العدد رقم - 5
ت�شرين الأول 2014
فـ�صـل ـيـة فـكريـة ثـقافيـة تـعنى ب�ش ـ�ؤون امل�شــرق
خالدة �سعيد
جوليت املري �سعادة�...شهيدة املعنى
�ألي�سار �سعاده
الأمينة الأوىل �صورة �شخ�صية عن قرب
�سعادة �أر�شيد
جذور امل�شروع ال�صهيوين
مهى خياط
حتديات العوملة وعالقتها بالرتاث واحل�ضارة
عادل قديح
الفن الت�شكيلي يف لبنان
جنيب ن�صري
الإ�سـالم
فتوح ال�شام
والإ�صالح الديني
حيدر حاج �إ�سماعيل | حممود حيدر | ع�صام نعمان | �سعيد �أحمد عبد الرحمن | ح�سن عجمي
جندي يقر�أ �صحيفة فرن�سية يف �أثناء احلرب العاملية االوىل بجانب قلعة حلب
العدد رقم - 5
ت�شرين الأول 2014
فـ�صـل ـيـة فـكريـة ثـقافيـة تـعنى ب�ش ـ�ؤون امل�شــرق
املحتويات ر�أي �إفتتاحية �سليمان بختي
3
الإ�سالم والإ�صالح الديني النا�سخ واملن�سوخ يف القر�آن حيدر حاج �إ�سماعيل �إ�ستئناف الإ�ست�شراق حممود حيدر تطبيـق ال�شريعـة الإ�سالمية بني الإلزام والإلتزام ع�صام نعمان فكر اال�صالح والدولة عند مفكري اال�سالم ال�سيا�سي �سعيد �أحمد عبد الرحمن فل�سفة العلم يف مواجهة فل�سفة اجلهل ح�سن عجمي
5 13 23
39 53
57 63
فكـــــــر العبودية املختارة �سليمان بختي جذور امل�شروع ال�صهيوين �سعاده �أر�شيد
81 93
حتوالت �أدبية الفن الت�شكيلي يف لبنان عادل قديح طبيعة الثنائ ّيات الدّالل ّية يف �شعر قا�سم حدّاد ل�ؤي زيتوين املكان ال�شعري يف ق�صيدة ابن هانئ الأندل�سي مهى خ ّياط «ال�س�ؤال الديني يف �شعر �أدوني�س» وفيق غريزي
101 111 123 133
تاريج وتراث مملكة دم�شق �سهيل قا�شا
الذكرى والتحوالت �شهيد ُة املعنى خالدة �سعيد الأمينة الأوىل �صورة �شخ�صية عن قرب �ألي�سار �سعاده
حتد ّيات العوملة وعالقتها بالرتاث واحلداثة مها خريبك نا�صر احلِ َرف يف لبنان� ...إىل �أين؟ مي حبيقة
139
احلرب العاملية الأوىل فتوح ال�شام واحلرب العاملية الأوىل جنيب ن�صري �سوريا يف احلرب العاملية االوىل و�سام عبداهلل
151 157
67 71
وثائق تاريخية نهاية نظام القائمقاميتني ون�شوء نظام املت�صرفية ()1861-1860
159
حتوالت م�رشقية
ف�صلية ،فكرية ،ثقافية ،تعنى ب�ش�ؤون امل�شرق واملنطقة
هيئة التحرير
فاتن املر عاطف عطية ح�سن حماده ن�صري ال�صايغ
�سعاده م�صطفى �أر�شيد �سليمان بختي �سركي�س �أبو زيد
املدير امل�س�ؤول� :سركي�س �أبو زيد الربيد الإلكرتوينabouzeid@gmail.com : هاتف)00961-1( 751541 : �صندوق بريد 113-7179 :بريوت -لبنان. االخراج الفني :عالء �صقر
ت�صدر بالتعاون مع م�ؤ�س�سة �سعاده للثقافة
بناية ر�سامني� ،شارع احلمرا ،ر�أ�س بريوت، �صندوق بريد 113-5557 :بريوت -لبنان. هاتف)00961-1( 753363 : فاك�س)00961-1( 753364 : الربيد الإلكرتوينsaadehcf@idm.net.lb : املوقع الإلكرتوينwww.saadehcf.org : ت�صدر مبوجب قرار رقم 82تاريخ �صادر عن وزارة االعالم اللبناين
1981/7/6
ت�صدر يف طبعتني من فل�سطني ولبنان مدير عام طبعة فل�سطني� :سعاده م�صطفى �أر�شيد هاتف0599305248 : �صندوق بريد 41 :جنني -فل�سطني
اال�شرتاك ال�سنوي -لبنان
للأفراد 50 :دوالراً �أمريكياً للم�ؤ�س�سات 100 :دوالر �أمريكي
توزيع :النا�رشون
اال�شرتاك ال�سنوي -خارج لبنان
بريوت -امل�شرفية� ،سنرت ف�ضل اهلل -طابق هاتف وفاك�س)00961-1( 277007 - 277088 : خليوي)00961-3( 975033 :
4
للأفراد 100 :دوالر �أمريكي للم�ؤ�س�سات 200 :دوالر �أمريكي
املواد املن�شورة تعرب عن ر�أي كاتبها
ر�أي “ان مل يقم فيكم من ين�صر اال�سالم على عدوه الداخلي ،فال ينق�ضي هذا اجليل، اال وال�شرق يف قب�ضة ذوي الوجوه البائخة والعيون الزرقاء”. جربان خليل جربان ا�ست�أثرت ق�ضية اال�صالح الديني وال�سيا�سي باهتمام املفكرين وقادة الر�أي القرن التا�سع ع�شر ب�صفتها ق�ضية نه�ضة وتقدم وحترر .ولكن الالفت يف ال�سياق التاريخي ان م�س�ألة اال�صالح الديني غيبت بعد الثلث االول من القرن الع�شرين لتظهر فيما بعد كا�صوليات �سلفية ت�سلك �سبيل العنف والتزمت والغاء الآخر لتحقيق وجودها وم�شروعها وم�شروعيتها . بعد مرور �أكرث من قرن ما زال العجز والغمو�ض (و�أحياناً النفاق) يلفان جمتمعاتنا يف التعامل مع هذه اال�شكالية .وال نزال ندور يف الق�ضايا عينها :الإ�صالح وال�سلفية ،اال�سالم والغرب، احلداثة والرتاث .وال يزال املثلث الدموي يجكمنا منذ العام 1916وهو النفط ،ا�سرائيل ،وق�ضية الدين (وتطبيقه وت�سيي�سه ومذهبته) وما زال املثقفون العلمانيون (يتناق�صون �سنوياً �أو ينقلبون) ينادون بالتنوير والعقالنية وال ي�صغي لهم �أحد ال املجتمعات وال ال�شعوب وال الأنظمة .وثمة من يجزم �أن دور املثقفني وت�أثريهم انتهى ومت ا�ستبداله برجال الدين من خمتلف االجتاهات. ولكن ،رغم ذلك تظل ق�ضية اال�صالح حاجة حيوية حا�سمة من داخل جمتمعاتنا ولي�ست تلبية لدعوة طارئة من اخلارج .ويعترب حممد علي اجلابري يف كتابه «نقد احلاجة اىل اال�صالح» بان اال�صالح من الداخل «يعني الرتاث اال�صويل العربي اال�سالمي دون التخلي عن هواج�س الع�صرنة والتحديث �أو يف �إطار نه�ضوي يعيد ربط مقدمات الذات مبعطيات الهوية ،ويف نزعة نقدية ت�أويلية تفح�ص وحتلل التجارب التاريخية باعتبارها خيارات قابلة للت�أمل والت�أويل لعمل عقالين ورقيمي يف �إطار االجتهاد االن�ساين» .واذا كان �صحيحاً ما يقوله اجلابري يف ارتباط اال�صالح بالداخل ومعطيات الهوية واهداف النه�ضة اال ان ما يدعو �إىل اخلالف هو حتديد الر�ؤية واملنهج. وكذلك يف تناول املرجعيتني العربية والغربية لفكرة اال�صالح� .إذ �أن الت�صور االوروبي ربط اال�صالح بتغيري ال�صورة وهي هنا الدولة .يف حني ان املرجعية العربية مل تربط اال�صالح ال باملادة، وال بالن�ص ،وال بال�صورة بل بح�صول «الف�ساد يف ال�شيء» .مما يجعل فكرة اال�صالح يف املرجعية العربية مكبلة بالعوائق والقيود وال�شبهات .وهذا امل�أزق حاول اجلابري اخلروج منه عن طريق ما 3
ر�أي
�أ�سماه «تبيئة املفاهيم» باعتبار ان نقد املفاهيم للتجربة احل�ضارية يتطلب: التعرف عن قرب على تاريخ املفهوم الذي يراد نقله �إىل ثقافة �أخرى. النظر يف كيفية �إعادة ا�ستنباط ذلك املفهوم يف املرجعية التي يراد نقله �إليها.�إن واقع االزمة التي منر بها يدعونا �إىل فح�ص �أعمق للواقع ،وفهم �أوعى للتاريخ ،وعالقة �أوثق بالهوية ،وحت�س�س �أكرب مبواجهة امل�صري. ملاذا جمد الفكر وجمد الواقع وجمدت احلياة ؟ ملاذا �صارعت النه�ضة على جبهتني :خارجية وداخلية بح�سب ه�شام �شرابي يف مقدمته لكتابه «املثقفون العرب والغرب» خارجية �ضد الآخر والغرب واالمربيالية ويف ال�سيطرة على مواردنا االقت�صادية باعتبارها ملكية ح�ضارية) وف�شلت؟ وملاذا �صارعت النه�ضة على جبهة داخلية (ال�صراع مع الذات ،وبني العلمنة والدين واحلداثة الأبوية) وف�شلت؟. حاول الطهطاوي توليف الثورة الفرن�سية مع اال�سالم وتقاليده ،وحذا حذوه مفكرون كبار مثل �أديب �أ�سحق وفرح انطوان و�شبلي ال�شحيل والكواكبي و�سالمة مو�سىى حتى جمال الدين االفغاين وحممد عبده وم�صطفى وعلي عبد الرازق و�أحمد �أمني وغريهم .حاولوا جميعاً من خالل الت�أثر بالثقافة االوروبية ،ولكنه مل يكن اال�صالح الديني وحتى ال�سيا�سي النابع من داخل الهوية .لذلك ر�ست االمور على بر م�سطح مل يفعل فعله يف بنية املجتمع. وبقي الفكر فكر تلفيقي هجني يحاول طرح �أفكار حديثة يف فكر تراثي وا�سع ومت�شعب وبال حتقيب �أو ت�أطري �أو اجتهاد .واالمر ينطبق على الفكر اال�سالمي وفكر النه�ضة يف �آن .وهكذا �ضاعت اال�سئلة و�ضاعت االجوبة ،وبقي فقط النفاق والت�سويات امل�ؤقتة وازداوجية املواقف. و�أخرياً ،ومع كل �آمال و�أحالم وتنظريات املفكرين ال�ساعني يف جمتمعاتنا نحو اال�صالح الديني �أو نحو التغيري االجتماعي .يبدو على �أر�ض الواقع �أنه ال ميكن حدوث ا�صالح اال بحدوث تبدل كبري يف االو�ضاع عموماً .وبح�سب و�صف ابن خلدون «و�إذا تبدلت الأحوال جملة ،فك�أمنا تبدل اخللق من �أ�صله وحتول العامل ب�أ�سره ك�أنه خلق جديد ون�ش�أة م�ست�أنفة وعامل حمدث» وهذا من ال�صعب �أن يحدث �إذا مل منتلك الر�ؤية واملعرفة واالرادة وامل�صري. �سليمان بختي 4
الإ�سالم والإ�صالح الديني
النا�سخ* واملن�سوخ يف القر�آن حيدر حاج �إ�سماعيل -باحث و�أكادميي
لنبد�أ بتعليم لالمام علي بن �أبي طالب (كرم اهلل وجهه) ق�ضى ب�ضرورة در�س علم النا�سخ واملن�سوخ قبل �أي در�س �آخر .ولننظر باملخاطر التي قد ترتتب على �إهمال هذا الدر�س .وهذا �أهمها: �أو ًال :الظن املقلق بوجود تناق�ض داخلي يف الكتاب الواحد. ف�ض املنازعات .وهو ثانياً :اعتماد الآيات املن�سوخة يف الدرا�سات اال�سالمية ،وما �أكرثها ويف ّ اعتماد باطل. �إن فهم ظاهرة الن�سخ عرب ت�أويلها ت�أوي ًال حقا غري ممكن �إال مبقاربة انطولوجية يقوم بها مثقفون بفل�سفة العقائد عموما واالديان بخا�صة� .إذاك يقال هناك م�ستويات من الوجود لعمل الدعوة� ،إذ هناك م�ستويان من عمل الدعوة: م�ستوى االفراد ،وم�ستوى اجلماعات (الدول) .مع الأفراد ال بد من اخلطاب اجلذاب الذي يقربهم وال يبعدهم ،والذي يحاورهم وال ينفرهم ،والذي يق�ضي من الدعاة ان يتمتعوا ب�أخالق ال�صرب اجلميل .وهكذا كان ،فاعتنق اال�سالم �أفراد كرث ،حتى من �أو�ساط قري�ش التي كانت معادية له يف �أول االمر ،مثل معاوية بن �أبي �سفيان وقبله عمر بن اخلطاب وكذلك خالد بن الوليد. وه�ؤالء الأفراد الكرث الذين َعقدتهم العقيدة اجلديدة وجمعتهم عقيدة« :اهلل �أحد»� ،صاروا جماعة موحدة ،واجلماعة املوحدة قوة ،والقوة �أ�صل ال�سيا�سة �أو مبد�ؤها ،فكانت الدولة اال�سالمية يف املدينة وعلى ر�أ�سها ر�سول اهلل .وظهر معها م�ستوى جديد للعمل� ،أال وهو ،م�ستوى الدولة �أو م�ستوى القوة. وهنا جت ّلت حكمة اهلل وفطنة ر�سوله الكرمي ،فراح الر�سول يكتب لر�ؤ�ساء الدول ما يتفق مع الو�ضع اجلديد ،نعني ر�سائل خمت�صرة تعرب عن الدولة اجلديدة وم�صلحتها العليا وهي انت�شار دين اهلل، *
الن�سخ ،لغة ً ،يعني الإزالة والتبديل. 5
اال�سالم .لذلك جند ان �أهم عبارة يف ر�سائل الر�سول ،املقت�ضبة �إىل الر�ؤ�ساء ،كانت عبارة� :أ�سلم ت�سلم». وفيما ي�أتي بع�ض االمثلة: من كتابه �إىل هرقل قي�صر الروم ،يذكر ر�سول اهلل« :ب�سم اهلل الرحمن الرحيم ،من حممد عبداهلل ور�سوله �إىل هرقل عظيم الروم� ،سالم على من اتبع الهدى� ،أما بعد :فاين �أدعوك بدعاية اال�سالم، �أ�سلم ت�سلم».1 ويف كتابه �إىل املقوق�س عظيم القبط ،يذكر ذات الكالم ويدعوه �إىل الإ�سالم بلغة الدول ،يقول له� :أ�سلم ت�سلم».2 كذلك فعل يف كتابه �إىل جعفر وعبد ابني اجللندي ملكي عمان قائال لهما�« :أ�سلما ت�سلما» .ويتابع ر�سول اهلل يف كتابه قائ ًال ... :وانكما �إن �أقررمتا باال�سالم وليتكما ،و�إن �أبيتما �أن تقرا باال�سالم ،فان ملككما زائل عنكما ،وخيلي حتل ب�ساحتكما ،وتظهر نبو ّتي على ملككما» .3 غفلة بع�ض املفكرين اال�سالميني :ولأ�ضرب الآن بع�ض االمثلة عن درا�سات �إ�سالمية طا�ش �سهم �أ�صحابها رغم ثقافتهم الدينية الوا�سعة .فقد ن�شرت جملة :هذه �سبيلي ،بحثا للدكتور علي عبد الواحد الوايف بعنوان «�سماحة اال�سالم يف مناهج الدعوة �إىل اهلل ويف موقفه حيال االديان االخرى وحيال �أهلها» ،وفيه ،ولكي ي�شرح وجهة نظره ،يعتمد على �آيات من�سوخة .وفيما ي�أتي �أمثلة من ذلك البحث تثبت �صحة ما نقول .فهويذكر« :ومن �أهم املبادىء �أنه (عانياً اال�سالم) ال يكره �أحداً على ترك دينه واعتناق اال�سالم .ويف هذا يقول اهلل تعاىل« :ال �إكراه يف الدين» .4ويذكر �أي�ضاً« :ل�ست عليهم مب�سيطر» .5غري �أن الآيتني املذكورتني من�سوختان .وهناك �آيات من�سوخة �أخرى يف بقية البحث. يف كتابه :بينات احلل اال�سالمي و�شبهات العلمانيني واملتغربني ،ويف جمال كالمه عن «�أ�سباب حتريك الفتنة الطائفية» ،يف ال�صفحات الثالث الأخرية من الكتاب ،يقول الدكتور ال�شيخ يو�سف قر�ضاوي ،فيما يقول ،وعلى �سبيل اال�ستنتاج ما ي�أتي�« :إذن يجب �أن يظل امل�سلمون م�سلمني، وللن�صارى �أن يظلوا ن�صارى ،ولليهود �أن يظلوا يهوداً� ،إذا اختاروا ذلك� ،إذ «ال �إكراه يف الدين».6 فهو يعترب �آية «ال �إكراه يف الدين» ،باال�ضافة �إىل مقدمات من �صياغته �سبق �أن ذكرها ،وباال�ضافة �إىل اعتبارات �أخرى ،نقول� ،إنه يعترب كل ذلك الأ�سا�س الذي مينع الفتنة الطائفية بني امل�سلمني وغريهم من اتباع الديانات االخرى ،الن�صرانية واليهودية حتديداً. غري �أن ال�شيخ القر�ضاوي مل ينتبه �إىل �أن الآية القر�آنية التي كانت ال�سند الأقوى لأفكاره ،هي �آية من�سوخة! والآية من�سوخة ب�أمر من رب العاملني .والن�سخ معناه الإزالة� ،أي حكم الآية قد �أزاله اهلل تعاىل ف�صار �أثراً بعد عني. 6
الإ�سالم والإ�صالح الديني
ال �أدري ،وعلم ما يف ال�صدور عند اهلل� ،إذا كان ما ح�صل من قبل ال�شيخ قد ح�صل �سهواً �أو غفلة �أو عدم در�س علم النا�سخ واملن�سوخ الذي �شدد الإمام علي بن �أبي طالب �أن يكون �أول الدرو�س الإ�سالمية كي ال يقع الزلل وتطي�ش �سهام ال�شارحني من ال�شيوخ الأفا�ضل. وتزداد هذه الظاهرة تعقيداً ،عندما جند �أن ال�شيح الفا�ضل ،ويف جمال �سابق يف نف�س الكتاب بعنوان« :احلكم اال�سالمي خري للم�سيحي من احلكم العثماين» ،قد اعتمد على نف�س الآية املن�سوخة مرتني متتاليتني .يقول يف املرة االوىل« :فاال�سالم ذو �شعب �أربع :عقيدة ،وعبادة، و�أخالق ،و�شريعة .ف�أما العقيدة والعبادة فال يفر�ضها اال�سالم على �أحد .ويف ذلك نزلت �آيتان �صريحتان حا�سمتان من كتاب اهلل� :إحداهما مك ّية ،والأخرى مدن ّية ،يف الأوىل يقول تعاىل خماطبا ر�سوله الكرمي (�صلعم) «�أف�أنت تكره النا�س حتى يكونوا م�ؤمنني» .ويف الثانية يقول �سبحانه يف �أ�سلوب جازم« :لإ �إكراه يف الدين». ويف املرة الثانية وهي التالية مبا�شرة ،يذكرال�شيخ ي�أتي« :وقد نزلت هذه الآية يف �ش�أن رجال من الأن�صار كان لهم �أبناء على الديانة اليهودية او الن�صرانية ،ف�أرادوا �أن يجربوهم على تغيري دينهم �إىل الغي».7 اال�سالم ،فنزلت الآية قاطعة مانعة «ال �إكراه يف الدين قد تبينّ الر�شد من ّ وق�صة اعتماد ال�شيخ القر�ضاوي مل تنته هنا .فهو يلج�أ �إىل ا�ستعمال الآية املن�سوخة ذاتها حتى يف كالمه على ق�ضية االحوال ال�شخ�صية والعالقات اال�سرية ،فيما يتعلق بالزواج والطالق ونحو ذلك .فيقول�« :إنهم خميرّ ون بني االحتكام �إىل دينهم واالحتكام �إىل �شرعنا» .ملاذا؟ يجيب« :وقد �أمرنا برتكهم وما يدينون« ،ال �إكراه يف الدين».8 �أما االية التي ن�سخت الآيتني اللتني ت�س ّلح بهما ال�شيخ القر�ضاوي ،نعني� ،آية «ال �إكراه يف الدين»، و�آية «�أف�أنت تكره النا�س حتى يكونوا م�ؤمنني» فهي كما نذكر� ،آية ال�سيف.9 ويف حوار مع ال�شيخ حممد ح�سن ف�ضل اهلل� ،أجراه كمال ا�سطفان ون�شرته جريدة الديار يف ،1989/9/14يجيب على �س�ؤال حول الدين اال�سالمي والعنف ال�سيا�سي ،مبا ي�أتي« :عندما نريد �أن نتحدث عن موقف اال�سالم� ،أنه دين تب�شريي� ،صحيح هذا ،لأنه دين جاء للنا�س كافة... دين تو�سعي� ،صحيح �أي�ضاً� ،أنه يع ّلم على �أن يحكم العامل كما �أن كل �صاحب فكر يع ّلم على �أن يحكم العامل»... بعد ذلك يتكلم عن جهاد ّ اخلطني :خط مواجهة الذين مينعون حرية امتداد اال�سالم باحلكمة واملوعظة احل�سنةّ . وخط اجلهاد بالدفاع عن النف�س �ضد املعتدين« .لأنك عندما ال تواجه العنف الذي يفر�ض عليك بعنف مماثل �أو طريقة �أخرى ف�إنك ال ّبد �أن تفقد موقعك يف احلياة». ثم مي�ضي يف �شرح هذه الأفكار بالكالم عن كيفية انت�شار اال�سالم فيقول ،مما يقول« :ف�إننا جند �أن �أغلب املواقع التي دخلها اال�سالم مل يدخلها بالفتح .و�إمنا دخلها من خالل اجلانب الفكري 7
التب�شريي القائم على عدم االكراه يف الدين ،وعلى الدعوة باحلكمة واملوعظة احل�سنة» .يالحظ هنا� ،أن ال�شيخ الفا�ضل ف�ضل اهلل ي�ستند لت�أييد �أفكاره �إىل �آية« :ال �إكراه يف الدين» املن�سوخة! وال يختلف الدكتور حممد عابد اجلابري عن الدكتور القر�ضاوي يف ق�ضية الآية املن�سوخة« :ال �إكراه يف الدين» وغريها من الآيات املن�سوخة .فالف�صل الرابع من الق�سم الثالث من كتابه: امل�س�ألة الثقافية الذي عنوانه :اخللقية اال�سالمية �ضد التطرف ،معقود للتدليل على �أن اال�سالم «دين الو�سط واالعتدال ،دين الت�سامح والأخذ باحلكمة والتي هي �أح�سن» .والآية املن�سوخة التي يرتكز اليها الباحث هي قوله تعاىل« :وجادلهم بالتي هي �أح�سن» .10كما ي�ست�شهد بالآية املن�سوخة« :وال جتادلوا �أهل الكتاب �إال بالتي هي �أح�سن» التي ن�سختها �آية القتال .ثم بالآية :ال �إكراه يف الدين».11 اما امل�ست�شار حممد �سعيد الع�شماوي فقد اجتهد يف فهم الن�سخ فجاء معناه احلقيقي االجتهاد حدد �أ�صول اال�سالم ب�أنها الرحمة وهذا ما وجدناه يف كتابه عن :اال�سالم ال�سيا�سي حيث ّ والت�سامح وعدم الغ ّلو يف الدين ،و�أن «جوهر اال�سالم هو احلركة �إىل امل�ستقبل و�صميمه التقدم امل�ستمر لإن�شاء ح�ضارة �إن�سانية» .وي�ستند �إىل ظاهرة الن�سخ لت�أييد وجهة نظره ،فيقول�« :إن ما جد جديد �أو وقع واقع ال يعني جمرد نقل النا�س من حدث من ن�سخ لآيات ب�آيات �أخرى كلما ّ حكم �إىل حكم ،لكنه يفيد -يف حقيقته -معنى احلركة امل�ستمرة مع الوقائع والتقدم املت�صل على االحداث والفعل الن�شط لتغيري احلياة» .وي�ضيف قائ ًال« :ولقد فهم امل�سلمون الأوائل �أن هذه هي اال�صولية احلقيقية لال�سالم».12 فالن�سخ ،حقيقة ،هو يف االجتهاد بح�سب الظروف .لذلك اجتهد الع�شماوي فم ّيز بني قر�آن الرحمة وقر�آن ال�سيا�سة �أو بني اال�صولية (الروحية) التي ينادي بها ويدعو �إليها واال�صولية احلركية (ال�سيا�سية) .وذكر يف معر�ض مقابلته بني اال�صوليتني انهما تختلفان يف خم�س م�سائل ،هي: «الأ�سلوب املنتهج يف فهم �ألفاظ القر�آن الكرمي ،والطريق املتبع يف تف�سري �آيات القر�آن الكرمي ،ونظام ال�سلوك يف احلياة ،والفهم احل�ضاري للدين وو�ضع ال�سلطة ال�سيا�سية واملتفقهني يف الدين».13 وكل ذلك ،من �أجل �أن ي�ؤكد مبد�أ االجتهاد فيعتمده لعر�ض اجتهاده .و�سنده ،كما �أ�سلفنا منذ قليل ،يف ظاهرة الن�سخ .وك�أين به يقول� :إذا كان اهلل جمتهداً ،فلماذا ال يجتهد امل�ؤمنون؟ كما ي�شري �إىل �أمثلة يعود تاريخها �إىل اخللفاء فقد منع عمر بن اخلطاب زواج املتعة بالرغم من ورود ن�ص قر�آين حول« :فما ا�ستمتعتم به منهن ف�آتوهن �أجورهن» .كما يذكر �أن اخلليفة عمر وقف حكم امل�ؤلفة قلوبهم ووقف حد ال�سرقة.14 ويف ف�صل خا�ص عن اجلهاد ،ين�شىء الباحث متييزاً حاداً بني اجلهاد االخالقي من حيث هو �أ�سلوب كرمي وباعث قوي ودافع �سام لالرتقاء بالذات وال�سمو بالنف�س والعلو بالروح وي�شمل �أي�ضاً الدفاع عن النف�س ،واجلهاد ال�سيا�سي القتايل وهو ي�ؤيد النوع الأول من اجلهاد ويرف�ض الثاين. 8
الإ�سالم والإ�صالح الديني
يقول�« :إن بع�ض النا�س يرون �أنه من الأي�سر لهم �أن ي�شهروا ال�سيوف من �أن يوحدوا ال�ضمائر، و�أن يعلنوا احلروب من �أن ينقّوا القلوب ،و�أن يقتلوا النا�س بد ًال من �أن يحيوا اجلميع ،ولذلك فقد جعلوا من اجلهاد �سيفاً وحرباً وقت ًال ،ويف ال�صحيح انه �ضمري وقلب وحياة».15 ويف �إ�شارة منه �إىل احل�ضارة العاملية وحمورها العامل الغربي ،يرى الباحث �أنها «لي�ست كلها �شرا». ففي هذه احل�ضارة قيم رفيعة هي النظام والنظافة والأمانة والدقة والتجديد والتخطيط والتعاون والدرا�سة والبحث وروح خدمة الغري».16 وينتقد جماعات تيار الت�سيي�س لرف�ضهم للقيم الرفيعة للح�ضارة يف نف�س الوقت الذي يح�صل فيه انكباب على منتجاتها املادية.17 خال�صة �أطروحة كتاب الع�شماوي هي يف �أن القر�آن كتاب روحي �أخالقي ولي�س كتاباً �سيا�سياً. وعلى �ضوء هذه الفر�ضية يعمل جمتهداً فريى �أن كل مفردات القر�آن ،حتى لفظ «احلكم» الوارد فيه ،ال يفيد ال�سيا�سة من قريب �أو بعيد.18 ولأن ذلك ،مل يح�صل ،يف املا�ضي واحلا�ضر ،ر�أينا �أن نقرتح �أن يح�صل يف يومنا جتنباً للخلط وتبياناً للحقيقة الربانية ،وقطعا للنزاع الدائر الآن حول اال�سالم يف �أو�ساط امل�سلمني �أنف�سهم ،ويف �أو�ساط غريهم ،من التائقني للتعرف على حقيقته. ال�سور :ي�ضم امل�صحف ،الذي حتدثنا عنه ،القر�آن .ويت�ألف القر�آن من �سور تت�ألف كل واحدة منها من �آيات .وتعلمنا كتب التاريخ ان �أول ما نزل من �آيات القر�آن كان يف عام 610ميالدية88 . والآيات التي نزلت هي املوجودة يف �سورة العلق ،والتي تبتدىء بالآية الآتية�« :أقر�أ با�سم ربك الذي خلق» .ويقال �إن حممداً كان �أمياً ،لذا �أجاب املالك جربيل قائ ًال« :ل�ست بقارىء» .ويف الأخري ،فهم حممد مغزى النداء ،وتب ّلغ الر�سالة. ومن جهتنا ،نرجح �أن يكون ما ح�صل هو الآتي �أو ما ي�شبهه .فالفعل «قر�أ ،يفيد ،يف اللغة العربية معنى جمع .فاذا قلت :قر�أت الكتاب معنى ذلك �أنك جمعت ما يف غالفه من عرفان .وقيا�سا، ميكن القول� ،إن الآية�« :أقر�أ با�سم ربك» عنت� :إجمع النا�س بوا�سطة ا�سم ربك� .أي مبا �صار �شهادة يف اال�سالم ،فيما بعد ،نعنى� :أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل ...وال�شهادة هي ركن االميان باهلل (اال�سالم)، يف �صورتها الكاملة املعروفة� :أ�شهد �أن ال �إله �إال اهلل و�أن حممداً ر�سول اهلل. منجما �أي �آيات �أيات ،ولي�س دفعة على كل حال ،لقد نزل القر�آن عن طريق الوحي .ونزل ّ واحدة .وا�ستغرق نزوله ما بني ع�شرين وخم�سة وع�شرين عاما .ونزل بع�ضه يف ّ مكة ،ويبلغ عدد ال�سور املكية � 82سورة .وبع�ضه الآخر نزل يف املدينة ،وال�سور املدن ّية ع�شرون.19 ثم هناك من القر�آن ،ما نزل يف غري ّ مكة واملدينة .فهناك ما نزل بقرية اجلحفة على طريق املدينة، 20 وما نزل ببيت املقد�س ،وما نزل مبدينة الطائف وما نزل باحلديبية . 9
وت�ص ّنف �سور القر�آن �إىل ّ مك ّية (لنزولها يف مدينة مكة) ومدين ّية (لنزولها يف مدينة يرثب �أو املدينة) .و ُيعتقد �أن معرفة ّ املكي واملدين من ال�سور الزمة لعلماء الأمة لكي مييزوا نا�سخ الآيات من من�سوخها .لذلك ،ال ّبد لنا من الكالم ،مبقدار ،عن ق�ضية التمييز ومعايريه .وهذا ممكن على النحو الآتي: ال�سور املك ّية :وي�ستدل عليها ،عموماً ،بالعالمات الآتية: هي ت�شمل على لفظ «ك ّال». التهجي ،با�ستثناء �سورتي البقرة و�آل عمران. �أولها حروف ّ فيها من مثل« :يا �أيها النا�س» �أو «با بني �آدم». �سور الآيات الق�صرية املف�صولة بفوا�صل. �سور فيها �سرد لق�ص�ص الأقوام ال�سابقة والأنبياء. �أو فيها ق�صة �آدم و�إبلي�س. �أما ال�سور املدن ّية فهي: ما �أمر باجلهاد. ما �أ�شتمل على احلدود والفرائ�ض. ماجاء على ذكر املنافقني .و�إذا ورد لفظ «املنافقني» يف �سورة مك ّية ،مثل �سورة العنكبوت ،فهذا ٍ حالتئذ تعترب الآيات ال�شاملة على ذلك اللفظ ،وحدها� ،آيات مدنية.21 ال يبدلها.
10
الإ�سالم والإ�صالح الديني
الهوام�ش
� .1أحمد زكي �صفوت ،جمهرة ر�سائل العرب يف ع�صور العربية الزاهرة ،اجلزء االول( ،الع�صر اجلاهلي وع�صر �صدر الإ�سالم) ،الطبعة االوىل� ،شركة مكتبة م�صطفى البابي احللبي مب�صر 1356 ،هـ1937/م� ،ص .33-32 .2املرجع ال�سابق� ،ص .38 .3املرجع ال�سابق� ،ص .46وذكره �أي�ضاً :فالح حنظل .ر�سائل الر�سول (�صلى اهلل عليه و�سلم) وموفدوه �إىل ملوك وحكام اخلليج و�شبة اجلزيرة العربية :البحرين ،اليمامة ،وعمان� ،ص .99 .4جملة :هذه �سبيلي ،العدد االول ،ال�سنة الأوىل 1398 ،هـ� ،ص .75وهذه املجلة ي�صفها �أ�صحابها ب�أنها «جملة علمية ن�صف �سنوية ت�صدر عن املعهد العايل للدعوة اال�سالمية بجامعة الإمام بن �سعود الإ�سالمية. .5املرجع ال�سابق� ،ص 76 .6قر�ضاوي ،يو�سف .بينات احلل اال�سالمي و�شبهات العلمانيني واملتغربني ،م�ؤ�س�سة الر�سالة ،بريوت، 1409هـ1988/م� ،ص .267 .7املرجع ال�سابق� ،ص .236 .8املرجع ال�سابق� ،ص .238 « .9ال �إكراه يف الدين» هي الآية 256من �سورة البقرة .والآية «�أف�أنت تكره النا�س حتى يكونوا م�ؤمنني» هي الآية 99من �سورة يون�س. .10اجلابري ،حممد عابد .امل�س�ألة الثقافية ،مركز درا�سات الوحدة العربية ،بريوت � ،1994ص .136الآية امل�شار �إليها هي الآية 125من �سورة النحل التي ن�سختها �آية ال�سيف� .أنظر البارزي� ،ص .38 .11املرجع ال�سابق� ،ص � .137أنظر البارزي �أي�ضاً� ،ص .44 .12الع�شماوي ،حممد �سعيد .الإ�سالم ال�سيا�سي ،طبعة ثالثة� ،سينا للن�شر� ،1992 ،ص .141 .13املرجع ال�سابق� ،ص .138 .14املرجع ال�سابق� ،ص .57-56 .15املرجع ال�سابق� ،ص .117-116 .16املرجع ال�سابق� ،ص .77-76 .17املرجع ال�سابق� ،ص .77 .18املرجع ال�سابق� ،ص .46 .19الب ّنا ،ح�سن« .الأخوان امل�سلمون والد�ستور» ،النذير ،العدد .33من ر�سالته �إىل زعماء م�صر بعنوان :نحو النور. .20الب ّنا ،ح�سن .مذكرات الدعوة والداعية� ،ص .151 .21جملة النذير ،العدد .1
11
�صدر حديثا ً
م�ؤ�س�سة �سعاده للثقافة
بناية ر�سامني� ،شارع احلمرا ،ر�أ�س بريوت ،لبنان �صندوق بريد 113-5557 :بريوت -لبنان هاتف)00961-1( 753363 : فاك�س)00961-1( 753364 : الربيد الإلكرتوينsaadehcf@idm.net.lb : املوقع الإلكرتوينwww.saadehcf.org :
الإ�سالم والإ�صالح الديني
�إ�ستئناف الإ�ست�رشاق
الإ�سالم يف تنظريات �أمربيالية ما بعد احلداثة
حممود حيدر -مفكر وباحث
ترمي هذه الأملية �إىل ا�ستئناف الكالم على اال�ست�شراق مبفاهيمه واختباراته القدمية وامل�ستحدثة. دواع �أربعة: فلو كان من «ذريعة معرفية» حتملنا �إىل مق�صد كهذا ،فهي تعود �إىل ٍ الداعي الأول� :أن اال�ست�شراق مل يتوقف عند �أطوار احلداثة التي حفرت جمراها بدءاً من القرن الرابعع�شر امليالدي ومل تنته �إىل الآن .فهو فعل �سا ٍر ومتجدد منذ �أن حت َّيز الغرب كف�ضاء ح�ضاري ثم ليحمله حت ُّيزه �إىل االمتداد والتو�سع باجتاه �شرق يتد ّرع بوحيه وهويته وقدراته. الداعي الثاين� :إن قراءة اال�ست�شراق من جانب نخب امل�سلمني هي �إجراء معريف مفتوح مادامت ثنائية (غرب� -شرق) هي احلقل الذي منه ت�ستولد االفكار واملواقف وقوانني االحتدام. ومن هذا الداعي كذلك ،جند ما ي�ستحثنا ،كعرب وم�سلمني وم�سيحيني �شرقيني ،على معرفة ما كم�ستعل ٍ ينبغي معرفته عن نظري يظهر علينا حيناً ك�ساحر ي�أتينا ب�أغواءات احلداثة و�أنوارها ،وحيناً م�سنا منه �ض ُّر الغزو واالحتالل و�أب َّوة اال�ستبداد. َّ الداعي الثالث :فهو يف م�سعانا لتفكيك ال َّلب�س الذي تراكم يف الوعي العربي -اال�سالمي حيال مقولة اال�ست�شراق .ف�إننا يف م�سعى كهذا قد نفلح يف الت�أ�سي�س لنظرية معرفة تر�سي قواعد فهم جديدة للذات احل�ضارية اال�سالمية يف تناظرها� ،أو اخت�صامها ،مع الذات احل�ضارية الغربية. تي�سر لنا �أن نك ِّون فهماً �صائباً عن غرب �أنتج �أرقى �أنواع الفنون والقيم مما يوجب الت�سا�ؤل عما لو َّ والأفكار ،وجاءنا يف الوقت عينه ب�أب�شع �صنوف العنف والإيذاء واحلروب اال�ستعمارية. الداعي الرابع :فهو يف حقيقة �أن للإ�ست�شراق املعريف نباتاً �شرقياً .ذلك ب�أن امل�ست�شرق �سيجد من يناظره من �أبناء ال�شرق كلماته وافهامه ومنطقه� ،إما بالإقناع �أو بالإغواء �أو بالفر�ض .وهو ما نعنيه باال�ستغراب .حيث منا امل�ستغرب امل�شرقي كنظري للم�س�شرتق الغربي وكامتداد حملي له. فكان «اال�ستغراب» بهذا �أدنى �إىل ا�ستيطان فكري ما فتيء ي�ستعيد �س�ؤال الغرب وجوابه على ن�صاب ما تلقاه من مفاهيم احلداثة والتنوير والتقدم والإحياء احل�ضاري. الفكر اال�ستغرابي -الذي نق�صده لو�صف �أحوال �شطر وازن من مثقفي العامل اال�سالمي -هو 13
ور�سخته الهيمنة ،ور�ضيت به نخب املجتمعات وو�سعته الرتجمةَّ ، فكر �أنتجته الده�شة واالنفعالَّ ، العربية واال�سالمية �سبي ًال لفهم ذاتها وغريها ،ف�ض ًال عن فهم العامل. روحه فيه .فلقد ما فعله اال�ست�شراق� ،أنه �أن�ش�أ اال�ستغراب على كلماته ور�ؤياه من دون �أن ُيحِ َّل َ ابقاه م�ستغرِباً حيال كل ما له �صلة بعامل املفاهيم واالفكار .والنتيجة �أن ال�شرق ظل دائماً براَّنياً يف عقل الغرب ،و�شريكه ال�ضعيف يف �آن .حتى �أن كثريين من الدار�سني الغربيني مل يروا �إىل كظل ٍ �صامت ينتظر من يهبه احلياة .ما اف�ضى �إىل واقعة معرفية احلركات الفكرية يف ال�شرق اال ٍ امل�ستغرب مطلقا ،يف مقابل غياب ال�شرق يف فكر ِ قوامها ح�ضور امل�ست�شرق يف ال�شرق ح�ضوراً ً غياباً مطلقاً. ولأن اال�ستغراب هو الوجه الآخر لال�ست�شراق ،فقد �ض َّيع �سم َته اخلا�ص ،و َفقَد هويته .ف�إذا هو قا�صر عن �إنتاج معارف جمدية عن الذات وعن الآخر. اال�ست�رشاق يف املعنى واالختبار
لو �أنّ لنا من تو�صيف ي َو ِّحد معنى اال�ست�شراق بعد ارحتال مديد من االجراءات التف�سريية ،لقلنا �إنه فهم الغرب لل�شرق ،من دون �أن يكون لل�شرق حرية التعريف بنف�سه كما هي يف الواقع .كان للغرب �شغف �إىل التع ّرف على �شرقٍ ،مل يعد عند غروب القرن الثامن ع�شر جم ّرد نظري جهوي له ..بل كان بالن�سبة اليه ،جغرافيا م�سكونة بالأ�سرار .ثم وجد �أن ال منا�ص له من حت ّري ما تثريه الده�شة التي ينطوي عليها .ف�أ َّنى ذهبت التف�سريات جلالء الأ�سباب املعرفية التي دفعت النخب الغربية �إىل مثل هذا التح ِّري ،فلي�س من العقالنية يف �أمر� ،أن تحُ مل الظاهرة على حممل الرباءة. ذاك �أننا ل�سنا ب�إزاء �إجراء معريف منقطع ال�صلة عن حتوالت احلداثة وتدفقها �إىل خارج ف�ضائها القومي. من هذا النظر ال يعود اال�ست�شراق جمرد حقبة تاريخية ولدت كفائ�ض قيمة للحداثة االمربيالية، و�إمنا هو ظاهرة مركبة من املعرفة والهيمنة وقد ُ�ص َّبتا يف وعاء واحد ...ما ت�صح اال�شارة �إليه� ،أن الغرب ا�ستطاع �أن يتجاوز �أزماته احل�ضارية من خالل �إعالئه من �ش�أن النقد .فلقد عكف على نقد يرم ما ف َُ�سد يف تاريخه .لكن اال�ست�شراق مل يكن يف حاجة على ما كل عيب لديه من �أجل �أن مِّ يبدو اىل مثل هذا النقد ،اال اذا تع ّلق الأمر بت�صحيح املهمات التي �أوكلها اىل نف�سه .ولذا فعلى الرغم مما ظهر به عمله ،وك�أنه ن�سق م�ستقل بذاته� ،إال �أنه مل يكن مبن�أى من اال�سرتاتيجيات العليا ملوطنه الأ�صلي .فانه يف �أطوار زمانية ومكانية خمتلفة� ،سيفارق َّمدعاه اال�ستقاليل ،لي�ؤدي مهمة ذات وجهني: 14
الإ�سالم والإ�صالح الديني
الأول :تظهري العقالنية مبا هي �ش�أن ذاتي جوهري ملاهية الغرب. الثاين :ر�ؤية ال�شرق تبعاً لعقل الغرب ومعايريه ال�صارمة .ثم �إعادة توليد �صورة امل�شرق على نحو يجعل ُن َخ َبه ومثقفيه غافلني عما هم عليه يف واقع �أمرهم. ال�ض ّدي هذا ما ي�شري �إليه املفكر العربي الراحل ادوارد �سعيد ،حني يرى �أن انعدام الوعي النقدي ّ يف اال�ست�شراق ،هو ح�صيلة كونه توثيقاً �إحالياً ،يعيد فيه الن�ص اجلديد �-أي املنتج اال�ست�شراقي- توثيق �سلطة الن�ص القدمي. ففي مقدمة كتابه «اال�ست�شراق» ،يقول �سعيد�« :إذا اتخذنا من �أواخر القرن الثامن ع�شر نقطة لالنطالق حمددة حتديداً تقريبياً ،ف�إن اال�ست�شراق ميكن ان يناقَ�ش ويح َّلل بو�صفه امل�ؤ�س�سة امل�شرتكة للتعامل مع ال�شرق� .أي التعامل معه ب�إ�صدار تقريرات حوله ،و�إجازة الآراء فيه و�إقرارها ،وتدري�سه، واال�ستقرار فيه ،وامتالك ال�سيادة عليه� ..أما م�ؤدى الأطروحة التي مي�ضي �سعيد �إىل �إجنازها فيوجزها إن�شاء ،فلن يكون بو�سعنا �أبداً �أن نفهم الفرع ّ املنظم تنظيماً قوله« :اننا مل نك َتنه اال�ست�شراق بو�صفه � ً عالياً الذي ا�ستطاعت الثقافة الغربية عن طريقه �أن تتد ّبر ال�شرق -بل حتى ان تنتجه� -سيا�سياً، اجتماعياً ،وع�سكرياً ،وعقائدياً ،وعلمياً ،وتخ ّيلياً ..لقد احتل اال�ست�شراق مركزاً هو من ال�سيادة بحيث �أنني �أ�ؤمن ب�أنه لي�س يف و�سع ان�سان يكتب عن ال�شرق� ،أو يفكر فيه� ،أو ميار�س فع ًال متع ّلقاً به ،من دون ان ي�أخذ بعني الإعتبار احلدود املع ّوقة التي فر�ضها اال�ست�شراق على الفكر والفعل. وبكلمات �أخرى ،ف�إن ال�شرق ،ب�سبب اال�ست�شراق ،مل يكن (ولي�س) مو�ضوعاً ح ّراً للفكر �أو الفعل.. ال يعني هذا �أن اال�ست�شراق ،مبفرده ،هو الذي يق ِّرر ويح ِّتم ما مبكن �أن يقال عن ال�شرق ،بل �إنه ي�ؤ ِّلف ح�ضر ت�أث ُريها ب�صورة ال مفر منها يف كل منا�سبة ...بحيث يكون �شبكة امل�صالح الكلية التي ُي�س َت َ فيها ذلك الكيان العجيب «ال�شرق» مو�ضعاً للنقا�ش� .أما كيف يحدث ذلك ،فقد ت�أتي اجلواب ح�سب �سعيد� -أن الثقافة الغربية اكت�سبت املزيد من القوة والهوية بو�ضع نف�سها مو�ضع الت�ضاد1 مع ال�شرق باعتباره ذاتاً بديلة �أو حتى �سرية «حتتِ �- أر�ض ِّية» ديالكتيك التثمري والتفكيك
لو ق�صرنا وجهة اال�ست�شراق على كونها وظيفة �أيديولوجية لل�سلطة االمربيالية ،فلرمبا �سهونا عن الكثري من مواطن اخللل .فامل�س�ألة تتعدى ال�سيا�سي املبا�شر لت�صل اىل طبقات �أعمق غوراً ،وهي يف الوقت عينه ،م ّت�صلة ا ّت�صا ًال موثوقاً بالغاية العليا لتوجهات احلداثة ورحلتها الكولونيالية نحو ال�شرق. � 1إدوارد �سعيد اال�ست�شراق :املعرفة ،ال�سلطة ،االن�شاء ،نقله �إىل العربية كمال �أبوديب ،م�ؤ�س�سه الأبحاث العربية، بريوت ،الطبعة ال�سابعة� ،2005 :ص.8 15
وعلى هذا النحو �سرنى كيف انعقد ال�سجال حول اال�ست�شراق على �سياق مركب ،قوامه التالزم الديالكتيكي بني التثمري املعريف ملنجزات ال�شرق ،و�إعادة انتاجها ك�سلطة معرفية لل�سيطرة عليه. ثمة من يبينّ �أن اال�ست�شراق ،الذي كثرياً ما �أ�سهب املعنيون يف تو�صيفه وتعريفه ،ال يعدو كونه علماً طال اال�سالم عقيدة وثقافة ،واجتماعاً �سيا�سياً ،وبنية ح�ضارية .فال عجب �إذاً� ،أن تن�ش�أ مدار�س للدرا�سات العربية واال�سالمية� ،أبرزها تلك التي تزعمها امل�ست�شرق «بورج�شتال» ،وال غرابة �أي�ضاً حني تتب ّو�أ �إحداها- ،حتت �إدارة امل�ست�شرق �سنوك هورخرونيه -مكانة مرموقة ُو�ضعت يف خدمة امل�ستعمرات الهولندية يف جنوب �شرق �آ�سيا� .أما الأملان الذين ُحرموا من وليمة امل�ستعمرات، فلم ينههم ذلك عن ال�ضرب ب�سهم وافر يف هذا العلم .ومن باب �أوىل -ونحن ن�ستجمع �أ�سباب اللهفة الأوروبية على الثقافة العربية� -أن نعود بذاكرتنا لرنى �إىل الدافع الذي �آل باال�سبان اىل العدول عن ال�سيف نحو الكلمة ،من اجل درء اخلطر الذي ّ �شكله الفتح اال�سالمي بداية ،ومن بعده املوحدون الذين �أثاروا بانت�صاراتهم املتكررة حفيظة الكني�سة� .أما النتيجة فكانت والدة فكرة ترجمة القر�آن للتع ّرف على الطبيعة الروحية والفكرية للخ�صم .ولقد �أ�صاب امل�ست�شرق الأملاين يوهان فوك حني �ش ّبه حال الكني�سة وهي تتبنى الفكرة وتنفّذها ،بحالة الدول النامية يف وقتنا فتنفتح معرفياً على ثقافات و�أيديولوجيات الراهن� .إذ بات لزاماً عليها� ،أن تخطو اخلطوة الأوىلَ ، الدول امل�ص ّنعة واملتقدمة... وهكذا فقد اطلقت ثقافة الغرب امل�سيحي يف القرون الو�سطى مناخات قطيعة واخت�صام مع الإ�سالم بلغت ذروتها مع احلروب ال�صليبية .وامل�شكلة التي مل جتد م�ستقراً �سعيداً لها بعد، فهي تلك التي تتمثل على الإجمال بتمدد و�سريان ثقافة القطيعة واالخت�صام ،حيث ال تنفك تداعياتها تع�صف بعاملنا املعا�صر. كانت فكرة التب�شري هي الواقع احلقيقي خلف ان�شغال الكني�سة برتجمة القر�آن و�إتقان العربية. كان كلما تال�شى الأمل يف حتقيق ن�صر نهائي بقوة ال�سالح ،كلما �صار وا�ضحاً �أن احتالل البقاع املقد�سة مل ي�ؤ ِد �إىل ثني امل�سلمني عن دينهم ،بقدر ما �أدى �إىل عك�س ذلك ،وهو ت�أثر املقاتلني ال�صليبيني بح�ضارة امل�سلمني وتقاليدهم ومعي�شتهم يف حلبات الفكر .وقبل حدوث واقعة (�إيدي�سا�س) عام ،1143وهو العام الذي ُر َّد فيه ال�صليبيون على �أعقابهم ..ظهرت �أول ترجمة املبجل .وقد وجد هذا االخري الفر�صة �سانحة للتع ُّرف على التينية للقر�آن على يد الأب بطر�س َّ التناظر القائم يف ذلك الوقت بني اال�سالم وامل�سيحية ،وال �سيما جلهة املعارك الدائرة بني امل�سلمني واال�سبان ،وال�شعار املرفوع ال�سرتداد بيت املقد�س .ثم كان �أن خرج من ذلك كله بقناعة ،ب�أن ال �سبيل اىل مكافحة (دين حممد(�ص)) بعنف ال�سالح الأعمى ،وامنا بقوة الكلمة ،ودح�ضه بروح املتعمقة بر�أي اخل�صم ،فقد و�ضع خطة املنطق امل�سيحي .وملا كان مثل هذا العلم ي�شرتط املعرفة ِّ 16
الإ�سالم والإ�صالح الديني
للعمل على ترجمة القر�آن �إىل الالتينية 2وذلك وفقاً ال�سرتاتيجية ت�أويلية تف�ضي اىل اعادة ت�شكيل عقيدة امل�سلمني على ن�صاب التحريف والت�شويه... يظهر لنا �إىل �أي مدى كان للعامل الديني عناية خا�صة يف ا�شتغاالت اال�ست�شراق .ول�سوف يالحظ املحققون ،كيف لعب الدين دوراً رئي�سياً يف والدة احلركة اال�ست�شراقية .ففي وقت مبكر �سيجري التعامل مع ال�شرق بو�صفه جغرافيا دينية ،ومع لغة القر�آن مبا هي الف�ضاء املعنوي واملعريف احلا�ضن لتلك اجلغرافيا .ولو حت َّرينا الدرا�سات والتحقيقات التي اجنزها امل�ست�شرقون يف لغة الدين وفل�سفته ،لتبينّ لنا عمق التالزم بني الدين واللغة ال�ستك�شاف البناءات املعرفية ملجتمعات ال�شرق العربي واال�سالمي. فلئن ُع ِّرف اال�ست�شراق لدى ِّ جل امل�ست�شرقني ،على �أنه فقه اللغة (الفيلولوجيا) ،كما حر�ص امل�ست�شرق باريت على ت�سميته ،فلن يكون ذلك جمانبة حلقيقة التعريف .فاللغة العربية ،بحكم حتدرها من �أ�سرة �سامية واحدة� ،إىل جانب الآرامية وال�سريانية والعربية ،راحت ت�ست�أثر باهتمام ُّ الكني�سة ل�شرح ما �أبهم عليها من ن�صو�ص الكتاب املقد�س .من �أجل ذلك �شاع القول �إن الإقبال على تع ّلم العربية مل يكن بحافز �أحادي ،وال بطفرة دينية فح�سب ،بل لأ�سباب معرفية �أي�ضاً .فمن املعروف �أن الع�صر الو�سيط �شهد للعرب �أنهم ورثة العلوم القدمية .وهو ما كان يطلق على الطب والفلك والفل�سفة والريا�ضيات .كانت العربية وقتها كاالجنليزية اليوم ،لغة الرقي واملدنية ،وبوابة اخلال�ص من اجلهل والتخ ّلف .وكان ال�شعار املرفوع دوماً وحتى وقت مت�أخر من القرن الثامن ع�شر ،هو تخلي�ص الإ�ست�شراق من قب�ضة الالهوت (� .(AUTORITATسوى �أن هذه املحاولة مل جتد �سبي ًال لها لت�صري نهجاً را�سخاً يف املمار�سة اال�ست�شراقية .و�سي�أتي من احلوادث ما يدل على �أن �ضرب من ميتافيزيقا �سيا�سية ،مبا لهذا اال�صطالح من املنحى الغالب يف اال�ست�شراق هو حتوله اىل ٍ معنى .ولنا على �سبيل التحقيق �أن نحيل القارئ اىل احلادثة التالية: عام � 1888أقدم جوغوير على ترجمة «�ألفية» �إبن مالك امل�شهورة ،وهي -كما ُيعرف� -أرجوزة يف النحو العربي ال مكان فبها للجدل الديني �أو العقائدي �أو ال�سيا�سي ،لكنه افتتح الرتجمة بهذه الكلمات« :لقد حان الوقت لإتقان هذة اللغة ال�سامية (العربية)؛ ذات الطابع ال�شعائري �أ�سا�ساً واملنت�شرة يف م�ستعمراتنا .والدافع �إىل هذا العمل -على ما يو�ضح �صاحب الرتجمة -هو �أن نتع ّرف على االجتاهات اخلبيثة لك ّتابها و�أن ن�ش ّهر بهم� .إن بحثي قد يكون مفيدا ً على امل�ستوى العلمي البحت ،لكن هدفه الأكرب عملي؛ �إنه من نوع الطموح الذي يحمله املهند�س الع�سكري 3 عندما يدر�س مراجع عدوه حول الدفاع والهجوم؛ ان هديف هو التدمري»... 2 3
يوهان فوك ،تاريخ حركة اال�ست�شراق ،الدرا�سات العربية ،اال�سالمية حتى بداية القرن الع�شرين (نقله عن الآملانية عمر لطفي العامل) ،دار املدار اال�سالمي ،بريوت� ،2001 ،ص.17 يوهان فوك ،امل�صدر نف�سه� ،ص.20 17
بوجه عام ،ال يو�ضع الكالم -الذي م ّر معنا -خارج احلفر املعريف املتعدد الأن�ساق .وهو هنا يعبرِّ عن نف�سه يف ا�ستك�شاف ال�شرق مبا هو جغرافية اال�سالم املرتامية الأطراف ،و�إعادة ت�شكيله وت�أليفه على قاعدة ما ذهبنا �إىل ت�سميته بـ «ديالكتيك التثمري والتفكيك» .فلو عدنا �إىل امل�شهد العاملي املعا�صر ،لوجدنا �أنه كلما انعقد كالم حول ثنائية الإ�سالم والغرب ،عاد ما بينهما من و�صل وف�صل اىل �سريته الأوىل .فما من �شيء للإ�سالم على الغرب� ،أو للغرب على الإ�سالم� ،إلاّ ُر َّد �إىل م�ستهل الإ�شكال� .إىل تلك اللحظة التي �أدرك فيها الغرب ،مبا هو غرب� ،إن ا�ستئناف التاريخ، و�إعادة ترتيبه ،ال يتح�صل �إلاّ ب�آخر يواجهه ،ليحاوره �أو يجادله� ،أو ِل ُيهيمن عليه� .إنها �أي�ضاً اللحظة نف�سها ،التي يدرك فيها امل�سلمون �أنهم ،على وجه الق�صد ،هم ذلك الآخر. �أما ال�س�ؤال املفرت�ض عن موقعية اال�ست�شراق �ضمن جدلية «الذات والآخر» فقد جند جوابه يف التوظيف االيديولوجي للفكر اال�ست�شراقي �سحابة قرون احلداثة الفائتة.. ا�ستئنافاً لل�س�ؤال ثمة من مي�ضي �إىل �إن عملية �إنتاج «ال�شرق» اخ ُتربت يف �إطار �إنتاج «الغرب» لنف�سه على يد جماعة احتكرت مع الوقت ترجمة هذا «ال�شرق» وت�أويله وتف�سريه وتقدميه للغربيني وال�شرقيني على حد �سواء. وال تكتفي هذه الر�ؤية بذلك ،بل راحت تن�شيء �صلة وطيدة بني اال�ست�شراق ورجاالته من جهة وبني مرجعيتني اثنتني يف التاريخ والثقافة الغربيتني من جهة ثانية. املرجعية االوىل :هي عالقات املدر�سة اال�ست�شراقية املتعددة الأوجه بامل�ؤ�س�سة اال�ستعمارية ثم الأمربيالية الأورو� -أمريكية ،مب�صاحلها وا�سرتاتيجياتها .وهي عالقات لي�ست تختزل بالتطابق واملبا�شرة والتبعية ،لكنها تبينَّ �أن مدر�سة اال�ست�شراق ال يقت�صر دورها على املكت�شفات والأبحاث والدرا�سات يف م�ضمار اللغات واجلغرافية والآثار والثقافات ال�شعبية والديانات واحل�ضارات «ال�شرقية» ،قدميها واحلديث .بل �إن دور امل�ست�شرق ي�صل �أحياناً اىل م�ستوى الفعل والت�أثري املبا�شرين يف مراكز القرار ال�سيا�سي واالقت�صادي يف الدول اال�ستعمارية او الإمربيالية ،فهو يلعب دور املثقف الهام�س يف �أذن «الأمري» ،حيث تقرر ن�صائحه وا�ست�شاراته وتقديراته م�صائر �شعوب وبلدان ب�أكملها .املثال املعا�صر عن هذا النمط من امل�ست�شرقني هو الربيطاين برنارد لوي�س ،م�ست�شار �ش�ؤون الإ�سالم والعراق خالل عهدي جورج بو�ش الأب واالبن ،وهو ناحِ ت م�صطلح «�صدام احل�ضارات» و�صاحب الن�صيحة بغزو العراق رداً على هجمات احلادي ع�شر من �أيلول .2001 املرجعية الثانية :هي الو�شائج التي تربط تيارات مدر�سة اال�ست�شراق بتطور العلوم الطبيعية 4 واالجتماعية والإن�سانية الغربية. 4 18
فواز طرابل�سي ،الدميقراطية ثورة( ،ادوار �سعيد يف تطوره الفكري� ،شركه ريا�ض الري�س للكتب والن�شر ،بريوت � ،2013ص.120
الإ�سالم والإ�صالح الديني
ثم تخل�ص هذه الر�ؤية �إىل �أن امل�ست�شرقني ي�شرتكون يف عدد من الثوابت يف نظرتهم اىل «ال�شرق» �أهمها: النعرة اجلوهرية ،واملق�صود بها تقدمي الغرب وال�شرق مبا هما جوهران متمايزان يخت�ص كل منهما بخ�صائ�ص �أ�صلية ثابتة �صارت طبيعة ثانية لكل منهما .لكن التمايز يف�صح عن تراتب عمودي �صارم وثابت ،حيث العقالنية والتطور والرقي هي جوهر جماعة ،والروحانية والالعقالنية والتخلف جوهر جماعة �أخرى. التعميم� ،أي االفرتا�ض �أن معرفة اجلزء تكفي ملعرفة الكل. التنميط� ،أي �إ�ضفاء خا�صة واحدة من خ�صائ�ص اجلماعة على اجلماعة كلها. اجلمود ،ت�صوير عامل ال�شرق وحياته على �أنهما ثابت وال يتحول ،ما يعادل �إعدام فعل الزمن والتاريخ فيه. التفرد ،وهو عك�س التعدد حيث «ال�شرق» دين واحد وجمتمع واحد و«عقل» واحد وجبلة نف�سانية واحدة وثقافة واحدة. الثقافوية� ،أي تف�سري �أفكار ال�شرقيني و�سلوكهم ومنط حياتهم على �أ�سا�س مبد�أ تف�سريي �أوحد هو «ثقافتهم» التي تختزل اىل دينهم بالدرجة االوىل. وهكذا ت�صل الر�ؤية امل�شار �إليها �إىل خامتتني ،االوىل ِّ حتذر من �أن «ي�سهم ال�شرق احلديث يف ت�شويق 5 ذاته» والثانية ت�ؤكد �أن «اال�ستغراب لي�س هو اجلواب على اال�ست�شراق» الرتيب اال�ست�رشاقي حا�رضية اال�سالم وعقدة َّ
منذ الإرها�صات الأوىل لنه�ضة الغرب ،قبل نحو �أربعة قرون� ،أخذت تنمو �سريورة اللقاء بالإ�سالم. غري �أن هذه ال�سريورة ُطبعت على غائية �سالبة من ا ّولها .ولقد ر�أينا كيف �أنها �ست�ؤول �إىل �ضرب من لقاء ،تبينّ �أنه لن ُي�ؤ َّدى على النحو املر�سوم له �إال على �أر�ض ال ّزيغ والكمون .كان على الغرب الذي حمل حداثته الفتية لين�شرها على امللأ� ،أن يلتقي بالإ�سالم لقاء احلاكم ب�أمره .ك�أمنا قدر الغرب يف حداثته الأوىل� ،ألاّ يرى �إىل جغرافية الإ�سالم� ،إلاّ كم ّت�سع مديد ،يزخر بقابليات التلقّي ،والتمثّل ،والإ�ستالب. مرة �أخرى ت�ضع �أطروحة «الإ�سالم والغرب» الكالم على ن�ش�أته الأوىل .فتلك ،على الرغم من تقادم الزمان عليها ،ال تزال حية ت�سعى .تفعل وتنفعل ،وتر�سم وجه العامل وحدوده� .أطروحة 5
فواز طرابل�سي ،م�صدر م َّر ذكره� ،ص.121 19
«اال�سالم والغرب» هي �أكرث �أطروحات الزمن احلديث مثاراً للجدل .ال يعود ال�سبب �إىل عدم الفهم بني الطرفني وح�سب ،بل �إن عدم فهم ال�شرق ،هو وليد �ضد ّية ح�ضارية وثقافية ،وجدت بدايتها الفعلية مع �صعود الدولة القومية يف الغرب ،وا�ست�شراء غريزة ال ّتو�سع .ما يعني �أنّ غريزة التو�سع �أوجبت عق ًال ا�ستعالئياً يرى �إىل الغري كما يبتغي �أن يكون ،ال كما هو يف الواقع. ب�إزاء احلال ،مل يكن جلغرافية الإ�سالم املاثلة يف عني الغرب كامداء مرتامية� ،إلاّ �أن ترد الفعل بفعل .وهو -ر ّد غالباً ما كان -بحكم ميزان القوة ،وتقنيات ال�سيطرة اجلائرة ،جواباً ارتدادياً فظيع الأثر .فل�سوف يرتتب على الفعل وجوابه الإرتدادي �أفهاماً ،ومعارف ،وثقافات ،ال ت�ستوي �إلاّ حد الرف�ض واالخت�صام. على ِّ مع ذلك ،مل يكن يف �سريورة «اللقاء اللدود» بني الإ�سالم والغرب من انقطاع .ظلت هذه ال�سريورة ،على الرغم من احلروب ال�ضرو�س ،وال ُه َدن املتواترة ،والت�سويات املوقوفة ،على نحو ما من التوا�صل .غري �أن هذا التوا�صل ما كان لي�أتي على �أجنحة امل�صادفة .لذا جاء لي�ست�أنف على ن�صاب الرت ُّيب الأق�صى ب�سبب من حا�ضرية اال�سالم و�سط عامل يعي�ش خواءه وفو�ضاه وحروبه املجنونة .ولي�ست ظاهرة «اال�سالموفوبيا» �سوى التمثيل املا بعد حداثي لال�ست�شراق 6 االيديولوجي ما فعلته الأمرباطوريات الطاحمة ،كان فع ًال م�شهوداً يف ن�سيج الزمن العربي الإ�سالمي ك ّله .فلقد كان على �أر�ض الإ�سالم من كوارثه ما ال يح�صى� .أما ما فعله اال�ست�شراق ف�إنه �أجنز من القراءات، وابتنى من الأحكام ،ما جعل �صورة الإ�سالم وامل�سلمني مك�س ّوة ب�ضباب كثيف .فلو ر�أينا �إىل �صورة اال�ست�شراق من منطقة املعاينة احل ّرة َللاَ حت لنا هذه ال�صورة :بع�ض اال�شت�شراق يف ما�ضيه وحا�ضره �أقبل على ح�سن ّ الظن فكتب يف الإ�سالم وحوله ما ال �شائبة فيه .يف حني م�ضى بع�ض حد ّوظفت فيه �أعماله �ضمن �أوعية الإمرباطوريات الطاحمة. �آخر منه �إىل ّ لكن يبقى ال ّت�سا�ؤل حا�ضراً عما لو كان ثمة منطقة و�سطى ميكن �أن نعرث فيها على ا�ست�شراق مو�ضوعي رحيم و�سموح؟.. لي�س من �شك يف وجود مثل هذا النوع من اال�ست�شراق� ،سوى �أنه وجود حمدود ال�ش�أن .لكن داء ال َغ َلبة �سيلقي بظ ّله على ُج ِّل تلك الإ�ضاءات التي �شهدناها يف حقول ال ّت�صوف وعلم الكالم، بل وحتى يف م�ضمار الفل�سفة ال�سيا�سية ...ولو عاي ّنا قلي ًال لوجدنا هذا الداء داخل منطق احلداثة نف�سه ،ذاك الذي �ساد ،و�شاع ،وا�ستبد �سلطا ُن ُه منذ بدايات القرن التا�سع ع�شر. املحملة برموز و�إ�شارات ال هكذا بدا ال�شرق الذي يتج َلى يف مد َّونات اال�ست�شراق وتوجيهاته ّ 6 20
حممود حيدر ،حا�ضرية اال�سالم (اال�سالم بعني الغرب) ،ف�صلية مدارات غربية ،العدد الرابع ،ربيع، بريوت ،باري�س.
2005
الإ�سالم والإ�صالح الديني
ح�صر لها ،وبح�سب ت�أويلية �إدوارد �سعيد ،يظهر اال�ست�شراق كنظام �صارم من التمثّالت ،وهو م� َّؤطر بطقم كامل من القوى التي قادت ال�شرق �إىل جمال املعرفة الغربية ،والوعي الغربي ،ويف مرحلة تالية ،االمرباطورية الغربية .و�إذا كان هذا التحديد لال�ست�شراق يبدو �سيا�سياً �أكرث منه �أي �شيئ �آخر ،فذلك لأن اال�ست�شراق كان هو نف�سه نتاجاً لقوى ون�شاطات �سيا�سية معينة. وفق ر�ؤية كهذه ،يغدو اال�ست�شراق معرفياً مدر�سة للتف�سري ،فقد َح َد َث �أن كانت مادتها ال�شرق، بح�ضارته ،و�شعوبه ،و�أقاليمه املحلية .و�أما اكت�شافات اال�ست�شراق املو�ضوعية فهي كانت دائماً وما تزال م�شروطة وحمددة بكون حقائق اال�ست�شراق ،مثل �أي حقائق �أخرى تنقلها اللغة ،التي املج�سمة، و�صفها نيت�شيه مرة ب�أنها« :جي�ش متح ّرك من اال�ستعارات ،والكنايات ،والت�شبيهات ّ بل هي خال�صة من العالقات الإن�سانية ُع ِّمقت ،و ُنقِلت ،و ُزخِ َرت �شعرياً وبالغياً ،و�صارت ،بعد ا�ستعمال طويل �صلبة ،و�شرائعية ،وملزمة ل�شعب ما. رمبا ي�صدمنا ر�أي كر�أي نيت�شه هذا بو�صفه فيل�سوفاً مغالياً يف العدمية ،لكنه على الأقل �سوف يجذب انتباهنا �إىل �أن ال�شرق ،من حيث ُوجِ َد يف وعي الغرب ،كان لفظة تنامى لها فيه حقل وا�سع من املعاين ،والرتابطات ،والت�ضمينات ،وان هذه جميعاً مل تكن ت�شري بال�ضرورة �إىل ال�شرق احلقيقي ،بل �إىل احلقل املحيط باللفظة .وبالن�سبة لأي اوروبي يف القرن التا�سع ع�شر، ي�صدق ما كان اال�ست�شراق نظاماً من احلقائق باملعنى الذي �أعطاه نيت�شه للكلمة� ،أي �أنه كان ِّ قيل عن ال�شرق ،ولو من باب االنحياز العاري� .أما ح�صاد هذا ك ّله ،ف�إن -الأوروبي الغربي على ودينيا ،و�سيا�سياً� .إ�ضافة وجه ال ّتحديد -راح ينظر �إىل ال�شرق و�أهله نظرة املتعايل ،عرقياً ،وثقافياً، ً �إىل ذلك ،ف�إن املجتمعات الغربية املتقدمة ،نادراً ما منحت الفرد �شيئاً عدا طموحاتها االمربيالية، 7 وثقافتها العن�صرية ،والتمركز العرقي يف التعامل مع الثقافات «الأخرى» *****************
لو �أجرينا قراءة �إجمالية ملا تق�ضي �إليه مقا�صد اال�ست�شراق يف هذا ال�صعيد لوجدنا �أن حداثة الغرب يف العقل النخبوي للحداثيني العرب ،ال تزال ت�ستعاد على الن�ش�أة التي قر�أها ا�صحابها الأ�صليون قبل �أكرث من �أربعة قرون .وما هو �أدهى� ،إن العقل امل�شار �إليه ،وعلى الرغم من املرياث النقدي الهائل الذي زخر به تاريخ احلداثة ،بقى حري�صاً على التعلق مبحامل احلداثة االوىل ومقالتها البكر� :أي بو�صفها �أطروحة ملدينة فا�ضلة ت�ستنقذ العامل من فو�ضاه وجاهليته .ذلك يعني -ولو على �سوء الظن� -إن عق ًال كهذا ال ي�ستطيع �أن ينظر �إىل حداثة الغرب �إال بو�صفها عاملاً متخي ًال الحظ له من احلقيقة الواقعية يف �شيء. � 7إدوارد �سعيد ،اال�ست�شراق ،م�صدر م َّر ذكره� ،ص.47 21
يفعل ذلك املعا�صرون من املثقفني العرب وامل�سلمني كما فعل الأ�سالف من قبل� .أولئك الذين اجتمعوا على مقالة النه�ضة حتى ُ�س َّمي الزمن الذي عا�شوه با�سمها .فكان ختام القرن التا�سع ع�شر وم�ستهل القرن الع�شرين عامراً بفردو�س ال�شعارات الكربى :الدولة الأمة ،والدميقراطية ،واملجتمع املدين ،والتحرر من نري اال�ستعمار ،والعدالة االجتماعية ،والتعددية ،ونقد طبائع اال�ستبداد. �أكرث ه�ؤالء حملوا �س�ؤال النه�ضة على ح�سن الظن و�سالمة النية� .إال �أنهم مل يفارقوا ده�شة الأنوار فوقعوا يف ال�شبهة .مل يدركوا �إال مت�أخرين �أن �أنوار الغرب مكثت يف الغرب .ومل ي�أتِنا من ح�صادها �سوى �شراهة ال�سيطرة الكولونيالية وت�أبيد اجلاهلية ورعاية اال�ستبداد .ومثلما �أُخذنا على مدى مائة عام با�ستعاراتهم النه�ضوية من دون تفكيك �أو م�ساءلة� ،أخذوا هم حكاية احلداثة نف�سها و�أجروا �س�ؤال النه�ضة على ما هو �أدنى من �سرية امل�ست�شرقني ،فقر�أوه قراءة الغائب ،ليح�ضر اال�سالم يف تلك القراءة على نحو مياثل ح�ضور م�سيحية الغرب يف مقابل علمانيته احلادة. اليوم �سوف نرى �أن �س�ؤال النه�ضة امل�ست�أنف ال ينفك يظهر على الن�ش�أة نف�سها ،مع فارق جوهري، وهو �أن ال�سواد االعظم من املثقفني يغ ِّيبون ال�س�ؤال ،ويعاملونه كحا�صل ثقافة فات �أوانها ..بل وي�ستغربونه كما لو كان �س�ؤال فائ�ضاً عن احلاجة. ولو كان لنا ان نت�ساءل الآن عن م�صري ال�س�ؤال النه�ضوي وم�آالته ف�إنا على يقني من �أن جواباً يح�صل بي�سر .ويف زحمة الثورات الرمادية التي جتتاحنا من �شهور� ،سيكون علينا �أن نبذل عليه ال َّ �أق�صى اجلهد لنعرث عليه ،ولو يف ف�ضاء امل�ستحيل.
22
الإ�سالم والإ�صالح الديني
تطبيـق ال�رشيعـة الإ�سالميـة بني الإلزام والإلتزام
ع�صام نعمان -كاتب �سيا�سي /وزير لبناين �سابق
بحث م�سائل ثالث :مفهوم الدين والدولة نظرياً وتطبيقياً ،والإ�سالم ما �أ�سعى �إليه يف هذه الورقة ُ مبا هو دين ودولة ،وتطبيق ال�شريعة يف الدولة املعا�صرة و�صو ًال �إىل اقرتاح مقاربة جديدة لتطبيقها على �أ�سا�س الإلتزام ،ال الإلزام. �أوالً :يف مفهوم الدين والدولة نظريا ً وتطبيقيا ً
احل�ساب؛ ومنه قوله تعاىلُ : مالك يوم الدين لغ ًة متعد ُد املعنى .فقد جاء يف ل�سان العرب «الد ِّين: ِّ ُ والد ُين :الطاعة .وقد ِدنْ ُته و ِدنْ ُت له �أي �أطعته ()... الدين؛ وقيل :معناه مالك يوم اجلزاء (ِّ )... ِّ والدين ِّ ِين ُيدان بهِّ . والدين الإ�سالم ،قد د ُ ِنت به .ويف حديث علي ،عليه ال�سالم :حمب ُة العلماء د ٌ العادة وال�ش�أن .تقول العرب :ما زال ذلك دِيني و َد ْي َدين �أي عادتي». ثمة معنى ناظم بني كل هذه املدلوالت� .إنه معنى ال�ضبط والإن�ضباط .فاحل�ساب مبعنى املحا�سبة هو اجلزاء؛ والطاعة مبعنى الإلتزام هي اخل�ضوع؛ والدين مبعنى الديانة هو العقيدة ،والعقيدة هي الإ�سالم الذي ُيدان به �أي ُيطاع و ُيل َت َزم؛ والدين مبعنى العادة وال�ش�أن هو الإلتزام ٍ بتقليد �أو �سلوكٍ ٍ �ضابط �أو من�ضبط. �إننا نقع على هذه املعاين املتعددة للدين كما على املعنى الناظم لها بني عامة النا�س �أكرث مما نقع بينهم على املعنى الأكادميي للدين من حيث هو عقيدة او �إميان ذو طابع �إلهي �أو غيبي. أ�سم ال�شيء الدولة لغ ًة متعددة املعنى �أي�ضا .فقد جاء يف ل�سان العرب «وقال الزجاجُّ : الدو َل ُة � ُ الفعل وال ُ والدول ُة ُ والدولة لغتان، إنتقال مـن حالٍ �إىل حال ( )...الليثَّ : الذي ُيتداولَّ ، الدول ُة ُّ والدولةُ :ال ُ إنتقال من حالِ ال�شدة �إىل الرخاء». ومنه الإدال ُة �أل َغ َلبة (َّ )... 23
والتبدل والإنتقال من حالٍ �إىل ّ ثمة معنى ناظم بني مدلوالت َّ الدولة� .إنه معنى ال َغ َلبة والتغيرّ حال� .إننا نقع على هذه املعاين املتعددة للدولة كما نقع على املعنى الناظم لها بني عامة النا�س �أكرث مما نقع بينهم على املعنى الأكادميي للدولة من حيث هي تنظيم �سيا�سي جلماعة من النا�س تعي�ش على رقعة من الأر�ض ومتار�س عليها �سيادتها. هذه املعاين للدين والدولة منت�شرة و�سائدة بني النا�س ،ومن خاللها ميكن فهم نظرتهم اليهما وعالقتهم بهما و�سلوكهم �إزاءهما. �إن معاين ًة دقيقة لأحـوال النا�س يف ما يقولون ويفعلون� ،أي يف تفكريهم وتدبريهم ،تقود �إىل الدين حاجة �إن�سانية .وقد ك�شفت درا�سات متعددة يف حقول علم اخللو�ص حلقيقة �ساطعة هي �أن ِّ الإجتماع الديني والعلوم االجتماعية والنف�سية �أن للدين دوراً يف التعبري عن احلاجة الإن�سانية ولفهم معنى للقيم واملبادئ الأخالقية ،وملتطلبات املعي�شة ،وللتحرر من القلق واخلوف والب�ؤ�سِ ، احلياة ،وتعزيز التما�سك الإجتماعي.1 �شدد عامل الإجتماع الأملاين ماك�س فيرب على ال�صلة الوثيقة بني الدين يف معاجلته للإ�سالم ّ وال�سلوك اليومي الهادف ذي امل�ضمون الإقت�صادي .قال �إن غايات الدين هي على الأغلب اقت�صادية ،مما يف�سر ،مثال� ،سبب عجز الورع الديني عـن �أن «مينـع ف ّالحاً يف جنوب �أوروبا من �أن يب�صق على متثال قدي�س مل ي�ستجب ملطالب كان قد تقدم بها اليه»� .2أال ّتذكرنا هذه الواقعة بعرب اجلاهلية عندما كانوا يقيمون �أ�صناماً لآله ٍة من متر ويتعبدونها حتى �إذا عجزت عن تلبية دعواتهم، قاموا ب�أكلها غري نادمني؟! يف معاجلته لظهور الإ�سالم ،اعترب فيرب �أن القيم واملعتقدات الإ�سالميـة جاءت متنا�سقة مع احلاجات املادية للطبقات املحاربة .ذلك �أن الإ�سالم زا َو َج بني القيم التجارية والقيم الفرو�سية ونتيج ًة لهذه املزاوجة الثالثية، البدوية والقيم ال�صوفية املعبرّ ة عن عواطف اجلماهري وحاجاتهاَ . ووجهته الطبقة التجارية يف املدن وجه َة الت�شريع وجهت الطبقة املحاربة الإ�سالم وجه َة اجلهادّ ، ّ 3 ووجهته اجلماهري امل�ست�ضعفة وجه ًة �صوفية . والتعاقد يف خمتلف ميادين احلياةّ ، قبل فيرب كان عبد الرحمن بن ح�سن اجلربتي قد �شدد يف م�ؤ َلفه «عجائب الآثار يف الرتاجم والأخبار» على �أهمية العامل الإقت�صادي بقوله�« :إن العرب يف اجلاهلية كانت ت�ستعمل �شهور الأه ّلة وتق�صد مكة للحج ( )...ولكن ملا ال يقع يف ف�صل واحد من ف�صول ال�سنة ( )...ووقوع �أيام احلج يف ال�صيف تار ًة ويف ال�شتاء �أخرى (� )...أرادوا �أن يقع حجهم يف زمان واحد ال يتغيرّ ( )...فقال لهم خطيبهم :لي� ِأت حجكم وقت �إدراك الفواكه والغالل ،فتق�صدوننا مبا معكم منها،
1
24
حليم بركات ،املجتمع العربي يف القرن الع�شرين (بريوت ،مركز درا�سات الوحدة العربية،
م) �ص
.
426 2000 2 Max Weber, the Sociology of Religion ( London : Methen and Co.1966 ) pp. 1-2. 3 Ibid., p. 13.
الإ�سالم والإ�صالح الديني
فوافقت العرب على ذلك».4 عامل الإجتماع الفرن�سي �آميل دوركامي قال �إن وظيفة الدين الأ�سا�سية هي تعزيز وحدة املجتمع وع�صبيته .5حليم بركات تبنى مقولة دوركامي و�أ�شار �إىل �أنها متثلت تاريخيا «بدو ِر الإ�سالم يف توحيد قبائل اجلزيرة العربية واحل�ضر والبدو مما �ساهم يف قيام الفتوحات الإ�سالمية ال�صاعقة».6 غري �أن القبائل قاومت تذويبها يف املجتمع وحاولت ا�ستعمال الإ�سالم يف خدمة م�صاحلها اخلا�صة. يقول حممد عمارة يف هذا ال�صدد �إن �أهل الع�صبية القدمية من قري�ش ،وبنو �أمية منوذج جيـد لهم، ثوب �إ�سالمـي ،على اغتنموا فر�صة حكم اخلليفة الثالث عثمان بن عفان ليعيدوا �سيطرتهم ،يف ٍ مقدرات املجتمع من جديد الأمر الذي ح ّرك ع�صبية القبائل الأخرى فلج�أت ال�سلطةُ ،خا�ص ًة يف العهد الأموي� ،إىل �سالح القبيلـة توازن به �صراعات املجتمع ،فت�ضرب قبائل ب�أخرى .7يف هذا ال�سياق ،ا�ستنتج عبد العزيز الدوري �إن تاريخ الإ�سالم هو تاريخ �صراع بيـن القبيلة والدين �أو بني القبيلة والقبيلة ،8وهذا ما كان ا�ستخل�صه ابن خلدون وكذلك ق�سطنطني زرق الذي حتدث عن ا�ستمرار الأزمة بني الإنتماء القبلي واالنتماء الإ�سالمي مما ت�سبب يف �سقوط عهود وحكومات و�أ�سر حاكمة خالل التاريخ الإ�سالمي كله.9 ما مفهوم الدين و�أثره يف احلقبة التي �أعقبت بزوغ البعثة النبوية يف مكة وامتدادها مع الر�سول (�ص) بعد الهجرة �إىل املدينة ،قبل �أن تنح�سر ب�آثارها مع �أفول عهد اخلالفة الرا�شدة؟ الإ�سالم يف الفرتة ّ املكية كان عقيد ًة وح�سب .فالآيات املكية تخلو ب�صورة عامة من �أوامر ونوا ٍه ذات طابع ت�شريعي .ذلك �أن �أحوال امل�سلمني ومتطلبات حياتهم �آنذاك ما كانت ت�ستلزم �أكرث من �إر�ساء مبادئ العقيدة وقواعد العبادة .مع تطور �أحوالهم بعد الهجرة ون�ش�ؤ حتديات وحاجات م�ستجدة ،نزلت الآيات املدنية وفيها من الأوامر والنواهي ما ي�سبغ عليها طابع ال�شريعـة .غري �أن ال�شريعة يف جمتمع املدينة مل تكن ت�شريعاً كام ًال ل�سببني :الأول ،لأن امل�سلمني ما كانوا قد بعد عمق الإميان بالعقيدة« ،وما مل تكن عقيدة ،فلن تكون �شريعة ( )...فقد ظهرت �إ�ستكملوا ُ 4
عبد الرحمن بن ح�سن اجلربتي ،عجائب الآثار يف الرتاجم والأخبار (بريوت ،دار اجليل ،دون تاريخ) ،اجلزء ،1 �ص.8-7 :
6 7
بركات ،امل�صدر ال�سابق الذكر� ،ص.429 : حممد عمارة« ،من هنا بد�أت م�سريتنا للوحدة العربية» ،ق�ضايا عربية ،ال�سنة ،3الأعداد ( 6-1ني�سان/ابريل- �أيلول�/سبتمرب 1976م)� ،ص.68-67 : عبد العزيز الدوري ،مقدمة يف تاريخ �صدر الإ�سالم (بريوت :املطبعة الكاثوليكية 1961 ،م).
Emile Durkheim , The Elementary Forms of the Religions Life, Free Press Paperbacks (New York: Free Press, 1965) pp. 236-245 and 462-472.
8 Constantine K. Zarayk, «Tensions in Islamic Civilization», Seminar Paper no.3 (Washington , Dc: Georgetown University, Center for Contemporary Arab studies, 1978.
5
9
25
العقيدة وظ ّلت وحدها متثّل الإ�سالم طوال �سنوات مكة� ،أي ثالثة ع�شر عاماً من ثالثة وع�شرين هي مدة البعثة ،ومل يكن للإ�سالم طوال تلك الفرتة من حدود �أو �شريعة �أو جهاد �إ ّال مبعنى بقد ٍر من التفكري، تكوين النف�س تكويناً �إميانياً» .10ال�سبب الثاين «كان حلكم ٍة ن�ستطيع �أن نفهمها ْ وهي �أن مثل ذلك الت�شريع كان يلغي فائدة العقل الذي �شاء ربنا ان ينعم به على الإن�سان ()... مثـل ذلـك الت�شريـع كان يح ّول الإن�سان �إىل جمرد خملوق �آيل �أ�شبـه باالوتوماتون �أو الربوت».11 حتى لو كانت ال�شريعة قد اكتملت يف جمتمع املدينة ،وكان امل�سلمون قد ا�ستكملوا عمق �إميانهم بالإ�سالم ،فهل كان بالإمكان تطبيق ال�شريعة من دون دولة تتوىل �إنفاذ �أحكامها؟ جمال البنا الأخ الأ�صغر مل�ؤ�س�س جماعة «الإخوان امل�سلمني» الإمام الراحل ح�سن البنا -يجزم �إيجابـاًبدعوى �أن حكم الر�سول (�ص) ملجتمع املدينة مل ي�صاحبه قيام دولة باملعنى املتعارف عليه� ،إذ كانت �أبرز مق ّومات الدولة ،كاجلي�ش وال�شرطـة وال�سجون وال�ضرائب و�سلطة الإلزام ،غائبة �أو غري متوفرة� .12إىل ذلك ،ي�ص ّر جمال البنا على �أنه ال يوجد يف القر�آن َدولة �إمنا �أمة .فكلمة ُّدولة ولي�س َدولة وردت مر ًة واحدة يف �صدد احلديث عن الفيء (كي ال يكونَ ُدو َلة بني الأغنياء منكم �-سورة احل�شر ،الآية رقم � )7أي ال تكون َغ َل َبة ،يف حيــن «جند القر�آن ي�ستخدم كلمة �أمة يف 49مو�ضعاً ويجعل هذه الكلمة يف الو�صف اجلماعي للنا�س وللم�ؤمنني».13 غالبية الفقهاء ،ال�سيما ال�سلفيني منهم ويف مقدمهم ح�سن الب ّنا ،كانوا رف�ضوا مقولة جمال ون�صب الإمام واجب على البنا ومن ذهب مذهبه من قبل ومن بعد .فالدولة ،يف ر�أيهم ،حاجة ْ امل�سلمني ي�أثمون برتكه ،و�إقامة الدولة فعل واجب يف الإ�سالم ،وانه من الأمور التي تتقرر مبقت�ضى الأمر ال�شرعي.14 �سواء كانت الدولة �ضرور ًة واجبة لتطبيق ال�شريعة والقر�آن قد �أوجب قيامها �ضمنا� ،أو كانت �أدا ًة م�شروعة وم�ستح�سنة من نتاج �إجتهاد الفقهاء� ،أو كانت يف مطلق الأحوال ظاهـرة اجتماعية تاريخية ناجمة عن غريزة التغ ّلب ومطلب امل�صلحة والإقتدار ،ف�إنه يبقى �أن الدولة التي عرفها املجتمع العربي الإ�سالمي كانت يف الغالب الأعم م�ؤ�س�سة م�ستبدة وفا�سدة ،مل تخدم مبادئ ال�شريعة وال مقا�صدها .فاخلالفة ،بعد ان �إنتهت اىل بنى �أمية ،حت ّولت ملكاً ع�ضو�ضاً .ب�إ�ستثناء خالفة عمر بن عبد العزيز التي دامت �سنتني ،ف�إن معظم اخللفاء وال�سالطني واحلكام با�شروا يف عهودهم �أ�شكا ًال متنوعة من الإ�ستبداد والف�ساد .ولعل جمال الدين الأفغاين لي�س مغالياً يف 10 11 12 1 3 14 26
جمال البنا ،هل ميكن تطبيق ال�شريعة؟ (القاهرة ،دار الفكر الإ�سالمي 2005 ،م)� ،ص.55 – 51 : حممد النويهي« ،نحو ثورة يف الفكر الديني» ،جملة االداب ،عدد ايار/مايو 1970م)� ،ص.107–25 : جمال البنا ،الإ�سالم دين وامة ولي�س دينا ودولة (القاهرة ،دار الفكر الإ�سالمي 2003 ،م)� ،ص.21–17 : امل�صدر نف�سه. عبد االله بلقزيز ،الدولة يف الفكر الإ�سالمي املعا�صر ( بريوت ،مركز درا�سات الوحدة العربية 2002 ،م)� ،ص: .130–126
الإ�سالم والإ�صالح الديني
تو�صيف حال الأمة يف زمانه وعلى نح ٍو ي�صدق عليها يف زماننا ب�أنها «الأمة التي لي�س يف �ش�ؤونها ّ حل وال عقد ،وال ُت�ست�شار يف م�صاحلهـا ،وال �أثر لإرادتها يف منافعها العمومية ،و�إمنا هي خا�ضعة حلكم واحد �إرادته قانون ،وم�شيئته نظام ،يحكم ما ي�شاء ،ويفعل ما يريد .تلك �أمة ال تثبت على ٍ 15 حالٍ واحد ،وال ين�ضبط لها �سري. »... غري �أن تو�صيف الأفغاين حلال الأمة ،على �أهميته ،يبقى ناق�صاً .ذلك �أنه مل يلحظ دور الأجنبي عرب تاريخها ويف زمانه حتديداً� .إذا كان اخللفاء وال�سالطني واحلكام امل�ستبدون قد احتلوا �إرادتنا ف�إن �إفراداً وجماعات من �شتى الأقوام والألوان والثقافات قد ّمتكنوا ،حتت �ستار الإ�سالم ،من دخول جمتمعنا والإنخراط يف ن�سيجه وولوج �أبواب ال�سلطة واالرتقاء يف مراتبها و�صوال �إىل �إحتالل الأر�ض والإرادة معا .فقد ا�ستوىل على ال�سلطة فريق من املماليك -هم يف الأ�صل ُت ٌ رك رج -منذ 1171م ،ودام عهدهم نحو 350عاما لي�أتي بعدهم الأتراك العثمانيون ويحكموا ُوكر ٌد ُوك ٌ الأمة اكرث من 400عام .و�إذا كان العرب قد تق ّبلوا حكم املماليك مقابل تقبل ه�ؤالء لغتهم ودينهم ،ف�إن �سجل بني عثمان مع اللغة العربية والإ�سالم ال يدعو �إىل الفخر .فقد جافـوا العربية، وحاولوا ترتيك العرب ثقافياً و�سيا�سياً� .أما �صلة �سالطينهم بالإ�سالم فكانت �سطحيـــة ونفعية حج بيت اهلل احلرام .16وبالإ�ضافة �إىل الفرجنة �إ ْذ مل ي�ؤثر عن ّاي من �سالطينهم (خلفائهم!) ان ّ الذين �إ�ستوطنوا بالإحتالل بالد ال�شام نحو 200عام ،ف�إن الفرن�سيني والربيطانيني وااليطاليني والإ�سرائيليني والأمريكيني غزوا بالد العرب ،مغربها وم�شرقها ،منذ الن�صف الأول من القرن عدة فيها. التا�سع ع�شر وما زالوا يحتلون ،مبا�شر ًة او مداور ًة� ،أقطاراً ّ �إن �أم ًة حكمها ال�سالطني واحلكام الأجانب واحتلوا �إرادتها ،وما زالوا ،نحو ثمانيـة قرون ال ميكن �أن تكون ع ّلتها حم�صورة مب�س�ألتي تطبيق ال�شريعة و�إ�صالح الدولة� .إن ما تكابده ،على ما يبدو ،ع ّلة مزمنة ّ ومتجذرة تتطلب عالجاً نوعياً لروحها وعقلها معا ،ول�س ّلم قيمها و�أخالقها. ثانياً :يف م�س�ألة الإ�سالم دينا ً ودولة
الإ�سالم عقيدة و�شريعة .العقيدة هي الأ�صل .ال�شريعة هي الفرع .تقوم العقيدة على الإميان باهلل ور�سله وكتبه واليوم الآخر ،وقيم احلق والعدل واحلرية .وهي ظهرت يف الفرتة ّ املكية على مدى ثالثة ع�شر عاماً .ال�شريعة ظهرت مع الهجرة وبعدها .فهي� ،إذاً ،فرع ومقت�ضى من مقت�ضيات العقيدة. 15بلقزيز ،امل�صدر ال�سابق الذكر� ،ص .47 16ع�صام نعمان ،امريكا والإ�سالم وال�سالح النووي (بريوت� ،شركة املطبوعات للتوزيع والن�شر 2007 ،م)� ،ص: .78–74 27
بن�ص غاي ُة الإ�سالم ومهمته بني النا�س �أن يد ّلهم �إىل طريق الهداية .وهذه يف العبادات جاءت ّ مف�صل عليها .ذلك �أن �أمور العبادة لي�ست مما تتغري فيه امل�صلحة بتغيرّ الزمان واملكان .من هنا، ّ يقول احمـد ابو املجد« ،كان النقل م�صدر �أمور العبادة ،والدخول يف الطاعة جوهرها� .أما الأمور املعا�شية فتبقى على الأ�صل يف ّ حتدها يف احلل والإباحة الأ�صلية وحرية احلركة يف طلـب الأ�صلحّ ، ذلك كله حدود الن�صو�ص القطعية ،وما ا�شتلمت عليه من �أحكام تكليفية� ،أمراً ونهياً».17 هل تتطلب ال�شريعة ،مبا هي نظام ،حكومة ترعاها وتنفذ �أحكامها؟ الب ّنا الأكرب قال نعم .الب ّنا الأ�صغر قال كال .وكان ح�سن البنا قد كتب ما ّن�صه « َيفرت�ض الإ�سالم احلنيف احلكومة قاعد ًة من قواعد النظام االجتماعي الذي جاء به اىل النا�س ،فهو ال يق ّر الفو�ضى وال يدع اجلماعة امل�سلمـة ظن �أن الدين ( )...ال يعر�ض لل�سيا�سة� ،أو ان ال�سيـا�سة لي�سـت مـن مباحثه ،فقد بغري �إمام ،فمن ّ 18 ظلم نف�سه وظلم علمه بهذا الإ�سالم» . من ُع الفو�ضى و�إقرار النظام ّ ي�شكالن حاجة م�ستدامة عبرّ عنها الفقهاء القدامى بوجوب �إتقاء الفتنة وحياطة وحدة اجلماعة ب�أ�سباب احلماية وال�صون .تف�سري ذلك ،يف ر�أي حممد مبارك� ،أن الإ�سالم لي�س جمرد عقيدة دينية فح�سب بل هو �أي�ضاً نظام �إجتماعي و�سيا�سي ال يقبل الوجود والإ�ستمرار بغري دولة تعبرّ عنه وتفر�ض �أحكامه�« .إن الدولة �ضرورة يف الإ�سالم لأن تنفيذ �أحكام القر�آن ممتنع دون دولة» .19هل الدولة من الأ�صول �أو من الفروع؟ ح�سن البنا كـان قد ح�سم هذه امل�س�ألة بقوله «احلكم معدود يف كتبنا الفقهية من العقائد والأ�صول، ال من الفقهيات والفروع».20 ال يجادل جمال البنا يف وجوب قيام دولة تتوىل الردع والوقاية «لأن املجتمع ال يحتفظ بانتظامه �إ ّال بوازع ال�سلطان ».لكنه وغيـره كثريون يرف�ضون �أن تكون الدولة يف الإ�سالم دولة دينية .حممد عمارة رف�ض �أي�ضا النظرية القائلة بوحدة ال�سلطتني الدينية والزمنية ،م�ستعيناً بكالم الإمام حممد عبده �أن �أوروبا مل حتقق نه�ضتها «�إ ّال بعد �أن ف�صلت ال�سلطة الدينية عن ال�سلطة املدنية» ،وان الأمة يف الإ�سالم هي م�صدر �سلطة احلاكم ،فهو م�س�ؤول «�أمام الأمة التي لها احلق يف حما�سبته و�صف للواقع القائم منذ ومراقبته» .21عبد اهلل العروي الحظ �أن العبارة «الإ�سالم دين ودولة» ٌ � 17أحمد كمال ابو املجد «امل�س�ألة ال�سيا�سية :و�صل الرتاث بالع�صر والنظام ال�سيا�سي للدولة» يف :ال�سيد يا�سني و�آخرون، الرتاث وحتديات الع�صر يف الوطن العربي (بريوت ،مركز درا�سات الوحدة العربية 1987 ،م) �ص.593 – 571 : 18ح�سن البنا ،جمموعة ر�سائل االمام ال�شهيد ح�سن البنا (بريوت ،امل�ؤ�س�سة الإ�سالمية ،ال تاريخ)� ،ص.211 : 19حممد املبارك ،نظام الإ�سالم :احلكم والدولة الطبعة ( 4بريوت ،دار الفكر 1981 ،م)� ،ص.18-12 : 20ح�سن البنا ،املرجع ال�سابق الذكر� ،ص.170 : 21حممد عمارة ،الدولة الإ�سالمية بني العلمانية وال�سلطة الدينية (بريوت ،القاهرة :دار ال�شروق 1988 ،م)� ،ص: 27-32و.61 28
الإ�سالم والإ�صالح الديني
قرون� ،أي حلكم �سلطاين مطلق يحافظ ،لأ�سباب �سيا�سية حم�ض ،على قواعد ال�شرع� .أما الإ�سالم فهو «دين الفطرة الذي يهدف �إىل �إحالة الدولة �إىل ال دولة ،كما �أن التاريخ الوقائعي مل يعرف دولة «�إ�سالمية» با�ستثناء فرتة الوحي والإلهام ،كذلك مل تظهر يف الت�أليف الإ�سالمي نظرية دولة �إ�سالمية».22 �سواء كانت الدولة �إ�سالمية ،مبعنى دينية� ،أو مدنية ال تدين بدين معني ،فهل تطبيق ال�شريعة وظيفة �إلزامية لها ام وظيفة اختيارية يجري تقريرها يف �ض�ؤ امل�صلحة العامة؟ الفقهاء ال�سلفيون املت�شددون يجيبون بل�سان عبد ال�سالم يا�سني« :منذ �أن �أ�صبح احلكم بني وع�ضاًِ ، انتحت الدعوة ورجالها ،فلم تعد الدولة هي راعية الدعوة كما امل�سلمني ملكاً وهريراً ّ كان الأمر من قبل .مل يعد ال�سيف يف خدمة امل�صحف؛ افرتق ال�سلطان والقر�آن» .23يو�سف القر�ضاوي ينطلق من فرِ�ضية خمتلفة مفادها ان ال�شريعة ظ ّلت مرجعاً للحكم والدولة طيلة ثالثة ع�شر قرنا قبل دخول الإ�ستعمار .فالعائق �أمام تطبيق ال�شريعة عائق خارجي يف املقام الأول وهو الإ�ستعمار ونظمه املفرو�ضة بالعنف .24غري �أن عبد ال�سالم يا�سني ،و�إن كان يرى يف الإ�ستعمار عائقاً� ،إ ّال �أن العائق الأ�سا�س داخلي متمثل يف تخلي املجتمعات الإ�سالمية عن �شريعتها بفعل �سيا�سات احلكام وجنب الفقهاء.25 لئن كان تطبيق ال�شريعة �إلزامياً يف نظر يا�سني والقر�ضاوي وغريهما من الفقهاء ال�سلفيني ،ف�إن النا�س ،ال ال�سالطني واحلكام فح�سب ،جتاوزوا هذا الإلزام ال�شرعي بعدم االلتزام به .ها هو ح�سني �أحمد �أمني يت�صدى لطارق الب�شري الذي كان جزم ب�أن لي�س لديه «�شبهة يف �أن الإ�سالم كان هو ال�سائد يف ديارنا ،فكراً وثقافة و�سيا�سة وديناً وعقيدة ونظاماً ،بقوله له �إن قراءته يف البلوي وابن ايبك الدواداري وابن الفرات واملقريزي وابن تغري بردى وال�صرييف وال�سخاوي وال�سيوطي وابن �إيا�س واجلربتي وع�شرات غريهم من امل�ؤرخني امل�سلمني الذين �أحالوا «ال �شبهة» الب�شري �إىل يقني» ب�أن الإ�سالم مل يكن ،ال يف م�صر وال يف غريها ،ي�سود فكرنا �أو ثقافتنا �أو �سيا�ستنا �أو عقيدتنا �أو نظامنا ،وال كان ما ي�سمى بال�شريعة الإ�سالمية مطبقاً يف �أي وقت من الأوقات ،عدا زمن النبي واخللفاء الرا�شدين ،قبل الإجتاه يف القرن التا�سع ع�شر �إىل الإقتبا�س من النظم القانونية الغربية، ثقاف ًة وفكراً! ( )...لقد كان ال�سالطني والوالة �أكرث النا�س جهال بها وتبجحاً يف نق�ضها ،وكان جل جهود الفقهاء من�صرفاً �إىل (� )...إخرتاع احليل التي يتخل�صون بها من الأحكام ال�شرعية واىل كيفية جتنب تطبيق احلدود قدر الإمكان والإ�ستعا�ضة عنها بالتعزير الذي مل يذكره القر�آن ومل 22 23 2 4 2 5
عبد اهلل العروي ،مفهوم الدولة (الدار البي�ضاء :املركز الثقايف العربي 1981 ،م)� ،ص.123 – 122 : بلقزيز ،امل�صدر ال�سابق الذكر� ،ص.156 : امل�صدر نف�سه� ،ص.157 – 156 : امل�صدر نف�سه � ،ص .158 – 157 29
يعر�ض له احلديث �إ ّال قلي ًال.26 يلتقي جمال الب ّنا مع ح�سني �أحمد �أمني يف �أن ال�شريعة مل تكن مطبقة يف خالل تاريخنا �إ ّال يف عــدة �أبرزها �أن ال�شريعة فرتة وجود الر�سول (�ص) واخللفاء الرا�شدين ،و�أن لتلك الظاهرة �أ�سباباً ّ مل تكن مقننة .فقد حاول اخلليفة عمر بن عبد العزيز تدوين ال�س ّنة ،لكن خالفته مل تدم �أكرث من �سنتني .27قيل �أن الوليد بن عبد امللك �أراد التدوين قبل عمر بن عبد العزيز كي يتح ّول ذلك �إىل قانون يحمل النا�س عليه او يلزمهم به ،غري �أن حماولته «مل تنجح �أمام الأعراف الفقهية ال�سائدة» .28ويروي مالك بن �أن�س �أن اخلليفة �أبا جعفر املن�صور �أراد ن�سـخ كتبه و�إر�سالها �إىل كل م�ص ٍر من �أم�صار امل�سلمني كي يعملوا مبا فيها وال يتعدوها �إىل غريها .لكن مالك رف�ض ذلك «لأن النا�س قد �سبقت �إليهم � ُ أقاويل و�سمعوا �أحاديث �أ�صحاب ر�سول اهلل وغريهم و�أن ر ّدهم عما 29 اعتقدوه �شديد ،فدع النا�س وما هم عليه وما اختار � ُ أهل كل ٍ بلد لأنف�سهم» . ي�ستنتج جمال البنا من رواية مالك بن �أن�س مع �أبي جعفر املن�صور �أن الفقهاء ،ال�سيما الكبار واالفذاد منهم ،كانوا يرف�ضون تقنني ال�شريعة وما كانوا يطلقونه من فتاوى يف معر�ض تطبيقها .مر ّد ذلك �إىل رغبتهم يف الإحتفاظ ب�سلطة الإفتاء بعيداً من �إمالء احلكام .ذلك �أن تقنني ال�شريعة من �ش�أنه �أن ي�ضع بني �أيدي احلكام �سلطة م�ضافة لل�ضبط والربط وال�سيطرة.30 مبذهب من دون �سائر املذاهب ثمة �سبب �آخر لرف�ض التقنني .انه تفادي اال�ضطرار �إىل الأخذ ٍ املتمايزة ،فتقوم قيامة �أ�صحاب املذاهب املرتوكة .غري ان اخللو�ص �إىل هذه النتيجة �أ�سعد الفقهاء كما امل�سلمني .فالفقهاء �أ�سعدهم بقاء �سلطة الإفتاء يف �أيديهم ،وامل�سلمون �س ّرهم �أن «تكون فيهم ويتفاعل معهم بحكم �أف�ضليته ومنزلته من �أن يكون قانوناً ال�شريعة فكراً بني النا�س ي�ؤثر ٍ مفرو�ضاً عليهم من الدولة».31 يف ال�صراع بني الأمراء (احلكام) والفقهاء انت�صر الأولون .ذلك �أنهم ّمتكنوا دائما من توظيف مفتي ال�سالطني وكان لهم دور كبري يف توطيد تراث الإ�ستبداد يف فقهاء يف خدمتهم .ه�ؤالء كانوا ّ عامل الإ�سالم .لكن ،ماذا عن م�س�ألة �إلزامية ال�شريعة او �إلتزامها؟ 26 27 2 8 2 9 3 0 3 1 30
ح�سني �أحمد �أمني ،يف ال�سيد يا�سني و�آخرين ،الرتاث وحتديات الع�صر يف الوطن العربي� ،ص .647–646 يت�ضامن مع ح�سني �أحمد �أمني يف املوقف نف�سه مفكرون �آخرون ،انظر :حممد عابد اجلابري ،الدين والدولة وتطبيق ال�شريعة (بريوت ،مركز درا�سات الوحدة العربية2004 ،م)� ،ص.209–201 : جمال البنا ،هل ميكن تطبيق ال�شريعة؟� ،ص .6-5 امل�صدر نف�سه. امل�صدر نف�سه. امل�صدر نف�سه� ،ص.7 : امل�صدر نف�سه� ،ص.9 :
الإ�سالم والإ�صالح الديني
يت�صدى حممد النويهي لهذه امل�س�ألة بالت�أكيد على �أن الإ�سالم يهتم �أعظم اهتمام ب�صالح �أحوال ّ النا�س يف دنياهم ،و�أنه لي�س دين �آخرة �أو دين خال�ص روحي فح�سب .لكنه ال يرتدد فـي القول �أي�ضا «�إن الإ�سالم ال يت�ضمن نظاما نهائيا للمجتمع الإن�ساين ،ومل يحاول قط �أن ي�ضع مثل هذا يدع قط �أن اهلل وحده هو م�صدر القوانني كلها ،دينياً ودنيوياً ،لأنه يقرر مبد�أ تطور النظام ،ومل ِ 32 الأحوال وال يريد �أن يقوم عائقا �أمام هذا التطور ،وال يريد �أن ّ ي�شل عقول الب�شر» . ينطلق النويهي من هذه امل�سلمة التي يعتنقها اىل القول �إن �أوامر القر�آن ونواهيه لي�ست كلها فرو�ضا وحترميات ملزمة كما يعتقد كثريون �أو ّيدعون .ه�ؤالء ،يف ر�أيه ،يريدون �أن يح�صروا �أوامر القر�آن ونواهيه يف بابني فقط :الفر�ض والتحرمي .لكن الرجوع �إىل مراجع اال�صول والفقه ير�شدنا �إىل �أن العلماء القدامى �أنف�سهم ق�سموا اوامر القر�آن ونواهيه �إىل �أبواب خم�سة :باب الفر�ض ،وهو ما نلزم به ونعاقب على تركه .وباب الواجب ،وهو ما يجمل بنا �أن نفعله ولكن ال نعاقب على تركه .وباب املباح ،وهو يعني التخيري املطلق دومنا تف�ضيل للعمل او للرتك .وباب املكروه ،وهو ما ينبغي ان نرتكه لكنه غري حمرم وال ي�ستتبع فعله عقاباً .واخرياً باب احلرام ،وهو ما يلزمنا تركه ويحق علينا العقاب �إذا فعلناه .ثم يت�ساءل النويهي :هل نحن ملزمون ب�أن ن�أخذ دائما ويف كل حال ب�أقوال العلماء القدامى يف حتديد �أي الأحكام ينتمي �إىل كل باب من تلك الأبواب؟ �أ َو مل يختلف العلماء القدامى �أنف�سهم يف درجات الوجوب والإباحة والكراهة بني مندوب وم�ستح�سن وم�ستقبح ومكروه كراهة حترمي و�آخر كراهة تنزيه؟.33 يجيب النويهي عن �س�ؤاله بنف�سه قائ ًال «ال يقع علينا الإلزام ب�أقوال العلماء القدامى �إ ّال �إذا اعتقدنا ب�أن لهم وحدهم حق التمييز والإجتهاد ولي�س لأحد ممن جاء بعدهم ،و�إعتقدنا ب�أنهم كانوا مع�صومني من اخلط�أ ع�صم ًة اخت�صوا بها دون غريهم (� )...إن كل ما يف القر�آن وما يف ال�س ّنة من ت�شريعات ال تتناول العقيدة وما يتعلق بها من �شعائر العبادة ،بل تتناول �أمور الدنيا ومعامالتها وتنظيمها وعالقاتها ،كل هذه الت�شريعات بال �إ�ستثناء لي�ست الآن ملزمة لنا يف كل الأحوال. حتى ما كان منها يف زمان الر�سول من بابي الفر�ض والتحرمي ،مل يعد الآن بال�ضرورة كذلك ،بل لنا احلق يف ان ننقله �إىل بابي الندب والكراهة� ،إن مل ننقله �إىل باب املباح وهو التخيري املطلق .لنا الآن هذا احلق �إذا اقتنعنا ب�أن تغيرّ الأحوال ي�ستلزم تطبيقه ،وما دمنا نلتزم بالغايات الأخالقية العليا التي ن�صبها القر�آن».34 �إ ْذ يرف�ض حممد النويهي �إلزامية تطبيق ال�شريعة ،يت�صدى حممد عابد اجلابري للم�س�ألة نف�سها من باب فتح باب الإجتهاد مبا ي�ؤدي �إىل الإلتزام بتطبيقها حيث و�أ ّنى تق�ضي امل�صلحـة العامة 32النويهي ،املرجع ال�سابق الذكر. 3 3امل�صدر نف�سه. 3 4امل�صدر نف�سه. 31
احلقيقية بذلك .يف هذا ال�سبيل يقتفي اجلابري خطـى اخلليفة الرا�شدي الثاين بقوله «�إذا كان عمر بن اخلطاب قد عمل باجتهاده واجتهاد ال�صحابة الذين �إ�ست�شارهم يف م�س�ألة فيها ن�ص، ف َو�ضَ ع اخلراج على الأرا�ضي املفتوحة عنو ًة َ بدل تق�سيمها بني املقاتلني ،مراعياً يف ذلك امل�صلحـة، م�صلحة احلا�ضر وم�صلحة امل�ستقبل؛ و�إذا كان قد عدل عن ق�سمة الغنائم بال�سوية ،كما كان يفعل النبي و�أبو بكر ،وارت�أى �أن «العدل» يقت�ضي ق�سمتها على �أ�سا�س ال�سبق يف الإ�سالم والقرابة من الر�سول (�ص) ،واذا كان عمر بن اخلطاب -امل�ش ّرع الأول يف الإ�سالم بعد الكتاب وال�س ّنة -قد اعترب امل�صلحة ومقا�صد ال�شرع ،فو�ضعهما فوق كل اعتبار ،فلماذا ال يقتدي املجتهدون واملجددون اليوم بهذا النوع من االجتهاد والتفكري بدل الإقتداء بفقهاء ع�صر التدوين والرت�سيم؟ ()... فالإجتهاد يجب �أن يكون ال يف قبول هذا املبد�أ او عدم قبوله بل يف نزع الطابع امليكانيكي عن مفهوم «الدوران» (القول بان احلكم ال�شرعي يدور مع ع ّلته ،ولي�س مع حكمته) ،والعمل من اجل الإرتفاع بفكرة امل�صالح �إىل م�ستوى امل�صلحة العامة احلقيقية كما حتدد من منظور اخللقية الإ�سالمية .انه من دون هذا النوع من التجديد �سيبقى كل «اجتهاد» يف �إطار القواعد الأ�صولية القدمية �إجتهاد تقليد ،ولي�س �إجتهاد جتديد».35 �إذ يدعو اجلابري �إىل ت�أ�صيل �أ�صول الفقه على �أ�سا�س بنائها على مقا�صد ال�شريعة ،وفق منهج الفقيه املالكي االندل�سي الإمام ال�شاطبي ،بدل الإقت�صار يف الإجتهاد على القيا�س ،قيا�س جزئيات مل يرد فيها ن�ص على جزئيات ورد فيها ن�ص ،تراه يعرت�ض� ،ش�أن �أحمد �أبو املجد وحممد النويهي وجمال البناٌ ، كل من زاويته ،بقوله �إن تطبيق ال�شريعة ال يجوز ان يعني فقط �إقامة احلدود ،كقطع يد ال�سارق ،لأن هناك مبادئ واحكاماً اخرى يجب �أن تطبق ،مثل مبد�أ ال�شورى يف احلياة ال�سيا�سية ،ومبد�أ (هل ي�ستوي الذين يعلمون والذين ال يعلمون � -سورة الزمر ،الآية رقم )9يف احلياة الفكرية ،ومبد�أ «النا�س ك�أ�سنان امل�شط» يف خمتلف مرافق احلياة .36هذا مع العلم �أن «م�صالح العباد» مل تعد مق�صور ًة على حفظ الدين والنف�س والعقل والن�سل واملال كما حددها الفقهاء القدامى ،بل �أ�صبحت ت�شمل ،يف ر�أي العابدي ،بالإ�ضافة �إىل ذلك كله اموراً �أخرى كاحلق يف حرية التعبري وحرية الإنتماء ال�سيا�سي ،واحلق يف انتخاب احلاكمني وتغيريهم ،واحلق يف العمل واخلبز وامل�سكن وامللب�س والتعليم وتوفري ال�صحـة والوقاية والعـالج.37 �إن �شريع ًة يفرت�ض بها �أن تنطوي على كل هذه املقت�ضيات ال�شرعية والإن�سانية وغريها ي�صعب تقنينها، لي�س ب�سبب �إت�ساع م�سائلها وموا�ضيعها فح�سب بل ب�سبب اخل�شية �أي�ضا من جتميدها يف ن�ص قد ي�أخذ طابع قدا�س ٍة مزعومة �أو ع�صمة موهومة يف ع�صر يقوم على احلركة والتطور والتغيرّ امل�ستدام. 35اجلابري ،املرجع ال�سابق الذكر� ،ص.182 – 181 : 3 6امل�صدر نف�سه� ،ص .197 – 196 :للتو�سع يف الإطالع على مبد�أ ال�شورى� ،أنظر� :أحمد املو�صللي ،جدليات ال�شورى والدميقراطية (بريوت ،مركز درا�سات الوحدة العربية2007 ،م). 37اجلابري ،املرجع ال�سابق الذكر� ،ص .190 32
الإ�سالم والإ�صالح الديني
ثالثاً :تطبيق ال�رشيعة يف الدولة املعا�رصة
�إذا كانت ال�شريعة يف بلدان املغرب العربي تعني ،عموماً� ،إقامة احلدود (ولي�س تطبيق �أحكامها بال�ضرورة) ف�إنها يف بلدان امل�شرق العربي تعني تطبيق �أحكام الأحوال ال�شخ�صية كالزواج والطالق والإرث والو�صية .ومع ذلك ف�إن ت�سعة من بني د�ساتري الدول العربية االثنتني والع�شرين تت�ضمن د�ساتريها عبارة من خم�س كلمات «ال�شريعة الإ�سالمية امل�صدر الرئي�سي للت�شريع»،38 «كتاب اهلل و�س ّنة ر�سوله د�ستورها» ،وال�سودان ي�ضيف اىل ال�شريعة «�إجماع فيما تعترب ال�سعودية َ إ�ستفتاء ود�ستوراً وعرفاً» ،و�سوريا تعتمد مفهوماً �أو�سع مدى «الفقه الإ�سالمي م�صدر رئي�سي الأمة � ً للت�شريع». با�ستثناء ال�سعودية ،تتم�شى الدول العربية على �أحكام قوانني و�ضعية يف خمتلف حقول احلياة. بع�ض هذه القوانني يت�صل ب�أحكام ال�شريعة؛ بع�ضها الآخر ذو �أ�صولٍ و�صياغــة �أجنبية (تقنني نابوليون و�سواه) .غري �أن عبد الرزاق ال�سنهوري ،الذي كانت له اليد العليا يف و�ضع القانون املدين امل�صري ،ي�ؤكد ب�أنه جرى تبني كل ما ميكن تبنيه من �أحكام ال�شريعة عند و�ضع القانون املذكور مع مراعاة املبادئ ال�صحيحة للت�شريع احلديث . 39 منـذ ثالثينات القرن الع�شرين انطلقت حملة �شعبية لإعتماد �أحكام ال�شريعة يف و�ضع القوانني. �أبرز املطالبني ب�أ�سلمة القوانني الو�ضعية كانـت ،وما زالت ،جماعـة الأخـوان امل�سلمني .40احلملة مل تفلح كثرياً رمبا لأن «الت�شريعات املهمة التي تك ّون الن�سيج الت�شريعي ملجتمعاتنا املعا�صرة كقوانني التوظيف واخلدمة املدنية ،وقوانني املرور ،وال�صحة العامة ،والتعليم ،و�إقامة الأجانب ،وت�سجيل العقارات» ( )...هي ،يف ر�أي �أحمد �أبو املجد ،ال تخالف «مبادئ الإ�سالم و�شريعته»( )...الأمر الذي دفعه اىل الت�سا�ؤل عن جدوى عملية �أ�سلمة القوانني« :ام �أن عني امل�سلمني ال يجوز لها �أن تق ّر �إ ّال �إذا بد�ؤا بالهدم الكامل و�سووا بالأر�ض كل ما عليها من �أبنية ثم �أقاموها من جديد؟».41 يتح�صل من جممل ما جرى عر�ضه من وقائع وجدليات وم�ساجالت حول حال ال�شريعة قدمياً ّ وحديثاً اخلال�صات الآتية: توج ٍه اىل �إ�صالح احلياة العامة بجوانبها ال�سيا�سية �أوالً� ،إن الإ�سالم عقيد ًة و�شريع ًة ينطوي على ّ والإجتماعية من خالل تطبيق املبادئ الإ�سالمية يف تلك امليادين. ثانياً� ،أن القر�آن مل ي�أت على ذكر الدولة كفري�ضة �شرعية ،لكن �إقامة الدولة تبقى ثابتة 3 8هي د�ساتري م�صر ،اليمن ،الكويت ،البحرين ،قطر ،ال�سودان ،الإمارات العربية املتحدة� ،سوريا ،فل�سطني.
39 Enid Hill, Al-Sanhuri and Islamic Law (Cairo, The American University in Cairo Press, 1987) p.71. 40 Ibid., p 72.
� 41أحمد كمال �أبو املجد ،املرجع ال�سابق الذكر� ،ص .584 – 578 33
بالإقت�ضاء يف كثري من الن�صو�ص التي تفرت�ض وجود الدولة مبا هي �سلطة �سيا�سية غالبة وقادرة على تنفيذ الواجبات وحماية ما يقابلها من حقوق. ثالثاً ،ان الإ�سالم ال يقيم حكومة دينية ،بل �إن الدولة الإ�سالمية هي دولة مدنية من حيث ان الر�ضاء هو �شرعية احلكم يف املجتمع الإ�سالمي. رابعاً� ،إن ال�شريعة مل تطبق ب�صورة كاملة قدمياً وحديثاً ،و�أن ما ُطبق من �أحكامها كان يف وبحدي ال�سرقة والزنى احياناً ،فيما �أُهمل مفهوم معظمه متعلقاً بالأحوال ال�شخ�صية غالباً ّ ال�شورى من طرف ال�سالطني واحلكام الذين ا�ستخدموا فقهاء من �أجل ت�سويـغ حكم الت�سلط والإ�ستبداد. خام�ساً� ،أن م�س�ألة تطبيق ال�شريعة تت�صل �إت�صاال حميما ب�ضرورات االجتماع ال�سيا�سي وحاجياته يف الزمان واملكان الأمر الذي ي�ستدعى ،بال�ضرورة ،مفهومي ال�شورى والدميقراطية ومركزيتهما يف عملية الت�شريع . تقدم بيانه ي�ستقيم الإ�ستنتاج دومنا حتفظ �أن م�س�ألة تطبيق ال�شريعة هي ،يف التحليل يف �ضوء ما ّ الأخري ،م�س�ألة تقرير ما �إذا كان يقت�ضي �إلزام املجتمع بها ام تركها �أمانة لدى النــا�س ،م�س�ؤولني ومواطنني ،علماء وب�سطاء ،كي يقرروا ب�أنف�سهم ،يف �ضوء �ضرورات احلياة وحاجياتها من جهة والنظام الأخالقي الإ�سالمي ومقت�ضيات االنتظام العام من جهة �أخرى ،ما �إذا كانوا �سيلتزمون ب�أحكامها وقواعدها وقيمها و�شكل هذا الإلتزام ومداه. �إن احلرية والعدل والعقل �أ�س�س جوهرية يف الإ�سالم ،وهي قيم دافعة ب�إجتاه �إيثار خيار الإلتزام على خيار الإلزام يف تطبيق ال�شريعة .وعليه� ،أبادر �إىل جتديد املناق�شة يف هذا املجال احليوي من خالل معاجلة ثالثة مو�ضوعات �إ�شكالية هي الإ�سالم والدولة ،ع�صمة رجال الدين ،الإ�سالم والعلمانية ،وذلك يف �سياق مقاربة جديدة لتطبيق ال�شريعة على �أ�سا�س الإلتزام. الإ�سالم دين ونظام
تقول غالبية الفقهاء �إن الإ�سالم لي�س جمرد دين ينطوي على ُمثل وقيم وعبادات بل هو دولة �أي�ضا تنطوي على �شريعة وقواعد و�أحكام ومعامـالت .فاهلل تعاىل «يزع بال�سلطان (�أي بال�سلطة والقوة) ما ال يزع بالقر�آن» ،و�أن ال �سبيل اىل تطبيق �أحكام ال�شريعة �إال بقيام �سلطة �إ�سالمية، القيادة فيها للعلماء والفقهاء. احلقيقـة �أن الإ�سالم لي�س دينا فح�سب بدليل �أنه ينطوي �أي�ضا على �شريعة ذات قواعد و�أحكام، 34
الإ�سالم والإ�صالح الديني
و�أن ال�شريعة نظام �أو ناظم لأحوال الإن�سان يف عباداته ومعامالته .ولكن ثمة �س�ؤال ُيطرح :هـل يقت�ضي �إقامة دولة �إ�سالمية لتطبيق هذا النظام ،وهل يف القر�آن �أمر ب�إقامة هذه الدولة؟ ل�ست من القائلني ب�أن تطبيق ال�شريعة �-أي نظام الإ�سالم -ي�ستلزم �إقامة دولة �إ�سالمية بقيادة ُ الفقهاء والعلماء لأن من املمكن ،بل من امل�ستح�سن ،ان يكون االلتزام بال�شريعة �إلتزاما ذاتياً نابعاً من الإميان والوجدان واالقتناع وامل�صلحة ال�شخ�صية .فامل�سلم ي�ستطيع ان ميار�س ال�شهادة وال�صالة وال�صوم واحلج والزكاة واجلهاد وتطبيق �أحكام الزواج والـطالق والإرث والو�صية دومنا حاجة �إىل دولة �إ�سالمية� ،أي �إىل �سلطة ملزمة ،بدليل ان امل�سلمني ميار�سون تلقائيا تلك الفرائ�ض يف دول �أوروبا و�أمريكا حيث ال �سلطة �إ�سالمية .فالقر�آن الكرمي خلو من �أي �أمر �أو فر�ض ب�إقامة دولة �إ�سالمية .وكل ما يقوله بع�ض الفقهاء والعلماء يف هذا ال�صدد ال يعدو كونه اجتهادا ال ُيلزم امل�سلمني بل يلزم القائلني به ومن يذهبون مذهبهم .ولي�س معنى هذا �أنه ال يجوز �إقامة دولة �إ�سالمية �أو �أن مثل هذه الدولة مل تقم يف التاريخ .بالعك�س ،من اجلائز وامل�ستح�سن �إ�ستجابة �إرادة الغالبية يف �إقامة دولة �إ�سالمية ،لكن �إقامة هذه الدولة لي�ست فري�ضة دينية. حتى عندمـا قامت دولة �إ�سالميـة يف املا�ضي ف�إنها مل تكن قط حكومة دينية ،ذلك �أن الإ�سالم، كما يقول العامل الدكتور �أحمد كمال �أبو املجد «ال يقيم حكومة دينية ،الن ر�ضاء ال�شعب هو م�صدر �شرعية ال�سلطة يف املجتمع الإ�سالمي» .42وقبل �أبو املجد جزم الإمام حممد عبده ب�أن «لي�س يف الإ�سالم ما ي�سمى عند القوم بال�سلطة الدينية بوجه من الوجوه .وال يجوز ل�صحيح النظر �أن يخلط اخلليفة عند امل�سلمني مبا ي�سميه الإفرجن تيوكراتيك» .43وعليه ،ما دام ر�ضاء ال�شعب هو القاعدة واملعيار ف�إن النظام الذي يختاره ال�شعب ،ب�إرادته احلرة ،يكون نظاما �شرعيا مقبوال من الإ�سالم ،كما ي�ؤكد ابو املجد. باخت�صار� ،إن الإ�سالم دين ونظام .هذا النظام ميكن تطبيقه يف املجتمع من دون تدخل الدولة. حتى عندما يتطلب الأمر تدخل الدولة ف�إن هذه ال يقت�ضي �أن تكون �سلطة دينية وال �سلطة معقودة اللواء للم�سلمني وحدهم .هذه هي احلال يف املجتمع الإ�سالمي ،فهل يجوز ان تكون غري ذلك يف املجتمع املتعدد الأديان واملذاهب كاملجتمع اللبناين وال�سوري وامل�صري والعراقي؟ �ألي�س هذا ما حدا ب�أية اهلل ال�شيخ حممد مهدي �شم�س الدين اىل املطالبة بان تكون الدولة يف 44 لبنان بال دين؟ 4 2امل�صدر نف�سه� .أنظر �أي�ضاً� :آية اهلل ال�سيد حممد ح�سني ف�ضل اهلل ،احلركة الإ�سالمية-هموم وق�ضايا ،الطبعة (بريوت :دار املالك للطباعـة والن�شر1993 ،م). 43امل�صدر نف�سه� .أنظر �أي�ضاً :االعمال الكاملة للإمام حممد عبده ،درا�سة وحتقيق1973 ،م. 4 4حممد مهدي �شم�س الدين ،نظام احلكم واالدارة يف الإ�سالم ،الطبعة ( 2بريوت :امل�ؤ�س�سة الدولية للدرا�سات والن�شر1991 ،م).
3
35
ع�صمة رجال الدين
لعل من �أبرز مزايا الإ�سالم �أنه دين بال كهنوت .فالإ�سالم ال يق ّر �أبدا طبق ًة �أو �سلكا خم�صو�صا برجال الدين ،بل �إن تعبري «رجال الدين» ٍ مناف للإ�سالم الذي ال ي�شرتط قـط زيا خا�صا وتراتبيــة حمفوظة للمت�صلني ب�ش�ؤون الدين .فالر�سول (�ص) كان ي�سري عاري الر�أ�س ،يرتدي جلبابا ب�سيطا و�سرتة �أكرث ب�ساطة .ومل ي�ؤثر عنه ،كما يقول ال�شيخ عبد احلميد بخيت� ،أنه �إرتدى عمامة �أو غطاء للر�أ�س �إال يف حاالت نادرة ولل�ضرورة امللحة ،اتقاء لل�شم�س �أو جتنبا للمطر.45 �أكرث من ذلك ،لي�س الإت�صال ب�ش�ؤون الدين من عبادة و�شعائر واجتهاد وت�شريع �أمرا موقوفا على رجال الدين� ،أي على طبقة من النا�س ،كالكهنوت امل�سيحي ،ي�شكلون وا�سطة بني اهلل والإن�سان. فالعلماء والفقهاء هم ،يف الدرجة الأوىل ،اخت�صا�صيون م�شهود لهم بالعلم والف�ضل واالجتهاد، لكن اجتهاداتهم لي�ست ملزمة وهم لي�سوا مع�صومني من اخلط�أ وال ميكن �أن تكون لهم خارج ر�ضــاء اجلماعة (ال�شعب) �أية �سلطة ُعليا تبيح لهم النيابة عن �صاحب ال�شريعة يف تف�سري �أحكامها و�إلزام النا�س بها.46 �إذا كان هذا هو الواقع يف املجتمع الإ�سالمي اخلال�ص �أو ذي الغالبية الإ�سالمية ،فهل يجوز ان يكون غري ذلك يف املجتمع اللبناين �أو ال�سوري �أو امل�صري �أو العراقي املتعـدد الأديان واملذاهب؟ وكيف تكون احلـال عندما يتوىل فقيه ،مبا�شر ًة او مداور ًة ،النيابة عن �صاحب ال�شريعة يف تف�سري �أحكامها و�إلزام النا�س بها ،خ�صو�صا عندما تكون �شريح ٌة من ه�ؤالء من غري امل�سلمني؟ وكيف نحمي جمتمعنا من الإ�ستعمار اجلديد وال�صهيونية اللذين يرتب�صان بنا ويتلهفان على �سوانح وثغرات مثل هذه لينفذا بالإيقاع والفرقة اىل عمق �صفوفنا؟ الإ�سالم والعلمانية
لي�س من �شك يف �أن الإ�سالميني على حق يف رف�ضهم التقليد الأعمى للغرب ،بل هذا التغّرب الذي يتناول معظم وجوه حياتنا ويلحق بها من الفو�ضى والت�شويه ما يجعلنا يف �إرتباك مقيم .غري �أن رف�ض التغّرب لي�س وقفا على الإ�سالميني بل هو موقف ينه�ض به ويتحمل م�س�ؤولياته املثقفون و�أهل الر�أي واملنا�ضلون ال�سيا�سيون املنتمون �إىل �شتى املدار�س والتيارات والإيديولوجيات 45حممد النويهي ،املرحع ال�سابق الذكر. � 46أبلغنا م�صدر موثوق ان �أ�شياخاً يح�سبون �أنف�سهم على الإ�سالم الأ�صويل املتزمت «�أفتوا» يف العراق بعدم جواز عقد القران بني امل�سلمني وامل�سلمات يف حماكم الدولة بل لدى �أ�شياخ جماعتهم ،وعدم جواز مزاولة مهنة احلالقة �أو بيع الثلج يف �أ�شهر احل ّر والقيظ بدعوى �أن هذه املهن مل تكن معروفة يف عهد الر�سول (�ص). 36
الإ�سالم والإ�صالح الديني
القومية والي�سارية والتقدمية احلري�صة على الأ�صالة ،من حيث هي اجلوانب احلية يف الرتاث، حر�صهـا على املعا�صرة مبا هي اجلوانب اخل ّرية يف احلداثة املراد تكييفها مع متطلبات امل�شروع النه�ضوي احل�ضاري العربي. رغم التقاء الإ�سالميني والتقدميني يف موقف معاداة التغ ّرب ف�إن معظم الإ�سالميني يلج�أ اىل مقلدين التحامل على «العلمانيني» بو�ضعهم جميعا يف �سلة واحدة من حيث �إتهامهم ب�أنهم جمرد ّ للتجربة الأوروبية ،الفرن�سية خا�ص ًة ،هذه التجربة التي انطوت على الف�صل بني الكني�سة والدولة يف حني ال كني�سة يف الإ�سالم وال �ضرورة ال�ستحداث تقليد الف�صل بني امل�سجد وال�سيا�سة يف جمتمعاتنا الإ�سالمية املغايرة يف ظروفها ملجتمعات �أوروبا امل�سيحية. احلق �أن هناك فروقاً عميقة بني «العلمانية» العربية (مع حتفظي ال�شديد على ا�ستعمال هذا امل�صطلح) والعلمانية الأوروبية وبالتايل بني «العلمانيني» العرب والأوروبيني .ولعل هذه الفروق تظهر �أكرث ما يكون عند تبيان املرتكزات الأ�سا�سية للعلمانية العربية على النحو الآتي: حرية الإعتقاد عمال بالآيات الكرمية« :ال �إكراه يف الدين» (�سورة البقـرة ،الآية رقم .)256 «ل�ست عليهم مب�صيطر» (�سورة الغا�شية ،الآية رقم �« .)22إنـك ال تهدي من �أحببت ولكن اهلل يهدي من ي�شاء» (�سورة الق�ص�ص ،الآية رقم .)56 قدرة العقل الإن�ساين على اجرتاح حلول مل�شكالت الإن�سان واملجتمع �سواء باقتبا�سها من الن�ص الإلهي� ،أي ال�شريعة� ،أو بتب ّنيه وا ّتباعه قيما وم�سالك مكت�سبة من جتارب احلياة الإن�سانية وظواهرها الطبيعية واالجتماعية .باخت�صار ،قدرة العقل على ّ حل م�شاكل الإن�سان واملجتمع ،والثقة بهذا العقل. امل�ساواة بني الب�شر والتكاف�ؤ يف الفر�ص ب�صرف النظر عن اجلن�س والأ�صل والدين واللون واملنزلة االجتماعية. حياد الدولة �إزاء م�ؤ�س�سات الأديان واملذاهب. ال�شورى والدميقراطية هما ال�سبيل الأف�ضل حلكم املجتمع وتطويره ،ويقومان على حرية التعبـري ،وتعددية الر�أي ،وحكم القانون ،واالحتكام اىل الأغلبية يف �إطار من التوافق الوطني. و�ضع قانون مدين اختياري للأحوال ال�شخ�صية يراعي القواعد والأعراف الأ�سا�سية يف الإ�سالم وامل�سيحية. �إيالء النظر يف ق�ضايا الأحوال ال�شخ�صية �إىل املحاكم املدنية على �أن تكون م�ؤلفة من ق�ضاة خمت�صني بال�شرع. 37
الت�سامح من حيث هو طريق الرتاحم («رحمة الأمة يف �إختالف الأئمة») واحلوار والتفاعل والت�صويب والتطوير. �إن خ�صائ�ص «العلمانية» العربية ،كما حددناها �آنفا ،تختلف اختالفاً وا�ضحاً عن خ�صائ�ص العلمانية الأوروبية .بل �إن هذه اخل�صائ�ص البارزة للعلمانية العربية ذات ال�سياق التاريخي واالجتماعي املختلف ت�ضعها يف �صلب روح الإ�سالم العظيم وقيمه و ُمثله وممار�سة الأخيار من خلفائه وعلمائه وحكمائه� .ألي�س يف �ضوء ذلك قال العالمة ال�شيخ عبد اهلل العاليلي« :الإ�سالم دين علماين»؟ لعله �آن الآوان كي يعلن «العلمانيون» العرب متايزهم عن العلمانية الأوروبية وا�ستقاللهم الذاتي عنها ب�سياق تاريخي خا�ص بهم وذلك ب�شتى و�سائل التفكري والتدبري والبحث واملمار�سة .ولعله �أي�ضا بات من ال�ضروري �إبدال م�صطلح العلمانية ذي امل�ضمون الأوروبي املغاير مب�صطلح جديد يحمل اخل�صو�صية التاريخية واالجتماعية مل�ضمونها العربي املتكامـل مع روح الأديان جميعـا ال�سيما الإ�سالم -واملتكامل مع الإميان الديني عموما .و�إين �أقرتح ،يف هذا املجال ،تعبريالعدالنية (او العدلنة) امل�شتقة من العـدل ،وهـي كلمـة حتمل ،يف املعجم ،جملة معانٍ ت�ؤدي امل�ضمون الأف�ضل واملطلوب� :ضد الظلم واجلور ،ال�سو ّية ،النظري واملثل ،القيمة. هذه املفردات حتمل معاين حرية الإعتقاد ،وامل�ساواة ،والقيمة املتوخاة للإن�سان من حيث هو روح وج�سد وعقل. �إين �ألتزم وغريي الإ�سالم وال�شريعة باقتناع ذاتي نابع من عمق الإميان والوجدان ،وبثقة �صافية نابعة من �صميم القلب والعقل ،فلماذا �إلزام املرء ق�سراً مبا ميكن �أن يختاره طوعاً و�أن يلتزمه حراً؟!
38
الإ�سالم والإ�صالح الديني
فكر اال�صالح والدولة عند مفكري اال�سالم ال�سيا�سي حممد باقر ال�صدر و�سيد قطب منوذجا ً �سعيد �أحمد عبد الرحمن � -أ�ستاذ جامعي
مقدمــة
ظهرت حركات اال�سالم ال�سيا�سي ،على اثر �سقوط اخلالفة العثمانية ،مع رمزيتها ال�سيا�سية املوحدة للم�سلمني .مما ادى اىل ن�شوء ازمة معنوية لدى الكثري من رجال الفكر اال�سالمي ،حيث �سعى بع�ضهم اىل اعادة بناء اخلالفة من جديد. فخرجت �إىل العلن مع بدايات القرن الع�شرين ،ولي�س بعيداً عن نهاية ال�سلطان عبد احلميد الثاين وقيام تركيا العلمنية ،حركة االخوان امل�سلمني ،التي بناها ال�شيخ ح�سن البنا ،على �أ�سا�س �أن تقود االمة وب�شكل تدريجي للو�صول �إىل ا�سرتجاع اخلالفة ولو بلون جديد ،عرب �إقامة «الفرد امل�سلم واال�سرة امل�سلمة واملجتمع امل�سلم والدولة امل�سلمة و�صوال اىل احياء اخلالفة اال�سالمية». ويقول البنا يف ذلك...« :لقد �أراد اهلل �أن نرث هذه الرتكة املثقلة بالتبعات ...و�أن يهيئكم اهلل ()1 العالء كلمته واظهار �شريعته ،والقامة دولته من جديد». ومن رحم الأخوان امل�سلمني خرج �سيد قطب ،حامال فكرة قيام اخلالفة اال�سالمية ومربراتها، نا�شرا �آراءه التي جعلته من �أبرز مفكري اال�سالم ال�سيا�سي يف بدايات القرن الع�شرين. وما هي �إال �سنوات قليلة ،ويخرج �إىل العلن حزب الدعوة اال�سالمية يف العراق ،م�ستلهما حركته ال�سيا�سية من جتربة االخوان امل�سلمني يف م�صر ،في�صبح حزب الدعوة االمنوذج املتقدم بالن�سبة لل�شيعة العراقيني ،الذين مل يعهدو مثل هكذا عمل �سيا�سي حزبي من قبل( ،)2وقد �أتت فكرة بناء اخلالفة اال�سالمية ،بعد ف�شل و�سقوط العديد من حماوالت النهو�ض باالمة ،والتي عرفت منذ اواخر القرن التا�سع ع�شر ،ومنها فكرة اجلامعة اال�سالمية . �إال �أن فكرة اجلامعة اال�سالمية� ،سقطت بعد موت مردديها ومفكريها ،حتت �ضربات اال�ستعمار الربيطاين -الفرن�سي من جهة ،وم�ساعي ال�سلطان عبد احلميد الثاين يف التفرد ال�سلطوي واحلكم 39
امل�ستبد من جهة اخرى ،والفكر الطوراين عرب االحتاد والرتقي من جهة ثانية ،فخرجت �إىل العلن فكرة الوحدة العربية مع بدايات ثورة ال�شريف ح�سني يف احلجاز ،وحماوالته لبناء مملكة عربية يقودها و�أوالده ،مكان الدولة العثمانية املرتهلة والتي ظهر �أن م�صريها ال�سقوط احلتمي على �أثر احلرب العاملية الأوىل. وبقيت فكرة الوحدة العربية هي ال�سائدة طيلة الثالثينات والأربعينيات من القرن املا�ضي لتخرج اجلامعة العربية كفكرة لتطبيق مفهوم الوحدة العربية. �إال �أن هذه الفكرة الأخرية� ،أو املفهوم الأخري� ،سقط على �أثر احلرب العاملية الثانية وبداية احلرب الباردة بني القطبني العامليني :الواليات املتحدة الأمريكية واالحتاد ال�سوفياتي والت�شظي العربي مع قيام الكيان اال�سرائيلي الذي مل تنجح امل�ساعي العربية يف حماربته �أو �إنهائه منذ اللحظات الأوىل على ن�شوئه. وخرجت �إىل العلن �صراعات الأقليات واالثنيات ،والتي ّ تغذت من هذا القطب العاملي �أو ذاك ،وبد�أت التق�سيمات اجلديدة داخل العامل العربي ال�صغري والعامل اال�سالمي الوا�سع ،بني مع�سكري الر�أ�سمالية وال�شيوعية ،وحاول جمال عبد النا�صر نقل العرب نحو «فكرة الآ�سيوية - الأفريقية» و «احلياد االيجابي» ،و «الوحدة العربية من خالل وحدة م�صر و�سوريا»� ،إال �أن كل هذا �سقط �أمام اتفاق «يالطا «ومفهوم «ال�شرق الأو�سط « ،لتخرج �إىل العلن من جديد فكرة «اخلالفة اال�سالمية» و «الدولة اال�سالمية» و تطبيق ال�شريعة اال�سالمية»(.)3 ومن خالل بحثنا هذا �سنتطرق �إىل فكرة احلاكمية ونظام احلكم عند مفكري اال�سالم ال�سيا�سي من خالل «ال�سيد حممد باقر ال�صدر» و «�سيد قطب» .فهل اتفقت مدر�ستا الأخوان امل�سلمني و�آل البيت على اال�صالح و�شكله؟ وكيف ظهرت بوادر هذا اال�صالح من خالل ال�صدر و قطب ؟ وهو ما �سنحاول الإجابة عنه من خالل درا�ستنا هذه.. كان جمال الدين الأفغاين قد دعا �إىل �إعادة النظر يف اال�سالم من زاوية تطور الع�صر والعقل، لذا دعا �إىل �أهمية فتح باب االجتهاد ،فاال�سالم عند الأفغاين ال يخالف احلقائق العلمية ،ومن الأهمية مبكان العودة �إىل الت�أويل عند ظهور �أي تناق�ض بني العلم والدين(.)4 «ما معنى �أن باب االجتهاد م�سدود؟ وب�أي ن�ص ُ�س َّد باب االجتهاد؟ �أو �أي �إمام قال« :ال ينبغي لأحد من امل�سلمني بعدي �أن يجتهد ليتفقه يف الدين� ...أو �أن يجد ويجتهد ليتو�سع مفهومه منهما واال�ستنتاج بالقيا�س على ما ينطبق على العلوم الع�صرية وحاجات الزمان و�أحكامه»(.)5 اما ال�شيخ حممد عبده فذهب �إىل �ضرورة حترير الفكر من التقليد ،ودعا �إىل االنفتاح على اجلوانب االيجابية من احل�ضارة الغربية «يجب حترير الفكر من قيد التقليد ،وفهم الدين على طريقة �سلف هذه الأمة قبل ظهور اخلالف ،والرجوع يف ك�سب معارفه �إىل ينابيعها الأوىل ...والنظر �إىل العقل 40
الإ�سالم والإ�صالح الديني
باعتباره قوة من �أف�ضل القوى االن�سانية ،بل هو �أف�ضلها.)6(»... �أفكار اال�صالح والتنوير هذه التي حملها كل من جمال الدين الأفغاين وحممد عبده ،دفعت بال�شيخ حممد ر�شيد ر�ضا �إىل املقارنة بينهما ،بقوله« :وقد �شرع هذان احلكيمان املجددان يف م�صر بنوعي التجديد ال�سيا�سي والعلمي اللذين �سي�شمالن جميع �أنواع التجديد التي ا�شتدت �إليها حاجة الأمة»(.)7 وي�أتي من بعدهما ،عدد من املفكرين وامل�صلحني ،الذين �سارو على نف�س النهج واملنهج مع بع�ض التعديل يف الر�ؤى و�أ�سلوب التطبيق فيذهب عبد العزيز الثعالبي �إىل ان على النا�س �أن تهتدي من تلقاء نف�سها ،من خالل اختيارهم بني احلق والباطل» فال يجوز �أن تفر�ض عليهم الآراء»(.)8 ويذهب حممد ر�شيد ر�ضا� ،إىل �أن نه�ضة العامل اال�سالمي حتتاج �إىل العلوم والأعمال ،و�إىل احلرية ال�شخ�صية وا�ستغالل الفكر ،و�إباحة حرية االختالف»(.)9 وذهب عبد الرحمن الكواكبي� ،إىل اعتبار �أن اجلهل الذي يعي�شه العامل العربي واال�سالمي �إمنا م ّرده �إىل اال�ستبداد ،وربط ما بني اال�ستبداد ال�سيا�سي والديني معترباً �أن «امل�شكلة بينهما �أنهما حاكمان �أحدهما يف مملكة الأج�سام والآخر يف عامل القلوب»( )10ثم ي�صل �إىل نتيجة وهي�« :أن البدع التي �شو�شت االميان و� ّشوهت الأديان تكاد تت�سل�سل بع�ضهما من بع�ض ،وتتولد جميعها من غر�ض واحد هو املراد� ،أال وهو اال�ستعباد»(.)11 هذه الدعوات �إىل ا�ستخدام العقل ،وجدت �صداها �أي�ضاً عند ال�شيخ حممد ح�سني النائيني ،وهو من الفقهاء امل�صلحني ال�شيعة ،الذي �سعى �إىل «قولبة املفاهيم الدينية يف �أوعية �سيا�سية حديثة... حماولة لإي�صال البيان الفقهي ال�شيعي مع منظومة املفاهيم ال�سيا�سية والد�ستورية احلديثة»(.)12 ال�سيد حممد باقر ال�صدر وطرق اال�صالح
ال�سيد حممد باقر ال�صدر ()1980 -1935 ولد ال�سيد حممد باقر ال�صدر يف الكاظمية عام ،1935وكان والده العالمة ال�سيد حيدر ال�صدر ذا منزلة علمية� ،أما جده ال�سيد ا�سماعيل ال�صدر ،فيعترب �أحد زعماء الطائفة ال�شيعية .والدته �أبنة �آية اهلل ال�شيخ عبد احل�سني �آل يا�سني من �أعظم علماء ال�شيعة(.)13 تعلم يف الكاظمية الدرو�س الدينية الأوىل ،لينتقل بعدها �إىل النجف الأ�شرف حيث تتلمذ على يدي الأ�ستاذين �آية اهلل ال�شيخ حممد ر�ضا �آل يا�سني ،و�آية اهلل العظمى ال�سيد �أبو القا�سم اخلوئي. و�أكمل درو�سه احلوزوية يف �سن الثامنة ع�شرة ،وبد�أ بالتدري�س(. )14 له العديد من امل�ؤلفات تزيد على الع�شرين م�ؤلفاً كانت له مواقف جتاه النظام البعثي يف العراق. 41
اعتقل عامي 1971و )15(1974و�أعدم عام 1980مع �شقيقته بنت الهدى(.)16 تقوم الدولة اال�سالمية عند ال�سيد حممد باقر ال�صدر «من ت�أمالت كونية و�إيحاءات كلية �أو وعي �إ�ستقرائي �شمويل للنهو�ض الدينية ،الأمر الذي يف�صله عن �سياق الفقيه ال�شيعي امل�سكون بالن�صو�ص الدينية»(.)17 فال�سلطة عند ال�سيد ال�صدر ال تكون �إال بدعم من القاعدة ال�شعبية «ال ميكن حتقيق عملية التغيري �إ�سالمياً ما مل تكن هذه ال�سلطة مدعمة بقواعد �شعبية واعية تعي �أهداف تلك ال�سلطة وت�ؤمن بنظرياتها يف احلكم»(.)18 وهو على الرغم من دعوته �إىل �أن يكون على ر�أ�س هرم ال�سلطة «الفقيه» �إال �أنه دعا �إىل و�ضع هذا الفقيه حتت رقابة املجتمع ،فطاملا �أن الفقهاء يفتقرون �إىل الع�صمة ف�إن «رقابتهم على الدولة تتطلب رقابة املجتمع عليهم»( )19وهو بذلك ي�صل �إىل فر�ض رقابة الفقهاء على الدولة من جانب ،وفر�ض الرقابة على الفقهاء �أنف�سهم من جانب �آخر. فاال�صالح الذي يدعو �إليه ال�سيد حممد باقر ال�صدر يف العامل اال�سالمي ب�شكل عام ،يكون �إذاً من خالل الدولة اال�سالمية التي ترتكز يف عقيدتها على �أ�سا�س االميان باهلل باعتبار �أنه «هو الرتكيب العقائدي الوحيد الذي ميد احلركة احل�ضارية للإن�سان بوقود ال ينفذ» ممث ًال هذا الرتكيب يف تعاليم القر�آن الكرمي للإ�سالم التي حتدد املعامل الأخالقية(.)20 وطريقة ن�شوء الدولة اال�سالمية عند ال�سيد حممد باقر ال�صدر ،يف مفهومها تقرتب من مفهوم الدولة التي قال بها «جمال الدين الأفغاين ،وال�شيخ حممد عبده ،وال�شيخ النائيني »..والتي ظهرت مع الت�أثريات من الأفكار احلديثة التي تدور حول :الدولة الدميقراطية -الد�ستور - ال�سلطات -املر�أة -احلرية -القانون -االقت�صاد ونظامه -النظام االجتماعي.»... فكان ال�سيد حممد باقر ال�صدر �أحد الفقهاء املجددين والتغيرييني الذي �سعى �إىل تكييف �أفكاره مع واقع املجتمع. وهو لذلك يدعو ويف �سبيل اال�صالح املن�شود �إىل: �أو ًال :يذهب ال�سيد ال�صدر �إىل االعتقاد� ،أن املناهج الفكرية يف العامل اال�سالمي حتمل بع�ض الثغرات ،لذلك فهو يدعو �إىل تنويع املناهج املنطقية كما املناهج الفكرية يف الدرا�سات الدينية ،مما ي�ساهم يف الو�صول �إىل املزيد من املعلومات واملكت�شفات(.)21 ثاني ًا :االنتقال يف تف�سري القر�آن الكرمي« ،من التف�سري التجزيئي �إىل التف�سري املو�ضوعي التوحيدي، الذي يوحد بني التجربة الب�شرية والقر�آن» وهو بذلك ي�صوغ املركب النظري القر�آين حيال متطلبات احلياة املتنوعة « ،وبذلك يدعو ال�سيد ال�صدر �إىل ال�صعود من الواقع �إىل الن�ص «�أي درا�سة م�شكالت الواقع� ،أ�سئلة الواقع ،متغرياته ،ظواهره� ،أ�شكاله ،ومن هنا يكون ا�صطالح املو�ضوعية»(.)22 42
الإ�سالم والإ�صالح الديني
ثالث ًا :انتقد ال�سيد ال�صدر الفقه الفردي الذي �أطلق عليه م�صطلح «انكما�شي» ،وهو يدعو للإنتقال بالفقه �إىل فقه املجتمع والدولة ،ودعا �إىل «تنمية وتر�سيخ املنحى املو�ضوعي يف الفقه» . واعترب �أن انكما�ش الفقه من الناحية املو�ضوعية جنم عنه ت�سرب الفردية �إىل نظرة الفقيه نحو ال�شريعة نف�سها ،ف�إن الفقيه ب�سبب تر�سخ اجلانب الفردي من تطبيق النظرية اال�سالمية للحياة يف ذهنه ،واعتياده النظر �إىل الفرد وم�شاكله ،عك�س موقفه هذا على نظرته �إىل ال�شريعة ،فاتخذت طابعاً فردياً ،و�أ�صبح ينظر �إىل ال�شريعة يف نطاق الفرد كما ان «هيمنة النزعة الفردية على التفكري الفقهي حجب عقل الفقيه عن التفكيك بني اخلطابات ال�شرعية املوجهة للأمة واخلطابات املوجهة للأفراد ،لذلك طالب ال�صدر �إىل اعادة بناء الفقه �أفقياً وعامودياً ،لكي يتطور مع تطور التجربة الب�شرية وامتدادها»(.)23 بذلك نرى �أن م�شروع ال�سيد ال�صدر يدعو �إىل «ت�أ�صيل النظرية الفقهية يف غري واحد من حقول فقه املجتمع والدولة املهمة» وهو مل يهتم فقط باكت�شاف النظريات االقت�صادية وال�سيا�سية« ،بل جتاوز ذلك �إىل اعتماد بع�ض الأدوات اجلديدة يف ا�ستنطاق ن�صو�ص ال�شريعة ،والبحث عن �أُطر بديلة ،ترفد املجتمع مبواقف ال�شريعة املرنة التي يقت�ضيها الزمان»(.)24 كما تطور فكر ال�سيد ال�صدر يف جمال اال�صالح داخل املجتمعات اال�سالمية ،ويف الدفاع عن الفكر اال�سالمي ،مقابل الفكر املارك�سي واملادية ،فكان �أن و�ضع كتاب «فل�سفتنا واقت�صادنا» ،ثم «الأ�س�س املنطقية للإ�ستقراء «الذي دعا من خالله �إىل الإتيان مبناهج منطقية جديدة قادرة على الدفاع عن قيمنا ومفاهيمنا»(.)25 �أما الدعوة �إىل تقليد الغرب والأخذ منه ،ف�إن لل�سيد ال�صدر انتقادات وجهها للإن�سان الغربي وجمتمعه ونظامه قائ ًال« :االن�سان الأوروبي جعل احلرية هدفاً وهذا �صحيح ،ولكنه �صيرّ هذا الهدف مث ًال �أعلى بينما هذا الهدف لي�س �إال �إطاراً يف احلقيقة ،وهذا االطار بحاجة �إىل حمتوى وم�ضمون ،ف�إذا ُج ّرد هذا االطار من حمتواه �سوف ي�ؤدي �إىل الويل والدمار»( )26ويو�ضح ال�سيد ال�صدر�« :أنت ال ت�ستطيع �أن ت�ضع االن�سان ب�أن تك�سر عنه القيود وتقول له �إفعل ما �شئت»(.)27 لذلك دعا ال�سيد ال�صدر �إىل تنظيم �أمور الدولة واملجتمع ب�أن يكون لدينا مطلق�« :إمنا املطلق الذي يحارب من �أجله االن�سان ويبقى هو ذاك املطلق احلقيقي ،يبقى هو اهلل �سبحانه وتعاىل»(.)28 ويو�ضح ال�سيد ال�صدر ذلك ،رابطاً بينه وبني االن�سان يف �سبيل قيام الدولة والنظام« :يفر�ض وجود �صلة مو�ضوعية بني االن�سان وهذا املثل الأعلى ،بينما املثل الأخرى ال�سابقة كانت �إن�سانية ،كانت �إفرازاً ب�شرياً ..هناك طواغيت وفراعنة على مر التاريخ ن�صبوا من �أنف�سهم �صالت مو�ضوعية بني الب�شر وبني �آلهة ال�شم�س� ،آلهة الكواكب ،ولكنها �صلة مو�ضوعية مزيفة.»... لذلك فهو يدعو �إىل �أن يكون هنالك �صلة مو�ضوعية تتج�سد يف النبي ودور النبوة»(.)29 43
ولكي ن�صل �إىل هذا امل�ستوى «ال ّبد للب�شرية من �أن تخو�ض معركة �ضد االلهة امل�صطنعة� ،ضد تن�صب نف�سها ق ّيماً على الب�شرية وحاجب وقاطع طريق تلك الطواغيت واملثل املنخف�ضة التي ّ بالن�سبة للم�سرية التاريخية ،ال ُب ّد من معركة �ضد هذه الآلهة ،ال ُب ّد من قيادة تتبنى هذه املعركة، وهذه القيادة هي االمامة ،هي دور االمام ،االمام هو القائد الذي يتوىل هذه املعركة»(.)30 بذلك ي�صور لنا ال�سيد ال�صدر ،امل�ستقبل والواقع ،فهو ال يقبل بالأخذ من الغرب كما هو الغرب. ويف �سبيل قيام الدولة العادلة عند ال�صدر ،يجب �أن ن�ضع ن�صب �أعيننا �أننا ن�سعى �إىل «املطلق «الذي هو اهلل ،ولكي ن�صل �إليه حقيقة ،يجب تدمري �آلهة ال�شم�س ولكي ندمرها يجب �إنهاء املثل العليا االن�سانيةالب�شرية الطاغية ،فن�صل �إىل �إيجاد �صلة مع املطلق يكون عرب «النبي» ومن بعده «االمام» وتتطور الفكرة عند ال�سيد ال�صدر لن�صل �إىل الفقيه الذي يو�ضع على ر�أ�س هرم ال�سلطة، وحتت رقابة املجتمع. هكذا �أعاد ال�سيد ال�صدر اال�صالح يف املجتمع اال�سالمي �إىل الدين ،وبطريقة متطورة تجُ اري الع�صر ،فكان ال�سيد حممد باقر ال�صدر ،فقيه القرن الع�شرين ،و�ضع �أعظم النظريات حتى يف جمال االقت�صاد (اقت�صادنا) ويف الفكر اال�سالمي (فل�سفتنا) ،لتبقى �سل�سلة العلماء امل�صلحني م�ستمرة منذ جمال الدين الأفغاين ،مع الأخذ بعني االعتبار ظروف املجتمعات اال�سالمية وظروف تطور الع�صر ،التي جعلت من حممد باقر ال�صدر م�صلحاً من طراز مميز فاق �أقرانه. فهو كما ي�صفه الباحث علي فيا�ض« :ابن خلدون الفكر الديني املعا�صر ،حيث يعترب االو�سع ()31 واالعمق يف م�ضمار التجديد». �سيد قطب وطرق اال�صالح)1966 - 1906( :
هو �شاعر و�أديب وناقد ،دافع عن حركة التجديد يف الأدب العربي �إىل جانب طه ح�سني والعقّاد ،)32(،در�س يف الك ّتاب وتخرج من دار العلوم يف ق�سم املعلمني حائزاً على لي�سان�س يف فن التعليم( )33وكان لطه ح�سني والعقاد �أثراً يف �شخ�صية �سيد قطب وت�أثره بالغرب كنموذج جدير بالتقليد يف البدايات ،خ�صو�صاً و�أن قيم الغرب كانت مقبولة من النواحي ال�سيا�سية واالجتماعية لدى الكثري من املفكرين يف العاملني العربي واال�سالمي(.)34 برز �سيد قطب مع م�ؤلفاته الأدبية واالجتماعية وال�سيا�سية كما يف م�شاركاته يف جماالت النقد الأدبي ومناهجه و�أ�ساليبه ،ويف نقده لالحوال االقت�صادية واالجتماعية وال�سيا�سية التي كانت �سائدة يف العهد امللكي يف م�صر ،كما �شارك يف احلياة ال�سيا�سية من خالل انت�سابه �إىل حزب «ال�سعديني»(.)35 44
الإ�سالم والإ�صالح الديني
كانت رحلته �إىل الواليات املتحدة الأمريكية للدرا�سة فيها عام ،1948نقطة حتول مهمة يف حياته، حيث دفعته �إىل رف�ض �أ�سلوب احلياة الغربية وتعاطفه مع االخوان امل�سلمني يف م�صر ،الذين انت�سب �إليهم فيما بعد عام .)36(1952 وكان كمنظر يف حركة االخوان قد لعب دوراً يف «جتديد املذهبية اال�سالمية و�إعادة توجيهها» كما «�أنه قدم ا�ستمراراً بني الأخوان وف�صائلها املتمردة» ،وكان «لتحديه للدولة ،وموته �أن و�ضعا �أمام الن�ضاليني ال�شباب منوذجاً لل�شهادة ليحتذوا بها(.)37 �أما �أبرز �أفكار قطب اال�صالحية فقد ظهرت من خالل م�ؤلفاته وهي: �أو ًال :رف�ض الأنظمة والقوانني الو�ضعية بل يجب على االن�سان احلكم بقانون اهلل( )38فالت�شريع عند �سيد قطب هو �ش�أن �إلهي ،والقانون اال�سالمي هو �أحد مظاهر �إرادة اهلل التي حتدد واجبات وحقوق الأفراد والدولة (.)39 ثاني ًا :ال�سلطة هي هلل ،وبالتايل ف�إن اخل�ضوع ل�سلطة �أو �إرادة �شخ�ص �أو جمموعة هو �إ�شراك يف حال تناق�ض �إرادة الفرد �أو الأمة للر�سالة االلهية وملبادئ القر�آن الكرمي( ،)40وبالتايل ي�ؤمن قطب ب�أن �سلطة احلاكم هي تفوي�ض من قبل ال�شعب وحتجب يف عدة حاالت� ،أولها وابرزها هي عدم التزامه �أو تطبيقه الت�شريع اال�سالمي(.)41 ثالث ًا :يرف�ض قطب فكرة التو�صل �إىل النظام اال�سالمي عندما يحكم رجال الدين ،فهو ال ي�ؤمن برجل الدين يف اال�سالم ،ورجال الدين ال ميثلون عنده ،اهلل على الأر�ض ،فهم لي�سوا ب�أكرث من �أ�شخا�ص تخ�ص�صوا بالدرا�سات اال�سالمية وهذا ال مينحهم ال�سلطة وال�شرعية التي هي للم�سلمني(.)42 رابع ًا :التزام ال�سلطة بال�شورى يف �سبيل وجود الدولة وت�سيري �أمورها ،فال�شورى هي مبد�أ احلياة ال�سيا�سية يف اال�سالم ويف �أ�سلوب اختيار ال�سلطة ،الذي يجب �أن ي�أخذ ال�شكل ال�شعبي(.)43 خام�س ًا :خلق جمتمع �إ�سالمي قائم على مبادئ اال�سالم من �شريعة وعدالة اجتماعية ،والو�صول �إىل ذلك يكون عرب «الثورة» فا�سا�س الدعوة اال�سالمية هو الثورة التي ت�سعى �إىل :حترير االن�سان من اخل�ضوع للإن�سان -الثورة �ضد ال�سلطة الطاغية -الر�ضوخ للإ�ستعباد �شرك باهلل وبالتايل ال ُب ّد من هذه الثورة «لي�س الطريق �أن تخل�ص الأر�ض من يد طاغوت روماين �أو طاغوت فار�سي� ،إىل يد طاغوت عربي ،فالطاغوت كله طاغوت� ،إن الأر�ض هلل ويجب �أن تخل�ص هلل ،وال تخل�ص هلل �إال �أن ترتفع عليها راية «ال اله �إال اهلل»(.)44 �ساد�س ًا� :أ�سمى تنظيم عند �سيد قطب �إذاً ،هو القائم على اال�سالم ،وبالتايل ف�إن قطب يرف�ض الأنظمة الأخرى التي ال تلتزم بالدين ،مهما كانت« ،وت�سود املجتمع عقائد وت�صورات وقيم و�أو�ضاع كلها مغاير لعقيدته [م�سلم] وت�صوره وقيمه وموازينه ،فال يفارقه �شعوره ب�أنه الأعلى ،وب�أن 45
ه�ؤالء كلهم يف املوقف الدون»(.)45 �سابع ًا :مفهوم القومية العربية والوحدة اال�سالمية ،ال تعار�ض بينهما عند �سيد قطب« ،ف�إذا نحن حررنا الأر�ض العربية ،ف�إنا نكون قد حررنا ب�ضعة من �أر�ض الوطن اال�سالمي ،فن�ستعني بها على حترير �سائر اجل�سد الواحد الكبري» ،وهو مفهوم يتبناه الأخوان امل�سلمون الذين يعرفون �أنف�سهم ب�أنهم «حركة عاملية» ،ويف الوثيقة ال�صادرة عنهم ُيع ّرف الأخوان فل�سفتهم�« :إن فل�سفتنا القومية هي ( اال�سالم ) ،اال�سالم ال مبفهومه الديني الكن�سي ،بل اال�سالم مبفهومه الوا�سع ،وفل�سفته ال�شاملة للحياة ،ومبادئه العامة يف الأخالق ،وت�شريعه املدين العاملي.)46(»... ثامن ًا :رف�ض �سيد قطب للعالقة بني اال�سالم والفل�سفة ،والتي نادى بها جمال الدين الأفغاين وحممد عبده ،فعار�ض علناً حممد عبده ،و�أباح للم�سلمني الأخذ من الغرب العلوم التي ينتفع بها يف احلياة املادية� ،إال �أنه حذر من العلوم االن�سانية واالجتماعية ،ولتجنب الت�أثر بالغرب وب�أفكاره، دعا �إىل بناء الرتبية وطرائق التفكري وال�شعور على �أ�س�س �إ�سالمية(.)47 ومع �أن �سيد قطب اعرتف بجهد حممد عبده ،ب�إعالئه �ش�أن العقل ومواجهة اجلمود� ،إال �أنه اعترب �أن حممد عبده جعل العقل الب�شري نداً للوحي يف هداية االن�سان ،وهو �أي�ضاً ينتقد موقف عبده الداعي �إىل �إباحة ت�أويل الن�ص الديني ليوافق مفهوم العقل ،واعتربهذا املوقف خطراً على اال�سالم «و�إذا �أوجبنا الت�أويل ليوافق الن�ص هذه العقول الكثرية ف�إننا ننتهي �إىل الفو�ضى»(.)48 يقول �شريف يون�س« :لقد كان ذلك هو منط الت�أثري الذي كان يحلم به �سيد قطب ،فهو مل يكن �صاحب دعوة عقالنية ،وال كان يخاطب عقول اجلماهري ،و�إمنا كان ينتظر منهم �أن يتبعوه ،وفق نظرته النخبوية الأ�صيلة ،بت�أثري فعل حا�سم قوي ،يهز امل�شاعر� ،سواء كان مقا ًال ملتهباً �أو �شجاعة �أدبية ،وهو ما ي�صل �إىل ذروته يف اال�ست�شهاد»(.)49 لقد �سعى �سيد قطب ،ويف �سبيل بناء دولة اال�سالم �إىل اال�صالح االجتماعي ،الذي ربطه ب�شروط قيام دولة اال�سالم ،فهو يعترب �أن «العقلية اجلديدة �أو العقيدة اجلديدة ينبغي �أن تقوم على �أ�سا�س �أن الطبقات الفقرية هي املنتج احلقيقي للرثوة العامة لأنها تنتج �أكرث مما ت�ستهلك ،فمن حق هذه الطبقات الفقرية �إذن �أن تعي�ش كما يعي�ش الآخرون ...والعقلية اجلديدة �أو العقيدة اجلديدة تلزم الدولة �أن حتقق هذا الأ�سا�س العادل ب�سلطانها وت�شريعها و�ضرائبها وم�شروعاتها وكادرها»(.)50 بذلك يطرح �سيد قطب ر�ؤية وا�سعة للإ�صالح داخل املجتمع ،يطلق عليه مفهوم «املجتمع املتوازن» ،ي�شمل العدالة االجتماعية وحتقيق تكاف�ؤ الفر�ص وتوفري الرعاية ال�صحية والتعليم لكل �أفراد املجتمع ،كما حماربة الف�ساد واملح�سوبية وما يقف يف وجه امل�ساواة( )51بذلك يحدد �سيد قطب جمتمعاً متوازناً يعي�ش �أفراده يف بيئة تقل فيها الفوارق االجتماعية ،وهو جمتمع ر�أ�سمايل قريب من اال�شرتاكية الربيطانية(.)52 46
الإ�سالم والإ�صالح الديني
لقد �أدرك �سيد قطب «جانبا من االبعاد الثورية الكامنة يف م�صطلح اخلالفة التي غفل عنها الكثري من املف�سرين» ،حيث ربط �سيد قطب اخلالفة مب�سالة الزواج والتنا�سل «كو�سيلة لتحقيق ا�ستمرارية االن�سان واحلياة على االر�ض» ،واخلالفة عنده كانت او�سع من العملية اجلن�سية ،فهي لي�ست هدفا بحد ذاته« ،بقدر ماهي �شرط من بني �شروط متداخلة يفرت�ض فيها �أن ت�ؤدي �إىل االبداع» .هذا هو ()53 املجتمع الذي �سعى �إليه قطب ،جمتمع االبداع. لقد كانت �أفكار �سيد قطب هذه ،قد تلت احلرب العاملية الثانية التي عرفتها م�صر ،وانعكا�س نتائجها ال�سيا�سية واالجتماعية واالقت�صادية ،مع احتالل اجنليزي وملك فا�سد ،وطبقة امل ّالك واالقطاع ،فيما بقية ال�شعب على حالة من الفقر واجلوع واحلرمان( .)54ومع ظهور ال�شيوعية ون�شاطاتها ،فا�ستخرج �أفكاره اال�صالحية االقت�صادية من خالل القر�آن الكرمي ،ولي�س من التوجيهات اال�صالحية من ال�شيوعيني �أو الغربيني ،فكانت «العدالة االجتماعية «عنده ،ترف�ض امل�صطلح ال�شيوعي �أو اال�شرتاكي ،فكان كتابه «العدالة االجتماعية يف اال�سالم» ،الذي حوله من كاتب �إىل مفكر �إ�سالمي(.)55 اعتقل �سيد قطب عام 1954ليفرج عنه بعفو �صحي عام ،1964ثم �أعيد �سجنه عام 1965ليحكم عليه باالعدام عام .)56(1966 ويف وثيقة كتبها �سيد قطب يف ال�سجن قبل �إعدامه يذكر فيها اال�سباب التي من �أجلها �سيعدم «�أنه �آن �أن يقدم �إن�سان م�سلم ر�أ�سه ثمناً لإعالن وجود حركة �إ�سالمية وتنظيم قام �أ�ص ًال على ا�سا�س �أنه قاعدة لإقامة النظام اال�سالمي (الأخوان امل�سلمون)� ،أياً كانت الو�سائل التي �سي�ستخدمها لذلك ،وهذا يف عرف القوانني الأر�ضية جرمية ت�ستحق االعدام! ،...وقد كنت �أ�ؤدي واجبي مبفهومي اال�سالمي متعام ًال فيه مع اهلل بغ�ض النظر عن نظرة القوانني والهيئات الب�شرية» وقد قدم �سيد قطب ر�أ�سه ثمنا الفكاره على �أعواد امل�شانق ،ومن �أقواله اخلالده والتي جعلته يف م�صاف العظماء «ان كلماتنا �ستبقى ميتة ال حراك فيها هامدة �أعرا�س من ال�شموع ،ف�إذا متنا من �أجلها انتف�ضت وعا�شت بني االحياء ،واالحياء ال يتبنون االموات»(.)57 عنا�رص االلتقاء بني القطبية وال�صدرية
لقد تواجدت العديد من �أوا�صر العالقة والروابط التي تربط بني حزب الدعوة العراقي ،الذي كان ال�سيد حممد باقر ال�صدر مر�شده الروحي ،والأخوان امل�سلمني يف م�صر ،وكان لظهور فرع للأخوان امل�سلمني عام 1948يف العراق وجتربتهم ال�سيا�سية ،م�صدر �إلهام ل�شيعة العراق ،الذين مل يعرفوا من قبل العمل احلزبي ،وكان «لل�صحيفة اال�سالمية» التي �أ�س�سها الأخوان امل�سلمون يف العراق �أن �شهدت رواجاً يف و�سط احلوزة ال�شيعية يف كل من النجف وكربالء ،كما كان لأفكار 47
ح�سن البنا و�سيد قطب يف الفكر والتغيري� ،أن حظي باهتمام الدعاة ال�شيعة ،واعترب كتاب «معامل يف الطريق» مرجعاً للدعاة وم�صدراً من م�صادر طرق التن�شئة احلزبية يف ال�ستينات وال�سبعينات من القرن الع�شرين. فكان لتنظيم الأخوان امل�سلمني» التجربة الأوىل واحلركة الأم جلميع التنظيمات اال�سالمية وال�سيا�سية يف العامل ،فقد جاءت جميعاً حماكية �أو متفرعة منه�،أو مدينة له (ح�سن البنا) بالأر�ضية التي هي�أها»(.)58 بذلك ن�شّ طت جتربة الأخوان وعي �شيعة العراق ،يف وقت ظهرت ال�شيوعية بقوة على ال�ساحة العراقية(.)59 ويف هذه الظروف ظهر ال�سيد حممد باقر ال�صدر وظهرت �أفكاره ،لذلك ف�إننا جند الكثري من نقاط االلتقاء بينه وبني �سيد قطب و�أبرزها. ال�سلطة هي اهلل عند �سيد قطب( )60واملطلق احلقيقي عند ال�سيد حممد باقر ال�صدر ،والذي يحارب لأجله االن�سان هو اهلل �سبحانه وتعاىل(.)61 رف�ض الأنظمة والقوانني الو�ضعية عند �سيد قطب ودعا �إىل �أن على االن�سان �أن يحكم بقانون اهلل(.)62 كما دعا ال�سيد حممد باقر ال�صدر �إىل الدولة اال�سالمية التي ترتكز يف عقيدتها على �أ�سا�س االميان باهلل(.)63 التزام ال�سلطة بال�شورى يف �سبيل وجود الدولة وت�سيري امورها ،و�أ�سلوب اختيار ال�سلطة يجب �أن ي�أخذ ال�شكل ال�شعبي عند �سيد قطب(.)64 دعا ال�سيد ال�صدر �إىل �أن يخ�ضع الفقيه ،ر�أ�س الهرم يف دولته� ،إىل رقابة املجتمع الذي ي�ستطيع �أن يقيله �إذا �شاء(. )65 �سعى �سيد قطب �إىل اال�صالح االجتماعي ،ورف�ض الفكر اال�شرتاكي ال�شيوعي والر�أ�سمايل، بل دعا �إىل االقت�صاد اال�سالمي( )66وال�سيد حممد باقر ال�صدر و�ضع نظرياته االقت�صادية اال�سالمية ،يف كتاب «اقت�صادنا «مقابل النظريات اال�شرتاكية وال�شيوعية والر�أ�سمالية(.)67 وبغ�ض النظر عن �أ�سلوب تطبيق احلكم اال�سالمي� ،أو بناء دولة اال�سالم عند الرجلني :قطب - ال�صدر ،يبقى �أن نقول �أنهما مفكران ا�سالميان ،يت�شاركان �أي�ضاً يف نهاية مت�شابهة ،فالأول �أعدم على يد النظام امل�صري والآخر �أعدم على يد النظام العراقي -وكالهما ترك ت�أثرياً يف م�سار تاريخ العامل العربي واال�سالمي يف القرن الع�شرين ،بغ�ض النظر عن االختالف بينهما ،ف�إن مدر�سة االخوان امل�سلمني ومدر�سة �آل البيت حاولتا �أن تنه�ضا بالأمة من �سباتها الطويل ،فكانت �أبرز 48
الإ�سالم والإ�صالح الديني
حماولتني عرفهما اال�سالم ال�سيا�سي بعد ف�شل حماوالت اال�صالح التي قام بها رجاالت ع�صر النه�ضة يف �أوا�سط و�أواخر القرن التا�سع ع�شر(.)68 واخريا �إذا �أردنا التق�سيم والتحليل ،لوجدنا �أن ح�سن البنا هو الذي بنى ،و�سيد قطب هو الذي �أط ّر و حممد باقر ال�صدر ت�أثر وطورٌّ ، وكل من بيئته ال�صغرى �إىل العامل الوا�سع ،واذا كان البقاء لال�صلح فكريا واالقوى عقائديا فقد ا�ستطاع اتباع الرجلني ومريدوهم من حتقيق وتطبيق افكارهم على �أر�ض الواقع بعد رحيلهما وذلك من خالل و�صول حزب الدعوة �إىل �سدة احلكم يف العراق، وو�صول االخوان امل�سلمني يف م�صر عندما ُ�سمح ل�صناديق االقرتاع �أن تقول ما بداخلها الول مرة .فلعل دماء الرجلني روت هذا احللم حتى �أ�صبح حقيقة واقعية عا�شها �أهل العراق وم�صر ولو لفرتة ب�سيطة.
املراجع:
� -1صالح الدين اجلورج�شي ،ق�ضية التكليف بني امل�س�ؤلية ودعوة احلق ،جملة التفاهم ،العدد � ،43شتاء ،2014 �ص.45 -2ف�ؤاد ابراهيم ،الفقيه والدولة ،بريوت :دار الكنوز االدبية ،طبعة � ،1998 ،1ص.333-332 -3وجوه االجتهاد والتجديد يف الفكر العربي اال�سالمي يف القرن الع�شرين ،جملة االجتهاد ،العدد 9خريف � ،1990ص.5 -4ماهر ال�شريف ،جتديد اخلطاب الديني �أم �إحياء خطاب العلمانية امل�ؤمنة ،جملة الطريق ،العدد الرابع ،متوز � -آب � ،2003ص.21 -5قدري قلعجي ،ثالثة من �أعالم احلرية ،بريوت� ،شركة املطبوعات للتوزيع والن�شر ،طبعة � ،2013 ،3ص.21 -6حممد عمارة ،االمام حممد عبده ،بريوت :دار الوحدة� ،1985 ،ص.47 -7قدري قلعجي ،ثالثة من �أعالم احلرية ،املرجع ال�سابق� ،ص.247 -8عبد العزيز الثعالبي ،روح التحرر يف القر�آن ،بريوت :دار الغرب اال�سالمي� ،1985 ،ص.98 -9حممد ر�شيد ر�ضا ،احلرية وا�ستقالل الفكر ،جملة املنار ،املجلد الثاين ع�شر ،اجلزء الثاين� 22 ،آذار ،القاهرة: � ،1909ص.117-113 -10عبد الرحمن الكواكبي ،طبائع اال�ستبداد وم�صارع اال�ستعباد ،بريوت ،دار النفائ�س ،طبعة � ،2006 ،3ص.45 -11املرجع نف�سه� ،ص.60 -12ف�ؤاد �إبراهيم ،الفقيه والدولة ،الفكر ال�سيا�سي ال�شيعي ،بريوت :دار الكنوز الأدبية ،طبعة� ،1998 ،1ص.237 � -13أحمد عبداهلل �أبو زيد العاملي ،حممد باقر ال�صدر ،ال�سرية وامل�سرية ،بريوت :م�ؤ�س�سة العارف للمطبوعات، طبعة ،2006 ،1جزء� ،1ص 7و.11 -14املرجع نف�سه ،جزء� ،1ص 165و 168و 172و.183 49
-15املرجع نف�سه ،جزء� ،2ص.472 -16املرجع نف�سه ،جزء 301 ،4و.302 -17ف�ؤاد �إبراهيم ،الفقيه والدولة ،املرجع ال�سابق� ،ص.340 -18حممد باقر ال�صدر ،موجز �أ�صول الدين ،بريوت :دار الهادي ،طبعة� ،2000 ،1ص.48 -19املرجع نف�سه� ،ص.48 -20املرجع نف�سه� ،ص.51-50 -21اال�سعد بن علي ،التجديد الكالمي عند ال�شهيد ال�صدر� ،إيران :مركز االبحاث العقائدية ،طبعة � ،2ص.39 -22املرجع نف�سه. -23حممد باقر ال�صدر ،املدر�سة القر�آنية ،بريوت :دار التعارف للمطبوعات1401 ،هـ� ،ص.140 -24املرجع نف�سه� ،ص.48 -25ا�سحق نقا�ش� ،شيعة العراق ،ترجمة عبداهلل النعيمي ،دم�شق :دار املدى ،طبعة� ،1996 ،1ص.242 -26املدر�سة القرانية ،املرجع ال�سابق� ،ص.162 -27املرجع نف�سه� ،ص.163 - 28ال�سيد حممد باقر ال�صدر ،مقدمات يف التف�سري املو�ضوعي للقر�آن ،بريوت :دار التوجيه اال�سالمي ،د.ت� ،ص.142 -29املرجع نف�سه� ،ص.163 -30املرجع نف�سه� ،ص.164 -31علي فيا�ض ،نظريات ال�سلطة يف الفكر ال�سيا�سي ال�شيعي املعا�صر ،بريوت :مركز احل�ضارة لتنمية الفكر اال�سالمي ،طبعة� ،2014 ،1ص.11-10 � -32أحمد حممد �شاموق ،كيف يفكر االخوان امل�سلمون ،بريوت :دار اجليل� ،1981 ،ص.116 � -33أحمد املو�صللي ،ر�ؤية املثقف اال�سالمي لأزمة ال�سلطة ال�سيا�سية يف اخلم�سينيات وال�ستينيات :منوذج �سيد قطب ،جملة االجتهاد ،العدد ،5خريف � ،1989ص.126 -34املرجع نف�سه. -35حممد توفيق بركات� ،سيد قطب ،بريوت :دار الدعوة� ،1976 ،ص 11و.13 � -36أحمد املو�صللي ،املرجع ال�سابق؛ �ص.127-126 -37املرجع نف�سه� ،ص.134 � -38سيد قطب ،هذا الدين ،القاهرة :مكتبة وهبة ،طبعة � ،4ص 23و.32 � -39سيد قطب ،معركة اال�سالم والر�أ�سمالية ،بريوت :دار ال�شروق ،طبعة � ،1975 ،4ص. � -38أحمد املو�صللي ،املرجع ال�سابق� ،ص.134 -39املرجع نف�سه� ،ص.136 � -40سيد قطب ،هذا الدين ،املرجع ال�سابق� ،ص.19-16 � - 40سيد قطب ،العدالة االجتماعية يف اال�سالم ،القاهرة :دار �إحياء الكتب العربية ،1958 ،طبعة � ،25ص.243-242
50
الإ�سالم والإ�صالح الديني
� -41أحمد املو�صللي ،املرجع ال�سابق� ،ص.136 � -42سيد قطب ،العدالة االجتماعية ،املرجع ال�سابق� ،ص.107 -43احمد املو�صللي� ،ص.139. � -44سيد قطب ،معامل يف الطريق� ،ص 26و 101-60و71 -45املرجع نف�سه� ،ص.163-162 -46فايز �سارة ،الوحدة العربية ومفهومها يف وثائق الأحزاب والتنظيمات ال�سيا�سية يف الأقطار العربية ،جملة الطريق، العدد5و ،6ك� ،1991 ،1ص.43 -الأحزاب ال�سيا�سية يف �سوريا ،دم�شق :دار الرواد� ،1954 ،ص.32 -16 -15 - 47ماهر ال�شريف ،رهانات النه�ضة يف الفكر العربي ،دم�شق :دار املدى للثقافة والن�شر ،طبعة� ،2000 ،1ص135-134 -48املرجع نف�سه. � - 49شريف يون�س� ،سيد قطب والأ�صولية اال�سالمية ،القاهرة :دار طيبة للدرا�سات والن�شر ،طبعة� ،1995 ،1ص.81 � -50شريف يون�س ،املرجع نف�سه� ،ص.85 -51املرجع نف�سه� ،ص.88 -52املرجع نف�سه� ،ص.89 � -53صالح الدين اجلور�شي� ،سيد قطب واخلالفة ،جملة التفاهم ،العدد � ،43شتاء � ،2014ص.43 � - 54صالح عبد الفتاح اخلالدي� ،سيد قطب من امليالد �إىل اال�ست�شهاد ،دم�شق :دار القلم ،طبعة� ،1994 ،2ص.274 -55املرجع نف�سه. -56املرجع نف�سه� ،ص.254 � -57سيد قطب ،ملاذا �أعدموين ،ال�سعودية :ال�شركة ال�سعودية للأبحاث والت�سويق ،د .ت� ،ص 7و .8 -58ف�ؤاد ابراهيم ،الفقيه والدولة ،املرجع ال�سابق� ،ص.333-332 -59املرجع نف�سه� ،ص.333 � -60سيد قطب ،هذا الدين� ،ص 23و.32 -61حممد باقر ال�صدر ،منابع القدرة يف الدولة اال�سالمية ،املرجع ال�سابق� ،ص.13 -62قطب ،هذا الدين� ،ص.32-23 -63ف�ؤاد �إبراهيم ،املرجع ال�سابق� ،ص.339 -64املو�صللي� ،ص.139 -65فالح عبد اجلبار� ،ص.135 � -66شريف يون�س� ،ص.85 -67ا�سحق نقا�ش ،املرجع ال�سابق� ،ص.242 � -68أحمد را�سم النفي�س ،فقه التغيري بني �سيد قطب وال�سيد حممد باقر ال�صدر ،جريدة القاهرة القاهرية.2004- 8 -10 ،
51
�صدر حديثا ً
م�ؤ�س�سة �سعاده للثقافة
بناية ر�سامني� ،شارع احلمرا ،ر�أ�س بريوت ،لبنان �صندوق بريد 113-5557 :بريوت -لبنان هاتف)00961-1( 753363 : فاك�س)00961-1( 753364 : الربيد الإلكرتوينsaadehcf@idm.net.lb : املوقع الإلكرتوينwww.saadehcf.org :
الإ�سالم والإ�صالح الديني
فل�سفة العلم يف مواجهة فل�سفة اجلهل ح�سن عجمي -كاتب وباحث
تختلف الأ�سئلة �ضمن فل�سفة العلوم منها ال�س�ؤال الأ�سا�سي :هل النظريات العلمية �صادقة �أم جمرد مقبولة؟ نبحث هنا عن خيار فل�سفي ثالث اعتماداً على فل�سفة ال�سوبر حداثة وال�سوبر م�ستقبلية. بالن�سبة �إىل فل�سفة احلداثة ,النظريات العلمية احلالية �صادقة لكونها ناجحة .فمثال ً ,عبرَّ الفيل�سوف ريت�شارد بويد عن هذا املذهب قائال ً �إن التف�سري الوحيد والأف�ضل حلقيقة �أن النظريات العلمية احلالية ناجحة يف تف�سري ظواهر الكون هو �أن تلك النظريات �صادقة .فهي ناجحة لأنها �صادقة �أي مطابقة للواقع .فلو كانت ناجحة من دون �أن تكون �صادقة حينها يتطلب جناحها معجزة ما بف�ضلها تغدو ناجحة رغم عدم �صدقها .لكن فل�سفة ما بعد احلداثة ت�صر على �أن النظريات العلمية لي�ست �صادقة و ال كاذبة بل فقط مقبولة .فالنظريات العلمية جمرد �أدوات لتف�سري ظواهر الكون والتنب�ؤ بها .فمثال ً ,ي�ؤكد الفيل�سوف «توما�س كون» على �أن النظريات العلمية املختلفة لي�ست �صادقة وال كاذبة لأن كل نظرية منها حتتوي على حقائق ومفاهيم ومعانٍ ومعايري لتقييم ما هو �صادق وكاذب خا�صة بها وخمتلفة عن احلقائق واملعاين ومعايري تقييم ما ي�صدق ويكذب الكامنة يف النظريات العلمية الأخرى .وبذلك ي�ستحيل احلكم بني النظريات و عليها من دون الوقوع يف امل�صادرة على املطلوب .ولذا ي�ستحيل ا�ستنتاج ما �إذا كانت هذه النظريات �صادقة وتلك كاذبة .ولذا كل النظريات العلمية لي�ست �سوى �أدوات لدرا�سة الكون وتف�سري ظواهره وال تت�صف بال�صدق �أو الكذب بل هي فقط مقبولة. لكن من املمكن طرح فل�سفة ثالثة خمتلفة عن الفل�سفتني ال�سابقتني �أال و هي فل�سفة ال�سوبر حداثة حدد �أية نظرية علمية �صادقة� .أما ال�سوبر وال�سوبر م�ستقبلية .تعترب ال�سوبر حداثة �أنه من غري املُ َّ م�ستقبلية فتقول �إن النظرية العلمية ال�صادقة هي التي �سيتم اكت�شافها يف امل�ستقبل فقط .الآن ,مبا �أن ,من منطلق ال�سوبر م�ستقبلية ,النظرية العلمية ال�صادقة هي التي �سوف يكت�شفها العلماء يف امل�ستقبل ,ومبا �أنه من املمكن �أن تكون تلك النظرية ال�صادقة �ضمن النظريات العلمية احلالية� ,إذن 53
حدد �أية نظرية علمية هي ال�صادقة من بني النظريات العلمية احلالية املختلفة ,وهذا هو من غري املُ َّ موقف ال�سوبر حداثة .من هنا ,فل�سفة ال�سوبر م�ستقبلية تت�ضمن فل�سفة ال�سوبر حداثة .ولذا ال�سوبر م�ستقبلية و ال�سوبر حداثة ّ ت�شكالن فل�سفة واحدة ال تتجز�أ. لل�سوبر حداثة قدرة تف�سريية هائلة ما يدعم قبولها .فبما �أن ,بالن�سبة �إىل ال�سوبر حداثة ,من غري حدد �أية نظرية علمية هي النظرية ال�صادقة� ,إذن من املتوقع وجود نظريات علمية عديدة ناجحة املُ َّ تف�سر ال�سوبر حداثة ملاذا تنجح النظريات العلمية يف تف�سري الكون رغم اختالفها و تعار�ضها .هكذا ّ حدد �أية نظرية علمية هي ال�صادقة العديدة رغم االختالف والتعار�ض فيما بينها .فلو كان من املُ َّ حدد �أية ِل ُوجِ دت نظرية علمية واحدة فقط ناجحة يف تف�سري ظواهر الكون .لكن مبا �أنه من غري املُ َّ نظرية علمية هي ال�صادقة� ,إذن ال بد من وجود نظريات علمية عديدة ناجحة يف تف�سري الكون رغم التعار�ض فيما بينها .من هنا ,تنجح ال�سوبر حداثة يف تف�سري جناح النظريات العلمية رغم اختالفها وتعار�ضها. مثل ذلك �أن ,بالن�سبة �إىل نظرية نيوتن العلمية ,الزمن مطلق �أي لي�س ن�سبياً بينما بالن�سبة �إىل نظرية الن�سبية لأين�شتاين الزمن ن�سبي لأنه يختلف باختالف ال�سرعة .و بالن�سبة �إىل نظرية نيوتن ونظرية �أين�شتاين ,قوانني الطبيعة حتمية بينما بالن�سبة �إىل نظرية ميكانيكا الكم العلمية قوانني الطبيعة لي�ست حتمية بل احتمالية .لكن رغم هذه االختالفات اجلوهرية بني هذه النظريات العلمية, كلها نظريات ناجحة يف تف�سري ظواهر الكون والتنب�ؤ بها .وكلها ناجحة رغم اختالفها وتعار�ضها حدد �أية نظرية منها �صادقة حدد �أية نظرية منها هي النظرية ال�صادقة؛ فلو كان من املُ َّ لأنه من غري املُ َّ لنجحت نظرية واحدة منها فقط .هكذا تتمكن ال�سوبر حداثة من تف�سري جناح النظريات العلمية رغم اختالفها ,وذلك من خالل مبد�أ ال حمددية �أية نظرية هي النظرية ال�صادقة .لكن ,بالن�سبة �إىل ال�سوبر م�ستقبلية ,النظرية العلمية ال�صادقة هي تلك التي �سيكت�شفها العلماء يف امل�ستقبل. لذا العلماء ي�صوغون نظريات علمية جديدة ب�شكل دائم بهدف الو�صول �إىل النظرية ال�صادقة. تف�سر ال�سوبر م�ستقبلية ملاذا يبني العلماء نظريات علمية جديدة ب�شكل م�ستمر ومتوا�صل؛ هكذا ِّ ف ُهم يفعلون ذلك لأن النظرية العلمية ال�صادقة هي التي �سيتم اكت�شافها يف امل�ستقبل .وبهذا تكت�سب ال�سوبر م�ستقبلية قدرة تف�سريية يف هذا ال�ش�أن ما يدعم مقبوليتها. �إذا اعتربنا �أن النظريات العلمية احلالية �صادقة فهذا ُيوقِف عملية البحث العلمي عن نظريات علمية جديدة .و يف هذا رذيلة معرفية لأننا نريد �أن ن�ستمر يف البحث العلمي بدال ً من اغتياله. و�إذا اعتربنا �أن النظريات العلمية احلالية لي�ست �صادقة وال كاذبة بل فقط مقبولة حينها نكون قد اعتربنا �أن العلم ال ُيعبرِّ عن الكون والواقع وبذلك ال ُي ِ و�صل �إىل معرفة الكون والواقع .ويف هذا رذيلة معرفية �أخرى .من هنا ,من الأف�ضل قبول االجتاه الفل�سفي الثالث الذي يتخطى املذهبني الفل�سفيني ال�سابقني �أال وهو اجتاه ال�سوبرحداثة وال�سوبرم�ستقبلية .فاالجتاه الثالث يتجنب امل�شكلتينْ ال�سابقتني .بالن�سبة �إىل فل�سفة ال�سوبر حداثة وال�سوبر م�ستقبلية ,النظرية العلمية 54
الإ�سالم والإ�صالح الديني
حدد �أية نظرية ال�صادقة هي النظرية التي �سوف يتم اكت�شافها يف امل�ستقبل ,وبذلك من غري املُ َّ علمية حالية هي النظرية ال�صادقة دون �سواها .ومبا �أن ,بالن�سبة �إىل ال�سوبر م�ستقبلية ,النظرية العلمية ال�صادقة هي تلك التي �سيحدث اكت�شافها يف امل�ستقبل� ,إذن ال بد من اال�ستمرار يف البحث العلمي من �أجل الو�صول �إىل النظرية العلمية ال�صادقة .هكذا ت�ضمن ال�سوبر م�ستقبلية ا�ستمرارية البحث العلمي بدال ً من �إيقافه ,وبذلك تتجنب ال�سوبرم�ستقبلية امل�شكلة الأوىل .من حدد ما هي النظرية العلمية ال�صادقة املنطلق نف�سه ,مبا �أن بالن�سبة �إىل ال�سوبرحداثة من غري املُ َّ من بني النظريات العلمية احلالية العديدة� ,إذن ال بد من البحث عن نظريات علمية جديدة قد تت�ضمن النظرية العلمية ال�صادقة .وبذلك ت�ضمن ال�سوبر حداثة ا�ستمرارية البحث العلمي �أي�ضاً. من جهة �أخرى ,مبا �أن ال�سوبر م�ستقبلية تقول �إن النظرية العلمية ال�صادقة هي النظرية التي �سوف يحدث اكت�شافها يف امل�ستقبل� ,إذن تت�ضمن ال�سوبر م�ستقبلية مبد�أ �أن البحث العلمي �سي�ؤدي �إىل معرفة الكون .و بذلك تتجنب ال�سوبر م�ستقبلية امل�شكلة الثانية .ومبا �أن ال�سوبر حداثة ت�ؤكد حدد �أية نظرية من بني النظريات العلمية احلالية هي النظرية ال�صادقة� ,إذن تدفع على �أنه من غري املُ َّ ال�سوبر حداثة نحو اال�ستمرار يف البحث العلمي من �أجل �صياغة �أو اكت�شاف النظرية العلمية ال�صادقة املطابقة للواقع ,وبذلك تت�ضمن ال�سوبر حداثة �إمكانية معرفة الكون والواقع .ولذا تتجنب ال�سوبر حداثة امل�شكلة الفل�سفية الثانية متاماً كما تفعل ال�سوبر م�ستقبلية .الآن ,مبا �أن فل�سفة ال�سوبر حداثة وال�سوبر م�ستقبلية تتجنب الوقوع يف امل�شكلتني الفل�سفيتني ال�سابقتني� ,إذن كل من ال�سوبر حداثة وال�سوبر م�ستقبلية فل�سفة ناجحة فمقبولة �إىل �أق�صى حد. �أما فل�سفة اجلهل فهي التي تعترب �أن النظريات العلمية كاذبة ,وبذلك تختلف عن الفل�سفات ال�سابقة .وت�صر فل�سفة اجلهل على كذب العلم اعتماداً على عقيدة �أن اهلل وحده يعلم .بالن�سبة �إىل فل�سفة اجلهل ,الكون جمرد كاهلل متاماً و بذلك من امل�ستحيل معرفته؛ فالأ�شياء املجردة غري مرتبطة بنا �سببياً ما ي�ؤدي �إىل ا�ستحالة معرفتها .فل�سفة اجلهل فل�سفة معقدة املبادىء والتفا�صيل لكنها تتمحور حول الفكرة التالية :اهلل جمرد و بذلك من امل�ستحيل معرفته .والكون جمرد لأنه من نتاج اهلل املجرد ,و بذلك من امل�ستحيل معرفة الكون �أي�ضاً .من هنا ,فقط اهلل يعرف الكون لأن اهلل جمرد متاماً كالكون .كل هذا ي�ؤدي �إىل �أن اجلهل �سيد عقول الب�شرية .فجهلنا ت�أكيد على �أن اهلل موجود وعلى �أنه خالق الكون .وبذلك املعرفة احلقة كامنة يف اجلهل .من منطلق فل�سفة اجلهل ,ثمة معرفة لكنها قائمة يف جهلنا؛ فجهلنا بكل �شيء داللة على �أن اهلل وحده يعلم كل �شيء وداللة على �أن اهلل جمرد وبذلك غري معلوم وداللة على �أن الكون جمرد كاهلل وبذلك غري معلوم �أي�ضاً .وكل هذا لي�س �سوى معرفة لكنها معرفة ت�ؤ�س�س جلهلنا بكل �شيء .هكذا بالن�سبة �إىل فل�سفة اجلهل ,املعرفة جهل واجلهل معرفة. اليوم ت�سود فل�سفة اجلهل على عاملنا العربي اال�سالمي .فمعظم العرب وامل�سلمني مقتنعون ب�أن اهلل وحده يعلم كل �شيء و�أنه ي�ستحيل علينا معرفة ماهية اهلل لأنه جمرد فال �شبيه له كما ي�ستحيل 55
علينا معرفة الكون لأن الكون جمرد متاماً كاهلل .هكذا ل�شعوبنا امل�شرقية اليوم فل�سفة خا�صة مل ي�سبقنا �إليها �شعب من ال�شعوب �أال وهي فل�سفة اجلهل .ومبا �أن املعرفة جهل و اجلهل معرفة� ,إذن اجلهل هو القيمة العليا يف جمتمعاتنا االفرتا�ضية .ال�صراع بني فل�سفة العلم وفل�سفة اجلهل �صراع حتدد ما �إذا ك ّنا �سنتمكن من العودة �إىل التاريخ على املبادىء والتفا�صيل .ونتيجة هذا ال�صراع ِّ واحل�ضارة �أم �سنموت ح�ضارياً ومن�سي وهماً تاريخياً يف عقول َمن �سيبقى .بالن�سبة �إىل فل�سفة العلم ,العلم م�صدر معرفة الواقع وم�صدر املعتقدات والأفكار املفيدة عملياً بينما ,بالن�سبة �إىل فل�سفة اجلهل ,العلم م�صدر جهلنا ,واجلهل م�صدر علمنا .ومن منظور فل�سفة العلم ,الكون واقعي وبذلك من املمكن معرفته واحل�صول من خالله على معتقدات مفيدة عملياً بينما ,من منظور فل�سفة اجلهل ,الكون جمرد ولذا من غري املمكن معرفته .هكذا تختلف مبادىء وتفا�صيل كل من فل�سفة العلم وفل�سفة اجلهلَ .من �سينت�صر يف النهاية؟ هذا قرارك �أنت بالذات.
56
الذكرى والتحوالت
�شهيد ُة املعنى خالدة �سعيد -ناقدة �سورية مقيمة يف فرن�سا
كيف �أتك ّل ُم على �شهيد ِة املعنى ،جولييت املري �سعادة ،و�أنا ما َبر ِْحت �أبكي حزناً وغ�ضباً ك ّلما كرت وقائ َع تلك احليا ِة وتلك املُفارقات؟ وكيف �أخت�ص ُر ال�سيد َة املن ّور َة يف كلمات! َذ ُ بل كيف ُ �سكن الرم َز عن معانيه؟ ومن تب ّت َل للمعنى ،كيف نف�ص ُله عن اليوتوبيا؟ كيف نف�صل من َ ُ الواقع و�شروطِ ه يف هذا ك ِّله؟ وب� ِّأي ميزانٍ تو َزنُ نف�صل الآال َم عن ِ �شارب ك�أ�سِ ها؟ و�أين نَع ُرث على ِ القيم العليا؟ ُ الربح واخل�سارة. القيم واملعاي ِري كان َ عندها ميزانَ ِ �س ّل ُم ِ � َ ٍ عائالت وا�س ْت أنقذ ْت بحكم ِة ر�ؤيتِها �أ�شخا�صاً �ضائعني؛ �أنقذت �أُ َ�سراً وبيوتاً على �شف ِري اخلرابَ . �أنْ َهكها احلزنُ والفقدانّ . خارج من كارثة. �شك َلت حمو َر ال�ضوء حل ٍ ِزب ٍ احلزب ب�سعادة تمد ٌ حو َلها ومنها ومعهاْ ،ا�س ّ عديد من القوميني ال�شجاع َة والأمل ،بعد فاجع ِة ِ والرفاق ،ووا�صلوا الطريق. من اجلزير ِة الفُراتية �أو من الأردن وفل�سط َني كانوا يجيئون؛ من الباديةِ ،من لبنانَ �أو من حماة الروحي .كانت امللج�أَ وكل يرجع من لقائها مبا ّ وحلب كانوا يجيئونٌّ . يغذي حل َمه ويع ّزز �صمو َده ّ املعنوي والأموم َة اجلمعية. ح�ضن اللجو ِء ّ بل َ �سجن القلعة الرهيب ،حني وجدت نف�سها وحيد ًة و�سط بيئة غريبة، حتى يف ال�سجن ،يف مرحل ِة ِ الغريبات اليائ�سات املحكومات ب�سجن طويل ،ون ّو ِ ِ رت وا�س ِت انح َنت على ال�ضعف الب�شريَ ، اخلاطئات وح َمت بحكمتِها ولطفِها املظلومات. لكننا ال نخت�ص ُر َمن نحكي عنه بل نخت�ص ُر م�شاع َرنا و�إكبا َرنا وت�أ ُّث َرنا بذلك املثالِ الإن�ساين املُده�ش. كانت دلي ًال �إىل طريقِ ال�ضوء ،هي التي ر�س َمت حيا َتها يف �ضو ِء معنى نبيلّ . ولعل هذا ما �أعانَها نظرت �إليه كزعيمِ ها. على ال�صمو ِد بعد ا�ست�شها ِد زوجِ ها الذي ْ 57
ر�س َم ْتها كهِ َب ٍة و ُنذ ٍر ال ُ متلك من �أمرِه غ َري كمالِ الوفا ِء به. ر�س َم ْت حيا َتها يف م�سا ِر ق�ض ّية؛ َ والزعيم املحبوب. الزعيم نفهم ذلك الفنا َء يف ِ نحن الذين نفك ُر �سيا�س ّياً �أو تاريخياً ،قد ال ُ ِ املحبوب ِ القومي كما عي الذاتي ال�صميمي وا َجل ْم ِّ ّ ّ لك ّننا ال نقد ُر �أ ّال ننحني �أما َم تلك احلال ِة احللولي ِة بني ّ مت ّث َل ْت لدى جولييت املري �سعادة. بالده�ش ِة �أما َم تلك ال ِّر َّق ِة وال�شفافية ،لكن مع �صفا ِء �صاب الإن�سانُ ّ كان ل�شخ�صيتِها وق ُع ال�سحرُ .ي ُ ِ الغايات ،وال ّت�صميم يف املواقف .وميتلى ُء الإن�سانُ مب�شاع ِر ا َخل�شي ِة والرعاي ِة والو�ضوح يف الفك ِر ِ التناف�س والتناحر بل الإلغاء املتبا َدل. الطوباوي يف عا ِمل املبدئي ِ ّ مت�سائ ًال عن م�ص ِري هذا الكائن ِّ �أقدر �أن �أقول� ،إنّ ّ كل ما قامت به كان رمز ّياً طوباو ّياً .بل �إنها دخلت الرمز وفيه �أقامت. ِ لالنخراط فيها. احلرب التي �سارعت �سورية �أذكرها يف حرب ت�شرين 1956على م�ص َر ،وهي ُ الغارات ماثل .وكانوا قد تركوا �أبوا َبنا ُمقفل ًة رغم احتمالِ ِ الع�سكري وخط ُر ك ّنا يف �سجن امل ّزة ّ الغارات .لكنها كانت ّ تفك ُر يف اخلطر على �سورية �أك َرث مما تفك ُر يف اخلطر علينا ،وك ّنا يف تلك املرحلة ال�سجينتني الوحيدتني. كل كلم ٍة وحرك ٍة على املعيا ِر والغاية .عبرَ َ ِت احليا َة َ حتر�ص يف ّ هاب م�سري ُته و�ضو�ؤه مثل �شِ ٍ كانت ُ �شهاب يتب ُع ّ خط املعنى. احرتاقٌ . امل�صفّى والتج ّر َد والوالء، ما من هيب ٍة كانت فوقَ هيبتِها ،لأنها مثّلت الطوبى العقائدية وااللتزا َم َ واال ّتكا َء على الق َي ِم والأفكا ِر وحدها. لكنها كانت ،مع بن ّياتها ،بال � ِّأي �ضمانٍ على الإطالق ،ال ما ّد ّياً وال �سيا�س ّياً :بال � ّأي م�صد ٍر للرزقِ املعنوي والدعام َة الوحيدة� ،أي احلزب ،كان م�ضمون ،وبال ا�ستقرا ٍر مكفول .ال �س ّيما �أنّ الإطا َر ّ دائماً على �شف ِري اخلطر. تعي�ش يف دم�شق� ،أي يف ٍ خارج ِ بلد تنتمي �إليه الواقع وقوانينِهُ . هكذا كانت حيا ُتها َ �شروط ِ ورهن ر�ضى عاطف ّياً عقائد ّياً ،ولي�س عمل ّياً �إجرائ ّياً �أو يف ال�سجِ ّالت .ما جعل ح�ضو َرها فيه ّ مهدداً َ ف�ض َلت ذلك على املغادر ِة �إىل �أمانِ وطن ُمرتجَ ى .ومل ت�أ َب ْه لل�ضماناتّ . ال�سلطات .فعل ّياً� ،أقا َم ْت يف ٍ َمهج ٍر كرمي. تكن لغ َة طفولتِها وال �صباها الأ ّول .تع ّل َم ْتها وتع ّلقت جولييت �سعادة �أح ّب ِت اللغ َة العربي َة التي مل ْ التم�سك باملثالِ الذي ّ َ وا�ص َلت كال َمها لبناتِها بالف�صحى ِ اختطه رفيقُها .ثم كان لتوا�ص َل بهاَ . ؤ�س�س احلزب� ،أي طريقِ اخلطر. اختيا ُرها للبقا ِء يف الوطن �سرياً يف طريقِ م� ِ ٍ إمكانيات عالية يف املبادى ِء والأخالقِ كانت ُ ذات طموح �شا�سع و� احلزب حرك ٌة ُ تعرف �أن َ أرواح ،و�أحياناً يف الثقافة (فمعيا ُر التميي ِز والتكر ِمي بلقب الأمانةِ ،يف احلزب ،يعتمد معيا َر وال ِ 58
الذكرى والتحوالت
ِ احلزب املا ّد ّي ِة كانت معدوم ًة ف�ض ًال الأخالقِ والوفا ِء وااللتزام ،يف الدرجة الأوىل) و�أنّ � إمكانيات ِ ِ �ضعف امل�ؤ ّه ِ الت يف ال�سيا�س ِة واال�سرتاتيجيا والو�سائل وحري ِة احلرك ِة على الأر�ض ،ودلي ُلها عن ال�صارخ حركة 1949وتداخال ُتها ،ثم ما تال ذلك حتى كارثة 1955و .1956وال �أزال �أذكر ،يف االنقالبي ،يف ر�أيها عام ،1956ذهو َلها وا�ستنكا َرها ملحاول ِة االنقالب وملبد�أ االنقالب ،لأنّ ال ّنهج ّ يتناق�ض مع �أفكار احلزب و «مناقب ّيته». أفظع �أ�شكالِ املطامع و� ّ ُ أ�شدها ،و� ِ احلزب ال�سوري القومي االجتماعي حرك ٌة انطلقت ملواجه ِة «�أعرق» ِ ٍ ِ أر�ض وحقوقِ ال�شعوب .حرك ٌة انطلق َْت ملواجهة �أك ِرب م�ؤامرة لتمزيقِ �سورية اال�ستهانة بالتاريخ وال ِ وخرقٍ ِّ الطبيع ّية ـ التاريخ ّية والت�ص ّر ِف ب� ِ تفوي�ض �أو �صالحي ٍة لكل حقٍ ،ودونَ � ِّأي ٍ أر�ضها ،بخ ّف ٍة ْ بحق من هو �أ�ضعف. �شرع يف الدنيا غ ِري �شريع ِة الغاب ُ القوي يت�ص ّر ُف ّ حيث ُّ من � ِّأي جه ٍة �أو �أي ٍ كان القرنُ الع�شرون قد بد�أ مع م�سل�سل الكوارث على �سور ّية: والنزيف ّ ٍ هجرات وا�سعة ،و�إعدا ُم الأحرار ين يف واحلرب الكربى احلرب الطائف ّية ،املجاعة، ُ ال�سكا ّ ُ على �أيدي العثمانيني ،وجماز ُر وتهجري واقتالع جذور على �أيدي الأتراك يف ال�شمالِ ال�سوري ال�سالالت التاريخي ُة من �سريان وكلدان و�آ�شوريني ،ومعهم الأرمن وخا�ص ًة يف كيليكيا حيث ُ ّ بالت�أكيد[ .ويبدو �أ ّنها �سرتاتيجيا تعاود الظهور دور ّياً]. يف ِ العجيب الغريب :حيث ممث ُّل الأمرباطوري ِة وعد «بالفور» الوقت نف�سِ ه كان قد �أُطلِق ُ ُ بعد ُ ميلك �أ َّية �صالحي ٍة حتى اال�ستعمارية ،اللورد العن�صري الال�سامي كا ِر ُه اليهو ِد والذي مل يكن ُ أر�ض �أو �إقام ٍة َ بزرع وطن نوع االنتداب ،يت ّرب ُع للغربا ِء ال ب� ِ ومواطنة يف فل�سطني ،بل بدولةَ .يع ُِد ِ من ِ ُم َ الهجرات �صط ٍنع يخ ِّل�ص �أوروبا العن�صري َة املُغل َق َة من �ضيقِها مبواطنيها اليهود الذين تقاذفتهم ُ الق�سرية وامل�صا َدرات ،مع �أ ّنهم م�شاركون �أ�سا�س ّيون يف بناء �أوروبا احلديثة ويف نه�ضتها� .أراد اللورد العن�صري ،بوعده� ،أن َ أر�ض يغ�سل تقا�سم ال ِ ّ اجلرائم الأوروبي َة التاريخي َة يف حقِّ اليهود .وتال ذلك ُ َ احلرب التي ال�سوري ِة بني القطبني الفرن�سي والإنكليزي املنت�صر َين يف ِ احلرب الكون ّي ِة الأوىل� .إنها ُ م ّز ِ قت اخلارط َة العربية وال �سيما اخلارطة ال�سوريةّ .ثم كانت �سيا�س ُة الهدايا العجيبة يقد ُمها من فقدمت ل�صالح الأتراك ،ثم عادت يف عام ّ 1939 ال ميلك � َّأي حق .فرن�سا ان�سحبت من كيليكيا ِ احلرب العاملية (فرن�سا �أي�ضاً) لوا َء الإ�سكندرون ال�سوري ر�شو ًة لرتكيا لكي َ تقف على احلياد يف ِ الثانية .وبعد عقو ٍد من الثورات الفل�سطينية �أقي َم ْت دول ُة �إ�سرائيل عام .1948ومل ِ النزيف يتوقف ُ أر�ض حتى اليوم. الب�شري واغت�صاب ال ِ ّ ُ م�سرح التح ّو ِ الت واملذابح يف �شمالها و�شرقها كان متزيقُ �سورية َ امل�شهد امل� َّ ُ أ�سوي الأعنف على ِ احلزب ال�سوري القومي االجتماعي �شاهداً الكون ّية التي � ِ ؤ�س�س ِ أعقبت َ احلرب الكربى .وكان م� ُ على ذلك ك ِّله بج�سده وطفولته الغريبة ووعيِه الذي تفتح على الكارثة. وجده ،حمت�ضناً فقد عرب يف طفولتِه احلرب الكونية الأوىل وحيداً بعد رحيل �أبيه ثم وفاة �أمه ّ 59
�أخو َته الثالثة مواجهاً ظروفاً عا�صفة وم�أ�سوية مل تكن املجاعة و�ضحاياها �إال بع�ضاً منها .ت�أ ّمل طوي ًال يف �أحوال �سورية وكوارثِها� .أراد ،منذ بلغ ال�شباب �أن يواج َه قوى الطغيان اال�ستعماري العبارات ويعيد ل�سورية املمزق ِة وحد َتها بج�سده و�أج�سا ِد رفاقه .وكم �أُ�سيء فهمه ! وكم �أ�ساءت َ ُ الفهم احلر ُّيف ال�ض ّيق .مل احلزبي ُة ال�ضيقة املت�ش ّنجة ّ املنمط ُة �إىل �أ�صحابها و�إىل احلزب .وكم �أ�ساء ُ هدف �سعادة َ يكن ُ عزل �سورية عن �أفقِها العربي ،بل كان تخ�صي�صاً لها لكونِها اجلريح َة التي ْ العربي ،حيث تتعاي�ش باملذابح اخ ُت ّ�صت ِ ِ والنهب والتمزيق .فهي البيئة املم َّيزة الفريدة يف العامل ّ ب�سالم ع�شرات اجلماعات الثقاف ّية الدين ّية والعرق ّية منذ �آالف ال�سننيّ ، وت�شكل متناغم ًة مت�آلف ًة مع العروبة والإ�سالم تن ّوعاً وغنى �إن�سان ّياً هائ ًال ال مثيل له .وكم من اجلدلِ العقيم فاقدِ الر�ؤي ِة دار حول العروب ِة والقومية ال�سورية. �إنّ رج ًال ُ توحد العرب ،لغ ِة القر�آن، يرف�ض الكال َم ،حتى مع طفالته ،بغري الفُ�صحى ،اللغ ِة التي ّ اللغة التي تختزن الق َي َم والرتاث ،حتى و�صفه �أعدا�ؤه ب�أنه حممد �أنطون �سعادة ،هذا الرجل الذي ت�آخى يف حزبه الأفراد ،من خمتلف الأديان والأعراق والثقافات يف الأر�ض ال�سورية ،ال ميكن رجل تفريق ،بل هو ُ �ضد العروب ِة غ ِري العن�صرية� ،أو يكونَ َ وتفاعل وتكامل. رجل وحد ٍة �أن يكون ّ ٍ أ�سي�س احلزب امل�شكالت جاءت مع نزول الفكر ِة �إىل امليدان وخو�ض �صراعات امليدان .ومع ت� ِ ِ ُ ِ التاريخ املعا�صر وقوى تريد مقاوم َة ثم �صراعات الرجال وامل�صالح .هذه الأفكا ُر ال�سامية التي ُ ِ تتطلب ن�سا ًء ورجا ًال فوق الواقع ،و�صرباً طهر ّياً فوق ال�سيا�س ِة الو�صولية الطغيانِ الكو ّ ين كانت ُ ٍ ٍ ِ وحوارات انفتاحات العداوات ال�شخ�ص ّية .كانت تتط ّل ُب ،قبل كل �شيء، و�ش�ؤونِ احلكم ،وفوق للتعددَ ، بدل احتكا ِر احلقيق ِة وتعاوناً و�إ�صغا ًء للآخرين من خمتلف الأحزاب وامل�شارب ،وقبو ًال ّ واحلقِّ يف الر�أي. ِ وتوازنات الطوائف و�ضيق الر�ؤية .ذهب وهو الذي وقد ذهب �أنطون �سعادة �ضحي َة احل�سابات أعزل ودخل ميدانَ ال�سيا�س ِة و�صراعاتِها الإلغائ ّية � َ احلرب � َ أعزل �إال من فكرِه وثقافتِه و�إميانه دخل َ ب�سورية. لقد ِ ال�صراع بني الأحزاب، أحزاب يف �سورية يف الع ّل ِة القبلي ِة �أو الفئوية� .أقد ُر �أن �أقول �إن َ وقعت ال ُ الطوائف �أو تقا�سماتها ،كان دخو ًال يف جحيم ال ّ ِ �صراع ِ ِ املوت �صراعات م�ضافاً �إىل حمل فيها لغ ِري ِ ّ واحلياة .وقد ا�ستغرقَ ال�صراع بني ِ واحتل ومعظم �إمكانياتِها، معظم ن�شاطِ ها ُ َ الفئات والأحزاب َ حماوالت االنقالبات غ ُري االنقالبات �أو املرتب َة الأوىل يف خُ ططِ تلك الأحزاب وق�ضاياها .وهل ُ ُ أ�سلوب للإق�صاء والتف ُّر ِد والقمع واال�ستئثار بال�سلطة عن طريقِ الق ّو ِة واملفاج�أ ِة �أي الغدر؟ � ٍ والقمع والإلغاء هو الظاهر ُة عقم احليا ِة ال�سيا�سية والدورانُ يف دوام ِة االنقالبات يف النتيجةُ ، ِ ج�س َد ْته ال�سلطات كما ا�ست ْثمرته الأحزاب. وال ُ إرث الذي ّ �أ�ستطيع َ وال�صواب والأهل ّية ،هي القول �إنّ هذه الظاهر َة الإق�صائ ّية الإلغائ ّية وا ّدعا َء احتكا ِر احلقِّ ِ 60
الذكرى والتحوالت
ِ ُ وجهات النظر اختالف أحزاب كما متث َلت يف ال�سلطة .وغالباً ما كان ينتهي ظاهر ٌة عا ّمة متث َل ْت يف ال ِ حزب مل أحزاب �أو ينتهي يف حزب من ال ِ بقي ٌ ُ التناف�س على مراك ِز القرار� ،إىل االن�شقاق .هل َ بديل له �إال بانقالب م�ضا ّد؟ أف�سح جما ًال النتخاب ٍ ِ ي�شهد انق�ساماً؟ هل � َ أذعن حاك ٌم للقانون �أو� َ �شكل خا�ص ،وكذلك يف لبنان ،هو النتيج ُة وما ُ يحد ُث اليو َم يف �سورية ويف فل�سطني والعراق ،يف ٍ املبا�شِ رة للنزعة «القبلية» االحتكار ّية الإق�صائية ،حيث الفرقا ُءعلى اختالفهم يقولون قو ًال واحداً: ال�سلط ُة يل �أو فليكن اخلراب �أو التق�سيم .وما مل ُينجِ ْزه اال�ستعماريون ب�أيديهم ها هو ُي َنجز ب�أيدي �أبناء الوطن. يوم نف�سها َ ذات ٍ كما ذهب �أنطون �سعادة �ضحي ًة لهذه النزعة الإلغائية ،وجدت جولييت �سعادة َ حراب الإلغا ِء املتبا َدلَ ، داخل احلزب وبني الدولة واحلزب .فكانت القربانَ وحيد ًة عند ملتقى ِ الذي يجب تقد ُميه ل ُعتاة التنابذِ والإنكار واال�ستئثار ،من هنا وهناك بال ا�ستثناء. ومع �أنني خارج احلزب منذ �أكرث من ن�صف قرن ،ف�إنّ املعنى الذي مثّلته جولييت �سعادة والآالم التي عا�شتها ال تفارق فكري وقلبي ،وال �أتوقف عن م�ساءلتها. جولييت �سعادة ،بقو ِة الإميانِ �سارت ،بال طموح غ ِري توحيدِ باحلق ّ أمل خارق ّ ال�صف .بقو ِة � ٍ أقاليم املنت َز َع ِة من الأر�ض ال�سورية. ال�سوري وا�ستعاد ِة ِ كامل الأقطا ِر وال ِ ِ احللم الكب َري والر�ؤي َة املثالية .و�آمنت بالرفاقِ وقدر ِة العد ِد ال�صغري على حتقيق املعجزة، احت�ضنت َ جميع الظروف الواقع ّية امليدانية والدولية. بال �إمكاناتَّ ، و�ضد ِ بقي قاب ًال للتقدي�س وحافزاً على أمل خارقٍ ٍّ بقو ِة الإميان �سا َرت ،بقو ِة � ٍ بحق �ساطع ،مهما �ضاع فقد َ احلق تب ّتلت. حق نزلت به ال ّن�ضال؛ ٌّ الكوارث وال تزال .ولهذا ّ ُ لكن هذه التي ّ احلق و�صدقِ الإميان وطهر ّي ِة املَ�سار ُت ِر َكت؛ نعم ُت ِر َكت، توك�أت على بداه ِة ّ و�أُخِ َذت من حيث مل تكن تتوقّع .و�أنطون �سعادة الذي دفع حيا َته يف املر ِة الأوىل ،خُ ذِ ل ُوطع َِن يف طفالت �سعادة ال�ضريب َة م ّرتني. �أ�سرتهُ :ت ِر َكت جولييت املري �سعادة لت� َؤخ َذ كغنيمة رمزية ،فدفعت ُ كان القوم ّيون حو َلها خارجني من م�سل�سل امل َِحن بدءاً من حمن ِة متوز � 1949إىل معانا ِة الأُ َ�سر التي ِ أعج ُب ما عدموا بالقرعة مراعا ًة للتوازن وحكِ موا بامل�ؤ ّبد حني مل ُي َ ُ�سجن �أبنا�ؤها ُ الطائفي .وهذا � َ ّ طريق الإميان والأمل. عرفته ير�س ُم َ حماكم العامل! وكان �ضو ُء وجهها يف مالب�س احلِداد ُ ُ واخل�صو�صي .ك ّنا حولها ك ّنا حولها جنتمع .وكانت الأ َّم الكربى ،حا�ضن َة الآالم ،خطريِها وبعيدِ ها ّ وكانت بال حدود. أبعد ر�ؤي ًة وال �أك َرث ت�صميماً .فهي من البدء مل مل يكن � ٌّأي من جهابذ ِة امل�س�ؤولني احلزبيني � َ تكن ت�ؤ ّي ُد تكن مقتنع ًة باملواجهات الع�سكرية وال بالأ�ساليب العنف ّية �أو باالنتقام واالنقالبات .مل ْ ْ أالعيب �سيا�س ٍة تهوى ال�سلطة .لكنها قب َلت دو َرها الذي ال ُ يقبل املناف�سة كراعي ٍة حا�ضن ٍة لبناتِها، � َ 61
ٍ ِ طريق وك�صوت معتدلٍ يف بنات �سعادة، ِ املجال�س احلزبية ،وك�صديق ٍة بل ك�أ ّم لكل من اختار َ �سعادة. أر�ض أر�ض العبقرية ،مهدِ الأبجدية و� ِ حلم ال ِ على �ضفاف حلم ويف حمارق طريق م�شت .قب َل ُتها ُ دم�شق والأندل�س ،وعلما ِء دول ِة بني العبا�س. ال�سالالت والرائني روا ِد البحار ،و ُبنا ِة ح�ضار ِة َ زعيمها كما كانت ت�ص ُّر �أن ت�سميه .م�شت م�شَ ت ت�ست�ضي ُء باملعنى الذي �أعطاه حلياتِه رفيقُها بل ُ القيم ،مهما ُ ّ عظ َم �ش�أ ُنها ،مل تكن وا �أ�سفاه� ،سقفاً واقياً. ت�ستظل بالقيم وبالذكرىّ . ولكن َ وزمن اخليبات .لك ّنها باملح ّب ِة والعطا ِء والر�ؤى العالي ِة زمن ِ القبائل املتناحرة َ لقد عبرَ ت زمانَناَ ، طريق طريق الآالم فقد جعلت منه َ ثمن اخلطايا .و�إذ ع َربت َ ر�س َم ْت طريقَها ،وبرباءتِها دف َع ْت َ املعنى.
62
الذكرى والتحوالت
الأمينة الأوىل �صورة �شخ�صية عن قرب
اللقاء ال�سنوي مع �سعاده 2014 �ألي�سار �سعاده -كاتبة
ل�ست �أدري كيف تقودنا الأقدار ،يف حلظة تخطف الأنفا�س ،على وقع احتدام حرب االبادة الهمجية الدموية على غزة -فل�سطني� ،إىل عرزال �سعاده الذي ّ حذر مذ كان يف ال�سابعة ع�شرة من عمره عام 1921من كارثة �ضياعها ،و�سارع عام � 1932إىل ت�أ�سي�س حزب قومي عقائدي نظامي ملواجهة خمططات ال�صهيونية التي ت�ستهدف ال فل�سطني فح�سب بل كامل الأمة من الفرات �إىل النيل. لنك ّرم من كانت للق�ضية رئة ثانية وفر�صة نهو�ض ا�ستثنائية �أجه�ضت ،ولنا�س الق�ضية والوطن بالتبدد بعد فاجعة الثامن من املهدد ّ ال�سوري احل�ضن الدافئ وامللج�أ واملالذ لتبني وحدة ال�صف ّ متوز 1949 يا لهول املفارقة وما �أ�صعب الكالم !! �أ�شكر ال�صديقة احلبيبة خالدة �سعيد على هذا التقدمي الباهر وامل�ؤثر النابع من �صميم جتربتها وقد ا�ستعادتها لنا ك�أروع و�أرقى ارث لذاكرتنا ...تقدمي ال يحتمل �أية ا�ضافة.. ولكن ...ولأن ال�شيء بال�شيء يذكر ،فقد ثبت من وثائق اخلارجية الربيطانية لتلك احلقبة �أن �سعاده كان ي�شكل خطراً حقيقياً على �سايك�س بيكو كما ورد يف ندوة عن �سعاده �أقيمت يف الأكادميية ال�سورية الدولية يف دم�شق يف 20متوز .2009ذلك �أنه بنى حزبه يف لبنان وال�شام وفل�سطني والعراق والأردن والكويت على مبد�أ �أن القوة هي القول الف�صل يف �إحقاق احلق القومي �أو �إنكاره. تلك كانت فر�صة �إطالق احلرب القومية لتحرير فل�سطني التي كان يتح ّينها �سعاده والتي �سعوا �إىل و�أدها بالق�ضاء عليه .تلك كانت الفر�صة التي مل يتلقفها �أحد بعد غيابه والتي بتنا نعرف اليوم �أي ثمن ندفع ل�ضياعها وتبديدها ،بينما ه ّبت هي لتحمي املجموع كما يفعل طائر البطريق يف القطب اجلنوبي ليفتدي بحياته حياة جماعته. 63
يقول ال�صحفي زهري مارديني يف جملة «اجلديد» بتاريخ � 21أيار �« 1971إن من مزايا ال�سيدة التي أ�شد �أعداء �أفكار الأمينة ،وكان مديراً ل�سجن املزة، عرفتها �أثناء �سجنها من �سجانها الذي كان من � ّ ومن �أعنف ما عرف هذا ال�سجن الأ�سطوري من مدراء� ..أنها ت�ستطيع �أن تقول ل�سامعيها من احلقائق ما ال يريدون �سماعه». هكذا جاءت مذكراتها التي �صدرت عقودا بعد غيابها عام � 2004أ�صدق ترجمة لهذا الت�صريح. ولقد م�ضى عقد من الزمن على �صدور هذه املذكرات التي �أعلنت يف م�ستهلها �أنه «مل ي�سبق �أن تعر�ضت امر�أة من بالدنا ويف �شرقنا من قبل ملثل هذا اال�ضطهاد املمنهج ومل يقابل م�صري يه ّز ال�ضمائر مبثل ما قوبلت به من جتاهل والمباالة» ،بدءاً من �سوقها مع بناتها خمفورة من بيت الرفيق ف�ؤاد �شواف يف الالذقية يف 1متوز � 49إىل فندق بردى يف دم�شق حماطة برجال الأمن ومن ثم من بيت الرفيق ب�شري مو�صللي يف 7متوز �إىل دير �سيدة �صيدنايا بحرا�سة رجال ال�شرطة والأمن يف ما تبني �أنه اعتقال مق ّنع بتواط�ؤ مع رئي�سة الدير ملحا�صرتها ومنعها من القيام ب�أي حترك �أو ات�صال من �ش�أنه �أن ينقذ الزعيم بينما توارى امل�س�ؤولون وف ّروا �إىل عمان. وحيدة واجهت احلملة املحمومة التي قادتها احلكومتان ال�سورية واللبنانية واالكلريو�س ب�شخ�ص البطريرك الك�سندر طحان ورئي�سة الدير ثم قن�صل الأرجنتني يف دم�شق وزميله يف بريوت حلملها على الرحيل �إىل الأرجنتني رغما عنها .وجوبهت برف�ض ريا�ض ال�صلح القاطع عودتها �إىل لبنان فهي تعرف الكثري من �أ�سرار زوجها� .سالحها ذكرى طفولتها املعلقة ب�شغاف قلبها حيث ال معنى لوجودها خارج �أر�ضها ،وانتما�ؤها ال بل ان�صهارها يف �شخ�ص �سعاده واحلركة ال�سورية القومية االجتماعية التي �آمنت ب�أنها �ستعيد لها �سورياها كما عرفتها قبل احلرب العاملية الأوىل و�سايك�س بيكو! ت�ستمد طاقتها من �أ�سرار الطبيعة التي تعيد الأ�سماك �إىل ينابيعها العذبة وتنظم الف�صول يرحلوها عنوة .فخططت لهربها من الدير، وت�سري الرياح يف �أ�شرعة املراكب .ال ،لن ت�سمح ب�أن ّ وقبل التنفيذ عرفت باالنقالب على ح�سني الزعيم و�أعادها �أديب ال�شي�شكلي �إىل دم�شق عودة الأبطال ،حرة معززة. عادت فعادوا من عمان. وحيدة حتملت �أعباء البيت الذي حتول مركزاً للحزب ومقراً مفرو�ضاً عليها لرئي�س احلزب �آنذاك. وال �أجد �أجمل مما ّ خطته خالدة �سعيد تعليقا على ذلك .ويف النهاية تركت يف �سابقة انتهاك �سافرملفهوم القيادة كما �أر�ساه �سعاده .قيادة جتبرّ ت وتف ّردت و�أر�ست نهجا ابتلي احلزب بنكباته مع تعدد قياداته. لذلك ف�إن ما تع ّر�ضت له مع اغتيال عدنان املالكي عام 55بعدما منا احلزب بقوة يف دم�شق يف كافة الأو�ساط مبا فيها اجلي�ش ،جعلها تدرك ب�أن احلزب يتع ّر�ض لعملية ت�صفية على غرار ما جرى عام .49مل يخطئ ظنها و�إن مل يخاجلها ال�شك ب�أنها هي امل�ستهدفة. 64
الذكرى والتحوالت
ما زلت �أحار بال�صمت املريب الذي لفّها �إزاء الأحكام التي �صدرت بحقها يف م�س�ألة ثبت �أن ال عالقة لها بها .فمن حكم باالعدام اىل حكم بال�سجن � 17سنة (منها �سنتان بتهمة ت�شويق الع�سكريني لالنت�ساب للحزبية) .وملاذا و�ضعت هي دون �سواها وبعد �صدور احلكم ،يف ال�سجن االنفرادي يف املزة وحتت حرا�سة م�سلحة ما يقارب �أربع �سنوات قبل �أن يتم نقلها �إىل �سجن القلعة لتم�ضي فيه خم�س �سنوات �أخرى؟؟؟ ثم ملاذا �أبعدت عن بالدها بعد �صدورالعفو عنها يف كانون الأول .3196 ملاذا مل ينتف�ض �أحد على جورالأحكام ومل ي�صرخ �أحد �أملا وحزنا؟ حتتج �أي هيئة حقوقية �أو مدنية �أو حلقوق االن�سان �أو اعالمية �أو ملاذا �سكت اجلميع وال يزال ؟ مل ّ �شعبية �أو ن�سائية على هذا الطغيان اجلائر ،ومل ت�سيرّ �أي م�سرية �أومظاهرة احتجاجية �أواعت�صام! انتابني �شعور بالقهر مل يخب مع تقادم الزمن� ،شبيه مبا ينتاب �أهل غزة من �صمت الأخوة والعرب. وحدة الروح كانت وبيارق الأمل ..ا�شراقة الربيع ودفء احلنان ..م�ضاء العزمية و�صالبة املوقف، فجاءت الأحكام مبقدار �أهميتها يف �إعادة بعث احلياة يف حزب �سعاده الذي مل يفارقها ما دام يف قلبها نب�ض. خالل هذه ال�سنوات تبدلت يف احلزب الأولويات ،ما عادت فل�سطني يف ال�صدارة وخبا الن�شاط احلزبي يف الكيانات ..غرق احلزب ك�سائر الأحزاب يف متاهاته ومل يجر �أي مراجعة تفر�ضها منطلقاته الفكرية فالع�صمة يف بالدنا م�ستحكمة و�أقوى من د�ستورنا وفقه امل�ؤ�س�سات .ومع كل انعطافة وكبوة نزف الكثري من كوادره ال�شابة. يوم �أطلق �سراحها كانت القيادة احلزبية ال تزال تقبع يف ال�سجن يف لبنان والأفق مظلم يف وجه احلزب والأع�ضاء الذين �شتتهم االنقالب ع�شية ر�أ�س �سنة 1962يواجهون حتديات م�صري جمهول. كنا جمموعة �صغرية تعاند م�صائب الت�ش ّرد وتتم ّرد على �ضيق الأحوال وجتمع يف بيت �صغري الكثري من الطلبة والرفقاء والفنانني .اليها تقاطررفقاء مغرتبون من خمتلف القارات .كان نورها أ�شد ا�شعاعا يف ظلمة املنايف البعيدة .حت ّلقوا حولها كما من قبل .وم�ضت هي وحيدة كما من قبل � ّ لتواجه عبء احلياة. ال �أملك �أف�ضل من بطاقة معبرّ ة �أر�سلها لها الأمني كمال خري بك من جنوب فرن�سا يف ربيع عام 1966تقول: الوالدة الط ّيبة، ي�سكن يف �آالمنا ال�ساطعة ندا�ؤه ال�صديق 65
يهيب �أن نغ ّني جراحنا يف قمة احلريق و�أنت يا �سيدة اجلراح غ ّني لنا �أحالمه الرائعة يف عتمة ال�صباح ظ ّلي لنا �صدى ندائه العميق نكاد �أن منوت وحدنا يف وح�شة الطريق تلك هي �أّمي التي احت�ضنتها بعد �أهوال و�آالم ال يدركها �سوى من جت ّرعها وكانت نوراحلياة الذي افتقدته .هي �ضيا�ؤنا كما كانت لأبي. �أ�شكر مل�ؤ�س�سة �سعاده للثقافة تنظيمها لهذا التكرمي الذي يعيد �إىل ال�ضوء تراجيديا رفيقة درب �سعاده التي نعود �إليها كلما �أوغلنايف فواجعنا القوميةويعيدنا �إىل النقطة املحورية� ،إىل فل�سطني مفتاح الوحدة القومية.
66
فكـــــــــر
العبودية املختارة �سليمان بختي -نا�شر وباحث
كتاب «مقالة يف العبودية املختارة»( )1اليتيان دي البوي�سيه ،ترجمة د .م�صطفى �صفوان ،هو �صرخة ور�سالة لأجل االنعتاق الأن�ساين .كتبت هذه املقالة يف القرن ال�ساد�س ع�شر ولكن معانيها ال تزال حا�ضرة يف ع�صرنا الراهن .وهذا يثبت �أن الكتب املهمة حتمل معيار بقائها يف الع�صور مبا حتمله من قوة ان�سانية ومبا متلكه من �أفكار تبقى على مر ال�سنني� .أي العمق وقوة الت�أثري. ولد امل�ؤلف ايتيان دي البوي�سيه عام 1530يف مدينة �سارال ،جنوب ليموج .عا�ش مرحلة بداية النقا�ش التنويري يف �أوروبا وبروز الأفكار احلديثة و�سط �صراع ديني وقومي يف املجتمع الأوروبي �أغرق الب�شر يف نهر من الدماء والبو�س .ورغم ذلك كان هناك طليعة تنزع �إىل التفكري العلمي ومناق�شة الأفكار التي ت�شكل ج�سر اخلال�ص لأوروبا وانتقالها من الظلمة اىل النور. يناق�ش الكتاب فكرة �أ�سا�سية وهي :هل احلرية مطلب مركزي لالن�سانية؟ ملاذا يقبل البع�ض العبودية دون حماولة التخل�ص منها .ويف املقابل يطرح الكتاب �أهمية الوعي وتكوينه يف مواجهة تلك اال�سئلة .يطرحها يف ع�صر امتالك االر�ض واالقطاع والكني�سة .كيف تطور التفكري يف احلرية؟ هل كانت احلرية مطلباً ان�سانياً للمثقفني و�أ�صحاب الوعي فقط؟ وكيف �أ�صبحت الدميقراطية مرادفاً للحرية �إذ ينتخب النا�س بحرية من ميثلهم ويقوم ه�ؤالء بتحقيق م�صالح النا�س وكتابة اجلمل املفيدة يف املجتمع .ولكن الدميقراطية و�صناديق االنتخاب �أ�س�ست لديكتاتوريات �أي�ضاً. فعن طريق �صندوق االنتخاب اعتلى هتلر �سدة احلكم وجلب الويل على �شعبه والعامل .ولو �أن ال�سبب غري املبا�شر كان الو�ضع االقت�صادي واالجتماعي التي رزحت حتته املانيا قبل و�صول هتلر� .إذن �إن �صناديق االقرتاع لي�ست ح ًال قاطعاً هناك عامل �آخر هو املجتمع املدين حتى لتغدو الروابط التي جتمع اجلماعات ال�صغرية يف املجتمع الأكرب لتحقيق �أهدافها هي التي جتعل املجتمع حراً .ولكن يبقى الوعي هو اال�سا�س يف كل ذلك .ي�شري الكاتب �إىل فكرة الوعي بق�صة لها معنى وم�أخوذة من تاريخ الأغريق �أن �شخ�صاً �أخذ جروين من �أم واحدة �أحدهما متت تن�شئته يف املطبخ والثاين يف احلقول .وبعد فرتة جيء بالكلبني وو�ضع �أرنب و�إناء فيه ح�ساء �أمامهما ،اقرتب كلب 67
املطبخ من احل�ساء �أما كلب احلقول فراح يطارد الأرنب .وهذا يعني �أن البيئة تتحكم بالت�صرف وال�سلوك. يرى ايتيان دي البوي�سيه �أن الب�شرية ا�صطدمت مبا �سماه حدود احلرية من جهة و�آليات احلرية من جهة ثانية .وهذا ينتج عنه فكرتا احلرية ال�سلبية واحلرية الإيجابية. واحلرية ال�سلبية هي النطاق الذي ميكن لل�شخ�ص �أن يت�صرف فيه دون �إعاقة من الغري� .أما الإيجابية فهي ان يكون املرء �سيد نف�سه .ولكن للحرية �شروطاً اذا ما توفرت نق�صت عن معناها. وهذه ال�شروط هي: املعرفة الواعية القدرة على االختيار القدرة على تنفيذ هذا االختيار .وهنا يظهر الفرق بني القدرة والعدم. �أما �آليات احلرية فلعلها �أكرث تعقيداً .و�إذا �سلمنا �أن الدميقراطية تكفل للنا�س حق اختيار ممثليهم. فثمة من يقول من املفكرين (كارل مارك�س) �أن النا�س ال يدركون م�صاحلهم احلقيقية وبالتايل وجب قيام طبقة واعية نا�ضجة تقود املجتمع .ولكن ال�س�ؤال يبقى هل ب�إمكان جميع الأفراد يف املجتمع حتقيق م�صاحلهم؟ ودون ذلك �أهوال .وهناك ما ي�سمى عمليات ت�ضليل الر�أي العام مث ًال، او م�صادرة الأغلبية حقوق االقلية� .أو نق�صان وحمدودية وعي الناخب مل�صاحله� .أو حتكم الهوى ال العقل مبنطق الأ�شياء ،ولكن تطور الدميقراطية قدم مفهوم امل�ساواة يف �إطار حقوق الفرد الطبيعية واالن�سانية فيما ي�شبه ال�شرط امل�سبق .وهي عبارة من خم�سة �أنواع من امل�ساواة: امل�ساواة االخالقية. امل�ساواة �أمام القانون (وال�س�ؤال هنا �أي�ضاً هل جوهر القانون هو العقل واالرادة) امل�ساواة ال�سيا�سية. امل�ساواة يف الفر�ص املتوفرة للمواطنني. التفرقة الإيجابية للمحرومني واالقليات واملعاقني واملر�أة. تتطرق «مقالة يف العبودية املختارة» �إىل الوعي وكيف ميكن تطويره .الوعي الذي يرد ال�ضيم الديني والقومي واخلرايف والعقالين .وخ�صو�صاً و�أن و�سائل تطوير الوعي امل�ستحدثة تعمد غالباً �إىل تزييف الوعي (املدار�س -اجلامعات -و�سائل االت�صال احلديثة -والت�ضليل ال�سيا�سي). 68
فكـــــــــر
واجهت �شعوب كثرية ق�ضية النق�ص يف الوعي ولكن احلل ال يكون �إال بالتعليم والتعليم والتثقيف ال�سيا�سي وهما ما تفتقده �أغلبية املجتمعات النامية .يبقى على ال�صعيد القانوين املبد�أ الذي �أبتدعه مونت�سيكو يف ف�صل ال�سلطات ال بل �ضرورات ا�ستحداث �سلطات للحد من تع�سف ال�سلطة .يعجب دي البوي�سيه كيف �أن احليوان ال يتنازل عن حريته �إال بعد دفاع �ضرو�س« .هل يقول الفيل �شيئاً �آخر حني يقاتل دفاعاً عن نف�سه حتى ي�ستنفد قواه ،ويرى �ضياع الأمل و�شوك الأ�سر ،ف�إذاً هو يغر�س فكيه حمطماً على ال�شجر �سنيه؟ هل يقول �شيئاً �آخر �سوى �أن رغبته ال�شديدة يف البقاء حراً ،تلهمه الذكاء ،فتحثه على م�ساومة قنا�صيه لعلهم يرتكون له احلرية ثمناً لعاجه ،ولعله يفتدي به حريته». ويخل�ص الكاتب �إىل �أن طبيعة االن�سان يف �أن يكون حراً ،و�أن يريد كونه كذلك ،ولكن من طبيعته �أي�ضاً �أن يتطبع مبا ن�ش�أ عليه وهو يتنازل عن احلرية ب�سبب احلاجة �أو غياب الوعي. ر�سالة ايتيان دي البوي�سيه حتمل يف طياتها �شهادة �أطلقت قبل خم�سة قرون وال تزال ترن وت�صدي يف العامل ،هي �صرخة لنتعلم مرة «�أن ن�سلك �سلوكاً ح�سناً ،لرنفع �أعيننا �إىل ال�سماء بدعوة من كرامتنا او من حمبة الف�ضيلة ذاتها» .دعوة اىل احلرية موجهة اىل االن�سان يف كل زمان ويف كل مكان .وال بد �أخرياً من اال�شادة برتجمة الدكتور م�صطفى �صفوان ،عامل النف�س الفرن�سي من �أ�صل م�صري ،وهي ترجمة قديرة وعميقة وغنية بالهوام�ش.
( )1مقالة يف العبودة املختارة ،اليتيان دي البوي�سيه ،ترجمة د .م�صطفى �صفوان ،تقدمي د .حممد الرميحي، كتاب الدوحة ،يف � 92صفحة.2014 ،
69
فكـــــــــر
جذور امل�رشوع ال�صهيوين �سعاده �أر�شيد -باحث وكاتب من فل�سطني
تعتمد الرواية ال�صهيونية على وعدين ومقولة ،الوعد الأول هو الوعد امل�ستند للقاعدة الدينية التوراتية،وهو ما يطلق عليه الوعد الرباين ،ويعود لأربعة �آالف �سنه م�ضت ،وذلك عندما منح رب اليهود (يهوه) �أر�ضا لنبيه �أبرام (�إبراهيم) ،على ما جاء يف �سفر التكوين :لن�سلك �أعطي هذه الأر�ض من نهر م�صر (النيل) �إىل النهر الكبري (الفرات) .ون�سل �إبراهيم يف الدعوة ال�صهيونية املعا�صرة هم اليهود املعا�صرون الذين ال زالوا يعتقدون بهذا الوعد و�صالحيته الدينية واحلقوقية، وي�شاركهم يف هذا الر�أي �أتباع امل�سيحية املتهودة (البيورتانية) .وال زال القادة ال�صهيونيون مبن فيهم ويحاجون به. رئي�س الوزراء �ألأ�سبق �أرئيل �شارون( )1واحلايل ،بنيامني نتنياهو ،يرددون هذا الر�أيّ ، كما يزعم امل�ؤرخون ال�صهاينة �أن اليهود �سبق لهم �أن مار�سوا هذا احلق الإلهي تاريخياً ،فقد عا�شوا على هذه الأر�ض ،و�أقاموا عليها الدول واملمالك ،و�شنوا احلروب وكتبوا الأ�شعار واملالحم(،)2 الأمر الذي يعرتيه الكثري من ال�شك من الناحية التاريخية العلمية ،كما �أ ّنه ممزوج بدرجات هائلة من املبالغة. �أم ّا الوعد الثاين فهو الوعد املعتمد �إىل القاعدة ال�سيا�سية وال�صادر عام 1917م عن وزير خارجية بريطانيا ،اللورد �آرثر بلفور (يهوة القرن الع�شرين) ،بر�سالته املوجهة �إىل اللورد روت�شيلد (�إبراهيم اجلديد) حيث يقول فيها�« :إن حكومة جاللة امللك تنظر بعني العطف �إىل ت�أ�سي�س وطن قومي لليهود يف فل�سطني« .وقد �سبق هذا الوعد مرا�سالت بني رئي�س املنظمة ال�صهيونية،الكيميائي الربوف�سور حاييم وايزمان ،وبني احلكومة الربيطانية( ،)3وهي مرا�سالت على قدر من الغرابة �إذ يرد يف ن�صو�صها� :إن احلكومة الربيطانية �ستمنح ال�شركة القانونية اليهودية �سلطة تعطيها احلق يف احل�صول أرا�ض �ست�ؤول للتاج الربيطاين� ،أما ال�سكان احلاليون على �أمالك الدوله يف فل�سطني وعلى �أي � ٍ ف�أعدادهم قليله جدا وهم معدمون متخلفون (ينق�صهم العلم واملعرفة) ،و�إن حتقيق تقدمهم رهن با�ستقدام عن�صر �سكاين جديد لهذه الأر�ض يتمتع بالعلم واملعرفة والتقدم ،بحيث يكون قادراً على �إحداث تغيري نوعي يف حياة ال�سكان احلاليني ،ويدفع بالبالد نحو النماء والتقدم والتنمية. كل ذلك و كانت فل�سطني ال تزال حتت �سيطرة الأتراك العثمانيني ،ومل ت�صبح حتت االحتالل ثم االنتداب الربيطاين( ،وهذا يذكر باملر�سوم امللكي ال�صادر عن امللكة اليزابيث الأوىل والتي متنح 71
فيه �شركه الهند ال�شرقية املحرتمة حقوقا يف امل�ستعمرات الربيطانية يف الهند). ما تقدم ين�سجم مع املقولة التي ذاعت قبل ذلك وتقول �أر�ض بال �شعب ل�شعب بال �أر�ض ون�شرها كتاب و�أدباء ومثقفون ورحالة �إجنليز ،كما ن�شرها الأمريكان الربوت�ستانت الذين جابوا �أر�ض فل�سطني و�شرق املتو�سط منذ منت�صف القرن التا�سع ع�شر خا�صة .وقد �أفرد لها الكاتب ال�شهري �آرثر كو�ستلر( )4درا�سات عدة ،وكان �أول من علق عليها �ساخرا من مقولة ال�شعب املختار وعالقته بن�سب �إبراهيم ،وذلك يف كتابه القبيلة الثالثة ع�شرة ،كما �سخر من الوعد الثاين باعتباره وعد من ال ميلك ملن ال ي�ستحق. تكمل الرواية ال�صهيونية على �أنها تعرب عن تطور حاجات اليهود الأوروبيني يف الن�صف الثاين من القرن التا�سع ع�شر ،والتي �أدت �إىل يقظة ال�شعب العربي ب�سبب ظروف االنعزال واالنغالق االجتماعي والثقايف والنف�سي وال�سلوكي والعي�ش يف الغيتو من جانب وب�سبب ظروف القهر واال�ضطهاد التي عانوا منها يف عموم �أوروبا (با�ستثناء بريطانيا) ونظرة املجتمعات االوروبيه ال�سلبية لهم باعتبارهم جمموعات غريبة و دنيئة تعمل بالربا وتن�شر الرذائل وي�شوب والءها لأوطانها ال�شك (ق�ضيه دريفو�س على �سبيل املثال) ,الأمر الذي جعل ال�صهاينة يتداعون �إىل عقد امل�ؤمتر ال�صهيوين الأول يف مدينه بازل ال�سوي�سرية عام ،1897وكان يف عقد امل�ؤمتر املذكور العالمة الفارقة الأوىل واملحاولة الأهم والأكرث جديه لتنظيم يهود العامل من �أجل البحث عن م�ستقبل جديد وخمتلف لهم ودوله خا�صة ال ي�ضطهدهم فيها �أحد. لطاملا كانت منطقه �شرق املتو�سط ذات �أهميه ق�صوى يف العامل القدمي واحلديث على حد �سواء ,ففي العامل القدمي هي الرابط مابني مراكز احل�ضارة الأوىل :ح�ضارات �سومر وبابل و�أكاد و�أ�سور(�أ�شور) من جهة ،وح�ضارة م�صر القدمية من جهة ثانية ،ثم ما بني من ورثهما من �إمرباطوريات وثقافات فار�سيه �أو عربيه �إ�سالميه ،اغريقيه �أو رومانيه �إذ �أنها الرابط بني قارات العامل القدمي الثالث �أوروربا و�آ�سيا و�إفريقيا ،الأمر الذي �سبب �صراعا دائما ما بني ال�شرق والغرب على �أر�ض هذا ال�شرق وال زالت �أهميتها قائمه ،وال زالت �أر�ض �صراع و�إن تغريت هويات ال�شرق والغرب املرة تلو املرة. جعل ظهور امل�سيحية ،ثم و�صولها للحكم يف عهد الإمرباطور البيزنطي الروماين ال�شهري ق�سطنطني ووالدته امل�ؤمنة هيالنه ،وذلك يف عام ،313من النا�صرة والقد�س وبيت حلم وموقع عمادة امل�سيح و جبل التجربة (قرنطل) بالقرب من �أريحا� ،أماكن مقد�سة تهوي �إليها �أفئده امل�سيحيني يف العامل القدمي ملا لها من قد�سية دينية ومكانة روحية ،ال ب�صفتها الوطنية ال�سيا�سية ،ففيها مهد والدة امل�سيح و مدارج طفولته وعليها �شاهد العامل عظاته ومعجزاته فهي مملكة الرب و مدينته ومكان احلجيج ،وبقي ذلك قائما حتى القرن اخلام�س امليالدي عندما فقدت بع�ض من �أهميتها �إذ حتولت عا�صمة امل�سيحية �إىل روما �إثر بناء كني�سة الفاتيكان الأوىل( )5فوق �ضريح القدي�س بطر�س الذي ب�شر بامل�سيحية يف روما وتلميذ امل�سيح الأقرب والذي اعتربه امل�سيح ال�صخرة التي عليها تقوم كني�سة الرب. 72
فكـــــــــر
ع�صفت الأزمات يف �أوروبا بالقرن احلادي ع�شر من فقر وجماعات وطواعني من جانب ،وتنامي �أعداد النبالء والفر�سان من جانب �آخر مع حمدودية الأر�ض� ،إذ �أ�صبح يف �أوروبا نبالء وفر�سان �أكرث مما ت�ستطيع الإقطاعيات ا�ستيعابه ،الأمر الذي �أدى �إىل حروب دامية ،وكان ذلك عقب تن�صر �أوروبا �شبه الكامل(با�ستثناء الأندل�س) ودخول �شعوب �شمال و�شرق �أوروبا يف الدين امل�سيحي من جرمان وفايكنغ و�سالف( )6وبروز طاقاتهم الهمجية والقتالية التي مل يجدوا طريقا للتنفي�س عنها �إال بال�سرقة والغزو وقطع الطرق و ترويع احلياة العامة ،فال بد �إذن من �إيجاد عدو ،وقد تزامن ذلك مع وجود البابا اوربان الثاين الذي كان ينظر ب�شغف �إىل ال�سيطرة على الق�سطنطينية و�إلغاء �سيطرة البطريرك امل�سكوين املقيم فيها (معادله الديني) وتوحيد امل�سيحية حتت راية الفاتيكان وروما عا�صمة الكاثوليكية .وقد وجد البابا �أوربان الثاين يف ا�ستنجاد الإمرباطور البيزنطي بروما على �أنها هدية من ال�سماء يف الوقت الذي تعاين فيه االمرباطوريه ال�شرقية من ال�ضعف والرتهل و�أمرا�ض ال�شيخوخة والقلق� ،إثر متدد وتو�سع ال�سالجقة يف �آ�سيا ال�صغرى والأنا�ضول( .)7هكذا �أعلن البابا �أوربان الثاين احلرب الفر جنيه الأوىل يف جممع كلري مونت 1195واندفع الأوروبيون �إىل ال�شرق ال�ستعادة القرب املقد�س من �أيدي الكفار نبالء ورعاع ،و هم ير�سمون على مالب�سهم �صليبا �أحمر ودعيت احلرب باحلرب ال�صليبية ،ولكن �أوىل ذبائح هذه احلرب و�ضحاياها كان من مواطني االمرباطوريه الرومانية ال�شرقية من امل�ؤمنني بذات ال�صليب �أال وهم امل�سيحيون من الروم االرثودوك�س ال�شرقيني امللكيني التابعني للكر�سي البطريركي امل�سكوين الق�سطنطيني البيزنطي املناف�س للكر�سي البابوي الالتيني الكاثوليكي ،كما مل تنج كنائ�سهم و�أديرتهم من ال�سرقة والنهب واحلرق ورهبانهم من القتل والتنكيل ,وهذا قبل �أن ينال العرب امل�سلمون �شيئاً من ذلك. دامت هذه احلروب زهاء قرنني من الزمن وانتهت بهزمية امل�شروع الغربي برحيل �آخر الفرجنة يف عهد ال�سلطان اال�شرف خليل بن قالوون ،ويرى امل�ؤرخون �أنها كانت حروبا قذرة ذات نزعة مادية بحتة ،و�إن تدثرت بدثار الدين والتقوى ،فلم يكن �سعي قادة �أوروبا من روحيني :باباوات ورجال دين� ،أو زمنيني :من �أباطرة وملوك وفر�سان � ،إال �إىل ال�سيطرة والنهب والبحث عن الرثوات �أو الأجماد غري ال�شريفة وذلك على ح�ساب ال�شرق كما على ح�ساب الدهماء والرعاع من �شعوبهم. يف القرن اخلام�س ع�شر مت ح�سم العامل القدمي على قاعدة ال�شرق خال�ص لل�شرقيني وذلك ب�سقوط الق�سطنطينية عا�صمة الإمرباطورية الرومانية ال�شرقية على يد حممد الفاحت العثماين �سنه 1453م، يف حني كان مواطنو وع�ساكر البيزنطيني ينظرون نحو الغرب منتظرين امل�ساعدة الع�سكرية من البندقية وبيزا وفلوران�س و�سائر الغرب امل�سيحي .وكان البطاركة يف كاتدرائية �آيا �صوفيا من�شغلون بالنقا�ش احلاد حول جن�س املالئكة ،و�أ�صبح الغرب خال�صاً للغربيني ب�سقوط غرناطة �آخر عوا�صم العرب امل�سلمني يف الأندل�س على يد ملوك الكاثوليك فرديناند و�إيزابيال �سنة 1492يف حني يت�سقط الغرناطيون الأخبار والإ�شاعات عن قرب و�صول الأتراك العثمانيني لفك احل�صار عن 73
غرناطة بينما م�شايخ وفقهاء املدينة حيارى هل البارود من عمل ال�شيطان �أم الإن�سان. �شهد القرن ال�ساد�س ع�شر االنق�سام املذهبي الأخطر داخل الكني�سة الغربية (الكاثوليكية) وذلك ما بني الكاثوليكية الكني�سة الر�سمية وال�شرعية وما بني املحتجني عليها وعلى �سلوك البابا ورجال الدين (الربوت�ستانت) الذين �أخذوا من اجنلرتة دولة حامية لهم متحالفة مع هولندة، و�أعادوا االعتبار للعهد القدمي (التوراة اليهودية) على ح�ساب الأناجيل امل�سيحية وادعوا �أن ال ع�صمة للبابا و�إمنا الع�صمة للكتاب املقد�س واندفعوا نحو درا�سة اليهودية الأمر الذي دعا كثري من امل�ؤرخني �إىل اعتبار الربوت�ستانتية هي اليهودية اجلديدة ولكن جمهورها هو من امل�سيحيني امل�ؤمنني بها (الأغيار) ،يف حني �أن جمهور اليهودية القدمية هو �شعب اهلل املختار فقط ,ومنح اليهود كثرياً من االمتيازات يف اجنلرتة وهولندة و�أ�صبحت قبلة لليهود الباحثني عن حرية. �أعادت الربوت�ستانتية االعتبار لقدا�سة القد�س على ح�ساب روما( )8وانت�شر الإميان الربوت�ستانتي القائل ب�أن عودة اليهود لفل�سطني �ضرورة ال بد منها للعودة الثانية للم�سيح املخل�ص واملنتظر. انت�شرت درا�سة اللغة العربية يف اجنلرتة ولدى الربوت�ستانت عموما ،وبد�أت عمليات �إعادة �إحيائها، وذلك على ح�ساب اللغة الالتينية واليونانية القدمية و�شحنت �أفكار الربوت�ستانت باملفاهيم التوراتية اليهودية ويف مقدمتها الوعد الرباين و�أر�ض امليعاد و�شعب اهلل املختار و�ضرورة عودة ال�شعب املختار �إىل �أر�ضه املوعودة باعتباره امة وهوية قومية ال دين و�إميان وعقيدة( . )9وانت�شرت هواية احلج �إىل القد�س والرتحال يف الأر�ض املقد�سة ،وقد حاول ه�ؤالء الرحالة �إيجاد �صلة بني �أي موقع يزورونه بحادثة �أو ق�صة وردت يف الكتاب املقد�س و�سري انبياءة و �أبطاله ,كان ه�ؤالء الرحالة �أو احلجاج من نبالء ومثقفني من امل�ؤثرين و�أ�صحاب ال�ش�أن يف تكوين الثقافة والر�أي العام يف اجنلرتة وقد لعبوا دورا هاما وم�ؤثرا يف �إحياء العالقة ما بني اليهود ومن ثم الربوت�ستانت و�أر�ض الكتاب املقد�س ،كما ب�شرت هذه املجموعات ب�أن عودة اليهود �إىل فل�سطني ذات �ضرورة ،وهي املحرك الفاعل واملهم وال�ضروري الدافع على عودة امل�سيح وظهوره الثاين. مما ال �شك فيه �أن جمموعة من اليهود �أو الربوت�ستانت املتهوديني الداعني �إىل بث دعاية البعث اليهودي كانت وراء انت�شار هذه الأفكار وذلك ب�صحيفتي التاميز والدايلي تلغراف( )10اململوكتني لعائلة روت�شيلد و�شركه الهند ال�شرقية ،ومن ه�ؤالء دبليو .م طوم�سون امل�سيحي املتهود ولورن�س اوليفانت اليهودي ال�صميم ,و�صدرت العديد من الكتب املن�شورة عن ذات امل�صادر وحتمل ذات الأفكار وامل�ضامني والعناوين مثل (فل�سطني والتوراة) (�أر�ض �إ�سرائيل) (رحالت �إىل �أر�ض الكتاب املقد�س) (مملكة داوود) (�أر�ض اال�سباط) ،وغريها الكثري و هي جميعها تركز على البعد التوراتي للأ�سماء والأماكن يف حني ت�صف الفل�سطينيني ب�أنهم رعاة جمال وغنم ب�شعي املنظر قذرين ،با�ستثناء بع�ض الو�صف مل�شاهد �أغوات وبا�شاوات ون�سائهم ال�سمينات الك�سوالت مبالب�سهن امللونة يف ق�صور احلرمي. 74
فكـــــــــر
عندما بد�أت االكت�شافات اجلغرافية على �أيدي الأ�سبان والربتغاليني� ،سارع االجنليز باللحاق بهم يف �سباق حمموم� ،إىل �أن ح�سم ال�صراع مبعركة الطرف الأغر بني االجنليز والأ�سبان ،وخرج االجنليز من جزيرتهم نحو العوامل اجلديدة واخذوا يتو�سعون ب�سرعة ما �أمكنهم ويجدون يف امل�ضطهدين الربوت�ستانت يف الدول الكاثوليكية جمهوراً جاهزاً لل�سكن يف الأرا�ضي اجلديدة املكت�شفة ،كما وجد ه�ؤالء مالذا لهم ،وعمال وموظفني ومنتجني يعملون لدى ال�شركات و�أ�صحاب الرثوات اجلديدة من الربوت�ستانت الإجنليز والهولنديني وبع�ض الأملان و�أهايل مدينه جنيف ال�سوي�سرية الذين ت�ضخمت ثرواتهم بف�ضل �أفكار منظر الربوت�ستانتية الثاين (بعد مارتن لوثر) جان كالفن حيث تبيح نظرياته الربا ،الأمر الذي دعا �إىل تطور امل�ؤ�س�سات امل�صرفية ومنوها (البنوك). �أعقب حركة االكت�شافات اجلغرافية انتقال بع�ض �إفراد عائلة روت�شيلد اليهودية من �أملانيا �إىل اجنلرتة ،بعد �أن ظهرت الأجواء اجلديدة يف لندن واالمتيازات والت�سهيالت و الت�سامح جتاه احفاد يعقوب التي ح�صل عليها اليهود يف اجنلرتة ،وما بها من ا�ستقرار مايل وفرته النظريات االقت�صادية الربوت�ستانتية و ما يتدفق عليها من ثروات العامل اجلديد� ،سرعان ما �أ�صبحت العائلة الأبرز مالياً يف املجتمع االجنليزي ومموال للحكومة وم�شاريعها وللملكة وطموحاتها ومقر�ضا للنبالء وال�سيا�سيني وربابنة البحار املغامرين ،وت�سيطر على جزء مهم من الأ�ساطيل التجارية التي تنقل الب�ضائع عرب العامل التي تتمتع بحماية البحرية االجنليزية وعلى جتارة ال�شاي والتوابل واحلرير والقطن وعلى �صناعة الن�سيج. يف عام 1600ت�أ�س�ست يف لندن �شركة الهند ال�شرقية االجنليزية املحرتمة على يد عائلة روت�شيلد (،)11 و�أ�صدرت امللكة �إليزابيث الأوىل مر�سوم �إن�شائها الذي �صدقه الربملان فوراً ون�ص على منح ال�شركة �سلطات احتكارية و�إدارية وا�سعة على جتارة الهند وجميع امل�ستعمرات االجنليزية يف جنوب �شرق �آ�سيا وبانفرادها باحتكار �أي معامالت �أو ن�شاط جتاري يف الإقليم املذكور ،وبهذا جعل املر�سوم من القوات االجنليزية والإدارة املدنية �أتباعا لل�شركة التي حتولت �إىل حكومة ت�صدر العملة النقدية وتنظم الربيد وتتحكم باالقت�صاد والإدارة � .سرعان ما ت�أ�س�ست جمموعة من ال�شركات التي حتمل ذات اال�سم منها �شركه الهند ال�شرقية الهولندية �سنة 1602والربتغالية 1628وغريها يف فرن�سا والنم�سا ودول �أوروبيه �أخرى� .أهم فروع ال�شركة بعد الفرع االجنليزي كان الفرع الهولندي وقد احتدا و�أ�صبحت �شركه الهند ال�شرقية املتحدة حتكم وت�سيطر على الهند وال�صني واندوني�سيا و�أجزاء وا�سعة من �آ�سيا وجنوب �إفريقيا ورودي�سيا و�أجزاء �شا�سعة �أخرى من �إفريقيا �أي ما يزيد على ن�صف �سكان العامل. تغري ا�سم �شركة الهند ال�شرقية �أكرث من مرة ،وتفككت و�أعيد تركيبها مرات عدة ،ولكن املالك الرئي�س يف ال�شركة بقي ثابتا وهو عائلة روت�شيلد الذين تو�سعت �أعمالهم عرب فروع ال�شركة يف �سائر �أوروبا� ،أدركوا �أهمية الر�أي العام ف�أ�س�سوا ال�صحف وو�سائل الإعالم و�سيطروا على دور الن�شر و�شركات الطباعة ،ومولوا الأحزاب ال�سيا�سية واجلمعيات االجتماعية واخلريية ،و�صرفوا 75
املال على احلروب والنزاعات ،ومن �أو�ضح الأمثلة على ذلك �أنهم مولوا نابليون و�أعداءه على حد �سواء (مولت عائلة روت�شيلد احلروب النابليونية بـ 100مليون جنيه ا�سرتليني وذلك بدعم نابليون و�أعدائه على حد �سواء) ،وحققوا �أرباحا هائلة �إثر معركة واترلو ب�سبب تفوق نظام الربيد اخلا�ص بهم وبف�ضل نظام الربيد هذا عرفوا نتيجة املعركة قبل �أي �أحد �آخر )12(،ويذكر �أن اللورد روت�شيلد ذهب �صباح ذلك اليوم مبظهر بائ�س وثياب رثة ل�سوق لندن املايل ومعه حقائب مليئة ب�سندات الأ�سهم لبيعها ،افرت�ض اجلمهور �أن الهزمية قد حلقت باملع�سكر االجنليزي وحلفائه و�أن نابليون قد انت�صر لذلك فان روت�شيلد يريد اخلال�ص ال�سريع من �أ�سهمة املعر�ضة للخ�سارة ,فقام اجلمهور ببيع �أ�سهمة ب�أ�سعار بالغة التدين يف حني كان موظفو روت�شيلد يقومون بال�شراء ،يف اليوم التايل ظهرت نتيجة احلرب بانت�صار اجنلرتة وحتالفها وهزمية نابليون النهائية ،ارتفعت �أ�سعار الأ�سهم فوق ما كانت عليه وبذلك حقق روت�شيلد �أرباحا قدرت يف حينه بـ 20مليون جنيه ا�سرتليني خالل � 24ساعة. قرر جرنال فرن�سا ال�شاب والطموح نابليون بونابرت االبتعاد عن �أجواء ال�سيا�سة الفرن�سية املري�ضة وم�ؤامراتها ولو �إىل حني ,والحظ �أن ع�صر االكت�شافات اجلغرافية قد انق�ضى ،فلم يعد هناك مكان يف العامل مل يكت�شف بعد ،اتخذ بونابرت قراره ب�إعادة اكت�شاف العامل القدمي ,و�أبحر �إىل م�صر بع�ساكره وعلمائه ،ويف ذهنه �أجماد احلروب القدمية و�أبطالها ومبتعدا بذلك عن باري�س و�أجوائها املري�ضة وقاطعا الطريق الربي القدمي للهند �أمام خ�صوم فرن�سا االجنليز والهولنديني.هذه احلملة كان لها �أبعادها ومفاعيلها الطويلة املدى والتي فاقت ما كان بذهن نابليون� .أدرك اجلرنال معايري الأمن القومي مل�صر و�أن مفتاح �أمنها يف عكا (فل�سطني) ودون ال�سيطرة على عكا تكون م�صر مك�شوفة ا�سرتاتيجيا و التايل ال بد له من ت�أمني م�صر باحتالل فل�سطني و هذا يعني اال�شتباك من جديد مع الدولة العثمانية .زحف نابليون بع�ساكره على طريق ال�ساحل مدمرا و حمرقا و فاحتا �إىل �أن توقف طويال �أمام �أ�سوار عكا عاجزا �أمامها ب�سبب مناعة حت�صيناتها و�أمام �صمود وعناد اجلزار با�شا املدعوم بحراً من الأتراك العثمانيني ومن الأ�سطول االجنليزي ,وارتد ناقما مهزوما ولكن بعد �أن �أدرك �ضرورة �إن�شاء ج�سم غريب يف فل�سطني يف�صل م�صر عن امل�شرق( ،)13ومن خارج الأ�سوار �أطلق نداءه �إىل يهود العامل (بالطبع عرب روت�شيلد باعتباره اليهودي الأول) وقد ورد يف الن�ص: «�إىل ال�شعب اليهودي العظيم� ...أال عودوا �إىل ار�ض �آبائكم� ...أال هبوا فها قد �سنحت الفر�صة التي قد ال تتكرر ثانية من �أجل ا�سرتداد حقوقكم التي حرمتم منها طيلة �إلفي �سنة ومن اجل ا�ستعادة كيانكم ال�سيا�سي ك�أمة»... عاد نابليون �إىل م�صر مهزوما وم�أزوما لي�سلم القيادة �سريعا �إىل نائبة اجلرنال كليرب و يعود �إىل فرن�سا وبقيت احلملة الفرن�سية بعد ذلك قرابة ال�سنتني �إىل �أن غادر �آخر جندي فرن�سي م�صر يف �أيلول ،1801وبذلك طويت �صفحة احلملة كاحتالل ووجود فيزيائي ولكن �آثارها بقيت م�ستمرة. ا�ستطاع الوايل العثماين حممد علي با�شا الألباين �إحكام قب�ضته على م�صر بعد مذبحة املماليك، 76
فكـــــــــر
الذين مثلوا القوة الع�سكرية وال�سيا�سية يف م�صر لقرون ولكنهم يف �أواخر �أيامهم فقدوا �شكيمتهم القتالية وترهلت هياكلهم الإدارية ومل ت�صمد �أمام ال�صدمة الع�سكرية والعلمية التي �أحدثتها احلملة الفرن�سية وما قدمت من مناذج متطورة وغريبة يف املجاالت الع�سكرية �أو االداريه .اخلال�ص من املماليك فتح الباب وا�سعا �أمام با�شا م�صر امل�ستنري وامل�صاب بالده�شة مما ر�أى من �آثار احلملة الفرن�سية وتقدمها ومناذجها العلمية والإدارية والع�سكرية .ابتعث حممد علي �أعداد غفرية من ال�شباب امل�صري �إىل فرن�سا لدرا�سة العلوم احلديثة ويف �شتى امليادين الع�سكرية وال�صناعية والزراعية واالداريه والعمرانية ،وعندما عادوا كان منهم الأطباء ومهند�سي اجل�سور وال�سدود وخمططي املدن والزراعيني وخرباء الري والإداريني واملحا�سبيني واحلقوقيني ،الأمر الذي جعل م�صر قوة ال ي�ستهان بها� .أما حفيده اخلديوي �إ�سماعيل فقد ا�ستطاع �إكمال م�سرية جده ف�أ�صبحت م�صر يف عهده من الدول املتقدمة وامل�ستقلة و�أن تبعت �شكال للدولة العثمانية ،انت�شرت دور العلم وت�أ�س�ست دار العلوم (جامعة) ودواوين الفتوى والت�شريع واملحا�سبة واملوظفني ,ومل�صر برملان ووزارة خارجية ومعاهد للفنون اجلميلة ودار للأوبرا ,ولكن احلدث الأبرز عامليا وتاريخيا كان يف امل�شروع امل�شرتك بني اخلديوي امل�ستنري وامل�سرف وبني املهند�س املثقف والعبقري الفرن�سي فرديناند دو لي�سب�س وهو �شق قناة ال�سوي�س الذي ف�صل قارة �آ�سيا عن �إفريقيا وجعل من الهند وال�صني واندوني�سيا و�سائر امل�ستعمرات االجنليزية �أقرب مما كانت عليه �إىل �أوروبا و�أ�سواقها عندما كانت الأ�ساطيل التجارية تبحر عرب ر�أ�س الرجاء ال�صالح ،هذا امل�شروع �أ�صبح قطب اجلذب للقوى االقت�صادية العاملية والقوى اال�ستعمارية التي �أرادت بعد حملة نابليون �إعادة اكت�شاف العامل القدمي بعد �أن �أمتت اكت�شاف العوامل اجلديدة. كان اخلديوي �إ�سماعيل ذا طموح تنموي و�سيا�سي ا�ستقاليل وا�سع مع �إعجاب كبري بالنموذج الفرن�سي-االيطايل ،ولكنه كان �شديد الإ�سراف وبالغ اال�ستعجال مما جعل طموحاته تفوق امكانياته ،ومن اجل اال�ستمرار يف م�شاريعه الطموحة وا�سرافه ال�شديد جل�أ اخلديوي لال�ستدانة من البنوك الأوروبية ،ومل تكن ال�صدفة هي التي جعلت من بنوك و�شركات روت�شيلد الأ�سرع والأ�سهل يف تلبية احلاجات املالية والنقدية للخديوي ،فقد �شعر ليونيل روت�شيلد مبا ميلك املرابي من ح�س فائق بذلك وكان يعرف �أن اخلديوي �سيعجز عن ال�سداد وبالتايل �سي�ضطر لبيع �أ�سهم م�صر قي �شركة قناة ال�سوي�س والتي كانت �أ�ساطيل و�سفن روت�شيلد املبحرة ذهابا و�إيابا عرب القناة زبونها الأول� ،أما يف اجنلرتة فقد ا�ستطاع روت�شيلد �إقناع �أو �إلزام امللكة فيكتوريا والربملان االجنليزي بتكليف �صديقه اليهودي بنجامني دزرائيلي (اللورد بيكون�سفيلد فيما بعد) بت�شكيل احلكومة، وهو الذي �أمعن يف توريط ال�سيا�سة االجنليزية يف م�صر و�شرق املتو�سط( )14ويف دعم الدوله العثمانية باعتبارها خط الدفاع الأول يف مواجهه التمدد الرو�سي ،كما ا�ستطاع دزرائيلي احل�صول من روت�شيلد على قر�ض ل�شراء %44من �أ�سهم �شركة قناة ال�سوي�س ل�صالح احلكومة( )15برغم معار�ضة احلكومة والربملان ,وبذلك �أ�صبحت احلكومة االجنليزية وروت�شيلد و�شركاته وم�صارفه ميلكون �أكرث 77
من %50من �أ�سهم �شركة قناة ال�سوي�س .الأمر الذي مهد الحتالل الإجنليز مل�صر عام 1882حتت ذريعة حماية ح�ص�صهم وا�ستثماراتهم يف �شركة قناة ال�سوي�س ,وهكذا ت�ؤمن �شركة الهند ال�شرقية و�صاحبها اللورد روت�شيلد واحلكومة الربيطانية �شرايينها املالية باحلفاظ على خطوط ات�صالها مع م�ستعمراتها يف الهند وال�صني واندوني�سيا وباقي �آ�سيا وتقطع الطريق �أمام مناف�سيها. وفق منطق الأمن اال�سرتاتيجي امل�صري واملتبع منذ القدم ،كان ال بد من التفكري بحماية قناة ال�سوي�س من ال�شرق وهو الأمر الذي راود روت�شيلد منذ البدء بتنفيذ م�شروع قناة ال�سوي�س ،من هنا ظهرت فكرة �إقامة وطن قومي لليهود يف �سيناء التي �أطلقوا عليها يف �أدبياتهم ا�سم فل�سطني امل�صرية ،وقد مت ن�شر الكثري من الأدبيات يف اجنلرتة و�أملانيا والنم�سا بهذا اخل�صو�ص ،تتحدث عن �سيناء ومكانتها اليهودية ،وعالقاتها بالو�صايا الع�شر والف�صح اليهودي واملن وال�سلوى وموائد ال�سماء� ,إ�ضافة �إىل الروايات عن التيه وبطوالته و ق�ص�صه وعذاباته كما ح�صل يف املرة الأوىل ،و�أن ال بد لليهود قبل الدخول �إىل فل�سطني من ال�ضياع مرة �أخرى يف تلك ال�صحراء ،فهي املطهر واملمر الإلزامي لفل�سطني ولهذه الق�ص�ص والنظريات ما ي�ؤيدها يف التوراة والأ�ساطري اليهودية .لكن امل�شروع ف�شل ومت التخلي عنه ب�سبب جفاف ال�صحراء و�صعوبة نقل املياه �إليها يف ذلك الزمن، �إ�ضافة �إىل عدم الرغبة يف �إثارة غ�ضب الأتراك العثمانيني الذين ميثلون �ضرورة �سيا�سية لالجنليز باعتبارهم خط الدفاع الأول �أمام التمدد الرو�سي. تيودور هرت�سل يهودي من�ساوي �شاب غري متدين(( )16و رمبا غري م�ؤمن) وال يعرف اللغة العربية ومل ميار�س �صالة �أو يتبع �أي طق�س ديني يهودي ،ويقول من كتبوا �سريته من امل�ؤرخني �أنه كان يرغب بالتحول للم�سيحية لوال �إ�شفاقه على والده .عمل حماميا يف فيينا -النم�سا ,ومل ي�صب جناحا يف املهنة فتحول للكتابة امل�سرحية ومرا�سلة �إحدى ال�صحف يف �ش�ؤون النقد امل�سرحي ،وقد و�صف النقاد عملة امل�سرحي (الغيتو) ب�أنه عمل متوا�ضع وال ينم عن موهبة.عانى من م�شاكل مالية اعتقد �أنه قادر على حلها بزواجه من فتاة تنتمي �إىل �أ�سرة ثرية ،لكن زواجه الذي �أنتج ابنتني وابناً ف�شل ف�شال ذريعا ب�سبب �أنه كان يعاين من �أمرا�ض جن�سية مزمنة يبدو �أنه انتقلت �إىل �أبنائه الذين عا�شوا حياة قلقة ومتعرثة �أف�ضت باثنني منهم لالنتحار �أما البنت الثالثة فقد تزوجت و�أجنبت ابنا ولكنها ق�ضت نهايتها يف م�ست�شفى للأمرا�ض العقلية �أما ابنها الوحيد الباقي من �صلب هرت�سل فقد �أقدم على االنتحار على غرار �أخواله. ب�شكل مفاجئ حتول هرت�سل من رجل ع�صري علماين مندمج يف احلياة الأوروبية �إىل يهودي متحم�س ي�ضع على عاتقه البحث عن خال�ص اليهود يف العامل ,وت�شري كثري من امل�صادر �أنه كلف بذلك من قبل روت�شيلد كما يت�ضح من ر�سائله للورد روت�شيلد( )17والتي ت�شبه تقارير ير�سلها املوظف لرب عملة .يف عام � 1895ألف هرت�سل كتابة ال�شهري دولة لليهود باللغة االملانيه الذي ترجم خط�أ فيما بعد بعنوان الدولة اليهودية� ،إذ طالب يف كتابه هذا بدولة خا�صة لليهود يعي�شون 78
فكـــــــــر
فيها دون ا�ضطهاد �أو �إكراه يف الدين ,وقدم اقرتاحات افرتا�ضية ملكان قيام الدولة وا�ضعاً خيارات واحتماالت يف فل�سطني �أو �سيناء �أو قرب�ص �أو اوغندة �أو الأرجنتني� ،أثناء ذلك كان هرت�سل يجري االت�صاالت باليهود عرب العامل لتنظيم عقد م�ؤمتر يهودي ومناق�شة �أ�ساليب اخلال�ص ومنها الدولة املذكورة� ،أ�سفرت االت�صاالت عن عقد امل�ؤمتر يف املدينة ال�سوي�سرية بازل بعد �أن تعذرت �إمكانيات عقدة يف ميونخ الأملانية كما كان مقررا.تواجد يف بازل قرابة 600يهودي على �أن �أع�ضاء امل�ؤمتر الذين يحق لهم الت�صويت كان 204ع�ضواً. يف خطاب االفتتاح الق�صري( )18كان وا�ضحا انحياز هرت�سل لفل�سطني مكانا لدولة اليهود� ،إال انه �أبقى الباب مفتوحا �أمام خيارات �أخرى ,فامل�ؤمتر مل يقطع مبكان و�إمنا حتدث عن توفر خيارات متعددة منها فل�سطني واوغندة والأرجنتني� .شكل امل�ؤمتر نقطة البداية واالنطالق للم�شروع اليهودي العاملي والذي �أ�صبح يحمل ا�سم امل�شروع ال�صهيوين ،ومت يف امل�ؤمتر ت�أ�سي�س الهيئات القيادية ومناق�شة �أحوال اجلوايل اليهودية وت�أ�سي�س �صندوق مايل بقيمة 2مليون جنيه ا�سرتليني ومت انتخاب هرت�سل رئي�سا للم�ؤمتر ورئي�سا للمنظمة ال�صهيونية العاملية ,ومت تكليف مبهام االت�صال بالعوا�صم العاملية املقررة وذات النفوذ الدويل من اجل �إجناح امل�شروع و�ضمان ت�أبيدة ورعايته. ما ت�ؤكد عليه ر�سائل هرت�سل �إىل اللورد روت�شيلد( )19وبع�ضها يعود �إىل ما قبل عقد امل�ؤمتر ال�صهيوين الأول بب�ضع �سنني �أن لهذا الأخري م�صالح يف �أوغندة تتعلق مبنابع النيل وجتارة الأمالح والعاج وله كذلك م�صالح يف الأرجنتني حيث م�صدر اللحوم الأول ،كما يف فل�سطني حلماية م�صاحله يف قناة ال�سوي�س ،وهذا الدافع االقت�صادي امل�صلحي هو ما يجعل رجل املال الأول يف العامل يوظف اليهودي غري امللتزم بالعمل على م�شروع دوله لليهود وعلى عقد م�ؤمتر بازل .من اجلدير ذكره �أن أرا�ض أرا�ض يف فل�سطني و�إقامة قرى يهودية عليها (م�ستوطنات) منها � ٍ اللورد روت�شيلد مول �شراء � ٍ بالقرب من يافا و�أخرى يف عتليت وزارها يف عام .1895 تو�صلت اجنلرتة �إىل ت�سوية خالفاتها مع رو�سيا القي�صرية ،وبالتايل مل تعد الدوله العثمانية �ضرورة من �ضروراتها ال�سيا�سة وتتحا�شى �إغ�ضابها .كان من الوا�ضح منذ مطلع القرن الع�شرين �أن الدولة العثمانية قد ح�سمت خياراتها باجتاه التحالف مع �أملانيا وحمورها وقام القي�صر الأملاين غيلوم بزيارة ال�سلطان عبد احلميد و�أكمل ترحالة بزيارة دم�شق والقد�س ,و�شرعت ال�شركات الأملانية بتنفيذ م�شاريع ربط ا�سطنبول بالب�صرة واحلجاز بال�سكك احلديدية� .أعاد ذلك االتفاق الرو�سي االجنليزي فل�سطني �إىل واجهه الأولويات كمكان تقوم به الدولة اليهودية وهو بديل مريح ففل�سطني متلك من اجلاذبية الروحية والدينية ما ال يتوفر ل�سواها من اخليارات خا�صة بكل ما ا�ستثمر �أدبيا وفكريا يف الن�صف الثاين من القرن التا�سع ع�شر. عقد يف لندن عام )20(1907م�ؤمتر الدول اال�ستعمارية حيث برز جنم رئي�س الوزراء االجنليزي هرني كامبل بانرمان ،ب�صفته فيل�سوف امل�ؤمتر ووا�ضع تقريره النهائي الذي ين�ص� :أن منطقة �شرق 79
املتو�سط (بالد ال�شام والعراق) و�شمال �إفريقيا (مبا فيها م�صر) هي الوريث املحتمل للح�ضارة الغربية -ح�ضارة الرجل الأبي�ض -احل�ضارة اليهو-م�سيحية ،وهي منطقة تت�سم بالعداء ال�شديد والبغ�ض للح�ضارة االوروبيه ولذلك يرى امل�ؤمتر �ضرورة العمل على امل�سائل التالية: تق�سيم هذه املناطق ،ومنع قيام دول مركزية قوية فيها. عدم ال�سماح بنقل التكنولوجيا واملعارف احلديثة لهذه املناطق ومنعها من التقدم والتطور. �إثارة النزاعات والعداء بني �شعوبها وطوائفها واثنياتها و�إ�شعال احلروب الأهلية بينهم. زرع ج�سم غريب ومعا ٍد ل�شعوب املنطقة ومواليا للدول اال�ستعمارية ويف خدمتها على �أن يف�صل بني �شرق املتو�سط و�شمال �إفريقيا ،و�أن يحول دون ا�ستقرار املنطقة وميثل عامل قلق وا�ضطراب وتفرقة. بالطبع ملن يكن بانرمان بعيداً يف طرحه هذا عن �أفكار وم�صالح اللورد روت�شيلد وعن �أفكار ومقررات امل�ؤمترات ال�صهيونية التي تعاقبت وح�سمت �أمر مكان دولة اليهود يف فل�سطني ففي هذا احلل حماية من ال�شرق لقناة ال�سوي�س . هكذا تقرتب ال�صورة التي يحاول هذا البحث تقدميها من الو�ضوح ,وذلك ب�أن امل�شروع ال�صهيوين من �أ�سا�سه والدولة اليهودية التي �أقامها فيما بعد على �أر�ض فل�سطني لي�سا �إال تعبرياً عن التحالف ما بني ر�أ�س املال اجل�شع واملتوح�ش بال حدود ,وبني القوى اال�ستعمارية التي حتاكيه ج�شعا ووح�شية ,وهو حتالف ال ميلك �أي �ضوابط �أخالقية �أو �إن�سانية ,ومل تكن الأدبيات والروايات التوراتية والبعاد الدينية االجنيليه (الربوت�ستانتية) والوعود الربانية �إال مربرا و�أداة لتحقيق هذه الأهداف . -1
كارل عي�سى �صباغ ,فل�سطني تاريخ �شخ�صي ,امل�ؤ�س�سة العربية للدرا�سات و الن�شر� ,2013 ,ص95 2- j.m.n Jeffries, Palestine: the realty, longmams 1939, p11. 3- ipid. 4- arthur kostler, promise and fulfillment 1917-1949, macmillan 1949, p4.
80
فكـــــــــر
حتديات العوملة وعالقتها بالرتاث واحلداثة ّ
مها خريبك نا�صر � -أ�ستاذة جامعية
�أوالً :كلمات ومفاتيح
التحدي وما �أ�سند �إليه كرثت الدرا�سات وامللتقيات الثقاف ّية والفكر ّية التي تناولت م�صطلح ّ بالنعت �أو بالعطف �أو بالإ�ضافة من م�صطلحات �أخرى ،منها الثقافة واحلداثة والرتاث ،وجاءت متنوعة ،مثل« :اللغة العرب ّية وحتديات العوملة -العوملة هذه الدرا�سات وامللتقيات حتت عناوين ّ والتعدد الثقا ّيف -العوملة والثقافة -العوملة والتحد ّيات الثقاف ّية -العوملة والتحدي الثقا ّيف -العوملة ّ والرتاث-هويتنا بني الرتاث والعوملة -العوملة الثقاف ّية يف مواجهة الرتاث -حتديات الهو ّية الرتاث ّية يف العوملة -عوملة احلداثة وحداثة العوملة» ،وغريها وغريها من العناوين التي الميكن ح�صرها �إ ّال بعمل ّية �إح�صاء علم ّية دقيقة. تهدف الإ�شارة �إىل هذا الفي�ض من الدرا�سات والأبحاث والندوات �إىل �أنّ للعوملة �سلطة مبا�شرة ِ هاج�سا يت�س ّلل وغري مبا�شرة على الف�ضاءات الثقاف ّية والفكر ّية والعلم ّية ،و�صار الكالم عليها ً �إىل معظم الندوات وامللتقيات وامل�ؤمترات التي تبحث يف ق�ضايا الفكر املعا�صر وعالقاته بالرتاث واحلداثة والثقافة لأنّ بع�ض الباحثني والدار�سني قر�أوا من خالل �أهدافها الظاهرة وامل�ستبطنة الأخطار التي تتجاوز عوملة االقت�صاد وال�سيا�سة �إىل عوملة الفكر والثقافة وذلك من خالل فر�ض قومي ومن ّثم تكون ال�سيادة لغة عامل ّية واحدة ون�سق معر ّيف واحد ي�شي ب�إلغاء � ّأي ن�سق معر ّيف ّ التعدد حتددها �سلطة موجهة غايتها تعميم التبع ّية الفكر ّية و�إلغاء ّ لوجبات معرف ّية م�سبقة ال�صنع ّ والتن ّوع. �إنّ الكالم على حتد ّيات العوملة وعلى عالقتها بالرتاث واحلداثة حتتاج �إىل �إدراك مفهوم ّ كل م�صطلح من هذه امل�صطلحات التي ت�شغل حي ًزا كب ًريا من خطابات املهتمني بال�ش�أن الثقايف ،لأنّ اجلهل بدالالت امل�صطلح يف�ضي �إىل نتائج غري دقيقة ،وفق ما ذهب �إليه فولتري يف قوله� :إذا �أردت فحدد م�صطلحاتك» .ولكن ما هو التعريف اجلامع واملتفق عليه للعوملة؟ �أن تتحدث معي ّ 81
مما ّ واال�صطالحي ومبفهومه ودالالته. اللغوي ال�شك فيه �أنّ تعريف � ّأي م�صطلح يرتبط مبعناه ّ ّ بتعدد تعددت ترجماته ّ إنكليزي ّ ،Globalization وم�صطلح العوملة املرتجم عن امل�صطلح ال ّ ين� ،أو بالكوكبة �أو بال�شوملة ،ولكن كانت لفظة املفاهيم ،فذهب بع�ضهم �إىل ترجمته بالكو ّ العوملة �أكرث �شيو ًعا وتداو ًال ،فكرثت التعريفات لكلمة العوملة وتباينت مفاهيمها بتباين اخللفيات الإيديولوج ّية والثقاف ّية والفكر ّية واحل�ضار ّية ،فو�ضع علماء االقت�صاد تعريفات ،وكذلك فعل علماء ال�سيا�سة والفل�سفة واالجتماع واللغويون[ ، ]1ومل يكن من تعريف جامع ومتفق عليه ،فربط بع�ضهم م�صطلح العوملة بالدولة الراع ّية والداعمة م�صاحلها ،فر�أوا فيها �أمركة .وذهب �آخرون �إىل واجتماعي وثقا ّيف ي�سعى �إىل ابتالع الأ�شياء والب�شر و�سيا�سي اقت�صادي االعتقاد �أنّ العوملة نظام ّ ّ ّ يف �سبيل متثّلهم وه�ضمهم و�إخراجهم �سل ًعا جديدة. العربي ،وفق قناعتي� ،إىل �أنّ مفهوم العوملة يفيد التعميم العربي وغري اللغوي ي�شري املعنى ّ ّ ّ و�إك�ساب ال�شيء بع ًدا عامل ًّيا ،لأنّ هذا امل�صطلح ي�ضمر فعلاً �إلغائ ًّيا يهدف �إىل نقل املحدود املراقب افرتا�ضي يغري بالإنت�ساب �إىل �إىل الالحمدود ،و�إىل �إلغاء احلدود اجلغراف ّية ،و�إىل خلق عامل ّ العامل ّية والكون ّية ،فيكون االقت�صاد معوملًا ،وكذلك ال�سيا�سة والأخالق والفكر والثقافة والعلوم احل�ضاري. والإرث ّ ح�ضاري عظيم ،لتعيد �صياغته وفق ت�سعى العوملة �إىل ال�سطو على تراث الأمم املنت�سبة �إىل �إرث ّ �أهدافها املاد ّية ،ومن ثم تعيد ت�صديره ،بعد �إخفاء خ�صو�صيته ،مبا يتوافق وطموحات الدول اال�ستعمار ّية اجلديدة املتغولة اقت�صاد ّيا ،واملتمددة ا�ستعما ًرا فكر ًّيا وثقاف ًّيا ،وهذا القن�ص وال�سطو العلمي العربي ّ والتمدد ّ ّ أوربي ،لي�س ببعيد ،قامت نه�ضته على ترجمة الرتاث ّ ج�سده ا�ستعمار � ّ والفكري الذي حظي باهتمام ط ّالب �أورب ّيني ق�صدوا اجلامعات الأندل�س ّية ومنها جامعتا قرطبة ّ رئي�سا من عوامل النه�ضة الثقاف ّية وطليطلة ،ف�أفاد الأورب ّيون من الرتجمات التي كانت عام ًال ً والعلم ّية الغرب ّية. ت� ّؤكد الدرا�سات والأبحاث �أنّ الرتاث عامل رئي�س من عوامل ت�شكيل هو ّية الأمم الثقاف ّية ،وبخا�صة أ�سا�سا يف تدعيم الروابط القوم ّية ،فالرتاث هو الف�ضاء الناب�ض الهو ّية الثقاف ّية ،لأنّ للرتاث دو ًرا � ً باحلياة واحلركة والدميومة والنماء ،وهو الإرث الفكري املرتاكم بفعل جهود الأجيال املتعاقبة واحل�ضاري الرا�شح بخربات �إن�سان ّية �أن�ضجت الرتاثي الفكري خمزون الأ ّمة التي �أنتج حراكها ّ ّ ّ الت�صورات وابتكرات املفاهيم واملعتقدات والقيم والعادات والتقاليد و�صاغت الر�ؤى يف فنون �أدب ّية ونظريات علم ّية حت ّر�ض على التفكري واخللق والإبداع يف �شتى املجاالت الفكر ّية. قيمي قابل للحركة والتفاعل الكيميائّي وللتوليد والإحياء� ،شريطة يتمايز تراث الأمم احل ّية مبوروث ّ �أن يكون �أبناء هذه الأمم واثقني ب�أنف�سهم وقادرين على الإفادة من اللحظات الأكرث �إ�ضاءة من الرتاث والعمل على حتديث ي�ضمن التوا�صل مع الأ�صل بقدر ماي�ضمن جتاوزه ،وبهذه العمل ّية 82
فكـــــــــر
احلداثي ،لأنّ احلداثة ال ت�أتي من فراغ بل من �أ�صل ثابت تكت�سب الثقافة اجلديدة �صفة الأدب ّ ي� َّؤ�س�س عليه ،فال حداثة من دون �أ�صالة. إبداعي ميكن القول �إنّ الكالم على خماطر أ�صيلي /ال ّ ا�ستنا ًدا �إىل مفهوم احلداثة الت� ّ احلداثي ي�ضمر طاقة احلداثة،وبخا�صة احلداثة الأدب ّية والفكر ّية والثقاف ّية ،لي�س دقيقًا ،لأنّ الفعل ّ خلق و�إبداع وجتديد ،وهذه امل�صطلحات يرتبط حتقّق مفهومها بوجود �أ�صل �سابق تتجاوزه بقدر ما تكون عالقتها بهذا الأ�صل عالقة تفاعل وخلق وتوليد ،فال حداثة من دون �أ�صل ي�ضمن ح�ضانة اجليني ،ليكون املولود قاد ًرا على اال�ستمرار يف � ٍآت يح ّر�ض على التجاوز الرحم ،و�أ�صالة الت�شكيل ّ والتخطي ،لذلك اليجوز ربط احلداثة بالعوملة ،و�إنمّ ا يجوز ربط مفاهيم مابعد احلداثة بالعوملة ،لأنّ تقدم جوهر ما بعد احلداثة يرتكز على فكرة التقوي�ض والهدم والفو�ضى والتفكيك من دون �أن ّ والعلمي ،ولذلك تبدو �أهدافها متوافقة مع الأن�ساق الواقعي والثقا ّيف نظرية ما بعد احلداثة البديل ّ ّ ال�شمول ّية والقمع ّية التي ت�سعى �إىل الهيمنة وال�سيطرة والظلم االجتماعي وهذه اخل�صائ�ص تتوافق اللغوي ونظرية الفو�ضى اخل ّالقة والربامج التعليم ّية يف املراحل ك ّلها وجت�سدها حالة الت�شظي ّ والتفكك والالنظام. تقود املعطيات ال�سابق ذكرها �إىل طرح �أ�سئلة ال ح�صر لها ،وربمّ ا كان من �أهمها ما يبحث عن طبيعة العالقة بني العوملة واحلداثة والأ�صول ّية احلديثة ،فالعوملة �إلغائ ّية ،والفكر الأ�صو ّيل اجلديد تفكيكي ،ومن �أهم �أهدافها عدمي /عبثي/ إلغائي ،ونظرية ما بعد احلداثة لها طابع ّ ّ فو�ضوي ّ / � ّ �إلغاء املركز ّية ،فهي �أداة من �أدوات الإلغاء املعومل .فهل جاءت فل�سفة ما بعد احلداثة وما رافقه من نظريات تفكيك ّية لتق ّو�ض الثوابت التي ميكن الت�أ�سي�س عليه؟ وهل جاء تدمري الآثار يف املنطقة العرب ّية ا�ستجابة لروح هذه النظر ّية؟ وهل ما تتبناه امل�ؤ�س�سات الرتبو ّية من برامج ُت�شعر املتلقي فكري كاذب يخدم �أهداف ما بعد احلداثة؟ وهل ما تكتظ به ال�صحف ودور الن�شر واملواقع بامتالء ّ العبثي؟ االلكرتون ّية من �أبحاث ودرا�سات مفرغة من املنهج واملنهج ّية يتطابق مع الطابع ّ الفو�ضوي ّ وهل خلق قطيعة مربجمة مع الرتاث واحل�ضارة العرب ّية يق ّو�ض املجتمعات من الداخل؟ �إنّ الإجابة عن هذه الأ�سئلة حتتاج �إىل حما�ضرات و�أبحاث ودرا�سات وكتب ،ولكن يجوز و�ضع فر�ض ّية تختزل الإجابات وتقول �إنّ تطبيق طروحات مابعد احلداثة وطروحات الفكر الأ�صو ّيل ما هي �إ ّال مناهج م�ساعدة ُت�ضمر خدمة لأهداف العوملة الثقاف ّية واحل�ضار ّية والرتاث ّية ،لكونها �أدوات ّ العربي امل�أزوم غري م�ضطر �إىل يوظفها ا�ستعمار جديد ب�أ�سماء خمتلفة ،فاال�ستعمار يف هذا الزمن ّ تكبد اخل�سائر املاد ّية والب�شر ّية واملعنو ّية ،فهو يقاتل العرب بالعرب ويح ّر�ض على �أن يقتل الأخ واملعنوي ،فينتج من ّ كل ذلك تقوي�ض املادي ّ وي�شجع على نبذ القيم وعلى تدمري الرتاث ّ �أخاهّ ، الهدامة وزرع اخلالفات التي ت�ضاعف التوترات النف�س ّية وتوقظ العقد االجتماعي ون�شر الفو�ضى ّ ّ االنتماءات العرق ّية والطائفية ،وت�ضرم نار احلرب الداخلية واخلارج ّية ومن ّثم تت�أجج نار احلقد 83
أ�شد خط ًرا من اال�ستعمار املبا�شر.فكيف تداخلت املفاهيم؟ وهل ي�ستطيع امل�ؤد ّية �إىل تق�سيمات � ّ العربي التحرر من الآثار ال�سلب ّية للعوملة؟ وهل له يف تراثه ما يب�شّ ر بتحدي الوافد الغريب املجتمع ّ و�إنتاج ثقافة جديدة منطلقها تراث فاعل قادر على التفعيل والتحدي؟ ثانيا� :سلطة العوملة والف�ضاء الثقا ّ العربي يف ً ّ
ُتظهر الدرا�سات �أنّ ف�ضاءات الثقافة العامل ّية حمكومة ب�أدوات معوملة ،و�أنّ العوملة فر�ضت نف�سها حتدد م�سارات االقت�صاد على ال�ساحات العرب ّية قد ًرا الفرار منه ،لكونها �سلطة متتلك القررات التي ّ وال�سيا�سات الع�سكر ّية والثقاف ّية والرتبوية واالجتماع ّية والعلم ّية وغريها من امل�سارات التي حققت العوملة من خاللها معظم �أهدافها املو�سومة بالإيجاب ّية من حيث ظاهر العر�ض والتقدمي وال�شكل، وبال�سلب ّية من حيث باطن الغايات والنتائج. احلد من العاملي �أنّ دو ًال كثرية و�ضعت خط ًطا غايتها ُّ ت�ؤكد عملية ر�صد �سريعة للحراك الثقايف ّ والفكري والثقا ّيف ،فكان العمل على تعزيز فاعلية واحل�ضاري القومي زحف العوملة على الرتاث ّ ّ ّ الرتاث وعلى حماية دور اللغة القوم ّية بو�صفها املح ّر�ض على التفكري ال�سليم ال�ضامن خ�صائ�ص احلقيقي ،وعلى حفظ مقومات الهوية القوم ّية وخ�صائ�صها الذاتية واملعنو ّية ،ولكن هل الإبداع ّ ا�ستطاعت امل�ؤ�س�سات العرب ّية و�ضع خطط ت�ضمن بها �أخطار زحف العوملة؟ مما ال ّ ولكن �شك فيه �أنّ للعوملة �إيجابيات ،و�أنّ �شعوب العامل تفيد منها وتتوا�صل بف�ضل نعمهاّ ، تلغ الأهداف ال�سلب ّية التي ّ ت�شكل املق�صد والغاية والهدف .فكان من نتائجها هذه الإيجابيات مل ِ ا�ستهداف الثقافة العرب ّية وحما�صرتها ب�أن�ساق جاهزة م�ستوردة با�سم العاملية واحل�ضارة الكون ّية، ف�أ�ساءت هذه الأن�ساق امل�سبقة ال�صنع �إىل الثقافة العرب ّية املنتجة بلغة عرب ّية قوم ّية �صارت غريبة القومي وربمّ ا العربي عن لغته القوم ّية تزداد الهوة بني الفرد وانتمائه ّ عن �أبنائها .وبغربة الإن�سان ّ احل�ضاري للهوية العرب ّية. يت� ّشوه البعد ّ الريادي ،لأنّ معظم العربي امل�أزوم ،ال ت�ؤدي دورها ّ �إنّ الثقافة العرب ّية ،يف هذه اللحظة من احل�ضور ّ عربي يخدم ،عن املثقفني العرب يعي�شون حالة قطيعة مع الرتاث ،وهذه القطيعة ي�ؤكدها �إعالم ّ املرئي /امل�سموع �أم يف الإعالم ق�صد �أو غري ق�صد� ،أهداف العوملة� ،سواء �أكان ذلك يف الإعالم ّ العربي ي�سيء �إىل اللغة الأ ّم ،و�إىل البنية الفكر ّية املكتوب /املقروء ،لأنّ معظم ما ي�صل �إىل املتلقي ّ املنطق ّية و�إىل تراث الأمة و�إىل ح�ضارة ما زالت فاعلة يف خمتربات علمية غري عرب ّية ،هذه احل�ضارة إيجابي بعيد من �سلبيات التي ميكن ت�صنيفها بالعامل ّية /الكون ّية ،وميكن �إ�سنادها �إىل فعل معومل � ّ العوملة املعا�صرة. 84
فكـــــــــر
ين، توحي ب�أنّ العوملة ،يف مفهومها احل�ضاري ي�ضمر الفعل احل�ضاري /الكو ّ ّ ّ التاريخي فر�ضيات ّ ّ ين؛ ففتوحات الإ�سكندر كانت نو ًعا من العوملة، كان لها ح�ضور فاعل على م�ستوى الفكر الإن�سا ّ والفتوحات الإ�سالم ّية كانت� ،أي�ضً ا ،مظه ًرا من مظاهر العوملة ،غري �أنّ فتوحات اال�سكندر التي كانت �سب ًبا يف تالقح الثقافات ،ويف �إنتاج ح�ضارة �إن�سانية ،لها �شخ�صية عا ّمة ،حافظت على خ�صائ�ص الأمم القوية .وكذلك الفتوحات الإ�سالمية كان لها ٌ ف�ضل يف تالقح الثقافات ،وتدعيم القيم الإن�سان ّية ،وتطعيمها بتعاليم ال�شريعة ال�سمحاء ،و�إك�سابها بع ًدا �إن�سان ًّيا ،وروح ًّيا �أكرث مالءمة مع الواقع اجلديدّ ،ثم ّقدم املنتج للعامل �إبداعات فكرية مازالت فاعلة يف خمتربات التواجد والتمدد ين ،غري �أنّ العوملة املعا�صرة العالقة لها بالعوملة القدمية �إ ّال من حيث ال�شكل الإن�سا ّ ّ واالنت�شار ،لكونها مفر ّغة من القيم الأخالق ّية والإن�سان ّية وت�ضمر تذويب ذوات الأمم اخلا�صة يف ذات كل ّية عامة تخدم �أهداف ال�سيا�سات االقت�صاد ّية واال�ستعمار ّية اجلديدة. يرى الباحثون �أنّ العوملة ،وفق ما ير ّوج لها �إعالم ًّياٌ ، �شكل من �أ�شكال التدويل الهادف والتمدد عاملي واحد ،فيتحقّق االنت�شار ّ �إىل االحتواء ال�شمو ّيل و�إخ�ضاع الدول �إىل نظام ّ العاملي ،وهذا االنت�شار واالحتواء يعك�سه واالنفتاح والدعوة �إىل تبادل معريف على ال�صعيد ّ يج�سد ال�شكل الأكرث تعب ًريا عن �أ�شكال الهيمنة وال�سيطرة على مظاهر احلياة عربي ّ واق ٌع ّ وفكري وثقا ّيف، اجتماعي املعا�صرة ،فاملجتمعات العرب ّية تخ�ضع ،ب�شكل غري مبا�شر ،ال�ستعمار ّ ّ الروحي ،وهذا اال�ستبداد ظاه ٌر يف �سلطة العوملة على احلياة اليوم ّية من خالل ولال�ستبداد ّ �سطحي ق ّلما تكنولوجيا تغتال الوقت والتفكري ،وتلغي اخل�صو�ص ّية ،وحت ّر�ض على توا�صل ّ تكون له نتائج �إيجاب ّية. �إنّ حظ العرب من التكنولوجيا احلديثة متوقف على ال�شكل والظاهر ،وال دور لهم يف تفعيل � ّأي العربي جمتمع ي�ستهلك �أدوات التكنولوجيا ،وال ي�سعى �إىل الت�شجيع توا�صل معر ّيف ،فاملجتمع ّ على الإبداع واالبتكار ،وربمّ ا مار�ست �سلطاته القمع وفر�ضت على الأفراد ن�سقًا فكر ًّيا م�سبق ال�صنع .وهذا ما ت� ّؤكده تو�صيفات املناهج يف املدار�س واملعاهد واجلامعات التي و�صفت باحلديثة. فما الذي �أ�ضافته هذه املناهج لتتالقى مع روح املناهج غري العرب ّية ،وذلك �إذا ا�ستثنينا الأ�سماء وامل�صطلحات اخلالية من املفاهيم الأ�سا�س ،لأنّ التحديث كان تغي ًريا يف ال�شكل مع الإ�ساءة �إىل اجلوهر املعر ّيف .فهل يعرف خريجو املعاهد واجلامعات تاريخ العرب احل�ضاري والعلمي؟ وهل لل�شباب املعا�صر عالقة بالرتاث؟ التقت�صر عمل ّية اجلهل باحل�ضارة والرتاث واملهارات الفكر ّية على خريجينّ اليتمتعون مبهارات فكر ّية ونقد ّية وحتليل ّية ،لأنّ علة النق�ص هذه �أ�صابت معظم �شرائح البنيات الثقاف ّية ،فالثقافة ال�سيا�س ّية واللغو ّية والأدب ّية �سماع ّية مكرورة يعيدها باحث يعينه يف �أكرث من ندوة وملتقى وم�ؤمتر. طرحا جدي ًدا بلغة عرب ّية لأنّ ال�شعور �أمام في�ض املعلومات التي ولذلك ق ّلما ّ عربي ً يقدم باحث ّ 85
تعر�ضها ال�شبكة العنكبوت ّية ت�شعره بعجزه من جهة ،وت�س ّهل عمليات ال�سطو ،من جهة ثانية .فـ� ّأي معرفة عرب ّية تنتجها هذه املجتمعات يف ظل ف�ضاء ثقا ّيف معومل؟ املنطقي �إنكار قيمة فيه �أنّ املعلومات التي تعر�ضها ال�شبكة العنكبوت ّية والتي ت�س ّهل لب�س من ّ ولكن امل�شكلة تكمن يف �أنّ بع�ض املواقع ت�ضع معلومات مغلوطة ،وت� ّشوه عملية التوا�صل املعر ّيفّ ، احل�ضاري ،وتفر�ض م�صطلحات م�شو ّهة، احلقائق التاريخ ّية ،وت�سيء �إىل تراث الأمم ذات الإرث ّ و�صو ًرا اجتماع ّية تتناق�ض والقيم العرب ّية ،فتكر�س فك ًرا منط ًّيا نفع ًّيا يغ ّلف ال�شعور بتعظيم هذا الوافد وبالرغبة يف تقليده واتخاذه النموذج الأ�سمى يف احلياة؛ لأنّ هذه ال�شبكة �ألغت العالقة بني املثقف والكتاب ،وجعلت املعلومة قريبة املتناول ،ففر�ضت نف�سها املرجع ّية الأ�سا�س للدار�سني والباحثني الذين ي�ستعينون بق�ضايا وب�آراء وتعريفات وقوانني ،بع�ضها غري �صحيح ،في�أتي املنتج العربي اجلديد م� ّشو ًها وم�ؤذ ًيا ،لأنّ ما ُد ّون مل يكن خا�ض ًعا للتمحي�ص والتدقيق. ّ الفكري ّ تغري املواقع االكرتون ّية� ،أي�ضً ا ،ب�إ�ضاعة الوقت وبالتبعية املطلقة من دون �أن يدرك املتلقي م�ساوئ انقياده �إىل مظاهر العوملة الهادفة �إىل ت�شويه الفكر و�إىل الإلغاء .لأنّ الظاهر يغري بالفاعل ّية الثقاف ّية، ولكن املُ�ض َمر من الأهداف ين ّبه �إىل �أنّ غاية العوملة تكمن يف رغبتها �إلغاء وبالتوا�صل وبالتعاونّ ، التفاعل الفكري والثقايف والإن�ساين ،والق�ضاء على الذوات القومية التي من دونها تتال�شى قيمة احل�ضاري. الفكري ،وتلغى فاعلية التالقي االختالف واملغايرة ،ويحدث االنهيار ّ ّ تهدف خمططات العوملة� ،إ ًذا� ،إىل ال�سيطرة والهيمنة و�سيادة منوذج واحد �صاغته الدول الأقوى اقت�صاد ًّيا وع�سكر ًّيا وتكنولوج ًّيا مبا يتوافق وطموحاتها اال�ستعمار ّية اجلديدة ،ويحقّق طموحاتها الثقاف ّية الهادفة �إىل �سيادة ثقافة واحدة ،و�إىل تبعية يف �أ�ساليب التفكري و�أمناط ال�سلوك والتعامل، الفني وكذلك يف �أ�ساليب التعليم والرتب ّية ويف املفاهيم االجتماع ّية وال�سيا�س ّية و�أ�شكال التذوق ّ فكري اليوحي القوي حقيقة ،وال قيمة ملنتج ّ والنظرة �إىل احلياة والكون .فال حقيقة �إ ّال مايراه الآخر ّ مبحاباة وتبعية تتناق�ضان والأعراف والقيم املوروثة املتعارف عليها يف املجتمعات املنت�سبة �إىل �إرث عربي يعي�ش حالة من وعلمي معر ّيف وثقا ّيف ّ وح�ضاري ،وهذه الأهداف والغايات يعك�سها واقع ّ ّ عربي �إذا مل يكن مز ّي ًنا مبفردات غري عرب ّية وب�أ�سماء الت�شظي وال�ضياع والتبع ّية .فال قيمة لبحث ّ غري عرب ّية وب�أفكار �أو تعريفات كتبها غري العرب .وال قيمة لأديب �أو ّ مفكر �إذا حرمته �أهداف العوملة من نيل جائزة �أو تكرمي �أو انت�شار .لأنّ اجلوائز ال تخ�ضع ملعايري علم ّية و�إنمّ ا العتبارات التبعي اجلديد الذي �ألغى من قامو�سه مفهوم الإبداع املتح ّرر من املناطق ّية العربي ّ فر�ضها التفكري ّ واملذهب ّية والطائف ّية والدين ّية والعرق ّية والأقليم ّية ،و�صار املعيار الأ�سا�س امل�صالح الآن ّية امل�شرتكة. عربي يحت�ضر؟ فهل من قيامة لواقع ّ
86
فكـــــــــر
احلداثي ثالثًا :حتمية الأهداف بني فاعلية الرتاث والفعل ّ
أ�سي�سا على ما �سبق ميكن القول �إنّ للعوملة �أهدافًا اقت�صاد ّية و�سيا�س ّية وثقاف ّية ،و�أنّ ناجت الأهداف ت� ً الثقاف ّية �أكرث �ضر ًرا على حياة الأمم ،وهذا ما ظهر يف �سعي العوملة �إىل ن�شر م�صطلحات جديدة ومفاهيم تنق�ض الأ�صول املرتبطة بحياة الأمم وب�شخ�صيتها املعنو ّية وهويتها ،و�إىل ابتكار �أ�ساليب جديدة ت�ؤدي �إىل �إلغاء اخل�صو�ص ّية القوم ّية و�إىل خلق قطيعة بني ال�شعوب وتراثها. �إنّ ت�شويه روح الرتاث ينتج واق ًعا جدي ًدا ال عالقة له بالأ�صل ،وهذا ما ت�ؤكده قراءة دقيقة ملعنى اللغوي ،لأنّ م�صطلح الرتاث ،وفق ما يرى اللغويونّ ، يدل على املوروث امل�صطلح يف �أ�صل الو�ضع ّ اللغوي الذي املادي اللغوي وغري ّ واالجتماعي والثقا ّيف ،املكتوب وال�شفوي ،الر�سمي وال�شعبيّ ، ّ ّ و�صل من املا�ضي البعيد والقريب ،وهذا الرتاث يفي�ض بالقيم االجتماع ّية والإن�سان ّية واحل�ضار ّية التي تخرب عن كينونة الأمم ،وتك�شف ح�ضورها القيمي ،لكون تراث الأمم هو جممل ما بقي واملعنوي ،واحلياة ال تكون �إ ّال للعنا�صر القو ّية القابلة للدميومة واال�ستمرار ح ًّيا من تاريخها املادي ّ والتفاعل. ّ تركز �أهداف العوملة على ت�شويه العالقة بالرتاث ،لأنّ الرتاث هو ذاكرة الأ ّمة التاريخ ّية والثقاف ّية والعلم ّية والفن ّية ،وهذه الذاكرة ت�صنعها الأجيال وفق ما ت�ؤمن به من قيم وعادات وتقاليد نوعي، وت� ّصورات ور�ؤى ي�ؤرخ بها لنب�ض �شعوب ح ّية جتعل من تراثها هو ّية ثقاف ّية تتمايز بثقل ّ وهذا الثقل النوعي مينح الأمم وجودها وثباتها ويحميها من التح ّول �إىل ورقة تقذف بها امل�ؤثرات اخلارج ّية �إىل حيث �شاءت. ي�ؤدي �إلغاء فاعلية الرتاث �إىل حالة من العجز عن امل�شاركة يف �صنع ح�ضارة العامل اجلديد ،لأنّ الغاية الأ�سا�س هي حتويل الأفراد �إىل م�ستهلِكني وم�سته َلكني على م�ستوى الفاعلية احل�ضار ّية ليكونوا عاجزين عن التفاعل والتخ�صيب وعن ابتكار �أ�ساليب تعبري جديدة يد ّونون بها تراثًا جدي ًدا منطلقًا من تراث منحهم هو ّية ذات ّية . احلداثي بالدعوة �إىل الثورة والتمرد ،لكونها ،يف ر�أيهمّ ، ت�شكل حدثًا يربط ر ّواد احلداثة الفعل ّ جدي ًدا وحتم ًّيا تفر�ضه �صريورة احلياة .ولذلك نعتقد �أنّ احلداثةالأدب ّية نوع من التم ّرد على ن�سق ثقا ّيف ما ،وهذا التم ّرد يهدف �إىل البناء والت�أ�سي�س بقدر ما يهدف �إىل الهدم والتغيري ،والبناء وقوي يكون منطلقًا ل ّأي حراك فاعل غايته خلق م�سارات والت�أ�سي�س يحتاجان �أىل �أ�صل ثابت ّ جديدة ومغايرة وقادرة ،يف الوقت عينه ،على الثبات والتوليد ،ولذلك يرتبط جناح التجربة بوجود أدبي له منطلقاته الأ�سا�س ،وطاقة انزياح عن امل�ألوف. حراك هادف قوامه فعل جتديد � ّ ين العربي �أنّ ق�ضية االنزياح لي�ست بجديدة على الثقافة العرب ّية ،فلقد تك ّلم عليها الأ�صفها ّ يظهر الرتاث ّ 87
وابن قتيبة وطه ح�سني وغريهم؛ لأنّ ال�شعراء العرب خرجوا على النظام العام املتعارف عليه ،وكتبوا ين» �أنّ �أبا �شع ًرا مغاي ًرا من حيث ال�شكل وال�صورة والداللة .ومما يذكره الأ�صفهاين يف م�ؤلفه «الأغا ّ العتاه ّية كتب �شع ًرا خالف الأوزان املتعارف عليها ،وع ّلل خروجه على امل�ألوف بقوله�« :أنا �أكرب من العرو�ض» ،وكذلك �أورد ابن ر�شيق يف كتاب «العمدة» �أنّ بع�ض ال�شعراء حترروا من قيود القاف ّية، عربي ّ تخطى ال�سنن التي كانت معهودة. وك�شفت الدرا�سات� ،أي�ضً ا ،عن وجود �شعر ّ ي�أخذ مفهوم الرتاث مكانه املميز يف ن�سق املفاهيم التي ترتبط بحياة النا�س وتاريخهم وم�ؤثرات رئي�سا يف احلفاظ على الهوية الثقافية عند ال�شعوب وجودهم ،وي�شكل هذا املفهوم عام ًال ً واجلماعات والأمم ،ولذلك ي�سعى الباحثون واملفكرون العرب �إىل تكري�س الرتاث واملوروث ال�شعبي ق�ض ّية قوم ّية تتقاطع مع الق�ضايا القوم ّية ،ف�شهدت ال�ساحات الثقاف ّية والأدب ّية والفكر ّية في�ضً ا من الدرا�سات التي �أظهر ُ والتبعي ،و�أظهر بع�ضها الآخر الرف�ض والدعوة �إىل بع�ضها القبول ّ حماربة مظاهر العوملة .ولكن هل يحارب قد ٌر ينتظر حكمه معظم �شعوب العامل؟ امل�ستقبلية راب ًعا :العوملة والر�ؤى ّ
الفو�ضوي يعتقد بع�ض املفكرين �أنّ نظرية ما بعد احلداثة �ستق ّو�ض نف�سها بنف�سها نظ ًرا لطابعها ّ والعدمي والعبثي ،وربمّ ا بتقوي�ضها ذاتها تفقد العوملة ذرا ًعا ومعي ًنا على التخريب ون�شر الفو�ضى، ّ التحدي واملواجهة والنهو�ض والتح ّرر من �سلطة وربمّ ا ترتاجع �آثارها ال�سلب ّية ،فتت�ضاعف فر�ص ّ موج ِّهة ،وربمّ ا يكون للثقافة العرب ّية ٌّ حظ من النهو�ض والت�أ�سي�س. �إنّ الكالم على حماربة العوملة يفتقر �إىل املنطق ال�سليم ،فالعوملة احلديثة قدر ال�شعوب والعامل، اال�ستهالكي والتحدي اليكون بالرف�ض بل بالعمل على حتويل املجتمعات العرب ّية من الواقع ّ والتبعي �إىل واقع منتج متمتع ب�شخ�ص ّية ذات ّية ُيعرف بها وتعرف به ،وهذا الواقع م�شروط بخلق ّ قومي له هويته الرتاث ّية واحل�ضار ّية يقظة جديدة قوامها الوعي بالذات والوجود واالنتماء �إىل ف�ضاء ّ إبداعي ، احل�ضاري والثقاف ّية واللغو ّية والتي بها وحدها يكون التعبري عن نب�ض الأمة ّ ّ والفكري وال ّ العربي الوعي عينه ت�ستعيد الهوية ح�ضورها الفاعل على م�ستوى العامل ّية ،فيتحرر الإن�سان ّ وبهذا ّ من �أمرا�ض التبعية واال�ستزالم واالنبهار بالآخر ،وي�سعى ليكون م�شار ًكا يف �صنع ح�ضارة كون ّية حتفظ له وجوده ودوره وهويته. املخربي للتجربة الإبداعية هذه التجربة املمهورة يرتبط تفعيل الثقافة العرب ّية بالدعوة �إىل حتفيز الو�سط ّ العلمي وباحلركة وال�صريورة ،وبتفعيل دور الرتاث من �أجل خلق نه�ضة باملنهجية العقلية وبالتخطيط ّ قومي له وجوده الذاتي امل�ستقل ، ثقافية �أدواتها لغة عرب ّية حت ّر�ض على تعزيز هوية االنتماء �إىل ف�ضاء ّ من جهة ،ويتكامل مع ف�ضاءات �إن�سان ّية ،من جهة ثانية ،من دون �أن يخ�سر �شخ�صيته املعنوية. 88
فكـــــــــر
تظهر الدرا�سات �أنّ ّ لكل �أ ّمة تراثًا يخنزل جتاربها وحراكها وت� ّصوراتها و�أحالمها ور�ؤاها ومنتجاتها وفنونها ،وهذا ما ي�شري �إليه م�صطلح الرتاث ،يف �أ�صل الو�ضع والتداول ،فالكلمة ّ تدل على املرياث املعنوي فهو الروح الناب�ضة يف وجدان الأمة ،وهو املادي قابل للزوال� ،أ ّما املادي ّ واملعنوي ،واملرياث ّ ّ ّ الكمون املح ّر�ض على اخللق والتجديد لكونه يح�ضن مك ّونات ثقاف ّية ومعرف ّية وتاريخ ّية يتوارثها �أبناء املجتمع ويبقون قيمها ومقوماتها فاعلة يف حا�ضر ي�ستولد من هذا الرتاث تراثًا جدي ًدا قاب ًال للتوليد ،فالرتاث� ،إ ًذا طاقة توليد حت ّر�ض الأجيال امل�ؤمنة بانتمائها على ابتكار �أن�ساق فكر ّية �أكرث أوربي الذي يجعل من تراثه ركيزة جدة وتعي ًريا عن حرك ّية احلياة ،وهذه الطاقة �أفاد منها الفكر ال ّ ينطلق منها نحو التط ّور والتحدبث .ولذلك ت�سعى الأمم احلديثة ،با�سم العوملة واحلداثة �إىل ربط التاريخي برتاث قوامه معارف وثقافات ومبادئ و�أ�صول وعادات وتقاليد و ّلدتها ا�ستجابة ح�ضورها ّ الأفراد �إىل مفاهيم ا�ستقرت يف وجدان اجلماعة ،وح ّر�ضت على توثيق الروابط والعالقات بني الأفراد والوحدات االجتماعية ،فجاء الرتاث تعب ًريا �صادقًا عن روح ال�شخ�صية اجلماعية املتنوعة يف انتماءاتها. مما ّ العربي يختزن طاقة لو فعلت يف نفو�س الأجيال املتعاقبة لغيرّ ت وجه ال�شك فيه �أنّ الرتاث ّ ولكن امل�شكلة تكمن يف هذه القطيعة بني الرتاث والأجيال املتعاقبة ،وال قيامة حقيق ّية املنطقةّ ، العربي القابل للتفاعل والتوليد ،فامل�س�ؤول ّية عربي يعزز االنتماء واالعتزاز بالرتاث ّ �إ ّال بوعي ّ القوم ّية تقت�ضي تعزيز ال�شعور باالنتماء ،وتدعيم مقو ّمات الرتاث الثقا ّيف الذي يحفظ الهوية ين الذي ّ ي�شكل ويختزل العادات والتقاليد ،وينطق بدور الرتاث يف ت�شكيل حرك ّية الفكر الإن�سا ّ أ�سا�سا لالبتكار والتجديد والتطوير والتحديث ،فال �أمام من دون وراء ثابت و�أ�صيل قابل مرجع ّية � ً للتفاعل والتوليد. احلداثي هو القادر ،وحده ،على �إنتاج تراث جديد ا�ستنا ًدا �إىل ما �سبق ميكن القول �أنّ الفعل ّ يرتبط بالرتاث بقدر ما يتجاوزه ،وهذا التجاوز يحمل جينات املا�ضي وير�سم احلا�ضر وي�ست�شرف إبداعي ،من دون وكان الرتاث امل�ستقبل بلغة عرب ّية قادرة على الت�صوير واحت�ضان في�ض الفكر ال ّ ال�شعبي الذي يعك�س وجدان ال�شعبي الأكرث ارتبا ًطا بوجدان الأفراد واجلماعات.همال للرتاث ّ ّ املجتمعات وقيمها الدين ّية وال�سيا�س ّية والأخرق ّية والإجتماع ّية ،وهو الأكرث تعب ًريا عن ر�ؤية الأفراد واجلماعات للعالقات وللأحداث وللكون واحلياة. تك�شف قراءة الرتاث ال�شعبي عن عناوين ومفاتيح ودالالت ورموز ت�ساعد املتلقي على اكت�ساب املفاهيم والأعراف التي تخ ّوله االنتماء �إىل جمموعة ب�شر ّية ي�شاركها يف �صناعة احلا�ضر، ال�شعبي �أنتجته تعاليم و�أفكار ومبادئ فر�ضتها قيم ويف الت�أ�سي�س للم�ستقبل ،كون هذا الرتاث ّ اجلماعات ،ف� ّأرخوا بها جتاربهم و�أ�ساليب تفكريهم و�أن�ساق نظرتهم �إىل طبيعة العالقات الإن�سان ّية عرب حركية كون ّية مو�سومة بال�صريورة والتحول. 89
متايز نتاج التجارب الإن�سان ّية بفاعلية الو�سط املحفّز ،وبتفاوت طاقات العنا�صر ،وبتباين �إمكانيات الإدراك والفهم؛ ولكن مهما تنوعت قيمة املنتج وتباينت م�ستويات الإدراك والفهم بني �أبناء الب�شر ،فال ّبد من وجود نقطة مركز ّية تتالقى عندها ر�ؤية الإن�سان للأ�شياء واحلياة والكون، وتختزل ،يف الوقت عينه ،تطلعات النف�س الب�شرية و�آمالها و�آالمها و�أحالمها غري املتناق�ضة يف طبيعة اجلوهر ،وذلك يف املجتمعات الب�شر ّية جميعها. العربي غناه الرا�شح بثقافة حياة تركت �آثارها يف احل�ضارة الإن�سان ّية ،وبخا�صة يظهر الرتاث ال�شعبي ّ االجتماعي/ ما جاء يف �شكل حكاية ،غري �أنّ البحث عن الأ�صول يبقى حم�صو ًرا يف منهج البحث ّ يقدم �إ�ضافة على م�ستوى القيمة الأدب ّية ،لأنّ الوظائف الت�أويلية الفن ّية واالجتماع ّية التاريخي ،وال ّ ّ والإن�سان ّية تبقى مرتبطة مبفاهيم املجموعة التي تعيد �صياغة احلكاية وفق ر�ؤية خا�صة ال تتناق�ض ومنزلة البطل /الرمز الذي ت�صنعه �أحالم ال�شعوب وت�صوراتهم ور�ؤاهم الذاتية. خام�سا :بيان البحث ً
تهدف العوملة �إىل بناء جمتمع على مقيا�س واحد ي�س ّهل قياده من خالل ال�شركات االقت�صاد ّية املوجهة التي ترغب يف تذويب اخل�صو�صيات القوم ّية واالنتقال من و�أحادية اللغة ،والثقافة ّ الكلي ،وربمّ ا كان من نتائجها دعوة اللغويني العرب املعا�صرين اجلزئي �إىل ّ اخلا�ص �إىل العام ،ومن ّ �إىل ت�سهيل النحو بتبني ال�سماع وب�إلغاء م�سائل النحو اخلا�صة ،ورف�ض القوانني اجلزئ ّية. تظهر العوملة يف طروحاتها دعوة �إىل اقت�صاد عاملي واحد ،و �إعالم م َّوحد ،و علوم وثقافة م�شرتكة ،...و لكن املجتمعات الب�شرية ،مذ ّ ت�شكلت ،قام نظام الإنتاج فيها على م�ؤ�س�س عمل وعاملني، وهذه احلقيقة تنبئ ب�أنّ نظام امل�ؤ�س�سات املعوملة �سوف يق ّل�ص فاعلية التجربة الذاتية ،فترتاجع عن الفعلي ،لأن ّ التحكم احلقيقي يف م�صري احلركة العاملية اجلديدة حكر اخلو�ض يف ميادين الأداء ّ على �أ�شخا�ص يقب�ضون على العامل اقت�صاد ًّيا و �إعالم ًّيا ،ومن ّثم ثقاف ًّيا وفكر ًّيا� .إنهم �أ�سياد العامل من دون منازع ،فحيث توجد القوة املادية توجد ال�سلطة .و ر�أ�س املال هو احلاكم الرئي�س يف واقعنا املعا�صر. تنبئ العوملة� ،أي�ضً ا ،بتحكم ق ّلة من امل�ستثمرين يف احتياجات �أبناء العامل .وبانتقال ال�سلطة �إليهم �سوف ي�ستخدمون قدراتهم لتحويل العامل �إىل �أ�شكال اجتماعية ،و �سيا�سية و فكرية ،وثقافية تتوافق مع تطلعاتهم و مطامعهم ،ومعها �سوف تتوقّف املجتمعات يف �سكونية حركية تلهث وراء لقمة العي�ش ،وتختزل طموحاتها يف املحافظة على املكان ،الذي �صار احل�صول عليه هدفًا وجود ًّيا، و بانعدام احلركة الهادفة تت َق ّزم فاعلية �أبناء املجتمعات يف ا�ستقرار �سكوين �سلبي قاتل ،وتنتحر رغبات الأفراد يف ال�سعي �إىل التح�سني و التطوير وتنقطع �صلتهم باملا�ضي. 90
فكـــــــــر
�إنّ ال�شعور باخلوف ،من فقدان املكان ،يلغي فاعلية الزمن ،و ينح�صر وجود الإن�سان يف مكان واحد، �سلبي مق ّيد بقبول �سطحي ي�ضمن له ال�سالمة ويف زمن متوقّف عند حلظة قلق قاتلة حت ِّوله �إىل ٍّ متلق ّ الآنية .وبالقبول املف ّرغ من امل�ضمون يتخ ّلى عن مق ّومات وجوده ،وعن هويته الذاتية ،وي�صري رق ًما ت�صخرت معها �سقط من ح�سابات ر�ؤو�س الأموال بعد �أن �أُهمِ ل وجوده حتت تراكمات مادية ّ الأحا�سي�س وامل�شاعر ،و�أ َّدت �إىل اغتيال الفكر ،وابادة �صرح الثقافة واغتيال فاعل ّية الرتاث. والفكري ،واغتيال العقل حتاول العوملة حما�صرة الثقافة وقن�ص تراث الأمم ،و�إلغاء الفعل الثقا ّيف ّ إبداع ّي ،ومن ّثم فر�ض �أحادية ثقاف ّية تلغي اخل�صو�ص ّيات الثقاف ّية القوم ّية .والظاهرة احلداثي ال ّ ّ الأكرث خطورة هي ال�سيطرة الثقافية ،وفر�ض الهيمنة غري املرئية على العقل الإن�ساين .واملجتمعات المتوت ،و ال تتال�شى �إال بخ�سارة قدرات �أبنائها الفكرية؛ لأن تفريغ الأمة من مق ّومات وجودها الثقايف ،يفقدها مربر وجودها و ي�ؤدي �إىل خ�سارة هويتها الذاتية؛ لتتح ّول �إىل جمهول تابع يف املعادلة اجلديدة. �ضمن هذه املعادلة ال�صعبة تبقى الثقافة ،وحدها ،قادرة على الوقوف يف وجه خمططات العوملة ال�سلبية ،فالتح�صني الثقايف الذاتي ّ لكل �أمة �ضرورة حتمية ي�ضمن بقاءها بف�ضل قدراتها الإبداعية. و التح�صني الثقايف مرتبط بقوة الفاعلية اللغوية للأمة ،والفاعلية ال تنف�صل عن الأ�صالة و القدرة تتجدد بحداثة يدعو بع�ضهم �إىل نفيها وهم يجهلون تاريخ ميالدها على التطور واالرتقاء ،والأ�صالة ّ الفعلي. ّ تراث ولي�ست �إرثًا ،فاملوروث معر�ض لل�ضمور والتال�شي والزوال� ،أ ّما الرتاث �إنّ الثقافة العرب ّية ٌ العربي فهو نب�ض الأ�صالة املا�ضية يف حا�ضر يعد باخلروج على االنبطاح والتبع ّية ،واخلروج م�شروط ّ العربي من داخل الرتاث و�إحياء عنا�صره احل ّية الفكر جتديد إىل � ي�سعون عرب مثقفني بن�شاط ّ وتلقيحها بفكر وافد فيكون تفاعل ينتج تراثًا جدي ًدا بلغة عرب ّية قادرة على تدوين العلوم واملعارف والت� ّصورات والر�ؤى والتطلعات.
91
www.monthlymagazine.com
الدولية للمعلومات �ش.م.ل
بناية الربج ،الطابق الرابع� ،ساحة ال�شهداء الو�سط التجاري ،بريوت ،لبنان �صندوق بريد ،11-4353 :بريوت -لبنان. هاتف)961-1( 983008 /9 : فاك�س)961-1( 980630 : الربيد الإلكرتوينinfointl@information-international.com : املوقع الإلكرتوينwww.information-international.com :
فكـــــــــر
ِ احل َرف يف لبنان � ...إىل �أين؟
مي حبيقة -باحثة وكاتبة
ميثل الفن يف �أي بلد من البلدان �أرقى عناوين جمده يف عيون الأمم الأخرى ،و�أحد �أنبل �أدوات التوا�صل التي ميكن �أن ت�سعى �إليها ال�شعوب املتح�ضرة ،فلذلك �سوف نركز على جمالية ا ِ حلرفة وفنونها التي متثل تراث البلد وتبقى له الذكرى.
« .Iال�صناعات ِ واحل َرف» -واقع
على امتداد احل�ضارات ،اختار الإن�سان لت�أمني معا�شه ومعا�ش عياله� ،أعمال الفكر وتطويع اليد لت�أمني حاجاته الأولية .ف�سعى لل�صيد �أوال ،وللزراعة ثانيا ،ولل�صناعة ثالثا فعرف «ال�صناعات واحلرف» ثم �سعى للتجارة بهدف تبادل ال�سلع واملنافع بعد ان تو�سعت املجتمعات وا�ستقرت يف احلوا�ضر واملدن. �أثَّر اخرتاع الآلة على القطاع احلريف ،فراوح بني جمود وتقهقر �إىل �أن تنبهت احلكومات وفئات املجتمع املدين �إىل �أهمية احلرفة كهوية وتراث .ف ُو�ضعت اخلطط الإمنائية واال�سرتاتيجية للمحافظة على احلرفيني املبدعني ولتطوير هذا القطاع تربويا ،ف�أن�ش�أت املدار�س واملعاهد لإ�ستمرارية عملية التدريب والتعليم ،وا�ستفاد العاملون فيه من التقنيات اجلديدة وطوعوها خلدمة عملهم اليدوي وتطويره ،فعرف ا�ستمرارية تنوعت مو�ضوعاتها و�إختلفت �آليتها ،مما �ساعد باملحافظة على �أ�صالة هذا الرتاث الإن�ساين. « -حرف احلا�رض� ...صنائع املا�ضي» ملحة عن تاريخ وتطور القطاع احلريف:
يف الأقطار العربية: �شجع الإ�سالم ،منذ بدايته ،على العمل وال�سعي والك�سب ،يف القر�آن الكرمي ،1ويف الأحاديث النبوية� .2إذ رفع من �ش�أن العمل واحرتام احلرف اليدوية و�أقر لل�صناع من �أهل الكتاب حرفهم يف خمتلف الأقطار املفتوحة .فقد مار�س العرب يف احلوا�ضر الإ�سالمية �شتى ال�صناعات و�صنفوها 93
و�أقاموا التجمعات للقائمني بها و�أن�ش�أوا الأ�سواق الدائمة واملتخ�ص�صة عند تخطيطهم للمدن، تنوعت �أ�شكال هذه الأ�سواق ومواقعها فبع�ضها «يتجمع يف جزء من املدينة �أو خارجها» ،3والبع�ض 5 الآخر كما يف �سوريا وم�صر «امتدت على طول ال�شوارع من اجلانبني»« ،4وعلى كل �صف منها» انت�شرت ال�صناعات يف الأقطار العربية والإ�سالمية كافة ،وازدهرت فيه الكثري من ال�صنائع ك�صناعة الفخار والنحا�س واحلديد واحلرير واملجوهرات وال�سجاد واحلياكة والتطريز وال�صابون واخل�شب وغريها... بالإ�ضافة �إىل امل�ؤ�س�سات احلرفية العائلية كان هناك دور كبري للدولة يف �إن�شاء امل�صانع (خا�صة يف الع�صر الأموي والعبا�سي) ،اذ «�أن�شئت معامل ن�سيج �سميت «دور الطراز» يف جميع واليات 6 امل�سلمني ،تنتج ثياب فاخرة حمالة ب�أ�شرطة للحكام ...وذاعت �شهرة دور الطراز امل�صرية». كما ن�ش�أت اال�صناف ،وهي تكتل حريف من نوع النقابات 7باملفهوم احلديث ،كانت موجودة منذ القرن الثاين هجري وتهتم ب�ضبط الأ�سعار والإتقان واجلودة وعدم الغ�ش... يف �أوروبا و�أمريكا: «عرف قطاع احلرف ،عامليا ،تطوراً تنوعت مراحله يف البلدان كافة: ففي البلدان النامية ،يف �أوروبا و�أمريكا� ،ساعد وعي املجتمع املدين والقطاع اخلا�ص والعام ،يف القرن التا�سع ع�شر وبداية القرن الع�شرين على ا�ستمرارية القطاع احلريف وازدهاره وتطوره �إىل جانب القطاع ال�صناعي الآيل .فقاموا ب�ضخ اال�ستثمارات وت�أمني البنى التحتية الالزمة ،من معاهد تعليمية وتدريبية ،وت�شجيع اال�ستفادة من االبتكارات احلديثة يف عملية الإنتاج بهدف الإتقان واالبتكار والإبداع. ففي قطاع اخلياطة والتطريز ،وبعد �أن �أ�صبحت املعامل تنتج «املالب�س اجلاهزة «»Prêt a porter حتولت املهنة �إىل ح ّيز �آخر ،فانت�شرت بيوتات الأزياء « »Haute Coutureم�ستخدمة اليد العاملة املاهرة ،ومتعاونة مع الفنانني وامل�صممني وامل�سوقني ،وافتتحت معاهد فنية للتدريب والدرا�سة و�أ�صدرت املجالت املتخ�ص�صة وتناقلت ن�شاطاتها و�سائل الإعالم املنت�شرة يف العامل. كما حر�صت العديد من بلدان �آ�سيا و�أفريقيا و�أمريكا الالتينية ،مع بداية الت�صنيع الآيل فيها ،على ا�ستمرارية القطاع احلريف ب�شكل تقليدي �أوال لينتقل يف منت�صف القرن الع�شرين �إىل ا�ستخدام التقنيات احلديثة يف تطوير حرفها واملحافظة عليها من االنقرا�ض ف�أمنت البنى التحتية الالزمة من مدار�س ومعاهد و�شجعت احلرفيني وامل�ستثمرين مما رفع م�ساهمة القطاع احلريف يف الدخل القومي، 8 كما ح�صل يف العديد من البلدان العربية والإ�سالمية». 94
فكـــــــــر
يف لبنان: مل يختلف الو�ضع ال�صناعي يف لبنان ،حتى �أوائل القرن الع�شرين ،عن بقية الدول العربية واال�سالمية، �إذ ازدهرت فيه الكثري من ال�صنائع كالفخار والنحا�س واحلديد واحلرير واملجوهرات وال�سجاد واحلياكة والتطريز وال�صابون واخل�شب وغريها ...فنجد العديد من العائالت التي حتمل �أ�سماء حِ رف �أ�سالفها دون �أن متار�سها فعال الآن (الفاخوري ،احلداد ،اخلياط ،ال�سنكري ،النجار وغريهم) يذكر امل�ؤرخون �أن ال�شواطئ اللبنانية احتوت على �آالف االنوال حلياكة احلرير يف املعامل التي اندثرت بكاملها يف مطلع القرن الع�شرين« ،بعد التطور الآيل مل�صانع احلرير يف مدينة ليون الفرن�سية وت�صدير االقم�شة �إىل لبنان» ،9ما زالت املعامل املهجورة قائمة حتى اليوم .ان�ش�أ العثمانيون مدر�سة ال�صنائع ،التي �أخذت املنطقة ا�سمها يف بريوت وهدفت يف منهجها التعليمي �إىل تكوين الكادرات الالزمة لل�صناعة مبعناها احلديث ولي�س لل�صناعة احلرفية. والتقليدية يف لبنان بني الأم�س واليوم الرتاثية ال�صناعات واحلرفّ ّ
بعد اال�ستقالل بد�أت يف لبنان حركة متوا�ضعة للت�صنيع ،كما �أغرقت الأ�سواق بال�سلع امل�ستوردة امل�صنعة �آليا ،على غرار معظم البلدان يف العامل وانعك�س الأمر �سلبا على القطاع احلريف فانت�شرت البطالة وانتقل القرويون �إىل املدن طمعا يف حت�صيل الرزق� ،سواء يف العمل يف املعامل �أو يف وظائف �أخرى .مما حدا بالهيئات املدنية للتحرك بهدف املحافظة على القطاع احلريف ،ف�أن�ش�أت اجلمعيات لإعادة �إحيائه ،وقامت مطالبات للدولة بدعم احلرف وحمايتها .لكن احلرب الأهلية التي ُمني بها لبنان �أثرت �سلبا على جممل الن�شاط االقت�صادي ومنها احلريف. مع انح�سار احلرب وعودة انطالق العجلة االقت�صادية عاد القطاع احلريف ك�سائر القطاعات لالنتعا�ش ،حماوال احيانا اال�ستفادة من التقنيات احلديثة ،فازدهرت ال�صناعات احلرفية املرتبطة باملواد الغذائية واحللويات واملالب�س التقليدية واخل�شب والنحا�س وغريها .فقامت بع�ض م�شاغل االزياء التقليدية بتطوير ت�صاميمها وجمارات احلداثة و�إر�ضاء تطلعات ال�شباب .كما واكبها يف هذا التطور الزجاج املنفوخ والف�سيف�ساء وال�سجاد. يحاول لبنان اليوم ،تعوي�ض الت�أخرالذي طال القطاع احلريف ب�سبب االزمات التي توالت على الوطن خالل العقود املا�ضية ،ومواكبة البلدان املحيطة فيما يخت�ص بتطوير القطاع احلريف .نالحظ يف الفرتة الأخرية زيادة عدد الدرا�سات واالبحاث والندوات املتعلقة بهذا املو�ضوع� ،إىل جانب ان�شاء نقابة احلرفيني الفنيني اللبنانيني بعد ان كان هناك تعدد يف املرجعيات الوزارية املهتمة بهذا املو�ضوع ابتدءا من وزارة ال�صناعة �إىل وزارة التجارة �إىل وزارة ال�ش�ؤون االجتماعية �إىل وزارة ال�سياحة .كما �أن وزارة ال�ش�ؤون االجتماعية �أفردت �إدارة خا�صة للقطاع احلريف بهدف ت�شجيع 95
اجلمعيات االهلية وم�ساعدتها يف تطويره وازدهاره وخلق فر�ص عمل جديدة ورفع الدخل العائلي. �سوف �أ�ستند يف بحثي هذا �إىل بع�ض الدرا�سات التي متت يف لبنان خالل ال�سنوات الأخرية. �أُ�شري �إىل �أن وزارة ال�ش�ؤون االجتماعية تعدد احلرف كالتايل :نحا�س ،ف�ضة ،معادن �أخرى ،ق�صب او ق�ش ،خ�شب او موزاييك ،فخار ،خزف او �سرياميك ،زجاج ،ن�سيج وخياطة ،جلد ،مواد معمارية واحجار ،مواد غذائية� ،صابون بلدي. يقدر عدد احلرفيني العاملني يف امل�شاغل التقليدية يف لبنان ما بني 1200و( 1300ح�سب درا�سة قامت بها امل�ؤ�س�سة الوطنية لال�ستخدام ،عام )1996 وقدر العدد بـ 8792بني منتج وبائع لعمل حريف (درا�سة لوزارة ال�ش�ؤون االجتماعية ،عام )1998 ان قيمة التوظيف املايل للم�ؤ�س�سات التجارية تبلغ 100الف دوالر يف �أعلى م�ستوياتها و 15 الف دوالر يف �أدناها (درا�سة «احلرفيون يف لبنان» ،عام ،2003على عينة من 300ا�ستمارة يف منطقتي طرابل�س و�صيدا) العمل بغالبيته عائلي ،دون اال�ستغناء عن توظيف بع�ض العمال الذين يرتاوح عددهم بني 10 عمال و 30عامل كحد �أق�صى( .نف�س الدرا�سة« ،احلرفيون يف لبنان») اعتماد احلرفيني على املواد االولية امل�ستوردة (كانت �سابقا حملية) يرفع كلفة االنتاج وي�ؤثر على الت�سويق واملناف�سة لل�سلع امل�ستوردة( .نف�س الدرا�سة« ،احلرفيون يف لبنان») املحرتف مت�صل باملنزل يف اغلب االحيان ،ينف�صل عنه �إذا تو�سعت االعمال .لكنه يبقى يف حميط ال�سكن( .نف�س الدرا�سة« ،احلرفيون يف لبنان») الت�سويق غالبيته داخلي؛ حدوده املدينة �أو القرية املقيم فيها احلريف .يتعدى هذه احلدود �إذا ا�ستطاع احلريف التعريف عن �أعماله ب�شكل �صحيح� .أما الت�صدير فيقت�صر على املواد الغذائية واحللويات وامللبو�سات( .نف�س الدرا�سة« ،احلرفيون يف لبنان») �أبرزت الدرا�سة ال�شوائب التي تعيق تطور العمل احلِريف يف لبنان: ارتفاع الكلفة وبالتايل ارتفاع الأ�سعار غياب االبتكار وعدم اال�ستعانة بامل�صممني. اعتماد التقليد �سواء للغري او للقدمي من احلرف بحجة انتاج مواد تراثية. بقاء العمل احلريف يف النطاق الرعائي والفولكلوري. غياب اجلودة وانعدام روح املناف�سة 96
فكـــــــــر
عدم مراعاة حاجات ال�سوق واعتماد القواعد العلمية يف الت�سويق. �ض�آلة ر�أ�س املال املوظف وعدم انفتاح احلريف على الدولة وعدم �إهتمام الدولة به. عدم وجود اخت�صا�ص مناطقي (كما كان احلال �سابقا) مرتبط باملواد االولية املتوافرة. عدم وجود �صاالت عر�ض خا�صة ،وعدم تعميم فكرة «بيت املحرتف» يف املدن والقرى واملراكز ال�سياحية يف العوا�صم الكربى. « .IIال�صناعات واحلرف» حلول
�إن واقع القطاع احلريف يف لبنان ودوره يف الدخل القومي ال يزال متوا�ضعا رغم �أن �إح�صاءات وزارة ال�ش�ؤون االجتماعية تظهر تطورا بعد احلرب االهلية ،لكنه ال يزال يف حدوده الدنيا وال ي�صل اىل ارقام نراها يف بع�ض البلدان العربية واال�سالمية املحيطة .ففي بحث ورد يف ندوة الدوحة عن» االبتكار واالبداع يف احلرف اليدوية» �سنة 2010جند :املغرب ،%19تون�س ،%3,8تركيا ،%10 اجلزائر ،%20ال�سعودية ،%10ايران ،%30لبنان .%3 �إن �إعادة �إحياء القطاع احلريف يف لبنان يتطلب اهتماماً خا�صاً من الدولة ومن املجتمع ومن احلرفيني .اذ ي�ؤكد ابن خلدون «ان الدولة هي امل�ستهلك االول لل�سلع ...وهنا �سر �آخر وهو �أن ال�صنائع و�إجادتها امنا تطلبها الدولة ،فهي تنفق �سوقها وتوجه الطلبات اليها» 10وعلى الدولة و�ضع اخلطط للتنمية احلرفية مبا يتالءم مع ظروف لبنان وامكانياته .كما على املجتمع �أن يعي �أهمية ا�ستهالك ال�صناعة املحلية احلرفية ،باال�ضافة �إىل قيمتها ك�إرث ثقايف ،لأن ت�شجيعها يرتد ب�شكل غري مبا�شر على الدخل القومي. ولكن الأهم ،هو دور احلريف نف�سه و�إتقانه حلرفته وقدرته على التجديد والتطوير واالبتكار واملحافظة على الرتاث والهوية وانتاج �سلع مبتكرة وحديثة يحتاجها االن�سان يف حياته اليومية ،فدميومة العمل احلريف تت�صل بحاجة امل�ستهلك وذوقه وقدرته ال�شرائية. -ا�سرتاتيجية املعاجلة
من امل�سلم �أن التغيري �سنة احلياة ،وهو عامل رئي�س للتقدم والتطور وتختلف ردة الفعل على منطق التغيري بني ان يح�صل يف �سياق طبيعي من التطور العلمي واالجتماعي واالقت�صادي ،وبني ان يفر�ض وحترق املراحل وتقهر النف�س الب�شرية يف �سبيل الو�صول �إىل احلداثة ،املهم والأهم هو التما�شي مع املتطلبات احلديثة دون نكران اخل�صائ�ص الذاتية. 97
االبتكار يف جمال احلرفة: �إن م�صطلح احلرف ،امل�ستعمل منذ خم�سينات القرن الع�شرين يف لبنان ،يعني «ال�صناعة التقليدية» ،11املعروفة �سابقاً ،والتي ازدهرت يف املدن والقرى .من املهم جداً احلفاظ على هذه احلرف اليدوية لكي نحميها من الإنقرا�ض لأنها ترمز اىل جوهر ثقافتنا واقت�صادنا وتراثنا ،لهذه احلرف التقليدية اللبنانية ميزتان متكاملتان على تعار�ضهما :االوىل ،التقنيات الفريدة القدمية التي تعود �إىل الع�صر الفينيقي والثانية النظرة اللبنانية املعا�صرة يف الت�صميمّ ،مما يجعل هذه املنتوجات جديدة ومبدعة ،فاملحافظة على «الهوية والرتاث» ال تكون بتكرار انتاجهما على ال�صورة ذاتها وامنا التجديد فيهما من روح الرتاث ،خللق مناذج جديدة ووظائف متجددة لل�سلعة تتما�شى مع متطلبات الع�صر لذا من ال�ضروري: �إدخال الو�سائل االعالنية اجلديدة من اجل انت�شار احلرفة. ا�ستعمال االنرتنت لتو�صيل املفاهيم اجلديدة على احلرفة القدمية للتما�شى مع الع�صر. اال�ستفادة من الو�سائل احلديثة لن�شر تقنيات جديدة ت�ساعد على ا�ستمرارية احلرفة. خلق نف�س جديد نابع من احلا�ضر ،معطر باملا�ضي ،مبتكر ل�صور جديدة جتمع بني جماالت فنية خمتلفة: ت�شجيع ا�ستخدام احلرف يف جماالت جديدة تتطلب بع�ض االعمال احلرفية. ا�ستخدام االرث الثقايف مبختلف م�ستوياته على احلرف ،ال�سيما يف اخلط والتخطيط. ا�ستقطب مو�ضوع احلرف يف لبنان �إهتمام �أكرث من جهة وهيئة وم�ؤ�س�سة نظراً للدور الذي يلعبه العمل احلريف يف �صون الرتاث اليدوي وتطويره ،ولكن كل هذا ال يكفي دون دور الدول يف امل�شاركة الفعلية للتوعية يف هذا املجال لذا عليها: �إن�شاء معاهد لتعليم احلرف وكيفية ت�صميمها الن العمال املهرة ا�صبحوا عملة نادرة. �إدخال االبتكار يف املجال احلريف الرتاثي �ضمن املناهج التعليمية على امل�ستويني الثانوي واجلامعي. اقامة القرى احلرفية: ت�شجيع �إقامة قرى حرفية متخ�ص�صة ب�صنف معيني ،ت�شتهر به هذه القرى وتتوافر فيها مواده االولية ،في�صبح مركز ا�ستقطاب �سياحي داخلي وخارجي .كما حدث يف: بعدران يف جبل لبنان� ،إذ فيها حمرتف حلياكة احلرير ،وبالتعاون مع امل�ؤ�س�سات الدولية� ،أقيمت دورات تدريبية وفتحت بع�ض املنازل القروية �أبوابها ال�ستقبال ال�سواح وتعريفهم على حرفة حياكة احلرير �إىل جانب مت�ضيتهم �أوقات ممتعة وم�شاركتهم االهايل منط حياتهم. 98
فكـــــــــر
رحم ب�ساتني �صور ,التي تندمج مع الرتاب وحتاكي الأجداد «ع�شتارت ،القرية البيئية احلرفية» يف َ وهي م�شروع هادف ،يطال املجتمع ب�أكمله ،ن�سا ًء ،رجا ًال و�أ�صحاب احلاجات اخلا�صة وهي نقطة تفاعل �إجتماعي بني روادها كما انها ا�ستطاعة الو�صول �إىل بناء �إرث وتاريخ م�شرتك عم ًال بالتنمية امل�ستدامة التي هي هدف من �أهداف رابطة املدن الكنعانية ،الفينيقية والبونية يف البحر املتو�سط.عم ًال بالتنمية امل�ستدامة التي هي من �أهداف الرابطة ،والتي ترتكز على ثوابت ثالث: م�ستوحى من العنا�صر العن�صر الإجتماعي ،العن�صر البيئي والعن�صر الإقت�صادي .هو ت�صميم فني ً الزخرفية واحلرفية الفينيقية يحمل �شعاراً يت�أرجح بني املح ّلي والأخ�ضر. وبذلك فقد �أتى فيه: احلرفيات املحلية من زجاج منفوخ ،اخلزفيات و الفخاريات ال�صباغ والر�سم على الأقم�شة و�أهمه ال�صباغ الأرجواين الذي �إلت�صق بالتعريف عن الفينيقيني النحت باخل�شبيات احللى والنحا�سيات وهو عنوان للتعبري عن الرثاء الت�صنيع الزراعي الغذائي من جمففات الليمون والأبو �صفري ،وتقطري ماء الزهر... احلرفيات الزراعية : من �ألياف �شجر املوز للأدوات املنزلية وتغطية اجلدران ومن الق�صب للقواطع الداخلية ولألواح العزل والأدوات املنزلية �أي�ضاً... (ن�أمل �أن يح�صل هذا يف بيت �شباب � -صناعة الأجرا�س ،ويف جزين � -صناعة ال�سكاكني). الت�سويق والت�صميم واحلرفة :ن�أمل ان ت�ؤلف هذه العناوين وحدة ال ت ٌنق�صم منذ �أن عرف االن�سان «ال�صناعات واحلرف» �سعى للتجارة بهدف تبادل ال�سلع من �أجل ا�ستمرارية مهنته لذا يجب �إيجاد توازن بني ال�سعر واجلودة ودرا�سة الكلفة وطرق التمويل واالعتماد على خرباء الت�صميم والت�سويق بحيث تت�ألف منها جميعاً وحدة ال تتجز�أ مل�ساعدة احلريف على التقدم والتطوير. كما ميكن الإعتماد على و�سائل بيع جديدة كالتوا�صل الإلكرتوين بني احلريف وامل�ستهلك... 99
الهوام�ش 1
2 3 4 6 7 8 5
9
1992م احل�سن ابن عبداهلل� ،أبي هالل الع�سكري« ،احلث على طلب العلم واالجتهاد» ،حتقيق د .مروان قباين ،املكتب الإ�سالمي ،الطبعة الأوىل ،بريوت -لبنان 1406هـ 1986 -م خريي عزيزي« ،ق�ضايا التنمية والتحديث يف الوطن العربي» ،دار الآفاق اجلديدة ،الطبعة الأوىل ،بريوت- لبنان1403 ،هـ 1983 -م رفاعة رفعة الطهطاوي« ،ال�سيا�سة والوطنية والرتبية» ،درا�سة وحتقيق حممد عمارة ،امل�ؤ�س�سة العربية للدرا�سات والن�شر ،الطبعة الأوىل ،القاهرة -م�صر 1973 �سمري �صايغ« ،الفن الإ�سالمي» ،دار املعرفة ،الطبعة الأوىل ،بريوت -لبنان1408 ،هـ 1988 -م حممد ف�ؤاد عبد الباقي« ،املعجم املفهر�س لألفاظ القر�آن الكرمي» ،دار �إحياء الرتاث العربي ،بريوت -لبنان د .هاين �إبراهيم جابر« ،الفنون ال�شعبية بني الواقع وامل�ستقبل» ،الهيئة امل�صرية العامة للكتاب ،م�صر د .فائقة �سباعي عوي�ضة« ،الو�سائل الكفيلة بزيادة ن�سبة وعي املجتمع ب�أهمية احلرفيني و�أهمية الرتاث» ،امل�ؤمتر الدويل حول االبتكار والإبداع يف الفنون واحلرف اليدوية .م�سقط � -سلطنة عمان� ،شباط 2011 عبد الرحمن ح�سن حنبكة امليداين« ،احل�ضارة الإ�سالمية» ،دار القلم ،دم�شق � -سوريا
املراجع
-
- -
100
1412 1هـ -
يف اجلزء الأول من« :ال�صناعات واحلرف» -واقع ،اخت�صار بع�ض ما كتبته الدكتورة فائقة �سباعي عوي�ضة يف بحثها« :ال�صناعات واحلرف الرتاث ّية والتقليد ّية يف لبنان بني الأم�س واليوم» درا�سات قامت بها امل�ؤ�س�سة الوطنية لال�ستخدام ،عام 1996 بحث ورد يف ندوة الدوحة عن «االبتكار واالبداع يف احلرف اليدوية» للدكتورة فائقة ال�سبيعي عام 2010 اح�صاءات وزارة ال�ش�ؤون االجتماعية رابطة املدن الكنعانية ،الفينيقية والبونية /الأوني�سكو -بريوت -لبنان � -أ.م� .سمر مكي حيدر
حتوالت �أدبية
الفن الت�شكيلي يف لبنان
بني متطلبات احلداثة الغربية و�إ�شكالية الواقع اللبناين
عادل قديح -فنان ت�شكيلي وباحث يف الفنون الب�صرية
�أوالً -الفن الغربي والفنون املتوح�شة
قطعت احلداثة الت�شكيلية الغربية مع ما�ضيها اليوناين الهوى ،وبدلت مفاهيمها نحو االعتماد على ما كانوا ي�سمونه «الثقافة املتوح�شة» اي ثقافة ال�شعوب «املتخلفة» والبدائية والعامل اال�سالمي. اعتمدت ب�صريات عاملية ،ولكنها اخذتها مقطوعة عن �سياقها الرتاثي ،فهي نقلتها من املجال اجلمعي �إىل الفردانية الطاغية . يراع الأبعاد العقيدية �أو ال�سحرية او الدالالت الوظيفية ،فذلك مل يكن مل يكن الفنان احلداثي ِ �سراً مكنونا �أو طل�سما عز عليهم فكه ،فهو والبحاثون الذين ا�ستغرقوا يف قراءة كل م�ضامني هذه الأبعاد ،كان كل همهم ان يقطعوا مع ما�ضيهم الب�صري الذي خدم منط عي�ش وتفكري غيبي ،مل يرد االنتقال من حالة عقيدية �إىل �أخرى موازية لها يف اعتماد الغيبيات فالفكر اليوناين و�إنتاجاته الب�صرية مبنية �أي�ضاً على حيز من العقالنية واملنطق الذي و�سم بزوغ ع�صر احلداثة ،هو انطلق من عجني مركب اجتماعي وثقايف �أتاح له اعادة النظر كليا بهذا املا�ضي ،هو مل يركز على نتاج ح�ضارة بعينها ،ومل يت�سن له «العودة» �إىل �إرث من خارج حمفظته� ،إال بعد جتارب وتبدل يف �أكرث من اجتاه ،ي�أتي التطور العلمي يف مقدمتها ،كان همه االول �أن يجد ،بعد �أن ا�ستنزف قدراته يف جمال �صيانة ال�شكل بعالقته بالواقع ،ما ي�ساعده على اخلروج من هذه احللقة ال�ضيقة ،اىل جمال �أرحب يتيح له تثبيت ذاتيته ب�شكل نهائي ،ولأن االن�سان ببنيته ال ينطلق خياله �إال على قاعدة املرئيات �أكانت طبيعة �أم نتاجا تاريخيا �أم �أية منظورات اخرى ،فقد ذهب �إىل ما يناق�ض ما�ضيه يف رحلة تفتي�ش عن �شكالنية�أخرى غري معهودة لديه ،ولأن الذاتوية �سيطرت على املجتمع اجلديد �أ�صبح متاحا له �أن يحاكي ثقافة الآخر من خالل ت�أكيد �أنويته ،وهذه ت�ستدعي خروجا على مالوفه وم�ألوف حيزه العام نحو غرائبية تتيح التجديد ،فوجد �ضالته يف ما اعترب ممتلكا من غريه ومن و�سط ثقايف خارج حيزه ،لذلك ف�إن �إعادة االعتبار للثقافات الب�شرية االخرى غري الغربية نتجت عن 101
قراءته املختلفة لها ،مبا �أتاح له �أن ي�ستخدم هذه القراءة اجلديدة خلدمة منظوره الب�صري اجلديد، �أال وهو �إعادة النظر مبفهوم ال�شكل وطريقة �صياغته� ،أخذت هذه الرحلة منه زمناً طويال ،مل تكن حلقة حمروقة على عجل ،بل �أُدخلت معجني التاريخ والتطور ،وهذا �أ�ستوجب جتارب متدرجة مبنية على تطورات واكت�شافات مت�سارعة ،مل يكن �إذاًهوى �أحدهم كما يحلو للبع�ض �أن يقول. لذلك تدرج الأمر من تبديل النظر يف م�شاهدة املرئي الواقعي املحاكي للفردانية �إىل م�شاهدته كما هو� ،إىل ت�صويره وفقا لنظرية ال�ض�ؤ اجلديدة ،ف�إىل م�شاهدته من ب�ؤر نظر خمتلفة ف�إىل �صياغته بطريقة بد�أت بتب�سيطه وذهبت �إىل حتويره ف�إىل ت�شويهه وتو�صلت �إىل ك�سره ثم انتهت بنفيه .وقد وجد احلداثويون �ضالتهم بقراءة �شكالنية الب�صريات القدمية اخلارجة عن مالوفهم التاريخي والعائدة لل�شعوب غري الغربية ،علما �أن ذلك ال�شغل امل�ضني مل يكن ليرتك فيهم �أية عقدة ذنب جتاه �إرثهم ،فهم اعتمدوا على نتاج م�ستعمراتهم وهم ذهبوا اىل حد اعتبار هذا املخزون جزءاً من ممتلكاتهم ،ناهيك عن �أن فكر التنوير جعلهم منفتحني على هذه الثقافات من منظور وحدة الإرث الإن�ساين والتفاعل احل�ضاري .باال�ستنتاج :مل ين�سخ احلداثويون ب�صريات غريهم ،بل �أر�شدتهم �سعة قراءاتهم اىل و�ضع معايري جديدة ،لذلك ال ي�صح �أبدا القول ان احلداثة تطورت من رحم الرتاث الغربي ،وال من ن�سخ الرتاث ال�شرقي والثقافات القدمية ،بل �إنها فقط فت�شت عن قوالب جديدة فوجدتها يف بع�ض معايري هذا الرتاث .هي نعم قطعت مع ما�ضيها املوروث ،ولكنها �صاغت جديدها من توليفة مركبة كان الرتاث ال�شرقي �أحد مناهلها. ثانيا ً« :احلداثة» مبفهومها اللبناين
�أما فيما يخت�ص مبفهوم احلداثة مبعناه ال�شرق -عربي ،والتبا�سات اعتناقه لبنانيا فيمكننا ت�سجيل العناوين التالية: -1ت�أ�س�س مفهوم «احلداثة» يف ال�شرق على قاعدة مغايرة كليا النبعاثه يف موطنه الأ�صلي .فعلى الرغم من �أن الغرب املهيمن �أوحى دائماً �أن املفهوم عاملي ي�صلح لكل ظرف ،فذلك لتوكيد هيمنته ،باملعنى اال�ستعماري للكلمة ،فلئن �أوحى ب�إمكانية تطوير بنى �سيا�سية واقت�صادية تعود ملناطق هيمنته ت�ستطيع التعاي�ش مع ثقافات �سلفية وتراثية �سائدة ،فذلك �إما لعجزه عن �إعادة توليد نف�س التجربة التي اندلعت يف دائرته� ،أو لأن حتري�ضه على بناء منط عي�ش مطابق للتطورات التي بناها يتناق�ض مع قواعد الهيمنة التي كانت همه االول والأخري ،ففي الوقت الذي ت�أ�س�ست احلداثة الغربية على تدمري البنى االجتماعية وال�سيا�سية واالقت�صادية العائدة للمجتمع البائد مبا فيها حتالف الطبقات احلاكمة� ،أي الإقطاع وامللكية ،ف�إنها �أنتجت �سلطة جديدة هي �سلطة الر�أ�سمالية التى �أطلقت املجتمع اجلديد من عقاله نحو تبدل منط العي�ش باجتاه عالقات �إنتاج قاعدتها �إنتاج 102
حتوالت �أدبية
ال�سلعة من دون حواجز �أو معوقات ،كما �أنها �أطلقت العنان لتطوير عملية االنتاج بطريقة م�ستمرة وذلك بت�شجيع االكت�شافات العلمية ،واالخرتاعات ،كما ف�صلت الدين عن الدولة ،يف رد متقدم على ال�صراعات الدينية واحلروب الأهلية النا�شئة عنها والتي دمرت �أ�س�س املجتمعات الغربية، و�أطلقت �شعار احلرية الفردية التي حترتم حرية املعتقد والر�أي والثقافة وطرحت �شعار الإخاء اي احرتام التحالف الطبقي اجلديد الذي عمل على بناء �سلطة جديدة �أ�سموها �سلطة ال�شعب ،من هنا مت ا�ستنباط مفهوم الدميوقراطية التي تهدف �إىل انتخاب ال�شعب ملمثليه .وذلك كله ا�ستند اىل مفاهيم ع�صر التنوير .لكنها �أ�س�ست �أي�ضاً لقهر جديد للطبقات الدنيا والفقراء ،ولأن حررت الفالحني من �سلطة الإقطاع ،ف�إنها �أدخلتهم يف قهر من نوع جديد �أدى �إىل هجرة جز ٍء كبري منهم باجتاه املدينة و�إىل حتولهم �إىل عمال م�أجورين ،كما �أن ال�صراع النا�شيء عن حماية اال�سواق وعن االقتتال على اال�سواق اجلديدة رفع من ذرى ال�صراعات القومية التي �أنتجت حروبا مدمرة... � -2ضمن هذا ال�سياق حاولت الر�أ�سماليات الغربية املتناحرة �أن ت�سيطر على اال�سواق العاملية باال�ستعمار .لهذا ،بعد �أن وهنت االمرباطورية العثمانية ،تخا�صمت الدول الغربية على كيفية اقت�سام الرتكة ،ولكي ت�ستطيع ان تقت�سم اجلبنة بح�ص�ص كبرية� ،أقامت عالقات مع املجموعات الب�شرية املتناحرة ،ففي لبنان �أعلنت فرن�سا توطيد عالقتها باملوارنة التي كانت عميقة يف التاريخ ت�صل اىل عهد لوي�س الرابع ع�شر كما� .أعلنت حمايتها لهذه الطائفة ،اما الإنكليز ف�أقاموابدورهم عالقة مع الدروز ،الخ... ون�ش�أ عن ذلك قيام عالقات اقت�صادية وثقافية و�سيا�سية مع هذه الطوائف .وقد ق�سم �سايك�س بيكو املنطقة بني الدولتني. ولكي يثبت الفرن�سيون �سيطرتهم ،دخلوا من باب النزاعات الداخلية بني الطوائف اللبنانية ومن باب ال�سيطرة الثقافية� ،ضمن هذا االطار وفدت اىل لبنان الإر�ساليات .الأجنبية وعمل املوارنة �أكرث من غريهم على رف�ض الترتيك و�صيانة اللغة العربية وفتح مدار�س تعلم اللغتني العربية والفرن�سية ،و�أقيمت اول مطبعة يف ال�شرق كله يف لبنان . -3وكانت فرن�سا ،يف املجال ال�سيا�سي ،وعلى قاعدة ت�أجج املنازعات الطائفية وبالتعاون مع دول اخرى قد عملت على املطالبة ب�إعطاء املوارنة كيانا �شبه م�ستقل ،فن�ش�أ عن ذلك نظام القائمقاميتني ثم املت�صرفية ،كما دفعت باجتاه انتزاع االمتيازات الأجنبية ،واىل التعامل ال�سيا�سي مع امل�سيحيني بطريقة خمتلفة عن �سائر الطوائف اللبنانية االخرى .باالخت�صار ف�إن الدولة العثمانية تنازلت عن هذه الأمور �إر�ضاء للدول الغربية و�إخفاء ل�ضعفها. -4ويف املجال الثقايف فتحت فرن�سا �أبوابها ال�ست�ضافة الوافدين اليها بهدف التعلم ،ومن ذلك بد�أ عدد من اللبنانيني االنخراط يف هذه العملية ومنهم طالب فنون الر�سم والت�صوير ،ومن منا ال 103
يعرف معهد جوليان الذي كان معظم رواده من ال�شرق .وكما يف هذه الفنون كذلك يف املجاالت الدرا�سية االخرى ،وقد �أعطت فرن�سا منحا تعليمية للعديد من الطالب يف االخت�صا�صات املختلفة. -5وكانت الكني�سة املارونية قد �أقامت عالقات مبا�شرة ،غدت مع مرور الزمن تاريخية ،مع ال�سلطات الفرن�سية املتعاقبة مهما كان لونها ميينية �أم ي�سارية .ويف جانب �آخر بد�أت تتخلى عن الطريقة ال�شرقية (بيزنطية ام �أرثوذك�سية) يف ر�سم الأيقونات كمتطلب الزم للبناء الكن�سي ودور العبادة العائدة لها ،كما �أوفدت العديد من الكهنة للتخ�ص�ص يف جمال الر�سم االيقوين يف معاهد متخ�ص�صة لذلك ،وكانت هذه املعاهد حتت و�صاية الفاتيكان مبا�شرة ،علماً بان الكني�سة املارونية «اكت�شفت» الكني�سة الغربية يف �سياق تبدلها ال�سيا�سي والثقايف فتحولت من كني�سة �شرقية اىل االلتزام بالكني�سة الغربية. -6يف املجال االقت�صادي بد�أت تن�ش�أ طبقة ر�أ�سمالية جتارية وخدماتية ومالية يف لبنان متوافقة مع متطلبات البنى االقت�صادية الفرن�سية ،من خالل العالقات التي �أقامتها فرن�سا مع ال�شرق العربي، وكان ذلك �إيذانا بالتحاق ال�سوق اللبنانية باالقت�صاد الفرن�سي ،وهي ما �أ�سميناها بالربجوازية الطفيلية التي تعتا�ش من الهام�ش الذي تركه لهم الفرن�سيون ،بذلك فتحت ال�سوق اللبنانية لل�سلع الفرن�سية ،وبد�أت تت�أ�س�س �صناعات حرفية خفيفة ك�صناعة انتاج احلرير اخلام (وتربيته يف املجال الزراعي) ،كانت التجارة البينية مق�صورة ،تقريبا ،على الطائفتني امل�سيحية وال�سنية املقيمة يف الثغور وعلى ال�شواطيء وخا�صة يف بريوت ،وذلك متا�شيا مع الإرث العثماين الذي �أعطى �سنة بريوت هذا االمتياز ،ومنهم من ا�س ُتقدم من اجلزائر وبالد املغرب وكرد�ستان ،لأهداف �سيا�سية معروفة ترتكز على م�س�ألة الوالء ال�سيا�سي .وهكذا بقي املجال اال�سالمي ال�سني يدور يف الفلك الرتكي ،ومل يطالبوا اال ب�إ�صالح النظام ال�سيا�سي العثماين ،ونادرا ما ذهبوا �إىل املطالبة باال�ستقالل عن العثمانيني الآن نادراً ،وخا�صة عندما اندلعت حركة ال�شريف ح�سني .كما �أيد امل�سلمون ال�شيعة ،الذين ان�ضووا فرتة تاريخية طويلة حتت جناح التقية ،العودة اىل الوحدة العربية، �أ�سوة بال�سنة ،وعار�ض املوارنة ذلك منذ البداية. -7ويف املجال الفني بد�أت هذه الربجوازية ت�ؤ�س�س ملتطلبات ت�صويرية ،فطلبت على قاعدة املباهاة من امل�صورين �صوراً �شخ�صية لها (بورتريه) ،متمثلة يف ذلك باالغنياء الغربيني ،و�إذا كان ه�ؤالء انخرطوا �ضمن عملية دعم الثقافة الب�صرية ب�شكل عام فان �أقرانهم اللبنانيون تدافعوا بفعل التمثل والغرية ،فحيث �أن الربجوازية الفرن�سية اعتربت هذا الأمر جز ًءا من ثقافتها ،و على الرغم من وقوفهم يف وجه التبدل الراديكايل يف االجتاهات الفنية ،فانهم �سرعان ما بدلوا من موقفهم بعد �أن ا�ستتب الأمر لهذه املدار�س الب�صرية اجلديدة.
104
حتوالت �أدبية
ثالثا ً «احلداثة» الفنية يف لبنان
انطالقا من هذا العر�ض ال�سريع ميكننا ا�ستنتاج مايلي: -1يف الوقت الذي كانت احلركة احلداثوية تبنى على قاعدة التبدل االجتماعي واالقت�صادي وال�سيا�سي الذي �أقر باحلياة الفردية و�إقامة الدولة املدنية املبنية على م�سالة ف�صل الدين عن منحى خمالفاً كلياً. الدولة ،كانت التغيريات يف املجال اللبناين ت�أخذ ً نبتت احلداثة على �أنقا�ض نظام بائد متثل بتحالف امللكية والإقطاع والكني�سة وفقا للحق االلهي. انهارت القيم واملعايري القدمية وحلت حملها مفا�صل جديدة لنمط العي�ش. �أما يف لبنان فقد تبدلت ال�صيغ الت�شكيلية من الأ�ساليب القدمية املتمثلة بالفنون البيزنطية والأرثوذك�سية والأ�سلوب العثماين املبني على الفن اال�سالمي معد ًال ب�إدخال البعد الثالث على العمل الفني ،وذلك متثال بالفنون الغربية الكال�سيكية �أو الرومان�سية اال�ست�شراقية التي �أخدت موا�ضيعها من امل�شهديات ال�شرقية وتدعمت ملونتها ،احيانا ،ببع�ض املعاجلات االنطباعية ،تلك كانت متطلبات الو�سط اللبناين. -2يف الوقت الذي تراجعت ال�سلطة الدينية يف الغرب عامة وفرن�سا على وجه اخل�صو�ص، تثبتت يف لبنان حيث �أكد اال�ستعمار الفرن�سي هيمنة الإقطاع ال�سيا�سي بهرمية ترا�ستها املارونية ال�سيا�سية .و�إذا كانت الر�أ�سمالية قب�ضت على قمة النظام ال�سيا�سي الفرن�سي ،ف�إن ال�سلطة يف لبنان ن�ش�أت على قاعدة توافق بني بقايا الإقطاع والزعامات الطوائفية والر�أ�سمالية اخلدماتية. لقد بنى اال�ستعمار الفرن�سي ال�سلطة يف لبنان وفقا ملتطلبات هيمنته ولي�س وفقا للمباديء التي ت�أ�س�ست عليها دولته احلديثة. -3تبنى الفنانون اللبنانيون �أ�ساليب فنية تعود �إىل الثقافة الفنية البائدة� ،أي الفن الأكادميي الكال�سيكي املطعم ببع�ض التوليفات الرومان�سية ،يف الوقت الذي كان الفن الغربي قد غادر هذه الأ�ساليب تقريباً �إىل غري رجعة. � -4أدخل الفرن�سيون معايري حياتية جديدة �إىل لبنان يف جمال بناء البنية التحتية للنظام ال�سيا�سي اجلديد ،متثل مب�ؤ�س�سات الدولة من �سلطتني �سيا�سية برملانية وق�ضائية وفقا للنموذج املتبع يف بالدهم. هكذا �أ�سقطوا على البنية االجتماعية �أ�سلوبا �سلطويا تطلب ن�ضاال مريرا لتثبيته يف بالدهم ،وكان قد ترافق مع هدم العالقات االجتماعية ال�سابقة لتحل حملها �أمناط جديدة ،بينما عملوا على تطبيقها يف لبنان من دون �أن يتبني قدرتها على اجراء تعديالت اجتماعية تنا�سبها .لذلك ولدت �أمناط هجينة يتعاي�ش فيها ال�سابق على الر�أ�سمالية مع النمط احلديث .ويف ذات ال�سياق اكتظت ال�سوق اللبنانية بال�سلع الفرن�سية وثقافتها� .أدخلت العمارة احلديثة من دون درا�سة توافقها مع 105
البيئة .كما تبنى �أبناء املدن منط العي�ش الغربي يف طريقة العمل واللبا�س وامل�أكل وامل�شرب وخالفه وت�أ�س�ست البنى التحتية للنظام املديني وفقا للطريقة الغربية يف حني بقي الريف على حاله .كما مت اعتماد نف�س الأ�س�س املدر�سية وخا�صة يف جمايل الرتبية والتعليم .هكذا وجدنا تعاي�شاً لنمطني من احلياة ،قدمي وجديد .ح�صل كل ذلك خالفا لل�سريورة الغربية .ال ميكننا القول �إن املجتمع اللبناين كان راف�ضا لذلك ،بل �إن بنية املجتمع اللبناين �سمحت بتقبل رحب من جهة ورف�ض من اجلهة الأخرى ،لكن ذلك مل ي�ؤد �إىل اتخاذ موقف حاد .كما �أن ثقافة العي�ش اجلديدة مل تفر�ض بالقوة. -5يف الوقت الذي اعتمد الفنانون اللبنانيون �أ�ساليب فنية غربية قدمية �أكادميية ،كانت هذه الأ�ساليب قد انهارت بانهيار �أكادميية الفنان الكال�سيكي دافيد ،و�أطلق الر�سامون الغربيون العنان لنف�سهم بابتداع و�سائل جديدة للتعبري الفني ،يف نف�س الوقت هذا كانت االنطباعية ت�سلم الراية ملا بعدها ،فت�ش امل�ؤ�س�سون الأربعة� :سيزان وغوغان وفان غوخ و�سوراه عن بدائل للواقعية االنطباعية ،فوجدوا �ضالتهم بتعزيز فردانيتهم من خالل ا�ستلهام توليفات ب�صرية اكزوتيكية �أو تركيب معايري ت�صميمية ذاتوية ،مل يكن همهم دوافع التعبرياجلماعي ،جل همهم ان�صب على تعديل املعايري اجلمالية ،فثقافتهم باتت كو�سموبوليتية ولديهم الدافع نحو ا�ستيالد ر�ؤى جديدة من خالل فكرهم النقدي وك�سرهم (للتابويات) الفنية وقدرتهم املكت�سبة على دمج �أو مزاوجة التقانات املكت�سبة حديثاً مع املو�ضوعات وامل�شهديات ذات ال�صلة بو�سطهم �أو تلك التي ت�صوغها خميالتهم ،وذلك باجتاه الرتميز والتعديل والتب�سيط والتت�سطيح. مل ن�شهد يف لبنان متثال بهذه التجربة �إال بعد انق�ضاء زمن طويل ،بل �إن االعتماد اخلجول على بع�ض مفردات االنطباعية كان -وما يزال حتى اللحظة يف مناهج معاهد الفنون اجلميلة -متقدما على هذه التطورات امل�ؤ�س�سة للحداثة الت�شكيلية يف الغرب .ال ميكنني �أن �أوعز االمر اال ملتطلبات املجتمع اللبناين املتباطئ جداً يف م�سار التغيري ،وبالتايل ر�ضوخاً لذوق النخبة املت�أرجح بني تلقف الواقعية ك�أنها اكت�شاف فريد مقاي�ض كليا لنهج رمزي افرتا�ضي� ،أو انها �شوق للتخل�ص من ردح تقايف طال زمنه ،وبني من عاند ،ولفرتة لي�ست ق�صرية� ،أن حتل بع�ض الثقافات الغريبة حمل منط عي�شه وتفكريه ومعتقداته متوج�سا من رغبة متجددة للغرب بك�سب ال�صراع ،و�إعادة الألق اىل تاريخ االقتحام (ال�صليبي) ،وهذه املرة بالو�سائط الثقافية .على �أننا نعتقد �أن النخبة اللبنانية، والتي مل ت�ستطع الطلوع من ثقافتها املوروثة كليا واملبنية على �أ�س�س االنق�سام الطائفي والع�شائري وما تبقى من الزعامات الإقطاعية ،بنت تذوقها �أي�ضاً على قاعدة املتطلب االقت�صادي .ما يرغبه املي�سور والوجيه والزعيم املت�شبع بالذهنية القبلية ،لي�س كلهم �أي�ضاً ،بل املتنورين منهم ،ما يرغبونه ال ميكن له �أن يتخطى حيزهم املادي والثقايف� ،أي متطلبات االقت�صاد اللبناين املبني ،كما نكرر دائما ،على ال�سياحة واخلدمات والك�سب الريعي .فكيف له�ؤالء �أن يتطلبوا ب�صريات م�ستغرقة يف فردانيتها ؟ كيف لهم �أن يتيحوا للثقافة الب�صرية �أن (تلوك) مفردات ما�ضوية وتعجنها مبعجن كيفي 106
حتوالت �أدبية
(ن ّبوي) يتماهى مع ا�شتداد الفردانية املت�صاعدة اىل م�ستوى العظمة؟ فليكن �إذن �صورة �شخ�صية تدغدغ نزعة الربوز والتمايز وال ب�أ�س مبنظر طبيعي ميجد خ�صو�صيات امل�شهد اللبناين والعادات الريفية والفلكلور ،فذلك �أي�ضاً ي�ستجلب ال�سائح ويتماهي مع الغرائبيات التي راحت تفت�ش عنها فنون اال�ست�شراق الرومان�سية. -6اتاح االنتقال للر�سامني اللبنانيني من �ضفة فكرية دوغمائية �إىل �أخرى �أكرث انفتاحاً� ،أن يتحركوا �ضمن هام�ش �أكرث ات�ساعاً( ،فتحولوا) من الفن البحري ذي ال�صيغة العثمانية �إىل الفن الغربي مبعايريه الأكادميية القدمية غري ابهني ،رمبا ،للتطورات املت�سارعة احلا�صلة يف قلب مدر�سة باري�س واملنعك�سة حكما على الغرب كله ،او �أنهم على الأرجح م�ستنكرون ذلك ال فرق ،بدليل املواقف الراف�ضة والتي �صدرت على �أكرث من ل�سان .ورغم ذلك ن�سميهم م�ؤ�س�سني ،وال ادري وفقا لهذه املعطيات ماذا �أ�س�سوا !! هل ميكن ت�أ�سي�س امل�ؤ�س�س؟ والذي ا�صبح بائدا يف م�صادره؟ هم يف �أح�سن �أحوالهم متحولون �أو انتقاليون !! �أي �أنهم حتولوا عن �أو انتقلوا من �صيغة تعبريية موجودة يف امداء التاريخ اىل �صيغة اخرى لها �أي�ضاً تاريخها العريق ،او �أن وارثيهم �سموا روادا ،ما هي الراية التي حملوها او �أ�سهموا برفعها لي�صبحوا كذلك؟ هم رف�ضوا بوعي اكت�شافات ماتي�س و�صياغات بيكا�سو و�أ�سموهم «م�شعوذين» بل حكموا على فنهم باالندثار ،وذلك على الرغم من معاي�شاتهم النت�صارات هذه الأ�ساليب ولتب�شريها بتوجهات �أكرث راديكالية. هناك فرق وا�سع بني �أن نثمن �إبداعات ه�ؤالء الفنانني وبني �أن ن�صبغ عليهم �ألقابا تفي�ض عنهم. يف جميع الأحوال كان (التطور) بطيئا جداً ،ففي حني ا�ستطاع الت�شكيل الغربي �أن يبتدع جديدا على الدوام ،فان اللبنانيني كانت لديهم املرجعيات االجتاهية ينتقون منها ما (ينا�سبهم)، لذلك نراهم يوالفون بني امللونات املختلفة واملو�ضوعات والأ�ساليب التي اكتنزوها من معاهدهم، ودائما وفقا ملتطلبات ثقافتهم املركبة من عجني غرائبي ،ي�أخذ من الغرب �أ�ساليبه ويراعي ذوق الزبون ،وال ندعي �أنهم عجزوا� ،أحياناً ،عن تلم�س الإغراءات الفنية ال�صرف ،اخلارجة عن ال�سياق االجتماعي ،كمو�ضوعات العري ،لكنهم �أركنوها غالباً ل�صياغات مماثلة للنهج الواقعي الأكادميي النزعة ،ما ميكن تقديره يف نتاجهم ،لي�س فقط جر�أتهم يف حتدي الواقع االجتماعي الراف�ض لهذه املو�ضوعات ،بل �أي�ضاً اعتمادهم ملونة �ضوئية ت�ستوحي مرئياتهم اليومية. -7هم �إذاً تخطوا الرتاث ال�شرقي يف نف�س الوقت الذي �أخذ الغربيون من معايريه. كان لديهم خيارات وا�سعة فانتقلوا منها ما ينا�سب توجههم .لذلك نراهم يقفزون عن االنطباعية �إىل الرمزية كما فعل جربان خليل جربان .وامللفت �أن املنطقة العربية تزخر بالفنون الرمزية القدمية، وبالتايل ف�إن هذا اخليار كان متاحا و�سهال ،لكنه� ،أي جربان� ،آثر االنخراط بذلك من خالل معاي�شاته الغربية� ،أي �أنه اهتدى �إىل �أ�سلوبه بعد �أن تعرف �إىل الفنان الإنكليزي وليم بليك و�إىل فن اوديلون ريدون الفرن�سي. 107
مل تن�ش�أ مدر�سة انطباعية يف لبنان باملعنى الفني للكلمة على الرغم من بع�ض املحاوالت. بل �إن العديد من الفنانني �أمثال م�صطفى فروخ وقي�صر اجلميل ور�شيد وهبي و�صليبا الدويهي غرفوا من �أكرث من اجتاه ،وه�ؤالء اتهموا زورا ب�أنهم انطباعيون ،و�إن كنا ل�سنا ب�صدد تعريف االنطباعية فان لهذه املدر�سة الفنية معايري مل يحرتمها ه�ؤالء الفنانني اال ملاماً ،فعندما كانت مو�ضوعاتهم م�أخوذة من التاريخ اللبناين والعربي �أو ر�سما لعارية �أو حتى بع�ض املناظر الطبيعية ،كان يغلب على معاجلاتهم �إبراز القدرة املهارية والوفاء لإحقاق الواقعية على كل �شيء ،والعدادهم الأكادميي �إن كان يف معاهد روما �أو يف معهد جوليان يف باري�س �أو غريه من املعاهد امل�شابهة .وبالتايل �أوفياء لثقافة هذه املعاهد ور�ؤاهم التي غلب عليها احلنني �إىل ما�ضوية كال�سيكية. و�إن كنا ذكرنا �إغفالهم موقفا وا�ضحا من العمالقة الأربعة ،ي�ضاف اليهم خام�س هو اجلمركي ال�ساذج هرني رو�سو ،وفق ما ورد �أعاله ،فان املوقف احلاد من ماتي�س وبيكا�سو عرب عن نظرتهم ور�ؤاهم للم�ستقبل الت�شكيلي .ولرمبا �أثر ذلك �إىل حني يف عدم �إقبال تالمذتهم على تبني االجتاه التكعيبي (براك وبيكا�سو) ،وقد يكون �أنهم ذهبوا لتوهم �إىل الواقعية الأكادميية ومل يعتنقوا هماً نو�ستاجلياً يعيدهم �إىل تراثهم ،كيف نريد منهم العودة �إىل التب�سيط و�إغفال املعايري الواقعية وهم م�سكنون باكت�شافهم للبعد الثالث وتو�ضيع الألوان الواقعية بدال من الألوان اال�صطالحية التي �سادت لفرتة طويلة؟ -8لذلك كان من امللفت الذهاب �إىل الر�ؤى التجريدية بد ًال من املرور بالتطور (الطبيعي)� ،أي من تب�سيط ال�شكل وا�ستعمال امللونة الوح�شية �أو اال�صطالحية �أو الرمزية �إىل ك�سر ال�شكل مع ا�ستخدام ملونة فقرية ترابية �أو م�شعة �إىل نفي ال�شكل و�إعطاء الدور الفاعل للتعبريات الهند�سية �أو غلبة اللون على ال�شكل �أو التعليات اللونية ال�صرفة .والن املعطى موجود فقد اختار اللبنانيون ما يرت�ؤنه بدل اعتماد امل�سار امل�ضني �أي من التكعيبية �إىل الدادائية فالتعبريية الأملانية ف�إىل امل�ستقبلية ...فالتجريدية. ملاذا نحا اللبنانيون �صوب التجريد مبكرين قيا�سا على ما كان يجري يف حميطهم العربي؟ كان التجريد قد �أ�صبح طاغياً منذ �أن ب�شرت التكعيبية به ومنذ �أن عملت ال�سوريالية على �إعادة �صياغة الواقع بطريقة متخيلة ا�ستنادا �إىل ا�ستنزاف مكنونات الالوعي والكوابي�س والأحالم والهذيان .حطمت ال�سوريالية الواقع انطالقا من ما فعلته احلروب التي �أنتجتها �سياقات احلداثة نف�سها ،ويف جمال �آخر جمد بع�ض ال�سورياليني احلروب على قاعدة �أنها تدمر الواقع وتتيح النتائج اعادة �صياغة جديدة متنوها على ال�شاكلة الب�صرية التي حلموا بها يف �أعمالهم ،عامل ال ميكن حتقيقه �إال يف ذهان املر�ضى واملجانني واخلارجني على قوانني الطبيعة واحلروب. لكن الرد جاء من التجريديني ،ويبدو �أن حربا �ضرو�سا ن�شبت بني التيارين .ملاذا ال ن�ستنه�ض 108
حتوالت �أدبية
القيم الروحية يف الرد على �آفات املاديني؟ والالفت �أن �أوائل امل�ؤ�س�سني للتيار التجريدي كانوا معتنقني لل�صوفية �أمثال كاندن�سكي وموندريان ومالفيت�ش وغريهم .لذلك وجدانهم يحاولون بناء عاملهم الب�صري على ال�صفائية الهند�سية ،عامل يختزل الأ�شكال �إىل قيمها الأوىل -الأ�صول االوىل ،الأ�شكال الهند�سية ال�شديدة التب�سيط املتمثلة بالنقطة واخلطوط املتنوعة وامل�ساحة ،هذا ما ذهب �إليه ،يف عرينه الرمزي حيناً وال�سوريايل �أحياناً ،بول كلي .هذا ما فعله مريو .لكن التطورات الالحقة �أف�ضت �إىل ا�ستلهام الفنون القدمية وما ابتكرته من �أ�شكال وعالمات و �إ�شارات ورموز. ك�أين برواد التجريدا�صابتهم نو�ستاجليا املا�ضي ،يف ردهم على النزاعات وال�صراعات املدمرة التي اجتاحت عاملهم املادي .لكن م�أثرتهم تكمن �أي�ضاً ب�إعادة االعتبار للفنون التي �أطلق عليها ت�سميات دونية مثل الفنون ال�صغرى او التطبيقية او الزخرفية وما اىل ذلك ،هذا االمر �أعاد االعتبار للجماليات العربية والإ�سالمية والبدائية والقدمية وفنون الزخرفة االفريقية واملايا والأزتيك وغريها .ولأن التجريد الهند�سي تقاطع يف فل�سفته وبنيته مع الرق�ش العربي والإ�سالمي، فقد ا�ستفاق العرب ،واللبنانيون بطبيعة احلال ،على الأبعاد الت�شكيلية لرتاثهم الب�صري. واقع االمر �أن طريقني متوازيني انبعثا يف لبنان التجريد الرتاثي (�سمي �شرقيا والت�سمية �صاحلة للنقا�ش) والتجريد الغنائي �أو العاطفي. حتولت بريوت بطريقة مبكرة �إىل مركز ثقايف متقدم ،حيث ا�ست�ضافت معار�ض ل�سلفادور دايل وبيكا�سو و�سواهم ما �أنتج حوارا نخبويا حول نتائجهما الفنية ،ومن املفيد الذكر ان اجلامعة الأمريكية يف بريوت ذهبت �إىل حد �إعداد طالب الفنون لديها على معايري الفن التجريدي يف املجالني النظري والعملي يف بلد هيمن عليه طرائق ومفاهيم �أكادميية وكال�سيكية ،كما حتولت بريوت �إىل مركز العر�ض العربي حيث عر�ض فيها فنانون عرب �أعمالهم الفنية بعيدا عن الرقابة الر�سمية .كما نظم متحف �سر�سق معار�ض عاملية للر�سم التعبريي والنحات الفرن�سي �أوغ�ست رودان ولأعمال ت�شكيلية بريطانية وللر�سامني االنطباعيني. هي �إذاً بريوت الداخلة يف دائرة الثقافة الغربية من بابني :باب ال�سيطرة الفرن�سية على لبنان بفعل اال�ستعمار املبا�شر وباب العالقة الثقافية التي مل تنقطع يوما مع الفرن�سيني يف مرحلة اال�ستقالل. هكذا كانت التبدالت الثقافية ،والب�صرية منها بخا�صة ،على متا�س مبا�شر مع ال�ساحة البريوتية، ولأن النظام ال�سيا�سي اللبناين �سمح بالتاثر ال�سريع بهذا احلراك اكرث من الدول العربية املحيطة، ف�إن لبنان جنح نحو التجريد ب�شكل مبكر ،لي�س فقط من وحي ال�صراع على الهوية ،بل ملوقع لبنان الكثري اخل�صو�صية يف عالقته بني ال�شرق اال�سالمي والغرب العلماين (�أو امل�سيحي) .وقد ا�ستطاعت البنية االجتماعية امل�شكلة من ثقافة م�سيحية مفتوحة على الغرب (املوارنة) وعلى ال�شرق ،نق�صد اليوناين والرو�سي (الأرثوذوك�سي) وثقافة �إ�سالمية تت�ضمن ت�شكالت ً مذاهبية �سنية و�شيعية وعلوية ،مع ما يعني ذلك من فروقات عقائدية وطقو�سية ور�ؤيوية وانعكا�سها على 109
ال�صعيد الب�صري .هذه (اخللطة) الثقافية �أتاحت ت�ساكنا ،و�أحيانا ت�صارعا ،ثقافيا ،كانت الهيمنة فيها للثقافة امل�سيحية الغربية من دون �أن ي�ستدعي �أي ح�سم لأي اجتاه من االجتاهات .فقد عانى اللبنانيون من عنف ت�صارعي تاريخي مل ي�ؤد �سوى �إىل تراجعات �شكلية ذات منحى �سيا�سي ،مل ت�ستطع �أن تخرتق العمق الثقايف لأية جمموعة من املجموعات الطائفية ال�سالفة الذكر ،لكن ذلك مل مينع من تبني مواقف لينة �أدت �إىل قيام تعاي�ش فريد ولكنه متوتر. لذلك وجد امل�سيحيون يف التجريد حماكاة الن�صراف �صوب الثقافة الغربية ،ومل جتد املجموعات اال�سالمية فيه �أي تناق�ض مع ثقافتها .لكن �صراعا ثقافيا �آخر ن�ش�أ على قاعدة ا�شكالية الهوية اللبنانية التي مل حت�سم يوما ،بل كانت جتد يف املنطق التوافقي �صيغة «ف�ضلى» ال�ستمرار التعاي�ش. يف حني �أن التجريدية الغربية مل جتد غ�ضا�ضة يف تلقف معايري التجريد امل�ستوحاة من الثقافات الب�صرية املختلفة ،وال�صراع الفكري الغربي �أخذ مناح خمتلفة حول التجريد الهند�سي �أو ال�شكلي �أو التجريد اللوين الذي �صيغ على قواعد ا�ستفزاز العاطفة او التما�س العاطفي بالتوليفات اللونية امل�ستندة اىل امل�ساحات ذات الأبعاد الطبيعية (من الطبيعة وامل�شهد الطبيعي).
110
حتوالت �أدبية
اللية طبيعة الثنائيات ال ّد ّ ّ
يف �شعر قا�سم ح ّداد :من خالل «عالج امل�سافة» و«دع املالك» ل�ؤي زيتوين -باحث و�أكادميي
الدخول يف احلديث عن ال ّتجربة ال�شّ عر ّية ،من �أكرث املوا�ضيع ال ّنقد ّية ح�سا�س ّيةً ،و�أو�سعها يعد ّ ّ ت�ش ّعباً ،ملا للعوامل اخلارجة على ال�شّ عر نف�سه من دو ٍر م�ؤ ّث ٍر يف عمل ّية تكوين تلك ال ّتجربة ومنح والفن .فقد ترتبط جتربة ال�شّ اعر بالبيئة �صاحبها �أبعاداً جديد ًة لر�ؤيته الفريدة �إىل احلياة والكون ّ مني الذي تك ّونت اجلغراف ّية واالجتماع ّية التي يدور خطابه ال�شّ ّ عري فيها� ،إىل جانب احل ّيز ال ّز ّ فيه .وهذا دون �أن نغفل عن الأطر الثّقاف ّية ّ الذات ّية واملو�ضوع ّية التي تدفع هذا ال�شّ اعر �إىل تكوين تلك الر�ؤية يف ظ ّلها .من هذا املنطلق ،ونظراً لت�شّ عب امل�ؤّثرات التي ت�ضغط عليها ،كانت ال ّتجربة هي الفعل الذي ي�ضع ال�شّ اعر يف مواجه ٍة كيان ّي ٍة مع ما يحيط به من عنا�صر الوجود على خمتلف عري. م�ستوياته ،ل ُيظهر �صراعاً حا ّداً يتج ّلى يف نتاجه ال�شّ ّ حداد بو�صفه نتاج مرحل ٍة ت�صاعد ّي ٍة يف احلداثة ويف �ضوء هذه ال ّنظرة ميكننا �أن نقر�أ �شعر قا�سم ّ البحري على �أطراف �شبه اجلزيرة العرب ّية ،ومن حيث احل�ضور ال�شّ عر ّية ،وبيئ ٍة مم ّيز ٍة من حيث املوقع ّ االجتماعي الذي ي ّتخذ طابعاً عا ّماً مع تن ّو ٍع ٍ الداخل ّية .وهو الأمر الذي ينتج وجه ًة ملحوظ يف بنيته ّ ّ ّ ّ ّ ً ّ ً احليوي .ولعل هذا� ،إىل جانب خا�صة قد ت�شكل افرتاقا عن حميطها اجلغرايف والديمّ غرايف ّ ثقاف ّي ًة ّ الذات ّيةّ ، حداد ّ تكوين فريد ًة لتجربة �شعر ّي ٍة. بحد ذاته عوامل ٍ ي�شكل ِّ ثقافة ّ أهم جوانب هذه ال ّتجربة ،انطالقاً من كونها تنتمي �إىل ال�شّ عر احلديث ،تك�شف عن على �أنّ من � ّ ٍ �صراعات مع الوجود وعنا�صره ،ملا تب ّينه هذه من جوانب ال ّر�ؤية كوامنها من خالل ما متلكه من عري .ويف التي ميتلكها ال�شّ اعر ،واملتج ّلية بو�ساطة الثّنائ ّيات ّ الدالل ّية التي ينبني عليها ّن�صه ال�شّ ّ مهماً من مفا�صل ال ّت ّعمق يف هذا املجال ،تبدو م�س�ألة الك�شف عن طبيعة تلك الثّنائ ّيات مف�ص ًال ّ عري .ومع �إنتاجه الوفري ،تبدو العودة �إىل منوذجني مت� ّأخرين من �إنتاجه ذات ن�ص قا�سم ّ حداد ال�شّ ّ ّ
111
والفن .وعلى أهم ّية ،نظراً لل ّن�ضج الذي يحمالنه ،واملعبرّ عن التكامل يف ر�ؤيته نحو احلياة والكون ّ � ّ 2 1 ال�صادرين خالل العقد هذا الأ�سا�س توقّفت درا�ستنا على ديوانيَ «عالج امل�سافة» و«دع املالك» ّ املا�ضي ،مع ما يعنيه ذلك من تن ّو ٍع ال ّنماذج ال�شّ عر ّية التي تطالعنا. الغربة ،الفرد/اجلماعة:
يف متابع ٍة ّ املحوري لإح�سا�س ال�شّ اعر الديوانني ،نالحظ احل�ضور ف�سي الذي يربط ق�صائد ّ ّ للخط ال ّن ّ ٍ خمتلف ب�شكل بالغربة .وهو �شعو ٍر قد ن�صادفه لدى معظم ال�شّ عراء� ،إ ّال �أ ّنه يظهر لدى قا�سم ّ حداد ٍ اجلذري عن ي�ضفي مت ّيزاً على ر�ؤيته ،وبال ّتايل على �شعره .فمفهوم الغربة هنا نابع من االفرتاق ّ العاطفي. منهج تفكري اجلماعة التي حتيط به ،كما عن طبيعة تكوينها ّ �صراع انطالقاً من ذلك ،جند مفهوم الغربة يتج ّلى من خالل ثنائ ّية الفرد واجلماعة ،باال�ستناد �إىل ٍ بني ح�ضور الفرد بو�صفه كياناً م�ستق ًّال ،وبني اجلماعة التي تفر�ض هيمنتها وقوانينها على �أبنائها. ّ حداد ولعل هذا ما ميكن �أن نفهمه من رمز ال�شّ جرة يف ق�صيدته «يف �ضيافة ال�شّ جرة» ،حيث ي�صفها ّ ب�أ ّنها: «متنح القدمني ري�شاً وتطلق اخل�ضرة يف هيئة البحر �شجرة كرمية لطيفة املع�شر كثرية البكاء تر�أف بحزنك 3 وال ت�شبه الغابة» . ال�سابق �أن نرى ال ّنهاية التي ف ّرقت ال�شّ جرة املعن ّية عن الغابة ،فنزعت �إطار املفهوم ميكننا يف املقطع ّ قليدي الذي يجعل من ال�شّ جرة باملطلق جزءاً من الغابة؛ غري �أنّ العبارة الأخرية من املقطع ال ّت ّ اجلذري بينهما .فمن الوا�ضح للقارئ �أنّ ال�شّ جرة التي امتلكت �صفة تو�ضح هذا االختالف ّ ٍ الب�شري من و�صفات تفوق اجلن�س الإن�سان املتع ّلقة بال ّر�أفة والبكاء والكرم وال ّلطف من ناحية، ّ ناحي ٍة �أخرى ،و�أعني منح ال ّري�ش و�إطالق اخل�ضرة؛ هذه ال�شّ جرة �أظهرت تفوقاً على طبيعة الغابة، ما جعلها تنف�صل كل ّياً عنها ل ُتربز اجلوانب ال ّنف�س ّية املتع ّلقة باحل ّر ّية والعطاء� ،إىل جانب العاطفة الدائر يف خلد ال�شّ اعر بينه ،بو�صفه الفرد -ال�شّ جرة ،وبني املجتمع- ال�صراع ّ املفرطة ،وهو ما �أبرز ّ 2 3 1
112
للدرا�سات وال ّن�شرّ ، الطبعة الثانية.2002 ، حداد :عالج امل�سافة .بريوت ،امل� ّؤ�س�سة العرب ّية ّ قا�سم ّ حداد :دع املالك .دم�شق ،دار كنعانّ ، الطبعة الأوىل.2009 ، قا�سم ّ حداد :دع املالك� .ص.65 قا�سم ّ
حتوالت �أدبية
الغابة .و�أن تكون ذات ال�شّ اعر هي �شجرة الر�أفة واحلر ّية والعطاء ،جعلها تقع يف غربة �شديد ٍة مع ال�صفة من بدائ ّي ٍة وابتعا ٍد عن مظاهر املحيط االجتماعي الذي ا ّت�صف بكونه غابةً ،مع ما تعنيه هذه ّ ّ احل�ضاري والثّقا ّيف. ال ّتط ّور ّ عري الذي قر�أناه ال يبينّ �سوى �صورة على �أنّ مظهر الغربة هذا ال يوحي بالأمل لأنّ املقطع ال�شّ ّ حد ًة مع رم ٍز دال ٍّيل �آخر هو رمز املقهى االفرتاق عن املجتمع� .إ ّال �أنّ ح�ضور هذه الثّنائ ّية يبدو �أكرث ّ ب�أبعاده ال ّنف�س ّية والفكر ّية� ،إذ يغدو هذا ال ّرمز �صور ًة درام ّي ًة عن حال ال�شّ اعر تمُ اهي بني الغربة والوحدة يف �آنّ . يوجههنا �إليه املقطع ال ّتايل: ولعل هذا ما ّ َ وحيد مثلك «مقهاكٌ ، وحيد بدونك ٌ من�سي يف وح�شة ال ّر�صيف ٌّ حمت�شد ب�أحالم االنتظار والفقد ٌ جراح قلبه مندلع ٌة يف المباالة العابرين ُ يحدق يف خطواتهم ّ منتظراً يداً ّ حتط على ذراعه املرتوكة َ مقهاك َ ينتظرك مثل غاب ٍة مكنوز ٍة بطيور الوح�شة» .4 ا�ستخدام رمز املقهى هنا كان فع ًال دالل ّياً يهدف �إىل �إ�سقاط احلال التي تعي�شها ذات ال�شّ اعر على املقهى ،ف�ضمري الغائب املفرد الذي يعود �إىل املقهى اتحّ د مع �ضمري َ املخاطب املف َرد ليب ّينا معاناة الفرد �ضمن اجلماعة التي برزت يف �ضمري الغائب للجمع ويف اجلموع (العابرين -خطواتهم -طيور الوح�شة) .فاملفرد حمل معاناة الوحدة وال ّتجاهل واالنتظار والأمل ،بينما اجلمع مت ّيز باللاّ مباالة وتهدد وجوده .مع والق�سوة والوح�شة ،وهذا ما يعطي الثّنائ ّية معانٍ �أعمق و�أكرث ا ّت�ساعاً حتيط بالفرد ّ الإ�شارة �إىل �أنّ ظهور الفرد هنا جاء بنتيجة مت ّيزه عن املجموع ،فامل�شاعر التي نقع عليها لديه تقابلها الالمباالة واخلل ّو من بوادر الإح�سا�س لديهم. ال�صراع الذي تربزه ثنائ ّية الفرد/اجلماعة ،قد يظ ّنه البع�ض ق�سر ّياً ،نظراً للأمل الذي يظهره غري �أنّ ّ ال�سابق .لك ّننا نرى يف الكثري من الأحيان بروزاً اختيار ّياً لهذا ال ّتغ ّرب ،فت�صبح عمل ّية املقطع ّ االنف�صال عن املجموع م�س�ألة �إراد ٍة وقرار ت�شبه فعل ال ّرحيل ،مع �ضرورة الإ�شارة �إىل �أ ّنه رحيل يف ّ الذات: 4
حداد :دع املالك� .ص .52 -51 قا�سم ّ 113
ٌ «رحيل ي�ضع زفري �أحالمنا يف ال ّتجربة جامح يع ّرينا من ٍ حنني ٍ ٌ فادح رحيل ٌ خل ْعنا له �أجمل قم�صاننا لنجد �أع�ضاءنا م�ستوح�ش ًة يف وحدة ّ الطريق َ اجلراح جارح ي� ّؤجج َ يف ٍ ملح ٍ 5 اخلفي من �أ�سرارنا» متو ّغ ًال يف ّ جراح و�أ ٍمل ووح�ش ٍة ال�سياق �إىل ٍ عمل � ٍّ إرادي ،مع ّ يت�ضمنه من ٍ مفهوم ال ّرحيل يتح ّول يف هذا ّ ووحدة ،لأ ّنه ي�ضع مكنونات ّ الذات �أمام ال ّتجربة الفعل ّية التي تظهر �أ�سرار ال ّنف�س .وبال ّتايل ف�إنّ تغ ّرب الفرد ووحدته داخل جمتمعه لي�س فع ًال �سلب ّياً باملطلق ،بل فعل ال ّبد منه لإثبات حقيقة ذاته وخفاياها وقدراتها .مع العلم �أنّ هذه احلال ال تتع ّلق بفر ٍد بعينه ،بل ميكن �أن تكون حا ًال جمموع من الأفراد ،يف مواجهة حالٍ اجتماعي ٍة «غاب ّية» �سائدة. مو�سع ًة لدى ّ ٍ ف�سي املتع ّلق ب�صراع الدالل ّية لدى قا�سم ّ وبنا ًء عليه ،نالحظ �أنّ الثّنائية ّ حداد ت ّت�سم بالبعد ال ّن ّ ال�سائدة ،وهي احلال التي دفعت به ل ّلجوء �إىل الغربة ال�شّ اعر �ضد حال ال ّت ّفكك االجتماعي ّ ّ ال ّنف�س ّية التي تبقى حا ًال �أف�ضل من االنخراط يف «الغابة» االجتماع ّية والمباالتها ،من الناحية القيم ّية والفكر ّية. الرف�ض ،الذّات/الآخر: ّ
حداد ال�شّ عر ّية لتتح ّول �إىل حالٍ من ال ّرف�ض احلاد ملعايري الوجود القائمة تتط ّور حال الغربة يف جتربة ّ والتي ت ّت�سم باالنحراف ،فالواقع املعا�ش يبقى بعيداً ّ الطموحات والقيم التي ينظر �إليها ال�شّ اعر، اجلد ّية التي تتمثّل �أوىل درجاتها بهذا ال ّرف�ض .وت�أتي وبال ّتايل ف�إنّ عليه �أن يدخل يف �إطار املواجهة ّ لتج�سد هذا ال ّرف�ض ،فتربز ّ ثنائ ّية ّ الذات بو�صفها مم ّث ًال ّ وعي لكل ٍ ال�سياق ّ الذات/الآخر يف هذا ّ أهميتها يف احلياة ،بينما يتج ّلى الآخر يف القوى التي تفر�ض قيودها على تلك بقيمة احلر ّية و� ّ ّ الذات .وبنا ًء عليه ،كانت عمل ّية الوعي هي �أوىل عنا�صر ال ّرف�ض: املتهد ُج «مثله� ،صوتي ّ ميدح الأث َري ُ وي�صقل معدن الفرا�شات مثله ،مثله 5 114
حداد :عالج امل�سافة� .ص.14 قا�سم ّ
حتوالت �أدبية
ك ّلما طار بي � َ إليك ت�ش ّبثت خطواتي بال ّتي ِه 6 وعرفت ّ الطريق» . ُ ال�صوت الذي يفر�ض نف�سه بو�صفه الوعي �أو املعرفة ،لأ ّنه �أو�صل ال�شّ اعر مع نهاية يطالعنا هنا رمز ّ املقطع �إىل معرفة ّ الطريق� ،أي معرفة الوجهة التي يجب �أن يق�صدها .ومبا �أ ّنه يت�ش ّبث بال ّتيه ،ف�إنّ هذا ّ ال�سائد هو ّ الطريق املن�شودةّ . ولعل هذا ما يجعلنا نت�ساءل يدل على وعيه ب�أنّ االنحراف عن الواقع ّ ين ّ عن ماه ّية تلك الطريق ،فتظهر �أمامنا �صورة احل ّرية التي ت�أتي على �شكل ٍ يوظفها عازف �إ�سبا ٍّ أهم ّية اخلروج على الواقع: ال�شّ اعر للإ�ضاءة على � ّ «ل�ست له َ ال ي�سمعك وال َ يراك، عيناه طائرانِ و�أ�صابعه ٌ فرا�ش يف ّر من �أوتار ِه م�سقي بحنني اجلمر. �شرا ٌر ٌّ لي�س َ لك لن َ ت�صل �إليه، هناك 7 يف الأوج» الثّنائ ّية تتج ّلى يف هذا املقطع من خالل �ضم َريي املفرد الغائب واملخاطب ،حيث تربز حمور ّية ال�ضمري الغائب لتعبرّ عن ّ ثانوي ل�ضمري املخاطب لي�ؤ ّدي دور ّ الذات املتح ّررة ،يف مقابل ح�ضو ٍر ٍّ ال�ضمريين بحيث يبدو الغائب «يف الأوج» بعيداً عن متناول الآخر .ونرى االفرتاق احلا ّد بني ّ خا�صة( :طائران -فرا�ش� -شرار) ،فهذا املخاطب� .أ ّما �أن تلحق بذاك الغائب (العازف) موا�صفات ّ ّ يدل على �أ ّنه ميثّل �صورة احل ّرية التي تبتعد عن ّ �شكل من �أ�شكال القيود ،وهو ما دفع �إىل كل ٍ �إطالق ال ّنفي للمخاطب بالقول« :لي�س لك -لن ت�صل �إليه». واحد� ،أو مب�ست ًوى ٍ ب�شكل ٍ واحد يف ذهن �إ ّال �أنّ هذه احلر ّية التي تنتج عن رف�ض الواقع ،ال ترتبط ٍ جمتمع تدور �آرا�ؤه عنها حداد �إىل ال ّن�ساء يف ال�شّ اعر .فمن �أوجه هذا ال ّرف�ض ما يتج ّلى يف نظرة ّ ٍ حول �أفكا ٍر م�سبق ٍة ومق ِّيد ٍة لكيانها ،الأمر الذي حدا به �إىل �إبراز رف�ضه املتماهي مع رف�ضها لهذه وال�سالم يف الوجود: ال�سائدة ،وت�صويرها بو�صفها كائناً ح ّراً يتوقّف عليه ا�ستمرار الأمن ّ الآراء ّ 6 7
حداد :دع املالك� .ص.41 قا�سم ّ حداد :دع املالك� .ص.26 -25 قا�سم ّ 115
«وحيدات ال�سهرة ّ لهن �أ�صابع حت�سن القب�ض على قناديل ّ فال يعود ل ّليل قرينة للغدر لل�ضغينة وال عذر ّ ير�سمن ّ لكل ٍ مهد غيم ًة من ال ّنوار�س ن�سا ٌء َ ال�سفن املوج على تبادل ّ ح ّتى يو�شك ُ ال�صفات مع ّ والبيا�ض ال�شّ اهق لتنبعث من ري�ش الو�سائد لثغ ُة ّ الطفولة 8 وهي تن�ش�أ يف �سالل ٍة تبتكر ال ّن�شيد» فهن خارجات عن املجتمع ال�سابق ّ ال�ضوء على كون ال ّن�ساء وحيدات ،وبال ّتايل ّ يلقي املقطع ّ �صفاتهن تتم ّيز بالإيجاب ّية ّ ب�شكل �أو ب�آخر .ومع ذلك ف�إنّ قدرتهن الطاغية ،خ�صو�صاً يف ال�سائد ٍ ّ ّ ّ بال�ضوء وحتويل ال ّرمزية املرتبطة بال ّليل والقائمة على الغدر واحلقد� ،إىل ال ّنقي�ض على الإم�ساك ّ خ�صو�صيتهن يف م�س�ؤول ّيتهن عن الوالدة التي ت ّتخذ معنى املتمثّل بالأمان واملح ّبة .كما تتج ّلى ّ أهم ّية اخلروج ال ّت ّ جدد العا ّم يف احلياة .ويبدو غياب اجلن�س الآخر هنا عالم ًة دالل ّي ًة تعطي انطباعاً ب� ّ الك ّل ّي عن قيم الفكر ّ ال�سائد يف املجتمع. الذ ّ كوري ّ ّ اخلا�ص لل ّرف�ض يقودنا �إىل وج ٍه �آخر م�ضمونه رف�ض �أ�شكال الغطر�سة كافّة، ولعل هذا الوجه ّ بنماذجها ّ اخلا�صةّ . ولعل هذا ما يدخلنا �إليه رمز اجلبل يف الذكور ّية العا ّمة �أو بنماذجها ال�سلطو ّية ّ ختام ق�صيدة «ظال ٌم َ عليك �أ ّيها اجلبل» ،حيث يقول: «نقول له� :سئمنا �س ّيداً ي�سكت عن �أحفاده ُ ويطلق لأ�سالفه �سطوة ال ّندم ٌ ال�صيارفة جبل َي ْن َه ُر �أحال َمنا وي�شي بنا يف حمفل ّ يقودنا ب�أد ّالئه املذعورين الدول ويعتذر عن �أجمل �أخطائنا �أمام قنا�صل ّ ومبعوثي اجليو�ش ً 9 ترح ُل �أي�ضا» نقول للجبل :اجلبال َ جلي للقارئ �أنّ رمز اجلبل يتل ّب�س �صفات ّ ال�سلطة الطاغية ،ولذلك ف�إنّ الآخر هنا قد يتمثّل يف ّ ٌّ القمع ّية التي متار�س غطر�ستها على �أبناء ال�شّ عب وتعمل على �إذاللهم ،ح ّتى �أمام ال�شّ عوب ينم عن معاين ال ّت�س ّلط. الأخرى؛ �أ�ضف �إىل ذلك �أنّ اجلبل يوحي بالعظمة واجلربوت الذي ّ 8 9 116
حداد :عالج امل�سافة� .ص.43 -42 قا�سم ّ املرجع نف�سه� .ص.10
حتوالت �أدبية
ال�سيطرة .والعالمة التي تلفت ال ّنظر هنا وهذا ما يجعل ال ّرف�ض قائماً هنا على الوقوف ّ �ضد تلك ّ املوجهة �إىل اجلبل بالقول« :اجلبال ترحل �أي�ضاً» ،لكونها تثري يف ذهن تتج ّلى يف العبارة الأخرية ّ القارئ �شعوراً ب�أعلى حاالت ال ّرف�ض ،فمخاطبة ّ حدي بنوع حا ٍّد من ال ّت ّ الطاغية بهذا ال�شّ كل ت�شي ٍ يغدو معها الأمل حا�ضراً يف حتقّق اخلال�ص. هذا املنوال ينتقل بنا �إىل وج ٍه ٍ ال�سابق مي ّرر �إ�شار ًة �إىل امل�ستعمِ ر جديد من وجوه ال ّرف�ض ،فاملقطع ّ ب�شكل لكن ال�شّ اعر ال يكتفي بذلك ،بل ينقل لنا احلال التي يعي�شها جمتمعه ٍ مبختلف �ألوانهّ . �أو�ضح ،خ�صو�صاً �أن تلك احلال كانت طوع ّي ًة ال بالإكراه ،وهذا ما ّ بحد ذاته: ي�شكل املفارقة ّ واطئ «�أمل نفتح لهم ال�شّ َ ُي�صفّونَ فيها ُ�س ُف َنهم ّ الطويلة �أمل َنر�سم لهم ال ّنخل ٍ ا�صطبالت وثرية الـم ِ�ص ّن ِات َين�سِ لونَ فيها من �صافناتهم ُ جنائب اخليلْ و�صرب احلقولِ ال�س ْع ِف َ نبني ل�صيفهم املرتف �أ�سِ ّرة ّ الفج ينامون يف �أحالمهم لي�صل �إلينا �شخ ُريهم ّ 10 �شخ ٌري ُيذعِ ُر �أطفا َلنا ويف ِّزز ُهم من اليقظةْ» الدخول يف عمل ّي ٍة نقد ّي ٍة مل�س�ألة تظهر �صورة امل�ستعمِ ر هنا على �شكل بالغي مط ّول يق�صد ّ ٍ ا�ستفهام ٍّ قدي يطال ّ الذات �أي�ضاً ولكن هذا الفعل ال ّن ّ لل�صورة؛ ّ اال�ستعمار بطبيعة احلال ،يف الوجه املبا�شر ّ باعتبار �أنّ جمتمع ال�شّ اعر والق ّيمني عليه هم الذين �ش ّرعوا الأبواب �أمام هذا امل�ستعمِ ر دون حتفّظ، خدم عنده �أو �إىل جم ّرد متلقّني لنتائج �أفعاله .وقد يكون يف ح ّتى حت ّول �أبناء هذا املجتمع �إىل جم ّرد ٍ بحد ذاتها جت ّلياً لال�ستنكار �أو ال ّرف�ض يف مواجهة ت�سليم البالد و�أبنائها �إىل الآخر. �صيغة اال�ستفهام ّ ال�صورة لتبلغ رف�ضاً ّ لكل �أ�شكال «ال ّتغريب الثّقا ّيف الدائرة ّ وقد ت ّت�سع ّ الدالل ّية التي ت�شملها هذه ّ خا�ص ،وما مظهر «ال�شّ خري» الذي يذعر الأطفال �إ ّال إرادي» احلا�صل يف جمتمع ال�شّ اعر ٍ ال ّ ب�شكل ّ �شك ًال من �أ�شكال الإ�ستالب الثّقا ّيف احلا�صل طوعاً يف ذاك املجتمع. الدالل ّية داخل ال ّن ّ�ص ا�ستناداً �إىل ما �سبق ،ميكن مالحظة ال ّتط ّور امللفت يف تركيب الثّنائ ّيات ّ حداد� .إذ �أنّ جتليها يف �صورة ّ الذات/الآخر �إظهاراً لعمل ّية ال ّرف�ض احلا ّدة عري لدى قا�سم ّ ال�شّ ّ دالالت مت�ش ّعب ٍة تطال مفاهيم املجتمع ّ ٍ كوري الدخول يف لهيمنة الواقع املنحرف� ،أ ّدت �إىل ّ الذ ّ وال�سلطة القمع ّية وال ّت�سليم باال�ستعمار .ومن خالل ذلك ،نالحظ ارتباطاً وثيقاً لهذه الثّنائ ّيات ّ حد �سواء. بوجود ال�شّ اعر -الإن�سان فرد ّياً وجماع ّياً على ٍّ حداد :عالج امل�سافة� .ص.54 -53 1 0قا�سم ّ 117
املواجهة ،الأنا/املوروث:
وحد ًة مع تنامي احلال ال�شّ عور ّية التي تعتمل يف ذاته، حداد �أبعاداً �أكرث تط ّوراً ّ ت�أخذ جتربة قا�سم ّ لبي �أو ومع نفاذ نظرته �إىل زوايا �أكرث ح�سا�سيةً .فهو ال ي�ستطيع �أن يبقى عند حدود ال ّتو�صيف ّ ال�س ّ ين .ولذلك ،يتح ّول �إىل مرحلة االندفاع يف عند ال ّرف�ض الذي ي ّتخذ وجهاً دفاع ّياً عن كيانه الإن�سا ّ الدرجات ،ليعمل على ك�شف مكامن اخللل يف بنية جمتمعه وعلى �صراعه الوجودي ح ّتى �أق�صى ّ الدخول فيها الدخول �إىل عوامل حمظور ٍة �أو حم ّرمة ،وقد ُي�ص َّنف ّ مهاجمتها؛ وهو بهذا يبيح لنف�سه ّ تتحدد الثّنائ ّية �ضرباً من �ضروب ال ّتجديف ،ال�س ّيما يف ٍ زمن مثل الذي نعي�شه .ومن هذا املنطلق ّ ال�صراع احلا ّد .ومن هذا املوروث ما يرتبط ببنية ّ الدالل ّية املتمثّلة يف( :الأنا/املوروث) لتربز هذا ّ حداد يف ق�صيدته «القبائل» املجتمع وطبيعة تركيبته التي وجد �أ ّنها قائمة على القبل ّية� ،إذ يبد�أ ّ يوجه �إليهم ال ّنداء لي�سوا بعبارة« :جامعو ثروات الثّلج» ،لي�شري �إىل �أنّ �أبناء هذا املجتمع الذين ّ �سوى جامعني ٍ يوجه �إليهم الكالم بقوله: لرثوات �سخيف ٍة وعابرةّ ،ثم ّ «فتهتفون لنا ب�أهازيج احلرب وبني �أ�سنانكم �أعواد املقا�صل ك�أ ّنها الكالم ت�ستعيدون �أ�شباحاً من ذخرية املا�ضي الكتب ُتف َتح لكم ُ وتبد�أ يف تف�سري الهالك وهو ي�أخذ �شكل احلكمة تزرعون جنائل الثّلج يف �صحراء 11 يتنا�سل فيها اجلبل وقرينه» ٍ وعادات بالية .غري حروب وق�سو ٍة ي�شن قا�سم ّ تت�ضمنه من ٍ ّ حداد حمل ًة على طبيعة احلياة القبل ّية مبا ّ وا�ضح �إىل ا�ستمرار تلك احلياة يف �أيامنا احلا�ضرة ،الأمر الذي يبدو من �أنّ حملته هذه ت�شري ٍ ب�شكل ٍ خالل �صورة ا�ستعادة الأ�شباح من ذخرية املا�ضي ،وهذا ّ يدل على �إدخال املعتقدات القبل ّية يف ال�صورة التي ّقدمها لنا ال�شّ اعر يف نهاية املقطع، احلياة املعا�صرة .ويف هذا املجال ،ال ّبد من مالحظة ّ ال�صحراء يعني �أ ّنهم يقومون ب�أعمالٍ غري جمد ّية وال نفع منها .وعلى ف�أن يزرع �أولئك الثّلج يف ّ ال�صورة كامل ًة على الواقع لرنى َمن يق�صدهم ال�شّ اعر وقد حاولوا هذا الأ�سا�س ميكن �أن ن�سقط ّ �أن يجمعوا الثرّ وات ّ الطائلة بال هدف ،وعملوا على ا�ستح�ضار ال ّتق�سيمات القبل ّية القدمية بو�صفها عاداتهم ،ف�ض ًال عن كونهم ا�ستجلبوا ما ال ينتمي �إىل بالدهم من غري فائدة. حداد :عالح امل�سافة� .ص.39-38 1 1قا�سم ّ 118
حتوالت �أدبية
على �أنّ هذا املوروث ال يقف عند العادات القبل ّية فح�سب ،بل ي�شمل العادات البالية ك ّلها لأ ّنها ّ حداد �صراح ًة �إىل هذه العادات وال ّتقاليد التي االجتماعي تدل على املوات والفكري .وي�شري ّ ّ ّ مت�سك بها �أبناء جمتمعه ّ الدخول يف حركة ال ّتط ّور: و�شكلت لهم قيوداً تعيقهم عن ّ ّ «مررنا بهم نَف َْ�ضح ُه ْم بذاكرة امل�ستحيل القرائن كي ُيكفّوا عن املوت َج َمعنا لهم َ ال�ص ِ مت الغياب بف�صاح ِة ّ مدحنا لهم َ كي يدركوا ال َفرقَ بني القوامي�س وقناديل الطريق 12 اخب» ال�ص ِ فلم يلتفتوا ومل ُي�صغوا لوقع مرورِنا ّ �صراع بني �ضمري املتك ّلم اجلمع و�ضمري الغائب اجلمع ،فالغائب �صار نرى الثّنائ ّية هنا حت ّولت �إىل ٍ الفكري� .أ ّما املتك ّلم فقد مثّل ق ّوة احلياة بو�ساطة متم�سكاً باملوت وبالقوامي�س التي ن�شري �إىل اجلمود ّ ّ ال�صاخب للمرورّ . ولعل ح�ضور �صفة جانب إىل � مدحنا، جمعنا- نف�ضحهم- مررنا- أفعال: ال ّ ثنائ ّية (الأنا/املوروث) تتج ّلى يف عبارة «الفرق بني القوامي�س وقناديل ّ الطريق»� ،إذ �أنّ القوامي�س حمددة ،بينما تظهر عبارة «قناديل ّ ٍ الطريق» ت�شري �إىل املعاين املوروثة التي حت�صر الذهن يف دالالت ّ �إىل الوعي ّ بالطريق التي تعني احلركة وامل�سري نحو الغد .من هذا املنطلق ،جند �أنّ ال�شّ اعر وجد يف إبداعي �سبي ًال للمواجهة ،حيث يقول: الفعل ال ّ «�أ ّن ِك ِ ل�ست �إ ّال مليكة الكتابة ال�ساللة من قرا�صنة ال ّن ّ�ص حتر�سني لنا ُّ وت�صدين كتائب الغبار عن �أ�صابعنا ّ 13 الهي ًة مبوهبة اخللق» جت�سد هنا يف لفظ َتي «ال ّن ّ�ص» و«الغبار»� ،إذ ت�شري الأوىل �إىل ال ّتق ّيد بال ّن�صو�ص املوروثة فاملوروث ّ حرف ّياً ،بينما ّ تدل الثّانية على قدم هذه املوروثات ،ويف املقطع يحاول ال�شّ اعر ال ّتخ ّل�ص منهما بو�ساطة الإبداع. ال�سياق ،تطرح لنا لفظة «ال ّن ّ�ص» درج ًة �أعلى من اجلر�أة يف املواجهة ،لأ ّنها حتيلنا على يف هذا ّ ب�شكل �أو ب�آخر ،و�إن كان يق�صد من ورائها َمن باتوا ق ّيمني على هذا املوروث .فها املوروث ّ ينيٍ ، الد ّ الدين ّية يف ال ّنف�س ،من خالل رمز «الآلهة» التي تبقى �صامتة بعك�س هو ي� ّصور لنا فعل ال ّن�صو�ص ّ ما ي� ّصورها املجتمع: حداد :عالج امل�سافة� .ص.20 1 2قا�سم ّ حداد :عالج امل�سافة� .ص.32 1 3قا�سم ّ 119
«ع�صي على �إدراكي، ٌّ �آله ٌة ي�سوطوننا بها يف مواقيت حم�سوب ٍة ويطرحونَ �صو َتها اخلفي�ض على �أرواحنا يف هيئة رعو ٍد ،ويف بروقٍ ، �آله ٌة �صامتة هناك يف �أعاليها 14 ال تلوي على ّ الطفيف من الأمرِ» دخل ح ّتى يف �أب�سط الأمور ،وقد بال�صمت وال تقوى على ال ّت ّ فهذه الآلهة ا ّت�سمت يف نظر ال�شّ اعر ّ يكون يف هذا �إ�شارة �إىل ٍ حداد� .أ ّما الق ّيمون على عبادة تلك الآلهة ف ُيظهِر إحلادي من جانب ّ موقف � ٍّ ال ّن�ص �أ ّنهم ي�ستخدمون عمل ّية ال ّتخويف التي ت�سيرّ امل�ؤمنني ق�سراً (ي�سوطوننا -رعود -بروق) ،كما كلي لعمل ّية ال ّربط بعبادتها (يف مواقيت حم�سوبة)ّ . ولعل هذا ي�ستخدمون الفعل الطقو�سي ال�شّ ّ ّ ال�سائدة داخل املجتمع ،يتمظهر يف يبينّ �صراعاً وجود ّياً فكر ّياً يحياه ال�شّ اعر يف مواجهة املعتقدات ّ �أعلى م�ست ًوى من م�ستويات ثنائ ّية الأنا/املوروث و�أخطر درج ٍة من درجات ت�أثريها. حداد بهذا الفعل فعل بحد ذاته ،لأنّ قا�سم ّ تغيريي ّ ال�سياق ،تتح ّول عمل ّية املواجهة �إىل ٍ ٍّ يف هذا ّ حرب مع املفاهيم املحور ّية للمجتمع ال�سائد يف املجتمع ،وبال ّتايل يدخل يف ٍ يخرج عن طبيعة الفكر ّ ولطبيعة الترّ بية فيه .وانطالقاً من ذلك ،تظهر ثنائ ّية الأنا/املوروث بو�صفها �صراعاً وجود ّياً يخو�ضه اخلا�صة التي ّ ت�شكل قطعاً حا�سماً مع املا�ضي ،ودخو ًال فعل ّياً ال�شّ اعر يف �سبيل ا�ستح�ضار مفاهيمه ّ يف ع�صره احلا�ضر و�أفكاره الفل�سف ّية ،مهما كانت طبيعتها. اخلامتة:
حداد ،ح�ضوراً غن ّياً ومتن ّوعاً لها يف الدالل ّية عند ال�شّ اعر قا�سم ّ الحظنا يف درا�ستنا للثّنائ ّيات ّ ديوانيه «عالج امل�سافة» و«دع املالك» ،فمن �صراع الفرد/املجتمع الذي �أظهر الغربة التي يعي�شها ال�شّ اعر� ،إىل ثنائ ّية ّ �ضد عوامل الهيمنة ،ح ّتى �صراع الأنا/ الذات/الآخر التي ب ّينت حال ال ّرف�ض ّ املوروث الذي ّ واحل�ضاري. الفكري �ضد عنا�صر ال ّتقليد واجلمود واملوت �شكل مواجه ًة حا ّد ًة ّ ّ ّ حموري يف بنية الق�صيدة عند ومن الوا�ضح للمتم ّعن �أنّ تلك الثّنائ ّيات ا ّت�سمت بح�ضو ٍر دال ٍّيل ٍّ لل�صراعات الكيان ّية التي يعي�شها يف جمتمعه ومع بيئته .لذلك حداد ،فهي بدت املظهر ّ العملي ّ ّ
14
120
حداد :دع املالك� .ص.11 قا�سم ّ
حتوالت �أدبية
الفكري واملا ّد ّي داخل ميكننا �أن جند فيها �صف ًة �أوىل هي الوجود ّية ،لأ ّنها ارتبطت بوجود الإن�سان ّ بالدرجة الأوىل ،وجزءاً فاع ًال من املجتمع املجتمع وبهواج�سه الكيان ّية امل�صري ّية بو�صفه كائناً ب�شر ّياً ّ املحيط به ثانياً. �إ�ضاف ًة �إىل ذلك ،ن�ستطيع �أن نكت�شف �صف ًة �أخرى تتج ّلى يف ّ الطبيعة ال ّنقد ّية للثّنائ ّيات� .إذ �أنّ حداد ا�ستطاعت �أن ّ اخلا�صة ال�صراعات التي مي ّر بها قا�سم ّ ّ توظف تلك الثّنائّيات يف خدمة ال ّر�ؤية ّ ين وتقوم بنقد الواقع املناق�ض له. والفن ،وهي ر�ؤية تنظر �إىل مثالٍ �إن�سا ٍّ �إىل احلياة والكون ّ «احلداد ّية» ،وهي ما يتع ّلق ب�شموليتها مع وانطالقاً من ذلك ت�ضاف �سمة �أخرى �إىل الثّنائيات ّ �أ ّنها م�ستقاة من بيئته االجتماع ّية ،لذا ن�ستطيع القول �أ ّنها ثنائ ّيات �شمول ّية ّ الطابع تتع ّلق بالقيم التي يجب �أن ت�سيطر على احلياة الإن�سان ّية ،وباملجاالت التي تعني الإن�سان بعا ّم ٍة ،واملنتمي �إىل املحلي بيئة ال�شّ اعر ّ بخا�صة ،يف الوقت الذي ت ّتخذ وجه ًة خ�صو�ص ّي ًة ب�أبعادها ال ّت�أثري ّية ومنبعها ّ االجتماعي. ّ حداد احتجاجاً على طبيعة حت ّول احلياة الب�شر ّية عن وهذا ما ي�سمح لنا ب�أن جند يف ثنائ ّيات قا�سم ّ م�سريتها الأ�سا�س ّية وبال ّتايل عن هدفها ،وهو ما نقر�أه يف ما يلي: «لو �أ ّنهم رموا باحلجر يف زرقة اخلليج لك�سدت ال ّتجار ُة الرمل واندل َع ال ّز ُرع يف خريطة ِ لو �أ ّنهم ا�ستبدلوا املكانَ الأ ّو َل بالأعماق لكانت ال ُ أر�ض �أك َرث جما ًال من البحر لك ّنهم ذهبوا باحلج ِر نحو الأ�سواق مل يزل احلج ُر ومل تزل ال ّتجار ُة مل ا�س يف ال ّر ِ ومل يزل ال ّن ُ 15 وال�ض ْرع» �صحراء مفقودة ال ّزرع ّ فال�صراع الكامن يف هذه القطعة �إنمّ ا يرتبط باحلجر الذي ّ ال�سلب ّية وباجلمال الذي ّ ي�شكل ق ّوة املا ّدة ّ ال�سيطرة املطلقة كانت للحجر الذي قد يرمز �إىل الثرّ وات املا ّدية على ميثّل الق ّوة الإيجاب ّية ،غري �أنّ ّ احلقيقي املاثل يف ال ّزراعة ويف الثرّ وات ال ّروحية التي حياة الب�شر ،يف مقابل االبتعاد عن اجلمال ّ ال�صراع جعل الثّنائ ّية تتع ّلق باجلانب ال ّنف�سي للإن�سان بني ّ الذات قد تجُ نى من الإنتاج .وهذا ّ املت�شائمة ّ ال�سمات والذات املنغم�سة يف متع املا ّدة .غري �أنّ قراء ًة ثاني ًة للقطعة نف�سها تعيدنا �إىل ّ
15
حداد :عالج امل�سافة� .ص.72 قا�سم ّ 121
احلقيقي نف�سها �أوردناها �سابقاً� ،إذ ت�شري �إىل بيئة ال�شّ اعر بال ّتحديد التي تخ ّلت عن �سبل الإنتاج ّ ال�ضخمّ . ولعل هذا ما ي�ضيف �سمة ثقاف ًة واقت�صاداً ليتمحور تفكري �أهلها حول ال ّتجارة وال ّربح ّ البيئي لثنائ ّيات ال�شاعر التي تخ ّيم على نتاجه ال�شّ عري �إىل جانب ّ الطابع ال�شّ مو ّيل الهج�س ّ ين لها. الإن�سا ّ الدالل ّية التي �أو�صلتنا �إليها �أم ال� ،إ ّال �أ ّنها ومهما يكن من �أمر هذه الثّنائ ّيات ،و�سواء توافقنا الأبعاد ّ حداد» ،دون �أن تكون هي الأبعاد الوحيدة يف تبقى عن�صراً حمور ّياً يف بنية الق�صيدة لدى «قا�سم ّ �شعره ،خ�صو�صاً �أنّ بحثنا هذا يقت�صر على ديوانني فقط من دواوين ال�شّ اعر التي نعجز عن ح�صرها لكرثتها وال�ستمرار ّية عطاء �صاحبها .ومع هذا فيمكن القول �أن الديوانني املذكورين � ّأمدانا ب�صور ٍة يعد واحداً من �أرقى الن ّتاجات حداد ،وب ّينت �أنّ نتاجه ّ الدالل ّية يف �شعر ّ عا ّم ٍة ووافي ٍة عن الثّنائ ّيات ّ ال�شّ عر ّية التي قد نقر�أها بال ّلغة العرب ّية يف ع�صرنا احلديث.
122
حتوالت �أدبية
املكان ال�شعري يف ق�صيدة ابن هانئ الأندل�سي
�إعداد مهى خ ّياط � -أ�ستاذة جامعية
حفل ال�شعر الأندل�سي بذكر املكان ,وامتازت ق�صائد ال�شعراء بكثافة مكانية الفتة ومميزة .وتعددت مظاهره داخل بنائية الق�صيدة الأندل�سية .ومل ي�أت ذكره عار�ضاً ,لكونه ميثل الوجود الإن�ساين, ويعك�س املعاناة النف�سية؛ وقد تتجاوز �صريورته داخل الن�ص ال�شعري مالمح املكان الفعلية حني 1 تنبثق يف حالة وجود جديدة تبدو وخا�صة بالق�صيدة العربية. نعالج يف هذه الدرا�سة مفهوم املكان ال�شعري يف ق�صيدة ابن هانئ الأندل�سي ملا ميثل من �شاعر يت�صد �أحد لدرا�سة املكان ال�شعري درا�سة علمية ذي �ش�أن رفيع يف عامل ال�شعر ,ف�ض ًال عن �أنه مل ّ دقيقة مف�صلة ,ملعرفة ما و�صل �إليه هذا املفهوم �أو ما مل ي�صل �إليه. من هنا تربز �إ�شكالية الدرا�سة �أو �أ�شغولتها املتمثلة بالأ�سئلة التالية: ما املق�صود مب�صطلح «املكان ال�شعري»؟ ما هي الت�صنيفات والدالالت املكانية التي تناولتها ق�صيدة ابن هانئ الأندل�سي؟ هذه مو�ضوعات هذه الدرا�سة التي نحن يف �صدد معاجلتها و�إثباتها. �أو ًال :حتديد املكان ال�شعري: عندما ي�ضع الباحث جممل الكتب والدرا�سات التي تناولت مفهوم املكان �أمامه ,يلم�س بو�ضوح �سعة املكان و�أهميته ,ورمبا كان املكان �أقدر ما يعطي الكينونة جت�سدها وانقطاعها عن الذهنية البحتة ومطلقية التجريد ,فهو املتالزم الأهم مع فكرة الوجود؛ فال وجود خارج املكان ,والكون مكان مطلق ,تعجز عن حدوده املقايي�س والأزمنة ,ويف تعهد االقرتاب من مدركاتنا الأر�ضية �أي � 1أدوني�س :ال�شعرية العربية ,بريوت ,دار الآداب ,طبعة � ,1989 ,2ص .17-16 123
املتوائمة مع مقايي�س الكرة الأر�ضية و�أبعادها يف الزمان وامل�سافة واحل�ضارة.2 نعت ويتخذ املكان يف الن�ص القر�آين مفهوماً �آخر يف قوله تعاىل« :ورفعنا ُه مكاناً علياً» ,3فاملكان ٌ مقد�س ,علماً �أن لفظة املكان وردت يف القر�آن الكرمي �سبعاً وع�شرين مرة ,ومنها قوله: إلهي ّ � ٌّ 4 «ف ََح َم َل ْت ُه فانتبذت به مكاناً ق�ص ًّيا» .لذا� ,أو�ضح الن�ص القر�آين مفهوم املكان من خالل الأر�ض التي خلقها اهلل لتكون م�ستقراً للإن�سان ومتاعاً له .ف�ض ًال عن ترابط املكان بثنائية اجلنة والنار �أي ال�سماء والأر�ض. و�إذا كان ال�شعر القوة ال�سامية واملكانة اجلليلة ال�ش�أن ,ف�إن عر�ش هذه القوة ال ي�ستوي �إال بدعم القوة الناقدة ,لأن ال�شاعر ال يكون ل�سان زمنه حتى يوجد معه الناقد الذي هو عقل زمنه؛ �إذ �إنّ اخللق الفني ي�ساعد على �إيجاد روائع ال�شعر وي�سهم �إ�سهاماً ف ّعا ًال يف تكوين �آيات الفن اخلالدة. يبدو �أن الكتابات العربية النقدية املتعلقة باملكان قليلة ونادرة ,ف�ض ًال عن عدم اكتمالها عند الغربيني �أ�سا�ساً ,وعند العرب ارتكازاً على ذلك الأ�سا�س .وقد ارتفعت الأ�صوات العربية املطالبة بتعزيز مفهوم املكان وجمالياته يف الق�صيدة العربية ومنها على �سبيل املثال ال احل�صر :ح�سن بحراوي يف كتابه «بنية ال�شكل الروائي» و�شاكر النابل�سي يف كتابه «جماليات املكان يف الرواية العربية»؛ وقد � ّأكد �صالح �صالح ق ّلة الدرا�سات النظرية العربية امل�شتغلة على املكان. �أمام هذا الواقع ,ما نريده ل�شعرنا العربي هو �أن تظهر فيه مق ّومات عروبتنا يف الفكر والإبداع واحل�ضارة ,في�شعر قارئ هذا ال�شعر �أو �سامعه �أنه فع ًال �شعر عربي ولي�س �شعراً �أجنبياً بحروف عربية .فاملطلوب كان ومل يزل لأي جتديد يف النقد العربي هو احلوار الأ�صيل واملعا�صر مع �أدبنا العربي من جهة ومع ر�ؤى العامل خارجنا من جهة ثانية. 5 لقد ق�سمت فتحية كحلو�ش املكان �إىل ثالثة �أنواع: املكان اجلغرايف :وهو املكان الذي تدور فيه الأحداث� ,أو املكان الذي ُيغري ال�شاعر ,فيتحول �إىل مو�ضوع تخ ّيل ,وهو غالباً ما يحدده الكاتب جغرافياً؛ ف�إذا ذكر ا�سم املدينة مث ًال �أو املنطقة �أو الركز فنحن ندرك تلقائياً احلدود اجلغرافية لهذه الأماكن. املكان الداليل �أو الف�ضاء الداليل� :إن ا�ستخدام م�صطلح «ف�ضاء» بد ًال من «مكان» يك�سبه نوعاً من االت�ساع ,وال يرتبط فقط باحل ّيز الهند�سي املحدود الأبعاد فقط ,ذلك �أن الأمكنة املوظفة 3 4 5 2
124
�صالح �صالح :ق�ضايا املكان الروائي ,القاهرة ,دار �شرقيات ,طبعة� ,1997 ,1ص.11 القر�آن الكرمي� ,سورة الق�ص�ص ,الآية .12 القر�آن الكرمي� ،سورة مرمي ،الآية .22 فتحية حكلو�ش :بالغة املكان ,قراءة يف مكانية الن�ص ال�شعري ,بريوت ,دار الأنت�شار العربي ,طبعة,2008 ,1 �ص.25-24-23-22
حتوالت �أدبية
يف ن�ص من الن�صو�ص ال�شعرية تتجاوز دائماً واقعيتها مبج ّرد حتولها �إىل ج�سد لغوي .ولأن املخ ّيلة حتذف �أحياناً وت�ضيف �أحياناً �أخرى ,فهي ت�ضعنا �أمام تعدد التوقعات؛ وهكذا يتجاوز التعبري ال�شعري املعنى الواحد ,ومينح القارئ على الدوام فر�صة تعدد قراءة الن�ص. ق�صد به املكان الذي َي ْ�ش َغ ُل ُه الن�ص على ال�صفحة ,ذلك �أن الكتابة لي�ست تنظيماً املكان الطباعيُ :ي َ للأدلة على �أ�سطر �أفقية ومتوازية فقط�« ,إنها قبل كل �شيء توزيع لبيا�ض و�سواء على م�سند ,وهو يف عموم احلاالت الورقة البي�ضاء» .6ويدخل �ضمن املكان الطباعي كل ما له عالقة بالن�ص ال�شعري وطريقة عر�ضه على ال�صفحة البي�ضاء ,بدءاً بحجم الكتاب ,ومروراً بالورق وخمتلف التقنيات الطباعية التي يوظفها ال�شاعر يف تنظيم �صفحته ,من فراغات وحوا�ش و�ألوان ,وانتها ًء بالغالف. ومن جهة �أخرى ,مل يوجد يف الواقع تنظري للمكان يف الأدب �إال يف النقد الغربي ,فقد در�س غا�ستون با�شالرد( )Gaston Bashlardاملكان الأدبي يف كتابه ()la poétique de l’espace ال�صادر عام ,1957وقد ترجمه غالب هل�سا �إىل العربية بعنوان (جماليات املكان) .ور�أى با�شالرد �أن املكان الذي ينجذب نحوه اخليال (املكان الأدبي التخ ّيلي) ال ميكن �أن يكون مكاناً ال مبالياً ذا �أبعاد هند�سية فح�سب« ,يعتمد قيا�س املهند�س وتفكريه ,فهو مكان نف�سي ,بل هو مكان تكثيف الوجود ,لأن احليز امل�سكون يتجاوز احليز الهند�سي».7 وتناول جريار جنيت ( )Gerard Genetteيف كتابه )Figures( ,املكان ,وتكلم على م�ستويني يتعلقان بجمالية املكان الأدبي :تعلق امل�ستوى الأول بقدرة املكان الأدبي على نقلنا �إليه حتى لنتو ّهم للحظة �أننا جنتاز ذلك املكان� ,أو ن�سكن فيه� ,أما امل�ستوى الثاين فهو اعتباره الفن املكاين كالر�سم مث ًال «ال يتكلم على املكان ولكنه يجعل املكان يتكلم»� 8أي ينطق. بنا ًء على ما تقدم ,تبينّ �أن للمكان دالالت متنوعة ,فهو تلك اجلغرافيا املمتدة حيناً وال�ضيقة �أحياناً �أخرى .فمثلما ميتلك داللته على ال�صعيد النف�سي لل�شخ�صية التي متتلكه ,يدل �أي�ضاً �إيديولوجياً واخالقياً واجتماعياً. ثاني ًا :املكان ال�شعري يف ق�صيدة ابن هانئ الأندل�سي ,الت�صنيفات والدالالت: نعالج يف هذا املبحث مفهوم املكان يف ق�صيدة ابن هانئ الذي يربز يف جمموعة متنوعة من الت�صنيفات والدالالت ,لن�صل �إىل احل�ضور املكاين ونوعيته يف �شعره ,فنحلل هذا احل�ضور ودالالته ,وت�أثريه يف انتاجه ال�شعري.
6
حممد بني�س :ال�شعر العربي احلديث ,بيناته و�إبداالتها ,املغرب ,دار توبقال للن�شر ,طبعة� ,1990 ,1ص.111
Gaston Bashlard: La Poétique de L’espace, presses uninversitaires de France, Paris-France, 1973, p17. Gerard Genette: Figures 1, Essais, Edition du seuil, Paris-France, 1966, p 43-44.
7 8
125
يدرك املتتبع لق�صيدة ابن هانئ ح�ضور املكان فيها عرب �أ�شكال و�أنواع متعددة ,ولعل �أبرزها: الطبيعة :ما زالت الطبيعة منذ الأزل ب�سكونها وجنونها م�أوى لبني الب�شر ,تقدم لهم قوتهم وقد�سوا الكثري من مظاهرها عدوها �أ ّماً ر�ؤوفاًّ , من ذاتها ,وتعطيهم من قلبها ما ّلذ وطاب .لذا ,فقد ّ وظواهرها .وجاء �إجاللهم لها وتعظيمهم ملوجوداتها �إجال ًال وتعظيماً هلل؛ �إذ �إنها «هيكل الروح ف�ضة ال�شتاء� ,إنها مرايا قدرة وح ّله زهور الربيع ,وبحر �سنابل ال�صيف وتالل عنب اخلريف وروابي ّ اهلل الكامنة».9 الطبيعة مر�آة تعك�س قدرة اخلالق ,فال جتذب الأنظار �إليها ملج ّرد التحديق بجمالية عنا�صرها ,بل تدعونا �إىل الت�أمل فيها لتو�صلنا �إىل الإميان احلقيقي ب�صانع كائناتها ,ومبدع موجوداتها .وهي على روعة ما فيها ,ت�ستهوي القلوب ,وتفنت الأنظار حتى تغدو قبلة الأنام ,وال �سيما �أبناء الفن الذين يقطعون من جنى جمالها .ولي�س ببعيد على الطبيعة �أن تكون منبع الفن ورمز ال�سحر والبهاء, «لأن كل من تف�شي له الطبيعة ب�أ�سرارها يتو ّلد فيه حب الفنون ,ومنظر الطبيعة جميل دائماً».10 بعد �أن �سيطر العرب على الأندل�س ,هامت �أخيلة ال�شعراء بها مثلما هامت بطبيعة الع�صور الأدبية ال�سالفة ,ف�سحرتهم طبيعتها ال�ساحرة ,وتفتقت قرائحهم حتى غدت «منبعاً من �أهم املنابع العربية ل�شعر الطبيعة ,ومل تلبث �أن خ ّرجت �شعراء ميثلون بيئتها ,وينبذون الأفكار ال�شعرية القيمة القائمة على �شكوى الزمن وبكاء الغربة واحلنني �إىل امل�شرق» .11وا�شتهر من ه�ؤالء ابن هانئ الأندل�سي الذي هام يف �أفنائها ,وعبرّ عما يعرتيه يف �شعره ,ولعل اجلبال من �أبرز هذه العنا�صر الالفتة واملميزة التي �أوحت م�شاعر العزة والكرامة والأنفة واملجد يف الربوع الأندل�سية ,وذكرها ابن هانئ يف 12 معر�ض مدحه لإبراهيم بن جعفر ,قال: ُجرثوم ٌة منها ُ ُي ْغ َ�ض ْ�ض َم َتا ِل ُعها وال َتهال ُنها ال�شم ْمل اجلبال ُّ ُر َّد ْت � َ ُتعزى �إليه وجعف ٌرقحطا ُنها أنت َيع ُر ُبها الذي إليك ف� َ دافع خُ ل�صا ُنها فافخر بتيجانِ امللوكِ و ُملكِ ها فل َ أنت غ ُري ُم ٍ ْ لقد و�صف ال�شاعر اجلبال و�صفاً خارجياً مادياً ,ليوائم بينه وبني ال�صفات املعنوية للممدوح �إبراهيم بن جعفر ,فاملكان هو اجلبل املنيع احل�صني ال�صاعق القوي ,وع ّزم �إبراهيم يقف يف مواجهته ويتغ ّلب عليه .هكذا ,ا�ستغل ال�شاعر اجلبال لأهداف مدحية تربز عظمة املمدوح من خالل قوة اجلبال وي�ستحث �شاعريته من �صنوف ومناعتها .من جهة ثانية ,تناول ابن هانئ ما كان يلفت انتباهه, ّ 9جوزيف طانيو�س ل ّب�س :تفاح من ذهب يف �سال�سل من ف�ضة ,بريوت ,م�ؤ�س�سة نوفل ,طبعة� ,1996 ,1ص.222 10ناديا نويه�ض :كلمات من ذهب ,بريوت ,دار احلداثة ,طبعة� ,1992 ,1ص.516 � 11سيد نوفل� :شعر الطبيعة يف الأدب العربي ,القاهرة ,م�صر ,ال طبعة� ,1945 ,ص.262 12ابن هانئ الأندل�سي :الديوان ,بريوت ,دار الأرقم ,طبعة� ,1998 ,1ص.310 126
حتوالت �أدبية
الطبيعة اجلميلة كالأزهار والورود التي ملأت طبيعة الأندل�س و�سحرت بجمالها و�ألوانها الزاهية 13 عقل ال�شاعر وم�شاعره ,قال: غريب الور ُد يف رامِ�ش َنة من نَرجِ ٍ�س واليا�سم ُني ُوك ُّل ُه َّن ُ فبد ْت ُ عجيب وابي�ض ذا فاحم َّر ذا وا�صف َّر ذا َّ َ دالئل �أمرهِ َّن ُ رقيب عا�شق وك�أنَّ ذا فك�أن هذا ٌ ك مق�شّ ٌق وك�أنَّ ذاك ُ متكن ال�شاعر من املزج بني �صور الطبيعة ومدح ممدوحة ,وا�ستطاع �أن يعك�س املكان الواقع النف�سي الذي عا�شه ال�شاعر ,نتيجة و�صفه للأزهار. الق�صور :يعد بناء الق�صور يف الأندل�س لوناً من �ألوان الرتف والفن والتطور العمراين؛ هذا ,و�إن كان مق�صوراً على طبق ٍة بعينها .وات�سعت هذه الطبقة وتعززت ,ف�شملت قطاعاً وا�سعاً من النا�س, قوامه التجار والك ّتاب والوزراء والأمراء ,وقد ت�أنق ه�ؤالء يف اقتناء دورهم وزخرفتهاّ , كل بح�سب ا�ستطاعته« ,فعقدوا لها القناطر ,وتعددت حجراتها ملختلف الأغرا�ض ,و�أقيمت حولها احلدائق والب�ساتني الوارفة ,والربك والنوافري ,كما غر�ست الورود والأزاهري على اختالف �ألوانها وروائحها, ف�ض ًال عن الأ�شجار املثمرة كالتفاح وال�سفرجل واللوز والرمان وغريها .فكان لهذه الأ�شجار مكانتها اخلا�صة يف نفو�س ال�شعراء».14 لنقف مع ابن هانئ يف �أروقتها وف�سحاتها ,مت�أملني �شموخها ,م�ستمتعني بجمالها ال�ساحر ,مدركني مدى ما و�صل �إليه مهند�سو البناء يف تلك الآونة من ذوق رفيع ,وما و�صل �إليه النا�س من ح�ضارة وترف .وهي وقفة موجزة �أمام ق�صر بناه �إبراهيم جعفر:15 َعبرْ ى ي�ضيقُ بِ�سِ ِّرها كِ ْتما ُنها ال�شم�س عن ُه كليل ٌة �أجفا ُنها ُ َي ْع�شُ و �إىل لمَ َعا ِن ِه لمَ َعا ُنها لو ت�ستطي ُع �ضيا َء ُه َل َد َن ْت ل ُه وخ َّر ل َِ�س ْمكِ ِه �إيوا ُنها فار�س رت َ ُذعِ ْ �إيوانُ َم َل ٍك لو ر�أَ ْت ُه ٌ تغدو الق�صو ُر ُ �صوراً �إلي ِه يكِ ُّل عن ُه َعيا ُنها البي�ض يف جنبا ِت ِه ال�صبا �أ ْعنا ُنها وال ُق َّب ُة البي�ضا ُء طائر ٌة ب ِه تهوى بمِ ُ ْن َخر ِِف ِّ الفرح الداخلي بظله على املكان ,فيغدو هذا املكان �أجمل مما هو عليه ,فالق�صر الذي هكذاُ ,يلقي ُ حقيقي ل�صاحبه� ,إذ ي ّتحد الباين واملبني, جت�سيد بناه جعفر ابن �إبراهيم لي�س ق�صراً عادياً� ,إنه ٌ ٌ 13ابن هانئ الأندل�سي ,م.ن� ,.ص.64 14قي�صر م�صطفى :حول الأدب الأندل�سي ,بريوت ,دار الأ�شرف ,ال طبعة وال تاريخ� ،ص.98 15ابن هانئ الأندل�سي :الديوان� ,ص.307-306 127
وين�صهران يف بوتقة وجدانية جتعلها واحداً ,فتنتقي خ�صو�صية ّ كل من الق�صر وجعفر بن �إبراهيم, وتختفي احلدود بينهما .بل يغدو الق�صر مكان بدي ًال من اخلليفة ,وي�صبح املكان هو املمدوح بالن�سبة �إىل ال�شاعر .لذا ,ف�إن تغ ُّلب االن�سان من مكان �إىل مكان من الرقم �إىل الكهف ثم �إىل املنازل والق�صور يف �صيفها املتنوعة يو�ضح �أن احلاجة �إىل البيت نابعة من م�صادر �أ�صلية يف الذهن الب�شري ,دائمة التو�سع واال�ستمرار ,وتعرتيها حت ّوالت خمتلفة ,فبيوتنا مواطن �أقدامنا على هذه الأر�ض ,وهي احلا�ضن ُة وجودنا وموقعنا يف احلياة. جمال�س ّ ال�شراب :امتلأت جمال�س ال�شراب يف الأندل�س باحلركة واحليوية والن�شاط ,لكونها عامرة وحركتها دائبة ,و�ضجيجها ميلأ الأرجاء غناء وعزفاً و�شدواً و�شرباً ,والغواين والقيان يختلن بني الك�أ�س والوتر ,ويرتامني يف الأح�ضان ,وير�شفن من ك�ؤو�س الروح� .أما ال�شعراء فهم بني هذا وذاك يف حرية من �أمرهم ,تتحرك �أفالمهم ,وتتفتح قرائحهم �شوقاً �إىل املال �أو �شوقاً �إىل الروح ,وال �سيما �أنهم كانوا يتهافتون على احلركة فيها�« ,إذا مل يكن احلكام مهما بلغت بهم الق�سوة والعنف, ومهما بلغت هذه الأجواء؛ فاملجال�س �أمكنة ملعاقرة اخلمرة ,فيها يحوم احلائمون حول نزواتهم, ويطريون يف �أجواء ال�شهوة ,ويح ّلقون يف �سماوات من الغبطة والبهجة والفرح».16 ّ فا�ستغل ابن هانئ هذه جمل�س من جمال�س امللوك اجتمع فيه ال�سكارى و�أنهكهم ال�شراب, هذا ٌ املجال�س ليمدح جعفر بن علي ,منزهاً �إياه عن ارتيادها ,وما يدور فيها ,فك�أن املمدوح �أعلى �ش�أناً ملا ميلك من قيم �أخالقية واجتماعية .قال:17 ح َّث ْث َتها ِ�صرفاً �إىل ال ّندما ِء ؤو�س فطاملا �أهدِ ال�سال َم �إىل الك� ِ و�شرِب ُتها ممزوج ًة بِدِ عا ِء ب�ضائع ف�ش ِر ْب ُتها ممزوج ًة ٍ ول َو انَّ فيه كواكِ َب اجلوزا ِء جمل�س حا�شيت ْقد َر َك من زيار ِة ٍ ُ ُت ْثني َ عليك ب�أل�سن ال ُّنعما ِء الندي ع�صابةً �إن ّا اجتمعنا يف ّ أرواحها َ فا�سها من ف ِْطن ٍة وذكا ِء لك وا ُجل�سو ُم ,و�إنمّ ا � ُ �أنْ ُ �ألقى � َ �إنّ الذي َج َم َع ال ُعلى َ إليك مقال َِد ال�شّ عرا ِء لك ُك ُّلها و�إذا كان ابن هانئ قد و�صف جمال�س ال�شراب ،ف�إذا قال يف اخلمرة نف�سها وكيف �صور جلي�ستها وجمل�سها�« ،إنها تلهب الأنفا�س ،وت� ّؤجج امل�شاعر والأحا�سي�س ،ومت�سخ العقل ،وجتعل القزم مارداً، والعيي بليغاً وت�صيب ال�شارب بهذيان ا ُحل ّمى» 18ففي زيارة لإبن هانئ دكان اخلمار، واحلكيم عيياًّ ، 16قي�صر م�صطفى :حول الأدب الأندل�سي� ,ص.96 17ابن هانئ الأندل�سي ,الديوان� ,ص27 18قي�صر م�صطفى ،حول الأدب الأندل�سي� ،ص.97 128
حتوالت �أدبية
وحتدث عن جلي�سها وجمل�سها قائ ًال:19 و�صف معاقرته اخلمرةّ ، �إىل دنانِ ِ ال�سوقِ فا�ست َّلها بمِ َ ْب َزلٍ رقيقِ �صافنات ُّ الدقيق ك�أ َّن ُه من ِ�صب َغ ِة العقيقِ مثل ل�سانِ احلي ِة ِ ِ الدنُّ لل ّراووقِ �إال كِ ياناً لي�س باحل ِقيقِ مل ُيبقِ منها ّ وقا َم م َ ُ�صن املم�شوقِ بعد الهج ِر بالتفريقِ ِثل الغ ِ قد ِر ْي َع َ هكذاّ ، �شكلت جمال�س ال�شراب يف الع�صر الأندل�سي مكاناً ف�سيحاً ,جال فيه ال�شعراء و�صالوا, معربين عن �أحا�سي�سهم جتاه ما كان يجري يف تلك املجال�س ب�صور جميلة � ّأخاذة. الدوار�س يف كل ع�صر ,وكل قطر ,ومنذ �أن بد�أ العمران املدن والأطالل :الأطالل هي الآثار ّ يف هذا الكون ,وبد�أت معه احلروب والهجرات املت�ضادة .كان الإن�سان يرتك خلفه الآثار التي ت�ستحق عاد ًة وقفة ت�أمل عاطفية ,تختلف باختالف ذلك الأثر ,واختالف تاركه. لقد وقف العرب فيها على الأطالل ,وا�ستوقفوا الركب ,وخاطبوا الراحلني م�ستعربين وباكني .وملا �شعروا يف ح�ضارتهم بكرثة هذه الوقفات �أعلنوا الثورة عليها بل�سان �شاعرهم �أبي ن ّوا�س ,وخففوا عنها .واحلقيقة �أن الأندل�سيني مل يقفوا ك�إخوانهم امل�شارقة و�أجدادهم على الآثار ,لأن الطبيعة الأندل�سية ال�ساحرة �شغلتهم عن ذلك ,وملأت حياتهم بهجة ومرحاً وحبوراً ,فكانوا متفائلني متفاعلني معها ,وكانت ق�صائدهم ت�شق عن روح و�أفكار منطلقة ,و�أنفا�س عابقة ب�أريج الزهور ,ولكن توايل الأحداث على الأندل�س ,وهبوب العوا�صف والأعا�صري مل يرتك الأندل�سيني يعزفون على ن�سق واحد ,فرتكهم يتخ ّبطون ,وكان يف توايل الدول املتعاقبة عربة ملن اعترب .فها هم الأمويون وقد بنوا يف الأندل�س ما بنوه من الأجماد ,تتهاوى عرو�شهم وتت�ساقط دولهم يف �أعقاب �أعظم فيتح�سر ال�شعراء على �أيام م�ضت ,خ�صو�صاً ,و�أنهم �شهدوا ب�أم رجالهم ,وينفرط عقد مملكتهمّ , العني الفنت تع�صف بالأندل�س ابتدا ًء من نهاية القرن الرابع .ومل يلتئم اجلرح التئاماً حقيقياً, فالدولة �أ�صبحت دو ًال ,واحلاكم �أ�صبح حكاماً ,واملظاهر اخلارجية مل تعد لتقنع العقالء �أو تخدع �أحداً ,وكان القائمون بالأمر �أنف�سهم ي�شعرون بذلك. �إن افتقاد الوطن على ال�صعيد الواقعي يعي�ش داخل ال�شاعر ,وحني ي�صبح وجود الوطن داخلياً تن�شط حركة اخليال وتظهر م�ستويات متعددة للحلم والذاكرة ,فيفرتق املكان الواحد يف عدة �أمكنة ,ويتحول زمن احلياة حتت �سمائه �إىل �أزمنة تاريخية �أو �شخ�صية �أو �أ�سطورية. يرثي ابن هانئ واقع الأندل�س ,ويعرج على مدح اخلليفة املعز لدين اهلل ,فاملدن ُت ْ�سبى ,والدين قل 19ابن هانئ الأندل�سي ،الديوان� ،ص.215 129
ن�صريه ,والنا�س �صاروا عبيداً ,والأحرار حت ّولوا �أذ ّالء� ,أمام هذا امل�شهد ي�ست�صرخ ال�شاعر النا�س, داعياً �إياهم �إىل الثورة .فال يجد ملبياً وقائداً �سوى املعز لدين اهلل الذي ينحدر من �ساللة النبي امل�صطفى .قال:20 �أ�سفي على الأحرار ّقل حِ ُ �إن كان ُيغني احل ُّر �أن يت� َّأ�سفا فاظ ُهم ال ُيبع َِدنَّ ُ اهلل �إال مع�شراً �أ�ضحوا على الأ�صنام منكم ُع ّكفا دين عفا �صارخ �إال بثغ ٍر �ضاع �أو ٍ يا وي َلكم! �أفما ُلكم من ٍ وطريق ٌة من بعد �أخرى ُتقتفى فمدين ٌة من بعد �أخرى ُت�ستبى متيد ال ُ بت �أن ال ُتخ�سفا أر�ض بني بت من �أن ال َ �أقطارها وعجِ ُ فعجِ ُ النبي امل�صطفى النبي املُ�صطفى هذا املع ُّز ُ �س َي ُّذ ُّب عن َح َر ِم ِّ ابن ِّ هكذا ,انقلبت حمنة النا�س يف احلرب حمنة مكانية ,فانعك�س عدم اال�ستقرار النف�سي عدم ا�ستقرا ٍر يف املكان ,فمن غادر الوطن ي�شعر ب�أنه غري موجود يف البالد التي �سافر �إليها ,جلهة ت�ضع�ضع قيم الثبات والطم�أنينة والأمان واال�ستقرار التي ي�شي بها اجلوهر الأ�سا�س للوطن ,ودليل �أكيد يف الوقت نف�سه على ت�شتت نف�سية الأن�سان الذي بات ال يعرف اال�ستقرار يف مكان بعينه� ,إذ ال مكان ي�شعره باالكتفاء ,ال بيت يحميه ,وال بيت �آخر يف بلده يحل �أزمته ,وال �أي بيت يف مغرتباته. ختاماً ,لقد كان املكان ال�شعري يف ق�صيدة ابن هانئ دا ًال �أكرث منه مدلو ًال ,متحدثاً �أكرث منه متحدثاً عنه ,وغالباً ما ت�شيع ال�صور امل�ستمدة من عنا�صر الطبيعة ,وكثرياً ما ميتزج املكان والإعجاب واملدح يف �شعره ,و�أ�سهمت هذه الدرا�سة يف ت�أكيد عقل املكان يف الق�صيدة ال�شعرية البن هانئ الأندل�سي ال�صور املكانية املتنوعة(الطبيعة ,الق�صور ,جمال�س ال�شراب ,الأطالل واملدن). عرب ّ
20ابن هانئ الأندل�سي ,الديوان� ,ص.189 130
حتوالت �أدبية
قائمة امل�صادر واملراجع:
الكتب الدينية: القر�آن الكرمي
الدواوين ال�شعرية:
ابن هانئ الأندل�سي ,حتت عمر فاروق الطباع ,بريوت ,دار الأرقم ,طبعة 1998 ,1
امل�صادر واملراجع العربية:
�أدوني�س ,ال�شعرية العربية ,بريوت ,دار الآداب ,طبعة 1989 ,2
بني�س ,حممد ,ال�شعر العربي احلديث ,بنياته و�إبداالتها ,املغرب ,دار توبقال للن�شر ,طبعة 1990 ,1 �صالح� ,صالح ,ق�ضايا املكان الروائي ,القاهرة ,دار �شروقيات ,طبعة 1997 ,1
كحلو�ش ,فتحية ,بالغة املكان ,قراءة يف مكانية الن�ص ال�شعري ,بريوت ,دار االنت�شار العربي ,طبعة 2008 ,1 لب�س ,جوزيف طانيو�س ,تفاح من ذهب يف �سالل من ف�ضة ,بريوت ,م�ؤ�س�سة نوفل ,طبعة 1966 ,1
م�صطفى ,قي�صر ,حول الأدب الأندل�سي ,بريوت ,دار الأ�شرف ,ال طبعة ,ال تاريخ. نوفل� ,سيد� ,شعر الطبيعة يف الأدب العربي ,القاهرة ,مط .م�صر ال طبعة1945 , نويه�ض ,ناديا ,كلمات من ذهب ,بريوت ,دار احلداثة ,طبعة 1992 ,1
امل�صادر الأجنبية:
Bashlard, Gaston: La Poétique de L’espace, presses uninversitaires de France, Paris-France, 1973 Genette, Gerard: Figures 1, Essais, Edition du seuil, Paris-France, 1966
131
حتوالت �أدبية
«ال�س�ؤال الديني يف �شعر �أدوني�س» الذهاب غارقا ً يف الباطنية وال�صوفية
وفيق غريزي � -شاعر وباحث �أدوني�س من �أكرث ال�شعراء العرب ترجمة �إىل اللغات الأجنبية ،و�أفكاره عن احلداثة والرتاث �شكلت وعي �أجيال ب�أكملها ،لقد ا�شتغل طيلة خم�سني عاماً ونيف على التطوير والتجديد واالختالف والثورة ،اليكل وال ميل ،يف زمن عربي تكاثرت فيه الهزائم واملحن والنك�سات .والميكن قراءة احلداثة العربية تاريخياً و انطولوجياً دون الوقوف �أمام هذا احل�ضور الأدوني�سي الطاغي وامل�ؤثر. �ستختلف القراءات ،وحتماً �ستختلف ،يف بيان القيمة امل�ضافة التي قدمها �أدوني�س يف حقلي ال�شعر والنقد ،لكنها التختلف يف �إجماعها على غزارة ثقافته ومو�سوعيتها ،ور�سوخه يف التعامل مع اللغة تعام ًال �إبداعياً� ،ألقاً وفاعلية ونب�ضاً وحيوية ،حتدوه �شهوتان� ،شهوة الأ�صل و�شهوة النق�ض والإبدال ،ي�سى للحداثة والتجاوز ،لكنه ّي�صر بالقدر نف�سه على الأ�صول والت�أ�صيل ،واملطالبة الدائمة ،ب�إعادة قراءة كل موروثاتنا القدمية ،وذلك ما يجعل البحث يف عامله -املتاحة بحثاً مرهقاً، وجب �أن يت�سلح له الباحث وي�أخذ للأمر عدته يف �أدوات كا�شفة و�آليات �إجرائية تعد بالنفاذ �إىل �شيء من حقيقته الغام�ضة .ومن هذا املنظلق قام الدكتور الناقد جان نعوم طنو�س بالغو�ص ك�سابح ماهر يف بحر نتاج �أدوني�س ،وخل�ص من هذا الإبحار بكتابه «ال�س�ؤال الديني يف �شعر �أدوني�س» بعد ان �أ�صدر �سابقاً كتاب «الوجه الآخر لأدوني�س» ومت ّيز الكتابان بعمق التحليل ،وعمق الر�ؤيا ،التني يتميز بهما الناقد طنو�س يف معظم نتاجه النقدي. الألوهة والقيم
يف قراءته لق�صائد �أوىل ،وحتليلها يرى الدكتور طنو�س �أنه بد ًال من التجربة القائمة على الورع والتقوى ،ي�ؤثر ال�شاعر جتربة علمانية قائمة على املوت ،الفداء ،الوالدة ،يرى فيها املالمح ال�ضائعة التي تاق �إليها التقليديون ،فهي نظرة التد ّين احلقيقي والتماهي ال�صحيح� .أما اللوهة ،عند �أدوني�س من وجهة نظر الباحث طنو�س ،فما هي رب ينبغي التذلل له ،وال املل بالدار الآخرة ،وال �شهوة احلور والولدان ،اهلل بالن�سبة �إليه ذو �شعار �إن�ساين ،ولي�س متعالياً على الإن�سان مت�صفاً باجلربوت والعظمة .وبكلمة «اهلل واجل�سد اليناق�ضان ،ورمبا كان اللقاء بينهما طريقاً �إىل الأبد ،وتنقلب القيم 133
(عند �أدوني�س) فتفدو اخلطيئة هي احلق ،كما يغدو الورع �شيئاً �ضد احلقيقة� ،أي �ضد احلياة، اخلطيئة ،عنده ،بناءة و�إيجابية لأنها تعبري عن احلياة اجليا�شة .ويف حني �أن عائ�شة يف الديوان نبذت اخلطيئة فنبذت احلياة نف�سها ،فال منا�ص من ال�شر على حد قول الفيل�سوف الأملاين فريدريك نيت�شه ،فهو الذي ميد الإن�سان بالطاقة». يقول �أدوني�س يف «�أغاين مهيار الدم�شقي»« :اليوم حرقت �سراب ال�سبت� ،سراب اجلمعة». والوا�ضح هنا م�س�ألة «موت اهلل» التي نادى بها نيت�شه ،ف�أي �شيء �إذاً هي هذه الكنائ�س �إن مل تكن �أقبية وقبور اهلل؟ وي�ؤكد الباحث �أن موت اهلل ق�ضية مركزية يف الفكر الغربي ،لأن االن�سان بهذا املوت ي�ستعيد حريته« ،فمن البديهي �أن يرف�ض ال�شاعر جانباً دينياً �أ�سا�سياً هو خلق اهلل العامل يف �أيام �سبعة ،وال يو�ضح لنا �أ�سباب الرف�ض ،وملاذا �أحرق �سراب ال�سبت ،و�سراب اجلمعة ،ولكننا ندرك �أن الت�صور الدينني التقليدي عند �أدوني�س ،قد انتهى .لقد مات �إله ،ويف نظره ،ليحل مكانه �إله جديد ،ورمبا اكت�شف عالقة جديدة ومعنى جديداً للألوهة». ويعتقد �أدوني�س �أن ال�شيء فوق االن�سان ،يخنق فيه حرية االختيار ،ويقرر م�صريه �سلفاً �أو ي�ضعه يف جنة� ،أو يزجه يف جحيم .غري �أن رف�ض اهلل يف الت�صور التقليدي ال يعني قبو ًال بال�شيطان ،فهذا الأخري ح�سب وجهة نظر الباحث يعرتف بوجود اهلل ويتمرد عليه يف �آن واحد ،ال يف دروب احلرية، تعد الطريق واملع ّول عليه لي�س التف�سري الديني القائم على اليقني التام ،و�إمنا احلاالت ال�سلبية التي ّ امللكية �إىل املعرفة مثل احلرية ،وهي �ضرورية يف عملية التفكري ،فمن يحتار ال ين�صاع ال �شعورياً �إىل �سلطة قائمة دنيوية �أو غيبية ،بل �إنه يرتدد بني �أمرين ،وي�شبع امل�س�ألة در�ساً ،وبكلمة �أخرى احلرية من معامل التجربة اجلديدة ،وك�أنها البديل لفكرة اهلل وال�شيطان. يتعامل �أدوني�س مع عقيدة �آدم من اجلنة ،على �أنها ق�صة رمزية ذات داللة ،وداللتها الكربى� ،أن اخلطيئة �سبيل �إىل احلياة اجلديدة� ،إنها الدين اجلديد �إن �صح القول. «�ساحر ي�أتي بال دخان»
لقد اجتهد �أدوني�س معتمداً على طرح فل�سفي حم�ض ،ليطرح م�شروعه النظري �إ�شكالية العالقة بني ال�شعري والديني ،على �أ�سا�س من �أن ثبات الديني قاد ب�صورة �أو �أخرى �إىل ثبات ال�شعرب على الرغم من �أن الأ�صل فيه هو التحول ،كما �أعاد قراءة احلداثة ال�شعرية العبا�سية حتديداً يف ن�ضالها �ضد متعاليات الثقافة العربية ومرتكزاتها الفكرية ،لأن حترير ال�شعر �شرطه حترير الفكر. لذلك يرى �أدوني�س يف الدين قت ًال لل�شعر ،يقول�« :إن الوحي �أنهى ال�شعر ،ومات بدءاً من الوحي ال�سماوي» .ومقولة موت ال�شعر لي�ست غريبة عن �أجواء احلداثة وما بعد احلداثة التي متيت كل �شيء ،اهلل ،االن�سان ،الفل�سفة. 134
حتوالت �أدبية
�أما الباحث الدكتور جان نعوم طنو�س ،فريى ال�شاعر �ساحراً يبدل طبائع الأ�شياء ،ولكنه لي�س الدجال الذي يبهر العيون ويعمي الب�صرية ،بدخانه املنفوث .كل حجر رمز �إىل االن�سان، ال�ساحر ّ ميت ،ثابت ،ال يتحرك ،ي�صري يا�سمني من احلب ،كما �أن الأر�ض ال�صافية حتبل بالأغاين وتولد املدينة من جديد« .وقدمياً قيل �أن من البيان ل�سحراً ،و�أكد العرب �أن ال�شعر مينح اجلبان �شجاعة، ويع ّلم احلب ،ويعطي احلكمة .لكن ال�سحر والأدوني�سي �شامل ،وجذري .وك�أنه التخلف �إىل حياة �سحرية ،وبذلك تكون العالقة �شعرية غري دينية ،باملعنى القدمي للكلمة ،وك�أن �أدوني�س ا�ستبدل بالدين ال�شعر الذي يغبرّ العقول والقلوب». وي�شري الدكتور طنو�س �إىل �أن جواً دينياً ،غرائبياً ،يبلغه �أدوني�س عرب العزلة واخللق ،ولكن م�ضمون هذا اجلو يختلف عما �سبق�« .صحيح �أنه كالأنبياء ،يبغي هداية قومه� ،أو حتريرهم من التخلف، وتعليمهم فن احلياة وفن ال�شعر ،لكنه على الرغم من عزلته يرنو �إىل الدنيا التي طاملا احتقرها الأقدمون يف حني �أن �شاعرنا يرى فيها الوطن الوحيد لالن�سان». �إذا كان الدين خامتة املعرفة ونهاية الكمال ،فذلك يعني �أنه ال ميكن �أن ين�ش�أ يف امل�ستقبل ما اليكون مت�ضكناً فيه ،فالوحي ت�أ�سي�س للزمن وللتاريخ يف �آن� ،أو هو بداية الزمن والتاريخ ،وهو لي�س زمناً ما�ضياً ،بل هو الزمان كله الأم�س واليوم والغد ،والآن والغد ال يك�شفان عما يتجاوز الوحي، بل �إنهما على العك�س ي�شهدان له .الآن حلظة تذكري ،وكذلك الغد ،فلي�س امل�ستقبل يعد اكت�شافاً بل ُيعد حفظاً وا�ستعادة ،ولي�س عامل تغيري بل عامل تدبري على حد قول �أدوني�س. وك�أن البعد الإلهب ال يتكون �إال بدءاً من االن�سان وهذا الأخري يقول الباحث مرجعيته الأر�ض التي «بوا�سطتها يعرف الأر�ض ،كما يعرف ال�سماء بنور الأر�ض� ،إذ كيف ي�ستطيع االن�سان �أن يعرف اهلل �إال من خالل عقله وقلبه؟ ف�أن تكت�شف املتعايل يعني �أن تكت�شف ما تت�صوره عنه ،فما و�صفناه �إال كنا نحن ذلك الو�صف». �أما اهلل بحد ذاته ،فال �أحد يعرفه و�إمنا نعرفه عرب خملوقاته و�آياته ،واملعنى يف هذا ال�سياق ح�سب اعتقاد الباحث طنو�س انتهاء مرجعية ال�سلطة .وح�صر العالقة مع الغيب باالن�سان نف�سه ،ي�ضاف �إىل ذلك �أن الهوة تزول بني اهلل والأر�ض ،وتلغى الثنائيات ،فنكون �أمام جتربة ح�ضور املطلق يف الذات ،ولكن الذات ال تفهمه �إال انطالقاً من �شرطها االن�ساين. الأر�ض مركز الكون
يقول الباحث طنو�س�« :إن الديانات التوحيدية نظرت �إىل الطبيعة بو�صفها كر�سي جمد اهلل ،كما ال�صماء هي التي تقودنا يقول جربان ،فما من عالقة ا�ضطهادية بينها وبني الغيب ،بل �إن املادة ّ �إىل قوة متعالية ،و�إذا ما حتدثت التوراة عن عملية خلق الكون فلكي ال يبعد بنو �إ�سرائيل مظاهر 135
الطبيعة بو�صفها �أ�صنافاً ال تعي وال تفكر ،ولذلك �أكدت الكتب املقد�سة قدرة اهلل التي تبدو خميفة عن �أدوني�س» ،الذي ينظر �إىل الطبيعة بو�صفها املوجود الوحيد ،وال وجود ما فوقها �أو حتتها، �أي ال وجود لعامل ميتافيزيقي يتعاىل على الفيزيق� ،أو قل ال وجود لعامل منف�صل ومتعال ،فمن البديهي ح�سب ر�أي الباحث �أن تبدو املادة �أ�سري اخلالق. فاخلالق يبدو يف �شعر �أدوني�س �إلهاً بطريركياً ،ذكورياً ،لأنه ي�ستمتع بعذاب املر�أة .لي�س هذا فح�سب ،لأن املالكني ،واملالك روح ظاهرة ،يبدوان �شبقني ،فك�أنهما يرمزان �إىل العقليةالذكورية التي ي�ضطهد �أ�صحابها الأنثى ال�شتهائهما لها ،فثمة عالقة بني حب ال�سيطرة وحب اجلن�س« .ومن املمكن �أن �شاعرنا ر َم َز بكلمة اخلالق �إىل �أقوال بع�ض الفقهاء التي مل ت�أت يف م�صلحة ال�شطر اجلميل الرقيق من الرجل». �إن �أدوني�س مل يعد للدين �إال لكي يجتزئ منه ال�صورة التي يريد ،ولقد اختار �أن يدخل �إليه من الباب الأكرث انفتاحاً ،الأكرث ت�ساحماً وت�ساه ًال ،والأكرث �إثارة للجدل واحل�سا�سية ،باب الت�صوف، ورمبا كانت �أهم �إ�ضافة ّقدمها �أدوني�س �إىل الرتاث الإ�سالمي كتابته ق�صيدة «ال�سماء الثامنة»، «رحيل يف مدائن الغزايل» ،التي ميكن �أن نرى فيها فاحتة التجربة الإ�سالمية يف ال�شعر العربي، مثلما ر�أى هو يف ق�صائد يو�سف اخلال فاحتة التجربة امل�سيحية يف ال�شعر العربي .لقد �سبق لأدوني�س ال�سبعيني يف الثابت واملتحول �أن هاجم الغزايل ومذهبه الذوقي املنايف للعقل والفل�سفة ،كما هاجم الإمام ال�شافعي و�أ�صوليته املتزمتة ،لكن �أدوني�س الالحق بعد ذلك �سيغرق يف ال�صوفية واالجتاهات الباطنية. رب احلياة ،بل �إن رب املوت ولي�س ّ رب �أدوني�س هو ّ وي�شري الدكتور جان نعوم طنو�س �إىل �أن ّ هذه احلياة ال قيمة لها ،فاملع ّول عليه �أن يعي�ش املرء ّمدة من الزمن يف �سبيل �أن يقدم نف�سه قرباناً رخي�صاً وذبيحة ال �ش�أن لها لتلك الآلهة .ويقول طنو�س«:هرب �أدوني�س من الأديان التوحيدية التي ت�ضطهد ،يف ر�أيه الطبيعة واملر�أة واجلن�س ،ولكنه وقع يف دين همجي بربري � ،أقل ما ُيقال فيه �أنه دين فا�شي ،يع ّزز امليول املازو�شية ،ويحيل الأر�ض �إىل هباء ،ولعل نظرة �إىل �شعر �أدوني�س تتيح لنا اال�ستنتاج ب�أن �شعره ،يف ق�سم منه مبني على �شهوة الأمل و�شهوة احلب». ويت�ساءل الباحث طنو�س«:كيف يرف�ض �أدوني�س الأديان التوحيدية ومييل �إىل املعتقدات القدمية ويقدم لكل هيكل متوهماً �أنها تقدم طريق اخلال�ص؟ ذلك �أن ال�شاعر يعود بالزمن �إىل الوراءّ ، (كنت) �إ�شارة �إىل متاهيه بعملية االنتحار القربانية .لكن «العبادة النيكروفيلية �أكرث اغرتاباً بكلمة ُ مما عا�شه يف ديوان (�أوراق يف الريح) .ولعل هذه العبادة هي التي تتوق �إليها خالدة �سعيد». وعد نف�سه من جن�س املذبوحني ،ولكنه مل يحتفل �إن �أدوني�س رف�ض اهلل ليعبد �أ�صناماً ب�شريةّ ، باملذبوحني من الطرف الآخر� ،شجب الإرهاب غري �أنه �أخفى جوانبه عند �أهل البدع والأهواء، على حد قول الباحث طنو�س .ففي كتابه «الثابت واملتحول» مل يتطرق �إىل جرائم القرامطة 136
حتوالت �أدبية
وال�صوفية من جوانب عدة ،ويعد احلركة القرمطية وجهاً �آخر اقت�صادياً -اجتماعياً للثورة ،كما يعد احلركة ال�صوفية وجهاً فكرياً ،فما �أجنزه القرامطة يف احلقل املادي �أجنزه ال�صوفيون يف احلقل الأيديولوجي. املر�أة -احلب -الألوهة
�إن مو�ضوع املر�أة قد �شغل الأدب والفن قروناً عدة واليزال ،ونظرة املت�صوفة �أنها ظلت بالن�سبة �إىل الرجال مثا ًال للجمال الإلهي ،ويف الوقت ذاته امنوذجاً للإغواء ال�شيطاين .هذا اجلمع بني ال�ضدين من هوايات ال�صوفية املف�ضلة ،فهم مغرمون بلقاء الأ�ضداد يف حلمة واحدة ،ولكي حتظى املر�أة عند املت�صوفة بتلك املكانة �شبه املقد�سة ،اعتربها بع�ضهم ،كاخليال ،مر�آة ينعك�س عليها احل�سن واجلمال الإلهيان� ،أما تقدي�س املر�أة فلي�ست بدعة �شيعة قلدهم فيه ال�صوفية كما يحاول الفهم الأدوني�سي �إقناعنا به ،ولقد جعل �أدوني�س اجل�سد واجلن�س �أداة للتجاوز ،وخلخلة ال�سائد ،وتقوي�ض �سلطة املحظور ،واخلروج منه �إىل واقع ميتافيزيقي ،لأن اال�ستغراق يف اجلن�س ينقل االن�سان �إىل عامل �آخر بعيد ،متنا�سياً ذاته املادية والواقعية� .أم الباحث الدكتور جان نعوم طنو�س فريى �أن اجل�سد يندمج بالألوهة عند �أدوني�س ،كما يندمج املدن�س باملقد�س ،والروج باجل�سد« .فالأ�صل هو الأر�ض ،اجل�سد ،وال�شهوة التي جتعل ال�شاعر مالئكياً .كما يرى ،والريب يف �أن ال�شهوة ُرذِلت يف ع�صور االنحطاط العربية والغربية ،حتى �أن برتارك ال�شاعر العذري يقول مقبحاً اجل�سد واملر�أة ، واالثنان متالزمان�(.إن املر�أة �شيطان حقيقي ،وعدو ال�سالم ،وم�صدر الت�أفف ،و�سبب امل�شاحنات، وعلى الرجل �أن يبتعد عنها �إذا ما �أراد �أن ينعم براحة البال)� .إن �شرط التحرر عند �أدوني�س هو تقدي�س اجل�سد ورف�ض املاوراء». �أدوني�س يريد �أن ينفلت من �سلطة ال�شرع ،ويتحرر من تعاليمه ،فيقدم عنده اجل�سد على الروح، يعي�ش هياماً ي�شطح فيه يف ملكوت اجل�سد وك�أنه لي�س من عامل الأر�ض ،و�إمنا من كون خا�ص، و�أخرياً بوركت يد جان نعوم طنو�س ،التي متكنت من ك�شف اخلفايا ،و�إظهار احلقيقة �أمام �شم�س النهار ،ولي�س هذا جديداً عليه ،فهو يف كل ما قدم للمكتبة العربية من �أبحاث نقدية ،كان مثال الباحث العميق ،والناقد املو�سوعي املميز. * ال�س�ؤال الديني يف �شعر �أدوني�س ،الدكتور جان نعوم طنو�س ،دار النه�ضة العريبة -بريوت
137
الدولية للمعلومات �ش.م.ل
بناية الربج ،الطابق الرابع� ،ساحة ال�شهداء الو�سط التجاري ،بريوت ،لبنان �صندوق بريد ،11-4353 :بريوت -لبنان. هاتف)961-1( 983008 /9 : فاك�س)961-1( 980630 : الربيد الإلكرتوينinfointl@information-international.com : املوقع الإلكرتوينwww.information-international.com :
تاريخ وتراث
مملكة دم�شق �سهيل قا�شا -م�ؤرخ وباحث
دم�شق ،مدينة عريقة يف القدم ،ورد ذكرها يف العهد القدمي .ودم�شق لفظة �آرام ّية �أ�صلها «دم�شق» تتقدمها دال الن�سبة ،ومعناها الأر�ض املزهرة واحلديقة الغ ّناء.1 ا�ستوطنها الأمور ّيون قبل �أن يحت ّلها الآرام ّيون .وقد ذكر يو�سفو�س امل�ؤ ِّرخ �أنّ باين دم�شق عــو�ض �صح هذا ،تكون دم�شق مدينة بـن �آرام بـن �سـام بـن نـوح الذي �سكنها و�أوالده من بعده ،و�إن َّ الـدمـ�شـقي �آرام ّية قلباً وقالباً ،ومنها ا ّتخذ ابـراهـيم اخلــليل الآرامي مديراً لأعماله هو �ألـيعـازر ّ الذي �أوفده �إىل ح ّران ليخطب ابنة البــان احلـ ّرانـي البنه ا�سحق .ويف هذه املدينةّ � ،أ�س�س الآارم ّيون �أقوى و�أو�سع ممالكهم ،و�أطلقوا عليها ا�سم «دارمي�سيق» � ّأي الأر�ض امل�سق ّية �أو الدار امل�سق ّية.2 آرامية: دم�شق �أعظم مملكة � ّ
موحدة نظري ال�شعوب الأخرى التي �إنَّ الآارم ّيون ولئن مل يفلحوا يف ت�أ�سي�س مملكة �آرام ّية كبرية ّ وتوحد كلمتهم وتن�شر نفوذهم وتب�سط �سيطرتهم� ،إلاّ �أنّ قيام مملكة دم�شق �سبقتهم ،جتمع �شملهم ّ تو�سعها و�أهم ّيتها يعترب وال ريب حدثاً ذا �ش�أن كبري يف تاريخ املمالك الآرام ّية املبعرثة ،نظراً �إىل ّ الثقاف ّية والتجار ّية واالقت�صاد ّية والع�سكر ّية ،بالإ�ضافة �إىل كونها �أقوى مملكة �آرام ّية ا�ستطاعت �أن تق�ض م�ضاجع الآ�شوريني من جهة ،والعربانيني من جهة �أخرى ،حقبة طويلة من الزمن. ّ 1 2
مقدمة كتابه «دم�شق مدينة اجلمال». جم ّلة امل�شرق ،جملد � ،2ص ،659وحممد كرد علي يف ّ �صليبا� ،ص .48 139
كثرياً ما كانت تتزعم املمالك الآرام ّية ب�شبه �إتحّ اد فدرايل �أو حتالف ،وتقودها �ضد الآ�شور ّيني �أو ت�ؤ ِّلبها �ضد �أ ّية مملكة �أخرى حتاول انتزاع الزعامة منها ،كما حدث مث ًال عندما حاول زاكــري جعل التو�سع ّية ،و�سعيهم �إىل �إخ�ضاع حماة مركز ٍ ثقل بني املمالك الآرام ّية ،ولوال طموح ملوك �آ�شور ّ املمالك ّ كل على حده ،لأفلح ملوك دم�شق يف ت�أ�سي�س مملكة كربى وا�سعة الأرجاء مرتامية ت�ضم معظم املمالك الآرامية يومذاك ،وال�س ّيما يف عهد ملوكها �آل حــدد (هــدد) الأطراف ّ الذين ا�شتهروا بحروبهم الكثرية �ضد العربان ّيني ّ ومتكنوا من ب�سط نفوذهم بالق ّوة على العديد من امتد نفوذهم هذا يوماً ح ّتى حدود حلب بدليل اكت�شاف ن�صب ممالك �آرام وكنعان وفل�سطني .وقد ّ �آرامي يف بريج قرب حلب ُنحِ ت عليه بالآرام ّية ما ترجمته: «الن�صب الذي �أقامه بـرحــدد ملك �آرام على �شرف �سيده ملــقـارت و�أهداه �إليه لأ ّنه حماه و�سمع نداءه».3 مما ّ آ�شوري من �أ ّنه اجتاح يف عهد يدل على انت�شار رقعة �سلطتها ،ما ورد عن تـغـالثــفـك مــر ال ّ 4 ملكها ر�صــني� ،ست ع�شرة مقاطعة تابعة لها مع 591مدينة فيها ،وظ ّلت مملكة دم�شق زاهرة قاب�ضة على زمام الأمور يف املنطقةَّ ، جتمعها يف �صعود حتى نهاية ملكها حـزئــيل حيث وظل ُّ �أخذت بالإنحطاط والتدهور حتى �سقطت نهائ ّياً وخ�ضعت ل�سلطة الآ�شور ّيني بعد حروب طويلة طاحنة ،وقد َّمت ذلك نحو �سنة 732ق.م .وب�سقوط مملكة دم�شق �أفل جنم الآرام ّيني ال�ساطع .هذا وقد تن ّب�أ عـامــو�س النبي عن �سقوط دم�شق بقوله: «هكذا قال الرب �إين لأجعل معا�صي دم�شق الثالث والأربع ال �أر ّدها لأنهم دا�سوا جــلعــاد بنوارج من حديد ،ف�أر�سل ناراً على بيت جـزئــيل فت�أكل ق�صور بنـهـدد».5 ونظراً �إىل �أهم ّية هذه اململكة ،فقد �أطلق عليها العهد القدمي ا�سم «بالد �آرام» ك�أمنا �سائر املمالك الآرام ّية متمثّلة فيها. والعربانيون: �آرام دم�شق ّ
�إنّ تاريخ مملكة دم�شق ال�سيا�سي هو �سل�سلة طويلة من احلروب وامل�صادمات ،تتخللها بني حني و�آخر فرتات ا�ستقرار ق�صرية الأمد خا�ضتها يف جبهتني ،اجلبهة الغرب ّية مع العربان ّيني ،وابتد�أت منذ ت�أ�سي�س اململكة وانتهت قبل �سقوطها ّمبدة وجيزة ،ومعنى هذا �أنّ دم�شق كانت يف �صراع م�ستم ّر 3 4 5 140
املج ّلة البطريرك ّية ،جملد � ،4ص .494 �ص .497 عامو�س .5-3 :1
تاريخ وتراث
مع العربان ّيني .واجلبهة ال�شرق ّية خا�ضتها مع الآ�شوريني وقد ابتد�أت يف عهد ملكها بـرحــدد الثاين وانتهت ب�سقوط دم�شق يف عهد ملكها ر�صني. فالعربان ّيون بعد خروجهم من م�صر ّمتكنوا ،بعد ا�شتباكات عنيفة ومتتالية مع الكنعان ّيني ّ �سكان فل�سطني ،من احتالل ق�سم كبري من فل�سطني وا�ستوطنوه بعد �أن ّنظموا �أمورهم ب�شبه مملكة حكمها ق�ضاة ّثم ملوك� ،إلاّ �أ ّنها انق�سمت فيما بعد �شطرين ُعرِفا مبملكتي �إ�سرائيل يف ال�شمال ويهوذا يف اجلنوب. وقد حاولوا تو�سيع منطقة نفوذهم على ح�ساب ال�شعوب املجاورة فكان لهم ما �أرادوا ،ح ّتى �أنّ دم�شق نف�سها �سقطت يف قب�ضتهم .غري �أنّ �أحد �أبنائها الأ�شاو�س و ُيدعى رزون ،وكان قائداً يف جي�ش ت�صدى لهم و�أعادهم على �أعقابهم و�أنقذ دم�شق من قب�ضتهم و�أ�س�س مملكة حــددعـزر ملك �صوباّ ، دم�شق الآرام ّية .وقد ا�ستم ّرت احلروب بني الفريقني الآرامي والعربي فرتة طويلة .وبذلك يكون ملعظم ملوك دم�شق جوالت عنيفة مع العربان ّيني كان ال ّنجاح يحالفهم يف معظم الأحيان. رزون يت�ص ّدى ل�سـليــمـان:
كان زرون قائداً يف جي�ش ملك �صوبا ،كما �أ�سلفنا ،وقد مت ّيز بالب�أ�س والدهاء ،تخاجله نزعتا احلر ّية والإ�ستقالل .وملّا ُمني ملك �صوبا بخ�سائر فادحة و ُهزم �أمام العربان ّيني ،انتهز رزون هذه الفر�صة وانف�صل عنه بجمهرة من رجاله ال�شجعان ،و�أعلن نف�سه ملكاً على دم�شق .و�سرعان ما حمل روح الث�أر من �إ�سرائيل� ،إنتقاماً لكرامة قومه ال ّتي �أهانتها خالل احتاللها لبالد �آرام� ،إذ كانت دم�شق ت�ؤ ّدي اجلزية لإ�سرائيل �أبت عليه نف�سه �أن يبقى �أبناء قومه حتت وط�أة العربانيني املغت�صبني، ي�سومونهم ّ وميت�صون خريات بالدهم .ويف هذه الأثناء ،كان �سـليــمـان قد خلف �أباه الذل والهوان ّ داود ،ففتح رزون عهده مبحاربة �سـليــمـان ،حيث خا�ض معه معارك �ضارية حالفه فيها النجاح. وبذلك حت ّررت دم�شق ك ّلياً من نري ا�سرائيل ورفع عنها اجلزية التي كان امللك داود قد فر�ضها عليها �إثر النجدة التي ّقدمها �آرام ّيو دم�شق حلــددعـزو ملك �صوبا يف حربه مع داود والتي فيها انت�صر داود وفر�ض عليهم العبود ّية واجلزية.6 وبالإنت�صار ال�سحيق الذي �أحرزه رزون على جي�ش العربان ّيني ،ع ّزز دعائم مملكته فارتفع �ش�أنها و�أخذت ال�شعوب تنظر �إليها نظرة احرتام وته ُّيب .ولهذا ف�إنّ رزون ُيعترب من � ّألد �أعداء العربان ّيني امتد يف عهد امللكني داود و�سـليــمان �إىل لأنه ك�سر �شوكتهم وق ّل�ص نفوذهم الذي كان قد ّ دم�شق و�صوبا .وقد خلف رزون على التوايل �أبناء حـزيــون وطـبـريــمون ،ويبدو �أن عهديهما � 6أخبار الأ ّيام ،اال�صحاح .18 141
كانا ق�صريين ومل تتخ ّللها حوادث ذات �ش�أن ،فالعهد القدمي ال ي�شري �إليها �سوى عند احلديث عن برحــدد الأ ّول بـن طبــريـمـون حيث يقول �أ ّنه ابـن طبــريـمـون بـن حـزيـون.7 بـرحـدد الأ ّول وازدهار البالد:
كان بــرحـــدد رج ًال طموحاً و�سيا�س ّياً حم ّنكاً يعرف كيف يك�سب الوقت ل�صالح �أ ّمته ومملكته، فلم َ ير�ض برقعة دم�شق مملكة له ،بل عمل على تو�سيعها ،ف�أخ�ضع حماة وممالك �سوريا املج ّوفة حتى �سواحل فرات الغرب ّية ونواحي حلب التي اكت�شف بالقرب منها الن�صب الذي �أقامه تكرمياً الله جده رزون قد ا�ستطاع �أن يزيح كابو�س العربان ّيني عن دم�شق ،ف�إ ّنه ا�ستطاع مــلــقـارت .و�إذا كان ّ �أن يجعلها تتم ّتع با�ستقرار تام وتزدهر يف �شق امليادين .ولكن يجب �ألاّ نن�سى �أن الظروف خدمته �إىل جانب ن�شاطه وطموحاته و�إخال�صه لأ ّمته ،فاخلطر الآ�شوري كان قد زال عنها ومل يعد يهددها كما كانت احلال بالن�سبة �إىل املمالك الآرام ّية يف �شمال �سوريا .وقد كانت يف الوقت ذاته يف م�أمن من هجمات العربان ّيني ب�سبب اخلالفات النا�شئة بني مملكتي يهوذا وا�سرائيل .لذلك ،ان�صرف ملوكها يف هذه الفرتة �إىل تن�شيط احلركة العمران ّية ودفع عجلة االقت�صاد الوطني �إىل الأمام. وبينما كان التطاحن يف �أوجه بني �آ�ســــا ملك يهوذا وبـعـــ�شا ملك ا�سرائيل ،يف منت�صف القرن العا�شر قبل امليالد� ،أر�سل �آ�ســــا �إىل بـرحــــدد هدايا فاخرة وكنوزاً ثمينة من املعبد ،ومن الق�صر امللكي يف �أور�شليم ،عار�ضاً عليه عقد حتالف �ضد بـعـــ�شا ،فا�ستجاب بــرحـــدد �إىل هذا العر�ض، الكف عن م�ضايقة �آ�ســـا. وهاجم ا�سرائيل و�أوقع الدمار يف مدنها ،الأمر الذي لزم بــعـــ�شا على ّ وي�ستفاد من �سفر امللوك الثالث (� )34 :20أنّ بــرحـــدد ا�ستطاع �أن يح�صل من عــمـــري ملك ا�سرائيل على امتيا ٍز بفتح �أ�سواق ملنتوجات بالده يف مدينة ال�سامرة ا ّلتي كان قد ابتناها عــمـــري وا ّتخذها عا�صمة له. يخ�ص ازدهار بالده ،بل ويف تو�سيعها �أي�ضاً .فقد من هنا يظهر طموح هذا امللك ،لي�س فقط يف ما ّ ّ ي�ستغل اخلالف القائم بني �آ�ســـا عرفنا كيف �أ ّنه �أخ�ضع البالد الواقعة �شمايل مملكته ،وهنا نراه �شرقي الأردن ،وبذلك يكون قد �أ ّمن �سيطرته وبــعــ�شا ،فيفر�ض نفوذه على مقاطعة راموث جلعاد ّ على مملكتي يهوذا وا�سرائيل يف ذات الوقت.
7 142
3ملوك .18 :15
تاريخ وتراث
ت�ضع�ضع دم�شق يف عهد بــرحــدد:
لقد خلف بــرحـــدد هذا �أباه بــرحــدد الأ ّول ،و�ساقه طموحه �إىل خو�ض حرب طاحنة �ضد ا�سرائيل� ،إلاّ �أنّ احلظ مل يحالفه ،اذ ف�شل يف معظمها بالرغم مما ا ّت�صف به من ق ّوة العزمية. ففي عهد ملكها �آخـــاب ،حا�صر بــرحـــدد مدينة ال�سامرة و�أحاطها بجنوده من كل جانب و�ض ّيق عليها اخلناق ،فحدث فيها �ضيق �شديد حيث �أو�شك �أهلها �أن ميوتوا جوعاً ح ّتى �صارت بع�ض الن�سوة ت�أكل �أطفالها .ويخربنا العهد القدمي� ،أنّ اهلل لق�صد منه� ،أوقع الهلع ذات ليلة يف قلوب الآرام ّيني ف�إذا بهم وك�أ ّنهم ي�سمعون �صوت مراكب وجي�ش عظيم ،فظ ّنوا �أنّ �آخـــاب �أ َّلب عليهم ملوك احلث ّيني وامل�صر ّيني ،فهربوا تاركني وراءهم خيامهم وخيلهم و�سالحهم فغنمها اال�سرائيل ّيون. ويف �إحدى غزواته على ال�سامرة ،ا�صطحب معه اثنني وثالثني ملكاً من الواليات الآرام ّية وف�ضة ون�ساء وبنني، فحا�صرها وحاربهاّ ،ثم �أر�سل وفداً �إىل �آخـــاب يطالبه بكل ما ميلك من ذهب ّ مهدداً �إ ّياه بكرثة وق ّوة جي�شه ،غري �أنّ �آخــاب مل ير�ضخ له بل ح�شد جي�شاً قوامه �سبعة �آالف ِّ انق�ض عليهم بع�ض �ض ّباط مقاتل .وبينما كان الآرام ّيون م�ستغرقني يف ال�سكر ،ويف غفلة منهمّ ، فدب الذعر يف �صفوفهم وهربوا جميعاً مبن �آخـــاب وقتل كل واحد منهم رج ًال من الآرام ّينيّ ، فيهم ملكهم بــرحـــدد ،فتت ّبعهم العدو و�أحلق بهم خ�سائر ج�سيمة .بيد �أنّ ملك �آرام �أعاد الك ّرة يف ال�سنة التالية ،فالتحم جي�شه بجي�ش �آخـــاب �إلاّ �أ ّنه اندحر. فقد الآرام ّيون يف يوم واحد مئة �ألف رجل وف ّر الباقون ،بينما التج�أ بــرحـــدد �إىل املدينة فعفا عنه �آخــــاب و�أطلق �سراحه بعد �أن وقّع معاهدة منح مبوجبها امتيازاً لآخـــاب ب�أن يقيم له �أ�سواقاً يف دم�شق كا ّلتي كانت للآرام ّيني يف ال�سامرة يف �أ ّيام بــرحـــدد الأ ّول .غري �أنّ هذه املعاهدة كانت خمالفة لأمر اهلل ،لذلك فقد تن ّب�أ �أحد الأنبياء عن اندحار �آخــــاب �أمام الآرام ّيني.8 �أ ّما ال�سبب ّ آرامي فكان �شعوره بخطر الذي حدا �آخـــاب �إىل عقد املعاهدة املذكورة مع عد ّوه ال ّ امللك الآ�شوري �شــلخــنــ�صر الثالث الذي �أخذ يزحف نحو �سوريا ،فحاول �آخــاب ك�سب و ّد تقدم الآ�شور ّيني نحو بالده ،حيث كان �آخـــاب يخ�شى ب�أ�س ملك �آرام لكي يقف حاجزاً �أمام ّ الآ�شور ّيني كثرياً .بيد �أنّ معاهدة ال�صلح امل�شار �إليها مل تدم �أكرث من ثالث �سنوات� ،إذ ُنقِ�ضت �ضمها على �أثر حماولة �آخـــاب ا�سرتداد مقطعة رامــوث جلعاد التي كان بــرحــــدد الأ ّول قد ّ �إىل مملكته .وحتقيقاً لرغبته هذه ،ا�ستنجد �آخــــاب بيهــــو�شـــافــاط ملك يهوذا الذي �أجنده، فج ّرد حملة �ضد الآرام ّيني واحتدم القتال بني اجلانبني يف راموث جلعاد ف�أ�صيب �آخـــاب يف �ساقه ،لك ّنه ّ ظل يراقب القتال عن كثب ح ّتى غروب ال�شم�س حيث فارق احلياة مت�أثِّراً بجراحه.9 8 9
3ملوك اال�صحاح .22 4ملوك اال�صحاح .5 143
حادثة القائد نعمان و�أثرها يف نف�س بــرحـــدد:
يروي لنا العهد القدمي حادثة طريفة عن قائد جي�ش بــرحـــدد املدعو نعــمان الذي ينعته العهد اجلديد بـ «نعمان ال�سرياين» ذلك ب�أنه ابتلى مبر�ض اجلذام ومل يكن له من �شفاء� ،إلاّ �أنّ جارية يهود ّية كان قد غنمها يف �إحدى غزواته� ،أ�شارت �إىل موالتها ب�إمكان ّية �شفاء �س ّيدها �إن هو ا ّت�صل بنبي ذائع ال�صيت يف فل�سطني ،فتز ّود نعمان بكتاب تو�صية من امللك بــرحـــدد �إىل ملك ا�سرائيل و�شخ�ص �إليه حام ًال هدايا نفي�سة. ظن �أنّ وراء الأكمة ما وراءها ،و�إنّ ملك �آرام �سي ّتخذ من فلما ّاطلع ملك ا�سرائيل على الكتاب ّ ّ عدم �شفاء قائد جي�شه ذريعة ملحاربته والإيقاع به� ،إلاّ �أنّ بع�ض حا�شيته �أ�شاروا �إليه �أن ير�سل القائد نعمان �إىل الـيـ�شع النبي. وملّا انتهى اخلرب �إىل النبي املذكور� ،أوعز �إىل الر�سل الذين �أوفدوا �إليه ب�أن يوعزوا بدورهم �إىل نعمان ليذهب �إىل نهر الأردن ويغت�سل فيه �سبع م ّرات فيرب�أ .وبهذه الكيف ّيةّ ،مت �شفا�ؤه من مر�ضه ف�آمن يقدم �أ ّية تقدمة لغري االله الواحد. ب�إله الـيـ�شع و�آل على نف�سه �ألاّ ّ �إنّ هذه احلادثة تركت ،وال �شك� ،أثراً بعيداً يف نف�س بــرحـــدد ،وخلقت فيه ثقة عظمى بقدرة اله �ألـيـ�شع ،لذلك ف�إذ �أُ�صيب هو الآخر مبر�ض خطري ،وعلم بوجود �أليـ�شع يف دم�شق يومذاك� ،أر�سل عما �إذا كان �سبيل من �إليه حــزئـــيل �أحد كبار رجال بالطه مثق ًال بالهدايا النفي�سة ،لي�س�أله ّ مر�ضه هذا �أم ال .ف�أنب�أ �ألـيـ�شع الر�سول ب�أنّ �س ّيده �سيفارق احلياة ،و�أ ّنه �-أي حـزئـــيل� -سيخلفه على عر�ش مملكة �آرام� .إلاّ �أنّ حـزائــيل مل ي�صدق يف نقله اخلرب ل�س ّيده� ،إذ �أخربه ب�أ ّنه �سيرب�أ .ويف اليوم التايل ،اغتاله هو نف�سه حيث �أجهز عليه وهو راقد على �سريره ،و َم َل َك مكانه.10 حـزئـــيل يت�سلّم ال�سلطة:
قيل �أنّ حـزئـــيل كان ابن بــرحـــدد الثاين ،وقيل ب�أنه عبده �أو �أحد كبار م�ست�شاريه .ومهما يكن من �أمره ،ف�إ ّنه كان يتم ّتع بنفوذ كبري يف البالط امللكي ،وكان على جانب كبري من الق�سوة والعنف .فهو ال يتو ّرع عن ارتكاب �أب�شع اجلرائم يف �سبيل بلوغ م�أربه .حاول جت�سيد مطمعه هذا ب�ش ّتى الو�سائل� .شرع يعمل على �إزاحة بـرحـــدد والق�ضاء عليه مهما بلغ الثمن ومهما كانت ا�شتد املر�ض على بـرحـــدد ،ر�أى حـزئـــيل �أن ّ الفر�صة مواتية لنيل م�أربه، الو�سيلة ،ح ّتى �إذا ّ فق�ضى عليه كما �أ�شرنا ،وت�س ّلم زمام ال�سلطة. 4 10ملوك .15 :8 144
تاريخ وتراث
كان حـزئـــيل �شديد الكره لليهود ،لذلك ف�إنّ �ألـــيـ�شع النبي ،عندما �أنب�أه بت�س ّلمه مقاليد الأمور يف دم�شق ،فعل ذلك ب�شيء من الأمل م�صحوباً بالبكاء ،اذ ر�أى �أنّ حـزئـــيل �سيذيق اليهود �أم ّر العذاب .وقد �ص ّرح �ألــي�شع حلـزئـــيل بذلك قائ ًال« :ا ّنني علمت مبا �ست�صنعه ببني ا�سرائيل ت�شق من ال�سوء ،ف�أنت �ستحرق ح�صونهم بالنار و تقتل فتيانهم بال�سيف و ت�شدخ �أطفالهم و ّ جبالهم».11 و�إىل حـزئـــيل هذا �أر�سل اهلل �إيل ّيا النبي ليم�سحه ملكاً على �آرام.12 حـزئـــيل يلقّن ا�رسائيل در�سا ً قا�سياً:
لقد خا�ض حـزئـــيل معارك دامية مريرة مع اليهود� ،أورد العهد القدمي تفا�صيلها ،ومنها نقف على يبق ال�سرائيل ما ك ّبدهم من خ�سائر فادحة ،وما �سامهم من عذاب وتقتيل وتدمري ،ح ّتى �أ ّنه مل َ يف عهد ملكها �آحـــاز بــن يـــاهــو من اجليو�ش �أكرث من خم�سني فار�ساً وع�شرة مراكب وع�شرة �آالف راجل ،فقد �أبادهم جميعا وجعلهم مثل الرتاب الذي يوط�أ. يو�سع مملكته ويعترب حـزئـــيل �أعظم حمارب �آرامي بال منازع ،اذ ا�ستطاع ب�شجاعته وعتاده �أن ّ ويعيد �إليها ثاني ًة راموث جلعاد ال ّتي كان امللك �آخــــاب قد ا�سرتجعها من �سلفه بــرحـــدد الثاين.13 وقد حاول اخــزيــا ملك يهوذا ا�سرتداد هذه املنطقة من الآرام ّيني ،فتحالف مع يــورام بن �آخـــاب وخرج ملحاربة حـزئـــيل يف راموث جلعاد ف�أ�صيب يـــورام ،وعاد �إىل يزرعيل لعالج �إ�صابته ،فعاده هناك �أخـــزيــا� ،إلاّ �أ ّنه ق�ضى ب�سبب تلك الإ�صابة. وبعد ا�ستقرار مل يدم �أكرث من ب�ضع �سنوات ،ويف �أ ّيام يـواحــاز بــن يــاهـو ملك ا�سرائيل، اجتاز حـزئـــيل نهر الأردن و�ضايق ا�سرائيل م�ضايقة �أليمة ،فالتج�أ يــوحــاز �إىل اهلل ف�أنقذهم من الآرام ّيني.14 �إلاّ �أنّ حـزئـــيل ،بعد �أن ا�ستتب له الأمر عرب الأردن ،و�أغار على �أر�ض فل�سطني ففتح مدينة جت 15التي كانت قد ظ ّلت خارج نطاق نفوذ اال�سرائيليني ح ّتى عهد امللك داودّ ،ثم ّميم �شطر 1 1 1 2 13 14 1 5
4ملوك .12 :8 3ملوك .16 :8 4ملوك .32 :10 4ملوك .4 :13 املقد�س». من �أعظم مدن فل�سطني ،مت ّيز �أبنا�ؤها بطول القامة ،وكانت ح�صناً ح�صيناً للفل�سطينيني «قامو�س الكتاب ّ 145
�أور�شيليم ،وهكذا نرى هذا امللك الآرامي ي�صول ويجول يف �أرجاء مملكتي العربانيني دون �أن يواجه مقاومة تذكر .ولكن يجب �ألاّ نن�سى �أنّ حـزئـــيل ما كان له �أن يبلغ هذه الدرجة من العظمة ،لوال ان�شغال الآ�شوريني يف قمع ثورات ممالك �أخرى يف ال�شمال مثل �أراراطو وقيليقيا و�سواهما. بوادر الإنحطاط يف مملكة دم�شق:
«ثم مات حزئــيل ملك يذكر العهد القدمي �أن بـرحـــدد الثالث خلف �أباه حزئـــيل يف ال�سلطة ّ �آرام وملك بـرحـــدد ابنه مكانه» .16وكان هو الآخر طموحاً �إلاّ �أ ّنه مل ي�ستطع �أن يحقّق طموحاته ب�سبب �ضغط الآ�شور ّيني على بالد �آرام .فقد ن�سج على منوال �أبيه يف م�ضايقة العربانيني يف ال�شمال� ،إلاّ �أنّ يو�آ�ش الذي خلف �أباه يواحاز على مملكة يهوذا ّمتكن من ا�ستعادة املدن التي كان حزئـــيل قد احت ّلها يف عهد يواحاز كما م ّر معنا. ويرى دوبونت �أنّ «ماري» ملك دم�شق ،الذي ورد ا�سمه يف الكتابات الآ�شور ّية ،هو بـرحــدد الثالث نف�سه ،17وهو الذي �أخ�ضعه �أداد نرياري الثالث الآ�شوري يف �إحدى غاراته على بالد �آرام ف�ضة وبخا�صة دم�شق ،التي �ش ّنها خالل ثالثة �أعوام 802 - 805ق.م ،و�أخذ منها 2300مثقال ّ ّ و 20مثقال ذهباً و 300مثقال نحا�س و 5000مثقال حديد ،بالإ�ضافة �إىل �أقم�شة متنوعة الألوان واملر�صع باحلجارة الكرمية ،وذلك م�صنوعة من الك ّتان ،و�أ�س َّرة ومقاعد من العاج املط ّعم بالذهب ّ بح�سب ما ورد يف �إحدى كتابات �أداد نرياري نف�سه.18 ف�شل ر�صني يف ال�سيطرة على زمام الأمور:
كان ر�صــني �آخر ملوك �آرام دم�شق ،وقد ملك حوايل �سنة 745ق.م .عندما وجد نف�سه يف حالة ال ت�شجعه على تو�سيع بالده �أو �إثارة حروب �ضد ال�شعوب املجاورة ،ا ّتخذ موقف الدفاع �إزاء الغارات الآ�شور ّية .فقاوم الآ�شوريني ب�ضراوة و�أبى اال�ست�سالم لهم ح ّتى بعد ان ب�سطوا نفوذهم على معظم املمالك الآرام ّية يف ال�شمال� ،إلاّ �أنّ تغال�صر ملك �آ�شور ،بعد �أن ّمت له �إخ�ضاع تلك املمالك وجه �أنظاره نحو دم�شق بق�صد �إخ�ضاعها هي الأخرى. وجعلها واليات �آ�شور ّية تدين له بالوالءّ ، و�إذ �شعر ر�صـــني باخلطر الآ�شوري الذي �أخذ يهدده ،حاول ت�شكيل حلف ثالثي �ضد ملك 4 16ملوك .18 -17 :12 � 1 7صليبا �ص .63 � 1 8صليبا �ص .63 146
تاريخ وتراث
�آ�شور ي�ضم بالإ�ضافة �إليه ك ًل من �آحــاز ملك يهوذا وفـــقح ملك ا�سرائيل� ،إلاّ �أنّ امللك �آحـــاز �أبى الدخول يف هذا احللف خ�شية بط�ش ملك �آ�شور ،مظهراً ا�ستعداده لتقدمي اخل�ضوع للغازي يبق بد �أمام ر�صــني وفــقح من اكت�ساح مملكة يهوذا وخلع �آحـــاز وتن�صيب ملك الآ�شوري .فلم َ �آخر بد ًال منه يدين لهما بالوالء ،وقد اختارا رج ًال �آرام ّياً يدعى «ابــن طــابئــيل» كما جاء ذلك �صريحاً يف �سفر �إ�شعيا النبي «ف�إنّ �آرام و اقرامي و ابرنمليا (فـقح) و قد ت�آمروا عليك (�آحــاز) بال�سوء قائلني لن�صعد على يهوذا و نخ�ضعها و من ّزقها بيننا و نمُ لك عليها ابــن طــابئــيل».19 ولكن بالرغم من هذا الإجراء ،ف�شال من حيث النتيجة ،ذلك ب�أنّ �آحــاز التج�أ �إىل تغال�صر فجمع ف�ضة وذهب و�أموال �أخرى ،و�أر�سلها كل ما كان موجوداً يف بيت الرب وخزائن بيت امللك من ّ هد ّية �إليه مع ر�سالة جاء فيها�« :أنا عبدك و�أنا ابنك فا�صعد وخ ّل�صني من يد ملك �آرام ويد ملك ا�سرائيل القائمني علي» .20فا�ستجاب له تغال�صر واتجّ ه نحو ا�سرائيل ،واحت ّلها ّثم ّ احتل غ ّزة فهرب ملكها �إىل م�صر ،وجال كثريون من �أهلها �إىل �آ�شور. آ�شورية لدم�شق: الغزوات ال ّ
�إذا كان العهد القدمي هو امل�صدر الأ ّول والأهم لتاريخ العالقات بني الآراميني والعربانيني ،ف�إنّ املد ّونات الآ�شور ّية متثّل هذا امل�صدر بالن�سبة �إىل العالقات الآرام ّية -الآ�شور ّية .ومنها نعلم �أنّ تتعد يف الآراميني يف دم�شق ظ ّلوا فرتة ال ب�أ�س بها يف م�أمن من غزوات الآ�شوريني التي مل ّ بادئ �أمرها املمالك الآرام ّية ال�صغرية املتاخمة حلدود بالدهم� .إلاّ �أنّ طموحهم يف تو�سيع �أرجاء امرباطوريتهم ،ال�س ّيما بعد �أن قويت �شوكتهم ،ورغبة �شلمن�صر خا�ص ًة يف اكت�ساب ال�شهرة واملجد، ومن �أجل الق�ضاء على الثورات املحل ّية التي كانت تقوم بها تلك املمالك ال�صغرية بني احلني والآخر ،كل ذلك حفّزهم على اجتياز نهر الفرات والتقدم نحو �آرام دم�شق وفل�سطني ،وكان ذلك يف �أوائل عهد ملكهم �شلمن�صر الثالث ( 821 - 859ق.م) الذي �أراد �أن ُيخ�ضع مملكة دم�شق بعد �أن �أخ�ضع �أ�سالفه مملكتي بابل واراراطى املحيطتني بامرباطور ّيته. ف�شلمن�صر الثالث اذن هو �أ ّول ملك �آ�شوري يقوم ب�أ ّول غزوة على �آرام دم�شق ،وذلك يف عهد بـرحــدد الثاين الذي عقد مع �آخـــاب ملك ا�سرائيل معاهدة �صلح وحتالف عندما علم �أنّ �شلمن�صر يزحف نحو �سوريا علماً منه بق ّوة الآ�شوريني وهول جي�شهم ،وهكذا يكون قد احتاط كل احتمال �سيء. 1 9ا�شعيا .6 :7 4 20ملوك .7 :16 147
�إلاّ �أنّ �شلمن�صر مل ي�ستطع الو�صول �إىل دم�شق ،لأن املمالك الآرام ّية ال�صغرية املتواجدة يف تقدمه نحو �سوريا الداخلية ،لذلك حمل عليها �أو ًال طريقه �أتعبته كثرياً اذ وقفت حاجزاً يف �سبيل ّ واكتفى ب�إخ�ضاع عدد منها ثم عاد �إىل بالده. ويف �سنة 853ق.م� ،أعاد الك ّرة فاجتاز نهر الفرات ووجهته �سوريا .وملّا علم بــرحــدد بالأمر و�شعر �ضم �إليه بفداحة اخلطر الذي يهدد بالده� ،أ ّلب امللوك الآراميني �ضد الآ�شوريني يف حتالف �آرامي ّ �أي�ضاً بع�ض جيو�ش الفينيقيني والعربانيني والعرب ح ّتى بلغ عدد املقاتلني 71900جندي� ،إىل جانب املركبات احلرب ّية واخليول واجلمال. وهذه تفا�صيلها كم وردت يف �إحدى مد ّونات �شلمن�صر نف�سه: من ملك دم�شق 1200مركبة و 1200ح�صان و 20000جندي .ومن ارحوليني ملك حماة 700 مركبة و 700ح�صان و 10000جندي .ومن �آخــاب ملك ا�سرائيل 2000مركبة و 10000جندي. ومن ملك قيليقيا 500جندي .ومن ملك م�صري (يف �شمال �سوريا) 1000جندي و 10مركبات. ومن ملك ارقا (تل عرقا بالقرب من طرابل�س) 10000جندي و 10مركبات .ومن ماتينو ملك �أرواد 200جندي ،ومن �أدونا ملك �سبانو (على �ساحل البحر املتو�سط) 10000جندي و 30مركبة. ومن جنديب ملك العرب 1000جمل .ومن بع�شا ملك العمونيني 10000جندي. وزحف بـرحــدد بهذه اجليو�ش اجلرارة واملعدات احلرب ّية الهائلة نحو ال�شمال ملالقاة جي�ش �شلمن�صر الزاحف نحو بالده ،ومتركزت اجليو�ش املتحالفة عند موقع قرقر على نهر العا�صي ما بني حلب وحماه ،و�أخذت مواقعها بانتظار اجلي�ش الآ�شوري .ولدى و�صول هذا اجلي�ش املج ّهز ب�أح�سن املعدات احلرب ّية ،يومذاك ،التحم اجلانبان يف معركة طاحنة ،ولك ّنها مل تكن حا�سمةّ .رجحت فيها ّ وتبدد �شمل اجليو�ش املتحالفة .وقد قيل �أ ّنهم خ�سروا يف تلك املعركة 14000 كفّة الآ�شوريني ّ جندي ،غري �أنّ �شلمن�صر بالرغم من �إحرازه هذا الن�صر مل ّ يتمكن من احتالل املمالك الآرام ّية الكربى مثل حماة ودم�شق ،بل قفل راجعاً �إىل بالده م�صطحباً غنمه منهم من عربات وخيول و�أ�سلحة ،وال بد �أ ّنه تك ّبد هو الآخر خ�سائر فادحة بحيث �أ ّنه مل يعد مبقدوره متابعة برحــدد �إىل دم�شق وارحوليني �إىل حماة. �شلمن�رص يوا�صل حمالته على دم�شق:
�إن �شلمن�صر ولئن عاد �إىل بالده دون �أن يحقّق �أهدافه كاملة وبال�شكل الذي �أراده� ،إلاّ �أنّ �أنظاره يف�سر جت�شمه �أعباء ظ ّلت متع ّلقة بدم�شق ،ومل تفارقه نزعته �إىل احتاللها و�إخ�ضاعها له ،وهذا ما ّ عبور نهر الفرات ثماين ع�شرة مرة متوالية بغ ّية الو�صول �إىل ربوع دم�شق ال�ساحرة ،هذا من جهة. وتو�سعه الكبري على ح�ساب ومن جهة �أخرى ،كانت �أخبار انت�صارات حزئـــيل ملك دم�شق ّ 148
تاريخ وتراث
تق�ض م�ضجعه وحتفّزه على العمل على طم�س معامل تلك ال�شهرة العربانيني و�شهرته امل�ستفي�ضةّ ، والق�ضاء على النفوذ الذي كان يتم ّتع به حزئـــيل يف تلك الديار .لذلك ،قرر توجيه �ضربة �إليه مهما بلغ الثمن ،فقام بحملتني عنيفتني �ضد حزئـــيل الأوىل �سنة 841ق.م ،وهي ال�سنة الثامنة ع�شرة من ملكِ هِ ،و�أعقبها ب�أخرى بعد �أربع �سنوات .وقد جاءت تفا�صيل املعارك ال�ضارية التي خا�ضها �شلمن�صر مع جي�ش حزئيل الدم�شقي يف �إحدى املد ّونات الآ�شور ّية اخلاًة ب�أعماله وغزواته، وفيها يقول �شلمن�صر: �أ ّنه يف ال�سنة الثامنة ع�شرة من ملكِ ِه عرب الفرات للمرة الثامنة ع�شرة والتقى جي�ش حزئيل العرمرم عند �سفوح جبل حرمون (يعرف اليوم بجبل ال�شيخ) فدارت بينهم معركة �ضارية انت�صر فيها �شلمن�صر ،وقتل من جي�ش حزئيل �ستة �آالف جندي ،وغنم 1121مركبة و 470ح�صاناًّ ، واحتل بع�ض مواقعه وثكناته ،والذ حزئيل بالفرار ،فتعقّبه ح ّتى دم�شق حيث �أوقع الدمار يف غوطتهاّ ،ثم تقدم نحو منطقة حوران ّ ودك جميع مدن �آرامّ ،ثم عاد �إىل بالده بغنائم كثرية وثمينة .21يبدو �أ ّنه ّ مل ي�ستطع اقحام �أ�سوار دم�شق �إذ مل يذكر �أ ّنه دخل دم�شق بل و�صل �إىل �ضواحيها فقط. �شن �شلمن�صر حملة �أخرى �ضد حزئيل واكت�سح بع�ض وبعد �أربع �سنوات من تاريخ هذه احلملةّ ، مدن مملكة دم�شق� ،إلاّ �أ ّنه مل ي�ستطع فر�ض كامل �سلطته على دم�شق بالرغم من الإنت�صارات التي حققها ،بل ظ ّلت تتم ّتع با�ستقاللها ولئن �أخذ نفوذها بالتق ّل�ص وال�س ّيما بعد وفاة حزئيل. نهاية مملكة دم�شق:
لقد م ّر معنا �أنّ �آحــاز ملك يهوذا ا�ستنجد بتغال�صر الآ�شوري لينقذه من م�ؤامرة ر�صــني ملك دم�شق وفــقح ملك ا�سرائيل التي د ّبرها لإزاحته عن امللك وتن�صيب عميل لهما .و�إذ ا�ستجاب تغال�صر له ،قاد حملة واتجّ ه �أو ًال نحو مملكة ا�سرائيل فاحت ّلهاّ ،ثم � ّصوب وجهته نحو دم�شق� .أ ّما ر�صني عندما علم مبا �آلت �إليه حالة فـقح ،حتالف مع حور ملك �صور ،وملك ع�سقالن ،و�شم�سي �سدد �إليه �ضربة �أليمة هرب على وحت�صن يف جبال لبنان ال�شرق ّية� ،إلاّ �أنّ تغال�صر ّ ملكة العرب ّ �أثرها ودخل عا�صمته دم�شق ،فتبدد �شمل جي�شه .وقد د ّون تغال�صر �أخبار هذه املعركة .ومما قاله عن حرب ر�صني�« :أ ّنه هرب �إىل مدينته وحيداً مثل ف�أرة».22 وبعد �أن ّنكل تغال�صر بحلفاء ر�صني وق ّواده تتبعه حتى دم�شق ،التي كانت حماطة ب�أ�سوار منيعة ومز ّودة مبعدات حرب ّية دفاعية وجيو�ش ،فحا�صرها ّمدة ّثم ّمتكن من اقتحام الأ�سوار ،ودخلت � 2 1صليبا� ،ص .70 � 2 2صليبا� ،ص ( 71عن الآرام ّيون). 149
جيو�شه املدينة و�ألقى القب�ض على ر�صني وقتله ،و�سبى عدداً كبرياً من �أبنائها �إىل منطقة قري،23 و�أخذ يعيث الف�ساد ،فلم ُيبقِ ومل يزد من كل ما نالته يده ،واكت�سح جميع ب�ساتينها الغ ّناء ال�شهرية (الغوطة) ّ واحتل عدرا يف �ضواحيها وكانت �أحد املق ّرات امللك ّيةّ .ثم اجتاح املقاطعات الالئذة بها وعددها �آنذاك �ست ع�شرة ،ود ّمر 591مدينة تابعة ململكة دم�شق ،و�أخرياً جعل دم�شق مقاطعة �آ�شور ّية �أ�سوة بغريها من الدويالت الآرامية .وكان ذلك �سنة 732ق.م. هكذا �سقطت دم�شق وانهار جمدها وانتهى ا�ستقاللها الذي ا�ستم ّر نيف وثالثمائة �سنة ،فطويت بذلك �صفحة من �أن�صع �صفحات تاريخ الآرام ّيني.24
4 23ملوك .9 :16 � 24صليبا �شمعون ،املمالك الآرام ّية ،حلب ،بال تاريخ. 150
احلرب العاملية ا لأوىل
فتوح ال�شام واحلرب العاملية الأوىل القراءة املوهومة للتاريخ
جنيب ن�صري � -سيناري�ست وكاتب تبدو ح�صتنا �أو ح�صة هذا امل�شرق من املعلومات حول احلرب العاملية الأوىل �ضئيلة وم�شو�شة، وعلى الأغلب حم ّرفة ،فاحلرب العاملية الأوىل بالن�سبة لنا هي ال�سفربرلك« ،والثورة» العربية «الكربى» فقط ،وك ّلها م�سائل قر�أت فيما بعد ،بعمومية مدر�سية� ،أو مبقاربة كال�سيكية منحازة معرفياً للرتاث ،وفيها ابتعاد عن احلقيقة الت�أريخية من جهة ،مع ا�ستخدام قا�صر وانتقائي للمنهج الغربي يف حتليل الوقائع التاريخية من جهة ثانية ،ولعل هذا املو�ضوع بالذات يحتاج �إىل الكثري من فح�صة هذا امل�شرق من تركة التمحي�ص و�إعادة الت�أريخ ،وكذلك �إىل الت�شكيك و�إعادة ال�صياغةّ ، الرجل املري�ض ال تعدو حتى الآن ،عن �شعارات اكت�سبت قد�سية خيالية ،مل ت�سفر �إال عن كوارث و�أ�ضراروهزائم ،ال ميكن تفكيكها وقراءتها� ،إال ب�إزالة تلك القد�سية عنها (قدم الكاتب ح�سن م يو�سف واملخرج جندت �أنزور �شخ�صية الأمري في�صل يف م�سل�سل «�أخوة الرتاب» ك�شخ�صية مالئكية طاهرة جاءت لتنقذ ال�شام من مغت�صبي اخلالفة العثمانيني) ،وهي يف املقام الأول والأخري حم�ض كلمات �أو عبارات خالية من معناها الدقيق ،ترجمت على نحو �شفاهي ،م�شرية �إىل ما ال معنى له ،كالثورة والأمة ،واملجتمع ،والدولة ،والعروبة ،والهوية ،والعراقة ،والتقاليد ،واخل�صو�صيات ،و�إىل ما هنالك من م�صطلحات معا�صرة مت �إجبارها على احتواء معان تراثوية ،كي تكت�سب هالتها احلمائية املقد�سة ،لت�صبح ع�صية على «ال�شك» مبعنييه اللغوي والديكارتي ،بحيث تك ّر�س هذه امل�صطلحات كغايات �سامية ،ال ميكن للباطل �أن ي�أتيها من �أي مكان ،حيث يقبع التفكري «العربي» بني قو�سي املقد�سات فال جتاوز وال �شك وال ت�شكيك ،حتى بدا �أنه على التفكري �أن ين�صاع لهذه وبدد ع�صر املفاهيم املفرغة خوفاًمن �شك قادر على اقتالع الر�ؤو�س ،وهذا بالتحديد ما �أجه�ض ّ النه�ضة الأول ...والأخري. لذلك تبدو قراءتنا الثقافية للحرب العاملية الأوىل ،وح�صتنا منها (الثورة العربية الكربى) قراءة ا�ستالفية مبعنى �أنها ذات نتيجة م�سبقة وم�سقوفة �أي�ضاً� ،إذ افرت�ضنا �أن نتائج هذه القراءة يجب �أن تكون مطابقة لل�شعارات املعلنة يف �إ�شارة �إىل ت�شريع ينا�سب جميع القراءات (الدينية والدنيوية) مع ب�ضع تنازالت خفيفة هنا وهناك ،ولكنه ال تخ�ضع بتاتاً للربود العلمي املحايد وال�صادق، واملخل�ص ملعايري التفكري والت�شخي�ص ،وحتى الت�صنيف ،فالأمة (مثا ًال) هي الأمة العربية قو ًال 151
واحداً ميكن �أن ت�صبح دينية تارة ودنيوية وحتى عاملانية تار ًة �أخرى ،والثورة كذلك دون املرور ال بتعريف الأمة وال الثورة وال مبفهوميهما ،وال �ضرورة لذلك طاملا ّمت ت�سييجهما بهالة القد�سية التي ترتقي �إىل درجات احلماية واملحا�سبة القانونية يف كثري من الأحيان ،وهنا على اجلميع الإن�صياع لدعوى العامل اخلارجي امل�س ّبب لكل م�صائبنا متنا�سني العامل الداخلي الع�ضوي يف �إف�شال � ّأي حراك يقود �إىل توليد جمتمع باملعنى املعريف املوجود واملتوفر بني ظهراين املجتمعات احليوية الأنواريةّ ،مدعني �أن الغزو بوجهيه الثقايف والكولنيايل/التجاري وحده� ،أوقف م�سريتنا القد�سية نحو النهو�ض والإرتقاء ،حتى �أ�صبحت دعوى الغزو الثقايف الغربي كتميمة يف �أي قراءة (حتليلية) ودواء نظري لكل علة �أو كارثة �أو هزمية ،حتى باتت �أعياد امليالد ال�شخ�صية �أو الإحتفاء بعيد احلب هي بدع غربية متار�س املمانعة مل�سريتنا املكتملة معرفيا وثقافيا! ،متنا�سني متاماً الغزو الثقايف هدم عملياًكل طرح ثقايف نه�ضوي ،فف�شلنا يف قراءة ال�سريورة الطبيعية اجلنوبي ال�صحراوي الذي ّ للإ�ستعمار ،و�أجنزنا ما كان يبتغيه ،وهنا تبدو دعوى الغزو الثقايف مهلهلة ،فالفكر املتقدم ال يغزو واجلد واملثابرة ،بينما ينزلق الفكر املتخ ّلف ب�سيولة فائقة غازياً يتم احل�صول علية بالتعب ّ �أحدا ،و�إمنا ّ وفاحتاً من غري انت�صار ،وهنا علينا �أن نتحلى بال�شجاعة املعرفية للتفريق بني الغزو الثقايف ،وبني تع ّلم اكت�ساب القوة ،وهما م�س�ألتان مل حت�سم �شعوب املنطقة الر�أي ب�ش�أنهما ،على الرغم من �ضخامة امل�ستوردات وت�أثريها ،ولكن �إعادة �إنتاج الغزو الثقايف اجلنوبي حملياً �سيطر على منتوجنا الثقايف املعول عليه يف توليد املجتمع كي ن�ستطيع الوقوف على خط البداية جتاه الدولة والثورة والأمة و�إىل ما هنالك من مفاهيم متت ممار�ستها يف الأمم الناجحة ،وهنا اليبدو مو�ضوع الغزو الثقايف (على الرغم من رطانته) مهماً ،و�إمنا يف النوعية الثقافية الغازية وهنا مربط اجلمل بالن�سبة للنه�ضة الثقافية يف الن�صف الثاين من القرن التا�سع ع�شر ،حيث ظهرت املقاومة املحلية لهذه النه�ضة بنا ًء على م�صدرها ولي�س على نوعيتها ،ومت جتميع �أدلة الرف�ضبناء على ذلك ،بعد الرف�ض ال قبله. بني اجلنوب وال�شمال (�أر�ض اللنب والع�سل ورحلة ال�صيف) ا�ستطاع الإنكليز ا�ستغالل �إمكانية �إعادة الغزو عرب ت�سييل ثقافة (انفجرت يف وجههم الحقا) ت�ستطيع ترحيل العثماين الذي اغت�صب ال�شق ال�سلطوي/الإ�ستعماري باحللول مكان بيزنطة ،وحتى مكان الفر�س يف بالد �آ�شور امل�ؤلفة من بالد ال�شام وبالد العراق املنطقة التي تعر�ضت للفتوح الأوىل ،الفتوح التي دخلت الثقافة عرب املقد�س الديني ،بحيث �أ�صبحت �سقفاً وحلماً لكل ّ حكام العربة ،وهو ما يف�سر �إنطالقة الثورة العربية الكربى فج�أة من اجلزيرة العربية بحفنة من املقاتلني ومن ثم جتميع �أعداد �أخرى على الطريق �إىل ال�شام� ،إنه حلم ا�ستعادي للهالة الكربى للفتوح ور ّوادها ،بالإ�ضافة �إىل كونها املجال الإ�سرتاتيجي الأول حليوية تلك البالد يف حال وجودها ،ف�أين �سيذهب �أهل ال�صحراء بحيويتهم ،مهما كان �سببها� ،إىل غري ال�شمال؟ حيث ميكن النظر �إليها وقراءتها من هذا الباب َ وامل�سيطر عليه يف �آنٍ معاً ،فهذااملجال الثقايف م�سيطِ رب�سبب الفكر الديني الب�سيط الثقايف امل�سيطِ ر والت�شخي�صي على العامة من جهة ،و�إيهام النا�س مبكانة حقوقية خ�صو�صي ٍة هي �أعلى مكان ًة ل ّأي 152
احلرب العاملية الأوىل
َ وم�سيطر عليه من ناحيتني :الأوىل هي �إدماج الديني بالأيديولوجي ال�سيا�سي الإجتماعي �آخر، ت�صح النظرية على طريقتني القومية العروبية والقومية الدينية يف �آنٍ معاً ،والثانية هي بحيث ّ تق�سيم وف�صل تاريخ املنطقة �إىل تاريخني� ،أحدهما موجود وم�ستمر وميكن العي�ش فيه لأ ّنه نقي وتب�شريي وي�صلح للتفاخر ،والثاين ملغى لأنه (ما قبل الفتح) جاهلي واعتدائي وغربي وي�شمل هذا الإلغاء بالطبع العراقة املدنية واحل�ضارية للمنطقة مبنتوجاتها الثقافية كافة (ال�شعر مثاال فال�شعر هو ال�شعر هو بالعربية فقط)� ،صحيح �أن ماح�صلت عليه �شعوب املنطقة بعد ذلك هو خلطبيطة ثقافية ،لكنها منا�سبة متاماً للمخططات الإ�ستعمارية ،فالتخلف هو جزء ال يتجز�أ من هذه املنظومة الثقافية املطلوبة لإ�ستعمار ،ال بل كان �شرطاً �أ�سا�سياً حلريتهم التي طلبتها الثورة العربية الكربى ح�سب �شعاراتها املح ّركة وملا تزل تبحث عنها ،وهنا يبدو الوعي مب�ستحقات الزمان ،كاملجتمع والدولة وغريها كانت م�شروطة هي الأخرى بعك�سها ،لهذا مل ت�ستطع «ثورة» كالعربية الكربى حتقيق �أهم اهدافها وهو توليد جمتمع وبالتايل دولة ،لأن الثقافة املحمولة عليها تلك الثورة ثقافة بائدة على الرغم من كل املح�سنات البديعية ،وعلى الرغم من موقعتي الريموك والقاد�سية يف الذاكرة ،اللتني ال ميكن ا�ستعادتهما �إال بظرف م�شابه ،ولعل ت�صنيع الظرف امل�شابه �أ�صبح وا�ضحاً للجميع ،لدرجة �أجنلاّ لغزو الثقايف اجلنوبي (خ�صو�صاً بعد عائدات البرتول) يعتمد على ا�ستعادة هذا الظرف �شك ًال وم�ضموناً ...ونتيجةَ! .وهي عقدة ا�ستثمرها الغرب بدق ٍة ودراية ،وقبلها امل�شرق كواقع �إمياين ال جمال للإعرا�ض عنه ،و�إال كيف نف�سر �أحق ّية الأمري في�صل بحكم ال�شام ومن ثم العراق؟ من �أين ي�أتي كل هذا التوق له وكل هذا القبول والر�ضى به ،كي يدخل �إىل التاريخ وقدي�س معاً؟ �إنها اخلالفة ،جوهرة الإ�سالم ال�سيا�سي (توليد ال�سيا�سة من الدين) املولود كبطل ٍ على �أيدي الإنكليز خ�صو�صاً ،و�أطراف �سايك�س بيكو عموماً (و�أمريكا ما بعد يالطا)� ،أو بتعبري �آخر جمتمع ي�ستطيع �أن ين�شئ دولة ت�ستطيع اللحاق تفعيل ثقافة حقوقية معطوبة وعقيمة ال تف�ضي �إىل ٍ باملنجزات الكربى للمعرفة. مل تت�ضمن �أدبيات فتوح ال�شام ،من ت�أريخ و�أخبار وطبقات� ،أن الروم (البيزنطيني) كانوا م�ستعمرين وال العرب كانوا حمررين (فهذه الفكرة �أتت على ذمة املف�سرين املحدثني) فامل�س�ألة هنا هي ّمتدد وتق ّل�ص حيويات مناطق و�شعوب ح�سب مقت�ضى الع�صر و�أحواله وظروفه ،وقد ّمت الت�صالح على ت�سميته بالفتح والفاحتني التي حتمل �أكرث من معنى واقعياً( ،حتى يف احتالل املحدثني من ق ّراء �أدبيات الفتوح ،قر�أوا فكرة الفتح يف هذه ا�سطنبول)يف ع�صرنا هذا ،ولكن َ الأدبيات قيا�ساً �إىل امل�ستعمر الكولنيايل الغربي احلديث وقارنوا الفتح بالتحرير(خ�صو�صا حترير فل�سطني) ،يف جتاوزٍحتى للن�صو�ص املوروثة من ت�أريخ الفتوح ،وهو جتاو ٍز ٍ ينم عن عنيف للمنطق ،ما ّ عمارة ثقافية �شعبوية متك ّل�سةمن ال�صعب هدمها �أو جتاوزها دون كوارث ،ولكن ميكن ا�ستخدامها ب�سهولة كح�صان طروادة ،وكانت ال�ضحية الأوىل لهذه القراءة هو ع�صر النه�ضة ورجاالته الذين عوملوا كرهائن على �أيدي املحليني ولي�س على �أيدي الغرب ،ومن ثم لت�أتي فتوح الثورة العربية 153
الكربى لنحتفي بريموكٍ جديدة يحلم بها كل من حكم جزيرة العرب. من يقر�أ «فتوح ال�شام» للواقدي ال ي�صل وببداه ٍة� ،إىل ما و�صل �إليه ق ّراء حقبة التنوير التي تلت حقبة النه�ضة وال �إىل ما و�صل �إليه القراء املعا�صرون ،امل�س�ألة عند الواقدي هي جمرد تربير منطق التمدد احليوي لل�شعوب واجلماعات ،لي�س مبنطق هاتيك الأيام فقط (وهو لي�س ببعيد عن منطق روما وبيزنطة على �أية حال) و�إنمّ ا مبنطق الثقافة ال�صحراوية لهاتيك الأيام �أي�ضاً ،وهذا ما كتبه فع ًال (وهو كتاب حمقق) ،فاحليوية التي ُترتجم �إىل قوة ع�سكرية غازية تتلم�س لها حقوقاً هي �أعلى املحدثني من القراء امل�سقوفني بالهالة القد�سية وبالنتيجة قبل املقدمات، مرتبة من املغزوين ،ولكن َ �صاغوا حكاي ٍة �أخرى و�أطلقوها�شعبياً ومدر�سياًحتى �أ�صبحت من امل�س ًلمات الثقافية احلاجبة لكل نقا�ش �أو �شبهة ،وهي قراءة التح ّرر من ربقة امل�ستعمر الغربي (البيزنطي وقتها وك�أن وجود الغرب هو �أزيل) ،ولكن احلقيقة مل يكن هناك من فارقٍ حقيقي بني الإثنني ،هذا �إذا �أردنا ال�سعي نحو احلقيقة �أو ال�سعي لتعميم ثقافة قادر ٍة على �إن�شاء املجتمع املك ّلف بتوليد دول ٍة من لدنه، فمعركة الريموك هي معركة ع�سكرية مبقايي�س ذلك الزمان وثقافته ،وهي لي�ست بالقطع معركة بني كفار وم�ؤمنني ،لأن الكفار مل ت�صلهم الر�سالة الكرمية مبعناها التب�شريي بعد ،ليكفروا بها، ومل يفكر �شعب املنطقة بالإحتالل الغربي (على املقيا�س احلايل) ليطلبوا امل�ساعدة على التحرر وممن؟ من �شعوب اجلنوب يف �صحرائه املن�سية ،ويف كل الأحوال ال حتتاج الر�سالة املحمدية �إىل معارك لن�شرها ،و�آ�شور (ال�شام والعراق) تاريخياً ،هي �ساحة �صراع على النفوذ بني الفر�س واليونان ومن ثم روما وفيما بعد بيزنطة ،ولعلنا اليوم نرى ذات ال�صراع الرتكي الإيراين على ذات املنطقة ،حيث تناور حيوية العربة البرتولية للح�صول على كر�سي بابوية يف ال�شمال بداللة التاريخ، معتربة �أنها الوريثة ال�شرعية،ملعركتي الريموك والقاد�سية املبجلتني ثقافياً للح�صول على بالد اللنب إجنازي ي ّربر ويق ّرب الو�صول �إىل �أقرب نقطة من اجلوهرة � ..أي -اخلالفة ،-وهي والع�سل ،كمجا ٍز � ّ عمق الإ�سالم ال�سيا�سي مبظاهره املتعددة ،الذي ي�ضمن للحيويات العامية املناف�سة والفوزنظرياً من �أجل الفوز بطهرانية تلك الأيام ،وهذاي�شرتطاحلفاظ على التخلفبمعنى احلفاظ على عدم تهم امل�ستفيدين �شرقاً املقدرة على �إن�شاء جمتمع باملعنى الع�صري ،هذه هي امل�س�ألة بال�ضبط ،التي ّ �أو غرباً ،فامل�شرق بالن�سبة «للغرب» ثقافياً !! مكان لتحقيق امل�صالح ،والغرب بالن�سبة لثقافة هذا «امل�شرق» مكان ملمار�سة ال�ضغائن (على ما ي�شوب الأمر من عن�صرية)� ،إنهما معركتني منف�صلتني متاماً ،وخمتلفتان متاماً ،واحدة تنتج غزوة الربجني والثانية ت�ستثمر البرتول وتتحكم بالأ�سواق الإ�ستهالكية ،واحدة تدافع عن �صورتها ،والثانية تدافع عن ا�ستثماراتها ،واحدة تدافع عن هويتها و�أ�صالتها ،والثانية تدافع عن جمتمعاتها و�أ�صليتها ،واحدة ال تقوى على الإنتاج ،والثانية تناف�س يف الأ�سواق ،ما يعيدنا مرة �أخرى �إىل �أطروحة الغزو الثقايف و�إىل �إعادة النظر بها ،كما يعيد «الغرب» اليوم النظر يف ورطته التي ت�س ّبب بها لنف�سه من خالل دعم الإ�سالم ال�سيا�سي ،الذي انقلب عليه،حتى يف قلب جمتمعاته. 154
احلرب العاملية الأوىل
اليوم تبدو بالد �آ�شور ثقافياً يف قلب احليويات الثالث ،ال ينقذها منها �إال القراءة الدنيوية للتارخ والواقع معاً ،قراءة قادرة على ت�شخي�ص العلل بكل حيادية وبرود معرفيني ،فلم تعد ثقافة ت�أ�سي�س املجتمع والدولة �س ّر من �أ�سرار اخلليقة والغيب ،فطاملا ان وجدت وج ّربتها هذه الثقافة احلقوقية الدنيوية ،القادرة على �إنهاء ثقافة الفتنة �أو حما�صرتها على الأقل بحيث ميكن �إنتاج ر�سالة ح�ضارية تناف�سية مع العامل بد ًالعن ثقافة العداء والعناء� ،أ�صبح من الواجب تبنيها وممار�ستها ك�أ ّية معرفة �أخرى ،ولكن الثقافة املتداولة واملدعومة من قبل ال�سلطات املحلية املتنوعة ،ملا تزل حتاول �إكت�شاف �أحقيتها يف الوجود عرب البحث امل�ضني عن حمرك حلالة الركود واملراوحة هذه ،الجئ ًة اىل مباحث الت�أ�صيل والهوية واللغة والفتنة �إلخ� ،ضارب ًة خبط ع�شواء يف حماوالت التوفيق بني الالمعريف مع منتجات املعرفة مبظاهرها الكثرية ،ولكن الأمر مل ي�ستقم حتى الآن ولن ي�ستقيم ما دامت القراءة م�سقوفة والتجربة مكرورة ،وبقيت املحاوالت م�ستمرة،تدير الأزمة الثقافية حتى لو قادت �إىل العنف الفالت والف�شل الدائم والهزائم املتكررة بد ًال من قيادتها �إىل خارج النفق �إىل رحاب املعرفة كما هي يف العامل مع ما يتوجب من ا�ستحقاقات ،وهذا ما يثبت �أننا مل نتعر�ض لغزو ثقايف غربي (ورمبا لن ي�ؤثر بنا هذا الغزو حتى لو وجد) مع �أن هذه البالد تعر�ضت لأنواع �أخرى مهينة من الغزو ،فلو و�صل �إلينا هذا «الغزو» الثقايف بدي ًال عن الغزو اجلنوبي لكانت حالنا خمتلفة متاماً، ولأنتجنا هويتنا الأ�صلية املعربة عن طاقاتنا وحيويتنا دون �إهدار اجلهد يف البحث عن هوية جاهزة �أو م�شتهاة (مثا ًال) و�أ�شياء �أخرى متك ّومة يف طبقات الرتاث عرب قراءة تب�سيطية م�سقوفة وم�سيطر عليها �سلفاً. بعد احلرب ،كان العامل ينطلق �إىل ما بعد احلرب العاملية الأوىل ،م� ّؤ�س�ساً �شك ًال ثقافياً جديداً ملجتمعاته ،وكان هذا امل�شرق ينطلق ثقافياً �إىل ما قبلها تائهاً يف فو�ضى امل�صطلحات ،وكان ّ جل اهتمام التنويريني (الذين قاوموا النه�ضويني و�أتو بعدهم) هو �أخذ رخ�صة من ال�سلطات املتنوعة على حماولة التوفيق بني املفاهيم احلداثية للوجود وبني الرا�سب الرتاثوي عرب فو�ضى فكرية قامعة ومقموعة يف �آنٍ معاً ،ولعل ّ �سجل الأمثلة حافل بالأحداث من �أبو خليل القباين حتى �أنطون �سعادة ،ولعل امل�سل�سل التلفزيوين املعا�صر (التغريبة الفل�سطينية) ت�أليف وليد �سيف و�إخراج يعد مثا ًال وا�ضحاً على تهافت القراءة املعرفية التي تقدمها الدراما التلفزيونية ذات حامت علي ّ الت�أثري الثقايف ال�شعبي الكا�سح (وطبعا ال نن�سى م�سل�سل باب احلارة ال�شهري و�أخواته) يف مقاربة مو�ضوع الفتح/التحرير ،املقروء بطريقة �إخ�ضاع غري املقد�س للمقد�س وهالته فقط ،ما �صنع حرباً ثقافية حقيقية بني �أ�صحاب املفهوم احلداثي للوطن ،وبني �أ�صحاب املفهوم الرتاثوي للبالد ،وهو ما تعانيه اليوم بالد العراق وال�شام يف عدم مقدرتها التحول �إىل وطن� ،أو بالأحرى تدفع هذه البالد ثمن ما جتاهلت (�أو رف�ضت �أو مل جتر�ؤ) على قراءته حداثياً ،فالوطن كمفهوم وكممار�سة لي�س موجوداً يف الرتاث الذي ن�ستجدي الهوية منه ومن ملحقاته الثقافية ولعل القراءات ن�صف احلداثية (�أو التنويرية �إذا جاز التعبري) كانت �أكرث خطور ًة من القراءة التقليدية يف الواقع الذي 155
و�صلت اليه البالد و(العباد) ففي حني كانت تعترب نف�سها قراءة و�سطية كان الرتاثويون التقليديون ي�ستخدمونها كج�سر للعبور موفرين ن�صف الطريق ،ولعل �أمثوالت الربيع العربي التي بد�أها �أن�صاف احلداثيني وركبها الإ�سالم ال�سيا�سي وج ّرمهم وطاردهم ،تعطي فكرة حقيقية عن الإجتياح الثقايف اجلنوبي للبنية الثقافية ملجمل ال�سكان مبن فيهم املفكرون امل�شهورون بتقدميتهم،الذين مل يعربوا �إىل احلداثة خوفاً من م�ستحقاتها غري امل�سقوفة بهاالت القدا�سة والتاريخ ،واكتفوا بقراءة الواقع قراءةًمبت�سرة دون �أن يتنكبوا �أية مهمات تغيريية تفرت�ضها �أدوارهم ،فخ�ضعوا لهذه القراءة التب�سيطية مثل العامة متاماً ،ال بل لقّنتهم العامة درو�ساً م�ؤملة يف ته ّيب التغيري. يف املقام الأخري �أين ا�سرائيل من كل هذا؟والتي حت ّولت بقوة هذه النوعية من القراءة للتاريخ �إىل جم ّرد عد ّو ا�سرتاتيجي! وهو قول �شفاهي موارب يفيد مبعنى الت�أجيل ،بينما �إ�سرائيل ككيانٍ غا�صب،هي عد ّو يومي يراهن ثقافياً على حتويل احلق احلقوقي الإن�ساين القومي� ،إىل جم ّرد �صراع طائفي �أو باللفظ الأقرب �إىل ذهنية هذه القراءة� ،إىل فتن ٍة تت�صارع فيها الطوائف الدينية ولي�س ٍ ككيانات حقوقية معا�صرة لها حقوق وطنية وقومية مع ّزز ًة مبقدرتها على الإنتاج ،ليتحول الأمم اخلالف على اغت�صاب الأر�ض� ،إىل جم ّرد خالف على هوية انوجدت بقوة الهالة املقد�سة للتاريخ، ما يدفعنا �إىل �س�ؤال �إفرتا�ضي ي�شبه كثرياً الأ�سئلة التي توجهها العامة بكثافة وهو ،ماذا لو �أ�شهر اليهود املغت�صبون لأر�ض فل�سطني �إ�سالمهم؟ (وكان قد فعلها قبلهم الدومنة يف تركيا العثمانية) هل تنتهي امل�شاكل وميكن اعتبار حقنا القومي قد عاد �إلينا؟ ونلتفت �إىل حترير الأندل�س من الإ�سبان الغا�صبني؟ �أم �سوف ن�س�أل على �أي مذهب �أ�صبحوا؟ �إنها �سل�سل ٌة من �أ�سئلة قد نظ ّنها افرتا�ضية لتب�سيطيتها ال�شديدة ،ولكنها متداولة وب�أكرث من هذا التطرف ،يف �أو�ساط ثقافة الإ�سالم ال�سيا�سي ب�شق ّيه التقليدي ون�صف احلداثوي. ها نحن نواجه الإ�ستحقاق احلداثي كك�أ�س م ّرة علينا اجرتاعها،رمبا للمرة الألف ولكنه ا�ستحقاقٌ م�ؤكّد،ال ميكننا رف�ضه ونحن نواجه الفناء�،إنه اجلر�س الأخري قبل �أن تغادر الطائرة ،ولي�س قافلة املحملة على ما هو معمول به حتى الآن. اجلمال َّ
156
احلرب العاملية ا لأوىل
�سوريا يف احلرب العاملية الأوىل
�سيا�سة وجو ٌع وكلمة و�سام عبداهلل � -إعالمي
تتداخل ال�سيا�سة والثقافة واحلياة االجتماعية يف �سوريا خالل مرحلة احلرب العاملية االوىل ،خمططات دولية لل�سيطرة على املنطقة ،وما كان لها من انعكا�سات على امل�ستوى االن�ساين واالجتماعي من جوع وت�شريد ،وما حاولته احلركة الثقافية من تقدميه يف ظل ظروف واو�ضاع �صعبة يف البالد. ي�صف الدكتور �سامي مبي�ض ،امل�ؤرخ و�أ�ستاذ العالقات الدولية يف جامعة القلمون ،عن حالة الدمار واجلوع لكاهن امريكي جاء �إىل دم�شق يف احلرب العاملية االوىل�« ،أجتنب والت�شريد يف احلرب العاملية االوىل بقولٍ ٍ اجلثث يف �شوارع دم�شق من كرثة من ماتوا من العط�ش واجلوع� ،إن م�شرحة دم�شق ت�ستقبل 80جثة يومياً»، وي�شري �أن �أعلى ن�سبة دعارة كانت خالل احلرب العاملية االوىل نتيجة حالة الفقر املنت�شرة و العائالت الكثرية التي �أ�صبحت دون معيل فمن اعتقل �أو قتل خالل احلرب مما ا�ضطر الن�ساء �إىل العمل لت�أمني حياتهم. تزامنت احلرب العاملية االوىل مع ما �سمى بالثورة العربية الكربى ،التي قامت بهدف �إقامة الدولة العربية وا�سقاط احلكم العثماين ،وكانت الثورة بقيادة ال�شريف ح�سني بن علي .وقدمت احلكومة الربيطانية وعداً للعرب باالعرتاف با�ستقاللهم مقابل ا�شرتاكهم �إىل جانب حمور احللفاء �ضد االتراك، وقدمت هذا الوعد من خالل ر�سائل ح�سني -مكماهون .1915وقد ر�صدت انكلرتا 40مليون جنيه ا�سرتليني للثورة وكانت تتوقع ان�شقاق �ضباط من اجلي�ش العثماين ومل يحدث هذا ،وكل ما اقت�صر هو على بع�ض ال�ضباط لهم رتب عالية ولكن لي�س لهم وزن حقيقي يف اجلي�ش العثماين. ي�شري الدكتور مبي�ض بالأرقام� ،أنه قبل عام � 1916أر�سلت االمرباطورية العثمانية 2,8مليون �شخ�ص للقتال، 325,000قتلوا بني عامي 240,000 ،1918-1914ماتوا من املر�ض 250,000 ،مفقود و�أ�سرى حرب .وكانت نتيجة الظلم واحل�صار التي خ�ضع لها ال�شعب �أنه �أدى مثاال �إىل ق�ضاء دم�شق �شتاء 1915كامال يف الربد والظالم .ويف العام نف�سه اندلعت جماعة يف بريوت واجتهت �إىل دم�شق ،انخف�ض عدد �سكان بريوت من 180,000ن�سمة يف عام � 1914إىل 75 000ن�سمة يف عام .1916يف بلدات جبل لبنان مثل البرتون ، انخف�ض عدد ال�سكان من خم�سني �ألفاً يف عام � 1914إىل اثنني فقط من �ألف بحلول عام ،1918ويقول الق�س االمريكي مينيابولي�س الذي زار �سوريا عام �« ،1916إن رجال دم�شق �إما يف اخلدمة الع�سكرية �أو يختبئ ،ويتجه الن�ساء واالطفال �إىل الت�سول» ،وقد جمعت �شرطة دم�شق �سبعني جثة جمهولة الهوية يوميا. يقول الدكتور مبي�ض �إن هذه احلرب كانت حرب االخرين على �أر�ضنا والتي دفع ثمنها ال�شعب 157
ال�سوري« ،خالل احلرب �أراد االنكليز ا�ستغالل عط�ش العرب للحرية فباعوهم �أوهام ،وقرروا �أن يف �إعالنهم ثورة يف مكة خلق فجوة داخل االمرباطورية ت�ؤدي �إىل انهيارها من الداخل ،ويف �أول تقييم بريطاين لأداء الثوار يف احلرب العاملية االوىل ،تو�صلت �إىل �ضرورة انت�شال الثورة لأنه لو مل يتم ذلك ف�ستح�سم ل�صالح تركيا ،وقد دخلوا الربيطانيني احلرب وحققوا الن�صر ولكنهم جريوا الن�صر للعرب ،فباعوهم وهم مازلنا نعي�شه حتى اليوم بعد � 90سنة عن �إجنازات الثورة العربية الكربى». رغم الظروف القا�سية التي كانت متر بها البالد ،فقد كانت احلياة الثقافية والفكرية ت�ستمر بحركتها يف حماولة للحفاظ على االن�سان واملجتمع ،فقد �شهد اجلمهور يف �سورية عرو�ضاً �سينمائية يف مدينة حلب عام 1908 كانت البداية الر�سمية للعرو�ض ال�سينمائية يف �سورية ،ويف عام 1912يف دم�شق يف مقهى بـ�ساحة املرجة. ي�صف الدكتور مبي�ض املرحلة فكريا ب�أن فيها ن�شاطاً فكرياً هاماً جداً ،فيها �صحف ورجاالت ،بد�أ الت�أ�سي�س له ما قبل احلرب« ،معظم مثقفي دم�شق كانوا جزءاً من حلقة ال�شيخ طاهر اجلزائري ،وهو ال�شيخ الذي يف القرن التا�سع ع�شر هو من بد أ� بفتح املدار�س يف �سوريا وكافح الك ّتاب ،وكان يف حينها مبثابة مدير الرتبية يف االمرباطورية العثمانية وكانت �أفكارها �سابقة لع�صره ،رجل دين ولكنه على درجة عالية من العلمانية، على يديه تتلمذ عبد الرحمن ال�شهبندر �شكري القوتلي و�أجيال خمتلفة .بفرتة احلرب ازداد القمع وهو ما فر�ض على النا�س طرق خمتلفة للتعبري عن ر�أيهم ،فقبل بداية احلرب العاملية االوىل يف �سنة 1909 �أ�صدر فخري البارودي جريدة ا�سبوعية �ساخرة باللغة العامية وكان يف عمر � 25سنة وحمارباً من �أهله، وكان ا�سم اجلريدة (حط باخلرج) ويوقع افتتاحياته با�سم (عزرائيل) لكي ال يحرج �آل البارودي �أنه يعمل ك�صحفي ،ماري العجمي �سنة � 1910أ�صدرت جملة العرو�س ن�ساء من املجتمع الدم�شقي يكتنب ب�أ�سماء م�ستعارة وهي جملة هيكلها االداري بالكامل من الن�ساء ،هذه دليل جمتمع يحارب الظروف ال�صعبة التي تفر�ض عليه ،ومن اال�سباب لهذه الفورة الفكرية علينا ان ن�ضعها يف �سياقها التاريخي ،ففي عام 1908حدثت ثورة ع�سكرية يف ا�سطنبول �أبقوا على ال�ضباط يف منا�صبهم ولكنهم فر�ضوا عليه ا�صالحات دميقراطية كالد�ستور والربملان ،امور كانت بالن�سبة للم�شايخ غريبة عنهم ،الطبقة املتنورة وال�شابة ع�شقت هذه اال�صالحات وا�ستفادت منها يف �إ�صدار �صحف وجالت باللغة العربية والرتكية ،ولكن فرتة العطاء احلقيقي لهذه املرحلة الفكرية كانت بني � 1908إىل ما قبل 1914فكانت احلريات يف بداية احلرب بق�ضبة من حديد والنا�س تتكيف مع الو�ضع ،يف حينها كان هناك جمعيات �سرية ومرا�سالت مع اخلارج. يف كتابه «�أعمدة احلكمة ال�سبعة» يكتب توما�س ادوراد لرون�س املعروف بلقب «لورن�س العرب» ،مذكراته عن الثورة العربية الكربى �شارحا كيف مت التخطيط من قبل االنكليز لال�ستفادة من هذه احلركة لتحقيق مكا�سب لالنكليز ،يختتم الكاتب ف�صول كتابه بجملة ي�صف فيها ما قبل دخولهم �إىل دم�شق يف �أثناء قيام االملان مبغادرة املدينة وتفجري م�ستودعات اال�سلحة حيث كانت تزداد ال�سنة اللهب يف امل�ساء فكتب قائال حينها (ا�ستدرت �إىل �ستريلينغ مبت�سما لأمتتم قائال «�إن دم�شق حترتق» ،وقد �أ�صابني الغثيان للتفكري ب�أن تكون هذه املدينة العظيمة رماداً كثمن للحرية) .وال�س�ؤال الذي يطرح ،هل ما يزال لورن�س العرب ح ّياً بيننا بعد 100عام على وجوده فوق �أرا�ضينا حتى نعيد تكرار ما حدث يف حينها الآن بعد قرن كامل؟ 158
وثائق تاريخية
نهاية نظام القائمقاميتني ون�شوء نظام املت�صرف ّية ()1861-1860
تطرقنا يف العدد ال�سابق رقم ،4ال�صادر يف �شهر متوز 2014حول وثائق االر�شيف الربيطاين املعنون« :ا�ضطرابات يف �سوريا» »Disturbances in Syria« ،ون�شرنا اخلريطة االوىل والتي �سميت: «امل�شروع الأول». تركز «اخلريطة الثانية والتي نن�شرها يف هذا العدد على تق�سيم املناطق �إىل �سبعة وفقاً للم�شروع رقم IIعلى �أ�سا�س طائفي فيقرتح امل�شروع من جملة ما يقرتح: املنطقة :1الكورة� ،أغلبية �أرثوذك�سية يعاد �ضمها �إىل لبنان: �أورثوذك�س9,000 : م�سلمون ومتاولة1,000 : موارنة900 : املنطقة :2الزاوية- اجلبة -ب�شري -البرتون- جبيل -املنيطرة -الفتوح- ك�سروان يعاد �ضم منطقة الزاوية �إىل لبنان �أغلبية مارونية: موارنة62,000: �أورثوذك�س3,500 : م�سامون ومتاولة2,400 : كاثوليك1,500 : 159
املنطقة :3املنت وال�ساحل� ،أغلبية م�سيحية: موارنة18,750 : �أورثوذك�س11,000 : دروز7,910 : كاثوليك5,750 : م�سلمون ومتاولة420 : وي�شتمل اجلزء الثالث واخلام�س وال�سابع من الق�سم 3على �أكرثية درزية ،كما ن ّوه امل�شروع. املنطقة :4زحلة� ،أكرثية كاثوليكية: الكاثوليك15,000 : م�سلمون ومتاولة2,005 : �أورثوذك�س2,000 : دروز600 : موارنة600 : املنطقة :5الغرب ،اجلرد ،العرقوب، ال�شوف ،ال�شمار ،متاحف واخلروب �أكرثية درزية ،و�ستة منا�صفة مع امل�سيحيني: الدروز24,000 : املوارنة17,000 : الكاثوليك9,675 : االرثوذك�س4,875 : م�سلمون ومتاولة4,385: بروت�ستانت500 : املنطقة :6دير القمر� ،أكرثية م�سيحية:
160
املوارنة: الكاثوليك1,950 : الدروز700 : يهود290 : 3,300
املنطقة � :7إقليم التفاح وجزين� ،أكرثية م�سيحية: املوارنة5,750 : الكاثوليك5,500 : امل�سلمون واملتاولة200 : وهكذا جاء اجمايل تعداد الطوائف كما يلي: املوارنة101,900 : الكاثوليك38,625 : الدروز35,475 : االورثوذك�س30,375 : م�سلمون ومتاولة10,510 : بروت�ستانت500 : يهود290 : وتقرر يف هذا امل�شروع احلاق بريوت وطرابل�س و�صيدا حتت «�إدارة الباب العايل مبا�شرة» كما ن ّوه امل�شروع �أن يف اخلروب ال يوجد دروز مع �أن �أغلب الأرا�ضي مملوكة من دروز وم�سلمني لأن �أغلبية �سكانها م�سلمون.
من �سكان دم�شق يف بدايات احلرب العاملية الأوىل
www.tahawolat.net
لبنان 5000لرية | الأردن 2 :دينار | �سوريا 100 :لرية | م�صر 10 :جنيه | تون�س 1.5 :دينار | املغرب 20 :درهم | م�سقط 1 :ريال ال�سعودية 10 :ريال | البحرين 1.5 :دينار | الكويت 1.5 :دينار | قطر 10 :ريال | الإمارات 10 :درهم
العدد ت�رشين الأول 2014