تحولات مشرقية - العدد السادس

Page 1

‫العدد رقم ‪- 5‬‬

‫ت�شرين الأول ‪2014‬‬

‫فـ�صـل ـيـة فـكريـة ثـقافيـة تـعنى ب�ش ـ�ؤون امل�شــرق‬

‫خالدة �سعيد‬

‫جوليت املري �سعادة‪�...‬شهيدة املعنى‬

‫�ألي�سار �سعاده‬

‫الأمينة الأوىل �صورة �شخ�صية عن قرب‬

‫�سعادة �أر�شيد‬

‫جذور امل�شروع ال�صهيوين‬

‫مهى خياط‬

‫حتديات العوملة وعالقتها بالرتاث واحل�ضارة‬

‫عادل قديح‬

‫الفن الت�شكيلي يف لبنان‬

‫جنيب ن�صري‬

‫الإ�سـالم‬

‫فتوح ال�شام‬

‫والإ�صالح الديني‬

‫حيدر حاج �إ�سماعيل | حممود حيدر | ع�صام نعمان | �سعيد �أحمد عبد الرحمن | ح�سن عجمي‬


‫جندي يقر�أ �صحيفة فرن�سية يف �أثناء احلرب العاملية االوىل بجانب قلعة حلب‬


‫العدد رقم ‪- 5‬‬

‫ت�شرين الأول ‪2014‬‬

‫فـ�صـل ـيـة فـكريـة ثـقافيـة تـعنى ب�ش ـ�ؤون امل�شــرق‬

‫املحتويات‬ ‫ر�أي‬ ‫�إفتتاحية‬ ‫�سليمان بختي‬

‫‪3‬‬

‫الإ�سالم والإ�صالح الديني‬ ‫النا�سخ واملن�سوخ يف القر�آن‬ ‫حيدر حاج �إ�سماعيل‬ ‫�إ�ستئناف الإ�ست�شراق‬ ‫حممود حيدر‬ ‫تطبيـق ال�شريعـة الإ�سالمية بني الإلزام‬ ‫والإلتزام‬ ‫ع�صام نعمان‬ ‫فكر اال�صالح والدولة عند مفكري اال�سالم‬ ‫ال�سيا�سي‬ ‫�سعيد �أحمد عبد الرحمن‬ ‫فل�سفة العلم يف مواجهة فل�سفة اجلهل‬ ‫ح�سن عجمي‬

‫‪5‬‬ ‫‪13‬‬ ‫‪23‬‬

‫‪39‬‬ ‫‪53‬‬

‫‪57‬‬ ‫‪63‬‬

‫فكـــــــر‬ ‫العبودية املختارة‬ ‫�سليمان بختي‬ ‫جذور امل�شروع ال�صهيوين‬ ‫�سعاده �أر�شيد‬

‫‪81‬‬ ‫‪93‬‬

‫حتوالت �أدبية‬ ‫الفن الت�شكيلي يف لبنان‬ ‫عادل قديح‬ ‫طبيعة الثنائ ّيات الدّالل ّية يف �شعر قا�سم حدّاد‬ ‫ل�ؤي زيتوين‬ ‫املكان ال�شعري يف ق�صيدة ابن هانئ الأندل�سي‬ ‫مهى خ ّياط‬ ‫«ال�س�ؤال الديني يف �شعر �أدوني�س»‬ ‫وفيق غريزي‬

‫‪101‬‬ ‫‪111‬‬ ‫‪123‬‬ ‫‪133‬‬

‫تاريج وتراث‬ ‫مملكة دم�شق‬ ‫�سهيل قا�شا‬

‫الذكرى والتحوالت‬ ‫�شهيد ُة املعنى‬ ‫خالدة �سعيد‬ ‫الأمينة الأوىل �صورة �شخ�صية عن قرب‬ ‫�ألي�سار �سعاده‬

‫حتد ّيات العوملة وعالقتها بالرتاث واحلداثة‬ ‫مها خريبك نا�صر‬ ‫احلِ َرف يف لبنان‪� ...‬إىل �أين؟‬ ‫مي حبيقة‬

‫‪139‬‬

‫احلرب العاملية الأوىل‬ ‫فتوح ال�شام واحلرب العاملية الأوىل‬ ‫جنيب ن�صري‬ ‫�سوريا يف احلرب العاملية االوىل‬ ‫و�سام عبداهلل‬

‫‪151‬‬ ‫‪157‬‬

‫‪67‬‬ ‫‪71‬‬

‫وثائق تاريخية‬ ‫نهاية نظام القائمقاميتني ون�شوء نظام املت�صرفية‬ ‫(‪)1861-1860‬‬

‫‪159‬‬


‫حتوالت م�رشقية‬

‫ف�صلية‪ ،‬فكرية‪ ،‬ثقافية‪ ،‬تعنى ب�ش�ؤون امل�شرق واملنطقة‬

‫هيئة التحرير‬

‫فاتن املر‬ ‫عاطف عطية‬ ‫ح�سن حماده‬ ‫ن�صري ال�صايغ‬

‫�سعاده م�صطفى �أر�شيد‬ ‫�سليمان بختي‬ ‫�سركي�س �أبو زيد‬

‫املدير امل�س�ؤول‪� :‬سركي�س �أبو زيد‬ ‫الربيد الإلكرتوين‪abouzeid@gmail.com :‬‬ ‫هاتف‪)00961-1( 751541 :‬‬ ‫�صندوق بريد‪ 113-7179 :‬بريوت ‪ -‬لبنان‪.‬‬ ‫االخراج الفني‪ :‬عالء �صقر‬

‫ت�صدر بالتعاون مع م�ؤ�س�سة �سعاده للثقافة‬

‫بناية ر�سامني‪� ،‬شارع احلمرا‪ ،‬ر�أ�س بريوت‪،‬‬ ‫�صندوق بريد‪ 113-5557 :‬بريوت ‪ -‬لبنان‪.‬‬ ‫هاتف‪)00961-1( 753363 :‬‬ ‫فاك�س‪)00961-1( 753364 :‬‬ ‫الربيد الإلكرتوين‪saadehcf@idm.net.lb :‬‬ ‫املوقع الإلكرتوين‪www.saadehcf.org :‬‬ ‫ت�صدر مبوجب قرار رقم ‪ 82‬تاريخ‬ ‫�صادر عن وزارة االعالم اللبناين‬

‫‪1981/7/6‬‬

‫ت�صدر يف طبعتني من فل�سطني ولبنان‬ ‫مدير عام طبعة فل�سطني‪� :‬سعاده م�صطفى �أر�شيد‬ ‫هاتف‪0599305248 :‬‬ ‫�صندوق بريد‪ 41 :‬جنني ‪ -‬فل�سطني‬

‫اال�شرتاك ال�سنوي ‪ -‬لبنان‬

‫للأفراد‪ 50 :‬دوالراً �أمريكياً‬ ‫للم�ؤ�س�سات‪ 100 :‬دوالر �أمريكي‬

‫توزيع‪ :‬النا�رشون‬

‫اال�شرتاك ال�سنوي ‪ -‬خارج لبنان‬

‫بريوت ‪ -‬امل�شرفية‪� ،‬سنرت ف�ضل اهلل ‪ -‬طابق‬ ‫هاتف وفاك�س‪)00961-1( 277007 - 277088 :‬‬ ‫خليوي‪)00961-3( 975033 :‬‬

‫‪4‬‬

‫للأفراد‪ 100 :‬دوالر �أمريكي‬ ‫للم�ؤ�س�سات‪ 200 :‬دوالر �أمريكي‬

‫املواد املن�شورة تعرب عن ر�أي كاتبها‬


‫ر�أي‬ ‫“ان مل يقم فيكم من ين�صر اال�سالم على عدوه الداخلي‪ ،‬فال ينق�ضي هذا اجليل‪،‬‬ ‫اال وال�شرق يف قب�ضة ذوي الوجوه البائخة والعيون الزرقاء”‪.‬‬ ‫جربان خليل جربان‬ ‫ا�ست�أثرت ق�ضية اال�صالح الديني وال�سيا�سي باهتمام املفكرين وقادة الر�أي القرن التا�سع ع�شر‬ ‫ب�صفتها ق�ضية نه�ضة وتقدم وحترر‪ .‬ولكن الالفت يف ال�سياق التاريخي ان م�س�ألة اال�صالح‬ ‫الديني غيبت بعد الثلث االول من القرن الع�شرين لتظهر فيما بعد كا�صوليات �سلفية ت�سلك‬ ‫�سبيل العنف والتزمت والغاء الآخر لتحقيق وجودها وم�شروعها وم�شروعيتها ‪.‬‬ ‫بعد مرور �أكرث من قرن ما زال العجز والغمو�ض (و�أحياناً النفاق) يلفان جمتمعاتنا يف التعامل‬ ‫مع هذه اال�شكالية‪ .‬وال نزال ندور يف الق�ضايا عينها‪ :‬الإ�صالح وال�سلفية‪ ،‬اال�سالم والغرب‪،‬‬ ‫احلداثة والرتاث‪ .‬وال يزال املثلث الدموي يجكمنا منذ العام ‪ 1916‬وهو النفط‪ ،‬ا�سرائيل‪ ،‬وق�ضية‬ ‫الدين (وتطبيقه وت�سيي�سه ومذهبته) وما زال املثقفون العلمانيون (يتناق�صون �سنوياً �أو ينقلبون)‬ ‫ينادون بالتنوير والعقالنية وال ي�صغي لهم �أحد ال املجتمعات وال ال�شعوب وال الأنظمة‪ .‬وثمة‬ ‫من يجزم �أن دور املثقفني وت�أثريهم انتهى ومت ا�ستبداله برجال الدين من خمتلف االجتاهات‪.‬‬ ‫ولكن‪ ،‬رغم ذلك تظل ق�ضية اال�صالح حاجة حيوية حا�سمة من داخل جمتمعاتنا ولي�ست تلبية‬ ‫لدعوة طارئة من اخلارج‪ .‬ويعترب حممد علي اجلابري يف كتابه «نقد احلاجة اىل اال�صالح» بان‬ ‫اال�صالح من الداخل «يعني الرتاث اال�صويل العربي اال�سالمي دون التخلي عن هواج�س‬ ‫الع�صرنة والتحديث �أو يف �إطار نه�ضوي يعيد ربط مقدمات الذات مبعطيات الهوية‪ ،‬ويف نزعة نقدية‬ ‫ت�أويلية تفح�ص وحتلل التجارب التاريخية باعتبارها خيارات قابلة للت�أمل والت�أويل لعمل عقالين‬ ‫ورقيمي يف �إطار االجتهاد االن�ساين»‪ .‬واذا كان �صحيحاً ما يقوله اجلابري يف ارتباط اال�صالح‬ ‫بالداخل ومعطيات الهوية واهداف النه�ضة اال ان ما يدعو �إىل اخلالف هو حتديد الر�ؤية واملنهج‪.‬‬ ‫وكذلك يف تناول املرجعيتني العربية والغربية لفكرة اال�صالح‪� .‬إذ �أن الت�صور االوروبي ربط‬ ‫اال�صالح بتغيري ال�صورة وهي هنا الدولة‪ .‬يف حني ان املرجعية العربية مل تربط اال�صالح ال باملادة‪،‬‬ ‫وال بالن�ص‪ ،‬وال بال�صورة بل بح�صول «الف�ساد يف ال�شيء»‪ .‬مما يجعل فكرة اال�صالح يف املرجعية‬ ‫العربية مكبلة بالعوائق والقيود وال�شبهات‪ .‬وهذا امل�أزق حاول اجلابري اخلروج منه عن طريق ما‬ ‫‪3‬‬


‫ر�أي‬

‫�أ�سماه «تبيئة املفاهيم» باعتبار ان نقد املفاهيم للتجربة احل�ضارية يتطلب‪:‬‬ ‫ التعرف عن قرب على تاريخ املفهوم الذي يراد نقله �إىل ثقافة �أخرى‪.‬‬‫ النظر يف كيفية �إعادة ا�ستنباط ذلك املفهوم يف املرجعية التي يراد نقله �إليها‪.‬‬‫�إن واقع االزمة التي منر بها يدعونا �إىل فح�ص �أعمق للواقع‪ ،‬وفهم �أوعى للتاريخ‪ ،‬وعالقة �أوثق‬ ‫بالهوية‪ ،‬وحت�س�س �أكرب مبواجهة امل�صري‪.‬‬ ‫ملاذا جمد الفكر وجمد الواقع وجمدت احلياة ؟ ملاذا �صارعت النه�ضة على جبهتني‪ :‬خارجية‬ ‫وداخلية بح�سب ه�شام �شرابي يف مقدمته لكتابه «املثقفون العرب والغرب» خارجية �ضد‬ ‫الآخر والغرب واالمربيالية ويف ال�سيطرة على مواردنا االقت�صادية باعتبارها ملكية ح�ضارية)‬ ‫وف�شلت؟ وملاذا �صارعت النه�ضة على جبهة داخلية (ال�صراع مع الذات‪ ،‬وبني العلمنة والدين‬ ‫واحلداثة الأبوية) وف�شلت؟‪.‬‬ ‫حاول الطهطاوي توليف الثورة الفرن�سية مع اال�سالم وتقاليده‪ ،‬وحذا حذوه مفكرون كبار‬ ‫مثل �أديب �أ�سحق وفرح انطوان و�شبلي ال�شحيل والكواكبي و�سالمة مو�سىى حتى جمال‬ ‫الدين االفغاين وحممد عبده وم�صطفى وعلي عبد الرازق و�أحمد �أمني وغريهم‪ .‬حاولوا‬ ‫جميعاً من خالل الت�أثر بالثقافة االوروبية‪ ،‬ولكنه مل يكن اال�صالح الديني وحتى ال�سيا�سي‬ ‫النابع من داخل الهوية‪ .‬لذلك ر�ست االمور على بر م�سطح مل يفعل فعله يف بنية املجتمع‪.‬‬ ‫وبقي الفكر فكر تلفيقي هجني يحاول طرح �أفكار حديثة يف فكر تراثي وا�سع ومت�شعب وبال‬ ‫حتقيب �أو ت�أطري �أو اجتهاد‪ .‬واالمر ينطبق على الفكر اال�سالمي وفكر النه�ضة يف �آن‪ .‬وهكذا‬ ‫�ضاعت اال�سئلة و�ضاعت االجوبة‪ ،‬وبقي فقط النفاق والت�سويات امل�ؤقتة وازداوجية املواقف‪.‬‬ ‫و�أخرياً‪ ،‬ومع كل �آمال و�أحالم وتنظريات املفكرين ال�ساعني يف جمتمعاتنا نحو اال�صالح‬ ‫الديني �أو نحو التغيري االجتماعي‪ .‬يبدو على �أر�ض الواقع �أنه ال ميكن حدوث ا�صالح اال‬ ‫بحدوث تبدل كبري يف االو�ضاع عموماً‪ .‬وبح�سب و�صف ابن خلدون «و�إذا تبدلت الأحوال‬ ‫جملة‪ ،‬فك�أمنا تبدل اخللق من �أ�صله وحتول العامل ب�أ�سره ك�أنه خلق جديد ون�ش�أة م�ست�أنفة وعامل‬ ‫حمدث» وهذا من ال�صعب �أن يحدث �إذا مل منتلك الر�ؤية واملعرفة واالرادة وامل�صري‪.‬‬ ‫�سليمان بختي‬ ‫‪4‬‬


‫الإ�سالم والإ�صالح الديني‬

‫النا�سخ* واملن�سوخ يف القر�آن‬ ‫حيدر حاج �إ�سماعيل ‪ -‬باحث و�أكادميي‬

‫لنبد�أ بتعليم لالمام علي بن �أبي طالب (كرم اهلل وجهه) ق�ضى ب�ضرورة در�س علم النا�سخ واملن�سوخ‬ ‫قبل �أي در�س �آخر‪ .‬ولننظر باملخاطر التي قد ترتتب على �إهمال هذا الدر�س‪ .‬وهذا �أهمها‪:‬‬ ‫�أو ًال‪ :‬الظن املقلق بوجود تناق�ض داخلي يف الكتاب الواحد‪.‬‬ ‫ف�ض املنازعات‪ .‬وهو‬ ‫ثانياً‪ :‬اعتماد الآيات املن�سوخة يف الدرا�سات اال�سالمية‪ ،‬وما �أكرثها ويف ّ‬ ‫اعتماد باطل‪.‬‬ ‫�إن فهم ظاهرة الن�سخ عرب ت�أويلها ت�أوي ًال حقا غري ممكن �إال مبقاربة انطولوجية يقوم بها مثقفون‬ ‫بفل�سفة العقائد عموما واالديان بخا�صة‪� .‬إذاك يقال هناك م�ستويات من الوجود لعمل الدعوة‪� ،‬إذ‬ ‫هناك م�ستويان من عمل الدعوة‪:‬‬ ‫م�ستوى االفراد‪ ،‬وم�ستوى اجلماعات (الدول)‪ .‬مع الأفراد ال بد من اخلطاب اجلذاب الذي يقربهم‬ ‫وال يبعدهم‪ ،‬والذي يحاورهم وال ينفرهم‪ ،‬والذي يق�ضي من الدعاة ان يتمتعوا ب�أخالق ال�صرب‬ ‫اجلميل‪ .‬وهكذا كان‪ ،‬فاعتنق اال�سالم �أفراد كرث‪ ،‬حتى من �أو�ساط قري�ش التي كانت معادية له يف‬ ‫�أول االمر‪ ،‬مثل معاوية بن �أبي �سفيان وقبله عمر بن اخلطاب وكذلك خالد بن الوليد‪.‬‬ ‫وه�ؤالء الأفراد الكرث الذين َعقدتهم العقيدة اجلديدة وجمعتهم عقيدة‪« :‬اهلل �أحد»‪� ،‬صاروا جماعة‬ ‫موحدة‪ ،‬واجلماعة املوحدة قوة‪ ،‬والقوة �أ�صل ال�سيا�سة �أو مبد�ؤها‪ ،‬فكانت الدولة اال�سالمية يف‬ ‫املدينة وعلى ر�أ�سها ر�سول اهلل‪ .‬وظهر معها م�ستوى جديد للعمل‪� ،‬أال وهو‪ ،‬م�ستوى الدولة �أو‬ ‫م�ستوى القوة‪.‬‬ ‫وهنا جت ّلت حكمة اهلل وفطنة ر�سوله الكرمي‪ ،‬فراح الر�سول يكتب لر�ؤ�ساء الدول ما يتفق مع الو�ضع‬ ‫اجلديد‪ ،‬نعني ر�سائل خمت�صرة تعرب عن الدولة اجلديدة وم�صلحتها العليا وهي انت�شار دين اهلل‪،‬‬ ‫* ‬

‫الن�سخ‪ ،‬لغة ً‪ ،‬يعني الإزالة والتبديل‪.‬‬ ‫‪5‬‬


‫اال�سالم‪ .‬لذلك جند ان �أهم عبارة يف ر�سائل الر�سول‪ ،‬املقت�ضبة �إىل الر�ؤ�ساء‪ ،‬كانت عبارة‪� :‬أ�سلم‬ ‫ت�سلم»‪.‬‬ ‫وفيما ي�أتي بع�ض االمثلة‪:‬‬ ‫من كتابه �إىل هرقل قي�صر الروم‪ ،‬يذكر ر�سول اهلل‪« :‬ب�سم اهلل الرحمن الرحيم‪ ،‬من حممد عبداهلل‬ ‫ور�سوله �إىل هرقل عظيم الروم‪� ،‬سالم على من اتبع الهدى‪� ،‬أما بعد‪ :‬فاين �أدعوك بدعاية اال�سالم‪،‬‬ ‫�أ�سلم ت�سلم»‪.1‬‬ ‫ويف كتابه �إىل املقوق�س عظيم القبط‪ ،‬يذكر ذات الكالم ويدعوه �إىل الإ�سالم بلغة الدول‪ ،‬يقول‬ ‫له‪� :‬أ�سلم ت�سلم»‪.2‬‬ ‫كذلك فعل يف كتابه �إىل جعفر وعبد ابني اجللندي ملكي عمان قائال لهما‪�« :‬أ�سلما ت�سلما»‪ .‬ويتابع‬ ‫ر�سول اهلل يف كتابه قائ ًال‪ ... :‬وانكما �إن �أقررمتا باال�سالم وليتكما‪ ،‬و�إن �أبيتما �أن تقرا باال�سالم‪ ،‬فان‬ ‫ملككما زائل عنكما‪ ،‬وخيلي حتل ب�ساحتكما‪ ،‬وتظهر نبو ّتي على ملككما» ‪.3‬‬ ‫غفلة بع�ض املفكرين اال�سالميني‪ :‬ولأ�ضرب الآن بع�ض االمثلة عن درا�سات �إ�سالمية طا�ش �سهم‬ ‫�أ�صحابها رغم ثقافتهم الدينية الوا�سعة‪ .‬فقد ن�شرت جملة‪ :‬هذه �سبيلي‪ ،‬بحثا للدكتور علي عبد‬ ‫الواحد الوايف بعنوان «�سماحة اال�سالم يف مناهج الدعوة �إىل اهلل ويف موقفه حيال االديان االخرى‬ ‫وحيال �أهلها»‪ ،‬وفيه‪ ،‬ولكي ي�شرح وجهة نظره‪ ،‬يعتمد على �آيات من�سوخة‪ .‬وفيما ي�أتي �أمثلة من‬ ‫ذلك البحث تثبت �صحة ما نقول‪ .‬فهويذكر‪« :‬ومن �أهم املبادىء �أنه (عانياً اال�سالم) ال يكره‬ ‫�أحداً على ترك دينه واعتناق اال�سالم‪ .‬ويف هذا يقول اهلل تعاىل‪« :‬ال �إكراه يف الدين»‪ .4‬ويذكر‬ ‫�أي�ضاً‪« :‬ل�ست عليهم مب�سيطر»‪ .5‬غري �أن الآيتني املذكورتني من�سوختان‪ .‬وهناك �آيات من�سوخة‬ ‫�أخرى يف بقية البحث‪.‬‬ ‫يف كتابه‪ :‬بينات احلل اال�سالمي و�شبهات العلمانيني واملتغربني‪ ،‬ويف جمال كالمه عن «�أ�سباب‬ ‫حتريك الفتنة الطائفية»‪ ،‬يف ال�صفحات الثالث الأخرية من الكتاب‪ ،‬يقول الدكتور ال�شيخ يو�سف‬ ‫قر�ضاوي‪ ،‬فيما يقول‪ ،‬وعلى �سبيل اال�ستنتاج ما ي�أتي‪�« :‬إذن يجب �أن يظل امل�سلمون م�سلمني‪،‬‬ ‫وللن�صارى �أن يظلوا ن�صارى‪ ،‬ولليهود �أن يظلوا يهوداً‪� ،‬إذا اختاروا ذلك‪� ،‬إذ «ال �إكراه يف الدين»‪.6‬‬ ‫فهو يعترب �آية «ال �إكراه يف الدين»‪ ،‬باال�ضافة �إىل مقدمات من �صياغته �سبق �أن ذكرها‪ ،‬وباال�ضافة‬ ‫�إىل اعتبارات �أخرى‪ ،‬نقول‪� ،‬إنه يعترب كل ذلك الأ�سا�س الذي مينع الفتنة الطائفية بني امل�سلمني‬ ‫وغريهم من اتباع الديانات االخرى‪ ،‬الن�صرانية واليهودية حتديداً‪.‬‬ ‫غري �أن ال�شيخ القر�ضاوي مل ينتبه �إىل �أن الآية القر�آنية التي كانت ال�سند الأقوى لأفكاره‪ ،‬هي‬ ‫�آية من�سوخة! والآية من�سوخة ب�أمر من رب العاملني‪ .‬والن�سخ معناه الإزالة‪� ،‬أي حكم الآية قد �أزاله‬ ‫اهلل تعاىل ف�صار �أثراً بعد عني‪.‬‬ ‫‪6‬‬


‫الإ�سالم والإ�صالح الديني‬

‫ال �أدري‪ ،‬وعلم ما يف ال�صدور عند اهلل‪� ،‬إذا كان ما ح�صل من قبل ال�شيخ قد ح�صل �سهواً �أو غفلة‬ ‫�أو عدم در�س علم النا�سخ واملن�سوخ الذي �شدد الإمام علي بن �أبي طالب �أن يكون �أول الدرو�س‬ ‫الإ�سالمية كي ال يقع الزلل وتطي�ش �سهام ال�شارحني من ال�شيوخ الأفا�ضل‪.‬‬ ‫وتزداد هذه الظاهرة تعقيداً‪ ،‬عندما جند �أن ال�شيح الفا�ضل‪ ،‬ويف جمال �سابق يف نف�س الكتاب‬ ‫بعنوان‪« :‬احلكم اال�سالمي خري للم�سيحي من احلكم العثماين»‪ ،‬قد اعتمد على نف�س الآية‬ ‫املن�سوخة مرتني متتاليتني‪ .‬يقول يف املرة االوىل‪« :‬فاال�سالم ذو �شعب �أربع‪ :‬عقيدة‪ ،‬وعبادة‪،‬‬ ‫و�أخالق‪ ،‬و�شريعة‪ .‬ف�أما العقيدة والعبادة فال يفر�ضها اال�سالم على �أحد‪ .‬ويف ذلك نزلت �آيتان‬ ‫�صريحتان حا�سمتان من كتاب اهلل‪� :‬إحداهما مك ّية‪ ،‬والأخرى مدن ّية‪ ،‬يف الأوىل يقول تعاىل‬ ‫خماطبا ر�سوله الكرمي (�صلعم) «�أف�أنت تكره النا�س حتى يكونوا م�ؤمنني»‪ .‬ويف الثانية يقول �سبحانه‬ ‫يف �أ�سلوب جازم‪« :‬لإ �إكراه يف الدين»‪.‬‬ ‫ويف املرة الثانية وهي التالية مبا�شرة‪ ،‬يذكرال�شيخ ي�أتي‪« :‬وقد نزلت هذه الآية يف �ش�أن رجال من‬ ‫الأن�صار كان لهم �أبناء على الديانة اليهودية او الن�صرانية‪ ،‬ف�أرادوا �أن يجربوهم على تغيري دينهم �إىل‬ ‫الغي»‪.7‬‬ ‫اال�سالم‪ ،‬فنزلت الآية قاطعة مانعة «ال �إكراه يف الدين قد تبينّ الر�شد من ّ‬ ‫وق�صة اعتماد ال�شيخ القر�ضاوي مل تنته هنا‪ .‬فهو يلج�أ �إىل ا�ستعمال الآية املن�سوخة ذاتها حتى‬ ‫يف كالمه على ق�ضية االحوال ال�شخ�صية والعالقات اال�سرية‪ ،‬فيما يتعلق بالزواج والطالق ونحو‬ ‫ذلك‪ .‬فيقول‪�« :‬إنهم خميرّ ون بني االحتكام �إىل دينهم واالحتكام �إىل �شرعنا»‪ .‬ملاذا؟ يجيب‪« :‬وقد‬ ‫�أمرنا برتكهم وما يدينون‪« ،‬ال �إكراه يف الدين»‪.8‬‬ ‫�أما االية التي ن�سخت الآيتني اللتني ت�س ّلح بهما ال�شيخ القر�ضاوي‪ ،‬نعني‪� ،‬آية «ال �إكراه يف الدين»‪،‬‬ ‫و�آية «�أف�أنت تكره النا�س حتى يكونوا م�ؤمنني» فهي كما نذكر‪� ،‬آية ال�سيف‪.9‬‬ ‫ويف حوار مع ال�شيخ حممد ح�سن ف�ضل اهلل‪� ،‬أجراه كمال ا�سطفان ون�شرته جريدة الديار يف‬ ‫‪ ،1989/9/14‬يجيب على �س�ؤال حول الدين اال�سالمي والعنف ال�سيا�سي‪ ،‬مبا ي�أتي‪« :‬عندما‬ ‫نريد �أن نتحدث عن موقف اال�سالم‪� ،‬أنه دين تب�شريي‪� ،‬صحيح هذا‪ ،‬لأنه دين جاء للنا�س كافة‪...‬‬ ‫دين تو�سعي‪� ،‬صحيح �أي�ضاً‪� ،‬أنه يع ّلم على �أن يحكم العامل كما �أن كل �صاحب فكر يع ّلم على �أن‬ ‫يحكم العامل‪»...‬‬ ‫بعد ذلك يتكلم عن جهاد ّ‬ ‫اخلطني‪ :‬خط مواجهة الذين مينعون حرية امتداد اال�سالم باحلكمة‬ ‫واملوعظة احل�سنة‪ّ .‬‬ ‫وخط اجلهاد بالدفاع عن النف�س �ضد املعتدين‪« .‬لأنك عندما ال تواجه العنف‬ ‫الذي يفر�ض عليك بعنف مماثل �أو طريقة �أخرى ف�إنك ال ّبد �أن تفقد موقعك يف احلياة»‪.‬‬ ‫ثم مي�ضي يف �شرح هذه الأفكار بالكالم عن كيفية انت�شار اال�سالم فيقول‪ ،‬مما يقول‪« :‬ف�إننا جند‬ ‫�أن �أغلب املواقع التي دخلها اال�سالم مل يدخلها بالفتح‪ .‬و�إمنا دخلها من خالل اجلانب الفكري‬ ‫‪7‬‬


‫التب�شريي القائم على عدم االكراه يف الدين‪ ،‬وعلى الدعوة باحلكمة واملوعظة احل�سنة»‪ .‬يالحظ‬ ‫هنا‪� ،‬أن ال�شيخ الفا�ضل ف�ضل اهلل ي�ستند لت�أييد �أفكاره �إىل �آية‪« :‬ال �إكراه يف الدين» املن�سوخة!‬ ‫وال يختلف الدكتور حممد عابد اجلابري عن الدكتور القر�ضاوي يف ق�ضية الآية املن�سوخة‪« :‬ال‬ ‫�إكراه يف الدين» وغريها من الآيات املن�سوخة‪ .‬فالف�صل الرابع من الق�سم الثالث من كتابه‪:‬‬ ‫امل�س�ألة الثقافية الذي عنوانه‪ :‬اخللقية اال�سالمية �ضد التطرف‪ ،‬معقود للتدليل على �أن اال�سالم‬ ‫«دين الو�سط واالعتدال‪ ،‬دين الت�سامح والأخذ باحلكمة والتي هي �أح�سن»‪ .‬والآية املن�سوخة‬ ‫التي يرتكز اليها الباحث هي قوله تعاىل‪« :‬وجادلهم بالتي هي �أح�سن»‪ .10‬كما ي�ست�شهد بالآية‬ ‫املن�سوخة‪« :‬وال جتادلوا �أهل الكتاب �إال بالتي هي �أح�سن» التي ن�سختها �آية القتال‪ .‬ثم بالآية‪ :‬ال‬ ‫�إكراه يف الدين»‪.11‬‬ ‫اما امل�ست�شار حممد �سعيد الع�شماوي فقد اجتهد يف فهم الن�سخ فجاء معناه احلقيقي االجتهاد‬ ‫حدد �أ�صول اال�سالم ب�أنها الرحمة‬ ‫وهذا ما وجدناه يف كتابه عن‪ :‬اال�سالم ال�سيا�سي حيث ّ‬ ‫والت�سامح وعدم الغ ّلو يف الدين‪ ،‬و�أن «جوهر اال�سالم هو احلركة �إىل امل�ستقبل و�صميمه التقدم‬ ‫امل�ستمر لإن�شاء ح�ضارة �إن�سانية»‪ .‬وي�ستند �إىل ظاهرة الن�سخ لت�أييد وجهة نظره‪ ،‬فيقول‪�« :‬إن ما‬ ‫جد جديد �أو وقع واقع ال يعني جمرد نقل النا�س من‬ ‫حدث من ن�سخ لآيات ب�آيات �أخرى كلما ّ‬ ‫حكم �إىل حكم‪ ،‬لكنه يفيد ‪-‬يف حقيقته‪ -‬معنى احلركة امل�ستمرة مع الوقائع والتقدم املت�صل على‬ ‫االحداث والفعل الن�شط لتغيري احلياة»‪ .‬وي�ضيف قائ ًال‪« :‬ولقد فهم امل�سلمون الأوائل �أن هذه هي‬ ‫اال�صولية احلقيقية لال�سالم»‪.12‬‬ ‫فالن�سخ‪ ،‬حقيقة‪ ،‬هو يف االجتهاد بح�سب الظروف‪ .‬لذلك اجتهد الع�شماوي فم ّيز بني قر�آن‬ ‫الرحمة وقر�آن ال�سيا�سة �أو بني اال�صولية (الروحية) التي ينادي بها ويدعو �إليها واال�صولية احلركية‬ ‫(ال�سيا�سية)‪ .‬وذكر يف معر�ض مقابلته بني اال�صوليتني انهما تختلفان يف خم�س م�سائل‪ ،‬هي‪:‬‬ ‫«الأ�سلوب املنتهج يف فهم �ألفاظ القر�آن الكرمي‪ ،‬والطريق املتبع يف تف�سري �آيات القر�آن الكرمي‪ ،‬ونظام‬ ‫ال�سلوك يف احلياة‪ ،‬والفهم احل�ضاري للدين وو�ضع ال�سلطة ال�سيا�سية واملتفقهني يف الدين»‪.13‬‬ ‫وكل ذلك‪ ،‬من �أجل �أن ي�ؤكد مبد�أ االجتهاد فيعتمده لعر�ض اجتهاده‪ .‬و�سنده‪ ،‬كما �أ�سلفنا منذ‬ ‫قليل‪ ،‬يف ظاهرة الن�سخ‪ .‬وك�أين به يقول‪� :‬إذا كان اهلل جمتهداً‪ ،‬فلماذا ال يجتهد امل�ؤمنون؟ كما ي�شري‬ ‫�إىل �أمثلة يعود تاريخها �إىل اخللفاء فقد منع عمر بن اخلطاب زواج املتعة بالرغم من ورود ن�ص قر�آين‬ ‫حول‪« :‬فما ا�ستمتعتم به منهن ف�آتوهن �أجورهن»‪ .‬كما يذكر �أن اخلليفة عمر وقف حكم امل�ؤلفة‬ ‫قلوبهم ووقف حد ال�سرقة‪.14‬‬ ‫ويف ف�صل خا�ص عن اجلهاد‪ ،‬ين�شىء الباحث متييزاً حاداً بني اجلهاد االخالقي من حيث هو‬ ‫�أ�سلوب كرمي وباعث قوي ودافع �سام لالرتقاء بالذات وال�سمو بالنف�س والعلو بالروح وي�شمل �أي�ضاً‬ ‫الدفاع عن النف�س‪ ،‬واجلهاد ال�سيا�سي القتايل وهو ي�ؤيد النوع الأول من اجلهاد ويرف�ض الثاين‪.‬‬ ‫‪8‬‬


‫الإ�سالم والإ�صالح الديني‬

‫يقول‪�« :‬إن بع�ض النا�س يرون �أنه من الأي�سر لهم �أن ي�شهروا ال�سيوف من �أن يوحدوا ال�ضمائر‪،‬‬ ‫و�أن يعلنوا احلروب من �أن ينقّوا القلوب‪ ،‬و�أن يقتلوا النا�س بد ًال من �أن يحيوا اجلميع‪ ،‬ولذلك فقد‬ ‫جعلوا من اجلهاد �سيفاً وحرباً وقت ًال‪ ،‬ويف ال�صحيح انه �ضمري وقلب وحياة»‪.15‬‬ ‫ويف �إ�شارة منه �إىل احل�ضارة العاملية وحمورها العامل الغربي‪ ،‬يرى الباحث �أنها «لي�ست كلها �شرا»‪.‬‬ ‫ففي هذه احل�ضارة قيم رفيعة هي النظام والنظافة والأمانة والدقة والتجديد والتخطيط والتعاون‬ ‫والدرا�سة والبحث وروح خدمة الغري»‪.16‬‬ ‫وينتقد جماعات تيار الت�سيي�س لرف�ضهم للقيم الرفيعة للح�ضارة يف نف�س الوقت الذي يح�صل فيه‬ ‫انكباب على منتجاتها املادية‪.17‬‬ ‫خال�صة �أطروحة كتاب الع�شماوي هي يف �أن القر�آن كتاب روحي �أخالقي ولي�س كتاباً �سيا�سياً‪.‬‬ ‫وعلى �ضوء هذه الفر�ضية يعمل جمتهداً فريى �أن كل مفردات القر�آن‪ ،‬حتى لفظ «احلكم» الوارد‬ ‫فيه‪ ،‬ال يفيد ال�سيا�سة من قريب �أو بعيد‪.18‬‬ ‫ولأن ذلك‪ ،‬مل يح�صل‪ ،‬يف املا�ضي واحلا�ضر‪ ،‬ر�أينا �أن نقرتح �أن يح�صل يف يومنا جتنباً للخلط وتبياناً‬ ‫للحقيقة الربانية‪ ،‬وقطعا للنزاع الدائر الآن حول اال�سالم يف �أو�ساط امل�سلمني �أنف�سهم‪ ،‬ويف �أو�ساط‬ ‫غريهم‪ ،‬من التائقني للتعرف على حقيقته‪.‬‬ ‫ال�سور‪ :‬ي�ضم امل�صحف‪ ،‬الذي حتدثنا عنه‪ ،‬القر�آن‪ .‬ويت�ألف القر�آن من �سور تت�ألف كل واحدة منها‬ ‫من �آيات‪ .‬وتعلمنا كتب التاريخ ان �أول ما نزل من �آيات القر�آن كان يف عام ‪ 610‬ميالدية‪88 .‬‬ ‫والآيات التي نزلت هي املوجودة يف �سورة العلق‪ ،‬والتي تبتدىء بالآية الآتية‪�« :‬أقر�أ با�سم ربك‬ ‫الذي خلق»‪ .‬ويقال �إن حممداً كان �أمياً‪ ،‬لذا �أجاب املالك جربيل قائ ًال‪« :‬ل�ست بقارىء»‪ .‬ويف‬ ‫الأخري‪ ،‬فهم حممد مغزى النداء‪ ،‬وتب ّلغ الر�سالة‪.‬‬ ‫ومن جهتنا‪ ،‬نرجح �أن يكون ما ح�صل هو الآتي �أو ما ي�شبهه‪ .‬فالفعل «قر�أ‪ ،‬يفيد‪ ،‬يف اللغة العربية‬ ‫معنى جمع‪ .‬فاذا قلت‪ :‬قر�أت الكتاب معنى ذلك �أنك جمعت ما يف غالفه من عرفان‪ .‬وقيا�سا‪،‬‬ ‫ميكن القول‪� ،‬إن الآية‪�« :‬أقر�أ با�سم ربك» عنت‪� :‬إجمع النا�س بوا�سطة ا�سم ربك‪� .‬أي مبا �صار �شهادة‬ ‫يف اال�سالم‪ ،‬فيما بعد‪ ،‬نعنى‪� :‬أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل‪ ...‬وال�شهادة هي ركن االميان باهلل (اال�سالم)‪،‬‬ ‫يف �صورتها الكاملة املعروفة‪� :‬أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل و�أن حممداً ر�سول اهلل‪.‬‬ ‫منجما �أي �آيات �أيات‪ ،‬ولي�س دفعة‬ ‫على كل حال‪ ،‬لقد نزل القر�آن عن طريق الوحي‪ .‬ونزل ّ‬ ‫واحدة‪ .‬وا�ستغرق نزوله ما بني ع�شرين وخم�سة وع�شرين عاما‪ .‬ونزل بع�ضه يف ّ‬ ‫مكة‪ ،‬ويبلغ عدد‬ ‫ال�سور املكية ‪� 82‬سورة‪ .‬وبع�ضه الآخر نزل يف املدينة‪ ،‬وال�سور املدن ّية ع�شرون‪.19‬‬ ‫ثم هناك من القر�آن‪ ،‬ما نزل يف غري ّ‬ ‫مكة واملدينة‪ .‬فهناك ما نزل بقرية اجلحفة على طريق املدينة‪،‬‬ ‫‪20‬‬ ‫وما نزل ببيت املقد�س‪ ،‬وما نزل مبدينة الطائف وما نزل باحلديبية ‪.‬‬ ‫‪9‬‬


‫وت�ص ّنف �سور القر�آن �إىل ّ‬ ‫مك ّية (لنزولها يف مدينة مكة) ومدين ّية (لنزولها يف مدينة يرثب �أو‬ ‫املدينة)‪ .‬و ُيعتقد �أن معرفة ّ‬ ‫املكي واملدين من ال�سور الزمة لعلماء الأمة لكي مييزوا نا�سخ الآيات‬ ‫من من�سوخها‪ .‬لذلك‪ ،‬ال ّبد لنا من الكالم‪ ،‬مبقدار‪ ،‬عن ق�ضية التمييز ومعايريه‪ .‬وهذا ممكن على‬ ‫النحو الآتي‪:‬‬ ‫ال�سور املك ّية‪ :‬وي�ستدل عليها‪ ،‬عموماً‪ ،‬بالعالمات الآتية‪:‬‬ ‫ هي ت�شمل على لفظ «ك ّال»‪.‬‬ ‫التهجي‪ ،‬با�ستثناء �سورتي البقرة و�آل عمران‪.‬‬ ‫ �أولها حروف ّ‬ ‫ فيها من مثل‪« :‬يا �أيها النا�س» �أو «با بني �آدم»‪.‬‬ ‫ �سور الآيات الق�صرية املف�صولة بفوا�صل‪.‬‬ ‫ �سور فيها �سرد لق�ص�ص الأقوام ال�سابقة والأنبياء‪.‬‬ ‫ �أو فيها ق�صة �آدم و�إبلي�س‪.‬‬ ‫�أما ال�سور املدن ّية فهي‪:‬‬ ‫ ما �أمر باجلهاد‪.‬‬ ‫ ما �أ�شتمل على احلدود والفرائ�ض‪.‬‬ ‫ ماجاء على ذكر املنافقني‪ .‬و�إذا ورد لفظ «املنافقني» يف �سورة مك ّية‪ ،‬مثل �سورة العنكبوت‪ ،‬فهذا‬ ‫ٍ‬ ‫حالتئذ تعترب الآيات ال�شاملة على ذلك اللفظ‪ ،‬وحدها‪� ،‬آيات مدنية‪.21‬‬ ‫ال يبدلها‪.‬‬

‫‪10‬‬


‫الإ�سالم والإ�صالح الديني‬

‫الهوام�ش‬

‫‪� .1‬أحمد زكي �صفوت‪ ،‬جمهرة ر�سائل العرب يف ع�صور العربية الزاهرة‪ ،‬اجلزء االول‪( ،‬الع�صر اجلاهلي وع�صر‬ ‫�صدر الإ�سالم)‪ ،‬الطبعة االوىل‪� ،‬شركة مكتبة م�صطفى البابي احللبي مب�صر‪ 1356 ،‬هـ‪1937/‬م‪� ،‬ص ‪.33-32‬‬ ‫‪ .2‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.38‬‬ ‫‪ .3‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪ .46‬وذكره �أي�ضاً‪ :‬فالح حنظل‪ .‬ر�سائل الر�سول (�صلى اهلل عليه و�سلم) وموفدوه �إىل ملوك‬ ‫وحكام اخلليج و�شبة اجلزيرة العربية‪ :‬البحرين‪ ،‬اليمامة‪ ،‬وعمان‪� ،‬ص ‪.99‬‬ ‫‪ .4‬جملة‪ :‬هذه �سبيلي‪ ،‬العدد االول‪ ،‬ال�سنة الأوىل‪ 1398 ،‬هـ‪� ،‬ص ‪ .75‬وهذه املجلة ي�صفها �أ�صحابها ب�أنها «جملة‬ ‫علمية ن�صف �سنوية ت�صدر عن املعهد العايل للدعوة اال�سالمية بجامعة الإمام بن �سعود الإ�سالمية‪.‬‬ ‫‪ .5‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪76‬‬ ‫‪ .6‬قر�ضاوي‪ ،‬يو�سف‪ .‬بينات احلل اال�سالمي و�شبهات العلمانيني واملتغربني‪ ،‬م�ؤ�س�سة الر�سالة‪ ،‬بريوت‪،‬‬ ‫‪1409‬هـ‪1988/‬م‪� ،‬ص ‪.267‬‬ ‫‪ .7‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.236‬‬ ‫‪ .8‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.238‬‬ ‫‪« .9‬ال �إكراه يف الدين» هي الآية ‪ 256‬من �سورة البقرة‪ .‬والآية «�أف�أنت تكره النا�س حتى يكونوا م�ؤمنني» هي الآية‬ ‫‪ 99‬من �سورة يون�س‪.‬‬ ‫‪ .10‬اجلابري‪ ،‬حممد عابد‪ .‬امل�س�ألة الثقافية‪ ،‬مركز درا�سات الوحدة العربية‪ ،‬بريوت ‪� ،1994‬ص ‪ .136‬الآية امل�شار‬ ‫�إليها هي الآية ‪ 125‬من �سورة النحل التي ن�سختها �آية ال�سيف‪� .‬أنظر البارزي‪� ،‬ص ‪.38‬‬ ‫‪ .11‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪� .137‬أنظر البارزي �أي�ضاً‪� ،‬ص ‪.44‬‬ ‫‪ .12‬الع�شماوي‪ ،‬حممد �سعيد‪ .‬الإ�سالم ال�سيا�سي‪ ،‬طبعة ثالثة‪� ،‬سينا للن�شر‪� ،1992 ،‬ص ‪.141‬‬ ‫‪ .13‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.138‬‬ ‫‪ .14‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.57-56‬‬ ‫‪ .15‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.117-116‬‬ ‫‪ .16‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.77-76‬‬ ‫‪ .17‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.77‬‬ ‫‪ .18‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.46‬‬ ‫‪ .19‬الب ّنا‪ ،‬ح�سن‪« .‬الأخوان امل�سلمون والد�ستور»‪ ،‬النذير‪ ،‬العدد ‪ .33‬من ر�سالته �إىل زعماء م�صر بعنوان‪ :‬نحو النور‪.‬‬ ‫‪ .20‬الب ّنا‪ ،‬ح�سن‪ .‬مذكرات الدعوة والداعية‪� ،‬ص ‪.151‬‬ ‫‪ .21‬جملة النذير‪ ،‬العدد ‪.1‬‬

‫‪11‬‬


‫�صدر حديثا ً‬

‫م�ؤ�س�سة �سعاده للثقافة‬

‫بناية ر�سامني‪� ،‬شارع احلمرا‪ ،‬ر�أ�س بريوت‪ ،‬لبنان‬ ‫�صندوق بريد‪ 113-5557 :‬بريوت ‪ -‬لبنان‬ ‫هاتف‪)00961-1( 753363 :‬‬ ‫فاك�س‪)00961-1( 753364 :‬‬ ‫الربيد الإلكرتوين‪saadehcf@idm.net.lb :‬‬ ‫املوقع الإلكرتوين‪www.saadehcf.org :‬‬


‫الإ�سالم والإ�صالح الديني‬

‫�إ�ستئناف الإ�ست�رشاق‬

‫الإ�سالم يف تنظريات �أمربيالية ما بعد احلداثة‬

‫حممود حيدر ‪ -‬مفكر وباحث‬

‫ترمي هذه الأملية �إىل ا�ستئناف الكالم على اال�ست�شراق مبفاهيمه واختباراته القدمية وامل�ستحدثة‪.‬‬ ‫دواع �أربعة‪:‬‬ ‫فلو كان من «ذريعة معرفية» حتملنا �إىل مق�صد كهذا‪ ،‬فهي تعود �إىل ٍ‬ ‫الداعي الأول‪� :‬أن اال�ست�شراق مل يتوقف عند �أطوار احلداثة التي حفرت جمراها بدءاً من القرن‬ ‫الرابع‌ع�شر امليالدي ومل تنته �إىل الآن‪ .‬فهو فعل �سا ٍر ومتجدد منذ �أن حت َّيز الغرب كف�ضاء ح�ضاري‬ ‫ثم ليحمله حت ُّيزه �إىل االمتداد والتو�سع باجتاه �شرق يتد ّرع بوحيه وهويته وقدراته‪.‬‬ ‫الداعي الثاين‪� :‬إن قراءة اال�ست�شراق من جانب نخب امل�سلمني هي �إجراء معريف مفتوح‬ ‫مادامت ثنائية (غرب‪� -‬شرق) هي احلقل الذي منه ت�ستولد االفكار واملواقف وقوانني االحتدام‪.‬‬ ‫ومن هذا الداعي كذلك‪ ،‬جند ما ي�ستحثنا‪ ،‬كعرب وم�سلمني وم�سيحيني �شرقيني‪ ،‬على معرفة ما‬ ‫كم�ستعل‬ ‫ٍ‬ ‫ينبغي معرفته عن نظري يظهر علينا حيناً ك�ساحر ي�أتينا ب�أغواءات احلداثة و�أنوارها‪ ،‬وحيناً‬ ‫م�سنا منه �ض ُّر الغزو واالحتالل و�أب َّوة اال�ستبداد‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫الداعي الثالث‪ :‬فهو يف م�سعانا لتفكيك ال َّلب�س الذي تراكم يف الوعي العربي‪ -‬اال�سالمي‬ ‫حيال مقولة اال�ست�شراق‪ .‬ف�إننا يف م�سعى كهذا قد نفلح يف الت�أ�سي�س لنظرية معرفة تر�سي قواعد‬ ‫فهم جديدة للذات احل�ضارية اال�سالمية يف تناظرها‪� ،‬أو اخت�صامها‪ ،‬مع الذات احل�ضارية الغربية‪.‬‬ ‫تي�سر لنا �أن نك ِّون فهماً �صائباً عن غرب �أنتج �أرقى �أنواع الفنون والقيم‬ ‫مما يوجب الت�سا�ؤل عما لو َّ‬ ‫والأفكار‪ ،‬وجاءنا يف الوقت عينه ب�أب�شع �صنوف العنف والإيذاء واحلروب اال�ستعمارية‪.‬‬ ‫الداعي الرابع‪ :‬فهو يف حقيقة �أن للإ�ست�شراق املعريف نباتاً �شرقياً‪ .‬ذلك ب�أن امل�ست�شرق �سيجد‬ ‫من يناظره من �أبناء ال�شرق كلماته وافهامه ومنطقه‪� ،‬إما بالإقناع �أو بالإغواء �أو بالفر�ض‪ .‬وهو ما‬ ‫نعنيه باال�ستغراب‪ .‬حيث منا امل�ستغرب امل�شرقي كنظري للم�س�شرتق الغربي وكامتداد حملي له‪.‬‬ ‫فكان «اال�ستغراب» بهذا �أدنى �إىل ا�ستيطان فكري ما فتيء ي�ستعيد �س�ؤال الغرب وجوابه على‬ ‫ن�صاب ما تلقاه من مفاهيم احلداثة والتنوير والتقدم والإحياء احل�ضاري‪.‬‬ ‫الفكر اال�ستغرابي‪ -‬الذي نق�صده لو�صف �أحوال �شطر وازن من مثقفي العامل اال�سالمي‪ -‬هو‬ ‫‪13‬‬


‫ور�سخته الهيمنة‪ ،‬ور�ضيت به نخب املجتمعات‬ ‫وو�سعته الرتجمة‪َّ ،‬‬ ‫فكر �أنتجته الده�شة واالنفعال‪َّ ،‬‬ ‫العربية واال�سالمية �سبي ًال لفهم ذاتها وغريها‪ ،‬ف�ض ًال عن فهم العامل‪.‬‬ ‫روحه فيه‪ .‬فلقد‬ ‫ما فعله اال�ست�شراق‪� ،‬أنه �أن�ش�أ اال�ستغراب على كلماته ور�ؤياه من دون �أن ُيحِ َّل َ‬ ‫ابقاه م�ستغرِباً حيال كل ما له �صلة بعامل املفاهيم واالفكار‪ .‬والنتيجة �أن ال�شرق ظل دائماً براَّنياً‬ ‫يف عقل الغرب‪ ،‬و�شريكه ال�ضعيف يف �آن‪ .‬حتى �أن كثريين من الدار�سني الغربيني مل يروا �إىل‬ ‫كظل ٍ‬ ‫�صامت ينتظر من يهبه احلياة‪ .‬ما اف�ضى �إىل واقعة معرفية‬ ‫احلركات الفكرية يف ال�شرق اال ٍ‬ ‫امل�ستغرب‬ ‫مطلقا‪ ،‬يف مقابل غياب ال�شرق يف فكر‬ ‫ِ‬ ‫قوامها ح�ضور امل�ست�شرق يف ال�شرق ح�ضوراً‬ ‫ً‬ ‫غياباً مطلقاً‪.‬‬ ‫ولأن اال�ستغراب هو الوجه الآخر لال�ست�شراق‪ ،‬فقد �ض َّيع �سم َته اخلا�ص‪ ،‬و َفقَد هويته‪ .‬ف�إذا هو‬ ‫قا�صر عن �إنتاج معارف جمدية عن الذات وعن الآخر‪.‬‬ ‫اال�ست�رشاق يف املعنى واالختبار‬

‫لو �أنّ لنا من تو�صيف ي َو ِّحد معنى اال�ست�شراق بعد ارحتال مديد من االجراءات التف�سريية‪ ،‬لقلنا‬ ‫�إنه فهم الغرب لل�شرق‪ ،‬من دون �أن يكون لل�شرق حرية التعريف بنف�سه كما هي يف الواقع‪ .‬كان‬ ‫للغرب �شغف �إىل التع ّرف على �شرقٍ ‪ ،‬مل يعد عند غروب القرن الثامن ع�شر جم ّرد نظري جهوي‬ ‫له‪ ..‬بل كان بالن�سبة اليه‪ ،‬جغرافيا م�سكونة بالأ�سرار‪ .‬ثم وجد �أن ال منا�ص له من حت ّري ما تثريه‬ ‫الده�شة التي ينطوي عليها‪ .‬ف�أ َّنى ذهبت التف�سريات جلالء الأ�سباب املعرفية التي دفعت النخب‬ ‫الغربية �إىل مثل هذا التح ِّري‪ ،‬فلي�س من العقالنية يف �أمر‪� ،‬أن تحُ مل الظاهرة على حممل الرباءة‪.‬‬ ‫ذاك �أننا ل�سنا ب�إزاء �إجراء معريف منقطع ال�صلة عن حتوالت احلداثة وتدفقها �إىل خارج ف�ضائها‬ ‫القومي‪.‬‬ ‫من هذا النظر ال يعود اال�ست�شراق جمرد حقبة تاريخية ولدت كفائ�ض قيمة للحداثة االمربيالية‪،‬‬ ‫و�إمنا هو ظاهرة مركبة من املعرفة والهيمنة وقد ُ�ص َّبتا يف وعاء واحد‪ ...‬ما ت�صح اال�شارة �إليه‪� ،‬أن‬ ‫الغرب ا�ستطاع �أن يتجاوز �أزماته احل�ضارية من خالل �إعالئه من �ش�أن النقد‪ .‬فلقد عكف على نقد‬ ‫يرم ما ف َُ�سد يف تاريخه‪ .‬لكن اال�ست�شراق مل يكن يف حاجة على ما‬ ‫كل عيب لديه من �أجل �أن مِّ‬ ‫يبدو اىل مثل هذا النقد‪ ،‬اال اذا تع ّلق الأمر بت�صحيح املهمات التي �أوكلها اىل نف�سه‪ .‬ولذا فعلى‬ ‫الرغم مما ظهر به عمله‪ ،‬وك�أنه ن�سق م�ستقل بذاته‪� ،‬إال �أنه مل يكن مبن�أى من اال�سرتاتيجيات العليا‬ ‫ملوطنه الأ�صلي‪ .‬فانه يف �أطوار زمانية ومكانية خمتلفة‪� ،‬سيفارق َّمدعاه اال�ستقاليل‪ ،‬لي�ؤدي مهمة‬ ‫ذات وجهني‪:‬‬ ‫‪14‬‬


‫الإ�سالم والإ�صالح الديني‬

‫الأول‪ :‬تظهري العقالنية مبا هي �ش�أن ذاتي جوهري ملاهية الغرب‪.‬‬ ‫الثاين‪ :‬ر�ؤية ال�شرق تبعاً لعقل الغرب ومعايريه ال�صارمة‪ .‬ثم �إعادة توليد �صورة امل�شرق على نحو‬ ‫يجعل ُن َخ َبه ومثقفيه غافلني عما هم عليه يف واقع �أمرهم‪.‬‬ ‫ال�ض ّدي‬ ‫هذا ما ي�شري �إليه املفكر العربي الراحل ادوارد �سعيد‪ ،‬حني يرى �أن انعدام الوعي النقدي ّ‬ ‫يف اال�ست�شراق‪ ،‬هو ح�صيلة كونه توثيقاً �إحالياً‪ ،‬يعيد فيه الن�ص اجلديد ‪�-‬أي املنتج اال�ست�شراقي‪-‬‬ ‫توثيق �سلطة الن�ص القدمي‪.‬‬ ‫ففي مقدمة كتابه «اال�ست�شراق»‪ ،‬يقول �سعيد‪�« :‬إذا اتخذنا من �أواخر القرن الثامن ع�شر نقطة‬ ‫لالنطالق حمددة حتديداً تقريبياً‪ ،‬ف�إن اال�ست�شراق ميكن ان يناقَ�ش ويح َّلل بو�صفه امل�ؤ�س�سة امل�شرتكة‬ ‫للتعامل مع ال�شرق‪� .‬أي التعامل معه ب�إ�صدار تقريرات حوله‪ ،‬و�إجازة الآراء فيه و�إقرارها‪ ،‬وتدري�سه‪،‬‬ ‫واال�ستقرار فيه‪ ،‬وامتالك ال�سيادة عليه‪� ..‬أما م�ؤدى الأطروحة التي مي�ضي �سعيد �إىل �إجنازها فيوجزها‬ ‫إن�شاء‪ ،‬فلن يكون بو�سعنا �أبداً �أن نفهم الفرع ّ‬ ‫املنظم تنظيماً‬ ‫قوله‪« :‬اننا مل نك َتنه اال�ست�شراق بو�صفه � ً‬ ‫عالياً الذي ا�ستطاعت الثقافة الغربية عن طريقه �أن تتد ّبر ال�شرق ‪-‬بل حتى ان تنتجه‪� -‬سيا�سياً‪،‬‬ ‫اجتماعياً‪ ،‬وع�سكرياً‪ ،‬وعقائدياً‪ ،‬وعلمياً‪ ،‬وتخ ّيلياً‪ ..‬لقد احتل اال�ست�شراق مركزاً هو من ال�سيادة‬ ‫بحيث �أنني �أ�ؤمن ب�أنه لي�س يف و�سع ان�سان يكتب عن ال�شرق‪� ،‬أو يفكر فيه‪� ،‬أو ميار�س فع ًال متع ّلقاً‬ ‫به‪ ،‬من دون ان ي�أخذ بعني الإعتبار احلدود املع ّوقة التي فر�ضها اال�ست�شراق على الفكر والفعل‪.‬‬ ‫وبكلمات �أخرى‪ ،‬ف�إن ال�شرق‪ ،‬ب�سبب اال�ست�شراق‪ ،‬مل يكن (ولي�س) مو�ضوعاً ح ّراً للفكر �أو الفعل‪..‬‬ ‫ال يعني هذا �أن اال�ست�شراق‪ ،‬مبفرده‪ ،‬هو الذي يق ِّرر ويح ِّتم ما مبكن �أن يقال عن ال�شرق‪ ،‬بل �إنه ي�ؤ ِّلف‬ ‫ح�ضر ت�أث ُريها ب�صورة ال مفر منها يف كل منا�سبة‪ ...‬بحيث يكون‬ ‫�شبكة امل�صالح الكلية التي ُي�س َت َ‬ ‫فيها ذلك الكيان العجيب «ال�شرق» مو�ضعاً للنقا�ش‪� .‬أما كيف يحدث ذلك‪ ،‬فقد ت�أتي اجلواب‬ ‫ ح�سب �سعيد‪� -‬أن الثقافة الغربية اكت�سبت املزيد من القوة والهوية بو�ضع نف�سها مو�ضع الت�ضاد‬‫‪1‬‬ ‫مع ال�شرق باعتباره ذاتاً بديلة �أو حتى �سرية «حتت‪ِ �-‬‬ ‫أر�ض ِّية»‬ ‫ديالكتيك التثمري والتفكيك‬

‫لو ق�صرنا وجهة اال�ست�شراق على كونها وظيفة �أيديولوجية لل�سلطة االمربيالية‪ ،‬فلرمبا �سهونا عن‬ ‫الكثري من مواطن اخللل‪ .‬فامل�س�ألة تتعدى ال�سيا�سي املبا�شر لت�صل اىل طبقات �أعمق غوراً‪ ،‬وهي‬ ‫يف الوقت عينه‪ ،‬م ّت�صلة ا ّت�صا ًال موثوقاً بالغاية العليا لتوجهات احلداثة ورحلتها الكولونيالية نحو‬ ‫ال�شرق‪.‬‬ ‫‪� 1‬إدوارد �سعيد اال�ست�شراق‪ :‬املعرفة‪ ،‬ال�سلطة‪ ،‬االن�شاء‪ ،‬نقله �إىل العربية كمال �أبوديب‪ ،‬م�ؤ�س�سه الأبحاث العربية‪،‬‬ ‫بريوت‪ ،‬الطبعة ال�سابعة‪� ،2005 :‬ص‪.8‬‬ ‫‪15‬‬


‫وعلى هذا النحو �سرنى كيف انعقد ال�سجال حول اال�ست�شراق على �سياق مركب‪ ،‬قوامه التالزم‬ ‫الديالكتيكي بني التثمري املعريف ملنجزات ال�شرق‪ ،‬و�إعادة انتاجها ك�سلطة معرفية لل�سيطرة عليه‪.‬‬ ‫ثمة من يبينّ �أن اال�ست�شراق‪ ،‬الذي كثرياً ما �أ�سهب املعنيون يف تو�صيفه وتعريفه‪ ،‬ال يعدو كونه علماً‬ ‫طال اال�سالم عقيدة وثقافة‪ ،‬واجتماعاً �سيا�سياً‪ ،‬وبنية ح�ضارية‪ .‬فال عجب �إذاً‪� ،‬أن تن�ش�أ مدار�س‬ ‫للدرا�سات العربية واال�سالمية‪� ،‬أبرزها تلك التي تزعمها امل�ست�شرق «بورج�شتال»‪ ،‬وال غرابة �أي�ضاً‬ ‫حني تتب ّو�أ �إحداها‪- ،‬حتت �إدارة امل�ست�شرق �سنوك هورخرونيه‪ -‬مكانة مرموقة ُو�ضعت يف خدمة‬ ‫امل�ستعمرات الهولندية يف جنوب �شرق �آ�سيا‪� .‬أما الأملان الذين ُحرموا من وليمة امل�ستعمرات‪،‬‬ ‫فلم ينههم ذلك عن ال�ضرب ب�سهم وافر يف هذا العلم‪ .‬ومن باب �أوىل ‪-‬ونحن ن�ستجمع �أ�سباب‬ ‫اللهفة الأوروبية على الثقافة العربية‪� -‬أن نعود بذاكرتنا لرنى �إىل الدافع الذي �آل باال�سبان اىل‬ ‫العدول عن ال�سيف نحو الكلمة‪ ،‬من اجل درء اخلطر الذي ّ‬ ‫�شكله الفتح اال�سالمي بداية‪ ،‬ومن‬ ‫بعده املوحدون الذين �أثاروا بانت�صاراتهم املتكررة حفيظة الكني�سة‪� .‬أما النتيجة فكانت والدة فكرة‬ ‫ترجمة القر�آن للتع ّرف على الطبيعة الروحية والفكرية للخ�صم‪ .‬ولقد �أ�صاب امل�ست�شرق الأملاين‬ ‫يوهان فوك حني �ش ّبه حال الكني�سة وهي تتبنى الفكرة وتنفّذها‪ ،‬بحالة الدول النامية يف وقتنا‬ ‫فتنفتح معرفياً على ثقافات و�أيديولوجيات‬ ‫الراهن‪� .‬إذ بات لزاماً عليها‪� ،‬أن تخطو اخلطوة الأوىل‪َ ،‬‬ ‫الدول امل�ص ّنعة واملتقدمة‪...‬‬ ‫وهكذا فقد اطلقت ثقافة الغرب امل�سيحي يف القرون الو�سطى مناخات قطيعة واخت�صام مع‬ ‫الإ�سالم بلغت ذروتها مع احلروب ال�صليبية‪ .‬وامل�شكلة التي مل جتد م�ستقراً �سعيداً لها بعد‪،‬‬ ‫فهي تلك التي تتمثل على الإجمال بتمدد و�سريان ثقافة القطيعة واالخت�صام‪ ،‬حيث ال تنفك‬ ‫تداعياتها تع�صف بعاملنا املعا�صر‪.‬‬ ‫كانت فكرة التب�شري هي الواقع احلقيقي خلف ان�شغال الكني�سة برتجمة القر�آن و�إتقان العربية‪.‬‬ ‫كان كلما تال�شى الأمل يف حتقيق ن�صر نهائي بقوة ال�سالح‪ ،‬كلما �صار وا�ضحاً �أن احتالل البقاع‬ ‫املقد�سة مل ي�ؤ ِد �إىل ثني امل�سلمني عن دينهم‪ ،‬بقدر ما �أدى �إىل عك�س ذلك‪ ،‬وهو ت�أثر املقاتلني‬ ‫ال�صليبيني بح�ضارة امل�سلمني وتقاليدهم ومعي�شتهم يف حلبات الفكر‪ .‬وقبل حدوث واقعة‬ ‫(�إيدي�سا�س) عام ‪ ،1143‬وهو العام الذي ُر َّد فيه ال�صليبيون على �أعقابهم‪ ..‬ظهرت �أول ترجمة‬ ‫املبجل‪ .‬وقد وجد هذا االخري الفر�صة �سانحة للتع ُّرف على‬ ‫التينية للقر�آن على يد الأب بطر�س َّ‬ ‫التناظر القائم يف ذلك الوقت بني اال�سالم وامل�سيحية‪ ،‬وال �سيما جلهة املعارك الدائرة بني امل�سلمني‬ ‫واال�سبان‪ ،‬وال�شعار املرفوع ال�سرتداد بيت املقد�س‪ .‬ثم كان �أن خرج من ذلك كله بقناعة‪ ،‬ب�أن ال‬ ‫�سبيل اىل مكافحة (دين حممد(�ص)) بعنف ال�سالح الأعمى‪ ،‬وامنا بقوة الكلمة‪ ،‬ودح�ضه بروح‬ ‫املتعمقة بر�أي اخل�صم‪ ،‬فقد و�ضع خطة‬ ‫املنطق امل�سيحي‪ .‬وملا كان مثل هذا العلم ي�شرتط املعرفة ِّ‬ ‫‪16‬‬


‫الإ�سالم والإ�صالح الديني‬

‫للعمل على ترجمة القر�آن �إىل الالتينية‪ 2‬وذلك وفقاً ال�سرتاتيجية ت�أويلية تف�ضي اىل اعادة ت�شكيل‬ ‫عقيدة امل�سلمني على ن�صاب التحريف والت�شويه‪...‬‬ ‫يظهر لنا �إىل �أي مدى كان للعامل الديني عناية خا�صة يف ا�شتغاالت اال�ست�شراق‪ .‬ول�سوف‬ ‫يالحظ املحققون‪ ،‬كيف لعب الدين دوراً رئي�سياً يف والدة احلركة اال�ست�شراقية‪ .‬ففي وقت مبكر‬ ‫�سيجري التعامل مع ال�شرق بو�صفه جغرافيا دينية‪ ،‬ومع لغة القر�آن مبا هي الف�ضاء املعنوي واملعريف‬ ‫احلا�ضن لتلك اجلغرافيا‪ .‬ولو حت َّرينا الدرا�سات والتحقيقات التي اجنزها امل�ست�شرقون يف لغة الدين‬ ‫وفل�سفته‪ ،‬لتبينّ لنا عمق التالزم بني الدين واللغة ال�ستك�شاف البناءات املعرفية ملجتمعات‬ ‫ال�شرق العربي واال�سالمي‪.‬‬ ‫فلئن ُع ِّرف اال�ست�شراق لدى ِّ‬ ‫جل امل�ست�شرقني‪ ،‬على �أنه فقه اللغة (الفيلولوجيا)‪ ،‬كما حر�ص‬ ‫امل�ست�شرق باريت على ت�سميته‪ ،‬فلن يكون ذلك جمانبة حلقيقة التعريف‪ .‬فاللغة العربية‪ ،‬بحكم‬ ‫حتدرها من �أ�سرة �سامية واحدة‪� ،‬إىل جانب الآرامية وال�سريانية والعربية‪ ،‬راحت ت�ست�أثر باهتمام‬ ‫ُّ‬ ‫الكني�سة ل�شرح ما �أبهم عليها من ن�صو�ص الكتاب املقد�س‪ .‬من �أجل ذلك �شاع القول �إن الإقبال‬ ‫على تع ّلم العربية مل يكن بحافز �أحادي‪ ،‬وال بطفرة دينية فح�سب‪ ،‬بل لأ�سباب معرفية �أي�ضاً‪ .‬فمن‬ ‫املعروف �أن الع�صر الو�سيط �شهد للعرب �أنهم ورثة العلوم القدمية‪ .‬وهو ما كان يطلق على الطب‬ ‫والفلك والفل�سفة والريا�ضيات‪ .‬كانت العربية وقتها كاالجنليزية اليوم‪ ،‬لغة الرقي واملدنية‪ ،‬وبوابة‬ ‫اخلال�ص من اجلهل والتخ ّلف‪ .‬وكان ال�شعار املرفوع دوماً وحتى وقت مت�أخر من القرن الثامن‬ ‫ع�شر‪ ،‬هو تخلي�ص الإ�ست�شراق من قب�ضة الالهوت (‪� .(AUTORITAT‬سوى �أن هذه املحاولة مل‬ ‫جتد �سبي ًال لها لت�صري نهجاً را�سخاً يف املمار�سة اال�ست�شراقية‪ .‬و�سي�أتي من احلوادث ما يدل على �أن‬ ‫�ضرب من ميتافيزيقا �سيا�سية‪ ،‬مبا لهذا اال�صطالح من‬ ‫املنحى الغالب يف اال�ست�شراق هو حتوله اىل ٍ‬ ‫معنى‪ .‬ولنا على �سبيل التحقيق �أن نحيل القارئ اىل احلادثة التالية‪:‬‬ ‫عام ‪� 1888‬أقدم جوغوير على ترجمة «�ألفية» �إبن مالك امل�شهورة‪ ،‬وهي ‪-‬كما ُيعرف‪� -‬أرجوزة يف‬ ‫النحو العربي ال مكان فبها للجدل الديني �أو العقائدي �أو ال�سيا�سي‪ ،‬لكنه افتتح الرتجمة بهذه‬ ‫الكلمات‪« :‬لقد حان الوقت لإتقان هذة اللغة ال�سامية (العربية)؛ ذات الطابع ال�شعائري �أ�سا�ساً‬ ‫واملنت�شرة يف م�ستعمراتنا‪ .‬والدافع �إىل هذا العمل ‪-‬على ما يو�ضح �صاحب الرتجمة‪ -‬هو �أن‬ ‫نتع ّرف على االجتاهات اخلبيثة لك ّتابها و�أن ن�ش ّهر بهم‪� .‬إن بحثي قد يكون مفيدا ً على امل�ستوى‬ ‫العلمي البحت‪ ،‬لكن هدفه الأكرب عملي؛ �إنه من نوع الطموح الذي يحمله املهند�س الع�سكري‬ ‫‪3‬‬ ‫عندما يدر�س مراجع عدوه حول الدفاع والهجوم؛ ان هديف هو التدمري»‪...‬‬ ‫‪ 2‬‬ ‫‪ 3‬‬

‫يوهان فوك‪ ،‬تاريخ حركة اال�ست�شراق‪ ،‬الدرا�سات العربية‪ ،‬اال�سالمية حتى بداية القرن الع�شرين (نقله عن‬ ‫الآملانية عمر لطفي العامل)‪ ،‬دار املدار اال�سالمي‪ ،‬بريوت‪� ،2001 ،‬ص‪.17‬‬ ‫يوهان فوك‪ ،‬امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص‪.20‬‬ ‫‪17‬‬


‫بوجه عام‪ ،‬ال يو�ضع الكالم ‪ -‬الذي م ّر معنا‪ -‬خارج احلفر املعريف املتعدد الأن�ساق‪ .‬وهو هنا يعبرِّ‬ ‫عن نف�سه يف ا�ستك�شاف ال�شرق مبا هو جغرافية اال�سالم املرتامية الأطراف‪ ،‬و�إعادة ت�شكيله وت�أليفه‬ ‫على قاعدة ما ذهبنا �إىل ت�سميته بـ «ديالكتيك التثمري والتفكيك»‪ .‬فلو عدنا �إىل امل�شهد العاملي‬ ‫املعا�صر‪ ،‬لوجدنا �أنه كلما انعقد كالم حول ثنائية الإ�سالم والغرب‪ ،‬عاد ما بينهما من و�صل‬ ‫وف�صل اىل �سريته الأوىل‪ .‬فما من �شيء للإ�سالم على الغرب‪� ،‬أو للغرب على الإ�سالم‪� ،‬إلاّ ُر َّد‬ ‫�إىل م�ستهل الإ�شكال‪� .‬إىل تلك اللحظة التي �أدرك فيها الغرب‪ ،‬مبا هو غرب‪� ،‬إن ا�ستئناف التاريخ‪،‬‬ ‫و�إعادة ترتيبه‪ ،‬ال يتح�صل �إلاّ ب�آخر يواجهه‪ ،‬ليحاوره �أو يجادله‪� ،‬أو ِل ُيهيمن عليه‪� .‬إنها �أي�ضاً اللحظة‬ ‫نف�سها‪ ،‬التي يدرك فيها امل�سلمون �أنهم‪ ،‬على وجه الق�صد‪ ،‬هم ذلك الآخر‪.‬‬ ‫�أما ال�س�ؤال املفرت�ض عن موقعية اال�ست�شراق �ضمن جدلية «الذات والآخر» فقد جند جوابه يف‬ ‫التوظيف االيديولوجي للفكر اال�ست�شراقي �سحابة قرون احلداثة الفائتة‪..‬‬ ‫ا�ستئنافاً لل�س�ؤال ثمة من مي�ضي �إىل �إن عملية �إنتاج «ال�شرق» اخ ُتربت يف �إطار �إنتاج «الغرب»‬ ‫لنف�سه على يد جماعة احتكرت مع الوقت ترجمة هذا «ال�شرق» وت�أويله وتف�سريه وتقدميه للغربيني‬ ‫وال�شرقيني على حد �سواء‪.‬‬ ‫وال تكتفي هذه الر�ؤية بذلك‪ ،‬بل راحت تن�شيء �صلة وطيدة بني اال�ست�شراق ورجاالته من جهة‬ ‫وبني مرجعيتني اثنتني يف التاريخ والثقافة الغربيتني من جهة ثانية‪.‬‬ ‫املرجعية االوىل‪ :‬هي عالقات املدر�سة اال�ست�شراقية املتعددة الأوجه بامل�ؤ�س�سة اال�ستعمارية‬ ‫ثم الأمربيالية الأورو‪� -‬أمريكية‪ ،‬مب�صاحلها وا�سرتاتيجياتها‪ .‬وهي عالقات لي�ست تختزل بالتطابق‬ ‫واملبا�شرة والتبعية‪ ،‬لكنها تبينَّ �أن مدر�سة اال�ست�شراق ال يقت�صر دورها على املكت�شفات والأبحاث‬ ‫والدرا�سات يف م�ضمار اللغات واجلغرافية والآثار والثقافات ال�شعبية والديانات واحل�ضارات‬ ‫«ال�شرقية»‪ ،‬قدميها واحلديث‪ .‬بل �إن دور امل�ست�شرق ي�صل �أحياناً اىل م�ستوى الفعل والت�أثري‬ ‫املبا�شرين يف مراكز القرار ال�سيا�سي واالقت�صادي يف الدول اال�ستعمارية او الإمربيالية‪ ،‬فهو يلعب‬ ‫دور املثقف الهام�س يف �أذن «الأمري»‪ ،‬حيث تقرر ن�صائحه وا�ست�شاراته وتقديراته م�صائر �شعوب‬ ‫وبلدان ب�أكملها‪ .‬املثال املعا�صر عن هذا النمط من امل�ست�شرقني هو الربيطاين برنارد لوي�س‪ ،‬م�ست�شار‬ ‫�ش�ؤون الإ�سالم والعراق خالل عهدي جورج بو�ش الأب واالبن‪ ،‬وهو ناحِ ت م�صطلح «�صدام‬ ‫احل�ضارات» و�صاحب الن�صيحة بغزو العراق رداً على هجمات احلادي ع�شر من �أيلول ‪.2001‬‬ ‫املرجعية الثانية‪ :‬هي الو�شائج التي تربط تيارات مدر�سة اال�ست�شراق بتطور العلوم الطبيعية‬ ‫‪4‬‬ ‫واالجتماعية والإن�سانية الغربية‪.‬‬ ‫‪ 4‬‬ ‫‪18‬‬

‫فواز طرابل�سي‪ ،‬الدميقراطية ثورة‪( ،‬ادوار �سعيد يف تطوره الفكري‪� ،‬شركه ريا�ض الري�س للكتب والن�شر‪ ،‬بريوت‬ ‫‪� ،2013‬ص‪.120‬‬


‫الإ�سالم والإ�صالح الديني‬

‫ثم تخل�ص هذه الر�ؤية �إىل �أن امل�ست�شرقني ي�شرتكون يف عدد من الثوابت يف نظرتهم اىل «ال�شرق»‬ ‫�أهمها‪:‬‬ ‫ النعرة اجلوهرية‪ ،‬واملق�صود بها تقدمي الغرب وال�شرق مبا هما جوهران متمايزان يخت�ص كل منهما‬ ‫بخ�صائ�ص �أ�صلية ثابتة �صارت طبيعة ثانية لكل منهما‪ .‬لكن التمايز يف�صح عن تراتب عمودي‬ ‫�صارم وثابت‪ ،‬حيث العقالنية والتطور والرقي هي جوهر جماعة‪ ،‬والروحانية والالعقالنية‬ ‫والتخلف جوهر جماعة �أخرى‪.‬‬ ‫ التعميم‪� ،‬أي االفرتا�ض �أن معرفة اجلزء تكفي ملعرفة الكل‪.‬‬ ‫ التنميط‪� ،‬أي �إ�ضفاء خا�صة واحدة من خ�صائ�ص اجلماعة على اجلماعة كلها‪.‬‬ ‫ اجلمود‪ ،‬ت�صوير عامل ال�شرق وحياته على �أنهما ثابت وال يتحول‪ ،‬ما يعادل �إعدام فعل الزمن‬ ‫والتاريخ فيه‪.‬‬ ‫ التفرد‪ ،‬وهو عك�س التعدد حيث «ال�شرق» دين واحد وجمتمع واحد و«عقل» واحد وجبلة‬ ‫نف�سانية واحدة وثقافة واحدة‪.‬‬ ‫ الثقافوية‪� ،‬أي تف�سري �أفكار ال�شرقيني و�سلوكهم ومنط حياتهم على �أ�سا�س مبد�أ تف�سريي �أوحد‬ ‫هو «ثقافتهم» التي تختزل اىل دينهم بالدرجة االوىل‪.‬‬ ‫وهكذا ت�صل الر�ؤية امل�شار �إليها �إىل خامتتني‪ ،‬االوىل ِّ‬ ‫حتذر من �أن «ي�سهم ال�شرق احلديث يف ت�شويق‬ ‫‪5‬‬ ‫ذاته» والثانية ت�ؤكد �أن «اال�ستغراب لي�س هو اجلواب على اال�ست�شراق»‬ ‫الرتيب اال�ست�رشاقي‬ ‫حا�رضية اال�سالم وعقدة‬ ‫َّ‬

‫منذ الإرها�صات الأوىل لنه�ضة الغرب‪ ،‬قبل نحو �أربعة قرون‪� ،‬أخذت تنمو �سريورة اللقاء بالإ�سالم‪.‬‬ ‫غري �أن هذه ال�سريورة ُطبعت على غائية �سالبة من ا ّولها‪ .‬ولقد ر�أينا كيف �أنها �ست�ؤول �إىل �ضرب‬ ‫من لقاء‪ ،‬تبينّ �أنه لن ُي�ؤ َّدى على النحو املر�سوم له �إال على �أر�ض ال ّزيغ والكمون‪ .‬كان على‬ ‫الغرب الذي حمل حداثته الفتية لين�شرها على امللأ‪� ،‬أن يلتقي بالإ�سالم لقاء احلاكم ب�أمره‪ .‬ك�أمنا‬ ‫قدر الغرب يف حداثته الأوىل‪� ،‬ألاّ يرى �إىل جغرافية الإ�سالم‪� ،‬إلاّ كم ّت�سع مديد‪ ،‬يزخر بقابليات‬ ‫التلقّي‪ ،‬والتمثّل‪ ،‬والإ�ستالب‪.‬‬ ‫مرة �أخرى ت�ضع �أطروحة «الإ�سالم والغرب» الكالم على ن�ش�أته الأوىل‪ .‬فتلك‪ ،‬على الرغم من‬ ‫تقادم الزمان عليها‪ ،‬ال تزال حية ت�سعى‪ .‬تفعل وتنفعل‪ ،‬وتر�سم وجه العامل وحدوده‪� .‬أطروحة‬ ‫‪ 5‬‬

‫فواز طرابل�سي‪ ،‬م�صدر م َّر ذكره‪� ،‬ص‪.121‬‬ ‫‪19‬‬


‫«اال�سالم والغرب» هي �أكرث �أطروحات الزمن احلديث مثاراً للجدل‪ .‬ال يعود ال�سبب �إىل عدم‬ ‫الفهم بني الطرفني وح�سب‪ ،‬بل �إن عدم فهم ال�شرق‪ ،‬هو وليد �ضد ّية ح�ضارية وثقافية‪ ،‬وجدت‬ ‫بدايتها الفعلية مع �صعود الدولة القومية يف الغرب‪ ،‬وا�ست�شراء غريزة ال ّتو�سع‪ .‬ما يعني �أنّ غريزة‬ ‫التو�سع �أوجبت عق ًال ا�ستعالئياً يرى �إىل الغري كما يبتغي �أن يكون‪ ،‬ال كما هو يف الواقع‪.‬‬ ‫ب�إزاء احلال‪ ،‬مل يكن جلغرافية الإ�سالم املاثلة يف عني الغرب كامداء مرتامية‪� ،‬إلاّ �أن ترد الفعل‬ ‫بفعل‪ .‬وهو ‪-‬ر ّد غالباً ما كان‪ -‬بحكم ميزان القوة‪ ،‬وتقنيات ال�سيطرة اجلائرة‪ ،‬جواباً ارتدادياً فظيع‬ ‫الأثر‪ .‬فل�سوف يرتتب على الفعل وجوابه الإرتدادي �أفهاماً‪ ،‬ومعارف‪ ،‬وثقافات‪ ،‬ال ت�ستوي �إلاّ‬ ‫حد الرف�ض واالخت�صام‪.‬‬ ‫على ِّ‬ ‫مع ذلك‪ ،‬مل يكن يف �سريورة «اللقاء اللدود» بني الإ�سالم والغرب من انقطاع‪ .‬ظلت هذه‬ ‫ال�سريورة‪ ،‬على الرغم من احلروب ال�ضرو�س‪ ،‬وال ُه َدن املتواترة‪ ،‬والت�سويات املوقوفة‪ ،‬على نحو‬ ‫ما من التوا�صل‪ .‬غري �أن هذا التوا�صل ما كان لي�أتي على �أجنحة امل�صادفة‪ .‬لذا جاء لي�ست�أنف‬ ‫على ن�صاب الرت ُّيب الأق�صى ب�سبب من حا�ضرية اال�سالم و�سط عامل يعي�ش خواءه وفو�ضاه‬ ‫وحروبه املجنونة‪ .‬ولي�ست ظاهرة «اال�سالموفوبيا» �سوى التمثيل املا بعد حداثي لال�ست�شراق‬ ‫‪6‬‬ ‫االيديولوجي‬ ‫ما فعلته الأمرباطوريات الطاحمة‪ ،‬كان فع ًال م�شهوداً يف ن�سيج الزمن العربي الإ�سالمي ك ّله‪ .‬فلقد‬ ‫كان على �أر�ض الإ�سالم من كوارثه ما ال يح�صى‪� .‬أما ما فعله اال�ست�شراق ف�إنه �أجنز من القراءات‪،‬‬ ‫وابتنى من الأحكام‪ ،‬ما جعل �صورة الإ�سالم وامل�سلمني مك�س ّوة ب�ضباب كثيف‪ .‬فلو ر�أينا �إىل‬ ‫�صورة اال�ست�شراق من منطقة املعاينة احل ّرة َللاَ حت لنا هذه ال�صورة‪ :‬بع�ض اال�شت�شراق يف ما�ضيه‬ ‫وحا�ضره �أقبل على ح�سن ّ‬ ‫الظن فكتب يف الإ�سالم وحوله ما ال �شائبة فيه‪ .‬يف حني م�ضى بع�ض‬ ‫حد ّوظفت فيه �أعماله �ضمن �أوعية الإمرباطوريات الطاحمة‪.‬‬ ‫�آخر منه �إىل ّ‬ ‫لكن يبقى ال ّت�سا�ؤل حا�ضراً عما لو كان ثمة منطقة و�سطى ميكن �أن نعرث فيها على ا�ست�شراق‬ ‫مو�ضوعي رحيم و�سموح؟‪..‬‬ ‫لي�س من �شك يف وجود مثل هذا النوع من اال�ست�شراق‪� ،‬سوى �أنه وجود حمدود ال�ش�أن‪ .‬لكن داء‬ ‫ال َغ َلبة �سيلقي بظ ّله على ُج ِّل تلك الإ�ضاءات التي �شهدناها يف حقول ال ّت�صوف وعلم الكالم‪،‬‬ ‫بل وحتى يف م�ضمار الفل�سفة ال�سيا�سية‪ ...‬ولو عاي ّنا قلي ًال لوجدنا هذا الداء داخل منطق احلداثة‬ ‫نف�سه‪ ،‬ذاك الذي �ساد‪ ،‬و�شاع‪ ،‬وا�ستبد �سلطا ُن ُه منذ بدايات القرن التا�سع ع�شر‪.‬‬ ‫املحملة برموز و�إ�شارات ال‬ ‫هكذا بدا ال�شرق الذي يتج َلى يف مد َّونات اال�ست�شراق وتوجيهاته ّ‬ ‫‪ 6‬‬ ‫‪20‬‬

‫حممود حيدر‪ ،‬حا�ضرية اال�سالم (اال�سالم بعني الغرب)‪ ،‬ف�صلية مدارات غربية‪ ،‬العدد الرابع‪ ،‬ربيع‪،‬‬ ‫بريوت‪ ،‬باري�س‪.‬‬

‫‪2005‬‬


‫الإ�سالم والإ�صالح الديني‬

‫ح�صر لها‪ ،‬وبح�سب ت�أويلية �إدوارد �سعيد‪ ،‬يظهر اال�ست�شراق كنظام �صارم من التمثّالت‪ ،‬وهو م� َّؤطر‬ ‫بطقم كامل من القوى التي قادت ال�شرق �إىل جمال املعرفة الغربية‪ ،‬والوعي الغربي‪ ،‬ويف مرحلة‬ ‫تالية‪ ،‬االمرباطورية الغربية‪ .‬و�إذا كان هذا التحديد لال�ست�شراق يبدو �سيا�سياً �أكرث منه �أي �شيئ‬ ‫�آخر‪ ،‬فذلك لأن اال�ست�شراق كان هو نف�سه نتاجاً لقوى ون�شاطات �سيا�سية معينة‪.‬‬ ‫وفق ر�ؤية كهذه‪ ،‬يغدو اال�ست�شراق معرفياً مدر�سة للتف�سري‪ ،‬فقد َح َد َث �أن كانت مادتها ال�شرق‪،‬‬ ‫بح�ضارته‪ ،‬و�شعوبه‪ ،‬و�أقاليمه املحلية‪ .‬و�أما اكت�شافات اال�ست�شراق املو�ضوعية فهي كانت دائماً‬ ‫وما تزال م�شروطة وحمددة بكون حقائق اال�ست�شراق‪ ،‬مثل �أي حقائق �أخرى تنقلها اللغة‪ ،‬التي‬ ‫املج�سمة‪،‬‬ ‫و�صفها نيت�شيه مرة ب�أنها‪« :‬جي�ش متح ّرك من اال�ستعارات‪ ،‬والكنايات‪ ،‬والت�شبيهات ّ‬ ‫بل هي خال�صة من العالقات الإن�سانية ُع ِّمقت‪ ،‬و ُنقِلت‪ ،‬و ُزخِ َرت �شعرياً وبالغياً‪ ،‬و�صارت‪ ،‬بعد‬ ‫ا�ستعمال طويل �صلبة‪ ،‬و�شرائعية‪ ،‬وملزمة ل�شعب ما‪.‬‬ ‫رمبا ي�صدمنا ر�أي كر�أي نيت�شه هذا بو�صفه فيل�سوفاً مغالياً يف العدمية‪ ،‬لكنه على الأقل �سوف‬ ‫يجذب انتباهنا �إىل �أن ال�شرق‪ ،‬من حيث ُوجِ َد يف وعي الغرب‪ ،‬كان لفظة تنامى لها فيه حقل‬ ‫وا�سع من املعاين‪ ،‬والرتابطات‪ ،‬والت�ضمينات‪ ،‬وان هذه جميعاً مل تكن ت�شري بال�ضرورة �إىل‬ ‫ال�شرق احلقيقي‪ ،‬بل �إىل احلقل املحيط باللفظة‪ .‬وبالن�سبة لأي اوروبي يف القرن التا�سع ع�شر‪،‬‬ ‫ي�صدق ما‬ ‫كان اال�ست�شراق نظاماً من احلقائق باملعنى الذي �أعطاه نيت�شه للكلمة‪� ،‬أي �أنه كان ِّ‬ ‫قيل عن ال�شرق‪ ،‬ولو من باب االنحياز العاري‪� .‬أما ح�صاد هذا ك ّله‪ ،‬ف�إن ‪ -‬الأوروبي الغربي على‬ ‫ودينيا‪ ،‬و�سيا�سياً‪� .‬إ�ضافة‬ ‫وجه ال ّتحديد‪ -‬راح ينظر �إىل ال�شرق و�أهله نظرة املتعايل‪ ،‬عرقياً‪ ،‬وثقافياً‪،‬‬ ‫ً‬ ‫�إىل ذلك‪ ،‬ف�إن املجتمعات الغربية املتقدمة‪ ،‬نادراً ما منحت الفرد �شيئاً عدا طموحاتها االمربيالية‪،‬‬ ‫‪7‬‬ ‫وثقافتها العن�صرية‪ ،‬والتمركز العرقي يف التعامل مع الثقافات «الأخرى»‬ ‫*****************‬

‫لو �أجرينا قراءة �إجمالية ملا تق�ضي �إليه مقا�صد اال�ست�شراق يف هذا ال�صعيد لوجدنا �أن حداثة‬ ‫الغرب يف العقل النخبوي للحداثيني العرب‪ ،‬ال تزال ت�ستعاد على الن�ش�أة التي قر�أها ا�صحابها‬ ‫الأ�صليون قبل �أكرث من �أربعة قرون‪ .‬وما هو �أدهى‪� ،‬إن العقل امل�شار �إليه‪ ،‬وعلى الرغم من املرياث‬ ‫النقدي الهائل الذي زخر به تاريخ احلداثة‪ ،‬بقى حري�صاً على التعلق مبحامل احلداثة االوىل‬ ‫ومقالتها البكر‪� :‬أي بو�صفها �أطروحة ملدينة فا�ضلة ت�ستنقذ العامل من فو�ضاه وجاهليته‪ .‬ذلك‬ ‫يعني ‪ -‬ولو على �سوء الظن‪� -‬إن عق ًال كهذا ال ي�ستطيع �أن ينظر �إىل حداثة الغرب �إال بو�صفها عاملاً‬ ‫متخي ًال الحظ له من احلقيقة الواقعية يف �شيء‪.‬‬ ‫‪� 7‬إدوارد �سعيد‪ ،‬اال�ست�شراق‪ ،‬م�صدر م َّر ذكره‪� ،‬ص‪.47‬‬ ‫‪21‬‬


‫يفعل ذلك املعا�صرون من املثقفني العرب وامل�سلمني كما فعل الأ�سالف من قبل‪� .‬أولئك الذين‬ ‫اجتمعوا على مقالة النه�ضة حتى ُ�س َّمي الزمن الذي عا�شوه با�سمها‪ .‬فكان ختام القرن التا�سع ع�شر‬ ‫وم�ستهل القرن الع�شرين عامراً بفردو�س ال�شعارات الكربى‪ :‬الدولة الأمة‪ ،‬والدميقراطية‪ ،‬واملجتمع‬ ‫املدين‪ ،‬والتحرر من نري اال�ستعمار‪ ،‬والعدالة االجتماعية‪ ،‬والتعددية‪ ،‬ونقد طبائع اال�ستبداد‪.‬‬ ‫�أكرث ه�ؤالء حملوا �س�ؤال النه�ضة على ح�سن الظن و�سالمة النية‪� .‬إال �أنهم مل يفارقوا ده�شة‬ ‫الأنوار فوقعوا يف ال�شبهة‪ .‬مل يدركوا �إال مت�أخرين �أن �أنوار الغرب مكثت يف الغرب‪ .‬ومل ي�أتِنا‬ ‫من ح�صادها �سوى �شراهة ال�سيطرة الكولونيالية وت�أبيد اجلاهلية ورعاية اال�ستبداد‪ .‬ومثلما �أُخذنا‬ ‫على مدى مائة عام با�ستعاراتهم النه�ضوية من دون تفكيك �أو م�ساءلة‪� ،‬أخذوا هم حكاية احلداثة‬ ‫نف�سها و�أجروا �س�ؤال النه�ضة على ما هو �أدنى من �سرية امل�ست�شرقني‪ ،‬فقر�أوه قراءة الغائب‪ ،‬ليح�ضر‬ ‫اال�سالم يف تلك القراءة على نحو مياثل ح�ضور م�سيحية الغرب يف مقابل علمانيته احلادة‪.‬‬ ‫اليوم �سوف نرى �أن �س�ؤال النه�ضة امل�ست�أنف ال ينفك يظهر على الن�ش�أة نف�سها‪ ،‬مع فارق جوهري‪،‬‬ ‫وهو �أن ال�سواد االعظم من املثقفني يغ ِّيبون ال�س�ؤال‪ ،‬ويعاملونه كحا�صل ثقافة فات �أوانها‪ ..‬بل‬ ‫وي�ستغربونه كما لو كان �س�ؤال فائ�ضاً عن احلاجة‪.‬‬ ‫ولو كان لنا ان نت�ساءل الآن عن م�صري ال�س�ؤال النه�ضوي وم�آالته ف�إنا على يقني من �أن جواباً‬ ‫يح�صل بي�سر‪ .‬ويف زحمة الثورات الرمادية التي جتتاحنا من �شهور‪� ،‬سيكون علينا �أن نبذل‬ ‫عليه ال َّ‬ ‫�أق�صى اجلهد لنعرث عليه‪ ،‬ولو يف ف�ضاء امل�ستحيل‪.‬‬

‫‪22‬‬


‫الإ�سالم والإ�صالح الديني‬

‫تطبيـق ال�رشيعـة الإ�سالميـة‬ ‫بني الإلزام والإلتزام‬

‫ع�صام نعمان ‪ -‬كاتب �سيا�سي‪ /‬وزير لبناين �سابق‬

‫بحث م�سائل ثالث‪ :‬مفهوم الدين والدولة نظرياً وتطبيقياً‪ ،‬والإ�سالم‬ ‫ما �أ�سعى �إليه يف هذه الورقة ُ‬ ‫مبا هو دين ودولة‪ ،‬وتطبيق ال�شريعة يف الدولة املعا�صرة و�صو ًال �إىل اقرتاح مقاربة جديدة لتطبيقها‬ ‫على �أ�سا�س الإلتزام‪ ،‬ال الإلزام‪.‬‬ ‫�أوالً‪ :‬يف مفهوم الدين والدولة نظريا ً وتطبيقيا ً‬

‫احل�ساب؛ ومنه قوله تعاىل‪ُ :‬‬ ‫مالك يوم‬ ‫الدين لغ ًة متعد ُد املعنى‪ .‬فقد جاء يف ل�سان العرب «الد ِّين‪:‬‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫والد ُين‪ :‬الطاعة‪ .‬وقد ِدنْ ُته و ِدنْ ُت له �أي �أطعته (‪)...‬‬ ‫الدين؛ وقيل‪ :‬معناه مالك يوم اجلزاء (‪ِّ )...‬‬ ‫ِّ‬ ‫والدين‬ ‫ِّ‬ ‫ِين ُيدان به‪ِّ .‬‬ ‫والدين الإ�سالم‪ ،‬قد د ُ‬ ‫ِنت به‪ .‬ويف حديث علي‪ ،‬عليه ال�سالم‪ :‬حمب ُة العلماء د ٌ‬ ‫العادة وال�ش�أن‪ .‬تقول العرب‪ :‬ما زال ذلك دِيني و َد ْي َدين �أي عادتي‪».‬‬ ‫ثمة معنى ناظم بني كل هذه املدلوالت‪� .‬إنه معنى ال�ضبط والإن�ضباط‪ .‬فاحل�ساب مبعنى املحا�سبة‬ ‫هو اجلزاء؛ والطاعة مبعنى الإلتزام هي اخل�ضوع؛ والدين مبعنى الديانة هو العقيدة‪ ،‬والعقيدة هي‬ ‫الإ�سالم الذي ُيدان به �أي ُيطاع و ُيل َت َزم؛ والدين مبعنى العادة وال�ش�أن هو الإلتزام ٍ‬ ‫بتقليد �أو �سلوكٍ‬ ‫ٍ‬ ‫�ضابط �أو من�ضبط‪.‬‬ ‫�إننا نقع على هذه املعاين املتعددة للدين كما على املعنى الناظم لها بني عامة النا�س �أكرث مما نقع‬ ‫بينهم على املعنى الأكادميي للدين من حيث هو عقيدة او �إميان ذو طابع �إلهي �أو غيبي‪.‬‬ ‫أ�سم ال�شيء‬ ‫الدولة لغ ًة متعددة املعنى �أي�ضا‪ .‬فقد جاء يف ل�سان العرب «وقال الزجاج‪ُّ :‬‬ ‫الدو َل ُة � ُ‬ ‫الفعل وال ُ‬ ‫والدول ُة ُ‬ ‫والدولة لغتان‪،‬‬ ‫إنتقال مـن حالٍ �إىل حال (‪ )...‬الليث‪َّ :‬‬ ‫الذي ُيتداول‪َّ ،‬‬ ‫الدول ُة ُّ‬ ‫والدولةُ‪ :‬ال ُ‬ ‫إنتقال من حالِ ال�شدة �إىل الرخاء‪».‬‬ ‫ومنه الإدال ُة �أل َغ َلبة (‪َّ )...‬‬ ‫‪23‬‬


‫والتبدل والإنتقال من حالٍ �إىل‬ ‫ّ‬ ‫ثمة معنى ناظم بني مدلوالت َّ‬ ‫الدولة‪� .‬إنه معنى ال َغ َلبة والتغيرّ‬ ‫حال‪� .‬إننا نقع على هذه املعاين املتعددة للدولة كما نقع على املعنى الناظم لها بني عامة النا�س‬ ‫�أكرث مما نقع بينهم على املعنى الأكادميي للدولة من حيث هي تنظيم �سيا�سي جلماعة من النا�س‬ ‫تعي�ش على رقعة من الأر�ض ومتار�س عليها �سيادتها‪.‬‬ ‫هذه املعاين للدين والدولة منت�شرة و�سائدة بني النا�س‪ ،‬ومن خاللها ميكن فهم نظرتهم اليهما‬ ‫وعالقتهم بهما و�سلوكهم �إزاءهما‪.‬‬ ‫�إن معاين ًة دقيقة لأحـوال النا�س يف ما يقولون ويفعلون‪� ،‬أي يف تفكريهم وتدبريهم‪ ،‬تقود �إىل‬ ‫الدين حاجة �إن�سانية‪ .‬وقد ك�شفت درا�سات متعددة يف حقول علم‬ ‫اخللو�ص حلقيقة �ساطعة هي �أن ِّ‬ ‫الإجتماع الديني والعلوم االجتماعية والنف�سية �أن للدين دوراً يف التعبري عن احلاجة الإن�سانية‬ ‫ولفهم معنى‬ ‫للقيم واملبادئ الأخالقية‪ ،‬وملتطلبات املعي�شة‪ ،‬وللتحرر من القلق واخلوف والب�ؤ�س‪ِ ،‬‬ ‫احلياة ‪ ،‬وتعزيز التما�سك الإجتماعي‪.1‬‬ ‫�شدد عامل الإجتماع الأملاين ماك�س فيرب على ال�صلة الوثيقة بني الدين‬ ‫يف معاجلته للإ�سالم ّ‬ ‫وال�سلوك اليومي الهادف ذي امل�ضمون الإقت�صادي‪ .‬قال �إن غايات الدين هي على الأغلب‬ ‫اقت�صادية‪ ،‬مما يف�سر‪ ،‬مثال‪� ،‬سبب عجز الورع الديني عـن �أن «مينـع ف ّالحاً يف جنوب �أوروبا من �أن‬ ‫يب�صق على متثال قدي�س مل ي�ستجب ملطالب كان قد تقدم بها اليه»‪� .2‬أال ّتذكرنا هذه الواقعة بعرب‬ ‫اجلاهلية عندما كانوا يقيمون �أ�صناماً لآله ٍة من متر ويتعبدونها حتى �إذا عجزت عن تلبية دعواتهم‪،‬‬ ‫قاموا ب�أكلها غري نادمني؟!‬ ‫يف معاجلته لظهور الإ�سالم‪ ،‬اعترب فيرب �أن القيم واملعتقدات الإ�سالميـة جاءت متنا�سقة مع‬ ‫احلاجات املادية للطبقات املحاربة‪ .‬ذلك �أن الإ�سالم زا َو َج بني القيم التجارية والقيم الفرو�سية‬ ‫ونتيج ًة لهذه املزاوجة الثالثية‪،‬‬ ‫البدوية والقيم ال�صوفية املعبرّ ة عن عواطف اجلماهري وحاجاتها‪َ .‬‬ ‫ووجهته الطبقة التجارية يف املدن وجه َة الت�شريع‬ ‫وجهت الطبقة املحاربة الإ�سالم وجه َة اجلهاد‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫‪3‬‬ ‫ووجهته اجلماهري امل�ست�ضعفة وجه ًة �صوفية ‪.‬‬ ‫والتعاقد يف خمتلف ميادين احلياة‪ّ ،‬‬ ‫قبل فيرب كان عبد الرحمن بن ح�سن اجلربتي قد �شدد يف م�ؤ َلفه «عجائب الآثار يف الرتاجم‬ ‫والأخبار» على �أهمية العامل الإقت�صادي بقوله‪�« :‬إن العرب يف اجلاهلية كانت ت�ستعمل �شهور‬ ‫الأه ّلة وتق�صد مكة للحج (‪ )...‬ولكن ملا ال يقع يف ف�صل واحد من ف�صول ال�سنة (‪ )...‬ووقوع‬ ‫�أيام احلج يف ال�صيف تار ًة ويف ال�شتاء �أخرى (‪� )...‬أرادوا �أن يقع حجهم يف زمان واحد ال يتغيرّ‬ ‫(‪ )...‬فقال لهم خطيبهم‪ :‬لي� ِأت حجكم وقت �إدراك الفواكه والغالل‪ ،‬فتق�صدوننا مبا معكم منها‪،‬‬ ‫ ‬

‫‪1‬‬

‫‪24‬‬

‫حليم بركات‪ ،‬املجتمع العربي يف القرن الع�شرين (بريوت‪ ،‬مركز درا�سات الوحدة العربية‪،‬‬

‫م) �ص‬

‫‪.‬‬

‫‪426‬‬ ‫‪2000‬‬ ‫‪2 Max Weber, the Sociology of Religion ( London : Methen and Co.1966 ) pp. 1-2.‬‬ ‫‪3 Ibid., p. 13.‬‬


‫الإ�سالم والإ�صالح الديني‬

‫فوافقت العرب على ذلك»‪.4‬‬ ‫عامل الإجتماع الفرن�سي �آميل دوركامي قال �إن وظيفة الدين الأ�سا�سية هي تعزيز وحدة املجتمع‬ ‫وع�صبيته‪ .5‬حليم بركات تبنى مقولة دوركامي و�أ�شار �إىل �أنها متثلت تاريخيا «بدو ِر الإ�سالم يف‬ ‫توحيد قبائل اجلزيرة العربية واحل�ضر والبدو مما �ساهم يف قيام الفتوحات الإ�سالمية ال�صاعقة»‪.6‬‬ ‫غري �أن القبائل قاومت تذويبها يف املجتمع وحاولت ا�ستعمال الإ�سالم يف خدمة م�صاحلها اخلا�صة‪.‬‬ ‫يقول حممد عمارة يف هذا ال�صدد �إن �أهل الع�صبية القدمية من قري�ش‪ ،‬وبنو �أمية منوذج جيـد لهم‪،‬‬ ‫ثوب �إ�سالمـي‪ ،‬على‬ ‫اغتنموا فر�صة حكم اخلليفة الثالث عثمان بن عفان ليعيدوا �سيطرتهم‪ ،‬يف ٍ‬ ‫مقدرات املجتمع من جديد الأمر الذي ح ّرك ع�صبية القبائل الأخرى فلج�أت ال�سلطةُ‪ ،‬خا�ص ًة‬ ‫يف العهد الأموي‪� ،‬إىل �سالح القبيلـة توازن به �صراعات املجتمع‪ ،‬فت�ضرب قبائل ب�أخرى‪ .7‬يف هذا‬ ‫ال�سياق‪ ،‬ا�ستنتج عبد العزيز الدوري �إن تاريخ الإ�سالم هو تاريخ �صراع بيـن القبيلة والدين �أو‬ ‫بني القبيلة والقبيلة‪ ،8‬وهذا ما كان ا�ستخل�صه ابن خلدون وكذلك ق�سطنطني زرق الذي حتدث‬ ‫عن ا�ستمرار الأزمة بني الإنتماء القبلي واالنتماء الإ�سالمي مما ت�سبب يف �سقوط عهود وحكومات‬ ‫و�أ�سر حاكمة خالل التاريخ الإ�سالمي كله‪.9‬‬ ‫ما مفهوم الدين و�أثره يف احلقبة التي �أعقبت بزوغ البعثة النبوية يف مكة وامتدادها مع الر�سول‬ ‫(�ص) بعد الهجرة �إىل املدينة‪ ،‬قبل �أن تنح�سر ب�آثارها مع �أفول عهد اخلالفة الرا�شدة؟ ‬ ‫الإ�سالم يف الفرتة ّ‬ ‫املكية كان عقيد ًة وح�سب‪ .‬فالآيات املكية تخلو ب�صورة عامة من �أوامر ونوا ٍه‬ ‫ذات طابع ت�شريعي‪ .‬ذلك �أن �أحوال امل�سلمني ومتطلبات حياتهم �آنذاك ما كانت ت�ستلزم �أكرث‬ ‫من �إر�ساء مبادئ العقيدة وقواعد العبادة‪ .‬مع تطور �أحوالهم بعد الهجرة ون�ش�ؤ حتديات وحاجات‬ ‫م�ستجدة‪ ،‬نزلت الآيات املدنية وفيها من الأوامر والنواهي ما ي�سبغ عليها طابع ال�شريعـة‪ .‬غري‬ ‫�أن ال�شريعة يف جمتمع املدينة مل تكن ت�شريعاً كام ًال ل�سببني‪ :‬الأول‪ ،‬لأن امل�سلمني ما كانوا قد‬ ‫بعد عمق الإميان بالعقيدة‪« ،‬وما مل تكن عقيدة‪ ،‬فلن تكون �شريعة (‪ )...‬فقد ظهرت‬ ‫�إ�ستكملوا ُ‬ ‫‪ 4‬‬

‫عبد الرحمن بن ح�سن اجلربتي‪ ،‬عجائب الآثار يف الرتاجم والأخبار (بريوت‪ ،‬دار اجليل‪ ،‬دون تاريخ)‪ ،‬اجلزء ‪،1‬‬ ‫�ص‪.8-7 :‬‬

‫‪ 6‬‬ ‫ ‪7‬‬

‫بركات‪ ،‬امل�صدر ال�سابق الذكر‪� ،‬ص‪.429 :‬‬ ‫حممد عمارة‪« ،‬من هنا بد�أت م�سريتنا للوحدة العربية»‪ ،‬ق�ضايا عربية‪ ،‬ال�سنة ‪ ،3‬الأعداد ‪ ( 6-1‬ني�سان‪/‬ابريل‪-‬‬ ‫�أيلول‪�/‬سبتمرب ‪1976‬م)‪� ،‬ص‪.68-67 :‬‬ ‫عبد العزيز الدوري‪ ،‬مقدمة يف تاريخ �صدر الإ�سالم (بريوت‪ :‬املطبعة الكاثوليكية‪ 1961 ،‬م)‪.‬‬

‫‪Emile Durkheim , The Elementary Forms of the Religions Life, Free Press Paperbacks (New‬‬ ‫‪York: Free Press, 1965) pp. 236-245 and 462-472.‬‬

‫ ‬

‫‪8‬‬ ‫‪Constantine K. Zarayk, «Tensions in Islamic Civilization», Seminar Paper no.3 (Washington , Dc:‬‬ ‫‪Georgetown University, Center for Contemporary Arab studies, 1978.‬‬

‫ ‪5‬‬

‫ ‪9‬‬

‫‪25‬‬


‫العقيدة وظ ّلت وحدها متثّل الإ�سالم طوال �سنوات مكة‪� ،‬أي ثالثة ع�شر عاماً من ثالثة وع�شرين‬ ‫هي مدة البعثة‪ ،‬ومل يكن للإ�سالم طوال تلك الفرتة من حدود �أو �شريعة �أو جهاد �إ ّال مبعنى‬ ‫بقد ٍر من التفكري‪،‬‬ ‫تكوين النف�س تكويناً �إميانياً»‪ .10‬ال�سبب الثاين «كان حلكم ٍة ن�ستطيع �أن نفهمها ْ‬ ‫وهي �أن مثل ذلك الت�شريع كان يلغي فائدة العقل الذي �شاء ربنا ان ينعم به على الإن�سان (‪)...‬‬ ‫مثـل ذلـك الت�شريـع كان يح ّول الإن�سان �إىل جمرد خملوق �آيل �أ�شبـه باالوتوماتون �أو الربوت»‪.11‬‬ ‫حتى لو كانت ال�شريعة قد اكتملت يف جمتمع املدينة‪ ،‬وكان امل�سلمون قد ا�ستكملوا عمق �إميانهم‬ ‫بالإ�سالم‪ ،‬فهل كان بالإمكان تطبيق ال�شريعة من دون دولة تتوىل �إنفاذ �أحكامها؟ جمال البنا‬ ‫الأخ الأ�صغر مل�ؤ�س�س جماعة «الإخوان امل�سلمني» الإمام الراحل ح�سن البنا‪ -‬يجزم �إيجابـاً‬‫بدعوى �أن حكم الر�سول (�ص) ملجتمع املدينة مل ي�صاحبه قيام دولة باملعنى املتعارف عليه‪� ،‬إذ‬ ‫كانت �أبرز مق ّومات الدولة‪ ،‬كاجلي�ش وال�شرطـة وال�سجون وال�ضرائب و�سلطة الإلزام‪ ،‬غائبة �أو غري‬ ‫متوفرة‪� .12‬إىل ذلك‪ ،‬ي�ص ّر جمال البنا على �أنه ال يوجد يف القر�آن َدولة �إمنا �أمة‪ .‬فكلمة ُّدولة ولي�س‬ ‫َدولة وردت مر ًة واحدة يف �صدد احلديث عن الفيء (كي ال يكونَ ُدو َلة بني الأغنياء منكم ‪�-‬سورة‬ ‫احل�شر‪ ،‬الآية رقم ‪� )7‬أي ال تكون َغ َل َبة‪ ،‬يف حيــن «جند القر�آن ي�ستخدم كلمة �أمة يف ‪ 49‬مو�ضعاً‬ ‫ويجعل هذه الكلمة يف الو�صف اجلماعي للنا�س وللم�ؤمنني»‪.13‬‬ ‫غالبية الفقهاء‪ ،‬ال�سيما ال�سلفيني منهم ويف مقدمهم ح�سن الب ّنا‪ ،‬كانوا رف�ضوا مقولة جمال‬ ‫ون�صب الإمام واجب على‬ ‫البنا ومن ذهب مذهبه من قبل ومن بعد‪ .‬فالدولة‪ ،‬يف ر�أيهم‪ ،‬حاجة ْ‬ ‫امل�سلمني ي�أثمون برتكه‪ ،‬و�إقامة الدولة فعل واجب يف الإ�سالم‪ ،‬وانه من الأمور التي تتقرر مبقت�ضى‬ ‫الأمر ال�شرعي‪.14‬‬ ‫�سواء كانت الدولة �ضرور ًة واجبة لتطبيق ال�شريعة والقر�آن قد �أوجب قيامها �ضمنا‪� ،‬أو كانت �أدا ًة‬ ‫م�شروعة وم�ستح�سنة من نتاج �إجتهاد الفقهاء‪� ،‬أو كانت يف مطلق الأحوال ظاهـرة اجتماعية‬ ‫تاريخية ناجمة عن غريزة التغ ّلب ومطلب امل�صلحة والإقتدار‪ ،‬ف�إنه يبقى �أن الدولة التي عرفها‬ ‫املجتمع العربي الإ�سالمي كانت يف الغالب الأعم م�ؤ�س�سة م�ستبدة وفا�سدة‪ ،‬مل تخدم مبادئ‬ ‫ال�شريعة وال مقا�صدها‪ .‬فاخلالفة‪ ،‬بعد ان �إنتهت اىل بنى �أمية‪ ،‬حت ّولت ملكاً ع�ضو�ضاً‪ .‬ب�إ�ستثناء‬ ‫خالفة عمر بن عبد العزيز التي دامت �سنتني‪ ،‬ف�إن معظم اخللفاء وال�سالطني واحلكام با�شروا يف‬ ‫عهودهم �أ�شكا ًال متنوعة من الإ�ستبداد والف�ساد‪ .‬ولعل جمال الدين الأفغاين لي�س مغالياً يف‬ ‫‪ 10‬‬ ‫‪ 11‬‬ ‫‪ 12‬‬ ‫‪1 3‬‬ ‫‪ 14‬‬ ‫‪26‬‬

‫جمال البنا‪ ،‬هل ميكن تطبيق ال�شريعة؟ (القاهرة‪ ،‬دار الفكر الإ�سالمي‪ 2005 ،‬م)‪� ،‬ص‪.55 – 51 :‬‬ ‫حممد النويهي‪« ،‬نحو ثورة يف الفكر الديني»‪ ،‬جملة االداب‪ ،‬عدد ايار‪/‬مايو ‪ 1970‬م)‪� ،‬ص‪.107–25 :‬‬ ‫جمال البنا ‪ ،‬الإ�سالم دين وامة ولي�س دينا ودولة (القاهرة‪ ،‬دار الفكر الإ�سالمي‪ 2003 ،‬م)‪� ،‬ص‪.21–17 :‬‬ ‫امل�صدر نف�سه‪.‬‬ ‫عبد االله بلقزيز‪ ،‬الدولة يف الفكر الإ�سالمي املعا�صر ( بريوت‪ ،‬مركز درا�سات الوحدة العربية‪ 2002 ،‬م)‪� ،‬ص‪:‬‬ ‫‪.130–126‬‬


‫الإ�سالم والإ�صالح الديني‬

‫تو�صيف حال الأمة يف زمانه وعلى نح ٍو ي�صدق عليها يف زماننا ب�أنها «الأمة التي لي�س يف �ش�ؤونها‬ ‫ّ‬ ‫حل وال عقد‪ ،‬وال ُت�ست�شار يف م�صاحلهـا‪ ،‬وال �أثر لإرادتها يف منافعها العمومية‪ ،‬و�إمنا هي خا�ضعة‬ ‫حلكم واحد �إرادته قانون‪ ،‬وم�شيئته نظام‪ ،‬يحكم ما ي�شاء‪ ،‬ويفعل ما يريد‪ .‬تلك �أمة ال تثبت على‬ ‫ٍ‬ ‫‪15‬‬ ‫حالٍ واحد‪ ،‬وال ين�ضبط لها �سري‪. »...‬‬ ‫غري �أن تو�صيف الأفغاين حلال الأمة‪ ،‬على �أهميته‪ ،‬يبقى ناق�صاً‪ .‬ذلك �أنه مل يلحظ دور الأجنبي‬ ‫عرب تاريخها ويف زمانه حتديداً‪� .‬إذا كان اخللفاء وال�سالطني واحلكام امل�ستبدون قد احتلوا �إرادتنا‬ ‫ف�إن �إفراداً وجماعات من �شتى الأقوام والألوان والثقافات قد ّمتكنوا‪ ،‬حتت �ستار الإ�سالم‪ ،‬من‬ ‫دخول جمتمعنا والإنخراط يف ن�سيجه وولوج �أبواب ال�سلطة واالرتقاء يف مراتبها و�صوال �إىل‬ ‫�إحتالل الأر�ض والإرادة معا‪ .‬فقد ا�ستوىل على ال�سلطة فريق من املماليك ‪-‬هم يف الأ�صل ُت ٌ‬ ‫رك‬ ‫رج‪ -‬منذ ‪1171‬م‪ ،‬ودام عهدهم نحو ‪ 350‬عاما لي�أتي بعدهم الأتراك العثمانيون ويحكموا‬ ‫ُوكر ٌد ُوك ٌ‬ ‫الأمة اكرث من ‪ 400‬عام‪ .‬و�إذا كان العرب قد تق ّبلوا حكم املماليك مقابل تقبل ه�ؤالء لغتهم‬ ‫ودينهم‪ ،‬ف�إن �سجل بني عثمان مع اللغة العربية والإ�سالم ال يدعو �إىل الفخر‪ .‬فقد جافـوا العربية‪،‬‬ ‫وحاولوا ترتيك العرب ثقافياً و�سيا�سياً‪� .‬أما �صلة �سالطينهم بالإ�سالم فكانت �سطحيـــة ونفعية‬ ‫حج بيت اهلل احلرام‪ .16‬وبالإ�ضافة �إىل الفرجنة‬ ‫�إ ْذ مل ي�ؤثر عن ّاي من �سالطينهم (خلفائهم!) ان ّ‬ ‫الذين �إ�ستوطنوا بالإحتالل بالد ال�شام نحو ‪ 200‬عام‪ ،‬ف�إن الفرن�سيني والربيطانيني وااليطاليني‬ ‫والإ�سرائيليني والأمريكيني غزوا بالد العرب‪ ،‬مغربها وم�شرقها‪ ،‬منذ الن�صف الأول من القرن‬ ‫عدة فيها‪.‬‬ ‫التا�سع ع�شر وما زالوا يحتلون‪ ،‬مبا�شر ًة او مداور ًة‪� ،‬أقطاراً ّ‬ ‫�إن �أم ًة حكمها ال�سالطني واحلكام الأجانب واحتلوا �إرادتها‪ ،‬وما زالوا‪ ،‬نحو ثمانيـة قرون ال ميكن‬ ‫�أن تكون ع ّلتها حم�صورة مب�س�ألتي تطبيق ال�شريعة و�إ�صالح الدولة‪� .‬إن ما تكابده‪ ،‬على ما يبدو‪ ،‬ع ّلة‬ ‫مزمنة ّ‬ ‫ومتجذرة تتطلب عالجاً نوعياً لروحها وعقلها معا‪ ،‬ول�س ّلم قيمها و�أخالقها‪.‬‬ ‫ثانياً‪ :‬يف م�س�ألة الإ�سالم دينا ً ودولة‬

‫الإ�سالم عقيدة و�شريعة‪ .‬العقيدة هي الأ�صل‪ .‬ال�شريعة هي الفرع‪ .‬تقوم العقيدة على الإميان باهلل‬ ‫ور�سله وكتبه واليوم الآخر‪ ،‬وقيم احلق والعدل واحلرية‪ .‬وهي ظهرت يف الفرتة ّ‬ ‫املكية على مدى‬ ‫ثالثة ع�شر عاماً‪ .‬ال�شريعة ظهرت مع الهجرة وبعدها‪ .‬فهي‪� ،‬إذاً‪ ،‬فرع ومقت�ضى من مقت�ضيات‬ ‫العقيدة‪.‬‬ ‫‪ 15‬بلقزيز‪ ،‬امل�صدر ال�سابق الذكر‪� ،‬ص ‪.47‬‬ ‫‪ 16‬ع�صام نعمان‪ ،‬امريكا والإ�سالم وال�سالح النووي (بريوت‪� ،‬شركة املطبوعات للتوزيع والن�شر‪ 2007 ،‬م)‪� ،‬ص‪:‬‬ ‫‪.78–74‬‬ ‫‪27‬‬


‫بن�ص‬ ‫غاي ُة الإ�سالم ومهمته بني النا�س �أن يد ّلهم �إىل طريق الهداية‪ .‬وهذه يف العبادات جاءت ّ‬ ‫مف�صل عليها‪ .‬ذلك �أن �أمور العبادة لي�ست مما تتغري فيه امل�صلحة بتغيرّ الزمان واملكان‪ .‬من هنا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫يقول احمـد ابو املجد‪« ،‬كان النقل م�صدر �أمور العبادة‪ ،‬والدخول يف الطاعة جوهرها‪� .‬أما الأمور‬ ‫املعا�شية فتبقى على الأ�صل يف ّ‬ ‫حتدها يف‬ ‫احلل والإباحة الأ�صلية وحرية احلركة يف طلـب الأ�صلح‪ّ ،‬‬ ‫ذلك كله حدود الن�صو�ص القطعية‪ ،‬وما ا�شتلمت عليه من �أحكام تكليفية‪� ،‬أمراً ونهياً»‪.17‬‬ ‫هل تتطلب ال�شريعة‪ ،‬مبا هي نظام‪ ،‬حكومة ترعاها وتنفذ �أحكامها؟ الب ّنا الأكرب قال نعم‪ .‬الب ّنا‬ ‫الأ�صغر قال كال‪ .‬وكان ح�سن البنا قد كتب ما ّن�صه « َيفرت�ض الإ�سالم احلنيف احلكومة قاعد ًة من‬ ‫قواعد النظام االجتماعي الذي جاء به اىل النا�س‪ ،‬فهو ال يق ّر الفو�ضى وال يدع اجلماعة امل�سلمـة‬ ‫ظن �أن الدين (‪ )...‬ال يعر�ض لل�سيا�سة‪� ،‬أو ان ال�سيـا�سة لي�سـت مـن مباحثه‪ ،‬فقد‬ ‫بغري �إمام‪ ،‬فمن ّ‬ ‫‪18‬‬ ‫ظلم نف�سه وظلم علمه بهذا الإ�سالم» ‪.‬‬ ‫من ُع الفو�ضى و�إقرار النظام ّ‬ ‫ي�شكالن حاجة م�ستدامة عبرّ عنها الفقهاء القدامى بوجوب �إتقاء‬ ‫الفتنة وحياطة وحدة اجلماعة ب�أ�سباب احلماية وال�صون‪ .‬تف�سري ذلك‪ ،‬يف ر�أي حممد مبارك‪� ،‬أن‬ ‫الإ�سالم لي�س جمرد عقيدة دينية فح�سب بل هو �أي�ضاً نظام �إجتماعي و�سيا�سي ال يقبل الوجود‬ ‫والإ�ستمرار بغري دولة تعبرّ عنه وتفر�ض �أحكامه‪�« .‬إن الدولة �ضرورة يف الإ�سالم لأن تنفيذ �أحكام‬ ‫القر�آن ممتنع دون دولة»‪ .19‬هل الدولة من الأ�صول �أو من الفروع؟‬ ‫ح�سن البنا كـان قد ح�سم هذه امل�س�ألة بقوله «احلكم معدود يف كتبنا الفقهية من العقائد والأ�صول‪،‬‬ ‫ال من الفقهيات والفروع»‪.20‬‬ ‫ال يجادل جمال البنا يف وجوب قيام دولة تتوىل الردع والوقاية «لأن املجتمع ال يحتفظ بانتظامه‬ ‫�إ ّال بوازع ال�سلطان‪ ».‬لكنه وغيـره كثريون يرف�ضون �أن تكون الدولة يف الإ�سالم دولة دينية‪ .‬حممد‬ ‫عمارة رف�ض �أي�ضا النظرية القائلة بوحدة ال�سلطتني الدينية والزمنية‪ ،‬م�ستعيناً بكالم الإمام حممد‬ ‫عبده �أن �أوروبا مل حتقق نه�ضتها «�إ ّال بعد �أن ف�صلت ال�سلطة الدينية عن ال�سلطة املدنية»‪ ،‬وان‬ ‫الأمة يف الإ�سالم هي م�صدر �سلطة احلاكم‪ ،‬فهو م�س�ؤول «�أمام الأمة التي لها احلق يف حما�سبته‬ ‫و�صف للواقع القائم منذ‬ ‫ومراقبته»‪ .21‬عبد اهلل العروي الحظ �أن العبارة «الإ�سالم دين ودولة» ٌ‬ ‫‪� 17‬أحمد كمال ابو املجد «امل�س�ألة ال�سيا�سية‪ :‬و�صل الرتاث بالع�صر والنظام ال�سيا�سي للدولة» يف‪ :‬ال�سيد يا�سني و�آخرون‪،‬‬ ‫الرتاث وحتديات الع�صر يف الوطن العربي (بريوت‪ ،‬مركز درا�سات الوحدة العربية‪ 1987 ،‬م) �ص‪.593 – 571 :‬‬ ‫‪ 18‬ح�سن البنا‪ ،‬جمموعة ر�سائل االمام ال�شهيد ح�سن البنا (بريوت‪ ،‬امل�ؤ�س�سة الإ�سالمية‪ ،‬ال تاريخ)‪� ،‬ص‪.211 :‬‬ ‫‪ 19‬حممد املبارك‪ ،‬نظام الإ�سالم‪ :‬احلكم والدولة الطبعة ‪( 4‬بريوت‪ ،‬دار الفكر‪ 1981 ،‬م)‪� ،‬ص‪.18-12 :‬‬ ‫‪ 20‬ح�سن البنا‪ ،‬املرجع ال�سابق الذكر‪� ،‬ص‪.170 :‬‬ ‫‪ 21‬حممد عمارة‪ ،‬الدولة الإ�سالمية بني العلمانية وال�سلطة الدينية (بريوت‪ ،‬القاهرة‪ :‬دار ال�شروق‪ 1988 ،‬م)‪� ،‬ص‪:‬‬ ‫‪ 27-32‬و‪.61‬‬ ‫‪28‬‬


‫الإ�سالم والإ�صالح الديني‬

‫قرون‪� ،‬أي حلكم �سلطاين مطلق يحافظ‪ ،‬لأ�سباب �سيا�سية حم�ض‪ ،‬على قواعد ال�شرع‪� .‬أما الإ�سالم‬ ‫فهو «دين الفطرة الذي يهدف �إىل �إحالة الدولة �إىل ال دولة‪ ،‬كما �أن التاريخ الوقائعي مل يعرف‬ ‫دولة «�إ�سالمية» با�ستثناء فرتة الوحي والإلهام‪ ،‬كذلك مل تظهر يف الت�أليف الإ�سالمي نظرية دولة‬ ‫�إ�سالمية»‪.22‬‬ ‫�سواء كانت الدولة �إ�سالمية‪ ،‬مبعنى دينية‪� ،‬أو مدنية ال تدين بدين معني‪ ،‬فهل تطبيق ال�شريعة‬ ‫وظيفة �إلزامية لها ام وظيفة اختيارية يجري تقريرها يف �ض�ؤ امل�صلحة العامة؟‬ ‫الفقهاء ال�سلفيون املت�شددون يجيبون بل�سان عبد ال�سالم يا�سني‪« :‬منذ �أن �أ�صبح احلكم بني‬ ‫وع�ضاً‪ِ ،‬‬ ‫انتحت الدعوة ورجالها‪ ،‬فلم تعد الدولة هي راعية الدعوة كما‬ ‫امل�سلمني ملكاً وهريراً ّ‬ ‫كان الأمر من قبل‪ .‬مل يعد ال�سيف يف خدمة امل�صحف؛ افرتق ال�سلطان والقر�آن»‪ .23‬يو�سف‬ ‫القر�ضاوي ينطلق من فرِ�ضية خمتلفة مفادها ان ال�شريعة ظ ّلت مرجعاً للحكم والدولة طيلة ثالثة‬ ‫ع�شر قرنا قبل دخول الإ�ستعمار‪ .‬فالعائق �أمام تطبيق ال�شريعة عائق خارجي يف املقام الأول وهو‬ ‫الإ�ستعمار ونظمه املفرو�ضة بالعنف‪ .24‬غري �أن عبد ال�سالم يا�سني‪ ،‬و�إن كان يرى يف الإ�ستعمار‬ ‫عائقاً‪� ،‬إ ّال �أن العائق الأ�سا�س داخلي متمثل يف تخلي املجتمعات الإ�سالمية عن �شريعتها بفعل‬ ‫�سيا�سات احلكام وجنب الفقهاء‪.25‬‬ ‫لئن كان تطبيق ال�شريعة �إلزامياً يف نظر يا�سني والقر�ضاوي وغريهما من الفقهاء ال�سلفيني‪ ،‬ف�إن‬ ‫النا�س‪ ،‬ال ال�سالطني واحلكام فح�سب‪ ،‬جتاوزوا هذا الإلزام ال�شرعي بعدم االلتزام به‪ .‬ها هو‬ ‫ح�سني �أحمد �أمني يت�صدى لطارق الب�شري الذي كان جزم ب�أن لي�س لديه «�شبهة يف �أن الإ�سالم‬ ‫كان هو ال�سائد يف ديارنا‪ ،‬فكراً وثقافة و�سيا�سة وديناً وعقيدة ونظاماً‪ ،‬بقوله له �إن قراءته يف البلوي‬ ‫وابن ايبك الدواداري وابن الفرات واملقريزي وابن تغري بردى وال�صرييف وال�سخاوي وال�سيوطي‬ ‫وابن �إيا�س واجلربتي وع�شرات غريهم من امل�ؤرخني امل�سلمني الذين �أحالوا «ال �شبهة» الب�شري �إىل‬ ‫يقني» ب�أن الإ�سالم مل يكن‪ ،‬ال يف م�صر وال يف غريها‪ ،‬ي�سود فكرنا �أو ثقافتنا �أو �سيا�ستنا �أو عقيدتنا‬ ‫�أو نظامنا‪ ،‬وال كان ما ي�سمى بال�شريعة الإ�سالمية مطبقاً يف �أي وقت من الأوقات‪ ،‬عدا زمن النبي‬ ‫واخللفاء الرا�شدين‪ ،‬قبل الإجتاه يف القرن التا�سع ع�شر �إىل الإقتبا�س من النظم القانونية الغربية‪،‬‬ ‫ثقاف ًة وفكراً! (‪ )...‬لقد كان ال�سالطني والوالة �أكرث النا�س جهال بها وتبجحاً يف نق�ضها‪ ،‬وكان جل‬ ‫جهود الفقهاء من�صرفاً �إىل (‪� )...‬إخرتاع احليل التي يتخل�صون بها من الأحكام ال�شرعية واىل‬ ‫كيفية جتنب تطبيق احلدود قدر الإمكان والإ�ستعا�ضة عنها بالتعزير الذي مل يذكره القر�آن ومل‬ ‫‪ 22‬‬ ‫‪ 23‬‬ ‫‪2 4‬‬ ‫‪2 5‬‬

‫عبد اهلل العروي‪ ،‬مفهوم الدولة (الدار البي�ضاء‪ :‬املركز الثقايف العربي‪ 1981 ،‬م)‪� ،‬ص‪.123 – 122 :‬‬ ‫بلقزيز‪ ،‬امل�صدر ال�سابق الذكر‪� ،‬ص‪.156 :‬‬ ‫امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص‪.157 – 156 :‬‬ ‫امل�صدر نف�سه ‪� ،‬ص ‪.158 – 157‬‬ ‫‪29‬‬


‫يعر�ض له احلديث �إ ّال قلي ًال‪.26‬‬ ‫يلتقي جمال الب ّنا مع ح�سني �أحمد �أمني يف �أن ال�شريعة مل تكن مطبقة يف خالل تاريخنا �إ ّال يف‬ ‫عــدة �أبرزها �أن ال�شريعة‬ ‫فرتة وجود الر�سول (�ص) واخللفاء الرا�شدين‪ ،‬و�أن لتلك الظاهرة �أ�سباباً ّ‬ ‫مل تكن مقننة‪ .‬فقد حاول اخلليفة عمر بن عبد العزيز تدوين ال�س ّنة‪ ،‬لكن خالفته مل تدم �أكرث‬ ‫من �سنتني‪ .27‬قيل �أن الوليد بن عبد امللك �أراد التدوين قبل عمر بن عبد العزيز كي يتح ّول‬ ‫ذلك �إىل قانون يحمل النا�س عليه او يلزمهم به‪ ،‬غري �أن حماولته «مل تنجح �أمام الأعراف الفقهية‬ ‫ال�سائدة»‪ .28‬ويروي مالك بن �أن�س �أن اخلليفة �أبا جعفر املن�صور �أراد ن�سـخ كتبه و�إر�سالها �إىل كل‬ ‫م�ص ٍر من �أم�صار امل�سلمني كي يعملوا مبا فيها وال يتعدوها �إىل غريها‪ .‬لكن مالك رف�ض ذلك «لأن‬ ‫النا�س قد �سبقت �إليهم � ُ‬ ‫أقاويل و�سمعوا �أحاديث �أ�صحاب ر�سول اهلل وغريهم و�أن ر ّدهم عما‬ ‫‪29‬‬ ‫اعتقدوه �شديد‪ ،‬فدع النا�س وما هم عليه وما اختار � ُ‬ ‫أهل كل ٍ‬ ‫بلد لأنف�سهم» ‪.‬‬ ‫ي�ستنتج جمال البنا من رواية مالك بن �أن�س مع �أبي جعفر املن�صور �أن الفقهاء‪ ،‬ال�سيما الكبار‬ ‫واالفذاد منهم‪ ،‬كانوا يرف�ضون تقنني ال�شريعة وما كانوا يطلقونه من فتاوى يف معر�ض تطبيقها‪ .‬مر ّد‬ ‫ذلك �إىل رغبتهم يف الإحتفاظ ب�سلطة الإفتاء بعيداً من �إمالء احلكام‪ .‬ذلك �أن تقنني ال�شريعة من‬ ‫�ش�أنه �أن ي�ضع بني �أيدي احلكام �سلطة م�ضافة لل�ضبط والربط وال�سيطرة‪.30‬‬ ‫مبذهب من دون �سائر املذاهب‬ ‫ثمة �سبب �آخر لرف�ض التقنني‪ .‬انه تفادي اال�ضطرار �إىل الأخذ ٍ‬ ‫املتمايزة‪ ،‬فتقوم قيامة �أ�صحاب املذاهب املرتوكة‪ .‬غري ان اخللو�ص �إىل هذه النتيجة �أ�سعد الفقهاء‬ ‫كما امل�سلمني‪ .‬فالفقهاء �أ�سعدهم بقاء �سلطة الإفتاء يف �أيديهم‪ ،‬وامل�سلمون �س ّرهم �أن «تكون‬ ‫فيهم ويتفاعل معهم بحكم �أف�ضليته ومنزلته من �أن يكون قانوناً‬ ‫ال�شريعة فكراً بني النا�س ي�ؤثر ٍ‬ ‫مفرو�ضاً عليهم من الدولة»‪.31‬‬ ‫يف ال�صراع بني الأمراء (احلكام) والفقهاء انت�صر الأولون‪ .‬ذلك �أنهم ّمتكنوا دائما من توظيف‬ ‫مفتي ال�سالطني وكان لهم دور كبري يف توطيد تراث الإ�ستبداد يف‬ ‫فقهاء يف خدمتهم‪ .‬ه�ؤالء كانوا ّ‬ ‫عامل الإ�سالم‪ .‬لكن‪ ،‬ماذا عن م�س�ألة �إلزامية ال�شريعة او �إلتزامها؟‬ ‫‪ 26‬‬ ‫‪ 27‬‬ ‫‪2 8‬‬ ‫‪2 9‬‬ ‫‪3 0‬‬ ‫‪3 1‬‬ ‫‪30‬‬

‫ح�سني �أحمد �أمني‪ ،‬يف ال�سيد يا�سني و�آخرين‪ ،‬الرتاث وحتديات الع�صر يف الوطن العربي‪� ،‬ص ‪.647–646‬‬ ‫يت�ضامن مع ح�سني �أحمد �أمني يف املوقف نف�سه مفكرون �آخرون‪ ،‬انظر‪ :‬حممد عابد اجلابري‪ ،‬الدين والدولة‬ ‫وتطبيق ال�شريعة (بريوت‪ ،‬مركز درا�سات الوحدة العربية‪2004 ،‬م)‪� ،‬ص‪.209–201 :‬‬ ‫جمال البنا‪ ،‬هل ميكن تطبيق ال�شريعة؟‪� ،‬ص ‪.6-5‬‬ ‫امل�صدر نف�سه‪.‬‬ ‫امل�صدر نف�سه‪.‬‬ ‫امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص‪.7 :‬‬ ‫امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص‪.9 :‬‬


‫الإ�سالم والإ�صالح الديني‬

‫يت�صدى حممد النويهي لهذه امل�س�ألة بالت�أكيد على �أن الإ�سالم يهتم �أعظم اهتمام ب�صالح �أحوال‬ ‫ّ‬ ‫النا�س يف دنياهم‪ ،‬و�أنه لي�س دين �آخرة �أو دين خال�ص روحي فح�سب‪ .‬لكنه ال يرتدد فـي القول‬ ‫�أي�ضا «�إن الإ�سالم ال يت�ضمن نظاما نهائيا للمجتمع الإن�ساين‪ ،‬ومل يحاول قط �أن ي�ضع مثل هذا‬ ‫يدع قط �أن اهلل وحده هو م�صدر القوانني كلها‪ ،‬دينياً ودنيوياً‪ ،‬لأنه يقرر مبد�أ تطور‬ ‫النظام‪ ،‬ومل ِ‬ ‫‪32‬‬ ‫الأحوال وال يريد �أن يقوم عائقا �أمام هذا التطور‪ ،‬وال يريد �أن ّ‬ ‫ي�شل عقول الب�شر» ‪.‬‬ ‫ينطلق النويهي من هذه امل�سلمة التي يعتنقها اىل القول �إن �أوامر القر�آن ونواهيه لي�ست كلها‬ ‫فرو�ضا وحترميات ملزمة كما يعتقد كثريون �أو ّيدعون‪ .‬ه�ؤالء‪ ،‬يف ر�أيه‪ ،‬يريدون �أن يح�صروا �أوامر‬ ‫القر�آن ونواهيه يف بابني فقط‪ :‬الفر�ض والتحرمي‪ .‬لكن الرجوع �إىل مراجع اال�صول والفقه ير�شدنا‬ ‫�إىل �أن العلماء القدامى �أنف�سهم ق�سموا اوامر القر�آن ونواهيه �إىل �أبواب خم�سة‪ :‬باب الفر�ض‪ ،‬وهو‬ ‫ما نلزم به ونعاقب على تركه‪ .‬وباب الواجب‪ ،‬وهو ما يجمل بنا �أن نفعله ولكن ال نعاقب على‬ ‫تركه‪ .‬وباب املباح‪ ،‬وهو يعني التخيري املطلق دومنا تف�ضيل للعمل او للرتك‪ .‬وباب املكروه‪ ،‬وهو‬ ‫ما ينبغي ان نرتكه لكنه غري حمرم وال ي�ستتبع فعله عقاباً‪ .‬واخرياً باب احلرام‪ ،‬وهو ما يلزمنا تركه‬ ‫ويحق علينا العقاب �إذا فعلناه‪ .‬ثم يت�ساءل النويهي‪ :‬هل نحن ملزمون ب�أن ن�أخذ دائما ويف كل‬ ‫حال ب�أقوال العلماء القدامى يف حتديد �أي الأحكام ينتمي �إىل كل باب من تلك الأبواب؟ �أ َو مل‬ ‫يختلف العلماء القدامى �أنف�سهم يف درجات الوجوب والإباحة والكراهة بني مندوب وم�ستح�سن‬ ‫وم�ستقبح ومكروه كراهة حترمي و�آخر كراهة تنزيه؟‪.33‬‬ ‫يجيب النويهي عن �س�ؤاله بنف�سه قائ ًال «ال يقع علينا الإلزام ب�أقوال العلماء القدامى �إ ّال �إذا‬ ‫اعتقدنا ب�أن لهم وحدهم حق التمييز والإجتهاد ولي�س لأحد ممن جاء بعدهم‪ ،‬و�إعتقدنا ب�أنهم كانوا‬ ‫مع�صومني من اخلط�أ ع�صم ًة اخت�صوا بها دون غريهم (‪� )...‬إن كل ما يف القر�آن وما يف ال�س ّنة من‬ ‫ت�شريعات ال تتناول العقيدة وما يتعلق بها من �شعائر العبادة‪ ،‬بل تتناول �أمور الدنيا ومعامالتها‬ ‫وتنظيمها وعالقاتها‪ ،‬كل هذه الت�شريعات بال �إ�ستثناء لي�ست الآن ملزمة لنا يف كل الأحوال‪.‬‬ ‫حتى ما كان منها يف زمان الر�سول من بابي الفر�ض والتحرمي‪ ،‬مل يعد الآن بال�ضرورة كذلك‪ ،‬بل‬ ‫لنا احلق يف ان ننقله �إىل بابي الندب والكراهة‪� ،‬إن مل ننقله �إىل باب املباح وهو التخيري املطلق‪ .‬لنا‬ ‫الآن هذا احلق �إذا اقتنعنا ب�أن تغيرّ الأحوال ي�ستلزم تطبيقه‪ ،‬وما دمنا نلتزم بالغايات الأخالقية‬ ‫العليا التي ن�صبها القر�آن»‪.34‬‬ ‫�إ ْذ يرف�ض حممد النويهي �إلزامية تطبيق ال�شريعة‪ ،‬يت�صدى حممد عابد اجلابري للم�س�ألة نف�سها‬ ‫من باب فتح باب الإجتهاد مبا ي�ؤدي �إىل الإلتزام بتطبيقها حيث و�أ ّنى تق�ضي امل�صلحـة العامة‬ ‫‪ 32‬النويهي‪ ،‬املرجع ال�سابق الذكر‪.‬‬ ‫‪ 3 3‬امل�صدر نف�سه‪.‬‬ ‫‪ 3 4‬امل�صدر نف�سه‪.‬‬ ‫‪31‬‬


‫احلقيقية بذلك‪ .‬يف هذا ال�سبيل يقتفي اجلابري خطـى اخلليفة الرا�شدي الثاين بقوله «�إذا كان‬ ‫عمر بن اخلطاب قد عمل باجتهاده واجتهاد ال�صحابة الذين �إ�ست�شارهم يف م�س�ألة فيها ن�ص‪،‬‬ ‫ف َو�ضَ ع اخلراج على الأرا�ضي املفتوحة عنو ًة َ‬ ‫بدل تق�سيمها بني املقاتلني‪ ،‬مراعياً يف ذلك امل�صلحـة‪،‬‬ ‫م�صلحة احلا�ضر وم�صلحة امل�ستقبل؛ و�إذا كان قد عدل عن ق�سمة الغنائم بال�سوية‪ ،‬كما كان يفعل‬ ‫النبي و�أبو بكر‪ ،‬وارت�أى �أن «العدل» يقت�ضي ق�سمتها على �أ�سا�س ال�سبق يف الإ�سالم والقرابة من‬ ‫الر�سول (�ص)‪ ،‬واذا كان عمر بن اخلطاب ‪-‬امل�ش ّرع الأول يف الإ�سالم بعد الكتاب وال�س ّنة‪ -‬قد‬ ‫اعترب امل�صلحة ومقا�صد ال�شرع‪ ،‬فو�ضعهما فوق كل اعتبار‪ ،‬فلماذا ال يقتدي املجتهدون واملجددون‬ ‫اليوم بهذا النوع من االجتهاد والتفكري بدل الإقتداء بفقهاء ع�صر التدوين والرت�سيم؟ (‪)...‬‬ ‫فالإجتهاد يجب �أن يكون ال يف قبول هذا املبد�أ او عدم قبوله بل يف نزع الطابع امليكانيكي عن‬ ‫مفهوم «الدوران» (القول بان احلكم ال�شرعي يدور مع ع ّلته‪ ،‬ولي�س مع حكمته)‪ ،‬والعمل من‬ ‫اجل الإرتفاع بفكرة امل�صالح �إىل م�ستوى امل�صلحة العامة احلقيقية كما حتدد من منظور اخللقية‬ ‫الإ�سالمية‪ .‬انه من دون هذا النوع من التجديد �سيبقى كل «اجتهاد» يف �إطار القواعد الأ�صولية‬ ‫القدمية �إجتهاد تقليد‪ ،‬ولي�س �إجتهاد جتديد»‪.35‬‬ ‫�إذ يدعو اجلابري �إىل ت�أ�صيل �أ�صول الفقه على �أ�سا�س بنائها على مقا�صد ال�شريعة‪ ،‬وفق منهج‬ ‫الفقيه املالكي االندل�سي الإمام ال�شاطبي‪ ،‬بدل الإقت�صار يف الإجتهاد على القيا�س‪ ،‬قيا�س‬ ‫جزئيات مل يرد فيها ن�ص على جزئيات ورد فيها ن�ص‪ ،‬تراه يعرت�ض‪� ،‬ش�أن �أحمد �أبو املجد وحممد‬ ‫النويهي وجمال البنا‪ٌ ،‬‬ ‫كل من زاويته‪ ،‬بقوله �إن تطبيق ال�شريعة ال يجوز ان يعني فقط �إقامة‬ ‫احلدود‪ ،‬كقطع يد ال�سارق‪ ،‬لأن هناك مبادئ واحكاماً اخرى يجب �أن تطبق‪ ،‬مثل مبد�أ ال�شورى‬ ‫يف احلياة ال�سيا�سية‪ ،‬ومبد�أ (هل ي�ستوي الذين يعلمون والذين ال يعلمون ‪� -‬سورة الزمر‪ ،‬الآية رقم‬ ‫‪ )9‬يف احلياة الفكرية‪ ،‬ومبد�أ «النا�س ك�أ�سنان امل�شط» يف خمتلف مرافق احلياة‪ .36‬هذا مع العلم �أن‬ ‫«م�صالح العباد» مل تعد مق�صور ًة على حفظ الدين والنف�س والعقل والن�سل واملال كما حددها‬ ‫الفقهاء القدامى‪ ،‬بل �أ�صبحت ت�شمل‪ ،‬يف ر�أي العابدي‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل ذلك كله اموراً �أخرى‬ ‫كاحلق يف حرية التعبري وحرية الإنتماء ال�سيا�سي‪ ،‬واحلق يف انتخاب احلاكمني وتغيريهم‪ ،‬واحلق‬ ‫يف العمل واخلبز وامل�سكن وامللب�س والتعليم وتوفري ال�صحـة والوقاية والعـالج‪.37‬‬ ‫�إن �شريع ًة يفرت�ض بها �أن تنطوي على كل هذه املقت�ضيات ال�شرعية والإن�سانية وغريها ي�صعب تقنينها‪،‬‬ ‫لي�س ب�سبب �إت�ساع م�سائلها وموا�ضيعها فح�سب بل ب�سبب اخل�شية �أي�ضا من جتميدها يف ن�ص قد ي�أخذ‬ ‫طابع قدا�س ٍة مزعومة �أو ع�صمة موهومة يف ع�صر يقوم على احلركة والتطور والتغيرّ امل�ستدام‪.‬‬ ‫‪ 35‬اجلابري‪ ،‬املرجع ال�سابق الذكر‪� ،‬ص‪.182 – 181 :‬‬ ‫‪ 3 6‬امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص‪ .197 – 196 :‬للتو�سع يف الإطالع على مبد�أ ال�شورى‪� ،‬أنظر‪� :‬أحمد املو�صللي‪ ،‬جدليات‬ ‫ال�شورى والدميقراطية (بريوت‪ ،‬مركز درا�سات الوحدة العربية‪2007 ،‬م)‪.‬‬ ‫‪ 37‬اجلابري‪ ،‬املرجع ال�سابق الذكر‪� ،‬ص ‪.190‬‬ ‫‪32‬‬


‫الإ�سالم والإ�صالح الديني‬

‫ثالثاً‪ :‬تطبيق ال�رشيعة يف الدولة املعا�رصة‬

‫�إذا كانت ال�شريعة يف بلدان املغرب العربي تعني‪ ،‬عموماً‪� ،‬إقامة احلدود (ولي�س تطبيق �أحكامها‬ ‫بال�ضرورة) ف�إنها يف بلدان امل�شرق العربي تعني تطبيق �أحكام الأحوال ال�شخ�صية كالزواج‬ ‫والطالق والإرث والو�صية‪ .‬ومع ذلك ف�إن ت�سعة من بني د�ساتري الدول العربية االثنتني والع�شرين‬ ‫تت�ضمن د�ساتريها عبارة من خم�س كلمات «ال�شريعة الإ�سالمية امل�صدر الرئي�سي للت�شريع»‪،38‬‬ ‫«كتاب اهلل و�س ّنة ر�سوله د�ستورها»‪ ،‬وال�سودان ي�ضيف اىل ال�شريعة «�إجماع‬ ‫فيما تعترب ال�سعودية َ‬ ‫إ�ستفتاء ود�ستوراً وعرفاً»‪ ،‬و�سوريا تعتمد مفهوماً �أو�سع مدى «الفقه الإ�سالمي م�صدر رئي�سي‬ ‫الأمة � ً‬ ‫للت�شريع»‪.‬‬ ‫با�ستثناء ال�سعودية‪ ،‬تتم�شى الدول العربية على �أحكام قوانني و�ضعية يف خمتلف حقول احلياة‪.‬‬ ‫بع�ض هذه القوانني يت�صل ب�أحكام ال�شريعة؛ بع�ضها الآخر ذو �أ�صولٍ و�صياغــة �أجنبية (تقنني‬ ‫نابوليون و�سواه)‪ .‬غري �أن عبد الرزاق ال�سنهوري‪ ،‬الذي كانت له اليد العليا يف و�ضع القانون املدين‬ ‫امل�صري‪ ،‬ي�ؤكد ب�أنه جرى تبني كل ما ميكن تبنيه من �أحكام ال�شريعة عند و�ضع القانون املذكور مع‬ ‫مراعاة املبادئ ال�صحيحة للت�شريع احلديث ‪. 39‬‬ ‫منـذ ثالثينات القرن الع�شرين انطلقت حملة �شعبية لإعتماد �أحكام ال�شريعة يف و�ضع القوانني‪.‬‬ ‫�أبرز املطالبني ب�أ�سلمة القوانني الو�ضعية كانـت‪ ،‬وما زالت‪ ،‬جماعـة الأخـوان امل�سلمني‪ .40‬احلملة مل‬ ‫تفلح كثرياً رمبا لأن «الت�شريعات املهمة التي تك ّون الن�سيج الت�شريعي ملجتمعاتنا املعا�صرة كقوانني‬ ‫التوظيف واخلدمة املدنية‪ ،‬وقوانني املرور‪ ،‬وال�صحة العامة‪ ،‬والتعليم‪ ،‬و�إقامة الأجانب‪ ،‬وت�سجيل‬ ‫العقارات» (‪ )...‬هي‪ ،‬يف ر�أي �أحمد �أبو املجد‪ ،‬ال تخالف «مبادئ الإ�سالم و�شريعته»(‪ )...‬الأمر‬ ‫الذي دفعه اىل الت�سا�ؤل عن جدوى عملية �أ�سلمة القوانني‪« :‬ام �أن عني امل�سلمني ال يجوز لها �أن‬ ‫تق ّر �إ ّال �إذا بد�ؤا بالهدم الكامل و�سووا بالأر�ض كل ما عليها من �أبنية ثم �أقاموها من جديد؟»‪.41‬‬ ‫يتح�صل من جممل ما جرى عر�ضه من وقائع وجدليات وم�ساجالت حول حال ال�شريعة قدمياً‬ ‫ّ‬ ‫وحديثاً اخلال�صات الآتية‪:‬‬ ‫توج ٍه اىل �إ�صالح احلياة العامة بجوانبها ال�سيا�سية‬ ‫ �أوالً‪� ،‬إن الإ�سالم عقيد ًة و�شريع ًة ينطوي على ّ‬ ‫والإجتماعية من خالل تطبيق املبادئ الإ�سالمية يف تلك امليادين‪.‬‬ ‫ ثانياً‪� ،‬أن القر�آن مل ي�أت على ذكر الدولة كفري�ضة �شرعية‪ ،‬لكن �إقامة الدولة تبقى ثابتة‬ ‫‪ 3 8‬هي د�ساتري م�صر‪ ،‬اليمن‪ ،‬الكويت‪ ،‬البحرين‪ ،‬قطر‪ ،‬ال�سودان‪ ،‬الإمارات العربية املتحدة‪� ،‬سوريا‪ ،‬فل�سطني‪.‬‬

‫‪39 Enid Hill, Al-Sanhuri and Islamic Law (Cairo, The American University in Cairo Press, 1987) p.71.‬‬ ‫‪40 Ibid., p 72.‬‬

‫‪� 41‬أحمد كمال �أبو املجد‪ ،‬املرجع ال�سابق الذكر‪� ،‬ص ‪.584 – 578‬‬ ‫‪33‬‬


‫بالإقت�ضاء يف كثري من الن�صو�ص التي تفرت�ض وجود الدولة مبا هي �سلطة �سيا�سية غالبة وقادرة‬ ‫على تنفيذ الواجبات وحماية ما يقابلها من حقوق‪.‬‬ ‫ ثالثاً‪ ،‬ان الإ�سالم ال يقيم حكومة دينية‪ ،‬بل �إن الدولة الإ�سالمية هي دولة مدنية من حيث‬ ‫ان الر�ضاء هو �شرعية احلكم يف املجتمع الإ�سالمي‪.‬‬ ‫ رابعاً‪� ،‬إن ال�شريعة مل تطبق ب�صورة كاملة قدمياً وحديثاً‪ ،‬و�أن ما ُطبق من �أحكامها كان يف‬ ‫وبحدي ال�سرقة والزنى احياناً‪ ،‬فيما �أُهمل مفهوم‬ ‫معظمه متعلقاً بالأحوال ال�شخ�صية غالباً ّ‬ ‫ال�شورى من طرف ال�سالطني واحلكام الذين ا�ستخدموا فقهاء من �أجل ت�سويـغ حكم الت�سلط‬ ‫والإ�ستبداد‪.‬‬ ‫ خام�ساً‪� ،‬أن م�س�ألة تطبيق ال�شريعة تت�صل �إت�صاال حميما ب�ضرورات االجتماع ال�سيا�سي‬ ‫وحاجياته يف الزمان واملكان الأمر الذي ي�ستدعى‪ ،‬بال�ضرورة‪ ،‬مفهومي ال�شورى والدميقراطية‬ ‫ومركزيتهما يف عملية الت�شريع ‪.‬‬ ‫تقدم بيانه ي�ستقيم الإ�ستنتاج دومنا حتفظ �أن م�س�ألة تطبيق ال�شريعة هي‪ ،‬يف التحليل‬ ‫يف �ضوء ما ّ‬ ‫الأخري‪ ،‬م�س�ألة تقرير ما �إذا كان يقت�ضي �إلزام املجتمع بها ام تركها �أمانة لدى النــا�س‪ ،‬م�س�ؤولني‬ ‫ومواطنني‪ ،‬علماء وب�سطاء‪ ،‬كي يقرروا ب�أنف�سهم‪ ،‬يف �ضوء �ضرورات احلياة وحاجياتها من جهة‬ ‫والنظام الأخالقي الإ�سالمي ومقت�ضيات االنتظام العام من جهة �أخرى‪ ،‬ما �إذا كانوا �سيلتزمون‬ ‫ب�أحكامها وقواعدها وقيمها و�شكل هذا الإلتزام ومداه‪.‬‬ ‫�إن احلرية والعدل والعقل �أ�س�س جوهرية يف الإ�سالم‪ ،‬وهي قيم دافعة ب�إجتاه �إيثار خيار الإلتزام‬ ‫على خيار الإلزام يف تطبيق ال�شريعة‪ .‬وعليه‪� ،‬أبادر �إىل جتديد املناق�شة يف هذا املجال احليوي من‬ ‫خالل معاجلة ثالثة مو�ضوعات �إ�شكالية هي الإ�سالم والدولة‪ ،‬ع�صمة رجال الدين‪ ،‬الإ�سالم‬ ‫والعلمانية‪ ،‬وذلك يف �سياق مقاربة جديدة لتطبيق ال�شريعة على �أ�سا�س الإلتزام‪.‬‬ ‫الإ�سالم دين ونظام‬

‫تقول غالبية الفقهاء �إن الإ�سالم لي�س جمرد دين ينطوي على ُمثل وقيم وعبادات بل هو دولة‬ ‫�أي�ضا تنطوي على �شريعة وقواعد و�أحكام ومعامـالت‪ .‬فاهلل تعاىل «يزع بال�سلطان (�أي بال�سلطة‬ ‫والقوة) ما ال يزع بالقر�آن»‪ ،‬و�أن ال �سبيل اىل تطبيق �أحكام ال�شريعة �إال بقيام �سلطة �إ�سالمية‪،‬‬ ‫القيادة فيها للعلماء والفقهاء‪.‬‬ ‫احلقيقـة �أن الإ�سالم لي�س دينا فح�سب بدليل �أنه ينطوي �أي�ضا على �شريعة ذات قواعد و�أحكام‪،‬‬ ‫‪34‬‬


‫الإ�سالم والإ�صالح الديني‬

‫و�أن ال�شريعة نظام �أو ناظم لأحوال الإن�سان يف عباداته ومعامالته‪ .‬ولكن ثمة �س�ؤال ُيطرح‪ :‬هـل‬ ‫يقت�ضي �إقامة دولة �إ�سالمية لتطبيق هذا النظام‪ ،‬وهل يف القر�آن �أمر ب�إقامة هذه الدولة؟‬ ‫ل�ست من القائلني ب�أن تطبيق ال�شريعة ‪�-‬أي نظام الإ�سالم‪ -‬ي�ستلزم �إقامة دولة �إ�سالمية بقيادة‬ ‫ُ‬ ‫الفقهاء والعلماء لأن من املمكن‪ ،‬بل من امل�ستح�سن‪ ،‬ان يكون االلتزام بال�شريعة �إلتزاما ذاتياً‬ ‫نابعاً من الإميان والوجدان واالقتناع وامل�صلحة ال�شخ�صية‪ .‬فامل�سلم ي�ستطيع ان ميار�س ال�شهادة‬ ‫وال�صالة وال�صوم واحلج والزكاة واجلهاد وتطبيق �أحكام الزواج والـطالق والإرث والو�صية دومنا‬ ‫حاجة �إىل دولة �إ�سالمية‪� ،‬أي �إىل �سلطة ملزمة‪ ،‬بدليل ان امل�سلمني ميار�سون تلقائيا تلك الفرائ�ض‬ ‫يف دول �أوروبا و�أمريكا حيث ال �سلطة �إ�سالمية‪ .‬فالقر�آن الكرمي خلو من �أي �أمر �أو فر�ض ب�إقامة‬ ‫دولة �إ�سالمية‪ .‬وكل ما يقوله بع�ض الفقهاء والعلماء يف هذا ال�صدد ال يعدو كونه اجتهادا ال ُيلزم‬ ‫امل�سلمني بل يلزم القائلني به ومن يذهبون مذهبهم‪ .‬ولي�س معنى هذا �أنه ال يجوز �إقامة دولة‬ ‫�إ�سالمية �أو �أن مثل هذه الدولة مل تقم يف التاريخ‪ .‬بالعك�س‪ ،‬من اجلائز وامل�ستح�سن �إ�ستجابة �إرادة‬ ‫الغالبية يف �إقامة دولة �إ�سالمية‪ ،‬لكن �إقامة هذه الدولة لي�ست فري�ضة دينية‪.‬‬ ‫حتى عندمـا قامت دولة �إ�سالميـة يف املا�ضي ف�إنها مل تكن قط حكومة دينية‪ ،‬ذلك �أن الإ�سالم‪،‬‬ ‫كما يقول العامل الدكتور �أحمد كمال �أبو املجد «ال يقيم حكومة دينية‪ ،‬الن ر�ضاء ال�شعب هو‬ ‫م�صدر �شرعية ال�سلطة يف املجتمع الإ�سالمي»‪ .42‬وقبل �أبو املجد جزم الإمام حممد عبده ب�أن‬ ‫«لي�س يف الإ�سالم ما ي�سمى عند القوم بال�سلطة الدينية بوجه من الوجوه‪ .‬وال يجوز ل�صحيح النظر‬ ‫�أن يخلط اخلليفة عند امل�سلمني مبا ي�سميه الإفرجن تيوكراتيك»‪ .43‬وعليه‪ ،‬ما دام ر�ضاء ال�شعب هو‬ ‫القاعدة واملعيار ف�إن النظام الذي يختاره ال�شعب‪ ،‬ب�إرادته احلرة‪ ،‬يكون نظاما �شرعيا مقبوال من‬ ‫الإ�سالم‪ ،‬كما ي�ؤكد ابو املجد‪.‬‬ ‫باخت�صار‪� ،‬إن الإ�سالم دين ونظام‪ .‬هذا النظام ميكن تطبيقه يف املجتمع من دون تدخل الدولة‪.‬‬ ‫حتى عندما يتطلب الأمر تدخل الدولة ف�إن هذه ال يقت�ضي �أن تكون �سلطة دينية وال �سلطة‬ ‫معقودة اللواء للم�سلمني وحدهم‪ .‬هذه هي احلال يف املجتمع الإ�سالمي‪ ،‬فهل يجوز ان تكون‬ ‫غري ذلك يف املجتمع املتعدد الأديان واملذاهب كاملجتمع اللبناين وال�سوري وامل�صري والعراقي؟‬ ‫�ألي�س هذا ما حدا ب�أية اهلل ال�شيخ حممد مهدي �شم�س الدين اىل املطالبة بان تكون الدولة يف‬ ‫‪44‬‬ ‫لبنان بال دين؟‬ ‫‪ 4 2‬امل�صدر نف�سه‪� .‬أنظر �أي�ضاً‪� :‬آية اهلل ال�سيد حممد ح�سني ف�ضل اهلل‪ ،‬احلركة الإ�سالمية‪-‬هموم وق�ضايا‪ ،‬الطبعة‬ ‫(بريوت‪ :‬دار املالك للطباعـة والن�شر‪1993 ،‬م)‪.‬‬ ‫‪ 43‬امل�صدر نف�سه‪� .‬أنظر �أي�ضاً‪ :‬االعمال الكاملة للإمام حممد عبده‪ ،‬درا�سة وحتقيق‪1973 ،‬م‪.‬‬ ‫‪ 4 4‬حممد مهدي �شم�س الدين‪ ،‬نظام احلكم واالدارة يف الإ�سالم‪ ،‬الطبعة ‪( 2‬بريوت‪ :‬امل�ؤ�س�سة الدولية للدرا�سات‬ ‫والن�شر‪1991 ،‬م)‪.‬‬

‫‪3‬‬

‫‪35‬‬


‫ع�صمة رجال الدين‬

‫لعل من �أبرز مزايا الإ�سالم �أنه دين بال كهنوت‪ .‬فالإ�سالم ال يق ّر �أبدا طبق ًة �أو �سلكا خم�صو�صا‬ ‫برجال الدين‪ ،‬بل �إن تعبري «رجال الدين» ٍ‬ ‫مناف للإ�سالم الذي ال ي�شرتط قـط زيا خا�صا وتراتبيــة‬ ‫حمفوظة للمت�صلني ب�ش�ؤون الدين‪ .‬فالر�سول (�ص) كان ي�سري عاري الر�أ�س‪ ،‬يرتدي جلبابا ب�سيطا‬ ‫و�سرتة �أكرث ب�ساطة‪ .‬ومل ي�ؤثر عنه‪ ،‬كما يقول ال�شيخ عبد احلميد بخيت‪� ،‬أنه �إرتدى عمامة �أو غطاء‬ ‫للر�أ�س �إال يف حاالت نادرة ولل�ضرورة امللحة‪ ،‬اتقاء لل�شم�س �أو جتنبا للمطر‪.45‬‬ ‫�أكرث من ذلك‪ ،‬لي�س الإت�صال ب�ش�ؤون الدين من عبادة و�شعائر واجتهاد وت�شريع �أمرا موقوفا على‬ ‫رجال الدين‪� ،‬أي على طبقة من النا�س‪ ،‬كالكهنوت امل�سيحي‪ ،‬ي�شكلون وا�سطة بني اهلل والإن�سان‪.‬‬ ‫فالعلماء والفقهاء هم‪ ،‬يف الدرجة الأوىل‪ ،‬اخت�صا�صيون م�شهود لهم بالعلم والف�ضل واالجتهاد‪،‬‬ ‫لكن اجتهاداتهم لي�ست ملزمة وهم لي�سوا مع�صومني من اخلط�أ وال ميكن �أن تكون لهم خارج‬ ‫ر�ضــاء اجلماعة (ال�شعب) �أية �سلطة ُعليا تبيح لهم النيابة عن �صاحب ال�شريعة يف تف�سري �أحكامها‬ ‫و�إلزام النا�س بها‪.46‬‬ ‫�إذا كان هذا هو الواقع يف املجتمع الإ�سالمي اخلال�ص �أو ذي الغالبية الإ�سالمية‪ ،‬فهل يجوز ان‬ ‫يكون غري ذلك يف املجتمع اللبناين �أو ال�سوري �أو امل�صري �أو العراقي املتعـدد الأديان واملذاهب؟‬ ‫وكيف تكون احلـال عندما يتوىل فقيه‪ ،‬مبا�شر ًة او مداور ًة‪ ،‬النيابة عن �صاحب ال�شريعة يف تف�سري‬ ‫�أحكامها و�إلزام النا�س بها‪ ،‬خ�صو�صا عندما تكون �شريح ٌة من ه�ؤالء من غري امل�سلمني؟ وكيف‬ ‫نحمي جمتمعنا من الإ�ستعمار اجلديد وال�صهيونية اللذين يرتب�صان بنا ويتلهفان على �سوانح‬ ‫وثغرات مثل هذه لينفذا بالإيقاع والفرقة اىل عمق �صفوفنا؟‬ ‫الإ�سالم والعلمانية‬

‫لي�س من �شك يف �أن الإ�سالميني على حق يف رف�ضهم التقليد الأعمى للغرب‪ ،‬بل هذا التغّرب‬ ‫الذي يتناول معظم وجوه حياتنا ويلحق بها من الفو�ضى والت�شويه ما يجعلنا يف �إرتباك مقيم‪ .‬غري‬ ‫�أن رف�ض التغّرب لي�س وقفا على الإ�سالميني بل هو موقف ينه�ض به ويتحمل م�س�ؤولياته املثقفون‬ ‫و�أهل الر�أي واملنا�ضلون ال�سيا�سيون املنتمون �إىل �شتى املدار�س والتيارات والإيديولوجيات‬ ‫‪ 45‬حممد النويهي‪ ،‬املرحع ال�سابق الذكر‪.‬‬ ‫‪� 46‬أبلغنا م�صدر موثوق ان �أ�شياخاً يح�سبون �أنف�سهم على الإ�سالم الأ�صويل املتزمت «�أفتوا» يف العراق بعدم جواز‬ ‫عقد القران بني امل�سلمني وامل�سلمات يف حماكم الدولة بل لدى �أ�شياخ جماعتهم‪ ،‬وعدم جواز مزاولة مهنة‬ ‫احلالقة �أو بيع الثلج يف �أ�شهر احل ّر والقيظ بدعوى �أن هذه املهن مل تكن معروفة يف عهد الر�سول (�ص)‪.‬‬ ‫‪36‬‬


‫الإ�سالم والإ�صالح الديني‬

‫القومية والي�سارية والتقدمية احلري�صة على الأ�صالة‪ ،‬من حيث هي اجلوانب احلية يف الرتاث‪،‬‬ ‫حر�صهـا على املعا�صرة مبا هي اجلوانب اخل ّرية يف احلداثة املراد تكييفها مع متطلبات امل�شروع‬ ‫النه�ضوي احل�ضاري العربي‪.‬‬ ‫رغم التقاء الإ�سالميني والتقدميني يف موقف معاداة التغ ّرب ف�إن معظم الإ�سالميني يلج�أ اىل‬ ‫مقلدين‬ ‫التحامل على «العلمانيني» بو�ضعهم جميعا يف �سلة واحدة من حيث �إتهامهم ب�أنهم جمرد ّ‬ ‫للتجربة الأوروبية‪ ،‬الفرن�سية خا�ص ًة‪ ،‬هذه التجربة التي انطوت على الف�صل بني الكني�سة والدولة‬ ‫يف حني ال كني�سة يف الإ�سالم وال �ضرورة ال�ستحداث تقليد الف�صل بني امل�سجد وال�سيا�سة يف‬ ‫جمتمعاتنا الإ�سالمية املغايرة يف ظروفها ملجتمعات �أوروبا امل�سيحية‪.‬‬ ‫احلق �أن هناك فروقاً عميقة بني «العلمانية» العربية (مع حتفظي ال�شديد على ا�ستعمال هذا‬ ‫امل�صطلح) والعلمانية الأوروبية وبالتايل بني «العلمانيني» العرب والأوروبيني‪ .‬ولعل هذه الفروق‬ ‫تظهر �أكرث ما يكون عند تبيان املرتكزات الأ�سا�سية للعلمانية العربية على النحو الآتي‪:‬‬ ‫ حرية الإعتقاد عمال بالآيات الكرمية‪« :‬ال �إكراه يف الدين» (�سورة البقـرة‪ ،‬الآية رقم ‪.)256‬‬ ‫«ل�ست عليهم مب�صيطر» (�سورة الغا�شية‪ ،‬الآية رقم ‪�« .)22‬إنـك ال تهدي من �أحببت ولكن اهلل‬ ‫يهدي من ي�شاء» (�سورة الق�ص�ص‪ ،‬الآية رقم ‪.)56‬‬ ‫ قدرة العقل الإن�ساين على اجرتاح حلول مل�شكالت الإن�سان واملجتمع �سواء باقتبا�سها‬ ‫من الن�ص الإلهي‪� ،‬أي ال�شريعة‪� ،‬أو بتب ّنيه وا ّتباعه قيما وم�سالك مكت�سبة من جتارب احلياة‬ ‫الإن�سانية وظواهرها الطبيعية واالجتماعية‪ .‬باخت�صار‪ ،‬قدرة العقل على ّ‬ ‫حل م�شاكل الإن�سان‬ ‫واملجتمع‪ ،‬والثقة بهذا العقل‪.‬‬ ‫ امل�ساواة بني الب�شر والتكاف�ؤ يف الفر�ص ب�صرف النظر عن اجلن�س والأ�صل والدين واللون‬ ‫واملنزلة االجتماعية‪.‬‬ ‫ حياد الدولة �إزاء م�ؤ�س�سات الأديان واملذاهب‪.‬‬ ‫ ال�شورى والدميقراطية هما ال�سبيل الأف�ضل حلكم املجتمع وتطويره‪ ،‬ويقومان على حرية‬ ‫التعبـري‪ ،‬وتعددية الر�أي‪ ،‬وحكم القانون‪ ،‬واالحتكام اىل الأغلبية يف �إطار من التوافق‬ ‫الوطني‪.‬‬ ‫ و�ضع قانون مدين اختياري للأحوال ال�شخ�صية يراعي القواعد والأعراف الأ�سا�سية يف‬ ‫الإ�سالم وامل�سيحية‪.‬‬ ‫ �إيالء النظر يف ق�ضايا الأحوال ال�شخ�صية �إىل املحاكم املدنية على �أن تكون م�ؤلفة من ق�ضاة‬ ‫خمت�صني بال�شرع‪.‬‬ ‫‪37‬‬


‫ الت�سامح من حيث هو طريق الرتاحم («رحمة الأمة يف �إختالف الأئمة») واحلوار والتفاعل‬ ‫والت�صويب والتطوير‪.‬‬ ‫�إن خ�صائ�ص «العلمانية» العربية‪ ،‬كما حددناها �آنفا‪ ،‬تختلف اختالفاً وا�ضحاً عن خ�صائ�ص العلمانية‬ ‫الأوروبية‪ .‬بل �إن هذه اخل�صائ�ص البارزة للعلمانية العربية ذات ال�سياق التاريخي واالجتماعي‬ ‫املختلف ت�ضعها يف �صلب روح الإ�سالم العظيم وقيمه و ُمثله وممار�سة الأخيار من خلفائه وعلمائه‬ ‫وحكمائه‪� .‬ألي�س يف �ضوء ذلك قال العالمة ال�شيخ عبد اهلل العاليلي‪« :‬الإ�سالم دين علماين»؟‬ ‫لعله �آن الآوان كي يعلن «العلمانيون» العرب متايزهم عن العلمانية الأوروبية وا�ستقاللهم الذاتي‬ ‫عنها ب�سياق تاريخي خا�ص بهم وذلك ب�شتى و�سائل التفكري والتدبري والبحث واملمار�سة‪ .‬ولعله‬ ‫�أي�ضا بات من ال�ضروري �إبدال م�صطلح العلمانية ذي امل�ضمون الأوروبي املغاير مب�صطلح جديد‬ ‫يحمل اخل�صو�صية التاريخية واالجتماعية مل�ضمونها العربي املتكامـل مع روح الأديان جميعـا‬ ‫ال�سيما الإ�سالم‪ -‬واملتكامل مع الإميان الديني عموما‪ .‬و�إين �أقرتح‪ ،‬يف هذا املجال‪ ،‬تعبري‬‫العدالنية (او العدلنة) امل�شتقة من العـدل‪ ،‬وهـي كلمـة حتمل‪ ،‬يف املعجم‪ ،‬جملة معانٍ ت�ؤدي‬ ‫امل�ضمون الأف�ضل واملطلوب‪� :‬ضد الظلم واجلور‪ ،‬ال�سو ّية‪ ،‬النظري واملثل‪ ،‬القيمة‪.‬‬ ‫هذه املفردات حتمل معاين حرية الإعتقاد‪ ،‬وامل�ساواة‪ ،‬والقيمة املتوخاة للإن�سان من حيث هو روح‬ ‫وج�سد وعقل‪.‬‬ ‫�إين �ألتزم وغريي الإ�سالم وال�شريعة باقتناع ذاتي نابع من عمق الإميان والوجدان‪ ،‬وبثقة �صافية‬ ‫نابعة من �صميم القلب والعقل‪ ،‬فلماذا �إلزام املرء ق�سراً مبا ميكن �أن يختاره طوعاً و�أن يلتزمه حراً؟!‬

‫‪38‬‬


‫الإ�سالم والإ�صالح الديني‬

‫فكر اال�صالح والدولة عند مفكري اال�سالم ال�سيا�سي‬ ‫حممد باقر ال�صدر و�سيد قطب منوذجا ً‬ ‫�سعيد �أحمد عبد الرحمن ‪� -‬أ�ستاذ جامعي‬

‫مقدمــة‬

‫ظهرت حركات اال�سالم ال�سيا�سي‪ ،‬على اثر �سقوط اخلالفة العثمانية ‪،‬مع رمزيتها ال�سيا�سية‬ ‫املوحدة للم�سلمني‪ .‬مما ادى اىل ن�شوء ازمة معنوية لدى الكثري من رجال الفكر اال�سالمي‪ ،‬حيث‬ ‫�سعى بع�ضهم اىل اعادة بناء اخلالفة من جديد‪.‬‬ ‫فخرجت �إىل العلن مع بدايات القرن الع�شرين‪ ،‬ولي�س بعيداً عن نهاية ال�سلطان عبد احلميد الثاين‬ ‫وقيام تركيا العلمنية‪ ،‬حركة االخوان امل�سلمني‪ ،‬التي بناها ال�شيخ ح�سن البنا‪ ،‬على �أ�سا�س �أن تقود‬ ‫االمة وب�شكل تدريجي للو�صول �إىل ا�سرتجاع اخلالفة ولو بلون جديد‪ ،‬عرب �إقامة «الفرد امل�سلم‬ ‫واال�سرة امل�سلمة واملجتمع امل�سلم والدولة امل�سلمة و�صوال اىل احياء اخلالفة اال�سالمية»‪.‬‬ ‫ويقول البنا يف ذلك‪...« :‬لقد �أراد اهلل �أن نرث هذه الرتكة املثقلة بالتبعات‪ ...‬و�أن يهيئكم اهلل‬ ‫(‪)1‬‬ ‫العالء كلمته واظهار �شريعته‪ ،‬والقامة دولته من جديد»‪.‬‬ ‫ومن رحم الأخوان امل�سلمني خرج �سيد قطب‪ ،‬حامال فكرة قيام اخلالفة اال�سالمية ومربراتها‪،‬‬ ‫نا�شرا �آراءه التي جعلته من �أبرز مفكري اال�سالم ال�سيا�سي يف بدايات القرن الع�شرين‪.‬‬ ‫وما هي �إال �سنوات قليلة‪ ،‬ويخرج �إىل العلن حزب الدعوة اال�سالمية يف العراق‪ ،‬م�ستلهما حركته‬ ‫ال�سيا�سية من جتربة االخوان امل�سلمني يف م�صر‪ ،‬في�صبح حزب الدعوة االمنوذج املتقدم بالن�سبة‬ ‫لل�شيعة العراقيني‪ ،‬الذين مل يعهدو مثل هكذا عمل �سيا�سي حزبي من قبل(‪ ،)2‬وقد �أتت فكرة‬ ‫بناء اخلالفة اال�سالمية‪ ،‬بعد ف�شل و�سقوط العديد من حماوالت النهو�ض باالمة ‪،‬والتي عرفت‬ ‫منذ اواخر القرن التا�سع ع�شر‪ ،‬ومنها فكرة اجلامعة اال�سالمية ‪.‬‬ ‫�إال �أن فكرة اجلامعة اال�سالمية‪� ،‬سقطت بعد موت مردديها ومفكريها‪ ،‬حتت �ضربات اال�ستعمار‬ ‫الربيطاين ‪ -‬الفرن�سي من جهة‪ ،‬وم�ساعي ال�سلطان عبد احلميد الثاين يف التفرد ال�سلطوي واحلكم‬ ‫‪39‬‬


‫امل�ستبد من جهة اخرى‪ ،‬والفكر الطوراين عرب االحتاد والرتقي من جهة ثانية ‪،‬فخرجت �إىل العلن‬ ‫فكرة الوحدة العربية مع بدايات ثورة ال�شريف ح�سني يف احلجاز‪ ،‬وحماوالته لبناء مملكة عربية‬ ‫يقودها و�أوالده‪ ،‬مكان الدولة العثمانية املرتهلة والتي ظهر �أن م�صريها ال�سقوط احلتمي على �أثر‬ ‫احلرب العاملية الأوىل‪.‬‬ ‫وبقيت فكرة الوحدة العربية هي ال�سائدة طيلة الثالثينات والأربعينيات من القرن املا�ضي لتخرج‬ ‫اجلامعة العربية كفكرة لتطبيق مفهوم الوحدة العربية‪.‬‬ ‫�إال �أن هذه الفكرة الأخرية‪� ،‬أو املفهوم الأخري‪� ،‬سقط على �أثر احلرب العاملية الثانية وبداية احلرب‬ ‫الباردة بني القطبني العامليني‪ :‬الواليات املتحدة الأمريكية واالحتاد ال�سوفياتي والت�شظي العربي‬ ‫مع قيام الكيان اال�سرائيلي الذي مل تنجح امل�ساعي العربية يف حماربته �أو �إنهائه منذ اللحظات‬ ‫الأوىل على ن�شوئه‪.‬‬ ‫وخرجت �إىل العلن �صراعات الأقليات واالثنيات‪ ،‬والتي ّ‬ ‫تغذت من هذا القطب العاملي �أو‬ ‫ذاك‪ ،‬وبد�أت التق�سيمات اجلديدة داخل العامل العربي ال�صغري والعامل اال�سالمي الوا�سع‪ ،‬بني‬ ‫مع�سكري الر�أ�سمالية وال�شيوعية‪ ،‬وحاول جمال عبد النا�صر نقل العرب نحو «فكرة الآ�سيوية ‪-‬‬ ‫الأفريقية» و «احلياد االيجابي»‪ ،‬و «الوحدة العربية من خالل وحدة م�صر و�سوريا»‪� ،‬إال �أن كل هذا‬ ‫�سقط �أمام اتفاق «يالطا «ومفهوم «ال�شرق الأو�سط «‪ ،‬لتخرج �إىل العلن من جديد فكرة «اخلالفة‬ ‫اال�سالمية» و «الدولة اال�سالمية» و تطبيق ال�شريعة اال�سالمية»(‪.)3‬‬ ‫ومن خالل بحثنا هذا �سنتطرق �إىل فكرة احلاكمية ونظام احلكم عند مفكري اال�سالم ال�سيا�سي‬ ‫من خالل «ال�سيد حممد باقر ال�صدر» و «�سيد قطب»‪ .‬فهل اتفقت مدر�ستا الأخوان امل�سلمني و�آل‬ ‫البيت على اال�صالح و�شكله؟ وكيف ظهرت بوادر هذا اال�صالح من خالل ال�صدر و قطب ؟‬ ‫وهو ما �سنحاول الإجابة عنه من خالل درا�ستنا هذه‪..‬‬ ‫كان جمال الدين الأفغاين قد دعا �إىل �إعادة النظر يف اال�سالم من زاوية تطور الع�صر والعقل‪،‬‬ ‫لذا دعا �إىل �أهمية فتح باب االجتهاد‪ ،‬فاال�سالم عند الأفغاين ال يخالف احلقائق العلمية‪ ،‬ومن‬ ‫الأهمية مبكان العودة �إىل الت�أويل عند ظهور �أي تناق�ض بني العلم والدين(‪.)4‬‬ ‫«ما معنى �أن باب االجتهاد م�سدود؟ وب�أي ن�ص ُ�س َّد باب االجتهاد؟ �أو �أي �إمام قال‪« :‬ال ينبغي‬ ‫لأحد من امل�سلمني بعدي �أن يجتهد ليتفقه يف الدين‪� ...‬أو �أن يجد ويجتهد ليتو�سع مفهومه منهما‬ ‫واال�ستنتاج بالقيا�س على ما ينطبق على العلوم الع�صرية وحاجات الزمان و�أحكامه»(‪.)5‬‬ ‫اما ال�شيخ حممد عبده فذهب �إىل �ضرورة حترير الفكر من التقليد‪ ،‬ودعا �إىل االنفتاح على اجلوانب‬ ‫االيجابية من احل�ضارة الغربية «يجب حترير الفكر من قيد التقليد‪ ،‬وفهم الدين على طريقة �سلف‬ ‫هذه الأمة قبل ظهور اخلالف‪ ،‬والرجوع يف ك�سب معارفه �إىل ينابيعها الأوىل‪ ...‬والنظر �إىل العقل‬ ‫‪40‬‬


‫الإ�سالم والإ�صالح الديني‬

‫باعتباره قوة من �أف�ضل القوى االن�سانية‪ ،‬بل هو �أف�ضلها‪.)6(»...‬‬ ‫�أفكار اال�صالح والتنوير هذه التي حملها كل من جمال الدين الأفغاين وحممد عبده‪ ،‬دفعت‬ ‫بال�شيخ حممد ر�شيد ر�ضا �إىل املقارنة بينهما‪ ،‬بقوله‪« :‬وقد �شرع هذان احلكيمان املجددان يف م�صر‬ ‫بنوعي التجديد ال�سيا�سي والعلمي اللذين �سي�شمالن جميع �أنواع التجديد التي ا�شتدت �إليها‬ ‫حاجة الأمة»(‪.)7‬‬ ‫وي�أتي من بعدهما‪ ،‬عدد من املفكرين وامل�صلحني‪ ،‬الذين �سارو على نف�س النهج واملنهج مع بع�ض‬ ‫التعديل يف الر�ؤى و�أ�سلوب التطبيق فيذهب عبد العزيز الثعالبي �إىل ان على النا�س �أن تهتدي‬ ‫من تلقاء نف�سها‪ ،‬من خالل اختيارهم بني احلق والباطل» فال يجوز �أن تفر�ض عليهم الآراء»(‪.)8‬‬ ‫ويذهب حممد ر�شيد ر�ضا‪� ،‬إىل �أن نه�ضة العامل اال�سالمي حتتاج �إىل العلوم والأعمال‪ ،‬و�إىل احلرية‬ ‫ال�شخ�صية وا�ستغالل الفكر‪ ،‬و�إباحة حرية االختالف»(‪.)9‬‬ ‫وذهب عبد الرحمن الكواكبي‪� ،‬إىل اعتبار �أن اجلهل الذي يعي�شه العامل العربي واال�سالمي �إمنا‬ ‫م ّرده �إىل اال�ستبداد‪ ،‬وربط ما بني اال�ستبداد ال�سيا�سي والديني معترباً �أن «امل�شكلة بينهما �أنهما‬ ‫حاكمان �أحدهما يف مملكة الأج�سام والآخر يف عامل القلوب»(‪ )10‬ثم ي�صل �إىل نتيجة وهي‪�« :‬أن‬ ‫البدع التي �شو�شت االميان و� ّشوهت الأديان تكاد تت�سل�سل بع�ضهما من بع�ض‪ ،‬وتتولد جميعها‬ ‫من غر�ض واحد هو املراد‪� ،‬أال وهو اال�ستعباد»(‪.)11‬‬ ‫هذه الدعوات �إىل ا�ستخدام العقل‪ ،‬وجدت �صداها �أي�ضاً عند ال�شيخ حممد ح�سني النائيني‪ ،‬وهو‬ ‫من الفقهاء امل�صلحني ال�شيعة‪ ،‬الذي �سعى �إىل «قولبة املفاهيم الدينية يف �أوعية �سيا�سية حديثة‪...‬‬ ‫حماولة لإي�صال البيان الفقهي ال�شيعي مع منظومة املفاهيم ال�سيا�سية والد�ستورية احلديثة»(‪.)12‬‬ ‫ال�سيد حممد باقر ال�صدر وطرق اال�صالح‬

‫ال�سيد حممد باقر ال�صدر (‪)1980 -1935‬‬ ‫ولد ال�سيد حممد باقر ال�صدر يف الكاظمية عام ‪ ،1935‬وكان والده العالمة ال�سيد حيدر ال�صدر‬ ‫ذا منزلة علمية‪� ،‬أما جده ال�سيد ا�سماعيل ال�صدر‪ ،‬فيعترب �أحد زعماء الطائفة ال�شيعية‪ .‬والدته �أبنة‬ ‫�آية اهلل ال�شيخ عبد احل�سني �آل يا�سني من �أعظم علماء ال�شيعة(‪.)13‬‬ ‫تعلم يف الكاظمية الدرو�س الدينية الأوىل‪ ،‬لينتقل بعدها �إىل النجف الأ�شرف حيث تتلمذ على‬ ‫يدي الأ�ستاذين �آية اهلل ال�شيخ حممد ر�ضا �آل يا�سني‪ ،‬و�آية اهلل العظمى ال�سيد �أبو القا�سم اخلوئي‪.‬‬ ‫و�أكمل درو�سه احلوزوية يف �سن الثامنة ع�شرة‪ ،‬وبد�أ بالتدري�س(‪. )14‬‬ ‫له العديد من امل�ؤلفات تزيد على الع�شرين م�ؤلفاً كانت له مواقف جتاه النظام البعثي يف العراق‪.‬‬ ‫‪41‬‬


‫اعتقل عامي ‪ 1971‬و ‪ )15(1974‬و�أعدم عام ‪ 1980‬مع �شقيقته بنت الهدى(‪.)16‬‬ ‫تقوم الدولة اال�سالمية عند ال�سيد حممد باقر ال�صدر «من ت�أمالت كونية و�إيحاءات كلية �أو‬ ‫وعي �إ�ستقرائي �شمويل للنهو�ض الدينية‪ ،‬الأمر الذي يف�صله عن �سياق الفقيه ال�شيعي امل�سكون‬ ‫بالن�صو�ص الدينية»(‪.)17‬‬ ‫فال�سلطة عند ال�سيد ال�صدر ال تكون �إال بدعم من القاعدة ال�شعبية «ال ميكن حتقيق عملية التغيري‬ ‫�إ�سالمياً ما مل تكن هذه ال�سلطة مدعمة بقواعد �شعبية واعية تعي �أهداف تلك ال�سلطة وت�ؤمن‬ ‫بنظرياتها يف احلكم»(‪.)18‬‬ ‫وهو على الرغم من دعوته �إىل �أن يكون على ر�أ�س هرم ال�سلطة «الفقيه» �إال �أنه دعا �إىل و�ضع هذا‬ ‫الفقيه حتت رقابة املجتمع‪ ،‬فطاملا �أن الفقهاء يفتقرون �إىل الع�صمة ف�إن «رقابتهم على الدولة تتطلب‬ ‫رقابة املجتمع عليهم»(‪ )19‬وهو بذلك ي�صل �إىل فر�ض رقابة الفقهاء على الدولة من جانب‪ ،‬وفر�ض‬ ‫الرقابة على الفقهاء �أنف�سهم من جانب �آخر‪.‬‬ ‫فاال�صالح الذي يدعو �إليه ال�سيد حممد باقر ال�صدر يف العامل اال�سالمي ب�شكل عام‪ ،‬يكون‬ ‫�إذاً من خالل الدولة اال�سالمية التي ترتكز يف عقيدتها على �أ�سا�س االميان باهلل باعتبار �أنه «هو‬ ‫الرتكيب العقائدي الوحيد الذي ميد احلركة احل�ضارية للإن�سان بوقود ال ينفذ» ممث ًال هذا الرتكيب‬ ‫يف تعاليم القر�آن الكرمي للإ�سالم التي حتدد املعامل الأخالقية(‪.)20‬‬ ‫وطريقة ن�شوء الدولة اال�سالمية عند ال�سيد حممد باقر ال�صدر‪ ،‬يف مفهومها تقرتب من مفهوم‬ ‫الدولة التي قال بها «جمال الدين الأفغاين‪ ،‬وال�شيخ حممد عبده‪ ،‬وال�شيخ النائيني‪ »..‬والتي‬ ‫ظهرت مع الت�أثريات من الأفكار احلديثة التي تدور حول‪ :‬الدولة الدميقراطية ‪ -‬الد�ستور ‪-‬‬ ‫ال�سلطات ‪ -‬املر�أة ‪ -‬احلرية ‪ -‬القانون ‪ -‬االقت�صاد ونظامه ‪ -‬النظام االجتماعي‪.»...‬‬ ‫فكان ال�سيد حممد باقر ال�صدر �أحد الفقهاء املجددين والتغيرييني الذي �سعى �إىل تكييف �أفكاره‬ ‫مع واقع املجتمع‪.‬‬ ‫وهو لذلك يدعو ويف �سبيل اال�صالح املن�شود �إىل‪:‬‬ ‫�أو ًال‪ :‬يذهب ال�سيد ال�صدر �إىل االعتقاد‪� ،‬أن املناهج الفكرية يف العامل اال�سالمي حتمل بع�ض‬ ‫الثغرات‪ ،‬لذلك فهو يدعو �إىل تنويع املناهج املنطقية كما املناهج الفكرية يف الدرا�سات الدينية‪ ،‬مما‬ ‫ي�ساهم يف الو�صول �إىل املزيد من املعلومات واملكت�شفات(‪.)21‬‬ ‫ثاني ًا‪ :‬االنتقال يف تف�سري القر�آن الكرمي‪« ،‬من التف�سري التجزيئي �إىل التف�سري املو�ضوعي التوحيدي‪،‬‬ ‫الذي يوحد بني التجربة الب�شرية والقر�آن» وهو بذلك ي�صوغ املركب النظري القر�آين حيال متطلبات‬ ‫احلياة املتنوعة «‪ ،‬وبذلك يدعو ال�سيد ال�صدر �إىل ال�صعود من الواقع �إىل الن�ص «�أي درا�سة م�شكالت‬ ‫الواقع‪� ،‬أ�سئلة الواقع‪ ،‬متغرياته‪ ،‬ظواهره‪� ،‬أ�شكاله‪ ،‬ومن هنا يكون ا�صطالح املو�ضوعية»(‪.)22‬‬ ‫‪42‬‬


‫الإ�سالم والإ�صالح الديني‬

‫ثالث ًا‪ :‬انتقد ال�سيد ال�صدر الفقه الفردي الذي �أطلق عليه م�صطلح «انكما�شي»‪ ،‬وهو يدعو‬ ‫للإنتقال بالفقه �إىل فقه املجتمع والدولة‪ ،‬ودعا �إىل «تنمية وتر�سيخ املنحى املو�ضوعي يف الفقه» ‪.‬‬ ‫واعترب �أن انكما�ش الفقه من الناحية املو�ضوعية جنم عنه ت�سرب الفردية �إىل نظرة الفقيه نحو‬ ‫ال�شريعة نف�سها‪ ،‬ف�إن الفقيه ب�سبب تر�سخ اجلانب الفردي من تطبيق النظرية اال�سالمية للحياة‬ ‫يف ذهنه‪ ،‬واعتياده النظر �إىل الفرد وم�شاكله‪ ،‬عك�س موقفه هذا على نظرته �إىل ال�شريعة‪ ،‬فاتخذت‬ ‫طابعاً فردياً‪ ،‬و�أ�صبح ينظر �إىل ال�شريعة يف نطاق الفرد كما ان «هيمنة النزعة الفردية على التفكري‬ ‫الفقهي حجب عقل الفقيه عن التفكيك بني اخلطابات ال�شرعية املوجهة للأمة واخلطابات‬ ‫املوجهة للأفراد‪ ،‬لذلك طالب ال�صدر �إىل اعادة بناء الفقه �أفقياً وعامودياً‪ ،‬لكي يتطور مع تطور‬ ‫التجربة الب�شرية وامتدادها»(‪.)23‬‬ ‫بذلك نرى �أن م�شروع ال�سيد ال�صدر يدعو �إىل «ت�أ�صيل النظرية الفقهية يف غري واحد من حقول‬ ‫فقه املجتمع والدولة املهمة» وهو مل يهتم فقط باكت�شاف النظريات االقت�صادية وال�سيا�سية‪« ،‬بل‬ ‫جتاوز ذلك �إىل اعتماد بع�ض الأدوات اجلديدة يف ا�ستنطاق ن�صو�ص ال�شريعة‪ ،‬والبحث عن �أُطر‬ ‫بديلة‪ ،‬ترفد املجتمع مبواقف ال�شريعة املرنة التي يقت�ضيها الزمان»(‪.)24‬‬ ‫كما تطور فكر ال�سيد ال�صدر يف جمال اال�صالح داخل املجتمعات اال�سالمية‪ ،‬ويف الدفاع عن‬ ‫الفكر اال�سالمي‪ ،‬مقابل الفكر املارك�سي واملادية‪ ،‬فكان �أن و�ضع كتاب «فل�سفتنا واقت�صادنا»‪ ،‬ثم‬ ‫«الأ�س�س املنطقية للإ�ستقراء «الذي دعا من خالله �إىل الإتيان مبناهج منطقية جديدة قادرة على‬ ‫الدفاع عن قيمنا ومفاهيمنا»(‪.)25‬‬ ‫�أما الدعوة �إىل تقليد الغرب والأخذ منه‪ ،‬ف�إن لل�سيد ال�صدر انتقادات وجهها للإن�سان الغربي‬ ‫وجمتمعه ونظامه قائ ًال‪« :‬االن�سان الأوروبي جعل احلرية هدفاً وهذا �صحيح‪ ،‬ولكنه �صيرّ هذا‬ ‫الهدف مث ًال �أعلى بينما هذا الهدف لي�س �إال �إطاراً يف احلقيقة‪ ،‬وهذا االطار بحاجة �إىل حمتوى‬ ‫وم�ضمون‪ ،‬ف�إذا ُج ّرد هذا االطار من حمتواه �سوف ي�ؤدي �إىل الويل والدمار»(‪ )26‬ويو�ضح ال�سيد‬ ‫ال�صدر‪�« :‬أنت ال ت�ستطيع �أن ت�ضع االن�سان ب�أن تك�سر عنه القيود وتقول له �إفعل ما �شئت»(‪.)27‬‬ ‫لذلك دعا ال�سيد ال�صدر �إىل تنظيم �أمور الدولة واملجتمع ب�أن يكون لدينا مطلق‪�« :‬إمنا املطلق الذي‬ ‫يحارب من �أجله االن�سان ويبقى هو ذاك املطلق احلقيقي‪ ،‬يبقى هو اهلل �سبحانه وتعاىل»(‪.)28‬‬ ‫ويو�ضح ال�سيد ال�صدر ذلك‪ ،‬رابطاً بينه وبني االن�سان يف �سبيل قيام الدولة والنظام‪« :‬يفر�ض وجود‬ ‫�صلة مو�ضوعية بني االن�سان وهذا املثل الأعلى‪ ،‬بينما املثل الأخرى ال�سابقة كانت �إن�سانية‪ ،‬كانت‬ ‫�إفرازاً ب�شرياً ‪ ..‬هناك طواغيت وفراعنة على مر التاريخ ن�صبوا من �أنف�سهم �صالت مو�ضوعية بني‬ ‫الب�شر وبني �آلهة ال�شم�س‪� ،‬آلهة الكواكب‪ ،‬ولكنها �صلة مو�ضوعية مزيفة‪.»...‬‬ ‫لذلك فهو يدعو �إىل �أن يكون هنالك �صلة مو�ضوعية تتج�سد يف النبي ودور النبوة»(‪.)29‬‬ ‫‪43‬‬


‫ولكي ن�صل �إىل هذا امل�ستوى «ال ّبد للب�شرية من �أن تخو�ض معركة �ضد االلهة امل�صطنعة‪� ،‬ضد‬ ‫تن�صب نف�سها ق ّيماً على الب�شرية وحاجب وقاطع طريق‬ ‫تلك الطواغيت واملثل املنخف�ضة التي ّ‬ ‫بالن�سبة للم�سرية التاريخية‪ ،‬ال ُب ّد من معركة �ضد هذه الآلهة‪ ،‬ال ُب ّد من قيادة تتبنى هذه املعركة‪،‬‬ ‫وهذه القيادة هي االمامة‪ ،‬هي دور االمام‪ ،‬االمام هو القائد الذي يتوىل هذه املعركة»(‪.)30‬‬ ‫بذلك ي�صور لنا ال�سيد ال�صدر‪ ،‬امل�ستقبل والواقع‪ ،‬فهو ال يقبل بالأخذ من الغرب كما هو الغرب‪.‬‬ ‫ويف �سبيل قيام الدولة العادلة عند ال�صدر‪ ،‬يجب �أن ن�ضع ن�صب �أعيننا �أننا ن�سعى �إىل «املطلق‬ ‫«الذي هو اهلل‪ ،‬ولكي ن�صل �إليه حقيقة‪ ،‬يجب تدمري �آلهة ال�شم�س ولكي ندمرها يجب �إنهاء املثل‬ ‫العليا االن�سانيةالب�شرية الطاغية‪ ،‬فن�صل �إىل �إيجاد �صلة مع املطلق يكون عرب «النبي» ومن بعده‬ ‫«االمام» وتتطور الفكرة عند ال�سيد ال�صدر لن�صل �إىل الفقيه الذي يو�ضع على ر�أ�س هرم ال�سلطة‪،‬‬ ‫وحتت رقابة املجتمع‪.‬‬ ‫هكذا �أعاد ال�سيد ال�صدر اال�صالح يف املجتمع اال�سالمي �إىل الدين‪ ،‬وبطريقة متطورة تجُ اري‬ ‫الع�صر‪ ،‬فكان ال�سيد حممد باقر ال�صدر‪ ،‬فقيه القرن الع�شرين‪ ،‬و�ضع �أعظم النظريات حتى يف‬ ‫جمال االقت�صاد (اقت�صادنا) ويف الفكر اال�سالمي (فل�سفتنا)‪ ،‬لتبقى �سل�سلة العلماء امل�صلحني‬ ‫م�ستمرة منذ جمال الدين الأفغاين‪ ،‬مع الأخذ بعني االعتبار ظروف املجتمعات اال�سالمية‬ ‫وظروف تطور الع�صر‪ ،‬التي جعلت من حممد باقر ال�صدر م�صلحاً من طراز مميز فاق �أقرانه‪.‬‬ ‫فهو كما ي�صفه الباحث علي فيا�ض‪« :‬ابن خلدون الفكر الديني املعا�صر ‪،‬حيث يعترب االو�سع‬ ‫(‪)31‬‬ ‫واالعمق يف م�ضمار التجديد»‪.‬‬ ‫�سيد قطب وطرق اال�صالح‪)1966 - 1906( :‬‬

‫هو �شاعر و�أديب وناقد‪ ،‬دافع عن حركة التجديد يف الأدب العربي �إىل جانب طه ح�سني‬ ‫والعقّاد‪ ،)32(،‬در�س يف الك ّتاب وتخرج من دار العلوم يف ق�سم املعلمني حائزاً على لي�سان�س يف فن‬ ‫التعليم(‪ )33‬وكان لطه ح�سني والعقاد �أثراً يف �شخ�صية �سيد قطب وت�أثره بالغرب كنموذج جدير‬ ‫بالتقليد يف البدايات‪ ،‬خ�صو�صاً و�أن قيم الغرب كانت مقبولة من النواحي ال�سيا�سية واالجتماعية‬ ‫لدى الكثري من املفكرين يف العاملني العربي واال�سالمي(‪.)34‬‬ ‫برز �سيد قطب مع م�ؤلفاته الأدبية واالجتماعية وال�سيا�سية كما يف م�شاركاته يف جماالت النقد‬ ‫الأدبي ومناهجه و�أ�ساليبه‪ ،‬ويف نقده لالحوال االقت�صادية واالجتماعية وال�سيا�سية التي كانت‬ ‫�سائدة يف العهد امللكي يف م�صر‪ ،‬كما �شارك يف احلياة ال�سيا�سية من خالل انت�سابه �إىل حزب‬ ‫«ال�سعديني»(‪.)35‬‬ ‫‪44‬‬


‫الإ�سالم والإ�صالح الديني‬

‫كانت رحلته �إىل الواليات املتحدة الأمريكية للدرا�سة فيها عام ‪ ،1948‬نقطة حتول مهمة يف حياته‪،‬‬ ‫حيث دفعته �إىل رف�ض �أ�سلوب احلياة الغربية وتعاطفه مع االخوان امل�سلمني يف م�صر‪ ،‬الذين‬ ‫انت�سب �إليهم فيما بعد عام ‪.)36(1952‬‬ ‫وكان كمنظر يف حركة االخوان قد لعب دوراً يف «جتديد املذهبية اال�سالمية و�إعادة توجيهها» كما‬ ‫«�أنه قدم ا�ستمراراً بني الأخوان وف�صائلها املتمردة»‪ ،‬وكان «لتحديه للدولة‪ ،‬وموته �أن و�ضعا �أمام‬ ‫الن�ضاليني ال�شباب منوذجاً لل�شهادة ليحتذوا بها(‪.)37‬‬ ‫�أما �أبرز �أفكار قطب اال�صالحية فقد ظهرت من خالل م�ؤلفاته وهي‪:‬‬ ‫�أو ًال‪ :‬رف�ض الأنظمة والقوانني الو�ضعية بل يجب على االن�سان احلكم بقانون اهلل(‪ )38‬فالت�شريع‬ ‫عند �سيد قطب هو �ش�أن �إلهي‪ ،‬والقانون اال�سالمي هو �أحد مظاهر �إرادة اهلل التي حتدد واجبات‬ ‫وحقوق الأفراد والدولة (‪.)39‬‬ ‫ثاني ًا‪ :‬ال�سلطة هي هلل‪ ،‬وبالتايل ف�إن اخل�ضوع ل�سلطة �أو �إرادة �شخ�ص �أو جمموعة هو �إ�شراك يف‬ ‫حال تناق�ض �إرادة الفرد �أو الأمة للر�سالة االلهية وملبادئ القر�آن الكرمي(‪ ،)40‬وبالتايل ي�ؤمن قطب‬ ‫ب�أن �سلطة احلاكم هي تفوي�ض من قبل ال�شعب وحتجب يف عدة حاالت‪� ،‬أولها وابرزها هي عدم‬ ‫التزامه �أو تطبيقه الت�شريع اال�سالمي(‪.)41‬‬ ‫ثالث ًا‪ :‬يرف�ض قطب فكرة التو�صل �إىل النظام اال�سالمي عندما يحكم رجال الدين‪ ،‬فهو ال‬ ‫ي�ؤمن برجل الدين يف اال�سالم‪ ،‬ورجال الدين ال ميثلون عنده‪ ،‬اهلل على الأر�ض‪ ،‬فهم لي�سوا‬ ‫ب�أكرث من �أ�شخا�ص تخ�ص�صوا بالدرا�سات اال�سالمية وهذا ال مينحهم ال�سلطة وال�شرعية التي هي‬ ‫للم�سلمني(‪.)42‬‬ ‫رابع ًا‪ :‬التزام ال�سلطة بال�شورى يف �سبيل وجود الدولة وت�سيري �أمورها‪ ،‬فال�شورى هي مبد�أ احلياة‬ ‫ال�سيا�سية يف اال�سالم ويف �أ�سلوب اختيار ال�سلطة‪ ،‬الذي يجب �أن ي�أخذ ال�شكل ال�شعبي(‪.)43‬‬ ‫خام�س ًا‪ :‬خلق جمتمع �إ�سالمي قائم على مبادئ اال�سالم من �شريعة وعدالة اجتماعية‪ ،‬والو�صول‬ ‫�إىل ذلك يكون عرب «الثورة» فا�سا�س الدعوة اال�سالمية هو الثورة التي ت�سعى �إىل‪ :‬حترير االن�سان‬ ‫من اخل�ضوع للإن�سان ‪ -‬الثورة �ضد ال�سلطة الطاغية ‪ -‬الر�ضوخ للإ�ستعباد �شرك باهلل وبالتايل ال ُب ّد‬ ‫من هذه الثورة «لي�س الطريق �أن تخل�ص الأر�ض من يد طاغوت روماين �أو طاغوت فار�سي‪� ،‬إىل يد‬ ‫طاغوت عربي‪ ،‬فالطاغوت كله طاغوت‪� ،‬إن الأر�ض هلل ويجب �أن تخل�ص هلل‪ ،‬وال تخل�ص هلل �إال �أن‬ ‫ترتفع عليها راية «ال اله �إال اهلل»(‪.)44‬‬ ‫�ساد�س ًا‪� :‬أ�سمى تنظيم عند �سيد قطب �إذاً‪ ،‬هو القائم على اال�سالم‪ ،‬وبالتايل ف�إن قطب يرف�ض‬ ‫الأنظمة الأخرى التي ال تلتزم بالدين‪ ،‬مهما كانت‪« ،‬وت�سود املجتمع عقائد وت�صورات وقيم‬ ‫و�أو�ضاع كلها مغاير لعقيدته [م�سلم] وت�صوره وقيمه وموازينه‪ ،‬فال يفارقه �شعوره ب�أنه الأعلى‪ ،‬وب�أن‬ ‫‪45‬‬


‫ه�ؤالء كلهم يف املوقف الدون»(‪.)45‬‬ ‫�سابع ًا‪ :‬مفهوم القومية العربية والوحدة اال�سالمية‪ ،‬ال تعار�ض بينهما عند �سيد قطب‪« ،‬ف�إذا نحن‬ ‫حررنا الأر�ض العربية‪ ،‬ف�إنا نكون قد حررنا ب�ضعة من �أر�ض الوطن اال�سالمي‪ ،‬فن�ستعني بها على‬ ‫حترير �سائر اجل�سد الواحد الكبري»‪ ،‬وهو مفهوم يتبناه الأخوان امل�سلمون الذين يعرفون �أنف�سهم‬ ‫ب�أنهم «حركة عاملية»‪ ،‬ويف الوثيقة ال�صادرة عنهم ُيع ّرف الأخوان فل�سفتهم‪�« :‬إن فل�سفتنا القومية هي‬ ‫( اال�سالم )‪ ،‬اال�سالم ال مبفهومه الديني الكن�سي‪ ،‬بل اال�سالم مبفهومه الوا�سع‪ ،‬وفل�سفته ال�شاملة‬ ‫للحياة‪ ،‬ومبادئه العامة يف الأخالق‪ ،‬وت�شريعه املدين العاملي‪.)46(»...‬‬ ‫ثامن ًا‪ :‬رف�ض �سيد قطب للعالقة بني اال�سالم والفل�سفة‪ ،‬والتي نادى بها جمال الدين الأفغاين‬ ‫وحممد عبده‪ ،‬فعار�ض علناً حممد عبده‪ ،‬و�أباح للم�سلمني الأخذ من الغرب العلوم التي ينتفع بها‬ ‫يف احلياة املادية‪� ،‬إال �أنه حذر من العلوم االن�سانية واالجتماعية‪ ،‬ولتجنب الت�أثر بالغرب وب�أفكاره‪،‬‬ ‫دعا �إىل بناء الرتبية وطرائق التفكري وال�شعور على �أ�س�س �إ�سالمية(‪.)47‬‬ ‫ومع �أن �سيد قطب اعرتف بجهد حممد عبده‪ ،‬ب�إعالئه �ش�أن العقل ومواجهة اجلمود‪� ،‬إال �أنه‬ ‫اعترب �أن حممد عبده جعل العقل الب�شري نداً للوحي يف هداية االن�سان‪ ،‬وهو �أي�ضاً ينتقد موقف‬ ‫عبده الداعي �إىل �إباحة ت�أويل الن�ص الديني ليوافق مفهوم العقل‪ ،‬واعتربهذا املوقف خطراً على‬ ‫اال�سالم «و�إذا �أوجبنا الت�أويل ليوافق الن�ص هذه العقول الكثرية ف�إننا ننتهي �إىل الفو�ضى»(‪.)48‬‬ ‫يقول �شريف يون�س‪« :‬لقد كان ذلك هو منط الت�أثري الذي كان يحلم به �سيد قطب‪ ،‬فهو مل يكن‬ ‫�صاحب دعوة عقالنية‪ ،‬وال كان يخاطب عقول اجلماهري‪ ،‬و�إمنا كان ينتظر منهم �أن يتبعوه‪ ،‬وفق‬ ‫نظرته النخبوية الأ�صيلة‪ ،‬بت�أثري فعل حا�سم قوي‪ ،‬يهز امل�شاعر‪� ،‬سواء كان مقا ًال ملتهباً �أو �شجاعة‬ ‫�أدبية‪ ،‬وهو ما ي�صل �إىل ذروته يف اال�ست�شهاد»(‪.)49‬‬ ‫لقد �سعى �سيد قطب‪ ،‬ويف �سبيل بناء دولة اال�سالم �إىل اال�صالح االجتماعي‪ ،‬الذي ربطه ب�شروط‬ ‫قيام دولة اال�سالم‪ ،‬فهو يعترب �أن «العقلية اجلديدة �أو العقيدة اجلديدة ينبغي �أن تقوم على �أ�سا�س‬ ‫�أن الطبقات الفقرية هي املنتج احلقيقي للرثوة العامة لأنها تنتج �أكرث مما ت�ستهلك‪ ،‬فمن حق هذه‬ ‫الطبقات الفقرية �إذن �أن تعي�ش كما يعي�ش الآخرون ‪ ...‬والعقلية اجلديدة �أو العقيدة اجلديدة تلزم‬ ‫الدولة �أن حتقق هذا الأ�سا�س العادل ب�سلطانها وت�شريعها و�ضرائبها وم�شروعاتها وكادرها»(‪.)50‬‬ ‫بذلك يطرح �سيد قطب ر�ؤية وا�سعة للإ�صالح داخل املجتمع‪ ،‬يطلق عليه مفهوم «املجتمع‬ ‫املتوازن»‪ ،‬ي�شمل العدالة االجتماعية وحتقيق تكاف�ؤ الفر�ص وتوفري الرعاية ال�صحية والتعليم لكل‬ ‫�أفراد املجتمع‪ ،‬كما حماربة الف�ساد واملح�سوبية وما يقف يف وجه امل�ساواة(‪ )51‬بذلك يحدد �سيد‬ ‫قطب جمتمعاً متوازناً يعي�ش �أفراده يف بيئة تقل فيها الفوارق االجتماعية‪ ،‬وهو جمتمع ر�أ�سمايل‬ ‫قريب من اال�شرتاكية الربيطانية(‪.)52‬‬ ‫‪46‬‬


‫الإ�سالم والإ�صالح الديني‬

‫لقد �أدرك �سيد قطب «جانبا من االبعاد الثورية الكامنة يف م�صطلح اخلالفة التي غفل عنها الكثري‬ ‫من املف�سرين»‪ ،‬حيث ربط �سيد قطب اخلالفة مب�سالة الزواج والتنا�سل «كو�سيلة لتحقيق ا�ستمرارية‬ ‫االن�سان واحلياة على االر�ض»‪ ،‬واخلالفة عنده كانت او�سع من العملية اجلن�سية‪ ،‬فهي لي�ست هدفا‬ ‫بحد ذاته‪« ،‬بقدر ماهي �شرط من بني �شروط متداخلة يفرت�ض فيها �أن ت�ؤدي �إىل االبداع»‪ .‬هذا هو‬ ‫(‪)53‬‬ ‫املجتمع الذي �سعى �إليه قطب‪ ،‬جمتمع االبداع‪.‬‬ ‫لقد كانت �أفكار �سيد قطب هذه‪ ،‬قد تلت احلرب العاملية الثانية التي عرفتها م�صر‪ ،‬وانعكا�س‬ ‫نتائجها ال�سيا�سية واالجتماعية واالقت�صادية‪ ،‬مع احتالل اجنليزي وملك فا�سد‪ ،‬وطبقة امل ّالك‬ ‫واالقطاع‪ ،‬فيما بقية ال�شعب على حالة من الفقر واجلوع واحلرمان(‪ .)54‬ومع ظهور ال�شيوعية‬ ‫ون�شاطاتها‪ ،‬فا�ستخرج �أفكاره اال�صالحية االقت�صادية من خالل القر�آن الكرمي‪ ،‬ولي�س من‬ ‫التوجيهات اال�صالحية من ال�شيوعيني �أو الغربيني‪ ،‬فكانت «العدالة االجتماعية «عنده‪ ،‬ترف�ض‬ ‫امل�صطلح ال�شيوعي �أو اال�شرتاكي‪ ،‬فكان كتابه «العدالة االجتماعية يف اال�سالم»‪ ،‬الذي حوله من‬ ‫كاتب �إىل مفكر �إ�سالمي(‪.)55‬‬ ‫اعتقل �سيد قطب عام ‪ 1954‬ليفرج عنه بعفو �صحي عام ‪ ،1964‬ثم �أعيد �سجنه عام ‪ 1965‬ليحكم‬ ‫عليه باالعدام عام ‪.)56(1966‬‬ ‫ويف وثيقة كتبها �سيد قطب يف ال�سجن قبل �إعدامه يذكر فيها اال�سباب التي من �أجلها �سيعدم «�أنه‬ ‫�آن �أن يقدم �إن�سان م�سلم ر�أ�سه ثمناً لإعالن وجود حركة �إ�سالمية وتنظيم قام �أ�ص ًال على ا�سا�س‬ ‫�أنه قاعدة لإقامة النظام اال�سالمي (الأخوان امل�سلمون)‪� ،‬أياً كانت الو�سائل التي �سي�ستخدمها‬ ‫لذلك‪ ،‬وهذا يف عرف القوانني الأر�ضية جرمية ت�ستحق االعدام!‪ ،...‬وقد كنت �أ�ؤدي واجبي‬ ‫مبفهومي اال�سالمي متعام ًال فيه مع اهلل بغ�ض النظر عن نظرة القوانني والهيئات الب�شرية» وقد قدم‬ ‫�سيد قطب ر�أ�سه ثمنا الفكاره على �أعواد امل�شانق‪ ،‬ومن �أقواله اخلالده والتي جعلته يف م�صاف‬ ‫العظماء «ان كلماتنا �ستبقى ميتة ال حراك فيها هامدة �أعرا�س من ال�شموع‪ ،‬ف�إذا متنا من �أجلها‬ ‫انتف�ضت وعا�شت بني االحياء‪ ،‬واالحياء ال يتبنون االموات»(‪.)57‬‬ ‫عنا�رص االلتقاء بني القطبية وال�صدرية‬

‫لقد تواجدت العديد من �أوا�صر العالقة والروابط التي تربط بني حزب الدعوة العراقي‪ ،‬الذي‬ ‫كان ال�سيد حممد باقر ال�صدر مر�شده الروحي‪ ،‬والأخوان امل�سلمني يف م�صر‪ ،‬وكان لظهور فرع‬ ‫للأخوان امل�سلمني عام ‪ 1948‬يف العراق وجتربتهم ال�سيا�سية‪ ،‬م�صدر �إلهام ل�شيعة العراق‪ ،‬الذين‬ ‫مل يعرفوا من قبل العمل احلزبي‪ ،‬وكان «لل�صحيفة اال�سالمية» التي �أ�س�سها الأخوان امل�سلمون يف‬ ‫العراق �أن �شهدت رواجاً يف و�سط احلوزة ال�شيعية يف كل من النجف وكربالء‪ ،‬كما كان لأفكار‬ ‫‪47‬‬


‫ح�سن البنا و�سيد قطب يف الفكر والتغيري‪� ،‬أن حظي باهتمام الدعاة ال�شيعة‪ ،‬واعترب كتاب «معامل‬ ‫يف الطريق» مرجعاً للدعاة وم�صدراً من م�صادر طرق التن�شئة احلزبية يف ال�ستينات وال�سبعينات‬ ‫من القرن الع�شرين‪.‬‬ ‫فكان لتنظيم الأخوان امل�سلمني» التجربة الأوىل واحلركة الأم جلميع التنظيمات اال�سالمية‬ ‫وال�سيا�سية يف العامل‪ ،‬فقد جاءت جميعاً حماكية �أو متفرعة منه‪�،‬أو مدينة له (ح�سن البنا)‬ ‫بالأر�ضية التي هي�أها»(‪.)58‬‬ ‫بذلك ن�شّ طت جتربة الأخوان وعي �شيعة العراق‪ ،‬يف وقت ظهرت ال�شيوعية بقوة على ال�ساحة‬ ‫العراقية(‪.)59‬‬ ‫ويف هذه الظروف ظهر ال�سيد حممد باقر ال�صدر وظهرت �أفكاره‪ ،‬لذلك ف�إننا جند الكثري من نقاط‬ ‫االلتقاء بينه وبني �سيد قطب و�أبرزها‪.‬‬ ‫ ال�سلطة هي اهلل عند �سيد قطب(‪ )60‬واملطلق احلقيقي عند ال�سيد حممد باقر ال�صدر‪ ،‬والذي‬ ‫يحارب لأجله االن�سان هو اهلل �سبحانه وتعاىل(‪.)61‬‬ ‫ رف�ض الأنظمة والقوانني الو�ضعية عند �سيد قطب ودعا �إىل �أن على االن�سان �أن يحكم بقانون‬ ‫اهلل(‪.)62‬‬ ‫ كما دعا ال�سيد حممد باقر ال�صدر �إىل الدولة اال�سالمية التي ترتكز يف عقيدتها على �أ�سا�س‬ ‫االميان باهلل(‪.)63‬‬ ‫ التزام ال�سلطة بال�شورى يف �سبيل وجود الدولة وت�سيري امورها‪ ،‬و�أ�سلوب اختيار ال�سلطة يجب‬ ‫�أن ي�أخذ ال�شكل ال�شعبي عند �سيد قطب(‪.)64‬‬ ‫ دعا ال�سيد ال�صدر �إىل �أن يخ�ضع الفقيه‪ ،‬ر�أ�س الهرم يف دولته‪� ،‬إىل رقابة املجتمع الذي ي�ستطيع‬ ‫�أن يقيله �إذا �شاء(‪. )65‬‬ ‫ �سعى �سيد قطب �إىل اال�صالح االجتماعي‪ ،‬ورف�ض الفكر اال�شرتاكي ال�شيوعي والر�أ�سمايل‪،‬‬ ‫بل دعا �إىل االقت�صاد اال�سالمي(‪ )66‬وال�سيد حممد باقر ال�صدر و�ضع نظرياته االقت�صادية‬ ‫اال�سالمية‪ ،‬يف كتاب «اقت�صادنا «مقابل النظريات اال�شرتاكية وال�شيوعية والر�أ�سمالية(‪.)67‬‬ ‫وبغ�ض النظر عن �أ�سلوب تطبيق احلكم اال�سالمي‪� ،‬أو بناء دولة اال�سالم عند الرجلني‪ :‬قطب ‪-‬‬ ‫ال�صدر‪ ،‬يبقى �أن نقول �أنهما مفكران ا�سالميان‪ ،‬يت�شاركان �أي�ضاً يف نهاية مت�شابهة‪ ،‬فالأول �أعدم‬ ‫على يد النظام امل�صري والآخر �أعدم على يد النظام العراقي ‪ -‬وكالهما ترك ت�أثرياً يف م�سار تاريخ‬ ‫العامل العربي واال�سالمي يف القرن الع�شرين‪ ،‬بغ�ض النظر عن االختالف بينهما‪ ،‬ف�إن مدر�سة‬ ‫االخوان امل�سلمني ومدر�سة �آل البيت حاولتا �أن تنه�ضا بالأمة من �سباتها الطويل‪ ،‬فكانت �أبرز‬ ‫‪48‬‬


‫الإ�سالم والإ�صالح الديني‬

‫حماولتني عرفهما اال�سالم ال�سيا�سي بعد ف�شل حماوالت اال�صالح التي قام بها رجاالت ع�صر‬ ‫النه�ضة يف �أوا�سط و�أواخر القرن التا�سع ع�شر(‪.)68‬‬ ‫واخريا �إذا �أردنا التق�سيم والتحليل‪ ،‬لوجدنا �أن ح�سن البنا هو الذي بنى‪ ،‬و�سيد قطب هو الذي‬ ‫�أط ّر و حممد باقر ال�صدر ت�أثر وطور‪ٌّ ،‬‬ ‫وكل من بيئته ال�صغرى �إىل العامل الوا�سع‪ ،‬واذا كان البقاء‬ ‫لال�صلح فكريا واالقوى عقائديا فقد ا�ستطاع اتباع الرجلني ومريدوهم من حتقيق وتطبيق افكارهم‬ ‫على �أر�ض الواقع بعد رحيلهما وذلك من خالل و�صول حزب الدعوة �إىل �سدة احلكم يف العراق‪،‬‬ ‫وو�صول االخوان امل�سلمني يف م�صر عندما ُ�سمح ل�صناديق االقرتاع �أن تقول ما بداخلها الول‬ ‫مرة‪ .‬فلعل دماء الرجلني روت هذا احللم حتى �أ�صبح حقيقة واقعية عا�شها �أهل العراق وم�صر ولو‬ ‫لفرتة ب�سيطة‪.‬‬

‫املراجع‪:‬‬

‫‪� -1‬صالح الدين اجلورج�شي‪ ،‬ق�ضية التكليف بني امل�س�ؤلية ودعوة احلق‪ ،‬جملة التفاهم‪ ،‬العدد ‪� ،43‬شتاء ‪،2014‬‬ ‫�ص‪.45‬‬ ‫‪ -2‬ف�ؤاد ابراهيم‪ ،‬الفقيه والدولة‪ ،‬بريوت ‪:‬دار الكنوز االدبية‪ ،‬طبعة ‪� ،1998 ،1‬ص‪.333-332‬‬ ‫‪ -3‬وجوه االجتهاد والتجديد يف الفكر العربي اال�سالمي يف القرن الع�شرين‪ ،‬جملة االجتهاد‪ ،‬العدد ‪ 9‬خريف‬ ‫‪� ،1990‬ص‪.5‬‬ ‫‪ -4‬ماهر ال�شريف‪ ،‬جتديد اخلطاب الديني �أم �إحياء خطاب العلمانية امل�ؤمنة‪ ،‬جملة الطريق‪ ،‬العدد الرابع‪ ،‬متوز ‪� -‬آب‬ ‫‪� ،2003‬ص‪.21‬‬ ‫‪ -5‬قدري قلعجي‪ ،‬ثالثة من �أعالم احلرية‪ ،‬بريوت‪� ،‬شركة املطبوعات للتوزيع والن�شر‪ ،‬طبعة ‪� ،2013 ،3‬ص‪.21‬‬ ‫‪ -6‬حممد عمارة‪ ،‬االمام حممد عبده‪ ،‬بريوت‪ :‬دار الوحدة‪� ،1985 ،‬ص‪.47‬‬ ‫‪ -7‬قدري قلعجي‪ ،‬ثالثة من �أعالم احلرية‪ ،‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص‪.247‬‬ ‫‪ -8‬عبد العزيز الثعالبي‪ ،‬روح التحرر يف القر�آن‪ ،‬بريوت‪ :‬دار الغرب اال�سالمي‪� ،1985 ،‬ص‪.98‬‬ ‫‪ -9‬حممد ر�شيد ر�ضا‪ ،‬احلرية وا�ستقالل الفكر‪ ،‬جملة املنار‪ ،‬املجلد الثاين ع�شر‪ ،‬اجلزء الثاين‪� 22 ،‬آذار‪ ،‬القاهرة‪:‬‬ ‫‪� ،1909‬ص‪.117-113‬‬ ‫‪ -10‬عبد الرحمن الكواكبي‪ ،‬طبائع اال�ستبداد وم�صارع اال�ستعباد‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار النفائ�س‪ ،‬طبعة ‪� ،2006 ،3‬ص‪.45‬‬ ‫‪ -11‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص‪.60‬‬ ‫‪ -12‬ف�ؤاد �إبراهيم‪ ،‬الفقيه والدولة‪ ،‬الفكر ال�سيا�سي ال�شيعي‪ ،‬بريوت‪ :‬دار الكنوز الأدبية‪ ،‬طبعة‪� ،1998 ،1‬ص‪.237‬‬ ‫‪� -13‬أحمد عبداهلل �أبو زيد العاملي‪ ،‬حممد باقر ال�صدر‪ ،‬ال�سرية وامل�سرية‪ ،‬بريوت‪ :‬م�ؤ�س�سة العارف للمطبوعات‪،‬‬ ‫طبعة‪ ،2006 ،1‬جزء‪� ،1‬ص‪ 7‬و‪.11‬‬ ‫‪ -14‬املرجع نف�سه‪ ،‬جزء‪� ،1‬ص‪ 165‬و ‪168‬و ‪ 172‬و‪.183‬‬ ‫‪49‬‬


‫‪ -15‬املرجع نف�سه‪ ،‬جزء‪� ،2‬ص‪.472‬‬ ‫‪ -16‬املرجع نف�سه‪ ،‬جزء‪ 301 ،4‬و‪.302‬‬ ‫‪ -17‬ف�ؤاد �إبراهيم‪ ،‬الفقيه والدولة‪ ،‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص‪.340‬‬ ‫‪ -18‬حممد باقر ال�صدر‪ ،‬موجز �أ�صول الدين‪ ،‬بريوت‪ :‬دار الهادي‪ ،‬طبعة‪� ،2000 ،1‬ص‪.48‬‬ ‫‪ -19‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص‪.48‬‬ ‫‪ -20‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص‪.51-50‬‬ ‫‪ -21‬اال�سعد بن علي‪ ،‬التجديد الكالمي عند ال�شهيد ال�صدر‪� ،‬إيران‪ :‬مركز االبحاث العقائدية‪ ،‬طبعة ‪� ،2‬ص‪.39‬‬ ‫‪ -22‬املرجع نف�سه‪.‬‬ ‫‪ -23‬حممد باقر ال�صدر‪ ،‬املدر�سة القر�آنية‪ ،‬بريوت‪ :‬دار التعارف للمطبوعات‪1401 ،‬هـ‪� ،‬ص‪.140‬‬ ‫‪ -24‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص‪.48‬‬ ‫‪ -25‬ا�سحق نقا�ش‪� ،‬شيعة العراق‪ ،‬ترجمة عبداهلل النعيمي‪ ،‬دم�شق‪ :‬دار املدى‪ ،‬طبعة‪� ،1996 ،1‬ص‪.242‬‬ ‫‪ -26‬املدر�سة القرانية‪ ،‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص‪.162‬‬ ‫‪ -27‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص‪.163‬‬ ‫‪ - 28‬ال�سيد حممد باقر ال�صدر‪ ،‬مقدمات يف التف�سري املو�ضوعي للقر�آن‪ ،‬بريوت‪ :‬دار التوجيه اال�سالمي‪ ،‬د‪.‬ت‪� ،‬ص‪.142‬‬ ‫‪ -29‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص‪.163‬‬ ‫‪ -30‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص‪.164‬‬ ‫‪ -31‬علي فيا�ض‪ ،‬نظريات ال�سلطة يف الفكر ال�سيا�سي ال�شيعي املعا�صر‪ ،‬بريوت‪ :‬مركز احل�ضارة لتنمية الفكر‬ ‫اال�سالمي‪ ،‬طبعة‪� ،2014 ،1‬ص‪.11-10‬‬ ‫‪� -32‬أحمد حممد �شاموق‪ ،‬كيف يفكر االخوان امل�سلمون‪ ،‬بريوت‪ :‬دار اجليل‪� ،1981 ،‬ص‪.116‬‬ ‫‪� -33‬أحمد املو�صللي‪ ،‬ر�ؤية املثقف اال�سالمي لأزمة ال�سلطة ال�سيا�سية يف اخلم�سينيات وال�ستينيات‪ :‬منوذج �سيد‬ ‫قطب‪ ،‬جملة االجتهاد‪ ،‬العدد ‪ ،5‬خريف ‪� ،1989‬ص‪.126‬‬ ‫‪ -34‬املرجع نف�سه‪.‬‬ ‫‪ -35‬حممد توفيق بركات‪� ،‬سيد قطب‪ ،‬بريوت‪ :‬دار الدعوة‪� ،1976 ،‬ص ‪ 11‬و‪.13‬‬ ‫‪� -36‬أحمد املو�صللي‪ ،‬املرجع ال�سابق؛ �ص‪.127-126‬‬ ‫‪ -37‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص‪.134‬‬ ‫‪� -38‬سيد قطب‪ ،‬هذا الدين‪ ،‬القاهرة‪ :‬مكتبة وهبة‪ ،‬طبعة ‪� ،4‬ص‪ 23‬و‪.32‬‬ ‫‪� -39‬سيد قطب‪ ،‬معركة اال�سالم والر�أ�سمالية‪ ،‬بريوت‪ :‬دار ال�شروق‪ ،‬طبعة ‪� ،1975 ،4‬ص‪.‬‬ ‫‪� -38‬أحمد املو�صللي‪ ،‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص‪.134‬‬ ‫‪ -39‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص‪.136‬‬ ‫‪� -40‬سيد قطب‪ ،‬هذا الدين‪ ،‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص‪.19-16‬‬ ‫‪� - 40‬سيد قطب‪ ،‬العدالة االجتماعية يف اال�سالم‪ ،‬القاهرة‪ :‬دار �إحياء الكتب العربية‪ ،1958 ،‬طبعة ‪� ،25‬ص‪.243-242‬‬

‫‪50‬‬


‫الإ�سالم والإ�صالح الديني‬

‫‪� -41‬أحمد املو�صللي‪ ،‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص‪.136‬‬ ‫‪� -42‬سيد قطب‪ ،‬العدالة االجتماعية‪ ،‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص‪.107‬‬ ‫‪ -43‬احمد املو�صللي‪� ،‬ص‪.139.‬‬ ‫‪� -44‬سيد قطب‪ ،‬معامل يف الطريق‪� ،‬ص‪ 26‬و‪ 101-60‬و‪71‬‬ ‫‪ -45‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص‪.163-162‬‬ ‫‪ -46‬فايز �سارة‪ ،‬الوحدة العربية ومفهومها يف وثائق الأحزاب والتنظيمات ال�سيا�سية يف الأقطار العربية‪ ،‬جملة الطريق‪،‬‬ ‫العدد‪5‬و ‪ ،6‬ك‪� ،1991 ،1‬ص‪.43‬‬ ‫ ‪ -‬الأحزاب ال�سيا�سية يف �سوريا‪ ،‬دم�شق‪ :‬دار الرواد‪� ،1954 ،‬ص‪.32 -16 -15‬‬ ‫‪ - 47‬ماهر ال�شريف‪ ،‬رهانات النه�ضة يف الفكر العربي‪ ،‬دم�شق‪ :‬دار املدى للثقافة والن�شر‪ ،‬طبعة‪� ،2000 ،1‬ص‪135-134‬‬ ‫‪ -48‬املرجع نف�سه‪.‬‬ ‫‪� - 49‬شريف يون�س‪� ،‬سيد قطب والأ�صولية اال�سالمية‪ ،‬القاهرة‪ :‬دار طيبة للدرا�سات والن�شر‪ ،‬طبعة‪� ،1995 ،1‬ص‪.81‬‬ ‫‪� -50‬شريف يون�س‪ ،‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص‪.85‬‬ ‫‪ -51‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص‪.88‬‬ ‫‪ -52‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص‪.89‬‬ ‫‪� -53‬صالح الدين اجلور�شي‪� ،‬سيد قطب واخلالفة‪ ،‬جملة التفاهم‪ ،‬العدد ‪� ،43‬شتاء ‪� ،2014‬ص‪.43‬‬ ‫‪� - 54‬صالح عبد الفتاح اخلالدي‪� ،‬سيد قطب من امليالد �إىل اال�ست�شهاد‪ ،‬دم�شق‪ :‬دار القلم‪ ،‬طبعة‪� ،1994 ،2‬ص‪.274‬‬ ‫‪ -55‬املرجع نف�سه‪.‬‬ ‫‪ -56‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص‪.254‬‬ ‫‪� -57‬سيد قطب‪ ،‬ملاذا �أعدموين‪ ،‬ال�سعودية‪ :‬ال�شركة ال�سعودية للأبحاث والت�سويق‪ ،‬د‪ .‬ت‪� ،‬ص‪ 7‬و ‪.8‬‬ ‫‪ -58‬ف�ؤاد ابراهيم‪ ،‬الفقيه والدولة‪ ،‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص‪.333-332‬‬ ‫‪ -59‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص‪.333‬‬ ‫‪� -60‬سيد قطب‪ ،‬هذا الدين‪� ،‬ص‪ 23‬و‪.32‬‬ ‫‪ -61‬حممد باقر ال�صدر‪ ،‬منابع القدرة يف الدولة اال�سالمية‪ ،‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص‪.13‬‬ ‫‪ -62‬قطب‪ ،‬هذا الدين‪� ،‬ص‪.32-23‬‬ ‫‪ -63‬ف�ؤاد �إبراهيم‪ ،‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص‪.339‬‬ ‫‪ -64‬املو�صللي‪� ،‬ص‪.139‬‬ ‫‪ -65‬فالح عبد اجلبار‪� ،‬ص‪.135‬‬ ‫‪� -66‬شريف يون�س‪� ،‬ص‪.85‬‬ ‫‪ -67‬ا�سحق نقا�ش‪ ،‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص‪.242‬‬ ‫‪� -68‬أحمد را�سم النفي�س‪ ،‬فقه التغيري بني �سيد قطب وال�سيد حممد باقر ال�صدر‪ ،‬جريدة القاهرة القاهرية‪.2004- 8 -10 ،‬‬

‫‪51‬‬


‫�صدر حديثا ً‬

‫م�ؤ�س�سة �سعاده للثقافة‬

‫بناية ر�سامني‪� ،‬شارع احلمرا‪ ،‬ر�أ�س بريوت‪ ،‬لبنان‬ ‫�صندوق بريد‪ 113-5557 :‬بريوت ‪ -‬لبنان‬ ‫هاتف‪)00961-1( 753363 :‬‬ ‫فاك�س‪)00961-1( 753364 :‬‬ ‫الربيد الإلكرتوين‪saadehcf@idm.net.lb :‬‬ ‫املوقع الإلكرتوين‪www.saadehcf.org :‬‬


‫الإ�سالم والإ�صالح الديني‬

‫فل�سفة العلم يف مواجهة فل�سفة اجلهل‬ ‫ح�سن عجمي ‪ -‬كاتب وباحث‬

‫تختلف الأ�سئلة �ضمن فل�سفة العلوم منها ال�س�ؤال الأ�سا�سي‪ :‬هل النظريات العلمية �صادقة �أم‬ ‫جمرد مقبولة؟ نبحث هنا عن خيار فل�سفي ثالث اعتماداً على فل�سفة ال�سوبر حداثة وال�سوبر‬ ‫م�ستقبلية‪.‬‬ ‫بالن�سبة �إىل فل�سفة احلداثة‪ ,‬النظريات العلمية احلالية �صادقة لكونها ناجحة‪ .‬فمثال ً‪ ,‬عبرَّ الفيل�سوف‬ ‫ريت�شارد بويد عن هذا املذهب قائال ً �إن التف�سري الوحيد والأف�ضل حلقيقة �أن النظريات العلمية‬ ‫احلالية ناجحة يف تف�سري ظواهر الكون هو �أن تلك النظريات �صادقة‪ .‬فهي ناجحة لأنها �صادقة �أي‬ ‫مطابقة للواقع‪ .‬فلو كانت ناجحة من دون �أن تكون �صادقة حينها يتطلب جناحها معجزة ما بف�ضلها‬ ‫تغدو ناجحة رغم عدم �صدقها‪ .‬لكن فل�سفة ما بعد احلداثة ت�صر على �أن النظريات العلمية لي�ست‬ ‫�صادقة و ال كاذبة بل فقط مقبولة‪ .‬فالنظريات العلمية جمرد �أدوات لتف�سري ظواهر الكون والتنب�ؤ‬ ‫بها‪ .‬فمثال ً‪ ,‬ي�ؤكد الفيل�سوف «توما�س كون» على �أن النظريات العلمية املختلفة لي�ست �صادقة وال‬ ‫كاذبة لأن كل نظرية منها حتتوي على حقائق ومفاهيم ومعانٍ ومعايري لتقييم ما هو �صادق وكاذب‬ ‫خا�صة بها وخمتلفة عن احلقائق واملعاين ومعايري تقييم ما ي�صدق ويكذب الكامنة يف النظريات‬ ‫العلمية الأخرى‪ .‬وبذلك ي�ستحيل احلكم بني النظريات و عليها من دون الوقوع يف امل�صادرة‬ ‫على املطلوب‪ .‬ولذا ي�ستحيل ا�ستنتاج ما �إذا كانت هذه النظريات �صادقة وتلك كاذبة‪ .‬ولذا كل‬ ‫النظريات العلمية لي�ست �سوى �أدوات لدرا�سة الكون وتف�سري ظواهره وال تت�صف بال�صدق �أو‬ ‫الكذب بل هي فقط مقبولة‪.‬‬ ‫لكن من املمكن طرح فل�سفة ثالثة خمتلفة عن الفل�سفتني ال�سابقتني �أال و هي فل�سفة ال�سوبر حداثة‬ ‫حدد �أية نظرية علمية �صادقة‪� .‬أما ال�سوبر‬ ‫وال�سوبر م�ستقبلية‪ .‬تعترب ال�سوبر حداثة �أنه من غري املُ َّ‬ ‫م�ستقبلية فتقول �إن النظرية العلمية ال�صادقة هي التي �سيتم اكت�شافها يف امل�ستقبل فقط‪ .‬الآن‪ ,‬مبا‬ ‫�أن‪ ,‬من منطلق ال�سوبر م�ستقبلية‪ ,‬النظرية العلمية ال�صادقة هي التي �سوف يكت�شفها العلماء يف‬ ‫امل�ستقبل‪ ,‬ومبا �أنه من املمكن �أن تكون تلك النظرية ال�صادقة �ضمن النظريات العلمية احلالية‪� ,‬إذن‬ ‫‪53‬‬


‫حدد �أية نظرية علمية هي ال�صادقة من بني النظريات العلمية احلالية املختلفة‪ ,‬وهذا هو‬ ‫من غري املُ َّ‬ ‫موقف ال�سوبر حداثة‪ .‬من هنا‪ ,‬فل�سفة ال�سوبر م�ستقبلية تت�ضمن فل�سفة ال�سوبر حداثة‪ .‬ولذا ال�سوبر‬ ‫م�ستقبلية و ال�سوبر حداثة ّ‬ ‫ت�شكالن فل�سفة واحدة ال تتجز�أ‪.‬‬ ‫لل�سوبر حداثة قدرة تف�سريية هائلة ما يدعم قبولها‪ .‬فبما �أن‪ ,‬بالن�سبة �إىل ال�سوبر حداثة‪ ,‬من غري‬ ‫حدد �أية نظرية علمية هي النظرية ال�صادقة‪� ,‬إذن من املتوقع وجود نظريات علمية عديدة ناجحة‬ ‫املُ َّ‬ ‫تف�سر ال�سوبر حداثة ملاذا تنجح النظريات العلمية‬ ‫يف تف�سري الكون رغم اختالفها و تعار�ضها‪ .‬هكذا ّ‬ ‫حدد �أية نظرية علمية هي ال�صادقة‬ ‫العديدة رغم االختالف والتعار�ض فيما بينها‪ .‬فلو كان من املُ َّ‬ ‫حدد �أية‬ ‫ِل ُوجِ دت نظرية علمية واحدة فقط ناجحة يف تف�سري ظواهر الكون‪ .‬لكن مبا �أنه من غري املُ َّ‬ ‫نظرية علمية هي ال�صادقة‪� ,‬إذن ال بد من وجود نظريات علمية عديدة ناجحة يف تف�سري الكون رغم‬ ‫التعار�ض فيما بينها‪ .‬من هنا‪ ,‬تنجح ال�سوبر حداثة يف تف�سري جناح النظريات العلمية رغم اختالفها‬ ‫وتعار�ضها‪.‬‬ ‫مثل ذلك �أن‪ ,‬بالن�سبة �إىل نظرية نيوتن العلمية‪ ,‬الزمن مطلق �أي لي�س ن�سبياً بينما بالن�سبة �إىل نظرية‬ ‫الن�سبية لأين�شتاين الزمن ن�سبي لأنه يختلف باختالف ال�سرعة‪ .‬و بالن�سبة �إىل نظرية نيوتن ونظرية‬ ‫�أين�شتاين‪ ,‬قوانني الطبيعة حتمية بينما بالن�سبة �إىل نظرية ميكانيكا الكم العلمية قوانني الطبيعة‬ ‫لي�ست حتمية بل احتمالية‪ .‬لكن رغم هذه االختالفات اجلوهرية بني هذه النظريات العلمية‪,‬‬ ‫كلها نظريات ناجحة يف تف�سري ظواهر الكون والتنب�ؤ بها‪ .‬وكلها ناجحة رغم اختالفها وتعار�ضها‬ ‫حدد �أية نظرية منها �صادقة‬ ‫حدد �أية نظرية منها هي النظرية ال�صادقة؛ فلو كان من املُ َّ‬ ‫لأنه من غري املُ َّ‬ ‫لنجحت نظرية واحدة منها فقط ‪ .‬هكذا تتمكن ال�سوبر حداثة من تف�سري جناح النظريات العلمية‬ ‫رغم اختالفها‪ ,‬وذلك من خالل مبد�أ ال حمددية �أية نظرية هي النظرية ال�صادقة‪ .‬لكن‪ ,‬بالن�سبة‬ ‫�إىل ال�سوبر م�ستقبلية‪ ,‬النظرية العلمية ال�صادقة هي تلك التي �سيكت�شفها العلماء يف امل�ستقبل‪.‬‬ ‫لذا العلماء ي�صوغون نظريات علمية جديدة ب�شكل دائم بهدف الو�صول �إىل النظرية ال�صادقة‪.‬‬ ‫تف�سر ال�سوبر م�ستقبلية ملاذا يبني العلماء نظريات علمية جديدة ب�شكل م�ستمر ومتوا�صل؛‬ ‫هكذا ِّ‬ ‫ف ُهم يفعلون ذلك لأن النظرية العلمية ال�صادقة هي التي �سيتم اكت�شافها يف امل�ستقبل‪ .‬وبهذا‬ ‫تكت�سب ال�سوبر م�ستقبلية قدرة تف�سريية يف هذا ال�ش�أن ما يدعم مقبوليتها‪.‬‬ ‫�إذا اعتربنا �أن النظريات العلمية احلالية �صادقة فهذا ُيوقِف عملية البحث العلمي عن نظريات‬ ‫علمية جديدة‪ .‬و يف هذا رذيلة معرفية لأننا نريد �أن ن�ستمر يف البحث العلمي بدال ً من اغتياله‪.‬‬ ‫و�إذا اعتربنا �أن النظريات العلمية احلالية لي�ست �صادقة وال كاذبة بل فقط مقبولة حينها نكون قد‬ ‫اعتربنا �أن العلم ال ُيعبرِّ عن الكون والواقع وبذلك ال ُي ِ‬ ‫و�صل �إىل معرفة الكون والواقع‪ .‬ويف هذا‬ ‫رذيلة معرفية �أخرى‪ .‬من هنا‪ ,‬من الأف�ضل قبول االجتاه الفل�سفي الثالث الذي يتخطى املذهبني‬ ‫الفل�سفيني ال�سابقني �أال وهو اجتاه ال�سوبرحداثة وال�سوبرم�ستقبلية‪ .‬فاالجتاه الثالث يتجنب‬ ‫امل�شكلتينْ ال�سابقتني‪ .‬بالن�سبة �إىل فل�سفة ال�سوبر حداثة وال�سوبر م�ستقبلية‪ ,‬النظرية العلمية‬ ‫‪54‬‬


‫الإ�سالم والإ�صالح الديني‬

‫حدد �أية نظرية‬ ‫ال�صادقة هي النظرية التي �سوف يتم اكت�شافها يف امل�ستقبل‪ ,‬وبذلك من غري املُ َّ‬ ‫علمية حالية هي النظرية ال�صادقة دون �سواها‪ .‬ومبا �أن‪ ,‬بالن�سبة �إىل ال�سوبر م�ستقبلية‪ ,‬النظرية‬ ‫العلمية ال�صادقة هي تلك التي �سيحدث اكت�شافها يف امل�ستقبل‪� ,‬إذن ال بد من اال�ستمرار يف‬ ‫البحث العلمي من �أجل الو�صول �إىل النظرية العلمية ال�صادقة‪ .‬هكذا ت�ضمن ال�سوبر م�ستقبلية‬ ‫ا�ستمرارية البحث العلمي بدال ً من �إيقافه‪ ,‬وبذلك تتجنب ال�سوبرم�ستقبلية امل�شكلة الأوىل‪ .‬من‬ ‫حدد ما هي النظرية العلمية ال�صادقة‬ ‫املنطلق نف�سه‪ ,‬مبا �أن بالن�سبة �إىل ال�سوبرحداثة من غري املُ َّ‬ ‫من بني النظريات العلمية احلالية العديدة‪� ,‬إذن ال بد من البحث عن نظريات علمية جديدة قد‬ ‫تت�ضمن النظرية العلمية ال�صادقة‪ .‬وبذلك ت�ضمن ال�سوبر حداثة ا�ستمرارية البحث العلمي �أي�ضاً‪.‬‬ ‫من جهة �أخرى‪ ,‬مبا �أن ال�سوبر م�ستقبلية تقول �إن النظرية العلمية ال�صادقة هي النظرية التي �سوف‬ ‫يحدث اكت�شافها يف امل�ستقبل‪� ,‬إذن تت�ضمن ال�سوبر م�ستقبلية مبد�أ �أن البحث العلمي �سي�ؤدي‬ ‫�إىل معرفة الكون‪ .‬و بذلك تتجنب ال�سوبر م�ستقبلية امل�شكلة الثانية‪ .‬ومبا �أن ال�سوبر حداثة ت�ؤكد‬ ‫حدد �أية نظرية من بني النظريات العلمية احلالية هي النظرية ال�صادقة‪� ,‬إذن تدفع‬ ‫على �أنه من غري املُ َّ‬ ‫ال�سوبر حداثة نحو اال�ستمرار يف البحث العلمي من �أجل �صياغة �أو اكت�شاف النظرية العلمية‬ ‫ال�صادقة املطابقة للواقع‪ ,‬وبذلك تت�ضمن ال�سوبر حداثة �إمكانية معرفة الكون والواقع‪ .‬ولذا تتجنب‬ ‫ال�سوبر حداثة امل�شكلة الفل�سفية الثانية متاماً كما تفعل ال�سوبر م�ستقبلية‪ .‬الآن‪ ,‬مبا �أن فل�سفة ال�سوبر‬ ‫حداثة وال�سوبر م�ستقبلية تتجنب الوقوع يف امل�شكلتني الفل�سفيتني ال�سابقتني‪� ,‬إذن كل من ال�سوبر‬ ‫حداثة وال�سوبر م�ستقبلية فل�سفة ناجحة فمقبولة �إىل �أق�صى حد‪.‬‬ ‫�أما فل�سفة اجلهل فهي التي تعترب �أن النظريات العلمية كاذبة‪ ,‬وبذلك تختلف عن الفل�سفات‬ ‫ال�سابقة‪ .‬وت�صر فل�سفة اجلهل على كذب العلم اعتماداً على عقيدة �أن اهلل وحده يعلم‪ .‬بالن�سبة‬ ‫�إىل فل�سفة اجلهل‪ ,‬الكون جمرد كاهلل متاماً و بذلك من امل�ستحيل معرفته؛ فالأ�شياء املجردة غري‬ ‫مرتبطة بنا �سببياً ما ي�ؤدي �إىل ا�ستحالة معرفتها‪ .‬فل�سفة اجلهل فل�سفة معقدة املبادىء والتفا�صيل‬ ‫لكنها تتمحور حول الفكرة التالية‪ :‬اهلل جمرد و بذلك من امل�ستحيل معرفته‪ .‬والكون جمرد لأنه‬ ‫من نتاج اهلل املجرد‪ ,‬و بذلك من امل�ستحيل معرفة الكون �أي�ضاً‪ .‬من هنا‪ ,‬فقط اهلل يعرف الكون‬ ‫لأن اهلل جمرد متاماً كالكون‪ .‬كل هذا ي�ؤدي �إىل �أن اجلهل �سيد عقول الب�شرية‪ .‬فجهلنا ت�أكيد على‬ ‫�أن اهلل موجود وعلى �أنه خالق الكون‪ .‬وبذلك املعرفة احلقة كامنة يف اجلهل‪ .‬من منطلق فل�سفة‬ ‫اجلهل‪ ,‬ثمة معرفة لكنها قائمة يف جهلنا؛ فجهلنا بكل �شيء داللة على �أن اهلل وحده يعلم كل‬ ‫�شيء وداللة على �أن اهلل جمرد وبذلك غري معلوم وداللة على �أن الكون جمرد كاهلل وبذلك غري‬ ‫معلوم �أي�ضاً‪ .‬وكل هذا لي�س �سوى معرفة لكنها معرفة ت�ؤ�س�س جلهلنا بكل �شيء‪ .‬هكذا بالن�سبة‬ ‫�إىل فل�سفة اجلهل‪ ,‬املعرفة جهل واجلهل معرفة‪.‬‬ ‫اليوم ت�سود فل�سفة اجلهل على عاملنا العربي اال�سالمي‪ .‬فمعظم العرب وامل�سلمني مقتنعون ب�أن اهلل‬ ‫وحده يعلم كل �شيء و�أنه ي�ستحيل علينا معرفة ماهية اهلل لأنه جمرد فال �شبيه له كما ي�ستحيل‬ ‫‪55‬‬


‫علينا معرفة الكون لأن الكون جمرد متاماً كاهلل‪ .‬هكذا ل�شعوبنا امل�شرقية اليوم فل�سفة خا�صة مل‬ ‫ي�سبقنا �إليها �شعب من ال�شعوب �أال وهي فل�سفة اجلهل‪ .‬ومبا �أن املعرفة جهل و اجلهل معرفة‪� ,‬إذن‬ ‫اجلهل هو القيمة العليا يف جمتمعاتنا االفرتا�ضية‪ .‬ال�صراع بني فل�سفة العلم وفل�سفة اجلهل �صراع‬ ‫حتدد ما �إذا ك ّنا �سنتمكن من العودة �إىل التاريخ‬ ‫على املبادىء والتفا�صيل‪ .‬ونتيجة هذا ال�صراع ِّ‬ ‫واحل�ضارة �أم �سنموت ح�ضارياً ومن�سي وهماً تاريخياً يف عقول َمن �سيبقى‪ .‬بالن�سبة �إىل فل�سفة‬ ‫العلم‪ ,‬العلم م�صدر معرفة الواقع وم�صدر املعتقدات والأفكار املفيدة عملياً بينما‪ ,‬بالن�سبة �إىل‬ ‫فل�سفة اجلهل‪ ,‬العلم م�صدر جهلنا‪ ,‬واجلهل م�صدر علمنا‪ .‬ومن منظور فل�سفة العلم‪ ,‬الكون واقعي‬ ‫وبذلك من املمكن معرفته واحل�صول من خالله على معتقدات مفيدة عملياً بينما‪ ,‬من منظور‬ ‫فل�سفة اجلهل‪ ,‬الكون جمرد ولذا من غري املمكن معرفته‪ .‬هكذا تختلف مبادىء وتفا�صيل كل من‬ ‫فل�سفة العلم وفل�سفة اجلهل‪َ .‬من �سينت�صر يف النهاية؟ هذا قرارك �أنت بالذات‪.‬‬

‫‪56‬‬


‫الذكرى والتحوالت‬

‫�شهيد ُة املعنى‬ ‫خالدة �سعيد ‪ -‬ناقدة �سورية مقيمة يف فرن�سا‬

‫كيف �أتك ّل ُم على �شهيد ِة املعنى‪ ،‬جولييت املري �سعادة‪ ،‬و�أنا ما َبر ِْحت �أبكي حزناً وغ�ضباً ك ّلما‬ ‫كرت وقائ َع تلك احليا ِة وتلك املُفارقات؟ وكيف �أخت�ص ُر ال�سيد َة املن ّور َة يف كلمات!‬ ‫َذ ُ‬ ‫بل كيف ُ‬ ‫�سكن الرم َز عن معانيه؟ ومن تب ّت َل للمعنى‪ ،‬كيف نف�ص ُله عن اليوتوبيا؟ كيف‬ ‫نف�صل من َ‬ ‫ُ‬ ‫الواقع و�شروطِ ه يف هذا ك ِّله؟ وب� ِّأي ميزانٍ تو َزنُ‬ ‫نف�صل الآال َم عن ِ‬ ‫�شارب ك�أ�سِ ها؟ و�أين نَع ُرث على ِ‬ ‫القيم العليا؟‬ ‫ُ‬ ‫الربح واخل�سارة‪.‬‬ ‫القيم واملعاي ِري كان َ‬ ‫عندها ميزانَ ِ‬ ‫�س ّل ُم ِ‬ ‫� َ‬ ‫ٍ‬ ‫عائالت‬ ‫وا�س ْت‬ ‫أنقذ ْت بحكم ِة ر�ؤيتِها �أ�شخا�صاً �ضائعني؛ �أنقذت �أُ َ�سراً وبيوتاً على �شف ِري اخلراب‪َ .‬‬ ‫�أنْ َهكها احلزنُ والفقدان‪ّ .‬‬ ‫خارج من كارثة‪.‬‬ ‫�شك َلت حمو َر ال�ضوء حل ٍ‬ ‫ِزب ٍ‬ ‫احلزب ب�سعادة‬ ‫تمد ٌ‬ ‫حو َلها ومنها ومعها‪ْ ،‬ا�س ّ‬ ‫عديد من القوميني ال�شجاع َة والأمل‪ ،‬بعد فاجع ِة ِ‬ ‫والرفاق‪ ،‬ووا�صلوا الطريق‪.‬‬ ‫من اجلزير ِة الفُراتية �أو من الأردن وفل�سط َني كانوا يجيئون؛ من الباديةِ‪ ،‬من لبنانَ �أو من حماة‬ ‫الروحي‪ .‬كانت امللج�أَ‬ ‫وكل يرجع من لقائها مبا ّ‬ ‫وحلب كانوا يجيئون‪ٌّ .‬‬ ‫يغذي حل َمه ويع ّزز �صمو َده‬ ‫ّ‬ ‫املعنوي والأموم َة اجلمعية‪.‬‬ ‫ح�ضن اللجو ِء‬ ‫ّ‬ ‫بل َ‬ ‫�سجن القلعة الرهيب‪ ،‬حني وجدت نف�سها وحيد ًة و�سط بيئة غريبة‪،‬‬ ‫حتى يف ال�سجن‪ ،‬يف مرحل ِة ِ‬ ‫الغريبات اليائ�سات املحكومات ب�سجن طويل‪ ،‬ون ّو ِ‬ ‫ِ‬ ‫رت‬ ‫وا�س ِت‬ ‫انح َنت على ال�ضعف الب�شري‪َ ،‬‬ ‫اخلاطئات وح َمت بحكمتِها ولطفِها املظلومات‪.‬‬ ‫لكننا ال نخت�ص ُر َمن نحكي عنه بل نخت�ص ُر م�شاع َرنا و�إكبا َرنا وت�أ ُّث َرنا بذلك املثالِ الإن�ساين املُده�ش‪.‬‬ ‫كانت دلي ًال �إىل طريقِ ال�ضوء‪ ،‬هي التي ر�س َمت حيا َتها يف �ضو ِء معنى نبيل‪ّ .‬‬ ‫ولعل هذا ما �أعانَها‬ ‫نظرت �إليه كزعيمِ ها‪.‬‬ ‫على ال�صمو ِد بعد ا�ست�شها ِد زوجِ ها الذي ْ‬ ‫‪57‬‬


‫ر�س َم ْتها كهِ َب ٍة و ُنذ ٍر ال ُ‬ ‫متلك من �أمرِه غ َري كمالِ الوفا ِء به‪.‬‬ ‫ر�س َم ْت حيا َتها يف م�سا ِر ق�ض ّية؛ َ‬ ‫والزعيم املحبوب‪.‬‬ ‫الزعيم‬ ‫نفهم ذلك الفنا َء يف‬ ‫ِ‬ ‫نحن الذين نفك ُر �سيا�س ّياً �أو تاريخياً‪ ،‬قد ال ُ‬ ‫ِ‬ ‫املحبوب ِ‬ ‫القومي كما‬ ‫عي‬ ‫الذاتي‬ ‫ال�صميمي وا َجل ْم ِّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫لك ّننا ال نقد ُر �أ ّال ننحني �أما َم تلك احلال ِة احللولي ِة بني ّ‬ ‫مت ّث َل ْت لدى جولييت املري �سعادة‪.‬‬ ‫بالده�ش ِة �أما َم تلك ال ِّر َّق ِة وال�شفافية‪ ،‬لكن مع �صفا ِء‬ ‫�صاب الإن�سانُ ّ‬ ‫كان ل�شخ�صيتِها وق ُع ال�سحر‪ُ .‬ي ُ‬ ‫ِ‬ ‫الغايات‪ ،‬وال ّت�صميم يف املواقف‪ .‬وميتلى ُء الإن�سانُ مب�شاع ِر ا َخل�شي ِة والرعاي ِة‬ ‫والو�ضوح يف‬ ‫الفك ِر‬ ‫ِ‬ ‫التناف�س والتناحر بل الإلغاء املتبا َدل‪.‬‬ ‫الطوباوي يف عا ِمل‬ ‫املبدئي‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫مت�سائ ًال عن م�ص ِري هذا الكائن ِّ‬ ‫�أقدر �أن �أقول‪� ،‬إنّ ّ‬ ‫كل ما قامت به كان رمز ّياً طوباو ّياً‪ .‬بل �إنها دخلت الرمز وفيه �أقامت‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫لالنخراط فيها‪.‬‬ ‫احلرب التي �سارعت �سورية‬ ‫�أذكرها يف حرب ت�شرين ‪ 1956‬على م�ص َر‪ ،‬وهي ُ‬ ‫الغارات ماثل‪ .‬وكانوا قد تركوا �أبوا َبنا ُمقفل ًة رغم احتمالِ‬ ‫ِ‬ ‫الع�سكري وخط ُر‬ ‫ك ّنا يف �سجن امل ّزة‬ ‫ّ‬ ‫الغارات‪ .‬لكنها كانت ّ‬ ‫تفك ُر يف اخلطر على �سورية �أك َرث مما تفك ُر يف اخلطر علينا‪ ،‬وك ّنا يف تلك‬ ‫املرحلة ال�سجينتني الوحيدتني‪.‬‬ ‫كل كلم ٍة وحرك ٍة على املعيا ِر والغاية‪ .‬عبرَ َ ِت احليا َة َ‬ ‫حتر�ص يف ّ‬ ‫هاب م�سري ُته و�ضو�ؤه‬ ‫مثل �شِ ٍ‬ ‫كانت ُ‬ ‫�شهاب يتب ُع ّ‬ ‫خط املعنى‪.‬‬ ‫احرتاق‪ٌ .‬‬ ‫امل�صفّى والتج ّر َد والوالء‪،‬‬ ‫ما من هيب ٍة كانت فوقَ هيبتِها‪ ،‬لأنها مثّلت الطوبى العقائدية وااللتزا َم َ‬ ‫واال ّتكا َء على الق َي ِم والأفكا ِر وحدها‪.‬‬ ‫لكنها كانت‪ ،‬مع بن ّياتها‪ ،‬بال � ِّأي �ضمانٍ على الإطالق‪ ،‬ال ما ّد ّياً وال �سيا�س ّياً‪ :‬بال � ّأي م�صد ٍر للرزقِ‬ ‫املعنوي والدعام َة الوحيدة‪� ،‬أي احلزب‪ ،‬كان‬ ‫م�ضمون‪ ،‬وبال ا�ستقرا ٍر مكفول‪ .‬ال �س ّيما �أنّ الإطا َر‬ ‫ّ‬ ‫دائماً على �شف ِري اخلطر‪.‬‬ ‫تعي�ش يف دم�شق‪� ،‬أي يف ٍ‬ ‫خارج ِ‬ ‫بلد تنتمي �إليه‬ ‫الواقع وقوانينِه‪ُ .‬‬ ‫هكذا كانت حيا ُتها َ‬ ‫�شروط ِ‬ ‫ورهن ر�ضى‬ ‫عاطف ّياً عقائد ّياً‪ ،‬ولي�س عمل ّياً �إجرائ ّياً �أو يف ال�سجِ ّالت‪ .‬ما جعل ح�ضو َرها فيه ّ‬ ‫مهدداً َ‬ ‫ف�ض َلت ذلك على املغادر ِة �إىل �أمانِ‬ ‫وطن ُمرتجَ ى‪ .‬ومل ت�أ َب ْه لل�ضمانات‪ّ .‬‬ ‫ال�سلطات‪ .‬فعل ّياً‪� ،‬أقا َم ْت يف ٍ‬ ‫َمهج ٍر كرمي‪.‬‬ ‫تكن لغ َة طفولتِها وال �صباها الأ ّول‪ .‬تع ّل َم ْتها وتع ّلقت‬ ‫جولييت �سعادة �أح ّب ِت اللغ َة العربي َة التي مل ْ‬ ‫التم�سك باملثالِ الذي ّ‬ ‫َ‬ ‫وا�ص َلت كال َمها لبناتِها بالف�صحى ِ‬ ‫اختطه رفيقُها‪ .‬ثم كان‬ ‫لتوا�ص َل‬ ‫بها‪َ .‬‬ ‫ؤ�س�س احلزب‪� ،‬أي طريقِ اخلطر‪.‬‬ ‫اختيا ُرها للبقا ِء يف الوطن �سرياً يف طريقِ م� ِ‬ ‫ٍ‬ ‫إمكانيات عالية يف املبادى ِء والأخالقِ‬ ‫كانت ُ‬ ‫ذات طموح �شا�سع و�‬ ‫احلزب حرك ٌة ُ‬ ‫تعرف �أن َ‬ ‫أرواح‪ ،‬و�أحياناً يف الثقافة (فمعيا ُر التميي ِز والتكر ِمي بلقب الأمانةِ‪ ،‬يف احلزب‪ ،‬يعتمد معيا َر‬ ‫وال ِ‬ ‫‪58‬‬


‫الذكرى والتحوالت‬

‫ِ‬ ‫احلزب املا ّد ّي ِة كانت معدوم ًة ف�ض ًال‬ ‫الأخالقِ والوفا ِء وااللتزام‪ ،‬يف الدرجة الأوىل) و�أنّ �‬ ‫إمكانيات ِ‬ ‫ِ‬ ‫�ضعف امل�ؤ ّه ِ‬ ‫الت يف ال�سيا�س ِة واال�سرتاتيجيا والو�سائل وحري ِة احلرك ِة على الأر�ض‪ ،‬ودلي ُلها‬ ‫عن‬ ‫ال�صارخ حركة ‪ 1949‬وتداخال ُتها‪ ،‬ثم ما تال ذلك حتى كارثة ‪ 1955‬و ‪ .1956‬وال �أزال �أذكر‪ ،‬يف‬ ‫االنقالبي ‪ ،‬يف ر�أيها‬ ‫عام ‪ ،1956‬ذهو َلها وا�ستنكا َرها ملحاول ِة االنقالب وملبد�أ االنقالب‪ ،‬لأنّ ال ّنهج‬ ‫ّ‬ ‫يتناق�ض مع �أفكار احلزب و «مناقب ّيته»‪.‬‬ ‫أفظع �أ�شكالِ‬ ‫املطامع و� ّ‬ ‫ُ‬ ‫أ�شدها‪ ،‬و� ِ‬ ‫احلزب ال�سوري القومي االجتماعي حرك ٌة انطلقت ملواجه ِة «�أعرق» ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫أر�ض وحقوقِ ال�شعوب‪ .‬حرك ٌة انطلق َْت ملواجهة �أك ِرب م�ؤامرة لتمزيقِ �سورية‬ ‫اال�ستهانة بالتاريخ وال ِ‬ ‫وخرقٍ ِّ‬ ‫الطبيع ّية ـ التاريخ ّية والت�ص ّر ِف ب� ِ‬ ‫تفوي�ض �أو �صالحي ٍة‬ ‫لكل حقٍ ‪ ،‬ودونَ � ِّأي ٍ‬ ‫أر�ضها‪ ،‬بخ ّف ٍة ْ‬ ‫بحق من هو �أ�ضعف‪.‬‬ ‫�شرع يف الدنيا غ ِري �شريع ِة الغاب ُ‬ ‫القوي يت�ص ّر ُف ّ‬ ‫حيث ُّ‬ ‫من � ِّأي جه ٍة �أو �أي ٍ‬ ‫كان القرنُ الع�شرون قد بد�أ مع م�سل�سل الكوارث على �سور ّية‪:‬‬ ‫والنزيف ّ‬ ‫ٍ‬ ‫هجرات وا�سعة‪ ،‬و�إعدا ُم الأحرار‬ ‫ين يف‬ ‫واحلرب الكربى‬ ‫احلرب الطائف ّية‪ ،‬املجاعة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ال�سكا ّ‬ ‫ُ‬ ‫على �أيدي العثمانيني‪ ،‬وجماز ُر وتهجري واقتالع جذور على �أيدي الأتراك يف ال�شمالِ ال�سوري‬ ‫ال�سالالت التاريخي ُة من �سريان وكلدان و�آ�شوريني‪ ،‬ومعهم الأرمن‬ ‫وخا�ص ًة يف كيليكيا حيث‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫بالت�أكيد‪[ .‬ويبدو �أ ّنها �سرتاتيجيا تعاود الظهور دور ّياً]‪.‬‬ ‫يف ِ‬ ‫العجيب الغريب‪ :‬حيث ممث ُّل الأمرباطوري ِة‬ ‫وعد «بالفور»‬ ‫الوقت نف�سِ ه كان قد �أُطلِق ُ‬ ‫ُ‬ ‫بعد ُ‬ ‫ميلك �أ َّية �صالحي ٍة حتى‬ ‫اال�ستعمارية‪ ،‬اللورد العن�صري الال�سامي كا ِر ُه اليهو ِد والذي مل يكن ُ‬ ‫أر�ض �أو �إقام ٍة َ‬ ‫بزرع وطن‬ ‫نوع االنتداب‪ ،‬يت ّرب ُع للغربا ِء ال ب� ِ‬ ‫ومواطنة يف فل�سطني‪ ،‬بل بدولة‪َ .‬يع ُِد ِ‬ ‫من ِ‬ ‫ُم َ‬ ‫الهجرات‬ ‫�صط ٍنع يخ ِّل�ص �أوروبا العن�صري َة املُغل َق َة من �ضيقِها مبواطنيها اليهود الذين تقاذفتهم‬ ‫ُ‬ ‫الق�سرية وامل�صا َدرات‪ ،‬مع �أ ّنهم م�شاركون �أ�سا�س ّيون يف بناء �أوروبا احلديثة ويف نه�ضتها‪� .‬أراد اللورد‬ ‫العن�صري‪ ،‬بوعده‪� ،‬أن َ‬ ‫أر�ض‬ ‫يغ�سل‬ ‫تقا�سم ال ِ‬ ‫ّ‬ ‫اجلرائم الأوروبي َة التاريخي َة يف حقِّ اليهود‪ .‬وتال ذلك ُ‬ ‫َ‬ ‫احلرب التي‬ ‫ال�سوري ِة بني القطبني الفرن�سي والإنكليزي املنت�صر َين يف ِ‬ ‫احلرب الكون ّي ِة الأوىل‪� .‬إنها ُ‬ ‫م ّز ِ‬ ‫قت اخلارط َة العربية وال �سيما اخلارطة ال�سورية‪ّ .‬ثم كانت �سيا�س ُة الهدايا العجيبة يقد ُمها من‬ ‫فقدمت‬ ‫ل�صالح الأتراك‪ ،‬ثم عادت يف عام ‪ّ 1939‬‬ ‫ال ميلك � َّأي حق‪ .‬فرن�سا ان�سحبت من كيليكيا ِ‬ ‫احلرب العاملية‬ ‫(فرن�سا �أي�ضاً) لوا َء الإ�سكندرون ال�سوري ر�شو ًة لرتكيا لكي َ‬ ‫تقف على احلياد يف ِ‬ ‫الثانية‪ .‬وبعد عقو ٍد من الثورات الفل�سطينية �أقي َم ْت دول ُة �إ�سرائيل عام ‪ .1948‬ومل ِ‬ ‫النزيف‬ ‫يتوقف ُ‬ ‫أر�ض حتى اليوم‪.‬‬ ‫الب�شري‬ ‫واغت�صاب ال ِ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫م�سرح التح ّو ِ‬ ‫الت‬ ‫واملذابح يف �شمالها و�شرقها كان‬ ‫متزيقُ �سورية‬ ‫َ‬ ‫امل�شهد امل� َّ‬ ‫ُ‬ ‫أ�سوي الأعنف على ِ‬ ‫احلزب ال�سوري القومي االجتماعي �شاهداً‬ ‫الكون ّية التي � ِ‬ ‫ؤ�س�س ِ‬ ‫أعقبت َ‬ ‫احلرب الكربى‪ .‬وكان م� ُ‬ ‫على ذلك ك ِّله بج�سده وطفولته الغريبة ووعيِه الذي تفتح على الكارثة‪.‬‬ ‫وجده‪ ،‬حمت�ضناً‬ ‫فقد عرب يف طفولتِه احلرب الكونية الأوىل وحيداً بعد رحيل �أبيه ثم وفاة �أمه ّ‬ ‫‪59‬‬


‫�أخو َته الثالثة مواجهاً ظروفاً عا�صفة وم�أ�سوية مل تكن املجاعة و�ضحاياها �إال بع�ضاً منها‪ .‬ت�أ ّمل‬ ‫طوي ًال يف �أحوال �سورية وكوارثِها‪� .‬أراد‪ ،‬منذ بلغ ال�شباب �أن يواج َه قوى الطغيان اال�ستعماري‬ ‫العبارات‬ ‫ويعيد ل�سورية املمزق ِة وحد َتها بج�سده و�أج�سا ِد رفاقه‪ .‬وكم �أُ�سيء فهمه ! وكم �أ�ساءت‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫الفهم احلر ُّيف ال�ض ّيق‪ .‬مل‬ ‫احلزبي ُة ال�ضيقة املت�ش ّنجة ّ‬ ‫املنمط ُة �إىل �أ�صحابها و�إىل احلزب‪ .‬وكم �أ�ساء ُ‬ ‫هدف �سعادة َ‬ ‫يكن ُ‬ ‫عزل �سورية عن �أفقِها العربي‪ ،‬بل كان تخ�صي�صاً لها لكونِها اجلريح َة التي‬ ‫ْ‬ ‫العربي‪ ،‬حيث تتعاي�ش‬ ‫باملذابح‬ ‫اخ ُت ّ�صت‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫والنهب والتمزيق‪ .‬فهي البيئة املم َّيزة الفريدة يف العامل ّ‬ ‫ب�سالم ع�شرات اجلماعات الثقاف ّية الدين ّية والعرق ّية منذ �آالف ال�سنني‪ّ ،‬‬ ‫وت�شكل متناغم ًة مت�آلف ًة‬ ‫مع العروبة والإ�سالم تن ّوعاً وغنى �إن�سان ّياً هائ ًال ال مثيل له‪ .‬وكم من اجلدلِ العقيم فاقدِ الر�ؤي ِة دار‬ ‫حول العروب ِة والقومية ال�سورية‪.‬‬ ‫�إنّ رج ًال ُ‬ ‫توحد العرب‪ ،‬لغ ِة القر�آن‪،‬‬ ‫يرف�ض الكال َم‪ ،‬حتى مع طفالته‪ ،‬بغري الفُ�صحى‪ ،‬اللغ ِة التي ّ‬ ‫اللغة التي تختزن الق َي َم والرتاث‪ ،‬حتى و�صفه �أعدا�ؤه ب�أنه حممد �أنطون �سعادة‪ ،‬هذا الرجل الذي‬ ‫ت�آخى يف حزبه الأفراد‪ ،‬من خمتلف الأديان والأعراق والثقافات يف الأر�ض ال�سورية‪ ،‬ال ميكن‬ ‫رجل تفريق‪ ،‬بل هو ُ‬ ‫�ضد العروب ِة غ ِري العن�صرية‪� ،‬أو يكونَ َ‬ ‫وتفاعل وتكامل‪.‬‬ ‫رجل وحد ٍة‬ ‫�أن يكون ّ‬ ‫ٍ‬ ‫أ�سي�س احلزب‬ ‫امل�شكالت جاءت مع نزول الفكر ِة �إىل امليدان‬ ‫وخو�ض �صراعات امليدان‪ .‬ومع ت� ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫التاريخ املعا�صر وقوى‬ ‫تريد مقاوم َة‬ ‫ثم‬ ‫�صراعات الرجال وامل�صالح‪ .‬هذه الأفكا ُر ال�سامية التي ُ‬ ‫ِ‬ ‫تتطلب ن�سا ًء ورجا ًال فوق الواقع‪ ،‬و�صرباً طهر ّياً فوق ال�سيا�س ِة الو�صولية‬ ‫الطغيانِ الكو ّ‬ ‫ين كانت ُ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫وحوارات‬ ‫انفتاحات‬ ‫العداوات ال�شخ�ص ّية‪ .‬كانت تتط ّل ُب‪ ،‬قبل كل �شيء‪،‬‬ ‫و�ش�ؤونِ احلكم‪ ،‬وفوق‬ ‫للتعدد‪َ ،‬‬ ‫بدل احتكا ِر احلقيق ِة‬ ‫وتعاوناً و�إ�صغا ًء للآخرين من خمتلف الأحزاب وامل�شارب‪ ،‬وقبو ًال ّ‬ ‫واحلقِّ يف الر�أي‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫وتوازنات الطوائف و�ضيق الر�ؤية‪ .‬ذهب وهو الذي‬ ‫وقد ذهب �أنطون �سعادة �ضحي َة احل�سابات‬ ‫أعزل ودخل ميدانَ ال�سيا�س ِة و�صراعاتِها الإلغائ ّية � َ‬ ‫احلرب � َ‬ ‫أعزل �إال من فكرِه وثقافتِه و�إميانه‬ ‫دخل َ‬ ‫ب�سورية‪.‬‬ ‫لقد ِ‬ ‫ال�صراع بني الأحزاب‪،‬‬ ‫أحزاب يف �سورية يف الع ّل ِة القبلي ِة �أو الفئوية‪� .‬أقد ُر �أن �أقول �إن‬ ‫َ‬ ‫وقعت ال ُ‬ ‫الطوائف �أو تقا�سماتها‪ ،‬كان دخو ًال يف جحيم ال ّ‬ ‫ِ‬ ‫�صراع ِ‬ ‫ِ‬ ‫املوت‬ ‫�صراعات‬ ‫م�ضافاً �إىل‬ ‫حمل فيها لغ ِري ِ‬ ‫ّ‬ ‫واحلياة‪ .‬وقد ا�ستغرقَ‬ ‫ال�صراع بني ِ‬ ‫واحتل‬ ‫ومعظم �إمكانياتِها‪،‬‬ ‫معظم ن�شاطِ ها‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫الفئات والأحزاب َ‬ ‫حماوالت االنقالبات غ ُري‬ ‫االنقالبات �أو‬ ‫املرتب َة الأوىل يف خُ ططِ تلك الأحزاب وق�ضاياها‪ .‬وهل‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫أ�سلوب للإق�صاء والتف ُّر ِد والقمع واال�ستئثار بال�سلطة عن طريقِ الق ّو ِة واملفاج�أ ِة �أي الغدر؟‬ ‫� ٍ‬ ‫والقمع والإلغاء هو الظاهر ُة‬ ‫عقم احليا ِة ال�سيا�سية والدورانُ يف دوام ِة االنقالبات‬ ‫يف النتيجة‪ُ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫ج�س َد ْته ال�سلطات كما ا�ست ْثمرته الأحزاب‪.‬‬ ‫وال ُ‬ ‫إرث الذي ّ‬ ‫�أ�ستطيع َ‬ ‫وال�صواب والأهل ّية‪ ،‬هي‬ ‫القول �إنّ هذه الظاهر َة الإق�صائ ّية الإلغائ ّية وا ّدعا َء احتكا ِر احلقِّ‬ ‫ِ‬ ‫‪60‬‬


‫الذكرى والتحوالت‬

‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫وجهات النظر‬ ‫اختالف‬ ‫أحزاب كما متث َلت يف ال�سلطة‪ .‬وغالباً ما كان ينتهي‬ ‫ظاهر ٌة عا ّمة متث َل ْت يف ال ِ‬ ‫حزب مل‬ ‫أحزاب �أو ينتهي‬ ‫يف حزب من ال ِ‬ ‫بقي ٌ‬ ‫ُ‬ ‫التناف�س على مراك ِز القرار‪� ،‬إىل االن�شقاق‪ .‬هل َ‬ ‫بديل له �إال بانقالب م�ضا ّد؟‬ ‫أف�سح جما ًال‬ ‫النتخاب ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ي�شهد انق�ساماً؟ هل � َ‬ ‫أذعن حاك ٌم للقانون �أو� َ‬ ‫�شكل خا�ص‪ ،‬وكذلك يف لبنان‪ ،‬هو النتيج ُة‬ ‫وما ُ‬ ‫يحد ُث اليو َم يف �سورية ويف فل�سطني والعراق‪ ،‬يف ٍ‬ ‫املبا�شِ رة للنزعة «القبلية» االحتكار ّية الإق�صائية‪ ،‬حيث الفرقا ُءعلى اختالفهم يقولون قو ًال واحداً‪:‬‬ ‫ال�سلط ُة يل �أو فليكن اخلراب �أو التق�سيم‪ .‬وما مل ُينجِ ْزه اال�ستعماريون ب�أيديهم ها هو ُي َنجز ب�أيدي‬ ‫�أبناء الوطن‪.‬‬ ‫يوم‬ ‫نف�سها َ‬ ‫ذات ٍ‬ ‫كما ذهب �أنطون �سعادة �ضحي ًة لهذه النزعة الإلغائية‪ ،‬وجدت جولييت �سعادة َ‬ ‫حراب الإلغا ِء املتبا َدل‪َ ،‬‬ ‫داخل احلزب وبني الدولة واحلزب‪ .‬فكانت القربانَ‬ ‫وحيد ًة عند ملتقى ِ‬ ‫الذي يجب تقد ُميه ل ُعتاة التنابذِ والإنكار واال�ستئثار‪ ،‬من هنا وهناك بال ا�ستثناء‪.‬‬ ‫ومع �أنني خارج احلزب منذ �أكرث من ن�صف قرن‪ ،‬ف�إنّ املعنى الذي مثّلته جولييت �سعادة والآالم‬ ‫التي عا�شتها ال تفارق فكري وقلبي‪ ،‬وال �أتوقف عن م�ساءلتها‪.‬‬ ‫جولييت �سعادة‪ ،‬بقو ِة الإميانِ �سارت‪ ،‬بال طموح غ ِري توحيدِ‬ ‫باحلق‬ ‫ّ‬ ‫أمل خارق ّ‬ ‫ال�صف‪ .‬بقو ِة � ٍ‬ ‫أقاليم املنت َز َع ِة من الأر�ض ال�سورية‪.‬‬ ‫ال�سوري وا�ستعاد ِة ِ‬ ‫كامل الأقطا ِر وال ِ‬ ‫ِ‬ ‫احللم الكب َري والر�ؤي َة املثالية‪ .‬و�آمنت بالرفاقِ وقدر ِة العد ِد ال�صغري على حتقيق املعجزة‪،‬‬ ‫احت�ضنت َ‬ ‫جميع الظروف الواقع ّية امليدانية والدولية‪.‬‬ ‫بال �إمكانات‪َّ ،‬‬ ‫و�ضد ِ‬ ‫بقي قاب ًال للتقدي�س وحافزاً على‬ ‫أمل خارقٍ ٍّ‬ ‫بقو ِة الإميان �سا َرت‪ ،‬بقو ِة � ٍ‬ ‫بحق �ساطع‪ ،‬مهما �ضاع فقد َ‬ ‫احلق تب ّتلت‪.‬‬ ‫حق نزلت به‬ ‫ال ّن�ضال؛ ٌّ‬ ‫الكوارث وال تزال‪ .‬ولهذا ّ‬ ‫ُ‬ ‫لكن هذه التي ّ‬ ‫احلق و�صدقِ الإميان وطهر ّي ِة املَ�سار ُت ِر َكت؛ نعم ُت ِر َكت‪،‬‬ ‫توك�أت على بداه ِة ّ‬ ‫و�أُخِ َذت من حيث مل تكن تتوقّع‪ .‬و�أنطون �سعادة الذي دفع حيا َته يف املر ِة الأوىل‪ ،‬خُ ذِ ل ُوطع َِن يف‬ ‫طفالت �سعادة ال�ضريب َة م ّرتني‪.‬‬ ‫�أ�سرته‪ُ :‬ت ِر َكت جولييت املري �سعادة لت� َؤخ َذ كغنيمة رمزية‪ ،‬فدفعت‬ ‫ُ‬ ‫كان القوم ّيون حو َلها خارجني من‬ ‫م�سل�سل امل َِحن بدءاً من حمن ِة متوز ‪� 1949‬إىل معانا ِة الأُ َ�سر التي‬ ‫ِ‬ ‫أعج ُب ما‬ ‫عدموا بالقرعة مراعا ًة للتوازن‬ ‫وحكِ موا بامل�ؤ ّبد حني مل ُي َ‬ ‫ُ�سجن �أبنا�ؤها ُ‬ ‫الطائفي‪ .‬وهذا � َ‬ ‫ّ‬ ‫طريق الإميان والأمل‪.‬‬ ‫عرفته‬ ‫ير�س ُم َ‬ ‫حماكم العامل! وكان �ضو ُء وجهها يف مالب�س احلِداد ُ‬ ‫ُ‬ ‫واخل�صو�صي‪ .‬ك ّنا حولها‬ ‫ك ّنا حولها جنتمع‪ .‬وكانت الأ َّم الكربى‪ ،‬حا�ضن َة الآالم‪ ،‬خطريِها وبعيدِ ها‬ ‫ّ‬ ‫وكانت بال حدود‪.‬‬ ‫أبعد ر�ؤي ًة وال �أك َرث ت�صميماً‪ .‬فهي من البدء مل‬ ‫مل يكن � ٌّأي من جهابذ ِة امل�س�ؤولني احلزبيني � َ‬ ‫تكن ت�ؤ ّي ُد‬ ‫تكن مقتنع ًة باملواجهات الع�سكرية وال بالأ�ساليب العنف ّية �أو باالنتقام واالنقالبات‪ .‬مل ْ‬ ‫ْ‬ ‫أالعيب �سيا�س ٍة تهوى ال�سلطة‪ .‬لكنها قب َلت دو َرها الذي ال ُ‬ ‫يقبل املناف�سة كراعي ٍة حا�ضن ٍة لبناتِها‪،‬‬ ‫� َ‬ ‫‪61‬‬


‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫طريق‬ ‫وك�صوت معتدلٍ يف‬ ‫بنات �سعادة‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫املجال�س احلزبية‪ ،‬وك�صديق ٍة بل ك�أ ّم لكل من اختار َ‬ ‫�سعادة‪.‬‬ ‫أر�ض‬ ‫أر�ض العبقرية‪ ،‬مهدِ الأبجدية و� ِ‬ ‫حلم ال ِ‬ ‫على �ضفاف حلم ويف حمارق طريق م�شت‪ .‬قب َل ُتها ُ‬ ‫دم�شق والأندل�س‪ ،‬وعلما ِء دول ِة بني العبا�س‪.‬‬ ‫ال�سالالت والرائني روا ِد البحار‪ ،‬و ُبنا ِة ح�ضار ِة َ‬ ‫زعيمها كما كانت ت�ص ُّر �أن ت�سميه‪ .‬م�شت‬ ‫م�شَ ت ت�ست�ضي ُء باملعنى الذي �أعطاه حلياتِه رفيقُها بل ُ‬ ‫القيم‪ ،‬مهما ُ‬ ‫ّ‬ ‫عظ َم �ش�أ ُنها‪ ،‬مل تكن وا �أ�سفاه‪� ،‬سقفاً واقياً‪.‬‬ ‫ت�ستظل بالقيم وبالذكرى‪ّ .‬‬ ‫ولكن َ‬ ‫وزمن اخليبات‪ .‬لك ّنها باملح ّب ِة والعطا ِء والر�ؤى العالي ِة‬ ‫زمن‬ ‫ِ‬ ‫القبائل املتناحرة َ‬ ‫لقد عبرَ ت زمانَنا‪َ ،‬‬ ‫طريق‬ ‫طريق الآالم فقد جعلت منه َ‬ ‫ثمن اخلطايا‪ .‬و�إذ ع َربت َ‬ ‫ر�س َم ْت طريقَها‪ ،‬وبرباءتِها دف َع ْت َ‬ ‫املعنى‪.‬‬

‫‪62‬‬


‫الذكرى والتحوالت‬

‫الأمينة الأوىل �صورة �شخ�صية عن قرب‬

‫اللقاء ال�سنوي مع �سعاده ‪2014‬‬ ‫�ألي�سار �سعاده ‪ -‬كاتبة‬

‫ل�ست �أدري كيف تقودنا الأقدار‪ ،‬يف حلظة تخطف الأنفا�س‪ ،‬على وقع احتدام حرب االبادة‬ ‫الهمجية الدموية على غزة ‪ -‬فل�سطني‪� ،‬إىل عرزال �سعاده الذي ّ‬ ‫حذر مذ كان يف ال�سابعة ع�شرة‬ ‫من عمره عام ‪ 1921‬من كارثة �ضياعها‪ ،‬و�سارع عام ‪� 1932‬إىل ت�أ�سي�س حزب قومي عقائدي نظامي‬ ‫ملواجهة خمططات ال�صهيونية التي ت�ستهدف ال فل�سطني فح�سب بل كامل الأمة من الفرات �إىل‬ ‫النيل‪.‬‬ ‫لنك ّرم من كانت للق�ضية رئة ثانية وفر�صة نهو�ض ا�ستثنائية �أجه�ضت‪ ،‬ولنا�س الق�ضية والوطن‬ ‫بالتبدد بعد فاجعة الثامن من‬ ‫املهدد ّ‬ ‫ال�سوري احل�ضن الدافئ وامللج�أ واملالذ لتبني وحدة ال�صف ّ‬ ‫متوز ‪1949‬‬ ‫يا لهول املفارقة وما �أ�صعب الكالم !!‬ ‫�أ�شكر ال�صديقة احلبيبة خالدة �سعيد على هذا التقدمي الباهر وامل�ؤثر النابع من �صميم جتربتها وقد‬ ‫ا�ستعادتها لنا ك�أروع و�أرقى ارث لذاكرتنا‪ ...‬تقدمي ال يحتمل �أية ا�ضافة‪..‬‬ ‫ولكن‪ ...‬ولأن ال�شيء بال�شيء يذكر‪ ،‬فقد ثبت من وثائق اخلارجية الربيطانية لتلك احلقبة �أن‬ ‫�سعاده كان ي�شكل خطراً حقيقياً على �سايك�س بيكو كما ورد يف ندوة عن �سعاده �أقيمت يف‬ ‫الأكادميية ال�سورية الدولية يف دم�شق يف ‪ 20‬متوز ‪ .2009‬ذلك �أنه بنى حزبه يف لبنان وال�شام‬ ‫وفل�سطني والعراق والأردن والكويت على مبد�أ �أن القوة هي القول الف�صل يف �إحقاق احلق‬ ‫القومي �أو �إنكاره‪.‬‬ ‫تلك كانت فر�صة �إطالق احلرب القومية لتحرير فل�سطني التي كان يتح ّينها �سعاده والتي �سعوا �إىل‬ ‫و�أدها بالق�ضاء عليه‪ .‬تلك كانت الفر�صة التي مل يتلقفها �أحد بعد غيابه والتي بتنا نعرف اليوم �أي‬ ‫ثمن ندفع ل�ضياعها وتبديدها‪ ،‬بينما ه ّبت هي لتحمي املجموع كما يفعل طائر البطريق يف القطب‬ ‫اجلنوبي ليفتدي بحياته حياة جماعته‪.‬‬ ‫‪63‬‬


‫يقول ال�صحفي زهري مارديني يف جملة «اجلديد» بتاريخ ‪� 21‬أيار ‪�« 1971‬إن من مزايا ال�سيدة التي‬ ‫أ�شد �أعداء �أفكار الأمينة‪ ،‬وكان مديراً ل�سجن املزة‪،‬‬ ‫عرفتها �أثناء �سجنها من �سجانها الذي كان من � ّ‬ ‫ومن �أعنف ما عرف هذا ال�سجن الأ�سطوري من مدراء‪� ..‬أنها ت�ستطيع �أن تقول ل�سامعيها من‬ ‫احلقائق ما ال يريدون �سماعه»‪.‬‬ ‫هكذا جاءت مذكراتها التي �صدرت عقودا بعد غيابها عام ‪� 2004‬أ�صدق ترجمة لهذا الت�صريح‪.‬‬ ‫ولقد م�ضى عقد من الزمن على �صدور هذه املذكرات التي �أعلنت يف م�ستهلها �أنه «مل ي�سبق‬ ‫�أن تعر�ضت امر�أة من بالدنا ويف �شرقنا من قبل ملثل هذا اال�ضطهاد املمنهج ومل يقابل م�صري يه ّز‬ ‫ال�ضمائر مبثل ما قوبلت به من جتاهل والمباالة»‪ ،‬بدءاً من �سوقها مع بناتها خمفورة من بيت الرفيق‬ ‫ف�ؤاد �شواف يف الالذقية يف ‪ 1‬متوز ‪� 49‬إىل فندق بردى يف دم�شق حماطة برجال الأمن ومن ثم من‬ ‫بيت الرفيق ب�شري مو�صللي يف ‪ 7‬متوز �إىل دير �سيدة �صيدنايا بحرا�سة رجال ال�شرطة والأمن يف ما‬ ‫تبني �أنه اعتقال مق ّنع بتواط�ؤ مع رئي�سة الدير ملحا�صرتها ومنعها من القيام ب�أي حترك �أو ات�صال من‬ ‫�ش�أنه �أن ينقذ الزعيم بينما توارى امل�س�ؤولون وف ّروا �إىل عمان‪.‬‬ ‫وحيدة واجهت احلملة املحمومة التي قادتها احلكومتان ال�سورية واللبنانية واالكلريو�س ب�شخ�ص‬ ‫البطريرك الك�سندر طحان ورئي�سة الدير ثم قن�صل الأرجنتني يف دم�شق وزميله يف بريوت حلملها‬ ‫على الرحيل �إىل الأرجنتني رغما عنها‪ .‬وجوبهت برف�ض ريا�ض ال�صلح القاطع عودتها �إىل لبنان‬ ‫فهي تعرف الكثري من �أ�سرار زوجها‪� .‬سالحها ذكرى طفولتها املعلقة ب�شغاف قلبها حيث ال معنى‬ ‫لوجودها خارج �أر�ضها‪ ،‬وانتما�ؤها ال بل ان�صهارها يف �شخ�ص �سعاده واحلركة ال�سورية القومية‬ ‫االجتماعية التي �آمنت ب�أنها �ستعيد لها �سورياها كما عرفتها قبل احلرب العاملية الأوىل و�سايك�س‬ ‫بيكو! ت�ستمد طاقتها من �أ�سرار الطبيعة التي تعيد الأ�سماك �إىل ينابيعها العذبة وتنظم الف�صول‬ ‫يرحلوها عنوة‪ .‬فخططت لهربها من الدير‪،‬‬ ‫وت�سري الرياح يف �أ�شرعة املراكب‪ .‬ال‪ ،‬لن ت�سمح ب�أن ّ‬ ‫وقبل التنفيذ عرفت باالنقالب على ح�سني الزعيم و�أعادها �أديب ال�شي�شكلي �إىل دم�شق عودة‬ ‫الأبطال‪ ،‬حرة معززة‪.‬‬ ‫عادت فعادوا من عمان‪.‬‬ ‫وحيدة حتملت �أعباء البيت الذي حتول مركزاً للحزب ومقراً مفرو�ضاً عليها لرئي�س احلزب �آنذاك‪.‬‬ ‫وال �أجد �أجمل مما ّ‬ ‫خطته خالدة �سعيد تعليقا على ذلك‪ .‬ويف النهاية تركت يف �سابقة انتهاك‬ ‫�سافرملفهوم القيادة كما �أر�ساه �سعاده‪ .‬قيادة جتبرّ ت وتف ّردت و�أر�ست نهجا ابتلي احلزب بنكباته‬ ‫مع تعدد قياداته‪.‬‬ ‫لذلك ف�إن ما تع ّر�ضت له مع اغتيال عدنان املالكي عام ‪ 55‬بعدما منا احلزب بقوة يف دم�شق يف كافة‬ ‫الأو�ساط مبا فيها اجلي�ش‪ ،‬جعلها تدرك ب�أن احلزب يتع ّر�ض لعملية ت�صفية على غرار ما جرى عام‬ ‫‪ .49‬مل يخطئ ظنها و�إن مل يخاجلها ال�شك ب�أنها هي امل�ستهدفة‪.‬‬ ‫‪64‬‬


‫الذكرى والتحوالت‬

‫ما زلت �أحار بال�صمت املريب الذي لفّها �إزاء الأحكام التي �صدرت بحقها يف م�س�ألة ثبت �أن‬ ‫ال عالقة لها بها‪ .‬فمن حكم باالعدام اىل حكم بال�سجن ‪� 17‬سنة (منها �سنتان بتهمة ت�شويق‬ ‫الع�سكريني لالنت�ساب للحزبية)‪ .‬وملاذا و�ضعت هي دون �سواها وبعد �صدور احلكم‪ ،‬يف ال�سجن‬ ‫االنفرادي يف املزة وحتت حرا�سة م�سلحة ما يقارب �أربع �سنوات قبل �أن يتم نقلها �إىل �سجن القلعة‬ ‫لتم�ضي فيه خم�س �سنوات �أخرى؟؟؟‬ ‫ثم ملاذا �أبعدت عن بالدها بعد �صدورالعفو عنها يف كانون الأول ‪.3196‬‬ ‫ملاذا مل ينتف�ض �أحد على جورالأحكام ومل ي�صرخ �أحد �أملا وحزنا؟‬ ‫حتتج �أي هيئة حقوقية �أو مدنية �أو حلقوق االن�سان �أو اعالمية �أو‬ ‫ملاذا �سكت اجلميع وال يزال ؟ مل ّ‬ ‫�شعبية �أو ن�سائية على هذا الطغيان اجلائر‪ ،‬ومل ت�سيرّ �أي م�سرية �أومظاهرة احتجاجية �أواعت�صام!‬ ‫انتابني �شعور بالقهر مل يخب مع تقادم الزمن‪� ،‬شبيه مبا ينتاب �أهل غزة من �صمت الأخوة والعرب‪.‬‬ ‫وحدة الروح كانت وبيارق الأمل‪ ..‬ا�شراقة الربيع ودفء احلنان‪ ..‬م�ضاء العزمية و�صالبة املوقف‪،‬‬ ‫فجاءت الأحكام مبقدار �أهميتها يف �إعادة بعث احلياة يف حزب �سعاده الذي مل يفارقها ما دام يف‬ ‫قلبها نب�ض‪.‬‬ ‫خالل هذه ال�سنوات تبدلت يف احلزب الأولويات‪ ،‬ما عادت فل�سطني يف ال�صدارة وخبا الن�شاط‬ ‫احلزبي يف الكيانات‪ ..‬غرق احلزب ك�سائر الأحزاب يف متاهاته ومل يجر �أي مراجعة تفر�ضها‬ ‫منطلقاته الفكرية فالع�صمة يف بالدنا م�ستحكمة و�أقوى من د�ستورنا وفقه امل�ؤ�س�سات‪ .‬ومع كل‬ ‫انعطافة وكبوة نزف الكثري من كوادره ال�شابة‪.‬‬ ‫يوم �أطلق �سراحها كانت القيادة احلزبية ال تزال تقبع يف ال�سجن يف لبنان والأفق مظلم يف وجه‬ ‫احلزب والأع�ضاء الذين �شتتهم االنقالب ع�شية ر�أ�س �سنة ‪ 1962‬يواجهون حتديات م�صري جمهول‪.‬‬ ‫كنا جمموعة �صغرية تعاند م�صائب الت�ش ّرد وتتم ّرد على �ضيق الأحوال وجتمع يف بيت �صغري‬ ‫الكثري من الطلبة والرفقاء والفنانني‪ .‬اليها تقاطررفقاء مغرتبون من خمتلف القارات‪ .‬كان نورها‬ ‫أ�شد ا�شعاعا يف ظلمة املنايف البعيدة‪ .‬حت ّلقوا حولها كما من قبل‪ .‬وم�ضت هي وحيدة كما من قبل‬ ‫� ّ‬ ‫لتواجه عبء احلياة‪.‬‬ ‫ال �أملك �أف�ضل من بطاقة معبرّ ة �أر�سلها لها الأمني كمال خري بك من جنوب فرن�سا يف ربيع عام‬ ‫‪ 1966‬تقول‪:‬‬ ‫الوالدة الط ّيبة‪،‬‬ ‫ي�سكن يف �آالمنا ال�ساطعة‬ ‫ندا�ؤه ال�صديق‬ ‫‪65‬‬


‫يهيب �أن نغ ّني‬ ‫جراحنا يف قمة احلريق‬ ‫و�أنت يا �سيدة اجلراح‬ ‫غ ّني لنا �أحالمه الرائعة‬ ‫يف عتمة ال�صباح‬ ‫ظ ّلي لنا‬ ‫�صدى ندائه العميق‬ ‫نكاد �أن منوت وحدنا‬ ‫يف وح�شة الطريق‬ ‫تلك هي �أّمي التي احت�ضنتها بعد �أهوال و�آالم ال يدركها �سوى من جت ّرعها وكانت نوراحلياة الذي‬ ‫افتقدته‪ .‬هي �ضيا�ؤنا كما كانت لأبي‪.‬‬ ‫�أ�شكر مل�ؤ�س�سة �سعاده للثقافة تنظيمها لهذا التكرمي الذي يعيد �إىل ال�ضوء تراجيديا رفيقة درب‬ ‫�سعاده التي نعود �إليها كلما �أوغلنايف فواجعنا القوميةويعيدنا �إىل النقطة املحورية‪� ،‬إىل فل�سطني‬ ‫مفتاح الوحدة القومية‪.‬‬

‫‪66‬‬


‫فكـــــــــر‬

‫العبودية املختارة‬ ‫�سليمان بختي ‪ -‬نا�شر وباحث‬

‫كتاب «مقالة يف العبودية املختارة»(‪ )1‬اليتيان دي البوي�سيه‪ ،‬ترجمة د‪ .‬م�صطفى �صفوان‪ ،‬هو �صرخة‬ ‫ور�سالة لأجل االنعتاق الأن�ساين‪ .‬كتبت هذه املقالة يف القرن ال�ساد�س ع�شر ولكن معانيها ال تزال‬ ‫حا�ضرة يف ع�صرنا الراهن‪ .‬وهذا يثبت �أن الكتب املهمة حتمل معيار بقائها يف الع�صور مبا حتمله من‬ ‫قوة ان�سانية ومبا متلكه من �أفكار تبقى على مر ال�سنني‪� .‬أي العمق وقوة الت�أثري‪.‬‬ ‫ولد امل�ؤلف ايتيان دي البوي�سيه عام ‪ 1530‬يف مدينة �سارال‪ ،‬جنوب ليموج‪ .‬عا�ش مرحلة بداية‬ ‫النقا�ش التنويري يف �أوروبا وبروز الأفكار احلديثة و�سط �صراع ديني وقومي يف املجتمع الأوروبي‬ ‫�أغرق الب�شر يف نهر من الدماء والبو�س‪ .‬ورغم ذلك كان هناك طليعة تنزع �إىل التفكري العلمي‬ ‫ومناق�شة الأفكار التي ت�شكل ج�سر اخلال�ص لأوروبا وانتقالها من الظلمة اىل النور‪.‬‬ ‫يناق�ش الكتاب فكرة �أ�سا�سية وهي‪ :‬هل احلرية مطلب مركزي لالن�سانية؟ ملاذا يقبل البع�ض‬ ‫العبودية دون حماولة التخل�ص منها‪ .‬ويف املقابل يطرح الكتاب �أهمية الوعي وتكوينه يف مواجهة‬ ‫تلك اال�سئلة‪ .‬يطرحها يف ع�صر امتالك االر�ض واالقطاع والكني�سة‪ .‬كيف تطور التفكري يف احلرية؟‬ ‫هل كانت احلرية مطلباً ان�سانياً للمثقفني و�أ�صحاب الوعي فقط؟ وكيف �أ�صبحت الدميقراطية‬ ‫مرادفاً للحرية �إذ ينتخب النا�س بحرية من ميثلهم ويقوم ه�ؤالء بتحقيق م�صالح النا�س وكتابة‬ ‫اجلمل املفيدة يف املجتمع‪ .‬ولكن الدميقراطية و�صناديق االنتخاب �أ�س�ست لديكتاتوريات �أي�ضاً‪.‬‬ ‫فعن طريق �صندوق االنتخاب اعتلى هتلر �سدة احلكم وجلب الويل على �شعبه والعامل‪ .‬ولو �أن‬ ‫ال�سبب غري املبا�شر كان الو�ضع االقت�صادي واالجتماعي التي رزحت حتته املانيا قبل و�صول‬ ‫هتلر‪� .‬إذن �إن �صناديق االقرتاع لي�ست ح ًال قاطعاً هناك عامل �آخر هو املجتمع املدين حتى لتغدو‬ ‫الروابط التي جتمع اجلماعات ال�صغرية يف املجتمع الأكرب لتحقيق �أهدافها هي التي جتعل املجتمع‬ ‫حراً‪ .‬ولكن يبقى الوعي هو اال�سا�س يف كل ذلك‪ .‬ي�شري الكاتب �إىل فكرة الوعي بق�صة لها معنى‬ ‫وم�أخوذة من تاريخ الأغريق �أن �شخ�صاً �أخذ جروين من �أم واحدة �أحدهما متت تن�شئته يف املطبخ‬ ‫والثاين يف احلقول‪ .‬وبعد فرتة جيء بالكلبني وو�ضع �أرنب و�إناء فيه ح�ساء �أمامهما‪ ،‬اقرتب كلب‬ ‫‪67‬‬


‫املطبخ من احل�ساء �أما كلب احلقول فراح يطارد الأرنب‪ .‬وهذا يعني �أن البيئة تتحكم بالت�صرف‬ ‫وال�سلوك‪.‬‬ ‫يرى ايتيان دي البوي�سيه �أن الب�شرية ا�صطدمت مبا �سماه حدود احلرية من جهة و�آليات احلرية من‬ ‫جهة ثانية‪ .‬وهذا ينتج عنه فكرتا احلرية ال�سلبية واحلرية الإيجابية‪.‬‬ ‫واحلرية ال�سلبية هي النطاق الذي ميكن لل�شخ�ص �أن يت�صرف فيه دون �إعاقة من الغري‪� .‬أما‬ ‫الإيجابية فهي ان يكون املرء �سيد نف�سه‪ .‬ولكن للحرية �شروطاً اذا ما توفرت نق�صت عن معناها‪.‬‬ ‫وهذه ال�شروط هي‪:‬‬ ‫ املعرفة الواعية‬ ‫ القدرة على االختيار‬ ‫ القدرة على تنفيذ هذا االختيار ‪ .‬وهنا يظهر الفرق بني القدرة والعدم‪.‬‬ ‫�أما �آليات احلرية فلعلها �أكرث تعقيداً‪ .‬و�إذا �سلمنا �أن الدميقراطية تكفل للنا�س حق اختيار ممثليهم‪.‬‬ ‫فثمة من يقول من املفكرين (كارل مارك�س) �أن النا�س ال يدركون م�صاحلهم احلقيقية وبالتايل‬ ‫وجب قيام طبقة واعية نا�ضجة تقود املجتمع‪ .‬ولكن ال�س�ؤال يبقى هل ب�إمكان جميع الأفراد يف‬ ‫املجتمع حتقيق م�صاحلهم؟ ودون ذلك �أهوال‪ .‬وهناك ما ي�سمى عمليات ت�ضليل الر�أي العام مث ًال‪،‬‬ ‫او م�صادرة الأغلبية حقوق االقلية‪� .‬أو نق�صان وحمدودية وعي الناخب مل�صاحله‪� .‬أو حتكم الهوى ال‬ ‫العقل مبنطق الأ�شياء‪ ،‬ولكن تطور الدميقراطية قدم مفهوم امل�ساواة يف �إطار حقوق الفرد الطبيعية‬ ‫واالن�سانية فيما ي�شبه ال�شرط امل�سبق‪ .‬وهي عبارة من خم�سة �أنواع من امل�ساواة‪:‬‬ ‫ امل�ساواة االخالقية‪.‬‬ ‫ امل�ساواة �أمام القانون (وال�س�ؤال هنا �أي�ضاً هل جوهر القانون هو العقل واالرادة)‬ ‫ امل�ساواة ال�سيا�سية‪.‬‬ ‫ امل�ساواة يف الفر�ص املتوفرة للمواطنني‪.‬‬ ‫ التفرقة الإيجابية للمحرومني واالقليات واملعاقني واملر�أة‪.‬‬ ‫تتطرق «مقالة يف العبودية املختارة» �إىل الوعي وكيف ميكن تطويره‪ .‬الوعي الذي يرد ال�ضيم‬ ‫الديني والقومي واخلرايف والعقالين‪ .‬وخ�صو�صاً و�أن و�سائل تطوير الوعي امل�ستحدثة تعمد غالباً‬ ‫�إىل تزييف الوعي (املدار�س‪ -‬اجلامعات ‪ -‬و�سائل االت�صال احلديثة ‪ -‬والت�ضليل ال�سيا�سي)‪.‬‬ ‫‪68‬‬


‫فكـــــــــر‬

‫واجهت �شعوب كثرية ق�ضية النق�ص يف الوعي ولكن احلل ال يكون �إال بالتعليم والتعليم‬ ‫والتثقيف ال�سيا�سي وهما ما تفتقده �أغلبية املجتمعات النامية‪ .‬يبقى على ال�صعيد القانوين املبد�أ‬ ‫الذي �أبتدعه مونت�سيكو يف ف�صل ال�سلطات ال بل �ضرورات ا�ستحداث �سلطات للحد من تع�سف‬ ‫ال�سلطة‪ .‬يعجب دي البوي�سيه كيف �أن احليوان ال يتنازل عن حريته �إال بعد دفاع �ضرو�س‪« .‬هل‬ ‫يقول الفيل �شيئاً �آخر حني يقاتل دفاعاً عن نف�سه حتى ي�ستنفد قواه‪ ،‬ويرى �ضياع الأمل و�شوك‬ ‫الأ�سر‪ ،‬ف�إذاً هو يغر�س فكيه حمطماً على ال�شجر �سنيه؟ هل يقول �شيئاً �آخر �سوى �أن رغبته‬ ‫ال�شديدة يف البقاء حراً‪ ،‬تلهمه الذكاء‪ ،‬فتحثه على م�ساومة قنا�صيه لعلهم يرتكون له احلرية ثمناً‬ ‫لعاجه‪ ،‬ولعله يفتدي به حريته»‪.‬‬ ‫ويخل�ص الكاتب �إىل �أن طبيعة االن�سان يف �أن يكون حراً‪ ،‬و�أن يريد كونه كذلك‪ ،‬ولكن من طبيعته‬ ‫�أي�ضاً �أن يتطبع مبا ن�ش�أ عليه وهو يتنازل عن احلرية ب�سبب احلاجة �أو غياب الوعي‪.‬‬ ‫ر�سالة ايتيان دي البوي�سيه حتمل يف طياتها �شهادة �أطلقت قبل خم�سة قرون وال تزال ترن وت�صدي‬ ‫يف العامل‪ ،‬هي �صرخة لنتعلم مرة «�أن ن�سلك �سلوكاً ح�سناً‪ ،‬لرنفع �أعيننا �إىل ال�سماء بدعوة من‬ ‫كرامتنا او من حمبة الف�ضيلة ذاتها»‪ .‬دعوة اىل احلرية موجهة اىل االن�سان يف كل زمان ويف كل‬ ‫مكان‪ .‬وال بد �أخرياً من اال�شادة برتجمة الدكتور م�صطفى �صفوان‪ ،‬عامل النف�س الفرن�سي من‬ ‫�أ�صل م�صري‪ ،‬وهي ترجمة قديرة وعميقة وغنية بالهوام�ش‪.‬‬

‫(‪ )1‬مقالة يف العبودة املختارة‪ ،‬اليتيان دي البوي�سيه‪ ،‬ترجمة د‪ .‬م�صطفى �صفوان‪ ،‬تقدمي د‪ .‬حممد الرميحي‪،‬‬ ‫كتاب الدوحة‪ ،‬يف ‪� 92‬صفحة‪.2014 ،‬‬

‫‪69‬‬



‫فكـــــــــر‬

‫جذور امل�رشوع ال�صهيوين‬ ‫�سعاده �أر�شيد ‪ -‬باحث وكاتب من فل�سطني‬

‫تعتمد الرواية ال�صهيونية على وعدين ومقولة‪ ،‬الوعد الأول هو الوعد امل�ستند للقاعدة الدينية‬ ‫التوراتية‪،‬وهو ما يطلق عليه الوعد الرباين‪ ،‬ويعود لأربعة �آالف �سنه م�ضت‪ ،‬وذلك عندما منح‬ ‫رب اليهود (يهوه) �أر�ضا لنبيه �أبرام (�إبراهيم)‪ ،‬على ما جاء يف �سفر التكوين‪ :‬لن�سلك �أعطي هذه‬ ‫الأر�ض من نهر م�صر (النيل) �إىل النهر الكبري (الفرات)‪ .‬ون�سل �إبراهيم يف الدعوة ال�صهيونية‬ ‫املعا�صرة هم اليهود املعا�صرون الذين ال زالوا يعتقدون بهذا الوعد و�صالحيته الدينية واحلقوقية‪،‬‬ ‫وي�شاركهم يف هذا الر�أي �أتباع امل�سيحية املتهودة (البيورتانية)‪ .‬وال زال القادة ال�صهيونيون مبن فيهم‬ ‫ويحاجون به‪.‬‬ ‫رئي�س الوزراء �ألأ�سبق �أرئيل �شارون(‪ )1‬واحلايل‪ ،‬بنيامني نتنياهو‪ ،‬يرددون هذا الر�أي‪ّ ،‬‬ ‫كما يزعم امل�ؤرخون ال�صهاينة �أن اليهود �سبق لهم �أن مار�سوا هذا احلق الإلهي تاريخياً‪ ،‬فقد عا�شوا‬ ‫على هذه الأر�ض‪ ،‬و�أقاموا عليها الدول واملمالك‪ ،‬و�شنوا احلروب وكتبوا الأ�شعار واملالحم(‪،)2‬‬ ‫الأمر الذي يعرتيه الكثري من ال�شك من الناحية التاريخية العلمية‪ ،‬كما �أ ّنه ممزوج بدرجات هائلة‬ ‫من املبالغة‪.‬‬ ‫�أم ّا الوعد الثاين فهو الوعد املعتمد �إىل القاعدة ال�سيا�سية وال�صادر عام ‪1917‬م عن وزير خارجية‬ ‫بريطانيا‪ ،‬اللورد �آرثر بلفور (يهوة القرن الع�شرين)‪ ،‬بر�سالته املوجهة �إىل اللورد روت�شيلد (�إبراهيم‬ ‫اجلديد) حيث يقول فيها‪�« :‬إن حكومة جاللة امللك تنظر بعني العطف �إىل ت�أ�سي�س وطن قومي‬ ‫لليهود يف فل�سطني‪« .‬وقد �سبق هذا الوعد مرا�سالت بني رئي�س املنظمة ال�صهيونية‪،‬الكيميائي‬ ‫الربوف�سور حاييم وايزمان‪ ،‬وبني احلكومة الربيطانية(‪ ،)3‬وهي مرا�سالت على قدر من الغرابة �إذ يرد يف‬ ‫ن�صو�صها‪� :‬إن احلكومة الربيطانية �ستمنح ال�شركة القانونية اليهودية �سلطة تعطيها احلق يف احل�صول‬ ‫أرا�ض �ست�ؤول للتاج الربيطاين‪� ،‬أما ال�سكان احلاليون‬ ‫على �أمالك الدوله يف فل�سطني وعلى �أي � ٍ‬ ‫ف�أعدادهم قليله جدا وهم معدمون متخلفون (ينق�صهم العلم واملعرفة)‪ ،‬و�إن حتقيق تقدمهم رهن‬ ‫با�ستقدام عن�صر �سكاين جديد لهذه الأر�ض يتمتع بالعلم واملعرفة والتقدم‪ ،‬بحيث يكون قادراً‬ ‫على �إحداث تغيري نوعي يف حياة ال�سكان احلاليني‪ ،‬ويدفع بالبالد نحو النماء والتقدم والتنمية‪.‬‬ ‫كل ذلك و كانت فل�سطني ال تزال حتت �سيطرة الأتراك العثمانيني‪ ،‬ومل ت�صبح حتت االحتالل ثم‬ ‫االنتداب الربيطاين‪( ،‬وهذا يذكر باملر�سوم امللكي ال�صادر عن امللكة اليزابيث الأوىل والتي متنح‬ ‫‪71‬‬


‫فيه �شركه الهند ال�شرقية املحرتمة حقوقا يف امل�ستعمرات الربيطانية يف الهند)‪.‬‬ ‫ما تقدم ين�سجم مع املقولة التي ذاعت قبل ذلك وتقول �أر�ض بال �شعب ل�شعب بال �أر�ض ون�شرها‬ ‫كتاب و�أدباء ومثقفون ورحالة �إجنليز‪ ،‬كما ن�شرها الأمريكان الربوت�ستانت الذين جابوا �أر�ض‬ ‫فل�سطني و�شرق املتو�سط منذ منت�صف القرن التا�سع ع�شر خا�صة‪ .‬وقد �أفرد لها الكاتب ال�شهري‬ ‫�آرثر كو�ستلر(‪ )4‬درا�سات عدة‪ ،‬وكان �أول من علق عليها �ساخرا من مقولة ال�شعب املختار وعالقته‬ ‫بن�سب �إبراهيم‪ ،‬وذلك يف كتابه القبيلة الثالثة ع�شرة‪ ،‬كما �سخر من الوعد الثاين باعتباره وعد من‬ ‫ال ميلك ملن ال ي�ستحق‪.‬‬ ‫تكمل الرواية ال�صهيونية على �أنها تعرب عن تطور حاجات اليهود الأوروبيني يف الن�صف الثاين‬ ‫من القرن التا�سع ع�شر‪ ،‬والتي �أدت �إىل يقظة ال�شعب العربي ب�سبب ظروف االنعزال واالنغالق‬ ‫االجتماعي والثقايف والنف�سي وال�سلوكي والعي�ش يف الغيتو من جانب وب�سبب ظروف القهر‬ ‫واال�ضطهاد التي عانوا منها يف عموم �أوروبا (با�ستثناء بريطانيا) ونظرة املجتمعات االوروبيه ال�سلبية‬ ‫لهم باعتبارهم جمموعات غريبة و دنيئة تعمل بالربا وتن�شر الرذائل وي�شوب والءها لأوطانها‬ ‫ال�شك (ق�ضيه دريفو�س على �سبيل املثال)‪ ,‬الأمر الذي جعل ال�صهاينة يتداعون �إىل عقد امل�ؤمتر‬ ‫ال�صهيوين الأول يف مدينه بازل ال�سوي�سرية عام ‪ ،1897‬وكان يف عقد امل�ؤمتر املذكور العالمة الفارقة‬ ‫الأوىل واملحاولة الأهم والأكرث جديه لتنظيم يهود العامل من �أجل البحث عن م�ستقبل جديد‬ ‫وخمتلف لهم ودوله خا�صة ال ي�ضطهدهم فيها �أحد‪.‬‬ ‫لطاملا كانت منطقه �شرق املتو�سط ذات �أهميه ق�صوى يف العامل القدمي واحلديث على حد �سواء‪ ,‬ففي‬ ‫العامل القدمي هي الرابط مابني مراكز احل�ضارة الأوىل‪ :‬ح�ضارات �سومر وبابل و�أكاد و�أ�سور(�أ�شور)‬ ‫من جهة‪ ،‬وح�ضارة م�صر القدمية من جهة ثانية‪ ،‬ثم ما بني من ورثهما من �إمرباطوريات وثقافات‬ ‫فار�سيه �أو عربيه �إ�سالميه‪ ،‬اغريقيه �أو رومانيه �إذ �أنها الرابط بني قارات العامل القدمي الثالث �أوروربا‬ ‫و�آ�سيا و�إفريقيا‪ ،‬الأمر الذي �سبب �صراعا دائما ما بني ال�شرق والغرب على �أر�ض هذا ال�شرق وال‬ ‫زالت �أهميتها قائمه‪ ،‬وال زالت �أر�ض �صراع و�إن تغريت هويات ال�شرق والغرب املرة تلو املرة‪.‬‬ ‫جعل ظهور امل�سيحية‪ ،‬ثم و�صولها للحكم يف عهد الإمرباطور البيزنطي الروماين ال�شهري ق�سطنطني‬ ‫ووالدته امل�ؤمنة هيالنه‪ ،‬وذلك يف عام ‪ ،313‬من النا�صرة والقد�س وبيت حلم وموقع عمادة امل�سيح‬ ‫و جبل التجربة (قرنطل) بالقرب من �أريحا‪� ،‬أماكن مقد�سة تهوي �إليها �أفئده امل�سيحيني يف العامل‬ ‫القدمي ملا لها من قد�سية دينية ومكانة روحية ‪ ،‬ال ب�صفتها الوطنية ال�سيا�سية‪ ،‬ففيها مهد والدة امل�سيح و‬ ‫مدارج طفولته وعليها �شاهد العامل عظاته ومعجزاته فهي مملكة الرب و مدينته ومكان احلجيج‪ ،‬وبقي‬ ‫ذلك قائما حتى القرن اخلام�س امليالدي عندما فقدت بع�ض من �أهميتها �إذ حتولت عا�صمة امل�سيحية‬ ‫�إىل روما �إثر بناء كني�سة الفاتيكان الأوىل(‪ )5‬فوق �ضريح القدي�س بطر�س الذي ب�شر بامل�سيحية يف روما‬ ‫وتلميذ امل�سيح الأقرب والذي اعتربه امل�سيح ال�صخرة التي عليها تقوم كني�سة الرب‪.‬‬ ‫‪72‬‬


‫فكـــــــــر‬

‫ع�صفت الأزمات يف �أوروبا بالقرن احلادي ع�شر من فقر وجماعات وطواعني من جانب‪ ،‬وتنامي‬ ‫�أعداد النبالء والفر�سان من جانب �آخر مع حمدودية الأر�ض‪� ،‬إذ �أ�صبح يف �أوروبا نبالء وفر�سان‬ ‫�أكرث مما ت�ستطيع الإقطاعيات ا�ستيعابه‪ ،‬الأمر الذي �أدى �إىل حروب دامية‪ ،‬وكان ذلك عقب تن�صر‬ ‫�أوروبا �شبه الكامل(با�ستثناء الأندل�س) ودخول �شعوب �شمال و�شرق �أوروبا يف الدين امل�سيحي‬ ‫من جرمان وفايكنغ و�سالف(‪ )6‬وبروز طاقاتهم الهمجية والقتالية التي مل يجدوا طريقا للتنفي�س‬ ‫عنها �إال بال�سرقة والغزو وقطع الطرق و ترويع احلياة العامة‪ ،‬فال بد �إذن من �إيجاد عدو‪ ،‬وقد تزامن‬ ‫ذلك مع وجود البابا اوربان الثاين الذي كان ينظر ب�شغف �إىل ال�سيطرة على الق�سطنطينية و�إلغاء‬ ‫�سيطرة البطريرك امل�سكوين املقيم فيها (معادله الديني) وتوحيد امل�سيحية حتت راية الفاتيكان‬ ‫وروما عا�صمة الكاثوليكية‪ .‬وقد وجد البابا �أوربان الثاين يف ا�ستنجاد الإمرباطور البيزنطي بروما‬ ‫على �أنها هدية من ال�سماء يف الوقت الذي تعاين فيه االمرباطوريه ال�شرقية من ال�ضعف والرتهل‬ ‫و�أمرا�ض ال�شيخوخة والقلق‪� ،‬إثر متدد وتو�سع ال�سالجقة يف �آ�سيا ال�صغرى والأنا�ضول(‪ .)7‬هكذا‬ ‫�أعلن البابا �أوربان الثاين احلرب الفر جنيه الأوىل يف جممع كلري مونت ‪ 1195‬واندفع الأوروبيون‬ ‫�إىل ال�شرق ال�ستعادة القرب املقد�س من �أيدي الكفار نبالء ورعاع‪ ،‬و هم ير�سمون على مالب�سهم‬ ‫�صليبا �أحمر ودعيت احلرب باحلرب ال�صليبية‪ ،‬ولكن �أوىل ذبائح هذه احلرب و�ضحاياها كان‬ ‫من مواطني االمرباطوريه الرومانية ال�شرقية من امل�ؤمنني بذات ال�صليب �أال وهم امل�سيحيون من‬ ‫الروم االرثودوك�س ال�شرقيني امللكيني التابعني للكر�سي البطريركي امل�سكوين الق�سطنطيني‬ ‫البيزنطي املناف�س للكر�سي البابوي الالتيني الكاثوليكي‪ ،‬كما مل تنج كنائ�سهم و�أديرتهم من‬ ‫ال�سرقة والنهب واحلرق ورهبانهم من القتل والتنكيل‪ ,‬وهذا قبل �أن ينال العرب امل�سلمون �شيئاً‬ ‫من ذلك‪.‬‬ ‫دامت هذه احلروب زهاء قرنني من الزمن وانتهت بهزمية امل�شروع الغربي برحيل �آخر الفرجنة يف‬ ‫عهد ال�سلطان اال�شرف خليل بن قالوون‪ ،‬ويرى امل�ؤرخون �أنها كانت حروبا قذرة ذات نزعة مادية‬ ‫بحتة‪ ،‬و�إن تدثرت بدثار الدين والتقوى ‪ ،‬فلم يكن �سعي قادة �أوروبا من روحيني‪ :‬باباوات ورجال‬ ‫دين‪� ،‬أو زمنيني‪ :‬من �أباطرة وملوك وفر�سان ‪� ،‬إال �إىل ال�سيطرة والنهب والبحث عن الرثوات �أو‬ ‫الأجماد غري ال�شريفة وذلك على ح�ساب ال�شرق كما على ح�ساب الدهماء والرعاع من �شعوبهم‪.‬‬ ‫يف القرن اخلام�س ع�شر مت ح�سم العامل القدمي على قاعدة ال�شرق خال�ص لل�شرقيني وذلك ب�سقوط‬ ‫الق�سطنطينية عا�صمة الإمرباطورية الرومانية ال�شرقية على يد حممد الفاحت العثماين �سنه ‪1453‬م‪،‬‬ ‫يف حني كان مواطنو وع�ساكر البيزنطيني ينظرون نحو الغرب منتظرين امل�ساعدة الع�سكرية من‬ ‫البندقية وبيزا وفلوران�س و�سائر الغرب امل�سيحي‪ .‬وكان البطاركة يف كاتدرائية �آيا �صوفيا من�شغلون‬ ‫بالنقا�ش احلاد حول جن�س املالئكة ‪ ،‬و�أ�صبح الغرب خال�صاً للغربيني ب�سقوط غرناطة �آخر عوا�صم‬ ‫العرب امل�سلمني يف الأندل�س على يد ملوك الكاثوليك فرديناند و�إيزابيال �سنة ‪ 1492‬يف حني‬ ‫يت�سقط الغرناطيون الأخبار والإ�شاعات عن قرب و�صول الأتراك العثمانيني لفك احل�صار عن‬ ‫‪73‬‬


‫غرناطة بينما م�شايخ وفقهاء املدينة حيارى هل البارود من عمل ال�شيطان �أم الإن�سان‪.‬‬ ‫�شهد القرن ال�ساد�س ع�شر االنق�سام املذهبي الأخطر داخل الكني�سة الغربية (الكاثوليكية)‬ ‫وذلك ما بني الكاثوليكية الكني�سة الر�سمية وال�شرعية وما بني املحتجني عليها وعلى �سلوك البابا‬ ‫ورجال الدين (الربوت�ستانت) الذين �أخذوا من اجنلرتة دولة حامية لهم متحالفة مع هولندة‪،‬‬ ‫و�أعادوا االعتبار للعهد القدمي (التوراة اليهودية) على ح�ساب الأناجيل امل�سيحية وادعوا �أن ال‬ ‫ع�صمة للبابا و�إمنا الع�صمة للكتاب املقد�س واندفعوا نحو درا�سة اليهودية الأمر الذي دعا كثري من‬ ‫امل�ؤرخني �إىل اعتبار الربوت�ستانتية هي اليهودية اجلديدة ولكن جمهورها هو من امل�سيحيني امل�ؤمنني‬ ‫بها (الأغيار)‪ ،‬يف حني �أن جمهور اليهودية القدمية هو �شعب اهلل املختار فقط‪ ,‬ومنح اليهود كثرياً‬ ‫من االمتيازات يف اجنلرتة وهولندة و�أ�صبحت قبلة لليهود الباحثني عن حرية‪.‬‬ ‫�أعادت الربوت�ستانتية االعتبار لقدا�سة القد�س على ح�ساب روما(‪ )8‬وانت�شر الإميان الربوت�ستانتي‬ ‫القائل ب�أن عودة اليهود لفل�سطني �ضرورة ال بد منها للعودة الثانية للم�سيح املخل�ص واملنتظر‪.‬‬ ‫انت�شرت درا�سة اللغة العربية يف اجنلرتة ولدى الربوت�ستانت عموما‪ ،‬وبد�أت عمليات �إعادة �إحيائها‪،‬‬ ‫وذلك على ح�ساب اللغة الالتينية واليونانية القدمية و�شحنت �أفكار الربوت�ستانت باملفاهيم‬ ‫التوراتية اليهودية ويف مقدمتها الوعد الرباين و�أر�ض امليعاد و�شعب اهلل املختار و�ضرورة عودة‬ ‫ال�شعب املختار �إىل �أر�ضه املوعودة باعتباره امة وهوية قومية ال دين و�إميان وعقيدة(‪ . )9‬وانت�شرت‬ ‫هواية احلج �إىل القد�س والرتحال يف الأر�ض املقد�سة‪ ،‬وقد حاول ه�ؤالء الرحالة �إيجاد �صلة بني �أي‬ ‫موقع يزورونه بحادثة �أو ق�صة وردت يف الكتاب املقد�س و�سري انبياءة و �أبطاله‪ ,‬كان ه�ؤالء الرحالة �أو‬ ‫احلجاج من نبالء ومثقفني من امل�ؤثرين و�أ�صحاب ال�ش�أن يف تكوين الثقافة والر�أي العام يف اجنلرتة‬ ‫وقد لعبوا دورا هاما وم�ؤثرا يف �إحياء العالقة ما بني اليهود ومن ثم الربوت�ستانت و�أر�ض الكتاب‬ ‫املقد�س‪ ،‬كما ب�شرت هذه املجموعات ب�أن عودة اليهود �إىل فل�سطني ذات �ضرورة‪ ،‬وهي املحرك‬ ‫الفاعل واملهم وال�ضروري الدافع على عودة امل�سيح وظهوره الثاين‪.‬‬ ‫مما ال �شك فيه �أن جمموعة من اليهود �أو الربوت�ستانت املتهوديني الداعني �إىل بث دعاية البعث‬ ‫اليهودي كانت وراء انت�شار هذه الأفكار وذلك ب�صحيفتي التاميز والدايلي تلغراف(‪ )10‬اململوكتني‬ ‫لعائلة روت�شيلد و�شركه الهند ال�شرقية‪ ،‬ومن ه�ؤالء دبليو‪ .‬م طوم�سون امل�سيحي املتهود ولورن�س‬ ‫اوليفانت اليهودي ال�صميم‪ ,‬و�صدرت العديد من الكتب املن�شورة عن ذات امل�صادر وحتمل‬ ‫ذات الأفكار وامل�ضامني والعناوين مثل (فل�سطني والتوراة) (�أر�ض �إ�سرائيل) (رحالت �إىل �أر�ض‬ ‫الكتاب املقد�س) (مملكة داوود) (�أر�ض اال�سباط)‪ ،‬وغريها الكثري و هي جميعها تركز على البعد‬ ‫التوراتي للأ�سماء والأماكن يف حني ت�صف الفل�سطينيني ب�أنهم رعاة جمال وغنم ب�شعي املنظر‬ ‫قذرين‪ ،‬با�ستثناء بع�ض الو�صف مل�شاهد �أغوات وبا�شاوات ون�سائهم ال�سمينات الك�سوالت‬ ‫مبالب�سهن امللونة يف ق�صور احلرمي‪.‬‬ ‫‪74‬‬


‫فكـــــــــر‬

‫عندما بد�أت االكت�شافات اجلغرافية على �أيدي الأ�سبان والربتغاليني‪� ،‬سارع االجنليز باللحاق بهم‬ ‫يف �سباق حمموم‪� ،‬إىل �أن ح�سم ال�صراع مبعركة الطرف الأغر بني االجنليز والأ�سبان‪ ،‬وخرج االجنليز‬ ‫من جزيرتهم نحو العوامل اجلديدة واخذوا يتو�سعون ب�سرعة ما �أمكنهم ويجدون يف امل�ضطهدين‬ ‫الربوت�ستانت يف الدول الكاثوليكية جمهوراً جاهزاً لل�سكن يف الأرا�ضي اجلديدة املكت�شفة‪ ،‬كما‬ ‫وجد ه�ؤالء مالذا لهم‪ ،‬وعمال وموظفني ومنتجني يعملون لدى ال�شركات و�أ�صحاب الرثوات‬ ‫اجلديدة من الربوت�ستانت الإجنليز والهولنديني وبع�ض الأملان و�أهايل مدينه جنيف ال�سوي�سرية‬ ‫الذين ت�ضخمت ثرواتهم بف�ضل �أفكار منظر الربوت�ستانتية الثاين (بعد مارتن لوثر) جان كالفن‬ ‫حيث تبيح نظرياته الربا‪ ،‬الأمر الذي دعا �إىل تطور امل�ؤ�س�سات امل�صرفية ومنوها (البنوك)‪.‬‬ ‫�أعقب حركة االكت�شافات اجلغرافية انتقال بع�ض �إفراد عائلة روت�شيلد اليهودية من �أملانيا �إىل‬ ‫اجنلرتة‪ ،‬بعد �أن ظهرت الأجواء اجلديدة يف لندن واالمتيازات والت�سهيالت و الت�سامح جتاه احفاد‬ ‫يعقوب التي ح�صل عليها اليهود يف اجنلرتة‪ ،‬وما بها من ا�ستقرار مايل وفرته النظريات االقت�صادية‬ ‫الربوت�ستانتية و ما يتدفق عليها من ثروات العامل اجلديد‪� ،‬سرعان ما �أ�صبحت العائلة الأبرز مالياً‬ ‫يف املجتمع االجنليزي ومموال للحكومة وم�شاريعها وللملكة وطموحاتها ومقر�ضا للنبالء وال�سيا�سيني‬ ‫وربابنة البحار املغامرين‪ ،‬وت�سيطر على جزء مهم من الأ�ساطيل التجارية التي تنقل الب�ضائع عرب‬ ‫العامل التي تتمتع بحماية البحرية االجنليزية وعلى جتارة ال�شاي والتوابل واحلرير والقطن وعلى‬ ‫�صناعة الن�سيج‪.‬‬ ‫يف عام ‪ 1600‬ت�أ�س�ست يف لندن �شركة الهند ال�شرقية االجنليزية املحرتمة على يد عائلة روت�شيلد (‪،)11‬‬ ‫و�أ�صدرت امللكة �إليزابيث الأوىل مر�سوم �إن�شائها الذي �صدقه الربملان فوراً ون�ص على منح ال�شركة‬ ‫�سلطات احتكارية و�إدارية وا�سعة على جتارة الهند وجميع امل�ستعمرات االجنليزية يف جنوب �شرق‬ ‫�آ�سيا وبانفرادها باحتكار �أي معامالت �أو ن�شاط جتاري يف الإقليم املذكور‪ ،‬وبهذا جعل املر�سوم من‬ ‫القوات االجنليزية والإدارة املدنية �أتباعا لل�شركة التي حتولت �إىل حكومة ت�صدر العملة النقدية‬ ‫وتنظم الربيد وتتحكم باالقت�صاد والإدارة ‪� .‬سرعان ما ت�أ�س�ست جمموعة من ال�شركات التي‬ ‫حتمل ذات اال�سم منها �شركه الهند ال�شرقية الهولندية �سنة ‪ 1602‬والربتغالية ‪ 1628‬وغريها يف‬ ‫فرن�سا والنم�سا ودول �أوروبيه �أخرى‪� .‬أهم فروع ال�شركة بعد الفرع االجنليزي كان الفرع الهولندي‬ ‫وقد احتدا و�أ�صبحت �شركه الهند ال�شرقية املتحدة حتكم وت�سيطر على الهند وال�صني واندوني�سيا‬ ‫و�أجزاء وا�سعة من �آ�سيا وجنوب �إفريقيا ورودي�سيا و�أجزاء �شا�سعة �أخرى من �إفريقيا �أي ما يزيد‬ ‫على ن�صف �سكان العامل‪.‬‬ ‫تغري ا�سم �شركة الهند ال�شرقية �أكرث من مرة‪ ،‬وتفككت و�أعيد تركيبها مرات عدة‪ ،‬ولكن املالك‬ ‫الرئي�س يف ال�شركة بقي ثابتا وهو عائلة روت�شيلد الذين تو�سعت �أعمالهم عرب فروع ال�شركة يف‬ ‫�سائر �أوروبا‪� ،‬أدركوا �أهمية الر�أي العام ف�أ�س�سوا ال�صحف وو�سائل الإعالم و�سيطروا على دور‬ ‫الن�شر و�شركات الطباعة‪ ،‬ومولوا الأحزاب ال�سيا�سية واجلمعيات االجتماعية واخلريية‪ ،‬و�صرفوا‬ ‫‪75‬‬


‫املال على احلروب والنزاعات‪ ،‬ومن �أو�ضح الأمثلة على ذلك �أنهم مولوا نابليون و�أعداءه على حد‬ ‫�سواء (مولت عائلة روت�شيلد احلروب النابليونية بـ ‪ 100‬مليون جنيه ا�سرتليني وذلك بدعم نابليون‬ ‫و�أعدائه على حد �سواء)‪ ،‬وحققوا �أرباحا هائلة �إثر معركة واترلو ب�سبب تفوق نظام الربيد اخلا�ص‬ ‫بهم وبف�ضل نظام الربيد هذا عرفوا نتيجة املعركة قبل �أي �أحد �آخر‪ )12(،‬ويذكر �أن اللورد روت�شيلد‬ ‫ذهب �صباح ذلك اليوم مبظهر بائ�س وثياب رثة ل�سوق لندن املايل ومعه حقائب مليئة ب�سندات‬ ‫الأ�سهم لبيعها‪ ،‬افرت�ض اجلمهور �أن الهزمية قد حلقت باملع�سكر االجنليزي وحلفائه و�أن نابليون قد‬ ‫انت�صر لذلك فان روت�شيلد يريد اخلال�ص ال�سريع من �أ�سهمة املعر�ضة للخ�سارة‪ ,‬فقام اجلمهور ببيع‬ ‫�أ�سهمة ب�أ�سعار بالغة التدين يف حني كان موظفو روت�شيلد يقومون بال�شراء‪ ،‬يف اليوم التايل ظهرت‬ ‫نتيجة احلرب بانت�صار اجنلرتة وحتالفها وهزمية نابليون النهائية‪ ،‬ارتفعت �أ�سعار الأ�سهم فوق ما كانت‬ ‫عليه وبذلك حقق روت�شيلد �أرباحا قدرت يف حينه بـ ‪ 20‬مليون جنيه ا�سرتليني خالل ‪� 24‬ساعة‪.‬‬ ‫قرر جرنال فرن�سا ال�شاب والطموح نابليون بونابرت االبتعاد عن �أجواء ال�سيا�سة الفرن�سية املري�ضة‬ ‫وم�ؤامراتها ولو �إىل حني‪ ,‬والحظ �أن ع�صر االكت�شافات اجلغرافية قد انق�ضى‪ ،‬فلم يعد هناك مكان‬ ‫يف العامل مل يكت�شف بعد‪ ،‬اتخذ بونابرت قراره ب�إعادة اكت�شاف العامل القدمي‪ ,‬و�أبحر �إىل م�صر‬ ‫بع�ساكره وعلمائه‪ ،‬ويف ذهنه �أجماد احلروب القدمية و�أبطالها ومبتعدا بذلك عن باري�س و�أجوائها‬ ‫املري�ضة وقاطعا الطريق الربي القدمي للهند �أمام خ�صوم فرن�سا االجنليز والهولنديني‪.‬هذه احلملة‬ ‫كان لها �أبعادها ومفاعيلها الطويلة املدى والتي فاقت ما كان بذهن نابليون‪� .‬أدرك اجلرنال معايري‬ ‫الأمن القومي مل�صر و�أن مفتاح �أمنها يف عكا (فل�سطني) ودون ال�سيطرة على عكا تكون م�صر‬ ‫مك�شوفة ا�سرتاتيجيا و التايل ال بد له من ت�أمني م�صر باحتالل فل�سطني و هذا يعني اال�شتباك من‬ ‫جديد مع الدولة العثمانية‪ .‬زحف نابليون بع�ساكره على طريق ال�ساحل مدمرا و حمرقا و فاحتا �إىل‬ ‫�أن توقف طويال �أمام �أ�سوار عكا عاجزا �أمامها ب�سبب مناعة حت�صيناتها و�أمام �صمود وعناد اجلزار‬ ‫با�شا املدعوم بحراً من الأتراك العثمانيني ومن الأ�سطول االجنليزي‪ ,‬وارتد ناقما مهزوما ولكن بعد‬ ‫�أن �أدرك �ضرورة �إن�شاء ج�سم غريب يف فل�سطني يف�صل م�صر عن امل�شرق(‪ ،)13‬ومن خارج الأ�سوار‬ ‫�أطلق نداءه �إىل يهود العامل (بالطبع عرب روت�شيلد باعتباره اليهودي الأول) وقد ورد يف الن�ص‪:‬‬ ‫«�إىل ال�شعب اليهودي العظيم‪� ...‬أال عودوا �إىل ار�ض �آبائكم‪� ...‬أال هبوا فها قد �سنحت الفر�صة‬ ‫التي قد ال تتكرر ثانية من �أجل ا�سرتداد حقوقكم التي حرمتم منها طيلة �إلفي �سنة ومن اجل‬ ‫ا�ستعادة كيانكم ال�سيا�سي ك�أمة‪»...‬‬ ‫عاد نابليون �إىل م�صر مهزوما وم�أزوما لي�سلم القيادة �سريعا �إىل نائبة اجلرنال كليرب و يعود �إىل فرن�سا‬ ‫وبقيت احلملة الفرن�سية بعد ذلك قرابة ال�سنتني �إىل �أن غادر �آخر جندي فرن�سي م�صر يف �أيلول‬ ‫‪ ،1801‬وبذلك طويت �صفحة احلملة كاحتالل ووجود فيزيائي ولكن �آثارها بقيت م�ستمرة‪.‬‬ ‫ا�ستطاع الوايل العثماين حممد علي با�شا الألباين �إحكام قب�ضته على م�صر بعد مذبحة املماليك‪،‬‬ ‫‪76‬‬


‫فكـــــــــر‬

‫الذين مثلوا القوة الع�سكرية وال�سيا�سية يف م�صر لقرون ولكنهم يف �أواخر �أيامهم فقدوا �شكيمتهم‬ ‫القتالية وترهلت هياكلهم الإدارية ومل ت�صمد �أمام ال�صدمة الع�سكرية والعلمية التي �أحدثتها‬ ‫احلملة الفرن�سية وما قدمت من مناذج متطورة وغريبة يف املجاالت الع�سكرية �أو االداريه‪ .‬اخلال�ص‬ ‫من املماليك فتح الباب وا�سعا �أمام با�شا م�صر امل�ستنري وامل�صاب بالده�شة مما ر�أى من �آثار احلملة‬ ‫الفرن�سية وتقدمها ومناذجها العلمية والإدارية والع�سكرية‪ .‬ابتعث حممد علي �أعداد غفرية من‬ ‫ال�شباب امل�صري �إىل فرن�سا لدرا�سة العلوم احلديثة ويف �شتى امليادين الع�سكرية وال�صناعية‬ ‫والزراعية واالداريه والعمرانية‪ ،‬وعندما عادوا كان منهم الأطباء ومهند�سي اجل�سور وال�سدود‬ ‫وخمططي املدن والزراعيني وخرباء الري والإداريني واملحا�سبيني واحلقوقيني‪ ،‬الأمر الذي جعل‬ ‫م�صر قوة ال ي�ستهان بها‪� .‬أما حفيده اخلديوي �إ�سماعيل فقد ا�ستطاع �إكمال م�سرية جده ف�أ�صبحت‬ ‫م�صر يف عهده من الدول املتقدمة وامل�ستقلة و�أن تبعت �شكال للدولة العثمانية‪ ،‬انت�شرت دور‬ ‫العلم وت�أ�س�ست دار العلوم (جامعة) ودواوين الفتوى والت�شريع واملحا�سبة واملوظفني‪ ,‬ومل�صر برملان‬ ‫ووزارة خارجية ومعاهد للفنون اجلميلة ودار للأوبرا‪ ,‬ولكن احلدث الأبرز عامليا وتاريخيا كان‬ ‫يف امل�شروع امل�شرتك بني اخلديوي امل�ستنري وامل�سرف وبني املهند�س املثقف والعبقري الفرن�سي‬ ‫فرديناند دو لي�سب�س وهو �شق قناة ال�سوي�س الذي ف�صل قارة �آ�سيا عن �إفريقيا وجعل من الهند‬ ‫وال�صني واندوني�سيا و�سائر امل�ستعمرات االجنليزية �أقرب مما كانت عليه �إىل �أوروبا و�أ�سواقها عندما‬ ‫كانت الأ�ساطيل التجارية تبحر عرب ر�أ�س الرجاء ال�صالح‪ ،‬هذا امل�شروع �أ�صبح قطب اجلذب للقوى‬ ‫االقت�صادية العاملية والقوى اال�ستعمارية التي �أرادت بعد حملة نابليون �إعادة اكت�شاف العامل‬ ‫القدمي بعد �أن �أمتت اكت�شاف العوامل اجلديدة‪.‬‬ ‫كان اخلديوي �إ�سماعيل ذا طموح تنموي و�سيا�سي ا�ستقاليل وا�سع مع �إعجاب كبري بالنموذج‬ ‫الفرن�سي‪-‬االيطايل‪ ،‬ولكنه كان �شديد الإ�سراف وبالغ اال�ستعجال مما جعل طموحاته تفوق‬ ‫امكانياته‪ ،‬ومن اجل اال�ستمرار يف م�شاريعه الطموحة وا�سرافه ال�شديد جل�أ اخلديوي لال�ستدانة‬ ‫من البنوك الأوروبية‪ ،‬ومل تكن ال�صدفة هي التي جعلت من بنوك و�شركات روت�شيلد الأ�سرع‬ ‫والأ�سهل يف تلبية احلاجات املالية والنقدية للخديوي‪ ،‬فقد �شعر ليونيل روت�شيلد مبا ميلك املرابي‬ ‫من ح�س فائق بذلك وكان يعرف �أن اخلديوي �سيعجز عن ال�سداد وبالتايل �سي�ضطر لبيع �أ�سهم‬ ‫م�صر قي �شركة قناة ال�سوي�س والتي كانت �أ�ساطيل و�سفن روت�شيلد املبحرة ذهابا و�إيابا عرب القناة‬ ‫زبونها الأول‪� ،‬أما يف اجنلرتة فقد ا�ستطاع روت�شيلد �إقناع �أو �إلزام امللكة فيكتوريا والربملان االجنليزي‬ ‫بتكليف �صديقه اليهودي بنجامني دزرائيلي (اللورد بيكون�سفيلد فيما بعد) بت�شكيل احلكومة‪،‬‬ ‫وهو الذي �أمعن يف توريط ال�سيا�سة االجنليزية يف م�صر و�شرق املتو�سط(‪ )14‬ويف دعم الدوله العثمانية‬ ‫باعتبارها خط الدفاع الأول يف مواجهه التمدد الرو�سي‪ ،‬كما ا�ستطاع دزرائيلي احل�صول من‬ ‫روت�شيلد على قر�ض ل�شراء ‪ %44‬من �أ�سهم �شركة قناة ال�سوي�س ل�صالح احلكومة(‪ )15‬برغم معار�ضة‬ ‫احلكومة والربملان‪ ,‬وبذلك �أ�صبحت احلكومة االجنليزية وروت�شيلد و�شركاته وم�صارفه ميلكون �أكرث‬ ‫‪77‬‬


‫من ‪ %50‬من �أ�سهم �شركة قناة ال�سوي�س‪ .‬الأمر الذي مهد الحتالل الإجنليز مل�صر عام ‪1882‬حتت‬ ‫ذريعة حماية ح�ص�صهم وا�ستثماراتهم يف �شركة قناة ال�سوي�س‪ ,‬وهكذا ت�ؤمن �شركة الهند ال�شرقية‬ ‫و�صاحبها اللورد روت�شيلد واحلكومة الربيطانية �شرايينها املالية باحلفاظ على خطوط ات�صالها مع‬ ‫م�ستعمراتها يف الهند وال�صني واندوني�سيا وباقي �آ�سيا وتقطع الطريق �أمام مناف�سيها‪.‬‬ ‫وفق منطق الأمن اال�سرتاتيجي امل�صري واملتبع منذ القدم‪ ،‬كان ال بد من التفكري بحماية قناة‬ ‫ال�سوي�س من ال�شرق وهو الأمر الذي راود روت�شيلد منذ البدء بتنفيذ م�شروع قناة ال�سوي�س‪ ،‬من‬ ‫هنا ظهرت فكرة �إقامة وطن قومي لليهود يف �سيناء التي �أطلقوا عليها يف �أدبياتهم ا�سم فل�سطني‬ ‫امل�صرية‪ ،‬وقد مت ن�شر الكثري من الأدبيات يف اجنلرتة و�أملانيا والنم�سا بهذا اخل�صو�ص‪ ،‬تتحدث‬ ‫عن �سيناء ومكانتها اليهودية‪ ،‬وعالقاتها بالو�صايا الع�شر والف�صح اليهودي واملن وال�سلوى وموائد‬ ‫ال�سماء‪� ,‬إ�ضافة �إىل الروايات عن التيه وبطوالته و ق�ص�صه وعذاباته كما ح�صل يف املرة الأوىل‪ ،‬و�أن‬ ‫ال بد لليهود قبل الدخول �إىل فل�سطني من ال�ضياع مرة �أخرى يف تلك ال�صحراء‪ ،‬فهي املطهر واملمر‬ ‫الإلزامي لفل�سطني ولهذه الق�ص�ص والنظريات ما ي�ؤيدها يف التوراة والأ�ساطري اليهودية‪ .‬لكن‬ ‫امل�شروع ف�شل ومت التخلي عنه ب�سبب جفاف ال�صحراء و�صعوبة نقل املياه �إليها يف ذلك الزمن‪،‬‬ ‫�إ�ضافة �إىل عدم الرغبة يف �إثارة غ�ضب الأتراك العثمانيني الذين ميثلون �ضرورة �سيا�سية لالجنليز‬ ‫باعتبارهم خط الدفاع الأول �أمام التمدد الرو�سي‪.‬‬ ‫تيودور هرت�سل يهودي من�ساوي �شاب غري متدين(‪( )16‬و رمبا غري م�ؤمن) وال يعرف اللغة العربية ومل‬ ‫ميار�س �صالة �أو يتبع �أي طق�س ديني يهودي‪ ،‬ويقول من كتبوا �سريته من امل�ؤرخني �أنه كان يرغب‬ ‫بالتحول للم�سيحية لوال �إ�شفاقه على والده‪ .‬عمل حماميا يف فيينا ‪ -‬النم�سا‪ ,‬ومل ي�صب جناحا يف‬ ‫املهنة فتحول للكتابة امل�سرحية ومرا�سلة �إحدى ال�صحف يف �ش�ؤون النقد امل�سرحي‪ ،‬وقد و�صف‬ ‫النقاد عملة امل�سرحي (الغيتو) ب�أنه عمل متوا�ضع وال ينم عن موهبة‪.‬عانى من م�شاكل مالية اعتقد‬ ‫�أنه قادر على حلها بزواجه من فتاة تنتمي �إىل �أ�سرة ثرية‪ ،‬لكن زواجه الذي �أنتج ابنتني وابناً ف�شل‬ ‫ف�شال ذريعا ب�سبب �أنه كان يعاين من �أمرا�ض جن�سية مزمنة يبدو �أنه انتقلت �إىل �أبنائه الذين عا�شوا‬ ‫حياة قلقة ومتعرثة �أف�ضت باثنني منهم لالنتحار �أما البنت الثالثة فقد تزوجت و�أجنبت ابنا ولكنها‬ ‫ق�ضت نهايتها يف م�ست�شفى للأمرا�ض العقلية �أما ابنها الوحيد الباقي من �صلب هرت�سل فقد �أقدم‬ ‫على االنتحار على غرار �أخواله‪.‬‬ ‫ب�شكل مفاجئ حتول هرت�سل من رجل ع�صري علماين مندمج يف احلياة الأوروبية �إىل يهودي‬ ‫متحم�س ي�ضع على عاتقه البحث عن خال�ص اليهود يف العامل‪ ,‬وت�شري كثري من امل�صادر �أنه‬ ‫كلف بذلك من قبل روت�شيلد كما يت�ضح من ر�سائله للورد روت�شيلد(‪ )17‬والتي ت�شبه تقارير ير�سلها‬ ‫املوظف لرب عملة‪ .‬يف عام ‪� 1895‬ألف هرت�سل كتابة ال�شهري دولة لليهود باللغة االملانيه الذي‬ ‫ترجم خط�أ فيما بعد بعنوان الدولة اليهودية‪� ،‬إذ طالب يف كتابه هذا بدولة خا�صة لليهود يعي�شون‬ ‫‪78‬‬


‫فكـــــــــر‬

‫فيها دون ا�ضطهاد �أو �إكراه يف الدين‪ ,‬وقدم اقرتاحات افرتا�ضية ملكان قيام الدولة وا�ضعاً خيارات‬ ‫واحتماالت يف فل�سطني �أو �سيناء �أو قرب�ص �أو اوغندة �أو الأرجنتني‪� ،‬أثناء ذلك كان هرت�سل يجري‬ ‫االت�صاالت باليهود عرب العامل لتنظيم عقد م�ؤمتر يهودي ومناق�شة �أ�ساليب اخلال�ص ومنها الدولة‬ ‫املذكورة‪� ،‬أ�سفرت االت�صاالت عن عقد امل�ؤمتر يف املدينة ال�سوي�سرية بازل بعد �أن تعذرت �إمكانيات‬ ‫عقدة يف ميونخ الأملانية كما كان مقررا‪.‬تواجد يف بازل قرابة ‪ 600‬يهودي على �أن �أع�ضاء امل�ؤمتر‬ ‫الذين يحق لهم الت�صويت كان ‪ 204‬ع�ضواً‪.‬‬ ‫يف خطاب االفتتاح الق�صري(‪ )18‬كان وا�ضحا انحياز هرت�سل لفل�سطني مكانا لدولة اليهود‪� ،‬إال انه‬ ‫�أبقى الباب مفتوحا �أمام خيارات �أخرى‪ ,‬فامل�ؤمتر مل يقطع مبكان و�إمنا حتدث عن توفر خيارات‬ ‫متعددة منها فل�سطني واوغندة والأرجنتني‪� .‬شكل امل�ؤمتر نقطة البداية واالنطالق للم�شروع‬ ‫اليهودي العاملي والذي �أ�صبح يحمل ا�سم امل�شروع ال�صهيوين‪ ،‬ومت يف امل�ؤمتر ت�أ�سي�س الهيئات‬ ‫القيادية ومناق�شة �أحوال اجلوايل اليهودية وت�أ�سي�س �صندوق مايل بقيمة ‪ 2‬مليون جنيه ا�سرتليني‬ ‫ومت انتخاب هرت�سل رئي�سا للم�ؤمتر ورئي�سا للمنظمة ال�صهيونية العاملية‪ ,‬ومت تكليف مبهام االت�صال‬ ‫بالعوا�صم العاملية املقررة وذات النفوذ الدويل من اجل �إجناح امل�شروع و�ضمان ت�أبيدة ورعايته‪.‬‬ ‫ما ت�ؤكد عليه ر�سائل هرت�سل �إىل اللورد روت�شيلد(‪ )19‬وبع�ضها يعود �إىل ما قبل عقد امل�ؤمتر ال�صهيوين‬ ‫الأول بب�ضع �سنني �أن لهذا الأخري م�صالح يف �أوغندة تتعلق مبنابع النيل وجتارة الأمالح والعاج‬ ‫وله كذلك م�صالح يف الأرجنتني حيث م�صدر اللحوم الأول‪ ،‬كما يف فل�سطني حلماية م�صاحله يف‬ ‫قناة ال�سوي�س‪ ،‬وهذا الدافع االقت�صادي امل�صلحي هو ما يجعل رجل املال الأول يف العامل يوظف‬ ‫اليهودي غري امللتزم بالعمل على م�شروع دوله لليهود وعلى عقد م�ؤمتر بازل‪ .‬من اجلدير ذكره �أن‬ ‫أرا�ض‬ ‫أرا�ض يف فل�سطني و�إقامة قرى يهودية عليها (م�ستوطنات) منها � ٍ‬ ‫اللورد روت�شيلد مول �شراء � ٍ‬ ‫بالقرب من يافا و�أخرى يف عتليت وزارها يف عام ‪.1895‬‬ ‫تو�صلت اجنلرتة �إىل ت�سوية خالفاتها مع رو�سيا القي�صرية‪ ،‬وبالتايل مل تعد الدوله العثمانية �ضرورة‬ ‫من �ضروراتها ال�سيا�سة وتتحا�شى �إغ�ضابها‪ .‬كان من الوا�ضح منذ مطلع القرن الع�شرين �أن الدولة‬ ‫العثمانية قد ح�سمت خياراتها باجتاه التحالف مع �أملانيا وحمورها وقام القي�صر الأملاين غيلوم بزيارة‬ ‫ال�سلطان عبد احلميد و�أكمل ترحالة بزيارة دم�شق والقد�س‪ ,‬و�شرعت ال�شركات الأملانية بتنفيذ‬ ‫م�شاريع ربط ا�سطنبول بالب�صرة واحلجاز بال�سكك احلديدية‪� .‬أعاد ذلك االتفاق الرو�سي االجنليزي‬ ‫فل�سطني �إىل واجهه الأولويات كمكان تقوم به الدولة اليهودية وهو بديل مريح ففل�سطني متلك من‬ ‫اجلاذبية الروحية والدينية ما ال يتوفر ل�سواها من اخليارات خا�صة بكل ما ا�ستثمر �أدبيا وفكريا يف‬ ‫الن�صف الثاين من القرن التا�سع ع�شر‪.‬‬ ‫عقد يف لندن عام ‪ )20(1907‬م�ؤمتر الدول اال�ستعمارية حيث برز جنم رئي�س الوزراء االجنليزي‬ ‫هرني كامبل بانرمان‪ ،‬ب�صفته فيل�سوف امل�ؤمتر ووا�ضع تقريره النهائي الذي ين�ص‪� :‬أن منطقة �شرق‬ ‫‪79‬‬


‫املتو�سط (بالد ال�شام والعراق) و�شمال �إفريقيا (مبا فيها م�صر) هي الوريث املحتمل للح�ضارة‬ ‫الغربية ‪ -‬ح�ضارة الرجل الأبي�ض‪ -‬احل�ضارة اليهو‪-‬م�سيحية‪ ،‬وهي منطقة تت�سم بالعداء ال�شديد‬ ‫والبغ�ض للح�ضارة االوروبيه ولذلك يرى امل�ؤمتر �ضرورة العمل على امل�سائل التالية‪:‬‬ ‫ تق�سيم هذه املناطق ‪ ،‬ومنع قيام دول مركزية قوية فيها‪.‬‬ ‫ عدم ال�سماح بنقل التكنولوجيا واملعارف احلديثة لهذه املناطق ومنعها من التقدم والتطور‪.‬‬ ‫ �إثارة النزاعات والعداء بني �شعوبها وطوائفها واثنياتها و�إ�شعال احلروب الأهلية بينهم‪.‬‬ ‫ زرع ج�سم غريب ومعا ٍد ل�شعوب املنطقة ومواليا للدول اال�ستعمارية ويف خدمتها على �أن‬ ‫يف�صل بني �شرق املتو�سط و�شمال �إفريقيا‪ ،‬و�أن يحول دون ا�ستقرار املنطقة وميثل عامل قلق‬ ‫وا�ضطراب وتفرقة‪.‬‬ ‫بالطبع ملن يكن بانرمان بعيداً يف طرحه هذا عن �أفكار وم�صالح اللورد روت�شيلد وعن �أفكار‬ ‫ومقررات امل�ؤمترات ال�صهيونية التي تعاقبت وح�سمت �أمر مكان دولة اليهود يف فل�سطني ففي هذا‬ ‫احلل حماية من ال�شرق لقناة ال�سوي�س ‪.‬‬ ‫هكذا تقرتب ال�صورة التي يحاول هذا البحث تقدميها من الو�ضوح‪ ,‬وذلك ب�أن امل�شروع ال�صهيوين‬ ‫من �أ�سا�سه والدولة اليهودية التي �أقامها فيما بعد على �أر�ض فل�سطني لي�سا �إال تعبرياً عن التحالف‬ ‫ما بني ر�أ�س املال اجل�شع واملتوح�ش بال حدود‪ ,‬وبني القوى اال�ستعمارية التي حتاكيه ج�شعا‬ ‫ووح�شية‪ ,‬وهو حتالف ال ميلك �أي �ضوابط �أخالقية �أو �إن�سانية‪ ,‬ومل تكن الأدبيات والروايات‬ ‫التوراتية والبعاد الدينية االجنيليه (الربوت�ستانتية) والوعود الربانية �إال مربرا و�أداة لتحقيق هذه‬ ‫الأهداف ‪.‬‬ ‫‪ -1‬‬

‫كارل عي�سى �صباغ‪ ,‬فل�سطني تاريخ �شخ�صي‪ ,‬امل�ؤ�س�سة العربية للدرا�سات و الن�شر‪� ,2013 ,‬ص‪95‬‬ ‫‪2- j.m.n Jeffries, Palestine: the realty, longmams 1939, p11.‬‬ ‫‪3- ipid.‬‬ ‫‪4- arthur kostler, promise and fulfillment 1917-1949, macmillan 1949, p4.‬‬

‫‪80‬‬


‫فكـــــــــر‬

‫حتديات العوملة وعالقتها بالرتاث واحلداثة‬ ‫ّ‬

‫مها خريبك نا�صر ‪� -‬أ�ستاذة جامعية‬

‫�أوالً‪ :‬كلمات ومفاتيح‬

‫التحدي وما �أ�سند �إليه‬ ‫كرثت الدرا�سات وامللتقيات الثقاف ّية والفكر ّية التي تناولت م�صطلح‬ ‫ّ‬ ‫بالنعت �أو بالعطف �أو بالإ�ضافة من م�صطلحات �أخرى‪ ،‬منها الثقافة واحلداثة والرتاث‪ ،‬وجاءت‬ ‫متنوعة‪ ،‬مثل‪« :‬اللغة العرب ّية وحتديات العوملة‪ -‬العوملة‬ ‫هذه الدرا�سات وامللتقيات حتت عناوين ّ‬ ‫والتعدد الثقا ّيف‪ -‬العوملة والثقافة‪ -‬العوملة والتحد ّيات الثقاف ّية‪ -‬العوملة والتحدي الثقا ّيف‪ -‬العوملة‬ ‫ّ‬ ‫والرتاث‪-‬هويتنا بني الرتاث والعوملة‪ -‬العوملة الثقاف ّية يف مواجهة الرتاث‪ -‬حتديات الهو ّية الرتاث ّية‬ ‫يف العوملة‪ -‬عوملة احلداثة وحداثة العوملة»‪ ،‬وغريها وغريها من العناوين التي الميكن ح�صرها �إ ّال‬ ‫بعمل ّية �إح�صاء علم ّية دقيقة‪.‬‬ ‫تهدف الإ�شارة �إىل هذا الفي�ض من الدرا�سات والأبحاث والندوات �إىل �أنّ للعوملة �سلطة مبا�شرة‬ ‫ِ‬ ‫هاج�سا يت�س ّلل‬ ‫وغري مبا�شرة على‬ ‫الف�ضاءات الثقاف ّية والفكر ّية والعلم ّية‪ ،‬و�صار الكالم عليها ً‬ ‫�إىل معظم الندوات وامللتقيات وامل�ؤمترات التي تبحث يف ق�ضايا الفكر املعا�صر وعالقاته بالرتاث‬ ‫واحلداثة والثقافة لأنّ بع�ض الباحثني والدار�سني قر�أوا من خالل �أهدافها الظاهرة وامل�ستبطنة‬ ‫الأخطار التي تتجاوز عوملة االقت�صاد وال�سيا�سة �إىل عوملة الفكر والثقافة وذلك من خالل فر�ض‬ ‫قومي ومن ّثم تكون ال�سيادة‬ ‫لغة عامل ّية واحدة ون�سق معر ّيف واحد ي�شي ب�إلغاء � ّأي ن�سق معر ّيف ّ‬ ‫التعدد‬ ‫حتددها �سلطة موجهة غايتها تعميم التبع ّية الفكر ّية و�إلغاء ّ‬ ‫لوجبات معرف ّية م�سبقة ال�صنع ّ‬ ‫والتن ّوع‪.‬‬ ‫�إنّ الكالم على حتد ّيات العوملة وعلى عالقتها بالرتاث واحلداثة حتتاج �إىل �إدراك مفهوم ّ‬ ‫كل‬ ‫م�صطلح من هذه امل�صطلحات التي ت�شغل حي ًزا كب ًريا من خطابات املهتمني بال�ش�أن الثقايف‪ ،‬لأنّ‬ ‫اجلهل بدالالت امل�صطلح يف�ضي �إىل نتائج غري دقيقة‪ ،‬وفق ما ذهب �إليه فولتري يف قوله‪� :‬إذا �أردت‬ ‫فحدد م�صطلحاتك»‪ .‬ولكن ما هو التعريف اجلامع واملتفق عليه للعوملة؟‬ ‫�أن تتحدث معي ّ‬ ‫‪81‬‬


‫مما ّ‬ ‫واال�صطالحي ومبفهومه ودالالته‪.‬‬ ‫اللغوي‬ ‫ال�شك فيه �أنّ تعريف � ّأي م�صطلح يرتبط مبعناه‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫بتعدد‬ ‫تعددت ترجماته ّ‬ ‫إنكليزي ‪ّ ،Globalization‬‬ ‫وم�صطلح العوملة املرتجم عن امل�صطلح ال ّ‬ ‫ين‪� ،‬أو بالكوكبة �أو بال�شوملة‪ ،‬ولكن كانت لفظة‬ ‫املفاهيم‪ ،‬فذهب بع�ضهم �إىل ترجمته بالكو ّ‬ ‫العوملة �أكرث �شيو ًعا وتداو ًال ‪ ،‬فكرثت التعريفات لكلمة العوملة وتباينت مفاهيمها بتباين اخللفيات‬ ‫الإيديولوج ّية والثقاف ّية والفكر ّية واحل�ضار ّية‪ ،‬فو�ضع علماء االقت�صاد تعريفات‪ ،‬وكذلك فعل علماء‬ ‫ال�سيا�سة والفل�سفة واالجتماع واللغويون[‪ ، ]1‬ومل يكن من تعريف جامع ومتفق عليه‪ ،‬فربط‬ ‫بع�ضهم م�صطلح العوملة بالدولة الراع ّية والداعمة م�صاحلها‪ ،‬فر�أوا فيها �أمركة‪ .‬وذهب �آخرون �إىل‬ ‫واجتماعي وثقا ّيف ي�سعى �إىل ابتالع الأ�شياء والب�شر‬ ‫و�سيا�سي‬ ‫اقت�صادي‬ ‫االعتقاد �أنّ العوملة نظام‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يف �سبيل متثّلهم وه�ضمهم و�إخراجهم �سل ًعا جديدة‪.‬‬ ‫العربي‪ ،‬وفق قناعتي‪� ،‬إىل �أنّ مفهوم العوملة يفيد التعميم‬ ‫العربي وغري‬ ‫اللغوي‬ ‫ي�شري املعنى‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫و�إك�ساب ال�شيء بع ًدا عامل ًّيا‪ ،‬لأنّ هذا امل�صطلح ي�ضمر فعلاً �إلغائ ًّيا يهدف �إىل نقل املحدود املراقب‬ ‫افرتا�ضي يغري بالإنت�ساب �إىل‬ ‫�إىل الالحمدود‪ ،‬و�إىل �إلغاء احلدود اجلغراف ّية‪ ،‬و�إىل خلق عامل‬ ‫ّ‬ ‫العامل ّية والكون ّية‪ ،‬فيكون االقت�صاد معوملًا‪ ،‬وكذلك ال�سيا�سة والأخالق والفكر والثقافة والعلوم‬ ‫احل�ضاري‪.‬‬ ‫والإرث‬ ‫ّ‬ ‫ح�ضاري عظيم‪ ،‬لتعيد �صياغته وفق‬ ‫ت�سعى العوملة �إىل ال�سطو على تراث الأمم املنت�سبة �إىل �إرث‬ ‫ّ‬ ‫�أهدافها املاد ّية‪ ،‬ومن ثم تعيد ت�صديره‪ ،‬بعد �إخفاء خ�صو�صيته‪ ،‬مبا يتوافق وطموحات الدول‬ ‫اال�ستعمار ّية اجلديدة املتغولة اقت�صاد ّيا‪ ،‬واملتمددة ا�ستعما ًرا فكر ًّيا وثقاف ًّيا‪ ،‬وهذا القن�ص وال�سطو‬ ‫العلمي‬ ‫العربي‬ ‫ّ‬ ‫والتمدد ّ‬ ‫ّ‬ ‫أوربي‪ ،‬لي�س ببعيد‪ ،‬قامت نه�ضته على ترجمة الرتاث ّ‬ ‫ج�سده ا�ستعمار � ّ‬ ‫والفكري الذي حظي باهتمام ط ّالب �أورب ّيني ق�صدوا اجلامعات الأندل�س ّية ومنها جامعتا قرطبة‬ ‫ّ‬ ‫رئي�سا من عوامل النه�ضة الثقاف ّية‬ ‫وطليطلة‪ ،‬ف�أفاد الأورب ّيون من الرتجمات التي كانت عام ًال ً‬ ‫والعلم ّية الغرب ّية‪.‬‬ ‫ت� ّؤكد الدرا�سات والأبحاث �أنّ الرتاث عامل رئي�س من عوامل ت�شكيل هو ّية الأمم الثقاف ّية‪ ،‬وبخا�صة‬ ‫أ�سا�سا يف تدعيم الروابط القوم ّية‪ ،‬فالرتاث هو الف�ضاء الناب�ض‬ ‫الهو ّية الثقاف ّية‪ ،‬لأنّ للرتاث دو ًرا � ً‬ ‫باحلياة واحلركة والدميومة والنماء‪ ،‬وهو الإرث الفكري املرتاكم بفعل جهود الأجيال املتعاقبة‬ ‫واحل�ضاري الرا�شح بخربات �إن�سان ّية �أن�ضجت‬ ‫الرتاثي‬ ‫الفكري خمزون الأ ّمة‬ ‫التي �أنتج حراكها‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الت�صورات وابتكرات املفاهيم واملعتقدات والقيم والعادات والتقاليد و�صاغت الر�ؤى يف فنون‬ ‫�أدب ّية ونظريات علم ّية حت ّر�ض على التفكري واخللق والإبداع يف �شتى املجاالت الفكر ّية‪.‬‬ ‫قيمي قابل للحركة والتفاعل الكيميائّي وللتوليد والإحياء‪� ،‬شريطة‬ ‫يتمايز تراث الأمم احل ّية مبوروث ّ‬ ‫�أن يكون �أبناء هذه الأمم واثقني ب�أنف�سهم وقادرين على الإفادة من اللحظات الأكرث �إ�ضاءة من‬ ‫الرتاث والعمل على حتديث ي�ضمن التوا�صل مع الأ�صل بقدر ماي�ضمن جتاوزه‪ ،‬وبهذه العمل ّية‬ ‫‪82‬‬


‫فكـــــــــر‬

‫احلداثي‪ ،‬لأنّ احلداثة ال ت�أتي من فراغ بل من �أ�صل ثابت‬ ‫تكت�سب الثقافة اجلديدة �صفة الأدب‬ ‫ّ‬ ‫ي� َّؤ�س�س عليه‪ ،‬فال حداثة من دون �أ�صالة‪.‬‬ ‫إبداعي ميكن القول �إنّ الكالم على خماطر‬ ‫أ�صيلي‪ /‬ال ّ‬ ‫ا�ستنا ًدا �إىل مفهوم احلداثة الت� ّ‬ ‫احلداثي ي�ضمر طاقة‬ ‫احلداثة‪،‬وبخا�صة احلداثة الأدب ّية والفكر ّية والثقاف ّية‪ ،‬لي�س دقيقًا‪ ،‬لأنّ الفعل‬ ‫ّ‬ ‫خلق و�إبداع وجتديد‪ ،‬وهذه امل�صطلحات يرتبط حتقّق مفهومها بوجود �أ�صل �سابق تتجاوزه  بقدر ما‬ ‫تكون عالقتها بهذا الأ�صل عالقة تفاعل وخلق وتوليد‪ ،‬فال حداثة من دون �أ�صل ي�ضمن ح�ضانة‬ ‫اجليني‪ ،‬ليكون املولود قاد ًرا على اال�ستمرار يف � ٍآت يح ّر�ض على التجاوز‬ ‫الرحم‪ ،‬و�أ�صالة الت�شكيل ّ‬ ‫والتخطي‪ ،‬لذلك اليجوز ربط احلداثة بالعوملة‪ ،‬و�إنمّ ا يجوز ربط مفاهيم مابعد احلداثة بالعوملة‪ ،‬لأنّ‬ ‫تقدم‬ ‫جوهر ما بعد احلداثة يرتكز على فكرة التقوي�ض والهدم والفو�ضى والتفكيك من دون �أن ّ‬ ‫والعلمي‪ ،‬ولذلك تبدو �أهدافها متوافقة مع الأن�ساق‬ ‫الواقعي والثقا ّيف‬ ‫نظرية ما بعد احلداثة البديل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ال�شمول ّية والقمع ّية التي ت�سعى �إىل الهيمنة وال�سيطرة والظلم االجتماعي وهذه اخل�صائ�ص تتوافق‬ ‫اللغوي‬ ‫ونظرية الفو�ضى اخل ّالقة والربامج التعليم ّية يف املراحل ك ّلها وجت�سدها حالة الت�شظي‬ ‫ّ‬ ‫والتفكك والالنظام‪.‬‬ ‫تقود املعطيات ال�سابق ذكرها �إىل طرح �أ�سئلة ال ح�صر لها‪ ،‬وربمّ ا كان من �أهمها ما يبحث عن‬ ‫طبيعة العالقة بني العوملة واحلداثة والأ�صول ّية احلديثة‪ ،‬فالعوملة �إلغائ ّية‪ ،‬والفكر الأ�صو ّيل اجلديد‬ ‫تفكيكي‪ ،‬ومن �أهم �أهدافها‬ ‫عدمي‪ /‬عبثي‪/‬‬ ‫إلغائي‪ ،‬ونظرية ما بعد احلداثة لها طابع‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫فو�ضوي ‪ّ /‬‬ ‫� ّ‬ ‫�إلغاء املركز ّية‪ ،‬فهي �أداة من �أدوات الإلغاء املعومل‪ .‬فهل جاءت فل�سفة ما بعد احلداثة وما رافقه من‬ ‫نظريات تفكيك ّية لتق ّو�ض الثوابت التي ميكن الت�أ�سي�س عليه؟ وهل جاء تدمري الآثار يف املنطقة‬ ‫العرب ّية ا�ستجابة لروح هذه النظر ّية؟ وهل ما تتبناه امل�ؤ�س�سات الرتبو ّية من برامج ُت�شعر املتلقي‬ ‫فكري كاذب يخدم �أهداف ما بعد احلداثة؟ وهل ما تكتظ به ال�صحف ودور الن�شر واملواقع‬ ‫بامتالء ّ‬ ‫العبثي؟‬ ‫االلكرتون ّية من �أبحاث ودرا�سات مفرغة من املنهج واملنهج ّية يتطابق مع الطابع‬ ‫ّ‬ ‫الفو�ضوي ّ‬ ‫وهل خلق قطيعة مربجمة مع الرتاث واحل�ضارة العرب ّية يق ّو�ض املجتمعات من الداخل؟‬ ‫�إنّ الإجابة عن هذه الأ�سئلة حتتاج �إىل حما�ضرات و�أبحاث ودرا�سات وكتب‪ ،‬ولكن يجوز و�ضع‬ ‫فر�ض ّية تختزل الإجابات وتقول �إنّ تطبيق طروحات مابعد احلداثة وطروحات الفكر الأ�صو ّيل ما‬ ‫هي �إ ّال مناهج م�ساعدة ُت�ضمر خدمة لأهداف العوملة الثقاف ّية واحل�ضار ّية والرتاث ّية‪ ،‬لكونها �أدوات‬ ‫ّ‬ ‫العربي امل�أزوم غري م�ضطر �إىل‬ ‫يوظفها ا�ستعمار جديد ب�أ�سماء خمتلفة‪ ،‬فاال�ستعمار يف هذا الزمن ّ‬ ‫تكبد اخل�سائر املاد ّية والب�شر ّية واملعنو ّية‪ ،‬فهو يقاتل العرب بالعرب ويح ّر�ض على �أن يقتل الأخ‬ ‫واملعنوي‪ ،‬فينتج من ّ‬ ‫كل ذلك تقوي�ض‬ ‫املادي‬ ‫ّ‬ ‫وي�شجع على نبذ القيم وعلى تدمري الرتاث ّ‬ ‫�أخاه‪ّ ،‬‬ ‫الهدامة وزرع اخلالفات التي ت�ضاعف التوترات النف�س ّية وتوقظ‬ ‫العقد‬ ‫االجتماعي ون�شر الفو�ضى ّ‬ ‫ّ‬ ‫االنتماءات العرق ّية والطائفية‪ ،‬وت�ضرم نار احلرب الداخلية واخلارج ّية ومن ّثم تت�أجج نار احلقد‬ ‫‪83‬‬


‫أ�شد خط ًرا من اال�ستعمار املبا�شر‪.‬فكيف تداخلت املفاهيم؟ وهل ي�ستطيع‬ ‫امل�ؤد ّية �إىل تق�سيمات � ّ‬ ‫العربي التحرر من الآثار ال�سلب ّية للعوملة؟ وهل له يف تراثه ما يب�شّ ر بتحدي الوافد الغريب‬ ‫املجتمع ّ‬ ‫و�إنتاج ثقافة جديدة منطلقها تراث فاعل قادر على التفعيل والتحدي؟‬ ‫ثانيا‪� :‬سلطة العوملة والف�ضاء الثقا ّ‬ ‫العربي‬ ‫يف‬ ‫ً‬ ‫ّ‬

‫ُتظهر الدرا�سات �أنّ ف�ضاءات الثقافة العامل ّية حمكومة ب�أدوات معوملة‪ ،‬و�أنّ العوملة فر�ضت نف�سها‬ ‫حتدد م�سارات االقت�صاد‬ ‫على ال�ساحات العرب ّية قد ًرا الفرار منه‪ ،‬لكونها �سلطة متتلك القررات التي ّ‬ ‫وال�سيا�سات الع�سكر ّية والثقاف ّية والرتبوية واالجتماع ّية والعلم ّية وغريها من امل�سارات التي حققت‬ ‫العوملة من خاللها معظم �أهدافها املو�سومة بالإيجاب ّية من حيث ظاهر العر�ض والتقدمي وال�شكل‪،‬‬ ‫وبال�سلب ّية من حيث باطن الغايات والنتائج‪.‬‬ ‫احلد من‬ ‫العاملي �أنّ دو ًال كثرية و�ضعت خط ًطا غايتها ُّ‬ ‫ت�ؤكد عملية ر�صد �سريعة للحراك الثقايف ّ‬ ‫والفكري والثقا ّيف ‪ ،‬فكان العمل على تعزيز فاعلية‬ ‫واحل�ضاري‬ ‫القومي‬ ‫زحف العوملة على الرتاث‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الرتاث وعلى حماية دور اللغة القوم ّية بو�صفها املح ّر�ض على التفكري ال�سليم ال�ضامن خ�صائ�ص‬ ‫احلقيقي‪ ،‬وعلى حفظ مقومات الهوية القوم ّية وخ�صائ�صها الذاتية واملعنو ّية‪ ،‬ولكن هل‬ ‫الإبداع‬ ‫ّ‬ ‫ا�ستطاعت امل�ؤ�س�سات العرب ّية و�ضع خطط ت�ضمن بها �أخطار زحف العوملة؟‬ ‫مما ال ّ‬ ‫ولكن‬ ‫�شك فيه �أنّ للعوملة �إيجابيات‪ ،‬و�أنّ �شعوب العامل تفيد منها وتتوا�صل بف�ضل نعمها‪ّ ،‬‬ ‫تلغ الأهداف ال�سلب ّية التي ّ‬ ‫ت�شكل املق�صد والغاية والهدف‪ .‬فكان من نتائجها‬ ‫هذه الإيجابيات مل ِ‬ ‫ا�ستهداف الثقافة العرب ّية وحما�صرتها ب�أن�ساق جاهزة م�ستوردة با�سم العاملية واحل�ضارة الكون ّية‪،‬‬ ‫ف�أ�ساءت هذه الأن�ساق امل�سبقة ال�صنع �إىل الثقافة العرب ّية املنتجة بلغة عرب ّية قوم ّية �صارت غريبة‬ ‫القومي وربمّ ا‬ ‫العربي عن لغته القوم ّية تزداد الهوة بني الفرد وانتمائه‬ ‫ّ‬ ‫عن �أبنائها‪ .‬وبغربة الإن�سان ّ‬ ‫احل�ضاري للهوية العرب ّية‪.‬‬ ‫يت� ّشوه البعد‬ ‫ّ‬ ‫الريادي‪ ،‬لأنّ معظم‬ ‫العربي امل�أزوم‪ ،‬ال ت�ؤدي دورها‬ ‫ّ‬ ‫�إنّ الثقافة العرب ّية‪ ،‬يف هذه اللحظة من احل�ضور ّ‬ ‫عربي يخدم‪ ،‬عن‬ ‫املثقفني العرب يعي�شون حالة قطيعة مع الرتاث‪ ،‬وهذه القطيعة ي�ؤكدها �إعالم ّ‬ ‫املرئي‪ /‬امل�سموع �أم يف الإعالم‬ ‫ق�صد �أو غري ق�صد‪� ،‬أهداف العوملة‪� ،‬سواء �أكان ذلك يف الإعالم ّ‬ ‫العربي ي�سيء �إىل اللغة الأ ّم‪ ،‬و�إىل البنية الفكر ّية‬ ‫املكتوب‪ /‬املقروء‪ ،‬لأنّ معظم ما ي�صل �إىل املتلقي ّ‬ ‫املنطق ّية و�إىل تراث الأمة و�إىل ح�ضارة ما زالت فاعلة يف خمتربات علمية غري عرب ّية‪ ،‬هذه احل�ضارة‬ ‫إيجابي بعيد من �سلبيات‬ ‫التي ميكن ت�صنيفها بالعامل ّية‪ /‬الكون ّية‪ ،‬وميكن �إ�سنادها �إىل فعل معومل � ّ‬ ‫العوملة املعا�صرة‪.‬‬ ‫‪84‬‬


‫فكـــــــــر‬

‫ين‪،‬‬ ‫توحي ب�أنّ العوملة‪ ،‬يف مفهومها‬ ‫احل�ضاري‬ ‫ي�ضمر الفعل‬ ‫احل�ضاري‪ /‬الكو ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫التاريخي فر�ضيات ّ‬ ‫ّ‬ ‫ين؛ ففتوحات الإ�سكندر كانت نو ًعا من العوملة‪،‬‬ ‫كان لها ح�ضور فاعل على م�ستوى الفكر الإن�سا ّ‬ ‫والفتوحات الإ�سالم ّية كانت‪� ،‬أي�ضً ا‪ ،‬مظه ًرا من مظاهر العوملة‪ ،‬غري �أنّ فتوحات اال�سكندر التي‬ ‫كانت �سب ًبا يف تالقح الثقافات‪ ،‬ويف �إنتاج ح�ضارة �إن�سانية‪ ،‬لها �شخ�صية عا ّمة‪ ،‬حافظت على‬ ‫خ�صائ�ص الأمم القوية‪ .‬وكذلك الفتوحات الإ�سالمية كان لها ٌ‬ ‫ف�ضل يف تالقح الثقافات‪ ،‬وتدعيم‬ ‫القيم الإن�سان ّية ‪ ،‬وتطعيمها بتعاليم ال�شريعة ال�سمحاء‪ ،‬و�إك�سابها بع ًدا �إن�سان ًّيا‪ ،‬وروح ًّيا �أكرث مالءمة‬ ‫مع الواقع اجلديد‪ّ ،‬ثم ّقدم املنتج للعامل �إبداعات فكرية مازالت فاعلة يف خمتربات التواجد‬ ‫والتمدد‬ ‫ين‪ ،‬غري �أنّ العوملة املعا�صرة العالقة لها بالعوملة القدمية �إ ّال من حيث ال�شكل‬ ‫الإن�سا ّ‬ ‫ّ‬ ‫واالنت�شار‪ ،‬لكونها مفر ّغة من القيم الأخالق ّية والإن�سان ّية وت�ضمر تذويب ذوات الأمم اخلا�صة يف‬ ‫ذات كل ّية عامة تخدم �أهداف ال�سيا�سات االقت�صاد ّية واال�ستعمار ّية اجلديدة‪.‬‬ ‫يرى الباحثون �أنّ العوملة‪ ،‬وفق ما ير ّوج لها �إعالم ًّيا‪ٌ ،‬‬ ‫�شكل من �أ�شكال التدويل الهادف‬ ‫والتمدد‬ ‫عاملي واحد‪ ،‬فيتحقّق االنت�شار‬ ‫ّ‬ ‫�إىل االحتواء ال�شمو ّيل و�إخ�ضاع الدول �إىل نظام ّ‬ ‫العاملي‪ ،‬وهذا االنت�شار واالحتواء يعك�سه‬ ‫واالنفتاح والدعوة �إىل تبادل معريف على ال�صعيد‬ ‫ّ‬ ‫يج�سد ال�شكل الأكرث تعب ًريا عن �أ�شكال الهيمنة وال�سيطرة على مظاهر احلياة‬ ‫عربي ّ‬ ‫واق ٌع ّ‬ ‫وفكري وثقا ّيف‪،‬‬ ‫اجتماعي‬ ‫املعا�صرة‪ ،‬فاملجتمعات العرب ّية تخ�ضع‪ ،‬ب�شكل غري مبا�شر‪ ،‬ال�ستعمار‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الروحي‪ ،‬وهذا اال�ستبداد ظاه ٌر يف �سلطة العوملة على احلياة اليوم ّية من خالل‬ ‫ولال�ستبداد‬ ‫ّ‬ ‫�سطحي ق ّلما‬ ‫تكنولوجيا تغتال الوقت والتفكري‪ ،‬وتلغي اخل�صو�ص ّية‪ ،‬وحت ّر�ض على توا�صل‬ ‫ّ‬ ‫تكون له نتائج �إيجاب ّية‪.‬‬ ‫�إنّ حظ العرب من التكنولوجيا احلديثة متوقف على ال�شكل والظاهر‪ ،‬وال دور لهم يف تفعيل � ّأي‬ ‫العربي جمتمع ي�ستهلك �أدوات التكنولوجيا‪ ،‬وال ي�سعى �إىل الت�شجيع‬ ‫توا�صل معر ّيف‪ ،‬فاملجتمع ّ‬ ‫على الإبداع واالبتكار‪ ،‬وربمّ ا مار�ست �سلطاته القمع وفر�ضت على الأفراد ن�سقًا فكر ًّيا م�سبق‬ ‫ال�صنع‪ .‬وهذا ما ت� ّؤكده تو�صيفات املناهج يف املدار�س واملعاهد واجلامعات التي و�صفت باحلديثة‪.‬‬ ‫فما الذي �أ�ضافته هذه املناهج لتتالقى مع روح املناهج غري العرب ّية‪ ،‬وذلك �إذا ا�ستثنينا الأ�سماء‬ ‫وامل�صطلحات اخلالية من املفاهيم الأ�سا�س‪ ،‬لأنّ التحديث كان تغي ًريا يف ال�شكل مع الإ�ساءة �إىل‬ ‫اجلوهر املعر ّيف‪ .‬فهل يعرف خريجو املعاهد واجلامعات تاريخ العرب احل�ضاري والعلمي؟ وهل‬ ‫لل�شباب املعا�صر عالقة بالرتاث؟‬ ‫التقت�صر عمل ّية اجلهل باحل�ضارة والرتاث واملهارات الفكر ّية على خريجينّ اليتمتعون مبهارات‬ ‫فكر ّية ونقد ّية وحتليل ّية‪ ،‬لأنّ علة النق�ص هذه �أ�صابت معظم �شرائح البنيات الثقاف ّية‪ ،‬فالثقافة‬ ‫ال�سيا�س ّية واللغو ّية والأدب ّية �سماع ّية مكرورة يعيدها باحث يعينه يف �أكرث من ندوة وملتقى وم�ؤمتر‪.‬‬ ‫طرحا جدي ًدا بلغة عرب ّية لأنّ ال�شعور �أمام في�ض املعلومات التي‬ ‫ولذلك ق ّلما ّ‬ ‫عربي ً‬ ‫يقدم باحث ّ‬ ‫‪85‬‬


‫تعر�ضها ال�شبكة العنكبوت ّية ت�شعره بعجزه من جهة‪ ،‬وت�س ّهل عمليات ال�سطو‪ ،‬من جهة ثانية‪ .‬فـ� ّأي‬ ‫معرفة عرب ّية تنتجها هذه املجتمعات يف ظل ف�ضاء ثقا ّيف معومل؟‬ ‫املنطقي �إنكار قيمة فيه �أنّ املعلومات التي تعر�ضها ال�شبكة العنكبوت ّية والتي ت�س ّهل‬ ‫لب�س من‬ ‫ّ‬ ‫ولكن امل�شكلة تكمن يف �أنّ بع�ض املواقع ت�ضع معلومات مغلوطة‪ ،‬وت� ّشوه‬ ‫عملية التوا�صل املعر ّيف‪ّ ،‬‬ ‫احل�ضاري‪ ،‬وتفر�ض م�صطلحات م�شو ّهة‪،‬‬ ‫احلقائق التاريخ ّية‪ ،‬وت�سيء �إىل تراث الأمم ذات الإرث‬ ‫ّ‬ ‫و�صو ًرا اجتماع ّية تتناق�ض والقيم العرب ّية‪ ،‬فتكر�س فك ًرا منط ًّيا نفع ًّيا يغ ّلف ال�شعور بتعظيم هذا‬ ‫الوافد وبالرغبة يف تقليده واتخاذه النموذج الأ�سمى يف احلياة؛ لأنّ هذه ال�شبكة �ألغت العالقة‬ ‫بني املثقف والكتاب‪ ،‬وجعلت املعلومة قريبة املتناول‪ ،‬ففر�ضت نف�سها املرجع ّية الأ�سا�س للدار�سني‬ ‫والباحثني الذين ي�ستعينون بق�ضايا وب�آراء وتعريفات وقوانني‪ ،‬بع�ضها غري �صحيح‪ ،‬في�أتي املنتج‬ ‫العربي اجلديد م� ّشو ًها وم�ؤذ ًيا‪ ،‬لأنّ ما ُد ّون مل يكن خا�ض ًعا للتمحي�ص والتدقيق‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫الفكري ّ‬ ‫تغري املواقع االكرتون ّية‪� ،‬أي�ضً ا‪ ،‬ب�إ�ضاعة الوقت وبالتبعية املطلقة من دون �أن يدرك املتلقي م�ساوئ‬ ‫انقياده �إىل مظاهر العوملة الهادفة �إىل ت�شويه الفكر و�إىل الإلغاء‪ .‬لأنّ الظاهر يغري بالفاعل ّية الثقاف ّية‪،‬‬ ‫ولكن املُ�ض َمر من الأهداف ين ّبه �إىل �أنّ غاية العوملة تكمن يف رغبتها �إلغاء‬ ‫وبالتوا�صل وبالتعاون‪ّ ،‬‬ ‫التفاعل الفكري والثقايف والإن�ساين‪ ،‬والق�ضاء على الذوات القومية التي من دونها تتال�شى قيمة‬ ‫احل�ضاري‪.‬‬ ‫الفكري‪ ،‬وتلغى فاعلية التالقي‬ ‫االختالف واملغايرة‪ ،‬ويحدث االنهيار‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫تهدف خمططات العوملة‪� ،‬إ ًذا‪� ،‬إىل ال�سيطرة والهيمنة و�سيادة منوذج واحد �صاغته الدول الأقوى‬ ‫اقت�صاد ًّيا وع�سكر ًّيا وتكنولوج ًّيا مبا يتوافق وطموحاتها اال�ستعمار ّية اجلديدة‪ ،‬ويحقّق طموحاتها‬ ‫الثقاف ّية الهادفة �إىل �سيادة ثقافة واحدة‪ ،‬و�إىل تبعية يف �أ�ساليب التفكري و�أمناط ال�سلوك والتعامل‪،‬‬ ‫الفني وكذلك يف �أ�ساليب التعليم والرتب ّية‬ ‫ويف املفاهيم االجتماع ّية وال�سيا�س ّية و�أ�شكال التذوق ّ‬ ‫فكري اليوحي‬ ‫القوي حقيقة‪ ،‬وال قيمة ملنتج ّ‬ ‫والنظرة �إىل احلياة والكون‪ .‬فال حقيقة �إ ّال مايراه الآخر ّ‬ ‫مبحاباة وتبعية تتناق�ضان والأعراف والقيم املوروثة املتعارف عليها يف املجتمعات املنت�سبة �إىل �إرث‬ ‫عربي يعي�ش حالة من‬ ‫وعلمي‬ ‫معر ّيف وثقا ّيف‬ ‫ّ‬ ‫وح�ضاري‪ ،‬وهذه الأهداف والغايات يعك�سها واقع ّ‬ ‫ّ‬ ‫عربي �إذا مل يكن مز ّي ًنا مبفردات غري عرب ّية وب�أ�سماء‬ ‫الت�شظي وال�ضياع والتبع ّية‪ .‬فال قيمة لبحث ّ‬ ‫غري عرب ّية وب�أفكار �أو تعريفات كتبها غري العرب‪ .‬وال قيمة لأديب �أو ّ‬ ‫مفكر �إذا حرمته �أهداف‬ ‫العوملة من نيل جائزة �أو تكرمي �أو انت�شار‪ .‬لأنّ اجلوائز ال تخ�ضع ملعايري علم ّية و�إنمّ ا العتبارات‬ ‫التبعي اجلديد الذي �ألغى من قامو�سه مفهوم الإبداع املتح ّرر من املناطق ّية‬ ‫العربي ّ‬ ‫فر�ضها التفكري ّ‬ ‫واملذهب ّية والطائف ّية والدين ّية والعرق ّية والأقليم ّية‪ ،‬و�صار املعيار الأ�سا�س امل�صالح الآن ّية امل�شرتكة‪.‬‬ ‫عربي يحت�ضر؟‬ ‫فهل من قيامة لواقع ّ‬

‫‪86‬‬


‫فكـــــــــر‬

‫احلداثي‬ ‫ثالثًا‪ :‬حتمية الأهداف بني فاعلية الرتاث والفعل‬ ‫ّ‬

‫أ�سي�سا على ما �سبق ميكن القول �إنّ للعوملة �أهدافًا اقت�صاد ّية و�سيا�س ّية وثقاف ّية‪ ،‬و�أنّ ناجت الأهداف‬ ‫ت� ً‬ ‫الثقاف ّية �أكرث �ضر ًرا على حياة الأمم‪ ،‬وهذا ما ظهر يف �سعي العوملة �إىل ن�شر م�صطلحات جديدة‬ ‫ومفاهيم تنق�ض الأ�صول املرتبطة بحياة الأمم وب�شخ�صيتها املعنو ّية وهويتها‪ ،‬و�إىل ابتكار �أ�ساليب‬ ‫جديدة ت�ؤدي �إىل �إلغاء اخل�صو�ص ّية القوم ّية و�إىل خلق قطيعة بني ال�شعوب وتراثها‪.‬‬ ‫�إنّ ت�شويه روح الرتاث ينتج واق ًعا جدي ًدا ال عالقة له بالأ�صل‪ ،‬وهذا ما ت�ؤكده قراءة دقيقة ملعنى‬ ‫اللغوي‪ ،‬لأنّ م�صطلح الرتاث‪ ،‬وفق ما يرى اللغويون‪ّ ،‬‬ ‫يدل على املوروث‬ ‫امل�صطلح يف �أ�صل الو�ضع ّ‬ ‫اللغوي الذي‬ ‫املادي‬ ‫اللغوي وغري ّ‬ ‫واالجتماعي والثقا ّيف‪ ،‬املكتوب وال�شفوي‪ ،‬الر�سمي وال�شعبي‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫و�صل من املا�ضي البعيد والقريب‪ ،‬وهذا الرتاث يفي�ض بالقيم االجتماع ّية والإن�سان ّية واحل�ضار ّية‬ ‫التي تخرب عن كينونة الأمم‪ ،‬وتك�شف ح�ضورها القيمي‪ ،‬لكون تراث الأمم هو جممل ما بقي‬ ‫واملعنوي‪ ،‬واحلياة ال تكون �إ ّال للعنا�صر القو ّية القابلة للدميومة واال�ستمرار‬ ‫ح ًّيا من تاريخها املادي‬ ‫ّ‬ ‫والتفاعل‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫تركز �أهداف العوملة على ت�شويه العالقة بالرتاث‪ ،‬لأنّ الرتاث هو ذاكرة الأ ّمة التاريخ ّية والثقاف ّية‬ ‫والعلم ّية والفن ّية‪ ،‬وهذه الذاكرة ت�صنعها الأجيال وفق ما ت�ؤمن به من قيم وعادات وتقاليد‬ ‫نوعي‪،‬‬ ‫وت� ّصورات ور�ؤى ي�ؤرخ بها لنب�ض �شعوب ح ّية جتعل من تراثها هو ّية ثقاف ّية تتمايز بثقل ّ‬ ‫وهذا الثقل النوعي مينح الأمم وجودها وثباتها ويحميها من التح ّول �إىل ورقة تقذف بها امل�ؤثرات‬ ‫اخلارج ّية �إىل حيث �شاءت‪.‬‬ ‫ي�ؤدي �إلغاء فاعلية الرتاث �إىل حالة من العجز عن امل�شاركة يف �صنع ح�ضارة العامل اجلديد‪ ،‬لأنّ‬ ‫الغاية الأ�سا�س هي حتويل الأفراد �إىل م�ستهلِكني وم�سته َلكني على م�ستوى الفاعلية احل�ضار ّية‬ ‫ليكونوا عاجزين عن التفاعل والتخ�صيب وعن ابتكار �أ�ساليب تعبري جديدة يد ّونون بها تراثًا‬ ‫جدي ًدا منطلقًا من تراث منحهم هو ّية ذات ّية ‪.‬‬ ‫احلداثي بالدعوة �إىل الثورة والتمرد‪ ،‬لكونها‪ ،‬يف ر�أيهم‪ّ ،‬‬ ‫ت�شكل حدثًا‬ ‫يربط ر ّواد احلداثة الفعل‬ ‫ّ‬ ‫جدي ًدا وحتم ًّيا تفر�ضه �صريورة احلياة‪ .‬ولذلك نعتقد �أنّ احلداثةالأدب ّية نوع من التم ّرد على ن�سق‬ ‫ثقا ّيف ما‪ ،‬وهذا التم ّرد يهدف �إىل البناء والت�أ�سي�س بقدر ما يهدف �إىل الهدم والتغيري‪ ،‬والبناء‬ ‫وقوي يكون منطلقًا ل ّأي حراك فاعل غايته خلق م�سارات‬ ‫والت�أ�سي�س يحتاجان �أىل �أ�صل ثابت ّ‬ ‫جديدة ومغايرة وقادرة‪ ،‬يف الوقت عينه‪ ،‬على الثبات والتوليد‪ ،‬ولذلك يرتبط جناح التجربة بوجود‬ ‫أدبي له منطلقاته الأ�سا�س‪ ،‬وطاقة انزياح عن امل�ألوف‪.‬‬ ‫حراك هادف قوامه فعل جتديد � ّ‬ ‫ين‬ ‫العربي �أنّ ق�ضية االنزياح لي�ست بجديدة على الثقافة العرب ّية‪ ،‬فلقد تك ّلم عليها الأ�صفها ّ‬ ‫يظهر الرتاث ّ‬ ‫‪87‬‬


‫وابن قتيبة وطه ح�سني وغريهم؛ لأنّ ال�شعراء العرب خرجوا على النظام العام املتعارف عليه‪ ،‬وكتبوا‬ ‫ين» �أنّ �أبا‬ ‫�شع ًرا مغاي ًرا من حيث ال�شكل وال�صورة والداللة‪ .‬ومما يذكره الأ�صفهاين يف م�ؤلفه «الأغا ّ‬ ‫العتاه ّية كتب  �شع ًرا خالف الأوزان املتعارف عليها‪ ،‬وع ّلل خروجه على امل�ألوف بقوله‪�« :‬أنا �أكرب من‬ ‫العرو�ض»‪ ،‬وكذلك �أورد ابن ر�شيق يف كتاب «العمدة» �أنّ بع�ض ال�شعراء حترروا من قيود القاف ّية‪،‬‬ ‫عربي ّ‬ ‫تخطى ال�سنن التي كانت معهودة‪.‬‬ ‫وك�شفت الدرا�سات‪� ،‬أي�ضً ا‪ ،‬عن وجود �شعر ّ‬ ‫ي�أخذ مفهوم الرتاث مكانه املميز يف ن�سق املفاهيم التي ترتبط بحياة النا�س وتاريخهم وم�ؤثرات‬ ‫رئي�سا يف احلفاظ على الهوية الثقافية عند ال�شعوب‬ ‫وجودهم‪ ،‬وي�شكل هذا املفهوم عام ًال ً‬ ‫واجلماعات والأمم‪ ،‬ولذلك ي�سعى الباحثون واملفكرون العرب �إىل تكري�س الرتاث واملوروث‬ ‫ال�شعبي ق�ض ّية قوم ّية تتقاطع مع الق�ضايا القوم ّية‪ ،‬ف�شهدت ال�ساحات الثقاف ّية والأدب ّية والفكر ّية‬ ‫في�ضً ا من الدرا�سات التي �أظهر ُ‬ ‫والتبعي‪ ،‬و�أظهر بع�ضها الآخر الرف�ض والدعوة �إىل‬ ‫بع�ضها القبول‬ ‫ّ‬ ‫حماربة مظاهر العوملة‪ .‬ولكن هل يحارب قد ٌر ينتظر حكمه معظم �شعوب العامل؟‬ ‫امل�ستقبلية‬ ‫راب ًعا‪ :‬العوملة والر�ؤى‬ ‫ّ‬

‫الفو�ضوي‬ ‫يعتقد بع�ض املفكرين �أنّ نظرية ما بعد احلداثة �ستق ّو�ض نف�سها بنف�سها نظ ًرا لطابعها‬ ‫ّ‬ ‫والعدمي والعبثي‪ ،‬وربمّ ا بتقوي�ضها ذاتها تفقد العوملة ذرا ًعا ومعي ًنا على التخريب ون�شر الفو�ضى‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫التحدي واملواجهة والنهو�ض والتح ّرر من �سلطة‬ ‫وربمّ ا ترتاجع �آثارها ال�سلب ّية‪ ،‬فتت�ضاعف فر�ص‬ ‫ّ‬ ‫موج ِّهة‪ ،‬وربمّ ا يكون للثقافة العرب ّية ٌّ‬ ‫حظ من النهو�ض والت�أ�سي�س‪.‬‬ ‫�إنّ الكالم على حماربة العوملة يفتقر �إىل املنطق ال�سليم‪ ،‬فالعوملة احلديثة قدر ال�شعوب والعامل‪،‬‬ ‫اال�ستهالكي‬ ‫والتحدي اليكون بالرف�ض بل بالعمل على حتويل املجتمعات العرب ّية من الواقع‬ ‫ّ‬ ‫والتبعي �إىل واقع منتج متمتع ب�شخ�ص ّية ذات ّية ُيعرف بها وتعرف به‪ ،‬وهذا الواقع م�شروط بخلق‬ ‫ّ‬ ‫قومي له هويته الرتاث ّية واحل�ضار ّية‬ ‫يقظة جديدة قوامها الوعي بالذات والوجود واالنتماء �إىل ف�ضاء ّ‬ ‫إبداعي ‪،‬‬ ‫احل�ضاري‬ ‫والثقاف ّية واللغو ّية والتي بها وحدها يكون التعبري عن نب�ض الأمة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫والفكري وال ّ‬ ‫العربي‬ ‫الوعي عينه ت�ستعيد الهوية ح�ضورها الفاعل على م�ستوى العامل ّية‪ ،‬فيتحرر الإن�سان ّ‬ ‫وبهذا ّ‬ ‫من �أمرا�ض التبعية واال�ستزالم واالنبهار بالآخر‪ ،‬وي�سعى ليكون م�شار ًكا يف �صنع ح�ضارة كون ّية‬ ‫حتفظ له وجوده ودوره وهويته‪.‬‬ ‫املخربي للتجربة الإبداعية هذه التجربة املمهورة‬ ‫يرتبط تفعيل الثقافة العرب ّية بالدعوة �إىل حتفيز الو�سط‬ ‫ّ‬ ‫العلمي وباحلركة وال�صريورة‪ ،‬وبتفعيل دور الرتاث من �أجل خلق نه�ضة‬ ‫باملنهجية العقلية وبالتخطيط ّ‬ ‫قومي له وجوده الذاتي امل�ستقل ‪،‬‬ ‫ثقافية �أدواتها لغة عرب ّية حت ّر�ض على تعزيز هوية االنتماء �إىل ف�ضاء ّ‬ ‫من جهة‪ ،‬ويتكامل مع ف�ضاءات �إن�سان ّية‪ ،‬من جهة ثانية‪ ،‬من دون �أن يخ�سر �شخ�صيته املعنوية‪.‬‬ ‫‪88‬‬


‫فكـــــــــر‬

‫تظهر الدرا�سات �أنّ ّ‬ ‫لكل �أ ّمة تراثًا يخنزل جتاربها وحراكها وت� ّصوراتها و�أحالمها ور�ؤاها ومنتجاتها‬ ‫وفنونها‪ ،‬وهذا ما ي�شري �إليه م�صطلح الرتاث‪ ،‬يف �أ�صل الو�ضع والتداول‪ ،‬فالكلمة ّ‬ ‫تدل على املرياث‬ ‫املعنوي فهو الروح الناب�ضة يف وجدان الأمة‪ ،‬وهو‬ ‫املادي قابل للزوال‪� ،‬أ ّما‬ ‫املادي‬ ‫ّ‬ ‫واملعنوي‪ ،‬واملرياث ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الكمون املح ّر�ض على اخللق والتجديد لكونه يح�ضن مك ّونات ثقاف ّية ومعرف ّية وتاريخ ّية يتوارثها‬ ‫�أبناء املجتمع ويبقون قيمها ومقوماتها فاعلة يف حا�ضر ي�ستولد من هذا الرتاث تراثًا جدي ًدا قاب ًال‬ ‫للتوليد‪ ،‬فالرتاث‪� ،‬إ ًذا طاقة توليد حت ّر�ض الأجيال امل�ؤمنة بانتمائها على ابتكار �أن�ساق فكر ّية �أكرث‬ ‫أوربي الذي يجعل من تراثه ركيزة‬ ‫جدة وتعي ًريا عن حرك ّية احلياة‪ ،‬وهذه الطاقة �أفاد منها الفكر ال ّ‬ ‫ينطلق منها نحو التط ّور والتحدبث‪ .‬ولذلك ت�سعى الأمم احلديثة‪ ،‬با�سم العوملة واحلداثة �إىل ربط‬ ‫التاريخي برتاث قوامه معارف وثقافات ومبادئ و�أ�صول وعادات وتقاليد و ّلدتها ا�ستجابة‬ ‫ح�ضورها‬ ‫ّ‬ ‫الأفراد �إىل مفاهيم ا�ستقرت يف وجدان اجلماعة‪ ،‬وح ّر�ضت على توثيق الروابط والعالقات بني‬ ‫الأفراد والوحدات االجتماعية‪ ،‬فجاء الرتاث تعب ًريا �صادقًا عن روح ال�شخ�صية اجلماعية املتنوعة‬ ‫يف انتماءاتها‪.‬‬ ‫مما ّ‬ ‫العربي يختزن طاقة لو فعلت يف نفو�س الأجيال املتعاقبة لغيرّ ت وجه‬ ‫ال�شك فيه �أنّ الرتاث ّ‬ ‫ولكن امل�شكلة تكمن يف هذه القطيعة بني الرتاث والأجيال املتعاقبة‪ ،‬وال قيامة حقيق ّية‬ ‫املنطقة‪ّ ،‬‬ ‫العربي القابل للتفاعل والتوليد‪ ،‬فامل�س�ؤول ّية‬ ‫عربي يعزز االنتماء واالعتزاز بالرتاث‬ ‫ّ‬ ‫�إ ّال بوعي ّ‬ ‫القوم ّية تقت�ضي تعزيز ال�شعور باالنتماء‪ ،‬وتدعيم مقو ّمات الرتاث الثقا ّيف الذي يحفظ الهوية‬ ‫ين الذي ّ‬ ‫ي�شكل‬ ‫ويختزل العادات والتقاليد‪ ،‬وينطق بدور الرتاث يف ت�شكيل حرك ّية الفكر الإن�سا ّ‬ ‫أ�سا�سا لالبتكار والتجديد والتطوير والتحديث‪ ،‬فال �أمام من دون وراء ثابت و�أ�صيل قابل‬ ‫مرجع ّية � ً‬ ‫للتفاعل والتوليد‪.‬‬ ‫احلداثي هو القادر‪ ،‬وحده‪ ،‬على �إنتاج تراث جديد‬ ‫ا�ستنا ًدا �إىل ما �سبق ميكن القول �أنّ الفعل‬ ‫ّ‬ ‫يرتبط بالرتاث بقدر ما يتجاوزه‪ ،‬وهذا التجاوز يحمل جينات املا�ضي وير�سم احلا�ضر وي�ست�شرف‬ ‫إبداعي‪ ،‬من دون وكان الرتاث‬ ‫امل�ستقبل بلغة عرب ّية قادرة على الت�صوير واحت�ضان في�ض الفكر ال ّ‬ ‫ال�شعبي الذي يعك�س وجدان‬ ‫ال�شعبي الأكرث ارتبا ًطا بوجدان الأفراد واجلماعات‪.‬همال للرتاث‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫املجتمعات وقيمها الدين ّية وال�سيا�س ّية والأخرق ّية والإجتماع ّية‪ ،‬وهو الأكرث تعب ًريا عن ر�ؤية الأفراد‬ ‫واجلماعات للعالقات وللأحداث وللكون واحلياة‪.‬‬ ‫تك�شف قراءة الرتاث ال�شعبي عن عناوين ومفاتيح ودالالت ورموز ت�ساعد املتلقي على‬ ‫اكت�ساب املفاهيم والأعراف التي تخ ّوله االنتماء �إىل جمموعة ب�شر ّية ي�شاركها يف �صناعة احلا�ضر‪،‬‬ ‫ال�شعبي �أنتجته تعاليم و�أفكار ومبادئ فر�ضتها قيم‬ ‫ويف الت�أ�سي�س للم�ستقبل‪ ،‬كون هذا الرتاث‬ ‫ّ‬ ‫اجلماعات‪ ،‬ف� ّأرخوا بها جتاربهم و�أ�ساليب تفكريهم و�أن�ساق نظرتهم �إىل طبيعة العالقات الإن�سان ّية‬ ‫عرب حركية كون ّية مو�سومة بال�صريورة والتحول‪.‬‬ ‫‪89‬‬


‫متايز نتاج التجارب الإن�سان ّية بفاعلية الو�سط املحفّز‪ ،‬وبتفاوت طاقات العنا�صر‪ ،‬وبتباين �إمكانيات‬ ‫الإدراك والفهم؛ ولكن مهما تنوعت قيمة املنتج وتباينت م�ستويات الإدراك والفهم بني �أبناء‬ ‫الب�شر‪ ،‬فال ّبد من وجود نقطة مركز ّية تتالقى عندها ر�ؤية الإن�سان للأ�شياء واحلياة والكون‪،‬‬ ‫وتختزل‪ ،‬يف الوقت عينه‪ ،‬تطلعات النف�س الب�شرية و�آمالها و�آالمها و�أحالمها غري املتناق�ضة يف‬ ‫طبيعة اجلوهر‪ ،‬وذلك يف املجتمعات الب�شر ّية جميعها‪.‬‬ ‫العربي غناه الرا�شح بثقافة حياة تركت �آثارها يف احل�ضارة الإن�سان ّية‪ ،‬وبخا�صة‬ ‫يظهر الرتاث ال�شعبي ّ‬ ‫االجتماعي‪/‬‬ ‫ما جاء يف �شكل حكاية‪ ،‬غري �أنّ البحث عن الأ�صول يبقى حم�صو ًرا يف منهج البحث‬ ‫ّ‬ ‫يقدم �إ�ضافة على م�ستوى القيمة الأدب ّية‪ ،‬لأنّ الوظائف الت�أويلية الفن ّية واالجتماع ّية‬ ‫التاريخي‪ ،‬وال ّ‬ ‫ّ‬ ‫والإن�سان ّية تبقى مرتبطة مبفاهيم املجموعة التي تعيد �صياغة احلكاية وفق ر�ؤية خا�صة ال تتناق�ض‬ ‫ومنزلة البطل‪ /‬الرمز الذي ت�صنعه �أحالم ال�شعوب وت�صوراتهم ور�ؤاهم الذاتية‪.‬‬ ‫خام�سا‪ :‬بيان البحث‬ ‫ً‬

‫تهدف العوملة �إىل بناء جمتمع على مقيا�س واحد ي�س ّهل قياده من خالل ال�شركات االقت�صاد ّية‬ ‫املوجهة التي ترغب يف تذويب اخل�صو�صيات القوم ّية واالنتقال من‬ ‫و�أحادية اللغة‪ ،‬والثقافة ّ‬ ‫الكلي‪ ،‬وربمّ ا كان من نتائجها دعوة اللغويني العرب املعا�صرين‬ ‫اجلزئي �إىل ّ‬ ‫اخلا�ص �إىل العام‪ ،‬ومن ّ‬ ‫�إىل ت�سهيل النحو بتبني ال�سماع وب�إلغاء م�سائل النحو اخلا�صة‪ ،‬ورف�ض القوانني اجلزئ ّية‪.‬‬ ‫تظهر العوملة يف طروحاتها دعوة �إىل اقت�صاد عاملي واحد‪ ،‬و �إعالم م َّوحد‪ ،‬و علوم وثقافة م�شرتكة‬ ‫‪ ،...‬و لكن املجتمعات الب�شرية‪ ،‬مذ ّ‬ ‫ت�شكلت‪ ،‬قام نظام الإنتاج فيها على م�ؤ�س�س عمل وعاملني‪،‬‬ ‫وهذه احلقيقة تنبئ ب�أنّ نظام امل�ؤ�س�سات املعوملة �سوف يق ّل�ص فاعلية التجربة الذاتية‪ ،‬فترتاجع عن‬ ‫الفعلي‪ ،‬لأن ّ‬ ‫التحكم احلقيقي يف م�صري احلركة العاملية اجلديدة حكر‬ ‫اخلو�ض يف ميادين الأداء ّ‬ ‫على �أ�شخا�ص يقب�ضون على العامل اقت�صاد ًّيا و �إعالم ًّيا‪ ،‬ومن ّثم ثقاف ًّيا وفكر ًّيا‪� .‬إنهم �أ�سياد العامل‬ ‫من دون منازع‪ ،‬فحيث توجد القوة املادية توجد ال�سلطة‪ .‬و ر�أ�س املال هو احلاكم الرئي�س يف واقعنا‬ ‫املعا�صر‪.‬‬ ‫تنبئ العوملة‪� ،‬أي�ضً ا‪ ،‬بتحكم ق ّلة من امل�ستثمرين يف احتياجات �أبناء العامل‪ .‬وبانتقال ال�سلطة �إليهم‬ ‫�سوف ي�ستخدمون قدراتهم لتحويل العامل �إىل �أ�شكال اجتماعية‪ ،‬و �سيا�سية و فكرية‪ ،‬وثقافية‬ ‫تتوافق مع تطلعاتهم و مطامعهم‪ ،‬ومعها �سوف تتوقّف املجتمعات يف �سكونية حركية تلهث وراء‬ ‫لقمة العي�ش‪ ،‬وتختزل طموحاتها يف املحافظة على املكان‪ ،‬الذي �صار احل�صول عليه هدفًا وجود ًّيا‪،‬‬ ‫و بانعدام احلركة الهادفة تت َق ّزم فاعلية �أبناء املجتمعات يف ا�ستقرار �سكوين �سلبي قاتل‪ ،‬وتنتحر‬ ‫رغبات الأفراد يف ال�سعي �إىل التح�سني و التطوير وتنقطع �صلتهم باملا�ضي‪.‬‬ ‫‪90‬‬


‫فكـــــــــر‬

‫�إنّ ال�شعور باخلوف‪ ،‬من فقدان املكان‪ ،‬يلغي فاعلية الزمن‪ ،‬و ينح�صر وجود الإن�سان يف مكان واحد‪،‬‬ ‫�سلبي مق ّيد بقبول �سطحي ي�ضمن له ال�سالمة‬ ‫ويف زمن متوقّف عند حلظة قلق قاتلة حت ِّوله �إىل ٍّ‬ ‫متلق ّ‬ ‫الآنية‪ .‬وبالقبول املف ّرغ من امل�ضمون يتخ ّلى عن مق ّومات وجوده‪ ،‬وعن هويته الذاتية‪ ،‬وي�صري رق ًما‬ ‫ت�صخرت معها‬ ‫�سقط من ح�سابات ر�ؤو�س الأموال بعد �أن �أُهمِ ل وجوده حتت تراكمات مادية ّ‬ ‫الأحا�سي�س وامل�شاعر‪ ،‬و�أ َّدت �إىل اغتيال الفكر‪ ،‬وابادة �صرح الثقافة واغتيال فاعل ّية الرتاث‪.‬‬ ‫والفكري‪ ،‬واغتيال العقل‬ ‫حتاول العوملة حما�صرة الثقافة وقن�ص تراث الأمم‪ ،‬و�إلغاء الفعل الثقا ّيف‬ ‫ّ‬ ‫إبداع ّي‪ ،‬ومن ّثم فر�ض �أحادية ثقاف ّية تلغي اخل�صو�ص ّيات الثقاف ّية القوم ّية‪ .‬والظاهرة‬ ‫احلداثي ال ّ‬ ‫ّ‬ ‫الأكرث خطورة هي ال�سيطرة الثقافية‪ ،‬وفر�ض الهيمنة غري املرئية على العقل الإن�ساين‪ .‬واملجتمعات‬ ‫المتوت‪ ،‬و ال تتال�شى �إال بخ�سارة قدرات �أبنائها الفكرية؛ لأن تفريغ الأمة من مق ّومات وجودها‬ ‫الثقايف‪ ،‬يفقدها مربر وجودها و ي�ؤدي �إىل خ�سارة هويتها الذاتية؛ لتتح ّول �إىل جمهول تابع يف‬ ‫املعادلة اجلديدة‪.‬‬ ‫�ضمن هذه املعادلة ال�صعبة تبقى الثقافة‪ ،‬وحدها‪ ،‬قادرة على الوقوف يف وجه خمططات العوملة‬ ‫ال�سلبية‪ ،‬فالتح�صني الثقايف الذاتي ّ‬ ‫لكل �أمة �ضرورة حتمية ي�ضمن بقاءها بف�ضل قدراتها الإبداعية‪.‬‬ ‫و التح�صني الثقايف مرتبط بقوة الفاعلية اللغوية للأمة‪ ،‬والفاعلية ال تنف�صل عن الأ�صالة و القدرة‬ ‫تتجدد بحداثة يدعو بع�ضهم �إىل نفيها وهم يجهلون تاريخ ميالدها‬ ‫على التطور واالرتقاء‪ ،‬والأ�صالة ّ‬ ‫الفعلي‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫تراث ولي�ست �إرثًا‪ ،‬فاملوروث معر�ض لل�ضمور والتال�شي والزوال‪� ،‬أ ّما الرتاث‬ ‫�إنّ الثقافة العرب ّية ٌ‬ ‫العربي فهو نب�ض الأ�صالة املا�ضية يف حا�ضر يعد باخلروج على االنبطاح والتبع ّية‪ ،‬واخلروج م�شروط‬ ‫ّ‬ ‫العربي من داخل الرتاث و�إحياء عنا�صره احل ّية‬ ‫الفكر‬ ‫جتديد‬ ‫إىل‬ ‫�‬ ‫ي�سعون‬ ‫عرب‬ ‫مثقفني‬ ‫بن�شاط‬ ‫ّ‬ ‫وتلقيحها بفكر وافد فيكون تفاعل ينتج تراثًا جدي ًدا بلغة عرب ّية قادرة على تدوين العلوم واملعارف‬ ‫والت� ّصورات والر�ؤى والتطلعات‪.‬‬

‫‪91‬‬


‫‪www.monthlymagazine.com‬‬

‫الدولية للمعلومات �ش‪.‬م‪.‬ل‬

‫بناية الربج‪ ،‬الطابق الرابع‪� ،‬ساحة ال�شهداء الو�سط التجاري‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‬ ‫�صندوق بريد‪ ،11-4353 :‬بريوت ‪ -‬لبنان‪.‬‬ ‫هاتف‪)961-1( 983008 /9 :‬‬ ‫فاك�س‪)961-1( 980630 :‬‬ ‫الربيد الإلكرتوين‪infointl@information-international.com :‬‬ ‫املوقع الإلكرتوين‪www.information-international.com :‬‬


‫فكـــــــــر‬

‫ِ‬ ‫احل َرف يف لبنان ‪� ...‬إىل �أين؟‬

‫مي حبيقة ‪ -‬باحثة وكاتبة‬

‫ميثل الفن يف �أي بلد من البلدان �أرقى عناوين جمده يف عيون الأمم الأخرى‪ ،‬و�أحد �أنبل �أدوات‬ ‫التوا�صل التي ميكن �أن ت�سعى �إليها ال�شعوب املتح�ضرة‪ ،‬فلذلك �سوف نركز على جمالية ا ِ‬ ‫حلرفة‬ ‫وفنونها التي متثل تراث البلد وتبقى له الذكرى‪.‬‬

‫‪« .I‬ال�صناعات ِ‬ ‫واحل َرف» ‪ -‬واقع‬

‫على امتداد احل�ضارات‪ ،‬اختار الإن�سان لت�أمني معا�شه ومعا�ش عياله‪� ،‬أعمال الفكر وتطويع اليد‬ ‫لت�أمني حاجاته الأولية‪ .‬ف�سعى لل�صيد �أوال‪ ،‬وللزراعة ثانيا‪ ،‬ولل�صناعة ثالثا فعرف «ال�صناعات‬ ‫واحلرف» ثم �سعى للتجارة بهدف تبادل ال�سلع واملنافع بعد ان تو�سعت املجتمعات وا�ستقرت يف‬ ‫احلوا�ضر واملدن‪.‬‬ ‫�أثَّر اخرتاع الآلة على القطاع احلريف‪ ،‬فراوح بني جمود وتقهقر �إىل �أن تنبهت احلكومات وفئات‬ ‫املجتمع املدين �إىل �أهمية احلرفة كهوية وتراث‪ .‬ف ُو�ضعت اخلطط الإمنائية واال�سرتاتيجية للمحافظة‬ ‫على احلرفيني املبدعني ولتطوير هذا القطاع تربويا‪ ،‬ف�أن�ش�أت املدار�س واملعاهد لإ�ستمرارية عملية‬ ‫التدريب والتعليم‪ ،‬وا�ستفاد العاملون فيه من التقنيات اجلديدة وطوعوها خلدمة عملهم اليدوي‬ ‫وتطويره‪ ،‬فعرف ا�ستمرارية تنوعت مو�ضوعاتها و�إختلفت �آليتها‪ ،‬مما �ساعد باملحافظة على �أ�صالة‬ ‫هذا الرتاث الإن�ساين‪.‬‬ ‫‪« -‬حرف احلا�رض‪� ...‬صنائع املا�ضي» ملحة عن تاريخ وتطور القطاع احلريف‪:‬‬

‫يف الأقطار العربية‪:‬‬ ‫�شجع الإ�سالم‪ ،‬منذ بدايته‪ ،‬على العمل وال�سعي والك�سب‪ ،‬يف القر�آن الكرمي‪ ،1‬ويف الأحاديث‬ ‫النبوية‪� .2‬إذ رفع من �ش�أن العمل واحرتام احلرف اليدوية و�أقر لل�صناع من �أهل الكتاب حرفهم يف‬ ‫خمتلف الأقطار املفتوحة‪ .‬فقد مار�س العرب يف احلوا�ضر الإ�سالمية �شتى ال�صناعات و�صنفوها‬ ‫‪93‬‬


‫و�أقاموا التجمعات للقائمني بها و�أن�ش�أوا الأ�سواق الدائمة واملتخ�ص�صة عند تخطيطهم للمدن‪،‬‬ ‫تنوعت �أ�شكال هذه الأ�سواق ومواقعها فبع�ضها «يتجمع يف جزء من املدينة �أو خارجها»‪ ،3‬والبع�ض‬ ‫‪5‬‬ ‫الآخر كما يف �سوريا وم�صر «امتدت على طول ال�شوارع من اجلانبني»‪« ،4‬وعلى كل �صف منها»‬ ‫انت�شرت ال�صناعات يف الأقطار العربية والإ�سالمية كافة‪ ،‬وازدهرت فيه الكثري من ال�صنائع‬ ‫ك�صناعة الفخار والنحا�س واحلديد واحلرير واملجوهرات وال�سجاد واحلياكة والتطريز وال�صابون‬ ‫واخل�شب وغريها‪...‬‬ ‫بالإ�ضافة �إىل امل�ؤ�س�سات احلرفية العائلية كان هناك دور كبري للدولة يف �إن�شاء امل�صانع (خا�صة‬ ‫يف الع�صر الأموي والعبا�سي)‪ ،‬اذ «�أن�شئت معامل ن�سيج �سميت «دور الطراز» يف جميع واليات‬ ‫‪6‬‬ ‫امل�سلمني‪ ،‬تنتج ثياب فاخرة حمالة ب�أ�شرطة للحكام‪ ...‬وذاعت �شهرة دور الطراز امل�صرية‪».‬‬ ‫كما ن�ش�أت اال�صناف‪ ،‬وهي تكتل حريف من نوع النقابات‪ 7‬باملفهوم احلديث‪ ،‬كانت موجودة منذ‬ ‫القرن الثاين هجري وتهتم ب�ضبط الأ�سعار والإتقان واجلودة وعدم الغ�ش‪...‬‬ ‫يف �أوروبا و�أمريكا‪:‬‬ ‫«عرف قطاع احلرف‪ ،‬عامليا‪ ،‬تطوراً تنوعت مراحله يف البلدان كافة‪:‬‬ ‫ففي البلدان النامية‪ ،‬يف �أوروبا و�أمريكا‪� ،‬ساعد وعي املجتمع املدين والقطاع اخلا�ص والعام‪ ،‬يف‬ ‫القرن التا�سع ع�شر وبداية القرن الع�شرين على ا�ستمرارية القطاع احلريف وازدهاره وتطوره �إىل‬ ‫جانب القطاع ال�صناعي الآيل‪ .‬فقاموا ب�ضخ اال�ستثمارات وت�أمني البنى التحتية الالزمة‪ ،‬من‬ ‫معاهد تعليمية وتدريبية‪ ،‬وت�شجيع اال�ستفادة من االبتكارات احلديثة يف عملية الإنتاج بهدف‬ ‫الإتقان واالبتكار والإبداع‪.‬‬ ‫ففي قطاع اخلياطة والتطريز‪ ،‬وبعد �أن �أ�صبحت املعامل تنتج «املالب�س اجلاهزة «‪»Prêt a porter‬‬ ‫حتولت املهنة �إىل ح ّيز �آخر‪ ،‬فانت�شرت بيوتات الأزياء «‪ »Haute Couture‬م�ستخدمة اليد العاملة‬ ‫املاهرة‪ ،‬ومتعاونة مع الفنانني وامل�صممني وامل�سوقني‪ ،‬وافتتحت معاهد فنية للتدريب والدرا�سة‬ ‫و�أ�صدرت املجالت املتخ�ص�صة وتناقلت ن�شاطاتها و�سائل الإعالم املنت�شرة يف العامل‪.‬‬ ‫كما حر�صت العديد من بلدان �آ�سيا و�أفريقيا و�أمريكا الالتينية‪ ،‬مع بداية الت�صنيع الآيل فيها‪ ،‬على‬ ‫ا�ستمرارية القطاع احلريف ب�شكل تقليدي �أوال لينتقل يف منت�صف القرن الع�شرين �إىل ا�ستخدام‬ ‫التقنيات احلديثة يف تطوير حرفها واملحافظة عليها من االنقرا�ض ف�أمنت البنى التحتية الالزمة من‬ ‫مدار�س ومعاهد و�شجعت احلرفيني وامل�ستثمرين مما رفع م�ساهمة القطاع احلريف يف الدخل القومي‪،‬‬ ‫‪8‬‬ ‫كما ح�صل يف العديد من البلدان العربية والإ�سالمية‪».‬‬ ‫‪94‬‬


‫فكـــــــــر‬

‫يف لبنان‪:‬‬ ‫مل يختلف الو�ضع ال�صناعي يف لبنان‪ ،‬حتى �أوائل القرن الع�شرين‪ ،‬عن بقية الدول العربية واال�سالمية‪،‬‬ ‫�إذ ازدهرت فيه الكثري من ال�صنائع كالفخار والنحا�س واحلديد واحلرير واملجوهرات وال�سجاد‬ ‫واحلياكة والتطريز وال�صابون واخل�شب وغريها‪ ...‬فنجد العديد من العائالت التي حتمل �أ�سماء‬ ‫حِ رف �أ�سالفها دون �أن متار�سها فعال الآن (الفاخوري‪ ،‬احلداد‪ ،‬اخلياط‪ ،‬ال�سنكري‪ ،‬النجار وغريهم)‬ ‫يذكر امل�ؤرخون �أن ال�شواطئ اللبنانية احتوت على �آالف االنوال حلياكة احلرير يف املعامل التي‬ ‫اندثرت بكاملها يف مطلع القرن الع�شرين‪« ،‬بعد التطور الآيل مل�صانع احلرير يف مدينة ليون الفرن�سية‬ ‫وت�صدير االقم�شة �إىل لبنان»‪ ،9‬ما زالت املعامل املهجورة قائمة حتى اليوم‪ .‬ان�ش�أ العثمانيون مدر�سة‬ ‫ال�صنائع‪ ،‬التي �أخذت املنطقة ا�سمها يف بريوت وهدفت يف منهجها التعليمي �إىل تكوين الكادرات‬ ‫الالزمة لل�صناعة مبعناها احلديث ولي�س لل�صناعة احلرفية‪.‬‬ ‫والتقليدية يف لبنان بني الأم�س واليوم‬ ‫الرتاثية‬ ‫ ال�صناعات واحلرف‬‫ّ‬ ‫ّ‬

‫بعد اال�ستقالل بد�أت يف لبنان حركة متوا�ضعة للت�صنيع‪ ،‬كما �أغرقت الأ�سواق بال�سلع امل�ستوردة‬ ‫امل�صنعة �آليا‪ ،‬على غرار معظم البلدان يف العامل وانعك�س الأمر �سلبا على القطاع احلريف فانت�شرت‬ ‫البطالة وانتقل القرويون �إىل املدن طمعا يف حت�صيل الرزق‪� ،‬سواء يف العمل يف املعامل �أو يف وظائف‬ ‫�أخرى‪ .‬مما حدا بالهيئات املدنية للتحرك بهدف املحافظة على القطاع احلريف‪ ،‬ف�أن�ش�أت اجلمعيات‬ ‫لإعادة �إحيائه‪ ،‬وقامت مطالبات للدولة بدعم احلرف وحمايتها‪ .‬لكن احلرب الأهلية التي ُمني بها‬ ‫لبنان �أثرت �سلبا على جممل الن�شاط االقت�صادي ومنها احلريف‪.‬‬ ‫مع انح�سار احلرب وعودة انطالق العجلة االقت�صادية عاد القطاع احلريف ك�سائر القطاعات‬ ‫لالنتعا�ش‪ ،‬حماوال احيانا اال�ستفادة من التقنيات احلديثة‪ ،‬فازدهرت ال�صناعات احلرفية املرتبطة‬ ‫باملواد الغذائية واحللويات واملالب�س التقليدية واخل�شب والنحا�س وغريها‪ .‬فقامت بع�ض م�شاغل‬ ‫االزياء التقليدية بتطوير ت�صاميمها وجمارات احلداثة و�إر�ضاء تطلعات ال�شباب‪ .‬كما واكبها يف هذا‬ ‫التطور الزجاج املنفوخ والف�سيف�ساء وال�سجاد‪.‬‬ ‫يحاول لبنان اليوم‪ ،‬تعوي�ض الت�أخرالذي طال القطاع احلريف ب�سبب االزمات التي توالت على‬ ‫الوطن خالل العقود املا�ضية‪ ،‬ومواكبة البلدان املحيطة فيما يخت�ص بتطوير القطاع احلريف‪ .‬نالحظ‬ ‫يف الفرتة الأخرية زيادة عدد الدرا�سات واالبحاث والندوات املتعلقة بهذا املو�ضوع‪� ،‬إىل جانب‬ ‫ان�شاء نقابة احلرفيني الفنيني اللبنانيني بعد ان كان هناك تعدد يف املرجعيات الوزارية املهتمة بهذا‬ ‫املو�ضوع ابتدءا من وزارة ال�صناعة �إىل وزارة التجارة �إىل وزارة ال�ش�ؤون االجتماعية �إىل وزارة‬ ‫ال�سياحة‪ .‬كما �أن وزارة ال�ش�ؤون االجتماعية �أفردت �إدارة خا�صة للقطاع احلريف بهدف ت�شجيع‬ ‫‪95‬‬


‫اجلمعيات االهلية وم�ساعدتها يف تطويره وازدهاره وخلق فر�ص عمل جديدة ورفع الدخل العائلي‪.‬‬ ‫�سوف �أ�ستند يف بحثي هذا �إىل بع�ض الدرا�سات التي متت يف لبنان خالل ال�سنوات الأخرية‪.‬‬ ‫�أُ�شري �إىل �أن وزارة ال�ش�ؤون االجتماعية تعدد احلرف كالتايل‪ :‬نحا�س‪ ،‬ف�ضة‪ ،‬معادن �أخرى‪ ،‬ق�صب‬ ‫او ق�ش‪ ،‬خ�شب او موزاييك‪ ،‬فخار‪ ،‬خزف او �سرياميك‪ ،‬زجاج‪ ،‬ن�سيج وخياطة‪ ،‬جلد‪ ،‬مواد معمارية‬ ‫واحجار‪ ،‬مواد غذائية‪� ،‬صابون بلدي‪.‬‬ ‫ يقدر عدد احلرفيني العاملني يف امل�شاغل التقليدية يف لبنان ما بني ‪ 1200‬و‪( 1300‬ح�سب‬ ‫درا�سة قامت بها امل�ؤ�س�سة الوطنية لال�ستخدام‪ ،‬عام ‪)1996‬‬ ‫ وقدر العدد بـ ‪ 8792‬بني منتج وبائع لعمل حريف (درا�سة لوزارة ال�ش�ؤون االجتماعية‪ ،‬عام ‪)1998‬‬ ‫ ان قيمة التوظيف املايل للم�ؤ�س�سات التجارية تبلغ ‪ 100‬الف دوالر يف �أعلى م�ستوياتها و ‪15‬‬ ‫الف دوالر يف �أدناها (درا�سة «احلرفيون يف لبنان»‪ ،‬عام ‪ ،2003‬على عينة من ‪ 300‬ا�ستمارة يف‬ ‫منطقتي طرابل�س و�صيدا)‬ ‫ العمل بغالبيته عائلي‪ ،‬دون اال�ستغناء عن توظيف بع�ض العمال الذين يرتاوح عددهم بني ‪10‬‬ ‫عمال و‪ 30‬عامل كحد �أق�صى‪( .‬نف�س الدرا�سة‪« ،‬احلرفيون يف لبنان»)‬ ‫ اعتماد احلرفيني على املواد االولية امل�ستوردة (كانت �سابقا حملية) يرفع كلفة االنتاج وي�ؤثر‬ ‫على الت�سويق واملناف�سة لل�سلع امل�ستوردة‪( .‬نف�س الدرا�سة‪« ،‬احلرفيون يف لبنان»)‬ ‫ املحرتف مت�صل باملنزل يف اغلب االحيان‪ ،‬ينف�صل عنه �إذا تو�سعت االعمال‪ .‬لكنه يبقى يف‬ ‫حميط ال�سكن‪( .‬نف�س الدرا�سة‪« ،‬احلرفيون يف لبنان»)‬ ‫ الت�سويق غالبيته داخلي؛ حدوده املدينة �أو القرية املقيم فيها احلريف‪ .‬يتعدى هذه احلدود �إذا‬ ‫ا�ستطاع احلريف التعريف عن �أعماله ب�شكل �صحيح‪� .‬أما الت�صدير فيقت�صر على املواد الغذائية‬ ‫واحللويات وامللبو�سات‪( .‬نف�س الدرا�سة‪« ،‬احلرفيون يف لبنان»)‬ ‫�أبرزت الدرا�سة ال�شوائب التي تعيق تطور العمل احلِريف يف لبنان‪:‬‬ ‫ ارتفاع الكلفة وبالتايل ارتفاع الأ�سعار‬ ‫ غياب االبتكار وعدم اال�ستعانة بامل�صممني‪.‬‬ ‫ اعتماد التقليد �سواء للغري او للقدمي من احلرف بحجة انتاج مواد تراثية‪.‬‬ ‫ بقاء العمل احلريف يف النطاق الرعائي والفولكلوري‪.‬‬ ‫ غياب اجلودة وانعدام روح املناف�سة‬ ‫‪96‬‬


‫فكـــــــــر‬

‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬

‫عدم مراعاة حاجات ال�سوق واعتماد القواعد العلمية يف الت�سويق‪.‬‬ ‫�ض�آلة ر�أ�س املال املوظف وعدم انفتاح احلريف على الدولة وعدم �إهتمام الدولة به‪.‬‬ ‫عدم وجود اخت�صا�ص مناطقي (كما كان احلال �سابقا) مرتبط باملواد االولية املتوافرة‪.‬‬ ‫عدم وجود �صاالت عر�ض خا�صة‪ ،‬وعدم تعميم فكرة «بيت املحرتف» يف املدن والقرى واملراكز‬ ‫ال�سياحية يف العوا�صم الكربى‪.‬‬ ‫‪« .II‬ال�صناعات واحلرف» حلول‬

‫�إن واقع القطاع احلريف يف لبنان ودوره يف الدخل القومي ال يزال متوا�ضعا رغم �أن �إح�صاءات‬ ‫وزارة ال�ش�ؤون االجتماعية تظهر تطورا بعد احلرب االهلية‪ ،‬لكنه ال يزال يف حدوده الدنيا وال ي�صل‬ ‫اىل ارقام نراها يف بع�ض البلدان العربية واال�سالمية املحيطة‪ .‬ففي بحث ورد يف ندوة الدوحة عن»‬ ‫االبتكار واالبداع يف احلرف اليدوية» �سنة ‪ 2010‬جند‪ :‬املغرب‪ ،%19‬تون�س ‪ ،%3,8‬تركيا ‪،%10‬‬ ‫اجلزائر ‪ ،%20‬ال�سعودية ‪ ،%10‬ايران ‪ ،%30‬لبنان ‪.%3‬‬ ‫�إن �إعادة �إحياء القطاع احلريف يف لبنان يتطلب اهتماماً خا�صاً من الدولة ومن املجتمع ومن‬ ‫احلرفيني‪ .‬اذ ي�ؤكد ابن خلدون «ان الدولة هي امل�ستهلك االول لل�سلع‪ ...‬وهنا �سر �آخر وهو �أن‬ ‫ال�صنائع و�إجادتها امنا تطلبها الدولة‪ ،‬فهي تنفق �سوقها وتوجه الطلبات اليها»‪ 10‬وعلى الدولة و�ضع‬ ‫اخلطط للتنمية احلرفية مبا يتالءم مع ظروف لبنان وامكانياته‪ .‬كما على املجتمع �أن يعي �أهمية‬ ‫ا�ستهالك ال�صناعة املحلية احلرفية‪ ،‬باال�ضافة �إىل قيمتها ك�إرث ثقايف‪ ،‬لأن ت�شجيعها يرتد ب�شكل‬ ‫غري مبا�شر على الدخل القومي‪.‬‬ ‫ولكن الأهم‪ ،‬هو دور احلريف نف�سه و�إتقانه حلرفته وقدرته على التجديد والتطوير واالبتكار واملحافظة‬ ‫على الرتاث والهوية وانتاج �سلع مبتكرة وحديثة يحتاجها االن�سان يف حياته اليومية‪ ،‬فدميومة‬ ‫العمل احلريف تت�صل بحاجة امل�ستهلك وذوقه وقدرته ال�شرائية‪.‬‬ ‫‪ -‬ا�سرتاتيجية املعاجلة‬

‫من امل�سلم �أن التغيري �سنة احلياة‪ ،‬وهو عامل رئي�س للتقدم والتطور وتختلف ردة الفعل على منطق‬ ‫التغيري بني ان يح�صل يف �سياق طبيعي من التطور العلمي واالجتماعي واالقت�صادي‪ ،‬وبني ان‬ ‫يفر�ض وحترق املراحل وتقهر النف�س الب�شرية يف �سبيل الو�صول �إىل احلداثة‪ ،‬املهم والأهم هو‬ ‫التما�شي مع املتطلبات احلديثة دون نكران اخل�صائ�ص الذاتية‪.‬‬ ‫‪97‬‬


‫االبتكار يف جمال احلرفة‪:‬‬ ‫�إن م�صطلح احلرف‪ ،‬امل�ستعمل منذ خم�سينات القرن الع�شرين يف لبنان‪ ،‬يعني «ال�صناعة‬ ‫التقليدية»‪ ،11‬املعروفة �سابقاً‪ ،‬والتي ازدهرت يف املدن والقرى‪ .‬من املهم جداً احلفاظ على هذه‬ ‫احلرف اليدوية لكي نحميها من الإنقرا�ض لأنها ترمز اىل جوهر ثقافتنا واقت�صادنا وتراثنا‪ ،‬لهذه‬ ‫احلرف التقليدية اللبنانية ميزتان متكاملتان على تعار�ضهما‪ :‬االوىل‪ ،‬التقنيات الفريدة القدمية التي‬ ‫تعود �إىل الع�صر الفينيقي والثانية النظرة اللبنانية املعا�صرة يف الت�صميم‪ّ ،‬مما يجعل هذه املنتوجات‬ ‫جديدة ومبدعة‪ ،‬فاملحافظة على «الهوية والرتاث» ال تكون بتكرار انتاجهما على ال�صورة ذاتها‬ ‫وامنا التجديد فيهما من روح الرتاث‪ ،‬خللق مناذج جديدة ووظائف متجددة لل�سلعة تتما�شى مع‬ ‫متطلبات الع�صر لذا من ال�ضروري‪:‬‬ ‫ �إدخال الو�سائل االعالنية اجلديدة من اجل انت�شار احلرفة‪.‬‬ ‫ ا�ستعمال االنرتنت لتو�صيل املفاهيم اجلديدة على احلرفة القدمية للتما�شى مع الع�صر‪.‬‬ ‫ اال�ستفادة من الو�سائل احلديثة لن�شر تقنيات جديدة ت�ساعد على ا�ستمرارية احلرفة‪.‬‬ ‫ خلق نف�س جديد نابع من احلا�ضر‪ ،‬معطر باملا�ضي‪ ،‬مبتكر ل�صور جديدة جتمع بني جماالت فنية‬ ‫خمتلفة‪:‬‬ ‫ ت�شجيع ا�ستخدام احلرف يف جماالت جديدة تتطلب بع�ض االعمال احلرفية‪.‬‬ ‫ ا�ستخدام االرث الثقايف مبختلف م�ستوياته على احلرف‪ ،‬ال�سيما يف اخلط والتخطيط‪.‬‬ ‫ا�ستقطب مو�ضوع احلرف يف لبنان �إهتمام �أكرث من جهة وهيئة وم�ؤ�س�سة نظراً للدور الذي يلعبه‬ ‫العمل احلريف يف �صون الرتاث اليدوي وتطويره‪ ،‬ولكن كل هذا ال يكفي دون دور الدول يف‬ ‫امل�شاركة الفعلية للتوعية يف هذا املجال لذا عليها‪:‬‬ ‫ �إن�شاء معاهد لتعليم احلرف وكيفية ت�صميمها الن العمال املهرة ا�صبحوا عملة نادرة‪.‬‬ ‫ �إدخال االبتكار يف املجال احلريف الرتاثي �ضمن املناهج التعليمية على امل�ستويني الثانوي واجلامعي‪.‬‬ ‫اقامة القرى احلرفية‪:‬‬ ‫ت�شجيع �إقامة قرى حرفية متخ�ص�صة ب�صنف معيني‪ ،‬ت�شتهر به هذه القرى وتتوافر فيها مواده‬ ‫االولية‪ ،‬في�صبح مركز ا�ستقطاب �سياحي داخلي وخارجي‪ .‬كما حدث يف‪:‬‬ ‫بعدران يف جبل لبنان‪� ،‬إذ فيها حمرتف حلياكة احلرير‪ ،‬وبالتعاون مع امل�ؤ�س�سات الدولية‪� ،‬أقيمت‬ ‫دورات تدريبية وفتحت بع�ض املنازل القروية �أبوابها ال�ستقبال ال�سواح وتعريفهم على حرفة حياكة‬ ‫احلرير �إىل جانب مت�ضيتهم �أوقات ممتعة وم�شاركتهم االهايل منط حياتهم‪.‬‬ ‫‪98‬‬


‫فكـــــــــر‬

‫رحم ب�ساتني �صور ‪,‬التي تندمج مع الرتاب وحتاكي الأجداد‬ ‫«ع�شتارت‪ ،‬القرية البيئية احلرفية» يف َ‬ ‫وهي م�شروع هادف‪ ،‬يطال املجتمع ب�أكمله‪ ،‬ن�سا ًء‪ ،‬رجا ًال و�أ�صحاب احلاجات اخلا�صة وهي نقطة‬ ‫تفاعل �إجتماعي بني روادها كما انها ا�ستطاعة الو�صول �إىل بناء �إرث وتاريخ م�شرتك عم ًال‬ ‫بالتنمية امل�ستدامة التي هي هدف من �أهداف رابطة املدن الكنعانية‪ ،‬الفينيقية والبونية يف البحر‬ ‫املتو�سط‪.‬عم ًال بالتنمية امل�ستدامة التي هي من �أهداف الرابطة‪ ،‬والتي ترتكز على ثوابت ثالث‪:‬‬ ‫م�ستوحى من العنا�صر‬ ‫العن�صر الإجتماعي‪ ،‬العن�صر البيئي والعن�صر الإقت�صادي‪ .‬هو ت�صميم فني‬ ‫ً‬ ‫الزخرفية واحلرفية الفينيقية يحمل �شعاراً يت�أرجح بني املح ّلي والأخ�ضر‪.‬‬ ‫وبذلك فقد �أتى فيه‪:‬‬ ‫ احلرفيات املحلية من زجاج منفوخ‪ ،‬اخلزفيات و الفخاريات‬ ‫ ال�صباغ والر�سم على الأقم�شة و�أهمه ال�صباغ الأرجواين الذي �إلت�صق بالتعريف عن‬ ‫الفينيقيني‬ ‫ النحت باخل�شبيات‬ ‫ احللى والنحا�سيات وهو عنوان للتعبري عن الرثاء‬ ‫ الت�صنيع الزراعي الغذائي من جمففات الليمون والأبو �صفري‪ ،‬وتقطري ماء الزهر‪...‬‬ ‫ احلرفيات الزراعية ‪:‬‬ ‫ من �ألياف �شجر املوز للأدوات املنزلية وتغطية اجلدران‬ ‫ ومن الق�صب للقواطع الداخلية ولألواح العزل والأدوات املنزلية �أي�ضاً‪...‬‬ ‫(ن�أمل �أن يح�صل هذا يف بيت �شباب ‪� -‬صناعة الأجرا�س‪ ،‬ويف جزين ‪� -‬صناعة ال�سكاكني)‪.‬‬ ‫الت�سويق والت�صميم واحلرفة‪ :‬ن�أمل ان ت�ؤلف هذه العناوين وحدة ال ت ٌنق�صم‬ ‫منذ �أن عرف االن�سان «ال�صناعات واحلرف» �سعى للتجارة بهدف تبادل ال�سلع من �أجل ا�ستمرارية‬ ‫مهنته‬ ‫لذا يجب �إيجاد توازن بني ال�سعر واجلودة ودرا�سة الكلفة وطرق التمويل واالعتماد على خرباء‬ ‫الت�صميم والت�سويق بحيث تت�ألف منها جميعاً وحدة ال تتجز�أ مل�ساعدة احلريف على التقدم‬ ‫والتطوير‪.‬‬ ‫كما ميكن الإعتماد على و�سائل بيع جديدة كالتوا�صل الإلكرتوين بني احلريف وامل�ستهلك‪...‬‬ ‫‪99‬‬


‫الهوام�ش‬ ‫‪1‬‬

‫‪ 2‬‬ ‫‪ 3‬‬ ‫‪ 4‬‬ ‫ ‬ ‫‪ 6‬‬ ‫ ‪7‬‬ ‫‪ 8‬‬ ‫‪5‬‬

‫ ‬

‫‪9‬‬

‫‪1992‬م‬ ‫احل�سن ابن عبداهلل‪� ،‬أبي هالل الع�سكري‪« ،‬احلث على طلب العلم واالجتهاد»‪ ،‬حتقيق د‪ .‬مروان قباين‪ ،‬املكتب‬ ‫الإ�سالمي‪ ،‬الطبعة الأوىل‪ ،‬بريوت ‪ -‬لبنان ‪1406‬هـ ‪1986 -‬م‬ ‫خريي عزيزي‪« ،‬ق�ضايا التنمية والتحديث يف الوطن العربي»‪ ،‬دار الآفاق اجلديدة‪ ،‬الطبعة الأوىل‪ ،‬بريوت‪-‬‬ ‫لبنان‪1403 ،‬هـ ‪1983 -‬م‬ ‫رفاعة رفعة الطهطاوي‪« ،‬ال�سيا�سة والوطنية والرتبية»‪ ،‬درا�سة وحتقيق حممد عمارة‪ ،‬امل�ؤ�س�سة العربية للدرا�سات‬ ‫والن�شر‪ ،‬الطبعة الأوىل‪ ،‬القاهرة‪ -‬م�صر ‪1973‬‬ ‫�سمري �صايغ‪« ،‬الفن الإ�سالمي»‪ ،‬دار املعرفة‪ ،‬الطبعة الأوىل‪ ،‬بريوت ‪ -‬لبنان‪1408 ،‬هـ ‪1988 -‬م‬ ‫حممد ف�ؤاد عبد الباقي‪« ،‬املعجم املفهر�س لألفاظ القر�آن الكرمي»‪ ،‬دار �إحياء الرتاث العربي‪ ،‬بريوت ‪ -‬لبنان‬ ‫د‪ .‬هاين �إبراهيم جابر‪« ،‬الفنون ال�شعبية بني الواقع وامل�ستقبل»‪ ،‬الهيئة امل�صرية العامة للكتاب‪ ،‬م�صر‬ ‫د‪ .‬فائقة �سباعي عوي�ضة‪« ،‬الو�سائل الكفيلة بزيادة ن�سبة وعي املجتمع ب�أهمية احلرفيني و�أهمية الرتاث»‪ ،‬امل�ؤمتر‬ ‫الدويل حول االبتكار والإبداع يف الفنون واحلرف اليدوية‪ .‬م�سقط ‪� -‬سلطنة عمان‪� ،‬شباط ‪2011‬‬ ‫عبد الرحمن ح�سن حنبكة امليداين‪« ،‬احل�ضارة الإ�سالمية»‪ ،‬دار القلم‪ ،‬دم�شق ‪� -‬سوريا‬

‫املراجع‬

‫‪ -‬‬

‫ ‪-‬‬ ‫ ‬‫‪ -‬‬

‫‪100‬‬

‫‪1412 1‬هـ ‪-‬‬

‫يف اجلزء الأول من‪« :‬ال�صناعات واحلرف» ‪ -‬واقع‪ ،‬اخت�صار بع�ض ما كتبته الدكتورة فائقة �سباعي عوي�ضة يف‬ ‫بحثها‪« :‬ال�صناعات واحلرف الرتاث ّية والتقليد ّية يف لبنان بني الأم�س واليوم»‬ ‫درا�سات قامت بها امل�ؤ�س�سة الوطنية لال�ستخدام‪ ،‬عام ‪1996‬‬ ‫بحث ورد يف ندوة الدوحة عن «االبتكار واالبداع يف احلرف اليدوية» للدكتورة فائقة ال�سبيعي عام ‪2010‬‬ ‫اح�صاءات وزارة ال�ش�ؤون االجتماعية رابطة املدن الكنعانية‪ ،‬الفينيقية والبونية ‪ /‬الأوني�سكو ‪ -‬بريوت ‪ -‬لبنان‬ ‫‪� -‬أ‪.‬م‪� .‬سمر مكي حيدر‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫الفن الت�شكيلي يف لبنان‬

‫بني متطلبات احلداثة الغربية و�إ�شكالية الواقع اللبناين‬

‫عادل قديح ‪ -‬فنان ت�شكيلي وباحث يف الفنون الب�صرية‬

‫�أوالً ‪ -‬الفن الغربي والفنون املتوح�شة‬

‫قطعت احلداثة الت�شكيلية الغربية مع ما�ضيها اليوناين الهوى‪ ،‬وبدلت مفاهيمها نحو االعتماد على‬ ‫ما كانوا ي�سمونه «الثقافة املتوح�شة» اي ثقافة ال�شعوب «املتخلفة» والبدائية والعامل اال�سالمي‪.‬‬ ‫اعتمدت ب�صريات عاملية‪ ،‬ولكنها اخذتها مقطوعة عن �سياقها الرتاثي‪ ،‬فهي نقلتها من املجال‬ ‫اجلمعي �إىل الفردانية الطاغية ‪.‬‬ ‫يراع الأبعاد العقيدية �أو ال�سحرية او الدالالت الوظيفية‪ ،‬فذلك مل يكن‬ ‫مل يكن الفنان احلداثي ِ‬ ‫�سراً مكنونا �أو طل�سما عز عليهم فكه‪ ،‬فهو والبحاثون الذين ا�ستغرقوا يف قراءة كل م�ضامني هذه‬ ‫الأبعاد‪ ،‬كان كل همهم ان يقطعوا مع ما�ضيهم الب�صري الذي خدم منط عي�ش وتفكري غيبي‪ ،‬مل‬ ‫يرد االنتقال من حالة عقيدية �إىل �أخرى موازية لها يف اعتماد الغيبيات فالفكر اليوناين و�إنتاجاته‬ ‫الب�صرية مبنية �أي�ضاً على حيز من العقالنية واملنطق الذي و�سم بزوغ ع�صر احلداثة‪ ،‬هو انطلق‬ ‫من عجني مركب اجتماعي وثقايف �أتاح له اعادة النظر كليا بهذا املا�ضي‪ ،‬هو مل يركز على نتاج‬ ‫ح�ضارة بعينها‪ ،‬ومل يت�سن له «العودة» �إىل �إرث من خارج حمفظته‪� ،‬إال بعد جتارب وتبدل يف �أكرث‬ ‫من اجتاه‪ ،‬ي�أتي التطور العلمي يف مقدمتها‪ ،‬كان همه االول �أن يجد‪ ،‬بعد �أن ا�ستنزف قدراته يف‬ ‫جمال �صيانة ال�شكل بعالقته بالواقع‪ ،‬ما ي�ساعده على اخلروج من هذه احللقة ال�ضيقة‪ ،‬اىل جمال‬ ‫�أرحب يتيح له تثبيت ذاتيته ب�شكل نهائي‪ ،‬ولأن االن�سان ببنيته ال ينطلق خياله �إال على قاعدة‬ ‫املرئيات �أكانت طبيعة �أم نتاجا تاريخيا �أم �أية منظورات اخرى‪ ،‬فقد ذهب �إىل ما يناق�ض ما�ضيه يف‬ ‫رحلة تفتي�ش عن �شكالنية�أخرى غري معهودة لديه‪ ،‬ولأن الذاتوية �سيطرت على املجتمع اجلديد‬ ‫�أ�صبح متاحا له �أن يحاكي ثقافة الآخر من خالل ت�أكيد �أنويته‪ ،‬وهذه ت�ستدعي خروجا على مالوفه‬ ‫وم�ألوف حيزه العام نحو غرائبية تتيح التجديد‪ ،‬فوجد �ضالته يف ما اعترب ممتلكا من غريه ومن و�سط‬ ‫ثقايف خارج حيزه‪ ،‬لذلك ف�إن �إعادة االعتبار للثقافات الب�شرية االخرى غري الغربية نتجت عن‬ ‫‪101‬‬


‫قراءته املختلفة لها‪ ،‬مبا �أتاح له �أن ي�ستخدم هذه القراءة اجلديدة خلدمة منظوره الب�صري اجلديد‪،‬‬ ‫�أال وهو �إعادة النظر مبفهوم ال�شكل وطريقة �صياغته‪� ،‬أخذت هذه الرحلة منه زمناً طويال‪ ،‬مل تكن‬ ‫حلقة حمروقة على عجل‪ ،‬بل �أُدخلت معجني التاريخ والتطور‪ ،‬وهذا �أ�ستوجب جتارب متدرجة‬ ‫مبنية على تطورات واكت�شافات مت�سارعة‪ ،‬مل يكن �إذاًهوى �أحدهم كما يحلو للبع�ض �أن يقول‪.‬‬ ‫لذلك تدرج الأمر من تبديل النظر يف م�شاهدة املرئي الواقعي املحاكي للفردانية �إىل م�شاهدته كما‬ ‫هو‪� ،‬إىل ت�صويره وفقا لنظرية ال�ض�ؤ اجلديدة‪ ،‬ف�إىل م�شاهدته من ب�ؤر نظر خمتلفة ف�إىل �صياغته بطريقة‬ ‫بد�أت بتب�سيطه وذهبت �إىل حتويره ف�إىل ت�شويهه وتو�صلت �إىل ك�سره ثم انتهت بنفيه‪ .‬وقد وجد‬ ‫احلداثويون �ضالتهم بقراءة �شكالنية الب�صريات القدمية اخلارجة عن مالوفهم التاريخي والعائدة‬ ‫لل�شعوب غري الغربية‪ ،‬علما �أن ذلك ال�شغل امل�ضني مل يكن ليرتك فيهم �أية عقدة ذنب جتاه‬ ‫�إرثهم‪ ،‬فهم اعتمدوا على نتاج م�ستعمراتهم وهم ذهبوا اىل حد اعتبار هذا املخزون جزءاً من‬ ‫ممتلكاتهم‪ ،‬ناهيك عن �أن فكر التنوير جعلهم منفتحني على هذه الثقافات من منظور وحدة الإرث‬ ‫الإن�ساين والتفاعل احل�ضاري‪ .‬باال�ستنتاج‪ :‬مل ين�سخ احلداثويون ب�صريات غريهم‪ ،‬بل �أر�شدتهم‬ ‫�سعة قراءاتهم اىل و�ضع معايري جديدة‪ ،‬لذلك ال ي�صح �أبدا القول ان احلداثة تطورت من رحم‬ ‫الرتاث الغربي‪ ،‬وال من ن�سخ الرتاث ال�شرقي والثقافات القدمية‪ ،‬بل �إنها فقط فت�شت عن قوالب‬ ‫جديدة فوجدتها يف بع�ض معايري هذا الرتاث‪ .‬هي نعم قطعت مع ما�ضيها املوروث‪ ،‬ولكنها �صاغت‬ ‫جديدها من توليفة مركبة كان الرتاث ال�شرقي �أحد مناهلها‪.‬‬ ‫ثانيا ً‪« :‬احلداثة» مبفهومها اللبناين‬

‫�أما فيما يخت�ص مبفهوم احلداثة مبعناه ال�شرق ‪ -‬عربي‪ ،‬والتبا�سات اعتناقه لبنانيا فيمكننا ت�سجيل‬ ‫العناوين التالية‪:‬‬ ‫‪ -1‬ت�أ�س�س مفهوم «احلداثة» يف ال�شرق على قاعدة مغايرة كليا النبعاثه يف موطنه الأ�صلي‪ .‬فعلى‬ ‫الرغم من �أن الغرب املهيمن �أوحى دائماً �أن املفهوم عاملي ي�صلح لكل ظرف‪ ،‬فذلك لتوكيد‬ ‫هيمنته‪ ،‬باملعنى اال�ستعماري للكلمة‪ ،‬فلئن �أوحى ب�إمكانية تطوير بنى �سيا�سية واقت�صادية تعود‬ ‫ملناطق هيمنته ت�ستطيع التعاي�ش مع ثقافات �سلفية وتراثية �سائدة‪ ،‬فذلك �إما لعجزه عن �إعادة‬ ‫توليد نف�س التجربة التي اندلعت يف دائرته‪� ،‬أو لأن حتري�ضه على بناء منط عي�ش مطابق للتطورات‬ ‫التي بناها يتناق�ض مع قواعد الهيمنة التي كانت همه االول والأخري‪ ،‬ففي الوقت الذي ت�أ�س�ست‬ ‫احلداثة الغربية على تدمري البنى االجتماعية وال�سيا�سية واالقت�صادية العائدة للمجتمع البائد مبا‬ ‫فيها حتالف الطبقات احلاكمة‪� ،‬أي الإقطاع وامللكية‪ ،‬ف�إنها �أنتجت �سلطة جديدة هي �سلطة الر�أ�سمالية‬ ‫التى �أطلقت املجتمع اجلديد من عقاله نحو تبدل منط العي�ش باجتاه عالقات �إنتاج قاعدتها �إنتاج‬ ‫‪102‬‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫ال�سلعة من دون حواجز �أو معوقات‪ ،‬كما �أنها �أطلقت العنان لتطوير عملية االنتاج بطريقة م�ستمرة‬ ‫وذلك بت�شجيع االكت�شافات العلمية‪ ،‬واالخرتاعات‪ ،‬كما ف�صلت الدين عن الدولة‪ ،‬يف رد متقدم‬ ‫على ال�صراعات الدينية واحلروب الأهلية النا�شئة عنها والتي دمرت �أ�س�س املجتمعات الغربية‪،‬‬ ‫و�أطلقت �شعار احلرية الفردية التي حترتم حرية املعتقد والر�أي والثقافة وطرحت �شعار الإخاء اي‬ ‫احرتام التحالف الطبقي اجلديد الذي عمل على بناء �سلطة جديدة �أ�سموها �سلطة ال�شعب‪ ،‬من‬ ‫هنا مت ا�ستنباط مفهوم الدميوقراطية التي تهدف �إىل انتخاب ال�شعب ملمثليه‪ .‬وذلك كله ا�ستند‬ ‫اىل مفاهيم ع�صر التنوير‪ .‬لكنها �أ�س�ست �أي�ضاً لقهر جديد للطبقات الدنيا والفقراء‪ ،‬ولأن حررت‬ ‫الفالحني من �سلطة الإقطاع‪ ،‬ف�إنها �أدخلتهم يف قهر من نوع جديد �أدى �إىل هجرة جز ٍء كبري منهم‬ ‫باجتاه املدينة و�إىل حتولهم �إىل عمال م�أجورين‪ ،‬كما �أن ال�صراع النا�شيء عن حماية اال�سواق وعن‬ ‫االقتتال على اال�سواق اجلديدة رفع من ذرى ال�صراعات القومية التي �أنتجت حروبا مدمرة‪...‬‬ ‫‪� -2‬ضمن هذا ال�سياق حاولت الر�أ�سماليات الغربية املتناحرة �أن ت�سيطر على اال�سواق العاملية‬ ‫باال�ستعمار‪ .‬لهذا‪ ،‬بعد �أن وهنت االمرباطورية العثمانية‪ ،‬تخا�صمت الدول الغربية على كيفية‬ ‫اقت�سام الرتكة‪ ،‬ولكي ت�ستطيع ان تقت�سم اجلبنة بح�ص�ص كبرية‪� ،‬أقامت عالقات مع املجموعات‬ ‫الب�شرية املتناحرة‪ ،‬ففي لبنان �أعلنت فرن�سا توطيد عالقتها باملوارنة التي كانت عميقة يف التاريخ‬ ‫ت�صل اىل عهد لوي�س الرابع ع�شر كما‪� .‬أعلنت حمايتها لهذه الطائفة‪ ،‬اما الإنكليز ف�أقاموابدورهم‬ ‫عالقة مع الدروز‪ ،‬الخ‪...‬‬ ‫ون�ش�أ عن ذلك قيام عالقات اقت�صادية وثقافية و�سيا�سية مع هذه الطوائف‪ .‬وقد ق�سم �سايك�س بيكو‬ ‫املنطقة بني الدولتني‪.‬‬ ‫ولكي يثبت الفرن�سيون �سيطرتهم‪ ،‬دخلوا من باب النزاعات الداخلية بني الطوائف اللبنانية ومن‬ ‫باب ال�سيطرة الثقافية‪� ،‬ضمن هذا االطار وفدت اىل لبنان الإر�ساليات‪ .‬الأجنبية وعمل املوارنة‬ ‫�أكرث من غريهم على رف�ض الترتيك و�صيانة اللغة العربية وفتح مدار�س تعلم اللغتني العربية‬ ‫والفرن�سية‪ ،‬و�أقيمت اول مطبعة يف ال�شرق كله يف لبنان ‪.‬‬ ‫‪ -3‬وكانت فرن�سا‪ ،‬يف املجال ال�سيا�سي‪ ،‬وعلى قاعدة ت�أجج املنازعات الطائفية وبالتعاون مع دول‬ ‫اخرى قد عملت على املطالبة ب�إعطاء املوارنة كيانا �شبه م�ستقل‪ ،‬فن�ش�أ عن ذلك نظام القائمقاميتني‬ ‫ثم املت�صرفية‪ ،‬كما دفعت باجتاه انتزاع االمتيازات الأجنبية‪ ،‬واىل التعامل ال�سيا�سي مع امل�سيحيني‬ ‫بطريقة خمتلفة عن �سائر الطوائف اللبنانية االخرى‪ .‬باالخت�صار ف�إن الدولة العثمانية تنازلت عن‬ ‫هذه الأمور �إر�ضاء للدول الغربية و�إخفاء ل�ضعفها‪.‬‬ ‫‪ -4‬ويف املجال الثقايف فتحت فرن�سا �أبوابها ال�ست�ضافة الوافدين اليها بهدف التعلم‪ ،‬ومن ذلك‬ ‫بد�أ عدد من اللبنانيني االنخراط يف هذه العملية ومنهم طالب فنون الر�سم والت�صوير‪ ،‬ومن منا ال‬ ‫‪103‬‬


‫يعرف معهد جوليان الذي كان معظم رواده من ال�شرق‪ .‬وكما يف هذه الفنون كذلك يف املجاالت‬ ‫الدرا�سية االخرى‪ ،‬وقد �أعطت فرن�سا منحا تعليمية للعديد من الطالب يف االخت�صا�صات املختلفة‪.‬‬ ‫‪ -5‬وكانت الكني�سة املارونية قد �أقامت عالقات مبا�شرة‪ ،‬غدت مع مرور الزمن تاريخية‪ ،‬مع‬ ‫ال�سلطات الفرن�سية املتعاقبة مهما كان لونها ميينية �أم ي�سارية‪ .‬ويف جانب �آخر بد�أت تتخلى عن‬ ‫الطريقة ال�شرقية (بيزنطية ام �أرثوذك�سية) يف ر�سم الأيقونات كمتطلب الزم للبناء الكن�سي ودور‬ ‫العبادة العائدة لها‪ ،‬كما �أوفدت العديد من الكهنة للتخ�ص�ص يف جمال الر�سم االيقوين يف معاهد‬ ‫متخ�ص�صة لذلك‪ ،‬وكانت هذه املعاهد حتت و�صاية الفاتيكان مبا�شرة‪ ،‬علماً بان الكني�سة املارونية‬ ‫«اكت�شفت» الكني�سة الغربية يف �سياق تبدلها ال�سيا�سي والثقايف فتحولت من كني�سة �شرقية اىل‬ ‫االلتزام بالكني�سة الغربية‪.‬‬ ‫‪ -6‬يف املجال االقت�صادي بد�أت تن�ش�أ طبقة ر�أ�سمالية جتارية وخدماتية ومالية يف لبنان متوافقة مع‬ ‫متطلبات البنى االقت�صادية الفرن�سية‪ ،‬من خالل العالقات التي �أقامتها فرن�سا مع ال�شرق العربي‪،‬‬ ‫وكان ذلك �إيذانا بالتحاق ال�سوق اللبنانية باالقت�صاد الفرن�سي‪ ،‬وهي ما �أ�سميناها بالربجوازية‬ ‫الطفيلية التي تعتا�ش من الهام�ش الذي تركه لهم الفرن�سيون‪ ،‬بذلك فتحت ال�سوق اللبنانية‬ ‫لل�سلع الفرن�سية‪ ،‬وبد�أت تت�أ�س�س �صناعات حرفية خفيفة ك�صناعة انتاج احلرير اخلام (وتربيته‬ ‫يف املجال الزراعي)‪ ،‬كانت التجارة البينية مق�صورة‪ ،‬تقريبا‪ ،‬على الطائفتني امل�سيحية وال�سنية‬ ‫املقيمة يف الثغور وعلى ال�شواطيء وخا�صة يف بريوت‪ ،‬وذلك متا�شيا مع الإرث العثماين الذي‬ ‫�أعطى �سنة بريوت هذا االمتياز‪ ،‬ومنهم من ا�س ُتقدم من اجلزائر وبالد املغرب وكرد�ستان‪ ،‬لأهداف‬ ‫�سيا�سية معروفة ترتكز على م�س�ألة الوالء ال�سيا�سي‪ .‬وهكذا بقي املجال اال�سالمي ال�سني يدور‬ ‫يف الفلك الرتكي‪ ،‬ومل يطالبوا اال ب�إ�صالح النظام ال�سيا�سي العثماين‪ ،‬ونادرا ما ذهبوا �إىل املطالبة‬ ‫باال�ستقالل عن العثمانيني الآن نادراً‪ ،‬وخا�صة عندما اندلعت حركة ال�شريف ح�سني‪ .‬كما �أيد‬ ‫امل�سلمون ال�شيعة‪ ،‬الذين ان�ضووا فرتة تاريخية طويلة حتت جناح التقية‪ ،‬العودة اىل الوحدة العربية‪،‬‬ ‫�أ�سوة بال�سنة‪ ،‬وعار�ض املوارنة ذلك منذ البداية‪.‬‬ ‫‪ -7‬ويف املجال الفني بد�أت هذه الربجوازية ت�ؤ�س�س ملتطلبات ت�صويرية‪ ،‬فطلبت على قاعدة املباهاة‬ ‫من امل�صورين �صوراً �شخ�صية لها (بورتريه)‪ ،‬متمثلة يف ذلك باالغنياء الغربيني‪ ،‬و�إذا كان ه�ؤالء‬ ‫انخرطوا �ضمن عملية دعم الثقافة الب�صرية ب�شكل عام فان �أقرانهم اللبنانيون تدافعوا بفعل التمثل‬ ‫والغرية‪ ،‬فحيث �أن الربجوازية الفرن�سية اعتربت هذا الأمر جز ًءا من ثقافتها‪ ،‬و على الرغم من‬ ‫وقوفهم يف وجه التبدل الراديكايل يف االجتاهات الفنية‪ ،‬فانهم �سرعان ما بدلوا من موقفهم بعد �أن‬ ‫ا�ستتب الأمر لهذه املدار�س الب�صرية اجلديدة‪.‬‬

‫‪104‬‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫ثالثا ً «احلداثة» الفنية يف لبنان‬

‫انطالقا من هذا العر�ض ال�سريع ميكننا ا�ستنتاج مايلي‪:‬‬ ‫‪ -1‬يف الوقت الذي كانت احلركة احلداثوية تبنى على قاعدة التبدل االجتماعي واالقت�صادي‬ ‫وال�سيا�سي الذي �أقر باحلياة الفردية و�إقامة الدولة املدنية املبنية على م�سالة ف�صل الدين عن‬ ‫منحى خمالفاً كلياً‪.‬‬ ‫الدولة‪ ،‬كانت التغيريات يف املجال اللبناين ت�أخذ ً‬ ‫نبتت احلداثة على �أنقا�ض نظام بائد متثل بتحالف امللكية والإقطاع والكني�سة وفقا للحق االلهي‪.‬‬ ‫انهارت القيم واملعايري القدمية وحلت حملها مفا�صل جديدة لنمط العي�ش‪.‬‬ ‫�أما يف لبنان فقد تبدلت ال�صيغ الت�شكيلية من الأ�ساليب القدمية املتمثلة بالفنون البيزنطية‬ ‫والأرثوذك�سية والأ�سلوب العثماين املبني على الفن اال�سالمي معد ًال ب�إدخال البعد الثالث على‬ ‫العمل الفني‪ ،‬وذلك متثال بالفنون الغربية الكال�سيكية �أو الرومان�سية اال�ست�شراقية التي �أخدت‬ ‫موا�ضيعها من امل�شهديات ال�شرقية وتدعمت ملونتها‪ ،‬احيانا‪ ،‬ببع�ض املعاجلات االنطباعية‪ ،‬تلك‬ ‫كانت متطلبات الو�سط اللبناين‪.‬‬ ‫‪ -2‬يف الوقت الذي تراجعت ال�سلطة الدينية يف الغرب عامة وفرن�سا على وجه اخل�صو�ص‪،‬‬ ‫تثبتت يف لبنان حيث �أكد اال�ستعمار الفرن�سي هيمنة الإقطاع ال�سيا�سي بهرمية ترا�ستها املارونية‬ ‫ال�سيا�سية ‪ .‬و�إذا كانت الر�أ�سمالية قب�ضت على قمة النظام ال�سيا�سي الفرن�سي‪ ،‬ف�إن ال�سلطة يف‬ ‫لبنان ن�ش�أت على قاعدة توافق بني بقايا الإقطاع والزعامات الطوائفية والر�أ�سمالية اخلدماتية‪.‬‬ ‫لقد بنى اال�ستعمار الفرن�سي ال�سلطة يف لبنان وفقا ملتطلبات هيمنته ولي�س وفقا للمباديء التي‬ ‫ت�أ�س�ست عليها دولته احلديثة‪.‬‬ ‫‪ -3‬تبنى الفنانون اللبنانيون �أ�ساليب فنية تعود �إىل الثقافة الفنية البائدة‪� ،‬أي الفن الأكادميي‬ ‫الكال�سيكي املطعم ببع�ض التوليفات الرومان�سية‪ ،‬يف الوقت الذي كان الفن الغربي قد غادر هذه‬ ‫الأ�ساليب تقريباً �إىل غري رجعة‪.‬‬ ‫‪� -4‬أدخل الفرن�سيون معايري حياتية جديدة �إىل لبنان يف جمال بناء البنية التحتية للنظام ال�سيا�سي‬ ‫اجلديد‪ ،‬متثل مب�ؤ�س�سات الدولة من �سلطتني �سيا�سية برملانية وق�ضائية وفقا للنموذج املتبع يف بالدهم‪.‬‬ ‫هكذا �أ�سقطوا على البنية االجتماعية �أ�سلوبا �سلطويا تطلب ن�ضاال مريرا لتثبيته يف بالدهم‪ ،‬وكان‬ ‫قد ترافق مع هدم العالقات االجتماعية ال�سابقة لتحل حملها �أمناط جديدة‪ ،‬بينما عملوا على‬ ‫تطبيقها يف لبنان من دون �أن يتبني قدرتها على اجراء تعديالت اجتماعية تنا�سبها‪ .‬لذلك ولدت‬ ‫�أمناط هجينة يتعاي�ش فيها ال�سابق على الر�أ�سمالية مع النمط احلديث‪ .‬ويف ذات ال�سياق اكتظت‬ ‫ال�سوق اللبنانية بال�سلع الفرن�سية وثقافتها‪� .‬أدخلت العمارة احلديثة من دون درا�سة توافقها مع‬ ‫‪105‬‬


‫البيئة‪ .‬كما تبنى �أبناء املدن منط العي�ش الغربي يف طريقة العمل واللبا�س وامل�أكل وامل�شرب وخالفه‬ ‫وت�أ�س�ست البنى التحتية للنظام املديني وفقا للطريقة الغربية يف حني بقي الريف على حاله‪ .‬كما‬ ‫مت اعتماد نف�س الأ�س�س املدر�سية وخا�صة يف جمايل الرتبية والتعليم‪ .‬هكذا وجدنا تعاي�شاً لنمطني‬ ‫من احلياة‪ ،‬قدمي وجديد‪ .‬ح�صل كل ذلك خالفا لل�سريورة الغربية‪ .‬ال ميكننا القول �إن املجتمع‬ ‫اللبناين كان راف�ضا لذلك‪ ،‬بل �إن بنية املجتمع اللبناين �سمحت بتقبل رحب من جهة ورف�ض‬ ‫من اجلهة الأخرى‪ ،‬لكن ذلك مل ي�ؤد �إىل اتخاذ موقف حاد‪ .‬كما �أن ثقافة العي�ش اجلديدة مل‬ ‫تفر�ض بالقوة‪.‬‬ ‫‪ -5‬يف الوقت الذي اعتمد الفنانون اللبنانيون �أ�ساليب فنية غربية قدمية �أكادميية‪ ،‬كانت هذه‬ ‫الأ�ساليب قد انهارت بانهيار �أكادميية الفنان الكال�سيكي دافيد‪ ،‬و�أطلق الر�سامون الغربيون‬ ‫العنان لنف�سهم بابتداع و�سائل جديدة للتعبري الفني‪ ،‬يف نف�س الوقت هذا كانت االنطباعية ت�سلم‬ ‫الراية ملا بعدها‪ ،‬فت�ش امل�ؤ�س�سون الأربعة‪� :‬سيزان وغوغان وفان غوخ و�سوراه عن بدائل للواقعية‬ ‫االنطباعية‪ ،‬فوجدوا �ضالتهم بتعزيز فردانيتهم من خالل ا�ستلهام توليفات ب�صرية اكزوتيكية �أو‬ ‫تركيب معايري ت�صميمية ذاتوية‪ ،‬مل يكن همهم دوافع التعبرياجلماعي‪ ،‬جل همهم ان�صب على‬ ‫تعديل املعايري اجلمالية‪ ،‬فثقافتهم باتت كو�سموبوليتية ولديهم الدافع نحو ا�ستيالد ر�ؤى جديدة‬ ‫من خالل فكرهم النقدي وك�سرهم (للتابويات) الفنية وقدرتهم املكت�سبة على دمج �أو مزاوجة‬ ‫التقانات املكت�سبة حديثاً مع املو�ضوعات وامل�شهديات ذات ال�صلة بو�سطهم �أو تلك التي ت�صوغها‬ ‫خميالتهم‪ ،‬وذلك باجتاه الرتميز والتعديل والتب�سيط والتت�سطيح‪.‬‬ ‫مل ن�شهد يف لبنان متثال بهذه التجربة �إال بعد انق�ضاء زمن طويل‪ ،‬بل �إن االعتماد اخلجول على‬ ‫بع�ض مفردات االنطباعية كان ‪ -‬وما يزال حتى اللحظة يف مناهج معاهد الفنون اجلميلة ‪ -‬متقدما‬ ‫على هذه التطورات امل�ؤ�س�سة للحداثة الت�شكيلية يف الغرب‪ .‬ال ميكنني �أن �أوعز االمر اال ملتطلبات‬ ‫املجتمع اللبناين املتباطئ جداً يف م�سار التغيري‪ ،‬وبالتايل ر�ضوخاً لذوق النخبة املت�أرجح بني تلقف‬ ‫الواقعية ك�أنها اكت�شاف فريد مقاي�ض كليا لنهج رمزي افرتا�ضي‪� ،‬أو انها �شوق للتخل�ص من ردح‬ ‫تقايف طال زمنه‪ ،‬وبني من عاند‪ ،‬ولفرتة لي�ست ق�صرية‪� ،‬أن حتل بع�ض الثقافات الغريبة حمل منط‬ ‫عي�شه وتفكريه ومعتقداته متوج�سا من رغبة متجددة للغرب بك�سب ال�صراع‪ ،‬و�إعادة الألق اىل‬ ‫تاريخ االقتحام (ال�صليبي)‪ ،‬وهذه املرة بالو�سائط الثقافية‪ .‬على �أننا نعتقد �أن النخبة اللبنانية‪،‬‬ ‫والتي مل ت�ستطع الطلوع من ثقافتها املوروثة كليا واملبنية على �أ�س�س االنق�سام الطائفي والع�شائري‬ ‫وما تبقى من الزعامات الإقطاعية‪ ،‬بنت تذوقها �أي�ضاً على قاعدة املتطلب االقت�صادي‪ .‬ما يرغبه‬ ‫املي�سور والوجيه والزعيم املت�شبع بالذهنية القبلية‪ ،‬لي�س كلهم �أي�ضاً‪ ،‬بل املتنورين منهم‪ ،‬ما يرغبونه‬ ‫ال ميكن له �أن يتخطى حيزهم املادي والثقايف‪� ،‬أي متطلبات االقت�صاد اللبناين املبني‪ ،‬كما نكرر‬ ‫دائما‪ ،‬على ال�سياحة واخلدمات والك�سب الريعي‪ .‬فكيف له�ؤالء �أن يتطلبوا ب�صريات م�ستغرقة يف‬ ‫فردانيتها ؟ كيف لهم �أن يتيحوا للثقافة الب�صرية �أن (تلوك) مفردات ما�ضوية وتعجنها مبعجن كيفي‬ ‫‪106‬‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫(ن ّبوي) يتماهى مع ا�شتداد الفردانية املت�صاعدة اىل م�ستوى العظمة؟ فليكن �إذن �صورة �شخ�صية‬ ‫تدغدغ نزعة الربوز والتمايز وال ب�أ�س مبنظر طبيعي ميجد خ�صو�صيات امل�شهد اللبناين والعادات‬ ‫الريفية والفلكلور‪ ،‬فذلك �أي�ضاً ي�ستجلب ال�سائح ويتماهي مع الغرائبيات التي راحت تفت�ش عنها‬ ‫فنون اال�ست�شراق الرومان�سية‪.‬‬ ‫‪ -6‬اتاح االنتقال للر�سامني اللبنانيني من �ضفة فكرية دوغمائية �إىل �أخرى �أكرث انفتاحاً‪� ،‬أن يتحركوا‬ ‫�ضمن هام�ش �أكرث ات�ساعاً‪( ،‬فتحولوا) من الفن البحري ذي ال�صيغة العثمانية �إىل الفن الغربي‬ ‫مبعايريه الأكادميية القدمية غري ابهني‪ ،‬رمبا‪ ،‬للتطورات املت�سارعة احلا�صلة يف قلب مدر�سة باري�س‬ ‫واملنعك�سة حكما على الغرب كله‪ ،‬او �أنهم على الأرجح م�ستنكرون ذلك ال فرق‪ ،‬بدليل املواقف‬ ‫الراف�ضة والتي �صدرت على �أكرث من ل�سان‪ .‬ورغم ذلك ن�سميهم م�ؤ�س�سني‪ ،‬وال ادري وفقا لهذه‬ ‫املعطيات ماذا �أ�س�سوا !! هل ميكن ت�أ�سي�س امل�ؤ�س�س؟ والذي ا�صبح بائدا يف م�صادره؟ هم يف‬ ‫�أح�سن �أحوالهم متحولون �أو انتقاليون !! �أي �أنهم حتولوا عن �أو انتقلوا من �صيغة تعبريية موجودة‬ ‫يف امداء التاريخ اىل �صيغة اخرى لها �أي�ضاً تاريخها العريق‪ ،‬او �أن وارثيهم �سموا روادا‪ ،‬ما هي الراية‬ ‫التي حملوها او �أ�سهموا برفعها لي�صبحوا كذلك؟ هم رف�ضوا بوعي اكت�شافات ماتي�س و�صياغات‬ ‫بيكا�سو و�أ�سموهم «م�شعوذين» بل حكموا على فنهم باالندثار‪ ،‬وذلك على الرغم من معاي�شاتهم‬ ‫النت�صارات هذه الأ�ساليب ولتب�شريها بتوجهات �أكرث راديكالية‪.‬‬ ‫هناك فرق وا�سع بني �أن نثمن �إبداعات ه�ؤالء الفنانني وبني �أن ن�صبغ عليهم �ألقابا تفي�ض عنهم‪.‬‬ ‫يف جميع الأحوال كان (التطور) بطيئا جداً‪ ،‬ففي حني ا�ستطاع الت�شكيل الغربي �أن يبتدع‬ ‫جديدا على الدوام‪ ،‬فان اللبنانيني كانت لديهم املرجعيات االجتاهية ينتقون منها ما (ينا�سبهم)‪،‬‬ ‫لذلك نراهم يوالفون بني امللونات املختلفة واملو�ضوعات والأ�ساليب التي اكتنزوها من معاهدهم‪،‬‬ ‫ودائما وفقا ملتطلبات ثقافتهم املركبة من عجني غرائبي‪ ،‬ي�أخذ من الغرب �أ�ساليبه ويراعي ذوق‬ ‫الزبون‪ ،‬وال ندعي �أنهم عجزوا‪� ،‬أحياناً‪ ،‬عن تلم�س الإغراءات الفنية ال�صرف‪ ،‬اخلارجة عن ال�سياق‬ ‫االجتماعي‪ ،‬كمو�ضوعات العري‪ ،‬لكنهم �أركنوها غالباً ل�صياغات مماثلة للنهج الواقعي الأكادميي‬ ‫النزعة‪ ،‬ما ميكن تقديره يف نتاجهم‪ ،‬لي�س فقط جر�أتهم يف حتدي الواقع االجتماعي الراف�ض لهذه‬ ‫املو�ضوعات‪ ،‬بل �أي�ضاً اعتمادهم ملونة �ضوئية ت�ستوحي مرئياتهم اليومية‪.‬‬ ‫‪ -7‬هم �إذاً تخطوا الرتاث ال�شرقي يف نف�س الوقت الذي �أخذ الغربيون من معايريه‪.‬‬ ‫كان لديهم خيارات وا�سعة فانتقلوا منها ما ينا�سب توجههم‪ .‬لذلك نراهم يقفزون عن االنطباعية‬ ‫�إىل الرمزية كما فعل جربان خليل جربان‪ .‬وامللفت �أن املنطقة العربية تزخر بالفنون الرمزية القدمية‪،‬‬ ‫وبالتايل ف�إن هذا اخليار كان متاحا و�سهال‪ ،‬لكنه‪� ،‬أي جربان‪� ،‬آثر االنخراط بذلك من خالل‬ ‫معاي�شاته الغربية‪� ،‬أي �أنه اهتدى �إىل �أ�سلوبه بعد �أن تعرف �إىل الفنان الإنكليزي وليم بليك و�إىل‬ ‫فن اوديلون ريدون الفرن�سي‪.‬‬ ‫‪107‬‬


‫مل تن�ش�أ مدر�سة انطباعية يف لبنان باملعنى الفني للكلمة على الرغم من بع�ض املحاوالت‪.‬‬ ‫بل �إن العديد من الفنانني �أمثال م�صطفى فروخ وقي�صر اجلميل ور�شيد وهبي و�صليبا الدويهي غرفوا‬ ‫من �أكرث من اجتاه‪ ،‬وه�ؤالء اتهموا زورا ب�أنهم انطباعيون‪ ،‬و�إن كنا ل�سنا ب�صدد تعريف االنطباعية فان‬ ‫لهذه املدر�سة الفنية معايري مل يحرتمها ه�ؤالء الفنانني اال ملاماً‪ ،‬فعندما كانت مو�ضوعاتهم م�أخوذة‬ ‫من التاريخ اللبناين والعربي �أو ر�سما لعارية �أو حتى بع�ض املناظر الطبيعية‪ ،‬كان يغلب على‬ ‫معاجلاتهم �إبراز القدرة املهارية والوفاء لإحقاق الواقعية على كل �شيء‪ ،‬والعدادهم الأكادميي‬ ‫�إن كان يف معاهد روما �أو يف معهد جوليان يف باري�س �أو غريه من املعاهد امل�شابهة‪ .‬وبالتايل �أوفياء‬ ‫لثقافة هذه املعاهد ور�ؤاهم التي غلب عليها احلنني �إىل ما�ضوية كال�سيكية‪.‬‬ ‫و�إن كنا ذكرنا �إغفالهم موقفا وا�ضحا من العمالقة الأربعة‪ ،‬ي�ضاف اليهم خام�س هو اجلمركي‬ ‫ال�ساذج هرني رو�سو‪ ،‬وفق ما ورد �أعاله‪ ،‬فان املوقف احلاد من ماتي�س وبيكا�سو عرب عن نظرتهم‬ ‫ور�ؤاهم للم�ستقبل الت�شكيلي‪ .‬ولرمبا �أثر ذلك �إىل حني يف عدم �إقبال تالمذتهم على تبني االجتاه‬ ‫التكعيبي (براك وبيكا�سو)‪ ،‬وقد يكون �أنهم ذهبوا لتوهم �إىل الواقعية الأكادميية ومل يعتنقوا هماً‬ ‫نو�ستاجلياً يعيدهم �إىل تراثهم‪ ،‬كيف نريد منهم العودة �إىل التب�سيط و�إغفال املعايري الواقعية وهم‬ ‫م�سكنون باكت�شافهم للبعد الثالث وتو�ضيع الألوان الواقعية بدال من الألوان اال�صطالحية التي‬ ‫�سادت لفرتة طويلة؟‬ ‫‪ -8‬لذلك كان من امللفت الذهاب �إىل الر�ؤى التجريدية بد ًال من املرور بالتطور (الطبيعي)‪� ،‬أي‬ ‫من تب�سيط ال�شكل وا�ستعمال امللونة الوح�شية �أو اال�صطالحية �أو الرمزية �إىل ك�سر ال�شكل مع‬ ‫ا�ستخدام ملونة فقرية ترابية �أو م�شعة �إىل نفي ال�شكل و�إعطاء الدور الفاعل للتعبريات الهند�سية‬ ‫�أو غلبة اللون على ال�شكل �أو التعليات اللونية ال�صرفة‪ .‬والن املعطى موجود فقد اختار اللبنانيون‬ ‫ما يرت�ؤنه بدل اعتماد امل�سار امل�ضني �أي من التكعيبية �إىل الدادائية فالتعبريية الأملانية ف�إىل‬ ‫امل�ستقبلية‪ ...‬فالتجريدية‪.‬‬ ‫ملاذا نحا اللبنانيون �صوب التجريد مبكرين قيا�سا على ما كان يجري يف حميطهم العربي؟‬ ‫كان التجريد قد �أ�صبح طاغياً منذ �أن ب�شرت التكعيبية به ومنذ �أن عملت ال�سوريالية على �إعادة‬ ‫�صياغة الواقع بطريقة متخيلة ا�ستنادا �إىل ا�ستنزاف مكنونات الالوعي والكوابي�س والأحالم‬ ‫والهذيان‪ .‬حطمت ال�سوريالية الواقع انطالقا من ما فعلته احلروب التي �أنتجتها �سياقات احلداثة‬ ‫نف�سها‪ ،‬ويف جمال �آخر جمد بع�ض ال�سورياليني احلروب على قاعدة �أنها تدمر الواقع وتتيح النتائج‬ ‫اعادة �صياغة جديدة متنوها على ال�شاكلة الب�صرية التي حلموا بها يف �أعمالهم‪ ،‬عامل ال ميكن‬ ‫حتقيقه �إال يف ذهان املر�ضى واملجانني واخلارجني على قوانني الطبيعة واحلروب‪.‬‬ ‫لكن الرد جاء من التجريديني‪ ،‬ويبدو �أن حربا �ضرو�سا ن�شبت بني التيارين‪ .‬ملاذا ال ن�ستنه�ض‬ ‫‪108‬‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫القيم الروحية يف الرد على �آفات املاديني؟ والالفت �أن �أوائل امل�ؤ�س�سني للتيار التجريدي كانوا‬ ‫معتنقني لل�صوفية �أمثال كاندن�سكي وموندريان ومالفيت�ش وغريهم‪ .‬لذلك وجدانهم يحاولون بناء‬ ‫عاملهم الب�صري على ال�صفائية الهند�سية‪ ،‬عامل يختزل الأ�شكال �إىل قيمها الأوىل ‪ -‬الأ�صول‬ ‫االوىل‪ ،‬الأ�شكال الهند�سية ال�شديدة التب�سيط املتمثلة بالنقطة واخلطوط املتنوعة وامل�ساحة‪ ،‬هذا ما‬ ‫ذهب �إليه‪ ،‬يف عرينه الرمزي حيناً وال�سوريايل �أحياناً‪ ،‬بول كلي‪ .‬هذا ما فعله مريو‪ .‬لكن التطورات‬ ‫الالحقة �أف�ضت �إىل ا�ستلهام الفنون القدمية وما ابتكرته من �أ�شكال وعالمات و �إ�شارات ورموز‪.‬‬ ‫ك�أين برواد التجريدا�صابتهم نو�ستاجليا املا�ضي‪ ،‬يف ردهم على النزاعات وال�صراعات املدمرة‬ ‫التي اجتاحت عاملهم املادي‪ .‬لكن م�أثرتهم تكمن �أي�ضاً ب�إعادة االعتبار للفنون التي �أطلق‬ ‫عليها ت�سميات دونية مثل الفنون ال�صغرى او التطبيقية او الزخرفية وما اىل ذلك‪ ،‬هذا االمر‬ ‫�أعاد االعتبار للجماليات العربية والإ�سالمية والبدائية والقدمية وفنون الزخرفة االفريقية واملايا‬ ‫والأزتيك وغريها‪ .‬ولأن التجريد الهند�سي تقاطع يف فل�سفته وبنيته مع الرق�ش العربي والإ�سالمي‪،‬‬ ‫فقد ا�ستفاق العرب‪ ،‬واللبنانيون بطبيعة احلال‪ ،‬على الأبعاد الت�شكيلية لرتاثهم الب�صري‪.‬‬ ‫واقع االمر �أن طريقني متوازيني انبعثا يف لبنان التجريد الرتاثي (�سمي �شرقيا والت�سمية �صاحلة‬ ‫للنقا�ش) والتجريد الغنائي �أو العاطفي‪.‬‬ ‫حتولت بريوت بطريقة مبكرة �إىل مركز ثقايف متقدم‪ ،‬حيث ا�ست�ضافت معار�ض ل�سلفادور دايل‬ ‫وبيكا�سو و�سواهم ما �أنتج حوارا نخبويا حول نتائجهما الفنية‪ ،‬ومن املفيد الذكر ان اجلامعة‬ ‫الأمريكية يف بريوت ذهبت �إىل حد �إعداد طالب الفنون لديها على معايري الفن التجريدي يف‬ ‫املجالني النظري والعملي يف بلد هيمن عليه طرائق ومفاهيم �أكادميية وكال�سيكية‪ ،‬كما حتولت‬ ‫بريوت �إىل مركز العر�ض العربي حيث عر�ض فيها فنانون عرب �أعمالهم الفنية بعيدا عن الرقابة‬ ‫الر�سمية‪ .‬كما نظم متحف �سر�سق معار�ض عاملية للر�سم التعبريي والنحات الفرن�سي �أوغ�ست‬ ‫رودان ولأعمال ت�شكيلية بريطانية وللر�سامني االنطباعيني‪.‬‬ ‫هي �إذاً بريوت الداخلة يف دائرة الثقافة الغربية من بابني‪ :‬باب ال�سيطرة الفرن�سية على لبنان بفعل‬ ‫اال�ستعمار املبا�شر وباب العالقة الثقافية التي مل تنقطع يوما مع الفرن�سيني يف مرحلة اال�ستقالل‪.‬‬ ‫هكذا كانت التبدالت الثقافية‪ ،‬والب�صرية منها بخا�صة‪ ،‬على متا�س مبا�شر مع ال�ساحة البريوتية‪،‬‬ ‫ولأن النظام ال�سيا�سي اللبناين �سمح بالتاثر ال�سريع بهذا احلراك اكرث من الدول العربية املحيطة‪،‬‬ ‫ف�إن لبنان جنح نحو التجريد ب�شكل مبكر‪ ،‬لي�س فقط من وحي ال�صراع على الهوية‪ ،‬بل ملوقع‬ ‫لبنان الكثري اخل�صو�صية يف عالقته بني ال�شرق اال�سالمي والغرب العلماين (�أو امل�سيحي)‪ .‬وقد‬ ‫ا�ستطاعت البنية االجتماعية امل�شكلة من ثقافة م�سيحية مفتوحة على الغرب (املوارنة) وعلى‬ ‫ال�شرق‪ ،‬نق�صد اليوناين والرو�سي (الأرثوذوك�سي) وثقافة �إ�سالمية تت�ضمن ت�شكالت ً مذاهبية‬ ‫�سنية و�شيعية وعلوية‪ ،‬مع ما يعني ذلك من فروقات عقائدية وطقو�سية ور�ؤيوية وانعكا�سها على‬ ‫‪109‬‬


‫ال�صعيد الب�صري‪ .‬هذه (اخللطة) الثقافية �أتاحت ت�ساكنا‪ ،‬و�أحيانا ت�صارعا‪ ،‬ثقافيا‪ ،‬كانت الهيمنة‬ ‫فيها للثقافة امل�سيحية الغربية من دون �أن ي�ستدعي �أي ح�سم لأي اجتاه من االجتاهات‪ .‬فقد عانى‬ ‫اللبنانيون من عنف ت�صارعي تاريخي مل ي�ؤد �سوى �إىل تراجعات �شكلية ذات منحى �سيا�سي‪ ،‬مل‬ ‫ت�ستطع �أن تخرتق العمق الثقايف لأية جمموعة من املجموعات الطائفية ال�سالفة الذكر‪ ،‬لكن ذلك‬ ‫مل مينع من تبني مواقف لينة �أدت �إىل قيام تعاي�ش فريد ولكنه متوتر‪.‬‬ ‫لذلك وجد امل�سيحيون يف التجريد حماكاة الن�صراف �صوب الثقافة الغربية‪ ،‬ومل جتد املجموعات‬ ‫اال�سالمية فيه �أي تناق�ض مع ثقافتها‪ .‬لكن �صراعا ثقافيا �آخر ن�ش�أ على قاعدة ا�شكالية الهوية‬ ‫اللبنانية التي مل حت�سم يوما‪ ،‬بل كانت جتد يف املنطق التوافقي �صيغة «ف�ضلى» ال�ستمرار التعاي�ش‪.‬‬ ‫يف حني �أن التجريدية الغربية مل جتد غ�ضا�ضة يف تلقف معايري التجريد امل�ستوحاة من الثقافات‬ ‫الب�صرية املختلفة‪ ،‬وال�صراع الفكري الغربي �أخذ مناح خمتلفة حول التجريد الهند�سي �أو ال�شكلي‬ ‫�أو التجريد اللوين الذي �صيغ على قواعد ا�ستفزاز العاطفة او التما�س العاطفي بالتوليفات اللونية‬ ‫امل�ستندة اىل امل�ساحات ذات الأبعاد الطبيعية (من الطبيعة وامل�شهد الطبيعي)‪.‬‬

‫‪110‬‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫اللية‬ ‫طبيعة‬ ‫الثنائيات ال ّد ّ‬ ‫ّ‬

‫يف �شعر قا�سم ح ّداد‪ :‬من خالل «عالج امل�سافة» و«دع املالك»‬ ‫ل�ؤي زيتوين ‪ -‬باحث و�أكادميي‬

‫الدخول يف احلديث عن ال ّتجربة ال�شّ عر ّية‪ ،‬من �أكرث املوا�ضيع ال ّنقد ّية ح�سا�س ّيةً‪ ،‬و�أو�سعها‬ ‫يعد ّ‬ ‫ّ‬ ‫ت�ش ّعباً‪ ،‬ملا للعوامل اخلارجة على ال�شّ عر نف�سه من دو ٍر م�ؤ ّث ٍر يف عمل ّية تكوين تلك ال ّتجربة ومنح‬ ‫والفن‪ .‬فقد ترتبط جتربة ال�شّ اعر بالبيئة‬ ‫�صاحبها �أبعاداً جديد ًة لر�ؤيته الفريدة �إىل احلياة والكون ّ‬ ‫مني الذي تك ّونت‬ ‫اجلغراف ّية واالجتماع ّية التي يدور خطابه ال�شّ ّ‬ ‫عري فيها‪� ،‬إىل جانب احل ّيز ال ّز ّ‬ ‫فيه‪ .‬وهذا دون �أن نغفل عن الأطر الثّقاف ّية ّ‬ ‫الذات ّية واملو�ضوع ّية التي تدفع هذا ال�شّ اعر �إىل تكوين‬ ‫تلك الر�ؤية يف ظ ّلها‪ .‬من هذا املنطلق‪ ،‬ونظراً لت�شّ عب امل�ؤّثرات التي ت�ضغط عليها‪ ،‬كانت ال ّتجربة‬ ‫هي الفعل الذي ي�ضع ال�شّ اعر يف مواجه ٍة كيان ّي ٍة مع ما يحيط به من عنا�صر الوجود على خمتلف‬ ‫عري‪.‬‬ ‫م�ستوياته‪ ،‬ل ُيظهر �صراعاً حا ّداً يتج ّلى يف نتاجه ال�شّ ّ‬ ‫حداد بو�صفه نتاج مرحل ٍة ت�صاعد ّي ٍة يف احلداثة‬ ‫ويف �ضوء هذه ال ّنظرة ميكننا �أن نقر�أ �شعر قا�سم ّ‬ ‫البحري على �أطراف �شبه اجلزيرة العرب ّية‪ ،‬ومن حيث احل�ضور‬ ‫ال�شّ عر ّية‪ ،‬وبيئ ٍة مم ّيز ٍة من حيث املوقع‬ ‫ّ‬ ‫االجتماعي الذي ي ّتخذ طابعاً عا ّماً مع تن ّو ٍع ٍ‬ ‫الداخل ّية‪ .‬وهو الأمر الذي ينتج وجه ًة‬ ‫ملحوظ يف بنيته ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫احليوي‪ .‬ولعل هذا‪� ،‬إىل جانب‬ ‫خا�صة قد ت�شكل افرتاقا عن حميطها اجلغرايف والديمّ غرايف‬ ‫ّ‬ ‫ثقاف ّي ًة ّ‬ ‫الذات ّية‪ّ ،‬‬ ‫حداد ّ‬ ‫تكوين فريد ًة لتجربة �شعر ّي ٍة‪.‬‬ ‫بحد ذاته عوامل ٍ‬ ‫ي�شكل ِّ‬ ‫ثقافة ّ‬ ‫أهم جوانب هذه ال ّتجربة‪ ،‬انطالقاً من كونها تنتمي �إىل ال�شّ عر احلديث‪ ،‬تك�شف عن‬ ‫على �أنّ من � ّ‬ ‫ٍ‬ ‫�صراعات مع الوجود وعنا�صره‪ ،‬ملا تب ّينه هذه من جوانب ال ّر�ؤية‬ ‫كوامنها من خالل ما متلكه من‬ ‫عري‪ .‬ويف‬ ‫التي ميتلكها ال�شّ اعر‪ ،‬واملتج ّلية بو�ساطة الثّنائ ّيات ّ‬ ‫الدالل ّية التي ينبني عليها ّن�صه ال�شّ ّ‬ ‫مهماً من مفا�صل ال ّت ّعمق يف‬ ‫هذا املجال‪ ،‬تبدو م�س�ألة الك�شف عن طبيعة تلك الثّنائ ّيات مف�ص ًال ّ‬ ‫عري‪ .‬ومع �إنتاجه الوفري‪ ،‬تبدو العودة �إىل منوذجني مت� ّأخرين من �إنتاجه ذات‬ ‫ن�ص قا�سم ّ‬ ‫حداد ال�شّ ّ‬ ‫ّ‬

‫‪111‬‬


‫والفن‪ .‬وعلى‬ ‫أهم ّية‪ ،‬نظراً لل ّن�ضج الذي يحمالنه‪ ،‬واملعبرّ عن التكامل يف ر�ؤيته نحو احلياة والكون ّ‬ ‫� ّ‬ ‫‪2‬‬ ‫‪1‬‬ ‫ال�صادرين خالل العقد‬ ‫هذا الأ�سا�س توقّفت درا�ستنا على ديوانيَ «عالج امل�سافة» و«دع املالك» ّ‬ ‫املا�ضي‪ ،‬مع ما يعنيه ذلك من تن ّو ٍع ال ّنماذج ال�شّ عر ّية التي تطالعنا‪.‬‬ ‫الغربة‪ ،‬الفرد‪/‬اجلماعة‪:‬‬

‫يف متابع ٍة ّ‬ ‫املحوري لإح�سا�س ال�شّ اعر‬ ‫الديوانني‪ ،‬نالحظ احل�ضور‬ ‫ف�سي الذي يربط ق�صائد ّ‬ ‫ّ‬ ‫للخط ال ّن ّ‬ ‫ٍ‬ ‫خمتلف‬ ‫ب�شكل‬ ‫بالغربة‪ .‬وهو �شعو ٍر قد ن�صادفه لدى معظم ال�شّ عراء‪� ،‬إ ّال �أ ّنه يظهر لدى قا�سم ّ‬ ‫حداد ٍ‬ ‫اجلذري عن‬ ‫ي�ضفي مت ّيزاً على ر�ؤيته‪ ،‬وبال ّتايل على �شعره‪ .‬فمفهوم الغربة هنا نابع من االفرتاق‬ ‫ّ‬ ‫العاطفي‪.‬‬ ‫منهج تفكري اجلماعة التي حتيط به‪ ،‬كما عن طبيعة تكوينها‬ ‫ّ‬ ‫�صراع‬ ‫انطالقاً من ذلك‪ ،‬جند مفهوم الغربة يتج ّلى من خالل ثنائ ّية الفرد واجلماعة‪ ،‬باال�ستناد �إىل ٍ‬ ‫بني ح�ضور الفرد بو�صفه كياناً م�ستق ًّال‪ ،‬وبني اجلماعة التي تفر�ض هيمنتها وقوانينها على �أبنائها‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫حداد‬ ‫ولعل هذا ما ميكن �أن نفهمه من رمز ال�شّ جرة يف ق�صيدته «يف �ضيافة ال�شّ جرة»‪ ،‬حيث ي�صفها ّ‬ ‫ب�أ ّنها‪:‬‬ ‫«متنح القدمني ري�شاً‬ ‫ ‬ ‫وتطلق اخل�ضرة يف هيئة البحر‬ ‫ ‬ ‫�شجرة كرمية لطيفة املع�شر‬ ‫ ‬ ‫كثرية البكاء‬ ‫ ‬ ‫تر�أف بحزنك‬ ‫ ‬ ‫‪3‬‬ ‫ ‬ ‫وال ت�شبه الغابة» ‪.‬‬ ‫ال�سابق �أن نرى ال ّنهاية التي ف ّرقت ال�شّ جرة املعن ّية عن الغابة‪ ،‬فنزعت �إطار املفهوم‬ ‫ميكننا يف املقطع ّ‬ ‫قليدي الذي يجعل من ال�شّ جرة باملطلق جزءاً من الغابة؛ غري �أنّ العبارة الأخرية من املقطع‬ ‫ال ّت ّ‬ ‫اجلذري بينهما‪ .‬فمن الوا�ضح للقارئ �أنّ ال�شّ جرة التي امتلكت �صفة‬ ‫تو�ضح هذا االختالف‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫الب�شري من‬ ‫و�صفات تفوق اجلن�س‬ ‫الإن�سان املتع ّلقة بال ّر�أفة والبكاء والكرم وال ّلطف من ناحية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ناحي ٍة �أخرى‪ ،‬و�أعني منح ال ّري�ش و�إطالق اخل�ضرة؛ هذه ال�شّ جرة �أظهرت تفوقاً على طبيعة الغابة‪،‬‬ ‫ما جعلها تنف�صل كل ّياً عنها ل ُتربز اجلوانب ال ّنف�س ّية املتع ّلقة باحل ّر ّية والعطاء‪� ،‬إىل جانب العاطفة‬ ‫الدائر يف خلد ال�شّ اعر بينه‪ ،‬بو�صفه الفرد‪ -‬ال�شّ جرة‪ ،‬وبني املجتمع‪-‬‬ ‫ال�صراع ّ‬ ‫املفرطة‪ ،‬وهو ما �أبرز ّ‬ ‫ ‬ ‫ ‪2‬‬ ‫‪ 3‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪112‬‬

‫للدرا�سات وال ّن�شر‪ّ ،‬‬ ‫الطبعة الثانية‪.2002 ،‬‬ ‫حداد‪ :‬عالج امل�سافة‪ .‬بريوت‪ ،‬امل� ّؤ�س�سة العرب ّية ّ‬ ‫قا�سم ّ‬ ‫حداد‪ :‬دع املالك‪ .‬دم�شق‪ ،‬دار كنعان‪ّ ،‬‬ ‫الطبعة الأوىل‪.2009 ،‬‬ ‫قا�سم ّ‬ ‫حداد‪ :‬دع املالك‪� .‬ص‪.65‬‬ ‫قا�سم ّ‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫الغابة‪ .‬و�أن تكون ذات ال�شّ اعر هي �شجرة الر�أفة واحلر ّية والعطاء‪ ،‬جعلها تقع يف غربة �شديد ٍة مع‬ ‫ال�صفة من بدائ ّي ٍة وابتعا ٍد عن مظاهر‬ ‫املحيط‬ ‫االجتماعي الذي ا ّت�صف بكونه غابةً‪ ،‬مع ما تعنيه هذه ّ‬ ‫ّ‬ ‫احل�ضاري والثّقا ّيف‪.‬‬ ‫ال ّتط ّور‬ ‫ّ‬ ‫عري الذي قر�أناه ال يبينّ �سوى �صورة‬ ‫على �أنّ مظهر الغربة هذا ال يوحي بالأمل لأنّ املقطع ال�شّ ّ‬ ‫حد ًة مع رم ٍز دال ٍّيل �آخر هو رمز املقهى‬ ‫االفرتاق عن املجتمع‪� .‬إ ّال �أنّ ح�ضور هذه الثّنائ ّية يبدو �أكرث ّ‬ ‫ب�أبعاده ال ّنف�س ّية والفكر ّية‪� ،‬إذ يغدو هذا ال ّرمز �صور ًة درام ّي ًة عن حال ال�شّ اعر تمُ اهي بني الغربة‬ ‫والوحدة يف �آن‪ّ .‬‬ ‫يوجههنا �إليه املقطع ال ّتايل‪:‬‬ ‫ولعل هذا ما ّ‬ ‫َ‬ ‫وحيد مثلك‬ ‫ ‬ ‫«مقهاك‪ٌ ،‬‬ ‫وحيد بدونك‬ ‫ ‬ ‫ٌ‬ ‫من�سي يف وح�شة ال ّر�صيف‬ ‫ ‬ ‫ٌّ‬ ‫حمت�شد ب�أحالم االنتظار والفقد‬ ‫ ‬ ‫ٌ‬ ‫جراح قلبه مندلع ٌة يف المباالة العابرين‬ ‫ ‬ ‫ُ‬ ‫يحدق يف خطواتهم‬ ‫ ‬ ‫ّ‬ ‫منتظراً يداً ّ‬ ‫حتط على ذراعه املرتوكة‬ ‫ ‬ ‫َ‬ ‫مقهاك‬ ‫ ‬ ‫َ‬ ‫ينتظرك‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫مثل غاب ٍة مكنوز ٍة بطيور الوح�شة» ‪.4‬‬ ‫ا�ستخدام رمز املقهى هنا كان فع ًال دالل ّياً يهدف �إىل �إ�سقاط احلال التي تعي�شها ذات ال�شّ اعر على‬ ‫املقهى‪ ،‬ف�ضمري الغائب املفرد الذي يعود �إىل املقهى اتحّ د مع �ضمري َ‬ ‫املخاطب املف َرد ليب ّينا معاناة‬ ‫الفرد �ضمن اجلماعة التي برزت يف �ضمري الغائب للجمع ويف اجلموع (العابرين‪ -‬خطواتهم‪ -‬طيور‬ ‫الوح�شة)‪ .‬فاملفرد حمل معاناة الوحدة وال ّتجاهل واالنتظار والأمل‪ ،‬بينما اجلمع مت ّيز باللاّ مباالة‬ ‫وتهدد وجوده‪ .‬مع‬ ‫والق�سوة والوح�شة‪ ،‬وهذا ما يعطي الثّنائ ّية معانٍ �أعمق و�أكرث ا ّت�ساعاً حتيط بالفرد ّ‬ ‫الإ�شارة �إىل �أنّ ظهور الفرد هنا جاء بنتيجة مت ّيزه عن املجموع‪ ،‬فامل�شاعر التي نقع عليها لديه تقابلها‬ ‫الالمباالة واخلل ّو من بوادر الإح�سا�س لديهم‪.‬‬ ‫ال�صراع الذي تربزه ثنائ ّية الفرد‪/‬اجلماعة‪ ،‬قد يظ ّنه البع�ض ق�سر ّياً‪ ،‬نظراً للأمل الذي يظهره‬ ‫غري �أنّ ّ‬ ‫ال�سابق‪ .‬لك ّننا نرى يف الكثري من الأحيان بروزاً اختيار ّياً لهذا ال ّتغ ّرب‪ ،‬فت�صبح عمل ّية‬ ‫املقطع ّ‬ ‫االنف�صال عن املجموع م�س�ألة �إراد ٍة وقرار ت�شبه فعل ال ّرحيل‪ ،‬مع �ضرورة الإ�شارة �إىل �أ ّنه رحيل‬ ‫يف ّ‬ ‫الذات‪:‬‬ ‫‪ 4‬‬

‫حداد‪ :‬دع املالك‪� .‬ص‪ .52 -51‬‬ ‫قا�سم ّ‬ ‫‪113‬‬


‫ٌ‬ ‫«رحيل ي�ضع زفري �أحالمنا يف ال ّتجربة‬ ‫ ‬ ‫جامح‬ ‫ ‬ ‫يع ّرينا من ٍ‬ ‫حنني ٍ‬ ‫ٌ‬ ‫فادح‬ ‫ ‬ ‫رحيل ٌ‬ ‫خل ْعنا له �أجمل قم�صاننا‬ ‫ ‬ ‫لنجد �أع�ضاءنا م�ستوح�ش ًة يف وحدة ّ‬ ‫الطريق‬ ‫ ‬ ‫َ‬ ‫اجلراح‬ ‫ ‬ ‫جارح ي� ّؤجج َ‬ ‫يف ٍ‬ ‫ملح ٍ‬ ‫‪5‬‬ ‫اخلفي من �أ�سرارنا»‬ ‫ ‬ ‫متو ّغ ًال يف ّ‬ ‫جراح و�أ ٍمل ووح�ش ٍة‬ ‫ال�سياق �إىل ٍ‬ ‫عمل � ٍّ‬ ‫إرادي‪ ،‬مع ّ‬ ‫يت�ضمنه من ٍ‬ ‫مفهوم ال ّرحيل يتح ّول يف هذا ّ‬ ‫ووحدة‪ ،‬لأ ّنه ي�ضع مكنونات ّ‬ ‫الذات �أمام ال ّتجربة الفعل ّية التي تظهر �أ�سرار ال ّنف�س‪ .‬وبال ّتايل ف�إنّ‬ ‫تغ ّرب الفرد ووحدته داخل جمتمعه لي�س فع ًال �سلب ّياً باملطلق‪ ،‬بل فعل ال ّبد منه لإثبات حقيقة‬ ‫ذاته وخفاياها وقدراتها‪ .‬مع العلم �أنّ هذه احلال ال تتع ّلق بفر ٍد بعينه‪ ،‬بل ميكن �أن تكون حا ًال‬ ‫جمموع من الأفراد‪ ،‬يف مواجهة حالٍ اجتماعي ٍة «غاب ّية» �سائدة‪.‬‬ ‫مو�سع ًة لدى‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ف�سي املتع ّلق ب�صراع‬ ‫الدالل ّية لدى قا�سم ّ‬ ‫وبنا ًء عليه‪ ،‬نالحظ �أنّ الثّنائية ّ‬ ‫حداد ت ّت�سم بالبعد ال ّن ّ‬ ‫ال�سائدة‪ ،‬وهي احلال التي دفعت به ل ّلجوء �إىل الغربة‬ ‫ال�شّ اعر �ضد حال ال ّت ّفكك‬ ‫االجتماعي ّ‬ ‫ّ‬ ‫ال ّنف�س ّية التي تبقى حا ًال �أف�ضل من االنخراط يف «الغابة» االجتماع ّية والمباالتها‪ ،‬من الناحية‬ ‫القيم ّية والفكر ّية‪.‬‬ ‫الرف�ض‪ ،‬الذّات‪/‬الآخر‪:‬‬ ‫ّ‬

‫حداد ال�شّ عر ّية لتتح ّول �إىل حالٍ من ال ّرف�ض احلاد ملعايري الوجود القائمة‬ ‫تتط ّور حال الغربة يف جتربة ّ‬ ‫والتي ت ّت�سم باالنحراف‪ ،‬فالواقع املعا�ش يبقى بعيداً ّ‬ ‫الطموحات والقيم التي ينظر �إليها ال�شّ اعر‪،‬‬ ‫اجلد ّية التي تتمثّل �أوىل درجاتها بهذا ال ّرف�ض‪ .‬وت�أتي‬ ‫وبال ّتايل ف�إنّ عليه �أن يدخل يف �إطار املواجهة ّ‬ ‫لتج�سد هذا ال ّرف�ض‪ ،‬فتربز ّ‬ ‫ثنائ ّية ّ‬ ‫الذات بو�صفها مم ّث ًال ّ‬ ‫وعي‬ ‫لكل ٍ‬ ‫ال�سياق ّ‬ ‫الذات‪/‬الآخر يف هذا ّ‬ ‫أهميتها يف احلياة‪ ،‬بينما يتج ّلى الآخر يف القوى التي تفر�ض قيودها على تلك‬ ‫بقيمة احلر ّية و� ّ‬ ‫ّ‬ ‫الذات‪ .‬وبنا ًء عليه‪ ،‬كانت عمل ّية الوعي هي �أوىل عنا�صر ال ّرف�ض‪:‬‬ ‫املتهد ُج‬ ‫ ‬ ‫«مثله‪� ،‬صوتي ّ‬ ‫ميدح الأث َري‬ ‫ ‬ ‫ُ‬ ‫وي�صقل معدن الفرا�شات‬ ‫ ‬ ‫مثله‪ ،‬مثله‬ ‫ ‬ ‫‪ 5‬‬ ‫‪114‬‬

‫حداد‪ :‬عالج امل�سافة‪� .‬ص‪.14‬‬ ‫قا�سم ّ‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫ك ّلما طار بي � َ‬ ‫إليك‬ ‫ ‬ ‫ت�ش ّبثت خطواتي بال ّتي ِه‬ ‫ ‬ ‫‪6‬‬ ‫وعرفت ّ‬ ‫ ‬ ‫الطريق» ‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ال�صوت الذي يفر�ض نف�سه بو�صفه الوعي �أو املعرفة‪ ،‬لأ ّنه �أو�صل ال�شّ اعر مع نهاية‬ ‫يطالعنا هنا رمز ّ‬ ‫املقطع �إىل معرفة ّ‬ ‫الطريق‪� ،‬أي معرفة الوجهة التي يجب �أن يق�صدها‪ .‬ومبا �أ ّنه يت�ش ّبث بال ّتيه‪ ،‬ف�إنّ هذا‬ ‫ّ‬ ‫ال�سائد هو ّ‬ ‫الطريق املن�شودة‪ّ .‬‬ ‫ولعل هذا ما يجعلنا نت�ساءل‬ ‫يدل على وعيه ب�أنّ االنحراف عن الواقع ّ‬ ‫ين ّ‬ ‫عن ماه ّية تلك الطريق‪ ،‬فتظهر �أمامنا �صورة احل ّرية التي ت�أتي على �شكل ٍ‬ ‫يوظفها‬ ‫عازف �إ�سبا ٍّ‬ ‫أهم ّية اخلروج على الواقع‪:‬‬ ‫ال�شّ اعر للإ�ضاءة على � ّ‬ ‫«ل�ست له‬ ‫ ‬ ‫َ‬ ‫ال ي�سمعك‬ ‫ ‬ ‫وال َ‬ ‫يراك‪،‬‬ ‫ ‬ ‫عيناه طائرانِ‬ ‫ ‬ ‫و�أ�صابعه ٌ‬ ‫فرا�ش يف ّر من �أوتار ِه‬ ‫ ‬ ‫م�سقي بحنني اجلمر‪.‬‬ ‫ ‬ ‫�شرا ٌر ٌّ‬ ‫لي�س َ‬ ‫لك‬ ‫ ‬ ‫لن َ‬ ‫ت�صل �إليه‪،‬‬ ‫ ‬ ‫هناك‬ ‫ ‬ ‫‪7‬‬ ‫يف الأوج»‬ ‫ ‬ ‫الثّنائ ّية تتج ّلى يف هذا املقطع من خالل �ضم َريي املفرد الغائب واملخاطب‪ ،‬حيث تربز حمور ّية‬ ‫ال�ضمري الغائب لتعبرّ عن ّ‬ ‫ثانوي ل�ضمري املخاطب لي�ؤ ّدي دور‬ ‫ّ‬ ‫الذات املتح ّررة‪ ،‬يف مقابل ح�ضو ٍر ٍّ‬ ‫ال�ضمريين بحيث يبدو الغائب «يف الأوج» بعيداً عن متناول‬ ‫الآخر‪ .‬ونرى االفرتاق احلا ّد بني ّ‬ ‫خا�صة‪( :‬طائران‪ -‬فرا�ش‪� -‬شرار)‪ ،‬فهذا‬ ‫املخاطب‪� .‬أ ّما �أن تلحق بذاك الغائب (العازف) موا�صفات ّ‬ ‫ّ‬ ‫يدل على �أ ّنه ميثّل �صورة احل ّرية التي تبتعد عن ّ‬ ‫�شكل من �أ�شكال القيود‪ ،‬وهو ما دفع �إىل‬ ‫كل ٍ‬ ‫�إطالق ال ّنفي للمخاطب بالقول‪« :‬لي�س لك‪ -‬لن ت�صل �إليه»‪.‬‬ ‫واحد‪� ،‬أو مب�ست ًوى ٍ‬ ‫ب�شكل ٍ‬ ‫واحد يف ذهن‬ ‫�إ ّال �أنّ هذه احلر ّية التي تنتج عن رف�ض الواقع‪ ،‬ال ترتبط ٍ‬ ‫جمتمع تدور �آرا�ؤه عنها‬ ‫حداد �إىل ال ّن�ساء يف‬ ‫ال�شّ اعر‪ .‬فمن �أوجه هذا ال ّرف�ض ما يتج ّلى يف نظرة ّ‬ ‫ٍ‬ ‫حول �أفكا ٍر م�سبق ٍة ومق ِّيد ٍة لكيانها‪ ،‬الأمر الذي حدا به �إىل �إبراز رف�ضه املتماهي مع رف�ضها لهذه‬ ‫وال�سالم يف الوجود‪:‬‬ ‫ال�سائدة‪ ،‬وت�صويرها بو�صفها كائناً ح ّراً يتوقّف عليه ا�ستمرار الأمن ّ‬ ‫الآراء ّ‬ ‫‪ 6‬‬ ‫‪ 7‬‬

‫حداد‪ :‬دع املالك‪� .‬ص‪.41‬‬ ‫قا�سم ّ‬ ‫حداد‪ :‬دع املالك‪� .‬ص‪.26 -25‬‬ ‫قا�سم ّ‬ ‫‪115‬‬


‫«وحيدات‬ ‫ ‬ ‫ال�سهرة‬ ‫ ‬ ‫ّ‬ ‫لهن �أ�صابع حت�سن القب�ض على قناديل ّ‬ ‫فال يعود ل ّليل قرينة للغدر‬ ‫ ‬ ‫لل�ضغينة‬ ‫ ‬ ‫وال عذر ّ‬ ‫ير�سمن ّ‬ ‫لكل ٍ‬ ‫مهد غيم ًة من ال ّنوار�س‬ ‫ن�سا ٌء‬ ‫ ‬ ‫َ‬ ‫ال�سفن‬ ‫ ‬ ‫املوج على تبادل ّ‬ ‫ح ّتى يو�شك ُ‬ ‫ال�صفات مع ّ‬ ‫والبيا�ض ال�شّ اهق‬ ‫ ‬ ‫لتنبعث من ري�ش الو�سائد لثغ ُة ّ‬ ‫الطفولة‬ ‫ ‬ ‫‪8‬‬ ‫وهي تن�ش�أ يف �سالل ٍة تبتكر ال ّن�شيد»‬ ‫ ‬ ‫فهن خارجات عن املجتمع‬ ‫ال�سابق ّ‬ ‫ال�ضوء على كون ال ّن�ساء وحيدات‪ ،‬وبال ّتايل ّ‬ ‫يلقي املقطع ّ‬ ‫�صفاتهن تتم ّيز بالإيجاب ّية ّ‬ ‫ب�شكل �أو ب�آخر‪ .‬ومع ذلك ف�إنّ‬ ‫قدرتهن‬ ‫الطاغية‪ ،‬خ�صو�صاً يف‬ ‫ال�سائد ٍ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫بال�ضوء وحتويل ال ّرمزية املرتبطة بال ّليل والقائمة على الغدر واحلقد‪� ،‬إىل ال ّنقي�ض‬ ‫على الإم�ساك ّ‬ ‫خ�صو�صيتهن يف م�س�ؤول ّيتهن عن الوالدة التي ت ّتخذ معنى‬ ‫املتمثّل بالأمان واملح ّبة‪ .‬كما تتج ّلى‬ ‫ّ‬ ‫أهم ّية اخلروج‬ ‫ال ّت ّ‬ ‫جدد العا ّم يف احلياة‪ .‬ويبدو غياب اجلن�س الآخر هنا عالم ًة دالل ّي ًة تعطي انطباعاً ب� ّ‬ ‫الك ّل ّي عن قيم الفكر ّ‬ ‫ال�سائد يف املجتمع‪.‬‬ ‫الذ ّ‬ ‫كوري ّ‬ ‫ّ‬ ‫اخلا�ص لل ّرف�ض يقودنا �إىل وج ٍه �آخر م�ضمونه رف�ض �أ�شكال الغطر�سة كافّة‪،‬‬ ‫ولعل هذا الوجه ّ‬ ‫بنماذجها ّ‬ ‫اخلا�صة‪ّ .‬‬ ‫ولعل هذا ما يدخلنا �إليه رمز اجلبل يف‬ ‫الذكور ّية العا ّمة �أو بنماذجها ال�سلطو ّية ّ‬ ‫ختام ق�صيدة «ظال ٌم َ‬ ‫عليك �أ ّيها اجلبل»‪ ،‬حيث يقول‪:‬‬ ‫«نقول له‪� :‬سئمنا �س ّيداً‬ ‫ي�سكت عن �أحفاده‬ ‫ ‬ ‫ُ‬ ‫ويطلق لأ�سالفه �سطوة ال ّندم‬ ‫ ‬ ‫ٌ‬ ‫ال�صيارفة‬ ‫ ‬ ‫جبل َي ْن َه ُر �أحال َمنا وي�شي بنا يف حمفل ّ‬ ‫يقودنا ب�أد ّالئه املذعورين‬ ‫ ‬ ‫الدول‬ ‫ ‬ ‫ويعتذر عن �أجمل �أخطائنا �أمام قنا�صل ّ‬ ‫ومبعوثي اجليو�ش‬ ‫ ‬ ‫ً ‪9‬‬ ‫ترح ُل �أي�ضا»‬ ‫ ‬ ‫نقول للجبل‪ :‬اجلبال َ‬ ‫جلي للقارئ �أنّ رمز اجلبل يتل ّب�س �صفات ّ‬ ‫ال�سلطة‬ ‫الطاغية‪ ،‬ولذلك ف�إنّ الآخر هنا قد يتمثّل يف ّ‬ ‫ٌّ‬ ‫القمع ّية التي متار�س غطر�ستها على �أبناء ال�شّ عب وتعمل على �إذاللهم‪ ،‬ح ّتى �أمام ال�شّ عوب‬ ‫ينم عن معاين ال ّت�س ّلط‪.‬‬ ‫الأخرى؛ �أ�ضف �إىل ذلك �أنّ اجلبل يوحي بالعظمة واجلربوت الذي ّ‬ ‫‪ 8‬‬ ‫‪ 9‬‬ ‫‪116‬‬

‫حداد‪ :‬عالج امل�سافة‪� .‬ص‪.43 -42‬‬ ‫قا�سم ّ‬ ‫املرجع نف�سه‪� .‬ص‪.10‬‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫ال�سيطرة‪ .‬والعالمة التي تلفت ال ّنظر هنا‬ ‫وهذا ما يجعل ال ّرف�ض قائماً هنا على الوقوف ّ‬ ‫�ضد تلك ّ‬ ‫املوجهة �إىل اجلبل بالقول‪« :‬اجلبال ترحل �أي�ضاً»‪ ،‬لكونها تثري يف ذهن‬ ‫تتج ّلى يف العبارة الأخرية ّ‬ ‫القارئ �شعوراً ب�أعلى حاالت ال ّرف�ض‪ ،‬فمخاطبة ّ‬ ‫حدي‬ ‫بنوع حا ٍّد من ال ّت ّ‬ ‫الطاغية بهذا ال�شّ كل ت�شي ٍ‬ ‫يغدو معها الأمل حا�ضراً يف حتقّق اخلال�ص‪.‬‬ ‫هذا املنوال ينتقل بنا �إىل وج ٍه ٍ‬ ‫ال�سابق مي ّرر �إ�شار ًة �إىل امل�ستعمِ ر‬ ‫جديد من وجوه ال ّرف�ض‪ ،‬فاملقطع ّ‬ ‫ب�شكل‬ ‫لكن ال�شّ اعر ال يكتفي بذلك‪ ،‬بل ينقل لنا احلال التي يعي�شها جمتمعه ٍ‬ ‫مبختلف �ألوانه‪ّ .‬‬ ‫�أو�ضح‪ ،‬خ�صو�صاً �أن تلك احلال كانت طوع ّي ًة ال بالإكراه‪ ،‬وهذا ما ّ‬ ‫بحد ذاته‪:‬‬ ‫ي�شكل املفارقة ّ‬ ‫واطئ‬ ‫ ‬ ‫«�أمل نفتح لهم ال�شّ َ‬ ‫ُي�صفّونَ فيها ُ�س ُف َنهم ّ‬ ‫الطويلة‬ ‫ ‬ ‫ �أمل َنر�سم لهم ال ّنخل‬ ‫ٍ‬ ‫ا�صطبالت وثرية‬ ‫ ‬ ‫الـم ِ�ص ّن ِات‬ ‫ ‬ ‫َين�سِ لونَ فيها من �صافناتهم ُ‬ ‫جنائب اخليلْ‬ ‫ ‬ ‫و�صرب احلقولِ‬ ‫ ‬ ‫ال�س ْع ِف َ‬ ‫نبني ل�صيفهم املرتف �أ�سِ ّرة ّ‬ ‫الفج‬ ‫ ‬ ‫ينامون يف �أحالمهم لي�صل �إلينا �شخ ُريهم ّ‬ ‫‪10‬‬ ‫�شخ ٌري ُيذعِ ُر �أطفا َلنا ويف ِّزز ُهم من اليقظةْ»‬ ‫ ‬ ‫الدخول يف عمل ّي ٍة نقد ّي ٍة مل�س�ألة‬ ‫تظهر �صورة امل�ستعمِ ر هنا على �شكل‬ ‫بالغي مط ّول يق�صد ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ا�ستفهام ٍّ‬ ‫قدي يطال ّ‬ ‫الذات �أي�ضاً‬ ‫ولكن هذا الفعل ال ّن ّ‬ ‫لل�صورة؛ ّ‬ ‫اال�ستعمار بطبيعة احلال‪ ،‬يف الوجه املبا�شر ّ‬ ‫باعتبار �أنّ جمتمع ال�شّ اعر والق ّيمني عليه هم الذين �ش ّرعوا الأبواب �أمام هذا امل�ستعمِ ر دون حتفّظ‪،‬‬ ‫خدم عنده �أو �إىل جم ّرد متلقّني لنتائج �أفعاله‪ .‬وقد يكون يف‬ ‫ح ّتى حت ّول �أبناء هذا املجتمع �إىل جم ّرد ٍ‬ ‫بحد ذاتها جت ّلياً لال�ستنكار �أو ال ّرف�ض يف مواجهة ت�سليم البالد و�أبنائها �إىل الآخر‪.‬‬ ‫�صيغة اال�ستفهام ّ‬ ‫ال�صورة لتبلغ رف�ضاً ّ‬ ‫لكل �أ�شكال «ال ّتغريب الثّقا ّيف‬ ‫الدائرة ّ‬ ‫وقد ت ّت�سع ّ‬ ‫الدالل ّية التي ت�شملها هذه ّ‬ ‫خا�ص‪ ،‬وما مظهر «ال�شّ خري» الذي يذعر الأطفال �إ ّال‬ ‫إرادي» احلا�صل يف جمتمع ال�شّ اعر ٍ‬ ‫ال ّ‬ ‫ب�شكل ّ‬ ‫�شك ًال من �أ�شكال الإ�ستالب الثّقا ّيف احلا�صل طوعاً يف ذاك املجتمع‪.‬‬ ‫الدالل ّية داخل ال ّن ّ�ص‬ ‫ا�ستناداً �إىل ما �سبق‪ ،‬ميكن مالحظة ال ّتط ّور امللفت يف تركيب الثّنائ ّيات ّ‬ ‫حداد‪� .‬إذ �أنّ جتليها يف �صورة ّ‬ ‫الذات‪/‬الآخر �إظهاراً لعمل ّية ال ّرف�ض احلا ّدة‬ ‫عري لدى قا�سم ّ‬ ‫ال�شّ ّ‬ ‫دالالت مت�ش ّعب ٍة تطال مفاهيم املجتمع ّ‬ ‫ٍ‬ ‫كوري‬ ‫الدخول يف‬ ‫لهيمنة الواقع املنحرف‪� ،‬أ ّدت �إىل ّ‬ ‫الذ ّ‬ ‫وال�سلطة القمع ّية وال ّت�سليم باال�ستعمار‪ .‬ومن خالل ذلك‪ ،‬نالحظ ارتباطاً وثيقاً لهذه الثّنائ ّيات‬ ‫ّ‬ ‫حد �سواء‪.‬‬ ‫بوجود ال�شّ اعر‪ -‬الإن�سان فرد ّياً وجماع ّياً على ٍّ‬ ‫حداد‪ :‬عالج امل�سافة‪� .‬ص‪.54 -53‬‬ ‫‪ 1 0‬قا�سم ّ‬ ‫‪117‬‬


‫املواجهة‪ ،‬الأنا‪/‬املوروث‪:‬‬

‫وحد ًة مع تنامي احلال ال�شّ عور ّية التي تعتمل يف ذاته‪،‬‬ ‫حداد �أبعاداً �أكرث تط ّوراً ّ‬ ‫ت�أخذ جتربة قا�سم ّ‬ ‫لبي �أو‬ ‫ومع نفاذ نظرته �إىل زوايا �أكرث ح�سا�سيةً‪ .‬فهو ال ي�ستطيع �أن يبقى عند حدود ال ّتو�صيف ّ‬ ‫ال�س ّ‬ ‫ين‪ .‬ولذلك‪ ،‬يتح ّول �إىل مرحلة االندفاع يف‬ ‫عند ال ّرف�ض الذي ي ّتخذ وجهاً دفاع ّياً عن كيانه الإن�سا ّ‬ ‫الدرجات‪ ،‬ليعمل على ك�شف مكامن اخللل يف بنية جمتمعه وعلى‬ ‫�صراعه الوجودي ح ّتى �أق�صى ّ‬ ‫الدخول فيها‬ ‫الدخول �إىل عوامل حمظور ٍة �أو حم ّرمة‪ ،‬وقد ُي�ص َّنف ّ‬ ‫مهاجمتها؛ وهو بهذا يبيح لنف�سه ّ‬ ‫تتحدد الثّنائ ّية‬ ‫�ضرباً من �ضروب ال ّتجديف‪ ،‬ال�س ّيما يف ٍ‬ ‫زمن مثل الذي نعي�شه‪ .‬ومن هذا املنطلق ّ‬ ‫ال�صراع احلا ّد‪ .‬ومن هذا املوروث ما يرتبط ببنية‬ ‫ّ‬ ‫الدالل ّية املتمثّلة يف‪( :‬الأنا‪/‬املوروث) لتربز هذا ّ‬ ‫حداد يف ق�صيدته «القبائل»‬ ‫املجتمع وطبيعة تركيبته التي وجد �أ ّنها قائمة على القبل ّية‪� ،‬إذ يبد�أ ّ‬ ‫يوجه �إليهم ال ّنداء لي�سوا‬ ‫بعبارة‪« :‬جامعو ثروات الثّلج»‪ ،‬لي�شري �إىل �أنّ �أبناء هذا املجتمع الذين ّ‬ ‫�سوى جامعني ٍ‬ ‫يوجه �إليهم الكالم بقوله‪:‬‬ ‫لرثوات �سخيف ٍة وعابرة‪ّ ،‬ثم ّ‬ ‫«فتهتفون لنا ب�أهازيج احلرب‬ ‫ ‬ ‫وبني �أ�سنانكم �أعواد املقا�صل‬ ‫ ‬ ‫ك�أ ّنها الكالم‬ ‫ ‬ ‫ت�ستعيدون �أ�شباحاً من ذخرية املا�ضي‬ ‫ ‬ ‫الكتب‬ ‫ ‬ ‫ُتف َتح لكم ُ‬ ‫وتبد�أ يف تف�سري الهالك‬ ‫ ‬ ‫وهو ي�أخذ �شكل احلكمة‬ ‫ ‬ ‫تزرعون جنائل الثّلج يف �صحراء‬ ‫ ‬ ‫‪11‬‬ ‫يتنا�سل فيها اجلبل وقرينه»‬ ‫ ‬ ‫ٍ‬ ‫وعادات بالية‪ .‬غري‬ ‫حروب وق�سو ٍة‬ ‫ي�شن قا�سم ّ‬ ‫تت�ضمنه من ٍ‬ ‫ّ‬ ‫حداد حمل ًة على طبيعة احلياة القبل ّية مبا ّ‬ ‫وا�ضح �إىل ا�ستمرار تلك احلياة يف �أيامنا احلا�ضرة‪ ،‬الأمر الذي يبدو من‬ ‫�أنّ حملته هذه ت�شري ٍ‬ ‫ب�شكل ٍ‬ ‫خالل �صورة ا�ستعادة الأ�شباح من ذخرية املا�ضي‪ ،‬وهذا ّ‬ ‫يدل على �إدخال املعتقدات القبل ّية يف‬ ‫ال�صورة التي ّقدمها لنا ال�شّ اعر يف نهاية املقطع‪،‬‬ ‫احلياة املعا�صرة‪ .‬ويف هذا املجال‪ ،‬ال ّبد من مالحظة ّ‬ ‫ال�صحراء يعني �أ ّنهم يقومون ب�أعمالٍ غري جمد ّية وال نفع منها‪ .‬وعلى‬ ‫ف�أن يزرع �أولئك الثّلج يف ّ‬ ‫ال�صورة كامل ًة على الواقع لرنى َمن يق�صدهم ال�شّ اعر وقد حاولوا‬ ‫هذا الأ�سا�س ميكن �أن ن�سقط ّ‬ ‫�أن يجمعوا الثرّ وات ّ‬ ‫الطائلة بال هدف‪ ،‬وعملوا على ا�ستح�ضار ال ّتق�سيمات القبل ّية القدمية بو�صفها‬ ‫عاداتهم‪ ،‬ف�ض ًال عن كونهم ا�ستجلبوا ما ال ينتمي �إىل بالدهم من غري فائدة‪.‬‬ ‫حداد‪ :‬عالح امل�سافة‪� .‬ص‪.39-38‬‬ ‫‪ 1 1‬قا�سم ّ‬ ‫‪118‬‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫على �أنّ هذا املوروث ال يقف عند العادات القبل ّية فح�سب‪ ،‬بل ي�شمل العادات البالية ك ّلها لأ ّنها‬ ‫ّ‬ ‫حداد �صراح ًة �إىل هذه العادات وال ّتقاليد التي‬ ‫االجتماعي‬ ‫تدل على املوات‬ ‫والفكري‪ .‬وي�شري ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫مت�سك بها �أبناء جمتمعه ّ‬ ‫الدخول يف حركة ال ّتط ّور‪:‬‬ ‫و�شكلت لهم قيوداً تعيقهم عن ّ‬ ‫ّ‬ ‫«مررنا بهم‬ ‫ ‬ ‫نَف َْ�ضح ُه ْم بذاكرة امل�ستحيل‬ ‫ ‬ ‫القرائن كي ُيكفّوا عن املوت‬ ‫َج َمعنا لهم‬ ‫ ‬ ‫َ‬ ‫ال�ص ِ‬ ‫مت‬ ‫ ‬ ‫الغياب بف�صاح ِة ّ‬ ‫مدحنا لهم َ‬ ‫كي يدركوا ال َفرقَ بني القوامي�س وقناديل الطريق‬ ‫ ‬ ‫‪12‬‬ ‫اخب»‬ ‫ ‬ ‫ال�ص ِ‬ ‫فلم يلتفتوا ومل ُي�صغوا لوقع مرورِنا ّ‬ ‫�صراع بني �ضمري املتك ّلم اجلمع و�ضمري الغائب اجلمع‪ ،‬فالغائب �صار‬ ‫نرى الثّنائ ّية هنا حت ّولت �إىل ٍ‬ ‫الفكري‪� .‬أ ّما املتك ّلم فقد مثّل ق ّوة احلياة بو�ساطة‬ ‫متم�سكاً باملوت وبالقوامي�س التي ن�شري �إىل اجلمود‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ال�صاخب للمرور‪ّ .‬‬ ‫ولعل ح�ضور‬ ‫�صفة‬ ‫جانب‬ ‫إىل‬ ‫�‬ ‫مدحنا‪،‬‬ ‫جمعنا‪-‬‬ ‫نف�ضحهم‪-‬‬ ‫مررنا‪-‬‬ ‫أفعال‪:‬‬ ‫ال‬ ‫ّ‬ ‫ثنائ ّية (الأنا‪/‬املوروث) تتج ّلى يف عبارة «الفرق بني القوامي�س وقناديل ّ‬ ‫الطريق»‪� ،‬إذ �أنّ القوامي�س‬ ‫حمددة‪ ،‬بينما تظهر عبارة «قناديل ّ‬ ‫ٍ‬ ‫الطريق»‬ ‫ت�شري �إىل املعاين املوروثة التي حت�صر الذهن يف‬ ‫دالالت ّ‬ ‫�إىل الوعي ّ‬ ‫بالطريق التي تعني احلركة وامل�سري نحو الغد‪ .‬من هذا املنطلق‪ ،‬جند �أنّ ال�شّ اعر وجد يف‬ ‫إبداعي �سبي ًال للمواجهة‪ ،‬حيث يقول‪:‬‬ ‫الفعل ال ّ‬ ‫«�أ ّن ِك ِ‬ ‫ل�ست �إ ّال مليكة الكتابة‬ ‫ ‬ ‫ال�ساللة من قرا�صنة ال ّن ّ�ص‬ ‫ ‬ ‫حتر�سني لنا ُّ‬ ‫وت�صدين كتائب الغبار عن �أ�صابعنا‬ ‫ ‬ ‫ّ‬ ‫‪13‬‬ ‫الهي ًة مبوهبة اخللق»‬ ‫ ‬ ‫جت�سد هنا يف لفظ َتي «ال ّن ّ�ص» و«الغبار»‪� ،‬إذ ت�شري الأوىل �إىل ال ّتق ّيد بال ّن�صو�ص املوروثة‬ ‫فاملوروث ّ‬ ‫حرف ّياً‪ ،‬بينما ّ‬ ‫تدل الثّانية على قدم هذه املوروثات‪ ،‬ويف املقطع يحاول ال�شّ اعر ال ّتخ ّل�ص منهما‬ ‫بو�ساطة الإبداع‪.‬‬ ‫ال�سياق‪ ،‬تطرح لنا لفظة «ال ّن ّ�ص» درج ًة �أعلى من اجلر�أة يف املواجهة‪ ،‬لأ ّنها حتيلنا على‬ ‫يف هذا ّ‬ ‫ب�شكل �أو ب�آخر‪ ،‬و�إن كان يق�صد من ورائها َمن باتوا ق ّيمني على هذا املوروث‪ .‬فها‬ ‫املوروث ّ‬ ‫يني‪ٍ ،‬‬ ‫الد ّ‬ ‫الدين ّية يف ال ّنف�س‪ ،‬من خالل رمز «الآلهة» التي تبقى �صامتة بعك�س‬ ‫هو ي� ّصور لنا فعل ال ّن�صو�ص ّ‬ ‫ما ي� ّصورها املجتمع‪:‬‬ ‫حداد‪ :‬عالج امل�سافة‪� .‬ص‪.20‬‬ ‫‪ 1 2‬قا�سم ّ‬ ‫حداد‪ :‬عالج امل�سافة‪� .‬ص‪.32‬‬ ‫‪ 1 3‬قا�سم ّ‬ ‫‪119‬‬


‫«ع�صي على �إدراكي‪،‬‬ ‫ ‬ ‫ٌّ‬ ‫ �آله ٌة ي�سوطوننا بها‬ ‫يف مواقيت حم�سوب ٍة‬ ‫ ‬ ‫ويطرحونَ �صو َتها اخلفي�ض على �أرواحنا‬ ‫ ‬ ‫يف هيئة رعو ٍد‪ ،‬ويف بروقٍ ‪،‬‬ ‫ ‬ ‫ �آله ٌة �صامتة هناك‬ ‫يف �أعاليها‬ ‫ ‬ ‫‪14‬‬ ‫ال تلوي على ّ‬ ‫الطفيف من الأمرِ»‬ ‫ ‬ ‫دخل ح ّتى يف �أب�سط الأمور‪ ،‬وقد‬ ‫بال�صمت وال تقوى على ال ّت ّ‬ ‫فهذه الآلهة ا ّت�سمت يف نظر ال�شّ اعر ّ‬ ‫يكون يف هذا �إ�شارة �إىل ٍ‬ ‫حداد‪� .‬أ ّما الق ّيمون على عبادة تلك الآلهة ف ُيظهِر‬ ‫إحلادي من جانب ّ‬ ‫موقف � ٍّ‬ ‫ال ّن�ص �أ ّنهم ي�ستخدمون عمل ّية ال ّتخويف التي ت�سيرّ امل�ؤمنني ق�سراً (ي�سوطوننا‪ -‬رعود‪ -‬بروق)‪ ،‬كما‬ ‫كلي لعمل ّية ال ّربط بعبادتها (يف مواقيت حم�سوبة)‪ّ .‬‬ ‫ولعل هذا‬ ‫ي�ستخدمون الفعل‬ ‫الطقو�سي ال�شّ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ال�سائدة داخل املجتمع‪ ،‬يتمظهر يف‬ ‫يبينّ �صراعاً وجود ّياً فكر ّياً يحياه ال�شّ اعر يف مواجهة املعتقدات ّ‬ ‫�أعلى م�ست ًوى من م�ستويات ثنائ ّية الأنا‪/‬املوروث و�أخطر درج ٍة من درجات ت�أثريها‪.‬‬ ‫حداد بهذا الفعل‬ ‫فعل‬ ‫بحد ذاته‪ ،‬لأنّ قا�سم ّ‬ ‫تغيريي ّ‬ ‫ال�سياق‪ ،‬تتح ّول عمل ّية املواجهة �إىل ٍ‬ ‫ٍّ‬ ‫يف هذا ّ‬ ‫حرب مع املفاهيم املحور ّية للمجتمع‬ ‫ال�سائد يف املجتمع‪ ،‬وبال ّتايل يدخل يف ٍ‬ ‫يخرج عن طبيعة الفكر ّ‬ ‫ولطبيعة الترّ بية فيه‪ .‬وانطالقاً من ذلك‪ ،‬تظهر ثنائ ّية الأنا‪/‬املوروث بو�صفها �صراعاً وجود ّياً يخو�ضه‬ ‫اخلا�صة التي ّ‬ ‫ت�شكل قطعاً حا�سماً مع املا�ضي‪ ،‬ودخو ًال فعل ّياً‬ ‫ال�شّ اعر يف �سبيل ا�ستح�ضار مفاهيمه ّ‬ ‫يف ع�صره احلا�ضر و�أفكاره الفل�سف ّية‪ ،‬مهما كانت طبيعتها‪.‬‬ ‫اخلامتة‪:‬‬

‫حداد‪ ،‬ح�ضوراً غن ّياً ومتن ّوعاً لها يف‬ ‫الدالل ّية عند ال�شّ اعر قا�سم ّ‬ ‫الحظنا يف درا�ستنا للثّنائ ّيات ّ‬ ‫ديوانيه «عالج امل�سافة» و«دع املالك»‪ ،‬فمن �صراع الفرد‪/‬املجتمع الذي �أظهر الغربة التي يعي�شها‬ ‫ال�شّ اعر‪� ،‬إىل ثنائ ّية ّ‬ ‫�ضد عوامل الهيمنة‪ ،‬ح ّتى �صراع الأنا‪/‬‬ ‫الذات‪/‬الآخر التي ب ّينت حال ال ّرف�ض ّ‬ ‫املوروث الذي ّ‬ ‫واحل�ضاري‪.‬‬ ‫الفكري‬ ‫�ضد عنا�صر ال ّتقليد واجلمود واملوت‬ ‫�شكل مواجه ًة حا ّد ًة ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫حموري يف بنية الق�صيدة عند‬ ‫ومن الوا�ضح للمتم ّعن �أنّ تلك الثّنائ ّيات ا ّت�سمت بح�ضو ٍر دال ٍّيل‬ ‫ٍّ‬ ‫لل�صراعات الكيان ّية التي يعي�شها يف جمتمعه ومع بيئته‪ .‬لذلك‬ ‫حداد‪ ،‬فهي بدت املظهر‬ ‫ّ‬ ‫العملي ّ‬ ‫ّ‬ ‫ ‬

‫‪14‬‬

‫‪120‬‬

‫حداد‪ :‬دع املالك‪� .‬ص‪.11‬‬ ‫قا�سم ّ‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫الفكري واملا ّد ّي داخل‬ ‫ميكننا �أن جند فيها �صف ًة �أوىل هي الوجود ّية‪ ،‬لأ ّنها ارتبطت بوجود الإن�سان‬ ‫ّ‬ ‫بالدرجة الأوىل‪ ،‬وجزءاً فاع ًال من املجتمع‬ ‫املجتمع وبهواج�سه الكيان ّية امل�صري ّية بو�صفه كائناً ب�شر ّياً ّ‬ ‫املحيط به ثانياً‪.‬‬ ‫�إ�ضاف ًة �إىل ذلك‪ ،‬ن�ستطيع �أن نكت�شف �صف ًة �أخرى تتج ّلى يف ّ‬ ‫الطبيعة ال ّنقد ّية للثّنائ ّيات‪� .‬إذ �أنّ‬ ‫حداد ا�ستطاعت �أن ّ‬ ‫اخلا�صة‬ ‫ال�صراعات التي مي ّر بها قا�سم ّ‬ ‫ّ‬ ‫توظف تلك الثّنائّيات يف خدمة ال ّر�ؤية ّ‬ ‫ين وتقوم بنقد الواقع املناق�ض له‪.‬‬ ‫والفن‪ ،‬وهي ر�ؤية تنظر �إىل مثالٍ �إن�سا ٍّ‬ ‫�إىل احلياة والكون ّ‬ ‫«احلداد ّية»‪ ،‬وهي ما يتع ّلق ب�شموليتها مع‬ ‫وانطالقاً من ذلك ت�ضاف �سمة �أخرى �إىل الثّنائيات ّ‬ ‫�أ ّنها م�ستقاة من بيئته االجتماع ّية‪ ،‬لذا ن�ستطيع القول �أ ّنها ثنائ ّيات �شمول ّية ّ‬ ‫الطابع تتع ّلق بالقيم‬ ‫التي يجب �أن ت�سيطر على احلياة الإن�سان ّية‪ ،‬وباملجاالت التي تعني الإن�سان بعا ّم ٍة‪ ،‬واملنتمي �إىل‬ ‫املحلي‬ ‫بيئة ال�شّ اعر ّ‬ ‫بخا�صة‪ ،‬يف الوقت الذي ت ّتخذ وجه ًة خ�صو�ص ّي ًة ب�أبعادها ال ّت�أثري ّية ومنبعها ّ‬ ‫االجتماعي‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫حداد احتجاجاً على طبيعة حت ّول احلياة الب�شر ّية عن‬ ‫وهذا ما ي�سمح لنا ب�أن جند يف ثنائ ّيات قا�سم ّ‬ ‫م�سريتها الأ�سا�س ّية وبال ّتايل عن هدفها‪ ،‬وهو ما نقر�أه يف ما يلي‪:‬‬ ‫«لو �أ ّنهم رموا باحلجر يف زرقة اخلليج‬ ‫ ‬ ‫لك�سدت ال ّتجار ُة‬ ‫ ‬ ‫الرمل‬ ‫ ‬ ‫واندل َع ال ّز ُرع يف خريطة ِ‬ ‫لو �أ ّنهم ا�ستبدلوا املكانَ الأ ّو َل بالأعماق‬ ‫ ‬ ‫لكانت ال ُ‬ ‫أر�ض �أك َرث جما ًال من البحر‬ ‫ ‬ ‫لك ّنهم ذهبوا باحلج ِر نحو الأ�سواق‬ ‫ ‬ ‫مل يزل احلج ُر‬ ‫ ‬ ‫ومل تزل ال ّتجار ُة‬ ‫ ‬ ‫مل‬ ‫ ‬ ‫ا�س يف ال ّر ِ‬ ‫ومل يزل ال ّن ُ‬ ‫‪15‬‬ ‫وال�ض ْرع»‬ ‫ ‬ ‫�صحراء مفقودة ال ّزرع ّ‬ ‫فال�صراع الكامن يف هذه القطعة �إنمّ ا يرتبط باحلجر الذي ّ‬ ‫ال�سلب ّية وباجلمال الذي‬ ‫ّ‬ ‫ي�شكل ق ّوة املا ّدة ّ‬ ‫ال�سيطرة املطلقة كانت للحجر الذي قد يرمز �إىل الثرّ وات املا ّدية على‬ ‫ميثّل الق ّوة الإيجاب ّية‪ ،‬غري �أنّ ّ‬ ‫احلقيقي املاثل يف ال ّزراعة ويف الثرّ وات ال ّروحية التي‬ ‫حياة الب�شر‪ ،‬يف مقابل االبتعاد عن اجلمال‬ ‫ّ‬ ‫ال�صراع جعل الثّنائ ّية تتع ّلق باجلانب ال ّنف�سي للإن�سان بني ّ‬ ‫الذات‬ ‫قد تجُ نى من الإنتاج‪ .‬وهذا ّ‬ ‫املت�شائمة ّ‬ ‫ال�سمات‬ ‫والذات املنغم�سة يف متع املا ّدة‪ .‬غري �أنّ قراء ًة ثاني ًة للقطعة نف�سها تعيدنا �إىل ّ‬ ‫ ‬

‫‪15‬‬

‫حداد‪ :‬عالج امل�سافة‪� .‬ص‪.72‬‬ ‫قا�سم ّ‬ ‫‪121‬‬


‫احلقيقي‬ ‫نف�سها �أوردناها �سابقاً‪� ،‬إذ ت�شري �إىل بيئة ال�شّ اعر بال ّتحديد التي تخ ّلت عن �سبل الإنتاج‬ ‫ّ‬ ‫ال�ضخم‪ّ .‬‬ ‫ولعل هذا ما ي�ضيف �سمة‬ ‫ثقاف ًة واقت�صاداً ليتمحور تفكري �أهلها حول ال ّتجارة وال ّربح ّ‬ ‫البيئي لثنائ ّيات ال�شاعر التي تخ ّيم على نتاجه ال�شّ عري �إىل جانب ّ‬ ‫الطابع ال�شّ مو ّيل‬ ‫الهج�س ّ‬ ‫ين لها‪.‬‬ ‫الإن�سا ّ‬ ‫الدالل ّية التي �أو�صلتنا �إليها �أم ال‪� ،‬إ ّال �أ ّنها‬ ‫ومهما يكن من �أمر هذه الثّنائ ّيات‪ ،‬و�سواء توافقنا الأبعاد ّ‬ ‫حداد»‪ ،‬دون �أن تكون هي الأبعاد الوحيدة يف‬ ‫تبقى عن�صراً حمور ّياً يف بنية الق�صيدة لدى «قا�سم ّ‬ ‫�شعره‪ ،‬خ�صو�صاً �أنّ بحثنا هذا يقت�صر على ديوانني فقط من دواوين ال�شّ اعر التي نعجز عن ح�صرها‬ ‫لكرثتها وال�ستمرار ّية عطاء �صاحبها‪ .‬ومع هذا فيمكن القول �أن الديوانني املذكورين � ّأمدانا ب�صور ٍة‬ ‫يعد واحداً من �أرقى الن ّتاجات‬ ‫حداد‪ ،‬وب ّينت �أنّ نتاجه ّ‬ ‫الدالل ّية يف �شعر ّ‬ ‫عا ّم ٍة ووافي ٍة عن الثّنائ ّيات ّ‬ ‫ال�شّ عر ّية التي قد نقر�أها بال ّلغة العرب ّية يف ع�صرنا احلديث‪.‬‬

‫‪122‬‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫املكان ال�شعري يف ق�صيدة‬ ‫ابن هانئ الأندل�سي‬

‫�إعداد مهى خ ّياط ‪� -‬أ�ستاذة جامعية‬

‫حفل ال�شعر الأندل�سي بذكر املكان‪ ,‬وامتازت ق�صائد ال�شعراء بكثافة مكانية الفتة ومميزة‪ .‬وتعددت‬ ‫مظاهره داخل بنائية الق�صيدة الأندل�سية‪ .‬ومل ي�أت ذكره عار�ضاً‪ ,‬لكونه ميثل الوجود الإن�ساين‪,‬‬ ‫ويعك�س املعاناة النف�سية؛ وقد تتجاوز �صريورته داخل الن�ص ال�شعري مالمح املكان الفعلية حني‬ ‫‪1‬‬ ‫تنبثق يف حالة وجود جديدة تبدو وخا�صة بالق�صيدة العربية‪.‬‬ ‫نعالج يف هذه الدرا�سة مفهوم املكان ال�شعري يف ق�صيدة ابن هانئ الأندل�سي ملا ميثل من �شاعر‬ ‫يت�صد �أحد لدرا�سة املكان ال�شعري درا�سة علمية‬ ‫ذي �ش�أن رفيع يف عامل ال�شعر‪ ,‬ف�ض ًال عن �أنه مل ّ‬ ‫دقيقة مف�صلة‪ ,‬ملعرفة ما و�صل �إليه هذا املفهوم �أو ما مل ي�صل �إليه‪.‬‬ ‫من هنا تربز �إ�شكالية الدرا�سة �أو �أ�شغولتها املتمثلة بالأ�سئلة التالية‪:‬‬ ‫ما املق�صود مب�صطلح «املكان ال�شعري»؟‬ ‫ما هي الت�صنيفات والدالالت املكانية التي تناولتها ق�صيدة ابن هانئ الأندل�سي؟‬ ‫هذه مو�ضوعات هذه الدرا�سة التي نحن يف �صدد معاجلتها و�إثباتها‪.‬‬ ‫�أو ًال‪ :‬حتديد املكان ال�شعري‪:‬‬ ‫عندما ي�ضع الباحث جممل الكتب والدرا�سات التي تناولت مفهوم املكان �أمامه‪ ,‬يلم�س بو�ضوح‬ ‫�سعة املكان و�أهميته‪ ,‬ورمبا كان املكان �أقدر ما يعطي الكينونة جت�سدها وانقطاعها عن الذهنية‬ ‫البحتة ومطلقية التجريد‪ ,‬فهو املتالزم الأهم مع فكرة الوجود؛ فال وجود خارج املكان‪ ,‬والكون‬ ‫مكان مطلق‪ ,‬تعجز عن حدوده املقايي�س والأزمنة‪ ,‬ويف تعهد االقرتاب من مدركاتنا الأر�ضية �أي‬ ‫‪� 1‬أدوني�س‪ :‬ال�شعرية العربية‪ ,‬بريوت‪ ,‬دار الآداب‪ ,‬طبعة ‪� ,1989 ,2‬ص ‪.17-16‬‬ ‫‪123‬‬


‫املتوائمة مع مقايي�س الكرة الأر�ضية و�أبعادها يف الزمان وامل�سافة واحل�ضارة‪.2‬‬ ‫نعت‬ ‫ويتخذ املكان يف الن�ص القر�آين مفهوماً �آخر يف قوله تعاىل‪« :‬ورفعنا ُه مكاناً علياً»‪ ,3‬فاملكان ٌ‬ ‫مقد�س‪ ,‬علماً �أن لفظة املكان وردت يف القر�آن الكرمي �سبعاً وع�شرين مرة‪ ,‬ومنها قوله‪:‬‬ ‫إلهي ّ‬ ‫� ٌّ‬ ‫‪4‬‬ ‫«ف َ​َح َم َل ْت ُه فانتبذت به مكاناً ق�ص ًّيا» ‪ .‬لذا‪� ,‬أو�ضح الن�ص القر�آين مفهوم املكان من خالل الأر�ض‬ ‫التي خلقها اهلل لتكون م�ستقراً للإن�سان ومتاعاً له‪ .‬ف�ض ًال عن ترابط املكان بثنائية اجلنة والنار �أي‬ ‫ال�سماء والأر�ض‪.‬‬ ‫و�إذا كان ال�شعر القوة ال�سامية واملكانة اجلليلة ال�ش�أن‪ ,‬ف�إن عر�ش هذه القوة ال ي�ستوي �إال بدعم‬ ‫القوة الناقدة‪ ,‬لأن ال�شاعر ال يكون ل�سان زمنه حتى يوجد معه الناقد الذي هو عقل زمنه؛ �إذ �إنّ‬ ‫اخللق الفني ي�ساعد على �إيجاد روائع ال�شعر وي�سهم �إ�سهاماً ف ّعا ًال يف تكوين �آيات الفن اخلالدة‪.‬‬ ‫يبدو �أن الكتابات العربية النقدية املتعلقة باملكان قليلة ونادرة‪ ,‬ف�ض ًال عن عدم اكتمالها عند‬ ‫الغربيني �أ�سا�ساً‪ ,‬وعند العرب ارتكازاً على ذلك الأ�سا�س‪ .‬وقد ارتفعت الأ�صوات العربية املطالبة‬ ‫بتعزيز مفهوم املكان وجمالياته يف الق�صيدة العربية ومنها على �سبيل املثال ال احل�صر‪ :‬ح�سن‬ ‫بحراوي يف كتابه «بنية ال�شكل الروائي» و�شاكر النابل�سي يف كتابه «جماليات املكان يف الرواية‬ ‫العربية»؛ وقد � ّأكد �صالح �صالح ق ّلة الدرا�سات النظرية العربية امل�شتغلة على املكان‪.‬‬ ‫�أمام هذا الواقع‪ ,‬ما نريده ل�شعرنا العربي هو �أن تظهر فيه مق ّومات عروبتنا يف الفكر والإبداع‬ ‫واحل�ضارة‪ ,‬في�شعر قارئ هذا ال�شعر �أو �سامعه �أنه فع ًال �شعر عربي ولي�س �شعراً �أجنبياً بحروف‬ ‫عربية‪ .‬فاملطلوب كان ومل يزل لأي جتديد يف النقد العربي هو احلوار الأ�صيل واملعا�صر مع �أدبنا‬ ‫العربي من جهة ومع ر�ؤى العامل خارجنا من جهة ثانية‪.‬‬ ‫‪5‬‬ ‫لقد ق�سمت فتحية كحلو�ش املكان �إىل ثالثة �أنواع‪:‬‬ ‫املكان اجلغرايف‪ :‬وهو املكان الذي تدور فيه الأحداث‪� ,‬أو املكان الذي ُيغري ال�شاعر‪ ,‬فيتحول‬ ‫�إىل مو�ضوع تخ ّيل‪ ,‬وهو غالباً ما يحدده الكاتب جغرافياً؛ ف�إذا ذكر ا�سم املدينة مث ًال �أو املنطقة �أو‬ ‫الركز فنحن ندرك تلقائياً احلدود اجلغرافية لهذه الأماكن‪.‬‬ ‫املكان الداليل �أو الف�ضاء الداليل‪� :‬إن ا�ستخدام م�صطلح «ف�ضاء» بد ًال من «مكان» يك�سبه‬ ‫نوعاً من االت�ساع‪ ,‬وال يرتبط فقط باحل ّيز الهند�سي املحدود الأبعاد فقط‪ ,‬ذلك �أن الأمكنة املوظفة‬ ‫ ‬ ‫ ‪3‬‬ ‫‪ 4‬‬ ‫ ‪5‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪124‬‬

‫�صالح �صالح‪ :‬ق�ضايا املكان الروائي‪ ,‬القاهرة‪ ,‬دار �شرقيات‪ ,‬طبعة‪� ,1997 ,1‬ص‪.11‬‬ ‫القر�آن الكرمي‪� ,‬سورة الق�ص�ص‪ ,‬الآية ‪.12‬‬ ‫القر�آن الكرمي‪� ،‬سورة مرمي‪ ،‬الآية ‪.22‬‬ ‫فتحية حكلو�ش‪ :‬بالغة املكان‪ ,‬قراءة يف مكانية الن�ص ال�شعري‪ ,‬بريوت‪ ,‬دار الأنت�شار العربي‪ ,‬طبعة‪,2008 ,1‬‬ ‫�ص‪.25-24-23-22‬‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫يف ن�ص من الن�صو�ص ال�شعرية تتجاوز دائماً واقعيتها مبج ّرد حتولها �إىل ج�سد لغوي‪ .‬ولأن املخ ّيلة‬ ‫حتذف �أحياناً وت�ضيف �أحياناً �أخرى‪ ,‬فهي ت�ضعنا �أمام تعدد التوقعات؛ وهكذا يتجاوز التعبري‬ ‫ال�شعري املعنى الواحد‪ ,‬ومينح القارئ على الدوام فر�صة تعدد قراءة الن�ص‪.‬‬ ‫ق�صد به املكان الذي َي ْ�ش َغ ُل ُه الن�ص على ال�صفحة‪ ,‬ذلك �أن الكتابة لي�ست تنظيماً‬ ‫املكان الطباعي‪ُ :‬ي َ‬ ‫للأدلة على �أ�سطر �أفقية ومتوازية فقط‪�« ,‬إنها قبل كل �شيء توزيع لبيا�ض و�سواء على م�سند‪ ,‬وهو يف‬ ‫عموم احلاالت الورقة البي�ضاء»‪ .6‬ويدخل �ضمن املكان الطباعي كل ما له عالقة بالن�ص ال�شعري‬ ‫وطريقة عر�ضه على ال�صفحة البي�ضاء‪ ,‬بدءاً بحجم الكتاب‪ ,‬ومروراً بالورق وخمتلف التقنيات الطباعية‬ ‫التي يوظفها ال�شاعر يف تنظيم �صفحته‪ ,‬من فراغات وحوا�ش و�ألوان‪ ,‬وانتها ًء بالغالف‪.‬‬ ‫ومن جهة �أخرى‪ ,‬مل يوجد يف الواقع تنظري للمكان يف الأدب �إال يف النقد الغربي‪ ,‬فقد در�س‬ ‫غا�ستون با�شالرد(‪ )Gaston Bashlard‬املكان الأدبي يف كتابه (‪)la poétique de l’espace‬‬ ‫ال�صادر عام ‪ ,1957‬وقد ترجمه غالب هل�سا �إىل العربية بعنوان (جماليات املكان)‪ .‬ور�أى با�شالرد‬ ‫�أن املكان الذي ينجذب نحوه اخليال (املكان الأدبي التخ ّيلي) ال ميكن �أن يكون مكاناً ال مبالياً ذا‬ ‫�أبعاد هند�سية فح�سب‪« ,‬يعتمد قيا�س املهند�س وتفكريه‪ ,‬فهو مكان نف�سي‪ ,‬بل هو مكان تكثيف‬ ‫الوجود‪ ,‬لأن احليز امل�سكون يتجاوز احليز الهند�سي»‪.7‬‬ ‫وتناول جريار جنيت (‪ )Gerard Genette‬يف كتابه‪ )Figures( ,‬املكان‪ ,‬وتكلم على م�ستويني‬ ‫يتعلقان بجمالية املكان الأدبي‪ :‬تعلق امل�ستوى الأول بقدرة املكان الأدبي على نقلنا �إليه حتى‬ ‫لنتو ّهم للحظة �أننا جنتاز ذلك املكان‪� ,‬أو ن�سكن فيه‪� ,‬أما امل�ستوى الثاين فهو اعتباره الفن املكاين‬ ‫كالر�سم مث ًال «ال يتكلم على املكان ولكنه يجعل املكان يتكلم»‪� 8‬أي ينطق‪.‬‬ ‫بنا ًء على ما تقدم‪ ,‬تبينّ �أن للمكان دالالت متنوعة‪ ,‬فهو تلك اجلغرافيا املمتدة حيناً وال�ضيقة‬ ‫�أحياناً �أخرى‪ .‬فمثلما ميتلك داللته على ال�صعيد النف�سي لل�شخ�صية التي متتلكه‪ ,‬يدل �أي�ضاً‬ ‫�إيديولوجياً واخالقياً واجتماعياً‪.‬‬ ‫ثاني ًا‪ :‬املكان ال�شعري يف ق�صيدة ابن هانئ الأندل�سي‪ ,‬الت�صنيفات والدالالت‪:‬‬ ‫نعالج يف هذا املبحث مفهوم املكان يف ق�صيدة ابن هانئ الذي يربز يف جمموعة متنوعة من‬ ‫الت�صنيفات والدالالت‪ ,‬لن�صل �إىل احل�ضور املكاين ونوعيته يف �شعره‪ ,‬فنحلل هذا احل�ضور‬ ‫ودالالته‪ ,‬وت�أثريه يف انتاجه ال�شعري‪.‬‬ ‫ ‬

‫‪6‬‬

‫حممد بني�س‪ :‬ال�شعر العربي احلديث‪ ,‬بيناته و�إبداالتها‪ ,‬املغرب‪ ,‬دار توبقال للن�شر‪ ,‬طبعة‪� ,1990 ,1‬ص‪.111‬‬

‫‪Gaston Bashlard: La Poétique de L’espace, presses uninversitaires de France, Paris-France, 1973, p17.‬‬ ‫‪Gerard Genette: Figures 1, Essais, Edition du seuil, Paris-France, 1966, p 43-44.‬‬

‫ ‪7‬‬ ‫ ‪8‬‬

‫‪125‬‬


‫يدرك املتتبع لق�صيدة ابن هانئ ح�ضور املكان فيها عرب �أ�شكال و�أنواع متعددة‪ ,‬ولعل �أبرزها‪:‬‬ ‫الطبيعة‪ :‬ما زالت الطبيعة منذ الأزل ب�سكونها وجنونها م�أوى لبني الب�شر‪ ,‬تقدم لهم قوتهم‬ ‫وقد�سوا الكثري من مظاهرها‬ ‫عدوها �أ ّماً ر�ؤوفاً‪ّ ,‬‬ ‫من ذاتها‪ ,‬وتعطيهم من قلبها ما ّلذ وطاب‪ .‬لذا‪ ,‬فقد ّ‬ ‫وظواهرها‪ .‬وجاء �إجاللهم لها وتعظيمهم ملوجوداتها �إجال ًال وتعظيماً هلل؛ �إذ �إنها «هيكل الروح‬ ‫ف�ضة ال�شتاء‪� ,‬إنها مرايا قدرة‬ ‫وح ّله زهور الربيع‪ ,‬وبحر �سنابل ال�صيف وتالل عنب اخلريف وروابي ّ‬ ‫اهلل الكامنة»‪.9‬‬ ‫الطبيعة مر�آة تعك�س قدرة اخلالق‪ ,‬فال جتذب الأنظار �إليها ملج ّرد التحديق بجمالية عنا�صرها‪ ,‬بل‬ ‫تدعونا �إىل الت�أمل فيها لتو�صلنا �إىل الإميان احلقيقي ب�صانع كائناتها‪ ,‬ومبدع موجوداتها‪ .‬وهي على‬ ‫روعة ما فيها‪ ,‬ت�ستهوي القلوب‪ ,‬وتفنت الأنظار حتى تغدو قبلة الأنام‪ ,‬وال �سيما �أبناء الفن الذين‬ ‫يقطعون من جنى جمالها‪ .‬ولي�س ببعيد على الطبيعة �أن تكون منبع الفن ورمز ال�سحر والبهاء‪,‬‬ ‫«لأن كل من تف�شي له الطبيعة ب�أ�سرارها يتو ّلد فيه حب الفنون‪ ,‬ومنظر الطبيعة جميل دائماً»‪.10‬‬ ‫بعد �أن �سيطر العرب على الأندل�س‪ ,‬هامت �أخيلة ال�شعراء بها مثلما هامت بطبيعة الع�صور الأدبية‬ ‫ال�سالفة‪ ,‬ف�سحرتهم طبيعتها ال�ساحرة‪ ,‬وتفتقت قرائحهم حتى غدت «منبعاً من �أهم املنابع العربية‬ ‫ل�شعر الطبيعة‪ ,‬ومل تلبث �أن خ ّرجت �شعراء ميثلون بيئتها‪ ,‬وينبذون الأفكار ال�شعرية القيمة القائمة‬ ‫على �شكوى الزمن وبكاء الغربة واحلنني �إىل امل�شرق»‪ .11‬وا�شتهر من ه�ؤالء ابن هانئ الأندل�سي‬ ‫الذي هام يف �أفنائها‪ ,‬وعبرّ عما يعرتيه يف �شعره‪ ,‬ولعل اجلبال من �أبرز هذه العنا�صر الالفتة واملميزة‬ ‫التي �أوحت م�شاعر العزة والكرامة والأنفة واملجد يف الربوع الأندل�سية‪ ,‬وذكرها ابن هانئ يف‬ ‫‪12‬‬ ‫معر�ض مدحه لإبراهيم بن جعفر‪ ,‬قال‪:‬‬ ‫ُجرثوم ٌة منها ُ‬ ‫ُي ْغ َ�ض ْ�ض َم َتا ِل ُعها وال َتهال ُنها‬ ‫ال�شم ْمل ‬ ‫اجلبال ُّ‬ ‫ُر َّد ْت � َ‬ ‫ُتعزى �إليه وجعف ٌرقحطا ُنها‬ ‫ ‬ ‫أنت َيع ُر ُبها الذي‬ ‫إليك ف� َ‬ ‫دافع خُ ل�صا ُنها‬ ‫ ‬ ‫فافخر بتيجانِ امللوكِ و ُملكِ ها‬ ‫فل َ‬ ‫أنت غ ُري ُم ٍ‬ ‫ْ‬ ‫لقد و�صف ال�شاعر اجلبال و�صفاً خارجياً مادياً‪ ,‬ليوائم بينه وبني ال�صفات املعنوية للممدوح �إبراهيم‬ ‫بن جعفر‪ ,‬فاملكان هو اجلبل املنيع احل�صني ال�صاعق القوي‪ ,‬وع ّزم �إبراهيم يقف يف مواجهته ويتغ ّلب‬ ‫عليه‪ .‬هكذا‪ ,‬ا�ستغل ال�شاعر اجلبال لأهداف مدحية تربز عظمة املمدوح من خالل قوة اجلبال‬ ‫وي�ستحث �شاعريته من �صنوف‬ ‫ومناعتها‪ .‬من جهة ثانية‪ ,‬تناول ابن هانئ ما كان يلفت انتباهه‪,‬‬ ‫ّ‬ ‫ ‪ 9‬جوزيف طانيو�س ل ّب�س‪ :‬تفاح من ذهب يف �سال�سل من ف�ضة‪ ,‬بريوت‪ ,‬م�ؤ�س�سة نوفل‪ ,‬طبعة‪� ,1996 ,1‬ص‪.222‬‬ ‫‪ 10‬ناديا نويه�ض‪ :‬كلمات من ذهب‪ ,‬بريوت‪ ,‬دار احلداثة‪ ,‬طبعة‪� ,1992 ,1‬ص‪.516‬‬ ‫‪� 11‬سيد نوفل‪� :‬شعر الطبيعة يف الأدب العربي‪ ,‬القاهرة‪ ,‬م�صر‪ ,‬ال طبعة‪� ,1945 ,‬ص‪.262‬‬ ‫‪ 12‬ابن هانئ الأندل�سي‪ :‬الديوان‪ ,‬بريوت‪ ,‬دار الأرقم‪ ,‬طبعة‪� ,1998 ,1‬ص‪.310‬‬ ‫‪126‬‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫الطبيعة اجلميلة كالأزهار والورود التي ملأت طبيعة الأندل�س و�سحرت بجمالها و�ألوانها الزاهية‬ ‫‪13‬‬ ‫عقل ال�شاعر وم�شاعره‪ ,‬قال‪:‬‬ ‫غريب‬ ‫ ‬ ‫الور ُد يف رامِ�ش َنة من نَرجِ ٍ�س‬ ‫واليا�سم ُني ُوك ُّل ُه َّن ُ‬ ‫فبد ْت ُ‬ ‫عجيب‬ ‫وابي�ض ذا ‬ ‫فاحم َّر ذا وا�صف َّر ذا َّ‬ ‫َ‬ ‫دالئل �أمرهِ َّن ُ‬ ‫رقيب‬ ‫ ‬ ‫عا�شق وك�أنَّ ذا‬ ‫فك�أن هذا ٌ‬ ‫ك مق�شّ ٌق وك�أنَّ ذاك ُ‬ ‫متكن ال�شاعر من املزج بني �صور الطبيعة ومدح ممدوحة‪ ,‬وا�ستطاع �أن يعك�س املكان الواقع النف�سي‬ ‫الذي عا�شه ال�شاعر‪ ,‬نتيجة و�صفه للأزهار‪.‬‬ ‫الق�صور‪ :‬يعد بناء الق�صور يف الأندل�س لوناً من �ألوان الرتف والفن والتطور العمراين؛ هذا‪ ,‬و�إن‬ ‫كان مق�صوراً على طبق ٍة بعينها‪ .‬وات�سعت هذه الطبقة وتعززت‪ ,‬ف�شملت قطاعاً وا�سعاً من النا�س‪,‬‬ ‫قوامه التجار والك ّتاب والوزراء والأمراء‪ ,‬وقد ت�أنق ه�ؤالء يف اقتناء دورهم وزخرفتها‪ّ ,‬‬ ‫كل بح�سب‬ ‫ا�ستطاعته‪« ,‬فعقدوا لها القناطر‪ ,‬وتعددت حجراتها ملختلف الأغرا�ض‪ ,‬و�أقيمت حولها احلدائق‬ ‫والب�ساتني الوارفة‪ ,‬والربك والنوافري‪ ,‬كما غر�ست الورود والأزاهري على اختالف �ألوانها وروائحها‪,‬‬ ‫ف�ض ًال عن الأ�شجار املثمرة كالتفاح وال�سفرجل واللوز والرمان وغريها‪ .‬فكان لهذه الأ�شجار‬ ‫مكانتها اخلا�صة يف نفو�س ال�شعراء»‪.14‬‬ ‫لنقف مع ابن هانئ يف �أروقتها وف�سحاتها‪ ,‬مت�أملني �شموخها‪ ,‬م�ستمتعني بجمالها ال�ساحر‪ ,‬مدركني‬ ‫مدى ما و�صل �إليه مهند�سو البناء يف تلك الآونة من ذوق رفيع‪ ,‬وما و�صل �إليه النا�س من ح�ضارة‬ ‫وترف‪ .‬وهي وقفة موجزة �أمام ق�صر بناه �إبراهيم جعفر‪:15‬‬ ‫َعبرْ ى ي�ضيقُ بِ�سِ ِّرها كِ ْتما ُنها‬ ‫ ‬ ‫ال�شم�س عن ُه كليل ٌة �أجفا ُنها‬ ‫ُ‬ ‫َي ْع�شُ و �إىل لمَ َعا ِن ِه لمَ َعا ُنها‬ ‫ ‬ ‫لو ت�ستطي ُع �ضيا َء ُه َل َد َن ْت ل ُه‬ ‫وخ َّر ل َِ�س ْمكِ ِه �إيوا ُنها‬ ‫ ‬ ‫فار�س‬ ‫رت َ‬ ‫ُذعِ ْ‬ ‫�إيوانُ َم َل ٍك لو ر�أَ ْت ُه ٌ‬ ‫تغدو الق�صو ُر ُ‬ ‫�صوراً �إلي ِه يكِ ُّل عن ُه َعيا ُنها‬ ‫ ‬ ‫البي�ض يف جنبا ِت ِه‬ ‫ال�صبا �أ ْعنا ُنها‬ ‫ ‬ ‫وال ُق َّب ُة البي�ضا ُء طائر ٌة ب ِه‬ ‫تهوى بمِ ُ ْن َخر ِ​ِف ِّ‬ ‫الفرح الداخلي بظله على املكان‪ ,‬فيغدو هذا املكان �أجمل مما هو عليه‪ ,‬فالق�صر الذي‬ ‫هكذا‪ُ ,‬يلقي ُ‬ ‫حقيقي ل�صاحبه‪� ,‬إذ ي ّتحد الباين واملبني‪,‬‬ ‫جت�سيد‬ ‫بناه جعفر ابن �إبراهيم لي�س ق�صراً عادياً‪� ,‬إنه ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫‪ 13‬ابن هانئ الأندل�سي‪ ,‬م‪.‬ن‪� ,.‬ص‪.64‬‬ ‫‪ 14‬قي�صر م�صطفى‪ :‬حول الأدب الأندل�سي‪ ,‬بريوت‪ ,‬دار الأ�شرف‪ ,‬ال طبعة وال تاريخ‪� ،‬ص‪.98‬‬ ‫‪ 15‬ابن هانئ الأندل�سي‪ :‬الديوان‪� ,‬ص‪.307-306‬‬ ‫‪127‬‬


‫وين�صهران يف بوتقة وجدانية جتعلها واحداً‪ ,‬فتنتقي خ�صو�صية ّ‬ ‫كل من الق�صر وجعفر بن �إبراهيم‪,‬‬ ‫وتختفي احلدود بينهما‪ .‬بل يغدو الق�صر مكان بدي ًال من اخلليفة‪ ,‬وي�صبح املكان هو املمدوح‬ ‫بالن�سبة �إىل ال�شاعر‪ .‬لذا‪ ,‬ف�إن تغ ُّلب االن�سان من مكان �إىل مكان من الرقم �إىل الكهف ثم �إىل‬ ‫املنازل والق�صور يف �صيفها املتنوعة يو�ضح �أن احلاجة �إىل البيت نابعة من م�صادر �أ�صلية يف الذهن‬ ‫الب�شري‪ ,‬دائمة التو�سع واال�ستمرار‪ ,‬وتعرتيها حت ّوالت خمتلفة‪ ,‬فبيوتنا مواطن �أقدامنا على هذه‬ ‫الأر�ض‪ ,‬وهي احلا�ضن ُة وجودنا وموقعنا يف احلياة‪.‬‬ ‫جمال�س ّ‬ ‫ال�شراب‪ :‬امتلأت جمال�س ال�شراب يف الأندل�س باحلركة واحليوية والن�شاط‪ ,‬لكونها‬ ‫عامرة وحركتها دائبة‪ ,‬و�ضجيجها ميلأ الأرجاء غناء وعزفاً و�شدواً و�شرباً‪ ,‬والغواين والقيان يختلن‬ ‫بني الك�أ�س والوتر‪ ,‬ويرتامني يف الأح�ضان‪ ,‬وير�شفن من ك�ؤو�س الروح‪� .‬أما ال�شعراء فهم بني هذا‬ ‫وذاك يف حرية من �أمرهم‪ ,‬تتحرك �أفالمهم‪ ,‬وتتفتح قرائحهم �شوقاً �إىل املال �أو �شوقاً �إىل الروح‪ ,‬وال‬ ‫�سيما �أنهم كانوا يتهافتون على احلركة فيها‪�« ,‬إذا مل يكن احلكام مهما بلغت بهم الق�سوة والعنف‪,‬‬ ‫ومهما بلغت هذه الأجواء؛ فاملجال�س �أمكنة ملعاقرة اخلمرة‪ ,‬فيها يحوم احلائمون حول نزواتهم‪,‬‬ ‫ويطريون يف �أجواء ال�شهوة‪ ,‬ويح ّلقون يف �سماوات من الغبطة والبهجة والفرح»‪.16‬‬ ‫ّ‬ ‫فا�ستغل ابن هانئ هذه‬ ‫جمل�س من جمال�س امللوك اجتمع فيه ال�سكارى و�أنهكهم ال�شراب‪,‬‬ ‫هذا ٌ‬ ‫املجال�س ليمدح جعفر بن علي‪ ,‬منزهاً �إياه عن ارتيادها‪ ,‬وما يدور فيها‪ ,‬فك�أن املمدوح �أعلى �ش�أناً ملا‬ ‫ميلك من قيم �أخالقية واجتماعية‪ .‬قال‪:17‬‬ ‫ح َّث ْث َتها ِ�صرفاً �إىل ال ّندما ِء‬ ‫ ‬ ‫ؤو�س فطاملا‬ ‫�أهدِ ال�سال َم �إىل الك� ِ‬ ‫و�شرِب ُتها ممزوج ًة بِدِ عا ِء‬ ‫ ‬ ‫ب�ضائع‬ ‫ف�ش ِر ْب ُتها ممزوج ًة ٍ‬ ‫ول َو انَّ فيه كواكِ َب اجلوزا ِء‬ ‫ ‬ ‫جمل�س‬ ‫حا�شيت ْقد َر َك من زيار ِة ٍ‬ ‫ُ‬ ‫ُت ْثني َ‬ ‫عليك ب�أل�سن ال ُّنعما ِء‬ ‫الندي ع�صابةً ‬ ‫�إن ّا اجتمعنا يف ّ‬ ‫أرواحها َ‬ ‫فا�سها من ف ِْطن ٍة وذكا ِء‬ ‫لك وا ُجل�سو ُم‪ ,‬و�إنمّ ا‬ ‫� ُ‬ ‫ �أنْ ُ‬ ‫ �ألقى � َ‬ ‫�إنّ الذي َج َم َع ال ُعلى َ‬ ‫إليك مقال َِد ال�شّ عرا ِء‬ ‫لك ُك ُّلها‬ ‫و�إذا كان ابن هانئ قد و�صف جمال�س ال�شراب‪ ،‬ف�إذا قال يف اخلمرة نف�سها وكيف �صور جلي�ستها‬ ‫وجمل�سها‪�« ،‬إنها تلهب الأنفا�س‪ ،‬وت� ّؤجج امل�شاعر والأحا�سي�س‪ ،‬ومت�سخ العقل‪ ،‬وجتعل القزم مارداً‪،‬‬ ‫والعيي بليغاً وت�صيب ال�شارب بهذيان ا ُحل ّمى»‪ 18‬ففي زيارة لإبن هانئ دكان اخلمار‪،‬‬ ‫واحلكيم عيياً‪ّ ،‬‬ ‫‪ 16‬قي�صر م�صطفى‪ :‬حول الأدب الأندل�سي‪� ,‬ص‪.96‬‬ ‫‪ 17‬ابن هانئ الأندل�سي‪ ,‬الديوان‪� ,‬ص‪27‬‬ ‫‪ 18‬قي�صر م�صطفى‪ ،‬حول الأدب الأندل�سي‪� ،‬ص‪.97‬‬ ‫‪128‬‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫وحتدث عن جلي�سها وجمل�سها قائ ًال‪:19‬‬ ‫و�صف معاقرته اخلمرة‪ّ ،‬‬ ‫�إىل دنانِ‬ ‫ِ‬ ‫ال�سوقِ‬ ‫ ‬ ‫فا�ست َّلها بمِ َ ْب َزلٍ رقيقِ‬ ‫�صافنات ُّ‬ ‫ ‬ ‫الدقيق‬ ‫ك�أ َّن ُه من ِ�صب َغ ِة العقيقِ‬ ‫مثل ل�سانِ احلي ِة ِ‬ ‫ِ‬ ‫الدنُّ لل ّراووقِ‬ ‫ �إال كِ ياناً لي�س باحل ِقيقِ‬ ‫مل ُيبقِ منها ّ‬ ‫وقا َم م َ‬ ‫ُ�صن املم�شوقِ‬ ‫ ‬ ‫بعد الهج ِر بالتفريقِ‬ ‫ِثل الغ ِ‬ ‫قد ِر ْي َع َ‬ ‫هكذا‪ّ ،‬‬ ‫�شكلت جمال�س ال�شراب يف الع�صر الأندل�سي مكاناً ف�سيحاً‪ ,‬جال فيه ال�شعراء و�صالوا‪,‬‬ ‫معربين عن �أحا�سي�سهم جتاه ما كان يجري يف تلك املجال�س ب�صور جميلة � ّأخاذة‪.‬‬ ‫الدوار�س يف كل ع�صر‪ ,‬وكل قطر‪ ,‬ومنذ �أن بد�أ العمران‬ ‫املدن والأطالل‪ :‬الأطالل هي الآثار ّ‬ ‫يف هذا الكون‪ ,‬وبد�أت معه احلروب والهجرات املت�ضادة‪ .‬كان الإن�سان يرتك خلفه الآثار التي‬ ‫ت�ستحق عاد ًة وقفة ت�أمل عاطفية‪ ,‬تختلف باختالف ذلك الأثر‪ ,‬واختالف تاركه‪.‬‬ ‫لقد وقف العرب فيها على الأطالل‪ ,‬وا�ستوقفوا الركب‪ ,‬وخاطبوا الراحلني م�ستعربين وباكني‪ .‬وملا‬ ‫�شعروا يف ح�ضارتهم بكرثة هذه الوقفات �أعلنوا الثورة عليها بل�سان �شاعرهم �أبي ن ّوا�س‪ ,‬وخففوا‬ ‫عنها‪ .‬واحلقيقة �أن الأندل�سيني مل يقفوا ك�إخوانهم امل�شارقة و�أجدادهم على الآثار‪ ,‬لأن الطبيعة‬ ‫الأندل�سية ال�ساحرة �شغلتهم عن ذلك‪ ,‬وملأت حياتهم بهجة ومرحاً وحبوراً‪ ,‬فكانوا متفائلني‬ ‫متفاعلني معها‪ ,‬وكانت ق�صائدهم ت�شق عن روح و�أفكار منطلقة‪ ,‬و�أنفا�س عابقة ب�أريج الزهور‪ ,‬ولكن‬ ‫توايل الأحداث على الأندل�س‪ ,‬وهبوب العوا�صف والأعا�صري مل يرتك الأندل�سيني يعزفون على‬ ‫ن�سق واحد‪ ,‬فرتكهم يتخ ّبطون‪ ,‬وكان يف توايل الدول املتعاقبة عربة ملن اعترب‪ .‬فها هم الأمويون‬ ‫وقد بنوا يف الأندل�س ما بنوه من الأجماد‪ ,‬تتهاوى عرو�شهم وتت�ساقط دولهم يف �أعقاب �أعظم‬ ‫فيتح�سر ال�شعراء على �أيام م�ضت‪ ,‬خ�صو�صاً‪ ,‬و�أنهم �شهدوا ب�أم‬ ‫رجالهم‪ ,‬وينفرط عقد مملكتهم‪ّ ,‬‬ ‫العني الفنت تع�صف بالأندل�س ابتدا ًء من نهاية القرن الرابع‪ .‬ومل يلتئم اجلرح التئاماً حقيقياً‪,‬‬ ‫فالدولة �أ�صبحت دو ًال‪ ,‬واحلاكم �أ�صبح حكاماً‪ ,‬واملظاهر اخلارجية مل تعد لتقنع العقالء �أو تخدع‬ ‫�أحداً‪ ,‬وكان القائمون بالأمر �أنف�سهم ي�شعرون بذلك‪.‬‬ ‫�إن افتقاد الوطن على ال�صعيد الواقعي يعي�ش داخل ال�شاعر‪ ,‬وحني ي�صبح وجود الوطن داخلياً‬ ‫تن�شط حركة اخليال وتظهر م�ستويات متعددة للحلم والذاكرة‪ ,‬فيفرتق املكان الواحد يف عدة‬ ‫�أمكنة‪ ,‬ويتحول زمن احلياة حتت �سمائه �إىل �أزمنة تاريخية �أو �شخ�صية �أو �أ�سطورية‪.‬‬ ‫يرثي ابن هانئ واقع الأندل�س‪ ,‬ويعرج على مدح اخلليفة املعز لدين اهلل‪ ,‬فاملدن ُت ْ�سبى‪ ,‬والدين قل‬ ‫‪ 19‬ابن هانئ الأندل�سي‪ ،‬الديوان‪� ،‬ص‪.215‬‬ ‫‪129‬‬


‫ن�صريه‪ ,‬والنا�س �صاروا عبيداً‪ ,‬والأحرار حت ّولوا �أذ ّالء‪� ,‬أمام هذا امل�شهد ي�ست�صرخ ال�شاعر النا�س‪,‬‬ ‫داعياً �إياهم �إىل الثورة‪ .‬فال يجد ملبياً وقائداً �سوى املعز لدين اهلل الذي ينحدر من �ساللة النبي‬ ‫امل�صطفى‪ .‬قال‪:20‬‬ ‫�أ�سفي على الأحرار ّقل حِ ُ‬ ‫ �إن كان ُيغني احل ُّر �أن يت� َّأ�سفا‬ ‫فاظ ُهم‬ ‫ال ُيبع َِدنَّ ُ‬ ‫اهلل �إال مع�شراً‬ ‫ �أ�ضحوا على الأ�صنام منكم ُع ّكفا‬ ‫دين عفا‬ ‫�صارخ‬ ‫ �إال بثغ ٍر �ضاع �أو ٍ‬ ‫يا وي َلكم! �أفما ُلكم من ٍ‬ ‫وطريق ٌة من بعد �أخرى ُتقتفى‬ ‫ ‬ ‫فمدين ٌة من بعد �أخرى ُت�ستبى‬ ‫متيد ال ُ‬ ‫بت �أن ال ُتخ�سفا‬ ‫أر�ض بني‬ ‫بت من �أن ال َ‬ ‫ �أقطارها وعجِ ُ‬ ‫فعجِ ُ‬ ‫النبي امل�صطفى‬ ‫النبي املُ�صطفى ‬ ‫هذا املع ُّز ُ‬ ‫�س َي ُّذ ُّب عن َح َر ِم ِّ‬ ‫ابن ِّ‬ ‫هكذا‪ ,‬انقلبت حمنة النا�س يف احلرب حمنة مكانية‪ ,‬فانعك�س عدم اال�ستقرار النف�سي عدم ا�ستقرا ٍر‬ ‫يف املكان‪ ,‬فمن غادر الوطن ي�شعر ب�أنه غري موجود يف البالد التي �سافر �إليها‪ ,‬جلهة ت�ضع�ضع قيم‬ ‫الثبات والطم�أنينة والأمان واال�ستقرار التي ي�شي بها اجلوهر الأ�سا�س للوطن‪ ,‬ودليل �أكيد يف‬ ‫الوقت نف�سه على ت�شتت نف�سية الأن�سان الذي بات ال يعرف اال�ستقرار يف مكان بعينه‪� ,‬إذ ال‬ ‫مكان ي�شعره باالكتفاء‪ ,‬ال بيت يحميه‪ ,‬وال بيت �آخر يف بلده يحل �أزمته‪ ,‬وال �أي بيت يف مغرتباته‪.‬‬ ‫ختاماً‪ ,‬لقد كان املكان ال�شعري يف ق�صيدة ابن هانئ دا ًال �أكرث منه مدلو ًال‪ ,‬متحدثاً �أكرث منه متحدثاً‬ ‫عنه‪ ,‬وغالباً ما ت�شيع ال�صور امل�ستمدة من عنا�صر الطبيعة‪ ,‬وكثرياً ما ميتزج املكان والإعجاب واملدح‬ ‫يف �شعره‪ ,‬و�أ�سهمت هذه الدرا�سة يف ت�أكيد عقل املكان يف الق�صيدة ال�شعرية البن هانئ الأندل�سي‬ ‫ال�صور املكانية املتنوعة(الطبيعة‪ ,‬الق�صور‪ ,‬جمال�س ال�شراب‪ ,‬الأطالل واملدن)‪.‬‬ ‫عرب ّ‬

‫‪ 20‬ابن هانئ الأندل�سي‪ ,‬الديوان‪� ,‬ص‪.189‬‬ ‫‪130‬‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫قائمة امل�صادر واملراجع‪:‬‬

‫الكتب الدينية‪:‬‬ ‫القر�آن الكرمي‬

‫الدواوين ال�شعرية‪:‬‬

‫ابن هانئ الأندل�سي‪ ,‬حتت عمر فاروق الطباع‪ ,‬بريوت‪ ,‬دار الأرقم‪ ,‬طبعة ‪1998 ,1‬‬

‫امل�صادر واملراجع العربية‪:‬‬

‫�أدوني�س‪ ,‬ال�شعرية العربية‪ ,‬بريوت‪ ,‬دار الآداب‪ ,‬طبعة ‪1989 ,2‬‬

‫بني�س‪ ,‬حممد‪ ,‬ال�شعر العربي احلديث‪ ,‬بنياته و�إبداالتها‪ ,‬املغرب‪ ,‬دار توبقال للن�شر‪ ,‬طبعة ‪1990 ,1‬‬ ‫�صالح‪� ,‬صالح‪ ,‬ق�ضايا املكان الروائي‪ ,‬القاهرة‪ ,‬دار �شروقيات‪ ,‬طبعة ‪1997 ,1‬‬

‫كحلو�ش‪ ,‬فتحية‪ ,‬بالغة املكان‪ ,‬قراءة يف مكانية الن�ص ال�شعري‪ ,‬بريوت‪ ,‬دار االنت�شار العربي‪ ,‬طبعة ‪2008 ,1‬‬ ‫لب�س‪ ,‬جوزيف طانيو�س‪ ,‬تفاح من ذهب يف �سالل من ف�ضة‪ ,‬بريوت‪ ,‬م�ؤ�س�سة نوفل‪ ,‬طبعة ‪1966 ,1‬‬

‫م�صطفى‪ ,‬قي�صر‪ ,‬حول الأدب الأندل�سي‪ ,‬بريوت‪ ,‬دار الأ�شرف‪ ,‬ال طبعة‪ ,‬ال تاريخ‪.‬‬ ‫نوفل‪� ,‬سيد‪� ,‬شعر الطبيعة يف الأدب العربي‪ ,‬القاهرة‪ ,‬مط‪ .‬م�صر ال طبعة‪1945 ,‬‬ ‫نويه�ض‪ ,‬ناديا‪ ,‬كلمات من ذهب‪ ,‬بريوت‪ ,‬دار احلداثة‪ ,‬طبعة ‪1992 ,1‬‬

‫امل�صادر الأجنبية‪:‬‬

‫‪Bashlard, Gaston: La Poétique de L’espace, presses uninversitaires de France, Paris-France, 1973‬‬ ‫‪Genette, Gerard: Figures 1, Essais, Edition du seuil, Paris-France, 1966‬‬

‫‪131‬‬



‫حتوالت �أدبية‬

‫«ال�س�ؤال الديني يف �شعر �أدوني�س»‬ ‫الذهاب غارقا ً يف الباطنية وال�صوفية‬

‫وفيق غريزي ‪� -‬شاعر وباحث‬ ‫�أدوني�س من �أكرث ال�شعراء العرب ترجمة �إىل اللغات الأجنبية‪ ،‬و�أفكاره عن احلداثة والرتاث �شكلت‬ ‫وعي �أجيال ب�أكملها‪ ،‬لقد ا�شتغل طيلة خم�سني عاماً ونيف على التطوير والتجديد واالختالف‬ ‫والثورة‪ ،‬اليكل وال ميل‪ ،‬يف زمن عربي تكاثرت فيه الهزائم واملحن والنك�سات‪ .‬والميكن قراءة احلداثة‬ ‫العربية تاريخياً و انطولوجياً دون الوقوف �أمام هذا احل�ضور الأدوني�سي الطاغي وامل�ؤثر‪.‬‬ ‫�ستختلف القراءات‪ ،‬وحتماً �ستختلف‪ ،‬يف بيان القيمة امل�ضافة التي قدمها �أدوني�س يف حقلي‬ ‫ال�شعر والنقد‪ ،‬لكنها التختلف يف �إجماعها على غزارة ثقافته ومو�سوعيتها‪ ،‬ور�سوخه يف التعامل‬ ‫مع اللغة تعام ًال �إبداعياً‪� ،‬ألقاً وفاعلية ونب�ضاً وحيوية‪ ،‬حتدوه �شهوتان‪� ،‬شهوة الأ�صل و�شهوة النق�ض‬ ‫والإبدال‪ ،‬ي�سى للحداثة والتجاوز‪ ،‬لكنه ّي�صر بالقدر نف�سه على الأ�صول والت�أ�صيل‪ ،‬واملطالبة‬ ‫الدائمة‪ ،‬ب�إعادة قراءة كل موروثاتنا القدمية‪ ،‬وذلك ما يجعل البحث يف عامله ‪ -‬املتاحة بحثاً مرهقاً‪،‬‬ ‫وجب �أن يت�سلح له الباحث وي�أخذ للأمر عدته يف �أدوات كا�شفة و�آليات �إجرائية تعد بالنفاذ‬ ‫�إىل �شيء من حقيقته الغام�ضة‪ .‬ومن هذا املنظلق قام الدكتور الناقد جان نعوم طنو�س بالغو�ص‬ ‫ك�سابح ماهر يف بحر نتاج �أدوني�س‪ ،‬وخل�ص من هذا الإبحار بكتابه «ال�س�ؤال الديني يف �شعر‬ ‫�أدوني�س» بعد ان �أ�صدر �سابقاً كتاب «الوجه الآخر لأدوني�س» ومت ّيز الكتابان بعمق التحليل‪ ،‬وعمق‬ ‫الر�ؤيا‪ ،‬التني يتميز بهما الناقد طنو�س يف معظم نتاجه النقدي‪.‬‬ ‫الألوهة والقيم‬

‫يف قراءته لق�صائد �أوىل‪ ،‬وحتليلها يرى الدكتور طنو�س �أنه بد ًال من التجربة القائمة على الورع‬ ‫والتقوى‪ ،‬ي�ؤثر ال�شاعر جتربة علمانية قائمة على املوت‪ ،‬الفداء‪ ،‬الوالدة‪ ،‬يرى فيها املالمح ال�ضائعة‬ ‫التي تاق �إليها التقليديون‪ ،‬فهي نظرة التد ّين احلقيقي والتماهي ال�صحيح‪� .‬أما اللوهة‪ ،‬عند �أدوني�س‬ ‫من وجهة نظر الباحث طنو�س‪ ،‬فما هي رب ينبغي التذلل له‪ ،‬وال املل بالدار الآخرة‪ ،‬وال �شهوة‬ ‫احلور والولدان‪ ،‬اهلل بالن�سبة �إليه ذو �شعار �إن�ساين‪ ،‬ولي�س متعالياً على الإن�سان مت�صفاً باجلربوت‬ ‫والعظمة‪ .‬وبكلمة «اهلل واجل�سد اليناق�ضان‪ ،‬ورمبا كان اللقاء بينهما طريقاً �إىل الأبد‪ ،‬وتنقلب القيم‬ ‫‪133‬‬


‫(عند �أدوني�س) فتفدو اخلطيئة هي احلق‪ ،‬كما يغدو الورع �شيئاً �ضد احلقيقة‪� ،‬أي �ضد احلياة‪،‬‬ ‫اخلطيئة‪ ،‬عنده‪ ،‬بناءة و�إيجابية لأنها تعبري عن احلياة اجليا�شة‪ .‬ويف حني �أن عائ�شة يف الديوان نبذت‬ ‫اخلطيئة فنبذت احلياة نف�سها‪ ،‬فال منا�ص من ال�شر على حد قول الفيل�سوف الأملاين فريدريك‬ ‫نيت�شه‪ ،‬فهو الذي ميد الإن�سان بالطاقة»‪.‬‬ ‫يقول �أدوني�س يف «�أغاين مهيار الدم�شقي»‪« :‬اليوم حرقت �سراب ال�سبت‪� ،‬سراب اجلمعة»‪.‬‬ ‫والوا�ضح هنا م�س�ألة «موت اهلل» التي نادى بها نيت�شه‪ ،‬ف�أي �شيء �إذاً هي هذه الكنائ�س �إن مل تكن‬ ‫�أقبية وقبور اهلل؟ وي�ؤكد الباحث �أن موت اهلل ق�ضية مركزية يف الفكر الغربي‪ ،‬لأن االن�سان بهذا‬ ‫املوت ي�ستعيد حريته‪« ،‬فمن البديهي �أن يرف�ض ال�شاعر جانباً دينياً �أ�سا�سياً هو خلق اهلل العامل يف‬ ‫�أيام �سبعة‪ ،‬وال يو�ضح لنا �أ�سباب الرف�ض‪ ،‬وملاذا �أحرق �سراب ال�سبت‪ ،‬و�سراب اجلمعة‪ ،‬ولكننا‬ ‫ندرك �أن الت�صور الدينني التقليدي عند �أدوني�س‪ ،‬قد انتهى‪ .‬لقد مات �إله‪ ،‬ويف نظره‪ ،‬ليحل مكانه‬ ‫�إله جديد‪ ،‬ورمبا اكت�شف عالقة جديدة ومعنى جديداً للألوهة»‪.‬‬ ‫ويعتقد �أدوني�س �أن ال�شيء فوق االن�سان‪ ،‬يخنق فيه حرية االختيار‪ ،‬ويقرر م�صريه �سلفاً �أو ي�ضعه‬ ‫يف جنة‪� ،‬أو يزجه يف جحيم‪ .‬غري �أن رف�ض اهلل يف الت�صور التقليدي ال يعني قبو ًال بال�شيطان‪ ،‬فهذا‬ ‫الأخري ح�سب وجهة نظر الباحث يعرتف بوجود اهلل ويتمرد عليه يف �آن واحد‪ ،‬ال يف دروب احلرية‪،‬‬ ‫تعد الطريق‬ ‫واملع ّول عليه لي�س التف�سري الديني القائم على اليقني التام‪ ،‬و�إمنا احلاالت ال�سلبية التي ّ‬ ‫امللكية �إىل املعرفة مثل احلرية‪ ،‬وهي �ضرورية يف عملية التفكري‪ ،‬فمن يحتار ال ين�صاع ال �شعورياً �إىل‬ ‫�سلطة قائمة دنيوية �أو غيبية‪ ،‬بل �إنه يرتدد بني �أمرين‪ ،‬وي�شبع امل�س�ألة در�ساً‪ ،‬وبكلمة �أخرى احلرية‬ ‫من معامل التجربة اجلديدة‪ ،‬وك�أنها البديل لفكرة اهلل وال�شيطان‪.‬‬ ‫يتعامل �أدوني�س مع عقيدة �آدم من اجلنة‪ ،‬على �أنها ق�صة رمزية ذات داللة‪ ،‬وداللتها الكربى‪� ،‬أن‬ ‫اخلطيئة �سبيل �إىل احلياة اجلديدة‪� ،‬إنها الدين اجلديد �إن �صح القول‪.‬‬ ‫«�ساحر ي�أتي بال دخان»‬

‫لقد اجتهد �أدوني�س معتمداً على طرح فل�سفي حم�ض‪ ،‬ليطرح م�شروعه النظري �إ�شكالية العالقة‬ ‫بني ال�شعري والديني‪ ،‬على �أ�سا�س من �أن ثبات الديني قاد ب�صورة �أو �أخرى �إىل ثبات ال�شعرب‬ ‫على الرغم من �أن الأ�صل فيه هو التحول‪ ،‬كما �أعاد قراءة احلداثة ال�شعرية العبا�سية حتديداً يف‬ ‫ن�ضالها �ضد متعاليات الثقافة العربية ومرتكزاتها الفكرية‪ ،‬لأن حترير ال�شعر �شرطه حترير الفكر‪.‬‬ ‫لذلك يرى �أدوني�س يف الدين قت ًال لل�شعر‪ ،‬يقول‪�« :‬إن الوحي �أنهى ال�شعر‪ ،‬ومات بدءاً من الوحي‬ ‫ال�سماوي»‪ .‬ومقولة موت ال�شعر لي�ست غريبة عن �أجواء احلداثة وما بعد احلداثة التي متيت كل‬ ‫�شيء‪ ،‬اهلل‪ ،‬االن�سان‪ ،‬الفل�سفة‪.‬‬ ‫‪134‬‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫�أما الباحث الدكتور جان نعوم طنو�س‪ ،‬فريى ال�شاعر �ساحراً يبدل طبائع الأ�شياء‪ ،‬ولكنه لي�س‬ ‫الدجال الذي يبهر العيون ويعمي الب�صرية‪ ،‬بدخانه املنفوث‪ .‬كل حجر رمز �إىل االن�سان‪،‬‬ ‫ال�ساحر ّ‬ ‫ميت‪ ،‬ثابت‪ ،‬ال يتحرك‪ ،‬ي�صري يا�سمني من احلب‪ ،‬كما �أن الأر�ض ال�صافية حتبل بالأغاين وتولد‬ ‫املدينة من جديد‪« .‬وقدمياً قيل �أن من البيان ل�سحراً‪ ،‬و�أكد العرب �أن ال�شعر مينح اجلبان �شجاعة‪،‬‬ ‫ويع ّلم احلب‪ ،‬ويعطي احلكمة‪ .‬لكن ال�سحر والأدوني�سي �شامل‪ ،‬وجذري‪ .‬وك�أنه التخلف �إىل حياة‬ ‫�سحرية‪ ،‬وبذلك تكون العالقة �شعرية غري دينية‪ ،‬باملعنى القدمي للكلمة‪ ،‬وك�أن �أدوني�س ا�ستبدل‬ ‫بالدين ال�شعر الذي يغبرّ العقول والقلوب»‪.‬‬ ‫وي�شري الدكتور طنو�س �إىل �أن جواً دينياً‪ ،‬غرائبياً‪ ،‬يبلغه �أدوني�س عرب العزلة واخللق‪ ،‬ولكن م�ضمون‬ ‫هذا اجلو يختلف عما �سبق‪�« .‬صحيح �أنه كالأنبياء‪ ،‬يبغي هداية قومه‪� ،‬أو حتريرهم من التخلف‪،‬‬ ‫وتعليمهم فن احلياة وفن ال�شعر‪ ،‬لكنه على الرغم من عزلته يرنو �إىل الدنيا التي طاملا احتقرها‬ ‫الأقدمون يف حني �أن �شاعرنا يرى فيها الوطن الوحيد لالن�سان»‪.‬‬ ‫�إذا كان الدين خامتة املعرفة ونهاية الكمال‪ ،‬فذلك يعني �أنه ال ميكن �أن ين�ش�أ يف امل�ستقبل ما‬ ‫اليكون مت�ضكناً فيه‪ ،‬فالوحي ت�أ�سي�س للزمن وللتاريخ يف �آن‪� ،‬أو هو بداية الزمن والتاريخ‪ ،‬وهو لي�س‬ ‫زمناً ما�ضياً‪ ،‬بل هو الزمان كله الأم�س واليوم والغد‪ ،‬والآن والغد ال يك�شفان عما يتجاوز الوحي‪،‬‬ ‫بل �إنهما على العك�س ي�شهدان له‪ .‬الآن حلظة تذكري‪ ،‬وكذلك الغد‪ ،‬فلي�س امل�ستقبل يعد اكت�شافاً‬ ‫بل ُيعد حفظاً وا�ستعادة‪ ،‬ولي�س عامل تغيري بل عامل تدبري على حد قول �أدوني�س‪.‬‬ ‫وك�أن البعد الإلهب ال يتكون �إال بدءاً من االن�سان وهذا الأخري يقول الباحث مرجعيته الأر�ض‬ ‫التي «بوا�سطتها يعرف الأر�ض‪ ،‬كما يعرف ال�سماء بنور الأر�ض‪� ،‬إذ كيف ي�ستطيع االن�سان �أن‬ ‫يعرف اهلل �إال من خالل عقله وقلبه؟ ف�أن تكت�شف املتعايل يعني �أن تكت�شف ما تت�صوره عنه‪ ،‬فما‬ ‫و�صفناه �إال كنا نحن ذلك الو�صف»‪.‬‬ ‫�أما اهلل بحد ذاته‪ ،‬فال �أحد يعرفه و�إمنا نعرفه عرب خملوقاته و�آياته‪ ،‬واملعنى يف هذا ال�سياق ح�سب‬ ‫اعتقاد الباحث طنو�س انتهاء مرجعية ال�سلطة‪ .‬وح�صر العالقة مع الغيب باالن�سان نف�سه‪ ،‬ي�ضاف‬ ‫�إىل ذلك �أن الهوة تزول بني اهلل والأر�ض‪ ،‬وتلغى الثنائيات‪ ،‬فنكون �أمام جتربة ح�ضور املطلق يف‬ ‫الذات‪ ،‬ولكن الذات ال تفهمه �إال انطالقاً من �شرطها االن�ساين‪.‬‬ ‫الأر�ض مركز الكون‬

‫يقول الباحث طنو�س‪�« :‬إن الديانات التوحيدية نظرت �إىل الطبيعة بو�صفها كر�سي جمد اهلل‪ ،‬كما‬ ‫ال�صماء هي التي تقودنا‬ ‫يقول جربان‪ ،‬فما من عالقة ا�ضطهادية بينها وبني الغيب‪ ،‬بل �إن املادة ّ‬ ‫�إىل قوة متعالية‪ ،‬و�إذا ما حتدثت التوراة عن عملية خلق الكون فلكي ال يبعد بنو �إ�سرائيل مظاهر‬ ‫‪135‬‬


‫الطبيعة بو�صفها �أ�صنافاً ال تعي وال تفكر‪ ،‬ولذلك �أكدت الكتب املقد�سة قدرة اهلل التي تبدو‬ ‫خميفة عن �أدوني�س»‪ ،‬الذي ينظر �إىل الطبيعة بو�صفها املوجود الوحيد‪ ،‬وال وجود ما فوقها �أو حتتها‪،‬‬ ‫�أي ال وجود لعامل ميتافيزيقي يتعاىل على الفيزيق‪� ،‬أو قل ال وجود لعامل منف�صل ومتعال‪ ،‬فمن‬ ‫البديهي ح�سب ر�أي الباحث �أن تبدو املادة �أ�سري اخلالق‪.‬‬ ‫فاخلالق يبدو يف �شعر �أدوني�س �إلهاً بطريركياً‪ ،‬ذكورياً‪ ،‬لأنه ي�ستمتع بعذاب املر�أة‪ .‬لي�س هذا‬ ‫فح�سب‪ ،‬لأن املالكني‪ ،‬واملالك روح ظاهرة‪ ،‬يبدوان �شبقني‪ ،‬فك�أنهما يرمزان �إىل العقليةالذكورية‬ ‫التي ي�ضطهد �أ�صحابها الأنثى ال�شتهائهما لها‪ ،‬فثمة عالقة بني حب ال�سيطرة وحب اجلن�س‪« .‬ومن‬ ‫املمكن �أن �شاعرنا ر َم َز بكلمة اخلالق �إىل �أقوال بع�ض الفقهاء التي مل ت�أت يف م�صلحة ال�شطر‬ ‫اجلميل الرقيق من الرجل»‪.‬‬ ‫�إن �أدوني�س مل يعد للدين �إال لكي يجتزئ منه ال�صورة التي يريد‪ ،‬ولقد اختار �أن يدخل �إليه من‬ ‫الباب الأكرث انفتاحاً‪ ،‬الأكرث ت�ساحماً وت�ساه ًال‪ ،‬والأكرث �إثارة للجدل واحل�سا�سية‪ ،‬باب الت�صوف‪،‬‬ ‫ورمبا كانت �أهم �إ�ضافة ّقدمها �أدوني�س �إىل الرتاث الإ�سالمي كتابته ق�صيدة «ال�سماء الثامنة»‪،‬‬ ‫«رحيل يف مدائن الغزايل»‪ ،‬التي ميكن �أن نرى فيها فاحتة التجربة الإ�سالمية يف ال�شعر العربي‪،‬‬ ‫مثلما ر�أى هو يف ق�صائد يو�سف اخلال فاحتة التجربة امل�سيحية يف ال�شعر العربي‪ .‬لقد �سبق لأدوني�س‬ ‫ال�سبعيني يف الثابت واملتحول �أن هاجم الغزايل ومذهبه الذوقي املنايف للعقل والفل�سفة‪ ،‬كما‬ ‫هاجم الإمام ال�شافعي و�أ�صوليته املتزمتة‪ ،‬لكن �أدوني�س الالحق بعد ذلك �سيغرق يف ال�صوفية‬ ‫واالجتاهات الباطنية‪.‬‬ ‫رب احلياة‪ ،‬بل �إن‬ ‫رب املوت ولي�س ّ‬ ‫رب �أدوني�س هو ّ‬ ‫وي�شري الدكتور جان نعوم طنو�س �إىل �أن ّ‬ ‫هذه احلياة ال قيمة لها‪ ،‬فاملع ّول عليه �أن يعي�ش املرء ّمدة من الزمن يف �سبيل �أن يقدم نف�سه قرباناً‬ ‫رخي�صاً وذبيحة ال �ش�أن لها لتلك الآلهة‪ .‬ويقول طنو�س‪«:‬هرب �أدوني�س من الأديان التوحيدية‬ ‫التي ت�ضطهد‪ ،‬يف ر�أيه الطبيعة واملر�أة واجلن�س‪ ،‬ولكنه وقع يف دين همجي بربري ‪� ،‬أقل ما ُيقال فيه‬ ‫�أنه دين فا�شي‪ ،‬يع ّزز امليول املازو�شية‪ ،‬ويحيل الأر�ض �إىل هباء‪ ،‬ولعل نظرة �إىل �شعر �أدوني�س تتيح‬ ‫لنا اال�ستنتاج ب�أن �شعره‪ ،‬يف ق�سم منه مبني على �شهوة الأمل و�شهوة احلب»‪.‬‬ ‫ويت�ساءل الباحث طنو�س‪«:‬كيف يرف�ض �أدوني�س الأديان التوحيدية ومييل �إىل املعتقدات القدمية‬ ‫ويقدم لكل هيكل‬ ‫متوهماً �أنها تقدم طريق اخلال�ص؟ ذلك �أن ال�شاعر يعود بالزمن �إىل الوراء‪ّ ،‬‬ ‫(كنت) �إ�شارة �إىل متاهيه بعملية االنتحار القربانية‪ .‬لكن «العبادة النيكروفيلية �أكرث اغرتاباً‬ ‫بكلمة ُ‬ ‫مما عا�شه يف ديوان (�أوراق يف الريح)‪ .‬ولعل هذه العبادة هي التي تتوق �إليها خالدة �سعيد»‪.‬‬ ‫وعد نف�سه من جن�س املذبوحني‪ ،‬ولكنه مل يحتفل‬ ‫�إن �أدوني�س رف�ض اهلل ليعبد �أ�صناماً ب�شرية‪ّ ،‬‬ ‫باملذبوحني من الطرف الآخر‪� ،‬شجب الإرهاب غري �أنه �أخفى جوانبه عند �أهل البدع والأهواء‪،‬‬ ‫على حد قول الباحث طنو�س‪ .‬ففي كتابه «الثابت واملتحول» مل يتطرق �إىل جرائم القرامطة‬ ‫‪136‬‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫وال�صوفية من جوانب عدة‪ ،‬ويعد احلركة القرمطية وجهاً �آخر اقت�صادياً ‪ -‬اجتماعياً للثورة‪ ،‬كما‬ ‫يعد احلركة ال�صوفية وجهاً فكرياً‪ ،‬فما �أجنزه القرامطة يف احلقل املادي �أجنزه ال�صوفيون يف احلقل‬ ‫الأيديولوجي‪.‬‬ ‫املر�أة ‪ -‬احلب ‪ -‬الألوهة‬

‫�إن مو�ضوع املر�أة قد �شغل الأدب والفن قروناً عدة واليزال‪ ،‬ونظرة املت�صوفة �أنها ظلت بالن�سبة �إىل‬ ‫الرجال مثا ًال للجمال الإلهي‪ ،‬ويف الوقت ذاته امنوذجاً للإغواء ال�شيطاين‪ .‬هذا اجلمع بني ال�ضدين‬ ‫من هوايات ال�صوفية املف�ضلة‪ ،‬فهم مغرمون بلقاء الأ�ضداد يف حلمة واحدة‪ ،‬ولكي حتظى املر�أة‬ ‫عند املت�صوفة بتلك املكانة �شبه املقد�سة‪ ،‬اعتربها بع�ضهم‪ ،‬كاخليال‪ ،‬مر�آة ينعك�س عليها احل�سن‬ ‫واجلمال الإلهيان‪� ،‬أما تقدي�س املر�أة فلي�ست بدعة �شيعة قلدهم فيه ال�صوفية كما يحاول الفهم‬ ‫الأدوني�سي �إقناعنا به‪ ،‬ولقد جعل �أدوني�س اجل�سد واجلن�س �أداة للتجاوز‪ ،‬وخلخلة ال�سائد‪ ،‬وتقوي�ض‬ ‫�سلطة املحظور‪ ،‬واخلروج منه �إىل واقع ميتافيزيقي‪ ،‬لأن اال�ستغراق يف اجلن�س ينقل االن�سان �إىل‬ ‫عامل �آخر بعيد‪ ،‬متنا�سياً ذاته املادية والواقعية‪� .‬أم الباحث الدكتور جان نعوم طنو�س فريى �أن‬ ‫اجل�سد يندمج بالألوهة عند �أدوني�س‪ ،‬كما يندمج املدن�س باملقد�س‪ ،‬والروج باجل�سد‪« .‬فالأ�صل هو‬ ‫الأر�ض‪ ،‬اجل�سد‪ ،‬وال�شهوة التي جتعل ال�شاعر مالئكياً‪ .‬كما يرى‪ ،‬والريب يف �أن ال�شهوة ُرذِلت يف‬ ‫ع�صور االنحطاط العربية والغربية‪ ،‬حتى �أن برتارك ال�شاعر العذري يقول مقبحاً اجل�سد واملر�أة ‪،‬‬ ‫واالثنان متالزمان‪�(.‬إن املر�أة �شيطان حقيقي‪ ،‬وعدو ال�سالم‪ ،‬وم�صدر الت�أفف‪ ،‬و�سبب امل�شاحنات‪،‬‬ ‫وعلى الرجل �أن يبتعد عنها �إذا ما �أراد �أن ينعم براحة البال)‪� .‬إن �شرط التحرر عند �أدوني�س هو‬ ‫تقدي�س اجل�سد ورف�ض املاوراء»‪.‬‬ ‫�أدوني�س يريد �أن ينفلت من �سلطة ال�شرع‪ ،‬ويتحرر من تعاليمه‪ ،‬فيقدم عنده اجل�سد على الروح‪،‬‬ ‫يعي�ش هياماً ي�شطح فيه يف ملكوت اجل�سد وك�أنه لي�س من عامل الأر�ض‪ ،‬و�إمنا من كون خا�ص‪،‬‬ ‫و�أخرياً بوركت يد جان نعوم طنو�س‪ ،‬التي متكنت من ك�شف اخلفايا‪ ،‬و�إظهار احلقيقة �أمام �شم�س‬ ‫النهار‪ ،‬ولي�س هذا جديداً عليه‪ ،‬فهو يف كل ما قدم للمكتبة العربية من �أبحاث نقدية‪ ،‬كان مثال‬ ‫الباحث العميق‪ ،‬والناقد املو�سوعي املميز‪.‬‬ ‫* ال�س�ؤال الديني يف �شعر �أدوني�س‪ ،‬الدكتور جان نعوم طنو�س‪ ،‬دار النه�ضة العريبة ‪ -‬بريوت‬

‫‪137‬‬


‫الدولية للمعلومات �ش‪.‬م‪.‬ل‬

‫بناية الربج‪ ،‬الطابق الرابع‪� ،‬ساحة ال�شهداء الو�سط التجاري‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‬ ‫�صندوق بريد‪ ،11-4353 :‬بريوت ‪ -‬لبنان‪.‬‬ ‫هاتف‪)961-1( 983008 /9 :‬‬ ‫فاك�س‪)961-1( 980630 :‬‬ ‫الربيد الإلكرتوين‪infointl@information-international.com :‬‬ ‫املوقع الإلكرتوين‪www.information-international.com :‬‬


‫تاريخ وتراث‬

‫مملكة دم�شق‬ ‫�سهيل قا�شا ‪ -‬م�ؤرخ وباحث‬

‫دم�شق‪ ،‬مدينة عريقة يف القدم‪ ،‬ورد ذكرها يف العهد القدمي‪ .‬ودم�شق لفظة �آرام ّية �أ�صلها «دم�شق»‬ ‫تتقدمها دال الن�سبة‪ ،‬ومعناها الأر�ض املزهرة واحلديقة الغ ّناء‪.1‬‬ ‫ا�ستوطنها الأمور ّيون قبل �أن يحت ّلها الآرام ّيون‪ .‬وقد ذكر يو�سفو�س امل�ؤ ِّرخ �أنّ باين دم�شق عــو�ض‬ ‫�صح هذا‪ ،‬تكون دم�شق مدينة‬ ‫بـن �آرام بـن �سـام بـن نـوح الذي �سكنها و�أوالده من بعده‪ ،‬و�إن َّ‬ ‫الـدمـ�شـقي‬ ‫�آرام ّية قلباً وقالباً‪ ،‬ومنها ا ّتخذ ابـراهـيم اخلــليل الآرامي مديراً لأعماله هو �ألـيعـازر‬ ‫ّ‬ ‫الذي �أوفده �إىل ح ّران ليخطب ابنة البــان احلـ ّرانـي البنه ا�سحق‪ .‬ويف هذه املدينة‪ّ � ،‬أ�س�س‬ ‫الآارم ّيون �أقوى و�أو�سع ممالكهم‪ ،‬و�أطلقوا عليها ا�سم «دارمي�سيق» � ّأي الأر�ض امل�سق ّية �أو الدار‬ ‫امل�سق ّية‪.2‬‬ ‫آرامية‪:‬‬ ‫دم�شق �أعظم مملكة � ّ‬

‫موحدة نظري ال�شعوب الأخرى التي‬ ‫�إنَّ الآارم ّيون ولئن مل يفلحوا يف ت�أ�سي�س مملكة �آرام ّية كبرية ّ‬ ‫وتوحد كلمتهم وتن�شر نفوذهم وتب�سط �سيطرتهم‪� ،‬إلاّ �أنّ قيام مملكة دم�شق‬ ‫�سبقتهم‪ ،‬جتمع �شملهم ّ‬ ‫تو�سعها و�أهم ّيتها‬ ‫يعترب وال ريب حدثاً ذا �ش�أن كبري يف تاريخ املمالك الآرام ّية املبعرثة‪ ،‬نظراً �إىل ّ‬ ‫الثقاف ّية والتجار ّية واالقت�صاد ّية والع�سكر ّية‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل كونها �أقوى مملكة �آرام ّية ا�ستطاعت �أن‬ ‫تق�ض م�ضاجع الآ�شوريني من جهة‪ ،‬والعربانيني من جهة �أخرى‪ ،‬حقبة طويلة من الزمن‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫‪ 1‬‬ ‫‪ 2‬‬

‫مقدمة كتابه «دم�شق مدينة اجلمال»‪.‬‬ ‫جم ّلة امل�شرق‪ ،‬جملد ‪� ،2‬ص ‪ ،659‬وحممد كرد علي يف ّ‬ ‫�صليبا‪� ،‬ص ‪.48‬‬ ‫‪139‬‬


‫كثرياً ما كانت تتزعم املمالك الآرام ّية ب�شبه �إتحّ اد فدرايل �أو حتالف‪ ،‬وتقودها �ضد الآ�شور ّيني �أو‬ ‫ت�ؤ ِّلبها �ضد �أ ّية مملكة �أخرى حتاول انتزاع الزعامة منها‪ ،‬كما حدث مث ًال عندما حاول زاكــري جعل‬ ‫التو�سع ّية‪ ،‬و�سعيهم �إىل �إخ�ضاع‬ ‫حماة مركز ٍ‬ ‫ثقل بني املمالك الآرام ّية‪ ،‬ولوال طموح ملوك �آ�شور ّ‬ ‫املمالك ّ‬ ‫كل على حده‪ ،‬لأفلح ملوك دم�شق يف ت�أ�سي�س مملكة كربى وا�سعة الأرجاء مرتامية‬ ‫ت�ضم معظم املمالك الآرامية يومذاك‪ ،‬وال�س ّيما يف عهد ملوكها �آل حــدد (هــدد)‬ ‫الأطراف ّ‬ ‫الذين ا�شتهروا بحروبهم الكثرية �ضد العربان ّيني ّ‬ ‫ومتكنوا من ب�سط نفوذهم بالق ّوة على العديد من‬ ‫امتد نفوذهم هذا يوماً ح ّتى حدود حلب بدليل اكت�شاف ن�صب‬ ‫ممالك �آرام وكنعان وفل�سطني‪ .‬وقد ّ‬ ‫�آرامي يف بريج قرب حلب ُنحِ ت عليه بالآرام ّية ما ترجمته‪:‬‬ ‫«الن�صب الذي �أقامه بـرحــدد ملك �آرام على �شرف �سيده ملــقـارت و�أهداه �إليه لأ ّنه حماه‬ ‫و�سمع نداءه»‪.3‬‬ ‫مما ّ‬ ‫آ�شوري من �أ ّنه اجتاح يف عهد‬ ‫يدل على انت�شار رقعة �سلطتها‪ ،‬ما ورد عن تـغـالثــفـك مــر ال ّ‬ ‫‪4‬‬ ‫ملكها ر�صــني‪� ،‬ست ع�شرة مقاطعة تابعة لها مع ‪ 591‬مدينة فيها ‪ ،‬وظ ّلت مملكة دم�شق زاهرة‬ ‫قاب�ضة على زمام الأمور يف املنطقة‪َّ ،‬‬ ‫جتمعها يف �صعود حتى نهاية ملكها حـزئــيل حيث‬ ‫وظل ُّ‬ ‫�أخذت بالإنحطاط والتدهور حتى �سقطت نهائ ّياً وخ�ضعت ل�سلطة الآ�شور ّيني بعد حروب طويلة‬ ‫طاحنة‪ ،‬وقد َّمت ذلك نحو �سنة ‪ 732‬ق‪.‬م‪ .‬وب�سقوط مملكة دم�شق �أفل جنم الآرام ّيني ال�ساطع‪ .‬هذا‬ ‫وقد تن ّب�أ عـامــو�س النبي عن �سقوط دم�شق بقوله‪:‬‬ ‫«هكذا قال الرب �إين لأجعل معا�صي دم�شق الثالث والأربع ال �أر ّدها لأنهم دا�سوا جــلعــاد‬ ‫بنوارج من حديد‪ ،‬ف�أر�سل ناراً على بيت جـزئــيل فت�أكل ق�صور بنـهـدد»‪.5‬‬ ‫ونظراً �إىل �أهم ّية هذه اململكة‪ ،‬فقد �أطلق عليها العهد القدمي ا�سم «بالد �آرام» ك�أمنا �سائر املمالك‬ ‫الآرام ّية متمثّلة فيها‪.‬‬ ‫والعربانيون‪:‬‬ ‫�آرام دم�شق‬ ‫ّ‬

‫�إنّ تاريخ مملكة دم�شق ال�سيا�سي هو �سل�سلة طويلة من احلروب وامل�صادمات‪ ،‬تتخللها بني حني و�آخر‬ ‫فرتات ا�ستقرار ق�صرية الأمد خا�ضتها يف جبهتني‪ ،‬اجلبهة الغرب ّية مع العربان ّيني‪ ،‬وابتد�أت منذ‬ ‫ت�أ�سي�س اململكة وانتهت قبل �سقوطها ّمبدة وجيزة‪ ،‬ومعنى هذا �أنّ دم�شق كانت يف �صراع م�ستم ّر‬ ‫‪ 3‬‬ ‫‪ 4‬‬ ‫‪ 5‬‬ ‫‪140‬‬

‫املج ّلة البطريرك ّية‪ ،‬جملد ‪� ،4‬ص ‪.494‬‬ ‫�ص ‪.497‬‬ ‫عامو�س ‪.5-3 :1‬‬


‫تاريخ وتراث‬

‫مع العربان ّيني‪ .‬واجلبهة ال�شرق ّية خا�ضتها مع الآ�شوريني وقد ابتد�أت يف عهد ملكها بـرحــدد‬ ‫الثاين وانتهت ب�سقوط دم�شق يف عهد ملكها ر�صني‪.‬‬ ‫فالعربان ّيون بعد خروجهم من م�صر ّمتكنوا‪ ،‬بعد ا�شتباكات عنيفة ومتتالية مع الكنعان ّيني ّ‬ ‫�سكان‬ ‫فل�سطني‪ ،‬من احتالل ق�سم كبري من فل�سطني وا�ستوطنوه بعد �أن ّنظموا �أمورهم ب�شبه مملكة حكمها‬ ‫ق�ضاة ّثم ملوك‪� ،‬إلاّ �أ ّنها انق�سمت فيما بعد �شطرين ُعرِفا مبملكتي �إ�سرائيل يف ال�شمال ويهوذا يف‬ ‫اجلنوب‪.‬‬ ‫وقد حاولوا تو�سيع منطقة نفوذهم على ح�ساب ال�شعوب املجاورة فكان لهم ما �أرادوا‪ ،‬ح ّتى �أنّ‬ ‫دم�شق نف�سها �سقطت يف قب�ضتهم‪ .‬غري �أنّ �أحد �أبنائها الأ�شاو�س و ُيدعى رزون‪ ،‬وكان قائداً يف جي�ش‬ ‫ت�صدى لهم و�أعادهم على �أعقابهم و�أنقذ دم�شق من قب�ضتهم و�أ�س�س مملكة‬ ‫حــددعـزر ملك �صوبا‪ّ ،‬‬ ‫دم�شق الآرام ّية‪ .‬وقد ا�ستم ّرت احلروب بني الفريقني الآرامي والعربي فرتة طويلة‪ .‬وبذلك يكون‬ ‫ملعظم ملوك دم�شق جوالت عنيفة مع العربان ّيني كان ال ّنجاح يحالفهم يف معظم الأحيان‪.‬‬ ‫رزون يت�ص ّدى ل�سـليــمـان‪:‬‬

‫كان زرون قائداً يف جي�ش ملك �صوبا‪ ،‬كما �أ�سلفنا‪ ،‬وقد مت ّيز بالب�أ�س والدهاء‪ ،‬تخاجله نزعتا احلر ّية‬ ‫والإ�ستقالل‪ .‬وملّا ُمني ملك �صوبا بخ�سائر فادحة و ُهزم �أمام العربان ّيني‪ ،‬انتهز رزون هذه الفر�صة‬ ‫وانف�صل عنه بجمهرة من رجاله ال�شجعان‪ ،‬و�أعلن نف�سه ملكاً على دم�شق‪ .‬و�سرعان ما حمل‬ ‫روح الث�أر من �إ�سرائيل‪� ،‬إنتقاماً لكرامة قومه ال ّتي �أهانتها خالل احتاللها لبالد �آرام‪� ،‬إذ كانت‬ ‫دم�شق ت�ؤ ّدي اجلزية لإ�سرائيل �أبت عليه نف�سه �أن يبقى �أبناء قومه حتت وط�أة العربانيني املغت�صبني‪،‬‬ ‫ي�سومونهم ّ‬ ‫وميت�صون خريات بالدهم‪ .‬ويف هذه الأثناء‪ ،‬كان �سـليــمـان قد خلف �أباه‬ ‫الذل والهوان ّ‬ ‫داود‪ ،‬ففتح رزون عهده مبحاربة �سـليــمـان‪ ،‬حيث خا�ض معه معارك �ضارية حالفه فيها النجاح‪.‬‬ ‫وبذلك حت ّررت دم�شق ك ّلياً من نري ا�سرائيل ورفع عنها اجلزية التي كان امللك داود قد فر�ضها عليها‬ ‫�إثر النجدة التي ّقدمها �آرام ّيو دم�شق حلــددعـزو ملك �صوبا يف حربه مع داود والتي فيها انت�صر‬ ‫داود وفر�ض عليهم العبود ّية واجلزية‪.6‬‬ ‫وبالإنت�صار ال�سحيق الذي �أحرزه رزون على جي�ش العربان ّيني‪ ،‬ع ّزز دعائم مملكته فارتفع �ش�أنها‬ ‫و�أخذت ال�شعوب تنظر �إليها نظرة احرتام وته ُّيب‪ .‬ولهذا ف�إنّ رزون ُيعترب من � ّألد �أعداء العربان ّيني‬ ‫امتد يف عهد امللكني داود و�سـليــمان �إىل‬ ‫لأنه ك�سر �شوكتهم وق ّل�ص نفوذهم الذي كان قد ّ‬ ‫دم�شق و�صوبا‪ .‬وقد خلف رزون على التوايل �أبناء حـزيــون وطـبـريــمون‪ ،‬ويبدو �أن عهديهما‬ ‫‪� 6‬أخبار الأ ّيام‪ ،‬اال�صحاح ‪.18‬‬ ‫‪141‬‬


‫كانا ق�صريين ومل تتخ ّللها حوادث ذات �ش�أن‪ ،‬فالعهد القدمي ال ي�شري �إليها �سوى عند احلديث عن‬ ‫برحــدد الأ ّول بـن طبــريـمـون حيث يقول �أ ّنه ابـن طبــريـمـون بـن حـزيـون‪.7‬‬ ‫بـرحـدد الأ ّول وازدهار البالد‪:‬‬

‫كان بــرحـــدد رج ًال طموحاً و�سيا�س ّياً حم ّنكاً يعرف كيف يك�سب الوقت ل�صالح �أ ّمته ومملكته‪،‬‬ ‫فلم َ‬ ‫ير�ض برقعة دم�شق مملكة له‪ ،‬بل عمل على تو�سيعها‪ ،‬ف�أخ�ضع حماة وممالك �سوريا املج ّوفة حتى‬ ‫�سواحل فرات الغرب ّية ونواحي حلب التي اكت�شف بالقرب منها الن�صب الذي �أقامه تكرمياً الله‬ ‫جده رزون قد ا�ستطاع �أن يزيح كابو�س العربان ّيني عن دم�شق‪ ،‬ف�إ ّنه ا�ستطاع‬ ‫مــلــقـارت‪ .‬و�إذا كان ّ‬ ‫�أن يجعلها تتم ّتع با�ستقرار تام وتزدهر يف �شق امليادين‪ .‬ولكن يجب �ألاّ نن�سى �أن الظروف خدمته‬ ‫�إىل جانب ن�شاطه وطموحاته و�إخال�صه لأ ّمته‪ ،‬فاخلطر الآ�شوري كان قد زال عنها ومل يعد يهددها‬ ‫كما كانت احلال بالن�سبة �إىل املمالك الآرام ّية يف �شمال �سوريا‪ .‬وقد كانت يف الوقت ذاته يف م�أمن‬ ‫من هجمات العربان ّيني ب�سبب اخلالفات النا�شئة بني مملكتي يهوذا وا�سرائيل‪ .‬لذلك‪ ،‬ان�صرف‬ ‫ملوكها يف هذه الفرتة �إىل تن�شيط احلركة العمران ّية ودفع عجلة االقت�صاد الوطني �إىل الأمام‪.‬‬ ‫وبينما كان التطاحن يف �أوجه بني �آ�ســــا ملك يهوذا وبـعـــ�شا ملك ا�سرائيل‪ ،‬يف منت�صف القرن‬ ‫العا�شر قبل امليالد‪� ،‬أر�سل �آ�ســــا �إىل بـرحــــدد هدايا فاخرة وكنوزاً ثمينة من املعبد‪ ،‬ومن الق�صر‬ ‫امللكي يف �أور�شليم‪ ،‬عار�ضاً عليه عقد حتالف �ضد بـعـــ�شا‪ ،‬فا�ستجاب بــرحـــدد �إىل هذا العر�ض‪،‬‬ ‫الكف عن م�ضايقة �آ�ســـا‪.‬‬ ‫وهاجم ا�سرائيل و�أوقع الدمار يف مدنها‪ ،‬الأمر الذي لزم بــعـــ�شا على ّ‬ ‫وي�ستفاد من �سفر امللوك الثالث (‪� )34 :20‬أنّ بــرحـــدد ا�ستطاع �أن يح�صل من عــمـــري‬ ‫ملك ا�سرائيل على امتيا ٍز بفتح �أ�سواق ملنتوجات بالده يف مدينة ال�سامرة ا ّلتي كان قد ابتناها‬ ‫عــمـــري وا ّتخذها عا�صمة له‪.‬‬ ‫يخ�ص ازدهار بالده‪ ،‬بل ويف تو�سيعها �أي�ضاً‪ .‬فقد‬ ‫من هنا يظهر طموح هذا امللك‪ ،‬لي�س فقط يف ما ّ‬ ‫ّ‬ ‫ي�ستغل اخلالف القائم بني �آ�ســـا‬ ‫عرفنا كيف �أ ّنه �أخ�ضع البالد الواقعة �شمايل مملكته‪ ،‬وهنا نراه‬ ‫�شرقي الأردن‪ ،‬وبذلك يكون قد �أ ّمن �سيطرته‬ ‫وبــعــ�شا‪ ،‬فيفر�ض نفوذه على مقاطعة راموث جلعاد ّ‬ ‫على مملكتي يهوذا وا�سرائيل يف ذات الوقت‪.‬‬

‫‪ 7‬‬ ‫‪142‬‬

‫‪ 3‬ملوك ‪.18 :15‬‬


‫تاريخ وتراث‬

‫ت�ضع�ضع دم�شق يف عهد بــرحــدد‪:‬‬

‫لقد خلف بــرحـــدد هذا �أباه بــرحــدد الأ ّول‪ ،‬و�ساقه طموحه �إىل خو�ض حرب طاحنة �ضد‬ ‫ا�سرائيل‪� ،‬إلاّ �أنّ احلظ مل يحالفه‪ ،‬اذ ف�شل يف معظمها بالرغم مما ا ّت�صف به من ق ّوة العزمية‪.‬‬ ‫ففي عهد ملكها �آخـــاب‪ ،‬حا�صر بــرحـــدد مدينة ال�سامرة و�أحاطها بجنوده من كل جانب‬ ‫و�ض ّيق عليها اخلناق‪ ،‬فحدث فيها �ضيق �شديد حيث �أو�شك �أهلها �أن ميوتوا جوعاً ح ّتى �صارت‬ ‫بع�ض الن�سوة ت�أكل �أطفالها‪ .‬ويخربنا العهد القدمي‪� ،‬أنّ اهلل لق�صد منه‪� ،‬أوقع الهلع ذات ليلة يف قلوب‬ ‫الآرام ّيني ف�إذا بهم وك�أ ّنهم ي�سمعون �صوت مراكب وجي�ش عظيم‪ ،‬فظ ّنوا �أنّ �آخـــاب �أ َّلب عليهم‬ ‫ملوك احلث ّيني وامل�صر ّيني‪ ،‬فهربوا تاركني وراءهم خيامهم وخيلهم و�سالحهم فغنمها اال�سرائيل ّيون‪.‬‬ ‫ويف �إحدى غزواته على ال�سامرة‪ ،‬ا�صطحب معه اثنني وثالثني ملكاً من الواليات الآرام ّية‬ ‫وف�ضة ون�ساء وبنني‪،‬‬ ‫فحا�صرها وحاربها‪ّ ،‬ثم �أر�سل وفداً �إىل �آخـــاب يطالبه بكل ما ميلك من ذهب ّ‬ ‫مهدداً �إ ّياه بكرثة وق ّوة جي�شه‪ ،‬غري �أنّ �آخــاب مل ير�ضخ له بل ح�شد جي�شاً قوامه �سبعة �آالف‬ ‫ِّ‬ ‫انق�ض عليهم بع�ض �ض ّباط‬ ‫مقاتل‪ .‬وبينما كان الآرام ّيون م�ستغرقني يف ال�سكر‪ ،‬ويف غفلة منهم‪ّ ،‬‬ ‫فدب الذعر يف �صفوفهم وهربوا جميعاً مبن‬ ‫�آخـــاب وقتل كل واحد منهم رج ًال من الآرام ّيني‪ّ ،‬‬ ‫فيهم ملكهم بــرحـــدد‪ ،‬فتت ّبعهم العدو و�أحلق بهم خ�سائر ج�سيمة‪ .‬بيد �أنّ ملك �آرام �أعاد الك ّرة‬ ‫يف ال�سنة التالية‪ ،‬فالتحم جي�شه بجي�ش �آخـــاب �إلاّ �أ ّنه اندحر‪.‬‬ ‫فقد الآرام ّيون يف يوم واحد مئة �ألف رجل وف ّر الباقون‪ ،‬بينما التج�أ بــرحـــدد �إىل املدينة فعفا عنه‬ ‫�آخــــاب و�أطلق �سراحه بعد �أن وقّع معاهدة منح مبوجبها امتيازاً لآخـــاب ب�أن يقيم له �أ�سواقاً يف‬ ‫دم�شق كا ّلتي كانت للآرام ّيني يف ال�سامرة يف �أ ّيام بــرحـــدد الأ ّول‪ .‬غري �أنّ هذه املعاهدة كانت‬ ‫خمالفة لأمر اهلل‪ ،‬لذلك فقد تن ّب�أ �أحد الأنبياء عن اندحار �آخــــاب �أمام الآرام ّيني‪.8‬‬ ‫�أ ّما ال�سبب ّ‬ ‫آرامي فكان �شعوره بخطر‬ ‫الذي حدا �آخـــاب �إىل عقد املعاهدة املذكورة مع عد ّوه ال ّ‬ ‫امللك الآ�شوري �شــلخــنــ�صر الثالث الذي �أخذ يزحف نحو �سوريا‪ ،‬فحاول �آخــاب ك�سب و ّد‬ ‫تقدم الآ�شور ّيني نحو بالده‪ ،‬حيث كان �آخـــاب يخ�شى ب�أ�س‬ ‫ملك �آرام لكي يقف حاجزاً �أمام ّ‬ ‫الآ�شور ّيني كثرياً‪ .‬بيد �أنّ معاهدة ال�صلح امل�شار �إليها مل تدم �أكرث من ثالث �سنوات‪� ،‬إذ ُنقِ�ضت‬ ‫�ضمها‬ ‫على �أثر حماولة �آخـــاب ا�سرتداد مقطعة رامــوث جلعاد التي كان بــرحــــدد الأ ّول قد ّ‬ ‫�إىل مملكته‪ .‬وحتقيقاً لرغبته هذه‪ ،‬ا�ستنجد �آخــــاب بيهــــو�شـــافــاط ملك يهوذا الذي �أجنده‪،‬‬ ‫فج ّرد حملة �ضد الآرام ّيني واحتدم القتال بني اجلانبني يف راموث جلعاد ف�أ�صيب �آخـــاب يف‬ ‫�ساقه‪ ،‬لك ّنه ّ‬ ‫ظل يراقب القتال عن كثب ح ّتى غروب ال�شم�س حيث فارق احلياة مت�أثِّراً بجراحه‪.9‬‬ ‫ ‪8‬‬ ‫ ‪9‬‬

‫‪ 3‬ملوك اال�صحاح ‪.22‬‬ ‫‪ 4‬ملوك اال�صحاح ‪.5‬‬ ‫‪143‬‬


‫حادثة القائد نعمان و�أثرها يف نف�س بــرحـــدد‪:‬‬

‫يروي لنا العهد القدمي حادثة طريفة عن قائد جي�ش بــرحـــدد املدعو نعــمان الذي ينعته العهد‬ ‫اجلديد بـ «نعمان ال�سرياين» ذلك ب�أنه ابتلى مبر�ض اجلذام ومل يكن له من �شفاء‪� ،‬إلاّ �أنّ جارية‬ ‫يهود ّية كان قد غنمها يف �إحدى غزواته‪� ،‬أ�شارت �إىل موالتها ب�إمكان ّية �شفاء �س ّيدها �إن هو ا ّت�صل‬ ‫بنبي ذائع ال�صيت يف فل�سطني‪ ،‬فتز ّود نعمان بكتاب تو�صية من امللك بــرحـــدد �إىل ملك‬ ‫ا�سرائيل و�شخ�ص �إليه حام ًال هدايا نفي�سة‪.‬‬ ‫ظن �أنّ وراء الأكمة ما وراءها‪ ،‬و�إنّ ملك �آرام �سي ّتخذ من‬ ‫فلما ّاطلع ملك ا�سرائيل على الكتاب ّ‬ ‫ّ‬ ‫عدم �شفاء قائد جي�شه ذريعة ملحاربته والإيقاع به‪� ،‬إلاّ �أنّ بع�ض حا�شيته �أ�شاروا �إليه �أن ير�سل القائد‬ ‫نعمان �إىل الـيـ�شع النبي‪.‬‬ ‫وملّا انتهى اخلرب �إىل النبي املذكور‪� ،‬أوعز �إىل الر�سل الذين �أوفدوا �إليه ب�أن يوعزوا بدورهم �إىل نعمان‬ ‫ليذهب �إىل نهر الأردن ويغت�سل فيه �سبع م ّرات فيرب�أ‪ .‬وبهذه الكيف ّية‪ّ ،‬مت �شفا�ؤه من مر�ضه ف�آمن‬ ‫يقدم �أ ّية تقدمة لغري االله الواحد‪.‬‬ ‫ب�إله الـيـ�شع و�آل على نف�سه �ألاّ ّ‬ ‫�إنّ هذه احلادثة تركت‪ ،‬وال �شك‪� ،‬أثراً بعيداً يف نف�س بــرحـــدد‪ ،‬وخلقت فيه ثقة عظمى بقدرة اله‬ ‫�ألـيـ�شع‪ ،‬لذلك ف�إذ �أُ�صيب هو الآخر مبر�ض خطري‪ ،‬وعلم بوجود �أليـ�شع يف دم�شق يومذاك‪� ،‬أر�سل‬ ‫عما �إذا كان �سبيل من‬ ‫�إليه حــزئـــيل �أحد كبار رجال بالطه مثق ًال بالهدايا النفي�سة‪ ،‬لي�س�أله ّ‬ ‫مر�ضه هذا �أم ال‪ .‬ف�أنب�أ �ألـيـ�شع الر�سول ب�أنّ �س ّيده �سيفارق احلياة‪ ،‬و�أ ّنه ‪�-‬أي حـزئـــيل‪� -‬سيخلفه‬ ‫على عر�ش مملكة �آرام‪� .‬إلاّ �أنّ حـزائــيل مل ي�صدق يف نقله اخلرب ل�س ّيده‪� ،‬إذ �أخربه ب�أ ّنه �سيرب�أ‪ .‬ويف‬ ‫اليوم التايل‪ ،‬اغتاله هو نف�سه حيث �أجهز عليه وهو راقد على �سريره‪ ،‬و َم َل َك مكانه‪.10‬‬ ‫حـزئـــيل يت�سلّم ال�سلطة‪:‬‬

‫قيل �أنّ حـزئـــيل كان ابن بــرحـــدد الثاين‪ ،‬وقيل ب�أنه عبده �أو �أحد كبار م�ست�شاريه‪ .‬ومهما‬ ‫يكن من �أمره‪ ،‬ف�إ ّنه كان يتم ّتع بنفوذ كبري يف البالط امللكي‪ ،‬وكان على جانب كبري من الق�سوة‬ ‫والعنف‪ .‬فهو ال يتو ّرع عن ارتكاب �أب�شع اجلرائم يف �سبيل بلوغ م�أربه‪ .‬حاول جت�سيد مطمعه هذا‬ ‫ب�ش ّتى الو�سائل‪� .‬شرع يعمل على �إزاحة بـرحـــدد والق�ضاء عليه مهما بلغ الثمن ومهما كانت‬ ‫ا�شتد املر�ض على بـرحـــدد‪ ،‬ر�أى حـزئـــيل �أن ّ الفر�صة مواتية لنيل م�أربه‪،‬‬ ‫الو�سيلة‪ ،‬ح ّتى �إذا ّ‬ ‫فق�ضى عليه كما �أ�شرنا‪ ،‬وت�س ّلم زمام ال�سلطة‪.‬‬ ‫‪ 4 10‬ملوك ‪.15 :8‬‬ ‫‪144‬‬


‫تاريخ وتراث‬

‫كان حـزئـــيل �شديد الكره لليهود‪ ،‬لذلك ف�إنّ �ألـــيـ�شع النبي‪ ،‬عندما �أنب�أه بت�س ّلمه مقاليد الأمور‬ ‫يف دم�شق‪ ،‬فعل ذلك ب�شيء من الأمل م�صحوباً بالبكاء‪ ،‬اذ ر�أى �أنّ حـزئـــيل �سيذيق اليهود �أم ّر‬ ‫العذاب‪ .‬وقد �ص ّرح �ألــي�شع حلـزئـــيل بذلك قائ ًال‪« :‬ا ّنني علمت مبا �ست�صنعه ببني ا�سرائيل‬ ‫ت�شق‬ ‫من ال�سوء‪ ،‬ف�أنت �ستحرق ح�صونهم بالنار و تقتل فتيانهم بال�سيف و ت�شدخ �أطفالهم و ّ‬ ‫جبالهم»‪.11‬‬ ‫و�إىل حـزئـــيل هذا �أر�سل اهلل �إيل ّيا النبي ليم�سحه ملكاً على �آرام‪.12‬‬ ‫حـزئـــيل يلقّن ا�رسائيل در�سا ً قا�سياً‪:‬‬

‫لقد خا�ض حـزئـــيل معارك دامية مريرة مع اليهود‪� ،‬أورد العهد القدمي تفا�صيلها‪ ،‬ومنها نقف على‬ ‫يبق ال�سرائيل‬ ‫ما ك ّبدهم من خ�سائر فادحة‪ ،‬وما �سامهم من عذاب وتقتيل وتدمري‪ ،‬ح ّتى �أ ّنه مل َ‬ ‫يف عهد ملكها �آحـــاز بــن يـــاهــو من اجليو�ش �أكرث من خم�سني فار�ساً وع�شرة مراكب وع�شرة‬ ‫�آالف راجل‪ ،‬فقد �أبادهم جميعا وجعلهم مثل الرتاب الذي يوط�أ‪.‬‬ ‫يو�سع مملكته‬ ‫ويعترب حـزئـــيل �أعظم حمارب �آرامي بال منازع‪ ،‬اذ ا�ستطاع ب�شجاعته وعتاده �أن ّ‬ ‫ويعيد �إليها ثاني ًة راموث جلعاد ال ّتي كان امللك �آخــــاب قد ا�سرتجعها من �سلفه بــرحـــدد‬ ‫الثاين‪.13‬‬ ‫وقد حاول اخــزيــا ملك يهوذا ا�سرتداد هذه املنطقة من الآرام ّيني‪ ،‬فتحالف مع يــورام بن‬ ‫�آخـــاب وخرج ملحاربة حـزئـــيل يف راموث جلعاد ف�أ�صيب يـــورام‪ ،‬وعاد �إىل يزرعيل لعالج‬ ‫�إ�صابته‪ ،‬فعاده هناك �أخـــزيــا‪� ،‬إلاّ �أ ّنه ق�ضى ب�سبب تلك الإ�صابة‪.‬‬ ‫وبعد ا�ستقرار مل يدم �أكرث من ب�ضع �سنوات‪ ،‬ويف �أ ّيام يـواحــاز بــن يــاهـو ملك ا�سرائيل‪،‬‬ ‫اجتاز حـزئـــيل نهر الأردن و�ضايق ا�سرائيل م�ضايقة �أليمة‪ ،‬فالتج�أ يــوحــاز �إىل اهلل ف�أنقذهم من‬ ‫الآرام ّيني‪.14‬‬ ‫�إلاّ �أنّ حـزئـــيل‪ ،‬بعد �أن ا�ستتب له الأمر عرب الأردن‪ ،‬و�أغار على �أر�ض فل�سطني ففتح مدينة‬ ‫جت‪ 15‬التي كانت قد ظ ّلت خارج نطاق نفوذ اال�سرائيليني ح ّتى عهد امللك داود‪ّ ،‬ثم ّميم �شطر‬ ‫‪1 1‬‬ ‫‪1 2‬‬ ‫‪ 13‬‬ ‫‪ 14‬‬ ‫‪1 5‬‬

‫‪ 4‬ملوك ‪.12 :8‬‬ ‫‪ 3‬ملوك ‪.16 :8‬‬ ‫‪ 4‬ملوك ‪.32 :10‬‬ ‫‪ 4‬ملوك ‪.4 :13‬‬ ‫املقد�س»‪.‬‬ ‫من �أعظم مدن فل�سطني‪ ،‬مت ّيز �أبنا�ؤها بطول القامة‪ ،‬وكانت ح�صناً ح�صيناً للفل�سطينيني «قامو�س الكتاب ّ‬ ‫‪145‬‬


‫�أور�شيليم‪ ،‬وهكذا نرى هذا امللك الآرامي ي�صول ويجول يف �أرجاء مملكتي العربانيني دون �أن‬ ‫يواجه مقاومة تذكر‪ .‬ولكن يجب �ألاّ نن�سى �أنّ حـزئـــيل ما كان له �أن يبلغ هذه الدرجة من‬ ‫العظمة‪ ،‬لوال ان�شغال الآ�شوريني يف قمع ثورات ممالك �أخرى يف ال�شمال مثل �أراراطو وقيليقيا‬ ‫و�سواهما‪.‬‬ ‫بوادر الإنحطاط يف مملكة دم�شق‪:‬‬

‫«ثم مات حزئــيل ملك‬ ‫يذكر العهد القدمي �أن بـرحـــدد الثالث خلف �أباه حزئـــيل يف ال�سلطة ّ‬ ‫�آرام وملك بـرحـــدد ابنه مكانه»‪ .16‬وكان هو الآخر طموحاً �إلاّ �أ ّنه مل ي�ستطع �أن يحقّق طموحاته‬ ‫ب�سبب �ضغط الآ�شور ّيني على بالد �آرام‪ .‬فقد ن�سج على منوال �أبيه يف م�ضايقة العربانيني يف‬ ‫ال�شمال‪� ،‬إلاّ �أنّ يو�آ�ش الذي خلف �أباه يواحاز على مملكة يهوذا ّمتكن من ا�ستعادة املدن التي كان‬ ‫حزئـــيل قد احت ّلها يف عهد يواحاز كما م ّر معنا‪.‬‬ ‫ويرى دوبونت �أنّ «ماري» ملك دم�شق‪ ،‬الذي ورد ا�سمه يف الكتابات الآ�شور ّية‪ ،‬هو بـرحــدد‬ ‫الثالث نف�سه‪ ،17‬وهو الذي �أخ�ضعه �أداد نرياري الثالث الآ�شوري يف �إحدى غاراته على بالد �آرام‬ ‫ف�ضة‬ ‫وبخا�صة دم�شق‪ ،‬التي �ش ّنها خالل ثالثة �أعوام ‪ 802 - 805‬ق‪.‬م‪ ،‬و�أخذ منها ‪ 2300‬مثقال ّ‬ ‫ّ‬ ‫و‪ 20‬مثقال ذهباً و‪ 300‬مثقال نحا�س و‪ 5000‬مثقال حديد‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل �أقم�شة متنوعة الألوان‬ ‫واملر�صع باحلجارة الكرمية‪ ،‬وذلك‬ ‫م�صنوعة من الك ّتان‪ ،‬و�أ�س َّرة ومقاعد من العاج املط ّعم بالذهب ّ‬ ‫بح�سب ما ورد يف �إحدى كتابات �أداد نرياري نف�سه‪.18‬‬ ‫ف�شل ر�صني يف ال�سيطرة على زمام الأمور‪:‬‬

‫كان ر�صــني �آخر ملوك �آرام دم�شق‪ ،‬وقد ملك حوايل �سنة ‪ 745‬ق‪.‬م‪ .‬عندما وجد نف�سه يف حالة ال‬ ‫ت�شجعه على تو�سيع بالده �أو �إثارة حروب �ضد ال�شعوب املجاورة‪ ،‬ا ّتخذ موقف الدفاع �إزاء الغارات‬ ‫الآ�شور ّية‪ .‬فقاوم الآ�شوريني ب�ضراوة و�أبى اال�ست�سالم لهم ح ّتى بعد ان ب�سطوا نفوذهم على‬ ‫معظم املمالك الآرام ّية يف ال�شمال‪� ،‬إلاّ �أنّ تغال�صر ملك �آ�شور‪ ،‬بعد �أن ّمت له �إخ�ضاع تلك املمالك‬ ‫وجه �أنظاره نحو دم�شق بق�صد �إخ�ضاعها هي الأخرى‪.‬‬ ‫وجعلها واليات �آ�شور ّية تدين له بالوالء‪ّ ،‬‬ ‫و�إذ �شعر ر�صـــني باخلطر الآ�شوري الذي �أخذ يهدده‪ ،‬حاول ت�شكيل حلف ثالثي �ضد ملك‬ ‫‪ 4 16‬ملوك ‪.18 -17 :12‬‬ ‫‪� 1 7‬صليبا �ص ‪.63‬‬ ‫‪� 1 8‬صليبا �ص ‪.63‬‬ ‫‪146‬‬


‫تاريخ وتراث‬

‫�آ�شور ي�ضم بالإ�ضافة �إليه ك ًل من �آحــاز ملك يهوذا وفـــقح ملك ا�سرائيل‪� ،‬إلاّ �أنّ امللك �آحـــاز‬ ‫�أبى الدخول يف هذا احللف خ�شية بط�ش ملك �آ�شور‪ ،‬مظهراً ا�ستعداده لتقدمي اخل�ضوع للغازي‬ ‫يبق بد �أمام ر�صــني وفــقح من اكت�ساح مملكة يهوذا وخلع �آحـــاز وتن�صيب ملك‬ ‫الآ�شوري‪ .‬فلم َ‬ ‫�آخر بد ًال منه يدين لهما بالوالء‪ ،‬وقد اختارا رج ًال �آرام ّياً يدعى «ابــن طــابئــيل» كما جاء ذلك‬ ‫�صريحاً يف �سفر �إ�شعيا النبي «ف�إنّ �آرام و اقرامي و ابرنمليا (فـقح) و قد ت�آمروا عليك (�آحــاز) بال�سوء‬ ‫قائلني لن�صعد على يهوذا و نخ�ضعها و من ّزقها بيننا و نمُ لك عليها ابــن طــابئــيل»‪.19‬‬ ‫ولكن بالرغم من هذا الإجراء‪ ،‬ف�شال من حيث النتيجة‪ ،‬ذلك ب�أنّ �آحــاز التج�أ �إىل تغال�صر فجمع‬ ‫ف�ضة وذهب و�أموال �أخرى‪ ،‬و�أر�سلها‬ ‫كل ما كان موجوداً يف بيت الرب وخزائن بيت امللك من ّ‬ ‫هد ّية �إليه مع ر�سالة جاء فيها‪�« :‬أنا عبدك و�أنا ابنك فا�صعد وخ ّل�صني من يد ملك �آرام ويد ملك‬ ‫ا�سرائيل القائمني علي»‪ .20‬فا�ستجاب له تغال�صر واتجّ ه نحو ا�سرائيل‪ ،‬واحت ّلها ّثم ّ‬ ‫احتل غ ّزة فهرب‬ ‫ملكها �إىل م�صر‪ ،‬وجال كثريون من �أهلها �إىل �آ�شور‪.‬‬ ‫آ�شورية لدم�شق‪:‬‬ ‫الغزوات ال‬ ‫ّ‬

‫�إذا كان العهد القدمي هو امل�صدر الأ ّول والأهم لتاريخ العالقات بني الآراميني والعربانيني‪ ،‬ف�إنّ‬ ‫املد ّونات الآ�شور ّية متثّل هذا امل�صدر بالن�سبة �إىل العالقات الآرام ّية ‪ -‬الآ�شور ّية‪ .‬ومنها نعلم �أنّ‬ ‫تتعد يف‬ ‫الآراميني يف دم�شق ظ ّلوا فرتة ال ب�أ�س بها يف م�أمن من غزوات الآ�شوريني التي مل ّ‬ ‫بادئ �أمرها املمالك الآرام ّية ال�صغرية املتاخمة حلدود بالدهم‪� .‬إلاّ �أنّ طموحهم يف تو�سيع �أرجاء‬ ‫امرباطوريتهم‪ ،‬ال�س ّيما بعد �أن قويت �شوكتهم‪ ،‬ورغبة �شلمن�صر خا�ص ًة يف اكت�ساب ال�شهرة واملجد‪،‬‬ ‫ومن �أجل الق�ضاء على الثورات املحل ّية التي كانت تقوم بها تلك املمالك ال�صغرية بني احلني‬ ‫والآخر‪ ،‬كل ذلك حفّزهم على اجتياز نهر الفرات والتقدم نحو �آرام دم�شق وفل�سطني‪ ،‬وكان ذلك‬ ‫يف �أوائل عهد ملكهم �شلمن�صر الثالث (‪ 821 - 859‬ق‪.‬م) الذي �أراد �أن ُيخ�ضع مملكة دم�شق بعد‬ ‫�أن �أخ�ضع �أ�سالفه مملكتي بابل واراراطى املحيطتني بامرباطور ّيته‪.‬‬ ‫ف�شلمن�صر الثالث اذن هو �أ ّول ملك �آ�شوري يقوم ب�أ ّول غزوة على �آرام دم�شق‪ ،‬وذلك يف عهد‬ ‫بـرحــدد الثاين الذي عقد مع �آخـــاب ملك ا�سرائيل معاهدة �صلح وحتالف عندما علم �أنّ‬ ‫�شلمن�صر يزحف نحو �سوريا علماً منه بق ّوة الآ�شوريني وهول جي�شهم‪ ،‬وهكذا يكون قد احتاط‬ ‫كل احتمال �سيء‪.‬‬ ‫‪ 1 9‬ا�شعيا ‪.6 :7‬‬ ‫‪ 4 20‬ملوك ‪.7 :16‬‬ ‫‪147‬‬


‫�إلاّ �أنّ �شلمن�صر مل ي�ستطع الو�صول �إىل دم�شق‪ ،‬لأن املمالك الآرام ّية ال�صغرية املتواجدة يف‬ ‫تقدمه نحو �سوريا الداخلية‪ ،‬لذلك حمل عليها �أو ًال‬ ‫طريقه �أتعبته كثرياً اذ وقفت حاجزاً يف �سبيل ّ‬ ‫واكتفى ب�إخ�ضاع عدد منها ثم عاد �إىل بالده‪.‬‬ ‫ويف �سنة ‪ 853‬ق‪.‬م‪� ،‬أعاد الك ّرة فاجتاز نهر الفرات ووجهته �سوريا‪ .‬وملّا علم بــرحــدد بالأمر و�شعر‬ ‫�ضم �إليه‬ ‫بفداحة اخلطر الذي يهدد بالده‪� ،‬أ ّلب امللوك الآراميني �ضد الآ�شوريني يف حتالف �آرامي ّ‬ ‫�أي�ضاً بع�ض جيو�ش الفينيقيني والعربانيني والعرب ح ّتى بلغ عدد املقاتلني ‪ 71900‬جندي‪� ،‬إىل‬ ‫جانب املركبات احلرب ّية واخليول واجلمال‪.‬‬ ‫وهذه تفا�صيلها كم وردت يف �إحدى مد ّونات �شلمن�صر نف�سه‪:‬‬ ‫من ملك دم�شق ‪ 1200‬مركبة و‪ 1200‬ح�صان و‪ 20000‬جندي‪ .‬ومن ارحوليني ملك حماة ‪700‬‬ ‫مركبة و‪ 700‬ح�صان و‪ 10000‬جندي‪ .‬ومن �آخــاب ملك ا�سرائيل ‪ 2000‬مركبة و‪ 10000‬جندي‪.‬‬ ‫ومن ملك قيليقيا ‪ 500‬جندي‪ .‬ومن ملك م�صري (يف �شمال �سوريا) ‪ 1000‬جندي و‪ 10‬مركبات‪.‬‬ ‫ومن ملك ارقا (تل عرقا بالقرب من طرابل�س) ‪ 10000‬جندي و‪ 10‬مركبات‪ .‬ومن ماتينو ملك‬ ‫�أرواد ‪ 200‬جندي‪ ،‬ومن �أدونا ملك �سبانو (على �ساحل البحر املتو�سط) ‪ 10000‬جندي و‪ 30‬مركبة‪.‬‬ ‫ومن جنديب ملك العرب ‪ 1000‬جمل‪ .‬ومن بع�شا ملك العمونيني ‪ 10000‬جندي‪.‬‬ ‫وزحف بـرحــدد بهذه اجليو�ش اجلرارة واملعدات احلرب ّية الهائلة نحو ال�شمال ملالقاة جي�ش‬ ‫�شلمن�صر الزاحف نحو بالده‪ ،‬ومتركزت اجليو�ش املتحالفة عند موقع قرقر على نهر العا�صي ما بني‬ ‫حلب وحماه‪ ،‬و�أخذت مواقعها بانتظار اجلي�ش الآ�شوري‪ .‬ولدى و�صول هذا اجلي�ش املج ّهز ب�أح�سن‬ ‫املعدات احلرب ّية‪ ،‬يومذاك‪ ،‬التحم اجلانبان يف معركة طاحنة‪ ،‬ولك ّنها مل تكن حا�سمة‪ّ .‬رجحت فيها‬ ‫ّ‬ ‫وتبدد �شمل اجليو�ش املتحالفة‪ .‬وقد قيل �أ ّنهم خ�سروا يف تلك املعركة ‪14000‬‬ ‫كفّة الآ�شوريني ّ‬ ‫جندي‪ ،‬غري �أنّ �شلمن�صر بالرغم من �إحرازه هذا الن�صر مل ّ‬ ‫يتمكن من احتالل املمالك الآرام ّية‬ ‫الكربى مثل حماة ودم�شق‪ ،‬بل قفل راجعاً �إىل بالده م�صطحباً غنمه منهم من عربات وخيول‬ ‫و�أ�سلحة‪ ،‬وال بد �أ ّنه تك ّبد هو الآخر خ�سائر فادحة بحيث �أ ّنه مل يعد مبقدوره متابعة برحــدد �إىل‬ ‫دم�شق وارحوليني �إىل حماة‪.‬‬ ‫�شلمن�رص يوا�صل حمالته على دم�شق‪:‬‬

‫�إن �شلمن�صر ولئن عاد �إىل بالده دون �أن يحقّق �أهدافه كاملة وبال�شكل الذي �أراده‪� ،‬إلاّ �أنّ �أنظاره‬ ‫يف�سر جت�شمه �أعباء‬ ‫ظ ّلت متع ّلقة بدم�شق‪ ،‬ومل تفارقه نزعته �إىل احتاللها و�إخ�ضاعها له‪ ،‬وهذا ما ّ‬ ‫عبور نهر الفرات ثماين ع�شرة مرة متوالية بغ ّية الو�صول �إىل ربوع دم�شق ال�ساحرة‪ ،‬هذا من جهة‪.‬‬ ‫وتو�سعه الكبري على ح�ساب‬ ‫ومن جهة �أخرى‪ ،‬كانت �أخبار انت�صارات حزئـــيل ملك دم�شق ّ‬ ‫‪148‬‬


‫تاريخ وتراث‬

‫تق�ض م�ضجعه وحتفّزه على العمل على طم�س معامل تلك ال�شهرة‬ ‫العربانيني و�شهرته امل�ستفي�ضة‪ّ ،‬‬ ‫والق�ضاء على النفوذ الذي كان يتم ّتع به حزئـــيل يف تلك الديار‪ .‬لذلك‪ ،‬قرر توجيه �ضربة �إليه‬ ‫مهما بلغ الثمن‪ ،‬فقام بحملتني عنيفتني �ضد حزئـــيل الأوىل �سنة ‪ 841‬ق‪.‬م‪ ،‬وهي ال�سنة الثامنة‬ ‫ع�شرة من ملكِ هِ‪ ،‬و�أعقبها ب�أخرى بعد �أربع �سنوات‪ .‬وقد جاءت تفا�صيل املعارك ال�ضارية التي‬ ‫خا�ضها �شلمن�صر مع جي�ش حزئيل الدم�شقي يف �إحدى املد ّونات الآ�شور ّية اخلاًة ب�أعماله وغزواته‪،‬‬ ‫وفيها يقول �شلمن�صر‪:‬‬ ‫�أ ّنه يف ال�سنة الثامنة ع�شرة من ملكِ ِه عرب الفرات للمرة الثامنة ع�شرة والتقى جي�ش حزئيل العرمرم‬ ‫عند �سفوح جبل حرمون (يعرف اليوم بجبل ال�شيخ) فدارت بينهم معركة �ضارية انت�صر فيها‬ ‫�شلمن�صر‪ ،‬وقتل من جي�ش حزئيل �ستة �آالف جندي‪ ،‬وغنم ‪ 1121‬مركبة و‪ 470‬ح�صاناً‪ّ ،‬‬ ‫واحتل‬ ‫بع�ض مواقعه وثكناته‪ ،‬والذ حزئيل بالفرار‪ ،‬فتعقّبه ح ّتى دم�شق حيث �أوقع الدمار يف غوطتها‪ّ ،‬ثم‬ ‫تقدم نحو منطقة حوران ّ‬ ‫ودك جميع مدن �آرام‪ّ ،‬ثم عاد �إىل بالده بغنائم كثرية وثمينة‪ .21‬يبدو �أ ّنه‬ ‫ّ‬ ‫مل ي�ستطع اقحام �أ�سوار دم�شق �إذ مل يذكر �أ ّنه دخل دم�شق بل و�صل �إىل �ضواحيها فقط‪.‬‬ ‫�شن �شلمن�صر حملة �أخرى �ضد حزئيل واكت�سح بع�ض‬ ‫وبعد �أربع �سنوات من تاريخ هذه احلملة‪ّ ،‬‬ ‫مدن مملكة دم�شق‪� ،‬إلاّ �أ ّنه مل ي�ستطع فر�ض كامل �سلطته على دم�شق بالرغم من الإنت�صارات التي‬ ‫حققها‪ ،‬بل ظ ّلت تتم ّتع با�ستقاللها ولئن �أخذ نفوذها بالتق ّل�ص وال�س ّيما بعد وفاة حزئيل‪.‬‬ ‫نهاية مملكة دم�شق‪:‬‬

‫لقد م ّر معنا �أنّ �آحــاز ملك يهوذا ا�ستنجد بتغال�صر الآ�شوري لينقذه من م�ؤامرة ر�صــني ملك‬ ‫دم�شق وفــقح ملك ا�سرائيل التي د ّبرها لإزاحته عن امللك وتن�صيب عميل لهما‪ .‬و�إذ ا�ستجاب‬ ‫تغال�صر له‪ ،‬قاد حملة واتجّ ه �أو ًال نحو مملكة ا�سرائيل فاحت ّلها‪ّ ،‬ثم � ّصوب وجهته نحو دم�شق‪� .‬أ ّما‬ ‫ر�صني عندما علم مبا �آلت �إليه حالة فـقح‪ ،‬حتالف مع حور ملك �صور‪ ،‬وملك ع�سقالن‪ ،‬و�شم�سي‬ ‫�سدد �إليه �ضربة �أليمة هرب على‬ ‫وحت�صن يف جبال لبنان ال�شرق ّية‪� ،‬إلاّ �أنّ تغال�صر ّ‬ ‫ملكة العرب ّ‬ ‫�أثرها ودخل عا�صمته دم�شق‪ ،‬فتبدد �شمل جي�شه‪ .‬وقد د ّون تغال�صر �أخبار هذه املعركة‪ .‬ومما قاله‬ ‫عن حرب ر�صني‪�« :‬أ ّنه هرب �إىل مدينته وحيداً مثل ف�أرة»‪.22‬‬ ‫وبعد �أن ّنكل تغال�صر بحلفاء ر�صني وق ّواده تتبعه حتى دم�شق‪ ،‬التي كانت حماطة ب�أ�سوار منيعة‬ ‫ومز ّودة مبعدات حرب ّية دفاعية وجيو�ش‪ ،‬فحا�صرها ّمدة ّثم ّمتكن من اقتحام الأ�سوار‪ ،‬ودخلت‬ ‫‪� 2 1‬صليبا‪� ،‬ص ‪.70‬‬ ‫‪� 2 2‬صليبا‪� ،‬ص ‪( 71‬عن الآرام ّيون)‪.‬‬ ‫‪149‬‬


‫جيو�شه املدينة و�ألقى القب�ض على ر�صني وقتله‪ ،‬و�سبى عدداً كبرياً من �أبنائها �إىل منطقة قري‪،23‬‬ ‫و�أخذ يعيث الف�ساد‪ ،‬فلم ُيبقِ ومل يزد من كل ما نالته يده‪ ،‬واكت�سح جميع ب�ساتينها الغ ّناء ال�شهرية‬ ‫(الغوطة) ّ‬ ‫واحتل عدرا يف �ضواحيها وكانت �أحد املق ّرات امللك ّية‪ّ .‬ثم اجتاح املقاطعات الالئذة بها‬ ‫وعددها �آنذاك �ست ع�شرة‪ ،‬ود ّمر ‪ 591‬مدينة تابعة ململكة دم�شق‪ ،‬و�أخرياً جعل دم�شق مقاطعة‬ ‫�آ�شور ّية �أ�سوة بغريها من الدويالت الآرامية‪ .‬وكان ذلك �سنة ‪ 732‬ق‪.‬م‪.‬‬ ‫هكذا �سقطت دم�شق وانهار جمدها وانتهى ا�ستقاللها الذي ا�ستم ّر نيف وثالثمائة �سنة‪ ،‬فطويت‬ ‫بذلك �صفحة من �أن�صع �صفحات تاريخ الآرام ّيني‪.24‬‬

‫‪ 4 23‬ملوك ‪.9 :16‬‬ ‫‪� 24‬صليبا �شمعون‪ ،‬املمالك الآرام ّية‪ ،‬حلب‪ ،‬بال تاريخ‪.‬‬ ‫‪150‬‬


‫احلرب العاملية ا لأوىل‬

‫فتوح ال�شام واحلرب العاملية الأوىل‬ ‫القراءة املوهومة للتاريخ‬

‫جنيب ن�صري ‪� -‬سيناري�ست وكاتب‬ ‫تبدو ح�صتنا �أو ح�صة هذا امل�شرق من املعلومات حول احلرب العاملية الأوىل �ضئيلة وم�شو�شة‪،‬‬ ‫وعلى الأغلب حم ّرفة‪ ،‬فاحلرب العاملية الأوىل بالن�سبة لنا هي ال�سفربرلك‪« ،‬والثورة» العربية‬ ‫«الكربى» فقط‪ ،‬وك ّلها م�سائل قر�أت فيما بعد‪ ،‬بعمومية مدر�سية‪� ،‬أو مبقاربة كال�سيكية منحازة‬ ‫معرفياً للرتاث‪ ،‬وفيها ابتعاد عن احلقيقة الت�أريخية من جهة‪ ،‬مع ا�ستخدام قا�صر وانتقائي للمنهج‬ ‫الغربي يف حتليل الوقائع التاريخية من جهة ثانية‪ ،‬ولعل هذا املو�ضوع بالذات يحتاج �إىل الكثري من‬ ‫فح�صة هذا امل�شرق من تركة‬ ‫التمحي�ص و�إعادة الت�أريخ‪ ،‬وكذلك �إىل الت�شكيك و�إعادة ال�صياغة‪ّ ،‬‬ ‫الرجل املري�ض ال تعدو حتى الآن‪ ،‬عن �شعارات اكت�سبت قد�سية خيالية‪ ،‬مل ت�سفر �إال عن كوارث‬ ‫و�أ�ضراروهزائم‪ ،‬ال ميكن تفكيكها وقراءتها‪� ،‬إال ب�إزالة تلك القد�سية عنها (قدم الكاتب ح�سن م‬ ‫يو�سف واملخرج جندت �أنزور �شخ�صية الأمري في�صل يف م�سل�سل «�أخوة الرتاب» ك�شخ�صية مالئكية‬ ‫طاهرة جاءت لتنقذ ال�شام من مغت�صبي اخلالفة العثمانيني)‪ ،‬وهي يف املقام الأول والأخري حم�ض‬ ‫كلمات �أو عبارات خالية من معناها الدقيق‪ ،‬ترجمت على نحو �شفاهي‪ ،‬م�شرية �إىل ما ال معنى‬ ‫له‪ ،‬كالثورة والأمة‪ ،‬واملجتمع‪ ،‬والدولة‪ ،‬والعروبة‪ ،‬والهوية‪ ،‬والعراقة‪ ،‬والتقاليد‪ ،‬واخل�صو�صيات‪ ،‬و�إىل‬ ‫ما هنالك من م�صطلحات معا�صرة مت �إجبارها على احتواء معان تراثوية‪ ،‬كي تكت�سب هالتها‬ ‫احلمائية املقد�سة‪ ،‬لت�صبح ع�صية على «ال�شك» مبعنييه اللغوي والديكارتي‪ ،‬بحيث تك ّر�س هذه‬ ‫امل�صطلحات كغايات �سامية‪ ،‬ال ميكن للباطل �أن ي�أتيها من �أي مكان‪ ،‬حيث يقبع التفكري «العربي»‬ ‫بني قو�سي املقد�سات فال جتاوز وال �شك وال ت�شكيك‪ ،‬حتى بدا �أنه على التفكري �أن ين�صاع لهذه‬ ‫وبدد ع�صر‬ ‫املفاهيم املفرغة خوفاًمن �شك قادر على اقتالع الر�ؤو�س‪ ،‬وهذا بالتحديد ما �أجه�ض ّ‬ ‫النه�ضة الأول‪ ...‬والأخري‪.‬‬ ‫لذلك تبدو قراءتنا الثقافية للحرب العاملية الأوىل‪ ،‬وح�صتنا منها (الثورة العربية الكربى) قراءة‬ ‫ا�ستالفية مبعنى �أنها ذات نتيجة م�سبقة وم�سقوفة �أي�ضاً‪� ،‬إذ افرت�ضنا �أن نتائج هذه القراءة يجب �أن‬ ‫تكون مطابقة لل�شعارات املعلنة يف �إ�شارة �إىل ت�شريع ينا�سب جميع القراءات (الدينية والدنيوية)‬ ‫مع ب�ضع تنازالت خفيفة هنا وهناك‪ ،‬ولكنه ال تخ�ضع بتاتاً للربود العلمي املحايد وال�صادق‪،‬‬ ‫واملخل�ص ملعايري التفكري والت�شخي�ص‪ ،‬وحتى الت�صنيف‪ ،‬فالأمة (مثا ًال) هي الأمة العربية قو ًال‬ ‫‪151‬‬


‫واحداً ميكن �أن ت�صبح دينية تارة ودنيوية وحتى عاملانية تار ًة �أخرى‪ ،‬والثورة كذلك دون املرور ال‬ ‫بتعريف الأمة وال الثورة وال مبفهوميهما‪ ،‬وال �ضرورة لذلك طاملا ّمت ت�سييجهما بهالة القد�سية التي‬ ‫ترتقي �إىل درجات احلماية واملحا�سبة القانونية يف كثري من الأحيان‪ ،‬وهنا على اجلميع الإن�صياع‬ ‫لدعوى العامل اخلارجي امل�س ّبب لكل م�صائبنا متنا�سني العامل الداخلي الع�ضوي يف �إف�شال‬ ‫� ّأي حراك يقود �إىل توليد جمتمع باملعنى املعريف املوجود واملتوفر بني ظهراين املجتمعات احليوية‬ ‫الأنوارية‪ّ ،‬مدعني �أن الغزو بوجهيه الثقايف والكولنيايل‪/‬التجاري وحده‪� ،‬أوقف م�سريتنا القد�سية‬ ‫نحو النهو�ض والإرتقاء‪ ،‬حتى �أ�صبحت دعوى الغزو الثقايف الغربي كتميمة يف �أي قراءة (حتليلية)‬ ‫ودواء نظري لكل علة �أو كارثة �أو هزمية‪ ،‬حتى باتت �أعياد امليالد ال�شخ�صية �أو الإحتفاء بعيد‬ ‫احلب هي بدع غربية متار�س املمانعة مل�سريتنا املكتملة معرفيا وثقافيا!‪ ،‬متنا�سني متاماً الغزو الثقايف‬ ‫هدم عملياًكل طرح ثقايف نه�ضوي‪ ،‬فف�شلنا يف قراءة ال�سريورة الطبيعية‬ ‫اجلنوبي ال�صحراوي الذي ّ‬ ‫للإ�ستعمار‪ ،‬و�أجنزنا ما كان يبتغيه‪ ،‬وهنا تبدو دعوى الغزو الثقايف مهلهلة‪ ،‬فالفكر املتقدم ال يغزو‬ ‫واجلد واملثابرة‪ ،‬بينما ينزلق الفكر املتخ ّلف ب�سيولة فائقة غازياً‬ ‫يتم احل�صول علية بالتعب ّ‬ ‫�أحدا‪ ،‬و�إمنا ّ‬ ‫وفاحتاً من غري انت�صار‪ ،‬وهنا علينا �أن نتحلى بال�شجاعة املعرفية للتفريق بني الغزو الثقايف‪ ،‬وبني تع ّلم‬ ‫اكت�ساب القوة‪ ،‬وهما م�س�ألتان مل حت�سم �شعوب املنطقة الر�أي ب�ش�أنهما‪ ،‬على الرغم من �ضخامة‬ ‫امل�ستوردات وت�أثريها‪ ،‬ولكن �إعادة �إنتاج الغزو الثقايف اجلنوبي حملياً �سيطر على منتوجنا الثقايف‬ ‫املعول عليه يف توليد املجتمع كي ن�ستطيع الوقوف على خط البداية جتاه الدولة والثورة والأمة‬ ‫و�إىل ما هنالك من مفاهيم متت ممار�ستها يف الأمم الناجحة‪ ،‬وهنا اليبدو مو�ضوع الغزو الثقايف (على‬ ‫الرغم من رطانته) مهماً‪ ،‬و�إمنا يف النوعية الثقافية الغازية وهنا مربط اجلمل بالن�سبة للنه�ضة الثقافية‬ ‫يف الن�صف الثاين من القرن التا�سع ع�شر‪ ،‬حيث ظهرت املقاومة املحلية لهذه النه�ضة بنا ًء على‬ ‫م�صدرها ولي�س على نوعيتها‪ ،‬ومت جتميع �أدلة الرف�ضبناء على ذلك‪ ،‬بعد الرف�ض ال قبله‪.‬‬ ‫بني اجلنوب وال�شمال (�أر�ض اللنب والع�سل ورحلة ال�صيف) ا�ستطاع الإنكليز ا�ستغالل �إمكانية‬ ‫�إعادة الغزو عرب ت�سييل ثقافة (انفجرت يف وجههم الحقا) ت�ستطيع ترحيل العثماين الذي‬ ‫اغت�صب ال�شق ال�سلطوي‪/‬الإ�ستعماري باحللول مكان بيزنطة‪ ،‬وحتى مكان الفر�س يف بالد �آ�شور‬ ‫امل�ؤلفة من بالد ال�شام وبالد العراق املنطقة التي تعر�ضت للفتوح الأوىل‪ ،‬الفتوح التي دخلت‬ ‫الثقافة عرب املقد�س الديني‪ ،‬بحيث �أ�صبحت �سقفاً وحلماً لكل ّ‬ ‫حكام العربة‪ ،‬وهو ما يف�سر �إنطالقة‬ ‫الثورة العربية الكربى فج�أة من اجلزيرة العربية بحفنة من املقاتلني ومن ثم جتميع �أعداد �أخرى‬ ‫على الطريق �إىل ال�شام‪� ،‬إنه حلم ا�ستعادي للهالة الكربى للفتوح ور ّوادها‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل كونها‬ ‫املجال الإ�سرتاتيجي الأول حليوية تلك البالد يف حال وجودها‪ ،‬ف�أين �سيذهب �أهل ال�صحراء‬ ‫بحيويتهم‪ ،‬مهما كان �سببها‪� ،‬إىل غري ال�شمال؟ حيث ميكن النظر �إليها وقراءتها من هذا الباب‬ ‫َ‬ ‫وامل�سيطر عليه يف �آنٍ معاً‪ ،‬فهذااملجال الثقايف م�سيطِ رب�سبب الفكر الديني الب�سيط‬ ‫الثقايف امل�سيطِ ر‬ ‫والت�شخي�صي على العامة من جهة‪ ،‬و�إيهام النا�س مبكانة حقوقية خ�صو�صي ٍة هي �أعلى مكان ًة ل ّأي‬ ‫‪152‬‬


‫احلرب العاملية الأوىل‬

‫َ‬ ‫وم�سيطر عليه من ناحيتني‪ :‬الأوىل هي �إدماج الديني بالأيديولوجي ال�سيا�سي الإجتماعي‬ ‫�آخر‪،‬‬ ‫ت�صح النظرية على طريقتني القومية العروبية والقومية الدينية يف �آنٍ معاً‪ ،‬والثانية هي‬ ‫بحيث ّ‬ ‫تق�سيم وف�صل تاريخ املنطقة �إىل تاريخني‪� ،‬أحدهما موجود وم�ستمر وميكن العي�ش فيه لأ ّنه نقي‬ ‫وتب�شريي وي�صلح للتفاخر‪ ،‬والثاين ملغى لأنه (ما قبل الفتح) جاهلي واعتدائي وغربي وي�شمل‬ ‫هذا الإلغاء بالطبع العراقة املدنية واحل�ضارية للمنطقة مبنتوجاتها الثقافية كافة (ال�شعر مثاال فال�شعر‬ ‫هو ال�شعر هو بالعربية فقط)‪� ،‬صحيح �أن ماح�صلت عليه �شعوب املنطقة بعد ذلك هو خلطبيطة‬ ‫ثقافية‪ ،‬لكنها منا�سبة متاماً للمخططات الإ�ستعمارية‪ ،‬فالتخلف هو جزء ال يتجز�أ من هذه املنظومة‬ ‫الثقافية املطلوبة لإ�ستعمار‪ ،‬ال بل كان �شرطاً �أ�سا�سياً حلريتهم التي طلبتها الثورة العربية الكربى‬ ‫ح�سب �شعاراتها املح ّركة وملا تزل تبحث عنها‪ ،‬وهنا يبدو الوعي مب�ستحقات الزمان‪ ،‬كاملجتمع‬ ‫والدولة وغريها كانت م�شروطة هي الأخرى بعك�سها‪ ،‬لهذا مل ت�ستطع «ثورة» كالعربية الكربى‬ ‫حتقيق �أهم اهدافها وهو توليد جمتمع وبالتايل دولة‪ ،‬لأن الثقافة املحمولة عليها تلك الثورة ثقافة‬ ‫بائدة على الرغم من كل املح�سنات البديعية‪ ،‬وعلى الرغم من موقعتي الريموك والقاد�سية يف‬ ‫الذاكرة‪ ،‬اللتني ال ميكن ا�ستعادتهما �إال بظرف م�شابه‪ ،‬ولعل ت�صنيع الظرف امل�شابه �أ�صبح وا�ضحاً‬ ‫للجميع‪ ،‬لدرجة �أجنلاّ لغزو الثقايف اجلنوبي (خ�صو�صاً بعد عائدات البرتول) يعتمد على ا�ستعادة‬ ‫هذا الظرف �شك ًال وم�ضموناً‪ ...‬ونتيجةَ!‪ .‬وهي عقدة ا�ستثمرها الغرب بدق ٍة ودراية‪ ،‬وقبلها امل�شرق‬ ‫كواقع �إمياين ال جمال للإعرا�ض عنه‪ ،‬و�إال كيف نف�سر �أحق ّية الأمري في�صل بحكم ال�شام ومن ثم‬ ‫العراق؟ من �أين ي�أتي كل هذا التوق له وكل هذا القبول والر�ضى به‪ ،‬كي يدخل �إىل التاريخ‬ ‫وقدي�س معاً؟ �إنها اخلالفة‪ ،‬جوهرة الإ�سالم ال�سيا�سي (توليد ال�سيا�سة من الدين) املولود‬ ‫كبطل‬ ‫ٍ‬ ‫على �أيدي الإنكليز خ�صو�صاً‪ ،‬و�أطراف �سايك�س بيكو عموماً (و�أمريكا ما بعد يالطا)‪� ،‬أو بتعبري �آخر‬ ‫جمتمع ي�ستطيع �أن ين�شئ دولة ت�ستطيع اللحاق‬ ‫تفعيل ثقافة حقوقية معطوبة وعقيمة ال تف�ضي �إىل‬ ‫ٍ‬ ‫باملنجزات الكربى للمعرفة‪.‬‬ ‫مل تت�ضمن �أدبيات فتوح ال�شام‪ ،‬من ت�أريخ و�أخبار وطبقات‪� ،‬أن الروم (البيزنطيني) كانوا‬ ‫م�ستعمرين وال العرب كانوا حمررين (فهذه الفكرة �أتت على ذمة املف�سرين املحدثني) فامل�س�ألة‬ ‫هنا هي ّمتدد وتق ّل�ص حيويات مناطق و�شعوب ح�سب مقت�ضى الع�صر و�أحواله وظروفه‪ ،‬وقد ّمت‬ ‫الت�صالح على ت�سميته بالفتح والفاحتني التي حتمل �أكرث من معنى واقعياً‪( ،‬حتى يف احتالل‬ ‫املحدثني من ق ّراء �أدبيات الفتوح‪ ،‬قر�أوا فكرة الفتح يف هذه‬ ‫ا�سطنبول)يف ع�صرنا هذا‪ ،‬ولكن َ‬ ‫الأدبيات قيا�ساً �إىل امل�ستعمر الكولنيايل الغربي احلديث وقارنوا الفتح بالتحرير(خ�صو�صا حترير‬ ‫فل�سطني)‪ ،‬يف جتاوزٍحتى للن�صو�ص املوروثة من ت�أريخ الفتوح‪ ،‬وهو جتاو ٍز ٍ‬ ‫ينم عن‬ ‫عنيف للمنطق‪ ،‬ما ّ‬ ‫عمارة ثقافية �شعبوية متك ّل�سةمن ال�صعب هدمها �أو جتاوزها دون كوارث‪ ،‬ولكن ميكن ا�ستخدامها‬ ‫ب�سهولة كح�صان طروادة‪ ،‬وكانت ال�ضحية الأوىل لهذه القراءة هو ع�صر النه�ضة ورجاالته الذين‬ ‫عوملوا كرهائن على �أيدي املحليني ولي�س على �أيدي الغرب‪ ،‬ومن ثم لت�أتي فتوح الثورة العربية‬ ‫‪153‬‬


‫الكربى لنحتفي بريموكٍ جديدة يحلم بها كل من حكم جزيرة العرب‪.‬‬ ‫من يقر�أ «فتوح ال�شام» للواقدي ال ي�صل وببداه ٍة‪� ،‬إىل ما و�صل �إليه ق ّراء حقبة التنوير التي تلت‬ ‫حقبة النه�ضة وال �إىل ما و�صل �إليه القراء املعا�صرون‪ ،‬امل�س�ألة عند الواقدي هي جمرد تربير منطق‬ ‫التمدد احليوي لل�شعوب واجلماعات‪ ،‬لي�س مبنطق هاتيك الأيام فقط (وهو لي�س ببعيد عن منطق‬ ‫روما وبيزنطة على �أية حال) و�إنمّ ا مبنطق الثقافة ال�صحراوية لهاتيك الأيام �أي�ضاً‪ ،‬وهذا ما كتبه فع ًال‬ ‫(وهو كتاب حمقق)‪ ،‬فاحليوية التي ُترتجم �إىل قوة ع�سكرية غازية تتلم�س لها حقوقاً هي �أعلى‬ ‫املحدثني من القراء امل�سقوفني بالهالة القد�سية وبالنتيجة قبل املقدمات‪،‬‬ ‫مرتبة من املغزوين‪ ،‬ولكن َ‬ ‫�صاغوا حكاي ٍة �أخرى و�أطلقوها�شعبياً ومدر�سياًحتى �أ�صبحت من امل�س ًلمات الثقافية احلاجبة لكل‬ ‫نقا�ش �أو �شبهة‪ ،‬وهي قراءة التح ّرر من ربقة امل�ستعمر الغربي (البيزنطي وقتها وك�أن وجود الغرب‬ ‫هو �أزيل)‪ ،‬ولكن احلقيقة مل يكن هناك من فارقٍ حقيقي بني الإثنني‪ ،‬هذا �إذا �أردنا ال�سعي‬ ‫نحو احلقيقة �أو ال�سعي لتعميم ثقافة قادر ٍة على �إن�شاء املجتمع املك ّلف بتوليد دول ٍة من لدنه‪،‬‬ ‫فمعركة الريموك هي معركة ع�سكرية مبقايي�س ذلك الزمان وثقافته‪ ،‬وهي لي�ست بالقطع معركة‬ ‫بني كفار وم�ؤمنني‪ ،‬لأن الكفار مل ت�صلهم الر�سالة الكرمية مبعناها التب�شريي بعد‪ ،‬ليكفروا بها‪،‬‬ ‫ومل يفكر �شعب املنطقة بالإحتالل الغربي (على املقيا�س احلايل) ليطلبوا امل�ساعدة على التحرر‬ ‫وممن؟ من �شعوب اجلنوب يف �صحرائه املن�سية‪ ،‬ويف كل الأحوال ال حتتاج الر�سالة املحمدية‬ ‫�إىل معارك لن�شرها‪ ،‬و�آ�شور (ال�شام والعراق) تاريخياً‪ ،‬هي �ساحة �صراع على النفوذ بني الفر�س‬ ‫واليونان ومن ثم روما وفيما بعد بيزنطة‪ ،‬ولعلنا اليوم نرى ذات ال�صراع الرتكي الإيراين على ذات‬ ‫املنطقة‪ ،‬حيث تناور حيوية العربة البرتولية للح�صول على كر�سي بابوية يف ال�شمال بداللة التاريخ‪،‬‬ ‫معتربة �أنها الوريثة ال�شرعية‪،‬ملعركتي الريموك والقاد�سية املبجلتني ثقافياً للح�صول على بالد اللنب‬ ‫إجنازي ي ّربر ويق ّرب الو�صول �إىل �أقرب نقطة من اجلوهرة ‪� ..‬أي ‪ -‬اخلالفة‪ ،-‬وهي‬ ‫والع�سل‪ ،‬كمجا ٍز � ّ‬ ‫عمق الإ�سالم ال�سيا�سي مبظاهره املتعددة‪ ،‬الذي ي�ضمن للحيويات العامية املناف�سة والفوزنظرياً‬ ‫من �أجل الفوز بطهرانية تلك الأيام‪ ،‬وهذاي�شرتطاحلفاظ على التخلفبمعنى احلفاظ على عدم‬ ‫تهم امل�ستفيدين �شرقاً‬ ‫املقدرة على �إن�شاء جمتمع باملعنى الع�صري‪ ،‬هذه هي امل�س�ألة بال�ضبط‪ ،‬التي ّ‬ ‫�أو غرباً‪ ،‬فامل�شرق بالن�سبة «للغرب» ثقافياً !! مكان لتحقيق امل�صالح‪ ،‬والغرب بالن�سبة لثقافة هذا‬ ‫«امل�شرق» مكان ملمار�سة ال�ضغائن (على ما ي�شوب الأمر من عن�صرية)‪� ،‬إنهما معركتني منف�صلتني‬ ‫متاماً‪ ،‬وخمتلفتان متاماً‪ ،‬واحدة تنتج غزوة الربجني والثانية ت�ستثمر البرتول وتتحكم بالأ�سواق‬ ‫الإ�ستهالكية‪ ،‬واحدة تدافع عن �صورتها‪ ،‬والثانية تدافع عن ا�ستثماراتها‪ ،‬واحدة تدافع عن هويتها‬ ‫و�أ�صالتها‪ ،‬والثانية تدافع عن جمتمعاتها و�أ�صليتها‪ ،‬واحدة ال تقوى على الإنتاج‪ ،‬والثانية تناف�س يف‬ ‫الأ�سواق‪ ،‬ما يعيدنا مرة �أخرى �إىل �أطروحة الغزو الثقايف و�إىل �إعادة النظر بها‪ ،‬كما يعيد «الغرب»‬ ‫اليوم النظر يف ورطته التي ت�س ّبب بها لنف�سه من خالل دعم الإ�سالم ال�سيا�سي‪ ،‬الذي انقلب‬ ‫عليه‪،‬حتى يف قلب جمتمعاته‪.‬‬ ‫‪154‬‬


‫احلرب العاملية الأوىل‬

‫اليوم تبدو بالد �آ�شور ثقافياً يف قلب احليويات الثالث‪ ،‬ال ينقذها منها �إال القراءة الدنيوية للتارخ‬ ‫والواقع معاً‪ ،‬قراءة قادرة على ت�شخي�ص العلل بكل حيادية وبرود معرفيني‪ ،‬فلم تعد ثقافة ت�أ�سي�س‬ ‫املجتمع والدولة �س ّر من �أ�سرار اخلليقة والغيب‪ ،‬فطاملا ان وجدت وج ّربتها هذه الثقافة احلقوقية‬ ‫الدنيوية‪ ،‬القادرة على �إنهاء ثقافة الفتنة �أو حما�صرتها على الأقل بحيث ميكن �إنتاج ر�سالة ح�ضارية‬ ‫تناف�سية مع العامل بد ًالعن ثقافة العداء والعناء‪� ،‬أ�صبح من الواجب تبنيها وممار�ستها ك�أ ّية معرفة‬ ‫�أخرى‪ ،‬ولكن الثقافة املتداولة واملدعومة من قبل ال�سلطات املحلية املتنوعة‪ ،‬ملا تزل حتاول �إكت�شاف‬ ‫�أحقيتها يف الوجود عرب البحث امل�ضني عن حمرك حلالة الركود واملراوحة هذه‪ ،‬الجئ ًة اىل مباحث‬ ‫الت�أ�صيل والهوية واللغة والفتنة �إلخ‪� ،‬ضارب ًة خبط ع�شواء يف حماوالت التوفيق بني الالمعريف‬ ‫مع منتجات املعرفة مبظاهرها الكثرية‪ ،‬ولكن الأمر مل ي�ستقم حتى الآن ولن ي�ستقيم ما دامت‬ ‫القراءة م�سقوفة والتجربة مكرورة‪ ،‬وبقيت املحاوالت م�ستمرة‪،‬تدير الأزمة الثقافية حتى لو قادت‬ ‫�إىل العنف الفالت والف�شل الدائم والهزائم املتكررة بد ًال من قيادتها �إىل خارج النفق �إىل رحاب‬ ‫املعرفة كما هي يف العامل مع ما يتوجب من ا�ستحقاقات‪ ،‬وهذا ما يثبت �أننا مل نتعر�ض لغزو ثقايف‬ ‫غربي (ورمبا لن ي�ؤثر بنا هذا الغزو حتى لو وجد) مع �أن هذه البالد تعر�ضت لأنواع �أخرى مهينة‬ ‫من الغزو‪ ،‬فلو و�صل �إلينا هذا «الغزو» الثقايف بدي ًال عن الغزو اجلنوبي لكانت حالنا خمتلفة متاماً‪،‬‬ ‫ولأنتجنا هويتنا الأ�صلية املعربة عن طاقاتنا وحيويتنا دون �إهدار اجلهد يف البحث عن هوية جاهزة‬ ‫�أو م�شتهاة (مثا ًال) و�أ�شياء �أخرى متك ّومة يف طبقات الرتاث عرب قراءة تب�سيطية م�سقوفة وم�سيطر‬ ‫عليها �سلفاً‪.‬‬ ‫بعد احلرب‪ ،‬كان العامل ينطلق �إىل ما بعد احلرب العاملية الأوىل‪ ،‬م� ّؤ�س�ساً �شك ًال ثقافياً جديداً‬ ‫ملجتمعاته‪ ،‬وكان هذا امل�شرق ينطلق ثقافياً �إىل ما قبلها تائهاً يف فو�ضى امل�صطلحات‪ ،‬وكان ّ‬ ‫جل‬ ‫اهتمام التنويريني (الذين قاوموا النه�ضويني و�أتو بعدهم) هو �أخذ رخ�صة من ال�سلطات املتنوعة‬ ‫على حماولة التوفيق بني املفاهيم احلداثية للوجود وبني الرا�سب الرتاثوي عرب فو�ضى فكرية قامعة‬ ‫ومقموعة يف �آنٍ معاً‪ ،‬ولعل ّ‬ ‫�سجل الأمثلة حافل بالأحداث من �أبو خليل القباين حتى �أنطون‬ ‫�سعادة‪ ،‬ولعل امل�سل�سل التلفزيوين املعا�صر (التغريبة الفل�سطينية) ت�أليف وليد �سيف و�إخراج‬ ‫يعد مثا ًال وا�ضحاً على تهافت القراءة املعرفية التي تقدمها الدراما التلفزيونية ذات‬ ‫حامت علي ّ‬ ‫الت�أثري الثقايف ال�شعبي الكا�سح (وطبعا ال نن�سى م�سل�سل باب احلارة ال�شهري و�أخواته) يف مقاربة‬ ‫مو�ضوع الفتح‪/‬التحرير‪ ،‬املقروء بطريقة �إخ�ضاع غري املقد�س للمقد�س وهالته فقط‪ ،‬ما �صنع حرباً‬ ‫ثقافية حقيقية بني �أ�صحاب املفهوم احلداثي للوطن‪ ،‬وبني �أ�صحاب املفهوم الرتاثوي للبالد‪ ،‬وهو‬ ‫ما تعانيه اليوم بالد العراق وال�شام يف عدم مقدرتها التحول �إىل وطن‪� ،‬أو بالأحرى تدفع هذه‬ ‫البالد ثمن ما جتاهلت (�أو رف�ضت �أو مل جتر�ؤ) على قراءته حداثياً‪ ،‬فالوطن كمفهوم وكممار�سة‬ ‫لي�س موجوداً يف الرتاث الذي ن�ستجدي الهوية منه ومن ملحقاته الثقافية ولعل القراءات ن�صف‬ ‫احلداثية (�أو التنويرية �إذا جاز التعبري) كانت �أكرث خطور ًة من القراءة التقليدية يف الواقع الذي‬ ‫‪155‬‬


‫و�صلت اليه البالد و(العباد) ففي حني كانت تعترب نف�سها قراءة و�سطية كان الرتاثويون التقليديون‬ ‫ي�ستخدمونها كج�سر للعبور موفرين ن�صف الطريق‪ ،‬ولعل �أمثوالت الربيع العربي التي بد�أها‬ ‫�أن�صاف احلداثيني وركبها الإ�سالم ال�سيا�سي وج ّرمهم وطاردهم‪ ،‬تعطي فكرة حقيقية عن الإجتياح‬ ‫الثقايف اجلنوبي للبنية الثقافية ملجمل ال�سكان مبن فيهم املفكرون امل�شهورون بتقدميتهم‪،‬الذين مل‬ ‫يعربوا �إىل احلداثة خوفاً من م�ستحقاتها غري امل�سقوفة بهاالت القدا�سة والتاريخ‪ ،‬واكتفوا بقراءة‬ ‫الواقع قراءةًمبت�سرة دون �أن يتنكبوا �أية مهمات تغيريية تفرت�ضها �أدوارهم‪ ،‬فخ�ضعوا لهذه القراءة‬ ‫التب�سيطية مثل العامة متاماً‪ ،‬ال بل لقّنتهم العامة درو�ساً م�ؤملة يف ته ّيب التغيري‪.‬‬ ‫يف املقام الأخري �أين ا�سرائيل من كل هذا؟والتي حت ّولت بقوة هذه النوعية من القراءة للتاريخ‬ ‫�إىل جم ّرد عد ّو ا�سرتاتيجي! وهو قول �شفاهي موارب يفيد مبعنى الت�أجيل‪ ،‬بينما �إ�سرائيل ككيانٍ‬ ‫غا�صب‪،‬هي عد ّو يومي يراهن ثقافياً على حتويل احلق احلقوقي الإن�ساين القومي‪� ،‬إىل جم ّرد �صراع‬ ‫طائفي �أو باللفظ الأقرب �إىل ذهنية هذه القراءة‪� ،‬إىل فتن ٍة تت�صارع فيها الطوائف الدينية ولي�س‬ ‫ٍ‬ ‫ككيانات حقوقية معا�صرة لها حقوق وطنية وقومية مع ّزز ًة مبقدرتها على الإنتاج‪ ،‬ليتحول‬ ‫الأمم‬ ‫اخلالف على اغت�صاب الأر�ض‪� ،‬إىل جم ّرد خالف على هوية انوجدت بقوة الهالة املقد�سة للتاريخ‪،‬‬ ‫ما يدفعنا �إىل �س�ؤال �إفرتا�ضي ي�شبه كثرياً الأ�سئلة التي توجهها العامة بكثافة وهو‪ ،‬ماذا لو �أ�شهر‬ ‫اليهود املغت�صبون لأر�ض فل�سطني �إ�سالمهم؟ (وكان قد فعلها قبلهم الدومنة يف تركيا العثمانية) هل‬ ‫تنتهي امل�شاكل وميكن اعتبار حقنا القومي قد عاد �إلينا؟ ونلتفت �إىل حترير الأندل�س من الإ�سبان‬ ‫الغا�صبني؟ �أم �سوف ن�س�أل على �أي مذهب �أ�صبحوا؟ �إنها �سل�سل ٌة من �أ�سئلة قد نظ ّنها افرتا�ضية‬ ‫لتب�سيطيتها ال�شديدة‪ ،‬ولكنها متداولة وب�أكرث من هذا التطرف‪ ،‬يف �أو�ساط ثقافة الإ�سالم ال�سيا�سي‬ ‫ب�شق ّيه التقليدي ون�صف احلداثوي‪.‬‬ ‫ها نحن نواجه الإ�ستحقاق احلداثي كك�أ�س م ّرة علينا اجرتاعها‪،‬رمبا للمرة الألف ولكنه ا�ستحقاقٌ‬ ‫م�ؤكّد‪،‬ال ميكننا رف�ضه ونحن نواجه الفناء‪�،‬إنه اجلر�س الأخري قبل �أن تغادر الطائرة‪ ،‬ولي�س قافلة‬ ‫املحملة على ما هو معمول به حتى الآن‪.‬‬ ‫اجلمال َّ‬

‫‪156‬‬


‫احلرب العاملية ا لأوىل‬

‫�سوريا يف احلرب العاملية الأوىل‬

‫�سيا�سة وجو ٌع وكلمة‬ ‫و�سام عبداهلل ‪� -‬إعالمي‬

‫تتداخل ال�سيا�سة والثقافة واحلياة االجتماعية يف �سوريا خالل مرحلة احلرب العاملية االوىل‪ ،‬خمططات‬ ‫دولية لل�سيطرة على املنطقة‪ ،‬وما كان لها من انعكا�سات على امل�ستوى االن�ساين واالجتماعي من جوع‬ ‫وت�شريد‪ ،‬وما حاولته احلركة الثقافية من تقدميه يف ظل ظروف واو�ضاع �صعبة يف البالد‪.‬‬ ‫ي�صف الدكتور �سامي مبي�ض‪ ،‬امل�ؤرخ و�أ�ستاذ العالقات الدولية يف جامعة القلمون‪ ،‬عن حالة الدمار واجلوع‬ ‫لكاهن امريكي جاء �إىل دم�شق يف احلرب العاملية االوىل‪�« ،‬أجتنب‬ ‫والت�شريد يف احلرب العاملية االوىل بقولٍ ٍ‬ ‫اجلثث يف �شوارع دم�شق من كرثة من ماتوا من العط�ش واجلوع‪� ،‬إن م�شرحة دم�شق ت�ستقبل ‪ 80‬جثة يومياً»‪،‬‬ ‫وي�شري �أن �أعلى ن�سبة دعارة كانت خالل احلرب العاملية االوىل نتيجة حالة الفقر املنت�شرة و العائالت الكثرية‬ ‫التي �أ�صبحت دون معيل فمن اعتقل �أو قتل خالل احلرب مما ا�ضطر الن�ساء �إىل العمل لت�أمني حياتهم‪.‬‬ ‫تزامنت احلرب العاملية االوىل مع ما �سمى بالثورة العربية الكربى‪ ،‬التي قامت بهدف �إقامة الدولة‬ ‫العربية وا�سقاط احلكم العثماين‪ ،‬وكانت الثورة بقيادة ال�شريف ح�سني بن علي‪ .‬وقدمت احلكومة‬ ‫الربيطانية وعداً للعرب باالعرتاف با�ستقاللهم مقابل ا�شرتاكهم �إىل جانب حمور احللفاء �ضد االتراك‪،‬‬ ‫وقدمت هذا الوعد من خالل ر�سائل ح�سني‪ -‬مكماهون ‪ .1915‬وقد ر�صدت انكلرتا ‪ 40‬مليون جنيه‬ ‫ا�سرتليني للثورة وكانت تتوقع ان�شقاق �ضباط من اجلي�ش العثماين ومل يحدث هذا‪ ،‬وكل ما اقت�صر‬ ‫هو على بع�ض ال�ضباط لهم رتب عالية ولكن لي�س لهم وزن حقيقي يف اجلي�ش العثماين‪.‬‬ ‫ي�شري الدكتور مبي�ض بالأرقام‪� ،‬أنه قبل عام ‪� 1916‬أر�سلت االمرباطورية العثمانية ‪ 2,8‬مليون �شخ�ص للقتال‪،‬‬ ‫‪ 325,000‬قتلوا بني عامي ‪ 240,000 ،1918-1914‬ماتوا من املر�ض‪ 250,000 ،‬مفقود و�أ�سرى حرب‪ .‬وكانت‬ ‫نتيجة الظلم واحل�صار التي خ�ضع لها ال�شعب �أنه �أدى مثاال �إىل ق�ضاء دم�شق �شتاء ‪ 1915‬كامال يف الربد‬ ‫والظالم‪ .‬ويف العام نف�سه اندلعت جماعة يف بريوت واجتهت �إىل دم�شق‪ ،‬انخف�ض عدد �سكان بريوت‬ ‫من ‪ 180,000‬ن�سمة يف عام ‪� 1914‬إىل ‪ 75 000‬ن�سمة يف عام ‪ .1916‬يف بلدات جبل لبنان مثل البرتون ‪،‬‬ ‫انخف�ض عدد ال�سكان من خم�سني �ألفاً يف عام ‪� 1914‬إىل اثنني فقط من �ألف بحلول عام ‪ ،1918‬ويقول‬ ‫الق�س االمريكي مينيابولي�س الذي زار �سوريا عام ‪�« ،1916‬إن رجال دم�شق �إما يف اخلدمة الع�سكرية �أو‬ ‫يختبئ‪ ،‬ويتجه الن�ساء واالطفال �إىل الت�سول»‪ ،‬وقد جمعت �شرطة دم�شق �سبعني جثة جمهولة الهوية يوميا‪.‬‬ ‫يقول الدكتور مبي�ض �إن هذه احلرب كانت حرب االخرين على �أر�ضنا والتي دفع ثمنها ال�شعب‬ ‫‪157‬‬


‫ال�سوري‪« ،‬خالل احلرب �أراد االنكليز ا�ستغالل عط�ش العرب للحرية فباعوهم �أوهام‪ ،‬وقرروا �أن يف‬ ‫�إعالنهم ثورة يف مكة خلق فجوة داخل االمرباطورية ت�ؤدي �إىل انهيارها من الداخل‪ ،‬ويف �أول تقييم‬ ‫بريطاين لأداء الثوار يف احلرب العاملية االوىل‪ ،‬تو�صلت �إىل �ضرورة انت�شال الثورة لأنه لو مل يتم‬ ‫ذلك ف�ستح�سم ل�صالح تركيا‪ ،‬وقد دخلوا الربيطانيني احلرب وحققوا الن�صر ولكنهم جريوا الن�صر‬ ‫للعرب‪ ،‬فباعوهم وهم مازلنا نعي�شه حتى اليوم بعد ‪� 90‬سنة عن �إجنازات الثورة العربية الكربى»‪.‬‬ ‫رغم الظروف القا�سية التي كانت متر بها البالد‪ ،‬فقد كانت احلياة الثقافية والفكرية ت�ستمر بحركتها يف حماولة‬ ‫للحفاظ على االن�سان واملجتمع‪ ،‬فقد �شهد اجلمهور يف �سورية عرو�ضاً �سينمائية يف مدينة حلب عام ‪1908‬‬ ‫كانت البداية الر�سمية للعرو�ض ال�سينمائية يف �سورية‪ ،‬ويف عام ‪ 1912‬يف دم�شق يف مقهى بـ�ساحة املرجة‪.‬‬ ‫ي�صف الدكتور مبي�ض املرحلة فكريا ب�أن فيها ن�شاطاً فكرياً هاماً جداً‪ ،‬فيها �صحف ورجاالت‪ ،‬بد�أ الت�أ�سي�س‬ ‫له ما قبل احلرب‪« ،‬معظم مثقفي دم�شق كانوا جزءاً من حلقة ال�شيخ طاهر اجلزائري‪ ،‬وهو ال�شيخ الذي يف‬ ‫القرن التا�سع ع�شر هو من بد أ� بفتح املدار�س يف �سوريا وكافح الك ّتاب‪ ،‬وكان يف حينها مبثابة مدير الرتبية‬ ‫يف االمرباطورية العثمانية وكانت �أفكارها �سابقة لع�صره‪ ،‬رجل دين ولكنه على درجة عالية من العلمانية‪،‬‬ ‫على يديه تتلمذ عبد الرحمن ال�شهبندر �شكري القوتلي و�أجيال خمتلفة‪ .‬بفرتة احلرب ازداد القمع وهو‬ ‫ما فر�ض على النا�س طرق خمتلفة للتعبري عن ر�أيهم‪ ،‬فقبل بداية احلرب العاملية االوىل يف �سنة ‪1909‬‬ ‫�أ�صدر فخري البارودي جريدة ا�سبوعية �ساخرة باللغة العامية وكان يف عمر ‪� 25‬سنة وحمارباً من �أهله‪،‬‬ ‫وكان ا�سم اجلريدة (حط باخلرج) ويوقع افتتاحياته با�سم (عزرائيل) لكي ال يحرج �آل البارودي �أنه يعمل‬ ‫ك�صحفي‪ ،‬ماري العجمي �سنة ‪� 1910‬أ�صدرت جملة العرو�س ن�ساء من املجتمع الدم�شقي يكتنب ب�أ�سماء‬ ‫م�ستعارة وهي جملة هيكلها االداري بالكامل من الن�ساء‪ ،‬هذه دليل جمتمع يحارب الظروف ال�صعبة‬ ‫التي تفر�ض عليه‪ ،‬ومن اال�سباب لهذه الفورة الفكرية علينا ان ن�ضعها يف �سياقها التاريخي‪ ،‬ففي عام‬ ‫‪ 1908‬حدثت ثورة ع�سكرية يف ا�سطنبول �أبقوا على ال�ضباط يف منا�صبهم ولكنهم فر�ضوا عليه ا�صالحات‬ ‫دميقراطية كالد�ستور والربملان‪ ،‬امور كانت بالن�سبة للم�شايخ غريبة عنهم‪ ،‬الطبقة املتنورة وال�شابة ع�شقت‬ ‫هذه اال�صالحات وا�ستفادت منها يف �إ�صدار �صحف وجالت باللغة العربية والرتكية‪ ،‬ولكن فرتة العطاء‬ ‫احلقيقي لهذه املرحلة الفكرية كانت بني ‪� 1908‬إىل ما قبل ‪ 1914‬فكانت احلريات يف بداية احلرب بق�ضبة‬ ‫من حديد والنا�س تتكيف مع الو�ضع‪ ،‬يف حينها كان هناك جمعيات �سرية ومرا�سالت مع اخلارج‪.‬‬ ‫يف كتابه «�أعمدة احلكمة ال�سبعة» يكتب توما�س ادوراد لرون�س املعروف بلقب «لورن�س العرب»‪ ،‬مذكراته‬ ‫عن الثورة العربية الكربى �شارحا كيف مت التخطيط من قبل االنكليز لال�ستفادة من هذه احلركة لتحقيق‬ ‫مكا�سب لالنكليز‪ ،‬يختتم الكاتب ف�صول كتابه بجملة ي�صف فيها ما قبل دخولهم �إىل دم�شق يف �أثناء‬ ‫قيام االملان مبغادرة املدينة وتفجري م�ستودعات اال�سلحة حيث كانت تزداد ال�سنة اللهب يف امل�ساء فكتب‬ ‫قائال حينها (ا�ستدرت �إىل �ستريلينغ مبت�سما لأمتتم قائال «�إن دم�شق حترتق»‪ ،‬وقد �أ�صابني الغثيان للتفكري‬ ‫ب�أن تكون هذه املدينة العظيمة رماداً كثمن للحرية)‪ .‬وال�س�ؤال الذي يطرح‪ ،‬هل ما يزال لورن�س العرب ح ّياً‬ ‫بيننا بعد ‪ 100‬عام على وجوده فوق �أرا�ضينا حتى نعيد تكرار ما حدث يف حينها الآن بعد قرن كامل؟‬ ‫‪158‬‬


‫وثائق تاريخية‬

‫نهاية نظام القائمقاميتني ون�شوء نظام املت�صرف ّية (‪)1861-1860‬‬

‫تطرقنا يف العدد ال�سابق رقم ‪ ،4‬ال�صادر يف �شهر متوز ‪ 2014‬حول وثائق االر�شيف الربيطاين‬ ‫املعنون‪« :‬ا�ضطرابات يف �سوريا»‪ »Disturbances in Syria« ،‬ون�شرنا اخلريطة االوىل والتي �سميت‪:‬‬ ‫«امل�شروع الأول»‪.‬‬ ‫تركز «اخلريطة الثانية والتي نن�شرها يف هذا العدد على تق�سيم املناطق �إىل �سبعة وفقاً للم�شروع رقم‬ ‫‪ II‬على �أ�سا�س طائفي فيقرتح امل�شروع من جملة ما يقرتح‪:‬‬ ‫املنطقة ‪ :1‬الكورة‪� ،‬أغلبية‬ ‫�أرثوذك�سية يعاد �ضمها �إىل‬ ‫لبنان‪:‬‬ ‫ �أورثوذك�س‪9,000 :‬‬ ‫ م�سلمون ومتاولة‪1,000 :‬‬ ‫ موارنة‪900 :‬‬ ‫املنطقة ‪ :2‬الزاوية‪-‬‬ ‫اجلبة‪ -‬ب�شري ‪ -‬البرتون‪-‬‬ ‫جبيل‪ -‬املنيطرة‪ -‬الفتوح‪-‬‬ ‫ك�سروان‬ ‫يعاد �ضم منطقة الزاوية �إىل‬ ‫لبنان‬ ‫�أغلبية مارونية‪:‬‬ ‫ موارنة‪62,000:‬‬ ‫ �أورثوذك�س‪3,500 :‬‬ ‫ م�سامون ومتاولة‪2,400 :‬‬ ‫ كاثوليك‪1,500 :‬‬ ‫‪159‬‬


‫املنطقة ‪ :3‬املنت وال�ساحل‪� ،‬أغلبية‬ ‫م�سيحية‪:‬‬ ‫ موارنة‪18,750 :‬‬ ‫ �أورثوذك�س‪11,000 :‬‬ ‫ دروز‪7,910 :‬‬ ‫ كاثوليك‪5,750 :‬‬ ‫ م�سلمون ومتاولة‪420 :‬‬ ‫وي�شتمل اجلزء الثالث واخلام�س وال�سابع من‬ ‫الق�سم ‪ 3‬على �أكرثية درزية‪ ،‬كما ن ّوه امل�شروع‪.‬‬ ‫املنطقة ‪ :4‬زحلة‪� ،‬أكرثية كاثوليكية‪:‬‬ ‫ الكاثوليك‪15,000 :‬‬ ‫ م�سلمون ومتاولة‪2,005 :‬‬ ‫ �أورثوذك�س‪2,000 :‬‬ ‫ دروز‪600 :‬‬ ‫ موارنة‪600 :‬‬ ‫املنطقة ‪ :5‬الغرب‪ ،‬اجلرد‪ ،‬العرقوب‪،‬‬ ‫ال�شوف‪ ،‬ال�شمار‪ ،‬متاحف واخلروب‬ ‫�أكرثية درزية‪ ،‬و�ستة منا�صفة مع امل�سيحيني‪:‬‬ ‫ الدروز‪24,000 :‬‬ ‫ املوارنة‪17,000 :‬‬ ‫ الكاثوليك‪9,675 :‬‬ ‫ االرثوذك�س‪4,875 :‬‬ ‫ م�سلمون ومتاولة‪4,385:‬‬ ‫ بروت�ستانت‪500 :‬‬ ‫املنطقة ‪ :6‬دير القمر‪� ،‬أكرثية م�سيحية‪:‬‬

‫‪160‬‬

‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬

‫املوارنة‪:‬‬ ‫الكاثوليك‪1,950 :‬‬ ‫الدروز‪700 :‬‬ ‫يهود‪290 :‬‬ ‫‪3,300‬‬

‫املنطقة ‪� :7‬إقليم التفاح وجزين‪� ،‬أكرثية‬ ‫م�سيحية‪:‬‬ ‫ املوارنة‪5,750 :‬‬ ‫ الكاثوليك‪5,500 :‬‬ ‫ امل�سلمون واملتاولة‪200 :‬‬ ‫وهكذا جاء اجمايل تعداد الطوائف كما يلي‪:‬‬ ‫ املوارنة‪101,900 :‬‬ ‫ الكاثوليك‪38,625 :‬‬ ‫ الدروز‪35,475 :‬‬ ‫ االورثوذك�س‪30,375 :‬‬ ‫ م�سلمون ومتاولة‪10,510 :‬‬ ‫ بروت�ستانت‪500 :‬‬ ‫ يهود‪290 :‬‬ ‫وتقرر يف هذا امل�شروع احلاق بريوت وطرابل�س‬ ‫و�صيدا حتت «�إدارة الباب العايل مبا�شرة»‬ ‫كما ن ّوه امل�شروع �أن يف اخلروب ال يوجد‬ ‫دروز مع �أن �أغلب الأرا�ضي مملوكة من دروز‬ ‫وم�سلمني لأن �أغلبية �سكانها م�سلمون‪.‬‬


‫من �سكان دم�شق يف بدايات احلرب العاملية الأوىل‬


‫‪www.tahawolat.net‬‬

‫لبنان ‪ 5000‬لرية | الأردن‪ 2 :‬دينار | �سوريا‪ 100 :‬لرية | م�صر‪ 10 :‬جنيه | تون�س ‪ 1.5 :‬دينار | املغرب‪ 20 :‬درهم | م�سقط‪ 1 :‬ريال‬ ‫ال�سعودية‪ 10 :‬ريال | البحرين‪ 1.5 :‬دينار | الكويت‪ 1.5 :‬دينار | قطر‪ 10 :‬ريال | الإمارات‪ 10 :‬درهم‬


‫العدد‬ ‫ت�رشين الأول‬ ‫‪2014‬‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.