العدد رقم - 6
�شباط 2015
حممود حيدر «االخت�صام الودود» بني املثقف واحلاكم �شوقي عطيه «�سكان لبنان» بني ثبات االنتماء ومتغريات العدد �أديب الزين ال�شرق االو�سط اجلديد و�إدارة التوح�ش حيدر حاج �إ�سماعيل التغيري عرب التف�سري ح�سن حمادة وا�شنطن تقود �أو�سع حتالف دويل لدعم الإرهاب
فـ�صـل ـيـة فـكريـة ثـقافيـة تـعنى ب�ش ـ�ؤون امل�شــرق
حتـ ّو الت املجـتـمـع والإن�سان
اليا�س فرحات | وليد زيتوين | زهري فيا�ض | �أحمد من�صور | ل�ؤي زيتوين | فيفيان حنا ال�شويري | نعيم تلحوق
ي�صدر قريبا ً
دار كتب للن�شر �ش.م.ل
بناية الربج ،الطابق الرابع� ،ساحة ال�شهداء الو�سط التجاري ،بريوت ،لبنان �صندوق بريد ،11-4353 :بريوت -لبنان. هاتف )961-1( 983008 /9 :فاك�س)961-1( 980630 : الربيد الإلكرتوين kutub@kutubltd.com :املوقع الإلكرتوينwww.kutubltd.com :
العدد رقم - 6
�شباط 2015
فـ�صـل ـيـة فـكريـة ثـقافيـة تـعنى ب�ش ـ�ؤون امل�شــرق
املحتويات ر�أي احلرب على الإرهاب :تدمري املجتمعات بزرع التوح�ش فيها ح�سن حماده
3
حتوالت املجتمع والإن�سان �أزمة الهوية يف املنطقة العربية :لبنان مث ً ال اليا�س فرحات حتوالت م�صطلح ال�شرق الأو�سط من اجلديد �إىل البعيد وليد زيتوين حتوالت وم�سارات ...باجتاه امل�ستقبل زهري فيا�ض كيف ميكن جعل امل�ستحيل ممكناً؟ �أحمد من�صور قراءات يف التّح ّوالت الأدب ّية ّ طي لل�شرق ّ املتو�س ّ ل�ؤي زيتوين �إذا كان ثمة حت ّوالت فهي دائماً م�شرقية فيفيان حنا ال�شويري «حت ّوالت» مع الفا�صلة نعيم تلحوق
7 11
17 25 33 37 43
فكر م�سعى م�ست�أنف لتظهري �أ�سئلة يف �أمر اليوم «االخت�صام الودود» بني املثقف واحلاكم حممود حيدر
45
�سكان لبنان :بني ثبات االنتماء ومتغريات العدد �شوقي عطيه ال�شرق الأو�سط اجلديد و�إدارة التوح�ش �أديب الزين التغيري عرب التف�سري حيدر حاج �إ�سماعيل العرب والعوملة عاطف عطية الإ�صالح ال�سيا�سي بني الدين والعلمنة �سعيد �أحمد عبد الرحمن وا�شنطن تقود �أو�سع حتالف دويل لدعم الإرهاب ح�سن حمادة
55 65 73 95 107 131
حتوالت �أدبية التنا�ص وقراءة الن�ص الغائب يف �شعر خليل حاوي وفيق غريزي احلركة ال�صحافية الن�سائية العربية احلديثة يف رحلتها عرب تاريخها الطويل جنيب البعيني ت�أبني منري خوري �سليمان بختي يف وداع املا�ضي وامل�ستقبل جنيب ن�صري
تنويه ورد يف العدد اخلام�س من جملة حتوالت م�شرقية مقال بعنوان «املكان ال�شعري يف ق�صيدة ابن هانئ الأندل�سي»، حيث ورد �إ�سم الكاتبة خط�أ ،وال�صحيح �أن �إ�سم الكاتبة هي مهى خياط ،فاقت�ضى الأمر منا التو�ضيح.
139
147 161 163
حتوالت م�رشقية
ف�صلية ،فكرية ،ثقافية ،تعنى ب�ش�ؤون امل�شرق واملنطقة هيئة التحرير
فاتن املر عاطف عطية ح�سن حماده ن�صري ال�صايغ
�سعاده م�صطفى �أر�شيد �سليمان بختي �سركي�س �أبو زيد
املدير امل�س�ؤول� :سركي�س �أبو زيد الربيد الإلكرتوينabouzeid@gmail.com : هاتف)00961-1( 751541 : �صندوق بريد 113-7179 :بريوت -لبنان. الإخراج الفني :عالء �صقر
ت�صدر بالتعاون مع م�ؤ�س�سة �سعاده للثقافة
بناية ر�سامني� ،شارع احلمرا ،ر�أ�س بريوت، �صندوق بريد 113-5557 :بريوت -لبنان. هاتف)00961-1( 753363 : فاك�س)00961-1( 753364 : الربيد الإلكرتوينsaadehcf@idm.net.lb : املوقع الإلكرتوينwww.saadehcf.org : ت�صدر مبوجب قرار رقم 82تاريخ �صادر عن وزارة االعالم يف لبنان
1981/7/6
�صورة الغالف« :حتية �إىل خليل حاوي» - �ألوان مائية� ،ضياء العزاوي.2014 ، ت�صدر يف طبعتني من فل�سطني ولبنان مدير عام طبعة فل�سطني� :سعاده م�صطفى �أر�شيد هاتف0599305248 : �صندوق بريد 41 :جنني -فل�سطني
اال�شرتاك ال�سنوي -لبنان
للأفراد 50 :دوالراً �أمريكياً للم�ؤ�س�سات 100 :دوالر �أمريكي
توزيع :النا�رشون
اال�شرتاك ال�سنوي -خارج لبنان
بريوت -امل�شرفية� ،سنرت ف�ضل اهلل -طابق هاتف وفاك�س)00961-1( 277007 - 277088 : خلوي)00961-3( 975033 :
4
للأفراد 100 :دوالر �أمريكي للم�ؤ�س�سات 200 :دوالر �أمريكي
املواد املن�شورة تعرب عن ر�أي كاتبها
ر�أي
احلرب على الإرهاب
تدمري املجتمعات بزرع التوح�ش فيها كانت «حتوالت م�شرقية» قد عر�ضت ،يف افتتاحية العدد الثاين منها ،لبع�ض امل�صطلحات املتداولة على كل �شفة ول�سان ،مثل م�صطلح «العقوبات االقت�صادية» ،م�صطلح «ال�ضربة الع�سكرية» و«اخلروقات». فدعت �إىل �أن هناك حاجة �إىل وجوب ت�صحيحها� ،إذ �إن امل�صطلح كما ال�شعار ،كما املثل ال�شائع ،ي�ؤثر يف عقل االن�سان ،فيوجهه .ومن هنا خطورة ا�ستخدام� ،أو امل�ضي با�ستخدام، م�صطلحات خاطئة تقود مبا�شرة �إىل توليد قناعات خاطئة وا�ستنتاجات خاطئة ،وهنا الطامة الكربى في�ضيع االن�سان و ُي�ضيع غريه. يف العدد احلايل �سوف نتناول م�صطلحني ،الأول موجود وم�ستخدم ب�شكل مفرط ،والثاين غري م�ستخدم ولكن البد من �إدخاله �إىل دائرة ال�ضوء والرتكيز عليه. م�صطلح «احلرب على الإرهاب» .هذا امل�صطلح يجب �أن ُي�سحب من التداول فهو ويف ال�صيغة التي ي�ستخدم فيها ،م�صطلح ين�ضح بالكذب والنفاق لكون الواليات املتحدة االمريكية هي التي �أطلقته ،وهي التي تديره وهي التي توجه م�سريته وحتدد هدفه. فالواليات املتحدة كدولة �سلوكها كله �إرهاب ،فهي دولة يف حالة حروب م�ستمرة وكلها حروب عدوانية .واالعالم التابع للواليات املتحدة� ،سواء كان داخل �أرا�ضي هذه الواليات �أم خارجها ،والذي ُيروج مل�صطلح «احلرب على الإرهاب» ،هو يف واقع احلال �إعالم دعائي - حربي ،يقلب احلقائق ر�أ�ساً على عقب .وهو �إعالم ي�سري يف ٍ خط موا ٍز خلط االعالم الدعائي التجاري القائم على تفريغ عقول الب�شر وحتويل الفرد من مواطن -م�س�ؤول �إىل م�ستهلكوجه. ُم َّ هكذا تتم �شيطنة «اخل�صم» وتزيني وجه «الذات» .واال�سلوب املعتمد يف هذا ال�سياق يق�ضي يف جزء منه ،ب�أن ُتو�صم الواليات املتحدة خ�صومها بال�صفات ال�سيئة التي يت�صف بها �سلوكها هي .ومو�ضوع االرهاب هو املثال الأبرز على هذه اخلديعة الفظيعة.
3
ر�أي فالواليات املتحدة تقود �أو�سع حتالف داعم للإرهاب الدويل وت�شن بوا�سطته هجوماً مفتوحاً يف املدى الزمني ،لتدمري «�سورية املقد�سة» .دائماً با�سم احلرب على داع�ش واحلرب على الإرهاب .والأخطر من كل ذلك �أن احلدث بذاتهُ ،ي�ضاف �إليه «اعرتافات جو بايدن» ،مل ُيثريا ردود الفعل املالئمة من قبل القوى الراف�ضة لهذه احلرب ،الأمر الذي ُي�شجع الواليات املتحدة على امل�ضي ُقدماً يف نهج اال�ستباحة واالرهاب ،بت�شكيله املنظم والع�شوائي ،مما يعك�س درجة احتقار وا�شنطن للعامل �أجمع. م�صطلح كاذب لذا ،اليجوز للأحرار �أن ي�ستخدموا م�صطلح «احلرب على الإرهاب» لأنه ٌ باملطلق ،ناهيك عن كونه م�صطلحاً «�أورويل» ،ن�سبة لـ «جورج �أورويل» الذي كان قد توقع منذ ع�شرات ال�سنني ظهور اخلطابات ال�سيا�سية الكاذبة كالتي نحن يف �صددها الآن ،نعاين منها... فنختنق يف امل�صطلح. اليوجد �شيء ا�سمه «احلرب على الإرهاب» ،فهذا امل�صطلح -ال�شعار تلج�أ �إليه الواليات املتحدة كلما �أرادت تنفيذ عدوان على �شعب �آمن� .إن جمرد وجودها يف �أي ٍ حتالف يفقد هذا التحالف �أي ُب ٍعد اخالقي �أو حقوقي ،ويجعله حال ًة معادية لالن�سانية ولل�سالم الدويل. فتدمري ال�شعوب يتم با�سم «احلرب على الإرهاب» ،وتلويث البيئة� ،إلخ ...ف�أي نقا�ش لهذا غبي للطاقة العقلية. املو�ضوع هو مبثابة م�ضيعة للوقت وتبديد ٍّ حرب عدواني ٌة يف مكان فـ «احلرب على الإرهاب» كما تطرحها وا�شنطن هي يف واقع احلالٌ ، ما. م�صطلح «حروب تدمري املجتمعات»� .إن هذا امل�صطلح ،بقدر ماهو واقعي وحقيقي وملمو�س وحم�سو�س ،بقدر ما هو جمهول �أو يف �أح�سن الأحوال ،مهمل .والأداة التي ت�ستخدمها وا�شنطن لتدمري املجتمعات كما يح�صل يف «�سورية املقد�سة» ،بل ويف «�سوراقيا» عموماً ،ويف ليبيا ،هذه الأداة تتمثل بزرع التوح�ش يف البلد املطلوب تدمريه. هذه حقيقة دامغة نعي�شها ب�أ ٍمل �شديد لي�س كمثله �أمل� .إن الواليات املتحدة ومن خلفها حلف �شمال الأطل�سي وكيانات �أخرى تابعة ،ت�صنع وتنتج وت�صدر ومتول املنظمات االرهابية املتوح�شة ،وتقوم ب�إيهام الأغبياء يف العامل ب�أنها � -أي وا�شنطن -ودول �أوروبا ،تخاف من ه�ؤال
4
ر�أي الوحو�ش .فبوا�سطة منظمات التوح�ش ي�صار �إىل تدمري بالدنا من دون حاجة �إىل نزول جيو�ش الأطل�سي �إىل الرب. و «حروب تدمري املجتمعات» هي من نوع احلروب اجلديدة التي التتوقف بهزمية �أو ا�ست�سالم �أحد املتحاربني الأ�سا�سيني ،كقوات الدولة التي تتعر�ض للعدوان� ،أو كربى التنظيمات املقاتلة لها. ففي املا�ضي كانت احلروب تتوقف بهزمية اجليو�ش ،والدول� ،أما حروب تدمري املجتمعات فت�ستمر� .إىل متى ت�ستمر؟ ...واجلواب :ت�ستمر �إىل ما �شاء اهلل .وهنا بالذات نقطة يف غاية الأهمية �إذ �إن من خ�صائ�ص حروب تدمري املجتمعات �أنها مفتوحة زمنياً� ،أي ُيفرت�ض بها �أن ت�ستمر �إىل ما النهاية بحيث اليتوقف التدمري. املفكر املرموق الأ�ستاذ «يو�سف الأ�شقر» كان هو �أول من ا�ست�شرف هذا النوع من احلروب، وحذر منها ومن التداعيات التي يحملها زرع التوح�ش يف بالدنا .لكن ،وكالعادة مل ي�ش�أ �أحد اال�ستماع �إىل هذا التحذير. واليوم �إن م�صطلح «تدمري املجتمعات» مالز ٌم لإلغاء م�صطلح «احلرب على االرهاب» .فلنت�أمل بعمق كيف جتري عملية زرع التوح�ش يف بالدنا .وهذا نتاج م�شرتك غربي� -شرقي .والبطون التي �أولدت هذه الوحو�ش مازالت خ�صبة. ح�سن حماده
5
حتوالت املجتمع والإن�سان احتفلت «حت ّوالت» مبرور �أربعني �سنة على �صدورها .وهي منا�سبة للتفكري واحلوار مهما تباينت واختلفت الآراء .كما �أ ّنها حمطة لنقر�أ معاً حت ّوالت املجتمع والإن�سان خالل الأربعني �سنة التي م ّرت ،مبا فيها ولنحدد ر�ؤيتنا معاً لأربعني �سنة املقبلة ،احلبلى من �إخفاقات وجناحاتّ . بتح ّوالت وجودية وم�صريية على خمتلف امل�ستويات مبا فيها مواجهة حتديات التقنيات والقيم ،الهوية والفو�ضى ،ال�صراع واملعنى. يف هذا العدد ملف (حتوالت املجتمع واالن�سان نحو حياة جديدة). والباب مفتوح مل�شاركة املهتمني يف الأعداد املقبلة.
حتوالت املجتمع وا لإن�سان
�أزمة الهوية يف املنطقة العربية :لبنان مثال اليا�س فرحات -باحث ا�سرتاتيجي
تكاد جميع امل�شاكل ال�سيا�سية يف العامل العربي تنح�صر مب�س�ألة الهوية .يف الواقع ال�سيا�سي الراهن �أُن�شئت الدول العربية بقرار من امل�ستعمر ,ما عدا م�صر التي متتد جذور الدولة فيها عميقا يف التاريخ ,وال�سعودية التي قامت على فتوحات عبد العزيز �آل �سعود ملعظم �أجزاء جزيرة العرب وتوحيدها .يف ال�شكل �أوجدت الدول هوية وطنية ر�سمية تتجلى يف الوثائق ال�شخ�صية ,بطاقة هوية ,جواز �سفر ..لكن الهوية الوطنية احلقيقية التي تعرب عن انتماء الفرد تعي�ش �أزمة تخبط و�ضياع تعلو وقت االزمات وتنخف�ض عند ظهور حكم قوي. �إىل جانب الهوية الوطنية ,ظهرت ب�شكل متفاوت هويات فرعية تتقدم وترتاجع مع تقدم الفرع وتراجعه .وحدها العروبة مل جتد لها هوية وطنية حتى يف جزيرة العرب واملعروفة عاملياً بالعربية .Arabiaكانت احلركات القومية العربية التي و�صلت �إىل احلكم لفرتات طويلة و�أبرزها حزب البعث يف �سوريا والعراق حا�ضنة للفكر القومي العربي من دون تثبيته بهوية عربية فبقي العراقي عراقياً وال�سوري �سورياً واليمني مينياً و� ...إمنا مع تطلعات وحدوية يف االطار النظري وااليديولوجي. حملت م�صر ملدة ثالث �سنوات ون�صف اثناء الوحدة مع �سوريا ونحو ت�سع �سنوات بعد االنف�صال ا�سم اجلمهورية العربية املتحدة وبعد وفاة الرئي�س جمال عبد النا�صر غيرّ الرئي�س ال�سادات ا�سم الدولة ف�أ�صبح جمهورية م�صر العربية .لكن االنكما�ش امل�صري نحو القطرية امل�صرية بدا وا�ضحاً منذ االنف�صال. يف داخل الدول العربية تختلط الهويات الفرعية بالهوية الوطنية الر�سمية ,فيعرف املواطن عن نف�سه مبنطقته او اثنيته او دينه او مذهبه ويف بع�ض االحيان قبيلته او اجلهة القادم منها جنوبي او �شمايل مث ًال .يف العراق كان املكون الكردي االكرث مت�سكا بالهوية الفرعية ون�ش�أت عن م�شاكل الهوية نزاعات ما تزال قائمة حتى اليوم بني الكرد وال�سلطة املركزية العراقية .ويف االردن ,وهو تاريخيا من بالد ال�شام ,انق�سم املجتمع بالهوية اىل �شرق اردين وغرب اردين او اردين وفل�سطيني. يف لبنان اتخذت االمور نواحي عدة ,ذلك انه منذ ان�شاء دولة لبنان الكبري عام 1920رحب ق�سم من اللبنانيني باالنتماء اجلديد ,فيما عار�ض ق�سم �آخر هذا االنتماء ومت�سك باالنتماء اىل الدولة 7
ال�سورية التي كانت تتمثل باململكة ال�سورية التي �أ�س�سها في�صل بن احل�سني ومل تعمر اكرث من �سنة .اتفق الفريقان على رف�ض الهوية العثمانية التي اندثرت �أ�ص ًال بعد هزمية الدولة العثمانية وانهيارها .نظر امل�سلمون اىل الهوية اللبنانية انها هوية م�سيحية من نتاج احلرب العاملية االوىل. وكانت املهمة الكربى للكيان اجلديد هي ان�شاء هوية وطنية ت�شكل حلمة البناء الوطن اجلديد. ال �شك يف ان القوة لها العامل اال�سا�سي فقوة االنتداب الفرن�سي كانت حا�سمة يف فر�ض الهوية الوطنية اللبنانية ر�سميا على جميع الذين يعي�شون �ضمن حدود لبنان الكبري .لكن ما مل ي�ستطعه الفرن�سيون هو حتويل هذه الهوية �إىل هوية وطنية �سيا�سية جامعة .كانت ا�صوات امل�سلمني التي تتحدث عن الهوية اللبنانية قليلة وبعيدة عن املزاج العام يف جمتمعها ,وكان االنتماء ال�سوري يف �أوىل مراحل لبنان �أقوى عند امل�سلمني. بد�أت ال�سلطة الفرن�سية املنتدبة تتخذ �إجراءات دعم الهوية الوطنية فكان الد�ستور اللبناين عام 1926حدثا فريدا من نوعه اوجد ن�صا ا�سا�سيا ي�ساوي ,نظريا على الأقل ,بني اللبنانيني وي�ضع حقوق وواجبات املواطن يف قوانني من دون متييز بني منطقة او طائفة ومن دون االخذ بعني االعتبار الزعامات االقطاعية التي ورثت النفوذ ال�سائد يف مناطقها عن اجدادها منذ عهد الدولة العثمانية. بعد الد�ستور جاء اال�ستقالل عام 1943ليجمع امل�سلمني مع امل�سيحيني يف الهوية الوطنية اللبنانية الواحدة بعدما يئ�س امل�سلمون من العودة اىل الكيان ال�سوري وبعدما قدم لهم النموذج اللبناين مكا�سب اقت�صادية اخرى يف احلريات� ,شجعتهم على قبول الهوية الوطنية اللبنانية وامل�شاركة يف احلياة ال�سيا�سية من دون ان يلغي ذلك االنتقادات واالعرتا�ضات على امور ا�سا�سية كثرية. ثالثة امور عززت الهوية الوطنية هي العلم الوطني الواحد والن�شيد الوطني واجلي�ش.كان اجلي�ش قبل االول من �آب 1945تابعا للقيادة الفرن�سية وبدخوله اىل كنف احلكومة اللبنانية حقق املزيد من الدعم والتثبيت للهوية الوطنية اللبنانية .على ال�صعيد الثقايف كانت اجلهود من�صبة على ان�شاء ثقافة وطنية لبنانية جامعة ,وان�شاء ذاكرة وطنية ,ورموز وطنية جتمع بني اللبنانيني .كان كتاب التاريخ ورواية التاريخ ابرز جهد ثقايف لكنه مل يحقق الهدف املرجو متاما ب�سبب ثغرات �شابت كتابة التاريخ ت�سلل من خاللها الكثري من االفكار التي اثرت على ر�سوخ الهوية الوطنية. مت ت�ضخيم �شخ�صيات واحداث يف التاريخ وعزلها عن حميطها القريب وكانت امل�شكلة هي يف ت�ضخيم اال�صول الفينيقية والتاريخ الفينيقي وح�صره على ال�ساحل اللبناين مع ان اكرب حا�ضرة فينيقية ما زالت �آثارها ظاهرة اليوم هي �أوغاريت �شمال الالذقية والتي جاء الكالم عليها بخفر. اما مدن عكا وحتى غزة فيجهل اللبنانيون عنها مع انها كانت مدنا فينيقية يف املجتمع الفينيقي الذي كان يعتمد نظام املدينة -الدولة ومل يكن الفينيقيون يوماً موحدين يف دولة واحدة تلهم امل�ؤرخني اللبنانيني. يكاد التاريخ الو�سيط للبنان يذكر قليال فيقفز �صانعو كتاب التاريخ والثقافة اجلديدة عنه لي�صلوا 8
حتوالت املجتمع والإن�سان
مبا�شرة اىل فخر الدين والدولة العثمانية و�سرد روايات م�شكوك يف �صحتها حول تعامل فخر الدين االول مع العثمانيني �ضد املماليك والتي مل ُي رَعث عليها يف امل�صادر التاريخية .كل ذلك ا�ستفز بع�ض امل�سلمني وكتب احدهم كتابا عنوانه قراءة ا�سالمية للتاريخ اللبناين .مل يتقدم كتاب التاريخ و�صانعو الثقافة اجلديدة اىل اللبنانيني بالواقعية التاريخية ومل يقولوا هذا لبنان بحدوده احلالية التي ر�سمها اجلرنال غورو وهو وطن اجلميع وجزء من املحيط ال�سوري والعربي بل حاولوا خلق حواجز بني لبنان وحميطه .جنح اتفاق الطائف يف عبارة «لبنان وطن نهائي» يف ار�ساء هوية وطنية مقنعة اكرث من الروايات التاريخية التي ما ان يبد�أ احد بتدقيقها حتى ي�صاب بال�صدمة من كرثة اختالق ال�شخ�صيات وت�ضخيم الوقائع. اذا كان اللبنانيون قد حققوا بعد نحو من ن�صف قرن هوية وطنية متفقاً عليها فهي تتعر�ض لهجمة �شر�سة .ف�صعود االحزاب الدينية بعد االجتياح اال�سرائيلي عام 1982وف�شل احزاب احلركة الوطنية واملقاومة الفل�سطينية يف �صد االجتياح ادخل واقعا جديدا وهو منو الهوية الدينية على ح�ساب الهوية الوطنية وتو�سع ظاهرة التدين وممار�سة الطقو�س وال�شعائر الدينية وتخلي ق�سم كبري من العلمانيني والقوميني وال�شيوعيني عن علمانيتهم ورجوعهم اىل اال�صل الديني .تغلب االنتماء الديني� ,أح�ضر معه اخلالفات املذهبية التي �أ�سهمت ايديولوجيا القاعدة بتعميمها .يف الإ�سالم ال�شيعي ب�أن هناك �أزمة �أممية �شيعية لأن �إيران الدولة ال�شيعية الأكرب والتي ت�شكل رابطاً دينياً هاماً هي يف احلقيقة التعترب امتدادا ثقاقيا لل�شيعة العرب فكانت العالقات ال�سيا�سية قوية بينما العالقات االخرى متفاوتة .اما عند امل�سلمني ال�سنة فقد اكدوا مت�سكهم بلبنان رمبا ب�سبب اخل�صومة مع �سوريا التي حتولت اىل انح�سار للفكر القومي العربي ال�سائد لديها .لكن غزوة التطرف الديني جعلت البع�ض يقدم الهوية املذهبية على الهوية الوطنية وهذا ما ح�صل عند بع�ض اللبنانيني وال�سوريني والفل�سطينيني .مل يعد املت�شدد لبنانيا وال �سوريا وال فل�سطينيا امنا اتخذ هوية مذهبية و�صلت عند بع�ض الفل�سطينيني ان يرتك ارا�ضي 1948الرازحة حتت االحتالل اال�سرائيلي ويذهب اىل �سوريا ليقاتل من �أجل املذهب. تراجعت الهوية الوطنية وتراجع معها مفهوم اخلطر على االمة .مل تعد ا�سرائيل خطراً وال تهديداً, ومل تعد ال�صهيونية العن�صرية امل�شكلة االبرز بل جرى ا�ستح�ضار م�شاكل مذهبية وطائفية و�سط �صمت الغالبية وذهول االقليات عما يجري من وقائع .االخطر هو غياب قيادات وطنية واخرى عابرة للحدود الدول ت�ضع حدا لهذا اخلطر امل�ستفحل الذي دق باب لبنان .امل�سيحيون �صانعو لبنان فقدوا القوة الالزمة للحفاظ على هذا الوطن االجناز الذي حقق احلريات ون�سبة عالية من التقدم قيا�سا للمنطقة ،لكنه بد�أ ينهار حتت وط�أة الهويات الفرعية .العودة اىل االنتماء الوطني واىل الهوية الوطنية اللبنانية ت�شكل مدخال ا�سا�سيا لت�سوية االزمات الراهنة والتخفيف ما امكن من االزمات املقبلة. 9
دار كتب للن�شر �ش.م.ل
بناية الربج ،الطابق الرابع� ،ساحة ال�شهداء الو�سط التجاري ،بريوت ،لبنان �صندوق بريد ،11-4353 :بريوت -لبنان. هاتف )961-1( 983008 /9 :فاك�س)961-1( 980630 : الربيد الإلكرتوينkutub@kutubltd.com : املوقع الإلكرتوينwww.kutubltd.com :
حتوالت املجتمع وا لإن�سان
حتوالت م�صطلح ال�رشق الأو�سط من اجلديد �إىل البعيد وليد زيتوين -باحث ا�سرتاتيجي "يعربون اجل�سر يف ال�صبح خفافا �أ�ضلعي امتدت لهم ج�سراً وطيدا من كهوف ال�شرق ،من م�ستنقع ال�شرق �إىل ال�شرق البعيد �أ�ضلعي امتدت لهم ج�سراً وطيدا" خليل حاوي �أما قبل:
مات خليل حاوي حاملا ،ان ذاك ال�شرق �سيلتحم ب�أ�ضلع الن�سر الذي �آمن به ج�سر عبور �إىل الوحدة واحلرية واال�ستقالل� .شرق جديد� ،سيد ،قوي ،يحمل اىل العامل ر�سالته اخلا�صة يف احلق واخلري واجلمال. مات خليل حاوي مدركاً ،امنا ال�شرق جهة حيث ت�شرق النه�ضة فكراً و�صناعة وغالال ،ولي�س ال�شرق م�شروعاً جيوبوليتكياً فر�ضه الغرب ال�سيد على �أمة طال �سباتها حتت ظالل احلدود الوهمية .مات خليل حاوي والأمة تزداد ق�سمة و�شرذمة ّ وت�شظياً .مات بطعنة معنوية يف عقله قبل ان ميوت قلبه حزناً على بريوت حتت �أقدام الغزاة. �أما بعد:
�أ�صبح م�صطلح ال�شرق و�إخوانه :ال�شرق االو�سط ،ال�شرق االو�سط اجلديد ،ال�شرق االو�سط املو�سع وال�شرق االو�سط الكبري ،م�ستخدما ب�شكل كثيف يف يومياتنا الفكرية واالعالمية من دون التدقيق 11
يف ماهيته وم�ضمونه .فاختلط علينا املفهوم ما بني الداللة اجلغرافية والدالالت ال�سيا�سية املرافقة، مبا حتمل هذه االخرية من م�شاريع ابتعدت كثرياً عن اال�ستخدام اجلغرايف الطبيعي والربيء. فال�شرق باجلغرافية هو جهة ،حتدد ن�سبة اىل مكان .حيث تختلف اجلهة باختالف املكان� .سوريا مثال هي �شرق بالن�سبة الوروبا ولكنها غرب بالن�سبة اىل ال�صني .فاملكان بهذا املعنى يحدد االجتاه ولي�س العك�س .وعلى هذا اال�سا�س ن�سوق املالحظتني التاليتني: املالحظة الأوىل� :إن الإ�صرار على ا�ستخدام تعبري ال�شرق �أو ال�شرق االو�سط بد ًال منمنطقة �سوريا الطبيعية ،يعني بدالالته ان الغرب هو املركز وبالتايل ان �سوريا الطبيعية هي هام�ش وتابعة لهذا املركز .وهذه نظرة ا�ستعالئية على ما يعتربه الغرب دونه ح�ضاريا .بل هي ر�ؤية �سيا�سية وثقافية بامتياز راكم عليها الغرب كل م�شاريعه الالحقة. املالحظة الثانية :يبني الغرب ت�صوره لل�شرق االو�سط على انها منطقة توقف فيها التاريخوانعدمت فيها الذاكرة ،وهي منطقة لي�ست لها قدرة على احلياة �أو الوحدة �إال �إذا �ضخ فيها الغرب مقومات ذاتية من لدنه .فعلى املجتمع ال�شرقي وال�شعب ال�شرقي ان ي�ستجيبا لقيم وثقافة الوافد مقابل ان يتخلى عن تاريخه وثقافته وقيمه. الإطار اجلغرايف:
�أطلق تعبري ال�شرق االو�سط بداية لال�شارة اىل الدول واحل�ضارات املتواجدة يف غرب �آ�سيا و�شمال �أفريقيا .وح�سب املراجع اجلغرافية املعتمدة عاملياً ت�شتمل على: �أو ًال :منطقة االنا�ضول [تركيا]. ثانياً� :شبه اجلزيرة العربية [البحرين ،ال�سعودية ،الكويت ،اليمن ،عمان ،الإمارات العربيةاملتحدة ،قطر]. ثالثاً :الهالل اخل�صيب [العراق ،الأردن� ،سوريا ،فل�سطني ،لبنان] وقرب�ص يف البحر الأبي�ضاملتو�سط. رابعاً :اله�ضبة الإيرانية [�إيران] خام�ساً� :شمال �أفريقيا [م�صر] . بالواقع يجب التمييز بني امل�صطلحات ال�سائدة يف الغرب .فال�شرق االو�سط او ال�شرق االدنى املحددة دوله �أعاله ،كان معتمداً من قبل اال�ستعمار القدمي خا�صة لدى االوروبيني .اما ال�شرق املو�سع فهو تعبري حديث التداول ،اعتمد من قبل االدارات االمريكية يف االو�سط الكبري او ّ 12
حتوالت املجتمع والإن�سان
-
�أكرث من عهد .ويختلف من حيث الرقعة اجلغرافية والدول التي ي�شتملها .ا�ضافة اىل املناطق اخلم�سة الواردة يف امل�صطلح االول ،ا�ضيفت ثالث مناطق جديدة هي على التوايل: �ساد�ساً :منطقة القوقاز [�أرمينيا� ،أذربيجان ،جورجيا]. �سابعاً� :آ�سيا الو�سطى [كازخ�ستان� ،أوزباك�ستان ،تركمان�ستان ،طاجيك�ستان ،قرغيز�ستان]. ثامناً :القرن الأفريقي [جيبوتي� ،أريترييا ،ال�صومال]. كما �أ�ضيفت �إىل اله�ضبة الإيرانية كل من �أفغان�ستان وباك�ستان .ومددت �شمال �أفريقيا لت�شمل [اجلزائر ،ال�سودان ،موريتانيا ،ليبيا ،املغرب وتون�س].
االطار التاريخي وال�سيا�سي:
ارتبط هذا امل�صطلح اجلغرايف بامل�شاريع اجليوبوليتيكية لأوروبا يف املرحلة الأوىل ،ثم مب�شروع الواليات املتحدة االمريكية كنظام �سائد على م�ستوى العامل .ومن الطبيعي ان نلقي ال�ضوء على املراحل التاريخية التي م ّر بها ا�ستعمال هذا امل�صطلح خا�صة يف ال�سنوات االخرية. مبعنى ملتب�س ،اختلط فيه اجلغرايف رمبا تكون املرة االوىل الذي ا�ستعمل فيه مفهوم ال�شرق ً بال�سيا�سي ،اثناء ما ي�سمى باحلروب ال�صليبية .ورغم حتفظنا على الت�سمية لهذه احلروب التي �سميت �أي�ضاً بحروب الفرجنة .غري ان الهدف كان ال�شرق مبا يذخر من غنى على امل�ستوى احل�ضاري مادياً وروحياً. فحروب الفرجنة التي �شُ ّنت حتت عنوان ايديولوجي ،حترير مهد امل�سيح من الكفار ،كانت بالواقع ت�ضمر �أهدافاً مغايرة ملا هو معلن .فال�سدة البابوية التي كانت ت�سعى اىل الوحدة امل�سيحية يف اوروبا �ساهمت ب�شكل كبري يف جعل الإمارات املتناحرة واملتقاتلة بينها ،ان تتجمع حتت لواء م�شروع ديني موحد ،والتوجه نحو ال�شرق لتحقيق �أهداف مادية ،هي نهب كنوز هذا ال�شرق وخرياته. وقد ترافق ذلك مع طموحات بع�ض االمارات االوروبية ،وعلى ر�أ�سها االمارات االيطالية بالتمدد وتو�سيع رقعة اعمالها التجارية يف غرب �آ�سيا .طبعاً مل تكن هي اال�سباب الوحيدة لقيام احلروب ال�صليبية وامنا هناك ا�سباب ذاتية داخلية ،وا�سباب تتعلق بنزعة الفرو�سية والقتال يف تلك املرحلة. اال انه ما يهمنا ا�ستخدام تعبري ال�شرق كم�شروع ا�ستعماري . يف مرحلة الحقة ن�سجت اوروبا م�شاريعها اجليوبوليتيكية على املنوال ال�سابق نف�سه .فغليوم الثاين امرباطور برو�سيا عنون م�شروعه التمددي «االندفاع نحو ال�شرق» وترجم هذا العنوان مب�شروع ربط بغداد بالعا�صمة برلني ،عرب ما عرف بخط �سكة حديد برلني -بغداد . 13
مل ت�شذ بريطانيا وفرن�سا عن هذه القاعدة ،بل ّر�سخت كل منها هذا امل�صطلح عرب ا�ستخدامه يف ا�ستهدافاتها حتى التف�صيلية منها .فكان ال�صراع الدائر بينها يف اال�سا�س على امل�ستعمرات ال�شرقية ،والو�صول اىل ا�سواق الهند ال�صينية عرب ما ا�سماه االنكليز بال�شرق االدنى .فعندما ا�ستطاع اال�سطول االنكليزي بقيادة االمريال نل�سون تدمري اال�سطول الفرن�سي يف ابو قري عام 1796الذي كان يقوده نابليون من على ال�سفينة «�أوريون»� .أحكمت االمرباطورية االنكليزية �سيطرتها على البحر االبي�ض املتو�سط وعلى الطريق الربية يف ال�شرق املعروفة بطريق احلرير .يف املراحل الالحقة ظل مفهوم ال�شرق االو�سط �سائداً يف احلرب العاملية االوىل وما بعدها .فاجلي�ش ال�سوري اللبناين كان ي�أخذ ا�سم جي�ش ال�شرق .واالذاعة التي كانت تبث من بريوت هي اذاعة ال�شرق ،واملرا�سالت االنكليزية وكذلك الفرن�سية كانت ت�ستخدم امل�صطلح نف�سه فيما يتعلق بامل�صالح وال�شركات اال�ستعمارية املتواجدة يف هذه املنطقة. اال ان �أخطر م�شروعني ارتبطاً بهذه الت�سمية هما :ال�شرق االو�سط اجلديد ،وال�شرق االو�سط الكبري اللذين ب ّينا حدودهما اجلغرافية يف الفقرات ال�سابقة .ورغم الفوارق اجلغرافية وامل�صادر التي �أن�ش�أتهما ،غري �أنهما ي�صبان يف خانة واحدة .فامل�شروعان يتماهيان يف االهداف اال�سا�سية. حفظ �أمن «ا�سرائيل» وتق�سيم املنطقة املحيطة اىل دول او امارات طائفية واتنية متنازعة تربر وجود الدولة اليهودية القائمة على امليثولوجيا الدينية يف املرحلة االوىل ،ومن ثم جعلها ال�شرطي العاملي القادر على ادارة ال�صراع بني االمارات امل�ستحدثة بغية ا�ستكمال عملية النهب املنظم لرثوات ال�شعوب وخرياتها . �أ�صدر �شمعون برييز عام 1993كتابه «ال�شرق االو�سط اجلديد» على �أثر م�ؤمتر مدريد لل�سالم الذي توزع يف ما بعد �إىل جلان متخ�ص�صة ،عقدت �سل�سلة من امل�ؤمترات الفرعية تناولت االمن واالقت�صاد واملوارد الطبيعية والتنمية الب�شرية والتكنولوجيا وغريها .جاء هذا الكتاب ليحمل وجهة النظر «اال�سرائيلية» بهذه املوا�ضيع ،وك�أن م�ؤمتر مدريد قد جاء ا�ستجابة ملا تريد «ا�سرائيل» من العرب و الدول الراعية ،ولي�س م�ؤمتراً لل�سالم فقط .فالكتاب يدعو �إىل قيام �سوق م�شرتكة يف ال�شرق االو�سط �شام ًال «ا�سرائيل» كع�ضو �أ�سا�سي فيه .طالباً من العرب التخلي عن ما�ضيهم العدائي جتاه الدولة اليهودية ،بل و�أكرث من ذلك دعوتهم �إىل ن�سيان تاريخهم واالنقطاع عن ذاكرتهم عرب حتويل اجلامعة العربية �إىل جامعة دول ال�شرق االو�سط ،الن الإ�سرائيليني وح�سب تعبريه لن يتحولوا �إىل عرب .لقد جتلى الهدف من امل�شروع ،عندما طلب الوفد الإ�سرائيلي يف اجتماع اللجنة االقت�صادية يف الدار البي�ضاء عام ،1994طلب وبكل وقاحة ان تتخلى م�صر عن زعامة العامل العربي النها ف�شلت و�إيكال هذه الزعامة �إىل «ا�سرائيل». رمبا يكون م�شروع ال�شرق االو�سط اجلديد هو ثمرة نقا�ش بني القيادة اال�سرائيلية واللوبي ال�صهيوين يف الواليات املتحدة االمريكية .او رمبا ا�ستوحاه «املحافظون اجلدد» يف �سياق م�شروعهم لل�سيطرة 14
حتوالت املجتمع والإن�سان
على العامل .فبعد �سقوط االحتاد ال�سوفياتي وانهيار منظومة الدول اال�شرتاكية كانت العدة قد ج ّهزت ال�ستكمال تطويق ال�صني وخنقها قبل حتولها اىل مارد اقت�صادي ومارد ع�سكري يف ما بعد .وعلى قاعدة نظرية «الفرد ماهان» التي مت ا�ستخدمتها مع االحتاد ال�سوفياتي ،التي تقول بتطويق الدولة البحرية للدولة الربية وا�سقاطها من الداخل .ف�أغرقت االدارة االمريكية ب�سل�سلة من الدرا�سات التي تعالج كيفية تنفيذ هذا امل�شروع .ورغم التطابق او التوافق يف ما خ�ص امل�سرحني اال�سرتاتيجيني ال�شمايل واجلنوبي ،اال ان امل�سرح الو�سيط ظل مو�ضع نقا�ش حتى �أر�سي الأمر على اعتماد نظرية «�شيمون برييز» مع بع�ض التعديالت على املدى اجلغرايف ليطاول امل�سرح اال�سرتاتيجي الو�سيط للواليات املتحدة والذي ميتد من حدود ال�صني حتى مداخل جبل طارق .هذا امل�سرح الو�سيط اخذ ا�سم ال�شرق االو�سط الكبري .تبنى املحافظون اجلدد نظرية �سيادة الواليات املتحدة على العامل وبو�شر العمل على حتقيقها مع جميء جورج بو�ش االبن، باالعتماد على القوة الع�سكرية املبا�شرة خا�صة بعد احداث � 11أيلول .فكانت احلرب على �أفغان�ستان والعراق واحلرب اال�سرائيلية على لبنان .2006ف�شلت الواليات املتحدة يف حتقيق اهدافها ع�سكرياً و�سيا�سياً يف احلروب التي خا�ضتها .ومع انتهاء عهد جورج بو�ش ،و�ضعت وزيرة خارجيته «كونداليزا راي�س» جمموعة من التو�صيات لالدارة القادمة يف مقال ن�شرته «الفورين �أفريز» ،ومنها وجوب التحول اىل احلرب الناعمة بدال من القوة ال�صلبة لتحقيق االهداف املر�سومة المريكا .ومبجيء باراك �أوباما الذي �أخذ بتو�صيات راي�س معتمداً على م�شروع «برنارد لوي�س» القا�ضي بتق�سيم الدول القائمة اىل دول مذهبية واتنية .هذا امل�شروع حاز على موافقة كل من «هرني كي�سنجر» و «زبينغيو بريجن�سكي» ور�سم خرائطه مايكل بيرتز. �إن ما يح�صل الآن يف املنطقة ،هو ح�صيلة تنفيذ امل�شروع االمريكي عرب خطط الفو�ضى البناءة واحلرب الناعمة ،التي �أنتجت �شتا ًء عربياً ملوناً بالدم .على �أيدي من �ص ّنعتهم وكالة اال�ستخبارات االمريكية املمولة من النفط العربي. ختاماً نقول� ،إننا عر�ضنا ب�شكل موجز لتحول م�صطلح ال�شرق االو�سط من الناحيتني ال�سيا�سية والتاريخية وقد ي�ؤدي هذا التحول اىل حت ّول يف اجلغرافية ،اذا مل تقم وحدة متما�سكة بني قوى املقاومة واملمانعة على امتداد اجلغرافية امل�ستهدفة.
15
حتوالت املجتمع وا لإن�سان
حتوالت وم�سارات ...باجتاه امل�ستقبل زهري فيا�ض -باحث وكاتب لبناين
متهيد
ان حتوالت العقود الأخرية ب�أحداثها وم�ساراتها وت�شابكاتها ،تفر�ض نف�سها يف الواقع العاملي وعلى كل امل�ستويات ،بالنظر اىل حتدياتها وخماطرها وت�أثرياتها وتداعياتها على حياة �شعوب و�أمم ب�أ�سرها. فنحن نعي�ش يف عا ٍمل يتغري بوتائر �سريعة ،وهذه التغيرّ ات تطال البنى والأطر واملفاهيم والثقافات ومنظومات القيم التي حتكم العالقات بني الب�شر �شعوباً و�أمماً وجمتمعات وحتى �أفراداً. ان قراءة معمقة يف هذه التحوالت تفرت�ض العودة اىل جذورها و�إىل ظروفها التاريخية و�إىل املعطيات املو�ضوعية التي رافقت ن�ش�أتها والتي �أ�س�ست لكل هذه املتغريات والأحداث التي مر بها العامل، وال �سيما عاملنا العربي ،ومنطقتنا �أي امل�شرق العربي ب�شكل خا�ص (بالد ال�شام والعراق �أو �سوريا الطبيعية التاريخية). فالبعد التاريخي �ضروري ل�سرب �أغوار كل هذه التطورات احلا�صلة وحتليلها وفهم �أ�سبابها ودينامياتها وم�آلها وتداعياتها ونتائجها على كل امل�ستويات. بيد �أن نطاق هذا البحث ال يتعدى يف االطار الزماين واملكاين التطورات احلا�صلة على م�ستوى الهالل اخل�صيب (امل�شرق العربي) �أي بالد ال�شام والعراق منذ العقود الأوىل للقرن الع�شرين وذلك انطالقاً من كون هذه املنطقة ت�شكل اطاراً جغرافياً وتاريخياً وح�ضارياً له موقع املركز يف تاريخ االن�سانية جمعاء. فبالدنا كانت منذ القدم ت�شكل الوعاء االن�ساين واحل�ضاري الذي يحمل ارثاً ان�سانياً عاملياً بدءاً من ال�شرائع والقوانني والدول واملمالك واحلوا�ضر التي قامت يف ما ي�شبه مركز العامل القدمي، هذا االرث الذي �شكل املرتكز والقاعدة والأ�سا�س لتطور االن�سانية جمعاء يف مراحل الحقة يف جماالت ال�سيا�سة واالدارة والعلوم والتجارة وال�صناعة والدين والقيم والأخالق والفل�سفة وغريها من مناحي الفكر االن�ساين ذي الطابع العاملي... 17
ولعل املوقع اال�سرتاتيجي لبالدنا باعتبارها �صلة الو�صل بني ال�شرق والغرب ،وعقدة موا�صالت هامة على خطوط التجارة والنقل العامليني قد �ساهم يف �إ�ضفاء قيمة ا�ضافية و�أهمية ا�ستثنائية للواقع اجليو � -سيا�سي الذي يحكم منطقتنا ،ويف الوقت ذاته جعل بالدنا حمط �أنظار القوى العاملية اال�ستعمارية التي تطمح للهيمنة وال�سيطرة وامتالك القرار العاملي وبالتايل الت�أثري على م�سار الأحداث يف العامل... ملحة تاريخية
ال �شك يف �أن احلرب العاملية الأوىل التي �شهدها العامل يف العقد الثاين من القرن الع�شرين تركت ب�صماتها بو�ضوح على كامل املراحل التاريخية التي تلتها وب�شكل خا�ص يف عاملنا العربي وامل�شرق العربي ،اذ �أن الأحداث الكربى والتطورات التي ح�صلت يف بالدنا بعد احلرب العاملية الأوىل كانت كلها من نتاجها وتداعياتها ،ون�ستطيع القول بكل ثقة �إن اخلرائط اجليو � -سيا�سية التي ر�سمها املنت�صرون يف تلك احلرب �شكلت الأطر ال�سيا�سية واالقت�صادية وحتى االجتماعية التي حتركت يف داخلها حركات ال�شعوب خالل العقود التي تلت ،طبعاً مع الأخذ بعني االعتبار الوقائع ال�سيا�سية والع�سكرية واالقت�صادية التي متخ�ضت عن احلرب العاملية الثانية وتوازنات القوى التي �أر�ستها �أي�ضاً حتى �أيامنا هذه. �إن �أخطر االتفاقيات واملعاهدات التي هددت وحدة بالدنا وجمتمعنا مت عقدها يف �أعقاب احلرب العاملية الأوىل من وعد بلفور اىل اتفاقية �سايك�س -بيكو ،اىل تواط�ؤ دول اال�ستعمار الغربي والأوروبي ب�شكل خا�ص �آنذاك على اقرار خطة اقامة «وطن قومي لليهود على �أر�ض فل�سطني»، مما �شكل التهديد الوجودي الأ�سا�سي ملجتمعنا وعاملنا العربي منذ تلك الآونة وحتى يومنا هذا، وقد ترافق كل ذلك مع تركيب �أ�شكال �سلطوية يف دول هزيلة �ضعيفة تعاين خل ًال بنيوياً يف تركيبتها وهيكلها وبنائها العام ،دول تعاين من ا�ضطرابات وقالقل تعود يف جذورها اىل االرث اال�ستعماري القدمي املتمثل ب�أربعمئة عام من حكم تركي عثماين �أعاق م�سرية التنمية والتطور والتقدم والنمو يف �شتى املجاالت ،وما زلنا حتى اللحظة نعي�ش تداعيات ونتائج وانعكا�سات كل هذه الرتكة الثقيلة� ،أ�ضف اىل ذلك �سيطرة ا�ستعمارية ج�شعة �ساهمت يف نهب ثرواتنا وخرياتنا والقب�ض على مقاليد ال�سلطة والقرار يف بالدنا والت�أثري على كل الواقع االن�ساين االجتماعي ال�سيا�سي احل�ضاري املعي�ش يف بالدنا. ملاذا العودة اىل هذه الوقائع؟ وملذا �س ُرب �أغوار هذه امل�سارات يف تاريخنا ال�سابق؟ ال�سبب ب�سيط يتمثل يف هذا الت�سل�سل املنطقي التاريخي ملا مت ر�سمه يف العقود الأوىل من القرن الع�شرين. 18
حتوالت املجتمع والإن�سان
بالطبع ،هناك م�سارات متداخلة ومت�شعبة حكمت تطور الأحداث خالل املراحل التاريخية ال�سابقة ،وكلها تنطلق من حقيقة ا�ستالب يعي�شها ان�ساننا كنتيجة منطقية لغياب الوعي، وا�ضمحالل ال�شخ�صية الوطنية والقومية واالن�سانية واحل�ضارية وان�سحاقها يف �آتون ال�صراعات املتعددة الأ�شكال والعناوين والتي �شغلت العقل والتفكري ّ وعطلت كل امكانية للتقدم ال�صحيح، والتطور االيجابي الب ّناء ،والو�صول اىل اال�ستقرار الن�سبي املن�شود الذي ي�شكل قاعدة الأمان احلقيقي لأي جمتمع واحلا�ضن لال�ستمرار واحلفاظ على الوجود. واذا ما عدنا اىل الوقائعّ ، �شكل وعد بلفور احللقة الأوىل يف حلقات الت�آمر املتمثل يف زرع كيان اال�ستيطان اليهودي ال�سرطاين على �أر�ض فل�سطني واملحيط الطبيعي ،حيث �أن امل�شروع الأ�صلي هو اال�ستيطان والتمدد يف حركة �إلغائية للتاريخ واحل�ضارة والبنى ،و�إ�سقاط كل مداميك احل�ضارة والهوية املت�شكلة يف بالدنا عرب تاريخ طويل من احلراك والتفاعالت االن�سانية العميقة التي �ساهمت يف بلورة معامل هوية �إن�سانية ح�ضارية جذورها �ضاربة يف �أعماق ح�ضارات الإن�سان منذ القدم. وكما يف نهاية احلرب العاملية الأوىل ،كذلك يف �أعقاب احلرب العاملية الثانية مت �أخذ قرارات عاملية على م�ستوى املنت�صرين يف هذه احلرب طالت م�صائر �شعوب ب�أ�سرها ،وال �سيما قرار ان�شاء «دولة ا�سرائيل» وت�شريعها وقبولها يف «منظمة الأمم املتحدة» مما �شكل �سابقة خطرية يف تاريخ ن�شوء الدول والكيانات ال�سيا�سية ،وجرمية كربى بحق االن�سانية. ولعل التوازنات الدولية التي �أر�ستها احلرب العاملية الثانية �أرخت هي الأخرى بظاللها على العقود التي تلتها يف ظل حرب باردة بني املع�سكر الغربي بقيادة الواليات املتحدة الأمريكية واملع�سكر ال�شرقي بقيادة االحتاد ال�سوفياتي ال�سابق ،هذه التوازنات ولدت �أو �ساهمت يف توليد حروب و�صراعات اقليمية متعددة غطت م�ساحتها كل القارات ،ولكنها بقيت م�ضبوطة بايقاع تفاهمات �ضمنية �سلبية غري معلنة بني املحورين (احلرب الباردة). وا�ستمر ال�صراع مع الكيان ال�صهيوين يف منطقتنا ب�أ�شكال خمتلفة ومتعددة ،وكان العدوان على م�صر يف اخلم�سينيات ومن بعدها حروب 1967و 1973وما بينهما من ن�شوء حركة املقاومة الفل�سطينية وانطالق ظاهرة الكفاح امل�سلح الفدائي يف اطار منظمة التحرير الفل�سطينية وف�صائلها املختلفة واملتنوعة ،كل هذه الأحداث والتطورات �أ�س�ست للعقود الأربعة التي تلت و�صو ًال اىل �أيامنا هذه. اخلال�صة امل�ستقاة ،تتمثل يف هذا الرتابط القوي بني الأحداث والتطورات يف �سياق امل�شاريع التي تهدف ب�شكل خا�ص اىل املزج �أو التماهي بني امل�شروع ال�صهيوين باعتباره غزوة ا�ستيطانية �إحاللية �إلغائية لها مرتكزاتها العقائدية التوراتية التلمودية وبني م�شاريع ال�سيطرة اال�ستعمارية الغربية وخا�صة الأمريكية على الرثوات اخلام �ضبط وم�صادر الطاقة وال �سيما النفط والبرتول 19
بالنظر اىل �أهميته اال�سرتاتيجية على حياة وم�سار تطور الأمم وال�شعوب حول العامل ،و�أي�ضاً التماهي مع الرجعية املحلية يف بالدنا والتي كانت تقب�ض فيها على مقاليد ال�سلطة بكل وجوهها و�أ�شكالها. مرحلة ما بعد ال�سبعينيات
�إن مرحلة ال�سبعينيات من القرن الع�شرين كانت حافلة بالأحداث والتطورات واملتغريات التي كانت ت�ؤ�شر اىل مقاربات خمتلفة يف منطقتنا لل�صراع مع الكيان ال�صهيوين ،وجاءت حرب ت�شرين 1973لت�ؤكد نظرية االختالف يف قراءة طبيعة ال�صراع وم�آله امل�ستقبلية ،بني نظرتني خمتلفتني يف اجلوهر وامل�ضمون ،واحدة ت�سعى لإقامة ت�سوية �سلمية مع الكيان الغا�صب يف فل�سطني تتخلى فيه عن احلقوق يف الأر�ض وال�سيادة واحلرية واال�ستقالل احلقيقي ،وقد مثل هذا التوجه على �سبيل املثال ال احل�صر �أنور ال�سادات الذي قرر املفاو�ضات وذهب بعيداً يف خياراته اال�ست�سالمية اذ زار فل�سطني املحتلة ودخل نفق املفاو�ضات مع العدو اىل �أن قام بالتوقيع على معاهدة كامب -دايفيد التي �أخرجت م�صر من ال�صراع مع الكيان ال�صهيوين يف �صفقة ت�سووية هدفت اىل ت�صفية امل�س�ألة الفل�سطينية وت�صفية احلقوق ال�شرعية لل�شعب الفل�سطيني يف حترير �أر�ضه التاريخية لقاء مكا�سب �آنية مل�صر اذ ح�صلت على جائزة تر�ضية يف �صحراء �سيناء ب�شروط ا�سرائيلية مهينة. ويف املقابل ،برزت جبهة رف�ض �شامل لهذا االتفاق امل�ش�ؤوم على امل�ستويني ال�شعبي والر�سمي قادتها �سوريا �آنذاك و�أيدتها بال�شكل �أغلب الدول العربية التي قطعت عالقاتها مع النظام امل�صري، ومت �إخراج م�صر من اجلامعة العربية وعزلها �سيا�سياً. ومتحورت منذ تلك الآونة ال�صراعات يف املنطقة حول اخليارات الأ�سا�سية املتعلقة ب�أ�صل النظرة اىل هذا ال�صراع ،وكانت كل جهة تعمل على تدعيم موقفها ومنطقها وعلى ح�شد الطاقات واالمكانات يف هذا �أو ذاك االجتاه. وكانت احلرب الأهلية يف لبنان يف جانب �أ�سا�سي منها تندرج يف �سياق هذا ال�صراع املحموم يف ظل امل�شاريع الدولية التي ازدحمت يف تلك الآونة والتي تركزت ب�شكل �أ�سا�سي على التفتيت والتق�سيم لإ�ضعاف اجلبهة ال�شعبية القومية الراف�ضة لت�صفية امل�س�ألة الفل�سطينية وتثبيت وجود «دولة ا�سرائيل» يف قلب املعادلة الإقليمية و�إ�ضفاء �شرعية دولية �إ�ضافية عليها. لقد مثلت احلرب اللبنانية التي انطلقت فعلياً يف 13ني�سان � 1975صورة م�صغرة للواقع العربي والإقليمي والدويل ،فقد �شكلت هذه احلرب نقطة تقاطعات حملية واقليمية ودولية مت�شعبة ومتعددة ومتنوعة ،وتداخلت فيها الأ�سباب والعوامل والدوافع على ا�ستمرارها لفرتة ناهزت الـ 16عاماً و�أدت �إىل كوارث ب�شرية ان�سانية واقت�صادية ونف�سية جتاوزت بكثري حدود الكيان اللبناين. 20
حتوالت املجتمع والإن�سان
وقد طبع العمل امل�سلح الفل�سطيني والقومي املرحلة بطابعه املميز و�أعاد الألق اىل حركات التحرر الوطني والقومي يف بالدنا وعاملنا العربي ،وحقق �إجنازات يف �ضرب هيبة الدولة العربية وت�أكيد حق �شعبنا يف املقاومة والتحرير والوحدة ،ومت ن�سج �شبكة عالقات عربية و�إقليمية ودولية ا�ستطاعت حتقيق �أعلى ن�سبة تعاطف مع �شعبنا الفل�سطيني وق�ضيته املحقة ،وقامت بتعرية الكيان ال�صهيوين وطبيعته العدوانية الإجرامية اال�ستئ�صالية للتاريخ واحل�ضارة والإن�سان ،ومت ا�ست�صدار قرار دويل يدين فيه ال�صهيونية ويعتربها حركة عن�صرية ،وقد مثّل هذا الأمر بحد ذاته اجنازاً للديبلوما�سية املقاومة �آنذاك ،طبعاً ما كان لهذا القرار �أن ي�صدر لوال احت�ضان قوى دولية �صديقة كان على ر�أ�سها �آنذاك االحتاد ال�سوفياتي. ويف ال�سبعينيات كان اجتياح �إ�سرائيل جلزء من جنوب لبنان و�إقامة �شريط حدودي بعمق 15 كيلومرتاً �أقامت فيها �شبه دويلة بقيادة �سعد حداد �أو ًال و�أنطوان حلد الحقاً ،دويلة �صنيعة لإ�سرائيل وت�أمتر ب�أوامر قادتها ،وبعدها كان اجتياح 1982الذي قامت فيه القوات الإ�سرائيلية ب�أ�شمل عملية غزو بري هدفت يف ما هدفت �إليه� ،إىل ت�صفية منظمة التحرير الفل�سطينية و�ضرب خيار الكفاح امل�سلح من خالل تفكيك ف�صائل العمل الفل�سطيني امل�سلح والتخل�ص بالكامل من مقاومة ال�شعب الفل�سطيني يف اخلارج متهيداً ل�ضربها يف الداخل ،وامل�ضي قدماً يف امل�شاريع اال�ست�سالمية التي كانت تخطط لها دوائر القرار العاملي بهدف اختزال الق�ضية الفل�سطينية وت�صفيتها. ا�ستطاعت القوات الإ�سرائيلية الو�صول �إىل بريوت بالنظر �إىل عدم التكاف�ؤ يف القوى الع�سكرية امليدانية عدداً وعدة ،ولكن هذا اخللل يف موازين القوى الذي �أو�صل اجلي�ش الإ�سرائيلي �إىل بريوت ،مل ي�ستطع حتقيق �أهدافه ال�سيا�سية �آنذاك ،يف �إقامة حكم لبناين حليف �أو �صديق و�إقامة معاهدة �سلمية مع لبنان على غرار كامب دايفيد مع م�صر� ،إذ �إن املقاومة يف لبنان وجهت �ضربات قا�سية لالحتالل �أولها ا�سقاط ب�شري اجلميل الذي انتخب رئي�ساً للجمهورية اللبنانية يف ظل احلراب الإ�سرائيلية ،ويف امليدان انطلقت ويف الأيام الأوىل بعد االجتياح عمليات املقاومة اللبنانية والفل�سطينية فكانت العملية الأوىل للمقاومة امليدانية «عملية �إ�سقاط �أمن و�سالمة اجلليل» التي �أطلقت ال�صواريخ على كريات �شمونة وغريها من م�ستوطنات �شمال فل�سطني ،وكرت �سبحة العمليات الع�سكرية �ضد االحتالل يف بريوت مع خالد علوان يف مقهى الوميبي ،وعملية ب�سرت�س وغريها من العمليات يف بريوت واجلبل وجنوب لبنان ،وبد�أ تيار املقاومة بالتو�سع واالنت�شار والتمدد ،وحقق يف ال�سنوات التي تلت �إجنازات كبرية ولو يف ظل ال�صراع الداخلي اللبناين - اللبناين الذي هو بالتايل ميثل �صراعات على اخليارات الأ�سا�سية املتعلقة يف جانب �أ�سا�سي منها على موقع لبنان ودوره يف ال�صراع القومي �ضد الكيان ال�صهيوين وعمالئه. وقد جاء �إ�سقاط اتفاق � 17أيار مبثابة �صفعة قوية لكل املراهنني على �سراب التطبيع والإحلاق
21
والهيمنة الإ�سرائيلية على لبنان وحميطه القومي ،وقد متت �آنذاك �إدارة معركة املواجهة بكثري من احلكمة والدقة وال�صرب والت�أين. على امل�ستوى ال�سيا�سي تعددت الأطر ال�سيا�سية التي قامت يف لبنان والتي جمعت القوى الوطنية الراف�ضة للتق�سيم والتفتيت واملقاومة لالحتالل الإ�سرائيلي يف �آن ،ومت عقد م�ؤمترات �سيا�سية عدة حلل الأزمة اللبنانية يف لوزان وغريها ،مل تو�صل اىل �أية نتائج ،اىل �أن و�صلت الأطراف اللبنانية يف حلظة اقليمية ودولية منا�سبة اىل اتفاق الطائف برعاية �سعودية � -سورية وحتت مظلة دولية تقاطعت فيها الر�ؤى وامل�صالح الدولية والرغبة الداخلية اللبنانية فدخل لبنان مع الطائف مرحلة جديدة كان عنوانها ار�ساء دعائم دولة الطائف التي �شكلت متنف�ساً وم�ساحة اللتقاط الأنفا�س وللتنعم بفرتة من اال�ستقرار بالنظر طبعاً اىل الت�شوهات البنيوية املوجودة يف قلب هذا االتفاق والذي تبني الحقاً �أنه -بطبيعة احلال -ميثل ت�سوية �سيا�سية م�ؤقتة عك�ست توازنات قوى حملية واقليمية ودولية� ،أو مرحلة انتقالية حتاول الأطراف جمتمعة اعادة تفعيل قواها ا�ستعداداً للم�ستقبل. فل�سطينياً� ،شكلت حرب املخيمات يف الثمانينيات مف�ص ًال �أ�سا�سياً ،اذ �أنها حملت يف طياتها بذور االختالف يف الداخل الفل�سطيني حول �آفاق ال�صراع امل�ستقبلي من �أجل فل�سطني ،وكانت متثل هذه احلرب �صراع اخليارات الدائر حول م�ستقبل فل�سطني. وبالطبع ،كان وا�ضحاً �أن ال�صراع على امتالك ورقة املخيمات الفل�سطينية مبا متثله من زخم و�شرعية �شعبية �سيعطي الطرف املنت�صر (بني هاللني) موقع قوة �إما للم�ضي قدماً يف عملية التفاو�ض وعقد الت�سويات ال�سلمية يف حال كان املنت�صر ميثل وجهة النظر تلك� ،أو باملقابل انت�صار الطرح الذي يدعو اىل املقاومة والتم�سك باحلق القومي ،و�إعطاء ال�صراع طابعه القومي الطبيعي باعتبار �أن ا�سرائيل متثل خطراً وجودياً لي�س فقط على فل�سطني بل على كل املحيط الطبيعي من العراق �إىل بالد ال�شام �أي على كامل �سوريا الطبيعية التاريخية. وبالنتيجة ،مالت كفة القوة جلهة قوى املقاومة ،وترافق هذا زمنياً مع اندالع االنتفا�ضات الفل�سطينية الأوىل والثانية التي �أثبتت �أن اخليار املقاوم هو الأ�سلم والأقدر على �إحقاق احلق وحتقيق الإجنازات، وقد �أثبتت املقاومة الوطنية يف لبنان نظرية �أن «العني تقاوم املخرز» و�أن �إرادة ال�شعب املقاوم اذا ما اقرتنت بالفعل الثوري املقاوم ت�ستطيع �أن حتقق الإجنازات ،فمن العمليات اال�ست�شهادية يف اطار جبهة املقاومة الوطنية اللبنانية �إىل تزخيم العمليات املقاومة امل�سلحة �ضد اجلي�ش اال�سرائيلي على �أر�ض لبنان يف اطار «املقاومة اال�سالمية» الحقاً ،كان التحرير يف العام ،2000ليثبت بالعني املجردة �أن الإرادة وفعلها حققا بالفعل �إجناز التحرير ،وقد �شكل هذا االنت�صار ال�سند لل�شعب الفل�سطيني يف الداخل لتطوير ن�ضاله الوطني ب�شتى الو�سائل لتحقيق �إجناز التحرير على املدى الطويل ،و�إحداث خلل يف املفهوم الإ�سرائيلي الوجودي مرحلياً. 22
حتوالت املجتمع والإن�سان
هذه االنت�صارات امليدانية عززت يف عقل �إن�ساننا ثقة بالذات ك�سرت املعادالت ،و�شكلت بداية حترير لهذا العقل من كل املعطالت التي جمدت تطوره وارتقاءه ،وحققت هذه الإجنازات خرقاً لل�صورة النمطية التي �أراد الآخر ت�أبيدها يف �أذهاننا لتعميق حاالت اال�ستالب املجتمعي واحل�ضاري والإن�ساين لأمتنا وجمتمعنا. �رصاع احل�ضارات
بد�أت منذ ت�سعينيات القرن املا�ضي تظهر كتابات لك ّتاب غربيني و�أمريكيني حول مفهوم �صراع احل�ضارات ونهاية التاريخ ،وكانت كلها تندرج يف �سياق الت�أ�سي�س الفكري لتربير ال�سيا�سات اال�ستعمارية و�إ�ضفاء �صفة �شرعية �أخالقية عليها ليت�سنى ت�سويقها واعتبارها واحدة من حقائق ال�صراع امل�ستقبلي حول العامل. بالطبع ال جمال للخو�ض تف�صيلياً يف تلك النظريات ولكنها تتمحور بطبيعة احلال حول تربير االنق�سامات واالن�شطارات حول العامل على قاعدة ثقافية ودينية وت�أ�صيل هذه االنق�سامات وتعميقها. وجاءت �أحداث �أيلول 2001يف ال�سياق املر�سوم لها لت�ؤكد �صحة هذه النظرية حول انق�سام عميق على مدى الكوكب بني ح�ضارتني �إ�سالمية يتم ل�صق �صفة االرهاب بها ،وبني ح�ضارة غربية م�سيحية مت�ساحمة حتارب من �أجل احلرية والتطور والنمو. وقد اندرج غزو �أفغان�ستان حتت هذا العنوان «�صراع احل�ضارات واملعركة �ضد االرهاب» ،وكذلك اجتياح العراق يف العام � ،2003أي بكالم �آخر� ،شكل عنوان «االرهاب» و «نظرية �صراع احل�ضارات» الأ�سا�س العقائدي الذي اعتمدته االدارة الأمريكية لت�سويق م�شاريع �سيطرتها على ثروات ال�شعوب وم�صادرة خرياتها وال �سيما م�صادر الطاقة حول العامل وال �سيما يف منطقتنا العربية ،وطبعاً فر�ض م�شاريعها ور�ؤاها ال�سيا�سية التي تتقاطع يف بالدنا مع امل�شروع ال�صهيوين بكل جتلياته وا�ستهدافاته. وقد ا�ستهدفت هذه امل�شاريع وب�شكل مبا�شر �ضرب كل حركات املقاومة يف بالدنا وت�أليب العامل عليها ،وحماولة �إل�صاق تهمة الإرهاب بها ،فكانت �أحداث لبنان يف العام 2005واغتيال احلريري واحلملة على حزب اهلل يف لبنان وحركة حما�س يف فل�سطني ،وعلى �سوريا باعتبارها العمق اال�سرتاتيجي لكل حركات املقاومة يف بالدنا ،وما زالت هذه احلملة م�ستمرة ب�أ�شكال جديدة تتمثل يف حماوالت يائ�سة الحداث فنت طائفية ومذهبية ال �سيما منها �سنية � -شيعية و�إدخال املنطقة يف حروب ا�ستنزافية داخلية تدمر الهوية والكيانات ال�سيا�سية القائمة وتعيد ر�سم خرائط جيو � -سيا�سية على هذه القاعدة ،وقد غدا م�شروع التق�سيم اجلديد للمنطقة العنوان احلايل لكل 23
الأحداث التي جتري من �شمال افريقيا �إىل كل املنطقة العربية وال �سيما امل�شرق العربي وم�صر. �أكذوبة الربيع العربي وارادة التغيري امل�سلوبة �شكل العام 2011بداية تغيريات دراماتيكية الفتة متزامنة يف العديد من الدول العربية من تون�س �إىل م�صر �إىل ليبيا ومن بعدها �سوريا ،ال �شك يف �أن واقع النظام العربي الر�سمي يحمل يف طياته بذور الثورة والرف�ض والتغيري ،فالظلم وعدم امل�ساواة وغياب احلريات و�سوء توزيع الرثوات القومية واال�ستغالل كلها �أ�سباب كانت يف �صلب احلراك الذي �شهدته هذه البلدان ،فالعامل الداخلي �أ�سا�سي ويعرب عن توق هذه ال�شعوب للتغيري واالنعتاق من واقعها البائ�س. بيد �أن تطور الأحداث �أخذ اجتاهات جتاوزت بكثري �أ�صل احلراك ،وكان وا�ضحاً �أن عملية ا�ستالب هائلة لهذا احلراك قد ح�صلت ،ومت �أخذ احلراك اىل مكان �آخر يت�صل مب�شاريع م�شبوهة ومك�شوفة لها عالقة ب�إعادة ر�سم اخلرائط اجلديدة للمنطقة ب�أ�سرها حتقيقاً مل�صالح دولية تت�صارع يف بالدنا بالنظر اىل املوقع والأهمية اال�سرتاتيجية يف الأمن وال�سيا�سة واالقت�صاد. ولعل احلدث ال�سوري هو الأكرث داللة على ازدواجية املعايري ،وعلى حقيقة اال�ستهدافات ،وعلى طبيعة امل�شاريع التي ُيراد تنفيذها و�صو ًال �إىل التق�سيم والتفتيت وتر�سيخ هيمنة �إ�سرائيل على املنطقة. �آفاق التحوالت احلالية وم�ساراتها امل�ستقبلية
ما زلنا نواجه خيارات �صعبة وحتوالت مف�صلية �سترتك ب�صماتها على احلا�ضر وامل�ستقبل ،وال �إمكانية للخال�ص من م�ستنقع االنق�سام والت�شظي واالندثار �إال بفكر نه�ضوي خالق مبدع يرتكز على قواعد را�سخة يف العقل ت�ؤ�س�س النطالقة جديدة تعيد �صياغة احلا�ضر وامل�ستقبل مبا يتالءم وطموحاتنا وطموحات �أجيالنا احلا�ضرة والآتية بالوحدة والتقدم والتنمية واالزدهار واال�ستقرار واحلرية واال�ستقالل. وهذه القواعد �شكلت عناوين انطالقة كل حركات التحرر القومي النه�ضوي منذ بدايات القرن الع�شرين وحتى �أيامنا هذه ،وترتكز حول ف�صل الدين عن الدولة ،تعزيز فكرة املواطنة ،تعزيز احلريات ،الت�أكيد على الهوية القومية اجلامعة لكل �أبناء الوطن ،امل�ساواة الن�سبية يف توزيع الرثوات الوطنية ،العدالة االجتماعية ،منع اال�ستغالل و�سوء ا�ستعمال ال�سلطة ،تعزيز الرقابة ،تعزيز دور الدولة يف حماية املجتمع ويف تعزيز اال�ستقرار والأمن واحلريات. خياراتنا يف الثقافة والرتبية وبناء االن�سان اجلديد ...هي خيارات النه�ضة والعقل والعلمنة والهوية واالنتماء اىل التاريخ واجلغرافيا واحل�ضارة واالن�سان... 24
حتوالت املجتمع وا لإن�سان
كيف ميكن جعل امل�ستحيل ممكناً؟ �أحمد من�صور -كاتب وباحث
حلقات زمن ّية وهم ّية متوا�صلة على �أر�ض املكان الثابتة ،فال ّزمان احلركي ال�سنو ّية هي ٌ �إنَّ العقود ّ الب�شري هو الذي يعطي معنى للمكان الثابت الأر�ضي ،ومن خالل اجلدل ّية امل�ستم ّرة املجتمعي ّ ّ بني الإثنني يعرف �سري َت ُه التاريخ الذي ديدن ُه ال�صراع بني الأفراد �أو اجلماعات والأمم .هناك مراحل تبد�أ يف �أوا�سط القرن �أو �آخر القرن تنتهي �أو تبلغ �أوجها يف بداية �أو منت�صف القرن التايل. ف�إذا ما �أمع ّنا النظر يف القرن الع�شرين نرى حت ّوالت قد تكون بد�أت من احلرب العاملية الأوىل �أو ما قبلها فمراحل التاريخ لي�ست مراحل عدد ّية م ّب�سطة بل هي يف غاية التعقيد .فالتاريخ يغور وميور ويفور مبقت�ضى جدل ّيته التي ال ُت ْد َر ُك �إ ّال عند �أهل االخت�صا�ص ،فالأربعون �سنة الأوىل ال�ساللية يف القرن الع�شرين انتهت بحروب تق ّرر فيها م�صري الإمرباطور ّيات القدمية الأوروبية ُّ ال�شائخة كذلك الإمرباطور ّية العثمانية الإ�سالمية (الرجل املري�ض) ف�أ�صبحت ُمع ّراة من ممتلكاتها امل�ستعمرة ،وعادت �إىل حجمها الطبيعي «كدولة» ،كما تق ّرر فيما بعد م�صري الإمرباطور ّيات ال�شمول ّية املختلفة املتمثّلة بالفا�شية والناز ّية وال�شيوعية بالإمن�ساح من التاريخ �أو باال�ستمرار رات بداياتها يف حرب 1948الإ�سرائيلية امل�ؤقت� .أ ّما املرحلة الأربعينية امل�شرق ّية الثانية فكانت م�ؤ�شّ ُ جمدداً من حرب �أكتوبر �أو «الغفران» 1973بني العرب ّية مفتاح تاريخ املنطقة احلديث لتنطلق ّالعرب والإ�سرائيليني. ال�سنوات الأربعني الأخرية (:)2013 - 1973 التح ّوالت امل�رشقية يف ّ ّ
�إنَّ منطلق الأحداث يف امل�شرق العربي (مع عدم ن�سيان الثورة ال�سور ّية الكربى واحداث العراق وم�صر )...كان تركز فل�سطني كق�ضية مركزية للعرب احتلت معظمها احلركة ال�صهيونية وح ّولتها �إىل دولة �إ�سرائيلية ذبحت و�ش ّردت �سكا ّنها ،وما االنقالبات الع�سكرية التي ح�صلت (بالتواط�ؤ مع م�صالح دول غرب ّية) يف �سوريا وم�صر و�سواهما �سوى ا�ستغالل لهذه الق�ض ّية وحماوالت �إعادة ر ّد اعتبار خائب ب�شكل �أو ب�آخر �إىل �شعوب اجليو�ش العربية املهزومة. 25
وامت�صت ال�سرطانية التي َم َن َع ْت النم ّو يف هذه املنطقة ّ لقد كانت هذه الق�ض ّية كاحل ّبة الوح�ش ّية ّ وبتو�سع العد ّو دماء �شبابها ّ بحجة حترير فل�سطني قمي�ص عثمانها الذي انتهى غالباً بالف�شل ّ القمة عام 1967يف النكبة الثانية (ال النك�سة كما قال القائد الإ�سرائيلي الذي ال يهد�أ بحيث بل َغ ّ املرحوم عبد النا�صر) حيث �أكملت �إ�سرائيل احتالل كامل الرتاب الفل�سطيني بالإ�ضافة �إىل �سينا واجلوالن وبع�ض القرى اللبنانية. �إن احلركة ال�صهيونية هي يف �أذكى و�أخبث حركة عرفها التاريخ عرفت كيف ّ تنظم ومترحل حيث �أعلن ّ املنظر الكبري هرتزل« :بعد امل�ستقبل فكانت نبوءة م�ؤمتر بال (�سوي�سرا عام ُ )1897 ال�ساعات ال�سوي�سر ّية خم�سني عام َاً �ستكون قد ت�أ�س�ست دولة �إ�سرائيل» الكالم كان بدقّة �صناعة ّ وهذا ما ح�صل بالفعل .كما �أ�ضاف مبا معناه: كنت ح ّياً �آنذاك لأمرت مبحو كل ما هو �إ�سالمي �أو معاملي يف هذه البالد لكي تقطع عالقتها «لو ُ تتج�سد يهود ّية الدولة الإ�سرائيلية بالكامل ح�سب خمياله كل ّياً باملا�ضي الذي ال نريده و�أن ّ ال�صهيوين». ال�صهيونية: ُب ْع ُد نظر احلركة ّ
اكت�شفت هذه احلركة حم ّرك التاريخ املحوري وا�ستثمرت ُه �إىل �أبعد احلدود من حيث امل�سرى لقد ْ أهم امل�سيرّ للعامل �أال وهو املال ...فكما �أن ُه من املاء ُيخلقُ ّ حي َف ُه ْم ومن حيث العن�صر ال ّ كل �شي ٍء ّ من املال يخلقون ال�سيا�سة برجالها و�أنظمتها كما مل تن�سَ �أهم ّية العلم بالإ�ضافة �إىل العن�صر الأول الذي بف�ضل ِه ت�سيطر على مفا�صل العامل احليو ّية .وهذا ما ت�س ّنى لها ّ بكل جدارة وا�ستحقاق ،ففي يهودي يف فل�سطني واح ًة للح�ضارة الغرب ّية قومي ّ البداية اقنعت بريطانيا ب�إعالن وعدها �إن�شاء كيانٍ ّ و�سداً �أمام «الرببرية العربية الإ�سالمية» وذلك بعد �أن ف�شلت يف �أن ت�شرتي فل�سطني ّ بالذهب من ّ ال�سلطان العثماين عبد احلميد. بعد �أن �أ�صبحت دول ًة اعتمدت على فرن�سا ت�سليحاً و�سيا�س ًة فهي التي وف ّرت لها ما �أرادت ،زد نووي كي تتمكن يف ما بعد من احل�صول على القنبلة على ذلك م�ساهمتها الف ّعالة يف بنا ِء مفاعل ّ ت�ضمن دفاعاً ردعياً نوع ّياً �أمام الكرثة ِالعربية ِالكاثرة النووية و�صناعة مئات الر�ؤو�س الذر ّية كي َ عدد ّياً. زت اعتمادها �شبه الكامل على ظهر العمالق َ بعد حرب ال�سوي�س (العدوان الثالثي عام ّ )1956رك ْ الأمريكي مع عدم ن�سيان العمالق ال�سوفياتي الآخر الذي كانت قد زرعت يف �أو�ساط ِه القيادية أهم عنا�صر يهود ّييها ،كما يجد ُر �أ ّال نن�سى ا�ستغاللها لأملانيا بحجة التعوي�ضات العليا عنا�ص َر من � ِّ 26
حتوالت املجتمع والإن�سان
تزع ْم ،ودعم �أمريكا لها �شبه الأوتوماتيكي يف هذا املجال. عن «حمرقة ال�ستة ماليني يهودي» كما ُ ف�ضمنت �سالمتها غدت كحي ٍة ذات ر�أ�سني :الأمريكي والإ�سرائيلي ْ وال�سيا�س ُة الأمريكية ْ «التاريخية»!!... ممنو ٌع تغيري الو�ضع القائم (ال�ستاتيكو) والتغيري الدميقراطي (على الطريقة اجلزائرية):
ُ بعد �أن � َ أو�شك منذ حماولة حممد علي با�شا توحيد املنطقة بقيادة م�صر ووقوف الغرب يف وجه ِه َ امل�صري مذ ّي ًال ب�سينا. ابنه �إبراهيم با�شا على الو�صول �إىل العا�صمة �إ�سطمبول و�إعادت ِه �إىل املربع ّ كذلك ُ الع�شرين لتوحيد املنطقة بعد منت�صف القرن منذ املحاول ِة النا�صر ّية الرائدة التي بد� ْأت َ ْ وم�صريها امل�شابه ملحاولة حممد علي وهزميتها القا�صمة يف حرب حزيران ( 1967مروراً بانف�صال الوحدة عام 1961وحرب اليمن .)1962 �إنَّ حرب حزيران مل ّ بحرب من نوع ٍ ٍ �سـماها جديد ّ حتطم عبد النا�صر نهـائ ّياً فا�ست�أنفها ٍ عبقري ّ وم�ست �إ�سرائيل والتي ت ّوجها خلف ُه الرئي�س ال�سادات بـ «حرب «حرب اال�ستنزاف» التي ْ طالت ّ مت الغرور الإ�سرائيلي مما الغفران» �أكتوبر 1973التي وحج ْ اعادت االعتبار ن�سب ّياً �إىل م�صر ّ ْ فتح جما ًال �أما َم الواليات املتحدة لإيجاد ٍّ حتت املظ ّل ِة حل متوازنٍ ب َني البلدين ي�ضمن بقاءهما َ ُ َ ولكن الأمور مل ت�سِ ْر بالكامل كما �شا َء الأمريكيونَ . الأمريكيةْ ، الن�سبي يف احلرب على �أي ِة حال الحظ كي�سنجر الداهية وزير خارجية �أمريكا �أنَّ انت�صار العرب ّ عربي مده�ش �ستكون ل ُه مبني على ٍ ت�ضامن ٍّ وا�ستخدامهم النفط لأ ّول م ّرة ك�سالح ٍ يف املعركة ٍّ نتائج قد ال تحُ ْ َم ُد عقباها بالن�سب ِة لأمريكا وا�سرائيل والغرب يف امل�ستقبل ،فق ّر َر كي�سنجر تغيري املعادلة َ وذلك �أنَّ حروب امل�ستقبل يجب �أن تكونَ حروباً عربي ًة -عربية فكانت احلرب بني م�صر وليبيا وبني اجلزائر واملغرب بالوكالة عن طريق البولي�ساريو واحلرب �أو احلروب اليمن ّية -اليمن ّية ومن َّثم يجب �أن تبد�أ مرحلة �أخرى مذهب ّية حروب �سن ّية � -شيع ّية ،واللعب على جميع �أ�شكال التناق�ضات يف املنطقة التي ت ّوجتها العبقرية الأمريكية بنظرية «ال�شرق الأو�سط اجلديد» والذي وب�شكل �آخر عن طريق مل ت�ستطع حتقيق ُه دفع ًة واحد ًة وب�سرعة .ف�أرادت الو�صول �إليه بالتق�سيط ٍ والدول معممة عنيفة �إىل �أق�صى احلدودّ ، الفو�ضى اخلالقة التي ّفجرت ُعق َْد املنطقة ،فالفو�ضى ّ �أخذت تتنا�سل دو ًال َ ناهيك عن احلروب الأهل ّية التي ح�صلت يف لبنان والعراق و�سور ّيا وال�سودان والفل�سطينية -الفل�سطينية (الفتحية -احلما�سية) �أ ّما حماولة مقاربة الدميقراطية التي حاولتها ذهب �ضحيتها مئات الآالف ،ذلك �أ ّن ُه ممنوع �أن تكون دميقراطية على اجلزائر فانتهت ٍ بحرب �أهل ّية َ الطريقة اجلزائرية ،كما قال ميرتان رئي�س جمهورية فرن�سا الأ�سبق. 27
مهمة تهويد الدولة الإ�سرائيلية ويف حال ح�صول قيام الدول املذهبية كما هو الآن فهذا �سي�سهل ّ التي �ست�سمح لها بطرد العرب املقيمني فيها م�سلمني وم�سيحيني الذين يتجاوز عددهم املليون ون�صف املليون وكذلك غري اليهود الذين ت�س ّللوا �إىل داخل الدولة الإ�سرائيلية. ِ مبعظمه؟ كيفَ اخلروج من املحن التي تغطّ ي العامل العربي
لقد � َ فالدولة العربية يف طريقها �إىل الدويالت يرتحمون على معاهدة �سايك�س -بيكوّ . أخذ كثريون ّ وال ُع�صَ ب ال بلْ �إىل الزوال .والدول الإقليمية الكربى املجاورة يف مث ُلثها غري املت�ساوي الأ�ضالع متتد خراطيمها احلا ّدة ،والعرب يف معام َع مبنتهى الوح�ش ّية والهمج ّية فيما بل املت�ساوي النيات ُّ بينهم تتجاو ُز ْ اخليال ،واجلامع ُة العربية بدت الرجل املري�ض اجلديد (دون ممتلكات) �سوى القرارات الفارغة والبيانات اخلاوية. وحدوي رازح ٌة الآن يف حال ٍة ال تحُ ْ�سَ ُد عليها وال ُتب�شِ ُر باخلري �إنَّ م�صر القلب وحجر الزاوية ل ّأي بنا ٍء ّ يف القريب العاجل. �إنَّ على قيادتها ومثقفيها اجرتاع املعجزات لإعادة تثبيت البو�صلة وتركيز الثوابت من جديد. مهدد ًة � ُ بعد م�شروع «�سد النه�ضة» يف �أثيوبيا ،كما �أنَّ متوت عط�شاً َ لقد �أ�صبحت ّ أر�ض الكنان ِة ب�أنْ َ بالدور املطلوب منها لتقومي اعوجاجات الأو�ضاع على املفكرين العرب والأحزاب العربية �أنْ تقو َم ّ غري الطبيعية التي نعي�شُ ها. ويوحدهم .هذ ِه الثقافة نك ّرر :تبقى الثقاف ُة هي الأملْ الوحيد الذي يجم ُع �أبناء الأ ّمة العربية ّ التي �أداتها اللغ ُة العربي ُة ال�سامية لغ ُة ال�شعر والرواية والفل�سفة والتاريخ واجلغرافيا وعلم االجتماع وال�سينما وامل�سرح والأغنية وال ّر�سم... ٍ لفتوحات جديدة هي فتوح احلدود فيما بينها .هذ ِه الفتوح التي تتك ّون من �إنَّ هذ ِه املنطقة ظامئ ٌة بعربي املهجر م�سلماً كانَ �أو م�سيح ّياً. بعربي �آ�سيا ّ عربي �إفريقيا ّ نوع ٍ �آخر اللتقاء ّ ما�س ٍة �إليهما يف هذ ِه املرحل ِة �إنَّ ات�ساع الر�ؤيا وحر ّية العبارة هما الو�سيلتان اللتان ُ نحن بحاج ٍة ّ غرب و�صهيوني ٍة ال يقيمانِ لل�سوى ح ّقاً مثقال بالذات التي ُت ِّ هد ُد م�صرينا ووجودنا �س ّيما �أننا �أما َم ٍ ذر ٍة �إ ّال يف الن�صو�ص التي ُت�ض ّج باخلوا ِء والرياح ،خ�صو�صاً �إذا ما كانَ من العامل الثالث من العرب امل�سلمني وامل�سلمني ب�شكل خا�ص... بعد هزميتهم ال�ساحقة يف احلرب العاملية الثانية مل يكونوا يبكون وينوحون على الأر�صفة �إنَّ الأملان َ عيد بناء �أملانيا من جديد و�سنجعلها �أف�ضل مما كانت .وهذا ويف الزوايا بلْ كانوا �صوتاً واحداً� :س ُن ْ 28
حتوالت املجتمع والإن�سان
ما كان .ف�أملانيا اليوم هي البلد الذي انت�صر يف حرب االقت�صاد ال عن طريق الدبابات والطائرات، ال�سيا�سي االقت�صادي أهم والأغنى والأقوى والبلد الذي يقود �أوروبا بالفعل ّ وهي اليوم البلد ال ّ ّ الع�سكري. القووي ولي�سَ بالفعل ّ ّ العربي قال« :اطلبوا العلم ولو يف ال�صني» .فلماذا ال نتع ّلم من قار ٍة جار ٍة لقارتنا ن�ستطي ُع فالر�سول ّ ال َ ٍ �ساعات من �ضف ٍة �إىل �أخرى. إنتقال �إليها يف هجانة النظرية ال�سيا�سية العربية �أو النظام املفقود:
لقد انقط َع العرب �سيا�س ّياً عن ما�ضيهم امل�ضيء ّمد َة � ِ ألف �سن ٍة على الأقل ،ودخلوا بتقليد النظام االجتماعي يف ٍ بلد ما .فهم ال�سيا�سي الغربي الذي مل ي�ستوعبوه لأنَّ النظرية ال�سيا�سية �إبنة الواقع ّ ّ ّ ّ كانوا يقلدون ب�شكل غري مدرو�س النظام امللكي الذي ال يعرف ُه بلْ يرف�ض ُه الإ�سالم �إىل النظام اجلمهوري الذي مل يفهموه ،والدميقراطية واال�شرتاك ّية والقومية التي مل يح�سنوا ال فهمها وال تطبيقها. عم اال�ستبداد والف�ساد الديني والع�سكري قامت االنقالبات والثورات واخذت تتقاط ُع َ بعد �أنْ َّ عبث ّياً املفاهيم فالقائد الأب يريد �أن يو ّرث ال�سلطة لوريث ِه االبن كما َ ح�صل يف �سوريا مع الرئي�س حافظ الأ�سد وكما � َ �صدام ح�سني ويف م�صر مع الرئي�س أو�شك ح�صول ُه يف العراق مع الرئي�س ّ َ وكذلك يف اليمن مع الرئي�س علي عبد اهلل �صالح معمر القذايف ح�سني مبارك ويف ليبيا مع القائد ّ العربي امللكج ّية( :امللك ّية اجلمهورية) .هذ ِه ال�سـيا�سي ا�ستولد ا�صطالحاً جديداً يف العلم ّمما َ ّ ّ القيامات والثورات (الربيع العربي املجه�ض) كذلك م�شكلة الأحزاب كظاهرة غرب ّية مل يه�ضموها نحن ح ّتى الآن يف بالدنا. فكر ّياً لأ ّنها كانت نتيجة الثورة ال�صناعية يف �أوروبا التي مل نعرفها ُ كيفَ ميكننا �أن ُنحيل امل�ستحيل �إىل ممكن؟
قال نابوليون ُ منذ مئتي عام يف ع ّز ملحمتهِ« :امل�ستحيل لي�سَ فرن�س ّياً» ونابوليون بالنتيجة هز َم فرن�سا ح�صدت �أكرث من �ستمئة �ألف �ضد رو�سيا التي َ وح�صد �أكرث من جيل من �أجيالها �س ّيما يف حملت ِه َّ ْ ُ حمارب �أي عدد اجلي�ش الفرن�سي حال ّياً م�ضروباً باثنني ...وكانَ امل�ستحيل م�ستحي ًال عا�صياً على نابوليون كما كان عا�صياً على هتلر و�سواهما. نحن بدورنا ن�ستطيع القول :امل�ستحيل لي�سَ عرب ّياً .ملاذا؟ لأنّ ملياراً ون�صف املليار من النا�س بلْ ُ َ �أكرث ما زالوا ي�صرخون فجراً« :اهلل �أكرب» �أي �أكرث من خم�سة �أ�ضعاف �أعداد العرب ناهيك عن 29
�أندوني�سيا التي عدد �سكانها وحدها ي�ضاهي عدد �سكان العامل العربي التي دخلها الإ�سالم عن طريق احلرف ال ال�سيف .فماذا يعني هذا؟ يعني هذا بكل ب�ساطة �أنَّ احل�ضارة العربية ا�ستهواها وا�ست�ساغها النا�س واعتنقوا كتابها خال�صة الكتابني القدمي واجلديد. �إ ّننا ال ن�ستطيع �أن نتجاهل احلداث َة روح الع�صر ويف الوقت نف�سه نتجاهل تراثنا وتاريخنا الدينيني. وعمرت وال تزال ملفت الأب�صار والأفئدة ويف الوقت نف�سه ال ُنط ّبق «نظرية بنينا ح�ضارة مت ّيزت ّ اهلل»« :الإن�سان �صورت ُه على الأر�ض» كيفما كان لون ُه و�شكل ُه ومكان ُه ومن هنا يجب �أن ن�ؤ�سِ �سَ مفهوماً د�ستور ّياً ح�ضارياً متم ّيزاً على �صعيد املنطقة والعامل مقتدين بالتجربة اليابانية والهندية وب�شكل من الأ�شكال التجربة ال�سوي�سرية. ٍ �إنَّ ما يح�صل يف املو�صل وحم�ص بخ�صو�ص امل�سيحيني �إخواننا الأعرق والأقدم يف الوطن يندى ل ُه اجلبني ي�ستلز ُم ر َّد الفعل املبا�شر والأعنف لأ ّن ُه لي�سَ للإ�سالم ب ِه عالقة على الإطالق �إ ّنها الدين» والإ�سالم قبل ّ كل �شيء�« :إقر�أ» مبعنى �إعلم مرحل ٌة خطري ٌة جداً فالإ�سالم« :ال �إكرا َه يف ّ وتع ّلم وخذ العربة» .فالأنبياء ُر ٌ النف�ض النا�س من حولهم. �سل دمثو الأخالق قريبونَ للنفو�س و�إ ّال َّ علينا �أن نبد�أ من املمكن مهما كانَ �ضعيفاً و� ُ أول عتب ٍة فيه يجب عقد اجتماع للجامعة العربية علـى عربي جديد يقت�ضي عالتهـا ِّ ل�سن «حقوق الإن�سان العربي» كما ّد ٍة �أوىل من تعاقد �أو من د�ستو ٍر ٍّ أمات اخلليق َة ك ّلها ومن �أحياه احرتام املواطن العربي ك�إن�سان ،فالإن�سانُ كما ذك َر القر�آن َم ْن �أمات ُه � َ قتل نف�ساً بغري نف�س �أو ف�سا ٍد يف الأر�ض فك�أمنا َ كمن �أحيا اخلليق َة ك ّلها« .من َ قتل النا�سَ جميعاً ْ ومن �أحياها فك�أمنا �أحيا النا�س جميعاً». ٍ ِ جدران كزينة على فكيفَ له�ؤالء الأوبا�ش بقطع ِر�ؤو�س الآخرين وتعليقها مكاتبهم؟
�إنَّ اجلامعة يجب �أن تخ ُل َق حمكم َة عدلٍ عربية مق ّرها القاهرة .فال ميكن نقع النا�س كعلب ال�سردين �شهوراً و�سنني دونَ حماكمة بلْ اعتبارهم موا َّد خمتربات تعذيبية. تدخل �سريع مهمتها تخلي�ص الأرواح َ قبل �إزهاقها يف الدول على اجلامع ِة العربية �أن تن�شئ قوات ّ بعد موافقة الدولة املعنية. املعنية وذلك طبعاً َ وتن�ص د�ستوراً فدرالياً �إنَّ اجلامعة يجب �أن تبد�أ كجامع ٍة جديدة ولو بع�ضوين فقط كم�صر وتون�س ّ بعد توقيعها اجلديد وان�ضمامها �إىل اجلامعة. لكل الدول العربية تتقيد ب ِه الدول َ
30
حتوالت املجتمع والإن�سان
على اجلامع ِة �أن ت�ستعني بجمعية الأمم املتحدة وجمل�س الأمن تي�سرياً لتطبيق قوانينها التي غايتها احرتام الإن�سان العربي وكرامته. كما على اجلامعة �أنْ ُت�صيغ قانون حماية الطفولة َ وذلك مبنع جتيي�ش الأطفال يف اجليو�ش العربية أ�شد. حتت طائلة العقاب ال ّ �إنَّ على العرب �أن يبد�أوا حتى ولو من ال�صفر َ بدل �أن يظلوا يف �أو�ضاع ٍمهلهل ٍة لن جت ُل َب لهم �سوى والدمار والإفقار واملر�ض ورمبا الإمحّ اء. اخلراب ّ الوطن جزراً قاحل ًة ماحل ًة ما�ؤها ال ّر ُ مال و�آفاقها املتاهات التم�ساح ّي ُة الفاغر ُة ورياحها �صبح ُ عندما ُي ُ َ عندئذ ب�إ�سم َ ماح ف�س ّبح ٍ ُ أكرهت الآخرين ربك الذي قال� :إقر�أ ومل تقر�أ... ولكنك � َ ال�سيوف وال ّر ُ وذبحت من ال ُيطي ُع �صاغرين فال َ وال�سالم ْلن الدين يف ّ َ حول وال ق ّو َة �أخرياً �إ ّال باهلل الع ّلي العظيم ّ ُيخ ّي َم �أخرياً �إ ّال مع من �إ ّتبع الهدى وال�ضمري.
31
حتوالت املجتمع وا لإن�سان
طي أدبية لل�شرّ ق ّ قراءات يف ال ّتح ّوالت ال ّ املتو�س ّ
ل�ؤي زيتوين -باحث و�أكادميي
واالقت�صادي ،كانت يا�سي ّ �أربعون عاماً حافلة بالأحداث ال ّتاريخ ّية وامل�صري ّية على امل�ستوى ّ ال�س ّ م�ؤثّر ًة يف تغيري م�سار ال ّتاريخ ودفعه نحو تق ّل ٍ بات مل تكن يف احل�سبان� .إ ّال �أنّ هذه ال ّتق ّلبات مل أدبي تقف عن احلدود ّ ال�سيا�س ّية واالقت�صاد ّية فح�سب ،بل �شملت �أحداثاً على امل�ستوى الثّقا ّيف ال ّ وامل�شرقي منه على وجه اخل�صو�ص .تق ّلبات مل تكن ذات اجتا ٍه واحد ،بل ب�أوج ٍه متن ّوع ٍة، بعا ّمة، ّ ب�شكل دقيق ،كما �أنّ منها ما وربمّ ا بوجهات متناق�ضة؛ ونظراً لكثافتها ،ال ميكن ح�صرها وحتديدها ٍ زمني معينّ .ومع ذلك ،ميكننا قراءة تلك ال ّتح ّوالت داخل امل�شهد كان �أثره حمدوداً �أو مق ّيداً ب�إطا ٍر ٍّ جلي. أدبي يف امل�شرق ّ طي ،على نح ٍو ّ املتو�س ّ ال ّ وال�ستينيات من القرن املا�ضي ،على يد جمموعة بعد ال ّتط ّورات التي �شهدها ال�شّ عر يف اخلم�سينيات ّ اخلا�صة به ،يف جم ّلة «�شعر» يف بريوت ٍ خا�ص ،وال ّتغيري الذي طر�أ على املفاهيم املحور ّية ّ ب�شكل ّ ال�سبعينيات ليكملوا مرحلة ال ّتجريب تلك، �ضوء عملية ال ّتجريب التي �شرعوا فيها؛ ظهر �شعراء ّ ال�سياق نقع على جتارب مم ّيز ٍة مع االلتزام بجعل الإيقاع بعداً تعبري ّياً داخل الق�صيدة .ويف هذا ّ تفيد من منوذج ق�صيدة ال ّنرث وتعمل على تطويره ،كما ّ الوجودي وطرح الأ�سئلة تركز على املنحى ّ الكيان ّية يف حياة االن�سان وم�صريه .فمن الق�صائد ما �أخذ يطرح موا�ضيع تتع ّلق بوجود الإن�سان الطابع ال ّتفا�ؤيل ّ حمددة ،وتراوحت بني ّ ٍ ؤمي؛ �إ�ضاف ًة �إىل ب�شكل عا ّم� ،أو يف حاالت ّ ٍ والطابع ال ّت�شا� ّ ا�ستمرار الق�صائد املعبرّ ة عن امل�س�ألة الفل�سطين ّية .وال ّبد من الإ�شارة �إىل تعايل الأ�صوات التي تنتف�ض على ال ّرومان�س ّية القوم ّية التي �سادت على مدى ما يفوق العقدين. من ناحي ٍة �أخرى ،نقع على ّ حمطات �شعر ّية مف�صل ّية يف تاريخ الق�صيدة العرب ّية تتواءم مع الأحداث التار ّيخ ّية التي م ّرت بها الأ ّمة .ومن هذا املنطلق نرى مناذج من مثل ق�صيدة «خطاب يف �سوق البطالة» ل�سميح القا�سم التي ولدت يف �ضوء العمل ّية ال ّنوع ّية التي قامت بها جمموعة دالل املغربي ويحيى �سكاف يف عمق الأرا�ضي املحت ّلة عام ،1978وقد ّ �شكلت مف�ص ًال يف �شعر املقاومة، �شددت على الفعل املقاوم فح�سب ،بل لقدرتها على املواءمة بني لهجتها اخلطاب ّية لي�س لكونها ّ وحتديها لعمل ّيات وبني لغتها الإيحائ ّية ال ّرمز ّية ،وذلك من خالل خماطبتها لـ «عد ّو ال�شّ م�س» ّ 33
اخلنق التي مار�سها ّ الفل�سطيني ،وانتهائها بحال قيام ّي ٍة تتج ّلى يف جت�سيد �ضد املحتل ال إ�سرائيلي ّ ّ ّ حتم ّية العودة بف�ضل الإ�صرار على املقاومة. وال نن�سى يف هذا املجال ذكر ق�صائد احل�صار التي ولدت يف �ضوء احل�صار الذي �شهدته بريوت عام � 1982إ ّبان االجتياح ،مع �أدوني�س يف «كتاب احل�صار» �أو حممود دروي�ش يف ق�صيدة «مديح ّ الظل العايل»� ،أو نذير العظمة يف ق�صائد احل�صار .وفيها نقد الذع للواقع «العربي» الذي �أ�سهم يف ي�سمى بالهو ّية ال�سقوط الكيا ّ ين ،ح ّتى �أنّ «كتاب احل�صار» و�صل �إىل ّ حد ال ّتلميح ب�إنكار ما ّ عمل ّية ّ ال�سقوط املتجل ّية يف ذلك االجتياح �أ ّدت �إىل احتدام ال�سياق �إىل �أنّ حال ّ العرب ّية .ون�شري يف هذا ّ حد مل�سرية حياته بيده ،لأنّ ال�صراع النف�سي لدى ال�شّ اعر خليل حاوي ،ما �أو�صله �إىل و�ضع ٍّ ّ ّ االنبعاثي مل تطق �أن ترى انهياراً على هذا امل�ستوى. روح ّيته التي امتلأت بالفعل ّ احلد ،بل �أخذت تتبلور اجتاهات تتع ّلق بتجربة على �أنّ ال ّتح ّوالت ال�شّ عر ّية مل تقف عند هذا ّ املقاومة ال ّلبنان ّية وما �أنتجته من عمل ّي ٍات ا�ست�شهاد ّي ٍة ونوع ّية �أف�ضت �إىل �شع ٍر مت�أ ّث ٍر بتلك العمل ّيات التي ا ّتخذت بعداً قيام ّياً تكفي الإ�شارة فيه �إىل الق�صائد التي ُكتبت عن ال�شّ هيدة �سناء حميديل، ال�صورة ال�شّ عر ّية� ،إذ �أذكر منها ق�صيدة لل�شّ اعر ع�صام العري�ضي� ،أحدثت تغيرياً يف طبيعة تركيب ّ جعلت من ال�شّ م�س تتخ ّلى عن ا�سمها واختارت ا�سم �سناء لأ ّنه «�أجمل الأ�سماء ا�سم ل�صب ّية، علمت العامل در�ساً يف الفداء ،جاء يف حجم الق�ض ّية». ّ وال ّبد من ال ّتنويه �إىل �أنّ ال ّتجارب ال�شّ عر ّية لكبار ال�شّ عراء ا�ستم ّرت يف ال ّتط ّور .لك ّننا نقع ،يف �شعري جد ٍّيل �أنتجه �أدوني�س حتت عنوان «الكتاب :اخلطاب ،احلجاب»، منوذج ٍّ هذا املجال ،على ٍ ابتدا ًء من ت�سعينيات القرن املا�ضي .وجدل ّية هذا العمل �أتت من طبيعة ال�شّ كل الذي تو ّزع على كل م�سار ميثّل �صوتاً �أو موقفاً ال�سريي وال ّلغة ال�شّ عر ّية� ،إذ كان ّ ثالثة م�سارات ودمج بني الإطار ّ نحو ٍ العربي حدث معينّ .كذلك نرى جدل ّيته يف القراءة اجلديدة التي ُو ِّجهت للترّ اث ّ يني ّ الد ّ إ�سالمي ،ال �س ّيما ما يتع ّلق بامل�س ّلمات فيه ،وهو الأمر الذي �أحدث �صراعاً وهجومات على وال ّ ال�شّ اعر و�أفكاره. على ٍ �صعيد �آخر ،جند �أنّ ال ّرواية �أخذت تربز تط ّورات مت�سارعة على �صعيد الأ�سلوب والأفكار على حد �سواء ،وهي ارتبطت مبو�ضوعات تتع ّلق ب�صراعات الإن�سان الوجود ّية على خمتلف امل�ستويات. ٍّ منها �صراع ّ القروي كما نرى يف روايات �إميلي ن�صر اهلل على �سبيل املديني وامل ّتحد الذات امل ّتحد ّ ّ املثال .كذلك �صراعها داخل االنق�سام ّ ال�صراعات بقي احلا ّد ،كما لدى زكر ّيا تامر� .إ�ضاف ًة �إىل ّ الط ّ التي ن�ش�أت يف �ضوء احلرب ال ّلبنان ّية واالحتالالت ،وهو ما نعرث عليه لدى حنان ال�شّ يخ يف رواية حرب عبث ّية، جت�سد حال الإن�سان داخل جمتمع متخلخل داخل ّياً وداخل ٍ ٍ «حكاية مرمي» التي ّ وحال املر�أة داخل املجتمع نف�سه� .أي�ضاً نراه فيه لدى �إميل حبيبي يف رواية «املت�شائل» التي تعالج الفل�سطيني اخلي حول م�س�ألة العمالة� ،إىل جانب احلال التي يعاين منها الإن�سان ال�صراع ّ ّ ّ الد ّ 34
حتوالت املجتمع والإن�سان
ال�صمود واملقاومة ،يف حتت االحتالل .وهذا من دون �أن نن�سى ال ّتجارب التي تدخل يف �إبرا ٍز حلال ّ ال�ضغوط والأخطار املتن ّوعة التي حتيط بتلك احلال �أو الإرادةّ ، ّ ولعل هذا ما ميكن �أن نقر�أه يف ظل ّ روايات �سحر خليفة ،والتي ُت ِّو َجت بثالث ّيتها ال ّروائ ّية «�أ�صل وف�صل ،ح ّبي الأ ّول ،و�أر�ض و�سماء». هنا ّنطلع على جمموعة من الأعمال التي �أحدثت �ص ًدى يف العامل العربي ،وتلفتنا هنا رواية «�شرق بال�سلطة يف ّ املتو�سط» لعبد ال ّرحمن منيف التي �أثارت الكثري من اجلدل حول عالقة املواطن ّ اجلذري بينها وبني املجتمعات الغرب ّية� ،إذ �أنّ عالقة الفرد الذي يبحث جمتمعاتنا ،وطبيعة الفارق ّ لكن هذه العالقة ت�ؤ ّدي �إىل الهجرة نحو الغرب، بال�سجن �أو املعتقلّ ، بال�سلطة تتمثّل ّ عن �إن�سان ّيته ّ الواقعي يف الوطن وبني �سجن الغربة يف بالد املهجر الغرب ّية .وهنا ال�سجن وهذا ما يو ّلد ّ ال�صراع بني ّ ّ ال�صراع كيفما كانت قاتلة. املتو�سط �سوداو ّياً ،لأنّ نتائج ّ يرى م�صري الإن�سان يف منطقة �شرق ّ ف�ض ًال عن ذلك ،نرى ال ّتجارب ال ّن�سائ ّية قد �أخذت بال ّتط ّور على نحو كبري وجريء يف هذه ال�سعداوي التي ّ �شكلت ال ّنموذج املرحلة .ولكن �أكتفي يف هذا املجال بالإ�شارة �إىل �أعمال نوال ّ العربي� ،إذ �أنّ هاج�سها يف حترير املر�أة �أو�صلها �إىل ال ّتج ّر�ؤ على انتقاد ال ّنظام الأكرث جر�أ ًة يف العامل ّ إ�سالمي ونق�ضه بالكامل .وعلى هذا الأ�سا�س �أثارت �أفكارها االجتماعي الذي و ّلده الفكر ال ّ ّ اجلريئة جدا ًال حا ّداً يف الأو�ساط الثّقاف ّية ،وح ّتى ال�شّ عب ّية. ال�سرد على ما �سبق ذكره ،فقد �أخذت ال ّتح ّوالت بال ّتبلور وال ميكننا �أن نق�صر التح ّوالت يف جمال ّ ال�سياق ،تربز واالرتقاء على م�ستوى طرح املو�ضوعات اجلديدة واملوحية يف الوقت نف�سه .ويف هذا ّ �أمامنا رواية «عزازيل» للكاتب يو�سف زيدان ،التي تربط �أحداثها مبرحل ٍة مل ُتط َرق يف الروايات إ�سالمي .وال نن�سى العربي ال ّ العرب ّية من قبل ،وب�إطا ٍر مل يكن من امل�ألوف ال ّنظر �إليه يف الترّ اث ّ الديني ع�صب ّ الإيحاءات ّ الدالل ّية التي ميكن �إ�سقاطها على الواقع املعا�صر من ناحية عوامل ال ّت ّ احلواري واملت�سامح. �ضد العلم واملنطق كفريي و�صراعه ّ ّ إلغائي ال ّت ّ وال ّتفكري ال ّ ومن املفيد يف هذا املجال الإ�شارة �إىل �أنّ ال ّتط ّور الذي بلغه الأدب يف بالدنا ،خالل هذه املرحلة، ب�شكل �أكرث عمقاً نحوه؛ وهذا ما يبدو من خالل االعرتاف بجودة هذا الأدب دفعت الغرب لل ّنظر ٍ �سمي ،وذلك مبنح جائزة نوبل لأول مرة �إىل �أديب يكتب بالعرب ّية ،و�أعني جنيب على امل�ستوى ال ّر ّ حمفوظ ،يف العام .1988كما �أنّ الكثري من اجلوائز العامل ّية ُمنحت لأ�سماء �شعراء وك ّتاب بال ّلغة املتو�سط للأعمال الأجنب ّية يف باري�س� ،أو جائزة غوته يف فرانكفورت، العرب ّية ،منها جائزة البحر ّ ومن الفائزين بهما نذكر ال�شّ اعر �أدوني�س� .إ�ضاف ًة �إىل �أنّ ال ّتط ّور الالفت للأدب املكتوب بالعرب ّية قد دفع بامل� ّؤ�س�سات الغرب ّية الكربى التي تعنى بهذا اجلانب والتي متنح جوائز للآداب املكتوبة بالإجنليز ّية �أو الفرن�س ّية �إىل تخ�صي�ص ن�سخ للأعمال العرب ّية �أو امل�شرق ّية ،ومنها جائزة البوكر املخ�ص�صة لل ّروايات املخ�ص�صة للرواية العرب ّية� ،أو جائزة غونكور ّ Goncourt Bookerالربيطان ّية ّ امل�شرقي. التي تعنى بال�شّ �أن ّ 35
امل�شرقي يف العقود الأربعة الأخرية قد �أخذ يتط ّور تقدم ،نالحظ �أنّ الأدب ا�ستناداً �إىل ما ّ ّ ونوعي ،وذلك على امل�ستوى الف ّن ّي �أو على م�ستوى اجلر�أة يف طرح املو�ضوعات. ٍ ب�شكل �سريع ّ املالحظ يف هذا املجال� ،أنّ هذا ال ّتط ّور دفع الأو�ساط الثّقاف ّية الغرب ّية لالعرتاف بجودة هذا ومن َ الأدب ،وتخ�صي�ص اجلوائز الق ّيمة له� .إ�ضاف ًة �إىل �أنّ هذا الأدب ت�أثّر بالأحداث التي طر�أت على املنطقة� ،إ ّال �أنّ هذا ال ّت�أثر مل يكن �سلب ّياً انعكا�س ّياً بل كان ر�ؤيو ّياً بامتياز لأ ّنه بينّ �أنّ الأدب مل يكن جم ّرد تعب ٍري �أو انعكا�س �إنمّ ا منارة .مع �ضرورة الإ�شارة �إىل �أنّ ما ّمت ذكره هنا ال ّ ال�ساحة يغطي ّ أدبي ال ميكن �أن تت�سع الثّقاف ّية الأدب ّية بالكامل ،وبال ّتايل ف�إنّ الكثري من الإجنازات على امل�ستوى ال ّ ال�سطور ،وحتتاج �إىل درا�سات �أو�سع. لها هذه ّ وبعيداً عن هذا وذاك ،ال ميكن �أن نغفل بقاء ال ّنظرات ال ّتقليد ّية املوروثة للأدب حا�ضر ًة على عبي ويف الأو�ساط ال ّتعليم ّية ،والتي بقيت تق�صر ال�شّ عر على مفهوم ال ّنظم الذي امل�ستوى ال�شّ ّ ّ املحدد جلودة ال�شّ عر� ،إىل وتي بو�صفه ّ يتحكم به الوزن والقافية ،والترّ كيز على جانب ال ّتوقيع ّ ال�ص ّ م�سك باملقوالت التي فر�ضها الكال�سيك ّيون بو�صفها منتهى الوعي بالأدبّ . ولعل هذا جانب ال ّت ّ من �أهم اجلوانب التي ّ حتدياً لأدبنا احلديث يف العقود املقبلة. ت�شكل ّ
36
حتوالت املجتمع وا لإن�سان
�إذا كان ثمة حت ّوالت فهي دائما ً م�رشقية فيفيان حنا ال�شويري� -أ�ستاذة الفنون والآثار يف اجلامعة اللبنانية
دائماً هو ال�شرق ،وامل�شرق القدمي حتديداً ،لأنه بب�ساطة مهد احل�ضارة واملنبع واملنهل ِّ لكل حت ّول جدير باالهتمام يطر�أ على م�سرية احل�ضارة وخا�صة على �صعيد التح ّوالت الكربى �أي الفكرية. كم من حت ّوالت عرفت الب�شرية ،ولكن هل التح ّول هو بال�ضرورة تط ّور �أم �أنه تقهقر وتدهور؟ والأهم ما هو م�صدر هذه التح ّوالت؟ قبل الإجابة ال ّبد من �أن نع ّرج �أو ًال على حتديد عبارة «حت ّول» من حيث كونها مفهوماً وتبيان بع�ض دالالتها ورمزية �أبعادها الدينية والعقدية لدى بع�ض ال�شعوب. «حت ّوالت» يف املفهوم واملعنى واملبنى
التح ّول ( )transformationهو جمموع املتغيرّ ات التي تطر�أ على بع�ض احليوانات خالل حياتهم ،كتح ّول احل�شرات من �شكل اىل �آخر (ال�شرنقة اىل فرا�شة مث ًال) .وباملعنى املجازي عند وتقم�ص وهو التغيري من �شكل اىل �شكل وم�ضاعفة كلية للمظهر اخلارجي� .أو ما الب�شرّ ، تبدل ّ والتبدل من حالة اىل حالة«( :فيحل عليك روح الرب فتتنب�أ معهم وتتح ّول يطر�أ من تغيرّ للطبع ّ جت�س َد الإله �أي اىل رجل �آخر»� ،صموئيل الأول .)8-5 :10ويف املعتقدات الدينية يعني التح ّو ُل ّ حت ّوله من احلالة الإلهية غري املنظورة وغري املح�سو�سة اىل احلالة الب�شرية باتخاذه �شكل الإن�سان، من هنا ت�سمية الفن الإغريقي الكال�سيكي (القرن اخلام�س ق.م ).بالفن الإن�ساين حيث متثلت �آلهة الأوملب وجت ّلت على هيئة الب�شر ،مقارنة مع الآلهة امل�صرية التي غلبت عليها ال�صورة احليوانية (العجل �أبي�س املقد�س) �أو الهجينية ن�صف ب�شري ون�صف حيواين (�أبو الهول) �أو الرافدية - ال�سورية (الن�سر املج ّنح) .وتغلب حت ّوالت الآلهة يف عدد من امليثولوجيات القدمية (حت ّول دافني اىل �شجرة غار �أو حت ّول زيو�س اىل طري �أو اتخاذه �شكل هالل ال�شم�س )...والتح ّول مبعنى التمظهر جت�سد الإله يف الديانة الهندو�سية ،التي تكرث فيها ّ والتقم�ص هو �سمة دينية �آ�سيوية �أ�سا�سية ويعني ّ الآلهة املتح ّولة ّ ولكل �إله عمل ي�أخذ خالله �صورة مع ّينة �أو متظهرات (� )Avatarألوهية متعددة (مث ًال التج�سد الرابع لفي�شنو �إله اخل�صوبة على هيئة �أ�سد� ،إذ يقلق في�شنو على الب�شر فينزل 37
لتفقد �أحوالهم من مدة اىل �أخرى) ،من هنا وجوب �أن يبقى الإله خف ّياً ،فيتخذ يف كل مرة هيئة يح�سن �شيئاً ما خمتلفة ما يجعله يف حالة تقم�ص م�ستدامة .وكل هذا التغيري بغاية �أن ي�ضاعف �أو ّ �أو يغيرّ جمرى �أحداث مع ّينة� ،إذ ال حت ّوالت من دون هدف .من هنا كان فريق من دعاة التحول ( )transformistesالذين يتب ّنون نظرية تقول �إن الكائنات احل ّية بخالف املعتقد ال�سائد من �أنها تتحدر ،من خالل عملية تطور ال منقطعة ،من منوذج �أو مناذج بدئية .وعليه، ثابتة وغري متح ّولةّ ، يبني الباحث ن�ش�أة الفكر وتطوره �إذ ال يعقل �أن ينبت الفكر فج�أة ومن دون �سوابق ،فالفكر ال ّبد و�أن يرتكز على �أ�سا�سات قدمية ت�شكل القاعدة التي عليها ي�ستند ومنها ي�ستمد جذوره. امل�رشق ،امل�صدر الأول للفكر
�إن كل الدرا�سات الأثرية ب ّينت �أن مهد احل�ضارة هو امل�شرق القدمي (�سوريا وبالد ما بني النهرين وم�صر) وي�ضيء عدد من العلماء (�أبرزهم �صموئيل كرامر« ،احل�ضارة بد�أت من �سومر») على ال�صناعات واالبتكارات والتقنيات واملهارات التي ابتدعها امل�شرقيون والتي ال جمال لتف�صيلها يف بحثنا هذا الذي ح�صرناه بالتحول الفكري يف م�سرية احل�ضارة .ناهيك عن تطور العمارة والهند�سة والفنون والتجارة ،وكلها ناجتة عن كل التقدم الذي حققه الإن�سان الذي �سمي العاقل العاقل ( )Homo Sapiens Sapiensوهو �آخر حت ّول للعقل الب�شري اىل يومنا ،ومرد تطور هذا الكائن اخلالق هو ا�ستيطانه وا�ستقراره يف املنطقة املعتدلة الو�سيطة �أو امل�شرق ،حيث �ساهمت الظروف املناخية املعتدلة والزراعة وهي �أهم مرحلة انتقالية ،يف رقي الفكر لديه واالنتقال من حالة ت�أمني احلاجيات املعي�شية ال�ضرورية والأ�سا�سية �إىل الإنتاج العقلي واملعريف اخلالق ،بفعل اال�ستقرار. ال �شك يف �أن التح ّول الأكرب يف تاريخ الإن�سانية هو االنتقال من مرحلة ما قبل التاريخ �إىل مرحلة التاريخ وتتخللهما مرحلة ما قبيل التاريخ (ع�صر الربونز من 3500-5000ق.م ).هذا االنتقال الذي مت بف�ضل اخرتاع الكتابة ،هو التح ّول الأ�ضخم يف م�سرية الإن�سان الفكرية ،ما خ ّوله دخول التاريخ بوا�سطة التدوين .فح�صل حت ّول جذري من ظلمة اىل نور وكان ال�شرق م�صدره فال�شم�س تنبعث من ال�شرق .والتح ّول الأبرز هو ت�سطري ،مبعنى ّ �سطر �أي كتب ،الفل�سفة والتي تخت�صر كل الفكر الإن�ساين الذي جت ّلى �إبداعاً باكراً جداً يف امل�شرق القدمي ،عرفنا منه ،ولعله لي�س الأقدم ولكنه �أقدم ما و�صلنا مد ّوناً ،فك َر جلجام�ش منذ مراحل �سومر ،مروراً ب�أكد وبابل و�صو ًال اىل �أ�شور� -سوريا ويعد �شاهداً على الوعي الفكري للم�شرقي من خالل ت�سا�ؤله عن الوجود بالد ال�شم�س امل�شرقةّ ، واخللود وهما هاج�سا الإن�سان �أبداً .هذا الفكر الذي �سوف ي�ستمر �صعوداً ورقياً مطرداًّ ، ي�شكل مراحل انتقالية غيرّ ت وجه التاريخ مراراً وتكراراً ،علماً �أنها تنهل من املعني امل�شرقي نف�سه الذي 38
حتوالت املجتمع والإن�سان
ال ين�ضب .و�أبرز هذه التح ّوالت الفكرية كانت مع �أدوني�س وفكرة البعث ،فال�سيد امل�سيح وفكرة القيامة واحلرية فالنبي حممد وت�أ�سي�س الدولة (تراجع بهذا ال�صدد درا�سة مم ّيزة للدكتور عاطف خليل احلكيم ،بعنوان «بريوت ،طائر الفينيق والتنني» ،درا�سة يف الفكر الديني القدمي ،يف �إطار «بريوت عا�صمة عاملية للكتاب ،بالتعاون مع وزارة الثقافة وحلقة احلوار الثقايف ،بريوت� ،2009 ،ص � .)326-277إذن ،جذور هذه التح ّوالت م�شرقية واحدة و�أهدافها م�شرقية واحدة وال تتمايز اال باللغة التي حكيت بها وبالكتابة التي د ّونت فيها فقط ،وكلها لهجات للغة م�شرقية واحدة ،و�أقالم متنوعة لكتابة م�شرقية واحدة ،حت ّولت لأ�شكال خمتلفة عرب الأزمنة ،غري �أن ما يجمعها �أنها نقلت كلها فكراً م�شرقياً واحداً يت�سامى ويرتقي با�ستمرار. �أبرز التح ّوالت ذات امل�صدر امل�رشقي -ال�سوري
حملت «�أوروبا» فكر �سوريا اىل الغرب فتن ّور وحمل ا�سمها وحت ّول من جمرد جغرافية اىل تاريخ. وحمل «قدمو�س» لغة �سوريا وكتابتها اىل الغرب فط ّوب بط ًال وحت ّول الغرب من القبيلية اىل املدنية. وحملت �ألي�سار املدنية ال�سورية اىل الغرب فتح ّول من �شعوب متف ّرقة اىل دول نهجت نهج �سوريا التقدمي. غزا «الإ�سكندر املقدوين» ال�شرق فتعلم بنف�سه الإن�سانية والقيم والرفعة والع ّزة والإباء من �صور، ومل�س تالقي ال�شعوب وتعاي�شها و�أن َ« َج َع ْل َن ُاك ْم �شُ ُعوباً َو َق َبائ َِل ِل َت َعا َر ُفوا »...ف�أبى �إال �أن يتعارف ويتوا�صل فقتله �صحبه غدراً ،ويكفيه فخراً �أنه دفن يف بابل مع عظمائها قبل �أن ُي�س َرق جثمانه. حب وطنه و�أر�ضه وهويته اىل روما فتعلمت ال�شرف والعمل الع�سكري العملي حمل «حنا بعل» ّ ّ املنظم ،وكانت قد ن�ش�أت على الإرهاب والقتل والذبح والرتويع .جاء «يوليو�س قي�صر» اىل ال�شرق َفك ِر َه روما و�أبى �إال �أن ي�صبح م�صرياً وعلى نهجه �سار «�أنطونيو�س» الذي ع�شق بدوره ومت�صر ،فكانت النتيجة �أن ُقتل كل من الرجلني على يد الرومان �أخوانهم عقاباً م�صر وكليوباتره ّ على ت�ش ّرقهم .جاءت روما اىل ال�شرق يف حملة �إبادة عامة ،فعمدت اىل قتل الأطفال والتذبيح والتنكيل حتى ال يولد ل�سوريا من بعدها قائد ،فما كان �إال �أن تر ّبع فكره يف عقر دارها وملا يزل اىل اليوم :لقد حملت روما امل�سيح على ال�صليب ،فقتلته �أخرياً �شاباً بعد �أن بحثت عنه جاهدة طف ًال، خ�شية �أن يقوم بثورته �ضدها ،لكنها ف�شلت وما ا�ستطاعت النيل منه �إال بعد ان ن�شر فكره الذي �ش ّع كما ي�شع نور ال�شم�س امل�شرقية ،وانت�صر فكر ي�سوع ال�سوري على الغرب كله وما زال ملكاً عليه ويعد فكره من �أعظم التح ّوالت قاطبة. بال منازع وقد ح ّول جمرى التاريخ مل�صلحة �سوريا بالدهّ ، وما ا�ستطاعت روما �أن تقوم لها قيامة �إال بعد �أن �أتى الإمرباطور ق�سطنطني الكبري اىل ال�شرق و�أ�س�س الق�سطنطينية عا�صمة روما ال�شرقية واعتمد امل�سيحية ديناً ر�سمياً حتى يتمكن من �إخماد 39
الثورة ال�سورية بوجه روما ،على قاعدة «وداوين بالتي كانت هي الداء» .وما برحت روما قابعة يف امل�شرق ّ تنكل وتقتل لإخماد نور ي�شوع /ي�سوع ،ظ ّناً منها �أنه �سيخمد ويهمد؛ وما برحت ثورة حممد رافعاً لواء ال�سيد امل�سيح عالياً ُوغلبت امل�سيح ت�شع وت�ستعر يف كل �أنحاء امل�شرق حتى برز ٌ الروم يف �أقا�صي الأر�ض ،فكان الإ�سالم التح ّول الأكرب بعد �ستمئة �سنة على جرمية الغرب بحق فكر ال�شرق وقادته ،ومل يكتف العرب ال�سوريون بهزمية روما ،بل �أعادوا �أجماد اجدادهم وعادوا اىل الغرب وكانت البوابة عرب الأندل�س وكان التح ّول الكبري من جديد حت ّو ًال نورانياً علمياً فكرياً �ش ّعت �أنواره يف كل �أوروبا و�سما بها اىل �أرقى درجات العلم واملعرفة .هكذا كانت املبادلة مع �إجرام الغرب :حمبة وعلماً ومعرفة م�شرقية. ثم قدم الإفرجنة اىل امل�شرق ينكلون ويحرقون ويذبحون ويد ّمرون وي�سرقون وينهبون كعادتهم مدججني علماً ولغة ومعرفة وكان التح ّول الكبري يف القر�صنية املت�أ�صلة فيهم� ،إال �أنهم خرجوا ّ بالدهم حني اعتمدت علوم ال�سريان والعرب يف معاهد الغرب املتجددة ويف دور علمه والتي من دونها لظل الغرب ن�سياً من�سياً .وجاء الترت واملغول و�سكان القفار اىل امل�شرق واكملوا ما بد�أه الغرب� ،إال �أنهم ما لبثوا �أن حت ّولوا اىل حمطة تاريخية بعد �أن كانوا نكرة يف التاريخ� ،إذ ما فتئت �سوريا حت ّول الرعاع اىل ب�شر ،فين�صهرون يف ن�سيجها و�إال يرحلون حاملني لغتها وفكرها ودينها وعلومها و�أخالقها. وكذلك فتحت بالطات العرب الغنية �صدورها للأعاجم من فر�س وترك ومماليك وبرحابة �صدر عاملتهم باملثل �إن�سانياً على قاعدة «ال ف�ضل لعربي على �أعجمي �إال بالتقوى» ،فكان التح ّول الأخطر يف تاريخ امل�شرق الذي مل يعد من وقتها م�شرقاً بل َغ َر َب وتغ ّرب اىل غري رجعة ،بعد �أن انتهك الأعاجم ح�سن املكرمة وا�ستولوا على ممالك �أ�سيادهم وما برحوا اىل اليوم ينتهكون حلم ال�شرق وامل�شرقيني .ا�ستوىل حممد الفاحت العثماين على الق�سطنطينية فهاجر امل�شرقيون لي�شعوا يف الغرب نه�ضة وتيارات �إن�سانية هي �أكرث ما �ساهمت يف بناء �أوروبا احلديثة ،يف حني بد�أت باملقابل �شم�س امل�شرق بالأفول ،بعد �أن ٌهزم �آخر �أمراء �سوريا القادة يف «مرج دابق» العام ،1516فحمل هزميتها اىل الغرب ومل يحمل �شيئاً �أخر ،فكان التح ّول الأغرب! �إذ عاد فخر الدين من تو�سكانا ومعه �أ�صناف من الأ�شجار كدليل على جفاف ويبا�س �سوريا اىل الأبد وهذه الأر�ض القاحلة املد ّمرة ما زلنا جن ّر ذيول اخليبة التي �أ�صابتها حتى بارت وبرنا معها اىل اللحظة. وا�ستوىل العثمانيون على ال�شرق و�ش ّرعوا �أبوابه وا�سعة �أمام الغرب ،وبد�أت تتواىل غزوات الإفرجنة الواحدة تلو الأخرى من نابليون اىل احللفاء اىل ال�صهاينة اىل الترت اجلدد الذين عاثوا خراباً ونهباً وتقتي ًال اىل الآن .وتوالت املجازر الإبادية بحق امل�شرقيني الواحدة تلو االخرى وال جمال للتح ّوالت الإيجابية خاللها بل كل التح ّوالت كانت �سلبية ،و�سببها �أن ما حمله ال�شرق يف �آخر مرة قبل �أفول �شم�سه اىل الغرب كان الهزمية ،فلم تعد ت�سطع �شم�س ال�شرق يف الغرب بتاتاً 40
حتوالت املجتمع والإن�سان
رغم حماوالت البع�ض مثل جربان خليل جربان والرابطة القلمية ،لكنها مبادرات فردية ال فعل حقيقياً لها وال تفي بالتعوي�ض عن حالة الت�شرذم واالنق�سام الذي تعي�شه الأمة العربية �أبداً ب�سبب تق�سيمها اىل جزئيات و�أقليات عرقية وطائفية ومذهبية وت�أويلية وتف�سريية مت�ضاربة ومتناحرة وويل لأمة كرثت طوائفهاٌّ ... وكل ينادي �أنا �أمة! وبعملية ح�سابية ب�سيطة ميكن للقارئ الر ّد على الإ�شكالية التي طرحناها يف مقدمتنا :هل التحول تط ّور �أم �أنه تقهقر وتدهور؟ ف�إذا �أح�صينا عدد اخلدمات التي ّقدمها ال�شرق للغرب يكون اجلواب �أن التح ّول هو تطور �إيجابي باملطلق ،وبالعك�س �إذا ما �أح�صينا ما فعله الغرب من انتهاك �ضد ال�شرق ح ّول م�صريه اىل االنحطاط ،يكون التح ّول �سلبياً باملطلق ويكون تقهقراً وتراجعاً مذريني. والنتيجة تكون باملح�صلة �أن التح ّول الإيجابي يف امل�سرية الإن�سانية احل�ضارية ال م�صدر له �إال امل�شرق فقط ومن دونه ف�إن الفكر واحل�ضارة اىل زوال والب�شر اىل ا�ضمحالل فكري ووجودي. هل الثورات حت ّوالت �أم التح ّوالت ثورات؟
واجلواب بديهي ومنطقي� :إنهما كالهما يف �آن معاً ،فكيف تكون ثمة ثورة من دون حت ّوالت وتغيرّ ات يف العقلية والأنظمة واملناهج ال�سائدة والبائدة والتي ب�سببها كان ال�ضعف والوهن يف قلب الأمة؟ وكذلك كيف تكون ثمة حت ّوالت والأمور تراوح مكانها بل وترتاجع وتتدهور الأحوال با�ضطراد لعدم وجود حركة ثورية نا�شطة قابلة �أن حتدث تغيرياً جذرياً؟ يبقى �أن هناك حقيقة جتب معرفتها �أال وهي �أن كل الثورات ال�شعبية قاطبة مل تحُ دث حت ّوالت �إال جزئية وغالباً �سلبية يف كل تاريخ الب�شرية ،لأن نتائجها كانت �آنية و�أتت لتخدم م�صالح �سيا�سية ومالية لأفراد ولي�س لل�شعوب ،وعلى ر�أ�س هذه الثورات الفا�شلة الثورة الفرن�سية والثورة البول�شيفية ،على عك�س ما هو �سائد ومعروف ،وكالهما من ت�أثري الفكر املارك�سي املحدود الآفاق واملادي النزعة ،فانتقلت وتبدلت الأ�سماء فقط ،ال بل ازدادت على �إثرهما الأنظمة من يد خمادعة اىل يد �أمكر لي�س �إالّ ، وتكد�ست فوق الإ�ساءات واملمار�سات اخلاطئة وعادت الأمور لرتاوح مكانها ،فتوالت الثورات ّ بع�ضها البع�ض ،على قاعدة �أن ما يبنى على خط�أ فهو خط�أ ويبقى خط�أ ،لذا نالحظ �أنه خمدت الهمم بعد فرتة وفَترَُ احلما�س وك�أن �شيئاً مل يحدث وال حت ّوالت وال تغيرّ ات نتجت عن تلك الثورات امل�سماة «كربى». ويبقى القول �إن �أهم التح ّوالت والثورات هي الثورات الفكرية الكفيلة وحدها �أن تغيرّ جمرى التاريخ وهذه من�ش�أها امل�شرق و�سوريا حتديداً� ،أر�ض جلجام�ش وي�سوع وحممد ومن نهج نهجهم �سَ ُل َم وهو كفيل �أن يح ّول جمرى التاريخ مل�صلحة امل�شرق -ال�سوري ثانية والإن�سانية جمعاء، �شرط الوعي الذي كان له�ؤالء القادة العظام الذين م�شوا يف ركب �أجدادهم ومل يتح ّولوا عن 41
خطهم �أبداً ،وهذا النهج هو يف بذل الواحد يف �سبيل الكل والكل يف �سبيل الواحد وو�ضع الأجماد ن�صب الأعني ولي�س اخليبة والهزمية .وليتذكر مر ّددو ال�شعارات وحم ّبو التباهي بالغرب �أن الثورات «الكربى» تلك التي يفاخر بها الغرب قد ا�ستمدت �شعارتها كلها من قادة ال�شرق العظام ،ه�ؤالء العرب الكبار :فمن ينكر على عمر بن اخلطاب قوله ال�شهري« :كيف ت�ستعبدون النا�س وقد ولدتهم �أمهاتهم �أحراراً»؟ وين�سبه �إىل «رو�سو» لي�س �سوى الذي فقد هويته وحريته وانهزم ل�صالح ناهبي خريات ال�شرق وثروات ال�شرق وفكر ال�شرق؟ وماذا يبقى من مواد ومبادئ �شرعة حقوق الإن�سان �إذا ما ج ّردناها من مادتها الأ�سا�سية القائمة على احلق واخلري واجلمال وهي مبادئ م�شرقية بالإ�ضافة اىل املحبة والعدالة وامل�ساواة واحلرية وكلها م�سيحية الهوية ،عربية املن�ش�أ، حممدية االنت�شار ،م�صدرها امل�شرق وحده والذي من دونه �سوف يبقى �أبناء الغرب قرا�صنة وقطاعي طرق وقتلة ال منا�ص من �إعادة تهذيبهم وتلقيحهم م ّرة �أخرى على يد امل�شرقيني الذين يبدلون جمرى التاريخ ويحدثون �أكرب التح ّوالت ،هذا �إن وجدوا يوماً ما .فهل بعد من �سوف ّ معجزة؟
42
حتوالت املجتمع وا لإن�سان
«حت ّوالت» مع الفا�صلة
نعيم تلحوق � -شاعر
مل تكن عالقتي بتح ّوالت �سركي�س �أبو زيد ،كمن�شور ثقايف �أو جملة �صراعية فح�سب ،هي عالقة �أبقى من الإن�سان عينه ،هي عالقة خلق وفرادة ،وبحث عن معنى احلرية... �أربعون عاماً وحتوالت ت�صارع ثقافياً لتك�سب فهمها للآخرين ،عالقة ال�شيء بال�شيء �صعبة �إذا بدت مت�شابهة ،لأنها من�سوخة وال تتمتع بفرادة غري َّية ،النقي�ض دائماً ي�صنع احلرية ،املهم يف كل ذلك ،كيف تكون احلرية؟ معلق منذ فجر التاريخ ،حرية َم ْن؟ حرية ماذا؟ حرية كيف؟ وملاذا نقي�س �أحمالنا كما اجلواب ٌ نقي�س �أفكارنا ،بوزنات حديدية قدمية؟؟ جتيء «حت ّوالت» لت�س�أل كم زمن م�ضى من دون مالذ ،من دون بلوغ هدف ،من دون �س�ؤال �أ�سا�سي لت�أ�سي�س معنى� ،أو جت�سيد ذاكرة ح ّية ا�سمها الغد ،فنتج ّنب ا�ستعمال �أدوات التوكيد واجلزم والن�صب ،ونتبع مفهوماً داللياً محُ ققاً يحاكي الأ�شياء ب�أ�سمائها بغية �إ�ضافة جديدة ملعنى احلياة... مل ت�أبه حت ّوالت �سركي�س �أبو زيد لل�سف�سطة التي دخلت على اللغة العربية من بابها اليوناين، لكل ح�سب فهمهّ ، ولكل فالتعبري �ش�أن فردي ال يتع ّلق مبجموع منطي قام على املوروث التقليديٍ ، �إرادة عملّ ، ولكل عمل وظيفة ... �سركي�س �أبو زيد ترك حتوالته ت�صارع املوج ،وتن�ساب بطبيعتها �إىل مدى ي�صنع نف�سه ،فم�ضى بغري منطية �سردية ّ تذكرنا ب�أجماد املا�ضي التليد� ،أو ب�أفكار الغد البعيد ،و�إمنا راح ي�س�أل ماذا نريد �أن نفعل لن�صبح كوكباً يعي �أنه جز ٌء من ُكلُ ، والكل جز ٌء من داخلنا و�ضمري الوجود... �أكرث من مرة ناق�شت �سركي�س مبو�ضوع النقطة ،و�س�ألته ا�ستعمال الفا�صلة يف تركيب جمله ،و�أن ال ينهي الكالم بنقطة ،بل بثالث ...لأننا ال ندرك �إذا انتهينا ،فهناك ما علينا فعله نحن �أو �أحد نظن �أننا �أجنزناه، �آخر ...ف� ّأكد �سركي�س بب�سمة :دعنا ال نبد�أ �إذاً ،لأن لي�س مبقدورنا �أن ننهي عم ًال ُّ نحن يف التجريب ،والبقية ت�أتي ،لهذا كانت «حتوالت»... مربوك «حت ّوالتك» يا �سركي�س يف ميالدها الأربعني... 43
فـكــــــــر
م�سعى م�ست�أنف لتظهري �أ�سئلة يف �أمر اليوم «االخت�صام الودود» بني املثقف واحلاكم حممود حيدر -باحث يف الفل�سفة ال�سيا�سية ق�صدها �أي�ضاً ،تو�صيف ما ال تتو�سل هذه املقالة تظهري اخل�صومة امل�ألوفة بني ال�سلطة ونقّادها .وال ُ بني احلاكم واملحكوم من اخت�صام قيل فيه وحوله مما ي�صعب ح�صره ،وما ت�ستحيل به الإحاطة. �سوف نقر�أ �صورة تلك العالقة الغام�ضة وامللتب�سة والرمادية بني ال�سلطة و�أخ�صامها .العالقة التي تقرتب يف رمزيتها تلك التي ت�سود عوامل اجلن ،حيث كل ما يف عوامل كهذه رهن االن�سحار واخل�شية واملفاج�أة وال ّال�شعور وغرابة الأطوار... لندخل �إذن يف املعاينة... لي�س يف االجتماع ال�سيا�سي ما هو �أ�شد �إغوا ًء للجدل من اختبار العالقة امل�شوبة بالغمو�ض بني املحكوم واحلاكم .فهي عالقة مملوءة مبفارقات �شتى .من وجه تقوم على القطيعة ،والإق�صاء، والتنابذ ،ومن وجه ثانٍ على الو�صل واالعرتاف والتقريب� .إنها عالقة وا�ضحة وحمتجبة يف �آن، و�إنها ب�سيطة ومركبة؛ وهي يف غاية ال�سهولة لكنها ممتنعة يف الوقت عينه على من يريد �أن يدخل م�سراك يف ذلك العامل ِّ َ املكتظ باحلَيرْ ة ،فال �سمح لك ب�أن ت�أخذ عاملها من غري ا�ستئذان .ولكي ُي َ تعد لنف�سك ما ت�ستطيع من متاع املخاطرة. منا�ص لك من الأخذ ب�سلطان ما ،و�أن َّ �سيكون عليك الته ّي�ؤ خلو�ض املخاطرة ،حتى و�أنت تت�صرف ب�صفة كونك مراقباً للم�شهد .فامل�سافة التي خُ ّيل �إليك� ،أنها �ستن�أى بك من ت�شظ ّيات االحتدام ،لي�ست �إال مرتبة من مراتب العالقة، وجزءاً من امل�ساحة غري املتناهية من امل�شهد اجلامع للحاكمني واملحكومني� .إنه امل�شهد نف�سه الذي ي�ؤ ِّل ُف املجتم َع ِّ ويعيد �إن�شاءه .فاملجتمع بح�سب الفل�سفة ال�سيا�سية للحداثة ،هو �آلة �ضخمة وي�شك ُله ُ لإنتاج الرغبات .و�أخطر هذه الرغبات على الإطالق هي الرغبة يف احلكم ،الرغبة يف ال�سلطة، ويف اخل�ضوع لها معاً .املجتمع هو الذي ينتج الرغبة يف حب ال�سلطة ذاتها .ف�إذا كانت هناك �سلطة فاعلم �أن وراءها راغباً بها .هناك من يحب ويرغب �أن يت�سلط ،وهناك من يحب ويرغب �أن ُيت�سلط ال�سيرْ ّيات ال�صاعدة للمجتمعات الغربية يف عليه� .إن هذا التو�صيف �سيجد م�صاديقه الواقعية يف َّ خالل ال�سبعينيات من القرن الع�شرين .و�سرنى ذلك يف ما يب ِّينه املفكر الفرن�سي ،و�أحد �أ�شهر �أ�ساتذة الفل�سفة يف بالده �آنذاك �إميل �شارتييه ،Emile Chartierاملعروف با�سمه امل�ستعار (�آالن 45
.)Alainيقول« :كل دبلوما�سي يرغب يف م�شاريعه ،وكل مدير �شرطة يرغب يف النظام ،وكل موظف يرغب يف تو�سيع حقه يف املراقبة وتعزيز امتيازاته .ومبا �أنهم كلهم يتواط�أون من �أجل ذلك، ف�إنها تت�شكل مبا�شرة دولة حاكمة لها قواعدها ،ومناهجها ،وحتكم من �أجل عظمتها اخلا�صة. وباخت�صار -ي�ضيف �آالن � -أن اال�ستعمال املبالغ فيه لل�سلطة هو نتاج طبيعي لل�سلطة نف�سها». .Alain: Elements d’une doctrine radicale «3ème édit. Nrf Gallimard 1925 P.124 وهكذا ف�إن الرغبة يف ال�سلطة هي التي ت�ستولد ال�سلطة �إ ّياها .ذلك على النحو الذي تنجلي فيها ال�صورة ليظهر لنا �أن ال�سلطة تروح ت�أكل �أبناءها بال رحمة. ولأنها كذلك ،ت�سمو ال�سلطة على الت�صنيف والتح ّيز �ضمن دائرة العالقة بني املحكومني واحلاكمني .فالعالقة بحد نف�سها �سلطة ،لأنها نطاق خ�صيب لظهور القوى .وعلى هذه الداللة ت�صبح ال�سلطة هي حا�صل فعل اللقاء بني ّندين متوازيني .ولعل ا�ستعادة �أطروحة هوبز عن ال�سلطة بو�صفها الكائن الأ�سطوري الذي يحاول اال�ستحواذ على كل �شيء� ،إمنا هي ا�ستعادة يجري توظيفها عند هذا املعنى لل�سلطة .ذلك �أن هذه الأخرية لي�ست هي النظام ال�سيا�سي القائم فقط ،بل هي كل قوة ال يراقبها العقل� .إنها -بح�سب �إعادة التف�سري الفل�سفي لأطروحة هوبز حول مفهوم اللوفياطان ( - )Leviatnanذات معنى �أو�سع من ذلك الذي �أعطاه له هوبز .لذلك �سرنى �آالن ( )Alainيع ِّرف هذا النوع من ال�سلطة على �أنه :لي�س جمي ًال وال حكيماً� .إنه اجلمعية. هو املكتب والرئي�س .هو الر�أي امل�شرتك الذي لي�س هو ر�أي �شخ�ص بعينه والذي هو ال �شيء. �إنه الإح�صاء ،والنظام ،واالن�ضباط� .إنه تقليد الكل للكل� .إنه روح القيادة والطاعة العقيمة� .إنه املعدل هي الرقيب العالقة اخلارجية التي حت ِّول النا�س �إىل �أ�شياء .ال�سلطة بهذا املعنى الهوبزي َّ الأعلى .وباخت�صار هي كل ما يقمع الفرد ويقهره اجتماعياً ،و�سيا�سياً ،هي الدولة واجلماهري معاً. اجلماهري التي ت�صنع الدولة عن طريق �إ�ضفاء طابع القد�سية عليها. (حممد ال�شيخ -املثقف وال�سلطة -درا�سة يف الفكر الفل�سفي الفرن�سي املعا�صر -دار الطليعة - 1991تقدمي �سامل يفوت � -ص )28
التقابل �رس كل �شيء
امل�س�ألة �إذن ،هي يف �سر التقابل بني رغبتني ال تتم الواحدة منها �إال بالأخرى .ثمة �شغف يدفع املحكومني نحو احلاكمني �ضمن �سَيرْ َّية معقّدة ،ومتداخلة ،ومتناق�ضة .تارة تنب�سط على ال�سمع والطاعة ،وطوراً على الرف�ض والكراهية ،وثالثة على تواط�ؤ م�سبوق بوعي املبادئ والغايات .ك�أن تفرت�ض العالقة عند حلظة ما من احلراك العام �أن ي�ست�شعر كل من طريف التقابل خطر الفناء واال�ضمحالل. 46
فكــــــر
ما �س ّر التقابل ليكون هذا �س ّر كل �شيء يف اللعبة؟ كان ميالن كونديرا يقول وهو مي�ضي يف تو�صيف الظاهرة الب�شرية يف روايته املعروفة «املزحة»: الإن�سان كائن ي�سعى للو�صول �إىل نوع من التوازن« :لذلك نراه يوازن ثقل ال�سوء الذي يرهق كاهله بوزن احلقد الذي يحمله.»... لي�س يبدو ما هو �أبلغ من هذا التو�صيف ،حتى نخاطر يف مترين جديد من الكلمات حول عالقة املحكومني باحلاكمني .فل�سوف يظهر لنا يف �سياق تلك املخاطرة �أن ال�صلة التي جتمع وتف ِّرق قد ت�شابهت علينا .ولقد بتنا على حرية يف ما �إذا كنا �سنعرف نقاط االت�صال واالنف�صال يف اللحظات املنا�سبة. �ضرب من ال�شبهة ،غالباً ما يف�ضي اال�ستغراق فيه حتى �إذا عاي ّنا �أحوال ال�سلطة ونقَّادها ،تك�شَّ ف لنا ٌ �إىل الغفلة ،فيكون من نتيجة ذلك الفو�ضى وال ّاليقني و�صو ًال رمبا �إىل انفجار النظام العام. و�إذاً� ،سوف يفرت�ض التقابل بني احلاكم واملحكوم توازناً ما� .إذ �إنه ككل تقابل يقوم يف الأ�صل على ما توجبه عالقة التبادل .فال م�سافة ت�ؤدي �إىل القطيعة �إ ّال ا�ستعمال كل منهما للقوة العمياء التي بني يديه .وعندئذ �سوف تنطلق �سَيرْ ية �أفعال متقابلة متناظرة ال حدود لها .لكن وظيفة التوازن املفرت�ض هو �إر�ساء منطق اللعبة وقوانينها .ومن قبل �أن يبد�أ الكالم عن ميزان القوة و�آليات النـزاع وم�آالته ،ثمة �شعور قبلي متبادل ي�شي باحتياج كل منهما للآخر .واحلاجة هنا هي حاجة �إيجادية. وهي قبل كل ذلك ،وجودية تكوينية .وتتعلق كذلك بال�شرعية� .إذ ال ت�شعر ال�سلطة احلاكمة بح�ضورها وفاعليتها ما مل تكن على يقني من �أن ثمة من ي�شاطرها احل�ضور وي�شاركها فيه ،ولو على �سبيل املناف�سة واملنازعة واال�ستبدال .احلال نف�سه بالن�سبة �إىل املحكومني وال �سيما منهم جمهور الإنتليجن�سيا املاكثة على الطرف الآخر ،ترى ،وت�سمع ،وتالحظ ،وتنقد ،وتتطلع �إىل نب�أ �سعيد .هذه ال�شريحة من املحكومني لن جتد نف�سها ،وبالتايل هويتها وال تتحقَّق لها �شرعيتها ،حتى يرتاءى لها اخل�صيم اللدود وجهاً لوجه .كل عالقة بني من ُيفرت�ض بهما �أن يك ّونا جمتمعاً واحداً مكتم ًال هي عالقة �شرطية ،ال ا�ستغناء لأحد عن �أحد .حتى ليبدو الأمر كما لو �أنه «االقرتان الالمتناهي» �ضدين� .إال �أنه اقرتان حمكوم بـ «�سري ّيات» مت�صلة من القطيعة والو�صل وااللتحام .على بني ّ هذه ال�سري ّيات �سرت�سو قواعد اللعبة ،ويف كل حال �سرنى كيف �أن »االقرتان الالمتناهي» �س َيل ُِد متناهيات ،تتمظهر عموماً على �شكل �سلوكيات وممار�سات ،من التنابذ ،والتجاذب ،واملكر واملنافقة، والك ّر والف ّر ،وكذلك على حت ِّريات من امل�ساعي املحمومة للإق�صاء املتبادل. ومهما كان م�ستوى التجريد الذي يت�سامى بتلك العالقة ،ف�سي�ؤول االحتكاك �إىل ك�شف �س ّر ما� .إذ يف اللحظة التي ت�صبح العالقة �ضمن �إطار� ،أي يف اللحظة التي تنتقل فيها العالقة ال�سلطة ونقَّادها �إىل ح ّيز اللعبة �سوف ت�أخذ امل�ضمرات بالظهور .و�سواء جرت الوقائع بطريقة الإق�صاء العنيف �أو بالتمثيل الطوعي ،ف�ستنتهي �إىل توليد قوانينها و�أمناط عملها اخلا�ص .ثم �إىل جالء منطقة ملتب�سة ميكث فيها ُقطبا الثنائية يف مكان يكاد يكون �أبدياً. 47
ا�ستئناف التعريف
ما ال�سلطة بو�صفها مر�آة احلاكم ،ما اجلمهور الذي يقف على ال�ضفة الأخرى بو�صفه مر�آة املحكوم؟ وهل ثمة �سياق ينتظم التوتر بينهما ليجعل �سر العالقة حممو ًال على الإدراك والك�شف؟.. �ستبدو مهمة الإجابة مثقلة ب�أعباء ي�صعب ح�صرها .وال �سيما �أن طريف التعلق يظهران ككائنني غري م�ستقلني متاماً عن رباطهما امل�شرتك .بل هما يتظاهران على �أر�ض واحدة ،و�ضمن حقل واحد، لكن على �ساحة م�شوبة ب�ضباب كثيف .من هذه امل�ساحة وبفعل احلرب الباردة حيناً ،ال�ساخنة حيناً �آخر� ،ستنطلق �سَيرْ ية ال منتهى لها من مركبات الع�شق والكراهية ،ك�أمنا قدر ق�ضى برحلة �ضاجة باحلراك واالعرتاك ،حتى ليغدو ذلك علة اليقني ،وم�صدر الأمان للفاعلني يف تلك احلروب َّ املفتوحة. ف�سيكون من نتيجة ذلك دفع �س�أم احلاكم ،وقتل �ضجر املحكوم .ف�إذا كان م�ستحي ًال على ال�سيد �أن يكون حراً ما دام يحكم ب�شروط بقائه و�سيادته ،كذلك �سيكون توا�ضع املحكومني �ضرورياً من �أجل الإبقاء على االنتظام االجتماعي كما تقول مدام �سافنيني .ورمبا ب�سبب من هذه ال�ضرورة من «التوازن الإيجابي» ذهب جان جينيه يف «ال�شرفة» �إىل هذه املعادلة« :يتوجب عليك �أن تكون علي �أن �أكون قا�ضياً مثالياً .يف حني لو كنت ل�صاً مزيفاً ف�إنني �أ�صبح قا�ضياً ل�صاً منوذجياً �إذا كان ّ مزيفاً.»... �إن الدائرة التي حتتوي هذه اجلدالية من الرغبات اال�ستجابية املتبادلة� ،ضرورية لن�شوء ،وتدرج، ومنو ،وارتقاء منطق اللعبة� .سوف جتد ال�سلطة احلاكمة باملثقف املندرج �ضمن مقام طليعي يف عامل املحكومني ،علة وجودها .كذلك �سيجد هذا املثقف بها جدوى ح�ضوره على اخلط الآخر املوازي لها .ك�أن على الثنائي �أو ًال� ،أن يرت�ضي مبد�أ القبول بالآخر لكي يت�سنى لكل من قطبي الثنائية ممار�سة النفي والإق�صاء واملخاطرة .عندما ترغب ال�سلطة غزوه ،عرب تفكيك �أبنيته لأجل �إنتاجه من جديد وفقاً مل�صاحلها �سوف يبد�أ الوجه الأول للعبة .ويف موازاة هذه الرغبة تت�شكل مالمح ال�ضفة الأخرى للفتنة ليتك ّون الوجه الآخر ،وتكتمل �شروط االلتقاء والتنابذ وعنا�صرهما الدرامية. ل َ رن كيف بدت ال�صورة التي نحن يف احلقيقة جزء منها: �إننا الآن يف ج�سد اللعبة .يف تلك املنطقة املفتونة ب�إغواءات القوة ،حيث كل قوة هي يف عالقة مع قوى �أخرى� ،إما لتطيع ،و�إما لت�أمر .هكذا يبينِّ املفكر الفرن�سي جيل دولوز ثم ي�ضيف�« :إن ما يحدد ج�سداً هو هذه العالقة بني القوة املهيمنة والقوى اخلا�ضعة .كل توازن قوى ي�شكل ج�سداً كيميائياً ،بيولوجياً ،اجتماعياً� ،سيا�سياً� .إن قوتني مع َّينتني غري مت�ساويتني ت�شكالن ج�سداً مبجرد دخولهما يف عالقة :لذلك ،فاجل�سد هو دائماً ثمرة ال�صدفة ،باملعنى النيت�شوي اخلال�ص .وهو يظهر 48
فكــــــر
ك�أنه ال�شيء الأكرث «�إدها�شاً» ،الأكرث �إدها�شاً بكثري ،يف احلقيقة من الوعي والروح .غري �أن ال�صدفة وهي عالقة القوة بالقوة -كما يريد دولوز -هي �أي�ضاً جوهر القوة ،لذا ال يجوز الت�سا�ؤل عن كيفية والدة ج�سد حي ،لأن كل ج�سد هو حي ب�صفته نتاجاً «اعتباطياً» للقوة التي تكونه .اجل�سد هو ظاهرة متعددة ،لكونه مكوناً من تعدد قوى يتعذر تقليله ووحدته بالتايل ،هي وحدة ظاهرة متعددة، قوى فاعلة� ،أما القوى ال�سفلى «وحدة هيمنة» وت�سمى القوى العليا �أو املهيمنة يف ج�سد معني ً �أو اخلا�ضعة فهي قوى ارتكا�سية .الفاعل واالرتكا�سي هما بالتحديد ال�صفتان الأ�صليتان اللتان تعربان عن عالقة القوة بالقوة .لأن القوى التي تدخل يف عالقة ال يكون لها كمية من دون �أن يكون لكل منها يف الوقت ذاته النوعية التي تقابل االختالف الكمي كاختالف كمي بينها»... لنقل �إن اكتمال وحدة النقي�ضني (ال�سلطة الفاعلة -املثقف الف ّعال) يتوقف على انوجاد قوة كل منهما يف حقل االختبار واملعاينة .بهذا �سيكون لل�سلطة قوة ن�سميها �سلطان ال�سلطة .وللمثقف (املثقف هنا ك�ضمري اجلماعة) �أي�ضاً �سلطته التي �ستن�ش�أ منذ اللحظة الأوىل التي يبتدئ فيها بك�شف وا�ستباحة ما يتوارى خلف القول املعلن ل�سلطة احلاكمني� .إن هذه ال�سري ّية املنطقية تبدو وك�أنها مر�سومة على �أر�ض الق�ضاء والقدر .وعلى �أي وجه وحال ،فمن الوا�ضح -كما يالحظ عامل االجتماع الأمريكي -جيم�س �سكوت � -أن �أي فريق حاكم �سوف ينتهي به الأمر �إىل جعل نف�سه �ضعيفاً �أمام �أي خط خا�ص من خطوط النقد ،فيما هو يحاول �أن يربر مبادئ التفاوت االجتماعي التي ي�ؤ�س�س عليها مزاعم حقه يف ال�سلطة .ومبقدار ما ت�أتي مبادئ التفاوت لكي تزعم ب�شكل ال مفر منه ،ب�أن ال�شريحة احلاكمة تقوم مبهمة اجتماعية ذات قيمة -يعر�ض �أفراد هذه ال�شرعية �أنف�سهم للهجوم ب�سبب �إخفاقهم يف �أداء تلك الوظائف ب�شكل كاف �أو نزيه� .إن الأ�س�س التي ينبني عليها الزعم باحلق يف االمتيازات �أو ال�سلطة ،هي التي تخلق الأر�ضية التي �ستقوم عليها االنتقادات املوجهة ناحية فعل ال�سيطرة ،وذلك بناء على القواعد التي كانت النخبة هي التي �سبق لها �أن حددتها. �إن النقد� ،أو ما ن�سميه بـ«ك�شف ما ي�سترت وراء القول الظاهر» ،هو امللمح البدئي لت�أليف قدرة م�ضارعة للقوة احلاكمة� .إنه على التعيني ،ال�سالح الذي تلتجئ �إليه تلك ال�شريحة من املحكومني ب�إزاء �سلطة املجتمع ال�سيا�سي احلاكم� .إن �سالح النقد ،مبا هو م�شروع �سلطة �ضاغطة �سيكون له الأثر احلا�سم يف ت�شكيل النـزاع الالحق بني املثقف وال�سلطة .وبح�سب دولوز متمث ًال فيل�سوفه فوكو � -إن القوى ال�سفلى �أي القوى املحكومة -ال تكف عندما متار�س طاعة ال�سلطة احلاكمة، عن �أن تكون قوى ،متميزة عن تلك التي ت�أمرها .الطاعة -بهذا املعنى -هي ميزة القوة مبا هي قوة .وهي متعلقة مبقدار ما يتعلق فعل الأمر بها« :ال قوة ت�ست�سلم لقدرتها اخلا�صة .وكما �أن وجود الإمرة يفرت�ض وجود تنازل ،ف�إن القوة املطلقة لدى اخل�صم ُيفرت�ض �أال تكون مقهورة ،مذ َّوبة، حملولة .الأمر والطاعة هما �شكال املباراة االثنان»� .ضمن هذه احللبة بالذات تدور دوائر اللعبة، وغالباً ما تتنوع النتائج بتنوع �أ�شكال الت�صادم ،وطبائعه ،و�شروطه ،وقواه التي حتركه ،وتبتعثه من 49
جديد .تارة يرث املحكوم ال�سلطة بعدما يق�صي �سلطانها وي�شل فعالياتها فيتحول �إذ ذاك هو نف�سه �إىل �سلطة ذات موا�صفات و�أحوال خمتلفة .وطوراً تروح ال�سلطة تلتهمه بعد �أن حتتويه ،برتهيبها، وترغيبها ،فين�ضوي حتت لوائها ،طائعاً لأهوائها� ،أو داعياً (�إيديولوجياً) لقواها ال�سيا�سية واالقت�صادية واالجتماعية واملالية .وثالثاً قد ت�أخذه نوازعه �إىل االعرتا�ض هم�ساًّ ، عل يوماً ي�أتي فيعتلي املثقف نوا�صي ال�شوارع وال�ساحات رافعاً �صوته للملأ :الآن ،الآن قيامتنا ،فلت�سقط ال�سلطة. لغة الرحم احلار
كل ما يختلج يف حقول التبادل بني ال�سلطة ونقّادها يرمي �إىل ب�سط القوة .فل�سوف ينتهي الأمر �إىل �سلطة ال حمالة .وقبل هذا مب�سافة تكون �أع�صاب احلركة قد ا�ستجمعت قواها لتو ِد َعها وعاء الغاية الق�صوى� .إن كل ذلك �سوف يجري داخل ما ي�شبه الرحم احلار .ولو ر�أينا �إىل ال�صورة لوجدنا �أن القوة الإخ�ضاعية (ال�سيا�سة غالباً و�أ�سا�ساً) تنربي �إىل �إخ�ضاع ال�ضفة املقابلة لها حتى حني تتعاي�ش و�إياها داخل املجال امل�شرتك الذي �أ�سميناه الرحم احلار .و�ستظل العالقة متوازية متكافئة يف ذلك املجال من دون �أن تكون ا�ستتباعية كما قد يظن .ويف حني ت�ؤكد القوى الفاعلة الإخ�ضاعية اختالفها ،وجتعل من هذا االختالف مادة للمتعة ،ف�إن القوى (املُ ْخ�ضَ َعة) حتى وهي يف حالة خ�ضوع ،تروح ت�ستنبت عوامل القدرة ،وحتا�صر القوة الفاعلة ،وتفر�ض عليها حتديدات وقيوداً جزئية ،على حد ت�أويل دولوز وفوكو. بديهي �أن �أحداً �سي�س�أل� :إىل �أين �ستنتهي خما�ضات الرحم احلار ،ما الذي �ستك�شفه طبائع ال�سلطة والنخبة �ضمن دوائر التناق�ض وااللتحام والتوحد؟ تبني املدر�سة التفكيكية الغربية ب�أن ال�سلطة هي عالقة قوى .بل هي على التخ�صي�ص «عالقة �سلطة» .و�إن ال�سلطة لي�ست �شك ًال ك�شكل الدولة ،ولي�ست عالقة بني �شكلني كاملعرفة .و�إن القوة لي�ست على الإطالق ،قوة مفردة ،بل �إن من �سماتها اجلوهرية �أنها ترتبط بقوى �أخرى ،و�إن كانت كل قوة هي �أ�ص ًال عالقة� ،أي �سلطة .لي�ست للقوة �أي مو�ضوع �آخر� ،أو ذات �أخرى� ،سوى القوة. ال ينبغي اعتبار هذا التعريف على �أنه يت�ضمن عودة �إىل القانون الطبيعي ،ذلك �أن «احلق يعد �شكل تعبري ،بينما الطبيعة تعترب �شكل ر�ؤية ،والعنف مالزم للقوة �أو نتيجة ترتتب عنها ولي�س عن�صراً مكوناً لها». �إن الرهان هنا على الت�صعيد والتوتر .فكلما اجتهت عالقة القوى بني ال�سلطة ونقَّادها نحو الت�صعيد ظهرت احتماالت الفعالية .و�أمكن لالجتماعني الديني وال�سيا�سي �أن يغادرا موتهما امل�ؤجل. قيمة الت�صعيد �أنه يف�ضي �إىل افت�ضاح ما ي�ضمره كل طرف من طريف الثنائية .وهنا تكمن �أي�ضاً حيوية التوتر داخل ثنائية ما برح طرفاها على تهي�ؤ دائم ملعاينة الآخر� .إما للتماهي معه �أو لإق�صائه 50
فكــــــر
يف حاالت الت�صعيد الق�صوى .و�إذاً ،ففي جميع مناطق االت�صال ،والتما�س ،والتنافر ،والتماهي تت�شكل دينامية ميكن �أن ت�سهم بن�سبة ما تختزنه من حيوية ،يف ك�شف احلقائق املحجوبة ،ويف ا�ستقراء ما هو كامن وخمفي يف ثنايا العمليات املجتمعية. يف الفل�سفة ال�سيا�سية احلديثة ،الأوروبية على التخ�صي�ص ،منحت االجتهادات مقولة النخبة وال�سلطة �أبعاداً �أكرث عمقاً .مع فوكو مث ًال ،بد�أت مغامرة جديدة .مغامرة �سوف لن تقت�صر على الت�سا�ؤل حول و�ضعية املثقف بل بداية الإعالن عن وفاته .مييز فوكو بني املثقف «الكوين» واملثقف «املتخ�ص�ص» ،فاملثقف الكوين يعترب نف�سه مالك احلقيقة والعدالة�« :أن يكون املرء مثقفاً ،معناه �أن يكون �ضمري اجلميع وممثل الكل»� .أما اليوم فاملثقف املتخ�ص�ص مثقف يف حدود معينة ،يف نقط دقيقة وجماالت حمدودة� .إنه ال يكون مثقفاً �إال يف جماالت اخت�صا�صية ،يف ظروف عمله و�شروط حياته. �إن موت املثقف التقليدي -بح�سب فوكو -هو انهيار لنظرية التمثل�« :إن ما اكت�شفه املثقفون منذ الرجة احلديثة ،هو �أن اجلماهري مل تعد حتتاج �إليهم ملعرفة واقعها� .إنها تعرف ذلك متاماً وبو�ضوح َّ وب�شكل �أح�سن منهم ،وتقوله ب�شكل �أح�سن ،لكن يوجد نظام من ال�سلطة ي�سد ومينع ويقلل من قيمة هذا اخلطاب وهذه املعرفة� .سلطة ال توجد فقط يف الأوامر العليا للرقابة ولكن تتجذر بعمق ودقة يف كل �شبكة املجتمع .واملثقفون �أنف�سهم ي�شكلون جزءاً من نظام ال�سلطة هذا ،وفكرتهم القائلة بكونهم �أدوات «الوعي» واخلطاب ت�شكل �أي�ضاً جزءاً من هذا النظام .مل ي�صبح دور املثقف �إذاً هو �أخذ مكان «�أمامي وجانبي» لكي يقول احلقيقة ال�صامتة للمجتمع ،ولكن قبل ذلك �أن ي�صارع �ضد �أ�شكال ال�سلطة يف املكان الذي ي�شكل فيه مو�ضوعها و�أدواتها يف الوقت نف�سه :يف نظام «املعرفة» ،يف نظام «احلقيقة» ،يف نظام الوعي واخلطاب. تراجيديا القطع والو�صل
على رغم كل �أطروحات احلداثة التي اجتهدت لتعيني �سياقات معرفية يف جداليات النخبة وال�سلطة تبقى هذه الثنائية مفتوحة على االجتهادات نظراً خل�صو�صيتها ال�شديدة احل�سا�سية. وغالباً ما تظهر �صورة الإ�شكالية بطريقة يف غاية املرونة والتبدل الدائم .وعلى نار خفيفة ،يقوم ا�شتد الغليان ،انفك الو�صل لتنفجر الثنائية ،يف الو�صل بني النخبة الناقدة وال�سلطة .حتى �إذا َّ �إطار �سريية لولبية تراكمية تتدخل فيها جممل بناءات املجتمع ،حيث ميتزج ال�سيا�سي بالثقايف، االجتماعي باالقت�صادي ،مع ما تزخر فيه تلك البناءات من م�ؤثرات يف الوجدان العام .يف الوعي ويف الالوعي... غري �أن الثنائية ال تلبث بعد انفجارها ،حتى ت�ستعيد رتقها على خط �آخر ،يختلف عن الذي 51
�سبقه ،ثم ينه�ض �سياق تبنى عليه ،ثنائية جديدة حمكومة هي الأخرى« ،بقوانني» الو�صل والقطع واالنفجار ،حني �أن ما يربط ثنائية «النخبة /ال�سلطة» هو القانون نف�سه .ويف كل الأحيان بدا �أن ثمة منطقاً داخلياً يقوم على ما ي�شبه التناق�ض يف �إطار الوحدة� .أي وحدة ق�سرية تنظم العالقة وحتافظ على ذلك الزواج الدهري بينهما� .إنها ثنائية الوالء واالعرتا�ض ،التماهي واالختالف ،االنتماء والالانتماء ،الت�صالح والكراهية .وكل هذا يتجلى يف ال�سيا�سة واالجتماع مثلما يتجلى يف الأدب والفن و�صنوف الإبداع كافة. كما لو �أن احلالني (حال النخبة وحال ال�سلطة) حمكومتان بن�سبة عالقة .تعي�شان تناق�ضاً دائرياً يتجدد با�ستمرار ،من دون �أن ي�ؤدي الطالق اجلزئي �إىل انف�صال نهائي .على نحو يبقي العالقة �ضمن دائرة �إلزامية من التعاي�ش .لكنه تعاي�ش على �أر�ض الوجوب وال�ضرورة .فال�سلطة ت�ستولد املثقف .واملثقف ي�ستولد ال�سلطة ،وفق �آليات التحول االجتماعي وال�صراع امل�ستدمي� .إن ذلك ما ي�ستحيل ت�صوره على �أ�سا�س من �سياق وا�ضح و�آيل .و�إمنا وفق �سريورة عمياء يلفُّها ال�ضباب من كل جانب ،بحيث ال يفقه املثقف الناقد م�آل ال�سلطة وال ال�سلطة م�آل هذا الأخري� .إال �إذا انك�شف بعد حني ،احل�صاد الأليم املكتظ باملفاج�أة. و�سيتبني �أن املفاج�أة طور �آخر من التوتر والهدوء وال ّاليقني ،يظل املثقف الناقد على طوره� :إما والئياً لل�سلطة و�إما عدائياً حيالها ،وتظل ال�سلطة �إما نافية له و�إما حاوية ،عالقة ال نهاية لها ،ترتاوح بني احلميمية واالخت�صام .ما دام املجتمع على درجة معينة من احليوية والتوتر .ويدوم امل�شهد على �شكل لعبة درامية بانورامية :الأعني �شاخ�صة حيناً ،وحيناً جاحظة .تتناوب اجلزر واملد، الدفاع والهجوم ،االنكفاء والتحفز .عني الناقد على ال�سلطة ،وعني ال�سلطة على الناقد� .سيكون بينهما اجتماع حذر ،ا�ضطراري ،بني الـ «مع» والـ «�ضد» ويتبدى امل�شهد كما لو �أنه �شريعة حمتومة لتاريخ ينبغي �أن ي�ستكمل حلظاته و�أحقابه .ي�شعر املثقفون معه ،مثل ال�سلطة ،ك�أنهم يقتلون ال�ضجر وهم ميار�سون لعبة املناو�شة ،التي عادة ما تراوح بني ال�سخرية وامل�أ�ساة. وحالئذ يتبني �أن ال جدوى من كل امل�ساءالت الرومان�سية التي تريد �أن ترفع الوئام بني املثقف وال�سلطة �إىل مقام التقدي�س .بينما امل�شهد يتوا�صل بعناد لتكتمل لعبة ال�شقاء املمتع .وحتى ال يحل ال�س�أم مطارح الأ�شقياء. ال جمال �إذاً لإبطال مفاهيم اللعبة .فامل�س�ألة تكف عن كونها م�س�ألة �أخالقية تنه�ض على ح�سن النيات .ذلك �أن االنطواء على الأخالق .لت�أويل م�س�ألية املثقف وال�سلطة ،هو يف خال�صته ،كما يرى كا�ستورياري�س املفكر اليوناين ،لي�س �إال ح ًال زائفاً م�ستن�سخاً من جتربة التوتاليتارية .لي�ست هناك �أخالق تقف عند حدود احلياة الفردية .فبمجرد �أن تو�ضع امل�س�ألة االجتماعية وال�سيا�سية، ف�إن الأخالق ت�صبح مت�صلة بال�سيا�سة. �سوف تبدو العالقة بهذا املعنى ،م�أزقية .وال �سيما بالن�سبة �إىل املثقف اخلارج من دوائر ال�سلطة 52
فكــــــر
وعليها .غري �أنه يجب على املثقف يف حال كهذه� ،أن يتعود على القبول مب�أزقه ،كما ي�صرح برنارد هرني ليفي� .أن يقبل امل�أزق كما لو �أنه قدر ال منا�ص من حتديه ومواجهته .ك�أن يكون التحدي واملواجهة قناعة ذهنية يف االبتداء قبل �أن يتحول �إىل فاعلية �ضمن �سريورة تدريجية من النقد �إىل املمانعة ،فاالنفجار. يف وجوب ت�شا�ؤم الفكر
ورمبا على املثقف �أي�ضاً ،ك�شرط �أ�سا�س للتحدي� ،أن يوافق �إدغار موران حني �صرح �سنة :1962 «�أن دور املثقف اليوم هو �أن يعلن �أنه ال يوجد نب�أ �سعيد» .وي�ضيف�« :أال يتوقع من ال�سلطة ،حتى لو لأنعمت عليه مبا لديها من الدميقراطية ،م�ستقب ًال م�ضيئاً .ول�سوف يبدو الت�شا�ؤم نقطة االبتداء يف �سبل النب�أ ال�سعيد .على الأخ�ص بالن�سبة �إىل �أولئك الذين ابتلوا مبحنة نقد الظواهر وتفكيكها. ذلك �أن الوجود «ال�سعيد» كما يقول �سارتر ينبت على ال�ضفة الأخرى من الي�أ�س. �إن املثقف ،وهو يقف �أمام اجلدار املخيف الذي ترفعه ال�سلطة يف وجه امل�ستقبل ،ال ي�سعه �إال �إطالق �أ�شرعة ال�شك نحو مداها الأخري .وال�شك هو عني الت�شا�ؤم .وبها يحرز املثقف واحداً من �أخطر �أبعاده التي يفتقدها �أثناء عالقته امل�أزقية بال�سلطة .لكن �أن يبتدئ املثقف بيقني �أن معرفته �ستبقى حتماً �أ�سرية هوى ال�سلطة وا�ستالبيتها ،ومقيدة ب�إيديولوجيتها ،ما مل تتعد هذين الهوى واال�ستالب وذلك القيد. �إن فقه الذات الناقدة يدخل يف �أ�صل فقه ذات ال�سلطة .ومن هذا املقام ينبغي �أن ي�ستهل املثقف حل �إ�شكالية ال�صلة املعقدة مع ال�سلطة التي جتتاحه وحتتويه .املثقف يف ما هو ناقد اجتماعي �صارم يف �شكه .وال�سلطة يف ما هي مالكة للزمن ال�سيا�سي االجتماعي والثقايف ،ويف ما هي قاب�ضة على جمتمع قهر وقمع ،حتى �إذا �شاء ذلك ال�سلطوي الكامن يف كهفه تعيني ماهيته وهويته فتح الباب حلل الإ�شكال .فالبديهي �أن يعرف ماذا يريد ومن �أين يبد�أ .ثم �أن يفقه مبد�أ ال�سلطة ووظيفتها الأ�صلية. (الف�أرة والزنبق) :تتعدد الأحوال التي متار�س فيها ال�سلطة �سلطانها على املثقف داخل املجتمع، وهذا التعدد �سيولد احلرية التي هي يف �أ�صل الإ�شكالية بني الطرفني .فقد تتمدد ال�سلطة وتتو�سع وتنت�شر لتخرتق ن�سيج احلياة التي يعي�شها نقّادها واملعرت�ضون عليها .الأمر الذي يحول املجتمع برمته �إىل �سلطة قامعة قاب�ضة ومتوغلة يف هذا الن�سيج .ي�صبح املجتمع هو ال�سلطة الكلية بعينه. و�سيا�سة املجتمع امل�أخوذة من ال�سلطة ال�سيا�سية ال�سائدة هي جمرد �سيا�سة ا�ستالب وا�ستبداد. وبهذا املعنى فاملجتمع هو دائماً قهر وقمع� .إنه دائماً �أعمى ،فهو ينتج ب�صفة دائمة وم�ستمرة احلرب والعبودية وال�شعوذة بطبيعته اخلا�صة� .إن الإن�سانية جتد نف�سها دائماً يف الفرد يف حني جتد الرببرية 53
نف�سها يف املجتمع كما تقول �سيا�سة �شارتييه ،التي ت�ضيف «�أن على الفرد �أن يفكر دائماً �ضد املجتمع». م�صدر حرية املثقف� ،سواء ب�صفته �شخ�صية جماعية �أو فردية ،يعود �إىل �أنه يواجه �سلطة ذات �شخ�صية رمادية ،متعددة اجلن�سيات والأ�شكال والأطوار .فعالقات ال�سلطة عموماً ،عالقات يطبعها االنت�شار واملحلية ويف الوقت نف�سه عدم اال�ستقرار� .إنها ال ت�صدر عن نقطة مركزية �أو عن ب�ؤرة م�ستقطبة تكون ب�ؤرة �سيادة ،بل تنتقل بني نقط عدة .تذهب من نقطة �إىل �أخرى .ال تقت�صر على االنطالق من نقطة ما ،للو�صول �إىل نقطة ثانية يف الفراغ يف اجتاه خط م�ستقيم ،بل هي عالقات تر�سم انحناءات والتواءات وانعطافات وحتوميات مغيرِّ ة دوماً اجتاهها .كما تبدي با�ستمرار مقاومة� .إنها عالقة �شبكية تتواجد وتتزامن بني قوى ال ح�صر لها ،و�أمكنة ال �إح�صاء لعددها. وال�سلطة تت�صف بطبيعة زئبقية ،فهي لزجة متحركة يف الظالم والعتمة ،وغالباً يف املناطق الرمادية. وهنا مبعث �إ�ضايف من مباعث احلرية اللتقاط �صورة حمددة وا�ضحة لها .وبح�سب فوكو «فال�سلطة ال ترى وال تتكلم ،فهي ف�أرة ال ترى بو�ضوح �إال يف متاهات املمرات الأر�ضية وداخل حجرها املتعدد النوافذ� :إنها متار�س نف�سها ك�سلطة ،انطالقاً من نقط ال ح�صر لها .متار�س نف�سها يف خفاء. ولكونها بالذات ال تتكلم وال ترى نف�سها ف�إنها ت�سمح بالر�ؤية وتبعث على الكالم». ولأنها كذلك فهي متنح املثقف العارف ب�أمرها من دون �أن تدرك« ،ف�سحة» لكي يدرك ماهيته وهويته وي�صوغ بيان العالقة بها .فالعارف واملعروف -كما يريد مارتن هايدغر -ال يتواجدان منف�صلني من بع�ضهما البع�ض .بل �إنهما يف وحدة .والعلم هو هذا النهر نف�سه الذي بح ْف ِر ِه ل�سريره ي�شكل �ضفتيه ،ويجمعهما الواحدة �إىل الأخرى ب�أ�صالة �أكرث مما يفعل اجل�سر.»... و�إذا كان املعروف يدخل حتت �سلطة العارف دخو ًال ما -كما يقول الغزايل -ف�إن ما يعرفه العارف عما وراء قناع التنكر ،هو مبتد�أ ال�سياق الذي �سيجعل من معرفته بعد هنيهة �أر�ضاً ف�سيحة للحراثة .مع �أننا ل�سنا على يقني من �أن الثوابت اجلديدة فيها ،لن تكون �أكرث من حاالت متحولة �أو �صورة �أخرى عن الذتي �سبقت.
54
�سكان لبنان
فـكــــــــر
بني ثبات االنتماء ومتغريات العدد
�شوقي عطيه � -أ�ستاذ جامعي
ال يزال لبنان ،منذ ما قبل حتوله �إىل اجلمهورية اللبنانية ،يعي�ش حالته ال�سيا�سية املرتبطة ب�شكل وثيق بتوزع �سكانه على الأ�سا�س الديني والطائفي منذ ما يزيد على القرنني من الزمن .وقد ارتبط م�صريه بعالقات طوائفه منذ ما كان حم�صوراً يف اجلبل ،يف �سلم بارد مع مكوناته الدميغرافية� ،أو يف نزاع حار ،مع كل ما يتبع ذلك من تدخالت خارجية تعمل من �أجل اجلباية �أو احلماية ،وال فرق بعد ذلك يف ما ميكن �أن ت�ؤول �إليه الأمور بني �سكان اجلبل ب�إقطاعييه وفالحيه ،وباملنتمني فيه �إىل طوائفه املختلفة .ومل يختلف الأمر بعد �ضم امللحقات ،و�إن اختلفت عناوين املتنازعني �أو هويات الداعمني واملتدخلني .وطن ي�ضم �أهله بدينامياتهم املتغرية ،ومفتوح على العامل ،ومتقبل ل�شتى �أنواع العالقات املختلفة باختالف الداعمني� ،شاء ذلك �أم �أبى ،ولي�س عليه ،حتى الآن� ،إال �إدارة اخلالفات ،واال�ست�سالم مل�صريه. بني الأم�س واليوم
حتاول هذه الورقة تتبع امل�سار الدميوغرايف للبنانيني منذ زمن املت�صرفية ،و�إن كانت العالقات بني �سكان اجلبل حمكومة باالنتماء والذهنية الطائفيني قبل ذلك بكثري� .إال �أن تتبع هذا امل�سار له م�شروعيته باعتبار �أن هذا النظام هو الذي �أر�سى احلكم على الأ�سا�س الطائفي ،وعلى �أ�سا�س العدد يف كل طائفة .نظام تر�سخ باملمار�سة ،وتق ّوى بزعامات �سيا�سية �أوجدها ،وعملت على ا�ستمراره و�إن تغريت الأ�سماء ومن ميثلون .نظام ال يزال �سائداً �إىل اليوم مع تغري الوزن لكل طائفة؛ وهو الوزن الذي ت�أخذه من عددها� ،أو ًال؛ ومن الرياح ال�سيا�سية التي تهب على لبنان من املنطقة� ،أو من خارجها ،فتلفح من يتنا�سب هبوبها مع �أ�شرعته ،فيم�ضي ليعمل على تغيري ما هو قائم ..وما هو قائم ال يعدو كونه توزيع ح�ص�ص ومكا�سب ،وما �سيقوم لي�س �أكرث من �إعادة النظر يف التوزيع ،ولو تط ّلب الأمر �آالف ال�ضحايا .وهكذا� ،إىل �أن نر�سو على ب ّر مل تظهر تبا�شريه بعد .وما يظهر اليوم، على ال�صعيد ال�سيا�سي -االجتماعي ال يزال مرتبطاً بالو�ضع الدميوغرايف ،طاملا �أن ال�سيا�سة ال تزال مرتبطة بالطائفة ،كما ال يزال االنتماء الطائفي متقدماً على �أي انتماء �آخر. 55
دميوغرافيا املت�رصفية
�شهد اجلبل نوعاً من اال�ستقرار يف فرتة املت�صرفية� .إال �أن هذا اال�ستقرار ال يعني غياب االهتمام بالواقع الدميوغرايف ،بل على العك�س ،فقد ازدادت �أهمية االح�صاءات وامل�سوحات التي كان يدفعها املحرك الطائفي ،بغية احل�صول على �أكرب عدد من الوظائف العامة .هذا بالإ�ضافة �إىل اهتمام الإدارة بهذا املو�ضوع بهدف تنظيم �أمور ال�ضرائب وتقدير عدد الرجال القادرين على االنتاج والعمل. ف�صدر يف هذا االطار تقرير عن القن�صلية الفرن�سية ،يظهر فيه �أن عدد �سكان املت�صرفية بلغ 235,791 ن�سمة[ ]1عام .1863 كما نالحظ �أي�ضا �أن املوارنة مل يكونوا الأكرثية ال�ساحقة �ضمن جمموع امل�سيحيني من ال�سكان، ال بل كانوا الأكرثية يف جمموع ال�سكان املختلطني �إذ بلغت ن�سبتهم %55.9من ال�سكان .فهذه الن�سبة مكنتهم من املطالبة ب�أكرب متثيل يف جمل�س الإدارة ،وهو ما �سيتحقق يف ال�سنوات الالحقة لهذا التعداد� .أما �أقرب ن�سبة من �سكان الطوائف امل�سلمة من ن�سبة املوارنة ،فتعود للدروز� .إال �أنها بقيت �أدنى من ن�سبة الأرثوذك�س[ .]2وما يلفت االنتباه هنا �أي�ضاً هو تدين الأرقام الواردة يف هذا التعداد عن تلك املذكورة يف التعدادات ال�سابقة للمت�صرفية .فقد يعود هذا الأمر �إىل �سببني ،هذا �إذا اعتربنا �أن الأرقام �صحيحة .ال�سبب الأول ،هو العدد الكبري لل�ضحايا الذين �سقطوا خالل املعارك ال�سابقة العالن املت�صرفية� .أما ال�سبب الثاين ،فيعود �إىل الهجرة التي بد�أت ت�ست�شري بني �صفوف �سكان اجلبل نظراً ل�ضيق الأحوال ،وتوافر الأخبار عن مدى الرثوات التي تنتظرهم يف العامل اجلديد« .وكان �ضيق ذات اليد ال�سبب الرئي�س للهجرة ،لأن �ضيق حدود جبل لبنان مبوجب نظامه الدويل املو�ضوع �سنة 1861وحرمانه من الأر�ض ال�صاحلة لال�ستثمار ال يتفقان مع ن�شاط اللبنانيني وجهودهم اجلبارة التي جعلت من �صخور التالل والأودية جن ًة غناء»[ .]3فو�صف روبري كرا�سويل هذه الهجرة ب�أنها�« أتت لتج�سد �أحد �أعظم الأحداث �أهمية يف التاريخ اللبناين احلديث». وجتدر اال�شارة �أي�ضاً �إىل �أن التقارير والدرا�سات الالحقة �أوردت نتائج �أكرث دقة من تلك ال�صادرة �سابقاً� .إال �أنها مل يكن موثوقاً بها ب�شكل تام ،وذلك ب�سبب تنوع طرق تنفيذها .فتعداد عام 1867 �أجري فقط على الذكور ما بني 15و 64عاماً ،مما ا�ستوجب �إجراء توقع �آخر ،من خالل �ضرب العدد بالن�سبة املتوقعة لهذه الفئة من ال�سكان ،للح�صول على رقم تقريبي لهم على ال�شكل الآتي :مبا �أن عدد الذكور البالغ 99,834ي�شكل %26من جمموع ال�سكان ،ي�صبح العدد الكلي ل�سكان املت�صرفية ( 380,000بالتحديد � 99,834ضرب 100على 26ي�ساوي 383,976ن�سمة) ،وهو رقم مرتفع مقارنة مبا ذكره �ضاهر يف هذا املجال[� .]4إال �أن املزيد من التقارير ال�صادرة تباعاً �أظهرت �أرقاماً قريبة من الـ� 380ألفاً .ففي عام ،1887مت �إح�صاء امل�ساكن التي بلغت 52,780منز ًال .ومبا �أن 56
فكــــــر
العدد املتو�سط للأفراد يف املنزل يبلغ 7.5ن�سمة ،ي�صبح عدد ال�سكان 395.000ن�سمة� .أما التقدير الأكرث «جدارة باالحرتام» ،ح�سب كرباج وفارغ ،فهو الذي �أجراه «فيتال كوينيه» Vital Quinet عام ،1895وخل�ص �إىل �أن عدد ال�سكان هو 399,530ن�سمة[ . ]5هكذا جند �أن �سكان املت�صرفية و�صلوا �إىل حدود الـ 400,000ن�سمة يف مطلع القرن الع�شرين ،وعلى م�ساحة 3,200كلم ،مما رفع كثافة ال�سكان �إىل 125ن�سمة يف الكلم ؛علماً �أن هذه امل�ساحة مل تكن كلها مزروعة �أو قابلة للزراعة ،تبعاً للتقنيات املتوفرة يف حينه. هذه الكثافة املرتفعة دفعت بالعديد من ال�شباب �إىل الهجرة التي تزايدت ب�شكل �سريع قبل اندالع احلرب العاملية الأوىل عام .1914وهذا ما �أكدته الأرقام الأقرب �إىل ال�صحة ،التي �أتى بها التعداد الذي �أجراه كوينيه عام 1895و�أوهان�س با�شا عام .1913فالتعداد احلا�صل عام 1913 �أح�صى ال�سكان بطريقة مبا�شرة� ،أي من دون اللجوء �إىل تقديرات و�سيطة مثل ن�سب الذكورة �أو ن�سبة فئة عمرية من اجمايل عدد ال�سكان .وخل�ص �إىل نتيجة مفادها �أن عدد ال�سكان هو 414,768 ن�سمة� .إال �أن هذا الرقم ارتفع بعد ت�صحيحه وو�صل �إىل 468,714ن�سمة. وباال�ستناد �إىل هذه الأرقام ،ميكن احت�ساب معدل الزيادة ال�سكانية الذي يبلغ � %0.9سنوياً .وهو منخف�ض جداً ،رمبا ب�سبب الهجرة املتزايدة ل�سكان املت�صرفية .ولكن من املهم لفت النظر �إىل �أن هذه الهجرة مل تكن دائماً خارج «لبنان الكبري» ( كما �سي�صبح عام .)1920فالعديد من �أهل املت�صرفية هاجروا باجتاه بريوت طلباً للعمل وال�سكن[ . ]6وهذا ما يف�سر بداية التحول ال�سكاين يف بريوت ،باال�ضافة طبعاً �إىل عوامل �أخرى ،منذ منت�صف القرن التا�سع ع�شر ،نحت باملدينة �إىل ما �ست�صبح عليه اليوم� ،أكرب جتمع �سكاين يف لبنان. ومع نهاية العقد الثاين من القرن الع�شرين ،الذي �شهد نهاية نظام املت�صرفية ،قدر عدد ال�سكان يف اجلبل بـ 414,800ن�سمة[.]7 يف مقارنة �سريعة بني اجلداول التي تظهرها امل�صادر الآنفة ،نرى �أن ن�سبة املوارنة قد ازدادت ب�شكل ملحوظ بلغ .%2و�أتت هذه الزيادة على ح�ساب الكاثوليك ،ولكن من املمكن �أن يكون هناك خط�أ يف �أحد التعدادين ق�ضى باحت�ساب �أبناء �إحدى الطائفتني من الطائفة الأخرى� .أما الدروز، فقد انخف�ضت ن�سبتهم لت�صل �إىل %7فقط من جمموع ال�سكان .وكانت هناك �أي�ضاً زيادة طفيفة لن�سبة ال�شيعة يف املت�صرفية. ويف ما يتعلق باملناطق التي �ستلحق بجبل لبنان عام � 1920شكلت مدينة بريوت مركزاً جتارياً وثقافياً مهماً ،وبالتايل مركز جذب للمهاجرين من اجلبل (باعتباره م�ستق ًال ادارياً) والنازحني من املناطق املحيطة طلباً للعمل �أو ًال ،وللعلم ثانياً ،بعد �أن احت�ضنت املدينة �أول و�أكرب جامعتني يف املنطقة :الكلية ال�سورية (التي �ستعرف الحقاً باجلامعة الأمريكية) وجامعة القدي�س يو�سف، ف�ض ًال عن الدور الهام الذي لعبه مرف�أ بريوت يف التجارة مع البلدان املحيطة .وهكذا ت�ضاعف عدد 2
2
57
�سكانها يف �أقل من ع�شرين عاماً ( ،)1875-1860لي�شكل ثالث مرات تقريباً بني 1860و.1914 وهذا ما �أظهره كرباج وفارغ ب�شكل وا�ضح[.]8 �أما التوزع الطائفي يف بريوت ،فيختلف ب�شكل وا�ضح عما كان عليه يف بداية زمن املت�صرفية. فال�س ّنة هم الأكرث عدداً ،ولي�س املوارنة الذين باتوا ي�شكلون الطائفة الثالثة لناحية العدد ،بعد الروم الأرثوذك�س[.]9 كما نالحظ يف تعداد كرباج وفارغ �أن امل�سيحيني كانوا ي�شكلون %67.9من جمموع �سكان بريوت عام .1889 �إال �أنه يف نهاية عهد املت�صرفية �أو بداية عهد االنتداب الفرن�سي ،تراجع عدد �سكان بريوت من 103,900ن�سمة عام � ،1889إىل � ،77,292أي بن�سبة ،%25.6وذلك ب�سبب تراجع عدد امل�سيحيني يف تلك الفرتة[ ]10بن�سبة .%44ويعود هذا للهجرة الكثيفة للم�سيحيني بعد احل�صار الذي فر�ضه جمال با�شا (ال�سفاح) على جبل لبنان عام ،1915ووفاة الآالف ب�سبب املجاعة. دميوغرافيا لبنان الكبري
مت �إعالن دولة لبنان الكبري يف الأول من �أيلول عام .1920حمل هذا الإعالن ثالثة حتوالت جذرية .متثل الأول ب�ضم م�ساحات و�أرا�ض وا�سعة �إىل املت�صرفية ،فارتفعت م�ساحتها � 3أ�ضعاف لت�صبح 10,452كلم .والتغري الثاين كان بزيادة حجم ال�سكان الذي ت�ضاعف لي�صبح �أكرث من � 600ألف ن�سمة� .أما التغري الثالث ،فتمثل بتغري ن�سب الطوائف وانتقال لبنان من بلد ذي �أكرثية �ساحقة مارونية� ،إىل بلد ي�ضم � 3أقليات كربى ،و�أكرث من ع�شر �أقليات �صغرى . وما �أن بد�أ عهد االنتداب حتى قام الفرن�سيون بتنفيذ �أول م�سح �شامل لل�سكان .فكان هدفهم املعلن منه هو التعرف على عدد ال�سكان� .أما الهدف غري املعلن فهو ت�أكيد الغلبة العددية للموارنة بهدف تربير تعزيز موقعهم يف الإدارة ال�سيا�سية واالقت�صادية للبالد .ولهذا ال�سبب ،ظهر �أن الإح�صاء الذي نفذ عام 1921مل يخل من الأخطاء ،املتعمدة منها وغري املتعمدة .فح�سب العديد من الباحثني � ،أجري هذا التعداد بطريقة معينة ،ليظهر التوزيع الطائفي على النحو الذي �أراده الفرن�سيون ،وذلك بهدف �إعادة متثيل الطوائف يف الربملان املزمع �إن�شا�ؤه على �شاكلة جمل�س الإدارة� ،أي �أن متثل كل طائفة بح�سب ن�سبتها من جمموع ال�سكان� .أ�ضف �إىل ذلك �أن �سكان العديد من املناطق امللحقة ،رف�ضوا التعداد لرف�ضهم الدولة احلديثة التي ،وبح�سب ر�أيهم ،ان�شئت رغماً عنهم .ف�ض ًال عن �أن هذا التعداد �أجري بوا�سطة خماتري كل حارة �أو قرية ،فقدموا �أرقاماً ح�سب تقديرهم اخلا�ص لل�سكان يف املناطق التي تقع �ضمن �صالحياتهم .وهكذا ،ارتفع عدد �سكان لبنان يف هذا التعداد� ،إىل 609,070 ن�سمة[.]11 2
58
فكــــــر
نالحظ مما تقدم� ،إعادة هيكلة للتوزيع الطائفي ،بحيث هبطت ن�سبة امل�سيحيني يف جمموع ال�سكان، من � ،%79إىل ، %55.1وارتفعت ن�سبة امل�سلمني من %20من� سكان املت�صرفية� ،إىل حوايل %45 من �سكان لبنان ،وهذا ما �أزاح الثنائية املارونية -الدرزية ،لتحل مكانها ثالثية مارونية � -سنية - �شيعية �ستتبلور �أكرث ف�أكرث يف العقود الالحقة. كما �أن �أبرز املدن اللبنانية �شهدت بدورها ح�سب هذا التعداد ،حتو ًال كبرياً يف التوزيع الن�سبي للطوائف فيها[.]12 نالحظ يف اجلدول الذي و�ضعه �ضاهر� ،أن املوارنة مل يعودوا ي�شكلون �أكرثية يف �أي من هذه املدن. �إال ان مدينة بريوت بقيت الوحيدة التي يتمتع فيها امل�سيحيون ب�أكرثية ال�سكان (� .)%51.2أما بقية املدن فقد �شهدت تفوقاً عددياً وا�ضحاً لإحدى الطوائف على الطوائف الأخرى جمتمعة. فن�سبة ال�شيعة يف �صيدا و�صور �أعلى بكثري من بقية الطوائف ( %65.6و� .)%84.2أما يف طرابل�س ف�شكل ال�سنة ،%88.8فعدت طرابل�س ،بذلك ،املدينة ذات الن�سبة الأعلى من ال�س ّنة ،تليها بريوت التي بلغت فيها ن�سبة ال�س ّنة ..%42.49 وهكذا ،بد�أت املناطق اللبنانية ترتدي طابعاً طائفياً مميزاً يخفت �أحياناً ،مع ازدياد �أبناء الطوائف الأخرى ب�سبب نزوحهم من القرى املجاورة طلباً للعلم والعمل؛ ويعود للظهور �أحياناً �أخرى ،مع عودة ه�ؤالء النازحني �إىل قراهم ،يف �أوقات الأزمات ال�سيا�سية والأمنية. �إال �أنه بعد هذا التعداد بقليل� ،شهد لبنان حدثاً دميوغرافياً هاماً متثل بالهجرة الأرمنية الوافدة هرباً من املجازر الرتكية التي ح�صلت بحقهم .فتدفق ع�شرات الآالف من الأرمن ،و�سكنوا يف لبنان الكبري .ف�أتت هذه الهجرة ترفع من ن�سبة امل�سيحيني املقيمني[ .]13وهذا ما انعك�س ،ب�شكل �أ�سا�سي ،على نتائج الإح�صاء ال�شامل الذي �أجري عام .1932 وهنا جتدر اال�شارة �إىل �أن اح�صاء 1932اختلف عن �سابقه من حيث اجلدية يف تنفيذه ،التي متثلت يف منع التجول ملدة � 24ساعة ،وقيام جمموعة مدربة من املوظفني ب�إجراء امل�سح .فجاءت النتيجة لت�ؤكد خماوف الفرن�سيني ،لأن ن�سبة امل�سيحيني عام ًة واملوارنة خا�صةً ،انخف�ضت ب�شكل ملحوظ من � %55إىل .%51وبالتايل ارتفعت ن�سبة ال�سنة وال�شيعة لت�شكل تهديداً متزايداً لن�سبة املوارنة التي بقيت ،حتى ذلك احلني ،حتتل املركز الأول عددياً بني الطوائف[ .]14 كما نالحظ �أن عدد الروم الأرثوذك�س ،ح�سب كرباج وفارغ ،وحمادة ،قد تراجع من 81,409 ن�سمة عام � ،1921إىل 76,522عام � ،1932أي بن�سبة .]15[%6ويعود ،هذا الرتاجع �إىل عاملني، الأول هو الهجرة التي دفعت بعدد كبري منهم �إىل مغادرة لبنان؛ �أما الثاين ،فيعود �إىل اعتناق عدد كبري من الروم الأرثوذك�س التعاليم الربوت�ستانتية ،الأمر الذي يف�سر ارتفاع ن�سبة امل�سيحيني من الطوائف الأخرى. 59
�إال �أن ال�سبب الأ�سا�سي ،الرتفاع ن�سبة امل�سيحيني من الطوائف الأخرى يعود �إىل احت�ساب الأرمن �ضمن هذه الفئة .ذلك �أن املهاجرين الأرمن ،وعددهم ع�شرات الآالف� ،ساهموا يف زيادة ن�سبة هذه الفئة� .إال �أن هذا الرفع مل يقت�صر على ازدياد ن�سبة امل�سيحيني فح�سب ،بل باال�ضافة �إىل ذلك ،زاد من ن�سبة امل�سيحيني على ن�سبة امل�سلمني .وما يعنيه هذا �أنه لوال الأرمن لكان عدد امل�سلمني �أكرث من امل�سيحيني .وميكن ت�أكيد ذلك ب�سهولة .فلو اعتربنا �أن عدد «امل�سيحيني من الطوائف الأخرى» قد ازداد خالل ع�شر �سنوات بن�سبة ( %13مثل املوارنة) �أو بن�سبة %8.42 (مثل الكاثوليك) ،وجتاهلنا �إمكانية انخفا�ض عددهم كما ح�صل للأرثوذك�س ،نح�صل على رقم �أق�صى حد له هو 14,194 :ن�سمة .وهذا ما يجعل جمموع امل�سيحيني �( 363,094أما الرقم املدون يف �إح�صاء 1932فكان )402,363 :يف مقابل جمموع امل�سلمني وهو .383,180وهذه الزيادة ال ميكن تربيرها �إال من خالل الت�أكيد على �أن الإح�صاء �شمل الأرمن باعتبارهم �سكاناً لبنانيني مثلهم مثل �أي طائفة �أخرى و�صنفهم �ضمن فئة «م�سيحيون �آخرون»[.]16 كما ميكن باال�ضافة �إىل ما تقدم� ،إدراج بع�ض املالحظات الأخرى :الأوىل ،م�شاركة اللبنانيني (وخا�صة ال�سنة) بكثافة يف تعداد 1932خالفاً للإح�صاء الأول� ،إذ قاطعه عدد كبري من ال�سكان تعبرياً عن رف�ضهم للتق�سيمات االدارية اجلديدة لأنها ،رمبا ،تف�صل لبنان عن اململكة العربية املوعودة التي كان يدعو لها الأمري في�صل .كما ميكن �أن تف�سر هذه امل�شاركة ،يف حال ح�صولها، على �أنها تعبري عن رغبتهم يف االنخراط التام يف احلياة ال�سيا�سية والإدارية يف لبنان الكبري� .أما املالحظة الثانية ،كما يظهر يف اجلدول ،فهي ا�ستمرار منط ال يزال م�ستمراً لغاية اليوم ،يتجلى يف تراجع ن�سب امل�سيحيني حل�ساب ن�سب امل�سلمني. وهكذا ،بالرغم من اقتناع عدد كبري من الباحثني ب�أن نتائج هذا امل�سح مل ُ تخل من الأخطاء، باال�ضافة �إىل �أنها بعيدة عن الدقة ،ال تزال تعترب املرجع الأ�سا�سي الذي تعتمد عليه التقديرات ال�سكانية ،بطريقة �أو ب�أخرى ،باعتباره امل�سح ال�شامل الأخري الذي �أجري يف لبنان .وما تبعه من تعدادات مل تكن �إال درا�سات بالعينة �أو تقديرات �سكانية. وبالتوازي مع هذا امل�سح ،قدم «فيدمر» �أي�ضاً عر�ضاً ل�سكان لبنان بني 1922و1932؛ وهو عر�ض يظهر فيه جمموع ال�سكان ب�شكل خمتلف عما هو عند الآخرين. نالحظ من خالل ما قدمه فيدمر يف كتاب حمادة ،النظام االقت�صادي ،ارتفاع ح�صة بريوت من %14.62من جمموع ال�سكان� ،إىل ،%18.81وذلك على ح�ساب املحافظات كلها من دون ا�ستثناء، وخا�صة حمافظة ال�شمال .الأمر الذي يعك�س �أهمية بريوت العا�صمة بنظر ال�سكان الذين نزحوا لالقامة فيها باعتبارها املركز االقت�صادي والثقايف للبنان .ويخل�ص فيدمر �إىل «�أن الكثافة ال�سكانية بلغت 92ن�سمة يف الكلم وهي �أعلى كثافة مقارنة مع الدول املجاورة»[� .]17إال �أنها �أقل من الكثافة التي ح�سبها فولني يف القرن التا�سع ع�شر على �أرا�ضي املت�صرفية .كما ي�شري �إىل �أن ن�سبة �سكان 2
60
فكــــــر
املدن يف لبنان بلغت %34.8وهي �أدنى مما هي عليه يف �سوريا التي ترتفع �إىل . %41.24 �أما يف ما يتعلق بالتوزيع الطائفي لل�سكان ،ارتفعت ن�سبة امل�سيحيني عام 1943من %51.2عام � ،1932إىل ،%52.7ح�سب م�صادر عدة .ويعود هذا االرتفاع ،ح�سب كمال ديب� ،إىل جلوء عدد كبري من ال�سوريني والعرب امل�سيحيني لل�سكن يف لبنان ،وغالبيتهم من الأرثوذك�س[ ،]18وعودة ق�سم ال ي�ستهان به من امل�سيحيني من املهجر على �أثر الأزمة االقت�صادية العاملية عام 1929التي ا�ستمرت حتى منت�صف الثالثينيات ،ف�ض ًال عن تراجع الهجرة التي كانت بالدرجة الأوىل م�سيحية ،خالل احلرب العاملية الثانية. كما يبني فيدمر �أن امل�سيحيني متكنوا ،وللأ�سباب املذكورة �أعاله ،من حتقيق معدالت منو �سنوية �أعلى من تلك العائدة للم�سلمني� .إال �أن هذه الأرقام لن تلبث �أن تبد�أ باالنحدار مع نهاية الثالثينيات من القرن املا�ضي؛ ذلك �أن كمال فغايل يعترب �أن عام 1938كان �آخر عام ي�شهد تفوقاً عددياً للم�سيحيني[ .]19ويذهب بع�ضهم الآخر �إىل �أن املنا�صفة الن�سبية بني امل�سيحيني وامل�سلمني كانت ال تزال قائمة (ح�سب �سجالت دوائر النفو�س)[ ]20حتى عام .1975 ويتبني �أي�ضاً �أن لبنان حقق معدل منو �سنوياً قدر بـ ،%2.6وهو معدل يظهر نوعاً من الت�ضخيم �إذ �إن عدد الذكور يف عمر الزواج كان منخف�ضاً ب�سبب عاملني :الأول هو ت�أثري احلرب الأوىل ،وخا�صة بني عامي 1919-1914؛ والثاين ،الهجرة التي ح�صدت ما تبقى من ذكور[.]21 ال�سكان بني امللحقات والتوازن
مل يتوقف اخللل الدميوغرايف عن التفاقم .وح�صار املت�صرفية �أفقدها الكثري من �سكانها ،موتاً يف �أحوال جوع مل يعرفها اجلبل يف تاريخه� ،أو هرباً ملن ا�ستطاع الت�سلل من اجلبل املحا�صر .ومل يكد يخرج اجلبل من حمنة احلرب حتى دخل يف عهد جديد كان مبثابة ت�صفية ح�ساب مع ال�سلطنة العثمانية من جهة ،وجزءاً من ح�صة يف حفل اقت�سام املغامن للدول املنت�صرة ،من جهة ثانية؛ وتوزيعاً حل�ص�ص ما كان لبنان بوارد الوقوع يف ما ميكن �أن ت�ؤدي �إليه من تداعيات ونـتائج ،من تو�سعـه « لي�صبح لبنان الكبري ،دخل حلبة ال�سيا�سة اللبنانية جهة ثالثة .ذلك �أن جبل لبنـان يف ّ مزيد من الع�شائر املل ّوحة بالرايات الطائفية» . �أنهى �إعالن لبنان الكبري الو�ضع الذي كان عليه نظام املت�صرفية يف جبل لبنان .وانتقل التوزيع الدميوغرايف من حال �إىل حال مغايرة متاماً بفعل التحاق مناطق جديدة بلبنان الكبري .وهذه املناطق تنتمي ب�أكرثيتها �إىل مذاهب كانت ت�شكل �أقلية يف جمل�س �إدارة املت�صرفية .وبالتايل ف�إن التغري الدميوغرايف ال بد �أن يفعل فعله يف �ش�ؤون احلكم من ناحية ،ويف �ش�ؤون النظر �إىل امللحقات باعتبارها تابعة للجبل ومقوية من ع�ضده ،من ناحية ثانية .وولد هذا الو�ضع اجلديد 61
اختالفاً يف النظرة �إىل لبنان من اعتباره ذا وجه عربي لإر�ضاء امللحقات ،وقائماً بذاته ولذاته كوطن للم�سيحيني يف ال�شرق ،وجزءاً من حميطه الذي ال ميكن له اال�ستمرار بدونه .وال تزال هذه املواقف املختلفة مبثابة الهواء الذي يتنف�سه ال�سيا�سيون يف لبنان� .أتى االنتداب الفرن�سي عام 1920 ليغيرّ الواقع اللبناين ،ويعيد خلق الكيان املتمثل بجبل لبنان يف �شكله اجلديد الأكرب يف امل�ساحة وعدد ال�سكان .مت هذا الأمر يف الأول من ايلول 1920مع �إعالن اجلرنال غورو ،املفو�ض ال�سامي يف حينه ،لدولة لبنان الكبري .ت�ضمن هذا الإعالن �ضم �أق�ضية ومناطق جديدة �إىل لبنان ال�صغري ،مع كل ما احتوته من �سكان بعالقاتهم االجتماعية واالقت�صادية ومنط معي�شتهم وتنظيمهم ال�سيا�سي املرتبط مبا�شرة بال�سلطنة العثمانية من خالل والية بريوت �أو والية �سورية� ،أو غريهما .وهكذا انتقل لبنان بني ليلة و�ضحاها من �إدارة جلبل ال تزيد م�ساحته على 3500كلم �إىل كيان ي�ضم مقومات دميوغرافية وجغرافية واقت�صادية لإمكانية اال�ستمرارية والبقاء. مل يقت�صر الأمر على �إيجابيات ال�ضم والإحلاق ،من خالل الزيادة ال�سكانية ،وتو�سيع الرقعة اجلغرافية ،وزيادة �إمكانيات النمو االقت�صادي ،واالنفتاح على احتماالت جديدة� ،سيا�سياً واجتماعياً وثقافياً ميكن �أن تن�ش�أ بتفاعل مبا�شر بني املكونات الب�شرية للبنان اجلديد؛ بل تعدى ذلك �إىل ن�شوء �سلبيات متعددة ن�ش�أت عن هذه الإيجابيات بالذات .ذلك �أن امللحقات حملت معها ما هو خمتلف عن التوزيع ال�سكاين يف اجلبل� ،إن كان على �صعيد العائالت و�أدوارها يف مقاطعات اجلبل� ،أو على م�ستوى الطوائف و�أدوارها ال�سيا�سية ،باال�ضافة ،طبعاً� ،إىل ما كان ال يزال موروثا من �أزمنة �سبقت .فاملت�صرفية التي كانت حمكومة من مت�صرف م�سيحي من خارجها بوزن راجح م�سيحي ـ درزي ،بالإ�ضافة �إىل بع�ض الأقليات التي دارت يف فلكهما كامللكيني من الأرثوذك�س والكاثوليك بالإ�ضافة �إىل جتمعات حمدودة من ال�سنة وال�شيعة� ،أ�صبحت حتتوي على ثالث طوائف كربى :املوارنة وال�سنة وال�شيعة ،بالإ�ضافة �إىل ثالث �أقليات كربى :الدروز والروم الأرثوذك�س والروم الكاثوليك. فما قام به الفرن�سيون مل ي�أت نتيجة قرار �آين ،وال هو م ّر مرور الكرام ،فقد �سبق �إعالن لبنان الكبري ك ٌم هائل من املتغريات ال�سيا�سية والع�سكرية واالقت�صادية .ويف الوقت نف�سه �أدى �ضم املناطق اجلديدة �إىل جبل لبنان ردات فعل متفاوتة يف عنفها بني الرف�ض والت�أييد .ذلك �أن قرار ال�ضم خلق واقعاً جديداً ،كان على «اللبنانيني» التعامل معه .فق�سمهم منذ البداية بني مرحبني بلبنان الكبري (الكيان امل�ستقل) وبني راف�ضني له (باعتباره م�سلوخاً عن مملكة �أو �أمة ،عربية كانت، �أو �سورية �أو �إ�سالمية) .ا�ستحوذ هذا ال�صراع اجلديد على طاقات اللبنانيني التي ُ�سخرت كلها يف تفنيد �أ�سبابه .هكذا طوع كل فريق التاريخ واجلغرافيا واالقت�صاد ،ال بل اعتمد على الدين وعلمائه ليثبت �صحة دعواته ال�سيا�سية . 2
62
فكــــــر
بعد قرن من الزمان ،مل يخرج لبنان من الدوامة ،بل دخل يف العمق �أكرث ،وتك�شّ فت االنتماءات �إىل ما هو �أخطر .ودخل لبنان ،كما املنطقة ب�أ�سرها ،يف �أتون حرب غري مهيئني لها با�سم التغيري ،ف�إذا هي با�سم الروابط الأهلية الأولية من الداخل امل�ستقطب لكل االجتاهات الآتية من اخلارج حتت كل العناوين �إال عنوان الدميقراطية وامل�ساواة واملواطنة ،ومبختلف �أنواع الدعم با�سم الدميقراطية وامل�ساواة واملواطنة .فاختلط احلابل بالنابل وا�ست�أنفت الو�صايات الأجنبية م�سريتها القائمة على ت�أمني امل�صالح ،وعاد العرب �أدراجهم �إىل ما قبل قرن من الزمان ،ليتعر�ضوا �إىل حفل اقت�سام مغامن جديد ال ميكن �إال �أن يكون عوداً على بدء .ويبقى لنا �أن ن�أمل مبن ي�سري بنا ،ولو بخطى متعرثة، �إىل الأمام. امل�صادر: [ ]1م�سعود �ضاهر ،اجلذور التاريخية للم�س�ألة الطائفية يف لبنان ،معهد االمناء العربي 1981 ،بريوت� ،ص.240 [ ]2امل�صدر نف�سه� ،ص.240 [ ] 3روبري كرا�سويل ،القرابة وامللكية العقارية يف لبنان ،ترجمة مي�شال �أبي فا�ضل ،جمد ،1983 ،بريوت، �ص.29 [� ]4أنظر يف هذا اخل�صو�ص: � -ضاهر ،امل�س�ألة التاريخية ،مذكور �سابقاً� ،ص.237-238 ،232-233 [ ] 5علي راغب حيدر �أحمد ،امل�سلمون ال�شيعة يف ك�سروان وجبيل ،دار الهادي ،2007 ،بريوت� ،ص108- .109 [ ]6كرباج وفارغ� ،ص.16 [� ،Youssef Courbage et Philippe Fargues, La situation. ,,op. cit. p: 1 7 ]7أنظر �أي�ضاً: -م�سعود �ضاهر ،تاريخ لبنان االجتماعي ،دار الفارابي ،1974 ،بريوت� ،ص.54 [Youssef Courbage et Philippe Fargues, La situation..op. cit, p: 17 ]8 [Ibid, p;17 ]9
[� .]10أنظر للتف�صيل: -م�سعود �ضاهر ،تاريخ لبنان االجتماعي ،مذكور �سابقاً� ،ص.55-56 [Youssef Courbage et Philippe Fargues, La situation..,op.cit. p ; 21 ]11
[� ] 12ضاهر ،تاريخ لبنان االجتماعي ،مذكور �سابقاً� ،ص .55-56 [ ] 13كمال ال�صليبي ،بيت مبنازل كثرية ،م�ؤ�س�سة نوفل ،1991 ،بريوت� ،ص.72 :
63
[� ]14أنظر يف هذا اخل�صو�ص: � -سعيد حمادة( ،حمرر) ،النظام االقت�صادي يف �سوريا ولبنان ،مذكور �سابقاً� ،ص.453 : فواز طرابل�سي ،تاريخ لبنان احلديث ،ريا�ض الري�س للكتب والن�شر ،2008 ،بريوت� ،ص152 : -حممد مراد ،التملك وال�سلطة يف اجلنوب اللبناين ( ،)1975-1920من�شورات اجلامعة اللبنانية،2009 ، بريوت� ،ص.47 : [� ]15أنظر للتف�صيل: -حمادة ،النظام االقت�صادي يف �سوريا ولبنان ،مذكور �سابقاً� ،ص� .453 :أي�ضاً: Youssef Courbage et Philippe Fargues, La situation…op. cit. p: 21 [ ] 16للمزيد حول هجرة الأرمن �إىل لبنان� ،أنظر: -فيدمر« ،ال�سكان» ،يف :حمادة ،النظام االقت�صادي ،مذكور �سابقاً� ،ص �ص.24-27 [ ] 17امل�صدر نف�سه� ،ص6 [ ] 18كمال ديب ،هذا اجل�سر العتيق ،دار النهار للن�شر ،2008 ،بريوت� ،ص.327 : [ ] 19للمزيد من التف�صيل� ،أنظر: -كمال فغايل ،الو�ضع الدميوغرايف يف لبنان ،خمتارات ،2003 ،بريوت. [ ] 20كمال ديب ،هذا اجل�سر العتيق ،مذكور �سابقاً� ،ص327 : [.Courbage et Fargues, opt. cit, p : 22 ]21
64
فـكــــــــر
ال�رشق الأو�سط اجلديد و�إدارة التوح�ش �أديب الزين -كاتب م�ستقل
مع تو�سع الإنت�شارالداع�شي ك�سرطان جاهلي متوح�ش ،يدمر احلجر ،الب�شر ،احل�ضارة والثقافة، يكرث احلديث عن �سيناريوهات التق�سيم الطائفي �أو العرقي يف دول �سايك�س بيكو :العراق، �سوريا ،لبنان ،الأردن ،ال�سعودية ،اليمن ...الخ. وقفة ت�أمل يف جغرافيا املنطقة (الأر�ض وال�سكان) و�أحداثها املتبلورة يف ال�سنوات الثالثني الأخرية ت�ؤ�شر يف اجتاه تق�سيمي خمتلف� :إزالةتق�سيمات �سايك�س بيكو وا�ستبدالها مبكونات طائفية وا�سعة جغرافياً مع تغيريات �سكانية هائلة .املك ِّونات املطروحة هي يهودية�ُ ،سن ّية ،و�شيعية .النظرية اال�سرتاتيجية وراء هذا ال�سيناريو هو يف ت�أمني و�ضع ي�ؤ�س�س لرتكيبة طائفية م�ستقرة ت�ؤمن دميومة طويلة للهدف الأ�سا�س :دولة التوراة اليهودية من النيل �إىل الفرات .الفتنة ال�س ّنية ال�شيع ّية هدفها املحوري هو �إحداث تغيريات �سكانية تفر�ض اال�ستقطاب الطائفي الوا�سع داخل احلدود املفرت�ضة للمكونات الطائفية املزمع �إن�شا�ؤها .ال مكان يف هذا ال�سيناريو لكيانات طائفية �صغرية �أو قومية �أو علمانية. حذار هذا ال�سيناريو واال�ستخفاف ب�إمكان ح�صوله .لكن مع خطورته وجديته البالغة ،ف�إن �إمكانات و�سبل مواجهته موجودة ،لكن ت�ستدعي االرتقاء باجلبهة املقاومة له �إىل م�ستويات جديدة وجريئة من خالل ا�سرتاتيجية عابرة للحدود اجلغرافية والفكرية والدينية .العمل اجلاد على هزمية هذا ال�سيناريو و�إن�شاء نقي�ضه الكامن يف رحمه يجب �أن ال ّ يكل ...يف ال�سنوات الثالثني املقبلة. قبل الدخول يف �صلب املو�ضوع� ،أود �أن �أ�ؤكد 4نقاط هامة ال ُب َّد من تذكُّرها ك�إطار عام لفهم جمريات الأحداث يف �إطارها اال�سرتاتيجي ال�صحيح: الأحداث التاريخية اجل�سام تتبلور يف ع�شرات ال�سنوات ،لكن يتم الت�أ�سي�س لها يف حلقات متتابعة من �أحداث هامة قد ت�ستغرق ب�ضعة �أ�شهر �إىل ب�ضع �سنوات يف كل حلقة .هذه الأحداث الهامة عادة ما يتم التح�ضري لها خالل فرتات من الهدوء الن�سبي اخلادع .الفريق الذي يعمل بجد �أكرب ووعي ا�سرتاتيجي �أعمق يف زمن الهدوء ،يتمكن من حتقيق هدفه �أو �إف�شال �أهداف اخل�صم وخمططاته يف �أوقات احلدث الهام. 65
الإيهام واخلداع وامتالك عن�صر املفاج�أة ،عنا�صر هامة تتم ممار�ستها بحنكة يف زمن الهدوء ،كي تزيد ب�شدة بني هذه من احتماالت الغلبة لفريق على �آخر يف مراحل الأحداث الهامة .يجدر التمييز هنا ّ املمار�سات ملن ينفذ خطة ا�سرتاتيجية ،والكذب والنفاق الذي ميار�سه من ال قرار لهم وال خطة. القدرة على تبديل امل�سارات املرحلية التكتيكية يف حال تعرثت ،وحت�ضري املوارد املمكن ا�ستخدامها يف امل�سارات البديلة ،م�س�ألة حيوية ال�ستمرارية امل�سار العام للم�شروع اال�سرتاتيجي .هذه العرثات قد ينتج عنها خ�سائر وانتكا�سات كبرية �أو ت�أخري يف التوقع الزمني للم�شروع ،لكن يف كثري من الأحيان قد ينجح تبديل امل�سار يف �إنقاذ امل�شروع وا�ستكماله .على القوى املُواجِ هة �أن تبقى ثابتة يف م�سارها اال�سرتاتيجي العام امل�ضاد مع احلفاظ على هام�ش من املرونة واملناورة التكتيكية ال�ستيعاب امل�سارات اجلديدة التي يلج�أ �إليها امل�شروع الهدام ومواجهتها بالوعي واحلزم الالزمني. القوى الفاعلة ت�ستخدم الإعالم لت�سويق توجهاتها الآنية �أو املرحلية �أو اال�سرتاتيجية .الإعالم الآين �أو املرحلي يحاول توجيه الر�أي العام للتعاطف مع توجه معني� ،أو ن�شر �إ�شاعات لت�شويه حتركات القوى امل�ضادة� ،أو تبني مواقف قد تبدو معاك�سة للتوجه اال�سرتاتيجي للم�شروع ،ل�ضرورات �آنية تكتيكية ت�ستوجب متويه النيات احلقيقية .كي ُتفهم املداخالت الإعالمية على حقيقتها وعدم الوقوع يف خداع معظمها ُي ْ�س َت ْ�سقى املوقف احلقيقي فقط من املمار�سات التنفيذية املُ ْثبتة تاريخياً على �أر�ض الواقع ومن خالل فهم الأحداث الآنية واملرحلية يف الإطار اال�سرتاتيجي العام. ما هي تلك املكونات الطائفية الوا�سعة اجلغرافيا (�أنظر اخلريطة) وذات الرتكيبة ال�سكانية املختلفة التي يتم العمل على تركيبها بوح�شية فائقة عرب اقتالع ال�سكان الأ�صليني بوا�سطة املذابح والتهجرياجلماعي الق�سري؟ 1ـ دولة يهودية من النيل حتى الفرات (حتقيقاً لنبوءة عودة امل�سيح -الدفع العقائدي الأ�سا�س للمحافظني اجلدد يف �أمريكا) قوامها الرئي�س اليوم الكيان ال�صهيوين وت�ضم �أجزاء من �سوريا ،الأردن، العراق (غرب الفرات) وال�سعودية ومعظم لبنان� .سكانياً :يتم تهيئة 15مليون يهودي من �أنحاء العامل للتوطن يف املناطق الواقعة �ضمن حدود هذه الدولة ،والب�أ�س من بقاء ب�ضعة ماليني من غري اليهود يكونون مزيجاً مقهوراً من «الغوييم» خلدمتهم بتوليٍّ املهن الو�ضيعة (و�إلإيهام بالدميقراطية). لي�س بال�ضرورة �أن تتوىل �إ�سرائيل بنف�سها تركيب �أجزاء هذا الهدف التاريخي .يف ع�صر الت�شرذم واالنحطاط العربي الذي نعي�شه ،هناك كثريون من العرب يتولون هذه املهمة من حيث يدرون �أو اليدرون ،مقابل �أوهام حتقيق � ٍ أهداف ثورية� ،أو كيانات قومية �أو دينية �ضحلة ي�سهل حموها بعد �إمتام الغاية من وجودها� ...أو فقط مقابل �صورة يف البيت الأبي�ض .معظم �أهداف �إ�سرائيل املرحلية منذ ن�ش�أتها ،حتققت عرب ا�سرتاتيجيا وا�ستعداد با ِئ�سَينْ خل�صومها من العرب� ،أو �صراعات داخلية يف بالد العرب تزيل العقبات و متهد ال�سبل �أمام �إ�سرائيل. 66
فكــــــر
2ـ دولة �إ�سالمية �سنية قوامها الرئي�س اليوم تركيا وت�ضم باقي �سوريا ،اجلزء ال�شمايل من لبنان وجزءاً من العراق� .سكانياً :حماولة تهجري الأقليات امل�سيحية وال�شيعية وغريها قائم على قدم و�ساق. باملقابل ،الدعوة مفتوحة للبدائل ال�سلفية الوح�شية القادمة من كل �أ�صقاع العامل حتت ادعاء اجلهاد ،وبت�سهيل ملحوظ من املنظومة اال�ستخبارية الغربية /اخلليجية /الإ�سرائيلية و�إ�شراف مبا�شر للمخابرات الرتكية ،ويتم توطينها بتوفري املقام وتكوين العائلة واملدخول املايل .طبعاً بعد �أن ُيقتل �أعداد كبرية منهم يف غزواتهم التي التكِ ّل� ،أو يف ق�صف «ت�أديبي» من �أ�سيادهم لتقليم خمالبهم املتوح�شة وتلميع �صورة م�شغليهم ،والتهيئة لدور �أ�سيادهم املبا�شر يف الوقت املنا�سب. وللتمويه ،تتحدث الدول الغربية عن اخلطر الداهم الذي يرتب�ص بها عرب هجوم مواطنيهم من بني ه�ؤالء الإرهابيني ،ويتخذون خطوات الحتواء اخلطر كمثل �سحب اجلن�سية او التهديد بال�سجن الطويل يف حال العودة .ك�أنهم كانوا يف �سبات عميق لثالث �سنوات بينما الآالف من مواطنيهم، معظمهم ممن كان حتت املراقبة ل�شبهة التطرف الإ�سالمي ،فج�أة «يختفي»! �أو رمبا كانوا من�شغلني بالتح�ضري الحتفاالت �سقوط النظام ال�سوري ،يف حني كان مرا�سلو �صحفهم و�أقنيتهم التلفزيونية يبثون التقارير حول ن�ضاالت ه�ؤالء املواطنني يف �صفوف «الثورة» ال�سورية. الأحداث الهامة يف هذه احللقة من �صناعة تاريخ املنطقة ت�شي بالكثري حول دور تركيا املركزي يف الت�أ�سي�س للتغيريات «التاريخية» املرجوة .ع�شرات �آالف املقاتلني من �أنحاء العامل يدخلون �إىل �سوريا والعراق عرب تركيا من معابر على اجلانب ال�سوري ي�سيطر عليها امل�سلحون ب�إ�شراف املخابرات الرتكية ولي�س «تهريباً» .مع�سكرات تدريب ه�ؤالء امل�سلحني وغرف عملياتهم الرئي�سية ومراكز عالج جرحاهم ومداخل �إمداداتهم بال�سالح ومتوينهم وحليب �أطفالهم وخطوط ا�سرتاحتهم واملوجه�« .شنط» اخللفية كلها يف تركيا وعربها .املخابرات الرتكية تلعب الدور املنفذ واملن�سق ِّ الأموال النقدية متر عرب تركيا ،كما يتم فيها ترتيب بيع املنهوبات من نفط وم�صانع و�آثار ...الخ .و�إذا �أرادت تركيا يف امل�ستقبل و�ضع اليد على املناطق التي «يحررها» م�سلحو «�أهل ال�سنة» ،هل �سيكون من ال�صعب �إيجاد احلجج وامل�س ِّببات؟ تربيرات من منط «احتواء الإرهاب» �أو �إن�شاء «مناطق عازلة و�آمنة» ي�سهل ت�سويقها .وباملنا�سبة ،من اجليد �أن يتع ّود مئات الآالف من املهجرين (ومن املرتقب ال�سلطة الرتكية فما ال�ضري يف توطينهم على االرا�ضي ان يزيدوا �أ�ضعافاً يف ال�سنوات املقبلة) على ُّ ال�سورية والعراقية «املحررة» حتت احلماية الأمنية الرتكية -الأطل�سية ،و«الرعاية الإن�سانية» الغربية، ثم �ضمهم �إىل تركيا مع االر�ض بعد �سنوات عديدة يف «ا�ستفتاء دميقراطي» برعاية دولية؟ مالحظات �سريعة ت� ِّؤ�شر �إىل التن�سيق اال�سرتاتيجي لن�ش�أة الكيانني اليهودي والإ�سالمي ال�سني (املُ�صَ َّنع �أمريكياً) :ما هو �سر تركيز داع�ش الرئي�س هذه املرحلة جغرا ِف ّياً يف املنطقة بني نهري الفرات ودجلة والعمل على ال�سيطرة على ال�شمال ال�سوري من خالل الق�ضاء على التنظيمات الأخرى بالتن�سيق الوا�ضح مع تركيا ،يف حني �أن تن�سيق م�سلحي املعار�ضة ال�سورية جنوب الفرات �أكرب مع �إ�سرائيل :توجيه ا�ستخباري ،تن�سيق عمليات ع�سكرية ،ت�سهيل مرور والتفاف عرب اجلوالن وت�سليح وعالج جرحى؟ 67
وال�سني ب�شكل متزامن .الأولوية كانت لتويل لي�س بال�ضرورة �أن ين�ش�أ املكونان الطائفيان اليهودي ّ �إ�سرائيل الدفع لإن�شاء الدولة اليهودية �أو ًال ،معتمدة على الثقة التامة بقواها الذاتيةِّ .لكن م�سار املو�سعة �أوال تعثرُّ � ،إثر ف�شل �إ�سرائيل يف غزواتها التو�سعية �شما ًال .مت عندها تكوين الدولة اليهودية َّ نقل الرتكيز �إىل الكيان ال�س ِّني ،الذي يف حال جناحه ،يمُ ِّهد الطريق ملعاودة م�سار الكيان اليهودي يف وقت الحق �أكرث م�ؤاتاة. كم معلوم وميكن �ضبطه من خالل تركيا وقطر، اخليار ال�س ِّني الأول كان الإخوان امل�سلمني كونهم ٌّ كما �أن نظرية الدولة الإ�سالمية املو�سعة تتنا�سب مع عقيدة الإخوان� .أما اخليار البديل املتمثل يف التيار ال�سلفي التكفريي املَفتون بـ «دولة اخلالفة» ،فبالرغم من كونه �صنيعة الغرب وارتباطه الوثيق بالفكر الو َّهابي لل�سعودية ،لكن تنظيماته متعددة� ،أكرث تطرفاً ،واحتماالت انفالتها يف م�سارات ثانوية خا�صة بها وارد ...وهذا يتطلب من الغرب و�إ�سرائيل وتركيا مراقبتهم عن قرب و«ت�شذيب» النتوءات التي قد يربزها توح�شهم ،خارج اخلط املر�سوم. انطلقت جتربة الإخوان امل�سلمني كر�أ�س حربة مل�سار الكيان ال�سني ،العام 2009يف تون�س ،وتبعتها م�صر ،ليبيا واليمن يف �إطار ما �أطلق الغرب عليه «الربيع العربي» .مت ا�ستخدام النموذج نف�سه بنجاح :ا�ستنها�ض �شعبي عام ُج ِّند له ح�شد �إعالمي هائل ليتحول �إىل ثورة �شعبية ،تاله تدخل ع�سكري من اجلي�ش ليتم عزل ر�أ�س الدولة ،ما عدا ليبيا حيث ا�س ُتخدِ م التدخل الع�سكري اخلارجي املبا�شر .ان�ضم االخوان للحراك ال�شعبي بهدوء ك�أحد الف�صائل املُ�شاركة ،لكن بعد �إمتام قلب النظام والتوجه نحو االنتخابات لرتكيز النظام البديل ،كان الإخوان الأكرث تنظيماً وعلى �أمت اال�ستعداد لركوب املوجة و«ح�صد الأغلبية ال�شعبية» .طبعاً ح�صل كل ذلك حتت العني ال�ساهرة ملخابرات الغرب واليد ال�ضاغطة لرتكيا واملحفظة امللآنة لقطر. لكن وهج ال�سلطة فعل فِعله يف اهتزاز التوازن التنفيذي للإخوان فغرقوا يف رمال اال�ستئثار املتحركة حتمله ال�ستبعاده عن مواقع القرار خا�صة يف م�صر ...فكان انهيار و�أ�سا�ؤوا تقدير �سطوة اجلي�ش ومقدار ُّ النموذج الإخواين ،م�ؤقتا على االقل .عندها ،كان ال بد من تفعيل اخليار البديل :ال�سلفي التكفريي. يف الواقع اجلغرايف اليوم ،يتم العمل على ت�أ�سي�س الكيان ال�س ِّني من خالل م�سارين �أ�سا�سيني: داع�ش لتثبيت اجلغرافيا امل�ستقبلية� :شمال الفرات زائداً �شمال �سوريا .والفتنة ال�سن ّية ال�شيع ّية أوج ٍه خمتلفة والتي حتقق هدفني �أ�سا�سيني� :إنهاك وحتجيم القوى التي ميكن ان التي ت�ضرب ب� ُ تواجه هذا امل�شروع ،وبالتايل ت�سهيل اجتياح �إ�سرائيل لها يف الوقت املنا�سب؛ واقتالع ال�شيعة والأقليات من �سوريا ولبنان و�أجزاء من العراق. مو�سع ح�سب احلاجة ،بعد «�إعادة يبقى الإخوان خياراً ميكن تفعيله م�ستقب ًال ٍ ب�شكل حمدود �أو َّ ت�أهيل» وتهيئة املحيط املنا�سب� .آالف امل�سلحني من «م�شتقات» الإخوان امل�سلمني ُد ِّربوا و�آالف �آخرين يتم ت�أهيلهم وتدريبهم يف تركيا ،الأردن ،الداخل ال�سوري والعراقي ،ليبيا� ،سيناء� ،إ�سرائيل، 68
فكــــــر
وم�ؤخراً يف ال�سعودية لت�أدية عدد من املهمات على الأر�ض بع�ضها يف الوقت احلا�ضر (املنطقة العازلة يف اجلوالن ،ا�ستنزاف النظام ال�سوري ،م�شاغلة حزب اهلل يف لبنان ،االبتزاز الأمني مل�صر) وبع�ضها ال�س َّنة املحررة» يف �سوريا والعراق ،ابتزاز الآخريتم �إعداده ملهام م�ستقبلية (حفظ الأمن يف «مناطق ُ �أمني للأردن �أو ال�سعودية �إذا لزم الأمر ،مواجهة احلوثيني يف اليمن� ...إلخ). هنا قد يربز �س�ؤال هام :ما هي م�صلحة ال�سعودية يف امل�ساهمة يف م�سار يكون امل�ستفيد الرئي�س فيه تركيا ويربزها كمتزعمة لل�س َّنة؟ اجلواب متعدد اجلوانب .الهدف اال�سرتاتيجي غري معلن ويجري متويهه ب�إعطاء ال�سعودية دوراً بارزاً يف العديد من الق�ضايا الإقليمية املرحلية التي ال ت�ؤثر على امل�سار اال�سرتاتيجي ،وبع�ضها قد يوهم بـ «تقلي�ص» النفوذ الرتكي .كما و�أن حكم العائلة املالكة مرهون باحلماية الغربية يف ظل ت�سلطها مع بع�ض العائالت القريبة منها على معظم موارد اململكة .و�أخرياً، يحمل الغرب �سيفاً م�سلطاً فوق ر�ؤو�س حكام ال�سعودية يف ما يخ�ص خمالفات حقوق الإن�سان وارتباط الفكر الو َّهابي يف دعم نهج التطرف الإ�سالمي الذي ميار�س متييزاً عن�صرياً وح�شياً �ضد املذاهب والأديان الأخرى ،وي�ضم يف �صفوفه ن�سبة عالية من اجلن�سية ال�سعودية .باخت�صار :التوجه اال�سرتاتيجي يتم حتديده وتنفيذه على م�ستوى �أعلى من الذي يقدر عليه الت�أثري ال�سعودي. �إن�شاء املك ِّون ال�س ِّني �أو ًال ي�سهل ت�سويقه �إعالمياً بالرغم من هول امل�آ�سي التي يفتعلها م�ساره :يتم ُ� َإخراجه من خالل معارك طاحنة �أبطالها �إرهابيو العامل «ال�سلفيني» �ضد «الإرهابيني» الآخرين املنتمني لـ «التطرف ال�شيعي» ،ومي ِّهد الطريق للمك ِّون اليهودي ب�أقل اخل�سائر لإ�سرائيل؛ و�أي�ضاً يدفع نحو تفعيل م�سار الكيان ال�شيعي .وهكذا يكون «العامل احلر» قد �أ َّمن اخلال�ص من �إرهابيي العامل بتوجيه �إرهابهم �إىل نحور بع�ضهم البع�ض ،وم َّهد ل�شرق � ٍ أو�سط جديد �أكرث �أمناً وا�ستقراراً وازدهاراً عرب تفعيل اال�ستقطاب ال�سيا�سي وال�سكاين املن�سجم مع الن�سيج الطائفي للمنطقة. يق�ضي هذا ال�سيناريو �أن تكون ال�سنوات املقبلة حبلى بالأحداث اجل�سام التي تدفع امل�سيحيني وغريهم من الأقليات �إىل الهجرة �إىل الغرب� .أما لمَِن جنا من القتل من ال�شيعة والعلويني ف�إىل جنوب العراق و�إيران؛ وال�س َّنة �إىل دولة اخلالفة (بعد تبني الفكر اجلاهلي املتزمت �أو القتل) متهيداً ل�ضمهم لرتكيا .هذا الفرز ال�سكاين الطائفي ُيعترب �ضرورياً لال�ستقرار الداخلي للدول الثالث النا�شئة ،ومق ِّل�صاً لدواعي التنازع بينها .هذه املتغريات اجلذرية يف املنطقة ت�صبح ممكنة بعد التدمري والتغيري املمنهج لوجه املنطقة احل�ضاري والثقايف والتاريخي ،والإرهاق االجتماعي واالقت�صادي للموارد الب�شرية واملادية ،مع ورود ماليني �سكانية جديدة من كل �أنحاء العامل ترى يف الكيانات اجلديدة مالذاً وحتقيقاً لتطلعاتها وم�ستق َّراً للعي�ش مبوجب عقيدتها. املدمر ي�ؤمن لهيمنة الغرب وو�سطائه على م�صادر الطاقة وممراتها ،والعقود هذا املخا�ض الدموي ّ الفاح�شة الأرباح ل�شركاته ،والأهم هو ُّ التحكم يف ن�ش�أة الكيانات ال�سيا�سية املالئمة لدميومة تاريخية 69
للدولة اليهودية قد تطول عقوداً عديدة �إن مل تكن قروناً� ...أو حتى عودة امل�سيح! عمليات �سرقة الأر�ض وامل�ساكن والدعم املايل واالجتماعي ،مع جتذير الوجود امل�ستجد لأنا�س قادمني من دول كثرية من خالل بث الفكر املتزمت احلاقد ...قوا�سم م�شرتكة يف الأ�سلوب والتنفيذ بني �إ�سرائيل ربيبة احلركة ال�صهيونية العاملية ورديفتها داع�ش ،ربيبة تركيا ،ومن خلفهما ُب�ص َو ٍر وحِ ٍلل و�أ�ساليب متنوعة :احللف الأطل�سي و الواليات املتحدة .امل�شاهد التي نراها يف الرقة، دير الزور ،حماة ،املو�صل� ،سنجار ،تكريت� ...إلخ؛ ال تختلف عن امل�شاهد املوثقة عن هدم القرى، املذابح وقتل وتهجري املدنيني يف فل�سطني � 1948أو � 1967أو يف غزة وجنوب لبنان �أو ذبح وتهجري فحدث وال حرج عن القتل .بدءاً الأرمن يف تركيا �أوائل القرن الع�شرين� .أما املح ِّركون الأ�سا�سيون ِّ بهريو�شيما ،مروراً بكوريا ،فييتنام� ،أمريكا الالتينية� ،أفغان�ستان ،يوغو�سالفيا ،ال�صومال ،العراق... كلها «حروب ا�ستباقية» �أ�س�ست للتواجد الع�سكري الأمريكي والأطل�سي يف تلك املناطق على جماجم املاليني من مدنييها ،والذين يطلق عليهم من دون رفّة جفن تو�صيف «�ضحايا َع َر�ضية». التن�سيق اال�سرتاتيجي على �إجناز هذا ال�سيناريو وا�ضح املعامل بني �إ�سرائيل وتركيا ومن خلفهما الغرب .و�إذا جنح معظم هذا اجلزء من ال�سيناريو ،عندها قد تنجر �إيران �إىل تنفيذ اجلزء الأخريحماية لوجودها و«�إنقاذ» ما �أمكن من ال�شيعة وفروعهم املذهبية! اليوجد دالئل حتى الآن �أن التعاون الرتكي ـ الإيراين �أو التفاو�ض الغربي ـ الإيراين يت�ضمن تنفيذ هذا ال�سيناريو .من املحتمل �أي�ضا �أن تركيا تقوم بخدعة تاريخية مع �إيران ،كما فعلت من قبل (وجنحت) مع �سوريا قبل االنق�ضا�ض عليها؛ �أو �أنَّ �إيران تعمل وفق قاعدة «�أبق �أ�صدقاءك قريبني لك ،و�أعداءك �أقرب»! الأحداث امل�ستقبلية وحدها تك�شف احلقيقة. 3ـ دولة �إ�سالمية �شيعية قوامها الرئي�س اليوم �إيران وت�ضم جنوب وبع�ض و�سط العراق ،مع �إمكانية تو�سع حمدود �إىل اخلليج� ،أفغان�ستان وباك�ستان� .سكانياً ،يلج�أ معظم ال�شيعة والعلويني املهجرين وبع�ض الأقليات �إىل مناطق �آمنة لهم يف جنوب العراق و�إيران كما ميكن ا�ستيعاب ق�سم كبري من الأقلية ال�شيعية (التي �سيزداد ا�ضطهادها) يف �أفغان�ستان وباك�ستان� ...إ�ضافة �إىل َمن يرغب من �شيعة العامل. �إيران بعد � 10أو � 20سنة م�ستقب ًال قد تكون غريها اليوم .ف�شلت حماوالت التغيري يف �إيران دخو ًال من الباب الرئي�سي :ا�ستكماال الجتياح العراق العام � 2003أو ق�صف النووي ،فهل ينجح الدخول من الباب اخللفي؟ هل تكون �إيران الهدف التايل عرب تركيا بعد �سوريا والعراق؟ �أمل تبد�أ �أحداث هذين البلدين بتظاهرات مكثفة تطالب بـ «احلرية» و «حماربة الف�ساد» و «�إ�سقاط النظام» ثم تلتها الع�سكرة؟ ف�شلت املحاولة الأوىل لتفعيل التظاهرات الوا�سعة �إىل حراك �شامل �أثناء انتخابات الرئا�سة العام .2009لكن تهيئة الأجواء للحراك التايل مل تتوقف يف زمن الهدوء اخلادع واملفاو�ضات «املط ْمئِنة» ورمبا تنتظر الإ�شارة ب�أن حت�ضريات الع�سكرة باتت جاهزة!ال�ضغط االقت�صادي على �أ�شُ َّده و تدريب جماهدي خلق وتنظيمات �أخرى مل يتوقف :ابتد�أ على نطاق 70
فكــــــر
وا�سع يف العراق �أثناء االحتالل الأمريكي وتوزع على مناطق عدة من دول الفلك الأمريكي بعد رحيل االحتالل العام ،2012مع متو�ضع كبري يف تركيا وباك�ستان� .إيران التي تنا�سب امل�شروع اال�سرتاتيجي الطائفي تكون �أكرث ُّ جتذراً يف «�شيعيتها» والهدف هو �إي�صالها بالتدريج �إىل هذا التمو�ضع عرب �أحداث وح�شية متتالية عنوانها الفتنة ال�سنية -ال�شيعية. العقل ال�شيطاين الذي يبني هذا ال�سيناريو ،يفرت�ض �أن التوزع اجلغرايف وال�سكاين اجلديد ي�ؤمن و�ضعاً �أكرث ا�ستقراراً ملنطقة ال�شرق الأو�سط ،وحتى مناطق �أخرى من العامل؛ يف الإطار الأ�سا�س املتمثل ب�إن�شاء ودميومة دولة �إ�سرائيل الكربى .هذه الكيانات الطائفية الثالث لن يحتاج �أي منها �إىل �إلغاء الآخر ،البل يكون لكل منها من التجان�س الطائفي الداخلي واملوارد الطبيعية والب�شرية ما يعزز �سعيها لعدم الإخالل بالو�ضع امل�ستحدث ،و�أن تقبل به و�إن على م�ض�ض يف البدء ،ومع الوقت ،تتقبله وتعمل على دميومته. بالطبع هناك مناطق عدة مرتوك م�صريها النهائي ومتو�ضعها يف �إطار التوزع الطائفي املتبلور عرب ال�سنني .احلدود النهائية قد تتطلب �سنوات طويلة حل�سمها وتكون نتيج ًة للمناو�شات الع�سكرية بني املكونات الطائفية النا�شئة� ،إمنا تكون حم�صورة يف مناطق التما�س على الأطراف من دون امل�سا�س بالهيكل اجلغرايف الأ�سا�سي لتلك املكونات .منطقة اخلليج و�أجزاء من كرد�ستان وو�سط العراق وبع�ض اجلزء ال�شمايل والغربي من �سوريا هي مثال لتلك املناطق. حتقيق هذا ال�سيناريو يتطلب توفري الظروف امل�ؤاتية لتبلوره وجناحه �أمنيا و�سيا�سيا و�إعالميا وب�شريا: �إبقاء املنطقة كلها يف حالة من الغليان ،قد تكون على مراحل تتخللها فرتات من الهدوء ،كي ي�سهل الدفع باجتاه املتغريات اجلغرافية وال�سكانية املطلوبة عند ن�ضوج التوقيت املنا�سب. ال�سيطرة الأ�سا�سية يف �ضبط الإيقاع الرئي�سي هو للمخابرات الأمريكية ،الغربية والإ�سرائيلية، والتي تقوم بتوزيع الأدوار التف�صيلية على م�ستوى املناطق للمكونات اال�ستخبارية التابعة واملتعاونة فع ًال �أو حتييداً ،والتي تتوىل بدورها توزيع املهام التنفيذية بوا�سطة عمالئها وو�سطائها على الأر�ض. ا�ستخدام �أجواء «مكافحة الإرهاب» ل�ضبط �إيقاع عمل التنظيمات الإرهابية التي ُت�ستخدم يف �إبقاء حالة «الفو�ضى اخل ّالقة» قائمة .يتم تفعيل وت�سهيل هذا الإرهاب يف املوا�ضع املطلوب تدمري بنيتها اجلغرافية وال�سكانية ،يف حني يتم حماربة هذه التنظيمات الإرهابية نف�سها يف موا�ضع منتقاة ل�ضبط حراكها ومنا�سبته لظروف ومتطلبات كل مرحلة ،وللتعمية على الدور احلقيقي للمحرك الرئي�سي يف �إن�شائها وت�سهيل مهامها. المكان لن�ش�أة كيانات عرقية مثل كرد�ستان �أو كيان طائفي هام�شي مثل كيان م�سيحي �أو علوي �أو درزي .هذه املكونات الثانوية قد يتم تفعيلها وا�ستخدامها يف بع�ض املناطق واملراحل ب�شكل م�ؤقت قد يدوم ل�سنوات ،لكن لن ي�سمح لها بتكوين وجود م�ستقل دائم لها ،البل �سيتم يف الوقت املنا�سب ت�أمني 71
�إخ�ضاعها �أو احتوائها �ضمن املكونات الطائفية الرئي�سية الثالث �أو ا�ستيعابها يف الغرب كمهجرين. اخلداع هو الأ�سلوب الأ�سا�س الذي ي�ستخدمه املخططون اال�سرتاتيجيون يف هذه املرحلة بحيث يتم دعم وا�ستخدام مكونات م�سلحة ت�ستميت لتحقيق �أهداف مو�ضعية� ،إ ّما مبا�شرة �أو من عدة ال�شغل متنوعة :خلق حاالت �إن�سانية هائلة ثم التدخل حللها وم�ساعدتها، خالل و�سطاءّ . �أو ا�ستخدام مواد حمرمة و�إلبا�س التهمة للطرف املنوي �إخ�ضاعه� ،أو تفعيل �ضغوط اقت�صادية �أو مالية �أو �أمنية حتى مع و�سطائهم لدفعهم للتعاون غري املحدود� .إنَّ ا�ستخدام املتطرفني العقائديني ين�صب نف�سه قا�ضياً وحكماً ومتربعاً ومنقذاً و�شريكاً... عرب الو�سطاء والوكالء ي�سمح للج ّالد �أن ِّ والهدف هو �أن يكون و�صياً على مايتحقق يف كل مرحلة. اال�ستخدام اخل َّالق للإعالم بهدف �صناعة البيئة الفكرية وال�شعبية واالجتماعية املالئمة لأهدافه .املطلوب هو حتويل الأنظار عن ال�صراع الأ�سا�س وتوجيهها �إىل �صراعات �أخرى من �صناعته وت�أليفه ،وت�شويه �صورة و�سمعة من ميار�س ا�سرتاتيجيات م�ضادة قد تعيق �أو تهزم توجهاته. اخلطوات التي �أجنزت نحو حتقيق هذا ال�سيناريو حتى اليوم تبدو كثرية ومتقدمة .لكن هذا امل�شروع �أ�صيب بانتكا�سات هامة يف ال�سنوات الـ 15املا�ضية .ال�سري بثبات وقوة يف امل�سار اال�سرتاتيجي امل�ضاد الذي �أجنز هذه االنتكا�سات ،من �ش�أنه �أن يعك�س التيار ويهزم حلقات متتالية م�ستقبلية من امل�شروع ،ما قد يلغيه؛ البل وي�ؤ�س�س لربوز م�شروع م�ضاد نه�ضوي ،قد يغيرِّ جغرافيا املنطقة وتاريخها. هذا ال�سيناريو لي�س حكماً حمتوماً .لكن هزميته الميكن �أن ت�أتي من اخلارج ،بل من قوى داخلية ترتقي �إىل م�ستوى املواجهة ،متجذرة يف �شعبها وتت�سلح بالعدة الفكرية والتنظيمية والع�سكرية التي ِّمتكنها من التفوق على املقدرات الهائلة املوظفة لإجناز هذا امل�شروع الطائفي على مدى العقود الآتية من تاريخ املنطقة. �أين جنح م�شروع الدول الطائفية الثالث و�أين ف�شل؟ وما هي العوامل التي يحملها يف رحمه، التي ميكن �أن تعيق منوه والق�ضاء على �إمكانية والدة ُد َولِه امل�شوهة �إن�سانياً ،على جماجم و م�آ�سي ع�شرات املاليني من �أبناء املنطقة؟ �إقر�أ للكاتب: http://www.khabaronline.com/PAD.aspx?Id=4260 http://www.khabaronline.com/PAD.aspx?Id=4278 http://www.khabaronline.com/PAD.aspx?Id=4350 http://newspaper.annahar.com/article/186979-
ال�شرق-الأو�سط-اجلديد-ثالث-دول-طائفية 72
التغيري عرب التف�سري
فـكــــــــر
الدين والدولة بني الو�صل والف�صل واملطابقة واملراوحة
1
حيدر حاج �إ�سماعيل -باحث و�أكادميي يبدو �أن ثمة فراغًا عقائديًا وا�سعًا موجودًا يف طول العامل العربي وعر�ضه دفع �شعوبه �إىل العودة �إىل دفرت احل�سابات العقيدية القدمية عموماً والكتب العقيدية الدينية على وجه اخل�صو�ص مللئه ،بغية �صد امل�ؤامرات الأجنبية الع�سكرية منها والفكرية! توحيد ال�صفوف وخلق اجلبهات القادرة على ّ لن نخ ِّو�ض ،يف بحثنا احلايل ،يف م�س�ألة حتليل �أ�سباب وظروف ذلك الفراغ العقيدي املخيف حقًا، ن�سجل الإ�شارات الآتية التي ت�صلح �أن تعتمد ،هي وغريها ،يف بحث خا�ص يف لكننا نكتفي ب�أن ّ امل�ستقبل: �سقوط جميع اجلبهات الع�سكرية وال�سيا�سية والإعالمية يف احلرب مع العدو ال�صهيوين ممثلاًبدولته االغت�صابية لفل�سطني�« ،إ�سرائيل» .وما جنم عن تلك الهزائم من زعزعة يف الثقة وخلخلة �أي �أمل بقدرة الب�شر على حتقيق الفوز املبني. ف�شل الأنظمة ال�سيا�سية يف العامل العربي يف براجمها االقت�صادية وظهور �أفواج وا�سعة منالعاطلني عن العمل والفقراء .والفقر م ّلة واحدة. 1املق�صود بالو�صل مفهوم حركة الإخوان امل�سلمني مث ًال ،والف�صل املفهوم العلماين للدولة واملطابقة اعتبار الدين هو الدولة والدولة هي الدين ،و�أو�ضح ما جت ّلى ذلك عند الع ّالمة حممد ح�سني ف�ضل اهلل (رحمه اهلل) ،وهذه �شهادته التي ذكرها يف مقابلة �أجرتها معه جريدة «اخلليج» ون�شرت يف .2013/6/28ي�صف ال�شيخ العالقة بني الدين وال�سيا�سة مب�ستوى عالقة املطابقة .يقول�« :إن م�سالة الف�صل بني ال�سيا�سة والدين ت�شبه م�س�ألة ان تف�صل ال�شيء عن ذاته �أو �أن تف�صله عن عمقه» .ومعنى ذلك وا�ضح ،فهو يرف�ض مبد�أ العلمانية القا�ضي بف�صل الدين عن الدولة ،وهو ،وب�صراحة جميلة ،يربط بني الدين وال�سيا�سة ربطاً قوياً ،جوهرياً ،مفيداً �أنّ وجود الدين وجود ال�سيا�سة وعدمه عدمها. ولكي يثبت ال�شيخ ال�سيد فكرته ،يذكر ما ي�أتي« :لأن املفهوم القر�آين للهدف الأ�سا�سي من الر�ساالت حددته الآية الكرمية التي تقول« :ليقوم النا�س بالق�سط» .ومي�ضي �شارحاً فيقول« :معنى ذلك �أن �إر�سال ّ الر�سل و�إنزال الكتب كان من �أجل مهمة �أ�سا�سية يف حياة النا�س لأنها تت�صل بطبيعة احلكم يف �أي حجة العدل .وك�أين به قائ ًال :مبا �أن العدل �أ�سا�س احلجة التي يقدمها ال�س ّيد هي ّ موقع من املواقع»� .إذاًّ ، ُ ْ املُ ْلك ،والقر�آن ي�أمر بالعدل� ،إذاً هو ي�أمر بامللك �أو الدولة. 73
- - -
انهيار الأنظمة اال�شرتاكية يف العامل بانهيار االحتاد ال�سوفياتي. جناح التجربة الإيرانية الدينية. الأموال الكبرية التي ت�صرفها بع�ض الدول العربية وغريها على بع�ض التيارات وامل�ؤ�س�سات الدينية. ال�ضعف الن�سبي للحركات العلمانية يف املنطقة العربية ،على ال�صعيد ال�شعبي.
تلك الأ�سباب والظروف �أفقدت النا�س الإميان بقدرة الأر�ض و�أهلها على الإنقاذ فاجتهت العقول، كما يبدو ،نحو ال�سماء وكتب ال�سماء .ف�صرنا جند احلركات الأ�صول ّية يدها الأقوى يف طول العامل العربي وعر�ضه. فعل لي�س له مقومات للثبات يف ع�صر �صارت نحن نعتقد� ،أن تلك احلركات لي�ست �سوى ر ّد ٍ اجلبهات فيه جبهات �أمم ولي�ست جبهات �أديان وال�صراع فيه �أ�صبح �صراع م�صالح قومية ولي�س �صراع م�ؤمنني �ضد كافرين. هذه احلقيقة الع�صرية مل تقدر احلركات الأ�صولية على التنكر لها ،لكنها ،بالن�سبة �إليها ،مازالت مظه ًرا ولي�ست اجلوهر .من هنا اعتقادنا بعدم قدرة تلك احلركات على البقاء �إال �إذا حت ّولت �إىل حركات قومية ع�صرية من طراز ممتاز وهو الأمر امل�ستحيل يف نظرنا. مع ذلك ،مع كل الذي ذكرناه ،نرى ان مو�ضوع الدولة الدينية مطروح يف هذه الأيام بقوة حتى يف املجتمعات التي ال يتمتع �أفرادها بتجان�س مذهبي مثل جمتمعنا ال�سوري يف الهالل اخل�صيب. و�إذا كان املجتمع املتجان�س مذهب ًيا ،يف قطر من الأقطار ،ال ي�ض ّره كث ًريا العزف على وتر الدولة الدينية �أو حتى �إقامتها ف�إن املجتمع املتعدد املذاهب يق�سمه منطق الدولة الدينية �ش ّر ق�سم ٍة ويبعرث قواه ويرتكه لقمة �سائغة للإرادات الأجنبية اال�ستعمارية الطامعة .واحلق ُيقال� ،إن للدولة الدينية خا�صا له عجائب �سبع نذكرها يف ما ي�أتي: منطقًا ً � 1إذا كانت الدولة الدينية حقًا ،ف�إن كل جماعة دينية لها احلق ب�إقامة دولتها اخلا�صة بها .وهكذا تكون النتيجة �إقامة دولة دينية �سن ّية ودولة دينية �شيع ّية ودولة دينية درزية ودولة دينية علو ّية ودولة دينية مارونية ودولة دينية �أرثوذك�سية الخ .يف املجتمع املتعدد املذاهب .وتكون النتيجة الأخرية تفتيت املجتمع وزجه يف حروب دينية مما يعني انهياره الكلي وانعدامه. 2ومنطق الدولة الدينية يفيد �أي�ضً ا ما ي�أتي :مبا �أن لكل جماعة دينية احلق يف �إقامة دولتها الدينية امل�ستقبل ّية .ومبا �أن اليهود جماعة دينية� .إذن يحق لليهود �إقامة دولتهم الدينية امل�ستقلة! وهذا معناه �أن منطق الدولة الدينية �سيقود �أ�صحابه �إىل االعرتاف «بدولة �إ�سرائيل» ،دولة االغت�صاب ال�صهيوين لفل�سطني واملحتلة جزءاً من جنوب لبنان واجلوالن! 74
فكــــــر
حمدد 3ومن عجائب الدولة الدينية �إ ّدعاء �أهلها ب�أن الدولة لها �سيادة على � ٍ أر�ض معينة �أو قطر َّ تزعم �أنها متلكه ،و�أن ال �إرادة �إ ّال �إرادتها فاعلة فيه .يف حني �أن الدين يقول ب�أن امللك هو ملك اهلل وحده و�أن ال �شريك لإرادته يف الدنيا والآخرة. 4والدولة الدينية� ،إذا وجدت ،يجب �أن تكون مثل الدين .ف�إذا كان الدين للعاملني �أو عامل ًيا، فيجب �أن تكون الدولة الدينية عاملية .لذلك ف�إن كل دعوة لدولة دينية حمددة يف قطر معني ما هو �إ ّال تف�صيل للمنطق الديني على غري مبدئه العاملي. � 5إنَّ الدولة الدينية من �صنع الب�شر .فهناك يف تاريخ الإ�سالم املحمدي ،على �سبيل املثال ،دولة اخللفاء الرا�شدين ،وهناك دولة الأمويني ،ودولة الع ّبا�سيني ،ودولة الفاطميني ،ودولة العثمانيني ودالت (زالت) وغريهم .مع ذلك ّيدعي ا�صحاب الدولة الدينية �أن تلك الدول التي قامت ْ هي من �صنع اهلل! املقد�سة ،يف حني �أن معارف تلك 6ثم ،الدولة الدينية يريد دعاتها �أن ي� ّؤ�س�سوها على الكتب ّ الكتب روح ّية وتهذيب ّية وت�شريعها مدين ولي�س �سيا�س ًّيا. 7والدولة الدينية هي عرب ّية عند العرب وغري عرب ّية عند غري العرب .لذلك جندها تنتج خالفًا يف حني ان الدين جوهره الوفاق. نح�صل النتائج الآتية: من كل ما تقدم ّ �إن تطبيق نظرية الدولة الدينية يف جمتمعنا ال�سوري يف الهالل ال�سوري اخل�صيب جرمية يجبمنع تنفيذها. �إن دعاة الدولة الدينية يدعمون من حيث يدرون �أو ال يدرون بقاء الدولة ال�صهيونية «�إ�سرائيل». �إن رجال الدين يف الدولة الدينية مهما بلغوا من «العلوم الدينية» ال يقدرون على ال�سيا�سةواالقت�صاد واال�سرتاتيجيات والتكنولوجيا املتقدمة و�ش ّتى فنون الإرادة واملحا�سبة والإح�صاء والتخطيط العلمي امل�ستقبلي ،وغريها من متطلبات الدولة احلديثة .لذلك يجب الف�صل بني التدخل يف �ش�ؤون ال�سيا�سة القومية والق�ضاء القومي الدين والدولة ،ومنع رجال الدين من ّ اللذين يجهلونهما وال يقعان يف دائرة اخت�صا�صهم. �سعاده والدين
يف خامتة الف�صل ال�ساد�س من كتاب :ن�شوء الأمم ،يقول �سعاده� ،إن القومية هي الدين االجتماعي اجلديد الذي �أ�صبح �أ�سا�س الدولة احلديثة .هذا بال�ضبط قول �سعاده: 75
«عند هذا احلد نقف يف ا�ستعرا�ضنا ن�شوء الدولة وتطورها لننتقل �إىل در�س الأمة والقوم ّية لنعرف املتحد االجتماعي و�أهميته التي �أ�صبحت دين الب�شرية يف الع�صور احلديثة ّ وغطت حقيقة هذا َّ 2 �شخ�صيتها القوية الف ّعالة على �شخ�صية الدولة. ال�س�ؤال الذي ين�ش�أ الآن هو الآتي :هل يق�صد �سعاده بالدين اجلديد ان يكون بديلاً عن الأديان ال�سماوية؟ اجلواب هو النفي .ففي ر�سائله �إىل غ�سان تويني املن�شورة يف كتاب «�شروح يف العقيدة» ويف كتاب يحدد �سعاده الدين ب�أغرا�ض ثالثة هي: «الإ�سالم يف ر�سالتيه» ِّ � 1إحالل االعتقاد باهلل حمل عبادة الأ�صنام. 2فر�ض عمل اخلري وجتنب ال�ش ّر. 3 3تقرير خلود النف�س والعقاب والثواب (احل�شر). املعنى الوا�ضح لهذا التهديد للدين هو �إخراجه من دائرة االجتماع وال�سيا�سة .الدين يف قراءة �سعاده له هو �صفة الفرد ولي�س �صفة الدولة �أو الأمة. الفكرة عن الدين التي يبدو فيها الدين �ش�أنًا فرد ًيا خ�صو�ص ًيا ي�ؤكدها �سعاده يف ر�سالته الثانية �إىل غ�سان تويني .يقول �سعاده ،وهو كان يف معر�ض مناق�شة و�ضع فخري معلوف الذي انقلب متع�ص ًبا ،ما ي�أتي: كاثوليك ًيا ِّ علي املواقف والنظريات فر�ضً ا ،وال ر�أيت الفر�صة منا�سبة لرتك متابعة «فلم يرقْ يل �أن تفر�ض ّ ق�ضايا نه�ضتنا القومية االجتماعية وم�سائل حركتنا ال�سيا�سية واالقت�صادية واحلقوقية والإدارية وغريها واخلو�ض يف ق�ضايا الهوتية قررنا �أنها من �ش�ؤون الوجدان الفردي اخلا�ص التي يجب �أن ال 4 تثري و�أن ال ن�سمح ب�أن تثري ق�ضية اجتماعية �سيا�سية». حمد ًدا مبد�أً منهج ًيا يف النظر �إىل الأمور ،فيقول« :ال ميكننا ونحن نبغي ال�صحيح ثم ي�ضيف �سعاده ّ �أن ننظر �إىل الدين مبنظار �سيا�سي وال �إىل ال�سيا�سة مبنظار ديني .يح�سن �أن يكون الإن�سان م�ؤم ًنا يف الدين وال يح�سن �أن يكون م�ؤم ًنا يف ال�سيا�سة». وبالن�سبة �إىل حر ّية االعتقاد تكون امل�س�ألة وا�ضحة كالب ّلور عندما يذكر �سعاده لغ�سان تويني مقط ًعا من ر�سالة جواب ّية كان قد �أر�سلها �إىل فخري معلوف � ّأكد فيها على مبد�أ حرية االعتقاد الديني � 2سعاده� ،أنطون .الآثار الكاملة ،1ن�شوء الأمم� ،ص .131 � 3سل�سلة النظام اجلديد :5 ،الإ�سالم يف ر�سالتيه امل�سيحية واملحمدية� ،ص 111و �ص .168 4كتاب «�شروح يف العقيدة» �ص .38 76
فكــــــر
وحرية التعبري عنها بالكتابة والن�شر ،يقول �سعاده: «وال تن�سوا �أي�ضً ا �أن احلزب مل مينع �أح ًدا قط �إظهار معتقداته الفل�سفية من �أي نوع كانت يف كتاباته، فيمكنكم �أن تن�شروا �أفكاركم وا�ستنتاجاتكم يف اخللق والن�شر واحل�شر واحل�ساب وليوافقكم على 5 ذلك من �شاء وليخالفكم من �شاء». خال�صة ا�ستقرائنا هي يف �أن �سعاده ح�صر الدين يف امل�سائل الغيب ّية فدائرته هناك ويجب �أن تبقى هناك� .أما ال�ش�ؤون االجتماعية وال�سيا�سية واالقت�صادية واحلقوقية والق�ضائية للدولة القومية االجتماعية فهي من اخت�صا�ص هذه الدولة ال غريها .يقول يف هذا ال�صدد: «�ضمنت العقيدة القومية االجتماعية جلميع �أفراد امل َّتحد و�أع�ضاء الدولة القومية االجتماعية حرية حد العقيدة القومية االجتماعية وحرية ال�ضمري واجلهر باملعتقدات ب�شرط االعتقاد اخلارج عن ّ املحافظة على وحدة الأمة والدولة وعلى النظام الذي متّم به �إرادة الأمة وغر�ض الدولة ،وحرية العمل االجتماعي ملمار�سة طقو�س املعتقدات املتعلقة مبا وراء املادة ب�شرط ان تلزم هذه الأعمال تتعدى تلك احلدود �إىل ما هو من �ش�ؤون الدولة االجتماعية حدودها وال يكون غبار على �أنها ال ّ وال�سيا�سية واالقت�صادية واحلقوقية والق�ضائية و�إىل القول بحرمان �أع�ضاء الدولة و�أفراد املجتمع الذين هم من معتقد خمالف من حقوقهم املدنية وال�سيا�سية ،و�إىل حماولة فر�ض �أ�شكال �سيا�سية 6 خ�صو�صية للدولة و�شروط خ�صو�صية لنظامها ال�سيا�سي». ويعود �سعاده �إىل حتديد الدين حتدي ًدا مقارنًا لتحديده له يف كتاب «الإ�سالم يف ر�سالتيه» فيقول يف الر�سالة الثانية نف�سها لغ�سان تويني: �ضد املبادئ القومية االجتماعية التو�سع �أن يرى فخري معلوف �أنه ي�سري ّ «الق�صد من كل هذا ّ و�ضد قواعد دينية مقررة ب�إثارته خالفًا ال م ّربر له وال داعي عليه بني العقيدة القومية االجتماعية التي مل تتع ّر�ض للدين وعقائده والعقائد الدينية غر�ضها خلود النف�س بعد ارحتالها عن هذه الدنيا 7 يف مقامني خمتلفني :مقام النعيم ومقام اجلحيم». هذا بالن�سبة لر�أي �سعاده يف الدين.
5املرجع ال�سابق نف�سه� ،ص .39-38 6املرجع ال�سابق� ،ص .47 7املرجع ال�سابق� ،ص .49 77
�سعاده والدولة الدينية
بالن�سبة للدولة الدينية عمو ًما ،نقول ،منذ البداية� ،إن �سعاده يعتربها «�أعظم عقبة يف �سبيل حتقيق وحدتنا القومية» .فاملجتمع املتعدد املذاهب كمجتمعنا �سيكون م�صريه التمزق فاالنهيار �إذا ما 8 اعتمد مبد�أ الدولة الدينية .فال القومية وال الدولة القومية تت�أ�س�سان على الدين. بالن�سبة للدولة الدينية الإ�سالمية املحمدية على وجه اخل�صو�ص ،يحدد �سعاده موقفه بقوله� ،إنها كانت وا�سطة الدين ولي�ست غايته و�إن دورها انتهى بتحقيق الدين ،يقول: «وملا كان ق�صد ر�سالة حممد الدين ولي�س ال�سيا�سة �أو فل�سفة االجتماع التي ترتقي بالعلوم االجتماعية فال ّبد من الت�سليم ب�أن الدولة هي الوا�سطة للدين الذي هو الغاية ،و�إن قيمتها ال ميكن �أن تكون ،من الوجهة الدينية ،اكرث من قيمة وا�سطة .وبنا ًء عليه تكون الدولة ال�شيء الثانوي 9 القابل الزوال عندما ال تبقى حاجة �إليه �ش�أن كل �آل ٍة �أو وا�سط ٍة �أ ّدت الغر�ض من وجودها». �سائل :ما دام �سعاده يق ّر بوجود دولة �إ�سالمية حممدية� ،ألي�س يعني ذلك �إقرا ًرا منه بوجود ورب ٍ ّ دولة �إ�سالمية حممدية� ،ألي�س يعني ذلك �إقرا ًرا منه بوجود د�ستور قر�آين لها؟ اجلواب هو النفي .ففي كتاب ن�شوء الأمم يقول �سعاده الكالم الآتي الوا�ضح الذي ال جمجمة 10 فيه« :مل يرتك حممد د�ستو ًرا للدولة ،فهو قد �أ ّمت الدين ولكنه ترك الدولة تهتم مب�صريها». لذلك ف�إن دولة حممد مل تكن دولة باملعنى ال�سيا�سي الد�ستوري الدقيق ،و�إمنا مبعنى ب�سيط هو معنى القوة القادرة .و�سعاده يكمل وجهة النظر هذه يف امل�صدر نف�سه عندما يقول�« :إن الف�ضل يف �إيجاد االجتاه ال�سيا�سي الدنيوي يف الدولة الإ�سالمية يعود �إىل الدولة الإ�سالمية ال�سورية 11 الأموية». ويقول قامت الدولة الأول ّية على مبد�أ القوة الفيزيائية والدولة التاريخية كان �أ�سا�سها امللك والدين بالإ�ضافة �إىل القوة الفيزيائية و�أما الدولة احلديثة فتقوم على مبد�أي القومية والدميقراطية املتجان�سني. يبق لها �سوى نخل�ص مما تقدم �إىل القول ب�أن �سعاده يرف�ض �إقامة دولة دينية لأن وظيفتها انتهت ومل َ القيمة املتخفية للدر�س ومعرفة تطور االجتماع الب�شري ولأن تطبيقها يف زماننا معناه االنق�سام تعدت وجود فاملوت االجتماعي .هذا من جهة .ومن جهة ثانية ،لأن الدولة ،مبعناها الع�صريَّ ، 9 8
1 1 10
78
كتاب املبادئ :املبد�أ الإ�صالحي الأول« :ف�صل الدين عن الدولة». كتاب الإ�سالم يف ر�سالتيه� ،ص .196 ن�شوء الأمم� ،ص .126 املرجع ال�سابق� ،ص 127ويف تق�سيمه للدولة يف الف�صل ال�ساد�س من كتاب ن�شوء الأمم.
فكــــــر
خليقة �أو �أمري على ر�أ�سها مع حا�شية� ،إىل �أن غدت م�ؤ�س�سات اخت�صا�صية يف �ش ّتى العلوم والفنون، بالإ�ضافة �إىل �صريورتها دميقراطية. �سعاده والدولة القومية االجتماعية
ما هو ت�ص ّور �سعاده للدولة الع�صرية؟ �إن نظرية �سعاده يف الدولة الع�صرية نقع عليها يف مبادئ احلزب وعلى وجه التحديد يف املبادئ الإ�صالحية اخلم�سة والتي ت�شكل املادة الثالثة من د�ستور احلزب ال�سوري القومي االجتماعي الذي � ّأ�س�سه وهي: 1مبد�أ «ف�صل الدين عن الدولة» وجوهره فكرة دنيوية الدولة القومية االجتماعية� ،أي ان مركزها الإن�سان ولي�س اهلل .والإن�سان عند �سعاده هو الإن�سان -املجتمع القومي �أو الأمة. 2مبد�أ «منع رجال الدين من التدخل يف �ش�ؤون ال�سيا�سة والق�ضاء القوميني» وجوهره اعتماد علمي ال�سيا�سة والق�ضاء مل�صلحة الأمة. 3مبد�أ «�إزالة احلواجز بني خمتلف الطوائف واملذاهب» الذي جوهره امل�ساواة بني املواطنني واملواطنات .وهو عالقته بعلم احلقوق. 4مبد�أ «�إلغاء الإقطاع وتنظيم االقت�صاد القومي على �أ�سا�س الإنتاج و�صيانة م�صلحة الأمة والدولة» .وجوهره العدل االجتماعي -االقت�صادي .وعالقته بعلم االقت�صاد وعلم الإح�صاء. قوي يكون ذا قيمة فعلية يف تقرير م�صري الأمة والوطن» وجوهره الأمن 5مبد�أ «�إعداد ٍ جي�ش ّ القومي وال�سالم االجتماعي و�ص ْون ال�سيادة القومية .وهو له عالقة بعلم ال�سرتاتيجيا والدفاع. يطر�أ الآن ال�س�ؤال الآتي :هل دولة �سعاده دولة علمانية؟ جنيب على هذا ال�س�ؤال بقولنا� ،إن �سعاده مل ي�ستخدم م�صطلح العلمانية لو�صف دولته .مع ذلك ،وملا كان هذا امل�صطلح قد �أ�صبح له رواج يف �أيامنا ،ف�إننا نقول� ،إنه �إذا جاز ا�ستخدام هذا امل�صطلح ف�إنه ميكن القول ب�أن دولة �سعاده هي دولة َع ْلمانية (بفتح العني) وعِ ْلمانية (بك�سر العني) .هي َع ْلمانية (بفتح العني) لأنها دولة دنيو ّية يف هذا العامل ومنه ولي�ست يف ال�سماء .وهي عِ ْلمانية (بك�سر العني) لأنها ت�ستفيد من العلوم ب�أنواعها مل�صلحة الأمة. �أجل� ،إن دولة �سعاده القومية االجتماعية ،علمان ّية مبعنيني هما غري متناق�ضني نعني معنى العامل �أو الدنيا ومعنى العلم �أو االخت�صا�ص .من هنا علمانية دولة �سعاده �أغنى و�أ�شمل من علمانية الذين يقولون بف�صل الدين عن الدولة فقط. 79
من املفيد ،بعد �أن تكلمنا ،عن ن�سبة الدين �إىل ال�سيا�سة �أن ن�شري �إىل فكرة الدكتور وجيه كوثراين حول هذه امل�س�ألة .الدكتور كوثراين و�ضع الفكرة الآتية: «�إن الدين م�ستقل عن الدولة ويجب �أن يكون كذلك ولكنه غري منف�صل عن العمل ال�سيا�سي يف املجتمع� .إن ال�سيا�سة جزء من حقه وواجبه م ًعا .وال ميكن للدين مبا يختزنه من قيم و�أخالقيات الن�ص والوعي اجلماعي واملقامات الروحية ان يتخ ّلى عن دوره املر�شد والواعظ �سلوكية عرب ّ 12 والإ�صالحي والثوري». وا�ضح ان الدكتور كوثراين يرف�ض الف�صل بني ال�سيا�سي والديني «ف�إن ذلك لي�س مل�صلحة ال�شعب وال الأمة وال املجتمع �إنها مل�صلحة ديكتاتورية الدولة وحدها» .وهو يت�ساءل حول م�صطلح العلمانية الذي يق�ضي بالف�صل بني الديني وال�سيا�سي ،فيقول: «هل املق�صود بالف�صل هنا «الف�صل» باملعنى ال�سيا�سي اي ف�صل الدين عن العمل ال�سيا�سي وذلك يف �صيغة ف�صل بني املجتمع والدولة؟ حيث يعزل «الدين» يف املجتمع وي�صبح «ال�سيا�سي» حك ًرا على «العلمانية» يف الدولة والعمل ال�سيا�سي م ًعا .فيحظر مثلاً على «العامل الديني» العمل يف ال�سيا�سة ومينع التعبري ال�سيا�سي ملظهر دين او موقف ديني وذلك بحجة هذا التق�سيم املفتعل للأدوار. وي�ضيف�« :إذا كان الأمر كذلك فامل�س�ألة تدعو لإعادة النظر يف املفهوم وامل�صطلح .فامل�صطلح بهذا 13 املعنى هو متثل لتجربة تاريخية �أوروبية� ،أي لو�ضعية جزئية يف الزمان واملكان مل يثبت جناحها». ويقول �أي�ضً ا« :الدولة حتتاج �إىل �أن تنف�صل عن الع�صبيات الطائفية ال عن الأديان مبا هي مثل ودعوات عدالة وم�ساواة وحرية وحمبة .الدولة �أحوج ما تكون لال�ستدالل بهذه القيم واال�سرت�شاد بها». �إن الدكتور كوثراين يقول بدمج املهمات ال�سيا�سية والدينية فت�صبح مكافحة الظلم واال�ستبداد مهمة �سيا�سية وواجباً دينياً يف الإ�سالم ومقاتلة مغت�صب الأر�ض واج ًبا جهاد ًيا ورف�ض الذل واخلنوع واال�ستطانة من موجبات عبادة اهلل الواحد لأن فيها �شر ًكا من وجهة النظر الدينية .وهو يعتقد �أن هذه الأمور هي �أمور �سيا�سية داخلة يف �صلب الدين. والدكتور كوثراين �ضد العلمانية مبعنى ف�صل الدين عن الدولة التي يف ر�أيه «ت�ستلهم الأيديولوجيات الو�ضعية يف التاريخ العاملي احلديث من ليربالية وقومية ومارك�سية» لأنها �ألغت ما ي�سميه «التوازن» 14 بني املجتمع والدولة .فالدولة العلمانية طاغية وم�ستبدة يف مذهبه. 12املركز العربي للمعلومات« ،الدولة بني العلمانية والدين» ،جريدة ال�سفري.1984/9/5 ، 1 3املرجع ال�سابق. 1 4ال�سفري.1984/9/4 : 80
فكــــــر
مالحظاتنا على �أفكار الدكتور كوثراين هي: � 1أنه يخطئ عندما يعترب الدين مرادفًا �أو حمايثًا للمجتمع وذلك عندما ير�سم �أن ف�صل الدين ويحد من عن الدولة معناه ف�صل املجتمع عن الدولة ك�أمنا املجتمع ال يقدر �أن يوازن الدولة ّ �سلطتها ويكبح جموحها ومينع ا�ستبدادها �إال �إذا كان جمتم ًعا دين ًيا .العلمانية يف نظره تقوي �سلطة الدولة وجتعل ال�سيا�سة حك ًرا عليها. نحن نرى �أن املجتمع القومي (الأمة) هو ال�ضامن لأن تتقيد الدولة بامل�صلحة العامة وهي ال�ضابط ل�سلوكها فيكون اً عدل. 2ويخطئ الدكتور كوثراين عندما يرى ال�سيا�سة يف �صميم الدين� .إن اجلهاد الديني غري اجلهاد ال�سيا�سي .هذه احلقيقة تت�ضح عندما ننتقل من العموميات �إىل التحديدات .فنذكر �أن اجلهاد ال�سيا�سي هو جهاد �سيا�سي وطني �أي لهدف حترير وطن �أو �أجزاء وطن حمتلة �أو مغت�صبة� ،أو هو جهاد قومي اجتماعي وفكرة الوطن وفكرة القومية لي�ستا دينيتني .اجلهاد الديني يكون يف �سبيل اهلل و�ضد امل�شركني .ف�إذا كان بع�ض رجال الدين جاهد ويجاهد يف �سبيل حترير جنوب لبنان وفل�سطني فذلك لي�س من �صميم الدين بل من ف�ضل املدار�س الوطنية والقومية على رجال الدين. 3ويخطئ الدكتور كوثراين عندما يعترب �أن �شرور الدول احلديثة يف كونها علمانية ،والعلمانية هي �أم ال�شرور .الدولة الظاملة هي كذلك لأنها دولة ر�أ�سمالية �أو دكتاتورية م�ضطهدة لل�شعب �أو ما �شابه .الدولة القومية االجتماعية العلمانية لي�ست ظاملة ولي�ست �شريرة لأن غايتها م�صلحة الأمة والوطن وفوق كل م�صلحة. املراوحة
نبد�أ بالقول �إن املراوحة متثّلت يف كتاب والكتاب الذي نحن ب�صدد قراءته ونقده هو كتاب «الدولة يف الإ�سالم» ال�صادر عن دار ثابت يف القاهرة يف حزيران من العام .1980م�ؤلف الكتاب كاتب من م�صر معروف ا�سمه خالد حممد خالد .وعندما قلت �إنه كاتب معروف ق�صدت �أنه معروف ب�إنتاجه الأدبي الغزير فقد بلغ جمموع �إنتاجه من الكتب �سبعة وثالثني م�ؤلفًا والكتاب الذي بني �أيدينا املخت�ص بدر�س «الدولة يف الإ�سالم». نذكر من �أ�شهر م�ؤلفات هذا الكاتب الوا�سع الإنتاج الكتب التالية التي القت �شهرة خا�صة يف �أوقاتها جلهة �أ�سلوبها ال�سهل وجلهة اجلر�أة الفكرية ل�صاحبها ن�سبة ملا هو �سائد يف الأو�ساط امل�صرية يف زمان �صدورها: 81
كتاب من هنا ...نبد�أ. كتاب مواطن ال رعايا. كتاب الدميقراطية �أبد�أ. كتاب الدين لل�شعب. كتاب هذا� ..أو الطوفان. كتاب لكي ال حترثوا يف البحر. كتاب اهلل واحلرية. كتاب اهلل ،واحلرية. كتاب م ًعا على الطريق ،حممد وامل�سيح. كتاب �إنه الإن�سان .وكتب �أخرى وجتدر املالحظة �أن الفكرة املركزية لهذه امل�ؤلفات التي ذكرناها هي فكرة الإن�سان (او ال�شعب) واعتباره غاية وكل ما عداه و�سيلة خلدمته. �ضد الدولة الدينية :الإ�سالم دين فقط :يف كتابه الأول على �سبيل املثال ،كتاب «من هنا ...نبد�أ» الذي �صدر يف عام ،1950جند �صاحبه ال�سيد خالد حممد خالد ي�صفه بالكالم الذي 15 نقع عليه يف مطلع كتابه «الدولة يف الإ�سالم» يقول: وكان ينتظم �أربعة ف�صول ،كان ثالثها بعنوان «قومية احلكم» .ويف هذا الف�صل ذهبت �أقرر �أن الإ�سالم دين ال دولة« ،ولي�س يف حاجة �إىل �أن يكون دولة ...و�أن الدين عالمات ت�ضيء لنا الطريق �إىل اهلل ولي�س قوة �سيا�سية تتحكم يف النا�س ،وت�أخذهم بالقوة �إىل �سوء ال�سبيل .ما على الدين �إال البالغ ولي�س من حقه �أن يقود بالع�صا من يريد لهم الهدى وح�سن ثواب». وي�ضيف فيقول« :وقلت� :إن الدين حني يتحول �إىل حكومة ف�إن احلكومة الدينية تتحول �إىل عبء ال يطاق وذهبت �أعدد يومئذ ما �أ�سميته« :غرائز احلكومة الدينية». ثم يخل�ص «غرائز احلكومة الدينية :فيذكر منها: 1الغمو�ض املطلق� ،إذ هي تعتمد يف قيامها على �سلطة غام�ضة ،ال يعرف م�أتاها ،وال يدرك مداها و�صلة النا�س بها يجب �أن تقوم على الطاعة العمياء والت�سليم الكلي والتفوي�ض املطلق. 2من خ�صائ�صها� ...أنها ال تثق بالذكاء الإن�ساين وال ت�أن�س له وال متنحه فر�صة التعبري عن ذاته لأنها تخافه وتخ�شاه. 15خالد حممد خالد« ،الدولة يف الإ�سالم»� ،ص .10-9 82
فكــــــر
3
4
5
6
7
وهي ال تقنع النا�س ب�ضرورة قيامها وبقائها ،تهيب بجانب ال�ضعف فيهام فتلقي يف روعهم �أن رواد اخلري واحلرية والفكر وال�صالح لي�سوا �سوى �أعداء هلل ولر�سوله يحاولون نفي الدين عن املجتمع بنفي ال�سلطة التي متثله وت�صونه. والغرور املقد�س من �شر غرائز احلكومة الدينية ،ولهذا ال تقبل الن�صيحة وال التوجيه .بل وال جمرد لفت النظر ف�ضلاً عن املعار�ضة والنقد. والوحدانية املطلقة �أعتى غرائزها ،وهي حتفزها �إىل مكافحة الر�أي مهما يكن حكي ًما وقتل املعار�ضة مهما تكن خمل�صة نافعة. واجلمود الذي تت�سم به يجعلها ت�ضيق بكل جديد لأن �صورة الدين يف ذهنها مرتبطة بكل ما هو جامد وقدمي. والق�سوة املتوح�شة هي �سيدة غرائزها و�أكرثها عت ًوا ونفو ًذا و�أنها لتجز عنقك وتهرق دمك وهي ت�صيح من فرط ن�شوتها :واها لريح اجلنة».
وي�صف ال�سيد خالد حالته النف�سية عندما كتب ما كتب يف ذلك الزمان يقول« :ومل �أكن يومئذ �أخدع نف�سي وال �أزيف اقتناعي ،فلي�س ذلك واحلمد هلل من طبيعتي� ،إمنا كنت مقتن ًعا مبا اكتب م�ؤم ًنا ب�صوابه 16ويذكر ال�سيد خالد �أ�سباب رف�ضه «احلكومة الدينية» يف �إنتاجه الأدبي فيعدد منها ما ي�أتي: ال�سبب الأول يت�ألف من �شقني هما :تعميمه تعمي ًما خاط ًئا (ال علم ًيا) ل�صورة «احلكومة الدينية امل�سيحية» لت�شمل «احلكام ال�سيا�سيني الإ�سالميني». وت�سميته الأ�شياء بغري �أ�سمائها وذلك عندما خلط بني فكرة «احلكام ال�سيا�سيني الإ�سالميني» وفكرة «احلكومة الدينية الإ�سالمية». والكاتب ي�شرح كل ذلك على النحو الآتي ،فيقول ...« :فقد كنت يف قمة الت�أثري بب�شاعة وجرائم احلكومة الدينية امل�سيحية ،ثم عك�ست ال�صورة يف غري حق على احلكام ال�سيا�سيني يف الإ�سالم واعتربتهم حكومة دينية �إ�سالمية.»... ويذكرنا مبا كان قاله عن امل�شابهة بني «احلكومات الدينية امل�سيحية» و»احلكومات الدينية الإ�سالمية» وهذا بع�ض ما ذكره: «ففي احلكومات الدينية امل�سيحية ابتكرت و�سائل التعذيب التي ال تخطر لل�شيطان نف�سه ببال، فكان اخلازوق ووتد الت�شهري ،و�صلم الإذن ،ومتزيق اجل�سد ،وحماكم التفتي�ش وحرق العلماء بالنار وهم �أحياء!!». 1 6املرجع نف�سه� ،ص .11 83
ويف احلكومات الدينية الإ�سالمية حدثت �أهوال مروعة حتى �أن حاك ًما دين ًيا واح ًدا ،هو احلجاج، ابد البقية الكرمية ال�صاحلة من �صحابة ر�سول اهلل ،حتى قاله عنه «عمر بن عبد العزيز»« :لو جاءت 17 كل �أمة بخطاياها ،وجئنا نحن بني �أم ّية باحلجاج وحده لرجحناهم.»!!... وتكون النتيجة �أن ال�سبب الأول الذي ظهر �أن الكاتب قد �أراده من �شقني انتهى �إىل ال�صورة الآتية « :وكان اخلط�أ الأول م�ضاهاتي احلكومات الدينية الكن�سية بحكم الإ�سالم» 18.وهذا معناه �أن الكاتب يعترب خط�أه اجلوهري كان ماثلاً يف تعميمه تعمي ًما خاط ًئا ل�صورة «احلكومة الدينية امل�سيحية» لت�شمل «احلكومة الدينية الإ�سالمية» .عن طريق �إن�شائه م�شابهة بينهما من الأمثلة التاريخية. 19 �أما ال�سبب الثاين فهو يجعله يف قوله هذا« :تعميم نتائج ما اقرتفه اجلهاز ال�سري با�سم الإ�سالم». ويق�صد بذلك «التنظيم ال�سري للإخوان امل�سلمني» واجلرائم املتكررة التي اقرتفها ومن بينها االغتياالت ال�سيا�سية لهدف فر�ض الدعوة الإ�سالمية. هذه املمار�سات ال�شاذة للإخوان امل�سلمني جعلته يقتنع ان احلكومة الدينية الإ�سالمية لن تكون خ ًريا من �أ�صحاب الدعوة �إليها .وهو يف ذل يقول القول اجلريء ال�صريح الآتي« :وقلت يف نف�سي� ،إذا كان هذا م�سلك املتدينني وهم بعيدون عن احلكم فكيف يكون م�سلكهم حني 20 يحكمون؟؟». 21 ويرد الكاتب خط�أيه املذكورين �إىل «خط�أ يف املنهج ذاته». الإ�سالم دين ودولة! احلجة التاريخية :بعد كل هذا ال�شرح الذي ي�ضعه الكاتب �أمام القارئ وا�صفًا به حاله عندما كان غري معتقد باحلكومة الدينية «م�سيحية» �أم «�إ�سالمية» يتقدم لي�ضع 22 �شرحا م�ستفي�ضً ا حول كيفية و�صوله �إىل اقتناع جديد جوهره الإ�سالم «دين ودولة». �أمام القارئ ً يبد�أ ال�سيد خالد مبا ميكن ت�سميته احلجة من التاريخ� .أهم �إفادة لهذه احلجة ذكره ب�أن العرب قبل الإ�سالم عرفوا جتربة احلكم .هذا قوله« :فقبل جميء الإ�سالم بقرون ،كان هناك عرب لهم 23 حكومات هم الذين �أن�ش�أوها وح�ضارة هم الذين �صنعوها». 1 8 1 9 2 0 2 1 2 2 2 3 17
84
املرجع ال�سابق� ،ص .13 املرجع ال�سابق� ،ص .15 املرجع ال�سابق� ،ص .15 املرجع ال�سابق� ،ص .10 املرجع ال�سابق� ،ص .15 املرجع ال�سابق� ،ص .16 املرجع ال�سابق� ،ص .17
فكــــــر
وبالرغم من اعتماده اعتما ًدا قو ًيا على هذه احلجة التاريخية ظهر يف ا�ستفا�ضته بالكالم عن تاريخ العرب قبل الإ�سالم� 24،إال �أنه يقول هو نف�سه�« :إنه على فر�ض انتفاء هذا الأمر فلن ي�سلب 25 الإ�سالم حقه وال مقدرته على ت�أ�سي�س دولة». بعد هذه اخلطوة االبتدائية االفتتاحية ي�صدر الكاتب القرارات الفكرية الآتية: 26 1املجتمع امل�سلم يف املدينة كان له دولة يقودها ر�سول اهلل �صلعم. 2كان ر�سول اهلل �صلعم يدرك ان بناء «دولة الإ�سالم» وا�ستمرارها جزء من مهمته كنبي 28 ور�سول» 27.بل �أكرث من ذلك يرى الكاتب �أن كل الأنبياء واملر�سلني خلفاء وحكام. 29 3الإ�سالم ال ميكن �أن يحقق ذاته �إال ب�إر�ساء قواعد الدولة. 30 4الإ�سالم يطمح �إىل «حكومة عاملية». قبل التوغل يف قراءتنا قد ًما ال بد ان نتوقف قليلاً لإبداء املالحظات الآتية حول افتتاحية الكتاب وحول القرارات الفكرية امل�شار �إليها: بالن�سبة للكالم البدئي الذي ي�شدد فيه على احل�ضارة ال�سيا�سية للعرب قبل الإ�سالم املحمدي نحب فقط �أن نرتكه مع هذه امل�س�ألة ليجد حلاً لها نعني م�س�ألة و�صف القر�آن الكرمي وامل�ؤرخني الإ�سالميني لع�صور ما قبل الإ�سالم املحمدي ب�أنها ع�صور اجلاهلية. �أما بالن�سبة لقراراته الفكرية ف�إننا نتتبعها قرا ًرا قرا ًرا فنذكر املالحظات الآتية: القر�آن الكرمي الذي هو املرجع الأول والأ�سا�سي ال ي�صف يف �أي مو�ضع منه �أن املجتمع 1 امل�سلم كان له دولة يف املدينة املنورة يقودها ر�سول اهلل .بل �إننا جند القر�آن الكرمي وا�صفًا املجتمع امل�سلم يف املدينة املنورة بالقول �إنهم كانوا ي�شكلون حزبًا ا�سمه «حزب اهلل» نذكر من «�سورة املائدة» ما ي�أتي: 2 5 2 6 2 7 2 8 2 9 3 0 24
املرجع ال�سابق� ،ص .22-17 املرجع ال�سابق� ،ص .17 املرجع ال�سابق� ،ص .24 املرجع ال�سابق� ،ص .25 املرجع ال�سابق� ،ص .25 املرجع ال�سابق� ،ص .25 املرجع ال�سابق� ،ص .27 85
«ومن قول اهلل ور�سوله والذين �آمنوا ف�إن حزب اهلل هم الغالبون». وا�ضحا جماعة امل�سلمني (وهم من املدينة املن ّورة) �أهمية هذه الآية �أهميتان هما� :أنها حتدد حتدي ًدا ً ور�سول اهلل على ر�أ�سهم ب�أنهم حزب ولي�سوا دولة .ثم هي فيها در�س للذين يتجففون من جمرد ا�ستخدام كلمة «حزب» يعلمهم �أن اهلل �سبحانه وتعاىل قد ا�ستخدمها يف كتابه العزيز. قول الكاتب ب�أن بناء «دولة الإ�سالم» جزء من مهمة حممد �صلعم باعتباره نب ًيا اً ور�سول 2 ال جند له �سن ًدا من امل�صحف ال�شريف .فلو عددنا كل الأ�سماء وال�صفات التي وردت يف القر�آن الكرمي املتعلقة مبحمد ملا وقعنا على �أي ا�سم و�صفة تدل على انه رئي�س دولة �أو �أمري م�ؤمنني �أو رئي�س حكومة او ما �شابه ذلك .هذا من جهة .من جهة �أخرى لو جئنا بكل �أدوات التحليل الفقهي واللغوي ملا ا�ستطعنا �أن ن�ستنبط من تعبري «النبي» �أو تعبري «الر�سول» �أو من كليهما م ًعا معنى ميكن �أن يفيد بناء دولة للإ�سالم. فمعنى «النبي» مرتبط مبعنى «النبوة» ومعنى «الر�سول» مرتبط مبعنى حامل «الر�سالة» واملعنيان ال ميتان لل�سيا�سة �أو الدولة ب�صلة .ثم قول الكاتب �إن كل الأنبياء واملر�سلني كانوا حكا ًما هو �أي�ضً ا قول متهافت من وجهة الإ�سناد فالكتاب ال ي�ستعمل يف ما ا�شتمل عليه على ذكر دولة �إبراهيم رئي�سا لدولة دينية .كذلك بالن�سبة لإ�سماعيل و�أيوب (�صاحب اخلليل �أو عن �إبراهيم اخلليل ً ال�صرب الأكرب) .بل �إننا جند �أمثلة كثرية يف الكتاب عن �أقوام (ولي�س عن دول) جترب �أهلها �أو الأقوياء يف �أهلهم مثل قوم لوط وعاد وثمود وغريهم كان م�صريهم الهالك بغ�ضب اهلل� .ألي�س جدي ًرا باملالحظة �أن القر�آن الكرمي مل ي�شمل على مثل واحد لدولة دينية �صاحلة حتى يقا�س بها يف ع�صور الإ�سالم املحمدي؟ قول الكاتب �إن الإ�سالم ال يحقق ذاته �إال بالدولة هو قول �آخر ال جند �شبي ًها له يف 3 الكتاب عمو ًما وال يف تعريف الإ�سالم على نحو حتديدي .يف القر�آن الكرمي عرف الإ�سالم بانه دين فقط يف قوله تعاىل« :ور�ضيت لكم الإ�سالم دي ًنا» .ومل يرد ما يفيد ب�أن الإ�سالم دين ودولة. من ناحية �أخرى ،هل غياب الدولة الإ�سالمية الآن يف البالد العربية يعتربه الكاتب غيابًا للإ�سالم جلهة حتقيقه ذاته؟ ثم ما حكم الكاتب على امل�سلمني املحمديني يف البالد العربية وغريها يف هذه الأيام ما داموا مل ي�ؤ�س�سوا اً دول �إ�سالمية؟ 4 القول بـ «احلكومة العاملية» للإ�سالم هو �أي�ضً ا قول ال يثبته الكتاب .فالقر�آن الكرمي يذكر بو�ضوح �أن الدين للعاملني ولكنه ال يذكر ان الدين والدولة هما للعاملني. نتقدم الآن �إىل مرحلة جديدة من مراحل تفكري الكاتب فماذا جند؟ جند �أن الكتاب يقول يف ما 31
31القر�آن الكرمي� ،سورة املائدة -مدنية � -آية .56 86
فكــــــر
يقول �أن «القر�آن مملوء بالآيات التي تدعو امل�سلمني �إىل حكم اهلل» 32.فما هو حكم اهلل؟ يعرتف الكاتب فيذكر الكالم الآتي: «ونحن حني نطالع �آيات القر�آن الكرمي و�أحاديث الر�سول اخلا�صة بقيام الدولة يف الإ�سالم ،ال 33 نلتقي ب�آية وال بحديث يقول« :يا �أيها الذين �آمنوا �أقيموا دولة �أو اتخذوا منكم �إما ًما وحاك ًما». لكن ملا ال نلتقي ب�آيات �سيا�سية يف القر�آن الكرمي؟ ال يجيب الكاتب بقوله �إنها حكمة اهلل على عباده فهو �سبحانه وتعاىل ،يريدهم م�ؤمنني به �أخالقيني متفقني وال يريدهم �سيا�سيني متنازعني على احلكم واحلكومة .جواب الكاتب جاء بال�شكل الآتي يقول: 34 «متا ًما كما ال نلتقي ب�آية تقول �أو بحديث يقول يا �أيها الذين �آمنوا تن�شقوا الهواء». فالكاتب يعترب �أن احلاجة للدولة كاحلاجة للهواء ،كالهما بديهيان بالن�سبة �إليه ،فال يتطلبان �آم ًرا �أو دعوة! وا�ضح �أن موقف الكاتب هنا موقف متهالك فالقر�آن اهتم حتى بو�صف ما يتعلق بنظافة اجل�سد التي هي م�س�ألة بديهية باملعنى الذي �أورده فالنظافة اجل�سدية حاجة ال ي�ستغني عنها حتى احليوان .فكيف ال ي�أتي القر�آن على ذكر الدولة وهي من �أخطر امل�سائل الإن�سانية و�أهمها و�أكرثها ت�أث ًريا يف حياة الأفراد واجلماعات؟ ال بد �أن هلل حكمة يف ذلك .لكننا مهما اختلفنا يف �إدراك حكمة اهلل تظل حقيقة �أكيدة هي :ان اهلل مل ي�أت يف كتابه العزيز على ذكر الدولة .وعدم ذكر الدولة يف القر�آن الكرمي مل يكن �سه ًوا، �إذ حا�شا �أن ي�سهو اهلل .بل جاء عم ًدا �إذ اكد اهلل �سبحانه وتعاىل �أن الإ�سالم دين فقط يف قوله: «ور�ضيت لكم الإ�سالم دينا» ومل يقل ر�ضيت لكم الإ�سالم دي ًنا ودولة. احلجج القر�آنية :غري �أن الكاتب يظل ما�ض ًيا يف تفكريه .فهو يريد هذه املرة �أن ي�شتق احلكومة الدينية «الإ�سالمية» (البديهية) من بع�ض �ألفاظ الكتاب .هو يقول� ،إن القر�آن مملوء بالآيات التي تدعو امل�سلمني �إىل حكم اهلل� 35.أين ذلك؟ وكيف ذلك؟ يذكر الكاتب �أن الفعل «حكم» جاءت م�شتقاته يف القر�آن مبعنى «احلكومة» التي تق�ضي وتف�صل وتقود .ويقول �إن لفظ «احلكم» مبعنى «الق�ضاء والف�صل» ومبعنى «احلكومة» ورد ذكره يف القر�آن �ستا و�سبعني مرة ويكتفي ب�إيراد بع�ض الآيات. 32 3 3 3 4 3 5
خالد حممد خالد« ،الدولة يف الإ�سالم»� ،ص .32 املرجع ال�سابق� ،ص .38 املرجع ال�سابق� ،ص .38 املرجع ال�سابق� ،ص .33 87
�أما الآيات التي ي�ست�شهد بها فهي: قوله تعاىل�« :إنا �أنزلنا �إليك الكتاب باحلق لتحكم بني النا�س مبا �أراك اهلل» .وي�شرح 1 الكاتب هذه الآية الكرمية على النحو الآتي .يقول« :فالقر�آن مل ينزل على قلب الر�سول ليتعبد منهجا للحكم يحكم به الر�سول �أمته امل�سلمة مبا �أراه اهلل �أي مبا ر�سم له به امل�ؤمنون بل وليكون � اًأول ً 36 القر�آن من �سبيل وما نّقن فيه من قانون». غري �أن ما غفل عنه الكاتب هو �أن اهلل �سبحانه وتعاىل قد �أرى ر�سوله حممد (�صلعم) دين الإ�سالم فاحلكم بني النا�س معناه الف�صل بني النا�س وفقًا ملبادئ الدين الإ�سالمي املناقبية ال�سامية ووفقًا لقوانني الإ�سالم التي هي قوانني مدنية .حجتنا يف ذلك تت�ألف من �شقني هما: �أولاً � :أن تعبري «النا�س» تعبري عمومي فلي�س يفيد معنى الدولة بل هو لعموميته يفيد معنىجماعة النا�س �أو املجتمع املدين الذي ي�ؤلفونه. ثان ًيا� :إن القوانني التي ي�شري �إليها الكاتب املوجودة يف القر�آن الكرمي لي�ست قوانني �سيا�سية.37 وقوله تعاىل« :فاحكم بينهم مبا �أنزل اهلل وان احكم مبا �أنزل اهلل وال تتبع �أهواءهم». 2 هنا �أي�ضً ا يتوقف معنى الآية الكرمية على عبارة «ما �أنزل اهلل» .فنحن نرى �أن «ما �أنزل اهلل» هو املبادئ الدينية الأخالقية ال�سامية والقوانني الال�سيا�سية التي حتدد عالقات الأفراد بع�ضهم ببع�ض ولي�س عالقة الأفراد بالدولة �أو الدولة بالأفراد. وقوله تعاىل�« :إن اهلل ي�أمركم �أن ت�ؤدوا الأمانات �إىل �أهلها ،و�إن حكمتم بني النا�س �أن 3 38 حتكموا بالعدل». ماذا يرى ال�سيد خالد يف هذه الآية؟ �إنه يو�سع مدلول لفظة «الأمانات» حتى ي�شمل معنى احلكومة وذلك لكي ي�ستنبط من املعاين الأخالقية الأ�صلية للآية وج ًها �سيا�س ًيا ،يقول« :والأمانات هنا تعني الودائع التي ي�ستودعها بع�ضنا بع�ضً ا فح�سب ،بل تعني � ،اًأول ،م�س�ؤولية احلكم التي هي �أمانة 39 ائتمن اهلل عليه احلاكمني». وال يكتفي الكاتب بالتف�سري ال�سيا�سي العمومي للفظة «الأمانات» بل مي�ضي �إىل الطرف الأق�صى يف الت�أويل ال�سيا�سي بال �ضابط هناك لفكرة الرغائبي فيدخل فكرة احلكم ال�شعبي وفكرة الدولة يف اول ما تعنيه الآية الكرمية .هو يقول باحلرف الواحد :و «�أدا�ؤها يعني العدل يف تنفيذها والقيام بها كما يعني �إ�شراك ال�شعب يف هذه امل�س�ؤولية بكل الو�سائل التي جتعل م�شاركته يف احلكم 3 7 3 8 3 9 36
88
املرجع ال�سابق� ،ص .34-33 املرجع ال�سابق� ،ص .35 املرجع ال�سابق� ،ص .35 املرجع ال�سابق� ،ص .35
فكــــــر
م�شاركة فعالة وحقيقية» .وي�ضيف« :واحلكم مبا �أنزل اهلل ومبا �شرع لعباده ،وبناء الدولة التي تلتزم 40 هذا النهج كان من بني وظائف الر�سول عليه ال�سالم». قوله تعاىل« :واهلل يحكم ال معقب حلكمه»� .ألي�س يفيد �أن اهلل هو احلاكم وحده ال 4 �شريك له من عباده ولي�س كما �أراد الكاتب يف اجتاهه الت�سيي�سي لآيات الكتاب؟ ومثل الآية هذه جند �آيات �أخرى لها املدلول نف�سه ي�ست�شهد بها الكاتب لكن خلالف الغمو�ض الذي نزلت من �أجله .نذكر منها ما ي�أتي« :ذلكم حكم اهلل يحكم بينكم» و «�إن احلكم �إال هلل �أمر �أن ال تعبدوا �إال �إياه» و «�إن احلكم �إال هلل عليه توكلت وعليه فليتوكل املتوكلون». 5 ثم هناك �آيات مل يذكرها الكاتب ويح�سن ذكرها كلها ت�ؤكد ان اهلل هو الذي ا�ستوى على العر�ش منذ اخللق فال ي�ستوي عليه �سواه و�إال كان م�شر ًكا�« :إن ربكم اهلل الذي خلق ال�سموات والأر�ض يف �ستة �أيام ثم ا�ستوى على العر�ش يدير الأمر ما من �شفيع �إال من بعد �إذنه ذلكم ربكم 41 فاعبدوه فال تذكرون». وهناك �آيات تفيد �أن اهلل مالك ال�سموات والأر�ض فكيف يجوز القول بالدولة بعد ذلك 6 والدولة من مفاهيمها الأ�سا�سية مفهوم ال�سيادة على الأر�ض وملكية الوطن« :هلل ملك ال�سموات 42 والأر�ض وما فيهن وهو على كل �شيء قدير». خال�صة مالحظتنا �أن الكاتب اقرتف يف تف�سريه �أغلوطتني هما: �أغلوطة اخللط بني احلكم الأخالقي واحلكم مبعناه ال�سيا�سي عندما اعترب احلكم الأخالقي حك ًما �سيا�س ًيا وحكومة ودولة. ثم �أغلوطة ن�سبة احلكم �إىل الب�شر يف حني احلكم كله بيد اهلل .فاهلل �سبحانه وتعاىل عند امل�ؤمنني �إميانًا كاملاً .هو احلاكم يف كل �ش�ؤون الدنيا والآخرة فال �شريك له يف �شاردة او واردة ويف كل امر كب ٍري �أو �صغري ويف كل ناحية من نواحي احلياة لذلك طلب ان يتوكل عليه املتوكلون. الدول من �صنع الب�شر ونزاعاتهم :مع كل ذلك ،نحن ال ننفي وجود دولة دينية �إ�سالمية ولكننا نقول �إنها دولة وجدت يف التاريخ كانت ومن �صنع الب�شر ولي�ست من �صنع القر�آن .فهناك حقائق تاريخية ثابتة تفيد عن دولة اخللفاء الرا�شدين ودولة لبني �أم ّية ودولة لبني العبا�س ودولة فاطمية ودولة لبني عثمان ،لكن كل تلك الدول هي من �صنع الب�شر امل�سلمني ونزاعاتهم ولي�ست من �صنع ن�صو�ص الكتاب الذي ال جند فيه �آية ت�شري �إىل الدولة كما اعرتف ال�سيد خالد حممد خالد نف�سه. 4 0املرجع ال�سابق� ،ص .35 4 1القر�آن الكرمي� ،آية � ،3سورة يون�س ،مكية. 4 2القر�آن الكرمي� ،آية � ،120سورة املائدة ،مدنية. 89
وهنا الأغلوطة العظيمة وهي �أن ال�سيد خالد حممد خالد يخلط بني دولة الب�شر والقر�آن فال مييز بينهما باحلق. �أجل ،لقد قامت دول �إ�سالمية كثرية وكان معظمها نتيجة �صراع اجلماعات الإ�سالمية ومل تكن تطبيقًا لنظرية قر�آنية يف الدولة .ولو كانت يف القر�آن نظرية يف الدولة ملا كان ثمة داع لل�صراع على ال�سلطة ال�سيا�سية هل تكون لبني �أمية �أم لعلي بني �أبي طالب مثلاً وللعرب �أم للفر�س ،مثلاً �آخر. ميكن لل�سيد خالد حممد خالد كما ميكن لغريه مثل جماعة الإخوان امل�سلمني وحزب التحرير الإ�سالمي وحزب اهلل وغريهم �أن ي�ستخرج من القر�آن الكرمي ما �شاءت له رغباته ال�سيا�سية الدنيوية ،ميكن �أن يرى يف لفظ «ال�شورى» معنى «الدميقراطية الربملانية» 43.وميكن لغريه �أن يرى فيه احتا ًدا ا�شرتاك ًيا �أو م�ؤمت ًرا �إ�سالم ًيا �أو دولة دينية عاملية يحكمها خليفة من �إندوني�سيا �أو الباك�ستان �أو بنغالد�ش �أو �أحد م�سلمي االحتاد ال�سوفياتي وله جمل�س من عدد من امل�سلمني من �أقطار الدنيا الوا�سعة. كل هذه االختالفات يف تف�سري لفظ «ال�شورى» ،التي نقع عليها يف زماننا �سببها الأ�صلي حماوالت ت�سيي�س ن�صو�ص القر�آن التي هي ن�صو�ص مبادئ وقوانني مدنية �أخالقية .كل تلك االختالفات ال تبدل يف حقيقة الآية الب ّينة الكرمية التالية �شي ًئا وهذا ّن�صها: «وما عند اهلل خري وابقى للذين يجتنبون كبائر الإثم والفواح�ش و�إذا ما غ�ضبوا هم يغفرون... والذين ا�ستجابوا لربهم واقاموا ال�صالة ،و�أمرهم �شورى بينهم ،ومما رزقناهم ينفقون». لفظ «ال�شورى» يف هذه الآية الكرمية يفيد معنى امل�شاركة يف الر�أي باملعنى العمومي الأخالقي ولي�س باملعنى ال�سيا�سي التحديدي .وهذا املعنى للفظ «ال�شورى» توجه الذهن �إليه الألفاظ التي تقدمت اللفظ وهي كلها الفاظ ذات ٍ معان دينية �أو �أخالقية -م�سلكية ال متت �إىل ال�سيا�سة واحلكومة والدولة ب�صلة .منها �ألفاظ الإثم والفواح�ش والغ�ضب واملغفرة و�إقامة ال�صالة. حقائق تاريخية :من الوجهة التاريخية الواقعية ميكننا ذكر احلقائق الآتية: � 1أن الر�سول حممد (�صلعم) مل يعلن نف�سه �أم ًريا للم�ؤمنني يف حياته كما �أن القر�آن الكرمي مل ي�صفه مثل هذا الو�صف ،و�أكرث من ذلك نحن ال جند بني �أركان الإ�سالم اخلم�سة التي هي ركن ال�شهادة وركن ال�صالة وركن ال�صوم وركن الزكاة وركن احلج اي ركن �سيا�سي ،حتى �أن ركن ال�شهادة الذي هو �أهم الأركان ال جند فيه ما يفيد� :أن �أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل و�أ�شهد �أن حمم ًدا ر�سول اله وان حمم ًدا رئي�س الإ�سالم ،بل جند الن�ص الآتي�« :أ�شهد �أن ال �إله �إال اله و�أ�شهد �أن حمم ًدا ر�سول اهلل». 43خالد حممد خالد« ،الدولة يف الإ�سالم»� ،ص .58-59 90
فكــــــر
خالفة �أبي بكر مل تكن نتيجة تالوة �أو تطبيق ن�صو�ص قر�آنية بل جاءت بنا ًء على 2 مبايعة عمر بن اخلطاب وت�صميم عمر بن اخلطاب على البيعة وبعد ذلك املوافقة من بقية جمهور 44 ال�صحابة. وبالن�سبة خلالفة عمر يقول الطربي يف اجلزء الأول من تاريخه� :45إن �أبا بكر كتب العهد لعمر لكن بعد ا�ست�شارة كبار ال�صحابة وموافقتهم� .أما بالن�سبة لعثمان بن عفان فلم تكن بيعته من ال�ستة 46 الذين اختارهم عمر لرت�شيح اخلليفة واختياره. معنى ذلك ان اخلالفة كانت تتم بقرارات ب�شرية ولي�ست بن�صو�ص دولة دينية موجودة يف القر�آن. والقرارات الب�شرية كانت قرارات عدد قليل ج ًدا من الأفراد هم الأفراد الذين عرفوا بـ «ال�صحابة» ولي�س من �صحابة «يف هذا الزمان». بعد قتل اخلليفة عثمان بن عفان ،انفجر ال�صراع ال�سيا�سي بني بني �أمية وبني علي بن �أبي طالب واتخذ �صورة عنيفة دموية يف معركة �صفني التي انتهت بق�صة التحكيم واملناورة الأموية التي نفذها عمرو بن العا�ص ممثل معاوية مع �أبي مو�سى الأ�شعري ممثل علي بن �أبي طالب. منذ ت�أ�سي�س الدولة الأموية حتى يومنا ظلت الدولة الدينية الإ�سالمية اً 3 دول من �صنع الب�شر و�صراعاتهم ال�سيا�سية الدنيوية .و�إننا ال جند يف كل وثائق التاريخ الإ�سالمي �أية حماولة لال�ستناد �إىل �آيات القر�آن الكرمي لإقامة �سلطة �سيا�سية او لف�ض نزاع �سيا�سي .كل االعتماد كان يكون �إما على القوة �أو على �أحاديث تن�سب للر�سول او على كليهما. حتى ظهرت حركة الإخوان امل�سلمني وحزب التحرير الإ�سالمي وحزب اهلل وكتاب ال�سيد خالد حممد خالد فر�أينا العجائب يف تف�سري القر�آن بغري ح�ساب �إال لل�سيا�سة والألقاب فويل ملن ال يهاب حكم اهلل وويل ملن �أناب عن اهلل عب ًدا من تراب وعن �آياته يف الدين كال ًما ي�سي�سها جاهل �أو م�شرك �أو غافل او مغر�ض يف بيان �أو خطاب �أو كتاب. اعرتاف جديد :نعود �إىل التذكري باعرتاف ال�سيد خالد حممد خالد ب�أن القر�آن الكرمي ال ي�شتمل على ن�صو�ص تدعو الذين �آمنوا �إىل �إقامة دولة لن�شري �إىل اعرتاف جديد ،هذا هو: «�صحيح �أن القر�آن «د�ستور» مل ي�ضعه ال�شعب ولكنه د�ستور ر�ضيه ال�شعب و�آمن به واقرتع عليه 47 وا�ست�شهد يف �سبيله. 44 45 4 6 4 7
وهذه احلقيقة يقرها الكاتب نف�سه ،املرجع ال�سابق� ،ص .62 وهذا القول يذكره الكاتب نف�سه ،يف املرجع ال�سابق� ،ص .64 املرجع ال�سابق� ،ص .64 املرجع ال�سابق� ،ص .56 91
وا�ضح ان الكاتب ي�ستخدم م�صطلح «د�ستور» ا�ستخدا ًما �أدب ًيا عموم ًيا ولي�س ا�ستخدا ًما علم ًيا حتديد ًيا .فهو يق�صد الكتاب الذي ي�شتمل على عقيدة وقوانني .لكنه يغفل �أن القوانني الواردة يف الكتاب لي�ست قوانني �سيا�سية كما كنا ذكرنا .لذلك فـ «الد�ستور» هنا لي�س د�ستور دولة بل د�ستور مبادئ عقيدة دينية وقوانني �سلوك مدنية ال �أكرث وال �أقل. امل�س�ألة الثانية التي ت�ستحق النظر هي يف قول الكاتب �أن القر�آن الكرمي مل ي�ضعه ال�شعب وهذا يعني �أن الإرادة التي انبثق عنها القر�آن الكرمي لي�ست �إرادة �شعبية �أو �إن�سانية .هي كما يروي لنا علماء الدين �إرادة �إلهية .لذلك ن�س�أل�« :إذا كان القر�آن من �إرادة اهلل �سبحانه وتعاىل فهل يظل من معنى لكالم الكاتب عن «ر�ضى ال�شعب» و»اقرتاع ال�شعب عليه»! ثم �أي �شعب يق�صد الكاتب؟ �أهو �شعب اجلزيرة العربية الإ�سالمية �أم �شعوب العامل كله؟ يف مو�ضع �آخر يقول الكاتب �إن «الأمة يف الإ�سالم هي م�صدر ال�سلطات» 48فكيف يوفق بني هذا القول وحقيقة �أن اهلل م�صدر كل �شيء؟ ثم هل كالم الكاتب عن الأمة وكونها م�صدر ال�سلطات له �سند يف القر�آن الكرمي؟ هذا من الناحية الوثائقية� .أما من الناحية التاريخية ف�إن وقائع التاريخ تع ّرفنا على �أن اخللفاء الرا�شدين كانوا بقرار �صحابة الر�سول ومل ي�صبحوا خلفاء نتيجة النزاع احلربي واخلديعة ال�سيا�سية و�أوالدهم �صاروا خلفاء بالوراثة واخللفاء العبا�سيون �صاروا خلفاء بالنزاع الدموي والوراثة �أي�ضً ا .ف�أين الكالم عن الأمة م�صد ًرا لل�سلطات يف كل ذلك التاريخ .ومما يقوله الكاتب ما ي�أتي« :ومن الظواهر ال�صادقة 49 �أنه كلما كانت الأمة عالية يف م�ستواها احل�ضاري ،كان اختيارها حلكامها �صائ ًبا و�سدي ًدا». فهل يق�صد الكاتب �أن يقول �إن امل�ستوى احل�ضاري ولي�س القر�آن هو معيار االختيار ال�صائب ال�سديد للحكام؟ �أما عن الدولة الإ�سالمية فهذا بع�ض ما ي�صفها به« :فالدولة امل�سلمة م�أمورة من ربها ،ومدعوة من د�ستورها �إىل �أن تقيم تعاي�شً ا �سلم ًيا بينها وبني كل دولة ال تقدم �إليها الأذى وال حتوطها 50 بامل�ؤامرات». ن�صو�صا ت�شتمل على �أوامر من اهلل �سبحانه وتعاىل موجهة للدولة الإ�سالمية؟ �أ�سئلة� :أين جند يف القر�آن ً هل الدولة الإ�سالمية هي دولة بني الدول �أم هي دولة عاملية؟ وهل دولة الكاتب الإ�سالمية تقبل التعاي�ش مع دول ظاملة ل�شعوبها ما دامت تلك الدول ال تت�آمر على الدولة الإ�سالمية؟ 4 8املرجع ال�سابق� ،ص .61 4 9املرجع ال�سابق� ،ص .65 5 0املرجع ال�سابق� ،ص .76 92
فكــــــر
ثم هناك الآيات التي ي�ست�شهد بها الكاتب واملتعلقة بالقتال مثال« :الذين �آمنوا ،وهاجروا وجاهدوا يف �سبيل اهلل ب�أموالهم و�أنف�سهم �أعظم درجة عند اهلل� .أولئك هم الفائزون». «فليقاتل على �سبيل اهلل فيقتل �أو يغلب ف�سوف ن�ؤتيه �أج ًرا عظي ًما». «�إن اهلل ا�شرتى امل�ؤمنني �أنف�سهم و�أموالهم ب�أن لهم اجلنة يقاتلون يف �سبيل اهلل فيقتلون و ُيقتلون وع ًدا عليه حقًا يف التوارة والإجنيل والقر�آن .ومن �أوفى بعهده من اهلل». 51 «�إن اهلل يحب الذي يقاتلون يف �سبيله �صفهم ك�أنهم بنيان مر�صو�ص». نالحظ يف كل هذه الآيات �أن القتال املطلوب مل يكن يف �سبيل الدولة بل يف �سبيل اهلل ولي�س اً قتال �سيا�س ًيا بني دولة ودولة على حدود من الأر�ض �أو على منافع اقت�صادية .ومن قوله تعاىل: «وقاتلوا امل�شركني كافة كما يقاتلوكم كافة» الذي معناه �أن القتال هو �صراع ديني عقائدي بني امل�سلمني امل�ؤمنني ب�إله واحد وبني امل�شركني باهلل �أح ًدا ولي�س القتال بني دولة ودولة. نخل�ص من قراءتنا النقدية لكتاب ال�سيد خالد حممد خالد �إىل النتيجة الآتية: �إن الكتاب مل ي�ستطع �أن ي�ستخرج من القر�آن الكرمي دولة �إ�سالمية. ثم� ،إذا كانت الدولة الإ�سالمية ال حتتاج �إىل �سند من القر�آن الكرمي لأنها -كما قال -بديهية كالهواء فلماذا كل ذلك العناء الذي جت�شمه ال�سيد خالد حممد خالد ال�ستنباطها مبنطق رغبات لي�س فيه علم وال ا�ستواء؟ خالد حممد خالد يظهر �أنه غيرّ ر�أيه بطريقة �إرادية .غري �أن هناك من تعر�ض لعقوبة قا�سية لأنه قال ر�سول ال ً ب�أن الإ�سالم دين ولي�س بدولة و�أن حمم ًدا كان اً ملكا وال �أم ًريا .و�أبرز مثل على ذلك ما ّ حل بال�شيخ علي عبد الرازق .وهذه ق�صته باخت�صار �شديد: كان ال�شيخ القا�ضي علي عبد الرازق من علماء اجلامع الأزهر يف م�صر وقا�ض ًيا من ق�ضاة املحاكم ال�شرعية .غري �أنه ،وبالرغم من ذلك ،دفع ثم ًنا غال ًيا ج ًدا ب�سبب فكرته التي �ضمنها كتابه: الإ�سالم و�أ�صول احلكم :بحث يف اخلالفة واحلكومة يف الإ�سالم والثمن الغايل �شمل فيما �شمل حرق كتابه وطرده من وظيفته والت�شهري با�سمه يف م�صر� .أما فكرة الكتاب فتمثّلت يف ر�سول ذا بالغ مبني �أو ب�ش ًريا �أو نذي ًرا ولي�س ً قوله �إن حمم ًدا مل يكن �إال اً ملكا �أو م�سيط ًرا �أو وكيلاً . ومن الآيات التي ا�ست�شهد بها« :قلْ ل�ست عليكم بوكيل »...و «� ...إن عليك �إال البالغ» و ّ «فذكر �إمنا �أنت ّ مذكر ل�ست عليهم مب�سيطر» .وهذه الآيات مك ّية .الأوىل من �سورة الإ�سراء والثانية من �سورة ال�شورى والثالثة من �سورة الغا�شية .وهناك �آيات �أخرى ذكرها. 5 1املرجع ال�سابق� ،ص .80-81 93
العرب والعوملة
فـكــــــــر
جدل الأكرثية واالقليات عاطف عطية -باحث و�أ�ستاذ جامعي عنوان هذا الف�صل ي�شي ب�أهمية البحث يف م�س�ألة الأقليات يف العامل العربي .ذلك �أن ثنائية الأكرثية -الأقلية حمور ت�أ�سي�س �أنظمة �سيا�سية تقوم على الدميوقراطية التي هي �شرعية حكم الأكرثية مبن ميثلها ،وخ�ضوع الأقلية مبا ي�ستوجبه نظام احلكم الدميوقراطي نف�سه. و�إذا كانت �أنظمة احلكم الدميوقراطي التي تنتهج هذا ال�سبيل تتمتع بنظام مدين عادل ي�ؤ ّمن امل�شاركة لكل فئات املجتمع ،وعلى امل�ستويات كافة ،وتت�صف باال�ستقرار وتداول ال�سلطة وحرية احلراك االجتماعي ،والقدرة على االندماج املجتمعي يف املفا�صل الأ�سا�سية للمجتمع من دون �إلغاء �أو تبعية للخ�صو�صيات االجتماعية املتكونة برتاكم تاريخي يحفظ للجماعات ما مييزها من �ضمن �إطار التنوع يف الوحدة؛ �إذا كان هذا �ش�أن �أنظمة احلكم الدميوقراطي ،فكيف ميكن النظر �إىل �أنظمة احلكم التي تتميز فيها �أكرثية حتكم انطالقاً من وعي متيزها ،و�أقليات على الهام�ش� ،أو تنتظر ،انطالقاً من وعي متيزها ،على غري ما تقول به الدميوقراطية ،وعلى غري ما هو معروف يف �أمور تداول ال�سلطة؟ دميوقراطية الأكرثية ودميوغرافيتها
يف البداية ،ال بد من الت�أكيد �أن ال جمتمعات �صافية يف انتمائها الديني �أو الإتني ،حتى و�إن كانت تتكلم لغة واحدة �أو تنتمي �إىل ديانة واحدة .وثمة يف العامل �أكرث من 600لغة رئي�سية ،باال�ضافة �إىل � 6000إثنية .وهذا كله يجعل من امل�ستحيل االدعاء ب�صفاء عرقي �أو ديني �أو ح�ضاري .1هكذا كان العامل ،وهكذا هو الآن ،و�سيبقى. �إال �أن م�س�ألة الأقليات املعقود البحث فيها يف هذا املقام ،تتناول ما ي�شكل االنتماء املغاير النتماءات الأكرثية مهما كان ت�شكل الأقليات والأكرثية .من هذا الت�شكل ،االنتماء الديني �أو املذهبي �ضمن الدين الواحد .ومنه �أي�ضاً ،الأقليات الأثنية التي ترى نف�سها خارج �إطار االنتماء الأكرثي، � 1أنظر يف هذا اخل�صو�ص للتف�صيل: كمال ديب ،هذا اجل�سر العتيق ،دار النهار للن�شر ،2008 ،بريوت� ،ص.31 95
و�إن كانت ل�صيقة هذا االنتماء .والأقليات ميكن �أن تكون دينية و�أثنية يف الوقت نف�سه .ولكن ما هو م�شرتك بينها جميعاً احلر�ص على �إظهار التميز .وهذا يعني �أنها ترى نف�سها ،ويراها الآخرون« ،تتميز عن بقية مواطنيها بخ�صائ�ص �ساللية �أو لغوية �أو دينية �أو مذهبية ،تكون �سبباً يف انعزالها اختيارياً، �أو عزلها ق�سراً ،عن اجلمهور العام» .2وغالباً ما ي�أخذ هذا التميز �صفة هاج�س الهوية ،واالن�شغال بالتفتي�ش يف بطون التاريخ وم�ساحات اجلغرافيا عما يدعم هذا الهاج�س وي�ؤكده .3وتت�ساوى يف هذا الإطار حقائق التاريخ و�أوهامه طاملا تدفع باجتاه تثبيت الهوية وت�أكيد االنتماء املخ�صو�ص لهذه «الأقلية»� ،أو تلك ،يف مقابل الأكرثية التي تعمل على تثبيت اال�ستقرار وا�ستمرارية احلكم ودرء الفتنة با�سم الأكرثية ذاتها وب�سالحيها الأيديولوجي والعنفي؛ الأيديولوجي الذي ال يخرج عن االنتماء الديني� ،أو املذهبي ،ح�سب الثنائية �أو املثالثة الدينية� ،أو تعدد املذاهب والطوائف �ضمن الدين الواحد� ،أو االنتماء االثني الذي يجعل من �أكرثية حتكم بهذا اال�سم� ،أو بالإثنني معاً: الديني ،املذهبي ،من جهة؛ والإثني ،من جهة ثانية؛ بتمف�صل حمكم ومتني مع ال�سيا�سة التي ما ا�ستطاع الكثريون من منظريها وكل ممار�سيها ،حتى الآن� ،أن يف�صلوا بني الديني ،املذهبي ،والأثني وبني ال�سيا�سي .فتكون الأكرثية ،وبهذا املعنى ،منتجة� ،أو يف �أدنى احلاالت ،م�ساعدة يف انتاج الأقلية من حيث هي دينية ،مذهبية �أو �إثنية� ،أو الكل معاً. وبهذا املعنى �أي�ضاً ،تكون الأقلية� ،أو الأقليات ،قد �ساهمت يف متتني �أوا�صر الأكرثية ويف متا�سكها بحكم انتمائها ،على �أي وجه كان� ،إىل ت�شديد قب�ضة احلكم ،و�إىل �سلوك م�سلك اال�ستبداد والقهر با�سم احلفاظ على اال�ستقرار ،وفر�ض الهدوء ،وحماية املجتمع من االنق�سام ،م�ستعملة و�سائل االتهام كافة لي�س �أولها االت�صال بالأجنبي وال �آخرها تفتيت املجتمع وتق�سيمه. ولكن من املهم الت�أكيد هنا� ،أن املجموعات االجتماعية يف �أي جمتمع كان ال تو�ضع يف �سلة واحدة من حيث كونها �أقليات .فثمة �أقليات يغلب عليها طابع التميز ،من �أي م�صدر �أتى ،وتعترب نف�سها �أقليات يف تعاملها مع املجتمع الذي تنتمي �إليه؛ وثمة �أقليات حتمل ال�سمات العامة للمجتمع الذي تنتمي �إليه ،وال حت�س ب�إح�سا�س التميز الذي يف�صلها عن الن�سيج املجتمعي العام، فال تت�صف ب�صفة الأقليات و�إن كانت ال تهمل خ�صائ�صها الذاتية �أو تلغيها .وبهذا املعنى ،ثمة جماعات «مميزة بخ�صائ�ص ذاتية جتعلها �أكرث احتما ًال لأن تعي�ش واقعاً �أقلوياً» ...و�أخرى مميزة بخ�صائ�ص ذاتية «ولكنها متميزة بخ�صائ�صها الوطنية والقومية ،وهي بالتايل �أقل تعر�ضاً لأن تت�صرف �أو تعامل باعتبارها �أقلية لكونها �أكرث اندماجاً يف الن�سيج االجتماعي الوطني والقومي».4 2عوين فر�سخ ،الأقليات يف التاريخ العربي ،ريا�ض الري�س للكتب والن�شر ،1994 ،لندن ،بريوت� ،ص.12 3
4 96
Georges CORME, Geopolitique du conflit libanais La decouverte,FMA, 1986, Paris, p61
فر�سخ ،الأقليات يف التاريخ العربي ،مذكور �سابقاً� ،ص.13
فكــــــر
العرب وجدل الأكرثية والأقليات
ال ميكن الكالم على الأقليات يف العامل العربي باعتبارها ذات خ�صائ�ص متماثلة .فالأقليات القومية والإثنية تختلف عن الأقليات الدينية �أو املذهبية �أو الطائفية �ضمن القومية الواحدة �أو (جتاوزاً) �ضمن الإثنية الواحدة .فالكردي والأرمني والرببري وال�شرك�سي والفار�سي والأ�شوري والرتكماين يختلفون عن العربي امل�سلم �أو امل�سيحي؛ فه�ؤالء ينتمون �إىل �أرومة واحدة تعود يف �أ�صولها �إىل الآرامية البعيدة املت�صلة بدورها بالعن�صر ال�سامي اخلارج من اجلزيرة العربية .5بينما الكردي والرتكماين والفار�سي وال�شرك�سي والرببري من غري العرب ،و�إن كانوا ب�أكرثيتهم ال�ساحقة ي�شرتكون معهم يف الدين ،و�إن اختلف املذهب؛ و�أن الأرمني وال�سوداين اجلنوبي والأ�شوري من غري العرب و�إن ا�شرتكوا ب�أكرثيتهم ال�ساحقة� ،أي�ضاً ،مع بع�ض العرب بالدين ،و�إن اختلف املذهب. بهذا املعنى يلعب االختالف دوره تبعاً لأعداد الأقليات وت�أثريها يف احلياة ال�سيا�سية واالجتماعية. فيمكن بهذا االختالف �أن تت�أزم العالقات بني الأكرثية والأقلية� ،إما ب�سبب احلفاظ على الذات بالتما�سك الثقايف الذي يتجلى عادة باحلفاظ على العادات والتقاليد والتم�سك باللغة القومية وت�أمني ا�ستمرارها وانتقالها بني الأجيال باجلهود الأهلية البعيدة عن التوجه الر�سمي ،يف حال ف�شل دفع الدولة �إىل تبني تعليم اللغات املحلية غري العربية؛ �أو باجلهود الفردية التي �أخذت على عاتقها الإبقاء على اللغات «القومية» عن طريق تعليمها مبختلف الطرق .كما ميكن لها �أن تكون عام ًال م�ساعداً يف نه�ضة املجتمع ،ويف تقدمه ،يف حال توجه التعامل معهم وجهة اعتبارهم جزءاً من الن�سيج املجتمعي العام ،ويف حال �ساعدوا يف �أخذ �أنف�سهم يف هذا االجتاه .وهو االجتاه الذي ميكن �أن مييزهم باعتباره يحفظ التنوع �ضمن الوحدة ،وي�ضفي على املجتمع �صفة املدنية باعتباره يحفظ حق االختالف ،ويغني التنوع فيه ،وينفي ،يف الوقت نف�سه ،ثنائية الأكرثية والأقلية ،باملعنى الأهلي ،وي�ساهم يف �إبراز �صفة الأكرثية والأقلية باملعنى املدين ،املن�ش�أة من ممار�سة الدميوقراطية وتداول ال�سلطة ،ومن منو احل�س املدين ،ومن الرتبية على املواطنية.6 وبهذا املعنى �أي�ضاً يلعب االختالف دوره على م�ستويني �إثنني؛ م�ستوى االنق�سام العمودي وم�ستوى االنق�سام االفقي .7االنق�سام الأول يحول املجتمع الواحد اىل متعدد� ،إن كان على � 5أنظر يف هذا اخل�صو�ص: جورج قرم� ،أ�ساطري وحقائق النزاع اللبناين ،ال�سفري .1987/12/3 ،وللتف�صيل حول هذه امل�س�ألة يف ما يتعلق بلبنان� ،أنظر :عاطف عطيه ،الدولة امل�ؤجلة ،مذكور �سابقاً� ،ص.110-106 6حول موا�صفات املجتمع املدين واختالفه عن املجتمع الأهلي� ،أنظر: عطيه ،الدولة امل�ؤجلة ،مذكور �سابقاً� ،ص.130-123 7حول الفرق بني االنق�سام العمودي والأفقي� ،أنظر: فر�سخ ،الأقليات يف التاريخ العربي ،مذكور �سابقاً � ،ص.14-13 97
امل�ستوى الإثني �أو الثقايف ،كما هو احلال يف املجتمع ال�سوداين واجلزائري والعراقي (�إتنيات جنوب ال�سودان ،الرببر والأكراد على التوايل)� ،أو كان على امل�ستوى الطائفي الذي ال ي�ستقيم االنق�سام العمودي فيه �إال �إذا تكثف العمل على حتويل املجتمع الواحد املتعدد طائفياً �إىل جمتمع متعدد ثقافياً بتعدد الطوائف الدينية ،وك�أن الطائفة متثل ثقافة بعينها؛ فتتعدد ،لذلك ،وبح�سب هذا التوجه ،املجتمعات اللبنانية ،مث ًال ،بتعدد طوائفها الدينية .وهذا ما تر ّوج له االيديولوجيا الطائفية، وهي �إيديولوجيا الأقلية امل�سيحية يف لبنان منذ حلظات ن�ش�أتها ك�أقلية مقابل �أكرثية �إ�سالمية يف كنف الدولة العربية اال�سالمية على امتداد تاريخها منذ �أيام الدولة الأموية واملردة� ،إىل الدولة اململوكية وال�سلطنة العثمانية مع م�سيحيي جبل لبنان ،وخا�صة املوارنة .وهي الأيديولوجيا التي ما انفكت عن الظهور عند املفا�صل الأ�سا�سية للنزاعات يف لبنان عندما ترتدي (النزاعات) ثوب الثنائية الدينية ،وتعود �إىل ال�ضمور عندما ترتدي النزاعات �أثواب الثنائية املذهبية �أو التعدد املذهبي �ضمن الثنائية �إياها ..ويف هذا..كالم �آخر� .أما االنق�سام الأفقي ،فهو الذي يحفظ التمايزات من دون �إعاقة امل�شاركة الكاملة يف املجتمع من �ضمن �إطار التنوع يف الوحدة.8 بني الأكرثية والأقلية
ال ي�ستقيم النظر �إىل الأقليات باعتبارها م�شكلة �إال �إذا كانت هذه امل�شكلة كامنة يف الأكرثية �أو ًال، �أي يف املجتمع ذاته .لذلك ميكن الت�سا�ؤل :هل ثمة مربر لإبراز متايزات الأقلية و�إظهار نف�سها على �أنها جمموعات م�ستقلة لو مل يكن لدى الأكرثية امليل نف�سه �إىل �إبراز ذاتيتها الثقافية؟ يجيب برهان غليون عن هذا الت�سا�ؤل بقوله�« :إذا كنا نعرتف �أن هناك �أقليات ف�إننا نعرتف �أن هناك داخل اجلماعة الكربى جماعات لها فع ًال تقاليد متميزة ن�سبياً عن اجلماعة الكربى ،ولي�س لنا �أن نطالبها بالتخلي عن هذا التمايز الثقايف من دون �أن نلغي حقنا يف �أن يكون لدينا ذاتية ثقافية».9 هذا يف حال وجود التمايز الثقايف .ولكن ماذا لو كان هذا التمايز م�صطنعاً يف �سبيل الو�صول �إىل هدف �سيا�سي؟ ماذا لو ا�ستعملت التعددية الثقافية امل�صنوعة ايديولوجياً واملبنية على الثنائية الدينية والتعددية الطائفية و�سيلة للو�صول �إىل نتيجة �سيا�سية وهي �إن�شاء جمتمعات على قدر الطوائف الدينية؟ تبد�أ امل�شكلة احلقيقية عندما ي�صبح ال�ش�أن الثقايف وليد املمار�سة ال�سيا�سية املن�ش�أة من �أيديولوجيا الأقلية (الأيديولوجيا الطائفية) ،ولي�س عندما ي�صبح لهذا التمايز الثقايف (التمايز القومي 8حول وحدة حياة اللبنانيني على اختالف طوائفهم الدينية املمار�سة على الأر�ض وال ينق�صها �إال نظام �سيا�سي اجتماعي يحفظها وينميها� ،أنظر: عاطف عطيه ،املجتمع ،الدين والتقاليد ،جرو�س بر�س ،1992 ،طرابل�س� ،ص.550 9برهان غليون ،امل�س�ألة الطائفية وم�شكلة الأقليات ،دار الطليعة ،1979 ،بريوت� ،ص.19 98
فكــــــر
�أو الإثني) وجود �سيا�سي مميز ،كما يقول غليون .10وهذا يعني حتديداً �أن من حق الأكراد �أو الأرمن �إن�شاء الأحزاب املدافعة عن م�صاحلهم �ضمن املجتمع الكبري با�سم متايزهم الثقايف ،من دون �أن يكون من حق املوارنة �أو ال�شيعة �أو ال�س ّنة يف لبنان (�أو غريه) املدافعة عن م�صاحلهم با�سم التمايز نف�سه ،و�إن كان لهم احلق يف املدافعة عن م�صاحلهم باعتبارهم طوائف �ضمن �أرومة واحدة و�ضمن نظام طائفي ،متحقق �أو م�ض َمر ،يرعى وجودهم باعتبارهم طوائف ومل ًال ونح ًال يحفظ حقها الد�ستور والأعراف املجتمعية التي تلحظ هذه الثنائية الدينية وهذا التعدد الطائفي واملذهبي فتوزع ،تبعاً لذلك ،ح�ص�صها على ادارات الدولة ومواقعها الرئي�سية .وعندما يتم التعامل بني الأكرثية والأقلية على �أ�سا�س التوجه الثقايف لكل منهما ،لن يعود من امل�ستغرب �أن ي�ستعني كل طرف �إما بعمقه اال�سرتاتيجي املت�شكل تاريخياً ولو كان دولة �أجنبية ،و�إما برف�ض كل ما ينتج عن التمايز ،على �أي وجه كان ،با�سم احلفاظ على الوحدة والت�ضامن املجتمعيني.11 يف هذا املقام ين�ش أ� التناق�ض بني توجه الأكرثية التي تقود الدولة واملجتمع ،وتوجه الأقليات؛ وهو تناق�ض �إما نا�شئ عن عجز الأكرثية يف حتقيق مواطنيتها ومواطنية الأقليات ،من جهة؛ �أو عن ف�شلها يف بناء �أ�س�س الدولة احلديثة ،من جهة ثانية .ي�ساعدها يف ذلك ،انكفاء الأقليات مبحاوالت �إظهار متايزهم وهوياتهم املغايرة ،ما ي�ساهم يف زيادة حدة التناق�ض املو�صل اىل الت�شتت فالتقاتل واالنق�سام. و�إذا كانت الأكرثية متار�س �سلطتها باعتبارها �أكرثية على امل�ستوى الديني �أو على م�ستوى االنتماء احل�ضاري �إىل العروبة ،ف�إنها بعدم قدرتها على الف�صل بني العروبة واال�سالم� ،أو بعدم رغبتها �سلوك هذا امل�سلك يف تاريخها الطويل بعد اال�ستقالل ،كما قبله باعتبارها جزءاً ال ينق�سم عن ال�سلطنة العثمانية وارثة اخلالفة؛ كانت الأقلية ،وعلى �أي مذهب �أو �إثنية ،تعمل على �أنها حمكومة دينياً وبا�سم ال�شريعة الإ�سالمية، وهي لها نظراتها املخ�صو�صة يف �ش�ؤون العالقة بني اخلالق واملخلوق� ،أو بني املخلوقات ح�سب ما تقت�ضيه �شريعة كل منها و�إن كانت منبثقة من الدين �أو من اجتهادات ان�سانية يف �ش�ؤون الدين والدنيا .وهكذا مل تعمل الأكرثية على تطوير �أنظمتها ال�سيا�سية االجتماعية مبا يتالءم مع الدولة احلديثة ،ومبا ي�ستوعب م�شاكل الأقليات ويدخلها يف م�شاركة حقيقية يف م�سائل ال�سلطة والنظام العام؛ بل على العك�س، عملت هذه الأنظمة ،با�سم اال�سالم� ،أو با�سم القومية العربية� ،إما على �إلغاء دور الأقليات� ،أو تهمي�شه، ما �ساهم يف ت�أجيج م�شاعر ه�ؤالء .بل و�أكرث من ذلك ،عملت هذه الأنظمة �إما على متتني وجودها باعتبارها تنتمي �إىل �أقلية متحققة من �ضمن �إ�شكالية العالقة بني العروبة واال�سالم؛ و�إما على ابتداع �أقلية خا�صة بها ،ويف كنف الأكرثية ،تقت�سم مغامن ال�سلطة والنفوذ والرثوة ولو �أ�شركت يف ذلك بع�ضاً من فئات الأقليات املت�شكلة تاريخياً ،والعاجزة عن املناف�سة �سيا�سياً ،لأقليتها؛ وا�ضعة بذلك ،ويف احلالتني ،احلواجز الكثيفة بينها وبني الأكرثية املنبثقة منها .فتحولت الأنظمة ،ومن خالل املمار�سة، 1 0امل�صدر نف�سه� ،ص.19 11للتف�صيل حول هذه امل�س�ألة� ،أنظر املحور النظري للكتاب الهام: كمال ديب ،هذا اجل�سر العتيق ،مذكور �سابقاً� ،ص.39-25 99
�إىل �أنظمة �أقلوية ُت�ضاف ،يف نظر الأكرثية� ،إىل جملة الأقليات ،ويبد�أ التعامل معها على هذا الأ�سا�س. يظهر ذلك جلياً ،من خالل �آلية انتقال ال�سلطة من العثمانيني ،مروراً بامل�ستعمرين و�صو ًال �إىل دول اال�ستقالل. املرياث العربي
بهذا التوجه ،ورثت الأنظمة العربية ،و�إن بطريقة مغايرة ،ما قدمته ال�سلطنة العثمانية يف نظام امللل ملـة (طائفة) مرجعيتها الدينية باعتبارها �أي�ضاً مرجعية �سيا�سية للتمف�صل املكني الذي �أعطى لكل ّ بني الدين وال�سيا�سة .و�أعطى لكل جمموعة اجتماعية (�أقلية) حق املطالبة باحلقوق ال�شرعية لها باعتبارها جمموعة دينية قبل �أي �شيء .وكما مل يكن لدى الأكرثية احلاكمة ت�صور �سيا�سي اجتماعي خارج اطار الدين ،وما ير�شح عن االنتماء الديني من ت�صورات ت�ؤدي �إىل ممار�سات عملية يف �شتى �ش�ؤون احلياة ،ومنها �ش�ؤون املمار�سة ال�سيا�سية؛ كان للأقليات ،على اختالف توجهاتها، ت�صورات �سيا�سية اجتماعية منبثقة من اعتبارهم �ضائعني يف بحر متالطم من امل�سلمني .فنادى الكثريون من متنوريهم ،وخ�صو�صاً من امل�سيحيني املوارنة ،بالقومية العربية مقابل اجلامعة اال�سالمية التي كانت متثلها الدولة العثمانية .وظهرت الأفكار القومية التي بد�أت �أوىل �إرها�صاتها يف بداية الن�صف الثاين من القرن التا�سع ع�شر مع بطر�س الب�ستاين و«نفري �سوريا» ،ومع الكثري من الأدباء وال�صحافيني اللبنانيني يف لبنان وم�صر .ون�سج على هذا املنوال الكثريون من امل�سلمني املتنورين مثل عبد الرحمن الكواكبي وغريه من دعاة الالمركزية التي تفر�ضها وحدة االنتماء الديني.12 م�أزق ال�سلطة النا�شئ من التخلي عن تقليديتها من دون القدرة على بناء �أ�س�س الدولة احلديثة، والنا�شئ �أي�ضاً من عدم القدرة على بلورة الأفكار املدنية احلديثة ،ومن الق�صور يف بناء �أ�س�س املجتمع املدين؛ م�أزق �أدى �إىل �إظهار املواجهة على �أنها مواجهة دينية ،طائفية �أو مذهبية بني �أكرثية حتكم و�أقليات حمكومة .لي�س هذا فح�سب ،بل �أدى دخول الدولة البطركية امل�ستحدثة، ح�سب ه�شام �شرابي ،13دوامة ال�صراع باعتبارها «ثورة» على التقليد ،ف�أ�ضحت �أقلية �سيا�سية تعمل على ت�أبيد �سلطتها ،و�إن كان ذلك �ضد جمتمعها الأكرثي ذاته ،ولي�س فقط �ضد الأقليات. وهنا ميكن فهم الثورات العربية النا�شئة باعتبارها الأكرثية �ضد ا�ستبعاد الأقلية احلاكمة لها ،وذلك با�سم الأ�صالة والعودة اىل الدين و�ضد احلداثة والتحديث .14ما يعني «�أن كل ان�سداد يف النظام 12للتف�صيل حول دعاة اال�ستقالل واال�صالح على �أ�سا�س الالمركزية� ،أنظر: عطيه ،الدولة امل�ؤجلة ،مذكور �سابقاً� ،ص.86-79 � 13أنظر يف هذا اخل�صو�ص ،الكتاب الهام: ه�شام �شرابي ،النظام الأبوي ،ترجمة حممود �شريح ،دار نل�سن ،الطبعة الرابعة ،2004 ،بريوت. 14غليون ،امل�س�ألة الطائفية وم�شكلة الأقليات ،مذكور �سابقاً� ،ص.29 100
فكــــــر
ال�سيا�سي يخلق انفجاراً يف املجتمع املدين (الأهلي) وي�ؤدي �إىل ن�شوء ع�صبوية مغلقة» .15وهنا يظهر ب�شكل وا�ضح ق�صور الدولة امل�ستحدثة عن �إيجاد �أي تغيري يف بنية ال�سلطة والنظام .وهذا ما ي�ؤدي ،ب�سبب العجز� ،إىل املطالبة ب�أ�سلمة الدولة ومعاملة الأقليات مبا تقت�ضيه ال�شريعة اال�سالمية. مل يكن ت�أثري االمتيازات الأجنبية ب�أقل مما �أث ّـر نظام امللل .فقد اعتربت الدول الأوروبية �أن هذه االمتيازات هي الباب الذي ميكن �أن تدخل منه للت�أثري يف امللل غري امل�سلمة (وغري ال�سنية �أي�ضاً). بوا�سطتها ت�ؤثر على الطوائف التي تنتقيها با�سم الرعاية واحلماية .وبوا�سطة هذه االمتيازات دخلت عنا�صر التب�شري بامل�سيحية الغربية الكاثوليكية والربوت�ستانتية ،لي�س يف �أو�ساط امل�سلمني� ،إذ لي�س مبقدورهم ذلك بحكم الأكرثية� ،إال يف القليل النادر؛ بل يف �أو�ساط امل�سيحيني امل�شرقيني ،وخ�صو�صاً يف الأرياف واملناطق النائية .ما قدمته هذه العنا�صر ،وبوا�سطة املدار�س التي �أن�ش�أتها ،مل ي�ساهم يف نه�ضة تعليمية كربى فح�سب ،بل �ساهم �أي�ضاً يف تو�سيع الهوة بني امل�سيحيني (الأقلية) وامل�سلمني(الأكرثية)، من ناحية؛ ويف تر�سيخ �أولوية االنتماء الديني واملذهبي ،من ناحية ثانية .وهو ما عمل ،باال�ضافة �إىل عوامل �أخرى� ،إىل تفجري النزاعات الطائفية يف جبل لبنان( ،)1860 - 1841واىل ن�شوء النظام الطائفي ابتداء من ،1861وهو ما عرف بربوتوكول 1861ومن ثم � ،1864أو نظام املت�صرفية. بني الأكرثية الدينية والقومية
عندما جنح العروبيون يف فك العروة الوثقى بني العرب امل�سلمني وال�سلطنة العثمانية ،و�صل هذا االنفكاك �إىل التحالف مع الغرب امل�سيحي �ضد الدولة العثمانية امل�سلمة باعتبارها �شريكة املحور يف احلرب العاملية الأوىل ،وباعتبارها الرجل املري�ض الذي ال بد �أن يورث العرب دولتهم بال�سلم �أو باحلرب .وطاملا مل يعط العثمانيون ا�ستقال ًال للعرب يف �إطار الالمركزية يف الأقل الواجب ،فال ب�أ�س من وراثتها حرباً ،و�إن كان بالتعاون مع دول عدوة مع الدولة التي ال تزال دولتهم. هكذا ،و�صل الأمري في�صل �إىل �سدة امللك بحكم منطق القوة والن�صر الذي انعقد للحلفاء يف احلرب .ف�أ�س�س الدولة العربية املوعودة مبعزل عن ارادة املنت�صرين باعتبارها حت�صيل حا�صل .وكان ه�ؤالء يف �صدد ترتيب �أو�ضاعهم واقت�سام تركة العثمانيني ب�صرف النظر عن وعودهم للعرب مع ت�أكيد الوعد ب�إن�شاء دولة قومية لليهود؛ وهو الوعد الذي ال يخرج عن منطق التعامل مع منوذج �ساطع من الأقليات. بانتهاء احلرب العاملية الأوىل التي �أذنت بانتهاء �أربعة قرون من حكم العثمانيني ،ات�ضح املجال على نوع جديد من التعامل ال�سيا�سي -االجتماعي بني العرب �أنف�سهم ،و�إن كان و�سط لغط متناق�ض ن�ش�أ عن ظروف التعامل مع الغرب ،وعن ظهور الدولة العربية اجلديدة ،وعن �إلغاء اخلالفة اال�سالمية لأول 1 5امل�صدر نف�سه� ،ص.29 101
مرة يف تاريخ اال�سالم وامل�سلمني .ومن ه�ؤالء من كان مع الدولة «احلديثة» ،ومنهم من كان �ضدها باعتبار �أنها ن�ش�أت على �أنقا�ض اخلالفة ،ومنهم من �سكت على م�ض�ض� .أما الأقليات ،وامل�سيحيون منهم على اخل�صو�ص ،فقد اعتربوا ذلك ن�صراً لهم لأنهم �شاركوا يف ت�أ�سي�س هذه الدولة ،كما �أملوا �أن ي�شاركوا يف قيادتها على �أنها الدولة املدنية الأوىل يف التاريخ العربي الإ�سالمي .ويعترب يو�سف احلكيم (الأرثوذك�سي) من �أهم الوزراء يف احلكومات املتعاقبة �أيام في�صل. القومية بني الأكرثية والأقلية
يف اجلانب الآخر بد�أ العمل على �صوغ النظام ال�سيا�سي جلبل لبنان باعتباره موقع امل�سيحيني ومالذهم .هل يبقى �شبه م�ستقل �أم �سيتمتع باال�ستقالل التام؟ هل يكون من �ضمن اململكة العربية الكربى �أم اململكة ال�سورية؟ ما هو النظام ال�سيا�سي الذي �سيعتمده؟ وما هو موقفه من العرب والعروبة ،ومن اال�سالم وامل�سلمني؟ هل هو ن�صري الغرب الذي ي�شرتك معه يف الدين� ،أم ن�صري العرب الذي ي�شرتك معهم يف العن�صر واللغة والتاريخ وامل�صري؟ هذه الأ�سئلة وغريها الكثري ،كانت تدور يف �أذهان املطالبني من امل�سيحيني باال�ستقالل عن الدولة العثمانية با�سم العروبة وبا�سم التاريخ امل�شرتك واللغة الواحدة .ويف تلك اللحظات ،راحت الدولة العثمانية ،ومل يبق �إال ما تركته .وما تركته �أغلبية �ساحقة من املنتمني اىل اال�سالم ديناً ،واىل العروبة ح�ضار ًة ينتمي �إليها امل�سلمون وامل�سيحيون معاً .فكيف ال�سبيل اىل االختيار يف توجههم ال�سيا�سي؟ وكيف عليهم �أن يبنوا م�ستقبلهم؟ �إذا كان الواقع االجتماعي -التاريخي ي�صوغ الأفكار ويبلورها ،ف�إن املطالبة با�ستقالل العرب عن الدولة العثمانية با�سم القومية العربية اجلديدة على �أ�سماع امل�سلمني والطارئة على قامو�س التعامل اال�سالمي اليومي حينها ،انقلبت �إىل مطالبة بقومية �أ�ضيق كانت لبا�ساً ي�سرت ج�سداً ذا ينقـبون عن املقوالت الفكرية والنظريات توجه ديني ،وهي القومية اللبنانية .وبد�أ املطالبون بها ّ ال�سيا�سية التي تدعم هذا التوجه .ومما وجده ه�ؤالء من ممار�سات فعلية ت�صب يف هذا االجتاه، ال�صدامات امل�سلحة التي �أخذت املنحى الطائفي بني ن�صري لال�ستقالل وللفرن�سيني ،وبني معا ٍد للفرن�سيني ون�صري للدولة العربية .16ومما وجده ه�ؤالء �أي�ضاً ممار�سات يف بدايات احلكم العربي تف�صح عن �إرادة وا�ضحة يف تطبيق ال�شريعة اال�سالمية .17ووجد ه�ؤالء �أي�ضاً �أن ن�ضالهم من �أجل اال�ستقالل عن الدولة العثمانية ال يعني الغرق جمدداً يف بحر من امل�سلمني العرب ،ف�آثروا تغطية انتمائهم الأقلوي برداء ن�سجوه مما كان �سائداً من �أفكار حديثة يف القومية والعلمانية وف�صل الدين 16وجيه كوثراين ،االجتاهات االجتماعية ال�سيا�سية يف لبنان وامل�شرق العربي ،1976 ،بريوت� ،ص.330 1 7امل�صدر نف�سه� ،ص.277 102
فكــــــر
عن الدولة والقيمة العليا للفرد؛ وهي �أفكار غربية مل يجدوا ب�أ�ساً من ا�ستعمالها يف تف�صيل لبا�س القومية اللبنانية بعد �أن ا�ستعمله �أ�سالفهم يف تف�صيل ثوب القومية العربية .وهما لبا�سان بديالن �إثنان ،كل يف زمانه ،عن لبا�س الإ�سالم باعتباره وعا ًء يحتوي امل�سلمني وغريهم يف �أمة الإ�سالم. يف هذا التوجه كانت تدور املفاو�ضات يف م�ؤمتر ال�سالم يف باري�س ع�شية �إعالن دولة لبنان الكبري. و�سعت م�ساحتها وزادت �سكانها ،وغريت من وحظي امل�سيحيون بدولتهم بعد �أن �أحلقت بها �أق�ضية ّ معادالتها الدميوغرافية ،و�أعطت امل�سيحيني ،وخا�صة املوارنة� ،سلطات حفظها الد�ستور ورعتها الدولة املنتدبة ،و�أق�صت مناطق مثل طرابل�س عن عمقها الدميوغرايف وعن موقعها املميز يف دولة غابتّ ، لتحل يف موقع تابع بعد �أن كانت يف موقع املتبوع بحكم انتمائها اىل االكرثية .فذاقت مرارة ال�شعور الأقلوي الذي منعها من الدخول يف �صلب املعادلة اجلديدة لفرتة امتدت �إىل �أكرث من عقد ون�صف.18 جدل الأقليات
مع �إيجاد دولة لبنان الكبري تغريت املعادلة .وحتول لبنان من جبل تقطنه �أقليات مقابل �أكرثية متثلها الدولة العثمانية ،وتتعامل فيما بينها باعتبارها �أكرثية (مارونية -درزية) ،و�أقليات ،منها الأقلية ال�سنية؛ �إىل دولة ت�ضم جمموعة من الأقليات و�صلت يف وقتنا احلا�ضر �إىل ثماين ع�شرة طائفة دينية ،و�إىل �أكرثية �آرامية عربية متثل �أكرث من %90من املجتمع اللبناين بالإ�ضافة �إىل الأرمن %8 - 7والأكراد .19%3 - 2 مع الواقع اجلديد وبت�أ�سي�س لبنان الكبري� ،أو ًال ،ومن ثم اجلمهورية اللبنانية مع و�ضع د�ستور ،1926 تغريت �أدوات ال�صراع يف لبنان مع الإبقاء على امل�ضمون نف�سه .وكان حلمة هذا ال�صراع و�سداه هاج�س الهوية وق�ضايا االنتماء .وكان االنتماء الديني ال يزال يحظى ب�أولية عنا�صر االنتماء، و�إن لب�س �ألب�سة خمتلفة منها اللبا�س ال�سيا�سي :القومية العربية والقومية اللبنانية؛ �أو احل�ضاري: العربية �أو الفينيقية؛ ومنها اللبا�س احلزبي النجادة �أو الكتائب �إلخ .وكلها ت�سميات تف�صح بكلمات حديثة عن م�ضمون مت�شكل من االنتماء الديني :اال�سالم وامل�سيحية. �أخذ ال�صراع على الهوية ،وهو ال�صراع املتميز الذي ت�ستح�ضره الأقليات للدفاع عن وجودها، ولإثبات هذا الوجود الذي ال يخفي ال�صراع على ال�سلطة ،بل ي�ؤكده با�سم ال�شراكة التي عليها �أن تتنا�سب مع احلجم العددي ،ومع ما يتيحه النظام ال�سيا�سي الذي يلحظ هذه امل�شاركة ،فتتعزز بقدر التغريات الدميوغرافية التي تفر�ضها؛ �أو تفر�ض هذه امل�شاركة بتو�سل املتغري الدميوغرايف ذاته. من هنا ن�ش�أ عدم اال�ستقرار ال�سيا�سي يف لبنان النا�شئ عن التغري الدميوغرايف ،وبالتايل عن تغري مواقع ال�سلطة التي ال تخرج عن كونها �سلطة الطوائف �أو ال�سلطة الطائفية. 18انظر يف هذا اخل�صو�ص :ديب ،هذا اجل�سر العتيق ،مذكور �سابقاً� ،ص.92 19قرم� ،أ�ساطري وحقائق النزاع اللبناين ،ال�سفري ،مذكور �سابقاً. 103
يف لبنان اجلمهورية ،تكر�ست الأكرثية اجلديدة بثالث جمموعات تراوحت ن�سبتها بني و من جمموع العديد الإجمايل للبنانيني .وبقيت الطوائف اخلم�س ع�شرة �ضمن حدود %25جمتمعة. وهذه لعبت دورها ك�أقليات ،مهم�شة �أو تابعة ،يف م�س�ألة التعاطي مع �ش�ؤون احلكم وال�سلطة. وتناوبت الطوائف الثالث على االم�ساك بزمام الأمور يف البالد با�سم لبنان امل�سيحي� ،أو ًال ،ذي الوجه عدل من هذا التوجه ،املر�سوم من �سلطات االنتداب ،وملوقع العربي ،ومن ثم لبنان امليثاقي الذي ّ املوارنة يف اجلبل قبل �ضم امللحقات؛ وهو التوجه الذي �أف�ضى �إىل اعتماد نفيني لدرء خطر الأكرثية التي ميكن �أن تتجلى يف ت�أثري اخلارج على الداخل :عدم االعتماد على العمق العربي (امل�سلم) مقابل عدم اللجوء اىل الغرب (امل�سيحي) ،ما حدا بال�صحايف جورج نقا�ش �إىل قول عبارته ال�شهرية« :نفيان ال ي�صنعان �أمة .Deux négations ne font pas une nationهذه املبادلة �شكلت املرتكز الأ�سا�سي للميثاق الوطني الذي �أعطى ال�س ّنة يف لبنان امل�شاركة الفعلية يف �ش�ؤون احلكم يف ثنائية تق ّوت مبخا�ض املد العروبي يف لبنان ،و�أبقى الأكرثية ال�شيعية على حدود املمار�سة ال�سيا�سية� ،إن مل يكن على �أحدثه ّ هام�شها .وهذا ينطبق على الطوائف الأقل عدداً ،وبالتايل الأقل �أهمية ،على م�ستوى هذه املمار�سة. %25 23
النظام املنتج للفكر الأقلوي
مل تتعدل هذه امل�شاركة الثنائية �إال �أثناء احلرب اللبنانية وتكر�ست يف اتفاق الطائف مبعادلة املثالثة التي �أتاحت لل�شيعة حق امل�شاركة الكاملة يف احلكم من �ضمن نظام الرتويكا الذي �أعطى ملجل�س النواب رئي�ساً ملكاً غري متوج؛ وهو عطاء متزامن مع �صعود جنم املقاومة اللبنانية التي �أعطت لل�شيعة قوة غري م�سبوقة .هذا العطاء املزدوج �أتاح لهذه الطائفة املوقع املتقدم يف املعادلة اجلديدة واملناف�سة مع الطائفة ال�سنية واقت�سام الطائفة املارونية منا�صفة� ،أو ما ي�شبه املنا�صفة بني هذه وتلك يف املجال ال�سيا�سي ،و�إن كان يف جميع الطوائف من ال يخ�ضع لهذا املنطق يف االنق�سام .وقد عبرّ كمال ديب عن هذه احلالة بقوله« :بد�أت املناف�سة على ال�سلطة ال�سيا�سية يف الربملان وجمل�س الوزراء واملراتب العليا يف الدولة بني ال�سنة وال�شيعة ...و�سعى اجلانبان �إىل اجتذاب امل�سيحيني ...وبدت قيادتـ(هما) مبوقع الهاجم على تركة املوارنة( ...الـ) م�شتتني (الـ) موزعني» .20وقد �ش ّبه ديب العالقة بني الطوائف يف الت�سعينيات مع ما ح�صل يف الع�شرينيات من القرن املا�ضي مع انقالب يف الأدوار ،بقوله « :ثمة �شبه كبري يف الت�سعينات بني �سعي الزعامات الإ�سالمية جللب امل�سيحيني �إىل اجلمهورية الثانية وامل�ساهمة فيها، و�سعي املوارنة بعد والدة دولة لبنان الكبري يف الع�شرينات جللب امل�سلمني �إىل جانبهم.»21 ال يخرج االنق�سام ال�سيا�سي اللبناين ،يف �صيغه املختلفة ،عن جدل الأكرثية والأقليات ،و�إن كان 20ديب ،هذا اجل�سر العتيق ،مذكور �سابقاً� ،ص.246 2 1امل�صدر نف�سه� ،ص.251 104
فكــــــر
املحدد الأ�سا�سي لهذه االنق�سام .ونوعية النظام ال�سيا�سي اللبناين هو الذي �أبقى املتغري الطائفي ّ على هذا االنق�سام ذي الوجه الآخر قبل حتديد لبنان الكبري ،وقبل انتقال الأكرثية والأقليات �إىل جمال جديد حظى فيه اجلميع مبواقع �أقلوية ،و�إن كانت بن�سب متفاوتة. هذا الوجه اجلديد كر�سه الد�ستور اللبناين بحماية حقوق املجموعات الطائفية التي يت�ألف منها لبنان .وهذا ما �أ�ضيف �إليه ،باعتباره الرتجمة �شبه احلرفية لد�ستور اجلمهورية الفرن�سية الثالثة .فكان �أن اجتمع فيه احلق يف ممار�سة احلرية وامل�ساواة �أمام القانون ،مع �إعطاء الطوائف �سلطات ال تتالءم مع �سلطة الدولة ،وحتد من قوة نفاذها .وربط الفرد بطائفته عندما �أعطى اللبنانيني احلق يف الوظيفة واخلدمة العامة ب�صفتهم �أع�ضاء يف طوائف دينية ،ولي�س ب�صفتهم مواطنني يف املجتمع ويدينون بالوالء للدولة. ظهر النظام ال�سيا�سي -االجتماعي اللبناين املبني على الطائفية على �أنه املنتج الرئي�س حلاالت التوتر والتع�صب بني جناحي لبنان ،ومن ثم بني �أجنحته الثالثة ،من جهة؛ وحلاالت التوتر والتع�صب بني العنا�صر امل�شكلة لكل جناح ،من جهة ثانية .وهي حاالت تعلو بعل ّو درجة توترها؛ �أو تخف� ،أو تختلف ،ح�سب ما تقت�ضيه الظروف والأحوال يف عالقات التقابل بني الطوائف .ومنطق ّ النظام نف�سه �أملى على املتزعمني داخل كل طائفة احتالل املواقع املتقابلة ،وتو�سل �سبل املناف�سة املتوترة القائمة على دعم مرجعيات الطائفة ورموزها الدينية ،من جهة؛ وعلى التكتالت القرابية واملرجعيات العائلية ،من جهة ثانية .ود� ُأب املتزعمني الدائم تعزيز املواقع داخل الطائفة ليكونوا يف منعة من �أمرهم ويف عالقاتهم معها من الداخل ،ولتكون الطائفة يف منعة من �أمرها يف عالقاتها مع اخلارج .ويتو�سل اجلميع� ،إىل �أي طائفة انتموا� ،أ�ساليب متعددة تبد�أ يف حركات اال�ستنها�ض ،مروراً ب�إيقاظ وتغذية �شعور اال�ستعالء ،و�صو ًال �إىل ت�سويغ العنف من �أجل الدفاع امل�شروع عن املوقع والهيبة والوجود يف مواجهة الآخر ،مهما كان �ش�أنه ،ومهما كانت هويته :العائلة �أو الطائفة �أو الدين. النظام من الداخل �إىل اخلارج
�أملى النظام ال�سيا�سي -االجتماعي يف لبنان على الطوائف التي ال تنعم ب�سلطة الأكرثية �أن متعن يف االنخراط باللعبة الطائفية .وظهر هذا الإمعان يف املطالبة بح�ص�صها باعتبارها طوائف عليها امل�شاركة يف احلكم بتو�سل الدميوغرافيا .وكان من �أهم �أ�سباب هذا التوجه املحا�ص�صة الثالثية اجلديدة على ح�ساب بقية الطوائف .22ولدعم مطالب الأعيان فيها ال بد ،كما ترى ،من �شد �أوا�صر املنتمني �إليها طائفياً ،وباملعنى ال�سيا�سي لهذا التعبري ،ف�أن�شئت ،با�سم الطائفة ،الروابط 22للتف�صيل حول توزيع املنا�صب العليا واحل�ص�ص على الطوائف الكربى ،وعلى ح�ساب بقية الطوائف، �أنظر :امل�صدر نف�سه� ،ص.250-247 105
والأحزاب التي تدعم هذا التوجه ،و�أعدت املعاجم التي تلحظ وجوه الطائفة واملنظورين فيها، ويف �شتى املجاالت .وبد�أت املطالبات برفع الغنب عنها ،كما بد�أت املناف�سة على تر�ؤ�س منا�صب مل تنوجد بعد على �أر�ض الواقع (جمل�س ال�شيوخ) .كما ُو�ضعت امل�شاريع االنتخابية التي تلحظ لكل طائفة نوابها املنتخبني من الطائفة نف�سها .وبد�أ النظر ،لأول مرة� ،إىل بع�ض الطوائف ،ومن قبل املنتمني �إليها ،على �أنها �أقلية ،مع �أنها كانت ومل تزل تعترب نف�سها داخل الن�سيج املجتمعي العربي العام .وقد عرب املطران جورج خ�ضر ،وعلى ذمة كمال ديب ،عن قلقه عن و�ضع امل�سيحيني يف املجتمعات اال�سالمية بقوله� « :إن زوال ال�سلطة والنفوذ والقوة من �أيدي امل�سيحيني ال يعني �أن عليهم قبول الذمية جمدداً»� .23أما ال�سيا�سي اللبناين رميون �إدة فكان �أكرث ت�شا�ؤماً عندما ن�صح قريبه كارلو�س بقوله�« :إ�سمع يا كارلو�س ،بدي منك تبقى بالربازيل وما تروح ت�شتغل �سيا�سة بلبنان .بعد ع�شرين �سنة ما رح يبقى وال م�سيحي بلبنان» .24وت�ضع هذه الطوائف نف�سها يف خانة الأقلية مقابل توجه �أكرثي يغلب فيه الطابع الديني -املذهبي العام على الطابع الوطني �أو القومي. يف هذا املنحى املطبوع بطابع اخلوف ،وهو �إنتاج �أقلوي بامتياز ،و�إن كان من جملة منتجيه التوجه الأكرثي املخالف� ،إىل درجة التناق�ض ،مناحي الأقليات ،يجد النظام الأقلوي يف حميطه الطبيعي واحل�ضاري ما يغذي هذا اخلوف ،ب�سبب االنتماءات الدينية واملذهبية .وال يجد يف هذا املحيط، يف �أيام االنتماء الوطني والقومي �إال الذوبان يف حميط ح�ضاري �أكرثي ،خوفاً من �ضياع الهوية وفقدان التميز ،و�إن خرق الكثريون من طوائف خمتلفة هذه القاعدة و�أن�ش�أوا الأحزاب العقائدية والدنيوية املتجاوزة لالنتماء الديني ،وانت�سب �إليها الكثريون من طوائف الأقلية والأكرثية ،وال يزالون ،و�إن تراجع حجم ت�أثريهم ،وو�صل عند الكثريين منهم �إىل حد الف�شل يف الت�أثري. وكان �أن الف�شل �أ�صاب الطرفني؛ ف�شل املحيط احل�ضاري يف ا�ستيعاب الأقليات على اختالفهم، وعجزه عن �ضمهم �إىل الن�سيج املجتمعي العام؛ وف�شل الأقليات يف جتاوز خ�صو�صياتها ومتايزها يف عالقاتها مع الأكرثية ،وعجزها عن اال�ستمرار يف الت�أثري الفكري واحل�ضاري يف املحيط الأو�سع الذي تنتمي �إليه. وهنا حتمـل كل جهة وزر اجلهة الأخرى. علي القول َمن هم �صانعو احلياة؟ يقيني �أن التزمت واالنغالق والتع�صب �صانعو للموت .وهل ّ
2 3امل�صدر نف�سه� ،ص.244 2 4قال هذا الكالم كارلو�س �إدة عميد حزب الكتلة الوطنية عرب تلفزيون اجلديد ،وذكره كمال ديب يف فاحتة كتابه هذا اجل�سر العتيق� ،أنظر: امل�صدر نف�سه� ،ص.9 106
الإ�صالح ال�سيا�سي بني الدين والعلمنة
فـكــــــــر
مو�سى ال�صدر و�أنطون �سعاده منوذجا ً (درا�سة مقارنة) �سعيد �أحمد عبد الرحمن � -أ�ستاذ جامعي
مقدمة:
يقول وجيه كوثراين�...« :إن ما يحلو للبع�ض �أن ي�سموه اليوم ال�صراع بني التيارين الديني والعلماين يف ع�صر النه�ضة ،كان حواراً تاريخياً مثمراً وال عالقة له بال�صراع الالحق ال�سلطوي الذي ن�شب منذ حوايل منت�صف القرن الع�شرين بني قوميني علمانيني عقائديني ،وبني �إ�سالميني عقائديني حول حق اال�ستيالء على ال�سلطة ال�سيا�سية بطريقة التغلب ...فبالن�سبة للنه�ضويني مل تكن م�س�ألة الهوية �أو اجلوهر الوجودي للعرب وامل�سلمني �أو م�س�ألة توليهم ال�سلطة ال�سيا�سية او عدم توليهم ،مل تكن م�س�ألة مطروحة ،كانت الإ�شكالية تدور حول م�س�ألة التقدم والرقي والتمدن ،وحول م�س�ألة الد�ستور واملواطنة وامل�شاركة ال�سيا�سية ،اي حول م�س�ألة الدميقراطية ،اي حقوق االن�سان واملواطن .)1( »... هذا ما �سندر�سه عند كل من مو�سى ال�صدر وانطون �سعاده ،حيث يجمع بني اخلطابني لدى كل منهما ،رف�ض م�شرتك للواقع القائم ،وحماولة اىل حتقيق النه�ضة واالنبعاث للمجتمع. ف�صحيح ان ال�صدر و�سعاده اليتفقان على طرق املعاجلة وكيفيتها ،فمو�سى ال�صدر يجد ان املعاجلة مل�شاكل االمة ال تبتعد عن الدين وحدوده املطاطة ،اما انطون �سعاده ،ف�إنه يجد هذه احللول مل�شاكل املجتمع من خالل القومية ومبد�أ ف�صل الدين عن الدولة .اال ان �إ�شكالية النه�ضة تبقى هي املحرك يف خطاب كال اال�صالحيني ،الذي ي�أتي مع اختالف ظروف الزمان متفقاً حول تو�صيف امل�شكلة، غري �أن الفارق الآخر بينهما جاء حول جغرافية املكان املزمع �إ�صالحه ،فكان املجتمع وال�سيا�سة يف لبنان عند ال�صدر ،اما عند �سعاده فهي �سوريا مبعناها الوا�سع ،والتي ت�شمل باال�ضافة اىل لبنان و�سوريا ،العراق واالردن وفل�سطني وجزيرة قرب�ص وهو ما اطلق عليه تو�صيف الهالل اخل�صيب. لقد جاء خطابهما اال�صالحي ليفتح باباً على امل�ستقبل ،مل يكن مبن�أى عن املا�ضي او انقطاعاً عن الإ�صالحيني الذين �سبقوهما .وقد يكون ذلك �إما لت�أثر ال�صدر و�سعاده بالفكر اال�صالحي الذي عرفه عاملنا العربي من قبل ،ومنذ اواخر القرن التا�سع ع�شر ،و�إما لأن ظروف املنطقة تفر�ض 107
كل عقود عدة رجا ًال �إ�صالحيني ي�ضي�ؤن على عوامل ال�ضعف والتخلف لدى احلكومات والدول وانعكا�سها على ال�شعوب .فيكون ذلك حتمية تاريخية تفر�ض وجود �إ�صالحيني يف كل ع�صر. او الن رجال الإ�صالح هم تردد دائم ل�صوت احلرمان املنبعث من بني الطبقات امل�ست�ضعفة التي حتاول �إي�صال �صوتها والتنديد بواقعها .وحماولة الثورة على ظامليها ،فت�أتي بالتايل عناوين الإ�صالح املرفوعة متوافقة مع الع�صر ومعطياته. فهل جاء فكر مو�سى ال�صدر ،الذي قر�أ لأنطون �سعاده متالئماً مع فكر اال�صالح عند هذا الأخري وبالعك�س؟ ام ان نوع اال�صالح املرجو عند ال�صدر و�سعاده ،و�ضمن النطاق اجلغرايف الواحد حيث تواجد الرجالن ،وهو لبنان و�سوريا ،الميكن �أن يختلف للأ�سباب اجليو�سيا�سية واالجتماعية؟ -1الإمام ال�سيد مو�سى ال�صدر:
ين�سب االمام ال�صدر نف�سه قائ ًال« :ولدت يف �إيران ،جدي �صدر الدين الذي ت�سمى عائلتي با�سمه ،هاجر مع �أبيه �صالح الذي كان عاملاً يف قرية �شحور ق�ضاء �صور �أواخر �أيام الأتراك ،و�سكن العراق ،حيث �أ�س�س عائلة ثم هاجر بع�ض �أحفاده �إىل �إيران حيث �أ�س�سوا عائالت ،ووجدت يف �أجدادنا الطابع اللبناين الذي هو الهجرة.)2(».. ولد ال�سيد مو�سى ال�صدر يف العام 1928يف مدينة قم االيرانية ،والده ال�سيد �صدر الدين ال�صدر، كان �أحد �أركان احلوزة العلمية يف قم ،والدته ال�سيدة �صفية ،كرمية املرجع الديني ال�شيعي ال�سيد ح�سني القمي( )3ولل�سيد ال�صدر �سبع �أخوات و�أخوان ،منهم :ال�سيدة فاطمة حرم ال�سيد حممد باقر ال�صدر ،وال�سيدة �صديقة حرم �آية اهلل ال�سيد �سلطاين الطبطبائي ،احد �أبرز �أ�ساتذة احلوزة الدينية يف قم(.)4 تلقى ال�سيد مو�سى ال�صدر علومه الدينية يف حوزة قم ،وكان من �أبرز �أ�ساتذته ،ال�سيد اخلميني، وال�سيد �سلطاين الطبطبائي� ،آية اهلل �شريعتمداري(.)5 �إال �أن الدرو�س الدينية مل تبعده عن متابعة الدرو�س الأكادميية فالتحق بجامعة طهران ،وتخرج منها حام ًال �إجازة يف احلقوق فكان �أول رجل دين يدخل اجلامعة يف �إيران(.)6 عام ،1955قدم ال�سيد مو�سى ال�صدر �إىل لبنان ،للتعرف على �أن�سبائه يف �صور ومعركة و�شحور، وعاد عام ّ 1957 وحل �ضيفاً على ال�سيد عبد احل�سني �شرف الدين ،ومع موت هذا الأخري عام � ،1957أو�صى ب�إمامة �صور من بعده لل�سيد مو�سى ال�صدر ،فا�ستدعاه �أبناء ال�سيد �شرف الدين، ولبى الدعوة عام ،1959و�أقام يف �صور ،وبد�أ ميار�س عمله الديني منذ تلك الفرتة(.)7 108
فكــــــر
مع و�صول ال�سيد مو�سى ال�صدر �إىل لبنان� ،أخذ يكت�شف واقع االن�سان اللبناين ،ويتعرف على م�شاكل الأفراد واجلماعات فتفاج�أ بات�ساع الهوة بني �أبناء الوطن الواحد ،على �أ�سا�س املنطقة والطائفة( ،)8فكان املواطن يف جنوب لبنان امام «مطرقة العدوان اال�سرائيلي و�سندان الإهمال والإجحاف يف احلقوق من قبل الدولة يف �آن واحد»(.)9 فبد�أ ال�سيد ال�صدر يتحرك ملعاجلة م�شاكل النا�س يف جنوب لبنان ومنطقة البقاع و�ضواحي بريوت، ابتدا ًء من الندوات واملحا�ضرات ،ف�أ�س�س جمعية الرب واالح�سان ،التي هدف منها م�ساعدة كافة املحرومني من كافة الطوائف واملذاهب(.)10 ثم �سعى بعدها �إىل تنظيم �ش�ؤون الطائفة ال�شيعية و�أوقافها ،ف�سعى �إىل ان�شاء املجل�س اال�سالمي ال�شيعي الأعلى ،من خالل حتركات �ضمن �شخ�صيات ونواب من اجلنوب والبقاع وبريوت ليقوم هذا املجل�س عام .)11(1967 لقد ظهر لل�سيد مو�سى ال�صدر� ،أن مظاهر التخلف التي تعاين منها مناطق حمددة يف لبنان ،ت�ؤدي �إىل ايجاد طبقة حمرومة وقد حدد هذه املناطق يف جبل عامل يف �أق�صى اجلنوب وبعلبك والهرمل يف �أق�صى ال�شمال ،فهي املناطق الأكرث تخلفاً ،وبينّ مظاهر التخلف على ال�شكل التايل: .1مظاهر التخلف املادي و�سببه الإهمال من قبل ال�سلطة اللبنانية. .2مظاهر التخلف املعنوي( )12وهو نتاج التخلف املادي. �أو�ضح ال�سيد ال�صدر �أ�سباب احلرمان على ال�شكل التايل: ...« . 1ان الأ�سا�س لبقاء الأوطان العدالة وكرامة املواطن ،اما يف لبنان فمفهوم كرامة االن�سان وحريته باق كواحة ،فاال�ستئثار والطغيان وجتاهل حقوق الآخرين تزعزع كيان البلد وتعر�ض م�ستقبله للخطر ...فلتعلموا �أن امل�س�ؤولني هم الذين يهددون ب�سلوكهم �أمن هذا الوطن وكيانه وا�ستقراره وتعاي�ش �أبنائه ،وليعلموا �أننا ال ن�سمح لهم بذلك لكي يبقى لبنان»(.)13 ...« .2يف ظل ال�سكوت عن االعتداءات اال�سرائيلية على اجلنوب هو ر�ضى بالذل وخيانة لبنان ،ا�ستمرت اعتداءات العدو ال�صهيوين يف اجلنوب اللبناين �ضد ال�سكان الآمنني الع ّزل املحرومني من و�سائل احلماية والدفاع عن النف�س»(.)14 ...« . 3احلكومة ...اجلهة التي تبخل ،وتتجاهل وتتمادى يف التجاهل والعناد.)15(»... �« . 4أولئك الذين يفكرون ،ب�أن الوطن يحفظ بال�صالونات ،او بالت�صريحات �أو بالوعود ،او باالجتماعات يف الق�صور ،اولئك الذين يفكرون �أن احلدود حتفظ بالوعود والكلمات و�أن الكرامات ُت�صان بالألقاب واالجتماعات.)16(»... 109
. 5ال�سيا�سة يف لبنان �أ�صبحت هدفاً ال و�سيلة ،يعي�ش بها ومن ورائها �أفراد وجماعات ،زعامات و�أحزاب ومفاتيح(.)17 «� ...أن ال�سيا�سة يف لبنان كانت ال�سبب يف احلرمان وعدم مواجهة احلقائق وت�أجيل احللول ،ويف خلق الأر�ضية املنا�سبة للأزمات.)18(».. لذا وجد ال�سيد ال�صدر �أن احللول مل�شكلة احلرمان ولأزمة املواطن املحروم ،والوطن املحروم تكون عرب: ...« . 1نحن طالب حق ،ل�سنا �ضد �أي �إن�سان ،نطالب بحقنا ولكن ال نتنازل عنه �أبداً ،ن�ستمر، ون�ستمر ،ون�ستمر للنهاية.)19(»... ...« . 2احلرب �ضد ال�شيطان ،وال�شيطان له جنود و�أن�صار ُّ وكل طاغية �شيطان ،كل ظامل �شيطان، كل م�ستبد �شيطان ،كل مت�أفف �شيطان ،وكل �ساكت عن حق �شيطان �أخر�س ،ونحن �سنحارب الطغاة امل�ستبدين[ ...لن] ن�سكت عن الظلم وعن املعذبني يف اجلنوب من ال�ضربات اال�سرائيلية[ ،لن] ن�سكت ...عن ابتالع �أموال النا�س ،عن الغالء ،عن الر�شوة.)20(»... � ...« . 3إن �سالمة اجلندي و�صيانة لبنان وعزة العرب ال تتحقق �إال بكرامة االن�سان ،و�صيانة حقوقه ،و�سيطرة العدالة االجتماعية يف عالقات النا�س بع�ضهم ببع�ض»(.)21 ...« .4نحن نريد اجلنوب� ...أن يكون منطقة منيعة� ،صخرة تتحطم عليها احالم ا�سرائيل ...نريد جنوباً متم�سكاً بلبنان مرتبطاً بهذه الأمة موحداً مع العرب ...ال جنوباً هزي ًال مف�صو ًال بل نريده جنوباً مانعاً.)22(»... ...« . 5ال ت�صنفوا النا�س ...كل املواطنني �أكفاء ...كل املواطنني ي�ست�أهلون �أن يكونوا موظفني، ال ت�صنفوا بني املواطنني وال متيزوا بني الطوائف ،اعطوا احلقوق للطوائف جميعاً»(.)23 ...« .6دافعوا عن اجلنوب ...ال�شرط الأول يف امل�س�ؤوليات الوطنية هو الدفاع ...قدموا خطة دفاعية ...ه�ؤالء امل�سلحون وامل�سلحون الآخرون ،اجمعوهم وخذوهم و�ضموهم يف احلر�س الوطني يف امليلي�شيا الوطنية ...قدموا خدمة العلم.)24(»... وحترك ال�سيد ال�صدر على �أكرث من �صعيد يف �سبيل حتقيق املطالب: �أ -ففي ،1970/5/12وعلى �أثر االعتداءات اال�سرائيلية على جنوب لبنان التي ت�سبب بنزوح �أكرث من � 150ألف مواطن من ثالثني قرية حدودية دعا ال�سيد ال�صدر الر�ؤ�ساء الدينيني يف اجلنوب من خمتلف الطوائف ،و�أ�س�س معهم «هيئة ن�صرة اجلنوب» فكان هو رئي�سها ،وتوىل
110
فكــــــر
نيابة الرئا�سة املطران �أنطونيو�س بطر�س خري�ش ،الذي �أ�صبح بطريركاً للطائفة املارونية فيما بعد ،ثم دعا �إىل �إ�ضراب وطني �شامل بتاريخ ،1970/5/26جتاوبت معه كل املناطق اللبنانية ،واعترب حدثاً وطنياً(.)25 ويف اليوم نف�سه اجتمع جمل�س النواب اللبناين ،و�أقر م�شروع قانون يق�ضي ب�إن�شاء م�ؤ�س�سة عامة تخت�ص باجلنوب ،وتلبي حاجات اجلنوب»(.)26 ب -دعا ال�سيد ال�صدر �إىل مهرجانات �شعبية كربى عدة طالب خاللها بحقوق املحرومني وبالعدالة االجتماعية : ()27 .1مهرجان بعلبك بتاريخ ،1974/3/17والذي �شارك فيه حوايل خم�سة و�سبعني الف مواطن . .2مهرجان �صيدا بتاريخ 4ني�سان .)28( 1974 .3مهرجان �صور بتاريخ .)29(1974 /5/5 ج� -إعالن ميثاق حركة املحرومني بتاريخ 1975/3/29والتي ّقدم ال�سيد ال�صدر ميثاقها الذي ن�ص على: «�إنها حركة جماهريية ،غري طائفية وال فئوية ،تنطلق من االميان احلقيقي باهلل ،وت�ؤمن باحلرية الكاملة وترف�ض الظلم والت�صنيف وتتم�سك بال�سيادة الوطنية وب�سالمة �أر�ض الوطن.)30(»... ويربر ال�سيد ال�صدر �إن�شاء هذه احلركة قائ ًال: «�إال ان احلرمان مل ُيعا َلج فوجدنا �أنف�سنا �أمام التنظيم ،والهدف منه حماية املقاومة والدفاع عن �أر�ض اجلنوب امل�ستباح �أمام االعتداءات الإ�سرائيلية ،ولدت احلركة وكانت جماهريها من كل طائفة ...وبد�أت حركة املحرومني حركة فكرية �سيا�سية اجتماعية واحدة يف لبنان.)31(»... د -والدة حركة ع�سكرية ،اطلق عليها ا�سم «�أفواج املقاومة اللبنانية �أمل» بتاريخ .1975 /7/6 ويقول ال�سيد مو�سى ال�صدر يف ذلك« :ها �أنا يف هذه اللحظة �أعلن والدة هذه احلركة الوطنية ال�شريفة التي �أخذت على عاتقها تقدمي كل ما ميلك �أع�ضا�ؤها يف �سبيل �صون كرامة الوطن ومنع �إ�سرائيل من االعتداءات ال�سهلة.)32(».. ومع اندالع احلرب اللبنانية عام ،1975كان لل�سيد مو�سى ال�صدر مواقف عدة وحتركات حملية واقليمية ودولية ،حاول من خاللها و�ضع حد للفنت واحلروب الداخلية ،وكان �أبرز هذه التحركات عام 1978بعد االجتياح اال�سرائيلي جلنوب لبنان ،فزار دو ًال عربية عدة ،منها �سوريا وبالد اخلليج العربي وم�صر واجلزائر �إىل �أن كانت زيارته �إىل ليبيا واختفا�ؤه هناك بتاريخ � 31آب من العام .)33(1978
111
� -2أنطون �سعاده:
ولد �أنطون �سعاده عام 1904يف �ضهور ال�شوير و ُيحكى �أنه ومنذ ال�صغر ،كانت لديه مواقف وطنية حادة ،فعند زيارة الوايل العثماين �إىل مدر�سة برمانا ،وكان �سعاده ال يزال يف الثالثة ع�شرة من عمره، ُطلب منه �أن يلقي كلمة ترحيب بالوايل� ،إال �أنه رف�ض ب�شدة ،وعوقب بعدم تكرميه يوم التخرج(.)34 وتكررت مواقف �أنطون �أثناء �أحداث احلرب العاملية الأوىل ،عندما كان يق�صد رئي�س بلدية بريوت عمر الداعوق ،الذي كان �صلة الو�صل مع والد �أنطون ،الدكتور خليل �سعاده املهاجر �إىل الربازيل ،حيث كان هذا الأخري يبعث باملال �إىل عائلته عن طريق رئي�س بلدية بريوت ،وحدث �أن دخل �أنطون �إىل البلدية اثناء اجتماع �ضم املجل�س البلدي وفعاليات وكان احلوار يدور حول من يحكم لبنان بعد خروج العثمانيني ،ف�شارك �أنطون يف �إبداء الر�أي قائ ًال �أمام احل�ضور« :الأف�ضل �أن ن�ستقل ب�أنف�سنا وال حاجة لنا �إىل �أي �أجنبي كي يتوىل �أمرنا ،نحن م�ؤهلون لذلك ويجب �أن نعمل»(.)35 هذه املواقف وغريها من ال�شاب انطون ،كانت تظهر �شخ�صية متحررة ت�سعى �إىل حتقيق طموح الدولة امل�ستقلة من منظور خمتلف �أو ميكن القول ،ب�أفكار جديدة ،مل يعرفها العامل العربي من قبل يف الع�صر احلديث ،طموح الدولة ال�سورية ،الذي �أخذ يظهر �شيئاً ف�شيئاً من خالل كتابات �أنطون �سعاده وكلماته. مع وفاة والدة انطون بعد احلرب العاملية الأوىل ،انتقل �إىل الربازيل ،و�ساعد والده الدكتور خليل �سعاده على �إ�صدار جملة «املجلة» وكانت من �أبرز جمالت االغرتاب اللبناين يف اخلارج. و�أمن �أنطون ال�شاب فريق العمل ،وكانت هذه املجلة طريقاً له للعبور عربها �إىل النا�س(.)36 و�أثناء وجود �أنطون يف الربازيل ،عام ،1928حتدى بع�ض العادات التي كانت منت�شرة حينها بني تعمد اخلروج حا�سر العامة ،ومنها عدم ترك الر�أ�س حا�سراً عند اخلروج من املنزل� ،إال ان �أنطون ّ الر�أ�س ،فهاجمه النا�س وانتقدوه ،فما كان منه �إال �أن �أطلق حليته( ،)37وعندما �سئل عن �سبب قيامه بذلك الفعل قال� ...« :أردت �أن امتحن �صمودي �إزاء موقف �أجمع النا�س على خمالفتي به ورف�ضه يل بال�ضغط واللفظ و�شتى و�سائل املمانعة واملقاومة»(.)38 لقد لفت نبوغ �سعاده ّ املبكر املحيطني به ،ف�أخذوا يراقبونه ويتناولونه بالتعليق وب�شكل دائم ،ويبدو ()39 �أن ال�شاب انطون كان يتعمد ذلك الختبار قدراته على ال�صمود والتحدي . مع عودة �أنطون �سعاده من �سان باولو يف الربازيل ،عام ،1930كان يحمل معه م�شروع احلزب ال�سوري القومي االجتماعي ،فو�صل �إىل دم�شق �أو ًال ،حيث �أخذ ين�شر �أفكاره بني الطلبة واملثقفني ،ثم انتقل بعدها �إىل بريوت ،ليبد�أ مرحلة الت�أ�سي�س ،ف�أقام ال�صالت مع طالب اجلامعة 112
فكــــــر
وطد عالقته مع جريدة الأمريكية يف بريوت من خالل �إعطائهم درو�ساً يف اللغة الأملانية( )40كما ّ النهار البريوتية ،وبني الأعوام 1931و � ،1932أ�س�س اللبنة الأوىل للحزب ،الذين بلغ عدد افراده خم�سة طالب يف البداية(.)41 ونتيجة للخالفات الداخلية بني الأع�ضاء� ،سارع �إىل ّ حل احلزب ،و�أخذ يعيد ت�أ�سي�سه من جديد، فاهتم بالقلة القليلة من الأع�ضاء الذين الحظ فيهم اجلدارة على حمل هذه العقيدة ،فكانت �أول جمموعة منهم يف 15ت�شرين 2عام ،1932وا�ستمر عمل احلزب ال�سوري القومي االجتماعي، وب�شكل �سري ،حتى 16ت�شرين ،1935 2حيث �أعلنت والدته من قبل االنتداب الفرن�سي ()42 وعمالئه ،من خالل حملة االعتقاالت التي طاولت انطون �سعاده وعدداً من اع�ضاء احلزب وبقي �سعاده نزيل ال�سجن �ستة ا�شهر� ،ساهمت الدعاية التي حيكت حوله وحول حزبه على رفع �أ�سهم احلزب وزعيمه ،ف�أخذت النا�س تتحدث عنه وعن مبادئه(.)43 حاول �سعاده مع العام ،1936وقيام احلركات ال�شعبية اال�ستقاللية يف �سورية بقيادة الكتلة الوطنية �إقناع الكتلة وزعيمها ها�شم الأتا�سي ب�أهمية طرح م�شروع احلزب ال�سوري القومي االجتماعي يف املفاو�ضات مع فرن�سا� ،إال �أن الدعاية انت�شرت يف انحاء �سورية ولبنان ،ب�أن �سعاده وحزبه يدعون �إىل «الالعروبة» ،وكانت هذه التهمة حينها كافية كي تبتعد النا�س عن �أنطون �سعاده �إال ان هذا الأخري ،كان ي�سارع دائماً �إىل اغتنام الفر�ص ،ويتجول بني املناطق ال�سورية واللبنانية ،نا�شراً �أفكاره، مو�ضحاً مبادئه ،وكان �أبرز حترك قام به عام 1937من خالل تر�شيح �أحد �أع�ضاء احلزب على املقعد النيابي يف طرطو�س ال�سورية؛ �صحيح �أنه مل يفز �إال انه ح�صل على العديد من الأ�صوات( .)44مما جعل ال�سلطة الفرن�سية تخ�شى من �سعاده ومن ارتفاع ن�سبة م�ؤيديه ،فاعتقلته من جديد ،و�أفرج عنه يف العام نف�سه ،بعد �سل�سلة مالحقات طالت �إ�ضافة �إىل �سعاده اع�ضاء من احلزب ،ونقل �أنه جرت حماولة لت�سميم انطون �سعاده حينها يف ال�سجن� ،إال ان �أحد ال�ضباط وكان من م�ؤيديه �سراً، ف�ضح امل�ؤامرة ،ف�أعلن �سعاده �إ�ضراباً عن الطعام وال�شراب� ،إىل ان �أفرج عنه(.)45 مع خروج �سعاده من ال�سجن انتقل �إىل الأرجنتني وقد حاولت ال�سلطة اللبنانية منعه من العودة، �إال �أنه ا�ستطاع العودة عن طريق القاهرة عام ،1947بعد غياب دام ت�سعة اعوام( )5ف�أ�صدرت ال�سلطة اللبنانية مذكرة جلب بحقه ،وداهمت القوى الأمنية مراكز احلزب من دون جدوى، لترتاجع بعدها عن قرارها باعتقاله(.)46 مع الأعوام 1949-1946تطور العمل احلزبي ،وت�سارع ب�شكل كبري ،وحتولت مدينة حم�ص �إىل اهم مركز للقوميني ال�سوريني وعمل �سعاده على زيارة املدن ال�سورية بني 3ت�شرين 2و 10كانون1 )47(1948من �ضمن �سل�سلة حتركات متتالية ،هدفت �إىل التهيئة للثورة( )48التي كان يخطط لهاعلى الدولة اللبنانية وبدعم كما يبدو من الرئي�س ال�سوري ح�سني الزعيم لتعلن الثورة يف الرابع من متوز من العام � )49(1949إال ان الرواية الإعالمية تقول� ،إن الرئي�س ح�سني الزعيم �سلم �سعاده 113
�إىل ال�سلطة اللبنانية يف ال�سابع من متوز من العام نف�سه �أي بعد ثالثة ايام من �إعالن الثورة لي�صدر حكم االعدام عليه وينفذ ب�سرعة(.)50 موقف �سعاده من املجتمع والإ�صالح: يعترب �أنطون �سعاده �أن ال�سوريني «هذا اجليل الغريب يف هذا الع�صر» وي�ش ّبه هذا اجليل وواقعه بقوله« :بجماعة �شذت عن ُ�س ّنة االرتقاء و�صارت مت�شي على �أيديها بد ًال من �أرجلها وتنظر �إىل حتت بد ًال من االمام ،ولأنها ال تقدر �أن ترفع ر�ؤو�سها وتنظر �إىل ما حولها ال ت�ستطيع �إدراك غرابة حالها ،ولأنها ال جتد حالها غريبة ت�أبى الت�صديق �أنه يجب عليها �أن مت�شي على �أرجلها وترفع ر�ؤو�سها لتتمكن من الإحاطة ب�ش�ؤون عاملها ومن تعيني �أغرا�ض �أ�سمى من الأغرا�ض احلقرية التي تدب وراءها»(.)51 ويذكرنا �سعاده بواقعنا ،عندما ي�ضع ا�صبعه على حقيقة اخللل «�إن �أكرب عيوب جيلنا احلا�ضر انه جيل وقح وكثري الفو�ضى ،و�سبب الوقاحة و�شدة الفو�ضى الرئي�سي هو عدم الرتبية والت�أديب.».. وهذا بالتايل ي�ؤدي �إىل « ...رف�ض الإ�صالح ومقاومة امل�صلح و�إىل احتقار املثل العليا وقواعد االجتماع واال�ستهزاء بالتقاليد ال�صاحلة كما بالتقاليد الفا�سدة»(.)52 وجد انطون �سعاده �أن الفو�ضى هي ال�سائدة عند �أبناء جيله ،هذه الفو�ضى حتمل �أ�سباب ف�شل التطور واال�صالح: «يف جيلنا فو�ضى غريبة ،لي�س فقط يف الأفكار واملعتقدات ال�سيا�سية ،بل يف الأولويات االجتماعية واملبادئ املناقبية ،وفيه غلط وق�سوة وجهل ورعونة و�إنكار للحق العام واحلقوق ال�شخ�صية ،ومن غريب �أمره �أنه لكرثة تف�شي اال�ستبداد الفردي فيه يرف�ض الإ�صالح و ُيتهم امل�صلح بالطغيان والظلم.)53(».. �إال �أن ميزات �سعاده هي الإميان بالإ�صالح مهما كان الواقع« :فهنالك حقيقة �أ�سا�سية ،ال ميكن �إنكارها وال يح�سن جتاهلها وهي� :أن هذا اجليل �سيذهب �أما النه�ضة ف�ستبقى» ،ويكون ذلك من خالل« :متى انت�صرت النه�ضة ال�سورية القومية االجتماعية انت�صارها النهائي ن�ش�أت �أجيال �سورية جديدة مبناقبها و�أخالقها»( )54من خالل: .1الأمة ال ميكن �أن توجد �إال مبناقب الثقة واالخال�ص والأمانة(.)55 .2اح�سنوا بع�ضكم �إىل بع�ض وحاربوا ال�شر حيثما لقيتموه(.)56 .3يجب �أن نكون جمتمعاً واعياً ،مدركاً ،وهذا ال يتم �إال بالدر�س املنظم والوعي ال�صحيح(.)57 114
فكــــــر
كما �سعى �سعاده ،ويف �سبيل �إ�صالح الأمة ال�سورية� ،إىل ت�أ�سي�س احلزب ال�سوري القومي االجتماعي «هو حركة جتديدية يف املناقب والأخالق ،كما يف النظريات ال�سيا�سية واالجتماعية واالقت�صادية»(.)58 و�أبرز مبادئ هذا احلزب التي ذكرها �سعاده من خالل مقاالته: �« . 1أننا قوم لنا وعي قومي �صحيح �إرادة قومية قوية و�إميان يزول الكون وال يزول ،ولنا �أخالق ال تف�شل وحقيقة ال تنقلب لأي برق خالب»(.)59 �« . 2أن ق�ضية احلزب ال�سوري القومي االجتماعي هي من �أعظم الق�ضايا القومية و�أو�ضحها يف العامل طراً ،هي ق�ضية مل يكن قبلها مثلها وال ما يقاربها يف كمال الغاية ور�سوخ الأ�صول ،ال يف �سورية وال يف �أي قطر من �أقطار العامل العربي وال يف ال�شرق الأدنى كله ،هذه الق�ضية الكلية مل نقل �إنها «لبنانية» وال �إن غايتها �إظهار �شيء ي�سمى «ا�ستقالل لبنان» بل قالت �إنها �سورية �أو ًال و�آخراً و�إنها ال تعرتف ب�أية ت�سوية ال تكون وليدة �إرادة الأمة ال�سورية املوحدة يف مبادئ ق�ضيتها القومية»(.)60 « . 3ق�ضت النه�ضة ال�سورية االجتماعية على جميع املخاوف من فقد احلقوق ال�سيا�سية و�أعلنت انق�ضاء عهد ال�شك والتخوف على �أنواعه ف�أخذت هذه الفئات امل�ستنرية ب�أنوار هذه النه�ضة تتغلب على عوامل ال�ضعف ودوافع اال�ستكانة واخلنوع ...وتعمل لإحباط خطط املت�آمرين على وحدة الأمة وحقوقها وم�صريها»(.)61 « . 4من �أهم امل�شاكل اخلطرة جداً التي �سنواجهها ...امل�شكل ال�صهيوين الذي �صار خطراً عظيماً مداهماً يهدد بالق�ضاء على معظم �آمالنا»(.)62 �« . 5إن �سورية تواجه خطرين الواحد يف اجلنوب والآخر يف ال�شمال ،الأول هو اخلطر اليهودي والثاين اخلطر الرتكي ...ال �إنقاذ ل�سورية وال �شق طريق حلياتها وارتقائها �إال باحلركة ال�سورية القومية االجتماعية ومبادئها ونظامها»(.)63 �« .6أن نلبي الواجب دائماً ونخ�ضع للنظام دائماً ،هو �أن ن�سحق حمبة ذواتنا ونحيي حمبة جن�سنا ووطننا»(.)64 �« . 7أن النه�ضة لها مدلول وا�ضح عندنا وهو ،خروجنا من التخبط والبلبلة والتف�سخ الروحي بني خمتلف العقائد �إىل عقيدة جل ّية �صحيحة وا�ضحة ن�شعر �أنها تعرب عن جوهر نف�سيتنا و�شخ�صيتنا القومية االجتماعية� ،إىل نظرة جل ّية ،قوية �إىل احلياة والعامل»(.)65 �« . 8إن هذه احلقيقة التي لأجلها جنابه كل الأخطار من كل نوع هي حقيقة �أن ق�ضيتنا فيها كل اخلري وكل احلق وكل اجلمال وكل احلقيقة وكل العدل للمجتمع االن�ساين»(.)66 115
�« .9إن حزبنا يف �سريه ،يف عمله ،يف ن�ضاله ،ميثل ويعمل وي�صارع يف �سبيل �أ�سا�س �أف�ضل حلياة االن�سان -املجتمع» (.)67 « .10نحن حركة مهاجمة ت�أتي بتعاليم جديدة تهاجم بها املفا�سد والفو�ضى»(.)68 « .11نحن مل نحارب وال نحارب من اجل �أن تكون لنا ولغرينا حرية فو�ضوية تخدم لذات الأفراد املر�ضى يف نفو�سهم بل حاربنا ونحارب من �أجل حتقيق ق�ضية وا�ضحة و�إقامة نظام جديد»(.)69 « .12م�س�ألة احلزب ال�سوري القومي االجتماعي لي�ست م�س�ألة حزب �سيا�سي باملعنى االعتيادي ...بل �إن هذا احلزب ي�شكل ق�ضية خطرية جداً وهامة هي ق�ضية الآفاق للمجتمع االن�ساين الذي نحن منه والذي نكون جمموعه»(.)70 « .13منذ ال�ساعة التي �أخذت فيها عقيدتنا القومية االجتماعية جتمع بني الأفكار والعواطف وتلم �شمل قوات ال�شباب املعر�ضة للتفرقة بني عوامل الفو�ضى القومية وال�سيا�سية املنت�شرة يف طول بيئتنا وعر�ضها ،وتك ّون من هذا اجلمع وهذا اللم نظاماً جديداً ذا �أ�ساليب جديدة ي�ستمد حياته من القومية اجلديدة ،هو نظام احلزب ال�سوري القومي االجتماعي -منذ تلك ال�ساعة انبثق الفجر من الليل وخرجت احلركة من اجلمود وانطلقت من وراء الفو�ضى قوة النظام وا�صبحنا امة بعد �أن كنا قطعاناً ب�شرية ،وغدونا دولة تقوم على �أربع دعائم :احلرية ،الواجب ،النظام، القوة ،التي ترمز اليها �أربعة �أطراف الزوبعة القومية االجتماعية»(.)71 .14احلزب ال�سوري القومي االجتماعي� ...« :إنه فكرة وحركة تتناوالن حياة امة ب�أ�سرها� ،إنه جتدد �أمة توهم املتوهمون �أنها ق�ضت �إىل الأبد»(.)72 �« .15إن ارادتنا نحن هي التي تقرر كل �شيء فنحن نقف على �أرجلنا وندافع عن حقنا يف احلياة بقوتنا»(.)73 و «� ...إننا حررنا �أنف�سنا �ضمن احلزب من ال�سيادة الأجنبية والعوامل اخلارجية ،ولكن بقي علينا �أن ننقذ �أمتنا ب�أ�سرها و�أن نحرر وطننا بكامله»(.)74 � ...« .16أن نظام احلزب ال�سوري القومي االجتماعي ،لي�س نظاماً هتلرياً وال نظاماً فا�شياً ،بل هو نظام قومي اجتماعي بحت ،ال يقوم على التقليد الذي ال يفيد �شيئاً ،بل على االبتكار الأ�صلي الذي هو من مزايا �شعبنا»(.)75 � ...« .17أن نظامنا مل يو�ضع على قواعد تراكمية متكن من جمع عدد من الرجال يقال �إنهم ذوو مكانة يقفون فوق �أكوام من الرجال متثل الت�ضخم والرتاكم ب�أحلى مظاهرهما بل على قواعد حيوية ت�أخذ الأفراد �إىل النظام وتف�سح �أمامهم جمال التطور والنمو على ح�سب مواهبهم وم�ؤهالتهم»(.)76 116
فكــــــر
� ...« .18إن مبد�أ �سورية لل�سوريني وال�سوريون �أمة وتامة �آخذ يف حترر نف�سيتنا من قيود اخلوف وفقدان الثقة بالنف�س والت�سليم للإرادات اخلارجية»(.)77 ...« .19ومبد�أ ان الأمة ال�سورية جمتمع واحد هو مبد�أ يجب �أن يتغلغل يف اعماق نفو�سنا»(.)78 ...« .20ن�شوء احلزب ال�سوري القومي االجتماعي يقوم من �أجل حقيقة ثابتة م�ستمرة ،هي ق�ضية تقدم وانت�صار وعز.)79(».. حياة املجتمع وا�ستمرار حياته وتقدمها نحو الأف�ضل ،ق�ضية ّ -3بني ال�سيد مو�سى ال�صدر و�أنطون �سعاده:
�أ -يف الدين :عند ال�سيد مو�سى ال�صدر: العبادة هي كل عمل ي�صدر لأجل التقرب من اهلل ،والعبادة هي «ال�سلوك نحو العلم ،نحو التحرر، نحو العزة ،نحو ال�صفات الإلهية احل�سنة الأخرى ،التي هي مب�صطلحنا ن�سميها االن�سانية ،ال�سمو، التكامل »..وعلى هذا الأ�سا�س ب�إمكاننا �أن نقول عبادة اهلل ،تعني الريا�ضات والن�شاطات مثل ال�صيام وال�صالة واحلج والزكاة و�أمثال ذلك ،جعلها اهلل تعاىل خطوات وو�سائل ودوافع لأجل �أن تدفع االن�سان نحو الكمال ...وعلى هذا الأ�سا�س كل �صالة ،هي فك لقيد وحترر عن قيد� ،إذا كنا �صلينا بال�شكل ال�صحيح ،لأن كل �صالة تبعدين خطوة عن اجلهل وتقربني خطوة �إىل العلم.»... وي�ضيف ال�صدر ...« :فكرة العبادة يف اال�سالم بعيدة كل البعد عن مفهوم العبودية ،ال عبودية يف اال�سالم ،عبودية اهلل تعني التحرر ،عبودية اهلل تعني ال�سلوك والتحرك نحو العلم والعدل ،والقوة والر�أفة ،وال�صدق والعزمية ،وكل الكماالت .هذا مفهوم العبادة يف اال�سالم.)80(»... وي�ضيف االمام مو�سى ال�صدر حول �أهمية االميان بكتب اهلل ور�سله« :النقطة الثالثة يف �سل�سلة العقائد والأ�صول القر�آنية ،هي االميان بكتب اهلل ور�سله ،والقر�آن الكرمي ...و�أن امل�سلم يجب �أن ي�ؤمن �أي�ضاً بجميع الأنبياء ال�سابقني ...وحم�صلة هذا الأمر ،هو حماولة خلق جبهة من الأنبياء، وجبهة من خط امل�ؤمنني ،تبد�أ من الأزل وتنتهي �إىل الآخرة ،حماولة الرتابط بني ن�ضالنا اليوم، وبني ن�ضال االن�سان يف �سابق الزمن ،وحماولة الرتابط بني دعوة الأنبياء يف �سابق الزمن ،ودعوة الأنبياء اليوم»(.)81 « ...واملق�صود ...جعل االن�سان �ضمن خط م�ستمر ،حتى ال ي�شعر بالغربة ،وحتى ي�شعر باملواكبة الكونية ،وحتى يت�أكد من �سالمة اخلط الذي هو ي�سري فيه� ،سببه احلقيقي �أن الر�ساالت هي واحدة يف الواقع� ...إذاً جميع الأنبياء ،ر�سل رب واحد� ،إىل �إن�سان واحد ،يدعون �إىل ر�سالة واحدة ،هي ر�سالة اهلل ،ر�سالة الت�سليم �إىل اهلل ،عق ًال وقلباً وج�سداً ،بهذا املفهوم نحن ننظر �إىل �إ�سالمنا ،و�إذا تالحظون ،هذا النف�س موجود يف ميثاق احلركة [حركة املحرومني]� ،إنه نحن هذا ال�شعور ،يعني 117
هذا اجلانب االن�ساين من الر�سالة ،مقابل اجلانب الإلهي من الر�سالة ،اجلانب الإلهي من الر�سالة يعني دعوات واحدة اجلانب االن�سان� ،إنه حتركات واحدة ،من الأزل �إىل الأبد ،ويف جميع �أقطار الأر�ض»(.)82 رب واحد ...ال بد من ان ن�ضيف هذه ويف حديثه عن الأنبياء يقول« :الأنبياء �أي�ضاً ،ر�سل ّ الكلمة� :أن النبي هو الذي يحمل الر�سالة من اهلل ،ولي�س هو الذي يفهم كثرياً ،والفيل�سوف الكبري وامل�صلح الكبري ،النبي ال ينطق عن الهوى ،ال يقول �شيئاً من نف�سه ،ومن مدركاته ،هو ينقل ما ي�سمع ،هو ينقل ما يوحى �إليه.)83(»... وحول قانون ال�سماء يقول« :االن�سان بحاجة �إىل قانون ال�سماء ،حتى يكون حكماً بني الب�شر بع�ضهم مع البع�ض ،و�إال كيف ميكن للإن�سان �أن يتفقٌّ ، وكل ينظر من زاويته اخلا�صة؟ �أي �صلة بني �إن�سان و�إن�سان �آخر� ،إذا مل يكن معتمداً على امر مطلق ،ما ن�سميه بالقيم ؟ ال ميكن .و�إال كل الوحدات يف العامل تتحول �إىل �شركات ،حتى عالقة االن�سان مع اخيه تتغري ،ت�صبح عالقة �شركة، �شركة م�صالح .ولذلك ال ميكن للإن�سانية �أن ت�ستغني عن قوانني ال�سماء� ،أو املطلقات ،او القيم القيم يف الأخالق واملطلقات يف القانون ،حتى يتمكن املجتمع الب�شري �أن يعي�ش عي�شاً متعاوناً». ولكنه ي�ؤكد على امر مهم هو« :ال �شك �أن �إعطاء القانون من ال�سماء ،ال يعني �إطالقاً ،ان القانون مينع االن�سان عن التفكري.)84(»... ب -يف الدين :عند انطون �سعاده: «�إن الدين امل�سيحي واال�سالمي متفقان كل الإتفاق يف الأغرا�ض الدينية الأخرية ،و�أن الواجب على �أتباعهما يق�ضي برتك حماربة بع�ضهم البع�ض وحماولة �إخ�ضاع بع�ضهم بع�ضاً� ...إىل جميع النا�س غري رجال الدين نوجه هذه الدعوة« :لنرتك رجال الدين يتناظرون ما �شا�ؤوا املناظرة يف �أي الأديان �أ�صحها ب�شرط �أن ال يتعدوا حدود املناظرة التي تهيج الغوغاء وال�سذج وغر�س الأحقاد بني ابناء الوطن الواحد ب�إ�سم الدين� »...إن هذه الدعوة تعني ترك الع�صبية الدينية واعتناق الع�صبية القومية التي جتعل جميع ال�سوريني م�سلميهم وم�سيحييهم ع�صبة واحدة»(.)85 « ...فامل�سيحية ن�ش�أت ن�ش�أة دين بحت جمرد من �ش�ؤون الدولة واحلكم .فقد اخت�ص الدين امل�سيحي بالأفراد ومعتقداتهم ومناقبهم. �أما الدين اال�سالمي ...ا�ضطر لأخذ طبيعة البنية التي ن�ش�أ فيها بعني االعتبار ،وطبيعة البنية اقت�ضت �إيجاد الدولة لتكون و�سيلة لإقامة الدين ،وملا كان غر�ض الدولة �إقامة الدين كان ال ُب ّد �أن يكون �أ�سا�سها ،فهي وجدت بالدين لإقامة الدين ...ولهذا ال�سبب جند م�س�ألة الف�صل بني الدين والدولة يف امللة اال�سالمية �أ�صعب حا ًال منها يف امللة امل�سيحية ،لأن الدولة موجودة يف الن�صو�ص 118
فكــــــر
القر�آنية كما هي موجودة يف ن�صو�ص التوراة ،ولكنها لي�ست موجودة يف ن�صو�ص االجنيل»(.)86 « ...وبنا ًء على الن�صو�ص القر�آنية �أمكن �صاحبي «العروة الوثقى» ( جمال الدين الأفغاين وال�شيخ حممد عبده) القول�« :أن ال جن�سية للم�سلمني �إال يف دينهم» والقول خماطبني امل�سلمني «هل ن�سوا وعد اهلل لهم ب�أن يرثوا الأر�ض وهم العباد ال�صاحلون؟» والقول« :الديانة اال�سالمية و�ضع �أ�سا�سها على طلب الغلب وال�شوكة واالفتتاح والعزة ورف�ض كل قانون يخالف �شريعتها ونبذ كل �سلطة ال يكون القائم بها �صاحب الوالية على تنفيذ �أحكامها» ...وكل هذه الأقوال بعيدة عن ال�صواب ولي�س فيه تدبر �صحيح لن�صو�ص الديانة اال�سالمية وتاريخها ...بل هي جميعها نتيجة ا�ستبداد يف االجتهاد من اجل الو�صول �إىل اغرا�ض �سيا�سية مبنية على نظرة الدولة الدينية واجلن�سية الدينية»(.)87 «� ...أن ن�صو�ص اال�سالم على وجهني وجه يف الدين ووجه يف الدولة ،والق�سم املكي هو الأكرث اخت�صا�صاً بالوجهة الدينية والق�سم املدين هو الأكرث اخت�صا�صاً بالوجهة الدولية ،وهذا االزدواج يف اجتاه الر�سالة اال�سالمية مل يح�صل له فيما م�ضى درا�سة جتمع وجهته يف وحدة فكرية روحية، هو الذي ي�سهل لأ�صحاب الأغرا�ض ال�سيا�سية الأخذ ب�أي وجه �أرادوا ح�سبما يوافق �أغرا�ضهم، وهو لي�س عيباً يف القر�آن ،بل نق�ص الثقافة التاريخية االجتماعية وعدم تدبر الر�سالة اال�سالمية كما يجب». «و�أ�صحاب الأغرا�ض ال�سيا�سية ال يريدون ن�شوء هذه الدرا�سة يف اال�سالم ،لأنها ميكن �أن تق�ضي على جميع حماوالت ا�ستخدام الدين للأغرا�ض ال�سيا�سية واملطامع اخل�صو�صية ،ف�إذا ظل اال�سالم بعيداً عن هذه الدرا�سة التكتيكية مل يخ�ش ه�ؤالء الأراخنة افت�ضاح �أمرهم بعك�سهم االجتاه الأول للإ�سالم .ف�إن حممداً ا�ستخدم الدولة لإقامة الدين وجعل الدين �أ�سا�ساً لتنظيم �شعب باق يف حالة همجية ،اما ه�ؤالء فرييدون ا�ستخدام الدين لتنفيذ املطامع ال�سيا�سية»(.)88 وي�ضيف �سعاده قائ ًال � :إنه يجب �إيجاد «اال�ستقرار الروحي يف امللة اال�سالمية لتهتم ب�ش�ؤون االرتقاء الثقايف فال تظل معر�ضة لت�ضحية غر�ض الدين يف �سبيل غر�ض ال�سيا�سة التي يهمها الدولة وال�سلطان واحلكم �أكرث مما يهمها الدين واالرتقاء الروحي واملثل العليا والتقدم االجتماعي»(.)89 ثم يرد �سعاده على فكرة اجلامعة اال�سالمية عند جمال الدين الأفغاين وال�شيخ حممد عبده قائ ًال« :على هذه الطريق ال�سلبية �سارت مدر�سة ال�سيد جمال الدين الأفغاين وال�شيخ حممد عبده ،فغررت بجماعات كثرية من امل�سلمني يف م�صر و�سوريا والهند و�إيران وافغان�ستان وكانت نتائجها خيبة تلو خيبة ،ف�إن مبد�أ «اجلن�سية الدينية» للم�سلمني ن�سف من �أ�س�سه ،فاال�سالم مل يكن �أح�سن حظاً من امل�سيحية يف توحيد الأمم با�سمه. فالأتراك مل يقبلوا ت�ضحية جن�سيتهم االجتماعية يف �سبيل «جن�سيتهم الدينية» ،ومل يقبل بذلك الفر�س وال اية �أمة �إ�سالمية �أخرى ا�ستيقظت لوحدتها االجتماعية -االقت�صادية اجلغرافية - 119
ال�ساللية وملطاحمها ومثلها العليا املنبثقة من هذه الأ�صول والعوامل .فذهبت �صيحات الكاتبني الأفغاين وعبده يف �سبيل الوحدة اال�سالمية �أدراج الرياح ولكنها تركت �أثراً �سيئاً بني الذين تعلقوا بها يف �سوريا و�أقطار �أخرى فغررت وطوحت بهم وراء نظرية فا�سدة �شغلتهم عن طلب وحدتهم القومية ،ف�سبقتهم �إليها الأمم التي مل ت�ست�سلم لهذا الإغراء حتى ان تركيا وم�صر تفاهمتا على خ�سارة ال�سوريني لواء الإ�سكندرون للأتراك»(.)90 تظهر من خالل املبادئ اال�صالحية التي و�ضعها �أنطون �سعاده ،للأمة ال�سورية دعوته وب�شكل وا�ضح �إىل �ضرورة ف�صل الدين عن الدولة ،وقد اعترب «�إن �أعظم عقبة يف �سبيل حتقيق وحدتنا القومية وفالحنا القومي هي تعلق امل�ؤ�س�سات الدينية بال�سلطة الزمنية وت�شبث املراجع الدينية بوجوب كونها مراجع ال�سيادة يف الدولة وقب�ضها على زمام �سلطاتها �أو بع�ض �سلطاتها(.)91 فالقومية عند �سعاده «ال تت�أ�س�س على الدين وال تت�أ�س�س عليه الدولة القومية» وهو يظهر �أي�ضاً «�أن �أكرب جامعتني دينيتني يف العامل امل�سيحية واملحمدية ،مل تنجحا ب�صفة كونهما جامعتني مدنيتني �سيا�سيتني ،كما جنحتا ب�صفة كونهما جامعتني روحيتني ثقافيتني» فاجلامعة «الدينية الروحية» عند �سعاده «ال خطر منها وال خوف عليها� .أما اجلامعة الدينية ،املدنية وال�سيا�سية ،فتجلب خطراً كبرياً على الأمم والقوميات وم�صالح ال�شعوب»(.)92 ويعود �سعاده لي�ؤكد �ضرورة «منع رجال الدين من التدخل يف �ش�ؤون ال�سيا�سة والق�ضاء القوميني»(.)93 فالأحوال القومية واملدنية واحلقوق العامة «ال ميكن �أن ت�ستقيم حيث الق�ضاء متعدد �أو مت�ضارب ومق�سم على املذاهب الدينية الأمر الذي مينع وحدة ال�شرائع ال�ضرورية لوحدة النظام»(.)94 ولتحقيق الوحدة والأمة ال�سورية ،ال ُب ّد من «�إزالة احلواجز بني خمتلف الطوائف واملذاهب» ،فهذه احلواجز هي «حواجز تقليدية لي�ست من ال�ضروريات الدينية� ،إن يف �أمتنا تقاليد متنافرة م�ستمدة من انظمة م�ؤ�س�ساتنا الدينية واملذهبية ،كان لها �أكرب ت�أثري يف �إ�ضعاف وحدة ال�شعب االجتماعية واالقت�صادية وت�أخري نه�ضتنا القومية واالجتماعية» .فالوحدة القومية عند �سعاده ال تتم �إال ب�إزالة �أ�سباب االختالف .واحلواجز االجتماعية احلقوقية بني مذاهب وطوائف الأمة الواحدة هي املانع ()95 من الوحدة القومية الروحية -املادية» ج -يف الت�أ�سي�س حلركة املحرومني � -أمل -عند مو�سى ال�صدر: يظهر االمام ال�سيد مو�سى ال�صدر �أهداف ت�أ�سي�س هذه احلركة من خالل ميثاقها: � .1إنها طموحة نحو حياة �أف�ضل ،تدفعه (االن�سان) للت�صدي لكل ما يف�سد عليه حياته �أو يجمد مواهبه �أو يهدد م�ستقبله. 120
فكــــــر
. 2ف�إنها حلقة من حركة االن�سان العامة يف التاريخ قادها الأنبياء والأولياء وامل�صلحون ودفعها املجاهدون و�أغناها ال�شهداء اخلالدون. � .3إن هذه احلركة تنطلق من االميان باهلل :االميان مبعناه احلقيقي ال مبفهومه التجريدي. . 4كما و�أنها تعتمد على �أ�سا�س االميان باالن�سان ،بوجوده ،بحريته ،بكرامته ،واحلقيقة �أن االميان باالن�سان هو البعد الأر�ضي للإميان باهلل. � .5إن حركة املحرومني ...ت�ؤمن باحلرية الكاملة للمواطن ،وحتارب دون هوادة كافة انواع الظلم من ا�ستبداد و�إقطاع وت�سلط وت�صنيف املواطنني. .6ترف�ض احلركة الظلم االقت�صادي. � .7إن حركة املحرومني هي حركة وطنية تتم�سك بال�سيادة الوطنية و�سالمة �أرا�ضي الوطن وحتارب اال�ستعمار واالعتداءات واملطامع التي يتعر�ض لها لبنان. واحلركة هذه تعترب �أن التم�سك بامل�صالح القومية وحترير الأر�ض العربية وحرية �أبناء هذه الأمة هي من �صميم التزاماتها الوطنية ال تنف�صل عنها. � .8إنها لي�ست حركة طائفية وال عمال خريياً وال موعظة ون�صحاً وال تهدف �إىل حتقيق مكا�سب فئوية �إنها حركة املحرومني جميعاً. � .9إنها حركة اللبنانيني ال�شرفاء جميعاً� ...إنها حركة اللبناين نحو الأف�ضل(.)96 د -يف ت�أ�سي�س احلزب ال�سوري القومي االجتماعي عند انطون �سعاده: يقول �أنطون �سعاده يف �أ�سباب ودوافع ت�أ�سي�س احلزب ويف املبد�أ الأول من د�ستور احلزب «حني ابتد�أت �أفكر يف بعث �أمتي ونه�ضتها و�أالحظ احلركات ال�سيا�سية االعتباطية القائمة فيها ،الحظت �أنه ال يوجد �إجماع على تعيني هويتنا وحقيقتنا االجتماعية ،ور�أيت ان كل عمل قومي �صحيح يجب �أن يبد�أ من هذا ال�س�ؤال الفل�سفي :من نحن؟ ... ،وقد �أجبت نف�سي بعد هذا التنقيب الطويل فقلت :نحن �سوريون ونحن �أمة تامة.»... ثم ي�ضيف �سعاده قائ ًال�« :إن هذه التعاريف املبلبلة التي جز�أت حقيقتنا القومية �أو �أذابتها وحمتها: نحن اللبنانيني ،نحن الفل�سطينني ،نحن ال�شاميني ،نحن العراقيني ،نحن العرب ،مل ميكن �أن تكون ا�سا�ساً لوعي قومي �صحيح ولنه�ضة الأمة ال�سورية التي لها دورتها االجتماعية واالقت�صادية يف وحدة حياة ووحدة م�صري ...واحلقيقة �أن قومية ال�سوريني التامة وح�صول الوجدان احلي لهذه القومية �أمران �ضروريان لكون �سورية لل�سوريني ،بل هما �شرطان �أوليان ملبد�أ ال�سيادة القومية»(.)97 وتتوزع املبادئ الأخرى على ال�شكل التايل: 121
املبد�أ الثاين« :الق�ضية ال�سورية هي ق�ضية قومية قائمة بنف�سها م�ستقلة كل اال�ستقالل عناية ق�ضية اخرى»(.)98 املبد�أ الثالث :الق�ضية ال�سورية هي ق�ضية الأمة ال�سورية والوطن ال�سوري(.)99 املبد�أ الرابع :الأمة ال�سورية هي وحدة ال�شعب ال�سوري املتولدة من تاريخ طويل يرجع �إىلما قبل الزمن التاريخي اجللي(.)100 ويف هذا املبد�أ يقول �سعاده ...« :ف�إن نبوغ ال�سوري وتفوق ال�سوريني العقلي على ما جاورهم وعلى غريهم �أمر ال جدال فيه ،فهم الذين ّمدنوا الإغريق وو�ضعوا �أ�س�س مدنية البحر املتو�سط التي �شاركوا فيها الإغريق فيما بعد.)101(»... ثم يبني مدلول الأمة ال�سورية قائ ًال ...« :وهو املجتمع القائم يف بيئة واحدة ممتازة عرفت تاريخياً ب�إ�سم �سورية و�سماها العرب «الهالل اخل�صيب» لفظاً جغرافياً طبيعياً حم�ض ال عالقة له بالتاريخ وال بالأمة و�شخ�صيتها ،فالأ�صول امل�شرتكة :الكنعانية -الكلدانية -الآرامية -الآ�شورية - الآمورية -احلثية -املتنية -الآكادية ،التي وجودها وامتزاجها حقيقة علمية تاريخية ال جدال فيها ،هي �أ�سا�س �أثني -نف�سي -تاريخي ثقايف كما �أن مناطق �سورية الطبيعية الهالل اخل�صيب) هي وحدة جغرافية -زراعية � -إقت�صادية -ا�سرتاتيجية»(.)102 املبد�أ اخلام�س :ويحدد من خاللها �سعاده :احلدود اجلغرافية للوطن ال�سوري والأمةال�سورية ،وهي: «الوطن ال�سوري هو البيئة الطبيعية التي ن�ش�أت فيها الأمة ال�سورية ،وهي ذات حدود جغرافية متيزها عن �سواها متتد من جبال طورو�س يف ال�شمال الغربي وجبال البختياري يف ال�شمال ال�شرقي �إىل قناة ال�سوي�س والبحر الأحمر يف اجلنوب �شاملة �شبه جزيرة �سيناء وخليج العقبة ،ومن البحر ال�سوري يف الغرب� ،شاملة جزيرة قرب�ص� ،إىل قو�س ال�صحراء العربية وخليج العجم يف ال�شرق، و ُيعبرّ عنها بلفظ عام :الهالل ال�سوري اخل�صيب وجنمته جزيرة قرب�ص»(.)103 �أما املبادئ ( ،)8-7-6فهي ت�ؤكد على وحدة املجتمع ال�سوري ،واالميان ب�أن م�صلحة �سوريةفوق كل امل�صالح(.)104 اخلامتة:
بعد االطالع على فكر كل من ال�سيد مو�سى ال�صدر و�أنطون �سعاده� ،سن�أتي على ذكر بع�ض �أ�شكال االلتقاء واالختالف بني فكري الرجلني ،على ال�شكل التايل: 122
فكــــــر
-1يف املجال ال�سيا�سي: �أ�س�س الإمام ال�صدر ،حركة امل ،وهي اجلناح الع�سكري حلركة املحرومني ،واعتربها حركةوطنية ،هدفها «�صون كرامة الوطن ومنع ا�سرائيل من االعتداءات ال�سهلة»(.)105 فكانت حركة �أمل ،تنظيماً حزبياً �سيا�سياً لبنانياً بحتاً. يقول �أنطون �سعاده عن ق�ضية احلزب ال�سوري القومي االجتماعي« ،مل نقل انها لبنانية وال �أن غايتها �إظهار �شيء ي�سمى «�إ�ستقالل لبنان» ،بل قالت �أنها �سورية �أو ًال و�آخراً و�أنها ال تعرتف ب�أية ت�سوية ال تكون وليدة �إرادة الأمة ال�سورية املوحدة يف مبادئ ق�ضيتها القومية»(.)106 ويحدد انطون �سعاده احلدود اجلغرافية للأمة ال�سورية :من جبال طورو�س يف ال�شمال الغربي وجبال البختياري يف ال�شمال ال�شرقي �إىل قناة ال�سوي�س والبحر الأحمر يف اجلنوب� ،شاملة �شبه جزيرة �سيناء وخليج العقبة ،ومن البحر ال�سوري يف الغرب �شاملة جزيرة قرب�ص� ،إىل قو�س ال�صحراء العربية وخليج العجم يف ال�شرق»(.)107 -1يف الدين: عند الإمام ال�سيد مو�سى ال�صدر :اعترب �أن الدين وعبادة اهلل تعاىل« ،خطوات وو�سائلودوافع لأجل �أن تدفع االن�سان نحو الكمال» و�أكد ان عبودية اهلل تعاىل تعني التحرر وكل الكماالت»(.)108 وربط ال�سيد ال�صدر بني جبهة الأنبياء وجبهة امل�ؤمنني ،التي تبد�أ من الأزل وتنتهي �إىل الآخرة، حماولة الرتابط بني ن�ضالنا اليوم وبني ن�ضال االن�سان يف �سابق الزمن« ،بهذا املفهوم نحن ننظر �إىل �أ�سالفنا» و�أكد اهمية االميان بكتب اهلل ور�سله والقر�آن الكرمي ،وربطه ذلك بالعمل اليومي للإن�سان ،و�أوجده يف ميثاق حركة املحرومني»(.)109 وقد ورد يف مقدمة امليثاق�« :إن هذه احلركة تنطلق من االميان باهلل ،االميان مبعناه احلقيقي ال مبفهومه التجريدي»(.)110 عند �أنطون �سعاده :دعا �إىل ف�صل الدين عن الدولة ،ومنع رجال الدين من التعاطي يفالأمور ال�سيا�سية ،ويناق�ض متاماً فكرة ال�سيد مو�سى ال�صدر الدينية البحتة. ف�سعاده اعترب �أن «�أعظم عقبة يف �سبيل حتقيق وحدتنا القومية وفالحنا القومي هي تعلق امل�ؤ�س�سات الدينية بال�سلطة الزمنية وت�شبث املراجع الدينية بوجوب كونها مراجع ال�سيادة يف الدولة وقب�ضها على زمام �سلطاتها �أو بع�ض �سلطاتها»(.)111 123
بل يذهب �إىل �أبعد من ذلك حني يعترب �أن «اجلامعة الدينية املدنية وال�سيا�سية ،جتلب خطراً كبرياً على الأمم والقوميات وم�صالح ال�شعوب»(.)112 �إال �أن الرجلني يلتقيان يف مناحي �أخرى كثرية ،ومنها: -1يف االقت�صاد والتنمية: عند ال�سيد مو�سى ال�صدر :رف�ض الظلم االقت�صادي(.)113فهو ويف مهرجان بعلبك بتاريخ 1974/3/17انتقد ب�شكل وا�سع ،ال مباالة الدولة مبطالب املحرومني يف البقاع واجلنوب وال�شمال وكل لبنان وهاجم احلكومة لعدم �صرف االعتمادات املخ�ص�صة للتنمية( )114و�أقام املهرجانات املطالبة ب�إن�صاف املناطق املحرومة ،وحتقيق العدالة االجتماعية .فهو يقول�« :إن الأ�سا�س لبقاء الأوطان العدالة وكرامة املواطن»(.)115 عند �أنطون �سعاده :دعا يف املبد�أ الرابع للحزب ال�سوري القومي االجتماعي �إىل�« :إلغاءاالقطاع وتنظيم االقت�صاد الوطني على �أ�سا�س الإنتاج و�إن�صاف العمل و�صيانة م�صلحة الأمة والدولة»( )116وهو ي�شرح ذلك بقوله« :اما تنظيم االقت�صاد القومي على �أ�سا�س االنتاج فهو الطريقة الوحيدة لإيجاد التوازن ال�صحي بني توزيع العمل وتوزيع الرثوة .كل ع�ضو يف الدولة يجب ان يكون منتجاً بطريقة من الطرق»( )117وي�ضيف قائ ًال�« :إن ثروة الأمة العامة يجب ان تخ�ضع مل�صلحة الأمة العامة و�ضبط الدولة القومية ...ف�إقامة العدل االجتماعي -احلقوقي -والعدل االقت�صادي احلقوقي� ،أمر �ضروري لفالح النه�ضة ال�سورية القومية االجتماعية»(.)118 -2يف �إيجاد جي�ش قوي: عند ال�سيد مو�سى ال�صدر:�« .1سوف ن�ؤ�س�س جي�شاً يف داخل هذا البلد لكي ندافع عن اللبنانيني ونحمي حدود لبنان ونحمي جنوب لبنان ونحمي �شواطئ لبنان»(.)119 �« .2إن للتجنيد االجباري �أكرث من فائدة ،فهو يجمع ال�صفوف ويوحد الكلمة ويهيئ ال�شعب ملواجهة اخلطر القائم حالياً ...ويكون دعامة لردع هذا اخلطر يف امل�ستقبل»(.)120 � .3إن اجلي�ش هو العمود الفقري لبناء الدولة وهو �سياج الوطن(.)121 � .4أريد اجلي�ش قوياً م�سلحاً قادراً على حماية احلدود(.)122 124
فكــــــر
عند �أنطون �سعاده� :أورد يف املبد�أ اخلام�س من املبادئ الإ�صالحية� « :إعداد جي�ش قوي يكونذا قيمة فعلية يف تقرير م�صري الأمة والوطن»( )123فهو يدعو وب�شكل وا�ضح �إىل �ضرورة �أن تكون «الأمة ال�سورية كلها يجب �أن ت�صبح قوية م�سلحة»(.)124 -3اخلطر ال�صهيوين: عند ال�سيد مو�سى ال�صدر:� .1إن غدر ال�صهاينة وم�ؤامراتهم مل ينج منها ال امل�سيحيون وال امل�سلمون على ال�سواء ،والتاريخ �شاهد على ا�ضطهادهم لل�سيد امل�سيح وعلى حتريفهم للأحاديث النبوية ومقاومتهم للدعوة اال�سالمية(.)125 � .2إن �إ�سرائيل بوجودها ومبا لها من اهداف ت�شكل خطراً علينا حمدقاً على جنوبنا و�شمالنا على �أر�ضنا و�شعبنا على قيمنا وح�ضارتنا على اقت�صادنا و�سيا�ستنا(.)126 � .3إن معركتنا مع العدو ذات وجوه كثرية ،فهي معركة ح�ضارية طويلة الأمد متعددة اجلهات، وطنية قومية دينية� ،إنها معركة املا�ضي وامل�ستقبل(.)127 .4جتب �إزالة �إ�سرائيل من الوجود(.)128 � .5إن �إ�سرائيل هي العدو للعرب وللم�سلمني وللم�سيحيني وللإن�سانية وهلل �سبحانه وتعاىل»(.)129 � .6إن �إ�سرائيل �شر مطلق(.)130 عند �أنطون �سعاده :ومن خالل حما�ضراته� ،أظهر �أنطون �سعاده خطر الوجود ال�صهيوين« :من�أهم امل�شاكل اخلطرة جداً التي �سنواجهها ...امل�شكل ال�صهيوين الذي �صار خطراً عظيماً مداهماً يهدد بالق�ضاء على معظم �آمالنا» وي�ضيف�« :إن �سورية تواجه خطرين :الواحد يف اجلنوب والآخر يف ال�شمال ،الأول هو اخلطر اليهودي والثاين اخلطر الرتكي.)131(»... وميكن �أن نعترب �أن �أنطون �سعاده هو �أول من اظهر اخلطر ال�صهيوين على بالدنا ،ونادى بوجوب مقاومته. يقول م�صطفى �صادق الرافعي« :ان نه�ضة هذا ال�شرق العربي ال تعترب قائمة على ا�سا�س وطيد اال اذا نه�ض بها الركنان اخلالدان :الدين اال�سالمي واللغة العربية ،وما عداهما فع�سى ان التكون له ()132 قيمة يف حكم الزمن الذي اليقطع بحكمه على �شيء �إال ب�شاهدين املبدا والنهاية». 125
ان هذه النخبة من امل�صلحني املتمثلة مبو�سى ال�صدر وانطون �سعاده ،والتي وجدناها انها الت�ساوم مبلك وال امارة واليطلبون باال�صالح غر�ضا من اغرا�ض الدنيا او باطال بزخرفها ،فقد جعلتهم مبادئهم العالية القوية اول �ضحاياها ،وتروي منهم عرق الرثى الذي يتغذى من بقايا االجداد لينبت منه االحفاد . لقد كان مو�سى ال�صدر وانطون �سعاده ،جوابا على نه�ضة امة ثابتة مل تكن من الكالم وفنونه بل مبد�أ ثابت وم�ستمر يعمل عمله يف نفو�س �أهلها ،وقد كان هذا املبد�أ قائماً على اربعة اركان� :إرادة قوية ،وخلق عزيز ،وا�ستهانة باحلياة ،و�صبغة خا�صة باالمة . ان هذه النه�ضة الت�صلح يف الكتب وال يف الفنون بل يف الرجال القائمني عليها ،فالقلوب واالدمغة هي ا�سا�س النه�ضة احلقيقية الثابتة ،فكل النا�س ير�ضون التمتع باملال واجلاه وال�سيادة واحلكم، فلي�ست هي م�س�ألة ال�شرق ،ولكن امل�س�ألةَ :من هو النبي ال�سيا�سي الذي ير�ضى ان ُي ْ�صلب؟ الهوام�ش:
- 1 - 2 - 3
-4 -5 -6 -7 - 8 - 9
- 10 - 11
-12 -13 -14 -15 -16 -17 -18 126
وجيه كوثراين ،ا�شكالية العالقة بني الدين وال�سيا�سة يف العقل العملي ،منرب احلوار ،العدد � ،39صيف وخريف � ،1999ص .11 االمام القائد ال�سيد مو�سى ال�صدر ،امل املعذبني ،من�شور �صادر عن حركة امل� ،2001 ،ص.5 يعقوب �ضاهر ،م�سرية االمام ال�سيد مو�سى ال�صدر ،بريوت :دار بالل ،الطبعة.2000 ،29 : 1 ،1 املرجع نف�سه. املرجع نف�سه� ،ص .30 املرجع نف�سه.31 ، املرجع نف�سه� ،ص .37 االمام القائد ال�سيد مو�سى ال�صدر� ،أمل املعذبني ،املرجع ال�سابق� ،ص.15 االمام القائد ال�سيد مو�سى ال�صدر� ،أمل املعذبني -حركة امل :املكتب االعالمي املركزي� ،2001 ،ص.15 حممد قرة علي ،هوية االمام ال�صدر ومهمته يف لبنان ،جريدة احلياة البريوتية ،عدد .1961/12/22 يعقوب �ضاهر ،م�سرية االمام ال�سيد مو�سى ال�صدر ،مرجع �سابق ،اجلزء� ،1ص .314 املرجع نف�سه ،اجلزء� ،1ص .224 جريدة النهار.1974 /2/3 ، املرجع نف�سه. جريدة النهار.1974/3/18 ، جريدة النهار.1974/5/6 ، جريدة النهار1975/6/28 ، املرجع نف�سه.
فكــــــر
-19جريدة النهار.1974 /3/18 ، -20جريدة النهار.1974/4/5 ، -21املرجع نف�سه. -22املرجع نف�سه. -23جريدة النهار.1974/5/6 ، -24املرجع نف�سه. -25جريدة النهار.1970/5/16 ، - 26االمام القائد ال�سيد مو�سى ال�صدر �أمل املعذبني ،املرجع ال�سابق� ،ص .28 -27جريدة النهار.1974/3/18 ، -28املرجع نف�سه.1974 /4/5 ، -29املرجع نف�سه.1974 /5/6 ، -30جريدة النهار.1975 /3/30 ، - 31االمام القائد ال�سيد مو�سى ال�صدر �أمل املعذبني� ،ص .72 -32جريدة النهار.1975/7/7 ، - 33يعقوب �ضاهر ،م�سرية االمام ال�سيد مو�سى ال�صدر ،اجلزء� ،9ص 228وما بعدها. - 34اليا�س جرجي قنيزح ،م�آثر من �سعاده ،بريوت :م�ؤ�س�سة �سعاده للثقافة ،الطبعة� ،2013 ، 2ص .18-17 -35املرجع نف�سه� ،ص .20-19 -36املرجع نف�سه� ،ص .23 -22 -37املرجع نف�سه� ،ص .26 -38املرجع نف�سه� ،ص .27 - 39م�آثر من �سعاده ،املرجع ال�سابق� ،ص .21 -40املرجع نف�سه� ،ص .28 -41املرجع نف�سه� ،ص .34-33 -42م�آثر من �سعاده� ،ص .36 -43املرجع نف�سه� ،ص .46 -45 -44املرجع نف�سه� ،ص .68-67 -45املرجع نف�سه� ،ص .77 -46املرجع نف�سه� ،ص .91 -90 -47املرجع نف�سه� ،ص .99 -48املرجع نف�سه� ،ص .204 -49املرجع نف�سه، -50م�آثر �سعاده� ،ص .261 -51املرجع نف�سه� ،ص .266 � -52أنطون �سعاده ،يف مغرتبه الق�سري -الآثار الكاملة - 12 -د .ت� ،ص .16 -53الزوبعة ،العدد 15 ،75حزيران 1944 - 54انطون �سعاده ،يف مغرتبه الق�سري ،املرجع ال�سابق� ،ص 17 127
-55الزوبعة ،العدد � 12 ،79آب .1944 -56املرجع نف�سه. -57املرجع نف�سه. -58الزوبعة ،العدد � 12 ،79آب .1944 -59الزوبعة ،العدد� 30 ،81أيلول .1944 -60املرجع نف�سه. -61الزوبعة ،العدد 15 ،77متوز .1944 -62الزوبعة ،العدد � 12 ،79آب.1944 ، -63املرجع نف�سه. -64املرجع نف�سه. � -65أنطون �سعاده ،املحا�ضرات الع�شر ،د .ت� ،ص ( ،3املحا�ضر الأوىل 7كانون.)1948 2 -66املرجع نف�سه. � -67أنطون �سعاده ،املحا�ضرات الع�شر� ،ص .6 -68املرجع نف�سه� ،ص .7 -69املرجع نف�سه� ،ص .8 - 70املرجع نف�سه ،املحا�ضرات الثانية� ،ص 18 - 9كانون.1948 - 2 � -71أنطون �سعاده ،املحا�ضرات الع�شر ،املحا�ضرة الثانية� ،ص .9 -72املرجع نف�سه� ،ص .10 -73املرجع نف�سه� ،ص .10 -74املرجع نف�سه� ،ص .10 -75املرجع نف�سه� ،ص .10 � -76أنطون �سعاده ،املحا�ضرات الع�شر ،املرجع ال�سابق� ،ص .11 -77املرجع نف�سه� ،ص .11 -78املرجع نف�سه� ،ص .11 - 79م�آثر من �سعاده ،املرجع ال�سابق� ،ص .32 - 80يعقوب �ضاهر ،م�سرية االمام ال�سيد مو�سى ال�صدر ،املرجع ال�سابق ،اجلزء� ،1ص .16 -15 -81املرجع نف�سه ،اجلزء� ،11ص .50 -82املرجع نف�سه ،اجلزء� ،11ص .51 -83املرجع نف�سه� ،ص .52 -84املرجع نف�سه ،اجلزء� ،11ص .54 � -85أنطون �سعاده ،بني الدين والدولة� ،ص .217 -86املرجع نف�سه� ،ص .218 -87املرجع نف�سه� ،ص .219 -88املرجع نف�سه� ،ص .219 -89املرجع نف�سه. -90املرجع نف�سه� ،ص .222 128
فكــــــر
� -91أنطون �سعاده ،الدليل �إىل العقيدة ال�سورية القومية االجتماعية ،بريوت :دار الركن للطباعة والن�شر،1993 ، �ص .30 -92املرجع نف�سه� ،ص .31 -93املرجع نف�سه� ،ص .33 -94املرجع نف�سه� ،ص .33 -95املرجع نف�سه� ،ص .34 � - 96صوت املحرومني ،العدد الأول.1976/5/28 ، � -97أنطون �سعاده ،الدليل �إىل العقيدة ال�سورية القومية االجتماعية ،بريوت :الركن للطباعة والن�شر� ،1993 ،ص .13-12 -98املرجع نف�سه� ،ص .14 -99املرجع نف�سه� ،ص .16 -100املرجع نف�سه� ،ص .17 -101املرجع نف�سه� ،ص .18 -102املرجع نف�سه� ،ص .19 -103املرجع نف�سه� ،ص .22 -104املرجع نف�سه� ،ص .29-26 -105جريدة النهار.1975/7/7 ، -106الزوبعة ،العدد� 3 ،28 :أيلول .1944 -107انطون �سعاده -الدليل �إىل العقيدة ال�سورية القومية االجتماعية ،املرجع ال�سابق� ،ص .22 - 108يعقوب �ضاهر ،م�سرية االمام مو�سى ال�صدر ،املرجع ال�سابق ،اجلزء� ،1ص .16 - 15 -109املرجع نف�سه ،اجلزء� ،11ص .51-50 � - 110صوت املحرومني ،العدد الأول.1976/5/28 ، � -111أنطون �سعاده ،الدليل �إىل العقيدة ال�سورية القومية االجتماعية ،املرجع ال�سابق� ،ص .30 -112املرجع نف�سه� ،ص .31 - 113من ميثاق حركة املحرومني� ،صوت املحرومني ،العدد الأول 1976/5/28 -114جريدة النهار.1974/3/18 ، - 115االمام القائد ال�سيد مو�سى ال�صدر ،امل املعذبني ،املرجع ال�سابق� ،ص .31 � -116أنطون �سعاده ،الدليل �إىل العقيدة � ،...ص .36 -117املرجع نف�سه� ،ص .37 -118املرجع نف�سه� ،ص .37 - 119يعقوب �ضاهر ،املرجع ال�سابق ،اجلزء� ،4ص .269 -120املرجع نف�سه ،اجلزء� 2ص .74 -121املرجع نف�سه ،اجلزء� ،8ص .172 -122املرجع نف�سه ،اجلزء� ،5ص .224 - 123انطون �سعاده ،الدليل ،املرجع ال�سابق� ،ص .39 129
-124 - 125 -126 -127 -128 -129 -130 -131 - 132
130
املرجع نف�سه� ،ص .39 يعقوب �ضاهر ،املرجع ال�سابق ،اجلزء� ،1ص .343 املرجع نف�سه ،اجلزء� ،2ص .215 املرجع ال�سابق ،اجلزء� ،2ص .216 املرجع نف�سه ،اجلزء� ،4ص .343 املرجع نف�سه ،اجلزء� ،5ص .143 املرجع نف�سه ،اجلزء� ،6ص .292 الزوبعة ،العدد � 12 ،79آب .1944 م�صطفى �صادق الرافعي ،وحي القلم دار الكتب العلمية بريوت لبنان ،اجلزء� ،3ص .153
فـكــــــــر
وا�شنطن تقود �أو�سع حتالف دويل لدعم الإرهاب ح�سن حمادة -دكتور وباحث يف الفكر واالعالم
حما�ضرة �ألقاها الكاتب بدعوة من «منرب الوحدة الوطنية» -بريوت ،بعنوان: «مواجهة الإرهاب فكرياً و�أمنياً»« .حتوالت م�شرقية» تن�شر هذه الدرا�سة على حلقتني. مطروح اليوم مو�ضوع «احلرب على داع�ش» كاخت�صار لـ«احلرب على االرهاب» .الواليات املتحدة �أقامت «حتالفاً» تزعم �أن الهدف منه هو الق�ضاء على «داع�ش» وما ميكن �أن يت�صل بها �أو يتفرع عنها. هنا ،البد من التوقف لإبداء �أربع مالحظات: �أو ًال :هذا «التحالف الدويل» هو يف حقيقته جتم ٌع كونته الواليات املتحدة ،ويت�ضمن دو ًال تابعة �أكرث مما هي حليفة� ،سواء �أكانت دو ًال �أوروبية �أم غري �أوروبية .فهذه الدول� ،أو �أ�شباه الدول، واقعة عملياً حتت االحتالل الع�سكري الأمريكي املبا�شر� ،إما ب�سبب ع�ضويتها يف حلف �شمال الأطل�سي ،كما هو حال دول االحتاد الأوروبي الواقع حتت االحتالل الع�سكري الأمريكي املبا�شر، وتركيا وغريها� ،أو من خارج احللف الأطل�سي كالدول الناطقة باللغة العربية ،وامللتزمة ا�سرتاتيجياً بالقرار الأمريكي مثل دول اخلليج والأردن ،حيث تنت�شر القواعد الع�سكرية الأمريكية العمالقة، وتفر�ض قرار وا�شنطن فر�ضاً. ثانياً :هذا «التحالف» يتناق�ض مع قرار جمل�س الأمن الدويل 2170ال�صادر يف � 15آب ،2014 �إذ �أن هذا القرار اليقيم �أي متييز بني «داع�ش» و«الن�صرة» و«القاعدة» وم�شتقاتها كافة ،حتى �أن ن�صو�ص هذا القرار مل تذكر يف �أي من مواده منظمة «داع�ش» مبفردها بل تذكرها دائماً مع «الن�صرة» و»القاعدة» وم�شتقاتها. واملعروف �أنه لوال هذا الربط بني املنظمات الإرهابية ملا كان القرار قد �صدر �أ�سا�ساً� ،إذ �أن حق النق�ض ،الرو�سي -ال�صيني ،كان �سيمنع �صدوره. ثالثاً :هذا التحالف الأمريكي ينطلق من القرار 2170ليفتح على ح�سابه ،منقلباً على القرار 2170ذاته .فوا�شنطن �أخذت من جمل�س الأمن الدويل ما تريد �أن ت�أخذه ،لتكرر ،بقدر ما ت�سمح 131
به املمانعة الرو�سية -ال�صينية -االيرانية ،جتربة ليبيا التي كم �أظهر الرو�س ندمهم على ال�سماح بحدوثها ،وكم حتدثوا عن عزمهم عدم ال�سماح بتكرارها. ومن خالل هذه اخلدعة االمريكية ،التي كانت متوقعة �سلفاً� ،أو يف �أ�سو�أ احلاالت كان ُحدوثها غري م�ستبعد ،تك ّون ما هو نقي�ض للأمم املتحدة� ،أي ُتكون ما ي�سميه الأمريكيون ،ويردده عنهم العامل ترداد الببغاء« ،املجتمع الدويل». هنا البد من �أن نتوقف قلي ًال بق�صد تو�ضيح ال�صورة فنعر�ض للتعريف الذي يعطيه الأمريكيون لـ«املجتمع الدويل»� ،إذ �أن التعريف هنا �ضروري لفهم ال�سيا�سة الأمريكية و«للخداع امل�ستدام» الذي ميرر من فوق ر�ؤو�س ومن خلف ظهر العاملني ،كاحلالة التي نحن فيها الآن. جون بولتون هو الذي �أعطى هذا التعريف يف العام 2004يوم كان مندوباً دائماً للواليات املتحدة يف منظمة الأمم املتحدة ،فقال ب�صريح ل�سانه« :اليوجد �شيء ا�سمه الأمم املتحدة .يوجد «املجتمع الدويل» وهو يتكون من دول تتجمع حول القوة الدولية الوحيدة� ،أي الواليات املتحدة الأمريكية، ملواجهة حالة مع ّينة حني نرى ذلك ممكناً وتكون م�صلحتنا تتطلب ذلك». هذا التعريف يعك�س املفهوم احلقيقي الذي تتبناه وا�شنطن للعنوان الف�ضفا�ض الذي ُتكرث احلديث عنه .و ُيفرت�ض ب�أي �إن�سان عاقل �أن يتذكر هذا التعريف قبل �أن يلفظ عبارة «املجتمع الدويل» ،هذه احلمالة الأوجه .يكفي لدول ٍة ما� ،أو �شبه دولة� ،أن تكون تابعةً ،خا�ضعةً ،للإرادة الأمريكية، العبارة ّ ُمن�ضوية حتت لوائها ،ملتزمة ب�سيا�ساتها ،وبالتايل �ضد حقوق االن�سان و�ضد ال�سالم والعدالة ،حتى تكون ع�ضواً يف «املجتمع الدويل» ،وبالتايل تكون دولة مر�ض ّياً عنها .ويف احلالة املعاك�سة تكون �إما دولة «�إرهابية» �أو «داعمة للإرهاب». هذا من ناحية ،ومن ناحية ثانية ،ف�إن هذا النوع من «املجتمع الدويل» هو ،كما جاء يف التعريف نقي�ض ملنظمة الأمم املتحدة التي ُدرج على اعتبارها املمثل احل�صري لـ «ال�شرعية الآنف الذكرٌ ، الدولية» ،وبالتايل ف�إن من يك�سر قراراتها يخرج عن ال�شرعية الدولية. والوا�ضح �أن الواليات املتحدة الأمريكية تمُ ثل اخلروج امل�ستدام عن ال�شرعية الدولية ،وكذلك احلال بالن�سبة �إىل قاعدة ا�سرائيل الع�سكرية .ومن منطلق كون التحديد �شرطاً للو�ضوح ،وهذه قاعدة �أ�سا�سية يجب االنتباه �إليها بل وااللتزام بها ،يتبني من خالل الوقائع الدولية �أن احرتام هذه ال�شرعية الدولية بات يعترب يف نظر «املجتمع الدويل» مبثابة «عمل �إرهابي»� ،أو «داعم للإرهاب»!!!... وهنا املفارقة الفظيعة واال�ستكبار الأمريكي الظامل لل�شعوب ،وبتعبري اليقل عن ذلك دقة يجب القول �إن هذه املفارقة ُت�شكل جت�سيداً ل�سيا�سة ا�ستعباد ال�شعوب� .إنه نظام العبودية املناق�ض للمد ّنية وملقومات احل�ضارة االن�سانية ،وبالتايل ف�إن من امل�ستحيل بناء �سالم عاملي على قاعدة نظام العبودية لأن هذا النظام يكر�س احلروب امل�ستدامة التي ت�أمر بها وا�شنطن وتنفذها. 132
فكــــــر
�إن ما يحدث منذ ع�شرات ال�سنني ،ويبلغ ذروته من خالل هذا «التحالف الدويل» املخادع، واالنقالب على القرار ،2170ي�ضع م�صري العامل على �أكف عفاريت وا�شنطن ،وهذه لي�ست مبالغة على االطالق �إذ �أن ال�شرا�سة االمريكية يف الدفاع عن الأحادية الدولية ،التتورع عن �شيء. والأحادية هنا هي مبثابة ديكتاتورية دولية مثلها مثل نظام احلزب الواحد �أو نظام الـ«�أوليغار�شيه»، كما هو النظام املعتمد يف الواليات املتحدة بالذات حيث ال�سلطة الفعلية انتقلت عملياً من امل�ؤ�س�سات الد�ستورية (الكونغر�س واالدارة) �إىل الكتلة ال�صناعية -الع�سكرية وبيوت املال ،وهذا ما كان الرئي�س الأ�سبق اجلرنال �آيزنهاور قد توقعه وحذر من خماطره يف خطبة الوداع ال�شهرية التي �ألقاها يف 17كانون الثاين من العام .1961وما ينطبق على الواليات املتحدة يف جمال الـ «�أوليغار�شية» ين�سحب تدريجياً ،ولكن ب�سرعة ،على دول االحتاد االوربي من خالل تدعيم ركائز الإدراة االحتادية على ح�ساب الدول القومية التي ُي�صار �إىل تفكيكها تدريجياً من خالل م�شاريع «الأقلمة واملناطقية» REGIONALISATIONما ي�ضعف كثرياً احلكومات املركزية ويفقدها ال�سيطرة على املناطق والأقاليم مل�صلحة �سلطات احتادية غري منتخبة تتمتع فيها هيئة «املفو�ضية» ب�صالحيات على الطريقة املعتمدة يف الإدراة االمريكية. �إنها «الأمركة» بكل ما للكلمة من معنى والتي تعزز نفوذ الكتل ال�صناعية -الع�سكرية وبيوت املال املقبلة على التفاعل �أكرث ف�أكرث مع الكتلة ال�صناعية -الع�سكرية وبيوت املال يف الواليات املتحدة بفعل قيام ال�سوق امل�شرتكة الأطل�سية حيث ال�سيطرة �ستكون للأمريكيني. لذلك يكرث احلديث عن قرب ُبزوغ فجر «عامل من دون �أوروبا»Un monde sans Europe ... رابعاً :الوقائع كلها تثبت ب�أن دول و�أ�شباه دول «التحالف» ،هي التي تقف خلف املنظمات التي تطلق عليها �صفة «االرهابية»�...أو «االرهاب اال�سالمي» ،مثل «طالبان» و«القاعدة» و«داع�ش»، و«الن�صرة» و«اجلبهة اال�سالمية» ،وجند كذا وكذا....وهي التي ترعاها بالكامل وتنقلها �إىل �سورية املقد�سة ومتولها و ُتنفق عليها املال ومتدها بال�سالح واملدربني�...إلخ.. ولقد بلغ الفجور حداً جديداً من خالل اعرتاف نائب رئي�س الواليات املتحدة االمريكية ،جو بايدن ،مب�س�ؤولية عدد من �أع�ضاء «التحالف» يف تقدمي الدعم الكامل لهذه املنظمات ،وخ�صو�صاً «داع�ش» .و�أ�شار باال�سم �إىل تركيا واململكة ال�سعودية ،طبعاً مل يذكر دولته وال �أي دولة من دول االحتاد الأوروبي على الرغم من اعرتاف امل�س�ؤولني يف هذه الدول وكذلك �إعالمهم عن �إر�شاد هذه املنظمات االرهابية وتقدمي الدعم لها ،وب�شكل خا�ص م�س�ؤولية فرن�سا وبريطانيا يف رعاية ثالثة خمت�صني يف االرهاب، مع�سكرات للقاعدة يف منطقة «فزان» ،يف اجلنوب الليبي والتي « ُتخرج» ّ خ�صو�صاً يف تفخيخ ال�سيارات ،وت�صدرهم �إىل �سورية املقد�سة و�إىل الدول االفريقية... 133
وجاء كالم بايدن �أمام ح�ضو ٍر مميز يف جامعة «هارفرد» ،ولكن ...ولكن ...مل ُتقدم �أي حكومة، �أو حزب �سيا�سي� ،أو جهاز �إعالمي على ا�صطياد هذا احلدث اخلطري ،هذا االعرتاف اخلطري، مل�ساءلة االدارة االمريكية عن الإجراءات التي �ستتخذها بحق هذه احلكومات ،التابعة لوا�شنطن يف الواقع العملي ،لتن�شئتها ورعايتها وت�سليحها ومتويلها لهذه املنظمات التي ترتكب �أفظع الفظائع. فما دامت الواليات املتحدة قد ن�صبت نف�سها م�س�ؤولة عن مكافحة االرهاب يف العامل ،وما دامت قد �صوتت على القرار الدويل رقم ،2170ال�صادر حتت الباب ال�سابع من ميثاق االمم املتحدة ،وما دام نائب رئي�س الواليات املتحدة قد وجه هذه االتهامات �إىل دولٍ حمددة م�شاركة يف احلرب لتدمري �سورية املقد�سة ،فكيف تقدم لهذه الدول االرهابية -ح�سب ت�صنيف بايدن نف�سه -مكاف�أة تتمثل يف �إدخالها يف التحالف بد ًال من معاقبتها؟؟؟..!!!... هذا من جهة ،ومن جهة ثانية ملاذا التتحرك النيابة العامة التابعة للمحكمة اجلنائية ()CPI ،Cour Penale Internationaleملالحقة حكومات هذه الدول على ارتكابها جرائم حرب �ضد االن�سانية؟؟؟...!!!!... هذه املالحظات قد تكون �ضرورية لفهم حقيقة ما يجري يف هذه احلرب التدمريية التي ت�ستهدف �سورية املقد�سة ،لتدمري �أي �أثر للح�ضارة فيها� ،أي لإعادتها �إىل الع�صر احلجري ،حتت عنوان «التحالف الدويل �ضد داع�ش»� ،أو «احلرب على االرهاب»... جدية الواليات املتحدة يف حماربة االرهاب باملطلق. كما �أنها �ضرورية ملواكبة ال�س�ؤال حول مدى ّ �صحيح �أن الأحداث والوقائع كافية لتقدمي �إجابة وا�ضحة على هذا ال�س�ؤال ،ولكن ح�سبنا اال�شارة �إىل �أمرين يخت�صران االجابة ويجعالن النا�س يحرتمون عقولهم ولو قلي ًال ،فيدركون ب�أن ال�ضرورة �أ�ص ًال لطرح ال�س�ؤال �إذ �أن الوقائع الدامغة تغني عن هذه البهلوانية الذهنية .Acrobatie mantale االمر الأول هو �أن الواليات املتحدة تقف حجر عرثة �أمام تبني االمم املتحدة للتعريف الذي �أعطته حمكمة نورمبريغ لـ «احلرب العدوانية» .فلقد جاء يف الفقرة ا ُحلكمية ال�صادرة عن املحكمة �أن «احلرب العدوانية» متثل «اجلرمية الدولية الأرفع»� ،Crime international Supreme ،أي �أنها �أخطر اجلرائم الدولية. وبناء عليه اعتربت الفقرة احلكمية �أن امل�س�ؤولني عن �أي حرب عدوانية يجب �أن ي�ساقوا �أمام ق�ضاء دويل خا�ص لتتم حماكمتهم كـ «جمرمي حرب». ومبا �أن حروب الواليات املتحدة كلها ،منذ انتهاء احلرب الثانية الكربى ،حروب عدوانية ف�إن وا�شنطن ترف�ض هذا التعريف للحرب العدوانية كي اليتعر�ض الر�ؤ�ساء االمريكيون ،ولو نظرياً للمالحقة كمجرمي حرب. 134
فكــــــر
و�أما الأمر الثاين الذي ي�ؤكد عدم ا�ستعداد الواليات املتحدة ملحاربة االرهاب فيتمثل برف�ضها التام لعقد م�ؤمتر دويل خم�ص�ص لتعريف االرهاب� ،إذ �أن تعريفاً من هذا النوع ُيحتم التمييز ما يحد من هام�ش املناورة املتوفرة للواليات بني املقاومة من جهة واالرهاب من جهة ثانية ،وبالتايل ّ املتحدة ول�سيا�ستها القائمة على الكيل مبكيالني ،وهو اال�سلوب املعتمد يف ال�سيا�سة االمريكية لتربير حروبها العدوانية كافة. نحن �إذاً �أمام حفلة نفاقٍ �ضخمة �أطلقتها الواليات املتحدة ،وتحُ ييها مع الدول الأوروبية ،و ُتنظمها وتديرها وت�ضبط �إيقاعها .فكلما كرب حجم الدول تكرب معها �أكاذيبها. لبنان �ضحية من �ضحايا هذه الأكاذيب بدليل ما يح�صل من مهزلة يف مو�ضوع املليارات الأربعة. فجي�شنا اللبناين البا�سل يواجه هجوماً من هذه املنظمات االرهابية املذكورة يف القرار الدويل 2170الآنف الذكر� .صحيح �أنه يواجه املنظمات االرهابية منذ �سنوات ،لكن ال�ضغوط ا�شتدت عليه مع اندالع احلرب الأمريكية -اال�سرائيلية ،لتدمري �سورية املقد�سة. ومع ذلك ف�إن «دول التحالف» تقطع �أي م�ساعدة ع�سكرية عن اجلي�ش اللبناين فيما اجلي�ش يخو�ض املعارك �ضد املنظمات نف�سها التي تلقى الرعاية من «التحالف» نف�سه .معنى ذلك �أن قيادة التحالف تريد لبنان مهزوماً �أمام هذه املنظمات لأن هزميته ُت�ضعف الدولة ال�سورية �أكرث ف�أكرث فيكون دماره فرق عملة. �أي �أن دول «التحالف» العدواين امل�سخ تريد الدمار للبنان� .إن ما يحدث مع جي�شنا البا�سل منذ �أكرث من �سنة ،على �صعيد قطع ال�سالح عنه بينما هو يف �آتون املعركة دليل قاطع على ت�آمر ماي�سمى ب�أ�صدقائه. �إن ق�ضية «املكرمة» ال�سعودية والأكاذيب التي �أحاطت بها ،وما زالت حتيط بها� ،أم ٌر م�ؤذي جداً، وللأ�سف ال�شديد �أن لبنان منق�سم على نف�سه يف هذا ال�ش�أن .ويف �سياق هذا االنق�سام ن�شهد على مهزلة ا�سمها «�سجن رومية» ،وهي مهزلة ما كانت لتح�صل لوال تواط�ؤ �سلطات الو�صاية على هذا ال�سجن الذي يخت�صر حقيقة هذا النظام اللبناين القائم على املعتقالت املذهبية والتفرقة العن�صرية APARTHEIDوالتبعية للأعداء. �إن ما ذكره القائد ال�سابق للدرك اللبناين ،العميد جربان يف �ش�أن هذا ال�سجنُ ،ي�شكل �إخباراً ي�ستوجب املالحقة الق�ضائية للأو�صياء على هذا املعتقل الغريب العجيب على اختالف درجاتهم وم�س�ؤولياتهم ،من ع�سكريني ومدنيني من دون �أي ا�ستثناء. ت�شخي�ص املنظمات االرهابية التي تعتدي على لبنان 135
مبا �أن كل ما له �صلة بـ«التحالف» اللعني هو كاذب وجمرد �ستارة مهمتها تغطية الأهداف الأمريكية احلقيقية من احلرب العدوانية االرهابية على �سورية املقد�سة ،ومبا �أن هذا التحالف اللعني اليتورع عن تخريب ما مل يخرب بعد يف لبنان ،فال منا�ص من اللجوء �إىل املبد�أ الب�سيط القائل «ما َح ّك جلدك غري ظفرك» ،وبالتايل �إعطاء ت�شخي�ص «للمنظمات االرهابية» التي يتبناها «التحالف» الكاذب ع�سكرياً ويتنكر لها يف الكالم ال�سيا�سي ،مع وجود بع�ض اال�ستثناءات مثل �إعالن وزير خارجية فرن�سا ،ال�صهيوين املت�شدد لوران فابيو�س ،عن تعاطف حكومته مع �سلوك «جبهة الن�صرة»، وذلك بقوله �أمام م�ؤمتر «�أ�صدقاء �سورية» املنعقد يف مراك�ش يف كانون الأول من العام � ،2012أن �إرهابيي جبهة الن�صرة «ي�ؤدون عم ًال جيداً» ،ils font du bon boulot ،وذلك �إثر املجزرة التي نفذوها يف «ا ُحلولة» ،يف حميط حم�ص ،و�صو ًال �إىل الكالم ال�صادر عن نائب الرئي�س االمريكي جو بايدن يف 2ت�شرين الثاين � ،2014أمام نخبة من الباحثني يف جامعة «هارفرد» واملذكور �آنفاً. فكما ذكرنا� ،إن املنظمات التي تعتدي على لبنان ورد ذكر الأ�سا�سية منها ،بالإ�سم ،يف القرار الدويل ،2170املتخذ حتت الف�صل ال�سابع ،والذي يحظر على �أي دولة �أو جهة من التعاون معها، �أو حتى التوا�صل معها ،فعلى �صعيد الت�شخي�ص الذي ي�ستنتج الطريقة الواجب على لبنان �أن يتعاطى من خاللها مع هذه املنظمات املتوح�شة البد من التقيد بالآتي: �أو ًال :هذه املنظمات تنتحل ال�صفة الدينية فيما هي منظمات �إجرامية متوح�شة ال �أكرث .فال يجوز بالتايل الإنزالق �إىل نقا�شات ذات طابع ديني �أو مذهبي معها� ،أو يف �ش�أنها� ،إذ يف ذلك م�ضيعة للوقت ،ناهيك عن كون ذلك يعطيها م�شروعية معينة تفتقر �إليها� ،إن �سلوكها يثبت �أنها جمرد منظمات �إجرامية متوح�شة. ثانياً� :إن البعد التوح�شي يف �أدائها االجرامي يعيدنا بالذاكرة اىل �أ�سالفها من املنظمات ال�صهيونية املتحدرة من «الهاغانا» ،مثل منظمات �شترين� ،إيرغون ،ليهي ،باملاخ ...وغريها .فما تفعله «داع�ش» و«الن�صرة» و«القاعدة» وم�شتقاتها يف �سورية املقد�سة ويف العراق ن�سخة طبق الأ�صل عما فعلته تلك املنظمات ال�صهيونية يف فل�سطني �إبان النكبة. لذا يجب اعتبارها من �ساللة املنظمات ال�صهيونية وامل�شار �إليها خ�صو�صاً �أن عملها ي�صب يف خانة ا�سرائيل بالكامل ،وبالتايل ف�إن حماربتها هي مبثابة حماربة �إ�سرائيل� ،أي �أن حماربتها واجب وطني قومي � -إن�ساين ،و�أما عدم حماربتها فخيانة عظمى.ثالثاً� :إن ُ�سلوكها ال�صهيوين بالكامل يندرج ب�شكل وا�ضح ال لب�س فيه يف �إطار ا�سرتاتيجية «الفو�ضى البناءة» املعتمدة ر�سمياً من قبل دولة الواليات املتحدة الأمريكية� ،أياً كان العنوان احلزبي لإدارتها ،جمهورية �أو دميقراطية. هذه «الفو�ضى البناءة» ،املدمرة لنا ولغرينا من الأمم امل�ستهدفة ،من احلروب العدوانية التي ت�شنها 136
فكــــــر
الواليات املتحدة ،بت�سميات ومربرات �شتى ،هي التي جت�سد نهج احلروب امل�ستدامة املعتمدة من جانب وا�شنطن. من هنا قول الرئي�س الأمريكي باراك �أوباما ،وتكراره القول ،ب�أن احلرب على االرهاب قد تدوم ع�شرات ال�سنني .حتى يف ما يخ�ص �أكذوبة احلرب على «داع�ش»� ،أي على منظمة �إرهابية ،يرى الأمريكيون �أن احلرب تتطلب �سنوات عدة .هذا مع العلم �أنه ال يع�صى على عقل �أي ان�سان متزن �إدراك �أن الواليات املتحدة ح�سمت تدمري اجلي�ش الليبي خالل ثالث �ساعات فقط ،فهل ي�صعب عليها وهي امل�سيطرة بالكامل على الأجواء العراقية ،نارياً وا�ستخباراتياً و�إدارياً ،هل ي�صعب عليها �إبادة مواكب و�أرتال «داع�ش» التي تتنقل عرب �سهول و�صحاري املو�صل والعراق الأو�سط ،وهي مك�شوف ٌة ومن دون �أي غطاء جوي؟؟؟.!!!... َمن منا ن�سي كيف �أباد الطريان الأمريكي �أرتال ومواكب الألوية العراقية ،املن�سحبة من الكويت يف العام 1991؟.... عدد ال�صواريخ يفوق عدد قتلى «داع�ش» وما يزيد يف تعميق هذه اخلديعة الفظيعة ،والتي �ضربت كل االرقام القيا�سية يف الكذب والنفاق، هو مايفعله الق�صف الأمريكي على �سورية املقد�سة حتت عنوان «احلرب على داع�ش»� .أمران يدعوان �إىل ال�سخرية يف هذا املجال: �إنها املرة الأوىل يف تاريخ احلروب يتم فيها ا�ستخدام �صواريخ عابرة للقارات ملطاردة منظمة �إرهابية، وهذا مخُ الف لأي منطق ع�سكري. وبو�ضوح �شديد� ،أن ال�صواريخ عابرة القارات (توماهوك) التي تق�صف «داع�ش» يفوق ُيالحظ، ٍ عددها ب�أ�ضعاف عدد القتلى من «داع�ش» الذين ي�سقطون جراء هذا الق�صف..!!!...؟؟؟ وهذا ما يحدث �أي�ضاً يف الغارات اجلوية التي ُينفذها الطريان الأمريكي �ضد «داع�ش» ،ح�سب الزعم طبعاً ،والتي تنهال حممها على من�ش�آت تابعة للدولة ال�سورية ،كاملن�ش�آت النفطية وامل�صانع واجل�سور والطرقات والأبنية� ...إلخ ...الأمر الذي يعطي فكرة �أولية عما ميكن �أن يبقى من �سورية املقد�سة �إذا ما جرى تنفيذ امل�شروع الأمريكي على مدى �سنوات طويلة ،ودائماً بحجة« ...مكافحة االرهاب». وهنا البد من ا�ستعرا�ض دور �إ�سرائيل يف تدمري �سورية املقد�سة ،ورعاية احللف الأطل�سي لعملية ت�صنيع الإرهابيني ومع�سكراتهم ،خ�صو�صاً مع�سكرات اجلنوب الليبي ومع�سكرات تركيا. (يتبع يف احللقة املقبلة) 137
حتوالت �أدبية
التنا�ص وقراءة الن�ص الغائب يف �شعر خليل حاوي: جتليات املوت والإنبعاث
وفيق غريزي � -شاعر وباحث
خليل حاوي �شاعر يحمل طابعاً خا�صاً جداً ،حديثاً وعريقاً يف �آن .من يقر�أ �شعر خليل حاوي ي�شعر ب�أبعاده املتجذرة ب�سال�سة و�صالبة يف العمق احل�ضاري الإن�ساين وخ�صو�صاً القومي .فعلى الرغم من النظرة اخلانقة والعابقة �ضباب �أ�سود ،هناك وم�ضات تعلن رغبة عميقة يف التغيري والهدم الذي ينبت من طياته جتلياً جديداً للوجود. وخليل حاوي �شاعر متفرد يف ر�ؤياه ونظرته �إىل احلياة واحلب والوجود والكون والروح والأ�شياء. كان ي�س ّر يف �أعماق نف�سه الغبطة واملرارة ،عروبياً يف ثقافته متب�صراً يف امل�صري امل�شرتك ،لبنانياً يف تطلعاته وعمق �شموليته ،و�آفاقه الوا�سعة .عرف كل املذاهب ال�شعرية و�ضرب يف كل منها ب�سهم. كان م�سكوناً بال�شعر ،فهو ديدنه و�سلوكه ومالذه الدائم وروحه والدم الذي يجري يف عروقه ،كان مرتفعاً عن نزاعات النا�س جميعاً .هو احلرية والكلمة والإن�سان والكائن� .شعره يعبرّ عن مكنونات الب�شر و�أحا�سي�سهم وعواطفهم ،مذهبه ال�شعري هو املذهب اخلا�ص به ،كما �سبق و�أ�شرنا. امل�ؤثرات العامة يف �شعره
مير كل �إن�سان عادة يف حياته بتجارب� ،أو يلتقي ممن يرتك فيه �أثراً ،فيظهر هذا يف �أعماله وت�صرفاته. وال�شعراء ورجال الفكر عموماً ال يكونون منبثقني يف فكرهم من فراغ ،بل �إن ثمة ما ي�ؤثر فيهم ويوجههم الوجهة التي �سلكوا يف طريقها. وخليل حاوي تقول الكاتبة نادين طربيه احل�شا�ش« :واحد من ه�ؤالء املفكرين الذين ترك فيه �آخرون ب�صماتهم و�شيئاً من ذواتهم يف ذاته ال�شاعرة» .ولهذا ال�سبب م ّهدت الكاتبة بنبذة عن حياة حاوي يف كتابها.
139
�إن �إعجاب حاوي بالثقافة العربية وتط ّلعه �إىل دور قومي عربي تاريخي مل يكونا يعميانه عن اخللل العميق والنق�ص الفا�ضح يف احلياة العربية ب�شكل عام .وترى الكاتبة �أنه كان يحب العرب حباً عظيماً ،ولكنه كان يكره عقمهم املعا�صر كرهاً عظيماً �أي�ضاً .ولعل هذه النظرة ّ املركبة هي من �أ�صول �إبداعية خليل حاوي الفكرية. تبدت يف م�ستهل الأمر ،وحتديداً مع والتجربة التي م ّر بها �شاعرنا من خالل قناعته والتزامه ّ ق�صيدة «ال�سندباد يف رحلته الثامنة» �إ�شراقاً وخروجاً �إىل عامل يرى فيه حاوي ذاته من خالل جيل ّنظف نف�سه من �أ�سمال املا�ضي ،و�أ�شرف على �آت يبدو �أكرث �إ�شراقاً؛ «ورمبا كان هذا ب�سبب الواقع ال�سيا�سي الذي �ساد تلك املر�أة ور�أى فيه خليل حاوي حتو ًال نحو التجديد ،يعني بهذا الوحدة �سمي «اجلمهورية العربية املتحدة» .وهي الوحدة التي قامت بني العربية التي جت ّلت �آنذاك يف ما ّ م�صر و�سوريا عام ،1958ور�أى خليل من خاللها نهو�ضاً جديداً لل�شباب العربي الذي ميكنه �أن يبد�أ ب�صنع تاريخ جديد وم�ش ّرف. الت�أثري الغربي يف �شعر حاوي
�إت�صل خليل حاوي بالغرب الأوروبي خا�صة ،وذلك �إبان درا�سته يف جامعة كمربدج ،وقد �أقام يف �إنكلرتا �سنوات يعمل على حت�صيل ثقافة افتقر �إليها يف �سنوات الكدح التي عرفها من قبل. وهذه املرحلة متثل �أخ�صب مراحل حياة هذا ال�شاعر .حيث �إنه متكن من العمل يف مكتبات عريقة وعمق �إملامه بالرتاثني العربي والأوروبي ،ومتكن من م�صادر النقد الغربي بعد وكبرية يف اجلامعةّ ، �أن ّاطلع على �أعمال مفكرين مهمني فيه. فما هي عنا�صر التنا�ص مع الفكر والأدب الغربيني التي تظهر يف �شعر خليل حاوي؟ و�إىل �أي حد ميكننا �أن نتكلم على ت�أثري غربي فعلي يف �شعره؟ ت�شري الكاتبة �إىل �أننا جند موقف �ألدو�س هك�سلي يف حياته م�شابهاً للثنائية التي تتناولها ق�صيدة خليل حاوي «البحار والدروي�ش» .فهك�سلي نفر من مادية الغرب وحت ّول العلم عن طبيعته ،وهجر الفكر يف ما بعد �إىل الت�ص ّوف ،فهو يراوح يف فكره ،بني العلم احلديث والت�ص ّوف ،وبالعودة �إىل البحار ،رمزاً للتح ّري عن اليقني واحلقيقة ق�صيدة حاوي جند جتربة ال�شاعر تتجه �إجتاهاً كونياً ،متخذة ّ والكينونة الفعلية ،والدروي�ش رمزاً للذات القعدية التي �أيقنت بعجز الفعل الإن�ساين عن تغيري �س ّنة الوجود و�إعادة خلق الأ�شياء واالبتكار فيها« .وهذا ،ال�شخ�صان يقيمان يف قلب الق�صائد عرب «نهر الرماد» عرب تقم�صات وحت ّوالت تطر�أ من معاناة ال�شاعر وثقافته وت�أمالته». ونحن نرى �أن التقاطع يف �صورة الثنائية الظاهرة هنا م�صدرها هك�سلي ،و�إن مل يكن خليل حاوي، يف نهاية الأمر ،متفقاً معه على و�سيلة اخلال�ص ،لكن الرحلة يف جوهرها �شبيهة �إىل حد كبري برحلة 140
حتوالت �أدبية
هك�سلي الفكرية داخل عقم احل�ضارة الغربية الروحي ،والت�سلح امل�ستمر بالعلم ،وف�شل هذا العلم، بر�أيه ،يف �أن يقدم للإن�سان الغربي ما ي�صبو �إليه. وتقول الكاتبة يف هذا ال�صدد�« :إنها بال�ضبط �صورة ّبحار حاوي التي ا�ستمد جذورها من �إطالعه على جتربة هك�سلي .و�إن كان حاوي متمزقاً بني ح�ضارتي ال�شرق والغرب� ،أو بني العلم الذي البحار �إىل معرفة وثيقة �أو �إىل انفتاح حي ومثمر ،بل �أف�ضى� ،إىل العك�س» .وبني مل ي�ؤد ب�صاحبه ّ الدين والت�ص ّوف اخلامل الطفيلي الغيبي ،فهو يرتاح �إىل ر�ؤاه ،وتنب�ؤاته بانحالل ح�ضارة الغرب وق�ضائها على نف�سها .تقول �إن كان حاوي متمزقاً بني هاتني احل�ضارتني ،ف�إنه عرف ما ي�شبه الرحلة التي عرفها هك�سلي ،لأنه كما يقول مناف من�صور« :ر�أى احلل يف العودة �إىل الفطرة والأ�صالة لأنه ب�إ�صراره على العودة �إىل اجلذور ،يبتعد عن كيانيات وحمدوديات العلم لي�صل �إىل عامل كلي دافق باحليوية .لقد كان املطلوب عنده لي�س �إ�صالح هذا العامل ،بل االنبعاث اجلديد». وكذلك الأمر مع عودة هك�سلي �إىل الت�ص ّوف ،فهو ر�أى فيه ما ي�شبه العودة �إىل الفطرة �إىل الغيب الروحاين الذي انبثق الإن�سان وفكره فيه. التنا�ص والتقاطعات بني �إليوت وحاوي
عندما نعود �إىل نتاج خليل حاوي ال�شعري ،وحتى النقدي ،ال ميكننا �أال نلحظ الت�أثر بال�شاعر الإنكليزي ت� .س� .إليوت ،خ�صو�صاً بق�صيدة «الأر�ض اخلراب» .لكن حاوي ،كما يبدو ،ه�ضم هذا الأثر و�أعاد فرزه يف ر�ؤيا لها اجتاه خا�ص به. ترى الكاتبة �أن حاوي انطلق من العام �إىل اخلا�ص يف م�سار ر�ؤيته ،من احل�ضارة الإن�سانية عموماً �إىل احل�ضارتني ال�شرقية ال�سورية ،وال�شرقية العربية .لهذا ال�سبب جند �صورة �إليوت وقد حت ّولت رمزاً م�شرقياً يحتفظ بن�سغه العام ولكنه يتخذ منحى جديداً. ويرى البع�ض �أن ق�صيدة «لعازر» هي ق�صة الأر�ض اخلراب مر�سومة يف �إطار معاناة �أخرى ،عربية هذه املرة ،ومع حاوي حت ّولت الأر�ض اخلراب التي كانت مع �إليوت �أ�سطورة املجتمع الغربي املفجوع� ،إىل �أ�سطورة املجتمع ال�شرقي العربي الذي يعي�ش امل�أ�ساة الكربى يف عقم الن�ضال وغياب الإنبعاث ،وثابر ت �س �إليوت هو «لعازر» حاوي. �إن حاوي كما ت�ؤكد الكاتبة قد ت�أثر بق�صيدة �إليوت يف لعازر ويف غريها من الق�صائد ،ولكنه ت�أثر �أي�ضاً مبواقف �إليوت التي كانت الأر�ض اخلراب �أحد الن�صو�ص املعبرّ ة عنها .يبقى �أن مواقف حاوي �شبيهة مبواقف �إليوت يف مزاوجة �إلهامه الذاتي مبعطيات التاريخ واحل�ضارة ويف رف�ض امل�ضامني املادية الع�صرية ،ويف تقدير احلل يف الرجوع �إىل الدين. 141
«جند حاوي يط ّوع ما �أخذ عن كل من �إليوت وهك�سلي لي�صري منا�سباً لر�ؤياه احل�ضارية اخلا�صة به، ور�ؤياه الفكرية العامة .ف�أ�سطورة الأر�ض اخلراب التي ت�س ّربت عنا�صرها �إليه من خالل ق�صيدة �إليوت مل تت�سرب يف ذاته كما هي ،ولكنها حت ّولت �إىل �شكل ح�ضاري خا�ص له م�ساقه املتميز يف �شعره ،على النحو الذي ر�أينا ،وجتلى يف جملة من الرموز :يف كل من متوز و�أ�سطورته ومع متوز الأر�ض اخلراب ومتوز بعل». �أما الت�أثري الذي ر�أينا من الدو�س هك�سلي فيمكن ربطه بت�أثري �إليوت لي�شكال معاً ت�أثرياً متكام ًال، لأن الرجلني يتالقيان يف املوقف احل�ضاري ،فكالهما يريان �أن العلم مل يحقق طموحات الب�شر، وهذا موقف حاوي �أي�ضاً ،وكالهما يريان احل�ضارة الغربية يف طور االحت�ضار وال�سقوط ،وهو ما عبرّ عنه حاوي ،ولكنه «نقل ر�ؤياه �إىل احل�ضارة امل�شرقية العربية ،لي�صف ميوعة ذاتها وتفككها يف �ضباب ما هو م�ستورد من غري ذاتها و�أ�صالتها»� .إن تنا�صاً جلياً بني �شعر حاوي وكل من ن�ص هك�سلي و�إليوت .وهذا التنا�ص مل يظهر ب�شكل م�سطح ،مبا�شر ،بل ه�ضم ال�شاعر ما اختزنه من ت�أثر ،و�أعاد فرزه بطريقة جديدة. الت�أثري الأ�سطوري
كان للأ�سطورة دور �أ�سا�س يف �شعر خليل حاوي ،فقد اغرتف هذا ال�شعر من معينها لريفد بها ن�صه ال�شعري .ورمبا كان لثقافته ال�سيا�سية التي نهلها من احلزب ال�سوري القومي االجتماعي ومن م�ؤ�س�سه دور �أ�سا�س يف هذه امل�س�ألة ،لأن �أنطون �سعادة كان يركز يف �أحيان كثرية على دور الأ�سطورة يف احل�ضارة والأدب ال�سوريني. وتالحظ الكاتبة �أن �أبرز الأ�ساطري التي ا�ستعملها خليل حاوي يف ّن�صه ال�شعري ،والتي ّ �شكلت فيه تنا�صاً مع الن�ص الأ�سطوري هي �أ�ساطري اخل�صب ،خ�صو�صاً �أ�ساطري متوز وبعل وملكارت .وميثل متوز العمود الفقري لرموز اخل�صب يف �شعر خليل حاوي .وهذه الرموز من منظار الكاتبة تتمحور خ�صو�صاً يف «نهر الرماد» .ولكن امتداداتها تطاول الدواوين الأخرى ب�أ�شكال خمتلفة ،وال �سيما يف رمزي امل�سيح واخل�ضر .وت�شري الكاتبة �إىل �أن حاوي يبحث عن اخل�صب يف احل�ضارة عموماً ،ويرى �أن على الإن�سان �أن ي�ؤ ّمن و�سائل الإخ�صاب حل�ضارته بالعودة �إىل �أ�صالته ،والتم�سك بها يف عملية اخللق احل�ضاري ،ف�إذا فقد هذه الأ�صالة فقد ذاته وهويته ،وحت ّلل يف ما هو م�سرتفد ولي�س من طبيعة كيانه ،وقد عبرّ ت ق�صيدة «املجو�س يف �أوروبا» خري تعبري عن هذه امل�س�ألة .ويبدو �أن ت�أثري �أنطون �سعادة يف خليل حاوي وا�ضحاً يف «نهر الرماد» ذلك لأن م�س�ألتي البعث احل�ضاري والفداء هما من حماور عقيدة �سعادة ،ومن �أ�سا�س فكره .بل �أكرث «ف�إن �سعادة قد �أ�شار �إىل �أن جذور الت�ضحية الفردية مت�أ�صلة يف النف�سية ال�سورية منذ زمن الكنعانيني ،و�أكد �أن هذا املبد�أ �أ�سا�سي لكل جمتمع 142
حتوالت �أدبية
متوح�ش» .وقد جدير بالبقاء واالرتقاء ،وهو �أهم مبد�أ مناقبي قام عليه فالح �أي جمتمع ّ متمدن �أو ّ �آمن حاوي بهذا املبد�أ ،واعترب نف�سه ،وال �سيما يف حب وجلجلة وعودة �إىل �سدوم ،واجل�سر عالنية ال�شاعر الذي يفدي الأجيال لتولد والدة �صحيحة �سوية ،ولتعرب عليه باجتاه الأر�ض اجلديدة. �إن خليل حاوي ّوظف متوز وغريه من الرموز التي عرفت يف الفكر الكنعاين ،يف ديوان «نهر الرماد» توظيفاً ين�سجم مع نظرة �سعادة احل�ضارية التي ت�أثر بهاّ ، و�شكلت يف �شعره تنا�صاً الفتاً .فالتنا�ص تقول الكاتبة «بني فكرة متوز ال�سورية و�صورته يف �شعر حاوي ،خ�صو�صاً هنا ،وا�ضحة .ويف الواقع، ف�إن النزعة الأ�سطورية وامليثوية حتمل يف �أعماقها قيماً كونية و�أبعاداً �إن�سانية ومواقف متعددة جتاه العامل وظواهره» .وبهذا يكون التفكري الأ�سطوري وامليثوي امتداداً للحياة والتاريخ. املوت واالنبعاث
بالعودة �إىل ق�صائد حاوي ،ن�ستطيع �أن نبني على ثالثة �أمور �أ�سا�سية هي :م�س�ألة املوت واالنبعاث، وم�س�ألة الت�صفي والتط ّهر من �أجل حتقيق االنت�صار على املوت ،وهو هنا موت ح�ضاري بامتياز، والت�صفي يعني العودة �إىل الأ�صالة الكامنة يف الذات احل�ضارية وحما�سبة الذات للك�شف عما هو �أ�صيل يف داخلها ،وظهور رمز العنقاء ودالالته. فق�صيدة «بعد اجلليد» وفق قول الكاتبة« :متثل معاناة املوت واالنبعاث احل�ضاريني ،فبعد �أن طرح «البحار والدروي�ش» امل�شكلة يف الغرب وال�شرق ،وهي املفارقة بني العلم والإميان :العلم حاوي يف ّ الذي مل يتمكن من �إي�صال الإن�سان �إىل ال�سعادة لأنه خال من القيم ،والغيبيات التي جعلت الإن�سان م�س ّلماً بقدره ،ال يعمل على تطوير نف�سه» .وهذا متاماً ما ح�صل للعرب من خالل مرحلة االنحطاط ..بعد �أن طرح ال�شاعر هذه الفكرة يف م�ستهل الديوان ،انتقل �إىل معاجلة االنبعاث احل�ضاري يف عدد من الق�صائد الالحقة. يلح عليه خليل حاوي ،والذي ي�شكل يف ّن�صه تنا�صاً مع الأ�سطورة يف الواقع ،يف متوز الذي ّ الأ�سا�سية ،متوز هذا مبثوث يف روح الوجود ،وهو الإله الإن�سان والإن�سان الإله ،ويبقى �صامداً عرب د ّوامة التغيري؛ وهو من ذلك يكون �صامداً يف قلب الزمان وخارجاً منه ،والزمن ال ينال منه �إال ما يكون عرب املظاهر الربانية ،فيما يتحرر جوهر متوز من الزمن وزمنيته وعطبيته وانحالليته .ومتوز يتحد عرب ق�صائد «نهر الرماد» بامل�سيح .وعرب «الناي والريح» يفرتق متوز وامل�سيح اقرتافاً �شبه تام .متوز مل املتجددة يف الوجود». يكن غيبياً ،و�إمنا هو �إله متج�سد من الأر�ض ،ومن املوا�سم ،ومن الدورات ّ �أما التنا�ص الثاين فمع ق�صة لعازر يف �إجنيل يوحنا ،حيث جند ال�شخ�صية ت�شكل بق�صتها تنا�صاً يتداخل والرمز الأ�سطوري امل�ستعار ،فحاوي يف «قرب» كما يقول ،وهو بذلك مثل لعازر الذي مات، 143
وينتظر �أن ُيبعث ،ولكنه يح ّول هذه ال�شخ�صية �إىل رمز للإرادة يف احلياة ،ويدجمها يف �شخ�صية امل�سيح الذي يبعثه من املوت ،فيقبل بال�صلب يف �سبيل قيامة اجليل. الت�أثري الديني
من جملة الت�أثريات التي ال بد من الوقوف عندها يف درا�سة التنا�ص يف �شعر خليل حاوي ،الت�أثري الديني ،وذلك لأن ال�شاعر قد ا�ستمد من الق�ص�ص الدينية �سواء �أكان من الكتابني املقد�سني العهد القدمي والعهد اجلديد �أم القر�آن الكرمي روافد ل�شعره يف الدواوين الثالثة. ففي ق�صة �سدوم جند تنا�صاً �شائقاً ،ميكننا �أن نقول �إن ال�شاعر فيه �أفاد من الق�صة الأ�سا�سية ،ولكنه مزجها بعنا�صر الأ�سطورة ،فانطلق من الق�صيدة االوىل «�سدوم» لريكز على الدمار املاحق الذي ترتكه النار «من خالل الق�صة التوراتية ،وو�صل يف الق�صيدة الثانية �إىل دمج الق�صة بالأ�سطورة، وهل هو حمل اخلالق التوراتي ليخلق بعد التدمري جي ًال جديداً». كما �أن التنا�ص احلا�صل بني ق�صة يونان التوراتية وبني ق�صيدة «يف جوف احلوت» ال يقوم �إال على جزء من ق�صة يونان ،وهو ذاك املتعلق بابتالع احلوت للنبي. ولهذا ،ف�إن التنا�ص بني ق�صة النبي يونان وبني هذه الق�صيدة هو يف م�س�ألة ابتالع احلوت للنبي، وابتالعه لل�شاعر وال�شعب يف الق�صيدة ،وذلك م�س�ألة الإثم« .غري �أن جوف احلوت هنا كهف ميثل عمر الإن�سان التالف واملن�ساب من غري تغيري ،بل فهو من�سوب يف املوت ،ال يعرف �سواه حا ًال من حاالت احل�ضارة». لقد ح ّول خليل حاوي ،يف هذه الق�صيدة املوت الروحي �إىل موت ح�ضاري ،وح ّول العودة �إىل الإميان �إىل مت�سك باملوت وال�شر .وبهذا التنا�ص ح�سب ر�أي الكاتبة احلا�صل بني الق�صة والق�صيدة يت�شكل من �إعادة �صياغة لعنا�صر التوراة ،من �أجل �إخراج خا�ص للمعنى. كما �أن �شخ�صية «اخل�ضر» ال تنتمي �إىل ق�صيدة واحدة يف ن�صو�ص خليل حاوي ،ولكننا جندها تظهر يف عدد من الق�صائد منذ «نهر الرماد» وحتى «بيادر اجلوع» ق�صيدة لعازر. ولكن �صورة القدي�س اخل�ضر هنا «تتداخل و�صورة بعل الأ�سطورية ،لأن بع ًال ميت�شق الربق ،وهو �إله الربق والرعد والعوا�صف ،كما �أن اخل�ضر هنا يرتبط ب�صورته الرمزية ،فهو الفار�س الذي انت�صر على ال�شيطان ،ف�صرع التنني الذي ميثله ،و�أفرح قلب الكني�سة .واخل�ضر هنا ميت�شق الربق على التنني والغول معاً ،ولهذا مدلول ح�ضاري� .إنه ال�شاعر الذي يفتدي اجليل من �أجل �أن يولد جمدداً والدة �صحيحة و�أ�صيلة». 144
حتوالت �أدبية
خليل حاوي والرتاث العربي
لقد ت�أثر حاوي بالرتاث العربي ،ومن املعروف �أن هذا ال�شاعر الوا�سع الإطالع والثقافة كان مطلعاً جداً على الرتاث العربي ،وقد ترك فيه هذا الرتاث ت�أثرياً عميقاً انعك�س بع�ضه يف �شعره. وت�شري الكاتبة �إىل ت�أثر حاوي بالإ�سالم ال كدين اعتنقه ،ولكن كقوة �إن�سانية وح�ضارية نقلت �شعباً من الفقر �إىل الغنى ،ومن ال�ضعف �إىل القوة ،وكانت �صورة كل من النبي حممد وفار�س الفتح الإ�سالمي من �أكرب امل�ؤثرات يف �شعره من حيث عالقتهما بالرتاث. «ويظهر �أثر «�ألف ليلة وليلة» يف غري ق�صيدة من �شعر حاوي وحتديداً يف كل من �شهرزاد وال�سندباد». ففي نهر الرماد نرى ال�شاعر يتكلم على �شهرزاد يف ق�صيدة «عودة �إىل �سدوم» وهو تالياً يربط حبه بحب �شهرزاد لبنات جن�سها .وعن�صر الفداء هو الأ�صل يف ق�صتها التي ا�ستخدمها ال�شاعر من «�ألف ليلة وليلة» فهو يف الق�صيدة ال�سابق ذكرها يفتدي اجليل بنف�سه كما افتدت �شهرزاد بنات جن�سها ل�شدة حبها لهن. ومن �أبرز الرموز التي ي�ستعريها حاوي من «�ألف ليلة وليلة ،وت�شكل تنا�صاً مهماً بني الكاتب و�شعره ،هي ق�صة ال�سندباد البحري .وقد ّ «�شكلت هذه الق�صة تنا�صاً مهماً يف ن�صو�ص ال�شاعر ،يف ديوان «الناي والريح» فا�ستعار حاوي ال�سندباد رمزاً». يظهر ال�سندباد �أو ًال يف ق�صيدة «وجوه ال�سندباد» .ويعرب يف هذه الق�صيدة عن م�شكلة االن�سان املعا�صر يف تفاعله مع احل�ضارة والزمن ،ومن خالله يعرب عن م�شكلته هو يف عالقته باحل�ضارة الغربية التي يتفاعل معها داخل الق�صيدة. وتقول الكاتبة« :ميكننا �أن نخت�صر الوجود الذي يتكلم عليه حاوي بوجهني �إثنني :وجه الأ�صالة الكامنة يف الذات ،والتي ميثلها بوجه �أمه الأ�سمر .وهو يتخذ ال�سمرة رمزاً للأ�صالة الكامنة يف الذات لأنه يربطه بالبداوة يف ق�صائده ،ووجهه هو الذي ميثل وجه الإن�سان املعا�صر يف عالقته اخلطرية بالزمن ،ويف ميوعه ذاته ،وال�سندباد يف هذه الق�صيدة يخ�سر ما يف ق�صته الأ�سا�سية من توثب وعزم ،ويتحول اىل �شيخ هرم فاقد للعزمية»؟ �إن التنا�ص احلا�صل بني الن�ص الأ�سا�سي لل�سندباد يف «الرحلة الثامنة» هو الرتحال امل�ستمر، والقدرة املتجددة على الفعل والبحث عن املجهول ،ولكن �صورة العزم املتجدد هي التي حترك ال�صورة العامة لهذه ال�شخ�صية ،وهذا بالتحديد ما اختار حاوي ان يبقي عليه من التنا�ص احلا�صل. هكذا ينفتح التنا�ص بني ق�صة ال�سندباد البحري وق�صيدة خليل حاوي على م�صراعيه« ،فت�أخذ رحالت ال�سندباد م�ساراً جديداً بعد ان ي�ستعيد هذا ال�شاعر ،وتنقلب معه �شك ًال ق�ص�صياً جديداً، 145
على م�ستوى الأمة كلها هذه املرة ،وي�ضيف ال�شاعر رحلة ثامنة اىل رحالت ال�سندباد ال�سابقة التي ر�آها بال قيمة». هذا ال�شاعر ا�ستلهم الرتاث العربي ،ومتكن من حتويل م�سار �صوره يف �شعره اىل ما ينا�سب اغرا�ض الق�صائد .لكن ان الت�أثري الرتاثي الأكرب هو يف م�س�ألة التنا�ص بني �شعر حاوي وكتاب «الف ليلة وليلة» وخا�صة يف ق�صة ال�سندباد البحري التي ا�ستطاع �شاعرنا �أن يبدع لها طريقا خا�صة و�أن ي�ضفي عليها �أبعاداً جديدة م�ستوحاة يف ا�صلها من الق�صة الأ�سا�سية. التنا�ص وقراءة الن�ص الغائب يف �شعر خليل حاوي. نادين طربيه بي�سان للن�شر والتوزيع ـ بريوت 2014
146
حتوالت �أدبية
احلركة ال�صحافية الن�سائية العربية احلديثة يف رحلتها عرب تاريخها الطويل جنيب البعيني -كاتب و�صحايف احلركة ال�صحافية الن�سائية� ،أو احلركة ال�صحافية العربية ،حتتل مكانة راقية يف تاريخنا العربي املعا�صر ،هي حركة كفاح مرير قادتها املر�أة ب�شكل عام تنا�ضل من �أجل حقوقها ويف �سبيل حتقيق طموحها الثقايف واالجتماعي واالن�ساين ،لي�س يف بلد معينّ ،بل يف عموم بلدان �أمتنا العربية. والن�ساء اللواتي �أ�سهمن يف هذه احلركة الن�سوية كن من لبنان وم�صر و�سوريا وفل�سطني وبع�ض الدول العربية االخرى التي كان لها �إ�سهام يف حركات التحرر يف العاملني العربي واال�سالمي. �إن ق�ضية املر�أة تعترب من الق�ضايا الوطنية واالجتماعية احل�سا�سة ،تتطلب منها العمل واالجتهاد واملثابرة ،لأن ق�ضية حقوق املر�أة مل تكن ق�ضية خا�صة تتعلق بفرد او افراد ،بل هي ق�ضية الن�ساء ككل وم�شاركتهن ،و�إ�سهاماتهن الفعالة يف احلياة العامة ،هي ق�ضية املر�أة والرجل على حد �سواء تتعلق بالتطور والرقي والتقدم مبوازاة عجلة الزمن التي ال تتوقف. وقد تناول عدد من الباحثني هذه الق�ضية �إما بالت�أييد �أو باملعار�ضة ،بحيث انق�سموا حيالها اىل فريقني ،فريق تناولها من ناحية حتررها من ربقة االعراف والتقاليد ،وكان �أن �أعلن ذلك �أول ما �أعلن ،هو قا�سم �أمني الذي نادى بحقوق املر�أة ورفع احلجاب عنها ،فا ّتهم بالكفر والإحلاد واخلروج عن الدين. كذلك طالبت الآن�سة نظرية زين الدين ،من عني قني ،ال�شوف ،برفع احلجاب فاتهمت ب�أ�شنع ما ميكن من الأقاويل واالحتجاجات ون�شرت هذه التهم يف خمتلف ال�صحف واملجالت التي طالبت بتحرير املر�أة ومنحها احلياة احلرة الكرمية ال�صاحلة. وكان كتابها :الفتاة وال�شيوخ ،نظرات ومناظرات يف ال�سفور واحلجاب ،وحترير العقل وحترير املر�أة والتجدد االجتماعي عن العامل اال�سالمي ،وكان ذلك يف �سنة .1929 وفريق ثانٍ تناولها من حيث التزامها بالأعراف والتقاليد املوروثة منذ القدم. وقد ن�شب جراء هذا �صراع فكري وعقلي كرثت فيه املجادالت وامل�صادقات وانق�سمت البلدان العربية جتاهه اىل ق�سمني متواجهني .وقد �أثبتت املر�أة عرب التاريخ قدرتها على تخطي ال�صعاب 147
والعقبات ،وا�ستطاعت نيل بع�ض احلقوق ،اىل ان و�صلت اىل ما و�صلت اليه من مكانة ،ومطالب ن�سائية حمقة ،بعد �صراع طويل ،على طريق ال�شوك والآالم. وقد تناولت يف كتاب ا�صدرته منذ فرتة وجيزة حتت عنوان «�صحافيات لبنانيات رائدات و�أديبات مبدعات»� .صدر عن دار نوفل للطباعة والن�شر ،يف �سنة ،2007بالبحث والتنقيب بع�ض ن�ساء ممن لهن دور فاعل يف احلياة االجتماعية. عملن يف احلقل ال�صحايف وكان ّ واحلق يقال ان ال�صحافة الن�سائية اللبنانية كانت ال�سباقة اىل العمل واىل مواكبة التطور واالحداث ومالحقة ق�ضايا املر�أة ومطاليبها ،لذلك فال عجب اذا قامت ن�ساء و�أ�صدرن جرائد وجمالت، انطلقت من لبنان و�شملت �أر�ض م�صر و�سورية وبع�ض البلدان العربية ال�شقيقة. جملة «الفتاة»
كان هناك حركة ن�سائية �صحافية عربية انطلقت من لبنان ووجهتها م�صر .وقد ظهرت ال�صحافة الن�سائية يف م�صر �سنة 1892م .ومل تكن قد عرفتها من قبل �أية دولة عربية �أخرى. فقد �أن�ش�أت هند نوفل (� )1957-1875أول جملة �أ�سمتها «الفتاة» يف م�صر .وهي �صحافية لبنانية كان والدها وعمها ن�سيم و�سليم �صحافيني ا�شتغال بال�صحافة والرتجمة يف مكاتب احلكومة امل�صرية .وكان �أن �صدر العدد االول من املجلة على ن�سق �أوروبي يف بالد الغرب .وكان عنوان انطالقتها« :جريدة علمية تاريخية �أدبية فكاهية» .وكانت مقدمة العدد االول من املجلة حتت عنوان «�إي�ضاح والتما�س وا�ست�سماح» قالت فيها هند: «�سيداتي: «ان مبدع العامل ومدير الكائنات قد �أوجد العنا�صر واودعها من خ�صائ�ص الفعل واالنفعال والتجاوب والتدافع والتوا�صل والتفارق ،وميز ك ًال منها بخوا�ص خمتلفة ،واو�ضاع �شتى على وجه غريب ومنط عجيب ،ثم ا ّلف منها عاملاً كبرياً ،ركب من �شمو�س و�أقمار وكواكب وجنوم ،ال تعد وال حت�صى ،وخلق الأر�ض ذات نباتات مت�شابهة وغري مت�شابهة». ثم مت�ضي يف افتتاحيتها قائلة: «ال غرو اذا ظهرت الفتاة بحلة الع�صر وهي تتفي�أ بظل ظليل اللواء احلميدي ،لواء �سيدنا ال�سلطان عبد احلميد ،فان الغازي � ّأيد اهلل ملكه مدى الدوران ،وبظهورها يف ال�سنة االوىل من توىل خديونا املعظم عبا�س حلمي الثاين ،االريكية اخلديوية».
148
حتوالت �أدبية
ثم اخذت تع ِّرف مبجلتها وب�أنها ال تخو�ض يف االمور ال�سيا�سية وامل�شاحنات الدينية ،بل �سوف ت�ستمر مبا يت�صل بالن�ساء مثل« :اخلو�ض يف �آداب الهيفاء ،وحما�سن الن�ساء فان مبد�أها الوحيد هو الدفاع عن احلق امل�صري واال�ستلفات اىل الواجب املطلوب». وتعود اىل «الفتاة» تتذكر دفاعها عن املر�أة امل�صرية لأول مرة من خالل و�سيلة اعالمية ن�سائية ظهرت يف ال�شرق العربي ،وتطلب من القارئات ان يعتربن املجلة« :جريدتهن الوحيدة املدافعة عنهن يف املحافل الدولية ،و�أن يكاتبنها وال يعتربن ذلك مما يحط من قدرهن او يخد�ش عفافهن، هن حمررات او مي�س الطهر والأدب ،كال ،فان �أعظم ن�ساء االفرجن علماً و�أدباً و�أرفعهن ح�سبا ون�سبا ّ بع�ض اجلرائد .وقد ورد يف جرائدهن بان «م�س كارفور» تكاتب جريدة «الديلي نيوز» يف مدينة باري�س» .وخال�صة القول يف هند نوفل انها رائدة ال�صحافة الن�سائية يف ال�شرق ،وال�صحافة الن�سائية هي يف الواقع �أهم ظاهرة حية للحركة الن�سائية يف القرن التا�سع ع�شر ،والن�صف االول من القرن الع�شرين. جملة «�أني�س اجللي�س»
وت�أتي يف املرتبة الثانية جملة «�أني�س اجللي�س» التي ا�ستمرت من �سنة 1898اىل �سنة .1908 وكانت �صاحبتها لبنانية هي الك�سندرة اخلوري افرينو ،وكانت الك�سندرة �أول متحدثة عن احلركة الن�سائية يف م�صر ،رئي�سة اول م�ؤمتر ن�سائي عاملي يعقد لنزع ال�سالح. تقول الك�سندرة يف �إحدى مقاالتها يف املجلة : « ....ان املر�أة يف م�صر تكاد ان تكون �أ�شقى خملوق فيها لكرثة جهدها وفرط �صربها واحتمالها، ولذلك جندها فالحة للأر�ض ،حمالة للأثقال �سائقة للبهائم ،وم�شاركة لها يف كل �أعمالها». وت�ضيف �صاحبة املجلة قائلة: حد ملا تعانيه «الواقع ان هذه املجلة مل يخل عدد منها من مقال يحث املر�أة وامل�س�ؤولني على و�ضع ّ املر�أة من مذلة وهوان». ومهما يكن من �أمر فان جملة�« :أني�س اجللي�س» �أدت دوراً كبرياً يف ا�ستنها�ض احلركة الن�سائية امل�صرية ،وتطورها يف فرتة �صدورها .وقد امتازت �صاحبة املجلة بقوة ال�شخ�صية وقدرتها على اكت�ساب �صداقة الرجال الكبار واحرتامهم لها النها الوحيدة بني ن�ساء ال�صحافة الن�سائية واحلركة الن�سائية التي ح�صلت على عدد كبري من االو�سمة يف حياتها من ملوك واباطرة.
149
جملة «ال�سيدات»
�أ�س�ست هذه املجلة �صاحبتها روز حداد من �سنة 1903اىل �سنة .1930وقد ظهرت هذه املجلة لتعمل على ترقية املر�أة يف وظيفتها املنزلية ومعرفة ما يدور حولها خارج نطاق املنزل. تقول روز يف مقدمة العدد االول: «انها �سوف تعتمد على االنتاج االوروبي يف حترير املجلة مثل «قامو�س و�سري ومبادئ �شهريات الن�ساء» و «ما يجب ان تعلمه الفتاة» و «طبيعة الولد» و «�أ�صول الرتبية والتعليم» .واعتمدت املجلة على جمالت ت�صدر باالنكليزية وهي« :جملة الن�ساء اخل�صو�صية» و «املعلمة واملدر�سة» و «املر�أة يف البيت» و «رفيق املر�أة» و «الأزياء احلديثة» و�أبواب املجلة كثرية .وقد خ�ص�صت �أبواباً مثل «املنزل واملطبخ واملائدة» ،واهتمت بن�شر �أ�صول ترتيب املنزل ونظافته و�آداب املائدة ،و�أ�س�س جلو�سهم حول املائدة يف جميع وجبات الطعام وما يجب عليهم ان يفعلوه ،و�آداب ال�سلوك نحو من يجل�س معهم على املائدة. كما اهتمت املجلة بزينة املر�أة و�أزيائها ،وتعليم الفتاة والعمل على ترقية مداركها العقلية .وقد و�ضعت �شعاراً للمجلة حتت عنوان« :اجلنة حتت �أقدام الأمهات» .و «نقا�ش درجة االمم بالنظر اىل ن�سائها ،وحينما يكون علو الهمم والإقدام واالرتقاء فهناك الن�ساء ملكات». وت�ضيف اىل ذلك قائلة: «اذا �أردمت ا�صالح الهيئة االجتماعية فا�صلحوا الن�ساء .وبهذا اال�صالح يت�صلح اجلن�س الب�شري، النهن مربيات ومدربات». ان جملة «ال�سيدات» قامت بدور فاعل يف ازدهار احلركة الن�سائية كما ايقظت املر�أة ال�شرقية من �سباتها ،وعززت مكانتها ،و�أحبت النف�س ال�شرقية .وكانت غريتها ال تو�صف على �ش�ؤون املر�أة يف الوطن العربي . جملة «فتاة ال�رشق»
«فتاة ال�شرق» �صاحبتها ورئي�سة حتريرها لبيبة ما�ضي ها�شم ( .)1952-1882وقد �صدرت هذه املجلة يف �سنة 1906وظلت ت�صدر اىل �سنة . 1939وقد كانت لبيبة ها�شم من اركان احلركة الن�سائية ملا قدمته من ن�شاط ملحوظ مل يعرف التوقف منذ ان بد�أت العمل يف هذه احلركة منذ �سنة 1896م .حتى تاريخ تركها البالد امل�صرية وهجرتها اىل امريكا الالتينية يف نهاية �سنة .1939 150
حتوالت �أدبية
�صرحت لبيبة يف مقدمة العدد االول عن �أ�سباب ا�صدارها املجلة وال�سيا�سة التي �ست�سري عليها يف حتريرها ،قالت: « ...وبعد حمد اهلل عز وجل والدعاء ل�سمو «�أمرينا املعظم» النه يف عهده «تفتحت ازهار العلم و�أ�صابت الن�ساء ن�صيباً من طيب �شذاه وانني ممن �أ�صابهن نفحة من ن�سيم ذلك الرو�ض ،و�أف�سحت نف�سي عن ال�صغائر و�شواردها ومالت بي ايل ارت�شاف ك�ؤو�س العلم والتلذذ بعذب مواردهن ف�أن�ش�أت عدة ر�سائل �أودعتها ما متثل لرق ّيه فائدة للأدباء ،ون�شرتها على �صفحات اجلرائد واملجالت، رجاءان تقتدي بها فا�ضالت الن�ساء». وت�ضيف لبيبة قائلة: «منذ متكنت من حتريك القلم و�أنا �أفكر يف �إن�شاء جملة ن�سائية �أقدم فيها �سيدات وطني وبناته، و�أن�شر على �صفحاتها ما يلذ رجال ال�شرق مطالعته من �أيدي ن�سائه». وال �شك يف �أن لبيبة ها�شم قامت بحركة ن�سائية ناه�ضة .وكانت يف الواقع منوذجاً رائعاً مل�صابرة املر�أة على العمل ،فقد كانت مرتجمة املجلة وحمررتها ومديرتها وموزعتها وخمرجتها ومندوبة االعالن، وهيئة التحرير والتوزيع وادارة االعالنات ملدة � 34سنة متوا�صلة دون كلل او ملل .وكانت كتابتها عن «�أحوالنا االجتماعية» و «ا�سم امل�ستقبل» و«احلكومة امل�صرية وتعليم البنات». ويف مقالها االول ب ّينت احوال م�صر االجتماعية وان �سبب االنحطاط يعود اىل العادات اخلبيئة واتباع الطرق التي ت�ؤدي اىل ت�أخري �أمور البالد ،واخذت �أو�ضح الو�سيلة املمكنة للق�ضاء على �سد نق�ص الرتبية البيتية والق�ضاء على ف�ساد التعاليم هذه العيوب االجتماعية والتي تتلخ�ص يف ّ املنزلية وان «مدار�سنا االبتدائية ال تزال ل�سوء احلظ و�سيلة لزيادة �صد�أ االذهان �أكرث منا الزالة �أدران اجلهل و«الرتبية البيتية» واالجتماعية جمموع �سخافات وخرافات و�أوهام ،فهي تربي وتعد العقل لقبول �أنواع ال�ضالل». العواطف اىل درجة الت�أثري ال�شديد وفقدان ال�شجاعة والثبات ّ كما طالبت العناية باللغة العربية لغة وادباً ،وتنمية ال�شخ�صية العربية مبداومة االطالع والبحث عن املعارف والعلوم والتم�سك باالخالق .وخ�ص�صت �أبواباً «لتدبري االطفال» وفيه عاجلت موا�ضيع تربية الطفل �صحياً وخلقياً وكانت اىل ذلك كله تلخ�ص بع�ض كتب االطباء .كذلك طرقت باب «�آداب وعادات» كانت تلخ�ص فيه بع�ض العادات الذميمة .وباب �آخر �أ�سمته« :من معلم لتلميذه» .وباب �آخر «من �أم البنها» عندما يكون احلوار موجهاً من �أم لولدها ،كما خ�ص�صت يف منهن. جملتها باباً عن حما�ضرات م�سائية تلقى على ن�ساء م�صر النابهات او من يقر�أن ويكتنب ّ ودعت لأجل هذا باحثة البادية لتلقي هذه املحا�ضرات ثم تبعتها لبيبة ها�شم .وكان ذلك يف �سنة .1911وكان مو�ضوع اول حما�ضرة هو «الرتبية».
151
ولقد اهتمت هذه املجلة دون غريها من ال�صحف واملجالت مبو�ضوع الرتبية وكان �شعارها هو: «العمل على �إيجاد املر�أة الفا�ضلة قبل �إيجاد املر�أة املتعلمة .لذلك اهتمت بهذا الباب اهتماما خا�صا وكان العنوان« :ن�ساء �شهريات». ون�شرت �أي�ضا بابا �آخر حتت عنوان« :جوامع الكلم» كانت ت�أتي فيه ب�أمثلة حكيمة من الكلمات امل�أثورة. وعاجلت يف الع�شرينيات« :خروج املر�أة من منزلها دون حاجة اىل ذلك .وقالت �إن خروج الن�ساء داع لذلك ،يحط من قدرهن ويقلل احرتام اوالدهن لهن ،كما هاجمت املتربجات يف دون ٍ الطرقات وقالت: «ان الالتي يتربجن ل�سن من املعلمات بل من اجلاهالت املت�شبهات باالوروبيات ل�شعورهن بالنق�ص». وجملة «فتاة ال�شرق» �أول جملة متنح هدايا جمانية للقارئ ،وذلك عندما وزعت مع العدد االول من �سنتها احلادية ع�شرة يف اكتوبر /ت�شرين االول �سنة 1917ر�سما ملفر�ش ي�شغل باالبرة ،ثم توالت هذه الر�سوم يف ال�سنوات التالية . ومهما يكن من �أمر فقد �أدت جملة «فتاة ال�شرق» دورها بكل �أمانة و�صدق ،وعملت �صاحبتها على ان جتاري الرجل يف �صناعة القلم ،فهي تقول يف ذلك ال�صدد: «ان املجالت التي تتناول �ش�ؤون املر�أة ميلكها رجال واملجالت التي حتررها ن�ساء قليلة جداً ال تكفي لتحقيق الآمال خا�صة ،وان الرجل يكتب عن املر�أة كما يعلم ويفكر� ،أما املر�أة فتكتب عن نف�سها كما تعتقد وت�شعر ،وميكنها ان تتخذ من �شعورها دلي ًال على كل م�ستح�سن يف الرجل فتدفعه اليه، او ممقوت فتقبحه يف عينه ،ف�ضال عن انها �أدرى بحال ال�سيدات وموا�ضع ال�ضعف منهن وكيفية اكت�ساب �أجيالهن والذهاب بها اىل ما فيه خري البالد وفائدة نفو�سهن». وتقول لبيبة يف نهاية مقالها «انني واثقة من النجاح مبا توخيت يف حترير هذه املجلة من االعتماد على النف�س وانتهاج �سبل الفائدة واال�صالح». �صحيفة «الريحانة»
ون�أتي اىل �صحيفة «الريحانة» ل�صاحبتها ورئي�سة حتريرها جميلة حافظ ،وقد �صدرت من �سنة 1907اىل �سنة � ،1908أ�صدرتها من بلدتها «حلوان» وكانت �صحيفة متوا�ضعة ،مل تع�ش طويال �سوى �سنتني فقط .كانت �صاحبتها امر�أة �شجاعة .وكانت �سيا�سة ال�صحيفة قائمة على ان م�صر 152
حتوالت �أدبية
للم�صريني« :ك�شعار غرينا من الوطنيني املخل�صني ال�صادقني» .وقد �أبرزت هذا ال�شعار يف العدد االول �آذار/مار�س �سنة .1908 وقد طالبت جميلة حافظ ال�شعب التم�سك« :با�ستقالل البالد واال يتوانوا عن املطالبة به بال�صراحة واملجاهرة وان يعملوا بقول املتنبي: واذا مل يكن من املوت ّبد فمن العجز ان متوت جباناً وكانت �سيا�ستها نحو املر�أة: «ان �أهم مبادئ الريحانة العمرانية هو االنت�صار للمر�أة واملطالبة بحقوقها التي خولتها لها ال�شريعة اال�سالمية وتع�ضيد كل قائم بخدمة االطفال وااليتام والفقراء وباجلملة االنت�صار لكل �ضعيف». وظهور �صحيفة «الريحانة» مدلول على تقدم احلركة الن�سائية .وقد دل هذا ال�شيء على وعي �صاحبتها بعقل منطقي �سليم .لقد خرجت جميلة بني زميالتها ووقفت على منرب ن�سائي رفيع يف �أ�شد احلاجة ملن ير�شده يف هذه الظروف ال�صعبة وي�ضيء له امل�ستقبل ال�سيا�سي فهذا هو ال�شيء الذي ي�ستحق االحرتام والتقدير واال�شادة لأنه نوع من البطولة الن�سائية النادرة. جملة «ترقية املر�أة»
ان�ش�أت هذه املجلة �صاحبتها فاطمة نعمت را�شد ،وقد ظهرت يف �سنة ،1908وهي زوجة املفكر حممد فريد وجدي «�صاحب جريدة الد�ستور».عاجلت املجلة مو�ضوعات خمتلفة منها تقوية ال�شَّ عر وازالة النم�ش من ب�شرة الوجه وازالة ال�شعر الزائد ،وكانت فاطمة املتحدثة الر�سمية با�سم املر�أة يف املنتديات الدولية. قالت ال�سيدة فاطمة ،يف اول عدد ت�صدره من املجلة ال�شهرية: «جملتنا نا�شرة لآرائنا ،ومعربة عن �شعور طموحاتنا ،ت�سمع �آراء جميع النا�س و�صوتها حتى يعرتفوا بوجودنا ،واننا ن�صف الهيئة االجتماعية لنا ما للن�صف الآخر وعلينا ما عليه على ما حددته �شريعتنا او �سمحت به مدنياتنا». «انها ا�ستعدت لتكوين حركة ن�سائية حتى يتما�سك ن�صف املجتمع .ال �أن يقف الرجال وحدهم فال تتقدم الأمة .ان فكرتنا وجدت �صدى بني �سيدات الطبقة الراقية ،وبذلك �شرعت يف تنفيذها خا�صة ،وان علمت نف�سي ا�ستعداداً لهذا الأمر». لقد عربت الكثريات من الن�ساء عن« :مدى ت�أثري املر�أة يف النظام االجتماعي» من بور �سعيد و�أ�سوان والقاهرة. 153
وطالبت بـ «ترقية املر�أة» و «حقوق املر�أة» و«تعليم املر�أة» وم�ساواتها بالرجل ،وكان �صوتها داوياً مدوياً يف الآفاق وله االثر الفعال يف تطور احلركة الن�سائية يف فرتة مل يتناولها �أحد يف التاريخ. جملة «اجلن�س اللطيف»
�صاحبة هذه املجلة ورئي�سة حتريرها ملكة �سعد ،وقد ا�ستمرت املجلة من �سنة 1908اىل �سنة .1921 عا�صرت املجلة احداثاً ن�سائية مهمة مثل ثورة الن�ساء يف �سنة ،1919وعاجلت اهتمام الن�ساء بالزينة واهمالهن تنمية قدراتهن العقلية . قلت ملكة يف العدد االول من املجلة يف �سنتها االوىل: «ان هدف املجلة من ال�صدور هو ان ت�أخذ املر�أة مكانها ك�إن�سانة تعرف ان احلرية لي�ست التربج والتزين باملالب�س الفاخرة وال�سري وراء هوى النف�س ،لكن احلرية هي ان نعرف ما لنا وما علينا من احلقوق فال نهان وال نباع بثمن .وال نكون �ألعوبة يف �أيدي اجلن�س الن�شيط الذي يت�صور �أننا مل نخلق لنكون له عوناً ،وامنا خلقنا لنكون يف وهاد الذل راتعات ،ن�ضرب كالأنعام ونحرم من اال�شرتاك معه يف االعمال النافعة العمومية». ثم و�ضعت مبادئ �ستة لتكون عليها �سيا�سة املجلة يف امل�ستقبل ،ويف العدد االول ،ال�سنة الأوىل، يف 5متوز �سنة � ،1908أو�ضحت هدف املجلة وبرناجمها واخلطط التي تراها منا�سبة ،وهي التالية: ترقية �شعور املر�أة ال�شرقية واعدادها بالو�سائط الأدبية املفيدة لكي تكون يف يوم ما يف م�ستوىواحد مع املر�أة الغربية. �إر�شادها اىل حالة الو�سط الذي تعي�ش فيه ،وبيان مركزها بالن�سبة اىل الرجل. �إفهامها واجبها نحو وطنها و�أمتها وعائلتها و�أوالدها وزوجها. م�ساعدتها على التخل�ص من ربقة الأعراف والتقاليد امل�ستهجنة. تروي�ض عقلها والرتويح عنها مبا نورد من حني اىل �آخر يف هذه املجلة من النكات الأدبيةالفكاهية املقبولة. تفهيمها واجباتها نحو الهيئة االجتماعية ب�صفتها ع�ضواً نافعاً يف ج�سم العمران.وقد حاولت هذه املجلة ان تعمل على اعداد املر�أة عقلياً وفكرياً ،فن�شرت لها مو�ضوعات تبني لها كيفية تربية االوالد ،وكيف تعامل زوجها كزميل و�شريك ،كما ن�شرت مقا ًال مل�صطفى املنفلوطي 154
حتوالت �أدبية
نق ًال عن جريدة «امل�ؤيد» وعنوانه« :البائ�سات من الن�ساء» .واهتمت املجلة بن�شر كتاب« :البارونة �ستاف» الذي كان مغزاه: املر�أة يف �أدوارها ،حياة املر�أة االوىل كفتاة منذ والدتها حتى تتزوج ،وحياة الزوجية ،وكيفية ولوج املر�أة هذه احلياة اجلديدة وعوامل جناحها فيها وعالج الف�شل اذا وجد ،ثم حياتها ك�أم وما يجب عليها ان ت�سلكه منذ والدة الأطفال حتى ي�صبحوا بالغني يف ال�سن. ون�شرت �أي�ضاً ت�صريح ح�سني كامل با�شا ملجلة «الطان» الفرن�سية ( )Le Tempsعن ر�أيه يف املر�أة امل�صرية ،وتعليم املر�أة ،وحتريرها واخلال�ص من اجلهل برتبية الن�ساء. ثم جاءت ثورة �سنة 1919وا�شرتكت املر�أة امل�صرية فيها بجميع طبقاتها وكان هذا �سبباً يف ظهور قيادات ن�سائية �ساهمت بالو�سائل االعالمية ن�شر الوعي الوطني و�ضرورة جالء االنكليز عن ار�ض م�صر. جملة «املر�أة امل�رصية»
ا�ستمرت هذه املجلة من �سنة 1920اىل �سنة 1939با�سم با�سم عبد امللك التي و�ضعت ر�سماً للأمرية الفرعونية «نفرتيتي» ليكون �شعار املجلة ويعرب عن املر�أة امل�صرية الكادحة بعد �أن نه�ضت من �سباتها العميق« :لت�أخذ بيد القابعات يف ظالم اجلهل .و�أن هذا الر�سم �سوف يكون على �صدر كل فتاة لال�ستدالل على ان املجلة م�صرية بحتة ،وانها �ستقوم بخدمة املر�أة التي نه�ضت يف املدة الأخرية يف �سبيل ترقية الأمة .هذه املجلة عربت تعبرياً �صادقاً عن املر�أة امل�صرية وافكارها واحا�سي�سها وانت�سابها العلمي. كما خا�ضت املجلة حملة �صحافية �ضد الدكتور طه ح�سني الذي طالب املدر�سات االجنبيات با�ستمرار العمل يف املدار�س امل�صرية ،و�إلغاء قرار وزير املعارف �أحمد زكي �أبو ال�سعود الذي ن�ص على �إحالل امل�صريات حمل الأجنبيات يف �إدراة املدار�س والتدري�س بها. قالت املجلة �إن طه ح�سني يتجنى على امل�صرية بادعائه انها �أقل كفاءة وعلما و�أقل �إدراة واخالقاً من االجنبية .»... وان «طه ح�سني يقول ذلك لهوى يف نف�سه لأنه مل ير امل�صريات �إال عن طريق زوجته االجنبية. ومهما يكن من �أمر ف�إن �إ�صدارها هذه املجلة وا�ستمرارها يف التحرير وادارتها بنجاح ،لهو خري دليل على جعل هذه املجلة تت�صدر ال�صحافة الن�سائية طوال �سنوات عدة ،هو دليل �ساطع على تقدم احلركة الن�سائية يف م�صر واتخاذها مظهراً جديداً هو خروج املر�أة امل�صرية اىل ميدان الإعالم 155
وحملها القلم تعبريا عن �آرائها نحو ق�ضايا الوطن ال�سيا�سية واالجتماعية والثقافية ،وتناق�ش الرجل على ا�سا�س منطقي وت�شاركه ن�شاطه الفكري واالدبي. �صحيفة «الأمل»
كان ملجلة الأمل ل�صاحبتها منرية ثابت وهي من املجالت الن�سائية ،ت�أثري وا�ضحفي تقدم احلركة الن�سائية اذ و�ضعت برناجما وا�ضحا ذا �أهداف �سيا�سية واجتماعية واقت�صادية .وهي اول جملة ن�سائية حزبية تنحاز اىل مبادئ «حزب الوفد». قالت �صاحبتها ب�أنها�« :صحيفة الدفاع عن حقوق املر�أة امل�صرية ،و�أ�ضافت ب�أنها ان�ش�أت «�صحيفة الدفاع عن حقوق املر�أة امل�صرية» .و�أن هذه ال�صحيفة يف حاجة �إىل م�ؤازرة ن�ساء م�صر وت�ضامنهن معها «حتى تكون املر�أة امل�صرية قدوة لن�ساء ال�شرق». �أما برنامج عمل هذه املجلة فقد حددته حتت باب «ن�سائيات» وق�سمته �إىل الأهداف التالية: ال�سعي �إىل ترقية التعليم االبتدائي للبنات وتو�سيع تعليمهن الثانوي ،وا�شرتاكهن يف التعليمالعايل. ال�سعي �إىل حترير املر�أة امل�صرية من قيود العادات والتقاليد. ال�سعي �إىل ن�شر ال�سفور املحت�شم وتع�ضيده. ال�سعي �إىل تقرير متتع املر�أة با�ستقاللها ال�شخ�صي وحريتها كالرجل ،على اال يتعدى ا�ستقاللكل منهم دائرة الأدب والف�ضيلة ونعني تقرير مبد�أ « الوحدة احلقيقية بني اجلن�سني يف دائرة الف�ضيلة». ال�سعي �إىل احل�صول على حق الت�صويت للمر�أة ،ثم حق متتعها بالع�ضوية يف املجال�س النيابيةعلى اختالفها. ال�سعي �إىل ا�ست�صدار قانون بتعديل �شروط الزواج والطالق حلفظ حقوق املر�أة فيها ثم قانون�آخر ملنع تعدد الزوجات. وكان من الطبيعي ان يهاجم بع�ض ال�سيا�سيني ورجال م�صر منرية ثابت لآرائها التقدمية ويرمونها باخلروج على «الأخالق والدين باعتبارها فتاة مدللة مل تعرف الرتبية احلقيقية».
156
حتوالت �أدبية
جملة «�أمهات امل�ستقبل»
�صاحبة هذه املجلة هي تفيدة عالم .عا�شت هذه املجلة فرتة ق�صرية امتدت من �سنة � 1930إىل �سنة 1932فقط. قالت تفيدة يف معر�ض حديثها عن املجلة ب�أنها «ل�سان حال ال�شابات امل�صرية» .ومن خالل رئا�ستها جلمعية�« :أمهات امل�ستقبل» .مما جعلها تعطي �أحقية �إدارة «جملة �أمهات امل�ستقبل» خا�صة ان اجلمعية ت�ضم بع�ض �سيدات اجلمعية وان ت�ستحوذ على ثقة بع�ض امل�س�ؤوالت يف اجلمعية وتعهد اليهن الإ�شراف على حترير املجلة. جاء يف العدد الأول من املجلة كانون الثاين /يناير �سنة ،1930من مقال م�ستفي�ض لتفيدة ع ّالم. قالت: حد ذاته من �أبرز مظاهر التطور الذي اعرتى «مهما يكن من �أمر ف�إن ظهور ال�صحافة الن�سائية يف ّ الفكر الن�سائي يف م�صر وخرج به عن �سابق عهد حيث كان من�صباً على التفكري يف امور انثوية فقط اىل التفكري يف امور عامة مت�س الق�ضايا الوطنية بابعادها املختلفة .كما ان تناول هذه ال�صحافة للق�ضايا الن�سائية املعا�صرة لكل منها و�إف�ساح �صفحاتها للم�ؤيدين لإجناح هذه الق�ضايا� ،أو حتدث بها الواقفني يف للمعار�ضني لها �أ�ضاء الطريق �أمام املر�أة وبينّ لها �سبل النجاح و�أمدها بقوة ّ �سبيلها وق�ضت على كثري من العقبات». وهناك �صحف وجمالت �أخرى غري هذه التي ذكرناها فهناك« :امل�صرية» لهدى �شعراوي ،و«الفتاة» لنبوية مو�سى ،و «فتاة الغد» و «بنت النيل» كما ان هناك امتيازات �صحافية اخرى .وقد جنحت ال�صحافة الن�سائية امل�صرية �إىل حد بعيد يف التعبري عن احلركة الن�سائية. جملة «املر�أة اجلديدة»
ون�أتي الآن للحديث عن جملة ن�سائية لبنانية رائدة حتت ا�سم« :املر�أة اجلديدة» جلوليا طعمه دم�شقية ،جملة �أن�ش�أت يف �شهر ني�سان �سنة ،1921وامتدت يف ال�صدور حتى نهاية العام 1926 وهي جملة ن�سائية كانت ل�سان حال« :جامعة ال�سيدات» يف بريوت .وكان �شعار هذه املجلة: «جملة ن�سائية �شهرية ت�أ�س�ست يف �سنة 1921غايتها بث روح الرتبية اال�ستقاللية وحت�سني احلياة العائلية وترقية املر�أة ال�سورية �أدبياً وعلمياً واجتماعياً». تزوجت جوليا يف عام 1913من الوجيه بدر دم�شقية من بريوت حيث انطلقت اىل املنابر اخلطابية، منتدى �أدبياً لأهل العلم والقلم والأدب والثقافة و�سكنت منطقة ر�أ�س بريوت حيث �أ�صبح منزلها ً 157
وال�صحافة .وكان من رواد منزلها كل من: �أحمد �شوقي وفار�س منر وف�ؤاد �صروف وخليل مطران وجميل �صدقي الزهاوي ونقوال واليا�س فيا�ض وجربان تويني ومي زيادة وماري يني وابتهاج قدورة و�سلمى �صايغ وعنربة �سالم وف�ؤاد حبي�ش ومي�شال زكور و�أمني تقي الدين. كما كانت على معرفة ببع�ض �أ�ساتذة اجلامعة االمريكية يف بريوت �أمثال :جرب �ضومط وجرج�س اخلوري املقد�سي وبول�س اخلويل و�أني�س اخلوري املقد�سي و�شحادة �شحاده ونقوال ربيز وابراهيم طوقان وغريهم. قامت جوليا ببع�ض الن�شاطات االجتماعية وحت�ضري اللقاءات واالجتماعات وح�ضور امل�ؤمترات بني �سنة 1925و .1935 �سافرت اىل م�صر مع ماري ك�ساب يف �سنة ،1927وجمعت بع�ض االموال دعماً للمدر�سة االهلية يف بريوت وجملة «املر�أة اجلديدة» ومثلت لبنان يف امل�ؤمتر الن�سائي الذي �أقيم يف ا�سطمبول .ويف �سنة 1947منحها رئي�س اجلمهورية اللبنانية ال�شيخ ب�شارة اخلوري و�سام االرز املذهب. �أما الك ّتاب الذين كتبوا يف هذه املجلة فنذكر منهم: �أحمد �شوقي وراجي الراعي و�سليم �سركي�س وميخائيل نعيمة و�أمني تقي الدين واليا�س فيا�ض ووديع عقل و�سعيد تقي الدين وخليل مطران ومي�شال ابو �شهال ونقوال حداد و�سلمى �صائغ وماري يني وجوزف �أبو خاطر وجرجي نقوال باز و�أحمد حمرم وماري عجمي وويل الدين يكن وجرب �ضومط وعي�سى ا�سكندر املعلوف وطانيو�س عبده و�سليمان �أبو عز الدين وحميي الدين الن�صويل وحليم دمو�س و�أمني الغريب ومـــي زيادة وحممد كامل �شعيب العاملي وغريهم كثري. �صدرت املجلة �شهرياً وكانت تطبع يف مطبعة زنكوغراف طبارة ،ومركزها بريوت� ،سوق �أيا�س، واملدير امل�س�ؤول :ف�ؤاد مغبغب ،وقيمة اال�شرتاك ال�سنوي 250غر�شاً �سورياً يف �سورية ولرية انكليزية يف اخلارج. وقد وجهت �إدارة املجلة يف �أعدادها الأوىل الإعالم التايل �إىل جميع قرائها وم�شرتكيها البيان التايل: «املر�أة اجلديدة» جملة العائلة تفيد الأم والزوجة والفتاة والولد ..مبوا�ضيعها التهذيبية ،و�أبحاثها املنزلية ،وحكاياتها االخالقية ،فهي �أف�ضل هدية يقدمها ال�صديق ل�صديقه والقريب لقريبه». ويف عدد كانون الثاين من �سنة ،1927ن�شرت قائمة اليانا�صيب االوىل ملجلة املر�أة اجلديدة� ،أي يف كل عدد من اعداد املجلة توجد ورقة يانا�صيب مرقمة ،ذات فائدة ل�صاحب احلظ ،وادرجت يف العدد اجلوائز املقدمة من املحالت وامل�ؤ�س�سات. 158
حتوالت �أدبية
ويف �سنة � 1926أقعد املر�ض جوليا طعمه دم�شقية فكانت تطلق �صيحات مدوية مع مقالها ال�شهري» «يا ابنة بالدي» تتناول منه موا�ضيع اجتماعية خمتلفة من ت�أمالت وخواطر وذكريات وو�صايا ومعلومات عن املر�أة واملجتمع واالخالق ،متوخية االلتزام بق�ضايا املر�أة واملجتمع عرب �إ�صالحية ومنهجية دعاة التقومي واال�صالح والبناء. �آمنت جوليا طعمه دم�شقية باملبادئ ال�سامية ونعمة احلرية ووحدة ال�شعب ،وان الطائفية جدار يحول دون انطالق هذه الوحدة يف جمال التعاون املثمر بني �أبناء الوطن الواحد .ف�أعطت للوطن كل طاقاتها طاقة الل�سان والقلم واجلنان ،والدعوة املخل�صة اىل املحبة والإخاء وال�سالم والتعاون. يعد مظهر َا من �أبرز مظاهر حد ذاته ّ ومهما يكن من �أمر ف�إن ظهور ال�صحافة الن�سائية العربية يف ّ التطور والرقي الذي �أ�صاب الفكر الن�سائي يف كل من م�صر ولبنان و�سورية وبع�ض البلدان العربية، وكان �أثره فعا ًال يف املجتمعات العربية ،كما ان تناول هذه ال�صحافة للق�ضايا الن�سائية املعا�صرة و�إف�ساح �صفحاتها للم�ؤيدين واملطالبني ب�إعطاء املر�أة حقوقها هو الأمر الذي ميهد �أمام املر�أة بلوغ ما تريد ومتهيد �سبل النجاح لإي�صال كلمتها �إىل الر�أي العام العربي وتذليل العقبات من مثل حق الت�صويت والتمثيل يف املجال�س النيابية والق�ضاء على تعدد الزوجات واحلد من الطالق ،وت�س ّلم املنا�صب الرفيعة يف الدولة ال�صغرى منها والكربى ،وما كان هذا يخطر ببال الرواد الأوائل للحركة الن�سائية يف القرن املا�ضي وما كان ليحدث لوال وجود ال�صحافة الن�سائية التي جنحت يف التعبري عن �آرائها و�أفكارها وتطلعاتها .كما كان هناك ميدان ف�سيح لتدريب بع�ض العنا�صر من احلركة الن�سائية و�صقلها ،وما كان هذا متاحاً للن�ساء يف جماالت غري جمال ال�صحافة الن�سائية ،وكان لعدد من الن�ساء ف�ضل كبري على احل�ضارة �أمثال :لبيبة �أحمد ونبوية مو�سى وعائ�شة عبد الرحمن ومي زيادة والك�سندرة اخلوري افرينو وملكة �سعد ولويزا حبالني وروز انطون حداد وحبوبة حداد وزينب فواز و�أمينة اخلوري املقد�سي وعفيفة �صعب وابتهاج قدورة وزاهية �سلمان وعائ�شة التيمورية ولبيبة ميخائيل �صوايا وعفيفة كرم و�سلمى �صائغ ونظرية زين الدين .وغريهن من العائالت يف ال�ش�ؤون الن�سائية. بذلت املر�أة جهوداً يف �سبييل ت�أكيد مكانتها الطبيعية يف احلياة اىل جانب جهودها يف جماالت العلم والعمل ،بحيث غريت نظرة املجتمع اليها ،و ّحتمل امل�سو�ؤليات امللقاة على عاتقها ،فا�ستطاعت ان حترر نف�سها مادياً ومعنوياً ،وان تكافح من �أجل تطوير املجتمع على �أ�سا�س العدالة واملنطق وتكاف�ؤ الفر�ص بني كال اجلن�سني. وقد ر�أينا اليوم �أن املر�أة قد تقدمت ف�أ�صبحت نائباً ووزيرة وم�س�ؤولة يف الإدارات الر�سمية ويف رئا�سة ال�شركات ويف اقت�صاديات البالد بل على قواعد و�أ�س�س احلياة العربية ب�أبعادها املختلفة.
159
ا�سم الكتاب
تهجري املوارنة اىل اجلزائر عروبة يو�سف بك كرم عوملتان الفو�ضى واملقاومة الفل�سطينيون يف لبنان االن�سان اوال الهوية وال�صراع رحيل يف ج�سد الف�ساد امل�ؤدلج ال�صناعة يف طرابل�س التحية االخرية لبنان يف ذاكرة العراق القدمي علم االجتماع ال�سيا�سي �أحالم املاء ناق�صات عقل و دين التطبيع ي�سري يف دمك اوف الين حي التنك بابل والتوراة ال�سيا�سة تطور املعنى وتنوع املقرتبات حب بطعم القهوة امل�سرح العاري التنمية يف الهالل اخل�صيب ال�سقف 90يوما يف ال�سعودية جهاد النكاح مناي يف مواجهة الطائفية لأين مل �أكن مار مارون واملوارنة �شعر الفداء واالنبعاث
ا�سم الكاتب
�سركي�س �أبو زيد �سركي�س �أبو زيد �سركي�س �أبو زيد �شوكت �أ�شتي وغازي خلف �سركي�س �أبو زيد زهري فيا�ض زاهر العري�ضي د .قي�س جرج�س منري خملوف من�صور عازار الأب �سهيل قا�شا �شوكت �أ�شتي �سوريا بدور الطويلة يحيى جابر د .عادل �سمارة زاهر العري�ضي اكرام الداعوق الأب �سهيل قا�شا �شوكت �أ�شتي جومانة معالوي عبيدة االبراهيم زهري فيا�ض ريا�ض بيد�س �أ�سماء وهبة د.عادل �سمارة فايز غازي �سركي�س �أبو زيد ن�سرين كمال �سركي�س �أبو زيد زيتوين ل�ؤي ف�ؤاد ّ
كتب حتت الطبع منرب حتوالت -من�صور عازار الفي�سبوك وت�شكيل العالقات االجتماعية -وفاء كاظم حطيط
الت�صنيف
تاريخ بيبلوغرافيا فكر �سيا�سي فكر �سيا�سي فكر �سيا�سي فكر �سيا�سي �أدب فكر �سيا�سي اقت�صاد مذكرات تاريخ علم اجتماع �أدب فكر �سيا�سي فكر �سيا�سي �شعر �أدب دين فكر �سيا�سي �أدب �شعر اقت�صاد �أدب مذكرات فكر �سيا�سي �شعر فكر �شعر تاريخ �أدب
حتوالت �أدبية
منري خوري مرياث ال ينفد �سليمان بختي -نا�شر وباحث
«منري خوري ،املنا�ضل يف �صفوف النه�ضة ،والأكادميي وخبري التنمية الريفية غادر دنيانا لكنه ترك لأبناء احلياة مرياثاً من ال�صدق والعطاء والقدوة الإيحائية الينفد. منري خوري من اجلامعة �إىل احلزب �إىل ال�سجن �إىل الأمم املتحدة مفعماً بالأ�صالة والإميان والر�ؤية». لبث منري خوري ( 2014-1920حائز و�سام املعارف )1988يبحث عن القدوة الإيحائية يف املجتمع حتى وجدها يف نف�سه ور�أيناها فيه .ورجال التاريخ هم الذين �أوحوا وا�ستوحوا وكانوا القدوة .لو قدر يل �أن �أخت�صر هذه احلياة بكلمتني لقلت :العطاء واحلب. ولد منري خوري يف طرابل�س ودر�س يف مدر�سة طرابل�س لل�صبيان ثم �أكمل درا�سته يف امريكا حيث نال �شهادة الدكتوراه من جامعة كورنيل نيويورك� .أعطى منري خوري يف املجال الرتبوي اجلامعي فد ّر�س يف اجلامعة االمريكية 1960-1956ويف اجلامعة اللبنانية ويف اجلامعة اللبنانية االمريكية وتخرج على وتر�أ�س ق�سم العلوم الأجتماعية فيها عام 1970وا�ستمر حتى تقاعد يف العام ّ 1995 يديه ع�شرات التالميذ والباحثني. �أعطى يف جمال التنمية الريفية ويف رابطة انعا�ش القرى يف عكار والبقاع واجلنوب وكان �أحد رواد التنمية الريفية .ولكن التجربة توقفت للأ�سف بعدما �أحرِق بيته و ُن�سف يف �أحداث 1958ولكن �شغفه بالتنمية الريفية ا�ستمر من خالل امل�ؤمترات والدرا�سات حتى عينته الأمم املتحدة خبرياً �إقليمياً لها يف حقل التنمية االجتماعية والريفية .1962-1961 �أعطى يف املجال احلزبي منا�ض ًال يف �صفوف النه�ضة وكان ع�ضواً يف املجل�س الأعلى للحزب ال�سوري القومي االجتماعي الذي وافق على املحاولة االنقالبية ليل ( 1962-1961عهد ف�ؤاد �شهاب) وحكم عليه بال�سجن لثماين �سنوات .ثم تبو�أ رئا�سة احلزب مع ع�صام حمايري يف الثمانينيات. ُ له درا�سات وم�ؤلفات نذكر منها« :الواقع وامل�صري (« ،»)1982ما هي علة لبنان» باالنكليزية والعربية (�« ،»)1990سفينة حياتي (« ،»)2000حدود املجتمع (( Fate of Lebanon « ،»)2005باالنكليزية ،»)2008 «يف التنمية الريفية (نظرة يف املفاهيم واال�شكاالت (� ،»)2009إ�ضافة اىل العديد من املقاالت واملحا�ضرات. 161
وقد حملت كتبه ودرا�ساته دائماً اال�ضافة املعرفية والتجديدية النابعة من املعاناة الذاتية واملو�ضوعية. ويف ظني �أنه ما كان له ليحقق كل ذلك لوال احلب .حب الآخر ،حب املجتمع� ،شغف النه�ضة، حب قيم احلق واخلري واجلمال� .أعطى بحب فوق ما �أخذ بكثري ومل يعرف الأخذ .ومل يطلب �أمراً لنف�سه من �أمور الدنيا وظل نقياً �شفافاً و�صاحب �سرية عطرة من الوالدة حتى الوداع. عا�ش منري خوري حياة حقيقية مثقلة باخلري مليئة بالأمل والكفاح واملرارة والأمل� .أرادها متم�سكاً بنا�صية العقل ،بااللتزام بق�ضايا املجتمع ،بالعمل لتحقيق الإجنازات .وما �أراد ان يقوله فعله. ح ّول �سجن القبة يف طرابل�س �إىل خلية منتجة فكراً وثقافة و�صناعة وفناً وغال ًال .و�صار امل�ساجني ي�ساعدون �أهاليهم مادياً .وكانت جتربة رائدة يف ال�سجون اللبنانية ف�أ�ستدعاه العقيد غابي حلود و�س�أله كيف ا�ستطعتم ان ت�صلوا اىل هذا امل�ستوى من التنظيم والإنتاجية؟ ف�أجابه« :الف�ضل يعود اىل الروح النظامية والعتناقهم العقيدة القومية االجتماعية» .وتوقف احلوار .كانت لديه القدرة على اخلروج من نف�سه باحلب للقاء الإن�سان الآخر والأحالم امل�شرتكة ،وكل ما يعود باخلري على الإن�سان واملجتمع. كان مع املعرفة العلمية ولكن مع التطبيقات االخالقية ال�سليمة لها .كان مع احلقيقة ولكن ان تُعلن وتُقال و ُيعمل مبقت�ضاها .كان مع االخت�صا�ص ولكن مع االخال�ص يف ممار�سته .كان مع التغيري ولكن مع التقدم لأنه �أمر �أخالقي .كان مع الرتبية كقيمة تربوية ال ك�سلعة جتارية تو�صلنا بالنهاية اىل االنف�صام احل�ضاري. كان مع التنمية ولكن القائمة على الإن�سان وعلى التوازن ال�شامل واملنطلقة من اجلذور يف القرى. ويف جممل �صفاته كان بنا ًء وان�صرف للتعبري با�سم اجلميع با�سم ال�صواب واحلق والر�أي. وظل ي�شري �إىل اجلرح و ُي�شهر الوعي ويدل الآخرين اىل الطريق ،اىل الينبوع لي�شرب احلائر والظم�آن .وعينه كانت على الغد وذرى الفكر ،على اال�صالح والتنوير والتقدم. ظل منري خوري يقود �سفينته اىل اللحظة التي بانت فيها احلياة بدون جدوى .دخل بيت ال�صمت وو�ضع �أمام املوت ك�أ�س حياته املرتعة وكل ح�صاد الكروم و�سنابل القمح وليايل التعب والكد والعذاب. يف �آخر الأيام لبث طيباً نقياً و�أمام الطيبة ال ميلك املرء �سوى اال�ست�سالم� .سنظل نذكر ال�صفات واملزايا والر�ؤى التي جعلت حياته تنه�ض دائماً لأجل هدف وغاية و�أمل. لعل الأمثولة التي تركها لنا منري خوري �أن احلياة ت�صنعها الق�ضية ،و�أننا ال ن�ستحق احلياة �إذا مل ن�صنعها كما نريد من اولها حتى �آخرها .و�أن ال�صدق والتفاين والإخال�ص يخلق الفر�ص .وان لي�س التاريخ كل ما متلكه الب�شرية فهناك مرياث الكلمة ومرياث القيم ،و�أحالم الب�شر وحمبتهم. �سنظل نرنو للعطاء ينه�ض بنا وننه�ض به ،نغتبط للحب ،ن�أ�سى للمر�ض الذي ظلمك وظلمنا يف ال�سنوات الأخرية .ولكن الأيقونة �ستظل تتوهج وتبزغ كالأمل ،كالأ�صالة ،كحلم النه�ضة، كالبريق امل�ستحيل. 162
احلرب العاملية ا لأوىل
يف وداع املا�ضي وامل�ستقبل
احلرب العاملية الأوىل خداع ثقايف ب�شهادة احلا�رض
جنيب ن�صري -باحث
ميكن النظر �إىل احلروب من مئات الزوايا ح�سب املكان والزمان ،كما ميكن النظر �إليها من �شتى املنابت واملعايري الثقافية املعلوماتية واملعرفية ،فاحلرب حتى ولو مل تكن فع ًال ا�ستثنائيا يف احلياة الب�شرية� ،إال �أنها فعل �أق�صى ميلأ الفراغ بني النظري والعملي يف �سباق امل�صالح ،ولعل احلرب العاملية الأوىل كفعل «غربي» بامتياز كانت تعبرياً عن ذاك االحتقان الثقايف الذي انتجه فائ�ض امل�شخ�صة ،ما عرب عن ان�سداد ت�سويقي لثقافة القوة املعرفية يف جتلياتها التكنولوجية املجردة قبل ّ ع�صر النه�ضة وجتلياتها ونتائجها كمنتجات فائ�ضة ،لتو�صف هذه احلرب باحلرب من �أجل التجارة، من هذه الزاوية ميكننا النظر اىل هذه احلرب كنتائج و م�آالت ثقافية �أودت بامل�شرق اىل ما فيه الآن. فهذه احلرب د�شنت التغريات الثقافية اعتباراً من بدايتها ،بناء على احتياجات �أطرافها املحلية ال�صرفة يف �سباق حمموم نحو الأ�سواق؟ �إنها الأ�سواق التي حتتاج �إىل ثقافة من نوع معني ودرجة معينة كي ت�ستوعب ال�سلعة الغربية� ،أو بالأحرى �سلعة ع�صر الأنوار العاملية ،فهذه ال�سلع حتتاج م�شخ�صة ،دون املخاطرة بفقدان �إىل حد �أدنى من ثقافة ت�ؤ ّهلها لال�ستهالك بو�صفها تكنولوجيات ّ امل�ستهلك يف حال حاز على املعرفة الأنوارية ،فكلما ازدادت هذه املعرفة ارتقت وت�ضاعفت �أنواع ونوعيات الإ�ستهالك ،ومن هذه الزاوية ميكننا النظر(وتذكر) هذه احلرب ،فبينما كانت املدافع تق�صف كان امل�ست�شرقون ي�ستكملون درا�ساتهم الأنرتوبولوجية ،والإجتماعية يف العديد من مناطق العامل ،م�ستخدمني مناهجهم العلمية كتكنولوجيا ،تاركني عملية �إح�صاء وتقدير كمية ونوعية الأفواه التي �ستتناول منتجاتهم لدولهم التي ت�أ�س�ست على تكنولوجيات ع�صر الأنوار، مقرتحني �أجنع ال�سبل للو�صول �إىل تلك الأفواه وربطها مع فائ�ض القوة املعرفية املتمثلة بالإنتاج، حتى ال ي�صنع تكد�س فائ�ض القوة املعرفية هذا فراغاً يجب ميلأه العنف الإجتماعي على �أقل تقدير� ،أو الدويل على املدى الأبعد. 163
يهمنا من ّ تذكر هذه احلرب ،يف ذكراها املئوية الأوىل ،هو م�آل منطقتنا التي مل ت�شارك يف هذه ما ّ احلرب كطرف ذي م�صلحة على الرغم من ت�أثّر م�صاحلها ب�شدة ،ال بل تقرر م�صريها (ورمبا �إىل الأبد) كمفعول به ،بناء على احليز الإنتاجي الذي �سوف ت�شغله م�ستقب ًال� ،أو ب�صياغة �أخرى، تقدير معريف لفائ�ض القوة التي ميكن �أن تتوفر الحقاً ،يف حتول بنيوي ملفهوم الإ�ستعمار وال�سيطرة، الذي يت�ضمن وي�ضمن م�ستقبله �أي�ضاً ،الذي �سوف يتح ّول رويداً �إىل مفهوم «الرميوت كونرتولية» �أو ّ التحكم عن بعد ،الناجت عن الإقبال على �إ�ستهالك امل�شخ�ص من التكنولوجيات والإعتياد عليها ،والإعرا�ض عن املجرد منها ككتلة معرفية �صعبة اله�ضم ،يف �إ�شارة �أنرتوبولوجية اىل اجلينات الثقافية التي ميكن احلفاظ ذاتياً عليها دون تكاليف تذكر ،كب�ؤرة تلقي لأوامر التحكم عن بعد ،يف ا�ستخدام ما بعد كولونيايل لهذه اجلينات الثقافية املر�صودة واملدرو�سة وفق املناهج الأنوارية ،التي هي وباملنا�سبة ،مل تكن ممنوعة على �أحد من القادرين على حتمل اجلرعات العلمية ال�صادمة للجني الثقايف ،الذي تعر�ض الغرب نف�سه لها ،وا�ستطاع بجهد كبري تقبلها وتفعيلها خالل ال�سنوات التي تلت الثورة الفرن�سية. مل تكن هذه اجلرعات العلمية ،كتكنولوجيات جمردة ،بعيدة عن متناول املنطقة وال هي باملمنوعة عليها ،فع�صر النه�ضة ونخبته ،ابتداء من 1850كان قد تلقى هذه اجلرعات ،و�أعاد �إنتاجها نظرياً على الأقل ،يف خ�ضم ال�صراع الغربي على الأ�سواق الذي �أدى حتديث هذه الأ�سواق (قناة ال�سوي�س، واخلط احلديدي برلني /دلهي ،مثا ًال) ولرمبا كان لفرن�سي�س مرا�ش احللبي ق�صب ال�سبق يف روايته (غابة احلق) حول الثقافة الت�أ�سي�سية ملجتمع احلداثة املطلوب ،عرب مقاربة مو�ضوع ترافق ا�ستخدام التكنولوجيات امل�شخ�صة واملج ّردة معاً وبال�ضرورة وبكل �إخال�ص ،حيث بدت تلك اجلرعات الثقافية والعمل عليها والأخذ بها ،كفر�صة من ال�صعب تكرارها ،ب�سبب طبيعتها الت�أ�سي�سية من جهة ،وب�سبب و�ضوح م�آالت الرتاكم املعريف العاملي التي �سوف يحوز عليها ويعيد �إنتاجها وا�ستخدامها ،من هو قادر على ممار�ستها والتفاعل معها وتفعيلها ل�صاحله ،كقوة ذكية بغ�ض النظر عن عنفها الفيزيائي �إذا وجد .ومع ح�ضور احلرب العاملية الأوىل بق�سرها الفيزيائي ،كانت البنية املعرفية ل�شرقنا العتيد قد هزمت وحت ّولت طوراً خائبا من �أطوار ثقافة ،مل حتتمل جيناتها اجلرعات املعرفية ،فف�شلت (وحتى الآن) يف ا�ستقبال �سايك�س /بيكو ،والحقاً وعد بلفور ومن قبلهما م�ؤمتر بال ال�صهيوين الأول 1897كتكنولوجيات جمردة قادرة على حتقيق �أهدافها على الأر�ض ،حيث �صدقت تقارير امل�ست�شرقني ودرا�ستهم عمليا وعلى �أر�ض الواقع ،ومل ي�ستطع امل�شرقيون حتى يومنا هذا (ح�سب توقعات ه�ؤالء امل�ست�شرقون) من ا�ستيعاب التكنولوجيات املج ّردة (من �أهمها املجتمع والدولة) ح ّتى يومنا هذا. عملياً تبدو «الثورة» العربية الكربى ،هي اجلزء امل�شرقي من الفعاليات احلربية للحرب العاملية الأوىل ،على اجلبهة الرتكية الإنكليزية حتديداً ،فهي من ناحية ت�أثريها التغيريي �أكرث و�ضوحاً من ت�أثري حرب الرتعة (قناة ال�سوي�س) و�سفر برلك معاً على املنطقة ،هذه «الثورة» التي قادتها 164
احلرب العاملية الأوىل
بريطانيا من موقعها امل�صري ،عرب مكماهون كتقني �سيا�سي خا�ضع ملكت�شفات امل�ست�شرقني الأنرتوبولوجيني العلمية ،ولوران�س العرب الذي قاد املعارك كتقني معريف عرف كيف يحرك الأمور بناء علمه بالطبائع الثقافية لأهل املنطقة من بالد ال�شام حتى جند واحلجاز و�صحرائهما املحيطة ،يف ا�ستخدام عملي للتكنولوجيا املجردة ،التي ترافقت مع العمليات احلربية كتكنولوجيا م�شخ�صة ،حيث ّ غطى الإنكليز النق�ص امل�شرقي يف هذه التكنولوجيا املجردة ،من حيث ت�أمني الأر�ضية الثقافية (العرب �أمة واحدة) ومن ثم ا�ستغاللها ،ليتم ت�صنيع �أر�ضية ثقافية �إيديولوجية مواربة وموظفة للح�صول على �أرا�ضي �سايك�س بيكو وتقا�سمها ،فتم ت�صنيع العروبة مبعناها البداهي ،غري الإرادي ،على �أ�سا�س اننا �أمام �أ ّمة مكتملة ،من دون املرور يف حمطة املجتمع ،مبعنى �أن الأ ّمة الواحدة هي جمتمع واحد وهو �أمر ال يخفى على انرتوبولوجي �أو حقوقي! ،وا�ستعملت العروبة كو�صفة ثقافية مرجتلة تقوم مرحلياً (ريثما يتم الإقت�سام) بدورها كتكنولوجيا مب�سطة قابلة للإ�ستيعاب من قبل �شعوب مل تتعر�ض لإ�شعاع ع�صر الأنوار (وترف�ض التعر�ض اىل يومنا هذا)، يف ا�ستثمار جمحف وغ�شا�ش لثقافة �شعبية ما قبل تكنولوجية ،ت�ستطيع منظومة �سايك�س /بيكو عربها تفكيك العالقة العثمانية مع �شعب املنطقة امل�سماة الهالل اخل�صيب ل�صالح مملكة عربية واحدة قوامها الزعامة الدينية /اللغوية ،يف وقت كانت �إنكلرتة والغرب عموماً قد جتاوز و�أ�سقط من ح�سابه هكذا تكنولوجيات يف عملية ت�أ�سي�س جمتمعاتهم م�ستخدمني ثقافة حداثية �صاحلة لإقامة م�شروع املجتمع /الأمة املنتجة ،ولعل عملية اخلداع الكربى كانت ثقافية بامتياز ،عرب دعم حرمان الهالل اخل�صيب والعربة معاً من تكنولوجيات الإجتماع الب�شري ،التي عبرّ مبرارة عنها امللك في�صل الأول بخذالن الإنكليز والدول املنت�صرة يف احلرب بتخليهم عن هذه العروبة (بتن�صيبه ملكاً على مملكة عربية واحدة) -بنكوثهم بعهدهم بت�أ�سي�س �أمة عربية له ،يف هذااملجال بال�ضبط �أي يف املجال الثقايف حتديداًيظهر ا�ستثمار «الثورة» العربية كمعرفة تكنولوجية واهية( ،نظراً ل�ضرورة الثقايف حتى ولو كان واهياً) ،ولي�س يف تفكيك «الوحدة العربية» �أو بحرمانه من عر�ش هذه اململكة كما ر�آها جاللته ،وال يف ا�ستبدال الإحتالل الغربي بالإحتالل العثماين، والتي توجها (�أي اخلديعة الثقافية) امللك في�صل ذاته بتوقيع وثيقة في�صل /وايزمن ال�شهرية، ت�أكيداً على واهية اجلرعة املعرفية التي اعتمدت ك�أر�ضية تكنولوجية من النوع املجرد للثورة، والتي توازي وت�ساوي متاماً هزمية رجال النه�ضة و�سايك�س بيكو ووعد بلفور من حيث املبنى الثقايف لها ،التي انتهت �إىل احلرمان من تكنولوجيا ت�أ�سي�س املجتمعات ،حيث جتلت وب�سرعة نتائج ف�شل م�ساعي رجال النه�ضة (بعد الثورة) يف ا�ستحداث قابلية ال�ستعمال التكنولوجيات املجردة ،لأ�سباب حملية متاماً ،مهدت وان�سجمت مع التطلعات الإ�ستعمارية بوجهه الإنتدابي، وا�ستمرت العروبة كمنتج من منتجات احلرب العاملية الأوىل دون فعالية ايجابية تذكر ،على امل�ستويات البنيوية وغريها لغاية يومنا هذا ،حتى �أنها مل ت�ستطع حتى اليوم �أن حتقق �أدنى غاياتها بدائية �أو �أكرثها �أولوية بالن�سبة لها. 165
يف امل�شهد الثاين من احلرب العاملية الأوىل وك�أحد نتائجها كانت ع�صبة الأمم ،وو�ضع مفهوم الإنتداب ،فع�صبة الأمم (كما الأمم املتحدة بعد احلرب العاملية الثانية) وجدت لتن�سيق امل�صالح واالقت�سامات بني املجتمعات املنتجة املتناف�سة ،خالقة حتديات احل�ضور احلقيقي للمجتمعات النامية ،كغاية عليها الإجتاه نحوها بامل�سارعة اىل ت�أ�سي�س املجتمع القادر على توليد دولة ،ولعل احلرد الثقايف� ،أو احلرد من ثقافة ع�صر الأنوار هو �سبب رئي�سي يف بقاء الهالل اخل�صيب يف هذا القاع احل�ضاري �إىل يومنا هذا ،و�أي�ضاً كان ال�سبب الرئي�سي يف اخرتاع فكرة الإنتداب ،فالإنتداب قو ًال وفع ًال هو احتالل وا�ستعمار على كافة امل�ستويات ومبباركة ع�صبة الأمم من جهة ومبباركة الفراغ الثقايف من جهة �أخرى( ،امل�ضحك املبكي �أن هذه التجمهرات الب�شرية امل�شرقية كانت وما زالت ت�شعر بالإكتمال املعريف� ،)...إذ كان ال بد من ت�صنيع بنية تكنولوجية جمردة ولو كانت مب�سطة قادرة علىالإرتقاء مب�ستوى الإ�ستهالك ،ليقارب بطريقة ما فوائ�ض الإنتاج لديها من التكنولوجيات امل�شخ�صة وهنا كانت اخلديعة الثقافية الثانية ،وب�سبب الإنتداب عرف امل�شرقيون الد�ستور والربملان وال�سلطات احلكومية واملدار�س ،يقابلها م�شخ�صا م�ؤ�س�سات املياه والكهرباء والرتومواي وال�سيارات وماكينات اخلياطة �إلخ ،وكل ما ميكن �أن تنتجه م�صانع ومزارع تلك الدول املنت�صرة من �سلع� ،سوف ي�صبح الإعتماد عليها هو مبثابة انتقال من ع�صر اىل ع�صر، ولكن هذا الإنتقال مل يبد ارتقائياً باملرة ،ولهذا ال�سبب مل ي�ستطع امل�شرقيون ا�ستقبال «امل�ؤامرات» عليهم حتى لو اكت�شفوها� ،أو �أبلغت لهم ،لأن الأمر متعلق بالتكنولوجيات املجردة ،التي رف�ضوا الإن�صياع لها ،وظلوا يف �إطار املفعول به ،على الرغم من كل الفر�ص التنويرية الالحقة ،وعلى الرغم من ا�ستعمالهم لكل التكنولوجيات امل�شخ�صة و�إدمانهم عليها. مل تقم احلرب العاملية الأوىل على �سبب عاطفي ،وال على خالف �أيديولوجي ديني �أو �أخالقي، بل قامت على امل�صالح الآنية منها والإ�سرتاتيجية �أي�ضاً ،فمنطقة ال�شرق الأو�سط الواعدة على امل�ستوى اجليوتكتيكي ،ال ميكن الن�أي بها عن تلك امل�صالح ،خ�صو�صاً �أن اخلالفة العثمانية كانت قد بد�أت بالتحول �إىل الدولة ،ومل تنفع معها ال حماوالت التحديث الداخلية وال م�ساعدات الأملان يف التحديث �إذ بقيت هي �أي�ضاً يف جماالت التكنولوجيا امل�شخ�صة ،مل تكن �سايك�س بيكو �ضد �أو مع �شعوب هذه ال�سلطنة املحت�ضرة ،فهي ال حتبهم وال تكرههم ،وال تنوي الإعتداء عليهم �إال لق�سرهم علىالإن�صياع ملخططات حتقيق م�صاحلها ،فالثورة العربية «املجيدة» متّت بت�سليح وم�شاركة اجلي�ش الربيطاين ،وهذا �أمر طاملا �أغفلته املنتجات «الثقافية» الناطقة بالعربية ،ولوال ذلك ملا ا�ستطاع املنت�صرون باحلرب النكث بوعودهم ،فهم يعرفون متاما مع من يتعاملون ،عند هذه النقطة بالذات توقف امل�شرقيون ،عند هذه النقطة العاطفية الأخالقية رافعني النقيق وال�شكوى من الإحتقار والإعتداء ،على �أ�سا�س ما يقدرون على فهمه من توجهات ال�سيا�سة العاملية �آنذاك، ومل ينتبهوا �إىل احلقيقة الواقعية �إال مرات قليلة كان من ال�سهل �إجها�ضها (امل�ؤمتر ال�سوري الأول 8 �آذار 1920مثا ًال) ،م� ّؤ�س�سني لنظرية امل�ؤامرة من موقع �ضحل �أخالقياً ومعرفياً ،دون فعل ت�أ�سي�سي 166
احلرب العاملية الأوىل
ليتم التعامل مع الكيانات الناجتة عن هذه احلرب يذكر(ح ّول فيما بعدالإ�ستقالالت �إىل ورطة)ّ ، ككيانات �أزلية غري قابلة للفناء �إال على يد من �أ�س�سها ،ومت التنظري لها و�أدجلتها على �أ�س�س غري جمتمعية ،ليعود ناجت �أي حراك �أو �أي حماولة ارتقاء �إىل نقطة ال�صفر ،بالقوة الذاتية لثقافة هذه الكيانات ،التي لن تقوى بعد تلك احلرب على ت�أ�سي�س جمتمعاتها ب�أية �صفة تقنية ،ت�ؤدي �إىل توليد دولة معا�صرة ميكنها رعاية م�صالح «جمتمع» والدفاع عنه ،والتناف�س مبنتجاته ،من هنا تبدو ال�سنوات احلا�ضنة للحرب (� )1920 - 1910سنوات م� ّؤ�س�سة لعاهات امل�شرق ،بينما كانت هي نف�سها فرتة تثبيت ملنجزات الع�صر الأنواري يف العامل ،والإعالن عن عقد �أممي تناف�سي جديد يعبرّ عن حيويات الأمم ومكانتها ب�أدوات خمتلفة ومظاهر متحولة وقا�سرة ،بعيدة عن ترهات التف�سريات العواطفية والأخالقوية البدائية التي ا ّت�سمت بها كيانات منطقتنا ،لتظهر هذه الكيانات بعد احلرب كمح�صلة للتوازنات الأممية التناف�سية ،وك�أنها تع ّر�ضت �إىل تعديل يف اجلني الثقايف ر�ضيت به وزادت عنه. حتملت البلدان املهزومة التي ا�شرتكت يف احلرب العاملية الأوىل (خ�صو�صاً �أملانيا وتركيا) ،نتائج ّ لعلها �أق�سى بكثري مما تعر�ضت �إليه بلدان امل�شرق� ،إن كان عن طريق ع�صبة الأمم �أو عن طريق البلدان املنت�صرة منفردة �أو جمتمعة يف م�ؤمتر فر�ساي ،1919لدرجة �أنها كان من املمكن �أن ت�ستباح كغنائم حرب ،ولكن هذه البلدان مل تلق م�صري الهالل اخل�صيب� ،إما لثقافتها الأنوارية (�أملانيا) ذات املجتمع الذي مت ت�أ�سي�سه �سابقاً� ،أو بامل�سارعة �إىل الإلتحاق بالثقافة الأنوارية التي ت�ؤّ�س�س جمتمعاً بوا�سطة الثورة العلمانية التي قام بها �أتاتورك ،لتبدو ا�ستمرارية البلدين م� ّؤ�س�سة على الثقافة واملعرفة بفرعيها امل�شخ�ص واملجرد ،لدرجة �أن �أملانيا وخالل ع�شرين �سنة ا�ستطاعت �أن تخو�ض حرباً وا�سعة يف حماولة لإ�ستعادة مكانتها ،يف املقابل بد�أ امل�شرق يف ت�سجيل تراجعات ح�ضارية وا�ضحة على الرغم من مقدرته اجلزئية على ا�ستهالك التكنولوجيات امل�شخ�صة ،متثل ذلك يف الق�ضاء املربم على كل النخب واحلراكات الأنوارية الواعدة من رجال نه�ضة وما تالهم من رجال تنوير ،لت�ستقر م�صائر البلدان بني �أيدي املثقفني (الع�سكر طليعتهم) الذين مار�سوا توفيقية تلفيقية بني التكنولوجيات املجردة وامل�شخ�صة ت�شبه متاما التلفيقية التي مار�سها املنت�صرون يف احلرب العاملية الأوىل جتاه «الثورة» العربية الكربى ،و�شعب الهالل اخل�صيب ،ما يعيدنا �إىل الرميوتكونرتولية �أو ّ التحكم عن بعد امل�ؤ�س�س لها يف احلرب العاملية الأوىل ،ورمبا كانت التجربة النا�صرية كجمهورية ،وال�سعودية كملكية ،مثا ًال باهراً على الدمج التلفيقي (ال�شفهي اللغوي على �أبعد تقدير ثقايف) بني التكنولوجيات املجردة وامل�شخ�صة ،حيث بدت كل تكنولوجيا جمردة (كالدولة ،واملجتمع ،والأحزاب ،والعقد الإجتماعي واحلرية امل�س�ؤولة �إلخ� ..إلخ) موجودة ومفقودة يف �آن معاً ،مبعنى �أنها وهمية وقابلة للإنهيار بلحظات وبقواها الذاتية ،وهنا يبدو الفارق املعريف �شا�سعاً ،بني البلدان التي مار�ست ال�شعارات وراكمتها ،وبني البلدان التي راكمت املعرفة ومار�ستها ،حتى ليبدو ّ للمطلع على �آخر املعارف �أنّ الفارق �أ�صبح فلكياً و�أن العامل �سينق�سم (�إذا 167
مل يكن قد انق�سم وانتهى) اىل نوعيني ب�شريني� ،أحدهما قادر على حتمل م�س�ؤولية احلياة و�آخر يواجه الإ�صطفاء الطبيعي ،لذلك تبدو احلرب العاملية الأوىل ونتائجها كمفرتق �أ�سا�سي وعميق، مل ي�ستطع هذا امل�شرق التع�س اللحاق به لأ�سباب ذاتية �أو ًال ،وبرعاية املنت�صرون يف هذه احلرب. لكي تكون رابحاً �أو خا�سراً يف �أية لعبة يجب �أن تكون م�شاركاً فيها �أو ًال ،يف احلرب العاملية الأوىل، مل تكن بالد الهالل اخل�صيب وال العربة م�شاركة ،وهذا ما جت ّلى يف م�ؤمتر فر�ساي ،1919عرب احل�ضور الفكاهي ملمثلي امل�شرق ،حيث تب ّلغ امللك في�صل ر�سميا نتائج تلك احلرب ،مطلقاً �شعاره املرير (لي�س بالإمكان �أف�ضل مما كان) لندخل يف د ّوامات ومعارك ثقافية جزافية ،كاملفا�ضلة بني الإ�ستعمار العثماين والغربي� ،أو بني العروبة البدهية والأقليمية املعقدة� ،أو بني الرتاث واملعا�صرة، نا�سني متاماً �أن الق�ضية الأ�سا�سية هي ت�أ�سي�س املجتمع مبعناه الأنواري حتديداً ،كي ن�ستطيع الإ�ستجابة للتحديات ون�صبح م�شاركني يف اللعبة التناف�سية للأمم بهيئتنا الإجتماعية القادرة على الإنتاج ،وهكذا مت تق�سيم البالد وت�ساقطت �أجزا�ؤها (فل�سطني -كيليكيا � -إ�سكندرون -الأهواز) دون جمري من الداخل �أو اخلارج ،ودون �أن ي�ؤثّر هذا الت�ساقط على ال�سريورة املتفاخرة «للدول» ف�صلها الإنتداب ثقافياً بناء على درا�ساته الإ�ست�شراقية ،واليوم نرفل بحروب �أهلية طائفية كما ّ تعبرّ بال�ضرورة عن ثقافتنا البهية التي رف�ضت وملا تزل ثقافة ع�صر الأنوار وتكنولوجياته كطريق للإ�شرتاك يف احلياة ،وهي الآن غري قادرة حتى على التعاي�ش مع �أي �آخر ورمبا مع نف�سها �أي�ضاً، ت�أ�سي�ساً على وعد بذله االنكليز يف احلرب العاملية الأوىل بت�أ�سي�س �أمة ودولة ولكن بال جمتمع. مل تكن احلرب العاملية الأوىل من الوجهة الثقافية� ،إال �إعالن عن تبلور مفهوم الأمة/الدولة، ب�صفتها الق�صدية الإرادية املبنية على املعرفة ،وهي بذلك كانت فر�صة للإنتقال من املفهوم العثماين (الرتاثي) للدولة امل�ؤ�س�س على الغلبة �إىل املفهوم احلديث امل�ؤ�س�س على الثقافة احلقوقية، ته ّيئاً للدخول �إىل قوام عاملي تناف�سي ،ال مكان �أو مكانة فيه ل�ضعيف ...معرف ّياً.
168
�صدر حديثا ً
بعد توثيقه لطرابل�س ال�شام وبلدة ال�شوير ،اختار الكاتب بدر احلاج �أن ّ يحط رحاله يف قلب العا�صمة ليميط اللثام عن م�شاهد و�أماكن ومالمح طبعت مدينة بريوت يف الفرتة املمتدة بني عامي 1850و.1915 دار كتب للن�شر �ش.م.ل
بناية الربج ،الطابق الرابع� ،ساحة ال�شهداء الو�سط التجاري ،بريوت ،لبنان �صندوق بريد ،11-4353 :بريوت -لبنان. هاتف )961-1( 983008 /9 :فاك�س)961-1( 980630 : الربيد الإلكرتوين kutub@kutubltd.com :املوقع الإلكرتوينwww.kutubltd.com :
�أ�سماء و�أحداث املجلد الثالث من كتابات الدكتور خليل �سعاده ،ي�صدر قريباً عن م�ؤ�س�سة �سعاده للثقافة
لبنان 5000لرية | الأردن 2 :دينار | �سوريا 100 :لرية | م�صر 10 :جنيه | تون�س 1.5 :دينار | املغرب 20 :درهم | م�سقط 1 :ريال ال�سعودية 10 :ريال | البحرين 1.5 :دينار | الكويت 1.5 :دينار | قطر 10 :ريال | الإمارات 10 :درهم
العدد �شباط 2015