Tahawolat 6 feb 2015 (low res) نهائي

Page 1

‫العدد رقم ‪- 6‬‬

‫�شباط ‪2015‬‬

‫حممود حيدر‬ ‫«االخت�صام الودود» بني املثقف واحلاكم‬ ‫�شوقي عطيه‬ ‫«�سكان لبنان» بني ثبات االنتماء ومتغريات العدد‬ ‫�أديب الزين‬ ‫ال�شرق االو�سط اجلديد و�إدارة التوح�ش‬ ‫حيدر حاج �إ�سماعيل‬ ‫التغيري عرب التف�سري‬ ‫ح�سن حمادة‬ ‫وا�شنطن تقود �أو�سع حتالف دويل لدعم الإرهاب‬

‫فـ�صـل ـيـة فـكريـة ثـقافيـة تـعنى ب�ش ـ�ؤون امل�شــرق‬

‫حتـ ّو الت‬ ‫املجـتـمـع‬ ‫والإن�سان‬

‫اليا�س فرحات | وليد زيتوين | زهري فيا�ض | �أحمد من�صور | ل�ؤي زيتوين | فيفيان حنا ال�شويري | نعيم تلحوق‬


‫ي�صدر قريبا ً‬

‫دار كتب للن�شر �ش‪.‬م‪.‬ل‬

‫بناية الربج‪ ،‬الطابق الرابع‪� ،‬ساحة ال�شهداء الو�سط التجاري‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‬ ‫�صندوق بريد‪ ،11-4353 :‬بريوت ‪ -‬لبنان‪.‬‬ ‫هاتف‪ )961-1( 983008 /9 :‬فاك�س‪)961-1( 980630 :‬‬ ‫الربيد الإلكرتوين‪ kutub@kutubltd.com :‬املوقع الإلكرتوين‪www.kutubltd.com :‬‬


‫العدد رقم ‪- 6‬‬

‫�شباط ‪2015‬‬

‫فـ�صـل ـيـة فـكريـة ثـقافيـة تـعنى ب�ش ـ�ؤون امل�شــرق‬

‫املحتويات‬ ‫ر�أي‬ ‫احلرب على الإرهاب‪ :‬تدمري املجتمعات بزرع‬ ‫التوح�ش فيها‬ ‫ح�سن حماده‬

‫‪3‬‬

‫حتوالت املجتمع والإن�سان‬ ‫�أزمة الهوية يف املنطقة العربية‪ :‬لبنان مث ً‬ ‫ال‬ ‫اليا�س فرحات‬ ‫حتوالت م�صطلح ال�شرق الأو�سط من اجلديد‬ ‫�إىل البعيد‬ ‫وليد زيتوين‬ ‫حتوالت وم�سارات‪ ...‬باجتاه امل�ستقبل‬ ‫زهري فيا�ض‬ ‫كيف ميكن جعل امل�ستحيل ممكناً؟‬ ‫�أحمد من�صور‬ ‫قراءات يف التّح ّوالت الأدب ّية ّ‬ ‫طي‬ ‫لل�شرق‬ ‫ّ‬ ‫املتو�س ّ‬ ‫ل�ؤي زيتوين‬ ‫�إذا كان ثمة حت ّوالت فهي دائماً م�شرقية‬ ‫فيفيان حنا ال�شويري‬ ‫«حت ّوالت» مع الفا�صلة‬ ‫نعيم تلحوق‬

‫‪7‬‬ ‫‪11‬‬

‫‪17‬‬ ‫‪25‬‬ ‫‪33‬‬ ‫‪37‬‬ ‫‪43‬‬

‫فكر‬ ‫م�سعى م�ست�أنف لتظهري �أ�سئلة يف �أمر اليوم‬ ‫«االخت�صام الودود» بني املثقف واحلاكم‬ ‫حممود حيدر‬

‫‪45‬‬

‫�سكان لبنان‪ :‬بني ثبات االنتماء ومتغريات العدد‬ ‫�شوقي عطيه‬ ‫ال�شرق الأو�سط اجلديد و�إدارة التوح�ش‬ ‫�أديب الزين‬ ‫التغيري عرب التف�سري‬ ‫حيدر حاج �إ�سماعيل‬ ‫العرب والعوملة‬ ‫عاطف عطية‬ ‫الإ�صالح ال�سيا�سي بني الدين والعلمنة‬ ‫�سعيد �أحمد عبد الرحمن‬ ‫وا�شنطن تقود �أو�سع حتالف دويل لدعم الإرهاب‬ ‫ح�سن حمادة‬

‫‪55‬‬ ‫‪65‬‬ ‫‪73‬‬ ‫‪95‬‬ ‫‪107‬‬ ‫‪131‬‬

‫حتوالت �أدبية‬ ‫التنا�ص وقراءة الن�ص الغائب يف �شعر خليل‬ ‫حاوي‬ ‫وفيق غريزي‬ ‫احلركة ال�صحافية الن�سائية العربية احلديثة‬ ‫يف رحلتها عرب تاريخها الطويل‬ ‫جنيب البعيني‬ ‫ت�أبني منري خوري‬ ‫�سليمان بختي‬ ‫يف وداع املا�ضي وامل�ستقبل‬ ‫جنيب ن�صري‬

‫تنويه‬ ‫ورد يف العدد اخلام�س من جملة حتوالت م�شرقية مقال بعنوان «املكان ال�شعري يف ق�صيدة ابن هانئ الأندل�سي»‪،‬‬ ‫حيث ورد �إ�سم الكاتبة خط�أ‪ ،‬وال�صحيح �أن �إ�سم الكاتبة هي مهى خياط‪ ،‬فاقت�ضى الأمر منا التو�ضيح‪.‬‬

‫‪139‬‬

‫‪147‬‬ ‫‪161‬‬ ‫‪163‬‬


‫حتوالت م�رشقية‬

‫ف�صلية‪ ،‬فكرية‪ ،‬ثقافية‪ ،‬تعنى ب�ش�ؤون امل�شرق واملنطقة‬ ‫هيئة التحرير‬

‫فاتن املر‬ ‫عاطف عطية‬ ‫ح�سن حماده‬ ‫ن�صري ال�صايغ‬

‫�سعاده م�صطفى �أر�شيد‬ ‫�سليمان بختي‬ ‫�سركي�س �أبو زيد‬

‫املدير امل�س�ؤول‪� :‬سركي�س �أبو زيد‬ ‫الربيد الإلكرتوين‪abouzeid@gmail.com :‬‬ ‫هاتف‪)00961-1( 751541 :‬‬ ‫�صندوق بريد‪ 113-7179 :‬بريوت ‪ -‬لبنان‪.‬‬ ‫الإخراج الفني‪ :‬عالء �صقر‬

‫ت�صدر بالتعاون مع م�ؤ�س�سة �سعاده للثقافة‬

‫بناية ر�سامني‪� ،‬شارع احلمرا‪ ،‬ر�أ�س بريوت‪،‬‬ ‫�صندوق بريد‪ 113-5557 :‬بريوت ‪ -‬لبنان‪.‬‬ ‫هاتف‪)00961-1( 753363 :‬‬ ‫فاك�س‪)00961-1( 753364 :‬‬ ‫الربيد الإلكرتوين‪saadehcf@idm.net.lb :‬‬ ‫املوقع الإلكرتوين‪www.saadehcf.org :‬‬ ‫ت�صدر مبوجب قرار رقم ‪ 82‬تاريخ‬ ‫�صادر عن وزارة االعالم يف لبنان‬

‫‪1981/7/6‬‬

‫�صورة الغالف‪« :‬حتية �إىل خليل حاوي» ‪-‬‬ ‫�ألوان مائية‪� ،‬ضياء العزاوي‪.2014 ،‬‬ ‫ت�صدر يف طبعتني من فل�سطني ولبنان‬ ‫مدير عام طبعة فل�سطني‪� :‬سعاده م�صطفى �أر�شيد‬ ‫هاتف‪0599305248 :‬‬ ‫�صندوق بريد‪ 41 :‬جنني ‪ -‬فل�سطني‬

‫اال�شرتاك ال�سنوي ‪ -‬لبنان‬

‫للأفراد‪ 50 :‬دوالراً �أمريكياً‬ ‫للم�ؤ�س�سات‪ 100 :‬دوالر �أمريكي‬

‫توزيع‪ :‬النا�رشون‬

‫اال�شرتاك ال�سنوي ‪ -‬خارج لبنان‬

‫بريوت ‪ -‬امل�شرفية‪� ،‬سنرت ف�ضل اهلل ‪ -‬طابق‬ ‫هاتف وفاك�س‪)00961-1( 277007 - 277088 :‬‬ ‫خلوي‪)00961-3( 975033 :‬‬

‫‪4‬‬

‫للأفراد‪ 100 :‬دوالر �أمريكي‬ ‫للم�ؤ�س�سات‪ 200 :‬دوالر �أمريكي‬

‫املواد املن�شورة تعرب عن ر�أي كاتبها‬


‫ر�أي‬

‫احلرب على الإرهاب‬

‫تدمري املجتمعات بزرع التوح�ش فيها‬ ‫كانت «حتوالت م�شرقية» قد عر�ضت‪ ،‬يف افتتاحية العدد الثاين منها‪ ،‬لبع�ض امل�صطلحات‬ ‫املتداولة على كل �شفة ول�سان‪ ،‬مثل م�صطلح «العقوبات االقت�صادية»‪ ،‬م�صطلح «ال�ضربة‬ ‫الع�سكرية» و«اخلروقات»‪.‬‬ ‫فدعت �إىل �أن هناك حاجة �إىل وجوب ت�صحيحها‪� ،‬إذ �إن امل�صطلح كما ال�شعار‪ ،‬كما املثل‬ ‫ال�شائع‪ ،‬ي�ؤثر يف عقل االن�سان‪ ،‬فيوجهه‪ .‬ومن هنا خطورة ا�ستخدام‪� ،‬أو امل�ضي با�ستخدام‪،‬‬ ‫م�صطلحات خاطئة تقود مبا�شرة �إىل توليد قناعات خاطئة وا�ستنتاجات خاطئة‪ ،‬وهنا الطامة‬ ‫الكربى في�ضيع االن�سان و ُي�ضيع غريه‪.‬‬ ‫يف العدد احلايل �سوف نتناول م�صطلحني‪ ،‬الأول موجود وم�ستخدم ب�شكل مفرط‪ ،‬والثاين‬ ‫غري م�ستخدم ولكن البد من �إدخاله �إىل دائرة ال�ضوء والرتكيز عليه‪.‬‬ ‫م�صطلح «احلرب على الإرهاب»‪ .‬هذا امل�صطلح يجب �أن ُي�سحب من التداول فهو ويف ال�صيغة‬ ‫التي ي�ستخدم فيها‪ ،‬م�صطلح ين�ضح بالكذب والنفاق لكون الواليات املتحدة االمريكية هي‬ ‫التي �أطلقته‪ ،‬وهي التي تديره وهي التي توجه م�سريته وحتدد هدفه‪.‬‬ ‫فالواليات املتحدة كدولة �سلوكها كله �إرهاب‪ ،‬فهي دولة يف حالة حروب م�ستمرة وكلها‬ ‫حروب عدوانية‪ .‬واالعالم التابع للواليات املتحدة‪� ،‬سواء كان داخل �أرا�ضي هذه الواليات‬ ‫�أم خارجها‪ ،‬والذي ُيروج مل�صطلح «احلرب على الإرهاب»‪ ،‬هو يف واقع احلال �إعالم دعائي ‪-‬‬ ‫حربي‪ ،‬يقلب احلقائق ر�أ�ساً على عقب‪ .‬وهو �إعالم ي�سري يف ٍ‬ ‫خط موا ٍز خلط االعالم الدعائي‬ ‫ التجاري القائم على تفريغ عقول الب�شر وحتويل الفرد من مواطن ‪ -‬م�س�ؤول �إىل م�ستهلك‬‫وجه‪.‬‬ ‫ُم َّ‬ ‫هكذا تتم �شيطنة «اخل�صم» وتزيني وجه «الذات»‪ .‬واال�سلوب املعتمد يف هذا ال�سياق يق�ضي‬ ‫يف جزء منه‪ ،‬ب�أن ُتو�صم الواليات املتحدة خ�صومها بال�صفات ال�سيئة التي يت�صف بها �سلوكها‬ ‫هي‪ .‬ومو�ضوع االرهاب هو املثال الأبرز على هذه اخلديعة الفظيعة‪.‬‬

‫‪3‬‬


‫ر�أي‬ ‫فالواليات املتحدة تقود �أو�سع حتالف داعم للإرهاب الدويل وت�شن بوا�سطته هجوماً مفتوحاً‬ ‫يف املدى الزمني‪ ،‬لتدمري «�سورية املقد�سة»‪ .‬دائماً با�سم احلرب على داع�ش واحلرب على‬ ‫الإرهاب‪ .‬والأخطر من كل ذلك �أن احلدث بذاته‪ُ ،‬ي�ضاف �إليه «اعرتافات جو بايدن»‪ ،‬مل‬ ‫ُيثريا ردود الفعل املالئمة من قبل القوى الراف�ضة لهذه احلرب‪ ،‬الأمر الذي ُي�شجع الواليات‬ ‫املتحدة على امل�ضي ُقدماً يف نهج اال�ستباحة واالرهاب‪ ،‬بت�شكيله املنظم والع�شوائي‪ ،‬مما يعك�س‬ ‫درجة احتقار وا�شنطن للعامل �أجمع‪.‬‬ ‫م�صطلح كاذب‬ ‫لذا‪ ،‬اليجوز للأحرار �أن ي�ستخدموا م�صطلح «احلرب على الإرهاب» لأنه‬ ‫ٌ‬ ‫باملطلق‪ ،‬ناهيك عن كونه م�صطلحاً «�أورويل»‪ ،‬ن�سبة لـ «جورج �أورويل» الذي كان قد توقع منذ‬ ‫ع�شرات ال�سنني ظهور اخلطابات ال�سيا�سية الكاذبة كالتي نحن يف �صددها الآن‪ ،‬نعاين منها‪...‬‬ ‫فنختنق يف امل�صطلح‪.‬‬ ‫اليوجد �شيء ا�سمه «احلرب على الإرهاب»‪ ،‬فهذا امل�صطلح ‪ -‬ال�شعار تلج�أ �إليه الواليات‬ ‫املتحدة كلما �أرادت تنفيذ عدوان على �شعب �آمن‪� .‬إن جمرد وجودها يف �أي ٍ‬ ‫حتالف يفقد هذا‬ ‫التحالف �أي ُب ٍعد اخالقي �أو حقوقي‪ ،‬ويجعله حال ًة معادية لالن�سانية ولل�سالم الدويل‪.‬‬ ‫فتدمري ال�شعوب يتم با�سم «احلرب على الإرهاب»‪ ،‬وتلويث البيئة‪� ،‬إلخ‪ ...‬ف�أي نقا�ش لهذا‬ ‫غبي للطاقة العقلية‪.‬‬ ‫املو�ضوع هو مبثابة م�ضيعة للوقت وتبديد ٍّ‬ ‫حرب عدواني ٌة يف مكان‬ ‫فـ «احلرب على الإرهاب» كما تطرحها وا�شنطن هي يف واقع احلال‪ٌ ،‬‬ ‫ما‪.‬‬ ‫م�صطلح «حروب تدمري املجتمعات»‪� .‬إن هذا امل�صطلح‪ ،‬بقدر ماهو واقعي وحقيقي وملمو�س‬ ‫وحم�سو�س‪ ،‬بقدر ما هو جمهول �أو يف �أح�سن الأحوال‪ ،‬مهمل‪ .‬والأداة التي ت�ستخدمها‬ ‫وا�شنطن لتدمري املجتمعات كما يح�صل يف «�سورية املقد�سة»‪ ،‬بل ويف «�سوراقيا» عموماً‪ ،‬ويف‬ ‫ليبيا‪ ،‬هذه الأداة تتمثل بزرع التوح�ش يف البلد املطلوب تدمريه‪.‬‬ ‫هذه حقيقة دامغة نعي�شها ب�أ ٍمل �شديد لي�س كمثله �أمل‪� .‬إن الواليات املتحدة ومن خلفها‬ ‫حلف �شمال الأطل�سي وكيانات �أخرى تابعة‪ ،‬ت�صنع وتنتج وت�صدر ومتول املنظمات االرهابية‬ ‫املتوح�شة‪ ،‬وتقوم ب�إيهام الأغبياء يف العامل ب�أنها ‪� -‬أي وا�شنطن‪ -‬ودول �أوروبا‪ ،‬تخاف من ه�ؤال‬

‫‪4‬‬


‫ر�أي‬ ‫الوحو�ش‪ .‬فبوا�سطة منظمات التوح�ش ي�صار �إىل تدمري بالدنا من دون حاجة �إىل نزول جيو�ش‬ ‫الأطل�سي �إىل الرب‪.‬‬ ‫و «حروب تدمري املجتمعات» هي من نوع احلروب اجلديدة التي التتوقف بهزمية �أو ا�ست�سالم‬ ‫�أحد املتحاربني الأ�سا�سيني‪ ،‬كقوات الدولة التي تتعر�ض للعدوان‪� ،‬أو كربى التنظيمات املقاتلة‬ ‫لها‪.‬‬ ‫ففي املا�ضي كانت احلروب تتوقف بهزمية اجليو�ش‪ ،‬والدول‪� ،‬أما حروب تدمري املجتمعات‬ ‫فت�ستمر‪� .‬إىل متى ت�ستمر؟‪ ...‬واجلواب‪ :‬ت�ستمر �إىل ما �شاء اهلل‪ .‬وهنا بالذات نقطة يف غاية‬ ‫الأهمية �إذ �إن من خ�صائ�ص حروب تدمري املجتمعات �أنها مفتوحة زمنياً‪� ،‬أي ُيفرت�ض بها �أن‬ ‫ت�ستمر �إىل ما النهاية بحيث اليتوقف التدمري‪.‬‬ ‫املفكر املرموق الأ�ستاذ «يو�سف الأ�شقر» كان هو �أول من ا�ست�شرف هذا النوع من احلروب‪،‬‬ ‫وحذر منها ومن التداعيات التي يحملها زرع التوح�ش يف بالدنا‪ .‬لكن‪ ،‬وكالعادة مل ي�ش�أ �أحد‬ ‫اال�ستماع �إىل هذا التحذير‪.‬‬ ‫واليوم �إن م�صطلح «تدمري املجتمعات» مالز ٌم لإلغاء م�صطلح «احلرب على االرهاب»‪ .‬فلنت�أمل‬ ‫بعمق كيف جتري عملية زرع التوح�ش يف بالدنا‪ .‬وهذا نتاج م�شرتك غربي‪� -‬شرقي‪ .‬والبطون‬ ‫التي �أولدت هذه الوحو�ش مازالت خ�صبة‪.‬‬ ‫ح�سن حماده‬

‫‪5‬‬


‫حتوالت املجتمع والإن�سان‬ ‫احتفلت «حت ّوالت» مبرور �أربعني �سنة على �صدورها‪ .‬وهي منا�سبة‬ ‫للتفكري واحلوار مهما تباينت واختلفت الآراء‪ .‬كما �أ ّنها حمطة لنقر�أ‬ ‫معاً حت ّوالت املجتمع والإن�سان خالل الأربعني �سنة التي م ّرت‪ ،‬مبا فيها‬ ‫ولنحدد ر�ؤيتنا معاً لأربعني �سنة املقبلة‪ ،‬احلبلى‬ ‫من �إخفاقات وجناحات‪ّ .‬‬ ‫بتح ّوالت وجودية وم�صريية على خمتلف امل�ستويات مبا فيها مواجهة‬ ‫حتديات التقنيات والقيم‪ ،‬الهوية والفو�ضى‪ ،‬ال�صراع واملعنى‪.‬‬ ‫يف هذا العدد ملف (حتوالت املجتمع واالن�سان نحو حياة جديدة)‪.‬‬ ‫والباب مفتوح مل�شاركة املهتمني يف الأعداد املقبلة‪.‬‬


‫حتوالت املجتمع وا لإن�سان‬

‫�أزمة الهوية يف املنطقة العربية‪ :‬لبنان مثال‬ ‫اليا�س فرحات ‪ -‬باحث ا�سرتاتيجي‬

‫تكاد جميع امل�شاكل ال�سيا�سية يف العامل العربي تنح�صر مب�س�ألة الهوية‪ .‬يف الواقع ال�سيا�سي الراهن‬ ‫�أُن�شئت الدول العربية بقرار من امل�ستعمر‪ ,‬ما عدا م�صر التي متتد جذور الدولة فيها عميقا يف‬ ‫التاريخ‪ ,‬وال�سعودية التي قامت على فتوحات عبد العزيز �آل �سعود ملعظم �أجزاء جزيرة العرب‬ ‫وتوحيدها‪ .‬يف ال�شكل �أوجدت الدول هوية وطنية ر�سمية تتجلى يف الوثائق ال�شخ�صية‪ ,‬بطاقة‬ ‫هوية‪ ,‬جواز �سفر‪ ..‬لكن الهوية الوطنية احلقيقية التي تعرب عن انتماء الفرد تعي�ش �أزمة تخبط‬ ‫و�ضياع تعلو وقت االزمات وتنخف�ض عند ظهور حكم قوي‪.‬‬ ‫�إىل جانب الهوية الوطنية‪ ,‬ظهرت ب�شكل متفاوت هويات فرعية تتقدم وترتاجع مع تقدم الفرع‬ ‫وتراجعه‪ .‬وحدها العروبة مل جتد لها هوية وطنية حتى يف جزيرة العرب واملعروفة عاملياً بالعربية‬ ‫‪.Arabia‬كانت احلركات القومية العربية التي و�صلت �إىل احلكم لفرتات طويلة و�أبرزها حزب‬ ‫البعث يف �سوريا والعراق حا�ضنة للفكر القومي العربي من دون تثبيته بهوية عربية فبقي العراقي‬ ‫عراقياً وال�سوري �سورياً واليمني مينياً و‪� ...‬إمنا مع تطلعات وحدوية يف االطار النظري وااليديولوجي‪.‬‬ ‫حملت م�صر ملدة ثالث �سنوات ون�صف اثناء الوحدة مع �سوريا ونحو ت�سع �سنوات بعد االنف�صال‬ ‫ا�سم اجلمهورية العربية املتحدة وبعد وفاة الرئي�س جمال عبد النا�صر غيرّ الرئي�س ال�سادات ا�سم‬ ‫الدولة ف�أ�صبح جمهورية م�صر العربية‪ .‬لكن االنكما�ش امل�صري نحو القطرية امل�صرية بدا وا�ضحاً‬ ‫منذ االنف�صال‪.‬‬ ‫يف داخل الدول العربية تختلط الهويات الفرعية بالهوية الوطنية الر�سمية‪ ,‬فيعرف املواطن عن‬ ‫نف�سه مبنطقته او اثنيته او دينه او مذهبه ويف بع�ض االحيان قبيلته او اجلهة القادم منها جنوبي او‬ ‫�شمايل مث ًال‪ .‬يف العراق كان املكون الكردي االكرث مت�سكا بالهوية الفرعية ون�ش�أت عن م�شاكل‬ ‫الهوية نزاعات ما تزال قائمة حتى اليوم بني الكرد وال�سلطة املركزية العراقية‪ .‬ويف االردن‪ ,‬وهو‬ ‫تاريخيا من بالد ال�شام‪ ,‬انق�سم املجتمع بالهوية اىل �شرق اردين وغرب اردين او اردين وفل�سطيني‪.‬‬ ‫يف لبنان اتخذت االمور نواحي عدة‪ ,‬ذلك انه منذ ان�شاء دولة لبنان الكبري عام ‪ 1920‬رحب ق�سم‬ ‫من اللبنانيني باالنتماء اجلديد‪ ,‬فيما عار�ض ق�سم �آخر هذا االنتماء ومت�سك باالنتماء اىل الدولة‬ ‫‪7‬‬


‫ال�سورية التي كانت تتمثل باململكة ال�سورية التي �أ�س�سها في�صل بن احل�سني ومل تعمر اكرث من‬ ‫�سنة‪ .‬اتفق الفريقان على رف�ض الهوية العثمانية التي اندثرت �أ�ص ًال بعد هزمية الدولة العثمانية‬ ‫وانهيارها‪ .‬نظر امل�سلمون اىل الهوية اللبنانية انها هوية م�سيحية من نتاج احلرب العاملية االوىل‪.‬‬ ‫وكانت املهمة الكربى للكيان اجلديد هي ان�شاء هوية وطنية ت�شكل حلمة البناء الوطن اجلديد‪.‬‬ ‫ال �شك يف ان القوة لها العامل اال�سا�سي فقوة االنتداب الفرن�سي كانت حا�سمة يف فر�ض الهوية‬ ‫الوطنية اللبنانية ر�سميا على جميع الذين يعي�شون �ضمن حدود لبنان الكبري‪ .‬لكن ما مل ي�ستطعه‬ ‫الفرن�سيون هو حتويل هذه الهوية �إىل هوية وطنية �سيا�سية جامعة‪ .‬كانت ا�صوات امل�سلمني التي‬ ‫تتحدث عن الهوية اللبنانية قليلة وبعيدة عن املزاج العام يف جمتمعها‪ ,‬وكان االنتماء ال�سوري يف‬ ‫�أوىل مراحل لبنان �أقوى عند امل�سلمني‪.‬‬ ‫بد�أت ال�سلطة الفرن�سية املنتدبة تتخذ �إجراءات دعم الهوية الوطنية فكان الد�ستور اللبناين عام‬ ‫‪ 1926‬حدثا فريدا من نوعه اوجد ن�صا ا�سا�سيا ي�ساوي‪ ,‬نظريا على الأقل‪ ,‬بني اللبنانيني وي�ضع‬ ‫حقوق وواجبات املواطن يف قوانني من دون متييز بني منطقة او طائفة ومن دون االخذ بعني االعتبار‬ ‫الزعامات االقطاعية التي ورثت النفوذ ال�سائد يف مناطقها عن اجدادها منذ عهد الدولة العثمانية‪.‬‬ ‫بعد الد�ستور جاء اال�ستقالل عام ‪ 1943‬ليجمع امل�سلمني مع امل�سيحيني يف الهوية الوطنية اللبنانية‬ ‫الواحدة بعدما يئ�س امل�سلمون من العودة اىل الكيان ال�سوري وبعدما قدم لهم النموذج اللبناين‬ ‫مكا�سب اقت�صادية اخرى يف احلريات‪� ,‬شجعتهم على قبول الهوية الوطنية اللبنانية وامل�شاركة يف‬ ‫احلياة ال�سيا�سية من دون ان يلغي ذلك االنتقادات واالعرتا�ضات على امور ا�سا�سية كثرية‪.‬‬ ‫ثالثة امور عززت الهوية الوطنية هي العلم الوطني الواحد والن�شيد الوطني واجلي�ش‪.‬كان اجلي�ش‬ ‫قبل االول من �آب ‪ 1945‬تابعا للقيادة الفرن�سية وبدخوله اىل كنف احلكومة اللبنانية حقق املزيد‬ ‫من الدعم والتثبيت للهوية الوطنية اللبنانية‪ .‬على ال�صعيد الثقايف كانت اجلهود من�صبة على‬ ‫ان�شاء ثقافة وطنية لبنانية جامعة‪ ,‬وان�شاء ذاكرة وطنية‪ ,‬ورموز وطنية جتمع بني اللبنانيني‪ .‬كان‬ ‫كتاب التاريخ ورواية التاريخ ابرز جهد ثقايف لكنه مل يحقق الهدف املرجو متاما ب�سبب ثغرات‬ ‫�شابت كتابة التاريخ ت�سلل من خاللها الكثري من االفكار التي اثرت على ر�سوخ الهوية الوطنية‪.‬‬ ‫مت ت�ضخيم �شخ�صيات واحداث يف التاريخ وعزلها عن حميطها القريب وكانت امل�شكلة هي يف‬ ‫ت�ضخيم اال�صول الفينيقية والتاريخ الفينيقي وح�صره على ال�ساحل اللبناين مع ان اكرب حا�ضرة‬ ‫فينيقية ما زالت �آثارها ظاهرة اليوم هي �أوغاريت �شمال الالذقية والتي جاء الكالم عليها بخفر‪.‬‬ ‫اما مدن عكا وحتى غزة فيجهل اللبنانيون عنها مع انها كانت مدنا فينيقية يف املجتمع الفينيقي‬ ‫الذي كان يعتمد نظام املدينة ‪ -‬الدولة ومل يكن الفينيقيون يوماً موحدين يف دولة واحدة تلهم‬ ‫امل�ؤرخني اللبنانيني‪.‬‬ ‫يكاد التاريخ الو�سيط للبنان يذكر قليال فيقفز �صانعو كتاب التاريخ والثقافة اجلديدة عنه لي�صلوا‬ ‫‪8‬‬


‫حتوالت املجتمع والإن�سان‬

‫مبا�شرة اىل فخر الدين والدولة العثمانية و�سرد روايات م�شكوك يف �صحتها حول تعامل فخر‬ ‫الدين االول مع العثمانيني �ضد املماليك والتي مل ُي رَعث عليها يف امل�صادر التاريخية‪ .‬كل ذلك‬ ‫ا�ستفز بع�ض امل�سلمني وكتب احدهم كتابا عنوانه قراءة ا�سالمية للتاريخ اللبناين‪ .‬مل يتقدم كتاب‬ ‫التاريخ و�صانعو الثقافة اجلديدة اىل اللبنانيني بالواقعية التاريخية ومل يقولوا هذا لبنان بحدوده‬ ‫احلالية التي ر�سمها اجلرنال غورو وهو وطن اجلميع وجزء من املحيط ال�سوري والعربي بل حاولوا‬ ‫خلق حواجز بني لبنان وحميطه‪ .‬جنح اتفاق الطائف يف عبارة «لبنان وطن نهائي» يف ار�ساء هوية‬ ‫وطنية مقنعة اكرث من الروايات التاريخية التي ما ان يبد�أ احد بتدقيقها حتى ي�صاب بال�صدمة من‬ ‫كرثة اختالق ال�شخ�صيات وت�ضخيم الوقائع‪.‬‬ ‫اذا كان اللبنانيون قد حققوا بعد نحو من ن�صف قرن هوية وطنية متفقاً عليها فهي تتعر�ض لهجمة‬ ‫�شر�سة‪ .‬ف�صعود االحزاب الدينية بعد االجتياح اال�سرائيلي عام ‪ 1982‬وف�شل احزاب احلركة‬ ‫الوطنية واملقاومة الفل�سطينية يف �صد االجتياح ادخل واقعا جديدا وهو منو الهوية الدينية على‬ ‫ح�ساب الهوية الوطنية وتو�سع ظاهرة التدين وممار�سة الطقو�س وال�شعائر الدينية وتخلي ق�سم‬ ‫كبري من العلمانيني والقوميني وال�شيوعيني عن علمانيتهم ورجوعهم اىل اال�صل الديني‪ .‬تغلب‬ ‫االنتماء الديني‪� ,‬أح�ضر معه اخلالفات املذهبية التي �أ�سهمت ايديولوجيا القاعدة بتعميمها‪ .‬يف‬ ‫الإ�سالم ال�شيعي ب�أن هناك �أزمة �أممية �شيعية لأن �إيران الدولة ال�شيعية الأكرب والتي ت�شكل رابطاً‬ ‫دينياً هاماً هي يف احلقيقة التعترب امتدادا ثقاقيا لل�شيعة العرب فكانت العالقات ال�سيا�سية قوية‬ ‫بينما العالقات االخرى متفاوتة‪ .‬اما عند امل�سلمني ال�سنة فقد اكدوا مت�سكهم بلبنان رمبا ب�سبب‬ ‫اخل�صومة مع �سوريا التي حتولت اىل انح�سار للفكر القومي العربي ال�سائد لديها‪ .‬لكن غزوة‬ ‫التطرف الديني جعلت البع�ض يقدم الهوية املذهبية على الهوية الوطنية وهذا ما ح�صل عند‬ ‫بع�ض اللبنانيني وال�سوريني والفل�سطينيني‪ .‬مل يعد املت�شدد لبنانيا وال �سوريا وال فل�سطينيا امنا‬ ‫اتخذ هوية مذهبية و�صلت عند بع�ض الفل�سطينيني ان يرتك ارا�ضي ‪ 1948‬الرازحة حتت االحتالل‬ ‫اال�سرائيلي ويذهب اىل �سوريا ليقاتل من �أجل املذهب‪.‬‬ ‫تراجعت الهوية الوطنية وتراجع معها مفهوم اخلطر على االمة‪ .‬مل تعد ا�سرائيل خطراً وال تهديداً‪,‬‬ ‫ومل تعد ال�صهيونية العن�صرية امل�شكلة االبرز بل جرى ا�ستح�ضار م�شاكل مذهبية وطائفية و�سط‬ ‫�صمت الغالبية وذهول االقليات عما يجري من وقائع‪ .‬االخطر هو غياب قيادات وطنية واخرى‬ ‫عابرة للحدود الدول ت�ضع حدا لهذا اخلطر امل�ستفحل الذي دق باب لبنان‪ .‬امل�سيحيون �صانعو‬ ‫لبنان فقدوا القوة الالزمة للحفاظ على هذا الوطن االجناز الذي حقق احلريات ون�سبة عالية من‬ ‫التقدم قيا�سا للمنطقة‪ ،‬لكنه بد�أ ينهار حتت وط�أة الهويات الفرعية‪ .‬العودة اىل االنتماء الوطني‬ ‫واىل الهوية الوطنية اللبنانية ت�شكل مدخال ا�سا�سيا لت�سوية االزمات الراهنة والتخفيف ما امكن‬ ‫من االزمات املقبلة‪.‬‬ ‫‪9‬‬


‫دار كتب للن�شر �ش‪.‬م‪.‬ل‬

‫بناية الربج‪ ،‬الطابق الرابع‪� ،‬ساحة ال�شهداء الو�سط التجاري‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‬ ‫�صندوق بريد‪ ،11-4353 :‬بريوت ‪ -‬لبنان‪.‬‬ ‫هاتف‪ )961-1( 983008 /9 :‬فاك�س‪)961-1( 980630 :‬‬ ‫الربيد الإلكرتوين‪kutub@kutubltd.com :‬‬ ‫املوقع الإلكرتوين‪www.kutubltd.com :‬‬


‫حتوالت املجتمع وا لإن�سان‬

‫حتوالت م�صطلح ال�رشق الأو�سط‬ ‫من اجلديد �إىل البعيد‬ ‫وليد زيتوين ‪ -‬باحث ا�سرتاتيجي‬ ‫"يعربون اجل�سر يف ال�صبح خفافا‬ ‫�أ�ضلعي امتدت لهم ج�سراً وطيدا‬ ‫من كهوف ال�شرق‪ ،‬من م�ستنقع ال�شرق‬ ‫�إىل ال�شرق البعيد‬ ‫�أ�ضلعي امتدت لهم ج�سراً وطيدا"‬ ‫خليل حاوي‬ ‫ ‬ ‫�أما قبل‪:‬‬

‫مات خليل حاوي حاملا‪ ،‬ان ذاك ال�شرق �سيلتحم ب�أ�ضلع الن�سر الذي �آمن به ج�سر عبور �إىل‬ ‫الوحدة واحلرية واال�ستقالل‪� .‬شرق جديد‪� ،‬سيد‪ ،‬قوي‪ ،‬يحمل اىل العامل ر�سالته اخلا�صة يف احلق‬ ‫واخلري واجلمال‪.‬‬ ‫مات خليل حاوي مدركاً‪ ،‬امنا ال�شرق جهة حيث ت�شرق النه�ضة فكراً و�صناعة وغالال‪ ،‬ولي�س‬ ‫ال�شرق م�شروعاً جيوبوليتكياً فر�ضه الغرب ال�سيد على �أمة طال �سباتها حتت ظالل احلدود‬ ‫الوهمية‪ .‬مات خليل حاوي والأمة تزداد ق�سمة و�شرذمة ّ‬ ‫وت�شظياً‪ .‬مات بطعنة معنوية يف عقله قبل‬ ‫ان ميوت قلبه حزناً على بريوت حتت �أقدام الغزاة‪.‬‬ ‫�أما بعد‪:‬‬

‫�أ�صبح م�صطلح ال�شرق و�إخوانه‪ :‬ال�شرق االو�سط‪ ،‬ال�شرق االو�سط اجلديد‪ ،‬ال�شرق االو�سط املو�سع‬ ‫وال�شرق االو�سط الكبري‪ ،‬م�ستخدما ب�شكل كثيف يف يومياتنا الفكرية واالعالمية من دون التدقيق‬ ‫‪11‬‬


‫يف ماهيته وم�ضمونه‪ .‬فاختلط علينا املفهوم ما بني الداللة اجلغرافية والدالالت ال�سيا�سية املرافقة‪،‬‬ ‫مبا حتمل هذه االخرية من م�شاريع ابتعدت كثرياً عن اال�ستخدام اجلغرايف الطبيعي والربيء‪.‬‬ ‫فال�شرق باجلغرافية هو جهة‪ ،‬حتدد ن�سبة اىل مكان‪ .‬حيث تختلف اجلهة باختالف املكان‪� .‬سوريا‬ ‫مثال هي �شرق بالن�سبة الوروبا ولكنها غرب بالن�سبة اىل ال�صني‪ .‬فاملكان بهذا املعنى يحدد االجتاه‬ ‫ولي�س العك�س‪ .‬وعلى هذا اال�سا�س ن�سوق املالحظتني التاليتني‪:‬‬ ‫ املالحظة الأوىل‪� :‬إن الإ�صرار على ا�ستخدام تعبري ال�شرق �أو ال�شرق االو�سط بد ًال من‬‫منطقة �سوريا الطبيعية‪ ،‬يعني بدالالته ان الغرب هو املركز وبالتايل ان �سوريا الطبيعية هي‬ ‫هام�ش وتابعة لهذا املركز‪ .‬وهذه نظرة ا�ستعالئية على ما يعتربه الغرب دونه ح�ضاريا‪ .‬بل هي‬ ‫ر�ؤية �سيا�سية وثقافية بامتياز راكم عليها الغرب كل م�شاريعه الالحقة‪.‬‬ ‫ املالحظة الثانية‪ :‬يبني الغرب ت�صوره لل�شرق االو�سط على انها منطقة توقف فيها التاريخ‬‫وانعدمت فيها الذاكرة‪ ،‬وهي منطقة لي�ست لها قدرة على احلياة �أو الوحدة �إال �إذا �ضخ فيها‬ ‫الغرب مقومات ذاتية من لدنه‪ .‬فعلى املجتمع ال�شرقي وال�شعب ال�شرقي ان ي�ستجيبا لقيم‬ ‫وثقافة الوافد مقابل ان يتخلى عن تاريخه وثقافته وقيمه‪.‬‬ ‫الإطار اجلغرايف‪:‬‬

‫�أطلق تعبري ال�شرق االو�سط بداية لال�شارة اىل الدول واحل�ضارات املتواجدة يف غرب �آ�سيا و�شمال‬ ‫�أفريقيا‪ .‬وح�سب املراجع اجلغرافية املعتمدة عاملياً ت�شتمل على‪:‬‬ ‫ �أو ًال‪ :‬منطقة االنا�ضول [تركيا]‪.‬‬‫ ثانياً‪� :‬شبه اجلزيرة العربية [البحرين‪ ،‬ال�سعودية‪ ،‬الكويت‪ ،‬اليمن‪ ،‬عمان‪ ،‬الإمارات العربية‬‫املتحدة‪ ،‬قطر]‪.‬‬ ‫ ثالثاً‪ :‬الهالل اخل�صيب [العراق‪ ،‬الأردن‪� ،‬سوريا‪ ،‬فل�سطني‪ ،‬لبنان] وقرب�ص يف البحر الأبي�ض‬‫املتو�سط‪.‬‬ ‫ رابعاً‪ :‬اله�ضبة الإيرانية [�إيران]‬‫ خام�ساً‪� :‬شمال �أفريقيا [م�صر] ‪.‬‬‫ بالواقع يجب التمييز بني امل�صطلحات ال�سائدة يف الغرب‪ .‬فال�شرق االو�سط او ال�شرق االدنى‬ ‫املحددة دوله �أعاله‪ ،‬كان معتمداً من قبل اال�ستعمار القدمي خا�صة لدى االوروبيني‪ .‬اما ال�شرق‬ ‫املو�سع فهو تعبري حديث التداول‪ ،‬اعتمد من قبل االدارات االمريكية يف‬ ‫االو�سط الكبري او ّ‬ ‫‪12‬‬


‫حتوالت املجتمع والإن�سان‬

‫ ‪-‬‬ ‫ ‬‫ ‬‫ ‬

‫�أكرث من عهد‪ .‬ويختلف من حيث الرقعة اجلغرافية والدول التي ي�شتملها‪ .‬ا�ضافة اىل املناطق‬ ‫اخلم�سة الواردة يف امل�صطلح االول‪ ،‬ا�ضيفت ثالث مناطق جديدة هي على التوايل‪:‬‬ ‫�ساد�ساً‪ :‬منطقة القوقاز [�أرمينيا‪� ،‬أذربيجان‪ ،‬جورجيا]‪.‬‬ ‫�سابعاً‪� :‬آ�سيا الو�سطى [كازخ�ستان‪� ،‬أوزباك�ستان‪ ،‬تركمان�ستان‪ ،‬طاجيك�ستان‪ ،‬قرغيز�ستان]‪.‬‬ ‫ثامناً‪ :‬القرن الأفريقي [جيبوتي‪� ،‬أريترييا‪ ،‬ال�صومال]‪.‬‬ ‫كما �أ�ضيفت �إىل اله�ضبة الإيرانية كل من �أفغان�ستان وباك�ستان‪ .‬ومددت �شمال �أفريقيا لت�شمل‬ ‫[اجلزائر‪ ،‬ال�سودان‪ ،‬موريتانيا‪ ،‬ليبيا‪ ،‬املغرب وتون�س]‪.‬‬

‫االطار التاريخي وال�سيا�سي‪:‬‬

‫ارتبط هذا امل�صطلح اجلغرايف بامل�شاريع اجليوبوليتيكية لأوروبا يف املرحلة الأوىل‪ ،‬ثم مب�شروع‬ ‫الواليات املتحدة االمريكية كنظام �سائد على م�ستوى العامل‪ .‬ومن الطبيعي ان نلقي ال�ضوء على‬ ‫املراحل التاريخية التي م ّر بها ا�ستعمال هذا امل�صطلح خا�صة يف ال�سنوات االخرية‪.‬‬ ‫مبعنى ملتب�س‪ ،‬اختلط فيه اجلغرايف‬ ‫رمبا تكون املرة االوىل الذي ا�ستعمل فيه مفهوم ال�شرق ً‬ ‫بال�سيا�سي‪ ،‬اثناء ما ي�سمى باحلروب ال�صليبية‪ .‬ورغم حتفظنا على الت�سمية لهذه احلروب التي‬ ‫�سميت �أي�ضاً بحروب الفرجنة‪ .‬غري ان الهدف كان ال�شرق مبا يذخر من غنى على امل�ستوى‬ ‫احل�ضاري مادياً وروحياً‪.‬‬ ‫فحروب الفرجنة التي �شُ ّنت حتت عنوان ايديولوجي‪ ،‬حترير مهد امل�سيح من الكفار‪ ،‬كانت بالواقع‬ ‫ت�ضمر �أهدافاً مغايرة ملا هو معلن‪ .‬فال�سدة البابوية التي كانت ت�سعى اىل الوحدة امل�سيحية يف اوروبا‬ ‫�ساهمت ب�شكل كبري يف جعل الإمارات املتناحرة واملتقاتلة بينها‪ ،‬ان تتجمع حتت لواء م�شروع‬ ‫ديني موحد‪ ،‬والتوجه نحو ال�شرق لتحقيق �أهداف مادية‪ ،‬هي نهب كنوز هذا ال�شرق وخرياته‪.‬‬ ‫وقد ترافق ذلك مع طموحات بع�ض االمارات االوروبية‪ ،‬وعلى ر�أ�سها االمارات االيطالية بالتمدد‬ ‫وتو�سيع رقعة اعمالها التجارية يف غرب �آ�سيا‪ .‬طبعاً مل تكن هي اال�سباب الوحيدة لقيام احلروب‬ ‫ال�صليبية وامنا هناك ا�سباب ذاتية داخلية‪ ،‬وا�سباب تتعلق بنزعة الفرو�سية والقتال يف تلك املرحلة‪.‬‬ ‫اال انه ما يهمنا ا�ستخدام تعبري ال�شرق كم�شروع ا�ستعماري ‪.‬‬ ‫يف مرحلة الحقة ن�سجت اوروبا م�شاريعها اجليوبوليتيكية على املنوال ال�سابق نف�سه‪ .‬فغليوم الثاين‬ ‫امرباطور برو�سيا عنون م�شروعه التمددي «االندفاع نحو ال�شرق» وترجم هذا العنوان مب�شروع ربط‬ ‫بغداد بالعا�صمة برلني‪ ،‬عرب ما عرف بخط �سكة حديد برلني ‪ -‬بغداد ‪.‬‬ ‫‪13‬‬


‫مل ت�شذ بريطانيا وفرن�سا عن هذه القاعدة‪ ،‬بل ّر�سخت كل منها هذا امل�صطلح عرب ا�ستخدامه‬ ‫يف ا�ستهدافاتها حتى التف�صيلية منها‪ .‬فكان ال�صراع الدائر بينها يف اال�سا�س على امل�ستعمرات‬ ‫ال�شرقية‪ ،‬والو�صول اىل ا�سواق الهند ال�صينية عرب ما ا�سماه االنكليز بال�شرق االدنى‪ .‬فعندما‬ ‫ا�ستطاع اال�سطول االنكليزي بقيادة االمريال نل�سون تدمري اال�سطول الفرن�سي يف ابو قري عام‬ ‫‪ 1796‬الذي كان يقوده نابليون من على ال�سفينة «�أوريون»‪� .‬أحكمت االمرباطورية االنكليزية‬ ‫�سيطرتها على البحر االبي�ض املتو�سط وعلى الطريق الربية يف ال�شرق املعروفة بطريق احلرير‪ .‬يف‬ ‫املراحل الالحقة ظل مفهوم ال�شرق االو�سط �سائداً يف احلرب العاملية االوىل وما بعدها‪ .‬فاجلي�ش‬ ‫ال�سوري اللبناين كان ي�أخذ ا�سم جي�ش ال�شرق‪ .‬واالذاعة التي كانت تبث من بريوت هي اذاعة‬ ‫ال�شرق‪ ،‬واملرا�سالت االنكليزية وكذلك الفرن�سية كانت ت�ستخدم امل�صطلح نف�سه فيما يتعلق‬ ‫بامل�صالح وال�شركات اال�ستعمارية املتواجدة يف هذه املنطقة‪.‬‬ ‫اال ان �أخطر م�شروعني ارتبطاً بهذه الت�سمية هما‪ :‬ال�شرق االو�سط اجلديد‪ ،‬وال�شرق االو�سط‬ ‫الكبري اللذين ب ّينا حدودهما اجلغرافية يف الفقرات ال�سابقة‪ .‬ورغم الفوارق اجلغرافية وامل�صادر‬ ‫التي �أن�ش�أتهما‪ ،‬غري �أنهما ي�صبان يف خانة واحدة‪ .‬فامل�شروعان يتماهيان يف االهداف اال�سا�سية‪.‬‬ ‫حفظ �أمن «ا�سرائيل» وتق�سيم املنطقة املحيطة اىل دول او امارات طائفية واتنية متنازعة تربر وجود‬ ‫الدولة اليهودية القائمة على امليثولوجيا الدينية يف املرحلة االوىل‪ ،‬ومن ثم جعلها ال�شرطي العاملي‬ ‫القادر على ادارة ال�صراع بني االمارات امل�ستحدثة بغية ا�ستكمال عملية النهب املنظم لرثوات‬ ‫ال�شعوب وخرياتها ‪.‬‬ ‫�أ�صدر �شمعون برييز عام‪ 1993‬كتابه «ال�شرق االو�سط اجلديد» على �أثر م�ؤمتر مدريد لل�سالم الذي‬ ‫توزع يف ما بعد �إىل جلان متخ�ص�صة‪ ،‬عقدت �سل�سلة من امل�ؤمترات الفرعية تناولت االمن واالقت�صاد‬ ‫واملوارد الطبيعية والتنمية الب�شرية والتكنولوجيا وغريها‪ .‬جاء هذا الكتاب ليحمل وجهة النظر‬ ‫«اال�سرائيلية» بهذه املوا�ضيع‪ ،‬وك�أن م�ؤمتر مدريد قد جاء ا�ستجابة ملا تريد «ا�سرائيل» من العرب‬ ‫و الدول الراعية‪ ،‬ولي�س م�ؤمتراً لل�سالم فقط‪ .‬فالكتاب يدعو �إىل قيام �سوق م�شرتكة يف ال�شرق‬ ‫االو�سط �شام ًال «ا�سرائيل» كع�ضو �أ�سا�سي فيه‪ .‬طالباً من العرب التخلي عن ما�ضيهم العدائي جتاه‬ ‫الدولة اليهودية‪ ،‬بل و�أكرث من ذلك دعوتهم �إىل ن�سيان تاريخهم واالنقطاع عن ذاكرتهم عرب حتويل‬ ‫اجلامعة العربية �إىل جامعة دول ال�شرق االو�سط‪ ،‬الن الإ�سرائيليني وح�سب تعبريه لن يتحولوا �إىل‬ ‫عرب‪ .‬لقد جتلى الهدف من امل�شروع‪ ،‬عندما طلب الوفد الإ�سرائيلي يف اجتماع اللجنة االقت�صادية‬ ‫يف الدار البي�ضاء عام ‪ ،1994‬طلب وبكل وقاحة ان تتخلى م�صر عن زعامة العامل العربي النها‬ ‫ف�شلت و�إيكال هذه الزعامة �إىل «ا�سرائيل»‪.‬‬ ‫رمبا يكون م�شروع ال�شرق االو�سط اجلديد هو ثمرة نقا�ش بني القيادة اال�سرائيلية واللوبي ال�صهيوين‬ ‫يف الواليات املتحدة االمريكية‪ .‬او رمبا ا�ستوحاه «املحافظون اجلدد» يف �سياق م�شروعهم لل�سيطرة‬ ‫‪14‬‬


‫حتوالت املجتمع والإن�سان‬

‫على العامل‪ .‬فبعد �سقوط االحتاد ال�سوفياتي وانهيار منظومة الدول اال�شرتاكية كانت العدة قد‬ ‫ج ّهزت ال�ستكمال تطويق ال�صني وخنقها قبل حتولها اىل مارد اقت�صادي ومارد ع�سكري يف ما‬ ‫بعد‪ .‬وعلى قاعدة نظرية «الفرد ماهان» التي مت ا�ستخدمتها مع االحتاد ال�سوفياتي‪ ،‬التي تقول‬ ‫بتطويق الدولة البحرية للدولة الربية وا�سقاطها من الداخل‪ .‬ف�أغرقت االدارة االمريكية ب�سل�سلة‬ ‫من الدرا�سات التي تعالج كيفية تنفيذ هذا امل�شروع‪ .‬ورغم التطابق او التوافق يف ما خ�ص‬ ‫امل�سرحني اال�سرتاتيجيني ال�شمايل واجلنوبي‪ ،‬اال ان امل�سرح الو�سيط ظل مو�ضع نقا�ش حتى‬ ‫�أر�سي الأمر على اعتماد نظرية «�شيمون برييز» مع بع�ض التعديالت على املدى اجلغرايف ليطاول‬ ‫امل�سرح اال�سرتاتيجي الو�سيط للواليات املتحدة والذي ميتد من حدود ال�صني حتى مداخل‬ ‫جبل طارق‪ .‬هذا امل�سرح الو�سيط اخذ ا�سم ال�شرق االو�سط الكبري‪ .‬تبنى املحافظون اجلدد نظرية‬ ‫�سيادة الواليات املتحدة على العامل وبو�شر العمل على حتقيقها مع جميء جورج بو�ش االبن‪،‬‬ ‫باالعتماد على القوة الع�سكرية املبا�شرة خا�صة بعد احداث ‪� 11‬أيلول‪ .‬فكانت احلرب على‬ ‫�أفغان�ستان والعراق واحلرب اال�سرائيلية على لبنان ‪ .2006‬ف�شلت الواليات املتحدة يف حتقيق‬ ‫اهدافها ع�سكرياً و�سيا�سياً يف احلروب التي خا�ضتها‪ .‬ومع انتهاء عهد جورج بو�ش‪ ،‬و�ضعت وزيرة‬ ‫خارجيته «كونداليزا راي�س» جمموعة من التو�صيات لالدارة القادمة يف مقال ن�شرته «الفورين‬ ‫�أفريز»‪ ،‬ومنها وجوب التحول اىل احلرب الناعمة بدال من القوة ال�صلبة لتحقيق االهداف املر�سومة‬ ‫المريكا‪ .‬ومبجيء باراك �أوباما الذي �أخذ بتو�صيات راي�س معتمداً على م�شروع «برنارد لوي�س»‬ ‫القا�ضي بتق�سيم الدول القائمة اىل دول مذهبية واتنية‪ .‬هذا امل�شروع حاز على موافقة كل من‬ ‫«هرني كي�سنجر» و «زبينغيو بريجن�سكي» ور�سم خرائطه مايكل بيرتز‪.‬‬ ‫�إن ما يح�صل الآن يف املنطقة‪ ،‬هو ح�صيلة تنفيذ امل�شروع االمريكي عرب خطط الفو�ضى البناءة‬ ‫واحلرب الناعمة‪ ،‬التي �أنتجت �شتا ًء عربياً ملوناً بالدم‪ .‬على �أيدي من �ص ّنعتهم وكالة اال�ستخبارات‬ ‫االمريكية املمولة من النفط العربي‪.‬‬ ‫ختاماً نقول‪� ،‬إننا عر�ضنا ب�شكل موجز لتحول م�صطلح ال�شرق االو�سط من الناحيتني ال�سيا�سية‬ ‫والتاريخية وقد ي�ؤدي هذا التحول اىل حت ّول يف اجلغرافية‪ ،‬اذا مل تقم وحدة متما�سكة بني قوى‬ ‫املقاومة واملمانعة على امتداد اجلغرافية امل�ستهدفة‪.‬‬

‫‪15‬‬



‫حتوالت املجتمع وا لإن�سان‬

‫حتوالت وم�سارات‪ ...‬باجتاه امل�ستقبل‬ ‫زهري فيا�ض ‪ -‬باحث وكاتب لبناين‬

‫متهيد‬

‫ان حتوالت العقود الأخرية ب�أحداثها وم�ساراتها وت�شابكاتها‪ ،‬تفر�ض نف�سها يف الواقع العاملي وعلى‬ ‫كل امل�ستويات‪ ،‬بالنظر اىل حتدياتها وخماطرها وت�أثرياتها وتداعياتها على حياة �شعوب و�أمم ب�أ�سرها‪.‬‬ ‫فنحن نعي�ش يف عا ٍمل يتغري بوتائر �سريعة‪ ،‬وهذه التغيرّ ات تطال البنى والأطر واملفاهيم والثقافات‬ ‫ومنظومات القيم التي حتكم العالقات بني الب�شر �شعوباً و�أمماً وجمتمعات وحتى �أفراداً‪.‬‬ ‫ان قراءة معمقة يف هذه التحوالت تفرت�ض العودة اىل جذورها و�إىل ظروفها التاريخية و�إىل املعطيات‬ ‫املو�ضوعية التي رافقت ن�ش�أتها والتي �أ�س�ست لكل هذه املتغريات والأحداث التي مر بها العامل‪،‬‬ ‫وال �سيما عاملنا العربي‪ ،‬ومنطقتنا �أي امل�شرق العربي ب�شكل خا�ص (بالد ال�شام والعراق �أو �سوريا‬ ‫الطبيعية التاريخية)‪.‬‬ ‫فالبعد التاريخي �ضروري ل�سرب �أغوار كل هذه التطورات احلا�صلة وحتليلها وفهم �أ�سبابها ودينامياتها‬ ‫وم�آلها وتداعياتها ونتائجها على كل امل�ستويات‪.‬‬ ‫بيد �أن نطاق هذا البحث ال يتعدى يف االطار الزماين واملكاين التطورات احلا�صلة على م�ستوى‬ ‫الهالل اخل�صيب (امل�شرق العربي) �أي بالد ال�شام والعراق منذ العقود الأوىل للقرن الع�شرين‬ ‫وذلك انطالقاً من كون هذه املنطقة ت�شكل اطاراً جغرافياً وتاريخياً وح�ضارياً له موقع املركز يف‬ ‫تاريخ االن�سانية جمعاء‪.‬‬ ‫فبالدنا كانت منذ القدم ت�شكل الوعاء االن�ساين واحل�ضاري الذي يحمل ارثاً ان�سانياً عاملياً بدءاً‬ ‫من ال�شرائع والقوانني والدول واملمالك واحلوا�ضر التي قامت يف ما ي�شبه مركز العامل القدمي‪،‬‬ ‫هذا االرث الذي �شكل املرتكز والقاعدة والأ�سا�س لتطور االن�سانية جمعاء يف مراحل الحقة يف‬ ‫جماالت ال�سيا�سة واالدارة والعلوم والتجارة وال�صناعة والدين والقيم والأخالق والفل�سفة وغريها‬ ‫من مناحي الفكر االن�ساين ذي الطابع العاملي‪...‬‬ ‫‪17‬‬


‫ولعل املوقع اال�سرتاتيجي لبالدنا باعتبارها �صلة الو�صل بني ال�شرق والغرب‪ ،‬وعقدة موا�صالت‬ ‫هامة على خطوط التجارة والنقل العامليني قد �ساهم يف �إ�ضفاء قيمة ا�ضافية و�أهمية ا�ستثنائية‬ ‫للواقع اجليو ‪� -‬سيا�سي الذي يحكم منطقتنا‪ ،‬ويف الوقت ذاته جعل بالدنا حمط �أنظار القوى‬ ‫العاملية اال�ستعمارية التي تطمح للهيمنة وال�سيطرة وامتالك القرار العاملي وبالتايل الت�أثري على‬ ‫م�سار الأحداث يف العامل‪...‬‬ ‫ملحة تاريخية‬

‫ال �شك يف �أن احلرب العاملية الأوىل التي �شهدها العامل يف العقد الثاين من القرن الع�شرين‬ ‫تركت ب�صماتها بو�ضوح على كامل املراحل التاريخية التي تلتها وب�شكل خا�ص يف عاملنا العربي‬ ‫وامل�شرق العربي‪ ،‬اذ �أن الأحداث الكربى والتطورات التي ح�صلت يف بالدنا بعد احلرب العاملية‬ ‫الأوىل كانت كلها من نتاجها وتداعياتها‪ ،‬ون�ستطيع القول بكل ثقة �إن اخلرائط اجليو ‪� -‬سيا�سية‬ ‫التي ر�سمها املنت�صرون يف تلك احلرب �شكلت الأطر ال�سيا�سية واالقت�صادية وحتى االجتماعية‬ ‫التي حتركت يف داخلها حركات ال�شعوب خالل العقود التي تلت‪ ،‬طبعاً مع الأخذ بعني االعتبار‬ ‫الوقائع ال�سيا�سية والع�سكرية واالقت�صادية التي متخ�ضت عن احلرب العاملية الثانية وتوازنات‬ ‫القوى التي �أر�ستها �أي�ضاً حتى �أيامنا هذه‪.‬‬ ‫�إن �أخطر االتفاقيات واملعاهدات التي هددت وحدة بالدنا وجمتمعنا مت عقدها يف �أعقاب احلرب‬ ‫العاملية الأوىل من وعد بلفور اىل اتفاقية �سايك�س ‪ -‬بيكو‪ ،‬اىل تواط�ؤ دول اال�ستعمار الغربي‬ ‫والأوروبي ب�شكل خا�ص �آنذاك على اقرار خطة اقامة «وطن قومي لليهود على �أر�ض فل�سطني»‪،‬‬ ‫مما �شكل التهديد الوجودي الأ�سا�سي ملجتمعنا وعاملنا العربي منذ تلك الآونة وحتى يومنا هذا‪،‬‬ ‫وقد ترافق كل ذلك مع تركيب �أ�شكال �سلطوية يف دول هزيلة �ضعيفة تعاين خل ًال بنيوياً يف‬ ‫تركيبتها وهيكلها وبنائها العام‪ ،‬دول تعاين من ا�ضطرابات وقالقل تعود يف جذورها اىل االرث‬ ‫اال�ستعماري القدمي املتمثل ب�أربعمئة عام من حكم تركي عثماين �أعاق م�سرية التنمية والتطور‬ ‫والتقدم والنمو يف �شتى املجاالت‪ ،‬وما زلنا حتى اللحظة نعي�ش تداعيات ونتائج وانعكا�سات كل‬ ‫هذه الرتكة الثقيلة‪� ،‬أ�ضف اىل ذلك �سيطرة ا�ستعمارية ج�شعة �ساهمت يف نهب ثرواتنا وخرياتنا‬ ‫والقب�ض على مقاليد ال�سلطة والقرار يف بالدنا والت�أثري على كل الواقع االن�ساين االجتماعي‬ ‫ال�سيا�سي احل�ضاري املعي�ش يف بالدنا‪.‬‬ ‫ملاذا العودة اىل هذه الوقائع؟ وملذا �س ُرب �أغوار هذه امل�سارات يف تاريخنا ال�سابق؟‬ ‫ال�سبب ب�سيط يتمثل يف هذا الت�سل�سل املنطقي التاريخي ملا مت ر�سمه يف العقود الأوىل من القرن‬ ‫الع�شرين‪.‬‬ ‫‪18‬‬


‫حتوالت املجتمع والإن�سان‬

‫بالطبع‪ ،‬هناك م�سارات متداخلة ومت�شعبة حكمت تطور الأحداث خالل املراحل التاريخية‬ ‫ال�سابقة‪ ،‬وكلها تنطلق من حقيقة ا�ستالب يعي�شها ان�ساننا كنتيجة منطقية لغياب الوعي‪،‬‬ ‫وا�ضمحالل ال�شخ�صية الوطنية والقومية واالن�سانية واحل�ضارية وان�سحاقها يف �آتون ال�صراعات‬ ‫املتعددة الأ�شكال والعناوين والتي �شغلت العقل والتفكري ّ‬ ‫وعطلت كل امكانية للتقدم ال�صحيح‪،‬‬ ‫والتطور االيجابي الب ّناء‪ ،‬والو�صول اىل اال�ستقرار الن�سبي املن�شود الذي ي�شكل قاعدة الأمان‬ ‫احلقيقي لأي جمتمع واحلا�ضن لال�ستمرار واحلفاظ على الوجود‪.‬‬ ‫واذا ما عدنا اىل الوقائع‪ّ ،‬‬ ‫�شكل وعد بلفور احللقة الأوىل يف حلقات الت�آمر املتمثل يف زرع كيان‬ ‫اال�ستيطان اليهودي ال�سرطاين على �أر�ض فل�سطني واملحيط الطبيعي‪ ،‬حيث �أن امل�شروع الأ�صلي‬ ‫هو اال�ستيطان والتمدد يف حركة �إلغائية للتاريخ واحل�ضارة والبنى‪ ،‬و�إ�سقاط كل مداميك احل�ضارة‬ ‫والهوية املت�شكلة يف بالدنا عرب تاريخ طويل من احلراك والتفاعالت االن�سانية العميقة التي �ساهمت‬ ‫يف بلورة معامل هوية �إن�سانية ح�ضارية جذورها �ضاربة يف �أعماق ح�ضارات الإن�سان منذ القدم‪.‬‬ ‫وكما يف نهاية احلرب العاملية الأوىل‪ ،‬كذلك يف �أعقاب احلرب العاملية الثانية مت �أخذ قرارات عاملية‬ ‫على م�ستوى املنت�صرين يف هذه احلرب طالت م�صائر �شعوب ب�أ�سرها‪ ،‬وال �سيما قرار ان�شاء «دولة‬ ‫ا�سرائيل» وت�شريعها وقبولها يف «منظمة الأمم املتحدة» مما �شكل �سابقة خطرية يف تاريخ ن�شوء الدول‬ ‫والكيانات ال�سيا�سية‪ ،‬وجرمية كربى بحق االن�سانية‪.‬‬ ‫ولعل التوازنات الدولية التي �أر�ستها احلرب العاملية الثانية �أرخت هي الأخرى بظاللها على‬ ‫العقود التي تلتها يف ظل حرب باردة بني املع�سكر الغربي بقيادة الواليات املتحدة الأمريكية‬ ‫واملع�سكر ال�شرقي بقيادة االحتاد ال�سوفياتي ال�سابق‪ ،‬هذه التوازنات ولدت �أو �ساهمت يف توليد‬ ‫حروب و�صراعات اقليمية متعددة غطت م�ساحتها كل القارات‪ ،‬ولكنها بقيت م�ضبوطة بايقاع‬ ‫تفاهمات �ضمنية �سلبية غري معلنة بني املحورين (احلرب الباردة)‪.‬‬ ‫وا�ستمر ال�صراع مع الكيان ال�صهيوين يف منطقتنا ب�أ�شكال خمتلفة ومتعددة‪ ،‬وكان العدوان‬ ‫على م�صر يف اخلم�سينيات ومن بعدها حروب ‪ 1967‬و ‪ 1973‬وما بينهما من ن�شوء حركة املقاومة‬ ‫الفل�سطينية وانطالق ظاهرة الكفاح امل�سلح الفدائي يف اطار منظمة التحرير الفل�سطينية وف�صائلها‬ ‫املختلفة واملتنوعة‪ ،‬كل هذه الأحداث والتطورات �أ�س�ست للعقود الأربعة التي تلت و�صو ًال اىل‬ ‫�أيامنا هذه‪.‬‬ ‫اخلال�صة امل�ستقاة‪ ،‬تتمثل يف هذا الرتابط القوي بني الأحداث والتطورات يف �سياق امل�شاريع‬ ‫التي تهدف ب�شكل خا�ص اىل املزج �أو التماهي بني امل�شروع ال�صهيوين باعتباره غزوة ا�ستيطانية‬ ‫�إحاللية �إلغائية لها مرتكزاتها العقائدية التوراتية التلمودية وبني م�شاريع ال�سيطرة اال�ستعمارية‬ ‫الغربية وخا�صة الأمريكية على الرثوات اخلام �ضبط وم�صادر الطاقة وال �سيما النفط والبرتول‬ ‫‪19‬‬


‫بالنظر اىل �أهميته اال�سرتاتيجية على حياة وم�سار تطور الأمم وال�شعوب حول العامل‪ ،‬و�أي�ضاً التماهي‬ ‫مع الرجعية املحلية يف بالدنا والتي كانت تقب�ض فيها على مقاليد ال�سلطة بكل وجوهها و�أ�شكالها‪.‬‬ ‫مرحلة ما بعد ال�سبعينيات‬

‫�إن مرحلة ال�سبعينيات من القرن الع�شرين كانت حافلة بالأحداث والتطورات واملتغريات التي‬ ‫كانت ت�ؤ�شر اىل مقاربات خمتلفة يف منطقتنا لل�صراع مع الكيان ال�صهيوين‪ ،‬وجاءت حرب ت�شرين‬ ‫‪ 1973‬لت�ؤكد نظرية االختالف يف قراءة طبيعة ال�صراع وم�آله امل�ستقبلية‪ ،‬بني نظرتني خمتلفتني يف‬ ‫اجلوهر وامل�ضمون‪ ،‬واحدة ت�سعى لإقامة ت�سوية �سلمية مع الكيان الغا�صب يف فل�سطني تتخلى فيه‬ ‫عن احلقوق يف الأر�ض وال�سيادة واحلرية واال�ستقالل احلقيقي‪ ،‬وقد مثل هذا التوجه على �سبيل‬ ‫املثال ال احل�صر �أنور ال�سادات الذي قرر املفاو�ضات وذهب بعيداً يف خياراته اال�ست�سالمية اذ زار‬ ‫فل�سطني املحتلة ودخل نفق املفاو�ضات مع العدو اىل �أن قام بالتوقيع على معاهدة كامب ‪ -‬دايفيد‬ ‫التي �أخرجت م�صر من ال�صراع مع الكيان ال�صهيوين يف �صفقة ت�سووية هدفت اىل ت�صفية امل�س�ألة‬ ‫الفل�سطينية وت�صفية احلقوق ال�شرعية لل�شعب الفل�سطيني يف حترير �أر�ضه التاريخية لقاء مكا�سب‬ ‫�آنية مل�صر اذ ح�صلت على جائزة تر�ضية يف �صحراء �سيناء ب�شروط ا�سرائيلية مهينة‪.‬‬ ‫ويف املقابل‪ ،‬برزت جبهة رف�ض �شامل لهذا االتفاق امل�ش�ؤوم على امل�ستويني ال�شعبي والر�سمي‬ ‫قادتها �سوريا �آنذاك و�أيدتها بال�شكل �أغلب الدول العربية التي قطعت عالقاتها مع النظام امل�صري‪،‬‬ ‫ومت �إخراج م�صر من اجلامعة العربية وعزلها �سيا�سياً‪.‬‬ ‫ومتحورت منذ تلك الآونة ال�صراعات يف املنطقة حول اخليارات الأ�سا�سية املتعلقة ب�أ�صل النظرة‬ ‫اىل هذا ال�صراع‪ ،‬وكانت كل جهة تعمل على تدعيم موقفها ومنطقها وعلى ح�شد الطاقات‬ ‫واالمكانات يف هذا �أو ذاك االجتاه‪.‬‬ ‫وكانت احلرب الأهلية يف لبنان يف جانب �أ�سا�سي منها تندرج يف �سياق هذا ال�صراع املحموم يف‬ ‫ظل امل�شاريع الدولية التي ازدحمت يف تلك الآونة والتي تركزت ب�شكل �أ�سا�سي على التفتيت‬ ‫والتق�سيم لإ�ضعاف اجلبهة ال�شعبية القومية الراف�ضة لت�صفية امل�س�ألة الفل�سطينية وتثبيت وجود‬ ‫«دولة ا�سرائيل» يف قلب املعادلة الإقليمية و�إ�ضفاء �شرعية دولية �إ�ضافية عليها‪.‬‬ ‫لقد مثلت احلرب اللبنانية التي انطلقت فعلياً يف ‪ 13‬ني�سان ‪� 1975‬صورة م�صغرة للواقع العربي‬ ‫والإقليمي والدويل‪ ،‬فقد �شكلت هذه احلرب نقطة تقاطعات حملية واقليمية ودولية مت�شعبة‬ ‫ومتعددة ومتنوعة‪ ،‬وتداخلت فيها الأ�سباب والعوامل والدوافع على ا�ستمرارها لفرتة ناهزت الـ‬ ‫‪ 16‬عاماً و�أدت �إىل كوارث ب�شرية ان�سانية واقت�صادية ونف�سية جتاوزت بكثري حدود الكيان اللبناين‪.‬‬ ‫‪20‬‬


‫حتوالت املجتمع والإن�سان‬

‫وقد طبع العمل امل�سلح الفل�سطيني والقومي املرحلة بطابعه املميز و�أعاد الألق اىل حركات التحرر‬ ‫الوطني والقومي يف بالدنا وعاملنا العربي‪ ،‬وحقق �إجنازات يف �ضرب هيبة الدولة العربية وت�أكيد حق‬ ‫�شعبنا يف املقاومة والتحرير والوحدة‪ ،‬ومت ن�سج �شبكة عالقات عربية و�إقليمية ودولية ا�ستطاعت‬ ‫حتقيق �أعلى ن�سبة تعاطف مع �شعبنا الفل�سطيني وق�ضيته املحقة‪ ،‬وقامت بتعرية الكيان ال�صهيوين‬ ‫وطبيعته العدوانية الإجرامية اال�ستئ�صالية للتاريخ واحل�ضارة والإن�سان‪ ،‬ومت ا�ست�صدار قرار دويل‬ ‫يدين فيه ال�صهيونية ويعتربها حركة عن�صرية‪ ،‬وقد مثّل هذا الأمر بحد ذاته اجنازاً للديبلوما�سية‬ ‫املقاومة �آنذاك‪ ،‬طبعاً ما كان لهذا القرار �أن ي�صدر لوال احت�ضان قوى دولية �صديقة كان على ر�أ�سها‬ ‫�آنذاك االحتاد ال�سوفياتي‪.‬‬ ‫ويف ال�سبعينيات كان اجتياح �إ�سرائيل جلزء من جنوب لبنان و�إقامة �شريط حدودي بعمق ‪15‬‬ ‫كيلومرتاً �أقامت فيها �شبه دويلة بقيادة �سعد حداد �أو ًال و�أنطوان حلد الحقاً‪ ،‬دويلة �صنيعة لإ�سرائيل‬ ‫وت�أمتر ب�أوامر قادتها‪ ،‬وبعدها كان اجتياح ‪ 1982‬الذي قامت فيه القوات الإ�سرائيلية ب�أ�شمل عملية‬ ‫غزو بري هدفت يف ما هدفت �إليه‪� ،‬إىل ت�صفية منظمة التحرير الفل�سطينية و�ضرب خيار الكفاح‬ ‫امل�سلح من خالل تفكيك ف�صائل العمل الفل�سطيني امل�سلح والتخل�ص بالكامل من مقاومة‬ ‫ال�شعب الفل�سطيني يف اخلارج متهيداً ل�ضربها يف الداخل‪ ،‬وامل�ضي قدماً يف امل�شاريع اال�ست�سالمية‬ ‫التي كانت تخطط لها دوائر القرار العاملي بهدف اختزال الق�ضية الفل�سطينية وت�صفيتها‪.‬‬ ‫ا�ستطاعت القوات الإ�سرائيلية الو�صول �إىل بريوت بالنظر �إىل عدم التكاف�ؤ يف القوى الع�سكرية‬ ‫امليدانية عدداً وعدة‪ ،‬ولكن هذا اخللل يف موازين القوى الذي �أو�صل اجلي�ش الإ�سرائيلي �إىل‬ ‫بريوت‪ ،‬مل ي�ستطع حتقيق �أهدافه ال�سيا�سية �آنذاك‪ ،‬يف �إقامة حكم لبناين حليف �أو �صديق و�إقامة‬ ‫معاهدة �سلمية مع لبنان على غرار كامب دايفيد مع م�صر‪� ،‬إذ �إن املقاومة يف لبنان وجهت �ضربات‬ ‫قا�سية لالحتالل �أولها ا�سقاط ب�شري اجلميل الذي انتخب رئي�ساً للجمهورية اللبنانية يف ظل‬ ‫احلراب الإ�سرائيلية‪ ،‬ويف امليدان انطلقت ويف الأيام الأوىل بعد االجتياح عمليات املقاومة اللبنانية‬ ‫والفل�سطينية فكانت العملية الأوىل للمقاومة امليدانية «عملية �إ�سقاط �أمن و�سالمة اجلليل» التي‬ ‫�أطلقت ال�صواريخ على كريات �شمونة وغريها من م�ستوطنات �شمال فل�سطني‪ ،‬وكرت �سبحة‬ ‫العمليات الع�سكرية �ضد االحتالل يف بريوت مع خالد علوان يف مقهى الوميبي‪ ،‬وعملية ب�سرت�س‬ ‫وغريها من العمليات يف بريوت واجلبل وجنوب لبنان‪ ،‬وبد�أ تيار املقاومة بالتو�سع واالنت�شار‬ ‫والتمدد‪ ،‬وحقق يف ال�سنوات التي تلت �إجنازات كبرية ولو يف ظل ال�صراع الداخلي اللبناين ‪-‬‬ ‫اللبناين الذي هو بالتايل ميثل �صراعات على اخليارات الأ�سا�سية املتعلقة يف جانب �أ�سا�سي منها‬ ‫على موقع لبنان ودوره يف ال�صراع القومي �ضد الكيان ال�صهيوين وعمالئه‪.‬‬ ‫وقد جاء �إ�سقاط اتفاق ‪� 17‬أيار مبثابة �صفعة قوية لكل املراهنني على �سراب التطبيع والإحلاق‬

‫‪21‬‬


‫والهيمنة الإ�سرائيلية على لبنان وحميطه القومي‪ ،‬وقد متت �آنذاك �إدارة معركة املواجهة بكثري من‬ ‫احلكمة والدقة وال�صرب والت�أين‪.‬‬ ‫على امل�ستوى ال�سيا�سي تعددت الأطر ال�سيا�سية التي قامت يف لبنان والتي جمعت القوى الوطنية‬ ‫الراف�ضة للتق�سيم والتفتيت واملقاومة لالحتالل الإ�سرائيلي يف �آن‪ ،‬ومت عقد م�ؤمترات �سيا�سية عدة‬ ‫حلل الأزمة اللبنانية يف لوزان وغريها‪ ،‬مل تو�صل اىل �أية نتائج‪ ،‬اىل �أن و�صلت الأطراف اللبنانية يف‬ ‫حلظة اقليمية ودولية منا�سبة اىل اتفاق الطائف برعاية �سعودية ‪� -‬سورية وحتت مظلة دولية تقاطعت‬ ‫فيها الر�ؤى وامل�صالح الدولية والرغبة الداخلية اللبنانية فدخل لبنان مع الطائف مرحلة جديدة‬ ‫كان عنوانها ار�ساء دعائم دولة الطائف التي �شكلت متنف�ساً وم�ساحة اللتقاط الأنفا�س وللتنعم‬ ‫بفرتة من اال�ستقرار بالنظر طبعاً اىل الت�شوهات البنيوية املوجودة يف قلب هذا االتفاق والذي‬ ‫تبني الحقاً �أنه ‪ -‬بطبيعة احلال ‪ -‬ميثل ت�سوية �سيا�سية م�ؤقتة عك�ست توازنات قوى حملية واقليمية‬ ‫ودولية‪� ،‬أو مرحلة انتقالية حتاول الأطراف جمتمعة اعادة تفعيل قواها ا�ستعداداً للم�ستقبل‪.‬‬ ‫فل�سطينياً‪� ،‬شكلت حرب املخيمات يف الثمانينيات مف�ص ًال �أ�سا�سياً‪ ،‬اذ �أنها حملت يف طياتها بذور‬ ‫االختالف يف الداخل الفل�سطيني حول �آفاق ال�صراع امل�ستقبلي من �أجل فل�سطني‪ ،‬وكانت متثل‬ ‫هذه احلرب �صراع اخليارات الدائر حول م�ستقبل فل�سطني‪.‬‬ ‫وبالطبع‪ ،‬كان وا�ضحاً �أن ال�صراع على امتالك ورقة املخيمات الفل�سطينية مبا متثله من زخم و�شرعية‬ ‫�شعبية �سيعطي الطرف املنت�صر (بني هاللني) موقع قوة �إما للم�ضي قدماً يف عملية التفاو�ض وعقد‬ ‫الت�سويات ال�سلمية يف حال كان املنت�صر ميثل وجهة النظر تلك‪� ،‬أو باملقابل انت�صار الطرح الذي‬ ‫يدعو اىل املقاومة والتم�سك باحلق القومي‪ ،‬و�إعطاء ال�صراع طابعه القومي الطبيعي باعتبار �أن‬ ‫ا�سرائيل متثل خطراً وجودياً لي�س فقط على فل�سطني بل على كل املحيط الطبيعي من العراق �إىل‬ ‫بالد ال�شام �أي على كامل �سوريا الطبيعية التاريخية‪.‬‬ ‫وبالنتيجة‪ ،‬مالت كفة القوة جلهة قوى املقاومة‪ ،‬وترافق هذا زمنياً مع اندالع االنتفا�ضات الفل�سطينية‬ ‫الأوىل والثانية التي �أثبتت �أن اخليار املقاوم هو الأ�سلم والأقدر على �إحقاق احلق وحتقيق الإجنازات‪،‬‬ ‫وقد �أثبتت املقاومة الوطنية يف لبنان نظرية �أن «العني تقاوم املخرز» و�أن �إرادة ال�شعب املقاوم اذا‬ ‫ما اقرتنت بالفعل الثوري املقاوم ت�ستطيع �أن حتقق الإجنازات‪ ،‬فمن العمليات اال�ست�شهادية يف‬ ‫اطار جبهة املقاومة الوطنية اللبنانية �إىل تزخيم العمليات املقاومة امل�سلحة �ضد اجلي�ش اال�سرائيلي‬ ‫على �أر�ض لبنان يف اطار «املقاومة اال�سالمية» الحقاً‪ ،‬كان التحرير يف العام ‪ ،2000‬ليثبت بالعني‬ ‫املجردة �أن الإرادة وفعلها حققا بالفعل �إجناز التحرير‪ ،‬وقد �شكل هذا االنت�صار ال�سند لل�شعب‬ ‫الفل�سطيني يف الداخل لتطوير ن�ضاله الوطني ب�شتى الو�سائل لتحقيق �إجناز التحرير على املدى‬ ‫الطويل‪ ،‬و�إحداث خلل يف املفهوم الإ�سرائيلي الوجودي مرحلياً‪.‬‬ ‫‪22‬‬


‫حتوالت املجتمع والإن�سان‬

‫هذه االنت�صارات امليدانية عززت يف عقل �إن�ساننا ثقة بالذات ك�سرت املعادالت‪ ،‬و�شكلت بداية‬ ‫حترير لهذا العقل من كل املعطالت التي جمدت تطوره وارتقاءه‪ ،‬وحققت هذه الإجنازات‬ ‫خرقاً لل�صورة النمطية التي �أراد الآخر ت�أبيدها يف �أذهاننا لتعميق حاالت اال�ستالب املجتمعي‬ ‫واحل�ضاري والإن�ساين لأمتنا وجمتمعنا‪.‬‬ ‫�رصاع احل�ضارات‬

‫بد�أت منذ ت�سعينيات القرن املا�ضي تظهر كتابات لك ّتاب غربيني و�أمريكيني حول مفهوم �صراع‬ ‫احل�ضارات ونهاية التاريخ‪ ،‬وكانت كلها تندرج يف �سياق الت�أ�سي�س الفكري لتربير ال�سيا�سات‬ ‫اال�ستعمارية و�إ�ضفاء �صفة �شرعية �أخالقية عليها ليت�سنى ت�سويقها واعتبارها واحدة من حقائق‬ ‫ال�صراع امل�ستقبلي حول العامل‪.‬‬ ‫بالطبع ال جمال للخو�ض تف�صيلياً يف تلك النظريات ولكنها تتمحور بطبيعة احلال حول تربير‬ ‫االنق�سامات واالن�شطارات حول العامل على قاعدة ثقافية ودينية وت�أ�صيل هذه االنق�سامات‬ ‫وتعميقها‪.‬‬ ‫وجاءت �أحداث �أيلول ‪ 2001‬يف ال�سياق املر�سوم لها لت�ؤكد �صحة هذه النظرية حول انق�سام عميق‬ ‫على مدى الكوكب بني ح�ضارتني �إ�سالمية يتم ل�صق �صفة االرهاب بها‪ ،‬وبني ح�ضارة غربية‬ ‫م�سيحية مت�ساحمة حتارب من �أجل احلرية والتطور والنمو‪.‬‬ ‫وقد اندرج غزو �أفغان�ستان حتت هذا العنوان «�صراع احل�ضارات واملعركة �ضد االرهاب»‪ ،‬وكذلك‬ ‫اجتياح العراق يف العام ‪� ،2003‬أي بكالم �آخر‪� ،‬شكل عنوان «االرهاب» و «نظرية �صراع‬ ‫احل�ضارات» الأ�سا�س العقائدي الذي اعتمدته االدارة الأمريكية لت�سويق م�شاريع �سيطرتها على‬ ‫ثروات ال�شعوب وم�صادرة خرياتها وال �سيما م�صادر الطاقة حول العامل وال �سيما يف منطقتنا‬ ‫العربية‪ ،‬وطبعاً فر�ض م�شاريعها ور�ؤاها ال�سيا�سية التي تتقاطع يف بالدنا مع امل�شروع ال�صهيوين بكل‬ ‫جتلياته وا�ستهدافاته‪.‬‬ ‫وقد ا�ستهدفت هذه امل�شاريع وب�شكل مبا�شر �ضرب كل حركات املقاومة يف بالدنا وت�أليب العامل‬ ‫عليها‪ ،‬وحماولة �إل�صاق تهمة الإرهاب بها‪ ،‬فكانت �أحداث لبنان يف العام ‪ 2005‬واغتيال احلريري‬ ‫واحلملة على حزب اهلل يف لبنان وحركة حما�س يف فل�سطني‪ ،‬وعلى �سوريا باعتبارها العمق‬ ‫اال�سرتاتيجي لكل حركات املقاومة يف بالدنا‪ ،‬وما زالت هذه احلملة م�ستمرة ب�أ�شكال جديدة‬ ‫تتمثل يف حماوالت يائ�سة الحداث فنت طائفية ومذهبية ال �سيما منها �سنية ‪� -‬شيعية و�إدخال‬ ‫املنطقة يف حروب ا�ستنزافية داخلية تدمر الهوية والكيانات ال�سيا�سية القائمة وتعيد ر�سم خرائط‬ ‫جيو ‪� -‬سيا�سية على هذه القاعدة‪ ،‬وقد غدا م�شروع التق�سيم اجلديد للمنطقة العنوان احلايل لكل‬ ‫‪23‬‬


‫الأحداث التي جتري من �شمال افريقيا �إىل كل املنطقة العربية وال �سيما امل�شرق العربي وم�صر‪.‬‬ ‫�أكذوبة الربيع العربي وارادة التغيري امل�سلوبة‬ ‫�شكل العام ‪ 2011‬بداية تغيريات دراماتيكية الفتة متزامنة يف العديد من الدول العربية من تون�س‬ ‫�إىل م�صر �إىل ليبيا ومن بعدها �سوريا‪ ،‬ال �شك يف �أن واقع النظام العربي الر�سمي يحمل يف طياته‬ ‫بذور الثورة والرف�ض والتغيري‪ ،‬فالظلم وعدم امل�ساواة وغياب احلريات و�سوء توزيع الرثوات القومية‬ ‫واال�ستغالل كلها �أ�سباب كانت يف �صلب احلراك الذي �شهدته هذه البلدان‪ ،‬فالعامل الداخلي‬ ‫�أ�سا�سي ويعرب عن توق هذه ال�شعوب للتغيري واالنعتاق من واقعها البائ�س‪.‬‬ ‫بيد �أن تطور الأحداث �أخذ اجتاهات جتاوزت بكثري �أ�صل احلراك‪ ،‬وكان وا�ضحاً �أن عملية ا�ستالب‬ ‫هائلة لهذا احلراك قد ح�صلت‪ ،‬ومت �أخذ احلراك اىل مكان �آخر يت�صل مب�شاريع م�شبوهة ومك�شوفة‬ ‫لها عالقة ب�إعادة ر�سم اخلرائط اجلديدة للمنطقة ب�أ�سرها حتقيقاً مل�صالح دولية تت�صارع يف بالدنا‬ ‫بالنظر اىل املوقع والأهمية اال�سرتاتيجية يف الأمن وال�سيا�سة واالقت�صاد‪.‬‬ ‫ولعل احلدث ال�سوري هو الأكرث داللة على ازدواجية املعايري‪ ،‬وعلى حقيقة اال�ستهدافات‪ ،‬وعلى‬ ‫طبيعة امل�شاريع التي ُيراد تنفيذها و�صو ًال �إىل التق�سيم والتفتيت وتر�سيخ هيمنة �إ�سرائيل على‬ ‫املنطقة‪.‬‬ ‫�آفاق التحوالت احلالية وم�ساراتها امل�ستقبلية‬

‫ما زلنا نواجه خيارات �صعبة وحتوالت مف�صلية �سترتك ب�صماتها على احلا�ضر وامل�ستقبل‪ ،‬وال‬ ‫�إمكانية للخال�ص من م�ستنقع االنق�سام والت�شظي واالندثار �إال بفكر نه�ضوي خالق مبدع يرتكز‬ ‫على قواعد را�سخة يف العقل ت�ؤ�س�س النطالقة جديدة تعيد �صياغة احلا�ضر وامل�ستقبل مبا يتالءم‬ ‫وطموحاتنا وطموحات �أجيالنا احلا�ضرة والآتية بالوحدة والتقدم والتنمية واالزدهار واال�ستقرار‬ ‫واحلرية واال�ستقالل‪.‬‬ ‫وهذه القواعد �شكلت عناوين انطالقة كل حركات التحرر القومي النه�ضوي منذ بدايات القرن‬ ‫الع�شرين وحتى �أيامنا هذه‪ ،‬وترتكز حول ف�صل الدين عن الدولة‪ ،‬تعزيز فكرة املواطنة‪ ،‬تعزيز‬ ‫احلريات‪ ،‬الت�أكيد على الهوية القومية اجلامعة لكل �أبناء الوطن‪ ،‬امل�ساواة الن�سبية يف توزيع الرثوات‬ ‫الوطنية‪ ،‬العدالة االجتماعية‪ ،‬منع اال�ستغالل و�سوء ا�ستعمال ال�سلطة‪ ،‬تعزيز الرقابة‪ ،‬تعزيز دور‬ ‫الدولة يف حماية املجتمع ويف تعزيز اال�ستقرار والأمن واحلريات‪.‬‬ ‫خياراتنا يف الثقافة والرتبية وبناء االن�سان اجلديد‪ ...‬هي خيارات النه�ضة والعقل والعلمنة والهوية‬ ‫واالنتماء اىل التاريخ واجلغرافيا واحل�ضارة واالن�سان‪...‬‬ ‫‪24‬‬


‫حتوالت املجتمع وا لإن�سان‬

‫كيف ميكن جعل امل�ستحيل ممكناً؟‬ ‫�أحمد من�صور ‪ -‬كاتب وباحث‬

‫حلقات زمن ّية وهم ّية متوا�صلة على �أر�ض املكان الثابتة‪ ،‬فال ّزمان احلركي‬ ‫ال�سنو ّية هي‬ ‫ٌ‬ ‫�إنَّ العقود ّ‬ ‫الب�شري هو الذي يعطي معنى للمكان الثابت الأر�ضي‪ ،‬ومن خالل اجلدل ّية امل�ستم ّرة‬ ‫املجتمعي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫بني الإثنني يعرف �سري َت ُه التاريخ الذي ديدن ُه ال�صراع بني الأفراد �أو اجلماعات والأمم‪ .‬هناك‬ ‫مراحل تبد�أ يف �أوا�سط القرن �أو �آخر القرن تنتهي �أو تبلغ �أوجها يف بداية �أو منت�صف القرن التايل‪.‬‬ ‫ف�إذا ما �أمع ّنا النظر يف القرن الع�شرين نرى حت ّوالت قد تكون بد�أت من احلرب العاملية الأوىل �أو‬ ‫ما قبلها فمراحل التاريخ لي�ست مراحل عدد ّية م ّب�سطة بل هي يف غاية التعقيد‪ .‬فالتاريخ يغور‬ ‫وميور ويفور مبقت�ضى جدل ّيته التي ال ُت ْد َر ُك �إ ّال عند �أهل االخت�صا�ص‪ ،‬فالأربعون �سنة الأوىل‬ ‫ال�ساللية‬ ‫يف القرن الع�شرين انتهت بحروب تق ّرر فيها م�صري الإمرباطور ّيات القدمية الأوروبية ُّ‬ ‫ال�شائخة كذلك الإمرباطور ّية العثمانية الإ�سالمية (الرجل املري�ض) ف�أ�صبحت ُمع ّراة من ممتلكاتها‬ ‫امل�ستعمرة‪ ،‬وعادت �إىل حجمها الطبيعي «كدولة»‪ ،‬كما تق ّرر فيما بعد م�صري الإمرباطور ّيات‬ ‫ال�شمول ّية املختلفة املتمثّلة بالفا�شية والناز ّية وال�شيوعية بالإمن�ساح من التاريخ �أو باال�ستمرار‬ ‫رات بداياتها يف حرب ‪ 1948‬الإ�سرائيلية‬ ‫امل�ؤقت‪� .‬أ ّما املرحلة الأربعينية امل�شرق ّية الثانية فكانت م�ؤ�شّ ُ‬ ‫جمدداً من حرب �أكتوبر �أو «الغفران» ‪ 1973‬بني‬ ‫ العرب ّية مفتاح تاريخ املنطقة احلديث لتنطلق ّ‬‫العرب والإ�سرائيليني‪.‬‬ ‫ال�سنوات الأربعني الأخرية (‪:)2013 - 1973‬‬ ‫التح ّوالت‬ ‫امل�رشقية يف ّ‬ ‫ّ‬

‫�إنَّ منطلق الأحداث يف امل�شرق العربي (مع عدم ن�سيان الثورة ال�سور ّية الكربى واحداث العراق‬ ‫وم�صر‪ )...‬كان تركز فل�سطني كق�ضية مركزية للعرب احتلت معظمها احلركة ال�صهيونية وح ّولتها‬ ‫�إىل دولة �إ�سرائيلية ذبحت و�ش ّردت �سكا ّنها‪ ،‬وما االنقالبات الع�سكرية التي ح�صلت (بالتواط�ؤ مع‬ ‫م�صالح دول غرب ّية) يف �سوريا وم�صر و�سواهما �سوى ا�ستغالل لهذه الق�ض ّية وحماوالت �إعادة ر ّد‬ ‫اعتبار خائب ب�شكل �أو ب�آخر �إىل �شعوب اجليو�ش العربية املهزومة‪.‬‬ ‫‪25‬‬


‫وامت�صت‬ ‫ال�سرطانية التي َم َن َع ْت النم ّو يف هذه املنطقة ّ‬ ‫لقد كانت هذه الق�ض ّية كاحل ّبة الوح�ش ّية ّ‬ ‫وبتو�سع العد ّو‬ ‫دماء �شبابها ّ‬ ‫بحجة حترير فل�سطني قمي�ص عثمانها الذي انتهى غالباً بالف�شل ّ‬ ‫القمة عام ‪ 1967‬يف النكبة الثانية (ال النك�سة كما قال القائد‬ ‫الإ�سرائيلي الذي ال يهد�أ بحيث بل َغ ّ‬ ‫املرحوم عبد النا�صر) حيث �أكملت �إ�سرائيل احتالل كامل الرتاب الفل�سطيني بالإ�ضافة �إىل‬ ‫�سينا واجلوالن وبع�ض القرى اللبنانية‪.‬‬ ‫�إن احلركة ال�صهيونية هي يف �أذكى و�أخبث حركة عرفها التاريخ عرفت كيف ّ‬ ‫تنظم ومترحل‬ ‫حيث �أعلن ّ‬ ‫املنظر الكبري هرتزل‪« :‬بعد‬ ‫امل�ستقبل فكانت نبوءة م�ؤمتر بال (�سوي�سرا عام ‪ُ )1897‬‬ ‫ال�ساعات ال�سوي�سر ّية‬ ‫خم�سني عام َاً �ستكون قد ت�أ�س�ست دولة �إ�سرائيل» الكالم كان بدقّة �صناعة ّ‬ ‫وهذا ما ح�صل بالفعل‪ .‬كما �أ�ضاف مبا معناه‪:‬‬ ‫كنت ح ّياً �آنذاك لأمرت مبحو كل ما هو �إ�سالمي �أو معاملي يف هذه البالد لكي تقطع عالقتها‬ ‫«لو ُ‬ ‫تتج�سد يهود ّية الدولة الإ�سرائيلية بالكامل ح�سب خمياله‬ ‫كل ّياً باملا�ضي الذي ال نريده و�أن ّ‬ ‫ال�صهيوين»‪.‬‬ ‫ال�صهيونية‪:‬‬ ‫ُب ْع ُد نظر احلركة‬ ‫ّ‬

‫اكت�شفت هذه احلركة حم ّرك التاريخ املحوري وا�ستثمرت ُه �إىل �أبعد احلدود من حيث امل�سرى‬ ‫لقد‬ ‫ْ‬ ‫أهم امل�سيرّ للعامل �أال وهو املال‪ ...‬فكما �أن ُه من املاء ُيخلقُ ّ‬ ‫حي َف ُه ْم‬ ‫ومن حيث العن�صر ال ّ‬ ‫كل �شي ٍء ّ‬ ‫من املال يخلقون ال�سيا�سة برجالها و�أنظمتها كما مل تن�سَ �أهم ّية العلم بالإ�ضافة �إىل العن�صر الأول‬ ‫الذي بف�ضل ِه ت�سيطر على مفا�صل العامل احليو ّية‪ .‬وهذا ما ت�س ّنى لها ّ‬ ‫بكل جدارة وا�ستحقاق‪ ،‬ففي‬ ‫يهودي يف فل�سطني واح ًة للح�ضارة الغرب ّية‬ ‫قومي ّ‬ ‫البداية اقنعت بريطانيا ب�إعالن وعدها �إن�شاء كيانٍ ّ‬ ‫و�سداً �أمام «الرببرية العربية الإ�سالمية» وذلك بعد �أن ف�شلت يف �أن ت�شرتي فل�سطني ّ‬ ‫بالذهب من‬ ‫ّ‬ ‫ال�سلطان العثماين عبد احلميد‪.‬‬ ‫بعد �أن �أ�صبحت دول ًة اعتمدت على فرن�سا ت�سليحاً و�سيا�س ًة فهي التي وف ّرت لها ما �أرادت‪ ،‬زد‬ ‫نووي كي تتمكن يف ما بعد من احل�صول على القنبلة‬ ‫على ذلك م�ساهمتها الف ّعالة يف بنا ِء مفاعل ّ‬ ‫ت�ضمن دفاعاً ردعياً نوع ّياً �أمام الكرثة ِالعربية ِالكاثرة‬ ‫النووية و�صناعة مئات الر�ؤو�س الذر ّية كي‬ ‫َ‬ ‫عدد ّياً‪.‬‬ ‫زت اعتمادها �شبه الكامل على ظهر العمالق‬ ‫َ‬ ‫بعد حرب ال�سوي�س (العدوان الثالثي عام ‪ّ )1956‬رك ْ‬ ‫الأمريكي مع عدم ن�سيان العمالق ال�سوفياتي الآخر الذي كانت قد زرعت يف �أو�ساط ِه القيادية‬ ‫أهم عنا�صر يهود ّييها‪ ،‬كما يجد ُر �أ ّال نن�سى ا�ستغاللها لأملانيا بحجة التعوي�ضات‬ ‫العليا عنا�ص َر من � ِّ‬ ‫‪26‬‬


‫حتوالت املجتمع والإن�سان‬

‫تزع ْم‪ ،‬ودعم �أمريكا لها �شبه الأوتوماتيكي يف هذا املجال‪.‬‬ ‫عن «حمرقة ال�ستة ماليني يهودي» كما ُ‬ ‫ف�ضمنت �سالمتها‬ ‫غدت كحي ٍة ذات ر�أ�سني‪ :‬الأمريكي والإ�سرائيلي‬ ‫ْ‬ ‫وال�سيا�س ُة الأمريكية ْ‬ ‫«التاريخية»!!‪...‬‬ ‫ممنو ٌع تغيري الو�ضع القائم (ال�ستاتيكو) والتغيري الدميقراطي‬ ‫(على الطريقة اجلزائرية)‪:‬‬

‫ُ‬ ‫بعد �أن � َ‬ ‫أو�شك‬ ‫منذ حماولة حممد علي با�شا توحيد املنطقة بقيادة م�صر ووقوف الغرب يف وجه ِه َ‬ ‫امل�صري مذ ّي ًال ب�سينا‪.‬‬ ‫ابنه �إبراهيم با�شا على الو�صول �إىل العا�صمة �إ�سطمبول و�إعادت ِه �إىل املربع‬ ‫ّ‬ ‫كذلك ُ‬ ‫الع�شرين لتوحيد املنطقة‬ ‫بعد منت�صف القرن‬ ‫منذ املحاول ِة النا�صر ّية الرائدة التي بد� ْأت َ‬ ‫ْ‬ ‫وم�صريها امل�شابه ملحاولة حممد علي وهزميتها القا�صمة يف حرب حزيران ‪( 1967‬مروراً بانف�صال‬ ‫الوحدة عام ‪ 1961‬وحرب اليمن ‪.)1962‬‬ ‫�إنَّ حرب حزيران مل ّ‬ ‫بحرب من نوع ٍ ٍ‬ ‫�سـماها‬ ‫جديد‬ ‫ّ‬ ‫حتطم عبد النا�صر نهـائ ّياً فا�ست�أنفها ٍ‬ ‫عبقري ّ‬ ‫وم�ست �إ�سرائيل والتي ت ّوجها خلف ُه الرئي�س ال�سادات بـ «حرب‬ ‫«حرب اال�ستنزاف» التي ْ‬ ‫طالت ّ‬ ‫مت الغرور الإ�سرائيلي مما‬ ‫الغفران» �أكتوبر ‪ 1973‬التي‬ ‫وحج ْ‬ ‫اعادت االعتبار ن�سب ّياً �إىل م�صر ّ‬ ‫ْ‬ ‫فتح جما ًال �أما َم الواليات املتحدة لإيجاد ٍّ‬ ‫حتت املظ ّل ِة‬ ‫حل متوازنٍ ب َني البلدين‬ ‫ي�ضمن بقاءهما َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ولكن الأمور مل ت�سِ ْر بالكامل كما �شا َء الأمريكيونَ ‪.‬‬ ‫الأمريكية‪ْ ،‬‬ ‫الن�سبي يف احلرب‬ ‫على �أي ِة حال الحظ كي�سنجر الداهية وزير خارجية �أمريكا �أنَّ انت�صار العرب‬ ‫ّ‬ ‫عربي مده�ش �ستكون ل ُه‬ ‫مبني على‬ ‫ٍ‬ ‫ت�ضامن ٍّ‬ ‫وا�ستخدامهم النفط لأ ّول م ّرة ك�سالح ٍ يف املعركة ٍّ‬ ‫نتائج قد ال تحُ ْ َم ُد عقباها بالن�سب ِة لأمريكا وا�سرائيل والغرب يف امل�ستقبل‪ ،‬فق ّر َر كي�سنجر تغيري‬ ‫املعادلة َ‬ ‫وذلك �أنَّ حروب امل�ستقبل يجب �أن تكونَ حروباً عربي ًة ‪ -‬عربية فكانت احلرب بني م�صر‬ ‫وليبيا وبني اجلزائر واملغرب بالوكالة عن طريق البولي�ساريو واحلرب �أو احلروب اليمن ّية ‪ -‬اليمن ّية‬ ‫ومن َّثم يجب �أن تبد�أ مرحلة �أخرى مذهب ّية حروب �سن ّية ‪� -‬شيع ّية‪ ،‬واللعب على جميع �أ�شكال‬ ‫التناق�ضات يف املنطقة التي ت ّوجتها العبقرية الأمريكية بنظرية «ال�شرق الأو�سط اجلديد» والذي‬ ‫وب�شكل �آخر عن طريق‬ ‫مل ت�ستطع حتقيق ُه دفع ًة واحد ًة وب�سرعة‪ .‬ف�أرادت الو�صول �إليه بالتق�سيط‬ ‫ٍ‬ ‫والدول‬ ‫معممة عنيفة �إىل �أق�صى احلدود‪ّ ،‬‬ ‫الفو�ضى اخلالقة التي ّفجرت ُعق َْد املنطقة‪ ،‬فالفو�ضى ّ‬ ‫�أخذت تتنا�سل دو ًال َ‬ ‫ناهيك عن احلروب الأهل ّية التي ح�صلت يف لبنان والعراق و�سور ّيا وال�سودان‬ ‫والفل�سطينية ‪ -‬الفل�سطينية (الفتحية ‪ -‬احلما�سية) �أ ّما حماولة مقاربة الدميقراطية التي حاولتها‬ ‫ذهب �ضحيتها مئات الآالف‪ ،‬ذلك �أ ّن ُه ممنوع �أن تكون دميقراطية على‬ ‫اجلزائر فانتهت ٍ‬ ‫بحرب �أهل ّية َ‬ ‫الطريقة اجلزائرية‪ ،‬كما قال ميرتان رئي�س جمهورية فرن�سا الأ�سبق‪.‬‬ ‫‪27‬‬


‫مهمة تهويد الدولة الإ�سرائيلية‬ ‫ويف حال ح�صول قيام الدول املذهبية كما هو الآن فهذا �سي�سهل ّ‬ ‫التي �ست�سمح لها بطرد العرب املقيمني فيها م�سلمني وم�سيحيني الذين يتجاوز عددهم املليون‬ ‫ون�صف املليون وكذلك غري اليهود الذين ت�س ّللوا �إىل داخل الدولة الإ�سرائيلية‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫مبعظمه؟‬ ‫كيفَ اخلروج من املحن التي تغطّ ي العامل العربي‬

‫لقد � َ‬ ‫فالدولة العربية يف طريقها �إىل الدويالت‬ ‫يرتحمون على معاهدة �سايك�س ‪ -‬بيكو‪ّ .‬‬ ‫أخذ كثريون ّ‬ ‫وال ُع�صَ ب ال بلْ �إىل الزوال‪ .‬والدول الإقليمية الكربى املجاورة يف مث ُلثها غري املت�ساوي الأ�ضالع‬ ‫متتد خراطيمها احلا ّدة‪ ،‬والعرب يف معام َع مبنتهى الوح�ش ّية والهمج ّية فيما‬ ‫بل املت�ساوي النيات ُّ‬ ‫بينهم تتجاو ُز ْ‬ ‫اخليال‪ ،‬واجلامع ُة العربية بدت الرجل املري�ض اجلديد (دون ممتلكات) �سوى القرارات‬ ‫الفارغة والبيانات اخلاوية‪.‬‬ ‫وحدوي رازح ٌة الآن يف حال ٍة ال تحُ ْ�سَ ُد عليها وال ُتب�شِ ُر باخلري‬ ‫�إنَّ م�صر القلب وحجر الزاوية ل ّأي بنا ٍء‬ ‫ّ‬ ‫يف القريب العاجل‪.‬‬ ‫�إنَّ على قيادتها ومثقفيها اجرتاع املعجزات لإعادة تثبيت البو�صلة وتركيز الثوابت من جديد‪.‬‬ ‫مهدد ًة � ُ‬ ‫بعد م�شروع «�سد النه�ضة» يف �أثيوبيا‪ ،‬كما �أنَّ‬ ‫متوت عط�شاً َ‬ ‫لقد �أ�صبحت ّ‬ ‫أر�ض الكنان ِة ب�أنْ َ‬ ‫بالدور املطلوب منها لتقومي اعوجاجات الأو�ضاع‬ ‫على املفكرين العرب والأحزاب العربية �أنْ تقو َم ّ‬ ‫غري الطبيعية التي نعي�شُ ها‪.‬‬ ‫ويوحدهم‪ .‬هذ ِه الثقافة‬ ‫نك ّرر‪ :‬تبقى الثقاف ُة هي الأملْ الوحيد الذي يجم ُع �أبناء الأ ّمة العربية ّ‬ ‫التي �أداتها اللغ ُة العربي ُة ال�سامية لغ ُة ال�شعر والرواية والفل�سفة والتاريخ واجلغرافيا وعلم االجتماع‬ ‫وال�سينما وامل�سرح والأغنية وال ّر�سم‪...‬‬ ‫ٍ‬ ‫لفتوحات جديدة هي فتوح احلدود فيما بينها‪ .‬هذ ِه الفتوح التي تتك ّون من‬ ‫�إنَّ هذ ِه املنطقة ظامئ ٌة‬ ‫بعربي املهجر م�سلماً كانَ �أو م�سيح ّياً‪.‬‬ ‫بعربي �آ�سيا ّ‬ ‫عربي �إفريقيا ّ‬ ‫نوع ٍ �آخر اللتقاء ّ‬ ‫ما�س ٍة �إليهما يف هذ ِه املرحل ِة‬ ‫�إنَّ ات�ساع الر�ؤيا وحر ّية العبارة هما الو�سيلتان اللتان ُ‬ ‫نحن بحاج ٍة ّ‬ ‫غرب و�صهيوني ٍة ال يقيمانِ لل�سوى ح ّقاً مثقال‬ ‫بالذات التي ُت ِّ‬ ‫هد ُد م�صرينا ووجودنا �س ّيما �أننا �أما َم ٍ‬ ‫ذر ٍة �إ ّال يف الن�صو�ص التي ُت�ض ّج باخلوا ِء والرياح‪ ،‬خ�صو�صاً �إذا ما كانَ من العامل الثالث من العرب‬ ‫امل�سلمني وامل�سلمني ب�شكل خا�ص‪...‬‬ ‫بعد هزميتهم ال�ساحقة يف احلرب العاملية الثانية مل يكونوا يبكون وينوحون على الأر�صفة‬ ‫�إنَّ الأملان َ‬ ‫عيد بناء �أملانيا من جديد و�سنجعلها �أف�ضل مما كانت‪ .‬وهذا‬ ‫ويف الزوايا بلْ كانوا �صوتاً واحداً‪� :‬س ُن ْ‬ ‫‪28‬‬


‫حتوالت املجتمع والإن�سان‬

‫ما كان‪ .‬ف�أملانيا اليوم هي البلد الذي انت�صر يف حرب االقت�صاد ال عن طريق الدبابات والطائرات‪،‬‬ ‫ال�سيا�سي‬ ‫االقت�صادي‬ ‫أهم والأغنى والأقوى والبلد الذي يقود �أوروبا بالفعل‬ ‫ّ‬ ‫وهي اليوم البلد ال ّ‬ ‫ّ‬ ‫الع�سكري‪.‬‬ ‫القووي‬ ‫ولي�سَ بالفعل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫العربي قال‪« :‬اطلبوا العلم ولو يف ال�صني»‪ .‬فلماذا ال نتع ّلم من قار ٍة جار ٍة لقارتنا ن�ستطي ُع‬ ‫فالر�سول ّ‬ ‫ال َ‬ ‫ٍ‬ ‫�ساعات من �ضف ٍة �إىل �أخرى‪.‬‬ ‫إنتقال �إليها يف‬ ‫هجانة النظرية ال�سيا�سية العربية �أو النظام املفقود‪:‬‬

‫لقد انقط َع العرب �سيا�س ّياً عن ما�ضيهم امل�ضيء ّمد َة � ِ‬ ‫ألف �سن ٍة على الأقل‪ ،‬ودخلوا بتقليد النظام‬ ‫االجتماعي يف ٍ‬ ‫بلد ما‪ .‬فهم‬ ‫ال�سيا�سي‬ ‫الغربي الذي مل ي�ستوعبوه لأنَّ النظرية ال�سيا�سية �إبنة الواقع‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫كانوا يقلدون ب�شكل غري مدرو�س النظام امللكي الذي ال يعرف ُه بلْ يرف�ض ُه الإ�سالم �إىل النظام‬ ‫اجلمهوري الذي مل يفهموه‪ ،‬والدميقراطية واال�شرتاك ّية والقومية التي مل يح�سنوا ال فهمها وال‬ ‫تطبيقها‪.‬‬ ‫عم اال�ستبداد والف�ساد الديني والع�سكري قامت االنقالبات والثورات واخذت تتقاط ُع‬ ‫َ‬ ‫بعد �أنْ َّ‬ ‫عبث ّياً املفاهيم فالقائد الأب يريد �أن يو ّرث ال�سلطة لوريث ِه االبن كما َ‬ ‫ح�صل يف �سوريا مع الرئي�س‬ ‫حافظ الأ�سد وكما � َ‬ ‫�صدام ح�سني ويف م�صر مع الرئي�س‬ ‫أو�شك ح�صول ُه يف العراق مع الرئي�س ّ‬ ‫َ‬ ‫وكذلك يف اليمن مع الرئي�س علي عبد اهلل �صالح‬ ‫معمر القذايف‬ ‫ح�سني مبارك ويف ليبيا مع القائد ّ‬ ‫العربي امللكج ّية‪( :‬امللك ّية اجلمهورية)‪ .‬هذ ِه‬ ‫ال�سـيا�سي‬ ‫ا�ستولد ا�صطالحاً جديداً يف العلم‬ ‫ّمما‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫القيامات والثورات (الربيع العربي املجه�ض) كذلك م�شكلة الأحزاب كظاهرة غرب ّية مل يه�ضموها‬ ‫نحن ح ّتى الآن يف بالدنا‪.‬‬ ‫فكر ّياً لأ ّنها كانت نتيجة الثورة ال�صناعية يف �أوروبا التي مل نعرفها ُ‬ ‫كيفَ ميكننا �أن ُنحيل امل�ستحيل �إىل ممكن؟‬

‫قال نابوليون ُ‬ ‫منذ مئتي عام يف ع ّز ملحمتهِ‪« :‬امل�ستحيل لي�سَ فرن�س ّياً» ونابوليون بالنتيجة هز َم فرن�سا‬ ‫ح�صدت �أكرث من �ستمئة �ألف‬ ‫�ضد رو�سيا التي‬ ‫َ‬ ‫وح�صد �أكرث من جيل من �أجيالها �س ّيما يف حملت ِه َّ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫حمارب �أي عدد اجلي�ش الفرن�سي حال ّياً م�ضروباً باثنني‪ ...‬وكانَ‬ ‫امل�ستحيل م�ستحي ًال عا�صياً على‬ ‫نابوليون كما كان عا�صياً على هتلر و�سواهما‪.‬‬ ‫نحن بدورنا ن�ستطيع القول‪ :‬امل�ستحيل لي�سَ عرب ّياً‪ .‬ملاذا؟ لأنّ ملياراً ون�صف املليار من النا�س بلْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫�أكرث ما زالوا ي�صرخون فجراً‪« :‬اهلل �أكرب» �أي �أكرث من خم�سة �أ�ضعاف �أعداد العرب ناهيك عن‬ ‫‪29‬‬


‫�أندوني�سيا التي عدد �سكانها وحدها ي�ضاهي عدد �سكان العامل العربي التي دخلها الإ�سالم عن‬ ‫طريق احلرف ال ال�سيف‪ .‬فماذا يعني هذا؟ يعني هذا بكل ب�ساطة �أنَّ احل�ضارة العربية ا�ستهواها‬ ‫وا�ست�ساغها النا�س واعتنقوا كتابها خال�صة الكتابني القدمي واجلديد‪.‬‬ ‫�إ ّننا ال ن�ستطيع �أن نتجاهل احلداث َة روح الع�صر ويف الوقت نف�سه نتجاهل تراثنا وتاريخنا الدينيني‪.‬‬ ‫وعمرت وال تزال ملفت الأب�صار والأفئدة ويف الوقت نف�سه ال ُنط ّبق «نظرية‬ ‫بنينا ح�ضارة مت ّيزت ّ‬ ‫اهلل»‪« :‬الإن�سان �صورت ُه على الأر�ض» كيفما كان لون ُه و�شكل ُه ومكان ُه ومن هنا يجب �أن ن�ؤ�سِ �سَ‬ ‫مفهوماً د�ستور ّياً ح�ضارياً متم ّيزاً على �صعيد املنطقة والعامل مقتدين بالتجربة اليابانية والهندية‬ ‫وب�شكل من الأ�شكال التجربة ال�سوي�سرية‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫�إنَّ ما يح�صل يف املو�صل وحم�ص بخ�صو�ص امل�سيحيني �إخواننا الأعرق والأقدم يف الوطن يندى‬ ‫ل ُه اجلبني ي�ستلز ُم ر َّد الفعل املبا�شر والأعنف لأ ّن ُه لي�سَ للإ�سالم ب ِه عالقة على الإطالق �إ ّنها‬ ‫الدين» والإ�سالم قبل ّ‬ ‫كل �شيء‪�« :‬إقر�أ» مبعنى �إعلم‬ ‫مرحل ٌة خطري ٌة جداً فالإ�سالم‪« :‬ال �إكرا َه يف ّ‬ ‫وتع ّلم وخذ العربة»‪ .‬فالأنبياء ُر ٌ‬ ‫النف�ض النا�س من حولهم‪.‬‬ ‫�سل دمثو الأخالق قريبونَ للنفو�س و�إ ّال َّ‬ ‫علينا �أن نبد�أ من املمكن مهما كانَ �ضعيفاً و� ُ‬ ‫أول عتب ٍة فيه يجب عقد اجتماع للجامعة العربية علـى‬ ‫عربي جديد يقت�ضي‬ ‫عالتهـا ِّ‬ ‫ل�سن «حقوق الإن�سان العربي» كما ّد ٍة �أوىل من تعاقد �أو من د�ستو ٍر ٍّ‬ ‫أمات اخلليق َة ك ّلها ومن �أحياه‬ ‫احرتام املواطن العربي ك�إن�سان‪ ،‬فالإن�سانُ كما ذك َر القر�آن َم ْن �أمات ُه � َ‬ ‫قتل نف�ساً بغري نف�س �أو ف�سا ٍد يف الأر�ض فك�أمنا َ‬ ‫كمن �أحيا اخلليق َة ك ّلها‪« .‬من َ‬ ‫قتل النا�سَ جميعاً‬ ‫ْ‬ ‫ومن �أحياها فك�أمنا �أحيا النا�س جميعاً»‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫جدران‬ ‫كزينة على‬ ‫فكيفَ له�ؤالء الأوبا�ش بقطع ِر�ؤو�س الآخرين وتعليقها‬ ‫مكاتبهم؟‬

‫�إنَّ اجلامعة يجب �أن تخ ُل َق حمكم َة عدلٍ عربية مق ّرها القاهرة‪ .‬فال ميكن نقع النا�س كعلب ال�سردين‬ ‫�شهوراً و�سنني دونَ حماكمة بلْ اعتبارهم موا َّد خمتربات تعذيبية‪.‬‬ ‫تدخل �سريع مهمتها تخلي�ص الأرواح َ‬ ‫قبل �إزهاقها يف الدول‬ ‫على اجلامع ِة العربية �أن تن�شئ قوات ّ‬ ‫بعد موافقة الدولة املعنية‪.‬‬ ‫املعنية وذلك طبعاً َ‬ ‫وتن�ص د�ستوراً فدرالياً‬ ‫�إنَّ اجلامعة يجب �أن تبد�أ كجامع ٍة جديدة ولو بع�ضوين فقط كم�صر وتون�س ّ‬ ‫بعد توقيعها اجلديد وان�ضمامها �إىل اجلامعة‪.‬‬ ‫لكل الدول العربية تتقيد ب ِه الدول َ‬

‫‪30‬‬


‫حتوالت املجتمع والإن�سان‬

‫على اجلامع ِة �أن ت�ستعني بجمعية الأمم املتحدة وجمل�س الأمن تي�سرياً لتطبيق قوانينها التي غايتها‬ ‫احرتام الإن�سان العربي وكرامته‪.‬‬ ‫كما على اجلامعة �أنْ ُت�صيغ قانون حماية الطفولة َ‬ ‫وذلك مبنع جتيي�ش الأطفال يف اجليو�ش العربية‬ ‫أ�شد‪.‬‬ ‫حتت طائلة العقاب ال ّ‬ ‫�إنَّ على العرب �أن يبد�أوا حتى ولو من ال�صفر َ‬ ‫بدل �أن يظلوا يف �أو�ضاع ٍمهلهل ٍة لن جت ُل َب لهم �سوى‬ ‫والدمار والإفقار واملر�ض ورمبا الإمحّ اء‪.‬‬ ‫اخلراب ّ‬ ‫الوطن جزراً قاحل ًة ماحل ًة ما�ؤها ال ّر ُ‬ ‫مال و�آفاقها املتاهات التم�ساح ّي ُة الفاغر ُة ورياحها‬ ‫�صبح ُ‬ ‫عندما ُي ُ‬ ‫َ‬ ‫عندئذ ب�إ�سم َ‬ ‫ماح ف�س ّبح ٍ‬ ‫ُ‬ ‫أكرهت الآخرين‬ ‫ربك الذي قال‪� :‬إقر�أ ومل تقر�أ‪...‬‬ ‫ولكنك � َ‬ ‫ال�سيوف وال ّر ُ‬ ‫وذبحت من ال ُيطي ُع �صاغرين فال َ‬ ‫وال�سالم ْلن‬ ‫الدين‬ ‫يف ّ‬ ‫َ‬ ‫حول وال ق ّو َة �أخرياً �إ ّال باهلل الع ّلي العظيم ّ‬ ‫ُيخ ّي َم �أخرياً �إ ّال مع من �إ ّتبع الهدى وال�ضمري‪.‬‬

‫‪31‬‬



‫حتوالت املجتمع وا لإن�سان‬

‫طي‬ ‫أدبية لل�شرّ ق‬ ‫ّ‬ ‫قراءات يف ال ّتح ّوالت ال ّ‬ ‫املتو�س ّ‬

‫ل�ؤي زيتوين ‪ -‬باحث و�أكادميي‬

‫واالقت�صادي‪ ،‬كانت‬ ‫يا�سي‬ ‫ّ‬ ‫�أربعون عاماً حافلة بالأحداث ال ّتاريخ ّية وامل�صري ّية على امل�ستوى ّ‬ ‫ال�س ّ‬ ‫م�ؤثّر ًة يف تغيري م�سار ال ّتاريخ ودفعه نحو تق ّل ٍ‬ ‫بات مل تكن يف احل�سبان‪� .‬إ ّال �أنّ هذه ال ّتق ّلبات مل‬ ‫أدبي‬ ‫تقف عن احلدود ّ‬ ‫ال�سيا�س ّية واالقت�صاد ّية فح�سب‪ ،‬بل �شملت �أحداثاً على امل�ستوى الثّقا ّيف ال ّ‬ ‫وامل�شرقي منه على وجه اخل�صو�ص‪ .‬تق ّلبات مل تكن ذات اجتا ٍه واحد‪ ،‬بل ب�أوج ٍه متن ّوع ٍة‪،‬‬ ‫بعا ّمة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ب�شكل دقيق‪ ،‬كما �أنّ منها ما‬ ‫وربمّ ا بوجهات متناق�ضة؛ ونظراً لكثافتها‪ ،‬ال ميكن ح�صرها وحتديدها ٍ‬ ‫زمني معينّ ‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬ميكننا قراءة تلك ال ّتح ّوالت داخل امل�شهد‬ ‫كان �أثره حمدوداً �أو مق ّيداً ب�إطا ٍر ٍّ‬ ‫جلي‪.‬‬ ‫أدبي يف امل�شرق ّ‬ ‫طي‪ ،‬على نح ٍو ّ‬ ‫املتو�س ّ‬ ‫ال ّ‬ ‫وال�ستينيات من القرن املا�ضي‪ ،‬على يد جمموعة‬ ‫بعد ال ّتط ّورات التي �شهدها ال�شّ عر يف اخلم�سينيات ّ‬ ‫اخلا�صة به‪ ،‬يف‬ ‫جم ّلة «�شعر» يف بريوت ٍ‬ ‫خا�ص‪ ،‬وال ّتغيري الذي طر�أ على املفاهيم املحور ّية ّ‬ ‫ب�شكل ّ‬ ‫ال�سبعينيات ليكملوا مرحلة ال ّتجريب تلك‪،‬‬ ‫�ضوء عملية ال ّتجريب التي �شرعوا فيها؛ ظهر �شعراء ّ‬ ‫ال�سياق نقع على جتارب مم ّيز ٍة‬ ‫مع االلتزام بجعل الإيقاع بعداً تعبري ّياً داخل الق�صيدة‪ .‬ويف هذا ّ‬ ‫تفيد من منوذج ق�صيدة ال ّنرث وتعمل على تطويره‪ ،‬كما ّ‬ ‫الوجودي وطرح الأ�سئلة‬ ‫تركز على املنحى‬ ‫ّ‬ ‫الكيان ّية يف حياة االن�سان وم�صريه‪ .‬فمن الق�صائد ما �أخذ يطرح موا�ضيع تتع ّلق بوجود الإن�سان‬ ‫الطابع ال ّتفا�ؤيل ّ‬ ‫حمددة‪ ،‬وتراوحت بني ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ؤمي؛ �إ�ضاف ًة �إىل‬ ‫ب�شكل عا ّم‪� ،‬أو يف‬ ‫حاالت ّ‬ ‫ٍ‬ ‫والطابع ال ّت�شا� ّ‬ ‫ا�ستمرار الق�صائد املعبرّ ة عن امل�س�ألة الفل�سطين ّية‪ .‬وال ّبد من الإ�شارة �إىل تعايل الأ�صوات التي‬ ‫تنتف�ض على ال ّرومان�س ّية القوم ّية التي �سادت على مدى ما يفوق العقدين‪.‬‬ ‫من ناحي ٍة �أخرى‪ ،‬نقع على ّ‬ ‫حمطات �شعر ّية مف�صل ّية يف تاريخ الق�صيدة العرب ّية تتواءم مع الأحداث‬ ‫التار ّيخ ّية التي م ّرت بها الأ ّمة‪ .‬ومن هذا املنطلق نرى مناذج من مثل ق�صيدة «خطاب يف �سوق‬ ‫البطالة» ل�سميح القا�سم التي ولدت يف �ضوء العمل ّية ال ّنوع ّية التي قامت بها جمموعة دالل‬ ‫املغربي ويحيى �سكاف يف عمق الأرا�ضي املحت ّلة عام ‪ ،1978‬وقد ّ‬ ‫�شكلت مف�ص ًال يف �شعر املقاومة‪،‬‬ ‫�شددت على الفعل املقاوم فح�سب‪ ،‬بل لقدرتها على املواءمة بني لهجتها اخلطاب ّية‬ ‫لي�س لكونها ّ‬ ‫وحتديها لعمل ّيات‬ ‫وبني لغتها الإيحائ ّية ال ّرمز ّية‪ ،‬وذلك من خالل خماطبتها لـ «عد ّو ال�شّ م�س» ّ‬ ‫‪33‬‬


‫اخلنق التي مار�سها ّ‬ ‫الفل�سطيني‪ ،‬وانتهائها بحال قيام ّي ٍة تتج ّلى يف جت�سيد‬ ‫�ضد‬ ‫املحتل ال‬ ‫إ�سرائيلي ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫حتم ّية العودة بف�ضل الإ�صرار على املقاومة‪.‬‬ ‫وال نن�سى يف هذا املجال ذكر ق�صائد احل�صار التي ولدت يف �ضوء احل�صار الذي �شهدته بريوت‬ ‫عام ‪� 1982‬إ ّبان االجتياح‪ ،‬مع �أدوني�س يف «كتاب احل�صار» �أو حممود دروي�ش يف ق�صيدة «مديح‬ ‫ّ‬ ‫الظل العايل»‪� ،‬أو نذير العظمة يف ق�صائد احل�صار‪ .‬وفيها نقد الذع للواقع «العربي» الذي �أ�سهم يف‬ ‫ي�سمى بالهو ّية‬ ‫ال�سقوط الكيا ّ‬ ‫ين‪ ،‬ح ّتى �أنّ «كتاب احل�صار» و�صل �إىل ّ‬ ‫حد ال ّتلميح ب�إنكار ما ّ‬ ‫عمل ّية ّ‬ ‫ال�سقوط املتجل ّية يف ذلك االجتياح �أ ّدت �إىل احتدام‬ ‫ال�سياق �إىل �أنّ حال ّ‬ ‫العرب ّية‪ .‬ون�شري يف هذا ّ‬ ‫حد مل�سرية حياته بيده‪ ،‬لأنّ‬ ‫ال�صراع‬ ‫النف�سي لدى ال�شّ اعر خليل حاوي‪ ،‬ما �أو�صله �إىل و�ضع ٍّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫االنبعاثي مل تطق �أن ترى انهياراً على هذا امل�ستوى‪.‬‬ ‫روح ّيته التي امتلأت بالفعل‬ ‫ّ‬ ‫احلد‪ ،‬بل �أخذت تتبلور اجتاهات تتع ّلق بتجربة‬ ‫على �أنّ ال ّتح ّوالت ال�شّ عر ّية مل تقف عند هذا ّ‬ ‫املقاومة ال ّلبنان ّية وما �أنتجته من عمل ّي ٍات ا�ست�شهاد ّي ٍة ونوع ّية �أف�ضت �إىل �شع ٍر مت�أ ّث ٍر بتلك العمل ّيات‬ ‫التي ا ّتخذت بعداً قيام ّياً تكفي الإ�شارة فيه �إىل الق�صائد التي ُكتبت عن ال�شّ هيدة �سناء حميديل‪،‬‬ ‫ال�صورة ال�شّ عر ّية‪� ،‬إذ‬ ‫�أذكر منها ق�صيدة لل�شّ اعر ع�صام العري�ضي‪� ،‬أحدثت تغيرياً يف طبيعة تركيب ّ‬ ‫جعلت من ال�شّ م�س تتخ ّلى عن ا�سمها واختارت ا�سم �سناء لأ ّنه «�أجمل الأ�سماء ا�سم ل�صب ّية‪،‬‬ ‫علمت العامل در�ساً يف الفداء‪ ،‬جاء يف حجم الق�ض ّية»‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وال ّبد من ال ّتنويه �إىل �أنّ ال ّتجارب ال�شّ عر ّية لكبار ال�شّ عراء ا�ستم ّرت يف ال ّتط ّور‪ .‬لك ّننا نقع‪ ،‬يف‬ ‫�شعري جد ٍّيل �أنتجه �أدوني�س حتت عنوان «الكتاب‪ :‬اخلطاب‪ ،‬احلجاب»‪،‬‬ ‫منوذج ٍّ‬ ‫هذا املجال‪ ،‬على ٍ‬ ‫ابتدا ًء من ت�سعينيات القرن املا�ضي‪ .‬وجدل ّية هذا العمل �أتت من طبيعة ال�شّ كل الذي تو ّزع على‬ ‫كل م�سار ميثّل �صوتاً �أو موقفاً‬ ‫ال�سريي وال ّلغة ال�شّ عر ّية‪� ،‬إذ كان ّ‬ ‫ثالثة م�سارات ودمج بني الإطار‬ ‫ّ‬ ‫نحو ٍ‬ ‫العربي‬ ‫حدث معينّ ‪ .‬كذلك نرى جدل ّيته يف القراءة اجلديدة التي ُو ِّجهت للترّ اث ّ‬ ‫يني ّ‬ ‫الد ّ‬ ‫إ�سالمي‪ ،‬ال �س ّيما ما يتع ّلق بامل�س ّلمات فيه‪ ،‬وهو الأمر الذي �أحدث �صراعاً وهجومات على‬ ‫وال ّ‬ ‫ال�شّ اعر و�أفكاره‪.‬‬ ‫على ٍ‬ ‫�صعيد �آخر‪ ،‬جند �أنّ ال ّرواية �أخذت تربز تط ّورات مت�سارعة على �صعيد الأ�سلوب والأفكار على‬ ‫حد �سواء‪ ،‬وهي ارتبطت مبو�ضوعات تتع ّلق ب�صراعات الإن�سان الوجود ّية على خمتلف امل�ستويات‪.‬‬ ‫ٍّ‬ ‫منها �صراع ّ‬ ‫القروي كما نرى يف روايات �إميلي ن�صر اهلل على �سبيل‬ ‫املديني وامل ّتحد‬ ‫الذات امل ّتحد‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫املثال‪ .‬كذلك �صراعها داخل االنق�سام ّ‬ ‫ال�صراعات‬ ‫بقي احلا ّد‪ ،‬كما لدى زكر ّيا تامر‪� .‬إ�ضاف ًة �إىل ّ‬ ‫الط ّ‬ ‫التي ن�ش�أت يف �ضوء احلرب ال ّلبنان ّية واالحتالالت‪ ،‬وهو ما نعرث عليه لدى حنان ال�شّ يخ يف رواية‬ ‫حرب عبث ّية‪،‬‬ ‫جت�سد حال الإن�سان داخل‬ ‫جمتمع متخلخل داخل ّياً وداخل ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫«حكاية مرمي» التي ّ‬ ‫وحال املر�أة داخل املجتمع نف�سه‪� .‬أي�ضاً نراه فيه لدى �إميل حبيبي يف رواية «املت�شائل» التي تعالج‬ ‫الفل�سطيني‬ ‫اخلي حول م�س�ألة العمالة‪� ،‬إىل جانب احلال التي يعاين منها الإن�سان‬ ‫ال�صراع ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الد ّ‬ ‫‪34‬‬


‫حتوالت املجتمع والإن�سان‬

‫ال�صمود واملقاومة‪ ،‬يف‬ ‫حتت االحتالل‪ .‬وهذا من دون �أن نن�سى ال ّتجارب التي تدخل يف �إبرا ٍز حلال ّ‬ ‫ال�ضغوط والأخطار املتن ّوعة التي حتيط بتلك احلال �أو الإرادة‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫ولعل هذا ما ميكن �أن نقر�أه يف‬ ‫ظل ّ‬ ‫روايات �سحر خليفة‪ ،‬والتي ُت ِّو َجت بثالث ّيتها ال ّروائ ّية «�أ�صل وف�صل‪ ،‬ح ّبي الأ ّول‪ ،‬و�أر�ض و�سماء»‪.‬‬ ‫هنا ّنطلع على جمموعة من الأعمال التي �أحدثت �ص ًدى يف العامل العربي‪ ،‬وتلفتنا هنا رواية «�شرق‬ ‫بال�سلطة يف‬ ‫ّ‬ ‫املتو�سط» لعبد ال ّرحمن منيف التي �أثارت الكثري من اجلدل حول عالقة املواطن ّ‬ ‫اجلذري بينها وبني املجتمعات الغرب ّية‪� ،‬إذ �أنّ عالقة الفرد الذي يبحث‬ ‫جمتمعاتنا‪ ،‬وطبيعة الفارق‬ ‫ّ‬ ‫لكن هذه العالقة ت�ؤ ّدي �إىل الهجرة نحو الغرب‪،‬‬ ‫بال�سجن �أو املعتقل‪ّ ،‬‬ ‫بال�سلطة تتمثّل ّ‬ ‫عن �إن�سان ّيته ّ‬ ‫الواقعي يف الوطن وبني �سجن الغربة يف بالد املهجر الغرب ّية‪ .‬وهنا‬ ‫ال�سجن‬ ‫وهذا ما يو ّلد ّ‬ ‫ال�صراع بني ّ‬ ‫ّ‬ ‫ال�صراع كيفما كانت قاتلة‪.‬‬ ‫املتو�سط �سوداو ّياً‪ ،‬لأنّ نتائج ّ‬ ‫يرى م�صري الإن�سان يف منطقة �شرق ّ‬ ‫ف�ض ًال عن ذلك‪ ،‬نرى ال ّتجارب ال ّن�سائ ّية قد �أخذت بال ّتط ّور على نحو كبري وجريء يف هذه‬ ‫ال�سعداوي التي ّ‬ ‫�شكلت ال ّنموذج‬ ‫املرحلة‪ .‬ولكن �أكتفي يف هذا املجال بالإ�شارة �إىل �أعمال نوال ّ‬ ‫العربي‪� ،‬إذ �أنّ هاج�سها يف حترير املر�أة �أو�صلها �إىل ال ّتج ّر�ؤ على انتقاد ال ّنظام‬ ‫الأكرث جر�أ ًة يف العامل ّ‬ ‫إ�سالمي ونق�ضه بالكامل‪ .‬وعلى هذا الأ�سا�س �أثارت �أفكارها‬ ‫االجتماعي الذي و ّلده الفكر ال ّ‬ ‫ّ‬ ‫اجلريئة جدا ًال حا ّداً يف الأو�ساط الثّقاف ّية‪ ،‬وح ّتى ال�شّ عب ّية‪.‬‬ ‫ال�سرد على ما �سبق ذكره‪ ،‬فقد �أخذت ال ّتح ّوالت بال ّتبلور‬ ‫وال ميكننا �أن نق�صر التح ّوالت يف جمال ّ‬ ‫ال�سياق‪ ،‬تربز‬ ‫واالرتقاء على م�ستوى طرح املو�ضوعات اجلديدة واملوحية يف الوقت نف�سه‪ .‬ويف هذا ّ‬ ‫�أمامنا رواية «عزازيل» للكاتب يو�سف زيدان‪ ،‬التي تربط �أحداثها مبرحل ٍة مل ُتط َرق يف الروايات‬ ‫إ�سالمي‪ .‬وال نن�سى‬ ‫العربي ال ّ‬ ‫العرب ّية من قبل‪ ،‬وب�إطا ٍر مل يكن من امل�ألوف ال ّنظر �إليه يف الترّ اث ّ‬ ‫الديني‬ ‫ع�صب ّ‬ ‫الإيحاءات ّ‬ ‫الدالل ّية التي ميكن �إ�سقاطها على الواقع املعا�صر من ناحية عوامل ال ّت ّ‬ ‫احلواري واملت�سامح‪.‬‬ ‫�ضد العلم واملنطق‬ ‫كفريي و�صراعه ّ‬ ‫ّ‬ ‫إلغائي ال ّت ّ‬ ‫وال ّتفكري ال ّ‬ ‫ومن املفيد يف هذا املجال الإ�شارة �إىل �أنّ ال ّتط ّور الذي بلغه الأدب يف بالدنا‪ ،‬خالل هذه املرحلة‪،‬‬ ‫ب�شكل �أكرث عمقاً نحوه؛ وهذا ما يبدو من خالل االعرتاف بجودة هذا الأدب‬ ‫دفعت الغرب لل ّنظر ٍ‬ ‫�سمي‪ ،‬وذلك مبنح جائزة نوبل لأول مرة �إىل �أديب يكتب بالعرب ّية‪ ،‬و�أعني جنيب‬ ‫على امل�ستوى ال ّر ّ‬ ‫حمفوظ‪ ،‬يف العام ‪ .1988‬كما �أنّ الكثري من اجلوائز العامل ّية ُمنحت لأ�سماء �شعراء وك ّتاب بال ّلغة‬ ‫املتو�سط للأعمال الأجنب ّية يف باري�س‪� ،‬أو جائزة غوته يف فرانكفورت‪،‬‬ ‫العرب ّية‪ ،‬منها جائزة البحر ّ‬ ‫ومن الفائزين بهما نذكر ال�شّ اعر �أدوني�س‪� .‬إ�ضاف ًة �إىل �أنّ ال ّتط ّور الالفت للأدب املكتوب بالعرب ّية‬ ‫قد دفع بامل� ّؤ�س�سات الغرب ّية الكربى التي تعنى بهذا اجلانب والتي متنح جوائز للآداب املكتوبة‬ ‫بالإجنليز ّية �أو الفرن�س ّية �إىل تخ�صي�ص ن�سخ للأعمال العرب ّية �أو امل�شرق ّية‪ ،‬ومنها جائزة البوكر‬ ‫املخ�ص�صة لل ّروايات‬ ‫املخ�ص�صة للرواية العرب ّية‪� ،‬أو جائزة غونكور ‪ّ Goncourt‬‬ ‫‪ Booker‬الربيطان ّية ّ‬ ‫امل�شرقي‪.‬‬ ‫التي تعنى بال�شّ �أن‬ ‫ّ‬ ‫‪35‬‬


‫امل�شرقي يف العقود الأربعة الأخرية قد �أخذ يتط ّور‬ ‫تقدم‪ ،‬نالحظ �أنّ الأدب‬ ‫ا�ستناداً �إىل ما ّ‬ ‫ّ‬ ‫ونوعي‪ ،‬وذلك على امل�ستوى الف ّن ّي �أو على م�ستوى اجلر�أة يف طرح املو�ضوعات‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ب�شكل �سريع ّ‬ ‫املالحظ يف هذا املجال‪� ،‬أنّ هذا ال ّتط ّور دفع الأو�ساط الثّقاف ّية الغرب ّية لالعرتاف بجودة هذا‬ ‫ومن َ‬ ‫الأدب‪ ،‬وتخ�صي�ص اجلوائز الق ّيمة له‪� .‬إ�ضاف ًة �إىل �أنّ هذا الأدب ت�أثّر بالأحداث التي طر�أت على‬ ‫املنطقة‪� ،‬إ ّال �أنّ هذا ال ّت�أثر مل يكن �سلب ّياً انعكا�س ّياً بل كان ر�ؤيو ّياً بامتياز لأ ّنه بينّ �أنّ الأدب مل‬ ‫يكن جم ّرد تعب ٍري �أو انعكا�س �إنمّ ا منارة‪ .‬مع �ضرورة الإ�شارة �إىل �أنّ ما ّمت ذكره هنا ال ّ‬ ‫ال�ساحة‬ ‫يغطي ّ‬ ‫أدبي ال ميكن �أن تت�سع‬ ‫الثّقاف ّية الأدب ّية بالكامل‪ ،‬وبال ّتايل ف�إنّ الكثري من الإجنازات على امل�ستوى ال ّ‬ ‫ال�سطور‪ ،‬وحتتاج �إىل درا�سات �أو�سع‪.‬‬ ‫لها هذه ّ‬ ‫وبعيداً عن هذا وذاك‪ ،‬ال ميكن �أن نغفل بقاء ال ّنظرات ال ّتقليد ّية املوروثة للأدب حا�ضر ًة على‬ ‫عبي ويف الأو�ساط ال ّتعليم ّية‪ ،‬والتي بقيت تق�صر ال�شّ عر على مفهوم ال ّنظم الذي‬ ‫امل�ستوى ال�شّ ّ‬ ‫ّ‬ ‫املحدد جلودة ال�شّ عر‪� ،‬إىل‬ ‫وتي بو�صفه ّ‬ ‫يتحكم به الوزن والقافية‪ ،‬والترّ كيز على جانب ال ّتوقيع ّ‬ ‫ال�ص ّ‬ ‫م�سك باملقوالت التي فر�ضها الكال�سيك ّيون بو�صفها منتهى الوعي بالأدب‪ّ .‬‬ ‫ولعل هذا‬ ‫جانب ال ّت ّ‬ ‫من �أهم اجلوانب التي ّ‬ ‫حتدياً لأدبنا احلديث يف العقود املقبلة‪.‬‬ ‫ت�شكل ّ‬

‫‪36‬‬


‫حتوالت املجتمع وا لإن�سان‬

‫�إذا كان ثمة حت ّوالت فهي دائما ً م�رشقية‬ ‫فيفيان حنا ال�شويري‪� -‬أ�ستاذة الفنون والآثار يف اجلامعة اللبنانية‬

‫دائماً هو ال�شرق‪ ،‬وامل�شرق القدمي حتديداً‪ ،‬لأنه بب�ساطة مهد احل�ضارة واملنبع واملنهل ِّ‬ ‫لكل حت ّول‬ ‫جدير باالهتمام يطر�أ على م�سرية احل�ضارة وخا�صة على �صعيد التح ّوالت الكربى �أي الفكرية‪.‬‬ ‫كم من حت ّوالت عرفت الب�شرية‪ ،‬ولكن هل التح ّول هو بال�ضرورة تط ّور �أم �أنه تقهقر وتدهور؟ والأهم‬ ‫ما هو م�صدر هذه التح ّوالت؟ قبل الإجابة ال ّبد من �أن نع ّرج �أو ًال على حتديد عبارة «حت ّول» من‬ ‫حيث كونها مفهوماً وتبيان بع�ض دالالتها ورمزية �أبعادها الدينية والعقدية لدى بع�ض ال�شعوب‪.‬‬ ‫«حت ّوالت» يف املفهوم واملعنى واملبنى‬

‫التح ّول (‪ )transformation‬هو جمموع املتغيرّ ات التي تطر�أ على بع�ض احليوانات خالل‬ ‫حياتهم‪ ،‬كتح ّول احل�شرات من �شكل اىل �آخر (ال�شرنقة اىل فرا�شة مث ًال)‪ .‬وباملعنى املجازي عند‬ ‫وتقم�ص وهو التغيري من �شكل اىل �شكل وم�ضاعفة كلية للمظهر اخلارجي‪� .‬أو ما‬ ‫الب�شر‪ّ ،‬‬ ‫تبدل ّ‬ ‫والتبدل من حالة اىل حالة‪«( :‬فيحل عليك روح الرب فتتنب�أ معهم وتتح ّول‬ ‫يطر�أ من تغيرّ للطبع ّ‬ ‫جت�س َد الإله �أي‬ ‫اىل رجل �آخر»‪� ،‬صموئيل الأول‪ .)8-5 :10‬ويف املعتقدات الدينية يعني التح ّو ُل ّ‬ ‫حت ّوله من احلالة الإلهية غري املنظورة وغري املح�سو�سة اىل احلالة الب�شرية باتخاذه �شكل الإن�سان‪،‬‬ ‫من هنا ت�سمية الفن الإغريقي الكال�سيكي (القرن اخلام�س ق‪.‬م‪ ).‬بالفن الإن�ساين حيث متثلت‬ ‫�آلهة الأوملب وجت ّلت على هيئة الب�شر‪ ،‬مقارنة مع الآلهة امل�صرية التي غلبت عليها ال�صورة احليوانية‬ ‫(العجل �أبي�س املقد�س) �أو الهجينية ن�صف ب�شري ون�صف حيواين (�أبو الهول) �أو الرافدية ‪-‬‬ ‫ال�سورية (الن�سر املج ّنح)‪ .‬وتغلب حت ّوالت الآلهة يف عدد من امليثولوجيات القدمية (حت ّول دافني‬ ‫اىل �شجرة غار �أو حت ّول زيو�س اىل طري �أو اتخاذه �شكل هالل ال�شم�س‪ )...‬والتح ّول مبعنى التمظهر‬ ‫جت�سد الإله يف الديانة الهندو�سية‪ ،‬التي تكرث فيها‬ ‫ّ‬ ‫والتقم�ص هو �سمة دينية �آ�سيوية �أ�سا�سية ويعني ّ‬ ‫الآلهة املتح ّولة ّ‬ ‫ولكل �إله عمل ي�أخذ خالله �صورة مع ّينة �أو متظهرات (‪� )Avatar‬ألوهية متعددة‬ ‫(مث ًال التج�سد الرابع لفي�شنو �إله اخل�صوبة على هيئة �أ�سد‪� ،‬إذ يقلق في�شنو على الب�شر فينزل‬ ‫‪37‬‬


‫لتفقد �أحوالهم من مدة اىل �أخرى)‪ ،‬من هنا وجوب �أن يبقى الإله خف ّياً‪ ،‬فيتخذ يف كل مرة هيئة‬ ‫يح�سن �شيئاً ما‬ ‫خمتلفة ما يجعله يف حالة تقم�ص م�ستدامة‪ .‬وكل هذا التغيري بغاية �أن ي�ضاعف �أو ّ‬ ‫�أو يغيرّ جمرى �أحداث مع ّينة‪� ،‬إذ ال حت ّوالت من دون هدف‪ .‬من هنا كان فريق من دعاة التحول‬ ‫(‪ )transformistes‬الذين يتب ّنون نظرية تقول �إن الكائنات احل ّية بخالف املعتقد ال�سائد من �أنها‬ ‫تتحدر‪ ،‬من خالل عملية تطور ال منقطعة‪ ،‬من منوذج �أو مناذج بدئية‪ .‬وعليه‪،‬‬ ‫ثابتة وغري متح ّولة‪ّ ،‬‬ ‫يبني الباحث ن�ش�أة الفكر وتطوره �إذ ال يعقل �أن ينبت الفكر فج�أة ومن دون �سوابق‪ ،‬فالفكر ال ّبد‬ ‫و�أن يرتكز على �أ�سا�سات قدمية ت�شكل القاعدة التي عليها ي�ستند ومنها ي�ستمد جذوره‪.‬‬ ‫امل�رشق‪ ،‬امل�صدر الأول للفكر‬

‫�إن كل الدرا�سات الأثرية ب ّينت �أن مهد احل�ضارة هو امل�شرق القدمي (�سوريا وبالد ما بني النهرين‬ ‫وم�صر) وي�ضيء عدد من العلماء (�أبرزهم �صموئيل كرامر‪« ،‬احل�ضارة بد�أت من �سومر») على‬ ‫ال�صناعات واالبتكارات والتقنيات واملهارات التي ابتدعها امل�شرقيون والتي ال جمال لتف�صيلها‬ ‫يف بحثنا هذا الذي ح�صرناه بالتحول الفكري يف م�سرية احل�ضارة‪ .‬ناهيك عن تطور العمارة‬ ‫والهند�سة والفنون والتجارة‪ ،‬وكلها ناجتة عن كل التقدم الذي حققه الإن�سان الذي �سمي العاقل‬ ‫العاقل (‪ )Homo Sapiens Sapiens‬وهو �آخر حت ّول للعقل الب�شري اىل يومنا‪ ،‬ومرد تطور هذا‬ ‫الكائن اخلالق هو ا�ستيطانه وا�ستقراره يف املنطقة املعتدلة الو�سيطة �أو امل�شرق‪ ،‬حيث �ساهمت‬ ‫الظروف املناخية املعتدلة والزراعة وهي �أهم مرحلة انتقالية‪ ،‬يف رقي الفكر لديه واالنتقال من‬ ‫حالة ت�أمني احلاجيات املعي�شية ال�ضرورية والأ�سا�سية �إىل الإنتاج العقلي واملعريف اخلالق‪ ،‬بفعل‬ ‫اال�ستقرار‪.‬‬ ‫ال �شك يف �أن التح ّول الأكرب يف تاريخ الإن�سانية هو االنتقال من مرحلة ما قبل التاريخ �إىل مرحلة‬ ‫التاريخ وتتخللهما مرحلة ما قبيل التاريخ (ع�صر الربونز من ‪ 3500-5000‬ق‪.‬م‪ ).‬هذا االنتقال‬ ‫الذي مت بف�ضل اخرتاع الكتابة‪ ،‬هو التح ّول الأ�ضخم يف م�سرية الإن�سان الفكرية‪ ،‬ما خ ّوله دخول‬ ‫التاريخ بوا�سطة التدوين‪ .‬فح�صل حت ّول جذري من ظلمة اىل نور وكان ال�شرق م�صدره فال�شم�س‬ ‫تنبعث من ال�شرق‪ .‬والتح ّول الأبرز هو ت�سطري‪ ،‬مبعنى ّ‬ ‫�سطر �أي كتب‪ ،‬الفل�سفة والتي تخت�صر كل‬ ‫الفكر الإن�ساين الذي جت ّلى �إبداعاً باكراً جداً يف امل�شرق القدمي‪ ،‬عرفنا منه‪ ،‬ولعله لي�س الأقدم ولكنه‬ ‫�أقدم ما و�صلنا مد ّوناً‪ ،‬فك َر جلجام�ش منذ مراحل �سومر‪ ،‬مروراً ب�أكد وبابل و�صو ًال اىل �أ�شور‪� -‬سوريا‬ ‫ويعد �شاهداً على الوعي الفكري للم�شرقي من خالل ت�سا�ؤله عن الوجود‬ ‫بالد ال�شم�س امل�شرقة‪ّ ،‬‬ ‫واخللود وهما هاج�سا الإن�سان �أبداً‪ .‬هذا الفكر الذي �سوف ي�ستمر �صعوداً ورقياً مطرداً‪ّ ،‬‬ ‫ي�شكل‬ ‫مراحل انتقالية غيرّ ت وجه التاريخ مراراً وتكراراً‪ ،‬علماً �أنها تنهل من املعني امل�شرقي نف�سه الذي‬ ‫‪38‬‬


‫حتوالت املجتمع والإن�سان‬

‫ال ين�ضب‪ .‬و�أبرز هذه التح ّوالت الفكرية كانت مع �أدوني�س وفكرة البعث‪ ،‬فال�سيد امل�سيح وفكرة‬ ‫القيامة واحلرية فالنبي حممد وت�أ�سي�س الدولة (تراجع بهذا ال�صدد درا�سة مم ّيزة للدكتور عاطف‬ ‫خليل احلكيم‪ ،‬بعنوان «بريوت‪ ،‬طائر الفينيق والتنني»‪ ،‬درا�سة يف الفكر الديني القدمي‪ ،‬يف �إطار‬ ‫«بريوت عا�صمة عاملية للكتاب‪ ،‬بالتعاون مع وزارة الثقافة وحلقة احلوار الثقايف‪ ،‬بريوت‪� ،2009 ،‬ص‬ ‫‪� .)326-277‬إذن‪ ،‬جذور هذه التح ّوالت م�شرقية واحدة و�أهدافها م�شرقية واحدة وال تتمايز اال‬ ‫باللغة التي حكيت بها وبالكتابة التي د ّونت فيها فقط‪ ،‬وكلها لهجات للغة م�شرقية واحدة‪ ،‬و�أقالم‬ ‫متنوعة لكتابة م�شرقية واحدة‪ ،‬حت ّولت لأ�شكال خمتلفة عرب الأزمنة‪ ،‬غري �أن ما يجمعها �أنها نقلت‬ ‫كلها فكراً م�شرقياً واحداً يت�سامى ويرتقي با�ستمرار‪.‬‬ ‫�أبرز التح ّوالت ذات امل�صدر امل�رشقي ‪ -‬ال�سوري‬

‫حملت «�أوروبا» فكر �سوريا اىل الغرب فتن ّور وحمل ا�سمها وحت ّول من جمرد جغرافية اىل تاريخ‪.‬‬ ‫وحمل «قدمو�س» لغة �سوريا وكتابتها اىل الغرب فط ّوب بط ًال وحت ّول الغرب من القبيلية اىل املدنية‪.‬‬ ‫وحملت �ألي�سار املدنية ال�سورية اىل الغرب فتح ّول من �شعوب متف ّرقة اىل دول نهجت نهج �سوريا‬ ‫التقدمي‪.‬‬ ‫غزا «الإ�سكندر املقدوين» ال�شرق فتعلم بنف�سه الإن�سانية والقيم والرفعة والع ّزة والإباء من �صور‪،‬‬ ‫ومل�س تالقي ال�شعوب وتعاي�شها و�أن َ« َج َع ْل َن ُاك ْم �شُ ُعوباً َو َق َبائ َِل ِل َت َعا َر ُفوا‪ »...‬ف�أبى �إال �أن يتعارف‬ ‫ويتوا�صل فقتله �صحبه غدراً‪ ،‬ويكفيه فخراً �أنه دفن يف بابل مع عظمائها قبل �أن ُي�س َرق جثمانه‪.‬‬ ‫حب وطنه و�أر�ضه وهويته اىل روما فتعلمت ال�شرف والعمل الع�سكري العملي‬ ‫حمل «حنا بعل» ّ‬ ‫ّ‬ ‫املنظم‪ ،‬وكانت قد ن�ش�أت على الإرهاب والقتل والذبح والرتويع‪ .‬جاء «يوليو�س قي�صر» اىل‬ ‫ال�شرق َفك ِر َه روما و�أبى �إال �أن ي�صبح م�صرياً وعلى نهجه �سار «�أنطونيو�س» الذي ع�شق بدوره‬ ‫ومت�صر‪ ،‬فكانت النتيجة �أن ُقتل كل من الرجلني على يد الرومان �أخوانهم عقاباً‬ ‫م�صر وكليوباتره ّ‬ ‫على ت�ش ّرقهم‪ .‬جاءت روما اىل ال�شرق يف حملة �إبادة عامة‪ ،‬فعمدت اىل قتل الأطفال والتذبيح‬ ‫والتنكيل حتى ال يولد ل�سوريا من بعدها قائد‪ ،‬فما كان �إال �أن تر ّبع فكره يف عقر دارها وملا يزل اىل‬ ‫اليوم‪ :‬لقد حملت روما امل�سيح على ال�صليب‪ ،‬فقتلته �أخرياً �شاباً بعد �أن بحثت عنه جاهدة طف ًال‪،‬‬ ‫خ�شية �أن يقوم بثورته �ضدها‪ ،‬لكنها ف�شلت وما ا�ستطاعت النيل منه �إال بعد ان ن�شر فكره الذي‬ ‫�ش ّع كما ي�شع نور ال�شم�س امل�شرقية‪ ،‬وانت�صر فكر ي�سوع ال�سوري على الغرب كله وما زال ملكاً عليه‬ ‫ويعد فكره من �أعظم التح ّوالت قاطبة‪.‬‬ ‫بال منازع وقد ح ّول جمرى التاريخ مل�صلحة �سوريا بالده‪ّ ،‬‬ ‫وما ا�ستطاعت روما �أن تقوم لها قيامة �إال بعد �أن �أتى الإمرباطور ق�سطنطني الكبري اىل ال�شرق‬ ‫و�أ�س�س الق�سطنطينية عا�صمة روما ال�شرقية واعتمد امل�سيحية ديناً ر�سمياً حتى يتمكن من �إخماد‬ ‫‪39‬‬


‫الثورة ال�سورية بوجه روما‪ ،‬على قاعدة «وداوين بالتي كانت هي الداء»‪ .‬وما برحت روما قابعة يف‬ ‫امل�شرق ّ‬ ‫تنكل وتقتل لإخماد نور ي�شوع‪ /‬ي�سوع‪ ،‬ظ ّناً منها �أنه �سيخمد ويهمد؛ وما برحت ثورة‬ ‫حممد رافعاً لواء ال�سيد امل�سيح عالياً ُوغلبت‬ ‫امل�سيح ت�شع وت�ستعر يف كل �أنحاء امل�شرق حتى برز ٌ‬ ‫الروم يف �أقا�صي الأر�ض‪ ،‬فكان الإ�سالم التح ّول الأكرب بعد �ستمئة �سنة على جرمية الغرب بحق‬ ‫فكر ال�شرق وقادته‪ ،‬ومل يكتف العرب ال�سوريون بهزمية روما‪ ،‬بل �أعادوا �أجماد اجدادهم وعادوا‬ ‫اىل الغرب وكانت البوابة عرب الأندل�س وكان التح ّول الكبري من جديد حت ّو ًال نورانياً علمياً فكرياً‬ ‫�ش ّعت �أنواره يف كل �أوروبا و�سما بها اىل �أرقى درجات العلم واملعرفة‪ .‬هكذا كانت املبادلة مع‬ ‫�إجرام الغرب‪ :‬حمبة وعلماً ومعرفة م�شرقية‪.‬‬ ‫ثم قدم الإفرجنة اىل امل�شرق ينكلون ويحرقون ويذبحون ويد ّمرون وي�سرقون وينهبون كعادتهم‬ ‫مدججني علماً ولغة ومعرفة وكان التح ّول الكبري يف‬ ‫القر�صنية املت�أ�صلة فيهم‪� ،‬إال �أنهم خرجوا ّ‬ ‫بالدهم حني اعتمدت علوم ال�سريان والعرب يف معاهد الغرب املتجددة ويف دور علمه والتي‬ ‫من دونها لظل الغرب ن�سياً من�سياً‪ .‬وجاء الترت واملغول و�سكان القفار اىل امل�شرق واكملوا ما بد�أه‬ ‫الغرب‪� ،‬إال �أنهم ما لبثوا �أن حت ّولوا اىل حمطة تاريخية بعد �أن كانوا نكرة يف التاريخ‪� ،‬إذ ما فتئت‬ ‫�سوريا حت ّول الرعاع اىل ب�شر‪ ،‬فين�صهرون يف ن�سيجها و�إال يرحلون حاملني لغتها وفكرها ودينها‬ ‫وعلومها و�أخالقها‪.‬‬ ‫وكذلك فتحت بالطات العرب الغنية �صدورها للأعاجم من فر�س وترك ومماليك وبرحابة �صدر‬ ‫عاملتهم باملثل �إن�سانياً على قاعدة «ال ف�ضل لعربي على �أعجمي �إال بالتقوى»‪ ،‬فكان التح ّول‬ ‫الأخطر يف تاريخ امل�شرق الذي مل يعد من وقتها م�شرقاً بل َغ َر َب وتغ ّرب اىل غري رجعة‪ ،‬بعد �أن‬ ‫انتهك الأعاجم ح�سن املكرمة وا�ستولوا على ممالك �أ�سيادهم وما برحوا اىل اليوم ينتهكون حلم‬ ‫ال�شرق وامل�شرقيني‪ .‬ا�ستوىل حممد الفاحت العثماين على الق�سطنطينية فهاجر امل�شرقيون لي�شعوا يف‬ ‫الغرب نه�ضة وتيارات �إن�سانية هي �أكرث ما �ساهمت يف بناء �أوروبا احلديثة‪ ،‬يف حني بد�أت باملقابل‬ ‫�شم�س امل�شرق بالأفول‪ ،‬بعد �أن ٌهزم �آخر �أمراء �سوريا القادة يف «مرج دابق» العام ‪ ،1516‬فحمل‬ ‫هزميتها اىل الغرب ومل يحمل �شيئاً �أخر‪ ،‬فكان التح ّول الأغرب! �إذ عاد فخر الدين من تو�سكانا‬ ‫ومعه �أ�صناف من الأ�شجار كدليل على جفاف ويبا�س �سوريا اىل الأبد وهذه الأر�ض القاحلة‬ ‫املد ّمرة ما زلنا جن ّر ذيول اخليبة التي �أ�صابتها حتى بارت وبرنا معها اىل اللحظة‪.‬‬ ‫وا�ستوىل العثمانيون على ال�شرق و�ش ّرعوا �أبوابه وا�سعة �أمام الغرب‪ ،‬وبد�أت تتواىل غزوات الإفرجنة‬ ‫الواحدة تلو الأخرى من نابليون اىل احللفاء اىل ال�صهاينة اىل الترت اجلدد الذين عاثوا خراباً‬ ‫ونهباً وتقتي ًال اىل الآن‪ .‬وتوالت املجازر الإبادية بحق امل�شرقيني الواحدة تلو االخرى وال جمال‬ ‫للتح ّوالت الإيجابية خاللها بل كل التح ّوالت كانت �سلبية‪ ،‬و�سببها �أن ما حمله ال�شرق يف‬ ‫�آخر مرة قبل �أفول �شم�سه اىل الغرب كان الهزمية‪ ،‬فلم تعد ت�سطع �شم�س ال�شرق يف الغرب بتاتاً‬ ‫‪40‬‬


‫حتوالت املجتمع والإن�سان‬

‫رغم حماوالت البع�ض مثل جربان خليل جربان والرابطة القلمية‪ ،‬لكنها مبادرات فردية ال فعل‬ ‫حقيقياً لها وال تفي بالتعوي�ض عن حالة الت�شرذم واالنق�سام الذي تعي�شه الأمة العربية �أبداً ب�سبب‬ ‫تق�سيمها اىل جزئيات و�أقليات عرقية وطائفية ومذهبية وت�أويلية وتف�سريية مت�ضاربة ومتناحرة وويل‬ ‫لأمة كرثت طوائفها‪ٌّ ...‬‬ ‫وكل ينادي �أنا �أمة!‬ ‫وبعملية ح�سابية ب�سيطة ميكن للقارئ الر ّد على الإ�شكالية التي طرحناها يف مقدمتنا‪ :‬هل التحول‬ ‫تط ّور �أم �أنه تقهقر وتدهور؟ ف�إذا �أح�صينا عدد اخلدمات التي ّقدمها ال�شرق للغرب يكون اجلواب‬ ‫�أن التح ّول هو تطور �إيجابي باملطلق‪ ،‬وبالعك�س �إذا ما �أح�صينا ما فعله الغرب من انتهاك �ضد‬ ‫ال�شرق ح ّول م�صريه اىل االنحطاط‪ ،‬يكون التح ّول �سلبياً باملطلق ويكون تقهقراً وتراجعاً مذريني‪.‬‬ ‫والنتيجة تكون باملح�صلة �أن التح ّول الإيجابي يف امل�سرية الإن�سانية احل�ضارية ال م�صدر له �إال‬ ‫امل�شرق فقط ومن دونه ف�إن الفكر واحل�ضارة اىل زوال والب�شر اىل ا�ضمحالل فكري ووجودي‪.‬‬ ‫هل الثورات حت ّوالت �أم التح ّوالت ثورات؟‬

‫واجلواب بديهي ومنطقي‪� :‬إنهما كالهما يف �آن معاً‪ ،‬فكيف تكون ثمة ثورة من دون حت ّوالت‬ ‫وتغيرّ ات يف العقلية والأنظمة واملناهج ال�سائدة والبائدة والتي ب�سببها كان ال�ضعف والوهن يف‬ ‫قلب الأمة؟ وكذلك كيف تكون ثمة حت ّوالت والأمور تراوح مكانها بل وترتاجع وتتدهور الأحوال‬ ‫با�ضطراد لعدم وجود حركة ثورية نا�شطة قابلة �أن حتدث تغيرياً جذرياً؟ يبقى �أن هناك حقيقة‬ ‫جتب معرفتها �أال وهي �أن كل الثورات ال�شعبية قاطبة مل تحُ دث حت ّوالت �إال جزئية وغالباً �سلبية‬ ‫يف كل تاريخ الب�شرية‪ ،‬لأن نتائجها كانت �آنية و�أتت لتخدم م�صالح �سيا�سية ومالية لأفراد ولي�س‬ ‫لل�شعوب‪ ،‬وعلى ر�أ�س هذه الثورات الفا�شلة الثورة الفرن�سية والثورة البول�شيفية‪ ،‬على عك�س ما‬ ‫هو �سائد ومعروف‪ ،‬وكالهما من ت�أثري الفكر املارك�سي املحدود الآفاق واملادي النزعة‪ ،‬فانتقلت‬ ‫وتبدلت الأ�سماء فقط‪ ،‬ال بل ازدادت‬ ‫على �إثرهما الأنظمة من يد خمادعة اىل يد �أمكر لي�س �إال‪ّ ،‬‬ ‫وتكد�ست فوق‬ ‫الإ�ساءات واملمار�سات اخلاطئة وعادت الأمور لرتاوح مكانها‪ ،‬فتوالت الثورات ّ‬ ‫بع�ضها البع�ض‪ ،‬على قاعدة �أن ما يبنى على خط�أ فهو خط�أ ويبقى خط�أ‪ ،‬لذا نالحظ �أنه خمدت‬ ‫الهمم بعد فرتة وفَترَُ احلما�س وك�أن �شيئاً مل يحدث وال حت ّوالت وال تغيرّ ات نتجت عن تلك‬ ‫الثورات امل�سماة «كربى»‪.‬‬ ‫ويبقى القول �إن �أهم التح ّوالت والثورات هي الثورات الفكرية الكفيلة وحدها �أن تغيرّ جمرى‬ ‫التاريخ وهذه من�ش�أها امل�شرق و�سوريا حتديداً‪� ،‬أر�ض جلجام�ش وي�سوع وحممد ومن نهج نهجهم‬ ‫�سَ ُل َم وهو كفيل �أن يح ّول جمرى التاريخ مل�صلحة امل�شرق ‪ -‬ال�سوري ثانية والإن�سانية جمعاء‪،‬‬ ‫�شرط الوعي الذي كان له�ؤالء القادة العظام الذين م�شوا يف ركب �أجدادهم ومل يتح ّولوا عن‬ ‫‪41‬‬


‫خطهم �أبداً‪ ،‬وهذا النهج هو يف بذل الواحد يف �سبيل الكل والكل يف �سبيل الواحد وو�ضع‬ ‫الأجماد ن�صب الأعني ولي�س اخليبة والهزمية‪ .‬وليتذكر مر ّددو ال�شعارات وحم ّبو التباهي بالغرب‬ ‫�أن الثورات «الكربى» تلك التي يفاخر بها الغرب قد ا�ستمدت �شعارتها كلها من قادة ال�شرق‬ ‫العظام‪ ،‬ه�ؤالء العرب الكبار‪ :‬فمن ينكر على عمر بن اخلطاب قوله ال�شهري‪« :‬كيف ت�ستعبدون‬ ‫النا�س وقد ولدتهم �أمهاتهم �أحراراً»؟ وين�سبه �إىل «رو�سو» لي�س �سوى الذي فقد هويته وحريته‬ ‫وانهزم ل�صالح ناهبي خريات ال�شرق وثروات ال�شرق وفكر ال�شرق؟ وماذا يبقى من مواد ومبادئ‬ ‫�شرعة حقوق الإن�سان �إذا ما ج ّردناها من مادتها الأ�سا�سية القائمة على احلق واخلري واجلمال وهي‬ ‫مبادئ م�شرقية بالإ�ضافة اىل املحبة والعدالة وامل�ساواة واحلرية وكلها م�سيحية الهوية‪ ،‬عربية املن�ش�أ‪،‬‬ ‫حممدية االنت�شار‪ ،‬م�صدرها امل�شرق وحده والذي من دونه �سوف يبقى �أبناء الغرب قرا�صنة‬ ‫وقطاعي طرق وقتلة ال منا�ص من �إعادة تهذيبهم وتلقيحهم م ّرة �أخرى على يد امل�شرقيني الذين‬ ‫يبدلون جمرى التاريخ ويحدثون �أكرب التح ّوالت‪ ،‬هذا �إن وجدوا يوماً ما‪ .‬فهل بعد من‬ ‫�سوف ّ‬ ‫معجزة؟‬

‫‪42‬‬


‫حتوالت املجتمع وا لإن�سان‬

‫«حت ّوالت» مع الفا�صلة‬

‫نعيم تلحوق ‪� -‬شاعر‬

‫مل تكن عالقتي بتح ّوالت �سركي�س �أبو زيد ‪ ،‬كمن�شور ثقايف �أو جملة �صراعية فح�سب‪ ،‬هي عالقة‬ ‫�أبقى من الإن�سان عينه‪ ،‬هي عالقة خلق وفرادة‪ ،‬وبحث عن معنى احلرية‪...‬‬ ‫�أربعون عاماً وحتوالت ت�صارع ثقافياً لتك�سب فهمها للآخرين‪ ،‬عالقة ال�شيء بال�شيء �صعبة �إذا‬ ‫بدت مت�شابهة‪ ،‬لأنها من�سوخة وال تتمتع بفرادة غري َّية‪ ،‬النقي�ض دائماً ي�صنع احلرية‪ ،‬املهم يف كل‬ ‫ذلك‪ ،‬كيف تكون احلرية؟‬ ‫معلق منذ فجر التاريخ‪ ،‬حرية َم ْن؟ حرية ماذا؟ حرية كيف؟ وملاذا نقي�س �أحمالنا كما‬ ‫اجلواب ٌ‬ ‫نقي�س �أفكارنا ‪ ،‬بوزنات حديدية قدمية؟؟‬ ‫جتيء «حت ّوالت» لت�س�أل كم زمن م�ضى من دون مالذ‪ ،‬من دون بلوغ هدف‪ ،‬من دون �س�ؤال �أ�سا�سي‬ ‫لت�أ�سي�س معنى‪� ،‬أو جت�سيد ذاكرة ح ّية ا�سمها الغد‪ ،‬فنتج ّنب ا�ستعمال �أدوات التوكيد واجلزم‬ ‫والن�صب‪ ،‬ونتبع مفهوماً داللياً محُ ققاً يحاكي الأ�شياء ب�أ�سمائها بغية �إ�ضافة جديدة ملعنى احلياة‪...‬‬ ‫مل ت�أبه حت ّوالت �سركي�س �أبو زيد لل�سف�سطة التي دخلت على اللغة العربية من بابها اليوناين‪،‬‬ ‫لكل ح�سب فهمه‪ّ ،‬‬ ‫ولكل‬ ‫فالتعبري �ش�أن فردي ال يتع ّلق مبجموع منطي قام على املوروث التقليدي‪ٍ ،‬‬ ‫�إرادة عمل‪ّ ،‬‬ ‫ولكل عمل وظيفة ‪...‬‬ ‫�سركي�س �أبو زيد ترك حتوالته ت�صارع املوج‪ ،‬وتن�ساب بطبيعتها �إىل مدى ي�صنع نف�سه‪ ،‬فم�ضى بغري‬ ‫منطية �سردية ّ‬ ‫تذكرنا ب�أجماد املا�ضي التليد‪� ،‬أو ب�أفكار الغد البعيد‪ ،‬و�إمنا راح ي�س�أل ماذا نريد �أن نفعل‬ ‫لن�صبح كوكباً يعي �أنه جز ٌء من ُكل‪ُ ،‬‬ ‫والكل جز ٌء من داخلنا و�ضمري الوجود‪...‬‬ ‫�أكرث من مرة ناق�شت �سركي�س مبو�ضوع النقطة‪ ،‬و�س�ألته ا�ستعمال الفا�صلة يف تركيب جمله‪ ،‬و�أن‬ ‫ال ينهي الكالم بنقطة‪ ،‬بل بثالث‪ ...‬لأننا ال ندرك �إذا انتهينا‪ ،‬فهناك ما علينا فعله نحن �أو �أحد‬ ‫نظن �أننا �أجنزناه‪،‬‬ ‫�آخر‪ ...‬ف� ّأكد �سركي�س بب�سمة‪ :‬دعنا ال نبد�أ �إذاً‪ ،‬لأن لي�س مبقدورنا �أن ننهي عم ًال ُّ‬ ‫نحن يف التجريب‪ ،‬والبقية ت�أتي‪ ،‬لهذا كانت «حتوالت»‪...‬‬ ‫مربوك «حت ّوالتك» يا �سركي�س يف ميالدها الأربعني‪...‬‬ ‫‪43‬‬



‫فـكــــــــر‬

‫م�سعى م�ست�أنف لتظهري �أ�سئلة يف �أمر اليوم‬ ‫«االخت�صام الودود» بني املثقف واحلاكم‬ ‫حممود حيدر ‪ -‬باحث يف الفل�سفة ال�سيا�سية‬ ‫ق�صدها �أي�ضاً‪ ،‬تو�صيف ما‬ ‫ال تتو�سل هذه املقالة تظهري اخل�صومة امل�ألوفة بني ال�سلطة ونقّادها‪ .‬وال ُ‬ ‫بني احلاكم واملحكوم من اخت�صام قيل فيه وحوله مما ي�صعب ح�صره‪ ،‬وما ت�ستحيل به الإحاطة‪.‬‬ ‫�سوف نقر�أ �صورة تلك العالقة الغام�ضة وامللتب�سة والرمادية بني ال�سلطة و�أخ�صامها‪ .‬العالقة التي‬ ‫تقرتب يف رمزيتها تلك التي ت�سود عوامل اجلن‪ ،‬حيث كل ما يف عوامل كهذه رهن االن�سحار‬ ‫واخل�شية واملفاج�أة وال ّال�شعور وغرابة الأطوار‪...‬‬ ‫لندخل �إذن يف املعاينة‪...‬‬ ‫لي�س يف االجتماع ال�سيا�سي ما هو �أ�شد �إغوا ًء للجدل من اختبار العالقة امل�شوبة بالغمو�ض بني‬ ‫املحكوم واحلاكم‪ .‬فهي عالقة مملوءة مبفارقات �شتى‪ .‬من وجه تقوم على القطيعة‪ ،‬والإق�صاء‪،‬‬ ‫والتنابذ‪ ،‬ومن وجه ثانٍ على الو�صل واالعرتاف والتقريب‪� .‬إنها عالقة وا�ضحة وحمتجبة يف �آن‪،‬‬ ‫و�إنها ب�سيطة ومركبة؛ وهي يف غاية ال�سهولة لكنها ممتنعة يف الوقت عينه على من يريد �أن يدخل‬ ‫م�سراك يف ذلك العامل ِّ‬ ‫َ‬ ‫املكتظ باحلَيرْ ة‪ ،‬فال‬ ‫�سمح لك ب�أن ت�أخذ‬ ‫عاملها من غري ا�ستئذان‪ .‬ولكي ُي َ‬ ‫تعد لنف�سك ما ت�ستطيع من متاع املخاطرة‪.‬‬ ‫منا�ص لك من الأخذ ب�سلطان ما‪ ،‬و�أن َّ‬ ‫�سيكون عليك الته ّي�ؤ خلو�ض املخاطرة‪ ،‬حتى و�أنت تت�صرف ب�صفة كونك مراقباً للم�شهد‪ .‬فامل�سافة‬ ‫التي خُ ّيل �إليك‪� ،‬أنها �ستن�أى بك من ت�شظ ّيات االحتدام‪ ،‬لي�ست �إال مرتبة من مراتب العالقة‪،‬‬ ‫وجزءاً من امل�ساحة غري املتناهية من امل�شهد اجلامع للحاكمني واملحكومني‪� .‬إنه امل�شهد نف�سه الذي‬ ‫ي�ؤ ِّل ُف املجتم َع ِّ‬ ‫ويعيد �إن�شاءه‪ .‬فاملجتمع بح�سب الفل�سفة ال�سيا�سية للحداثة‪ ،‬هو �آلة �ضخمة‬ ‫وي�شك ُله ُ‬ ‫لإنتاج الرغبات‪ .‬و�أخطر هذه الرغبات على الإطالق هي الرغبة يف احلكم‪ ،‬الرغبة يف ال�سلطة‪،‬‬ ‫ويف اخل�ضوع لها معاً‪ .‬املجتمع هو الذي ينتج الرغبة يف حب ال�سلطة ذاتها‪ .‬ف�إذا كانت هناك �سلطة‬ ‫فاعلم �أن وراءها راغباً بها‪ .‬هناك من يحب ويرغب �أن يت�سلط‪ ،‬وهناك من يحب ويرغب �أن ُيت�سلط‬ ‫ال�سيرْ ّيات ال�صاعدة للمجتمعات الغربية يف‬ ‫عليه‪� .‬إن هذا التو�صيف �سيجد م�صاديقه الواقعية يف َّ‬ ‫خالل ال�سبعينيات من القرن الع�شرين‪ .‬و�سرنى ذلك يف ما يب ِّينه املفكر الفرن�سي‪ ،‬و�أحد �أ�شهر‬ ‫�أ�ساتذة الفل�سفة يف بالده �آنذاك �إميل �شارتييه ‪ ،Emile Chartier‬املعروف با�سمه امل�ستعار (�آالن‬ ‫‪45‬‬


‫‪ .)Alain‬يقول‪« :‬كل دبلوما�سي يرغب يف م�شاريعه‪ ،‬وكل مدير �شرطة يرغب يف النظام‪ ،‬وكل‬ ‫موظف يرغب يف تو�سيع حقه يف املراقبة وتعزيز امتيازاته‪ .‬ومبا �أنهم كلهم يتواط�أون من �أجل ذلك‪،‬‬ ‫ف�إنها تت�شكل مبا�شرة دولة حاكمة لها قواعدها‪ ،‬ومناهجها‪ ،‬وحتكم من �أجل عظمتها اخلا�صة‪.‬‬ ‫وباخت�صار ‪ -‬ي�ضيف �آالن ‪� -‬أن اال�ستعمال املبالغ فيه لل�سلطة هو نتاج طبيعي لل�سلطة نف�سها»‪.‬‬ ‫‪.Alain: Elements d’une doctrine radicale «3ème édit. Nrf Gallimard 1925 P.124‬‬ ‫وهكذا ف�إن الرغبة يف ال�سلطة هي التي ت�ستولد ال�سلطة �إ ّياها‪ .‬ذلك على النحو الذي تنجلي فيها‬ ‫ال�صورة ليظهر لنا �أن ال�سلطة تروح ت�أكل �أبناءها بال رحمة‪.‬‬ ‫ولأنها كذلك‪ ،‬ت�سمو ال�سلطة على الت�صنيف والتح ّيز �ضمن دائرة العالقة بني املحكومني‬ ‫واحلاكمني‪ .‬فالعالقة بحد نف�سها �سلطة‪ ،‬لأنها نطاق خ�صيب لظهور القوى‪ .‬وعلى هذه الداللة‬ ‫ت�صبح ال�سلطة هي حا�صل فعل اللقاء بني ّندين متوازيني‪ .‬ولعل ا�ستعادة �أطروحة هوبز عن‬ ‫ال�سلطة بو�صفها الكائن الأ�سطوري الذي يحاول اال�ستحواذ على كل �شيء‪� ،‬إمنا هي ا�ستعادة‬ ‫يجري توظيفها عند هذا املعنى لل�سلطة‪ .‬ذلك �أن هذه الأخرية لي�ست هي النظام ال�سيا�سي القائم‬ ‫فقط‪ ،‬بل هي كل قوة ال يراقبها العقل‪� .‬إنها ‪ -‬بح�سب �إعادة التف�سري الفل�سفي لأطروحة هوبز‬ ‫حول مفهوم اللوفياطان (‪ - )Leviatnan‬ذات معنى �أو�سع من ذلك الذي �أعطاه له هوبز‪ .‬لذلك‬ ‫�سرنى �آالن (‪ )Alain‬يع ِّرف هذا النوع من ال�سلطة على �أنه‪ :‬لي�س جمي ًال وال حكيماً‪� .‬إنه اجلمعية‪.‬‬ ‫هو املكتب والرئي�س‪ .‬هو الر�أي امل�شرتك الذي لي�س هو ر�أي �شخ�ص بعينه والذي هو ال �شيء‪.‬‬ ‫�إنه الإح�صاء‪ ،‬والنظام‪ ،‬واالن�ضباط‪� .‬إنه تقليد الكل للكل‪� .‬إنه روح القيادة والطاعة العقيمة‪� .‬إنه‬ ‫املعدل هي الرقيب‬ ‫العالقة اخلارجية التي حت ِّول النا�س �إىل �أ�شياء‪ .‬ال�سلطة بهذا املعنى الهوبزي َّ‬ ‫الأعلى‪ .‬وباخت�صار هي كل ما يقمع الفرد ويقهره اجتماعياً‪ ،‬و�سيا�سياً‪ ،‬هي الدولة واجلماهري معاً‪.‬‬ ‫اجلماهري التي ت�صنع الدولة عن طريق �إ�ضفاء طابع القد�سية عليها‪.‬‬ ‫(حممد ال�شيخ ‪ -‬املثقف وال�سلطة ‪ -‬درا�سة يف الفكر الفل�سفي الفرن�سي املعا�صر ‪ -‬دار الطليعة ‪ - 1991‬تقدمي‬ ‫�سامل يفوت ‪� -‬ص ‪)28‬‬

‫التقابل �رس كل �شيء‬

‫امل�س�ألة �إذن‪ ،‬هي يف �سر التقابل بني رغبتني ال تتم الواحدة منها �إال بالأخرى‪ .‬ثمة �شغف يدفع‬ ‫املحكومني نحو احلاكمني �ضمن �سَيرْ َّية معقّدة‪ ،‬ومتداخلة‪ ،‬ومتناق�ضة‪ .‬تارة تنب�سط على ال�سمع‬ ‫والطاعة‪ ،‬وطوراً على الرف�ض والكراهية‪ ،‬وثالثة على تواط�ؤ م�سبوق بوعي املبادئ والغايات‪ .‬ك�أن‬ ‫تفرت�ض العالقة عند حلظة ما من احلراك العام �أن ي�ست�شعر كل من طريف التقابل خطر الفناء‬ ‫واال�ضمحالل‪.‬‬ ‫‪46‬‬


‫فكــــــر‬

‫ما �س ّر التقابل ليكون هذا �س ّر كل �شيء يف اللعبة؟‬ ‫كان ميالن كونديرا يقول وهو مي�ضي يف تو�صيف الظاهرة الب�شرية يف روايته املعروفة «املزحة»‪:‬‬ ‫الإن�سان كائن ي�سعى للو�صول �إىل نوع من التوازن‪« :‬لذلك نراه يوازن ثقل ال�سوء الذي يرهق‬ ‫كاهله بوزن احلقد الذي يحمله‪.»...‬‬ ‫لي�س يبدو ما هو �أبلغ من هذا التو�صيف‪ ،‬حتى نخاطر يف مترين جديد من الكلمات حول عالقة‬ ‫املحكومني باحلاكمني‪ .‬فل�سوف يظهر لنا يف �سياق تلك املخاطرة �أن ال�صلة التي جتمع وتف ِّرق قد ت�شابهت‬ ‫علينا‪ .‬ولقد بتنا على حرية يف ما �إذا كنا �سنعرف نقاط االت�صال واالنف�صال يف اللحظات املنا�سبة‪.‬‬ ‫�ضرب من ال�شبهة‪ ،‬غالباً ما يف�ضي اال�ستغراق فيه‬ ‫حتى �إذا عاي ّنا �أحوال ال�سلطة ونقَّادها‪ ،‬تك�شَّ ف لنا ٌ‬ ‫�إىل الغفلة‪ ،‬فيكون من نتيجة ذلك الفو�ضى وال ّاليقني و�صو ًال رمبا �إىل انفجار النظام العام‪.‬‬ ‫و�إذاً‪� ،‬سوف يفرت�ض التقابل بني احلاكم واملحكوم توازناً ما‪� .‬إذ �إنه ككل تقابل يقوم يف الأ�صل على‬ ‫ما توجبه عالقة التبادل‪ .‬فال م�سافة ت�ؤدي �إىل القطيعة �إ ّال ا�ستعمال كل منهما للقوة العمياء التي‬ ‫بني يديه‪ .‬وعندئذ �سوف تنطلق �سَيرْ ية �أفعال متقابلة متناظرة ال حدود لها‪ .‬لكن وظيفة التوازن‬ ‫املفرت�ض هو �إر�ساء منطق اللعبة وقوانينها‪ .‬ومن قبل �أن يبد�أ الكالم عن ميزان القوة و�آليات النـزاع‬ ‫وم�آالته‪ ،‬ثمة �شعور قبلي متبادل ي�شي باحتياج كل منهما للآخر‪ .‬واحلاجة هنا هي حاجة �إيجادية‪.‬‬ ‫وهي قبل كل ذلك‪ ،‬وجودية تكوينية‪ .‬وتتعلق كذلك بال�شرعية‪� .‬إذ ال ت�شعر ال�سلطة احلاكمة‬ ‫بح�ضورها وفاعليتها ما مل تكن على يقني من �أن ثمة من ي�شاطرها احل�ضور وي�شاركها فيه‪ ،‬ولو على‬ ‫�سبيل املناف�سة واملنازعة واال�ستبدال‪ .‬احلال نف�سه بالن�سبة �إىل املحكومني وال �سيما منهم جمهور‬ ‫الإنتليجن�سيا املاكثة على الطرف الآخر‪ ،‬ترى‪ ،‬وت�سمع‪ ،‬وتالحظ‪ ،‬وتنقد‪ ،‬وتتطلع �إىل نب�أ �سعيد‪ .‬هذه‬ ‫ال�شريحة من املحكومني لن جتد نف�سها‪ ،‬وبالتايل هويتها وال تتحقَّق لها �شرعيتها‪ ،‬حتى يرتاءى لها‬ ‫اخل�صيم اللدود وجهاً لوجه‪ .‬كل عالقة بني من ُيفرت�ض بهما �أن يك ّونا جمتمعاً واحداً مكتم ًال هي‬ ‫عالقة �شرطية‪ ،‬ال ا�ستغناء لأحد عن �أحد‪ .‬حتى ليبدو الأمر كما لو �أنه «االقرتان الالمتناهي»‬ ‫�ضدين‪� .‬إال �أنه اقرتان حمكوم بـ «�سري ّيات» مت�صلة من القطيعة والو�صل وااللتحام‪ .‬على‬ ‫بني ّ‬ ‫هذه ال�سري ّيات �سرت�سو قواعد اللعبة‪ ،‬ويف كل حال �سرنى كيف �أن »االقرتان الالمتناهي» �س َيل ُِد‬ ‫متناهيات‪ ،‬تتمظهر عموماً على �شكل �سلوكيات وممار�سات‪ ،‬من التنابذ‪ ،‬والتجاذب‪ ،‬واملكر واملنافقة‪،‬‬ ‫والك ّر والف ّر‪ ،‬وكذلك على حت ِّريات من امل�ساعي املحمومة للإق�صاء املتبادل‪.‬‬ ‫ومهما كان م�ستوى التجريد الذي يت�سامى بتلك العالقة‪ ،‬ف�سي�ؤول االحتكاك �إىل ك�شف �س ّر‬ ‫ما‪� .‬إذ يف اللحظة التي ت�صبح العالقة �ضمن �إطار‪� ،‬أي يف اللحظة التي تنتقل فيها العالقة ال�سلطة‬ ‫ونقَّادها �إىل ح ّيز اللعبة �سوف ت�أخذ امل�ضمرات بالظهور‪ .‬و�سواء جرت الوقائع بطريقة الإق�صاء‬ ‫العنيف �أو بالتمثيل الطوعي‪ ،‬ف�ستنتهي �إىل توليد قوانينها و�أمناط عملها اخلا�ص‪ .‬ثم �إىل جالء‬ ‫منطقة ملتب�سة ميكث فيها ُقطبا الثنائية يف مكان يكاد يكون �أبدياً‪.‬‬ ‫‪47‬‬


‫ا�ستئناف التعريف‬

‫ما ال�سلطة بو�صفها مر�آة احلاكم‪ ،‬ما اجلمهور الذي يقف على ال�ضفة الأخرى بو�صفه مر�آة املحكوم؟‬ ‫وهل ثمة �سياق ينتظم التوتر بينهما ليجعل �سر العالقة حممو ًال على الإدراك والك�شف؟‪..‬‬ ‫�ستبدو مهمة الإجابة مثقلة ب�أعباء ي�صعب ح�صرها‪ .‬وال �سيما �أن طريف التعلق يظهران ككائنني غري‬ ‫م�ستقلني متاماً عن رباطهما امل�شرتك‪ .‬بل هما يتظاهران على �أر�ض واحدة‪ ،‬و�ضمن حقل واحد‪،‬‬ ‫لكن على �ساحة م�شوبة ب�ضباب كثيف‪ .‬من هذه امل�ساحة وبفعل احلرب الباردة حيناً‪ ،‬ال�ساخنة‬ ‫حيناً �آخر‪� ،‬ستنطلق �سَيرْ ية ال منتهى لها من مركبات الع�شق والكراهية‪ ،‬ك�أمنا قدر ق�ضى برحلة‬ ‫�ضاجة باحلراك واالعرتاك‪ ،‬حتى ليغدو ذلك علة اليقني‪ ،‬وم�صدر الأمان للفاعلني يف تلك احلروب‬ ‫َّ‬ ‫املفتوحة‪.‬‬ ‫ف�سيكون من نتيجة ذلك دفع �س�أم احلاكم‪ ،‬وقتل �ضجر املحكوم‪ .‬ف�إذا كان م�ستحي ًال على ال�سيد‬ ‫�أن يكون حراً ما دام يحكم ب�شروط بقائه و�سيادته‪ ،‬كذلك �سيكون توا�ضع املحكومني �ضرورياً من‬ ‫�أجل الإبقاء على االنتظام االجتماعي كما تقول مدام �سافنيني‪ .‬ورمبا ب�سبب من هذه ال�ضرورة‬ ‫من «التوازن الإيجابي» ذهب جان جينيه يف «ال�شرفة» �إىل هذه املعادلة‪« :‬يتوجب عليك �أن تكون‬ ‫علي �أن �أكون قا�ضياً مثالياً‪ .‬يف حني لو كنت ل�صاً مزيفاً ف�إنني �أ�صبح قا�ضياً‬ ‫ل�صاً منوذجياً �إذا كان ّ‬ ‫مزيفاً‪.»...‬‬ ‫�إن الدائرة التي حتتوي هذه اجلدالية من الرغبات اال�ستجابية املتبادلة‪� ،‬ضرورية لن�شوء‪ ،‬وتدرج‪،‬‬ ‫ومنو‪ ،‬وارتقاء منطق اللعبة‪� .‬سوف جتد ال�سلطة احلاكمة باملثقف املندرج �ضمن مقام طليعي يف عامل‬ ‫املحكومني‪ ،‬علة وجودها‪ .‬كذلك �سيجد هذا املثقف بها جدوى ح�ضوره على اخلط الآخر املوازي‬ ‫لها‪ .‬ك�أن على الثنائي �أو ًال‪� ،‬أن يرت�ضي مبد�أ القبول بالآخر لكي يت�سنى لكل من قطبي الثنائية‬ ‫ممار�سة النفي والإق�صاء واملخاطرة‪ .‬عندما ترغب ال�سلطة غزوه‪ ،‬عرب تفكيك �أبنيته لأجل �إنتاجه من‬ ‫جديد وفقاً مل�صاحلها �سوف يبد�أ الوجه الأول للعبة‪ .‬ويف موازاة هذه الرغبة تت�شكل مالمح ال�ضفة‬ ‫الأخرى للفتنة ليتك ّون الوجه الآخر‪ ،‬وتكتمل �شروط االلتقاء والتنابذ وعنا�صرهما الدرامية‪.‬‬ ‫ل َ‬ ‫رن كيف بدت ال�صورة التي نحن يف احلقيقة جزء منها‪:‬‬ ‫�إننا الآن يف ج�سد اللعبة‪ .‬يف تلك املنطقة املفتونة ب�إغواءات القوة‪ ،‬حيث كل قوة هي يف عالقة‬ ‫مع قوى �أخرى‪� ،‬إما لتطيع‪ ،‬و�إما لت�أمر‪ .‬هكذا يبينِّ املفكر الفرن�سي جيل دولوز ثم ي�ضيف‪�« :‬إن ما‬ ‫يحدد ج�سداً هو هذه العالقة بني القوة املهيمنة والقوى اخلا�ضعة‪ .‬كل توازن قوى ي�شكل ج�سداً‬ ‫كيميائياً‪ ،‬بيولوجياً‪ ،‬اجتماعياً‪� ،‬سيا�سياً‪� .‬إن قوتني مع َّينتني غري مت�ساويتني ت�شكالن ج�سداً مبجرد‬ ‫دخولهما يف عالقة‪ :‬لذلك‪ ،‬فاجل�سد هو دائماً ثمرة ال�صدفة‪ ،‬باملعنى النيت�شوي اخلال�ص‪ .‬وهو يظهر‬ ‫‪48‬‬


‫فكــــــر‬

‫ك�أنه ال�شيء الأكرث «�إدها�شاً»‪ ،‬الأكرث �إدها�شاً بكثري‪ ،‬يف احلقيقة من الوعي والروح‪ .‬غري �أن ال�صدفة‬ ‫وهي عالقة القوة بالقوة ‪ -‬كما يريد دولوز ‪ -‬هي �أي�ضاً جوهر القوة‪ ،‬لذا ال يجوز الت�سا�ؤل عن كيفية‬ ‫والدة ج�سد حي‪ ،‬لأن كل ج�سد هو حي ب�صفته نتاجاً «اعتباطياً» للقوة التي تكونه‪ .‬اجل�سد هو‬ ‫ظاهرة متعددة‪ ،‬لكونه مكوناً من تعدد قوى يتعذر تقليله ووحدته بالتايل‪ ،‬هي وحدة ظاهرة متعددة‪،‬‬ ‫قوى فاعلة‪� ،‬أما القوى ال�سفلى‬ ‫«وحدة هيمنة» وت�سمى القوى العليا �أو املهيمنة يف ج�سد معني ً‬ ‫�أو اخلا�ضعة فهي قوى ارتكا�سية‪ .‬الفاعل واالرتكا�سي هما بالتحديد ال�صفتان الأ�صليتان اللتان‬ ‫تعربان عن عالقة القوة بالقوة‪ .‬لأن القوى التي تدخل يف عالقة ال يكون لها كمية من دون �أن‬ ‫يكون لكل منها يف الوقت ذاته النوعية التي تقابل االختالف الكمي كاختالف كمي بينها»‪...‬‬ ‫لنقل �إن اكتمال وحدة النقي�ضني (ال�سلطة الفاعلة ‪ -‬املثقف الف ّعال) يتوقف على انوجاد قوة كل‬ ‫منهما يف حقل االختبار واملعاينة‪ .‬بهذا �سيكون لل�سلطة قوة ن�سميها �سلطان ال�سلطة‪ .‬وللمثقف‬ ‫(املثقف هنا ك�ضمري اجلماعة) �أي�ضاً �سلطته التي �ستن�ش�أ منذ اللحظة الأوىل التي يبتدئ فيها‬ ‫بك�شف وا�ستباحة ما يتوارى خلف القول املعلن ل�سلطة احلاكمني‪� .‬إن هذه ال�سري ّية املنطقية تبدو‬ ‫وك�أنها مر�سومة على �أر�ض الق�ضاء والقدر‪ .‬وعلى �أي وجه وحال‪ ،‬فمن الوا�ضح ‪ -‬كما يالحظ عامل‬ ‫االجتماع الأمريكي ‪ -‬جيم�س �سكوت ‪� -‬أن �أي فريق حاكم �سوف ينتهي به الأمر �إىل جعل نف�سه‬ ‫�ضعيفاً �أمام �أي خط خا�ص من خطوط النقد‪ ،‬فيما هو يحاول �أن يربر مبادئ التفاوت االجتماعي‬ ‫التي ي�ؤ�س�س عليها مزاعم حقه يف ال�سلطة‪ .‬ومبقدار ما ت�أتي مبادئ التفاوت لكي تزعم ب�شكل‬ ‫ال مفر منه‪ ،‬ب�أن ال�شريحة احلاكمة تقوم مبهمة اجتماعية ذات قيمة ‪ -‬يعر�ض �أفراد هذه ال�شرعية‬ ‫�أنف�سهم للهجوم ب�سبب �إخفاقهم يف �أداء تلك الوظائف ب�شكل كاف �أو نزيه‪� .‬إن الأ�س�س التي‬ ‫ينبني عليها الزعم باحلق يف االمتيازات �أو ال�سلطة‪ ،‬هي التي تخلق الأر�ضية التي �ستقوم عليها‬ ‫االنتقادات املوجهة ناحية فعل ال�سيطرة‪ ،‬وذلك بناء على القواعد التي كانت النخبة هي التي‬ ‫�سبق لها �أن حددتها‪.‬‬ ‫�إن النقد‪� ،‬أو ما ن�سميه بـ«ك�شف ما ي�سترت وراء القول الظاهر»‪ ،‬هو امللمح البدئي لت�أليف قدرة‬ ‫م�ضارعة للقوة احلاكمة‪� .‬إنه على التعيني‪ ،‬ال�سالح الذي تلتجئ �إليه تلك ال�شريحة من املحكومني‬ ‫ب�إزاء �سلطة املجتمع ال�سيا�سي احلاكم‪� .‬إن �سالح النقد‪ ،‬مبا هو م�شروع �سلطة �ضاغطة �سيكون له‬ ‫الأثر احلا�سم يف ت�شكيل النـزاع الالحق بني املثقف وال�سلطة‪ .‬وبح�سب دولوز متمث ًال فيل�سوفه‬ ‫فوكو ‪� -‬إن القوى ال�سفلى �أي القوى املحكومة ‪ -‬ال تكف عندما متار�س طاعة ال�سلطة احلاكمة‪،‬‬ ‫عن �أن تكون قوى‪ ،‬متميزة عن تلك التي ت�أمرها‪ .‬الطاعة ‪ -‬بهذا املعنى ‪ -‬هي ميزة القوة مبا هي‬ ‫قوة‪ .‬وهي متعلقة مبقدار ما يتعلق فعل الأمر بها‪« :‬ال قوة ت�ست�سلم لقدرتها اخلا�صة‪ .‬وكما �أن وجود‬ ‫الإمرة يفرت�ض وجود تنازل‪ ،‬ف�إن القوة املطلقة لدى اخل�صم ُيفرت�ض �أال تكون مقهورة‪ ،‬مذ َّوبة‪،‬‬ ‫حملولة‪ .‬الأمر والطاعة هما �شكال املباراة االثنان»‪� .‬ضمن هذه احللبة بالذات تدور دوائر اللعبة‪،‬‬ ‫وغالباً ما تتنوع النتائج بتنوع �أ�شكال الت�صادم‪ ،‬وطبائعه‪ ،‬و�شروطه‪ ،‬وقواه التي حتركه‪ ،‬وتبتعثه من‬ ‫‪49‬‬


‫جديد‪ .‬تارة يرث املحكوم ال�سلطة بعدما يق�صي �سلطانها وي�شل فعالياتها فيتحول �إذ ذاك هو نف�سه‬ ‫�إىل �سلطة ذات موا�صفات و�أحوال خمتلفة‪ .‬وطوراً تروح ال�سلطة تلتهمه بعد �أن حتتويه‪ ،‬برتهيبها‪،‬‬ ‫وترغيبها‪ ،‬فين�ضوي حتت لوائها‪ ،‬طائعاً لأهوائها‪� ،‬أو داعياً (�إيديولوجياً) لقواها ال�سيا�سية واالقت�صادية‬ ‫واالجتماعية واملالية‪ .‬وثالثاً قد ت�أخذه نوازعه �إىل االعرتا�ض هم�ساً‪ّ ،‬‬ ‫عل يوماً ي�أتي فيعتلي املثقف‬ ‫نوا�صي ال�شوارع وال�ساحات رافعاً �صوته للملأ‪ :‬الآن‪ ،‬الآن قيامتنا‪ ،‬فلت�سقط ال�سلطة‪.‬‬ ‫لغة الرحم احلار‬

‫كل ما يختلج يف حقول التبادل بني ال�سلطة ونقّادها يرمي �إىل ب�سط القوة‪ .‬فل�سوف ينتهي الأمر‬ ‫�إىل �سلطة ال حمالة‪ .‬وقبل هذا مب�سافة تكون �أع�صاب احلركة قد ا�ستجمعت قواها لتو ِد َعها وعاء‬ ‫الغاية الق�صوى‪� .‬إن كل ذلك �سوف يجري داخل ما ي�شبه الرحم احلار‪ .‬ولو ر�أينا �إىل ال�صورة‬ ‫لوجدنا �أن القوة الإخ�ضاعية (ال�سيا�سة غالباً و�أ�سا�ساً) تنربي �إىل �إخ�ضاع ال�ضفة املقابلة لها حتى‬ ‫حني تتعاي�ش و�إياها داخل املجال امل�شرتك الذي �أ�سميناه الرحم احلار‪ .‬و�ستظل العالقة متوازية‬ ‫متكافئة يف ذلك املجال من دون �أن تكون ا�ستتباعية كما قد يظن‪ .‬ويف حني ت�ؤكد القوى الفاعلة‬ ‫الإخ�ضاعية اختالفها‪ ،‬وجتعل من هذا االختالف مادة للمتعة‪ ،‬ف�إن القوى (املُ ْخ�ضَ َعة) حتى وهي‬ ‫يف حالة خ�ضوع‪ ،‬تروح ت�ستنبت عوامل القدرة‪ ،‬وحتا�صر القوة الفاعلة‪ ،‬وتفر�ض عليها حتديدات‬ ‫وقيوداً جزئية‪ ،‬على حد ت�أويل دولوز وفوكو‪.‬‬ ‫بديهي �أن �أحداً �سي�س�أل‪� :‬إىل �أين �ستنتهي خما�ضات الرحم احلار‪ ،‬ما الذي �ستك�شفه طبائع‬ ‫ال�سلطة والنخبة �ضمن دوائر التناق�ض وااللتحام والتوحد؟‬ ‫تبني املدر�سة التفكيكية الغربية ب�أن ال�سلطة هي عالقة قوى‪ .‬بل هي على التخ�صي�ص «عالقة‬ ‫�سلطة»‪ .‬و�إن ال�سلطة لي�ست �شك ًال ك�شكل الدولة‪ ،‬ولي�ست عالقة بني �شكلني كاملعرفة‪ .‬و�إن القوة‬ ‫لي�ست على الإطالق‪ ،‬قوة مفردة‪ ،‬بل �إن من �سماتها اجلوهرية �أنها ترتبط بقوى �أخرى‪ ،‬و�إن كانت‬ ‫كل قوة هي �أ�ص ًال عالقة‪� ،‬أي �سلطة‪ .‬لي�ست للقوة �أي مو�ضوع �آخر‪� ،‬أو ذات �أخرى‪� ،‬سوى القوة‪.‬‬ ‫ال ينبغي اعتبار هذا التعريف على �أنه يت�ضمن عودة �إىل القانون الطبيعي‪ ،‬ذلك �أن «احلق يعد‬ ‫�شكل تعبري‪ ،‬بينما الطبيعة تعترب �شكل ر�ؤية‪ ،‬والعنف مالزم للقوة �أو نتيجة ترتتب عنها ولي�س‬ ‫عن�صراً مكوناً لها»‪.‬‬ ‫�إن الرهان هنا على الت�صعيد والتوتر‪ .‬فكلما اجتهت عالقة القوى بني ال�سلطة ونقَّادها نحو الت�صعيد‬ ‫ظهرت احتماالت الفعالية‪ .‬و�أمكن لالجتماعني الديني وال�سيا�سي �أن يغادرا موتهما امل�ؤجل‪.‬‬ ‫قيمة الت�صعيد �أنه يف�ضي �إىل افت�ضاح ما ي�ضمره كل طرف من طريف الثنائية‪ .‬وهنا تكمن �أي�ضاً‬ ‫حيوية التوتر داخل ثنائية ما برح طرفاها على تهي�ؤ دائم ملعاينة الآخر‪� .‬إما للتماهي معه �أو لإق�صائه‬ ‫‪50‬‬


‫فكــــــر‬

‫يف حاالت الت�صعيد الق�صوى‪ .‬و�إذاً‪ ،‬ففي جميع مناطق االت�صال‪ ،‬والتما�س‪ ،‬والتنافر‪ ،‬والتماهي‬ ‫تت�شكل دينامية ميكن �أن ت�سهم بن�سبة ما تختزنه من حيوية‪ ،‬يف ك�شف احلقائق املحجوبة‪ ،‬ويف‬ ‫ا�ستقراء ما هو كامن وخمفي يف ثنايا العمليات املجتمعية‪.‬‬ ‫يف الفل�سفة ال�سيا�سية احلديثة‪ ،‬الأوروبية على التخ�صي�ص‪ ،‬منحت االجتهادات مقولة النخبة‬ ‫وال�سلطة �أبعاداً �أكرث عمقاً‪ .‬مع فوكو مث ًال‪ ،‬بد�أت مغامرة جديدة‪ .‬مغامرة �سوف لن تقت�صر على‬ ‫الت�سا�ؤل حول و�ضعية املثقف بل بداية الإعالن عن وفاته‪ .‬مييز فوكو بني املثقف «الكوين» واملثقف‬ ‫«املتخ�ص�ص»‪ ،‬فاملثقف الكوين يعترب نف�سه مالك احلقيقة والعدالة‪�« :‬أن يكون املرء مثقفاً‪ ،‬معناه‬ ‫�أن يكون �ضمري اجلميع وممثل الكل»‪� .‬أما اليوم فاملثقف املتخ�ص�ص مثقف يف حدود معينة‪ ،‬يف‬ ‫نقط دقيقة وجماالت حمدودة‪� .‬إنه ال يكون مثقفاً �إال يف جماالت اخت�صا�صية‪ ،‬يف ظروف عمله‬ ‫و�شروط حياته‪.‬‬ ‫�إن موت املثقف التقليدي ‪ -‬بح�سب فوكو ‪ -‬هو انهيار لنظرية التمثل‪�« :‬إن ما اكت�شفه املثقفون منذ‬ ‫الرجة احلديثة‪ ،‬هو �أن اجلماهري مل تعد حتتاج �إليهم ملعرفة واقعها‪� .‬إنها تعرف ذلك متاماً وبو�ضوح‬ ‫َّ‬ ‫وب�شكل �أح�سن منهم‪ ،‬وتقوله ب�شكل �أح�سن‪ ،‬لكن يوجد نظام من ال�سلطة ي�سد ومينع ويقلل من‬ ‫قيمة هذا اخلطاب وهذه املعرفة‪� .‬سلطة ال توجد فقط يف الأوامر العليا للرقابة ولكن تتجذر بعمق‬ ‫ودقة يف كل �شبكة املجتمع‪ .‬واملثقفون �أنف�سهم ي�شكلون جزءاً من نظام ال�سلطة هذا‪ ،‬وفكرتهم‬ ‫القائلة بكونهم �أدوات «الوعي» واخلطاب ت�شكل �أي�ضاً جزءاً من هذا النظام‪ .‬مل ي�صبح دور املثقف‬ ‫�إذاً هو �أخذ مكان «�أمامي وجانبي» لكي يقول احلقيقة ال�صامتة للمجتمع‪ ،‬ولكن قبل ذلك �أن‬ ‫ي�صارع �ضد �أ�شكال ال�سلطة يف املكان الذي ي�شكل فيه مو�ضوعها و�أدواتها يف الوقت نف�سه‪ :‬يف‬ ‫نظام «املعرفة»‪ ،‬يف نظام «احلقيقة»‪ ،‬يف نظام الوعي واخلطاب‪.‬‬ ‫تراجيديا القطع والو�صل‬

‫على رغم كل �أطروحات احلداثة التي اجتهدت لتعيني �سياقات معرفية يف جداليات النخبة‬ ‫وال�سلطة تبقى هذه الثنائية مفتوحة على االجتهادات نظراً خل�صو�صيتها ال�شديدة احل�سا�سية‪.‬‬ ‫وغالباً ما تظهر �صورة الإ�شكالية بطريقة يف غاية املرونة والتبدل الدائم‪ .‬وعلى نار خفيفة‪ ،‬يقوم‬ ‫ا�شتد الغليان‪ ،‬انفك الو�صل لتنفجر الثنائية‪ ،‬يف‬ ‫الو�صل بني النخبة الناقدة وال�سلطة‪ .‬حتى �إذا َّ‬ ‫�إطار �سريية لولبية تراكمية تتدخل فيها جممل بناءات املجتمع‪ ،‬حيث ميتزج ال�سيا�سي بالثقايف‪،‬‬ ‫االجتماعي باالقت�صادي‪ ،‬مع ما تزخر فيه تلك البناءات من م�ؤثرات يف الوجدان العام‪ .‬يف الوعي‬ ‫ويف الالوعي‪...‬‬ ‫غري �أن الثنائية ال تلبث بعد انفجارها‪ ،‬حتى ت�ستعيد رتقها على خط �آخر‪ ،‬يختلف عن الذي‬ ‫‪51‬‬


‫�سبقه‪ ،‬ثم ينه�ض �سياق تبنى عليه‪ ،‬ثنائية جديدة حمكومة هي الأخرى‪« ،‬بقوانني» الو�صل والقطع‬ ‫واالنفجار‪ ،‬حني �أن ما يربط ثنائية «النخبة‪ /‬ال�سلطة» هو القانون نف�سه‪ .‬ويف كل الأحيان بدا �أن ثمة‬ ‫منطقاً داخلياً يقوم على ما ي�شبه التناق�ض يف �إطار الوحدة‪� .‬أي وحدة ق�سرية تنظم العالقة وحتافظ‬ ‫على ذلك الزواج الدهري بينهما‪� .‬إنها ثنائية الوالء واالعرتا�ض‪ ،‬التماهي واالختالف‪ ،‬االنتماء‬ ‫والالانتماء‪ ،‬الت�صالح والكراهية‪ .‬وكل هذا يتجلى يف ال�سيا�سة واالجتماع مثلما يتجلى يف الأدب‬ ‫والفن و�صنوف الإبداع كافة‪.‬‬ ‫كما لو �أن احلالني (حال النخبة وحال ال�سلطة) حمكومتان بن�سبة عالقة‪ .‬تعي�شان تناق�ضاً دائرياً‬ ‫يتجدد با�ستمرار‪ ،‬من دون �أن ي�ؤدي الطالق اجلزئي �إىل انف�صال نهائي‪ .‬على نحو يبقي العالقة‬ ‫�ضمن دائرة �إلزامية من التعاي�ش‪ .‬لكنه تعاي�ش على �أر�ض الوجوب وال�ضرورة‪ .‬فال�سلطة ت�ستولد‬ ‫املثقف‪ .‬واملثقف ي�ستولد ال�سلطة‪ ،‬وفق �آليات التحول االجتماعي وال�صراع امل�ستدمي‪� .‬إن ذلك ما‬ ‫ي�ستحيل ت�صوره على �أ�سا�س من �سياق وا�ضح و�آيل‪ .‬و�إمنا وفق �سريورة عمياء يلفُّها ال�ضباب من‬ ‫كل جانب‪ ،‬بحيث ال يفقه املثقف الناقد م�آل ال�سلطة وال ال�سلطة م�آل هذا الأخري‪� .‬إال �إذا انك�شف‬ ‫بعد حني‪ ،‬احل�صاد الأليم املكتظ باملفاج�أة‪.‬‬ ‫و�سيتبني �أن املفاج�أة طور �آخر من التوتر والهدوء وال ّاليقني‪ ،‬يظل املثقف الناقد على طوره‪� :‬إما‬ ‫والئياً لل�سلطة و�إما عدائياً حيالها‪ ،‬وتظل ال�سلطة �إما نافية له و�إما حاوية‪ ،‬عالقة ال نهاية لها‪ ،‬ترتاوح‬ ‫بني احلميمية واالخت�صام‪ .‬ما دام املجتمع على درجة معينة من احليوية والتوتر‪ .‬ويدوم امل�شهد‬ ‫على �شكل لعبة درامية بانورامية‪ :‬الأعني �شاخ�صة حيناً‪ ،‬وحيناً جاحظة‪ .‬تتناوب اجلزر واملد‪،‬‬ ‫الدفاع والهجوم‪ ،‬االنكفاء والتحفز‪ .‬عني الناقد على ال�سلطة‪ ،‬وعني ال�سلطة على الناقد‪� .‬سيكون‬ ‫بينهما اجتماع حذر‪ ،‬ا�ضطراري‪ ،‬بني الـ «مع» والـ «�ضد» ويتبدى امل�شهد كما لو �أنه �شريعة حمتومة‬ ‫لتاريخ ينبغي �أن ي�ستكمل حلظاته و�أحقابه‪ .‬ي�شعر املثقفون معه‪ ،‬مثل ال�سلطة‪ ،‬ك�أنهم يقتلون ال�ضجر‬ ‫وهم ميار�سون لعبة املناو�شة‪ ،‬التي عادة ما تراوح بني ال�سخرية وامل�أ�ساة‪.‬‬ ‫وحالئذ يتبني �أن ال جدوى من كل امل�ساءالت الرومان�سية التي تريد �أن ترفع الوئام بني املثقف‬ ‫وال�سلطة �إىل مقام التقدي�س‪ .‬بينما امل�شهد يتوا�صل بعناد لتكتمل لعبة ال�شقاء املمتع‪ .‬وحتى ال‬ ‫يحل ال�س�أم مطارح الأ�شقياء‪.‬‬ ‫ال جمال �إذاً لإبطال مفاهيم اللعبة‪ .‬فامل�س�ألة تكف عن كونها م�س�ألة �أخالقية تنه�ض على ح�سن‬ ‫النيات‪ .‬ذلك �أن االنطواء على الأخالق‪ .‬لت�أويل م�س�ألية املثقف وال�سلطة‪ ،‬هو يف خال�صته‪ ،‬كما‬ ‫يرى كا�ستورياري�س املفكر اليوناين‪ ،‬لي�س �إال ح ًال زائفاً م�ستن�سخاً من جتربة التوتاليتارية‪ .‬لي�ست‬ ‫هناك �أخالق تقف عند حدود احلياة الفردية‪ .‬فبمجرد �أن تو�ضع امل�س�ألة االجتماعية وال�سيا�سية‪،‬‬ ‫ف�إن الأخالق ت�صبح مت�صلة بال�سيا�سة‪.‬‬ ‫�سوف تبدو العالقة بهذا املعنى‪ ،‬م�أزقية‪ .‬وال �سيما بالن�سبة �إىل املثقف اخلارج من دوائر ال�سلطة‬ ‫‪52‬‬


‫فكــــــر‬

‫وعليها‪ .‬غري �أنه يجب على املثقف يف حال كهذه‪� ،‬أن يتعود على القبول مب�أزقه‪ ،‬كما ي�صرح برنارد‬ ‫هرني ليفي‪� .‬أن يقبل امل�أزق كما لو �أنه قدر ال منا�ص من حتديه ومواجهته‪ .‬ك�أن يكون التحدي‬ ‫واملواجهة قناعة ذهنية يف االبتداء قبل �أن يتحول �إىل فاعلية �ضمن �سريورة تدريجية من النقد �إىل‬ ‫املمانعة‪ ،‬فاالنفجار‪.‬‬ ‫يف وجوب ت�شا�ؤم الفكر‬

‫ورمبا على املثقف �أي�ضاً‪ ،‬ك�شرط �أ�سا�س للتحدي‪� ،‬أن يوافق �إدغار موران حني �صرح �سنة ‪:1962‬‬ ‫«�أن دور املثقف اليوم هو �أن يعلن �أنه ال يوجد نب�أ �سعيد»‪ .‬وي�ضيف‪�« :‬أال يتوقع من ال�سلطة‪ ،‬حتى‬ ‫لو لأنعمت عليه مبا لديها من الدميقراطية‪ ،‬م�ستقب ًال م�ضيئاً‪ .‬ول�سوف يبدو الت�شا�ؤم نقطة االبتداء‬ ‫يف �سبل النب�أ ال�سعيد‪ .‬على الأخ�ص بالن�سبة �إىل �أولئك الذين ابتلوا مبحنة نقد الظواهر وتفكيكها‪.‬‬ ‫ذلك �أن الوجود «ال�سعيد» كما يقول �سارتر ينبت على ال�ضفة الأخرى من الي�أ�س‪.‬‬ ‫�إن املثقف‪ ،‬وهو يقف �أمام اجلدار املخيف الذي ترفعه ال�سلطة يف وجه امل�ستقبل‪ ،‬ال ي�سعه �إال‬ ‫�إطالق �أ�شرعة ال�شك نحو مداها الأخري‪ .‬وال�شك هو عني الت�شا�ؤم‪ .‬وبها يحرز املثقف واحداً من‬ ‫�أخطر �أبعاده التي يفتقدها �أثناء عالقته امل�أزقية بال�سلطة‪ .‬لكن �أن يبتدئ املثقف بيقني �أن معرفته‬ ‫�ستبقى حتماً �أ�سرية هوى ال�سلطة وا�ستالبيتها‪ ،‬ومقيدة ب�إيديولوجيتها‪ ،‬ما مل تتعد هذين الهوى‬ ‫واال�ستالب وذلك القيد‪.‬‬ ‫�إن فقه الذات الناقدة يدخل يف �أ�صل فقه ذات ال�سلطة‪ .‬ومن هذا املقام ينبغي �أن ي�ستهل املثقف‬ ‫حل �إ�شكالية ال�صلة املعقدة مع ال�سلطة التي جتتاحه وحتتويه‪ .‬املثقف يف ما هو ناقد اجتماعي �صارم‬ ‫يف �شكه‪ .‬وال�سلطة يف ما هي مالكة للزمن ال�سيا�سي االجتماعي والثقايف‪ ،‬ويف ما هي قاب�ضة على‬ ‫جمتمع قهر وقمع‪ ،‬حتى �إذا �شاء ذلك ال�سلطوي الكامن يف كهفه تعيني ماهيته وهويته فتح الباب‬ ‫حلل الإ�شكال‪ .‬فالبديهي �أن يعرف ماذا يريد ومن �أين يبد�أ‪ .‬ثم �أن يفقه مبد�أ ال�سلطة ووظيفتها‬ ‫الأ�صلية‪.‬‬ ‫(الف�أرة والزنبق)‪ :‬تتعدد الأحوال التي متار�س فيها ال�سلطة �سلطانها على املثقف داخل املجتمع‪،‬‬ ‫وهذا التعدد �سيولد احلرية التي هي يف �أ�صل الإ�شكالية بني الطرفني‪ .‬فقد تتمدد ال�سلطة وتتو�سع‬ ‫وتنت�شر لتخرتق ن�سيج احلياة التي يعي�شها نقّادها واملعرت�ضون عليها‪ .‬الأمر الذي يحول املجتمع‬ ‫برمته �إىل �سلطة قامعة قاب�ضة ومتوغلة يف هذا الن�سيج‪ .‬ي�صبح املجتمع هو ال�سلطة الكلية بعينه‪.‬‬ ‫و�سيا�سة املجتمع امل�أخوذة من ال�سلطة ال�سيا�سية ال�سائدة هي جمرد �سيا�سة ا�ستالب وا�ستبداد‪.‬‬ ‫وبهذا املعنى فاملجتمع هو دائماً قهر وقمع‪� .‬إنه دائماً �أعمى‪ ،‬فهو ينتج ب�صفة دائمة وم�ستمرة احلرب‬ ‫والعبودية وال�شعوذة بطبيعته اخلا�صة‪� .‬إن الإن�سانية جتد نف�سها دائماً يف الفرد يف حني جتد الرببرية‬ ‫‪53‬‬


‫نف�سها يف املجتمع كما تقول �سيا�سة �شارتييه‪ ،‬التي ت�ضيف «�أن على الفرد �أن يفكر دائماً �ضد‬ ‫املجتمع»‪.‬‬ ‫م�صدر حرية املثقف‪� ،‬سواء ب�صفته �شخ�صية جماعية �أو فردية‪ ،‬يعود �إىل �أنه يواجه �سلطة ذات‬ ‫�شخ�صية رمادية‪ ،‬متعددة اجلن�سيات والأ�شكال والأطوار‪ .‬فعالقات ال�سلطة عموماً‪ ،‬عالقات‬ ‫يطبعها االنت�شار واملحلية ويف الوقت نف�سه عدم اال�ستقرار‪� .‬إنها ال ت�صدر عن نقطة مركزية �أو عن‬ ‫ب�ؤرة م�ستقطبة تكون ب�ؤرة �سيادة‪ ،‬بل تنتقل بني نقط عدة‪ .‬تذهب من نقطة �إىل �أخرى‪ .‬ال تقت�صر‬ ‫على االنطالق من نقطة ما‪ ،‬للو�صول �إىل نقطة ثانية يف الفراغ يف اجتاه خط م�ستقيم‪ ،‬بل هي‬ ‫عالقات تر�سم انحناءات والتواءات وانعطافات وحتوميات مغيرِّ ة دوماً اجتاهها‪ .‬كما تبدي با�ستمرار‬ ‫مقاومة‪� .‬إنها عالقة �شبكية تتواجد وتتزامن بني قوى ال ح�صر لها‪ ،‬و�أمكنة ال �إح�صاء لعددها‪.‬‬ ‫وال�سلطة تت�صف بطبيعة زئبقية‪ ،‬فهي لزجة متحركة يف الظالم والعتمة‪ ،‬وغالباً يف املناطق الرمادية‪.‬‬ ‫وهنا مبعث �إ�ضايف من مباعث احلرية اللتقاط �صورة حمددة وا�ضحة لها‪ .‬وبح�سب فوكو «فال�سلطة‬ ‫ال ترى وال تتكلم‪ ،‬فهي ف�أرة ال ترى بو�ضوح �إال يف متاهات املمرات الأر�ضية وداخل حجرها‬ ‫املتعدد النوافذ‪� :‬إنها متار�س نف�سها ك�سلطة‪ ،‬انطالقاً من نقط ال ح�صر لها‪ .‬متار�س نف�سها يف خفاء‪.‬‬ ‫ولكونها بالذات ال تتكلم وال ترى نف�سها ف�إنها ت�سمح بالر�ؤية وتبعث على الكالم»‪.‬‬ ‫ولأنها كذلك فهي متنح املثقف العارف ب�أمرها من دون �أن تدرك‪« ،‬ف�سحة» لكي يدرك ماهيته‬ ‫وهويته وي�صوغ بيان العالقة بها‪ .‬فالعارف واملعروف ‪ -‬كما يريد مارتن هايدغر ‪ -‬ال يتواجدان‬ ‫منف�صلني من بع�ضهما البع�ض‪ .‬بل �إنهما يف وحدة‪ .‬والعلم هو هذا النهر نف�سه الذي بح ْف ِر ِه ل�سريره‬ ‫ي�شكل �ضفتيه‪ ،‬ويجمعهما الواحدة �إىل الأخرى ب�أ�صالة �أكرث مما يفعل اجل�سر‪.»...‬‬ ‫و�إذا كان املعروف يدخل حتت �سلطة العارف دخو ًال ما ‪ -‬كما يقول الغزايل ‪ -‬ف�إن ما يعرفه‬ ‫العارف عما وراء قناع التنكر‪ ،‬هو مبتد�أ ال�سياق الذي �سيجعل من معرفته بعد هنيهة �أر�ضاً ف�سيحة‬ ‫للحراثة‪ .‬مع �أننا ل�سنا على يقني من �أن الثوابت اجلديدة فيها‪ ،‬لن تكون �أكرث من حاالت متحولة‬ ‫�أو �صورة �أخرى عن الذتي �سبقت‪.‬‬

‫‪54‬‬


‫�سكان لبنان‬

‫فـكــــــــر‬

‫بني ثبات االنتماء ومتغريات العدد‬

‫�شوقي عطيه ‪� -‬أ�ستاذ جامعي‬

‫ال يزال لبنان‪ ،‬منذ ما قبل حتوله �إىل اجلمهورية اللبنانية‪ ،‬يعي�ش حالته ال�سيا�سية املرتبطة ب�شكل‬ ‫وثيق بتوزع �سكانه على الأ�سا�س الديني والطائفي منذ ما يزيد على القرنني من الزمن‪ .‬وقد ارتبط‬ ‫م�صريه بعالقات طوائفه منذ ما كان حم�صوراً يف اجلبل‪ ،‬يف �سلم بارد مع مكوناته الدميغرافية‪� ،‬أو يف‬ ‫نزاع حار‪ ،‬مع كل ما يتبع ذلك من تدخالت خارجية تعمل من �أجل اجلباية �أو احلماية‪ ،‬وال فرق‬ ‫بعد ذلك يف ما ميكن �أن ت�ؤول �إليه الأمور بني �سكان اجلبل ب�إقطاعييه وفالحيه‪ ،‬وباملنتمني فيه �إىل‬ ‫طوائفه املختلفة‪ .‬ومل يختلف الأمر بعد �ضم امللحقات‪ ،‬و�إن اختلفت عناوين املتنازعني �أو هويات‬ ‫الداعمني واملتدخلني‪ .‬وطن ي�ضم �أهله بدينامياتهم املتغرية‪ ،‬ومفتوح على العامل‪ ،‬ومتقبل ل�شتى‬ ‫�أنواع العالقات املختلفة باختالف الداعمني‪� ،‬شاء ذلك �أم �أبى‪ ،‬ولي�س عليه‪ ،‬حتى الآن‪� ،‬إال �إدارة‬ ‫اخلالفات‪ ،‬واال�ست�سالم مل�صريه‪.‬‬ ‫بني الأم�س واليوم‬

‫حتاول هذه الورقة تتبع امل�سار الدميوغرايف للبنانيني منذ زمن املت�صرفية‪ ،‬و�إن كانت العالقات بني‬ ‫�سكان اجلبل حمكومة باالنتماء والذهنية الطائفيني قبل ذلك بكثري‪� .‬إال �أن تتبع هذا امل�سار له‬ ‫م�شروعيته باعتبار �أن هذا النظام هو الذي �أر�سى احلكم على الأ�سا�س الطائفي‪ ،‬وعلى �أ�سا�س العدد‬ ‫يف كل طائفة‪ .‬نظام تر�سخ باملمار�سة‪ ،‬وتق ّوى بزعامات �سيا�سية �أوجدها‪ ،‬وعملت على ا�ستمراره‬ ‫و�إن تغريت الأ�سماء ومن ميثلون‪ .‬نظام ال يزال �سائداً �إىل اليوم مع تغري الوزن لكل طائفة؛ وهو‬ ‫الوزن الذي ت�أخذه من عددها‪� ،‬أو ًال؛ ومن الرياح ال�سيا�سية التي تهب على لبنان من املنطقة‪� ،‬أو‬ ‫من خارجها‪ ،‬فتلفح من يتنا�سب هبوبها مع �أ�شرعته‪ ،‬فيم�ضي ليعمل على تغيري ما هو قائم‪ ..‬وما هو‬ ‫قائم ال يعدو كونه توزيع ح�ص�ص ومكا�سب‪ ،‬وما �سيقوم لي�س �أكرث من �إعادة النظر يف التوزيع‪ ،‬ولو‬ ‫تط ّلب الأمر �آالف ال�ضحايا‪ .‬وهكذا‪� ،‬إىل �أن نر�سو على ب ّر مل تظهر تبا�شريه بعد‪ .‬وما يظهر اليوم‪،‬‬ ‫على ال�صعيد ال�سيا�سي ‪ -‬االجتماعي ال يزال مرتبطاً بالو�ضع الدميوغرايف‪ ،‬طاملا �أن ال�سيا�سة ال‬ ‫تزال مرتبطة بالطائفة‪ ،‬كما ال يزال االنتماء الطائفي متقدماً على �أي انتماء �آخر‪.‬‬ ‫‪55‬‬


‫دميوغرافيا املت�رصفية‬

‫�شهد اجلبل نوعاً من اال�ستقرار يف فرتة املت�صرفية‪� .‬إال �أن هذا اال�ستقرار ال يعني غياب االهتمام‬ ‫بالواقع الدميوغرايف‪ ،‬بل على العك�س‪ ،‬فقد ازدادت �أهمية االح�صاءات وامل�سوحات التي كان‬ ‫يدفعها املحرك الطائفي‪ ،‬بغية احل�صول على �أكرب عدد من الوظائف العامة‪ .‬هذا بالإ�ضافة �إىل‬ ‫اهتمام الإدارة بهذا املو�ضوع بهدف تنظيم �أمور ال�ضرائب وتقدير عدد الرجال القادرين على‬ ‫االنتاج والعمل‪.‬‬ ‫ف�صدر يف هذا االطار تقرير عن القن�صلية الفرن�سية‪ ،‬يظهر فيه �أن عدد �سكان املت�صرفية بلغ ‪235,791‬‬ ‫ن�سمة[‪ ]1‬عام ‪.1863‬‬ ‫كما نالحظ �أي�ضا �أن املوارنة مل يكونوا الأكرثية ال�ساحقة �ضمن جمموع امل�سيحيني من ال�سكان‪،‬‬ ‫ال بل كانوا الأكرثية يف جمموع ال�سكان املختلطني �إذ بلغت ن�سبتهم ‪ %55.9‬من ال�سكان‪ .‬فهذه‬ ‫الن�سبة مكنتهم من املطالبة ب�أكرب متثيل يف جمل�س الإدارة‪ ،‬وهو ما �سيتحقق يف ال�سنوات الالحقة‬ ‫لهذا التعداد‪� .‬أما �أقرب ن�سبة من �سكان الطوائف امل�سلمة من ن�سبة املوارنة‪ ،‬فتعود للدروز‪� .‬إال �أنها‬ ‫بقيت �أدنى من ن�سبة الأرثوذك�س[‪ .]2‬وما يلفت االنتباه هنا �أي�ضاً هو تدين الأرقام الواردة يف هذا‬ ‫التعداد عن تلك املذكورة يف التعدادات ال�سابقة للمت�صرفية‪ .‬فقد يعود هذا الأمر �إىل �سببني‪ ،‬هذا‬ ‫�إذا اعتربنا �أن الأرقام �صحيحة‪ .‬ال�سبب الأول‪ ،‬هو العدد الكبري لل�ضحايا الذين �سقطوا خالل‬ ‫املعارك ال�سابقة العالن املت�صرفية‪� .‬أما ال�سبب الثاين‪ ،‬فيعود �إىل الهجرة التي بد�أت ت�ست�شري‬ ‫بني �صفوف �سكان اجلبل نظراً ل�ضيق الأحوال‪ ،‬وتوافر الأخبار عن مدى الرثوات التي تنتظرهم‬ ‫يف العامل اجلديد‪« .‬وكان �ضيق ذات اليد ال�سبب الرئي�س للهجرة‪ ،‬لأن �ضيق حدود جبل لبنان‬ ‫مبوجب نظامه الدويل املو�ضوع �سنة ‪ 1861‬وحرمانه من الأر�ض ال�صاحلة لال�ستثمار ال يتفقان مع‬ ‫ن�شاط اللبنانيني وجهودهم اجلبارة التي جعلت من �صخور التالل والأودية جن ًة غناء»[‪ .]3‬فو�صف‬ ‫روبري كرا�سويل هذه الهجرة ب�أنها‪�« ‬أتت لتج�سد �أحد �أعظم الأحداث �أهمية يف التاريخ اللبناين‬ ‫احلديث»‪.‬‬ ‫وجتدر اال�شارة �أي�ضاً �إىل �أن التقارير والدرا�سات الالحقة �أوردت نتائج �أكرث دقة من تلك ال�صادرة‬ ‫�سابقاً‪� .‬إال �أنها مل يكن موثوقاً بها ب�شكل تام‪ ،‬وذلك ب�سبب تنوع طرق تنفيذها‪ .‬فتعداد عام ‪1867‬‬ ‫�أجري فقط على الذكور ما بني ‪ 15‬و ‪ 64‬عاماً‪ ،‬مما ا�ستوجب �إجراء توقع �آخر‪ ،‬من خالل �ضرب‬ ‫العدد بالن�سبة املتوقعة لهذه الفئة من ال�سكان‪ ،‬للح�صول على رقم تقريبي لهم على ال�شكل‬ ‫الآتي‪ :‬مبا �أن عدد الذكور البالغ ‪ 99,834‬ي�شكل ‪ %26‬من جمموع ال�سكان‪ ،‬ي�صبح العدد الكلي‬ ‫ل�سكان املت�صرفية ‪ ( 380,000‬بالتحديد ‪� 99,834‬ضرب ‪ 100‬على ‪ 26‬ي�ساوي ‪ 383,976‬ن�سمة)‪ ،‬وهو‬ ‫رقم مرتفع مقارنة مبا ذكره �ضاهر يف هذا املجال[‪� .]4‬إال �أن املزيد من التقارير ال�صادرة تباعاً �أظهرت‬ ‫�أرقاماً قريبة من الـ‪� 380‬ألفاً‪ .‬ففي عام ‪ ،1887‬مت �إح�صاء امل�ساكن التي بلغت ‪ 52,780‬منز ًال‪ .‬ومبا �أن‬ ‫‪56‬‬


‫فكــــــر‬

‫العدد املتو�سط للأفراد يف املنزل يبلغ ‪ 7.5‬ن�سمة‪ ،‬ي�صبح‪ ‬عدد ال�سكان ‪ 395.000‬ن�سمة‪� .‬أما التقدير‬ ‫الأكرث «جدارة باالحرتام»‪ ،‬ح�سب كرباج وفارغ‪ ،‬فهو الذي �أجراه «فيتال كوينيه» ‪Vital Quinet‬‬ ‫عام ‪ ،1895‬وخل�ص �إىل �أن عدد ال�سكان هو ‪ 399,530‬ن�سمة[‪ . ]5‬هكذا جند �أن �سكان املت�صرفية‬ ‫و�صلوا �إىل حدود الـ ‪ 400,000‬ن�سمة يف مطلع القرن الع�شرين‪ ،‬وعلى م�ساحة ‪ 3,200‬كلم ‪ ،‬مما رفع‬ ‫كثافة ال�سكان �إىل ‪ 125‬ن�سمة يف الكلم ؛علماً �أن هذه امل�ساحة مل تكن كلها مزروعة �أو قابلة‬ ‫للزراعة‪ ،‬تبعاً للتقنيات املتوفرة يف حينه‪.‬‬ ‫هذه الكثافة املرتفعة دفعت بالعديد من ال�شباب �إىل الهجرة التي تزايدت ب�شكل �سريع قبل‬ ‫اندالع احلرب العاملية الأوىل عام ‪ .1914‬وهذا ما �أكدته الأرقام الأقرب �إىل ال�صحة‪ ،‬التي �أتى‬ ‫بها التعداد الذي �أجراه كوينيه عام ‪ 1895‬و�أوهان�س با�شا عام ‪ .1913‬فالتعداد احلا�صل عام ‪1913‬‬ ‫�أح�صى ال�سكان بطريقة مبا�شرة‪� ،‬أي من دون اللجوء �إىل تقديرات و�سيطة مثل ن�سب الذكورة �أو‬ ‫ن�سبة فئة عمرية من اجمايل عدد ال�سكان‪ .‬وخل�ص �إىل نتيجة مفادها �أن عدد ال�سكان هو ‪414,768‬‬ ‫ن�سمة‪� .‬إال �أن هذا الرقم ارتفع بعد ت�صحيحه وو�صل �إىل ‪ 468,714‬ن�سمة‪.‬‬ ‫وباال�ستناد �إىل هذه الأرقام‪ ،‬ميكن احت�ساب معدل الزيادة ال�سكانية الذي يبلغ ‪� %0.9‬سنوياً‪ .‬وهو‬ ‫منخف�ض جداً‪ ،‬رمبا ب�سبب الهجرة املتزايدة ل�سكان املت�صرفية‪ .‬ولكن من املهم لفت النظر �إىل �أن‬ ‫هذه الهجرة مل تكن دائماً خارج «لبنان الكبري» ( كما �سي�صبح عام ‪ .)1920‬فالعديد من �أهل‬ ‫املت�صرفية هاجروا باجتاه بريوت طلباً للعمل وال�سكن[‪ . ]6‬وهذا ما يف�سر بداية التحول ال�سكاين يف‬ ‫بريوت‪ ،‬باال�ضافة طبعاً �إىل عوامل �أخرى‪ ،‬منذ منت�صف القرن التا�سع ع�شر‪ ،‬نحت باملدينة �إىل ما‬ ‫�ست�صبح عليه اليوم‪� ،‬أكرب جتمع �سكاين يف لبنان‪.‬‬ ‫ومع نهاية العقد الثاين من القرن الع�شرين‪ ،‬الذي �شهد نهاية نظام املت�صرفية‪ ،‬قدر عدد ال�سكان يف‬ ‫اجلبل بـ ‪ 414,800‬ن�سمة[‪.]7‬‬ ‫يف مقارنة �سريعة بني اجلداول التي تظهرها امل�صادر الآنفة‪ ،‬نرى �أن ن�سبة املوارنة قد ازدادت ب�شكل‬ ‫ملحوظ بلغ ‪ .%2‬و�أتت هذه الزيادة على ح�ساب الكاثوليك‪ ،‬ولكن من املمكن �أن يكون هناك‬ ‫خط�أ يف �أحد التعدادين ق�ضى باحت�ساب �أبناء �إحدى الطائفتني من الطائفة الأخرى‪� .‬أما الدروز‪،‬‬ ‫فقد انخف�ضت ن�سبتهم لت�صل �إىل ‪ %7‬فقط من جمموع ال�سكان‪ .‬وكانت هناك �أي�ضاً‪ ‬زيادة طفيفة‬ ‫لن�سبة ال�شيعة يف املت�صرفية‪.‬‬ ‫ويف ما يتعلق باملناطق التي �ستلحق بجبل لبنان عام ‪� 1920‬شكلت مدينة بريوت مركزاً جتارياً‬ ‫وثقافياً مهماً‪ ،‬وبالتايل مركز جذب للمهاجرين من اجلبل (باعتباره م�ستق ًال ادارياً) والنازحني‬ ‫من املناطق املحيطة طلباً للعمل �أو ًال‪ ،‬وللعلم ثانياً‪ ،‬بعد �أن احت�ضنت املدينة �أول و�أكرب جامعتني‬ ‫يف املنطقة‪ :‬الكلية ال�سورية (التي �ستعرف الحقاً باجلامعة الأمريكية) وجامعة القدي�س يو�سف‪،‬‬ ‫ف�ض ًال عن الدور الهام الذي لعبه مرف�أ بريوت يف التجارة مع البلدان املحيطة‪ .‬وهكذا ت�ضاعف عدد‬ ‫‪2‬‬

‫‪2‬‬

‫‪57‬‬


‫�سكانها يف �أقل من ع�شرين عاماً (‪ ،)1875-1860‬لي�شكل ثالث مرات تقريباً بني ‪ 1860‬و‪.1914‬‬ ‫وهذا ما �أظهره كرباج وفارغ ب�شكل وا�ضح[‪.]8‬‬ ‫�أما التوزع الطائفي يف بريوت‪ ،‬فيختلف ب�شكل وا�ضح عما كان عليه يف بداية زمن املت�صرفية‪.‬‬ ‫فال�س ّنة هم الأكرث عدداً‪ ،‬ولي�س املوارنة الذين باتوا ي�شكلون الطائفة الثالثة لناحية العدد‪ ،‬بعد‬ ‫الروم الأرثوذك�س[‪.]9‬‬ ‫كما نالحظ يف تعداد كرباج وفارغ �أن امل�سيحيني كانوا ي�شكلون ‪ %67.9‬من جمموع �سكان بريوت‬ ‫عام ‪.1889‬‬ ‫�إال �أنه يف نهاية عهد املت�صرفية �أو بداية عهد االنتداب الفرن�سي‪ ،‬تراجع عدد �سكان بريوت من‬ ‫‪ 103,900‬ن�سمة عام ‪� ،1889‬إىل ‪� ،77,292‬أي بن�سبة ‪ ،%25.6‬وذلك ب�سبب تراجع عدد امل�سيحيني‬ ‫يف تلك الفرتة[‪ ]10‬بن�سبة ‪ .%44‬ويعود هذا للهجرة الكثيفة‪ ‬للم�سيحيني بعد احل�صار الذي فر�ضه‬ ‫جمال با�شا (ال�سفاح) على جبل لبنان عام ‪ ،1915‬ووفاة الآالف ب�سبب املجاعة‪.‬‬ ‫‪ ‬‬ ‫دميوغرافيا لبنان الكبري‬

‫مت �إعالن دولة لبنان الكبري يف الأول من �أيلول عام ‪ .1920‬حمل هذا الإعالن ثالثة حتوالت‬ ‫جذرية‪ .‬متثل الأول ب�ضم م�ساحات و�أرا�ض وا�سعة �إىل املت�صرفية‪ ،‬فارتفعت م�ساحتها ‪� 3‬أ�ضعاف‬ ‫لت�صبح ‪ 10,452‬كلم ‪ .‬والتغري الثاين كان بزيادة حجم ال�سكان الذي ت�ضاعف لي�صبح �أكرث من‬ ‫‪� 600‬ألف ن�سمة‪� .‬أما التغري الثالث‪ ،‬فتمثل‪ ‬بتغري ن�سب الطوائف وانتقال لبنان من بلد ذي �أكرثية‬ ‫�ساحقة مارونية‪� ،‬إىل بلد ي�ضم ‪� 3‬أقليات كربى‪ ،‬و�أكرث من ع�شر �أقليات �صغرى‪ .‬‬ ‫وما �أن بد�أ عهد االنتداب حتى قام الفرن�سيون بتنفيذ �أول م�سح �شامل لل�سكان‪ .‬فكان هدفهم‬ ‫املعلن منه هو التعرف على عدد ال�سكان‪� .‬أما الهدف غري املعلن فهو ت�أكيد الغلبة العددية للموارنة‬ ‫بهدف تربير تعزيز موقعهم يف الإدارة ال�سيا�سية واالقت�صادية للبالد‪ .‬ولهذا ال�سبب‪ ،‬ظهر �أن‬ ‫الإح�صاء الذي نفذ عام ‪ 1921‬مل يخل من الأخطاء‪ ،‬املتعمدة منها وغري املتعمدة‪ .‬فح�سب‬ ‫العديد من الباحثني ‪� ،‬أجري هذا التعداد بطريقة معينة‪ ،‬ليظهر التوزيع الطائفي على النحو الذي‬ ‫�أراده الفرن�سيون‪ ،‬وذلك بهدف �إعادة متثيل الطوائف يف الربملان املزمع �إن�شا�ؤه على �شاكلة جمل�س‬ ‫الإدارة‪� ،‬أي �أن‪ ‬متثل كل طائفة بح�سب ن�سبتها من جمموع ال�سكان‪� .‬أ�ضف �إىل ذلك �أن �سكان‬ ‫العديد من املناطق امللحقة‪ ،‬رف�ضوا التعداد لرف�ضهم الدولة احلديثة التي‪ ،‬وبح�سب ر�أيهم‪ ،‬ان�شئت‬ ‫رغماً عنهم‪ .‬ف�ض ًال عن �أن هذا التعداد �أجري بوا�سطة خماتري كل حارة �أو قرية‪ ،‬فقدموا �أرقاماً‬ ‫ح�سب تقديرهم اخلا�ص لل�سكان يف املناطق التي تقع �ضمن �صالحياتهم‪ .‬وهكذا‪ ،‬ارتفع عدد‬ ‫�سكان لبنان يف هذا التعداد‪� ،‬إىل‪ 609,070 ‬ن�سمة[‪.]11‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪58‬‬


‫فكــــــر‬

‫نالحظ مما تقدم‪� ،‬إعادة هيكلة للتوزيع الطائفي‪ ،‬بحيث هبطت ن�سبة امل�سيحيني يف جمموع ال�سكان‪،‬‬ ‫من ‪� ،%79‬إىل ‪ ، %55.1‬وارتفعت ن�سبة امل�سلمني من ‪ %20‬من‪� ‬سكان املت�صرفية‪� ،‬إىل حوايل ‪%45‬‬ ‫من �سكان لبنان‪ ،‬وهذا ما �أزاح الثنائية املارونية ‪ -‬الدرزية‪ ،‬لتحل مكانها ثالثية مارونية ‪� -‬سنية ‪-‬‬ ‫�شيعية �ستتبلور �أكرث ف�أكرث يف العقود الالحقة‪.‬‬ ‫كما �أن �أبرز املدن اللبنانية �شهدت بدورها ح�سب هذا التعداد‪ ،‬حتو ًال كبرياً يف التوزيع الن�سبي‬ ‫للطوائف فيها[‪.]12‬‬ ‫نالحظ يف اجلدول الذي و�ضعه �ضاهر‪� ،‬أن املوارنة مل يعودوا ي�شكلون �أكرثية يف �أي من هذه املدن‪.‬‬ ‫�إال ان مدينة بريوت بقيت الوحيدة التي يتمتع فيها امل�سيحيون ب�أكرثية ال�سكان (‪� .)%51.2‬أما‬ ‫بقية املدن فقد �شهدت تفوقاً عددياً وا�ضحاً لإحدى الطوائف على الطوائف الأخرى جمتمعة‪.‬‬ ‫فن�سبة ال�شيعة يف �صيدا و�صور �أعلى بكثري من بقية الطوائف (‪ %65.6‬و‪� .)%84.2‬أما يف طرابل�س‬ ‫ف�شكل ال�سنة ‪ ،%88.8‬فعدت طرابل�س‪ ،‬بذلك‪ ،‬املدينة ذات الن�سبة الأعلى من ال�س ّنة‪ ،‬تليها‬ ‫بريوت التي بلغت فيها ن�سبة ال�س ّنة ‪..%42.49‬‬ ‫وهكذا‪ ،‬بد�أت املناطق اللبنانية ترتدي طابعاً طائفياً مميزاً يخفت �أحياناً‪ ،‬مع ازدياد �أبناء الطوائف‬ ‫الأخرى ب�سبب نزوحهم من القرى املجاورة طلباً للعلم والعمل؛ ويعود للظهور �أحياناً �أخرى‪ ،‬مع‬ ‫عودة ه�ؤالء النازحني �إىل قراهم‪ ،‬يف �أوقات الأزمات ال�سيا�سية والأمنية‪.‬‬ ‫�إال �أنه بعد هذا التعداد بقليل‪� ،‬شهد لبنان حدثاً دميوغرافياً هاماً متثل بالهجرة الأرمنية الوافدة‬ ‫هرباً من املجازر الرتكية التي ح�صلت بحقهم‪ .‬فتدفق ع�شرات الآالف من الأرمن‪ ،‬و�سكنوا يف‬ ‫لبنان الكبري‪ .‬ف�أتت هذه الهجرة ترفع من ن�سبة امل�سيحيني املقيمني[‪ .]13‬وهذا ما انعك�س‪ ،‬ب�شكل‬ ‫�أ�سا�سي‪ ،‬على نتائج الإح�صاء ال�شامل الذي �أجري عام ‪.1932‬‬ ‫وهنا جتدر اال�شارة �إىل �أن اح�صاء ‪ 1932‬اختلف عن �سابقه من حيث اجلدية يف تنفيذه‪ ،‬التي متثلت‬ ‫يف منع التجول ملدة ‪� 24‬ساعة‪ ،‬وقيام جمموعة مدربة من املوظفني ب�إجراء امل�سح‪ .‬فجاءت النتيجة‬ ‫لت�ؤكد خماوف الفرن�سيني‪ ،‬لأن ن�سبة امل�سيحيني عام ًة واملوارنة خا�صةً‪ ،‬انخف�ضت ب�شكل ملحوظ‬ ‫من ‪� %55‬إىل ‪ .%51‬وبالتايل ارتفعت ن�سبة ال�سنة وال�شيعة لت�شكل تهديداً متزايداً لن�سبة املوارنة‬ ‫التي بقيت‪ ،‬حتى ذلك احلني‪ ،‬حتتل املركز الأول عددياً بني الطوائف[‪ .]14‬‬ ‫كما نالحظ �أن عدد الروم الأرثوذك�س‪ ،‬ح�سب كرباج وفارغ‪ ،‬وحمادة‪ ،‬قد تراجع من ‪81,409‬‬ ‫ن�سمة عام ‪� ،1921‬إىل ‪ 76,522‬عام ‪� ،1932‬أي بن�سبة ‪ .]15[%6‬ويعود‪ ،‬هذا الرتاجع �إىل عاملني‪،‬‬ ‫الأول هو الهجرة التي دفعت بعدد كبري منهم �إىل مغادرة لبنان؛ �أما الثاين‪ ،‬فيعود �إىل اعتناق عدد‬ ‫كبري من الروم الأرثوذك�س التعاليم الربوت�ستانتية‪ ،‬الأمر الذي يف�سر ارتفاع ن�سبة امل�سيحيني من‬ ‫الطوائف الأخرى‪.‬‬ ‫‪59‬‬


‫�إال �أن ال�سبب الأ�سا�سي‪ ،‬الرتفاع ن�سبة امل�سيحيني من الطوائف الأخرى يعود �إىل احت�ساب‬ ‫الأرمن �ضمن هذه الفئة‪ .‬ذلك �أن املهاجرين الأرمن‪ ،‬وعددهم ع�شرات الآالف‪� ،‬ساهموا يف زيادة‬ ‫ن�سبة هذه الفئة‪� .‬إال �أن هذا الرفع مل يقت�صر على ازدياد ن�سبة امل�سيحيني فح�سب‪ ،‬بل باال�ضافة‬ ‫�إىل ذلك‪ ،‬زاد من ن�سبة امل�سيحيني على ن�سبة امل�سلمني‪ .‬وما يعنيه هذا �أنه لوال الأرمن لكان عدد‬ ‫امل�سلمني �أكرث من امل�سيحيني‪ .‬وميكن ت�أكيد ذلك ب�سهولة‪ .‬فلو اعتربنا �أن عدد «امل�سيحيني من‬ ‫الطوائف الأخرى» قد ازداد خالل ع�شر �سنوات بن�سبة ‪( %13‬مثل املوارنة) �أو بن�سبة ‪%8.42‬‬ ‫(مثل الكاثوليك)‪ ،‬وجتاهلنا �إمكانية انخفا�ض عددهم كما ح�صل للأرثوذك�س‪ ،‬نح�صل على رقم‬ ‫�أق�صى حد له هو‪ 14,194 :‬ن�سمة‪ .‬وهذا ما يجعل جمموع امل�سيحيني ‪�( 363,094‬أما الرقم املدون يف‬ ‫�إح�صاء ‪ 1932‬فكان‪ )402,363 :‬يف مقابل جمموع امل�سلمني وهو ‪ .383,180‬وهذه الزيادة ال ميكن‬ ‫تربيرها �إال من خالل الت�أكيد على �أن الإح�صاء �شمل الأرمن باعتبارهم �سكاناً لبنانيني مثلهم مثل‬ ‫�أي طائفة �أخرى و�صنفهم �ضمن فئة «م�سيحيون �آخرون»[‪.]16‬‬ ‫كما ميكن باال�ضافة �إىل ما تقدم‪� ،‬إدراج بع�ض املالحظات الأخرى‪ :‬الأوىل‪ ،‬م�شاركة اللبنانيني‬ ‫(وخا�صة ال�سنة) بكثافة يف تعداد ‪ 1932‬خالفاً للإح�صاء الأول‪� ،‬إذ قاطعه عدد كبري من ال�سكان‬ ‫تعبرياً عن رف�ضهم للتق�سيمات االدارية اجلديدة لأنها‪ ،‬رمبا‪ ،‬تف�صل لبنان عن اململكة العربية‬ ‫املوعودة التي كان يدعو لها الأمري في�صل‪ .‬كما ميكن �أن تف�سر هذه امل�شاركة‪ ،‬يف حال ح�صولها‪،‬‬ ‫على �أنها‪ ‬تعبري عن رغبتهم يف االنخراط التام يف احلياة ال�سيا�سية والإدارية يف لبنان الكبري‪� .‬أما‬ ‫املالحظة الثانية‪ ،‬كما يظهر يف اجلدول‪ ،‬فهي ا�ستمرار منط ال يزال م�ستمراً لغاية اليوم‪ ،‬يتجلى يف‬ ‫تراجع ن�سب امل�سيحيني حل�ساب ن�سب امل�سلمني‪.‬‬ ‫وهكذا‪ ،‬بالرغم من اقتناع عدد كبري من الباحثني ب�أن نتائج هذا امل�سح مل ُ‬ ‫تخل من الأخطاء‪،‬‬ ‫باال�ضافة �إىل �أنها بعيدة عن الدقة‪ ،‬ال تزال تعترب املرجع الأ�سا�سي الذي تعتمد عليه التقديرات‬ ‫ال�سكانية‪ ،‬بطريقة �أو ب�أخرى‪ ،‬باعتباره امل�سح ال�شامل الأخري الذي �أجري يف لبنان‪ .‬وما تبعه من‬ ‫تعدادات مل تكن �إال درا�سات بالعينة �أو تقديرات �سكانية‪.‬‬ ‫وبالتوازي مع هذا امل�سح‪ ،‬قدم «فيدمر» �أي�ضاً عر�ضاً ل�سكان لبنان بني ‪ 1922‬و‪1932‬؛ وهو عر�ض‬ ‫يظهر فيه جمموع ال�سكان‪ ‬ب�شكل خمتلف عما هو عند الآخرين‪.‬‬ ‫نالحظ من خالل ما قدمه فيدمر يف كتاب حمادة‪ ،‬النظام االقت�صادي‪ ،‬ارتفاع ح�صة بريوت من‬ ‫‪ %14.62‬من جمموع ال�سكان‪� ،‬إىل ‪ ،%18.81‬وذلك على ح�ساب املحافظات كلها من دون ا�ستثناء‪،‬‬ ‫وخا�صة حمافظة ال�شمال‪ .‬الأمر الذي يعك�س �أهمية بريوت العا�صمة بنظر ال�سكان الذين نزحوا‬ ‫لالقامة فيها باعتبارها املركز االقت�صادي والثقايف للبنان‪ .‬ويخل�ص فيدمر �إىل «�أن الكثافة ال�سكانية‬ ‫بلغت ‪ 92‬ن�سمة يف الكلم وهي �أعلى كثافة مقارنة مع الدول املجاورة»[‪� .]17‬إال �أنها �أقل من الكثافة‬ ‫التي ح�سبها فولني يف القرن التا�سع ع�شر على �أرا�ضي املت�صرفية ‪ .‬كما ي�شري �إىل �أن ن�سبة �سكان‬ ‫‪2‬‬

‫‪60‬‬


‫فكــــــر‬

‫املدن يف لبنان بلغت ‪ %34.8‬وهي �أدنى مما هي عليه يف �سوريا التي ترتفع �إىل ‪. %41.24‬‬ ‫�أما يف ما يتعلق بالتوزيع الطائفي لل�سكان‪ ،‬ارتفعت ن�سبة امل�سيحيني عام ‪ 1943‬من ‪ %51.2‬عام‪ ‬‬ ‫‪� ،1932‬إىل ‪ ،%52.7‬ح�سب م�صادر عدة‪ .‬ويعود هذا االرتفاع‪ ،‬ح�سب كمال ديب‪� ،‬إىل جلوء عدد‬ ‫كبري من ال�سوريني والعرب امل�سيحيني لل�سكن يف لبنان‪ ،‬وغالبيتهم من الأرثوذك�س[‪ ،]18‬وعودة‬ ‫ق�سم ال ي�ستهان به من امل�سيحيني من املهجر على �أثر الأزمة االقت�صادية العاملية عام ‪ 1929‬التي‬ ‫ا�ستمرت حتى منت�صف الثالثينيات‪ ،‬ف�ض ًال عن تراجع الهجرة التي كانت بالدرجة الأوىل‬ ‫م�سيحية‪ ،‬خالل احلرب العاملية الثانية‪.‬‬ ‫كما يبني فيدمر �أن امل�سيحيني متكنوا‪ ،‬وللأ�سباب املذكورة �أعاله‪ ،‬من حتقيق معدالت منو �سنوية‬ ‫�أعلى من تلك العائدة للم�سلمني‪� .‬إال �أن هذه الأرقام لن تلبث �أن تبد�أ باالنحدار مع نهاية‬ ‫الثالثينيات من القرن املا�ضي؛ ذلك �أن كمال فغايل يعترب �أن عام ‪ 1938‬كان �آخر عام ي�شهد‬ ‫تفوقاً عددياً للم�سيحيني[‪ .]19‬ويذهب بع�ضهم الآخر �إىل �أن املنا�صفة الن�سبية بني امل�سيحيني‬ ‫وامل�سلمني كانت ال تزال قائمة (ح�سب �سجالت دوائر النفو�س)[‪ ]20‬حتى عام ‪.1975‬‬ ‫ويتبني �أي�ضاً �أن لبنان حقق معدل منو �سنوياً قدر بـ ‪ ،%2.6‬وهو معدل يظهر نوعاً من الت�ضخيم �إذ �إن‬ ‫عدد الذكور يف عمر الزواج كان منخف�ضاً ب�سبب عاملني‪ :‬الأول هو ت�أثري احلرب الأوىل‪ ،‬وخا�صة‬ ‫بني عامي ‪1919-1914‬؛ والثاين‪ ،‬الهجرة التي ح�صدت ما تبقى من ذكور[‪.]21‬‬ ‫ال�سكان بني امللحقات والتوازن‬

‫مل يتوقف اخللل الدميوغرايف عن التفاقم‪ .‬وح�صار املت�صرفية �أفقدها الكثري من �سكانها‪ ،‬موتاً يف‬ ‫�أحوال جوع مل يعرفها اجلبل يف تاريخه‪� ،‬أو هرباً ملن ا�ستطاع الت�سلل من اجلبل املحا�صر‪ .‬ومل يكد‬ ‫يخرج اجلبل من حمنة احلرب حتى دخل يف عهد جديد كان مبثابة ت�صفية ح�ساب مع ال�سلطنة‬ ‫العثمانية من جهة‪ ،‬وجزءاً من ح�صة يف حفل اقت�سام املغامن للدول املنت�صرة‪ ،‬من جهة ثانية؛‬ ‫وتوزيعاً حل�ص�ص ما كان لبنان بوارد الوقوع يف ما ميكن �أن ت�ؤدي �إليه من تداعيات ونـتائج‪ ،‬من‬ ‫تو�سعـه « لي�صبح لبنان الكبري‪ ،‬دخل حلبة ال�سيا�سة اللبنانية‬ ‫جهة ثالثة‪ .‬ذلك �أن جبل لبنـان يف ّ‬ ‫مزيد من الع�شائر املل ّوحة بالرايات الطائفية» ‪.‬‬ ‫�أنهى �إعالن لبنان الكبري الو�ضع الذي كان عليه نظام املت�صرفية يف جبل لبنان‪ .‬وانتقل التوزيع‬ ‫الدميوغرايف من حال �إىل حال مغايرة متاماً بفعل التحاق مناطق جديدة بلبنان الكبري‪ .‬وهذه‬ ‫املناطق تنتمي ب�أكرثيتها �إىل مذاهب كانت ت�شكل �أقلية يف جمل�س �إدارة املت�صرفية‪ .‬وبالتايل‬ ‫ف�إن التغري الدميوغرايف ال بد �أن يفعل فعله يف �ش�ؤون احلكم من ناحية‪ ،‬ويف �ش�ؤون النظر �إىل‬ ‫امللحقات باعتبارها تابعة للجبل ومقوية من ع�ضده‪ ،‬من ناحية ثانية‪ .‬وولد هذا الو�ضع اجلديد‬ ‫‪61‬‬


‫اختالفاً يف النظرة �إىل لبنان من اعتباره ذا وجه عربي لإر�ضاء امللحقات‪ ،‬وقائماً بذاته ولذاته‬ ‫كوطن للم�سيحيني يف ال�شرق‪ ،‬وجزءاً من حميطه الذي ال ميكن له اال�ستمرار بدونه‪ .‬وال تزال هذه‬ ‫املواقف املختلفة مبثابة الهواء الذي يتنف�سه ال�سيا�سيون يف لبنان‪� .‬أتى االنتداب الفرن�سي عام ‪1920‬‬ ‫ليغيرّ الواقع اللبناين‪ ،‬ويعيد خلق الكيان املتمثل بجبل لبنان يف �شكله اجلديد الأكرب يف امل�ساحة‬ ‫وعدد ال�سكان‪ .‬مت هذا الأمر يف الأول من ايلول ‪ 1920‬مع �إعالن اجلرنال غورو‪ ،‬املفو�ض ال�سامي يف‬ ‫حينه‪ ،‬لدولة لبنان الكبري‪ .‬ت�ضمن هذا الإعالن �ضم �أق�ضية ومناطق جديدة �إىل لبنان ال�صغري‪ ،‬مع‬ ‫كل ما احتوته من �سكان بعالقاتهم االجتماعية واالقت�صادية ومنط معي�شتهم وتنظيمهم ال�سيا�سي‬ ‫املرتبط مبا�شرة بال�سلطنة العثمانية من خالل والية بريوت �أو والية �سورية‪� ،‬أو غريهما‪ .‬وهكذا‬ ‫انتقل لبنان بني ليلة و�ضحاها من �إدارة جلبل ال تزيد م�ساحته على ‪ 3500‬كلم �إىل كيان ي�ضم‬ ‫مقومات دميوغرافية وجغرافية واقت�صادية لإمكانية اال�ستمرارية والبقاء‪.‬‬ ‫مل يقت�صر الأمر على �إيجابيات ال�ضم والإحلاق‪ ،‬من خالل الزيادة ال�سكانية‪ ،‬وتو�سيع الرقعة‬ ‫اجلغرافية‪ ،‬وزيادة �إمكانيات النمو االقت�صادي‪ ،‬واالنفتاح على احتماالت جديدة‪� ،‬سيا�سياً‬ ‫واجتماعياً وثقافياً ميكن �أن تن�ش�أ بتفاعل مبا�شر بني املكونات الب�شرية للبنان اجلديد؛ بل تعدى‬ ‫ذلك �إىل ن�شوء �سلبيات متعددة ن�ش�أت عن هذه الإيجابيات بالذات‪ .‬ذلك �أن امللحقات حملت‬ ‫معها ما هو خمتلف عن التوزيع ال�سكاين يف اجلبل‪� ،‬إن كان على �صعيد العائالت و�أدوارها يف‬ ‫مقاطعات اجلبل‪� ،‬أو على م�ستوى الطوائف و�أدوارها ال�سيا�سية‪ ،‬باال�ضافة‪ ،‬طبعاً‪� ،‬إىل ما كان ال‬ ‫يزال موروثا من �أزمنة �سبقت‪ .‬فاملت�صرفية التي كانت حمكومة من مت�صرف م�سيحي من خارجها‬ ‫بوزن راجح م�سيحي ـ درزي‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل بع�ض الأقليات التي دارت يف فلكهما كامللكيني من‬ ‫الأرثوذك�س والكاثوليك بالإ�ضافة �إىل جتمعات حمدودة من ال�سنة وال�شيعة‪� ،‬أ�صبحت حتتوي على‬ ‫ثالث طوائف كربى‪ :‬املوارنة وال�سنة وال�شيعة‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل ثالث �أقليات كربى‪ :‬الدروز والروم‬ ‫الأرثوذك�س والروم الكاثوليك‪.‬‬ ‫فما قام به الفرن�سيون مل ي�أت نتيجة قرار �آين‪ ،‬وال هو م ّر مرور الكرام‪ ،‬فقد �سبق �إعالن لبنان‬ ‫الكبري ك ٌم هائل من املتغريات ال�سيا�سية والع�سكرية واالقت�صادية‪ .‬ويف الوقت نف�سه �أدى �ضم‬ ‫املناطق اجلديدة �إىل جبل لبنان ردات فعل متفاوتة يف عنفها بني الرف�ض والت�أييد‪ .‬ذلك �أن قرار‬ ‫ال�ضم خلق واقعاً جديداً‪ ،‬كان على «اللبنانيني» التعامل معه‪ .‬فق�سمهم منذ البداية بني مرحبني‬ ‫بلبنان الكبري (الكيان امل�ستقل) وبني راف�ضني له (باعتباره م�سلوخاً عن مملكة �أو �أمة‪ ،‬عربية كانت‪،‬‬ ‫�أو �سورية �أو �إ�سالمية)‪ .‬ا�ستحوذ هذا ال�صراع اجلديد على طاقات اللبنانيني التي ُ�سخرت كلها يف‬ ‫تفنيد �أ�سبابه‪ .‬هكذا طوع كل فريق التاريخ واجلغرافيا واالقت�صاد‪ ،‬ال بل اعتمد على الدين وعلمائه‬ ‫ليثبت �صحة دعواته ال�سيا�سية‪ .‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪62‬‬


‫فكــــــر‬

‫بعد قرن من الزمان‪ ،‬مل يخرج لبنان من الدوامة‪ ،‬بل دخل يف العمق �أكرث‪ ،‬وتك�شّ فت االنتماءات‬ ‫�إىل ما هو �أخطر‪ .‬ودخل لبنان‪ ،‬كما املنطقة ب�أ�سرها‪ ،‬يف �أتون حرب غري مهيئني لها با�سم التغيري‪ ،‬ف�إذا‬ ‫هي با�سم الروابط الأهلية الأولية من الداخل امل�ستقطب لكل االجتاهات الآتية من اخلارج حتت‬ ‫كل العناوين �إال عنوان الدميقراطية وامل�ساواة واملواطنة‪ ،‬ومبختلف �أنواع الدعم با�سم الدميقراطية‬ ‫وامل�ساواة واملواطنة‪ .‬فاختلط احلابل بالنابل وا�ست�أنفت الو�صايات الأجنبية م�سريتها القائمة على‬ ‫ت�أمني امل�صالح‪ ،‬وعاد العرب �أدراجهم �إىل ما قبل قرن من الزمان‪ ،‬ليتعر�ضوا �إىل حفل اقت�سام مغامن‬ ‫جديد ال ميكن �إال �أن يكون عوداً على بدء‪ .‬ويبقى لنا �أن ن�أمل مبن ي�سري بنا‪ ،‬ولو بخطى متعرثة‪،‬‬ ‫�إىل الأمام‪.‬‬ ‫‪ ‬‬ ‫امل�صادر‪:‬‬ ‫[‪ ]1‬م�سعود �ضاهر‪ ،‬اجلذور التاريخية للم�س�ألة الطائفية يف لبنان‪ ،‬معهد االمناء العربي‪ 1981 ،‬بريوت‪� ،‬ص‪.240‬‬ ‫[‪ ]2‬امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص‪.240‬‬ ‫[‪ ] 3‬روبري كرا�سويل‪ ،‬القرابة وامللكية العقارية يف لبنان‪ ،‬ترجمة مي�شال �أبي فا�ضل‪ ،‬جمد‪ ،1983 ،‬بريوت‪،‬‬ ‫�ص‪.29‬‬ ‫[‪� ]4‬أنظر يف هذا اخل�صو�ص‪:‬‬ ‫ ‪� -‬ضاهر‪ ،‬امل�س�ألة التاريخية‪ ،‬مذكور �سابقاً‪� ،‬ص‪.237-238 ،232-233‬‬ ‫[‪ ] 5‬علي راغب حيدر �أحمد‪ ،‬امل�سلمون ال�شيعة يف ك�سروان وجبيل‪ ،‬دار الهادي‪ ،2007 ،‬بريوت‪� ،‬ص‪108-‬‬ ‫‪.109‬‬ ‫[‪ ]6‬كرباج وفارغ‪� ،‬ص‪.16‬‬ ‫[‪� ،Youssef Courbage et Philippe Fargues, La situation. ,,op. cit. p: 1 7 ]7‬أنظر �أي�ضاً‪:‬‬ ‫ ‪ -‬م�سعود �ضاهر‪ ،‬تاريخ لبنان االجتماعي‪ ،‬دار الفارابي‪ ،1974 ،‬بريوت‪� ،‬ص‪.54‬‬ ‫[‪Youssef Courbage et Philippe Fargues, La situation..op. cit, p: 17 ]8‬‬ ‫[‪Ibid, p;17 ]9‬‬

‫[‪� .]10‬أنظر للتف�صيل‪:‬‬ ‫ ‪ -‬م�سعود �ضاهر‪ ،‬تاريخ لبنان االجتماعي‪ ،‬مذكور �سابقاً‪� ،‬ص‪.55-56‬‬ ‫[‪Youssef Courbage et Philippe Fargues, La situation..,op.cit. p ; 21 ]11‬‬

‫[‪� ] 12‬ضاهر‪ ،‬تاريخ لبنان االجتماعي‪ ،‬مذكور �سابقاً‪� ،‬ص‪ .55-56‬‬ ‫[‪ ] 13‬كمال ال�صليبي‪ ،‬بيت مبنازل كثرية‪ ،‬م�ؤ�س�سة نوفل‪ ،1991 ،‬بريوت‪� ،‬ص‪.72 :‬‬

‫‪63‬‬


‫[‪� ]14‬أنظر يف هذا اخل�صو�ص‪:‬‬ ‫ ‪� -‬سعيد حمادة‪( ،‬حمرر)‪ ،‬النظام االقت�صادي يف �سوريا ولبنان‪ ،‬مذكور �سابقاً‪� ،‬ص‪.453 :‬‬ ‫ فواز طرابل�سي‪ ،‬تاريخ لبنان احلديث‪ ،‬ريا�ض الري�س للكتب والن�شر‪ ،2008 ،‬بريوت‪� ،‬ص‪152 :‬‬‫ ‬ ‫ ‪ -‬حممد مراد‪ ،‬التملك وال�سلطة يف اجلنوب اللبناين (‪ ،)1975-1920‬من�شورات اجلامعة اللبنانية‪،2009 ،‬‬ ‫بريوت‪� ،‬ص‪.47 :‬‬ ‫[‪� ]15‬أنظر للتف�صيل‪:‬‬ ‫ ‪ -‬حمادة‪ ،‬النظام االقت�صادي يف �سوريا ولبنان‪ ،‬مذكور �سابقاً‪� ،‬ص‪� .453 :‬أي�ضاً‪:‬‬ ‫ ‪Youssef Courbage et Philippe Fargues, La situation…op. cit. p: 21‬‬‫ ‬ ‫[‪ ] 16‬للمزيد حول هجرة الأرمن �إىل لبنان‪� ،‬أنظر‪:‬‬ ‫ ‪ -‬فيدمر‪« ،‬ال�سكان»‪ ،‬يف‪ :‬حمادة‪ ،‬النظام االقت�صادي‪ ،‬مذكور �سابقاً‪� ،‬ص �ص‪.24-27‬‬ ‫[‪ ] 17‬امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص‪6‬‬ ‫[‪ ] 18‬كمال ديب‪ ،‬هذا اجل�سر العتيق‪ ،‬دار النهار للن�شر‪ ،2008 ،‬بريوت‪� ،‬ص‪.327 :‬‬ ‫[‪ ] 19‬للمزيد من التف�صيل‪� ،‬أنظر‪:‬‬ ‫ ‪ -‬كمال فغايل‪ ،‬الو�ضع الدميوغرايف يف لبنان‪ ،‬خمتارات‪ ،2003 ،‬بريوت‪.‬‬ ‫[‪ ] 20‬كمال ديب‪ ،‬هذا اجل�سر العتيق‪ ،‬مذكور �سابقاً‪� ،‬ص‪327 :‬‬ ‫[‪.Courbage et Fargues, opt. cit, p : 22 ]21‬‬

‫‪64‬‬


‫فـكــــــــر‬

‫ال�رشق الأو�سط اجلديد و�إدارة التوح�ش‬ ‫�أديب الزين ‪ -‬كاتب م�ستقل‬

‫مع تو�سع الإنت�شارالداع�شي ك�سرطان جاهلي متوح�ش‪ ،‬يدمر احلجر‪ ،‬الب�شر‪ ،‬احل�ضارة والثقافة‪،‬‬ ‫يكرث احلديث عن �سيناريوهات التق�سيم الطائفي �أو العرقي يف دول �سايك�س بيكو‪ :‬العراق‪،‬‬ ‫�سوريا‪ ،‬لبنان‪ ،‬الأردن‪ ،‬ال�سعودية‪ ،‬اليمن‪ ...‬الخ‪.‬‬ ‫وقفة ت�أمل يف جغرافيا املنطقة (الأر�ض وال�سكان) و�أحداثها املتبلورة يف ال�سنوات الثالثني الأخرية‬ ‫ت�ؤ�شر يف اجتاه تق�سيمي خمتلف‪� :‬إزالةتق�سيمات �سايك�س بيكو وا�ستبدالها مبكونات طائفية وا�سعة‬ ‫جغرافياً مع تغيريات �سكانية هائلة‪ .‬املك ِّونات املطروحة هي يهودية‪�ُ ،‬سن ّية‪ ،‬و�شيعية‪ .‬النظرية‬ ‫اال�سرتاتيجية وراء هذا ال�سيناريو هو يف ت�أمني و�ضع ي�ؤ�س�س لرتكيبة طائفية م�ستقرة ت�ؤمن دميومة‬ ‫طويلة للهدف الأ�سا�س‪ :‬دولة التوراة اليهودية من النيل �إىل الفرات‪ .‬الفتنة ال�س ّنية ال�شيع ّية هدفها‬ ‫املحوري هو �إحداث تغيريات �سكانية تفر�ض اال�ستقطاب الطائفي الوا�سع داخل احلدود املفرت�ضة‬ ‫للمكونات الطائفية املزمع �إن�شا�ؤها‪ .‬ال مكان يف هذا ال�سيناريو لكيانات طائفية �صغرية �أو قومية �أو‬ ‫علمانية‪.‬‬ ‫حذار هذا ال�سيناريو واال�ستخفاف ب�إمكان ح�صوله‪ .‬لكن مع خطورته وجديته البالغة‪ ،‬ف�إن �إمكانات‬ ‫و�سبل مواجهته موجودة‪ ،‬لكن ت�ستدعي االرتقاء باجلبهة املقاومة له �إىل م�ستويات جديدة وجريئة‬ ‫من خالل ا�سرتاتيجية عابرة للحدود اجلغرافية والفكرية والدينية‪ .‬العمل اجلاد على هزمية هذا‬ ‫ال�سيناريو و�إن�شاء نقي�ضه الكامن يف رحمه يجب �أن ال ّ‬ ‫يكل‪ ...‬يف ال�سنوات الثالثني املقبلة‪.‬‬ ‫قبل الدخول يف �صلب املو�ضوع‪� ،‬أود �أن �أ�ؤكد ‪ 4‬نقاط هامة ال ُب َّد من تذكُّرها ك�إطار عام لفهم‬ ‫جمريات الأحداث يف �إطارها اال�سرتاتيجي ال�صحيح‪:‬‬ ‫الأحداث التاريخية اجل�سام تتبلور يف ع�شرات ال�سنوات‪ ،‬لكن يتم الت�أ�سي�س لها يف حلقات‬ ‫متتابعة من �أحداث هامة قد ت�ستغرق ب�ضعة �أ�شهر �إىل ب�ضع �سنوات يف كل حلقة‪ .‬هذه الأحداث‬ ‫الهامة عادة ما يتم التح�ضري لها خالل فرتات من الهدوء الن�سبي اخلادع‪ .‬الفريق الذي يعمل‬ ‫بجد �أكرب ووعي ا�سرتاتيجي �أعمق يف زمن الهدوء‪ ،‬يتمكن من حتقيق هدفه �أو �إف�شال �أهداف‬ ‫اخل�صم وخمططاته يف �أوقات احلدث الهام‪.‬‬ ‫‪65‬‬


‫الإيهام واخلداع وامتالك عن�صر املفاج�أة‪ ،‬عنا�صر هامة تتم ممار�ستها بحنكة يف زمن الهدوء‪ ،‬كي تزيد‬ ‫ب�شدة بني هذه‬ ‫من احتماالت الغلبة لفريق على �آخر يف مراحل الأحداث الهامة‪ .‬يجدر التمييز هنا ّ‬ ‫املمار�سات ملن ينفذ خطة ا�سرتاتيجية‪ ،‬والكذب والنفاق الذي ميار�سه من ال قرار لهم وال خطة‪.‬‬ ‫القدرة على تبديل امل�سارات املرحلية التكتيكية يف حال تعرثت‪ ،‬وحت�ضري املوارد املمكن ا�ستخدامها‬ ‫يف امل�سارات البديلة‪ ،‬م�س�ألة حيوية ال�ستمرارية امل�سار العام للم�شروع اال�سرتاتيجي‪ .‬هذه العرثات‬ ‫قد ينتج عنها خ�سائر وانتكا�سات كبرية �أو ت�أخري يف التوقع الزمني للم�شروع‪ ،‬لكن يف كثري من‬ ‫الأحيان قد ينجح تبديل امل�سار يف �إنقاذ امل�شروع وا�ستكماله‪ .‬على القوى املُواجِ هة �أن تبقى ثابتة يف‬ ‫م�سارها اال�سرتاتيجي العام امل�ضاد مع احلفاظ على هام�ش من املرونة واملناورة التكتيكية ال�ستيعاب‬ ‫امل�سارات اجلديدة التي يلج�أ �إليها امل�شروع الهدام ومواجهتها بالوعي واحلزم الالزمني‪.‬‬ ‫القوى الفاعلة ت�ستخدم الإعالم لت�سويق توجهاتها الآنية �أو املرحلية �أو اال�سرتاتيجية‪ .‬الإعالم الآين‬ ‫�أو املرحلي يحاول توجيه الر�أي العام للتعاطف مع توجه معني‪� ،‬أو ن�شر �إ�شاعات لت�شويه حتركات‬ ‫القوى امل�ضادة‪� ،‬أو تبني مواقف قد تبدو معاك�سة للتوجه اال�سرتاتيجي للم�شروع‪ ،‬ل�ضرورات �آنية‬ ‫تكتيكية ت�ستوجب متويه النيات احلقيقية‪ .‬كي ُتفهم املداخالت الإعالمية على حقيقتها وعدم‬ ‫الوقوع يف خداع معظمها ُي ْ�س َت ْ�سقى املوقف احلقيقي فقط من املمار�سات التنفيذية املُ ْثبتة تاريخياً‬ ‫على �أر�ض الواقع ومن خالل فهم الأحداث الآنية واملرحلية يف الإطار اال�سرتاتيجي العام‪.‬‬ ‫ما هي تلك املكونات الطائفية الوا�سعة اجلغرافيا (�أنظر اخلريطة) وذات الرتكيبة ال�سكانية املختلفة‬ ‫التي يتم العمل على تركيبها بوح�شية فائقة عرب اقتالع ال�سكان الأ�صليني بوا�سطة املذابح‬ ‫والتهجرياجلماعي الق�سري؟‬ ‫‪1‬ـ دولة يهودية من النيل حتى الفرات (حتقيقاً لنبوءة عودة امل�سيح ‪ -‬الدفع العقائدي الأ�سا�س‬ ‫للمحافظني اجلدد يف �أمريكا) قوامها الرئي�س اليوم الكيان ال�صهيوين وت�ضم �أجزاء من �سوريا‪ ،‬الأردن‪،‬‬ ‫العراق (غرب الفرات) وال�سعودية ومعظم لبنان‪� .‬سكانياً‪ :‬يتم تهيئة ‪ 15‬مليون يهودي من �أنحاء العامل‬ ‫للتوطن يف املناطق الواقعة �ضمن حدود هذه الدولة‪ ،‬والب�أ�س من بقاء ب�ضعة ماليني من غري اليهود‬ ‫يكونون مزيجاً مقهوراً من «الغوييم» خلدمتهم بتوليٍّ املهن الو�ضيعة (و�إلإيهام بالدميقراطية)‪.‬‬ ‫لي�س بال�ضرورة �أن تتوىل �إ�سرائيل بنف�سها تركيب �أجزاء هذا الهدف التاريخي‪ .‬يف ع�صر الت�شرذم‬ ‫واالنحطاط العربي الذي نعي�شه‪ ،‬هناك كثريون من العرب يتولون هذه املهمة من حيث يدرون �أو‬ ‫اليدرون‪ ،‬مقابل �أوهام حتقيق � ٍ‬ ‫أهداف ثورية‪� ،‬أو كيانات قومية �أو دينية �ضحلة ي�سهل حموها بعد‬ ‫�إمتام الغاية من وجودها‪� ...‬أو فقط مقابل �صورة يف البيت الأبي�ض‪ .‬معظم �أهداف �إ�سرائيل املرحلية‬ ‫منذ ن�ش�أتها‪ ،‬حتققت عرب ا�سرتاتيجيا وا�ستعداد با ِئ�سَينْ خل�صومها من العرب‪� ،‬أو �صراعات داخلية‬ ‫يف بالد العرب تزيل العقبات و متهد ال�سبل �أمام �إ�سرائيل‪.‬‬ ‫‪66‬‬


‫فكــــــر‬

‫‪2‬ـ دولة �إ�سالمية �سنية قوامها الرئي�س اليوم تركيا وت�ضم باقي �سوريا‪ ،‬اجلزء ال�شمايل من لبنان وجزءاً‬ ‫من العراق‪� .‬سكانياً‪ :‬حماولة تهجري الأقليات امل�سيحية وال�شيعية وغريها قائم على قدم و�ساق‪.‬‬ ‫باملقابل‪ ،‬الدعوة مفتوحة للبدائل ال�سلفية الوح�شية القادمة من كل �أ�صقاع العامل حتت ادعاء‬ ‫اجلهاد‪ ،‬وبت�سهيل ملحوظ من املنظومة اال�ستخبارية الغربية ‪ /‬اخلليجية ‪ /‬الإ�سرائيلية و�إ�شراف‬ ‫مبا�شر للمخابرات الرتكية‪ ،‬ويتم توطينها بتوفري املقام وتكوين العائلة واملدخول املايل‪ .‬طبعاً بعد‬ ‫�أن ُيقتل �أعداد كبرية منهم يف غزواتهم التي التكِ ّل‪� ،‬أو يف ق�صف «ت�أديبي» من �أ�سيادهم لتقليم‬ ‫خمالبهم املتوح�شة وتلميع �صورة م�شغليهم‪ ،‬والتهيئة لدور �أ�سيادهم املبا�شر يف الوقت املنا�سب‪.‬‬ ‫وللتمويه‪ ،‬تتحدث الدول الغربية عن اخلطر الداهم الذي يرتب�ص بها عرب هجوم مواطنيهم من بني‬ ‫ه�ؤالء الإرهابيني‪ ،‬ويتخذون خطوات الحتواء اخلطر كمثل �سحب اجلن�سية او التهديد بال�سجن‬ ‫الطويل يف حال العودة‪ .‬ك�أنهم كانوا يف �سبات عميق لثالث �سنوات بينما الآالف من مواطنيهم‪،‬‬ ‫معظمهم ممن كان حتت املراقبة ل�شبهة التطرف الإ�سالمي‪ ،‬فج�أة «يختفي»! �أو رمبا كانوا من�شغلني‬ ‫بالتح�ضري الحتفاالت �سقوط النظام ال�سوري‪ ،‬يف حني كان مرا�سلو �صحفهم و�أقنيتهم التلفزيونية‬ ‫يبثون التقارير حول ن�ضاالت ه�ؤالء املواطنني يف �صفوف «الثورة» ال�سورية‪.‬‬ ‫الأحداث الهامة يف هذه احللقة من �صناعة تاريخ املنطقة ت�شي بالكثري حول دور تركيا املركزي يف‬ ‫الت�أ�سي�س للتغيريات «التاريخية» املرجوة‪ .‬ع�شرات �آالف املقاتلني من �أنحاء العامل يدخلون �إىل‬ ‫�سوريا والعراق عرب تركيا من معابر على اجلانب ال�سوري ي�سيطر عليها امل�سلحون ب�إ�شراف املخابرات‬ ‫الرتكية ولي�س «تهريباً»‪ .‬مع�سكرات تدريب ه�ؤالء امل�سلحني وغرف عملياتهم الرئي�سية ومراكز‬ ‫عالج جرحاهم ومداخل �إمداداتهم بال�سالح ومتوينهم وحليب �أطفالهم وخطوط ا�سرتاحتهم‬ ‫واملوجه‪�« .‬شنط»‬ ‫اخللفية كلها يف تركيا وعربها‪ .‬املخابرات الرتكية تلعب الدور املنفذ واملن�سق ِّ‬ ‫الأموال النقدية متر عرب تركيا‪ ،‬كما يتم فيها ترتيب بيع املنهوبات من نفط وم�صانع و�آثار‪ ...‬الخ‪ .‬و�إذا‬ ‫�أرادت تركيا يف امل�ستقبل و�ضع اليد على املناطق التي «يحررها» م�سلحو «�أهل ال�سنة»‪ ،‬هل �سيكون‬ ‫من ال�صعب �إيجاد احلجج وامل�س ِّببات؟ تربيرات من منط «احتواء الإرهاب» �أو �إن�شاء «مناطق عازلة‬ ‫و�آمنة» ي�سهل ت�سويقها‪ .‬وباملنا�سبة‪ ،‬من اجليد �أن يتع ّود مئات الآالف من املهجرين (ومن املرتقب‬ ‫ال�سلطة الرتكية فما ال�ضري يف توطينهم على االرا�ضي‬ ‫ان يزيدوا �أ�ضعافاً يف ال�سنوات املقبلة) على ُّ‬ ‫ال�سورية والعراقية «املحررة» حتت احلماية الأمنية الرتكية ‪ -‬الأطل�سية‪ ،‬و«الرعاية الإن�سانية» الغربية‪،‬‬ ‫ثم �ضمهم �إىل تركيا مع االر�ض بعد �سنوات عديدة يف «ا�ستفتاء دميقراطي» برعاية دولية؟‬ ‫مالحظات �سريعة ت� ِّؤ�شر �إىل التن�سيق اال�سرتاتيجي لن�ش�أة الكيانني اليهودي والإ�سالمي ال�سني (املُ�صَ َّنع‬ ‫�أمريكياً)‪ :‬ما هو �سر تركيز داع�ش الرئي�س هذه املرحلة جغرا ِف ّياً يف املنطقة بني نهري الفرات ودجلة‬ ‫والعمل على ال�سيطرة على ال�شمال ال�سوري من خالل الق�ضاء على التنظيمات الأخرى بالتن�سيق‬ ‫الوا�ضح مع تركيا‪ ،‬يف حني �أن تن�سيق م�سلحي املعار�ضة ال�سورية جنوب الفرات �أكرب مع �إ�سرائيل‪ :‬توجيه‬ ‫ا�ستخباري‪ ،‬تن�سيق عمليات ع�سكرية‪ ،‬ت�سهيل مرور والتفاف عرب اجلوالن وت�سليح وعالج جرحى؟‬ ‫‪67‬‬


‫وال�سني ب�شكل متزامن‪ .‬الأولوية كانت لتويل‬ ‫لي�س بال�ضرورة �أن ين�ش�أ املكونان الطائفيان اليهودي ّ‬ ‫�إ�سرائيل الدفع لإن�شاء الدولة اليهودية �أو ًال‪ ،‬معتمدة على الثقة التامة بقواها الذاتية‪ِّ .‬لكن م�سار‬ ‫املو�سعة �أوال تعثرُّ ‪� ،‬إثر ف�شل �إ�سرائيل يف غزواتها التو�سعية �شما ًال‪ .‬مت عندها‬ ‫تكوين الدولة اليهودية َّ‬ ‫نقل الرتكيز �إىل الكيان ال�س ِّني‪ ،‬الذي يف حال جناحه‪ ،‬يمُ ِّهد الطريق ملعاودة م�سار الكيان اليهودي‬ ‫يف وقت الحق �أكرث م�ؤاتاة‪.‬‬ ‫كم معلوم وميكن �ضبطه من خالل تركيا وقطر‪،‬‬ ‫اخليار ال�س ِّني الأول كان الإخوان امل�سلمني كونهم ٌّ‬ ‫كما �أن نظرية الدولة الإ�سالمية املو�سعة تتنا�سب مع عقيدة الإخوان‪� .‬أما اخليار البديل املتمثل‬ ‫يف التيار ال�سلفي التكفريي املَفتون بـ «دولة اخلالفة»‪ ،‬فبالرغم من كونه �صنيعة الغرب وارتباطه‬ ‫الوثيق بالفكر الو َّهابي لل�سعودية‪ ،‬لكن تنظيماته متعددة‪� ،‬أكرث تطرفاً‪ ،‬واحتماالت انفالتها يف‬ ‫م�سارات ثانوية خا�صة بها وارد‪ ...‬وهذا يتطلب من الغرب و�إ�سرائيل وتركيا مراقبتهم عن قرب‬ ‫و«ت�شذيب» النتوءات التي قد يربزها توح�شهم‪ ،‬خارج اخلط املر�سوم‪.‬‬ ‫انطلقت جتربة الإخوان امل�سلمني كر�أ�س حربة مل�سار الكيان ال�سني‪ ،‬العام ‪ 2009‬يف تون�س‪ ،‬وتبعتها‬ ‫م�صر‪ ،‬ليبيا واليمن يف �إطار ما �أطلق الغرب عليه «الربيع العربي»‪ .‬مت ا�ستخدام النموذج نف�سه‬ ‫بنجاح‪ :‬ا�ستنها�ض �شعبي عام ُج ِّند له ح�شد �إعالمي هائل ليتحول �إىل ثورة �شعبية‪ ،‬تاله تدخل‬ ‫ع�سكري من اجلي�ش ليتم عزل ر�أ�س الدولة‪ ،‬ما عدا ليبيا حيث ا�س ُتخدِ م التدخل الع�سكري‬ ‫اخلارجي املبا�شر‪ .‬ان�ضم االخوان للحراك ال�شعبي بهدوء ك�أحد الف�صائل املُ�شاركة‪ ،‬لكن بعد �إمتام‬ ‫قلب النظام والتوجه نحو االنتخابات لرتكيز النظام البديل‪ ،‬كان الإخوان الأكرث تنظيماً وعلى �أمت‬ ‫اال�ستعداد لركوب املوجة و«ح�صد الأغلبية ال�شعبية»‪ .‬طبعاً ح�صل كل ذلك حتت العني ال�ساهرة‬ ‫ملخابرات الغرب واليد ال�ضاغطة لرتكيا واملحفظة امللآنة لقطر‪.‬‬ ‫لكن وهج ال�سلطة فعل فِعله يف اهتزاز التوازن التنفيذي للإخوان فغرقوا يف رمال اال�ستئثار املتحركة‬ ‫حتمله ال�ستبعاده عن مواقع القرار خا�صة يف م�صر‪ ...‬فكان انهيار‬ ‫و�أ�سا�ؤوا تقدير �سطوة اجلي�ش ومقدار ُّ‬ ‫النموذج الإخواين‪ ،‬م�ؤقتا على االقل‪ .‬عندها‪ ،‬كان ال بد من تفعيل اخليار البديل‪ :‬ال�سلفي التكفريي‪.‬‬ ‫يف الواقع اجلغرايف اليوم‪ ،‬يتم العمل على ت�أ�سي�س الكيان ال�س ِّني من خالل م�سارين �أ�سا�سيني‪:‬‬ ‫داع�ش لتثبيت اجلغرافيا امل�ستقبلية‪� :‬شمال الفرات زائداً �شمال �سوريا‪ .‬والفتنة ال�سن ّية ال�شيع ّية‬ ‫أوج ٍه خمتلفة والتي حتقق هدفني �أ�سا�سيني‪� :‬إنهاك وحتجيم القوى التي ميكن ان‬ ‫التي ت�ضرب ب� ُ‬ ‫تواجه هذا امل�شروع‪ ،‬وبالتايل ت�سهيل اجتياح �إ�سرائيل لها يف الوقت املنا�سب؛ واقتالع ال�شيعة‬ ‫والأقليات من �سوريا ولبنان و�أجزاء من العراق‪.‬‬ ‫مو�سع ح�سب احلاجة‪ ،‬بعد «�إعادة‬ ‫يبقى الإخوان خياراً ميكن تفعيله م�ستقب ًال ٍ‬ ‫ب�شكل حمدود �أو َّ‬ ‫ت�أهيل» وتهيئة املحيط املنا�سب‪� .‬آالف امل�سلحني من «م�شتقات» الإخوان امل�سلمني ُد ِّربوا و�آالف‬ ‫�آخرين يتم ت�أهيلهم وتدريبهم يف تركيا‪ ،‬الأردن‪ ،‬الداخل ال�سوري والعراقي‪ ،‬ليبيا‪� ،‬سيناء‪� ،‬إ�سرائيل‪،‬‬ ‫‪68‬‬


‫فكــــــر‬

‫وم�ؤخراً يف ال�سعودية لت�أدية عدد من املهمات على الأر�ض بع�ضها يف الوقت احلا�ضر (املنطقة العازلة‬ ‫يف اجلوالن‪ ،‬ا�ستنزاف النظام ال�سوري‪ ،‬م�شاغلة حزب اهلل يف لبنان‪ ،‬االبتزاز الأمني مل�صر) وبع�ضها‬ ‫ال�س َّنة املحررة» يف �سوريا والعراق‪ ،‬ابتزاز‬ ‫الآخريتم �إعداده ملهام م�ستقبلية (حفظ الأمن يف «مناطق ُ‬ ‫�أمني للأردن �أو ال�سعودية �إذا لزم الأمر‪ ،‬مواجهة احلوثيني يف اليمن‪� ...‬إلخ)‪.‬‬ ‫هنا قد يربز �س�ؤال هام‪ :‬ما هي م�صلحة ال�سعودية يف امل�ساهمة يف م�سار يكون امل�ستفيد الرئي�س فيه‬ ‫تركيا ويربزها كمتزعمة لل�س َّنة؟ اجلواب متعدد اجلوانب‪ .‬الهدف اال�سرتاتيجي غري معلن ويجري‬ ‫متويهه ب�إعطاء ال�سعودية دوراً بارزاً يف العديد من الق�ضايا الإقليمية املرحلية التي ال ت�ؤثر على امل�سار‬ ‫اال�سرتاتيجي‪ ،‬وبع�ضها قد يوهم بـ «تقلي�ص» النفوذ الرتكي‪ .‬كما و�أن حكم العائلة املالكة مرهون‬ ‫باحلماية الغربية يف ظل ت�سلطها مع بع�ض العائالت القريبة منها على معظم موارد اململكة‪ .‬و�أخرياً‪،‬‬ ‫يحمل الغرب �سيفاً م�سلطاً فوق ر�ؤو�س حكام ال�سعودية يف ما يخ�ص خمالفات حقوق الإن�سان‬ ‫وارتباط الفكر الو َّهابي يف دعم نهج التطرف الإ�سالمي الذي ميار�س متييزاً عن�صرياً وح�شياً �ضد‬ ‫املذاهب والأديان الأخرى‪ ،‬وي�ضم يف �صفوفه ن�سبة عالية من اجلن�سية ال�سعودية‪ .‬باخت�صار‪ :‬التوجه‬ ‫اال�سرتاتيجي يتم حتديده وتنفيذه على م�ستوى �أعلى من الذي يقدر عليه الت�أثري ال�سعودي‪.‬‬ ‫�إن�شاء املك ِّون ال�س ِّني �أو ًال ي�سهل ت�سويقه �إعالمياً بالرغم من هول امل�آ�سي التي يفتعلها م�ساره‪ :‬يتم‬ ‫ُ� َإخراجه من خالل معارك طاحنة �أبطالها �إرهابيو العامل «ال�سلفيني» �ضد «الإرهابيني» الآخرين‬ ‫املنتمني لـ «التطرف ال�شيعي»‪ ،‬ومي ِّهد الطريق للمك ِّون اليهودي ب�أقل اخل�سائر لإ�سرائيل؛ و�أي�ضاً‬ ‫يدفع نحو تفعيل م�سار الكيان ال�شيعي‪ .‬وهكذا يكون «العامل احلر» قد �أ َّمن اخلال�ص من �إرهابيي‬ ‫العامل بتوجيه �إرهابهم �إىل نحور بع�ضهم البع�ض‪ ،‬وم َّهد ل�شرق � ٍ‬ ‫أو�سط جديد �أكرث �أمناً وا�ستقراراً‬ ‫وازدهاراً عرب تفعيل اال�ستقطاب ال�سيا�سي وال�سكاين املن�سجم مع الن�سيج الطائفي للمنطقة‪.‬‬ ‫يق�ضي هذا ال�سيناريو �أن تكون ال�سنوات املقبلة حبلى بالأحداث اجل�سام التي تدفع امل�سيحيني‬ ‫وغريهم من الأقليات �إىل الهجرة �إىل الغرب‪� .‬أما لمَِن جنا من القتل من ال�شيعة والعلويني ف�إىل‬ ‫جنوب العراق و�إيران؛ وال�س َّنة �إىل دولة اخلالفة (بعد تبني الفكر اجلاهلي املتزمت �أو القتل) متهيداً‬ ‫ل�ضمهم لرتكيا‪ .‬هذا الفرز ال�سكاين الطائفي ُيعترب �ضرورياً لال�ستقرار الداخلي للدول الثالث‬ ‫النا�شئة‪ ،‬ومق ِّل�صاً لدواعي التنازع بينها‪ .‬هذه املتغريات اجلذرية يف املنطقة ت�صبح ممكنة بعد التدمري‬ ‫والتغيري املمنهج لوجه املنطقة احل�ضاري والثقايف والتاريخي‪ ،‬والإرهاق االجتماعي واالقت�صادي‬ ‫للموارد الب�شرية واملادية‪ ،‬مع ورود ماليني �سكانية جديدة من كل �أنحاء العامل ترى يف الكيانات‬ ‫اجلديدة مالذاً وحتقيقاً لتطلعاتها وم�ستق َّراً للعي�ش مبوجب عقيدتها‪.‬‬ ‫املدمر ي�ؤمن لهيمنة الغرب وو�سطائه على م�صادر الطاقة وممراتها‪ ،‬والعقود‬ ‫هذا املخا�ض الدموي ّ‬ ‫الفاح�شة الأرباح ل�شركاته‪ ،‬والأهم هو ُّ‬ ‫التحكم يف ن�ش�أة الكيانات ال�سيا�سية املالئمة لدميومة تاريخية‬ ‫‪69‬‬


‫للدولة اليهودية قد تطول عقوداً عديدة �إن مل تكن قروناً‪� ...‬أو حتى عودة امل�سيح!‬ ‫عمليات �سرقة الأر�ض وامل�ساكن والدعم املايل واالجتماعي‪ ،‬مع جتذير الوجود امل�ستجد لأنا�س‬ ‫قادمني من دول كثرية من خالل بث الفكر املتزمت احلاقد‪ ...‬قوا�سم م�شرتكة يف الأ�سلوب‬ ‫والتنفيذ بني �إ�سرائيل ربيبة احلركة ال�صهيونية العاملية ورديفتها داع�ش‪ ،‬ربيبة تركيا‪ ،‬ومن خلفهما‬ ‫ُب�ص َو ٍر وحِ ٍلل و�أ�ساليب متنوعة‪ :‬احللف الأطل�سي و الواليات املتحدة‪ .‬امل�شاهد التي نراها يف الرقة‪،‬‬ ‫دير الزور‪ ،‬حماة‪ ،‬املو�صل‪� ،‬سنجار‪ ،‬تكريت‪� ...‬إلخ؛ ال تختلف عن امل�شاهد املوثقة عن هدم القرى‪،‬‬ ‫املذابح وقتل وتهجري املدنيني يف فل�سطني ‪� 1948‬أو ‪� 1967‬أو يف غزة وجنوب لبنان �أو ذبح وتهجري‬ ‫فحدث وال حرج عن القتل‪ .‬بدءاً‬ ‫الأرمن يف تركيا �أوائل القرن الع�شرين‪� .‬أما املح ِّركون الأ�سا�سيون ِّ‬ ‫بهريو�شيما‪ ،‬مروراً بكوريا‪ ،‬فييتنام‪� ،‬أمريكا الالتينية‪� ،‬أفغان�ستان‪ ،‬يوغو�سالفيا‪ ،‬ال�صومال‪ ،‬العراق‪...‬‬ ‫كلها «حروب ا�ستباقية» �أ�س�ست للتواجد الع�سكري الأمريكي والأطل�سي يف تلك املناطق على‬ ‫جماجم املاليني من مدنييها‪ ،‬والذين يطلق عليهم من دون رفّة جفن تو�صيف «�ضحايا َع َر�ضية»‪.‬‬ ‫التن�سيق اال�سرتاتيجي على �إجناز هذا ال�سيناريو وا�ضح املعامل بني �إ�سرائيل وتركيا ومن خلفهما‬ ‫الغرب‪ .‬و�إذا جنح معظم هذا اجلزء من ال�سيناريو‪ ،‬عندها قد تنجر �إيران �إىل تنفيذ اجلزء الأخريحماية‬ ‫لوجودها و«�إنقاذ» ما �أمكن من ال�شيعة وفروعهم املذهبية! اليوجد دالئل حتى الآن �أن التعاون‬ ‫الرتكي ـ الإيراين �أو التفاو�ض الغربي ـ الإيراين يت�ضمن تنفيذ هذا ال�سيناريو‪ .‬من املحتمل �أي�ضا‬ ‫�أن تركيا تقوم بخدعة تاريخية مع �إيران‪ ،‬كما فعلت من قبل (وجنحت) مع �سوريا قبل االنق�ضا�ض‬ ‫عليها؛ �أو �أنَّ �إيران تعمل وفق قاعدة «�أبق �أ�صدقاءك قريبني لك‪ ،‬و�أعداءك �أقرب»! الأحداث‬ ‫امل�ستقبلية وحدها تك�شف احلقيقة‪.‬‬ ‫‪3‬ـ دولة �إ�سالمية �شيعية قوامها الرئي�س اليوم �إيران وت�ضم جنوب وبع�ض و�سط العراق‪ ،‬مع �إمكانية‬ ‫تو�سع حمدود �إىل اخلليج‪� ،‬أفغان�ستان وباك�ستان‪� .‬سكانياً‪ ،‬يلج�أ معظم ال�شيعة والعلويني املهجرين وبع�ض‬ ‫الأقليات �إىل مناطق �آمنة لهم يف جنوب العراق و�إيران كما ميكن ا�ستيعاب ق�سم كبري من الأقلية‬ ‫ال�شيعية (التي �سيزداد ا�ضطهادها) يف �أفغان�ستان وباك�ستان‪� ...‬إ�ضافة �إىل َمن يرغب من �شيعة العامل‪.‬‬ ‫�إيران بعد ‪� 10‬أو ‪� 20‬سنة م�ستقب ًال قد تكون غريها اليوم‪ .‬ف�شلت حماوالت التغيري يف �إيران‬ ‫دخو ًال من الباب الرئي�سي‪ :‬ا�ستكماال الجتياح العراق العام ‪� 2003‬أو ق�صف النووي‪ ،‬فهل ينجح‬ ‫الدخول من الباب اخللفي؟ هل تكون �إيران الهدف التايل عرب تركيا بعد �سوريا والعراق؟ �أمل‬ ‫تبد�أ �أحداث هذين البلدين بتظاهرات مكثفة تطالب بـ «احلرية» و «حماربة الف�ساد» و «�إ�سقاط‬ ‫النظام» ثم تلتها الع�سكرة؟ ف�شلت املحاولة الأوىل لتفعيل التظاهرات الوا�سعة �إىل حراك �شامل‬ ‫�أثناء انتخابات الرئا�سة العام ‪ .2009‬لكن تهيئة الأجواء للحراك التايل مل تتوقف يف زمن الهدوء‬ ‫اخلادع واملفاو�ضات «املط ْمئِنة» ورمبا تنتظر الإ�شارة ب�أن حت�ضريات الع�سكرة باتت جاهزة!ال�ضغط‬ ‫االقت�صادي على �أ�شُ َّده و تدريب جماهدي خلق وتنظيمات �أخرى مل يتوقف‪ :‬ابتد�أ على نطاق‬ ‫‪70‬‬


‫فكــــــر‬

‫وا�سع يف العراق �أثناء االحتالل الأمريكي وتوزع على مناطق عدة من دول الفلك الأمريكي‬ ‫بعد رحيل االحتالل العام ‪ ،2012‬مع متو�ضع كبري يف تركيا وباك�ستان‪� .‬إيران التي تنا�سب امل�شروع‬ ‫اال�سرتاتيجي الطائفي تكون �أكرث ُّ‬ ‫جتذراً يف «�شيعيتها» والهدف هو �إي�صالها بالتدريج �إىل هذا‬ ‫التمو�ضع عرب �أحداث وح�شية متتالية عنوانها الفتنة ال�سنية ‪ -‬ال�شيعية‪.‬‬ ‫العقل ال�شيطاين الذي يبني هذا ال�سيناريو‪ ،‬يفرت�ض �أن التوزع اجلغرايف وال�سكاين اجلديد ي�ؤمن و�ضعاً‬ ‫�أكرث ا�ستقراراً ملنطقة ال�شرق الأو�سط‪ ،‬وحتى مناطق �أخرى من العامل؛ يف الإطار الأ�سا�س املتمثل ب�إن�شاء‬ ‫ودميومة دولة �إ�سرائيل الكربى‪ .‬هذه الكيانات الطائفية الثالث لن يحتاج �أي منها �إىل �إلغاء الآخر‪ ،‬البل‬ ‫يكون لكل منها من التجان�س الطائفي الداخلي واملوارد الطبيعية والب�شرية ما يعزز �سعيها لعدم الإخالل‬ ‫بالو�ضع امل�ستحدث‪ ،‬و�أن تقبل به و�إن على م�ض�ض يف البدء‪ ،‬ومع الوقت‪ ،‬تتقبله وتعمل على دميومته‪.‬‬ ‫بالطبع هناك مناطق عدة مرتوك م�صريها النهائي ومتو�ضعها يف �إطار التوزع الطائفي املتبلور عرب‬ ‫ال�سنني‪ .‬احلدود النهائية قد تتطلب �سنوات طويلة حل�سمها وتكون نتيج ًة للمناو�شات الع�سكرية‬ ‫بني املكونات الطائفية النا�شئة‪� ،‬إمنا تكون حم�صورة يف مناطق التما�س على الأطراف من دون‬ ‫امل�سا�س بالهيكل اجلغرايف الأ�سا�سي لتلك املكونات‪ .‬منطقة اخلليج و�أجزاء من كرد�ستان وو�سط‬ ‫العراق وبع�ض اجلزء ال�شمايل والغربي من �سوريا هي مثال لتلك املناطق‪.‬‬ ‫حتقيق هذا ال�سيناريو يتطلب توفري الظروف امل�ؤاتية لتبلوره وجناحه �أمنيا و�سيا�سيا و�إعالميا وب�شريا‪:‬‬ ‫�إبقاء املنطقة كلها يف حالة من الغليان‪ ،‬قد تكون على مراحل تتخللها فرتات من الهدوء‪ ،‬كي‬ ‫ي�سهل الدفع باجتاه املتغريات اجلغرافية وال�سكانية املطلوبة عند ن�ضوج التوقيت املنا�سب‪.‬‬ ‫ال�سيطرة الأ�سا�سية يف �ضبط الإيقاع الرئي�سي هو للمخابرات الأمريكية‪ ،‬الغربية والإ�سرائيلية‪،‬‬ ‫والتي تقوم بتوزيع الأدوار التف�صيلية على م�ستوى املناطق للمكونات اال�ستخبارية التابعة واملتعاونة‬ ‫فع ًال �أو حتييداً‪ ،‬والتي تتوىل بدورها توزيع املهام التنفيذية بوا�سطة عمالئها وو�سطائها على الأر�ض‪.‬‬ ‫ا�ستخدام �أجواء «مكافحة الإرهاب» ل�ضبط �إيقاع عمل التنظيمات الإرهابية التي ُت�ستخدم يف‬ ‫�إبقاء حالة «الفو�ضى اخل ّالقة» قائمة‪ .‬يتم تفعيل وت�سهيل هذا الإرهاب يف املوا�ضع املطلوب تدمري‬ ‫بنيتها اجلغرافية وال�سكانية‪ ،‬يف حني يتم حماربة هذه التنظيمات الإرهابية نف�سها يف موا�ضع منتقاة‬ ‫ل�ضبط حراكها ومنا�سبته لظروف ومتطلبات كل مرحلة‪ ،‬وللتعمية على الدور احلقيقي للمحرك‬ ‫الرئي�سي يف �إن�شائها وت�سهيل مهامها‪.‬‬ ‫المكان لن�ش�أة كيانات عرقية مثل كرد�ستان �أو كيان طائفي هام�شي مثل كيان م�سيحي �أو علوي �أو‬ ‫درزي‪ .‬هذه املكونات الثانوية قد يتم تفعيلها وا�ستخدامها يف بع�ض املناطق واملراحل ب�شكل م�ؤقت قد‬ ‫يدوم ل�سنوات‪ ،‬لكن لن ي�سمح لها بتكوين وجود م�ستقل دائم لها‪ ،‬البل �سيتم يف الوقت املنا�سب ت�أمني‬ ‫‪71‬‬


‫�إخ�ضاعها �أو احتوائها �ضمن املكونات الطائفية الرئي�سية الثالث �أو ا�ستيعابها يف الغرب كمهجرين‪.‬‬ ‫اخلداع هو الأ�سلوب الأ�سا�س الذي ي�ستخدمه املخططون اال�سرتاتيجيون يف هذه املرحلة بحيث‬ ‫يتم دعم وا�ستخدام مكونات م�سلحة ت�ستميت لتحقيق �أهداف مو�ضعية‪� ،‬إ ّما مبا�شرة �أو من‬ ‫عدة ال�شغل متنوعة‪ :‬خلق حاالت �إن�سانية هائلة ثم التدخل حللها وم�ساعدتها‪،‬‬ ‫خالل و�سطاء‪ّ .‬‬ ‫�أو ا�ستخدام مواد حمرمة و�إلبا�س التهمة للطرف املنوي �إخ�ضاعه‪� ،‬أو تفعيل �ضغوط اقت�صادية �أو‬ ‫مالية �أو �أمنية حتى مع و�سطائهم لدفعهم للتعاون غري املحدود‪� .‬إنَّ ا�ستخدام املتطرفني العقائديني‬ ‫ين�صب نف�سه قا�ضياً وحكماً ومتربعاً ومنقذاً و�شريكاً‪...‬‬ ‫عرب الو�سطاء والوكالء ي�سمح للج ّالد �أن ِّ‬ ‫والهدف هو �أن يكون و�صياً على مايتحقق يف كل مرحلة‪.‬‬ ‫اال�ستخدام اخل َّالق للإعالم بهدف �صناعة البيئة الفكرية وال�شعبية واالجتماعية املالئمة‬ ‫لأهدافه‪ .‬املطلوب هو حتويل الأنظار عن ال�صراع الأ�سا�س وتوجيهها �إىل �صراعات �أخرى من‬ ‫�صناعته وت�أليفه‪ ،‬وت�شويه �صورة و�سمعة من ميار�س ا�سرتاتيجيات م�ضادة قد تعيق �أو تهزم توجهاته‪.‬‬ ‫اخلطوات التي �أجنزت نحو حتقيق هذا ال�سيناريو حتى اليوم تبدو كثرية ومتقدمة‪ .‬لكن هذا امل�شروع‬ ‫�أ�صيب بانتكا�سات هامة يف ال�سنوات الـ ‪ 15‬املا�ضية‪ .‬ال�سري بثبات وقوة يف امل�سار اال�سرتاتيجي‬ ‫امل�ضاد الذي �أجنز هذه االنتكا�سات‪ ،‬من �ش�أنه �أن يعك�س التيار ويهزم حلقات متتالية م�ستقبلية من‬ ‫امل�شروع‪ ،‬ما قد يلغيه؛ البل وي�ؤ�س�س لربوز م�شروع م�ضاد نه�ضوي‪ ،‬قد يغيرِّ جغرافيا املنطقة وتاريخها‪.‬‬ ‫هذا ال�سيناريو لي�س حكماً حمتوماً‪ .‬لكن هزميته الميكن �أن ت�أتي من اخلارج‪ ،‬بل من قوى داخلية‬ ‫ترتقي �إىل م�ستوى املواجهة‪ ،‬متجذرة يف �شعبها وتت�سلح بالعدة الفكرية والتنظيمية والع�سكرية‬ ‫التي ِّمتكنها من التفوق على املقدرات الهائلة املوظفة لإجناز هذا امل�شروع الطائفي على مدى‬ ‫العقود الآتية من تاريخ املنطقة‪.‬‬ ‫�أين جنح م�شروع الدول الطائفية الثالث و�أين ف�شل؟ وما هي العوامل التي يحملها يف رحمه‪،‬‬ ‫التي ميكن �أن تعيق منوه والق�ضاء على �إمكانية والدة ُد َولِه امل�شوهة �إن�سانياً‪ ،‬على جماجم و م�آ�سي‬ ‫ع�شرات املاليني من �أبناء املنطقة؟‬ ‫�إقر�أ للكاتب‪:‬‬ ‫‪http://www.khabaronline.com/PAD.aspx?Id=4260‬‬ ‫‪http://www.khabaronline.com/PAD.aspx?Id=4278‬‬ ‫‪http://www.khabaronline.com/PAD.aspx?Id=4350‬‬ ‫‪http://newspaper.annahar.com/article/186979-‬‬

‫ال�شرق‪-‬الأو�سط‪-‬اجلديد‪-‬ثالث‪-‬دول‪-‬طائفية‬ ‫‪72‬‬


‫التغيري عرب التف�سري‬

‫فـكــــــــر‬

‫الدين والدولة بني الو�صل والف�صل واملطابقة واملراوحة‬

‫‪1‬‬

‫حيدر حاج �إ�سماعيل ‪ -‬باحث و�أكادميي‬ ‫يبدو �أن ثمة فراغًا عقائديًا وا�سعًا موجودًا يف طول العامل العربي وعر�ضه دفع �شعوبه �إىل العودة �إىل‬ ‫دفرت احل�سابات العقيدية القدمية عموماً والكتب العقيدية الدينية على وجه اخل�صو�ص مللئه‪ ،‬بغية‬ ‫�صد امل�ؤامرات الأجنبية الع�سكرية منها والفكرية!‬ ‫توحيد ال�صفوف وخلق اجلبهات القادرة على ّ‬ ‫لن نخ ِّو�ض‪ ،‬يف بحثنا احلايل‪ ،‬يف م�س�ألة حتليل �أ�سباب وظروف ذلك الفراغ العقيدي املخيف حقًا‪،‬‬ ‫ن�سجل الإ�شارات الآتية التي ت�صلح �أن تعتمد‪ ،‬هي وغريها‪ ،‬يف بحث خا�ص يف‬ ‫لكننا نكتفي ب�أن ّ‬ ‫امل�ستقبل‪:‬‬ ‫ �سقوط جميع اجلبهات الع�سكرية وال�سيا�سية والإعالمية يف احلرب مع العدو ال�صهيوين ممثلاً‬‫بدولته االغت�صابية لفل�سطني‪�« ،‬إ�سرائيل»‪ .‬وما جنم عن تلك الهزائم من زعزعة يف الثقة وخلخلة‬ ‫�أي �أمل بقدرة الب�شر على حتقيق الفوز املبني‪.‬‬ ‫ ف�شل الأنظمة ال�سيا�سية يف العامل العربي يف براجمها االقت�صادية وظهور �أفواج وا�سعة من‬‫العاطلني عن العمل والفقراء‪ .‬والفقر م ّلة واحدة‪.‬‬ ‫‪ 1‬املق�صود بالو�صل مفهوم حركة الإخوان امل�سلمني مث ًال‪ ،‬والف�صل املفهوم العلماين للدولة واملطابقة اعتبار‬ ‫الدين هو الدولة والدولة هي الدين‪ ،‬و�أو�ضح ما جت ّلى ذلك عند الع ّالمة حممد ح�سني ف�ضل اهلل (رحمه‬ ‫اهلل)‪ ،‬وهذه �شهادته التي ذكرها يف مقابلة �أجرتها معه جريدة «اخلليج» ون�شرت يف ‪ .2013/6/28‬ي�صف‬ ‫ال�شيخ العالقة بني الدين وال�سيا�سة مب�ستوى عالقة املطابقة‪ .‬يقول‪�« :‬إن م�سالة الف�صل بني ال�سيا�سة‬ ‫والدين ت�شبه م�س�ألة ان تف�صل ال�شيء عن ذاته �أو �أن تف�صله عن عمقه»‪ .‬ومعنى ذلك وا�ضح‪ ،‬فهو يرف�ض‬ ‫مبد�أ العلمانية القا�ضي بف�صل الدين عن الدولة‪ ،‬وهو‪ ،‬وب�صراحة جميلة‪ ،‬يربط بني الدين وال�سيا�سة ربطاً‬ ‫قوياً‪ ،‬جوهرياً‪ ،‬مفيداً �أنّ وجود الدين وجود ال�سيا�سة وعدمه عدمها‪.‬‬ ‫ ولكي يثبت ال�شيخ ال�سيد فكرته‪ ،‬يذكر ما ي�أتي‪« :‬لأن املفهوم القر�آين للهدف الأ�سا�سي من الر�ساالت‬ ‫حددته الآية الكرمية التي تقول‪« :‬ليقوم النا�س بالق�سط»‪ .‬ومي�ضي �شارحاً فيقول‪« :‬معنى ذلك �أن �إر�سال‬ ‫ّ‬ ‫الر�سل و�إنزال الكتب كان من �أجل مهمة �أ�سا�سية يف حياة النا�س لأنها تت�صل بطبيعة احلكم يف �أي‬ ‫حجة العدل‪ .‬وك�أين به قائ ًال‪ :‬مبا �أن العدل �أ�سا�س‬ ‫احلجة التي يقدمها ال�س ّيد هي ّ‬ ‫موقع من املواقع»‪� .‬إذاً‪ّ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫املُ ْلك‪ ،‬والقر�آن ي�أمر بالعدل‪� ،‬إذاً هو ي�أمر بامللك �أو الدولة‪.‬‬ ‫‪73‬‬


‫ ‪-‬‬ ‫ ‬‫ ‪-‬‬ ‫‪ -‬‬

‫انهيار الأنظمة اال�شرتاكية يف العامل بانهيار االحتاد ال�سوفياتي‪.‬‬ ‫جناح التجربة الإيرانية الدينية‪.‬‬ ‫الأموال الكبرية التي ت�صرفها بع�ض الدول العربية وغريها على بع�ض التيارات وامل�ؤ�س�سات الدينية‪.‬‬ ‫ال�ضعف الن�سبي للحركات العلمانية يف املنطقة العربية‪ ،‬على ال�صعيد ال�شعبي‪.‬‬

‫تلك الأ�سباب والظروف �أفقدت النا�س الإميان بقدرة الأر�ض و�أهلها على الإنقاذ فاجتهت العقول‪،‬‬ ‫كما يبدو‪ ،‬نحو ال�سماء وكتب ال�سماء‪ .‬ف�صرنا جند احلركات الأ�صول ّية يدها الأقوى يف طول العامل‬ ‫العربي وعر�ضه‪.‬‬ ‫فعل لي�س له مقومات للثبات يف ع�صر �صارت‬ ‫نحن نعتقد‪� ،‬أن تلك احلركات لي�ست �سوى ر ّد ٍ‬ ‫اجلبهات فيه جبهات �أمم ولي�ست جبهات �أديان وال�صراع فيه �أ�صبح �صراع م�صالح قومية ولي�س‬ ‫�صراع م�ؤمنني �ضد كافرين‪.‬‬ ‫هذه احلقيقة الع�صرية مل تقدر احلركات الأ�صولية على التنكر لها‪ ،‬لكنها‪ ،‬بالن�سبة �إليها‪ ،‬مازالت‬ ‫مظه ًرا ولي�ست اجلوهر‪ .‬من هنا اعتقادنا بعدم قدرة تلك احلركات على البقاء �إال �إذا حت ّولت �إىل‬ ‫حركات قومية ع�صرية من طراز ممتاز وهو الأمر امل�ستحيل يف نظرنا‪.‬‬ ‫مع ذلك‪ ،‬مع كل الذي ذكرناه‪ ،‬نرى ان مو�ضوع الدولة الدينية مطروح يف هذه الأيام بقوة حتى‬ ‫يف املجتمعات التي ال يتمتع �أفرادها بتجان�س مذهبي مثل جمتمعنا ال�سوري يف الهالل اخل�صيب‪.‬‬ ‫و�إذا كان املجتمع املتجان�س مذهب ًيا‪ ،‬يف قطر من الأقطار‪ ،‬ال ي�ض ّره كث ًريا العزف على وتر الدولة‬ ‫الدينية �أو حتى �إقامتها ف�إن املجتمع املتعدد املذاهب يق�سمه منطق الدولة الدينية �ش ّر ق�سم ٍة ويبعرث‬ ‫قواه ويرتكه لقمة �سائغة للإرادات الأجنبية اال�ستعمارية الطامعة‪ .‬واحلق ُيقال‪� ،‬إن للدولة الدينية‬ ‫خا�صا له عجائب �سبع نذكرها يف ما ي�أتي‪:‬‬ ‫منطقًا ً‬ ‫‪� 1‬إذا كانت الدولة الدينية حقًا‪ ،‬ف�إن كل جماعة دينية لها احلق ب�إقامة دولتها اخلا�صة بها‪ .‬وهكذا‬ ‫تكون النتيجة �إقامة دولة دينية �سن ّية ودولة دينية �شيع ّية ودولة دينية درزية ودولة دينية علو ّية‬ ‫ودولة دينية مارونية ودولة دينية �أرثوذك�سية الخ‪ .‬يف املجتمع املتعدد املذاهب‪ .‬وتكون النتيجة‬ ‫الأخرية تفتيت املجتمع وزجه يف حروب دينية مما يعني انهياره الكلي وانعدامه‪.‬‬ ‫‪ 2‬ومنطق الدولة الدينية يفيد �أي�ضً ا ما ي�أتي‪ :‬مبا �أن لكل جماعة دينية احلق يف �إقامة دولتها الدينية‬ ‫امل�ستقبل ّية‪ .‬ومبا �أن اليهود جماعة دينية‪� .‬إذن يحق لليهود �إقامة دولتهم الدينية امل�ستقلة! وهذا‬ ‫معناه �أن منطق الدولة الدينية �سيقود �أ�صحابه �إىل االعرتاف «بدولة �إ�سرائيل»‪ ،‬دولة االغت�صاب‬ ‫ال�صهيوين لفل�سطني واملحتلة جزءاً من جنوب لبنان واجلوالن!‬ ‫‪74‬‬


‫فكــــــر‬

‫حمدد‬ ‫ ‪ 3‬ومن عجائب الدولة الدينية �إ ّدعاء �أهلها ب�أن الدولة لها �سيادة على � ٍ‬ ‫أر�ض معينة �أو قطر َّ‬ ‫تزعم �أنها متلكه‪ ،‬و�أن ال �إرادة �إ ّال �إرادتها فاعلة فيه‪ .‬يف حني �أن الدين يقول ب�أن امللك هو ملك‬ ‫اهلل وحده و�أن ال �شريك لإرادته يف الدنيا والآخرة‪.‬‬ ‫‪ 4‬والدولة الدينية‪� ،‬إذا وجدت‪ ،‬يجب �أن تكون مثل الدين‪ .‬ف�إذا كان الدين للعاملني �أو عامل ًيا‪،‬‬ ‫فيجب �أن تكون الدولة الدينية عاملية‪ .‬لذلك ف�إن كل دعوة لدولة دينية حمددة يف قطر معني‬ ‫ما هو �إ ّال تف�صيل للمنطق الديني على غري مبدئه العاملي‪.‬‬ ‫‪� 5‬إنَّ الدولة الدينية من �صنع الب�شر‪ .‬فهناك يف تاريخ الإ�سالم املحمدي‪ ،‬على �سبيل املثال‪ ،‬دولة‬ ‫اخللفاء الرا�شدين‪ ،‬وهناك دولة الأمويني‪ ،‬ودولة الع ّبا�سيني‪ ،‬ودولة الفاطميني‪ ،‬ودولة العثمانيني‬ ‫ودالت (زالت)‬ ‫وغريهم‪ .‬مع ذلك ّيدعي ا�صحاب الدولة الدينية �أن تلك الدول التي قامت ْ‬ ‫هي من �صنع اهلل!‬ ‫املقد�سة‪ ،‬يف حني �أن معارف تلك‬ ‫‪ 6‬ثم‪ ،‬الدولة الدينية يريد دعاتها �أن ي� ّؤ�س�سوها على الكتب ّ‬ ‫الكتب روح ّية وتهذيب ّية وت�شريعها مدين ولي�س �سيا�س ًّيا‪.‬‬ ‫‪ 7‬والدولة الدينية هي عرب ّية عند العرب وغري عرب ّية عند غري العرب‪ .‬لذلك جندها تنتج خالفًا‬ ‫يف حني ان الدين جوهره الوفاق‪.‬‬ ‫نح�صل النتائج الآتية‪:‬‬ ‫من كل ما تقدم ّ‬ ‫ �إن تطبيق نظرية الدولة الدينية يف جمتمعنا ال�سوري يف الهالل ال�سوري اخل�صيب جرمية يجب‬‫منع تنفيذها‪.‬‬ ‫ �إن دعاة الدولة الدينية يدعمون من حيث يدرون �أو ال يدرون بقاء الدولة ال�صهيونية «�إ�سرائيل»‪.‬‬‫ �إن رجال الدين يف الدولة الدينية مهما بلغوا من «العلوم الدينية» ال يقدرون على ال�سيا�سة‬‫واالقت�صاد واال�سرتاتيجيات والتكنولوجيا املتقدمة و�ش ّتى فنون الإرادة واملحا�سبة والإح�صاء‬ ‫والتخطيط العلمي امل�ستقبلي‪ ،‬وغريها من متطلبات الدولة احلديثة‪ .‬لذلك يجب الف�صل بني‬ ‫التدخل يف �ش�ؤون ال�سيا�سة القومية والق�ضاء القومي‬ ‫الدين والدولة‪ ،‬ومنع رجال الدين من ّ‬ ‫اللذين يجهلونهما وال يقعان يف دائرة اخت�صا�صهم‪.‬‬ ‫�سعاده والدين‬

‫يف خامتة الف�صل ال�ساد�س من كتاب‪ :‬ن�شوء الأمم‪ ،‬يقول �سعاده‪� ،‬إن القومية هي الدين االجتماعي‬ ‫اجلديد الذي �أ�صبح �أ�سا�س الدولة احلديثة‪ .‬هذا بال�ضبط قول �سعاده‪:‬‬ ‫‪75‬‬


‫«عند هذا احلد نقف يف ا�ستعرا�ضنا ن�شوء الدولة وتطورها لننتقل �إىل در�س الأمة والقوم ّية لنعرف‬ ‫املتحد االجتماعي و�أهميته التي �أ�صبحت دين الب�شرية يف الع�صور احلديثة ّ‬ ‫وغطت‬ ‫حقيقة هذا َّ‬ ‫‪2‬‬ ‫�شخ�صيتها القوية الف ّعالة على �شخ�صية الدولة‪.‬‬ ‫ال�س�ؤال الذي ين�ش�أ الآن هو الآتي‪ :‬هل يق�صد �سعاده بالدين اجلديد ان يكون بديلاً عن الأديان‬ ‫ال�سماوية؟‬ ‫اجلواب هو النفي‪ .‬ففي ر�سائله �إىل غ�سان تويني املن�شورة يف كتاب «�شروح يف العقيدة» ويف كتاب‬ ‫يحدد �سعاده الدين ب�أغرا�ض ثالثة هي‪:‬‬ ‫«الإ�سالم يف ر�سالتيه» ِّ‬ ‫‪� 1‬إحالل االعتقاد باهلل حمل عبادة الأ�صنام‪.‬‬ ‫‪ 2‬فر�ض عمل اخلري وجتنب ال�ش ّر‪.‬‬ ‫‪3‬‬ ‫‪ 3‬تقرير خلود النف�س والعقاب والثواب (احل�شر)‪.‬‬ ‫املعنى الوا�ضح لهذا التهديد للدين هو �إخراجه من دائرة االجتماع وال�سيا�سة‪ .‬الدين يف قراءة‬ ‫�سعاده له هو �صفة الفرد ولي�س �صفة الدولة �أو الأمة‪.‬‬ ‫الفكرة عن الدين التي يبدو فيها الدين �ش�أنًا فرد ًيا خ�صو�ص ًيا ي�ؤكدها �سعاده يف ر�سالته الثانية‬ ‫�إىل غ�سان تويني‪ .‬يقول �سعاده‪ ،‬وهو كان يف معر�ض مناق�شة و�ضع فخري معلوف الذي انقلب‬ ‫متع�ص ًبا‪ ،‬ما ي�أتي‪:‬‬ ‫كاثوليك ًيا ِّ‬ ‫علي املواقف والنظريات فر�ضً ا‪ ،‬وال ر�أيت الفر�صة منا�سبة لرتك متابعة‬ ‫«فلم يرقْ يل �أن تفر�ض ّ‬ ‫ق�ضايا نه�ضتنا القومية االجتماعية وم�سائل حركتنا ال�سيا�سية واالقت�صادية واحلقوقية والإدارية‬ ‫وغريها واخلو�ض يف ق�ضايا الهوتية قررنا �أنها من �ش�ؤون الوجدان الفردي اخلا�ص التي يجب �أن ال‬ ‫‪4‬‬ ‫تثري و�أن ال ن�سمح ب�أن تثري ق�ضية اجتماعية �سيا�سية»‪.‬‬ ‫حمد ًدا مبد�أً منهج ًيا يف النظر �إىل الأمور‪ ،‬فيقول‪« :‬ال ميكننا ونحن نبغي ال�صحيح‬ ‫ثم ي�ضيف �سعاده ّ‬ ‫�أن ننظر �إىل الدين مبنظار �سيا�سي وال �إىل ال�سيا�سة مبنظار ديني‪ .‬يح�سن �أن يكون الإن�سان م�ؤم ًنا يف‬ ‫الدين وال يح�سن �أن يكون م�ؤم ًنا يف ال�سيا�سة»‪.‬‬ ‫وبالن�سبة �إىل حر ّية االعتقاد تكون امل�س�ألة وا�ضحة كالب ّلور عندما يذكر �سعاده لغ�سان تويني مقط ًعا‬ ‫من ر�سالة جواب ّية كان قد �أر�سلها �إىل فخري معلوف � ّأكد فيها على مبد�أ حرية االعتقاد الديني‬ ‫‪� 2‬سعاده‪� ،‬أنطون‪ .‬الآثار الكاملة ‪ ،1‬ن�شوء الأمم‪� ،‬ص ‪.131‬‬ ‫‪� 3‬سل�سلة النظام اجلديد‪ :5 ،‬الإ�سالم يف ر�سالتيه امل�سيحية واملحمدية‪� ،‬ص ‪111‬و �ص ‪.168‬‬ ‫‪ 4‬كتاب «�شروح يف العقيدة» �ص ‪.38‬‬ ‫‪76‬‬


‫فكــــــر‬

‫وحرية التعبري عنها بالكتابة والن�شر‪ ،‬يقول �سعاده‪:‬‬ ‫«وال تن�سوا �أي�ضً ا �أن احلزب مل مينع �أح ًدا قط �إظهار معتقداته الفل�سفية من �أي نوع كانت يف كتاباته‪،‬‬ ‫فيمكنكم �أن تن�شروا �أفكاركم وا�ستنتاجاتكم يف اخللق والن�شر واحل�شر واحل�ساب وليوافقكم على‬ ‫‪5‬‬ ‫ذلك من �شاء وليخالفكم من �شاء»‪.‬‬ ‫خال�صة ا�ستقرائنا هي يف �أن �سعاده ح�صر الدين يف امل�سائل الغيب ّية فدائرته هناك ويجب �أن‬ ‫تبقى هناك‪� .‬أما ال�ش�ؤون االجتماعية وال�سيا�سية واالقت�صادية واحلقوقية والق�ضائية للدولة القومية‬ ‫االجتماعية فهي من اخت�صا�ص هذه الدولة ال غريها‪ .‬يقول يف هذا ال�صدد‪:‬‬ ‫«�ضمنت العقيدة القومية االجتماعية جلميع �أفراد امل َّتحد و�أع�ضاء الدولة القومية االجتماعية حرية‬ ‫حد العقيدة القومية االجتماعية وحرية ال�ضمري واجلهر باملعتقدات ب�شرط‬ ‫االعتقاد اخلارج عن ّ‬ ‫املحافظة على وحدة الأمة والدولة وعلى النظام الذي متّم به �إرادة الأمة وغر�ض الدولة‪ ،‬وحرية‬ ‫العمل االجتماعي ملمار�سة طقو�س املعتقدات املتعلقة مبا وراء املادة ب�شرط ان تلزم هذه الأعمال‬ ‫تتعدى تلك احلدود �إىل ما هو من �ش�ؤون الدولة االجتماعية‬ ‫حدودها وال يكون غبار على �أنها ال ّ‬ ‫وال�سيا�سية واالقت�صادية واحلقوقية والق�ضائية و�إىل القول بحرمان �أع�ضاء الدولة و�أفراد املجتمع‬ ‫الذين هم من معتقد خمالف من حقوقهم املدنية وال�سيا�سية‪ ،‬و�إىل حماولة فر�ض �أ�شكال �سيا�سية‬ ‫‪6‬‬ ‫خ�صو�صية للدولة و�شروط خ�صو�صية لنظامها ال�سيا�سي»‪.‬‬ ‫ويعود �سعاده �إىل حتديد الدين حتدي ًدا مقارنًا لتحديده له يف كتاب «الإ�سالم يف ر�سالتيه» فيقول يف‬ ‫الر�سالة الثانية نف�سها لغ�سان تويني‪:‬‬ ‫�ضد املبادئ القومية االجتماعية‬ ‫التو�سع �أن يرى فخري معلوف �أنه ي�سري ّ‬ ‫«الق�صد من كل هذا ّ‬ ‫و�ضد قواعد دينية مقررة ب�إثارته خالفًا ال م ّربر له وال داعي عليه بني العقيدة القومية االجتماعية‬ ‫التي مل تتع ّر�ض للدين وعقائده والعقائد الدينية غر�ضها خلود النف�س بعد ارحتالها عن هذه الدنيا‬ ‫‪7‬‬ ‫يف مقامني خمتلفني‪ :‬مقام النعيم ومقام اجلحيم»‪.‬‬ ‫هذا بالن�سبة لر�أي �سعاده يف الدين‪.‬‬

‫‪ 5‬املرجع ال�سابق نف�سه‪� ،‬ص ‪.39-38‬‬ ‫‪ 6‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.47‬‬ ‫‪ 7‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.49‬‬ ‫‪77‬‬


‫�سعاده والدولة الدينية‬

‫بالن�سبة للدولة الدينية عمو ًما‪ ،‬نقول‪ ،‬منذ البداية‪� ،‬إن �سعاده يعتربها «�أعظم عقبة يف �سبيل حتقيق‬ ‫وحدتنا القومية»‪ .‬فاملجتمع املتعدد املذاهب كمجتمعنا �سيكون م�صريه التمزق فاالنهيار �إذا ما‬ ‫‪8‬‬ ‫اعتمد مبد�أ الدولة الدينية‪ .‬فال القومية وال الدولة القومية تت�أ�س�سان على الدين‪.‬‬ ‫بالن�سبة للدولة الدينية الإ�سالمية املحمدية على وجه اخل�صو�ص‪ ،‬يحدد �سعاده موقفه بقوله‪� ،‬إنها‬ ‫كانت وا�سطة الدين ولي�ست غايته و�إن دورها انتهى بتحقيق الدين‪ ،‬يقول‪:‬‬ ‫«وملا كان ق�صد ر�سالة حممد الدين ولي�س ال�سيا�سة �أو فل�سفة االجتماع التي ترتقي بالعلوم‬ ‫االجتماعية فال ّبد من الت�سليم ب�أن الدولة هي الوا�سطة للدين الذي هو الغاية‪ ،‬و�إن قيمتها ال‬ ‫ميكن �أن تكون‪ ،‬من الوجهة الدينية‪ ،‬اكرث من قيمة وا�سطة‪ .‬وبنا ًء عليه تكون الدولة ال�شيء الثانوي‬ ‫‪9‬‬ ‫القابل الزوال عندما ال تبقى حاجة �إليه �ش�أن كل �آل ٍة �أو وا�سط ٍة �أ ّدت الغر�ض من وجودها»‪.‬‬ ‫�سائل‪ :‬ما دام �سعاده يق ّر بوجود دولة �إ�سالمية حممدية‪� ،‬ألي�س يعني ذلك �إقرا ًرا منه بوجود‬ ‫ورب ٍ‬ ‫ّ‬ ‫دولة �إ�سالمية حممدية‪� ،‬ألي�س يعني ذلك �إقرا ًرا منه بوجود د�ستور قر�آين لها؟‬ ‫اجلواب هو النفي‪ .‬ففي كتاب ن�شوء الأمم يقول �سعاده الكالم الآتي الوا�ضح الذي ال جمجمة‬ ‫‪10‬‬ ‫فيه‪« :‬مل يرتك حممد د�ستو ًرا للدولة‪ ،‬فهو قد �أ ّمت الدين ولكنه ترك الدولة تهتم مب�صريها»‪.‬‬ ‫لذلك ف�إن دولة حممد مل تكن دولة باملعنى ال�سيا�سي الد�ستوري الدقيق‪ ،‬و�إمنا مبعنى ب�سيط هو‬ ‫معنى القوة القادرة‪ .‬و�سعاده يكمل وجهة النظر هذه يف امل�صدر نف�سه عندما يقول‪�« :‬إن الف�ضل‬ ‫يف �إيجاد االجتاه ال�سيا�سي الدنيوي يف الدولة الإ�سالمية يعود �إىل الدولة الإ�سالمية ال�سورية‬ ‫‪11‬‬ ‫الأموية»‪.‬‬ ‫ويقول قامت الدولة الأول ّية على مبد�أ القوة الفيزيائية والدولة التاريخية كان �أ�سا�سها امللك‬ ‫والدين بالإ�ضافة �إىل القوة الفيزيائية و�أما الدولة احلديثة فتقوم على مبد�أي القومية والدميقراطية‬ ‫املتجان�سني‪.‬‬ ‫يبق لها �سوى‬ ‫نخل�ص مما تقدم �إىل القول ب�أن �سعاده يرف�ض �إقامة دولة دينية لأن وظيفتها انتهت ومل َ‬ ‫القيمة املتخفية للدر�س ومعرفة تطور االجتماع الب�شري ولأن تطبيقها يف زماننا معناه االنق�سام‬ ‫تعدت وجود‬ ‫فاملوت االجتماعي‪ .‬هذا من جهة‪ .‬ومن جهة ثانية‪ ،‬لأن الدولة‪ ،‬مبعناها الع�صري‪َّ ،‬‬ ‫ ‬ ‫‪ 9‬‬ ‫‪8‬‬

‫ ‬ ‫‪1 1‬‬ ‫‪10‬‬

‫‪78‬‬

‫كتاب املبادئ‪ :‬املبد�أ الإ�صالحي الأول‪« :‬ف�صل الدين عن الدولة»‪.‬‬ ‫كتاب الإ�سالم يف ر�سالتيه‪� ،‬ص ‪.196‬‬ ‫ن�شوء الأمم‪� ،‬ص ‪.126‬‬ ‫املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪ 127‬ويف تق�سيمه للدولة يف الف�صل ال�ساد�س من كتاب ن�شوء الأمم‪.‬‬


‫فكــــــر‬

‫خليقة �أو �أمري على ر�أ�سها مع حا�شية‪� ،‬إىل �أن غدت م�ؤ�س�سات اخت�صا�صية يف �ش ّتى العلوم والفنون‪،‬‬ ‫بالإ�ضافة �إىل �صريورتها دميقراطية‪.‬‬ ‫�سعاده والدولة القومية االجتماعية‬

‫ما هو ت�ص ّور �سعاده للدولة الع�صرية؟‬ ‫�إن نظرية �سعاده يف الدولة الع�صرية نقع عليها يف مبادئ احلزب وعلى وجه التحديد يف املبادئ‬ ‫الإ�صالحية اخلم�سة والتي ت�شكل املادة الثالثة من د�ستور احلزب ال�سوري القومي االجتماعي‬ ‫الذي � ّأ�س�سه وهي‪:‬‬ ‫ ‪ 1‬مبد�أ «ف�صل الدين عن الدولة» وجوهره فكرة دنيوية الدولة القومية االجتماعية‪� ،‬أي ان مركزها‬ ‫الإن�سان ولي�س اهلل‪ .‬والإن�سان عند �سعاده هو الإن�سان ‪ -‬املجتمع القومي �أو الأمة‪.‬‬ ‫‪ 2‬مبد�أ «منع رجال الدين من التدخل يف �ش�ؤون ال�سيا�سة والق�ضاء القوميني» وجوهره اعتماد‬ ‫علمي ال�سيا�سة والق�ضاء مل�صلحة الأمة‪.‬‬ ‫ ‪ 3‬مبد�أ «�إزالة احلواجز بني خمتلف الطوائف واملذاهب» الذي جوهره امل�ساواة بني املواطنني‬ ‫واملواطنات‪ .‬وهو عالقته بعلم احلقوق‪.‬‬ ‫‪ 4‬مبد�أ «�إلغاء الإقطاع وتنظيم االقت�صاد القومي على �أ�سا�س الإنتاج و�صيانة م�صلحة الأمة‬ ‫والدولة»‪ .‬وجوهره العدل االجتماعي ‪ -‬االقت�صادي‪ .‬وعالقته بعلم االقت�صاد وعلم الإح�صاء‪.‬‬ ‫قوي يكون ذا قيمة فعلية يف تقرير م�صري الأمة والوطن» وجوهره الأمن‬ ‫ ‪ 5‬مبد�أ «�إعداد ٍ‬ ‫جي�ش ّ‬ ‫القومي وال�سالم االجتماعي و�ص ْون ال�سيادة القومية‪ .‬وهو له عالقة بعلم ال�سرتاتيجيا والدفاع‪.‬‬ ‫يطر�أ الآن ال�س�ؤال الآتي‪ :‬هل دولة �سعاده دولة علمانية؟ جنيب على هذا ال�س�ؤال بقولنا‪� ،‬إن �سعاده‬ ‫مل ي�ستخدم م�صطلح العلمانية لو�صف دولته‪ .‬مع ذلك‪ ،‬وملا كان هذا امل�صطلح قد �أ�صبح له رواج يف‬ ‫�أيامنا‪ ،‬ف�إننا نقول‪� ،‬إنه �إذا جاز ا�ستخدام هذا امل�صطلح ف�إنه ميكن القول ب�أن دولة �سعاده هي دولة َع ْلمانية‬ ‫(بفتح العني) وعِ ْلمانية (بك�سر العني)‪ .‬هي َع ْلمانية (بفتح العني) لأنها دولة دنيو ّية يف هذا العامل ومنه‬ ‫ولي�ست يف ال�سماء‪ .‬وهي عِ ْلمانية (بك�سر العني) لأنها ت�ستفيد من العلوم ب�أنواعها مل�صلحة الأمة‪.‬‬ ‫�أجل‪� ،‬إن دولة �سعاده القومية االجتماعية‪ ،‬علمان ّية مبعنيني هما غري متناق�ضني نعني معنى العامل �أو‬ ‫الدنيا ومعنى العلم �أو االخت�صا�ص‪ .‬من هنا علمانية دولة �سعاده �أغنى و�أ�شمل من علمانية الذين‬ ‫يقولون بف�صل الدين عن الدولة فقط‪.‬‬ ‫‪79‬‬


‫من املفيد‪ ،‬بعد �أن تكلمنا‪ ،‬عن ن�سبة الدين �إىل ال�سيا�سة �أن ن�شري �إىل فكرة الدكتور وجيه كوثراين‬ ‫حول هذه امل�س�ألة‪ .‬الدكتور كوثراين و�ضع الفكرة الآتية‪:‬‬ ‫«�إن الدين م�ستقل عن الدولة ويجب �أن يكون كذلك ولكنه غري منف�صل عن العمل ال�سيا�سي‬ ‫يف املجتمع‪� .‬إن ال�سيا�سة جزء من حقه وواجبه م ًعا‪ .‬وال ميكن للدين مبا يختزنه من قيم و�أخالقيات‬ ‫الن�ص والوعي اجلماعي واملقامات الروحية ان يتخ ّلى عن دوره املر�شد والواعظ‬ ‫�سلوكية عرب ّ‬ ‫‪12‬‬ ‫والإ�صالحي والثوري»‪.‬‬ ‫وا�ضح ان الدكتور كوثراين يرف�ض الف�صل بني ال�سيا�سي والديني «ف�إن ذلك لي�س مل�صلحة ال�شعب‬ ‫وال الأمة وال املجتمع �إنها مل�صلحة ديكتاتورية الدولة وحدها»‪ .‬وهو يت�ساءل حول م�صطلح العلمانية‬ ‫الذي يق�ضي بالف�صل بني الديني وال�سيا�سي‪ ،‬فيقول‪:‬‬ ‫«هل املق�صود بالف�صل هنا «الف�صل» باملعنى ال�سيا�سي اي ف�صل الدين عن العمل ال�سيا�سي‬ ‫وذلك يف �صيغة ف�صل بني املجتمع والدولة؟ حيث يعزل «الدين» يف املجتمع وي�صبح «ال�سيا�سي»‬ ‫حك ًرا على «العلمانية» يف الدولة والعمل ال�سيا�سي م ًعا‪ .‬فيحظر مثلاً على «العامل الديني» العمل‬ ‫يف ال�سيا�سة ومينع التعبري ال�سيا�سي ملظهر دين او موقف ديني وذلك بحجة هذا التق�سيم املفتعل‬ ‫للأدوار‪.‬‬ ‫وي�ضيف‪�« :‬إذا كان الأمر كذلك فامل�س�ألة تدعو لإعادة النظر يف املفهوم وامل�صطلح‪ .‬فامل�صطلح بهذا‬ ‫‪13‬‬ ‫املعنى هو متثل لتجربة تاريخية �أوروبية‪� ،‬أي لو�ضعية جزئية يف الزمان واملكان مل يثبت جناحها»‪.‬‬ ‫ويقول �أي�ضً ا‪« :‬الدولة حتتاج �إىل �أن تنف�صل عن الع�صبيات الطائفية ال عن الأديان مبا هي مثل ودعوات‬ ‫عدالة وم�ساواة وحرية وحمبة‪ .‬الدولة �أحوج ما تكون لال�ستدالل بهذه القيم واال�سرت�شاد بها»‪.‬‬ ‫�إن الدكتور كوثراين يقول بدمج املهمات ال�سيا�سية والدينية فت�صبح مكافحة الظلم واال�ستبداد‬ ‫مهمة �سيا�سية وواجباً دينياً يف الإ�سالم ومقاتلة مغت�صب الأر�ض واج ًبا جهاد ًيا ورف�ض الذل‬ ‫واخلنوع واال�ستطانة من موجبات عبادة اهلل الواحد لأن فيها �شر ًكا من وجهة النظر الدينية‪ .‬وهو‬ ‫يعتقد �أن هذه الأمور هي �أمور �سيا�سية داخلة يف �صلب الدين‪.‬‬ ‫والدكتور كوثراين �ضد العلمانية مبعنى ف�صل الدين عن الدولة التي يف ر�أيه «ت�ستلهم الأيديولوجيات‬ ‫الو�ضعية يف التاريخ العاملي احلديث من ليربالية وقومية ومارك�سية» لأنها �ألغت ما ي�سميه «التوازن»‬ ‫‪14‬‬ ‫بني املجتمع والدولة‪ .‬فالدولة العلمانية طاغية وم�ستبدة يف مذهبه‪.‬‬ ‫‪ 12‬املركز العربي للمعلومات‪« ،‬الدولة بني العلمانية والدين»‪ ،‬جريدة ال�سفري‪.1984/9/5 ،‬‬ ‫‪ 1 3‬املرجع ال�سابق‪.‬‬ ‫‪ 1 4‬ال�سفري‪.1984/9/4 :‬‬ ‫‪80‬‬


‫فكــــــر‬

‫مالحظاتنا على �أفكار الدكتور كوثراين هي‪:‬‬ ‫‪� 1‬أنه يخطئ عندما يعترب الدين مرادفًا �أو حمايثًا للمجتمع وذلك عندما ير�سم �أن ف�صل الدين‬ ‫ويحد من‬ ‫عن الدولة معناه ف�صل املجتمع عن الدولة ك�أمنا املجتمع ال يقدر �أن يوازن الدولة ّ‬ ‫�سلطتها ويكبح جموحها ومينع ا�ستبدادها �إال �إذا كان جمتم ًعا دين ًيا‪ .‬العلمانية يف نظره تقوي‬ ‫�سلطة الدولة وجتعل ال�سيا�سة حك ًرا عليها‪.‬‬ ‫ نحن نرى �أن املجتمع القومي (الأمة) هو ال�ضامن لأن تتقيد الدولة بامل�صلحة العامة وهي‬ ‫ال�ضابط ل�سلوكها فيكون اً‬ ‫عدل‪.‬‬ ‫‪ 2‬ويخطئ الدكتور كوثراين عندما يرى ال�سيا�سة يف �صميم الدين‪� .‬إن اجلهاد الديني غري اجلهاد‬ ‫ال�سيا�سي‪ .‬هذه احلقيقة تت�ضح عندما ننتقل من العموميات �إىل التحديدات‪ .‬فنذكر �أن اجلهاد‬ ‫ال�سيا�سي هو جهاد �سيا�سي وطني �أي لهدف حترير وطن �أو �أجزاء وطن حمتلة �أو مغت�صبة‪� ،‬أو‬ ‫هو جهاد قومي اجتماعي وفكرة الوطن وفكرة القومية لي�ستا دينيتني‪ .‬اجلهاد الديني يكون يف‬ ‫�سبيل اهلل و�ضد امل�شركني‪ .‬ف�إذا كان بع�ض رجال الدين جاهد ويجاهد يف �سبيل حترير جنوب‬ ‫لبنان وفل�سطني فذلك لي�س من �صميم الدين بل من ف�ضل املدار�س الوطنية والقومية على‬ ‫رجال الدين‪.‬‬ ‫‪ 3‬ويخطئ الدكتور كوثراين عندما يعترب �أن �شرور الدول احلديثة يف كونها علمانية‪ ،‬والعلمانية هي‬ ‫�أم ال�شرور‪ .‬الدولة الظاملة هي كذلك لأنها دولة ر�أ�سمالية �أو دكتاتورية م�ضطهدة لل�شعب �أو‬ ‫ما �شابه‪ .‬الدولة القومية االجتماعية العلمانية لي�ست ظاملة ولي�ست �شريرة لأن غايتها م�صلحة‬ ‫الأمة والوطن وفوق كل م�صلحة‪.‬‬ ‫املراوحة‬

‫نبد�أ بالقول �إن املراوحة متثّلت يف كتاب والكتاب الذي نحن ب�صدد قراءته ونقده هو كتاب «الدولة‬ ‫يف الإ�سالم» ال�صادر عن دار ثابت يف القاهرة يف حزيران من العام ‪ .1980‬م�ؤلف الكتاب كاتب‬ ‫من م�صر معروف ا�سمه خالد حممد خالد‪ .‬وعندما قلت �إنه كاتب معروف ق�صدت �أنه معروف‬ ‫ب�إنتاجه الأدبي الغزير فقد بلغ جمموع �إنتاجه من الكتب �سبعة وثالثني م�ؤلفًا والكتاب الذي بني‬ ‫�أيدينا املخت�ص بدر�س «الدولة يف الإ�سالم»‪.‬‬ ‫نذكر من �أ�شهر م�ؤلفات هذا الكاتب الوا�سع الإنتاج الكتب التالية التي القت �شهرة خا�صة يف‬ ‫�أوقاتها جلهة �أ�سلوبها ال�سهل وجلهة اجلر�أة الفكرية ل�صاحبها ن�سبة ملا هو �سائد يف الأو�ساط امل�صرية‬ ‫يف زمان �صدورها‪:‬‬ ‫‪81‬‬


‫كتاب من هنا‪ ...‬نبد�أ‪.‬‬ ‫كتاب مواطن ال رعايا‪.‬‬ ‫كتاب الدميقراطية �أبد�أ‪.‬‬ ‫كتاب الدين لل�شعب‪.‬‬ ‫كتاب هذا‪� ..‬أو الطوفان‪.‬‬ ‫كتاب لكي ال حترثوا يف البحر‪.‬‬ ‫كتاب اهلل واحلرية‪.‬‬ ‫كتاب اهلل‪ ،‬واحلرية‪.‬‬ ‫كتاب م ًعا على الطريق‪ ،‬حممد وامل�سيح‪.‬‬ ‫كتاب �إنه الإن�سان‪ .‬وكتب �أخرى‬ ‫وجتدر املالحظة �أن الفكرة املركزية لهذه امل�ؤلفات التي ذكرناها هي فكرة الإن�سان (او ال�شعب)‬ ‫واعتباره غاية وكل ما عداه و�سيلة خلدمته‪.‬‬ ‫�ضد الدولة الدينية‪ :‬الإ�سالم دين فقط‪ :‬يف كتابه الأول على �سبيل املثال‪ ،‬كتاب «من‬ ‫هنا‪ ...‬نبد�أ» الذي �صدر يف عام ‪ ،1950‬جند �صاحبه ال�سيد خالد حممد خالد ي�صفه بالكالم الذي‬ ‫‪15‬‬ ‫نقع عليه يف مطلع كتابه «الدولة يف الإ�سالم» يقول‪:‬‬ ‫وكان ينتظم �أربعة ف�صول‪ ،‬كان ثالثها بعنوان «قومية احلكم»‪ .‬ويف هذا الف�صل ذهبت �أقرر �أن‬ ‫الإ�سالم دين ال دولة‪« ،‬ولي�س يف حاجة �إىل �أن يكون دولة‪ ...‬و�أن الدين عالمات ت�ضيء لنا‬ ‫الطريق �إىل اهلل ولي�س قوة �سيا�سية تتحكم يف النا�س‪ ،‬وت�أخذهم بالقوة �إىل �سوء ال�سبيل‪ .‬ما على‬ ‫الدين �إال البالغ ولي�س من حقه �أن يقود بالع�صا من يريد لهم الهدى وح�سن ثواب»‪.‬‬ ‫وي�ضيف فيقول‪« :‬وقلت‪� :‬إن الدين حني يتحول �إىل حكومة ف�إن احلكومة الدينية تتحول �إىل عبء‬ ‫ال يطاق وذهبت �أعدد يومئذ ما �أ�سميته‪« :‬غرائز احلكومة الدينية»‪.‬‬ ‫ثم يخل�ص «غرائز احلكومة الدينية‪ :‬فيذكر منها‪:‬‬ ‫‪ 1‬الغمو�ض املطلق‪� ،‬إذ هي تعتمد يف قيامها على �سلطة غام�ضة‪ ،‬ال يعرف م�أتاها‪ ،‬وال يدرك مداها‬ ‫و�صلة النا�س بها يجب �أن تقوم على الطاعة العمياء والت�سليم الكلي والتفوي�ض املطلق‪.‬‬ ‫‪ 2‬من خ�صائ�صها‪� ...‬أنها ال تثق بالذكاء الإن�ساين وال ت�أن�س له وال متنحه فر�صة التعبري عن ذاته‬ ‫لأنها تخافه وتخ�شاه‪.‬‬ ‫‪ 15‬خالد حممد خالد‪« ،‬الدولة يف الإ�سالم»‪� ،‬ص ‪.10-9‬‬ ‫‪82‬‬


‫فكــــــر‬

‫ ‬

‫‪3‬‬

‫ ‬

‫‪4‬‬

‫ ‬

‫‪5‬‬

‫ ‬

‫‪6‬‬

‫‪ 7‬‬

‫وهي ال تقنع النا�س ب�ضرورة قيامها وبقائها‪ ،‬تهيب بجانب ال�ضعف فيهام فتلقي يف روعهم �أن‬ ‫رواد اخلري واحلرية والفكر وال�صالح لي�سوا �سوى �أعداء هلل ولر�سوله يحاولون نفي الدين عن‬ ‫املجتمع بنفي ال�سلطة التي متثله وت�صونه‪.‬‬ ‫والغرور املقد�س من �شر غرائز احلكومة الدينية‪ ،‬ولهذا ال تقبل الن�صيحة وال التوجيه‪ .‬بل وال‬ ‫جمرد لفت النظر ف�ضلاً عن املعار�ضة والنقد‪.‬‬ ‫والوحدانية املطلقة �أعتى غرائزها‪ ،‬وهي حتفزها �إىل مكافحة الر�أي مهما يكن حكي ًما وقتل‬ ‫املعار�ضة مهما تكن خمل�صة نافعة‪.‬‬ ‫واجلمود الذي تت�سم به يجعلها ت�ضيق بكل جديد لأن �صورة الدين يف ذهنها مرتبطة بكل ما‬ ‫هو جامد وقدمي‪.‬‬ ‫والق�سوة املتوح�شة هي �سيدة غرائزها و�أكرثها عت ًوا ونفو ًذا و�أنها لتجز عنقك وتهرق دمك وهي‬ ‫ت�صيح من فرط ن�شوتها‪ :‬واها لريح اجلنة»‪.‬‬

‫وي�صف ال�سيد خالد حالته النف�سية عندما كتب ما كتب يف ذلك الزمان يقول‪« :‬ومل �أكن يومئذ‬ ‫�أخدع نف�سي وال �أزيف اقتناعي‪ ،‬فلي�س ذلك واحلمد هلل من طبيعتي‪� ،‬إمنا كنت مقتن ًعا مبا اكتب م�ؤم ًنا‬ ‫ب�صوابه‪ 16‬ويذكر ال�سيد خالد �أ�سباب رف�ضه «احلكومة الدينية» يف �إنتاجه الأدبي فيعدد منها ما ي�أتي‪:‬‬ ‫ال�سبب الأول يت�ألف من �شقني هما‪ :‬تعميمه تعمي ًما خاط ًئا (ال علم ًيا) ل�صورة «احلكومة الدينية‬ ‫امل�سيحية» لت�شمل «احلكام ال�سيا�سيني الإ�سالميني»‪.‬‬ ‫وت�سميته الأ�شياء بغري �أ�سمائها وذلك عندما خلط بني فكرة «احلكام ال�سيا�سيني الإ�سالميني»‬ ‫وفكرة «احلكومة الدينية الإ�سالمية»‪.‬‬ ‫والكاتب ي�شرح كل ذلك على النحو الآتي‪ ،‬فيقول‪ ...« :‬فقد كنت يف قمة الت�أثري بب�شاعة وجرائم‬ ‫احلكومة الدينية امل�سيحية‪ ،‬ثم عك�ست ال�صورة يف غري حق على احلكام ال�سيا�سيني يف الإ�سالم‬ ‫واعتربتهم حكومة دينية �إ�سالمية‪.»...‬‬ ‫ويذكرنا مبا كان قاله عن امل�شابهة بني «احلكومات الدينية امل�سيحية» و»احلكومات الدينية‬ ‫الإ�سالمية» وهذا بع�ض ما ذكره‪:‬‬ ‫«ففي احلكومات الدينية امل�سيحية ابتكرت و�سائل التعذيب التي ال تخطر لل�شيطان نف�سه ببال‪،‬‬ ‫فكان اخلازوق ووتد الت�شهري‪ ،‬و�صلم الإذن‪ ،‬ومتزيق اجل�سد‪ ،‬وحماكم التفتي�ش وحرق العلماء بالنار‬ ‫وهم �أحياء!!»‪.‬‬ ‫‪ 1 6‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪.11‬‬ ‫‪83‬‬


‫ويف احلكومات الدينية الإ�سالمية حدثت �أهوال مروعة حتى �أن حاك ًما دين ًيا واح ًدا‪ ،‬هو احلجاج‪،‬‬ ‫ابد البقية الكرمية ال�صاحلة من �صحابة ر�سول اهلل‪ ،‬حتى قاله عنه «عمر بن عبد العزيز»‪« :‬لو جاءت‬ ‫‪17‬‬ ‫كل �أمة بخطاياها‪ ،‬وجئنا نحن بني �أم ّية باحلجاج وحده لرجحناهم‪.»!!...‬‬ ‫وتكون النتيجة �أن ال�سبب الأول الذي ظهر �أن الكاتب قد �أراده من �شقني انتهى �إىل ال�صورة‬ ‫الآتية‪ « :‬وكان اخلط�أ الأول م�ضاهاتي احلكومات الدينية الكن�سية بحكم الإ�سالم»‪ 18.‬وهذا معناه �أن‬ ‫الكاتب يعترب خط�أه اجلوهري كان ماثلاً يف تعميمه تعمي ًما خاط ًئا ل�صورة «احلكومة الدينية امل�سيحية»‬ ‫لت�شمل «احلكومة الدينية الإ�سالمية»‪ .‬عن طريق �إن�شائه م�شابهة بينهما من الأمثلة التاريخية‪.‬‬ ‫‪19‬‬ ‫�أما ال�سبب الثاين فهو يجعله يف قوله هذا‪« :‬تعميم نتائج ما اقرتفه اجلهاز ال�سري با�سم الإ�سالم»‪.‬‬ ‫ويق�صد بذلك «التنظيم ال�سري للإخوان امل�سلمني» واجلرائم املتكررة التي اقرتفها ومن بينها‬ ‫االغتياالت ال�سيا�سية لهدف فر�ض الدعوة الإ�سالمية‪.‬‬ ‫هذه املمار�سات ال�شاذة للإخوان امل�سلمني جعلته يقتنع ان احلكومة الدينية الإ�سالمية لن‬ ‫تكون خ ًريا من �أ�صحاب الدعوة �إليها‪ .‬وهو يف ذل يقول القول اجلريء ال�صريح الآتي‪« :‬وقلت‬ ‫يف نف�سي‪� ،‬إذا كان هذا م�سلك املتدينني وهم بعيدون عن احلكم فكيف يكون م�سلكهم حني‬ ‫‪20‬‬ ‫يحكمون؟؟»‪.‬‬ ‫‪21‬‬ ‫ويرد الكاتب خط�أيه املذكورين �إىل «خط�أ يف املنهج ذاته»‪.‬‬ ‫الإ�سالم دين ودولة! احلجة التاريخية‪ :‬بعد كل هذا ال�شرح الذي ي�ضعه الكاتب �أمام‬ ‫القارئ وا�صفًا به حاله عندما كان غري معتقد باحلكومة الدينية «م�سيحية» �أم «�إ�سالمية» يتقدم لي�ضع‬ ‫‪22‬‬ ‫�شرحا م�ستفي�ضً ا حول كيفية و�صوله �إىل اقتناع جديد جوهره الإ�سالم «دين ودولة»‪.‬‬ ‫�أمام القارئ ً‬ ‫يبد�أ ال�سيد خالد مبا ميكن ت�سميته احلجة من التاريخ‪� .‬أهم �إفادة لهذه احلجة ذكره ب�أن العرب‬ ‫قبل الإ�سالم عرفوا جتربة احلكم‪ .‬هذا قوله‪« :‬فقبل جميء الإ�سالم بقرون‪ ،‬كان هناك عرب لهم‬ ‫‪23‬‬ ‫حكومات هم الذين �أن�ش�أوها وح�ضارة هم الذين �صنعوها»‪.‬‬ ‫ ‬ ‫‪1 8‬‬ ‫‪1 9‬‬ ‫‪2 0‬‬ ‫‪2 1‬‬ ‫‪2 2‬‬ ‫‪2 3‬‬ ‫‪17‬‬

‫‪84‬‬

‫املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.13‬‬ ‫املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.15‬‬ ‫املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.15‬‬ ‫املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.10‬‬ ‫املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.15‬‬ ‫املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.16‬‬ ‫املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.17‬‬


‫فكــــــر‬

‫وبالرغم من اعتماده اعتما ًدا قو ًيا على هذه احلجة التاريخية ظهر يف ا�ستفا�ضته بالكالم عن تاريخ‬ ‫العرب قبل الإ�سالم‪� 24،‬إال �أنه يقول هو نف�سه‪�« :‬إنه على فر�ض انتفاء هذا الأمر فلن ي�سلب‬ ‫‪25‬‬ ‫الإ�سالم حقه وال مقدرته على ت�أ�سي�س دولة»‪.‬‬ ‫بعد هذه اخلطوة االبتدائية االفتتاحية ي�صدر الكاتب القرارات الفكرية الآتية‪:‬‬ ‫‪26‬‬ ‫‪ 1‬املجتمع امل�سلم يف املدينة كان له دولة يقودها ر�سول اهلل �صلعم‪.‬‬ ‫ ‪ 2‬كان ر�سول اهلل �صلعم يدرك ان بناء «دولة الإ�سالم» وا�ستمرارها جزء من مهمته كنبي‬ ‫‪28‬‬ ‫ور�سول»‪ 27.‬بل �أكرث من ذلك يرى الكاتب �أن كل الأنبياء واملر�سلني خلفاء وحكام‪.‬‬ ‫‪29‬‬ ‫‪ 3‬الإ�سالم ال ميكن �أن يحقق ذاته �إال ب�إر�ساء قواعد الدولة‪.‬‬ ‫‪30‬‬ ‫‪ 4‬الإ�سالم يطمح �إىل «حكومة عاملية»‪.‬‬ ‫قبل التوغل يف قراءتنا قد ًما ال بد ان نتوقف قليلاً لإبداء املالحظات الآتية حول افتتاحية الكتاب‬ ‫وحول القرارات الفكرية امل�شار �إليها‪:‬‬ ‫بالن�سبة للكالم البدئي الذي ي�شدد فيه على احل�ضارة ال�سيا�سية للعرب قبل الإ�سالم املحمدي‬ ‫نحب فقط �أن نرتكه مع هذه امل�س�ألة ليجد حلاً لها نعني م�س�ألة و�صف القر�آن الكرمي وامل�ؤرخني‬ ‫الإ�سالميني لع�صور ما قبل الإ�سالم املحمدي ب�أنها ع�صور اجلاهلية‪.‬‬ ‫�أما بالن�سبة لقراراته الفكرية ف�إننا نتتبعها قرا ًرا قرا ًرا فنذكر املالحظات الآتية‪:‬‬ ‫القر�آن الكرمي الذي هو املرجع الأول والأ�سا�سي ال ي�صف يف �أي مو�ضع منه �أن املجتمع‬ ‫‪ 1‬‬ ‫امل�سلم كان له دولة يف املدينة املنورة يقودها ر�سول اهلل‪ .‬بل �إننا جند القر�آن الكرمي وا�صفًا املجتمع‬ ‫امل�سلم يف املدينة املنورة بالقول �إنهم كانوا ي�شكلون حزبًا ا�سمه «حزب اهلل» نذكر من «�سورة املائدة»‬ ‫ما ي�أتي‪:‬‬ ‫ ‬ ‫‪2 5‬‬ ‫‪2 6‬‬ ‫‪2 7‬‬ ‫‪2 8‬‬ ‫‪2 9‬‬ ‫‪3 0‬‬ ‫‪24‬‬

‫املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.22-17‬‬ ‫املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.17‬‬ ‫املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.24‬‬ ‫املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.25‬‬ ‫املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.25‬‬ ‫املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.25‬‬ ‫املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.27‬‬ ‫‪85‬‬


‫«ومن قول اهلل ور�سوله والذين �آمنوا ف�إن حزب اهلل هم الغالبون»‪.‬‬ ‫وا�ضحا جماعة امل�سلمني (وهم من املدينة املن ّورة)‬ ‫�أهمية هذه الآية �أهميتان هما‪� :‬أنها حتدد حتدي ًدا ً‬ ‫ور�سول اهلل على ر�أ�سهم ب�أنهم حزب ولي�سوا دولة‪ .‬ثم هي فيها در�س للذين يتجففون من جمرد‬ ‫ا�ستخدام كلمة «حزب» يعلمهم �أن اهلل �سبحانه وتعاىل قد ا�ستخدمها يف كتابه العزيز‪.‬‬ ‫قول الكاتب ب�أن بناء «دولة الإ�سالم» جزء من مهمة حممد �صلعم باعتباره نب ًيا اً‬ ‫ور�سول‬ ‫‪ 2‬‬ ‫ال جند له �سن ًدا من امل�صحف ال�شريف‪ .‬فلو عددنا كل الأ�سماء وال�صفات التي وردت يف القر�آن‬ ‫الكرمي املتعلقة مبحمد ملا وقعنا على �أي ا�سم و�صفة تدل على انه رئي�س دولة �أو �أمري م�ؤمنني �أو‬ ‫رئي�س حكومة او ما �شابه ذلك‪ .‬هذا من جهة‪ .‬من جهة �أخرى لو جئنا بكل �أدوات التحليل‬ ‫الفقهي واللغوي ملا ا�ستطعنا �أن ن�ستنبط من تعبري «النبي» �أو تعبري «الر�سول» �أو من كليهما م ًعا‬ ‫معنى ميكن �أن يفيد بناء دولة للإ�سالم‪.‬‬ ‫فمعنى «النبي» مرتبط مبعنى «النبوة» ومعنى «الر�سول» مرتبط مبعنى حامل «الر�سالة» واملعنيان ال‬ ‫ميتان لل�سيا�سة �أو الدولة ب�صلة‪ .‬ثم قول الكاتب �إن كل الأنبياء واملر�سلني كانوا حكا ًما هو �أي�ضً ا‬ ‫قول متهافت من وجهة الإ�سناد فالكتاب ال ي�ستعمل يف ما ا�شتمل عليه على ذكر دولة �إبراهيم‬ ‫رئي�سا لدولة دينية‪ .‬كذلك بالن�سبة لإ�سماعيل و�أيوب (�صاحب‬ ‫اخلليل �أو عن �إبراهيم اخلليل ً‬ ‫ال�صرب الأكرب)‪ .‬بل �إننا جند �أمثلة كثرية يف الكتاب عن �أقوام (ولي�س عن دول) جترب �أهلها �أو‬ ‫الأقوياء يف �أهلهم مثل قوم لوط وعاد وثمود وغريهم كان م�صريهم الهالك بغ�ضب اهلل‪� .‬ألي�س‬ ‫جدي ًرا باملالحظة �أن القر�آن الكرمي مل ي�شمل على مثل واحد لدولة دينية �صاحلة حتى يقا�س بها‬ ‫يف ع�صور الإ�سالم املحمدي؟‬ ‫قول الكاتب �إن الإ�سالم ال يحقق ذاته �إال بالدولة هو قول �آخر ال جند �شبي ًها له يف‬ ‫‪ 3‬‬ ‫الكتاب عمو ًما وال يف تعريف الإ�سالم على نحو حتديدي‪ .‬يف القر�آن الكرمي عرف الإ�سالم بانه‬ ‫دين فقط يف قوله تعاىل‪« :‬ور�ضيت لكم الإ�سالم دي ًنا»‪ .‬ومل يرد ما يفيد ب�أن الإ�سالم دين ودولة‪.‬‬ ‫من ناحية �أخرى‪ ،‬هل غياب الدولة الإ�سالمية الآن يف البالد العربية يعتربه الكاتب غيابًا للإ�سالم‬ ‫جلهة حتقيقه ذاته؟ ثم ما حكم الكاتب على امل�سلمني املحمديني يف البالد العربية وغريها يف هذه‬ ‫الأيام ما داموا مل ي�ؤ�س�سوا اً‬ ‫دول �إ�سالمية؟‬ ‫ ‪4‬‬ ‫القول بـ «احلكومة العاملية» للإ�سالم هو �أي�ضً ا قول ال يثبته الكتاب‪ .‬فالقر�آن الكرمي يذكر‬ ‫بو�ضوح �أن الدين للعاملني ولكنه ال يذكر ان الدين والدولة هما للعاملني‪.‬‬ ‫نتقدم الآن �إىل مرحلة جديدة من مراحل تفكري الكاتب فماذا جند؟ جند �أن الكتاب يقول يف ما‬ ‫‪31‬‬

‫‪ 31‬القر�آن الكرمي‪� ،‬سورة املائدة ‪ -‬مدنية ‪� -‬آية ‪.56‬‬ ‫‪86‬‬


‫فكــــــر‬

‫يقول �أن «القر�آن مملوء بالآيات التي تدعو امل�سلمني �إىل حكم اهلل»‪ 32.‬فما هو حكم اهلل؟‬ ‫يعرتف الكاتب فيذكر الكالم الآتي‪:‬‬ ‫«ونحن حني نطالع �آيات القر�آن الكرمي و�أحاديث الر�سول اخلا�صة بقيام الدولة يف الإ�سالم‪ ،‬ال‬ ‫‪33‬‬ ‫نلتقي ب�آية وال بحديث يقول‪« :‬يا �أيها الذين �آمنوا �أقيموا دولة �أو اتخذوا منكم �إما ًما وحاك ًما»‪.‬‬ ‫لكن ملا ال نلتقي ب�آيات �سيا�سية يف القر�آن الكرمي؟ ال يجيب الكاتب بقوله �إنها حكمة اهلل على‬ ‫عباده فهو �سبحانه وتعاىل‪ ،‬يريدهم م�ؤمنني به �أخالقيني متفقني وال يريدهم �سيا�سيني متنازعني‬ ‫على احلكم واحلكومة‪ .‬جواب الكاتب جاء بال�شكل الآتي يقول‪:‬‬ ‫‪34‬‬ ‫«متا ًما كما ال نلتقي ب�آية تقول �أو بحديث يقول يا �أيها الذين �آمنوا تن�شقوا الهواء»‪.‬‬ ‫فالكاتب يعترب �أن احلاجة للدولة كاحلاجة للهواء‪ ،‬كالهما بديهيان بالن�سبة �إليه‪ ،‬فال يتطلبان �آم ًرا‬ ‫�أو دعوة!‬ ‫وا�ضح �أن موقف الكاتب هنا موقف متهالك فالقر�آن اهتم حتى بو�صف ما يتعلق بنظافة اجل�سد‬ ‫التي هي م�س�ألة بديهية باملعنى الذي �أورده فالنظافة اجل�سدية حاجة ال ي�ستغني عنها حتى‬ ‫احليوان‪ .‬فكيف ال ي�أتي القر�آن على ذكر الدولة وهي من �أخطر امل�سائل الإن�سانية و�أهمها و�أكرثها‬ ‫ت�أث ًريا يف حياة الأفراد واجلماعات؟‬ ‫ال بد �أن هلل حكمة يف ذلك‪ .‬لكننا مهما اختلفنا يف �إدراك حكمة اهلل تظل حقيقة �أكيدة هي‪ :‬ان‬ ‫اهلل مل ي�أت يف كتابه العزيز على ذكر الدولة‪ .‬وعدم ذكر الدولة يف القر�آن الكرمي مل يكن �سه ًوا‪،‬‬ ‫�إذ حا�شا �أن ي�سهو اهلل‪ .‬بل جاء عم ًدا �إذ اكد اهلل �سبحانه وتعاىل �أن الإ�سالم دين فقط يف قوله‪:‬‬ ‫«ور�ضيت لكم الإ�سالم دينا» ومل يقل ر�ضيت لكم الإ�سالم دي ًنا ودولة‪.‬‬ ‫احلجج القر�آنية‪ :‬غري �أن الكاتب يظل ما�ض ًيا يف تفكريه‪ .‬فهو يريد هذه املرة �أن ي�شتق‬ ‫احلكومة الدينية «الإ�سالمية» (البديهية) من بع�ض �ألفاظ الكتاب‪ .‬هو يقول‪� ،‬إن القر�آن مملوء‬ ‫بالآيات التي تدعو امل�سلمني �إىل حكم اهلل‪� 35.‬أين ذلك؟ وكيف ذلك؟‬ ‫يذكر الكاتب �أن الفعل «حكم» جاءت م�شتقاته يف القر�آن مبعنى «احلكومة» التي تق�ضي وتف�صل‬ ‫وتقود‪ .‬ويقول �إن لفظ «احلكم» مبعنى «الق�ضاء والف�صل» ومبعنى «احلكومة» ورد ذكره يف القر�آن‬ ‫�ستا و�سبعني مرة ويكتفي ب�إيراد بع�ض الآيات‪.‬‬ ‫‪ 32‬‬ ‫‪3 3‬‬ ‫‪3 4‬‬ ‫‪3 5‬‬

‫خالد حممد خالد‪« ،‬الدولة يف الإ�سالم»‪� ،‬ص ‪.32‬‬ ‫املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.38‬‬ ‫املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.38‬‬ ‫املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.33‬‬ ‫‪87‬‬


‫�أما الآيات التي ي�ست�شهد بها فهي‪:‬‬ ‫قوله تعاىل‪�« :‬إنا �أنزلنا �إليك الكتاب باحلق لتحكم بني النا�س مبا �أراك اهلل»‪ .‬وي�شرح‬ ‫‪ 1‬‬ ‫الكاتب هذه الآية الكرمية على النحو الآتي‪ .‬يقول‪« :‬فالقر�آن مل ينزل على قلب الر�سول ليتعبد‬ ‫منهجا للحكم يحكم به الر�سول �أمته امل�سلمة مبا �أراه اهلل �أي مبا ر�سم له‬ ‫به امل�ؤمنون بل وليكون � اًأول ً‬ ‫‪36‬‬ ‫القر�آن من �سبيل وما نّقن فيه من قانون»‪.‬‬ ‫غري �أن ما غفل عنه الكاتب هو �أن اهلل �سبحانه وتعاىل قد �أرى ر�سوله حممد (�صلعم) دين الإ�سالم‬ ‫فاحلكم بني النا�س معناه الف�صل بني النا�س وفقًا ملبادئ الدين الإ�سالمي املناقبية ال�سامية ووفقًا‬ ‫لقوانني الإ�سالم التي هي قوانني مدنية‪ .‬حجتنا يف ذلك تت�ألف من �شقني هما‪:‬‬ ‫ �أولاً ‪� :‬أن تعبري «النا�س» تعبري عمومي فلي�س يفيد معنى الدولة بل هو لعموميته يفيد معنى‬‫جماعة النا�س �أو املجتمع املدين الذي ي�ؤلفونه‪.‬‬ ‫ ثان ًيا‪� :‬إن القوانني التي ي�شري �إليها الكاتب املوجودة يف القر�آن الكرمي لي�ست قوانني �سيا�سية‪.‬‬‫‪37‬‬ ‫وقوله تعاىل‪« :‬فاحكم بينهم مبا �أنزل اهلل وان احكم مبا �أنزل اهلل وال تتبع �أهواءهم»‪.‬‬ ‫ ‪2‬‬ ‫هنا �أي�ضً ا يتوقف معنى الآية الكرمية على عبارة «ما �أنزل اهلل»‪ .‬فنحن نرى �أن «ما �أنزل اهلل» هو‬ ‫املبادئ الدينية الأخالقية ال�سامية والقوانني الال�سيا�سية التي حتدد عالقات الأفراد بع�ضهم‬ ‫ببع�ض ولي�س عالقة الأفراد بالدولة �أو الدولة بالأفراد‪.‬‬ ‫وقوله تعاىل‪�« :‬إن اهلل ي�أمركم �أن ت�ؤدوا الأمانات �إىل �أهلها‪ ،‬و�إن حكمتم بني النا�س �أن‬ ‫‪ 3‬‬ ‫‪38‬‬ ‫حتكموا بالعدل»‪.‬‬ ‫ماذا يرى ال�سيد خالد يف هذه الآية؟ �إنه يو�سع مدلول لفظة «الأمانات» حتى ي�شمل معنى احلكومة‬ ‫وذلك لكي ي�ستنبط من املعاين الأخالقية الأ�صلية للآية وج ًها �سيا�س ًيا‪ ،‬يقول‪« :‬والأمانات هنا‬ ‫تعني الودائع التي ي�ستودعها بع�ضنا بع�ضً ا فح�سب‪ ،‬بل تعني‪ � ،‬اًأول‪ ،‬م�س�ؤولية احلكم التي هي �أمانة‬ ‫‪39‬‬ ‫ائتمن اهلل عليه احلاكمني»‪.‬‬ ‫وال يكتفي الكاتب بالتف�سري ال�سيا�سي العمومي للفظة «الأمانات» بل مي�ضي �إىل الطرف الأق�صى‬ ‫يف الت�أويل ال�سيا�سي بال �ضابط هناك لفكرة الرغائبي فيدخل فكرة احلكم ال�شعبي وفكرة الدولة‬ ‫يف اول ما تعنيه الآية الكرمية‪ .‬هو يقول باحلرف الواحد‪ :‬و «�أدا�ؤها يعني العدل يف تنفيذها والقيام‬ ‫بها كما يعني �إ�شراك ال�شعب يف هذه امل�س�ؤولية بكل الو�سائل التي جتعل م�شاركته يف احلكم‬ ‫ ‬ ‫‪3 7‬‬ ‫‪3 8‬‬ ‫‪3 9‬‬ ‫‪36‬‬

‫‪88‬‬

‫املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.34-33‬‬ ‫املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.35‬‬ ‫املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.35‬‬ ‫املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.35‬‬


‫فكــــــر‬

‫م�شاركة فعالة وحقيقية»‪ .‬وي�ضيف‪« :‬واحلكم مبا �أنزل اهلل ومبا �شرع لعباده‪ ،‬وبناء الدولة التي تلتزم‬ ‫‪40‬‬ ‫هذا النهج كان من بني وظائف الر�سول عليه ال�سالم»‪.‬‬ ‫قوله تعاىل‪« :‬واهلل يحكم ال معقب حلكمه»‪� .‬ألي�س يفيد �أن اهلل هو احلاكم وحده ال‬ ‫‪ 4‬‬ ‫�شريك له من عباده ولي�س كما �أراد الكاتب يف اجتاهه الت�سيي�سي لآيات الكتاب؟‬ ‫ومثل الآية هذه جند �آيات �أخرى لها املدلول نف�سه ي�ست�شهد بها الكاتب لكن خلالف الغمو�ض‬ ‫الذي نزلت من �أجله‪ .‬نذكر منها ما ي�أتي‪« :‬ذلكم حكم اهلل يحكم بينكم» و «�إن احلكم �إال هلل �أمر‬ ‫�أن ال تعبدوا �إال �إياه» و «�إن احلكم �إال هلل عليه توكلت وعليه فليتوكل املتوكلون»‪.‬‬ ‫ ‪5‬‬ ‫ثم هناك �آيات مل يذكرها الكاتب ويح�سن ذكرها كلها ت�ؤكد ان اهلل هو الذي ا�ستوى على‬ ‫العر�ش منذ اخللق فال ي�ستوي عليه �سواه و�إال كان م�شر ًكا‪�« :‬إن ربكم اهلل الذي خلق ال�سموات‬ ‫والأر�ض يف �ستة �أيام ثم ا�ستوى على العر�ش يدير الأمر ما من �شفيع �إال من بعد �إذنه ذلكم ربكم‬ ‫‪41‬‬ ‫فاعبدوه فال تذكرون»‪.‬‬ ‫وهناك �آيات تفيد �أن اهلل مالك ال�سموات والأر�ض فكيف يجوز القول بالدولة بعد ذلك‬ ‫‪ 6‬‬ ‫والدولة من مفاهيمها الأ�سا�سية مفهوم ال�سيادة على الأر�ض وملكية الوطن‪« :‬هلل ملك ال�سموات‬ ‫‪42‬‬ ‫والأر�ض وما فيهن وهو على كل �شيء قدير»‪.‬‬ ‫خال�صة مالحظتنا �أن الكاتب اقرتف يف تف�سريه �أغلوطتني هما‪:‬‬ ‫�أغلوطة اخللط بني احلكم الأخالقي واحلكم مبعناه ال�سيا�سي عندما اعترب احلكم الأخالقي حك ًما‬ ‫�سيا�س ًيا وحكومة ودولة‪.‬‬ ‫ثم �أغلوطة ن�سبة احلكم �إىل الب�شر يف حني احلكم كله بيد اهلل‪ .‬فاهلل �سبحانه وتعاىل عند امل�ؤمنني‬ ‫�إميانًا كاملاً ‪ .‬هو احلاكم يف كل �ش�ؤون الدنيا والآخرة فال �شريك له يف �شاردة او واردة ويف كل امر‬ ‫كب ٍري �أو �صغري ويف كل ناحية من نواحي احلياة لذلك طلب ان يتوكل عليه املتوكلون‪.‬‬ ‫الدول من �صنع الب�شر ونزاعاتهم‪ :‬مع كل ذلك‪ ،‬نحن ال ننفي وجود دولة دينية �إ�سالمية‬ ‫ولكننا نقول �إنها دولة وجدت يف التاريخ كانت ومن �صنع الب�شر ولي�ست من �صنع القر�آن‪ .‬فهناك‬ ‫حقائق تاريخية ثابتة تفيد عن دولة اخللفاء الرا�شدين ودولة لبني �أم ّية ودولة لبني العبا�س ودولة فاطمية‬ ‫ودولة لبني عثمان‪ ،‬لكن كل تلك الدول هي من �صنع الب�شر امل�سلمني ونزاعاتهم ولي�ست من �صنع‬ ‫ن�صو�ص الكتاب الذي ال جند فيه �آية ت�شري �إىل الدولة كما اعرتف ال�سيد خالد حممد خالد نف�سه‪.‬‬ ‫‪ 4 0‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.35‬‬ ‫‪ 4 1‬القر�آن الكرمي‪� ،‬آية ‪� ،3‬سورة يون�س‪ ،‬مكية‪.‬‬ ‫‪ 4 2‬القر�آن الكرمي‪� ،‬آية ‪� ،120‬سورة املائدة‪ ،‬مدنية‪.‬‬ ‫‪89‬‬


‫وهنا الأغلوطة العظيمة وهي �أن ال�سيد خالد حممد خالد يخلط بني دولة الب�شر والقر�آن فال مييز‬ ‫بينهما باحلق‪.‬‬ ‫�أجل‪ ،‬لقد قامت دول �إ�سالمية كثرية وكان معظمها نتيجة �صراع اجلماعات الإ�سالمية ومل تكن‬ ‫تطبيقًا لنظرية قر�آنية يف الدولة‪ .‬ولو كانت يف القر�آن نظرية يف الدولة ملا كان ثمة داع لل�صراع على‬ ‫ال�سلطة ال�سيا�سية هل تكون لبني �أمية �أم لعلي بني �أبي طالب مثلاً وللعرب �أم للفر�س‪ ،‬مثلاً �آخر‪.‬‬ ‫ميكن لل�سيد خالد حممد خالد كما ميكن لغريه مثل جماعة الإخوان امل�سلمني وحزب التحرير‬ ‫الإ�سالمي وحزب اهلل وغريهم �أن ي�ستخرج من القر�آن الكرمي ما �شاءت له رغباته ال�سيا�سية‬ ‫الدنيوية‪ ،‬ميكن �أن يرى يف لفظ «ال�شورى» معنى «الدميقراطية الربملانية»‪ 43.‬وميكن لغريه �أن يرى‬ ‫فيه احتا ًدا ا�شرتاك ًيا �أو م�ؤمت ًرا �إ�سالم ًيا �أو دولة دينية عاملية يحكمها خليفة من �إندوني�سيا �أو الباك�ستان‬ ‫�أو بنغالد�ش �أو �أحد م�سلمي االحتاد ال�سوفياتي وله جمل�س من عدد من امل�سلمني من �أقطار الدنيا‬ ‫الوا�سعة‪.‬‬ ‫كل هذه االختالفات يف تف�سري لفظ «ال�شورى»‪ ،‬التي نقع عليها يف زماننا �سببها الأ�صلي حماوالت‬ ‫ت�سيي�س ن�صو�ص القر�آن التي هي ن�صو�ص مبادئ وقوانني مدنية �أخالقية‪ .‬كل تلك االختالفات ال‬ ‫تبدل يف حقيقة الآية الب ّينة الكرمية التالية �شي ًئا وهذا ّن�صها‪:‬‬ ‫«وما عند اهلل خري وابقى للذين يجتنبون كبائر الإثم والفواح�ش و�إذا ما غ�ضبوا هم يغفرون‪...‬‬ ‫والذين ا�ستجابوا لربهم واقاموا ال�صالة‪ ،‬و�أمرهم �شورى بينهم‪ ،‬ومما رزقناهم ينفقون»‪.‬‬ ‫لفظ «ال�شورى» يف هذه الآية الكرمية يفيد معنى امل�شاركة يف الر�أي باملعنى العمومي الأخالقي‬ ‫ولي�س باملعنى ال�سيا�سي التحديدي‪ .‬وهذا املعنى للفظ «ال�شورى» توجه الذهن �إليه الألفاظ التي‬ ‫تقدمت اللفظ وهي كلها الفاظ ذات ٍ‬ ‫معان دينية �أو �أخالقية ‪ -‬م�سلكية ال متت �إىل ال�سيا�سة‬ ‫واحلكومة والدولة ب�صلة‪ .‬منها �ألفاظ الإثم والفواح�ش والغ�ضب واملغفرة و�إقامة ال�صالة‪.‬‬ ‫حقائق تاريخية‪ :‬من الوجهة التاريخية الواقعية ميكننا ذكر احلقائق الآتية‪:‬‬ ‫‪� 1‬أن الر�سول حممد (�صلعم) مل يعلن نف�سه �أم ًريا للم�ؤمنني يف حياته كما �أن القر�آن الكرمي‬ ‫مل ي�صفه مثل هذا الو�صف‪ ،‬و�أكرث من ذلك نحن ال جند بني �أركان الإ�سالم اخلم�سة التي هي‬ ‫ركن ال�شهادة وركن ال�صالة وركن ال�صوم وركن الزكاة وركن احلج اي ركن �سيا�سي‪ ،‬حتى �أن‬ ‫ركن ال�شهادة الذي هو �أهم الأركان ال جند فيه ما يفيد‪� :‬أن �أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل و�أ�شهد �أن‬ ‫حمم ًدا ر�سول اله وان حمم ًدا رئي�س الإ�سالم‪ ،‬بل جند الن�ص الآتي‪�« :‬أ�شهد �أن ال �إله �إال اله‬ ‫و�أ�شهد �أن حمم ًدا ر�سول اهلل»‪.‬‬ ‫‪ 43‬خالد حممد خالد‪« ،‬الدولة يف الإ�سالم»‪� ،‬ص ‪.58-59‬‬ ‫‪90‬‬


‫فكــــــر‬

‫خالفة �أبي بكر مل تكن نتيجة تالوة �أو تطبيق ن�صو�ص قر�آنية بل جاءت بنا ًء على‬ ‫ ‪2‬‬ ‫مبايعة عمر بن اخلطاب وت�صميم عمر بن اخلطاب على البيعة وبعد ذلك املوافقة من بقية جمهور‬ ‫‪44‬‬ ‫ال�صحابة‪.‬‬ ‫وبالن�سبة خلالفة عمر يقول الطربي يف اجلزء الأول من تاريخه‪� :45‬إن �أبا بكر كتب العهد لعمر لكن‬ ‫بعد ا�ست�شارة كبار ال�صحابة وموافقتهم‪� .‬أما بالن�سبة لعثمان بن عفان فلم تكن بيعته من ال�ستة‬ ‫‪46‬‬ ‫الذين اختارهم عمر لرت�شيح اخلليفة واختياره‪.‬‬ ‫معنى ذلك ان اخلالفة كانت تتم بقرارات ب�شرية ولي�ست بن�صو�ص دولة دينية موجودة يف القر�آن‪.‬‬ ‫والقرارات الب�شرية كانت قرارات عدد قليل ج ًدا من الأفراد هم الأفراد الذين عرفوا بـ «ال�صحابة»‬ ‫ولي�س من �صحابة «يف هذا الزمان»‪.‬‬ ‫بعد قتل اخلليفة عثمان بن عفان‪ ،‬انفجر ال�صراع ال�سيا�سي بني بني �أمية وبني علي بن �أبي طالب‬ ‫واتخذ �صورة عنيفة دموية يف معركة �صفني التي انتهت بق�صة التحكيم واملناورة الأموية التي‬ ‫نفذها عمرو بن العا�ص ممثل معاوية مع �أبي مو�سى الأ�شعري ممثل علي بن �أبي طالب‪.‬‬ ‫منذ ت�أ�سي�س الدولة الأموية حتى يومنا ظلت الدولة الدينية الإ�سالمية اً‬ ‫ ‪3‬‬ ‫دول من �صنع‬ ‫الب�شر و�صراعاتهم ال�سيا�سية الدنيوية‪ .‬و�إننا ال جند يف كل وثائق التاريخ الإ�سالمي �أية حماولة‬ ‫لال�ستناد �إىل �آيات القر�آن الكرمي لإقامة �سلطة �سيا�سية او لف�ض نزاع �سيا�سي‪ .‬كل االعتماد كان‬ ‫يكون �إما على القوة �أو على �أحاديث تن�سب للر�سول او على كليهما‪.‬‬ ‫حتى ظهرت حركة الإخوان امل�سلمني وحزب التحرير الإ�سالمي وحزب اهلل وكتاب ال�سيد خالد‬ ‫حممد خالد فر�أينا العجائب يف تف�سري القر�آن بغري ح�ساب �إال لل�سيا�سة والألقاب فويل ملن ال‬ ‫يهاب حكم اهلل وويل ملن �أناب عن اهلل عب ًدا من تراب وعن �آياته يف الدين كال ًما ي�سي�سها جاهل‬ ‫�أو م�شرك �أو غافل او مغر�ض يف بيان �أو خطاب �أو كتاب‪.‬‬ ‫اعرتاف جديد‪ :‬نعود �إىل التذكري باعرتاف ال�سيد خالد حممد خالد ب�أن القر�آن الكرمي ال‬ ‫ي�شتمل على ن�صو�ص تدعو الذين �آمنوا �إىل �إقامة دولة لن�شري �إىل اعرتاف جديد‪ ،‬هذا هو‪:‬‬ ‫«�صحيح �أن القر�آن «د�ستور» مل ي�ضعه ال�شعب ولكنه د�ستور ر�ضيه ال�شعب و�آمن به واقرتع عليه‬ ‫‪47‬‬ ‫وا�ست�شهد يف �سبيله‪.‬‬ ‫‪ 44‬‬ ‫‪ 45‬‬ ‫‪4 6‬‬ ‫‪4 7‬‬

‫وهذه احلقيقة يقرها الكاتب نف�سه‪ ،‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.62‬‬ ‫وهذا القول يذكره الكاتب نف�سه‪ ،‬يف املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.64‬‬ ‫املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.64‬‬ ‫املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.56‬‬ ‫‪91‬‬


‫وا�ضح ان الكاتب ي�ستخدم م�صطلح «د�ستور» ا�ستخدا ًما �أدب ًيا عموم ًيا ولي�س ا�ستخدا ًما علم ًيا‬ ‫حتديد ًيا‪ .‬فهو يق�صد الكتاب الذي ي�شتمل على عقيدة وقوانني‪ .‬لكنه يغفل �أن القوانني الواردة‬ ‫يف الكتاب لي�ست قوانني �سيا�سية كما كنا ذكرنا‪ .‬لذلك فـ «الد�ستور» هنا لي�س د�ستور دولة بل‬ ‫د�ستور مبادئ عقيدة دينية وقوانني �سلوك مدنية ال �أكرث وال �أقل‪.‬‬ ‫امل�س�ألة الثانية التي ت�ستحق النظر هي يف قول الكاتب �أن القر�آن الكرمي مل ي�ضعه ال�شعب وهذا‬ ‫يعني �أن الإرادة التي انبثق عنها القر�آن الكرمي لي�ست �إرادة �شعبية �أو �إن�سانية‪ .‬هي كما يروي لنا‬ ‫علماء الدين �إرادة �إلهية‪ .‬لذلك ن�س�أل‪�« :‬إذا كان القر�آن من �إرادة اهلل �سبحانه وتعاىل فهل يظل من‬ ‫معنى لكالم الكاتب عن «ر�ضى ال�شعب» و»اقرتاع ال�شعب عليه»! ثم �أي �شعب يق�صد الكاتب؟‬ ‫�أهو �شعب اجلزيرة العربية الإ�سالمية �أم �شعوب العامل كله؟‬ ‫يف مو�ضع �آخر يقول الكاتب �إن «الأمة يف الإ�سالم هي م�صدر ال�سلطات»‪ 48‬فكيف يوفق بني هذا‬ ‫القول وحقيقة �أن اهلل م�صدر كل �شيء؟‬ ‫ثم هل كالم الكاتب عن الأمة وكونها م�صدر ال�سلطات له �سند يف القر�آن الكرمي؟ هذا من الناحية‬ ‫الوثائقية‪� .‬أما من الناحية التاريخية ف�إن وقائع التاريخ تع ّرفنا على �أن اخللفاء الرا�شدين كانوا بقرار‬ ‫�صحابة الر�سول ومل ي�صبحوا خلفاء نتيجة النزاع احلربي واخلديعة ال�سيا�سية و�أوالدهم �صاروا‬ ‫خلفاء بالوراثة واخللفاء العبا�سيون �صاروا خلفاء بالنزاع الدموي والوراثة �أي�ضً ا‪ .‬ف�أين الكالم عن‬ ‫الأمة م�صد ًرا لل�سلطات يف كل ذلك التاريخ‪ .‬ومما يقوله الكاتب ما ي�أتي‪« :‬ومن الظواهر ال�صادقة‬ ‫‪49‬‬ ‫�أنه كلما كانت الأمة عالية يف م�ستواها احل�ضاري‪ ،‬كان اختيارها حلكامها �صائ ًبا و�سدي ًدا»‪.‬‬ ‫فهل يق�صد الكاتب �أن يقول �إن امل�ستوى احل�ضاري ولي�س القر�آن هو معيار االختيار ال�صائب‬ ‫ال�سديد للحكام؟‬ ‫�أما عن الدولة الإ�سالمية فهذا بع�ض ما ي�صفها به‪« :‬فالدولة امل�سلمة م�أمورة من ربها‪ ،‬ومدعوة‬ ‫من د�ستورها �إىل �أن تقيم تعاي�شً ا �سلم ًيا بينها وبني كل دولة ال تقدم �إليها الأذى وال حتوطها‬ ‫‪50‬‬ ‫بامل�ؤامرات»‪.‬‬ ‫ن�صو�صا ت�شتمل على �أوامر من اهلل �سبحانه وتعاىل موجهة للدولة الإ�سالمية؟‬ ‫�أ�سئلة‪� :‬أين جند يف القر�آن ً‬ ‫هل الدولة الإ�سالمية هي دولة بني الدول �أم هي دولة عاملية؟‬ ‫وهل دولة الكاتب الإ�سالمية تقبل التعاي�ش مع دول ظاملة ل�شعوبها ما دامت تلك الدول ال تت�آمر‬ ‫على الدولة الإ�سالمية؟‬ ‫‪ 4 8‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.61‬‬ ‫‪ 4 9‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.65‬‬ ‫‪ 5 0‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.76‬‬ ‫‪92‬‬


‫فكــــــر‬

‫ثم هناك الآيات التي ي�ست�شهد بها الكاتب واملتعلقة بالقتال مثال‪« :‬الذين �آمنوا‪ ،‬وهاجروا وجاهدوا‬ ‫يف �سبيل اهلل ب�أموالهم و�أنف�سهم �أعظم درجة عند اهلل‪� .‬أولئك هم الفائزون»‪.‬‬ ‫«فليقاتل على �سبيل اهلل فيقتل �أو يغلب ف�سوف ن�ؤتيه �أج ًرا عظي ًما»‪.‬‬ ‫«�إن اهلل ا�شرتى امل�ؤمنني �أنف�سهم و�أموالهم ب�أن لهم اجلنة يقاتلون يف �سبيل اهلل فيقتلون و ُيقتلون‬ ‫وع ًدا عليه حقًا يف التوارة والإجنيل والقر�آن‪ .‬ومن �أوفى بعهده من اهلل»‪.‬‬ ‫‪51‬‬ ‫«�إن اهلل يحب الذي يقاتلون يف �سبيله �صفهم ك�أنهم بنيان مر�صو�ص»‪.‬‬ ‫نالحظ يف كل هذه الآيات �أن القتال املطلوب مل يكن يف �سبيل الدولة بل يف �سبيل اهلل ولي�س‬ ‫اً‬ ‫قتال �سيا�س ًيا بني دولة ودولة على حدود من الأر�ض �أو على منافع اقت�صادية‪ .‬ومن قوله تعاىل‪:‬‬ ‫«وقاتلوا امل�شركني كافة كما يقاتلوكم كافة» الذي معناه �أن القتال هو �صراع ديني عقائدي بني‬ ‫امل�سلمني امل�ؤمنني ب�إله واحد وبني امل�شركني باهلل �أح ًدا ولي�س القتال بني دولة ودولة‪.‬‬ ‫نخل�ص من قراءتنا النقدية لكتاب ال�سيد خالد حممد خالد �إىل النتيجة الآتية‪:‬‬ ‫�إن الكتاب مل ي�ستطع �أن ي�ستخرج من القر�آن الكرمي دولة �إ�سالمية‪.‬‬ ‫ثم‪� ،‬إذا كانت الدولة الإ�سالمية ال حتتاج �إىل �سند من القر�آن الكرمي لأنها ‪ -‬كما قال ‪ -‬بديهية‬ ‫كالهواء فلماذا كل ذلك العناء الذي جت�شمه ال�سيد خالد حممد خالد ال�ستنباطها مبنطق رغبات‬ ‫لي�س فيه علم وال ا�ستواء؟‬ ‫خالد حممد خالد يظهر �أنه غيرّ ر�أيه بطريقة �إرادية‪ .‬غري �أن هناك من تعر�ض لعقوبة قا�سية لأنه قال‬ ‫ر�سول ال ً‬ ‫ب�أن الإ�سالم دين ولي�س بدولة و�أن حمم ًدا كان اً‬ ‫ملكا وال �أم ًريا‪ .‬و�أبرز مثل على ذلك ما‬ ‫ّ‬ ‫حل بال�شيخ علي عبد الرازق‪ .‬وهذه ق�صته باخت�صار �شديد‪:‬‬ ‫كان ال�شيخ القا�ضي علي عبد الرازق من علماء اجلامع الأزهر يف م�صر وقا�ض ًيا من ق�ضاة املحاكم‬ ‫ال�شرعية‪ .‬غري �أنه‪ ،‬وبالرغم من ذلك‪ ،‬دفع ثم ًنا غال ًيا ج ًدا ب�سبب فكرته التي �ضمنها كتابه‪:‬‬ ‫الإ�سالم و�أ�صول احلكم‪ :‬بحث يف اخلالفة واحلكومة يف الإ�سالم والثمن الغايل �شمل‬ ‫فيما �شمل حرق كتابه وطرده من وظيفته والت�شهري با�سمه يف م�صر‪� .‬أما فكرة الكتاب فتمثّلت يف‬ ‫ر�سول ذا بالغ مبني �أو ب�ش ًريا �أو نذي ًرا ولي�س ً‬ ‫قوله �إن حمم ًدا مل يكن �إال اً‬ ‫ملكا �أو م�سيط ًرا �أو وكيلاً ‪.‬‬ ‫ومن الآيات التي ا�ست�شهد بها‪« :‬قلْ ل�ست عليكم بوكيل‪ »...‬و «‪� ...‬إن عليك �إال البالغ» و ّ‬ ‫«فذكر‬ ‫�إمنا �أنت ّ‬ ‫مذكر ل�ست عليهم مب�سيطر»‪ .‬وهذه الآيات مك ّية‪ .‬الأوىل من �سورة الإ�سراء والثانية من‬ ‫�سورة ال�شورى والثالثة من �سورة الغا�شية‪ .‬وهناك �آيات �أخرى ذكرها‪.‬‬ ‫‪ 5 1‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.80-81‬‬ ‫‪93‬‬



‫العرب والعوملة‬

‫فـكــــــــر‬

‫جدل الأكرثية واالقليات‬ ‫عاطف عطية ‪ -‬باحث و�أ�ستاذ جامعي‬ ‫عنوان هذا الف�صل ي�شي ب�أهمية البحث يف م�س�ألة الأقليات يف العامل العربي‪ .‬ذلك �أن ثنائية‬ ‫الأكرثية ‪ -‬الأقلية حمور ت�أ�سي�س �أنظمة �سيا�سية تقوم على الدميوقراطية التي هي �شرعية حكم‬ ‫الأكرثية مبن ميثلها‪ ،‬وخ�ضوع الأقلية مبا ي�ستوجبه نظام احلكم الدميوقراطي نف�سه‪.‬‬ ‫و�إذا كانت �أنظمة احلكم الدميوقراطي التي تنتهج هذا ال�سبيل تتمتع بنظام مدين عادل ي�ؤ ّمن امل�شاركة‬ ‫لكل فئات املجتمع‪ ،‬وعلى امل�ستويات كافة‪ ،‬وتت�صف باال�ستقرار وتداول ال�سلطة وحرية احلراك‬ ‫االجتماعي‪ ،‬والقدرة على االندماج املجتمعي يف املفا�صل الأ�سا�سية للمجتمع من دون �إلغاء �أو تبعية‬ ‫للخ�صو�صيات االجتماعية املتكونة برتاكم تاريخي يحفظ للجماعات ما مييزها من �ضمن �إطار التنوع‬ ‫يف الوحدة؛ �إذا كان هذا �ش�أن �أنظمة احلكم الدميوقراطي‪ ،‬فكيف ميكن النظر �إىل �أنظمة احلكم التي‬ ‫تتميز فيها �أكرثية حتكم انطالقاً من وعي متيزها‪ ،‬و�أقليات على الهام�ش‪� ،‬أو تنتظر‪ ،‬انطالقاً من وعي‬ ‫متيزها‪ ،‬على غري ما تقول به الدميوقراطية‪ ،‬وعلى غري ما هو معروف يف �أمور تداول ال�سلطة؟‬ ‫دميوقراطية الأكرثية ودميوغرافيتها‬

‫يف البداية‪ ،‬ال بد من الت�أكيد �أن ال جمتمعات �صافية يف انتمائها الديني �أو الإتني‪ ،‬حتى و�إن كانت‬ ‫تتكلم لغة واحدة �أو تنتمي �إىل ديانة واحدة‪ .‬وثمة يف العامل �أكرث من ‪ 600‬لغة رئي�سية‪ ،‬باال�ضافة‬ ‫�إىل ‪� 6000‬إثنية‪ .‬وهذا كله يجعل من امل�ستحيل االدعاء ب�صفاء عرقي �أو ديني �أو ح�ضاري‪ .1‬هكذا‬ ‫كان العامل‪ ،‬وهكذا هو الآن‪ ،‬و�سيبقى‪.‬‬ ‫�إال �أن م�س�ألة الأقليات املعقود البحث فيها يف هذا املقام‪ ،‬تتناول ما ي�شكل االنتماء املغاير النتماءات‬ ‫الأكرثية مهما كان ت�شكل الأقليات والأكرثية‪ .‬من هذا الت�شكل‪ ،‬االنتماء الديني �أو املذهبي‬ ‫�ضمن الدين الواحد‪ .‬ومنه �أي�ضاً‪ ،‬الأقليات الأثنية التي ترى نف�سها خارج �إطار االنتماء الأكرثي‪،‬‬ ‫‪� 1‬أنظر يف هذا اخل�صو�ص للتف�صيل‪:‬‬ ‫ كمال ديب‪ ،‬هذا اجل�سر العتيق‪ ،‬دار النهار للن�شر‪ ،2008 ،‬بريوت‪� ،‬ص‪.31‬‬ ‫‪95‬‬


‫و�إن كانت ل�صيقة هذا االنتماء‪ .‬والأقليات ميكن �أن تكون دينية و�أثنية يف الوقت نف�سه‪ .‬ولكن ما هو‬ ‫م�شرتك بينها جميعاً احلر�ص على �إظهار التميز‪ .‬وهذا يعني �أنها ترى نف�سها‪ ،‬ويراها الآخرون‪« ،‬تتميز‬ ‫عن بقية مواطنيها بخ�صائ�ص �ساللية �أو لغوية �أو دينية �أو مذهبية‪ ،‬تكون �سبباً يف انعزالها اختيارياً‪،‬‬ ‫�أو عزلها ق�سراً‪ ،‬عن اجلمهور العام»‪ .2‬وغالباً ما ي�أخذ هذا التميز �صفة هاج�س الهوية‪ ،‬واالن�شغال‬ ‫بالتفتي�ش يف بطون التاريخ وم�ساحات اجلغرافيا عما يدعم هذا الهاج�س وي�ؤكده‪ .3‬وتت�ساوى يف‬ ‫هذا الإطار حقائق التاريخ و�أوهامه طاملا تدفع باجتاه تثبيت الهوية وت�أكيد االنتماء املخ�صو�ص لهذه‬ ‫«الأقلية»‪� ،‬أو تلك‪ ،‬يف مقابل الأكرثية التي تعمل على تثبيت اال�ستقرار وا�ستمرارية احلكم ودرء‬ ‫الفتنة با�سم الأكرثية ذاتها وب�سالحيها الأيديولوجي والعنفي؛ الأيديولوجي الذي ال يخرج عن‬ ‫االنتماء الديني‪� ،‬أو املذهبي‪ ،‬ح�سب الثنائية �أو املثالثة الدينية‪� ،‬أو تعدد املذاهب والطوائف �ضمن‬ ‫الدين الواحد‪� ،‬أو االنتماء االثني الذي يجعل من �أكرثية حتكم بهذا اال�سم‪� ،‬أو بالإثنني معاً‪:‬‬ ‫الديني‪ ،‬املذهبي‪ ،‬من جهة؛ والإثني‪ ،‬من جهة ثانية؛ بتمف�صل حمكم ومتني مع ال�سيا�سة التي ما‬ ‫ا�ستطاع الكثريون من منظريها وكل ممار�سيها‪ ،‬حتى الآن‪� ،‬أن يف�صلوا بني الديني‪ ،‬املذهبي‪ ،‬والأثني‬ ‫وبني ال�سيا�سي‪ .‬فتكون الأكرثية‪ ،‬وبهذا املعنى‪ ،‬منتجة‪� ،‬أو يف �أدنى احلاالت‪ ،‬م�ساعدة يف انتاج‬ ‫الأقلية من حيث هي دينية‪ ،‬مذهبية �أو �إثنية‪� ،‬أو الكل معاً‪.‬‬ ‫وبهذا املعنى �أي�ضاً‪ ،‬تكون الأقلية‪� ،‬أو الأقليات‪ ،‬قد �ساهمت يف متتني �أوا�صر الأكرثية ويف متا�سكها‬ ‫بحكم انتمائها‪ ،‬على �أي وجه كان‪� ،‬إىل ت�شديد قب�ضة احلكم‪ ،‬و�إىل �سلوك م�سلك اال�ستبداد والقهر‬ ‫با�سم احلفاظ على اال�ستقرار‪ ،‬وفر�ض الهدوء‪ ،‬وحماية املجتمع من االنق�سام‪ ،‬م�ستعملة و�سائل‬ ‫االتهام كافة لي�س �أولها االت�صال بالأجنبي وال �آخرها تفتيت املجتمع وتق�سيمه‪.‬‬ ‫ولكن من املهم الت�أكيد هنا‪� ،‬أن املجموعات االجتماعية يف �أي جمتمع كان ال تو�ضع يف �سلة‬ ‫واحدة من حيث كونها �أقليات‪ .‬فثمة �أقليات يغلب عليها طابع التميز‪ ،‬من �أي م�صدر �أتى‪ ،‬وتعترب‬ ‫نف�سها �أقليات يف تعاملها مع املجتمع الذي تنتمي �إليه؛ وثمة �أقليات حتمل ال�سمات العامة‬ ‫للمجتمع الذي تنتمي �إليه‪ ،‬وال حت�س ب�إح�سا�س التميز الذي يف�صلها عن الن�سيج املجتمعي العام‪،‬‬ ‫فال تت�صف ب�صفة الأقليات و�إن كانت ال تهمل خ�صائ�صها الذاتية �أو تلغيها‪ .‬وبهذا املعنى‪ ،‬ثمة‬ ‫جماعات «مميزة بخ�صائ�ص ذاتية جتعلها �أكرث احتما ًال لأن تعي�ش واقعاً �أقلوياً»‪ ...‬و�أخرى مميزة‬ ‫بخ�صائ�ص ذاتية «ولكنها متميزة بخ�صائ�صها الوطنية والقومية‪ ،‬وهي بالتايل �أقل تعر�ضاً لأن‬ ‫تت�صرف �أو تعامل باعتبارها �أقلية لكونها �أكرث اندماجاً يف الن�سيج االجتماعي الوطني والقومي»‪.4‬‬ ‫ ‪ 2‬عوين فر�سخ‪ ،‬الأقليات يف التاريخ العربي‪ ،‬ريا�ض الري�س للكتب والن�شر‪ ،1994 ،‬لندن‪ ،‬بريوت‪� ،‬ص‪.12‬‬ ‫‪ 3‬‬

‫‪ 4‬‬ ‫‪96‬‬

‫‪Georges CORME, Geopolitique du conflit libanais La decouverte,FMA, 1986, Paris, p61‬‬

‫فر�سخ‪ ،‬الأقليات يف التاريخ العربي‪ ،‬مذكور �سابقاً‪� ،‬ص‪.13‬‬


‫فكــــــر‬

‫العرب وجدل الأكرثية والأقليات‬

‫ال ميكن الكالم على الأقليات يف العامل العربي باعتبارها ذات خ�صائ�ص متماثلة‪ .‬فالأقليات‬ ‫القومية والإثنية تختلف عن الأقليات الدينية �أو املذهبية �أو الطائفية �ضمن القومية الواحدة �أو‬ ‫(جتاوزاً) �ضمن الإثنية الواحدة‪ .‬فالكردي والأرمني والرببري وال�شرك�سي والفار�سي والأ�شوري‬ ‫والرتكماين يختلفون عن العربي امل�سلم �أو امل�سيحي؛ فه�ؤالء ينتمون �إىل �أرومة واحدة تعود يف‬ ‫�أ�صولها �إىل الآرامية البعيدة املت�صلة بدورها بالعن�صر ال�سامي اخلارج من اجلزيرة العربية‪ .5‬بينما‬ ‫الكردي والرتكماين والفار�سي وال�شرك�سي والرببري من غري العرب‪ ،‬و�إن كانوا ب�أكرثيتهم ال�ساحقة‬ ‫ي�شرتكون معهم يف الدين‪ ،‬و�إن اختلف املذهب؛ و�أن الأرمني وال�سوداين اجلنوبي والأ�شوري من‬ ‫غري العرب و�إن ا�شرتكوا ب�أكرثيتهم ال�ساحقة‪� ،‬أي�ضاً‪ ،‬مع بع�ض العرب بالدين‪ ،‬و�إن اختلف املذهب‪.‬‬ ‫بهذا املعنى يلعب االختالف دوره تبعاً لأعداد الأقليات وت�أثريها يف احلياة ال�سيا�سية واالجتماعية‪.‬‬ ‫فيمكن بهذا االختالف �أن تت�أزم العالقات بني الأكرثية والأقلية‪� ،‬إما ب�سبب احلفاظ على الذات‬ ‫بالتما�سك الثقايف الذي يتجلى عادة باحلفاظ على العادات والتقاليد والتم�سك باللغة القومية‬ ‫وت�أمني ا�ستمرارها وانتقالها بني الأجيال باجلهود الأهلية البعيدة عن التوجه الر�سمي‪ ،‬يف حال‬ ‫ف�شل دفع الدولة �إىل تبني تعليم اللغات املحلية غري العربية؛ �أو باجلهود الفردية التي �أخذت على‬ ‫عاتقها الإبقاء على اللغات «القومية» عن طريق تعليمها مبختلف الطرق‪ .‬كما ميكن لها �أن تكون‬ ‫عام ًال م�ساعداً يف نه�ضة املجتمع‪ ،‬ويف تقدمه‪ ،‬يف حال توجه التعامل معهم وجهة اعتبارهم جزءاً‬ ‫من الن�سيج املجتمعي العام‪ ،‬ويف حال �ساعدوا يف �أخذ �أنف�سهم يف هذا االجتاه‪ .‬وهو االجتاه الذي‬ ‫ميكن �أن مييزهم باعتباره يحفظ التنوع �ضمن الوحدة‪ ،‬وي�ضفي على املجتمع �صفة املدنية باعتباره‬ ‫يحفظ حق االختالف‪ ،‬ويغني التنوع فيه‪ ،‬وينفي‪ ،‬يف الوقت نف�سه‪ ،‬ثنائية الأكرثية والأقلية‪ ،‬باملعنى‬ ‫الأهلي‪ ،‬وي�ساهم يف �إبراز �صفة الأكرثية والأقلية باملعنى املدين‪ ،‬املن�ش�أة من ممار�سة الدميوقراطية‬ ‫وتداول ال�سلطة‪ ،‬ومن منو احل�س املدين‪ ،‬ومن الرتبية على املواطنية‪.6‬‬ ‫وبهذا املعنى �أي�ضاً يلعب االختالف دوره على م�ستويني �إثنني؛ م�ستوى االنق�سام العمودي‬ ‫وم�ستوى االنق�سام االفقي‪ .7‬االنق�سام الأول يحول املجتمع الواحد اىل متعدد‪� ،‬إن كان على‬ ‫‪� 5‬أنظر يف هذا اخل�صو�ص‪:‬‬ ‫ جورج قرم‪� ،‬أ�ساطري وحقائق النزاع اللبناين‪ ،‬ال�سفري‪ .1987/12/3 ،‬وللتف�صيل حول هذه امل�س�ألة يف ما‬ ‫يتعلق بلبنان‪� ،‬أنظر‪ :‬عاطف عطيه‪ ،‬الدولة امل�ؤجلة‪ ،‬مذكور �سابقاً‪� ،‬ص‪.110-106‬‬ ‫ ‪ 6‬حول موا�صفات املجتمع املدين واختالفه عن املجتمع الأهلي‪� ،‬أنظر‪:‬‬ ‫ عطيه‪ ،‬الدولة امل�ؤجلة‪ ،‬مذكور �سابقاً‪� ،‬ص‪.130-123‬‬ ‫‪ 7‬حول الفرق بني االنق�سام العمودي والأفقي‪� ،‬أنظر‪:‬‬ ‫ فر�سخ‪ ،‬الأقليات يف التاريخ العربي‪ ،‬مذكور �سابقاً ‪� ،‬ص‪.14-13‬‬ ‫‪97‬‬


‫امل�ستوى الإثني �أو الثقايف‪ ،‬كما هو احلال يف املجتمع ال�سوداين واجلزائري والعراقي (�إتنيات‬ ‫جنوب ال�سودان‪ ،‬الرببر والأكراد على التوايل)‪� ،‬أو كان على امل�ستوى الطائفي الذي ال ي�ستقيم‬ ‫االنق�سام العمودي فيه �إال �إذا تكثف العمل على حتويل املجتمع الواحد املتعدد طائفياً �إىل جمتمع‬ ‫متعدد ثقافياً بتعدد الطوائف الدينية‪ ،‬وك�أن الطائفة متثل ثقافة بعينها؛ فتتعدد‪ ،‬لذلك‪ ،‬وبح�سب هذا‬ ‫التوجه‪ ،‬املجتمعات اللبنانية‪ ،‬مث ًال‪ ،‬بتعدد طوائفها الدينية‪ .‬وهذا ما تر ّوج له االيديولوجيا الطائفية‪،‬‬ ‫وهي �إيديولوجيا الأقلية امل�سيحية يف لبنان منذ حلظات ن�ش�أتها ك�أقلية مقابل �أكرثية �إ�سالمية يف‬ ‫كنف الدولة العربية اال�سالمية على امتداد تاريخها منذ �أيام الدولة الأموية واملردة‪� ،‬إىل الدولة‬ ‫اململوكية وال�سلطنة العثمانية مع م�سيحيي جبل لبنان‪ ،‬وخا�صة املوارنة‪ .‬وهي الأيديولوجيا التي‬ ‫ما انفكت عن الظهور عند املفا�صل الأ�سا�سية للنزاعات يف لبنان عندما ترتدي (النزاعات) ثوب‬ ‫الثنائية الدينية‪ ،‬وتعود �إىل ال�ضمور عندما ترتدي النزاعات �أثواب الثنائية املذهبية �أو التعدد‬ ‫املذهبي �ضمن الثنائية �إياها‪ ..‬ويف هذا‪..‬كالم �آخر‪� .‬أما االنق�سام الأفقي‪ ،‬فهو الذي يحفظ‬ ‫التمايزات من دون �إعاقة امل�شاركة الكاملة يف املجتمع من �ضمن �إطار التنوع يف الوحدة‪.8‬‬ ‫بني الأكرثية والأقلية‬

‫ال ي�ستقيم النظر �إىل الأقليات باعتبارها م�شكلة �إال �إذا كانت هذه امل�شكلة كامنة يف الأكرثية �أو ًال‪،‬‬ ‫�أي يف املجتمع ذاته‪ .‬لذلك ميكن الت�سا�ؤل‪ :‬هل ثمة مربر لإبراز متايزات الأقلية و�إظهار نف�سها على‬ ‫�أنها جمموعات م�ستقلة لو مل يكن لدى الأكرثية امليل نف�سه �إىل �إبراز ذاتيتها الثقافية؟‬ ‫يجيب برهان غليون عن هذا الت�سا�ؤل بقوله‪�« :‬إذا كنا نعرتف �أن هناك �أقليات ف�إننا نعرتف �أن هناك‬ ‫داخل اجلماعة الكربى جماعات لها فع ًال تقاليد متميزة ن�سبياً عن اجلماعة الكربى‪ ،‬ولي�س لنا �أن‬ ‫نطالبها بالتخلي عن هذا التمايز الثقايف من دون �أن نلغي حقنا يف �أن يكون لدينا ذاتية ثقافية»‪.9‬‬ ‫هذا يف حال وجود التمايز الثقايف‪ .‬ولكن ماذا لو كان هذا التمايز م�صطنعاً يف �سبيل الو�صول �إىل‬ ‫هدف �سيا�سي؟ ماذا لو ا�ستعملت التعددية الثقافية امل�صنوعة ايديولوجياً واملبنية على الثنائية الدينية‬ ‫والتعددية الطائفية و�سيلة للو�صول �إىل نتيجة �سيا�سية وهي �إن�شاء جمتمعات على قدر الطوائف الدينية؟‬ ‫تبد�أ امل�شكلة احلقيقية عندما ي�صبح ال�ش�أن الثقايف وليد املمار�سة ال�سيا�سية املن�ش�أة من �أيديولوجيا‬ ‫الأقلية (الأيديولوجيا الطائفية)‪ ،‬ولي�س عندما ي�صبح لهذا التمايز الثقايف (التمايز القومي‬ ‫ ‪ 8‬حول وحدة حياة اللبنانيني على اختالف طوائفهم الدينية املمار�سة على الأر�ض وال ينق�صها �إال نظام‬ ‫�سيا�سي اجتماعي يحفظها وينميها‪� ،‬أنظر‪:‬‬ ‫ عاطف عطيه‪ ،‬املجتمع‪ ،‬الدين والتقاليد‪ ،‬جرو�س بر�س‪ ،1992 ،‬طرابل�س‪� ،‬ص‪.550‬‬ ‫ ‪ 9‬برهان غليون‪ ،‬امل�س�ألة الطائفية وم�شكلة الأقليات‪ ،‬دار الطليعة‪ ،1979 ،‬بريوت‪� ،‬ص‪.19‬‬ ‫‪98‬‬


‫فكــــــر‬

‫�أو الإثني) وجود �سيا�سي مميز‪ ،‬كما يقول غليون‪ .10‬وهذا يعني حتديداً �أن من حق الأكراد �أو‬ ‫الأرمن �إن�شاء الأحزاب املدافعة عن م�صاحلهم �ضمن املجتمع الكبري با�سم متايزهم الثقايف‪ ،‬من‬ ‫دون �أن يكون من حق املوارنة �أو ال�شيعة �أو ال�س ّنة يف لبنان (�أو غريه) املدافعة عن م�صاحلهم با�سم‬ ‫التمايز نف�سه‪ ،‬و�إن كان لهم احلق يف املدافعة عن م�صاحلهم باعتبارهم طوائف �ضمن �أرومة واحدة‬ ‫و�ضمن نظام طائفي‪ ،‬متحقق �أو م�ض َمر‪ ،‬يرعى وجودهم باعتبارهم طوائف ومل ًال ونح ًال يحفظ حقها‬ ‫الد�ستور والأعراف املجتمعية التي تلحظ هذه الثنائية الدينية وهذا التعدد الطائفي واملذهبي‬ ‫فتوزع‪ ،‬تبعاً لذلك‪ ،‬ح�ص�صها على ادارات الدولة ومواقعها الرئي�سية‪ .‬وعندما يتم التعامل بني‬ ‫الأكرثية والأقلية على �أ�سا�س التوجه الثقايف لكل منهما‪ ،‬لن يعود من امل�ستغرب �أن ي�ستعني كل‬ ‫طرف �إما بعمقه اال�سرتاتيجي املت�شكل تاريخياً ولو كان دولة �أجنبية‪ ،‬و�إما برف�ض كل ما ينتج عن‬ ‫التمايز‪ ،‬على �أي وجه كان‪ ،‬با�سم احلفاظ على الوحدة والت�ضامن املجتمعيني‪.11‬‬ ‫يف هذا املقام ين�ش أ� التناق�ض بني توجه الأكرثية التي تقود الدولة واملجتمع‪ ،‬وتوجه الأقليات؛ وهو‬ ‫تناق�ض �إما نا�شئ عن عجز الأكرثية يف حتقيق مواطنيتها ومواطنية الأقليات‪ ،‬من جهة؛ �أو عن ف�شلها يف‬ ‫بناء �أ�س�س الدولة احلديثة‪ ،‬من جهة ثانية‪ .‬ي�ساعدها يف ذلك‪ ،‬انكفاء الأقليات مبحاوالت �إظهار متايزهم‬ ‫وهوياتهم املغايرة‪ ،‬ما ي�ساهم يف زيادة حدة التناق�ض املو�صل اىل الت�شتت فالتقاتل واالنق�سام‪.‬‬ ‫و�إذا كانت الأكرثية متار�س �سلطتها باعتبارها �أكرثية على امل�ستوى الديني �أو على م�ستوى االنتماء‬ ‫احل�ضاري �إىل العروبة‪ ،‬ف�إنها بعدم قدرتها على الف�صل بني العروبة واال�سالم‪� ،‬أو بعدم رغبتها �سلوك هذا‬ ‫امل�سلك يف تاريخها الطويل بعد اال�ستقالل‪ ،‬كما قبله باعتبارها جزءاً ال ينق�سم عن ال�سلطنة العثمانية وارثة‬ ‫اخلالفة؛ كانت الأقلية‪ ،‬وعلى �أي مذهب �أو �إثنية‪ ،‬تعمل على �أنها حمكومة دينياً وبا�سم ال�شريعة الإ�سالمية‪،‬‬ ‫وهي لها نظراتها املخ�صو�صة يف �ش�ؤون العالقة بني اخلالق واملخلوق‪� ،‬أو بني املخلوقات ح�سب ما تقت�ضيه‬ ‫�شريعة كل منها و�إن كانت منبثقة من الدين �أو من اجتهادات ان�سانية يف �ش�ؤون الدين والدنيا‪ .‬وهكذا‬ ‫مل تعمل الأكرثية على تطوير �أنظمتها ال�سيا�سية االجتماعية مبا يتالءم مع الدولة احلديثة‪ ،‬ومبا ي�ستوعب‬ ‫م�شاكل الأقليات ويدخلها يف م�شاركة حقيقية يف م�سائل ال�سلطة والنظام العام؛ بل على العك�س‪،‬‬ ‫عملت هذه الأنظمة‪ ،‬با�سم اال�سالم‪� ،‬أو با�سم القومية العربية‪� ،‬إما على �إلغاء دور الأقليات‪� ،‬أو تهمي�شه‪،‬‬ ‫ما �ساهم يف ت�أجيج م�شاعر ه�ؤالء‪ .‬بل و�أكرث من ذلك‪ ،‬عملت هذه الأنظمة �إما على متتني وجودها‬ ‫باعتبارها تنتمي �إىل �أقلية متحققة من �ضمن �إ�شكالية العالقة بني العروبة واال�سالم؛ و�إما على ابتداع‬ ‫�أقلية خا�صة بها‪ ،‬ويف كنف الأكرثية‪ ،‬تقت�سم مغامن ال�سلطة والنفوذ والرثوة ولو �أ�شركت يف ذلك بع�ضاً‬ ‫من فئات الأقليات املت�شكلة تاريخياً‪ ،‬والعاجزة عن املناف�سة �سيا�سياً‪ ،‬لأقليتها؛ وا�ضعة بذلك‪ ،‬ويف‬ ‫احلالتني‪ ،‬احلواجز الكثيفة بينها وبني الأكرثية املنبثقة منها‪ .‬فتحولت الأنظمة‪ ،‬ومن خالل املمار�سة‪،‬‬ ‫‪ 1 0‬امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص‪.19‬‬ ‫‪ 11‬للتف�صيل حول هذه امل�س�ألة‪� ،‬أنظر املحور النظري للكتاب الهام‪:‬‬ ‫ كمال ديب‪ ،‬هذا اجل�سر العتيق‪ ،‬مذكور �سابقاً‪� ،‬ص‪.39-25‬‬ ‫‪99‬‬


‫�إىل �أنظمة �أقلوية ُت�ضاف‪ ،‬يف نظر الأكرثية‪� ،‬إىل جملة الأقليات‪ ،‬ويبد�أ التعامل معها على هذا الأ�سا�س‪.‬‬ ‫يظهر ذلك جلياً‪ ،‬من خالل �آلية انتقال ال�سلطة من العثمانيني‪ ،‬مروراً بامل�ستعمرين و�صو ًال �إىل دول اال�ستقالل‪.‬‬ ‫املرياث العربي‬

‫بهذا التوجه‪ ،‬ورثت الأنظمة العربية‪ ،‬و�إن بطريقة مغايرة‪ ،‬ما قدمته ال�سلطنة العثمانية يف نظام امللل‬ ‫ملـة (طائفة) مرجعيتها الدينية باعتبارها �أي�ضاً مرجعية �سيا�سية للتمف�صل املكني‬ ‫الذي �أعطى لكل ّ‬ ‫بني الدين وال�سيا�سة‪ .‬و�أعطى لكل جمموعة اجتماعية (�أقلية) حق املطالبة باحلقوق ال�شرعية‬ ‫لها باعتبارها جمموعة دينية قبل �أي �شيء‪ .‬وكما مل يكن لدى الأكرثية احلاكمة ت�صور �سيا�سي‬ ‫اجتماعي خارج اطار الدين‪ ،‬وما ير�شح عن االنتماء الديني من ت�صورات ت�ؤدي �إىل ممار�سات عملية‬ ‫يف �شتى �ش�ؤون احلياة‪ ،‬ومنها �ش�ؤون املمار�سة ال�سيا�سية؛ كان للأقليات‪ ،‬على اختالف توجهاتها‪،‬‬ ‫ت�صورات �سيا�سية اجتماعية منبثقة من اعتبارهم �ضائعني يف بحر متالطم من امل�سلمني‪ .‬فنادى‬ ‫الكثريون من متنوريهم‪ ،‬وخ�صو�صاً من امل�سيحيني املوارنة‪ ،‬بالقومية العربية مقابل اجلامعة اال�سالمية‬ ‫التي كانت متثلها الدولة العثمانية‪ .‬وظهرت الأفكار القومية التي بد�أت �أوىل �إرها�صاتها يف بداية‬ ‫الن�صف الثاين من القرن التا�سع ع�شر مع بطر�س الب�ستاين و«نفري �سوريا»‪ ،‬ومع الكثري من الأدباء‬ ‫وال�صحافيني اللبنانيني يف لبنان وم�صر‪ .‬ون�سج على هذا املنوال الكثريون من امل�سلمني املتنورين‬ ‫مثل عبد الرحمن الكواكبي وغريه من دعاة الالمركزية التي تفر�ضها وحدة االنتماء الديني‪.12‬‬ ‫م�أزق ال�سلطة النا�شئ من التخلي عن تقليديتها من دون القدرة على بناء �أ�س�س الدولة احلديثة‪،‬‬ ‫والنا�شئ �أي�ضاً من عدم القدرة على بلورة الأفكار املدنية احلديثة‪ ،‬ومن الق�صور يف بناء �أ�س�س‬ ‫املجتمع املدين؛ م�أزق �أدى �إىل �إظهار املواجهة على �أنها مواجهة دينية‪ ،‬طائفية �أو مذهبية بني‬ ‫�أكرثية حتكم و�أقليات حمكومة‪ .‬لي�س هذا فح�سب‪ ،‬بل �أدى دخول الدولة البطركية امل�ستحدثة‪،‬‬ ‫ح�سب ه�شام �شرابي‪ ،13‬دوامة ال�صراع باعتبارها «ثورة» على التقليد‪ ،‬ف�أ�ضحت �أقلية �سيا�سية‬ ‫تعمل على ت�أبيد �سلطتها‪ ،‬و�إن كان ذلك �ضد جمتمعها الأكرثي ذاته‪ ،‬ولي�س فقط �ضد الأقليات‪.‬‬ ‫وهنا ميكن فهم الثورات العربية النا�شئة باعتبارها الأكرثية �ضد ا�ستبعاد الأقلية احلاكمة لها‪ ،‬وذلك‬ ‫با�سم الأ�صالة والعودة اىل الدين و�ضد احلداثة والتحديث‪ .14‬ما يعني «�أن كل ان�سداد يف النظام‬ ‫‪ 12‬للتف�صيل حول دعاة اال�ستقالل واال�صالح على �أ�سا�س الالمركزية‪� ،‬أنظر‪:‬‬ ‫ عطيه‪ ،‬الدولة امل�ؤجلة‪ ،‬مذكور �سابقاً‪� ،‬ص‪.86-79‬‬ ‫‪� 13‬أنظر يف هذا اخل�صو�ص‪ ،‬الكتاب الهام‪:‬‬ ‫ ه�شام �شرابي‪ ،‬النظام الأبوي‪ ،‬ترجمة حممود �شريح‪ ،‬دار نل�سن‪ ،‬الطبعة الرابعة‪ ،2004 ،‬بريوت‪.‬‬ ‫‪ 14‬غليون‪ ،‬امل�س�ألة الطائفية وم�شكلة الأقليات‪ ،‬مذكور �سابقاً‪� ،‬ص‪.29‬‬ ‫‪100‬‬


‫فكــــــر‬

‫ال�سيا�سي يخلق انفجاراً يف املجتمع املدين (الأهلي) وي�ؤدي �إىل ن�شوء ع�صبوية مغلقة»‪ .15‬وهنا‬ ‫يظهر ب�شكل وا�ضح ق�صور الدولة امل�ستحدثة عن �إيجاد �أي تغيري يف بنية ال�سلطة والنظام‪ .‬وهذا ما‬ ‫ي�ؤدي‪ ،‬ب�سبب العجز‪� ،‬إىل املطالبة ب�أ�سلمة الدولة ومعاملة الأقليات مبا تقت�ضيه ال�شريعة اال�سالمية‪.‬‬ ‫مل يكن ت�أثري االمتيازات الأجنبية ب�أقل مما �أث ّـر نظام امللل‪ .‬فقد اعتربت الدول الأوروبية �أن هذه‬ ‫االمتيازات هي الباب الذي ميكن �أن تدخل منه للت�أثري يف امللل غري امل�سلمة (وغري ال�سنية �أي�ضاً)‪.‬‬ ‫بوا�سطتها ت�ؤثر على الطوائف التي تنتقيها با�سم الرعاية واحلماية‪ .‬وبوا�سطة هذه االمتيازات دخلت‬ ‫عنا�صر التب�شري بامل�سيحية الغربية الكاثوليكية والربوت�ستانتية‪ ،‬لي�س يف �أو�ساط امل�سلمني‪� ،‬إذ لي�س‬ ‫مبقدورهم ذلك بحكم الأكرثية‪� ،‬إال يف القليل النادر؛ بل يف �أو�ساط امل�سيحيني امل�شرقيني‪ ،‬وخ�صو�صاً‬ ‫يف الأرياف واملناطق النائية‪ .‬ما قدمته هذه العنا�صر‪ ،‬وبوا�سطة املدار�س التي �أن�ش�أتها‪ ،‬مل ي�ساهم يف نه�ضة‬ ‫تعليمية كربى فح�سب‪ ،‬بل �ساهم �أي�ضاً يف تو�سيع الهوة بني امل�سيحيني (الأقلية) وامل�سلمني(الأكرثية)‪،‬‬ ‫من ناحية؛ ويف تر�سيخ �أولوية االنتماء الديني واملذهبي‪ ،‬من ناحية ثانية‪ .‬وهو ما عمل‪ ،‬باال�ضافة �إىل‬ ‫عوامل �أخرى‪� ،‬إىل تفجري النزاعات الطائفية يف جبل لبنان(‪ ،)1860 - 1841‬واىل ن�شوء النظام الطائفي‬ ‫ابتداء من ‪ ،1861‬وهو ما عرف بربوتوكول ‪ 1861‬ومن ثم ‪� ،1864‬أو نظام املت�صرفية‪.‬‬ ‫بني الأكرثية الدينية والقومية‬

‫عندما جنح العروبيون يف فك العروة الوثقى بني العرب امل�سلمني وال�سلطنة العثمانية‪ ،‬و�صل هذا‬ ‫االنفكاك �إىل التحالف مع الغرب امل�سيحي �ضد الدولة العثمانية امل�سلمة باعتبارها �شريكة املحور‬ ‫يف احلرب العاملية الأوىل‪ ،‬وباعتبارها الرجل املري�ض الذي ال بد �أن يورث العرب دولتهم بال�سلم‬ ‫�أو باحلرب‪ .‬وطاملا مل يعط العثمانيون ا�ستقال ًال للعرب يف �إطار الالمركزية يف الأقل الواجب‪ ،‬فال‬ ‫ب�أ�س من وراثتها حرباً‪ ،‬و�إن كان بالتعاون مع دول عدوة مع الدولة التي ال تزال دولتهم‪.‬‬ ‫هكذا‪ ،‬و�صل الأمري في�صل �إىل �سدة امللك بحكم منطق القوة والن�صر الذي انعقد للحلفاء يف‬ ‫احلرب‪ .‬ف�أ�س�س الدولة العربية املوعودة مبعزل عن ارادة املنت�صرين باعتبارها حت�صيل حا�صل‪ .‬وكان‬ ‫ه�ؤالء يف �صدد ترتيب �أو�ضاعهم واقت�سام تركة العثمانيني ب�صرف النظر عن وعودهم للعرب مع‬ ‫ت�أكيد الوعد ب�إن�شاء دولة قومية لليهود؛ وهو الوعد الذي ال يخرج عن منطق التعامل مع منوذج‬ ‫�ساطع من الأقليات‪.‬‬ ‫بانتهاء احلرب العاملية الأوىل التي �أذنت بانتهاء �أربعة قرون من حكم العثمانيني‪ ،‬ات�ضح املجال على‬ ‫نوع جديد من التعامل ال�سيا�سي ‪ -‬االجتماعي بني العرب �أنف�سهم‪ ،‬و�إن كان و�سط لغط متناق�ض ن�ش�أ‬ ‫عن ظروف التعامل مع الغرب‪ ،‬وعن ظهور الدولة العربية اجلديدة‪ ،‬وعن �إلغاء اخلالفة اال�سالمية لأول‬ ‫‪ 1 5‬امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص‪.29‬‬ ‫‪101‬‬


‫مرة يف تاريخ اال�سالم وامل�سلمني‪ .‬ومن ه�ؤالء من كان مع الدولة «احلديثة»‪ ،‬ومنهم من كان �ضدها‬ ‫باعتبار �أنها ن�ش�أت على �أنقا�ض اخلالفة‪ ،‬ومنهم من �سكت على م�ض�ض‪� .‬أما الأقليات‪ ،‬وامل�سيحيون‬ ‫منهم على اخل�صو�ص‪ ،‬فقد اعتربوا ذلك ن�صراً لهم لأنهم �شاركوا يف ت�أ�سي�س هذه الدولة‪ ،‬كما �أملوا �أن‬ ‫ي�شاركوا يف قيادتها على �أنها الدولة املدنية الأوىل يف التاريخ العربي الإ�سالمي‪ .‬ويعترب يو�سف احلكيم‬ ‫(الأرثوذك�سي) من �أهم الوزراء يف احلكومات املتعاقبة �أيام في�صل‪.‬‬ ‫القومية بني الأكرثية والأقلية‬

‫يف اجلانب الآخر بد�أ العمل على �صوغ النظام ال�سيا�سي جلبل لبنان باعتباره موقع امل�سيحيني‬ ‫ومالذهم‪ .‬هل يبقى �شبه م�ستقل �أم �سيتمتع باال�ستقالل التام؟ هل يكون من �ضمن اململكة‬ ‫العربية الكربى �أم اململكة ال�سورية؟ ما هو النظام ال�سيا�سي الذي �سيعتمده؟ وما هو موقفه من‬ ‫العرب والعروبة‪ ،‬ومن اال�سالم وامل�سلمني؟ هل هو ن�صري الغرب الذي ي�شرتك معه يف الدين‪� ،‬أم‬ ‫ن�صري العرب الذي ي�شرتك معهم يف العن�صر واللغة والتاريخ وامل�صري؟‬ ‫هذه الأ�سئلة وغريها الكثري‪ ،‬كانت تدور يف �أذهان املطالبني من امل�سيحيني باال�ستقالل عن الدولة‬ ‫العثمانية با�سم العروبة وبا�سم التاريخ امل�شرتك واللغة الواحدة‪ .‬ويف تلك اللحظات‪ ،‬راحت الدولة‬ ‫العثمانية‪ ،‬ومل يبق �إال ما تركته‪ .‬وما تركته �أغلبية �ساحقة من املنتمني اىل اال�سالم ديناً‪ ،‬واىل‬ ‫العروبة ح�ضار ًة ينتمي �إليها امل�سلمون وامل�سيحيون معاً‪ .‬فكيف ال�سبيل اىل االختيار يف توجههم‬ ‫ال�سيا�سي؟ وكيف عليهم �أن يبنوا م�ستقبلهم؟‬ ‫�إذا كان الواقع االجتماعي ‪ -‬التاريخي ي�صوغ الأفكار ويبلورها‪ ،‬ف�إن املطالبة با�ستقالل العرب‬ ‫عن الدولة العثمانية با�سم القومية العربية اجلديدة على �أ�سماع امل�سلمني والطارئة على قامو�س‬ ‫التعامل اال�سالمي اليومي حينها‪ ،‬انقلبت �إىل مطالبة بقومية �أ�ضيق كانت لبا�ساً ي�سرت ج�سداً ذا‬ ‫ينقـبون عن املقوالت الفكرية والنظريات‬ ‫توجه ديني‪ ،‬وهي القومية اللبنانية‪ .‬وبد�أ املطالبون بها ّ‬ ‫ال�سيا�سية التي تدعم هذا التوجه‪ .‬ومما وجده ه�ؤالء من ممار�سات فعلية ت�صب يف هذا االجتاه‪،‬‬ ‫ال�صدامات امل�سلحة التي �أخذت املنحى الطائفي بني ن�صري لال�ستقالل وللفرن�سيني‪ ،‬وبني معا ٍد‬ ‫للفرن�سيني ون�صري للدولة العربية‪ .16‬ومما وجده ه�ؤالء �أي�ضاً ممار�سات يف بدايات احلكم العربي‬ ‫تف�صح عن �إرادة وا�ضحة يف تطبيق ال�شريعة اال�سالمية‪ .17‬ووجد ه�ؤالء �أي�ضاً �أن ن�ضالهم من �أجل‬ ‫اال�ستقالل عن الدولة العثمانية ال يعني الغرق جمدداً يف بحر من امل�سلمني العرب‪ ،‬ف�آثروا تغطية‬ ‫انتمائهم الأقلوي برداء ن�سجوه مما كان �سائداً من �أفكار حديثة يف القومية والعلمانية وف�صل الدين‬ ‫‪ 16‬وجيه كوثراين‪ ،‬االجتاهات االجتماعية ال�سيا�سية يف لبنان وامل�شرق العربي‪ ،1976 ،‬بريوت‪� ،‬ص‪.330‬‬ ‫‪ 1 7‬امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص‪.277‬‬ ‫‪102‬‬


‫فكــــــر‬

‫عن الدولة والقيمة العليا للفرد؛ وهي �أفكار غربية مل يجدوا ب�أ�ساً من ا�ستعمالها يف تف�صيل لبا�س‬ ‫القومية اللبنانية بعد �أن ا�ستعمله �أ�سالفهم يف تف�صيل ثوب القومية العربية‪ .‬وهما لبا�سان بديالن‬ ‫�إثنان‪ ،‬كل يف زمانه‪ ،‬عن لبا�س الإ�سالم باعتباره وعا ًء يحتوي امل�سلمني وغريهم يف �أمة الإ�سالم‪.‬‬ ‫يف هذا التوجه كانت تدور املفاو�ضات يف م�ؤمتر ال�سالم يف باري�س ع�شية �إعالن دولة لبنان الكبري‪.‬‬ ‫و�سعت م�ساحتها وزادت �سكانها‪ ،‬وغريت من‬ ‫وحظي امل�سيحيون بدولتهم بعد �أن �أحلقت بها �أق�ضية ّ‬ ‫معادالتها الدميوغرافية‪ ،‬و�أعطت امل�سيحيني‪ ،‬وخا�صة املوارنة‪� ،‬سلطات حفظها الد�ستور ورعتها الدولة‬ ‫املنتدبة‪ ،‬و�أق�صت مناطق مثل طرابل�س عن عمقها الدميوغرايف وعن موقعها املميز يف دولة غابت‪ّ ،‬‬ ‫لتحل‬ ‫يف موقع تابع بعد �أن كانت يف موقع املتبوع بحكم انتمائها اىل االكرثية‪ .‬فذاقت مرارة ال�شعور الأقلوي‬ ‫الذي منعها من الدخول يف �صلب املعادلة اجلديدة لفرتة امتدت �إىل �أكرث من عقد ون�صف‪.18‬‬ ‫جدل الأقليات‬

‫مع �إيجاد دولة لبنان الكبري تغريت املعادلة‪ .‬وحتول لبنان من جبل تقطنه �أقليات مقابل �أكرثية متثلها‬ ‫الدولة العثمانية‪ ،‬وتتعامل فيما بينها باعتبارها �أكرثية (مارونية ‪ -‬درزية)‪ ،‬و�أقليات‪ ،‬منها الأقلية ال�سنية؛‬ ‫�إىل دولة ت�ضم جمموعة من الأقليات و�صلت يف وقتنا احلا�ضر �إىل ثماين ع�شرة طائفة دينية‪ ،‬و�إىل �أكرثية‬ ‫�آرامية عربية متثل �أكرث من ‪ %90‬من املجتمع اللبناين بالإ�ضافة �إىل الأرمن ‪ %8 - 7‬والأكراد ‪.19%3 - 2‬‬ ‫مع الواقع اجلديد وبت�أ�سي�س لبنان الكبري‪� ،‬أو ًال‪ ،‬ومن ثم اجلمهورية اللبنانية مع و�ضع د�ستور ‪،1926‬‬ ‫تغريت �أدوات ال�صراع يف لبنان مع الإبقاء على امل�ضمون نف�سه‪ .‬وكان حلمة هذا ال�صراع و�سداه‬ ‫هاج�س الهوية وق�ضايا االنتماء‪ .‬وكان االنتماء الديني ال يزال يحظى ب�أولية عنا�صر االنتماء‪،‬‬ ‫و�إن لب�س �ألب�سة خمتلفة منها اللبا�س ال�سيا�سي‪ :‬القومية العربية والقومية اللبنانية؛ �أو احل�ضاري‪:‬‬ ‫العربية �أو الفينيقية؛ ومنها اللبا�س احلزبي النجادة �أو الكتائب �إلخ‪ .‬وكلها ت�سميات تف�صح بكلمات‬ ‫حديثة عن م�ضمون مت�شكل من االنتماء الديني‪ :‬اال�سالم وامل�سيحية‪.‬‬ ‫�أخذ ال�صراع على الهوية‪ ،‬وهو ال�صراع املتميز الذي ت�ستح�ضره الأقليات للدفاع عن وجودها‪،‬‬ ‫ولإثبات هذا الوجود الذي ال يخفي ال�صراع على ال�سلطة‪ ،‬بل ي�ؤكده با�سم ال�شراكة التي عليها‬ ‫�أن تتنا�سب مع احلجم العددي‪ ،‬ومع ما يتيحه النظام ال�سيا�سي الذي يلحظ هذه امل�شاركة‪ ،‬فتتعزز‬ ‫بقدر التغريات الدميوغرافية التي تفر�ضها؛ �أو تفر�ض هذه امل�شاركة بتو�سل املتغري الدميوغرايف ذاته‪.‬‬ ‫من هنا ن�ش�أ عدم اال�ستقرار ال�سيا�سي يف لبنان النا�شئ عن التغري الدميوغرايف‪ ،‬وبالتايل عن تغري‬ ‫مواقع ال�سلطة التي ال تخرج عن كونها �سلطة الطوائف �أو ال�سلطة الطائفية‪.‬‬ ‫‪ 18‬انظر يف هذا اخل�صو�ص‪ :‬ديب‪ ،‬هذا اجل�سر العتيق‪ ،‬مذكور �سابقاً‪� ،‬ص‪.92‬‬ ‫‪ 19‬قرم‪� ،‬أ�ساطري وحقائق النزاع اللبناين‪ ،‬ال�سفري‪ ،‬مذكور �سابقاً‪.‬‬ ‫‪103‬‬


‫يف لبنان اجلمهورية‪ ،‬تكر�ست الأكرثية اجلديدة بثالث جمموعات تراوحت ن�سبتها بني و‬ ‫من جمموع العديد الإجمايل للبنانيني‪ .‬وبقيت الطوائف اخلم�س ع�شرة �ضمن حدود ‪ %25‬جمتمعة‪.‬‬ ‫وهذه لعبت دورها ك�أقليات‪ ،‬مهم�شة �أو تابعة‪ ،‬يف م�س�ألة التعاطي مع �ش�ؤون احلكم وال�سلطة‪.‬‬ ‫وتناوبت الطوائف الثالث على االم�ساك بزمام الأمور يف البالد با�سم لبنان امل�سيحي‪� ،‬أو ًال‪ ،‬ذي الوجه‬ ‫عدل من هذا التوجه‪ ،‬املر�سوم من �سلطات االنتداب‪ ،‬وملوقع‬ ‫العربي‪ ،‬ومن ثم لبنان امليثاقي الذي ّ‬ ‫املوارنة يف اجلبل قبل �ضم امللحقات؛ وهو التوجه الذي �أف�ضى �إىل اعتماد نفيني لدرء خطر الأكرثية‬ ‫التي ميكن �أن تتجلى يف ت�أثري اخلارج على الداخل‪ :‬عدم االعتماد على العمق العربي (امل�سلم) مقابل‬ ‫عدم اللجوء اىل الغرب (امل�سيحي)‪ ،‬ما حدا بال�صحايف جورج نقا�ش �إىل قول عبارته ال�شهرية‪« :‬نفيان‬ ‫ال ي�صنعان �أمة ‪ .Deux négations ne font pas une nation‬هذه املبادلة �شكلت املرتكز الأ�سا�سي‬ ‫للميثاق الوطني الذي �أعطى ال�س ّنة يف لبنان امل�شاركة الفعلية يف �ش�ؤون احلكم يف ثنائية تق ّوت مبخا�ض‬ ‫املد العروبي يف لبنان‪ ،‬و�أبقى الأكرثية ال�شيعية على حدود املمار�سة ال�سيا�سية‪� ،‬إن مل يكن على‬ ‫�أحدثه ّ‬ ‫هام�شها‪ .‬وهذا ينطبق على الطوائف الأقل عدداً‪ ،‬وبالتايل الأقل �أهمية‪ ،‬على م�ستوى هذه املمار�سة‪.‬‬ ‫‪%25 23‬‬

‫النظام املنتج للفكر الأقلوي‬

‫مل تتعدل هذه امل�شاركة الثنائية �إال �أثناء احلرب اللبنانية وتكر�ست يف اتفاق الطائف مبعادلة املثالثة التي‬ ‫�أتاحت لل�شيعة حق امل�شاركة الكاملة يف احلكم من �ضمن نظام الرتويكا الذي �أعطى ملجل�س النواب‬ ‫رئي�ساً ملكاً غري متوج؛ وهو عطاء متزامن مع �صعود جنم املقاومة اللبنانية التي �أعطت لل�شيعة قوة غري‬ ‫م�سبوقة‪ .‬هذا العطاء املزدوج �أتاح لهذه الطائفة املوقع املتقدم يف املعادلة اجلديدة واملناف�سة مع الطائفة‬ ‫ال�سنية واقت�سام الطائفة املارونية منا�صفة‪� ،‬أو ما ي�شبه املنا�صفة بني هذه وتلك يف املجال ال�سيا�سي‪ ،‬و�إن‬ ‫كان يف جميع الطوائف من ال يخ�ضع لهذا املنطق يف االنق�سام‪ .‬وقد عبرّ كمال ديب عن هذه احلالة‬ ‫بقوله‪« :‬بد�أت املناف�سة على ال�سلطة ال�سيا�سية يف الربملان وجمل�س الوزراء واملراتب العليا يف الدولة‬ ‫بني ال�سنة وال�شيعة‪ ...‬و�سعى اجلانبان �إىل اجتذاب امل�سيحيني‪ ...‬وبدت قيادتـ(هما) مبوقع الهاجم على‬ ‫تركة املوارنة‪( ...‬الـ) م�شتتني (الـ) موزعني»‪ .20‬وقد �ش ّبه ديب العالقة بني الطوائف يف الت�سعينيات‬ ‫مع ما ح�صل يف الع�شرينيات من القرن املا�ضي مع انقالب يف الأدوار‪ ،‬بقوله‪ « :‬ثمة �شبه كبري يف‬ ‫الت�سعينات بني �سعي الزعامات الإ�سالمية جللب امل�سيحيني �إىل اجلمهورية الثانية وامل�ساهمة فيها‪،‬‬ ‫و�سعي املوارنة بعد والدة دولة لبنان الكبري يف الع�شرينات جللب امل�سلمني �إىل جانبهم‪.»21‬‬ ‫ال يخرج االنق�سام ال�سيا�سي اللبناين‪ ،‬يف �صيغه املختلفة‪ ،‬عن جدل الأكرثية والأقليات‪ ،‬و�إن كان‬ ‫‪ 20‬ديب‪ ،‬هذا اجل�سر العتيق‪ ،‬مذكور �سابقاً‪� ،‬ص‪.246‬‬ ‫‪ 2 1‬امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص‪.251‬‬ ‫‪104‬‬


‫فكــــــر‬

‫املحدد الأ�سا�سي لهذه االنق�سام‪ .‬ونوعية النظام ال�سيا�سي اللبناين هو الذي �أبقى‬ ‫املتغري الطائفي ّ‬ ‫على هذا االنق�سام ذي الوجه الآخر قبل حتديد لبنان الكبري‪ ،‬وقبل انتقال الأكرثية والأقليات �إىل‬ ‫جمال جديد حظى فيه اجلميع مبواقع �أقلوية‪ ،‬و�إن كانت بن�سب متفاوتة‪.‬‬ ‫هذا الوجه اجلديد كر�سه الد�ستور اللبناين بحماية حقوق املجموعات الطائفية التي يت�ألف منها‬ ‫لبنان‪ .‬وهذا ما �أ�ضيف �إليه‪ ،‬باعتباره الرتجمة �شبه احلرفية لد�ستور اجلمهورية الفرن�سية الثالثة‪ .‬فكان‬ ‫�أن اجتمع فيه احلق يف ممار�سة احلرية وامل�ساواة �أمام القانون‪ ،‬مع �إعطاء الطوائف �سلطات ال تتالءم‬ ‫مع �سلطة الدولة‪ ،‬وحتد من قوة نفاذها‪ .‬وربط الفرد بطائفته عندما �أعطى اللبنانيني احلق يف الوظيفة‬ ‫واخلدمة العامة ب�صفتهم �أع�ضاء يف طوائف دينية‪ ،‬ولي�س ب�صفتهم مواطنني يف املجتمع ويدينون‬ ‫بالوالء للدولة‪.‬‬ ‫ظهر النظام ال�سيا�سي ‪ -‬االجتماعي اللبناين املبني على الطائفية على �أنه املنتج الرئي�س حلاالت‬ ‫التوتر والتع�صب بني جناحي لبنان‪ ،‬ومن ثم بني �أجنحته الثالثة‪ ،‬من جهة؛ وحلاالت التوتر‬ ‫والتع�صب بني العنا�صر امل�شكلة لكل جناح‪ ،‬من جهة ثانية‪ .‬وهي حاالت تعلو بعل ّو درجة توترها؛ �أو‬ ‫تخف‪� ،‬أو تختلف‪ ،‬ح�سب ما تقت�ضيه الظروف والأحوال يف عالقات التقابل بني الطوائف‪ .‬ومنطق‬ ‫ّ‬ ‫النظام نف�سه �أملى على املتزعمني داخل كل طائفة احتالل املواقع املتقابلة‪ ،‬وتو�سل �سبل املناف�سة‬ ‫املتوترة القائمة على دعم مرجعيات الطائفة ورموزها الدينية‪ ،‬من جهة؛ وعلى التكتالت القرابية‬ ‫واملرجعيات العائلية‪ ،‬من جهة ثانية‪ .‬ود� ُأب املتزعمني الدائم تعزيز املواقع داخل الطائفة ليكونوا يف‬ ‫منعة من �أمرهم ويف عالقاتهم معها من الداخل‪ ،‬ولتكون الطائفة يف منعة من �أمرها يف عالقاتها مع‬ ‫اخلارج‪ .‬ويتو�سل اجلميع‪� ،‬إىل �أي طائفة انتموا‪� ،‬أ�ساليب متعددة تبد�أ يف حركات اال�ستنها�ض‪ ،‬مروراً‬ ‫ب�إيقاظ وتغذية �شعور اال�ستعالء‪ ،‬و�صو ًال �إىل ت�سويغ العنف من �أجل الدفاع امل�شروع عن املوقع‬ ‫والهيبة والوجود يف مواجهة الآخر‪ ،‬مهما كان �ش�أنه‪ ،‬ومهما كانت هويته‪ :‬العائلة �أو الطائفة �أو الدين‪.‬‬ ‫النظام من الداخل �إىل اخلارج‬

‫�أملى النظام ال�سيا�سي ‪ -‬االجتماعي يف لبنان على الطوائف التي ال تنعم ب�سلطة الأكرثية �أن‬ ‫متعن يف االنخراط باللعبة الطائفية‪ .‬وظهر هذا الإمعان يف املطالبة بح�ص�صها باعتبارها طوائف عليها‬ ‫امل�شاركة يف احلكم بتو�سل الدميوغرافيا‪ .‬وكان من �أهم �أ�سباب هذا التوجه املحا�ص�صة الثالثية‬ ‫اجلديدة على ح�ساب بقية الطوائف‪ .22‬ولدعم مطالب الأعيان فيها ال بد‪ ،‬كما ترى‪ ،‬من �شد‬ ‫�أوا�صر املنتمني �إليها طائفياً‪ ،‬وباملعنى ال�سيا�سي لهذا التعبري‪ ،‬ف�أن�شئت‪ ،‬با�سم الطائفة‪ ،‬الروابط‬ ‫‪ 22‬للتف�صيل حول توزيع املنا�صب العليا واحل�ص�ص على الطوائف الكربى‪ ،‬وعلى ح�ساب بقية الطوائف‪،‬‬ ‫�أنظر‪ :‬امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص‪.250-247‬‬ ‫‪105‬‬


‫والأحزاب التي تدعم هذا التوجه‪ ،‬و�أعدت املعاجم التي تلحظ وجوه الطائفة واملنظورين فيها‪،‬‬ ‫ويف �شتى املجاالت‪ .‬وبد�أت املطالبات برفع الغنب عنها‪ ،‬كما بد�أت املناف�سة على تر�ؤ�س منا�صب‬ ‫مل تنوجد بعد على �أر�ض الواقع (جمل�س ال�شيوخ)‪ .‬كما ُو�ضعت امل�شاريع االنتخابية التي تلحظ‬ ‫لكل طائفة نوابها املنتخبني من الطائفة نف�سها‪ .‬وبد�أ النظر‪ ،‬لأول مرة‪� ،‬إىل بع�ض الطوائف‪ ،‬ومن‬ ‫قبل املنتمني �إليها‪ ،‬على �أنها �أقلية‪ ،‬مع �أنها كانت ومل تزل تعترب نف�سها داخل الن�سيج املجتمعي‬ ‫العربي العام‪ .‬وقد عرب املطران جورج خ�ضر‪ ،‬وعلى ذمة كمال ديب‪ ،‬عن قلقه عن و�ضع امل�سيحيني‬ ‫يف املجتمعات اال�سالمية بقوله‪� « :‬إن زوال ال�سلطة والنفوذ والقوة من �أيدي امل�سيحيني ال يعني‬ ‫�أن عليهم قبول الذمية جمدداً»‪� .23‬أما ال�سيا�سي اللبناين رميون �إدة فكان �أكرث ت�شا�ؤماً عندما ن�صح‬ ‫قريبه كارلو�س بقوله‪�« :‬إ�سمع يا كارلو�س‪ ،‬بدي منك تبقى بالربازيل وما تروح ت�شتغل �سيا�سة‬ ‫بلبنان‪ .‬بعد ع�شرين �سنة ما رح يبقى وال م�سيحي بلبنان»‪ .24‬وت�ضع هذه الطوائف نف�سها يف خانة‬ ‫الأقلية مقابل توجه �أكرثي يغلب فيه الطابع الديني‪ -‬املذهبي العام على الطابع الوطني �أو القومي‪.‬‬ ‫يف هذا املنحى املطبوع بطابع اخلوف‪ ،‬وهو �إنتاج �أقلوي بامتياز‪ ،‬و�إن كان من جملة منتجيه التوجه‬ ‫الأكرثي املخالف‪� ،‬إىل درجة التناق�ض‪ ،‬مناحي الأقليات‪ ،‬يجد النظام الأقلوي يف حميطه الطبيعي‬ ‫واحل�ضاري ما يغذي هذا اخلوف‪ ،‬ب�سبب االنتماءات الدينية واملذهبية‪ .‬وال يجد يف هذا املحيط‪،‬‬ ‫يف �أيام االنتماء الوطني والقومي �إال الذوبان يف حميط ح�ضاري �أكرثي‪ ،‬خوفاً من �ضياع الهوية‬ ‫وفقدان التميز‪ ،‬و�إن خرق الكثريون من طوائف خمتلفة هذه القاعدة و�أن�ش�أوا الأحزاب العقائدية‬ ‫والدنيوية املتجاوزة لالنتماء الديني‪ ،‬وانت�سب �إليها الكثريون من طوائف الأقلية والأكرثية‪ ،‬وال‬ ‫يزالون‪ ،‬و�إن تراجع حجم ت�أثريهم‪ ،‬وو�صل عند الكثريين منهم �إىل حد الف�شل يف الت�أثري‪.‬‬ ‫وكان �أن الف�شل �أ�صاب الطرفني؛ ف�شل املحيط احل�ضاري يف ا�ستيعاب الأقليات على اختالفهم‪،‬‬ ‫وعجزه عن �ضمهم �إىل الن�سيج املجتمعي العام؛ وف�شل الأقليات يف جتاوز خ�صو�صياتها ومتايزها‬ ‫يف عالقاتها مع الأكرثية‪ ،‬وعجزها عن اال�ستمرار يف الت�أثري الفكري واحل�ضاري يف املحيط الأو�سع‬ ‫الذي تنتمي �إليه‪.‬‬ ‫وهنا حتمـل كل جهة وزر اجلهة الأخرى‪.‬‬ ‫علي القول َمن هم �صانعو احلياة؟‬ ‫يقيني �أن التزمت واالنغالق والتع�صب �صانعو للموت‪ .‬وهل ّ‬

‫‪ 2 3‬امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص‪.244‬‬ ‫‪ 2 4‬قال هذا الكالم كارلو�س �إدة عميد حزب الكتلة الوطنية عرب تلفزيون اجلديد‪ ،‬وذكره كمال ديب يف‬ ‫فاحتة كتابه هذا اجل�سر العتيق‪� ،‬أنظر‪:‬‬ ‫ امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص‪.9‬‬ ‫‪106‬‬


‫الإ�صالح ال�سيا�سي بني الدين والعلمنة‬

‫فـكــــــــر‬

‫مو�سى ال�صدر و�أنطون �سعاده منوذجا ً (درا�سة مقارنة)‬ ‫�سعيد �أحمد عبد الرحمن ‪� -‬أ�ستاذ جامعي‬

‫مقدمة‪:‬‬

‫يقول وجيه كوثراين‪�...« :‬إن ما يحلو للبع�ض �أن ي�سموه اليوم ال�صراع بني التيارين الديني‬ ‫والعلماين يف ع�صر النه�ضة‪ ،‬كان حواراً تاريخياً مثمراً وال عالقة له بال�صراع الالحق ال�سلطوي‬ ‫الذي ن�شب منذ حوايل منت�صف القرن الع�شرين بني قوميني علمانيني عقائديني‪ ،‬وبني �إ�سالميني‬ ‫عقائديني حول حق اال�ستيالء على ال�سلطة ال�سيا�سية بطريقة التغلب‪ ...‬فبالن�سبة للنه�ضويني‬ ‫مل تكن م�س�ألة الهوية �أو اجلوهر الوجودي للعرب وامل�سلمني �أو م�س�ألة توليهم ال�سلطة ال�سيا�سية‬ ‫او عدم توليهم‪ ،‬مل تكن م�س�ألة مطروحة‪ ،‬كانت الإ�شكالية تدور حول م�س�ألة التقدم والرقي‬ ‫والتمدن‪ ،‬وحول م�س�ألة الد�ستور واملواطنة وامل�شاركة ال�سيا�سية‪ ،‬اي حول م�س�ألة الدميقراطية‪ ،‬اي‬ ‫حقوق االن�سان واملواطن ‪.)1( »...‬‬ ‫هذا ما �سندر�سه عند كل من مو�سى ال�صدر وانطون �سعاده‪ ،‬حيث يجمع بني اخلطابني لدى كل‬ ‫منهما‪ ،‬رف�ض م�شرتك للواقع القائم‪ ،‬وحماولة اىل حتقيق النه�ضة واالنبعاث للمجتمع‪.‬‬ ‫ف�صحيح ان ال�صدر و�سعاده اليتفقان على طرق املعاجلة وكيفيتها‪ ،‬فمو�سى ال�صدر يجد ان املعاجلة‬ ‫مل�شاكل االمة ال تبتعد عن الدين وحدوده املطاطة‪ ،‬اما انطون �سعاده‪ ،‬ف�إنه يجد هذه احللول مل�شاكل‬ ‫املجتمع من خالل القومية ومبد�أ ف�صل الدين عن الدولة‪ .‬اال ان �إ�شكالية النه�ضة تبقى هي املحرك‬ ‫يف خطاب كال اال�صالحيني‪ ،‬الذي ي�أتي مع اختالف ظروف الزمان متفقاً حول تو�صيف امل�شكلة‪،‬‬ ‫غري �أن الفارق الآخر بينهما جاء حول جغرافية املكان املزمع �إ�صالحه‪ ،‬فكان املجتمع وال�سيا�سة‬ ‫يف لبنان عند ال�صدر‪ ،‬اما عند �سعاده فهي �سوريا مبعناها الوا�سع‪ ،‬والتي ت�شمل باال�ضافة اىل لبنان‬ ‫و�سوريا‪ ،‬العراق واالردن وفل�سطني وجزيرة قرب�ص وهو ما اطلق عليه تو�صيف الهالل اخل�صيب‪.‬‬ ‫لقد جاء خطابهما اال�صالحي ليفتح باباً على امل�ستقبل‪ ،‬مل يكن مبن�أى عن املا�ضي او انقطاعاً‬ ‫عن الإ�صالحيني الذين �سبقوهما‪ .‬وقد يكون ذلك �إما لت�أثر ال�صدر و�سعاده بالفكر اال�صالحي‬ ‫الذي عرفه عاملنا العربي من قبل‪ ،‬ومنذ اواخر القرن التا�سع ع�شر‪ ،‬و�إما لأن ظروف املنطقة تفر�ض‬ ‫‪107‬‬


‫كل عقود عدة رجا ًال �إ�صالحيني ي�ضي�ؤن على عوامل ال�ضعف والتخلف لدى احلكومات والدول‬ ‫وانعكا�سها على ال�شعوب‪ .‬فيكون ذلك حتمية تاريخية تفر�ض وجود �إ�صالحيني يف كل ع�صر‪.‬‬ ‫او الن رجال الإ�صالح هم تردد دائم ل�صوت احلرمان املنبعث من بني الطبقات امل�ست�ضعفة التي‬ ‫حتاول �إي�صال �صوتها والتنديد بواقعها‪ .‬وحماولة الثورة على ظامليها‪ ،‬فت�أتي بالتايل عناوين الإ�صالح‬ ‫املرفوعة متوافقة مع الع�صر ومعطياته‪.‬‬ ‫فهل جاء فكر مو�سى ال�صدر‪ ،‬الذي قر�أ لأنطون �سعاده متالئماً مع فكر اال�صالح عند هذا الأخري‬ ‫وبالعك�س؟‬ ‫ام ان نوع اال�صالح املرجو عند ال�صدر و�سعاده‪ ،‬و�ضمن النطاق اجلغرايف الواحد حيث تواجد‬ ‫الرجالن‪ ،‬وهو لبنان و�سوريا‪ ،‬الميكن �أن يختلف للأ�سباب اجليو�سيا�سية واالجتماعية؟‬ ‫‪ -1‬الإمام ال�سيد مو�سى ال�صدر‪:‬‬

‫ين�سب االمام ال�صدر نف�سه قائ ًال‪« :‬ولدت يف �إيران‪ ،‬جدي �صدر الدين الذي ت�سمى عائلتي‬ ‫با�سمه‪ ،‬هاجر مع �أبيه �صالح الذي كان عاملاً يف قرية �شحور ق�ضاء �صور �أواخر �أيام الأتراك‪ ،‬و�سكن‬ ‫العراق‪ ،‬حيث �أ�س�س عائلة ثم هاجر بع�ض �أحفاده �إىل �إيران حيث �أ�س�سوا عائالت‪ ،‬ووجدت يف‬ ‫�أجدادنا الطابع اللبناين الذي هو الهجرة‪.)2(»..‬‬ ‫ولد ال�سيد مو�سى ال�صدر يف العام ‪ 1928‬يف مدينة قم االيرانية‪ ،‬والده ال�سيد �صدر الدين ال�صدر‪،‬‬ ‫كان �أحد �أركان احلوزة العلمية يف قم‪ ،‬والدته ال�سيدة �صفية‪ ،‬كرمية املرجع الديني ال�شيعي ال�سيد‬ ‫ح�سني القمي(‪ )3‬ولل�سيد ال�صدر �سبع �أخوات و�أخوان‪ ،‬منهم‪ :‬ال�سيدة فاطمة حرم ال�سيد حممد‬ ‫باقر ال�صدر‪ ،‬وال�سيدة �صديقة حرم �آية اهلل ال�سيد �سلطاين الطبطبائي‪ ،‬احد �أبرز �أ�ساتذة احلوزة‬ ‫الدينية يف قم(‪.)4‬‬ ‫تلقى ال�سيد مو�سى ال�صدر علومه الدينية يف حوزة قم‪ ،‬وكان من �أبرز �أ�ساتذته‪ ،‬ال�سيد اخلميني‪،‬‬ ‫وال�سيد �سلطاين الطبطبائي‪� ،‬آية اهلل �شريعتمداري(‪.)5‬‬ ‫�إال �أن الدرو�س الدينية مل تبعده عن متابعة الدرو�س الأكادميية فالتحق بجامعة طهران‪ ،‬وتخرج‬ ‫منها حام ًال �إجازة يف احلقوق فكان �أول رجل دين يدخل اجلامعة يف �إيران(‪.)6‬‬ ‫عام ‪ ،1955‬قدم ال�سيد مو�سى ال�صدر �إىل لبنان‪ ،‬للتعرف على �أن�سبائه يف �صور ومعركة و�شحور‪،‬‬ ‫وعاد عام ‪ّ 1957‬‬ ‫وحل �ضيفاً على ال�سيد عبد احل�سني �شرف الدين‪ ،‬ومع موت هذا الأخري عام‬ ‫‪� ،1957‬أو�صى ب�إمامة �صور من بعده لل�سيد مو�سى ال�صدر‪ ،‬فا�ستدعاه �أبناء ال�سيد �شرف الدين‪،‬‬ ‫ولبى الدعوة عام ‪ ،1959‬و�أقام يف �صور‪ ،‬وبد�أ ميار�س عمله الديني منذ تلك الفرتة(‪.)7‬‬ ‫‪108‬‬


‫فكــــــر‬

‫مع و�صول ال�سيد مو�سى ال�صدر �إىل لبنان‪� ،‬أخذ يكت�شف واقع االن�سان اللبناين‪ ،‬ويتعرف على‬ ‫م�شاكل الأفراد واجلماعات فتفاج�أ بات�ساع الهوة بني �أبناء الوطن الواحد‪ ،‬على �أ�سا�س املنطقة‬ ‫والطائفة(‪ ،)8‬فكان املواطن يف جنوب لبنان امام «مطرقة العدوان اال�سرائيلي و�سندان الإهمال‬ ‫والإجحاف يف احلقوق من قبل الدولة يف �آن واحد»(‪.)9‬‬ ‫فبد�أ ال�سيد ال�صدر يتحرك ملعاجلة م�شاكل النا�س يف جنوب لبنان ومنطقة البقاع و�ضواحي بريوت‪،‬‬ ‫ابتدا ًء من الندوات واملحا�ضرات‪ ،‬ف�أ�س�س جمعية الرب واالح�سان‪ ،‬التي هدف منها م�ساعدة كافة‬ ‫املحرومني من كافة الطوائف واملذاهب(‪.)10‬‬ ‫ثم �سعى بعدها �إىل تنظيم �ش�ؤون الطائفة ال�شيعية و�أوقافها‪ ،‬ف�سعى �إىل ان�شاء املجل�س اال�سالمي‬ ‫ال�شيعي الأعلى‪ ،‬من خالل حتركات �ضمن �شخ�صيات ونواب من اجلنوب والبقاع وبريوت ليقوم‬ ‫هذا املجل�س عام ‪.)11(1967‬‬ ‫لقد ظهر لل�سيد مو�سى ال�صدر‪� ،‬أن مظاهر التخلف التي تعاين منها مناطق حمددة يف لبنان‪ ،‬ت�ؤدي‬ ‫�إىل ايجاد طبقة حمرومة وقد حدد هذه املناطق يف جبل عامل يف �أق�صى اجلنوب وبعلبك والهرمل‬ ‫يف �أق�صى ال�شمال‪ ،‬فهي املناطق الأكرث تخلفاً‪ ،‬وبينّ مظاهر التخلف على ال�شكل التايل‪:‬‬ ‫‪ .1‬مظاهر التخلف املادي و�سببه الإهمال من قبل ال�سلطة اللبنانية‪.‬‬ ‫‪ .2‬مظاهر التخلف املعنوي(‪ )12‬وهو نتاج التخلف املادي‪.‬‬ ‫�أو�ضح ال�سيد ال�صدر �أ�سباب احلرمان على ال�شكل التايل‪:‬‬ ‫‪ ...« . 1‬ان الأ�سا�س لبقاء الأوطان العدالة وكرامة املواطن‪ ،‬اما يف لبنان فمفهوم كرامة االن�سان‬ ‫وحريته باق كواحة‪ ،‬فاال�ستئثار والطغيان وجتاهل حقوق الآخرين تزعزع كيان البلد وتعر�ض‬ ‫م�ستقبله للخطر‪ ...‬فلتعلموا �أن امل�س�ؤولني هم الذين يهددون ب�سلوكهم �أمن هذا الوطن وكيانه‬ ‫وا�ستقراره وتعاي�ش �أبنائه‪ ،‬وليعلموا �أننا ال ن�سمح لهم بذلك لكي يبقى لبنان»(‪.)13‬‬ ‫‪ ...« .2‬يف ظل ال�سكوت عن االعتداءات اال�سرائيلية على اجلنوب هو ر�ضى بالذل وخيانة‬ ‫لبنان‪ ،‬ا�ستمرت اعتداءات العدو ال�صهيوين يف اجلنوب اللبناين �ضد ال�سكان الآمنني الع ّزل‬ ‫املحرومني من و�سائل احلماية والدفاع عن النف�س»(‪.)14‬‬ ‫‪ ...« . 3‬احلكومة‪ ...‬اجلهة التي تبخل‪ ،‬وتتجاهل وتتمادى يف التجاهل والعناد‪.)15(»...‬‬ ‫‪�« . 4‬أولئك الذين يفكرون‪ ،‬ب�أن الوطن يحفظ بال�صالونات‪ ،‬او بالت�صريحات �أو بالوعود‪ ،‬او‬ ‫باالجتماعات يف الق�صور‪ ،‬اولئك الذين يفكرون �أن احلدود حتفظ بالوعود والكلمات و�أن‬ ‫الكرامات ُت�صان بالألقاب واالجتماعات‪.)16(»...‬‬ ‫‪109‬‬


‫‪ . 5‬ال�سيا�سة يف لبنان �أ�صبحت هدفاً ال و�سيلة‪ ،‬يعي�ش بها ومن ورائها �أفراد وجماعات‪ ،‬زعامات‬ ‫و�أحزاب ومفاتيح(‪.)17‬‬ ‫«‪� ...‬أن ال�سيا�سة يف لبنان كانت ال�سبب يف احلرمان وعدم مواجهة احلقائق وت�أجيل احللول‪ ،‬ويف‬ ‫خلق الأر�ضية املنا�سبة للأزمات‪.)18(»..‬‬ ‫لذا وجد ال�سيد ال�صدر �أن احللول مل�شكلة احلرمان ولأزمة املواطن املحروم‪ ،‬والوطن املحروم تكون‬ ‫عرب‪:‬‬ ‫‪ ...« . 1‬نحن طالب حق‪ ،‬ل�سنا �ضد �أي �إن�سان‪ ،‬نطالب بحقنا ولكن ال نتنازل عنه �أبداً‪ ،‬ن�ستمر‪،‬‬ ‫ون�ستمر‪ ،‬ون�ستمر للنهاية‪.)19(»...‬‬ ‫‪ ...« . 2‬احلرب �ضد ال�شيطان‪ ،‬وال�شيطان له جنود و�أن�صار ُّ‬ ‫وكل طاغية �شيطان‪ ،‬كل ظامل �شيطان‪،‬‬ ‫كل م�ستبد �شيطان‪ ،‬كل مت�أفف �شيطان‪ ،‬وكل �ساكت عن حق �شيطان �أخر�س‪ ،‬ونحن‬ ‫�سنحارب الطغاة امل�ستبدين‪[ ...‬لن] ن�سكت عن الظلم وعن املعذبني يف اجلنوب من ال�ضربات‬ ‫اال�سرائيلية‪[ ،‬لن] ن�سكت‪ ...‬عن ابتالع �أموال النا�س‪ ،‬عن الغالء‪ ،‬عن الر�شوة‪.)20(»...‬‬ ‫‪� ...« . 3‬إن �سالمة اجلندي و�صيانة لبنان وعزة العرب ال تتحقق �إال بكرامة االن�سان‪ ،‬و�صيانة‬ ‫حقوقه‪ ،‬و�سيطرة العدالة االجتماعية يف عالقات النا�س بع�ضهم ببع�ض»(‪.)21‬‬ ‫‪ ...« .4‬نحن نريد اجلنوب‪� ...‬أن يكون منطقة منيعة‪� ،‬صخرة تتحطم عليها احالم ا�سرائيل‪ ...‬نريد‬ ‫جنوباً متم�سكاً بلبنان مرتبطاً بهذه الأمة موحداً مع العرب‪ ...‬ال جنوباً هزي ًال مف�صو ًال بل نريده‬ ‫جنوباً مانعاً‪.)22(»...‬‬ ‫‪ ...« . 5‬ال ت�صنفوا النا�س‪ ...‬كل املواطنني �أكفاء ‪ ...‬كل املواطنني ي�ست�أهلون �أن يكونوا موظفني‪،‬‬ ‫ال ت�صنفوا بني املواطنني وال متيزوا بني الطوائف‪ ،‬اعطوا احلقوق للطوائف جميعاً»(‪.)23‬‬ ‫‪ ...« .6‬دافعوا عن اجلنوب‪ ...‬ال�شرط الأول يف امل�س�ؤوليات الوطنية هو الدفاع‪ ...‬قدموا خطة‬ ‫دفاعية‪ ...‬ه�ؤالء امل�سلحون وامل�سلحون الآخرون‪ ،‬اجمعوهم وخذوهم و�ضموهم يف احلر�س‬ ‫الوطني يف امليلي�شيا الوطنية‪ ...‬قدموا خدمة العلم‪.)24(»...‬‬ ‫وحترك ال�سيد ال�صدر على �أكرث من �صعيد يف �سبيل حتقيق املطالب‪:‬‬ ‫�أ‪ -‬ففي ‪ ،1970/5/12‬وعلى �أثر االعتداءات اال�سرائيلية على جنوب لبنان التي ت�سبب‬ ‫بنزوح �أكرث من ‪� 150‬ألف مواطن من ثالثني قرية حدودية دعا ال�سيد ال�صدر الر�ؤ�ساء الدينيني‬ ‫يف اجلنوب من خمتلف الطوائف‪ ،‬و�أ�س�س معهم «هيئة ن�صرة اجلنوب» فكان هو رئي�سها‪ ،‬وتوىل‬

‫‪110‬‬


‫فكــــــر‬

‫نيابة الرئا�سة املطران �أنطونيو�س بطر�س خري�ش‪ ،‬الذي �أ�صبح بطريركاً للطائفة املارونية فيما بعد‪ ،‬ثم‬ ‫دعا �إىل �إ�ضراب وطني �شامل بتاريخ ‪ ،1970/5/26‬جتاوبت معه كل املناطق اللبنانية‪ ،‬واعترب حدثاً‬ ‫وطنياً(‪.)25‬‬ ‫ويف اليوم نف�سه اجتمع جمل�س النواب اللبناين‪ ،‬و�أقر م�شروع قانون يق�ضي ب�إن�شاء م�ؤ�س�سة عامة‬ ‫تخت�ص باجلنوب‪ ،‬وتلبي حاجات اجلنوب»(‪.)26‬‬ ‫ب‪ -‬دعا ال�سيد ال�صدر �إىل مهرجانات �شعبية كربى عدة طالب خاللها بحقوق املحرومني‬ ‫وبالعدالة االجتماعية ‪:‬‬ ‫(‪)27‬‬ ‫‪ .1‬مهرجان بعلبك بتاريخ ‪ ،1974/3/17‬والذي �شارك فيه حوايل خم�سة و�سبعني الف مواطن ‪.‬‬ ‫‪ .2‬مهرجان �صيدا بتاريخ ‪ 4‬ني�سان ‪.)28( 1974‬‬ ‫‪ .3‬مهرجان �صور بتاريخ ‪.)29(1974 /5/5‬‬ ‫ج‪� -‬إعالن ميثاق حركة املحرومني بتاريخ ‪ 1975/3/29‬والتي ّقدم ال�سيد ال�صدر ميثاقها‬ ‫الذي ن�ص على‪:‬‬ ‫«�إنها حركة جماهريية‪ ،‬غري طائفية وال فئوية‪ ،‬تنطلق من االميان احلقيقي باهلل‪ ،‬وت�ؤمن باحلرية الكاملة‬ ‫وترف�ض الظلم والت�صنيف وتتم�سك بال�سيادة الوطنية وب�سالمة �أر�ض الوطن‪.)30(»...‬‬ ‫ويربر ال�سيد ال�صدر �إن�شاء هذه احلركة قائ ًال‪:‬‬ ‫«�إال ان احلرمان مل ُيعا َلج فوجدنا �أنف�سنا �أمام التنظيم‪ ،‬والهدف منه حماية املقاومة والدفاع عن‬ ‫�أر�ض اجلنوب امل�ستباح �أمام االعتداءات الإ�سرائيلية‪ ،‬ولدت احلركة وكانت جماهريها من كل‬ ‫طائفة ‪ ...‬وبد�أت حركة املحرومني حركة فكرية �سيا�سية اجتماعية واحدة يف لبنان‪.)31(»...‬‬ ‫د ‪ -‬والدة حركة ع�سكرية‪ ،‬اطلق عليها ا�سم «�أفواج املقاومة اللبنانية �أمل» بتاريخ ‪.1975 /7/6‬‬ ‫ويقول ال�سيد مو�سى ال�صدر يف ذلك‪« :‬ها �أنا يف هذه اللحظة �أعلن والدة هذه احلركة الوطنية‬ ‫ال�شريفة التي �أخذت على عاتقها تقدمي كل ما ميلك �أع�ضا�ؤها يف �سبيل �صون كرامة الوطن ومنع‬ ‫�إ�سرائيل من االعتداءات ال�سهلة‪.)32(»..‬‬ ‫ومع اندالع احلرب اللبنانية عام ‪ ،1975‬كان لل�سيد مو�سى ال�صدر مواقف عدة وحتركات حملية‬ ‫واقليمية ودولية‪ ،‬حاول من خاللها و�ضع حد للفنت واحلروب الداخلية‪ ،‬وكان �أبرز هذه التحركات‬ ‫عام ‪ 1978‬بعد االجتياح اال�سرائيلي جلنوب لبنان‪ ،‬فزار دو ًال عربية عدة‪ ،‬منها �سوريا وبالد اخلليج‬ ‫العربي وم�صر واجلزائر �إىل �أن كانت زيارته �إىل ليبيا واختفا�ؤه هناك بتاريخ ‪� 31‬آب من العام‬ ‫‪.)33(1978‬‬

‫‪111‬‬


‫‪� -2‬أنطون �سعاده‪:‬‬

‫ولد �أنطون �سعاده عام ‪ 1904‬يف �ضهور ال�شوير و ُيحكى �أنه ومنذ ال�صغر‪ ،‬كانت لديه مواقف وطنية‬ ‫حادة‪ ،‬فعند زيارة الوايل العثماين �إىل مدر�سة برمانا‪ ،‬وكان �سعاده ال يزال يف الثالثة ع�شرة من عمره‪،‬‬ ‫ُطلب منه �أن يلقي كلمة ترحيب بالوايل‪� ،‬إال �أنه رف�ض ب�شدة‪ ،‬وعوقب بعدم تكرميه يوم التخرج(‪.)34‬‬ ‫وتكررت مواقف �أنطون �أثناء �أحداث احلرب العاملية الأوىل‪ ،‬عندما كان يق�صد رئي�س بلدية‬ ‫بريوت عمر الداعوق‪ ،‬الذي كان �صلة الو�صل مع والد �أنطون‪ ،‬الدكتور خليل �سعاده املهاجر �إىل‬ ‫الربازيل‪ ،‬حيث كان هذا الأخري يبعث باملال �إىل عائلته عن طريق رئي�س بلدية بريوت‪ ،‬وحدث �أن‬ ‫دخل �أنطون �إىل البلدية اثناء اجتماع �ضم املجل�س البلدي وفعاليات وكان احلوار يدور حول من‬ ‫يحكم لبنان بعد خروج العثمانيني‪ ،‬ف�شارك �أنطون يف �إبداء الر�أي قائ ًال �أمام احل�ضور‪« :‬الأف�ضل‬ ‫�أن ن�ستقل ب�أنف�سنا وال حاجة لنا �إىل �أي �أجنبي كي يتوىل �أمرنا‪ ،‬نحن م�ؤهلون لذلك ويجب �أن‬ ‫نعمل»(‪.)35‬‬ ‫هذه املواقف وغريها من ال�شاب انطون‪ ،‬كانت تظهر �شخ�صية متحررة ت�سعى �إىل حتقيق طموح‬ ‫الدولة امل�ستقلة من منظور خمتلف �أو ميكن القول‪ ،‬ب�أفكار جديدة‪ ،‬مل يعرفها العامل العربي من‬ ‫قبل يف الع�صر احلديث‪ ،‬طموح الدولة ال�سورية‪ ،‬الذي �أخذ يظهر �شيئاً ف�شيئاً من خالل كتابات‬ ‫�أنطون �سعاده وكلماته‪.‬‬ ‫مع وفاة والدة انطون بعد احلرب العاملية الأوىل‪ ،‬انتقل �إىل الربازيل‪ ،‬و�ساعد والده الدكتور خليل‬ ‫�سعاده على �إ�صدار جملة «املجلة» وكانت من �أبرز جمالت االغرتاب اللبناين يف اخلارج‪.‬‬ ‫و�أمن �أنطون ال�شاب فريق العمل‪ ،‬وكانت هذه املجلة طريقاً له للعبور عربها �إىل النا�س(‪.)36‬‬ ‫و�أثناء وجود �أنطون يف الربازيل‪ ،‬عام ‪ ،1928‬حتدى بع�ض العادات التي كانت منت�شرة حينها بني‬ ‫تعمد اخلروج حا�سر‬ ‫العامة‪ ،‬ومنها عدم ترك الر�أ�س حا�سراً عند اخلروج من املنزل‪� ،‬إال ان �أنطون ّ‬ ‫الر�أ�س‪ ،‬فهاجمه النا�س وانتقدوه‪ ،‬فما كان منه �إال �أن �أطلق حليته(‪ ،)37‬وعندما �سئل عن �سبب‬ ‫قيامه بذلك الفعل قال‪� ...« :‬أردت �أن امتحن �صمودي �إزاء موقف �أجمع النا�س على خمالفتي‬ ‫به ورف�ضه يل بال�ضغط واللفظ و�شتى و�سائل املمانعة واملقاومة»(‪.)38‬‬ ‫لقد لفت نبوغ �سعاده ّ‬ ‫املبكر املحيطني به‪ ،‬ف�أخذوا يراقبونه ويتناولونه بالتعليق وب�شكل دائم‪ ،‬ويبدو‬ ‫(‪)39‬‬ ‫�أن ال�شاب انطون كان يتعمد ذلك الختبار قدراته على ال�صمود والتحدي ‪.‬‬ ‫مع عودة �أنطون �سعاده من �سان باولو يف الربازيل‪ ،‬عام ‪ ،1930‬كان يحمل معه م�شروع احلزب‬ ‫ال�سوري القومي االجتماعي‪ ،‬فو�صل �إىل دم�شق �أو ًال‪ ،‬حيث �أخذ ين�شر �أفكاره بني الطلبة‬ ‫واملثقفني‪ ،‬ثم انتقل بعدها �إىل بريوت‪ ،‬ليبد�أ مرحلة الت�أ�سي�س‪ ،‬ف�أقام ال�صالت مع طالب اجلامعة‬ ‫‪112‬‬


‫فكــــــر‬

‫وطد عالقته مع جريدة‬ ‫الأمريكية يف بريوت من خالل �إعطائهم درو�ساً يف اللغة الأملانية(‪ )40‬كما ّ‬ ‫النهار البريوتية‪ ،‬وبني الأعوام ‪ 1931‬و ‪� ،1932‬أ�س�س اللبنة الأوىل للحزب‪ ،‬الذين بلغ عدد افراده‬ ‫خم�سة طالب يف البداية(‪.)41‬‬ ‫ونتيجة للخالفات الداخلية بني الأع�ضاء‪� ،‬سارع �إىل ّ‬ ‫حل احلزب‪ ،‬و�أخذ يعيد ت�أ�سي�سه من جديد‪،‬‬ ‫فاهتم بالقلة القليلة من الأع�ضاء الذين الحظ فيهم اجلدارة على حمل هذه العقيدة‪ ،‬فكانت �أول‬ ‫جمموعة منهم يف ‪ 15‬ت�شرين‪ 2‬عام ‪ ،1932‬وا�ستمر عمل احلزب ال�سوري القومي االجتماعي‪،‬‬ ‫وب�شكل �سري‪ ،‬حتى ‪16‬ت�شرين‪ ،1935 2‬حيث �أعلنت والدته من قبل االنتداب الفرن�سي‬ ‫(‪)42‬‬ ‫وعمالئه‪ ،‬من خالل حملة االعتقاالت التي طاولت انطون �سعاده وعدداً من اع�ضاء احلزب‬ ‫وبقي �سعاده نزيل ال�سجن �ستة ا�شهر‪� ،‬ساهمت الدعاية التي حيكت حوله وحول حزبه على رفع‬ ‫�أ�سهم احلزب وزعيمه‪ ،‬ف�أخذت النا�س تتحدث عنه وعن مبادئه(‪.)43‬‬ ‫حاول �سعاده مع العام ‪ ،1936‬وقيام احلركات ال�شعبية اال�ستقاللية يف �سورية بقيادة الكتلة الوطنية‬ ‫�إقناع الكتلة وزعيمها ها�شم الأتا�سي ب�أهمية طرح م�شروع احلزب ال�سوري القومي االجتماعي يف‬ ‫املفاو�ضات مع فرن�سا‪� ،‬إال �أن الدعاية انت�شرت يف انحاء �سورية ولبنان‪ ،‬ب�أن �سعاده وحزبه يدعون‬ ‫�إىل «الالعروبة»‪ ،‬وكانت هذه التهمة حينها كافية كي تبتعد النا�س عن �أنطون �سعاده �إال ان هذا‬ ‫الأخري‪ ،‬كان ي�سارع دائماً �إىل اغتنام الفر�ص‪ ،‬ويتجول بني املناطق ال�سورية واللبنانية‪ ،‬نا�شراً �أفكاره‪،‬‬ ‫مو�ضحاً مبادئه‪ ،‬وكان �أبرز حترك قام به عام ‪ 1937‬من خالل تر�شيح �أحد �أع�ضاء احلزب على املقعد‬ ‫النيابي يف طرطو�س ال�سورية؛ �صحيح �أنه مل يفز �إال انه ح�صل على العديد من الأ�صوات(‪ .)44‬مما‬ ‫جعل ال�سلطة الفرن�سية تخ�شى من �سعاده ومن ارتفاع ن�سبة م�ؤيديه‪ ،‬فاعتقلته من جديد‪ ،‬و�أفرج‬ ‫عنه يف العام نف�سه‪ ،‬بعد �سل�سلة مالحقات طالت �إ�ضافة �إىل �سعاده اع�ضاء من احلزب‪ ،‬ونقل �أنه‬ ‫جرت حماولة لت�سميم انطون �سعاده حينها يف ال�سجن‪� ،‬إال ان �أحد ال�ضباط وكان من م�ؤيديه �سراً‪،‬‬ ‫ف�ضح امل�ؤامرة‪ ،‬ف�أعلن �سعاده �إ�ضراباً عن الطعام وال�شراب‪� ،‬إىل ان �أفرج عنه(‪.)45‬‬ ‫مع خروج �سعاده من ال�سجن انتقل �إىل الأرجنتني وقد حاولت ال�سلطة اللبنانية منعه من العودة‪،‬‬ ‫�إال �أنه ا�ستطاع العودة عن طريق القاهرة عام ‪ ،1947‬بعد غياب دام ت�سعة اعوام(‪ )5‬ف�أ�صدرت‬ ‫ال�سلطة اللبنانية مذكرة جلب بحقه‪ ،‬وداهمت القوى الأمنية مراكز احلزب من دون جدوى‪،‬‬ ‫لترتاجع بعدها عن قرارها باعتقاله(‪.)46‬‬ ‫مع الأعوام ‪ 1949-1946‬تطور العمل احلزبي‪ ،‬وت�سارع ب�شكل كبري‪ ،‬وحتولت مدينة حم�ص �إىل‬ ‫اهم مركز للقوميني ال�سوريني وعمل �سعاده على زيارة املدن ال�سورية بني ‪ 3‬ت�شرين‪ 2‬و ‪ 10‬كانون‪1‬‬ ‫ ‪ )47(1948‬من �ضمن �سل�سلة حتركات متتالية‪ ،‬هدفت �إىل التهيئة للثورة(‪ )48‬التي كان يخطط لها‬‫على الدولة اللبنانية وبدعم كما يبدو من الرئي�س ال�سوري ح�سني الزعيم لتعلن الثورة يف الرابع‬ ‫من متوز من العام ‪� )49(1949‬إال ان الرواية الإعالمية تقول‪� ،‬إن الرئي�س ح�سني الزعيم �سلم �سعاده‬ ‫‪113‬‬


‫�إىل ال�سلطة اللبنانية يف ال�سابع من متوز من العام نف�سه �أي بعد ثالثة ايام من �إعالن الثورة لي�صدر‬ ‫حكم االعدام عليه وينفذ ب�سرعة(‪.)50‬‬ ‫موقف �سعاده من املجتمع والإ�صالح‪:‬‬ ‫يعترب �أنطون �سعاده �أن ال�سوريني «هذا اجليل الغريب يف هذا الع�صر» وي�ش ّبه هذا اجليل وواقعه‬ ‫بقوله‪« :‬بجماعة �شذت عن ُ�س ّنة االرتقاء و�صارت مت�شي على �أيديها بد ًال من �أرجلها وتنظر �إىل‬ ‫حتت بد ًال من االمام‪ ،‬ولأنها ال تقدر �أن ترفع ر�ؤو�سها وتنظر �إىل ما حولها ال ت�ستطيع �إدراك غرابة‬ ‫حالها‪ ،‬ولأنها ال جتد حالها غريبة ت�أبى الت�صديق �أنه يجب عليها �أن مت�شي على �أرجلها وترفع‬ ‫ر�ؤو�سها لتتمكن من الإحاطة ب�ش�ؤون عاملها ومن تعيني �أغرا�ض �أ�سمى من الأغرا�ض احلقرية التي‬ ‫تدب وراءها»(‪.)51‬‬ ‫ويذكرنا �سعاده بواقعنا‪ ،‬عندما ي�ضع ا�صبعه على حقيقة اخللل «�إن �أكرب عيوب جيلنا احلا�ضر انه‬ ‫جيل وقح وكثري الفو�ضى‪ ،‬و�سبب الوقاحة و�شدة الفو�ضى الرئي�سي هو عدم الرتبية والت�أديب‪.»..‬‬ ‫وهذا بالتايل ي�ؤدي �إىل «‪ ...‬رف�ض الإ�صالح ومقاومة امل�صلح و�إىل احتقار املثل العليا وقواعد‬ ‫االجتماع واال�ستهزاء بالتقاليد ال�صاحلة كما بالتقاليد الفا�سدة»(‪.)52‬‬ ‫وجد انطون �سعاده �أن الفو�ضى هي ال�سائدة عند �أبناء جيله‪ ،‬هذه الفو�ضى حتمل �أ�سباب ف�شل‬ ‫التطور واال�صالح‪:‬‬ ‫«يف جيلنا فو�ضى غريبة‪ ،‬لي�س فقط يف الأفكار واملعتقدات ال�سيا�سية‪ ،‬بل يف الأولويات االجتماعية‬ ‫واملبادئ املناقبية‪ ،‬وفيه غلط وق�سوة وجهل ورعونة و�إنكار للحق العام واحلقوق ال�شخ�صية‪ ،‬ومن‬ ‫غريب �أمره �أنه لكرثة تف�شي اال�ستبداد الفردي فيه يرف�ض الإ�صالح و ُيتهم امل�صلح بالطغيان‬ ‫والظلم‪.)53(»..‬‬ ‫�إال �أن ميزات �سعاده هي الإميان بالإ�صالح مهما كان الواقع‪« :‬فهنالك حقيقة �أ�سا�سية‪ ،‬ال ميكن‬ ‫�إنكارها وال يح�سن جتاهلها وهي‪� :‬أن هذا اجليل �سيذهب �أما النه�ضة ف�ستبقى»‪ ،‬ويكون ذلك‬ ‫من خالل‪« :‬متى انت�صرت النه�ضة ال�سورية القومية االجتماعية انت�صارها النهائي ن�ش�أت �أجيال‬ ‫�سورية جديدة مبناقبها و�أخالقها»(‪ )54‬من خالل‪:‬‬ ‫‪ .1‬الأمة ال ميكن �أن توجد �إال مبناقب الثقة واالخال�ص والأمانة(‪.)55‬‬ ‫‪ .2‬اح�سنوا بع�ضكم �إىل بع�ض وحاربوا ال�شر حيثما لقيتموه(‪.)56‬‬ ‫‪ .3‬يجب �أن نكون جمتمعاً واعياً‪ ،‬مدركاً‪ ،‬وهذا ال يتم �إال بالدر�س املنظم والوعي ال�صحيح(‪.)57‬‬ ‫‪114‬‬


‫فكــــــر‬

‫كما �سعى �سعاده‪ ،‬ويف �سبيل �إ�صالح الأمة ال�سورية‪� ،‬إىل ت�أ�سي�س احلزب ال�سوري القومي‬ ‫االجتماعي «هو حركة جتديدية يف املناقب والأخالق‪ ،‬كما يف النظريات ال�سيا�سية واالجتماعية‬ ‫واالقت�صادية»(‪.)58‬‬ ‫و�أبرز مبادئ هذا احلزب التي ذكرها �سعاده من خالل مقاالته‪:‬‬ ‫‪�« . 1‬أننا قوم لنا وعي قومي �صحيح �إرادة قومية قوية و�إميان يزول الكون وال يزول‪ ،‬ولنا �أخالق ال‬ ‫تف�شل وحقيقة ال تنقلب لأي برق خالب»(‪.)59‬‬ ‫‪�« . 2‬أن ق�ضية احلزب ال�سوري القومي االجتماعي هي من �أعظم الق�ضايا القومية و�أو�ضحها يف‬ ‫العامل طراً‪ ،‬هي ق�ضية مل يكن قبلها مثلها وال ما يقاربها يف كمال الغاية ور�سوخ الأ�صول‪ ،‬ال يف‬ ‫�سورية وال يف �أي قطر من �أقطار العامل العربي وال يف ال�شرق الأدنى كله‪ ،‬هذه الق�ضية الكلية‬ ‫مل نقل �إنها «لبنانية» وال �إن غايتها �إظهار �شيء ي�سمى «ا�ستقالل لبنان» بل قالت �إنها �سورية‬ ‫�أو ًال و�آخراً و�إنها ال تعرتف ب�أية ت�سوية ال تكون وليدة �إرادة الأمة ال�سورية املوحدة يف مبادئ‬ ‫ق�ضيتها القومية»(‪.)60‬‬ ‫‪« . 3‬ق�ضت النه�ضة ال�سورية االجتماعية على جميع املخاوف من فقد احلقوق ال�سيا�سية و�أعلنت‬ ‫انق�ضاء عهد ال�شك والتخوف على �أنواعه ف�أخذت هذه الفئات امل�ستنرية ب�أنوار هذه النه�ضة‬ ‫تتغلب على عوامل ال�ضعف ودوافع اال�ستكانة واخلنوع‪ ...‬وتعمل لإحباط خطط املت�آمرين‬ ‫على وحدة الأمة وحقوقها وم�صريها»(‪.)61‬‬ ‫‪« . 4‬من �أهم امل�شاكل اخلطرة جداً التي �سنواجهها‪ ...‬امل�شكل ال�صهيوين الذي �صار خطراً عظيماً‬ ‫مداهماً يهدد بالق�ضاء على معظم �آمالنا»(‪.)62‬‬ ‫‪�« . 5‬إن �سورية تواجه خطرين الواحد يف اجلنوب والآخر يف ال�شمال‪ ،‬الأول هو اخلطر اليهودي‬ ‫والثاين اخلطر الرتكي‪ ...‬ال �إنقاذ ل�سورية وال �شق طريق حلياتها وارتقائها �إال باحلركة ال�سورية‬ ‫القومية االجتماعية ومبادئها ونظامها»(‪.)63‬‬ ‫‪�« .6‬أن نلبي الواجب دائماً ونخ�ضع للنظام دائماً‪ ،‬هو �أن ن�سحق حمبة ذواتنا ونحيي حمبة جن�سنا‬ ‫ووطننا»(‪.)64‬‬ ‫‪�« . 7‬أن النه�ضة لها مدلول وا�ضح عندنا وهو‪ ،‬خروجنا من التخبط والبلبلة والتف�سخ الروحي بني‬ ‫خمتلف العقائد �إىل عقيدة جل ّية �صحيحة وا�ضحة ن�شعر �أنها تعرب عن جوهر نف�سيتنا و�شخ�صيتنا‬ ‫القومية االجتماعية‪� ،‬إىل نظرة جل ّية‪ ،‬قوية �إىل احلياة والعامل»(‪.)65‬‬ ‫‪�« . 8‬إن هذه احلقيقة التي لأجلها جنابه كل الأخطار من كل نوع هي حقيقة �أن ق�ضيتنا فيها كل‬ ‫اخلري وكل احلق وكل اجلمال وكل احلقيقة وكل العدل للمجتمع االن�ساين»(‪.)66‬‬ ‫‪115‬‬


‫‪�« .9‬إن حزبنا يف �سريه‪ ،‬يف عمله‪ ،‬يف ن�ضاله‪ ،‬ميثل ويعمل وي�صارع يف �سبيل �أ�سا�س �أف�ضل حلياة‬ ‫االن�سان ‪ -‬املجتمع» (‪.)67‬‬ ‫‪« .10‬نحن حركة مهاجمة ت�أتي بتعاليم جديدة تهاجم بها املفا�سد والفو�ضى»(‪.)68‬‬ ‫‪« .11‬نحن مل نحارب وال نحارب من اجل �أن تكون لنا ولغرينا حرية فو�ضوية تخدم لذات الأفراد‬ ‫املر�ضى يف نفو�سهم بل حاربنا ونحارب من �أجل حتقيق ق�ضية وا�ضحة و�إقامة نظام جديد»(‪.)69‬‬ ‫‪« .12‬م�س�ألة احلزب ال�سوري القومي االجتماعي لي�ست م�س�ألة حزب �سيا�سي باملعنى االعتيادي‬ ‫‪ ...‬بل �إن هذا احلزب ي�شكل ق�ضية خطرية جداً وهامة هي ق�ضية الآفاق للمجتمع االن�ساين‬ ‫الذي نحن منه والذي نكون جمموعه»(‪.)70‬‬ ‫‪« .13‬منذ ال�ساعة التي �أخذت فيها عقيدتنا القومية االجتماعية جتمع بني الأفكار والعواطف وتلم‬ ‫�شمل قوات ال�شباب املعر�ضة للتفرقة بني عوامل الفو�ضى القومية وال�سيا�سية املنت�شرة يف طول‬ ‫بيئتنا وعر�ضها‪ ،‬وتك ّون من هذا اجلمع وهذا اللم نظاماً جديداً ذا �أ�ساليب جديدة ي�ستمد حياته‬ ‫من القومية اجلديدة‪ ،‬هو نظام احلزب ال�سوري القومي االجتماعي‪ -‬منذ تلك ال�ساعة انبثق‬ ‫الفجر من الليل وخرجت احلركة من اجلمود وانطلقت من وراء الفو�ضى قوة النظام وا�صبحنا‬ ‫امة بعد �أن كنا قطعاناً ب�شرية‪ ،‬وغدونا دولة تقوم على �أربع دعائم‪ :‬احلرية‪ ،‬الواجب‪ ،‬النظام‪،‬‬ ‫القوة‪ ،‬التي ترمز اليها �أربعة �أطراف الزوبعة القومية االجتماعية»(‪.)71‬‬ ‫‪ .14‬احلزب ال�سوري القومي االجتماعي‪� ...« :‬إنه فكرة وحركة تتناوالن حياة امة ب�أ�سرها‪� ،‬إنه جتدد‬ ‫�أمة توهم املتوهمون �أنها ق�ضت �إىل الأبد»(‪.)72‬‬ ‫‪�« .15‬إن ارادتنا نحن هي التي تقرر كل �شيء فنحن نقف على �أرجلنا وندافع عن حقنا يف احلياة‬ ‫بقوتنا»(‪.)73‬‬ ‫ و «‪� ...‬إننا حررنا �أنف�سنا �ضمن احلزب من ال�سيادة الأجنبية والعوامل اخلارجية‪ ،‬ولكن بقي‬ ‫علينا �أن ننقذ �أمتنا ب�أ�سرها و�أن نحرر وطننا بكامله»(‪.)74‬‬ ‫‪� ...« .16‬أن نظام احلزب ال�سوري القومي االجتماعي‪ ،‬لي�س نظاماً هتلرياً وال نظاماً فا�شياً‪ ،‬بل‬ ‫هو نظام قومي اجتماعي بحت‪ ،‬ال يقوم على التقليد الذي ال يفيد �شيئاً‪ ،‬بل على االبتكار‬ ‫الأ�صلي الذي هو من مزايا �شعبنا»(‪.)75‬‬ ‫‪� ...« .17‬أن نظامنا مل يو�ضع على قواعد تراكمية متكن من جمع عدد من الرجال يقال �إنهم ذوو‬ ‫مكانة يقفون فوق �أكوام من الرجال متثل الت�ضخم والرتاكم ب�أحلى مظاهرهما بل على قواعد‬ ‫حيوية ت�أخذ الأفراد �إىل النظام وتف�سح �أمامهم جمال التطور والنمو على ح�سب مواهبهم‬ ‫وم�ؤهالتهم»(‪.)76‬‬ ‫‪116‬‬


‫فكــــــر‬

‫‪� ...« .18‬إن مبد�أ �سورية لل�سوريني وال�سوريون �أمة وتامة �آخذ يف حترر نف�سيتنا من قيود اخلوف‬ ‫وفقدان الثقة بالنف�س والت�سليم للإرادات اخلارجية»(‪.)77‬‬ ‫‪ ...« .19‬ومبد�أ ان الأمة ال�سورية جمتمع واحد هو مبد�أ يجب �أن يتغلغل يف اعماق نفو�سنا»(‪.)78‬‬ ‫‪ ...« .20‬ن�شوء احلزب ال�سوري القومي االجتماعي يقوم من �أجل حقيقة ثابتة م�ستمرة‪ ،‬هي ق�ضية‬ ‫تقدم وانت�صار وعز‪.)79(»..‬‬ ‫حياة املجتمع وا�ستمرار حياته وتقدمها نحو الأف�ضل‪ ،‬ق�ضية ّ‬ ‫‪ -3‬بني ال�سيد مو�سى ال�صدر و�أنطون �سعاده‪:‬‬

‫�أ‪ -‬يف الدين‪ :‬عند ال�سيد مو�سى ال�صدر‪:‬‬ ‫العبادة هي كل عمل ي�صدر لأجل التقرب من اهلل‪ ،‬والعبادة هي «ال�سلوك نحو العلم‪ ،‬نحو التحرر‪،‬‬ ‫نحو العزة‪ ،‬نحو ال�صفات الإلهية احل�سنة الأخرى‪ ،‬التي هي مب�صطلحنا ن�سميها االن�سانية‪ ،‬ال�سمو‪،‬‬ ‫التكامل‪ »..‬وعلى هذا الأ�سا�س ب�إمكاننا �أن نقول عبادة اهلل‪ ،‬تعني الريا�ضات والن�شاطات مثل‬ ‫ال�صيام وال�صالة واحلج والزكاة و�أمثال ذلك‪ ،‬جعلها اهلل تعاىل خطوات وو�سائل ودوافع لأجل �أن‬ ‫تدفع االن�سان نحو الكمال‪ ...‬وعلى هذا الأ�سا�س كل �صالة‪ ،‬هي فك لقيد وحترر عن قيد‪� ،‬إذا كنا‬ ‫�صلينا بال�شكل ال�صحيح‪ ،‬لأن كل �صالة تبعدين خطوة عن اجلهل وتقربني خطوة �إىل العلم‪.»...‬‬ ‫وي�ضيف ال�صدر‪ ...« :‬فكرة العبادة يف اال�سالم بعيدة كل البعد عن مفهوم العبودية‪ ،‬ال عبودية يف‬ ‫اال�سالم‪ ،‬عبودية اهلل تعني التحرر‪ ،‬عبودية اهلل تعني ال�سلوك والتحرك نحو العلم والعدل‪ ،‬والقوة‬ ‫والر�أفة‪ ،‬وال�صدق والعزمية‪ ،‬وكل الكماالت ‪ .‬هذا مفهوم العبادة يف اال�سالم‪.)80(»...‬‬ ‫وي�ضيف االمام مو�سى ال�صدر حول �أهمية االميان بكتب اهلل ور�سله‪« :‬النقطة الثالثة يف �سل�سلة‬ ‫العقائد والأ�صول القر�آنية‪ ،‬هي االميان بكتب اهلل ور�سله‪ ،‬والقر�آن الكرمي‪ ...‬و�أن امل�سلم يجب �أن‬ ‫ي�ؤمن �أي�ضاً بجميع الأنبياء ال�سابقني‪ ...‬وحم�صلة هذا الأمر‪ ،‬هو حماولة خلق جبهة من الأنبياء‪،‬‬ ‫وجبهة من خط امل�ؤمنني‪ ،‬تبد�أ من الأزل وتنتهي �إىل الآخرة‪ ،‬حماولة الرتابط بني ن�ضالنا اليوم‪،‬‬ ‫وبني ن�ضال االن�سان يف �سابق الزمن‪ ،‬وحماولة الرتابط بني دعوة الأنبياء يف �سابق الزمن‪ ،‬ودعوة‬ ‫الأنبياء اليوم»(‪.)81‬‬ ‫«‪ ...‬واملق�صود‪ ...‬جعل االن�سان �ضمن خط م�ستمر‪ ،‬حتى ال ي�شعر بالغربة‪ ،‬وحتى ي�شعر باملواكبة‬ ‫الكونية‪ ،‬وحتى يت�أكد من �سالمة اخلط الذي هو ي�سري فيه‪� ،‬سببه احلقيقي �أن الر�ساالت هي واحدة‬ ‫يف الواقع‪� ...‬إذاً جميع الأنبياء‪ ،‬ر�سل رب واحد‪� ،‬إىل �إن�سان واحد‪ ،‬يدعون �إىل ر�سالة واحدة‪ ،‬هي‬ ‫ر�سالة اهلل‪ ،‬ر�سالة الت�سليم �إىل اهلل‪ ،‬عق ًال وقلباً وج�سداً‪ ،‬بهذا املفهوم نحن ننظر �إىل �إ�سالمنا‪ ،‬و�إذا‬ ‫تالحظون‪ ،‬هذا النف�س موجود يف ميثاق احلركة [حركة املحرومني]‪� ،‬إنه نحن هذا ال�شعور‪ ،‬يعني‬ ‫‪117‬‬


‫هذا اجلانب االن�ساين من الر�سالة‪ ،‬مقابل اجلانب الإلهي من الر�سالة‪ ،‬اجلانب الإلهي من الر�سالة‬ ‫يعني دعوات واحدة اجلانب االن�سان‪� ،‬إنه حتركات واحدة‪ ،‬من الأزل �إىل الأبد‪ ،‬ويف جميع �أقطار‬ ‫الأر�ض»(‪.)82‬‬ ‫رب واحد‪ ...‬ال بد من ان ن�ضيف هذه‬ ‫ويف حديثه عن الأنبياء يقول‪« :‬الأنبياء �أي�ضاً‪ ،‬ر�سل ّ‬ ‫الكلمة‪� :‬أن النبي هو الذي يحمل الر�سالة من اهلل‪ ،‬ولي�س هو الذي يفهم كثرياً‪ ،‬والفيل�سوف‬ ‫الكبري وامل�صلح الكبري‪ ،‬النبي ال ينطق عن الهوى‪ ،‬ال يقول �شيئاً من نف�سه‪ ،‬ومن مدركاته‪ ،‬هو‬ ‫ينقل ما ي�سمع‪ ،‬هو ينقل ما يوحى �إليه‪.)83(»...‬‬ ‫وحول قانون ال�سماء يقول‪« :‬االن�سان بحاجة �إىل قانون ال�سماء‪ ،‬حتى يكون حكماً بني الب�شر‬ ‫بع�ضهم مع البع�ض‪ ،‬و�إال كيف ميكن للإن�سان �أن يتفق‪ٌّ ،‬‬ ‫وكل ينظر من زاويته اخلا�صة؟ �أي �صلة‬ ‫بني �إن�سان و�إن�سان �آخر‪� ،‬إذا مل يكن معتمداً على امر مطلق‪ ،‬ما ن�سميه بالقيم ؟ ال ميكن‪ .‬و�إال كل‬ ‫الوحدات يف العامل تتحول �إىل �شركات‪ ،‬حتى عالقة االن�سان مع اخيه تتغري‪ ،‬ت�صبح عالقة �شركة‪،‬‬ ‫�شركة م�صالح‪ .‬ولذلك ال ميكن للإن�سانية �أن ت�ستغني عن قوانني ال�سماء‪� ،‬أو املطلقات‪ ،‬او القيم‬ ‫القيم يف الأخالق واملطلقات يف القانون‪ ،‬حتى يتمكن املجتمع الب�شري �أن يعي�ش عي�شاً متعاوناً»‪.‬‬ ‫ولكنه ي�ؤكد على امر مهم هو‪« :‬ال �شك �أن �إعطاء القانون من ال�سماء‪ ،‬ال يعني �إطالقاً‪ ،‬ان القانون‬ ‫مينع االن�سان عن التفكري‪.)84(»...‬‬ ‫ب‪ -‬يف الدين‪ :‬عند انطون �سعاده‪:‬‬ ‫«�إن الدين امل�سيحي واال�سالمي متفقان كل الإتفاق يف الأغرا�ض الدينية الأخرية‪ ،‬و�أن الواجب‬ ‫على �أتباعهما يق�ضي برتك حماربة بع�ضهم البع�ض وحماولة �إخ�ضاع بع�ضهم بع�ضاً‪� ...‬إىل جميع‬ ‫النا�س غري رجال الدين نوجه هذه الدعوة‪« :‬لنرتك رجال الدين يتناظرون ما �شا�ؤوا املناظرة يف �أي‬ ‫الأديان �أ�صحها ب�شرط �أن ال يتعدوا حدود املناظرة التي تهيج الغوغاء وال�سذج وغر�س الأحقاد‬ ‫بني ابناء الوطن الواحد ب�إ�سم الدين‪� »...‬إن هذه الدعوة تعني ترك الع�صبية الدينية واعتناق‬ ‫الع�صبية القومية التي جتعل جميع ال�سوريني م�سلميهم وم�سيحييهم ع�صبة واحدة»(‪.)85‬‬ ‫«‪ ...‬فامل�سيحية ن�ش�أت ن�ش�أة دين بحت جمرد من �ش�ؤون الدولة واحلكم‪ .‬فقد اخت�ص الدين‬ ‫امل�سيحي بالأفراد ومعتقداتهم ومناقبهم‪.‬‬ ‫�أما الدين اال�سالمي‪ ...‬ا�ضطر لأخذ طبيعة البنية التي ن�ش�أ فيها بعني االعتبار‪ ،‬وطبيعة البنية‬ ‫اقت�ضت �إيجاد الدولة لتكون و�سيلة لإقامة الدين‪ ،‬وملا كان غر�ض الدولة �إقامة الدين كان ال ُب ّد �أن‬ ‫يكون �أ�سا�سها‪ ،‬فهي وجدت بالدين لإقامة الدين‪ ...‬ولهذا ال�سبب جند م�س�ألة الف�صل بني الدين‬ ‫والدولة يف امللة اال�سالمية �أ�صعب حا ًال منها يف امللة امل�سيحية‪ ،‬لأن الدولة موجودة يف الن�صو�ص‬ ‫‪118‬‬


‫فكــــــر‬

‫القر�آنية كما هي موجودة يف ن�صو�ص التوراة‪ ،‬ولكنها لي�ست موجودة يف ن�صو�ص االجنيل»(‪.)86‬‬ ‫«‪ ...‬وبنا ًء على الن�صو�ص القر�آنية �أمكن �صاحبي «العروة الوثقى» ( جمال الدين الأفغاين وال�شيخ‬ ‫حممد عبده) القول‪�« :‬أن ال جن�سية للم�سلمني �إال يف دينهم» والقول خماطبني امل�سلمني «هل‬ ‫ن�سوا وعد اهلل لهم ب�أن يرثوا الأر�ض وهم العباد ال�صاحلون؟» والقول‪« :‬الديانة اال�سالمية و�ضع‬ ‫�أ�سا�سها على طلب الغلب وال�شوكة واالفتتاح والعزة ورف�ض كل قانون يخالف �شريعتها ونبذ كل‬ ‫�سلطة ال يكون القائم بها �صاحب الوالية على تنفيذ �أحكامها»‪ ...‬وكل هذه الأقوال بعيدة عن‬ ‫ال�صواب ولي�س فيه تدبر �صحيح لن�صو�ص الديانة اال�سالمية وتاريخها‪ ...‬بل هي جميعها نتيجة‬ ‫ا�ستبداد يف االجتهاد من اجل الو�صول �إىل اغرا�ض �سيا�سية مبنية على نظرة الدولة الدينية‬ ‫واجلن�سية الدينية»(‪.)87‬‬ ‫«‪� ...‬أن ن�صو�ص اال�سالم على وجهني وجه يف الدين ووجه يف الدولة‪ ،‬والق�سم املكي هو الأكرث‬ ‫اخت�صا�صاً بالوجهة الدينية والق�سم املدين هو الأكرث اخت�صا�صاً بالوجهة الدولية‪ ،‬وهذا االزدواج‬ ‫يف اجتاه الر�سالة اال�سالمية مل يح�صل له فيما م�ضى درا�سة جتمع وجهته يف وحدة فكرية روحية‪،‬‬ ‫هو الذي ي�سهل لأ�صحاب الأغرا�ض ال�سيا�سية الأخذ ب�أي وجه �أرادوا ح�سبما يوافق �أغرا�ضهم‪،‬‬ ‫وهو لي�س عيباً يف القر�آن‪ ،‬بل نق�ص الثقافة التاريخية االجتماعية وعدم تدبر الر�سالة اال�سالمية‬ ‫كما يجب»‪.‬‬ ‫«و�أ�صحاب الأغرا�ض ال�سيا�سية ال يريدون ن�شوء هذه الدرا�سة يف اال�سالم‪ ،‬لأنها ميكن �أن تق�ضي‬ ‫على جميع حماوالت ا�ستخدام الدين للأغرا�ض ال�سيا�سية واملطامع اخل�صو�صية‪ ،‬ف�إذا ظل اال�سالم‬ ‫بعيداً عن هذه الدرا�سة التكتيكية مل يخ�ش ه�ؤالء الأراخنة افت�ضاح �أمرهم بعك�سهم االجتاه الأول‬ ‫للإ�سالم‪ .‬ف�إن حممداً ا�ستخدم الدولة لإقامة الدين وجعل الدين �أ�سا�ساً لتنظيم �شعب باق يف‬ ‫حالة همجية‪ ،‬اما ه�ؤالء فرييدون ا�ستخدام الدين لتنفيذ املطامع ال�سيا�سية»(‪.)88‬‬ ‫وي�ضيف �سعاده قائ ًال ‪� :‬إنه يجب �إيجاد «اال�ستقرار الروحي يف امللة اال�سالمية لتهتم ب�ش�ؤون االرتقاء‬ ‫الثقايف فال تظل معر�ضة لت�ضحية غر�ض الدين يف �سبيل غر�ض ال�سيا�سة التي يهمها الدولة‬ ‫وال�سلطان واحلكم �أكرث مما يهمها الدين واالرتقاء الروحي واملثل العليا والتقدم االجتماعي»(‪.)89‬‬ ‫ثم يرد �سعاده على فكرة اجلامعة اال�سالمية عند جمال الدين الأفغاين وال�شيخ حممد عبده‬ ‫قائ ًال‪« :‬على هذه الطريق ال�سلبية �سارت مدر�سة ال�سيد جمال الدين الأفغاين وال�شيخ حممد‬ ‫عبده‪ ،‬فغررت بجماعات كثرية من امل�سلمني يف م�صر و�سوريا والهند و�إيران وافغان�ستان وكانت‬ ‫نتائجها خيبة تلو خيبة‪ ،‬ف�إن مبد�أ «اجلن�سية الدينية» للم�سلمني ن�سف من �أ�س�سه‪ ،‬فاال�سالم مل‬ ‫يكن �أح�سن حظاً من امل�سيحية يف توحيد الأمم با�سمه‪.‬‬ ‫فالأتراك مل يقبلوا ت�ضحية جن�سيتهم االجتماعية يف �سبيل «جن�سيتهم الدينية»‪ ،‬ومل يقبل بذلك‬ ‫الفر�س وال اية �أمة �إ�سالمية �أخرى ا�ستيقظت لوحدتها االجتماعية ‪ -‬االقت�صادية اجلغرافية ‪-‬‬ ‫‪119‬‬


‫ال�ساللية وملطاحمها ومثلها العليا املنبثقة من هذه الأ�صول والعوامل‪ .‬فذهبت �صيحات الكاتبني‬ ‫الأفغاين وعبده يف �سبيل الوحدة اال�سالمية �أدراج الرياح ولكنها تركت �أثراً �سيئاً بني الذين‬ ‫تعلقوا بها يف �سوريا و�أقطار �أخرى فغررت وطوحت بهم وراء نظرية فا�سدة �شغلتهم عن طلب‬ ‫وحدتهم القومية‪ ،‬ف�سبقتهم �إليها الأمم التي مل ت�ست�سلم لهذا الإغراء حتى ان تركيا وم�صر تفاهمتا‬ ‫على خ�سارة ال�سوريني لواء الإ�سكندرون للأتراك»(‪.)90‬‬ ‫تظهر من خالل املبادئ اال�صالحية التي و�ضعها �أنطون �سعاده‪ ،‬للأمة ال�سورية دعوته وب�شكل‬ ‫وا�ضح �إىل �ضرورة ف�صل الدين عن الدولة‪ ،‬وقد اعترب «�إن �أعظم عقبة يف �سبيل حتقيق وحدتنا‬ ‫القومية وفالحنا القومي هي تعلق امل�ؤ�س�سات الدينية بال�سلطة الزمنية وت�شبث املراجع الدينية‬ ‫بوجوب كونها مراجع ال�سيادة يف الدولة وقب�ضها على زمام �سلطاتها �أو بع�ض �سلطاتها(‪.)91‬‬ ‫فالقومية عند �سعاده «ال تت�أ�س�س على الدين وال تت�أ�س�س عليه الدولة القومية» وهو يظهر �أي�ضاً «�أن‬ ‫�أكرب جامعتني دينيتني يف العامل امل�سيحية واملحمدية‪ ،‬مل تنجحا ب�صفة كونهما جامعتني مدنيتني‬ ‫�سيا�سيتني‪ ،‬كما جنحتا ب�صفة كونهما جامعتني روحيتني ثقافيتني» فاجلامعة «الدينية الروحية» عند‬ ‫�سعاده «ال خطر منها وال خوف عليها‪� .‬أما اجلامعة الدينية‪ ،‬املدنية وال�سيا�سية‪ ،‬فتجلب خطراً كبرياً‬ ‫على الأمم والقوميات وم�صالح ال�شعوب»(‪.)92‬‬ ‫ويعود �سعاده لي�ؤكد �ضرورة «منع رجال الدين من التدخل يف �ش�ؤون ال�سيا�سة والق�ضاء‬ ‫القوميني»(‪.)93‬‬ ‫فالأحوال القومية واملدنية واحلقوق العامة «ال ميكن �أن ت�ستقيم حيث الق�ضاء متعدد �أو مت�ضارب‬ ‫ومق�سم على املذاهب الدينية الأمر الذي مينع وحدة ال�شرائع ال�ضرورية لوحدة النظام»(‪.)94‬‬ ‫ولتحقيق الوحدة والأمة ال�سورية‪ ،‬ال ُب ّد من «�إزالة احلواجز بني خمتلف الطوائف واملذاهب»‪ ،‬فهذه‬ ‫احلواجز هي «حواجز تقليدية لي�ست من ال�ضروريات الدينية‪� ،‬إن يف �أمتنا تقاليد متنافرة م�ستمدة‬ ‫من انظمة م�ؤ�س�ساتنا الدينية واملذهبية‪ ،‬كان لها �أكرب ت�أثري يف �إ�ضعاف وحدة ال�شعب االجتماعية‬ ‫واالقت�صادية وت�أخري نه�ضتنا القومية واالجتماعية»‪ .‬فالوحدة القومية عند �سعاده ال تتم �إال ب�إزالة‬ ‫�أ�سباب االختالف‪ .‬واحلواجز االجتماعية احلقوقية بني مذاهب وطوائف الأمة الواحدة هي املانع‬ ‫(‪)95‬‬ ‫من الوحدة القومية الروحية‪ -‬املادية»‬ ‫ج‪ -‬يف الت�أ�سي�س حلركة املحرومني ‪� -‬أمل ‪ -‬عند مو�سى ال�صدر‪:‬‬ ‫يظهر االمام ال�سيد مو�سى ال�صدر �أهداف ت�أ�سي�س هذه احلركة من خالل ميثاقها‪:‬‬ ‫‪� .1‬إنها طموحة نحو حياة �أف�ضل‪ ،‬تدفعه (االن�سان) للت�صدي لكل ما يف�سد عليه حياته �أو يجمد‬ ‫مواهبه �أو يهدد م�ستقبله‪.‬‬ ‫‪120‬‬


‫فكــــــر‬

‫‪ . 2‬ف�إنها حلقة من حركة االن�سان العامة يف التاريخ قادها الأنبياء والأولياء وامل�صلحون ودفعها‬ ‫املجاهدون و�أغناها ال�شهداء اخلالدون‪.‬‬ ‫‪� .3‬إن هذه احلركة تنطلق من االميان باهلل‪ :‬االميان مبعناه احلقيقي ال مبفهومه التجريدي‪.‬‬ ‫‪ . 4‬كما و�أنها تعتمد على �أ�سا�س االميان باالن�سان‪ ،‬بوجوده‪ ،‬بحريته‪ ،‬بكرامته‪ ،‬واحلقيقة �أن االميان‬ ‫باالن�سان هو البعد الأر�ضي للإميان باهلل‪.‬‬ ‫‪� .5‬إن حركة املحرومني‪ ...‬ت�ؤمن باحلرية الكاملة للمواطن‪ ،‬وحتارب دون هوادة كافة انواع الظلم من‬ ‫ا�ستبداد و�إقطاع وت�سلط وت�صنيف املواطنني‪.‬‬ ‫‪ .6‬ترف�ض احلركة الظلم االقت�صادي‪.‬‬ ‫‪� .7‬إن حركة املحرومني هي حركة وطنية تتم�سك بال�سيادة الوطنية و�سالمة �أرا�ضي الوطن وحتارب‬ ‫اال�ستعمار واالعتداءات واملطامع التي يتعر�ض لها لبنان‪.‬‬ ‫ واحلركة هذه تعترب �أن التم�سك بامل�صالح القومية وحترير الأر�ض العربية وحرية �أبناء هذه الأمة‬ ‫هي من �صميم التزاماتها الوطنية ال تنف�صل عنها‪.‬‬ ‫‪� .8‬إنها لي�ست حركة طائفية وال عمال خريياً وال موعظة ون�صحاً وال تهدف �إىل حتقيق مكا�سب‬ ‫فئوية �إنها حركة املحرومني جميعاً‪.‬‬ ‫‪� .9‬إنها حركة اللبنانيني ال�شرفاء جميعاً‪� ...‬إنها حركة اللبناين نحو الأف�ضل(‪.)96‬‬ ‫د‪ -‬يف ت�أ�سي�س احلزب ال�سوري القومي االجتماعي عند انطون �سعاده‪:‬‬ ‫يقول �أنطون �سعاده يف �أ�سباب ودوافع ت�أ�سي�س احلزب ويف املبد�أ الأول من د�ستور احلزب «حني‬ ‫ابتد�أت �أفكر يف بعث �أمتي ونه�ضتها و�أالحظ احلركات ال�سيا�سية االعتباطية القائمة فيها‪ ،‬الحظت‬ ‫�أنه ال يوجد �إجماع على تعيني هويتنا وحقيقتنا االجتماعية‪ ،‬ور�أيت ان كل عمل قومي �صحيح‬ ‫يجب �أن يبد�أ من هذا ال�س�ؤال الفل�سفي‪ :‬من نحن؟‪ ... ،‬وقد �أجبت نف�سي بعد هذا التنقيب‬ ‫الطويل فقلت‪ :‬نحن �سوريون ونحن �أمة تامة‪.»...‬‬ ‫ثم ي�ضيف �سعاده قائ ًال‪�« :‬إن هذه التعاريف املبلبلة التي جز�أت حقيقتنا القومية �أو �أذابتها وحمتها‪:‬‬ ‫نحن اللبنانيني‪ ،‬نحن الفل�سطينني‪ ،‬نحن ال�شاميني‪ ،‬نحن العراقيني‪ ،‬نحن العرب‪ ،‬مل ميكن �أن تكون‬ ‫ا�سا�ساً لوعي قومي �صحيح ولنه�ضة الأمة ال�سورية التي لها دورتها االجتماعية واالقت�صادية يف وحدة‬ ‫حياة ووحدة م�صري‪ ...‬واحلقيقة �أن قومية ال�سوريني التامة وح�صول الوجدان احلي لهذه القومية‬ ‫�أمران �ضروريان لكون �سورية لل�سوريني‪ ،‬بل هما �شرطان �أوليان ملبد�أ ال�سيادة القومية»(‪.)97‬‬ ‫وتتوزع املبادئ الأخرى على ال�شكل التايل‪:‬‬ ‫‪121‬‬


‫ املبد�أ الثاين‪« :‬الق�ضية ال�سورية هي ق�ضية قومية قائمة بنف�سها م�ستقلة كل اال�ستقالل عن‬‫اية ق�ضية اخرى»(‪.)98‬‬ ‫ املبد�أ الثالث‪ :‬الق�ضية ال�سورية هي ق�ضية الأمة ال�سورية والوطن ال�سوري(‪.)99‬‬‫ املبد�أ الرابع‪ :‬الأمة ال�سورية هي وحدة ال�شعب ال�سوري املتولدة من تاريخ طويل يرجع �إىل‬‫ما قبل الزمن التاريخي اجللي(‪.)100‬‬ ‫ويف هذا املبد�أ يقول �سعاده‪ ...« :‬ف�إن نبوغ ال�سوري وتفوق ال�سوريني العقلي على ما جاورهم وعلى‬ ‫غريهم �أمر ال جدال فيه‪ ،‬فهم الذين ّمدنوا الإغريق وو�ضعوا �أ�س�س مدنية البحر املتو�سط التي‬ ‫�شاركوا فيها الإغريق فيما بعد‪.)101(»...‬‬ ‫ثم يبني مدلول الأمة ال�سورية قائ ًال‪ ...« :‬وهو املجتمع القائم يف بيئة واحدة ممتازة عرفت تاريخياً‬ ‫ب�إ�سم �سورية و�سماها العرب «الهالل اخل�صيب» لفظاً جغرافياً طبيعياً حم�ض ال عالقة له بالتاريخ‬ ‫وال بالأمة و�شخ�صيتها‪ ،‬فالأ�صول امل�شرتكة‪ :‬الكنعانية ‪ -‬الكلدانية ‪ -‬الآرامية ‪ -‬الآ�شورية ‪-‬‬ ‫الآمورية ‪ -‬احلثية ‪ -‬املتنية ‪ -‬الآكادية‪ ،‬التي وجودها وامتزاجها حقيقة علمية تاريخية ال جدال‬ ‫فيها‪ ،‬هي �أ�سا�س �أثني‪ -‬نف�سي ‪ -‬تاريخي ثقايف كما �أن مناطق �سورية الطبيعية الهالل اخل�صيب)‬ ‫هي وحدة جغرافية ‪ -‬زراعية ‪� -‬إقت�صادية ‪ -‬ا�سرتاتيجية»(‪.)102‬‬ ‫ املبد�أ اخلام�س‪ :‬ويحدد من خاللها �سعاده ‪ :‬احلدود اجلغرافية للوطن ال�سوري والأمة‬‫ال�سورية‪ ،‬وهي‪:‬‬ ‫«الوطن ال�سوري هو البيئة الطبيعية التي ن�ش�أت فيها الأمة ال�سورية‪ ،‬وهي ذات حدود جغرافية‬ ‫متيزها عن �سواها متتد من جبال طورو�س يف ال�شمال الغربي وجبال البختياري يف ال�شمال ال�شرقي‬ ‫�إىل قناة ال�سوي�س والبحر الأحمر يف اجلنوب �شاملة �شبه جزيرة �سيناء وخليج العقبة‪ ،‬ومن البحر‬ ‫ال�سوري يف الغرب‪� ،‬شاملة جزيرة قرب�ص‪� ،‬إىل قو�س ال�صحراء العربية وخليج العجم يف ال�شرق‪،‬‬ ‫و ُيعبرّ عنها بلفظ عام‪ :‬الهالل ال�سوري اخل�صيب وجنمته جزيرة قرب�ص»(‪.)103‬‬ ‫ �أما املبادئ (‪ ،)8-7-6‬فهي ت�ؤكد على وحدة املجتمع ال�سوري‪ ،‬واالميان ب�أن م�صلحة �سورية‬‫فوق كل امل�صالح(‪.)104‬‬ ‫اخلامتة‪:‬‬

‫بعد االطالع على فكر كل من ال�سيد مو�سى ال�صدر و�أنطون �سعاده‪� ،‬سن�أتي على ذكر بع�ض‬ ‫�أ�شكال االلتقاء واالختالف بني فكري الرجلني‪ ،‬على ال�شكل التايل‪:‬‬ ‫‪122‬‬


‫فكــــــر‬

‫‪ -1‬يف املجال ال�سيا�سي‪:‬‬ ‫ �أ�س�س الإمام ال�صدر‪ ،‬حركة امل‪ ،‬وهي اجلناح الع�سكري حلركة املحرومني‪ ،‬واعتربها حركة‬‫وطنية‪ ،‬هدفها «�صون كرامة الوطن ومنع ا�سرائيل من االعتداءات ال�سهلة»(‪.)105‬‬ ‫فكانت حركة �أمل‪ ،‬تنظيماً حزبياً �سيا�سياً لبنانياً بحتاً‪.‬‬ ‫يقول �أنطون �سعاده عن ق�ضية احلزب ال�سوري القومي االجتماعي‪« ،‬مل نقل انها لبنانية وال �أن‬ ‫غايتها �إظهار �شيء ي�سمى «�إ�ستقالل لبنان»‪ ،‬بل قالت �أنها �سورية �أو ًال و�آخراً و�أنها ال تعرتف ب�أية‬ ‫ت�سوية ال تكون وليدة �إرادة الأمة ال�سورية املوحدة يف مبادئ ق�ضيتها القومية»(‪.)106‬‬ ‫ويحدد انطون �سعاده احلدود اجلغرافية للأمة ال�سورية‪ :‬من جبال طورو�س يف ال�شمال الغربي‬ ‫وجبال البختياري يف ال�شمال ال�شرقي �إىل قناة ال�سوي�س والبحر الأحمر يف اجلنوب‪� ،‬شاملة‬ ‫�شبه جزيرة �سيناء وخليج العقبة‪ ،‬ومن البحر ال�سوري يف الغرب �شاملة جزيرة قرب�ص‪� ،‬إىل قو�س‬ ‫ال�صحراء العربية وخليج العجم يف ال�شرق»(‪.)107‬‬ ‫‪ -1‬يف الدين‪:‬‬ ‫ عند الإمام ال�سيد مو�سى ال�صدر‪ :‬اعترب �أن الدين وعبادة اهلل تعاىل‪« ،‬خطوات وو�سائل‬‫ودوافع لأجل �أن تدفع االن�سان نحو الكمال» و�أكد ان عبودية اهلل تعاىل تعني التحرر وكل‬ ‫الكماالت»(‪.)108‬‬ ‫وربط ال�سيد ال�صدر بني جبهة الأنبياء وجبهة امل�ؤمنني‪ ،‬التي تبد�أ من الأزل وتنتهي �إىل الآخرة‪،‬‬ ‫حماولة الرتابط بني ن�ضالنا اليوم وبني ن�ضال االن�سان يف �سابق الزمن‪« ،‬بهذا املفهوم نحن ننظر‬ ‫�إىل �أ�سالفنا» و�أكد اهمية االميان بكتب اهلل ور�سله والقر�آن الكرمي‪ ،‬وربطه ذلك بالعمل اليومي‬ ‫للإن�سان‪ ،‬و�أوجده يف ميثاق حركة املحرومني»(‪.)109‬‬ ‫وقد ورد يف مقدمة امليثاق‪�« :‬إن هذه احلركة تنطلق من االميان باهلل‪ ،‬االميان مبعناه احلقيقي ال مبفهومه‬ ‫التجريدي»(‪.)110‬‬ ‫ عند �أنطون �سعاده‪ :‬دعا �إىل ف�صل الدين عن الدولة‪ ،‬ومنع رجال الدين من التعاطي يف‬‫الأمور ال�سيا�سية‪ ،‬ويناق�ض متاماً فكرة ال�سيد مو�سى ال�صدر الدينية البحتة‪.‬‬ ‫ف�سعاده اعترب �أن «�أعظم عقبة يف �سبيل حتقيق وحدتنا القومية وفالحنا القومي هي تعلق امل�ؤ�س�سات‬ ‫الدينية بال�سلطة الزمنية وت�شبث املراجع الدينية بوجوب كونها مراجع ال�سيادة يف الدولة وقب�ضها‬ ‫على زمام �سلطاتها �أو بع�ض �سلطاتها»(‪.)111‬‬ ‫‪123‬‬


‫بل يذهب �إىل �أبعد من ذلك حني يعترب �أن «اجلامعة الدينية املدنية وال�سيا�سية‪ ،‬جتلب خطراً كبرياً‬ ‫على الأمم والقوميات وم�صالح ال�شعوب»(‪.)112‬‬ ‫�إال �أن الرجلني يلتقيان يف مناحي �أخرى كثرية‪ ،‬ومنها‪:‬‬ ‫‪ -1‬يف االقت�صاد والتنمية‪:‬‬ ‫ عند ال�سيد مو�سى ال�صدر‪ :‬رف�ض الظلم االقت�صادي(‪.)113‬‬‫فهو ويف مهرجان بعلبك بتاريخ ‪ 1974/3/17‬انتقد ب�شكل وا�سع‪ ،‬ال مباالة الدولة مبطالب املحرومني‬ ‫يف البقاع واجلنوب وال�شمال وكل لبنان وهاجم احلكومة لعدم �صرف االعتمادات املخ�ص�صة‬ ‫للتنمية(‪ )114‬و�أقام املهرجانات املطالبة ب�إن�صاف املناطق املحرومة‪ ،‬وحتقيق العدالة االجتماعية‪ .‬فهو‬ ‫يقول‪�« :‬إن الأ�سا�س لبقاء الأوطان العدالة وكرامة املواطن»(‪.)115‬‬ ‫ عند �أنطون �سعاده‪ :‬دعا يف املبد�أ الرابع للحزب ال�سوري القومي االجتماعي �إىل‪�« :‬إلغاء‬‫االقطاع وتنظيم االقت�صاد الوطني على �أ�سا�س الإنتاج و�إن�صاف العمل و�صيانة م�صلحة الأمة‬ ‫والدولة»(‪ )116‬وهو ي�شرح ذلك بقوله‪« :‬اما تنظيم االقت�صاد القومي على �أ�سا�س االنتاج فهو الطريقة‬ ‫الوحيدة لإيجاد التوازن ال�صحي بني توزيع العمل وتوزيع الرثوة‪ .‬كل ع�ضو يف الدولة يجب ان‬ ‫يكون منتجاً بطريقة من الطرق»(‪ )117‬وي�ضيف قائ ًال‪�« :‬إن ثروة الأمة العامة يجب ان تخ�ضع مل�صلحة‬ ‫الأمة العامة و�ضبط الدولة القومية‪ ...‬ف�إقامة العدل االجتماعي ‪ -‬احلقوقي ‪ -‬والعدل االقت�صادي‬ ‫ احلقوقي‪� ،‬أمر �ضروري لفالح النه�ضة ال�سورية القومية االجتماعية»(‪.)118‬‬‫‪ -2‬يف �إيجاد جي�ش قوي‪:‬‬ ‫ عند ال�سيد مو�سى ال�صدر‪:‬‬‫‪�« .1‬سوف ن�ؤ�س�س جي�شاً يف داخل هذا البلد لكي ندافع عن اللبنانيني ونحمي حدود لبنان‬ ‫ونحمي جنوب لبنان ونحمي �شواطئ لبنان»(‪.)119‬‬ ‫‪�« .2‬إن للتجنيد االجباري �أكرث من فائدة‪ ،‬فهو يجمع ال�صفوف ويوحد الكلمة ويهيئ ال�شعب‬ ‫ملواجهة اخلطر القائم حالياً‪ ...‬ويكون دعامة لردع هذا اخلطر يف امل�ستقبل»(‪.)120‬‬ ‫‪� .3‬إن اجلي�ش هو العمود الفقري لبناء الدولة وهو �سياج الوطن(‪.)121‬‬ ‫‪� .4‬أريد اجلي�ش قوياً م�سلحاً قادراً على حماية احلدود(‪.)122‬‬ ‫‪124‬‬


‫فكــــــر‬

‫ عند �أنطون �سعاده‪� :‬أورد يف املبد�أ اخلام�س من املبادئ الإ�صالحية‪� « :‬إعداد جي�ش قوي يكون‬‫ذا قيمة فعلية يف تقرير م�صري الأمة والوطن»(‪ )123‬فهو يدعو وب�شكل وا�ضح �إىل �ضرورة �أن تكون‬ ‫«الأمة ال�سورية كلها يجب �أن ت�صبح قوية م�سلحة»(‪.)124‬‬ ‫‪ -3‬اخلطر ال�صهيوين‪:‬‬ ‫ عند ال�سيد مو�سى ال�صدر‪:‬‬‫‪� .1‬إن غدر ال�صهاينة وم�ؤامراتهم مل ينج منها ال امل�سيحيون وال امل�سلمون على ال�سواء‪ ،‬والتاريخ‬ ‫�شاهد على ا�ضطهادهم لل�سيد امل�سيح وعلى حتريفهم للأحاديث النبوية ومقاومتهم للدعوة‬ ‫اال�سالمية(‪.)125‬‬ ‫‪� .2‬إن �إ�سرائيل بوجودها ومبا لها من اهداف ت�شكل خطراً علينا حمدقاً على جنوبنا و�شمالنا على‬ ‫�أر�ضنا و�شعبنا على قيمنا وح�ضارتنا على اقت�صادنا و�سيا�ستنا(‪.)126‬‬ ‫‪� .3‬إن معركتنا مع العدو ذات وجوه كثرية‪ ،‬فهي معركة ح�ضارية طويلة الأمد متعددة اجلهات‪،‬‬ ‫وطنية قومية دينية‪� ،‬إنها معركة املا�ضي وامل�ستقبل(‪.)127‬‬ ‫‪ .4‬جتب �إزالة �إ�سرائيل من الوجود(‪.)128‬‬ ‫‪� .5‬إن �إ�سرائيل هي العدو للعرب وللم�سلمني وللم�سيحيني وللإن�سانية وهلل �سبحانه وتعاىل»(‪.)129‬‬ ‫‪� .6‬إن �إ�سرائيل �شر مطلق(‪.)130‬‬ ‫ عند �أنطون �سعاده‪ :‬ومن خالل حما�ضراته‪� ،‬أظهر �أنطون �سعاده خطر الوجود ال�صهيوين‪« :‬من‬‫�أهم امل�شاكل اخلطرة جداً التي �سنواجهها‪ ...‬امل�شكل ال�صهيوين الذي �صار خطراً عظيماً مداهماً‬ ‫يهدد بالق�ضاء على معظم �آمالنا» وي�ضيف‪�« :‬إن �سورية تواجه خطرين‪ :‬الواحد يف اجلنوب والآخر‬ ‫يف ال�شمال‪ ،‬الأول هو اخلطر اليهودي والثاين اخلطر الرتكي‪.)131(»...‬‬ ‫وميكن �أن نعترب �أن �أنطون �سعاده هو �أول من اظهر اخلطر ال�صهيوين على بالدنا‪ ،‬ونادى بوجوب‬ ‫مقاومته‪.‬‬ ‫يقول م�صطفى �صادق الرافعي‪« :‬ان نه�ضة هذا ال�شرق العربي ال تعترب قائمة على ا�سا�س وطيد اال‬ ‫اذا نه�ض بها الركنان اخلالدان‪ :‬الدين اال�سالمي واللغة العربية‪ ،‬وما عداهما فع�سى ان التكون له‬ ‫(‪)132‬‬ ‫قيمة يف حكم الزمن الذي اليقطع بحكمه على �شيء �إال ب�شاهدين املبدا والنهاية»‪.‬‬ ‫‪125‬‬


‫ان هذه النخبة من امل�صلحني املتمثلة مبو�سى ال�صدر وانطون �سعاده‪ ،‬والتي وجدناها انها الت�ساوم‬ ‫مبلك وال امارة واليطلبون باال�صالح غر�ضا من اغرا�ض الدنيا او باطال بزخرفها‪ ،‬فقد جعلتهم‬ ‫مبادئهم العالية القوية اول �ضحاياها‪ ،‬وتروي منهم عرق الرثى الذي يتغذى من بقايا االجداد‬ ‫لينبت منه االحفاد ‪.‬‬ ‫لقد كان مو�سى ال�صدر وانطون �سعاده‪ ،‬جوابا على نه�ضة امة ثابتة مل تكن من الكالم وفنونه بل‬ ‫مبد�أ ثابت وم�ستمر يعمل عمله يف نفو�س �أهلها‪ ،‬وقد كان هذا املبد�أ قائماً على اربعة اركان‪� :‬إرادة‬ ‫قوية‪ ،‬وخلق عزيز‪ ،‬وا�ستهانة باحلياة‪ ،‬و�صبغة خا�صة باالمة ‪.‬‬ ‫ان هذه النه�ضة الت�صلح يف الكتب وال يف الفنون بل يف الرجال القائمني عليها‪ ،‬فالقلوب واالدمغة‬ ‫هي ا�سا�س النه�ضة احلقيقية الثابتة‪ ،‬فكل النا�س ير�ضون التمتع باملال واجلاه وال�سيادة واحلكم‪،‬‬ ‫فلي�ست هي م�س�ألة ال�شرق‪ ،‬ولكن امل�س�ألة‪َ :‬من هو النبي ال�سيا�سي الذي ير�ضى ان ُي ْ�صلب؟‬ ‫الهوام�ش‪:‬‬

‫‪- 1‬‬ ‫‪- 2‬‬ ‫‪- 3‬‬

‫‪ -4‬‬ ‫‪ -5‬‬ ‫‪ -6‬‬ ‫‪ -7‬‬ ‫‪- 8‬‬ ‫‪- 9‬‬

‫‪- 10‬‬ ‫‪- 11‬‬

‫‪ -12‬‬ ‫‪ -13‬‬ ‫‪ -14‬‬ ‫‪ -15‬‬ ‫‪ -16‬‬ ‫‪ -17‬‬ ‫‪ -18‬‬ ‫‪126‬‬

‫وجيه كوثراين‪ ،‬ا�شكالية العالقة بني الدين وال�سيا�سة يف العقل العملي‪ ،‬منرب احلوار‪ ،‬العدد ‪� ،39‬صيف‬ ‫وخريف ‪� ،1999‬ص ‪.11‬‬ ‫االمام القائد ال�سيد مو�سى ال�صدر‪ ،‬امل املعذبني‪ ،‬من�شور �صادر عن حركة امل‪� ،2001 ،‬ص‪.5‬‬ ‫يعقوب �ضاهر‪ ،‬م�سرية االمام ال�سيد مو�سى ال�صدر‪ ،‬بريوت‪ :‬دار بالل‪ ،‬الطبعة‪.2000 ،29 : 1 ،1‬‬ ‫املرجع نف�سه‪.‬‬ ‫املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪.30‬‬ ‫املرجع نف�سه‪.31 ،‬‬ ‫املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪.37‬‬ ‫االمام القائد ال�سيد مو�سى ال�صدر‪� ،‬أمل املعذبني‪ ،‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص‪.15‬‬ ‫االمام القائد ال�سيد مو�سى ال�صدر‪� ،‬أمل املعذبني ‪ -‬حركة امل ‪ :‬املكتب االعالمي املركزي‪� ،2001 ،‬ص‪.15‬‬ ‫حممد قرة علي‪ ،‬هوية االمام ال�صدر ومهمته يف لبنان‪ ،‬جريدة احلياة البريوتية‪ ،‬عدد ‪.1961/12/22‬‬ ‫يعقوب �ضاهر‪ ،‬م�سرية االمام ال�سيد مو�سى ال�صدر‪ ،‬مرجع �سابق‪ ،‬اجلزء‪� ،1‬ص ‪.314‬‬ ‫املرجع نف�سه‪ ،‬اجلزء‪� ،1‬ص ‪.224‬‬ ‫جريدة النهار‪.1974 /2/3 ،‬‬ ‫املرجع نف�سه‪.‬‬ ‫جريدة النهار‪.1974/3/18 ،‬‬ ‫جريدة النهار‪.1974/5/6 ،‬‬ ‫جريدة النهار‪1975/6/28 ،‬‬ ‫املرجع نف�سه‪.‬‬


‫فكــــــر‬

‫‪ -19‬جريدة النهار‪.1974 /3/18 ،‬‬ ‫‪ -20‬جريدة النهار‪.1974/4/5 ،‬‬ ‫‪ -21‬املرجع نف�سه‪.‬‬ ‫‪ -22‬املرجع نف�سه‪.‬‬ ‫‪ -23‬جريدة النهار‪.1974/5/6 ،‬‬ ‫‪ -24‬املرجع نف�سه‪.‬‬ ‫‪ -25‬جريدة النهار‪.1970/5/16 ،‬‬ ‫‪ - 26‬االمام القائد ال�سيد مو�سى ال�صدر �أمل املعذبني‪ ،‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.28‬‬ ‫‪ -27‬جريدة النهار‪.1974/3/18 ،‬‬ ‫‪ -28‬املرجع نف�سه‪.1974 /4/5 ،‬‬ ‫‪ -29‬املرجع نف�سه‪.1974 /5/6 ،‬‬ ‫‪ -30‬جريدة النهار‪.1975 /3/30 ،‬‬ ‫‪ - 31‬االمام القائد ال�سيد مو�سى ال�صدر �أمل املعذبني‪� ،‬ص ‪.72‬‬ ‫‪ -32‬جريدة النهار‪.1975/7/7 ،‬‬ ‫‪ - 33‬يعقوب �ضاهر‪ ،‬م�سرية االمام ال�سيد مو�سى ال�صدر‪ ،‬اجلزء‪� ،9‬ص ‪ 228‬وما بعدها‪.‬‬ ‫‪ - 34‬اليا�س جرجي قنيزح‪ ،‬م�آثر من �سعاده‪ ،‬بريوت‪ :‬م�ؤ�س�سة �سعاده للثقافة‪ ،‬الطبعة‪� ،2013 ، 2‬ص ‪.18-17‬‬ ‫‪ -35‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪.20-19‬‬ ‫‪ -36‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪.23 -22‬‬ ‫‪ -37‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪.26‬‬ ‫‪ -38‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪.27‬‬ ‫‪ - 39‬م�آثر من �سعاده‪ ،‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.21‬‬ ‫‪ -40‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪.28‬‬ ‫‪ -41‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪.34-33‬‬ ‫‪ -42‬م�آثر من �سعاده‪� ،‬ص ‪.36‬‬ ‫‪ -43‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪.46 -45‬‬ ‫‪ -44‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪.68-67‬‬ ‫‪ -45‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪.77‬‬ ‫‪ -46‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪.91 -90‬‬ ‫‪ -47‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪.99‬‬ ‫‪ -48‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪.204‬‬ ‫‪ -49‬املرجع نف�سه‪،‬‬ ‫‪ -50‬م�آثر �سعاده‪� ،‬ص ‪.261‬‬ ‫‪ -51‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪.266‬‬ ‫‪� -52‬أنطون �سعاده‪ ،‬يف مغرتبه الق�سري ‪ -‬الآثار الكاملة‪ - 12 -‬د‪ .‬ت‪� ،‬ص ‪.16‬‬ ‫‪ -53‬الزوبعة‪ ،‬العدد ‪ 15 ،75‬حزيران ‪1944‬‬ ‫‪ - 54‬انطون �سعاده‪ ،‬يف مغرتبه الق�سري‪ ،‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪17‬‬ ‫‪127‬‬


‫‪ -55‬الزوبعة‪ ،‬العدد ‪� 12 ،79‬آب ‪.1944‬‬ ‫‪ -56‬املرجع نف�سه‪.‬‬ ‫‪ -57‬املرجع نف�سه‪.‬‬ ‫‪ -58‬الزوبعة‪ ،‬العدد ‪� 12 ،79‬آب ‪.1944‬‬ ‫‪ -59‬الزوبعة‪ ،‬العدد‪� 30 ،81‬أيلول ‪.1944‬‬ ‫‪ -60‬املرجع نف�سه‪.‬‬ ‫‪ -61‬الزوبعة‪ ،‬العدد ‪ 15 ،77‬متوز ‪.1944‬‬ ‫‪ -62‬الزوبعة‪ ،‬العدد ‪� 12 ،79‬آب‪.1944 ،‬‬ ‫‪ -63‬املرجع نف�سه‪.‬‬ ‫‪ -64‬املرجع نف�سه‪.‬‬ ‫‪� -65‬أنطون �سعاده‪ ،‬املحا�ضرات الع�شر‪ ،‬د‪ .‬ت‪� ،‬ص ‪( ،3‬املحا�ضر الأوىل ‪ 7‬كانون‪.)1948 2‬‬ ‫‪ -66‬املرجع نف�سه‪.‬‬ ‫‪� -67‬أنطون �سعاده‪ ،‬املحا�ضرات الع�شر‪� ،‬ص ‪.6‬‬ ‫‪ -68‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪.7‬‬ ‫‪ -69‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪.8‬‬ ‫‪ - 70‬املرجع نف�سه‪ ،‬املحا�ضرات الثانية‪� ،‬ص ‪ 18 - 9‬كانون‪.1948 - 2‬‬ ‫‪� -71‬أنطون �سعاده‪ ،‬املحا�ضرات الع�شر‪ ،‬املحا�ضرة الثانية‪� ،‬ص ‪.9‬‬ ‫‪ -72‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪.10‬‬ ‫‪ -73‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪.10‬‬ ‫‪ -74‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪.10‬‬ ‫‪ -75‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪.10‬‬ ‫‪� -76‬أنطون �سعاده‪ ،‬املحا�ضرات الع�شر‪ ،‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.11‬‬ ‫‪ -77‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪.11‬‬ ‫‪ -78‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪.11‬‬ ‫‪ - 79‬م�آثر من �سعاده‪ ،‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.32‬‬ ‫‪ - 80‬يعقوب �ضاهر‪ ،‬م�سرية االمام ال�سيد مو�سى ال�صدر‪ ،‬املرجع ال�سابق‪ ،‬اجلزء‪� ،1‬ص ‪.16 -15‬‬ ‫‪ -81‬املرجع نف�سه‪ ،‬اجلزء‪� ،11‬ص ‪.50‬‬ ‫‪ -82‬املرجع نف�سه‪ ،‬اجلزء‪� ،11‬ص ‪.51‬‬ ‫‪ -83‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪.52‬‬ ‫‪ -84‬املرجع نف�سه‪ ،‬اجلزء‪� ،11‬ص ‪.54‬‬ ‫‪� -85‬أنطون �سعاده‪ ،‬بني الدين والدولة‪� ،‬ص ‪.217‬‬ ‫‪ -86‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪.218‬‬ ‫‪ -87‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪.219‬‬ ‫‪ -88‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪.219‬‬ ‫‪ -89‬املرجع نف�سه‪.‬‬ ‫‪ -90‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪.222‬‬ ‫‪128‬‬


‫فكــــــر‬

‫‪� -91‬أنطون �سعاده‪ ،‬الدليل �إىل العقيدة ال�سورية القومية االجتماعية‪ ،‬بريوت‪ :‬دار الركن للطباعة والن�شر‪،1993 ،‬‬ ‫�ص ‪.30‬‬ ‫‪ -92‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪.31‬‬ ‫‪ -93‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪.33‬‬ ‫‪ -94‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪.33‬‬ ‫‪ -95‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪.34‬‬ ‫‪� - 96‬صوت املحرومني‪ ،‬العدد الأول‪.1976/5/28 ،‬‬ ‫‪� -97‬أنطون �سعاده‪ ،‬الدليل �إىل العقيدة ال�سورية القومية االجتماعية‪ ،‬بريوت‪ :‬الركن للطباعة والن�شر‪� ،1993 ،‬ص‬ ‫‪.13-12‬‬ ‫‪ -98‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪.14‬‬ ‫‪ -99‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪.16‬‬ ‫‪ -100‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪.17‬‬ ‫‪ -101‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪.18‬‬ ‫‪ -102‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪.19‬‬ ‫‪ -103‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪.22‬‬ ‫‪ -104‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪.29-26‬‬ ‫‪ -105‬جريدة النهار‪.1975/7/7 ،‬‬ ‫‪ -106‬الزوبعة‪ ،‬العدد‪� 3 ،28 :‬أيلول ‪.1944‬‬ ‫‪ -107‬انطون �سعاده ‪ -‬الدليل �إىل العقيدة ال�سورية القومية االجتماعية‪ ،‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.22‬‬ ‫‪ - 108‬يعقوب �ضاهر‪ ،‬م�سرية االمام مو�سى ال�صدر‪ ،‬املرجع ال�سابق‪ ،‬اجلزء‪� ،1‬ص ‪.16 - 15‬‬ ‫‪ -109‬املرجع نف�سه‪ ،‬اجلزء‪� ،11‬ص ‪.51-50‬‬ ‫‪� - 110‬صوت املحرومني‪ ،‬العدد الأول‪.1976/5/28 ،‬‬ ‫‪� -111‬أنطون �سعاده‪ ،‬الدليل �إىل العقيدة ال�سورية القومية االجتماعية‪ ،‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.30‬‬ ‫‪ -112‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪.31‬‬ ‫‪ - 113‬من ميثاق حركة املحرومني‪� ،‬صوت املحرومني‪ ،‬العدد الأول ‪1976/5/28‬‬ ‫‪ -114‬جريدة النهار‪.1974/3/18 ،‬‬ ‫‪ - 115‬االمام القائد ال�سيد مو�سى ال�صدر‪ ،‬امل املعذبني‪ ،‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.31‬‬ ‫‪� -116‬أنطون �سعاده‪ ،‬الدليل �إىل العقيدة ‪� ،...‬ص ‪.36‬‬ ‫‪ -117‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪.37‬‬ ‫‪ -118‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪.37‬‬ ‫‪ - 119‬يعقوب �ضاهر‪ ،‬املرجع ال�سابق‪ ،‬اجلزء‪� ،4‬ص ‪.269‬‬ ‫‪ -120‬املرجع نف�سه‪ ،‬اجلزء‪� 2‬ص ‪.74‬‬ ‫‪ -121‬املرجع نف�سه‪ ،‬اجلزء‪� ،8‬ص ‪.172‬‬ ‫‪ -122‬املرجع نف�سه‪ ،‬اجلزء‪� ،5‬ص ‪.224‬‬ ‫‪ - 123‬انطون �سعاده‪ ،‬الدليل‪ ،‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.39‬‬ ‫‪129‬‬


‫‪ -124‬‬ ‫‪- 125‬‬ ‫‪ -126‬‬ ‫‪ -127‬‬ ‫‪ -128‬‬ ‫‪ -129‬‬ ‫‪ -130‬‬ ‫‪ -131‬‬ ‫‪- 132‬‬

‫‪130‬‬

‫املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪.39‬‬ ‫يعقوب �ضاهر‪ ،‬املرجع ال�سابق‪ ،‬اجلزء‪� ،1‬ص ‪.343‬‬ ‫املرجع نف�سه‪ ،‬اجلزء‪� ،2‬ص ‪.215‬‬ ‫املرجع ال�سابق‪ ،‬اجلزء‪� ،2‬ص ‪.216‬‬ ‫املرجع نف�سه‪ ،‬اجلزء‪� ،4‬ص ‪.343‬‬ ‫املرجع نف�سه‪ ،‬اجلزء‪� ،5‬ص ‪.143‬‬ ‫املرجع نف�سه‪ ،‬اجلزء‪� ،6‬ص ‪.292‬‬ ‫الزوبعة‪ ،‬العدد ‪� 12 ،79‬آب ‪.1944‬‬ ‫م�صطفى �صادق الرافعي‪ ،‬وحي القلم دار الكتب العلمية بريوت لبنان‪ ،‬اجلزء‪� ،3‬ص ‪.153‬‬


‫فـكــــــــر‬

‫وا�شنطن تقود �أو�سع حتالف دويل لدعم الإرهاب‬ ‫ح�سن حمادة ‪ -‬دكتور وباحث يف الفكر واالعالم‬

‫حما�ضرة �ألقاها الكاتب بدعوة من «منرب الوحدة الوطنية» ‪ -‬بريوت‪ ،‬بعنوان‪:‬‬ ‫«مواجهة الإرهاب فكرياً و�أمنياً»‪« .‬حتوالت م�شرقية» تن�شر هذه الدرا�سة على حلقتني‪.‬‬ ‫مطروح اليوم مو�ضوع «احلرب على داع�ش» كاخت�صار لـ«احلرب على االرهاب»‪ .‬الواليات املتحدة‬ ‫�أقامت «حتالفاً» تزعم �أن الهدف منه هو الق�ضاء على «داع�ش» وما ميكن �أن يت�صل بها �أو يتفرع عنها‪.‬‬ ‫هنا‪ ،‬البد من التوقف لإبداء �أربع مالحظات‪:‬‬ ‫�أو ًال‪ :‬هذا «التحالف الدويل» هو يف حقيقته جتم ٌع كونته الواليات املتحدة‪ ،‬ويت�ضمن دو ًال تابعة‬ ‫�أكرث مما هي حليفة‪� ،‬سواء �أكانت دو ًال �أوروبية �أم غري �أوروبية‪ .‬فهذه الدول‪� ،‬أو �أ�شباه الدول‪،‬‬ ‫واقعة عملياً حتت االحتالل الع�سكري الأمريكي املبا�شر‪� ،‬إما ب�سبب ع�ضويتها يف حلف �شمال‬ ‫الأطل�سي‪ ،‬كما هو حال دول االحتاد الأوروبي الواقع حتت االحتالل الع�سكري الأمريكي املبا�شر‪،‬‬ ‫وتركيا وغريها‪� ،‬أو من خارج احللف الأطل�سي كالدول الناطقة باللغة العربية‪ ،‬وامللتزمة ا�سرتاتيجياً‬ ‫بالقرار الأمريكي مثل دول اخلليج والأردن‪ ،‬حيث تنت�شر القواعد الع�سكرية الأمريكية العمالقة‪،‬‬ ‫وتفر�ض قرار وا�شنطن فر�ضاً‪.‬‬ ‫ثانياً‪ :‬هذا «التحالف» يتناق�ض مع قرار جمل�س الأمن الدويل ‪ 2170‬ال�صادر يف ‪� 15‬آب ‪،2014‬‬ ‫�إذ �أن هذا القرار اليقيم �أي متييز بني «داع�ش» و«الن�صرة» و«القاعدة» وم�شتقاتها كافة‪ ،‬حتى �أن‬ ‫ن�صو�ص هذا القرار مل تذكر يف �أي من مواده منظمة «داع�ش» مبفردها بل تذكرها دائماً مع «الن�صرة»‬ ‫و»القاعدة» وم�شتقاتها‪.‬‬ ‫واملعروف �أنه لوال هذا الربط بني املنظمات الإرهابية ملا كان القرار قد �صدر �أ�سا�ساً‪� ،‬إذ �أن حق‬ ‫النق�ض‪ ،‬الرو�سي‪ -‬ال�صيني‪ ،‬كان �سيمنع �صدوره‪.‬‬ ‫ثالثاً‪ :‬هذا التحالف الأمريكي ينطلق من القرار ‪ 2170‬ليفتح على ح�سابه‪ ،‬منقلباً على القرار‬ ‫‪ 2170‬ذاته‪ .‬فوا�شنطن �أخذت من جمل�س الأمن الدويل ما تريد �أن ت�أخذه‪ ،‬لتكرر‪ ،‬بقدر ما ت�سمح‬ ‫‪131‬‬


‫به املمانعة الرو�سية ‪ -‬ال�صينية ‪ -‬االيرانية‪ ،‬جتربة ليبيا التي كم �أظهر الرو�س ندمهم على ال�سماح‬ ‫بحدوثها‪ ،‬وكم حتدثوا عن عزمهم عدم ال�سماح بتكرارها‪.‬‬ ‫ومن خالل هذه اخلدعة االمريكية‪ ،‬التي كانت متوقعة �سلفاً‪� ،‬أو يف �أ�سو�أ احلاالت كان ُحدوثها غري‬ ‫م�ستبعد‪ ،‬تك ّون ما هو نقي�ض للأمم املتحدة‪� ،‬أي ُتكون ما ي�سميه الأمريكيون‪ ،‬ويردده عنهم العامل‬ ‫ترداد الببغاء‪« ،‬املجتمع الدويل»‪.‬‬ ‫هنا البد من �أن نتوقف قلي ًال بق�صد تو�ضيح ال�صورة فنعر�ض للتعريف الذي يعطيه الأمريكيون‬ ‫لـ«املجتمع الدويل»‪� ،‬إذ �أن التعريف هنا �ضروري لفهم ال�سيا�سة الأمريكية و«للخداع امل�ستدام»‬ ‫الذي ميرر من فوق ر�ؤو�س ومن خلف ظهر العاملني‪ ،‬كاحلالة التي نحن فيها الآن‪.‬‬ ‫جون بولتون هو الذي �أعطى هذا التعريف يف العام ‪ 2004‬يوم كان مندوباً دائماً للواليات املتحدة‬ ‫يف منظمة الأمم املتحدة‪ ،‬فقال ب�صريح ل�سانه‪« :‬اليوجد �شيء ا�سمه الأمم املتحدة‪ .‬يوجد «املجتمع‬ ‫الدويل» وهو يتكون من دول تتجمع حول القوة الدولية الوحيدة‪� ،‬أي الواليات املتحدة الأمريكية‪،‬‬ ‫ملواجهة حالة مع ّينة حني نرى ذلك ممكناً وتكون م�صلحتنا تتطلب ذلك»‪.‬‬ ‫هذا التعريف يعك�س املفهوم احلقيقي الذي تتبناه وا�شنطن للعنوان الف�ضفا�ض الذي ُتكرث احلديث‬ ‫عنه‪ .‬و ُيفرت�ض ب�أي �إن�سان عاقل �أن يتذكر هذا التعريف قبل �أن يلفظ عبارة «املجتمع الدويل»‪ ،‬هذه‬ ‫احلمالة الأوجه‪ .‬يكفي لدول ٍة ما‪� ،‬أو �شبه دولة‪� ،‬أن تكون تابعةً‪ ،‬خا�ضعةً‪ ،‬للإرادة الأمريكية‪،‬‬ ‫العبارة ّ‬ ‫ُمن�ضوية حتت لوائها‪ ،‬ملتزمة ب�سيا�ساتها‪ ،‬وبالتايل �ضد حقوق االن�سان و�ضد ال�سالم والعدالة‪ ،‬حتى‬ ‫تكون ع�ضواً يف «املجتمع الدويل»‪ ،‬وبالتايل تكون دولة مر�ض ّياً عنها‪ .‬ويف احلالة املعاك�سة تكون �إما‬ ‫دولة «�إرهابية» �أو «داعمة للإرهاب»‪.‬‬ ‫هذا من ناحية‪ ،‬ومن ناحية ثانية‪ ،‬ف�إن هذا النوع من «املجتمع الدويل» هو‪ ،‬كما جاء يف التعريف‬ ‫نقي�ض ملنظمة الأمم املتحدة التي ُدرج على اعتبارها املمثل احل�صري لـ «ال�شرعية‬ ‫الآنف الذكر‪ٌ ،‬‬ ‫الدولية»‪ ،‬وبالتايل ف�إن من يك�سر قراراتها يخرج عن ال�شرعية الدولية‪.‬‬ ‫والوا�ضح �أن الواليات املتحدة الأمريكية تمُ ثل اخلروج امل�ستدام عن ال�شرعية الدولية‪ ،‬وكذلك‬ ‫احلال بالن�سبة �إىل قاعدة ا�سرائيل الع�سكرية‪ .‬ومن منطلق كون التحديد �شرطاً للو�ضوح‪ ،‬وهذه‬ ‫قاعدة �أ�سا�سية يجب االنتباه �إليها بل وااللتزام بها‪ ،‬يتبني من خالل الوقائع الدولية �أن احرتام هذه‬ ‫ال�شرعية الدولية بات يعترب يف نظر «املجتمع الدويل» مبثابة «عمل �إرهابي»‪� ،‬أو «داعم للإرهاب»!!!‪...‬‬ ‫وهنا املفارقة الفظيعة واال�ستكبار الأمريكي الظامل لل�شعوب‪ ،‬وبتعبري اليقل عن ذلك دقة يجب‬ ‫القول �إن هذه املفارقة ُت�شكل جت�سيداً ل�سيا�سة ا�ستعباد ال�شعوب‪� .‬إنه نظام العبودية املناق�ض للمد ّنية‬ ‫وملقومات احل�ضارة االن�سانية‪ ،‬وبالتايل ف�إن من امل�ستحيل بناء �سالم عاملي على قاعدة نظام العبودية‬ ‫لأن هذا النظام يكر�س احلروب امل�ستدامة التي ت�أمر بها وا�شنطن وتنفذها‪.‬‬ ‫‪132‬‬


‫فكــــــر‬

‫�إن ما يحدث منذ ع�شرات ال�سنني‪ ،‬ويبلغ ذروته من خالل هذا «التحالف الدويل» املخادع‪،‬‬ ‫واالنقالب على القرار ‪ ،2170‬ي�ضع م�صري العامل على �أكف عفاريت وا�شنطن‪ ،‬وهذه لي�ست‬ ‫مبالغة على االطالق �إذ �أن ال�شرا�سة االمريكية يف الدفاع عن الأحادية الدولية‪ ،‬التتورع عن‬ ‫�شيء‪.‬‬ ‫والأحادية هنا هي مبثابة ديكتاتورية دولية مثلها مثل نظام احلزب الواحد �أو نظام الـ«�أوليغار�شيه»‪،‬‬ ‫كما هو النظام املعتمد يف الواليات املتحدة بالذات حيث ال�سلطة الفعلية انتقلت عملياً من‬ ‫امل�ؤ�س�سات الد�ستورية (الكونغر�س واالدارة) �إىل الكتلة ال�صناعية ‪ -‬الع�سكرية وبيوت املال‪ ،‬وهذا‬ ‫ما كان الرئي�س الأ�سبق اجلرنال �آيزنهاور قد توقعه وحذر من خماطره يف خطبة الوداع ال�شهرية‬ ‫التي �ألقاها يف ‪ 17‬كانون الثاين من العام ‪ .1961‬وما ينطبق على الواليات املتحدة يف جمال الـ‬ ‫«�أوليغار�شية» ين�سحب تدريجياً‪ ،‬ولكن ب�سرعة‪ ،‬على دول االحتاد االوربي من خالل تدعيم ركائز‬ ‫الإدراة االحتادية على ح�ساب الدول القومية التي ُي�صار �إىل تفكيكها تدريجياً من خالل م�شاريع‬ ‫«الأقلمة واملناطقية» ‪ REGIONALISATION‬ما ي�ضعف كثرياً احلكومات املركزية ويفقدها‬ ‫ال�سيطرة على املناطق والأقاليم مل�صلحة �سلطات احتادية غري منتخبة تتمتع فيها هيئة «املفو�ضية»‬ ‫ب�صالحيات على الطريقة املعتمدة يف الإدراة االمريكية‪.‬‬ ‫�إنها «الأمركة» بكل ما للكلمة من معنى والتي تعزز نفوذ الكتل ال�صناعية ‪ -‬الع�سكرية وبيوت‬ ‫املال املقبلة على التفاعل �أكرث ف�أكرث مع الكتلة ال�صناعية ‪ -‬الع�سكرية وبيوت املال يف الواليات‬ ‫املتحدة بفعل قيام ال�سوق امل�شرتكة الأطل�سية حيث ال�سيطرة �ستكون للأمريكيني‪.‬‬ ‫لذلك يكرث احلديث عن قرب ُبزوغ فجر «عامل من دون �أوروبا»‪Un monde sans Europe ...‬‬ ‫رابعاً‪ :‬الوقائع كلها تثبت ب�أن دول و�أ�شباه دول «التحالف»‪ ،‬هي التي تقف خلف املنظمات التي‬ ‫تطلق عليها �صفة «االرهابية»‪�...‬أو «االرهاب اال�سالمي»‪ ،‬مثل «طالبان» و«القاعدة» و«داع�ش»‪،‬‬ ‫و«الن�صرة» و«اجلبهة اال�سالمية»‪ ،‬وجند كذا وكذا‪....‬وهي التي ترعاها بالكامل وتنقلها �إىل �سورية‬ ‫املقد�سة ومتولها و ُتنفق عليها املال ومتدها بال�سالح واملدربني‪�...‬إلخ‪..‬‬ ‫ولقد بلغ الفجور حداً جديداً من خالل اعرتاف نائب رئي�س الواليات املتحدة االمريكية‪ ،‬جو‬ ‫بايدن‪ ،‬مب�س�ؤولية عدد من �أع�ضاء «التحالف» يف تقدمي الدعم الكامل لهذه املنظمات‪ ،‬وخ�صو�صاً‬ ‫«داع�ش»‪ .‬و�أ�شار باال�سم �إىل تركيا واململكة ال�سعودية‪ ،‬طبعاً مل يذكر دولته وال �أي دولة من دول‬ ‫االحتاد الأوروبي على الرغم من اعرتاف امل�س�ؤولني يف هذه الدول وكذلك �إعالمهم عن �إر�شاد‬ ‫هذه املنظمات االرهابية وتقدمي الدعم لها‪ ،‬وب�شكل خا�ص م�س�ؤولية فرن�سا وبريطانيا يف رعاية ثالثة‬ ‫خمت�صني يف االرهاب‪،‬‬ ‫مع�سكرات للقاعدة يف منطقة «فزان»‪ ،‬يف اجلنوب الليبي والتي « ُتخرج» ّ‬ ‫خ�صو�صاً يف تفخيخ ال�سيارات‪ ،‬وت�صدرهم �إىل �سورية املقد�سة و�إىل الدول االفريقية‪...‬‬ ‫‪133‬‬


‫وجاء كالم بايدن �أمام ح�ضو ٍر مميز يف جامعة «هارفرد»‪ ،‬ولكن‪ ...‬ولكن‪ ...‬مل ُتقدم �أي حكومة‪،‬‬ ‫�أو حزب �سيا�سي‪� ،‬أو جهاز �إعالمي على ا�صطياد هذا احلدث اخلطري‪ ،‬هذا االعرتاف اخلطري‪،‬‬ ‫مل�ساءلة االدارة االمريكية عن الإجراءات التي �ستتخذها بحق هذه احلكومات‪ ،‬التابعة لوا�شنطن‬ ‫يف الواقع العملي‪ ،‬لتن�شئتها ورعايتها وت�سليحها ومتويلها لهذه املنظمات التي ترتكب �أفظع الفظائع‪.‬‬ ‫فما دامت الواليات املتحدة قد ن�صبت نف�سها م�س�ؤولة عن مكافحة االرهاب يف العامل‪ ،‬وما دامت‬ ‫قد �صوتت على القرار الدويل رقم ‪ ،2170‬ال�صادر حتت الباب ال�سابع من ميثاق االمم املتحدة‪ ،‬وما‬ ‫دام نائب رئي�س الواليات املتحدة قد وجه هذه االتهامات �إىل دولٍ حمددة م�شاركة يف احلرب‬ ‫لتدمري �سورية املقد�سة‪ ،‬فكيف تقدم لهذه الدول االرهابية ‪ -‬ح�سب ت�صنيف بايدن نف�سه‪ -‬مكاف�أة‬ ‫تتمثل يف �إدخالها يف التحالف بد ًال من معاقبتها؟؟؟‪..!!!...‬‬ ‫هذا من جهة‪ ،‬ومن جهة ثانية ملاذا التتحرك النيابة العامة التابعة للمحكمة اجلنائية (‪)CPI‬‬ ‫‪ ،Cour Penale Internationale‬ملالحقة حكومات هذه الدول على ارتكابها جرائم حرب �ضد‬ ‫االن�سانية؟؟؟‪...!!!!...‬‬ ‫هذه املالحظات قد تكون �ضرورية لفهم حقيقة ما يجري يف هذه احلرب التدمريية التي ت�ستهدف‬ ‫�سورية املقد�سة‪ ،‬لتدمري �أي �أثر للح�ضارة فيها‪� ،‬أي لإعادتها �إىل الع�صر احلجري‪ ،‬حتت عنوان‬ ‫«التحالف الدويل �ضد داع�ش»‪� ،‬أو «احلرب على االرهاب»‪...‬‬ ‫جدية الواليات املتحدة يف حماربة االرهاب باملطلق‪.‬‬ ‫كما �أنها �ضرورية ملواكبة ال�س�ؤال حول مدى ّ‬ ‫�صحيح �أن الأحداث والوقائع كافية لتقدمي �إجابة وا�ضحة على هذا ال�س�ؤال‪ ،‬ولكن ح�سبنا اال�شارة‬ ‫�إىل �أمرين يخت�صران االجابة ويجعالن النا�س يحرتمون عقولهم ولو قلي ًال‪ ،‬فيدركون ب�أن ال�ضرورة‬ ‫�أ�ص ًال لطرح ال�س�ؤال �إذ �أن الوقائع الدامغة تغني عن هذه البهلوانية الذهنية ‪.Acrobatie mantale‬‬ ‫االمر الأول هو �أن الواليات املتحدة تقف حجر عرثة �أمام تبني االمم املتحدة للتعريف الذي‬ ‫�أعطته حمكمة نورمبريغ لـ «احلرب العدوانية»‪ .‬فلقد جاء يف الفقرة ا ُحلكمية ال�صادرة عن املحكمة‬ ‫�أن «احلرب العدوانية» متثل «اجلرمية الدولية الأرفع»‪� ،Crime international Supreme ،‬أي �أنها‬ ‫�أخطر اجلرائم الدولية‪.‬‬ ‫وبناء عليه اعتربت الفقرة احلكمية �أن امل�س�ؤولني عن �أي حرب عدوانية يجب �أن ي�ساقوا �أمام ق�ضاء‬ ‫دويل خا�ص لتتم حماكمتهم كـ «جمرمي حرب»‪.‬‬ ‫ومبا �أن حروب الواليات املتحدة كلها‪ ،‬منذ انتهاء احلرب الثانية الكربى‪ ،‬حروب عدوانية ف�إن‬ ‫وا�شنطن ترف�ض هذا التعريف للحرب العدوانية كي اليتعر�ض الر�ؤ�ساء االمريكيون‪ ،‬ولو نظرياً‬ ‫للمالحقة كمجرمي حرب‪.‬‬ ‫‪134‬‬


‫فكــــــر‬

‫و�أما الأمر الثاين الذي ي�ؤكد عدم ا�ستعداد الواليات املتحدة ملحاربة االرهاب فيتمثل برف�ضها‬ ‫التام لعقد م�ؤمتر دويل خم�ص�ص لتعريف االرهاب‪� ،‬إذ �أن تعريفاً من هذا النوع ُيحتم التمييز ما‬ ‫يحد من هام�ش املناورة املتوفرة للواليات‬ ‫بني املقاومة من جهة واالرهاب من جهة ثانية‪ ،‬وبالتايل ّ‬ ‫املتحدة ول�سيا�ستها القائمة على الكيل مبكيالني‪ ،‬وهو اال�سلوب املعتمد يف ال�سيا�سة االمريكية‬ ‫لتربير حروبها العدوانية كافة‪.‬‬ ‫نحن �إذاً �أمام حفلة نفاقٍ �ضخمة �أطلقتها الواليات املتحدة‪ ،‬وتحُ ييها مع الدول الأوروبية‪ ،‬و ُتنظمها‬ ‫وتديرها وت�ضبط �إيقاعها‪ .‬فكلما كرب حجم الدول تكرب معها �أكاذيبها‪.‬‬ ‫لبنان �ضحية من �ضحايا هذه الأكاذيب بدليل ما يح�صل من مهزلة يف مو�ضوع املليارات الأربعة‪.‬‬ ‫فجي�شنا اللبناين البا�سل يواجه هجوماً من هذه املنظمات االرهابية املذكورة يف القرار الدويل‬ ‫‪ 2170‬الآنف الذكر‪� .‬صحيح �أنه يواجه املنظمات االرهابية منذ �سنوات‪ ،‬لكن ال�ضغوط ا�شتدت‬ ‫عليه مع اندالع احلرب الأمريكية ‪ -‬اال�سرائيلية‪ ،‬لتدمري �سورية املقد�سة‪.‬‬ ‫ومع ذلك ف�إن «دول التحالف» تقطع �أي م�ساعدة ع�سكرية عن اجلي�ش اللبناين فيما اجلي�ش‬ ‫يخو�ض املعارك �ضد املنظمات نف�سها التي تلقى الرعاية من «التحالف» نف�سه‪ .‬معنى ذلك �أن‬ ‫قيادة التحالف تريد لبنان مهزوماً �أمام هذه املنظمات لأن هزميته ُت�ضعف الدولة ال�سورية �أكرث‬ ‫ف�أكرث فيكون دماره فرق عملة‪.‬‬ ‫�أي �أن دول «التحالف» العدواين امل�سخ تريد الدمار للبنان‪� .‬إن ما يحدث مع جي�شنا البا�سل منذ‬ ‫�أكرث من �سنة‪ ،‬على �صعيد قطع ال�سالح عنه بينما هو يف �آتون املعركة دليل قاطع على ت�آمر ماي�سمى‬ ‫ب�أ�صدقائه‪.‬‬ ‫�إن ق�ضية «املكرمة» ال�سعودية والأكاذيب التي �أحاطت بها‪ ،‬وما زالت حتيط بها‪� ،‬أم ٌر م�ؤذي جداً‪،‬‬ ‫وللأ�سف ال�شديد �أن لبنان منق�سم على نف�سه يف هذا ال�ش�أن‪ .‬ويف �سياق هذا االنق�سام ن�شهد‬ ‫على مهزلة ا�سمها «�سجن رومية»‪ ،‬وهي مهزلة ما كانت لتح�صل لوال تواط�ؤ �سلطات الو�صاية على‬ ‫هذا ال�سجن الذي يخت�صر حقيقة هذا النظام اللبناين القائم على املعتقالت املذهبية والتفرقة‬ ‫العن�صرية ‪ APARTHEID‬والتبعية للأعداء‪.‬‬ ‫�إن ما ذكره القائد ال�سابق للدرك اللبناين‪ ،‬العميد جربان يف �ش�أن هذا ال�سجن‪ُ ،‬ي�شكل �إخباراً‬ ‫ي�ستوجب املالحقة الق�ضائية للأو�صياء على هذا املعتقل الغريب العجيب على اختالف درجاتهم‬ ‫وم�س�ؤولياتهم‪ ،‬من ع�سكريني ومدنيني من دون �أي ا�ستثناء‪.‬‬ ‫ت�شخي�ص املنظمات االرهابية التي تعتدي على لبنان‬ ‫‪135‬‬


‫مبا �أن كل ما له �صلة بـ«التحالف» اللعني هو كاذب وجمرد �ستارة مهمتها تغطية الأهداف الأمريكية‬ ‫احلقيقية من احلرب العدوانية االرهابية على �سورية املقد�سة‪ ،‬ومبا �أن هذا التحالف اللعني اليتورع‬ ‫عن تخريب ما مل يخرب بعد يف لبنان‪ ،‬فال منا�ص من اللجوء �إىل املبد�أ الب�سيط القائل «ما َح ّك‬ ‫جلدك غري ظفرك»‪ ،‬وبالتايل �إعطاء ت�شخي�ص «للمنظمات االرهابية» التي يتبناها «التحالف»‬ ‫الكاذب ع�سكرياً ويتنكر لها يف الكالم ال�سيا�سي‪ ،‬مع وجود بع�ض اال�ستثناءات مثل �إعالن وزير‬ ‫خارجية فرن�سا‪ ،‬ال�صهيوين املت�شدد لوران فابيو�س‪ ،‬عن تعاطف حكومته مع �سلوك «جبهة الن�صرة»‪،‬‬ ‫وذلك بقوله �أمام م�ؤمتر «�أ�صدقاء �سورية» املنعقد يف مراك�ش يف كانون الأول من العام ‪� ،2012‬أن‬ ‫�إرهابيي جبهة الن�صرة «ي�ؤدون عم ًال جيداً»‪ ،ils font du bon boulot ،‬وذلك �إثر املجزرة التي‬ ‫نفذوها يف «ا ُحلولة»‪ ،‬يف حميط حم�ص‪ ،‬و�صو ًال �إىل الكالم ال�صادر عن نائب الرئي�س االمريكي جو‬ ‫بايدن يف ‪ 2‬ت�شرين الثاين ‪� ،2014‬أمام نخبة من الباحثني يف جامعة «هارفرد» واملذكور �آنفاً‪.‬‬ ‫فكما ذكرنا‪� ،‬إن املنظمات التي تعتدي على لبنان ورد ذكر الأ�سا�سية منها‪ ،‬بالإ�سم‪ ،‬يف القرار‬ ‫الدويل ‪ ،2170‬املتخذ حتت الف�صل ال�سابع‪ ،‬والذي يحظر على �أي دولة �أو جهة من التعاون معها‪،‬‬ ‫�أو حتى التوا�صل معها‪ ،‬فعلى �صعيد الت�شخي�ص الذي ي�ستنتج الطريقة الواجب على لبنان �أن‬ ‫يتعاطى من خاللها مع هذه املنظمات املتوح�شة البد من التقيد بالآتي‪:‬‬ ‫�أو ًال‪ :‬هذه املنظمات تنتحل ال�صفة الدينية فيما هي منظمات �إجرامية متوح�شة ال �أكرث‪ .‬فال يجوز‬ ‫بالتايل الإنزالق �إىل نقا�شات ذات طابع ديني �أو مذهبي معها‪� ،‬أو يف �ش�أنها‪� ،‬إذ يف ذلك م�ضيعة‬ ‫للوقت‪ ،‬ناهيك عن كون ذلك يعطيها م�شروعية معينة تفتقر �إليها‪� ،‬إن �سلوكها يثبت �أنها جمرد‬ ‫منظمات �إجرامية متوح�شة‪.‬‬ ‫ثانياً‪� :‬إن البعد التوح�شي يف �أدائها االجرامي يعيدنا بالذاكرة اىل �أ�سالفها من املنظمات ال�صهيونية‬ ‫املتحدرة من «الهاغانا»‪ ،‬مثل منظمات �شترين‪� ،‬إيرغون‪ ،‬ليهي‪ ،‬باملاخ‪ ...‬وغريها‪ .‬فما تفعله «داع�ش»‬ ‫و«الن�صرة» و«القاعدة» وم�شتقاتها يف �سورية املقد�سة ويف العراق ن�سخة طبق الأ�صل عما فعلته‬ ‫تلك املنظمات ال�صهيونية يف فل�سطني �إبان النكبة‪.‬‬ ‫لذا يجب اعتبارها من �ساللة املنظمات ال�صهيونية وامل�شار �إليها خ�صو�صاً �أن عملها ي�صب يف خانة‬ ‫ا�سرائيل بالكامل‪ ،‬وبالتايل ف�إن حماربتها هي مبثابة حماربة �إ�سرائيل‪� ،‬أي �أن حماربتها واجب وطني‬ ‫ قومي ‪� -‬إن�ساين‪ ،‬و�أما عدم حماربتها فخيانة عظمى‪.‬‬‫ثالثاً‪� :‬إن ُ�سلوكها ال�صهيوين بالكامل يندرج ب�شكل وا�ضح ال لب�س فيه يف �إطار ا�سرتاتيجية‬ ‫«الفو�ضى البناءة» املعتمدة ر�سمياً من قبل دولة الواليات املتحدة الأمريكية‪� ،‬أياً كان العنوان‬ ‫احلزبي لإدارتها‪ ،‬جمهورية �أو دميقراطية‪.‬‬ ‫هذه «الفو�ضى البناءة»‪ ،‬املدمرة لنا ولغرينا من الأمم امل�ستهدفة‪ ،‬من احلروب العدوانية التي ت�شنها‬ ‫‪136‬‬


‫فكــــــر‬

‫الواليات املتحدة‪ ،‬بت�سميات ومربرات �شتى‪ ،‬هي التي جت�سد نهج احلروب امل�ستدامة املعتمدة من‬ ‫جانب وا�شنطن‪.‬‬ ‫من هنا قول الرئي�س الأمريكي باراك �أوباما‪ ،‬وتكراره القول‪ ،‬ب�أن احلرب على االرهاب قد تدوم‬ ‫ع�شرات ال�سنني‪ .‬حتى يف ما يخ�ص �أكذوبة احلرب على «داع�ش»‪� ،‬أي على منظمة �إرهابية‪ ،‬يرى‬ ‫الأمريكيون �أن احلرب تتطلب �سنوات عدة‪ .‬هذا مع العلم �أنه ال يع�صى على عقل �أي ان�سان متزن‬ ‫�إدراك �أن الواليات املتحدة ح�سمت تدمري اجلي�ش الليبي خالل ثالث �ساعات فقط‪ ،‬فهل ي�صعب‬ ‫عليها وهي امل�سيطرة بالكامل على الأجواء العراقية‪ ،‬نارياً وا�ستخباراتياً و�إدارياً‪ ،‬هل ي�صعب عليها‬ ‫�إبادة مواكب و�أرتال «داع�ش» التي تتنقل عرب �سهول و�صحاري املو�صل والعراق الأو�سط‪ ،‬وهي‬ ‫مك�شوف ٌة ومن دون �أي غطاء جوي؟؟؟‪.!!!...‬‬ ‫َمن منا ن�سي كيف �أباد الطريان الأمريكي �أرتال ومواكب الألوية العراقية‪ ،‬املن�سحبة من الكويت‬ ‫يف العام ‪1991‬؟‪....‬‬ ‫عدد ال�صواريخ يفوق عدد قتلى «داع�ش»‬ ‫وما يزيد يف تعميق هذه اخلديعة الفظيعة‪ ،‬والتي �ضربت كل االرقام القيا�سية يف الكذب والنفاق‪،‬‬ ‫هو مايفعله الق�صف الأمريكي على �سورية املقد�سة حتت عنوان «احلرب على داع�ش»‪� .‬أمران‬ ‫يدعوان �إىل ال�سخرية يف هذا املجال‪:‬‬ ‫�إنها املرة الأوىل يف تاريخ احلروب يتم فيها ا�ستخدام �صواريخ عابرة للقارات ملطاردة منظمة �إرهابية‪،‬‬ ‫وهذا مخُ الف لأي منطق ع�سكري‪.‬‬ ‫وبو�ضوح �شديد‪� ،‬أن ال�صواريخ عابرة القارات (توماهوك) التي تق�صف «داع�ش» يفوق‬ ‫ُيالحظ‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫عددها ب�أ�ضعاف عدد القتلى من «داع�ش» الذين ي�سقطون جراء هذا الق�صف‪..!!!...‬؟؟؟‬ ‫وهذا ما يحدث �أي�ضاً يف الغارات اجلوية التي ُينفذها الطريان الأمريكي �ضد «داع�ش»‪ ،‬ح�سب‬ ‫الزعم طبعاً‪ ،‬والتي تنهال حممها على من�ش�آت تابعة للدولة ال�سورية‪ ،‬كاملن�ش�آت النفطية وامل�صانع‬ ‫واجل�سور والطرقات والأبنية‪� ...‬إلخ‪ ...‬الأمر الذي يعطي فكرة �أولية عما ميكن �أن يبقى من �سورية‬ ‫املقد�سة �إذا ما جرى تنفيذ امل�شروع الأمريكي على مدى �سنوات طويلة‪ ،‬ودائماً بحجة‪« ...‬مكافحة‬ ‫االرهاب»‪.‬‬ ‫وهنا البد من ا�ستعرا�ض دور �إ�سرائيل يف تدمري �سورية املقد�سة‪ ،‬ورعاية احللف الأطل�سي لعملية‬ ‫ت�صنيع الإرهابيني ومع�سكراتهم‪ ،‬خ�صو�صاً مع�سكرات اجلنوب الليبي ومع�سكرات تركيا‪.‬‬ ‫(يتبع يف احللقة املقبلة)‬ ‫‪137‬‬



‫حتوالت �أدبية‬

‫التنا�ص وقراءة الن�ص الغائب يف �شعر خليل حاوي‪:‬‬ ‫جتليات املوت والإنبعاث‬

‫وفيق غريزي ‪� -‬شاعر وباحث‬

‫خليل حاوي �شاعر يحمل طابعاً خا�صاً جداً‪ ،‬حديثاً وعريقاً يف �آن‪ .‬من يقر�أ �شعر خليل حاوي‬ ‫ي�شعر ب�أبعاده املتجذرة ب�سال�سة و�صالبة يف العمق احل�ضاري الإن�ساين وخ�صو�صاً القومي‪ .‬فعلى‬ ‫الرغم من النظرة اخلانقة والعابقة �ضباب �أ�سود‪ ،‬هناك وم�ضات تعلن رغبة عميقة يف التغيري والهدم‬ ‫الذي ينبت من طياته جتلياً جديداً للوجود‪.‬‬ ‫وخليل حاوي �شاعر متفرد يف ر�ؤياه ونظرته �إىل احلياة واحلب والوجود والكون والروح والأ�شياء‪.‬‬ ‫كان ي�س ّر يف �أعماق نف�سه الغبطة واملرارة‪ ،‬عروبياً يف ثقافته متب�صراً يف امل�صري امل�شرتك‪ ،‬لبنانياً يف‬ ‫تطلعاته وعمق �شموليته‪ ،‬و�آفاقه الوا�سعة‪ .‬عرف كل املذاهب ال�شعرية و�ضرب يف كل منها ب�سهم‪.‬‬ ‫كان م�سكوناً بال�شعر‪ ،‬فهو ديدنه و�سلوكه ومالذه الدائم وروحه والدم الذي يجري يف عروقه‪ ،‬كان‬ ‫مرتفعاً عن نزاعات النا�س جميعاً‪ .‬هو احلرية والكلمة والإن�سان والكائن‪� .‬شعره يعبرّ عن مكنونات‬ ‫الب�شر و�أحا�سي�سهم وعواطفهم‪ ،‬مذهبه ال�شعري هو املذهب اخلا�ص به‪ ،‬كما �سبق و�أ�شرنا‪.‬‬ ‫امل�ؤثرات العامة يف �شعره‬

‫مير كل �إن�سان عادة يف حياته بتجارب‪� ،‬أو يلتقي ممن يرتك فيه �أثراً‪ ،‬فيظهر هذا يف �أعماله وت�صرفاته‪.‬‬ ‫وال�شعراء ورجال الفكر عموماً ال يكونون منبثقني يف فكرهم من فراغ‪ ،‬بل �إن ثمة ما ي�ؤثر فيهم‬ ‫ويوجههم الوجهة التي �سلكوا يف طريقها‪.‬‬ ‫وخليل حاوي تقول الكاتبة نادين طربيه احل�شا�ش‪« :‬واحد من ه�ؤالء املفكرين الذين ترك فيه‬ ‫�آخرون ب�صماتهم و�شيئاً من ذواتهم يف ذاته ال�شاعرة»‪ .‬ولهذا ال�سبب م ّهدت الكاتبة بنبذة عن‬ ‫حياة حاوي يف كتابها‪.‬‬

‫‪139‬‬


‫�إن �إعجاب حاوي بالثقافة العربية وتط ّلعه �إىل دور قومي عربي تاريخي مل يكونا يعميانه عن اخللل‬ ‫العميق والنق�ص الفا�ضح يف احلياة العربية ب�شكل عام‪ .‬وترى الكاتبة �أنه كان يحب العرب حباً‬ ‫عظيماً‪ ،‬ولكنه كان يكره عقمهم املعا�صر كرهاً عظيماً �أي�ضاً‪ .‬ولعل هذه النظرة ّ‬ ‫املركبة هي من‬ ‫�أ�صول �إبداعية خليل حاوي الفكرية‪.‬‬ ‫تبدت يف م�ستهل الأمر‪ ،‬وحتديداً مع‬ ‫والتجربة التي م ّر بها �شاعرنا من خالل قناعته والتزامه ّ‬ ‫ق�صيدة «ال�سندباد يف رحلته الثامنة» �إ�شراقاً وخروجاً �إىل عامل يرى فيه حاوي ذاته من خالل جيل‬ ‫ّنظف نف�سه من �أ�سمال املا�ضي‪ ،‬و�أ�شرف على �آت يبدو �أكرث �إ�شراقاً؛ «ورمبا كان هذا ب�سبب الواقع‬ ‫ال�سيا�سي الذي �ساد تلك املر�أة ور�أى فيه خليل حاوي حتو ًال نحو التجديد‪ ،‬يعني بهذا الوحدة‬ ‫�سمي «اجلمهورية العربية املتحدة»‪ .‬وهي الوحدة التي قامت بني‬ ‫العربية التي جت ّلت �آنذاك يف ما ّ‬ ‫م�صر و�سوريا عام ‪ ،1958‬ور�أى خليل من خاللها نهو�ضاً جديداً لل�شباب العربي الذي ميكنه �أن‬ ‫يبد�أ ب�صنع تاريخ جديد وم�ش ّرف‪.‬‬ ‫الت�أثري الغربي يف �شعر حاوي‬

‫�إت�صل خليل حاوي بالغرب الأوروبي خا�صة‪ ،‬وذلك �إبان درا�سته يف جامعة كمربدج‪ ،‬وقد �أقام‬ ‫يف �إنكلرتا �سنوات يعمل على حت�صيل ثقافة افتقر �إليها يف �سنوات الكدح التي عرفها من قبل‪.‬‬ ‫وهذه املرحلة متثل �أخ�صب مراحل حياة هذا ال�شاعر‪ .‬حيث �إنه متكن من العمل يف مكتبات عريقة‬ ‫وعمق �إملامه بالرتاثني العربي والأوروبي‪ ،‬ومتكن من م�صادر النقد الغربي بعد‬ ‫وكبرية يف اجلامعة‪ّ ،‬‬ ‫�أن ّاطلع على �أعمال مفكرين مهمني فيه‪.‬‬ ‫فما هي عنا�صر التنا�ص مع الفكر والأدب الغربيني التي تظهر يف �شعر خليل حاوي؟ و�إىل �أي حد‬ ‫ميكننا �أن نتكلم على ت�أثري غربي فعلي يف �شعره؟‬ ‫ت�شري الكاتبة �إىل �أننا جند موقف �ألدو�س هك�سلي يف حياته م�شابهاً للثنائية التي تتناولها ق�صيدة‬ ‫خليل حاوي «البحار والدروي�ش»‪ .‬فهك�سلي نفر من مادية الغرب وحت ّول العلم عن طبيعته‪ ،‬وهجر‬ ‫الفكر يف ما بعد �إىل الت�ص ّوف‪ ،‬فهو يراوح يف فكره‪ ،‬بني العلم احلديث والت�ص ّوف‪ ،‬وبالعودة �إىل‬ ‫البحار‪ ،‬رمزاً للتح ّري عن اليقني واحلقيقة‬ ‫ق�صيدة حاوي جند جتربة ال�شاعر تتجه �إجتاهاً كونياً‪ ،‬متخذة ّ‬ ‫والكينونة الفعلية‪ ،‬والدروي�ش رمزاً للذات القعدية التي �أيقنت بعجز الفعل الإن�ساين عن تغيري‬ ‫�س ّنة الوجود و�إعادة خلق الأ�شياء واالبتكار فيها‪« .‬وهذا‪ ،‬ال�شخ�صان يقيمان يف قلب الق�صائد عرب‬ ‫«نهر الرماد» عرب تقم�صات وحت ّوالت تطر�أ من معاناة ال�شاعر وثقافته وت�أمالته»‪.‬‬ ‫ونحن نرى �أن التقاطع يف �صورة الثنائية الظاهرة هنا م�صدرها هك�سلي‪ ،‬و�إن مل يكن خليل حاوي‪،‬‬ ‫يف نهاية الأمر‪ ،‬متفقاً معه على و�سيلة اخلال�ص‪ ،‬لكن الرحلة يف جوهرها �شبيهة �إىل حد كبري برحلة‬ ‫‪140‬‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫هك�سلي الفكرية داخل عقم احل�ضارة الغربية الروحي‪ ،‬والت�سلح امل�ستمر بالعلم‪ ،‬وف�شل هذا العلم‪،‬‬ ‫بر�أيه‪ ،‬يف �أن يقدم للإن�سان الغربي ما ي�صبو �إليه‪.‬‬ ‫وتقول الكاتبة يف هذا ال�صدد‪�« :‬إنها بال�ضبط �صورة ّبحار حاوي التي ا�ستمد جذورها من �إطالعه‬ ‫على جتربة هك�سلي‪ .‬و�إن كان حاوي متمزقاً بني ح�ضارتي ال�شرق والغرب‪� ،‬أو بني العلم الذي‬ ‫البحار �إىل معرفة وثيقة �أو �إىل انفتاح حي ومثمر‪ ،‬بل �أف�ضى‪� ،‬إىل العك�س»‪ .‬وبني‬ ‫مل ي�ؤد ب�صاحبه ّ‬ ‫الدين والت�ص ّوف اخلامل الطفيلي الغيبي‪ ،‬فهو يرتاح �إىل ر�ؤاه‪ ،‬وتنب�ؤاته بانحالل ح�ضارة الغرب‬ ‫وق�ضائها على نف�سها‪ .‬تقول �إن كان حاوي متمزقاً بني هاتني احل�ضارتني‪ ،‬ف�إنه عرف ما ي�شبه الرحلة‬ ‫التي عرفها هك�سلي‪ ،‬لأنه كما يقول مناف من�صور‪« :‬ر�أى احلل يف العودة �إىل الفطرة والأ�صالة لأنه‬ ‫ب�إ�صراره على العودة �إىل اجلذور‪ ،‬يبتعد عن كيانيات وحمدوديات العلم لي�صل �إىل عامل كلي دافق‬ ‫باحليوية‪ .‬لقد كان املطلوب عنده لي�س �إ�صالح هذا العامل‪ ،‬بل االنبعاث اجلديد»‪.‬‬ ‫وكذلك الأمر مع عودة هك�سلي �إىل الت�ص ّوف‪ ،‬فهو ر�أى فيه ما ي�شبه العودة �إىل الفطرة �إىل الغيب‬ ‫الروحاين الذي انبثق الإن�سان وفكره فيه‪.‬‬ ‫التنا�ص والتقاطعات بني �إليوت وحاوي‬

‫عندما نعود �إىل نتاج خليل حاوي ال�شعري‪ ،‬وحتى النقدي‪ ،‬ال ميكننا �أال نلحظ الت�أثر بال�شاعر‬ ‫الإنكليزي ت‪� .‬س‪� .‬إليوت‪ ،‬خ�صو�صاً بق�صيدة «الأر�ض اخلراب»‪ .‬لكن حاوي‪ ،‬كما يبدو‪ ،‬ه�ضم‬ ‫هذا الأثر و�أعاد فرزه يف ر�ؤيا لها اجتاه خا�ص به‪.‬‬ ‫ترى الكاتبة �أن حاوي انطلق من العام �إىل اخلا�ص يف م�سار ر�ؤيته‪ ،‬من احل�ضارة الإن�سانية عموماً‬ ‫�إىل احل�ضارتني ال�شرقية ال�سورية‪ ،‬وال�شرقية العربية‪ .‬لهذا ال�سبب جند �صورة �إليوت وقد حت ّولت رمزاً‬ ‫م�شرقياً يحتفظ بن�سغه العام ولكنه يتخذ منحى جديداً‪.‬‬ ‫ويرى البع�ض �أن ق�صيدة «لعازر» هي ق�صة الأر�ض اخلراب مر�سومة يف �إطار معاناة �أخرى‪ ،‬عربية‬ ‫هذه املرة‪ ،‬ومع حاوي حت ّولت الأر�ض اخلراب التي كانت مع �إليوت �أ�سطورة املجتمع الغربي‬ ‫املفجوع‪� ،‬إىل �أ�سطورة املجتمع ال�شرقي العربي الذي يعي�ش امل�أ�ساة الكربى يف عقم الن�ضال وغياب‬ ‫الإنبعاث‪ ،‬وثابر ت �س �إليوت هو «لعازر» حاوي‪.‬‬ ‫�إن حاوي كما ت�ؤكد الكاتبة قد ت�أثر بق�صيدة �إليوت يف لعازر ويف غريها من الق�صائد‪ ،‬ولكنه ت�أثر‬ ‫�أي�ضاً مبواقف �إليوت التي كانت الأر�ض اخلراب �أحد الن�صو�ص املعبرّ ة عنها‪ .‬يبقى �أن مواقف‬ ‫حاوي �شبيهة مبواقف �إليوت يف مزاوجة �إلهامه الذاتي مبعطيات التاريخ واحل�ضارة ويف رف�ض‬ ‫امل�ضامني املادية الع�صرية‪ ،‬ويف تقدير احلل يف الرجوع �إىل الدين‪.‬‬ ‫‪141‬‬


‫«جند حاوي يط ّوع ما �أخذ عن كل من �إليوت وهك�سلي لي�صري منا�سباً لر�ؤياه احل�ضارية اخلا�صة به‪،‬‬ ‫ور�ؤياه الفكرية العامة‪ .‬ف�أ�سطورة الأر�ض اخلراب التي ت�س ّربت عنا�صرها �إليه من خالل ق�صيدة‬ ‫�إليوت مل تت�سرب يف ذاته كما هي‪ ،‬ولكنها حت ّولت �إىل �شكل ح�ضاري خا�ص له م�ساقه املتميز‬ ‫يف �شعره‪ ،‬على النحو الذي ر�أينا‪ ،‬وجتلى يف جملة من الرموز‪ :‬يف كل من متوز و�أ�سطورته ومع متوز‬ ‫الأر�ض اخلراب ومتوز بعل»‪.‬‬ ‫�أما الت�أثري الذي ر�أينا من الدو�س هك�سلي فيمكن ربطه بت�أثري �إليوت لي�شكال معاً ت�أثرياً متكام ًال‪،‬‬ ‫لأن الرجلني يتالقيان يف املوقف احل�ضاري‪ ،‬فكالهما يريان �أن العلم مل يحقق طموحات الب�شر‪،‬‬ ‫وهذا موقف حاوي �أي�ضاً‪ ،‬وكالهما يريان احل�ضارة الغربية يف طور االحت�ضار وال�سقوط‪ ،‬وهو ما‬ ‫عبرّ عنه حاوي‪ ،‬ولكنه «نقل ر�ؤياه �إىل احل�ضارة امل�شرقية العربية‪ ،‬لي�صف ميوعة ذاتها وتفككها‬ ‫يف �ضباب ما هو م�ستورد من غري ذاتها و�أ�صالتها»‪� .‬إن تنا�صاً جلياً بني �شعر حاوي وكل من ن�ص‬ ‫هك�سلي و�إليوت‪ .‬وهذا التنا�ص مل يظهر ب�شكل م�سطح‪ ،‬مبا�شر‪ ،‬بل ه�ضم ال�شاعر ما اختزنه من‬ ‫ت�أثر‪ ،‬و�أعاد فرزه بطريقة جديدة‪.‬‬ ‫الت�أثري الأ�سطوري‬

‫كان للأ�سطورة دور �أ�سا�س يف �شعر خليل حاوي‪ ،‬فقد اغرتف هذا ال�شعر من معينها لريفد بها‬ ‫ن�صه ال�شعري‪ .‬ورمبا كان لثقافته ال�سيا�سية التي نهلها من احلزب ال�سوري القومي االجتماعي‬ ‫ومن م�ؤ�س�سه دور �أ�سا�س يف هذه امل�س�ألة‪ ،‬لأن �أنطون �سعادة كان يركز يف �أحيان كثرية على دور‬ ‫الأ�سطورة يف احل�ضارة والأدب ال�سوريني‪.‬‬ ‫وتالحظ الكاتبة �أن �أبرز الأ�ساطري التي ا�ستعملها خليل حاوي يف ّن�صه ال�شعري‪ ،‬والتي ّ‬ ‫�شكلت‬ ‫فيه تنا�صاً مع الن�ص الأ�سطوري هي �أ�ساطري اخل�صب‪ ،‬خ�صو�صاً �أ�ساطري متوز وبعل وملكارت‪ .‬وميثل‬ ‫متوز العمود الفقري لرموز اخل�صب يف �شعر خليل حاوي‪ .‬وهذه الرموز من منظار الكاتبة تتمحور‬ ‫خ�صو�صاً يف «نهر الرماد»‪ .‬ولكن امتداداتها تطاول الدواوين الأخرى ب�أ�شكال خمتلفة‪ ،‬وال �سيما يف‬ ‫رمزي امل�سيح واخل�ضر‪ .‬وت�شري الكاتبة �إىل �أن حاوي يبحث عن اخل�صب يف احل�ضارة عموماً‪ ،‬ويرى‬ ‫�أن على الإن�سان �أن ي�ؤ ّمن و�سائل الإخ�صاب حل�ضارته بالعودة �إىل �أ�صالته‪ ،‬والتم�سك بها يف عملية‬ ‫اخللق احل�ضاري‪ ،‬ف�إذا فقد هذه الأ�صالة فقد ذاته وهويته‪ ،‬وحت ّلل يف ما هو م�سرتفد ولي�س من طبيعة‬ ‫كيانه‪ ،‬وقد عبرّ ت ق�صيدة «املجو�س يف �أوروبا» خري تعبري عن هذه امل�س�ألة‪ .‬ويبدو �أن ت�أثري �أنطون‬ ‫�سعادة يف خليل حاوي وا�ضحاً يف «نهر الرماد» ذلك لأن م�س�ألتي البعث احل�ضاري والفداء هما‬ ‫من حماور عقيدة �سعادة‪ ،‬ومن �أ�سا�س فكره‪ .‬بل �أكرث «ف�إن �سعادة قد �أ�شار �إىل �أن جذور الت�ضحية‬ ‫الفردية مت�أ�صلة يف النف�سية ال�سورية منذ زمن الكنعانيني‪ ،‬و�أكد �أن هذا املبد�أ �أ�سا�سي لكل جمتمع‬ ‫‪142‬‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫متوح�ش»‪ .‬وقد‬ ‫جدير بالبقاء واالرتقاء‪ ،‬وهو �أهم مبد�أ مناقبي قام عليه فالح �أي جمتمع ّ‬ ‫متمدن �أو ّ‬ ‫�آمن حاوي بهذا املبد�أ‪ ،‬واعترب نف�سه‪ ،‬وال �سيما يف حب وجلجلة وعودة �إىل �سدوم‪ ،‬واجل�سر عالنية‬ ‫ال�شاعر الذي يفدي الأجيال لتولد والدة �صحيحة �سوية‪ ،‬ولتعرب عليه باجتاه الأر�ض اجلديدة‪.‬‬ ‫�إن خليل حاوي ّوظف متوز وغريه من الرموز التي عرفت يف الفكر الكنعاين‪ ،‬يف ديوان «نهر الرماد»‬ ‫توظيفاً ين�سجم مع نظرة �سعادة احل�ضارية التي ت�أثر بها‪ّ ،‬‬ ‫و�شكلت يف �شعره تنا�صاً الفتاً‪ .‬فالتنا�ص‬ ‫تقول الكاتبة «بني فكرة متوز ال�سورية و�صورته يف �شعر حاوي‪ ،‬خ�صو�صاً هنا‪ ،‬وا�ضحة‪ .‬ويف الواقع‪،‬‬ ‫ف�إن النزعة الأ�سطورية وامليثوية حتمل يف �أعماقها قيماً كونية و�أبعاداً �إن�سانية ومواقف متعددة جتاه‬ ‫العامل وظواهره»‪ .‬وبهذا يكون التفكري الأ�سطوري وامليثوي امتداداً للحياة والتاريخ‪.‬‬ ‫املوت واالنبعاث‬

‫بالعودة �إىل ق�صائد حاوي‪ ،‬ن�ستطيع �أن نبني على ثالثة �أمور �أ�سا�سية هي‪ :‬م�س�ألة املوت واالنبعاث‪،‬‬ ‫وم�س�ألة الت�صفي والتط ّهر من �أجل حتقيق االنت�صار على املوت‪ ،‬وهو هنا موت ح�ضاري بامتياز‪،‬‬ ‫والت�صفي يعني العودة �إىل الأ�صالة الكامنة يف الذات احل�ضارية وحما�سبة الذات للك�شف عما هو‬ ‫�أ�صيل يف داخلها‪ ،‬وظهور رمز العنقاء ودالالته‪.‬‬ ‫فق�صيدة «بعد اجلليد» وفق قول الكاتبة‪« :‬متثل معاناة املوت واالنبعاث احل�ضاريني‪ ،‬فبعد �أن طرح‬ ‫«البحار والدروي�ش» امل�شكلة يف الغرب وال�شرق‪ ،‬وهي املفارقة بني العلم والإميان‪ :‬العلم‬ ‫حاوي يف ّ‬ ‫الذي مل يتمكن من �إي�صال الإن�سان �إىل ال�سعادة لأنه خال من القيم‪ ،‬والغيبيات التي جعلت‬ ‫الإن�سان م�س ّلماً بقدره‪ ،‬ال يعمل على تطوير نف�سه»‪ .‬وهذا متاماً ما ح�صل للعرب من خالل مرحلة‬ ‫االنحطاط‪ ..‬بعد �أن طرح ال�شاعر هذه الفكرة يف م�ستهل الديوان‪ ،‬انتقل �إىل معاجلة االنبعاث‬ ‫احل�ضاري يف عدد من الق�صائد الالحقة‪.‬‬ ‫يلح عليه خليل حاوي‪ ،‬والذي ي�شكل يف ّن�صه تنا�صاً مع الأ�سطورة‬ ‫يف الواقع‪ ،‬يف متوز الذي ّ‬ ‫الأ�سا�سية‪ ،‬متوز هذا مبثوث يف روح الوجود‪ ،‬وهو الإله الإن�سان والإن�سان الإله‪ ،‬ويبقى �صامداً عرب‬ ‫د ّوامة التغيري؛ وهو من ذلك يكون �صامداً يف قلب الزمان وخارجاً منه‪ ،‬والزمن ال ينال منه �إال ما‬ ‫يكون عرب املظاهر الربانية‪ ،‬فيما يتحرر جوهر متوز من الزمن وزمنيته وعطبيته وانحالليته‪ .‬ومتوز يتحد‬ ‫عرب ق�صائد «نهر الرماد» بامل�سيح‪ .‬وعرب «الناي والريح» يفرتق متوز وامل�سيح اقرتافاً �شبه تام‪ .‬متوز مل‬ ‫املتجددة يف الوجود»‪.‬‬ ‫يكن غيبياً‪ ،‬و�إمنا هو �إله متج�سد من الأر�ض‪ ،‬ومن املوا�سم‪ ،‬ومن الدورات ّ‬ ‫�أما التنا�ص الثاين فمع ق�صة لعازر يف �إجنيل يوحنا‪ ،‬حيث جند ال�شخ�صية ت�شكل بق�صتها تنا�صاً‬ ‫يتداخل والرمز الأ�سطوري امل�ستعار‪ ،‬فحاوي يف «قرب» كما يقول‪ ،‬وهو بذلك مثل لعازر الذي مات‪،‬‬ ‫‪143‬‬


‫وينتظر �أن ُيبعث‪ ،‬ولكنه يح ّول هذه ال�شخ�صية �إىل رمز للإرادة يف احلياة‪ ،‬ويدجمها يف �شخ�صية‬ ‫امل�سيح الذي يبعثه من املوت‪ ،‬فيقبل بال�صلب يف �سبيل قيامة اجليل‪.‬‬ ‫الت�أثري الديني‬

‫من جملة الت�أثريات التي ال بد من الوقوف عندها يف درا�سة التنا�ص يف �شعر خليل حاوي‪ ،‬الت�أثري‬ ‫الديني‪ ،‬وذلك لأن ال�شاعر قد ا�ستمد من الق�ص�ص الدينية �سواء �أكان من الكتابني املقد�سني‬ ‫العهد القدمي والعهد اجلديد �أم القر�آن الكرمي روافد ل�شعره يف الدواوين الثالثة‪.‬‬ ‫ففي ق�صة �سدوم جند تنا�صاً �شائقاً‪ ،‬ميكننا �أن نقول �إن ال�شاعر فيه �أفاد من الق�صة الأ�سا�سية‪ ،‬ولكنه‬ ‫مزجها بعنا�صر الأ�سطورة‪ ،‬فانطلق من الق�صيدة االوىل «�سدوم» لريكز على الدمار املاحق الذي‬ ‫ترتكه النار «من خالل الق�صة التوراتية‪ ،‬وو�صل يف الق�صيدة الثانية �إىل دمج الق�صة بالأ�سطورة‪،‬‬ ‫وهل هو حمل اخلالق التوراتي ليخلق بعد التدمري جي ًال جديداً»‪.‬‬ ‫كما �أن التنا�ص احلا�صل بني ق�صة يونان التوراتية وبني ق�صيدة «يف جوف احلوت» ال يقوم �إال على‬ ‫جزء من ق�صة يونان‪ ،‬وهو ذاك املتعلق بابتالع احلوت للنبي‪.‬‬ ‫ولهذا‪ ،‬ف�إن التنا�ص بني ق�صة النبي يونان وبني هذه الق�صيدة هو يف م�س�ألة ابتالع احلوت للنبي‪،‬‬ ‫وابتالعه لل�شاعر وال�شعب يف الق�صيدة‪ ،‬وذلك م�س�ألة الإثم‪« .‬غري �أن جوف احلوت هنا كهف ميثل‬ ‫عمر الإن�سان التالف واملن�ساب من غري تغيري‪ ،‬بل فهو من�سوب يف املوت‪ ،‬ال يعرف �سواه حا ًال من‬ ‫حاالت احل�ضارة»‪.‬‬ ‫لقد ح ّول خليل حاوي‪ ،‬يف هذه الق�صيدة املوت الروحي �إىل موت ح�ضاري‪ ،‬وح ّول العودة �إىل‬ ‫الإميان �إىل مت�سك باملوت وال�شر‪ .‬وبهذا التنا�ص ح�سب ر�أي الكاتبة احلا�صل بني الق�صة والق�صيدة‬ ‫يت�شكل من �إعادة �صياغة لعنا�صر التوراة‪ ،‬من �أجل �إخراج خا�ص للمعنى‪.‬‬ ‫كما �أن �شخ�صية «اخل�ضر» ال تنتمي �إىل ق�صيدة واحدة يف ن�صو�ص خليل حاوي‪ ،‬ولكننا جندها‬ ‫تظهر يف عدد من الق�صائد منذ «نهر الرماد» وحتى «بيادر اجلوع» ق�صيدة لعازر‪.‬‬ ‫ولكن �صورة القدي�س اخل�ضر هنا «تتداخل و�صورة بعل الأ�سطورية‪ ،‬لأن بع ًال ميت�شق الربق‪ ،‬وهو‬ ‫�إله الربق والرعد والعوا�صف‪ ،‬كما �أن اخل�ضر هنا يرتبط ب�صورته الرمزية‪ ،‬فهو الفار�س الذي انت�صر‬ ‫على ال�شيطان‪ ،‬ف�صرع التنني الذي ميثله‪ ،‬و�أفرح قلب الكني�سة‪ .‬واخل�ضر هنا ميت�شق الربق على‬ ‫التنني والغول معاً‪ ،‬ولهذا مدلول ح�ضاري‪� .‬إنه ال�شاعر الذي يفتدي اجليل من �أجل �أن يولد‬ ‫جمدداً والدة �صحيحة و�أ�صيلة»‪.‬‬ ‫‪144‬‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫خليل حاوي والرتاث العربي‬

‫لقد ت�أثر حاوي بالرتاث العربي‪ ،‬ومن املعروف �أن هذا ال�شاعر الوا�سع الإطالع والثقافة كان مطلعاً‬ ‫جداً على الرتاث العربي‪ ،‬وقد ترك فيه هذا الرتاث ت�أثرياً عميقاً انعك�س بع�ضه يف �شعره‪.‬‬ ‫وت�شري الكاتبة �إىل ت�أثر حاوي بالإ�سالم ال كدين اعتنقه‪ ،‬ولكن كقوة �إن�سانية وح�ضارية نقلت �شعباً‬ ‫من الفقر �إىل الغنى‪ ،‬ومن ال�ضعف �إىل القوة‪ ،‬وكانت �صورة كل من النبي حممد وفار�س الفتح‬ ‫الإ�سالمي من �أكرب امل�ؤثرات يف �شعره من حيث عالقتهما بالرتاث‪.‬‬ ‫«ويظهر �أثر «�ألف ليلة وليلة» يف غري ق�صيدة من �شعر حاوي وحتديداً يف كل من �شهرزاد وال�سندباد»‪.‬‬ ‫ففي نهر الرماد نرى ال�شاعر يتكلم على �شهرزاد يف ق�صيدة «عودة �إىل �سدوم» وهو تالياً يربط حبه‬ ‫بحب �شهرزاد لبنات جن�سها‪ .‬وعن�صر الفداء هو الأ�صل يف ق�صتها التي ا�ستخدمها ال�شاعر من‬ ‫«�ألف ليلة وليلة» فهو يف الق�صيدة ال�سابق ذكرها يفتدي اجليل بنف�سه كما افتدت �شهرزاد بنات‬ ‫جن�سها ل�شدة حبها لهن‪.‬‬ ‫ومن �أبرز الرموز التي ي�ستعريها حاوي من «�ألف ليلة وليلة‪ ،‬وت�شكل تنا�صاً مهماً بني الكاتب‬ ‫و�شعره‪ ،‬هي ق�صة ال�سندباد البحري‪ .‬وقد ّ‬ ‫«�شكلت هذه الق�صة تنا�صاً مهماً يف ن�صو�ص ال�شاعر‪ ،‬يف‬ ‫ديوان «الناي والريح» فا�ستعار حاوي ال�سندباد رمزاً»‪.‬‬ ‫يظهر ال�سندباد �أو ًال يف ق�صيدة «وجوه ال�سندباد»‪ .‬ويعرب يف هذه الق�صيدة عن م�شكلة االن�سان‬ ‫املعا�صر يف تفاعله مع احل�ضارة والزمن‪ ،‬ومن خالله يعرب عن م�شكلته هو يف عالقته باحل�ضارة‬ ‫الغربية التي يتفاعل معها داخل الق�صيدة‪.‬‬ ‫وتقول الكاتبة‪« :‬ميكننا �أن نخت�صر الوجود الذي يتكلم عليه حاوي بوجهني �إثنني‪ :‬وجه الأ�صالة‬ ‫الكامنة يف الذات‪ ،‬والتي ميثلها بوجه �أمه الأ�سمر‪ .‬وهو يتخذ ال�سمرة رمزاً للأ�صالة الكامنة يف‬ ‫الذات لأنه يربطه بالبداوة يف ق�صائده‪ ،‬ووجهه هو الذي ميثل وجه الإن�سان املعا�صر يف عالقته‬ ‫اخلطرية بالزمن‪ ،‬ويف ميوعه ذاته‪ ،‬وال�سندباد يف هذه الق�صيدة يخ�سر ما يف ق�صته الأ�سا�سية من‬ ‫توثب وعزم‪ ،‬ويتحول اىل �شيخ هرم فاقد للعزمية»؟‬ ‫�إن التنا�ص احلا�صل بني الن�ص الأ�سا�سي لل�سندباد يف «الرحلة الثامنة» هو الرتحال امل�ستمر‪،‬‬ ‫والقدرة املتجددة على الفعل والبحث عن املجهول‪ ،‬ولكن �صورة العزم املتجدد هي التي حترك‬ ‫ال�صورة العامة لهذه ال�شخ�صية‪ ،‬وهذا بالتحديد ما اختار حاوي ان يبقي عليه من التنا�ص احلا�صل‪.‬‬ ‫هكذا ينفتح التنا�ص بني ق�صة ال�سندباد البحري وق�صيدة خليل حاوي على م�صراعيه‪« ،‬فت�أخذ‬ ‫رحالت ال�سندباد م�ساراً جديداً بعد ان ي�ستعيد هذا ال�شاعر‪ ،‬وتنقلب معه �شك ًال ق�ص�صياً جديداً‪،‬‬ ‫‪145‬‬


‫على م�ستوى الأمة كلها هذه املرة‪ ،‬وي�ضيف ال�شاعر رحلة ثامنة اىل رحالت ال�سندباد ال�سابقة التي‬ ‫ر�آها بال قيمة»‪.‬‬ ‫هذا ال�شاعر ا�ستلهم الرتاث العربي‪ ،‬ومتكن من حتويل م�سار �صوره يف �شعره اىل ما ينا�سب اغرا�ض‬ ‫الق�صائد‪ .‬لكن ان الت�أثري الرتاثي الأكرب هو يف م�س�ألة التنا�ص بني �شعر حاوي وكتاب «الف ليلة‬ ‫وليلة» وخا�صة يف ق�صة ال�سندباد البحري التي ا�ستطاع �شاعرنا �أن يبدع لها طريقا خا�صة و�أن‬ ‫ي�ضفي عليها �أبعاداً جديدة م�ستوحاة يف ا�صلها من الق�صة الأ�سا�سية‪.‬‬ ‫التنا�ص وقراءة الن�ص الغائب يف �شعر خليل حاوي‪.‬‬ ‫نادين طربيه‬ ‫بي�سان للن�شر والتوزيع ـ بريوت ‪2014‬‬

‫‪146‬‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫احلركة ال�صحافية الن�سائية العربية احلديثة‬ ‫يف رحلتها عرب تاريخها الطويل‬ ‫جنيب البعيني ‪ -‬كاتب و�صحايف‬ ‫احلركة ال�صحافية الن�سائية‪� ،‬أو احلركة ال�صحافية العربية ‪ ،‬حتتل مكانة راقية يف تاريخنا العربي‬ ‫املعا�صر‪ ،‬هي حركة كفاح مرير قادتها املر�أة ب�شكل عام تنا�ضل من �أجل حقوقها ويف �سبيل حتقيق‬ ‫طموحها الثقايف واالجتماعي واالن�ساين‪ ،‬لي�س يف بلد معينّ ‪ ،‬بل يف عموم بلدان �أمتنا العربية‪.‬‬ ‫والن�ساء اللواتي �أ�سهمن يف هذه احلركة الن�سوية كن من لبنان وم�صر و�سوريا وفل�سطني وبع�ض‬ ‫الدول العربية االخرى التي كان لها �إ�سهام يف حركات التحرر يف العاملني العربي واال�سالمي‪.‬‬ ‫�إن ق�ضية املر�أة تعترب من الق�ضايا الوطنية واالجتماعية احل�سا�سة‪ ،‬تتطلب منها العمل واالجتهاد‬ ‫واملثابرة‪ ،‬لأن ق�ضية حقوق املر�أة مل تكن ق�ضية خا�صة تتعلق بفرد او افراد‪ ،‬بل هي ق�ضية الن�ساء‬ ‫ككل وم�شاركتهن‪ ،‬و�إ�سهاماتهن الفعالة يف احلياة العامة‪ ،‬هي ق�ضية املر�أة والرجل على حد �سواء‬ ‫تتعلق بالتطور والرقي والتقدم مبوازاة عجلة الزمن التي ال تتوقف‪.‬‬ ‫وقد تناول عدد من الباحثني هذه الق�ضية �إما بالت�أييد �أو باملعار�ضة‪ ،‬بحيث انق�سموا حيالها اىل‬ ‫فريقني‪ ،‬فريق تناولها من ناحية حتررها من ربقة االعراف والتقاليد‪ ،‬وكان �أن �أعلن ذلك �أول ما‬ ‫�أعلن‪ ،‬هو قا�سم �أمني الذي نادى بحقوق املر�أة ورفع احلجاب عنها‪ ،‬فا ّتهم بالكفر والإحلاد واخلروج‬ ‫عن الدين‪.‬‬ ‫كذلك طالبت الآن�سة نظرية زين الدين‪ ،‬من عني قني‪ ،‬ال�شوف‪ ،‬برفع احلجاب فاتهمت ب�أ�شنع‬ ‫ما ميكن من الأقاويل واالحتجاجات ون�شرت هذه التهم يف خمتلف ال�صحف واملجالت التي‬ ‫طالبت بتحرير املر�أة ومنحها احلياة احلرة الكرمية ال�صاحلة‪.‬‬ ‫وكان كتابها‪ :‬الفتاة وال�شيوخ‪ ،‬نظرات ومناظرات يف ال�سفور واحلجاب‪ ،‬وحترير العقل وحترير املر�أة‬ ‫والتجدد االجتماعي عن العامل اال�سالمي‪ ،‬وكان ذلك يف �سنة ‪.1929‬‬ ‫وفريق ثانٍ تناولها من حيث التزامها بالأعراف والتقاليد املوروثة منذ القدم‪.‬‬ ‫وقد ن�شب جراء هذا �صراع فكري وعقلي كرثت فيه املجادالت وامل�صادقات وانق�سمت البلدان‬ ‫العربية جتاهه اىل ق�سمني متواجهني‪ .‬وقد �أثبتت املر�أة عرب التاريخ قدرتها على تخطي ال�صعاب‬ ‫‪147‬‬


‫والعقبات‪ ،‬وا�ستطاعت نيل بع�ض احلقوق‪ ،‬اىل ان و�صلت اىل ما و�صلت اليه من مكانة‪ ،‬ومطالب‬ ‫ن�سائية حمقة‪ ،‬بعد �صراع طويل‪ ،‬على طريق ال�شوك والآالم‪.‬‬ ‫وقد تناولت يف كتاب ا�صدرته منذ فرتة وجيزة حتت عنوان «�صحافيات لبنانيات رائدات و�أديبات‬ ‫مبدعات»‪� .‬صدر عن دار نوفل للطباعة والن�شر‪ ،‬يف �سنة ‪ ،2007‬بالبحث والتنقيب بع�ض ن�ساء ممن‬ ‫لهن دور فاعل يف احلياة االجتماعية‪.‬‬ ‫عملن يف احلقل ال�صحايف وكان ّ‬ ‫واحلق يقال ان ال�صحافة الن�سائية اللبنانية كانت ال�سباقة اىل العمل واىل مواكبة التطور واالحداث‬ ‫ومالحقة ق�ضايا املر�أة ومطاليبها‪ ،‬لذلك فال عجب اذا قامت ن�ساء و�أ�صدرن جرائد وجمالت‪،‬‬ ‫انطلقت من لبنان و�شملت �أر�ض م�صر و�سورية وبع�ض البلدان العربية ال�شقيقة‪.‬‬ ‫جملة «الفتاة»‬

‫كان هناك حركة ن�سائية �صحافية عربية انطلقت من لبنان ووجهتها م�صر‪ .‬وقد ظهرت ال�صحافة‬ ‫الن�سائية يف م�صر �سنة ‪ 1892‬م‪ .‬ومل تكن قد عرفتها من قبل �أية دولة عربية �أخرى‪.‬‬ ‫فقد �أن�ش�أت هند نوفل (‪� )1957-1875‬أول جملة �أ�سمتها «الفتاة» يف م�صر‪ .‬وهي �صحافية لبنانية‬ ‫كان والدها وعمها ن�سيم و�سليم �صحافيني ا�شتغال بال�صحافة والرتجمة يف مكاتب احلكومة‬ ‫امل�صرية‪ .‬وكان �أن �صدر العدد االول من املجلة على ن�سق �أوروبي يف بالد الغرب‪ .‬وكان عنوان‬ ‫انطالقتها‪« :‬جريدة علمية تاريخية �أدبية فكاهية»‪ .‬وكانت مقدمة العدد االول من املجلة حتت‬ ‫عنوان «�إي�ضاح والتما�س وا�ست�سماح» قالت فيها هند‪:‬‬ ‫«�سيداتي‪:‬‬ ‫«ان مبدع العامل ومدير الكائنات قد �أوجد العنا�صر واودعها من خ�صائ�ص الفعل واالنفعال‬ ‫والتجاوب والتدافع والتوا�صل والتفارق‪ ،‬وميز ك ًال منها بخوا�ص خمتلفة‪ ،‬واو�ضاع �شتى على وجه‬ ‫غريب ومنط عجيب‪ ،‬ثم ا ّلف منها عاملاً كبرياً‪ ،‬ركب من �شمو�س و�أقمار وكواكب وجنوم‪ ،‬ال تعد وال‬ ‫حت�صى‪ ،‬وخلق الأر�ض ذات نباتات مت�شابهة وغري مت�شابهة»‪.‬‬ ‫ثم مت�ضي يف افتتاحيتها قائلة‪:‬‬ ‫«ال غرو اذا ظهرت الفتاة بحلة الع�صر وهي تتفي�أ بظل ظليل اللواء احلميدي‪ ،‬لواء �سيدنا ال�سلطان‬ ‫عبد احلميد‪ ،‬فان الغازي � ّأيد اهلل ملكه مدى الدوران‪ ،‬وبظهورها يف ال�سنة االوىل من توىل خديونا‬ ‫املعظم عبا�س حلمي الثاين‪ ،‬االريكية اخلديوية»‪.‬‬

‫‪148‬‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫ثم اخذت تع ِّرف مبجلتها وب�أنها ال تخو�ض يف االمور ال�سيا�سية وامل�شاحنات الدينية‪ ،‬بل �سوف‬ ‫ت�ستمر مبا يت�صل بالن�ساء مثل‪« :‬اخلو�ض يف �آداب الهيفاء‪ ،‬وحما�سن الن�ساء فان مبد�أها الوحيد هو‬ ‫الدفاع عن احلق امل�صري واال�ستلفات اىل الواجب املطلوب»‪.‬‬ ‫وتعود اىل «الفتاة» تتذكر دفاعها عن املر�أة امل�صرية لأول مرة من خالل و�سيلة اعالمية ن�سائية‬ ‫ظهرت يف ال�شرق العربي‪ ،‬وتطلب من القارئات ان يعتربن املجلة‪« :‬جريدتهن الوحيدة املدافعة‬ ‫عنهن يف املحافل الدولية‪ ،‬و�أن يكاتبنها وال يعتربن ذلك مما يحط من قدرهن او يخد�ش عفافهن‪،‬‬ ‫هن حمررات‬ ‫او مي�س الطهر والأدب‪ ،‬كال‪ ،‬فان �أعظم ن�ساء االفرجن علماً و�أدباً و�أرفعهن ح�سبا ون�سبا ّ‬ ‫بع�ض اجلرائد‪ .‬وقد ورد يف جرائدهن بان «م�س كارفور» تكاتب جريدة «الديلي نيوز» يف مدينة‬ ‫باري�س»‪ .‬وخال�صة القول يف هند نوفل انها رائدة ال�صحافة الن�سائية يف ال�شرق‪ ،‬وال�صحافة الن�سائية‬ ‫هي يف الواقع �أهم ظاهرة حية للحركة الن�سائية يف القرن التا�سع ع�شر‪ ،‬والن�صف االول من القرن‬ ‫الع�شرين‪.‬‬ ‫جملة «�أني�س اجللي�س»‬

‫وت�أتي يف املرتبة الثانية جملة «�أني�س اجللي�س» التي ا�ستمرت من �سنة ‪ 1898‬اىل �سنة ‪.1908‬‬ ‫وكانت �صاحبتها لبنانية هي الك�سندرة اخلوري افرينو‪ ،‬وكانت الك�سندرة �أول متحدثة عن احلركة‬ ‫الن�سائية يف م�صر‪ ،‬رئي�سة اول م�ؤمتر ن�سائي عاملي يعقد لنزع ال�سالح‪.‬‬ ‫تقول الك�سندرة يف �إحدى مقاالتها يف املجلة ‪:‬‬ ‫«‪ ....‬ان املر�أة يف م�صر تكاد ان تكون �أ�شقى خملوق فيها لكرثة جهدها وفرط �صربها واحتمالها‪،‬‬ ‫ولذلك جندها فالحة للأر�ض‪ ،‬حمالة للأثقال �سائقة للبهائم‪ ،‬وم�شاركة لها يف كل �أعمالها»‪.‬‬ ‫وت�ضيف �صاحبة املجلة قائلة‪:‬‬ ‫حد ملا تعانيه‬ ‫«الواقع ان هذه املجلة مل يخل عدد منها من مقال يحث املر�أة وامل�س�ؤولني على و�ضع ّ‬ ‫املر�أة من مذلة وهوان»‪.‬‬ ‫ومهما يكن من �أمر فان جملة‪�« :‬أني�س اجللي�س» �أدت دوراً كبرياً يف ا�ستنها�ض احلركة الن�سائية‬ ‫امل�صرية‪ ،‬وتطورها يف فرتة �صدورها‪ .‬وقد امتازت �صاحبة املجلة بقوة ال�شخ�صية وقدرتها على‬ ‫اكت�ساب �صداقة الرجال الكبار واحرتامهم لها النها الوحيدة بني ن�ساء ال�صحافة الن�سائية واحلركة‬ ‫الن�سائية التي ح�صلت على عدد كبري من االو�سمة يف حياتها من ملوك واباطرة‪.‬‬

‫‪149‬‬


‫جملة «ال�سيدات»‬

‫�أ�س�ست هذه املجلة �صاحبتها روز حداد من �سنة ‪ 1903‬اىل �سنة ‪ .1930‬وقد ظهرت هذه املجلة‬ ‫لتعمل على ترقية املر�أة يف وظيفتها املنزلية ومعرفة ما يدور حولها خارج نطاق املنزل‪.‬‬ ‫تقول روز يف مقدمة العدد االول‪:‬‬ ‫«انها �سوف تعتمد على االنتاج االوروبي يف حترير املجلة مثل «قامو�س و�سري ومبادئ �شهريات‬ ‫الن�ساء» و «ما يجب ان تعلمه الفتاة» و «طبيعة الولد» و «�أ�صول الرتبية والتعليم»‪ .‬واعتمدت املجلة‬ ‫على جمالت ت�صدر باالنكليزية وهي‪« :‬جملة الن�ساء اخل�صو�صية» و «املعلمة واملدر�سة» و «املر�أة يف‬ ‫البيت» و «رفيق املر�أة» و «الأزياء احلديثة» و�أبواب املجلة كثرية‪ .‬وقد خ�ص�صت �أبواباً مثل «املنزل‬ ‫واملطبخ واملائدة»‪ ،‬واهتمت بن�شر �أ�صول ترتيب املنزل ونظافته و�آداب املائدة‪ ،‬و�أ�س�س جلو�سهم‬ ‫حول املائدة يف جميع وجبات الطعام وما يجب عليهم ان يفعلوه‪ ،‬و�آداب ال�سلوك نحو من يجل�س‬ ‫معهم على املائدة‪.‬‬ ‫كما اهتمت املجلة بزينة املر�أة و�أزيائها‪ ،‬وتعليم الفتاة والعمل على ترقية مداركها العقلية‪ .‬وقد‬ ‫و�ضعت �شعاراً للمجلة حتت عنوان‪« :‬اجلنة حتت �أقدام الأمهات»‪ .‬و «نقا�ش درجة االمم بالنظر اىل‬ ‫ن�سائها‪ ،‬وحينما يكون علو الهمم والإقدام واالرتقاء فهناك الن�ساء ملكات»‪.‬‬ ‫وت�ضيف اىل ذلك قائلة‪:‬‬ ‫«اذا �أردمت ا�صالح الهيئة االجتماعية فا�صلحوا الن�ساء‪ .‬وبهذا اال�صالح يت�صلح اجلن�س الب�شري‪،‬‬ ‫النهن مربيات ومدربات»‪.‬‬ ‫ان جملة «ال�سيدات» قامت بدور فاعل يف ازدهار احلركة الن�سائية كما ايقظت املر�أة ال�شرقية من‬ ‫�سباتها‪ ،‬وعززت مكانتها‪ ،‬و�أحبت النف�س ال�شرقية‪ .‬وكانت غريتها ال تو�صف على �ش�ؤون املر�أة يف‬ ‫الوطن العربي ‪.‬‬ ‫جملة «فتاة ال�رشق»‬

‫«فتاة ال�شرق» �صاحبتها ورئي�سة حتريرها لبيبة ما�ضي ها�شم (‪ .)1952-1882‬وقد �صدرت هذه‬ ‫املجلة يف �سنة ‪ 1906‬وظلت ت�صدر اىل �سنة ‪ . 1939‬وقد كانت لبيبة ها�شم من اركان احلركة‬ ‫الن�سائية ملا قدمته من ن�شاط ملحوظ مل يعرف التوقف منذ ان بد�أت العمل يف هذه احلركة منذ‬ ‫�سنة ‪ 1896‬م‪ .‬حتى تاريخ تركها البالد امل�صرية وهجرتها اىل امريكا الالتينية يف نهاية �سنة ‪.1939‬‬ ‫‪150‬‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫�صرحت لبيبة يف مقدمة العدد االول عن �أ�سباب ا�صدارها املجلة وال�سيا�سة التي �ست�سري عليها‬ ‫يف حتريرها‪ ،‬قالت‪:‬‬ ‫«‪ ...‬وبعد حمد اهلل عز وجل والدعاء ل�سمو «�أمرينا املعظم» النه يف عهده «تفتحت ازهار العلم‬ ‫و�أ�صابت الن�ساء ن�صيباً من طيب �شذاه وانني ممن �أ�صابهن نفحة من ن�سيم ذلك الرو�ض‪ ،‬و�أف�سحت‬ ‫نف�سي عن ال�صغائر و�شواردها ومالت بي ايل ارت�شاف ك�ؤو�س العلم والتلذذ بعذب مواردهن‬ ‫ف�أن�ش�أت عدة ر�سائل �أودعتها ما متثل لرق ّيه فائدة للأدباء‪ ،‬ون�شرتها على �صفحات اجلرائد واملجالت‪،‬‬ ‫رجاءان تقتدي بها فا�ضالت الن�ساء»‪.‬‬ ‫وت�ضيف لبيبة قائلة‪:‬‬ ‫«منذ متكنت من حتريك القلم و�أنا �أفكر يف �إن�شاء جملة ن�سائية �أقدم فيها �سيدات وطني وبناته‪،‬‬ ‫و�أن�شر على �صفحاتها ما يلذ رجال ال�شرق مطالعته من �أيدي ن�سائه»‪.‬‬ ‫وال �شك يف �أن لبيبة ها�شم قامت بحركة ن�سائية ناه�ضة‪ .‬وكانت يف الواقع منوذجاً رائعاً مل�صابرة املر�أة‬ ‫على العمل‪ ،‬فقد كانت مرتجمة املجلة وحمررتها ومديرتها وموزعتها وخمرجتها ومندوبة االعالن‪،‬‬ ‫وهيئة التحرير والتوزيع وادارة االعالنات ملدة ‪� 34‬سنة متوا�صلة دون كلل او ملل‪ .‬وكانت كتابتها‬ ‫عن «�أحوالنا االجتماعية» و «ا�سم امل�ستقبل» و«احلكومة امل�صرية وتعليم البنات»‪.‬‬ ‫ويف مقالها االول ب ّينت احوال م�صر االجتماعية وان �سبب االنحطاط يعود اىل العادات اخلبيئة‬ ‫واتباع الطرق التي ت�ؤدي اىل ت�أخري �أمور البالد‪ ،‬واخذت �أو�ضح الو�سيلة املمكنة للق�ضاء على‬ ‫�سد نق�ص الرتبية البيتية والق�ضاء على ف�ساد التعاليم‬ ‫هذه العيوب االجتماعية والتي تتلخ�ص يف ّ‬ ‫املنزلية وان «مدار�سنا االبتدائية ال تزال ل�سوء احلظ و�سيلة لزيادة �صد�أ االذهان �أكرث منا الزالة‬ ‫�أدران اجلهل و«الرتبية البيتية» واالجتماعية جمموع �سخافات وخرافات و�أوهام‪ ،‬فهي تربي‬ ‫وتعد العقل لقبول �أنواع ال�ضالل»‪.‬‬ ‫العواطف اىل درجة الت�أثري ال�شديد وفقدان ال�شجاعة والثبات ّ‬ ‫كما طالبت العناية باللغة العربية لغة وادباً‪ ،‬وتنمية ال�شخ�صية العربية مبداومة االطالع والبحث عن‬ ‫املعارف والعلوم والتم�سك باالخالق‪ .‬وخ�ص�صت �أبواباً «لتدبري االطفال» وفيه عاجلت موا�ضيع‬ ‫تربية الطفل �صحياً وخلقياً وكانت اىل ذلك كله تلخ�ص بع�ض كتب االطباء‪ .‬كذلك طرقت‬ ‫باب «�آداب وعادات» كانت تلخ�ص فيه بع�ض العادات الذميمة‪ .‬وباب �آخر �أ�سمته‪« :‬من معلم‬ ‫لتلميذه»‪ .‬وباب �آخر «من �أم البنها» عندما يكون احلوار موجهاً من �أم لولدها‪ ،‬كما خ�ص�صت يف‬ ‫منهن‪.‬‬ ‫جملتها باباً عن حما�ضرات م�سائية تلقى على ن�ساء م�صر النابهات او من يقر�أن ويكتنب ّ‬ ‫ودعت لأجل هذا باحثة البادية لتلقي هذه املحا�ضرات ثم تبعتها لبيبة ها�شم‪ .‬وكان ذلك يف �سنة‬ ‫‪ .1911‬وكان مو�ضوع اول حما�ضرة هو «الرتبية»‪.‬‬

‫‪151‬‬


‫ولقد اهتمت هذه املجلة دون غريها من ال�صحف واملجالت مبو�ضوع الرتبية وكان �شعارها هو‪:‬‬ ‫«العمل على �إيجاد املر�أة الفا�ضلة قبل �إيجاد املر�أة املتعلمة‪ .‬لذلك اهتمت بهذا الباب اهتماما‬ ‫خا�صا وكان العنوان‪« :‬ن�ساء �شهريات»‪.‬‬ ‫ون�شرت �أي�ضا بابا �آخر حتت عنوان‪« :‬جوامع الكلم» كانت ت�أتي فيه ب�أمثلة حكيمة من الكلمات‬ ‫امل�أثورة‪.‬‬ ‫وعاجلت يف الع�شرينيات‪« :‬خروج املر�أة من منزلها دون حاجة اىل ذلك‪ .‬وقالت �إن خروج الن�ساء‬ ‫داع لذلك‪ ،‬يحط من قدرهن ويقلل احرتام اوالدهن لهن‪ ،‬كما هاجمت املتربجات يف‬ ‫دون ٍ‬ ‫الطرقات وقالت‪:‬‬ ‫«ان الالتي يتربجن ل�سن من املعلمات بل من اجلاهالت املت�شبهات باالوروبيات ل�شعورهن‬ ‫بالنق�ص»‪.‬‬ ‫وجملة «فتاة ال�شرق» �أول جملة متنح هدايا جمانية للقارئ‪ ،‬وذلك عندما وزعت مع العدد االول من‬ ‫�سنتها احلادية ع�شرة يف اكتوبر‪ /‬ت�شرين االول �سنة ‪ 1917‬ر�سما ملفر�ش ي�شغل باالبرة‪ ،‬ثم توالت‬ ‫هذه الر�سوم يف ال�سنوات التالية ‪.‬‬ ‫ومهما يكن من �أمر فقد �أدت جملة «فتاة ال�شرق» دورها بكل �أمانة و�صدق‪ ،‬وعملت �صاحبتها على‬ ‫ان جتاري الرجل يف �صناعة القلم‪ ،‬فهي تقول يف ذلك ال�صدد‪:‬‬ ‫«ان املجالت التي تتناول �ش�ؤون املر�أة ميلكها رجال واملجالت التي حتررها ن�ساء قليلة جداً ال تكفي‬ ‫لتحقيق الآمال خا�صة‪ ،‬وان الرجل يكتب عن املر�أة كما يعلم ويفكر‪� ،‬أما املر�أة فتكتب عن نف�سها‬ ‫كما تعتقد وت�شعر‪ ،‬وميكنها ان تتخذ من �شعورها دلي ًال على كل م�ستح�سن يف الرجل فتدفعه اليه‪،‬‬ ‫او ممقوت فتقبحه يف عينه‪ ،‬ف�ضال عن انها �أدرى بحال ال�سيدات وموا�ضع ال�ضعف منهن وكيفية‬ ‫اكت�ساب �أجيالهن والذهاب بها اىل ما فيه خري البالد وفائدة نفو�سهن»‪.‬‬ ‫وتقول لبيبة يف نهاية مقالها «انني واثقة من النجاح مبا توخيت يف حترير هذه املجلة من االعتماد‬ ‫على النف�س وانتهاج �سبل الفائدة واال�صالح»‪.‬‬ ‫�صحيفة «الريحانة»‬

‫ون�أتي اىل �صحيفة «الريحانة» ل�صاحبتها ورئي�سة حتريرها جميلة حافظ‪ ،‬وقد �صدرت من �سنة‬ ‫‪ 1907‬اىل �سنة ‪� ،1908‬أ�صدرتها من بلدتها «حلوان» وكانت �صحيفة متوا�ضعة‪ ،‬مل تع�ش طويال‬ ‫�سوى �سنتني فقط‪ .‬كانت �صاحبتها امر�أة �شجاعة‪ .‬وكانت �سيا�سة ال�صحيفة قائمة على ان م�صر‬ ‫‪152‬‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫للم�صريني‪« :‬ك�شعار غرينا من الوطنيني املخل�صني ال�صادقني»‪ .‬وقد �أبرزت هذا ال�شعار يف العدد‬ ‫االول �آذار‪/‬مار�س �سنة ‪.1908‬‬ ‫وقد طالبت جميلة حافظ ال�شعب التم�سك‪« :‬با�ستقالل البالد واال يتوانوا عن املطالبة به‬ ‫بال�صراحة واملجاهرة وان يعملوا بقول املتنبي‪:‬‬ ‫واذا مل يكن من املوت ّبد فمن العجز ان متوت جباناً‬ ‫وكانت �سيا�ستها نحو املر�أة‪:‬‬ ‫«ان �أهم مبادئ الريحانة العمرانية هو االنت�صار للمر�أة واملطالبة بحقوقها التي خولتها لها ال�شريعة‬ ‫اال�سالمية وتع�ضيد كل قائم بخدمة االطفال وااليتام والفقراء وباجلملة االنت�صار لكل �ضعيف»‪.‬‬ ‫وظهور �صحيفة «الريحانة» مدلول على تقدم احلركة الن�سائية‪ .‬وقد دل هذا ال�شيء على وعي‬ ‫�صاحبتها بعقل منطقي �سليم‪ .‬لقد خرجت جميلة بني زميالتها ووقفت على منرب ن�سائي رفيع يف‬ ‫�أ�شد احلاجة ملن ير�شده يف هذه الظروف ال�صعبة وي�ضيء له امل�ستقبل ال�سيا�سي فهذا هو ال�شيء‬ ‫الذي ي�ستحق االحرتام والتقدير واال�شادة لأنه نوع من البطولة الن�سائية النادرة‪.‬‬ ‫جملة «ترقية املر�أة»‬

‫ان�ش�أت هذه املجلة �صاحبتها فاطمة نعمت را�شد‪ ،‬وقد ظهرت يف �سنة ‪ ،1908‬وهي زوجة املفكر‬ ‫حممد فريد وجدي «�صاحب جريدة الد�ستور»‪.‬عاجلت املجلة مو�ضوعات خمتلفة منها تقوية‬ ‫ال�شَّ عر وازالة النم�ش من ب�شرة الوجه وازالة ال�شعر الزائد‪ ،‬وكانت فاطمة املتحدثة الر�سمية با�سم‬ ‫املر�أة يف املنتديات الدولية‪.‬‬ ‫قالت ال�سيدة فاطمة‪ ،‬يف اول عدد ت�صدره من املجلة ال�شهرية‪:‬‬ ‫«جملتنا نا�شرة لآرائنا‪ ،‬ومعربة عن �شعور طموحاتنا‪ ،‬ت�سمع �آراء جميع النا�س و�صوتها حتى يعرتفوا‬ ‫بوجودنا‪ ،‬واننا ن�صف الهيئة االجتماعية لنا ما للن�صف الآخر وعلينا ما عليه على ما حددته �شريعتنا‬ ‫او �سمحت به مدنياتنا»‪.‬‬ ‫«انها ا�ستعدت لتكوين حركة ن�سائية حتى يتما�سك ن�صف املجتمع‪ .‬ال �أن يقف الرجال وحدهم‬ ‫فال تتقدم الأمة‪ .‬ان فكرتنا وجدت �صدى بني �سيدات الطبقة الراقية‪ ،‬وبذلك �شرعت يف تنفيذها‬ ‫خا�صة‪ ،‬وان علمت نف�سي ا�ستعداداً لهذا الأمر»‪.‬‬ ‫لقد عربت الكثريات من الن�ساء عن‪« :‬مدى ت�أثري املر�أة يف النظام االجتماعي» من بور �سعيد‬ ‫و�أ�سوان والقاهرة‪.‬‬ ‫‪153‬‬


‫وطالبت بـ «ترقية املر�أة» و «حقوق املر�أة» و«تعليم املر�أة» وم�ساواتها بالرجل‪ ،‬وكان �صوتها داوياً‬ ‫مدوياً يف الآفاق وله االثر الفعال يف تطور احلركة الن�سائية يف فرتة مل يتناولها �أحد يف التاريخ‪.‬‬ ‫جملة «اجلن�س اللطيف»‬

‫�صاحبة هذه املجلة ورئي�سة حتريرها ملكة �سعد‪ ،‬وقد ا�ستمرت املجلة من �سنة ‪ 1908‬اىل �سنة ‪.1921‬‬ ‫عا�صرت املجلة احداثاً ن�سائية مهمة مثل ثورة الن�ساء يف �سنة ‪ ،1919‬وعاجلت اهتمام الن�ساء بالزينة‬ ‫واهمالهن تنمية قدراتهن العقلية ‪.‬‬ ‫قلت ملكة يف العدد االول من املجلة يف �سنتها االوىل‪:‬‬ ‫«ان هدف املجلة من ال�صدور هو ان ت�أخذ املر�أة مكانها ك�إن�سانة تعرف ان احلرية لي�ست التربج‬ ‫والتزين باملالب�س الفاخرة وال�سري وراء هوى النف�س‪ ،‬لكن احلرية هي ان نعرف ما لنا وما علينا‬ ‫من احلقوق فال نهان وال نباع بثمن‪ .‬وال نكون �ألعوبة يف �أيدي اجلن�س الن�شيط الذي يت�صور �أننا‬ ‫مل نخلق لنكون له عوناً‪ ،‬وامنا خلقنا لنكون يف وهاد الذل راتعات‪ ،‬ن�ضرب كالأنعام ونحرم من‬ ‫اال�شرتاك معه يف االعمال النافعة العمومية»‪.‬‬ ‫ثم و�ضعت مبادئ �ستة لتكون عليها �سيا�سة املجلة يف امل�ستقبل‪ ،‬ويف العدد االول‪ ،‬ال�سنة الأوىل‪،‬‬ ‫يف ‪ 5‬متوز �سنة ‪� ،1908‬أو�ضحت هدف املجلة وبرناجمها واخلطط التي تراها منا�سبة‪ ،‬وهي التالية‪:‬‬ ‫ ترقية �شعور املر�أة ال�شرقية واعدادها بالو�سائط الأدبية املفيدة لكي تكون يف يوم ما يف م�ستوى‬‫واحد مع املر�أة الغربية‪.‬‬ ‫ �إر�شادها اىل حالة الو�سط الذي تعي�ش فيه‪ ،‬وبيان مركزها بالن�سبة اىل الرجل‪.‬‬‫ �إفهامها واجبها نحو وطنها و�أمتها وعائلتها و�أوالدها وزوجها‪.‬‬‫ م�ساعدتها على التخل�ص من ربقة الأعراف والتقاليد امل�ستهجنة‪.‬‬‫ تروي�ض عقلها والرتويح عنها مبا نورد من حني اىل �آخر يف هذه املجلة من النكات الأدبية‬‫الفكاهية املقبولة‪.‬‬ ‫ تفهيمها واجباتها نحو الهيئة االجتماعية ب�صفتها ع�ضواً نافعاً يف ج�سم العمران‪.‬‬‫وقد حاولت هذه املجلة ان تعمل على اعداد املر�أة عقلياً وفكرياً‪ ،‬فن�شرت لها مو�ضوعات تبني لها‬ ‫كيفية تربية االوالد‪ ،‬وكيف تعامل زوجها كزميل و�شريك‪ ،‬كما ن�شرت مقا ًال مل�صطفى املنفلوطي‬ ‫‪154‬‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫نق ًال عن جريدة «امل�ؤيد» وعنوانه‪« :‬البائ�سات من الن�ساء»‪ .‬واهتمت املجلة بن�شر كتاب‪« :‬البارونة‬ ‫�ستاف» الذي كان مغزاه‪:‬‬ ‫املر�أة يف �أدوارها‪ ،‬حياة املر�أة االوىل كفتاة منذ والدتها حتى تتزوج‪ ،‬وحياة الزوجية‪ ،‬وكيفية ولوج‬ ‫املر�أة هذه احلياة اجلديدة وعوامل جناحها فيها وعالج الف�شل اذا وجد‪ ،‬ثم حياتها ك�أم وما يجب‬ ‫عليها ان ت�سلكه منذ والدة الأطفال حتى ي�صبحوا بالغني يف ال�سن‪.‬‬ ‫ون�شرت �أي�ضاً ت�صريح ح�سني كامل با�شا ملجلة «الطان» الفرن�سية (‪ )Le Temps‬عن ر�أيه يف املر�أة‬ ‫امل�صرية‪ ،‬وتعليم املر�أة‪ ،‬وحتريرها واخلال�ص من اجلهل برتبية الن�ساء‪.‬‬ ‫ثم جاءت ثورة �سنة ‪ 1919‬وا�شرتكت املر�أة امل�صرية فيها بجميع طبقاتها وكان هذا �سبباً يف ظهور‬ ‫قيادات ن�سائية �ساهمت بالو�سائل االعالمية ن�شر الوعي الوطني و�ضرورة جالء االنكليز عن ار�ض‬ ‫م�صر‪.‬‬ ‫جملة «املر�أة امل�رصية»‬

‫ا�ستمرت هذه املجلة من �سنة ‪ 1920‬اىل �سنة ‪ 1939‬با�سم با�سم عبد امللك التي و�ضعت ر�سماً‬ ‫للأمرية الفرعونية «نفرتيتي» ليكون �شعار املجلة ويعرب عن املر�أة امل�صرية الكادحة بعد �أن نه�ضت‬ ‫من �سباتها العميق‪« :‬لت�أخذ بيد القابعات يف ظالم اجلهل‪ .‬و�أن هذا الر�سم �سوف يكون على‬ ‫�صدر كل فتاة لال�ستدالل على ان املجلة م�صرية بحتة‪ ،‬وانها �ستقوم بخدمة املر�أة التي نه�ضت يف‬ ‫املدة الأخرية يف �سبيل ترقية الأمة‪ .‬هذه املجلة عربت تعبرياً �صادقاً عن املر�أة امل�صرية وافكارها‬ ‫واحا�سي�سها وانت�سابها العلمي‪.‬‬ ‫كما خا�ضت املجلة حملة �صحافية �ضد الدكتور طه ح�سني الذي طالب املدر�سات االجنبيات‬ ‫با�ستمرار العمل يف املدار�س امل�صرية‪ ،‬و�إلغاء قرار وزير املعارف �أحمد زكي �أبو ال�سعود الذي ن�ص‬ ‫على �إحالل امل�صريات حمل الأجنبيات يف �إدراة املدار�س والتدري�س بها‪.‬‬ ‫قالت املجلة �إن طه ح�سني يتجنى على امل�صرية بادعائه انها �أقل كفاءة وعلما و�أقل �إدراة واخالقاً‬ ‫من االجنبية ‪.»...‬‬ ‫وان «طه ح�سني يقول ذلك لهوى يف نف�سه لأنه مل ير امل�صريات �إال عن طريق زوجته االجنبية‪.‬‬ ‫ومهما يكن من �أمر ف�إن �إ�صدارها هذه املجلة وا�ستمرارها يف التحرير وادارتها بنجاح‪ ،‬لهو خري‬ ‫دليل على جعل هذه املجلة تت�صدر ال�صحافة الن�سائية طوال �سنوات عدة‪ ،‬هو دليل �ساطع على‬ ‫تقدم احلركة الن�سائية يف م�صر واتخاذها مظهراً جديداً هو خروج املر�أة امل�صرية اىل ميدان الإعالم‬ ‫‪155‬‬


‫وحملها القلم تعبريا عن �آرائها نحو ق�ضايا الوطن ال�سيا�سية واالجتماعية والثقافية‪ ،‬وتناق�ش الرجل‬ ‫على ا�سا�س منطقي وت�شاركه ن�شاطه الفكري واالدبي‪.‬‬ ‫�صحيفة «الأمل»‬

‫كان ملجلة الأمل ل�صاحبتها منرية ثابت وهي من املجالت الن�سائية‪ ،‬ت�أثري وا�ضحفي تقدم احلركة‬ ‫الن�سائية اذ و�ضعت برناجما وا�ضحا ذا �أهداف �سيا�سية واجتماعية واقت�صادية‪ .‬وهي اول جملة‬ ‫ن�سائية حزبية تنحاز اىل مبادئ «حزب الوفد»‪.‬‬ ‫قالت �صاحبتها ب�أنها‪�« :‬صحيفة الدفاع عن حقوق املر�أة امل�صرية‪ ،‬و�أ�ضافت ب�أنها ان�ش�أت «�صحيفة‬ ‫الدفاع عن حقوق املر�أة امل�صرية»‪ .‬و�أن هذه ال�صحيفة يف حاجة �إىل م�ؤازرة ن�ساء م�صر وت�ضامنهن‬ ‫معها «حتى تكون املر�أة امل�صرية قدوة لن�ساء ال�شرق»‪.‬‬ ‫�أما برنامج عمل هذه املجلة فقد حددته حتت باب «ن�سائيات» وق�سمته �إىل الأهداف التالية‪:‬‬ ‫ ال�سعي �إىل ترقية التعليم االبتدائي للبنات وتو�سيع تعليمهن الثانوي‪ ،‬وا�شرتاكهن يف التعليم‬‫العايل‪.‬‬ ‫ ال�سعي �إىل حترير املر�أة امل�صرية من قيود العادات والتقاليد‪.‬‬‫ ال�سعي �إىل ن�شر ال�سفور املحت�شم وتع�ضيده‪.‬‬‫ ال�سعي �إىل تقرير متتع املر�أة با�ستقاللها ال�شخ�صي وحريتها كالرجل‪ ،‬على اال يتعدى ا�ستقالل‬‫كل منهم دائرة الأدب والف�ضيلة ونعني تقرير مبد�أ « الوحدة احلقيقية بني اجلن�سني يف دائرة‬ ‫الف�ضيلة»‪.‬‬ ‫ ال�سعي �إىل احل�صول على حق الت�صويت للمر�أة‪ ،‬ثم حق متتعها بالع�ضوية يف املجال�س النيابية‬‫على اختالفها‪.‬‬ ‫ ال�سعي �إىل ا�ست�صدار قانون بتعديل �شروط الزواج والطالق حلفظ حقوق املر�أة فيها ثم قانون‬‫�آخر ملنع تعدد الزوجات‪.‬‬ ‫وكان من الطبيعي ان يهاجم بع�ض ال�سيا�سيني ورجال م�صر منرية ثابت لآرائها التقدمية ويرمونها‬ ‫باخلروج على «الأخالق والدين باعتبارها فتاة مدللة مل تعرف الرتبية احلقيقية»‪.‬‬

‫‪156‬‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫جملة «�أمهات امل�ستقبل»‬

‫�صاحبة هذه املجلة هي تفيدة عالم‪ .‬عا�شت هذه املجلة فرتة ق�صرية امتدت من �سنة ‪� 1930‬إىل‬ ‫�سنة ‪ 1932‬فقط‪.‬‬ ‫قالت تفيدة يف معر�ض حديثها عن املجلة ب�أنها «ل�سان حال ال�شابات امل�صرية»‪ .‬ومن خالل رئا�ستها‬ ‫جلمعية‪�« :‬أمهات امل�ستقبل»‪ .‬مما جعلها تعطي �أحقية �إدارة «جملة �أمهات امل�ستقبل» خا�صة ان‬ ‫اجلمعية ت�ضم بع�ض �سيدات اجلمعية وان ت�ستحوذ على ثقة بع�ض امل�س�ؤوالت يف اجلمعية وتعهد‬ ‫اليهن الإ�شراف على حترير املجلة‪.‬‬ ‫جاء يف العدد الأول من املجلة كانون الثاين ‪ /‬يناير �سنة ‪ ،1930‬من مقال م�ستفي�ض لتفيدة ع ّالم‪.‬‬ ‫قالت‪:‬‬ ‫حد ذاته من �أبرز مظاهر التطور الذي اعرتى‬ ‫«مهما يكن من �أمر ف�إن ظهور ال�صحافة الن�سائية يف ّ‬ ‫الفكر الن�سائي يف م�صر وخرج به عن �سابق عهد حيث كان من�صباً على التفكري يف امور انثوية‬ ‫فقط اىل التفكري يف امور عامة مت�س الق�ضايا الوطنية بابعادها املختلفة‪ .‬كما ان تناول هذه ال�صحافة‬ ‫للق�ضايا الن�سائية املعا�صرة لكل منها و�إف�ساح �صفحاتها للم�ؤيدين لإجناح هذه الق�ضايا‪� ،‬أو‬ ‫حتدث بها الواقفني يف‬ ‫للمعار�ضني لها �أ�ضاء الطريق �أمام املر�أة وبينّ لها �سبل النجاح و�أمدها بقوة ّ‬ ‫�سبيلها وق�ضت على كثري من العقبات»‪.‬‬ ‫وهناك �صحف وجمالت �أخرى غري هذه التي ذكرناها فهناك‪« :‬امل�صرية» لهدى �شعراوي‪ ،‬و«الفتاة»‬ ‫لنبوية مو�سى‪ ،‬و «فتاة الغد» و «بنت النيل» كما ان هناك امتيازات �صحافية اخرى‪ .‬وقد جنحت‬ ‫ال�صحافة الن�سائية امل�صرية �إىل حد بعيد يف التعبري عن احلركة الن�سائية‪.‬‬ ‫جملة «املر�أة اجلديدة»‬

‫ون�أتي الآن للحديث عن جملة ن�سائية لبنانية رائدة حتت ا�سم‪« :‬املر�أة اجلديدة» جلوليا طعمه‬ ‫دم�شقية‪ ،‬جملة �أن�ش�أت يف �شهر ني�سان �سنة ‪ ،1921‬وامتدت يف ال�صدور حتى نهاية العام ‪1926‬‬ ‫وهي جملة ن�سائية كانت ل�سان حال‪« :‬جامعة ال�سيدات» يف بريوت‪ .‬وكان �شعار هذه املجلة‪:‬‬ ‫«جملة ن�سائية �شهرية ت�أ�س�ست يف �سنة ‪ 1921‬غايتها بث روح الرتبية اال�ستقاللية وحت�سني احلياة‬ ‫العائلية وترقية املر�أة ال�سورية �أدبياً وعلمياً واجتماعياً»‪.‬‬ ‫تزوجت جوليا يف عام ‪ 1913‬من الوجيه بدر دم�شقية من بريوت حيث انطلقت اىل املنابر اخلطابية‪،‬‬ ‫منتدى �أدبياً لأهل العلم والقلم والأدب والثقافة‬ ‫و�سكنت منطقة ر�أ�س بريوت حيث �أ�صبح منزلها ً‬ ‫‪157‬‬


‫وال�صحافة‪ .‬وكان من رواد منزلها كل من‪:‬‬ ‫�أحمد �شوقي وفار�س منر وف�ؤاد �صروف وخليل مطران وجميل �صدقي الزهاوي ونقوال واليا�س‬ ‫فيا�ض وجربان تويني ومي زيادة وماري يني وابتهاج قدورة و�سلمى �صايغ وعنربة �سالم وف�ؤاد‬ ‫حبي�ش ومي�شال زكور و�أمني تقي الدين‪.‬‬ ‫كما كانت على معرفة ببع�ض �أ�ساتذة اجلامعة االمريكية يف بريوت �أمثال‪ :‬جرب �ضومط وجرج�س‬ ‫اخلوري املقد�سي وبول�س اخلويل و�أني�س اخلوري املقد�سي و�شحادة �شحاده ونقوال ربيز وابراهيم‬ ‫طوقان وغريهم‪.‬‬ ‫قامت جوليا ببع�ض الن�شاطات االجتماعية وحت�ضري اللقاءات واالجتماعات وح�ضور امل�ؤمترات بني‬ ‫�سنة ‪ 1925‬و ‪.1935‬‬ ‫�سافرت اىل م�صر مع ماري ك�ساب يف �سنة ‪ ،1927‬وجمعت بع�ض االموال دعماً للمدر�سة االهلية‬ ‫يف بريوت وجملة «املر�أة اجلديدة» ومثلت لبنان يف امل�ؤمتر الن�سائي الذي �أقيم يف ا�سطمبول‪ .‬ويف‬ ‫�سنة ‪ 1947‬منحها رئي�س اجلمهورية اللبنانية ال�شيخ ب�شارة اخلوري و�سام االرز املذهب‪.‬‬ ‫�أما الك ّتاب الذين كتبوا يف هذه املجلة فنذكر منهم‪:‬‬ ‫�أحمد �شوقي وراجي الراعي و�سليم �سركي�س وميخائيل نعيمة و�أمني تقي الدين واليا�س فيا�ض‬ ‫ووديع عقل و�سعيد تقي الدين وخليل مطران ومي�شال ابو �شهال ونقوال حداد و�سلمى �صائغ‬ ‫وماري يني وجوزف �أبو خاطر وجرجي نقوال باز و�أحمد حمرم وماري عجمي وويل الدين يكن‬ ‫وجرب �ضومط وعي�سى ا�سكندر املعلوف وطانيو�س عبده و�سليمان �أبو عز الدين وحميي الدين‬ ‫الن�صويل وحليم دمو�س و�أمني الغريب ومـــي زيادة وحممد كامل �شعيب العاملي وغريهم كثري‪.‬‬ ‫�صدرت املجلة �شهرياً وكانت تطبع يف مطبعة زنكوغراف طبارة‪ ،‬ومركزها بريوت‪� ،‬سوق �أيا�س‪،‬‬ ‫واملدير امل�س�ؤول‪ :‬ف�ؤاد مغبغب‪ ،‬وقيمة اال�شرتاك ال�سنوي ‪ 250‬غر�شاً �سورياً يف �سورية ولرية انكليزية‬ ‫يف اخلارج‪.‬‬ ‫وقد وجهت �إدارة املجلة يف �أعدادها الأوىل الإعالم التايل �إىل جميع قرائها وم�شرتكيها البيان‬ ‫التايل‪:‬‬ ‫«املر�أة اجلديدة» جملة العائلة تفيد الأم والزوجة والفتاة والولد‪ ..‬مبوا�ضيعها التهذيبية‪ ،‬و�أبحاثها‬ ‫املنزلية‪ ،‬وحكاياتها االخالقية‪ ،‬فهي �أف�ضل هدية يقدمها ال�صديق ل�صديقه والقريب لقريبه»‪.‬‬ ‫ويف عدد كانون الثاين من �سنة ‪ ،1927‬ن�شرت قائمة اليانا�صيب االوىل ملجلة املر�أة اجلديدة‪� ،‬أي يف‬ ‫كل عدد من اعداد املجلة توجد ورقة يانا�صيب مرقمة‪ ،‬ذات فائدة ل�صاحب احلظ‪ ،‬وادرجت يف‬ ‫العدد اجلوائز املقدمة من املحالت وامل�ؤ�س�سات‪.‬‬ ‫‪158‬‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫ويف �سنة ‪� 1926‬أقعد املر�ض جوليا طعمه دم�شقية فكانت تطلق �صيحات مدوية مع مقالها ال�شهري»‬ ‫«يا ابنة بالدي» تتناول منه موا�ضيع اجتماعية خمتلفة من ت�أمالت وخواطر وذكريات وو�صايا‬ ‫ومعلومات عن املر�أة واملجتمع واالخالق‪ ،‬متوخية االلتزام بق�ضايا املر�أة واملجتمع عرب �إ�صالحية‬ ‫ومنهجية دعاة التقومي واال�صالح والبناء‪.‬‬ ‫�آمنت جوليا طعمه دم�شقية باملبادئ ال�سامية ونعمة احلرية ووحدة ال�شعب‪ ،‬وان الطائفية جدار‬ ‫يحول دون انطالق هذه الوحدة يف جمال التعاون املثمر بني �أبناء الوطن الواحد‪ .‬ف�أعطت للوطن‬ ‫كل طاقاتها طاقة الل�سان والقلم واجلنان‪ ،‬والدعوة املخل�صة اىل املحبة والإخاء وال�سالم والتعاون‪.‬‬ ‫يعد مظهر َا من �أبرز مظاهر‬ ‫حد ذاته ّ‬ ‫ومهما يكن من �أمر ف�إن ظهور ال�صحافة الن�سائية العربية يف ّ‬ ‫التطور والرقي الذي �أ�صاب الفكر الن�سائي يف كل من م�صر ولبنان و�سورية وبع�ض البلدان العربية‪،‬‬ ‫وكان �أثره فعا ًال يف املجتمعات العربية‪ ،‬كما ان تناول هذه ال�صحافة للق�ضايا الن�سائية املعا�صرة‬ ‫و�إف�ساح �صفحاتها للم�ؤيدين واملطالبني ب�إعطاء املر�أة حقوقها هو الأمر الذي ميهد �أمام املر�أة بلوغ ما‬ ‫تريد ومتهيد �سبل النجاح لإي�صال كلمتها �إىل الر�أي العام العربي وتذليل العقبات من مثل حق‬ ‫الت�صويت والتمثيل يف املجال�س النيابية والق�ضاء على تعدد الزوجات واحلد من الطالق‪ ،‬وت�س ّلم‬ ‫املنا�صب الرفيعة يف الدولة ال�صغرى منها والكربى‪ ،‬وما كان هذا يخطر ببال الرواد الأوائل للحركة‬ ‫الن�سائية يف القرن املا�ضي وما كان ليحدث لوال وجود ال�صحافة الن�سائية التي جنحت يف التعبري‬ ‫عن �آرائها و�أفكارها وتطلعاتها‪ .‬كما كان هناك ميدان ف�سيح لتدريب بع�ض العنا�صر من احلركة‬ ‫الن�سائية و�صقلها‪ ،‬وما كان هذا متاحاً للن�ساء يف جماالت غري جمال ال�صحافة الن�سائية‪ ،‬وكان‬ ‫لعدد من الن�ساء ف�ضل كبري على احل�ضارة �أمثال‪ :‬لبيبة �أحمد ونبوية مو�سى وعائ�شة عبد الرحمن‬ ‫ومي زيادة والك�سندرة اخلوري افرينو وملكة �سعد ولويزا حبالني وروز انطون حداد وحبوبة حداد‬ ‫وزينب فواز و�أمينة اخلوري املقد�سي وعفيفة �صعب وابتهاج قدورة وزاهية �سلمان وعائ�شة التيمورية‬ ‫ولبيبة ميخائيل �صوايا وعفيفة كرم و�سلمى �صائغ ونظرية زين الدين‪ .‬وغريهن من العائالت يف‬ ‫ال�ش�ؤون الن�سائية‪.‬‬ ‫بذلت املر�أة جهوداً يف �سبييل ت�أكيد مكانتها الطبيعية يف احلياة اىل جانب جهودها يف جماالت العلم‬ ‫والعمل‪ ،‬بحيث غريت نظرة املجتمع اليها‪ ،‬و ّحتمل امل�سو�ؤليات امللقاة على عاتقها‪ ،‬فا�ستطاعت ان‬ ‫حترر نف�سها مادياً ومعنوياً‪ ،‬وان تكافح من �أجل تطوير املجتمع على �أ�سا�س العدالة واملنطق وتكاف�ؤ‬ ‫الفر�ص بني كال اجلن�سني‪.‬‬ ‫وقد ر�أينا اليوم �أن املر�أة قد تقدمت ف�أ�صبحت نائباً ووزيرة وم�س�ؤولة يف الإدارات الر�سمية ويف‬ ‫رئا�سة ال�شركات ويف اقت�صاديات البالد بل على قواعد و�أ�س�س احلياة العربية ب�أبعادها املختلفة‪.‬‬

‫‪159‬‬


‫ا�سم الكتاب‬

‫تهجري املوارنة اىل اجلزائر‬ ‫عروبة يو�سف بك كرم‬ ‫عوملتان الفو�ضى واملقاومة‬ ‫الفل�سطينيون يف لبنان‬ ‫االن�سان اوال‬ ‫الهوية وال�صراع‬ ‫رحيل يف ج�سد‬ ‫الف�ساد امل�ؤدلج‬ ‫ال�صناعة يف طرابل�س‬ ‫التحية االخرية‬ ‫لبنان يف ذاكرة العراق القدمي‬ ‫علم االجتماع ال�سيا�سي‬ ‫�أحالم املاء‬ ‫ناق�صات عقل و دين‬ ‫التطبيع ي�سري يف دمك‬ ‫اوف الين‬ ‫حي التنك‬ ‫بابل والتوراة‬ ‫ال�سيا�سة تطور املعنى وتنوع املقرتبات‬ ‫حب بطعم القهوة‬ ‫امل�سرح العاري‬ ‫التنمية يف الهالل اخل�صيب‬ ‫ال�سقف‬ ‫‪ 90‬يوما يف ال�سعودية‬ ‫جهاد النكاح‬ ‫مناي‬ ‫يف مواجهة الطائفية‬ ‫لأين مل �أكن‬ ‫مار مارون واملوارنة‬ ‫�شعر الفداء واالنبعاث‬

‫ا�سم الكاتب‬

‫�سركي�س �أبو زيد‬ ‫�سركي�س �أبو زيد‬ ‫�سركي�س �أبو زيد‬ ‫�شوكت �أ�شتي وغازي خلف‬ ‫�سركي�س �أبو زيد‬ ‫زهري فيا�ض‬ ‫زاهر العري�ضي‬ ‫د‪ .‬قي�س جرج�س‬ ‫منري خملوف‬ ‫من�صور عازار‬ ‫الأب �سهيل قا�شا‬ ‫�شوكت �أ�شتي‬ ‫�سوريا بدور الطويلة‬ ‫يحيى جابر‬ ‫د‪ .‬عادل �سمارة‬ ‫زاهر العري�ضي‬ ‫اكرام الداعوق‬ ‫الأب �سهيل قا�شا‬ ‫�شوكت �أ�شتي‬ ‫جومانة معالوي‬ ‫عبيدة االبراهيم‬ ‫زهري فيا�ض‬ ‫ريا�ض بيد�س‬ ‫�أ�سماء وهبة‬ ‫د‪.‬عادل �سمارة‬ ‫فايز غازي‬ ‫�سركي�س �أبو زيد‬ ‫ن�سرين كمال‬ ‫�سركي�س �أبو زيد‬ ‫زيتوين‬ ‫ل�ؤي ف�ؤاد‬ ‫ّ‬

‫كتب حتت الطبع‬ ‫منرب حتوالت ‪ -‬من�صور عازار‬ ‫الفي�سبوك وت�شكيل العالقات االجتماعية ‪ -‬وفاء كاظم حطيط‬

‫الت�صنيف‬

‫تاريخ‬ ‫بيبلوغرافيا‬ ‫فكر �سيا�سي‬ ‫فكر �سيا�سي‬ ‫فكر �سيا�سي‬ ‫فكر �سيا�سي‬ ‫�أدب‬ ‫فكر �سيا�سي‬ ‫اقت�صاد‬ ‫مذكرات‬ ‫تاريخ‬ ‫علم اجتماع‬ ‫�أدب‬ ‫فكر �سيا�سي‬ ‫فكر �سيا�سي‬ ‫�شعر‬ ‫�أدب‬ ‫دين‬ ‫فكر �سيا�سي‬ ‫�أدب‬ ‫�شعر‬ ‫اقت�صاد‬ ‫�أدب‬ ‫مذكرات‬ ‫فكر �سيا�سي‬ ‫�شعر‬ ‫فكر‬ ‫�شعر‬ ‫تاريخ‬ ‫�أدب‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫منري خوري مرياث ال ينفد‬ ‫�سليمان بختي ‪ -‬نا�شر وباحث‬

‫«منري خوري‪ ،‬املنا�ضل يف �صفوف النه�ضة‪ ،‬والأكادميي وخبري التنمية الريفية غادر دنيانا لكنه ترك‬ ‫لأبناء احلياة مرياثاً من ال�صدق والعطاء والقدوة الإيحائية الينفد‪.‬‬ ‫منري خوري من اجلامعة �إىل احلزب �إىل ال�سجن �إىل الأمم املتحدة مفعماً بالأ�صالة والإميان والر�ؤية»‪.‬‬ ‫لبث منري خوري ‪( 2014-1920‬حائز و�سام املعارف ‪ )1988‬يبحث عن القدوة الإيحائية يف‬ ‫املجتمع حتى وجدها يف نف�سه ور�أيناها فيه‪ .‬ورجال التاريخ هم الذين �أوحوا وا�ستوحوا وكانوا‬ ‫القدوة‪ .‬لو قدر يل �أن �أخت�صر هذه احلياة بكلمتني لقلت‪ :‬العطاء واحلب‪.‬‬ ‫ولد منري خوري يف طرابل�س ودر�س يف مدر�سة طرابل�س لل�صبيان ثم �أكمل درا�سته يف امريكا حيث‬ ‫نال �شهادة الدكتوراه من جامعة كورنيل نيويورك‪� .‬أعطى منري خوري يف املجال الرتبوي اجلامعي‬ ‫فد ّر�س يف اجلامعة االمريكية ‪ 1960-1956‬ويف اجلامعة اللبنانية ويف اجلامعة اللبنانية االمريكية‬ ‫وتخرج على‬ ‫وتر�أ�س ق�سم العلوم الأجتماعية فيها عام ‪ 1970‬وا�ستمر حتى تقاعد يف العام ‪ّ 1995‬‬ ‫يديه ع�شرات التالميذ والباحثني‪.‬‬ ‫�أعطى يف جمال التنمية الريفية ويف رابطة انعا�ش القرى يف عكار والبقاع واجلنوب وكان �أحد رواد‬ ‫التنمية الريفية‪ .‬ولكن التجربة توقفت للأ�سف بعدما �أحرِق بيته و ُن�سف يف �أحداث ‪ 1958‬ولكن‬ ‫�شغفه بالتنمية الريفية ا�ستمر من خالل امل�ؤمترات والدرا�سات حتى عينته الأمم املتحدة خبرياً‬ ‫�إقليمياً لها يف حقل التنمية االجتماعية والريفية ‪.1962-1961‬‬ ‫�أعطى يف املجال احلزبي منا�ض ًال يف �صفوف النه�ضة وكان ع�ضواً يف املجل�س الأعلى للحزب ال�سوري‬ ‫القومي االجتماعي الذي وافق على املحاولة االنقالبية ليل ‪( 1962-1961‬عهد ف�ؤاد �شهاب)‬ ‫وحكم عليه بال�سجن لثماين �سنوات‪ .‬ثم تبو�أ رئا�سة احلزب مع ع�صام حمايري يف الثمانينيات‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫له درا�سات وم�ؤلفات نذكر منها‪« :‬الواقع وامل�صري (‪« ،»)1982‬ما هي علة لبنان» باالنكليزية والعربية‬ ‫(‪�« ،»)1990‬سفينة حياتي (‪« ،»)2000‬حدود املجتمع (‪( Fate of Lebanon « ،»)2005‬باالنكليزية ‪،»)2008‬‬ ‫«يف التنمية الريفية (نظرة يف املفاهيم واال�شكاالت (‪� ،»)2009‬إ�ضافة اىل العديد من املقاالت واملحا�ضرات‪.‬‬ ‫‪161‬‬


‫وقد حملت كتبه ودرا�ساته دائماً اال�ضافة املعرفية والتجديدية النابعة من املعاناة الذاتية واملو�ضوعية‪.‬‬ ‫ويف ظني �أنه ما كان له ليحقق كل ذلك لوال احلب‪ .‬حب الآخر‪ ،‬حب املجتمع‪� ،‬شغف النه�ضة‪،‬‬ ‫حب قيم احلق واخلري واجلمال‪� .‬أعطى بحب فوق ما �أخذ بكثري ومل يعرف الأخذ‪ .‬ومل يطلب �أمراً‬ ‫لنف�سه من �أمور الدنيا وظل نقياً �شفافاً و�صاحب �سرية عطرة من الوالدة حتى الوداع‪.‬‬ ‫عا�ش منري خوري حياة حقيقية مثقلة باخلري مليئة بالأمل والكفاح واملرارة والأمل‪� .‬أرادها متم�سكاً‬ ‫بنا�صية العقل‪ ،‬بااللتزام بق�ضايا املجتمع‪ ،‬بالعمل لتحقيق الإجنازات‪ .‬وما �أراد ان يقوله فعله‪.‬‬ ‫ح ّول �سجن القبة يف طرابل�س �إىل خلية منتجة فكراً وثقافة و�صناعة وفناً وغال ًال‪ .‬و�صار امل�ساجني‬ ‫ي�ساعدون �أهاليهم مادياً‪ .‬وكانت جتربة رائدة يف ال�سجون اللبنانية ف�أ�ستدعاه العقيد غابي حلود و�س�أله‬ ‫كيف ا�ستطعتم ان ت�صلوا اىل هذا امل�ستوى من التنظيم والإنتاجية؟ ف�أجابه‪« :‬الف�ضل يعود اىل الروح‬ ‫النظامية والعتناقهم العقيدة القومية االجتماعية»‪ .‬وتوقف احلوار‪ .‬كانت لديه القدرة على اخلروج‬ ‫من نف�سه باحلب للقاء الإن�سان الآخر والأحالم امل�شرتكة‪ ،‬وكل ما يعود باخلري على الإن�سان واملجتمع‪.‬‬ ‫كان مع املعرفة العلمية ولكن مع التطبيقات االخالقية ال�سليمة لها‪ .‬كان مع احلقيقة ولكن ان تُعلن وتُقال‬ ‫و ُيعمل مبقت�ضاها‪ .‬كان مع االخت�صا�ص ولكن مع االخال�ص يف ممار�سته‪ .‬كان مع التغيري ولكن مع التقدم‬ ‫لأنه �أمر �أخالقي‪ .‬كان مع الرتبية كقيمة تربوية ال ك�سلعة جتارية تو�صلنا بالنهاية اىل االنف�صام احل�ضاري‪.‬‬ ‫كان مع التنمية ولكن القائمة على الإن�سان وعلى التوازن ال�شامل واملنطلقة من اجلذور يف القرى‪.‬‬ ‫ويف جممل �صفاته كان بنا ًء وان�صرف للتعبري با�سم اجلميع با�سم ال�صواب واحلق والر�أي‪.‬‬ ‫وظل ي�شري �إىل اجلرح و ُي�شهر الوعي ويدل الآخرين اىل الطريق‪ ،‬اىل الينبوع لي�شرب احلائر‬ ‫والظم�آن‪ .‬وعينه كانت على الغد وذرى الفكر‪ ،‬على اال�صالح والتنوير والتقدم‪.‬‬ ‫ظل منري خوري يقود �سفينته اىل اللحظة التي بانت فيها احلياة بدون جدوى‪ .‬دخل بيت ال�صمت وو�ضع‬ ‫�أمام املوت ك�أ�س حياته املرتعة وكل ح�صاد الكروم و�سنابل القمح وليايل التعب والكد والعذاب‪.‬‬ ‫يف �آخر الأيام لبث طيباً نقياً و�أمام الطيبة ال ميلك املرء �سوى اال�ست�سالم‪� .‬سنظل نذكر ال�صفات‬ ‫واملزايا والر�ؤى التي جعلت حياته تنه�ض دائماً لأجل هدف وغاية و�أمل‪.‬‬ ‫لعل الأمثولة التي تركها لنا منري خوري �أن احلياة ت�صنعها الق�ضية‪ ،‬و�أننا ال ن�ستحق احلياة �إذا مل‬ ‫ن�صنعها كما نريد من اولها حتى �آخرها‪ .‬و�أن ال�صدق والتفاين والإخال�ص يخلق الفر�ص‪ .‬وان‬ ‫لي�س التاريخ كل ما متلكه الب�شرية فهناك مرياث الكلمة ومرياث القيم‪ ،‬و�أحالم الب�شر وحمبتهم‪.‬‬ ‫�سنظل نرنو للعطاء ينه�ض بنا وننه�ض به‪ ،‬نغتبط للحب‪ ،‬ن�أ�سى للمر�ض الذي ظلمك وظلمنا‬ ‫يف ال�سنوات الأخرية‪ .‬ولكن الأيقونة �ستظل تتوهج وتبزغ كالأمل‪ ،‬كالأ�صالة‪ ،‬كحلم النه�ضة‪،‬‬ ‫كالبريق امل�ستحيل‪.‬‬ ‫‪162‬‬


‫احلرب العاملية ا لأوىل‬

‫يف وداع املا�ضي وامل�ستقبل‬

‫احلرب العاملية الأوىل خداع ثقايف ب�شهادة احلا�رض‬

‫جنيب ن�صري ‪ -‬باحث‬

‫ميكن النظر �إىل احلروب من مئات الزوايا ح�سب املكان والزمان‪ ،‬كما ميكن النظر �إليها من �شتى‬ ‫املنابت واملعايري الثقافية املعلوماتية واملعرفية‪ ،‬فاحلرب حتى ولو مل تكن فع ًال ا�ستثنائيا يف احلياة‬ ‫الب�شرية‪� ،‬إال �أنها فعل �أق�صى ميلأ الفراغ بني النظري والعملي يف �سباق امل�صالح‪ ،‬ولعل احلرب‬ ‫العاملية الأوىل كفعل «غربي» بامتياز كانت تعبرياً عن ذاك االحتقان الثقايف الذي انتجه فائ�ض‬ ‫امل�شخ�صة‪ ،‬ما عرب عن ان�سداد ت�سويقي لثقافة‬ ‫القوة املعرفية يف جتلياتها التكنولوجية املجردة قبل ّ‬ ‫ع�صر النه�ضة وجتلياتها ونتائجها كمنتجات فائ�ضة‪ ،‬لتو�صف هذه احلرب باحلرب من �أجل التجارة‪،‬‬ ‫من هذه الزاوية ميكننا النظر اىل هذه احلرب كنتائج و م�آالت ثقافية �أودت بامل�شرق اىل ما فيه الآن‪.‬‬ ‫فهذه احلرب د�شنت التغريات الثقافية اعتباراً من بدايتها‪ ،‬بناء على احتياجات �أطرافها املحلية‬ ‫ال�صرفة يف �سباق حمموم نحو الأ�سواق؟ �إنها الأ�سواق التي حتتاج �إىل ثقافة من نوع معني ودرجة‬ ‫معينة كي ت�ستوعب ال�سلعة الغربية‪� ،‬أو بالأحرى �سلعة ع�صر الأنوار العاملية‪ ،‬فهذه ال�سلع حتتاج‬ ‫م�شخ�صة‪ ،‬دون املخاطرة بفقدان‬ ‫�إىل حد �أدنى من ثقافة ت�ؤ ّهلها لال�ستهالك بو�صفها تكنولوجيات ّ‬ ‫امل�ستهلك يف حال حاز على املعرفة الأنوارية‪ ،‬فكلما ازدادت هذه املعرفة ارتقت وت�ضاعفت �أنواع‬ ‫ونوعيات الإ�ستهالك‪ ،‬ومن هذه الزاوية ميكننا النظر(وتذكر) هذه احلرب‪ ،‬فبينما كانت املدافع‬ ‫تق�صف كان امل�ست�شرقون ي�ستكملون درا�ساتهم الأنرتوبولوجية‪ ،‬والإجتماعية يف العديد من‬ ‫مناطق العامل‪ ،‬م�ستخدمني مناهجهم العلمية كتكنولوجيا‪ ،‬تاركني عملية �إح�صاء وتقدير كمية‬ ‫ونوعية الأفواه التي �ستتناول منتجاتهم لدولهم التي ت�أ�س�ست على تكنولوجيات ع�صر الأنوار‪،‬‬ ‫مقرتحني �أجنع ال�سبل للو�صول �إىل تلك الأفواه وربطها مع فائ�ض القوة املعرفية املتمثلة بالإنتاج‪،‬‬ ‫حتى ال ي�صنع تكد�س فائ�ض القوة املعرفية هذا فراغاً يجب ميلأه العنف الإجتماعي على �أقل‬ ‫تقدير‪� ،‬أو الدويل على املدى الأبعد‪.‬‬ ‫‪163‬‬


‫يهمنا من ّ‬ ‫تذكر هذه احلرب‪ ،‬يف ذكراها املئوية الأوىل‪ ،‬هو م�آل منطقتنا التي مل ت�شارك يف هذه‬ ‫ما ّ‬ ‫احلرب كطرف ذي م�صلحة على الرغم من ت�أثّر م�صاحلها ب�شدة‪ ،‬ال بل تقرر م�صريها (ورمبا �إىل‬ ‫الأبد) كمفعول به‪ ،‬بناء على احليز الإنتاجي الذي �سوف ت�شغله م�ستقب ًال‪� ،‬أو ب�صياغة �أخرى‪،‬‬ ‫تقدير معريف لفائ�ض القوة التي ميكن �أن تتوفر الحقاً‪ ،‬يف حتول بنيوي ملفهوم الإ�ستعمار وال�سيطرة‪،‬‬ ‫الذي يت�ضمن وي�ضمن م�ستقبله �أي�ضاً‪ ،‬الذي �سوف يتح ّول رويداً �إىل مفهوم «الرميوت كونرتولية»‬ ‫�أو ّ‬ ‫التحكم عن بعد‪ ،‬الناجت عن الإقبال على �إ�ستهالك امل�شخ�ص من التكنولوجيات والإعتياد‬ ‫عليها‪ ،‬والإعرا�ض عن املجرد منها ككتلة معرفية �صعبة اله�ضم‪ ،‬يف �إ�شارة �أنرتوبولوجية اىل اجلينات‬ ‫الثقافية التي ميكن احلفاظ ذاتياً عليها دون تكاليف تذكر‪ ،‬كب�ؤرة تلقي لأوامر التحكم عن بعد‪ ،‬يف‬ ‫ا�ستخدام ما بعد كولونيايل لهذه اجلينات الثقافية املر�صودة واملدرو�سة وفق املناهج الأنوارية‪ ،‬التي‬ ‫هي وباملنا�سبة‪ ،‬مل تكن ممنوعة على �أحد من القادرين على حتمل اجلرعات العلمية ال�صادمة للجني‬ ‫الثقايف‪ ،‬الذي تعر�ض الغرب نف�سه لها‪ ،‬وا�ستطاع بجهد كبري تقبلها وتفعيلها خالل ال�سنوات التي‬ ‫تلت الثورة الفرن�سية‪.‬‬ ‫مل تكن هذه اجلرعات العلمية‪ ،‬كتكنولوجيات جمردة‪ ،‬بعيدة عن متناول املنطقة وال هي باملمنوعة‬ ‫عليها‪ ،‬فع�صر النه�ضة ونخبته‪ ،‬ابتداء من ‪ 1850‬كان قد تلقى هذه اجلرعات‪ ،‬و�أعاد �إنتاجها نظرياً على‬ ‫الأقل‪ ،‬يف خ�ضم ال�صراع الغربي على الأ�سواق الذي �أدى حتديث هذه الأ�سواق (قناة ال�سوي�س‪،‬‬ ‫واخلط احلديدي برلني ‪ /‬دلهي‪ ،‬مثا ًال) ولرمبا كان لفرن�سي�س مرا�ش احللبي ق�صب ال�سبق يف روايته‬ ‫(غابة احلق) حول الثقافة الت�أ�سي�سية ملجتمع احلداثة املطلوب‪ ،‬عرب مقاربة مو�ضوع ترافق ا�ستخدام‬ ‫التكنولوجيات امل�شخ�صة واملج ّردة معاً وبال�ضرورة وبكل �إخال�ص‪ ،‬حيث بدت تلك اجلرعات‬ ‫الثقافية والعمل عليها والأخذ بها‪ ،‬كفر�صة من ال�صعب تكرارها‪ ،‬ب�سبب طبيعتها الت�أ�سي�سية‬ ‫من جهة‪ ،‬وب�سبب و�ضوح م�آالت الرتاكم املعريف العاملي التي �سوف يحوز عليها ويعيد �إنتاجها‬ ‫وا�ستخدامها‪ ،‬من هو قادر على ممار�ستها والتفاعل معها وتفعيلها ل�صاحله‪ ،‬كقوة ذكية بغ�ض النظر‬ ‫عن عنفها الفيزيائي �إذا وجد‪ .‬ومع ح�ضور احلرب العاملية الأوىل بق�سرها الفيزيائي‪ ،‬كانت البنية‬ ‫املعرفية ل�شرقنا العتيد قد هزمت وحت ّولت طوراً خائبا من �أطوار ثقافة‪ ،‬مل حتتمل جيناتها اجلرعات‬ ‫املعرفية‪ ،‬فف�شلت (وحتى الآن) يف ا�ستقبال �سايك�س‪ /‬بيكو‪ ،‬والحقاً وعد بلفور ومن قبلهما م�ؤمتر‬ ‫بال ال�صهيوين الأول ‪ 1897‬كتكنولوجيات جمردة قادرة على حتقيق �أهدافها على الأر�ض‪ ،‬حيث‬ ‫�صدقت تقارير امل�ست�شرقني ودرا�ستهم عمليا وعلى �أر�ض الواقع‪ ،‬ومل ي�ستطع امل�شرقيون حتى‬ ‫يومنا هذا (ح�سب توقعات ه�ؤالء امل�ست�شرقون) من ا�ستيعاب التكنولوجيات املج ّردة (من �أهمها‬ ‫املجتمع والدولة) ح ّتى يومنا هذا‪.‬‬ ‫عملياً تبدو «الثورة» العربية الكربى‪ ،‬هي اجلزء امل�شرقي من الفعاليات احلربية للحرب العاملية‬ ‫الأوىل‪ ،‬على اجلبهة الرتكية الإنكليزية حتديداً‪ ،‬فهي من ناحية ت�أثريها التغيريي �أكرث و�ضوحاً‬ ‫من ت�أثري حرب الرتعة (قناة ال�سوي�س) و�سفر برلك معاً على املنطقة‪ ،‬هذه «الثورة» التي قادتها‬ ‫‪164‬‬


‫احلرب العاملية الأوىل‬

‫بريطانيا من موقعها امل�صري‪ ،‬عرب مكماهون كتقني �سيا�سي خا�ضع ملكت�شفات امل�ست�شرقني‬ ‫الأنرتوبولوجيني العلمية‪ ،‬ولوران�س العرب الذي قاد املعارك كتقني معريف عرف كيف يحرك‬ ‫الأمور بناء علمه بالطبائع الثقافية لأهل املنطقة من بالد ال�شام حتى جند واحلجاز و�صحرائهما‬ ‫املحيطة‪ ،‬يف ا�ستخدام عملي للتكنولوجيا املجردة‪ ،‬التي ترافقت مع العمليات احلربية كتكنولوجيا‬ ‫م�شخ�صة‪ ،‬حيث ّ‬ ‫غطى الإنكليز النق�ص امل�شرقي يف هذه التكنولوجيا املجردة‪ ،‬من حيث ت�أمني‬ ‫الأر�ضية الثقافية (العرب �أمة واحدة) ومن ثم ا�ستغاللها‪ ،‬ليتم ت�صنيع �أر�ضية ثقافية �إيديولوجية‬ ‫مواربة وموظفة للح�صول على �أرا�ضي �سايك�س بيكو وتقا�سمها‪ ،‬فتم ت�صنيع العروبة مبعناها‬ ‫البداهي‪ ،‬غري الإرادي‪ ،‬على �أ�سا�س اننا �أمام �أ ّمة مكتملة‪ ،‬من دون املرور يف حمطة املجتمع‪ ،‬مبعنى‬ ‫�أن الأ ّمة الواحدة هي جمتمع واحد وهو �أمر ال يخفى على انرتوبولوجي �أو حقوقي!‪ ،‬وا�ستعملت‬ ‫العروبة كو�صفة ثقافية مرجتلة تقوم مرحلياً (ريثما يتم الإقت�سام) بدورها كتكنولوجيا مب�سطة قابلة‬ ‫للإ�ستيعاب من قبل �شعوب مل تتعر�ض لإ�شعاع ع�صر الأنوار (وترف�ض التعر�ض اىل يومنا هذا)‪،‬‬ ‫يف ا�ستثمار جمحف وغ�شا�ش لثقافة �شعبية ما قبل تكنولوجية‪ ،‬ت�ستطيع منظومة �سايك�س‪ /‬بيكو‬ ‫عربها تفكيك العالقة العثمانية مع �شعب املنطقة امل�سماة الهالل اخل�صيب ل�صالح مملكة عربية‬ ‫واحدة قوامها الزعامة الدينية‪ /‬اللغوية‪ ،‬يف وقت كانت �إنكلرتة والغرب عموماً قد جتاوز و�أ�سقط‬ ‫من ح�سابه هكذا تكنولوجيات يف عملية ت�أ�سي�س جمتمعاتهم م�ستخدمني ثقافة حداثية �صاحلة‬ ‫لإقامة م�شروع املجتمع‪ /‬الأمة املنتجة‪ ،‬ولعل عملية اخلداع الكربى كانت ثقافية بامتياز‪ ،‬عرب‬ ‫دعم حرمان الهالل اخل�صيب والعربة معاً من تكنولوجيات الإجتماع الب�شري‪ ،‬التي عبرّ مبرارة‬ ‫عنها امللك في�صل الأول بخذالن الإنكليز والدول املنت�صرة يف احلرب بتخليهم عن هذه العروبة‬ ‫(بتن�صيبه ملكاً على مملكة عربية واحدة)‪ -‬بنكوثهم بعهدهم بت�أ�سي�س �أمة عربية له‪ ،‬يف هذا‬‫املجال بال�ضبط �أي يف املجال الثقايف حتديداًيظهر ا�ستثمار «الثورة» العربية كمعرفة تكنولوجية‬ ‫واهية‪( ،‬نظراً ل�ضرورة الثقايف حتى ولو كان واهياً)‪ ،‬ولي�س يف تفكيك «الوحدة العربية» �أو بحرمانه‬ ‫من عر�ش هذه اململكة كما ر�آها جاللته‪ ،‬وال يف ا�ستبدال الإحتالل الغربي بالإحتالل العثماين‪،‬‬ ‫والتي توجها (�أي اخلديعة الثقافية) امللك في�صل ذاته بتوقيع وثيقة في�صل‪ /‬وايزمن ال�شهرية‪،‬‬ ‫ت�أكيداً على واهية اجلرعة املعرفية التي اعتمدت ك�أر�ضية تكنولوجية من النوع املجرد للثورة‪،‬‬ ‫والتي توازي وت�ساوي متاماً هزمية رجال النه�ضة و�سايك�س بيكو ووعد بلفور من حيث املبنى‬ ‫الثقايف لها‪ ،‬التي انتهت �إىل احلرمان من تكنولوجيا ت�أ�سي�س املجتمعات‪ ،‬حيث جتلت وب�سرعة‬ ‫نتائج ف�شل م�ساعي رجال النه�ضة (بعد الثورة) يف ا�ستحداث قابلية ال�ستعمال التكنولوجيات‬ ‫املجردة‪ ،‬لأ�سباب حملية متاماً‪ ،‬مهدت وان�سجمت مع التطلعات الإ�ستعمارية بوجهه الإنتدابي‪،‬‬ ‫وا�ستمرت العروبة كمنتج من منتجات احلرب العاملية الأوىل دون فعالية ايجابية تذكر‪ ،‬على‬ ‫امل�ستويات البنيوية وغريها لغاية يومنا هذا‪ ،‬حتى �أنها مل ت�ستطع حتى اليوم �أن حتقق �أدنى غاياتها‬ ‫بدائية �أو �أكرثها �أولوية بالن�سبة لها‪.‬‬ ‫‪165‬‬


‫يف امل�شهد الثاين من احلرب العاملية الأوىل وك�أحد نتائجها كانت ع�صبة الأمم‪ ،‬وو�ضع مفهوم‬ ‫الإنتداب‪ ،‬فع�صبة الأمم (كما الأمم املتحدة بعد احلرب العاملية الثانية) وجدت لتن�سيق امل�صالح‬ ‫واالقت�سامات بني املجتمعات املنتجة املتناف�سة‪ ،‬خالقة حتديات احل�ضور احلقيقي للمجتمعات‬ ‫النامية‪ ،‬كغاية عليها الإجتاه نحوها بامل�سارعة اىل ت�أ�سي�س املجتمع القادر على توليد دولة‪ ،‬ولعل‬ ‫احلرد الثقايف‪� ،‬أو احلرد من ثقافة ع�صر الأنوار هو �سبب رئي�سي يف بقاء الهالل اخل�صيب يف هذا‬ ‫القاع احل�ضاري �إىل يومنا هذا‪ ،‬و�أي�ضاً كان ال�سبب الرئي�سي يف اخرتاع فكرة الإنتداب‪ ،‬فالإنتداب‬ ‫قو ًال وفع ًال هو احتالل وا�ستعمار على كافة امل�ستويات ومبباركة ع�صبة الأمم من جهة ومبباركة‬ ‫الفراغ الثقايف من جهة �أخرى‪( ،‬امل�ضحك املبكي �أن هذه التجمهرات الب�شرية امل�شرقية كانت‬ ‫وما زالت ت�شعر بالإكتمال املعريف‪� ،)...‬إذ كان ال بد من ت�صنيع بنية تكنولوجية جمردة ولو‬ ‫كانت مب�سطة قادرة علىالإرتقاء مب�ستوى الإ�ستهالك‪ ،‬ليقارب بطريقة ما فوائ�ض الإنتاج لديها‬ ‫من التكنولوجيات امل�شخ�صة وهنا كانت اخلديعة الثقافية الثانية‪ ،‬وب�سبب الإنتداب عرف‬ ‫امل�شرقيون الد�ستور والربملان وال�سلطات احلكومية واملدار�س‪ ،‬يقابلها م�شخ�صا م�ؤ�س�سات املياه‬ ‫والكهرباء والرتومواي وال�سيارات وماكينات اخلياطة �إلخ‪ ،‬وكل ما ميكن �أن تنتجه م�صانع ومزارع‬ ‫تلك الدول املنت�صرة من �سلع‪� ،‬سوف ي�صبح الإعتماد عليها هو مبثابة انتقال من ع�صر اىل ع�صر‪،‬‬ ‫ولكن هذا الإنتقال مل يبد ارتقائياً باملرة‪ ،‬ولهذا ال�سبب مل ي�ستطع امل�شرقيون ا�ستقبال «امل�ؤامرات»‬ ‫عليهم حتى لو اكت�شفوها‪� ،‬أو �أبلغت لهم‪ ،‬لأن الأمر متعلق بالتكنولوجيات املجردة‪ ،‬التي رف�ضوا‬ ‫الإن�صياع لها‪ ،‬وظلوا يف �إطار املفعول به‪ ،‬على الرغم من كل الفر�ص التنويرية الالحقة‪ ،‬وعلى‬ ‫الرغم من ا�ستعمالهم لكل التكنولوجيات امل�شخ�صة و�إدمانهم عليها‪.‬‬ ‫مل تقم احلرب العاملية الأوىل على �سبب عاطفي‪ ،‬وال على خالف �أيديولوجي ديني �أو �أخالقي‪،‬‬ ‫بل قامت على امل�صالح الآنية منها والإ�سرتاتيجية �أي�ضاً‪ ،‬فمنطقة ال�شرق الأو�سط الواعدة على‬ ‫امل�ستوى اجليوتكتيكي‪ ،‬ال ميكن الن�أي بها عن تلك امل�صالح‪ ،‬خ�صو�صاً �أن اخلالفة العثمانية كانت‬ ‫قد بد�أت بالتحول �إىل الدولة‪ ،‬ومل تنفع معها ال حماوالت التحديث الداخلية وال م�ساعدات‬ ‫الأملان يف التحديث �إذ بقيت هي �أي�ضاً يف جماالت التكنولوجيا امل�شخ�صة‪ ،‬مل تكن �سايك�س‬ ‫بيكو �ضد �أو مع �شعوب هذه ال�سلطنة املحت�ضرة‪ ،‬فهي ال حتبهم وال تكرههم‪ ،‬وال تنوي الإعتداء‬ ‫عليهم �إال لق�سرهم علىالإن�صياع ملخططات حتقيق م�صاحلها‪ ،‬فالثورة العربية «املجيدة» متّت بت�سليح‬ ‫وم�شاركة اجلي�ش الربيطاين‪ ،‬وهذا �أمر طاملا �أغفلته املنتجات «الثقافية» الناطقة بالعربية‪ ،‬ولوال ذلك‬ ‫ملا ا�ستطاع املنت�صرون باحلرب النكث بوعودهم‪ ،‬فهم يعرفون متاما مع من يتعاملون‪ ،‬عند هذه‬ ‫النقطة بالذات توقف امل�شرقيون‪ ،‬عند هذه النقطة العاطفية الأخالقية رافعني النقيق وال�شكوى‬ ‫من الإحتقار والإعتداء‪ ،‬على �أ�سا�س ما يقدرون على فهمه من توجهات ال�سيا�سة العاملية �آنذاك‪،‬‬ ‫ومل ينتبهوا �إىل احلقيقة الواقعية �إال مرات قليلة كان من ال�سهل �إجها�ضها (امل�ؤمتر ال�سوري الأول ‪8‬‬ ‫�آذار ‪ 1920‬مثا ًال)‪ ،‬م� ّؤ�س�سني لنظرية امل�ؤامرة من موقع �ضحل �أخالقياً ومعرفياً‪ ،‬دون فعل ت�أ�سي�سي‬ ‫‪166‬‬


‫احلرب العاملية الأوىل‬

‫ليتم التعامل مع الكيانات الناجتة عن هذه احلرب‬ ‫يذكر(ح ّول فيما بعدالإ�ستقالالت �إىل ورطة)‪ّ ،‬‬ ‫ككيانات �أزلية غري قابلة للفناء �إال على يد من �أ�س�سها‪ ،‬ومت التنظري لها و�أدجلتها على �أ�س�س غري‬ ‫جمتمعية‪ ،‬ليعود ناجت �أي حراك �أو �أي حماولة ارتقاء �إىل نقطة ال�صفر‪ ،‬بالقوة الذاتية لثقافة هذه‬ ‫الكيانات‪ ،‬التي لن تقوى بعد تلك احلرب على ت�أ�سي�س جمتمعاتها ب�أية �صفة تقنية‪ ،‬ت�ؤدي �إىل‬ ‫توليد دولة معا�صرة ميكنها رعاية م�صالح «جمتمع» والدفاع عنه‪ ،‬والتناف�س مبنتجاته‪ ،‬من هنا تبدو‬ ‫ال�سنوات احلا�ضنة للحرب (‪� )1920 - 1910‬سنوات م� ّؤ�س�سة لعاهات امل�شرق‪ ،‬بينما كانت هي‬ ‫نف�سها فرتة تثبيت ملنجزات الع�صر الأنواري يف العامل‪ ،‬والإعالن عن عقد �أممي تناف�سي جديد يعبرّ‬ ‫عن حيويات الأمم ومكانتها ب�أدوات خمتلفة ومظاهر متحولة وقا�سرة‪ ،‬بعيدة عن ترهات التف�سريات‬ ‫العواطفية والأخالقوية البدائية التي ا ّت�سمت بها كيانات منطقتنا‪ ،‬لتظهر هذه الكيانات بعد‬ ‫احلرب كمح�صلة للتوازنات الأممية التناف�سية‪ ،‬وك�أنها تع ّر�ضت �إىل تعديل يف اجلني الثقايف ر�ضيت‬ ‫به وزادت عنه‪.‬‬ ‫حتملت البلدان املهزومة التي ا�شرتكت يف احلرب العاملية الأوىل (خ�صو�صاً �أملانيا وتركيا)‪ ،‬نتائج‬ ‫ّ‬ ‫لعلها �أق�سى بكثري مما تعر�ضت �إليه بلدان امل�شرق‪� ،‬إن كان عن طريق ع�صبة الأمم �أو عن طريق‬ ‫البلدان املنت�صرة منفردة �أو جمتمعة يف م�ؤمتر فر�ساي ‪ ،1919‬لدرجة �أنها كان من املمكن �أن ت�ستباح‬ ‫كغنائم حرب‪ ،‬ولكن هذه البلدان مل تلق م�صري الهالل اخل�صيب‪� ،‬إما لثقافتها الأنوارية (�أملانيا)‬ ‫ذات املجتمع الذي مت ت�أ�سي�سه �سابقاً‪� ،‬أو بامل�سارعة �إىل الإلتحاق بالثقافة الأنوارية التي ت�ؤّ�س�س‬ ‫جمتمعاً بوا�سطة الثورة العلمانية التي قام بها �أتاتورك‪ ،‬لتبدو ا�ستمرارية البلدين م� ّؤ�س�سة على‬ ‫الثقافة واملعرفة بفرعيها امل�شخ�ص واملجرد‪ ،‬لدرجة �أن �أملانيا وخالل ع�شرين �سنة ا�ستطاعت �أن‬ ‫تخو�ض حرباً وا�سعة يف حماولة لإ�ستعادة مكانتها‪ ،‬يف املقابل بد�أ امل�شرق يف ت�سجيل تراجعات‬ ‫ح�ضارية وا�ضحة على الرغم من مقدرته اجلزئية على ا�ستهالك التكنولوجيات امل�شخ�صة‪ ،‬متثل‬ ‫ذلك يف الق�ضاء املربم على كل النخب واحلراكات الأنوارية الواعدة من رجال نه�ضة وما تالهم‬ ‫من رجال تنوير‪ ،‬لت�ستقر م�صائر البلدان بني �أيدي املثقفني (الع�سكر طليعتهم) الذين مار�سوا‬ ‫توفيقية تلفيقية بني التكنولوجيات املجردة وامل�شخ�صة ت�شبه متاما التلفيقية التي مار�سها املنت�صرون‬ ‫يف احلرب العاملية الأوىل جتاه «الثورة» العربية الكربى‪ ،‬و�شعب الهالل اخل�صيب‪ ،‬ما يعيدنا �إىل‬ ‫الرميوتكونرتولية �أو ّ‬ ‫التحكم عن بعد امل�ؤ�س�س لها يف احلرب العاملية الأوىل‪ ،‬ورمبا كانت التجربة‬ ‫النا�صرية كجمهورية‪ ،‬وال�سعودية كملكية‪ ،‬مثا ًال باهراً على الدمج التلفيقي (ال�شفهي اللغوي‬ ‫على �أبعد تقدير ثقايف) بني التكنولوجيات املجردة وامل�شخ�صة‪ ،‬حيث بدت كل تكنولوجيا‬ ‫جمردة (كالدولة‪ ،‬واملجتمع‪ ،‬والأحزاب‪ ،‬والعقد الإجتماعي واحلرية امل�س�ؤولة �إلخ‪� ..‬إلخ) موجودة‬ ‫ومفقودة يف �آن معاً‪ ،‬مبعنى �أنها وهمية وقابلة للإنهيار بلحظات وبقواها الذاتية‪ ،‬وهنا يبدو الفارق‬ ‫املعريف �شا�سعاً‪ ،‬بني البلدان التي مار�ست ال�شعارات وراكمتها‪ ،‬وبني البلدان التي راكمت املعرفة‬ ‫ومار�ستها‪ ،‬حتى ليبدو ّ‬ ‫للمطلع على �آخر املعارف �أنّ الفارق �أ�صبح فلكياً و�أن العامل �سينق�سم (�إذا‬ ‫‪167‬‬


‫مل يكن قد انق�سم وانتهى) اىل نوعيني ب�شريني‪� ،‬أحدهما قادر على حتمل م�س�ؤولية احلياة و�آخر‬ ‫يواجه الإ�صطفاء الطبيعي‪ ،‬لذلك تبدو احلرب العاملية الأوىل ونتائجها كمفرتق �أ�سا�سي وعميق‪،‬‬ ‫مل ي�ستطع هذا امل�شرق التع�س اللحاق به لأ�سباب ذاتية �أو ًال‪ ،‬وبرعاية املنت�صرون يف هذه احلرب‪.‬‬ ‫لكي تكون رابحاً �أو خا�سراً يف �أية لعبة يجب �أن تكون م�شاركاً فيها �أو ًال‪ ،‬يف احلرب العاملية الأوىل‪،‬‬ ‫مل تكن بالد الهالل اخل�صيب وال العربة م�شاركة‪ ،‬وهذا ما جت ّلى يف م�ؤمتر فر�ساي ‪ ،1919‬عرب‬ ‫احل�ضور الفكاهي ملمثلي امل�شرق‪ ،‬حيث تب ّلغ امللك في�صل ر�سميا نتائج تلك احلرب‪ ،‬مطلقاً �شعاره‬ ‫املرير (لي�س بالإمكان �أف�ضل مما كان) لندخل يف د ّوامات ومعارك ثقافية جزافية‪ ،‬كاملفا�ضلة بني‬ ‫الإ�ستعمار العثماين والغربي‪� ،‬أو بني العروبة البدهية والأقليمية املعقدة‪� ،‬أو بني الرتاث واملعا�صرة‪،‬‬ ‫نا�سني متاماً �أن الق�ضية الأ�سا�سية هي ت�أ�سي�س املجتمع مبعناه الأنواري حتديداً‪ ،‬كي ن�ستطيع‬ ‫الإ�ستجابة للتحديات ون�صبح م�شاركني يف اللعبة التناف�سية للأمم بهيئتنا الإجتماعية القادرة على‬ ‫الإنتاج‪ ،‬وهكذا مت تق�سيم البالد وت�ساقطت �أجزا�ؤها (فل�سطني ‪ -‬كيليكيا ‪� -‬إ�سكندرون ‪ -‬الأهواز)‬ ‫دون جمري من الداخل �أو اخلارج‪ ،‬ودون �أن ي�ؤثّر هذا الت�ساقط على ال�سريورة املتفاخرة «للدول»‬ ‫ف�صلها الإنتداب ثقافياً بناء على درا�ساته الإ�ست�شراقية‪ ،‬واليوم نرفل بحروب �أهلية طائفية‬ ‫كما ّ‬ ‫تعبرّ بال�ضرورة عن ثقافتنا البهية التي رف�ضت وملا تزل ثقافة ع�صر الأنوار وتكنولوجياته كطريق‬ ‫للإ�شرتاك يف احلياة‪ ،‬وهي الآن غري قادرة حتى على التعاي�ش مع �أي �آخر ورمبا مع نف�سها �أي�ضاً‪،‬‬ ‫ت�أ�سي�ساً على وعد بذله االنكليز يف احلرب العاملية الأوىل بت�أ�سي�س �أمة ودولة ولكن بال جمتمع‪.‬‬ ‫مل تكن احلرب العاملية الأوىل من الوجهة الثقافية‪� ،‬إال �إعالن عن تبلور مفهوم الأمة‪/‬الدولة‪،‬‬ ‫ب�صفتها الق�صدية الإرادية املبنية على املعرفة‪ ،‬وهي بذلك كانت فر�صة للإنتقال من املفهوم‬ ‫العثماين (الرتاثي) للدولة امل�ؤ�س�س على الغلبة �إىل املفهوم احلديث امل�ؤ�س�س على الثقافة احلقوقية‪،‬‬ ‫ته ّيئاً للدخول �إىل قوام عاملي تناف�سي‪ ،‬ال مكان �أو مكانة فيه ل�ضعيف‪ ...‬معرف ّياً‪.‬‬

‫‪168‬‬


‫�صدر حديثا ً‬

‫بعد توثيقه لطرابل�س ال�شام وبلدة ال�شوير‪ ،‬اختار الكاتب بدر احلاج �أن ّ‬ ‫يحط‬ ‫رحاله يف قلب العا�صمة ليميط اللثام عن م�شاهد و�أماكن ومالمح طبعت‬ ‫مدينة بريوت يف الفرتة املمتدة بني عامي ‪ 1850‬و‪.1915‬‬ ‫دار كتب للن�شر �ش‪.‬م‪.‬ل‬

‫بناية الربج‪ ،‬الطابق الرابع‪� ،‬ساحة ال�شهداء الو�سط التجاري‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‬ ‫�صندوق بريد‪ ،11-4353 :‬بريوت ‪ -‬لبنان‪.‬‬ ‫هاتف‪ )961-1( 983008 /9 :‬فاك�س‪)961-1( 980630 :‬‬ ‫الربيد الإلكرتوين‪ kutub@kutubltd.com :‬املوقع الإلكرتوين‪www.kutubltd.com :‬‬


‫�أ�سماء و�أحداث‬ ‫املجلد الثالث من كتابات الدكتور خليل �سعاده‪ ،‬ي�صدر قريباً عن م�ؤ�س�سة �سعاده للثقافة‬

‫لبنان ‪ 5000‬لرية | الأردن‪ 2 :‬دينار | �سوريا‪ 100 :‬لرية | م�صر‪ 10 :‬جنيه | تون�س ‪ 1.5 :‬دينار | املغرب‪ 20 :‬درهم | م�سقط‪ 1 :‬ريال‬ ‫ال�سعودية‪ 10 :‬ريال | البحرين‪ 1.5 :‬دينار | الكويت‪ 1.5 :‬دينار | قطر‪ 10 :‬ريال | الإمارات‪ 10 :‬درهم‬


‫العدد‬ ‫�شباط‬ ‫‪2015‬‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.