ ‫م�ستعمرات �أملانية جماورة وذلك‬ ‫الهادىء وا�ستفادت �أو�سرتاليا ونيوزيلندا من الفر�صة فاحتلتا‬ ‫حتتاج في ِه �إىل جنودها يف جبهاتها‬ ‫لأنَّ اخلطوط اللوج�ستية غدت طويلة على �أملانيا يف الوقت الذي ُ‬ ‫القريبة واملبا�شرة‪.‬‬ ‫�إيطاليا بقيت خارج جهنم احلرب طيلة عام ‪.1914‬‬ ‫الرو�س يف بع�ض انت�صاراتهم على الأملان تك ّلفوا ‪� 325.000‬أ�سري مما من َع اجلي�ش الرو�سي من‬ ‫ا�سرتداد قوته‪.‬‬ ‫ت�صد َع‬ ‫�أثناء القتال بد�أت تتواىل الإخرتاعات فظهرت الدبابة والغوا�صة «الأملانية» التي �أرادت �أن ّ‬ ‫�سيطرة بريطانيا على البحار‪.‬‬

‫‪28‬‬


‫مئوية احلرب العاملية الأوىل‬

‫هزمية الإ�سالم يف �إ�سالم �ض ّد �إ�سالم‪:‬‬

‫معروف عن الإجنليز �أ ّنهم �شياطني الدبلوما�سية وثعالب ال�سيا�سة‪ ،‬ولوال ذلك ملا كانت اجلزيرة‬ ‫الربيطانية املحدودة �سيطرت على املحيطات وحكمت ياب�سة �أو�سع منها و�أكرث �سكاناً �أ�ضعافاً‬ ‫العربي فدخلت‬ ‫م�ضاعفة‪ .‬فمن هنا‪ ،‬ارت�أت ك�سر اجلناح الغربي للن�سر الأملاين يف املدى‬ ‫امل�شرقي ّ‬ ‫ّ‬ ‫يف مفاو�ضات �س ّرية عرب مرا�سالت ح�سني‪-‬مكماهون التي كان يكتب فيها الثاين ب�إجنليزية‬ ‫عربية بينما الأول بعرب ّية �إجنليزية خادعة غام�ضة كان بيت الق�صيد فيها‪ :‬اتركوا الأتراك وحاربوا‬ ‫معنا وخذوا م ّنا دولة عربية كربى ت�شمل خمتلف �أرجاء الوطن العربي با�ستثناء م�صر وال�شمال‬ ‫ولكن العرب بلعوا‬ ‫الإفريقي‪ .‬لقد كان االختالف ب ّييناً حول حدود الدولة العربية املوعودة‪ّ ...‬‬ ‫الطعم رغم ف�ضح الأمري �شكيب �أر�سالن ّ‬ ‫للمخطط الغربي �آنذاك وتنبيهه املتك ّرر‪� .‬أ�ضف �إىل ذلك‬ ‫يتج�سد يف وعد ٍ ب�إن�شاء كيان قومي لليهود‪.‬‬ ‫كان هناك دور بريطاين موازياً يف نف�س الوقت تقريباً ّ‬ ‫والإجنليز مل يعرتفوا مبلك ّية ال�شريف ح�سني �إ ّال على احلجاز و�شرق الأردن‪ .‬وبعد متليك امللك‬ ‫ح�صة فرن�سا هاجمت فرن�سا اجلي�ش‬ ‫في�صل على �سـور ّية ّ‬ ‫الداخلة يف �إتفاقية �سايك�س‪-‬بيكو‪ ،‬يف ّ‬ ‫ال�سوري النا�شىء يف معركة مي�سلون و�سحقته‪ ،‬وبعد ذلك �أر�ضت امللك في�صل الأول بتمليكه‬ ‫ّ‬ ‫على العراق تعوي�ضاً عن �سور ّية‪.‬‬ ‫ون�ص َب الأجنليز �إبن ُه‬ ‫ح�صلت تط ّورات‪ ،‬فقد عُينّ امللك ال�شريف ح�سني ملكاً يف اجلزيرة العرب ّية ّ‬ ‫عبداهلل �أمرياً على �شرقي الأردن الذي غدا ملكاً فيما بعد‪.‬‬ ‫نظراً لنجاح هذه ّ‬ ‫اخلطة الرهيبة‪� ،‬أعاد الفرن�س ّيون لعب نف�س الدور ب�شكل �آخر كي ال يدخل‬ ‫الأتراك يف جانب الأملان يف احلرب الكونية الثانية ف�أقطعوهم لواء ا�سكندرون مقابل ذلك‪.‬‬ ‫وهكذا �أ�صبحت تركية مبتورة عن البلقان وبالد امل�سلمني العرب وجهها جتاه �أوروبا التي ال تريدها‬ ‫وجتاه امل�سلمني الذين �أنهت خالفتهم عام ‪ 1923‬وغدا العداء متباد ًال بني ّ‬ ‫الطرفني فهي حما�صرة‬ ‫من الغرب وال�شريف‪.‬‬ ‫نتـائج احلـرب‪:‬‬

‫احلرب العاملية الأوىل كانت �أُ ّم احلرب العامل ّية الثانية وقابلتها‪ ،‬فاحلروب ال حت�سم دائماً امل�سائل‬ ‫لي�س بال�ضرورة �أقوى الغد وروح ال�شعوب احل ّية قد تخ�سر معرك ًة �أو حرباً‬ ‫املع ّلقة للأبد ف�أقوى اليوم َ‬ ‫ولكن ال ميكن �أن ت�ستمر مهزومة للأبد فهي تتم�سكن حتى ّ‬ ‫تتمكن من جديد وتعود �إليها الراية‬ ‫من جديد كما جرى لأملانيا على �سبيل املثال التي خ�سرت احلرب و�أذ ّلوها مبعاهدات و�شروط‬ ‫ولئن نقّذت على املدى القريب‪.‬‬ ‫ي�صعب على ال�سلطة تنفيذها على املدى البعيد ْ‬ ‫‪29‬‬


‫وهكذا تراها قد ف ّرخت النازية التي �أذهلت العامل �إذ فعلت يف �ست �سنوات ‪ 1938 - 1933‬ما ال‬ ‫تفعله �أمم يف عقو ٍد وقرون‪� ،‬إ ّال انها خ�سرت احلرب الكونية الثانية بعد �أن �أربكت العامل الأوروبي‬ ‫ود ّمرت فيه الأخ�ضر والياب�س والب�شر غري �أنها عادت من جديد هذه امل ّرة ولكن على ريح �سالح‬ ‫الإقت�صاد الذي هو الو�سيلة والغاية‪ ،‬ف�أ�صبحت الدولة ال�ساد�سة بني �أع�ضاء جمل�س الأمن الدويل‬ ‫والقوة الثانية بعد الواليات املتحدة يف الغرب و�أوروبا التي مل ت�ستطع توحيدها بالق ّوة املع ّراة‬ ‫وحدتها بالإقت�صاد‪ .‬ففرانكفورت غدت عا�صمة للإحتاد الأوروبي ال�سائر نحو الأمام‪ .‬وما الف�ضل‬ ‫ّ‬ ‫يف ذلك �إ ّال للعمالقني �أديناور الأملاين وديغول الفرن�سي اللذين فهما التاريخ وا�ست�شرفا امل�ستقبل‬ ‫ال�سالح وحده ال ميكن �أن يوحد �أوروبا بل الإقت�صاد وحده‪.‬‬ ‫بعد �أن �أيقنا �أنّ ّ‬ ‫من نتائج احلرب‪:‬‬ ‫�ضمتهما �أملانيا �إثر هزمية فرن�سا يف معركة �سدان‬ ‫ عادت الألزا�س واللورين �إىل فرن�سا بعد �أن ّ‬ ‫‪.1870‬‬ ‫ �سقط النظام القي�صري يف رو�سيا و�سيطرت البل�شف ّية فيها وخرجت مو�سكو من احلرب بعد �أن‬ ‫وقّعت معاهدة لتوف�سك مع �أملانيا‪.‬‬ ‫ انت�صر الدوالر الأمريكي الذي ّوظف الكثري و�أ�ص ّر على ا�سرتداده كما ا�ص َّر على تو�سيع‬ ‫يحلمن �أحد بال�سيطرة‬ ‫�أ�سواقه املزدهرة يف �أوروبا املد ّمرة‪ ،‬كذلك قالت �أمريكا كلمتها يف �أ ّن ُه ال‬ ‫َّ‬ ‫على �أوروبا �أو العامل طاملا هي موجودة يف العامل وهذا ما برهنه التاريخ‪.‬‬ ‫ ظهرت الفا�ش ّية و�سقطت فيما بعد يف احلرب العاملية الثانية‪.‬‬ ‫حد كبري‪.‬‬ ‫الدور الرائد لأوروبا بقيادة العامل �إىل ٍّ‬ ‫ تراج َع ّ‬ ‫ اختفت الأمرباطورية النم�ساوية‪-‬املجر ّية من اخلارطة والعودة �إىل دولتني من الدرجة الع�شرين‬ ‫�أو ما �شابه‪.‬‬ ‫ ك ّلفت ال�ساعة يف احلرب مبقايي�س ذلك ال ّزمان ع�شرة ماليني دوالر ومئات املليارات من‬ ‫الدوالرات واخل�سائر و�أكرث منها للعودة �إىل �إعادة البناء‪.‬‬ ‫ ك ّلفت احلرب ع�شرة ماليني قتيل وواحداً وع�شرين مليون جريح وثالثة ماليني �أ�صحاب‬ ‫عاهات دائمة عدا املاليني التي فتكت بها الأمرا�ض واجلراد واملجاعات‪.‬‬ ‫و�ض ّمت �إىل بولندا والدمنارك (م�ستحيل جرد ّ‬ ‫ �إق ُتطعت ‪ 25.000‬ميل مربع من �أملانيا ُ‬ ‫كل �شيء‬ ‫يف هذه العجالة)‪.‬‬

‫‪30‬‬


‫مئوية احلرب العاملية الأوىل‬

‫�أمريكا �أجه�ضت انت�صار �أملانيا وعادت �إىل جزيرتها‪:‬‬

‫وافقت �أوروبا بر�ؤ�ساء وفودها امل�شاركة يف م�ؤمتر ال�صلح بالإجماع على قيام منظمة «ع�صبة الأمم»‪،‬‬ ‫و�أق ّرت �أن تكون جنيف مق ّرها‪� ،‬إلأّ �أ ّن ُه مل يكن خمططاً ُ‬ ‫منذ �إن�شائها قيا ُم �أي ِة ق ّو ٍة ع�سكري ٍة قادر ٍة على‬ ‫تنفيذ ِمق ّرراتها‪ ،‬فكانت يف الواقع �أداة م�صالح املنت�صرين وهذا ما دفع امريكا �إىل عدم امل�شاركة يف‬ ‫ع�ضويتها رغم �أنها �صاحبة الفكرة‪.‬‬ ‫تطاحن احليتان الكبار‪ :‬التاريخ يف م�صلحة اجلغرافيا واجلغرافيا يف م�صلحة‬ ‫التاريخ‪:‬‬

‫لقد كانت احلرب الكون ّية الثانية وليدة الأوىل �أخطر و�أعنف و�أكلف على العامل ا�ستخدمت‬ ‫فيها الأ�سلحة الذر ّية وغدا ي�سيطر على العامل قطبان فقط‪ :‬ال�سوفياتي والأمريكي‪� .‬إال �أنَّ احلرب‬ ‫ا�ستم ّرت �إنمّ ا عن طريق دول و�سيطة ككوريا وفيتنام واليونان وخ ّيم على العامل «احلرب الباردة»‬ ‫لأنَّ خمزون احلرب ال�ساخنة ب�إمكان ِه تدمري العامل عدة مرات‪ .‬فلذلك َّمد اخلط الأحمر بني‬ ‫مو�سكو ووا�شنطن كي ال تنفجر احلرب فج�أ ًة نتيجة خط�أ عار�ض‪.‬‬ ‫�أ ّما يف بلدان العامل الثالث ك�أفريقيا و�آ�سيا العربية فاحلروب �شبه متوا�صلة‪.‬‬ ‫�إنَّ الواليات املتحدة الأمريكية ك ّلما بدت عليها معامل ال�ضعف الإقت�صادي كونها �أكرب ٍ‬ ‫بلد مدين‬ ‫لتكبح التطور الذي لي�س يف م�صلحتها‬ ‫يف العامل‪ ،‬ك ّلما تلج�أ �إىل قوتها الع�سكرية الأوىل يف العامل َ‬ ‫وتوجه ُه كما ينا�سبها‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ب�شن حربني كبريتني يف العامل ب�أفغان�ستان والعراق‬ ‫والبدعة الأخرية للمحافظني اجلدد كانت ّ‬ ‫وذلك باخرتاع الأرهاب و�صياغة قانون احلرب على الأرهاب‪ .‬هاتان احلربان اللتان �أنهكتا �أمريكا‬ ‫رئي�س �أ�سود ع ّل ُه ينقذها‬ ‫وك ّرهت العامل بها دفعت غرفتها ال�شيطانية القياد ّية اخلفية على �إطالق ٍ‬ ‫ب�شكل من الأ�شكال من حمنتها ال�سوداء التي لن متحى يف القريب العاجل‪ ،‬مما دف َع القيادة‬ ‫ٍ‬ ‫الأمريكية (حفاظاً على حياة الإن�سان الأمريكي) من الإعتماد على الآلة التي تقتل الإن�سان‬ ‫كالطائرة دون ط ّيار لتوفري الإن�سان الذي � َ‬ ‫أخذ يتململ منها ال بلْ يثور‪.‬‬ ‫ي�شهد على ذلك فهي تعترب �أكرب‬ ‫�إنَّ �أمريكا وليدة احلروب بحاج ٍة دائماً �إىل حروب وتاريخها ُ‬ ‫م�صد ٍر لل�سالح يف العامل ولديها الأ�ساطيل يف املحيطات ومئة و�سبع وخم�سون قاعدة ع�سكرية‬ ‫تقف وراءها بعيداً بعيداً ميزاني ُة �أية‬ ‫الدول ُ‬ ‫مو ّزعة على العامل وتعتمد �أكرب ميزانية ع�سكر ّية ب َني ّ‬ ‫دولة ثانية �أخرى‪.‬‬ ‫‪31‬‬


‫الدول ال تبني �سيا�ستها على �أ�سا�س الأخالق بلْ على �أ�سا�س الأرقام وما ير ّدد يف الإعالم‬ ‫�إنَّ ّ‬ ‫لي�س �سوى ح ٍرب على ورق وكمائن للتعمية وال�صطياد الب�شر‪.‬‬ ‫والد�ساتري واملواثيق َ‬ ‫بعد هدرها للآالف‬ ‫�إنَّ احلروب �أحياناً ت�ستخدم لتخفيف ال�ضغط ال�سكاين فتلتقط الأنظم ُة �أنفا�سها َ‬ ‫والك ّرات ال بل للماليني‪.‬‬ ‫الب�رشية من احلروب ح�سب منطق جربان ونعيمة؟‬ ‫كيف ننقذ‬ ‫ّ‬

‫لقـد ر ّدد النا�س بعد الويالت ال ّرهيبة التي عرفـوها يف احلرب العامل ّية الأولـى «�أبداً لـن يعـود هـذا»‬ ‫لكن الواقع ّ‬ ‫دماء‬ ‫«‪ّ »Plus Jamais ça‬‬ ‫كذب هذا ال�شعار ّ‬ ‫ال�صارخ‪ ،‬فاحلرب العامل ّية الثانية كانت �أكرث ً‬ ‫أ�شد �إيالماً تت ّوجت همج ّيتها غري املحدودة با�ستخدام القنبلة الذر ّية ذات التدمري‬ ‫ودماراً وخراباً و� ّ‬ ‫غري املحدود‪ ،‬وتوا�صلت مئات احلروب املح ّلية والإقليم ّية الأوروب ّيـة (حرب ال�سوي�س ‪،)1956‬‬ ‫وتدخالت الدول‬ ‫واحلروب بالوكالـة وعبـر املحيطات (حرب مالوين بني بريطانيا والأرجنتني)‪ّ ،‬‬ ‫الكربى والعظمى يف احلروب حيث املواد الأول ّية ف�سقطت �سقوطاً مدو ّياً فكرة الإن�سان �صورة‬ ‫لل�سخرية من ِق َبل الأقوياء‬ ‫اهلل على الأر�ض والغاية الأ�سمى ل ّأي عمل يف الوجود وغدت مدعاة ّ‬ ‫على اختالف درجاتهم‪ ،‬و�أحالم طاغور وتول�ستوي و�سواهم مب�ستقبل الب�شر �أثارت الإ�ستهجان‬ ‫والإ�ستغراب‪.‬‬ ‫الدم‪ ..‬لكن هذه احلرب �ستق ّرر م�صري‬ ‫يح�س بطعم ّ‬ ‫يقول جربان «لي�س مبقدور املرء �أن يتنفّ�س دون �أن ّ‬ ‫اجلن�س الب�شري ملئة �سنة على الأقل و�أنا واثق من �أ ّنها �ستعطي العامل ر�ؤيا للحياة �أف�ضل و�أ�صفى»‪.‬‬ ‫�إنّ الق�سم الأول من الفقرة يعك�س حالة ال�شاعر جربان خليل جربان الوجدانية وهو �صحيح‪.‬‬ ‫�أ ّما توقّعاته يف الق�سم الثاين فتعود �إىل خياله ومت ّنيه ال �إىل الواقع الذي ال يدركه بال�شكل الكايف‬ ‫فالتاريخ ال ينتهي كما الظلم واال�ستغالل بخط�شة قلم‪.‬‬ ‫جربان يف تفا�ؤله (اخلادع) يف مكانٍ �آخر يقول‪:‬‬ ‫«�إنّ الذين يعملون من �أجل �سالم دائم على الأر�ض ال يختلفون عن ال�شعراء ال�شباب الذين‬ ‫ي�أملون يف ربيع دائم»‪.‬‬ ‫«�إنّ هذه احلرب مل يكن منها ُب ّـد كما الأيام والليايل ال ُب َّـد منها مل ت�شعلها �أ ّية بالد من البلدان‪،‬‬ ‫اهلل هو الذي ا�شعلها»‪.‬‬ ‫«علينا تهيئة عقل الإ�سالم يف حال ك�سب احللفاء احلرب لإدراك �أن الن�صر لي�س قهراً للإ�سالم‬ ‫و�إنمّ ا هو حترير له وتقدمي فر�صة له»‪.‬‬ ‫‪32‬‬


‫مئوية احلرب العاملية الأوىل‬

‫«هذه احلرب كان ال ُب َّـد منها» ال نخالفه يف هذا الإفرتا�ض امللمو�س بل «اهلل هو الذي �أ�شعلها»‬ ‫يبقى يف جمال املجاز املج ّنح الذي يطلقه خيال �شاعرنا اخل�صب‪.‬‬ ‫الدول عندما تكون امل�صالح م�س�ألة وجود في�ضع �إنكلرتا «�أ�شد‬ ‫يوحد‬ ‫امل�ستبدين يف منطق ُ‬ ‫ّ‬ ‫�إنَّ جربان ّ‬ ‫البلدان عدالة» يف داخل جزيرتها مع ترك ّيا �أ�شر�سهم عنفاً فيقول‪:‬‬ ‫«�إنَّ حوادث الإعدام التي نفّذتها �إنكلرتا يف ثوار �إيرلنده يف تلك الأيام قد �شجعت تركيا على‬ ‫القيام بعمل ال�شيء ذاته فقتلت الأطباء والق�ضاة واملحامني و�أ�صحاب امل�صارف والأ�ساتذة ورجال‬ ‫الدين والك ّتاب وال�شعراء والفال�سفة واحلكام والأمراء كما �شنقت الأحرار يف �سور ّيا ولبنان‪»...‬‬ ‫أ�شد البلدان عدالة ب�إعدام الثوار فلماذا ال تفعل تركيا ال�شيء‬ ‫�إذ بعدما قامت �إنكلرتا وهي � ّ‬ ‫نف�سه؟‪...‬‬ ‫�إ ّنه يدين كذلك �شعراء �إنكلرتا «الذين مل ُيعطوا ّقط جما ًال لأن يخدموا وطنهم كما يخدم �شعراء‬ ‫الأقطار الأخرى �أوطانهم»‪ .‬وهنا يغرز الإ�سفني �أكرث يف قلب بريطانيا في�صرخ بعنفوان‪« :‬على �إنكلرتا‬ ‫�أن متوت قبل �أن ّ‬ ‫تتمكن من �أن حتيا خارج املحارة»‪.‬‬ ‫�إنّ جربان يف هذه التعبريات الفائرات من القلب يبدو ال�شاعر احلقيقي املدافع يف املطلق عن‬ ‫والدجل‪� ..‬إ ّنه حمكمة الهاي ّ‬ ‫مبكرة جمهولة يف �أمريكا‬ ‫الإن�سان احلقيقي خارج امل�صالح واملراءاة ّ‬ ‫برجل واحد �أمام جربوت ّ‬ ‫الظلم‪.‬‬ ‫يعر�ض جربان لوحة دراماتيكية �أخرى من الو�ضع العربي فيقول «كان ال�سوريون يف فل�سطني‬ ‫فانق�ض اليهود والأثرياء من �إنكلرتا وفرن�سا و�شرعوا ي�شرتون �أرا�ضي القوم‬ ‫يت� ّضورون جوعاً َّ‬ ‫أرا�ض ثمنها �أربعون الفاً مبقدار خم�سمئة»‪.‬‬ ‫املت� ّضورين جوعاً‪ ،‬كانوا يح�صلون على � ٍ‬ ‫ال�ساطع‪:‬‬ ‫ويقول يف مكان �آخر كال�ضوء ّ‬ ‫«�أنا �أعتقد �أنّ اليهودية �ستزول عن وجه الب�سيطة كلها ف�سيدرك اليهود ا ّنه �إذا �شا�ؤوا �أن يقبل بهم‬ ‫الآخرون ف�إنّ عليهم ان يت�ش ّتتوا ويتف ّرقوا بني ال�شعوب الأخرى ويبطلوا �شعباً له خ�صائ�ص فارقة»‪.‬‬ ‫ر�أي جربان بالثورة العربية ولبنان‪:‬‬

‫يقول بانت�شاء «�إنّ الثورة العرب ّية هي حقاً �أمر مده�ش ال يعرف �أحد خارج البالد العربية �إىل �أي‬ ‫حد قد جنحت و�أي ٍ‬ ‫وعملت‬ ‫حلمت به‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫�شوط �ست�صل‪ ،‬لكن ح�صول احلركة هو �أمر عظيم ج ّبار‪� ،‬أم ٌر ُ‬ ‫لأجله خالل ال�سنوات الع�شر الأخرية‪� .‬إذا ح�صل العرب على عونٍ من احللفاء ف�إ ّنهم لن يخلقوا‬ ‫�سيقدمون �شيئاً للعامل‪� .‬أنا �أعرف احلقيقة التي جتثم يف النف�س العربية‪� .‬إنّ‬ ‫مملك ًة فح�سب بل �إ ّنهم ّ‬ ‫‪33‬‬


‫العرب لي�س مبقدورهم �أن ّ‬ ‫ينظموا بدون عون �أوروبا‪� ،‬إنّ للعرب ر�ؤيا للحياة ال ميتلكها �أي �شعب‬ ‫�آخر»‪.‬‬ ‫يف هذه الر�ؤيا الرائعة ينت�صب �أمامه العرب بطاقاتهم اخل ّالقة عرب املا�ضي واحلا�ضر وامل�ستقبل‪ ،‬فك�أ ّنه‬ ‫هو روحهم املتحركة الوثّابة التي ال حتكم �إ ّال بالتح ّرر والإنطالق الذي �سيده�ش العامل‪.‬‬ ‫�أ ّما عن لبنان الذي ي�صفه مبكان �آخر باجلبل الأ�سود يف «يوغو�سالفيا» «املونتنغرو» فهو لن يقهر‪.‬‬ ‫«�إنني �سوري �أو بالأحرى لبناين ولبنان خ ّالق‪ ،‬مده�ش‪ ،‬وال �أ�شعر ب�أنّ الدول الكربى �ست�ص ّر‬ ‫�سي�ضحى به يف �سبيل رفاهية الدول الكربى‪ .‬هذا هو القلق الذي‬ ‫على نواله احل ّرية»‪� ...‬أ�شعر �أنه‬ ‫ّ‬ ‫ال�صدد وما تزال تن�سحب‬ ‫يعطيني �صراعاً روح ّياً طيلة الوقت‪ .‬لقد كان نب ّياً جربان بالفعل يف هذا َّ‬ ‫نبوءته حتى يومنا هذا و�إىل �أجل غري معروف ولكالم ٍ كهذا كاف�أه الأتراك ب�إطالق النار عليه يف‬ ‫باري�س‪.‬‬ ‫الغربية وكيف يرى اخلال�ص؟‬ ‫املدنية‬ ‫كيف يرى نعيمة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫ال �أزال �أعتقد �أن املدن ّية الغربية قد �أو�شكت على نهايتها‪ ،‬يف الوقت احلا�ضر‪� .‬أخذت عنا�صر‬ ‫يتم كوالدة طفل يف �ساعات �أو �أ ّيام فهذا قد ي�ستغرق‬ ‫تتجمع خللق مدنية جديدة‪ ،‬وخلق املدن ّية ال ّ‬ ‫مائة �سنة �أو �أكرث‪.‬‬ ‫عالمات هذه احل�ضارة اجلديدة هي القلق الهائل يف العامل كله‪ ،‬وهذا االن�سياق يف ركاب الت�س ّلح‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫حرب طاغية‪ ...‬يكفي �أن تبلغ املدن ّية يوماً تخ�شى فيه من الأنهيار لتعرف �أنها بلغت‬ ‫والذعر من ٍ‬ ‫نهاية �شيخوختها و�أ ّنها حتيا بعقلها وقلبها يكاد يكون ال وجود له‪ .‬مدن ّية ت�صنع ال�صواريخ وال تعرف‬ ‫نتيجتها‪ ،‬مدنية تخلق وتخاف وتخ�شى �صنع يديها وهذا يعني �أن زمام �أمرها �أفلت من يدها‪ .‬لقد‬ ‫ال�صناعية وقلبها ينتج‬ ‫ّ‬ ‫ت�ضخم عقلها كثرياً على ح�ساب قلبها‪ ،‬عقلها ينتج ال�صواريخ والأقمار ّ‬ ‫البغ�ض والكراهية والقلق ّ‬ ‫والذعر‪....‬‬ ‫(يكون) اخلال�ص �أن نوجد توازناً بني العقل والقلب‪ ،‬ندرب القلب على ال�صالح وال�صفاء واملح ّبة‪،‬‬ ‫مثلما ند ّرب العقل على ارتياد الف�ضاء الأو�سع و�أن نتخ ّل�ص من مفاهيم كثرية بالية مثل مفاهيم‬ ‫احلدود اجلغرافية واحلواجز واللون والدين واللغة وما �أ�شبه‪.‬‬ ‫�إن مل ن�صل �إىل عامل واحد فم�صرينا الهالك‪...‬‬ ‫الب�شري حما ّ‬ ‫كل احلدود مع وجود الراديو والتلفزيون وال�سينما والطائرة وال�صاروخ والأقمار‬ ‫الفكر‬ ‫ّ‬ ‫وهمية‪ ،‬فنحن اليوم نتناول �أفكاراً من كل �أقطار الأر�ض مثلما‬ ‫ا�شياء ّ‬ ‫ال�صناعية �أ�صبحت احلدود ً‬ ‫‪34‬‬


‫مئوية احلرب العاملية الأوىل‬

‫نتناول غذاءنا وك�ساءنا‪ .‬فماذا يبقى لك من حدود و�أنت جتتازها يف ّ‬ ‫كل دقيقة من وجودك؟ �إ ّنها‬ ‫�أوهام ال �أكرث ودفاعنا عنها �إنمّ ا هو دفاع عن وهم‪ ،‬وهذا الوهم هو الذي يجعل النا�س يت�س ّلحون‬ ‫وينفقون ّ‬ ‫جل تعبهم ودخلهم القتناء �سالح قد ي�ضط ّرون غداً �إىل حرقه �أو طرحه يف البحر‪� ...‬إنّ مل‬ ‫يكن هذا جنوناً فما هو اجلنون �أذن؟‬ ‫‪ 2014‬هل تكون قابلة لنظام عاملي �إن�سا ّ‬ ‫ين جديد بعك�س �سابقاتها؟‪:‬‬

‫يف التحليل ال�سيا�سي ال يدخل عامل �إرادة الباحث بل الواقع املو�ضوعي كما هو منعز ًال عنه‪ .‬ف�إذا‬ ‫الدول وامل�صالح هي امل�صالح‪.‬‬ ‫نظرنا �إىل البانوراما العامل ّية‪ ،‬نرى ب�أنّ الإن�سان هو الإن�سان والدول هي ّ‬ ‫هناك م�شاريع حروب حتت ال ّرماد مجُ ّمدة كبرية بني الكبار ّ‬ ‫بالذات‪:‬‬ ‫ينجل‬ ‫ م�شروع حرب بني رو�سيا واليابان ب�سبب اجلزر اليابانية التي احتلها اجلي�ش الأحمر ومل ِ‬ ‫عنها ح ّتى الآن‪.‬‬ ‫وال�صني ب�سبب التنازع على جزر يف املحيط الهادئ‪.‬‬ ‫ م�شروع حرب بني اليابان ّ‬ ‫ م�شروع حرب بني الهند وال�صني ب�سبب الأرا�ضي املتنازع عليها على احلدود والتي انفجرت‬ ‫�سابقاً و ُب ِّر َد ْت‪.‬‬ ‫ م�شروع حرب بني الهند وباك�ستان ب�سبب ك�شمري‪.‬‬ ‫ م�شروع حرب بني رو�سيا وال�صني ب�سبب التنازع على مناطق حدود ّية كبرية الذي التهب يف‬ ‫وهد�أوه‪.‬‬ ‫املا�ضي القريب َّ‬ ‫هذا غي�ض من في�ض‪� .‬أ ّما على م�ستوى الدول الأخرى فهناك حروب �سائرة م�ستم ّرة وهناك حروب‬ ‫ال�سالح ويزداد عدد العاطلني عن‬ ‫قابلة للتحريك يح ّركها ّجتار الأ�سلحة الكبار عندما يتد ّنى �إنتاج ّ‬ ‫العمل‪.‬‬ ‫وجمل�س الأمن الذي يتوقف على �سيا�سته م�صائر ال�شعوب‪ ،‬ال يب�شّ ر باخلري طاملا �أع�ضا�ؤه مل‬ ‫يجمعهم الإن�سان الإن�سان ال دافع امل�صلحة الذي يفر�ض النفاق بجميع �أ�شكاله و�ألوانه‪.‬‬ ‫هناك حت ّركات على م�ستوى قطاعات من ال�شعوب لغ�سل الأدمغة وتعرية النفو�س وتطهري الأيدي‬ ‫ولك ّنها كقطرات ماء متف ّرقة ال ميكن �أن تروي الربع اخلايل لتجعل من ُه ج ّنة اهلل على الأر�ض‪.‬‬

‫‪35‬‬


‫�صدر حديثا ً‬

‫دار كتب للن�شر �ش‪.‬م‪.‬ل‪.‬‬

‫بناية الربج‪ ،‬الطابق الرابع‪� ،‬ساحة ال�شهداء الو�سط التجاري‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‬ ‫�صندوق بريد‪ ،11-4353 :‬بريوت ‪ -‬لبنان‪.‬‬ ‫هاتف‪)961-1( 983008 /9 :‬‬ ‫فاك�س‪)961-1( 980630 :‬‬ ‫الربيد الإلكرتوين‪kutub@kutubltd.com :‬‬ ‫املوقع الإلكرتوين‪www.kutubltd.com :‬‬


‫مئوية احلرب العاملية الأوىل‬

‫ال�سلطان عبد احلميد الثاين واجلامعة اال�سالمية‬ ‫بني �شيوخ ال�صوفية ومثقفي التنوير‬ ‫�سعيد �أحمد عبد الرحمن ‪� -‬أ�ستاذ يف اجلامعة اللبنانية‬

‫مقدمة‪:‬‬

‫مرت اخلالفة العثمانية منذ ن�ش�أتها �سنة ‪699‬هـ ‪1299/‬م‪ .‬على يد م�ؤ�س�سها عثمان الأول بعدة‬ ‫�أطوار متعاقبة بني قوة و�ضعف وتو�سع وانح�سار‪ ،‬اال �أن االنحدار وال�ضعف الذي عرفته تلك‬ ‫الدولة قد ا�ستمر لفرتة طويلة (قرابة الثالثة قرون) تعاقب على حكمها خالل هذه احلقبة ثمانية‬ ‫وع�شرون خليفة‪ ،‬حاولوا �أن ي�ستعيدوا قوة الدولة وهيبتها ال�سابقة‪ ،‬وكان ال�سلطان عبد احلميد‬ ‫�أقوى ه�ؤالء اخللفاء الذي حاول �أن يعيد القوة �إىل الدولة يف ظروف عرف فيها العامل اال�سالمي‬ ‫منذ �أواخر القرن الثامن ع�شر‪ ،‬العديد من احلركات الدينية التي ا�ستطاعت �أن ت�ؤثر يف احلياة‬ ‫الدينية والفكرية يف امل�شرق العربي‪ ،‬ومنها «اجلامعة اال�سالمية»‪ ،‬التي ظهرت عند جمال الدين‬ ‫(‪)1‬‬ ‫االفغاين يف البداية‪ ،‬وتبناها ال�سلطان عبد احلميد الثاين‪..‬‬ ‫لقد عرف ال�سلطان عبد احلميد الثاين‪« ،‬بحنكته ال�سيا�سية»‪ ،‬لقد كان‪« :‬رج ًال �أملعياً �أديباً ح�سا�ساً‬ ‫ذا فكر ثاقب يدرك كل ما يدور من حوله بفطنة و�سرعة بديهة‪ .‬وكان جمدا وجمتهدا يتمتع بطاقة‬ ‫وحيوية عظيمتني ويهتم بكل �شيء ويتابع كل �صغرية وكبرية يف ق�ضايا االمة»(‪.)2‬‬ ‫لقد متيزت فرتة حكم ال�سلطان عبد احلميد الثاين‪ ،‬يف حماولة لإعادة بناء ما تهدم من ركائز‬ ‫ال�سلطنة العثمانية‪ ،‬حيث �أدرك ال�سلطان العثماين �أن ا�ستمرارية الدولة التكون �إال يف ك�سب ود‬ ‫امل�سلمني والعرب يف مواجهة التدخالت االوروبية يف ال�سلطنة وحماوالت تفتيتها‪ ،‬فعمد عندها‬ ‫عبد احلميد الثاين �إىل رفع �شعار اجلامعة اال�سالمية‪ ،‬بهدف حتقيق مكا�سب �سيا�سية وتوحيد‬ ‫العامل اال�سالمي من حوله‪ ،‬لقد كانت فكرة اجلامعة اال�سالمية �إحدى االدوات التي اعتمدها‬ ‫عبد احلميد يف تقوية �سلطته وهو بذلك ا�ستطاع من ان يحافظ على والء العنا�صر اال�سالمية من‬ ‫حوله(‪.)2‬‬ ‫وقد متكن ال�سلطان عبد احلميد الثاين من اال�ستفادة من �شعار اجلامعة اال�سالمية يف امليدان‬ ‫ال�سيا�سي‪ ،‬ويف نف�س الوقت اندفع نحو الطرق ال�صوفية اال�سالمية بهدف ك�سب ت�أييدها‪ ،‬كونها‬ ‫‪37‬‬


‫كانت متلك �شعبية وا�سعة يف العامل اال�سالمي من ترك�ستان حتى �شمال افريقيا‬ ‫لقد كان اهتمام عبد احلميد بالعرب يعود �إىل اخلوف من الدعوة العربية �إىل االنف�صال‪ ،‬الذي‬ ‫ظهرت بوادره مع اجلمعيات ال�سرية ومنها «جمعية بريوت ال�سرية»‪ ،‬وموقف اوروبا ال�ساعي �إىل‬ ‫تفتيت ال�سلطنة‪ ،‬وحماوالت خديوي م�صر عبا�س حلمي الثاين الداعية �إىل خالفة م�صرية‪ ،‬وظهور‬ ‫الوهابية وتو�سعها يف �شبه اجلزيرة العربية ‪ ،‬و�أفكار وكتابات عبد الرحمن الكواكبي الداعية �إىل‬ ‫تعريب اخلالفة اال�سالمية عرب كتابه «�أم القرى»‪ ،‬وجنيب عازوري وافكاره التي ظهرت من خالل‬ ‫كتاب «يقظة االمة العربية» الداعي �أي�ضا �إىل خالفة عربية يف احلجاز ودولة غري دينية يف ال�شام‬ ‫والعراق‪ ،‬وهو ما �أثار خيفة ال�سلطان‪ ،‬ويذكر امل�ؤرخ عبد الر�ؤوف �سنو �أن ال�سبب الثاين الذي‬ ‫دفع بال�سلطان عبد احلميد �إىل التقرب من العرب‪ ،‬هو �سبب اقت�صادي‪ ،‬حيث اهتم ال�سلطان‬ ‫برفع م�ستوى ازدهار االقت�صاد يف واليات �سوريا وحلب وا�ضنة‪ ،‬لتكون بديال اقت�صاديا من‬ ‫الواليات التي خ�سرتها ال�سلطنة يف �آ�سيا وافريقيا والبلقان‪ .‬لذلك عمد عبد احلميد �إىل تقريب‬ ‫بع�ض ال�شخ�صيات العربية واحتوائها �ضمن الوظائف الكربى يف الدولة(‪ .)4‬كما الحظ منو الطرق‬ ‫ال�صوفية‪ ،‬فقرب �إليه �شيوخ من ال�صوفية العرب‪ ،‬ملا له�ؤالء من التاثري على العامة فكان املطلوب‬ ‫من ه�ؤالء الرتويج لفكرة «ال�سلطان ‪ -‬اخلليفة»‪،‬كما انتمى ال�سلطان نف�سه �إىل الطريقة ال�شاذلية‬ ‫الي�شرطية‪ ،‬وا�صبح من مريدي ال�شيخ حممود �أبو ال�شامات املوجود يف دم�شق(‪.)5‬‬ ‫وقد القت فكرة اجلامعة اال�سالمية ار�ضا خ�صبة يف م�صر بالتحديد‪ ،‬وا�ستمرت الدعوة اليها‪ ،‬بعد‬ ‫خلع ال�سلطان عبد احلميد الثاين عام ‪1909‬م‪ ،‬من قبل االحتاديني(‪.)6‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫�أ ‪ -‬ال�سلطان عبد احلميد الثاين‪:‬‬

‫حكم ال�سلطان عبد احلميد الثاين الدولة العثمانية فرتة تزيد على الثلث قرن (‪1909-1876‬م)‬ ‫متيز عهده ب�أتخاذ ال�سيا�سات التي هدفت �إىل‪:‬‬ ‫‪ -1‬مواجهة �أطماع العامل الأوروبي يف ال�سلطنة العثمانية‪.‬‬ ‫‪ -2‬حماوالت متزيق ال�سلطنة التي ظهرت من خالل‪ :‬ثورات البلقان‪� ،‬سقوط �شمال �أفريقيا يف‬ ‫�أيدي اال�ستعمار الفرن�سي والربيطاين وااليطايل (م�صر ‪ -‬ليبيا‪ ،)...‬نظام مت�صرفية جبل لبنان‪،‬‬ ‫(‪)7‬‬ ‫املخططات ال�صهيونية يف فل�سطني‪...‬‬ ‫‪ -3‬تبنى �سيا�سة اجلامعة الإ�سالمية‪ ،‬ودعا �إىل �إحياء اخلالفة والتم�سك بها‪ ،‬وقرب �إليه الكثري‬ ‫من العلماء ورجال الدين والوعاظ واملت�صوفية‪ ،‬وفتح املدار�س الدينية وزاد من خم�ص�صاتها‪،‬‬ ‫و�أدخل �إىل مناهج التدري�س درو�ساً عن اال�سالم‪ ،‬و�أنفق الكثري من الأموال على العلماء‬ ‫والدعاة‪ ،‬و�أر�سل البعثات �إىل البالد الإ�سالمية ل�شرح �سيا�سته وك�سب الأن�صار لها(‪.)8‬‬ ‫‪38‬‬


‫مئوية احلرب العاملية الأوىل‬

‫‪� -4‬أكرث من بناء و�إ�صالح امل�ساجد ال �سيما يف مكة واملدينة والقد�س‪ ،‬و�إقامة االحتفاالت الدينية‬ ‫العلنية و�أن�ش�أ الزوايا والتكايا و�شجع النا�س على احلج و�سهله لهم عن طريق بناء خط حديد‬ ‫احلجاز(‪.)9‬‬ ‫‪ -5‬وترافقت �سيا�سة عبد احلميد هذه ب�سلوك �شخ�صي حيث مال �إىل االقت�صاد وعدم التبذير‪،‬‬ ‫وعدم �شرب اخلمر‪ ،‬و�أحاط حياته بالتقى والتق�شف‪ .‬وكان يقوم بواجباته الدينية كال�صالة‬ ‫وال�صيام يف رم�ضان‪ .‬وتوزيع ال�صدقات‪ ،‬يف حماولة وا�ضحة منه �إىل جمع امل�سلمني من حوله‪،‬‬ ‫ليعلن بعدها تبنيه لفكرة «اجلامعة اال�سالمية»(‪.)10‬‬ ‫�إن تبني ال�سلطان عبد احلميد فكرة اجلامعة اال�سالمية �أتت نتيجة لعوامل خمتلفة �أبرزها‪:‬‬ ‫ حماولة منه ملواجهة الغزو الثقايف االوروبي للدولة العثمانية ‪.‬‬ ‫ حماولة النهو�ض بالدولة بعد فرتة من ال�ضعف الذي �أ�صابها ‪.‬‬ ‫ حماولة توحيد العامل اال�سالمي يف �إطار الدولة العثمانية من جديد(‪.)11‬‬ ‫وكان من �أبرز �إجنازاته حتت �إطار اجلامعة اال�سالمية‪ ،‬بناء خط �سكة حديد احلجاز ‪1901‬م‪ ،‬الذي‬ ‫ربط بني الآ�ستانة واملدينة املنورة مرورا ب�سوريا‪ ،‬وكان هذا امل�شروع قد نفذ ب�أموال جمعت من‬ ‫تربعات امل�سلمني من خمتلف بلدانهم‪ ،‬ويذكر جورج انطونيو�س «�أن تنفيذ امل�شروع كان �ضربة‬ ‫خبري يف ال�سيا�سة‪ ،‬فقد �أثار احلما�سة البالغة يف جميع ديار اال�سالم‪ ،‬ورمبا كان له من الآثار يف‬ ‫تثبيت مكانة اخلالفة اكرث من جميع خطط عبد احلميد االخرى(‪.)12‬‬ ‫ب _ال�سلطان عبد احلميد واجلامعة اال�سالمية ودور �شيوخ ال�صوفية‪:‬‬

‫يعتقد �أن ال�سلطان عبد احلميد الثاين تبنى فكرة اجلامعة الإ�سالمية‪ ،‬بعد �أن تبنى �أفكار �أبرز دعاة‬ ‫العامل اال�سالمي حينها ممن حمل هذا امل�شروع وهم‪ :‬نامق كمال يف املجتمع الرتكي وجمال‬ ‫الدين الأفغاين وحممد عبده يف العاملني العربي واال�سالمي(‪ .)13‬و�أخذ ال�سلطان عبد احلميد‬ ‫الثاين على عاتقه تنفيذ هذه الفكرة عملياً‪ .‬بغ�ض النظر عن �أهدفه االخرى التي ت�سعى �إىل تثبيت‬ ‫حكمه وحكم بني عثمان والتي تعترب هدفه اال�سا�س(‪.)14‬‬ ‫بد�أت الدعوة �إىل اجلامعة الإ�سالمية يف الن�صف الثاين من القرن التا�سع ع�شر‪ ،‬من خالل عدد‬ ‫من املفكرين امل�سلمني الذين دعوا �إىل وحدة امل�سلمني يف كفاحهم �ضد الغزاة وقيام نه�ضة‬ ‫حقيقية يف كل امليادين‪ ،‬تعتمد مبادئ اال�سالم والعلم احلديث والرتبية املعا�صرة والتجديد يف‬ ‫خمتلف جوانب احلياة وكان �أبرز ه�ؤالء‪ :‬جمال الدين االفغاين‪ ،‬وال�شيخ حممد عبده ‪،‬وحممد‬ ‫‪39‬‬


‫ر�شيد ر�ضا‪ ،‬وعبد الرحمن الكواكبي‪ ،‬والطهطاوي وغريهم‪...‬‬ ‫يف الوقت نف�سه الذي دعت الطرق ال�صوفية �إىل �إعطاء م�سحة مقد�سة لل�سلطان فهو يف نظرهم‬ ‫�شخ�صية دينية جليلة ال يجوز �أن تطالها يد النقد والتجريح‪ ،‬وهو رمز لوحدة امل�سلمني‪ ،‬وعزتهم‬ ‫وفخرهم‪ ،‬وحامي ال�شريعة الإ�سالمية‪ ،‬والقيم على تنفيذها(‪.)16‬‬ ‫لقد حاول ال�سلطان عبد احلميد من �أن ي�ستفيد من هذه الفئات من املتنورين من جهة وال�صوفية‬ ‫من جهة ثانية (مع عدم قبول املتنورين لل�صوفية) ل�صالح متتني حكمه‪ ،‬لقد كانت �سيا�سة حمنكة‬ ‫حاولت جمع املتناق�ضات داخل العامل اال�سالمي وو�ضعها يف خدمة ال�سلطان‪.‬‬ ‫وهنا �سنحاول �أن نطلع على الدور الذي قامت به الطرق ال�صوفية جتاه اجلامعة اال�سالمية يف هذه‬ ‫الظروف ال�صعبة التي متر بها ال�سلطنة ‪.‬‬ ‫من �أبرز اال�سباب التي دفعت بال�سلطان عبد احلميد الثاين �إىل اعتماده على الطرق ال�صوفية‪:‬‬ ‫‪� -1‬أن الدولة العثمانية كانت تعتمد على بع�ض ال�شيوخ ال�صوفية يف متتني عالقتها مع امل�سلمني‬ ‫وخ�صو�صا يف االماكن التي كان يراد فتحها ‪.‬حيث كانوا ي�ؤدون دورا اعالميا دعائيا لل�سلطنة‪.‬‬ ‫‪ -2‬كانت ال�سلطنة تتعرف على الر�أي العام اال�سالمي من خالل �شيوخ هذه الطرق يف خمتلف‬ ‫انحاء العامل اال�سالمي من بالد ترك�ستان حتى �شمال افريقيا(‪.)17‬‬ ‫‪ -3‬اتخذ ال�سلطان عبد احلميد الثاين من ه�ؤالء املت�صوفة متطوعني خلدمة �سيا�سته و�شكل رابطة‬ ‫بني مقر اخلالفة‪- .‬ا�ستانبول‪ -‬وبني تكايا وزوايا الطرق يف كافة �أنحاء العامل اال�سالمي‪.‬‬ ‫وكان ال�سلطان عبد احلميد الثاين كما �أوردنا قد ت�أثر �شخ�صيا بالت�صوف وبالتحديد بالطريقة‬ ‫ال�شاذلية‪ ،‬حيث كان ل�شيخها حممود �أبو ال�شامات مكانة خا�صة لديه ا�ستمرت حتى وفاته(‪.)18‬‬ ‫وال �شك �أن نزعته الت�صوفية وميله للم�شايخ وف�ضوليته للتنب�ؤ بامل�ستقبل وتعلقه بالعرافني �ساعده‬ ‫يف ا�ستقطاب عدد منهم‪.‬‬ ‫(‪)15‬‬

‫ج‪� -‬شيوخ ال�صوفية يف بالط عبد احلميد ورجال التنوير‪:‬‬

‫لقد قرب ال�سلطان عبد احلميد �إليه جمموعة من �شيوخ الطرق ال�صوفية من �أمثال‪:‬‬ ‫ال�شيخ �أبو الهدى ال�صيادي من حلب وال�شيخ حممد ظافر املدين من طرابل�س الغرب‪ .‬وال�شيخ‬ ‫�سعيد من حم�ص‪ ،‬وال�شيخ �أحمد القي�صريل من املدينة املنورة وف�ضل العلوي من ح�ضرموت(‪.)19‬‬ ‫وقد عملت هذه املجموعة من ال�شيوخ على تدعيم فكرة اخلالفة الإ�سالمية‪ ،‬وحق ال�سلطان عبد‬ ‫احلميد يف هذه اخلالفة‪ .‬ودعت كافة امل�سلمني �إىل االلتفاف حول عر�شه‪� ،‬إذ �أكد �أبو الهدى‬ ‫‪40‬‬


‫مئوية احلرب العاملية الأوىل‬

‫ال�صيادي‪�« :‬أن اخلالفة �ضرورة �شرعية‪ ،‬و�إنها انتقلت من �أبي بكر ال�صديق عرب الع�صور الإ�سالمية‬ ‫حتى ورثها العثمانيون و�أدعى �أن اخلليفة هو ظل اهلل على الأر�ض‪ ،‬ومنفذ م�شيئته و�شريعته على‬ ‫امل�سلمني كافة �إطاعته(‪.)20‬‬ ‫وتو�سع نفوذ �أبو الهدى ال�صيادي �إىل ال�ش�ؤون ال�سيا�سية واالدارية والع�سكرية‪ ،‬وكانت له �أعني ت�أتيه‬ ‫بكل الأخبار‪ ،‬ومما زاد يف نفوذه اعتقاد ال�سلطان عبد احلميد الثاين �أن �أبا الهدى كان �أحد ال�شيوخ‬ ‫الكبار للطريقة الرفاعية(‪.)21‬‬ ‫وبالفعل ف�إن �أبا الهدى ب�صفته �شيخاً للرفاعية ومر�شداً لل�سلطان عبد احلميد ‪،‬و�ضع حتت ت�صرفه‬ ‫عدداً كبرياً من الوعاظ الذين كانوا يجوبون امل�شرق ويزرعون بني �سكانه الدعوة للطريقة الرفاعية‬ ‫ولت�أييد ال�سلطة العثمانية(‪.)22‬‬ ‫كما اعتمد على �أحد كبار �أ�شراف مكة (ال�شريف عون) الذي كان ع�ضواً يف الطريقة الرفاعية‪.‬‬ ‫وقد جنح هذا الأخري يف التو�صل �إىل من�صب «�شيخ �شيوخ الطرق» وبالتايل ا�ستطاع �أن ي�ستقطب‬ ‫اتباع الزوايا املعار�ضة له حول فكرة اخلطر الأوروبي على الإ�سالم و�ضرورة التكتل �ضد هذا‬ ‫اخلطر‪.‬‬ ‫لي�صبح �شريف مكة عرب هذا التنظيم امل�ساعد املخل�ص لل�شيخ �أبي الهدى ال�صيادي‪ ،‬واخلادم‬ ‫الأمني لل�سلطان(‪.)23‬‬ ‫ومن جهة �أخرى كان ل�شريف مكة ت�أثريه الكبري على احلجاج حيث �أر�سل �إليهم املر�شدين يدعون‬ ‫للجامعة الإ�سالمية ولقائدها ال�سلطان العثماين وهكذا �أ�صبحت مكة املكرمة بف�ضل �شريفها‬ ‫و(مر�شدي احلجاج) وبف�ضل من�صبه ك�شيخ للطرق‪ .‬حموراً لل�سيا�سة الإ�سالمية املعا�صرة‪ .‬فمن‬ ‫هناك انت�شرت هذه الدعوات‪ ،‬وانتقلت �إىل العامل اال�سالمي كله‪ ،‬عرب احلجاج الذين نقلوا �إىل‬ ‫بالدهم بذرة احللم الكبري الذي كان يدغدغ خميلة ال�سلطان عبد احلميد يف جمع �شمل كلمة‬ ‫العامل اال�سالمي من جديد حوله و�إعادتهم �إىل كنف الدولة حتت �شعار «اجلامعة اال�سالمية»(‪.)24‬‬ ‫وقد بلغت مكانة ال�شيخ �أبي الهدى ال�صيادي عند ال�سلطان عبد احلميد‪� ،‬أن ال�سلطان كان ال‬ ‫يرف�ض له �أمراً حتى ر�سخ يف ذهن معا�صريه �أنه �صاحب الكلمة االوىل عنده(‪.)25‬‬ ‫وكان لل�صيادي �أن ا�ستدعي جمال الدين االفغاين �إىل ا�ستانبول بعد �أن �أقنع ال�سلطان بذلك‬ ‫ليظهر للعامل اال�سالمي اهتمام ال�سلطان بالعلماء ويف حماولة ال�ستمالة االفغاين اىل جانب‬ ‫م�شروع ال�سلطان‬ ‫�إال �أن معظم امل�صادر تذكر �أن ال�صيادي كان اليطيق �أن يزاحمه يف مكانته وقربه �إىل ال�سلطان‬ ‫�أحداً‪ ،‬لذلك نقم على االفغاين وعبداهلل بن الندمي‪ ،‬و�أخذ يد�س عليهما لدى ال�سلطان(‪.)26‬‬ ‫منها �أن الأفغاين والندمي كانا يتنزهان يف «الكاغد خانة» �أحد منتزهات ا�ستانبول امل�شهورة‪ .‬ف�صادفا‬ ‫‪41‬‬


‫عبا�س حلمي خديوي م�صر الذي كان يف �إحدى زياراته �إىل العا�صمة العثمانية‪ ،‬و�سلم بع�ضهم‬ ‫على بع�ض وحتادثوا نحو ربع �ساعة حتت �شجرة هناك فعلم ال�صيادي ب�أمر هذه املقابلة وقدم تقريراً‬ ‫�إىل ال�سلطان‪ ،‬قال فيه‪� :‬أن الأفغاين والندمي قد تواعدا مع اخلديوي على االجتماع هناك‪ ،‬وقد‬ ‫بايعاه حتت ال�شجرة على �أن تكون له اخلالفة‪ .‬فتغري قلب ال�سلطان نحو الأفغاين وخ�شي منه‬ ‫و�شدد عليه الرقابة(‪.)27‬‬ ‫يف الواقع فان ال�سلطان عبد احلميد كان يحاول �أن يقرب االفغاين منه‪ ،‬فا�ستقبله وكرمه وادعى‬ ‫قبول م�شاريعه اال�صالحية داخل ال�سلطنة‪ ،‬كما عر�ض عليه من�صب �شيخ اال�سالم‪� ،‬إال �أن‬ ‫االفغاين رف�ض هذا املن�صب طالبا من ال�سلطان �أن يعهد �إليه بعمل اال�صالحات داخل البالد مع‬ ‫رف�ض ال�سلطان لهذه الفكرة(‪.)28‬‬ ‫�إال �أن هذا الود من قبل ال�سلطان تغري‪ ،‬حيث ينقل �أحد ال�سياح الأملان عن االفغاين عام ‪ 1896‬قوله‪:‬‬ ‫«انه يعي�ش بني مظاهر عطف من ال�سلطان‪ ،‬ود�سائ�س الحت�صى يبيتها له رجال الق�صر‪ ،‬وكم ت�ضرع اليهم‬ ‫( ‪)29‬‬ ‫لي�سمحوا له بال�سفر ف�أم�سكوه حيث يق�ضي بقية عمره يف نوع من اال�سر مموه بالذهب»‬ ‫لقد كان ملوقف �أبو الهدى ال�صيادي الذي كان يح�سد االفغاين ويخ�شاه‪� ،‬أن �أخذ يعمل على‬ ‫االيقاع بينه وبني ال�سلطان وايذاء كل من ميت �إليه ب�صلة‪ ،‬حيث كتب ال�صيادي �إىل حممد‬ ‫ر�شيد ر�ضا �صاحب املنار قائال له‪�« :‬إين �أرى جريدتك طافحة ب�شقا�شق املت�أفغن جمال الدين‬ ‫امللفقة‪ ،‬وقد تدرجت به �إىل احل�سينية التي كان يتزعمها زورا ‪ ،‬وقد ثبت يف دوائر الدولة ر�سميا انه‬ ‫(‪)30‬‬ ‫مازندراين من �إجالف ال�شيعة‪ ...‬وهومارق من الدين كما مرق ال�سهم من الرمية‬ ‫وكانت نهاية جمال الدين االفغاين عرب مر�ض �أ�صابه يف حنكه‪� ،‬إىل �أن مات يف اخلام�س من �آذار‬ ‫من العام ‪.)31(1896‬‬ ‫و�أمر ال�سلطان ب�أن يدفن جمال الدين من دون احتفال‪ ،‬وم�صادرة �أوراقه وكتبه‪ ،‬وبعدم كتابة �أي‬ ‫(‪)32‬‬ ‫خرب حول وفاته‪ ،‬كما �صودرت ال�صحف امل�صرية التي رثته يف �سوريا‪ ،‬ودفن يف مقربة جمهولة‬ ‫كما عمل ال�صيادي على �إزاحة �أ�سرة الكواكبي من نقابة الأ�شراف يف حلب بعد �أن كانت حكراً‬ ‫على هذه الأ�سرة من �أمد بعيد‪ .‬وذلك نظرا للكراهية ال�شخ�صية التي كان يكنها ال�صيادي لهذه‬ ‫العائلة‪.‬ويعتقد ان ال�صيادي كان يقف وراء م�ؤامرة مقتل عبد الرحمن الكواكبي بال�سم يف القاهرة‬ ‫عام ‪ ،1902‬بعدها عمد �أحد �أتباع عبد احلميد �إىل ق�صد حمل �إقامة الكواكبي وو�ضع يده على‬ ‫جميع �أوراقه وار�سلها �إىل اال�ستانة(‪.)33‬‬ ‫لقد كان الكواكبي يهاجم رجال الت�صوف بحدة‪ ،‬متهما �إياهم بادخال اال�ساطري على الدين‪�« :‬إن‬ ‫الطامة من ت�شوي�ش الدين والدنيا على العامة‪ ،‬ب�سبب العلماء املدل�سني وغالة املت�صوفني الذين‬ ‫(‪)34‬‬ ‫ا�ستولوا على الدين ف�ضيعوا �أهله»‬ ‫‪42‬‬


‫مئوية احلرب العاملية الأوىل‬

‫حتى �أن ال�شيخ ر�شيد ر�ضا عانى من �أذى ال�صيادي �أي�ضاً‪ ،‬فها هو ال�شيخ ر�ضا يت�ساءل عن الطريقة‬ ‫الرفاعية التي ين�شرها ال�صيادي التي تغرر مبن ينت�سبون اليها‪ ،‬فيهاجم ال�سيد احمد الرفاعي الكبري‬ ‫قائال‪�« :‬إن ال�سيد �أحمد الرفاعي قال‪ :‬ان الويل ي�صل �إىل درجة يقول فيها كن فيكون» وي�ضيف‬ ‫ر�ضا مت�سائ ًال‪« :‬من يلم�س يد الرفاعي �أو �أحد خلفائه وذريته حترقه النار‪ ،‬رغم ان هذا ال�شيخ كان‬ ‫ي�شتم ويهان «وما كان يحل على من ي�شتمه اي بالء !!!‬ ‫لقد كان رد فعل ال�صيادي �أن منع تداول جملة املنار يف االرا�ضي العثمانية لينح�سر قراءها يف‬ ‫م�صر و�شمال افريقيا‪ ،‬ومل يكتف ابو الهدى بذلك وامنا اوعز اىل مت�صرف طرابل�س العثماين‪ ،‬ب�أن‬ ‫يالحق �أ�سرة ال�شيخ ر�شيد ر�ضا والت�ضييق عليهم ‪ ،‬كما حاول �أن يبعث ب�شخ�ص من قبله �إىل م�صر‬ ‫بهدف اغتيال ر�شيد ر�ضا‪ ،‬وقد تعجب ال�شيخ ر�شيد ر�ضا من هذه االجراءات التع�سفية من قبل‬ ‫ال�سلطة العثمانية‪ ،‬ملجرد انه ن�صح امل�سلمني ب�أن «اليتخذوا اربابا من دون اهلل»‪ ،‬وحمل ر�شيد ر�ضا‬ ‫على �شيوخ الطرق ال�صوفية ولقبهم «�أف�سق الف�ساق و�أفجر الفجار» و�أتهمهم ب�أنهم يدعون الت�صرف‬ ‫يف الكون واالنتقام مما اليخ�ضع له ف�ضال عمن ينال منه بقول او عمل»(‪.)35‬‬ ‫و�أورد الكاتب حممد �سعيد العريان يف ذكره لهذا الواقع قائال‪�« :‬أما يف بالط ال�سلطان عبد احلميد‬ ‫فكان اخلليفة الذي يزعم �أنه با�سم اهلل يحكم وي�ستبد وي�سيطر‪ ،‬وبا�سمه يخنق ويغرق ويحرق‪.‬‬ ‫وبا�سمه يظلم ويفتك ويهتك ومن حوله ذوو حلى وعمائم بينهم �أبو الهدى ال�صيادي يزعمون‬ ‫للخليفة والنف�سهم وللنا�س �أن هذا اللون الفا�سد من احلكم هو �شرع اهلل‪ ،‬وهو الدين‪ ،‬وبا�سم اهلل‪،‬‬ ‫وبا�سم الدين يجب �أن يذل النا�س و�أن تط�أطئ الر�ؤو�س‪ ،‬و�أن يعي�ش الب�شر كالرقيق �أو كقطعان‬ ‫املا�شية لي�س لها حرية‪ ،‬وال ر�أي وال �إرادة‪ ،‬لأن احلرية والر�أي والإرادة هي حق اخلليفة اجلال�س‬ ‫على عر�ش اهلل وحده‪ .‬ولي�س لها عزة وكرامة وال نعمة‪ ،‬لأن العزة والكرامة والنعمة حق �أبي‬ ‫الهدى ال�صيادي دون �سائر املحكومني من رعية اخلليفة»(‪.)36‬‬ ‫كما �أن ال�صيادي حاول �أن ي�ستميل حممود الألو�سي العراقي �إىل الطريقة الرفاعية‪ ،‬فرف�ض‬ ‫الألو�سي و�أخذ مبهاجمة الطرق ال�صوفية يف ع�صره‪ ،‬فدبر له �أبو الهدى ال�صيادي النفي �إىل بالد‬ ‫الأنا�ضول(‪.)37‬‬ ‫د‪ -‬دور املت�صوفة يف دعم ال�سلطان عبد احلميد الثاين‪:‬‬

‫كان ال�شيخ ظافر‪ ،‬املعلم الروحي لل�سلطان عبد احلميد و�شيخ الطريقة ال�شاذلية املدنية‪ ،‬قد احتل‬ ‫مكانة مرموقة يف البالط ال�سلطان يف العا�صمة ا�ستانبول حيث كان ال�شيخ ظافر يوجه من مركزه‬ ‫هناك حركة الدعوة �إىل اجلامعة الإ�سالمية التي تخدم ال�سلطان ‪ ،‬فالطريقة التي كان �شيخاً لها‬ ‫كانت تنت�شر يف تون�س واجلزائر وقد �أر�سل ال�شيخ ظافر �أحد �أقاربه �إىل املناطق التي احتلتها فرن�سا‬ ‫يف اجلزائر وتون�س فقام بزيارة امل�شايخ وقدم لها الهدايا با�سم ال�سلطان عبد احلميد‪.‬‬ ‫‪43‬‬


‫وا�ستطاع هذا املبعوث من �أن ير�سل �إىل ا�ستانبول �أكرث من ثمانية �آالف فرنك (�أموال زكاة)‬ ‫للم�ساهمة يف دعم �سيا�سة اجلامعة الإ�سالمية(‪.)38‬‬ ‫يف الواقع فان عبد احلميد ا�ستخدم ه�ؤالء ال�شيوخ يف تدعيم �سلطانه كل يف املكان الذي تواجد‬ ‫فيه‪ ،‬فال�شيخ حممد ظافر املدين كان م�س�ؤوال عن الدعاية اال�سالمية يف �شمال افريقيا ومناه�ضة‬ ‫النفوذ الفرن�سي هناك‪ ،‬وعربه كان التوا�صل مع �شيخ الطريقة ال�سنو�سية يف ليبيا «حممد املهدي‬ ‫ال�سنو�سي»‪ ،‬والتن�سيق حلركة املقاومة يف �شمال افريقيا �ضد التو�سع االوروبي فيها‪ ،‬كما ان العالقة‬ ‫التي ربطته مع ال�شيخ ف�ضل العلوي من ظفار‪ ،‬كان ان جعله م�ساعدا ل�شريف مكة «عبد املطلب‬ ‫«عام ‪ ،1880‬بهدف ك�سر التحالفات القبلية العربية املوالية لربيطانيا(‪.)39‬‬ ‫وقد و�صف �أحمد ال�شوابكة ن�شاط الطرق ال�صوفية يف تنفيذ �سيا�سة اجلامعة الإ�سالمية ومقاومة‬ ‫اال�ستعمار الأوروبي‪ ،‬وتعبئة الأهايل �ضد امل�ستعمرين وخ�صو�صاً يف �شمال �أفريقيا‪ .‬فتحدث عن‬ ‫�أ�سلوب املقاومة ال�سرية التي نفذها �أتباع الطرق ال�صوفية ومرابطو الزوايا ‪،‬وذكر �أن هذه املقاومة‬ ‫كانت تدار من قبل جلنة مركزية يف العا�صمة ا�ستانبول تت�ألف من جمموعة من علماء الدين‬ ‫وم�شايخ الطرق ال�صوفية ‪ .‬وحتدث عن وجود هيئات فرعية تعمل يف �أقاليم خمتلفة من الدولة‬ ‫العثمانية �أبرزها تلك املوجودة يف مكة املكرمة والتي كانت تعمل حتت �إ�شراف �شريف مكة‬ ‫وتن�شط يف مو�سم احلج لن�شر فكرة اجلامعة الإ�سالمية بني احلجاج‪ .‬و�أخرى يف بغداد‪ ،‬وكانت‬ ‫تن�شط بني القادمني من �شمال �أفريقيا لزيارة �ضريح ال�شيخ عبد القادر اجليالين‪ ،‬وقد قدر عددهم‬ ‫يف �إحدى ال�سنوات بخم�س وع�شرين �ألفاً‪ ،‬لقد �سعت هذه الطرق ال�صوفية املوالية ل�سيا�سية‬ ‫اجلامعة الإ�سالمية كال�شاذلية والقادرية واملدنية �إىل مواجهة امل�ستعمر الفرن�سي يف �شمال افريقيا‬ ‫وتعبئة االهايل �ضده(‪.)40‬‬ ‫وقد خ�ضعت هذه الهيئات لتنظيم �إداري فو�ضعت كل زاوية حتت �إ�شراف مقدم وتر�أ�س املقدمني‬ ‫�شيخ الطريقة وحدت اجتماعات دورية مل�شايخ الطرق حتت �إ�شراف الهيئة الفرعية ل�شمال �أفريقيا‬ ‫برئا�سة ال�شيخ حممد ظافر املدين وذكر �أن الطبيعة املدنية يف طرابل�س الغرب والتي يتزعمها‬ ‫ال�شيخ ظافر املدين قامت بجمع الأموال عام ‪ 1897‬ل�صالح الدول العثمانية مل�ساعدتها يف حربها‬ ‫�ضد اليونان(‪.)41‬‬ ‫كما كان للدور الذي قامت به الطريقة ال�سنو�سية يف تعاطفها مع الدولة العثمانية‪ ،‬وت�أييد ال�سيا�سة‬ ‫الإ�سالمية التي انتهجها ال�سلطان عبد احلميد‪ ،‬ذلك �أن ال�سنو�سيني كانوا ينظرون �إىل اخلالفة‬ ‫العثمانية على �أنها �ضرورة دينية و�سيا�سية‪.‬‬ ‫وقد را�سل ال�سلطان عبد احلميد الثاين حممد املهدي ال�سنو�سي طالباً �إليه امل�ساعدة يف الوقوف‬ ‫بوجه الأوروبيني مذكراً �إياه بواجبه اجتاه اخلالفة ‪ .‬وقد كرثت املرا�سالت بني االثنني فرداً على بعثة‬ ‫ال�سنو�سي �إىل عبد احلميد يف �أيلول ‪� 1895‬أر�سل عبد احلميد �صادق امل�ؤيد مرة ثانية �إىل الكفرة‬ ‫‪44‬‬


‫مئوية احلرب العاملية الأوىل‬

‫مزوداً بالهدايا التي هي عبارة عن �صحيح البخاري و�ساعة ولكي يطمئن ال�سنو�سي ال�سلطان عبد‬ ‫احلميد �إىل �سالمة نواياه �أر�سل ال�شيخ عبد العزيز العي�ساوي من املت�صوفني ال�سنو�سيني يف �أيلول‬ ‫‪� 1895‬إىل الأ�ستانة حيث �أكد والء ال�شيخ املهدي لل�سلطان وت�أييده لل�سلطنة(‪.)42‬‬ ‫وذكرت امل�صادر �أن ال�سلطان عبد احلميد �أر�سل قافلة من املت�صوفة �إىل الهند حيث عملت هناك‬ ‫على تدعيم فكرة اخلالفة العثمانية‪ ،‬وحماربة الدعاية الربيطانية الداعية �إىل جعلها للعرب‪ ،‬وقد‬ ‫زارت هذه القافلة بع�ض حكام �شبه اجلزيرة العربية وال �سيما احلجاز طالبة ت�أييد ه�ؤالء احلكام‬ ‫لل�سلطان عبد احلميد يف �سيا�سته الداعية اىل اجلامعة اال�سالمية(‪.)43‬‬ ‫كما �أن هناك ات�صاالت جرت بني ال�سلطان عبد احلميد بو�صفه رئي�ساً للجامعة الإ�سالمية‪،‬‬ ‫وجتمعات الطرق ال�صوفية و�شيوخها يف ترك�ستان وجنوب افريقيا وال�صني(‪.)44‬‬ ‫ا�ستنتاج‪:‬‬

‫لقيت فكرة اجلامعة الإ�سالمية يف عهد اال�سلطان عبد احلميد جناحاً الفتاً و�أحياناً واجهت م�صاعب‬ ‫�أمام الدعوات الراف�ضة لها كفكرة دينية‪ .‬وعلى الرغم من ذلك ف�إن الطرق ال�صوفية لعبت دوراً‬ ‫بارزاً يف جناح فكرة اجلامعة ون�شرها‪ .‬وقد �شعرت الدول الأوروبية ب�أن ال�سلطان عبد احلميد قد‬ ‫ا�ستطاع ا�ستغالل م�شاعر امل�سلمني الدينية و�أن ب�إ�ستطاعته �أن يهدد النفوذ االوروبي يف املناطق‬ ‫العثمانية واملناطق الإ�سالمية اخلا�ضعة لل�سيطرة الأوروبية‪.‬‬ ‫فهو قد هدد عرب حركة اجلامعة الإ�سالمية النم�سا مب�سلمي �ألبانيا‪ ،‬ورو�سيا مب�سلمي التتار‪ ،‬وبريطانيا‬ ‫مب�سلمي الهند وفرن�سا بوا�سطة م�سلمي �شمال �أفريقيا‪ .‬وقد بلغ من نفوذ هذه احلركة يف �شمال‬ ‫�أفريقيا �أن و�صفتها �إدارة املخابرات الفرن�سية‪ ...« :‬وميكن لل�سلطان عبد احلميد ‪ -‬ب�صفته رئي�ساً‬ ‫للجامعة الإ�سالمية ‪� -‬أن يجمع ‪ -‬من خالل ارتباطاته الوثيقة باجلماعات الدينية يف �شمال �أفريقيا‬ ‫ جي�شاً حملياً منظماً يتمكن ‪� -‬إّذا لزم الأمر ‪� -‬أن يقاوم به �أي قوة �أجنبية»(‪.)45‬‬‫وكان العرتاف �أملانيا بحركة اجلامعة الإ�سالمية و بال�سلطان عبد احلميد الثاين خليفة للعامل‬ ‫اال�سالمي‪ ،‬وزناً �سيا�سياً بارزا كونه �صادر عن امرباطور‪.‬دولة �أوروبية كربى فا�ستغلها عبد احلميد‬ ‫يف الدعوة لنف�سه‪ ،‬وتر�سيخ حركة اجلامعة الإ�سالمية ‪.‬‬ ‫�إال �أنه ي�ؤخذ على عبد احلميد الثاين عدم متكنه من اال�ستفادة من مواهب الأفغاين ورجال‬ ‫التنوير العرب امل�سلمني �أمثال الكواكبي ور�شيد ر�ضا وغريهم يف دعم حركة اجلامعة الإ�سالمية‪،‬‬ ‫مما �أتاح خل�صومه فر�صة الت�شهري به‪ ،‬والت�سجيل عليه �أنه ا�ستمع �إىل و�شايات ود�سائ�س خ�صوم‬ ‫الأفغاين وعلى ر�أ�سهم ال�شيخ �أبو الهدى ال�صيادي‪ ،‬الذي كان يكره �أن يظفر غريه بثقة ال�سلطان‬ ‫‪45‬‬


‫ف�إن عبد احلميد مل ي�سقط من ح�ساباته �أن الطرق ال�صوفية مرتكز �سيا�سي هام من حيث االنت�شار‬ ‫والدعاية ‪ ،‬ومل يخفف احرتامه لهذه الطرق و�شيوخها‪.‬‬ ‫�إال �أن اجلامعة الإ�سالمية تبقى جتربة مهمة لل�سلطان عبد احلميد يف �سيا�سته الإ�سالمية لعبت‬ ‫فيها الطرق ال�صوفية دور و�سائل االعالم �إال �أنها ف�شلت ب�سبب تعنت �شيوخ ال�صوفية من جهة‬ ‫وت�صديهم لرجال التنوير وطغيان عبد احلميد الذي تعامل بقوة مع معار�ضيه داخل ال�سلطنة‬ ‫فدفعت ب�أعداء ال�سلطان عبد احلميد لال�سراع يف العمل على عزله و�إنهاء اخلالفة والدولة العثمانية‬ ‫قبل �أن يحقق م�شروعه الوحدوي حول �سلطانه وبني عثمان‪.‬‬

‫الهوام�ش‪:‬‬

‫(‪� )1‬إكمال الدين �أوغلو‪ ،‬قراءة لتاريخ الدولة العثمانية وعالقاتها بالعامل العربي من خالل كتب التاريخ املدر�سية‬ ‫املقررة يف م�صر بني عامي ‪ ،1980-1912‬جملة منرب احلوار‪ ،‬العدد ‪ ،36‬ال�سنة ‪� ،1998‬ص‪.164‬‬ ‫(‪ )2‬فدوى ن�صريات‪ ،‬عبد احلميد الثاين ودوره يف ت�سهيل ال�سيطرة ال�صهيونية على فل�سطني‪ ،‬جملة امل�ستقبل‬ ‫العربي‪ ،‬العدد ‪ ،422‬ني�سان ‪� ،2014‬ص‪.39‬‬ ‫(‪ )3‬ح�سان حالق‪ ،‬دور اليهود والقوى الدولية يف خلع ال�سلطان عبد احلميد الثاين من العر�ش‪ ،‬بريوت‪ :‬دار بريوت‬ ‫املحرو�سة‪ ،‬الطبعة الأوىل‪� ،1982 ،‬ص‪.48-45‬‬ ‫(‪ )4‬عبد الر�ؤوف �سنو‪ ،‬ال�سلطان عبد احلميد الثاين والعرب‪ :‬اجلامعة اال�سالمية واثرها يف احتواء القومية العربية‪،‬‬ ‫حوار العرب‪ ،‬بريوت‪� ،2005 :‬ص‪ ،5-4‬بحث من�شور على �شبكة االنرتنت‪.‬‬ ‫(‪ )5‬عبد الكرمي رافق‪ ،‬تاريخ اجلامعة ال�سورية البداية والنمو ‪ ،1946-1901‬دم�شق‪� ،2004 :‬ص‪.11-10‬‬ ‫(‪� )6‬إكمال الدين �أوغلو‪ ،‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص‪.164‬‬ ‫(‪ )7‬رفيق �شاكر النت�شه‪ ،‬ال�سلطان عبد احلميد الثاين وفل�سطني‪ ،‬القاهرة‪ :‬مكتبة مدبويل‪ ،‬الطبعة ‪� ،1990 ،5‬ص‪-161‬‬ ‫‪.153-115‬‬ ‫(‪ )8‬علي �سلطان‪ ،‬تاريخ الدولة العثمانية‪ ،‬طرابل�س الغرب‪ :‬مكتبة طرابل�س العلمية العاملية‪� ،1991 ،‬ص‪.394‬‬ ‫‪(9) William oschsenwold. the hijaz, rail road. vergina 1980 pp.118-150.‬‬

‫‪46‬‬


‫مئوية احلرب العاملية الأوىل‬

‫(‪ )10‬علي �سلطان‪ ،‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص‪.349‬‬ ‫ �صالح �سعداوي‪ ،‬مذكرات االمرية عائ�شة عثمان �أوغلي‪ ،‬عمان‪ :‬دار الب�شري للن�شر والتوزيع‪ ،‬الطبعة الأوىل‪،‬‬ ‫‪� ،1991‬ص‪.80‬‬ ‫(‪ )11‬عبد املنعم الها�شمي‪ ،‬اخلالفة العثمانية‪ ،‬بريوت‪ :‬دار ابن حزم‪ ،‬الطبعة الأوىل‪� ،2004 ،‬ص‪.530-529‬‬ ‫(‪ )12‬جورج �أنطونيو�س‪ ،‬يقظة االمة العربية‪ ،‬بريوت‪:‬دار العلم للماليني‪ ،‬الطبعة ‪� ،1987 ،8‬ص‪142‬‬ ‫(‪ )13‬عبد العزيز ال�شناوي‪ ،‬الدولة العثمانية دولة ا�سالمية مفرتى عليها‪ ،‬اجلزء ‪� ، 3‬ص‪.1186-1182‬‬ ‫ �سمري �أبو حمدان‪ ،‬جمال الدين االفغاين وفل�سفة اجلامعة اال�سالمية‪ ،‬بريوت‪ :‬دار الكتاب العاملي‪� ،1992 ،‬ص‬ ‫‪.87-78‬‬ ‫‪(14) Bernard lewis, the ottman empire in the mid nineteenth century : a review in m.e.s vol 4 . no. 3 1965‬‬

‫(‪ )15‬حممد جالل ك�شك‪ ،‬القومية والغزو الفكري‪ ،‬الكويت‪ :‬مكتبة االمل‪ ،‬د‪.‬ت‪� ،‬ص‪.192‬‬ ‫(‪ )16‬علي املحافظة‪ ،‬اجلامعة اال�سالمية‪ ،‬مقال مقدم �إىل امل�ؤمتر الدويل الثاين لتاريخ بالد ال�شام‪� ،‬ص‪.299-298‬‬ ‫(‪ )17‬حممد حرب �سلطان‪ ،‬عبد احلميد الثاين �آخر �سالطني العثمانيني الكبار‪ ،‬دم�شق‪ :‬دار القلم‪ ،‬الطبعة الأوىل‪،‬‬ ‫‪� ،1990‬ص‪.195‬‬ ‫(‪ )18‬بطر�س �أبو منه‪ ،‬ال�سلطان عبد احلميد الثاين وال�شيخ ابو الهدى ال�صيادي‪ ،‬جملة االجتهاد‪ ،‬ال�سن الثانية‪ ،‬خريف‬ ‫‪� ،1989‬ص‪.72‬‬ ‫(‪ )19‬جملة الهالل‪ ،‬املجلد ‪ ،17‬اجلزء ‪ ،10‬ال�سنة ‪� ،1908‬ص‪.594-593‬‬ ‫‪(20) commins, phd. pp. 294-295.‬‬

‫(‪ )21‬ويل الدين يكن‪ ،‬املعلوم واملجهول‪ ،‬القاهرة‪ ،1911-1909 :‬اجلزء ‪� ،1‬ص‪.98‬‬ ‫ عبد العزيز ال�شناوي‪ ،‬املرجع ال�سابق‪ ،‬اجلزء ‪� ،3‬ص‪.1214‬‬ ‫(‪ )22‬بطر�س ابو منه‪ ،‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص‪.77-76‬‬ ‫‪(23) depont et coppolani op. p. 262‬‬

‫(‪� )24‬أحمد ال�شوابكة‪ ،‬حركة اجلامعة اال�سالمية‪� ،‬ص‪.266‬‬ ‫(‪ )25‬ويل الدين يكن‪ ،‬املرجع ال�سابق‪ ،‬اجلزء ‪� ،1‬ص‪.97‬‬ ‫(‪ )26‬بطر�س ابو منه‪ ،‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص‪.81‬‬ ‫(‪ )27‬لوثروب�ستودارد‪ ،‬حا�ضر العامل الإ�سالمي ‪ -‬دار الفكر ‪ ،1971‬اجلزء ‪� ،2‬ص‪.202‬‬ ‫(‪ )28‬قدري قلعجي‪ ،‬ثالثة من �أعالم احلرية‪ ،‬بريوت‪� :‬شركة املطبوعات للتوزيع والن�شر‪ ،‬الطبعة ‪� ،2013 ،3‬ص‪103 ،99‬‬ ‫(‪ )29‬قلعجي‪� ،‬ص‪.101‬‬ ‫(‪ )30‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص‪.104‬‬ ‫(‪ )31‬حممدعمارة‪ ،‬تاريخ اال�ستاذ االمام حممدعبده; القاهرة دارال�شروق‪ ،‬اجلزء‪� ،1‬ص‪.94-89‬‬ ‫(‪ )32‬املرجع نف�سه‪ ،‬تاريخ اال�ستاذ‪ ،‬اجلزء ‪� ،1‬ص‪.94‬‬

‫‪47‬‬


‫(‪ )33‬من مقدمة كتاب �أم القرى لعبد الرحمن الكواكبي‪ ،‬حتقيق حممد جمال الطحان‪ ،‬دم�شق‪ :‬دار �صفحات‪،‬‬ ‫الطبعة ‪� ،2012 ،5‬ص‪.)24-23‬‬ ‫(‪ )34‬عدنان عوي�ض‪ ،‬ا�شكالية النه�ضة يف الوطن العربي‪ ،‬دم�شق‪ :‬دار التكوين‪� ،2007 ،‬ص‪.)82‬‬ ‫(‪ )35‬ح�سني �سليمان‪ ،‬ال�شيخ جملة �أوراق جامعية‪ ،‬العدد ‪ ،35-34-33‬ال�سنة ‪� ،1/2010 ،18‬ص‪.187-186‬‬ ‫(‪ )36‬حممد �سعيد العريان‪ ،‬مهرجان عبد الرحمن الكواكبي‪ ،‬دم�شق‪ :‬املجل�س االعلى لرعاية الفنون واالداب‬ ‫والعلوم االجتماعية‪� ،1960 ،‬ص‪ 73‬وما بعدها‪.‬‬ ‫(‪ )37‬حممد بهجت االثري‪ ،‬حممود �شكري االلو�سي وارا�ؤه اللغوية‪ ،‬القاهرة‪ :‬معهد الدرا�سات العربية العليا‪،1958 ،‬‬ ‫�ص‪.89-76‬‬ ‫(‪ )38‬بطر�س �أبو منه‪ ،‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص‪.75-74‬‬ ‫(‪ )39‬عبد الر�ؤوف �سنو‪ ،‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص‪.6‬‬ ‫(‪ )40‬احمد ال�شوابكة‪ ،‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص‪.264-263‬‬ ‫‪(41) og9 no 1 vol 2, Oppenheim and Hohenlohe. cairo 2-6 1897 no. 38 a 7587.‬‬

‫(‪ )42‬حممد ف�ؤاد �شكري‪ ,‬ال�سنو�سية دينودولة مركز الدرا�سات الليبية �أك�سفورد‪ ،‬طبعة ‪� ,2002‬ص‪.85-86‬‬ ‫(‪ )43‬حممدحرب‪ ,‬مذكرات ال�سلطان عبداحلميد الثاين‪ ,‬دارالقلم دم�شق‪� ،‬ص‪.198‬‬ ‫(‪ )44‬حممدحرب‪ ,‬املرجع ال�سابق نف�سه‪� ,‬ص‪.198‬‬ ‫(‪ )45‬علي حممد �صالبي‪ ،‬الدوله العثمانية عوامل النهو�ض وا�سباب ال�سقوط‪ ،‬م�صر‪ :‬دار التوزيع والن�شر اال�سالمية‪،‬‬ ‫الطبعة الأوىل‪� ،2001 ،‬ص‪.424‬‬

‫‪48‬‬


‫فكــــر‬

‫العودة �إىل �سعادة‪ :‬يف ال�رصاع الفكري‬ ‫يف الأدب ال�سوري‬ ‫حممود �شريح ‪ -‬ناقد و�أكادميي‬

‫يف م�ؤلفه النفي�س ال�صراع الفكري يف الأدب ال�سوري ال�صادر �أو ًال يف بوان�س �أير�س (‪ )1942‬قال‬ ‫�أنطون �سعادة ب�ضرورة حدوث «نظرة فل�سفية جديدة �إىل احلياة والكون والفن» ين�ش�أ عنها «تغيري يف‬ ‫جمرى احلياة ومظاهرها»‪ ،‬و�إن النظرة الفل�سفية ال�سورية القومية االجتماعية مل ت�ؤثر فقط يف الأدب‬ ‫والفن‪ ،‬بل ّ‬ ‫تخطت ذلك لت�شتمل على «الأعمال والأخالق واملناقب»‪ .‬وعني �سعادة �أبداً على‬ ‫الأخالق واملناقب‪ ،‬فح�صول «النظرة الفل�سفية اجلديدة �إىل احلياة والكون والفن يفتح �آفاقاً جديدة‬ ‫للفكر ومناحي جديدة لل�شعور»‪ .‬هذه هي �إذن «نقطة االبتداء لطلب �سيا�سة جديدة و�أ�شكال‬ ‫�سيا�سية ولفتح تاريخ �أدب وفن جديدين»‪ ،‬فال يف�صل �سعادة بني نه�ضة �أدبية ونه�ضة فكرية‪.‬‬ ‫كالهما رهن بحدوث نظرة فل�سفية �سورية قومية اجتماعية‪« ،‬فالأدب والفن ال ميكن �أن يتغيرّ ا �أو‬ ‫يتجددا �إال بن�شوء نظرة فل�سفية جديدة يتناوالن ق�ضاياها الكربى‪� ،‬أي ق�ضايا احلياة والكون والفن‬ ‫ّ‬ ‫التي ت�شتمل عليها هذه النظرة»‪ .‬ثم ينتقل �سعادة �إىل القول هل من ال�ضروري �أن يكون التجديد‬ ‫الأدبي خا�صاً مبوا�ضيع �أ ّمة مع ّينة‪« ،‬ف�إذا تناول غريها ُبط َل �أن يكون جتديداً وفقد قيمته الأدبية»‪،‬‬ ‫فيق ّرر �أن القيمة الأدبية �أو الفنية «لي�ست يف هوية �أو (جن�سية) املو�ضوع‪ ،‬بل يف الق�ضايا ويف النتائج‬ ‫الروحية احلا�صلة من هذه املعاجلة»‪ ،‬ومع ذلك يرى �سعادة �أن ذاتية املو�ضوع وزمانه ومكانه لها‬ ‫ناحية �شعورية خا�صة ّ‬ ‫«وتقل �أهميتها �أو تعظم على ن�سبة الغر�ض اخلفي �أو املُعلن الذي ي�سوق‬ ‫يلح على �أن االجتاهات الفكرية وال�شعورية تت�أثر باملو�ضوع‪ ،‬ف�إن كان خا�صاً كما‬ ‫املو�ضوع �إليه»‪ ،‬لكنه ّ‬ ‫يف بنت يفتاح ل�سعيد عقل‪« ،‬تع ّر�ض لفقد كل م ّربر عام» وخالف املثل العليا التي يبغيها ال�شعب‬ ‫املكتوب له املو�ضوع �أو ناق�ض تلك املثل واخلطط النف�سية التي تربز بها مواهبه اجلديرة بالإعجاب‬ ‫والبقاء‪ .‬وعند �سعادة �أن بنت يفتاح «تدخل يف الأدب اليهودي اخلا�ص �أكرث مما تدخل يف الأدب‬ ‫ال�سوري»‪ ،‬و�إن عبقر ل�شفيق املعلوف «هي �أي�ضاً ق�صيدة �سورية يف مو�ضوع غريب»‪:‬‬ ‫تعالوا ن�أخذ بنظرة جديدة �إىل احلياة والكون والفن وبفهم جديد للوجود‬ ‫وق�ضاياه‪ ،‬جند فيهما حقيقة نف�سيتنا ومطاحمنا ومثلنا العليا‪ ،‬تعالوا �إىل‬ ‫احلرية والواجب والنظام والقوة‪ ،‬لي�س لأنها �صارت �شعار حزب �سيا�سي‬ ‫‪49‬‬


‫اجتماعي‪ ،‬بل لأنها رمز فكرنا و�شعورنا يف احلياة ولذلك �صارت �شعار حركة‬ ‫البعث القومي‪ ،‬التي و�ضعنا فيها كل رجائنا وكل قوتنا وكل �إرادتنا‪.‬‬ ‫تعالوا نقيم �أدباً �صحيحاً له �أ�صول حقيقية يف نفو�سنا ويف تاريخنا‪ .‬تعالوا نفهم‬ ‫�أنف�سنا وتاريخنا على �ضوء نظرتنا الأ�صلية اىل احلياة والكون والفن‪ .‬بهذه‬ ‫الطريقة نوجد �أدباً حياً جديراً بتقدير العامل وباخللود‪.‬‬ ‫منطلق �سعادة رف�ض القاعدة الفردية التي تتوقف عليها �شهرة ال�شاعر‪ ،‬فهذه قاعدة ت�ؤدي �إىل‬ ‫اال�ستعالء والتفرقة والفو�ضى والعداوة واحل�سد‪ .‬يطمح �سعادة �إىل ح�شد «جميع القوى النف�سية‬ ‫لرف�ض عامل النزعة الفردية والغايات املادية‪ .‬القاعدة الذهبية التي ال ي�صلح غريها للنهو�ض باحلياة‬ ‫والأدب‪ ،‬هي هذه القاعدة‪ :‬طلب احلقيقة الأ�سا�سية الكربى حلياة �أجود يف عامل �أجمل وقيم‬ ‫�أعلى»‪ .‬التوكيد �إذن على الأ�صالة‪ ،‬ونف�ض املوروث وكان �سعادة ر�أى �أن بعث �أدب قومي هو نقطة‬ ‫االنطالق‪ ،‬و«�أن يف �سورية حاجة �إىل التجديد الأدبي‪ ،‬لي�س ملجرد التجديد وتغيري الأ�ساليب‬ ‫و�إظهار �أ�شباح جديدة‪ ،‬بل للو�صول �إىل التعبري عن نظرة �إىل احلياة والكون والفن جديدة‪ ،‬قادرة‬ ‫على ا�ستيعاب املطالب واملطامح النف�سية املنطبقة على خطط النف�س ال�سورية»‪ .‬من �شروط النظرة‬ ‫اجلديدة �إىل احلياة والكون «ال�صاحلة لتقدم احلياة الإن�سانية وارتقائها‪� ،‬أن تكون نظرة ذات [�أ�صل]‬ ‫و�إال كان عار�ضاً من العوار�ض التي تلغي ال�شخ�صية والنف�سية وخ�صائ�صها ّ‬ ‫فت�ضل النف�س وحتار وال‬ ‫تدري ما هي حقيقتها»‪ .‬ال يق ّلل �سعادة من �ش�أن الوافد الأجنبي الذي يلقّح املوروث‪ ،‬لكن على‬ ‫الأدب القومي �أن ينه�ض �أو ًال ومعياره الأ�صالة‪ ،‬ذلك «�أن االعتماد على املوا�ضيع الغربية ال ين�شئ‬ ‫�أدباً �شخ�صياً ملجتمع له خ�صائ�صه التي ميكن �أن ت�ضاف �إىل جمموعة الآداب العاملية ووحدات‬ ‫خ�صائ�صها‪� .‬إنه لي ّربر تناول بع�ض املوا�ضيع الأجنبية‪ ،‬بعد ن�شوء الأدب القومي �أو اخلا�ص على‬ ‫نظرة �إىل احلياة والكون والفن وا�ضحة فيكون تناول تلك املوا�ضيع بهذه النظرة �أو بهذا الوعي‬ ‫يلح �سعادة �إذن‬ ‫الذي له خ�صائ�صه فيك�سبها من خ�صائ�صه ما ي�ضيف �إليه �ألواناً و�أ�شكا ًال متميزة»‪ّ .‬‬ ‫على �أن تكون النظرة اجلديدة [�إىل احلياة والكون والفن] «نظرة ذات �أ�صل»‪.‬‬ ‫تعالوا نرفع لهذه الأمة التي تتخبط يف الظلمات م�شعا ًال فيه نور حقيقتنا و�أمل‬ ‫�إرادتنا و�صحة حياتنا‪ .‬تعالوا ن�شيد لأمتنا ق�صوراً من احلب واحلكمة واجلمال‬ ‫والأمل مبواد تاريخ �أمتنا ال�سورية ومواهبها وفل�سفات �أ�ساطريها وتعاليمها‬ ‫املتناولة ق�ضايا احلياة الإن�سانية الكربى‪ .‬تعالوا ن�أخذ بنظرة �إىل احلياة والكون‬ ‫والفن نقدر‪ ،‬على �ضوئها‪� ،‬أن نبعث حقيقتنا اجلميلة العظيمة من مرقدها‪.‬‬

‫‪50‬‬


‫فكـــــر‬

‫يدعو �سعادة «�شعراء �سورية» �إىل الأخذ «بنظرة جديدة للوجود وق�ضاياه‪ ،‬وبهذه النظرة وهذا الفهم‬ ‫تت�ضح «حقيقة نف�سيتنا ومطاحمنا ومثلنا العليا»‪ .‬يف دعوة �سعادة هذه عودة �إىل اجلذور ور ّد اعتبار‬ ‫�إىل الأ�صالة‪ .‬ي�ص ّر على �ضرورة توظيف �أ�سطورة متّوز‪« :‬لي�ست ق�صة �أدون �أو �أدوني�س جمهولة‪.‬‬ ‫وكل مت�أمل فيها يجد لها مغزى وعالقة وثيقة مبجرى احلياة‪ .‬وهذه لي�ست الق�صة الأ�سطورية‬ ‫الوحيدة‪ .‬ففي اكت�شافات ر�أ�س �شمرا‪ ،‬قرب الالذقية‪ ،‬ظهرت حقائق رائعة عن عظمة التخ ّيل‬ ‫ال�سوري والتفكري ال�سوري يف احلياة وق�ضاياها الكربى»‪.‬‬ ‫بهذه الإ�شارة فتح �سعادة باباً جديداً يف القول ال�شعري‪ ،‬ال �سيما حتت خانة ما �أ�صلح على ت�سميته‬ ‫ال�شعر التموزي وما ينطوي عليه من م�ضامني البعث بعد املوت واخل�صب اليباب‪ ،‬فالتفت‬ ‫التموزيون‪ ،‬وج ّلهم قوميون �سوريون‪ ،‬ن�ش�أة‪� ،‬أو هوى‪� ،‬أو قرابة‪� ،‬إىل توظيف �أ�سطورة متوز‪ ،‬وغريها من‬ ‫الأ�ساطري‪:‬‬ ‫لي�ست ق�صة �أدون �أو �أدوني�س جمهولة‪ .‬وكل مت�أمل فيها يجد لها مغزى وعالقة‬ ‫وثيقة مبجرى احلياة‪ .‬وهذه لي�ست الق�صة الأ�سطورية الوحيدة‪ .‬ففي اكت�شافات‬ ‫ر�أ�س �شمرا‪ ،‬قرب الالذقية‪ ،‬التي ورد ذكرها فوق‪ ،‬ظهرت حقائق رائعة عن عظمة‬ ‫التخ ّيل ال�سوري والتفكري ال�سوري يف احلياة وق�ضاياها الكربى‪ .‬وهذه احلقائق ال‬ ‫ُتعلن �شيئاً �أقل من هذا الواقع‪� :‬إن �أهم الأ�ساطري اليونانية و�أهم ق�ص�ص اليهود‬ ‫الأ�سا�سية املثبتة يف التوراة م�أخوذ عن �أ�صول �سورية‪ُ ،‬ك�شف عن ق�سم كبري منها يف‬ ‫روايات وق�صائد وجدت يف تنقيبات ر�أ�س �شمرا بني ‪ 1929‬و‪ ،1932‬كما كان قد ُك�شف‬ ‫عن ق�سم هام منها يف نينوى و�آ�شور ومنرود وبابل و�سواها‪.‬‬ ‫كم مجُ ّ د امل�ؤرخون والدار�سون اليونان من �أجل عظمة �أ�ساطريهم التي يعود معظمها‬ ‫�أو �أهمها اىل �سورية‪ .‬فحكاية انتقام �أناة من معط باملنجل‪ ،‬وذ ّر بقاياه يف احلقول‬ ‫لينبت الزرع وي�سقط حتت املنجل‪ ،‬و�أ�ساطري كثرية غريها منقولة بحذافريها‬ ‫تقريباً �إىل الأ�ساطري الإغريقية والعامل يعيرّ نا ب�أننا نحن الذين نقلنا عن الإغريق‪.‬‬ ‫والعامل مديون لنا بفل�سفات جليلة ويقول �إننا جميعاً مديونون لليونان فقط‪.‬‬ ‫حدده �سعادة عقيدة ارتبط وثيقاً بالفكر ال�سيا�سي النه�ضوي «فحيث ال فكر وال �شعور جديدين‬ ‫ما ّ‬ ‫يف ال�سيا�سة ال توجد �سيا�سة جديدة وال نه�ضة �سيا�سية‪ ،‬وكذلك يف الأدب‪ .‬فحيث ال فكر وال‬ ‫�شعور جديدين يف احلياة ال ميكن �أن تقوم نه�ضة �أدبية �أو فنية»‪ .‬للنه�ضة [القومية] عند �سعادة‬ ‫والتف�سخ الروحي بني خمتلف العقائد �إىل‬ ‫«مدلول وا�ضح‪ ،‬وهو خروجنا من التخ ّبط والبلبلة‬ ‫ّ‬ ‫عقيدة جلية �صحيحة وا�ضحة ن�شعر �أنها ُتعبرّ عن جوهر نف�سيتنا و�شخ�صيتنا القومية االجتماعية»‬ ‫‪51‬‬


‫[الدليل اىل العقيدة]‪ ،‬وهذا يتطلب «الو�ضوح يف الق�صد والو�ضوح يف الأهداف» و «�إيجاد و�سائل‬ ‫ت�ؤ ّمن حماية النه�ضة القومية االجتماعية اجلديدة يف �سريها» [من ر�سالة �سعادة‪،1935/12/10 ،‬‬ ‫وهو يف �سجن الرمل يف بريوت‪� ،‬إىل حماميه حميد فرجنية]‪ ،‬فالقومية هي «الروحية الواحدة �أو‬ ‫ال�شعور الواحد املنبثق من الأ ّمة‪ ،‬من وحدة احلياة يف جمرى الزمان‪� .‬إنها عوامل نف�سية منبثقة من‬ ‫روابط احلياة االجتماعية املوروثة واملعهودة‪ ،‬قد تطغى عليها‪ ،‬يف �ضعف تن ّبهها‪ ،‬زعازع الدعاوات‬ ‫واالعتقادات ال�سيا�سية‪ ،‬ولكنها ال تلبث �أن ت�ستيقظ يف �سكون الليل و�ساعات الت�أمل والنجوى»‬ ‫[�سعادة‪ ،‬ن�شوء الأمم‪ ،1937 ،‬يف‪ :‬الدليل اىل العقيدة]‪.‬‬ ‫يلح �سعادة على الأخذ بنظرة جديدة �إىل احلياة والكون والفن‪ ،‬مبعنى يرتافق‬ ‫يف ال�صراع الفكري ّ‬ ‫فيه الأدب واحلياة «فيكون لنا �أدب جديد حلياة جديدة فيها فهم جديد للوجود الإن�ساين وق�ضاياه»‪.‬‬ ‫هذا الأدب يجب �أن يكون «الوا�سطة املُثلى لنقل الفكر وال�شعور اجلديدين‪ ،‬ال�صادرين عن النظرة‬ ‫اجلديدة‪� ،‬إىل �إح�سا�س املجموع و�إدراكه اىل �سمع العامل وب�صره في�صري �أدباً قومياً وعاملياً لأنه يرفع‬ ‫الأمة اىل م�ستوى النظرة اجلديدة وي�ضيء طريقها �إليه‪ ،‬ويحمل‪ ،‬يف الوقت عينه‪ ،‬ثروة نف�سية �أ�صلية‬ ‫يف الفكر وال�شعور و�ألوانهما اىل العامل»‪.‬‬ ‫الرثوثة النف�سية هذه هي �إحدى اخل�صائ�ص القومية التي ر�آها �سعادة ح�صيلة تفاعل ين�ش�أ عنه االحتاد‬ ‫يف احلياة‪� ،‬أي �أن حياة واحدة جتري يف مفا�صل الأمة‪ ،‬حياة واحدة «ذات دورة اجتماعي اقت�صادية‬ ‫ت�شد الأمة ّ‬ ‫وت�شكل رابطتها الأ�سا�سية ف�إن‬ ‫واحدة» [�سعادة‪ ،‬ن�شوء الأمم]‪ ،‬وهي هذه الدورة التي ّ‬ ‫«كل ميزة من ميزات الأمة �أو �صفة من �صفاتها تابعة ملبد�أ االحتاد يف احلياة الذي منه تن�ش�أ التقاليد‬ ‫والعادات واللغة والأدب والدين والتاريخ»‪ .‬الوعي الذاتي لهذا املنطلق النه�ضوي �أ�سا�س النظرة‬ ‫اجلديدة التي يدعو �سعادة �إىل �إر�سائها يف ح ّيز ح�ضاري ُم�شبع باحلرية‪:‬‬ ‫القاعدة الذهبية‪ ،‬التي ال ي�صلح غريها للنهو�ض باحلياة والأدب‪ ،‬هي هذه‬ ‫القاعدة‪ :‬طلب احلقيقة الأ�سا�سية الكربى حلياة �أجود يف عامل �أجمل وقيم �أعلى‪.‬‬ ‫على هذا النحو يرى �سعادة �أن الأدب الذي له قيمة يف حياة الأمة هو الأدب الذي يعنى بق�ضايا‬ ‫الفكر وال�شعور الكربى‪ ،‬يف نظرة �إىل احلياة والكون والفن عالية �أ�صلية‪ ،‬ممتازة‪ ،‬لها خ�صائ�ص‬ ‫�شخ�صيتها‪ .‬وعليه ف�إنه �إذا ن�ش�أت هذه النظرة اجلديدة �إىل احلياة والكون والفن �أوجدت فهماً‬ ‫جديداً للق�ضايا الإن�سانية‪ ،‬كق�ضية الفرد واملجتمع وق�ضية احلرية وق�ضية الواجب وق�ضية النظام‬ ‫وق�ضية القوة وق�ضية احلق وغريها‪ .‬ومي�ضي �سعادة �إىل �أبعد من ذلك فريى �أن بع�ض هذه الق�ضايا‬ ‫يكون قدمياً فيتجدد بح�صول النظرة اجلديدة �إىل احلياة و�أن بع�ضها ين�ش�أ بن�شوء هذه النظرة‪ .‬فاحلرية‪،‬‬ ‫مث ًال‪ ،‬كانت ُتفهم قبل النظرة اجلديدة �إىل احلياة يف �أ�شكال واعتقادات ال و�ضوح وال �صالح لها‬ ‫‪52‬‬


‫فكـــــر‬

‫يف النظرة اجلديدة‪ .‬فلما جاءت النظرة اجلديدة �إىل احلياة والكون والفن‪ ،‬التي ن�ش�أت ب�سببها‬ ‫وف�صلت احلرية‬ ‫احلركة ال�سورية القومية االجتماعية‪ ،‬وقرنت احلرية بالواجب والنظام والقوة‪ّ ،‬‬ ‫�ضمن املجتمع وجتاه املجتمعات الأخرى هذا التف�صيل الوا�ضح‪ ،‬الظاهر يف تعاليمها‪ ،‬ن�ش�أت ق�ضية‬ ‫جديدة للحرية ذات عنا�صر جديدة يب ّينها فهم جديد يتناول �أ�شكال احلياة كما تراها النه�ضة‬ ‫القومية االجتماعية‪ ،‬وفعل احلرية و�ش�أنها �ضمن هذا الأ�شكال‪.‬‬ ‫هكذا قرن �سعادة ال�صراع باحلرية‪ ،‬فال حياة فكرية جديدة دون نظرة فل�سفية جديدة‪ ،‬وال حرية‬ ‫يج�سد الفكر القوي‪.‬‬ ‫دون نظام‪ ،‬ذلك �أن الأدب �صراع يف حت ّوله �إىل واقع ّ‬

‫‪53‬‬


‫دار كتب للن�شر �ش‪.‬م‪.‬ل‪.‬‬

‫بناية الربج‪ ،‬الطابق الرابع‪� ،‬ساحة ال�شهداء الو�سط التجاري‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‬ ‫�صندوق بريد‪ ،11-4353 :‬بريوت ‪ -‬لبنان‪.‬‬ ‫هاتف‪)961-1( 983008 /9 :‬‬ ‫فاك�س‪)961-1( 980630 :‬‬ ‫الربيد الإلكرتوين‪kutub@kutubltd.com :‬‬ ‫املوقع الإلكرتوين‪www.kutubltd.com :‬‬


‫فكــــر‬

‫فل�سفة العلم مبا هي مقولة �إيديولوجية‬

‫مناظرة يف �أطروحات كـارل بوبـر‬

‫حممود حيدر ‪ -‬مفكر وباحث يف الفل�سفة ال�سيا�سية‬

‫متهيد‬

‫مهمة هذه الدرا�سة‪ ،‬هي البحث يف عامل كارل بوبر ‪ Karl Popper‬ك�شخ�صية �شغلت القرن‬ ‫الع�شرين يف واحدة من �أهم منجزات العقل الإن�ساين‪ ،‬عنينا بها فل�سفة العلم‪.‬‬ ‫ومن�ش�أ هذا املنجز العلمي الذي �سيت�صدى له بوبر ب�شغف نادر‪ ،‬يعود �إىل الفو�ضى الفكرية التي‬ ‫عمت ف�ضاء الفيزياء اجلديدة خالل الربع الأول من القرن املن�صرم‪ .‬فل�سوف يكون على فيل�سوف‬ ‫َّ‬ ‫العلوم النم�ساوي �أن ينكب على طائفة من امل�سائل وامل�شكالت العلمية الو�ضعية الكربى‪ ،‬بغية‬ ‫العثور على حلول لها‪ .‬ولقد كان له �أن يقطع م�سافة ثورية يف هذا االجتاه ليتو�صل �إىل و�ضع جملة‬ ‫من امل�سلمات املركزية لفل�سفة الو�ضعية‪ ،‬جاءت على الن�سق التايل‪:‬‬ ‫ االفرتا�ض �أن النظريات العلمية تقبل ال�صدق �أو الإثبات املطلق‪.‬‬ ‫ الإعالء من �ش�أن املعطيات احل�سية على ح�ساب الأفاهيم النظرية‪.‬‬ ‫ االعتقاد بوجود لغة خال�صة للحوا�س‪.‬‬ ‫ تقدمي اال�ستقراء على اال�ستنباط‪.‬‬ ‫ �إق�صاء امليتافيزيقا من جمال املعنى‪.‬‬ ‫حني و�ضع كتابه «املعرفة املو�ضوعية» ‪ ،Objective Knowledge‬ك�شف كارل بوبر عن مهمته‬ ‫الر�سالية فقال‪�« :‬أعتقد �أنني متكنت من حل م�شكلة فل�سفية كبرية‪ :‬م�شكلة اال�ستقراء‬ ‫(وقد تو�صلت للحل يف عام ‪� 1927‬أو نحو ذلك) لقد كان هذا احلل مثمر ًا متام ًا‪ .‬ومكنني‬ ‫من حل عدد كبري من امل�شكالت الفل�سفية الأخرى‪ .‬ومع ذلك‪ ,‬ف�إن قلي ًال من الفال�سفة‬ ‫�سي�ؤيدون ر�أيي يف �أنني حللت م�شكلة اال�ستقراء‪� ..‬إن بع�ض الفال�سفة وجدوا م�ش ّقة يف‬ ‫‪55‬‬


‫درا�سة وجهة نظري يف امل�شكلة‪ ...‬وقد ن�شرت كتب كثرية منذ فرتة قريبة يف املو�ضوع ال‬ ‫(‪)1‬‬ ‫ت�شـري �إىل �أي من �أعمايل»‪.‬‬ ‫�سوف تتع َّر�ض هذه الدرا�سة �إىل بيان الأركان الت�أ�سي�سية للعقالنية النقدية يف نظرية العلم وفل�سفة‬ ‫االجتماع الإن�ساين‪ .‬ثم �ستتجه �إىل ر�صد �أواليات فل�سفة بوبر املرتكزة على الإميان باحلقيقة‬ ‫املو�ضوعية‪ ،‬وامل�آالت التي بلغتها عمليات توظيف البوبرية يف �إعادة ت�شكيل عامل ما بعد احلداثة‪.‬‬ ‫*****‬

‫لو كان ثمة من تو�صيف فل�سفي للقرن الع�شرين لر�أينا �إليه بو�صفه قرن فل�سفة العلم‪ .‬ف�إن �أكرث‬ ‫ما ا َّت�صف فيه‪ ،‬على امتداد متوالياته التاريخية املت�صلة‪� ،‬إمنا هي �صفة العلم‪ .‬و�إذا كانت ال�سمة‬ ‫امل�صدق‬ ‫«التكنوترونية» هي التي �ألقت بظ ِّلها على تلك ال�صفة‪ ،‬فذلك هو �أدنى �إىل اال�ستثناء ِّ‬ ‫للقاعدة‪ .‬والذين ق َّرروا �أن القرن الع�شرين هو بداية ع�صر العلم التكنوـ �إلكرتوين كانوا ي�شهدون‬ ‫على ظاهرة االزدياد الهائل للعلم‪ ،‬والتكنولوجيا ب�أحيازها املختلفة واملتنوعة وت�أثر املجتمع الب�شري‬ ‫احلديث بها ت�أثُّراً م�شهوداً‪ .‬ففي الواليات املتحدة الأمريكية و�أوروبا الغربية‪ ،‬وبدرجة �أقل يف اليابان‬ ‫واالحتاد ال�سوفياتي ال�سابق َظ َه َر‪ ,‬يف �شكل َّ‬ ‫منظم‪ ,‬عدد من اجلهود الأكادميية �سحابة الن�صف‬ ‫الأول من القرن املن�صرم‪� ،‬سعى فيه العلماء �إىل �إظهار ما يخ ِّبئه امل�ستقبل �أو يتن َّب�أ به‪� ،‬أو يدركه‪.‬‬ ‫وبوجه �أكرث حتديداً‪ ,‬ف�إن التحول الذي عا�شته جمتمعات احلداثة يف تلك احلقبة‪َّ ،‬‬ ‫دل على �أن‬ ‫العامل الذي فارق املجتمع ال�صناعي‪� ،‬إىل املجتمع ما بعد ال�صناعي ـ بح�سب تعبري دانيال بل ـ‬ ‫�سيدخل ب�سرعة فائقة �ضمن طور جديد لي�صبح جمتمعاً تكنوترونياً‪� .‬إن ذلك على التعينُّ هو ما‬ ‫ذهب �إليه املفكر اال�سرتاتيجي الأمريكي زبينغيو بريجن�سكي يف معر�ض مقالته ال�شهرية «�أمريكا‬ ‫يف الع�صر التكنوتروين املن�شورة» يف العام ‪.1968‬‬ ‫�سوف يبينِّ بريجن�سكي خ�صي�صة هذا املجتمع املابعد �صناعي‪ ,‬فيالحظ �أن املجتمع التكنوتروين‬ ‫هو ذاك الذي ِّ‬ ‫ي�شكله ثقافياً ونف�سياً واجتماعياً واقت�صادياً ت�أثري وفعل التكنولوجيا والإلكرتونيات‪.‬‬ ‫وبوجه خا�ص يف جمال العقول الإلكرتونية واالت�صاالت‪.‬‬ ‫منذ العقد الأول من الن�صف الثاين للقرن الع�شرين �سوف يقطع علماء الغرب احلداثي‪ ،‬وبالأخ�ص‬ ‫منهم علماء الأنكلو ـ �ساك�سونية‪ ،‬ب�شاهد التح ُّول هذا‪ .‬لقد وجدوا �أن العملية ال�صناعية مل تعد‬ ‫هي العامل املق ِّرر الرئي�سي يف التغيري االجتماعي‪ ،‬وال يف قيم املجتمع‪ .‬ففي املجتمع ال�صناعي‬ ‫كانت املعرفة التقنية تطبق �أ�سا�ساً من �أجل غاية حمددة واحدة‪ :‬هي الإ�سراع بتقنيات الإنتاج‬ ‫وحت�سينها‪ .‬وكانت املرتتبات االجتماعية نتاجاً ثانوياً مت�أخراً لهذا الهدف الأعم‪� .‬أما يف املجتمع‬ ‫التكنوتروين‪ ,‬ف�إن املعرفة التقنية والعلمية تطغى ب�سرعة لت�ؤثر يف معظم �أوجه احلياة مبا�شرة‪.‬‬ ‫بالإ�ضافة �إىل �أنها تق ِّوي �إمكانيات الإنتاج‪ .‬وبالتايل �سوف جند �أن منو املقدرة على �إجراء ح�سابات‬ ‫‪56‬‬


‫فكـــــر‬

‫فورية ملعظم العمليات املعقَّدة املتداخلة‪ ،‬وازدياد �إمكانية احل�صول على الو�سائل الكيميائية احليوية‬ ‫امل�سيطرة على اجل�سم الإن�ساين‪ ،‬من �ش�أنها م�ضاعفة املجاالت املحتملة لعملية االختيار الواعي‬ ‫(‪)2‬‬ ‫لالجتاه املعينَّ ‪ ،‬وكذلك ت�ضاعف ال�ضغوط من �أجل التوجيه واالختيار والتغيري‪.‬‬ ‫حلظـة كارل بوبر‬

‫�إذا كانت �أزمنة فل�سفة العلوم‪� ،‬سبقت بقرون تطورات القرن الع�شرين العلمية‪ ،‬ف�إن هذا القرن‬ ‫�سيكون �شاهداً على التقاء حميم بني املفاهيم النظرية للحداثة وم�صاديقها التكنو ـ �إلكرتونية‪.‬‬ ‫عند ذاك ميكن الكالم على حلظة �أخذت فيها فل�سفة العلم ح�ضورها الوقائعي‪ .‬القرن الع�شرون‪،‬‬ ‫يف هذه املثابة‪ ،‬هو اللحظة املعرفية التي احتد فيها العقل النظري املح�ض للغرب مع منجزه العلمي‪.‬‬ ‫غري �أن �سريورة االحتاد هنا مل تكن لتخ�ضع �إىل جدلية انف�صال وات�صال بني �أمرين متباينني‪� .‬إمنا‬ ‫هي �سريورة احتاد �ضمن الوحدة‪� ,‬إذا جاز القول‪ .‬فالعلوم التجريبية التي �أطلقت املجتمعات التكنو‬ ‫ـ �إلكرتونية يف الغرب ثم الثورة ال�سيربنيطقية (االت�صال والتوا�صل) يف الف�ضاء العاملي كله‪ ،‬قد‬ ‫تو َّلدت من م�ستهل تلك ال�سريورة‪� .‬أي من اجلدل التاريخي لفكر احلداثة الفل�سفي‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫لعل كارل بوبر ‪ 28( Karl Popper‬متوز (يوليو) ‪ 1902‬ـ ‪� 17‬أيلول (�سبتمرب) ‪ )1994‬هو فيل�سوف‬ ‫هذا القرن العلمي بامتياز‪ .‬لقد نظر �إىل العلم واملعرفة نظرة واحدة‪ .‬لي�س العلم‪ ،‬عنده‪� ،‬إ َّال مرحلة‬ ‫متقدمة من املعرفة‪ .‬بل من عالقة الكائن احلي بالبيئة‪ .‬حتى �أننا لو ك�شفنا احلكاية كلها مرة‬ ‫واحدة منذ «الأميبا» حتى �أين�شتاين‪ ,‬لوجدناها تعر�ض النمط نف�سه‪ :‬حل امل�شكالت عن طريق‬ ‫تف�سر �أي �سلوك �إيجابي مثمر‬ ‫تف�سر ما يفعله العامل يف قلب املعمل‪ .‬مثلما ِّ‬ ‫�آلية املحاولة واخلط�أ التي ِّ‬ ‫(‪)3‬‬ ‫على وجه الأر�ض‪.‬‬ ‫�سيكون لهذا الفيل�سوف ّ‬ ‫حظ االنتها�ض بت�أريخ حلظة فل�سفة العلم‪ .‬اللحظة التي ُ�س ِّيلت فيها‬ ‫الفل�سفة يف حقول املعارف لت�ستحيل ٍ‬ ‫وم�س َّدداً به‪ .‬يف هذا‬ ‫بعدئذ علماً م�شبعاً بالروح الفل�سفي َ‬ ‫املعنى ميكن النظر �إىل بوبر بو�صفه م�ؤرخ اللحظة الفل�سفية للعلم‪ .‬وقد يكون الوحيد‪ ,‬من بني‬ ‫فال�سفة القرن الع�شرين‪ ,‬الذي متثَّل روح العلم‪ ،‬رائياً �إليه كخال�صة منطقية مكثَّفة ملنجزات العقل‬ ‫الإن�ساين منذ اليونان مروراً ب�سل�سلة الوارثني وحتى نهايات القرن املن�صرم‪ .‬هكذا �سيمثل كارل‬ ‫بوبر عالمة فارقة‪ ،‬ونقطة حت ُّول يف م�سار فل�سفة العلم‪ .‬حيث انتقلت هذه الفل�سفة من منطق تربير‬ ‫املعرفة العلمية‪ ،‬وتعيني م�سوغات وثوقها وم�صداقيتها �إىل منطق التقدم العلمي‪.‬‬ ‫ذلك �أن فل�سفة العامل حني ن�ش�أت يف �أوا�سط القرن التا�سع ع�شر كانت امتداداً ل�س�ؤال فل�سفة‬ ‫املعرفة (الإب�ستمولوجيا) العريق واملتمحور حول ماذا ميكن �أن يعرف الإن�سان‪ ..‬ما �شروط املعرفة‬ ‫ليت�صدر‬ ‫وما و�سائلها‪ ..‬وما طبيعتها وما حدودها‪...‬؟ وقد ا�ستقام ن�سق العلم احلديث عمالقاً‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫‪57‬‬


‫بامتياز وباقتدار م�سرية املعرفة الإن�سانية‪ ،‬وميثل حالة فريدة لنجاح امل�شروع املعريف للإن�سان‪ .‬لقد‬ ‫�أ�صبح �س�ؤال الإب�ستمولوجيا املتمثل يف فل�سفة العلم‪� ،‬س�ؤا ًال يدور حول عوامل هذا النجاح‬ ‫وحيثياته ومربراته‪ .‬من هنا‪ ,‬ن�ش�أت فل�سفة العلم وهي معنية بتربير املعرفة العلمية كمح�صلة جاهزة‬ ‫ومعطاة؛ �أي تربير ن�سق العلم كمنجز راهن‪ ،‬ميكن �أن ي�ستوعب تقدماً �أبعد‪ .‬ا�ستند هذا التربير‬ ‫�أ�سا�ساً �إىل �إحكام العالقة بني الوقائع التجريبية‪ ،‬وبني النظرية العلمية �أو القانون وذلك يف �صورة‬ ‫املنهج العلمي ـ �صلب فل�سفة العلم ـ هكذا متثَّل املنهج العلمي كتربير لنجاح املعرفة العلمية‪ .‬وهو‬ ‫ما جرى يف املرحلة الأ�سبق على فل�سفة العلم التي تعرف باملرحلة الو�ضعية‪.‬‬ ‫لقد َّ‬ ‫ظل الأمر على هذا النحو حتى جاء كارل بوبر حام ًال لواء املرحلة «البعد ـ و�ضعية»‪ .‬ف�إذا به‬ ‫ينتقل بفل�سفة العلم من منطق التربير �إىل منطق التقدم‪� ،‬إىل منطق الك�شف العلمي واملعاجلة‬ ‫املنهجية له على �أ�سا�س من قابليته امل�ستمرة لالختبار التجريبي والتكذيب‪ ،‬وكذلك قابليته لتعيني‬ ‫اخلط�أ كي يحل حمله ك�شف �أف�ضل و�أكف�أ و�أقرب �إىل ال�صدق‪ ،‬ف�إن الك�شف يكون علمياً بقدر ما‬ ‫يكون قاب ًال لالختبار احلقيقي الهادف �إىل التكذيب؛ �أي بقدر ما يفتح طريقاً لتقدم �أعلى‪ .‬هكذا‬ ‫يو�ضح بوبر �أن معيار العلم �أو اخلا�صية املنطقية املميزة لق�ضاياه هي القابلية لالختبار التجريبي‬ ‫احلقيقي الذي ميكن �أن يف�ضي �إىل التكذيب‪ :‬فيقف على اللحظة الدراماتيكية الكربى يف حركية‬ ‫العلم التقدمية‪ .‬حلظة التكذيب والتنفيذ‪ .‬تكذيب النظرية املقبولة املعمول بها‪ ،‬واكت�شاف اجلديد‬ ‫الأقدر منها والأجدر‪ .‬لي�س منطق الك�شف العلمي‪ ،‬جمرد لبنة جديدة ت�ضاف �إىل �صرح العلم‪،‬‬ ‫(‪)4‬‬ ‫بقدر ما هو منطق فتح جديد للتقدم العلمي‪� .‬إنه فل�سفة التقدم امل�ستمر‪.‬‬ ‫يذهب عدد من ِّ‬ ‫املفكرين املا بعد حداثيني يف معر�ض تو�صيفهم لفل�سفة بوبر‪� ،‬إىل �أن �أفكاره متثل‬ ‫�أهم تطور حدث يف فل�سفة القرن الع�شرين‪ .‬وحتى قبل وفاته بقليل كان ثمة من ه�ؤالء َمن م�ضى‬ ‫�إىل االعتقاد �أن بوبر هو �أعظم الفال�سفة الأحياء‪ .‬بل �إن علماء التاريخ الطبيعي ي�ؤكدون �أن �أهميته‬ ‫ترجع �إىل فكرته عن قابلية التكذيب (‪ )Falsifiability‬كت�صور له �أهمية مبا�شرة بالعلم‪ .‬كذلك‬ ‫ي� ِّؤكد عدد كبري من علماء االجتماع �أن مفهوم اختبار الفرو�ض (‪ )Testing of Hypotneses‬يف‬ ‫مقابل الوقائع (‪ )Facts‬يعد خا�ص ّية مهمة ومميزة لالنت�صار العلمي �إذا ما اتبعنا فكرة بوبر‪ .‬والواقع‬ ‫ـ على ما يالحظ العلماء ـ �أن ت�صور بوبر للعلم هام جداً؛ لأنه مي ِّيز فيه بني امليتافيزيقا والعلم من‬ ‫ناحية‪ ،‬وبني « العلم الكاذب» (‪ )Pseudo Science‬من ناحية �أخرى‪ .‬لئن كان هذا ي�شري �إىل �شيء‪,‬‬ ‫ف�إمنا ي�شري �إىل مدى ما تتم َّيز به عقلية بوبر من نزعة علمية �أ�صيلة يندر �أن جندها لدى الكثريين‬ ‫من �أقرانه (‪� )...‬إ َّال �أنه �سيظهر لنا �أن مدخل بوبر يف معاجلة نظرية العلم يختلف عن املداخل‬ ‫الأخرى؛ �أي تلك التي يتخذها الفال�سفة واملناطقة وفال�سفة العلم‪ .‬وال�سبب يف هذا �أن بوبر ي�ضع‬ ‫نقطة انطالق رئي�سية يتخذها مدخ ًال حيوياً للمو�ضوع‪ :‬فهو �أو ًال ي�شري �إىل امل�شكلة التي يريد �أن‬ ‫يتناولها‪ ،‬ثم يقدم �صياغة لها‪ ..‬ومن خالل حتديد امل�شكلة و�صياغتها‪ ،‬يقوم بتحليلها من اجلوانب‬ ‫كافة ب�صورة نقدية توحي �إىل القارئ ب�أهميتها وحيويتها‪ ..‬ومن خالل النقد ي�ستطيع �أن يدفع‬ ‫‪58‬‬


‫فكـــــر‬

‫باحللول املمكنة مل�شكلته‪ ،‬ثم ي�ستبعدها واحداً تلو الآخر لتبقى ح ًال واحداً‪ ،‬وتكون امل�شكلة من‬ ‫خالله قد ات�ضحت بكل �أبعادها‪.‬‬ ‫والواقع �أن بوبر حني يتحدث عن العلم كنظرية من خالل كتاباته‪ ،‬يتناول بالتحليل م�شكالته يف‬ ‫�صورة ت�سا�ؤالت و�آراء قد ال يعتقد القارئ بها‪ .‬على �سبيل املثال م�شكلة اال�ستقراء (‪Problem of‬‬ ‫‪ )induction‬والتي هي �أول حديث لبوبر يف «املعرفة املو�ضوعية»‪ ،‬وهي كذلك يف منطق الك�شف‬ ‫املوجهة ملجريات‬ ‫العلمي» تعترب �أول �أعمال بوبر و�أحد �أبرز الكال�سيكيات الفل�سفية الرائدة ِّ‬ ‫فل�سفة العلوم‪ .‬يف هذا العمل يبينِّ بوبر «�أن م�شكلة اال�ستقراء‪ ،‬لكي تو�ضع و�ضعاً �صحيحاً‪ ،‬يجب‬ ‫علينا �أن من ِّيز �أو ًال بني العلم (‪ )Science‬وال َّال ـ علم (‪ ،)Non – Science‬ثم من ِّيز منطق املعرفة‬ ‫(‪ )Logic of Knowledge‬من �سيكولوجية املعرفة (‪ .)Psychology of Knowledge‬كما يبدو من‬ ‫ال�ضروري طاملا نحن يف ميدان العلم �أن ن�ستبعد الذاتية ‪ ،))Subjectivism‬التي قد تف�سد على‬ ‫العلم مو�ضوعيته‪ ،‬و�أخرياً ال بد من اتخاذ قرار يف امل�شكلة‪ ،‬وهو ما يعرف عند بوبر بـ«القرارات‬ ‫املنهجية» وهكذا نكون قد بد�أنا بتحديد امل�شكلة‪ ،‬وح�صرها يف �أ�ضيق نطاق ممكن من الت�سا�ؤالت‪،‬‬ ‫ثم انتهينا بقرار منهجي حولها يحدد �أهميتها يف ال�سياق العلمي‪ ،‬ويلقي ال�ضوء عليها ب�صورة كافية‬ ‫(‪)5‬‬ ‫ِّمتكن القارئ من الإملام بجوانبها املختلفة‪.‬‬ ‫قواعـد اال�سـتقراء املنهجـي‬

‫تو�صل �إليه ق َّراء كارل بوبر‪ ،‬مكثَّفات للقواعد املنهجية‪� ،‬أو ما ي�سميها هو بـ«القرارات‬ ‫لدينا هنا مما َّ‬ ‫املنهجية»‪ ،‬التي ينبني عليها منطقه اال�ستقرائي‪ .‬وهاكم يف ما يلي �أبرزها‪:‬‬ ‫�أ‪ .‬اال�ستقراء والتمييز بني العلم والالَّعلم‪:‬‬

‫يبينِّ بوبر �أن العالمِ ي�ضع ق�ضايا �أو �أن�ساقاً من الق�ضايا‪�[ ،‬سواء كان هذا العالمِ نظرياً �أم جتريبياً] ثم‬ ‫يختربها تدريجياً يف ميدان العلوم الأمربيقية (التجريبية)‪ ،‬ب�صفة خا�صة يك ِّون فرو�ضاً �أو �أن�ساقاً من‬ ‫نظريات ويجري عليها اختباراً يف مواجهة اخلربة عن طريق املالحظة والتجربة‪ )6(.‬‬ ‫ ‬ ‫ب‪ .‬منطق املعرفة و�سيكولوجية املعرفة‪:‬‬

‫يقول بوبر يف «منطق الك�شف العلمي» �إن «ال�س�ؤال حول كيف يحدث �أن يدور بخلد �إن�سان فكرة‬ ‫جديدة ـ �سواء �أكانت معزوفة مو�سيقية �أو �صراعاً درامياً‪� ،‬أو نظرية علمية ـ رمبا تكون ذات �أهمية‬ ‫عظمى لل�سيكولوجية الأمربيقية‪ ،‬لكنها لي�ست وثيقة ال�صلة بالتحليل املنطقي للمعرفة العلمية‬ ‫‪59‬‬


‫من حيث هي غري معنية ب�أ�سئلة عن الواقعة‪ ,‬و�إمنا معنيـة فح�سب ب�أ�سئلة التربير �أو ال�صحة»‪.‬‬

‫(‪)7‬‬

‫ج‪ .‬نزعة �ضد الذاتية‪:‬‬

‫عند بوبر يكون العلم مو�ضوعياً‪ ,‬مبعنى �أن نظرياته ال ميكن �أن ترد �إىل حمتوى ال�شعور لأي فرد‪،‬‬ ‫فبمجرد قيام النظرية تعر�ض لالختبار يف مقابل حاالت الأ�شياء املالحظة‪ .‬ويف ما يتعلق ب�أي اختبار‬ ‫تتعر�ض له النظرية‪ ،‬ف�إنه �إما �أن تبقى النظرية �أو ُترف�ض‪ .‬على �أن عملية اختبار النظريات العلمية‪،‬‬ ‫على النحو امل�شار �إليه‪ ،‬ال تت�ضمن ‪� ،‬أو ال تعتمد على االعتقادات الذاتية (‪)Subjective Beliefs‬‬ ‫لأي فرد‪ .‬فما دام االختبار �سيقوم به فرد‪ ،‬ف�إنه ميكن تكراره مرات ومرات بوا�سطة �أي فرد �آخر يف‬ ‫�أي زمان ومكان‪ .‬فكما يتطلب �ضرورة مو�ضوعية النظرية‪ ،‬كذلك فال بد و�أن تكون ق�ضايا املالحظة‬ ‫ال�شخ�صية ـ التي ُتخترب النظرية يف مقابلها ـ مو�ضوعية �أي�ضاً‪� ،‬أي ال ُتر ّد �إىل حمتوى ال�شعور لأي‬ ‫فرد‪ .‬وهنا فقط‪ ،‬وفقط عند هذا التف�سري‪ ،‬ميكننا �أن نلم�س �أن بوبر لي�س و�ضعياً (‪)Positivisit‬؛ لأنه‬ ‫يت�ساءل عن كيفية رد م�ضمون النظرية العلمية �إىل عنا�صر �أولية مفرت�ضة وغري قابلة للر ّد؛ ولأنه يف‬ ‫�إطار املعرفة املو�ضوعية عنده ال يوجد مكان �إطالقاً لعنا�صر معرفية غري قابلة للرد‪ .‬فبينما يفرت�ض‬ ‫كارناب دائماً‪� ،‬إمكانية وجود لغة مالحظة نظرية (‪، )Theoretical Observation Language‬‬ ‫جند �أن بوبر ي�صر على �أن كل املالحظات‪ ،‬من دون ا�ستثناء‪ ،‬ال بد و�أن تجُ رى يف �ضوء نظرية‪� .‬أي‬ ‫�أنه ال توجد ق�ضايا مالحظة �أولية تتجاوز ما هو نظري ( ‪ )Extra – Theoretical‬ميكن �أن ت�ش ِّيد‬ ‫النظرية العلمية على متنها‪ .‬ولذا ف�إن بوبر ي� ِّصور لنا العالقة بني النظرية واملالحظة كما يلي‪�« :‬إذا‬ ‫كان مطلبنا �أن الق�ضايا العلمية يجب �أن تكون مو�ضوعية‪� ،‬إذن فالق�ضايا التي تنتمي للأ�سا�س‬ ‫(‪)8‬‬ ‫الأمربيقي للعلم يجب �أن تكون مو�ضوعية �أي�ضاً؛ �أي غري قابلة لالختبار الذاتي املتبادل‪.‬‬ ‫د‪ .‬القرارات املنهجية‪:‬‬

‫وهذه �آلية عليها �أن تخترب النظريات يف مقابل احلاالت الو�صفية للأ�شياء املالحظة‪ .‬وهي �إما �أن‬ ‫ترف�ض‪� ،‬أو تقبل م�ؤقتاً‪ ،‬ثم تتعر�ض الختبارات �أكرث؛ ولكن ل�سوء احلظ ـ وهذا من امل�آخذ التي‬ ‫ت�ساق �ضد بوبر ـ ف�إن الأ�شياء لي�ست بهذه الب�ساطة‪ ،‬وهذا ما ميثل �أحد التعقيدات الهامة حول‬ ‫النظرية؛ لأن االختبار اال�ستنباطي لأي نظرية يجب �أن يت�ضمن �إ�شارة �إىل ق�ضايا �أولية هي �أي�ضاً‬ ‫ق�ضايا قابلة لالختبار(‪ )...‬يف �سياق حتقيقه لكتاب «منطق الك�شف العلمي» يع ِّلق ماهر عبد القادر‬ ‫حممد علي على ما �سبق‪ ،‬فيجد «�أن الق�ضايا الكلية والق�ضايا الأولية تت�سمان بالطابع الو�ضعي‪،‬‬ ‫وينتج من هذا �أنه �إذا كانت ق�ضية كلية معطاة لدينا‪ ،‬تناق�ض ق�ضية �أولية معطاة‪� ،‬إذن‪ ،‬ف�إحداهما‬ ‫على الأقل يجب �أن تكون كاذبة‪ .‬ويف حالة االختبار الناجت يف مثل هذا التناق�ض‪ ،‬ف�إنه يبدو �ضرورة‬ ‫�أن نرف�ض �إما النظرية �أو الق�ضية الأولية �أو كالهما‪ .‬ومن ثم ف�إن القرار ‪ Decision‬لرف�ض نظرية‬ ‫‪60‬‬


‫فكـــــر‬

‫ما على �أ�سا�س �أي اختبار يتطلب قراراً قبلياً ‪ apriori decision‬لنقبل ق�ضايا �أولية معينة؛ �أي �أن‬ ‫قبول الق�ضايا الأولية ميكن �أن يز ّودنا فقط بالأ�س�س املنطقية ‪ Logical Grounds‬التي تتطلبها‬ ‫نظرية بوبر لرف�ض النظريات التي تناق�ض الق�ضايا الأولية‪� .‬أما من الناحية العملية ف�إن املوقف‬ ‫يبدو‪ ،‬للمحقق‪ ،‬على نحو �أ�شد تعقيداً من هذا؛ ذلك لأن ا�شتقاق تنب�ؤات من ق�ضايا كلية غالباً‬ ‫ما يتطلب بع�ض التخ�صي�ص لل�شروط الأمربيقية (‪ )Empirical Conditions‬يف قطاع معينَّ من‬ ‫املكان والزمان‪ ،‬مثل ا�ستخدام نظريات �أخرى‪ ،‬وبع�ض تطبيقات املنطق �أو الريا�ضيات البحتة‪.‬‬ ‫ويف مثل هذه احلاالت ف�إن ما ُيخترب لي�س هو الق�ضية الكلية كنظام معقَّد من النظريات‪ ،‬و�إمنا هو‬ ‫الق�ضايا ال�شخ�صية‪� ،‬أو الو�صفية‪ ،‬وعنا�صر املنطق والريا�ضيات‪ .‬ف�إذا �أخفق هذا الن�سق ف�إن اختباره‬ ‫كنتيجة لقرارنا بقبول بع�ض الق�ضايا الأولية يواجهنا بال�س�ؤال الآتي‪� :‬أي جزء من الن�سق ينبغي‬ ‫رف�ضه؟ لقد ر�أينا �أن كل النظريات‪ ،‬وكل الق�ضايا ال�شخ�صية الو�صفية قابلة لالختبار‪ ،‬و ال�شيء‬ ‫(‪)9‬‬ ‫نف�سه ي�صدق على املنطق والريا�ضيات»‬ ‫«يقينيـات» بوبريـة‬ ‫ّ‬

‫يف �آخر كتاب حتت عنوان «�أ�سطورة الإطار» �أج َم َل لنا كارل بوبر نظريته يف عدد من الأطروحات‪،‬‬ ‫متحدية‪ .‬كما لو �أنه يريد مبثل هذا الت�أكيد‪� ،‬أن‬ ‫ولقد َج َه َر ب�أنه يب�سطها �أمام القارئ يف �أقوى �صورة ِّ‬ ‫يظهر �شغفه الأق�صى مبا َّفكر فيه‪ ،‬و�أجنزه على مدى �أكرث من ن�صف قرن‪َّ .‬‬ ‫ولعل الذي حمله على‬ ‫هذا‪� ،‬أن �أطروحاته يف تقدي�س العلم والعقالنية النقدية والليربالية املفتوحة‪ ،‬هي �أنها ا�ستقامت‬ ‫ك�شريعة ال ت�ضارع يف مرحلة عوملة �آخر القرن الع�شرين‪ .‬هكذا �سنجد بوبر ي�سوق �أطروحاته كمن‬ ‫يب�سط على امللأ يقينيات ال را َّد لها‪ .‬ولقد ب�سطها على الوجه التايل‪:‬‬ ‫ املعرفة العلمية ب�أ�سرها‪ ،‬فر�ضية �أو حد�سية‪ ،‬هي معرفة افرتا�ضية‪.‬‬ ‫ يتوقف منو املعرفة‪ ،‬خ�صو�صاً املعرفة العلمية‪ ،‬على التع ُّلم من �أخطائنا‪.‬‬ ‫ن�سميه منهج العلم يتوقف على التع ُّلم النظامي من �أخطائنا‪� :‬أو ًال‪ ،‬عن طريق‬ ‫ �إن ما ميكن �أن ّ‬ ‫اال�ضطالع مبخاطرات عن طريق الإقدام على �صنع �أخطاء؛ �أي عن طريق الطرح اجلريء‬ ‫لنظريات جديدة‪ .‬وثانياً‪ ،‬عن طريق البحث النظامي عن الأخطاء التي وقعنا فيها‪� ،‬أي عن‬ ‫طريق املناق�شة النقدية والفح�ص النقدي لنظرياتنا‪.‬‬ ‫ احلجج امل�ستقاة من االختبارات التجريبية هي �أقوى احلجج امل�ستخدمة يف هذه املناق�شة‬ ‫النقدية‪.‬‬ ‫ التجارب ت�سرت�شد دائماً بالنظرية‪ ،‬بح�س باطني نظري غالباً ما يكون املج ِّرب على غري وعي‬ ‫‪61‬‬


‫به‪ ،‬بفرو�ض متعلقة بامل�صادر املحتملة للأخطاء التجريبية‪ ،‬وبتطلعات �أو بفرو�ض حد�سية ب�ش�أن‬ ‫ما �سيكون جتربة خ�صيبة مثمرة نظرياً‪.‬‬ ‫(يق�صد بوبر باحل�س الباطني‪ ،‬تكهنات ب�أن جتارب من نوع معينَّ �سوف تكون خ�صيبة مثمرة نظرياً)‪.‬‬ ‫ي�سمى باملو�ضوعية العلمية يتوقف على املقاربة النقدية فقط ال غري‪ :‬على واقعة مفادها‬ ‫ �إن ما ّ‬ ‫�أنك �إذا كنت منحازاً لتحبيذ نظريتك الأثرية‪� ،‬سوف يتل َّهف فريق من �أ�صحابك وزمالئك‬ ‫على نقد ما �أجنزته ـ �أي على تفنيد نظرياتك الأثرية �إذا ا�ستطاعوا ( و�إذا مل يفعلوها‪ ،‬ف�سيفعلها‬ ‫بع�ض العاملني من اجليل الثاين)‪.‬‬ ‫ ينبغي �أن ت�شجعك هذه الواقعة على �أن حتاول تفنيد نظرياتك بنف�سك‪ ،‬ومعنى هذا �أنها قد‬ ‫تفر�ض عليك نظاماً در�سي ُاً معيناً‪.‬‬ ‫ وعلى الرغم من هذا‪ ،‬يخطئ من يعتقد �أن العلماء �أكرث مو�ضوعية من �سواهم من الب�شر‪� .‬إنها‬ ‫لي�ست مو�ضوعية �أو جت ُّرد العامل كفرد‪ ،‬بل العلم ذاته هو الذي يتجه نحو املو�ضوعية (التي يجوز‬ ‫�أن نطلق عليها‪ :‬تعاون الأ�صدقاء الألداء من العلماء» �أي (اال�ستعداد للنقد املتبادل)‪.‬‬ ‫ ومع هذا ثمة �شيء ي�شبه التربير املنهجي للعلماء ك�أفراد لكي يكونوا دوغماطيقيني وحمابني‪.‬‬ ‫ما دام منهج العلم هو منهج املناق�شة النقدية‪ ،‬ف�إن الدفاع امل�ستميت عن النظريات املنقودة هو‬ ‫على جانب كبري من الأهمية‪ ،‬فلن نعرف قواها احلقيقية �إ َّال بهذه الطريقة‪ .‬ولن نعرف القوة‬ ‫الكاملة للحجة النقدية‪� ,‬إ َّال �إذا واجه النقد مقاومة با�سلة‪.‬‬ ‫ �إن الدور الأ�سا�س الذي تلعبه النظريات �أو الفرو�ض �أو احلدو�س االفرتا�ضية يف العلم يجعل‬ ‫من الأهمية مبكان �أن من ِّيز بني النظريات القابلة لالختبار ( �أو القابلة للتكذيب) وبني النظريات‬ ‫غري القابلة لالختبار ( �أو غري القابلة للتكذيب)‪.‬‬ ‫ ال نظرية قابلة لالختبار �سوى النظرية التي تقر �أو تت�ضمن‪� ،‬أن �أحداثاً معينة ميكن ت�صورها لن‬ ‫حتدث يف الواقع‪ .‬يت�ألف االختبار من املحاولة‪ ،‬بكل الو�سائل امل�ستطاعة‪� ،‬أن ن�ستح�ضر على‬ ‫وجه الدقّة تلك الأحداث التي تخربنا النظرية �أنها ال ميكن �أن حتدث‪.‬‬ ‫ هكذا ميكن القول‪� :‬إن كل نظرية قابلة لالختبار متنع حدوث �أحداث مع َّينة‪ .‬و�إن النظرية‬ ‫تتحدث عن الواقع التجريبي فقط على قدر ما تعينِّ حدوداً فيه‪.‬‬ ‫ وعلى هذا ميكن و�ضع كل نظرية قابلة لالختبار يف �صورة كذا وكذا ال ميكن �أن يحدث مث ًال‪:‬‬ ‫القانون الثاين للديناميكا احلرارية ميكن �صياغته بالقول‪� :‬إن الآلة الدائمة احلركة من النوع‬ ‫الثاين ال ميكن �أن توجد‪.‬‬ ‫ ال ميكن �أن حتمل نظرية خرب ُاً عن العامل التجريبي ما مل تدخل‪ ,‬من حيث املبد�أ‪ ,‬يف �صدام مع‬ ‫‪62‬‬


‫فكـــــر‬

‫العامل التجريبي‪ .‬وهذا يعني‪ ،‬على وجه الدقة‪� :‬أنها يجب �أن تكون قابلة للتفنيد‪.‬‬ ‫ القابلية لالختبار لها درجات‪ :‬النظرية التي تع ِّزز �أكرث‪ ،‬وبالتايل النظرية التي ت�ضطلع مبخاطر‬ ‫�أعظم‪ ،‬تكون �أف�ضل يف القابلية لالختبار من النظرية التي تق ِّرر النزر الي�سري‪ .‬وباملثل ميكن‬ ‫ت�صنيف االختبارات عن طريق تقدير درجة ق�سوتها‪ .‬مث ًال‪ ،‬االختبارات الكيفية بوجه عام �أقل‬ ‫ق�سوة من االختبارات الكمية‪ .‬واالختبارات ذات التنب�ؤات الكمية الأكرث دقة تكون �أق�سى‬ ‫من االختبارات ذات التنب�ؤات الكمية الأقل دقة‪.‬‬ ‫كان املذهب ال�سلطوي يف العلم مرتبطاً بفكرة الت�أ�سي�س‪ ،‬مبعنى �إثبات نظرياته �أو التحقق منها‪.‬‬ ‫بينما ترتبط املقاربة النقدية للعلم بفكرة االختبار‪ ،‬مبعنى حماولة تفنيد حدو�سه االفرتا�ضية‪� ،‬أو‬ ‫(‪)10‬‬ ‫تكذيبها‪.‬‬ ‫�سيكون من البديهي‪ ،‬تبعاً للأطروحات �آنفة الذكر‪� ،‬أن ت�شق البوبرية �سبيلها نحو الت�صعيد‪� .‬أي يف‬ ‫االجتاه الذي يجعل من تلك الأطروحات �أدنى �إىل �أن تكون ثوابت وا�سرتاتيجيات يجري على‬ ‫�أ�سا�سها حتقيق �أمرين‪:‬‬ ‫�أو ًال‪� :‬إثبات م�شروعية العقالنية الليربالية امل� َّؤ�س�سة على العلوم الأمبرييقية‪.‬‬ ‫ثانياً‪ :‬نفي كل ما يخالفها‪ ،‬باعتبار الذي يخالف هو خارج حلبة الواقع الإن�ساين احلي‪.‬‬ ‫لكن امل�شروع البوبري وهو يتجه نحو م�سعاه لن يلبث عند حدود الت�أ�صيل النظري لفاعليات‬ ‫فل�سفة العلم؛ �إذ �سرعان ما �سيحفر هذا امل�سعى جمراه يف الزمن العاملي ليكون‪ ،‬بالفعل‪� ،‬أحد �أبرز‬ ‫عالمات احلداثة ال َبعدية‪� .‬أو ما ميكن و�ضعه يف ف�ضاء التنظري التكنوـ �إلكرتوين وع�صر املعلومات‪.‬‬ ‫ولكي جتري العملية البوبرية يف م�سراها النظري الواقعي املركب‪ .‬كان عليها �أن تدخل يف �سجال ال‬ ‫هوادة فيه مع خ�صومها املبا�شرين‪ .‬لقد كان يف مقدم �أولوياتها �أن تعينِّ �آليات عملها وا�سرتاتيجياتها‬ ‫ا�ستعداداً لطورها اجلديد‪ ،‬وذلك على قاعدة الإثبات والنفي‪.‬‬ ‫لقد ر�أينا كيف ب َّينت البوبرية تعريفها لذاتها‪ ،‬من خالل حتديد ماهياتها النظرية واملعرفية واملنطقية‪،‬‬ ‫بو�صفها فل�سفة علم �أمبرييقية‪ .‬يف حني �أنها �س ُتدخِ ل نقد خ�صومها كعامل م� ِّؤ�س�س لهند�ستها‬ ‫وال ع�ضوياً يف �إظهار ماهيتها الذاتية‪.‬‬ ‫املعرفية؛ بحيث يدخل النقي�ض دخ ً‬ ‫�أول ما كان على البوبرية �أن تواجهه هو املارك�سية بنظريتها الديالكيتية‪ ،‬وا�ستطراداً املارك�سية‬ ‫كج�سد �سيا�سي واقت�صادي وثقايف ممث ًال بال�شيوعية الدولية‪.‬‬ ‫ل َرن الآن كيف جرت هذه املواجهة‪...‬‬ ‫‪63‬‬


‫نقـد �أهـل التاريخانيـة‬

‫وقف بوبر �ضد التاريخانية بو�صفها حكم قيمة على التاريخ؛ ولذا و�ضعها خارج قلعته العقالنية‬ ‫ال�صارمة‪ .‬ال يتوقف حكمه على �سو�سيولوجيا التاريخ يف كونها غري علمية؛ لأنها تنطوي على‬ ‫يقينيات ال تقبل التكذيب‪ ،‬و�إمنا بلغ به الأمر لكي يرى �إىل فل�سفة التاريخ باعتبارها جواباً �إميانياً‬ ‫على �أي �س�ؤال يطرح عليها‪ .‬يف كتابه الذي �صدر العام ‪ 1997‬حتت عنوان « �أ�سطورة الإطار ـ يف‬ ‫دفاع عن العلم والعقالنية» يقول بوبر حول ما ي�سميه «فل�سفة التاريخ»‪� :‬إنها تدور دائماً حول ثالثة‬ ‫�أ�سئلة كربى‪:‬‬ ‫ هل هناك خطة للتاريخ‪ ،‬و�إذا كان ثمة خطة‪ ،‬فما هي؟‬ ‫ ما فائدة التاريخ ؟‬ ‫ كيف ينبغي علينا كتابة التاريخ‪� ،‬أو ما هو منهج التاريخ؟ وهذا ال�س�ؤال يت�ضمن بر�أيه �أي�ضاً‬ ‫«م�شكلة املعرفة التاريخية»‪.‬‬ ‫ثم مي�ضي �إىل القول‪« :‬لقد طرحت �إجابات‪� ،‬صريحة و�ضمنية على هذه الأ�سئلة الثالثة‪ ،‬منذ‬ ‫صوال �إىل يومنا هذا‪ .‬ومما يثري الده�شة �أن الإجابات مل تتغيرَّ �إ َّال‬ ‫الإجنيل و�أ�شعار هومريو�س ‪ ،‬و� ً‬ ‫قلي ًال»‪.‬‬ ‫غري �أنه ال يلبث �أن ي�ستطرد يف ما ي�شبه التمهيد جلوابه عرب التاريخ وفل�سفته فيقرر‪�« :‬أن الإجابة‬ ‫الإميانية تعد �أقدم الإجابات على �س�ؤالنا الأول‪� ،‬إنها �إجابة الإجنيل و�أ�شعار هومريو�س‪ .‬فثمة خطة‬ ‫للتاريخ ولكن ال ميكن �إدراكها �إ َّال ب�صورة مبهمة؛ لأنها ناجتة عن م�شيئة الرب‪� ،‬أو الأرباب‪ .‬ولكن‬ ‫لي�س من ال�سهل �أن ندرك ُكن َهها‪ ،‬على الرغم من �أنها قد ال تكون م�ستغلقة متاماً‪ .‬وعلى �أي حال ـ‬ ‫ي�ضيف بوبر ـ هناك �شيء ما من قبيل ال�سر املطمور خلف �سطح الأحداث‪ .‬وال بد �أن ترتبط هذه‬ ‫اخلطة بالثواب والعقاب‪ ،‬بنوع ما من التوازن املقد�س �أو العدل الإلهي‪ ،‬على الرغم من �أنها عدالة‬ ‫(‪)11‬‬ ‫ال ي�ستطيع �أن يتبينَّ فعلها �إ َّال ذوو الب�صائر النافذة»‪.‬‬ ‫هذا �أحد الت�أ�سي�سات النظرية التي يعبرِّ فيل�سوف العقالنية النقدية �أطروحاته من خاللها ليقيم‬ ‫احلد على التاريخانية بو�صفها نظرية غري علمية‪ .‬ول�سوف يظهر لنا الحقاً كيف �أن رحلته الإق�صائية‬ ‫هذه �ست�ؤول �إىل حقول النزاع الأيديولوجي مع الر�ؤية املارك�سية للتاريخ‪ .‬وللتاريخانية مبا هي ر�ؤية‬ ‫للتاريخ على �أ�سا�س كونه �صراع طبقات‪ .‬وها هو يالحظ يف هذا ال�صدد �أن «النزعة التاريخانية»‬ ‫‪� Historicism‬أطلقت على النظرية التي تقول بوجود خطة للتاريخ‪� ،‬سواء �أكانت �إميانية �أم �إحلادية‪.‬‬ ‫�إنه (�أي بوبر) يعرتف ب�أن ا�ستخدامه لهذا التعريف ب�ش�أن التاريخانية تع َّر�ض لنقد �شديد من قبل‬ ‫‪64‬‬


‫فكـــــر‬

‫البع�ض ـ يق�صد املفكرين املارك�سيني ـ �إ َّال �أن نقدهم ـ كما يقول ـ ال يبدو له ف ّعا ًال؛ ذلك لأن‬ ‫ناقديه‪ ،‬يعتمدون على نظرية خاطئة ترى �أن الأ�سماء �أو امل�صطلحات هي التي تعنينا‪ .‬والواقع �أن‬ ‫ا�سم النزعة التاريخانية ال يعدو �أن يكون بطاقة ا�صطالحية يقدمها كطريقة للحديث عن نظريات‬ ‫�شتى مت�صلة معاً يف �سياق �شرحه ومناق�شته لها‪ .‬وهكذا يق ِّرر بوبر �أن الق َّلة ال�ضئيلة هي التي ال‬ ‫تزال تدافع عن التاريخانية‪ .‬ويف هذا ال�صدد ـ ي�ضيف ـ �أنه حتى �أ�صوات املارك�سيني و�أتباع‬ ‫الربوف�سور �أرنولد توينبي ‪� A.Toynbee‬أ�صبحت خافتة‪� ،‬إن مل تكن غري م�سموعة‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬ف�إن‬ ‫بوبر يعود ليخربنا يف ح�سرة الفتة‪ ،‬ب�أنه ال يفت�أ ي�شعر ـ بالرغم من كل ما ح�صل من م� ٍآ�س للتاريخانية‬ ‫(‪)12‬‬ ‫ـ كما لو كان ال يزال غارقاً يف غمرتها‪.‬‬ ‫التاريخانية بو�صفها �إيديولوجيا‬

‫ال يكتفي كارل بوبر حني ي�صدر حكم الإق�صاء على التاريخانية‪ ،‬ببيان ما تدعيه جلهة القول‬ ‫بالتنب�ؤ التاريخي كغاية رئي�سية لها؛ �أو جلهة افرتا�ضها �إمكان الو�صول �إىل هذه الغاية بالك�شف‬ ‫عن «القوانني» �أو «االجتاهات» �أو «الأمناط» �أو «الإيقاعات» التي ي�سري التطور التاريخي وفقاً لها‪.‬‬ ‫�سوف يق ِّرر �أنها ـ التاريخانية ـ جمرد �إيديولوجيا بائ�سة‪ .‬فحني يق ِّرر املذهب التاريخاين �أن ات�صاف‬ ‫القوانني االجتماعية بالن�سبية التاريخية هو الذي مينع من تطبيق املناهج الفيزيقية وعلم االجتماع‪،‬‬ ‫ف�إن احلجج التي يبني عليها هذا االعتقاد تتعلق ـ بر�أي بوبر ـ بالتعميم والتجربة وتعقُّد الظواهر ‪،‬‬ ‫و�صعوبة التنب�ؤات الدقيقة‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫ولعل �أحد �أبرز م�آخذ بوبر على التاريخانية بن�سختها املارك�سية �أنها االبنة ال�شرعية للنزعة الكلية‪.‬‬ ‫فالكل ُّيون ـ كما يقول ـ ال يهدفون فقط �إىل درا�سة املجتمع بوا�سطة منهج ميتنع على التحقيق‪ ،‬بل‬ ‫�إنهم يق�صدون �أي�ضاً �إىل ُّ‬ ‫التحكم يف هذا املجتمع و�إعادة �إن�شائه «ككل»‪� .‬أي �أنهم يتك َّهنون ب�أنَّ ‪،‬‬ ‫�سلطة الدولة �صائرة �إىل ازدياد حتى ت�صبح الدولة واملجتمع �شيئاً واحداً تقريباً‪ .‬والفكرة احلد�سية‬ ‫(‪)13‬‬ ‫التي تعبرِّ عنها هذه الكلمات فكرة وا�ضحة مبا فيه الكفاية‪ ،‬فهي فكرة نظام احلكم اجلامع‪.‬‬ ‫من باب جعل التاريخانية‪ ،‬ب�أ�صنافها الت�أ�سي�سية واملت�أخرة‪� ،‬ضمن دوائر الكلية �أو «الكليانية» �أدخل‬ ‫كارل بوبر الأطروحة الأكرث حتدياً للر�أ�سمالية الليربالية وللمجتمع املفتوح‪� ،‬أي املارك�سية‪ ،‬يف‬ ‫عامل الإيديولوجيا‪ .‬ول�سوف ُي�صدر عليها حكماً مربماً يف املراحل املت�أخرة من حياته‪ ،‬فيقول �إنها‬ ‫�إيديولوجية رجعية‪ .‬هو يعرتف باجلاذبية العاطفية للتاريخانية‪ ،‬ويبينِّ �أن هذه الأخرية مذهب عريق‬ ‫يف القدم (‪ )...‬ويف كل �صورة من �صور هذا املذهب تعبري عن ال�شعور باالن�سياق نحو امل�ستقبل‬ ‫قوى ال ميكن مقاومتها (‪ )...‬لكن املحدثني من �أ�صحاب املذهب التاريخاين ال يدركون‪،‬‬ ‫بت�أثري ً‬ ‫يف ما يبدو‪ ،‬ق َِدم مذهبهم‪ .‬فهم يعتقدون‪ ،‬ومل يكن لهم خيار يف هذا نتيجة لت�أليههم كل جديد‪،‬‬ ‫‪65‬‬


‫ب�أن املذهب التاريخاين يف �صورته التي ي�أخذون بها هو �آخر ما حققه العقل الإن�ساين من نتائج‪.‬‬ ‫جدته‪ ،‬بحيث ال يقوى على �إدراكه �إ َّال القليلون‪.‬‬ ‫و�أكرثها جر�أة‪ .‬و�أن هذا العمل العظيم باهر يف ّ‬ ‫هذا العر�ض الذي يقدمه بوبر على ل�سان التاريخانيني �أنف�سهم ال يلبث �أن يتحول �إىل مادة‬ ‫ي�ست�أنف على �أ�سا�سها نقده ال�صارم ملارك�سية �آخر القرن الع�شرين‪ ،‬فيما هي تعي�ش نزاعها الأخري‬ ‫مع �إمربيالية الع�صر التكنو الكرتوين‪.‬‬ ‫يعرب بوبر عن اعتقاده ب�أن ادعاء التاريخانية‪� ،‬أنها القوة اخل ّالقة والتقدمية يف العامل احلديث‪ ،‬هو‬ ‫�شيء جريء وثوري لكنه يتم بنزعة رجعية غري واعية‪ .‬ثم يوا�صل نقده لهذا االدعاء على �شكل‬ ‫عما �إذا كان احلما�س‬ ‫ت�سا�ؤالت‪� :‬إن من حق املت�أمل يف هذا احلما�س العظيم للتغيري �أن يت�ساءل ّ‬ ‫يعك�س وجهاً واحداً فقط ملوقف مزدوج؟ ثم يتوجه بال�س�ؤال‪� :‬أفال يخفي هذا احلما�س وراءه‬ ‫�شدتها ومن الواجب التغلب عليها؟ ي�ضيف‪� :‬إذا �أُجيب على هذا الت�سا�ؤل‬ ‫مقاومة ال تقل عنه يف ّ‬ ‫بالإيجاب‪ ،‬كان يف ذلك تف�سري للحمية الدينية التي ا�صطبغ بها القول �إن هذه الفل�سفة العتيقة‬ ‫البالية هي �آخر ما تك�شَّ ف عنه العلم و�أعظمه (‪ )...‬ومن يدري‪َّ ،‬‬ ‫فلعل ا�صحاب املذهب التاريخاين‬ ‫(والكالم لبوبر) خائفون من التغيري‪� .‬أهو اخلوف من التغيري يجعلهم عاجزين عن مواجهة النقد مبا‬ ‫يتفق واملوقف العقلي؟ وهل كان هذا اخلوف هو ال�سبب يف ا�ستجابة غريهم لتعاليمهم؟‪ ..‬ثم يختم‬ ‫فيقول ‪ :‬احلق �أن التاريخانيني يبدون ك�أنهم يحاولون تعوي�ض �أنف�سهم عن فقدان عامل ال يتغري‪،‬‬ ‫(‪)14‬‬ ‫فيت�شبثون باالعتقاد ب�أن التغيرُّ ميكن التن ّب�ؤ به؛ لأنه حمكوم بقانون ال يتغيرَّ ‪.‬‬ ‫�إن الذي تق ِّرره البوبرية بعدما �أجنزت ق�سطاً موفوراً من �أمان ّيها ب�سقوط التاريخانية ال�سيا�سية مع نهاية‬ ‫القرن الع�شرين‪ ،‬هو ممار�سة فكرية على قاعدة النفي والإثبات‪ .‬كان نفي و�إق�صاء التاريخانية مقدمة‬ ‫لإثبات العقالنية وبهتان ـ ما ي�سميه بوبر ـ «�أ�سطورة الإطار»‪ .‬فمن الوا�ضح ـ كما يبينِّ �صاحبها ـ‬ ‫�أن «�أ�سطورة الإطار» هي ذاتها املبد�أ القائل‪� :‬إن املرء ال ي�ستطيع الدخول يف مناق�شات عقالنية لأي‬ ‫�شيء �أ�سا�سي‪� ،‬أو �أن املناق�شة العقالنية للمبادئ م�ستحيلة‪.‬‬ ‫كمح�صلة للنظرة اخلاطئة‪ ،‬القائلة‪� :‬إن كل مناق�شة عقلية‬ ‫من الناحية املنطقية‪ ،‬يجد بوبر هذا املبد�أ‬ ‫ِّ‬ ‫ال بد �أن تبد�أ من مبادئ‪� .‬أو من بديهيات كما ت�سمى �أحياناً‪ ،‬وهذه بدورها ال بد �أن تكون مقبولة‬ ‫وال دوغماطيقياً‪� ،‬إذا رغبنا يف تفادي ارتداد ال نهائي‪ ،‬ارتداداً يعود �إىل واقعة تزعم �أننا حني‬ ‫قب ً‬ ‫نخ�ضع �صحة مبادئنا �أو بديهياتنا للنقا�ش العقالين‪ ،‬ال بد من �أن نلتجئ جمدداً �إىل مبادئ �أو‬ ‫بديهيات‪ .‬ويف العادة‪ ,‬ف�إن �أولئك الذين يرون املوقف هكذا ـ كما يالحظ بوبر ـ فهم �إما �أن‬ ‫ي�ؤكدوا على �صدق �إطار من املبادئ �أو البديهيات‪ ،‬و�إما �أن ي�صبحوا ن�سبويني‪ :‬يقولون‪� :‬إن ثمة �أطراً‬ ‫(‪)15‬‬ ‫خمتلفة‪ ،‬ولي�س ثمة مناق�شة يف ما عقلية بينها‪ ،‬وبالتايل ال خيار عقالنياً‪.‬‬ ‫هكذا تكون الأيديولوجيا ـ بح�سب البوبرية ـ هي الإطار‪� .‬أي ال�سجن الذي ال ميكن �أن تكون‬ ‫الر�ؤية فيه رائية بعقل‪ .‬ف�إن خال�صة ما تذهب �إليه ت�أويلية بوبر للأطر‪ ،‬هي �أنها مثل اللغات‪ .‬قد‬ ‫‪66‬‬


‫فكـــــر‬

‫تكون حواجز‪ ،‬بل قد تكون �سجوناً‪ .‬ولكن �إطار املفاهيم الغريب‪ ،‬هو متاماً كاللغة الأجنبية‪ ،‬لي�س‬ ‫البتة حاجزاً‪� .‬إننا ن�ستطيع اقتحامه‪ ،‬متاماً كما ن�ستطيع الهروب الكبري من �إطار اخلا�ص‪ ،‬من �سجننا‬ ‫اخلا�ص‪ .‬وا�ستطراداً ـ من �إيديولوجيتنا �إذا كان لنا �أن نعينِّ ما يق�صده كارل بوبر يف هذا ال�ش�أن ـ‬ ‫ذلك �أن اقتحام ال�سجن امل�شار �إليه ـ على ما يبينِّ ناقد «�أ�سطورة الإطار» هو متاماً كاخرتاق حاجز‬ ‫يو�سع‬ ‫اللغة‪ ،‬اقتحام ع�سري‪ ،‬ولكنه ي�ستحق كل اهتمام وجهد وميكن �أن يكون لهذا اجلهد مردود ِّ‬ ‫(‪)16‬‬ ‫�أفق العقل‪ ،‬وي�ؤدي �إىل املتعـة‪.‬‬ ‫م� ِّؤديات �إيديولوجية ملقا�صد البوبرية‬

‫�إن حتول العلوم التجريبية �إىل قيم هو من امل�ؤ ِّديات املنطقية ل�سريورة الزمان التاريخي‪ .‬وهنا‬ ‫عن�صر االت�صال التداويل بني القيمة والواقع‪ .‬ف�إذا كان بوبر �سعى انطالقا من منهجه الأمبرييقي‬ ‫(التجريبي) �إىل الف�صل‪ ،‬واعتبار التجربة معياراً للحكم على �صدق الفكرة �أو كذبها‪ ،‬ف�إن‬ ‫ال�سياق امليداين‪ ،‬الوقائعي ملنهجه �سيف�ضي �إىل التحول‪ .‬بحيث ت�ستولد التجريبية قيمها و�أبنيتها‬ ‫الأخالقية‪� .‬سوف يظهر لنا م�سار االت�صال التداويل عرب ظاهرة دخول العامل يف ع�صر املعلومات؛‬ ‫�إذ من ال�شائع الآن‪� ،‬أن يتم النظر �إىل تعاقب النماذج االقت�صادية منذ الع�صور الو�سطى باعتبارها‬ ‫حتددت كل منها بالقطاع امل�سيطر يف االقت�صاد‪ ،‬حيث جت َّلى �أول مناذجها حني‬ ‫حلظات متمايزة‪َّ ،‬‬ ‫�سيطرت الزراعة وا�ستخراج املواد اخلام على االقت�صاد‪ .‬ومنوذج ثانٍ حني احت َّلت ال�صناعة و�إنتاج‬ ‫املعمرة املوقع املتم ِّيز‪ ،‬ومنوذج ثالث‪ ،‬ي�شكل فيه توفري اخلدمات وتوظيف املعلومات قلب‬ ‫ال�سلع ّ‬ ‫الإنتاج االقت�صادي‪ .‬وبالتايل‪ ,‬ف�إن املوقع امل�سيطر انزلق من القطاع الأول‪� ،‬إىل الثاين‪ ،‬فالثالث‪.‬‬ ‫وهكذا ينطوي التحديث االقت�صادي على االنتقال من النموذج الأول �إىل الثاين‪ ،‬من �سيطرة‬ ‫الزراعة �إىل �سيطرة ال�صناعة‪ .‬فالتحديث يعني الت�صنيع‪� .‬أما االنتقال من النموذج الثاين �إىل‬ ‫الثالث من �سيطرة ال�صناعة �إىل �سيطرة اخلدمات واملعلومات‪ ،‬فمن املمكن �أن نطلق عليه ا�سم‬ ‫(‪)17‬‬ ‫�شيوع ما بعد احلداثة‪� ،‬أو الدخول يف ع�صر املعلومات‪.‬‬ ‫�أما الكيفيات التي جتري فيها عملية التحول بني هذه النماذج الثالثة‪ ،‬فهي �ستظهر عرب �سريورة من‬ ‫التعقيد؛ مع �أنها �ست�ؤول يف النهاية �إىل نظام حياة‪ .‬فلقد د�أبت عمليات التحديث والت�صنيع على‬ ‫حتويل جميع عنا�صر امل�ستوى االجتماعي و�إعادة حتديدها‪ .‬فحني جرى حتديث الزراعة ك�صناعة‪،‬‬ ‫حتولت املزرعة تدريجياً �إىل م�صنع‪ ،‬بكل ما ينطوي عليه من ان�ضباط وتكنولوجيا وعالقات �أج ٍر‬ ‫وما �إليها‪ .‬لقد َّمت حتديث الزراعة ك�صناعة‪ ،‬وب�صورة �أعم‪� ،‬أ�صبح املجتمع نف�سه م�صنعاً‪� ،‬شيئاً ف�شيئاً‪،‬‬ ‫حتى على �صعيد حتويل العالقات والطبيعة الإن�سانيتني‪ .‬يف �أوائل القرن الع�شرين‪َّ ،‬قدم روبرت‬ ‫مو�سيل �صورة جميلة عن حت ُّول الب�شرية‪ ،‬يف �أثناء العبور من العامل الزراعي الرعوي �إىل م�صنع‬ ‫اجتماعي قائ ًال‪«:‬لقد انق�ضت �أزمان كان النا�س يعي�شون النمو فيها ب�صورة طبيعية‪ ،‬ويندجمون‬ ‫‪67‬‬


‫نف�سه‪� .‬أما‬ ‫بالظروف التي يجدونها يف انتظارهم‪ ،‬وقد كان ذلك �أ�سلوباً �سليماً جداً؛ لأن ي�صبح املر ُء َ‬ ‫صوال عن الرتبة التي منا فيها‪ ،‬فنجد‬ ‫الآن‪ ،‬حيث كل هذا اخللط للأمور‪ ،‬حيث ي�صبح كل �شيء مف� ً‬ ‫تخ�ص �إنتاج الروح‪ ،‬با�ستبدال ا ِحل َرف اليدوية‬ ‫�أن املرء يكاد �أن يكون ُم ْل َزماً‪ ،‬حتى يف الأمور التي ُّ‬ ‫(‪)18‬‬ ‫التقليدية بنوع من الذكاء الذي يواكب الآلة وامل�صنع»‪.‬‬ ‫وهكذا‪ ،‬فلقد تعر�ضت عمليات التح ُّول �إىل ما هو �إن�ساين‪ ،‬والطبيعة الإن�سانية نف�سها‪ ،‬لتح ّول‬ ‫جذري يف �أثناء عملية العبور املعروفة با�سم‪ :‬التحديث(‪ .)...‬غري �أن التحديث هذا بات مهنياً‪،‬‬ ‫يف �أيامنا ـ كما يق ِّرر عدد من علماء اجتماع ما بعد احلداثة يف الغرب ـ‪ .‬بعبارة �أخرى مل يعد‬ ‫الإنتاج ال�صناعي دائباً على تو�سيع دائرة �سيطرته على الأ�شكال االقت�صادية والظواهر االجتماعية‬ ‫الأخرى‪.‬‬ ‫ثمة َع َر ٌ�ض من �أ ْعرا�ض هذا التح ُّول يتجلى يف التغيرُّ ات الكمية على �صعيد اال�ستخدام‪ .‬ففي حني‬ ‫�أن عملية التحديث كانت تحُ دِ ث هجرة للعمالة من الزراعة واملناجم (القطاع الأول) �إىل ال�صناعة‬ ‫(القطاع الثاين)‪ ،‬ف�إن عملية �إ�شاعة ما بعد احلداثة‪� ،‬أو الدخول يف ع�صر املعلومات تتج َّلى عرب‬ ‫الهجرة من ال�صناعة �إىل اخلدمات (القطاع الثالث)‪ .‬وذلك يف حت ُّولٍ جرى يف البلدان الر�أ�سمالية‬ ‫امل�سيطرة‪ ،‬وخ�صو�صاً يف الواليات املتحدة منذ �أوائل ال�سبعينات‪ .‬كان قطاع اخلدمات يغطي دائرة‬ ‫وا�سعة من الن�شاطات من الرعاية ال�صحية والتعليم واملال �إىل النقل وال�ضيافة والإعالن‪ .‬وتكون‬ ‫الوظائف يف �أكرث الأحيان كثرية احلركة‪ ،‬ومنطوية على مهارات َمرِنة‪ .‬وما هو �أهم من ذلك �أنها‬ ‫متم ِّيزة‪ ،‬عموماً‪ ،‬بالدور املركزي الذي ت�ضطلع به املعرفة واملعلومات وامل�شاعر واالت�صاالت‪ .‬ومن‬ ‫(‪)19‬‬ ‫هذا املنطلق‪ ،‬ف�إن كثريين يعتربون االقت�صاد ما بعد ال�صناعي اقت�صاداً معلوماتياً‪.‬‬ ‫لو تناهى لكارل بوبر �أن ثمة من �سيقر�أ �أطروحته بو�صفها احتما ًال �أيديولوجياً‪َ ،‬ل َ�سا َءه ما تناهى �إليه‪.‬‬ ‫فالرجل الذي غمرته الغبطة �سحابة عمره الفكري املديد‪ ،‬باعتباره فيل�سوف التجربة‪ ،‬لن ير�ضى‬ ‫ل�صفته هذه من تبديل‪ .‬لكن البوبرية التي �ستجري جمرى عمليات التحول التاريخي وتطوراته‬ ‫تتجمد لدى الت�صنيف الإرادوي مل�ؤ�س�سها‪ .‬ف�إنها ككل نظرية �أو فكرة ال منا�ص لها‪،‬‬ ‫لن ت�سكن �أو َّ‬ ‫حني تتم�أ�س�س (من م�ؤ�س�سة) �أو تنتظم (من نظام)‪ ،‬من �أن تلج حقول التوظيف‪ .‬ولأن البوبرية‬ ‫نظرية ِّ‬ ‫مت�شكلة من جمموعة �أفكار‪ ،‬ف�إنها تريد �أن تقول �شيئاً ما‪� .‬أي �أنها ذات غائية �سوف ي�شهد‬ ‫عليها‪� ،‬أو لها‪ ،‬احلقل الذي ت�شتغل فيه‪ .‬عنينا به حقل التجربة؛ �إذ من هذا احلقل بالذات‪� ،‬سيظهر‬ ‫لنا بعد املعاينة‪ ،‬درجات �صدق البوبرية �أو كذبها‪ .‬ذلك بال�ضبط‪ ،‬ما ذهب �إليه بوبر ب�شغف نادر‪.‬‬ ‫وهو ال�شيء نف�سه الذي �سيكابده طيلة حياته الفل�سفية‪ .‬لقد �سبق و�أ�شرنا �إىل مذهب بوبر القائل‬ ‫ب�أن �إثبات علمية �أي نظرية‪ ،‬ي�ستلزم انطواءها على قابلية التكذيب‪ .‬وب�صورة موجزة لأطروحته‪ ,‬ف�إن‬ ‫كل نظرية ت�ؤدي بال�ضرورة �إىل نتائج مع َّينة‪� ،‬سواء كانت ذهنية �أو جتريبية‪ .‬ف�إذا كانت هذه النتائج‬ ‫كاذبة ت�صبح النظرية كاذبة‪ .‬وال�سبيل امل ّتبع للتكذيب �أو الت�صديق �إمنا مير عرب معاينة النتائج‪ .‬وعلى‬ ‫‪68‬‬


‫فكـــــر‬

‫هذا �ستتعني ثورة بوبر يف فل�سفة العلم يف �أنه نقل الأحكام من ح ِّيز القيمة �إىل ح ِّيز الواقع‪ ،‬ومن‬ ‫ح ِّيز الذهن �إىل ح ِّيز اخلارج‪ ،‬ومن العقل املجرد �إىل دائرة املعاينة واالختبار‪.‬‬ ‫لكن‪ ،‬كيف ت�سللت الأيديولوجيا التي ذ َّمها بوبر بقوة‪� ،‬إىل قلعته الفكرية ال�صارمة؟‬ ‫قبل البحث يف �أ�سباب هذا ال�س�ؤال ل َرنكيف م�ضت البوبرية �إىل «�أدجلة» نف�سها‪ ،‬من خالل ت�سييل‬ ‫فل�سفتها للعلوم يف التاريخ االجتماعي وال�سيا�سي للعامل املعا�صر‪.‬‬ ‫م�ؤ َّدى املجتمـع املفتـوح‬

‫َّ‬ ‫�شكلت مقولة املجتمع املفتوح الباب العايل للدخول يف عمليات الت�سييل‪ .‬فهي مقولة �سو�سيوـ‬ ‫تاريخية بامتياز‪ .‬ثم �إنها غري بعيدة من حقول اال�سرتاتيجيات ال�سيا�سية‪ .‬بل هي يف موقع القلب‬ ‫منها‪ .‬تقوم هذه املقولة ـ بح�سب كارل بوبر ـ على رف�ض مفهوم التغيري اجلذري كما فهمه �أفالطون‬ ‫ومارك�س؛ �أي ذلك التغيري املنطلق من ال�صفر‪ .‬حيث ُيعاد بناء املجتمع على �أ�س�س جديدة‬ ‫عما �سبق‪ .‬و�سي�شري وا�ضع املقولة �إىل �أن التقاليد وامل�ؤ�س�سات ال�سائدة هي قيمة‬ ‫خمتلفة كلياً ّ‬ ‫حياتية براغماتية؛ لأنه من دونها ال ي�ستطيع الأفراد �أن يقوموا ب�أدوارهم االجتماعية املتوقعة منهم‪.‬‬ ‫وبالتايل‪ ,‬ينهار �صرح الن�شاط االجتماعي كله‪ .‬فمهما بلغت م�ساوئ النظام القائم‪ ،‬فهو ال ينفك‬ ‫عن �أن يكون نظاماً تندرج احلياة االجتماعية حتت لوائه منذ مئات ال�سنني‪ ،‬ذلك على النقي�ض‬ ‫من احللول الثورية الطوباوية التي تغامر بن�شر الفو�ضى والدمار م�ستخدمة مفاهيم �أخالقية جمردة‬ ‫(‪)20‬‬ ‫كالعدالة (�أفالطون) وامل�ساواة (مارك�س)‪.‬‬ ‫مل تكن فكرة املجتمع املفتوح عند بوبر‪� ،‬آتية من فراغ‪ .‬فلقد اب ُتنيت هذه الفكرة على �سريورة تطور‬ ‫تاريخي واجتماعي واقت�صادي‪ ،‬وثقايف‪ .‬وكانت احلداثة يف �أطوارها املت�أخرة باعثتها �إىل جمال التداول‪.‬‬ ‫ومنذ بداية الن�صف الثاين من القرن املن�صرم‪ ،‬حيث ال�صدام مع التوتاليتارية ي�أخذ مداه العميق‬ ‫عدد دانيال بل‬ ‫بني ال�شرق والغرب‪ ،‬جرى تعيني املوا�صفات النظرية لفكرة املجتمع املفتوح‪ .‬لقد ّ‬ ‫يف معر�ض حتليله للتحوالت االجتماعية التي �أطلقتها التكنولوجيا‪ ،‬خم�سة جماالت رئي�سة للتغيري‪:‬‬ ‫ ب�إنتاج مزيد من الب�ضائع بتكلفة �أقل‪� ،‬أ�صبحت التكنولوجيا الآلة الرئي�سية لرفع م�ستويات‬ ‫املعي�شة يف العامل‪.‬‬ ‫ ا�ستولدت التكنولوجيا طبقة جديدة مل تكن معروفة من قبل املجتمع‪ ،‬قوامها املهند�س‬ ‫والتقني‪...‬‬ ‫ �أنتجت التكنولوجيا تعريفاً جديداً للعقالنية و�أ�سلوباً جديداً للتفكري ي�ؤكدان على العالقات‬ ‫الوظيفية والكمية‪.‬‬ ‫‪69‬‬


‫ �إن الثورة يف النقل واالت�صاالت التي ترتبت على التكنولوجيا و َّلدت �شك ًال جديداً من‬ ‫االعتماد االقت�صادي املتبادل والتفاعل االجتماعي اجلديد‪.‬‬ ‫(‪)21‬‬ ‫ تبد َّلت ب�شكل جذري املفاهيم اجلمالية وبوجه خا�ص بالن�سبة �إىل الزمان واملكان‪.‬‬ ‫بالن�سبة لكارل بوبر ف�إن املجتمع املفتوح الذي �سيتبلور على يديه‪� ،‬سريتكز على منظومة قيم‪,‬‬ ‫ي�شكل العلم ومنجزاته حمورها املركزي‪ .‬ومن الوا�ضح �أن مفهومه لهذا النوع من املجتمعات‪،‬‬ ‫يحوي عنا�صر نظرية و�أخالقية وبراغماتية من�صهرة يف ما بينها يف �شدة‪ .‬فلو �أردنا فهم نقده للكلية‬ ‫لتوجب �إدخال مبد�أ الفردية الإن�سانية‪ ،‬وهي عقيدة �أخالقية‬ ‫وت�شديده على دور الأفراد يف املجتمع ّ‬ ‫تقول ب�أولوية الفرد وحاجاته الأ�سا�سية على �أي بنى �أو نظم كلية؛ كذلك تف�ضيل بوبر للدميقراطية‬ ‫على ما عداها من �أ�شكال ال�سلطة ي�صب يف خانة احلفاظ على �أرواح الأفراد برف�ضه للعنف كو�سيلة‬ ‫للتغيري االجتماعي(‪ )...‬ومن اخلال�صات التي تف�ضي �إىل املجتمع املفتوح وت�ؤ�س�س له هي االعتقاد‬ ‫ب�أن العامل االجتماعي لي�س حمكوماً بال�ضرورة ب�أن يبقى �أ�سري معايري �أيديولوجية‪� ،‬أخالقية‬ ‫و�سيا�سية‪ ،‬متنعه من الر�ؤيا ال�صحيحة‪ ،‬و�أن الدواء ال�شايف لل�ضباب الأيديولوجي هو االنفتاح على‬ ‫كل املقاربات والأطر املفهومية والنظرية من دون االلتزام امل�سبق ب�صحة � ٍأي منها (‪ )...‬لكن بلوغ‬ ‫هذا الأمر‪ ،‬لي�س ي�سري املنال ـ كما يالحظ الباحثون يف البوبرية ـ ذلك �أن ثمة عوائق نف�سية‬ ‫و�أخالقية و�سيا�سية متنع الكثريين من االقرتاب من املو�ضوعية املرجوة‪� .‬إ َّال �أنَّ ذلك ال يعني �أن‬ ‫(‪)22‬‬ ‫عامل االجتماع �أو امل�ؤرخ هو يف و�ضع مي�ؤو�س منه من طلب احلقيقة االجتماعية والتاريخية‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫لعل من مفارقات البوبرية يف تنظريها للمجتمع املفتوح‪ ،‬ذلك التناظر بني الدعوة الفل�سفية �إليه‪،‬‬ ‫وقياماته الفعلية يف زمن ما بعد احلداثة‪� ،‬أو ما اتفقنا على ت�سميتها بالزمن التكنو ـ �إلكرتوين وع�صر‬ ‫املعلومات‪.‬‬ ‫كان بوبر ي�ساجل النظريات التوتاليتارية ليدفع بنظريته نحو دائرة ال�ضوء‪ ،‬بينما كانت �سريورة‬ ‫بخطى ت�صاعدية هائلة الختزال الزمان واملكان‪ .‬كانت هذه ال�سريورة‬ ‫حركة ر�أ�س املال تتوثَّب ً‬ ‫معقَّدة �إىل �أعلى درجات التعقيد‪ ،‬ومل يفلح التحليل التاريخاين املارك�سي ب�صيغته ال�سوفياتية يف‬ ‫مقاربة دقيقة ذات معرفة مطابقة باملايحدث‪ .‬ولقد �أ�شار بريجن�سكي يف كتابه ال�شهري الذي و�ضعه‬ ‫يف بداية ال�ستينات‪« .‬بني ع�صرين» (‪� )Between Two Ages‬إىل ذلك بالقول‪� :‬إن حداثة العالقة‬ ‫الأمريكية بالعامل ـ املعقدة والوثيقة ـ �ستبينِّ ف�شل التحليالت الأرثوذك�سية‪ ،‬وبخا�صة املارك�سية‬ ‫حول الإمربيالية‪ ،‬من الإحاطة بها‪ .‬ذلك �أن ر�ؤية هذه العالقة باعتبارها تعبرياً عن دافع �إمربيايل‬ ‫فح�سب‪ ،‬معناه جتاهل اجلزء الذي يلعبه فيها البعد احليوي للثورة التكنولوجية ـ العلمية‪ .‬فهذه‬ ‫الثورة ال ت�أ�سر خيال الإن�سانية فح�سب ( من الذي ال ميكن �أن يح ِّركه م�شهد الإن�سان وهو يط�أ‬ ‫بقدميه �سطح القمر؟) و�إمنا ال مفر من �أن تدفع �أي�ضاً من هو �أقل تقدماً لتقليد الأكرث تقدماً‪ ،‬وتن�شط‬ ‫‪70‬‬


‫فكـــــر‬

‫ت�صدير التقنيات اجلديدة واملناهج اجلديدة‪ ،‬واملهارات التنظيمية من الثانية �إىل الأوىل»‪.‬‬ ‫ي�ضيف بريجن�سكي‪»:‬ال �شك يف �أن ذلك ي�ؤدي �إىل عالقة غري مت�ساوية‪ ،‬ولكن حمتوى عدم‬ ‫(‪)23‬‬ ‫الت�ساوي هذا‪ ،‬يجب �أن ُيفح�ص قبل �أن ُي�سمى �إمربيالية»‪.‬‬ ‫يف الت�سعينات حدث ما ي�شبه الإع�صار‪ .‬انتهت احلرب الباردة �إىل انت�صار �أمريكي �ساحق‪ .‬ثم �إىل‬ ‫تفكك متدرج للإمرباطورية ال�سوفياتية ومالحقها يف �أوروبا ال�شرقية‪ .‬ثم �إىل ميل �إجمايل لدى‬ ‫تلك الدول وال�شعوب نحو «لربلة» اقت�صاداتها و»دمقرطة» جمتمعاتها ال�سيا�سية‪ .‬وتبينَّ لليربالية‬ ‫ومنظ ِّريها �أن الأيديولوجيا امل�سلحة برت�سانات الرعب النووي‪ ،‬قد حكمت على نف�سها بال�ضمور‬ ‫واملوت‪ .‬التنظري الفل�سفي ال�سيا�سي الأمريكي هو الذي َّ‬ ‫ا�ستهل تو�صيف الزلزال العاملي‪ ،‬ور�سم له‬ ‫�أحداثه و�آفاقه ودالالته الرمزية؛ وذهب امل�شتغلون فيه �إىل �أن اال�ستعداد للقرن احلادي والع�شرين‬ ‫ي�ستلزم ت�صفية ما تبقّى من �شوائب القرن الع�شرين‪ .‬وهي ت�صفية �ضرورية لكي ي�سرتيح «الإن�سان‬ ‫الأخري» على حد تعبري نيت�شه‪ ،‬من �أغالل اال�ستالب وال�ضعف ومن �صراعات ال طائل حتتها‪.‬‬ ‫ولئن كان بول كينيدي امل�ؤرخ واالقت�صادي الأمريكي‪ ،‬قد عالج �صورة العامل بطريقة دائرية‪� ،‬شمولية‪،‬‬ ‫معترباً �أن النظامني ال�سوفياتي والأمريكي قاما معاً و�سي�سقطان معاً ولو مب�سافة زمنية مع َّينة بني كل‬ ‫منهما‪ ،‬ف�إن فرن�سي�س فوكوياما راح بعيداً يف �إ�ضفاء بعدٍ فل�سفي وجودي على االنت�صار ال�سيا�سي‬ ‫للدميقراطية الأمريكية‪ .‬لقد �سبق وقر�أناه يف مقدمة مقالته ال�شهرية «نهاية التاريخ» يقول‪� :‬إن القرن‬ ‫الع�شرين �شهد على �أن العامل املتقدم يغرق يف ذروة العنف الأيديولوجي‪ .‬كان ال�صراع الأول بني‬ ‫الليربالية و�آخر قواعد اال�ستبداد‪ ،‬ثم �ضد البل�شفية والفا�شية‪ ،‬و�أخرياً �ضد املارك�سية املحدثة التي‬ ‫كانت تهدد بجر العامل �إىل نهايته يف حرب نووية‪ .‬ولكن هذا القرن‪ ،‬الذي كان يف بداياته واثقاً‬ ‫بانت�صار الدميقراطية الليربالية الغربية‪ ،‬يبدو �أنه يف نهايته �سيعود ليختم الدولة الكاملة‪� ،‬إىل حيث‬ ‫انطلق لي�س �إىل «نهاية الأيديولوجيات‪� ،‬أو �إىل التالقي بني الر�أ�سمالية واال�شرتاكية‪ ،‬كما جرى‬ ‫التنبوء �سابقاً‪ ،‬ولكن �إىل انت�صار �ساحق لليربالية االقت�صادية وال�سيا�سية (‪ )...‬فانت�صار الغرب ـ بر�أي‬ ‫فوكوياما ـ �أو املثال الغربي ظهر يف البداية يف مقولة �أن النظام القابل للحياة الذي ي�ستطيع �أن يحل‬ ‫حمل الليربالية الغربية قد فقد �أمله متاماً يف الوجود‪ .‬فخالل ال�سنوات الع�شر الأخرية (من القرن‬ ‫املن�صرم) �شهدنا تغيريات بارزة يف املناخ الفكري لأكرب بلدين �شيوعيني يف العامل‪ .‬كما �شهدنا بداية‬ ‫حركات �إ�صالحية يف هذا البلد �أو ذاك‪ .‬وهذه الظاهرة تتجاوز املجال ال�سيا�سي وميكننا �أن نالحظ‬ ‫ذلك يف االنت�شار الكبري لثقافة اال�ستهالك الغربية‪ .‬الأ�سواق الفالحية ـ بيع �أجهزة التلفاز امللونة‬ ‫يف ال�صني‪ ،‬املطاعم التعاونية ودور الأزياء التي فتحت وا�ست�شرت يف مو�سكو ـ مو�سيقى بيتهوفن يف‬ ‫املخازن اليابانية‪ ،‬وع�شق الروك الذي اجتاح ك ًال من براغ ورانغون وطهران (‪ .)...‬ثم ير�سم ِّ‬ ‫املنظر‬ ‫الأمريكي من �أ�صل ياباين خال�صة اجتاه العامل عندما يعترب �أن الذي ن�شاهده لي�س فقط نهاية احلرب‬ ‫الباردة‪� ،‬أو نهاية حقيقية خا�صة بعد احلرب بل نهاية للتاريخ بالذات‪� .‬أي نهاية التطور الأيديولوجي‬ ‫للب�شرية كلها‪ ،‬وتعميم الدميقراطية ـ الليربالية الغربية ك�شكل نهائي لل�سلطة على الب�شرية جمعاء‪.‬‬ ‫‪71‬‬


‫مـ�ؤ َّدى الداروينيـة‬

‫لكن ما �صلة هذا التنظري بالأطروحة البوبرية؟‬ ‫مي�ضي كارل بوبر يف �سياق رحلته الفل�سفية لبلورة فكرة املجتمع املفتوح‪� ،‬إىل االتكاء على جملة‬ ‫من نتائج نظرية الن�شوء واالرتقاء الداروينية‪ .‬مل يكن هذا املنحى بالن�سبة �إليه جمرد نزوع ر َّتبته‬ ‫مدافعاته عن جمتمعه امل�ؤ َّمل يف وجه الر�ؤى واملطارحات الأفالطونية واملارك�سية‪ ,‬و�إمنا ق�صد �إىل‬ ‫جعل الداروينية واحدة من الأعمدة الأ�سا�سية الت�أ�سي�سية لأطروحته‪ .‬و�أما الوجهة التي اعتمدها‬ ‫يف التوظيف‪ ,‬فهي جلهة فاعلية التغيريات اجلزئية التدريجية يف احلفاظ على وجود الأنواع احليوية‬ ‫وا�ستمرارها‪ ,‬مقابل القفزات املت�سارعة يف البنية الوراثية والتي غالباً ما ت�ؤدي �إىل ت�شويه يف العالقة‬ ‫بني النوع احليوي وحميطه يكون قا�ضياً بالن�سبة للأول‪ .‬وتقوم املقارنة البوبرية‪ ,‬على اعتبار جمتمع‬ ‫ب�شري معني‪ ,‬مثل حيوان قابل للتطور نتيجة تغيريات داخلية تطر�أ على بنيته االجتماعية‪ ,‬متاماً‬ ‫كما يتطور احليوان بفعل ما يطر�أ على بنيته (‪ )...‬ولقد ع َّلق باحثون على هذه النقطة بالذات‪� .‬إن‬ ‫التجاء بوبر �إىل نظرية التطور الدارويني لي�س تربيراً مو�ضوعياً لأهلية املجتمع املفتوح‪ ،‬و�إمنا عم ًال‬ ‫(‪)24‬‬ ‫دعائياً لت�أييد غاية �أو قيمة اجتماعية معينة هي الالعنف‪.‬‬ ‫�سوف يكون من �ش�أن فل�سفة بوبر املب َّينة‪ ،‬خ�صو�صاً‪ ،‬يف «منطق الك�شف العلمي» �أن تقود �صاحبها‬ ‫�إىل االت�صال احلميم بنظرية الن�شوء واالرتقاء الداروينية‪ ,‬ومن خاللها �سوف ين�ش�أ التوظيف‬ ‫الأيديولوجي والثقايف النت�صارات الأمركة‪ ،‬كما �سرنى الحقاً‪� .‬إن هذا االنقياد املنطقي من‬ ‫جانب بوبر باجتاه داروين‪ ,‬جرى بطريقة تطورية متاماً كمنطق الداروينية يف ر�ؤيتها للوجود والطبيعة‪.‬‬ ‫تقوم الداروينية على افرتا�ضني �أ�سا�سيني هما‪� :‬أن الكائنات احل َّية عرفت تطوراً عرب الزمن بد�أ‬ ‫باملخلوقات ذات اخللية الواحدة‪ ،‬و�أف�ضى �إىل الكائنات الأخرى مبا فيها الب�شر‪ ،‬و�أن جممل هذه‬ ‫العملية التطورية املعقدة من �أب�سط املخلوقات �إىل �أكرثها تعقيداً هي نتاج لقانون البقاء للأ�صلح‪،‬‬ ‫والت�أقلم يف �سبيل البقاء؛ ذلك �أن كائناً حياً ال يت�أقلم مع حميطه‪ ،‬ال ميكنه البقاء طوي ًال والإكثار‬ ‫من نوعه بوا�سطة الإجناب‪ .‬فتكون النتيجة �أن املخلوقات ال�صاحلة؛ �أي القادرة على الت�أقلم ومن ثم‬ ‫(‪)25‬‬ ‫الإجناب‪ ،‬هي الوحيدة املر�شحة للبقاء واال�ستمرار ك�أنواع �إن مل يكن ك�أفراد‪.‬‬ ‫لكن‪ ،‬كيف ح�صل ذاك االت�صال احلميم‪ ,‬لكن املعقَّد بني تطور العلوم عند بوبر وتطور الأحياء‬ ‫عند داروين؟ ثم على �أي ن�سقٍ منطقي و�ضع بوبر هذين التطورين ويف �أي �سياق �سيوظفها؟‬ ‫يرى بوبر‪� ,‬أن مبد�أ الداروينية القائم على منطق التجربة والق�ضاء على اخلط�أ‪ ,‬ما هو �إ َّال تعميم ملنطق‬ ‫االكت�شاف العلمي؛ حيث ينطلق العامل من م�شكلة حمددة قيد الدر�س‪� ،‬إىل نظرية موقتة حللها‪،‬‬ ‫�إىل التجربة العمالنية الختبار النظرية‪� ،‬إىل م�شكالت عملية جديدة ناجتة من التقييم النقدي‬ ‫للم�ضمون االختباري للنظرية(‪� )...‬إن عملية التقييم هي �إذن‪ ،‬دائماً عملية نقدية‪ ،‬وهدفها هو‬ ‫‪72‬‬


‫فكـــــر‬

‫اكت�شاف و�إزالة الأخطاء‪ .‬ثم �إن منو املعرفة �أو فعل التع ُّلم لي�س عملية تكرارية �أو تراكمية‪ ,‬بل هو‬ ‫�إزالة للخط�أ‪ .‬وبالرغم من كون هذا و�صفاً ملنطق منو املعرفة املو�ضوعية‪ ،‬ف�إنه ينطبق �أي�ضاً على التطور‬ ‫البيولوجي(‪ )...‬ينطلق بوبر �إذن‪ ،‬من منطق املعرفة املو�ضوعية‪ ،‬كما ي�صفه‪ ،‬كفعل نقدي م�ضاد‬ ‫للدوغمائية والتكرارية‪ ،‬فيجعل من القفزات االبتكارية اخل ّالقة القا�سم امل�شرتك بني منو العلوم‬ ‫وتطور الكائنات احل ّية؛ حيث ال ي�أتي اجلديد �سواء يف املعرفة �أم يف الأع�ضاء احليوية نتيجة ت�أقلم‬ ‫عما �سبق(‪ )...‬وهكذا‪ ،‬ف�إنَّ املقارنة‬ ‫تكراري مع املحيط‪ ،‬و�إمنا كفعل بزوغ وانبثاق ملا هو خمتلف ّ‬ ‫التي يقيمها بوبر بني منطق االكت�شاف العلمي من جهة ومنطق التطور احليوي من جهة ثانية‪،‬‬ ‫ت�ؤدي به �إىل �إعادة �صياغة للمبادئ الداروينية من دون التخلي عن جوهرها(‪ )...‬ول�سوف يظهر لنا‪،‬‬ ‫�أن املنطق الإ�شكايل التطوري الذي يراه بوبر �سمة م�شرتكة بني ن�شوء الأنواع احليوانية وارتقائها‪،‬‬ ‫ومنو املعرفة الب�شرية وتطورها‪ ،‬لي�س جمرد �إ�سقاط‪� ،‬أو تطبيق ملقوالت الداروينية على مفهوم املعرفة‪,‬‬ ‫فها هو يبينِّ يف كتابه «املعرفة املو�ضوعية» �أن املهمة الرئي�سية لنظرية املعرفة الإن�سانية‪ ,‬هي فقه هذه‬ ‫املعرفة كا�ستمرار للمعرفة احليوانية‪�« ...‬إن نظرية املعرفة التي �أود اقرتاحها‪ ،‬ـ يقول بوبر ـ هي يف‬ ‫(‪)26‬‬ ‫الدرجة الأوىل نظرية داروينية يف منو املعرفة»‪.‬‬ ‫على هذا النحو ر�أينا كيف ذهب بوبر �إىل داروين‪ ،‬ليتمثل منطقه التطوري‪ .‬ويقرتح علينا‪ ،‬يف ما‬ ‫ي�شبه االعتقاد‪ ،‬نظرية للمعرفة تطابق الداروينية يف منو املعرفة‪ .‬لكننا �سرنى يف ما بعد كيف �أن‬ ‫الت�سل�سل املنطقي القرتاح من هذا النوع‪� ،‬سيف�ضي �إىل ر�ؤية متكاملة لتطور االجتماع الب�شري‪,‬‬ ‫تتكئ ب�شكل جذري على نظرية الن�شوء واالرتقاء‪� .‬أي على مبد�أ الوجود للأقوى وللمقتدر‪،‬‬ ‫وا�ستطراداً للذي عرب قوته واقتداره لن يف�سح يف املجال للخط�أ‪ ،‬بل �إنه يجعل اخلط�أ خارج دائرة‬ ‫الذات فيلقيها‪ ,‬يف دائرة الآخر ويجعل من �ضعفه خط�أ وجودياً ينبغي �إزالته‪.‬‬ ‫لقد �أخذ اجلدل حول نظريات التطور مدياته الوا�سعة يف خالل الأطوار املت�أخرة للحداثة الغربية‪.‬‬ ‫فلو عقدنا مقاربة عجولة بني تيارين فل�سفيني‪ ،‬الأول ميثله الفرن�سي روجيه غارودي والثاين‬ ‫الأمريكي بول كنيدي‪ ,‬يت�ضح جانب مهم من �صورة ذلك النوع من اجلدل‪ .‬ير�صد غارودي ـ‬ ‫مثل كنيدي وقبله ب�سنوات ‪ -‬التحوالت التي يحدثها التحديث الثقايف اليربنطيقي (تقنيات‬ ‫االت�صال) يف بنية القوى املنتجة وعالقات الإنتاج‪ .‬وهو ي�ستدل باجلداول الإح�صائية وامل�ؤ�شرات‬ ‫البيانية املتوافرة يف حقبته على التنامي املت�سارع الوتائر لأ�صحاب الياقات البي�ض‪ ,‬يف مقابل‬ ‫الهبوط املت�سارع لأ�صحاب الياقات الزرق‪ ,‬والعمال اليدويني بوجه عام مبن فيهم العاملون يف‬ ‫الزراعة‪ .‬ثم يبينِّ �أن ال�صناعات امل�ؤمتتة (‪ )Robotised Industry‬والآالت الذكية هي �آالت طاردة‬ ‫للعمالة الأمية‪ ،‬وهي ت�ستدعي الذكاء �إىل مواقع الإنتاج والإدارة والتخطيط والربجمة؛ �أي �أنها‬ ‫تتطلب �أعداداً ال تكف عن التزايد من املهند�سني والفنيني‪.‬‬ ‫يرتجح يف وعيه‬ ‫لكن عند مف�صل الت�سامي؛ �أي يف حمطة الغايات والقيم‪ ،‬يفرتق غارودي الذي َّ‬ ‫الأممي املتداخل بالروحانية امل�سكونية‪� ،‬أو بال�صوفية الكونية‪ ،‬عن كنيدي الذي يتك َّون وع ُي ُه من‬ ‫‪73‬‬


‫روافد نفعية براغماتية طاردة للروح واملعنى واملثال‪ .‬الأمر الذي ي�ضفي على ِّن�صه ملمحاً و�صفياً‬ ‫و�ضعياً يجتهد يف متثيل الواقع املعطى‪ ،‬وال يتخطاه يف الأغلب ب�أداة الفكر النقدي‪� .‬إن كنيدي‬ ‫مث ًال‪ ،‬يق�صر معاجلته ملفاعيل الهند�سة الوراثية على الإنتاج الزراعي‪� ،‬أما غارودي‪ ،‬املعني بجدلية‬ ‫الإن�سان ـ الإله واملخلوق ـ ِّ‬ ‫فريكز النظر على �أثر الهند�سة الوراثية الأخطر يف تكوين الإن�سان‬ ‫نف�سه؛ ذلك «�أن الأهداف البعيدة لعلم احلياة هي تركيب احلياة‪ ,‬والأخذ بقيادة تطور الأنواع»(‪.)27‬‬ ‫�إن هذا يعني كما يالحظ الباحثون ـ �أن عملية الن�شوء واالرتقاء ح�سب داروين‪ ،‬مل تعد مرتوكة‬ ‫لقانون التطور التدريجي‪� ،‬أو التحول الفجائي النوعي (‪ )Mutation‬الذي يتم بطريق امل�صادفة‪،‬‬ ‫و�إمنا بات خا�ضعاً ٍ‬ ‫واع‪ .‬وهذا يطرح على جدول الأعمال اليومي املبا�شر الت�سا�ؤل‪« :‬على‬ ‫جلهد ٍ‬ ‫�أية �صورة يريد الإن�سان �أن يخلق نف�سه من جديد؟ �أين يتعلم املرء مهنة اهلل ـ �إن الإن�سان ـ‬ ‫يقول غارودي ـ مل يعد ذلك التطور الواعي لذاته‪ ،‬فح�سب‪ ،‬بل هو على الطريق لأن ي�صبح‬ ‫املتطور ال�سيد لذاته‪� ،‬أي �أن ي�صبح �أحد عوامل التطور‪ ،‬وقادراً على توجيه الوراثة‪ ،‬وعلى التوجيه‬ ‫(‪)28‬‬ ‫البيولوجي لطاقات الفرد»‪.‬‬ ‫عند هذه النقطة ميتد ال�سجال بني تيارات احلداثة البعدية‪ ،‬لتنجلي مع �صعود «الأمركة»‬ ‫الإحداثيات الأوىل لظهور الداروينية االجتماعية‪ .‬وهي نف�سها الداروينية التي �ست�ؤ�س�س لها‬ ‫فل�سفة بوبر يف �سياق ما ي�سمى بالعقالنية النقدية‪.‬‬ ‫فعلى الرغم من �أن مرجعية كنيدي الرباغماتية الأمبرييقية الغالبة �ست�ستبعد امل�ساءالت الفل�سفية‬ ‫حول غايات الإنتاج واغرتاب املنتجني‪ ،‬وتكتفي مبعايري الفاعلية والنجاعة‪ ،‬ف�إنه مي ِّيز بني ر�أ�سمالية‬ ‫عاقلة هي املناف�سة احلرة الطاردة لالحتكار والتمركز‪ ،‬الداعية �إىل ال�سلم ك�شرط الزدهار التبادل‬ ‫التجاري احلر بني الأمم على قاعدة امل�صلحة العقالنية‪ ،‬وهذه هي ر�أ�سمالية امل�ؤ�س�سني الربيطانيني‬ ‫بدءاً ب�شيخهم �آدم �سميث والليرباليني الأمريكيني الكبار‪ ،‬جفر�سون وويل�سون‪ ،‬وجاك�سون‪،‬‬ ‫وروزفلت‪ ،‬وبني ر�أ�سمالية غري عاقلة‪ .‬وهي الر�أ�سمالية االحتكارية التي تتوىل �إدارة النظام العاملي‬ ‫اجلديد‪ .‬وهي نف�سها التي �سعت �إىل نقل فل�سفة داروين الطبيعية �إىل امليدان االجتماعي وتعميمها‬ ‫على م�ستوى الكرة الأر�ضية‪ ،‬مو�سعة اله ّوة بني الطبقات على ال�صعيدين القطري والعاملي ودافعة‬ ‫(‪)29‬‬ ‫بالتناق�ضات االجتماعية الطبقية والفوارق الثقافية العرقية �إىل حدود االنفجار‪.‬‬ ‫ويبدو كنيدي مدركاً للتناق�ض بني « عقالنية ال�سوق» و «العدالة االجتماعية»‪ ,‬وهو تناق�ض ال‬ ‫ميكن �أن ُيحل يف �إطار النظام الر�أ�سمايل يف ر�أي غارودي(‪ )...‬ويف حني يتجه كنيدي و�إن على‬ ‫نحو َع َر�ضي �إىل نقد الرا�سمالية الأ�صولية التي اعتادت تربير الهيمنة الإمربيالية الأمريكية باملزاعم‬ ‫البالغية القائلة مبميزات �أخالقية خا�صة بالأمريكيني‪ ،‬وبدور قيادي عاملي �أوكله القدر للأمة‬ ‫الأمريكية»‪ ..‬ف�إنه يرفع الغطاء عن االنحيازات العرقية املت�ضمنة يف الداروينية االجتماعية(‪)...‬‬ ‫وهكذا يعر�ض كنيدي �إىل تاريخ العنف الع�سكري الأمريكي املديد �ضد قوى �أوروبية جتمعها‬ ‫‪74‬‬


‫فكـــــر‬

‫ب�أمريكا �أ�صول ثقافية ـ �سيا�سية م�شرتكة‪ .‬حيث ي�شف ن�ص كنيدي عن القناعة ب�أن �سيا�سة الرئي�س‬ ‫رونالد ريغان افتتحت الرتجمات الأ�صولية َّ‬ ‫الفظة للداروينية االجتماعية‪ ،‬وهي �إحدى �أخطر‬ ‫(‪)30‬‬ ‫االنحرافات عن قيم الثورة الأمريكية‪.‬‬ ‫«�أدجلـة» البوبريـة الداروينيـة‬

‫ر�أينا كيف وجدت عقالنية بوبر النقدية يف الداروينية �أحد �أهم م�صادرها املعرفية‪ .‬لكنها �ست�ؤول‬ ‫مع الثورة التكنو ـ �إلكرتونية التي حملت الأمركة �إىل عر�ش العامل مع نهاية القرن الع�شرين‪� ،‬إىل‬ ‫متك�أ فل�سفي �سيا�سي اجتماعي وا�ضح املعامل والغايات‪� .‬إن �أهم حتول بلغته الأمركة على هذا‬ ‫ال�صعيد‪� ،‬إمنا يتمثل يف انقالبها �إىل م�شروع برجمة حل�ضارة كاملة‪ ،‬منذ بدايتها الأوىل‪ .‬و�سوف يتم‬ ‫التغني بها‪ ،‬على �أنها الطريقة الأمريكية للحياة‪ .‬غري �أن هذه الطريقة �سوف تتحول �إىل �أيديولوجيا‬ ‫تنجح يف التخل�ص من كل �إحباطات الأيديولوجيات التقليدية يف القارة الأوروبية الهرمة؛ ذلك‬ ‫�أنها تخ�شى من حتديد هدفها من دون �أية �أقنعة فكرية �أو �أخالقية‪ ،‬ت�سميه النجاح دفعة واحدة‪.‬‬ ‫ذلك �أن مذهب املنفعة ‪ ،‬العريق يف منبته الأنغلو�ساك�سوين يتطور �إىل عملية النجاح املتداولة يف‬ ‫ور�شة العمل التي يتطلبها بناء �أ�سطورة العامل اجلديد(‪ )...‬هكذا حتقق «الأمركة»‪ ،‬بالن�سبة لنواتها‬ ‫الأوىل املنحدرة عنها التي هي «الغربنة»‪ ،‬تقدماً «معرفياً» �أنطولوجياً‪ ،‬انطالقاً من تخ�ص�ص «الغربنة»‬ ‫ب�إنتاج الإيديولوجيات‪ ،‬وحت�صر فاعليتها يف �إنتاج القولبة نف�سها‪ .‬فهي لن تكون ح�ضارة ال�صراع‬ ‫بني النماذج ‪ ،‬كما هو حال تاريخ امل�شروع الغربي يف مرحلته الأوروبية‪ ،‬لكنها �سرتفع جهدها‬ ‫�إىل م�ستوى القولبة نف�سها‪ .‬فهي �صانعة القولبة فح�سب‪ ،‬وال يهمها بعد ذلك ماذا �ست�صنع هذه‬ ‫القولبة من مناذج لن ت�شغل �إ َّال ح ِّيزاً وم�ستوى من الدرجة الثانية‪ .‬فالتخ�ص�ص يف «القولبة» ـ �أي‬ ‫ت�شكيل الأو�ضاع وفقاً ملنفعة ِّ‬ ‫امل�شكل و�إلزام الآخر بها �أو تكييفه معها بالقوة ـ �إمنا هو اكت�شاف‬ ‫معريف كبري يحمي �صاحبه من التورط يف تبني �إحدى‪� ،‬أو بع�ض �إنتاجاتها دون �سواها‪ ،‬من مناذج‬ ‫و�إيديولوجيات متنوعة‪.‬‬ ‫فالقولبة‪ ،‬هي �أ�صولية بدون م�ضمون حمدد �أو ثابت‪� .‬إنها �شكلية الأ�صولية من دون �أن تتمثَّل‬ ‫�أ�صولية هذا املذهب �أو ذاك‪ .‬وهذا يعني ـ كما يبينِّ نقّاد الليربالية املفتوحة ـ �أن الأمركة لي�ست‬ ‫جتديداً لليهودية واحتادها بالتطهرية الربوت�ستانتية‪ ،‬بالرغم من انحدار �أرومتها الإيديولوجية منها‪ .‬بل‬ ‫كل ما يهمها منهما معاً‪ ،‬اال�ستفادة الدائمة عرب تطورات امل�شروع الأمريكي‪ ،‬من �أ�صوليتهما‪)...(.‬‬ ‫من هنا‪ ,‬ميكن �أن نفهم ملاذا حتر�ص لغة الإعالم اليومية على طرح الأمركة باعتبارها جمرد طريقة‬ ‫حياة‪ ,‬فهي يف واقع الأمر تلك الطريقة التي ال تناف�س طرق احلياة لل�شعوب واحل�ضارات الأخرى‪،‬‬ ‫بل جتعلها غري ذات مو�ضوع جميعها‪� .‬إنها ُتبطل جدارتها بعني ذاتها‪� .‬إنها «القولبة» التي تد ِّمر‬ ‫م�ضامني القوالب الأخرى‪ .‬لكن تدمري قوالب الآخرين ال يعني جتريدهم من هوياتهم العرقية �أو‬ ‫‪75‬‬


‫احل�ضارية فح�سب‪ ،‬بل �إن مثل هذه املناورة هي ما مييز جتاوز «الأمركة» لـ»الغربنة» بالذات(‪)...‬‬ ‫و�إن ذلك ما �سمح للر�أ�سمالية الأمريكية �أن تقفز قفزاتها الكربى يف الن�صف الأول من القرن‬ ‫الع�شرين‪ ،‬من دون اال�صطدام الدائم بالعقبات التقليدية التي كانت تواجهها يف وطنها الأول‬ ‫(‪)31‬‬ ‫�أوروبا‪.‬‬ ‫مل تن�أَ فل�سفة كارل بوبر من حقول «الأمركة»‪ .‬بل هي �ستدخل �إىل قلب احلداثة البعدية دخول‬ ‫الفاحت‪ ،‬بعدما ر�أى �صاحب الأطروحة باملعاينة كيف �آلت دعواه �إىل �أن ت�صبح منط حياة‪ .‬غري �أنه ‪،‬‬ ‫على غالب الظن مل يكن ليتوقع نب�أً �سعيداً‪ ،‬مما بدا له من �آثار االنت�صار ال�ساحق لليربالية املفتوحة‪.‬‬ ‫فالوجه الأخالقي الذي ر�سمه ب�إتقان على طريقة املدن الفا�ضلة‪ ،‬ما لبث �أن انطوى على تلك‬ ‫«الذئبية» التي �سبق َّ‬ ‫وحذر منها توما�س هوبز �أيمَّ ا حتذير‪.‬‬ ‫ذلك ما عبرَّ عنه واحد من تالميذه النجباء وهو جورج �سورو�س (املتمول الأمريكي العاملي و�أحد‬ ‫�أ�سياد العامل اخلم�سني) منذ بداية ت�سعينيات القرن الع�شرين من �أن «خطر ال�شيوعية مل يعد هو‬ ‫العدو الرئي�سي لليربالية‪ ،‬بل �إن خطر الر�أ�سمالية نف�سها هو العدو احلقيقي‪ .‬غري �أن �سورو�س وهو‬ ‫ينقد ما �سعى �إليه و�أجنزه باقتدار باجتاه �سيطرة الليربالية اجلائرة‪ ،‬كان ي�شتغل على وجوب �إ�صالح‬ ‫اختالالتها وعيوبها‪ .‬وقد يكون من ح�سن طالع الفكر الليربايل‪ ،‬الذي �أ�س�ست البوبرية لتجلياته‬ ‫املت�أخرة يف �أمريكا �أنه ا�ستخدم �سالح النقد ملنجزات الليربالية املفتوحة لكي يعيد �إنتاج �آليات‬ ‫ال�سيطرة الر�أ�سمالية ونظام ال�سوق‪ .‬وب�صرف النظر عما تك�شفه هذه املقا�صد من حقائق‪ ،‬وال‬ ‫�سيما حقيقة حتويل الفكر الليربايل الدميقراطي �إىل �أيديولوجيا خادعة‪ ،‬ف�إن ا�ستخدام هذا ال�سالح‬ ‫�سي�ؤدي‪ ،‬على ما يظهر‪ ،‬الأغرا�ض التي ترنو �إليها الليربالية املفتوحة وفق قاعدة بوبر «دعه يفعل‬ ‫‪ ..‬دعه مير»‪ .‬ولقد بدا وا�ضحاً �أن «التقانة» التي �أم�ست واقعاً م� ِّؤ�س�ساً حلياة جديدة لإن�سان القرن‬ ‫الواحد والع�شرين‪ ،‬ف�إن منجزها هذا مل يكن ليتم على النحو الذي َّمت فيه لوال الرداء الأيديولوجي‬ ‫ال�صارم الذي وجد مرجعيته الفكرية والفل�سفية والدينية مع توليِّ الربوت�ستانتية احلادة قيادة النظام‬ ‫العاملي‪.‬‬

‫‪76‬‬


‫فكـــــر‬

‫الهوام�ش‪:‬‬ ‫‪K.R. Popper, Objective Knowledge, the Clarendon press, Oxford, 1972, p.1‬‬

‫ ‬

‫‪2‬‬

‫‪ 3‬‬ ‫‪ 4‬‬ ‫ ‪5‬‬

‫ ‪1‬‬

‫زبيغنيو بريجن�سكي‪ ،‬بني ع�صرين‪� :‬أمريكا والع�صر التكنوتروين‪ ،‬ترجمة وتقدمي حمجوب عمر‪ ،‬الطبعة ‪،1‬‬ ‫دار الطليعة‪ ،‬بريوت‪� ،1980 ،‬ص‪.29‬‬ ‫مينى طريف اخلويل‪ ،‬جملة وجهات نظر‪ ،‬العدد ‪� ،43‬آب (�أغ�سط�س)‪.2002 ،‬‬ ‫مينى طريف اخلويل‪ ،‬م�صدر �سابق‪.‬‬ ‫كارل بوبر‪ ،‬منطق الك�شف العلمي‪ ،‬حتقيق ماهر عبد القادر حممد علي‪ ،‬دار النه�ضة العربية‪ ،‬بريوت‪،‬‬ ‫�ص‪.29‬‬ ‫‪K. R. Popper, The logic of Scientific Discovery, Hutchinson of London, London, p.27.‬‬

‫ ‪6‬‬

‫ ‪Ibid, p.31.‬‬

‫ ‪7‬‬

‫‪ 8‬منطق الك�شف العلمي‪ ،‬م�صدر �سابق‪� ،‬ص‪.38‬‬ ‫‪ 9‬راجع‪ :‬منطق الك�شف العلمي‪ ،‬م�صدر �سابق‪� ،‬ص‪ 36‬ـ ‪.40‬‬ ‫‪ 1 0‬كارل بوبر‪� ،‬أ�سطورة الإطار‪ :‬يف دفاع عن العلم والعقالنية‪ ،‬حترير مارك �أ‪ .‬نوترنو‪ ،‬ترجمة‪ :‬مينى طريف‬ ‫اخلويل‪� ،‬سل�سلة عامل املعرفة‪ ،‬العدد ‪ 292‬ـ الكويت ‪� ،2003‬ص‪.122‬‬ ‫‪� 11‬أ�سطورة الإطار‪ :‬يف دفاع عن العلم والعقالنية‪ ،‬م�صدر �سابق‪.‬‬ ‫‪ 12‬كارل بوبر‪� ،‬أ�سطورة الإطار‪ ،‬امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص‪.161‬‬ ‫‪ 1 3‬كارل بوبر‪ ،‬ب�ؤ�س الأيديولوجيا‪ :‬نقد مبد�أ الأمناط يف التطور التاريخي‪ ،‬ترجمة عبد احلميد �صربه‪ ،‬دار‬ ‫ال�ساقي‪ ،‬لندن‪� ،1992 ،‬ص‪.93‬‬ ‫‪ 14‬كارل بوبر‪ ،‬ب�ؤ�س الأيديولوجيا‪ ،‬م�صدر �سابق‪� ،‬ص‪.163‬‬ ‫‪ 15‬راجع‪ :‬كارل بوبر‪� ،‬أ�سطورة الإطار‪ ،‬م�صدر �سابق‪� ،‬ص‪.89‬‬ ‫‪ 1 6‬امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص‪.90‬‬ ‫‪ 1 7‬مايكل هاردت و�أنطونيو نيغري‪ ،‬الإمرباطورية‪� :‬إمرباطورية العوملة اجلديدة‪ ،‬تعريب‪ :‬فا�ضل جتكر‪،‬‬ ‫مراجعة‪ :‬ر�ضوان ال�سيد‪ ،‬مكتبة العبيكان‪ ،‬الريا�ض ‪.2002‬‬

‫‪18 Robert Musil, The Man without Qualities, trans. Sophie Wilkins, New York: Knopf, 1995, 2:367.‬‬

‫‪ 19‬راجع‪ :‬الإمرباطورية‪ ،‬م�صدر �سابق‪� ،‬ص‪.419‬‬ ‫‪� 20‬أنظر‪ :‬كارل بوبر‪ ،‬مدخل �إىل العقالنية النقدية‪ ،‬حتقيق �أ�سامة عرابي‪ ،‬امل�ؤمتر الدائم للحوار‪ ،‬بريوت‪،1994 ،‬‬ ‫�ص‪.182‬‬ ‫‪ 21‬دانيال بل‪ ،‬قيا�س املعرفة والتكنولوجيا يف م�ؤ�شرات التغري االجتماعي (‪Indicators of Social‬‬ ‫‪ ،)Change‬نيويورك‪� ،1968 ،‬ص‪.149‬‬ ‫‪77‬‬


‫‪ 22‬‬ ‫‪ 23‬‬ ‫‪ 24‬‬ ‫‪ 25‬‬ ‫‪ 26‬‬ ‫‪2 7‬‬ ‫‪2 8‬‬ ‫‪ 29‬‬ ‫‪3 0‬‬ ‫‪ 31‬‬

‫‪78‬‬

‫مدخل �إىل العقالنية النقدية‪ ،‬م�صدر �سابق‪� ،‬ص‪.186 ،184‬‬ ‫بريجن�سكي‪ ،‬بني ع�صرين‪� ،‬أمريكا والع�صر التكنوتروين‪ ،‬م�صدر �سابق‪� ،‬ص‪.52‬‬ ‫مدخل �إىل العقالنية النقدية‪ ،‬م�صدر �سابق‪� ،‬ص‪.186‬‬ ‫كارل بوبر‪ ،‬مدخل �إىل العقالنية النقدية‪ ،‬م�صدر �سابق‪� ،‬ص‪.127‬‬ ‫راجع‪ :‬كارل بوبر‪ ،‬مدخل �إىل العقالنية النقدية‪� ،‬ص‪.131‬‬ ‫روجيه غارودي‪ ،‬مارك�سية القرن الع�شرين‪ ،‬تعريب نزيه احلكيم‪ ،‬ط‪ ،2‬دار الآداب‪ ،‬بريوت ‪� ،1968‬ص‪.47‬‬ ‫راجع‪ :‬عفيف فراج‪ ،‬ثورة بالعلم ويف العلم‪ ،‬بني ر�ؤية روجيه غارودي ور�ؤية بول كينيدي‪ ،‬جملة بعاد‪،‬‬ ‫العدد ال�ساد�س‪� ،‬أيار (مايو)‪.1997 ،‬‬ ‫عفيف فراج‪ ،‬امل�صدر نف�سه‪.‬‬ ‫امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص‪.172‬‬ ‫مطاع �صفدي‪ ،‬نقد ال�شر املح�ض‪ ،‬مركز الإمناء القومي‪ ،‬بريوت‪� ،2001 ،‬ص ‪.216‬‬


‫فكــــر‬

‫احلراك الإجتماعي يف املجتمعات العربية‬ ‫«اجلزائر منوذجا»‬ ‫عبدالعزيز را�س مال ‪� -‬أ�ستاذ حما�ضر (جامعة اجلزائر ‪)2‬‬

‫مقدمة‪:‬‬

‫يف �إطار الرتب�ص الق�صري املدى الذي مت يف جامعة ماربورغ والذي مل يتعد ت�سعة �أيام من ‪-31‬‬ ‫‪� 2014-3‬إىل غاية ‪ ،2014-4-8‬مت الرتكيز على م�صطلح احلراك الإجتماعي ‪Social Mobility‬‬ ‫يف املجتمعات العربية‪ ،‬ونظراً لأنني �أ�ستاذ حما�ضر يف علم الإجتماع بجامعة اجلزائر ‪ -2‬اجلزائر‪،‬‬ ‫تناولت هذا املو�ضوع يف الفرتة التي كان ُيجهل فيها هذا امل�صطلح‪� ،‬أي بداية الثمانينات‬ ‫ف�إنني ُ‬ ‫من القرن املا�ضي‪ ،‬يف العامل العربي ب�إنتاج كتاب‪ ،‬عنوانه‪ :‬كيف يتحرك املجتمع؟‪ ...‬خال بع�ض‬ ‫الدرا�سات التي قام بها املركز القومي للبحوث الإجتماعية واجلنائية مب�صر‪� ،‬أو بع�ض البحوث يف‬ ‫�إطار الدرا�سات العمالية يف البلد نف�سه‪ ..‬وبا�ستثناء �أحد الطلبة اجلزائريني يف الدرا�سات العليا‬ ‫بجامعة �سرتا�سبورغ بفرن�سا املتمر�سني‪ ،‬ف�إنه مل تكن لدينا �أي فكرة عن البحث يف هذا املو�ضوع‬ ‫يف �أي بلد عربي �آخر‪..‬‬ ‫ونظراً‪ ،‬لأن اجلزائر حتتل اجلزء الأهم من هذا البحث‪ ،‬ف�إنني اخرتت �أن �أكتب عن ظواهر التهمي�ش‬ ‫والفقر والإق�صاء التي يعاين منها ال�شباب اجلزائري يف بداية هذا القرن �أي القرن ‪ 21‬م‪..‬‬ ‫االختالالت يف احلراك الإجتماعي‪:‬‬

‫فقد تناولت ال�شبكة الإجتماعية والعائلية التي بد�أت يف التمزق قبل �أحداث �أكتوبر ‪1988‬م‪،‬‬ ‫واملعاناة التي كان يعي�شها ال�شباب املهم�ش املنحدر من الفئات الإجتماعية املحرومة يف املدن‬ ‫الكربى والداخلية والأحياء ال�شعبية والق�صديرية بني الواقع املزري والطموح الذي ربته يف نف�سه‬ ‫�إيديولوجيا امل�ساواة الإجتماعية‪ ،‬والثقافة امل�ضادة التي تبحث عن غياب م�ؤ�س�سات الدولة التام‬ ‫كفاعلة يف احلياة الإجتماعية‪ ،‬فالدولة ال�ضعيفة يف جمتمع متخلف‪� ،‬أو الدولة القوية التي تخدم‬ ‫الأقلية ي�شكالن �سويا ممرا خمت�صرا لب�ؤ�س مت�صاعد للأمة‪ ،‬ومن هنا يعلن احممد بوخبزة ‪ -‬رحمه‬ ‫‪79‬‬


‫اهلل ‪ -‬ب�أن دولة الأ�شخا�ص الأكرث رداءة هي يف حد ذاتها دولة رديئة‪ ،‬وال تكون �إال يف خدمة ه�ؤالء‬ ‫الأ�شخا�ص‪ ،‬وهذا �أدى �إىل تراكم الأحقاد التي �أ�صابت اجل�سم الإجتماعي‪.‬‬ ‫(�أنظر‪)Boukhobza (M ‘): Octobre 1988, evolution ou rupture… 1991 :‬‬ ‫الإرهاب واحلراك‪:‬‬

‫�أما الإرهاب الإجرامي‪ ،‬وهو ال�سمة الغالبة قي نهاية القرن الع�شرين يف اجلزائر‪� ،‬أي ابتداء‬ ‫من ‪ 1991‬م‪ ،‬بعد توقيف امل�سار الإنتخابي �إىل غاية ‪2000‬م‪� ،‬أي بداية القرن ‪21‬م من خالل‬ ‫ت�شريح امل�أ�ساة اجلزائرية‪ ،‬فقد حلل الكاتب بن ال�شيخ االندفاع الإجرامي لفئات من ال�شباب‬ ‫وبني �أن الأ�سباب احلقيقية الكامنة وراءه تتمثل يف �إ�ضعاف الرقابة الإجتماعية التي تنظم البناء‬ ‫الإجتماعي‪ ،‬وغياب الكلمة ملدة تزيد عن ‪� 30‬سنة‪ ،‬من ال�صمت والقهر والإذالل‪ ،‬رغم �أن هذا‬ ‫املجتمع ورث ثورة من �أهم الثورات يف هذا القرن‪ ،‬وقد حذرمن ر�ؤية الإجرام بطريقة فردانية‪ ،‬بل‬ ‫ال بد من و�ضعه يف �سياقه العام‪� ،‬أي �أنه �إجرام جماعي ح�سب حتديد غو�ستاف لو بون ‪Gustave‬‬ ‫‪� ،le Bon‬أي ت�أثري القنوات ‪ -‬الإجتماعية النف�سية يف التالعب بالعقول من خالل دور القادة ‪les‬‬ ‫‪ meneurs‬الذين ي�ستغلون جهل احل�شود‪ ، les foules‬وعفويتها وعدم تنظيمها وقلة حيلتها وعنفها‬ ‫و�سلبيتها يف اال�ستجابة للتعقل فهي ال حت�سن �إال الهدم‪� ،‬أي الإجهاز على املدنية واملدينة‪ ،‬عن‬ ‫طريق ال�سلطة والنفوذ والتطرف‪ ،‬وما يح�سنه القادة هو ا�ستعمال الألفاظ واجلمل وال�صور التي‬ ‫لها قوة �سحرية ترتبط باخليال اجلمعي‪ ،‬ومن ثم فاحل�شود تف�ضل الوهم على احلقيقة‪ ،‬حيث ي�صبح‬ ‫التع�صب مبعايريها اخلا�صة �أحد الف�ضائل‪..‬‬ ‫(�أنظر‪)Bencheikh. F: «Du terrorisme»1995» :‬‬ ‫قامت �آمال قا�سمي بدرا�سة مقارنة بني ر�سامي الكاريكاتور‪ ،‬لكل من ديالم‪ :‬جريدة ‪،Liberté -Dilem‬‬ ‫واخلرب‪� :‬أيوب) حيث حت�صلت من خالل حتليل املحتوى على املعلومات التالية‪:‬‬ ‫لقد ا�ستهدف الإرهاب الفئات الإجتماعية التالية‪:‬‬ ‫ بني ‪ :1995-1990‬ال�شرطة ‪ -‬اجلي�ش ‪ -‬الدرك الوطني‪.‬‬ ‫ بني ‪ :1998-1996‬موظفون يف احلكومة ‪� -‬سيا�سيون ‪� -‬صحافيون ‪ -‬مثقفون ‪� -‬أ�ساتذة جامعيون‬ ‫(نخبة املجتمع)‪.‬‬ ‫ بني ‪ :2002-1999‬الفئات الإجتماعية املختلفة‪ ،‬بدون ا�ستثناء‪ ،‬خا�صة الفئات الإجتماعية يف‬ ‫الأرياف و�ضواحي املدن‪...‬‬ ‫(�أنظر‪� :‬آمال قا�سمي ‪)2013‬‬ ‫‪80‬‬


‫فكـــــر‬

‫دور العائلة‪:‬‬

‫�أ�صبحت العائلة اجلزائرية �ضحية ثالثة �أبعاد من الإغرتاب‪ - :‬البعد القطري ‪ -‬البعد احل�ضاري‬ ‫ البعد العاملي‪.‬‬‫فنتيجة للتجزئة والتفكيك الذي عانت منه �أثناء امل�أ�ساة الوطنية وهو ما وقع لها يف ظل االحتالل‬ ‫الفرن�سي‪ ،‬ومن خالل هجوم مركز على املر�أة والرجل با�ستهدافهما كمو�ضوع «‪»comme un objet‬‬ ‫�أدى ذلك �إىل تف�شي ظاهرة االنحراف‪ ،‬واجلنوح الذي م�س املجتمع يف عمقه‪ ،‬وخا�صة املر�أة‬ ‫ككائن �إن�ساين له قيمته واعتباره الإجتماعي‪� ،‬أي �أنه ال يهدف �إىل �إذاللها كامر�أة‪ ،‬و�إمنا كبنت‬ ‫للمجموعة الإجتماعية‪ ،‬كزوجة م�س�ؤولة يف البيت �أو العمل �أو كمربية �أجيال‪.‬‬ ‫التميز الل�ساين لل�شباب‪:‬‬

‫ال�شباب ي�ستعمل لغة ال يفهمها الكبار وينكرونها‪ ،‬لكنها باملقابل تعرب عن حاجة يف التعامل مع‬ ‫احلياة اليومية وبالتوافق مع املتغريات التي حتدث يف عامل االت�صال‪� ..‬إنه ف�ضاء جديد للتميز‬ ‫والبحث عن االعتبار الإجتماعي ودليل للهوية ‪ ، code idenditaire‬فال�شباب ينتج قيمه ومعايريه‬ ‫اخلا�صة‪ ،‬تعرب عن رف�ضه ملا ي�سوق يف املجتمع ومترده عليه‪ ،‬فال اخلطب العاطفية تغريه‪ ،‬بل يبتكر‬ ‫م�صطلحات خمتلفة ومزج رهيب يف اللغة‪ ،‬وقد يكون ذلك تعبري عن طموحه يف الو�صول �إىل لغة‬ ‫ات�صال تعرب عن ثقافة املواجهة جتاه الغرب‪� ،‬أو لتجنب البوح ب�أ�سرار يف الو�سط العائلي �أو اجلريان‬ ‫�أو احلي‪ ،‬ويف اماكن تبتعد عن �أعني الرقابة ال�سلطوية‪.‬‬ ‫فكما علمنا برورديو «‪� »Bourdieu. P.‬إن من يتكلم لي�ست الكلمة �أو اخلطاب‪ ،‬و�إمنا ال�شخ�صية‬ ‫االجتماعية‪ ،‬هذه امل�صطلحات ماهي �إال تعبري عن حالة القلق واال�ضطراب التي يعي�شها ال�شباب‬ ‫باعتبارهم جزءاً من املجتمع املت�صدع‪ ،‬لغة خليط من العربية والفرن�سية والأمازيغية والإ�سبانية‬ ‫والرتكية والإيطالية واملالطية واليوغو�سالفية‪� ..‬أي كل لغات البحر الأبي�ض املتو�سط‪ ،‬فهو ال‬ ‫يبحث عن هوية و�إمنا عن وجود تناف�سي جتاه الآخر‪ .‬هذا الف�ضاء اللغوي تعبري عن االغرتاب‬ ‫و�أحالم العامل العجيب املفتوح الذي ال حدود وال �ضوابط له‪ ،‬ين�سيه �آالمه و�أحزانه‪.‬‬ ‫ظهرت اجلماعات التي تت�سم بالالمتايز �أو نقول عنها الهجينة والتي تنتج ظواهر خطرية تتمثل يف‬ ‫االنحراف‪ ،‬فالرتبية الدينية ال�صحيحة ‪ -‬كما �سنعرف الحقاً ‪ -‬غائبة �أو مغيبة يف املدار�س الر�سمية‪،‬‬ ‫وال تطرح �إال مو�ضوعات هام�شية ال ت�ؤثر يف التلميذ املتمدر�س‪� ،‬أما االرتداد �إىل الأمية‪ ،‬فهي ظاهرة‬ ‫خطرية‪ ،‬بد�أت تظهر مع ت�أزم الأو�ضاع الإجتماعية ومنه ظهرت كما �سنبني عند الكاتب «علي‬ ‫الكنز» �آثار �سلبية �أثرت على املجتمع برمته‪..‬‬ ‫‪81‬‬


‫الظواهر الإنحرافية‪:‬‬

‫البد �أال نن�سى �أن تعاطي املخدرات انت�شر ب�شكل مريع يف الثانويات واجلامعات (�أنظر‪ :‬م�صطفى‬ ‫ع�شوي ‪1995 -‬م)‪.‬‬ ‫�أما ظاهرة الت�سول التي انت�شرت تعرب �أي�ضاً عن االنحراف �سواء تلك اجلماعية التي تعرفها اجلزائر‬ ‫(بني عدا�س)‪ ،‬التي ت�شبه الغجر �أو الروم الآتني من رومانيا يف �أملانيا وغريها من البالد الأوروبية‪،‬‬ ‫الذين ي�شكلون ع�صابات منظمة‪� ...‬أو املت�سولني الفرادى‪ ،‬الذين امتهنوا الت�سول للحاجة �إىل‬ ‫البقاء‪ ،‬من ه�ؤالء الأطفال غري ال�شرعيني‪� ،‬أو الوالدين املطلقني‪ ،‬دون �سكن قار‪� ،‬أو الفارين من‬ ‫خطر الإرهاب‪...‬‬ ‫*�أهم م�شكلة معوقة للحراك الإجتماعي‪ ،‬فهي ظاهرة الهجرة غري ال�شرعية «احلراقة» �أو قوارب‬ ‫املوت‪ ،‬فهي فئات ينح�صر عمرها بني ‪� 23-16‬سنة‪ ،‬تقطن بالأحياء ال�شعبية والق�صديرية‪،‬‬ ‫وبالواليات الكثيفة ال�سكان‪ ،‬وبال�سواحل‪ ،‬ه�ؤالء لهم �أفراد من العائلة و�أ�صدقاء باخلارج وعدوهم‬ ‫مبد يد امل�ساعدة لتهجريهم ولو بطريقة غري �شرعية‪ ،‬كما �أن لهم �أ�صدقاء موظفني يف الباخرة �أو امليناء‬ ‫ي�ساعدونهم يف هذه العملية املت�سمة باملخاطر‪ ،‬م�ستواهم الدرا�سي يف �أغلب الأحيان متوا�ضع‪ ،‬بل‬ ‫يوجد �شباب جامعي يلج�أ �إىل هذا النوع من الهجرة هروباً من اخلدمة الوطنية‪� ،‬أو �إمتام �صفقة ما‬ ‫بعد ‪ -‬الرتب�ص‪.‬‬ ‫وقد كلفت بع�ض الطلبة بالقيام بهذه الدرا�سة يف �سنتني متباعدتني ن�سبيا ً (‪ )2011-2000‬لكنني‬ ‫تفاج�أت ب�أن نف�س الأ�سباب والأحداث والنتائج كامنة وراء هذه العملية‪ ،‬فالأ�سباب ترجع دائماً‬ ‫�إىل الظروف الإجتماعية القا�سية‪ ،‬واحللم يف جمتمع املالئكة (املجتمع الأوروبي)‪ ،‬والأحداث‬ ‫تتمثل دائماً يف ظواهر كارثية (الغرق يف البحر‪ ،‬اغتيال يف نقطة الذهاب �أو الو�صول‪ ،‬وهناك من‬ ‫رمي به يف البحر‪ ،‬من تعر�ض لللتحر�ش اجلن�سي‪..‬الخ)‪� ،‬أما من حيث النتائج فقد �أدجموا يف‬ ‫الرقيق الأبي�ض داخل الع�صابات املنظمة التي تتاجر بهم عن طريق و�سطاء من اجلزائر‪ ،‬ومن جنح‬ ‫يف العبور‪ ،‬ف�إنه ال يتوفر على �أوراق ثبوتية ور�سمية‪..‬و يطمئن نف�سه ب�أن ذلك ممكن مع تقادم الزمن‪.‬‬ ‫الي�أ�س الإجتماعي يتمثل يف بروز ظاهرة الإنتحار‪ ،‬التي ترجع �إىل التفكك الأ�سري‪ ،‬وامل�شاكل‬ ‫العائلية‪ ،‬والقلق الوجودي‪ ،‬والإق�صاء والتهمي�ش‪ ،‬وكل ما ذكر �سابقاً‪ .‬املدينة جمال وا�سع للحراك‬ ‫الإجتماعي‪ ،‬لكن ال�ضعف يظهر يف �أنها تختل فيها املعايري‪ ،‬كما يحدد ذلك عامل الإجتماع‬ ‫امل�شهور «�إمييل دوركهامي» ‪« E. Durkheim‬خا�صة يف مرحلة الأزمات‪ ،‬فحاالت االنتحار ما زالت‬ ‫تزداد يوماً بعد يوم يف مدننا الكربى كالعا�صمة وق�سنطينة وبجاية وتيزي وزو وبدرجة �أقل عنابة‬ ‫ووهران‪ ،‬وخا�صة يف املجال احل�ضري الذي يتو�سط هاته املدن‪ ،‬الذي يتمثل يف كرثة الفنادق‬ ‫والتنقل واحلركة‪ ،‬هم من الأحياء ال�شعبية املجاورة للمركز‪� ...‬أو من مناطق العبور التي تعاين من‬ ‫ات�ساع امل�سافة الإجتماعية بني الأ�شخا�ص‪ ،‬ت�ؤدي كلها �إىل ارتفاع مذهل يف تهيئتهم للإقدام على‬ ‫‪82‬‬


‫فكـــــر‬

‫االنتحار‪�( ...‬أنظر‪ :‬تكفي كلثوم «الإنتحاريف املجتمع اجلزائري» ‪.)1996‬‬ ‫التدين ووتائر احلراك الأحادي‪:‬‬

‫�أما علي الكنز‪ ،‬في�ؤكد لنا على �صيغة �أخرى من هذا احلراك الإجتماعي‪ ،‬وهو ارتباطه بظاهرة‬ ‫«التدين احل�ضري» التي �سيطرت على احلقل الإجتماعي والثقايف يف غياب التجارب ال�سيا�سية‬ ‫الناجحة يف تنظيم املجتمع اجلزائري‪« :‬االقت�صاد كاملجتمع‪ ،‬واملا�ضي كامل�ستقبل حدث فيهما‬ ‫انقالب كبري (‪ )...‬مما �أدى �إىل امللج�أ الأخري وهو الدين «لذلك فمجموع الن�سق الرمزي هو الذي‬ ‫ميكننا من ت�أويل املجتمع اجلزائري‪..‬‬ ‫وكما �أ�شار «طارق حقي» يف حما�ضرة بجامعة �أك�سفورد (‪ ،)2003‬ف�إن «علي الكنز» يرى نف�س‬ ‫الر�أي‪� ،‬أن احلركة الوهابية‪ ،‬قد �أعادت ترتيب املذاهب‪ ،‬وهدمت الروابط الإجتماعية التي ُن�سجت‬ ‫يف قرون من التعاي�ش‪ ،‬وهذا ما �أ�س�سه اخللفاء الرا�شدون �أو غريهم من اخللفاء الذين تعاملوا مع‬ ‫احل�ضارات املجاورة بروح �إ�سالمية مت�ساحمة‪ ...‬يقول �أن ال�صراعات املدنية‪� ،‬أي التعار�ض بني‬ ‫الأ�شخا�ص‪� ،‬أ�صبحت جارية يف العمارة‪ ،‬يف امل�سجد‪ ،‬حيث تزداد كرثة‪ ،‬قد تكون حركة �أو ت�صرفاً‬ ‫ما‪� ،‬أو كلمة �أو طريقة اللبا�س‪� ،‬أو الهيئة‪..‬الخ»‪.‬‬ ‫ويف اجلزائر �أخذت �شك ًال مو�سعاً وخطرياً �إذ غطت كل �سجل يف احلياة الإجتماعية‪ :‬ال�سلوك‬ ‫الغذائي‪ ،‬اللبا�س‪ ،‬امل�سائل اخلا�صة‪ ..‬بل �أخذ ال�سلوك الفردي �إىل التعر�ض �إىل الثنائية ال�صارمة‪:‬‬ ‫امل�سموح ‪ -‬املحظور‪ ،‬ب�إ�ضفاء الطابع املقد�س عليه‪ ..‬ثم برز تدخل طوائف �سيا�سية ومدنية‪ ،‬لغاية‬ ‫ال�شعائر املحلية مثل‪ :‬اجلنازة �أو الفرح‪ ،‬وكذا التدخل يف الن�سق الرتبوي لغاية حترمي الفنون‬ ‫وو�سائل الرتفيه الأخرى‪� ،‬أ�صبح كل �أمر قاب ًال للنقا�ش و�إعادة الت�أويل‪ ،‬وبالتايل �أدت اخلالفات‬ ‫�إىل العنف املدين‪ ..‬تدني�س املقابر والأ�ضرحة التي تتعار�ض مع العقيدة الوهابية‪ ،‬وحتى ال�شهداء‬ ‫مل ي�سلموا من ذلك‪� ،‬إلغاء كلمة «�صباح اخلري» ‪ -‬على اعتبار �أن «الكفار» هم الذين يقولونها ‪-‬‬ ‫‪..‬الخ‪ ،‬وهذه النمذجة التي امتدت من اخلليج �إىل املحيط‪ ،‬انت�شرت كمظهر من مظاهر التثاقف‬ ‫‪ ،acculturation‬و�ألغت منط احلياة الذي يعطي لكل قطر خ�صو�صيته التاريخية والثقافية‪..‬‬ ‫�أ�صبح هذا العائق ال�سو�سيولوجي للحراك الإجتماعي‪ ،‬يتمثل يف ت�أثري اخلطب امللتهبة «خطب‬ ‫اجلمعة « خا�صة‪ ،‬التي تعمل دون هوادة لإعادة تنميط ال�شعائر الدينية‪ ،‬بل امتدت حتى �إىل‬ ‫معايري ال�سلوك‪ :‬الأخالق ‪ -‬اجلانب اجلمايل ‪ -‬املمار�سات الإقت�صادية ‪ -‬الإجتماعية‪ ،‬وال�سيا�سية‪،‬‬ ‫التي تنظم حياة املجتمعات والأفراد‪..‬لكي تكون منوذجاً واحداً وموحداً‪.‬‬ ‫�أ�صبحت «خطبة اجلمعة» للإمام �أكرث �إقناعاً‪ ،‬باملقارنة مع خطاب الرجل ال�سيا�سي‪ ،‬لأن الأول‬ ‫ُيعترب «خمل�صاً»‪ ،‬بينما الثاين ُيعترب «منافقاً»‪ ..‬ما �أ�صبحت «ال�سوق العاملية» للفتاوى من خالل‬ ‫‪83‬‬


‫و�سائل االت�صال (التلفزيون‪ ،‬الأنرتنت)‪ ،‬هي العامل امل�ساعد على عوملة النظام الوهابي‪ ،‬وطريقته‬ ‫يف التعامل مع الأحداث‪ ...‬فالبور�صة العاملية للقيم املالية‪ ،‬والتي ت�سمح لكل �شخ�ص �أن ينتقي‬ ‫الأ�سهم التي ي�ستثمر فيها‪ ،‬هي نف�سها بالن�سبة للفتاوى التي ت�سمح لكل �شخ�ص �أو جماعة �أن‬ ‫يختار تلك املنا�سبة له‪.‬‬ ‫الوهابية تعطي �أهمية «للدنيا» من خالل املمار�سات واملعامالت‪ ،‬وال تعتني باجلانب الروحي �إال‬ ‫قلي ًال‪ ،‬بال�شعائر فقط ُيقيم ال�سلوك ال�سليم‪�! ‬إنها تعفي ال�ضمري من التفكري‪ ،‬بل تعترب الت�صوف‬ ‫انحراف ورفه للخا�صة (�أي النخبة)!‬ ‫عن�صر مهم يذكره «على الكنز»‪ ،‬وهو �أن الوهابية مثل الربوت�ستانتية‪ ،‬كما حددها ماك�س فيرب ‪Max‬‬ ‫‪ ،Weber‬تتجه �إىل الدنيوي كهند�سة �إجتماعية‪ ،‬بن�سق معياري ي�ؤطر عدداً ال نهائياً من املمار�سات‬ ‫الفردية يف املجتمع؛ لكن الفرق‪ ،‬هو �أن الربوت�ستانتية تتعامل مع االقت�صاد بالروح الفردية وبفكرة‬ ‫املقاولة العقالنية التي تخ�ضع للقيمة الإ�ستعماليةو التبادلية‪ ،‬بالربح الذي جتنيه من ذلك‪..‬بينما‬ ‫الوهابية تتعامل مع «الأ�سفل» �أي اال�ستثمار من خالل «اجلماهري الوا�سعة» �أي الأمة الإ�سالمية‬ ‫التي ف�شلت فيها جتربة الدولة‪ -‬الأمة بعد الإ�ستقالل‪ ،‬يف النظام اجلديد‪.‬‬ ‫الوهابية اجلديدة‪ ،‬على غري ما يعتقد البع�ض قد اندجمت يف النظام الر�أ�سمايل‪ ،‬ويف التكنولوجيا‪،‬‬ ‫والإعالم الآيل والعمران‪ ...‬لكن ب�صرامة متناهية حني يتعلق الأمرباملراقبة الأخالقية‪..‬‬ ‫(‪.)Elkenz.A: colloque..24 Mai 2010‬‬ ‫تعر�ض �أي�ضاً روائيون كبار ملظاهر الأزمة و�أثرها يف احلراك من خالل رواياتهم ( ُيذكر‪ :‬الأعرج‬ ‫وا�سيني‪ ،‬مرزاق بقطا�ش‪ ،‬حممد �ساري‪..‬الخ)‪..‬‬ ‫(�أنظر ف‪ .‬فاطمة درو�ش ‪)2013‬‬ ‫ر�أ�س املال الثقايف وتغري الأجيال‪:‬‬

‫هذه التعددية كانت ممار�سة �أثناء االحتالل‪ ،‬واختارت اجلزائر احلزب الواحد (ج‪.‬ت‪.‬و) كحل‪،‬‬ ‫لكنها واجهت بحدة التعدد الثقايف والإثني والإجتماعي (�أنظر‪ )Jorge Bula1990:‬مما ا�ضطرها‬ ‫�إىل فتح املجال �أمام التعددية احلزبية‪.‬‬ ‫وجد النظام القائم �صعوبات يف �إعادة �إنتاجه‪..‬حيث برزت مرحلة انتقالية تتداخل فيها �سل�سل�سة‬ ‫من امل�صالح املتناق�ضة طبقياً‪ ،‬جماعات دينية و�إثنية ( ما حدث �أخرياً يف غرداية ‪ ،) 2014‬وبروز‬ ‫�أ�ساليب جديدة لإر�ضاء احلاجات حيث تعمل كل جمموعة على �إدخالها �إىل املجتمع‪.‬‬

‫‪84‬‬


‫فكـــــر‬

‫هذه املجموعات ميكن ح�صرها فيما يلي‪:‬‬ ‫ املجموعات املت�ضررة من التغيري احلا�صل من الداخل �أو اخلارج الذي ي�ستخدم جماعات‬ ‫�أخرى من الداخل للت�أثري‪.‬‬ ‫ املجموعات الثورية التي تعمل على قلب النظام‪ ،‬والبحث عن برنامج موازي‪.‬‬ ‫ جماعات مهم�شة تتحرك دون تقدمي امل�شروع البديل‪.‬‬ ‫ املجموعات التي تعيق ومتنع �أي تعديل‪ ،‬وت�سعى بالإبقاء على الو�ضع كما هو‪.‬‬ ‫مناذج للحراك الإجتماعي من خالل بع�ض البحوث‪:‬‬

‫املعوقات يف البحث العلمي‪:‬‬

‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬

‫ميكن تلخي�ص معوقات احلراك مبا يلي‪:‬‬ ‫منط اقت�صاد الريع‪ ،‬حيث االعتماد على اخلربة الأجنبية‪ ،‬وتهمي�ش الطلب املحلي على املعرفة‪.‬‬ ‫الهرمية البريوقراطية املفرطة يف م�ؤ�س�سات البحث العلمي‪.‬‬ ‫انخفا�ض عدد امل�ؤهلني يف البحث العلمي‪.‬‬ ‫ارتباط البحث بالأ�شخا�ص ولي�س بامل�ؤ�س�سات اال�سرتاتيجية‪.‬‬ ‫هجرة الكفاءات �إىل اخلارج‪.‬‬ ‫تخلف يف �أنظمة املعلومات احلديثة (غائبة �أو �ضعيفة)‪.‬‬ ‫غياب مراكز البحث الفعالة‪ ،‬وعدم وجود املدن التكنولوجية‪.‬‬ ‫�ضعف م�شاركة امل�س�ؤولني يف اقرتاح البحوث العلمية‪ ،‬يف قطاعات خمتلفة‪..‬‬ ‫(�أنظر‪� :‬شهرزاد زغيب‪ ،‬وفاء تنقوت ‪)2013‬‬

‫امل�س�ألة اللغوية واحلراك‪:‬‬

‫ال �شك �أن امل�س�ألة اللغوية �أدت دوراً ال ُي�ستهان به‪ ،‬يف التمايز الإجتماعي داخل املجتمع‪ ،‬بل‬ ‫�أن�ش�أت �صراعات كبرية‪� ،‬أدت �إىل �إعاقة التطور الإجتماعي للبع�ض‪ ،‬وال�سماح للبع�ض ب�أن يخرتق‬ ‫م�ستويات الرتاتب الإجتماعي‪ ،‬ال عن كفاءة‪ ،‬ولكن بامتالك اللغة الفرن�سية بالتحديد‪ ،‬وميكن‬ ‫‪85‬‬


‫تلخي�ص ذلك مبا يلي‪:‬‬ ‫ تويل م�س�ؤوليات التوظيف �أ�صبحت حكراً على كبار ال�سن‪ ،‬وحمدودي الكفاءة العلمية الذين‬ ‫ُيبدون مقاومة �شديدة �ضد �أي تغيري‪� ،‬أثبت الواقع العملي انتماءهم �إىل دائرة املفرن�سني‪.‬‬ ‫ �صراع الأجيال‪ ،‬حيث ُيتهم اجليل اجلديد بعدم الكفاءة‪ ،‬على �أ�سا�س اللغة امل�ستعملة يف‬ ‫الت�سيري (العربية)‪ ،‬مع �أن اجليل القدمي ال يفقه يف الت�سري احلديث ‪� Management‬إال ال�شيء‬ ‫القليل‪ ،‬وهذا يظهر حر�ص هاته الإطارات على تعزيزمواقع نفوذهم با�ستعمال اللغة الفرن�سية‪.‬‬ ‫ ال�صراع اللغوي‪� ،‬أدى �إىل العطالة‪ ،‬ونق�ص يف فعالية وكفاءة الأداء‪.‬‬ ‫(�أنظر‪ :‬بولرباح ع�سايل ‪)2013‬‬ ‫ازدواجية النخبة الإعالمية ‪:‬‬

‫الإزدواجية لي�ست وليدة اال�ستقالل‪ ،‬وال �أثر لها يف املرحلة الرتكية (‪ ،)1830-1516‬و�إمنااحتلت‬ ‫عملية التعليم والتكوين االجتماعي موقعاً هاماً يف ال�سيا�سة الفرن�سية منذ االحتالل ‪ 1830‬م‪.‬‬ ‫املدر�سة الفرن�سية التي �أعدها ‪� Jules Ferry‬ساهمت يف ن�شر الثقافة والقيم الفرن�سية بني اجلزائريني‪،‬‬ ‫لقد اعتمدت فرن�سا على النخب املثقفة قبل ‪ 1954‬والتي تكونت يف مدار�سها فيقول �أن ¾ اجلزائريني‬ ‫املتعلمني كانوا من ذوي الثقافة الفرن�سية جزئياً �أو كلياً‪.)Guy Perville - 1997 ( .........‬‬ ‫مل ترغب فرن�سا من تكوين اجلزائريني‪� ،‬إنتاج مثقفني كبار‪ ،‬بقدر ما كان الغر�ض �إنتاج مثقفني‬ ‫متو�سطي التكوين والآفاق يتو�سطون بني الإدارة الإحتاللية والأهايل‪.‬‬ ‫هنا �أي�ضاً يحتل ال�صدام بني الثقافتني (الفرن�سية ‪ -‬العربية) دوراً مهماً يف تعطيل حركية‬ ‫املجتمع‪،‬فالنخبة الإعالمية وهي نخبة مثقفة‪ ،‬اختلفت يف امل�شروع احل�ضاري للمجتمع من‬ ‫خالل جزئيات مثل‪ :‬اللغة والدين والتقاليد والتاريخ‪ ...‬الخ حيث تنظر نخبة جريدة الوطن‬ ‫�إىل الدين على �أنه �أحد الرموز امل�شكلة لل�ضمري اجلمعي‪ ،‬ولكن ينبغي اعتماد الالئكية‪،‬‬ ‫�أي ف�صل الدين عن ال�سيا�سة‪ ،‬وبالتايل بناء دولة وح�ضارة ع�صرية ت�ضمن توحيد وتطوير‬ ‫وا�ستمرارية املجتمع ؛بينما امل�شروع الثاين للنخبة املعربة‪ ،‬من خالل جريدة ال�شروق‪ ،‬تتم�سك‬ ‫بفكرة االحتفاظ بكيان منف�صل عن فرن�سا‪ ،‬واحلفاظ على املقومات والقيم الوطنية‪،‬و ترف�ض‬ ‫االن�صهار يف الغرب‪.‬‬ ‫عو�ض �أن ي�ساهم ه�ؤالء كما �أكد ‪ -‬علي الكنز ‪ -‬يف ترتيب البيت الثقايف وحتقيق الوحدة الع�ضوية‬ ‫واالن�سجام يف املجتمع‪ ،‬ف�إنهم ف�ضلوا‪« :‬الهروب واالن�سالخ عن جمتمعهم (‪ )..‬حيث التج�أ‬ ‫البع�ض �إىل �أبطال �شرق �أو�سطيني‪ ،‬بحثاً عن طرق وقيم متكنهم من فر�ض �أنف�سهم يف احلقل الثقايف‬ ‫‪86‬‬


‫فكـــــر‬

‫اجلزائري‪ ،‬والآخرون راحوا ي�ستمدون مرجعيتهم من الرتاث الثقايف لفرن�سا وقيمها فلم ي�ستطيعوا‬ ‫التغلغل داخل الوعي الوطني اجلزائري‪.‬‬ ‫هما نظرتان متناق�ضتان ال ثلث لهما يف الت�صور حول كيفية بناء الدولة وت�أ�سي�س املجتمع‪ ،‬و�أن قدر‬ ‫اجلزائر يبقى يف خانة اال�ستثناء (قريد جمال‪�( ،)2007 :‬أنظر �أم اخلري تومي‪.)2013 :‬‬ ‫النخبة اجلامعية من خالل ال�صحافة الإلكرتونية والأنرتنت‪:‬‬ ‫�إن فئة ال�شباب �أ�صبحت الأقدر على التعامل مع معطيات التكنولوجيا احلديثة‪ ،‬وعلى تبني‬ ‫الأفكار والو�سائل الإعالمية امل�ستحدثة ون�شرها‪ ،‬وهذا بحد ذاته يعترب خطوة يف احلراك بني‬ ‫الأجيالعلى م�ستوى الذكور والإناث‪ ،‬لإعداد البحوث واحل�صول على املعلومات والبيانات من‬ ‫املواقع املتنوعة ومن املنتديات (‪� )% 58.50‬أما البع�ض الآخر فقد اختار الأنرتنت ب�سهولة وي�سر‬ ‫لينقل املعلومات ( ‪ )% 22.73‬من عدد املبحوثني الكلي‪.‬‬ ‫لكن ما ُيالحظ �أن الإدمان قد ينقلب �إىل جانب �سلبي‪ ،‬وحتدث ا�ضطرابات نف�سية وع�ضوية‪ :‬قلق‬ ‫يف النوم وال�صداع والأمل‪ ،‬وقد تكون �سبباً يف الإحباط والك�سل والف�شل الإجتماعي وتراجع‬ ‫امل�ستوى العلمي والدرا�سي‪ ..‬بل �أ�صبح الإدمان على الألعاب‪ ،‬واالت�صال الهاتفي والدرد�شة‬ ‫والت�سلية الزائدة ل�ساعات مت�أخرة من الليل �إىل جانب املواقع الإباحية التي ُتثري الغريزة اجلن�سية!‬ ‫هذا �أدى �إىل نتائج ت�شل وتائر احلراك‪ ،‬منها عدم الوعي مبا يقوم به ال�شاب‪ ،‬والعنف‪ ،‬وتعاطي‬ ‫املخدرات واخلمور‪ ،‬والعالقات غري ال�شرعية‪ ،‬والتحر�ش اجلن�سي‪..‬الخ‪.‬‬ ‫(�أنظر‪ :‬حممد الفاحت حمدي‪)2013 :‬‬ ‫احلراك املهني ‪ -‬اجليلي‪:‬‬

‫لقد تناولت يف الكتاب املذكور �سابقاً «كيف يتحرك املجتمع؟» عينة من العمال يف م�ؤ�س�سة‬ ‫�صناعية جزائرية مبدينة و�سطى «�سعيدة» �سنة ‪ ،1981‬وقمت بدرا�سة �أخرى �سنة ‪ 1985‬يف جمتمع‬ ‫خمتلف ن�صف ‪ -‬بدوي يف منطقة «ع�سلة» قرب عني ال�صفراء‪ ،‬يف اجلنوب الغربي اجلزائري‪..‬‬ ‫يف ‪ 1981‬م‪ ،‬الحظت ب�صورة عامة �أن وتائر احلراك بطيئة لدى بنات العمال‪ ،‬عن �أبناء العمال‪ ،‬نظراً‬ ‫�إىل ال�صعوبات يف �إدماج البنت يف �سوق العمل‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل القيود الإجتماعية املفرو�ضة على‬ ‫عمل البنت‪ ..‬كما الحظت �أن الرتقية املهنية للعمال �أنف�سهم ال ت�سري وفق الإ�ستحقاق �أو اجلدية‬ ‫يف العمل‪ ،‬و�إمنا وفق العالقات الزبائنية التي تربط العمال بالإدارة‪ ،‬والعالقات القرابية التي ت�ؤدي‬ ‫الدور املهيمن‪.‬‬ ‫‪87‬‬


‫�أما عن احلراك بني الأجيال‪ ،‬فلي�ست هناك م�ؤ�شرات وا�ضحة للتغري‪� ،‬إال امل�ستوى التعليمي بني‬ ‫الأبناء والآباء‪ ،‬حيث يظهر الفارق وا�ضحاً‪ ،‬نظراً للأ�صول الزراعية للعمال الذين مل ي�ستفيدوا‬ ‫من خدمة التعليم الر�سمي‪� ،‬أما �أبنا�ؤهم فهم �أح�سن حظاً‪..‬لذلك ف�إن �آمال العمال هو �أن ي�صبح‬ ‫�أبنا�ؤهم من ذوي املهن احلرة‪� :‬أطباء ‪ -‬مهند�سني ‪� -‬أ�ساتذة جامعيني ‪ -‬حمامني كبار‪...‬الخ‪ ،‬التي‬ ‫متنحهم اعتباراً اجتماعياً يف املجتمع‪.‬‬ ‫�أما الدرا�سة الثانية ‪1985‬م‪ ،‬فقد بينت خمتلف التناق�ضات التي يعي�شها العامل ن�صف ‪ -‬البدوي‪،‬‬ ‫يف قرية مل ت�شهد حت�ضراً �إال يف الفرتة الأخرية‪ ،‬فالثورة الزراعية التي د�شنها الرئي�س هواري بومدين‬ ‫يف مرحلتها الثالثة‪ ،‬مل ت�ؤد �إال �إىل دور ثانوي يف حت�سني و�ضعية البدو‪� ،‬أو ن�صف ‪ -‬البدو‪ ،‬حيث‬ ‫مل َ‬ ‫تتما�ش مع وتائر احلراك املرجوة‪ ،‬حيث ازداد الفقراء فقراً‪ ،‬والأغنياء غنى (خا�صة املوالني‬ ‫الكبار)‪ ..‬وكان العامل الإقت�صادي ‪ -‬الثقايف هو الكابح لهذ الو�ضعية‪ ،‬ب�إدخال اال�ستفادة من‬ ‫ر�ؤو�س املا�شية‪ ،‬بدون حتريك لأ�صول ر�أ�س املال‪ ،‬كما ي�ؤكد ‪ -‬دو �سوتو ‪ ،-‬وبدون االهتمام مبا هو‬ ‫كاف بثقافة ه�ؤالء‪ ،‬وبطريقة حياتهم‪ ..‬لذلك ر�أى ه�ؤالء �أن �إدخال �أبنائهم �إىل املدر�سة الر�سمية‬ ‫�أو املدر�سة القر�آنية هو املالذ الوحيد الذي ميكنهم من �إنقاذ �أبنائهم من حياة القهر والغنب التي‬ ‫يعي�شونها‪..‬‬ ‫الباحث عمر درا�س‪ ،‬قام بدرا�سة للحراك يف ال�سنوات التالية‪ 1990-1998-2004-2005 :‬فقد‬ ‫�أخذ عينة ممثلة‪ ،‬يف وهران باجلزائر‪ ،‬وتو�صل �إىل ‪ 18‬فئة مهنية يف البحث الأول ويبدو �أنه كان‬ ‫ي�ستطيع تقلي�ص الفئات املهنية ‪ -‬الإجتماعية �إىل عدد �أقل‪ ،‬وهذا ما قمت به يف جتربتي حول‬ ‫احلراك املهني‪..‬‬ ‫املهم! النتائج التي تو�صل �إليها الباحث قيمة‪ ،‬ال ميكن التغا�ضي عنها‪ ،‬خا�صة �أنه تناول الفئات‬ ‫التالية‪ - :‬الأجراء‪ ،‬الأكرث من ‪� 40‬سنة ولديهم خربة ‪� 20‬سنة يف العمل ‪ -‬املر�أة العاملة ‪ -‬الطلبة‬ ‫اجلامعيون‪...‬على مدار ال�سنوات املذكورة‪.‬‬ ‫لقد قام بقيا�س احلراك الإجتماعي‪ ،‬واكت�شف �أن املجتمع اجلزائري �شهد انقالبات بنيوية‪� ،‬أدت‬ ‫�إىل والدة طبقتني اجتماعيتني متمايزتني هما‪ - :‬حديثو النعمة واملعوزون (الطبقات املتو�سطة‬ ‫وعامل الأجراء)‪.‬‬ ‫و�أن الأزمة الإقت�صادية بعد ‪ ،1990‬قد �سببت يف �إبطاء احلراك الإجتماعي‪ ،‬ولكنه اعتمد على‬ ‫خمتلف امل�سارات املهنية لنف�س اجليل يف امل�ؤ�س�سة‪ ،‬والتي �أخذت ُتقدم �أجوراً مميزة و�أخذت يف‬ ‫تطوير جديد للم�سار املهني‪.‬‬ ‫اعتمد الباحث على عملية الت�صنيف الآتية‪ - :‬احلراك البنيوي ‪ -‬احلراك الدائري ‪ -‬امل�صري ‪-‬‬ ‫التوظيف‪.‬‬ ‫‪88‬‬


‫فكـــــر‬

‫حيث عو�ض م�صطلح احلراك‪ ،‬م�صطلح «العمل الدائم»؛ و«املرونة يف امل�سار»‪« ،‬ال�صالبة واال�ستقرار‬ ‫يف العمل»‪ ،‬لكن �صريورة احلراك يف املجتمع اجلزائري‪ ،‬ال تتبع ال�صريورة الأحادية بل ال ي�ستطيع‬ ‫الو�صول �إىل الرتاتب الفج‪ ،‬وحتى عدم امل�ساواة الإجتماعية متيل �إىل التعقيد حني ندر�س �ألواح‬ ‫احلراك الإجتماعي‪ ،‬رغم �أن امل�ساواة يف احلظوظ املدر�سية متيل �إىل فكرة «الإ�ستحقاق»‪ ،‬و�أن‬ ‫الأ�صل الإجتماعي له ثقل كبري على الو�ضعية الإجتماعية النهائية‪.‬‬ ‫لكن كرثة ال�شهادات وتزاحمها وت�ضخمها ال ي�ؤدي بال�ضرورة �إىل الو�ضعيات الإجتماعية اجليدة‪..‬‬ ‫وهنا ت�ؤدي املمار�سات الإجتماعية والإ�سرتاتيجيات العائلية دورها يف حظوظ النجاح الإجتماعي‬ ‫غري املت�ساوي‪.‬‬ ‫�أما بخ�صو�ص املر�أة امل�شتغلة‪ ،‬فيالحظ الكاتب �أنهن يعانني من �آثار �سلبية‪� ،‬أي عدم امل�ساواة يف‬ ‫اجلانب الإجتماعي ‪ -‬املهني‪ ،‬على ح�سب كفاءتهن وقدراتهن‪.‬‬ ‫هذه امل�ؤ�س�سات الإجتماعية‪ :‬امل�ؤ�س�سة ال�صناعية ‪ -‬املدر�سة ‪ -‬العائلة‪ ،‬ينبغي البحث فيها لتف�سري‬ ‫احلراك‪ ،‬ويت�ساءل عن �أثر ذلك على ال�شبكة الإجتماعية‪ ،‬التي هي م�صدر التوترات الكربى يف‬ ‫ظل تنامي البطالة‪ ،‬لذلك فالأمل يف االحتفاظ باملن�صب �أكرث �أهمية من البحث عن الرتقية‪.‬‬ ‫احلراك املجايل وال�سكني‪:‬‬

‫الباحث �صفار زيتون مدين‪ ،‬قام بت�أطري بحث جماعي حول عالقة احلراك ال�سكني باحلراك‬ ‫الإجتماعي يف اجلزائر العا�صمة‪ ،‬ومت الرتكيز على العنا�صر التالية‪:‬‬ ‫ ح�سب حتليل بورديو ‪ ،Bourdieu‬ف�إن �إبعاد الأفراد يف �شبكات وفروع تت�أ�س�س على «الزبونية»‪،‬‬ ‫وانتمائهم �إىل جمموعات متتلك قوة وطاقة يف التجنيد اجلماعي‪ ،‬ي�ؤدي دوراً مهيمناً �أكرث من‬ ‫امتالك امل�صادر الإقت�صادية‪.‬‬ ‫ الفئة الإجتماعية ‪ -‬املهنية‪ ،‬ال تعترب ح ًال كافياً للبحث يف احلراك‪ ،‬حيث �أن احلراك ال�سكني‪،‬‬ ‫واملجايل ُي�ساهم بطريقة قوية ‪ -‬من خالل التحديد الإح�صائي ‪ -‬للأفراد يف الفئات املتواجدة‬ ‫�سابقاً‪ ،‬وي�سمح بتحديد‪ :‬هل هناك حراك اجتماعي ت�صاعدي؟‬ ‫ الطبيعة ال�سكنية للأحواز اخلا�صة باجلزائر العا�صمة (ال�سكنات العادية‪ ،‬اخلفية‪� ،‬أو املخفية)‬ ‫ال ت�سمح بالتحديد الإح�صائي �إال من خالل درا�سات جزئية! بينما ال�سكنات املوجودة يف‬ ‫الأحياء املخططة ذات الأ�صل العمومي‪ ،‬ميكن حتديدها من خالل معايري االنتقاء الإداري‪.‬‬ ‫ ميكن الو�صول �إىل الفئات الإجتماعية من خالل الربامج ال�سكنية (ال�سكن الإجتماعي الإيجاري‬ ‫ ال�سكن بالإيجار ‪ -‬البيع (�أو ما ي�سمى ب�سكنات عدل ‪ )A A D L‬وال�سكن الرتقوي)‪.‬‬‫‪89‬‬


‫الأول‪ ،‬مو�ضوع حتت ت�صرف ال�سكان الذين ال ميلكون �إال مداخيل عائلية �ضعيفة (‪� 120‬أورو ‪/‬‬ ‫�شهرياً)‪.‬‬ ‫الثاين‪ ،‬خم�ص�ص للفئات الو�سيطة الذين ميلكون مداخيل م�ساوية �أو �أربع مرات احلد الأدنى‬ ‫للأجور �أي ما يقارب ‪� 500‬أورو‪.‬‬ ‫الثالث‪ ،‬ال�سكن الرتقوي‪ ،‬املخ�ص�ص للفئات العليا‪ ،‬والذين هم غائبون عن الأحواز العا�صمية‪...‬‬ ‫جند ذلك يف باينام‪ ،‬والأحياء الراقية‪.‬‬ ‫ما حدث هو �أنه مت بيع الأرا�ضي ومعظمها فالحية‪� ،‬أ�صبحت ور�شات للبناء‪ ،‬ومت التنازل عنها‬ ‫بطريقة غري �شرعية يف الفرتة التي ظهرت فيها املندوبيات ‪ -‬بعد ‪ - 1990‬مكان املجل�س ال�شعبي‬ ‫البلدي (‪ ،)A P C‬وذلك لزبائن خارج اجلزائر العا�صمة‪.‬‬ ‫ما مييز ال�سوق العقاري والثابت بعد هاته ال�سنة‪ ،‬هو التوزيع غري الر�سمي الذي جعل من اجلزائر‬ ‫العا�صمة ف�سيف�ساء ملقاطعات ح�ضرية ملت�صقة ببع�ضها البع�ض‪ ،‬ولكن دون مبد�أ تنظيمي ومنظم‬ ‫ح�ضرياً‪ .‬فالإختالط الإجتماعي �أ�صبح ميثل القاعدة‪ ،‬حتى ولو الحظنا هاته ال�سنوات الأخرية‬ ‫مظاهر لإعادة الرتتيب ال�سكني بفعل �ضغط امل�ضاربة‪.‬‬ ‫التنوع الذي ي�سم الأحياء هو بني ال�سكنات ذات الطابع الإداري‪ ،‬امل�شروعة وغري امل�شروعة التي‬ ‫جتمع �شبكة من الزبائن‪ ،‬وبع�ض املجموعات الفئوية (موظفون ‪ -‬جي�ش‪ ..‬الخ)‪ ،‬والأحياء التلقائية‬ ‫ذات الطابع املعماري «احل�ضري» ال�ضعيف‪ ،‬والتي جتمع بع�ض الأ�صول العائلية الكاملة‪� ،‬أو الذين‬ ‫ينحدرون من نف�س الدوار‪..‬الو�ضعيات هنا‪ ،‬تبدو متناق�ضة‪.‬‬ ‫بجانب ال�صريورة التلقائية للحراك‪ ،‬والتي ال يدعمها �أي منطق خمطط‪ ،‬ولكن مبنطق متناق�ض‪،‬‬ ‫من خالل البناء الذاتي ‪ Auto-constructeurs‬الذي يخ�ضع للفروع ولل�شبكات التي تتعامل مع‬ ‫الإدارة وتخ�ضع لقواعد امل�ضاربة التجارية‪.‬‬ ‫�أما احلراك ال�سكني الذي تخطط له الدولة‪ ،‬فيتمثل يف نقل ال�سكان من و�سط العا�صمة‪� ،‬أي من‬ ‫الأحياء التقليدية كالق�صبة وباب الوادي �إىل الأحواز‪ ...‬حيث ُيالحظ �أنها تهم الفئات املعوزة‪،‬‬ ‫والفئات الو�سطى‪.‬‬ ‫حي «قريدي» يف اجلزائر العا�صمة‪ ،‬وهو بجوار احلي الذي �أ�سكنه‪ ،‬يتميز ب�أنه �أن�شيء فقط منذ‬ ‫‪1980‬م‪ ،‬كانت ت�سيطر عليه فئة احلرفيني والتجار ور�ؤ�ساء امل�ؤ�س�سات (ال�شركات)؛ �أما يف ‪2003‬م‪،‬‬ ‫ومن خالل برنامج عدل‪ ،‬مت جتديد ال�سكان من خالل �إعادة البيع التي �أخذت �أ�شكا ًال خمتلفة‪،‬‬ ‫وب�أ�سعار م�ضاربة مهمة مل تقدر عليها �إال النخب من رجال الأعمال‪ ،‬بعد حترير الإقت�صاد الذي‬ ‫حتول �إىل «اقت�صاد البازار»‪.‬‬ ‫‪90‬‬


‫فكـــــر‬

‫هذا كله ي�ساهم يف الت�شطري الإجتماعي للأحواز يف اجلزائر العا�صمة‪ ،‬من خالل مع�ضلة‬ ‫«املقاطعات» يف هذه الأحياء اجلديدة التي ُنقل �إليها ال�سكان‪ ،‬ميتلكون �سيارات خا�صة‪ُ ،‬ي�ساهمون‬ ‫يف ن�ضج احلركات التزامنية اليومية (وكذا اختناق املوا�صالت يف �أحيان �أخرى) ُيفرغون مركز‬ ‫العا�صمة من احليوية التي افتقدها الآن‪.‬‬ ‫اخلامتة‪:‬‬

‫حاولت يف هذا التقرير �أن �أر�صد بع�ض مظاهر احلراك الإجتماعي يف اجلزائر‪ ،‬على �أن �أكمل هذه‬ ‫الدرا�سة الأولية من خالل بع�ض البحوث اجلاهزة يف هذا املجال والأكرث عمقاً‪ ،‬ويف م�شروع‬ ‫يهم مركز البحث حول ال�شرق الأو�سط واملغرب بالإندراج يف مو�ضوع ال�شباب‪ ،‬واحلراك داخل‬ ‫املجتمعات العربية‪.‬‬

‫املراجع‪:‬‬ ‫‪*Derras.O: mobilité professionnelle et mobilité sociale en Algérie –présentation de Hadjij.E ; in: revue‬‬ ‫‪Insanyat N 41/200 ( crasc – Oran- Algerie).‬‬ ‫–‪*El – Kenz: Le monde arabe aujourd’hui–nouvelle polarité, nouvel ordre symbolique ; in revue signe ‬‬ ‫‪discours –sociétés - coll: Nantes –Galatasaray- 24 mai 2014 ; France.‬‬ ‫‪*Haggi.T: l’avenir de l’esprit musulman – conférence a Merton Collège- Oxford Université - Jeudi‬‬ ‫‪16/10/2013. Angleterre - 2013.‬‬

‫قا�سمي �آمال و�آخرون‪ :‬اجلزائر ‪� -‬إ�شكاليات الواقع ور�ؤى امل�ستقبل‪.....‬‬

‫‪A Kacimi‬‬

‫مركز درا�سات الوحدة العربية ‪ -‬بريوت ‪ -‬لبنان ‪� -‬سبتمرب ‪.2013‬‬ ‫ر�أ�س مال ‪.‬ع‪ :‬كيف يتحرك املجتمع ؟ ديوان املطبوعات اجلامعية ‪ A. *Rasmal..-‬الطبعة الثانية اجلزائر‪1999..‬م‪.‬‬ ‫ر�أ�س مال‪.‬ع‪ :‬التهمي�ش والإق�صاء لدى ال�شباب اجلزائري ‪ -‬مداخلة‬

‫……‪A. *Rasmal‬‬

‫يف امللتقى الدويل للفقر والتفقري ‪ -‬نادي ال�صنوبر ‪ -‬اجلزائر ‪2000‬م‪.‬‬ ‫‪*Safar. Z. M: mobilité résidentielle et mobilité sociale dans l’agglomération algéroise …projets...‬‬ ‫‪EMAM … 16/2008..France.. 2008.‬‬

‫‪91‬‬


‫دار كتب للن�شر �ش‪.‬م‪.‬ل‪.‬‬

‫بناية الربج‪ ،‬الطابق الرابع‪� ،‬ساحة ال�شهداء الو�سط التجاري‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‬ ‫�صندوق بريد‪ ،11-4353 :‬بريوت ‪ -‬لبنان‪.‬‬ ‫هاتف‪)961-1( 983008 /9 :‬‬ ‫فاك�س‪)961-1( 980630 :‬‬ ‫الربيد الإلكرتوين‪kutub@kutubltd.com :‬‬ ‫املوقع الإلكرتوين‪www.kutubltd.com :‬‬


‫الأدب املقاوم‬

‫فعل ال�رسد وال�رصاع يف رواية «الطنطورية»‬ ‫لر�ضوى عا�شور‬ ‫فاتن املر ‪ -‬باحثة و�أ�ستاذة جامعية‬

‫«كل احلكايات تبد�أ من «هناك»‪� ،‬أي من فل�سطني‪ .‬مثل العجائز يف املخيمات الذين تنقل الرواية‬ ‫ق�ص�صهم‪ ،‬بد�أت الكاتبة امل�صرية ر�ضوى عا�شور من «هناك» رواية �أهدتها �إىل زوجها‪ ،‬ال�شاعر‬ ‫الفل�سطيني مريد الربغوتي‪ .‬وهناك من الطنطورة حتديداً‪ ،‬فالطنطورة هي بطلة الرواية احلقيقية‪،‬‬ ‫تلك القرية الواقعة على ال�ساحل الفل�سطيني جنوب حيفا التي �أدرجتها الع�صابات اليهودية‬ ‫�ضمن الئحة جمازرها عام ‪ 1948‬ومل يدرجها التاريخ املعروف كدير يا�سني وغريها من املدن‬ ‫والبلدات التي ُعرِفت مبا وقع فيها من �سفك للدماء الربيئة‪ .‬تنفتح الرواية مب�شهد ميكن ت�صنيفه‬ ‫�ضمن الو�ضع الأويل (‪ )situation initiale‬الذي ي�صور لنا قرية هادئة ترتبى يف �أح�ضانها فتاة‬ ‫�صغرية‪ ،‬رقية‪ ،‬الراوية‪ ،‬التي ال هم لها �إال اللعب مع �أقرانها والتفرج على البحر وح�ضور الأعرا�س‪،‬‬ ‫�ضيعة هانئة بق�ص�صها التي ال �ضرورة لأن حتكى‪ ،‬فالنا�س ال�سعداء‪ ،‬كما يقول تول�ستوي‪ ،‬ال ق�صة‬ ‫لهم‪ .‬البحر‪ ،‬بحر الطنطورة كما ي�سمونه يف الرواية‪� ،‬شخ�صية رئي�سية �أخرى‪ ،‬ي�شارك يف كل �أوجه‬ ‫احلياة‪ ،‬خا�صة يف الأعرا�س‪ ،‬ويقدم لرقية ال�صغرية هديته يف هيئة �شاب كان ي�سبح فيه ويخرج‬ ‫لرياها وليتبادل معها ب�ضع كلمات كانت كافية ليقرر الزواج منها وير�سل �أهله خلطبتها‪ .‬يف الو�ضع‬ ‫الأويل للطنطورة امللون بالهدوء والفرح ال يتعدى م�ستوى الهموم ان�شغال بال والدة رقية لأن‬ ‫ابنتها �ستتغرب وتتزوج �إىل حيفا‪ ...‬ولكن العن�صر امل�شاغب (‪ )élément perturbateur‬يكمن يف‬ ‫اال�شتباكات التي ح�صلت يف حيفا بني اليهود والعرب والتي و�صلت �أ�صدا�ؤها �إىل الطنطورة ويف‬ ‫بدء و�صول الالجئني املهجرين من قراهم‪ ،‬ليبلغ التوتر ذروته مع بداية الهجوم على الطنطورة وذبح‬ ‫الرجال وال�شبان ومن بينهم والد رقية و�شقيقاها وتهجريها ووالدتها داخل فل�سطني ثم �إىل الأردن‬ ‫ف�صيدا يف لبنان‪ .‬تتوقف الطنطورة عند مرحلة العن�صر امل�شاغب (‪ )élément perturbateur‬لأن‬ ‫الراوية تفك ارتباطها بها حتى نهاية الرواية‪ ،‬ارتباطها الفيزيائي‪ ،‬لأن القرية الفل�سطينية ال تنفك‬ ‫ت�سكن فكرها وذكرياتها وت�شكل املحور الذي تدور حوله «�أنا» رقية وكل من بقي من �أفراد العائلة‪.‬‬ ‫�أما احلل الذي ي�صل �إىل الو�ضع النهائي (‪ ،)situation finale‬فال تعرفه الطنطورة‪ ،‬بل يبقى معلقاً‬ ‫مثل الق�ضية الفل�سطينية وتبقى الطنطورة حلماً بعيداً للراوية‪ ،‬حمم ًال بالأ�شواق والذكريات‪ .‬ولأن‬ ‫‪93‬‬


‫االنقطاع الق�سري عن الطنطورة �شتت ذات رقية‪ ،‬كان عليها �أن تبحث عما يعيد اللحمة �إىل كيانها‪،‬‬ ‫فكانت احلكاية‪ .‬واحلكاية غدت املحور الذي تدور حوله حياتها كما حياة الكثريين من الالجئني‬ ‫الفل�سطينيني‪ .‬باحلكاية ا�سرتجعت الطنطورة التي مل يعد لها وجود فعلي وحتولت �إىل م�ستعمرة‬ ‫�شوهت كل معامل القرية الأولية‪ ،‬باحلكاية ا�سرتجعت بحر الطنطورة الذي ما فتئت تبحث عنه يف‬ ‫بحور كل املدن التي عا�شت فيها‪ .‬بو�ساطة احلكاية ا�ستعادت يحيى‪ ،‬حبها الأول الذي خرج من‬ ‫البحر وانقطعت �أخباره بعد النكبة‪ ،‬كما ا�ستعادت الأب وال�شقيقني الذين ذبحوا هناك ودفنوا يف‬ ‫مقربة جماعية‪ ،‬وعادت �إليها رقية ال�صغرية التي �أ�صبحت غريبة عنها بعد �أن ف�صلها عن طفولتها‬ ‫زلزال غري عاملها وقلب مقايي�س الزمان واملكان التي كانت ت�ألفها‪ .‬يف مثل هذه الظروف ال�صعبة‪،‬‬ ‫لكل امرئ �سالحه الذي يحميه من اجلنون �أو الي�أ�س املطلق‪ .‬والدة رقية هربت �إىل كذبة اخرتعها‬ ‫خيالها اجلريح و�صدقتها‪ ،‬عن رحيل زوجها وولديها �إىل م�صر‪ ،‬وبقيت حتى مماتها مقتنعة بكذبتها‬ ‫هذه‪� .‬أما رقية‪ ،‬فكان لها فعل الق�ص الذي فر�ضه عليها ابنها يف البداية ف�أعطى معنى حلياتها‪:‬‬ ‫«ح�سن هو الذي اقرتح علي كتابة حكايتي‪ .‬قلت‪ :‬ل�ست بكاتبة! قال‪ :‬احكي احلكاية‪� ،‬أكتبي ما‬ ‫ر�أيته وع�شته و�سمعته‪ ،‬وما تفكرين فيه‪ .‬هذا مهم يا �أمي‪� ،‬أهم مما تتخيلني‪�( ».‬ص‪)204‬‬ ‫تتجلى �أهمية الكتابة �أو الق�ص على ال�صعيد الوطني حيث حتفظ تاريخاً ي�سعى العدو �إىل طم�سه‪،‬‬ ‫كما تظهر على ال�صعيد ال�شخ�صي‪� ،‬إذ ت�شكل خ�شبة خال�ص تعيد ترتيب ذكريات الراوي‬ ‫و�أفكاره‪ .‬عاونها الق�ص كذلك على مللمة �شمل لعائلتها امل�شتتة التي مل يعد يجمعها �إال بع�ض �أيام‬ ‫من العطلة ال�صيفية �أو منا�سبة زواج واحد من الأبناء‪ ،‬فتحولت الرواية �إىل ق�صة مطولة (‪)saga‬‬ ‫تتابع رقية منذ �أن كانت يف الثالثة ع�شرة من عمرها �إىل �أن �أ�صبحت يف منت�صف ال�ستينات مع‬ ‫ق�ص�ص �أهلها و�أوالدها الذين نتعرف بهم منذ والدتهم لن�صل �إىل نهاية الرواية وقد تزوجوا و�أجنبوا‬ ‫بدورهم و�أ�صبحت رقية جدة‪ .‬الوحدة الإجتماعية التي متثلها العائلة امل�ؤلفة من �شخ�صيات متخيلة‬ ‫تعك�س واحدة من �صور «املجتمع املرجعي» كما ي�سميها كلود دو�شيه‪� ،‬أي املجتمع الذي يعي�ش‬ ‫�ضمنه الفل�سطينيون الذين هجروا من �أر�ضهم‪.1‬‬ ‫بني الأنا الراوية والأنا املروية‬

‫رقية‪ ،‬املر�أة ال�ستينية تروي ق�صة حياتها‪ .‬هي �إذن راوية �ضمنية‪-‬ذاتية (‪،2)autodiégétique‬‬ ‫تروي ب�صيغة «الأنا» التي جتعلنا نقر�أ الأحداث التي عا�شتها وعا�شها �أهلها من خالل حتليلها‬ ‫لتفاعالتها الداخلية مع كل الأحداث اخلارجية‪ ،‬م�ستعينة‪ ،‬يف مفا�صل عديدة‪ ،‬بال�سرد‬ ‫املناجاتي (‪ )monologue intérieur‬الذي ي�سرب �أعماق نف�س ال�سارد‪�« .‬إن «الأنا» �أو �ضمري‬ ‫‪Claude Duchet, "Positions et perspectives", Sociocritique, Paris, Nathan, 1979.‬‬ ‫‪Gerard Genette, Figures III, Ed. du Seuil, 1972.‬‬

‫‪94‬‬

‫ ‪1‬‬ ‫ ‪2‬‬


‫الأدب املقاوم‬

‫املتكلم (‪ ،)»le «je‬يذيب الن�ص ال�سردي يف النا�ص؛ ف�إذا القارئ ين�سى امل�ؤلف»‪ .3‬هكذا‬ ‫تختفي ر�ضوى عا�شور لتهيمن الراوية ر قية على الرواية منذ العنوان حتى اخلامتة‪.‬‬ ‫تلك الراوية الذاتية‪-‬ال�ضمنية تنق�سم �شخ�صيتني‪ ،‬الأنا الراوية (التي تفكر مبنطق املر�أة النا�ضجة‬ ‫وتت�ساءل عن معنى بع�ض تفا�صيل احلكاية وعن دقة الذكريات) والأنا املروية التي ال تعرف �إال‬ ‫ما ي�سمح لها عمرها الفتي وخربتها القليلة مبعرفته‪.‬‬ ‫تتدخل الأنا الراوية بكرثة يف الرواية‪ ،‬تقطع ال�سرد وتنقلنا للحظات من زمن الق�صة يف املا�ضي‬ ‫�إىل زمن ال�سرد لن�سمعها وهي تتذكر‪�« :‬أتخيل �أمي يف تلك الأيام‪� .‬أ�ستعيد ما قالته وما مل تقله‪.‬‬ ‫�أ�سمعها وهي تكرر على جارة من اجلارات ما �سبق �أن قالته خلالتي» (�ص‪ .)15‬تروي كيف تتذكر‬ ‫وكيف ت�ستح�ضر ال�شخ�صيات فتمار�س ما ي�سميه جريار جونيت وظيفة الإدارة التي يروي فيها‬ ‫الراوي كيف يروي (‪ . )fonction de régie‬ي�ضفي تدخل الراوي يف الق�صة واقعية تكاد تقطع‬ ‫ان�سجام القارئ مع ما ي�سمى «وهم الواقع» (‪ )illusion du réel‬ولكنها تقحمه يف العمل ال�سردي‬ ‫في�صبح �شريكاً فيه‪ ،‬كما يح�صل حني تطرح الراوية �أ�سئلتها حول �أفكار بع�ض �شخ�صيات الق�صة‬ ‫وم�شاعرها ‪:‬‬ ‫«هل تخيلت �أمي وخالتي وهما تت�سامران يف جل�ساتهما اليومية �أن ما حدث لأهل قي�سارية ميكن‬ ‫�أن يحدث لهما؟ �أرجح قيا�ساً على نف�سي وحديثهما اليومي �أن قي�سارية بدت بعيدة‪ ،‬بلد �آخر مل‬ ‫نره �أبداً �أملت ب�أهله كارثة فتعني علينا �أن ن�شفق عليهم ون�ساعدهم‪�( ».‬ص‪)36‬‬ ‫هكذا‪ ،‬يف مثل هذه املقاطع‪ ،‬ي�أخذ ال�سرد طابع حديث تتبادله الراوية مع م�ستمع تتقا�سم معه‬ ‫�شكوكها وت�سا�ؤالتها والأجوبة التي تكتفي باقرتاحها تاركة املجال مل�شاركة امل�ستمع يف التفكري‪.‬‬ ‫قد يوحي تدخل الراوية يف الق�صة بنق�ص يف معرفة ما ح�صل فع ًال يف زمن الق�صة ب�سبب خيانة‬ ‫الذاكرة التي ال تنقل ب�شكل دقيق ما ح�صل يف امل�شهد الذي ترويه‪� ،‬أو نق�ص يف القدرة على‬ ‫حتميل الكالم �أحداثاً هائلة وم�شاعر �أقوى من �أن يتمكن من التعبري عنها‪ .‬ولكن التدخل يف‬ ‫الغالب يدل على تفوق معريف من الأنا الراوية على الأنا املروية‪ ،‬كما يح�صل حني تروي بداية‬ ‫الأحداث التي �ست�ؤدي �إىل اغت�صاب فل�سطني‪:‬‬ ‫« مل �أكن �أعرف كل التفا�صيل‪ ،‬ماذا حدث يف حيفا يوم كذا‪ ،‬وكم قتيل راح من برميل البارود‬ ‫الذي دحرجه امل�ستوطنون على جبل الكرمل ‪ ،...‬ولكنني‪ ،‬كباقي �صبايا البلد‪ ،‬كنت �أعرف �أن‬ ‫الو�ضع خطري‪�( »...‬ص‪)24‬‬ ‫هذا التفوق املعريف �سببه �صغر �سن الأنا املروية يف زمن احلكاية وعدم قدرتها على فهم �أحداث‬ ‫تتخطى م�ستوى تفكريها‪ ،‬فال يبقى للأنا ال�ساردة �إال تقدمي اقرتاحات ت�سد هذا الفراغ املعريف‬ ‫ ‬

‫‪3‬‬

‫د‪ .‬عبد امللك مرتا�ض‪« ،‬يف نظرية الرواية‪ ،‬بحث يف تقنيات ال�سرد»‪ ،‬عامل املعرفة‪ ،‬الكويت‪� ،1998 ،‬ص ‪.185‬‬ ‫‪95‬‬


‫بو�ساطة اخلربة التي اكت�سبتها من احلياة‪« .‬ي�صعب علي الآن نقل م�شاعر �أهل البلد‪ ،‬رمبا لأنني‬ ‫�ساعتها كنت �أعي�ش حالة ال ت�سمح �سني بالإحاطة بها‪ .‬رمبا ت�ساءلت مثل باقي النا�س! متى ي�أتي‬ ‫علينا الدور؟ رمبا كنت مثلهم �أت�شبث بق�شة الغريق‪�( »...‬ص‪� .)39‬إن «معاينة املا�ضي يف حلظة �آنية‬ ‫تقدم _بال�ضرورة_ وعياً جديداً‪ ،‬مل يكن مطروحاً حلظة املرور بالتجربة �سابقاً»‪.4‬‬ ‫ولكن التقدم يف ال�سن والن�ضج الذي يرتافق معه قد ال يكفيان لتف�سري التفوق املعريف للأنا الراوية‬ ‫على الأنا املروية‪� ،‬إذ يجب �أال نغفل الواقع الذي كانت تعي�شه رقية ال�صغرية‪ ،‬فو�ضعها ب�صفتها فتاة‬ ‫مل يكن ي�سمح لها بامل�ساواة املعرفية مع الرجال يف قريتها‪ .‬الرجال هم املوجلون مبتابعة الأخبار عن‬ ‫الو�ضع اخلطري الذي كانوا يعي�شونه‪ .‬حتى قرار تق�سيم فل�سطني‪ ،‬مل تعرف به ن�ساء القرية يف حينه‬ ‫على الرغم من ثقة الراوية ب�أن الرجال تداولوا اخلرب يف جمال�سهم من دون �أن يت�سرب �إىل ن�سائهم‪.‬‬ ‫وحني يحاول والد رقية �أن ي�شرح البنته وزوجته بع�ض خفايا اللعبة ال�سيا�سية‪ ،‬ال تعريه الوالدة‬ ‫االهتمام الكايف‪ ،‬بل ي�ضجرها طول حديثه فتقوم لأ�شغالها‪ ،‬فهي اعتادت ان ال تنتمي �إىل �صف‬ ‫املهتمني و�أ�صحاب الر�أي والقرار واكتفت باالحتماء بقلق مبهم ي�ستكني �إىل العن�صر القوي الذي‬ ‫ليتمكن من‬ ‫ت�سلمه زمام م�صريها‪ .‬كان على الن�ساء �أن يعرفن املوت والت�شرد وخ�سارة الرجال‬ ‫َّ‬ ‫حتليل ما يجري حولهن ومن ممار�سة حقهن يف القرار‪ .‬هكذا فعلت رقية التي عادت �إىل الدرا�سة‬ ‫بعد �أن كرب �أوالدها والتي طورت قدراتها الفكرية من خالل عملها يف املخيم‪ .‬وللأ�سباب نف�سها‪،‬‬ ‫قد يكون يف بع�ض الأحيان تفوق الأنا الراوية على الأنا املروية مرده �إىل تفوق يف القدرة على‬ ‫التعبري عن �أفكار مل تكن‪ ،‬يف زمن احلكاية‪ ،‬قادرة على �صياغتها ب�شكل وا�ضح كما ت�ستطيع �أن‬ ‫تفعل الآن‪ ،‬وهي «على م�شارف ال�سبعني‪ ،‬قادرة على النظر من فوق تلة العمر»‪�( .‬ص‪)79‬‬ ‫و�إن كان للنظرة «من فوق تلة العمر» الوعي والن�ضج اللذان مينحانها و�ضوحاً يف التعبري عن املكامن‪،‬‬ ‫فالنظرة الفتية للأنا املروية ت�ضفي على الن�ص جواً منع�شاً يربط الأحداث بر�ؤية رقية ال�صبية التي‬ ‫مل تكد تغادر عمر الطفولة‪ .‬ففي افتتاحية الرواية تطالعنا جملة تعرب عن ده�شة رقية ابنة الثالثة‬ ‫ع�شر ربيعاً وهي ت�شاهد يحيى الذي �سي�صبح خطيبها فيما بعد يخرج من البحر‪« :‬خرج من البحر‪،‬‬ ‫�أي واهلل‪ ،‬خرج من البحر ك�أنه منه وطرحته الأمواج‪ .‬مل حتمله كال�سمك �أفقياً‪ ،‬ان�شقت عنه‪ .‬تابع ُته‬ ‫وهو مي�شي ب�ساقني م�شدودتني باجتاه ال�شاطئ‪ »...‬وهكذا ي�صبح التبئري تبئرياً داخلياً (‪focalisation‬‬ ‫‪ )interne‬يتابع نظرة رقية ب�صفتها �شخ�صية من �شخ�صيات الق�صة‪ .‬من خالل نظرتها‪ ،‬نتعرف‪ ،‬يف‬ ‫الف�صل االول للرواية على حياة الطنطورة الهادئة التي ال تغري وتريتها �إال الأعرا�س التي تقام‬ ‫فيها وعلى حياة رقية يف �إطار عائلي دافئ يرتك لها هام�شاً من احلرية‪ .‬يتخلل هذا الف�صل بع�ض‬ ‫التدخالت للأنا الراوية التي تظهر بني احلني والآخر لتذكرنا بتلك االزدواجية التي اتخذتها‬ ‫�أ�سلوباً لنقل الق�صة من منظارين خمتلفني‪ ،‬ولكن ذلك ال يحول م�سار التبئري �إىل وجهة نظر‬ ‫ ‬

‫‪4‬‬

‫‪96‬‬

‫عادل �ضرغام‪« ،‬يف ال�سرد الروائي»‪ ،‬الدار العربية للعلوم نا�شرون‪� ،2010 ،‬ص ‪.33‬‬


‫الأدب املقاوم‬

‫الراوي العليم (‪ )narrateur omniscient‬بل يبقي على وجهة نظر �شخ�صية رقية ال�صغرية‪� .‬أما‬ ‫الف�صل ال�سابع الذي يحمل عنوان «حني احتلوا البلد»‪ ،‬فيف�سح يف املجال كام ًال �أمام وجهة نظر‬ ‫الأنا املروية وي�صمت �صوت الأنا الراوية التي ال تتدخل يف ر�ؤية الفتاة ال�صغرية لليوم الأخري يف‬ ‫الطنطورة‪ ،‬يوم املجزرة والرحيل‪ ،‬ففي حكاية هذا اليوم‪ ،‬م�أ�ساة خال�صة يكفي �أن ُتعر�ض ليظهر‬ ‫هولها‪ ،‬وال ي�ستطيع �أي تعليق من الأنا الراوية �أن يزيد من وقعها على امل�سرود له‪ .‬يبد�أ الف�صل‬ ‫بهذه العبارة‪« :‬مل �أ�سمع الأ�صوات‪ .‬كنت نائمة‪ .‬وعندما �أيقظتني �أمي �سمعت ف�س�ألت‪�( ».‬ص‪)58‬‬ ‫وهكذا مي�ضي الف�صل ب�سرد يتوافق متاماً مع وجهة نظر رقية يف ذلك الوقت‪ ،‬فال يرى القارئ �إال ما‬ ‫تراه هي وال ي�سمع �إال ما ت�سمعه ويتابع ما تلتقطه حا�سة ال�شم لديها‪« :‬انتبهت وهم ي�سوقوننا باجتاه‬ ‫املقربة �أن للبلد رائحة غريبة تختلط برائحة البحر والزنبق االبي�ض» (�ص‪ )61‬فالتبئري‪ ،‬كما يقول‬ ‫جونيت‪ ،‬ال يقت�صر على حا�سة الب�صر بل ي�شمل جميع احلوا�س‪ .‬كذلك نتابع �أفكار رقية ال�صغرية‬ ‫وم�شاعرها كما وردتها يف ذلك الوقت‪�« :‬أمي‪ ...‬بدت امر�أة �أخرى‪ ،‬تعطي الأوامر‪ ،‬تدير �ش�ؤون‬ ‫قطيعها ال�صغري بح�سم و�سرعة‪ ،‬و�إن مل �أفهم منطق هذه الإدارة» (�ص‪ .)60‬نتبعها يف �أثناء التح�ضري‬ ‫ملغادرة املنزل‪ ،‬معها نرى الأم تدير املفتاح بالباب‪ ،‬نلحق بها حني يقتادهم امل�سلحون �إىل ال�شاطئ‪،‬‬ ‫نراقب معها املجندات اليهوديات وهن يجردهن من كل ما كانوا يحملونه من مال وم�صاغ‪ ،‬نتابع‬ ‫أخوي‪ .‬مل‬ ‫بحثها عن والدها و�شقيقيها‪« :‬ال تتوقف عيناي عن التطلع �أم ًال يف ر�ؤية ابي �أو �أي من � ّ‬ ‫�أرهم‪ .‬قدرت �أنهم �شردوا يف اجلبال �أو اختفوا يف مغارة من املغر‪�( ».‬ص‪ )61‬عند هذه املرحلة‪ ،‬ال‬ ‫يعرف القارئ عن م�صري الوالد وولديه �إال ما تعرفه رقية ال�صغرية لأن التبئري الداخلي التام ال‬ ‫مينح فر�صة التدخل للراوي العليم مبا حل بهم‪ ،‬وال نكت�شف �أنهم قتلوا مع من قتل يف املذبحة �إال‬ ‫حني ت�شاهد رقية ال�صغرية جثثهم فتحاول �أن ت�شري �إىل �أمها �إىل مكانهم‪« :‬كانت جثثهم بجوار جثة‬ ‫جميل (ابن خال الأم)‪ ،‬مكومة بع�ضها ل�صق بع�ض على بعد امتار قليلة منا‪�( ».‬ص‪)62‬‬ ‫هذا الهام�ش من احلرية التي متنحه الأنا الراوية �إىل الأنا املروية قد يتطور �إىل ما ي�شبه االنف�صال‬ ‫بني ال�شخ�صيتني فت�أخذ الراوية بالتكلم ب�صيغة الغائبة عن الأنا املروية وت�صبح‪ ،‬لوقت ق�صري‪ ،‬رقية‬ ‫�شخ�صية غريبة عنها‪ .‬وقد يكون هذا االنف�صال �سالحاً للدفاع عن النف�س يف مواجهة ذكريات‬ ‫قامتة �أفقدت الأنا املروية توازنها يف زمن احلكاية‪ ،‬فما كان من الأنا الراوية �إال �أن ا�ستعادتها بعد‬ ‫�إقامة حائط عازل خوفاً من �أن ت�سرتجع معها احلزن الذي �أمل بها‪ ،‬كما يف الفرتة التي تلت اغتيال‬ ‫غ�سان كنفاين‪ .‬ت�صفها الراوية تتكلم على رقية التي كانت مت�شي يف جنازته ب�صيغة الغائبة‪�« :‬أنظر‬ ‫من بعيد‪ .‬امر�أة خرجت مع زوجها و�أوالدها الثالثة‪�( »...‬ص‪ )142‬وتعود �إىل تقنية التبئري الداخلي‬ ‫فريى القارئ ما تنظر �إليه رقية وي�سمع ما ت�سمع ويقر�أ �أفكارها وحدها‪ .‬وقد تنتقل الراوية �إىل‬ ‫التكلم على الأنا املروية ب�صيغة الغائبة حني يعزلها عنها الفزع الذي �سيطر عليها خالل احلرب‬ ‫الأهلية يف بريوت واو�صلها �إىل �شفري اجلنون‪« :‬هل كانت رقية يف كامل عقلها يف تلك الأيام؟‬ ‫‪97‬‬


‫قبل �أن ي�ستيقظ الأوالد‪ ،‬قبل �صباح اخلري وغلي القهوة‪ ،‬تنزل �إىل ال�شارع ل�شراء اجلرائد‪ .‬حتملها‬ ‫�إىل البيت‪ ،‬تقر�أ العناوين الكبرية وال�صغرية‪ ،‬والتفا�صيل والتعليقات واملقاالت‪ ،‬ال�صفحة الأوىل‬ ‫والأخرية وما بينهما‪�( »...‬ص‪)177‬‬ ‫تتحكم الراوية بروايتها‪ ،‬تديرها مبا يتالءم والر�سائل التي ت�سعى �إىل �إي�صالها‪ ،‬وكما �سبق وقلنا‪،‬‬ ‫غالباً ما ت�شرك امل�ستمع يف �شرحها لطريقة �إدارة الق�ص يف �سياق الوظيفة الإدارية (‪fonction de‬‬ ‫‪ )régie‬فتت�ساءل معه عن كيفية تنظيم ال�سرد واحياناً عن جدواه‪« ،‬هل �أحكي حياتي حقاً �أم �أقفز‬ ‫عنها؟ وهل ميكن �أن يحكي �شخ�ص ما حياته فيتمكن من ا�ستح�ضار كل تفا�صيلها؟» (�ص‪)84‬‬ ‫قد تطرح �أ�سئلة حتمل هماً �أدبياً تقنياً �إذ تت�ساءل عن كيفية ربط الأحدات ال�شخ�صية بالأحداث‬ ‫العامة اتي كانت مبجملها �أهوا ًال‪ ،‬وت�س�أل �أي�ضاً عن جدوى ال�سرد �أمام �أحداث ال يطيق العقل‬ ‫ا�ستيعابها فكيف بالكالم‪ ،‬مثل جمزرة �صربا و�شاتيال التي تتخطاها يف الف�صل املخ�ص�ص لها‪،‬‬ ‫عاجزة عن التعبري عن هولها‪ ،‬ملتحفة بال�صمت‪ ،‬حتذفها‪ ،‬مكتفية بالتلميح عرب ذكر الذباب الذي‬ ‫حتمل فكرة‬ ‫اجتاح املخيمني يف ف�صل م�ؤلف من �صفحتني فقط‪ .‬فهي‪ ،‬عندما تعجز عن الرواية‪ّ ،‬‬ ‫املوت لرمز الذباب الذي‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل وجوده الفعلي فوق اجلثث‪ ،‬يحمل داللة املوت وال�شر‬ ‫املطلق‪ ،‬ورمبا‪ ،‬كما يف م�سرحية جان‪ -‬بول �سارتر التي حتمل ا�سمه «الذباب»‪� ،‬شيئاً من ال�شعور‬ ‫بالذنب وهو �شعور متالزم مع فكرة املوت‪ ،‬موت املقربني الذين عجزنا عن حمايتهم �أو مل نولهم‬ ‫االهتمام الكايف‪.‬‬ ‫وتتابع الراوية �سردها �شارحة احلذف واال�ستباق «قفزت قفزة تختزل من احلكاية خم�س �سنني‪».‬‬ ‫(�ص‪ )191‬ثم تعود �إليها لرتويها ب�شكل ملخ�ص �أو على ل�سان رواة ثانويني من دون �أن تكف‬ ‫عن ال�س�ؤال الذي يعك�س خ�شيتها وترددها‪« :‬ما املنطق يف �أن �أرك�ض وراء الذاكرة وهي �شاردة‬ ‫ت�سعى �إىل الهروب من نف�سها‪� ،‬شعثاء‪ ،‬معفرة‪ ،‬مروعة م�سكونة بهول ما ر�أت؟»(�ص‪ )188‬ففي هذه‬ ‫املجزرة‪� ،‬سوف تفقد زوجها وابن عمها الطبيب �أمني‪.‬‬ ‫ولعل النظر يف الوظيفة الإدارية يرفع الغطاء عن الراوية التي تتخفى يف مظهر امر�أة عادية‪ ،‬ال حتمل‬ ‫ثقافة �سيا�سية وعلمية معمقة وال تلعب دوراً قيادياً يف الأحداث‪ ،‬ولكنها تتحكم بالرواية ب�شكل‬ ‫مطلق‪ .‬وهذا ما ي�سميه �سعيد بنكراد «التوجيه ال�سردي»‪ ،‬فيتكلم على «الدميوقراطية املغ�شو�شة»‬ ‫يف الروايات التي حتمل بعداً �أيديولوجياً‪ ،‬تلك التي توهم امل�سرود له �أن للأحداث‪ ،‬كما للأ�صوات‬ ‫الروائية الأخرى ا�ستقاللية ما‪ .‬ولكن «الت�صديق على كل املعارف املنت�شرة يف الن�ص‪ ،‬مير عرب‬ ‫�صوت واحد هو �صوت الراوي الكلي املعرفة‪ ،‬ورغم كرثة الكالم يف هذا النوع من الروايات‪ ،‬ف�إن‬ ‫هذا الكالم ال يخرج عن دائرة �إنتاج ما ي�صدر عن ال�صوت املركزي‪� ،‬إنها دميوقراطية مغ�شو�شة‪،‬‬ ‫لها احلق يف �أن تقول وتفعل ما يريده ال�صوت اخلالق للن�ص»‪ .5‬فنقل حكاية العائلة الفل�سطينية‬ ‫ ‬

‫‪5‬‬

‫‪98‬‬

‫�سعيد بنكراد‪« ،‬الن�ص ال�سردي نحو�سينميائيات الأيديولوجية»‪ ،‬دار الأمان‪� ،1996 ،‬ص ‪.45‬‬


‫الأدب املقاوم‬

‫التي خ�سرت �أر�ضها وت�شردت مهمة حيوية‪� ،‬إذ �أن الذاكرة مبا حملت ونقلت تغدو علة وجود‬ ‫الفل�سطينيني الذين يعمل العدو على حمو تاريخهم‪ .‬هكذا يعرب الوعي الفردي لل�ساردة عن الواقع‬ ‫الفل�سطيني‪.‬‬ ‫�أما عالقة الراوية بالزمن فتتجلى �أوال يف تنبهها الدائم خلطورته وللغلبة احلتمية مل�ساره‪ .‬تقول‪« :‬ال‬ ‫�أحد ي�ستع�صي على الزمن‪�( ».‬ص‪ )17‬وتت�ساءل عن كيفية مروره من دون �أن تتنبه له‪ ،‬ولعل �إعادة‬ ‫احلكاية من �أولها هي حماولة منها لتدجينه تنظيمه ولرتتيبه �ضمن �إطار وا�ضح‪� .‬أما على �صعيد‬ ‫اخلطاب ال�سردي فيتجلى �إدراكها خلطورة الزمن باخلطط التي ت�ضعها الراوية لتبقيه حتت �سيطرتها‬ ‫من دون �أن تقع يف رتابة ال�سرد‪ .‬فهي تعود �إىل زمن الطفولة يف الطنطورة‪ ،‬يف حلظة حمددة وهي‬ ‫خروج يحيى من البحر‪ ،‬وتعتمد ال�سرد الت�صاعدي حتى ت�صل �إىل اخلامتة حيث يتالحم زمن‬ ‫احلكاية بزمن ال�سرد وتظهر الراوية وهي يف مرحلة الكهولة‪ .‬ولكنها‪ ،‬مع املحافظة على هذا اخليط‬ ‫الأ�سا�سي الذي يقود زمن ال�سرد‪ ،‬ت�سمح للزمن ب�سلوك م�سارات ثانوية تتوافق والقفزات التي‬ ‫ت�أخذ الذاكرة �إىل الأمام �أو �إىل الوراء يف �سياق الذكريات‪.‬‬ ‫�إن الرواية‪ ،‬كما الذاكرة‪ ،‬كما الأفكار يف تيار الوعي‪ ،‬ال مت�ضي ب�شكل منتظم‪ ،‬على وترية واحدة‪،‬‬ ‫بل ترك�ض يف اجتاهات خمتلفة‪ ،‬ت�سرع �أحياناً وترتجم عجالها مبوجز يخفف من وقع الذكريات‬ ‫ال�سوداء‪ ،‬كما يف �سردها لتلقيها و�أوالدها �أخبار اتفاقية او�سلو التي جردتهم كما جردت كل‬ ‫الفل�سطينيني من حقهم يف �أر�ضهم عامة ويف الطنطورة خا�صة‪ ،‬وقتل رابني وم�شهد عرفات يف‬ ‫اجلنازة وهو يقبل يد زوجة هذا الأخري‪ .‬تعك�س الكتابة التغريات يف مزاج الراوية‪ ،‬فت�سهل حيناً‬ ‫وت�صعب �أحياناً‪ .‬عندها ت�أبى �إال �أن ت�شارك القارئ يف ال�صعوبات التي تعرت�ض طريق �سردها‪.‬‬ ‫ولكنها تلج�أ �إىل كل التقنيات املتوافرة لكي يحاكي ال�سرد حركة تيار الوعي‪ ،‬فتلج�أ‪ ،‬بني احلني‬ ‫والآخر‪� ،‬إىل رواية تكرارية موجزة تختزل فيها مراحل حياتها �إىل �أن ت�صل �إىل الزمن املعا�صر‬ ‫لزمن الق�ص يف ما ي�سميه جونيت تطابقاً زمنياً (‪ .)isotopie temporelle‬تلك الرواية التكرارية‬ ‫تبد�أ دائماً بعبارة «�أَ ُنظ ُر من بعيد»‪ ،‬تنظر فرتى نف�سها فتاة �صغرية تلعب مع ابن عمها على �شاطئ‬ ‫الطنطورة (�ص‪ ،)73‬وترى نف�سها مت�شي يف جنازة غ�سان كنفاين‪ ،‬ثم امر�أة يف ال�سابعة والثالثني من‬ ‫عمرها تلتقط در�ساً عن املوت واحلياة‪.‬‬ ‫ولعل �أبرز ما مييز الت�أرجح الزمني الذي يجعل ال�سرد رفيقاً للمد واجلزر الذي يحرك الأفكار‬ ‫والذكريات تقنية اال�ستباق التي تدل على راو عليم‪ ،‬يعرف كل تفا�صيل احلكاية ويفتح نافذة يطل‬ ‫منها على امل�ستقبل‪ ،‬ثم يعود �إىل �سرد الوقائع حيث تركها‪ .‬ولكن اال�ستباق يف رواية «الطنطورية»‬ ‫غالباً ما يحمل لون احلزن لأن احلزن كان هو الغالب يف م�ستقبل الفل�سطينيني‪ .‬فعندما تروي رقية‬ ‫عن خوف والدتها من زواج ابنتها �إىل حيفا وابتعادها عنها‪ ،‬ت�ستبق هجرتهم من �أر�ضهم وتقول‪:‬‬ ‫«�سريحمها اهلل من رحلة حيفا وكيلومرتاتها الأربعة والع�شرين‪ .‬لن يعمل ال�شاب يف حيفا ولن‬ ‫ت�سكن ابنتها فيها‪�( ».‬ص‪ )16‬وعند موت عمها �أبو الأمني‪ ،‬ت�ستبق تعليق عز ابن عمها عن كون‬ ‫‪99‬‬


‫موته رحمة له �إذ جنبه الأهوال القادمة على الفل�سطينيني يف لبنان مثل ح�صار تل الزعرت وحرب‬ ‫املخيمات‪ ...‬ولكن اال�ستباق يرتبط بالفرح عندما يتعلق الأمر مبرمي‪ ،‬الطفلة املتبناة‪ ،‬التي عرفت‬ ‫كيف تعيد ال�ضحكة �إىل عامل رقية‪« :‬كنا يف الإ�سكندرية ومرمي تدر�س الطب يف جامعتها‪ .‬لمِ َ‬ ‫�أ�ستبق الأحداث؟ مل �أنته من حكاية �أبوظبي‪ .‬ما زلنا هناك»‪�( .‬ص‪)342‬‬ ‫عندما تتكلم على مرمي فقط‪ ،‬ي�صبح �أمني‪ ،‬زوجها الراحل‪ ،‬م�سرداً �إليه وتربز �صيغة املخاطب يف‬ ‫الن�ص حني تخربه �أنها �صارت �صبية جميلة جتيد الكالم‪ .‬يف ما عدا ذلك‪ ،‬يكون امل�سرود له مطنباً‪.‬‬ ‫ا�ستعان الفل�سطينيون بال�سرد حلماية ذاكرة حملت تاريخاً يحفظ كيانهم املهدد‪ .‬يروون ملن ي�أتون‬ ‫بعدهم حكاية وطنهم الذي قال عنه ال�صهاينة �إنه «وطن بال �شعب ل�شعب بال �أر�ض» ليدح�ضوا‬ ‫هذه املقولة‪ ،‬يحكون ليحفظوا التاريخ كما عا�شوه بعد �أن د�أب العدو على حماولة ت�شويهه‪ .‬يف رواية‬ ‫«الطنطورة» يكرث الرواة الذين يحملون احلكاية لأبنائهم و�أحفادهم و�أقاربهم وكل م�ستمع يكفل‬ ‫عدم موتها‪ ،‬ففي ا�ستمرار فعل الق�ص �ضمان لبقائهم‪ .‬ت�سلم الراوية االوىل زمام ال�سرد �إىل رواة‬ ‫ثانويني يخربونها عن جتربتهم‪ ،‬فتخف ‪ ،‬و�إن ظاهرياً فقط‪ ،‬هيمنتها على احلكاية‪ ،‬وتتحول هي �إىل‬ ‫م�سرد �إليه‪ ،‬ت�ستمع وت�ضم حكاياتهم �إىل حكايتها لتعبد طريق الطنطورة بالذكريات‪.‬‬ ‫الرواة الثانويون وتداول الرواية‬

‫يبد�أ تداول الرواية من «هناك»‪ ،‬من الطنطورة حيث ت�ستح�ضر الراوية الأوىل‪ ،‬رقية‪ ،‬الق�ص�ص التي‬ ‫�سمعتها من �أقاربها والتي بد�أت تلفت انتباهها بعد �أن ارتبطت بخطر ا�ست�شعرته الفتاة ال�صغرية‬ ‫فحاولت �أن تفهمه �أكرث عرب الإ�صغاء‪ .‬ولكنها‪ ،‬بعد مرور ال�سنني‪ ،‬تعجز عن التمييز بني الرواة‪،‬‬ ‫خ�صو�صاً يف ما يتعلق ب�سقوط حيفا الذي كان له وقع ال�صاعقة على �أهل القرية الذين ظلوا حتى‬ ‫ذلك احلني يعتقدون �أن اخلطر ما زال بعيداً‪ .‬تقول‪« :‬ال ميكنني الآن �أن �أن�سل اخليوط من بع�ضها‬ ‫أخوي بعد عودتهما‪ ،‬وما الذي و�صلني مما تناقلته البنات عن‬ ‫لأعرف ما الذي �سمعته من �أبي و� َّ‬ ‫�آبائهن‪ ،‬وما حكاه يل عمي الحقاً يف �صيدا‪�( ».‬ص‪ )38.‬هكذا يختلط الرواة الثانويون (‪narrateurs‬‬ ‫‪ )intradiégétiques‬يف ذهنها يف هذه اللحظة احلرجة التي قلبت عاملها وعاملهم ر�أ�ساً على عقب‪.‬‬ ‫قبل ذلك‪ ،‬مل يكن لل�سرد الأهمية الوجودية التي �سيكت�سبها بعد �سقوط حيفا و�ضياع الطنطورة‪.‬‬ ‫بعد هذا التحول‪� ،‬سي�صبح لكل را ٍو ثانوي دور �أ�سا�سي يف �إعادة �صوغ الهوية امل�شتتة‪ .‬لهذا ال�سبب‪،‬‬ ‫جند �أن �أكرث الرواة الثانويني هم رواة �ضمنيون يحكون ق�صة كانوا موجودين فيها‪� ،‬سواء كانوا جمرد‬ ‫�شهود �أم كانوا م�ؤدي �أدوار رئي�سية فيها‪ .‬ترى الدكتورة مينى العيد يف هذا الإطار‪:‬‬ ‫«�إن تعدد مواقع الر�ؤية الذي يطرح تعدد الأ�صوات‪ ،‬والذي يطول هوية ال�شخ�صية كما يطول‬ ‫املنطوق وعمليته �أي�ضاً‪ ،‬هو الذي ي�شق نافذة يف اجتاه خلق بنية ميكن ت�سميتها بالبنية الواقعية‪.‬‬ ‫‪100‬‬


‫الأدب املقاوم‬

‫هذه البنية لي�ست بنية القول املقيم على م�ستوى الأيديولوجية امل�سيطرة‪� ،‬أو الراكن �إىل م�ستواه‬ ‫الأيديولوجي‪ .‬بل هي بنية القول املتمرد على ركونه هذا‪ ،‬يف اجتاه حركة ال�صراع‪� .‬أو يف اجتاه‬ ‫دينميته املحركة له‪ ،‬والتي تبني زمنه»‪.6‬‬ ‫تتوىل الأم وظيفة ا�ستعادة العائلة ومللمة �أنقا�ضها‪ ،‬فتخرب عن التقارب الذي عا�ش فيه زوجها و�شقيقه‬ ‫اللذان عمال �سوية وتزوجا من �شقيقتني‪ ،‬كما نا�ضال معاً �ضد الإنكليز‪� .‬أما اخلالة‪ ،‬الفرد الوحيد من‬ ‫العائلة الذي بقي لرقية من �أهلها بعد وفاة �أمها وعمها‪ ،‬والتي‪ ،‬بعد مرور ال�سنني الطويلة‪ ،‬ما زالت‬ ‫حتن �إىل الطنطورة‪ ،‬فردو�سها املفقود‪ .‬دورها يكمن يف تذكر ذلك الفردو�س والكالم عليه البنة‬ ‫�شقيقتها املعنية مبا�شرة باملو�ضوع‪ ،‬ولكن �أي�ضاً للجريان يف امللج�أ‪ ،‬حتت الق�صف‪ ،‬رمبا لت�ستح�ضر‬ ‫و�سط احلرب وال�شرور �سالم الطنطورة وجمالها اللذين مل يعد لهما وجود �إال يف ذكرياتها ويف‬ ‫حلم العودة‪.‬‬ ‫« يف امللج�أ تتكلم وت�ستفي�ض يف الكالم يف مو�ضوع واحد ال حتيد عنه‪ :‬الطنطورة‪ .‬حتكي عنها حكياً‬ ‫مت�ص ًال ومف�ص ًال جتذب به انتباه ال�سامعني‪ .‬ودائماً ما تنهي الكالم بالعبارة نف�سها‪« :‬ملا نرجع بلدنا‪،‬‬ ‫�أمانة عليكم تزورونا‪ .‬بلدنا جميلة ت�ستاهلكم وت�ستاهلوها‪�( ».‬ص‪)213‬‬ ‫�أما عم رقية‪ ،‬فهو راو ثانوي ي�ؤدي دوراً مهماً يف بناء �صرح الذكريات‪ .‬قبل ذلك‪ ،‬يف الطنطورة‪ ،‬روى‬ ‫ل�شقيقه �سقوط حيفا الذي كان �شاهداً عليه‪ .‬ومنذ ذلك احلني‪� ،‬صارت الرواية مهمته الرئي�سية‪،‬‬ ‫ورقية هي امل�سرود له الذي يتلقى الق�صة حتى ولو �سبق لها �أن عا�شت �أحداثها‪ .‬يروي لها امل�شادة‬ ‫التي وقعت بينه وبني �شقيقه حني حاول عبثاً �إقناعه بوجوب الرحيل‪ .‬فهو قد �أح�س باخلطر القادم‬ ‫عليهم وعرف �أن ال �سبيل لدرئه‪ ،‬والأخ كان مقتنعاً ب�ضرورة البقاء يف البلد وبحتمية انت�صارهم‬ ‫على اليهود‪ .‬رحل من دون �أن ينجح حتى يف حمل �شقيقه على الكالم معه‪ ،‬وفقده من دون �أن‬ ‫يتمكن من توديعه‪ .‬بقيت م�شادتهما الأخرية تدور يف ذهنه هاج�ساً حاول �أن يطرده بالكالم عليه‪.‬‬ ‫في�صبح للرواية وظيفة عالجية تتيح للراوي تكرير امل�شاعر والأفكار من ال�صخب الذي ولدت فيه‪.‬‬ ‫ما حكاه ل�شقيقه يف الطنطورة عن �سقوط حامية حيفا ردده على م�سامع كل �أفراد العائلة يف رواية‬ ‫تكرارية تهدف �إىل ت�سليم وديعة الذاكرة �إىل جيل �شاب ي�ستطيع �أن يغري �شيئاً يف املعادلة‪� ،‬أو على‬ ‫الأقل ينقلها ملن ي�أتون بعده‪�« :‬إ�سمع يا ولد‪ .‬قد تروي احلكاية يوماً لأوالدك‪�( ».‬ص‪ )169‬وخالفاً‬ ‫لرقية التي يرهقها فعل الق�ص‪ ،‬كان ي�ستفي�ض يف الكالم الذي غدا‪ ،‬بعد �أن تقدم يف ال�سن‪� ،‬سبب‬ ‫وجوده‪ .‬ت�صف الراوية الأوىل الراوي الثاين وهو يتكلم‪ ،‬فيبدو ك�أنه قد توحد مع روايته‪ ،‬ف�صارت‬ ‫هي هويته‪:‬‬ ‫«يجمع حبات الكالم من هنا وهناك‪ .‬ي�سل�سلها �أمام عيوننا كامل�سبحة‪ .‬يحدد املكان‪ .‬يحدد الزمان‪.‬‬ ‫ينتقل من زمان �إىل زمان‪ ،‬ومن مكان �إىل مكان �سواه‪ .‬من تاريخ معلوم �إىل وقائع �شخ�صية كان هو‬ ‫ ‬

‫‪6‬‬

‫د‪ .‬مينى العيد‪« ،‬يف معرفة الن�ص»‪ ،‬دار الآداب‪ ،‬بريوت‪� ،1999 ،‬ص ‪.91-90‬‬ ‫‪101‬‬


‫نف�سه �شاهداً عليها وطرفاً فيها‪ .‬يذكر القادة والزعماء‪« ،‬اهلل ال ي�ساحمهم»‪ .‬يذكر رفاقه‪« ،‬يرحم اهلل‬ ‫ال�شهداء»‪ .‬ي�ستح�ضر �صورهم‪ .‬يرتكها معلقة على اجلدار يف خلفية الكالم‪�( ».‬ص‪)168‬‬ ‫حني تراه رقية يتكلم ك�أنه يحيا‪ ،‬تقول يف نف�سها �إنه �سيطرد املر�ض والعجز و�سيعي�ش طوي ًال‪.‬‬ ‫ولكنه ميوت‪ ،‬وعندما ميوت يت�سلم غريه من الرواة الثانويني تداول الرواية مثل عبد‪� ،‬شقيق‬ ‫�صديقتها و�صال‪ ،‬الذي يروي لها‪ ،‬بعد لقائهما يف بريوت‪ ،‬ما ح�صل بعد انف�صالهم بعد الرحيل‬ ‫من الطنطورة وكيف �أعادوا بناء حياتهم يف خميم جنني‪ .‬تلج�أ الراوية الأوىل �إىل ا�ستعارة تعرب عن‬ ‫املوجز الذي قدمه لها عبد‪ ،‬الراوي ال�ضمني‪-‬الذاتي عن حياة عائلته‪�« :‬صر ربع قرن من جمريات‬ ‫حياته يف منديل وقال هذا ما حدث‪�( ».‬ص‪ )126‬هنا تربز �أي�ضاً وظيفة الإدارة للراوية (‪fonction‬‬ ‫‪ )de régie‬حيث تت�سلم الراوية الأوىل من الرواة الثانويني ق�ص�صهم فتدرجها �ضمن ق�صتها كما‬ ‫وردت باخلطاب املبا�شر (‪� )discours direct‬أو تعيد �صياغتها بكلماتها هي‪.‬‬ ‫العجائز يف خميم �شاتيال رواة ثانويون حتب الراوية الأوىل �أن تن�صت �إىل حكاياتهم التي تبد�أ دائما‬ ‫بـ«هناك»‪� ،‬أي بقرية من قرى فل�سطني‪ .‬و�إن كانت الروايات كلها حزينة يف بداياتها‪ ،‬ف�إنها ت�شرق‬ ‫بالأمل بعد حني وقد تتلون باملرح مثل الق�صة التي روتها �أم حممد عن ابنها ال�صغري الذي �أ�صر‬ ‫على ارتياد املدر�سة وذهب �إليها حايف القدمني لأن �شقيقه االكرب انتعل «احلفاية» الوحيدة التي‬ ‫معد له يف ال�صف‪ ،‬تربع على احلو�ض يف طرف القاعة وطلب‬ ‫ميلكونها‪ ،‬وحني قال املعلم �إن ال مكان ّ‬ ‫�إىل اال�ستاذ �أن يكمل �شغله‪ ،‬وبهذا الإ�صرار‪ ،‬متكن من �إنهاء علومه‪ .‬ولكن رواياتهن تبقى دائماً‬ ‫مربوطة بحبل �سري �إىل «هناك»‪� ،‬إىل نقطة البداية‪ ،‬تعود �إليها كلما ابتعدت يف الزمان واملكان‪،‬‬ ‫لذلك ال متلك �أن تتطور مثل غريها من احلكايات من و�ضع �أويل �إىل و�ضع نهائي‪« .‬مت�ضي احلكاية‪،‬‬ ‫وال مت�ضي متاماً‪ ،‬لأنها‪ ،‬وهي تتقدم �إىل الزمن التايل‪ ،‬تظل ترجع وت�سرتجع‪ .‬تت�شابه احلكايات‪،‬‬ ‫و�أي�ضاً تختلف كالوجه وهو يحكي‪�( ».‬ص‪� )148‬أم نبيل حتكي عن �شجرة الرمان قرب باب دارها‬ ‫«هناك»‪ ،‬و�أم اليا�س حتكي عن احتالل اليهود للأرا�ضي الزراعية‪ ،‬قبل �أن يحتلوا البلدة وعن‬ ‫اخلطة التي و�ضعها �أهل البلدة لي�سرقوا حم�صولهم من التبغ يف الليل ممن ا�ستولوا عليه‪ ،‬و�أم‬ ‫الناه�ض حتكي حكاية مماثلة عن حم�صولهم من القمح‪ .‬ثم املراحل التي تلت التهجري من العي�ش‬ ‫يف املخيمات‪ ،‬يف البدايات‪ ،‬مع اخليم و�سقوف الزنكو التي يطريها الهواء وطوابري املاء وم�ضايقات‬ ‫رجال الأمن والتهديد بالطرد‪ ...‬تقول الراوية الأوىل التي غدت امل�سرود لها‪« :‬ومبع�ضلة غريبة‬ ‫عجيبة ال �أفهم كيف‪ ،‬ت�ؤمنني احلكاية‪�( ».‬ص‪ )152‬ت�صبح هي هن وت�صبح احلكاية‪.‬‬ ‫هي حتتاج �إىل رواية كل من كانوا «هناك» ليخربوها مبا غابت عنه ومل تتمكن من اختباره‪ ،‬حتتاج �إىل‬ ‫ق�صة و�صال عن االنتفا�ضة لكي تتعرفها ب�شكل �شخ�صي‪ ،‬ال كما ت�سمعها عرب القنوات التلفزيونية‬ ‫والإذاعات‪ ،‬كما حتتاج �إىل ق�صة �أبو حممد‪ ،‬العجوز الذي التقت به �صدفة يف �أبو ظبي واكت�شفت‬ ‫�أنه من الطنطورة و�سلمها حكايته عما جرى له بعد �أن اعتقله اليهود يف الثمانية والأربعني‪ ،‬فتطلق‬ ‫‪102‬‬


‫الأدب املقاوم‬

‫الراوية الأوىل على الف�صل الذي تورد فيه �سرد الراوي الثاين حلكايته بو�ساطة اخلطاب املبا�شر‬ ‫عنوان‪« :‬حديث املعتقل»‪ .‬حتتاج الراوية كذلك �إىل ق�صة املمر�ضة هنية لتعرف ما الذي حدث‬ ‫فع ًال يف ملج�أ �أبو يا�سر يف �أثناء جمزرة �صربا و�شاتيال‪.‬‬ ‫لهذه املجزرة رواتها املخت�صون‪ ،‬العديدون ممن �أح�سوا بخطر دفن الوقائع كما حاولت اجلرافات‬ ‫العميلة دفن عدد من جثث ال�ضحايا‪ ،‬فكان الت�أريخ لهذا احلدث اخلطري خ�شبة خال�ص للرواة‬ ‫الذين حملوا مهمة الك�شف عن احلقيقة‪ .‬عبد‪ ،‬ابن رقية روى ما حدث وما كان �شاهداً عليه من‬ ‫رحيل املقاتلني الفل�سطينيني �إىل جمزرة �صربا و�شاتيال بناء على طلب الكاتبة وامل�ؤرخة بيان احلوت‬ ‫التي ت�صبح م�سروداً لها يتوجه �إليها ب�شكل مبا�شر‪ ،‬فتربز يف ال�سرد �صيغة �ضمري املخاطبة‪�( ،‬أنا يا‬ ‫�ست بيان ولدت عام ‪ 1960-‬نعم احلق معك يا �ست بيان) بالإ�ضافة �إىل ر�سالة كتبها عبد �إىل‬ ‫�شقيقيه ليطلعهما فيها عما تو�صل �إليه بعد �أبحاثه من معلومات عن الذي حدث يف م�ست�شفى‬ ‫عكا يوم اجلمعة ال�سابع ع�شر من ايلول‪ ،‬خالل املجزرة علهم ي�صلون �إىل خيط ما ملعرفة ما ح�صل‬ ‫لوالدهم الذي اختفى يف ذلك اليوم ومل يعرفوا �إن كان خمطوفاً �أو �شهيداً‪ .‬يف هذه الر�سالة يكون‬ ‫�شقيقا عبد‪� ،‬صادق وح�سن‪ ،‬هما امل�سرود لهما‪ ،‬ولكن رقية‪ ،‬بعد مرور ال�سنوات‪ ،‬تلج�أ �إىل رواية‬ ‫عبد امل�سجلة على �شريط �إىل بيان احلوت ور�سالته �إىل �شقيقيه لت�ست�شهد بهما يف �سردها‪ ،‬وت�سلم‬ ‫ال�سرد �إىل عبد وت�صبح امل�سرود لها‪.‬‬ ‫ابنها ح�سن ال يروي ب�شكل مبا�شر‪ ،‬فهو الذي كان م�شلعاً بني �أمه وفل�سطني‪ ،‬اختار زيارة فل�سطني‬ ‫من كندا وهو يدرك �أن تلك الزيارة �ستحرمه من املجيء �إىل لبنان ور�ؤية �أمه‪ ،‬ولكنه‪ ،‬بعد �أن ذهب‬ ‫�إىل «هناك» مل ي�ستطع رواية ما ر�آه لأمه وبقيت روايتها تفتقر �إىل �شواهد عن فل�سطني يف الزمن‬ ‫املعا�صر‪ .‬تعلل الأم تق�صريه يف ال�سرد �إىل �صمت يطبق ك�سجن على من �شهد �أمراً يفوق احتماله‪.‬‬ ‫ت�شبه �صمته ب�صمتها بعد �أن ر�أت جثث والدها و�شقيقيها على �شاطئ الطنطورة‪ .‬رمبا هو كان �شاهداً‬ ‫على موت فل�سطني كما و�صفها له الرواة الذين حكوا عنها‪ .‬عو�ضاً عن �سرد ما ر�آه يف فل�سطني‪،‬‬ ‫يكتب رواية بطلتها البارجة الأمريكية نيو جري�سي‪ ،‬رمبا لأنه �أراد �أن يذهب �إىل عمق الأ�سباب التي‬ ‫�أدت �إىل �ضياع فل�سطني‪.‬‬ ‫�أخرياً تربز يف الرواية �أ�صوات روائية من امل�ستوى الثالث‪ ،‬مثل الرواة الذين يروون لعبد وقائع‬ ‫جمزرة بناية جاد يف �صيدا‪ .‬ي�ستمع عبد �إىل �سردهم ما ح�صل حني ق�صف الإ�سرائيليون البناية‬ ‫فقتلوا عدداً كبرياً من املدنيني الذين كانوا يحتمون يف ملجئها‪ ،‬وعادوا وق�صفوا مدخل املبنى‬ ‫ليمنعوا فرق الإ�سعاف من الو�صول �إليهم‪ ،‬كما ي�ستمع �إىل مدير املدر�سة التي ق�صفت بدورها‬ ‫ويجمع رواياتهم لريويها �إىل والدته ثم لي�ضمها �إىل امللف يف الق�ضية التي ينوي رفعها �ضد �إ�سرائيل‪.‬‬ ‫مدير املدر�سة راو من امل�ستوى الثالث (‪ )métadiégétique‬يخرب �أنه �سمح لعدد من الأهايل الذين‬ ‫كانوا قادمني من �صور هرباً من الإجتياح باملبيت يف قبو املدر�سة‪ 120« :‬كلهم تقريباً ن�ساء و�أطفال‪.‬‬ ‫‪103‬‬


‫عدد قليل من الرجال امل�سنني وثالثة �شباب‪�( ».‬ص ‪ )444‬كما يخربه �أنهم بعد املجزرة‪ ،‬نقلوا عدداً‬ ‫من اجلثث �إىل مقربة جمعية بينما بقي ق�سم منها حتت امللعب الذي �أعيد ترميمه‪.‬‬ ‫م�س�ؤول الدفاع املدين يف تلك املرحلة راو من امل�ستوى الثالث �أي�ضاً‪ ،‬روى لعبد �أن عدد الذين‬ ‫ق�ضوا يف بناية جاد هو مئة وخم�سة وع�شرون و�أخربه �أن هناك �شهوداً �أحياء ممن كانوا خارج املبنى‬ ‫يف �أثناء الق�صف وفقدوا �أ�سرهم ولكنهم قد يكونون فقدوا قدرتهم على تقدمي ال�شهادة ب�سبب هول‬ ‫املا�ساة التي �أملت بهم‪.‬‬ ‫ما يجمع بني جميع الرواة‪ ،‬من الراوية الأوىل �إىل الرواة من امل�ستوى الثالث‪ ،‬هو �أن حكاياتهم و�إن‬ ‫كانت تدور حول �سرية حياتهم �أو مراحل منها‪ ،‬لي�ست خا�صة متاماً‪� ،‬إمنا هي مرتبطة بالعام‪ ،‬بالواقع‬ ‫الفل�سطيني‪ ،‬بتاريخ من ال�صراع واالنت�صارات والهزائم‪.‬‬ ‫الواقع وال�رصاع‬

‫الواقع‪ ،‬واقع رقية وعائلتها‪ ،‬كما واقع كل الفل�سطينيني‪ ،‬يلخ�ص بعنوانني‪ :‬االغت�صاب واحلرب‪� .‬أو ًال‬ ‫اغت�صاب الأر�ض من قرويني مل يكونوا حم�ضرين للهجوم الذي �شن عليهم‪� .‬إذ كانوا يفتقرون �إىل‬ ‫القوة املعرفية كما القوة املادية‪� ،‬أي ال�سالح ال�ضروري ل�صد العدوان‪ .‬يف البدء ظن �أهل الطنطورة‬ ‫�أنهم �إذا �أخفوا وجود الآثار يف قريتهم‪� ،‬سوف يحمونها من هجوم اليهود عليها‪ ،‬لأنهم الحظوا �أن‬ ‫الآثار كانت الهدف الأول العتداءات الع�صابات اليهودية على باقي القرى‪ .‬اجلهل التام لأمور‬ ‫ال�سيا�سة لدى الن�ساء‪ ،‬مل يكن يقابله �إال معرفة منقو�صة لدى الرجال الذين اعتمدوا على الأخبار‬ ‫القليلة التي ينقلها بع�ض من يخرجون من القرية وعلى ما تنقله الإذاعات‪ ،‬علماً �أن املذياع و�صل‬ ‫مت�أخراً �إىل القرية‪ ،‬بعد �أن �أ�صبح اخلطر داهماً فغدا من ال�صعب العمل على درئه‪ .‬بالإ�ضافة �إىل‬ ‫غياب النظرة الواقعية وت�سليم �أمرهم بكثري من ال�سذاجة �إىل العناية الإلهية وحدها‪ .‬مل تخفهم‬ ‫املقارنة بني قواهم وقوى ع�صابات العدو‪« .‬هم معهم الإنكليز وال�سالح ونحن معنا ربنا لأننا‬ ‫�أ�صحاب حق» (�ص‪ )43‬ال تعلق الراوية على الت�ضارب بني �سذاجة نظرتهم وبني واقع احلرب الذي‬ ‫ال يفر�ض الن�صر �إال مبنطق القوة التي ت�شكل القول الف�صل يف تقرير حق الأوطان‪ ،‬بل ترتك للقارئ‬ ‫�أن ي�صل وحده �إىل نتيجة تف�سر واحداً من �أ�سباب �ضياع الأر�ض‪ .‬ورمبا يرمز اخلالف الذي وقع بني‬ ‫الوالد والعم حول اخلطوات التي يجب على العائلة �أن تتخذها �إىل �سبب ثانٍ للتقهقر واخل�سارة‬ ‫وهو االنق�سام بني �أبناء ال�شعب الواحد حول و�سائل ال�صراع يف �سبيل ق�ضية واحدة‪ .‬هكذا‪ ،‬لطاملا‬ ‫الحقت االنق�سامات واالن�شقاقات الفل�سطينيني ب�شكل خا�ص‪ ،‬و�أبناء وطننا ب�شكل عام‪ ،‬لتعطل‬ ‫النتائج املرجوة من ال�صراع الذي تخو�ضه جمموعات تتحلى بالإميان ولكنها تفتقر �إىل الر�ؤية التي‬ ‫تدر�س الواقع وتدرك �أن ت�شتت القوى ال ميكن �إال �أن يكون عام ًال �سلبياً يف هذا ال�صراع‪.‬‬ ‫‪104‬‬


‫الأدب املقاوم‬

‫يحمل الف�صل الرابع من الرواية عنواناً �شديد التعبري‪ ،‬كلمة واحدة‪« :‬كيف؟» �س�ؤا ًال يلخ�ص‬ ‫�صعوبة �إدراك ما ح�صل يف النكبة‪ .‬من الوا�ضح �أنه‪ ،‬عندما بد�أ �أهل الطنطورة ب�شراء ال�سالح‬ ‫والتدرب على ا�ستعماله وتنظيم الفرق حلرا�سة البلدة كان الوقت قد ت�أخر‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل ال�شح يف‬ ‫ال�سالح وعدم القدرة على التزود باحلديث منه والفعال‪ .‬وتتواىل الأ�سئلة يف هذا الف�صل لتعرب عن‬ ‫عدم قدرة رقية و�أهلها على ا�ستيعاب ما كان يح�صل لهم‪« .‬كيف �سقطت حيفا؟»‪« ،‬ماذا حدث‬ ‫للحامية؟»‪« ،‬ما الذي جرى ليخرج النا�س جماعياً �إىل امليناء ملغادرة املدينة؟»‪« ،‬ما الذي حدث يف‬ ‫�صفد؟»‪�« ،‬أين ذهب جي�ش الإنقاذ؟»‪« ،‬متى �سي�أتي علينا الدور؟»‪� .‬أ�سئلة مل يتمكن �أهل الطنطورة‬ ‫من الإجابة عنها يف حينه ورمبا بقي بع�ضها من دون �إجابة وا�ضحة‪ ،‬فو�ضعتها الراوية بر�سم التاريخ‪.‬‬ ‫�أما الف�صل اخلام�س‪ ،‬فقد ح َملته الراوية عنواناً موجز�أ �أي�ضاً‪ ،‬عنواناً ال يحتاج �إىل �شرح‪ ،‬تاريخاً‬ ‫�أ�صاب جرحاً يف �شرايني الوطن التي ما زالت �إىل اليوم تنزف من �آثاره‪« :‬ال�سبت ‪ ،»15-5‬تاريخ‬ ‫تق�سيم فل�سطني‪ .‬و�صل العدو �إىل الطنطورة يف غفلة عن �أهلها‪ ،‬يف غفلة ب�شكل خا�ص عن رقية‬ ‫ال�صغرية و�أمها التي �آمنت بالن�صر �إثر حلم �أخربتها به الفتاة عن زيارتها للمدينة املنورة‪ ...‬كان‬ ‫الإغت�صاب ورحلوا‪ .‬بعدها مل تتوقف احلروب التي ت�شن عليهم‪ ،‬بل اتخذت وجوهاً �أخرى‪.‬‬ ‫يف لبنان‪� ،‬سيعرفون معنى �أن يكونوا الجئني و�إن مل يختربوا احلرمان كغريهم بف�ضل �أو�ضاعهم‬ ‫املادية املي�سورة‪ ،‬لكنهم �سي�شرتكون مع بقية الفل�سطينيني يف اختبار ال�شعور بالإق�صاء واال�ضطهاد‬ ‫من قبل بع�ض الفئات من �سكان البلد الذي جل�أوا �إليه‪ ،‬خا�صة مرارة حتول ال�صديق �إىل عدو‪� .‬أما‬ ‫املخيم‪ ،‬فيلخ�ص ق�صة حياتهم‪ ،‬و�إن مل يعي�شوا فيه‪ ،‬يو�صمون ب�أنهم �أبناء املخيم ك�أنهم ينتمون �إىل‬ ‫طائفة غريبة وخميفة‪.‬‬ ‫«زميلك يف ال�صف ينقلب عليك فج�أة فال تعرف ما الذي �أغ�ضبه‪ ،‬لتكت�شف بعد يوم �أو يومني‬ ‫�أنه عرف �أنك فل�سطيني و�أنك �أنت ال غريك �أمر م�ستفز يثري الغ�ضب �أو اال�ستياء على �أقل تقدير‪،‬‬ ‫القرف‪ .‬ك�أنك ح�شرة �سقطت‪ ،‬ل�سوء حظه يف �صحن احل�ساء‪�( ».‬ص‪)77‬‬ ‫�سيختربون من جهة �أخرى خيانة القادة وتخاذلهم‪ ،‬فمنهم من يقدم تنازالت جمانية (يا�سر عرفات‬ ‫واتفاقية او�سلو) ومنهم من ين�شغل باالنق�سامات الداخلية وي�ضيع الهدف احلقيقي‪ ،‬و�سيعرفون‬ ‫�سوء الإدارة لدى البع�ض منهم‪ .‬ولي�س �أدل على �سوء التنظيم لدى القيادات الفل�سطينية �سوى‬ ‫الق�صة التي يرويها ح�سن عن مركز االبحاث الفل�سطيني الذي �أن�ش�أه الدكتور �أني�س ال�صايغ‪.‬‬ ‫يتتبع ح�سن ق�صته منذ �إن�شائه حتى اجتياح عام ‪ 82‬وم�صادرة الإ�سرائيليني ملعظم الوثائق وامللفات‬ ‫املوجودة فيه‪ .‬نقلوا ما يقارب الع�شرة �آالف كتاب ف�ض ًال عن خمطوطات نادرة وخرائط قيمة‪ .‬ولكن‪،‬‬ ‫بعد املفاو�ضات مع منظمة التحرير‪ ،‬مت االتفاق على ا�ستعادة حمتويات املكتبة‪ .‬وهنا تبد�أ الق�صة‬ ‫برتجمة امل�أ�ساة الفل�سطينية‪ ،‬فب�سبب الفو�ضى وقلة الإدراك لقيمة هذا النتاج الفكري الهائل‪،‬‬ ‫ت�ضيع املكتبة وتت�شتت بني قرب�ص واجلزائر وعوا�صم عربية �أخرى‪ .‬حني يذكر ح�سن �ضياع املكتبة‬ ‫بالتوازي مع و�صفه ملجزرة �صربا و�شاتيال‪ ،‬يكاد �أن ي�ساوي بني خ�سارة الأرواح الب�شرية وخ�سارة‬ ‫‪105‬‬


‫ع�صارة الفكر واحل�ضارة يف الكتب التي �ضلت طريق فل�سطني‪ .‬يقول‪�« :‬إن امل�شاركة يف تبديد هذا‬ ‫ال�صرح �أو العبث به جرمية مركبة تت�ضمن من بني ما تت�ضمن اال�ستخفاف باال�سم الفل�سطيني‬ ‫والدماء التي �أعطته هويته ومعناه‪�( ».‬ص‪)375‬‬ ‫هذا يف ما يتعلق بالفل�سطينيني ب�شكل خا�ص‪ .‬ولكن كان على الالجئني‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل حروبهم‬ ‫اخلا�صة‪� ،‬أن يتقا�سموا مع اللبنانيني �أهوال احلرب الأهلية‪ ،‬تلك التي وجدت يف الأ�صل لتحرف‬ ‫النظر عن ق�ضيتهم‪ .‬هذا اجلزء من احلكاية كان ي�ؤرق الراوية منذ البداية‪ ،‬فهي التي مل تكد‬ ‫ت�صدق �أنها جنحت يف تخطي �أهوال احلرب‪ ،‬تت�ساءل كيف �ستعود وتوقظ تلك الذكريات الرهيبة‬ ‫بو�ساطة الق�ص‪ .‬عندما �أ�س ّرت بتلك الهواج�س �إىل ابنها ح�سن‪ ،‬حاول �أن يجد لها منفذاً من‬ ‫املتاهة‪ ،‬قال‪�« :‬أما الكوارث‪ ،‬فاكتبي منها ما تطيقني‪ ،‬والإ�شارة‪ ،‬حتى الإ�شارة قد تفي بالغر�ض‪».‬‬ ‫(�ص‪ )207‬وهي �ست�أخذ بن�صيحته وتلج�أ �إىل الإيجاز (‪ )sommaire‬عندما تقارب املحطات التي‬ ‫�سيطرت عليها �أجواء احلرب‪ ،‬ولتثبيت هذا الإيجاز ت�ستعني بال�سرد (التواتري) (‪)récit itératif‬‬ ‫�إذ تروي مرة ما ح�صل عدة مرات‪ ،‬كما ت�ستعمل اجلمل التي تق�صر حتى توازي العناوين‪ ،‬عناوين‬ ‫حرب ال حتتمل الو�صف املطول‪:‬‬ ‫«طائرات تق�صف‪ .‬بوارج‪ .‬مدفعيات ثقيلة‪ .‬قنابل‪ .‬عبوات نا�سفة تنفجر بها �سيارات تبدو قبل‬ ‫دقائق من الإنفجار �أليفة كقطط نائمة‪ .‬حرائق‪ .‬ينقطع املاء‪ .‬تنقطع الكهرباء‪ .‬واخلبز ينقطع‪ .‬تذهب‬ ‫للبحث عنه‪ ،‬تنفجر الأر�ض بني قدميك‪�( »...‬ص‪)208‬‬ ‫وال ريب �أن الإيجاز يف زمن احلرب يتجلى �أي�ضاً يف عناوين الف�صول‪ ،‬حيث تعود الراوية �إىل‬ ‫الإ�ستعانة بالتاريخ املجرد الذي ُيفقده ال�شرح �شيئاً من ت�أثريه‪ .‬في�أتي عنوان الف�صل الثاين‬ ‫والع�شرين جمرد تاريخ ل�سنة ال ميكن �أن متحى من ذهن �أي عربي‪ .»1982« :‬و�إن كانت الراوية‬ ‫تخت�صر ال�سرد يف كل ما يخت�ص بزمن احلرب‪ ،‬ف�إنها تف�صح ب�شكل م�سهب عن تفاعلها مع تلك‬ ‫احلرب‪ .‬ت�صف ب�شكل خا�ص اخلوف الذي يالزمها كما يالزم كل من يعي�شون يف ظل العنف‬ ‫ال�سائد‪ ،‬خوفاً قد يكون �ضرورياً حني يرافق غريزة البقاء‪ ،‬فمن دونه ميكن للمرء �أن يعر�ض نف�سه‬ ‫للخطر من دون �أن يدرك ذلك‪ .‬ولكن هناك من�سوب معني عليه �أن يحافظ عليه‪ ،‬فهذا املن�سوب �إذا‬ ‫عال‪ ،‬ي�أكل اخلوف �صاحبه كاملر�ض اخلبيث‪ .‬عندما ت�شرح الراوية ما كان ي�صيبها من جراء الق�صف‬ ‫واالنفجارات‪ ،‬تتباط�أ وترية ال�سرد حتى تبلغ الوقف‪.)la pause( .‬‬ ‫ما من حل للفل�سطيني العالق بني النريان املختلفة �سوى االنتظار‪ .‬وتتنوع طرق االنتظار بتنوع‬ ‫الطبائع والأعمار‪ .‬فبع�ضهم يت�صرب على االنتظار بالإنكار‪ ،‬مثل والدة رقية التي �أنكرت موت زوجها‬ ‫وولديها وبقيت تنتظر الفر�صة لتذهب للبحث عنهما يف م�صر حيث تعتقد �أنهما موجودان‪ ،‬والعم‬ ‫ينتظر العودة �إىل فل�سطني وال ير�ضى �أن ي�سمى الجئاً و�أن يت�سجل على لوائح الأمم املتحدة‪.‬‬ ‫ال�شباب ينخرطون يف العمل امليداين وين�سون �أنهم ينتظرون‪ ،‬ورقية جتمع احلكايات وتربي �أوالدها‬ ‫‪106‬‬


‫الأدب املقاوم‬

‫وتهتم ب�أمها وعمها وخالتها بينما هي تنتظر‪ .‬كان ميكن لالنتظار �أن يكون عنوان الرواية‪ ،‬كما هو‬ ‫عنوان حلياة الفل�سطينيني‪ .‬ت�صحح رقية حكاية بينيلوب التي مت�ضي ال�سنني وهي تنتظر عودة‬ ‫زوجها بينما تغزل وتفك كل يوم ما غزلته يف اليوم ال�سابق وتعيد الغزل‪ .‬تقول‪« :‬لي�س هكذا‬ ‫االنتظار‪ ،‬فهو مالزم للحالة‪ ،‬ال بديل لها‪�( ».‬ص‪ )114‬ت�شبه االنتظار مبحطة قطار‪ .‬تنتظر وجهتك‪،‬‬ ‫ولكنك‪ ،‬يف نف�س الوقت تركب قطارات �أخرى حتملك يف خمتلف الإجتاهات‪.‬‬ ‫ال تبقى الراوية م�سمرة يف مكانها بانتظار العودة �إىل وطنها‪ ،‬بل تختار اجتاهات متعددة ت�سلكها‬ ‫لرتو�ض زمن االنتظار ويف ذلك تكون م�ساهمتها يف ال�صراع‪.‬‬ ‫�أوىل الو�سائل يف ال�صراع مع املوت الذي �أراده العدو ل�شعبها تكمن‪ ،‬عند الراوية‪ ،‬يف ممار�سة‬ ‫�أمومتها ب�شكل مطلق‪ ،‬الأمومة ب�صفتها فعل وجود‪ ،‬يف وظيفة الأم الأولية التي تكمن يف تقدمي‬ ‫الغذاء لأوالدها‪ ،‬يف ال�سعادة التي جتدها يف حت�ضري الطعام‪ ،‬يف ح�ضورها الدائم �إىل جانبهم‪ ،‬يف‬ ‫م�شاركتهم همومهم واهتماماتهم حتى بعد �أن �سافروا وباعدت امل�سافات بينهم‪ .‬وي�شكل ح�ضور‬ ‫مرمي يف حياتها‪ ،‬مرمي الفتاة اليتيمة التي حملها زوجها بعد �أن ق�ضى �أهلها حتت الق�صف‪ ،‬تتويجاً‬ ‫لتلك الأمومة التي تكر�س احلياة �سالحاً‪ .‬وقد يكون ح�س الأمومة املتالزم وحياة الراوية هو ما‬ ‫يبعد طيف اخليبة الذي غالباً ما يطغى على ف�ضاء الرواية العربية ب�شكل عام وعلى الرواية التي‬ ‫تتخذ من فل�سطني مو�ضوعاً وعنواناً ب�شكل خا�ص‪� .‬إذ �أن هذا ال�شعور متجدد بطبيعته‪ ،‬ال ين�ضب‪،‬‬ ‫فبعد الأوالد الأحفاد‪ .‬هكذا يتجلى م�شهد الوقوف عند ال�شريط احلدودي يف نهاية الرواية بو�صفه‬ ‫م�شهداً حمورياً‪� ،‬إذ حتمل رقية حفيدتها التي ينقلها �إليها ابنها من خلف ال�شريط وتعلق يف رقبتها‬ ‫مفتاح البيت يف الطنطورة‪.‬‬ ‫وقد ترتجم �أمومتها يف ن�شاطات ثانوية كاالهتمام بالزرع الذي ي�شبع توقها �إىل اخللق‪� ،‬إىل �إنتاج‬ ‫احلياة بعد �أن كرب �أوالدها وفقدت الوظيفة الأولية التي عا�شت لأجلها‪ .‬بعد تربية الأوالد‪ ،‬اعتنقت‬ ‫تربية ال�شتول لتن�شئ جنينتها‪ .‬وت�شري رقية �إىل �إعجابها بكلمة جنينة لأنها ت�صغري لكلمة جنة‪ ،‬ويف‬ ‫هذا داللة وا�ضحة �إىل االن�سجام بني احلياة الدنيوية والأبدية الذي يج�سده التقارب بني كلمتي‬ ‫جنينة وجنة‪ .‬الزراعة �أعطت معنى جديداً حلياتها بعد انق�ضاء مرحلة الأمومة الأولية‪ ،‬وكذلك‬ ‫فعل الق�ص الذي امت�شقته �سالحاً يف وجه املوت‪ ،‬موت الذاكرة الذي يهدد مبوت التاريخ‪ .‬وال‬ ‫�شك �أن فعل الق�ص ال ينف�صل عن حمور االمومة والأمومة تن�سجم والأر�ض واجتماع هذه املحاور‬ ‫تلخ�صه عبارة معربة تعلق فيها رقية على احلكايات التي ترويها العجائز يف املخيمات‪ :‬حني ت�ستمع‬ ‫�إليهن‪« ،‬الأر�ض تتكور كح�ضن‪�( ».‬ص‪)152‬‬ ‫تختار الراوية فعل الق�ص و�سيلة لل�صراع‪ ،‬وال�صراع هو ال�سبيل الأوحد للبقاء‪ ،‬للحفاظ على‬ ‫الذات والهوية‪�« .‬إذا نظرنا �إىل واحد من �أقدم النماذج الأدبية يف التاريخ‪ ،‬و�أق�صد بذلك ملحمة‬ ‫«جلجام�ش» و�أ�سطورة الطوفان التي تت�ضمنها‪ ،‬نرى �أن املنطق ال�صراعي كان حيوياً يف �إطار هاج�س‬ ‫‪107‬‬


‫الإن�سان ملواجهة عامل الفناء واملوت الذي �أخافه‪ ،‬وهذا ما يجعل ال�صراع فيها يدخل �ضمن ثنائية‬ ‫(الفناء‪/‬البقاء) وينتهي بعجز الإن�سان عن حتقيق البقاء املادي واالكتفاء بالبقاء يف وجدان املجتمع‬ ‫وا�ستمراريته التي �شكلت نوعاً من اخللود»‪.7‬‬ ‫تتوجه ق�صة الراوية �إىل «قارئ �ضمني» ممثل بجهتني‪ :‬وجدان املجتمع الذي يجب �أن يحافظ‬ ‫على الذاكرة حمافظته على وجوده وقارئ يجهل حقيقة ما ح�صل يف فل�سطني وللفل�سطينيني‬ ‫بعد خروجهم من �أر�ضهم فت�أتيه حكاية عائلة رقية بيومياتها و�أحزانها وافراحها ال�صغرية والكبرية‬ ‫ملتفة بالأحداث التاريخية على ل�سان امراة عادية تكتفي بالرواية وبعر�ض املتخيل والتاريخي‬ ‫من الأحداث‪ .‬تعر�ض الوقائع وترتك لقارئها ال�ضمني �أن يدرك املحركات ال�سيا�سية اخلفية التي‬ ‫تديرها‪.‬‬ ‫وقد يتجلى ال�صراع يف الرواية يف اخليار الأخري الذي �أخذه عبد‪ ،‬ابن رقية املحامي‪ ،‬الذي يعمل‬ ‫على م�شروع ملقا�ضاة �إ�سرائيل على اجلرائم التي ارتكبتها ويقنع �أخاه �صادق بتمويل م�شروعه‪.‬‬ ‫يت�ساءل القارئ �أمام خيارات ال�صراع هذه التي ت�أخذها الراوية وال�شخ�صيات الأخرى يف الرواية‬ ‫�إن كان خيار ال�صراع الع�سكري �أو ما يعرف باملقاومة امل�سلحة ملغى من تفكريها‪ .‬رمبا كان عدم‬ ‫انخراط ال�شخ�صيات يف الكفاح امل�سلح عائداً لكون الكاتبة مل ت�ش�أ �أن تقحمها يف االن�شقاق‬ ‫الذي رافق املقاومة الفل�سطينية‪ .‬لذلك اختارت �أن تخرب عن حترير اجلنوب وو�ضعت على ل�سان‬ ‫امر�أة عجوز يف البا�ص الذي كان يحمل الفل�سطينيني نحو ال�شريط احلدودي العبارة التالية‪« :‬اهلل‬ ‫يحمي ال�سيد ح�سن‪ .‬لواله ولوال املقاومة ما كان ب�إمكاننا �أن نط�أ هذه الأر�ض‪ .‬اثنني وع�شرين‬ ‫�سنة احتالل وراحوا بال رجعة» (�ص‪ )447‬وعلى الرغم من اعرتا�ض �أحد ال�شبان يف البا�ص على‬ ‫كالمها هذا بقوله �إن قائدهم هو �أبو عمار‪ ،‬ت�شكل ال�صورة املقدمة عن عر�س التحرير منارة تبعد‬ ‫ظالم الطريق عن الراوية‪.‬‬ ‫رموز اخلال�ص‬

‫احلكاية يف «الطنطورية» هي حكاية امر�أة عادية وعائلة فل�سطينية عادية ال يكاد يخرج يف تفا�صيلها‬ ‫�شيء عن امل�ألوف‪ ،‬فالكاتبة �سعت �إىل البناء على �أ�س�س ت�شبه تلك التي حتمل حيوات الأكرثية‬ ‫من �أبناء فل�سطني املُغَربني عن �أر�ضهم‪ .‬ولكن العمق يتك�شف �أمام القارئ يف الذكاء الذي مييز‬ ‫�أ�سلوب ال�سرد‪ ،‬كما يف ر�سائل خفية حتملها بع�ض الرموز يف الن�ص‪ .‬تلك الرموز تن�سج بني الالوعي‬ ‫الفردي واجلمعي وبني الن�ص عالقة تتبدى يف جمموعة من املفاهيم امل�ستقلة يف الظاهر املرتبطة‬ ‫يف العمق �ضمن منظومة حتمل عنوان الأمل‪ .‬منظومة الدالالت هذه تنقل احلكاية من جو امل�أ�ساة‬ ‫ ‬

‫‪7‬‬

‫‪108‬‬

‫ل�ؤي زيتوين‪« ،‬املنطق ال�صراعي يف الأدب احلديث»‪ ،‬دار فكر للأبحاث والن�شر‪� ،2011 ،‬ص ‪.7‬‬


‫الأدب املقاوم‬

‫الذي يطبع التاريخ الفل�سطيني �إىل جو يحمل يف حناياه بقعاً من ال�ضوء ت�صل عندما يربطها‬ ‫القارئ بع�ضها ببع�ضها الآخر �إىل �أفق من التفا�ؤل‪.‬‬ ‫نبد�أ من الرموز التي ت�شري �إىل احلكاية‪ ،‬تلك احلكاية التي حتملها الكاتبة مهمة اخلال�ص من متاهة‬ ‫الزمن وتبلبل الأفكار‪.‬‬ ‫‪ -1‬ال�صرة‪ :‬تقول رقية‪« :‬هل ميكن �أن ي�صر �شخ�ص ما حكايته يف منديل وميد به يده �إىل الآخرين‬ ‫قائ ًال‪ :‬هذه حكايتي‪ ،‬ن�صيبي من الدنيا؟ ثم كيف تنقل �صرة بحجم الكف �أو �صرة كبرية‬ ‫كتلك التي حتملها الن�سوة على ر�ؤو�سهن وهن ي�شردن �شرقاً عرب اجل�سر‪ ،‬حكاية عمر ب�أكمله‪،‬‬ ‫م�شتبك بطبيعة احلال مع �أعمار الآخرين؟» (�ص ‪ )85-84‬كما ت�شري الكاتبة يف موقع �آخر �إىل‬ ‫وقدمها �إىل رقية‪ .‬حتمل ال�صرة داللة الرتحال‪ ،‬في�صبح‬ ‫ال�صرة التي جمع فيها عبد حكايته ّ‬ ‫الراوي حكواتياً متنق ًال‪ ،‬يحمل حياته يف �صرة لينقذها مما يهددها‪ ،‬كم يجمل الفل�سطيني‬ ‫املبعد عن �أر�ضه حكايته التي تكون‪ ،‬يف بع�ض الأحيان‪ ،‬كل ما ميلك‪ .‬هكذا‪ ،‬تكون ال�صرة‬ ‫هي الرواية ال�شفوية �أو الن�ص وم�ضمون ال�صرة هو حكاية احلامل‪ .‬يف ال�صرة تربز �صورة الدائرة‬ ‫التي حتمل كل الإمكانات‪ ،‬وقد ترمز �إىل الكمال‪ .‬يف ال�سياق نف�سه‪ ،‬متثل الدائرة �صورة رحم‬ ‫الأم الذي عا�ش فيه اجلنني يف جو من الأمان ال ّ‬ ‫ينفك الإن�سان النا�ضج يبحث عنه‪.‬‬ ‫‪ -2‬املنجم‪ :‬وقد ت�شري الكاتبة �إىل احلكاية بو�صفها منجماً‪ ،‬عندها ي�صبح فعل الق�ص مرادفاً‬ ‫للغو�ص يف �أعماقه للتنقيب عن خفاياه‪« .‬منجم عجيب غريب يتعني عليك النزول �إليه مفرداً‬ ‫يك�سرها‬ ‫لأنه ال يخ�ص �سواك و�إن وجدت فيه ما يخ�صهم‪ .‬ثم �إنه قد ي�سقط فج�أة على ر�أ�سك‪ّ ،‬‬ ‫�أو يطمرك كام ًال بركامه‪�( ».‬ص‪ .)84‬يف رواية جرمينال لإميل زوال‪ ،‬يرمز املنجم �إىل اجلحيم‪،‬‬ ‫منطقة مظلمة حيث ي�سود املوت‪ ،‬وهي �أي�ضاً مكونة من ممرات مت�شعبة ومتداخلة حيث لكل‬ ‫عامل وظيفة حمددة‪ .‬يحول زوال املنجم �إىل وح�ش �ضار يبتلع الرجال‪ .‬واخلطر الذي ت�شري �إليه‬ ‫الكاتبة يف ما �سبق لي�س خطراً خارجياً‪� ،‬إذ �أن املنجم ميثل الالوعي الذي ي�سعى الراوي �إىل‬ ‫ا�ستك�شافه مع �إمكانية التو�صل �إىل ما ميكن �أن يهدم الهدوء املزيف الذي يعي�ش فيه والذي‬ ‫يخفي حتته عوامل مهددة لتما�سكه النف�سي‪ .‬ولكن يبقى على امل�ستك�شف �أن يتحدى هذا‬ ‫اخلطر ويغو�ص يف الأعماق لي�سربها ويتمكن من خالل بحثه العميق ور�ؤيته الوا�ضحة ملا يف‬ ‫داخله �أن يفهم ما ح�صل يف العامل اخلارجي‪ .‬يكتب فيكتور هيغو حول داللة النظر �إىل �أعماق‬ ‫بئر‪�« :‬إنه لأمر عجيب‪ ،‬على الإن�سان �أن ينظر �إىل اخلارج من خالل داخله هو‪».‬‬ ‫‪� -3‬أغاين القرية القدمية‪ :‬تنقلها الكاتبة حني ت�صف م�شاهد الأعرا�س يف الرواية وهي حتمل‬ ‫دالالت عديدة‪ .‬تلك الأغاين ال تكتفي ب�إعادة ال�شخ�صيات �إىل زمن القرية الفل�سطينية‬ ‫‪109‬‬


‫الهانئ‪ ،‬بل تتحول �سالحاً ي�شهره الفل�سطينيون يف وجه عدو �سوغ اغت�صابه الأر�ض بنفي‬ ‫احل�ضارة التي كانت قائمة عليها‪ .‬والأغاين الفلكلورية حتمل بعداً اجتماعياً ينقل ن�سق‬ ‫حياة املجتمع الذي ولدت فيه‪ ،‬العادات والتقاليد‪ ،‬النظرة �إىل احلياة‪ ،‬الإميان‪� ...‬إلخ‪ ،‬فهي‬ ‫تحُ َمل الن�ص مهمة حماية املا�ضي املهدد‪ .‬وغالباً ما تن�شد تلك الأغاين يف الأعرا�س‪ ،‬تلك‬ ‫االحتفاالت التي جت�سد �شغف الإن�سان باحلياة‪ ،‬والتي ما فتئ �أبناء �شعبنا يقيمونها يف ظل‬ ‫�أ�شد الظروف ق�ساوة‪ .‬من جهة �أخرى ارتبطت الأغاين باحل�س اجلمعي للمقاومة وال�صراع‪.‬‬ ‫هي �إذن رمز لل�صراع يف �سبيل �إنقاذ املا�ضي و�شد الهمم يف احلا�ضر‪.‬‬ ‫‪ -4‬ال�شجرة‪« :‬كل امر�أة �شجرة‪�( ».‬ص‪ )149‬تقولها رقية عن ن�ساء املخيم اللواتي ت�شبههن‬ ‫بال�شجرات التي كانت مزروعة قرب دورهن يف فل�سطني‪ .‬حتمل ال�شجرة يف خمتلف الثقافات‬ ‫داللتي التغذية واحلماية وهما داللتان ترتبطان �أي�ضاً ب�صورة الأم‪ ،‬لذلك جاءت اال�ستعارة‬ ‫لتلقي ال�ضوء على هذا التالقي‪ .‬وترمزال�شجرة �أي�ضاً �إىل العالقة بني الأر�ض وال�سماء‪ ،‬كما‬ ‫�أن ال�شكل العمودي يحمل معاين البطولة والتحدي‪ .‬هكذا ي�صبح «الوقوف مرادفاً لقيم‬ ‫‪9‬‬ ‫البطولة وال�صراع‪ 8».‬يكتب با�شالر �أن «الإن�سان كال�شجرة كائن تنت�صب فيه قوى خفية‪».‬‬ ‫وقد ارتبطت �صورة ال�شجرة‪ ،‬منذ الن�صو�ص ال�شفوية‪ ،‬ارتباطاً وثيقاً بثقافة اجلماعة‪ ،‬فجعلتها‬ ‫الأ�ساطري والق�ص�ص كما الن�صو�ص الدينية رمزاً �أ�سا�سياً‪ ،‬وكان لل�شجرة‪ ،‬يف بع�ض الأحيان‬ ‫طابع مقد�س‪ .‬لذلك يحمل ت�شبيه املر�أة الفل�سطينية بال�شجرة بعداً ثقافياً يجعل من املر�أة‬ ‫الرابط بني الأر�ض وال�سماء‪ ،‬وجت�سيداً لفكرة القيامة يف جتددها الدائم‪ .‬عرب رمز ال�شجرة‪،‬‬ ‫تنت�صر املر�أة الفل�سطينية على املوت وتعيد ربط �أبنائها باحلياة وب�أر�ضهم‪ ،‬كما تتغلب على �شعور‬ ‫اخلوف من الزمن الذي يعرب م�سرعاً‪ ،‬حام ًال معه �شبابها الذي يذوي وحياة �أهلها التي انطف�أت‬ ‫بعيداً عن الوطن‪ .‬الت�شبيه بال�شجرة يحمل يف طياته بعداً تفا�ؤلياً‪« ،‬فهذا الت�شبيه ب�شجرة معمرة‬ ‫ال يتمكن منها الزمن‪ ،‬ويرتافق حتولها بجاللة جذورها وبجمال �أزهارها»‪ 10‬مينح املر�أة قدرة‬ ‫االنت�صار على الزمن والتجدد الدائم‪.‬‬ ‫‪ -5‬البيت‪ :‬هو رمز مرتبط ب�صورة �أولية بالأمومة‪ ،‬هو مكان �شبيه برحم الأم حيث ينعم اجلنني‬ ‫بالأمان وحيث ي�ستح�صل على القوة ال�ضرورية للخروج �إىل العامل‪ .‬يف البيت متكنت رقية‪� ،‬إىل‬ ‫املهدد‪ ،‬وقد جنحت يف حتقيق ذلك على الرغم‬ ‫حد ما‪ ،‬من خلق م�ساحة حتمي عائلتها من اخلارج ِّ‬ ‫‪Pascal Galvani, L’eau, élément d’éco formation concrète et symbolique, www.barbier-rd.nom.fr/‬‬ ‫‪PGalvaniEauEcoformation.htm.‬‬ ‫‪9 Gastond Bachelard, L’Air et les Songes, José-Corti, 1943, p.237.‬‬ ‫‪10 Gilbert Durand, Les Structures anthropologiques de l’imaginaire, Dunod, 1984, p.396.‬‬

‫ ‪8‬‬

‫‪110‬‬


‫الأدب املقاوم‬

‫من تنقلها الدائم وعائلتها بني البيوت املختلفة ب�سبب التهجري‪ .‬ولكن تلك البيوت �ساهمت‬ ‫يف تكوين الأنا لل�شخ�صيات‪« .‬لي�س فقط لذكرياتنا‪ ،‬بل لن�سياننا �أي�ضاً م�سكن‪ .‬روحنا منزل‪،‬‬ ‫وعندما نتذكر البيوت والغرف‪ ،‬نتعلم �أن ن�سكن يف داخلنا‪� .‬صور البيت ت�سري يف اجتاهني‪:‬‬ ‫هي فينا كما نحن فيها»‪ .11‬ويرتبط البيت يف الرواية ب�صورة الطعام الذي تعده الأم والذي‬ ‫يدل‪ ،‬كما �سبق و�أ�شرنا‪� ،‬إىل وظيفة الأم الأولية التي تتمثل يف تقدمي الغذاء لأوالدها‪ ،‬كما‬ ‫يرتبط ب�صورة غالية القهوة (البكرج) وهي �ش�أن ثقايف يرمز �إىل االجتماع واحلوار العائليني‪.‬‬ ‫عا�شت رقية يف بيوت عدة‪ ،‬منها ما �أحبتها‪ ،‬كبيتها يف الطنطورة‪ ،‬ومنها ما �سعت �إىل تروي�ضها‬ ‫و�إ�ضفاء مل�سة خا�صة عليها‪ ،‬كالبيت يف �أبو ظبي حيث بقيت غريبة فهربت منه �إىل وظيفة تعيد‬ ‫ربطها مع داخلها وهي حياكة ال�صوف‪ ،‬والبيت يف الإ�سكندرية الذي حولته �إىل جمموعة‬ ‫من «اجلنينات»‪ ،‬حتى و�صلت �إىل البيت الأخري‪� ،‬أو «البيت ال�سابع»‪ .‬يف هذا البيت‪ ،‬نراها‬ ‫يف بداية الرواية‪ ،‬يف زمن ال�سرد احلا�ضر‪ ،‬تنتظر عودة ال�صيف لت�ستقبل الأوالد والأحفاد‬ ‫العائدين من اغرتابهم لي�ستظلوا‪ ،‬ولو ملدة زمنية ق�صرية اجلو العائلي احلميم‪ .‬كما نراها‪ ،‬يف‬ ‫نهاية الرواية‪ ،‬عند عودتها �إىل زمن قريب من زمن الق�ص‪ ،‬عندما خريها الأوالد بني �أماكن‬ ‫�سكنهم يف بلدان خمتلفة‪ ،‬وقد اختارت العودة �إىل �صيدا‪« .‬البيت ال�سابع �سيكون هناك يف‬ ‫�صيدا‪ .‬عند الباب‪� .‬أحب الرقم �سبعة‪ .‬لعله الأخري‪�( ».‬ص‪ )428‬هكذا ت�ضاف �إىل رمزية البيت‬ ‫رمزية الرقم �سبعة الذي ي�شري يف �أكرث الثقافات �إىل التكامل (عدد �أيام الأ�سبوع‪ ،‬الدورات‬ ‫حول الكعبة املقد�سة‪ ،‬خلق العامل يف �ستة �أيام واليوم ال�سابع للراحة‪ ،‬ال�سموات ال�سبع‪...‬‬ ‫�إلخ) ت�ستقر رقية يف البيت الذي تقول �إنه �سيكون الأخري عند بوابة فل�سطني‪ ،‬تقرتب قدر‬ ‫الإمكان من بيتها الأول‪ ،‬تق�صر امل�سافة بينها وبينه‪ ،‬فتكتمل حياتها ببنيان داخلي �شيدته‬ ‫لتعو�ض اخلراب وال�ضياع اخلارجيني‪� .‬إن مل تتمكن‪ ،‬لظروف خارجة عن �إرادتها‪ ،‬من العودة‬ ‫�إىل الوطن املغت�صب‪ ،‬فقد جنحت يف ابتداع وطن بديل داخل جدران دافئة‪ ،‬جمعت �أفراد‬ ‫عائلة متفاهمني على تناق�ضاتهم‪ ،‬ويحملون‪ ،‬متث ًال بالأم‪ ،‬فل�سطني يف قلبهم وفكرهم‪ .‬وترتبط‬ ‫�صورة البيت الفل�سطيني ب�صورة املفتاح‪ .‬ويح�ضر الرقم �سبعة لي�صبغ املفتاح بطابع مقد�س‬ ‫�إذ �أن �أم رقية �أدارته �سبع مرات يف قفل باب بيتهم يف الطنطورة قبل �أن يغادروا مطاردين‬ ‫من الع�صابات اليهودية‪ .‬ي�صبح املفتاح �إذن رمزاً حلقهم يف ملكية البيت‪ ،‬حقاً مقد�ساً‪ ،‬لذلك‬ ‫حملته �أم رقية ومن ثم رقية نف�سها‪ ،‬كما �أكرث ن�ساء املخيم معلقاً يف حبل ال ينزعنه عنهن �أبداً‬ ‫ويالزمهن حتى مماتهن‪ .‬بعدها ينتقل �إىل �أعناق الأبناء‪ ،‬كما تنتقل ملكية البيوت والعهد‬ ‫بالعودة �إليها‪.‬‬

‫‪11 Gaston Bachelard, La Poétique de l’Espace, Ed. José-Corti, p.19.‬‬

‫‪111‬‬


‫‪ -6‬البحر‪ :‬هو‪ ،‬يف الرواية‪ ،‬مرادف للوطن‪ .‬فكما يقول با�شالر‪�« ،‬إن الوطن قد يكون مادة �أكرث‬ ‫منه م�ساحة‪ .‬هو �صخرة غرانيت �أو �أر�ض‪ ،‬هواء �أو جفاف‪ ،‬ماء �أو �ضوء‪ 12»...‬تكر�س له الراوية‬ ‫الف�صل الأول الذي يحمل عنوان «طرح البحر»‪ ،‬فتخرب فيه عن يحيى‪ ،‬حبيبها الأول الذي‬ ‫خرج من الأمواج‪ ،‬كما ت�صف حياة الطنطورة التي ي�شكل البحر عمادها‪ .‬يرافق البحر مظاهر‬ ‫احلياة االجتماعية‪ ،‬فالعر�س «يفرت�ش �شاطئ البحر»‪ ،‬وبو�ساطة الت�شخي�ص يتحول البحر �إىل‬ ‫م�شارك يف مظاهر الفرح «ورمبا يكون البحر مثلنا م�أخوذاً بالفرجة فين�سى نف�سه وي�ستكني»‪.‬‬ ‫(�ص‪ )11‬هو مطرح اللعب الأول‪ ،‬و�أبناء الطنطورة يتعلمون ال�سباحة كما يتعلمون امل�شي‬ ‫والكالم‪ .‬فيما بعد �ستبحث عنه رقية يف كل املدن التي �ستعي�ش فيها ولكنه �سيبقى غريباً‬ ‫�إذ �سيف�صلها عنه �سياج �أو هوة و�ست�أتي �إليه ك�سائحة �أو زائرة ولن يكون‪ ،‬كما يف الطنطورة‪،‬‬ ‫فردو�سها املفقود‪ ،‬جزءاً من حياتها اليومية‪ ،‬واحداً من �أهل البلد‪ .‬ال يكاد ف�صل يف الرواية‬ ‫يخلو من ذكر البحر فالراوية تلج�أ �إليه كلما �ضاقت بها الدنيا‪ ،‬تبحث فيه عن جت�سيد للتاريخ‬ ‫الهارب وللجغرافيا املغت�صبة‪ .‬وللبحر دالالت عميقة يف النف�س التي تتوق �إليه‪ ،‬فهو «يرمز‬ ‫�إىل حيوية احلياة واملوت‪ .‬مكان للوالدات‪ ،‬للتحوالت‪ ،‬للقيامات‪ ،‬وهو ي�شكل حالة و�سطية‬ ‫بني الوقائع املعا�شة وبني العوامل املحتملة‪ .‬ويف مفهوم الأ�ساطري التقليدية‪ ،‬ترتبط رمزية البحر‬ ‫باملياه الأ�صلية التي تتمتع بامليزة الإلهية التي متنح وت�أخذ احلياة»‪ .13‬من �صورة البحر ننتقل‬ ‫�إىل �صورة املاء التي ت�شكل عن�صراً �أ�سا�سياً من العنا�صر الكونية‪ .‬يف الطنطورة «بئر من املاء‬ ‫العذب م�ستقرة بني �أمواج املالح» (�ص‪ )10‬وحتمل هذه البئر رمزية الأمومة الرتباطها بالعذوبة‬ ‫وبالأعماق التي تولد منها املياه حاملة احلياة‪ .‬وتبقى ذاكرة الراوية معلقة بتلك ال�صورة‪�« .‬أن‬ ‫حتب �صورة ما يعني �أن جتد‪ ،‬من دون �أن تعي ذلك‪ ،‬ا�ستعارة جديدة حلب قدمي»‪ .14‬ذلك احلب‬ ‫القدمي هو الأر�ض التي غادرتها وما فتئت تتوق �إىل لقياها‪ .‬بني الأر�ض والأمومة �صلة تظهرها‬ ‫�صورة املاء‪ .‬وتتجلى تلك العالقة بينهما عرب �صورة املاء يف م�شهد التحرير الذي تراقبه رقية‬ ‫عرب �شا�شة التلفاز‪ .‬ت�شبه �شعورها لدى ر�ؤيتها مل�شهد ا�ستعادة الأر�ض من املحتل ب�شعورها يف‬ ‫�أثناء الوالدة‪« :‬كنظرة عينيك حني مي�سك �أحدهم بوليد انزلق للتو منك» وبنبع من املاء‪« :‬نبع‪،‬‬ ‫يف مكان غام�ض من اجل�سم �أو الروح �أو الأر�ض‪ ،‬كذلك النبع يف الكهف القبلي �شرق البلد»‪.‬‬ ‫(�ص‪ )426‬يعيد �إليها التحرير الزمن املفقود فت�ستعيد ذاكرتها �صورة النبع يف الطنطورة‪ ،‬يعيد‬ ‫�إليها الزمان مانحاً الأمل با�ستعادة املكان‪.‬‬

‫‪12 Gastond Bachelard, L’eau et les rêves, Ed. José-Corti, 1963, p.11-12.‬‬ ‫‪13 Jean Chevalier et Alain Gheerbrant, Dictionnaire des symboles: mythes, rêves, coutumes, gestes,‬‬ ‫‪formes, figures, couleurs, nombres, ed. Pierre Laffont, 1997, p 219.‬‬ ‫‪14 Gastond Bachelard, L’Eau et les Rêves, p.57.‬‬

‫‪112‬‬


‫الأدب املقاوم‬

‫اخلامتة‬

‫«كيف يحتمل كتاب �صغري �أو كبري �آالف اجلثث‪ .‬قدر الدم‪ .‬كم الأنقا�ض‪ .‬الفزع‪ .‬رك�ضنا طلباً‬ ‫للحياة ونحن نتمنى املوت‪».‬‬ ‫وقفت رقية مت�سائلة �أمام الرواية التي طلب منها ابنها �أن تكتبها‪ ،‬خائفة من املحتوى الذي �ستنقله‬ ‫والذي حمل �أهوا ًال مل يعرفها �شعب يف التاريخ احلديث‪ .‬ولكنها تنجح يف النهاية‪ ،‬لي�س فقط يف‬ ‫التغلب على اخلوف بل يف التغلب على املوت عرب ممار�ستها لفعل الق�ص الذي ي�سرب الأعماق‬ ‫ويخرج الذكريات �إىل امللأ وي�ستبعد الن�سيان الذي ي�شكل اخلطر احلقيقي على الفل�سطينيني‪،‬‬ ‫فكانت �صراعية الرواية قائمة على ثنائية التذكر والن�سيان‪ .‬كما جنحت يف ا�ستح�ضار رموز احلياة‬ ‫والأمومة على الورق مبعدة �أ�شباح احلرب واغت�صاب الأر�ض‪ .‬عندها‪ ،‬مل يعد الوطن عنوان امل�أ�ساة‬ ‫التي ال حل لها‪ ،‬بل �أ�صبح عنواناً لفرح املا�ضي امل�ستعاد وللأمل مب�ستقبل يحمل القيامة‪.‬‬

‫‪113‬‬



‫الأدب املقاوم‬

‫البعد املقاوم يف رواية «�أر�ض و�سماء»‬

‫قراء ٌة جديد ٌة لل ّتاريخ وللحا�رض‬ ‫مقاربة مو�ضوعات ّية للف�ضاء يف رواية «�أر�ض و�سماء» ل�سحر خليفة‬ ‫ل�ؤي زيتوين ‪ -‬باحث و�أكادميي‬

‫بال�صراع يف مواجهة ّ‬ ‫املحتل‪ ،‬من �أبرز املحاور التي ي ّت�سم بها الأدب‬ ‫ّ‬ ‫تعد م�س�ألة الهوية وااللتزام ّ‬ ‫مبدع و�آخر‪ّ ،‬‬ ‫ولعل القدرة التي ّمتكنه‬ ‫الفل�سطيني‪� ،‬إ ّال �أنّ عمل ّية طرح هذه اجلوانب تختلف بني ٍ‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫والفن هي التي تربز الفرادة التي يتم ّتع بها‬ ‫والكون‬ ‫احلياة‬ ‫إىل‬ ‫�‬ ‫ة‬ ‫فريد‬ ‫ؤية‬ ‫�‬ ‫بر‬ ‫امل�سائل‬ ‫هذه‬ ‫من �شبك‬ ‫ّ‬ ‫وائي ميتلك خ�صو�ص ّي ًة وا�ضح ًة يف هذا الإطار‪،‬‬ ‫أدبي مهما كان جن�سه‪ّ .‬‬ ‫لكن العمل ال ّر ّ‬ ‫العمل ال ّ‬ ‫نظراً لكونه يعتمد �آل ّيات تق ّرب القارئ من ال ّر�ؤية التي ينطلق منها الكاتب‪ ،‬كما �أ ّنه الأقدر على‬ ‫الو�صول �إىل خم ّيلة املتلقّي ب�أ�سرع ّ‬ ‫الطرق‪ .‬ولذلك ف�إنّ ال ّتعامل مع هذا ال ّنوع من الأعمال ال ّبد �أن‬ ‫الدقّة تت ّبع العمل والق�ض ّية‬ ‫أهم ّية العمل املدرو�س‪ ،‬وهذا ي�ستح�ضر ّ‬ ‫ي ّت�سم ّ‬ ‫بالدقة ليكون على قدر � ّ‬ ‫التي يطرحها‪ .‬وا�ستناداً �إىل ذلك وقع اختياري على ٍ‬ ‫ريادي ا�ستطاع �أن يفر�ض‬ ‫�صوت‬ ‫فل�سطيني ٍّ‬ ‫ٍّ‬ ‫العربي‪� ،‬إن مل نقل �أبعد‪ ،‬ال �س ّيما بو�صفه �صوتاً �أنثو ّياً‬ ‫نف�سه يف احلياة الأدب ّية على م�ستوى العامل ّ‬ ‫يخرج من عباءة ال ّر�ؤية الباباو ّية‪ ،‬ويدخل يف عمل ّية ٍ‬ ‫نقد لل ّتاريخ واحلا�ضر معاً‪ ،‬وهو �صوت الكاتبة‬ ‫�سحر خليفة يف روايتها ال�صادرة يف العام الفائت حتت عنوان «�أر�ض و�سماء»‪.‬‬ ‫وال ّرواية جزء من ثالث ّي ٍة روائ ّي ٍة تتناول مفا�صل رئي�سة من حياة الأ ّمة‪ ،‬وتعمل على �أبراز ٍ‬ ‫ثالث من‬ ‫�ضد االحتالل والف�ساد‪ .‬وقد كان ن�صيب هذا اجلزء الكالم عن جتربة‬ ‫حماوالت ال ّتح ّرر والثّورة ّ‬ ‫ال�سائدة فيه‬ ‫�أنطون �سعادة يف �سعيه لتوحيد الأ ّمة وتخلي�صها من عوامل ال ّتخ ّلف والأفكار ال ّرجع ّية ّ‬ ‫ال�ضوء على‬ ‫عرب‬ ‫ؤيوي كامل‪ ،‬وارتباط امل�س�ألة الفل�سطين ّية بهذا امل�شروع‪ .‬و�إلقاء ّ‬ ‫ري ر� ٍّ‬ ‫م�شروع حت ّر ٍّ‬ ‫ٍ‬ ‫�ضد االحتالل‬ ‫ال�صراع ّ‬ ‫هذه ال ّتجربة جاء بال ّتوازي مع ح�ضور م�سار احلا�ضر الذي يكمن فيه تط ّور ّ‬ ‫جديد ي�ؤمن ٍّ‬ ‫جيل ٍ‬ ‫مبني على الكثري من مبادئ �سعادة‬ ‫بخط‬ ‫ال‬ ‫إ�سرائيلي‪ ،‬وبروز ٍ‬ ‫�صراعي جديد ٍّ‬ ‫ٍّ‬ ‫ّ‬ ‫ال�سعي نحو بناء ٍ‬ ‫غد‬ ‫نف�سها‪� ،‬إ�ضاف ًة �إىل كونه يفيد من الأخطاء التي وقعت يف املا�ضي من �أجل ّ‬ ‫لوطن ما زال الق ّيمون عليه يعبثون مب�صريه‪ .‬مع الإ�شارة �إىل �أنّ الثالث ّية كانت قد انطلقت‬ ‫خمتلف ٍ‬ ‫مع روايتي «�أ�صل وف�صل» و«ح ّبي الأ ّول» ال ّلتني طرحتا ّ‬ ‫الظروف التي �أحاطت مب�شروعني حت ّرريني‬ ‫اجلزائري‪ ،‬وخليفة تعمل على البحث‬ ‫الق�سام وثورة عبد القادر‬ ‫�آخرين متثّال بحركة عز ّ‬ ‫ّ‬ ‫الدين ّ‬ ‫يف الأ�سباب العمل ّية التي �أ ّدت �إىل �ضعف احلظوظ يف جناح ّ‬ ‫كل جترب ٍة منها‪ ،‬و�إىل �إبراز العوامل‬ ‫‪115‬‬


‫ّ‬ ‫ال�ضوء على الكثري من اجلوانب املجهولة عن تلك ال�شّ خ�ص ّية‬ ‫الذاتية واملو�ضوع ّية يف ف�شلها‪ ،‬ملقي ًة ّ‬ ‫ال ّتار ّيخ ّية �أو تلك‪.‬‬ ‫�شعرية املخزون ال ّداليلّ‪:‬‬ ‫�سيمائية العنوان ‪/‬‬ ‫‪-I‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫إيحاء وا�ضحاً حول امل�ضمون الذي تدور حوله‪ ،‬فهما‬ ‫قد ال يعطينا عنوان رواية «�أر�ض و�سماء» � ً‬ ‫تقدمه من معنى‪ ،‬خ�صو�صاً مع ا�ستعمالهما يف حال ال ّتنكري‪.‬‬ ‫لفظتان تبدوان �ضباب ّيتني من حيث ما ّ‬ ‫«ال�ضباب ّية» قد ُي َنظر �إليها بو�صفها ميز ًة ت�ضفي على ال ّرواية وجهاً من وجوه مت ّيزها الف ّن ّي‪،‬‬ ‫لكن هذه ّ‬ ‫ّ‬ ‫أر�ض تلك؟ و� ّأي‬ ‫وذلك انطالقاً من ا ّت�ساع ح ّيز ال ّت�سا�ؤالت الذي تبعثه يف ذات املتلقّي‪ .‬ف� ّأي � ٍ‬ ‫عما هو يف متناول احلوا�س‪ ،‬من‬ ‫�سماء؟ ففي املعنى املبا�شر لهاتني ال ّلفظتني‪ ،‬تبدو الأوىل معبرّ ة ّ‬ ‫وعما‬ ‫عما ميثّل العل ّو واالرتقاء‪ّ ،‬‬ ‫وعما تقوم عليه احلياة من ناحي ٍة �أخرى‪� .‬أ ّما الثّانية فتعبرّ ّ‬ ‫ناحية‪ّ ،‬‬ ‫يرتبط لدى الإن�سان باجلانب املتخ ّيل واالعتقادي‪.‬‬ ‫ال�س�ؤال‪ :‬ما مدى ارتباطهما �أو تناق�ضهما؟ باال�ستناد �إىل داللتيهما ال ّلتني‬ ‫بناء على ذلك‪ ،‬يجوز ّ‬ ‫ً‬ ‫أنّ‬ ‫الدين ّية‬ ‫املعتقدات‬ ‫يف‬ ‫ت�شري‬ ‫أر�ض‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫�‬ ‫نالحظ‬ ‫أن‬ ‫�‬ ‫ميكننا‬ ‫أخرى‪،‬‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫الواحدة‬ ‫مناق�ضة‬ ‫تفيدان‬ ‫ّ‬ ‫الدنيا‪ ،‬يف حني �أنّ الأخرى ّ‬ ‫تدل على املو�ضع الذي يوحي‬ ‫ال�سائدة �إىل املو�ضع املرتبط باحلياة ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أنّ‬ ‫البديهي بني املدلولني يف طبيعة حياة االن�سان‪،‬‬ ‫بط‬ ‫ر‬ ‫ال‬ ‫تربزان‬ ‫فظتني‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫�‬ ‫كما‬ ‫أخرى‪.‬‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫باحلياة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وال�سماء عبار ًة عن‬ ‫وهو الأمر الذي تط ّور مع تعاقب احل�ضارات القدمية التي جعلت من الأر�ض ّ‬ ‫زوجني �إله ّيني تتو ّلد احلياة من خالل تزاوجهما‪� ،‬أي �أنّ عمل ّية ال ّتزاوج املتمثّلة بهبوط املطر هي‬ ‫التي متنح احلياة‪.‬‬ ‫�إ�ضاف ًة �إىل ذلك‪ُ ،‬تظهر م�س�ألة الترّ تيب الذي ترد فيه عنا�صر العنوان �إ�شار ًة دالل ّي ًة وا�ضحة‪ ،‬فلفظة‬ ‫أهمية الأوىل على الثانية‪ ،‬وهذا ما يعيدنا‬ ‫ال�سماء‪ ،‬وقد يكون يف ذلك �إبراز ل ّ‬ ‫الأر�ض �سبقت لفظة ّ‬ ‫�إىل مفاهيم احل�ضارة الكنعان ّية التي �أعطت عمل ّية االرتباط بالأر�ض الأولو ّية يف حياة الإن�سان‪،‬‬ ‫وهو الأمر الذي كان ّ‬ ‫حمط انتقاد ال�شّ عوب الأخرى‪� ،‬إذ و�صف الإغريق هذا الفعل بـ «الإثم‬ ‫ين»‪ ،‬لأن فيه ابتعاداً عن ا ّتباع الآلهة ومع�صية لهم‪.‬‬ ‫الكنعا ّ‬ ‫�أ ّما عن �سبب ح�ضور ال ّلفظتني ب�صيغة ال ّتنكري‪ ،‬فقد يكون من باب الإ�شارة �إىل مكانٍ معينّ ما‬ ‫تزال حقيقته جمهولة‪� ،‬أو ّمت �إهماله بحيث بات بعيداً عن الوعي بحقيقته‪ ،‬وال ّبد من ح�ضور‬ ‫ال�سماء‪ .‬وعلى هذا الأ�سا�س يربز‬ ‫العقل الواعي من �أجل الو�صول �إىل حقيقة هذه الأر�ض وتلك ّ‬ ‫عن�صر ال ّت�شويق بق ّو ٍة يف العنوان ّ‬ ‫لي�شكل �إطاراً حتري�ض ّياً للقارئ من �أجل ال ّتع ّرف على حقيقة تلك‬ ‫ال�سماء‪ ،‬والك�شف عن طبيعتهما املتكاملة �أو املتناق�ضة‪.‬‬ ‫الأر�ض وتلك ّ‬ ‫‪116‬‬


‫الأدب املقاوم‬

‫مني‪-‬املكاينّ‪:‬‬ ‫‪-II‬‬ ‫ّ‬ ‫حيوية ال ّتداخل ال ّز ّ‬

‫انطالقاً من عنوان ال ّرواية‪ ،‬نالحظ �أنّ املكان ي�ؤ ّدي دوراً حمور ّياً يف امل�ضمون العام‪ ،‬فهو يعطينا‬ ‫ينم عن كون ال ّرواية تلقي‬ ‫�إ�شار ًة �إىل ح ّي ٍز مكا ٍّ‬ ‫ين ذي طبيع ٍة جمهولة (�أر�ض و�سماء)‪ ،‬الأمر الذي ّ‬ ‫خا�ص ًة نحوه‪� .‬إ ّال �أنّ اخلو�ض يف ال ّرواية يبينّ لنا تن ّوع م�سارح‬ ‫�ضوءاً على هذا احل ّيز ّ‬ ‫لتقدم لنا نظر ًة ّ‬ ‫ين‪.‬‬ ‫الأحداث‪ ،‬ما قد يبدو نفياً حل�صر ّية احل ّيز املكا ّ‬ ‫املفتاحي‪:‬‬ ‫‪ .1‬املكان‬ ‫ّ‬

‫جند بداء ًة مدينة نابل�س الفل�سطين ّية التي ّ‬ ‫�شكلت املكان الأ ّول الذي تنطلق منه الأحداث‪ ،‬والذي‬ ‫ال�سابقتني‪:‬‬ ‫مت ّتع ب� ّ‬ ‫أهم ّي ٍة حمور ّي ٍة‪ ،‬نظراً �إىل �أ ّنها عملت على ربط ال ّرواية التي بني �أيدينا بال ّروايتني ّ‬ ‫«�أ�صل وف�صل» و«ح ّبي الأ ّول»‪ ،‬لت�ستكمل الثّالث ّية ال ّتاريخ ّية يف �أدب الكاتبة‪ .‬على �أ ّنه مل يكن‬ ‫مكاناً هام�ش ّياً‪ ،‬بل دخل بو�صفه عام ًال يف تطوير ٍ‬ ‫روائي متع ّلق بال ّراوية الأوىل «ن�ضال» ومن‬ ‫خيط ٍّ‬ ‫يحيط بها من �شخ�صيات‪ ،‬وب�أجواء االحتالل التي تعاين منها هي و�أقرانها‪ .‬ففي منزلها بنابل�س‬ ‫كانت ن�ضال قد ا�ستقبلت ح ّبها الأ ّول «ربيع» بعد زمن طويل من الفراق‪ ،‬وبعد �أن ذهب �إىل كندا‬ ‫ال�س ّن‪ ،‬بحيث وجد ربيع يف ا�ستعادة حبيبته القدمية‬ ‫وبنى حياته وثروته هناك‪ ،‬وبعد �أن ّ‬ ‫تقدما يف ّ‬ ‫ّ‬ ‫والذكريات التي كانت عا�شها معها ومع خالها ملج�أ لل ّتنفي�س غري املبا�شر عن ما ارتكبه من �أخطاء‪.‬‬ ‫لكن هذا املكان مل ّ‬ ‫ي�شكل حا�ضناً حياد ّياً بل عمل على ت�سيري الأحداث التي تدور يف حا�ضر‬ ‫ّ‬ ‫ال�سرد‪� ،‬إذ �أنّ املالحظة الأوىل تتج ّلى يف حاليَ احل�صار واخلوف اللتني �أجربتا ربيع على متديد‬ ‫ّ‬ ‫‪1‬‬ ‫وائي العام الذي ّ‬ ‫ي�شكل املح ّر�ض للأحداث‬ ‫�إقامته لديها ‪ ،‬وهذا ما �أتاح للرواية ب�إطالق اخليط ال ّر ّ‬ ‫وال ّرابط لها يف �آنٍ واحد‪ ،‬والذي متثّل يف �إمكان ّية ح�ضور الأمل بعد ّ‬ ‫كل ما ر�أته وعانته بو�صفه امر�أة‬ ‫‪2‬‬ ‫ظل لنا �أمل يف �شيء؟ هل ّ‬ ‫بالدرجة الأوىل‪« :‬قلت لنف�سي هل ّ‬ ‫ظل لنا �أمل يف غد؟‪»...‬‬ ‫فل�سطين ّية ّ‬ ‫وهذا ما ّ‬ ‫�شكل �إ�شار ًة مفتاح ّي ًة يف ال ّرواية ومتهيداً ملا �ستو�صلنا �إليه الأحداث يف ال ّنهاية‪.‬‬ ‫�إ�ضاف ًة �إىل ذلك‪ ،‬فتح هذا املكان الباب للعبور �إىل �أمكن ٍة �أخرى تتع ّلق بذكريات «ربيع» و«�أمني»‪.‬‬ ‫ال�سياق‪ ،‬نالحظ �أنّ هذا املكان ك ّون ال ّزمن احلا�ضر الذي تنطلق منه الأحداث وتنتهي به‪.‬‬ ‫يف هذا ّ‬ ‫فهو ال ّزمن املرتبط مبا تعانيه الأرا�ضي املحت ّلة‪ ،‬يف الوقت الذي تدور فيه �أحداث العامل العربي حتت‬ ‫ي�سمى بـ «الربيع العربي» الذي ت�ص ّرح ال ّراوية �أنّ ال�شّ عب‬ ‫الفل�سطيني مل ينله �شيء منه‪.3‬‬ ‫عنوان ما ّ‬ ‫ّ‬ ‫العربي» واحل�صار‬ ‫وبال ّتايل ف�إنّ امل�سرح الأ ّول املتمثّل يف مبنزل «ن�ضال» يف نابل�س يف زمن «ال ّربيع ّ‬ ‫ ‬ ‫‪ 2‬‬ ‫‪ 3‬‬ ‫‪1‬‬

‫�سحر خليفة‪� :‬أر�ض و�سماء‪ .‬بريوت‪ ،‬دار الآداب‪ّ ،‬‬ ‫الطبعة الأوىل‪� ،2013 ،‬ص‪.8‬‬ ‫ال�صفحة نف�سها‪.‬‬ ‫املرجع نف�سه‪ّ ،‬‬ ‫املرجع نف�سه‪� ،‬ص‪ 12‬و�ص‪.16‬‬ ‫‪117‬‬


‫إ�سرائيلي ّ‬ ‫�شكل احلا�ضن الذي انبثقت منه الأحداث بخطوطها املت�ش ّعبة‪.‬‬ ‫ال‬ ‫ّ‬ ‫ال�سياق‪ ،‬ال ّبد من االلتفات �إىل رمزية احل�ضور داخل منزلها يف تلك املدينة‪ ،‬لأنّ هذا‬ ‫ويف هذا ّ‬ ‫ب�شكل غري مبا�شر‪ ،‬لذا ي�صبح التهديد‬ ‫احل�ضور يربز طبيعة احل�صار القائم على الأرا�ضي املحت ّلة ٍ‬ ‫الذي يع�شيه ذلك امل�سرح ال�ض ّيق حا ًال عا ّم ًة للأر�ض املحت ّلة بكاملها‪ .‬كما تتح ّول ّ‬ ‫ال�صدر ّية‬ ‫الذبحة ّ‬ ‫التي �أ�صيب بها ربيع داخل هذا املنزل وذاك احل�صار يف ظل ما ُيع َرف بال ّربيع‪� ،‬إ�شار ًة رمز ّي ًة وا�ضح ًة‬ ‫املتعمد‪ ،‬وهو‬ ‫�إىل �أنّ التهديد يطال وجود الإن�سان‬ ‫الفل�سطيني بتعميق �آالمه من ّ‬ ‫الداخل وبتجالها ّ‬ ‫ّ‬ ‫إيحائي الذي �أقامته ال ّراوية بني ال ّربيع املفرت�ض واخلريف الذي‬ ‫ما ميكن �أن نفهمه من ال ّربط ال ّ‬ ‫«ا�صح يا ربيع‪ ،‬بد�أنا نخ ّرف‪ ،‬ربيع العرب مل ي�صل‬ ‫ال�سواء‪َ :‬‬ ‫و�صال �إليه يف حياتهما وعالقتهما على ّ‬ ‫الدنيا خريف!»‪.4‬‬ ‫هنا‪ ،‬يف هذا احل�صار‪ّ ،‬‬ ‫ال�سياق �إىل �أنّ هذا املكان �أي�ضاً‪ ،‬بو�صفه م�سرحاً مفتاح ّياً النطالق‬ ‫وال ّبد من الإ�شارة يف هذا ّ‬ ‫الأحداث‪ ،‬هو الذي ع ّرف القارئ على �شخ�ص ّيات ال ّرواية املحور ّية منها �أو امل�ساعدة‪ .‬ف�إىل جانب‬ ‫ال�سابقة‪،‬‬ ‫�شخ�ص ّيات ن�ضال وربيع ويا�سمني و�سعد التي انطلق احلديث عنها منذ �أحداث ال ّرواية ّ‬ ‫يتم ذكر �أمني بو�صفه والداً لالرا وخا ًال‬ ‫جند ح�ضوراً لأبي يحيى والرا داخل املنزل املذكور‪ ،‬كما ّ‬ ‫ال�ض ّيق ّ‬ ‫�شكل الإطار الذي يطلق‬ ‫لن�ضال‪ ...‬وهذا احل�ضور لتلك ال�شّ خ�ص ّيات �ضمن امل�سرح ّ‬ ‫ال�سرد املتزامن مع احلا�ضر على ل�سان ن�ضال‪ ،‬وتار ًة �أخرى‬ ‫ال�سرد املت�ش ّعبة‪ ،‬تار ًة من خالل ّ‬ ‫خيوط ّ‬ ‫اخلا�صة ب�أمني عن ل�سانه �أو عن ل�سان‬ ‫ال�سرد‬ ‫اال�سرتجاعي من خالل الأوراق وال ّر�سائل ّ‬ ‫من خالل ّ‬ ‫ّ‬ ‫ليزا حبيبته‪� ،‬أو من خالل ذكريات ربيع �أي�ضاً‪.‬‬ ‫وهنا ال ّبد من �أن نذكر �أن منزل ن�ضال ّ‬ ‫�شكل احلا�ضن لأوراق �أمني وال ّر�سائل التي تبادلها مع ليزا‪،‬‬ ‫أهم ّية البحث عن حقيقة ّ‬ ‫يقدمه ال ّتاريخ واجلذور‬ ‫الذات يف ما ّ‬ ‫وهذا ما يوحي ب�إ�شار ٍة رمز ّي ٍة تبينّ � ّ‬ ‫بحد‬ ‫يعد ّ‬ ‫الثّقاف ّية للأ ّمة‪� .‬إذ �أنّ جت ّند �شخ�ص ّيات ال ّرواية من �أجل البحث عن ذكريات �أمني وتاريخه ّ‬ ‫يتم‬ ‫ال�سطح بل ما ّ‬ ‫ذاته �إ�شارة ٍ‬ ‫قومي‪ ،‬باعتبار �أنّ ال ّتاريخ لي�س ما يظهر للعيان �أو على ّ‬ ‫وعي ثقا ٍّيف ّ‬ ‫وبناء عليه‪ ،‬ت�صبح الأر�ض هي احلقيقة‪� ،‬سوا ٌء �أكانت �أر�ض نابل�س‪� ،‬أو �أر�ض‬ ‫العثور عليه يف العمق‪ً .‬‬ ‫فل�سطني‪� ،‬أو �أبعد من ذلك‪.‬‬ ‫‪ .2‬املكان بو�صفه عن�رص ك�شف‪:‬‬

‫على �أنّ منزل ن�ضال ومدينة نابل�س مل ي�ستق ّرا بو�صفهما املو�ضع الذي يحت�ضن الأحداث‪ ،‬فم�سار‬ ‫إ�سرائيلي‪ ،‬وان�سحابها على املاء الذي �أخذ‬ ‫ال ّرواية يربز تفاقم �أزمة احل�صار التي ميار�سها االحتالل ال‬ ‫ّ‬ ‫ي�شح �أو ينفد يتم ّرد ال�ضعيف‬ ‫يندر وي�صيب املجتمع باال�ضطراب ّ‬ ‫«لكن املاء هو �س ّر احلياة‪ .‬وحني ّ‬ ‫‪ 4‬‬ ‫‪118‬‬

‫املرجع نف�سه‪� ،‬ص‪.12‬‬


‫الأدب املقاوم‬

‫االعتقادي على‬ ‫ويهب لينجو من عط�شه وجفاف احلياة»‪ .5‬ومبا �أنّ املاء مرتبط يف الفكر‬ ‫ّ‬ ‫على �ضعفه ّ‬ ‫تن ّوعه بوجود الإن�سان‪ ،‬ف�إنّ هذه الأزمة ّ‬ ‫�شكلت �أزم ًة كيان ّي ًة وجود ّية بال ّن�سبة للمجتمع‪ ،‬انفتحت من‬ ‫متعدد ٍة‪ ،‬وبال ّتايل مكانٍ �آخر ميكن �أن يع ّو�ض االفتقار �إىل املياه‪.‬‬ ‫خاللها الأحداث على احتماالت ّ‬ ‫ومن هذا املنطلق‪ ،‬يطالعنا بئر ال�سامر ّية ال ّتابعة لأرا�ضي الكني�سة ال ّروم ّية‪ ،‬وموقع ّ‬ ‫الدير بو�صفه �إطاراً‬ ‫مط ّوراً لأحداث احلا�ضر‪.‬‬ ‫قوي يف الأحداث‪ ،‬لأ ّنه ّ‬ ‫�شكل �إنقاذاً من الأزمة‬ ‫جند هذا احل ّيز املكا ّ‬ ‫ين من نابل�س حا�ضراً ٍ‬ ‫ب�شكل ٍّ‬ ‫حد ما‪ ،‬لأنّ‬ ‫والدير قد �سمح بتحويل ماء البئر �إىل نابل�س‪.‬‬ ‫املائ ّية �إىل ٍّ‬ ‫اخلوري الق ّيم على الكني�سة ّ‬ ‫ّ‬ ‫ق�صة البئر و�شرب امل�سيح منها على يد امر�أ ٍة �سامر ّية‪،‬‬ ‫وهذا العمل ظهر بو�صفه فع ًال من�سجماً مع ّ‬ ‫باخلوري �إىل القول‪« :‬امل�سيح‬ ‫الدافع الذي حدا‬ ‫ال�سبب يف ت�سمية هذه البئر بهذا اال�سم‪ ،‬وهو ّ‬ ‫ّ‬ ‫وهو ّ‬ ‫‪6‬‬ ‫احلي ونور احلياة الأبد ّية‪ .‬با�سم الأب والإبن وال ّروح القد�س ابد�أوا باحلفر» ‪.‬‬ ‫وعد نابل�س باملاء ّ‬ ‫�شددت احل�صار على املدينة ح ّتى ال ي�ستفيد �أهلها من ماء البئر‪� ،‬إىل‬ ‫ومع �أنّ �سلطات االحتالل ّ‬ ‫اليهودي‪� ،‬إ ّال �أنّ هذا احل ّيز بقي املنفذ الوحيد لإنقاذ‬ ‫حق الكيان‬ ‫جانب اال ّدعاء ب�أنّ مياهه من ّ‬ ‫ّ‬ ‫ال�سياح �إىل خارج البالد‪،‬‬ ‫�إحدى �شخ�ص ّيات ال ّرواية‪ ،‬و�أعني ال�شّ اب �سعد‪ ،‬بت�سهيل هروبه مع ّ‬ ‫ال�سفارة الكند ّية‪.7‬‬ ‫مب�ساعدة �أحد معارف ربيع يف ّ‬ ‫أهم ّيته‬ ‫ف�ض ًال عن ذلك‪ ،‬فقد �أظهر ال ّتع ّرف �إىل هذا املكان �سبي ًال ملعرفة احلقيقة‪ ،‬وهذا ما جعل � ّ‬ ‫توازي املكان الأ ّول‪ .‬ففيه نتع ّرف �إىل تاريخ نابل�س بو�صفها مدين ًة كنعان ّي ًة بامتياز‪ ،‬وقد �أطلق عليها‬ ‫يهودي فيها‪،‬‬ ‫وال�سلطات اليهود ّية عجزت عن �إثبات وجود �أي معلم ٍّ‬ ‫الكنعان ّيون ا�سم «�شكيم»‪ّ ،‬‬ ‫لأنّ ّ‬ ‫نقدي‬ ‫كل �آثارها كنعان ّية‪ ،8‬وقد وردت هذه املعلومات على ل�سان اخلوري نف�سه يف �سياقٍ ّ‬ ‫لأبناء البالد التي يجهلون تاريخها‪.‬‬ ‫كذلك ف�إنّ احل�ضور يف هذا املكان قد �أتاح ال ّتع ّرف �إىل ّ‬ ‫الطبيعة اليهود ّية التي ت ّت�صف بالعدائ ّية‬ ‫والإرهاب‪� ،‬إذ �أنّ‬ ‫اخلوري نف�سه ي�سرد لل ّراوية ن�ضال ولربيع والبنة خالها الرا ما قام به امل�ستوطنون‬ ‫ّ‬ ‫�ضده وم�شهد ال ّت�شفّي الذي قاموا به �ضد ال ّراهب «فيليمنو�س» بتقطيعه �إىل ‪ 36‬قطعة‪،‬‬ ‫اليهود ّ‬ ‫الدير وعلى البئر ومائها‪ .9‬وبهذا يتح ّول ح ّيز‬ ‫وذلك لأ ّنهما وقفا يف وجه اال�ستيالء على �أر�ض ّ‬ ‫ٍ‬ ‫اليهودي‬ ‫وك�شف للحقيقة يف �آن‪ ،‬ح ّيز مواجه ٍة للإرهاب‬ ‫الدير والكني�سة والبئر �إىل ح ّيز مواجه ٍة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫�شكل من الأ�شكال‪ ،‬وح ّيز ٍ‬ ‫ك�شف عن حقيقة هذا الإرهاب‬ ‫ومظاهره التي ال ميكن �أن ت َّربر ب�أي ٍ‬ ‫‪ 5‬‬ ‫‪ 6‬‬ ‫‪ 7‬‬ ‫‪ 8‬‬ ‫‪ 9‬‬

‫�سحر خليفة‪� :‬أر�ض و�سماء‪� .‬ص‪.227 -226‬‬ ‫املرجع نف�سه‪� ،‬ص‪.80‬‬ ‫املرجع نف�سه‪� ،‬ص‪.483‬‬ ‫املرجع نف�سه‪� ،‬ص‪.326‬‬ ‫�سحر خليفة‪� :‬أر�ض و�سماء‪� .‬ص‪.332 -329‬‬ ‫‪119‬‬


‫احلقيقي لبالدنا‪ ،‬ولهذا ي�صبح هذا احل ّيز عامل حت ّولٍ يف م�سار ّ‬ ‫وائي املتع ّلق‬ ‫وعن ال ّتاريخ‬ ‫اخلط ال ّر ّ‬ ‫ّ‬ ‫ب�شخ�ص ّيات �سعد والرا وح ّتى ن�ضال نف�سها‪...‬‬ ‫�سلبية احل�ضور املكاينّ‪:‬‬ ‫‪.3‬‬ ‫ّ‬

‫وي�ستتبع الكالم عن الكنيي�سة ال ّروم ّية‪ ،‬االلتفات �إىل قرية «عني غزالن»‪ ،‬فهي القرية التي جل�أت‬ ‫�إليها �شخ�ص ّيات ال ّرواية بعد �أن هرب �إليها «�سعد» من �سلطات االحتالل‪ .‬وقد ّ‬ ‫�شكلت مكاناً‬ ‫موجهاً نحو ال ّتع ّرف �إىل حقيقة االنتماء لتلك الأر�ض‪ ،‬وهذا ما توحي به عبارة ال ّراوية‪« :‬جل�سنا‬ ‫ّ‬ ‫‪10‬‬ ‫حتت �شجرة جوز وارفة عمرها مليون» ‪ ،‬فلي�س االرتباط بهذه ال�شجرة (الأر�ض) م�س�ألة عابرة وال‬ ‫لبي للمكان‬ ‫إيجابي مل مينع من بروز الإطار ّ‬ ‫ال�س ّ‬ ‫ميكن لأي عامل زعزعتها‪� .‬إ ّال �أنّ هذا العن�صر ال ّ‬ ‫�إنطالقاً من عوامل تنبع من داخل املكان نف�سه �أو من خارجه‪.‬‬ ‫هذا املكان عمل على �إظهار بع�ض ّ‬ ‫الظواهر االجتماع ّية املت�أثّرة بالعن�صر ّية اليهود ّية‪ ،‬التي ظهرت‬ ‫بو�صفها عن�صر تق�سيم للمجتمع نف�سه‪ ،‬بحيث بات الهدف بعيداً ّ‬ ‫الوجودي‬ ‫ال�صراع‬ ‫ّ‬ ‫كل البعد عن ّ‬ ‫يف مواجهة خطر االحتالل‪ .‬وهذا ما نراه مع احل�ضور املتز ّمت ل�شخ�ص ّية «احلاجة فطمة» �شقيقة‬ ‫ال�ضيوف وعدم تق ّبلها ملظاهرهم �أو‬ ‫�أبي يحيى التي كانت تظهر امتعا�ضها من الآخرين �أو من ّ‬ ‫م�سك‬ ‫ديني كان قد دفعها �إىل تغيري م�سار حياتها نحو ال ّت ّ‬ ‫�أفكارهم‪ ،‬م�ستند ًة يف ذلك �إىل فهمٍ ٍّ‬ ‫ع�صب مبحاولة فر�ض ما تعتقده على الآخرين‪ .‬وبهذا برز املكان هنا بو�صفه‬ ‫الأعمى ّ‬ ‫بالدين وال ّت ّ‬ ‫الفل�سطيني بالكامل‪.‬‬ ‫مم ّث ًال للواقع‬ ‫ّ‬ ‫من ناحي ٍة �أخرى‪ ،‬نالحظ �أنّ �أزمة املياه تفاقمت يف القرية لتتح ّول �إىل مواجه ٍة مع امل�ستوطنني‬ ‫ومع جي�ش االحتالل‪� ،‬شارك فيها �سعد مع �ش ّبان القرية‪ ،‬ف�أ�صبحت القرية �ساحة �صراع من �أجل‬ ‫الدولة اليهود ّية‬ ‫ال�صراع‬ ‫الفل�سطيني �ضد ّ‬ ‫املاء‪/‬الوجود‪ ،‬الأمر الذي يحيلنا �إىل القناعة مبقولة �أنّ ّ‬ ‫ّ‬ ‫لي�س �صراع حدود كما يربزه الإعالم عموماً‪ ،‬بل �صراع وجود‪ .‬ف�ض ًال عن ف�إنّ هذا املكان ح�ضر يف‬ ‫مواجهة مكانٍ �آخر مناق�ض‪ ،‬وهو م�ستوطنة «يت�سهار» التلمود ّية التي ب ّينت زيارة بع�ض ال�شّ خ�ص ّيات‬ ‫�إليها من �أجل ّ‬ ‫حل م�س�ألة املياه م�ستوطنة «كريات �شالوم»‪ ،‬بروز العن�صر ّية بو�صفها �سمة كيان ّية من‬ ‫اليهودي ّ‬ ‫الدين ّية التي‬ ‫�سمات‬ ‫املحتل م�ستوطناً �أو ع�سكر ّياً‪ ،‬وهي العن�صر ّية النابعة من ال ّتعاليم ّ‬ ‫ّ‬ ‫ظهرت يف كالم ال ّراباي الأعظم‪« :‬ل�سنا م�س�ؤولني عن ه�ؤالء فهم ي�سكنون �أر�ضاً لي�ست لهم‪ .‬هم‬ ‫ين�ص على �أنّ هذه الأر�ض هي �أر�ض �إ�سرائيل التي‬ ‫يخالفون �شريعة اهلل ون�صو�ص الوعد‪ .‬الوعد ّ‬ ‫‪11‬‬ ‫بال�سكن هنا‪ . »...‬وهذا ما يعطينا‬ ‫وهبها اهلل لبني �إ�سرائيل‪ ،‬واخلارجون‪ ،‬وهم الأغيار‪ ،‬ال يحق لهم ّ‬ ‫‪ 1 0‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪.390‬‬ ‫‪� 11‬سحر خليفة‪� :‬أر�ض و�سماء‪� .‬ص ‪.444‬‬ ‫‪120‬‬


‫الأدب املقاوم‬

‫�إ�شار ًة �إىل م�صدر العن�صرية والإرهاب يف احلقيقة‪ ،‬و�أ ّنهما نابعان من حقد ّ‬ ‫متجذ ٍر جتاه الآخر‪ ،‬وتب ّني‬ ‫لمودي‪.‬‬ ‫هذه الأفكار يعني ت�أثّراً وا�ضحاً بالفكر‬ ‫اليهودي ال ّت ّ‬ ‫ّ‬ ‫الدين‬ ‫فال�سماء كما يربزها ممثّلو ّ‬ ‫وهنا تتج ّلى م�س�ألة ّ‬ ‫ال�صراعات احلا�ضرة مكان ّياً على نح ٍو مت�ش ّعب‪ّ ،‬‬ ‫هنا ت�صبح م�صدراً للحقد واالقتتال على الأر�ض من جهة‪ ،‬وم�صدراً لالنق�سام بني الأفكار‪ ،‬ولكره‬ ‫تتجلى الأر�ض بكونها �ساحة �صراع من �أجل احلياة بال ّن�سبة‬ ‫للفل�سطيني‪ ،‬وح ّيزاً‬ ‫الآخر؛ بينما ّ‬ ‫ّ‬ ‫حل�ضور ال ّتناق�ضات داخل املجتمع نف�سه‪ ،‬وخارجه‪.‬‬ ‫حيز الأمل‪:‬‬ ‫‪ّ .4‬‬

‫مل يكن امل�سار ال ّزمني احلا�ضر وانتقاالته املكان ّية م�ساراً ثابتاً و�أحاد ّياً يف ال ّرواية‪ ،‬لأنّ الكاتبة‬ ‫زمني موا ٍز يرتبط ب�أوراق «�أمني»‬ ‫تعمدت �إيقاف ال ّزمن ٍ‬ ‫ّ‬ ‫ب�شكل متك ّرر من �أجل ّ‬ ‫ال�سري يف �سياقٍ ٍّ‬ ‫املكملة لتلك املرحلة‪ .‬وهذا الإيقاف‬ ‫التي تروي مرحلة ن�ضاله مع �أنطون �سعادة‪ ،‬وبذكريات «ربيع» ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ال�ضوء على �شخ�ص ّية �أنطون �سعادة‬ ‫ظهر على �شكل‬ ‫ا�سرتجاعات متالحق ٍة ت�سعى �إىل �أن تلقي ّ‬ ‫ه�ضوي‪.‬‬ ‫ال ّتاريخ ّية وعلى م�شروعه ال ّن ّ‬ ‫فيحيلنا املكان‪/‬احلا�ضر ذاك من خالل تيار الوعي املنبعث من �أوراق «�أمني» ور�سائل «ليزا»‬ ‫«ال�ضهور ال�شّ وير» يف جبال‬ ‫وذكريات «ربيع» �أو ر�سائل «�سعادة»‪� ،‬إىل �أمكنة متن ّوعة �أ ّولها منطقة ّ‬ ‫لبنان‪ ،‬حيث جل�أ ّ‬ ‫احل�سيني‪ ،‬وحماولتهما العثور‬ ‫كل من �أمني وربيع بعد �أن �سقطت جتربة عبد القادر‬ ‫ّ‬ ‫ال�صهيون ّية‪ .‬فبعد‬ ‫يوحد الأ ّمة يف مواجهة احلركة اليهود ّية‪ّ -‬‬ ‫على امل�شروع اجلامع الذي ي�ستطيع �أن ّ‬ ‫انخراطه يف هذا املكان �ضمن �صفوف ال ّنه�ضة‪ ،‬جنده يقول‪�« :‬شيء غريب! مل �أ�شعر بتلك ال ّرهبة‬ ‫أح�س�ست �أنيّ �أقيم �صالة الغائب‬ ‫توجهنا �إىل الق�سطل‪� ...‬‬ ‫أن�ضم للجهاد ّ‬ ‫ُ‬ ‫املقد�س‪ ،‬وال حني ّ‬ ‫و�أنا � ّ‬ ‫عما نتم ّنى‬ ‫أح�س ب�شي ٍء ّ‬ ‫علوي ي�سحبني ويرفع ر�أ�سي‪ .‬كان يقر�أ ّ‬ ‫على �أرواح َمن �سبقونا‪ ...‬وبد� ُأت � ّ‬ ‫‪12‬‬ ‫�أو نحلم‪ ،‬انتفا�ضة الوطن ونهو�ض ال ّنا�س ونحن ال�شّ باب �شهداء الغد فداء للعدل واحلر ّية» ‪.‬‬ ‫كالدير والعرزال ومغارة �أذن اجل ّرة‪ ،‬نتع ّرف �إىل‬ ‫يف هذا املكان مبا ي�شتمل عليه من �أمكنة فرع ّي ٍة ّ‬ ‫العائلي وعالقته ّ‬ ‫بكل من ليزا و�أمني وربيع‪ .‬فيو�صف يف‬ ‫�شخ�ص ّية �سعادة عن قرب‪ ،‬و�إىل ح�ضوره‬ ‫ّ‬ ‫‪13‬‬ ‫ال ّرواية ب�أ ّنه‪« :‬جاع وبرد وعط�ش مثل ّ‬ ‫كل ال ّنا�س‪ ،‬لك ّنه مل ي�ست�سلم‪ .‬كان خمتلفاً عن �أقرانه» ‪.‬‬ ‫ين‪ ،‬فقد ّ‬ ‫القومي‬ ‫وهنا تربز الهالة التي ُو�ضع �ضمنها �سعادة يف هذا احل ّيز املكا ّ‬ ‫�شكل منطلقاً مل�شروعه ّ‬ ‫‪14‬‬ ‫ه�ضوي‪� .‬إ�ضاف ًة �إىل �أنّ هذا احل ّيز ك�شف عن عالقة �سعادة احلميمة قدمياً بـ«ليزا» حبيبة �أمني ‪،‬‬ ‫ال ّن ّ‬ ‫‪� 12‬سحر خليفة‪� :‬أر�ض و�سماء‪� .‬ص ‪.52‬‬ ‫‪ 1 3‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪.59‬‬ ‫‪ 1 4‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪.63 62-‬‬ ‫‪121‬‬


‫اخلا�صة بحزبه‪،‬‬ ‫املهمات ّ‬ ‫وهو ما تب ّينه مغارة «�أذن اجل ّرة»‪ ،‬وعن اعتماده على �أمني وربيع يف معظم ّ‬ ‫اال�سرتجاعي يف الإحالة �إىل مرحلتني زمن ّيتني‬ ‫الدير والعرزال‪ .‬وهنا نرى ال ّتوالد‬ ‫خ�صو�صاً يف ّ‬ ‫ّ‬ ‫داخل املا�ضي‪ ،‬فالإحالة ال ّرئي�س ّية تتمحور حول الفرتة التي حلقت ح�ضور �أمني وربيع �إىل ال�شّ وير‪،‬‬ ‫لكن تلك املرحلة نف�سها تعيدنا يف الكثري من الأحيان‪ ،‬ال �س ّيما على‬ ‫�أي حوايل العام ‪ّ .1948‬‬ ‫‪15‬‬ ‫ل�سان ليزا‪� ،‬إىل مرحلة الثالثينات لتبينّ عمق العالقة التي كانت قائم ًة بينها وبني �سعادة ‪.‬‬ ‫وال نن�سى يف هذا املجال �أنّ هذا املكان‪ ،‬وخ�صو�صاً العرزال وحميطه‪ ،‬قد عبرّ عن �أفكار �سعادة‬ ‫نف�سه جتاه الكثري من امل�سائل املحور ّية يف احلياة‪ ،‬ومنها ر�أيه باحلياة نف�سها وارتباطها بالفن‪�« :‬أهناك‬ ‫دنيا بال �أ�شعار و�أحالم ومو�سيقى؟ �أل�سنا يا �أمني �أبناء احلياة؟ وما احلياة �إال هذا؟ ن�ضال و�شعر‬ ‫ومو�سيقى»‪.16‬‬ ‫نالحظ من خالل ما �سبق‪� ،‬أن هذا املكان ّ‬ ‫أمل لل�شّ خ�ص ّيات الأ�سا�س ّية يف ال ّرواية‪،‬‬ ‫�شكل عن�صر � ٍ‬ ‫تفاعل‬ ‫جذب للق ّراء وم�صدر ٍ‬ ‫حيث كانت الأ�صوات ال ّروائية املذكورة (�أمني وربيع و�سعادة) م�صدر ٍ‬ ‫ال�سعيد»‪� .‬إذ جند �أنّ �سعادة نف�سه يعلن‬ ‫مع امل�شروع الذي �شرع «�سعادة» ب�إطالقه حتت ا�سم «الوادي ّ‬ ‫ين �صغري يف الوادي الكبري»‪ ،17‬وهذا ما يظهر �أنّ هذا‬ ‫يف حواره مع �أمني‪« :‬هذه منطقتنا‪ ،‬وطن مد ّ‬ ‫امل�شروع ّ‬ ‫وطن على �أ�س�س جديد ٍة يف كا ّفة املجاالت‪ ،‬من تربية وتعليم‪ ،‬وزراعة‬ ‫�شكل الأمل يف بناء ٍ‬ ‫جذب للنا�س من‬ ‫بلدي‬ ‫و�صناعة‪ ،‬وتنظيم ّ‬ ‫واجتماعي‪ ،‬الأمر الذي جعل من هذا الوادي م�صدر ٍ‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ي�شدد على فاعل ّية املكان يف تغيري احلياة و�إبراز �سياقٍ‬ ‫خمالف للم�سار‬ ‫خمتلف املناطق‪ .‬الأمر الذي ّ‬ ‫الذي يحيط به والذي يعمل على حتطيمه‪ ،‬فامل�شروع ناجت عن حتقّق ال ّتغيري ّ‬ ‫الذاتي يف هذا املكان‪،‬‬ ‫ين وعلى �أ�سا�س الإنتاج‪.‬‬ ‫قائم على الفكر املد ّ‬ ‫والذي �أ ّدى بال ّتايل �إىل �إظهار الأمل يف بناء ٍ‬ ‫نظام جديدٍ ٍ‬ ‫ال�سعيد» ال ّنموذج الذي يجب �أن ُيحتذى‬ ‫وهنا نرى �إ�شار ًة مكان ّي ًة وا�ضحة‪� ،‬إذ مثّل م�شروع «الوادي ّ‬ ‫الدولة‪ ،‬وهو ما ّ‬ ‫�ضد املدينة وما حملته من معانٍ يف �سياق ال ّرواية‪.‬‬ ‫ال�صراع ّ‬ ‫يف بناء ّ‬ ‫�شكل طرفاً يف ّ‬ ‫حيز املواجهة ‪ /‬ال�صرّ اع �ض ّد املدينة‪:‬‬ ‫‪ّ .5‬‬

‫ال�صراع‪ ،‬لأنّ فيها برز ال ّتكوين ّ‬ ‫يف هذا املجال‪ ،‬تربز بريوت بو�صفها ّ‬ ‫ائفي‬ ‫الطرف الآخر لهذا ّ‬ ‫الط ّ‬ ‫فر�ض لالنق�سام ّ‬ ‫ائفي الب�شع‪،‬‬ ‫الفا�سد للبنان‪ ،‬فا�سرتجاع «�أمني» ملا م ّر به يف هذه املدينة من ٍ‬ ‫الط ّ‬ ‫ال�صراع بني ّ‬ ‫الطرفني‬ ‫وجتاهل للفكر الذي يعمل على الوحدة وبناء املجتمع‪� ،‬أعطى انطباعاً ّ‬ ‫ٍ‬ ‫بحدة ّ‬ ‫وب�شدة االنحطاط الذي يحاول طرف املدينة �إغراق املجتمع فيه‪ .‬فاالنطباع الأ ّول الذي خرج به‬ ‫ّ‬ ‫�أمني عند دخوله بريوت هو املظهر املقيت الذي متثّل يف املظاهرتني املتقابلتني ال ّلتني ال حتمالن‬ ‫‪ 1 5‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪.76 -70‬‬ ‫‪ 1 6‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪.151‬‬ ‫‪ 1 7‬املرحع نف�سه‪� ،‬ص‪.184‬‬ ‫‪122‬‬


‫الأدب املقاوم‬

‫مطالب مع ّينة‪ ،‬بل ال�شّ تائم والأحقاد فقط الغري‪« :‬مل تكن مطالب وال احتياجات‪ ،‬بل احتجاجات‬ ‫يندد مبذهب ذاك و�شيوخه‪ ،‬وذاك ي�سخر من‬ ‫الدين واملذهب‪ .‬هذا ّ‬ ‫وتهديدات وبذاءات تطال ّ‬ ‫�شيوخ ذاك ومذهبه وتعاليمه‪ .‬والغريب �أنّ رموز ّ‬ ‫الطرفني يلقّبون بال�شّ يوخ وامل�شايخ‪ .‬ال�شّ يخ حممد‬ ‫وال�شّ يخ جوزف‪ ،‬وال�شّ يخ حممود وال�شّ يخ بيري»‪.18‬‬ ‫ال�سعيد‪،‬‬ ‫هذا ما �أو�ضح عمل ّية االنق�سام يف املدينة املقابلة للمفهوم اجلامع الذي ر�أيناه يف الوادي ّ‬ ‫الدائر‬ ‫ال�صراع ّ‬ ‫وهي عمل ّية مفرو�ضة على ال�شّ عب‪ ،‬ح ّتى عملت على جعل �أ ّتباع �سعادة يذوبون يف ّ‬ ‫بني ّ‬ ‫الطرفني بالق ّوة‪ ،‬لأنّ حماولة ترديد هتاف ينادي بوحدة ال�شّ عب من ّ‬ ‫كل الأديان ا�ستجلبت‬ ‫نعي ماذا يحدث‪ ،‬هجم علينا �أفراد من هذا الفريق‪ّ ،‬ثم من‬ ‫ر ّد ٍ‬ ‫فعل عنيف‪« :‬وللغرابة‪ ،‬ودون �أن َ‬ ‫‪19‬‬ ‫ذاك الفريق‪ ،‬ونزلوا بنا �ضرباً وبوك�سات و�شالليت‪ ،‬ثم بالهراوات ففقدنا الوعي» ‪ .‬وك�أنّ امل�شهد‬ ‫يحمل رمز ّية �أن ال �صوت يف املدينة خارج ال ّنداء ّ‬ ‫ائفي‪ ،‬وال ُيعترَ ف بوجود � ّأي ٍ‬ ‫�صوت ما مل‬ ‫الط ّ‬ ‫ق�سيمي املق�صود‪.‬‬ ‫يكن داخل الفعل ال ّت‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫بع�ض من �أ�صحاب‬ ‫ب�شكل �أو�ضح من خالل احلوار الذي دار بني �أمني وبني ٍ‬ ‫ولعل ذلك الأمر يبدو ٍ‬ ‫الدكاكني �إثر فقدانه الوعي‪ ،‬فقد كان ّ‬ ‫جل احلديث عن‬ ‫ع�ص ّبي ال ّت‬ ‫ق�سيمي داخل �أحد ّ‬ ‫الفكر ال ّت ّ‬ ‫ّ‬ ‫واحد مع �أتباع ّ‬ ‫عدم �إمكانية البقاء يف �إطا ٍر ٍ‬ ‫الطرف الآخر‪ ،‬وعن ا�ستحالة قيام جمتمع مدين لديهم‬ ‫يتم احل�صول على احلق املفرت�ض‪ .20‬يدعم‬ ‫لأ ّنهم �أف�ضل دين ولأنّ البالد حتتاج �إىل الق ّوة لكي ّ‬ ‫‪21‬‬ ‫ذلك قيام الهجوم على مكتب جم ّلة احلزب يف �إحدى مناطق بريوت ‪ ،‬الذي �أودى �إىل حما�صرة‬ ‫ال�صور ّية‪ .‬وقد � ّأججت هذه امل�شاهد‬ ‫احلزب وا�ضطهاده ومالحقة زعيمه ح ّتى ت�سليمه للمحكمة ّ‬ ‫ال�سعيد»‪ ،‬بينما ّ‬ ‫�شكلت «املدينة»‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ال�صراع بني قطبني مكان ّيني‪ ،‬متثّل الأ ّول يف قطب «الوادي ّ‬ ‫وبال ّتحديد بريوت‪ ،‬القطب الآخر‪ ،‬دون �أن تكون الق ّوة التي ت�سيطر على ٍّ‬ ‫كل من املكانني ق ّو ًة‬ ‫�صافي ًة‪� ،‬إذ نرى ال ّتداخل وا�ضحاً يف هذا الإطار‪.‬‬ ‫ال�سعيد‪/‬املدينة) من خالل ح�ضور قيم الق ّوة الأوىل يف املدينة‬ ‫ويربز ال ّتداخل بني ق ّو َتي (الوادي ّ‬ ‫بال�شّ عارات التي �أطلقها �أمني ورفاقه هناك يف امل�شهد املذكور‪ ،‬ومن خالل ح�ضور جم ّلة احلزب �إىل‬ ‫حمدد‪ .‬بينما نرى ح�ضور قيم الق ّوة الأخرى‬ ‫ديني ّ‬ ‫�إحدى مناطق بريوت التي يغلب عليها تلوين ّ‬ ‫متوعداً خالل �إقامة معر�ض املنتوجات ال ّزراع ّية‪ ،‬وبتهدمي م�شروع‬ ‫ب�أفكار ال�شّ يخ الذي ّ‬ ‫يهدد �أمني ّ‬ ‫ال�صورية ل�سعادة و�إعدامه‪� .‬أ ّما عن داللة هذا ال ّتداخل ف�إ ّنه‬ ‫ال�سعيد‪ ،‬وكذلك يف املحاكمة ّ‬ ‫الوادي ّ‬ ‫ال�صراع من جه ٍة‪ ،‬وعن طبيعة املكانني من ناحية البيئة االجتماع ّية‪ ،‬فالبيئة‬ ‫يك�شف عن ّ‬ ‫حدة ّ‬ ‫‪ 18‬‬ ‫‪1 9‬‬ ‫‪ 20‬‬ ‫‪2 1‬‬

‫�سحر خليفة‪� :‬أر�ض و�سماء‪� .‬ص ‪.159‬‬ ‫املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪.161‬‬ ‫�سحر خليفة‪� :‬أر�ض و�سماء‪� .‬ص ‪.173 -162‬‬ ‫املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪.237 235-‬‬ ‫‪123‬‬


‫اجلبل ّية ال ّريف ّية �أتاحت للم�شروع ال ّنه�ضوي اال ّت�ساع ب�سبب حاله امل ّت�سمة بالب�ساطة وب�سم ّو القيم‪،‬‬ ‫يف حني �أنّ البيئة املدين ّية عملت على تقييد هذا اال ّت�ساع نتيجة احل�ضور املعقّد للعالقات النفع ّية‬ ‫الدنيا البحتة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ال�ضيقة ولل�سلوك ّيات املا ّد ّية ّ‬ ‫خا�صاً بها‬ ‫تطالعنا �أي�ضاً يف ال ّرواية املدينة الأخرى‪ ،‬و�أعني دم�شق‪ ،‬بو�صفها مكاناً يحوي �صراعاً ّ‬ ‫ين الأ ّول‪� ،‬إذ تدخلنا الأ�صوات ال ّروائ ّية الثّالثة (�أمني وربيع وليزا) يف‬ ‫ال�صراع املكا ّ‬ ‫على �ضوء ّ‬ ‫نوع �آخر يتمثّل يف اخل�ضوع للإرادات اخلارج ّية وم�شيئتها واالن�سياق‬ ‫املواجهة املبا�شرة مع ف�سا ٍد من ٍ‬ ‫لل�سلطة ال ّلبنان ّية‪ .‬فال ّرئي�س‬ ‫وراء املال‪ ،‬وبال ّتايل يف اخليانة‪ ،‬وهو الأمر الذي �أ ّدى �إىل ت�سليم �سعادة ّ‬ ‫ح�سني ال ّزعيم الذي ُعقدت عليه �آمال كربى �آنذاك‪ ،‬قد ت�آمر على �سعادة من �أجل ت�سليمه‪ ،‬وهو‬ ‫حمملني بالآمال والأحالم وال ّنوايا‪ ،‬و�إذا به �أجري مد�سو�س‬ ‫ما يو�ضحه ربيع بالقول‪« :‬ذهبنا �إليه ّ‬ ‫‪22‬‬ ‫مهمة �سحق احلركات الثّور ّية ح ّتى نظل عبيداً كما ك ّنا ومزرعة ال ّنفط العرب ّية» ‪ .‬وهذا‬ ‫�أوكلت �إليه ّ‬ ‫الأمر قد تبينّ يف �سياق ال ّرواية من خالل �أحد �أ�صدقاء ربيع الذي �سرد له عن ال ّلقاء الذي جمع‬ ‫ح�سني ال ّزعيم مبو�شي �شرتوك �أو مو�شي �شاريت الذي كان وزيراً خلارج ّية �إ�سرائيل‪.23‬‬ ‫بالدور الذي قامت به بريوت‪� ،‬إذ ّ‬ ‫�شكلت‬ ‫من هذا املنطلق‪ ،‬جند �أنّ مدينة دم�شق �أ ّدت دوراً �شبيهاً ّ‬ ‫ال�سعيد قائماً على مبد�أ ال ّتح ّرر‬ ‫ال�سعيد»‪ .‬ففي حني كان الوادي ّ‬ ‫طرف نقي�ض مع م�شروع «الوادي ّ‬ ‫وائي تتمحور حول االرتباط‬ ‫وال ّتخ ّلي عن ال ّنفوذ‬ ‫اخلارجي‪ ،‬كانت مدينة دم�شق يف الإطار ال ّر ّ‬ ‫ّ‬ ‫أ�صح بالعد ّو‪.‬‬ ‫باخلارج‪� ،‬أو على ال ّ‬ ‫ا�ستناداً �إىل ذلك‪ ،‬ت�صبح ثنائ ّية (الوادي‪/‬املدينة) ثنائ ّي ًة مكان ّي ًة ّ‬ ‫متحكم ًة بتط ّور ّ‬ ‫وائي‬ ‫اخلط ال ّر ّ‬ ‫اال�سرتجاعي القائم على ا�ستعادة مرحلة �سعادة بال ّتحديد‪ ،‬انطالقاً من كون هذا التط ّور يخ�ضع‬ ‫ّ‬ ‫الدائر بني طرفيَ هذه الثّنائ ّية‪.‬‬ ‫راع‬ ‫ال�ص‬ ‫ّ‬ ‫لتجاذبات ّ‬ ‫القيامي‪:‬‬ ‫‪ .6‬املكان‬ ‫ّ‬

‫ال�سياق �إىل ال ّنهاية التي �أو�صلت �سعد ون�ضال وربيع �إىل بريوت حل�ضور حفل‬ ‫تبقى الإ�شارة يف هذا ّ‬ ‫تخ ّرج الرا يف اجلامعة الأمِريك ّية‪ ،24‬وهو املكان الذي �أطلق فيه �سعادة حزبه‪ .‬و�أن يكون هذا املكان‬ ‫مو�ضعاً لنيل درج ٍة علم ّي ٍة يعني �أ ّنه ّ‬ ‫جدد‪ ،‬وبال ّتايل �أم ًال يف ٍ‬ ‫قائم على �أفكار �سعادة‬ ‫ي�شكل ح ّيزاً لل ّت ّ‬ ‫غد ٍ‬ ‫نف�سها وا�ستفاد ٍة من جتارب املا�ضي‪ ،‬وهو ما �سبق �أن �أبرزته الرا نف�سها يف بداية ظهورها داخل ال ّرواية‪.25‬‬ ‫ ‬ ‫‪ 23‬‬ ‫‪2 4‬‬ ‫‪2 5‬‬ ‫‪22‬‬

‫‪124‬‬

‫املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪.245‬‬ ‫�سحر خليفة‪� :‬أر�ض و�سماء‪� .‬ص ‪.285 -284‬‬ ‫املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪.484‬‬ ‫املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪.39 -37‬‬


‫الأدب املقاوم‬

‫أهم ّية هذا املو�ضع يتج ّلى يف �أ ّنه جمع م�سارين روائ ّيني متوازيني‪ :‬الأ ّول هو‬ ‫�إ�ضاف ًة �إىل ذلك‪ ،‬ف�إنّ � ّ‬ ‫الذي يدور يف احلا�ضر مع ن�ضال و�سعد والرا وربيع‪ ،‬وامل�سار الثّاين الذي يرتبط ب�سعادة و�أمني‪.‬‬ ‫ين ّ‬ ‫�شكل املو�ضع الذي تربز منه انطالقة جديدة تتخ ّل�ص من �شوائب‬ ‫وبناء عليه ف�إنّ هذا احل ّيز املكا ّ‬ ‫ً‬ ‫ال ّزمنني احلا�ضر واملا�ضي يف �سبيل بنا ٍء جديد‪.‬‬ ‫وي�شري كذلك �أي�ضاً �إىل �أنّ حياة هذه الأ ّمة �ستبقى واحد ًة‪ ،‬كما �سيبقى ن�ضالها واحداً مهما حاول‬ ‫ال�صراع‪ .‬ف�ض ًال عن ذلك‪ ،‬قد ي�شري �إىل �أنّ ّ‬ ‫الطريق التي اختارها �سعادة هي‬ ‫املت�آمرون حرف بو�صلة ّ‬ ‫ال�صحيح نحو قيامة هذه الأمة‪.‬‬ ‫امل�سار ّ‬ ‫ال�سياق‪ ،‬تربز حيو ّية هذا املكان وطبيعته القيام ّية من خالل م�شهد غناء ال ّن�شيد اجلماعي‬ ‫يف هذا ّ‬ ‫«نحن ال�شّ باب»‪� .‬إذ �أنّ هذا املكان يف ختام ال ّرواية احت�ضن ذاك ال ّن�شيد معطياً �أبعاداً دالل ّي ًة‬ ‫اجلماعي بالغناء‪« :‬واندلع هتاف‪ّ ،‬ثم ارتفع �صوت اجلمهور‬ ‫متعددة‪ ،‬يتمثّل �أ ّولها يف االنخراط‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫‪26‬‬ ‫م�صاحباً الغناء ٍ‬ ‫ب�صوت هادر» ‪ ،‬وهو ما يعني اخلروج من احلال الفرد ّية �إىل �إطار املجتمع‪ ،‬وبال ّتايل‬ ‫ي�شري �إىل �أنّ اخلال�ص يف املجتمع ال ميكن �أن يكون فرد ّياً �أو فئو ّياً �أو مناطق ّياً‪ ،‬بل ي�شمل الأ ّمة‬ ‫جمعاء‪ ،‬وم�س�ألة فل�سطني منها‪.‬‬ ‫الدال ّيل الثّاين فيتج ّلى يف م�شاركة ربيع التي جعلته ي�ستعيد حيو ّيته القدمية و�شبابه‪:‬‬ ‫�أ ّما البعد ّ‬ ‫«التفت ربيع وهو يغني مع الكور�س ومع اجلمهور‪ .‬ورغم ال�شّ يب وجتاعيده ر�أيته يعود �إىل ما كان‬ ‫واجلميزة و�أ ّيام ك ّنا يف �صانور مثل الع�صافري نحلم بالغد»‪ .27‬وكذلك م�شاركة ال ّراوية‬ ‫يوم الق�سطل ّ‬ ‫ن�ضال للجمهور يف الغناء‪ ،‬التي �أوحت بن ٍرب ابتها ٍّيل ّ‬ ‫يدل على عظمة الأيام الآتية‪« :‬لكزين ربيع‬ ‫بخجل يف البدء ٍ‬ ‫ب�صوت هام�س‪ .‬وحني ارتفع �صوت اجلمهور �أعلى و�أعلى‪ ،‬ن�سيت‬ ‫لأغ ّني فغ ّنيت ٍ‬ ‫‪28‬‬ ‫ال�صوت‪ ،‬ومل �أدمع» ‪ ،‬مع �أ ّنها هي وربيع جتاوزا مرحلة ال�شّ باب بزمن‬ ‫خجلي ودموعي ورفعت ّ‬ ‫طويل‪� ،‬إ ّال �أنّ هذه ال ّنهاية يف ذاك احل ّيز املكا ّ‬ ‫ين �أ�سهمت يف �إبراز عمل ّية ال ّت ّ‬ ‫جدد ويف ال ّتفا�ؤل عو�ضاً‬ ‫عن الي�أ�س‪ ،‬لأن ال�شّ باب �سيحقّقون احللم الذي عجز جيل ال ّراوية عن بلوغه‪.‬‬ ‫من هذا املنطلق‪ ،‬يتح ّول املكان الذي اخ ُتتمت فيه ال ّرواية �إىل نقط ٍة حمور ّي ٍة جت ّلت فيها ر�سالية‬ ‫اخلطاب الذي ت�سعى الكاتبة �إىل �إي�صاله‪ ،‬فهي ال ّنقطة التي ّ‬ ‫الدافع من �أجل �إيقاظ روح‬ ‫ت�شكل ّ‬ ‫الوعي والأمل يف نفو�س �أبناء الأمة وهديهم �إىل الطريق القومي‪.‬‬

‫‪� 26‬سحر خليفة‪� :‬أر�ض و�سماء‪� .‬ص ‪.486‬‬ ‫ال�صفحة نف�سها‪.‬‬ ‫‪ 2 7‬املرجع نف�سه‪ّ ،‬‬ ‫‪ 2 8‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪.487‬‬ ‫‪125‬‬


‫خامتة‪:‬‬

‫ميكن للمتلقّي �أن يالحظ‪ ،‬من خالل ما ر�أيناه �سابقاً‪� ،‬أنّ املكان ّ‬ ‫�شكل عن�صراً حمور ّياً يف بناء‬ ‫الدالل ّية‪ .‬فمن ناحي ٍة ّ‬ ‫املحدد ل�سري الأحداث‬ ‫�شكل بو�صفه الإطار ّ‬ ‫ال ّرواية‪ ،‬ويف الإم�ساك ب�أبعادها ّ‬ ‫ال�صراعات التي تتم ّلك ال ّرواية‬ ‫ق ّو ًة فاعل ًة �إن ٍ‬ ‫�سلبي‪ .‬ومن ناحي ٍة �أخرى‪ ،‬ظهرت ّ‬ ‫ب�شكل � ٍّ‬ ‫إيجابي �أو ّ‬ ‫ال�صراعات بني الأمكنة‪ ،‬ومنها على �سبيل املثال‪� ،‬صراع نابل�س‪ /‬م�ستوطنة كريات‬ ‫من خالل ّ‬ ‫اليهودي‬ ‫ال�صراعان ال ّلذان ب ّينا حقيقة احلقد‬ ‫ّ‬ ‫�شالوم‪ ،‬و�صراع عني الغزال‪ /‬م�ستوطنة يت�سهار‪ ،‬وهما ّ‬ ‫ال�سعيد‪ /‬املدينة‪ ،‬مبا‬ ‫جتاه ال�شّ عب‬ ‫الفل�سطيني‪ .‬كذلك ينطبق على هذا الو�صف �صراع الوادي ّ‬ ‫ّ‬ ‫يج�سده من نقاط مواجه ٍة بني ق ّوة ال ّتغيري وال ّتح ّرر وبني قوى ال ّرجع ّية وال ّتبع ّية‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ومن الوا�ضح للقارئ بروز ال ّتداخل بني الأمكنة وبني الأزمنة يف ال ّرواية‪ ،‬بحيث جند تناوباً يف‬ ‫ال�ضفّة الغرب ّية‪،‬‬ ‫ح�ضورها ويف ت�أثرياتها‪ .‬فاملعاناة التي كانت مت ّر بها ال�شّ خ�ص ّيات يف احلا�ضر داخل ّ‬ ‫وبال ّتحديد يف منطقة نابل�س‪ ،‬القتها املعاناة التي عانت منها بع�ض تلك ال�شّ خ�ص ّيات يف املا�ضي‬ ‫يف لبنان وال�شّ ام‪ّ .‬‬ ‫ولعل هذا ال ّتداخل يف الأطر املكان ّية وال ّزمن ّية هي التي �أوحت بتحديد املعنى‬ ‫من لفظة «�أر�ض» يف العنوان‪� ،‬إذ قد يكون يف ذلك �إيحاء �إىل �أنّ هذه الأمكنة بزمنيها ّ‬ ‫ت�شكل‬ ‫موحد‪ ،‬فت�صبح فل�سطني ولبنان وال�شّ ام �أر�ضاً واحد ًة ان�سجاماً مع ما تنادي به‬ ‫بتاريخ ّ‬ ‫�أر�ضاً واحد ًة ٍ‬ ‫ال�شّ خ�ص ّية ال ّتاريخ ّية التي متحورت حولها �أفكار ال ّرواية‪ ،‬و�أعني �شخ�ص ّية �أنطون �سعادة‪.‬‬ ‫ال�سماء من خالل ح�ضورها يف الأفكار ّ‬ ‫غطاء‬ ‫الطائف ّية التي ت�ستخدم ّ‬ ‫ا�ستناداً �إىل ذلك‪ ،‬تربز ّ‬ ‫الدين ً‬ ‫يوحد الأر�ض واملجتمع‪ ،‬فح�ضور ال�شّ يخ ّ‬ ‫حتدياً لفكر‬ ‫ائفي بو�صفه ّ‬ ‫مل�صاحلها يف مواجهة �أي فكر ّ‬ ‫الط ّ‬ ‫�سعادة العلماين‪ ،‬ومرور �أمني بتجربته يف بريوت وا�ستماعه لل ّتهديدات ّ‬ ‫الدين‬ ‫املبطنة من قبل رجل ّ‬ ‫و�صاحب ّ‬ ‫«احلاجة فطمة» �شقيقة «�أبي يحيى» ب�شخ�ص ّيتها املتز ّمتة يف ّ‬ ‫ظل‬ ‫الطربو�ش‪� ،‬إ�ضاف ًة �إىل بروز ّ‬ ‫ال�سماء م�ستوحي ًة‬ ‫ال�ضغط ال‬ ‫ّ‬ ‫إ�سرائيلي على ال�شّ عب؛ ك ّلها جعلت من الأر�ض يف مواجهة هذه ّ‬ ‫ّ‬ ‫ال�سماء �أفقدنا الأر�ض»‪ ،‬وهو القول الذي عنونت به‬ ‫القول ال�شّ هري �سعادة نف�سه‪« :‬اقتتالنا على ّ‬ ‫الدين ّية اليهود ّية التي ت ّربر‬ ‫الكاتبة افتتاح ّية اجلزء الأ ّول من كتابها‪ .29‬وذلك دون �أن نن�سى العقل ّية ّ‬ ‫العدائي و�أفكارها احلاقدة باملرجع ّية ال ّتورات ّية‪-‬ال ّتلمود ّية‪ ،‬ما ي�شري �إىل �أنّ الكاتبة تبينّ �أنّ‬ ‫�سلوكها‬ ‫ّ‬ ‫ال�سماء ح�ضرت بو�صفها م�صدراً لالنق�سامات ال م�ساح ًة للجمع كما هو مفرت�ض‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وال ّبد من ال ّتنويه يف هذا املجال �إىل جناح الكاتبة يف �سعيها �إىل جت�سيد �أفكار �سعادة ب�صور ٍة غري‬ ‫مبا�شرة‪ ،‬الأمر الذي ميكننا ر�صده من خالل تلك الإ�شارات املكان ّية وال ّزمن ّية‪ .‬فمن املعروف قوله‬ ‫ال�صراع مع اليهود �صراع وجود ال �صراع حدود‪ ،‬وهو ما بدا يف طبيعة الفكر الذي �أبرزه ال ّراباي‬ ‫ب�أنّ ّ‬ ‫الأعظم يف م�ستوطنة يت�سهار التلمود ّية‪ .‬ومن املعروف كذلك قوله عن ّ‬ ‫الطلبة ب�أنهم نقطة االرتكاز‬ ‫‪� 29‬سحر خليفة‪� :‬أر�ض و�سماء‪� .‬ص ‪.5‬‬ ‫‪126‬‬


‫الأدب املقاوم‬

‫القومي‪ ،‬وهو ما ر�أيناه يف م�شهد اخلامتة مع ن�شيد «نحن ال�شّ باب» عند تخ ّرج الرا‪ .‬وق�س‬ ‫يف العمل‬ ‫ّ‬ ‫الدولة‪ ،‬وب�أنّ امل�س�ألة الفل�سطين ّية هي م�س�ألة تخ�ص الأ ّمة‬ ‫الدين عن ّ‬ ‫على ذلك قوله مببد�أ ف�صل ّ‬ ‫ال�صميم‪ ،‬وقيام االقت�صاد على �أ�سا�س الإنتاج‪...‬‬ ‫ال�سور ّية يف ّ‬ ‫ّ‬ ‫روري هنا �أن ن�شري �إىل �أنّ عملنا حول م�س�ألة املكان وال ّتداخل ال ّزمني حتتاج �إىل درا�سة‬ ‫ومن ّ‬ ‫ال�ض ّ‬ ‫ال�سياق تلك املتع ّلقة‬ ‫جوانب �أخرى يف ال ّرواية ح ّتى تكتمل‪ ،‬ومن �أبرز اجلوانب ّ‬ ‫الدالل ّية يف هذا ّ‬ ‫راعي لل�شّ خ�ص ّيات ورمز ّيتها‪ ،‬نظراً لكون هذا اجلانب ميتلك �أبعاداً غن ّية وعميقة‬ ‫بدرا�سة امل�سار ّ‬ ‫ال�ص ّ‬ ‫الدالالت التي تختزنها ال ّرواية‪ ،‬وهي التي تعطي �صور ًة �أو�ضح عن الف�ضاء املكاين‬ ‫يف ال ّتعبري عن ّ‬ ‫ال ّزمني فيها‪.‬‬ ‫ومهما يكن‪ ،‬ففي اخلال�صة ميكننا �أن نرى بو�ضوح �أنّ الأمكنة بتداخالتها يف ال ّرواية‪ ،‬وبتناوب‬ ‫ح�ضورها بني احلا�ضر مع ن�ضال يف نابل�س وبني املا�ضي مع ربيع و�أمني و�سعادة وليزا يف لبنان‬ ‫وال�شّ ام‪ ،‬قد ّ‬ ‫�شكلت عن�صراً حيو ّياً يف طرح ر�ؤية الكاتبة نحو هذه البالد التي ما تزال ت�أبى القرب‬ ‫مكاناً لها حتت ال�شّ م�س‪.‬‬

‫‪127‬‬


‫دار كتب للن�شر �ش‪.‬م‪.‬ل‪.‬‬

‫بناية الربج‪ ،‬الطابق الرابع‪� ،‬ساحة ال�شهداء الو�سط التجاري‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‬ ‫�صندوق بريد‪ ،11-4353 :‬بريوت ‪ -‬لبنان‪.‬‬ ‫هاتف‪)961-1( 983008 /9 :‬‬ ‫فاك�س‪)961-1( 980630 :‬‬ ‫الربيد الإلكرتوين‪kutub@kutubltd.com :‬‬ ‫املوقع الإلكرتوين‪www.kutubltd.com :‬‬


‫الأدب املقاوم‬

‫ال�شعري‬ ‫الن�ص‬ ‫البعد املقاوم يف‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫عند كمال خري بك‬

‫غ�سان التويني ‪ -‬باحث‬

‫تقدمي‪:‬‬

‫حياته وم�سريته االدبية‪1935( :‬ـ‪)1980‬من موليد القرداحة حمافظة الالذقية يف �سوريا‪،‬‬ ‫العربي احلديث‪� ،‬إذ ن�شطت يف هذه املرحلة‪ ،‬عنيت مرحلة‬ ‫�شهد مرحلة زمنية ا�ستثنائ ّية من تاريخنا ّ‬ ‫تيارات فكر ّي ٌة متنوعة ي�سار ّية وعروب ّية وقوم ّية يف مناه�ضة‬ ‫اخلم�س ّينات وال�ست ّينات وال�سبع ّينيات‪ٌ ،‬‬ ‫ين القائم على القتل والتدمري والتو�سع‪.‬‬ ‫امل�شروع ال�صهيو ّ‬ ‫مهمة تركت ب�صماتها على �ساحتنا‬ ‫حتمل املراحل الت�أريخ ّية التي تفي�أ ال�شاعر حتت ظاللها �أحداثاً ّ‬ ‫العرب ّية من جهة‪ ،‬وعلى احلركة ال�شعر ّية من جهة ثانية‪.‬‬ ‫يف مرحلة اخلم�سينات كانت االمة التزال حتت وط�أة نكبة العام ‪ 1948‬واملجازر التي ارتكبت بحق‬ ‫الفل�سطيني‪.‬‬ ‫ال�شعب‬ ‫ّ‬ ‫يف مرحلة ال�ست ّينات ن�شهد انطالقة الر�صا�صة االوىل للكفاح امل�سلح‪ ،‬التي �أطلقتها منظمة التحرير‬ ‫اال�سرائيلي‪.‬‬ ‫الفل�سطين ّية العام ‪� 1965‬ضد العدو‬ ‫ّ‬ ‫العربي وكل الت ّيارات الفكر ّية على ال�ساحة العرب ّية يف مواجهة العدو‬ ‫ون�شهد نك�سة النظام‬ ‫ّ‬ ‫اال�سرائيلي العام ‪.1967‬‬ ‫ّ‬ ‫يف مرحلة ال�سبع ّينات ن�شهد اندالع احلرب االهل ّية اللبنان ّية العام ‪ ،197‬وانت�صار اجلي�شني العربيني‬ ‫وامل�صري‪.‬‬ ‫ال�سوري‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫العربي يتخبط بني الت�شا�ؤم‬ ‫هذه االحداث التاريخ ّية وحركة م�سارها كانت عالمة فارقة تركت ّ‬ ‫والتفا�ؤل بني الرجاء واالحباط‪ ،‬كما �أرقت وجدان ال�شعراء‪ ،‬وفر�ضت عليهم م�س�ؤولية قراءة‬ ‫احلدث يف هذه املرحلة‪ ،‬مت�صال باملناخ الثقا ّيف الذي يتظلل ال�شاعر �أفياءه‪.‬‬

‫‪129‬‬


‫ال�ساحة العرب ّية فكان‬ ‫من هنا مل يكن كمال خري بك خارج ال ّزمان واملكان اللذين حتركت فيهما ّ‬ ‫يف قلب الربكان الذي ع�صف ب�ساحتنا العرب ّية‪ ،‬فو�ضع العام ‪ 1960‬جمموعته (الربكان)‪ ،‬ويف العام‬ ‫‪ 1965‬جمموعته (مظاهرات �صاخبة للجنون)‪.‬‬ ‫ثم جمعت جلنة �أ�صدقاء ال�شاعر بعد وفاته ثالث جمموعات �شعر ّية‪:‬‬ ‫ وداعا �أ ّيها ال�شعر‪ ،‬العام ‪.1982‬‬ ‫ دفرت الغياب‪ ،‬العام ‪.1987‬‬ ‫ االنهار ال تتقن ال�سباحة يف البحر‪.‬‬ ‫مت�سك عناوين املجموعات مبراحل زمن ّية خمتلفة‪� ،‬إذ ت�شكل بنيتها ال ّلغو ّية وابعادها الداللية ات�صاال‬ ‫وثيقا مب�ضمون التجربة ال�شعر ّية التي عا�شها كمال خري بك‪.‬‬ ‫من يدخل �إىل عامل الق�صيدة عند كمال حري بك‪ ،‬يجد �شاعرا ملتزما ق�ضايا اال ّمة وهمومها‪ ،‬مازجا‬ ‫احلزبي‪ ،‬وهذا لي�س غريبا على �شاعر كان منتميا �إىل احلزب‬ ‫االداء ال�شعري باالداء‬ ‫االيديولوجي ّ‬ ‫ّ‬ ‫االجتماعي‪� ،‬إذ كانت هذه الثقافة حترك ّن�صه وت�ؤ�س�س ر�ؤيته التي ت�ؤمن بفكرة‬ ‫القومي‬ ‫ال�سوري‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫اخل�صوبة واالنبعاث املرتكز على ثنائ ّية (املوت‪/‬احلياة)‪.‬‬ ‫العربي‬ ‫اال�سرائيلي‪،‬م�ؤمنا با�سرتداد احلق‬ ‫انطالقا من هذه الثقافة كان �شر�سا يف مقاومة العدو‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫باملقاومة‪ ،‬راف�ضا ّ‬ ‫كل �أ�شكال الت�سو ّيات‪ ،‬ها هو يقول العام ‪ 1977‬خماطباً القد�س‪:‬‬ ‫قد�س عفوك‪ُ ..‬‬ ‫بال ر�صيد �سوى التهريج والكذب‬ ‫ ‬ ‫�صك البيـع مهزلـة‬ ‫يا ُ‬ ‫ �إال ال�سـمك رغم الدمـع وا ّللهـب‬ ‫قد�س ع�شاقك االحرا ُر ما �سجدوا‬ ‫يا ُ‬ ‫(‪)1‬‬ ‫جرح ومل يخب‬ ‫ ‬ ‫بـاعـوا دماءهـم كي ي�شتـروا وطنـــا‬ ‫ومل ي�ساو ْم لهم ٌ‬ ‫اال�سرائيلي‪ ،‬وجبهة الكلمة‬ ‫حارب كمال خري بك على جبهتني‪ ،‬جبهة العمل الفدائي �ضد العدو‬ ‫ّ‬ ‫أدبي يكون قادراً‬ ‫التي تبنى بو�ساطتها �ضرورة التغيريواالنطالق اىل الق�صيدة الر�ؤيا وت�أ�سي�س ّ‬ ‫ن�ص � ّ‬ ‫على �إنتاج الواقع من جديد‪.‬‬ ‫يف �ساحة املواجهة مع العدو‪� ،‬سقط ال�شاعر بر�صا�ص مل يكن يرغب ال�سقوط به‪ ،‬لذلك �أعلنت‬ ‫االرهابي كمال خريبك»‪.‬‬ ‫�إذاعة العدو اخلرب بالقول‪« :‬قتل اليوم يف بريوت‬ ‫ّ‬ ‫املرجعي يف ق�صيدته مر�آة ملا تراه اجلماعة وتعي�ش �أحداثه‪ ،‬هو القائل‪:‬‬ ‫ينعك�س العامل‬ ‫ّ‬ ‫�س�أر ُّدعن هذاالترّ اب نيو َبهم‬ ‫أزيح عن �شعبي ردا َء العار‬ ‫و� ُ‬ ‫‪130‬‬


‫الأدب املقاوم‬

‫أ�سرعت‬ ‫�إن قطعوا مييني � ْ‬ ‫لتعيد ملحم َة ال ّن�ضال ي�ساري‬ ‫َ‬ ‫وال يتخذ ال�شاعرموقفاً من الواقع‪ ،‬بقدرما يحاول �إعادة �إنتاجه بالثورة‪:‬‬ ‫زحزحت �صخري‬ ‫غري �أنيّ اليوم قد‬ ‫ُ‬ ‫عثت من رماد التجربة‬ ‫و ُب ُ‬ ‫ونه�ضت‬ ‫ُ‬ ‫خارجاً من لوحة الر�سام من �أنقا�ض مر�آتي ال�صغرية‬ ‫الب�ساً عريي و�صوتي و�شراري‬ ‫(‪)3‬‬ ‫�صاهراً وجهي يف نار امل�سرية ‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫�إذا كانت بنية ال ّلغة يف ن�ص كمال خري بك ت�شكل الن�سيج اال�سلوبي يف تقدمي جتربة ال�شاعر‪،‬‬ ‫ف�أن العالمات ال�سيميائية امل�شفوعة مبكوناته الثقاف ّية‪ ،‬هي القادرة على الك�شف يف التقاط حركة‬ ‫التاريخ وم�ساراتها‪� ،‬إذ يتمكن ال�شاعر بو�ساطة هذين املكونني‪ ،‬البنيوي‪/‬الثقايف من �أن يرى ما ال‬ ‫تراه �أية ر�ؤية �أخرى‪.‬‬ ‫املرجعي بو�ساطة عالمات لغو ّية و�أ�ساليب تعبري ّية متنوعة يف‬ ‫من هنا قر�أ كمال خري بك عامله‬ ‫ّ‬ ‫مقدمتها الرمز‪ .‬فكيف تعامل مع رموزه يف التعبري عن همومه وقناعاته واهتماماته؟ وكيف جتلى‬ ‫البعد املقاوم بو�ساطة رموزه؟‬ ‫�س�أقدم �أربعة رموز قر�أ ال�شاعر بو�ساطتها واقع االمة‪ ،‬اذ حتركت هذه الرموز على ايقاع الثقافة‬ ‫التموز ّية من جهة‪ ،‬وايقاع الواقع من جهة ثانية‪.‬‬ ‫رمز الدم‪ :‬ميثل الدم معامل الهو ّية التي يبحث عنها ال�شاعر‪ ،‬وميثل اخليارات التي �آمن بها‬ ‫وجعلها �سبيال للعبور على ج�سر اخلال�ص و� ً‬ ‫ح�ضاري ثقا ّيف مقاوم‪.‬‬ ‫صوال �إىل م�شروع‬ ‫ّ‬ ‫يف حلظة تخبط االمة و�سلب جزء عزيز من �أر�ضها يف فل�سطني‪ ،‬يرى ال�شاعر يف ق�صيدة «اجلرح‬ ‫املجنون» امل�ؤرخة العام ‪� 1955‬أن الدم العربي النازف على �أر�ض فل�سطني هو ال�سبيل الوحيد‬ ‫لإعادة احلقوق �إىل �أ�صحابها‪:‬‬ ‫هذي دما�ؤكم تفور على الرتاب وتزبد‬ ‫وحتيك جلجلة النفري‪ ،‬مع ال�صباح‪ ،‬وترعد‬ ‫�إين مع امل�أ�ساة‪� ،‬أكف ُر بالوعود واحلد‬ ‫جرح ثائ ٌر يتف�صد‬ ‫�إين‪،‬مع امل�أ�ساة‪ٌ ،‬‬ ‫‪131‬‬


‫ملحاً‪ ..‬وكربيتاً‪ ..‬وحقداً عا�صفاً ال يخمد‬ ‫حتى �أر ّد العا َر عن �شعبي‪ ،‬وي�أتي املوعد‬

‫(‪)4‬‬

‫ت�ستقطب كلمة (دما�ؤكم) �أربعة �أفعال (تفور‪ ،‬تزبد‪ ،‬حتيك‪ ،‬ترعد) ت�ضج باحلياة واحلركة وتقدم الدم‬ ‫اال�سرائيلي من‬ ‫رمزا للت�ضحية والعطاء �سابغة عليه لونا من التفا�ؤل مع كل ما يتعر�ض له من العدو‬ ‫ّ‬ ‫قتل وت�شريد �أمام مر�أى العرب وعجزهم املطبق‪.‬‬ ‫تنه�ض اال�ستعارة لتو�ضح مفاعيل رمزالدم يف هذه املرحلة «هذه دما�ؤكم تفور‪/‬تزبد‪/‬حتيك‪/‬ترعد»‬ ‫�إن �إ�سناد هذه االفعال اىل دماء ال�شعب‪ ،‬يخرج اللغة من عالمة عادية �إىل عالمات �سيميائ ّية تعرب‬ ‫عن هم ال�شاعر اجتاه الق�ضية الفل�سطين ّية وتقدميه الدم حركة فاعلة يف ح�سم الق�ضايا مل�صلحتنا‪� ،‬إال‬ ‫�أن الدماء التي تدفق على الترّ اب هي التي جتنب الرتاب املوت والعفن وحتوله �إىل تراب خ�صب‬ ‫وموظف‪ ،‬والدماء التي حتيك اللبا�س لال ّمة العارية هي احلا�ضن احلقيقي مل�صالح اال ّمة‪ ،‬والدم‬ ‫الذي يتحول �إىل مطر «ترعد» هو الذي يواجه ت�صحر اال ّمة ويعيدخ�صبها‪.‬‬ ‫الفل�سطيني اىل‬ ‫ال يرى كمال خري بك يف هذه الدماء اال تلك اجللجلة التي �ستو�صل ال�شعب‬ ‫ّ‬ ‫ا�سرتجاع حقوقه املغت�صبة «حتيك جلجلة النفري»‪.‬‬ ‫الفل�سطيني يف حني كان‬ ‫لقد اكت�شف ال�شاعر مبكرا �أنّ ْبذل الدماء‪ ،‬هو ال�صبح القريب لل�شعب‬ ‫ّ‬ ‫حكام العرب يجرتون الوعود الكاذبة من الغرب باعادة احلقوق �إىل �أ�صحابها‪�« ،‬أكفر بالوعود‬ ‫و�أحلد»‪.‬‬ ‫الن�ص من دنيا الكوابي�س العر ّبية التي ت�أ�سره عن التوهج واحلياة ويك�شف زيف‬ ‫يخرج الدم يف هذا ّ‬ ‫املواجهة التي كانت تخا�ض �ضد العدو اال�سرائي ّلي‪.‬‬ ‫مت�سك ال�شاعر بهذا الرمز‪،‬وا�ستحوذ على اهتمامه‪ ،‬لأنه ي�ؤمن بفكرة‬ ‫رمز ال�سيد امل�سيح(ع)‪ّ :‬‬ ‫الفداء واالنبعاث التي ت�شكل خال�ص اال ّمة وقيامها‪.‬‬ ‫ح�ضر ال�سيد امل�سيح(ع) من خالل معجزة الوالدة يف ق�صيدة «معجزة واحدة» من جمموعة «وداعا‬ ‫�أ ّيها ال�شعر» امل�ؤرخة العام ‪:1964‬‬ ‫خ ّي ْم هنا على ر�ؤو�س احلراب‬ ‫وارحل معي يف نزهة للعذاب‬ ‫�إرحل معي يف �صخرتي اخلالدة‬ ‫ال�سراب‬ ‫�إرحل معي يف هذا ّ‬ ‫باب‪،‬‬ ‫هم �أنا ك ّلما‬ ‫ُ‬ ‫اجتزت ْ‬ ‫ما ّ‬ ‫‪132‬‬


‫الأدب املقاوم‬

‫باب‪،‬‬ ‫هاجمنا من �صلبه �ألف ْ‬ ‫هم‪ ،‬نحن ُ‬ ‫الطفل والوالدة‬ ‫ما َّ‬ ‫(‪)5‬‬ ‫نحبل من معجزة واحدة ‪.‬‬ ‫ترى من هو هذا الذي يتوجه اليه ال�شاعر باخلطاب املبا�شر؟ هل هو احللم الذي يرجوه؟ هل هو‬ ‫القائد الذي يرى فيه خال�صا للأمة؟‬ ‫�إن ا�ستدعاء املخاطب امللتب�س بو�ساطة فعل االمر «خ ّيم هنا» ي�شكل عالمة اطمئنان وتفا�ؤل‬ ‫للوالدة املعجزة التي تراها عني ال�شاعر يف هذه املرحلة الع�صيبة من عمر اال ّمة‪ .‬واالقامة على‬ ‫ت�صدر فعل االمر «ارحل معي» اجلمل ثالث‬ ‫«ر�ؤو�س احلراب»‪ ،‬ال تعني غياب الرحيل‪ ،‬فقد ّ‬ ‫ال�سيميائي‬ ‫اللغوي القائم على التكرار انتقل �إىل نظام بديل هو النظام‬ ‫مرات‪ ،‬ما يعني �أن النظام ّ‬ ‫ّ‬ ‫الذي و�ضعنا �أمام رحيل مل يك�شف عن نهايته‪ ،‬وك�أننا �أمام رحيل ال قرار له‪ ،‬وال غاية له‪� ،‬إنه‬ ‫الرحيل «يف نزهة العذاب»‪.‬‬ ‫فهل هذه النزهة التي يقوم به ال�شاعرب�صحبة املخاطب هي ذاتها رحلة االالمل والعذابات التي‬ ‫تعر�ض لها ال�سيد امل�سيح (ع) يف حياته؟ ّ‬ ‫لعل هذه الرحلة الطويلة عند كمال خري بك متثل اال ّمة‬ ‫ووالدتها من جديد ‪.‬‬ ‫وال يكتفي ال�شاعر بعذابات ال�سيد امل�سيح (ع)‪ ،‬بل ي�ستقدم �صخرة �سزيف ليزيد امل�شهد م�أ�سو ّية‬ ‫«�إرحل معي يف �صخرتي اخلالدة»‪ ،‬مل ي�ستح�ضر ال�شاعر �صخرة �سزيف يف قلب هذا الرحيل �إال‬ ‫لي�شري �إىل ثقافة تلك املرحلة من العام ‪ 1964‬زمن كتابة الق�صيدة‪ .‬فالرحيل مل يكن مع �صخرة‬ ‫�سزيف نحو القمة امل�ستحيلة‪ ,‬بل هو رحيل مع ال�صخرة التي ترب�ض على �صدر اال ّمة‪ ،‬وال يجد‬ ‫ال�سراب»‪.‬‬ ‫ال�شاعر �سبيال لزحزحتها‪ ،‬وهذا الرحيل لي�س وا�ضحا‪ ،‬هو رحيل «يف قلب هذا ّ‬ ‫�أقفلت فعل الأمر «�إرحل» الذي تكرر ثالث مرات‪ ،‬االبواب �أمام الأمل يف تغري �أحوال اال ّمة‪،‬‬ ‫هم» الذي تكرر مرتني ليفتح االبواب املو�صودة يف الوالدة املعجزة‪� ،‬إذ �شكل‬ ‫وي�أتي الرتكيب «ما ّ‬ ‫«ماهم نحنا‬ ‫حتمله ال�شاعر ّ‬ ‫«للهم» الذي ّ‬ ‫وقدم للولوج اىل الوالدة املعجزة بقوله‪ّ :‬‬ ‫هذا الرتكيب نفيا ّ‬ ‫لطفل والوالدة‪ ،‬نحبل من معجزة واحدة»‪.‬‬ ‫الديني الذي متثّل مبعجزة ال�سيدة مرمي (ع)‪ ،‬لكي ي�شري �إىل �إمكانية قيامة‬ ‫ّقدم ال�شاعر املوروث‬ ‫ّ‬ ‫اال ّمة يف ظل ظروف قا�سية جتتاح �ساحتها ‪،‬وهذه الوالدة املعجزة �سابقة حلدث تاريخي‪ ،‬ربمّ اكان‬ ‫الديني‪ ،‬وهو انطالق الر�صا�صة االوىل للمقاومة الفل�سطين ّية العام‬ ‫ال�شاعر يراه من خالل رمزه‬ ‫ّ‬ ‫اال�سرائيلي‪ ،‬هذه عالمة تفا�ؤل ّية ّقدمها الرمز يف خ�ضم العا�صفة‬ ‫‪ 1965‬يف �صراع اال ّمة مع العدو‬ ‫ّ‬ ‫التي تتعر�ض لها اال ّمة يف تلك املرحلة‪ ،‬و�إ�شارة وا�ضحة لتبني الفعل املقاوم عند كمال خري بك‪.‬‬ ‫‪133‬‬


‫رمز متوز‪ :‬ح�ضر رمز متوز بقوة يف ن�صو�ص كمال خري بك‪ ،‬وهذا لي�س غريباً على �شاعر ينتمى‬ ‫االدوني�سي نتاج اال ّمة ال�سور ّية‬ ‫التموزي‬ ‫يعد الرمز‬ ‫القومي‬ ‫ال�سوري‬ ‫�إىل احلزب‬ ‫االجتماعي‪ ،‬الذي ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يف مراحل تكونها‪.‬‬ ‫يف ق�صيدة «اخليام» التي كتبت بعيد هزمية العام ‪ّ 1967‬‬ ‫تتعطل قدرة متوز على اجرتاح معجزة‬ ‫االنبعاث التي يعي�ش ال�شاعر حلمها‪:‬‬ ‫كان مثلي غيم ًة ّثم انهمر‬ ‫فوقَ �صحراء الوجوه القاحلة‬ ‫ْ‬ ‫وت�ساقط َنا معا‪ ..‬يف طريق القافلة‬ ‫ألف عام‬ ‫وانتظرنَا � َ‬ ‫ْ‬ ‫كي نرى فوقَ الغ�صون الراحلة‬ ‫بعثَنا‪ ،‬ع َرب الثمر‬ ‫تنبئ عنا‬ ‫زهر ًة ُ‬ ‫يهم�س �أ ّنا �صدف ًة‪،‬‬ ‫برعما ُ‬ ‫تقم�صنا املطر‬ ‫من الف عام‪ ،‬قد ّ‬ ‫و�سقطنا‬ ‫فوقَ �صحراء الوجوه القاحلة‪،‬‬ ‫فعر ْف َنا‬ ‫�صدفة‪،‬‬ ‫مرت حت َتنا‪..‬‬ ‫�أي�ضا‪،‬ب�أنّ القافل َة حني ْ‬ ‫(‪)6‬‬ ‫حتت اخليام‬ ‫هر َع ْت واختب�أَ ْت َ‬ ‫وحد الت�شبيه بني ال�شاعر ومتوز اخل�صب واخلري «كان مثلي غيمة ّثم انهمر» لي�صبحا فعل ا�ست�سقاء‬ ‫ّ‬ ‫االر�ض القاحلة «فوق �صحراء الوجوه القاحلة»‪ ،‬هذا املطر املت�ساقط يف طريق القافلة من املفرو�ض‬ ‫ان يعطي نتائج طيبة انتظرها ال�شاعر منذ «�ألف عام» لت�ضع حدا للت�صحر الذي يجتاح واقعنا‬ ‫العربي‪ ،‬خ�صو�صا‪ ،‬الت�صحر الذي تركته هزمية العام‪ 1967‬يف �ساحتنا العرب ّية‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫يف �أجواء التفا�ؤل التي ي�شيعها متوز يف الن�ص‪ ،‬بامكانية ان تثمر (الغ�صون) و�أن تزهر (الرباعم) �أم ًال‬ ‫يف عودة احلياة �إىل الطبيعة وازالة الوجوه القاحلة‪ ،‬هذا ك ّله عالمات تب�شر بانتاج واقع عربي جديد‬ ‫«قدتقم�صنا املطرو�سقطنا‬ ‫يتجاوز حمنة الهزمية وي�ؤ�س�س لواقع جديد‪� ،‬إال �أ ّنك تفاج�أ برتاجع القافلة‬ ‫ّ‬ ‫فوق �صحراء الوجوه القاحلة»‪.‬‬ ‫الن�ص ي�سري يف الوجهة التي حددها كمال خري بك‪ ،‬لأن قدرة املطر تعطلت فوق‬ ‫مل يعد متوز ّ‬ ‫‪134‬‬


‫الأدب املقاوم‬

‫ال�صحراء‪ ،‬مايعني �أن ظروفا قا�سية عجز متوز يف مواجهتها‪ ،‬وهذا يظهر وا�ضحاً يف اختباء القافلة حتت‬ ‫اخليام «هرعت واختب�أت حتت اخليام»‪.‬‬ ‫يبدو �أن االرث البدو الذي متثله اخليام بو�صفها بعدا ثقاف ّيا منك�سرا حتت وط�أة احلدث (الهزمية)‪،‬‬ ‫التموزي فيها‪� ،‬أن الك�سر الذي �أ�صاب الرمز‬ ‫هوما �أدى �إىل االم�ساك بثقافة اال ّمة وتعطيل البعد‬ ‫ّ‬ ‫الن�ص‪ ،‬هو ذاته الك�سر العام الذي �أ�صاب ثقافة اال ّمة ووجدانها‪.‬‬ ‫التموزي يف هذا ّ‬ ‫يف ق�صيدة �أخرى ي�ستعيد متوز �أنفا�سه‪ ،‬ليقف �أمام االعا�صري التي جتتاح �أ�شرعة كمال خري بك‪،‬‬ ‫ويت�صدى للتما�سيح التي متزق ج�سد �شعبه‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫يقول ال�شاعر يف ق�صيدة «�صخرة البعث»‪:‬‬ ‫املوت‪ ..‬وانطلق يف ن�شيدي‬ ‫ّفجر َ‬ ‫وق�صف رعود‬ ‫نغما ثائرا‬ ‫َ‬ ‫عرب هذي اجلبال من غوطتي اخل�ضراء‪...‬‬ ‫من بلدتي‪ ..‬و�أر�ض جدودي‪...‬‬ ‫(‪)7‬‬ ‫دم�شق الثكلى �س�أطلقُ بركاين‬ ‫من َ‬ ‫«فجر‪/‬انطلق» وظيفة ا�ستثنائية ت�ؤ�شر �إىل تغليب فكرة احلياة على فكرة املوت‪،‬‬ ‫ي�ؤدي فعال االمر ّ‬ ‫التموزي الذي �أرجع لل�شاعر ن�شيد احلياة «نغما ثائرا» و�أمطاراً‬ ‫لذلك متاهت �شخ�صية ال�شاعر بالبعد‬ ‫ّ‬ ‫غزيرة و«ق�صف رعود»‪.‬‬ ‫ت�ضرب جذوة التموز ّية يف �أعماق اجلغرافيا التي �أمن بها ال�شاعر بعدا وجود ّيا وكيان ّيا يحقّق وجود‬ ‫اال ّمة وقوتها‪ .‬من دم�شق اخل�ضراء التي ّ‬ ‫ت�شكل عمق اال ّمة‪� ،‬سيطلق كمال خري بك بركانه املنتظر‬ ‫«من دم�شق الثكلى �س�أطلق بركاين»‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ال�صراع الذي‬ ‫لعل ال�شاعر يرى قوة اال ّمة و�ضعفها يرتبط مبا ت�ؤديه دم�شق من قدرة على �إدارة ّ‬ ‫يو�صل اال ّمة �إىل ب ّر االمان‪.‬‬ ‫لعل هذا الك�شف يف زمن كتابة الق�صيدة يتماه مع مات�شهده دم�شق من غزوات بربر ّية ترغب يف‬ ‫�إلغاء دورها املنا�صر حلركات املقاومةيف مواجهة امل�شاريع الغرب ّية ويف مقدمتها الكيان الغا�صب‪.‬‬ ‫اال�سرائيلي‬ ‫فالربكان الذي حتدث عنه ال�شاعر والذي كان يرعب النظام العربي املتواطئ مع العدو‬ ‫ّ‬ ‫من جهة‪ ،‬والدول الغرب ّية التي ت�ساند ا�سرائيل من جهة ثانية‪،‬هو ذاته يرعب الكيان الغا�صب‬ ‫الغربي اليوم‪.‬‬ ‫العربي والعامل ّ‬ ‫وحلفاءها يف العامل ّ‬ ‫بناء ملا تقدم ميكن �إن نقول ان ال�شاعر �ساق رموزه وفاق ر�ؤيته التي تر�صد حركة التاريخ يف م�سارات‬ ‫قوتها و�ضعفها‪ ،‬وا�ضعاً رمزه يف معظم االحيان يف مواجهة الثقافة التي يقر�أ �ساحتها بدقة وعناية‪.‬‬ ‫‪135‬‬


‫االحباطي والتفا�ؤ ّيل على �ضرورة �إعادة الأمور �إىل ن�صابها‬ ‫الن�صو�ص ببعد ّيه‪،‬‬ ‫ك�شف الرمز يف هذه‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وحت�س�سه املوا�ضع ال�ضعف‬ ‫احلقيق ّية يف اال ّمة‪ ،‬كان الرمز عالمة ت�شري �إىل هواج�س كمال خري بك ّ‬ ‫والقوة يف االمة‪ ،‬يف �سبيل ت�أ�سي�س ثقافة املقاومة التي تو�صل �إىل الهدف املر�سوم (�أن ما �أخذ ب�ألقوة‬ ‫ال يرد �إال بالقوة)‪.‬‬ ‫الهوام�ش‬

‫‪1‬ـ من جمموعة «االربكان» �ص‪80‬ـ‪.81‬‬ ‫‪2‬ـ من جمموعة «الربكان»‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار الفكر للن�شر‪� ،‬ص‪.60‬‬ ‫‪3‬ـ من جمموعة «وداعاً �أ ّيها ال�شعر»‪ ،‬ق�صيدة النزيف‪� ،‬ص‪.70‬‬ ‫‪4‬ـ من جمموعة «الربكان»‪� ،‬ص ‪22‬ـ‪. 23‬‬ ‫‪5‬ـ من جمموعة «وداعاً �أ ّيها ال�شّ عر» �ص‪.11‬‬ ‫‪6‬ـ من جمموعة «وداعاً �أ ّيها ال�شعر» �ص‪.31‬‬ ‫‪7‬ـ من جمموعة «الربكان» �ص‪.49‬‬

‫‪136‬‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫�أمني نخلة‬

‫ورقات الدلب وم�شق الزعرورة‬

‫�شوقي �أبي �شقرا ‪� -‬شاعر‬ ‫القامة التي لهم‪ ،‬من حيث ال�شهامة الكاملة‪ ،‬غري التي لغريهم‪ ،‬غري التي لنا‪ ،‬غري التي توالت‬ ‫كال�سحابة من �سماء �إىل �سماء‪ ،‬ومن لغة �إىل لغة‪ ،‬ومن قلم �إىل قلم‪ .‬منذ ذلك القبل �أي هم‪� ،‬إىل‬ ‫ذلك البعد �أي الذين �سبقوا والذين �أقبلوا على اجلنائن يف م�سار الأيام واحلقبة التي �أعقبت حقبة‬ ‫ما فعلوا وما �أنتجوا وما جرجروا من �أذيال على �ساحات و�ساحات هنا وهنالك حتى �إىل املحافل‬ ‫الواقعة يف اجلوار ويف البالد‪ ،‬بالد ال�ضاد‪ .‬ويف البالد التي عكفت عليهم وحاولت �أن تزور �أبعادهم‬ ‫وحتنو على �سرائر ف�صولهم‪.‬‬ ‫والقامة تلك‪ ،‬قامة �أمني نخلة‪ ،‬ورقة دلب كما و�صفتها ذات مرة يف جريدة النهار‪ ،‬يف نطاق ن�صو�ص‬ ‫عن �صداح ذلك البلبل‪� ،‬أي ذلك الطائر الذي طاملا �أخذه �إليه يف الطبيعة ال�شوفية الو�ضاءة‪ ،‬يف‬ ‫طبيعة الباروك حيث هو ولد ون�ش�أ وانغم�س وط ّوف يف عذباتها‪ ،‬يف �أ�شجارها‪ ،‬يف ال�شيح والأخ�ضر‬ ‫الأخ�ضر والأطرى والأطرى واملزهر املزهر‪ .‬وحيث ال�شوق �أ ّمل به وحيث الريف �أو�صله �إىل املفكرة‪،‬‬ ‫و�إىل �أن ميجد ما يحتويه من �ألطف اللطائف ومن �أعذب العذوبة‪ .‬وحيث الطل الذي يكاد كالغيث‬ ‫يهمي وحيث ذلك املطرب البلبل تكراراً الذي هو يذكره واحداً من ال�سكان القدامى والنزالء‬ ‫الأوفياء يف تلك الناحية‪ ،‬يف تلك ال�ضاحية الغناء‪.‬‬ ‫وقامة �أمني نخلة �إمنا تنه�ض عموداً بل �أعمدة يف النرث اللبناين‪ ،‬يف الإن�شاء العربي جملة ويف حم ّياه‬ ‫�إحدى ال�شامات‪� ،‬إحدى الطرف‪� ،‬إحدى العالمات‪ .‬وتنه�ض �أجمل و�أو�ضح من قنطرة القناطر‬ ‫ومن املندلون الذي لنا‪ ،‬كما لها الرندحة الغنائية من فرط بيانها الأ�صيل والذي يظل ك�أنه يفرك‬ ‫عينيه مثلما هي �إمر�أة الدالل و�صبايا الغنج وم�شق الزعرورة‪ .‬ومثلما هن هاتيك احللوات يف‬ ‫م�سقطه ذي الطيب و�ألوان امل�سك والإثمد وكالهما منب�سطان‪ .‬ووالده امللهم ر�شيد �إمنا هو ال�ساهر‬ ‫لهن‪ ،‬ويحر�ص على �أن ينقل عطورهن وح�ضورهن �إىل الهودج‪� ،‬إىل نف�سه يف ق�صائده التي ذاعت‬ ‫والتي‪ ،‬من كونها متيل �إىل املي�سم اخلا�ص واملعا�صر‪ ،‬هي �أ�سا�س ويف �صدارة خروج ال�شعر اللبناين‬ ‫املحكي‪� ،‬إىل �أن يكون يف ما هو عليه من جماراة خل�صمه الف�صيح‪.‬‬ ‫ولئن مل يكن �أمني نخلة‪ ،‬يف ملء غرار والده‪ ،‬وعلى حد �سيفه يف جمال الغزل‪ ،‬ويف جلب املر�أة‬ ‫�إىل الديوان‪� ،‬إىل ال�سطور‪ ،‬ف�إنه جعل ن�صه غز ًال‪ ،‬ورمبا يكون ذلك يطابق كتاباته التي ك�أنها تقا�سيم‬ ‫‪137‬‬


‫على العود وعلى خطاب الأنثى‪ .‬وهي ك�أنها نقلة حجل من خطوة �إىل �أخرى �إىل نقلة �أخرى‪.‬‬ ‫وتهد�أ العا�صفة كل مرة ويطرب الأمني �إبن الر�شيد �أكرث مما هي املر�أة له‪� ،‬أي الثانية اجلديدة ومن‬ ‫�أن تكون موجودة بني يديه‪ ،‬بني ذراعيه‪.‬‬ ‫و�إمنا هي اللغة العربية‪ ،‬هي �صنيعه هي التي من نادلة بني �أ�صابعه‪ ،‬بني ت�ضاعيف القلم‪ ،‬من مغنية‬ ‫جمهولة‪ ،‬من جارية يف الرتاث لكنها جذابة له يف قرارته دائماً ‪ ،‬رفعها‪ ،‬كما يف احلكايات‪ ،‬مما �سلف‬ ‫�صماء وخفيفة ومثقلة �إىل مرهفة جد الرهافة‪� ،‬إىل التي تبدي وتعيد‪� ،‬إىل التي‬ ‫ومما خلف‪ ،‬من جارية ّ‬ ‫جتيد كل الإجادة والتي متيل باجل�سد ومتيل باجليد‪ ،‬وترق�ص ليل نهار‪.‬‬ ‫وال يخفى عن �أحد من �أي طبقة �أمني نخلة‪ ،‬لأنه �صنع الرداء والنكهة يف لبنان ولأنه مك ّر‬ ‫مفر وي�شتهى كالتفاحة وي�شع يف وجوه اجلميع‪ ،‬يف قاطبة الأقطار والبلدان‪ ،‬يف قاطبة الأذواق‬ ‫وم�ضطربات الأفكار‪.‬‬ ‫ولأنه هو امللك الذي يف الرواية ولأنه هو الغرام والتمثال ولأنه بغماليون كان �أياها تلك اللغة وكان‬ ‫العا�شق الذي نالها فائزاً معانق َا �إىل ال نهاية وال نهايات لل�سعادة املحفورة يف خوامته هذه املجلوبة‬ ‫من مطارح اخلربة وم�سارح املعرفة ومن داخل منجمه ليكون ذلك الك ّلي املهارة واحلاذق يف‬ ‫نحت �أطباق الكلم وعلوقه مبا هو �إما من ف�ضة و�إما من ذهب‪� ،‬إفتتان َا مبا كانت عليه �إرم ذات العماد‬ ‫اللماعة حتى يف م�صائرها �إىل الهاوية واخلراب‪.‬‬ ‫التي تراوده ويراودها‪ ،‬ووقوفاً على �أطاللها الكرمية ّ‬ ‫ورمبا تغ�ضب عليه بقية معادن ومعادن‪ ،‬ورمبا يغار زبرجد وياقوت يف تلك العمارة‪ ،‬وبقية الأ�سواق‬ ‫والأبواب املفتوحة على هذه الآونة حيث ال�صعوبات املتعاقبة �أغاريد وتن�شر خمالبها‪ .‬وحيث‬ ‫ال�سهوالت يف الفنون وحدها يف الأمداء ويف الأفنان ويف الأقفا�ص‪.‬‬

‫‪138‬‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫فلنجرب هذا الرجل (حممد معتوق)‬ ‫وفيق غريزي ‪� -‬شاعر‪ ،‬ناقد وباحث‬

‫الناقد وفيق غريزي يف مراجعة نقدية لكتاب حممد معتوق «فلنجرب هذا الرجل»‬ ‫كا�شفاً التحوالت والأحداث التناق�ضات التي تركت ت�أثرياتها وباحثاُ عن م�سعى‬ ‫وخال�ص للفكر القومي يف مواقف �سعاده الفكرية وال�سيا�سية والأجتماعية‪.‬‬ ‫يحملنا الدكتور حمـمد معـتـوق يف هذا الكتاب �إىل �أنطـون �سعــادة ‪ .‬فكراً ومنهجاً‪ ،‬ونحن نواكب‪،‬‬ ‫مذهولني‪ ،‬التطورات العلمية والإقت�صادية وال�سيا�سية واملعرفية التي ي�شهدها العامل والتي ما فتئت‬ ‫ترتاءى‪ ،‬الواحدة تلو الأخرى‪ ،‬والتي على زخمها وتنوعها وت�سارعها‪ ،‬مل تعد تعطي الإن�سان فر�صة‬ ‫كافية لتطويعها ‪� ,‬أو حتى لإلتقاط �أنفا�سه‪ ،‬و هو يحاول �أن يتكيف معها ‪.‬‬ ‫ففي معر�ض كالمه عما �أ�سماه (الإ�ضطراب والتناق�ض يف فهم القوميني الإجتماعيني)‪ ،‬ال�سيما‬ ‫يف فئاتهم املثقفة‪ ،‬لعقيدتهم التي ال ي�شك �أحد‪ ،‬بر�أيه‪ ،‬يف متا�سكها وغناها و�شمولها‪ ،‬ي�ستعر�ض‬ ‫الدكتور معـتـوق موقف ه�ؤالء املثقفني من الدميوقراطية والليربالية والإ�شرتاكية الذي كان‪ ،‬يف‬ ‫�أحايني كثرية‪ ،‬متناق�ضاً مع عقيدتهم الأ�صلية‪ ،‬الأمر الذي وعى �سعادة‪ ،‬بعد عودته من املغرتب‬ ‫الق�سري يف مطلع العام ‪� ،1947‬إىل �شرح تعاليمه و مبادئه يف �سل�سلة حما�ضرات تثقيفية يف �إطار‬ ‫ي�سمى الندوة الثقافية‪ ،‬وبوا�سطة املطبوعات احلزبية‪ ،‬بغر�ض �إظهار �شمولية الفكرة القومية‬ ‫ما كان ّ‬ ‫الإجتماعية من جهة‪ ،‬وتوحيد الفهم لهذه الفكرة من جهة �أخرى‪ ،‬وبالتايل توحيد النظر �إىل‬ ‫�سمى معـتـوق ه�ؤالء املثقفني ب�أ�سمائهم‪ ،‬معترباً �أنّ‬ ‫الق�ضايا املنبثقة منها من جهة ثالثة‪ ،‬وقد ّ‬ ‫�إنتاجهم كان �ضئي ًال‪ ،‬يكاد يكون غري ذي قيمة ‪.‬‬ ‫«فبعد املحاولة الإنقالبية الفا�شلة عام ‪� 1962 - 1961‬أ�صاب احلزب القومي الإجتماعي �ضمور‬ ‫كبري و �أخذ ح�ضوره ال�شعبي يرتاجع وتفاقم �شعور القوميني بالإ�ضطهاد‪ ،‬الأمر الذي دفع ّ‬ ‫مفكريه‬ ‫الذين ي�ؤ ّدون �ضريبة الأ�سر يف ال�سجون ا ّللبنان ّية‪ ،‬ك�أ�ســد الأ�شـقـر و عـبدهلل �سعـادة و �شوقـي‬ ‫خيـرالـله‪� ،‬إىل نقد ال�سيا�سة ا ّلليربال ّية ال ّتي توجهها الواليات املتحدة‪ ،‬والإنفتاح فج�أة على‬ ‫املع�سكر الإ�شرتاكي‪ .‬وما �إن خرج ه�ؤالء من ال�سجون حتى نحوا منحى ي�سارياً عنيفاً فاج�أ اجلميع‬ ‫‪139‬‬


‫يف لبنان واملنطقة‪ ،‬فاحلزب الذي حارب ال�شيوعية يف اخلم�سينات من القرن املا�ضي‪ ،‬يتح ّول بني‬ ‫ليل ٍة و�ضحاها �إىل حزب ي�ساري �إ�شرتاكي عروبي ‪.‬‬ ‫فلنجرب هذا الرجل‬ ‫ّ‬

‫ّثمة �س�ؤال يخطر يف البال‪ :‬ملاذا هذا الإ�ضطراب والتناق�ض يف فهم القوميني الإجتماعيني لعقيدة‬ ‫ال ي�شك �أحد يف متا�سكها و غناها و �شمولها ؟‬ ‫بقول الدكتور معـتـوق‪« :‬قبل الإجابة يجدر بنا �أن ّ‬ ‫نذكر بالظروف ال�سيا�س ّية و احلزب ّية ال ّتي جرى‬ ‫فيها �إعدام �سعادة و عودة احلزب ّ‬ ‫أ�س�سه �إىل العمل بعد غيابه‪ .‬ونبد�أ بالإ�شارة �إىل �أن �سعــادة‬ ‫الذي � ّ‬ ‫عاد يف عام ‪ 1947‬من الإغرتاب الق�سري ّ‬ ‫الذي دام ت�سع �سنوات ليجد احلزب ال�سوري القومي‬ ‫ّ‬ ‫الذي � ّأ�س�سه عام ‪ 1932‬قد تخ ّلى عن الهو ّية ال�سورية وغيرّ �شعارات احلزب ومبادئه‪ ،‬وتب ّنى الواقع‬ ‫الذي ن�ش�أ عن الإ�ستقالل عام ‪ ،1943‬وحت ّول �إىل احلزب القومي ّ‬ ‫اللبناين ّ‬ ‫الذي يعمل برخ�صة من‬ ‫وزارة الداخل ّية يف حكومة الإ�ستقالل»‪.‬‬ ‫مل يجد �سعادة يف نيل لبنان �إ�ستقالله عن فرن�سا ما يدعو �إىل �إحداث تغيريات يف املبادئ‬ ‫والأغرا�ض‪.‬‬ ‫ويف مواجهة الواقع ا ّللبناين الذي �أريد من تب ّنيه حتويل احلزب �إىل منظمة �سيا�س ّية لبنان ّية غري معينة‬ ‫بالوحدة والق�ضية ال�سور ّيتني‪ ،‬فتقدم بخطاب واقعي ر�صني حافظ فيه على غاية احلزب ومبادئه‪،‬‬ ‫فقال‪� :‬إنّ احلزب يعرتف بالكيان ا ّللبناين‪ ،‬دائرة �ضمان لينطلق منها الفكر‪ ،‬ولأ ّنه قام برعاية‬ ‫ا ّللبنانيني ويبقى رهن �إرادتهم ‪.‬‬ ‫وبقينا على حد قول املعـتـوق‪� ،‬إنّ هذا اخلطاب ّقدم �أ�سمى �صور التع ّلق بالدميوقراطية واحرتام‬ ‫الإرادة ال�شعب ّية حني ربط الكيان اللبناين ب�إرادة اللبنانيني‪ ،‬ف�إليهم وحدهم يعود تقرير م�صري‬ ‫يح�ض على �إخراج‬ ‫الكيان وب�إرادتهم وحدهم يبقى �أو يتح ّول‪ .‬و�إنمّ ا �أراد �سعادة من هذا اخلطاب �أن ّ‬ ‫ال�صراع من دائرة امل�صالح الطائف ّية ‪ -‬الإقطاع ّية ال�ض ّيقة �إىل دائرة الفكر‪ ،‬وعلى احرتام حر ّية‬ ‫املعتقد وحق �إبداء الر�أي ح ّتى يت�س ّنى للبنانيني التع ّرف بحر ّية تا ّمة �إىل وجهة النظر الأخرى‪،‬‬ ‫وال ّتي ترى حياة لبنان يف توثيق �إرتباطه احلياتي مبحيطه القومي ال�سوري‪ ،‬وح ّتى يتبينّ اللبنان ّيون‬ ‫تقدمه الهو ّية ال�سور ّية لوقف التنا�صر بني احلزبيات الدين ّية املتل ّب�سة لبو�س‬ ‫�أي خمرج نظري عبقري ّ‬ ‫الإنعزال اللبناين والإنفال�ش العروبي ‪.‬‬ ‫وي�شري الدكتور معـتـوق �إىل �أن �سعــادة �أق�صى دعاة القبول بالواقع اللبناين عن احلزب‪ ،‬وعمد يف‬ ‫الوقت نف�سه‪� ،‬إىل �شرح تعاليمه ومبادئه بغر�ض �إظهار �شمول ّية الفكرة القوم ّية ال ّتي ُجعلت �أ�سا�ساً‬ ‫‪140‬‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫للعمل احلزبي القومي‪ .‬كما �أق�صى دعاة الليربال ّية الذين �أرادوا احلزب حركة �سيا�س ّية �ضئيلة‬ ‫ت�ستعري من الوجوديني وغريهم ما يروق له�ؤالء الليرباليني من �أفكار ‪.‬‬ ‫البحث التاريخي عن اخلال�ص‬

‫هناك �صراع دائم بني فكرين ونهجني يف التاريخ‪ ،‬نهج ما ّدي‪ ،‬ح�سابي‪ ،‬ميكانيكي و�ضعي ونهج‬ ‫متح ّرك ناب�ض هادف‪ .‬الفكر اليهودي يندرج حتت عنوان النهج الأ ّول‪ ،‬ماركـ�س‪ ،‬فرويـد‪،‬‬ ‫و�آيـن�شـتاين‪ ...‬فكر م ّوب «فايالت» يف �أدراج معادالت تغني عن املو�ضوع وحتم ّياته‪« ،‬الفكر‬ ‫ال�سوري القومي الإجتماعي‪ ،‬يندرج حتت عنوان النهج الثاين‪.‬‬ ‫الأ ّول يعي الإحتكاك الأفقي الإجتماعي �أحياناً‪ ،‬الإحتكاك مع ال�شخ�ص الآخر‪ ،‬و الثاين يعي‬ ‫يتحدث فقط لغة الكومبيوتر املربجمة والثاين‬ ‫الإحتكاك العمودي ‪-‬الأر�ض و الغيم‪ .-‬الأ ّول ّ‬ ‫يراهن على الإحتمال ال�ضئيل على هام�ش معادالت الكومبيوتر لأ ّنها �إ�ستكمال للإن�سان �أو ربمّ ا‬ ‫ُيقال لأ ّنها �أن�سن ٌة للمعادالت ال ّتي تخت�صر الإن�سان يف الكومبيوتر» على ح�سب قول امل�ؤ ِّلف ‪.‬‬ ‫�أنطـون �سعـادة كان يبحث عن حل لإ�شكال ّية احلر ّية والعطاء الإن�ساين احلر مو�ضوع الأ ّمة ال�سور ّية‬ ‫جاء يف �إطار البحث عن احلل‪ ،‬التوحيد ا ّلذي هو من الفكر ال�سوري كان احلل بالن�سبة �إليه‪.‬‬ ‫فو�ضع قواعد التوحيد؛ الإنتماء �إىل جمتمع واحد‪ ،‬دورة حياة واحدة‪� ،‬أ ّمة واحدة‪ ،‬وطن واحد‪،‬‬ ‫م�صري واحد‪ ،‬دولة واحدة‪ ،‬مثل عليا واحدة ‪.‬‬ ‫«والعلمان ّية التي تنقل التوحيد من قاعدة الدين �إىل قاعدة الإجتماع الواحد‪ ،‬دورة احلياة الواحدة‪،‬‬ ‫فتزيل الإ�شكال النا�شئ عن تعدد الأديان واملذاهب والأ�صول الإثن ّية و �أمثالها»‪.‬‬ ‫كان اختيار �سعــادة للنهج القومي وا�ضحاً‪ ،‬طرحه على نف�سه �س�ؤال‪ :‬من نحن؟ و ربمّ ا مل�صلحة هذا‬ ‫الإختيار �صعود الت ّيار القومي يف �أوروبا‪ � ،‬اّإل �أنَّ �سعــادة كان قد �أنهى كل ت�شكك ب�سالمة هذا‬ ‫املنهج قبل ت�أ�سي�س احلزب ‪.‬‬ ‫ويرى امل�ؤ ّلف الدكتور معــتوق يف منظومات الأفكار الر�سول ّية الغيب ّية وخالفها‪ ،‬هناك دائماً نهاية‬ ‫حمددة وحمتومة‪ ،‬يف اليهود ّية بناء الهيكل تب�شّ ر مبجيء امل�سيح‪ ،‬يف املحمد ّية‪ ،‬حممد �آخر الأنبياء‪،‬‬ ‫يف امل�سيح ّية �أو بالأحرى مذاهبها وبدعها نهاية العامل قريبة‪ ،‬يف الباطن ّية ح ّتى‪ ،‬لدى ال�شيعة‬ ‫املهدي هو �آخر الأئمة‪ ،‬عند الدروز املوحدين احلاكم هو التج�سيد ال�سابع والأخري للخالق‪ ،‬ح ّتى‬ ‫املارك�س ّية‪ ،‬الطبقة الربوليتار ّية هي �آخر الطبقات‪ ،‬فال طبقات بعدها‪.‬‬ ‫بالتمدن ولكن ال حتم ّيات و ال نهاية‪ .‬من يدري‬ ‫وي� ّؤكد �أ ّنه مع �سعــادة الوجدان القومي ظاهرة مرتبطة ُّ‬ ‫ّ‬ ‫تقدم الإمكان ّيات ال احلتم ّيات‪� ،‬ستغيرِّ وجه التاريخ‪.‬‬ ‫لعل العامل ي�صبح �أ ّمة واحدة‪ ،‬الأر�ض ال ّتي ّ‬ ‫‪141‬‬


‫القومية‬ ‫اخل�صو�صية‬ ‫�سعــادة و‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫اخل�صو�ص ّية �سمة �أ�سا�س ّية يف الأيديولوجيا القوم ّية‪ ،‬فالأ ّمة ملك ّية حمدودة �إ�ستثنائ ّية‪� ،‬أي �أ ّنها‬ ‫مقت�صرة على �أبنائها دون غريهم‪ ،‬و بهذا املعنى ف�إنَّ ثروتها حالل لهم و حرام على غريهم‪ ،‬وتراثهم‬ ‫يقد�سونه و مياهون بينه و بني �شرفهم و �صورتهم و مكانتهم يف العامل ‪.‬‬ ‫عزيز عليهم‪ ،‬و هم ّ‬ ‫واملق�صود بهذا الكالم من وجهة نظر معتوق هو الأيديولوجيا القوم ّية عموماً التي ن�ش�أت يف القرن‬ ‫التا�سع ع�شر يف الن�صف الثاين منه على وجه اخل�صو�ص‪ ،‬ففي هذه الفرتة التاريخ ّية بد�أ احلديث‬ ‫عن وحدة لغو ّية وثقاف ّية‪ ،‬ويف «الت�سعينات منه‪ ،‬مع الفرن�سي فـا�شـيه دو البــوج والإنكليزي‬ ‫ودخلت اخلطاب العن�صري عبارة‪:‬‬ ‫هيـو�سـنت �ستــيوارت ت�شـامبـرلني عن وحدة �إثولوج ّية‪ّ ،‬‬ ‫(‪ ،)NORBIES‬التي توحدت مع التف ّوق و �أخذت �شك ًال ت�شريح ّياً ميكن تلخي�صه بال�شقرة و طول‬ ‫الر�أ�س»‪.‬‬ ‫تعمقت اخل�صو�ص ّية القوم ّية مع مبد�أ الرئي�س الأمريكي وِل�ســن الذي ّ‬ ‫حل حمل قوم ّية فرنيتي‬ ‫وقد ّ‬ ‫خا�صة بالدول الكربى وحدها كربيطانيا و‬ ‫يف احلقيقة الليربال ّية‪ ،‬والتي كانت تعترب القوم ّية �صفة ّ‬ ‫فرن�سا وا ّلتي �أنكرت على �إيرلندا مثال حقّها يف �أن تكون �أ ّمة ‪ -‬دولة ‪.‬‬ ‫متثِّل اخل�صو�ص ّية القوم ّية معلماً رئي�س ّياً من معامل الفكر القومي الإجتماعي‪ ،‬وهو معلم ي�صعب‬ ‫�إغفاله ملطالع �آثار �سعــادة يف �ش�ؤوون ال�سيا�سة والإجتماع والإقت�صاد واحلقوق والأنرثبولوجيا و‬ ‫علم النف�س الإجتماعي ‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫ولعل احلا�ض على الت�شديد الظاهر على هذه اخل�صو�ص ّية هو �أنّ احلركة ن�ش�أت يف ظل حالة �سيا�س ّية‬ ‫كان فيها الإ�ستقالل ال�سيا�سي م�صادراً من جانب ق ّوتني �أجنب ّيتني عظيمتني‪ ،‬هما فرن�سا وبريطانيا‪،‬‬ ‫وكانت الهوية القومية حمل تنازع بني �أهواء و اعتبارات �سيا�س ّية مذهب ّية ر�أى �سعــادة محُ ِ قّا ً‪� ،‬أ ّنها‬ ‫ال ت�صلح �أ�سا�ساً لتعيني تلك الهو ّية ‪.‬‬ ‫ويقول الدكتور معــتوق‪« :‬انطلق العمل القومي الإجتماعي من �س�ؤال فل�سفي هو‪ ،‬من نحن؟‬ ‫و�سعي �سعــادة الذي طرح على نف�سه هذا ال�س�ؤال للإجابة عليه»‪ .‬فيقول �سعــادة‪« :‬واملبادئ‬ ‫الأ�سا�س ّية ت� ِّؤكد �إ�ستقالل ّية الق�ض ّية القوم ّية عن � ّأي ق�ض َّية �أخرى‪ ،‬وعلى خ�صو�صية املثل العليا‬ ‫التي تر�سمها هذه الق�ض ّية وزودة احلفاظ على �إ�ستقاللها عن � ّأي مثل عليا لأ ّمة �أخرى‪ ،‬وعلى‬ ‫جدارة ال�سوريني لإ�ستيعاب ق�ضايا ا�ستقاللهم هم جميعاً والعمل لها‪ ،‬بعيداً عن � ّأي و�صاية‪� ».‬إنَّ‬ ‫النف�س ال�سور ّية فيها كل علم وكل فل�سفة وكل فن يف العامل»‪.‬‬ ‫إجتماعي للخ�صو�ص ّية القومية قول �سعــادة يف �سوريا‬ ‫املادي ‪ -‬ال‬ ‫يكاد ّ‬ ‫يلخ�ص الأ�سا�س ّ‬ ‫ّ‬ ‫وال�سوريني‪« :‬هذا الوطن املمتاز لهذه الأ ّمة املمتازة»‪ .‬فقطبا التفاعل الإن�ساين يف فكر �سعــادة هما‬ ‫‪142‬‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫البيئة واجلماعة‪ ،‬ويف مو�ضوع �سوريا الكربى هما البيئة ال�سور ّية بخ�صائ�صها املتن ِّوعة من �سهول‬ ‫أرا�ض وبروز حدود وموقع جغرايف ا�سرتاتيجي‪ ،‬واجلماعة ال�سور ّية‬ ‫ووديان و بال و�أنهار وخ�صب � ٍ‬ ‫املك ّونة من �أ�صول عرق ّية خمتلفة بينها الكنعان ّيون والأ ّموريون واحلثّيون والكلدان والآرام ّيون ‪.‬‬ ‫وقد اعتمد �سعــادة‪ ،‬كما يرى الدكتور معــتوق‪ ،‬يف ت�سمية الأ�صول العرق ّية لل�سور ّيني على ما‬ ‫جاء يف كتب التاريخ امل�ستندة حتى الع�شرينات على كتب التوراة‪ ،‬و� اّإل �أ َّنه �أخ�ضع هذه الأ�صول‬ ‫للتدقيق يف �ضوء الإكت�شافات الأثر ّية التي �أوالها �إهتماماً كبرياً‪ .‬ومن املهم الإ�شارة هنا �أ َّنه‬ ‫�أدخل العرب يف هذه الأ�صول العرق ّية يف الفرتة الزمن ّية الأوىل من حياة احلزب ال�سوري القومي‬ ‫الإجتماعي‪ّ ،‬ثم مل يلبث �أن �أخرجهم من دون �أن يو�ضح ب�صورة جل َّية متاماً �شروط ت�أهيل اجلماعة‬ ‫املر�شَّ حة للإن�ضمام �إىل الأ�صول العرق ّية املك ِّونة لل�شعب ال�سوري‪ ،‬وهو يقفل الباب‪ ،‬باب الت�أهيل‬ ‫مع تك ُّون مزيج �ساليل ما ؟ وما �شروط تك ُّون هذا املزيج؟ املو�ضوع ّية؟ ولكن ُي�ستفاد من �إ�سقاط‬ ‫العرب من عنا�صر املزيج ال�ساليل ال�سوري‪ ،‬مث ًال‪� ،‬إنَّ هذا املزيج قد تك َّون ب�صورة نهائ ّية قبل الفتح‬ ‫العربي‪ � ،‬اَّإل �أننا ال نعرف متى اكتملت �صيغته النهائ ّية و ما ظروف هذا الإكتمال ‪.‬‬ ‫وتب ّنى �سعــادة الإتجِّ اه التجريبي يف الإ�ستدالل على ال�سالالت يتناق�ض مع الر�أي التقليدي‬ ‫املقد�سة عن �أ�سطورة نوح و عر ِّيه ولعناته املو ّزعة على �أبنائه‬ ‫القدمي امل�ستند �إىل ما جاء يف الكتب ّ‬ ‫والتي التقطتها املدار�س العرق ّية يف �أوائل القرن الع�شرين لت�صيغ منها نظر ّيات التف ُّوق ال�ساليل‬ ‫اخلداعة اللغو ّية‪ ،‬وهذه «الأد ّلة واهية يف تقدير‬ ‫وخال�ص العرق‪ ،‬وت�ستند يف �إ ِّدعاءاتها �إىل الأد ّلة ّ‬ ‫�سعــادة‪ ،‬وهو ينق�ض هذه الإ ِّدعاءات « ويقول �سعــادة يف هذا املجال «نتك ّلم عن عدد من الأقوام‬ ‫لغات م�شتقّة من �أ�ساليب لغو ّية موحدة قد يفيد �أنّ هذه الأقوام كانت يف بع�ض الأزمنة الغابرة‬ ‫متقاربة يف الإجتماع �أو �أنَّ �أ�صولها كانت تعي�ش معا‪ ،‬و لك َّنها ال تعني �أبداً وجوب كون هذه‬ ‫الأقوام م�شتقّة من �أ�صل واحد �أو ن�ش�أة �ساللة واحدة»‪.‬‬ ‫ال�سامي ن�سبة �إىل �سام‪ ،‬وال بالت�صنيف التوراتي لل�سالالت‪،‬‬ ‫و�سعــادة ال يقول مع القائلني بالعرق ّ‬ ‫ٍ‬ ‫�سالالت م�سا ٍو لعدد �ألوان الب�شرة‪ ،‬وال مع الآر ّيني‬ ‫كما ال يقول مع علماء القرن الثامن ع�شر بعدد‬ ‫امل�سماة الهند ّية‬ ‫بتف ُّوق عرقهم الذي ي�ستد ّلون عليه من الأ�سا�س اللغوي امل�شرتك لبع�ض ال�شعوب ّ‬ ‫ الأوروب ّية‪ ،‬و هو الربهان الذي نق�ضه �سعــادة ‪.‬‬‫وي�شري الدكتور معــتوق �إىل �أنَّ �سعــادة يذهب مذهب مــاك�س مــولر ال�شهري الذي يعترب اجلن�س‬ ‫مفهوماً وراث ّياً‪ ،‬ال ميكن �أن ُي ّ‬ ‫�ستدل عليه من ال ّلغة التي هي �ش�أن غري متوارث‪ ،‬وي�شبه هذا الإجتاه‬ ‫للتعامل مع ا ّللغة �إجتاه �سعــادة الذي رف�ض �إعتبار ا ّللغة من العنا�صر امل�ساعدة على ن�شوء الأمم‪ ،‬بل‬ ‫هي «�أمر حا�صل بالإجتماع يف الأ�صل ال �أنّ الإجتماع �أمر حادث با ّللغة»‪.‬‬

‫‪143‬‬


‫ف�صل الدين عن الدولة‬

‫ترك �سعــادة نظر ّية و�شروحات تناول فيها الدين يف طبيعته وعالقته بالإجتماع و�أثره على الوحدة‬ ‫الروح ّية الإجتماعية ون�سبته �إىل الإرتقاء الفكري والفل�سفي‪.‬‬ ‫النظري‬ ‫وتو�سعاته يف موقفه‬ ‫ّ‬ ‫ويقول الدكتور معــتوق‪« :‬وكانت ل�سعــادة �أي�ضاً يف �أُطر �شروحه ُّ‬ ‫�شدد فيها على �أمرين بارزين الأ ّول وحدة الأ�سا�س املناقبي للدينني‬ ‫م�ساجالت ومناظرات ّ‬ ‫واملحمدي وح�صر اختالفاتهما يف مقت�ضيات و�ضرورات البيئة التي ظهر فيها كل من‬ ‫امل�سيحي ّ‬ ‫هذين الدينني‪ .‬و�أ َّما الثاين فرف�ض ت�أ�سي�س الإجتماع على الدين وحتذيره من احلروب الدين ّية‬ ‫والدعوات الدين ّية مبختلف الأ�شكال التي تظهر بها»‪.‬‬ ‫وت�أ�سي�ساً على فكرة وحدة الأ ّمة التي تبلورت يف املبادئ الأ�سا�س ّية للحزب ال�سوري القومي‬ ‫الإجتماعي دعت املبادئ الإ�صالح ّية �إىل ف�صل الدين عن الدولة و�إزالة احلواجز بني املذاهب‬ ‫والطوائف ومنع رجال الدين من التدخل يف �ش�ؤون ال�سيا�سة والق�ضاء القوم َّيني‪.‬‬ ‫والقول بف�صل الدين عن الدولة من وجهة نظر امل�ؤلف هو تعايل العلمانيني والالطائفيني بالإ�ضافة‬ ‫�إىل اتباع العقائد املاد ّية الذين ينكرون وجود اهلل‪.‬‬ ‫ولذلك مل ي�أمن احلزب من تهمة الإحلاد التي رماه بها رجال الدين منذ ذاعت مبادئه باكت�شاف‬ ‫باملادي وا ُّتهِ م بالإحلاد ح ّتى‬ ‫�أمره عام ‪ .1935‬كما تق َّول الباحثون يف حقيقة �إميان �سعــادة‪ ،‬ف ُنعِت ّ‬ ‫حتدثوا عن مثال ّيته التي هي‬ ‫من �أقرب املق ّربني �إليه و ُو ِ�صف �أحياناً بالن�صف ميتافيزيقي‪ ،‬وكثريون َّ‬ ‫نقي�ض املاد ّية ‪.‬‬ ‫يقول �سعادة �إنَّ الدين ظاهرة من ظواهر الإجتماع الب�شري‪ ،‬ن�ش�أ بعامل تطور الإن�سان ّية نحو �سيطرة‬ ‫النف�س وحاجتها يف �ش�ؤون احلياة و تط ّور وارتقى بالعامل النف�سي نف�سه‪ ،‬كما ورد يف كتابه ن�شوء الأمم‪،‬‬ ‫فالدين �إذن �شحنة نف�س ّية روح ّية ت�صدر عن اجلماعة الب�شرية �أو تتلقاها هذه اجلماعة من جماعة �أخرى‬ ‫�سدها‪ ،‬وعند �سعـادة �إنّ الدين تطور مع تطور‬ ‫لرتد بها على تعقُّد احلياة و احلاجات املاد ّية وتزايد �صعوبة ّ‬ ‫الب�شرية ولن ينفك يتطور بتطورها‪ ،‬ولكن تطوره بطيء‪ ،‬ويف هذا البطء �س ّر خطورته‪.‬‬ ‫يتبينّ هنا من هذا القول �أنّ التطور خا�ص ّية يف الدين و�إن تكن �إ�ستجابته لدواعي التطور بطيئة‪.‬‬ ‫اليهودية‬ ‫�سعــادة و امل�س�ألة‬ ‫َّ‬

‫فر�ض اليهود �أنف�سهم على فل�سطني والعامل العربي منذ بدء �أزمة فل�سطني التي و�صلت �إىل ذروتها‬ ‫بقيام دولة �إ�سرائيل على اجلزء الأكرب من فل�سطني احلديثة‪ ،‬وحت ّولوا �إىل العدد الذي اغت�صب‬ ‫‪144‬‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫الأر�ض ال�سور ّية العرب ّية التي للإ�سالم و امل�سيح ّية روابط متينة ببع�ض مقد�ساتها‪.‬‬ ‫وبينّ الدكتور معــتوق �أ ّنه ت�سبق عالقته القومية الإجتماعية باليهود تاريخاً قيام دولة �إ�سرائيل‬ ‫امل�صطنعة عام ‪ ،1948‬فمنذ عام ‪ 1936‬عندما �شرح �سعادة مبادئ احلزب ال�سوري القومي‬ ‫الإجتماعي �أثناء فرتة �سجنه الثانية‪ ،‬و�صلت امل�س�ألة اليهودية �إىل البنيان الفكري ال�سوري وحقيقة‬ ‫الوطن ال�سوري وحقيقة النف�س ّية ال�سور ّية‪.‬‬ ‫فتناول م�س�ألة اليهود يف �إطار تناوله لرتكيب الأ ّمة ال�سورية التي اعتربها ح�صيلة متازج �سالالت‬ ‫�سمى منها الكنعانية والكلدانية والآرامية والآ�شورية والأمورية واحلث ّية‬ ‫متجان�سة و�أ�صول م�شرتكة َّ‬ ‫واملتنية وال ّأكادية التي «وجودها و امتزاجها حقيقة علم ّية تاريخ ّية ال جدال فيها‪ ،‬والتي هي �أ�سا�س‬ ‫�أثني ‪ -‬نف�سي ‪ -‬تاريخي ‪ -‬ثقايف»‪.‬‬ ‫اليهودي‬ ‫يف الإطار نف�سه تط ّرق �سعادة �إىل اليهود‪ ،‬ف�أعلن �أ َّنه «ال ميكن �أن ي�ؤول هذا املبد�أ ب�أنه يجعل‬ ‫ّ‬ ‫لل�سوري داخ ًال يف معنى الأ ّمة ال�سور ّية‪.‬‬ ‫م�ساوياً يف احلقوق واملطالب‬ ‫ّ‬ ‫فتناول كهذا بعيد جداً عن مدلول هذا املبد�أ الذي ال يقول مطلقاً باعتبار العنا�صر املحافظة على‬ ‫خا�صة غرب ّية داخلة يف معنى الأ ّمة ال�سور ّية‪� .‬إنّ هذه العنا�صر لي�ست‬ ‫ع�صب ّيات �أو نعرات قوم ّية �أو ّ‬ ‫داخلة يف وحدة ال�شعب‪.‬‬ ‫خا�صة‪« :‬فقد تطرق �إىل عالقة اجل�سم‬ ‫ونرى �أنّ �سعــادة قارب امل�س�ألة اليهود ّية من زاوية �إثن ّية ّ‬ ‫اليهودي باملزيج ال�ساليل الذي تك ّون من الأ�صول الإثن ّية امل�شرتكة للأقوام التي نزلت �سوريا‬ ‫الكربى»‪ .‬وت�صادمت و متازجت وك ّونت هذه ال�شخ�ص ّية الوا�ضحة القو ّية التي هي ال�شخ�ص ّية‬ ‫ال�سور ّية و حبتها البيئة ال�سور ّية مبقومات البقاء يف تنازع احلياة»‪� .‬أ ّما الهجرة اليهود ّية‪ ،‬وكذلك‬ ‫الهجرات الأخرى كالأرمن و الأكراد وغريهم‪ ،‬ف�شرط قبولها هو � اّأل تكون حمافظة‪« :‬على ع�صبيات‬ ‫خا�صة غربية‪ ،‬وهو �شرط على اجلماعات العرق ّية و الوافدة‪.‬‬ ‫�أو نعرات قوم ّية �أو ّ‬ ‫وهناك �شرط ثانٍ هو قدرة اجل�سم امل�ستقبِل‪� ،‬أي الأ ّمة ال�سور ّية‪ ،‬على ه�ضم العنا�صر اجلديدة و�إزالة‬ ‫ع�صبياتها اخلا�صة‪ ،‬وهو ما يحتاج �إىل �شرط ثالث هو الوقت الكايف لذلك»‪.‬‬ ‫ويف �أ�سا�س الهجرة اليهود ّية املعا�صرة التي يتناولها �سعــادة الإ ّدعاء ب�أنّ اليهود �أقاموا يف �سوريا‬ ‫و�أقاموا ممالك لهم فيها‪ ،‬و�إ ّنهم يهودون �إىل الأر�ض التي عا�ش فيها �أجدادهم الأقدمون قبل ما يزيد‬ ‫على ثمانية ع�شر قرناً‪ ،‬و �أنّ هذه الأر�ض هي جزء من �أر�ض موعودة �أعطاعم �إ ّياها اهلل الذي جعله‬ ‫اليهود ال�صهاينة «�سم�سار العقارات الكربى» وقد تناول �سعــادة هذه النقطة يف غري منا�سبة‪،‬‬ ‫ف�شكك مع امل�شككني يف �أن يكون لليهود احلاليني �صلة باليهود القدماء م�شرياً يف الوقت نف�سه‬ ‫�صح «كان بطريقة غري �شرع ّية»‪.‬‬ ‫�إىل �أنّ دخول ه�ؤالء اليهود الأر�ض ال�سور ّية‪� ،‬إذا ّ‬ ‫‪145‬‬


‫صوال‬ ‫وم�ضى يف الإطار نف�سه �إىل حتليل عالقة اليهود باملدينة ال�سور ّية قبل ظهور امل�سيح و بعده‪ ،‬و� ً‬ ‫اليهودي عن �سوريا كان من�ش�أه هذا الت�صادم بني العقليتني و النف�س ّيتني قبل �أن‬ ‫�إىل �أنَّ الإغرتاب‬ ‫ّ‬ ‫ُتفر�ض العوامل ال�سيا�س ّية‪.‬‬ ‫ي� ِّؤكد امل�ؤ ِّلف �أنّ الفكر القومي الإجتماعي يرف�ض متاماً قيام الدولة اليهود ّية ويكافح بقاءها ويعمل‬ ‫لإزالتها‪ ،‬وذلك لأنّ وجودها تعطيل للحياة القوم ّية واعتداء على ال�سيادة القوم ّية‪ .‬وما امل�صادقة‬ ‫على بقائها يف � ّأي �صيغة كانت � اّإل نفياً ملبد�أ وحدة الأر�ض ال�سور ّية‪ ،‬و يندرج حتت العنوان نف�سه‪،‬‬ ‫رف�ض الفكر القومي الإجتماعي مبد�أ الدولة الدين ّية والأتن ّية لأ ّنه ُي ِّعطل وحدة الأ ّمة وي�ض ّر‬ ‫با�ستقالل الق�ض ّية القوم ّية‪.‬‬ ‫يقول �سعــادة يف هذا ال�سياق‪« :‬الطريقة الوحيدة ل�صهر هذه العنا�صر ‪ -‬الأقوام الأتنولوج ّية‪،‬‬ ‫هي طريقة ت�سليط عامل روحي ‪� -‬إجتماعي‪ -‬ثقايف عليها»‪ .‬وي�ضيف �سعــادة‪�« :‬أوجدت مبادئ‬ ‫احلزب ال�سوري القومي الإجتماعي العامل الروحي ‪-‬الإجتماعي‪ -‬الثقايف الذي يتمكن من‬ ‫�صهر اجلماعات الدين ّية والأتن ّية يف �سوريا وحتويلها �إىل عنا�صر متجان�سة متالحمة يف �صلب الأ ّمة‬ ‫ال�سور َّية»‪...‬‬

‫‪146‬‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫�أمني تقي الدين وق�صائد جمهولة‬

‫ق�صائد مل ُتن�رش يف ديوانه‪ ..‬و�صفحات من�سية من تاريخ الأدب العربي احلديث‬

‫جنيب البعيني ‪ -‬كاتب و�صحايف‬ ‫�أمني تقي الدين علم من �أعالم ال�شعر العربي لبثت �أ�شعاره ردحاً خارج �سربها وظلت‬ ‫�سرية مطوية‪.‬‬ ‫يف هذا البحث يعيد الأديب والباحث جنيب البعيني االعتبار للق�صائد التي غابت‬ ‫وللدور الذي مل ينل حقه‪.‬‬ ‫كان �أمني عمالق �شعر ونرث‪ ...‬ن�شر �إنتاجه يف معظم جرائد وجمالت يف لبنان وم�صر وال�شام‪ ,‬كما‬ ‫تناقلت ق�صائده جميع الدوريات والن�شرات يف حينه وهو على مقاعد مدر�سة «احلكمة» يف بريوت‬ ‫بدءاً من �سنة ‪ 1900‬ومابعد �إىل تاريخ رحيله يف ‪� 31‬آيار �سنة ‪.1937‬‬ ‫وبعد وفاته ب�سنوات بقي �صدى �أخباره و�أعماله يرت ّدد من خالل الكتابة عنه يف ال�صحف‬ ‫واملج ّالت �أو من خالل �إقامة حفالت الذكرى يف بريوت يف عدد من االمكنة‪ .‬وبالرغم من كل‬ ‫ي�ضم بني دفتيه جميع ق�صائده‪ .‬وكنت �أ�صدرت كتاباً عنه �أ�سميته ‪:‬‬ ‫ذلك مل ي�صدر له ديوان �شعر ّ‬ ‫«�أمني تقي الدين يف ال�شعر والنرث»‪ ,‬ين�صف هذا ال�شاعر الذي ملأ الآفاق ب�شعره ‪.‬‬ ‫وقد قامت يومها قيامة املرحوم الدكتور �سامي مكارم معرت�ضاً على �إ�صداري كتاباً عن �أمني تقي‬ ‫الدين‪ ,‬فعمد �إىل نقل ّ‬ ‫كل ق�صائدي يف كتابي و�إدراجها يف كتاب �أ�سماه‪« :‬ديوان �أمني تقي الدين»‬ ‫�أ�صدره يف �سنة ‪ .2000‬على �أنّ هناك ع�شرات الق�صائد التي بقيت خارج الديوان‪ ,‬ولكنني عدت‬ ‫فعرثت على ق�صائد غري من�شورة يف كتابي �أو كتاب مكارم‪ ,‬نن�شرها يف هذه ال�صفحات وفاء وتقديراً‬ ‫لأدبه‪.‬‬ ‫‪ -1‬عن دار العلوم العربية يف بريوت �سنة ‪1996‬‬

‫ولكن قبل �أن �أن�شر هذه الق�صائد املن�سية ال ّبد �أن �أعطي ُه حقه يف ن�شر بع�ض �أعماله التي مل ي�شر‬ ‫�إليها �أحد قب ًال‪.‬‬ ‫‪147‬‬


‫البد من ب�سط �شيء عن �سريته الذاتية وجهاده الوطني ونتاجه يف �إغناء الأدب العربي احلديث‪.‬‬ ‫كما ّ‬ ‫والدته وعلومه‪:‬‬ ‫ولد ال�شاعر �أمني تقي الدين يف «بعقلني» من ق�ضاء ال�شوف‪ ,‬يف ‪� 21‬أيلول �سنة ‪ .1884‬تعلم مبادئ‬ ‫اللغتني العربية والفرن�سية يف مدر�سة القرية‪ ,‬وعندما بلغ احلادية ع�شرة من عمره �أدخله والده‬ ‫مدر�سة «احلكمة» يف بريوت‪ ,‬ف�أ ّمت فيها درو�سه العالية‪ ,‬وكان تلميذاً للمربي الكبري اخلور �أ�سقف‬ ‫يو�سف احلداد وتلميذاً للغوي ال�ضليع بطر�س الب�ستاين‪ .‬وكان بني رفاقه جنيباً المعاً ن�شيطاً ومن‬ ‫أ�شدهم امتالكاً لناحية اللغة والأدب‪,‬‬ ‫�أقوى التالميذ بياناً وبالغاً‪ ,‬و�أمتنهم عبار ًة وكالماً‪ ,‬ومن � ّ‬ ‫وه�ضم مفرداتها ال�صعبة وكلماتها العوي�صة‪.‬‬ ‫كان �أمني تقي الدين يف �أوج �شبابه‪ ,‬وقد روت مدر�سة «احلكمة» يف بريوت ظم�أه املتعط�ش �إىل‬ ‫مناهل العلم واملعرفة‪ ,‬وزادته ثقافة وا�سعة‪ ,‬و�أر�ضت ميوله ورغباته وطموحاته ونف�سه التواقة �إىل‬ ‫اكت�ساب العلوم والثقافة الوا�سعة‪ ,‬والعلم الوفري‪ ,‬وكان معهد احلكمة �آنذاك من �أكرب معاهد لبنان‬ ‫و�أعالها كعباً يف اللغة العربية‪ ,‬فقد جمع هذا املعهد باقة مميزة من املبدعني واملفكرين الذين‬ ‫وحدت بينهم وحدة علمية‪ ,‬فتالقت حتت �سقف واحد وعلى طاولة واحدة‪ .‬وكان يف طليعتهم‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫جربان خليل جربان‪ ,‬ب�شارة اخلوري‪ ,‬الأخطل ال�صغري‪ ,‬ويو�سف ال�سودا‪ ,‬والأمري �شكيب �أر�سالن‪,‬‬ ‫ووديع عقل‪ ,‬و�شبلي امل ّالط‪ ,‬وبول�س �سالمة وغريهم وغريهم‪.‬‬ ‫كانت احلكمة ّ‬ ‫ت�شد ه�ؤالء برغبة �صادقة يف �أن يجعلوا من هذا املعهد مركزاً علمياً و�صرحاً ثقافياً‬ ‫يعربون فيه عن �آرائهم و�أفكارهم يف بع�ض طروحات فكرية و�أدبية واجتماعية وان�سانية‪ ,‬فيجعلون‬ ‫«احلكمة» مدر�سة بكل معنى الكلمة‪ ,‬و�صرحاً ثقافياً ومنتدى الأدب وال�شعر والفل�سفة واالجتماع‬ ‫لكي يكونوا وحد ًة مرتا�صة‪ ,‬وحدة م�شاعر وطموحات و�أحا�سي�س م�شرتكة‪ ,‬يف لبنان والعامل‬ ‫العربي‪ .‬و�أن ي�صدحوا ب�أروع ق�صائدهم‪ .‬فكان ال�شرق على �أل�سنتهم �أن�شودة حب وحياة وكرامة‪,‬‬ ‫و�أ�صبح لبنان على �أقالمهم ويف كتاباتهم رمزاً لر�سالة من الوحي وااللهام واحلب واحلنني‪ ,‬فو�صفوه‬ ‫�أبلغ و�صف و�أ ّدق معامل ‪ ,‬وحملوه م�شعل نور وهداية بني جميع املدار�س الأخرى‪ ,‬وطافوا به بني‬ ‫الكواكب وال�شمو�س لي�ضي�ؤوا به العامل واالقطار العربية قاطبة‪.‬‬ ‫كان ال�شيخ �أمني تقي الدين بني رفقائه ه�ؤالء �أحد اجلنود املجهولني‪ ,‬فهو واحد من ال�شعراء‬ ‫جلى �صادقة �أمينة وحفظها من ال�ضياع واللحن‬ ‫ج ّند نف�سه ل�صيانة اللغة العربية وخدمتها خدمة ّ‬ ‫وال�ضعف واالنهيار‪ .‬كما خدم هذا ال�شاعر وطنه والآداب العربية‪ ,‬وغر�س بذور الفكر ال�صحيح‬ ‫واملبادئ ال�سامية‪ ,‬فوزع ن�شاطه يف كل ّمكان ‪.‬‬ ‫وكان هو وزمال�ؤه يجتمعون يف «بار الروك�سي» يف الثالثينات من القرن املا�ضي‪ ,‬يف �ساحة الربج‪,‬‬ ‫ببريوت‪ .‬وكان ي�أتي �إىل هذا االجتماع كل من‪:‬‬ ‫‪148‬‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫�إليا�س �أبو �شبكة‪ ,‬ومي�شال �أبو �شهال‪ ,‬و�صالح لبابيدي‪ ,‬واليا�س فيا�ض ونقوال فيا�ض‪ ,‬ويو�سف‬ ‫�إبراهيم يزبك‪ ,‬ومو�سى منور‪ ,‬ومي�شال زكور‪ ,‬و �أديب مظهر‪ ,‬باال�ضافة �إىل ب�شارة اخلوري‪ ,‬ووديع‬ ‫عقل‪ ,‬وبول�س �سالمة‪ ,‬و�شبلي امل ّالط‪ ,‬ويو�سف ال�سودا‪ ,‬وغريهم كثريون من �أدباء و�شعراء تلك‬ ‫املرحلة ومن ع�شاق الأدب وال�شعر والفكر والثقافة‪ ,‬الذين �أ�شعلوا نربا�س ال�شعر يف ذلك الوقت‪.‬‬ ‫يقول بع�ض النقّاد‪� :‬إن هناك ثالث مراحل �أدبية عند �أمني تقي الدين‪ .‬وهذه املراحل هي‪ :‬ال�صحافة‬ ‫الأدبية‪ ,‬والبحث الت�أريخي‪ ,‬والن�ضال الوطني‪ .‬وهذه الأقانيم الثالثة ك ّر�ست جهوده لتن�صب يف‬ ‫م�س�ؤولية واحدة‪ .‬فما توانى يوماً عن البحث والقيام باجلهود امللقاة على عاتقه يف �أن يكون �شاعراً‬ ‫كبرياً «قد احلمل وزيادة»‪ .‬ولكن عرقلت خطواته بع�ض العرثات‪ .‬فتجاوزها بكيا�سته ومرحه وفرحه‬ ‫واميانه‪ ,‬ومل يتقاع�س يف يوم من الأيام يف �سبيل الو�صول �إىل املبادئ العليا‪ ,‬واال�ستمرار يف ت ّنوع‬ ‫ن�شاطاته ومهماته ورغباته وطموحاته غري عابئ بالف�شل ال ي�ستكني لأي معوقات تعرت�ض �سبيله‬ ‫وتقدمه‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫�صفات ال�شاعر ومزاياه‪:‬‬

‫مت ّتع �أمني تقي الدين يف حياته ب�صفات ومزايا حميدة مل يتمتع بها غريه من �أدباء العرب‪ ,‬ويف هذا‬ ‫ال�صدد يقول زميله ورفيقه يف الدرا�سة املرحوم الدكتور خليل باز حرف ّياً ‪:‬‬ ‫«مل َيعر ال�شهرة اهتماماً‪� ,‬أو يتهاوى وراء الك�سب املادي �أي اعتناء‪ ,‬فعمل �ساكتاً دون تظاهر �أو‬ ‫�إطناب‪ ,‬ومباهاة‪ ,‬عمل ال�صادقني يف هذه الدنيا لي�س �آبهاً يف الفخفخة‪ ,‬واال�سم العري�ض‪ ,‬وال�صيت‬ ‫البعيد‪ ,‬ومل يكن طموحه لنيل مراميه نتيجة لرغبات و�صولية‪� ,‬أو ا�ست�شهادات نفعية‪ ,‬فرتك اجلاه‬ ‫لأ�صحابه‪ ,‬والزعامات لأهلها‪ ,‬والرتب العالية للطامعني بها‪ ,‬و�سعى خلدمة وطنه واالن�سانية مفكراً‬ ‫ووطنياً جماهداً‪ ,‬يتعر�ض لل�سجن والأ�سر حيناً والت�شريد والنفي حيناً �آخر ويذوق مرارة الطغيان‬ ‫العثماين املتحكم برقاب ال�شعب‪� ,‬آم ًال بتحرير بالده‪ ,‬ورفعة �ش�أنها‪ .‬كذلك �سهر على �إ�صالح‬ ‫جمتمعه‪ ,‬الأخالقي والأدبي واالجتماعي وال�سيا�سي‪ .‬فكان يعمل ب�صمت وهدوء عميقني غري‬ ‫حافل بالأخطار‪ ,‬فال يغره ال�سراب الالمع»‪.‬‬ ‫ات�صف �أمني تقي الدين ب�أخالق ر�ض ّية‪ ,‬وطباع دمثة‪ ,‬و�سجايا حميدة‪ ,‬ومزايا نبيلة‪ ,‬فكان ل�سانه‬ ‫حمدثاً لبقاً‪ ,‬يعرف كيف يتخل�ص يف �أحرج االوقات ‪.‬‬ ‫دفيئاً مل يتعر�ض به ب�سوء لأحد‪ِّ .‬‬ ‫وكان �صاحب �أنفة‪� ,‬صادق العاطفة‪ ,‬وطنياً حقاً‪� ,‬شاعراً موهوباً‪ ,‬وطنياً م�ؤمناً بلبنان‪.‬‬ ‫كيف ال وقد ن�ش�أ هذا ال�شاعر ن�ش�أة فا�ضلة ‪ ..‬فهو من بيت علم و�أدب وتقوى‪ ,‬و�أجداده رجال دين‬ ‫وق�ضاة وع�سكر‪.‬‬ ‫‪149‬‬


‫�سفره �إىل م�رص‪:‬‬

‫مل تطل �إقامة الأمني بلبنان‪ .‬فبعد انتهاء درا�سته يف «معهد احلكمة» رحل �إىل م�صر‪ ,‬وي ّرجح دخوله‬ ‫�إليها يف �سنة ‪� 1903‬إىل �سنة ‪ .1905‬وبقي فيها ت�سع �سنوات‪ ,‬حيث عمل يف ال�صحافة اليومية‬ ‫يف جريدة «الظاهر» ل�صاحبها املحامي حممد �أبو �شادي‪ .‬ودخل كلية احلقوق اخلديوية‪ ,‬ثم كان‬ ‫يذهب �أحياناً �إىل باري�س يف جامعة «ديجون» بفرن�سا‪ ,‬يف نهاية كل �سنة‪ ,‬فنال �شهادة اللي�سان�س يف‬ ‫جامعتها‪.‬‬ ‫وطلب �إليه �صديقه ال�شيخ �أنطون اجلميل �أن يعاونه يف حترير جملة «الزهور» ففعل و�أ�صبح �شريكاً‬ ‫له‪ .‬ابتداء من العدد الرابع‪ ,‬يف �شهر حزيران ‪ 1913‬وحملت هذه املجلة لواء النه�ضة العربية‬ ‫احلديثة‪ ,‬وكانت ل�سان حال ال�شعراء امل�صريني والأدباء من الطبقة االدبية الأوىل �أمثال‪� :‬أحمد‬ ‫�شوقي‪ ,‬وحافظ ابراهيم‪ ,‬وويل الدين يكن‪ ,‬وحممود �سامي البارودي‪ ,‬وداود بركات‪ ,‬وخليل‬ ‫مطران‪ ,‬و�سليم �سركي�س‪ ,‬وجرجي زيدان‪ ,‬و�شبلي امل ّالط‪ ,‬و�شبلي ال�شميل‪ ,‬و �إمام العبد و�سواهم‬ ‫من �أ�ساطني الأدب والكتابة وال�شعر‪.‬‬ ‫وقد �صقلت م�صر �شعور ال�شيخ �أمني تقي الدين وجلت قريحته ب�سبب احتكاكه املبا�شر بالأدباء‬ ‫امل�صريني من جهة‪ ,‬وبالأدباء ال�سوريني النازلني يف وادي النيل من املغرتبني من جهة ثانية‪.‬‬ ‫قبل �إعالن احلرب العاملية الأوىل يف �سنة ‪ ,1913‬عاد �أمني �إىل �أر�ض الوطن‪ ,‬وما �إن ا�ستق ّر يف بلدته‬ ‫حتى �أر�سلت ال�سلطات الع�سكرية العثمانية مذكرة جلب بحقه‪ ,‬فطلب �أهله �إليه �سراً �أن يتوارى‬ ‫عن الأنظار‪ ,‬لأنّ قائد درك «بيت الدين» قادم �إليه مع عد ٍد من جنوده لتنفيذ هذه املذكرة‪ ,‬فلج�أ‬ ‫�أمني �إىل مزرعة ميلكها ذووه يف �أحد �ضواحي بعقلني‪ ,‬وهناك راح يدبج املقاالت وينظم القوايف‬ ‫ويرتجم «ق�صة �شاب فقري» من الفرن�سية �إىل العربية‪.‬‬ ‫و ُيقال �أنه ُحكم عليه بالإعدام فف ّر من وجه ال�سلطة الرتكية ردحاً من الزمن �إىل �أن قي�ض اهلل للبنان‬ ‫�أن يتخل�ص من جور حكم الأتراك وظلمهم‪.‬‬ ‫وقد روى �أمني تقي الدين ق�صته الكاملة عن جناته من قب�ضة االتراك يف حديث �صحايف �أدىل به‬ ‫�إىل جريدة «العا�صفة» ل�صاحبها كرم ملحم كرم‪ ,‬يف العدد ‪ 29‬بتاريخ ‪� / 8‬شباط �سنة ‪.1933‬‬ ‫وكانت للأمني عدة مواقف بعدها‪ ,‬ا�شتغل يف ال�صحافة يف جريدة «البريق» ثم يف جريدة «الربق»‬ ‫ل�صاحبها ب�شارة اخلوري‪ ,‬و�أن�ش�أ مكتباً للمحاماة يف �سنة ‪ 1919‬مع �صديقه جربائيل ّن�صار‪ .‬وتر�شح‬ ‫�أكرث من مرة لالنتخابات النيابية اللبنانية‪ ,‬و�أ�صبح �سكرتري نقابة املحامني يف لبنان �سنة ‪.1921‬‬ ‫وان�ضم �إىل عدة من اجلمعيات واالندية الثقافية �إىل حني وفاته يف �سنة ‪.1973‬‬ ‫ّ‬

‫‪150‬‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫ق�صائد خارج الديوان‪:‬‬

‫مل يذكر �أمني تقي الدين ك�شاعر بني ال�شعراء �إ ّال ملاماً‪ ,‬مع �أ ّنه كان �شاعراً فح ًال مربزاً بني ال�شعراء‪,‬‬ ‫وكان فن ال�شعر عنده ي�سمو على بقية فنون ال�شعر العربي‪ ,‬له ميزة خا�صة‪ ,‬وطبع خا�ص‪ ,‬مييزه عن‬ ‫غريه ويجعله ذا مكانة عالية بني �شعراء العرب‪.‬‬ ‫�إنه �شاعر جميد ينقلنا من عامل �إىل عامل �آخر‪ ,‬ينتقل بنا من لون �إىل لون ويجعلنا نتغلغل يف �شعره‪,‬‬ ‫ونتعمق يف در�سه وحتليله‪ ,‬حيث نلمح هناك �آفاقاً بعيدة يف ق�صائده جتعلنا نعي�ش يف دنيا رهفة‬ ‫احل�س‪ ,‬فيا�ضة ال�شعور‪� ,‬صادقة امل�شاعر االن�سانية التي تتجلى ب�أبهى مظاهرها‪ ,‬فقد كانت نف�سه‬ ‫دائماً تواقة �إىل املعايل والفخر والأنفة والأدب واحلب واجلمال والأمل‪.‬‬ ‫يقول �أحد عارفيه وجمايليه عنه‪:‬‬ ‫«‪� ..‬إنّ اجلمال والأمل يبدوان ظاهرين يف ثنايا �شعره‪ ,‬يف كل �سطر وكلمة‪� ,‬إىل درجة ت�شعر �أن‬ ‫احلرف ينب�ض ويحرتق ذائباً ب�شعوره‪ ,‬والقافية ي�سلخها ال من قلبه فقط بل من عمق �أعماقه‪ ,‬ففي‬ ‫ق�صائد الأمني ر�ؤى ومالمح ت�أملية‪ ,‬يف امل�صري االن�ساين‪ ,‬تفتح �أمامك نوافذ جديدة يف احلياة مل‬ ‫ترها من قبل‪ ,‬عدا الن�شوة احلاملة‪ ,‬التي يرتعك فيها‪ ,‬واملناخات الفكرية املتعددة التي ينقلك بني‬ ‫�أجوائها» ‪.‬‬ ‫تلهبك بع�ض املقاطع يف ق�صائده فهي مبثابة �أوهاج الروح الوطنية الثائرة امللتهبة‪ ,‬ت�شمل قلوب‬ ‫القراء‪ ,‬وتهيج العاطفني واملتحم�سني‪ ,‬حيث يعالج الأمني موا�ضيع متفرقة يف احلياة‪ ,‬ي�صبها يف‬ ‫قوالب �شعرية �أقرب �إىل الت�صوير الوا�ضح‪ ,‬والدر�س والتحليل منها �إىل الغمو�ض واخليال والرمزية‬ ‫الك�سيحة‪.‬‬ ‫ويحكى �أ ّنه ملا زارت ال�سيدة �أم كلثوم لبنان للمرة االوىل‪ ,‬ح ّياها �أمني بهذه الأبيات اجلميلة التي‬ ‫مل تن�شر من قبل‪ ,‬قال فيها ‪:‬‬ ‫النعيــم لأرواح و �أذهـــــانِ‬ ‫�إ ّال‬ ‫يــا �أ ّم كلثــوم و الأ�ســمـاع �صاغيــة‬ ‫َ‬ ‫يف م�صروال�شام يف �أنحاء لبنـــان‬ ‫�شـدت تن�صت الدنيـــا لنغمتهــا‬ ‫�إذا َ‬ ‫قا�ص ومن دان‬ ‫طارت من النيل نحو ال�شرق فابت�سمت‬ ‫مرابع ال�شرق من ٍ‬ ‫ثوب �أن�ســانِ‬ ‫ع�صفورة من جنــان اخلـلد قد هبطـت‬ ‫�أه ًال بع�صفــورة يف ِ‬ ‫وقال يف (بعلبك مدينة ال�شم�س) ‪:‬‬ ‫�إن مل يكـن �أ ّال عظــام �أبي بهــا‬

‫أحب لأجلهــا لبنـانــا‬ ‫ف�أنــا � ٌّ‬ ‫‪151‬‬


‫بني �شوقي وتقي الدين‪:‬‬

‫كان �أمري ال�شعراء �أحمد �شوقي ُمدمناً على اخلمرة‪ ,‬حتى يف �شهر رم�ضان‪ ,‬ف�ساءهذا الإدمان عند‬ ‫الر�أي العام اال�سالمي‪ُ ,‬وع ّد �شذوذاً يبدر من رجل �صاحب كلمة وموقف وله يف العامل اال�سالمي‬ ‫كلمة م�سموعة طنانة ورنانة‪ .‬ور�أى �شوقي �أن يتحامى باحل�سنى ما ُيعاب عليه‪ ,‬ومايقال عنه من‬ ‫�شذوذ‪ ,‬ف�أخذ ينظم يف �آخر �شهر رم�ضان من كل عام ق�صيدة يعلن فيها �أمام النا�س احرتامه‬ ‫الكامل ل�شهر رم�ضان املبارك‪ .‬واتفق �أنه نظم بيتني من ال�شعر‪ ,‬وجاءه ال�شيخ �أمني تقي الدين‬ ‫ف�أن�شده �إياهما‪ ,‬وقال‪:‬‬ ‫م�شتاقة ت�سـعى �إىل م�شتــاقِ‬ ‫رم�ضان ولىّ هاتها يا �ســاقي‬ ‫�إن كان َّثم من الذنوب بواقِ‬ ‫فالقلب م�شتاق وربك غاف ٌر‬ ‫وم ّرت �سنوات على هذه احلادثة‪ ..‬وذهب �أمني �إىل ا�ستنابول لق�ضية خا�صة تتعلق به‪ ,‬وفيما هو‬ ‫يتغدى يف �أحد املطاعم الواقعة على البحر‪ ,‬وذلك يف �شهر رم�ضان املبارك �إذا ب�شوقي يدخل املطعم‬ ‫وب�صحبته ولده ح�سني‪ ,‬وكان �شوقي �ضعيف النظر فلم يب�صر تقي الدين وهوجال�س على �إحدى‬ ‫الطاوالت يف �إحدى زوايا املطعم‪ ,‬وجل�س مع ابنه �إىل خوان وطلب لنف�سه ك�أ�ساً من الوي�سكي‬ ‫ولولده كوباً من اجلعة‪ .‬ف�أخذ �أمني تقي الدين قلماً وورقة و �أر�سل �إىل �أحمد �شوقي مع خادم املطعم‬ ‫بهذين البيتني التاليني بدون توقيع‪:‬‬ ‫ت�سعى مب�شتاق �إىل م�شتـــاقِ‬ ‫رم�ضان مــا ولىّ يـــا �ســــاقي‬ ‫وعليك ّثم من الذنوب بواقِ‬ ‫عجباً تروم على الذنوب زوائداً‬ ‫فما كاد �شوقي يقر�أهما حتى �صاح ب�أعلى �صوته‪:‬‬ ‫هذا �شعر �أمني تقي الدين‪� ,‬أين هو؟‬ ‫�أحرق ف�ؤادي‪:‬‬ ‫عرثنا على ق�صيدة رائعة لل�شيخ �أمني تقي الدين‪ ,‬وهي من �آثار مدر�سة «احلكمة» يف بريوت‪ ,‬نظمها‬ ‫يف �سنة ‪ ,1902‬وكان اليزال طالباً فيها ‪.‬‬ ‫وهذه الق�صيدة عميقة الإح�سا�س‪ ,‬رقيقة املعاين‪ ,‬متينة املباين‪ ,‬مل تن�شر من قبل‪ .‬نظمها �أمني تقي‬ ‫الدين يوم كان تلميذاً على مقاعد الدرا�سة ‪.‬‬ ‫دفعها تهنئة بنوية للعالمة املطران يو�سف الدب�س عميد مدر�سة احلكمة وم�ؤ�س�سها مبنا�سبة عيد‬ ‫‪152‬‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫�شفيعة القدي�س يو�سف يف ‪� 19‬آذار �سنة ‪ , 1902‬وقد �ضمنها ال�شاعر �أ�صدق �أمانيه و�أخل�ص و�أ�صفى‬ ‫مبا يجول يف �صدره من عواطف احلب والأجالل واالحرتام للحرب املوم�أ �إليه‪ ,‬والتي تتدفق من بني‬ ‫�سطورها رقة و�إح�سا�ساً تدفق �سل�سبيل رقراق على جنة خ�ضراء‪ّ ,‬‬ ‫مايدل على �صفاء �سريرة «الأمني»‬ ‫وكِ رب قلبه و�صدره الوا�سع احل�صني‪ ,‬وعل ّو همته‪ ,‬ونيل �أ�سرته‪ ,‬واحرتامه الكبري وهذه هي الق�صيدة‪:‬‬ ‫ولقد عرفتك عا�شقاً مع�شوقا‬ ‫�أيكون قلبي من هواك طليقا‬ ‫ولها ف�ؤداك ال يزال م�شوقا‬ ‫تهواك كل ف�ضيلة وحتبها‬ ‫من لي�س ي�سلك للكمال طريقا‬ ‫و�أرى خ�صالك ت�ستبي بجمالها‬ ‫�أتلوم قلباً باجلمال علوقا‬ ‫و�أرى جمالك بالطهارة م�شرقاً‬ ‫فاطلع بقلبي يف �سناك �شروقا‬ ‫�أهواك يابدر الف�ضائل والتقى‬ ‫ممن غدا ب�سوى هواك رفيقا‬ ‫�أهوى �شمائلك احل�سان وما�أنا‬ ‫�أحرق ف�ؤادي يف هواك حريقا‬ ‫ال ت�شو قلبي يف غرامك امنا‬ ‫�إال �أراين يف والك غريقا‬ ‫بللتني باحلب ال ال ارت�ضي‬ ‫ثم ًال ولكن ما �شربت رحيقا‬ ‫ا�سكرتني بهواك حتى خلتني‬ ‫«�أ�أفاق �صب من هوى ف�أفيقا؟‬ ‫واذا �سكرت وماافقت فال تلم‬ ‫قد زادها قلم التقى تنميقا‬ ‫ولقد ر�أيت على جبينك جملة‬ ‫هذا الهوى من يتبعه يوقى‬ ‫فقر�أت فيها ما ملخ�صه غدا‬ ‫ب�سواك تخيي ًال وفيك حقيقا‬ ‫ياحبذا فيك الكمال فقد بدا‬ ‫وجه ال�شبه قد غدا حتقيقا‬ ‫�شابهت يو�سف يف العفاف وامنا‬ ‫بعيون كل م�سرة مرموقا‬ ‫فليهنك العيد ال�سعيد فقد �أتى‬ ‫من جئت �أوفيه الثناء حقيقا‬ ‫ياعيد ل�ست العيد لكن عيدنا‬ ‫ب�سواك بان لنا ال�سرور �شقيقا‬ ‫ما العيد ياموالي يطربنا فما‬ ‫لو مل يحكم مل ي�صب مر�شوقا‬ ‫لكنما هو �آلة كال�سهم �إذ‬ ‫عيداً يظل �شذا �صفاه عبوقا‬ ‫يايوم عيد احلرب يو�سف دم لنا‬ ‫فن�ؤمم املريخ و الع ّيوقا‬ ‫نرمي �سهام النار فيك �إىل العلى‬ ‫جنم ال�سما فلها يكون رفيقا‬ ‫فنخالها �صعدت لتخرب بالهنا‬ ‫فت�صري تنرث ل�ؤل�ؤاً و عقيقا‬ ‫وتعود ال تبغي هناك منز ًال‬ ‫تعتاد من كبد الهموم مروقا‬ ‫تلكم �سهاماً قو�سها �أفراحنا‬ ‫فاهن�أ بعيد �أنت مطلع بدره‬ ‫هذي فرو�ضي قد �أتتك كغادة‬ ‫حققت �إن جمالها ي�سبي النهى‬ ‫لو مل �أكن �أحوي الدراهم يف يدي‬ ‫والنا�س لو مل يعزفوين �شاعراً‬

‫وا�سلم بالحظة الهنا مرموقا‬ ‫منها عبري والك بات فتيقا‬ ‫فلذا �سلكت بها �إليك طريقا‬ ‫ماذا �أرجي لو �أتيت ال�سوقا‬ ‫ما�صفقوا لق�صائدي ت�صفيقا‬ ‫‪153‬‬


‫فاذا ارجتفت فال تقل خوفاً‬ ‫الدب�س من عنب نظري اخلمر تع�صر‬ ‫و�أنا فتى حر الف�ؤاد طليقه‬ ‫فاعقد رجاءك باالله والتخف‬

‫معناك ي�سر الك�سر بات عميقا‬ ‫�إن ن�شا عن ا�صله حتقيقا‬ ‫لوكان قلبي من هواك طليقا‬ ‫وا�صحب طويل حياتك التوفيقا‬ ‫�أمني �سعيد تقي الدين‬ ‫�أحد طلبة مدر�سة احلكمة ‪ -‬بريوت �سنة ‪1902‬‬

‫رثاء ب�سرت�س وطرازي‪:‬‬ ‫نظم ال�شيخ �أمني تقي الدين �أحد طلبة مدر�سة «احلكمة» يف بريوت‪ .‬ق�صيدة لطيفة املعنى يرثي‬ ‫فيها امل�أ�سوف عليها نخلة ب�سرت�س والكونت انطوان طرازي اللذين ذهبا غريقني يف حادثة «الن�سامة‬ ‫�سهام«‪.‬‬ ‫�أ�صدرت كتابي‪�« :‬أمني تقي الدين‪ ,‬ال�شاعر والناثر وماقيل فيه« يف �سنة ‪ ,1990‬عن دار العلوم‬ ‫العربية‪ ,‬بريوت‪ ,‬و�أ�صدر املرحوم د‪� .‬سامي مكارم كتابه‪« :‬ديوان �أمني تقي الدين« يف �سنة ‪,1996‬‬ ‫عن دار �صادر يف بريوت‪ .‬وهناك مقطوعة �شعرية من ت�سعة �أبيات حتت عنوان‪« :‬ب�سرت�س وطرازي»‬ ‫يف رثاء فقيدي الوطن نخلة حبيب ب�سرت�س و�أنطوان طرازي‪ ,‬ن�شرتها يف كتابي الآنف الذكر نق ًال‬ ‫عن جريدة «ال�صفاء» ل�صاحبها �أمني �آل نا�صر الدين‪ ,‬يف ‪ 16‬حزيران و‪ 4‬حزيران �سنة ‪ .1900‬وقد‬ ‫عرثت على هذه الق�صيدة يف كتاب قدمي جداً‪ .‬عرثت على هذه الق�صيدة امل�ؤلفة من ‪ 78‬بيتاً من‬ ‫ال�شعر ‪ .‬فقلت يف نف�سي‪« :‬هل يجوز �أن تبقى هذه الق�صيدة خارج الكتابني‪ ,‬وال �سيما يف ديوان‬ ‫املرحوم د‪� .‬سامي مكارم؟»‬ ‫لذلك ف�أنا ان�شر هذه الق�صيدة بكاملها‪ ,‬كما وردت بقلمه‪ ,‬و�أترك للقراء الكرام احلكم على هذا‬ ‫العمل‪.‬‬ ‫و�إليكم هذه الق�صيدة‪:‬‬ ‫مدامعاً فا�ض مثل البحر جاريها‬ ‫قفا على �ضفّة املينا فن�سقيها‬ ‫عقودنا انفرطت فيه لآليها‬ ‫الزخار ناظرنا‬ ‫قفا ن�سرح يف‬ ‫ّ‬ ‫يرمي بها اجلد ياهلل راميها‬ ‫هناك جتري «�سهام» را�سهاقد ٌر‬ ‫يذيبها الوجد من توديع واليها‬ ‫مقلة من مر�آة القوم نخبتهم‬ ‫«�سهام» البدع مل يخطئ م�سميها‬ ‫�أجرى من ال�سهم مر�شوقاً وقد دعيت‬ ‫هذي «�سهام» �أ�صاب احلق داعيها‬ ‫مل ندعها ال�سهم بل قلنا مبالغة‬ ‫ت�سابق الريح جرياً يف مراميها‬ ‫جرت ظهرية يوم ال�سبت ماخرة‬ ‫‪154‬‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫بخارها كعمود قام منت�صباً‬ ‫وال �أبلغ فالرايات ت�شهد يل‬ ‫ك�أمنا اتخذت يف ال�سري ج�ؤج�ؤها‬ ‫ك�أمنا املاء م�شقوق لهيبتها‬ ‫�أو �أنها احلب هاجته �صبابته‬ ‫طال ال�صدود ونار ال�شوق موقدة‬

‫يدق من كبد الزرقا دراريها‬ ‫�أن «الهالل» مقيم فوق �صاريها‬ ‫�سيفاً لديها مياه البحر يق�صيها‬ ‫ع�ساكر دحرت من وجه غازيها‬ ‫فراح مي�شي طريقاً كانت التيها‬ ‫فمزقته �شهيداً يف تلظيها‬

‫كذا «�سهام» فال كانت «�سهام» وال‬ ‫بينا ت�سري �إذا جا�شت مراجلها‬ ‫�ضجت لها اخللق فوق اليب�س �صارخ ٌة‬ ‫َّ‬ ‫ٌ‬ ‫فلم تكن حلظة حتى ر�أيت بها‬ ‫ويال ُه من مرف�إ في ِه ر�ست فر�سى الـ‬ ‫لوال االله الذي الأحكام يف يده‬ ‫ياب�سها‬ ‫ال ح َرقت زفرات القوم َ‬

‫كان البخار والكانت دواعيها‬ ‫ت�شقها ويبيد الركب الظيها‬ ‫اهلل ُ‬ ‫ُ‬ ‫اهلل خ ِّل�ص ّ‬ ‫كل من فيها‬ ‫ألقت مرا�سيها‬ ‫اللج قد � ْ‬ ‫«�سهام» يف ّ‬ ‫�أ�سى على ٍ‬ ‫اكبد كاجلم ِر يقليها‬ ‫جتري وال نكب ٌة ا ّال ُيداويها‬ ‫�أو �أغرقه عيونٌ من م�آقيها‬

‫نظرت‬ ‫ياوقفة فوق مينا الثغر قد‬ ‫ْ‬ ‫فالع ُني �شاخ�ص ٌة واالذن را�صد ٌة‬ ‫اخلطب فاندف َعت‬ ‫عم امل�صاب وجل‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫تتابع النا�س �أمواجاً يقذفها‬ ‫ماعدت ت�سمع �إال �صوت خمتنق‬ ‫َ‬ ‫اليم يبل ُعها‬ ‫عامت وديع ُتهم يف ّ‬ ‫َّ‬ ‫تقطعت منهم الآمال فانغم�سوا‬

‫بريوت فيها «�سهام» الفتك ي�شويها‬ ‫ُ‬ ‫ويف احل�شى نار هلع من يطفّيها‬ ‫للبحر كالبحر هاج اخلطب �ساجيها‬ ‫هوى النفو�س �إىل لقيا حمبيها‬ ‫حزناً ووا�ضعة كفاً على فيها‬ ‫ترجو اللقا َء و�صرف الدهر يق�صيها‬ ‫اللج والنف�س قد ماتت �أمانيها‬ ‫يف ّ‬

‫ل�سان حالهم يروي لنا خرباً‬ ‫ذا ٌ‬ ‫قائل وعباب البحر يخنق ُه‬ ‫ُ‬ ‫يارب كن لأطفايل �أباً ع�ضداً‬ ‫خاب الرجا ُء وخان الدهر ياولدي‬ ‫َ‬ ‫اجلميل وهل‬ ‫من يل ب�أين �أرى الوج َه‬ ‫و �أين عينيك يا ابن اال ّم تنظرين‬ ‫ابني تركت يتيماً يا اخي وله‬ ‫فكن �أباه وال تذبل ن�ضارت ُه‬ ‫�آن الرحيل وال ٌّ‬ ‫خل ي�شيعنا‬ ‫و�أنك�أها‬ ‫ما كان �أغدر دنيانا‬

‫ي�شقِّق ال�صخرة ال�صلدا وي�صميها‬ ‫يارب رفقاً بنف�س �أنت باريها‬ ‫ثانيها‬ ‫ويابني حبيب النف�س‬ ‫ِّ‬ ‫آمالٍ‬ ‫�أرجيها‬ ‫ُب ّني من يل ب�‬ ‫�أحظى بطلعته من ذا يرينيها‬ ‫اخي فالنف�س قد تاقت مل�صيبها‬ ‫ا ٌّم تراه بال عونٍ في�سليها‬ ‫تلك الو�صية يف ذا الكنز �أو�صيها‬ ‫ياقد�س هل نظرة التوديع الفيها‬ ‫ُ‬ ‫ما كان �أكدر يوم الب�شر �صافيها‬ ‫‪155‬‬


‫‪156‬‬

‫فيا رفيقة عمري نث ِ​ِئ ولدي‬ ‫منحد ٌر‬ ‫وذاك وا كبدا للج‬ ‫يعارك املوج واالمواج مابرحت‬ ‫وابتلعت‬ ‫حتى اجنلى الن�صر للأمواج‬ ‫ْ‬ ‫وارحمتا ُه ق�ضى والنف�س هاتف ٌة‬

‫فالنف�س فيه بذي الدنيا �أمانيها‬ ‫عيناه قد �شخ�صت هلل مبديها‬ ‫طوراً تعليه �أو طوراً يعليها‬ ‫واح�سرتا ج�سمه االمواه يف فيها‬ ‫يقول رحماك يا ربي م ّرجيها‬

‫يارب ع ِّز �أخي فيليب مكتنفاً‬ ‫ُّ‬ ‫ٍ‬ ‫ويال ُه من �ساعة فيها يِفاجئ ُه‬ ‫�أخي حبيبي عزائي �ساعدي �سندي‬ ‫بالأَم�س كنا جميعاً يف زفافك بال‬ ‫َ‬ ‫وحدك بال‬ ‫ا�صبحت‬ ‫اليو َم يامهجتي‬ ‫َ‬ ‫أنت يا َولدي فيكتور يا �أملي‬ ‫و� َ‬ ‫كالم عانقت �ألِفا‬ ‫بالأم�س كنا‬ ‫ٍ‬ ‫فمن تعانق من بعدي �أيا ولدي‬ ‫� ٍأف على هذه الدنيا وعي�شتها‬ ‫فكيف اختك ياابني يف ال�سرير �أل‬ ‫فكتور ياابني حبيبي مهجتي ولدي‬ ‫� ِ‬ ‫إليك �ألقي ايا هذي مقالد ُه‬

‫ا ّياه بالعون والنعمى مالقيها‬ ‫نعيي على غ ّر ٍة ما كان راجيها‬ ‫اليك �أترك ُولدي كي تربيها‬ ‫�أفراح و ال�صحب ت�أتينا تهانيها‬ ‫�أحزان م�ستقب ًال منها تعازيها‬ ‫�أنا حياتك قد كد َّرت �صافيها‬ ‫وك�أنه قلبي ي�ألفي راق�صاً تيها‬ ‫يا لوع ًة بت يف موتي تعانيها‬ ‫« ُبني ال خ َري يف الدنيا ومافيها»‬ ‫تقول‪ :‬والدها لمِ ال يدانيها ؟‬ ‫فكن لأمك من بعدي معزيها‬ ‫ول�ست حمتاج ٌة يف ذاك تنبيها‬

‫رمت �أنظرها‬ ‫هلل َطلعتكم قد‬ ‫ُ‬ ‫موتي يو�شحكم ثوب احلدا ِد ويل‬ ‫عليكم من غريقٍ يف املياه َ�سال‬ ‫ُ‬ ‫هلل من فجع ٍة من وقعها انت�شبت‬ ‫ٌ‬ ‫ياراحلني و�صرب الآلِ‬ ‫مرحتل‬ ‫تركتم لبينكم �شعل ٌة حرقت‬ ‫ُ‬ ‫نرثي حياتك ٌم نبكي �صبا َءكم‬ ‫جف م ّنا مدم ٌع بقيت‬ ‫�أ َّنا �إذا ٌ‬

‫ُقبيل موتي فر ّبي ما�أرنيها‬ ‫ٌ‬ ‫حلل �ألب�ستمونيها‬ ‫من اال�سى‬ ‫راحل نف�سه هلل مجُ ريها‬ ‫ُم‬ ‫ٍ‬ ‫براثن �ألفتك يف بريوت ُترديها‬ ‫معكم وال � ٌ‬ ‫أمل فيها يو�آ�سيها‬ ‫قلوبهم واغتدت ال�صرب ُيطفيها‬ ‫ُّ‬ ‫ينهل هاميها‬ ‫أعني بالدما‬ ‫ب� ٍ‬ ‫فينا ق�صائدنا تبكي قوافيها‬

‫يانخل ًة من ربي الف�ضال قد ُق�صفت‬ ‫هد فيك الردى �آمال ذي عو ٍز‬ ‫كم ّ‬ ‫تبكيك بريوت مادامت جماور ٌة‬ ‫وبال ُه من ذلك التنزيه كيف ق�ضى‬ ‫نبكيك مانظرت منا العيون �إىل ال‬

‫�أثمارها مل تزل تدنو جمانيها‬ ‫نف�س تراقيها‬ ‫بل كم وكم بلغت ٌ‬ ‫طلبت به للنف�س تنزيها‬ ‫َ‬ ‫بحراً‬ ‫ف�ضل من روابيها‬ ‫بق�صف نخل ِة‬ ‫ٍ‬ ‫تربيل والدمع لالجفانُ يدميها‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫عجب‬ ‫غرقت يف البحر ال‬ ‫ٌ‬ ‫لي�ستا �س ٌيانِ حيث �أرى‬ ‫ي�شا دفنها فيه فاظهرها‬

‫فالبحر �أمثالها مازال يحويها‬ ‫ان قد درى البحر �أن ال ُد ّر يحكيها‬ ‫لالر�ض �إذ نو ُرها يجلو دياجيها‬

‫ياد ّر ٌة‬ ‫لكنه‬ ‫فلم‬

‫تبكيك دوماً �أيا انطوان ما برحت‬ ‫ال تعجبت �إن تكن �شُ قت «�سهام» فذي‬ ‫قمت من فوقها بحراً فال عجب‬ ‫قد َ‬ ‫ِقل‬ ‫ر�أتك باحللم مثل الطرد يف ث ٍ‬ ‫�سادت ظهري َة يوم ال�سبت وا�أ�سفاه‬ ‫ياليلة العيد ماذا � ِأنت جالب ٌة‬ ‫كنا ن�ؤ ّمل بالأفراح وا �أ�سفاً‬ ‫�أ ّنا على ال ُبعد ما ناحت مطوق ٌة‬

‫ذكراك يعبق يف الأفاق ذاكيها‬ ‫اعذارها ا�صبحت للنا�س ُتبديها‬ ‫�شق و�إن ُتهدم مبانيها‬ ‫�إذا ُن َ‬ ‫هل حملها الطو َد يوماً لي�س يوهيها‬ ‫الرجوع فخانتها �أمانيها‬ ‫ق�صد‬ ‫ِ‬ ‫بكاء و�أحزاناً نو�آخيها‬ ‫�إال‬ ‫ً‬ ‫فيك � ٌ‬ ‫خابت لنا ِ‬ ‫آمال ن ّرجيها‬ ‫نرثي «�سهام» ونبكي من ق�ضى فيها‬ ‫***‬

‫مناذج من �شعره‪:‬‬ ‫وهنا نختار من �شعره املوجود يف كتابي كنموذج فيه �أنفة وكربياء واعتداد بالنف�س ودماثة خلق‪,‬‬ ‫ورقة طبع‪ ,‬ودقة اح�سا�س‪ ,‬ورفعة �أدب‪ ,‬ونبل �شعور ال ي�ضاهي‪ ,‬فقد قال‪:‬‬ ‫ك�أين لب�ست ال�شقاء بديدا‬ ‫ُت�سائلني كيف ين�سقى الكرمي‬ ‫و�أر�صدت للدهر خلقاً �سديدا‬ ‫ت�صدى يل الدهر م�ستب�س ًال‬ ‫ّ‬ ‫حديد القوى ي�ستف ُّز حديدا‬ ‫كالنا على عزفه ثابت‬ ‫فالقى والقيت خ�صماً عنيدا‬ ‫ما�شد �إ ّال �شددت‬ ‫وواهلل‬ ‫ّ‬ ‫و�إن وهن الدهر ع�شت �سعيدا‬ ‫�إذا الن عزمي ا�سرتاح الزمان‬ ‫وله ق�صيدة رائعة يف ا�ستاذه عبداهلل الب�ستاين‪ ,‬وقد تتلمذ على يده و�أخذ عنه حمافظته على قد�سية‬ ‫اللغة وحبه لل�شعر القدمي واجلديد جلزالته ومتانة‪ ,‬قلب‪:‬‬ ‫فتاها‬ ‫فل ّباها‬ ‫فنادتني‬ ‫العيد جاها‬ ‫تزيد‬ ‫َ‬ ‫�شجاها �أن َ‬ ‫�إذا �أطريت �أ�ستاذي �أباها‬ ‫�أنا من تعلم َني فتى القوايف‬

‫‪157‬‬


‫ويقول خماطباً �أ�ستاذه‪:‬‬ ‫لب�ست عباء َة‬ ‫َ‬ ‫وو�شَّ تها علو ُم‬ ‫وقد �أحيت لنا‬ ‫ك� َ‬ ‫كنت‬ ‫أنك‬ ‫َ‬ ‫ر�أى ف�أجادها‬

‫العربي ُتزهي‬ ‫ِّ‬ ‫اليوم و�ش َّياً‬ ‫ِ‬ ‫ال ُع ُ�ص َر اخلوايل‬ ‫رافائيل فناً‬ ‫ومعنى‬ ‫ُ�ص َوراً‬ ‫ً‬

‫برزت من ارتداها‬ ‫بها ح َّتى َ‬ ‫ك�أَنَّ �سنا َء ُه من َكهرباها‬ ‫روايات �أج َّل َك من رواها‬ ‫ت�ضيف لف ِّنه لغ ًة وفاها‬ ‫ُ‬ ‫و�أ�ستاذي �أجاد ومار�آها‬

‫تويف ال�شاعر عن عمر ق�صري يقارب ثالثاً وخم�سني �سنة �أي يف عمر ال�شباب‪ ,‬زهرة مل تتفتح‬ ‫�أكمالها متاماً‪ .‬خ�سره لبنان وخ�سرته البلدان العربية �شاعراً كبرياً ووطنياً وجماهداً‪� ,‬شديد الغوى‬ ‫بلبنان‪ ,‬بعث �إليه ر�سائل غراء ودرراً وجواهر ثمينة �أطلقها يف �شعره‪ .‬هو علم من �أعالم الأدب‬ ‫العربي‪ ,‬بكت عليه املجال�س الأدبية واملنتديات الفكرية‪ ,‬ووقف على قربه نحو ‪ 30‬خطيباً جا�ؤوا من‬ ‫كل �أ�صقاع لبنان لت�أبينه وتعداد �صفاته ومناقبه ومزاياه‪� .‬إ ّنه واحد من القالئل الكبار‪َّ ,‬قل �أن يجود‬ ‫الردي‪ ,‬علم فرد �صعقت لفقده اللغة العربية الف�صحى يف ديار العرب‪.‬‬ ‫الزمان مثله يف هذا الزمن ّ‬

‫‪158‬‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫توقيع كتاب «حوار الأنهر»‬

‫للدكتورة حياة احلويك‬

‫نظمت «م�ؤ�س�سة �سعاده للثقافة» ندوة وتوقيع كتاب «حوار الأنهر» للدكتورة حياة‬ ‫احلويك يف م�سرح بابل‪ ،‬ر�أ�س بريوت‪ ،‬وح�ضرها ح�شد من املهتمني‪.‬‬ ‫بداية عر�ض مقاطع م�صورة من الكتاب ثم كانت كلمة �سليمان بختي الذي �أدار الندوة وقدمها وقال‪:‬‬ ‫�أيها االحباء‪،‬‬ ‫ي�سعدين با�سم م�ؤ�س�سة �سعاده للثقافة وبا�سم زمالئي املنتدين وبا�سمي ال�شخ�صي �أن �أرحب بكم‬ ‫يف هذه االم�سية الدافئة بقلوبكم‪ .‬تعتز م�ؤ�س�سة �سعاده للثقافة يف هذه املنا�سبة املميزة ويف هذا‬ ‫اللقاء مع الدكتورة حياة احلويك يف توقيع كتابها ‪ -‬احلدث «حوار االنهر»‪ .‬و�سبق �أن لبت الدكتورة‬ ‫دعوتنا م�شكورة يف ‪ 17‬ني�سان ‪ 2012‬يف حما�ضرة م�شهودة كانت بعنوان «االعالم وا�شكالية التغيري»‬ ‫و�سنظل نلتقي معها دائماً على الكلمة والثقافة واالن�سان واملجتمع‪.‬‬ ‫هذا الكتاب ينتمي �إىل ثقافة احلوار احل�ضاري يف زمن �صدام احل�ضارات‪ .‬هو احتفاء بال�شعر والنرث‬ ‫وال�ضوء واال�سطورة واللون واملو�سيقى والفولكلور‪ .‬احتفاء باحلياة‪ ،‬حياتنا بكل ما فيها من �إبداع‬ ‫وا�ضاءات وحتوالت‪ .‬الدكتورة حياة احلويك عربت النهر مرتني ور�أت و�سجلت وقدمت لنا مادة‬ ‫احل�ضارة وقد �صنعت من عنا�صر الثقافة ومن روح احلرية ومن جذوة االبداع‪.‬‬ ‫ولعل املرء عندما يقر�أ هذا الكتاب يدرك مبلغ اجلهد والتعب املبذولني فيه‪ .‬ويكت�شف اي�ضاً ان‬ ‫الكاتبة غدت نهراً جديداً يف «حوار االنهر»‪ ،‬و�أن الثقافة هي �أي�ضاً نهر متحول مثلما هي ت�سا�ؤل‬ ‫عن امل�ستقبل يف منجزات املا�ضي ووقائع احلا�ضر‪ .‬كل كتاب هو رافد من روافد الثقافة واحل�ضارة‬ ‫فكيف بكتاب يحمل عنوان «حوار االنهر» حوار الدانوب ونهر االردن يف جدلية �شرق ‪ -‬غرب‪،‬‬ ‫ويف حيز ح�ضاري متو�سطي م�شرق وغني‪.‬‬ ‫هناك بيت �شعري لل�شاعر االملاين رايرن ماريا ريلكه يقول فيه «مثق ًال يرتك املكان من ي�سكن قريبا‬ ‫من النهر»‪ .‬ونحن لن نرتك �أي نهر لنا لأننا �سكناه و�سكننا‪ ،‬ولأنه غدا لنا الباب واالفق والعالمة‪.‬‬ ‫حوار االنهر‪ ،‬حوار اجلبال‪ ،‬حوار ال�سهول‪ .‬ولكن متى حوار الب�شر؟‬ ‫‪159‬‬


‫�إن م�ؤ�س�سة �سعاده للثقافة قد �آلت على نف�سها ان تكون يف قلب اال�ضافة واالغناء لثقافتنا‬ ‫وح�ضارتنا‪ .‬و�أح�سب ان كتاب «حوار االنهر» هو يف قلب هذا املعنى‪ .‬والن الثقافة يف جوهرها هي‬ ‫التجرد وامل�شاركة واحلوار‪ ،‬لذا ف�إننا مقيمون يف احلوار ا�ستلهاماً ملا قاله �سعاده يف �سريته وجهاده ويف‬ ‫ال�سعي لأجل حياة �أجود يف عامل �أجمل وقيم �أعلى‪.‬‬ ‫�أرحب بكم جمدداً و�أ�شكركم على ح�ضوركم‪.‬‬ ‫و�أحيي الدكتورة حياة احلويك عطيه و�أهنئها يف حفل توقيعها لكتابها يف بريوت عا�صمة الثقافة‬ ‫يف العامل العربي‪.‬‬ ‫وكانت كلمة لال�ستاذ ح�سن حماده‬ ‫هي فكرة‪ ...‬انفلتت من ينبوع اال�سطورة‪...‬‬ ‫الفكرة �صارت حرفاً‪...‬‬ ‫�صار احلرف كلمة‪...‬‬ ‫التج�سد ‪ ،‬بد�أت رحلة التحول �إىل قطرة ماء‪...‬‬ ‫باكتمال ّ‬ ‫�صارت القطرة كرة ماء‪...‬‬ ‫كربت كتلة املاء ف�صارت ينبوعاً‪...‬‬ ‫والينبوع و ّلد نهراً‪...‬‬ ‫والنهر ّمتدد ما بني النهرين‪ ...‬ف�صار ج�سداً مائياً‪...‬‬ ‫ج�سد بد�أ معه لقاء االنهر‪...‬‬ ‫تعانق النهران‪ ...‬االردن والدانوب‪...‬‬ ‫العناق طويل‪ ...‬ابت�سامة‪ ...‬دمعة �أمل‪ ...‬غزيرة‪ ...‬غزيرة‪...‬‬ ‫رفعت من من�سوب مياه النهر الثالث‪ ...‬نهر الكلمة‪ ...‬حتى �صار النهر يحلق يف االجواء‪...‬‬ ‫لوال االردن‪ ...‬ملا انفلتت الفكرة غا�ضبة‪...‬‬ ‫�أت�صلبون النهر‪ ...‬نهره‪ ...‬بعد �أن �صلبتموه؟‬ ‫لكل نهر وجدانه‪ ...‬لكل نهر �أ�سطورته‪ ...‬لكل نهر اعرتافاته‪...‬‬ ‫همه �إال للنهر‪ ...‬بني الأنهر لغة ال يفهمها �إال النهر‪� ...‬أبجدية ماء �أ�سطورية‪...‬‬ ‫النهر ال ي�شكو ّ‬ ‫قواعدها يف ملحمة االينوما عيل ّي�شي‪� ...‬أ�سطورة اخللق االوىل‪ ...‬قامو�س املعرفة االول‪ ...‬حتفة‬ ‫اخليال الأوىل‪ ...‬اليها التج�أ النهر الثالث‪ ...‬ليبني باملاء حواراً بني الأنهر‪.‬‬ ‫‪160‬‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫وي�شكو االردن همه �إىل النهر الثالث‪ ...‬مهده حرمون وجمراه عابر لكل اال�ساطري املقد�سة‪...‬‬ ‫ت�صدع الوادي الكبري فكنت يف «ق�صر الندي» �أوالد �شيخ �أبي�ض و�شهقة �شبق �أبدي وير�سلني‪ ،‬من حرم‬ ‫ّ‬ ‫نبي‪� ،‬إىل بحر موت لي�س بعده حتت �سطح االر�ض»‪ ...‬موت وال حياة‪ .‬ويروي ويروي‪...‬‬ ‫اله �إىل عماد ّ‬ ‫فما النهر الثالث ّي�سجل ما يرويه‪ ...‬يوثق كالمه باملاء‪ ...‬يعرف االردن بنف�سه ب�أهله بن�سبه وبان�سبائه‪...‬‬ ‫«كلما �أدرك الطلق االر�ض كان يل �أخوة‪ .‬احلوله وطربيا‪ ،‬احلا�صباين‪ ،‬اللدان‪ ،‬بانيا�س‪ ،‬الريموك‪،‬‬ ‫كلهم واحد ولكل ق�صته مع اال�سطورة»‪ ...‬وموج االردن على املدن والقرى‪ ،‬يذكر بحريق وجداين‬ ‫وي�شح �صوته‪ ...‬مع جتفف ج�سده العليل املقد�س‪...‬‬ ‫م�صري االر�ض اخل�صبة‪ ...‬ويت�أمل‪ّ ...‬‬ ‫«�أر�سم ذاتي و�أبتدع الآلهة‪� ،‬أخ�ضعها كلها الله الثمار‪،‬هو‪ ،‬مل يزل بيته هناك‪ ،‬بيت دجن‪ ،‬يف �أر�ض‬ ‫فقدت ا�سماءها اال ن�سبتها �إىل‪� :‬ضفتي الغربية»‪...‬‬ ‫«فقدت ن�صفي‪ ،‬ون�صفي �إىل زوال‪ .‬وان انتهت انتهى البحر امليت‪ .‬ها هو جنوبه �سيقل �شحا ال رغبة»‬ ‫املخل�ص‪ ...‬املبارك‪...‬‬ ‫يتقم�ص ّ‬ ‫ويطول حديث النهر‪ ،‬يطول‪ ...‬نهر املعمو ّدية والأ�سرار‪ ...‬وهو للحظه‪ّ ...‬‬ ‫يطرد ال�شياطني‪ ...‬م�ستحياً‪ ...‬يدعونا جهاراً ليخرج االرواح ال�شريرة من جنوننا فتنتحر يف طربيا‪.‬‬ ‫يح�ضر للم�سيح القائل‬ ‫نهر االردن النهر املحب للنا�س‪ ...‬فيلودميوم�س‪ ...‬من نافذة �أ�سطورته كان ّ‬ ‫ورثت العامل‪� ،‬س�أخل�ص االن�سانية‪.‬‬ ‫حبذا يكفي لكي ي�صلب هو ونهره من بعده‪.‬‬ ‫فا�ضل على �ضفتيه توالد الثقافات‬ ‫ويرجتف ج�سد املاء‪ ...‬مطالبا بالعدالة لنهر االردن ‪ ،‬ولكل نهر ٍ‬ ‫واحل�ضارات يجمع يف ما بينها بدراية‪ ،‬وحكمة هي حكمة يف ذات االنهر‪.‬‬ ‫الذات النهر ّية مل يكت�شف منها �سوى القليل القليل قيا�سا بكثري ثمارها‪ ...‬هي بيت امل�ؤونة‪ ...‬هي‬ ‫بيت حلم االمم‪ ...‬بيت جليل االمم‪...‬‬ ‫يرجتف ج�سد املاء‪ ...‬ج�سد النهر الثالث يكاد ينقطع يتقطع �أملاً على الدانوب‪ ...‬وهو ي�سمع رف‬ ‫طيور يتحدث بكينا االردن وطربيا ‪.‬وها نحن نرجتف خوفا على الدانوب‪� ...‬أمازون �أوروبا لن يعود‬ ‫لنا‪»...‬‬ ‫يجيب الدانوب «�أنا نهر العوا�صم الع�شر‪ ...‬من غابة �سوداء �أىل بحر �أ�سود ‪� 7‬آالف �سنة عمر ق�صتي‬ ‫مع االن�سان �أنا الوحيد الذي يجري من الغرب �إليك �أيها ال�شرق‪»...‬‬ ‫دانوب الرومان�سية‪ ...‬الدانوب اجلميل االرزق‪ ...‬دانوب �شرتاو�س‪ ...‬بدوره يعاين ما يعانيه من‬ ‫وح�شية �أبناء �آدم وحواء‪ ...‬ن�سمة اخلري ر�سول الوداد‪...‬‬ ‫ي�شكو م�أ�ساته فيما النهر الثالث ّيدون ويوثق وينقل �إلينا بع�ض من البوح �ضاق به الدانوب املعذب‬ ‫‪161‬‬


‫عن تلويث ج�سده االزرق الر�شيق بوا�سطة «التجارة وقذارة منفوثات ال�سفن واحلواجز امل�صطنعة‬ ‫�أمام االمواج لل�سيطرة على النهر»‪...‬‬ ‫يقول النهر الثالث‪« :‬هو الدانوب املقد�س يدرب على عدم الرف�ض والتلوي‪.‬‬ ‫يدرب على ال�سري يف م�شية ع�سكرية م�ستقمية �صارمة خلدمة التجارة وعندها �سيخلع حزامه‬ ‫االخ�ضر‪� .‬ستموت اال�سماك ومنوت نحن وميوت كل ما �أو�صى باملو�سيقى والر�سم وال�شعر لتعي�ش‬ ‫يف نارك با ابن املاء»‪.‬‬ ‫الطيور اعرتفت ملحمود دروي�ش ب�صحة قوله �إن الدانوب لي�س �أزرق مل يعد �أزرق‪.‬‬ ‫الدانوب الذي عرف عن نف�سه للنهر الثالث بكلمات ت�شبهه جما ًال ور�شاقة ومو�سيقى‪...‬كلمات‬ ‫ن�سجتها خميلة النهر الثالث لأن الدانوب ينطق وحياً بوحي‪:‬‬ ‫ك�أفعى ا�سكوالب حت�ضنني الياب�سة فاح�ضنها‪ ،‬نتلوى ‪ ،‬ننعطف‪ ،‬نرت�سم �أقوا�ساً من غوايه‪ ،‬ذراعني‪،‬‬ ‫فذراعني فال�سماء‪ ،‬نخرتع الفال�س‪...‬‬ ‫متاما‪ ...‬ككلمات النهر الثالث تن�ساب بني اللوحات اخلميلة‪ ،‬بني �ضفتي ودفتي جوردانوب‪ ،‬لرت�سم‬ ‫بحركتها اال�سطورية كوريغرافيا خا�صة بها‪ ...‬من البديهي ان تتوازن مع من�سوب النهرين‪ ...‬فيولد‬ ‫ثال�ؤث م�سكون باال�ساطري‪ ...‬ال يعي�ش خارج اال�ساطري‪ ...‬تليق به اال�ساطري ويليق بها‪ ...‬فكان‬ ‫حوار االنهر‪ ...‬نهر االردن‪ ...‬نهر الدانوب والنهر الثالث نهر حياة ‪ .‬هنيئا لك يا نهر االبداع‪.‬‬ ‫ثم كانت كلمة اال�ستاذ ن�صري ال�صايغ الذي قال‪:‬‬ ‫كتاب‪ ،‬لي�س كتاباً‪.‬‬ ‫هو وثن من ماء يثنى‪ .‬دين بال لغة‪ .‬بالد من �ضفتني‪ :‬االردن من هنا‪ ،‬والدانوب من هناك‪ ،‬ويلتقيان‪.‬‬ ‫كخطني م�ستقيمني‪ .‬على مر�أى من ح�ضارات ولغات و�أ�ساطري ومتاحف وق�صائد ومعابد ولوحات‬ ‫بعدد �أبعاد الآفاق‪.‬‬ ‫كتاب‪ ،‬لي�س كتاباً‪.‬‬ ‫يلزمك كي تدخل يف طق�س النهر‪� ،‬أن تكون م�ؤمناً بنبوءة اجل�سد‪ ،‬وهو يت�شكل يف �ضباب وتراب‬ ‫و�سحر النار‪ .‬ج�سد يتهي�أ ليكون تيامات �أو تعامة‪ ،‬م�ستل من ذراع مردوخ‪ .‬ماء يلتقي مباء‪ .‬ماء ال يف�صل‬ ‫بني ال�ضفتني‪/‬اجل�سدين‪ .‬بل ي�صل ما بني االثنني يف ملتقى الرافدين البعيدين ‪.JORDANUBE‬‬ ‫كتاب‪ ،‬لي�س كتاباً‪.‬‬ ‫لي�س للفهم هذا الكتاب هو �سحر وتعويذة ولعبة �شيطانة تدعى حياة‪� .‬إذ‪ ،‬كيف يلتقي �أردن‬ ‫‪162‬‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫بدانوب‪ ،‬لوال �شطحة ال�شعر وت�صوف امل�سافات‪ ،‬و�شيطانة «عبقر»‪.‬‬ ‫هو نوع من نطفة على �شكل موجة ال تهد�أ خا�صرتها عن رق�ص وال يتوقف فخذاها عن تنهد‬ ‫و�شبق‪ .‬اخللق مر من هنا‪ ،‬وجعلنا من كل نطفة ماء ‪ .‬ماء يتكنى با�سماء االنهار‪.‬‬ ‫كتاب‪ ،‬لي�س كتاباً‪.‬‬ ‫ينفتح على ج�سد يتحدد من «يف العلى عندما �أو‪ ،‬عندما يف االعايل» او �أينوماعيلي�ش» ‪ .‬ج�سد‬ ‫�شبق ال حتده م�سام‪ .‬ج�سد دائم الت�شكل من ماء ونار وع�شق ‪ .‬لعل اجلن�س �أ�صل املاء واحلياة‪ .‬فيا‬ ‫لبكارة ال تنفك عن �شبقها‪ .‬هنا‪ ،‬يف هذا الكتاب‪ .‬ذرية من �أكوان‪ ،‬لي�س من �آدم �أو حواء‪ .‬ذرية من‬ ‫�شهوة االجنحة‪ ،‬عندما جتن يف ا�سرة ت�شبه لوحات الكتاب‪.‬‬ ‫كتاب‪ ،‬لي�س كتاباً‪.‬‬ ‫ال تت�صفحه‪� ،‬أطمئن لن يكتم عنك �شيئاً‪ .‬يدخلك من حوا�سك كلها‪ .‬ال �أول له وال �آخر‪ .‬ت�أتيه‬ ‫من كل ال�صفحات فينفتح لك على في�ض من ماء ال�شعر وماء ال�سماء‪ .‬ترت�سم بابداع يقارب �إبداع‬ ‫الدانوب وم�ضا»‪ ،‬ونوم النيل هم�سا وثرثرات االردن �صالة‪ ،‬وركعات الفرات حيث جعلنا من املاء‬ ‫كل �شيء حي‪.‬‬ ‫كتاب‪ ،‬لي�س كتاباً‪.‬‬ ‫تب�سطه في�سيل لونا‪ ،‬لوحة بعد لوحة ك�أن ال�صفحة م�صب نهر �أو بكارة نبع �أو خلق �أنثى‪ .‬فكل‬ ‫ري�شة ذكر‪ .‬تختل�س ال�سمع‪ ،‬فرتى‪ .‬ت�سرتق النظر فت�سمع‪� .‬شيء من غلط جميل‪ .‬نوع من اخلطيئة‬ ‫النقية‪ :‬ك�أن تتعلق بلوحة �أو و�شم �أو �أ�سطورة �أو قنطرة‪ ،‬فتح�ضر �أمامك من �شقوق املاء‪ .‬فيينا وهي‬ ‫تتمايل �سكراً بغال�س‪ ،‬وترى القد�س وهي تراق�ص امل�ستحيل وتداوي تاريخها بزيت امل�أ�ساة‪.‬‬ ‫كتاب‪ ،‬لي�س كتاباً‪.‬‬ ‫هل تعرف ال�سومريني؟ �أثينا �أم �أخرى؟ هل تعرف بغ ّيا تر�شح زيتا مقد�سا عجائبيا» ؟ قبلة كليمت‪،‬‬ ‫معبد �أم طق�س‪ ...‬يف منحنيات االلوان واال�سطورة ال حقيقة �إال املر�أة ال�صارخة يف وجع �إن�ساين‪.‬‬ ‫بلغراد زارها الدروز وعا�شوا يف زنازينها‪ .‬الربتقال يطفو على الدانوب وميوت اال�سرى عط�شاً‪.‬‬ ‫كتاب‪ ،‬لي�س كتاباً‪.‬‬ ‫رمبا هو من �شعر �إىل جغرافيا‪ .‬االنثى من حرمون وجوالن وطربيا وعرقوب‪ .‬الرجل يف �سعف ومتر‬ ‫ووزال‪ .‬جن�س االر�ض في�ض وابتكار‪ .‬فخيال االن�سان �أحياناً فوق مقام االلوهة‪.‬‬ ‫�شغف �أن تلم�س بعينيك حروف اال�سطورة وتالم�س �شكل املاء و�شهوة االر�ض امل�شتاقة لبعلها‪.‬‬ ‫طرب �أن ت�أخذك لوحات الكتاب �إىل قدا�س من رق�ص وع�صف وجنون‪ ،‬وكني�سة لي�ست اال لغري‬ ‫القدي�سيني من خالقي ال�شعر‪.‬‬ ‫‪163‬‬


‫هي امل�ؤلفة‪ .‬وتدعى حياة‪ ،‬ارت�ضت �أن تكون خميلتها رحما ومنه تفي�ض انهار وكلمات وافق ال‬ ‫يكف عن االبتعاد واال�شتهاء‪.‬‬ ‫كتاب حياة احلويك‪« ،‬حوار االنهر» هو �سفر من وثن حي‪.‬‬ ‫كتاب لتحبه ال لتقر�أه‪.‬‬ ‫ت�ضعه عندك‪ ،‬تعويذة جمال‪.‬‬ ‫خرزة زرقاء‪ ،‬بحجم االردن وان�سيابات الدانوب‪.‬‬ ‫ومن بعده ‪� ،‬سيكون الطوفان اجلميل‪.‬‬ ‫ف�شكرا ملن ملأت ك�أ�سنا مباء ال ين�ضب كالما و�شعرا ورق�صا وذرية من االلوان‪.‬‬ ‫وكانت كلمة اخلتام للدكتورة حياة احلويك قالت فيها‪:‬‬ ‫«فكرة حوار االنهر يف احلقيقة هي فكرتي ولي�ست فكرتي مبعنى �أنا كتبت �سابقاً مع امتدادا‬ ‫ل�سنوات طويلة الكثري الكثري مبا يخ�ص الدانوب ‪.‬‬ ‫يف مو�ضوع الأ�سطورة �أعتقد �إىل حد ما ب�أنني متخ�ص�صة من عمر ‪� 18‬سنة و�أنا �أعمل على مو�ضوع‬ ‫اال�سطورة و�أ�صدرت درا�سة حول ت�أثري الأ�سطورة يف امل�سرح العربي‪� .‬إذن جتمعت عنا�صر خمتلفة‬ ‫حول االردن وحول الدانوب‪.‬‬ ‫وذكرت �إن امل�شكلة التي واجهتها هي م�شكلة �صراع �صعب جداً �أن تورد ح�صيلة معرفية‬ ‫معلومات متعلقة بجغرافيا والتاريخ وال�سيا�سة والت�شكيل والفلكور كما ر�أيتم دون �أن تفقد اللغة‬ ‫وهجها ال�شعري ال�صياغي»‪.‬‬ ‫وختمت «مالحظتي االخرية �أنه �إذا كان الن�ص حقا يتعلق بت�صنيف ما ي�سمى بحوار احل�ضارات و�أنا‬ ‫ال �أنكر �أنني نا�شطة قدمية بحوار احل�ضارات واف�صل متاما بني مو�ضوع حوار احل�ضارات وبني ال�صراع‬ ‫ال�سيا�سي ف�أنا منا�ضلة �شر�سة فيما يتعلق بال�صراع ال�سيا�سي ولكنني من جهة �أخرى �أ�ؤمن بحوار‬ ‫احل�ضارات و�أ�ؤمن دائما ب�أن التطور الثقايف واحل�ضاري هو �صليب لي�س مبعنى امل�سيحي و�أق�صد بال�صليب‬ ‫ال تطور �إال باكتمال عن�صرين التجذر العمودي يف الذات ‪ ،‬يف الرتاث‪ ،‬يف التاريخ‪ ،‬يف الذات يف كل‬ ‫مكوناتها واالنفتاح االفقي على الآخر‪� .‬إذا ا�ستطعنا �أن نحقق هذا التقاطع بني االنفتاح االفقي على‬ ‫الآخر والتجذر العمودي يف الذات فاننا ميكن �أن نطور انف�سنا ونطورح�ضارتنا ونطور ثقافتنا»‪.‬‬

‫‪164‬‬


‫تراث‬

‫عملية �سطو ممنهج وانتحال �شخ�صية وتزوير‬ ‫ح�ضاري‪� ،‬أم حماولة بحث عن هوية وانتماء؟‬ ‫فيفيان حنا ال�شويري ‪ -‬باحثة و�أ�ستاذة جامعية‬

‫ال ي�ستخدم م�صطلح «الثقافة» عند احلديث على االمور االيجابية فقط‪ ،‬بل �أ�صبح ي�ستغل يف‬ ‫م�ضمار �صناعة ال�سيا�سات واال�سرتاتيجيات الدولية بهدف الت�أثري على العقول وحتريف الفكر‪،‬‬ ‫خ�صو�صاً �إذا ما ت�ضمنت حتريفاً وتزويراً للوقائع‪ ،‬عرب الكثري من الو�سائل‪ .‬ومتكن اخلطورة عند قيا�س‬ ‫مدى قوة وقدرة وعي املتلقي‪ ،‬فكلما كانت الن�سبة �أقل‪ ،‬كلما زاد الأمر تعقيداً‪.‬‬ ‫تعم الكون وير ّوج لها‬ ‫«ما برحت ثقافة الدم والقتل بوا�سطة ال�سطو امل�سلح ل�سرقة خريات الب�شر ّ‬ ‫من قبل �صانعيها وفال�سفتها‪ .‬ولكن �إىل متى وهل اكتفى الغرب مبا �صنعت يداه �أم �أنه يريد غري‬ ‫ذلك؟ ويبدو �أنه هو نف�سه ّ‬ ‫ويدعي ابتكاره‬ ‫مل من نف�سه‪ ،‬فراح يبحث عن فكر �آخر ينتمي �إليه ّ‬ ‫وملكيته‪».‬‬ ‫ت�ؤثّر الأعمال الفنية‪ ،‬وعلى ر�أ�سها ال�سينما‪ ،‬يف ال�شعوب الغربية ب�شكل كبري ومبا�شر و ُتطبع ذاكرتهم‬ ‫تتحدر من مرجع ثقايف تاريخي له واقعية العلم‬ ‫بطابع ثقايف يرتك �أثره الكبري يف النف�س‪ ،‬لأنها �أ�ص ًال ّ‬ ‫ومن هنا م�صداقيته‪ .‬وهذه الأفالم التي تخرج �إىل �صاالت العر�ض ي�سبقها كتب وريبورتاجات‬ ‫تتع ّلق مبو�ضوعاتها وتلحق غالباً مبحا�ضرات ذات �صلة كما وي�ؤازرها �إعالم كبري ينت�شر على كل‬ ‫و�سائل الإعالم على تن ّوعها وكذلك على �شبكات التوا�صل االجتماعي مهما يكن مو�ضوعها‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وتركز هوليوود اهتمامها يف انتقاء مو�ضوعات �أفالمها على م�صادر ثابتة تدعم فكرة حماربة اخلري‬ ‫حمدداً وهو و�ضع الرجل‬ ‫لل�شر والذي ي�شكل املحور الأ�سا�سي لكل رواية �أو فيلم ويحمل هدفاً ّ‬ ‫يتحدر‬ ‫الأمريكي مو�ضع الآلهة‪ ،‬فهو املخل�ص وهو البطل اخلارق ويحق له ما ال يحق لغريه‪ ،‬فهو ّ‬ ‫من «�شعب اهلل املختار» بتعبري موجز‪ .‬وهذه امل�صادر هي التوراة والإجنيل �أو الكتب التاريخية ذات‬ ‫ال�ش�أن‪ ،‬فما مي ّر فيلم �إال وترى التلميحات امل�ستقاة من هذه امل�صادر وتذكر �إما جهارة و�إما تلميحاً‬ ‫و�إما مرموزاً �إليها �أو على �شكل تورية ّ‬ ‫مبطنة‪ .‬وتكرث الأمثال بكرثة الأفالم وتن ّوعها ويبنى على‬ ‫ال�شيء مقت�ضاه في�أخذ اجلميع حقه من انت�شار الفيلم لتعم �شهرته الكون و�أكرث من ينتع�ش هو‬ ‫الكاتب �أو امل�ؤ ّرخ الذي ي�ضع ب�صمته على عمل متف ّرد ويركب الركب الإبداعي وي�صبح حمط‬ ‫�أنظار العامل من خالل ن�صه الذي ينقله الفنانون ب�أمانة ما بعدها �أمانة‪.‬‬ ‫‪165‬‬


‫يتفرج فقط‬ ‫امل�شاهد العربي‬ ‫ّ‬

‫ويتلقف امل�شاهد العربي هذا العمل وير ّدد �صداه ويقوم على الرتويج الدعائي له من خالل‬ ‫التحدث عن �أهميته و�شهرته‪ ،‬ويفتخر �أنه مواكب لع�صره ومتابع جيد للفنون واالبداعات العاملية‬ ‫و�أنه غري بعيد عن جمرى ما يح�صل يف العامل‪ ،‬ومي�ضي مفاخراً بذلك‪ .‬ولكن ال�س�ؤال هو‪ :‬هل فقه‬ ‫امل�شاهد العربي البعد احلقيقي من هكذا �أعمال وما رمت �إليه �إيجاباً �أو �سلباً؟ هل فطن النقاد‪،‬‬ ‫أكرثهم املعاين احلقيقة للأعمال العاملية التي ينكبون على حتليلها لدرجة الإعجاز البالغي‬ ‫وما � ّ‬ ‫يف �أ�سلوبهم الكتابي ومبا تتمتع به لغتهم من قوة تعبري‪ ،‬فيتناطحون يف انتقاء املفردات لنقل الآراء‬ ‫ويكرث اجلدل بني م�ؤ ّيد ومعار�ض وبني معجب وراف�ض �إىل ما هنالك من �آراء يحفل بها منهجا‬ ‫النقد والنق�ض‪ .‬ولكن هل ا�ستوعبوا الأبعاد والنقاط الأهم من الر�سالة التي يرمي �إليها هذا‬ ‫العمل الذي يتناولونه بنقدهم؟ نذكر على �سبيل املثال ال احل�صر بع�ض الأمثلة ال�شهرية عن‬ ‫�أعمال هوليودية‪ ،‬ن�ستعر�ضها للإي�ضاح‪ ،‬من مثل فيلم «�سرييانا» (‪ )Syriana، 2006‬ذي العنوان‬ ‫البارز واملعبرّ واخلطري‪� ،‬إذ �شمل منطقة جغرافية بكاملها (�سوريا الكربى والتي ترنو �إليها وا�شنطن‬ ‫من خالل «م�شروع ال�شرق الأو�سط الكبري»)‪ ،‬و ّخل�صها ب�أر�ض الإرهاب‪� ،‬ضارباً بعر�ض احلائط‬ ‫تاريخها املجيد وح�ضاراتها العريقة‪ ،‬ليح�صرها ب�شركات البرتودوالر ومافياتها وتكالبها على نهب‬ ‫النفط العربي مهما كان الثمن وب�أي و�سيلة ممكنة‪ .‬و«�سرييانا» فيلم �إثارة جيو�سيا�سي‪ ،‬وهو من‬ ‫ت�أليف و�إخراج �ستيفن كاهان‪ ،‬وهو مقتب�س عن روايتي «�سقوط ال‪ ،CIA‬مذكرات حمارب الظل‬ ‫على جبهة التط ّرف الإ�سالمي»‪ )2002 ،‬و«النوم مع ال�شيطان»‪ ،‬لروبرت باير العميل اال�ستخباراتي‬ ‫ال�سابق‪ .‬وي�ستخدم «�سرييانا» عدة م�سارات ق�ص�صية لري�سم نوعاً من �صورة ق�صة عاملية ّ‬ ‫تركز على‬ ‫ت�أثريات �صناعة النفط يف ال�سيا�سات العاملية‪ ،‬ويتط ّرق لل�سيا�سة اخلارجية الأمريكية يف ال�شرق‬ ‫الأو�سط و�آ�سيا‪ ‬الو�سطى‪ .‬وهو رغم كونه فيلماً نقدياً‪ ،‬فهو من �أكرث الأفالم �إجحافاً بحق العرب‬ ‫وب�شكل علني وي�سيء لهم ولتاريخهم وي� ّصورهم ب�أب�شع ما يكون من �صور االحتقار والإجحاف‬ ‫بجعلهم جم ّرد �إرهابيني حتى عندما يعملون ل�صون م�صاحلهم �ضد الغرب اال�ستعماري �أو يكونون‬ ‫مقاومني �ضد مغت�صبي �أر�ضهم‪ .‬و«�سرييانا»‪ ،‬هو عبارة عن الإ�سم الرمزي الذي قدمته وا�شنطن‬ ‫لعر�ض م�شروع �إعادة ت�شكيل منطقة ال�شرق الأو�سط امل ّتحدة الأمريكية التي يف ّو�ض ويتيح من‬ ‫خاللها لوكالة اال�ستخبارات الأمريكية املركزية (‪ )CIA‬بتقدمي الدعم الكبري والوا�سع للمتم ّردين‬ ‫واجلماعات امل�س ّلحة املقاتلة لإ�سقاط الأنظمة العربية وحتديداً يف �سوريا‪ ،‬بح�سب ما جاء يف مقال‬ ‫لبيبي �أي�سكوبار بعنوان «�أوباما يعمل على حتويل «�سرييانا» اىل واقع» ( ُن�شر يف «�آ�سيا تاميز‪ ،‬هونغ‬ ‫كونغ‪ ،‬ترجمة فاطر يو�سف)‪ ،‬وال�س�ؤال‪ :‬هل هم كثريون من تن ّبهوا خلطورة الفيلم و�أهدافه ممن‬ ‫�شاهدوه من العرب؟ والفيلم رغم �أنه ي�سلط ال�ضوء على تكالب الواليات املتحدة للإ�ستيالء على‬ ‫البرتول العربي‪ ،‬فهو ير ّوج لقوتها ويهدف �إىل تثبيت مقولة �إنها �سيدة العامل دون منازع‪ .‬وهذا‬ ‫هو دور �صناعة الأفالم الهوليودية بالدرجة الأوىل‪ .‬تقول مرييل بوليو‪ ،‬يف مقال بعنوان «�سرييانا‬ ‫‪166‬‬


‫تراث‬

‫ال�شاذ‪� ،‬أخبار‪ ،‬ت�سلية �أم بروباغاندا؟»(‪� 2‬شباط ‪ ،)2006‬على موقع «فولتري» الإلكرتوين الفرن�سي‬ ‫الذي �أخذ على عاتقه مناق�شة ونقد الأفالم ذات الطابع ال�سيا�سي وتبيان زيفها و�أهدافها املبطنة‬ ‫بالدرجة الأوىل‪� ،‬إنه وقبل دخول الواليات املتحدة الأمرييكة يف احلرب العاملية االوىل‪ ،‬قام الرئي�س‬ ‫ويل�سون بتكليف م�ست�شاره جورج كريل بت�أ�سي�س نظام دويل للدعاية �أو الربوباغاندا (‪ ،)CPI‬على‬ ‫غرار النموذج الربيطاين املعروف بولينغتون هاو�س‪ ،‬فن�ش�أت بذلك �أول وكالة حكومية يف العامل‬ ‫تعتمد على ال�سينما من �أجل الو�صول �إىل �أكرب عدد من امل�شاهدين وغ�سل عقولهم و�أدجلتهم مبا‬ ‫يخدم م�صالح الواليات املتحدة الأمريكية ال�سيا�سية والإقت�صادية يف العامل‪ ،‬وبهذا �صارت العالقة‬ ‫أ�شده (درجت‪ ،‬ابتداء‬ ‫وثيقة بني هوليوود والدولة الفيديرالية الأمريكية و�صار التن�سيق بينهما على � ّ‬ ‫من ‪ ،1915‬هذه املو�ضة الرتويجية عرب ال�سينما التي اعتمدتها الدول الكربى �إىل اليوم)‪ .‬وبعد‬ ‫�أحداث ‪ 11‬ايلول ‪� ،2001‬أعيد ت�أهيل «جلنة التعاون احلربي» بني البيت الأبي�ض و�شركات الإنتاج‬ ‫ال�سينمائي والتلفزيوين الأمريكية الكربى‪ ،‬ما فر�ض عليها عر�ض ن�صو�صها ذات الطابع ال�سيا�سي‬ ‫على الرقابة للموافقة على �إنتاجها‪ ،‬ومن ال�شروط �أن تكون �أهدافها دعم �سيا�سة رئي�س الواليات‬ ‫املتحدة الأمريكية وحماربة الإرهاب‪ ...‬وفيلم «�سرييانا» مل ي�شذ عن هذه القاعدة بتاتاً لدرجة �أنه‬ ‫حظي بدعم جورج بو�ش �شخ�صياً‪ ،‬فمن يتعجب بعد من �أن يح�صل الفيلم على جائزة الأو�سكار‬ ‫رغم كل �سيئاته؟‬ ‫«�أوباما لي�س �أول زعيم �أ�سود يف الغرب»‬

‫وهناك من الأعمال ما ي�ضيء بو�ضوح على الإ�شكالية التي طرحناها حول الأهداف املخفية للفن‪،‬‬ ‫بحيث حتمل هذه الأعمال ر�سائل �سيا�سية كربى مدعومة بالتاريخ ولكن التاريخ امل� ّشوه بغاية‬ ‫تزوير احلقائق من مثل فيلم «�أمري الأهرام» ل�سبيلربغ املخرج اليهودي امللتزم‪ ،‬فهل فطن �أحدهم‬ ‫للبعد الرامي �إىل تزوير التاريخ الذي يرمي اليه فيلم �سبيلربغ بجعله اليهود هم من بنوا الأهرام‬ ‫ومل يكن حتى لهم وجود يف التاريخ؟ وهل ربط �أحدهم بني هذه الأعمال الفنية امللتزمة ومدى‬ ‫ت�أثريها على الر�أي العام الأمريكي والعاملي وجميء باراك �أوباما �إىل ال�سلطة ك�أول زعيم �أ�سود‬ ‫يف الغرب؟ وهل يتذكر �أحدهم كليب مايكل جاك�سون عن الفراعنة «ال�سود» الذي ملأ الدنيا‬ ‫و�شغل النا�س العام ‪ ،1992‬بعنوان «‪ّ »Remember the Time‬‬ ‫(تذكر الزمن) وهي الأغنية الثانية‬ ‫من �ألبومه «‪( »Dangerous‬خطري)‪ ،‬حيث برز املغني الأ�شهر يف تاريخ الب�شرية يف ديكور ميثل م�صر‬ ‫القدمية؟ وقد منح هذا العمل جلاك�سون لقب «فرعون البوب»‪ .‬وهذا الأمر تطور �إىل درجة الهذيان‬ ‫عند جاك�سون نف�سه وعند معجبيه معه بحيث غدا جاك�سون �أحد الفراعنة هو نف�سه‪ ،‬ويتدفق �آالف‬ ‫الزوار �إىل متحف «فيلد موزيزم» يف �شيكاغو للنظر اىل متثال ن�صفي ميثل فرعوناً م�صرياً له هيئة‬ ‫جاك�سون بعد �أن خ�ضع لعملية تغيري مالمح وجهه الزجنية الأفريقية �إىل ال�شكل امل�سخي اجلديد‬ ‫‪167‬‬


‫الذي �صار عليه �أواخر حياته‪ .‬وهذا ال�شبه الكبري بني مغني البوب ووجه الفرعون امل�صري ما زال‬ ‫لغزاً حميرّ اً لدى الكثري من املراقبني‪ ،‬وظننا �أن جاك�سون هو الذي اختار هذا النموذج وح ّول‬ ‫وجهه �إليه‪� .‬أما �أهمية هذه امل�س�ألة فتكمن يف الإ�شكالية التالية‪ :‬ملاذا يريد رجل �شهري كجاك�سون‬ ‫�أن يتماهى �أو رمبا يتقم�ص يف �صورة فرعون م�صري؟ وملاذا ينحو الرجل الأول يف العامل �أوباما نحو‬ ‫جاك�سون؟‬ ‫«�أوباما لي�س �أول زعيم �أ�سود يف الغرب» هو التعبري الذي جاء على ل�سان �أحد امل�ؤرخني الذي ربط‬ ‫بني باراك �أوباما ب�أ�صوله ال�سوداء وبني الفراعنة وامللوك الأفارقة يف ربيورتاج على يوتيوب‪ ،‬يظهره‬ ‫املتحدرين من امللوك ال�سود الأفارقة‪ .‬وهذا طبعاً تدجيل وهذيان ما بعده هذيان ال ي�شبهه‬ ‫ك�أحد ّ‬ ‫�إال ما يبتكره الغرب من ت ّرهات بغاية ت�شويه احل�ضارات و�أ�صحابها‪ ،‬وذلك بوا�سطة الفكر الدموي‬ ‫والقتل املمنهج والت�سلط بالقوة على نهج الكاوبوي �أ�صحاب امل�سد�سات والبارود‪ .‬وما تراجع‬ ‫�أوباما عن قراره ب�ضرب �سوريا �إال �سيا�سة من قبله‪ ،‬فهو ما فتىء يرعب العامل ويرهبه بتهديداته‬ ‫وهذا هو املطلوب‪ :‬احلرب النف�سية املد ّمرة ولي�س احلرب الع�سكرية اخلاطفة‪ .‬حرب الربوباغندا‬ ‫يهدد يومياً ويقتل النفو�س قبل الأج�ساد بغية تركيع‬ ‫املدجج بال�سالح الذي ما برح ّ‬ ‫لهذا الغول ّ‬ ‫العامل وا�ستعباده‪ .‬ثمة من يعتقد �أنه رمبا �أنزل �أوباما عن ال�شجرة ولكنه ما برح ربان ال�سفينة‬ ‫الدموية‪� .‬إنها جولة ُربحت ولكن املعارك ما زالت على �أ�شدها و�إن احلرب ما فتئت م�ستعرة فمن‬ ‫يكون الغالب؟ هل �أ�صحاب احل�ضارة املنتهكة �أم ّمدعوها؟ وال�س�ؤال‪ :‬هل يعرف �أوباما �أ�ص ًال من‬ ‫يتحدر منهم؟‬ ‫هم �أ�صحاب احل�ضارة من فراعنة وملوك �سوريني حتى ير ّوج له امل�ؤرخون زيفاً �أنه ّ‬ ‫وم�صدريها‪،‬‬ ‫هل يدرك هو ومن ي�س ّوق له على �أنه �سليل احل�ضارة ال�شرقية‪� ،‬أن �صانعي احل�ضارة ّ‬ ‫�أجدادنا‪ ،‬مل يعرفوا احلروب �أبداً‪ ،‬بل ح�ضروا العامل بال�سلم واملعرفة وفكر املحبة وركبوا البحار‬ ‫ك�أ�سياد وكانوا ربان �سفن ح�ضارية تنقل العلم واالنفتاح؟ وهل يعي من يريد ركوب �سفنهم اليوم‬ ‫ومنهم �أوباما ذاك‪ ،‬بحكم لونه ال غري‪� ،‬أنه بعيد عنهم بعد ال�سماء عن الأر�ض؟ فت�صوروا! لقد �أخذ‬ ‫حجة ب�أن ي�صبح ربان �سفينة فينيقية فانتمى لي�س كفرد من �أفراد‬ ‫من لونه‪ ،‬وقبله فعل جاك�سون‪ّ ،‬‬ ‫يتحدر من �إفريقيا الكينية‬ ‫طاقمها بل جعل نف�سه ربانها وزعيماً عليها‪ ،‬لي�س ل�سبب �إال لأنه �أ�سود ّ‬ ‫املنتمية �إىل احل�ضارة الكو�شية ال�سوداء وهكذا وبكل ب�ساطة ي�صبح‪ ،‬على ّ‬ ‫حد زعم م�ؤ ّرخيه‪ ،‬فينيقياً‬ ‫لأن الفينيقيني كانوا كو�شيي الأ�صل كما يدعي الريبورتاج املز ّور واملر ّوج لأوباما ومن �شاكله!‬ ‫عجباً! من هذا العلم ومن هذا العامل الغربي بعلمائه الذين مي�شون على ر�ؤو�سهم‪ ،‬يدعمهم مر�ضى‬ ‫عقليون معقدون من جن�سهم وعرقهم ولونهم مثل مايكل جاك�سون لدرجة �أنه �أراد �أن يب ّي�ض‬ ‫ج�سده بالأو دو جفيل فمات نكاية بالبي�ض وبال�سود معاً! فراعنة هم ه�ؤالء كما ت�صوروا �أنف�سهم؟‬ ‫هيهات �أن يكونوا منهم! بل هم �أقزام الع�صر‪ ،‬ذوو ال�سحن والقلوب والأيادي ال�سوداء‪.‬‬

‫‪168‬‬


‫تراث‬

‫كيف التخل�ص من اجلهل؟‬

‫ما برح الغرب اال�ستعماري ي� ّشوه على كيفه ل�سبب واحد وهو جهل العربي حل�ضارته‪ .‬ولكي‬ ‫وحدنا‬ ‫ننجو ونخل�ص نحن بحاجة جلوالت و�صوالت وما زلنا يف البداية‪ ،‬يف �أول الدرب! فهل ّ‬ ‫جهودنا املعرفية يف �سبيل اخلال�ص والبقاء و�أنزلنا �أوباما وغريه لي�س فقط عن �شجرته التي اعتالها‬ ‫وذاع �صيتها العامل جاعلة منه بحق م�ستحق جائزة نوبل لل�سالم والتي ا�شرتيت له‪ ،‬بل و�إنزاله‬ ‫عن منت �سفينة �أجدادانا ال�سوريني التي ّيدعي وراثتها بهتاناً‪ .‬فما �ش�أنه و�شان الفينيقيني حتى‬ ‫ولو كان يهودي اجلذور؟ وما �ش�أن اليهود �أ�ص ًال بالفينيقيني بادعائهم �أنهم �أجدادهم التوراتيون؟‬ ‫فالكنعانيون هم غريهم العربانيون والعربانيون ال دخل لهم باليهود وهذه امل�س�ألة يطول �شرحها‪...‬‬ ‫من قال �أن العربيني هم الفينيقيني؟ ومن قال �أن العربيني هم اليهود؟ من �أدعى خلط احلقبات‬ ‫والع�صور التاريخية بهذه الهمجية املمنهجة �صهيونياً والعرب يا غافل �إلك اهلل!؟ ما هذا الإنتماء‬ ‫املخلوط واملغلوط كرونولوجياً والذي يلغي �آالف ال�سنني من تاريخ �سوريا وامل�شرق القدمي ويلغي‬ ‫أي�ستمر‬ ‫التط ّور واحلقبات التي م ّرت بها ال�شعوب وي�ضع التواريخ والأقوام كيفما �شاء ورغب؟! � ّ‬ ‫التدجيل والتزوير على منهج التوراة الذي �أمر قور�ش اخلونة من �أبناء ال�شرق‪ ،‬فرقة اليهود العميلة‬ ‫تلك بكتابة تاريخ مزور لها‪� ،‬سنة ‪ 555‬ق‪.‬م‪( .‬وهو تاريخ كتابة توراة اليهود التي �سلبت م�صادره‬ ‫من امل�شرق القدمي وح ّورته ل�صاحلها) وذلك حتى ي�ضرب من خاللهم دم�شق عا�صمة امل�شرق‬ ‫القدمي وذلك لقاء دويلة لهم انتزعوها باالغت�صاب والتزوير واخليانة؟ (وهنا ال بد من القول �إن من‬ ‫ينبذ اليهود من ال�شعوب ال�شرقية ب�أنه خمطىء فهم فئة من هذه الأقوام القدمية �إال �أنهم من خونة‬ ‫البالد وذلك لبعدهم عن الفكر احل�ضاري ورف�ضهم االندماج يف املدن‪ ،‬كون طبيعتهم البدوية‬ ‫املتحجرة ترف�ض التطور ومتقت اجلمال و�صناعيه وتدعي الكمال والألوهية الع�شائرية املتع�صبة)‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وي�أتي كالم ال�سيد املعلم‪ ،‬ي�سوع امل�سيح ال�سوري‪ ،‬بعد خم�سة قرون على تواط�ؤ اليهود مع قور�ش‪،‬‬ ‫لي�ؤكد ذلك يف �إجنيل متى (‪)14(« :)23 :14‬ا ْل َو ْي ُل َل ُك ْم �أَ ُّي َها ا ْل َك َت َب ُة َوا ْل َف ِّري�سِ ُّيونَ المْ ُ َرا�ؤُونَ ! َف�إِ َّن ُك ْم‬ ‫وت الأَ َرام ِ​ِل َو َت َت َذ َّر ُعونَ ِب�إِ َطا َل ِة َ�ص َل َوات ُِك ْم‪ .‬ل َِذل َِك َ�س َت ْنز ُِل ب ُِك ْم َد ْي ُنونَ ٌة َ�أق َْ�سى (‪)15‬ا ْل َو ْي ُل‬ ‫هِمونَ ُب ُي َ‬ ‫َت ْل َت ُ‬ ‫َ‬ ‫َل ُك ْم �أ ُّي َها ا ْل َك َت َب ُة َوا ْل َف ِّري�سِ ُّيونَ المْ ُ َرا�ؤُونَ ! َف�إِ َّن ُك ْم َت ُطو ُفونَ ا ْل َب ْح َر َوا ْلبرَ َّ ِل َت ْك َ�س ُبوا ُم َت َه ِّوداً َواحِ داً؛ َف�إِ َذا‬ ‫َت َه َّو َد َج َع ْل ُت ُمو ُه �أَ ْه ًال لجِ َ َه َّن َم ِ�ض ْع َف َما �أَنْ ُت ْم َع َل ْيهِ‪ »...‬واملته ّود هنا مبعنى من اتخذ التهويد منهجاً �أي‬ ‫نهج منهج اخليانة!‬ ‫عجيب �أمر العرب يف �إهمال �أ�صولهم احل�ضارية!‬ ‫عجب! يرف�ض العربي‪ ،‬وهو م� ّؤ�س�س «علم الأن�ساب» الن�سب العريق الذي ي�ضعه يف م�صاف‬ ‫بحجة احلداثة‪ ،‬يف حني يروح من ال ن�سب له‪� ،‬إبن‬ ‫العظماء و�أ�صحاب االبداعات احل�ضارية ّ‬ ‫الأدغال والرباري والبوادي والقفار‪ ،‬ذلك الراعي امل�ضري البدوي‪ ،‬يبحث له عن طرف خيط‬ ‫‪169‬‬


‫يربطه بالأن�ساب احل�ضارية‪ ،‬حتى ولو كان قائماً على تزوير! وما �أن مي�سك بهذه ال�شعرة الدقيقة‪،‬‬ ‫حتى يلت�صق بهوية موغلة يف القدم والعراقة‪ ،‬ولكن ملاذا؟ �أفال تكفي مايكل جاك�سون �أو باراك‬ ‫�أوباما �شهرة وجاهاً ومقاماً ورتبة حتى يروحا يبحثان عن م�سند يتكئان عليه يف التاريخ؟ �أيجب‬ ‫حد قول ال�سيد‬ ‫حكماً �أن يكون لإبن الإن�سان « َم َكانٌ ُي ْ�سن ُِد ِ�إ َل ْي ِه َر ْ�أ َ�س ُه» (�إجنيل لوقا‪ )58 :9 ،‬على ّ‬ ‫امل�سيح؟ هل لهذه الدرجة هي مهمة‪ ،‬عند املتيقنني من وجودهم �أو عدمه يف م�سرية الإن�سانية‬ ‫ّ‬ ‫والتجذر والعراقة؟‬ ‫الإبداعية‪ ،‬م�س�ألة االنتماء والهوية‬ ‫احل�ضارة لي�ست بالعرق واللون بل بالفكر‬

‫�إن امل�س�ألة الأهم التي تطرح هي عجز الغرب و�أمريكا و�سود �أمريكا حتديداً‪ ،‬بت�أثري ترويجي يهودي‬ ‫مبا�شر‪ ،‬التخل�ص من فكرة العرق واللون وهي الفكرة العن�صرية التي �ش ّيعها الفيل�سوف نيت�شه‬ ‫وط ّبقها هتلر ل�صالح اليهود يف �أوروبا‪ ،‬والتي على �أ�سا�سها َب َن ْت �أوروبا نظرتها �إىل ال�شعوب وعلى‬ ‫�أثرها حترك اليهود وراحوا ين�شرونها ل�صاحلهم وما زالوا يعتمدونها ك�سيا�سة رغم ادعائهم رف�ضها‬ ‫ومعاداتها و�أنهم �ضحيتها‪ ،‬و�إال كيف نفهم م�شكلة �صفاء الدم التي يقد�سونها وهم ال يتزاوجون‬ ‫�إال من بع�ضهم البع�ض؟‬ ‫املتحدرة من تاريخ العبودية‬ ‫�إن الهوية التي يبحث عنها هوالء الزعماء اجلدد‪� ،‬أ�صحاب ال ِعقَد ّ‬ ‫الزجنية‪ ،‬هو ارتباطهم باللون والعرق فلم يتوقفوا �إال عند لون الب�شرة‪ ،‬كادعائهم �أن امللوك الفراعنة‬ ‫كانوا من الأفارقة ال�سود وك�أن احل�ضارة توقفت عند ذلك‪ .‬يف الواقع‪� ،‬إن امل�س�ألة �أبعد من ذلك‬ ‫و�إن م�ؤرخيهم على يقني من عدم �صحة هذه النظرية العرقية اجل�سدية‪ ،‬فهم يعرفون جيداً �أن م�صر‬ ‫حكمها بالإ�ضافة �إىل الفراعنة ال�سود وامللونني والفاحتي الب�شرة‪ ،‬ال�سوريون (الهك�سو�س) و�ساهموا‬ ‫يف ح�ضارتها لعدة قرون‪ ،‬و�أنه كانت ب�شرة امللوك والفراعنة متنوعة‪ ،‬وهم ي�ؤكدون ذلك من خالل ما‬ ‫ي�س ّوقونه من �أن الفينيقيني �أو الكنعانيني هم من �أ�صول كو�شية �سوداء وهذا لي�س �أكيداً و�إن كانت‬ ‫احل�ضارة الفينيقية الم�ست �إفريقيا ال�سوداء و�ساهمت يف نقلها من طور �إىل طور ويف هذا التوا�صل‬ ‫ما ي�ؤدي بال�ضرورة �إىل االختالط العرقي وهذا بديهي وال مندوحة عليه‪ ،‬ولكنه ال يجعل العرق‬ ‫�أو اللون ذا �أهمية وال ي�شكل �أي اختالف جذري يف املو�ضوع‪ ،‬فاحل�ضارة التي ن�شرها ال�سوريون‬ ‫يف م�صر ومنها يف كل �إفريقيا‪ ،‬مل تتوقف عند الأعراق والألوان فهم امتزوجوا مع كل الأقوام‬ ‫ح�ضروها بفكرهم ومل ي�ؤثّر لونهم مهما كان يف الأمر‪ .‬وكان كل‬ ‫التي نزلوا يف جغرافيتها‪ ،‬وكانوا �أن ّ‬ ‫يعد منهم وهم منه‪� ،‬أما من تخ ّلف فبقي يف �أدغاله �أو قفاره �أو‬ ‫من ركب ركب موجاتهم احل�ضارية ّ‬ ‫بواديه ومل ي�سجل �أي دخول يف التاريخ احل�ضاري‪ ،‬بل بقي جمرد رقم يف املعادلة الب�شرية العددية‬ ‫ال �أكرث وال �أقل‪ .‬و�إن احل�ضارة ال�سورية‪ ،‬بف�ضل �أ�سبقيتها‪ ،‬هي التي تبلورت يف حميط متو�سطي‬ ‫جامع للألوان والأعراق‪ ،‬وهي التي ابتدعت الفكر �أو ًال وكان مركزه العوا�صم الفكرية الكربى‪،‬‬ ‫‪170‬‬


‫تراث‬

‫ومراكزها الأوىل ال�ساحل ال�شرقي للبحر الأبي�ض املتو�سط والداخل ال�سوري يف بالد ال�شام وبالد‬ ‫ما بني النهرين ووادي النيل‪� ،‬أي على جمرى الأنهار‪ ،‬ولي�س يف �أدغال كينيا �أو املوزمبيق �أو اجلزر‬ ‫الأوقيانية �أو حتى النوبة جنوب م�صر �أو ال�سودان واحلب�شة‪ .‬لذا‪ ،‬تقا�س احل�ضارة بالفكر ولي�س‬ ‫بالألوان والأعراق والبداوة! فهل �أراحنا الغرب و�أمريكا حتديداً من ادعاءاتهم ب�أن الفينيقيني هم‬ ‫الكو�شيون �أو العربيون �أو اليهود �أو غريهم من بني حام �أو �سام �أو يافث بح�سب ت�صنيف التوراة‬ ‫(وعلى �أ�سا�سها ت�صنيف �شلو�سرت اليهودي) وهو ت�صنيف عرقي على �أ�سا�س اللون فقط‪� ،‬ضاربني‬ ‫عر�ض احلائط كل تاريخ امل�شرق القدمي �أي كل ال�شرق الأو�سط �صانع احل�ضارة الإن�سانية الفكرية‬ ‫يف كل �أبعادها ومبجمل عنا�صرها وجوانبها؟ هال انتهينا نحن العرب من ت�صديق هكذا ادعاءات‬ ‫متعمد يجري للم ّرة الألف بحق تاريخ �أجدادنا وي�سلب للم ّرة الألف من قبل امل� ّشوهني‬ ‫وتزوير ّ‬ ‫والدخالء والفقراء ثقافياً واملت�س ّولني للح�ضارة؟ �أما ملاذا هذه الهجمة على �سلب الفكر وح�ضارته‬ ‫من ال�شرق؟ فلأن خ�صومنا فهموا والذي يفهم ي�سمو ويرتقي‪ ،‬وح�سبهم �أعدا�ؤنا �أنهم فقهوا معنى‬ ‫تخلي الأ�صيل عن‬ ‫االرتقاء وال�سمو يف الفكر‪ ،‬ف�أرادوه لنف�سهم دون غريهم و�ساعد على ذلك ً‬ ‫�أمالكه‪ ،‬فالرزق ال�سايب يع ّلم احلرام‪ ،‬زد على ذلك ازدراءه به وعدم وعيه لقيمته‪ ،‬فانكب �أعدا�ؤنا‬ ‫يدر�سون الو�سيلة لال�ستيالء عليه وو�ضع ب�صمتهم عليه فهل جنحوا؟ وهل ينجحون؟‬ ‫كذبة العبيد‬

‫ما من عبيد بل عمال وما من يهود بل م�صريون و�سوريون! وهنا عود على بدء مع �أهداف الأفالم‬ ‫الهوليودية الرامية �إىل تزوير التاريخ ل�صالح �صانعيها وج ّلهم من اليهود‪ ،‬ففيلم «�أمري الأهرام» ي�س ّوق‬ ‫لكذبة �سائدة‪ ،‬قدمية جديدة‪ ،‬وهي �أن اليهود كانوا عبيداً عند الفراعنة وقد ا�ستخدموهم يف بناء‬ ‫الأهرام‪� .‬أو ًال ال وجود ل�شيء ي�سمى يهود يف ع�صر الفراعنة وما ورد ذكره يف التوراة عن العربيني‬ ‫ال دخل له باليهود حتى ولو ربط اليهود تاريخهم بالعربيني بحكم التوراة‪ .‬كما �أن العبيد والعبودية‬ ‫هما مفهومان غربيان حديثان ومل يعرفا يف تاريخ امل�شرق قدمياً‪ ،‬بل النظرة التي كانت �سائدة هي‬ ‫فكرة العمل مقابل �أجر‪� .‬أما اال�ستعباد فهي الفكرة التي �س ّوقها الغرب املارك�سي وما عا�صره من‬ ‫ثورات «ربيعية» �أوروبية وفرن�سية ملونة خلدت مبد�أ التع�سف بحق من جوعهم وقد كان لهم‪ ،‬عند‬ ‫الإقطاعي �صاحب الأر�ض‪ ،‬م�أوى ورغيف قبل ثورة الع�صابات وهمجيتهم املد ّمرة لعراقة �أوروبا‬ ‫امللكية! وفكرة العبودية يف امل�شرق القدمي هي تزوير وت�شوي�ش على احل�ضارة وال �إثبات البتة عليها‪،‬‬ ‫وال يعتمد يف التاريخ على الإ�سقاطات ال�شخ�صية والتك ّهنات غري املربوطة ب�شاهد �أكيد! فامل�شرق‬ ‫مل يعرف مفهوم العمل بالقهر واال�ستبداد‪ ،‬بل ّ‬ ‫جل �أعماله‪ ،‬خا�صة العمرانية منها‪ ،‬كانت ل�صنع‬ ‫الأجماد وبقائها على الدهور �شاهدة عن مبتكريها‪ ،‬لذا ا�ستعمل احلجر ال�ضخم وال�صخور العمالفة‬ ‫لدرجة �أن بنيانها ُن�سب اىل اجلبابرة واجلن ّ‬ ‫لتعذر الذهن الب�شري ت�صديق �أن ب�شراً مثلهم بنوها‪.‬‬ ‫‪171‬‬


‫هذا هو مفهوم الفكر ال�سوري للعمل العادل ب�شهادة احل�ضارة نف�سها و�شواهدها املادية والكتابية‬ ‫الكثرية‪ ،‬و�إن التزوير التوراتي ال يعدو كونه جم ّرد تخريف كاتب يف عليائه وعلى قدر املكاف�أة التي‬ ‫قب�ضها من قور�ش لكي ينال ح�صته من الأر�ض التي باعها له بدنانري قليلة!‬ ‫يقول امل�ؤرخ الأمريكي وينلوك (‪ )Winlock 1884-1950‬وهو عامل امل�صريات الكبري‪ ،‬مبا معناه‬ ‫�أن امل�صري القدمي مل يكن موهوباً كفاية و�إن ال �شيء قام به امل�صريون من ابتكارهم اخلا�ص‪،‬‬ ‫متجدد ومتط ّور دخل �إليهم على يد من قدموا من �سوريا!‬ ‫وجممل ما �أتاهم من تطور تقني وفني ّ‬ ‫وهذا ما ال ميكن لأحد �أن ي�صدقه لأن الطابع امل�صري وا�ضح وجلي على ال�صناعات امل�صرية‪،‬‬ ‫متنا�سيني �أن ال�سوريني‪ ،‬بف�ضل انفتاحهم الذهني وعقليتهم املت�أقلمة‪ ،‬كانوا يعطون دون ح�ساب‬ ‫للون �أو عرق وال يفرقون �أحداً عنهم‪ ،‬فال يعمدون اىل الت�شويه �أو التزوير وكانوا يحافظون على طابع‬ ‫البالد التي يحلون فيها وقد عملوا على تطويرها وكانوا يتطبعون بطابعها لرحابة ذهنيتهم‪ ،‬وهكذا‬ ‫املد احل�ضاري الإيجابي والفريد واملعروف بالعاملية اجلامعة‬ ‫ان�صهرت معاملعهم بغريهم واعطوا هذا ّ‬ ‫�أو ‪.cosmopolitisme‬‬ ‫تعد لدى‬ ‫وقد اهتم وينلوك بع�صر الدولة احلديثة يف م�صر‪ ،‬وحتديداً باحلقبة الثانية الو�سيطة التي ّ‬ ‫�أغلب امل�ؤرخني عابرة يف التاريخ املكتوب و ُي ّلمح لها باخت�صار �شديد‪ .‬كما �أن حدودها التاريخية‬ ‫ومعاملها غري وا�ضحة حتى اليوم وتبقى معلوماتنا عنها غري دقيقة‪ ،‬مع ما تخللها من اجتياح �أو غزو‬ ‫الهك�سو�س مل�صر‪ ،‬ال ميكن حتديد تفا�صيله بدقة �إال بعد قرن تقريباً من ت�صدع ال�سلطة املركزية‪.‬‬ ‫فقد ا�ستوطن الهك�سو�س يف دلتا م�صر و�أ�س�سوا مدينة �أفاري�س ‪ Avaris‬وهي تاني�س ‪ Tanis‬اليوم‬ ‫وجعلوها عا�صمة لهم‪ .‬كما نزلوا يف الدلتا ال�شرقي للنيل و�أ�س�سوا مدناً فيها‪ .‬ومل يكن الهك�سو�س‬ ‫جماعة �إثنية وحيدة وحمددة‪ ،‬بل يقال �إنهم كانوا خليطاً من �أقوام �شرقية متعددة وفدت من‬ ‫�سوريا‪ .‬ومل يتبق الكثري من ال�شواهد عن مرورهم مب�صر‪� ،‬إال بع�ض الأختام التي دلت على التنظيم‬ ‫الإداري اخلا�ص ب�إداراتهم وموظفيهم التي جندها يف كل مقاطعات م�صر‪ .‬كما وال ميكن البتة اعتبار‬ ‫�سموا يف القدمي‪� ،‬أنهم جمرد برابرة همجيني كما‬ ‫هذه الأقوام املعروفة با�سم «ال�شعوب الرعاة» كما ّ‬ ‫كان حال الكا�شيني ‪ Kassites‬الذين‪ ،‬يف نف�س احلقبة‪ ،‬احتلوا بابل‪ .‬و�إن التقنيات املتقدمة التي‬ ‫كانت للهك�سو�س �سمحت لهم حكم م�صر لقرون طويلة‪ .‬ويف ف�صل خا�ص من م�ؤلفاته‪ ،‬عنوانه‬ ‫«�صادرات الهك�سو�س �إىل م�صر»‪ ،‬يذكر وينلوك �أن امل�صري مل يحقق اي اخرتاع كان كفي ًال �أن‬ ‫يتخطى ما ابتكره �أ�سالفه يخ ّوله التقدم عليهم‪ ،‬بل راوح مكانه من حيث ا�ستمراره على نهجهم‬ ‫ومل يعمل على ا�ستنباط ما ميكن �أن يطور حياته �إىل الأح�سن والأ�سهل‪ .‬وكان يكتفي بالعي�ش‬ ‫كما �أجداده حتى و�صل �إليه غريب �أدخل له التقنيات احلديثة التي ت�س ّهل احلياة فاعتمدها وبد�أ‬ ‫يغّري ما كان عليه‪ .‬هذا اجلديد �أدخله الهك�سو�س الذين جلبوا احل�صان والعربة �إىل م�صر‪ ،‬والتي‬ ‫كانت ت�ستعمل منذ قرون طويلة يف بالد ما بني النهرين و�سوريا منذ ع�صر �سومر‪ .‬و�إن �أهم ما �أدخله‬ ‫الهك�سو�س كان القو�س الذي كان م�صنوعاً من عدة طبقات مد ّعمة باخل�شب �أو الق�صب القا�سي‪.‬‬ ‫‪172‬‬


‫تراث‬

‫يح�سنوا نوعية التقنيات يف �صناعة ال�سهام واخلناجر واخلوذ‬ ‫وقد تع ّلم امل�صريون من الهك�سو�س �أن ّ‬ ‫والرتو�س و�أدوات حربية �أخرى‪ ،‬لدرجة �أن العتاد احلربي احلديث الذي �أ ّمنوه لهم‪ ،‬خ ّولهم اجتياح‬ ‫يرجح العلماء �أنها دامت من ‪ 1550‬اىل ‪ 715‬ق‪.‬م‪،‬‬ ‫�آ�سيا يف عهد الدولة احلديثة‪ .‬هذه الدولة التي ّ‬ ‫ومدت �سلطتها اىل م�صر‪ .‬كما �أن �أوج الدولة‬ ‫حيث برزت مملكة غريبة نوبية يف �أق�صى اجلنوب ّ‬ ‫احلديثة عرف يف فرتة ال�سالالت ال�سابعة ع�شر والتا�سعة ع�شر (حوايل ‪ 1550-1198‬ق‪.‬م‪ ).‬حيث‬ ‫عم االزدهار وطبع م�صر بطابع خا�ص‪ .‬فهل ذكر �أحدهم العبيد واال�ستعباد وليد املخيلة الغربية‬ ‫ّ‬ ‫املجرمة القا�صرة؟‬ ‫�إن احل�ضارة هي فكر امل�سيح ال�سوري لي�س �إال‬

‫هم �أعداء ي�سوع النا�صري وهم الذين ي�شككون �أ�ص ًال بوجوده التاريخي‪ ،‬فكيف ينتمون �إىل‬ ‫فكره؟ ال فكر وال ح�ضارة ل�سوريا �إال مع املعلم ي�سوع امل�سيح الذي دافع عن هذا الفكر وعن �أر�ضه‬ ‫�ضد �أعداء الفكر واخلونة عمالئهم‪ ،‬وه�ؤالء حاربوه ونكروه وغي ّبوه‪ ،‬فكيف ي�سلبونه ما يدعون �أنه‬ ‫باطل؟ وهل للم�سيح من معنى دون فكره؟ ال ميكن لليهود و�أعوانهم‪ ،‬مهما فعلوا �أو اخرتعو �أو‬ ‫ز ّوروا �أن ينتموا للفكر ال�سوري امل�سيحي الإن�ساين ال�شامل‪ ،‬فهم عرقيون عن�صريون و«خمتارون»‬ ‫بعرفهم و«حمتارون» مبفهومنا‪ ،‬ولي�سوا �إن�سانيني �شاملني‪ ،‬فكيف ين�شرون احل�ضارة واحلرف واملعرفة‬ ‫والفكر ال�سمح وهم منعزلون وفردانيو النزعة؟ ال يتفاعل ح�ضارياً مع الآخرين �إال من تخ ّلى عن‬ ‫مبادي‬ ‫فكرة العرق والنقاء العرقي ونظر اىل �أخيه االن�سان بعني املحبة وامل�ساواة والإخاء وهي ْ‬ ‫ي�سوع ال�سوري‪� ،‬أما من عمل غري ذلك فهو من �أوالد الأفاعي وقاتل الأنبياء ومهدم املجتمعات‬ ‫وبائع الأر�ض والعر�ض! فكيف ّيدعي من كان على هذا النحو انتماءه لهذه احل�ضارة �أو ملكيتها‬ ‫بحجة اللون والعرق؟‬ ‫ودائماً ّ‬ ‫�إن �أف�ضل من ميكن التكني به‪ ،‬وجعله قدي�ساً وبط ًال قومياً لليهود‪ ،‬هو هذا ال�شخ�ص الذي فهمهم‬ ‫و�سار على نهجهم القائم على مبد�أ «العني بالعني وال�سن بال�سن» و�صنع لهم ق�ضية وخدمهم‬ ‫ب�أجمل معروف وخ ّل�ص �أوروبا منهم وبلى ال�شرق بهم‪ ،‬وهو هتلر العن�صري الذي ينهجون على‬ ‫طريقته اليوم يف ت�صنيف ال�شعوب على �أ�سا�س الأعراق والدم واللون وغريها من خزعبالت‬ ‫التط ّرف والتفرقة بني الب�شر رغم نفي العلم لها‪� .‬إنه بحق نب ّيهم الأعظم! ومعه كل زعماء الغرب‬ ‫املتطرفني‪� ،‬أما عدا ه�ؤالء ممن مت�سكوا مبق ّومات احل�ضارة والإن�سانية فال ميتون لهم ب�صلة‪ ،‬ال من قريب‬ ‫وال من بعيد‪ .‬ويهود الكيان ال�صهيوين القائم على القتل والتدمري والعن�صرية اليوم‪ ،‬هو �أبعد ما‬ ‫يكون من �أن يك ّون جمتمعاً متما�سكاً‪ ،‬وهو كيان عرقي‪ ،‬ديني متط ّرف قائم على امل�صلحة ويردعه‬ ‫القمع املذهبي بالدرجة الأوىل وما بنى عليه ما هو �إال وهم �سوف ي�صحون منه عاج ًال ام �آج ًال لريوا‬ ‫�أنهم مل يبتدعوا �شيئاً يف م�سرية الإن�سانية الفكرية وارتقائها و�سم ّوها و�أنهم مل ي�سجلوا �أي نقطة لهم‬ ‫‪173‬‬


‫يف �سجل احل�ضارة‪ ،‬فهم �أبداً لعنة التاريخ بعلة �أجدادهم امل� ّؤ�س�سني املغت�صبني واملجرمني والقتلة‬ ‫وال�سفاحني وال �أحد منهم ميكنه نكران هذه احلقيقة‪ ،‬فماذا يزورون ليزوروا؟‬ ‫وليزوروا ما �شا�ؤوا فهذا �ش�أنهم! �أما دورنا نحن‪ ،‬من انتمينا �إىل الفكر الإن�ساين‪ ،‬نحن ومن �أراد‬ ‫�أن يكون معنا يف اللحاق بركب �صانعي احل�ضارة احلقيقية‪� ،‬أ�صحاب الفكر احلق‪ ،‬فهو دور خطري‬ ‫وم�س�ؤول من �أجل �صيانة هذا الفكر‪ .‬ونبد�أ ب�أ�سئلة حمتمة‪ :‬ماذا فعلنا �أقله لنبقى ولنحافظ على ماء‬ ‫الوجه يف زمن العار هذا؟ هل �سوف ن�ستمر �شهود زور �إىل الأبد و ُننعت من قبل �أعدائنا باجلهالة‬ ‫املتعمد بحقنا و�سلبنا حقوقنا وحتديد‬ ‫والأمية والغباء؟ هل نقعد نتف ّرج على حمالت الت�شويه ّ‬ ‫م�صرينا على يد �أعدائنا؟ هل يكون م�صرينا املحو ب�شحطة قلم على اخلارطة؟ هل يروق لعظمائنا‬ ‫هكذا م�صري خلري �أمة �أخرجت للنا�س؟ ف�إذا ما ا�ستمرينا يف قعودنا هذا وخمولنا وجهلنا‪ ،‬كيف‬ ‫ّندعي االنتماء �إىل الفكر اجلليل؟ وهل ال نكون بهذا متهودين �أكرث من اليهود نف�سهم؟ فلنعمل‬ ‫بجدية على �صون هويتنا قبل �أن يبتلعها التهويد امل�ست�شري يف الكون! ولنتذكر �أنه مل ي�ؤمن‬ ‫ال�سوريون ومن بينهم الفئة الأكرث ن�شاطاً الفينيقيون البحارة‪� ،‬إال بالإ�ستك�شاف وبالعمل وباخللق‬ ‫واالبداع وب�سمو االن�سان‪ ،‬ف�أين نحن من �أجدادنا ه�ؤالء؟ حبذا لو حافظنا فقط على ذكراهم الطيبة‬ ‫فيخلدون يف كنفها مطمئنني! و�أين نو�ضع على خارطة الب�شر اليوم؟ هل ن�ص ّنف يف الأعراق �أم‬ ‫يف الألوان �أم يف ماذا‪ ...‬وجاء اجلواب من الأمريكي‪ ،‬من ذلك الذي ال يعرف له ال مذهب وال‬ ‫من�ش�أ وال فكر‪ ،‬من ذلك الذي ّ‬ ‫يحل ويربط الأمور الدبلوما�سية على قاعدة م�صاحله �أو ًال‪ ،‬ويتالعب‬ ‫مب�صائر الب�شر على هواه‪ ،‬وهو يلعب كما املراهقون على �آلته الإلكرتونية ويلعب مب�صرينا كما يلعب‬ ‫البوكر بقوله «لقد مللنا من عقلية البدو تلك!» فيا لفخرنا �أين ُو�ضعنا!‬

‫‪174‬‬


‫وثائق تاريخية‬

‫نهاية نظام القائمقاميتان ون�شوء نظام املت�صرف ّية (‪)1861-1860‬‬

‫‪175‬‬


‫�إن مراجعة الر�سائل والوثائق التي وردت يف �أر�شيف اخلارجية االنكليزية للعام ‪ 1860‬و‪ 1861‬حتت‬ ‫عنوان‪« :‬ا�ضطرابات يف �سوريا»‪� »Disturbances in Syria« ،‬أمر �ضروري لفهم طبيعة بالدنا وكيف‬ ‫ت�ؤثر القوى اخلارجية عليها �سواء يف �إثارة امل�شاكل واحلروب �أو ت�شكيل حدوداً جغرافية ت�ؤ�س�س لها‪.‬‬ ‫فلقد �سقط نظام القائمقاميتان بعد �أحداث ‪ 1840‬وبد�أت �أحداث العام ‪ 1860‬والتي �أدت �إىل والدة‬ ‫نظام املت�صرفية‪.‬‬ ‫ولقد وردت يف هذه الوثائق خريطتان يختلفان طبعاً عن لبنان الذي نعرفه اليوم‪ .‬وكانت املفاو�ضات‬ ‫جتري لتحديد جغرافية املنطقة ولبنان خا�صة وذلك يف املرحلة التي �أدت فيما بعد �إىل والدة نظام‬ ‫املت�صرفية الذي ا�ستمر حتى العام ‪ .1918‬تظهر اخلريطة رقم ‪ 1‬حدود القائمقاميات املعتزم �إن�شا�ؤها‬ ‫طبعاً دون جنوب لبنان (با�ستثناء �صيدا) والبقاع (با�ستثناء زحلة) و�شمال لبنان حتى طرابل�س فقط‪.‬‬ ‫و�سميت هذه اخلريطة بامل�شروع الأول ونن�شرها يف هذا العدد على �أن نن�شر اخلريطة رقم ‪ 2‬يف العدد التايل‬ ‫ُ‬ ‫وقد كتب عليها �شرحاً يقول‪�« :‬أقرتح �أن يتم ربط «القائمقامية امل�سيحية اجلنوبية» مبمر على ال�شاطئ مع‬ ‫القائمقامية امل�سيحية ال�شمالية‪ .‬وتذكر‬ ‫�أن ف�ؤاد با�شا (العثماين) �إقرتح �أن‬ ‫تكون «القائمقامية امل�سيحية اجلنوبية»‬ ‫منف�صلة وقد �أيده بذلك مندوب‬ ‫النم�ساوبريطانيا»‪.‬‬ ‫و ُذكر �أي�ضاً‪:‬‬ ‫�أن «منطقة الكورة ال�سفلى ال تعترب‬ ‫حالياً جزءاً من لبنان «�إن معظم‬ ‫�سكانها هم من الأرثوذك�س»‪ .‬كما‬ ‫ُذكر �أي�ضاً �أن «ف�ؤاد با�شا اقرتح �أن‬ ‫يكون �إقليم اخلروب منف�ص ًال عن‬ ‫قائمقامية الدروز‪ ..‬لأن معظم �سكانه‬ ‫من امل�سلمني»‪.‬‬ ‫هذا و�ست�ستمر حتوالت م�شرقية بن�شر‬ ‫هذه الوثائق يف الأعداد املقبلة‪.‬‬

‫‪176‬‬


‫بائع عرق�سو�س ‪ 1890‬تقريباً‬


‫‪1923-1920‬‬

‫‪2‬‬

‫�سورية واالنتداب الفرن�سي ‪- 1920‬‬

‫‪1923‬‬

‫املجلد الثاين من كتابات الدكتور خليل �سعاده‪� ،‬سي�صدر قريباً عن م�ؤ�س�سة �سعاده للثقافة‬

‫لبنان ‪ 5000‬لرية | الأردن‪ 2 :‬دينار | �سوريا‪ 100 :‬لرية | م�صر‪ 10 :‬جنيه | تون�س ‪ 1.5 :‬دينار | املغرب‪ 20 :‬درهم | م�سقط‪ 1 :‬ريال‬ ‫ال�سعودية‪ 10 :‬ريال | البحرين‪ 1.5 :‬دينار | الكويت‪ 1.5 :‬دينار | قطر‪ 10 :‬ريال | الإمارات‪ 10 :‬درهم‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.