الملك لقمان الجزء الأول

Page 1

‫محمود شاهين‬ ‫اْلَملِ ُ‬ ‫ك ُلمقماْن‬ ‫)‪(1‬‬ ‫محاولة انتحار‬ ‫حين عزم الديب لمقمان على النتحار – قبل أن يغدو ملكا ً – لم يخبر أحداً بنّيته‪ .‬ألمقى‬ ‫نظرة عابرة على أفراد أسرته‪ ،‬وحّياهم بحركة بطيئة من يد ه‪ ،‬وخرج دون أن يتفّو ه‬ ‫بكلمة‪.‬‬ ‫ظّن ت ابنته أنه يحاول الخروج من العزلة التي فرضها على نفسه منذ أعوام‪ ،‬وظّن ابنه‬ ‫أّنه يزداد إمعاناً في عزلته‪ ،‬وما خروجه إل للسير وحيداً ُبعيد اليصيل كي يحّر ك ساقيه‪،‬‬ ‫وربما يستمقبل غروب الشمس‪.‬‬ ‫زوجته لم تفّكر في شيء‪ ،‬فهي لم تكن يوماً قادرة على أن تفهم ما يدور في خلد ه‪ ،‬وُكّلما‬ ‫ظّن ت شيئا ً فعل نمقيضه‪.‬‬ ‫يّمم وجهه شطر الصحراء حيث عاش طفولته في مكان مشابه‪ .‬أح ّ‬ ‫س بها تشّد ه إليها بمقوة‪.‬‬ ‫كان ت الشمس قد أخذت تجنح إلى الغروب‪ ،‬وخيوط أشعتها تتكّسر على ظهر ه‪ .‬أدر ك أنها‬ ‫غاب ت حين توقف ت أشعتها عن سلق ظهر ه بحرارتها‪ ،‬وحين رأى بعد قليل عتمة الغسق‬ ‫تحّل شيئا ً فشيئًا‪.‬‬ ‫ظّل يسير طوال الليل مجتازاً بعض الحمقول والبساتين والراضي غير المزروعة‪.‬‬ ‫ُبعيد الفجر‪ ،‬استمقبلته الصحراء فاتحة ذراعيها‪ .‬توّق ف للحظات متنفسا ً بعمق‪ ،‬وتابع سير ه‬ ‫المتهالك إلى أن أخذ ال ّ‬ ‫ظالم يتبدد من حوله‪ .‬جلس على كثيب من الّرمل وفّكر لبرهة في‬ ‫الطريمقة التي سينتحر بها‪ .‬سيحفر لنفسه قبراً ويستلمقي فيه‪ ،‬ويطلق النار على رأسه من‬ ‫المسّد س الصغير الذي يحمله‪ .‬ول شك أّن الريح والعوايص ف ستذرو الّرمال عليه لتدفنه‬ ‫خالل بضعة أيام‪ ،‬إذا لم تنهش الوحوش جسد ه‪ ،‬وإذا حالفه الحظ ستهب ريح قوية قد‬ ‫تدفنه خالل بضع ساعات‪.‬‬ ‫»لم تكن الفكرة حسنة‪ ،‬لكنها قد تكون أفضل من حالة اليأ س والحباط التي ويصل إليها!«‬ ‫وابتسم ساخراً من نفسه‪ ،‬لهذا الحرص الذي ل معنى له بعد النتحار‪ ،‬فإن ُدفن أو لم‬ ‫يدفن‪ ،‬إن نهش ت الطيور لحمه أو افترسته الوحوش فالمر سّيان‪ ،‬لسيما وأن في ممقدور‬ ‫الوحوش أن تخرج جثته من تح ت الرمال‪.‬‬ ‫أقلع عن التفكير في العواقب وشرع في حفر الّرمل بيديه‪ .‬لم تكن المهّمة شاّقة‪ .‬وحين‬ ‫باغتته أشعة الشمس وهي تطّل من خل ف الجبال الشرقية البعيدة‪ ،‬كان قد حفر نص ف‬ ‫المقبر‪.‬‬ ‫أخذت الرض تمقسو قلي ً‬ ‫ال‪ ،‬فاستعان بخنجر ه الذي رافمقه منذ أكثر من يثاليثين عامًا‪ ،‬منذ‬


‫كان يصبياً يعدو خل ف المقطيع في جبال المقد س‪.‬‬ ‫نشب الخنجر بشيء ما‪ ،‬شّد ه بمقوة وإذا بجمجمة تتدحرج بين قدميه‪ .‬ارتعد جسد ه‬ ‫للحظات‪ ،‬تمالك أعصابه وهو يرفعها بيديه ويتأملها‪» ،‬أي قدر هذا الذي ساقه إلى هذا‬ ‫المكان بالذات‪ ،‬وما الذي كان عليه يصاحب هذ ه الجمجمة؟«‪.‬‬ ‫شعر أنه سيسترسل في تساؤلت كثيرة‪ ،‬فألمقى الجمجمة على ممقربة منه واستأن ف الحفر‪.‬‬ ‫أخرج بمقايا عظام‪» .‬لشك أنها للجسد ذاته!«‪.‬‬ ‫أح ّ‬ ‫س بالخنجر يصطدم بجسم يصلب‪ .‬حفر من حوله وأبعد التراب ليجد نفسه أمام قممقم‬ ‫من نحا س‪ .‬رفعه برفق‪ ،‬كان محكم الغال‪.‬ق‪ .‬عالج التراب المتحّجر حول الغطاء برأ س‬ ‫الخنجر إلى أن حَّرر ه‪ .‬أدار ه بمقوة وببطء لتخّوفه من أن يندفع من المقممقم جنّي ما‪ ،‬لكثرة‬ ‫ما قرأ عن الجن السجناء والمقماقم المريصودة في كتب التراث العربي‪ .‬وحمقا ً كان تخّوفه‬ ‫في محّله‪ ،‬فما أن رفع الغطاء حتى انبعث من المقممقم دخان هائل طاول عنان السماء‪.‬‬ ‫انطرح الديب لمقمان على ظهر ه من هول الرعب الذي انتابه‪ .‬لم تمر سوى لحظات حتى‬ ‫انجلى الّدخان عن جّني عمال‪.‬ق‪ ،‬قدما ه تنغرسان في الرض ورأسه يتسامق عاليا ً في‬ ‫السماء‪ ،‬وراح يهت ف بصوت هائل‪:‬‬ ‫»ها! أمر مولي العظيم لمقمان محرر أرواح الجان! عبد ك الُمطيع ودرعك المنيع‬ ‫»شمنهور الجّبار« ملك ملو ك الجن الُحمر في سائر الكوان والمصار!!«‪.‬‬ ‫ولم يكد يفرغ من كالمه إل وأيصوات هائلة تتردد من كافة أرجاء الكون‪ ،‬هاتفة بصوت‬ ‫واحد يثالث مرات »ها‪ ..‬ها‪ ..‬ها‪.«!..‬‬ ‫تمالك الديب لمقمان نفسه وجلس‪ .‬تساءل وهو ما يزال تح ت وطأة الدهشة‪:‬‬ ‫»ما هذ ه اليصوات يا ملك الملو ك؟«‬ ‫»هذ ه أيصوات أتباعي وأتباع أتباعي من ملو ك الجن يجددون ولَء هم لي‪ ،‬ويبتهجون‬ ‫بتحريري من السجن بعد أن أعلمتهم بذلك يا مولي«‬ ‫»الحمد ل على سالمتك«‬ ‫»سّلم ا مولي العظيم«‬ ‫»أنا لس ت عظيما ً أيها الملك«‬ ‫»إن من يحرر ملك ملو ك الجان من سجنه لن يكون إلّ عظيما ً يا مولي«‬ ‫»وا إّني أشك في ذلك أيها الملك‪ .‬لكن كي ف عرف ت اسمي؟«‬ ‫»حين حكم علّي الملك سليمان بالسجن أبلغني أّنه لن ُيفرج عني قبل يثاليثة آل ف عام على‬ ‫يد ّ‬ ‫ي أديب فلسطيني ُيدعى لمقمان!«‬ ‫»يثاليثة آل ف عام وأن ت تمقبع في هذا المقممقم؟«‬ ‫»نعم يا مولي«‬ ‫»ولماذا سجنك سليمان؟«‬ ‫وطأطأ ملك الملو ك رأسه خجالً وما لبث أن تكّلم‪:‬‬ ‫»وقع ت في غرام بعض نسائه يا مولي!«‬ ‫»لس ت قليالً أيها الملك‪ ،‬وهل ُكّن مغرمات بك أيضًا؟«‬


‫»نعم يا مولي«‬ ‫»من منهن؟ ابنة الفرعون أم بلمقيس ملكة سبأ؟«‬ ‫»هاتان كانتا منهن يا مولي‪ .‬لكني أغرم ت بالفلسطينية عستارت أكثر من الجميع‪ ،‬وهي‬ ‫التي ُكِشف ت عالقتي معها«‬ ‫»عستارت؟ هذا السم يكاد يكون اسم آلهة فلسطينية أيها الملك«‬ ‫»نعم‪ ،‬كان اسمها مشتمقا ً من اسم اللهة يا مولي«‬ ‫»وماذا فعل بها هي؟«‬ ‫»قطع رأسها أمامي يا مولي وقال أنه سيدفنها معي‪ ،‬والحق إنني ل أعر ف فيما إذا فعل‬ ‫ذلك بعد أن سجنني في المقممقم«‬ ‫»لمقد عثرت على جمجمة وبمقايا ُرفات قبل أن أعثر على قممقمك‪ ،‬لعّلها لها؟«‬ ‫»أين الجمجمة يا مولي؟«‬ ‫»ها هي أيها الملك«‬ ‫رفع الديب لمقمان الجمجمة بيديه ونهض ليعطيها له‪ .‬فوجئ به يتضاءل إلى أن أيصبح‬ ‫بحجم إنسان وبهيئة مال ك‪ .‬مّد يدين مرتعشتين وأخذ الجمجمة برفق وعينا ه تذرفان‬ ‫الّدموع‪.‬‬ ‫وق ف الديب لمقمان يصامتا ً محتارًا‪ ،‬فيما راح الملك شمنهور يريثي محبوبته ببضع‬ ‫كلمات‪:‬‬ ‫»الحبيبة الغالية عستارت‪ ،‬سّيدة السواحل والجبال‪ ،‬عرو س البوادي والنهار‪ ،‬فاتنة‬ ‫مدينة الّسالم‪ ،‬هل غدا رأسك الجميل رفاتا ً وجسد ك المعطاء رميمًا؟!«‬ ‫ورفع الملك شمنهور يد ه وإذا بتابوت من الذهب الخالص يتموضع إلى جانبه‪ .‬ألمقى نظرة‬ ‫نحو الديب لمقمان وهت ف متوّس ً‬ ‫ال‪:‬‬ ‫»هل يأذن لي مولي العظيم بدفن ُرفات محبوبتي؟«‬ ‫»أن ت حر فيما تفعل أيها الملك«‬ ‫وفتح الملك شمنهور التابوت وإذا به يتلل بالجواهر وقد فرش بالحرير الخضر‪ .‬جمع‬ ‫الديب لمقمان الّرفات مع الملك ووضعا ه في التابوت‪ ،‬يثم أغلمقا ه بإحكام‪.‬‬ ‫أشار الملك بحركة من يد ه وإذا بالمقبر ينفتح والتابوت يرتفع برفق ليأخذ مكانه فيه‪.‬‬ ‫وبحركة يثانية ُأهيل التراب في المقبر‪ ،‬وبثالثة انتصب فوقه ضريح من حجر المرمر‪،‬‬ ‫وبرابعة شّيدت فوقه قّبة هائلة خضراء مر ّ‬ ‫يصعة بالياقوت والزمّرد يعلوها هالل من‬ ‫الذهب تتوسطه نجمة سداسية الشكل‪ ،‬ويرتكز على شمعدان من الذهب بطول يثاليثة‬ ‫أذرع‪.‬‬ ‫كان الديب لمقمان واقفاً في دهشة وذهول لما شاهد ه من قدرات الملك شمنهور الخارقة‪،‬‬ ‫ولم يعد يعر ف فيما إذا كان في ُحلم أم يمقظة‪.‬‬ ‫أخذ الملك شمنهور المقممقم وأخرج منه خاتما ً قّدمه للديب لمقمان‪.‬‬ ‫»ما هذا أيها الملك؟«‬ ‫»هذا الخاتم الذي نمقش ت عليه كل ال ّ‬ ‫طالسم التي تتحّكم بحرّيتي‪َ ،‬من ملكه امتلكني ومن‬


‫فمقد ه فمقدني!«‬ ‫أطر‪.‬ق الديب لمقمان للحظة متفّكرًا‪.‬‬ ‫»قل لي أيها الملك؟«‬ ‫»أمر مولي العظيم«‬ ‫»هل أن ت حمقيمقة أم خيال‪ ،‬وهل أنا في ُحلم أم يمقظة؟«‬ ‫»عفواً مولي‪ ،‬أن ت بكامل يمقظتك وأنا حمقيمقة كما ترى!«‬ ‫»المشكلة أنني ل أقتنع بوجود الجن والشياطين وحتى اللهة نفسها‪ ،‬وما جئ ت إلى هنا إل‬ ‫لنتحر بعد أن غدت حياتي ل تطا‪.‬ق!«‬ ‫»ولماذا يا مولي أيصبح ت حياتك ل تطا‪.‬ق؟«‬ ‫»لنهم أفمقدوني حمقي فيها أيها الملك‪ ،‬بل أفمقدوني مبررات وجودي نفسها‪ .‬حتى الفمقراء‬ ‫الذين بددت مالي عليهم أو أدنته لهم اختفوا من وجودي‪ ،‬اليصدقاء منهم وغير‬ ‫اليصدقاء‪ ،‬كّلهم تبّخروا في الهواء! وحتى ال ّ‬ ‫صدور الكاعبة الدافئة الحنونة التي كان ت‬ ‫تب ّ‬ ‫ث إكسير الحياة في روحي ذبل ت وذوت أو اختف ت‪ .‬لم يعد يثمة شيء يشّدني إلى هذ ه‬ ‫الحياة الخاوية أيها الملك!«‬ ‫»مولي العظيم‪ ،‬سأحضر لك من المال ما تعجز الّسفن عن حمله‪ ،‬وسأضع بين يديك من‬ ‫النساء ما تعجز اللغة عن ويص ف جمالهن‪ ،‬وسأوجد لك من اليصدقاء من تأنس‬ ‫بحضور ه‪ ،‬ويأسر ك بحسن معشر ه‪ ،‬ويأخذ ك بشمولّية معرفته«‬ ‫»آ ه أيها الملك‪ ،‬ليس ت المشكلة في المال والنساء‪ ،‬واليصدقاء فحسب‪ ،‬فهؤلء لم يكونوا‬ ‫غايتي ذات يوم‪ ،‬رّبما كانوا ضرورة من ضرورات الحياة‪ ،‬أما الغاية فمقد كان ت أسمى‪،‬‬ ‫وكان تحمقيمقها يصعبا ً إلى حد يدفع ال ّ‬ ‫طموحين من أمثالي إلى النتحار!«‬ ‫»وماذا كان طموح مولي لعّلني أقدر على تحمقيمقه؟«‬ ‫»إنه طموح بسيط ومشروع أيها الملك‪ :‬أن نح ّ‬ ‫ب بعضنا نحن معشر البشر‪ ،‬وأن نحب‬ ‫لغيرنا ما نحّبه لنفسنا‪ ،‬وأن نعمل من أجل الخرين بالمقدر الذي يعمل به الخرون من‬ ‫أجلنا‪ ،‬وأن ننبذ الشر من بيننا‪ ،‬ونصلح ما أفسد أرواحنا‪ ،‬وشّو ه جمال إنسانيتنا‪ ،‬أن نّتحد‬ ‫في مواجهة الخطار المحيمقة بكوكبنا‪ ،‬أن نمنح النسان حريته‪ ،‬أن نسّخر العلم والمعرفة‬ ‫لخدمة البشرية وإطالة عمر النسان‪ ،‬ل لتدميرها وقتل النسان‪ ،‬أن نوجد نظاما ً عصريا ً‬ ‫يسمو بالبشرية من حضيضها‪ ،‬أن ننمقذ ماليين الجوعى في العالم‪ .‬لمقد أخفمق ت في تحمقيق‬ ‫شيء أيها الملك‪ ،‬حتى طموحاتي القل شأنا ً كأن أرى بلدي محرراً من المحتّلين‪ ،‬أخفق‬ ‫جميع العرب والمسلمون والمقوى المحبة للسالم والحرية في تحمقيمقه‪ ،‬أو حتى أن أعيش‬ ‫ضمن الحد الدنى من الُحّرّية الذي يتيح لي نشر كتبي وأفكاري وإبداء رأيي وممارسة‬ ‫الحب مع من تحّبني! لم يتحمقق لي أي شيء من كل هذا وذا ك أيها الملك‪ ،‬أي شيء على‬ ‫الطال‪.‬ق‪ ،‬ولم يعد هنا ك أي معنى لهذ ه الحياة‪ ،‬ولو في نظري‪ .‬والحق أنني أش ّ‬ ‫ك في أنك‬ ‫قادر على تحمقيق أحالمي هذ ه‪ ،‬رغم قناعتي أنك قادر على فعل المعجزات‪ .‬لذلك أرجو ك‬ ‫أن تأخذ خاتمك هذا وتنصر ف إلى حيث تريد‪ ،‬وتعيش حياتك بحرية خارج السر‪.‬‬ ‫وتدعني أنتحر بسالم‪ ،‬وكم أنا سعيد بتحريري لك‪،‬بعد يثاليثة آل ف عام من المقهر‪ .‬ل أظن‬


‫أنني فعل ت ما هو أجمل من هذا في حياتي‪ ،‬وإن حدث ذلك بمحض الصدفة‪ .‬ول أظن أن‬ ‫يثمة بطولة في المسألة«‬ ‫»مولي‪ .‬مولي العظيم!«‬ ‫»أرجو ك أيها الملك أل تخاطبني مولي‪ ،‬لنني أكر ه أن أكون سيداً لحد‪ ،‬ول تعظمني‬ ‫لنني لم أممق ت في حياتي أحداً أكثر من المع ّ‬ ‫ظمين دون أن يكونوا عظماء‪ .‬يثم إنني‬ ‫وبالتأكيد‪،‬لس ت عظيما ً ولس ت بطالً ولس ت نابغة‪ ،‬إنني إنسان متنّور بعض الشيء‪ ،‬حاول‬ ‫أن يلِّم بثمقافة البشرية بالمقدر الذي أتاحه له وقته«‬ ‫»مولي!«‬ ‫»أرجو ك«‬ ‫»لمقد اعتدت تعظيم من يتحّكمون بطلسمي أيها الديب لمقمان‪ ،‬ومع ذلك سأحاول إن‬ ‫استطع ت!«‬ ‫»أشكر ك أيها الملك‪ ،‬لتحاول‪ ،‬لن يكون المر يصعباً كما أظن‪ ،‬لمقد فعل ت ذلك الن«‬ ‫»حسنا ً أيها الديب! ما أوّد قوله فيما يتعّلق بخيبة أملك‪ ،‬وتبديد طموحاتك‪ ،‬وسعيك إلى‬ ‫النتحار‪ ،‬هو أن الشر أزلي فلمقد خلق ا النسان وخلق الشيطان‪ ،‬خلق حّواء وخلق‬ ‫الفعى‪ ،‬خلق »قابيل« وخلق »هابيل« من ضمن ما خلق‪ ،‬إّنه سّر ه وإحدى معجزاته يا‬ ‫مولي‪ ،‬عفواً أيها الديب لمقمان!«‬ ‫»أي سٍر هذا وأية معجزة أيها الملك؟ إذا كان ا يعر ف أن الشيطان سيضلل النسان‪،‬‬ ‫فلماذا خلمقه؟ وإذا خلمقه دون أن يعر ف ما الذي سيفعله‪ ،‬فلماذا جعله يمقوم بأفعاله البغيضة؟‬ ‫لماذا لم يردعه؟ لماذا لم يمقتله بعد فعلته الولى؟ وإذا كان يعر ف أن »قابيل« سيمقتل‬ ‫»هابيل« فلماذا خلمقه أيضًا‪ ،‬وإذا لم يكن يعر ف حين خلمقه‪ ،‬فلماذا أتاح له أن يمقتل أخا ه؟!‬ ‫قل لي أيها الملك؟«‬ ‫»إنه سّر ه‪ .‬سّر ه أيها الديب لمقمان«‬ ‫»سّر ه أن يكون خيراً وشراً في آن واحد؟ ما هي الحكمة في ذلك؟ سّر ه أيضا ً أن ينزل‬ ‫كَّل هذا العذاب بأيوب لمجّرد أن يختبر إيمانه‪ ،‬وليمقنع الشيطان بهذا اليمان؟! هل أغوا ه‬ ‫الشيطان هو أيضاً حتى أتاح له أن ينزل كل هذا العذاب الفظيع بأّيوب؟ أي إله هذا الذي‬ ‫ل يعر ف مدى إيمان إنسان خلمقه إلّ بهذ ه الطريمقة البشعة؟! من الفضل لك أيها الملك أن‬ ‫تعر ف أنه سّرنا نحن معشر النس‪ ،‬وإن شئ ت النس والجن‪ ،‬الذين أوجدوا ا‬ ‫والشيطان‪ ،‬قابيل وهابيل‪ ،‬آدم والفعى‪ ،‬الخير والشر!«‬ ‫»مولي أرجو ك!«‬ ‫»ها أن ت تعود لمخاطبتي »مولي« أيها الملك«‬ ‫»إن من يجرؤ على طرح هذ ه التساؤلت الكبيرة والجابات الخطيرة ل يكون إل إلها ً أو‬ ‫نبيا ً يا مولي!«‬ ‫»ولماذا ل يكون أديبا ً أو عالما ً أو فيلسوفا ً أيها الملك؟«‬ ‫»لن هؤلء ل يرقون إلى مرتبة اللهة والنبياء يا مولي«‬ ‫»ولماذا ل يرقون؟«‬


‫»هذا ما عرفته في عهد ما قبل سجني يا مولي«‬ ‫»عهد ما قبل سجنك؟ لعّلك تتحدث عن آلهة ما قبل سجنك؟ ولعّلك كن ت تعبد اللهة‬ ‫عشتاروت أو ِعناة أو بعل أو إيل؟«‬ ‫»أجل‪ ،‬لمقد عبدت هؤلء جميعا ً وعبدت غيرهم يا مولي«‬ ‫»من عبدت أيها الملك؟«‬ ‫»عبدت الشمس والمقمر والزهرة يا مولي‪ ،‬وعبدت الله »آبسو« قبل أن يمقتله أولد ه‪،‬‬ ‫وعبدت »تيامه« ومردوخ وعشتار‪ ،‬وآنو وإنانا وإنليل‪ ،‬وجلجامش ورع وأوزيريس‬ ‫وإيزيس وحور س‪ ،‬وعبدت كثيرين غيرهم يا مولي‪ ،‬إلى أن جاء ُسليمان وجعلني أتر ك‬ ‫الجميع حتى »إيل«‪ ،‬وأتبع »يهو ه« إلى أن تر ك هو عبادته ولم يعد يسأل عن معبودي!«‬ ‫»حتى يهو ه عبدته أيها الملك؟«‬ ‫»أجل يا مولي«‬ ‫»وهل تر ك سليمان عبادة يهو ه حمقا ً أيها الملك؟«‬ ‫»أجل يا مولي‪ .‬لمقد انحاز إلى عبادة البعل والعشتاروت وإيل وغيرهم من آلهة‬ ‫الفلسطينيين والصيدونيين والسبأيين والمصريين والبابليين«‬ ‫»عجيب أمر ك أن ت وسليمان أيها الملك‪ ،‬فأنتما كأجدادنا ُكّلما أتاهم أحد بإله جديد آمنوا‬ ‫به‪ .‬ما رأيك أننا الن في كوكب الرض نكفر بكل هؤلء اللهة‪ ،‬الذين جاؤوا في ذلك‬ ‫الزمن‪ ،‬ول نؤمن بأي منهم‪ ،‬ما عدا »يهو ه« فهنا ك بعض من يؤمنون به!«‬ ‫»هل أيصبحتم جميعا ً غير مؤمنين يا مولي؟«‬ ‫»بالعكس إن آل ف الماليين منا ما يزالون مؤمنين«‬ ‫»بمن يا مولي؟«‬ ‫»ببعض اللهة والنبياء الذين جاءوا بعد زمنك أيها الملك أو ببعض الديان والفلسفات«‬ ‫»وهل جاء آلهة وديانات أخرى يا مولي؟«‬ ‫»أكثر مما تتخيل من اللهة والنبياء والفالسفة الدينيون وال ّ‬ ‫طوائ ف‪ ،‬وما إلى ذلك‪ ،‬ففي‬ ‫الهند مث ً‬ ‫ال جاء الهندو س بـ »براهما« و»فشنو« و»شيفا« والبوذيون بـ »سد هارتا‬ ‫جوتاما الملمقب بوذا« والجينّيون بـ »مهاويرا« وفي الصين جاء الطاوّيون بـ »لوتس«‬ ‫و»كونفوشيو س« و»شوانغ تسو« وفي بالد الفر س جاء الزرادشتيون بـ »زرادش ت«‬ ‫وفي اليونان جاؤوا بآلهة أكثر من أعدها لك‪ ،‬منها »أورانو س‪ ،‬غايا‪ ،‬زيو س‪ ،‬كرونو س‪،‬‬ ‫هيرا‪ ،‬هاد س‪ ،‬ديمتر‪ ،‬وأفرودي ت« والرومان كذلك والعديد من شعوب العالم‪ ،‬جاؤوا‬ ‫بآلهة كثيرة‪ .‬أما عندنا‪ ،‬فجاء الصابئة المندائّيون والالت والعّزى وُهبل ومناة وإسا ف‬ ‫ونائلة والعشرات غيرهم‪ ،‬وجاء يسوع المسيح‪ ،‬والمانوّيون والحنا ف‪ ،‬يثم جاء النبي‬ ‫محمد الذي أتى بالدين السالمي‪ ،‬وتوّق ف ظهور الديانات أو قّل منذ ذلك الزمن‪ ،‬فمقد‬ ‫تعددت الطوائ ف والمذاهب والديان‪ ،‬حتى تحّول بعضنا إلى تمقديس الشيطان نفسه‬ ‫واعتبرو ه يصنواً للله‪ ،‬بل واّدعوا أنه هو من خلق النسان وليس ا!«‬ ‫»ولماذا توق ف أو قَّل ظهور اللهة والنبياء يا مولي؟«‬ ‫»لن محمد كان من الذكاء والعبمقرية بحيث سما بالدين السالمي إلى مكانة يستحيل أن‬


‫يرقى إليها أي دين آخر سماوي‪ .‬لمقد جّرد مفهوم الله إلى أبعد حدود المطلق‪ ،‬حين جعله‬ ‫موجوداً في كل زمان ومكان‪ ،‬فهل يثمة ما هو أعظم منه‪ .‬وهل يمكن أن يأتي أحد بمن هو‬ ‫أعظم منه؟!«‬ ‫»ل أظن يا مولي‪ ،‬وإن كن ت ل أفهم في الُمطلق! لكني فهم ت معنى أن يكون هذا الله‬ ‫موجوداً في كل زمان ومكان‪ ،‬لهذا هو عظيم‪ .‬اللهة الذين عرفتهم لم يكونوا بعظمته‪.‬‬ ‫لكن ماذا يعبد العالم اليوم يا مولي؟«‬ ‫»هنا ك ديانات كثيرة أيها الملك‪ ،‬لكن أشهرها وأكثرها انتشارًا‪ ،‬المسيحية والسالم‬ ‫والبوذية والهندوسية والطاوّية والكونفوشيوسّية‪ .‬ويثمة ماليين وربما عشرات أو مئات‬ ‫الل ف فمقط من العلمانيين أو المتنورين بعض الشيء أمثالي‪ .‬ل يؤمنون بأي من هذ ه‬ ‫الديانات‪ ،‬إل بمقدر ما هي تصّورات للبشر أنفسهم عن الوجود‪ ،‬ويعتبرون في نظر‬ ‫المتدّينين زنادقة وملحدين!«‬ ‫»وأنا يا مولي‪ ،‬ما وضعي الن بين هذ ه الديانات ُكّلها وبين المتنورين؟«‬ ‫»سؤالك وجيه أيها الملك‪ ،‬لكن الشمس حمي ت‪ ،‬وأنا عطش ت وجع ت وشّوب ت‪ ،‬وأريد أن‬ ‫أنتحر‪ ،‬والمقبر الذي حفرته لنفسي بني ت عليه ضريحا ً وقّبة لمحبوبتك‪ ،‬لذلك سأطلب إليك‬ ‫أن تحفر لي قبراً بدلً منه«‬ ‫»مولي! سأفعل لك ما لم يفعله مالئكي أو جنّي وربما إله لبشر‪ ،‬ولن أدعك تنتحر حتى‬ ‫لو اضطررت للعودة إلى سجني!«‬ ‫وحر ك ملك الملو ك شمنهور الجّبار يد ه في الهواء وإذا بالمكان يتحّول إلى روضة من‬ ‫الجنان‪ ،‬انبثمق ت منها مئات الشجار المثمرة والنباتات المختلفة‪ ،‬والورود والزهور‬ ‫الجميلة‪ .‬وتخللتها ينابيع‪ ،‬يجري فيها ماء كالسلسبيل‪ ،‬وعم ت أرجاءها نوافير من الّذهب‪،‬‬ ‫تر ّ‬ ‫ش الماء رذاذاً في التجاهات ُكّلها‪ ،‬وعّرش ت فوقها أقوا س قزح‪ ،‬وظللتها غيمة زرقاء‬ ‫ندّية‪ ،‬وفرش ت ممراتها بالسجاد والديباج‪ ،‬وأفردت فيها أرائك مجللة بالحرير الموّشى‬ ‫بخيوط الذهب‪ ،‬وامتدت في منتصفها مائدة بأطيب المأكولت‪ ،‬في أواٍن من الذهب‬ ‫الخالص‪ ،‬كان بينها ظباء محّمرة وفراخ بط ممقّمرة وخرا ف مشوّية وجديان ممقلّية‪،‬‬ ‫وفرّوج محشو بالرز والصنوبر واللوز‪ ،‬وطيور حجل‪ ،‬وفراخ حمام‪ ،‬وسمك وإقريد س‬ ‫وسلطات من كل أنواع الخضار‪ ،‬وفواكه ل يوجد مثلها إل في الجنان العادنة‪ ،‬وخمور‬ ‫لذيذة معّتمقة من زمن سليمان‪ .‬وقد أحاط ت المائدة عشر فتيات حورّيات من بنات ملو ك‬ ‫الجان‪ ،‬كأّنهن مالئكّيات أو من حور العين يرتدين يثيابا ً من الحرير الحمر الّشفا ف‪،‬‬ ‫ويتزيّن بأجمل الجواهر‪ ،‬وقد أطلمقن شعورهن على ظهورهن‪ ،‬وكّن دارعات ال ّ‬ ‫صدور‪،‬‬ ‫ضامرات الخصور‪ ،‬ممتلئات الردا ف‪ ،‬ممتشمقات المقوام‪ ،‬منتصبات السيمقان‪ ،‬بعيون سود‬ ‫وخضر وزر‪.‬ق مكّحلة‪ ،‬بأجمل اللوان مشّكلة‪ ،‬خدودهن موّردة‪ ،‬وأنوفهن من أجمل ما‬ ‫أبدع الخالق من ّ‬ ‫ضدة‪ .‬وشفاههن حمر كشمقائق الّنعمان‪ ،‬وأعناقهن كرقاب الغزلن‪،‬‬ ‫ونهودهن جامحة كذكور اليمام‪ ،‬وأيصابع أيديهن كأعواد الغيصالن أو قضبان الخيزران‪،‬‬ ‫وأظفارهن ُتبر‪.‬ق كاللؤلؤ مخ ّ‬ ‫ضبة بالمرجان‪ ،‬سبحان الخالق الدّيان‪ ،‬وقد تضّوع ت منهن‬ ‫رائحة العطور الّنفاذة بالعنبر‪ ،‬من عبمق ت في أنفه قال ا أكبر! فيا سعد من حواهن‪ ،‬وإلى‬


‫يصدر ه ضّمهن وألمقاهن‪ .‬ينسى أمه وأبا ه‪ ،‬وأّيام شمقا ه‪ ،‬والبي ت الذي رّبا ه‪ ،‬والبلد الذي‬ ‫حوا ه‪ ،‬وحّتى من خلمقه وسّوا ه!‪.‬‬ ‫بدا الديب لمقمان كأنه في حلم‪ ،‬إذ ليس من المعمقول أن تأتي الجنة إليه بهذ ه السهولة‪ .‬كان‬ ‫يمق ف في غاية الدهشة حين خاطبه ملك الملو ك‪:‬‬ ‫»تفضل يا مولي‪ ،‬يسّرني أن تكون ضيفا ً على أّول مائدة لي بعد يثاليثة آل ف عام من‬ ‫السجن‪ .‬آخر مائدة لي كان ت مع الغالية عستارت‪ ،‬وهي المائدة التي أودت بي إلى السجن‬ ‫وبعستارت إلى الموت‪ ،‬فمقد كان جواسيس ُسليمان لنا بالمريصاد«‬ ‫»هل تحاول إغوائي كي أك ّ‬ ‫ ف عن النتحار أيها الملك؟«‬ ‫»أظّن أن محاولة إغوائك ستكون أكبر من أن تتخّيلها يا مولي فيما لو أردت ذلك!«‬ ‫»وهل يثمة ما هو ُمغٍو أكثر مما أرى؟«‬ ‫»هذا ل شيء يا مولي!«‬ ‫وتمقّدم ت فتاتان يخلب جمالهما العمقول‪ .‬فمقّدمهما ملك الملو ك للديب لمقمان‪:‬‬ ‫»الميرة الحورية »نور السماء« أجمل جميالت الجن من بين الحورّيات‪ ،‬وابنة أكبر‬ ‫ملو ك الجن من بعدي الملك »حامينار« العظيم«‬ ‫وأشار إلى الفتاة الثانية وتابع‪:‬‬ ‫‪ ..‬والميرة »ظل المقمر« ابنة يثاني أكبر ملو ك الجن‪ ،‬يمكن أن تعتبرهما خليلتيك وتفعل‬ ‫بهما ما تشاء يا مولي‪ ،‬فهما في خدمتك وتح ت أمر ك‪ ،‬وإن شئ ت غيرهما من هؤلء أو‬ ‫من غيرهن جلب ت لك«‬ ‫»أشكر ك‪ ،‬تكفيني الميرة »نور السماء« وحدها‪ ،‬فمن يحوز على هذا الجمال الخار‪.‬ق قد‬ ‫يستحيل عليه أن يفكر في غير ه‪ ،‬وإن كن ت أرى فيه ما يمكن أن يغويني ويثنيني عن‬ ‫النتحار!«‬ ‫»آمل ذلك يا مولي«‬ ‫وهتف ت الميرة نور السماء‪:‬‬ ‫»شكراً لمولي لهذا الطراء‬ ‫»شكراً لمولي لهذا الطراء الذي لم أسمع أجمل منه وآمل أن يتّوج بثني مولي عن‬ ‫النتحار«‬ ‫»حتى لو انتحرت أّيتها الميرة‪ ،‬سأنتحر سعيداً لنني حظي ت بمشاهدة جمال مثل جمالك‬ ‫قبل انتحاري«‬ ‫فمقاطعهما ملك الملو ك طالباً إليهما الجلو س واستئنا ف الحديث‪.‬‬ ‫أخذ الديب لمقمان والميرة »نور السماء« مجلسيهما إلى المائدة‪ ،‬فيما جلس الملك‬ ‫شمنهور والميرة »ظل المقمر« في مواجهتهما‪.‬‬ ‫كان ت فتاتان تمقفان خل ف كل ايثنين للخدمة فيما توّزع ت باقي الفتيات على المائدة‪.‬‬ ‫مال ت الميرة نور السماء برأسها نحو الديب لمقمان وهمس ت بصوت عذب‪ ،‬أحس به‬ ‫يدغدغ مسامات جسد ه‪:‬‬ ‫»ماذا يرغب مولي؟«‬


‫التف ت الديب لمقمان إليها فغدا وجهه قريباً من وجهها‪ ،‬وشعر بالحياة تدعو ه إليها بكل‬ ‫جبروتها‪ ،‬همس بصوت خفي ف‪:‬‬ ‫»أرغب أن تكوني مليكة قلبي‪ ،‬بل وملكة الرض ُكلها‪ ،‬وأكون أنا حارسك!«‬ ‫نّدت شفتاها عن ابتسامة لم ير الديب أجمل منها في حياته‪:‬‬ ‫»شكراً للطفك يا مولي‪ .‬هل تفضل الخمر أم عصير الفواكه أم حليب ال ّ‬ ‫ظباء‪ ،‬قبل تناول‬ ‫الطعام؟«‬ ‫ ت حليب الظباء؟«‬ ‫»هل قل ِ‬ ‫»أجل يا مولي«‬ ‫»أنا لم أذقه في حياتي‪ ،‬ومع ذلك سأجّرب‪ ،‬ول مانع بكأ س من عصير البرتمقال أيضًا«‬ ‫»أمر مولي«‬ ‫مّدت الميرة نور السماء يدها إلى إبريق ذهبي‪ ،‬غير أن إحدى الفتاتين الواقفتين سارع ت‬ ‫إلى أخذ البريق فيما راح ت الخرى تمقّدم عصير البرتمقال‪.‬‬ ‫تذّو‪.‬ق الديب لمقمان الحليب بتناول رشفة يصغيرة‪ ،‬وحين وجد أنه أطيب من أي خمر‪،‬‬ ‫رفع الكأ س إلى فمه وراح يتجرعها إلى أن أنهاها‪.‬‬ ‫أح ّ‬ ‫س بحاجة ماّسة إلى سيجارة‪ .‬التف ت إلى نور السماء ليجد أنها تنتظر أوامر ه‪:‬‬ ‫»نفذت سجائري منذ ال ّ‬ ‫صباح‪ ،‬هل لي بسيجارة أيتها الميرة؟«‬ ‫»أي نوع تف ّ‬ ‫ضل يا مولي؟«‬ ‫»ماذا لديك؟«‬ ‫»كل أنواع الّسجاير والسيجار يا مولي«‬ ‫»هل لديك سيجار »هافانا« مث ً‬ ‫ال؟«‬ ‫وقام ت الميرة بحركة من يدها لتتموضع أمامه علبة مفتوحة من السيجار لم يعر ف كي ف‬ ‫ظهرت على الطاولة! ولم يعد قادراً على تصديق ما يجري‪ ،‬إذ لم يبق إل أن يطلب‬ ‫إحضار فيدل كاسترو نفسه ليتناول معه الفطور فيما لو أراد‪ .‬وشرع يتساءل في‬ ‫سريرته‪:‬‬ ‫»ل ُيعمقل أن تحدث كل هذ ه المعجزات في الواقع‪ .‬على أية حال إذا كان كل هذا ُحلما ً فال‬ ‫بُّد له من نهاية‪ ،‬ويا ليته جاء من قبل لينتحر في هذ ه الصحراء! لكن لعّل الحلم ابتدأ من‬ ‫البي ت‪ ،‬وهو الن ُهنا ك في الّسرير ويغ ّ‬ ‫ط في نوٍم عميق! مستحيل أن يكون عبور‬ ‫الصحراء حلمًا‪ ،‬لمقد سار طوال الليل‪ ،‬وتوّرم ت قدما ه‪ .‬إذا كان هنا ك حلم ما‪ ،‬فلم يبدأ إل‬ ‫بعد فتح المقممقم!«‬ ‫ألمقى نظرة نحو ملك الملو ك‪ ،‬كان يلتهم الطعام بشراهة فظيعة ويشرب الخمر من‬ ‫الباريق ومعظم الفتيات يمقمن بخدمته‪.‬‬ ‫س ملك الملو ك به ينظر نحو ه‪ ،‬فهت ف وفمه يمتلئ بالطعام‪:‬‬ ‫أح َّ‬ ‫»عفواً يا مولي‪ ،‬أنا لم آكل منذ يثاليثة آل ف عام«‬ ‫»يصّحة وعافية«‬ ‫»لماذا ل تأكل يا مولي؟«‬


‫»سآكل«‬ ‫وأشار إلى فتاة تمق ف على ممقربة منه أن تمقدم له شريحة من لحم الغزال وبعض شرائح‬ ‫الخيار والبندورة والفلفل الخضر‪.‬‬ ‫لم يذ‪.‬ق في حياته أطيب وأشهى من هذا الطعام‪ ،‬وعبثاً حاول أن يطرح التساؤلت‬ ‫الجنونية التي راح ت تنهال على دماغه‪:‬‬ ‫»إذا كان ما يجري ليس حلمًا‪ ،‬فهذا يعني أن الجن حمقيمقة وليسوا وهمًا‪ ،‬وأن الشيطان‬ ‫والمالئكة والمردة حمقيمقة أيضًا‪ ،‬وأن هؤلء يتمّتعون بمقدرات خارقة ويحيون في نعيم أين‬ ‫منه نحن معشر النس‪ ،‬دون أي رقيب أو حسيب! وإذا كان خل ف هؤلء قوة خالمقة فلماذا‬ ‫ف ّ‬ ‫ضلهم ا علينا نحن البشر؟!«‬ ‫قطع تساؤلته ملك الملو ك حين سأل‪:‬‬ ‫»ألن تجيبني عن سؤالي حول وضعي الن يا مولي؟«‬ ‫»سأجيبك أيها الملك‪:‬‬ ‫أن ت في نظر المسلمين كافر ما لم تسلم‪ .‬وفي نظر المسيحيين جاهل وُمضّلل ما لم تؤمن‬ ‫بالب والبن والروح المقد س‪ ،‬وفي نظر البوذيين روح يتنازعها الشر وتسعى إلى ملذاتها‬ ‫ول سبيل إلى هدايتك ما لم تنبذ مسراتك وعالم ملّذاتك وتدخل عالم الزهد والتمقش ف إلى‬ ‫حد مغر‪.‬ق في الفمقر وقتل الغرائز‪ ،‬كأن تتخلى حتى عن مالبسك وتنام على الريصفة‬ ‫وتح ت الشجار ول تمار س الجنس‪ ،‬وتتوّحد بروحك وجسد ك مع بوذا!«‬ ‫»أرجو ك يا مولي أف ّ‬ ‫ضل العودة إلى قممقمي أو أبمقى كما أنا على أن أتبع هذا الدين«‬ ‫»المر ل يختل ف كثيراً في الديان الثالث الخرى‪ ،‬أقصد الهندوسّية والطاوية‬ ‫والكونفوشيوسّية‪ ،‬إذ عليك أن تتخلى عن الكثير من مكتسباتك الدنيوية أو عن بعضها في‬ ‫أحسن الحوال«‬ ‫»أنا لن أتخّلى عن شيء يا مولي‪ ،‬فكل مكتسباتي وإمكانياتي حق لي!«‬ ‫»هذا غير ممكن ول في أي دين أيها الملك‪ ،‬ربما يمقبل بك عبدة الشيطان!«‬ ‫»أعبد الشيطان يا مولي؟ مستحيل! أنا ل أكر ه أحداً أكثر مما أكرهه!«‬ ‫»إذن ابق كما أن ت الن بال دين‪ ،‬أو ُعد لعبادة يهو ه وإيل وعشتاروت وغيرهم‪ ،‬طالما‬ ‫أّنك كن ت تعبدهم«‬ ‫»يا مولي‪ ،‬أنتم معشر البشر تخّليتم عنهم‪ ،‬وتريدني أنا وأتباعي أن نعود إلى عبادتهم‬ ‫بعد يثاليثة آل ف عام‍؟! هذ ه ليس ت عدالة يا مولي! ماذا عنكم أنتم‪ ،‬أقصد المتنّورين أل‬ ‫تضّمني إليكم إذا أردت؟«‬ ‫وراح الديب لمقمان يضحك‪.‬‬ ‫»لماذا تضحك يا مولي؟«‬ ‫»لنك في نظرنا مجرد وهم أيها الملك!«‬ ‫»وهم يا مولي؟ أل تراني أمامك؟«‬ ‫»لكن الخرين لم يرو ك‪ ،‬وحتى لو كن ت حمقيمقة‪ ،‬فنحن ل نشّكل طائفة أو دينا ً أو حزبًا‪،‬‬ ‫يمكن أن تطلق علينا جزافا ً »تيارًا« وإذا شئ ت النضمام إلى هذا التيار‪ ،‬يتوجب عليك‬


‫قراءة أل ف كتاب على القل من الكتب المختارة في الفلسفة والّديانات والساطير وعلم‬ ‫الجتماع وعلم النفس والدب والتاريخ وغير ذلك«‬ ‫»أل ف كتاب يا مولي‪ ،‬هذ ه لن أقرأها في قرن«‬ ‫»إذن تنضم إلينا بعد قرن‪ ،‬وإن كان في تأخير انضمامك إلينا خسارة كبيرة لنا ل يمكن‬ ‫تعويضها‪ ،‬فإذا ما تبّين أنك حمقيمقة‪ ،‬فمقد تساعدنا بمقوا ك الخارقة وعمقلك الذي ستصير عليه‬ ‫على تغيير مجرى الحياة على كوكب الرض«‬ ‫»بماذا تنصحني يا مولي؟«‬ ‫»أي دين تختار؟«‬ ‫»أجل يا مولي«‬ ‫»لماذا تصر على أن تتبع دينا ً ما؟«‬ ‫»لنني اعتدت على أن أتبع دينا ً ما يا مولي!«‬ ‫»حسنًا‪ ،‬إن شئ ت رأيي فأنا شخصياً ورغم إلحادي‪ ،‬أحب يسوع المسيح ومريم العذراء‪،‬‬ ‫وأجّل محمدًا وأفتخر به‪ ،‬وأحترم بوذا ومهاويرا وبراهما ولوتس وكونفوشيو س وشوانغ‬ ‫تسو وزرادش ت!«‬ ‫أطر‪.‬ق ملك الملو ك لبرهة يثم هت ف‪:‬‬ ‫»سأدخل السالم يا مولي«‬ ‫»لَِم اخترت السالم دون غير ه أيها الملك؟«‬ ‫»لحساسي أنه دين حق‪ .‬ولنني وجدت في كالمك ما يدفعني إليه أكثر مما يدفعني إلى‬ ‫الديانات الخرى!«‬ ‫»حمقا ً هل بدا كالمي كذلك؟«‬ ‫»هذا ما بدا لي يا مولي«‬ ‫»حسناً أيها الملك‪ ،‬إذا رأي ت ذلك فليكن«‬ ‫»ماذا يتوجب علي أن أفعل يا مولي؟«‬ ‫»عليك أن تفعل الكثير أيها الملك‪ ،‬لكن الن وعلى الفور يتوّجب عليك أن تنهض وترفع‬ ‫ُسّبابتيك وتردد بعدي‪ :‬أشهد أن ل إله إل ا وأشهد أن محمداً رسول ا«‬ ‫ونهض ملك الملو ك‪ ،‬وفوجئ الديب لمقمان بالميرة نور السماء والميرة ظل المقمر‬ ‫والفتيات الخريات يمقفن في خشوع ويهتفن مع ملك الملو ك وهن يرفعن ُسّباباتهن‪:‬‬ ‫»أشهد أن ل إله إل ا وأشهد أن محمداً رسول ا«‬ ‫وحين انتهوا كان يثمة أيصوات هائلة تتردد في الصحراء والسماء والرض ومن كافة‬ ‫الرجاء‪:‬‬ ‫»أشهد أن ل إله إل ا وأشهد أن محمداً رسول ا«‬ ‫تساءل الديب لمقمان بدهشة‪:‬‬ ‫»ما هذ ه اليصوات التي يضّج بها الكون أيها الملك ُمعلنة إسالمها؟«‬ ‫»إنها أيصوات أتباعي وأتباع أتباعي من الجن وقد دخلوا السالم معي يا مولي«‬ ‫»وهل جميع الجن أتباعك؟«‬


‫»ل يا مولي فأتباعي من الجان الُحمر فمقط«‬ ‫»وهل هنا ك جان غير حمر؟«‬ ‫يصفر‪ ،‬وجان خضر‪ ،‬وجان زر‪.‬ق يا مولي«‬ ‫»هنا ك جان سود‪ ،‬وجان ُ‬ ‫»ما شاء ا! وكم عدد أتباعك أيها الملك شمنهور؟«‬ ‫»أنا يا مولي أحكم على مائة أل ف ملك جّبار‪ ،‬وكل ملك منهم يحكم مائة أل ف جّني‬ ‫مغوار‪ ،‬وكل مغوار من هؤلء جميعاً تتبعه حاشية كبيرة من الرجال والنساء والبنين‬ ‫والبنات والحفاد والقارب والخدم والعوان والجواري والغلمان!«‬ ‫»يا للهول! كل هذا الجمع الهائل من أتباعك أيها الملك؟«‬ ‫»نعم يا مولي«‬ ‫»يبدو أنني أدخل ت إلى السالم هذا اليوم أكثر مما أدخل المسلمون إليه في أل ف‬ ‫وأربعمائة عام«‬ ‫»هذا سيكسبك رضا ا يا مولي العظيم«‬ ‫»العظيم أيضًا‪ ،‬أل يكفيك أن تخاطبني مولي‪ ،‬في السالم ليس يثمة عظيم ومولًى إل‬ ‫ا‪ ،‬وإن غدا كل ضباط الجيش والشرطة في عصرنا مهما يصغروا أسيادًا‪ ،‬وكل‬ ‫الّزعماء ‪ -‬والمسلمين منهم بشكل خاص – مهما جهلوا ُعظماء‪ .‬ماعدا ملكا ً واحداً أطلق‬ ‫على نفسه »خادم الحرمين!« يثم كفا ك شرب خمر‪ ،‬فهو في نظر المسلمين »رجس من‬ ‫عمل الشيطان«‬ ‫»رجس يا مولي«‬ ‫»أجل رجس أيها الملك!«‬ ‫»وماذا عن أرجاسي التي اقترفتها قبل السالم يا مولي؟«‬ ‫ب ما قبله« حسب قول رسول ا‪ ،‬أما ما بعد ه فعليك أن تلتزم بأركانه‬ ‫»السالم يج ّ‬ ‫الخمسة‪ ،‬ويثمة سنن وشرائع ينبغي عليك التمقّيد بها وإل لن تكون مسلما ً حمقًا!«‬ ‫»ومتى ستطلعني على كل ذلك يا مولي؟«‬ ‫»إذا لم أنتحر‪ ،‬أو إذا أّجل ت انتحاري أو تخلي ت عنه‪ ،‬سأطلعك«‬ ‫»هل هذا يعني أنك بدأت التفكير في العدول عن النتحار يا مولي؟«‬ ‫»وما زل ت أفكر فيه أيضا ً أيها الملك«‬ ‫وقطع ت حوارهما الميرة نور السماء‪:‬‬ ‫»أن ت لم تأكل يا مولي«‬ ‫»بل أكل ت كثيرًا‪ ،‬أنا في العادة ل آكل في الصباح‪ ،‬لكني سرت طول الليل‪ ،‬لذلك شعرت‬ ‫بالجوع«‬ ‫»ما رأيك بتفاحة؟«‬ ‫»طالما أنها من يد ك ممكن‪ ،‬يثم إنني أريد شرابا ً ساخنًا‪ .‬شاي إذا وجد«‬ ‫»أمر مولي«‬ ‫»لم أخبر ك أن اسمك جميل حمقًا«‬ ‫»هذا من جمال لط ف مولي!«‬


‫»أين تسكنين أيتها الميرة؟«‬ ‫»في العالم الّسفلي يا مولي!«‬ ‫»الّسفلي؟ مع الموتى؟«‬ ‫»بل مع الجن يا مولي«‬ ‫»لكن أين‪ ،‬تح ت الرض‪ ،‬وعلينا أن نجتاز بوابات ضخمة‪ ،‬ونتلو تعاويذ وكلمات سحرية‬ ‫كي تفتح لنا هذ ه البواب‪ ،‬إذا ما أردنا زيارتكم؟!«‬ ‫»ل يا مولي‪ ،‬ستجد نفسك وكأنك على كوكب آخر والرض تعلو ك!«‬ ‫»وهل جميع الجن يمقيمون في العالم السفل؟«‬ ‫»ل يا مولي‪ ،‬يثمة من يعيشون في السموات وفي الكواكب الخرى وعوالمها الّسفلى‪،‬‬ ‫إنهم موجودون في كل مكان تمقريبًا‪ ،‬لكنهم ل يظهرون على معشر النس إل بإرادتهم‪،‬‬ ‫أو باستحضار ال ّ‬ ‫طالسم والرواح!«‬ ‫سكر ملك الملو ك‪ ،‬ولم ينتبه له الديب لمقمان إل وهو ُيجلس الميرة »ظل المقمر« في‬ ‫ُحضنه وُيعّري فخذيها ويصدرها‪ ،‬هت ف له‪:‬‬ ‫»مهلك‪ ،‬ربما هذا حرام في السالم يا ملك الملو ك«‬ ‫ويبدو أن المر لم ير‪.‬ق له‪ ،‬فمقد هت ف منفع ً‬ ‫ال‪:‬‬ ‫»ُأ ف ما هذا‪ ،‬هل كل شيء في السالم رجس وحرام‪ ،‬كان عند سّيدي سليمان سبعمائة‬ ‫امرأة ويثاليثمائة سرّية!«‬ ‫»ذا ك قبل السالم‪ ،‬أما اليوم وحسب الشريعة السالمية ل يحق لك من الزوجات إلّ‬ ‫مثنى ويثالث ورباع‪ ،‬على أن تعدل فيما بينهن!«‬ ‫»أربع؟ أربع فمقط يا مولي‪ ،‬لعّلك تمقصد في اليوم؟«‬ ‫»في اليوم أيها الملك؟! في العمر ُكّله‪ .‬ويمكنك أن تستبدلهن إذا شئ ت‪ ،‬لكن يجب أن يتم‬ ‫المر حسب سّنة ا ورسوله! وُيمقال أن النبي »محمد« أحَّل متعتين‪ ،‬هما متعة الحج‬ ‫وزواج المتعة‪ ،‬غير أن الخليفة عمر بن الخطاب منعهما فيما بعد‪ ،‬والحج هو أحد أركان‬ ‫السالم الخمسة‪ ،‬سأعّلمك إّيا ه فيما بعد‪ ،‬إذا لم أنتحر طبعًا!«‬ ‫»وما الممقصود بهما يا مولي؟«‬ ‫ّ‬ ‫»أن تتزوج امرأة لتتمتع بجمالها لبعض الوق ت‪ ،‬ويثمة بعض الطوائ ف السالمية التي‬ ‫تبيح هذا الزواج‪ ،‬أما عن متعة الحج‪ ،‬فهي وكما أعر ف‪ ،‬أن تمار س الجنس خالل موسم‬ ‫الحج‪ ،‬ويمقال أن النبي في حجة الوداع قد قال‪» :‬ابدأوا بما بدأ ا عز وجل به«‪ ،‬فأتى‬ ‫الصفا فبدا به‪ ،‬يثم طا ف بين الصفا والمروة سبعًا‪ ،‬فلما قضى طوافه عند المروة‪ ،‬قام‬ ‫فخطب في أيصحابه وأمرهم أن يحّلوا ويجعلوها عمرة‪ ،‬وليتمّتعوا بالحج‪.‬‬ ‫الحديث في هذ ه المسائل يطول أيها الملك‪ ،‬وآمل أن ُيتاح لي أن ُأحّديثك عن ذلك ذات يوم‬ ‫إذا لم أنتحر!«‬ ‫»أرجو أل تنتحر يا مولي قبل أن تعّلمني السالم«‬ ‫»آمل ذلك أيها الملك«‬ ‫»وماذا عن الّسراري يا مولي‪ ،‬أل يح ّ‬ ‫ق لي أن أقتني من الّسراري ما أريد وأفعل بهّن‬


‫ما أشاء؟«‬ ‫»إن شئ ت الحق‪ ،‬يثمة ما ُيشير في كتاب ا إلى ما تملكه أيمان المسلمين‪ ،‬وقد فّسر‬ ‫بعضهم ذلك حسب أهوائهم وطّبمقو ه‪ ،‬فالخليفة هارون الرشيد كان لديه أجمل الّسراري‬ ‫وبعدد أيام السنة«‬ ‫»هذا ما أبحث عنه يا مولي فهؤلء الحوريات من الجواري!«‬ ‫»إذن يمكنك أن تفعل ما بدا لك أيها الملك!«‬ ‫»آ ه يا مولي‪ ،‬يثاليثة آل ف عام وأنا محروم من متعة النساء«‬ ‫»الحق معك‪ ،‬يجب أن تعّوض!«‬ ‫ونهض ملك الملو ك حامالً الميرة »ظل المقمر« يبن يديه وهو يعضوضها‪ ،‬طرحها فو‪.‬ق‬ ‫فراش ويثير من الديباج على ممقربة من الديب لمقمان‪ ،‬فصرخ الخر به‪:‬‬ ‫»ليس ُهنا يا ملك الملو ك«‬ ‫»أين إذن يا مولي‪ُ ،‬كنا نفعل ذلك معاً بالل ف في معبد الشمس في سبأ وفي معبد‬ ‫عشتار في بابل وأمام هيكل البعل وعشتروت حّتى أمام خيمة تابوب يهو ه«‬ ‫»أن ت الن في محراب السالم ولس ت في أي من معابد الجنس الممقد س هذ ه‪ ،‬ينبغي أن‬ ‫تستتر عن أعين الخرين!«‬ ‫»أستتر يا مولي‪ ،‬هل استتر النبي وأيصحابه حين تمّتعوا بالحج عند المروة؟ وا إني ل‬ ‫أعر ف كي ف تفهم السالم‪ ،‬يثّم كي ف تكون ُملحداً يا مولي وتحرص على تعاليم السالم‬ ‫كَّل هذا الحرص؟!«‬ ‫»إن شئ ت الحق‪ ،‬ل أعر ف فيما إذا استتر الّنبي ورفاقه حين تمّتعوا بالحج‪ ،‬لكني أعر ف‬ ‫أن طمقو س الحج هي أقرب إلى الُعري الجماعي منها إلى التسّتر‪ ،‬يثم أيها الملك أن ت من‬ ‫اختار السالم وأرى أن من واجبي تجاهك أن أعّلمك إيا ه على ُأيصوله وأطلب إليك التمقيد‬ ‫بتعاليمه ولو قدر المكان!«‬ ‫»ليكن يا مولي‪ ،‬سآخذ الفتيات وأبتعد عنك إلى تح ت شجرة‪ ،‬أدعو ك لن تتمتع بجمال‬ ‫الميرة نور السماء يا مولي‪ ،‬وتنسى أمر النتحار ولو لبعض الوق ت«‬ ‫»سأحاول لكن ل تتأخر أريد أن أحسم المسألة‪ ،‬إذ ل ُيعمقل أن أظّل معلمقا ً بين هاجسي‬ ‫الحياة والموت«‬ ‫ولم يعر ه الملك شمنهور آذاناً يصاغية‪ ،‬حمل الفتاة وأشار إلى الخريات أن يتبعنه‪ ،‬شرع‬ ‫في تعريتهن تح ت شجرة على مرأى منهما‪.‬‬ ‫مّدت الميرة نور السماء يدها وضّم ت الديب لمقمان‪ .‬قّبلها قبلتين خفيفتين على خّدها‬ ‫وعنمقها وألمقى رأسه على يصدرها‪ ،‬همس‪:‬‬ ‫»لم أكن أعر ف أن يثمة حوريات بين الجن‪ ،‬هل كلكن بهذا الجمال؟«‬ ‫»ل يا مولي‪ ،‬فثمة من هُّن قبيحات«‬ ‫»يبدو أنك ما تزالين يصغيرة‪ ،‬كم عمر ك؟«‬ ‫»ستة آل ف عام يا مولي!«‬ ‫لم يصّد‪.‬ق الديب لمقمان ما سمعه‪ ،‬رفع رأسه عن يصدر الميرة وتساءل بدهشة‪:‬‬


‫»هل تمقولين الصد‪.‬ق أيتها الميرة؟«‬ ‫»نحن ل نعر ف الكذب يا مولي!«‬ ‫»ستة آل ف عام! هل ُيعمقل هذا؟ يبدو أنك بجيل شمنهور ملك الملو ك«‬ ‫صغر«‬ ‫»نعم أنا بجيله وكّنا نتداعب معا ً في ال ّ‬ ‫»ولم تتزوجي؟«‬ ‫»ل‪ ،‬لمقد اخترت مسامرة الملو ك يا مولي‪ ،‬مع أن كثيرين طلبوني للزواج ولم أقبل«‬ ‫»أنا لس ت ملكًا‪ ..‬لماذا أحضرو ك لي؟«‬ ‫»ُأحضرت إليك من قبل ملك الملو ك نفسه يا مولي«‬ ‫أطر‪.‬ق الديب لمقمان للحظات وهو يعيد رأسه إلى يصدر الميرة لينعم بلّذة الد فء‪ ،‬فمقد‬ ‫ضّمته برفق وراح ت تملس على يصلعته وكأّنه طفل!‬ ‫»كم من الّسنين تحيون أيتها الميرة؟«‬ ‫»نحن ل نموت يا مولي ول نشيخ‪ ،‬إل بعد آل ف آل ف العوام!«‬ ‫يصعق الديب لمقمان للمرة الثانية‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫»ل تموتون ول تشيخون‪ ،‬وتنعمون بُكل ملذات الحياة وطّيباتها‪ ،‬وتحوزون قدرات‬ ‫خارقة‪ ،‬ونحن معشر النس نشمقى منذ آل ف الّسنين كي ُنطيل متوسط عمر النسان‬ ‫بضعة أعوام‪ ،‬ونؤّجل شيخوخته بضعة أعوام دون جدوى‪ .‬أي أسرار هذ ه التي تكتن ف‬ ‫الوجود من حولنا‪ .‬لمقد قيل لنا »ُكّل من عليها فان ويبمقى وجه رّبك ذو الجالل والكرام«‬ ‫»أظن أّن الممقصود بمن عليها يا مولي من ُهم على وجه الرض وليس من تحتها أو‬ ‫أسفلها‪ ،‬وليس من هم في السموات أيضًا‪ ،‬يثم إن ذلك لن يحدث إل يوم المقيامة«‬ ‫»وهل تفمقهين في السالم يا نور السماء؟«‬ ‫ُ‬ ‫»قليالً يا مولي‪ ،‬فمقد زرت مّكة ورأي ت محّمدًا‪ ،‬وحضرت »بدرًا« و»أُحدًا« وشهدت‬ ‫فيما بعد حروب الّردة وحرب الجمل بين علي وعائشة وغير ذلك!«‬ ‫»ولم ُتسلمي؟«‬ ‫»ارتأى ملوكنا أن ننتظر فك أسر ملكهم كي يمقرروا أمرهم‪ ،‬رغم أن بعض ال ّ‬ ‫طوائ ف‬ ‫الخرى من الجن قد أسلم ت منذ يصدر السالم وحارب ت مع محّمد‪ .‬على أية حال أنتم‬ ‫معشر البشر تظّلون متفّوقين علينا بالعمقل والروح والخُلق والجمال«‬ ‫»كي ف أيتها الميرة‪ ،‬أنا لم أَر بين بني البشر من هي أجمل منك‪ ،‬ويبدو أنك تفهمين‬ ‫مثلنا‪ ،‬أّما أرواحنا وأخالقنا فمقد فسدت وتعّفن ت منذ زمن طويل‪ ،‬ول أظّن أن يثّمة أمالً في‬ ‫إيصالحها«‬ ‫»يا مولي‪ ،‬ل يغّرنك جمالي‪ ،‬فثّمة بين النس من هُّن أجمل مّني‪ ،‬يثّم إّن عمقلي يصغير‬ ‫ومعرفتي سطحيّة‪ ،‬ول أملك المقدرة على المحاكمة الخ ّ‬ ‫القة‪ .‬أنا أكاد أكون مجّرد مشاِهدة‬ ‫ومتلمقية لكل ما يجري حولي‪ ،‬ومنّفذة لرادة من يتحّكمون بي«‬ ‫»أيتها الميرة نور الّسماء‪ ،‬يثمة أمم تعيش بيننا نحن البشر لم تفّكر منذ آل ف الّسنين‪،‬‬ ‫بعضها توّق ف عمقلها عند أفكار مّر عليها أكثر من يثاليثة آل ف عام‪ ،‬وبعضها منذ أل ف‬ ‫وأربعمائة عام ونّي ف!«‬


‫»لعّلهم من الجن يا مولي وهم ل يعرفون!«‬ ‫»بل من النس‪ ،‬فهم ل يملكون أية قدرات خارقة«‬ ‫انبعث ت آهات ويصرخات الفتيات من تح ت الشجرة التي لجأ إليها ملك الملو ك‪ .‬نظر‬ ‫الديب لمقمان والميرة نور الّسماء‪ ،‬وإذا به يكّوم الفتيات التسع تحته في أوضاع عجيبة‬ ‫وقد أخذ شكله شكل مارد يصغير‪ ،‬وانمقض عليهن كوحش وراح ينهش أجسادهن ويطعن‬ ‫هذ ه يثم تلك بمقضيب كهراوة الفأ س‪ ،‬وهو يزأر كأسد‪.‬‬ ‫يصرخ به الديب لمقمان‪:‬‬ ‫»ل تفتك بالفتيات يا ملك الملو ك«‬ ‫قطع الملك زئير ه ليهت ف بصوت هائل دون أن يلتف ت أو يتوّق ف عن الطعن‪:‬‬ ‫»ل تخ ف يا مولي‪ ،‬إنّهن يحببن ذلك مهما عن ف‪ ،‬فهن جنّيات!«‬ ‫ضحك الديب لمقمان لول مرة دون أن يفار‪.‬ق الحزن محيا ه‪ ،‬وأمعن في الضحك حين‬ ‫تخّيل للحظات ملك الملو ك يأخذ شكله الجّني الكبر ويشِهُر عضواً كالصاروخ ويشرع‬ ‫في طعن الُفروج‪ ..‬تساَءل ت الميرة عّما يضحكه فتساءل بدور ه‪:‬‬ ‫»هل تمارسون الحب وأنتم في أشكالكم الجّنية الضخمة؟«‬ ‫ضحك ت الميرة وهي تهت ف‪:‬‬ ‫»بل إّن ُمعظمنا ل يمارسونه إلّ كذلك يا مولي!«‬ ‫أطبق الديب لمقمان راحتي يديه على جبينه وهو يتساءل ضاحكًا‪:‬‬ ‫»غير ممكن! إّن خيالي بالكاد يمقارب الشكل الذي تبدون عليه حينئذ«‬ ‫»لن تحتاج إلى الخيال يا مولي‪ ،‬سترى ذلك كثيراً إذا بمقي ت على قيد الحياة!«‬ ‫»أظن أنني لن ُأسر لمشاهدة كائنات بحجم الجبال تطبق على بعضها!«‬ ‫»ل تستطيع أن تحكم قبل أن ترى يا مولي«‬ ‫ ت بهذا الحجم الهائل؟«‬ ‫»وهل أن ت تمارسين الحب أيضا ً وأن ِ‬ ‫»أحيانا ً يا مولي«‬ ‫»وما الحجم الذي تبدين فيه حينئذ؟«‬ ‫»أستطيع أن أبدو بأحجام مختلفة‪ ،‬يصغيرة جداً وكبيرة جدًا‪ ،‬فأنا قادرة أن أبدو أيصغر مما‬ ‫أنا عليه الن‪ ،‬كأن أكون طفلة في العاشرة مثالً وبحجم إنسّية‪ ،‬أو آخذ شكلي الجّني‬ ‫الكبر وسأكون حينئذ بحجم جبل كبير!«‬ ‫»وكم يكون حجم نهد ك حينئذ؟«‬ ‫»حجم حلمة نهدي تكون حينئذ بحجم قُّبة يا مولي!!«‬ ‫»وهل في ممقدوري حينئذ أن أجلس على تلك الحلمة لداعب نهد ك يثم أتدحرج وأتمقّلب‬ ‫عليه«‬ ‫»بالتأكيد يا مولي«‬ ‫وأغر‪.‬ق الديب لمقمان في الضحك‪ ،‬ولم يمقدر على التوق ف ليكمل الحوار مع الميرة‪،‬‬ ‫فخرج الكالم من فمه كلمة كلمة وقد تخلله ضحك لم يضحك مثله في حياته وهو يتمّثل‬ ‫تلك الصورة الُخرافّية‪:‬‬


‫»أتوّسل‪..‬إليك‪..‬أ ّ‬ ‫ل‪..‬تظهري‪ ..‬أمامي‪ ..‬بهذا‪ ..‬الحجم‪ ..‬كي‪ ..‬ل‪ ..‬أضطر‪ ..‬إلى استخدام‪..‬‬ ‫مصعد‪ ..‬للتنّمقل من‪ ..‬عضو‪ ..‬في جسد ك‪ ..‬إلى عضو آخر!!«‬ ‫»سأنّمقلك بيدي يا مولي!«‬ ‫»وأية متعة ستجدينها معي وأنا لن أكون بالنسبة إلى حجمك أكبر من فأر أو بعوضة؟!«‬ ‫»ما أدرا ك‪ ،‬قد نجد في ذلك متعة فريدة؟!«‬ ‫»أية متعة هذ ه؟ لكن‪ ،‬أل تستطيعين تكبيري لبدو بحجمك؟«‬ ‫»ل أعر ف يا مولي‪ ،‬فأنا لم أختبر قواي من قبل في هذ ه المسألة«‬ ‫»خسارة‪ ،‬إذا لم نتمكن من تكبير نفسي بأي شكل من أجلك!«‬ ‫»قد نجد حالً إذا ما رغبنا في ذلك ذات يوم يا مولي«‬ ‫»آمل ذلك أيتها الميرة«‬ ‫وهتف ت الميرة نور السماء وهي تضّمه إليها من جديد‪:‬‬ ‫»ماذا في ميسوري الن أن أفعل لسعد مولي وأرا ه يضحك ويبتسم دائمًا«‬ ‫»ل أظن أّن في ممقدور ك أن تبلغي بي السعادة التي أنشدها‪ ،‬ومع ذلك فإّن وجود ك معي‬ ‫يريحني ويتيح لمسحة من السعادة أن تتسلل إلى نفسي‪ ،‬الن أشعر أنني متعب جداً‬ ‫وأتمنى لو أنام قليالً إلى أن يفرغ الملك من مضاجعاته‪ ،‬رّبما ستكون هذ ه رغبتي الخيرة‬ ‫قبل أن أوّدع هذ ه الّدنيا«‬ ‫»أمر مولي«‬ ‫وحّرك ت الميرة نور الّسماء يدها في الهواء‪ ،‬وإذا بسرير واسع مكلل بالحرير والديباج‬ ‫وتظّلله أزهار المقرنفل والياسمين والجوري‪ ،‬ينتصب تح ت شجرة زيزفون وارفة‬ ‫الظالل‪ ..‬ولم يتنّبه الديب لمقمان لذلك إل والميرة تحمله بين يديها وتضجعه عليه وتمقّبله‬ ‫على جبينه وتضطجع إلى جانبه وتهمس في أذنه‪:‬‬ ‫»أل تشعر يا مولي برغبة في مواقعتي‪ ،‬هذا يساعد ك على أن تنام براحة وهدوء«‬ ‫س بأنفاسها العطرة تسري كالخّدر في جسد ه‪:‬‬ ‫أح َّ‬ ‫»إن ذلك ليسعدني أيتها الميرة‪ ،‬لكني متعب جدًا‪ ،‬والمواقعة عندي تتم عادة في ظل‬ ‫قدسّية خا ّ‬ ‫يصة‪ ،‬ل يتاح لي الن توفيرها‪ ،‬وأعد ك إذا ما عدل ت عن النتحار أن نفعل ذلك‪،‬‬ ‫ق إلى جانبي إلى أن أنهض من النوم‪ ،‬فوجود ك يدخل الطمأنينة إلى نفسي«‬ ‫لكن اب ِ‬ ‫»أمر مولي«‬ ‫وبادلته قبالت خفيفة ساحرة‪ ،‬وراح ت تملس على ما تبّمقى من شعر حول يصلعته إلى أن‬ ‫غفا‪.‬‬ ‫||||||||‬ ‫|||||||‬ ‫||||||‬ ‫|||||‬


|||| |||


‫رؤيا شيطانية!‬ ‫أقبل ملك ملو ك الجان الُحمر »شمنهور الجّبار« يتعتعه الّسكر والنها ك من جّراء‬ ‫المعركة الجنسّية التي خاضها مع الفتيات الّتسع اللواتي بَ​َدون منهكات بدورهن‪ ،‬وحين‬ ‫رأى الديب لمقمان نائماً والميرة »نور السماء« تضطجع إلى جانبه ظّن أنه واقعها‪،‬‬ ‫فأشار إليها أن تنهض ليواقعها بدور ه‪ ،‬فتأّب ت عليه ورجته أن يسك ت كي ل يزعج مولها‬ ‫ومول ه‪.‬‬ ‫امتعض الملك شمنهور وتفّو ه ببضع كلمات نابية جرح ت شعور الميرة نور السماء‪،‬‬ ‫فنهض ت عن السرير بهدوء واقتادت الملك شمنهور من يد ه لتبعد ه عن مرقد الديب‬ ‫لمقمان‪ ،‬وخاطبته بصوت خفيض‪:‬‬ ‫ ت على يديه من سجنك ال ّ‬ ‫»لماذا أيها الملك توّد أن تخون الرجل العظيم الذي خرج َ‬ ‫طويل‪،‬‬ ‫أل يكفيك ما ضاجع ت من حورّيات الجن هذا اليوم‪ ،‬والل ف غيرهن قبل سجنك؟ أل‬ ‫يكفيك أنك ضاجع ت »بلمقيس« وابنة فرعون و»عستارت« ومئات السّيدات والّسراري‬ ‫من نسوة سليمان‪ ،‬والمئات غيرهن من بنات النس؟! وإذا كن ت تظن أّنك تنتمقم من‬ ‫سليمان لمقسوته معك وتجّبر ه عليك‪ ،‬فبماذا قسا عليك هذا الرجل الطّيب الذي لم يعرض‬ ‫عليك إل أن تكون ُحّراً طليمقا ً دون أن ُيسّخر ك أحد من النس أو حتى المالئكة أو‬ ‫الشياطين أو الجن لخدمته؟!«‬ ‫ويبدو أن الملك شمنهور أدر ك أن يثمة سوء تفاهم في المسألة‪:‬‬ ‫»عفواً أيتها الميرة‪ ،‬هل اتخذ ك مولي زوجة له أو جارية أو خليلة؟!«‬ ‫»حتى لو لم يتخذني إل مجّرد خادمة له‪ ،‬ألم يكن من الحرى أن تعر ف رأيه في المر‬ ‫قبل أن تطلب مواقعتي؟«‬ ‫أطر‪.‬ق الملك شمنهور للحظات ويبدو أّنه ندم‪:‬‬ ‫»أعتذر أّيتها الميرة نور السماء‪ ،‬أعد ك أن هذا لن يتكرر يثانية دون موافمقة مولي‬ ‫وموافمقتك!«‬ ‫»أعر ف مدى طيبتك أّيها الملك‪ ،‬لكنك في بعض الحيان تخرج عن طور ك«‬ ‫وتناهى يصوت الديب لمقمان يصارخا ً مناديا ً نور الّسماء‪ ،‬فأحاط ت الجنّيات سرير ه‬ ‫وهرع ت الميرة وهي تهت ف »أمر مولي«‬ ‫كان الديب لمقمان يلهث والعر‪.‬ق يتصبب من وجهه‪ .‬شرع ت الجنّيات يهّوين عليه‬ ‫بمنّشات من ريش الّنعام فيما نور السماء تجف ف عرقه بمنديل من الحرير الناعم الخفي ف‪.‬‬ ‫طلب ماء فأسمقته بنفسها‪ ،‬يثم أمسك يدها ووضعها على يصدر ه‪ .‬حّر ك عينيه في‬ ‫محجريهما باحثاً عن الملك شمنهور فشاهد ه يمق ف خل ف الفتيات المتحّلمقات حول سرير ه‪.‬‬ ‫تساَءل ت الميرة نور السماء والملك شمنهور عّما إذا ُيعاني من شيء‪ ،‬فتنّهد وهت ف‬ ‫بصوت خفيض‪:‬‬


‫»رأي ت ُحلما ً رهيبًا‪ ،‬شاهدت نفسي في حضرة ا والّنبي محمد ويسوع المسيح ومريم‬ ‫العذراء‪ ،‬وعشتاروت وإيل ورع وآبسو ومردوخ وزيو س ومئات اللهة والنبياء‪،‬‬ ‫تجّول ت في العوالم الّسفلّية والعلوّية‪ ،‬قابل ت آل ف العظماء والمفّكرين من الفالسفة‬ ‫والدباء والعلماء‪ ،‬شاهدت الجّنة والنار‪ ،‬شاهدت أكوانا ً غير كوننا وفيها بش ٌر متمقّدمون‬ ‫علينا بآل ف الّسنين‪ ،‬ويعيشون في رفا ه عظيم‪ ،‬وشاهدت أكوانا ً عجيبة متخّلفة عّنا‪،‬‬ ‫ويحكمها آلهة ل يرحمون‪ ،‬خض ت معهم ُحروباً مهولة‪ .‬شاهدت ماليين السما ك الطائرة‬ ‫في فضاء ما‪ ،‬وشاهدت خيو ً‬ ‫ل طائرة بأجنحة يركبها المالئكة‪ ،‬وشاهدت ظباء يركبها‬ ‫الشياطين‪ .‬التمقي ت الشيطان إبليس فمقادني إلى أكوان وعوالم ساحرة‪ .‬شاهدت فيها‬ ‫ض كالجّنة في كوكب مجهول‪ .‬شاهدت‬ ‫مخلوقات لم أعر ف ما هي‪ ،‬إلى أن قادني إلى رو ٍ‬ ‫فيه مئات الفتيات العاريات اللواتي لم أَر أجمل منهن‪ ،‬ولم أسمع يوما ً عن جمال بهذا‬ ‫المقدر من الّروعة والكمال حتى لدى حواري الجّنة‪ ،‬وما أن ألمقاني بين حشد منهن حتى‬ ‫انمق ّ‬ ‫ض ت علّي إحداهن وطرحتني فوقها‪ ،‬وفيما كن ت أغر‪.‬ق في جمال جسدها راح ت‬ ‫تتحّول إلى أفعى مرعبة تلت ف حول جسدي وعنمقي‪ ،‬فصرخ ت لنهض من نومي وأجد‬ ‫نفسي ُهنا على الَّسري‍ر!«‬ ‫هتف ت الميرة نور السماء‪:‬‬ ‫»رّبما تكون أضغاث أحالم يا مولي«‬ ‫فهت ف ملك الملو ك‪:‬‬ ‫»بل إنها بعض العوالم التي سأقّلك إليها يا مولي«‬ ‫ونهض الديب لمقمان ليجلس في السرير ويهت ف‪:‬‬ ‫»ويحك أّيها الملك‪ ،‬حمقاً لمقد خلدت إلى النوم وأنا أفّكر عّما إذا في ممقدور ك أن تنمقلني إلى‬ ‫بعض هذ ه العوالم‪ ،‬إذا ما عدل ت عن النتحار«‬ ‫»سأفعل كل ما بوسعي يا مولي«‬ ‫»هل في ممقدور ك أن تمقّلني إلى هذ ه العوالم أّيها الملك؟«‬ ‫»إن لم يكن جميعها فمعظمها يا مولي«‬ ‫»ماذا تمقصد بمعظمها؟«‬ ‫»ل أجزم فيما إذا سنتمّكن من الويصول إلى العرش اللهي والسماء السابعة‪ ،‬أو حّتى‬ ‫الجّنة والنار«‬ ‫»أمر مؤس ف إذا لم نتمّكن أيها الملك«‬ ‫»سأحاول بكل طاقتي يا مولي«‬ ‫»وما هي العوالم التي تجزم بممقدرتك على الويصول إليها أيها الملك؟«‬ ‫»جميع العوالم الّسفلى ومعظم العوالم الُعليا‪ ،‬لكن لماذا ستجّشم نفسك كل هذا العناء يا‬ ‫مولي«‬ ‫»يمكنك المقول أنني أسعى لضافة شيء إلى الحمقيمقة أيها الملك«‬ ‫»أي حمقيمقة يا مولي؟«‬ ‫»الحمقيمقة المطلمقة التي أمضى النسان دهوراً من عمر ه في البحث عنها«‬


‫»لم أفهم يا مولي«‬ ‫»الحمقيمقة التي ما بعدها حمقيمقة أّيها الملك‪ ،‬حمقيمقتي‪ ،‬حمقيمقتك‪ ،‬حمقيمقتنا‪ ،‬حمقيمقة النبياء‪،‬‬ ‫اللهة‪ ،‬حمقيمقة الوجود برّمته!«‬ ‫»وهل يجدي الويصول إلى الحمقيمقة أو شيء منها نفعا ً يا مولي؟«‬ ‫»كي ف ل يجدي أّيها الملك؟ أل يجدي أن نعر ف أنفسنا ونعر ف العالم من حولنا بشكل‬ ‫أفضل؟ أل يجدي أن نعر ف الغاية التي وجدنا نحن من أجلها؟ أل يجدي أن نعر ف سَّر‬ ‫هذا الوجود؟!«‬ ‫»وهل هذا بعض ما دفع مولي إلى النتحار؟«‬ ‫»ل أّيها الملك‪ ،‬إن منعي من الَّسعي إلى الحمقيمقة‪ ،‬وإضافة شيء إليها هو أهم السباب‬ ‫التي دفعتني إلى النتحار‪ ،‬فأنا كأديب أدرك ت أّن غايتي في هذا العالم هي البحث عن هذ ه‬ ‫الحمقيمقة‪ ،‬وهذا ل يتأتى لي إلّ عبر الّدراسة والبحث والتفكير‪ ،‬ومن يثّم كتابة ما فّكرت فيه‬ ‫يصل ت إليه‪ ،‬المؤس ف أّيها الملك أن بالدنا تمنع الكتابة التي من هذا النوع‪ ،‬انطالقا ً‬ ‫وما تو َّ‬ ‫من أّن النا س تو ّ‬ ‫يصلوا بوساطة النبياء والمرسلين إلى حمقيمقة ا وحمقيمقة الوجود كمخلو‪.‬ق‬ ‫من قبل هذا الله‪ ،‬وينبغي علينا أن نؤمن بذلك‪ ،‬شئنا أم أبينا‪ ،‬وينبغي علينا أن نؤمن‬ ‫بالّسالطين الذين يؤمنون بذلك شئنا أم أبينا‪ ،‬مما أدى إلى أن يفمقد وجودنا غايته‪ ،‬ولنغدو‬ ‫مجّرد ببغاوات‪ ،‬نردد الكالم ذاته الذي يرددونه منذ آل ف السنين‪ ،‬ونهت ف بالَّتعابير ذاتها‬ ‫التي ما تزال سارية المفعول‪ ،‬ونتضاجع حسب الّشرائع ذاتها‪ ،‬ونأكل ونشرب وننجب‬ ‫حسب ما تجيز ه هذ ه الشرائع‪ ،‬لمقد ويصل ت المور إلى حد غدا فيه الواحد مّنا مثل الخر‪،‬‬ ‫نسخة طبق اليصل عنه‪ ،‬يفّكر بطريمقته‪ ،‬ويتكّلم بطريمقته‪ ،‬حّتى غدونا نتكّلم معا ً في آن‬ ‫واحد‪ ،‬ونضرط معًا‪ ،‬ونتبول معًا‪ ،‬ونتبّرز معًا‪ ،‬ونتضاجع معًا‪ ،‬والنّسوة منا يحملن ويلدن‬ ‫معًا‪ ،‬إلى آخر ما هنالك من هذا التناسخ الفظيع!! أنا شخصيا ً ب ّ‬ ‫ ت ممقتنعا ً أنه لم يعد ُهنا ك‬ ‫أية قيمة لوجودي‪ ،‬حتى لو ُأسكن ت المقصور‪ ،‬وُأضجع ت ضامرات الخصور‪ ،‬وُأسمقي ت‬ ‫صد ف الغريبة التي شاَءت أن أعثر عليك‬ ‫أطيب الخمور‪ ،‬لذلك قررت النتحار‪ ،‬ولول ال ّ‬ ‫وأحرر ك أّيها الملك‪ ،‬لكن ت الن في عالم الموات‪ ،‬مع أنني مازل ت أش ّ‬ ‫ك أيها الملك‪ ،‬أّن‬ ‫كَّل ما يجري ليس أكثر من حلم عجيب«‬ ‫»ولَِم ويصل ت المور بكم إلى هذا الحد يا مولي‪ ،‬ولم ألغيتم عمقولكم التي ف ّ‬ ‫ضلكم ا عّنا‬ ‫بها؟«‬ ‫»فهمنا المقايصر للديانات أّيها الملك‪ ،‬وافتمقارنا إلى ُحّرية العمقل والّزعماء العظماء‪ ،‬منذ‬ ‫رحيل الّنبي محّمد!«‬ ‫»أل ف وأربعمائة عام‪ ،‬ولم يظهر بينكم عظيم واحد بعد محّمد يا مولي؟«‬ ‫»للس ف لم يظهر‪ ،‬حتى في الكرة الرضية ُكّلها لم يظهر‪ ،‬لمقد فسد النسان أيها الملك‪،‬‬ ‫وبلغ أرذل مستويات النحطاط!«‬ ‫ُ‬ ‫»اعتبرني يا مولي ومنذ هذ ه اللحظة طوع يديك‪ ،‬إن شئ ت أمّلكك الرض بما عليها‪،‬‬ ‫وإن شئ ت أنمقلك إلى العوالم ا ُ‬ ‫لخرى«‬ ‫»ُقل َ‬ ‫ ت إن شئ ت تمّلكني الرض أيها الملك؟«‬


‫»أجل يا مولي«‬ ‫»كي ف؟«‬ ‫»نزح ف عليها بأل ف أل ف جّني مغوار!«‬ ‫»هل ستعيدنا إلى البطش أّيها الملك؟ أنا هارب من البطش والمقمع!«‬ ‫»ألم تمقل إّن النسان فسد يا مولي؟«‬ ‫»لكن إيصالحه لن يتّم بالبطش أيها الملك«‬ ‫»ولماذا تصلحه يا مولي طالما أنه فسد‪ ،‬اقتله وأرح نفسك منه! ألم تخبرني أنه أفمقد ك‬ ‫مبررات وجود ك؟ ألم تخبرني أّنه غدر بك وسلب أرضك ومالك ولم يعد يتعّر ف‬ ‫عليك؟!«‬ ‫»ومع ذلك لن أبطش به أّيها الملك‪ ،‬ولن أبطش حتى بالّسالطين الذين أذاقونا المهانة‬ ‫والذّل ألوانًا«‬ ‫»إذن لن تفعل شيئا ً بكوكب الرض يا مولي؟«‬ ‫»بل سأفعل الكثير‪ ،‬لكن ليس من ُهنا‪ ،‬من الكوكب الذي سأقيم عليه في الفضاء‬ ‫الخارجي‪ .‬الن أريد أن أعر ف شيئا ً عن مدى قّوتك‪ ،‬لن في نّيتي أن أفعل شيئا ً لبناء‬ ‫الرض قبل أن تمقّلني إلى الفضاء الخارجي«‬ ‫»أمر مولي«‬ ‫أخرج الديب لمقمان مسّدسه‪:‬‬ ‫»هل تعر ف ما هذا أّيها الملك؟«‬ ‫»ل يا مولي«‬ ‫وهتف ت الميرة نور السّماء‪:‬‬ ‫»أنا أعر ف يا مولي‪ .‬إنه سالح قاتل رأيته مع معشر النس«‬ ‫»هل تجيدين استخدامه؟«‬ ‫»أجل يا مولي«‬ ‫ومّد يد ه بالمسّد س طالبا ً إليها أن تطلق منه طلمقة‪.‬‬ ‫يصّوب ت الميرة نحو كا س زجاجّية على المائدة وأطلمق ت النار‪ ،‬تنايثرت الكأ س واندلق‬ ‫الخمر‪.‬‬ ‫هت ف الملك شمنهور بدهشة‪:‬‬ ‫»أنا لم أَر هذا الّسالح في عهد سليمان يا مولي«‬ ‫»لم تَر شيئا ً بعد من السلحة الفّتاكة‪ ،‬التي في ممقدورها أن تدّمر كوكب الرض بكامله‬ ‫عشرين مّرة!«‬ ‫»ألم تمقل أّن عمقل النسان توّق ف يا مولي؟«‬ ‫»لم أقصد أّنه توق ف في كل مكان أيها الملك‪ ،‬كما لم أقصد أنه توّق ف عن التفكير في‬ ‫المجالت ُكّلها‪ ،‬المهم الن أنني أريد ك أن تع ّ‬ ‫طل هذا السالح دون أن تمّسه«‬ ‫»هذا شيء أكبر من طاقتي حّتى لو أخذته بيدي يا مولي‪ُ ،‬مرني أن أزلزل الجبال‪ ،‬أن‬ ‫أهدم المدن‪ ،‬أن أنمقلك إلى السماء أن‪«..‬‬


‫وقاطعه الديب لمقمان‪:‬‬ ‫»غريب أمر ك أيها الملك‪ ،‬تستطيع أن تفعل كل هذ ه المعجزات‪ ،‬ول تستطيع أن تسك ت‬ ‫مسّدسًا؟«‬ ‫»للس ف يا مولي«‬ ‫هتف ت الميرة نور السماء وقد أدرك ت ما ينوي الديب لمقمان أن يفعله‪:‬‬ ‫»لدي فكرة يا مولي«‬ ‫»ما هي؟«‬ ‫»خذ المسّد س يا مولي«‬ ‫ولم يكد الديب لمقمان يأخذ المسّد س من يدها حّتى اختف ت عن النظار واختطف ت‬ ‫المسّد س من يد ه وراح ت تحّلق في الهواء‪ ،‬فبدا للديب لمقمان وكأنه طائر‪ .‬تابعه وهو‬ ‫يبتعد في الفضاء‪ ،‬ولم يعر ف كي ف ظهرت الميرة نور السماء في اللحظة ذاتها ووقف ت‬ ‫أمامه ملّوحة بالُمسّد س لتعيد ه إليه‪.‬‬ ‫ ت عظيمة أّيتها الميرة‪ ،‬لو لم تفعلي هذا لعدت إلى حالة اليأ س والتفكير في النتحار‪.‬‬ ‫»أن ِ‬ ‫لكن‪ ،‬أخبريني‪ ،‬هل يجرحكم الّريصاص أو يمقتلكم فيما لو ُأطلق عليكم؟«‬ ‫»أجل يا مولي‪ ،‬ولذلك اختفي ت«‬ ‫»مسألة الختفاء هذ ه ترو‪.‬ق لي‪ ،‬فلن يتمكن أحد من إطال‪.‬ق النار عليكم«‬ ‫»والن‪ ،‬هل عدل مولي عن النتحار فع ً‬ ‫ال؟«‬ ‫ودون تردد هت ف‪:‬‬ ‫»أجل أّيتها الميرة‪ ،‬يمكنك أن تمقولي لالنتحار وداعًا‪ ،‬ومرحبا ً بالحياة من جديد«‬ ‫وألمق ت نفسها عليه وراح ت تعانمقه‪ ،‬يثم عانمقه ملك الملو ك بدور ه‪ ،‬ورفعه بين يديه كطفل‪.‬‬ ‫فيما كان الكون يضّج بزغاريد هائلة ترددت من كل الرجاء‪.‬‬ ‫»أشكركم أّيها الملك‪ ،‬لم أشعر بالّرغبة في الحياة كما أشعر بها الن‪ ،‬ويا ليتنا نكون‬ ‫أيصدقاء‪ ،‬فأنا ل أريدكم خدما ً أو عبيداً أو أعوانًا‪ ،‬لعلكم تساعدوني في أمور قد أعجز عن‬ ‫إيجاد حلول لها‪ ،‬ولعّلكم تعّوضونني عّما أيصابني من غدر اليصدقاء وقهر الُحّكام‪ ،‬وكب ت‬ ‫الُحرّيات وكتم النفا س‪ ،‬وخبث بعض النا س وأطماع وأحمقاد ونفا‪.‬ق الخرين«‬ ‫»إن عمقولنا لصغيرة يا مولي‪ ،‬لكن يشّرفنا ويسعدنا أن تجعلنا أيصدقاء لك«‬ ‫»ما أدرا ك أن عمقلي أكبر من عمقلك أيها الملك‪ ،‬أظن لو أّنك قرأت الكتب التي قرأتها‬ ‫لستوعبتها أكثر مّني‪ ،‬ولكان عمقلك على الغلب أكبر من عمقلي؟«‬ ‫»قد أعارضك حينئذ يا مولي‪ ،‬وقد اختل ف معك«‬ ‫»ستكون حينئذ الصديق الذي أطمح أن يكون‪ ،‬فالمعارضة والختال ف من أهم عوامل‬ ‫تطّور البشر‪ ،‬وقد كان النبي محمد من أكبر المعارضين والمختلفين«‬ ‫هتف ت الميرة نور الّسماء وكأّنها ل ُتصّد‪.‬ق‪:‬‬ ‫»هل حمقا ً ستجعلني يصديمقتك يا مولي؟«‬ ‫»لن تكوني يصديمقتي فحسب‪ ،‬بل مليكة قلبي أيضا ً أّيتها الميرة‪ ،‬إن كان ذلك ُيسّر ك«‬ ‫»لن يسعدني شيء أكثر من البمقاء إلى جانب مولي«‬


‫ونهض الديب لمقمان عن الّسرير ومّد يد ه الُيمنى إلى نبته من الورد الجوري فايصطدم ت‬ ‫أيصابعه بشوكها فانبجس الّدم منها‪:‬‬ ‫»سنتعاهد بالّدم على ال ّ‬ ‫صداقة والوفاء البديين أّيها العزيزان«‬ ‫مّد ملك الملو ك والميرة نور السماء يديهما ليفعال كما فعل‪ ،‬وتصافح الثاليثة لتمتزج‬ ‫دماؤهم معًا‪ ،‬فيما فتيات الجن الخريات واقفات يتفّرجن‪ ،‬ويشهدن على ما جرى‪.‬‬ ‫قّدم ت الميرة نور الّسماء خاتمها السحري إلى الديب لمقمان فشكرها وهو يلبسه في‬ ‫بنصر ه الُيسرى‪ ،‬بينما لبس خاتم الملك شمنهور في بنصر ه الُيمنى‪ ،‬وبدت الميرة نور‬ ‫الّسماء قلمقة بعض الشيء‪ ،‬وكذلك الملك شمنهور‪ ،‬فتساءل الديب لمقمان عّما بهما‪،‬‬ ‫فأجاب الملك شمنهور متوّجسًا‪:‬‬ ‫»أخا ف يا مولي أن يبطل العهد الذي قطعنا ه بيننا!«‬ ‫»كي ف سيبطل أّيها الملك؟«‬ ‫»إذا ما استولى أحد من النس على خاتمي وخاتم الميرة سنصبح طوع يديه!«‬ ‫بدأ المقلق يراود نفس الديب لمقمان‪ ،‬فتساءل‪:‬‬ ‫»أل يمكنكما رفض أوامر ه‪ ،‬أو عدم الذعان له؟«‬ ‫»يستحيل يا مولي‪ ،‬إل إذا ُأبطل مفعول ال ّ‬ ‫طالسم التي على الخاتمين«‬ ‫»ومن يمقدر على ذلك؟«‬ ‫»ا يا مولي‪ ،‬إنه الوحيد المقادر على ذلك‪ ،‬بعد موت الملك سليمان«‬ ‫»وهل سليمان هو من وضع طالسم خاتم الميرة نور الّسماء أيضًا؟«‬ ‫»نعم يا مولي‪ ،‬فمعظم الجن المطلسمين‪ ،‬وضع ت طالسمهم من قبل سليمان وبعون ا‪،‬‬ ‫حسبما قيل لنا«‬ ‫»أنا حمقا ً في ُحلم‪ ،‬بل كابو س‪ ،‬أو رّبما في حالة جنون‪ ،‬ولم أعد أعر ف أي إله هذا الذي‬ ‫تتحديثان عنه‪ ،‬أهو الشمس أم المقمر أم يهو ه أم مردوخ أم عشتار أم يسوع أم إله محمد أم‬ ‫حتى زيو س؟!«‬ ‫وأخرجته الميرة نور السماء من حيرته حين هتف ت‪:‬‬ ‫»ليس هنا ك فر‪.‬ق من يكون يا مولي‪ ،‬المهم أّنه إله وأّنه يتحّكم بأسرار طالسمنا«‬ ‫»لكن أليس بوسعكما أن تعصيا أمر ه كما فعل إبليس؟«‬ ‫»ممكن يا مولي‪ ،‬لكننا ل نعر ف ماذا ستكون عاقبة المر«‬ ‫ت بطوفان جديد يغر‪.‬ق العالم‪ ،‬أو ليغضب عليكما كما غضب على‬ ‫»ماذا ستكون؟ ليأ ِ‬ ‫إبليس‪ ،‬ولتذهبا معي ومع إبليس إلى الجحيم‪ ،‬لماذا أنتما حريصان على أن تدخال الجّنة‪،‬‬ ‫يثم هل نسيتما أّنكما تتحالفان مع ملحد ولو في نظر المؤمنين‪ ،‬ورّبما في نظر إلهكم أيضًا‪،‬‬ ‫وربما يكون قد حكم عليكما بالهال ك منذ الن«‬ ‫كان الديب لمقمان قد أخذ ينفعل وكأّنه يدر ك أّنه سيفمقد الخاتمين ذات يوم‪ ،‬فبادرت‬ ‫الميرة نور السماء إلى مسح الَعَر‪.‬ق عن جبينه وتهدئته‪:‬‬ ‫»لو نجزم أنه لن يمقوم بتجريدنا من قوانا الخارقة لفعلنا يا مولي‪ ،‬فلماذا نستبق المور‬ ‫منذ الن‪ ،‬إذ ليس من الّسهل أن يسلب أحد الخاتمين منك‪ ،‬يثم إننا قد نتويصل إلى فك‬


‫طالسمهما‪ ،‬طالما أننا سنمقوم برحالت إلى العوالم الخرى‪ ،‬وإذا فشل كل شيء وحدث ما‬ ‫أبدينا تخّوفنا منه‪ ،‬ما أدرا ك فمقد نتمّرد إذا كان لبّد من التمّرد«‬ ‫»حسناً أيتها الميرة‪ ،‬أريد أن أعر ف شيئا ً واحداً فمقط«‬ ‫»ما هو يا مولي؟«‬ ‫»ماذا لو أننا دفّنا الخاتمين ُهنا في الصحراء أو أبمقيتهما معكما؟«‬ ‫»لن نسمعك إذا ُكّنا بعيدين عنك يا مولي‪ ،‬أي أّن قدرتك على التحّكم بنا ستكون‬ ‫محدودة«‬ ‫س المر إذن‪ ،‬ولنشرع في الخطوة الولى على كوكب‬ ‫»مشكلة‪ ،‬حمقا ً مشكلة‪ ،‬لنن َ‬ ‫الرض«‬ ‫فهت ف ملك الملو ك‪:‬‬ ‫»ما هي يا مولي؟«‬ ‫»أريد أن تب ّ‬ ‫ث جيوشك الجّبارة في كافة أرجاء الرض لتنزع كافة أنواع السلحة التي‬ ‫بين أيدي الجيوش والبشر‪ .‬سارع إلى المناطق التي يدور الن فيها قتال في العالم‪ ،‬إّيا ك‬ ‫أن تبمقي قطعة سالح مهما كان ت وفي أي مكان«‬ ‫وقاطعه الملك شمنهور‪:‬‬ ‫»حّتى سالح أبناء قومك يا مولي‪ ،‬هل أنزعه؟«‬ ‫»طبعا ً أيها الملك‪ ،‬انزعه‪ .‬وليسِر عليهم ما يسري على الجميع‪ ،‬هل تريد النا س إذا ما‬ ‫عرفوا أن يمقولوا أّن الديب لمقمان ف ّ‬ ‫ضل أبناء قومه على الخرين‪ ،‬يثّم ل تخ ف عليهم إنهم‬ ‫يجيدون استخدام الحجارة إذا ما اضطروا إلى الّدفاع عن أنفسهم‪ ،‬على أية حال تصالح ت‬ ‫فئة منهم مع اليهود ويبدو أنهم سيتصالحون جميعا ً معهم‪ ،‬كما تصالحوا من قبل في عهد‬ ‫سليمان«‬ ‫صلح حينذا ك‪ ،‬يا مولي‪ .‬وذبح الفلسطينيون خمسين جمالً للله إيل‬ ‫»لمقد حضرت ال ّ‬ ‫وخمسين عجالً لعشتاروت‪ ،‬وخمسين كبشا ً لبعل‪ ،‬أّما اليهود فمقد ذبحوا مائة عجل ومائة‬ ‫ب‬ ‫جمل للله يهو ه! لكن هل عادوا وتحاربوا يا مولي؟ ما أعرفه أّن الملك سليمان أح َّ‬ ‫نساءهم وتزّوج منهم قرابة مائة‪ ،‬ومن محبته لنسائهم تخّلى عن عبادة يهو ه وعبد آلهتهم‪،‬‬ ‫وتبعه مئات الل ف من اليهود»أجل أيها الملك عادوا إلى الحروب الطاحنة التي أودت‬ ‫بحياة مئات الل ف«‬ ‫»هل أبدأ يا مولي؟«‬ ‫»مه ً‬ ‫ال‪ ،‬ماذا ستفعل بالمقواعد الضخمة وحامالت الطائرات والمفاعالت النووّية‬ ‫والصواريخ بعيدة المدى والعابرة للمقارات‪ ،‬والبوارج والّسفن الحربية الكبيرة ومصانع‬ ‫السلحة؟!«‬ ‫»ل يوجد شيء يعجز أعواني عن معالجته إذا لم يمقدروا على حمله يا مولي‪ ،‬يمكن أن‬ ‫نضع ُحّراسا ً دائمين على ما هو يثمقيل جداً وكبير«‬ ‫»هذ ه فكرة حسنة أيها الملك‪ ،‬لكن ماذا ستفعل بما هو تح ت ميا ه البحار والمحيطات‬ ‫كالغّوايصات؟«‬


‫»ستغوص جيوشي إليها يا مولي وتنزعها من أعما‪.‬ق الميا ه«‬ ‫»عظيمة جيوشك هذ ه أيها الملك‪ .‬لكن اسمع‪ ،‬إّيا ك وسفك الّدماء‪ ،‬ل أريد الجيوش أن‬ ‫تؤذي أحدًا‪ ،‬ول أريد أية دماء على الطال‪.‬ق‪ ،‬حتى نمقطة دم واحدة ل أريد‪ ،‬وليكن جنود ك‬ ‫لطفاء في نزع السالح‪ ،‬أظن أن البشر شاهدوا من الّدماء خالل هذا المقرن ما يكفي لل ف‬ ‫عام قادمة‪ ،‬يمكنك أن تباشر أيها الملك«‬ ‫»هل يرغب مولي العظيم في رؤية الجيوش قبل انطالقتها؟«‬ ‫»سأكون سعيداً أيها الملك«‬ ‫وأخذ ملك الملو ك شمنهور الجّبار شكله العظم خالل طرفة عين‪ ،‬فبدا للديب لمقمان‬ ‫كطود هائل‪.‬‬ ‫هتف ت الميرة نور السماء‪:‬‬ ‫»لنصعد ونمق ف على كتفه يامولي‪ ،‬لنتمّكن من رؤية الجيوش بشكل أفضل«‬ ‫ولم يكد الديب لمقمان يوافق إلّ والميرة تأخذ بيد ه وتطير به‪ ،‬ليمقفا على كت ف ملك‬ ‫الملو ك‪ .‬هت ف متسائ ً‬ ‫ال‪:‬‬ ‫»هل حمقاً نحن الن نمق ف على كت ف ملك الملو ك أم أننا نمق ف على هضبة؟«‬ ‫ضحك ت الميرة وطلب ت إليه أن يضع يد ه على ُأذنيه لن الملك شمنهور سيصرخ يصوتا ً‬ ‫يستدعي به جيوش الجن‪.‬‬ ‫أطبق الديب لمقمان بيديه على أذنيه‪ ،‬وكذلك فعل ت الميرة نور السماء‪.‬‬ ‫أرعد يصوت ملك الملو ك هاتفاً »ها« فارتج ت الرض من كافة الرجاء لهول الصوت‪.‬‬ ‫أخذت الجيوش العمالقة تكتسح الصحراء من كل التجاهات كظالل حّل ت خالل لحظة‬ ‫غروب أخيرة‪ .‬كان ت أحجام الجنود أكبر من أحجام البشر ويرتدون زيّا ً أحمر‪ ،‬وقد‬ ‫امتطوا خيولً حمراً مجّنحة‪ ،‬ووقفوا في يصفو ف فائمقة النتظام‪ ،‬وقد تسّلحوا بالرماح‬ ‫والّسيو ف ولبسوا الدروع‪.‬‬ ‫رفع الجميع رماحهم إلى أعلى وهتفوا بصوت واحد ضّج ت له الصحراء »ها‪ .‬ها‪ .‬ها‪«.‬‬ ‫هت ف الديب لمقمان في سّر ه »مستحيل أن يكون هذا حمقيمقة‪ ،‬حّتى في السراء والمعراج‬ ‫لم يحدث مثل هذا الذي أرا ه‪ ،‬إنه حلم بالتأكيد«‬ ‫هت ف ملك الملو ك مرة يثانية »ها« وإذا بالفضاء يعج بمئات آل ف الجان المجّنحين الذين‬ ‫حجبوا ضوء الشمس‪ ،‬وقد توّقفوا في الفضاء في يصفو ف كبيرة ُمرّبعة‪ .‬هتفوا وهم‬ ‫يفردون أجنحتهم »ها‪ .‬ها‪ .‬ها‪«.‬‬ ‫هت ف ملك الملو ك العبارة بدور ه وراح يخاطب الجيوش بلغة الجن‪ ،‬فيما بادرت الميرة‬ ‫نور السماء إلى الترجمة للديب لمقمان‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫»أشكر من أعما‪.‬ق قلبي‪ ،‬الملو ك الُحمر‪ ،‬والطوائ ف الحمر‪ ،‬والجيوش الُحمر‪ ،‬الذين ظلوا‬ ‫مخلصين لي‪ ،‬وحافظين للعهد وأوفياء له‪ ،‬رغم غيابي ال ّ‬ ‫طويل‪ ،‬في غياهب سجون الملك‬ ‫سليمان الجّبار‪..‬‬ ‫يا أبناء الجن الِعظام‪ ،‬إنني إذ أدين اليوم بحّريتي لبن النس البار الديب لمقمان العظيم‪،‬‬ ‫الذي فّك أسري‪ ،‬وأتاح لي تلّمس طريق الحرية‪ ،‬بعد يثاليثة آل ف عام من الحشر الفظيع‪،‬‬


‫لعلن تتويجه ملكاً أعلى على جميع الجن الحمر‪ ،‬وأطلب إليهم‪ ،‬أن يكونوا في خدمته‪،‬‬ ‫ويطيعوا أمر ه‪ ،‬ويمقّدموا له ُكّل ما يستطيعون وا على ما نمقول شهيد!‬ ‫عاش ملك ملو ك الملو ك الديب لمقمان العظيم!«‬ ‫ترددت في مخّيلة الديب لمقمان بعض الكلمات وايصفا ً بها ملك الملو ك‪:‬‬ ‫»لولم يكن جّنيا ً ويخاطب جنّا ً لمقل ت أّنه قادم من قصر دكتاتور ما على الرض«‬ ‫دّوت الصحراء والسماء بالهتا ف الذي أطلمقه ملك الملو ك وُأنِكَس ت الّرماح والّسيو ف‬ ‫وُأسبل ت الجنحة تحّية للديب لمقمان الذي مّد يد ه اليمنى وراح يحيي الجيوش الجّرارة‪.‬‬ ‫كان الملو ك يصطفون أفواجا ً أفواجاً أمام جيوشهم وقد وق ف خلفهم قادة الجيوش ونّوابهم‬ ‫يثم آل ف آل ف الجنود‪.‬‬ ‫يصرخ ملك الملو ك يصرخة ُأخرى بالجيوش وإذا بها تتهّيأ في حركة استعداد‪.‬‬ ‫أيصدر الملك شمنهور أوامر ه بنزع السالح من أيدي بني البشر ووضعه تح ت حراسة‬ ‫مشددة‪ ،‬متمقّيدًا بالتعليمات التي أشار إليها الديب لمقمان‪ .‬وما أن أنهى إيصدار أوامر ه‪،‬‬ ‫حتى أومأ بحركة من يد ه وهو يهت ف »ها« فشرع ت الجيوش في الختفاء من السماء‬ ‫وعن وجه الرض‪ ،‬بنفس الطريمقة التي اكتسحتها بها‪ ،‬لتختفي خالل لحظات وكأنها لم‬ ‫تكن‪.‬‬ ‫وأطر ف ما حدث بعد ذلك أن الديب لمقمان أح ّ‬ ‫س بيد وكأنها تصافح يد ه وتطلمقها‪ ،‬يثّم‬ ‫بمسّدسه ينتزع من تح ت حزامه ويبتعد عنه في الفضاء‪ ،‬غير أن الميرة نور السماء‬ ‫والملك شمنهور تحّديثا بلغة الجن فتوّق ف المسد س في الفضاء‪.‬‬ ‫أدر ك الديب لمقمان أن أحد جنود الجن قد أخذ مسّدسه فاندهش أشد الندهاش لهذ ه الّدقة‬ ‫الفائمقة التي يتمّتع بها جنود الجن في تطبيق الوامر‪ .‬إذ لم يدر في خلد ه حين أبدى رغبته‬ ‫إلى ملك الملو ك بنزع الّسالح‪ ،‬أّن أّول قطعة سالح ستنتزع من أيدي البشر ستكون‬ ‫مسّدسه الذي نسي أّنه يحمله‪.‬‬ ‫هت ف ملك الملو ك‪:‬‬ ‫»هل يسمح مولي للجندي بأخذ سالحه؟«‬ ‫»إّنه ليس في حاجة لطلب الّسماح أيها الملك‪ ،‬لمقد قام بواجبه خير قيام‪ ،‬وأرجو أن تكاِفئه‬ ‫على حسن يصنيعه«‬ ‫وأشار ملك الملو ك بحركة من يد ه وإذا بالجندي يظهر في الفضاء والمسّد س في يد ه‪.‬‬ ‫خاطبه بلغة الجن‪ .‬أّدى الجندي الّتحية بحركة من يد ه وانصر ف محّلمقا ً دون أن يختفي إلى‬ ‫أن توارى عن النظار‪.‬‬ ‫»عّينته قائداً على أل ف جندي ووهبته إحدى بنات الملو ك يا مولي«‬ ‫»حسنا ً فعل ت أّيها الملك«‬ ‫كان الصوت يأتي من فم ملك الملو ك وكأّنه جعجعة قادمة من سفح جبل‪ .‬نظراً لطول‬ ‫عنمقه وعلّو رأسه وضخامته‪ ،‬وابتعاد فمه عن الديب لمقمان‪.‬‬ ‫»لو أّنك تعود إلى الشكل النساني أيها الملك‪ ،‬إن شكلك الحالي ُيرعبني!«‬ ‫قهمقه ملك الملو ك وهو يتضاءل فيما الميرة نور السماء تأخذ بيد الديب لمقمان وتنزل به‬


‫إلى الرض‪.‬‬ ‫وق ف ملك الملو ك في هيئة إنسي أضف ت عليه جمالً فائمقًا‪ ،‬مما حدا بالديب لمقمان أن‬ ‫يطلب إليه أن يبمقى دائما ً في هذ ه الهيئة‪.‬‬ ‫»أمر مولي ملك ملو ك ملو ك الجن الحمر العظيم!«‬ ‫»أل يكفي أيها الملك ما فعلته وما ستفعله من أجلي حتى تكافئني وتجعلني ملكا ً عليك‬ ‫وعلى ملو ك الجن؟«‬ ‫»لو أمرني مولي أن أطّوع النس وطوائ ف الجن جميعا ً لخدمته لفعل ت«‬ ‫»أنا لم أفعل شيئا ً أيها الملك أستحّق عليه كل هذا الكرام‪ ،‬الذي يبدو أمامه حتى إكرام ا‬ ‫للنبياء ضئي ً‬ ‫ال‪ ،‬ويبدو لي لو أّنك عرف ت بعض بني البشر الذين عرفتهم لفّكرت أل ف مّرة‬ ‫قبل أن تمقّدم لي أّية مكافأة!«‬ ‫»هل أجحفو ك حّمقك وغدورا بك وقابلو ك بالسوء إلى هذا الحد يا مولي؟«‬ ‫»أجل أّيها الملك‪ ،‬لم يؤلمني شيء في حياتي أكثر مما آلمني غدر اليصدقاء‪ ،‬بعد شمقائي‬ ‫من أجلهم وعطفي عليهم ومحّبتي لهم! إّن عس ف النظمة كان يبدو لي أمام ذلك أمراً‬ ‫ممقبو ً‬ ‫ل«‬ ‫»هل ُأحضر لك هؤلء الخسيسين وأمثالهم لتمقت ّ‬ ‫ص منهم يا مولي؟«‬ ‫»ل أيها الملك‪ ،‬إّني ل أسعى إلى المقصاص والنتمقام‪ ،‬بل إلى إيصالح ما فسد في البشر‪،‬‬ ‫وزرع المحّبة والخير في نفوسهم بدلً من الّشرور واليثام‪ .‬وإّني لمل أن أتمكن أنا‬ ‫بدوري من قتل الّشر وشهوة النتمقام في نفسي أيضًا«‬ ‫»وهل يوجد بين بني البشر من هم بهذ ه الوضاعة والخّسة والّنذالة يا مولي؟«‬ ‫»أجل أيها الملك ورّبما أكثر مما نتصّور أنا وأن ت‪ ،‬فحاذر‪ ،‬حاذر من أن أغدر بك أّيها‬ ‫الملك وأعيد ك إلى المقممقم!«‬ ‫»أنا وايثق من أّنك لن تفعلها يا مولي«‬ ‫»كن ت طيبا ً وعلى نّيتي مثلك‪ ،‬لكني كن ت أتخوز‪.‬ق دائما ً أّيها الملك‪ ،‬مشكلتي معك أني ل‬ ‫أعر ف بماذا سأكافئك الن أو في المستمقبل«‬ ‫»مكافأتك لي أن تظّل طّيبا ً معي ومع الميرة نور الّسماء كما أن ت يا مولي«‬ ‫»هل تريان أنني طيب حمقاً أيها الملك‪ ،‬أنا في نظر كثيرين شّرير لنني ملحد وزان«‬ ‫»أجل يا مولي‪ ،‬إنني ل أرى فيك إل الطيبة مهما ألحدت وزني ت«‬ ‫وهتف ت الميرة نور السماء‪:‬‬ ‫»وأنا لم أَر من هو أطيب منك بين النس والجن يا مولي‪ ،‬إني أرى نور المحّبة يشّع‬ ‫من عينيك ويلوح على جبينك!«‬ ‫»أشكركما أّيها العزيزان‪ ،‬لمقد أعدتماني إلى الحياة بكل أّبهتها وجمالها‪ ،‬وآمل أن أظّل‬ ‫طّيبا ً وعند حسن ظّنكما‪ .‬ماذا سنفعل الن أيها الملك؟«‬ ‫»ما يأمر به مولي«‬ ‫»هل شرع ت الجيوش في نزع السلحة؟«‬ ‫»انظر إلى السماء لترى يا مولي«‬


‫نظر الديب لمقمان نحو السماء فشاهد آل ف الّدبابات والمجنزرات والمصّفحات والليات‬ ‫والطائرات والمدافع والزوار‪.‬ق وال ّ‬ ‫صواريخ والطوربيدات والغّوايصات والبناد‪.‬ق‪ ،‬وغير‬ ‫ذلك‪ ،‬من كافة أنواع السلحة‪ ،‬تمقذ ف في الفضاء بشكل عشوائي‪ ،‬وكأن ريحا ً عاتية‬ ‫تعص ف بها‪ .‬فمقد كان ت محمولة على ظهور الجن أو على أكتافهم أو بأيديهم‪.‬‬ ‫أح ّ‬ ‫س الديب لمقمان بفرح غامر وهو يهت ف في سريرته‪:‬‬ ‫»اليوم ستوّدع البشرية المقتل والحروب وسفك الّدماء إلى غير رجعة« ونظر نحو ملك‬ ‫الملو ك‪:‬‬ ‫»أين أمرت الجيوش أن تمقذ ف بكل هذ ه السلحة أّيها الملك‪ ،‬أراها توغل بعيداً في‬ ‫الفضاء«‬ ‫»أمرتهم أن يمقذفوها على المقمر يا مولي«‬ ‫»حسنا ً فعل ت‪ .‬ح ّ‬ ‫ضر لي نفسك للخطوة الثانية أيها الملك«‬ ‫»أنا جاهز يا مولي«‬ ‫»سننطلق إلى الفضاء ونبحث عن كوكب ذي حياة نمقيم عليه‪ ،‬لكن خارج المجموعة‬ ‫الشمسّية إذا أمكن‪ .‬هنا ك سننظم شؤوننا وننظر في أمور البشر ونشرع في رحالتنا إلى‬ ‫الكوان والعوالم المجهولة«‬ ‫»هل يسمح لي مولي بايصطحاب الميرة ظل المقمر والحورّيات الخريات؟«‬ ‫»هذا حمقك أيها الملك‪ ،‬لكن ألسن كثيرات عليك؟«‬ ‫وراح ملك الملو ك يضحك‪:‬‬ ‫»كثيرات يا مولي؟! إني أشعر بشهوة تدفعني لمواقعة آل ف الّنساء من الجن والنس!«‬ ‫»أي حرمان هذا الذي تعاني منه أيها الملك؟ لكن‪ ،‬هل هُّن راضيات أم أّنك ترغمهن‬ ‫على مرافمقتك؟«‬ ‫»ل يا مولي‪ ،‬إنهّن راضيات قانعات‪ ،‬وكّن يحلمن بويصالي والتمقّرب إلّي‪ ،‬أل ترى‬ ‫الّسعادة تطّل من عيونهن‪ .‬سأكتفي بهن الن‪ ،‬لكني سأحضر إحدى وتسعين أميرة‬ ‫وحورية فيما بعد لكملهّن على المائة!«‬ ‫»مائة؟ تريد مائة حورّية وأميرة أيها الملك؟«‬ ‫»ُسليمان كان إنسياً يا مولي وكان لديه أل ف‪ ،‬فهل تستكثر مائة على ملك الملو ك‬ ‫شمنهور الجبار؟«‬ ‫»أن ت محق أيها الملك‪ ،‬ليكّن عشرة آل ف إن شئ ت«‬ ‫»أشكر مولي«‬ ‫»هيا أرني كي ف ستمقّلنا إلى الفضاء الّسحيق!«‬ ‫»هل لي بسؤال يا مولي؟«‬ ‫»تف ّ‬ ‫ضل«‬ ‫»لماذا توّد البتعاد عن كوكب الرض مع أن أهلك وذويك ومعارفك يمقيمون عليه؟«‬ ‫»لمقد أتعبني أبناء هذا الكوكب أيها الملك‪ ،‬حتى أهلي وأقاربي أتعبوني‪ ،‬ولم أعد قادراً‬ ‫على التوايصل مع النا س‪ ،‬طالما هم على هذ ه الحال‪ ،‬سأعود إليهم إذا ما استطع ت‬


‫إيصالحهم وقتل الشر في نفوسهم وإغناء المحّبة والخير‪ ،‬وإذا ما احتج ت إلى رؤية أحدهم‬ ‫أو بعضهم‪ ،‬سأحضرهم إلى كوكبنا‪ ،‬وقد نمقوم ببعض الزيارات‪ ،‬المهم أن تدعنا ننصر ف‬ ‫الن«‬ ‫انصر ف ملك الملو ك إلى التجوال في الّروضة المسحورة وهو يتفّو ه بكلمات من لغة‬ ‫الجن ويحّر ك يديه أعلى وأسفل‪ ،‬وفجأة انفعل وراح يصرخ معّنفًا‪ ،‬يثّم أسرع في خطو ه‬ ‫إلى أن بلغ جانب الّروض ووق ف في مواجهة الصحراء‪ .‬توّق ف عن الكالم وأخذ يرقب‬ ‫الفضاء بمقلق وتوّجس‪.‬‬ ‫ظهرت في الّسماء مركبة فضائية بحجم فند‪.‬ق ضخم‪ ،‬لم يكن لها أي يصوت‪ ،‬ولم تكن‬ ‫تخّل ف وراءها أي لهب‪ ،‬وقد رافمقها آل ف الجن المحّلمقين عن جانبيها ومن خلفها‪.‬‬ ‫ح ّ‬ ‫ط ت في الصحراء على ممقربة منهم‪ ،‬فيما ظّل الجن يحّلمقون في الفضاء‪ .‬بدت المركبة‬ ‫للديب لمقمان كنسٍر هائل يضّم جناحيه لالنمقضاض على فريسته‪ ،‬وقد ارتكزت على‬ ‫قاعدتين كبيرتين بدتا كمقدمي إنسان دون أيصابع‪ ،‬وانتصب باقي الجسم في الفضاء لينتهي‬ ‫ س كالمنمقار ال ّ‬ ‫طويل‪.‬‬ ‫إلى رأ ٍ‬ ‫»من أين أتي ت بهذ ه المركبة الهائلة أيها الملك؟«‬ ‫»إنها مركبة مسحورة يا مولي«‬ ‫»مسحورة وتفعل كل هذ ه المعجزات العلمّية؟«‬ ‫»أجل يا مولي«‬ ‫»وهل فيها رائد أم أنها تطير وحدها؟«‬ ‫»أجل يا مولي‪ ،‬فيها رائد ومساعدون وفيها خدم وغر ف نوم‪ ،‬وفيها كل أجهزة‬ ‫التصالت والرؤية واللتمقاط والبث والتصوير والستشعار والتشويش‪ ،‬وفيها مسبح‬ ‫وحديمقة ويصالة رياضة‪ ،‬ومطابخ ويصالت طعام وأروقة وقاعات ومتنّزهات‪ ،‬وكل ما‬ ‫يخطر على البال‪ ،‬ومعظم هذ ه الكلمات لم أسمع بها إل قبل لحظات ول أعر ف ماذا تعني‬ ‫يا مولي!!«‬ ‫»وتمقولون أّن عمقولكم يصغيرة؟! لكن لماذا بدوت منفعالً قبل قدوم المركبة؟«‬ ‫»لني لم أرد أن تمقطع هذ ه المسافات البعيدة محمولً على كت ف أحد الجن يا مولي‪،‬‬ ‫فطلب ت إلى كل الملو ك أن يبحثوا عن أحدث مركبات الكون ويأتوني بواحدة مثلها«‬ ‫»هل هذا يعني أّن هذ ه المركبة مسحورة عن أحدث مركبة في الكون؟«‬ ‫»نعم يا مولي«‬ ‫»وهل مثيالتها من يصنع بشر أم من يصنع جن؟«‬ ‫»بل من يصنع بشر يا مولي‪ ،‬فنحن معشر الجن ل نستطيع أن نفعل مثل هذ ه‬ ‫الختراعات‪ ،‬أو أننا ل نحاول ذلك لننا نطير ونستطيع الذهاب إلى أي مكان«‬ ‫»وأين يمقيم هؤلء البشر أيها الملك؟«‬ ‫»قالوا لي أّنهم يمقيمون على كوكب في الفضاء البعيد يا مولي!«‬ ‫»لبّد لي من زيارة هؤلء‪ ،‬ولبّد لي من معرفة أسراركم أّيها الجن‪ ،‬فأنتم تفعلون‬ ‫المعجزات ومع ذلك تعجزون عن بعض الختراعات‪ ،‬وتعجزون عن إبطال مفعول‬


‫السلحة‪ ،‬وبالتأكيد تعجزون عن إحياء الموتى‪ ،‬أم لعّلكم تستطيعون؟«‬ ‫»ل يا مولي‪ ،‬هذا ما ل يمقدر عليه إل ا«‬ ‫»وهل تستطيعون أن تميتوا الحياء؟«‬ ‫»بالمقتل فمقط يا مولي‪ ،‬إذ ليس بإمكاننا أن نمقول لكائن ما »ُم ت« فيموت‪ ،‬أو »ِع ْ‬ ‫ش«‬ ‫فيعيش«‬ ‫»لكنك تستطيع أن تمسخ كائنا ً ما إلى آخر‪ ،‬كأن تحّول إنسيا ً إلى سحلية مث ً‬ ‫ال«‬ ‫»بالتأكيد يا مولي‪ ،‬لنني أعرفهما وشاهدتهما بعيني!«‬ ‫»وماذا عن الحياة والموت‪ ،‬فأن ت ترى الحياة أمام عينيك‪ ،‬وبالتأكيد شاهدت الموت؟«‬ ‫»لكني ل أعر ف ِسّر الحياة ول أعر ف سّر الموت يا مولي«‬ ‫»حمقا ً إّنك تحّيرني أيها الملك أن ت ومعشر الجّن‪ ،‬لبّد لي من معرفة طاقاتكم كي أعر ف‬ ‫ما هي حدود المقّوة التي بين يدي«‬ ‫»سأخبر مولي بذلك متى أراد‪ ،‬لكن ل يوجد بين الجن الحمر من هو بممقدرتي‪ .‬فأنا‬ ‫المقادر القوى بين هؤلء‪ ،‬ولهذا كن ت ملك ملوكهم«‬ ‫»هذا ما ُيسعدني أيها الملك‪ ،‬هل ننطلق الن؟«‬ ‫»تف ّ‬ ‫ضل يا مولي«‬ ‫اقترب الديب لمقمان وملك الملو ك والميرة نور الّسماء من المركبة فانفتح باب جانبي‬ ‫نزل منه سّلم قصير وأطّل ت منه فتاة ذات جمال أّخاذ‪.‬‬ ‫أحن ت الفتاة رأسها احتراماً وأشارت بيدها إلى داخل المركبة أن تف ّ‬ ‫ضلوا‪.‬‬ ‫يصعد الديب لمقمان ودخل المركبة ليجد نفسه في ما بدا له ممقصورة إمبراطورية‪ .‬تبعه‬ ‫ملك الملو ك والميرة نور السماء فالجّنيات التسع‪.‬‬ ‫»ل بأ س بهذ ه الممقصورة يا مولي‪ ،‬آمل أن تكون الّرحلة مريحة«‬ ‫»آمل ذلك أيها الملك‪ ،‬لكن أين قائد المركبة؟«‬ ‫»إنه يمق ف معنا يا مولي!«‬ ‫»ألن نرى شكله؟«‬ ‫»لن تتسع المركبة لحجمه الحمقيمقي يا مولي!«‬ ‫»ليظهر في شكل إنسي كما أنتم أّيها الملك«‬ ‫ولم يكد الديب لمقمان ينهي كالمه‪ ،‬إل وقائد المركبة يمق ف أمامه ويمد يد ه مصافحا ً‬ ‫ومرّحبا ً ومعّرفا ً بنفسه‪:‬‬ ‫»قائد مركبة الّنجوم الرائد عزيزون يا مولي!«‬ ‫تأّمله الديب لمقمان للحظة وهو يدر ك أن هذا ليس شكله الحمقيمقي‪.‬‬ ‫»قل لي أيها الرائد«‬ ‫»أمر مولي«‬ ‫»ما هي سرعة مركبتك؟«‬ ‫»ما هي أقصى سرعة تعرفونها أنتم معشر البشر من سّكان الرض يا مولي؟«‬ ‫»سرعة الضوء أيها الرائد‪ ،‬لكن إّيا ك أن تمقول لي أن مركبتك ستنطلق بسرعة الضوء‪،‬‬


‫لن هذا سيكون أكبر من أن يحتمله العمقل!«‬ ‫ضحك‪ ،‬وظل يضحك إلى أن زجر ه ملك الملو ك وطلب إليه ألّ‬ ‫وشرع رائد المركبة في ال ّ‬ ‫يضحك في حضرة مول ه‪.‬‬ ‫»سأنطلق بسرعة خيالية يا مولي إذا كان الفضاء أمامي خاليًا!«‬ ‫دهش الديب لمقمان الذي لم يسمع تعبيراً كهذا في حياته‪.‬‬ ‫»كي ف تكون الّسرعة الخيالية أيها الرائد؟«‬ ‫»الّسرعة التي ل يمكن أن يدركها إل العمقل الخار‪.‬ق يا مولي!«‬ ‫»اضرب لي مثالً عن مدى هذ ه السرعة«‬ ‫»يمكنك أن تضع يا مولي رقما ً تمقريبياً يزيد أل ف ضع ف على القل عن سرعة الضوء‪،‬‬ ‫وهذ ه الّسرعة قابلة للزيادة أو النمقصان حسب حال الفضاء الذي أجتاز ه‪ ،‬وحسب الّسرعة‬ ‫التي أقرر أنا النطال‪.‬ق بها«‬ ‫همد الديب لمقمان على ممقعد خلفه واحتضن رأسه بيديه وراح يجزم لنفسه أنه حمقا ً في‬ ‫ت به إل‬ ‫كابو س‪ ،‬وشرع يلعن في نفسه الساعة التي فّكر فيها في النتحار‪ ،‬والتي لم تأ ِ‬ ‫إلى هذا المكان بالذات‪ ،‬ليجد نفسه في هذ ه الورطة الخيالية العجيبة‪ ،‬التي رّبما لم يكن في‬ ‫حاجة إليها‪.‬‬ ‫رفع رأسه وألمقى نظرات مصحوبة بدهشة شديدة نحو قائد المركبة‪:‬‬ ‫»هل تعر ف أيها الرائد أن سرعة الضوء مائة وستة ويثمانون أل ف ميل في الثانية‪ ،‬وأننا‬ ‫إذا انطلمقنا بهذ ه السرعة سنبلغ المقمر الذي يبعد عّنا قرابة مائتين وأربعين أل ف ميل خالل‬ ‫يثانية وربع فمقط‪ ،‬وسنبلغ الشمس التي تبعد عّنا قرابة يثاليثة وتسعين مليون ميل خالل‬ ‫يثماني دقائق وربع؟!«‬ ‫وقاطعه رائد المركبة بتواضٍع جم ينّم عن معرفة علمّية عالية‪ ،‬ويثمقة عالية بالنفس‪:‬‬ ‫»وسنحتاج يا مولي إلى أربع سنوات ونص ف لنصل إلى أقرب نجم إليكم بعد الشمس!«‬ ‫»تمقول أربع سنوات ونص ف؟«‬ ‫»إذا انطلمقنا بسرعة الضوء يا مولي!«‬ ‫وأطر‪.‬ق الديب لمقمان للحظات يفّكر‪ ،‬أدر ك أّن الجنّي على حق‪ .‬كي ف غاب ت هذ ه المسألة‬ ‫عن باله؟ لبّد من النطال‪.‬ق بسرعة خيالية كما أشار المقائد‪ ،‬خايصة وأنه ف ّ‬ ‫ضل أن ينمقل‬ ‫إلى كوكب خارج المجموعة الشمسّية التي يتبعها كوكب الرض‪ ،‬وهذا يحتاج إلى‬ ‫سرعات تفو‪.‬ق التصّور‪ ،‬ربما كسرعة الُبرا‪.‬ق الذي أيصعد النبي »محمد« إلى السماء‪.‬‬ ‫»هل قل ت لي أنه في ممقدور ك أن تبطئ سرعة مركبتك إذا ما شئ ت ذلك أيها الرائد؟«‬ ‫»إن في ممقدوري كل شيء يامولي‪ ،‬حتى أن أجعلها تنطلق بسرعة الطائر«‬ ‫»هذا عظيم أيها الرائد‪ ،‬لنني أريد أن ألمقي نظرة أخيرة على هذا الكوكب البائس الذي‬ ‫أنتمي إليه‪ ،‬يا لي ت لو تجعلنا نتغّدى على كوكب الزهرة ونتعّشى على المّريخ ونفطر‬ ‫على المشتري‪ ،‬أو قد نوّدع هذ ه المجموعة من المّريخ وننطلق إلى ما نريد دون أن‬ ‫نمقترب من المشتري وزحل وأورانو س ونبتون وبلوتون‪ ،‬فهي وحسب ما اكتش ف‬ ‫علماؤنا ليس ت يصالحة للحياة‪ ،‬ول رغبة لدي الن لمشاهدتها عن قرب«‬


‫»إني خائ ف عليك من علمائكم يا مولي‪ ،‬وآمل أن يطرح مولي علمهم جانبا ً وأن يطلق‬ ‫العنان لخياله‪ ،‬ويحلم بما يريد وما يرغب في تحمقيمقه‪ ،‬دون الخضوع إلى سلطان العلم‬ ‫وغائية المنطق‪ ،‬فهو بهذا يمقترب مّنا معشر الجن‪ ،‬ويفّكر بعمقليتنا المقادرة على تحمقيق‬ ‫الحالم ويصنع المعجزات‪ ،‬وتمقّبل حدويثها‪ ،‬والهم من ذلك إمكانية حدويثها!«‬ ‫»شكراً للنصيحة أيها الرائد‪ ،‬هل ننطلق؟«‬ ‫»ليكن يا مولي«‬ ‫»ماذا يتوّجب علينا أن نفعل؟«‬ ‫»افعل ماتريد يامولي‪ ،‬اجلس أوانهض‪ ،‬اذهب إلى الحديمقة‪ ،‬أو إلى المسبح‪ .‬لن تشعر بما‬ ‫هو غير عادي يا مولي‪ ،‬وكأّنك جالس على الرض!«‬ ‫س أن تنطلق ببطء لنني أريد أن أوّدع كوكب الرض«‬ ‫»ل تن َ‬ ‫»سأنطلق ببطء يا مولي‪ ،‬يمكنكم الّنظر من النافذة إلى ما تريدون‪ ،‬ويثّمة منظار يمكنكم‬ ‫الستعانة به«‬ ‫أقفل ت الفتاة التي استمقبلتهم باب المركبة‪ ،‬جلس الديب لمقمان والميرة نور السماء على‬ ‫أريكتين متمقابلتين بجوار نافذة‪ ،‬فيما تحّلق ملك الملو ك مع جواريه والميرة »ظل المقمر«‬ ‫حول مائدة مستديرة وأشار إلى فتاة في المركبة أن تحضر لهم خمرًا‪.‬‬ ‫ألمقى الديب لمقمان نظرة عبر النافذة فشاهد آل ف الجن يحّلمقون حول المركبة‪ ،‬فخاطب‬ ‫ملك الملو ك متسائ ً‬ ‫ال‪:‬‬ ‫»لم أحضرت هؤلء الجن لمرافمقتنا أيها الملك؟«‬ ‫»للحراسة والّدفاع يا مولي‪ ،‬فمقد نتعّرض إلى هجوم من النس أو الجن!«‬ ‫»وهل سيظّلون ظاهرين؟«‬ ‫»يف ّ‬ ‫ضل يا مولي كي يرعبوا أّية قوى معادية قد تفّكر في مهاجمتنا«‬ ‫»يبدو أّنك خطط ت لكل شيء أيها الملك«‬ ‫»بل أعواني هم من خططوا ولس ت أنا يا مولي«‬ ‫س‪ ،‬ل أريد سفك دماء«‬ ‫»لكن ل تن َ‬ ‫»حّتى الكائنات الفضائية ل تريد أن نسفك دماءها إذا ما هاجمتنا يا مولي؟!«‬ ‫»الن نحن بمثابة غزاة للفضاء أيها الملك‪ ،‬فبأي حق تريدنا أن نسفك دماء أبنائه؟!«‬ ‫»ل أعر ف أين ستودي بنا طيبتك يا مولي؟ آمل أل تمقودنا إلى الهال ك!«‬ ‫»لس ت متشائماً يا مولي لكني ل أعر ف ماذا سنفعل إذا ما هوجمنا«‬ ‫»لكّل حادث حديث أيها الملك‪ ،‬قد نحّل أكبر الشكالت بكلمة طّيبة«‬ ‫»بكلمة طّيبة يا مولي؟«‬ ‫»نعم أيها الملك‪ ،‬فللكلمة في بعض الحيان قوة سحرّية ل تضاهيها أية قّوة«‬ ‫»اعذرني يا مولي‪ ،‬أنا لم أعد أفهم شيئا ً مما تمقوله«‬ ‫»بل تفهم أيها الملك وتعر ف أن ما يكمن خل ف طلسمك وطالسم الجن جميعا ً ليس إل‬ ‫بضع كلمات!«‬ ‫أدر ك ملك الملو ك أّن الديب لمقمان على حق‪ ،‬يثمة سحر ما للكلمة كان يجهله لو لم يلف ت‬


‫انتباهه إليه‪.‬‬ ‫»أن ت محق يا مولي‪ ،‬وإن كن ت أشك أن الكلمة ستكون مجدية في كل الوقات‪ ..‬أظن أن‬ ‫المركبة انطلمق ت وأن رحلتنا قد بدأت‪ ،‬لنشرب نخب انطالقتنا!«‬


‫»أجل أيها الملك عادوا إلى الحروب الطاحنة التي أودت بحياة مئات الل ف«‬ ‫»هل أبدأ يا مولي؟«‬ ‫»مه ً‬ ‫ال‪ ،‬ماذا ستفعل بالمقواعد الضخمة وحامالت الطائرات والمفاعالت النووّية‬ ‫والصواريخ بعيدة المدى والعابرة للمقارات‪ ،‬والبوارج والّسفن الحربية الكبيرة ومصانع‬ ‫السلحة؟!«‬ ‫»ل يوجد شيء يعجز أعواني عن معالجته إذا لم يمقدروا على حمله يا مولي‪ ،‬يمكن أن‬ ‫نضع ُحّراسا ً دائمين على ما هو يثمقيل جداً وكبير«‬ ‫»هذ ه فكرة حسنة أيها الملك‪ ،‬لكن ماذا ستفعل بما هو تح ت ميا ه البحار والمحيطات‬ ‫كالغّوايصات؟«‬ ‫»ستغوص جيوشي إليها يا مولي وتنزعها من أعما‪.‬ق الميا ه«‬ ‫»عظيمة جيوشك هذ ه أيها الملك‪ .‬لكن اسمع‪ ،‬إّيا ك وسفك الّدماء‪ ،‬ل أريد الجيوش أن‬ ‫تؤذي أحدًا‪ ،‬ول أريد أية دماء على الطال‪.‬ق‪ ،‬حتى نمقطة دم واحدة ل أريد‪ ،‬وليكن جنود ك‬ ‫لطفاء في نزع السالح‪ ،‬أظن أن البشر شاهدوا من الّدماء خالل هذا المقرن ما يكفي لل ف‬ ‫عام قادمة‪ ،‬يمكنك أن تباشر أيها الملك«‬ ‫»هل يرغب مولي العظيم في رؤية الجيوش قبل انطالقتها؟«‬ ‫»سأكون سعيداً أيها الملك«‬ ‫وأخذ ملك الملو ك شمنهور الجّبار شكله العظم خالل طرفة عين‪ ،‬فبدا للديب لمقمان‬ ‫كطود هائل‪.‬‬ ‫هتف ت الميرة نور السماء‪:‬‬ ‫»لنصعد ونمق ف على كتفه يامولي‪ ،‬لنتمّكن من رؤية الجيوش بشكل أفضل«‬ ‫ولم يكد الديب لمقمان يوافق إلّ والميرة تأخذ بيد ه وتطير به‪ ،‬ليمقفا على كت ف ملك‬ ‫الملو ك‪ .‬هت ف متسائ ً‬ ‫ال‪:‬‬ ‫»هل حمقاً نحن الن نمق ف على كت ف ملك الملو ك أم أننا نمق ف على هضبة؟«‬ ‫ضحك ت الميرة وطلب ت إليه أن يضع يد ه على ُأذنيه لن الملك شمنهور سيصرخ يصوتا ً‬ ‫يستدعي به جيوش الجن‪.‬‬ ‫أطبق الديب لمقمان بيديه على أذنيه‪ ،‬وكذلك فعل ت الميرة نور السماء‪.‬‬ ‫أرعد يصوت ملك الملو ك هاتفاً »ها« فارتج ت الرض من كافة الرجاء لهول الصوت‪.‬‬ ‫أخذت الجيوش العمالقة تكتسح الصحراء من كل التجاهات كظالل حّل ت خالل لحظة‬ ‫غروب أخيرة‪ .‬كان ت أحجام الجنود أكبر من أحجام البشر ويرتدون زيّا ً أحمر‪ ،‬وقد‬ ‫امتطوا خيولً حمراً مجّنحة‪ ،‬ووقفوا في يصفو ف فائمقة النتظام‪ ،‬وقد تسّلحوا بالرماح‬ ‫والّسيو ف ولبسوا الدروع‪.‬‬ ‫رفع الجميع رماحهم إلى أعلى وهتفوا بصوت واحد ضّج ت له الصحراء »ها‪ .‬ها‪ .‬ها‪«.‬‬ ‫هت ف الديب لمقمان في سّر ه »مستحيل أن يكون هذا حمقيمقة‪ ،‬حّتى في السراء والمعراج‬ ‫لم يحدث مثل هذا الذي أرا ه‪ ،‬إنه حلم بالتأكيد«‬ ‫هت ف ملك الملو ك مرة يثانية »ها« وإذا بالفضاء يعج بمئات آل ف الجان المجّنحين الذين‬


‫حجبوا ضوء الشمس‪ ،‬وقد توّقفوا في الفضاء في يصفو ف كبيرة ُمرّبعة‪ .‬هتفوا وهم‬ ‫يفردون أجنحتهم »ها‪ .‬ها‪ .‬ها‪«.‬‬ ‫هت ف ملك الملو ك العبارة بدور ه وراح يخاطب الجيوش بلغة الجن‪ ،‬فيما بادرت الميرة‬ ‫نور السماء إلى الترجمة للديب لمقمان‪:‬‬ ‫»أشكر من أعما‪.‬ق قلبي‪ ،‬الملو ك الُحمر‪ ،‬وال ّ‬ ‫طوائ ف الحمر‪ ،‬والجيوش الُحمر‪ ،‬الذين ظّلوا‬ ‫مخلصين لي‪ ،‬وحافظين للعهد وأوفياء له‪ ،‬رغم غيابي ال ّ‬ ‫طويل‪ ،‬في غياهب سجون الملك‬ ‫سليمان الجّبار‪..‬‬ ‫يا أبناء الجن الِعظام‪ ،‬إنني إذ أدين اليوم بحّريتي لبن النس البار الديب لمقمان العظيم‪،‬‬ ‫الذي فّك أسري‪ ،‬وأتاح لي تلّمس طريق الحرية‪ ،‬بعد يثاليثة آل ف عام من الحشر الفظيع‪،‬‬ ‫لعلن تتويجه ملكاً أعلى على جميع الجن الحمر‪ ،‬وأطلب إليهم‪ ،‬أن يكونوا في خدمته‪،‬‬ ‫ويطيعوا أمر ه‪ ،‬ويمقّدموا له ُكّل ما يستطيعون وا على ما نمقول شهيد!‬ ‫عاش ملك ملو ك الملو ك الديب لمقمان العظيم!«‬ ‫ترددت في مخّيلة الديب لمقمان بعض الكلمات وايصفا ً بها ملك الملو ك‪:‬‬ ‫»لولم يكن جّنيا ً ويخاطب جنّا ً لمقل ت أّنه قادم من قصر دكتاتور ما على الرض«‬ ‫دّوت الصحراء والسماء بالهتا ف الذي أطلمقه ملك الملو ك وُأنِكَس ت الّرماح والّسيو ف‬ ‫وُأسبل ت الجنحة تحّية للديب لمقمان الذي مّد يد ه اليمنى وراح يحيي الجيوش الجّرارة‪.‬‬ ‫كان الملو ك يصطفون أفواجا ً أفواجاً أمام جيوشهم وقد وق ف خلفهم قادة الجيوش ونّوابهم‬ ‫يثم آل ف آل ف الجنود‪.‬‬ ‫يصرخ ملك الملو ك يصرخة ُأخرى بالجيوش وإذا بها تتهّيأ في حركة استعداد‪.‬‬ ‫أيصدر الملك شمنهور أوامر ه بنزع السالح من أيدي بني البشر ووضعه تح ت حراسة‬ ‫مشددة‪ ،‬متمقّيدًا بالتعليمات التي أشار إليها الديب لمقمان‪ .‬وما أن أنهى إيصدار أوامر ه‪،‬‬ ‫حتى أومأ بحركة من يد ه وهو يهت ف »ها« فشرع ت الجيوش في الختفاء من السماء‬ ‫وعن وجه الرض‪ ،‬بنفس الطريمقة التي اكتسحتها بها‪ ،‬لتختفي خالل لحظات وكأنها لم‬ ‫تكن‪.‬‬ ‫وأطر ف ما حدث بعد ذلك أن الديب لمقمان أح ّ‬ ‫س بيد وكأنها تصافح يد ه وتطلمقها‪ ،‬يثّم‬ ‫بمسّدسه ينتزع من تح ت حزامه ويبتعد عنه في الفضاء‪ ،‬غير أن الميرة نور السماء‬ ‫والملك شمنهور تحّديثا بلغة الجن فتوّق ف المسد س في الفضاء‪.‬‬ ‫أدر ك الديب لمقمان أن أحد جنود الجن قد أخذ مسّدسه فاندهش أشد الندهاش لهذ ه الّدقة‬ ‫الفائمقة التي يتمّتع بها جنود الجن في تطبيق الوامر‪ .‬إذ لم يدر في خلد ه حين أبدى رغبته‬ ‫إلى ملك الملو ك بنزع الّسالح‪ ،‬أّن أّول قطعة سالح ستنتزع من أيدي البشر ستكون‬ ‫مسّدسه الذي نسي أّنه يحمله‪.‬‬ ‫هت ف ملك الملو ك‪:‬‬ ‫»هل يسمح مولي للجندي بأخذ سالحه؟«‬ ‫»إّنه ليس في حاجة لطلب الّسماح أيها الملك‪ ،‬لمقد قام بواجبه خير قيام‪ ،‬وأرجو أن تكاِفئه‬ ‫على حسن يصنيعه«‬


‫وأشار ملك الملو ك بحركة من يد ه وإذا بالجندي يظهر في الفضاء والمسّد س في يد ه‪.‬‬ ‫خاطبه بلغة الجن‪ .‬أّدى الجندي الّتحية بحركة من يد ه وانصر ف محّلمقا ً دون أن يختفي إلى‬ ‫أن توارى عن النظار‪.‬‬ ‫»عّينته قائداً على أل ف جندي ووهبته إحدى بنات الملو ك يا مولي«‬ ‫»حسنا ً فعل ت أّيها الملك«‬ ‫كان الصوت يأتي من فم ملك الملو ك وكأّنه جعجعة قادمة من سفح جبل‪ .‬نظراً لطول‬ ‫عنمقه وعلّو رأسه وضخامته‪ ،‬وابتعاد فمه عن الديب لمقمان‪.‬‬ ‫»لو أّنك تعود إلى الشكل النساني أيها الملك‪ ،‬إن شكلك الحالي ُيرعبني!«‬ ‫قهمقه ملك الملو ك وهو يتضاءل فيما الميرة نور السماء تأخذ بيد الديب لمقمان وتنزل به‬ ‫إلى الرض‪.‬‬ ‫وق ف ملك الملو ك في هيئة إنسي أضف ت عليه جمالً فائمقًا‪ ،‬مما حدا بالديب لمقمان أن‬ ‫يطلب إليه أن يبمقى دائما ً في هذ ه الهيئة‪.‬‬ ‫»أمر مولي ملك ملو ك ملو ك الجن الحمر العظيم!«‬ ‫»أل يكفي أيها الملك ما فعلته وما ستفعله من أجلي حتى تكافئني وتجعلني ملكا ً عليك‬ ‫وعلى ملو ك الجن؟«‬ ‫»لو أمرني مولي أن أطّوع النس وطوائ ف الجن جميعا ً لخدمته لفعل ت«‬ ‫»أنا لم أفعل شيئا ً أيها الملك أستحّق عليه كل هذا الكرام‪ ،‬الذي يبدو أمامه حتى إكرام ا‬ ‫للنبياء ضئي ً‬ ‫ال‪ ،‬ويبدو لي لو أّنك عرف ت بعض بني البشر الذين عرفتهم لفّكرت أل ف مّرة‬ ‫قبل أن تمقّدم لي أّية مكافأة!«‬ ‫»هل أجحفو ك حّمقك وغدورا بك وقابلو ك بالسوء إلى هذا الحد يا مولي؟«‬ ‫»أجل أّيها الملك‪ ،‬لم يؤلمني شيء في حياتي أكثر مما آلمني غدر اليصدقاء‪ ،‬بعد شمقائي‬ ‫من أجلهم وعطفي عليهم ومحّبتي لهم! إّن عس ف النظمة كان يبدو لي أمام ذلك أمراً‬ ‫ممقبو ً‬ ‫ل«‬ ‫»هل ُأحضر لك هؤلء الخسيسين وأمثالهم لتمقت ّ‬ ‫ص منهم يا مولي؟«‬ ‫»ل أيها الملك‪ ،‬إّني ل أسعى إلى المقصاص والنتمقام‪ ،‬بل إلى إيصالح ما فسد في البشر‪،‬‬ ‫وزرع المحّبة والخير في نفوسهم بدلً من الّشرور واليثام‪ .‬وإّني لمل أن أتمكن أنا‬ ‫بدوري من قتل الّشر وشهوة النتمقام في نفسي أيضًا«‬ ‫»وهل يوجد بين بني البشر من هم بهذ ه الوضاعة والخّسة والّنذالة يا مولي؟«‬ ‫»أجل أيها الملك ورّبما أكثر مما نتصّور أنا وأن ت‪ ،‬فحاذر‪ ،‬حاذر من أن أغدر بك أّيها‬ ‫الملك وأعيد ك إلى المقممقم!«‬ ‫»أنا وايثق من أّنك لن تفعلها يا مولي«‬ ‫»كن ت طيبا ً وعلى نّيتي مثلك‪ ،‬لكني كن ت أتخوز‪.‬ق دائما ً أّيها الملك‪ ،‬مشكلتي معك أني ل‬ ‫أعر ف بماذا سأكافئك الن أو في المستمقبل«‬ ‫»مكافأتك لي أن تظّل طّيبا ً معي ومع الميرة نور الّسماء كما أن ت يا مولي«‬ ‫»هل تريان أنني طيب حمقاً أيها الملك‪ ،‬أنا في نظر كثيرين شّرير لنني ملحد وزان«‬


‫»أجل يا مولي‪ ،‬إنني ل أرى فيك إل الطيبة مهما ألحدت وزني ت«‬ ‫وهتف ت الميرة نور السماء‪:‬‬ ‫»وأنا لم أَر من هو أطيب منك بين النس والجن يا مولي‪ ،‬إني أرى نور المحّبة يشّع‬ ‫من عينيك ويلوح على جبينك!«‬ ‫»أشكركما أّيها العزيزان‪ ،‬لمقد أعدتماني إلى الحياة بكل أّبهتها وجمالها‪ ،‬وآمل أن أظّل‬ ‫طّيبا ً وعند حسن ظّنكما‪ .‬ماذا سنفعل الن أيها الملك؟«‬ ‫»ما يأمر به مولي«‬ ‫»هل شرع ت الجيوش في نزع السلحة؟«‬ ‫»انظر إلى السماء لترى يا مولي«‬ ‫نظر الديب لمقمان نحو السماء فشاهد آل ف الّدبابات والمجنزرات والمصّفحات والليات‬ ‫والطائرات والمدافع والزوار‪.‬ق وال ّ‬ ‫صواريخ والطوربيدات والغّوايصات والبناد‪.‬ق‪ ،‬وغير‬ ‫ذلك‪ ،‬من كافة أنواع السلحة‪ ،‬تمقذ ف في الفضاء بشكل عشوائي‪ ،‬وكأن ريحا ً عاتية‬ ‫تعص ف بها‪ .‬فمقد كان ت محمولة على ظهور الجن أو على أكتافهم أو بأيديهم‪.‬‬ ‫أح ّ‬ ‫س الديب لمقمان بفرح غامر وهو يهت ف في سريرته‪:‬‬ ‫»اليوم ستوّدع البشرية المقتل والحروب وسفك الّدماء إلى غير رجعة« ونظر نحو ملك‬ ‫الملو ك‪:‬‬ ‫»أين أمرت الجيوش أن تمقذ ف بكل هذ ه السلحة أّيها الملك‪ ،‬أراها توغل بعيداً في‬ ‫الفضاء«‬ ‫»أمرتهم أن يمقذفوها على المقمر يا مولي«‬ ‫»حسنا ً فعل ت‪ .‬ح ّ‬ ‫ضر لي نفسك للخطوة الثانية أيها الملك«‬ ‫»أنا جاهز يا مولي«‬ ‫»سننطلق إلى الفضاء ونبحث عن كوكب ذي حياة نمقيم عليه‪ ،‬لكن خارج المجموعة‬ ‫الشمسّية إذا أمكن‪ .‬هنا ك سننظم شؤوننا وننظر في أمور البشر ونشرع في رحالتنا إلى‬ ‫الكوان والعوالم المجهولة«‬ ‫»هل يسمح لي مولي بايصطحاب الميرة ظل المقمر والحورّيات الخريات؟«‬ ‫»هذا حمقك أيها الملك‪ ،‬لكن ألسن كثيرات عليك؟«‬ ‫وراح ملك الملو ك يضحك‪:‬‬ ‫»كثيرات يا مولي؟! إني أشعر بشهوة تدفعني لمواقعة آل ف الّنساء من الجن والنس!«‬ ‫»أي حرمان هذا الذي تعاني منه أيها الملك؟ لكن‪ ،‬هل هُّن راضيات أم أّنك ترغمهن‬ ‫على مرافمقتك؟«‬ ‫»ل يا مولي‪ ،‬إنهّن راضيات قانعات‪ ،‬وكّن يحلمن بويصالي والتمقّرب إلّي‪ ،‬أل ترى‬ ‫الّسعادة تطّل من عيونهن‪ .‬سأكتفي بهن الن‪ ،‬لكني سأحضر إحدى وتسعين أميرة‬ ‫وحورية فيما بعد لكملهّن على المائة!«‬ ‫»مائة؟ تريد مائة حورّية وأميرة أيها الملك؟«‬ ‫»ُسليمان كان إنسياً يا مولي وكان لديه أل ف‪ ،‬فهل تستكثر مائة على ملك الملو ك‬


‫شمنهور الجبار؟«‬ ‫»أن ت محق أيها الملك‪ ،‬ليكّن عشرة آل ف إن شئ ت«‬ ‫»أشكر مولي«‬ ‫»هيا أرني كي ف ستمقّلنا إلى الفضاء الّسحيق!«‬ ‫»هل لي بسؤال يا مولي؟«‬ ‫»تف ّ‬ ‫ضل«‬ ‫»لماذا توّد البتعاد عن كوكب الرض مع أن أهلك وذويك ومعارفك يمقيمون عليه؟«‬ ‫»لمقد أتعبني أبناء هذا الكوكب أيها الملك‪ ،‬حتى أهلي وأقاربي أتعبوني‪ ،‬ولم أعد قادراً‬ ‫على التوايصل مع النا س‪ ،‬طالما هم على هذ ه الحال‪ ،‬سأعود إليهم إذا ما استطع ت‬ ‫إيصالحهم وقتل الشر في نفوسهم وإغناء المحّبة والخير‪ ،‬وإذا ما احتج ت إلى رؤية أحدهم‬ ‫أو بعضهم‪ ،‬سأحضرهم إلى كوكبنا‪ ،‬وقد نمقوم ببعض الزيارات‪ ،‬المهم أن تدعنا ننصر ف‬ ‫الن«‬ ‫انصر ف ملك الملو ك إلى التجوال في الّروضة المسحورة وهو يتفّو ه بكلمات من لغة‬ ‫الجن ويحّر ك يديه أعلى وأسفل‪ ،‬وفجأة انفعل وراح يصرخ معّنفًا‪ ،‬يثّم أسرع في خطو ه‬ ‫إلى أن بلغ جانب الّروض ووق ف في مواجهة الصحراء‪ .‬توّق ف عن الكالم وأخذ يرقب‬ ‫الفضاء بمقلق وتوّجس‪.‬‬ ‫ظهرت في الّسماء مركبة فضائية بحجم فند‪.‬ق ضخم‪ ،‬لم يكن لها أي يصوت‪ ،‬ولم تكن‬ ‫تخّل ف وراءها أي لهب‪ ،‬وقد رافمقها آل ف الجن المحّلمقين عن جانبيها ومن خلفها‪.‬‬ ‫ح ّ‬ ‫ط ت في الصحراء على ممقربة منهم‪ ،‬فيما ظّل الجن يحّلمقون في الفضاء‪ .‬بدت المركبة‬ ‫للديب لمقمان كنسٍر هائل يضّم جناحيه لالنمقضاض على فريسته‪ ،‬وقد ارتكزت على‬ ‫قاعدتين كبيرتين بدتا كمقدمي إنسان دون أيصابع‪ ،‬وانتصب باقي الجسم في الفضاء لينتهي‬ ‫ س كالمنمقار ال ّ‬ ‫طويل‪.‬‬ ‫إلى رأ ٍ‬ ‫»من أين أتي ت بهذ ه المركبة الهائلة أيها الملك؟«‬ ‫»إنها مركبة مسحورة يا مولي«‬ ‫»مسحورة وتفعل كل هذ ه المعجزات العلمّية؟«‬ ‫»أجل يا مولي«‬ ‫»وهل فيها رائد أم أنها تطير وحدها؟«‬ ‫»أجل يا مولي‪ ،‬فيها رائد ومساعدون وفيها خدم وغر ف نوم‪ ،‬وفيها كل أجهزة‬ ‫التصالت والرؤية واللتمقاط والبث والتصوير والستشعار والتشويش‪ ،‬وفيها مسبح‬ ‫وحديمقة ويصالة رياضة‪ ،‬ومطابخ ويصالت طعام وأروقة وقاعات ومتنّزهات‪ ،‬وكل ما‬ ‫يخطر على البال‪ ،‬ومعظم هذ ه الكلمات لم أسمع بها إل قبل لحظات ول أعر ف ماذا تعني‬ ‫يا مولي!!«‬ ‫»وتمقولون أّن عمقولكم يصغيرة؟! لكن لماذا بدوت منفعالً قبل قدوم المركبة؟«‬ ‫»لني لم أرد أن تمقطع هذ ه المسافات البعيدة محمولً على كت ف أحد الجن يا مولي‪،‬‬ ‫فطلب ت إلى كل الملو ك أن يبحثوا عن أحدث مركبات الكون ويأتوني بواحدة مثلها«‬


‫»هل هذا يعني أّن هذ ه المركبة مسحورة عن أحدث مركبة في الكون؟«‬ ‫»نعم يا مولي«‬ ‫»وهل مثيالتها من يصنع بشر أم من يصنع جن؟«‬ ‫»بل من يصنع بشر يا مولي‪ ،‬فنحن معشر الجن ل نستطيع أن نفعل مثل هذ ه‬ ‫الختراعات‪ ،‬أو أننا ل نحاول ذلك لننا نطير ونستطيع الذهاب إلى أي مكان«‬ ‫»وأين يمقيم هؤلء البشر أيها الملك؟«‬ ‫»قالوا لي أّنهم يمقيمون على كوكب في الفضاء البعيد يا مولي!«‬ ‫»لبّد لي من زيارة هؤلء‪ ،‬ولبّد لي من معرفة أسراركم أّيها الجن‪ ،‬فأنتم تفعلون‬ ‫المعجزات ومع ذلك تعجزون عن بعض الختراعات‪ ،‬وتعجزون عن إبطال مفعول‬ ‫السلحة‪ ،‬وبالتأكيد تعجزون عن إحياء الموتى‪ ،‬أم لعّلكم تستطيعون؟«‬ ‫»ل يا مولي‪ ،‬هذا ما ل يمقدر عليه إل ا«‬ ‫»وهل تستطيعون أن تميتوا الحياء؟«‬ ‫»بالمقتل فمقط يا مولي‪ ،‬إذ ليس بإمكاننا أن نمقول لكائن ما »ُم ت« فيموت‪ ،‬أو »ِع ْ‬ ‫ش«‬ ‫فيعيش«‬ ‫»لكنك تستطيع أن تمسخ كائنا ً ما إلى آخر‪ ،‬كأن تحّول إنسيا ً إلى سحلية مث ً‬ ‫ال«‬ ‫»بالتأكيد يا مولي‪ ،‬لنني أعرفهما وشاهدتهما بعيني!«‬ ‫»وماذا عن الحياة والموت‪ ،‬فأن ت ترى الحياة أمام عينيك‪ ،‬وبالتأكيد شاهدت الموت؟«‬ ‫»لكني ل أعر ف ِسّر الحياة ول أعر ف سّر الموت يا مولي«‬ ‫»حمقا ً إّنك تحّيرني أيها الملك أن ت ومعشر الجّن‪ ،‬لبّد لي من معرفة طاقاتكم كي أعر ف‬ ‫ما هي حدود المقّوة التي بين يدي«‬ ‫»سأخبر مولي بذلك متى أراد‪ ،‬لكن ل يوجد بين الجن الحمر من هو بممقدرتي‪ .‬فأنا‬ ‫المقادر القوى بين هؤلء‪ ،‬ولهذا كن ت ملك ملوكهم«‬ ‫»هذا ما ُيسعدني أيها الملك‪ ،‬هل ننطلق الن؟«‬ ‫»تف ّ‬ ‫ضل يا مولي«‬ ‫اقترب الديب لمقمان وملك الملو ك والميرة نور الّسماء من المركبة فانفتح باب جانبي‬ ‫نزل منه سّلم قصير وأطّل ت منه فتاة ذات جمال أّخاذ‪.‬‬ ‫أحن ت الفتاة رأسها احتراماً وأشارت بيدها إلى داخل المركبة أن تف ّ‬ ‫ضلوا‪.‬‬ ‫يصعد الديب لمقمان ودخل المركبة ليجد نفسه في ما بدا له ممقصورة إمبراطورية‪ .‬تبعه‬ ‫ملك الملو ك والميرة نور السماء فالجّنيات التسع‪.‬‬ ‫»ل بأ س بهذ ه الممقصورة يا مولي‪ ،‬آمل أن تكون الّرحلة مريحة«‬ ‫»آمل ذلك أيها الملك‪ ،‬لكن أين قائد المركبة؟«‬ ‫»إنه يمق ف معنا يا مولي!«‬ ‫»ألن نرى شكله؟«‬ ‫»لن تتسع المركبة لحجمه الحمقيمقي يا مولي!«‬ ‫»ليظهر في شكل إنسي كما أنتم أّيها الملك«‬


‫ولم يكد الديب لمقمان ينهي كالمه‪ ،‬إل وقائد المركبة يمق ف أمامه ويمد يد ه مصافحا ً‬ ‫ومرّحبا ً ومعّرفا ً بنفسه‪:‬‬ ‫»قائد مركبة الّنجوم الرائد عزيزون يا مولي!«‬ ‫تأّمله الديب لمقمان للحظة وهو يدر ك أن هذا ليس شكله الحمقيمقي‪.‬‬ ‫»قل لي أيها الرائد«‬ ‫»أمر مولي«‬ ‫»ما هي سرعة مركبتك؟«‬ ‫»ما هي أقصى سرعة تعرفونها أنتم معشر البشر من سّكان الرض يا مولي؟«‬ ‫»سرعة الضوء أيها الرائد‪ ،‬لكن إّيا ك أن تمقول لي أن مركبتك ستنطلق بسرعة الضوء‪،‬‬ ‫لن هذا سيكون أكبر من أن يحتمله العمقل!«‬ ‫ضحك‪ ،‬وظل يضحك إلى أن زجر ه ملك الملو ك وطلب إليه ألّ‬ ‫وشرع رائد المركبة في ال ّ‬ ‫يضحك في حضرة مول ه‪.‬‬ ‫»سأنطلق بسرعة خيالية يا مولي إذا كان الفضاء أمامي خاليًا!«‬ ‫دهش الديب لمقمان الذي لم يسمع تعبيراً كهذا في حياته‪.‬‬ ‫»كي ف تكون الّسرعة الخيالية أيها الرائد؟«‬ ‫»الّسرعة التي ل يمكن أن يدركها إل العمقل الخار‪.‬ق يا مولي!«‬ ‫»اضرب لي مثالً عن مدى هذ ه السرعة«‬ ‫»يمكنك أن تضع يا مولي رقما ً تمقريبياً يزيد أل ف ضع ف على القل عن سرعة الضوء‪،‬‬ ‫وهذ ه الّسرعة قابلة للزيادة أو النمقصان حسب حال الفضاء الذي أجتاز ه‪ ،‬وحسب الّسرعة‬ ‫التي أقرر أنا النطال‪.‬ق بها«‬ ‫همد الديب لمقمان على ممقعد خلفه واحتضن رأسه بيديه وراح يجزم لنفسه أنه حمقا ً في‬ ‫ت به إل‬ ‫كابو س‪ ،‬وشرع يلعن في نفسه الساعة التي فّكر فيها في النتحار‪ ،‬والتي لم تأ ِ‬ ‫إلى هذا المكان بالذات‪ ،‬ليجد نفسه في هذ ه الورطة الخيالية العجيبة‪ ،‬التي رّبما لم يكن في‬ ‫حاجة إليها‪.‬‬ ‫رفع رأسه وألمقى نظرات مصحوبة بدهشة شديدة نحو قائد المركبة‪:‬‬ ‫»هل تعر ف أيها الرائد أن سرعة الضوء مائة وستة ويثمانون أل ف ميل في الثانية‪ ،‬وأننا‬ ‫إذا انطلمقنا بهذ ه السرعة سنبلغ المقمر الذي يبعد عّنا قرابة مائتين وأربعين أل ف ميل خالل‬ ‫يثانية وربع فمقط‪ ،‬وسنبلغ الشمس التي تبعد عّنا قرابة يثاليثة وتسعين مليون ميل خالل‬ ‫يثماني دقائق وربع؟!«‬ ‫وقاطعه رائد المركبة بتواضٍع جم ينّم عن معرفة علمّية عالية‪ ،‬ويثمقة عالية بالنفس‪:‬‬ ‫»وسنحتاج يا مولي إلى أربع سنوات ونص ف لنصل إلى أقرب نجم إليكم بعد الشمس!«‬ ‫»تمقول أربع سنوات ونص ف؟«‬ ‫»إذا انطلمقنا بسرعة الضوء يا مولي!«‬ ‫وأطر‪.‬ق الديب لمقمان للحظات يفّكر‪ ،‬أدر ك أّن الجنّي على حق‪ .‬كي ف غاب ت هذ ه المسألة‬ ‫عن باله؟ لبّد من النطال‪.‬ق بسرعة خيالية كما أشار المقائد‪ ،‬خايصة وأنه ف ّ‬ ‫ضل أن ينمقل‬


‫إلى كوكب خارج المجموعة الشمسّية التي يتبعها كوكب الرض‪ ،‬وهذا يحتاج إلى‬ ‫سرعات تفو‪.‬ق التصّور‪ ،‬ربما كسرعة الُبرا‪.‬ق الذي أيصعد النبي »محمد« إلى السماء‪.‬‬ ‫»هل قل ت لي أنه في ممقدور ك أن تبطئ سرعة مركبتك إذا ما شئ ت ذلك أيها الرائد؟«‬ ‫»إن في ممقدوري كل شيء يامولي‪ ،‬حتى أن أجعلها تنطلق بسرعة الطائر«‬ ‫»هذا عظيم أيها الرائد‪ ،‬لنني أريد أن ألمقي نظرة أخيرة على هذا الكوكب البائس الذي‬ ‫أنتمي إليه‪ ،‬يا لي ت لو تجعلنا نتغّدى على كوكب الزهرة ونتعّشى على المّريخ ونفطر‬ ‫على المشتري‪ ،‬أو قد نوّدع هذ ه المجموعة من المّريخ وننطلق إلى ما نريد دون أن‬ ‫نمقترب من المشتري وزحل وأورانو س ونبتون وبلوتون‪ ،‬فهي وحسب ما اكتش ف‬ ‫علماؤنا ليس ت يصالحة للحياة‪ ،‬ول رغبة لدي الن لمشاهدتها عن قرب«‬ ‫»إني خائ ف عليك من علمائكم يا مولي‪ ،‬وآمل أن يطرح مولي علمهم جانبا ً وأن يطلق‬ ‫العنان لخياله‪ ،‬ويحلم بما يريد وما يرغب في تحمقيمقه‪ ،‬دون الخضوع إلى سلطان العلم‬ ‫وغائية المنطق‪ ،‬فهو بهذا يمقترب مّنا معشر الجن‪ ،‬ويفّكر بعمقليتنا المقادرة على تحمقيق‬ ‫الحالم ويصنع المعجزات‪ ،‬وتمقّبل حدويثها‪ ،‬والهم من ذلك إمكانية حدويثها!«‬ ‫»شكراً للنصيحة أيها الرائد‪ ،‬هل ننطلق؟«‬ ‫»ليكن يا مولي«‬ ‫»ماذا يتوّجب علينا أن نفعل؟«‬ ‫»افعل ماتريد يامولي‪ ،‬اجلس أوانهض‪ ،‬اذهب إلى الحديمقة‪ ،‬أو إلى المسبح‪ .‬لن تشعر بما‬ ‫هو غير عادي يا مولي‪ ،‬وكأّنك جالس على الرض!«‬ ‫س أن تنطلق ببطء لنني أريد أن أوّدع كوكب الرض«‬ ‫»ل تن َ‬ ‫»سأنطلق ببطء يا مولي‪ ،‬يمكنكم الّنظر من النافذة إلى ما تريدون‪ ،‬ويثّمة منظار يمكنكم‬ ‫الستعانة به«‬ ‫أقفل ت الفتاة التي استمقبلتهم باب المركبة‪ ،‬جلس الديب لمقمان والميرة نور السماء على‬ ‫أريكتين متمقابلتين بجوار نافذة‪ ،‬فيما تحّلق ملك الملو ك مع جواريه والميرة »ظل المقمر«‬ ‫حول مائدة مستديرة وأشار إلى فتاة في المركبة أن تحضر لهم خمرًا‪.‬‬ ‫ألمقى الديب لمقمان نظرة عبر النافذة فشاهد آل ف الجن يحّلمقون حول المركبة‪ ،‬فخاطب‬ ‫ملك الملو ك متسائ ً‬ ‫ال‪:‬‬ ‫»لم أحضرت هؤلء الجن لمرافمقتنا أيها الملك؟«‬ ‫»للحراسة والّدفاع يا مولي‪ ،‬فمقد نتعّرض إلى هجوم من النس أو الجن!«‬ ‫»وهل سيظّلون ظاهرين؟«‬ ‫»يف ّ‬ ‫ضل يا مولي كي يرعبوا أّية قوى معادية قد تفّكر في مهاجمتنا«‬ ‫»يبدو أّنك خطط ت لكل شيء أيها الملك«‬ ‫»بل أعواني هم من خططوا ولس ت أنا يا مولي«‬ ‫س‪ ،‬ل أريد سفك دماء«‬ ‫»لكن ل تن َ‬ ‫»حّتى الكائنات الفضائية ل تريد أن نسفك دماءها إذا ما هاجمتنا يا مولي؟!«‬ ‫»الن نحن بمثابة غزاة للفضاء أيها الملك‪ ،‬فبأي حق تريدنا أن نسفك دماء أبنائه؟!«‬


‫»ل أعر ف أين ستودي بنا طيبتك يا مولي؟ آمل أل تمقودنا إلى الهال ك!«‬ ‫»لس ت متشائماً يا مولي لكني ل أعر ف ماذا سنفعل إذا ما هوجمنا«‬ ‫»لكّل حادث حديث أيها الملك‪ ،‬قد نحّل أكبر الشكالت بكلمة طّيبة«‬ ‫»بكلمة طّيبة يا مولي؟«‬ ‫»نعم أيها الملك‪ ،‬فللكلمة في بعض الحيان قوة سحرّية ل تضاهيها أية قّوة«‬ ‫»اعذرني يا مولي‪ ،‬أنا لم أعد أفهم شيئا ً مما تمقوله«‬ ‫»بل تفهم أيها الملك وتعر ف أن ما يكمن خل ف طلسمك وطالسم الجن جميعا ً ليس إل‬ ‫بضع كلمات!«‬ ‫أدر ك ملك الملو ك أّن الديب لمقمان على حق‪ ،‬يثمة سحر ما للكلمة كان يجهله لو لم يلف ت‬ ‫انتباهه إليه‪.‬‬ ‫»أن ت محق يا مولي‪ ،‬وإن كن ت أشك أن الكلمة ستكون مجدية في كل الوقات‪ ..‬أظن أن‬ ‫المركبة انطلمق ت وأن رحلتنا قد بدأت‪ ،‬لنشرب نخب انطالقتنا!«‬ ‫)‪(3‬‬ ‫يصعود إلى الفضاء‬ ‫انطلمق ت المركبة في اتجا ه شبه عمودي إلى أعلى‪ .‬تساءل الديب لمقمان عّما إذا كان ت‬ ‫المركبة مرئية أيضاً من قبل البشر‪ ،‬فأجابته الميرة نور السماء أنها مرئية وأنه ليس في‬ ‫ممقدورهم حجبها عن النظار‪ ،‬فتخّو ف من أن تطلق دولة ما يصاروخا ً عليها مما لم يتم‬ ‫نزعه بعد‪ ،‬فسال ملك الملو ك‪:‬‬ ‫»هل فرغ ت الجيوش من نزع السلحة ووضع الخرى تح ت السيطرة أيها الملك؟«‬ ‫»أجل يا مولي‪ ،‬وعادت معظم الجيوش إلى قواعدها«‬ ‫»ألم ُتر‪.‬ق أّية دماء أيها الملك؟«‬ ‫»ول نمقطة يا مولي«‬ ‫»أحسن ت‪ ،‬وأحسن ت جيوشك العظيمة أّيها الملك«‬ ‫ارتفع ت المركبة عاليًا‪ ،‬كان واضحاً أن الرائد ينطلق ببطء‪ .‬أخذ الديب لمقمان ينظر عبر‬ ‫النافذة ويرقب الرض‪ ،‬فوجئ بمنظار ينتصب أمام عينيه‪ .‬بدت له المقد س وكأنه يرقبها‬ ‫من أعلى قمم جبل الزيتون‪ ،‬مّرت في مخّيلته لمحات سريعة من ذكريات طفولته ويصبا ه‬ ‫في شوارعها‪ .‬شعر أّنه سيبكي فهرب ماّراً بجبل المنطار حيث أّيام الّرعي والفداء فيما‬ ‫بعد! استمقر قليالً يرقب عّمان‪ ،‬وما لبث أن أشاح نظراته إلى دمشق‪ .‬قفزت يصورة ابنته‬ ‫وابنه وزوجته إلى مخّيلته‪ ،‬تبعتها يصور بعض اليصدقاء والذكريات‪ ،‬ولم يتنّبه لنفسه إل‬ ‫والدموع تغرور‪.‬ق في عينيه‪ ،‬وحين هتف ت الميرة نور الّسماء قائلة‪» :‬أن ت تبكي يا‬ ‫مولي؟« أجهش بالبكاء‪ ،‬ولم يعد ينظر عبر النافذة‪.‬‬ ‫أخرج ت الميرة نور السماء منديلها وراح ت تمسح دموعه‪ ،‬فيما ملك الملو ك يهت ف‬ ‫متسائ ً‬ ‫ال‪:‬‬ ‫»ألم تمقل أّنهم أذاقو ك المّرين وأّنهم أفِسدوا يا مولي‪ ،‬فلَِم تذر ف الدمع عليهم؟!«‬


‫»ل أعر ف أيها الملك‪ ،‬نادرة هي اليام التي لم أذر ف فيها الّدموع‪ ،‬ولبسط المسائل‪ ،‬فما‬ ‫بالك وأنا أغادر َمن سيظّلون أهلي وأقاربي وأيصدقائي وأبناء موطني وكوكبي مهما‬ ‫فعلوا‪ ،‬ويبدو أنني عاجز عن كرههم‪ ،‬بل ل سبيل إلى نزع محبتهم من قلبي‪ ،‬يثّم كي ف‬ ‫أنسى الرض التي ولدت وترعرع ت بين أحضانها‪ ،‬في سهولها ووديانها‪ ،‬في جبالها‬ ‫وهضابها‪ ،‬وفي تاللها وروابيها؟!! َأوِعزا إلى رائد المركبة أن يسرع‪ ،‬يبدو أنني ل‬ ‫أستطيع النظر إلى الرض دون أن أبكي«‬ ‫انتمقل ت الميرة نور السماء إلى جانبه وضّمته إلى ُحضنها كطفل‪ ،‬فأخذ يديها وقّبلهما‪.‬‬ ‫اندفع ت المركبة بسرعة هائلة يثّم أبطأت لينطلق يصوت الرائد يرطن بالعربّية المشوبة‬ ‫بالجنّية‪:‬‬ ‫»إذا شئ ت أن تلمقي نظرة على المقمر يا مولي فنحن الن في مدار ه«‬ ‫»هل بلغنا المقمر أيتها الميرة؟«‬ ‫»نعم يا مولي‪ ،‬ولو لم يبطئ الرائد لكّنا الن في مدار الزهرة!«‬ ‫ألمقى الديب لمقمان نظرة على المقمر‪ ،‬كان ت السلحة تنتظم في يصفو ف هائلة الطول‬ ‫والعرض‪ .‬وكادت أن تغ ّ‬ ‫طي سطح المقمر‪ ،‬وقد وضع كّل نوع على حدة‪.‬‬ ‫تساءل ملك الملو ك وهو ينظر من نافذة أيضًا‪:‬‬ ‫»لم أكن أتصّور أن لديكم كل هذ ه السلحة يا مولي‪ ،‬سالحنا كان بسيطا ً في عهد‬ ‫سليمان«‬ ‫»أين أن ت وأين سليمان أّيها الملك‪ ،‬فنحن الن في عهد زّنيم«‬ ‫وأشار إليهم لمتابعة النطال‪.‬ق نحو الّزهرة‪.‬‬ ‫نّدت حركة ما في المركبة‪ ،‬فاندفع ت بسرعة هائلة‪ .‬وبدلً من الحسا س بهذ ه السرعة‪،‬‬ ‫شعر الديب لمقمان بعد لحظات وكأن المركبة توقف ت‪ ،‬حاول طرد بعض التساؤلت من‬ ‫مخّيلته فلم ُيفلح‪ ،‬فراح يستجمع معلوماته البسيطة عن الكون والسرعة وقوانين الجاذبّية‬ ‫وما إلى ذلك‪ ،‬ليجد نفسه يغر‪.‬ق في متاهة لن يخرج منها عاق ً‬ ‫ال‪ .‬فمقرر تناسي كل شيء‬ ‫والستسالم للقدار الجنّية! بل إنه أقسم في نفسه أل يتساءل حتى لو رأى نفسه يتناول‬ ‫طعام الغداء في أتون الشمس دون أن يحتر‪.‬ق‪ ،‬أو يرى نفسه يسير بخطًى يثابتة على‬ ‫كوكب ما‪ ،‬مع أّنه غدا بوزن الريشة‪.‬‬ ‫ألمقى يد ه فو‪.‬ق يد الميرة نور السماء وحاول أن يغفو بعض الوق ت‪ .‬لم يكد يغفو حّتى‬ ‫هاجمته الحالم الفظيعة‪ .‬رأى سّكان الرض ُيغزون من قبل قوة كونية جّبارة مسّلحة‬ ‫بأسلحة فتاكة ول يجدون السالح للدفاع عن أنفسهم‪ .‬يصواريخ عمالقة تد ّ‬ ‫ ك عوايصم العالم‬ ‫لتحيلها إلى ركام‪.‬‬ ‫استيمقظ مذعوراً حين كان ت باريس تدمّر على مرأى منه‪ .‬نظر إلى جانبه‪ ،‬يد ه ما تزال‬ ‫ُملمقاة على يد الميرة نور السماء‪ ،‬والملك شمنهور يجلس على مائدته يداعب بعض‬ ‫الجنّيات فيما أخريات ُيدللنه ويتراقصن من حوله‪.‬‬ ‫»ما بك يا مولي؟«‬ ‫»يبدو أّنه ل سبيل إلى النوم أّيتها الميرة‪ ،‬ويبدو أنني اتخذت قراراً أحمق بنزع أسلحة‬


‫دول الرض ووضع المقواعد تح ت سلطة الجن‪ .‬أليس في ميسوري التصال بالرض أو‬ ‫مشاهدتها لمعرفة ما يجري؟«‬ ‫»سأنمقل رغبتكم إلى قائد المركبة يا مولي«‬ ‫وأخذت جهازاً يصغيراً راح ت تخاطب عبر ه قائد المركبة‪.‬‬ ‫»إنه يحاول يا مولي«‬ ‫أخذت بعض الّستائر المعلمقة على جدارن الممقصورة تنفتح ُيمنة ويسرة أو إلى أعلى‪،‬‬ ‫لتبدو عشرات الجهزة والكاميرات المبثويثة في الجدران‪ ،‬وشاشة شبه تلفزيونية في‬ ‫مواجهته‪ .‬ظهرت بعض ال ّ‬ ‫صور المختلفة لكوكب الرض على الشاشة‪.‬‬ ‫انطلق يصوت قائد المركبة‪:‬‬ ‫»استطعنا السيطرة على كافة مح ّ‬ ‫طات البث التلفزيوني في كوكب الرض‪ ،‬ليأُمر‬ ‫مولي‪ ،‬ماذا ُيريد أن يرى؟«‬ ‫»أرني موسكو أيها المقائد«‬ ‫»هاهي موسكو يا مولي!«‬ ‫ظهرت موسكو على الشاشة ببعض شوارعها وأحيائها‪ :‬هاهي الساحة الحمراء‪،‬‬ ‫الكرملين‪ ،‬البولشوي‪ ،‬المتح ف‪ ،‬جامعة موسكو‪ ،‬شارع جوركي‪ ،‬النا س يتجّولون وليس‬ ‫يثمة ما يشير إلى وجود حرب‪ .‬مّرت في مخّيلة الديب لمقمان بعض يصور ذكرياته‬ ‫الجميلة في المدينة‪.‬‬ ‫»حسناً فعل ت أيها الرائد‪ ،‬أرني باريس ولندن وبّكين وواشنطن ونيويور ك ودلهي ودمشق‬ ‫وبيروت وبغداد وطهران والمقد س!«‬ ‫راح ت يصور العوايصم تظهر على التوالي‪ ،‬لم يبُد ُهنا ك ما يعّكر يصفوها‪ ،‬اطمأن الديب‬ ‫لمقمان وهو يحاول إقناع نفسه أنه حَّمل ُحلمه ما لم يكن وارداً أن يحدث‪ ،‬وأنه مجّرد حلم‬ ‫عابر ل غير‪.‬‬ ‫كان ت يصور المدن والعوايصم ما تزال تتوالى بمرافمقة عز ف أجش على الناي! أبدى‬ ‫الديب لمقمان رغبته إلى الميرة نور السماء في أن تمقوم ببث رسالة إلى أبناء كوكب‬ ‫الرض‪ ،‬فأبدت حماسها وسرورها‪ ،‬غير أن الديب لمقمان طلب أن تبث الكلمة إلى‬ ‫الّشعوب عبر أجهزة التلفاز والراديو حسب لغة كل شعب وفي آن واحد‪ ،‬ولم يكن قادراً‬ ‫على تنفيذ هذ ه المهمة المعمقدة إل ملك الملو ك‪ ،‬الذي كان قد حمل نساَء ه ودخل بهن إلى‬ ‫ممقصورة في المركبة كي يبتعد عن أعين الديب لمقمان والميرة نور السماء‪ .‬خاطبته‬ ‫الميرة بالتخاطر الجنّي طالبة إليه الحضور‪ ،‬فمقدم على الفور شبه عاٍر‪:‬‬ ‫»اعذرني يا مولي‪ ،‬يثاليثة آل ف عام‪ ،‬ل أرا ك ا عذابات سجني‪ ،‬الحياة دون نساء الجن‬ ‫والنس ل تطا‪.‬ق‪ ،‬أليس كذلك يا مولي؟«‬ ‫»ل أعر ف أيها الملك‪ ،‬فأنا لم أعر ف نساء الجن بعد‪ ،‬أما نساء النس فكن ت أمضي‬ ‫أعواما ً في بعض سنّي ُعمري دون أن أتمّكن من موايصلة إحداهن‪ ،‬ومع ذلك كن ت أحتمل‬ ‫الحياة‪ ،‬وإن شعرت أنه يتاح للحيوانات أن تمار س حّمقها الكامل فيها بشكل استحال علّي‬ ‫أن أرقى إليه‪ ،‬يثّم إنني الن في أمر البشرّية ولس ت في أمر النساء«‬


‫»ُمرني يا مولي«‬ ‫»سّخر لي طاقاتك الجّبارة لنمقل كلمة إلى البشرية بكل لغات العالم في آن واحد«‬ ‫يصم ت ملك الملو ك لحظة هو يفر ك عينيه ويهرش رأسه وما لبث أن هت ف‪:‬‬ ‫»ل أعر ف كي ف يمكن أن يتم هذا‪ ،‬ول أعر ف كي ف يخطر على بال مولي مثل هذ ه‬ ‫الطلبات المعمقدة‪ ،‬ول أعر ف أيضاً لماذا يمقلمقه مصير البشرية بهذا المقدر‪ .‬نّفذت أمر ك يا‬ ‫مولي يمكنك مخاطبة بشرّيتك بكل لغاتها الحّية‪ ،‬هل أستطيع العودة إلى فتياتي يا‬ ‫مولي‪ ،‬تركتهن كما خلمقهن ا‪ ،‬إنها المرة الولى في الفضاء الخارجي وبعد‪«..‬‬ ‫»وبعد يثاليثة آل ف عام‪ ،‬لمقد عرف ت ذلك أّيها الملك«‬ ‫»وقد ل تتكرر يا مولي!«‬ ‫راح الديب لمقمان يضحك من طرافة ملك الملو ك ول مبالته العجيبة‪ ،‬والبساطة الشديدة‬ ‫التي يحمقق بها المعجزات التي يطلبها منه‪ ،‬حتى ليبدو عليه وكأنه لم يفعل شيئًا‪ ،‬أو لم‬ ‫يطلب شيئا ً من أحد‪.‬‬ ‫هتف ت الميرة نور السماء‪:‬‬ ‫»لمقد دخلنا مدار الزهرة يا مولي‪ ،‬هل نهبط على الكوكب أم ندور حوله؟«‬ ‫» لنبق في الفضاء إلى أن نوّجه الرسالة‪ ،‬ليخف ف السرعة«‬ ‫»أشرت إليه يا مولي«‬ ‫»حسناً أيتها الميرة‪ ،‬ستظهرين وحد ك على شاشة التلفاز وتوجهين الرسالة التي سأنمقلها‬ ‫لك«‬ ‫»ليكن يا مولي«‬ ‫وراح ينّمقلها ما ستمقوله‪ ،‬ليجد أنها حفظ ت كل جملة بمجّرد انتهائه منها‪ ،‬وحفظ ت الرسالة‬ ‫ُكّلها قبل الظهور على الشاشة‪.‬‬ ‫ُسل َ‬ ‫ط ت إحدى الكاميرات عليها‪ .‬اختف ت يصور مدن الرض عن الشاشة لتظهر يصورتها‪،‬‬ ‫ابتسم ت بموّدة‪ ،‬وظّل ت يصامتة للحظة فيما ابتسامتها تحّلق عبر الشاشة لتضفي عليها‬ ‫روعة أّخاذة‪ .‬نطمق ت بصوت عذب‪:‬‬ ‫»أعزاؤنا أبناء كوكب الرض‪ .‬بالسالم نحييكم وبالمحّبة نلمقاكم‪ ،‬وبالمل المشر‪.‬ق نطّل‬ ‫عليكم ونمّد أيدينا بالورود لكم‪ .‬نحن رسل الخالص البشري‪ .‬رسل المحّبة والسالم‪ .‬رسم‬ ‫المعّذبين واليائسين‪ ،‬رسل البائسين والمشّردين والفمقراء والجوعى‪ .‬رسل الثكلى‬ ‫والحزانى واليتام والمرضى‪ ،‬رسل الحق والحرية والعدالة‪ ،‬رسل الطامحين إلى المحّبة‬ ‫والسالم بين بني البشر‪ ،‬رسل الباحثين عن الخلود النساني‪ ،‬رسل رافعي نامو س العلم‬ ‫والمعرفة‪ ،‬رسل محّبي الحياة‪ ،‬رسل الساعين إلى الجمال السمى‪ ،‬رسل الطامحين إلى‬ ‫الكمال‪ ،‬رسل الهادفين إلى وحدة البشر على كوكب الرض‪ ،‬رسل المكّدين للرقي بمكانة‬ ‫النسان‪.‬‬ ‫أيها العزاء‪ ..‬نحن لسنا آلهة ولسنا أنبياء‪ ،‬نحن بشر مثلكم‪ ،‬شاَءت الظرو ف أن نفوقكم‬ ‫علماً ومعرفة‪ ،‬ومعذرة إذا ما اضطررنا مرغمين إلى السيطرة على أجهزة بّثكم الذاعية‬ ‫والتلفزيونية لبضع دقائق كي نبّلغ رسالتنا لكم‪.‬‬


‫ويسّرنا أيها الحبة أن نعلن لكم بدء عصر جديد هذا اليوم‪ ،‬بعد أن قام ت قّواتنا الخفّية‬ ‫بنزع سالح دول الرض كافة ونمقلته إلى المقمر‪ .‬ووضع ت مح ّ‬ ‫طات وقواعد أسلحة الَّدمار‬ ‫الشامل وجميع مصانع السالح تح ت سيطرتها‪ ،‬دون أن تريق نمقطة دٍم واحدة من دماء‬ ‫أبناء الرض العزاء‪.‬‬ ‫لمقد وّلى عهد الّريصايصة أيها الحّبة وجاء عهد الكلمة‪ ،‬فتحاوروا وتناقشوا‪ ،‬وتشاجروا‬ ‫بالكلمة إن شئتم‪ ،‬وليكن شعاركم المحبة‪ ،‬ونبذ الكر ه ووأد الفساد وإيصالح الّنفس‪ ،‬ولتكن‬ ‫غايتكم الّرقي بالعدالة النسانية ونشدان المعرفة وتطوير العلوم‪.‬‬ ‫استمعوا إلى الُعظماء من الدباء فيكم‪ ،‬والعلماء بينكم‪ ،‬والفالسفة منكم‪ ،‬ول تأخذوا كثيراً‬ ‫برأي الحكام والكهنة وال ّ‬ ‫طوائ ف والحزاب‪ ،‬وأيصحاب رؤو س الموال‪ ،‬فهم في الغالب‬ ‫ليسوا على حق‪.‬‬ ‫إننا إذ نوّدعكم أّيها الحبة على أمل اللمقاء بكم‪ ،‬لن ندعوكم إل إلى ما دعاكم إليه العظماء‬ ‫من آلهتكم ورسلكم وأنبيائكم وقادتكم ومصلحيكم من قبل‪ ،‬فأحّبوا بعضكم‪ ،‬أحّبوا بعضكم‪،‬‬ ‫ومعذرة مّرة أخرى لضطرارنا إلى استغالل أجهزتكم ومح ّ‬ ‫طاتكم‪.‬‬ ‫بالمحّبة لقيناكم‪ ..‬وبالمحّبة نوّدعكم‪« ..‬‬ ‫أحّبتكم‪ :‬رسل الخالص!‬ ‫وأشار الديب لمقمان بيد ه‪ ،‬فاختف ت يصورة الميرة نور السماء من على الشاشة وألغي ت‬ ‫السيطرة ليعود الب ّ‬ ‫ث الرضي العادي‪.‬‬ ‫عانق الميرة مهنئا ً إّياها لنجاحها الفائق في تمقديم الّرسالة‪.‬‬ ‫ظهرت على الشاشة يصورة مذيع عربي‪ .‬اعتذر من المشاهدين معتبراً ما جرى مجّرد‬ ‫خلل فّني‪ ،‬غير أن الحيرة التي كان ت مرتسمة على وجهه فضح ت زيفه‪ ،‬خايصة حين‬ ‫أعلن أّنه سيتر ك المشاهدين مع آيات من الذكر الحكيم!‬ ‫أشار الديب لمقمان إلى الميرة نور السماء أن تبحث عن مح ّ‬ ‫طة أخرى‪ .‬توال ت بعض‬ ‫الصور‪ ،‬ظهر الرئيس كلينتون وإلى جانبه وزير الدفاع المريكي على الشاشة‪ ،‬أشار‬ ‫إليها بالتوق ف‪.‬‬ ‫أكد الرئيس كلينتون للعالم أن ما جرى ليس خيالً بل حمقيمقة‪ ،‬وأن كوكب الرض واقع‬ ‫الن تح ت هيمنة قوى كونية متفّوقة مجهولة وغير ديممقراطية! وليس أمام العالم إل‬ ‫التحاد لمواجهتها‪ ،‬وحين ُسئل عّما يمقصد بمواجهتها وعدم ديممقراطيتها‪ ،‬وكي ف يمكن أن‬ ‫يتم اّتحاد دول الرض‪ ،‬أجاب بأنه لبُّد من فعل شيء كإعالن موق ف موّحد لدول العالم‪،‬‬ ‫وأنها ليس ت ديممقراطية لنها تريد أن تفرض إرادتها على سّكان الرض دون أخذ رأيهم‪،‬‬ ‫أما عن التحاد فيمكن أن يتم بتوحيد الّدول كافة وانتخاب زعيم للعالم!‬ ‫وانسحب الّرئيس كلينتون تاركا ً الحديث لوزير الّدفاع الذي أعلن أسفه لنزع الّسالح‬ ‫بالمقوة‪ ،‬حتى وإن كان ت قّوة سلمّية وأّكد أن المعلومات التي ويصل ت من الشر‪.‬ق الوسط‬ ‫عن هبوط وإقالع مركبة فضائية عمالقة يرافمقها آل ف الجنود الطائرين‪ ،‬هي معلومات‬ ‫مؤكدة‪ ،‬إذ أن أجهزة الّريصد المريكية شاهدت ذلك بالفعل‪ ،‬ولم تمقدر على فعل شيء‪،‬‬ ‫لن السالح كان قد وضع تح ت السيطرة أو نزع من المقّوات‪ ،‬وأعلن الوزير عن اعتمقاد ه‬


‫أن هذ ه المركبة لبّد وأن تكون قد ايصطحب ت معها بشرًا‪ ،‬وأن البيان الذي بُ ّ‬ ‫ث للعالم قد‬ ‫يكون من فعلهم! وأبدى دهشته لهذ ه المعجزة التي جعل ت البشر يسمعون الفتاة ُكّل بلغته‪،‬‬ ‫وأّكد أن هذ ه المسألة يستحيل أن تحدث علميًّا‪ ،‬مما يشير إلى قوى خارقة‪ ،‬قد تكون إلهّية‪،‬‬ ‫وهي التي قام ت بنزع السلحة بطريمقة ل يتصّورها العمقل البشري‪.‬‬ ‫ولم يجب وزير الّدفاع سوى عن سؤال واحد يتعّلق بالكيفية التي تسيطر بها هذ ه المقوى‬ ‫على المصانع وأسلحة الّدمار الشامل‪ ،‬إذ قال‪ :‬يثمة قّوة خفّية تصد المرء عن أي شيء‬ ‫حربي يحاول مَّد يد ه إليه‪ ،‬حّتى لو كان زّراً في جهاز إلكتروني‪ ،‬ولم يعد أمام العاملين‬ ‫سوى مغادرة مواقع عملهم‪ ،‬وانسحب الوزير معتذراً عن الجابة على أية أسئلة أخرى‪.‬‬ ‫ب منه مسّدسه‪ ،‬قال‪:‬‬ ‫ظهرت على الشاشة ممقابلة مع ُشرطي أمريكي يتحّدث كي ف ُسلِ َ‬ ‫»أحسس ت بحركة ماتصطدم بمقراب المسّد س‪ ،‬وحين نظرت رأي ت المقراب ٌيفّتح والمسّد س‬ ‫يخرج‪ ،‬اعتمقدت أّنها ي ٌد شيطانية‪ ،‬مددت يدي لقبض عليها‪ ،‬لكني لم أقبض غير الهواء‪،‬‬ ‫وتابع ت المسّد س وهو يبتعد‪ ،‬ولم تمر سوى لحظة حين شاهدت آل ف المسّدسات والبناد‪.‬ق‬ ‫الطائرة في سماء نيويور ك«‬ ‫همس ت الميرة نور السماء معلنة أن رائد المركبة هبط على كوكب الزهرة‪ .‬أشار الديب‬ ‫لمقمان إليها أن تمهله قلي ً‬ ‫ال ليتابع ما يرا ه على الشاشة‪ ،‬وطلب كأ س بيرة‪.‬‬ ‫ظهر ضابط أمريكي وراح يتحّدث كي ف سلب ت دّبابته‪:‬‬ ‫»كن ت أجلس في دّبابتي أدّخن سيجارة حشيش‪ ،‬أحسس ت بيد خفّية تدغدغ خّدي يثم تحملني‬ ‫بلط ف وتضعني إلى جانب الّدبابة‪ ،‬وخالل لحظة شاهدت الّدبابة تطير وهي تنمقلب رأسا ً‬ ‫على عمقب‪.‬‬ ‫اعتمقدت أّن ما يجري هو محض خيال بتأيثير سيجارة الحشيش‪ ،‬فُرح ت أضحك‪ ،‬وحين‬ ‫شاهدت كل دّبابات المقاعدة وآلياتها ومدافعها تطير في الّسماء وكأّن عايصفة تمقذ ف بها‪،‬‬ ‫أغرق ت في الضحك‪ ،‬وحين شاهدت الجنود والضباط ينظرون إلى السماء هلعين‬ ‫مذعورين‪ ،‬تبّول ت على نفسي من شّدة الضحك‪ ،‬أما حين يصفّعني أحدهم كفّا ً وهو يتساءل‬ ‫عّما يضحكني وينعتني بالحمق‪ ،‬كدت أموت من الضحك‪ ،‬لنني أدرك ت أنه ل يستطيع‬ ‫أن يتخّيل الصورة التي أراها‪ ،‬ويبدو أّنه ُأغمي علّي من الضحك بعد ذلك‪ ،‬ولم أستيمقظ إل‬ ‫في المستشفى‪ ،‬لدر ك أّن ما جرى حمقيمقة وليس خيالً أو وهما ً مبعثه سيجارة الحشيش‪.‬‬ ‫وحين ُسئل الضابط عن شعور ه الن‪ ،‬أجاب أّنه سعيد وفرح جداً لنه لن يمقتل أحداً بعد‬ ‫اليوم‪ ،‬وأن لحظات الّسعادة التي أح ّ‬ ‫س بها حينئذ كان ت أمتع لحظات حياته‪ ،‬غير أّنه‬ ‫استدر ك مشيراً إلى أّنه لو لم يكن واقعاً تح ت تأيثير سيجارة الحشيش لما أح ّ‬ ‫س بالسعادة‬ ‫والفرح إلى هذا الحد‪ ،‬ولما عاش هذ ه اللحظات الممتعة التي يستحيل أن تنسى‪ ،‬كما‬ ‫عاشها وبهذ ه الصورة‪.‬‬ ‫وحين استفسرت منه المذيعة أن يو ّ‬ ‫ضح ما يمقصد ه أجاب‪:‬‬ ‫»كن ت أظن أن ما يجري هو من فعل خيالي وحدي‪ ،‬وأّنه نابع من ذاتي ويعّبر عن‬


‫رغبات في نفسي‪ ،‬وأن النا س ل يرونه مثلي ول يشعرون به طبعًا!«‬ ‫ضابط آخر لم يكن محششاً أجاب أنه أيصيب بالهلع وكاد أن يجن وهو يرى السالح‬ ‫المريكي يمقذ ف بعيداً في السماء‪ ،‬وأنه الن ليس سعيداً وليس غاضبا ً طالما أن السالح‬ ‫ُنزع من الرض ُكّلها‪.‬‬ ‫وراح ت المذيعة تتحدث عن الهلع وعشرات آل ف حالت النهيار العصبي المتفاوتة‬ ‫التي أيصاب ت كثيرين من النا س في العالم‪.‬‬ ‫انمقبض الديب لمقمان للحظات‪ ،‬ولم يأخذ راحته إل بعد أن أّكدت المذيعة أّن كافة الحالت‬ ‫تمكن معالجتها بسهولة‪.‬‬ ‫ظهرت مذيعة أخرى لتمقّدم بعض ال ّ‬ ‫صور التي ُأمكن أخذها للمركبة وللكيفية التي نزع بها‬ ‫الّسالح‪ ،‬فراح ت الشاشة تعرض آل ف أنواع السلحة الحربّية المتمقاذفة في الفضاء‪ .‬كان ت‬ ‫مشاهد خيالّية حمقًا‪ ،‬وأشبه ما تكون بعوايص ف هوجاء تمقذ ف بكل هذا الّركام إلى العالي‪.‬‬ ‫ابتسم الديب لمقمان وهو يتمّنى في سّر ه أن يكون كل هذا الذي يجري حمقيمقة‪ ،‬وأن ل‬ ‫يستيمقظ لحظة ليدر ك أّنه مجّرد خيال أو حلم عجيب طويل‪.‬‬ ‫أخبر الميرة أّنه جائع وأّنه يف ّ‬ ‫ضل تناول الغداء داخل المركبة لنه يريد متابعة ما يجري‬ ‫على كوكب الرض‪ .‬وألمقى نظرة على ساعته ليدر ك أّنه لم يعد لتوقيتها ُهنا أي معنى‬ ‫لختالفه عن توقي ت الرض‪.‬‬ ‫جاءت مضيفة المركبة وسأل ت عما يحّبون أن يأكلوا‪ ،‬فمقال الديب لمقمان »أي شيء«‬ ‫وتابع ما تبّثه الشاشة‪.‬‬ ‫انته ت مشاهد نزع الّسالح وأعلن ت المذيعة أنهم سيعيدون عرض تسجيل الكلمة الموجهة‬ ‫إلى كوكب الرض كما أذاعتها الفتاة »ساحرة الجمال« التي ظهرت على الشاشة‪.‬‬ ‫»إنهم يمقولون عنك »الفتاة ساحرة الجمال« أيتها الميرة«‬ ‫»وهل أنا كذلك يا مولي؟«‬ ‫ ت تعرفين ذلك أيتها الميرة«‬ ‫»أن ِ‬ ‫»آمل أن أظَّل ساحرة في عينيك يا مولي«‬ ‫»بل ساحرتي أيضا ً أيتها الميرة«‬ ‫وامتدت مائدة كبيرة عليها أنواع متعددة من الطعمة والمشروبات‪ .‬أبدى الديب لمقمان‬ ‫رغبته في أن يتناول الجميع الطعام معه ونهض ليجلس إلى المائدة‪ .‬أح ّ‬ ‫س أن وزنه قد‬ ‫نمقص قرابة عشر كيلو غرامات‪ ،‬لبّد أن هذا حدث نتيجة لجاذبية الزهرة التي تمقل عن‬ ‫جاذبية الرض‪ .‬وكان ت الحرارة مرتفعة بعض الشيء‪ ،‬وشعر أن تنّفسه لم يعد كما يرام‪،‬‬ ‫ويبدو أن الجن لم يشعروا بما كان يشعر به‪ .‬أوعز إلى قائد المركبة فاتخذ إجراءات‬ ‫سريعة لمعالجة المر‪ ،‬حتى عاد الجو وكأّنه على الرض‪.‬‬ ‫فوجئ الديب لمقمان بأكثر من مائة جّني وجّنية يعملون على المركبة‪.‬‬ ‫أفردت موائد لستيعاب الجميع‪ ،‬وما أن جلسوا حتى رفع الديب لمقمان كأسه وشرب‬ ‫نخبهم‪.‬‬ ‫كان ت الميرة نور السماء بادية على الشاشة وهي تمقّدم الرسالة‪.‬‬


‫سألها الديب لمقمان‪:‬‬ ‫»ما رأيك بكلمات الرسالة أّيتها الميرة؟«‬ ‫»إنها جميلة ومعّبرة وتبعث الطمأنينة في نفو س النا س يا مولي«‬ ‫»وأن ت أّيها الملك ما رأيك؟«‬ ‫»أرى أنها تحمل إلى النا س من المحّبة ما هو أكثر من الممكن‪ ،‬وتدعو إلى المحّبة بما‬ ‫هو أكثر من الممكن أيضًا‪ ،‬وتطالب بتحمقيق محّبة غير ممكنة!«‬ ‫»لَِم أن ت متشائم أيها الملك؟«‬ ‫»عش ت يثاليثة آل ف عام هي نص ف عمري خارج الّسجن‪ .‬لم أَر فيهما إل المقتل وسفك‬ ‫الدماء حتى من اللهة أنفسهم‪ ،‬ولم يحمقق أحد المحّبة التي كان يسعى إليها بعض اللهة‬ ‫الخرين‪ ،‬وأظن أن تجربة البشر في يثاليثة آل ف العوام التي قضيتها في السجن لم تغّير‬ ‫من المر شيئًا‪ ،‬رغم دعوات اللهة والنبياء والّرسل الالحمقين!«‬ ‫»كان ذلك في المقدم أيها الملك‪ ،‬أما الن وبعد أن عان ت المم من ويالت الحروب أظّن‬ ‫أن المر سيختل ف‪ ،‬وقد تحمقق البشرية بالمحّبة ما لم تحمقمقه يوما ً بالحروب«‬ ‫»ل أظن يا مولي أّنه يمكن تحمقيق المحبة بالمحّبة؟!«‬ ‫»ويحك أيها الملك‪ ،‬وهل يمكن تحمقيق المحبة بالحرب؟!«‬ ‫»ل يا مولي‪ ،‬وبالحرب أيضا ً لن تتحمقق المحبة«‬ ‫»بَم إذن أيها الملك؟«‬ ‫»يبدو لي أن الحياة ستبمقى كما هي عليه يا مولي‪ .‬حب وحرب‪ ،‬سعادة وشمقاء‪ ،‬ورد‬ ‫وشو ك‪ ،‬حرّية وسجن‪ ،‬عدالة وظلم‪ ،‬وإذا كن ت تحّبني فإن محّبتي لن تحول دون أن يأتي‬ ‫أحد ما ويعيدني إلى قممقمي الّرهيب أو يسّخرني لفعل الّشر!«‬ ‫»آ ه أيها الملك‪ ،‬أن ت حمقا ً لم تؤمن بي بعد‪ ،‬أو أّنك لم تأخذ برسالتي‪ ،‬وإلّ لما أيثمقل ت على‬ ‫نفسي برؤيتك ال ّ‬ ‫ظالمية«‬ ‫»عفواً يا مولي‪ ،‬لم أؤمن بإنسي كما آمن ت بك‪ ،‬ولم ُأخلص لنسي كما أخلص ت لك‪ ،‬وقد‬ ‫عاهدتك على الوفاء‪ ،‬وسأعمل على أن أظّل وفياً لك حتى بعد موتك‪ ،‬وما رأيي يا مولي‬ ‫إل رؤيةً ِلما مضى وما يدور الن‪ ،‬وما قد يدور في المستمقبل رغما ً عّني وعنك!«‬ ‫»نحن نحاول أيها الملك‪ ،‬لعّل معشر البشر يحمقمقون المحّبة وكل ما هو أسمى للحياة‪،‬‬ ‫بالمحّبة ذاتها‪ ،‬وهم حتى لو فشلوا لن يخسروا شيئًا‪ ،‬ولن تسفك دماؤهم كما فعل ت‬ ‫الحروب«‬ ‫»وكي ف يمكن أن يتغّلبوا على نوازع الشر وشهوة النتمقام في نفوسهم يا مولي؟«‬ ‫»بالّسعي إلى المحّبة ونبذ الكر ه والحمقد‪ ،‬والسيطرة على نوازع الشر‪ ،‬والتغّلب على‬ ‫رغبة النتمقام‪ ،‬كما أحاول أنا وأسعى لن أسيطر وأتغّلب‪ ،‬لو تعر ف كم أحمل في بطينتي‬ ‫من نوازع ورغبات تدميرّية هائلة‪ ،‬لم تكن تتيح لي الخالد إلى النوم إل على يصواريخ‬ ‫عمالقة أتخّيلها تد ك تل أبيب وواشنطن ولندن وغيرها من المدن التي كن ت أرى فيها‬ ‫موطناً للظلم‪ .‬كن ت أرى نفسي أشنق بعض الزعماء من أرجلهم‪ ،‬وُأجلس النتهازيين‬ ‫والمنافمقين وال ّ‬ ‫طواغي ت على الخوازيق‪ ،‬وأمسخ بعض الدباء والّسفهاء إلى جراذين‬


‫وقطط‪ ،‬وبعض رجال الدين إلى خنازير وأبمقار‪ ،‬والن ّ‬ ‫صابين والمحتالين واللصوص إلى‬ ‫ض مضجعي‪ ،‬غير‬ ‫قرود وكالب‪ ،‬والحق أن هذ ه النوازع ماتزال تضّج في دخيلتي وتمق ّ‬ ‫أنني ُأحاول بكل طاقتي قتلها ونبذها‪ ،‬أو السيطرة والتغّلب عليها‪ ،‬أو حتى سحمقها إن‬ ‫استطع ت‪ ،‬وأظّن أن البشر إذا لم ينووا قتل نوازع الشر في دواخلهم‪ ،‬لن يتمّكنوا من‬ ‫إحالل المحّبة في نفوسهم والّسعي إليها بها‪ ،‬وبها فمقط‪ ،‬وهذا ما ُأحاول أن أفعله‪ ،‬لعَّل‬ ‫المحّبة تفعل ما لم ولن تفعله الحروب‪ ،‬وإني لمتفائل بذلك‪ ،‬وأكاد أرى حياة جديدة‬ ‫ومستمقبالً جميالً ينتظر البشرية«‬ ‫»ل تنفعل يا مولي‪ ،‬أعدكم أنني سأظّل مخلصا ً لكم وسأعمل بكّل قواي على تحمقيق‬ ‫أمنياتكم«‬ ‫»أشكر ك أيها الملك«‬ ‫»نخب مولي!«‬ ‫ورفع الديب لمقمان كأ س بيرة فيما رفع ملك الملو ك جّرة من الخمر المعّتق وأفرغها في‬ ‫جوفه‪.‬‬ ‫»معذرة يا مولي‪ ،‬يبدو أنني لن أتمّكن من تر ك الخمر حسب ما يمليه علّي الدين‬ ‫السالمي!«‬ ‫»هذ ه مشكلتك وليس ت مشكلتي أيها الملك!«‬ ‫»ألم تكن مسلما ً يا مولي قبل أن تصبح نورانيًا؟«‬ ‫»بل ومازل ت حسب هوّيتي وانتمائي أيها الملك‪ ،‬لكّني قد ُأعتبر في نظر بعض المتدّينين‬ ‫مرتداً عن السالم‪ ،‬وعمقوبتي هي العدام«‬ ‫»العدام يا مولي؟«‬ ‫»نعم أيها الملك العدام«‬ ‫»وهل كل المسلمين يتمقّيدون بعدم شرب الخمر‪ ،‬واليمان بال يا مولي؟«‬ ‫»ل أيها الملك‪ ،‬فهنا ك الماليين ممن يسكرون‪ ،‬وهنا ك الل ف ممن ألحدوا رغم اعتمقادهم‬ ‫بوجود ا! لكن السالم ليس المتناع عن الخمر وحسب أيها الملك«‬ ‫»عن ماذا أيضا ً يا مولي؟«‬ ‫»عن أكل لحم الخنزير مث ً‬ ‫ال«‬ ‫»أو ه يا مولي‪ ،‬لَِم لْم تخبرني من قبل‪ ،‬فنحن الن نأكل لحم خنزير؟«‬ ‫»لم أعر ف أّن على المائدة لحم خنزير‪ ،‬يثّم إنني أشرت إليك بعدم تناول الخمر ولم تذعن‬ ‫إلّي‪ ،‬ول أظن أّنك قادر على التمقّيد بأي ركن من أركان السالم أيها الملك!«‬ ‫»وما هي أركانه يا مولي؟«‬ ‫ّ‬ ‫»عدا الشهادتين عليك أن تصوم وتصلي وتحّج إلى البي ت الحرام وتزّكي«‬ ‫»أيصوم يا مولي؟ أي ل آكل ول أشرب؟«‬ ‫»أجل أيها الملك تصوم طوال النهار لمّدة شهر وخالل ذلك ينبغي عليك أل تضاجع‬ ‫النساء أيضًا«‬ ‫»مولي أن ت تمقسو علّي ول تراعي آل ف الّسنين المقاسية التي أمضيتها في قممقم‬


‫سليمان!«‬ ‫»أنا أقسو عليك أيها الملك؟ أن ت الذي أردت أن تكون مسلمًا‪ ،‬وكان في ممقدور ك أن تظّل‬ ‫على عبادة »إيل« أو حتى »يهو ه« الذي رّبما غضب عليك وقد ينتمقم منك لدخولك‬ ‫السالم!«‬ ‫»ل يا مولي‪ ،‬سأدخل السالم‪ ،‬نحن معشر الجن اعتدنا تغيير ديننا‪ ،‬وإذا ارتكب ت بعض‬ ‫المعايصي أرجو أن يسامحني ا‪ ..‬هل ُهنا ك أشياء ُأخرى يتوّجب علي المتناع عنها يا‬ ‫مولي؟«‬ ‫»أشياء كثيرة أّيها الملك‪ ،‬من أهّمها‪ ،‬أل تمقتل الّنفس التي حّرم ا إل بالحق‪ ،‬وأل تسر‪.‬ق‪،‬‬ ‫وأل تنكح الممقّربات إليك‪ ،‬كأمك وأختك وبنتك وخالتك وعّمتك«‬ ‫»لكن أجدادكم المقدماء كانوا ينكحونهن يا مولي‪ ،‬ونحن مانزال ننكحهن حين نريد‬ ‫ذلك!«‬ ‫»لمقد حّرم السالم ذلك‪ ،‬وإذا تريد أن تصبح مسلما ً حمقا ً عليك أن تبّلغ قومك وكفاكم‬ ‫ارتكاب حماقات!«‬ ‫»سأفعل يا مولي«‬ ‫فرغوا من تناول الطعام‪ ،‬أبدى الديب لمقمان رغبته في الخروج من المركبة ومشاهدة‬ ‫المكان‪ ،‬سأل رائد المركبة عن ال ّ‬ ‫طمقس في الخارج‪ ،‬أخبر ه أنه حار نسبيًّا‪ ،‬لكن السماء‬ ‫ملّبدة بالغيوم‪ ،‬مما يخف ف من حرارة الجو‪.‬‬ ‫»وهل يثمة حياة على الكوكب أيها المقائد؟«‬ ‫»نعم يا مولي‪ ،‬فمقد شاهدت وأنا أحّلق عشرات المدن والمقرى«‬ ‫تناسى الديب لمقمان ما يعرفه من معلومات علمّية عن الكوكب تناقض كل ما يجري‪،‬‬ ‫وتساءل‪:‬‬ ‫»وماذا عن المكان الذي نحن فيه الن؟«‬ ‫»قف ٌر يا مولي إل من بعض النباتات الصغيرة المتنايثرة«‬ ‫»لننزل وننظر ما حولنا«‬ ‫هبط ملك الملو ك أّولً يثم الديب لمقمان‪ ،‬كان آل ف الحّرا س والمرافمقين من الجن يحّلمقون‬ ‫في السماء في جماعات جماعات‪ ،‬وكان ال ّ‬ ‫طمقس حاّراً رغم أن السماء ملّبدة بالغيوم غير‬ ‫الممطرة‪ ،‬وبدا المكان كما لو أّنه وهدة من كوكب الرض‪ ،‬أحاط ت به بعض الّتالل‬ ‫والجبال‪ ،‬وتنايثرت فيه النباتات غير المثمرة‪ ،‬لم يذكر الديب لمقمان أّنه شاهد ما يشبه هذ ه‬ ‫النباتات على الرض‪ ،‬اقترب من إحداها وانحنى ليشّمها‪ ،‬لم يكن لها أية رائحة‪ .‬أشار‬ ‫إلى الرائد أن يعود بهم إلى المركبة ليتجّولوا في سماء الكوكب لستكشا ف أحواله‪.‬‬ ‫جلس إلى جانب الرائد فيما جلس ت الميرة نور السماء إلى يمينه‪ ،‬أقلع ت المركبة بسرعة‬ ‫تمّكنه من الرؤية‪ ،‬ظهرت سلسلة من الجبال المكسّوة بالغابات‪ ،‬حّلق الرائد فوقها لبعض‬ ‫الوق ت فيما أخذ الديب لمقمان يرقبها بمنظار‪ ،‬لم تكن غريبة عن الشجار التي تنب ت على‬ ‫الرض‪ ،‬وحين دقق النظر شاهد حيوانات تشبه إلى حد كبير الحيوانات الموجودة على‬ ‫ب في بحر شاسع‪ ،‬بدت على ممقربة من شواطئه‬ ‫الرض‪ ،‬ورأى نهرًا يختر‪.‬ق الغابات يص ّ‬


‫بعض المقرى المتنايثرة على سفوح الجبال‪ ،‬كان ت تشبه إلى حد كبير قرى كوكب الرض‪،‬‬ ‫لول أّن سطوحها كان ت مخروطية ومدببة‪ ،‬وبدت في البحر بعض الّسفن والمقوارب‪ .‬أشار‬ ‫إلى الرائد أن يهبط بالمركبة أكثر‪ ،‬شاهد بشراً سوداً وسمراً يشبهون أبناء الرض غير‬ ‫أن حجومهم كان ت أكبر بممقدار يسير‪.‬‬ ‫تساءل ت الميرة نور السماء عن سبب كبر حجومهم‪ ،‬فأجابها الديب لمقمان واقعيا ً على‬ ‫الفور‪:‬‬ ‫»ربما لتتناسب حجومهم وحركاتهم مع جاذبّية أرضهم أّيتها الميرة!«‬ ‫وفيما كان يتأملهم عبر المنظار رأى بينهم من يلّوحون لهم بأيديهم‪ ،‬أح ّ‬ ‫س بفرح غامر‬ ‫وهو يهت ف‪:‬‬ ‫»إنهم أنا س مسالمون‪ ،‬ويبدو أنهم لم يرتابوا من ظهورنا«‬ ‫»فهتف ت الميرة‪:‬‬ ‫»بل إنهم خائفون يا مولي وينشدون مّنا السالم‪ ،‬تأّمل الّرعب على وجوههم«‬ ‫دقق الديب لمقمان النظر عبر منظار ه ليجزم بما قالته الميرة‪ ،‬كان يثمة أطفال يصرخون‬ ‫ويعدون ُهنا وُهنا ك ُمختبئين‪ ،‬حّتى الذين يلّوحون من الكبار‪ ،‬كان الرعب يرتسم على‬ ‫وجوههم‪.‬‬ ‫أشار إلى قائد المركبة أن يرتفع في الفضاء ويزيد السرعة ليعيد إليهم الطمأنينة‪.‬‬ ‫أخذ المقائد يحّلق فو‪.‬ق الكوكب على ارتفاع شاهق‪ ،‬ليشاهدوا مئات المدن والمقرى‬ ‫والمطارات وخطوط الموايصالت والموانئ‪ ،‬جزم الديب لمقمان أّنه ل يوجد عند ُسكان‬ ‫الكوكب ما هو حربي‪ ،‬إذ لم يطلق في اتجاههم شيء‪ ،‬ولم تصعد إليهم أية طائرات‬ ‫حربّية‪ ،‬ولم تنطلق نحوهم أّية يصواريخ‪ ،‬وهم على الغلب ليسوا متخّلفين لن لديهم ما‬ ‫ُيشير إلى حضارة حديثة‪.‬‬ ‫تمّكن قائد المركبة من التصال بهم‪ ،‬غير أن لغتهم لم تكن مفهومة‪ ،‬وحين تن ّ‬ ‫ص ت الديب‬ ‫لمقمان بلغ أسماعه ما يشبه جر س اللغة الفرنسية!‬ ‫»أين ملك الملو ك؟«‬ ‫»أمر مولي«‬ ‫»أين قوا ك الخارقة؟ ترجم لي هذ ه اللغة التي تصلنا عبر الجهاز«‬ ‫»معذرة يا مولي فمقوانا اللغوية لم تدر ك حتى الن إل لغات الرض‪ ،‬ولغات الجن‬ ‫والعوالم الّسفلى!«‬ ‫أدر ك الديب لمقمان للحظات أنه في عالم واقعي‪ ،‬إذ لو كان في عالم خيالي لما عجز ملك‬ ‫الملو ك عن ترجمة أية لغة!!‬ ‫»حاول أيها الملك«‬ ‫»مفاتيح لغة أهل السماوات ليس ت تح ت سيطرتنا يا مولي!«‬ ‫»ما العمل؟ لبّد من وسيلة«‬ ‫أشارت الميرة نور السماء بإرسال رسالة لهم بعّدة لغات‪ ،‬فأخبرها المقائد أّنه أرسل‬ ‫رسائل بثاليثين لغة من لغات النس والجن دون جدوى‪.‬‬


‫»هل أرسل ت بالعربّية؟«‬ ‫»أجل يا مولي«‬ ‫»متى تعّلمتها؟«‬ ‫»هذا اليوم يا مولي!!«‬ ‫أراد الديب لمقمان أن يعّلق على المسألة‪ ،‬غير أنه لم يفعل لدراكه أّنه أمام جن يصنعون‬ ‫المعجزات‪ ،‬رغم اعتمقادهم أن عمقولهم يصغيرة‪.‬‬ ‫»هل أرسل ت بالفرنسية والنكليزية والصينية والروسية والسبانية واللمانية‬ ‫واليابانية؟!«‬ ‫»أرسل ت حتى بالردّية والفارسّية والتركية يا مولي!«‬ ‫»ماذا قل ت في رسالتك؟«‬ ‫»نحن ضيو ف مسالمون من كوكب الرض أجيبونا من فضلكم«‬ ‫»يبدو أننا سنمقلع إلى المّريخ دون التصال بهم«‬ ‫»وهل يهّمك التصال بهم يا مولي؟«‬ ‫»وكي ف ل يهّمني‪ ،‬ربما أجد لديهم أجوبة عن كل السئلة التي يضّج بها رأسي‪ ،‬رّبما أجد‬ ‫لديهم نظاما ً حياتيا ً متكامالً وراقياً أفيد منه أبناء الرض‪ ،‬ولو كن ت أعر ف أنني سأجد‬ ‫فريصة للعودة إليهم لّجل ت المر«‬ ‫»ولماذا لن تتمكن يا مولي‪ ،‬يمكننا أن نزورهم بعد أن نعر ف الكوكب الذي سنستمقر‬ ‫عليه«‬ ‫»أظن أن أشغالي ستكون كثيرة‪ ،‬ويخالجني إحسا س أنني سأقتل على الكوكب الذي‬ ‫سأستمقر عليه‪ ،‬وأن الكوكب الذي أُمّر عنه لن أعود إليه!«‬ ‫»ومن سيمقتلك يا مولي؟«‬ ‫»ل أعر ف!«‬ ‫»لن يكون قتلك يسيراً وأن ت في حمايتنا يا مولي«‬ ‫»لكن ليس مستحيالً أيتها الميرة«‬ ‫وأطر‪.‬ق الديب لمقمان للحظات والمركبة تجوب سماء الزهرة‪ ،‬هت ف‪:‬‬ ‫»هل حاول ت التمقاط أي بث تلفزيوني لديهم أيها الرائد؟«‬ ‫»ل يا مولي‪ ،‬سأحاول الن«‬ ‫وأخذ يعبث ببعض الزرار‪ ،‬ظهر أمامه على شاشة يصغيرة يصورة امرأة تتحّدث‬ ‫بالنكليزية‪.‬‬ ‫»هذ ه من كوكب الرض أيها الرائد‪ ،‬حاول أيضًا«‬ ‫وظّل الرائد يحاول إلى أن التمقط الرسال‪ ،‬كان ُيعرض على الشاشة ما يبدو أنه فيلم‬ ‫تلفزيوني‪ ،‬أشار الديب لمقمان إلى الرائد أن يسيطر على أجهزة البث والرسال‪ ،‬وطلب‬ ‫إلى الميرة أن تردد كلمة »سالم« ببعض لغات العالم‪.‬‬


‫ظهرت الميرة نور السماء على الشاشة وهي تبتسم وتلّوح بيدها وتردد »سالم‪ ..‬سالم‪..‬‬ ‫سالم«‬ ‫ظهرت على الشاشة فتاة سمراء جميلة تحمل بيدها باقة ورد وغصن زيتون‪ ،‬وهي تردد‬ ‫وتلّوح »سالم‪ ..‬سالم‪ ..‬سالم«‬ ‫»لمقد نجحنا أيتها الميرة«‬ ‫»وطلب إلى المقائد أن يهبط بهدوء في أكبر مدينة يراها‪ ،‬فمقد تكون العايصمة‪ ،‬وطلب إلى‬ ‫ملك الملو ك أن يبمقي الحّرا س والمرافمقين ُمحّلمقين في الفضاء كي ل يرعبوا سّكان‬ ‫الكوكب‪ ،‬وأعلن أنه في حاجة إلى مالبس نظيفة‪ ،‬إذ ل ُيعمقل أن ينزل على كوكب الزهرة‬ ‫بمالبس النتحار التي كان يرتديها على الرض‪.‬‬ ‫وانتصب ت أمام الديب لمقمان مرآة ليجد نفسه في زي جنرال تنتظم النجوم والتيجان‬ ‫والّسيو ف على كتفيه‪ ،‬وتتدّلى على يصدر ه النياشين والوسمة‪.‬‬ ‫»أعوذ بال منك أيها الملك‪ ،‬ألم تجد ما هو أفضل من هذا الزي؟ اقذ ف به عن جسدي إلى‬ ‫الجحيم!«‬ ‫شرع ت الميرة في الضحك فيما كان الديب لمقمان يمقذ ف بالنياشين إلى الرض‪ .‬وبدا‬ ‫ملك الملو ك غير موافق على رأي الديب لمقمان‪ ،‬فمقد بدا له جنرالً لم ير مثيالً له في عهد‬ ‫سليمان‪ .‬هت ف حين أدر ك أن ل مجال للجنرالّية‪:‬‬ ‫»وأنا ما أدراني أّنك ل تحب أزياء الجنرالت يا مولي؟«‬ ‫ي ملك يعلو رأسه تاج ضخم من الّذهب‪ ،‬أح ّ‬ ‫شاهد الديب لمقمان نفسه في ز ّ‬ ‫س أّنه سيكسر‬ ‫عنمقه‪ .‬زفر متأففاً وراح يستنجد بالميرة نور السماء‪ ،‬متخّليا ً عن ملك الملو ك وأزيائه‬ ‫السلطوّية‪.‬‬ ‫أيصبغ ت الميرة عليه زيّاً أبيض أقرب إلى أزياء الّرهبان‪ ،‬بدا فيه كالمال ك لشّدة بياضه‪.‬‬ ‫»هذا معمقول أيتها الميرة وإن كان ُيضفي علّي وقاراً كهنوتيا ً ل أحّبذ ه«‬ ‫تبّدت لهم من ممقصورة المركبة مدينة كبيرة ذات أبنية عالية مخروطية الشكل‪ ،‬تتخللها‬ ‫شوارع عريضة تسير فيها حافالت مختلفة الشكال‪ ،‬كان بعضها يشبه حافالت الرض‬ ‫إلى حد كبير‪.‬‬ ‫ظهرت في الفضاء طائرة عمودية‪ ،‬يلّوح أحدهم براية حمراء من نافذتها‪ ،‬أدركوا أّنها‬ ‫تشير إليهم أن يتبعوها‪ ،‬قادتهم إلى مطار كبير على ممقربة من المدينة وهبط ت أمامهم‬ ‫ليهبطوا بعدها‪.‬‬ ‫حين أطّل الديب لمقمان من باب المركبة شاهد عشرات الطفال الّسمر يلّوحون بباقات‬ ‫من الورد وأغصان الزيتون‪ ،‬وعلى مسافة من المركبة ايصط ّ‬ ‫ ف بضعة رجال ونساء‪.‬‬ ‫لّوح الديب لمقمان بيد ه محيياً ونزل تتبعه الميرة نور السماء فملك الملو ك فمقائد المركبة‬ ‫فالخرون‪.‬‬ ‫تمقّدم رجل طويل كهل تبدو عليه الهيبة‪ ،‬يرتدي المالبس الّسود‪َ ،‬مّد يد ه ُمرّحبا ً ومصافحا ً‬ ‫وهو يهت ف بصوت خفيض »سالم« ويرسم على شفتيه ابتسامة‪.‬‬ ‫يصافحه الديب لمقمان وتمقّبل باقة ورد وغصن زيتون من أحد الطفال‪.‬‬


‫كان جميع المستمقبلين سوداً وسمراً وطوال المقامة‪ ،‬ولم تكن مالمح وجوههم تختل ف عن‬ ‫مالمح وجو ه سّكان الرض‪.‬‬ ‫ايصطحبوهم إلى يصالون ضيافة كبير تزّينه الّرسوم والمنحوتات والنمقوش والثرّيات‬ ‫الجميلة المنيرة‪ ،‬وقد فرش بأرائك ويثيرة‪ ،‬وبدا جو الصالون أقرب ما يكون إلى جو‬ ‫الرض‪ ،‬حّتى أن المالبس التي ارتداها السكان بدت أقرب إلى مالبس أهل الرض‪.‬‬ ‫قّدم ت مجموعة من الفتيات شرابا ً بطعم عصير البرتمقال‪ ،‬ولَ​َغ منه ملك الملو ك إبريمقا ً‬ ‫كامالً وراح يتأّمل جمال الفتيات السود الذي لم ير له مثيالً من قبل‪ ،‬وأضمر في نفسه أن‬ ‫يْبدي رغبته فيا بعد للديب لمقمان لعّله يتيح له مواقعة بعضهن أو واحدة منهن على‬ ‫القل‪.‬‬ ‫كان الرجل الكهل يفتح يديه ويبتسم بموّدة بين لحظة وأخرى ُمرّحبًا‪ ،‬فيحني الديب‬ ‫لمقمان رأسه ويومئ مبتسما ً بموّدة بدور ه‪ ،‬ونظراً لطول شعر ذقنه وشاربيه فإّن ابتسامته‬ ‫كان ت بالكاد ُتلمح من قبل الخرين‪.‬‬ ‫نظر الديب لمقمان إلى ملك الملو ك هامسًا‪:‬‬ ‫»لبّد من حل مشكلة اللغة أيها الملك«‬ ‫»أعطني يصحيفة مكتوبة منها وسأسّخر جميع الجن الذين في الكون لفك رموزها وفهمها‬ ‫يا مولي«‬ ‫كان يثمة رجل بين الجالسين يبدو عليه أّنه رجل معرفة‪ ،‬يضع بعض ال ّ‬ ‫صحائ ف إلى‬ ‫جانبه‪ ،‬أشار إليه الديب لمقمان أن يعطيه واحدة منها‪ ،‬فأعطا ه‪.‬‬ ‫بدت أحرفها تجريدّية تمامًا‪ ،‬وأقرب ما تكون إلى الحر ف الالتيني‪ ،‬أعطاها لملك الملو ك‬ ‫الذي أعطاها بدور ه لرائد المركبة‪ ،‬وما أن نظر هذا الخير إليها وهّز رأسه موحيا ً‬ ‫بفهمها حتى أعطاها للميرة نور الّسماء التي أمعن ت النظر إليها لبضع لحظات يثّم راح ت‬ ‫تخاطب رجل المعرفة معّرفة بهم‪.‬‬ ‫ارتسم ت الدهشة على وجو ه الجميع من ُسّكان الزهرة‪ ،‬وخا ّ‬ ‫يصة الّرجل الكهل الذي أذهله‬ ‫هذا التطّور الُمدهش لهل الرض‪.‬‬ ‫الديب لمقمان‪ ،‬حاول أن يخفي دهشته كي يجّنب نفسه الحديث عن المعجزات أمام سّكان‬ ‫الكوكب‪ ،‬غير أّنه همس إلى ملك الملو ك متسائ ً‬ ‫ال‪:‬‬ ‫»أّية عبمقرية هذ ه التي أتاح ت لكم أن تعّلموا الميرة لغة مجهولة خالل لحظة أّيها‬ ‫الملك؟«‬ ‫»ببساطة يا مولي سّخرت عشرة آل ف عالم من علماء الجن الذين يمقولون أّن يثانية‬ ‫تفكير واحدة لي واحد منهم تعادل تفكير سنة لعلماء الرض جميعًا! يثّم إّن الميرة لم‬ ‫تتعلم إل نطق اللغة يا مولي ولم تتعّلم قراءتها وكتابتها!«‬ ‫»وكي ف ذلك وهي لم تسمعها بل شاهدتها مكتوبة؟«‬ ‫»كما أتحّدث معك بالعربّية دون أن أجيد قراءتها وكتابتها«‬ ‫»لكن ُربما سمعتها ومارستها من قبل«‬ ‫»ل ل! لم أسمعها يا مولي سمع ت ما هو قريب منها«‬


‫»الحوار معكم معشر الجن حول معجزاتكم يبدو كمقبض الريح‪ ،‬ما ل أفهمه أّنكم تظنون‬ ‫أن عمقولكم يصغيرة«‬ ‫»ُعلماء الجن يا مولي يمقولون أننا لو أردنا أن نحّجم المعرفة لجعلناها بحجم الكون‪،‬‬ ‫ووجودنا نحن معشر الجن ليس أكثر من ذّرة رمل في محيط هذا الكون‪ ،‬لذلك فإن‬ ‫معرفتنا ل تتجاوز جزءاً يصغيراً جداً من هذ ه الذّرة!«‬ ‫ولول مرة يندهش الديب لمقمان بشكل مغاير‪ ،‬إذ أح ّ‬ ‫س أن المتحّدث هو نفسه وليس ملك‬ ‫الملو ك‪.‬‬ ‫»علماؤكم عمقالنّيون أكثر من علمائنا أّيها الملك‪ ،‬يبدو لي أنني بدأت الن إدرا ك أسرار‬ ‫معجزاتكم التي قد تبدو لي إنجازات عمقلّية وعمقالنية أمام رؤيتك هذ ه‪ ،‬أو تفسير ك‬ ‫لمعرفتكم‪ ،‬من الن فصاعداً سأعتبر عمقلي يصغيراً إلى حد يفو‪.‬ق التصّور أمام عمقولكم!«‬ ‫»عفواً مولي«‬ ‫»ل داعي للمعذرة أّيها الملك«‬ ‫»كان ت الميرة نور الّسماء تتحّدث إلى »رجل المعرفة« ويبدو أّنهما تفاهما بشكل حسن‪.‬‬ ‫»يمكنك أن تبدأ الحديث يا مولي«‬ ‫ ت والَّرجل«‬ ‫»ماذا تحديثتما أن ِ‬ ‫»تعارفنايا مولي‪ .‬أخبرته أننا رسل مسالمون من النس والجن من كوكب الرض‬ ‫نبحث عن الحمقيمقة والكمال والحياة السمى‪ ،‬يمقودنا أديب من النس«‬ ‫ ت«‬ ‫»حسنا ً فعل ِ‬ ‫»أخبرني أّنهم كوكب مسالم‪ ،‬يعيشون في دولة واحدة يبلغ عدد سكانها أربعة مليارات‬ ‫نسمة‪ ،‬يمقودهم مجلس رعاية‪ ،‬يرأسه »الراعي الكبر« الّرجل الجالس إلى يسار ك‪ .‬عن‬ ‫نفسه قال أّنه كبير أعضاء المجلس المعرفي‪ ،‬هذا كل شيء يا مولي«‬ ‫أدر ك الديب لمقمان أنهم أّمة متمقّدمة على أبناء الرض بمقرون‪ ،‬إن لم يكن آل ف الّسنين‪،‬‬ ‫وشرع يتحّدث إلى الراعي الكبر‪ ،‬فيما الميرة نور السماء تترجم‪:‬‬ ‫»ُيسعدنا أن نكون بينكم لنتعّر ف إليكم ونطّلع على ما بلغتمو ه من شأو الحضارة الكونّية‪،‬‬ ‫إننا ننتمي إلى كوكب ما يزال يتلّمس طريمقه إلى الحضارة‪ ،‬تتنازعه الّشرور واليثام‪،‬‬ ‫وتتمقاسمه الّشعوب والمم‪ ،‬وتسفك فيه الّدماء‪ ،‬وتلّوث سماَء ه وبحار ه الّسموم‪ ،‬وتستشري‬ ‫فيه المراض الفّتاكة‪ ،‬إننا لنأمل أن تفيدونا بتطّور تاريخكم المعرفي في مختل ف شؤون‬ ‫الحياة«‬ ‫»أهالً ومرحباً بكم في كوكبنا المسالم‪ ،‬لمقد ُأسعدنا بحضوركم وتشّرفنا بمعرفة غاياتكم‬ ‫صغير‪ ،‬الذي أرهمقته‬ ‫النبيلة‪ ،‬وقد زدتمونا إيماناً بما حمقمقنا وفعلنا على هذا الكوكب ال َّ‬ ‫الحروب وخّرب ت فيه النفو س ذات دهر!‬ ‫‪ ..‬يفرحنا قدومكم إلينا ووجودكم بيننا‪ ،‬إذ يثير فينا المل والتفاؤل بالمستمقبل‪ ،‬لوجود أمم‬ ‫وكواكب تسعى لتفيد من تجارب الكواكب الخرى‪ ،‬وتمقّرب فيما بينها كما نسعى نحن‪،‬‬ ‫لمقد حال فمقر كوكبنا وسعينا إلى رفا ه مواطننا دون التصال حتى الن بالكواكب وإقامة‬ ‫عالقات طّيبة معها‪ ،‬ومع ذلك تمّكنا من معرفة بعض القمار والنجوم المحيطة بكوكبنا‪،‬‬


‫وتمّكنا من ريصد ُعطارد‪ ،‬وتبّين لنا أن ل حياة متمقّدمة عليه‪ ،‬بعكس المّريخ‪ .‬وكّنا نعر ف‬ ‫منذ زمن أّن يثّمة حياة على كوكبكم‪ ،‬وفشلنا في إيجاد وسيلة للتفاهم معكم‪ ،‬بعد أن أرسلنا‬ ‫بعض المركبات الفضائية إليه‪ .‬إننا لنأمل طالما أّنكم بلغتم هذا الشأو من المقدرة على‬ ‫التصال بالكواكب والكوان الخرى‪ ،‬أن تحيطونا علماً في المستمقبل بأحوال هذ ه‬ ‫الكواكب والكوان‪ ،‬وما بلغه شأن الحياة عليها‪ ،‬وبإمكانية الّتعاون فيما بيننا وبينها لبلوغ‬ ‫ذرى متمقّدمة في المعرفة والّرقي بالحضارة الكونّية‪.‬‬ ‫ما يدهشني بعض الشيء أّيها الديب المحترم‪ ،‬وأيها الضيو ف العّزاء‪ ،‬هذ ه الفجوة‬ ‫الهائلة بين تفّوقكم العلمي وتخّلفكم الجتماعي‪ ،‬إذ كي ف استطعتم الصعود إلى الكون‬ ‫الشاسع الهائل‪ ،‬وبهذ ه البساطة في الوق ت الذي ماتزال أممكم متخّلفة وتتنازعها الّشرور‬ ‫واليثام؟‬ ‫كان بإمكاننا أن نفعل أكثر مما فعلنا في مجال الفضاء‪ ،‬لكّنه كان سيتم على حساب قوت‬ ‫أبنائنا ورفاهية أّمتنا‪ ،‬ولكن الن وبعد أن حمقمقنا تمقّدما ً ممقبولً في الّرفا ه الجتماعي‪ ،‬أخذنا‬ ‫نسّخر قدرًا أكبر من طاقاتنا وقدراتنا لتطوير علوم الفضاء والتصالت أكثر مما هي‬ ‫عليه«‬ ‫»شكراً لحديثكم الشّيق والغني أّيها الراعي الكبر‪ .‬الحق أن تطّور بعض شعوبنا جاء‬ ‫بمعزل عن تطّور الّشعوب الخرى‪ ،‬وكان في الغالب على حساب هذ ه الّشعوب‪ ،‬وعلى‬ ‫حساب الشعب المتطّور نفسه أيضًا‪ ،‬لذلك حصل هذا الّتفاوت المعرفي بين التطّور‬ ‫العلمي والتمقّدم الجتماعي«‬ ‫»أظن أّنكم متعبون أّيها الديب‪ ،‬سننمقلكم إلى بي ت الضيافة‪ ،‬لتأخذوا قسطا ً من الراحة‪.‬‬ ‫سنلتمقي على مائدة العشاء‪ ،‬السّيد »شاهل بيل« كبير أعضاء المجلس المعرفي في‬ ‫كوكبنا‪ ،‬سيتوّلى إطالعكم على كّل ما توّدون الطالع عليه«‬ ‫نهض »الراعي الكبر« وأتباعه لينصرفوا‪ ،‬فيما رافق »شاهل بيل« الديب لمقمان‬ ‫ومرافمقيه إلى بي ت الضيافة‪ .‬أقّلتهم حافلة شبيهة بمقطار يصغير يسير بالطاقة الحرارّية‪،‬‬ ‫وايصط ف على جانب الشارع الذي سلكو ه آل ف البشر وهم يلّوحون بأيديهم ويرفعون‬ ‫باقات من الورود‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫أخبر الديب لمقمان ملك الملو ك أّنهم سيؤجلون انطالقهم إلى المريخ والكواكب الخرى‬ ‫إلى أن ي ّ‬ ‫طلع على شيء من تطّور المعرفة على الزهرة‪.‬‬ ‫ُأفرد للديب لمقمان جناح خاص هو والميرة نور السماء وكذلك لمقائد المركبة وملك‬ ‫الملو ك‪ ،‬وتوّزع باقي العاملين في المركبة على العديد من غر ف بي ت الضيافة‪.‬‬ ‫ناموا جميعاً إلى ما قبل طعام العشاء‪ ،‬ماعدا الديب لمقمان الذي كان قلمقًا‪ ،‬وساورته بعض‬ ‫الحالم المضطربة والمشّوشة‪ ،‬فلم ينم إلّ قرابة ساعتين بتوقي ت أهل الرض‪ ،‬ونهض‬ ‫على أمل أن يلتمقي »شاهل بيل« ويطلب إليه أن يحّديثه عن تاريخ الكوكب وحياته‬ ‫المعايصرة‪.‬‬ ‫انتظر إلى أن نهض ت الميرة نور السماء من نومها وأشار إليها باستدعائه‪.‬‬ ‫جلسوا في شرفة بي ت ال ّ‬ ‫ضيافة يحتسون شرابا ً ساخنًا‪ .‬كان جنود الجن يحّلمقون في السماء‬


‫أسرابا ً أسرابًا‪ ،‬وقد أطلق سّكان الكوكب بعض الطائرات التي ل تحدث يصوتًا‪ ،‬كان ت‬ ‫تحّلق في سماء المدينة راسمة مناظر جميلة‪.‬‬ ‫جلس ت الميرة نور السماء بين اليثنين وهّيأت نفسها للترجمة‪ ،‬كان رجل المعرفة ينظر‬ ‫إلى جنود الجن بين مصّد‪.‬ق ومكّذب‪ ،‬ويختلس النظرات إلى جمال الميرة نور السماء‬ ‫بين لحظة وأخرى‪ ،‬دون أن يجزم أيضاً أنه يمكن أن يوجد جمال بهذا المقدر الخار‪.‬ق‪.‬‬ ‫هت ف مترددًا‪:‬‬ ‫»نحن أيتها الميرة لم نعد نؤمن بوجود الجن حسب الصورة السطورية التي قّدم ت لنا‬ ‫عنهم منذ أكثر من أل ف عام ونّي ف‪ ،‬ويبدو أن حضوركم بيننا سيجعلنا نعيد النظر في‬ ‫بعض مفاهيمنا‪ ،‬فهل أنتم حمقيمقة فع ً‬ ‫ال؟!«‬ ‫تدّخل الديب لمقمان متسائ ً‬ ‫ال عما يمقوله رجل المعرفة‪ ،‬فأخبرته الميرة بالمر‪ ،‬فلم يعر ف‬ ‫ماذا يمقول‪ ،‬فهو حتى الن ل يعر ف إذا كان كل ما يجري حمقيمقة أم خيا ً‬ ‫ل‪ ،‬أم حلمًا!‬ ‫»بماذا ستجيبين أيتها الميرة؟«‬ ‫»بما يشير به علّي مولي«‬ ‫»قولي له ما تشائين«‬ ‫نطمق ت الميرة بضع كلمات أطر‪.‬ق بعدها رجل المعرفة متفكراً ل يلوي على شيء‪،‬‬ ‫فسألها الديب لمقمان عّما قالته له‪:‬‬ ‫»قل ت له يا مولي إذا كان يرى وجودنا الن حمقيمقة فنحن حمقيمقة‪ ،‬وإذا كان يرا ه خيالً‬ ‫فنحن خيال!«‬ ‫ ت! لو فّكرت مائة عام لما خطرت لي هذ ه الجابة!«‬ ‫»أحسن ِ‬ ‫أشاح نظراته نحو رجل المعرفة‪:‬‬ ‫»حّديثني أيها العالم؟«‬ ‫»عن ماذا أيها الديب؟«‬ ‫»عن تطّور الحياة على كوكبكم‪ ،‬عن معتمقداتكم‪ ،‬عن تاريخكم المعايصر‪ ،‬عن حضارتكم‪،‬‬ ‫عن كل شيء إذا ليس في المر ما يزعجك«‬ ‫»ليس في المر ما يزعج أيها الديب لمقمان‪ ،‬لكن هذا يحتاج إلى زمن طويل«‬ ‫»ل أظن أّن المر كذلك إذا أجدت الختصار«‬ ‫»سأحاول‪ :‬يرى علماؤنا أن عمر كوكبنا منذ أن انفصل عن الشمس يزيد عن سبعة‬ ‫مليارات من العوام – أعوامنا نحن طبعاً – وأن أوائل الحياة بدأت بالظهور عليه منذ‬ ‫حوالي أربعة مليارات من هذ ه العوام‪ ،‬وقد مّر كوكبنا بكل الّدهور التي مّرت على‬ ‫الكواكب الخرى‪ .‬في البدء ظهرت الحياة في الماء‪ ،‬وبعد تشّكل اليابسة انتمقل ت الحياة‬ ‫إليها‪ ،‬أّول الكائنات الحّية كان ت تشّكل الخاليا التي ظهر منها النبات يثّم الحيوان فالنسان‪.‬‬ ‫وجد النسان على كوكبنا منذ قرابة أربعين مليون عام من أعوامنا‪ ،‬ومّر بأطوار مختلفة‬ ‫استغرق ت ماليين الّسنين‪ ،‬إلى أن اكتش ف النار قبل قرابة مليون سنة‪ ،‬وأّدى اكتشافها إلى‬ ‫إحداث تطّور هام في حياته‪ .‬وقبل حوالي مائة أل ف عام ظهر على كوكبنا النسان‬ ‫العاقل‪ ،‬الذي راح يدّجن الحيوانات‪ ،‬كالماعز والكالب‪ ،‬ويشّذب الحجارة‪ ،‬ويحفر‬


‫الكهو ف‪ ،‬وينح ت التمايثيل‪ ،‬وينمقش الّرسوم على جدران المغاور والكهو ف‪ ،‬ويكتش ف‬ ‫الزراعة خالل العوام الالحمقة‪ ،‬حّتى تو ّ‬ ‫يصل قبل قرابة يثاليثين أل ف عام إلى بناء المدن‬ ‫واكتشا ف الّنحا س والبرونز وبدء الكتابة الرمزية«‬ ‫»تبدو لي أيها العالم وكأنك تتحّدث عن كوكب الرض‪ ،‬لول أسبمقّية التطور لديكم‪ ،‬مع أن‬ ‫سنتكم تمقّل عن سنتنا حوالي الُخمسين!«‬ ‫»حتى الن لم يثب ت لدينا أن تطّور الحياة على كوكب يختل ف عنه على كوكب آخر‪ ،‬إل‬ ‫من حيث التطّور النوعي المرتبط بالعوامل الجيولوجية والمناخّية والمكتسبات المعرفّية‬ ‫فيما بعد‪ .‬أرسلنا إلى كوكبكم بعض المركبات الفضائّية‪ ،‬لكننا أدركنا أن الّتفاهم معكم‬ ‫مستحيل‪ ،‬حين شاهدنا كثرة السلحة التدميرية لديكم‪ ،‬وكثرة الحروب التي فتك ت‬ ‫بالماليين من أبناء كوكبكم خالل المقرن الحالي وما تزال تفتك‪ ،‬مما يشير إلى أّنكم لم‬ ‫تتفمقوا فيما بينكم‪ ،‬فكي ف ستتفمقون معنا؟ لمقد تجاوزنا هذ ه الحمقبة منذ خمسة آل ف عام!!«‬ ‫»تمقصد أنكم لم تتحاربوا فيما بينكم؟«‬ ‫»بل لم نعد نصنع السالح على الطال‪.‬ق حتى للصيد! نزعنا ه من الكوكب ُكّله واستخدمنا ه‬ ‫في كل ما يخدم تمقّدمنا وحضارتنا«‬ ‫أدر ك الديب لمقمان أّن الخطوة التي قام بها على الرض منذ ساعات سبمقه إليها أبناء‬ ‫كوكب الّزهرة منذ حوالي يثاليثة آل ف عام بتوقي ت الرض‪ ،‬أي حين كان ُسليمان يسو‪.‬ق‬ ‫الريح إلى سبأ كانوا ُهم يبدأون الحضارة ما بعد الحديثة‪ ،‬أو حضارة ما بعد الساطير‬ ‫والحروب الشرسة! ولول مّرة في حياته أح ّ‬ ‫س الديب لمقمان أّنه متخّل ف‪ ،‬وتمّنى في‬ ‫سّر ه أن يجد كوكبا ً في هذا الكون أكثر تخّلفا ً من كوكب الرض البائس أو بمستوا ه‬ ‫الحضاري على القل‪ ،‬لعّله ُيعّزي نفسه بذلك‪ ،‬ول يرى نفسه يصغيراً أمام أبناء‬ ‫الكواكب!!‬ ‫»زدني علما ً ومعرفة بحضارة كوكبكم أّيها العالم«‬ ‫»نحن نسّميها حضارة الّسالم لكثرة ما عانينا من تخّل ف الحروب‪ ،‬لمقد مّر إنساننا بعصور‬ ‫مختلفة عانى فيها أكثر مما عانيتم‪ ،‬وإذا كنتم قد استخدمتم قنبلتين نوويتين في حروبكم‪،‬‬ ‫فنحن استعملنا سبعًا! لمقد ُقتل مّنا في الحروب أكثر من نص ف مليار إنسان أيها الديب‪،‬‬ ‫ق أّمة من أمم كوكبنا إل ودفع ت يثمنا ً باهظاً للويصول إلى الحضارة الحديثة«‬ ‫بحيث لم تب َ‬ ‫»ُعد لي إلى الوراء أّيها العالم‪ ،‬ل ُتضّيع بعض الحمقب التاريخية التي مررتم بها‪ ،‬حّديثني‬ ‫عن أديانكم وعن المم والحروب بشيء من التفصيل«‬ ‫»لمقد عبد أجدادنا أيها الديب أّول ما عبدوا الشمس والرض وعطارد والمّريخ!«‬ ‫»هل عبدتم كوكبنا؟«‬ ‫»أجل أيها الديب لمقمان!«‬ ‫»أريد أن أعر ف هذ ه السماء كما ُتعر ف بلغتهم أيتها الميرة«‬ ‫»الرض ُيطلمقون عليها »إرد« والشمس »زو س« والمّريخ »لميش« وعطارد »أنارد«‬ ‫أما كوكبهم الزهرة‪ ،‬فيسّمونه »سوهار«!«‬ ‫»حسنًا‪ ،‬وهل أقام أجدادكم معابد لها على الرض؟«‬


‫»أجل أيها الديب‪ ،‬أقاموا لها معابد‪ ،‬كانوا يمارسون فيها طمقوسا ً من الجنس الجماعي‬ ‫للتمقّرب إليها‪ ،‬كما أقاموا لها ُنصبا ً وتمايثيل‪ ،‬وأيصبغوا عليها بعض الّرموز‪ ،‬واشتّمقوا منها‬ ‫آلهة ُأخرى‪ ،‬للرض والسماء والعوايص ف والمطار والنهار والبحار والخير والشر‬ ‫والحب والحكمة والنار والعوالم الّسفلى والعوالم الُعليا وما إلى ذلك‪ ،‬وراحوا يتنازعون‬ ‫عليها‪ ،‬فهؤلء يعزون هذا الله لهم‪ ،‬وهؤلء يعزونه لهم‪ ،‬فدارت بينهم الحروب‪ ،‬وكل‬ ‫شعب ينتصر يسو‪.‬ق فتيات وأبناء الّشعب الخر ويمقّدمهم قرابين لللهة! ومن أفظع ما‬ ‫يصل إلينا أنه قّدم في يوم واحد مليون ضحّية للله »كون« قطع ت رؤوسهم جميعا ً يثّم‬ ‫و َ‬ ‫أحرق ت جثثهم! وحين كان ت شعوبنا تفني بعضها كان ت تمقّدم أبناءها وبناتها كمقرابين‪.‬‬ ‫في عصور لحمقة‪ ،‬أخذت بعض شعوبنا ترفع زعماَء ها إلى مراتب اللهة‪ ،‬وخا ّ‬ ‫يصة بعد‬ ‫موتهم‪ ،‬إلى أن ظهرت لدينا ديانات توحيدية سماوّية وغير سماوّية‪ ،‬حيث ظهر عندنا‬ ‫أكثر من أل ف نبي ومرسل ومصلح اجتماعي‪ ،‬وكم من حروب طاحنة دارت بين أمم هذ ه‬ ‫الديان‪ ،‬إلى أن أخذ كّل دين ينشق على نفسه حسب ال ّ‬ ‫صراعات التي كان ت تدور بين‬ ‫شعوب المة نفسها وأديانها حسب فهم كل طائفة وفمقا ً للدين نفسه‪.‬‬ ‫قبل حوالي عشرة آل ف عام بدأ عندنا ظهور الدباء والفالسفة والعلماء الذين ل يؤمنون‬ ‫بوجود آلهة بالمعاني السابمقة‪ ،‬فأعدم معظمهم على الخوازيق أو قطع ت رؤوسهم‪،‬‬ ‫وبعضهم قطع ت ألسنتهم أو قوائمهم‬ ‫يصلبوا‪ ،‬أو دفنوا أحياء أو جلدوا حتى الموت كي يرتدعوا‪ ،‬غير أن كل هذ ه الفظائع لم‬ ‫أو ُ‬ ‫تحد من تطّور الفكر الواقعي عبر العصور‪ ،‬ومنذ حوالي سبعة آل ف سنة ونحن ل نعبد‬ ‫أحدًا‪ ،‬ول ننتظر جّنة ول نارًا‪ ،‬فالجّنة والنار موجودان على كوكبنا‪ ،‬فإّما أن نجعل منه‬ ‫جّنة أو نحّوله إلى نار تلتهمنا!‬ ‫لم نحمقق هذ ه الخطوات في اتجا ه الجنة بيسر‪ ،‬فمقد عشنا أكثر من أل ف عام ونحن نطّور‬ ‫آلة الحرب إلى أن أيصبح ت مرعبة إلى حدود الخيال‪ ،‬بحيث أيصبح في ممقدورها أن تدّمر‬ ‫كوكبنا وكوكب الرض وكوكبي عطارد والمريخ مائة مّرة! وكم من الشعوب الفمقيرة‬ ‫التي أبيدت عن آخرها على كوكبنا من جّراء هذ ه اللة الفظيعة‪ ،‬إلى أن ارتفع يصوت‬ ‫العمقل بين أممنا وشعوبنا التي كان ت تعيش في أكثر من مائة وسبعين دولة‪ .‬وبعد‬ ‫خمسمائة عام من طرح فكرة السالم وتوحيد شعوب الكوكب‪ ،‬تحمقق الحلم‪ .‬كان ذلك منذ‬ ‫خمسة آل ف عام‪ ،‬وما يزال هذا اليوم الّرمزي عيداً قوميا ً لدينا«‬ ‫»ماذا عن تطّوركم الجتماعي والقتصادي أيها العالم‪ ،‬هل مررتم بعصور المشاعّية‬ ‫والّر‪.‬ق والقطاع والبورجوازية والرأسمالية والمبريالية؟!«‬ ‫»نعم أيها الديب‪ ،‬مررنا بكل هذ ه العصور‪ ،‬وقد ويصل التطّور الرأسمالي لدى بعض‬ ‫دولنا إلى درجات هائلة من الثراء‪ ،‬مما دفع بعض هذ ه الّدول إلى المطالبة بالحد من‬ ‫رأ س المال وفرض ال ّ‬ ‫ضرائب الباهظة عليه‪ ،‬غير أن ذلك لم يحد من مشاكل كل دولة‪،‬‬ ‫فلجأت بعض الدول إلى رأسمالية الدولة‪ ،‬بتأميم ال ّ‬ ‫صناعة والتجارة والزراعة ووضعها‬ ‫تح ت سيطرتها«‬ ‫»ولم ينجح هذا النظام؟«‬


‫»بل انهار انهياراً فظيعًا‪ ،‬رغم أّنه حمقق إنجازات جيدة«‬ ‫»ولَِم انهار هذا الّنظام؟«‬ ‫»لنه لم يعر ف كي ف يعِدل بين مواطنيه‪ ،‬وكان ت الغلبية الساحمقة تعيش دون مستوى‬ ‫الفمقر‪ ،‬بينما الدولة تعيش يثراًء فاحشًا‪.‬‬ ‫بعض الدول النامية اختارت ال ّ‬ ‫طريمقين‪ ،‬رأ س المال الُحر الذي يملكه النا س‪ ،‬ورأسمالية‬ ‫الدولة‪ ،‬بل وأضاف ت طريمقا ً يثالثاً هو رأ س المال المشتر ك‪ ،‬الذي تشار ك فيه الدولة‬ ‫والنا س‪ ،‬وقد أتاح هذا النظام للصوص والمستغّلين ما لم يتحه أي نظام آخر‪ ،‬فاستلبوا‬ ‫رأسمال الدولة ووظفو ه لحسابهم‪ ،‬مما جعل بعض الّدول تصبح متسّولة على أعتاب‬ ‫الّدول الغنّية«‬ ‫وراح الديب لمقمان يضحك‪ ،‬مما دفع رجل المعرفة إلى التساؤل‪ ،‬فأخبر ه أنه تذّكر تجربة‬ ‫بعض دول كوكب الرض‪.‬‬ ‫»أظن أن الحديث عن الماضي يطول أيها الديب«‬ ‫»دعنا نتحّدث عن نظامكم الحالي«‬ ‫»نحن حالياً وممقارنة بالنظمة السابمقة نعيش في نظام الال دولة!«‬ ‫»وهل يعمقل هذا أيها العالم؟«‬ ‫»ولماذا ل ُيعمقل؟ يمكن أن تطلق مجازياً على نظامنا اسم دولة‪ ،‬أّما نحن فنسّميه »الّنظام‬ ‫المعرفي« ونسّمي الّسلطة الُعليا عندنا »مجلس الّرعاية« وهو يتكون من يثاليثة آل ف‬ ‫عضو نصفهم من الّنساء ينتخبون كل خمس سنوات‪ ،‬يرأسه شخص مرة كل خمس‬ ‫سنوات أيضًا‪ ،‬وعلى هذا الشخص حين يرّشح نفسه لرئاسة المجلس أن يكون فو‪.‬ق‬ ‫السّتين من عمر ه وأن يكون حائزاً على أعلى شهادة ُعليا في مجالت العلوم أو الداب‪،‬‬ ‫وأن يكون قد حمقق إنجازاً عظيما ً واحداً على القل خالل سنّي حياته‪ ،‬وأن يوافق المجلس‬ ‫بالغلبّية على ترشيحه‪ ،‬ومن يثّم عليه أن يحوز على يثمقة أّمة الكوكب بأغلبية الثلثين‪،‬‬ ‫وهذ ه الشروط نفسها تنطبق على أعضاء مجلس الّرعاية جميعًا«‬ ‫»كّنا أمما ً وشعوبا ً تنتمي إلى مئات المقومّيات‪ ،‬ونتحّدث مئات اللغات‪ ،‬لكن مع توحيد ُدول‬ ‫الكوكب‪ ،‬أخذت هذ ه الَّنزعات تتالشى واللغات تنديثر‪ ،‬وُكّلنا الن نعتبر أنفسنا‬ ‫»سوهاريين« نسبة إلى الكوكب‪ ،‬ونتحّدث اللغة السوهارّية‪ .‬وقد اشتمقمقنا هذ ه اللغة من‬ ‫معظم لغاتنا السابمقة‪ ،‬اعتماداً على اللغات الكثر انتشارًا‪ ،‬غير أن تعبير »المم‬ ‫السوهارّية« ما يزال دارجا ً دون أن يكون له أي دللت تعصبّية لهذ ه المة أو تلك‪.‬‬ ‫مررنا أيضا ً بالنظمة المبراطورية والملكّية والجمهورية والفيدرالية التحادّية وغير‬ ‫ذلك‪ ،‬إلى أن انتهينا إلى الّنظام المعرفي الحالي الذي ألغى الجيوش وأجهزة المن‬ ‫والستخبارات والّسجون وجميع الوزارات غير الفاعلة‪ ،‬كوزارة الدفاع ووزارة‬ ‫الخارجّية ووزارة المالّية وغيرها‪ ،‬وما لدينا الن هو دوائر تهتم بالشؤون المختلفة«‬ ‫شعر الديب لمقمان أنه ينتمقل من عالم الجن إلى عالم ل يمقّل خيالّية‪ ،‬ولم يجد مفّراً من‬ ‫التساؤل‪:‬‬ ‫»قل لي أيها العالم‪ ،‬هل أنتم حمقيمقة أم خيال؟«‬


‫انتهز رجل المعرفة الُفريصة ليكيل بما كيل إليه‪:‬‬ ‫»إذا كنتم ترون أّن وجودنا حمقيمقة أيها الديب فنحن حمقيمقة‪ ،‬وإذا كنتم ترون أننا خيال‬ ‫فنحن خيال!«‬ ‫أسمقط في يد الديب لمقمان‪ ،‬ولم يجد إل أن يضحك‪ ،‬فضحك ت الميرة نور السماء‬ ‫وضحك »شاهل بيل« رجل المعرفة‪.‬‬ ‫»لكن أيها العالم‪ ،‬يمكن أن أقتنع أّنكم ل تحتاجون إلى إدارة للدفاع أو للخارجية أو للمن‪،‬‬ ‫لكن كي ف سأقتنع أنكم ل تحتاجون لدارة للمال مث ً‬ ‫ال؟«‬ ‫»لمقد ألغينا وجود المال منذ ألفي عام‪ ،‬ول ترا ه أمتنا إل في المتح ف أيها الديب!«‬ ‫عاد الديب لمقمان إلى تنبيه نفسه في سّر ه إلى أنه ومنذ أن خرج إليه ملك الملو ك من‬ ‫المقممقم وهو يتعامل مع عالم خيالي‪ ،‬قد ل يحدث إل في الحالم‪ ،‬فإما أن يرفض هذ ه‬ ‫الحمقيمقة ويخرج من هذا الكابو س الطويل‪ ،‬أو يتمقّبلها ويخوض غمارها‪.‬‬ ‫»ل يوجد لديكم مال أيها العالم«‬ ‫»على الطال‪.‬ق أيها الديب!«‬ ‫»ول شرطة ول سجون ول مخابرات!«‬ ‫»أبدًا‪ ،‬أبدًا«‬ ‫»والمواطن عندكم كي يعمل أو يصبح عضواً في اتحاد ما كاتحاد الُكّتاب ل يحتاج إلى‬ ‫شهادة ُحسن سلو ك ول حكم عليه وما إلى ذلك من الويثائق والشهادات؟«‬ ‫»أبداً أبدًا!«‬ ‫»وإذا ما دخل إلى مطعم ليأكل‪ ،‬هل يأكل مّجانًا؟«‬ ‫»إن كوكبنا هو بمثابة بي ت كبير‪ ،‬وكل مطعم فيه هو بمثابة يصالة طعام لهذا البي ت‪ ،‬وكل‬ ‫مواطن فيه هو ابن لهذا البي ت ويمكن أن يأكل ما ُيريد مما هو موجود في هذ ه الصالة‬ ‫دون الحاجة إلى المال‪ ،‬أو الحاجة إلى تمقديم أي شيء ُممقابل ذلك‪ ،‬وهذا ينطبق على كل‬ ‫متطّلبات الحياة‪ ،‬بما في ذلك البي ت والكهرباء والماء والّسفر والقامة والتنّز ه والسياحة‬ ‫والتعليم والتثمقي ف وما إلى ذلك«‬ ‫»وهل استطعتم تحمقيق عدالة بين مواطنيكم في ذلك؟«‬ ‫»بشكل نسبي نعم‪ ،‬إذ ل يوجد في بي ت »الراعي الكبر« من وسائل الراحة ومتطلبات‬ ‫الحياة‪ ،‬ما هو غير موجود في بي ت أي مواطن«‬ ‫بدا للديب لمقمان أنه أمام نظام يطّبق بعض أفكار أفالطون وماركس وسبينوزا وروّسو‬ ‫وغيرهم‪ ،‬فتساءل‪:‬‬ ‫»هل نظامكم المعرفي هذا‪ ،‬هو نتاج لتطّور فكركم المعرفي أّيها العالم؟«‬ ‫ت من فراغ‪ ،‬وكم خضنا من الهوال وواجهنا‬ ‫»بالتأكيد أيها الديب‪ ،‬فنظامنا الحالي لم يأ ِ‬ ‫الّنكسات حّتى حمقمقنا ذلك«‬ ‫أدر ك الديب لمقمان أّن سؤاله لم يكن يخلو من سذاجة‪ ،‬ومع ذلك استمّر في طرح السئلة‬ ‫الساذجة أو شبه الساذجة‪:‬‬ ‫ضع ت أسس النظام الرقى‪ ،‬أي الحالي‪ ،‬منذ أن اّتحدت أمم وشعوب الكوكب‪ ،‬أي‬ ‫»هل ُو ِ‬


‫منذ خمسة آل ف عام‪ ،‬أم فمقط منذ أن ألغيتم نظام الّنمقد أي منذ ألفي عام؟«‬ ‫»في مفهومنا نحن يتغّير الشكل باستمرار‪ ،‬لكن يمكن المقول أّنه مّر على نظامنا الحالي‪،‬‬ ‫بما حمقمقه من خطوات هائلة من التطّور قرابة أل ف عام فمقط‪ ،‬وهذا ل ينفي أن نزع‬ ‫السالح فالتحاد كانا الخطوة الولى في طريق حضارتنا الحديثة«‬ ‫»وهل مّرت فترة طويلة بين نزع الّسالح والتحاد أيها العالم؟«‬ ‫»ل‪ ،‬بل فترة قصيرة جدًا‪ ،‬إلى حد أننا ألغيناها من التاريخ وُرحنا نحتفل بالمناسبة في‬ ‫يوم واحد«‬ ‫وألمقى رجل المعرفة نظرة على ساعته وهت ف‪:‬‬ ‫»لمقد اقترب موعد حفل العشاء مع الراعي الكبر أيها الديب‪ ،‬ينبغي أن ننصر ف‪،‬‬ ‫سنكمل حديثنا فيما بعد«‬

‫)‪(4‬‬ ‫ليلة راقصة على الكوكب سوهار‬ ‫كان ال ّ‬ ‫ّ‬ ‫ظالم قد حل‪ ،‬وكان جنود الجن يحلمقون في سماء المدينة في فوجين متمقابلين‬ ‫مطلمقين من أفواههم ُكرات نارّية ملتهبة في اّتجا ه بعضهم البعض‪ ،‬وكان ت الكرات‬ ‫تصطدم في منتص ف المسافة الفايصلة بين الفوجين وتتبعثر في شظايا تتنايثر في السماء‬ ‫لتشّكل جّواً عجائبيًا‪.‬‬ ‫لم يعر ف الديب لمقمان كي ف وجد نفسه يعود إلى أسئلته الواقعّية الحممقاء‪ ،‬متذكراً بعض‬ ‫معلومات الفلكيين التي تشير إلى أن الشمس قد ل تغيب عن جانب من كوكب الّزهرة‬ ‫بينما يظل الجانب الخر ُمظلمًا‪ ،‬وهم هبطوا في الجانب المشمس‪ ،‬فكي ف حّل الليل؟ يثم كم‬ ‫مضى عليه بالضبط منذ النطال‪.‬ق من الرض؟ فهل يحسب ذلك بتوقي ت أهل الرض‪ ،‬أم‬ ‫بتوقي ت أهل الزهرة؟‬ ‫راح يهّز رأسه متذمراً من نفسه كما يبدو‪ ،‬فتساءل ت الميرة نور السماء عما به وهي‬ ‫تأخذ بذراعه وتمقود ه‪:‬‬ ‫»إني أحاول عبثاً نسيان أسئلة الواقع‪ ،‬هل لديك قوة ما قادرة على أن تنسيني أسئلة الواقع‬ ‫أّيتها الميرة؟«‬ ‫»للس ف ل يا مولي‪ ،‬فأنا ل أعر ف فرقاً بين الواقع والخيال‪ ،‬فما هو واقعي يمكن أن‬ ‫يكون خيالياً في لحظة ما‪ ،‬وما هو خيالي يمكن أن يكون واقعيا ً في لحظة ُأخرى!«‬ ‫»لماذا تعّمقدين المور أيتها الميرة؟«‬ ‫»بل أن ت الذي تعّمقدها يا مولي؟«‬ ‫»أنا أيتها الميرة؟«‬ ‫»أكيد يا مولي!«‬ ‫»كي ف؟«‬


‫»بأسئلتك غير المقادرة على الحسم بين الواقع والخيال‪ ،‬فهل أنا الن برأيك واقع أم‬ ‫خيال؟«‬ ‫ ت خيال‪ ،‬قطعا ً خيال!«‬ ‫»أن ِ‬ ‫ضغط ت بلط ف على ذراعه والتصمق ت بجانبه وضّم ت رأسها إلى رأسه ليتهّدل شعرها‬ ‫على جبينه وتداعب أنفاسها العطرة أنفه‪.‬‬ ‫أح ّ‬ ‫س بمقشعريرة لذيذة تسري في جسد ه كدبيب الّنمل‪:‬‬ ‫»أمتأكد أن ت يا مولي؟!«‬ ‫ ت واقع‪ ،‬بل حمقيمقة لم أعش ما هو أجمل منها«‬ ‫»ل! أن ِ‬ ‫وأخذ يدها وقّبلها‪.‬‬ ‫هبطوا من بي ت الضيافة‪ .‬كان ت السماء تضّج بما يبدو لعبة حربّية أشعل فتيلها جنود‬ ‫الجن‪ .‬أح ّ‬ ‫س الديب لمقمان أن هذ ه اللعبة قد تثير لدى ُسّكان الزهرة المسالمين بعض‬ ‫الّريبة‪ ،‬فطلب ملك الملو ك فامتثل أمامه‪:‬‬ ‫»أوِعز إلى جنود ك أن يلعبوا غير هذ ه اللعبة الّسخيفة‪ ،‬أو دعهم يفعلون شيئا ً ُيفرح النا س‬ ‫ويبعث البهجة في نفوسهم«‬ ‫»أمر مولي«‬ ‫وأشار ملك الملو ك بحركة من يد ه وإذا بالكرات والشظايا النارّية المتنايثرة في الفضاء‬ ‫تتالشى تباعا ً واحدة إيثر ُأخرى وبسرعة هائلة‪ ،‬لتعّم السماء موسيمقى راقصة وتتدّلى منها‬ ‫قناديل ُمضيئة كالثرّيات المتللئة‪ ،‬وتمل فضاءها عشرات آل ف الفتيات من بنات الجن‬ ‫اللواتي شرعن في ُمراقصة الجنود‪ ،‬فيما امتّدت آل ف الموائد العاِمرة بأشهى المأكولت‬ ‫ س من المخمل الزر‪.‬ق تدّل ت منها مصابيح حمر مضيئة‪،‬‬ ‫وأطيب الخمور‪ ،‬وأحيط ت بكرا ٍ‬ ‫مما أضفى على السماء جّواً بهيجًا‪.‬‬ ‫»أحسن ت أيها الملك‪ ،‬وإن كن ت أيثرت فينا الّرغبة لتناول عشاءنا في السماء«‬ ‫»ليتفضل مولي وليدُع الراعي الكبر وجميع مواطنيه من الزهرة إلى وليمة في‬ ‫السماء«‬ ‫»فكرة عظيمة أّيها الملك‪ ،‬سنفعلها غداً لنرّد لهم الدعوة‪ ،‬ل يصح أن نفعلها اليوم ونحن‬ ‫نلّبي دعوتهم«‬ ‫»غ ّ‬ ‫ص ت يصالة الستمقبال في »قصر الرعّية« الذي ُدعي إليه الديب ُلمقمان وأعوانه‬ ‫بمقرابة عشرة آل ف مدعو من كبار المقوم في كوكب الزهرة‪.‬‬ ‫وقد استمقبل الراعي الكبر وزوجته وكبار المسؤولين في الكوكب الديب لمقمان والميرة‬ ‫نور السماء وملك الملو ك والميرة ظل المقمر وقائد المركبة ويصديمقته بحفاوة بالغة على‬ ‫مدخل المقصر‪ ،‬يثّم دخل الجميع إلى يصالة طعام كبيرة بحيث اّتسع ت لكل هذا الحشد‪.‬‬ ‫وقد وقف ت في يصدر الصالة مجموعة من الفتيات يلّوحن بباقات من الورود فيما كان ت‬ ‫فرقة موسيمقية تعز ف موسيمقى هادئة‪.‬‬ ‫أخذ الديب لمقمان والراعي الكبر مجلسيهما إلى مائدة طويلة وقد جلس ت الميرة نور‬ ‫السماء بينهما كي ُيتاح لها أن تترجم ما يدور بين اليثنين من حديث‪ ،‬فيما جلس ملك‬


‫الملو ك وقائد المركبة والميرة ظل المقمر عن يمين الديب لمقمان‪ .‬أما رجل المعرفة‬ ‫»شاهل بيل« وبعض رجالت مجلس الّرعّية فمقد جلسوا مع زوجاتهم في مواجهة الديب‬ ‫لمقمان‪ .‬وقد جلس ت زوجة الراعي الكبر عن يسار ه وراح ت توّزع ابتسامات هادئة على‬ ‫كل من تمقع عيناها عليه‪.‬‬ ‫ُأفرد على المائدة أنواع عديدة من الممقّبالت والّسلطات واللحومات الباردة وبعض أنواع‬ ‫العصير والمشروبات الروحّية التي لم يبُد أنها مختلفة عّما ُيمقّدم على الرض‪.‬‬ ‫كان الديب لمقمان متشّوقاً لمحاورة الراعي الكبر فشرع في الحديث على الفور فيما‬ ‫الميرة نور السماء تترجم‪:‬‬ ‫»هل لي أن أعر ف كي ف بنيتم نظامكم أّيها الراعي الكبر؟«‬ ‫»بالمحّبة والتعاون أّيها الديب‪ ،‬حين أنهك ت الحروب المدّمرة كوكبنا‪ ،‬لم يجد أجدادنا‬ ‫غير نزع الّسالح من الكواكب وإعالن الحرب بالمحّبة!«‬ ‫»ماذا تمقصدون بإعالن الحرب أّيها الراعي الكبر؟«‬ ‫»ما لم يستطيعوا تحمقيمقه بالحروب المدّمرة سعوا إلى تحمقيمقه بحروب المحّبة!«‬ ‫»وهل من الجائز أن تسّموا ما جرى حربًا؟«‬ ‫»مجازيا ً نعم‪ ،‬يصحيح أنها كان ت حرباً من نوع آخر‪ ،‬لكنها كان ت قاسية على إنساننا الذي‬ ‫وجب عليه التغّلب على نوازع الشر في نفسه‪ ،‬وهذ ه مسألة لم تكن هّينة«‬ ‫»معذرة أّيها الراعي الكبر ماذا تمقصدون بنوازع الشر وكي ف حددتموها؟«‬ ‫»اعتبر أجدادنا أن كل نزوع ذاتي في الشخصّية يمكن أن يسيء إلى الخرين ولو بمقدر‬ ‫يسير هو نزوع شّراني«‬ ‫»وهل هذا ينطبق على بعض الّسلو ك أيضًا؟«‬ ‫»ليس يثمة سلو ك في نظرنا إل ومبعثه نزوع في الشخصّية أو له عالقة بشكل أو بآخر‬ ‫بهذا الّنزوع«‬ ‫»وهل بلغ النسان الن لديكم هذا الشأو السامي من قتل نوازع الشر؟«‬ ‫»لمقد خاض إنساننا هذا الصراع منذ آل ف العوام‪ ،‬وما يزال يخوضه حّتى الن‪ ،‬ولو‬ ‫بشكل أسهل وأيسر من ذي قبل‪ ،‬لن معرفته نم ت وتطّورت إلى حد غدا فيه يدر ك جيداً‬ ‫ما معنى أن تمقول له أّن وجود ه رهن بوجود الخر‪ ،‬وأّن ذاته ل تتحمقق إل باندغامها في‬ ‫الذات الخرى‪ ،‬والعكس يصحيح!«‬ ‫»هل تمقصدون بوجود الخر والذات الخرى النسان؟«‬ ‫»النسان لدينا ولغاية الن ُهو أرقى الكائنات والموجودات‪ ،‬لكن ذاته ل تنفصل عن‬ ‫ذوات الكائنات والموجودات ا ُ‬ ‫لخرى‪ ،‬وهي بدورها ل تنفصل ذواتها عنه‪ ،‬هو جزء منها‬ ‫وهي جزء منه‪ ،‬إّن ذاته موجودة في النسان والّنبات والحيوان والطير والمائيات‬ ‫والجماد‪ ،‬في الماء والهواء والتراب والنار‪ ،‬في الحجر والصخر والطين‪ ،‬في النهر‬ ‫والجبل والحمقل‪ ،‬في الفضاء والكواكب والنجوم‪ ،‬وهذا ما نسّميه الذات الُكّلية«‬ ‫بدا الديب لمقمان وكأّنه يستمع إلى بعض أفكار »لوتس« و»شوانغ تسو« و»ابن عربي«‬ ‫مع بعض التطوير الجوهري عليها‪.‬‬


‫»عفواً أيها الراعي الكبر إذا ما أزعجتكم بأسئلتي«‬ ‫»ل أبدًا‪ ،‬أن ت ل تزعجني‪ ،‬تف ّ‬ ‫ضل واسأل ما تشاء«‬ ‫»هل تمقصدون بمقولكم لغاية الن أّن فكركم هذا قابل للتطوير في المستمقبل؟«‬ ‫»نعم هذا ما أقصد ه بالضبط‪ ،‬وليس في المستمقبل فحسب‪ ،‬بل الن‪ ،‬فنحن نفّكر دائمًا‪،‬‬ ‫وأحياناً نضطر إلى تغيير بعض المفاهيم وليس تطويرها فحسب‪ ،‬ونعتمقد بإمكانية ظهور‬ ‫فكر في المستمقبل يمكن أن يرقى على فكرنا وفهمنا للوجود«‬ ‫»كي ف يمكن أن نلمس أيثر فكركم الراهن على إنسانكم؟«‬ ‫»تلمس هذا في اّتحادنا في أّمة واحدة‪ ،‬بعد أن كّنا مئات المم‪ ،‬تلمسه في المستوى‬ ‫الحضاري الذي ويصلنا إليه‪ .‬النسان عندنا نادراً ما يشتم الخر لّنه يدر ك أنه يشتم ذاته‪،‬‬ ‫وحين يحب الخر يدر ك أّنه يحب ذاته‪ ،‬لذلك فهو ل يكر ه الخر لنه سيكر ه ذاته‪ ،‬ول‬ ‫يمقطع الشجرة أو يمقتلع النبتة لنه يدر ك أنه يمقتطع ويمقتلع شيئا ً من ذاته‪ ،‬ول يمقتل الطير‬ ‫والحيوان لّنه يمقتل شيئاً في ذاته‪ ،‬وإذا ما اقتطعنا أو اقتلعنا أو قتلنا‪ ،‬فال نفعل ذلك إل‬ ‫للضرورات الُمباحة‪ ،‬كأن نذبح الغنام والبمقار لكل لحمها«‬ ‫وأطر‪.‬ق الديب لمقمان للحظات ُيفكر‪ ،‬تساءل الراعي الكبر‪:‬‬ ‫»ما رأيك بفكرنا أّيها الديب لمقمان؟«‬ ‫»إن شئ ت الحق أنا ممقتنع إلى حد كبير بفكرة استحالة تحمقيق الذات النسانية بمعزل عن‬ ‫الذات النسانية ا ُ‬ ‫لخرى‪ ،‬أو أن وجودها ل يتحمقق بمعزل عن الوجود الخر‪ ،‬إل أنني ل‬ ‫أدر ك كي ف يمكن أن تكون ذاتي جزءاً من الّذات البعوضّية أو الصرايصيرية أو الّذبابية‬ ‫مث ً‬ ‫ال‪ ،‬وهي جزء من ذاتي‪ ،‬وبالتالي ل يتحمقق وجودي إل بها‪ ،‬ول يتحمقق وجودها إل‬ ‫بي‪ ،‬أم لعّل هذ ه الكائنات ل توجد على كوكبكم؟!«‬ ‫وشرع الراعي الكبر في ضحك رزين‪ ،‬وما لبث أن أجاب‪:‬‬ ‫»ل بل توجد أيها الديب‪ ،‬بعض فالسفتنا يفّسرون ذلك بوجود الحياة في هذ ه الكائنات‪،‬‬ ‫واشتراكنا معها فيها‪ ،‬وبعضهم يعزونها إلى نوازع الشر‪ ،‬ويعتبرونها جزءاً من ذاتنا‬ ‫الّشرانّية‪ ،‬وأّنه ينبغي المقضاء عليها‪ ،‬على أية حالة‪ ،‬إن أفضل الدوية لدينا لمعالجة بعض‬ ‫الجروح والمقروح هي التي يشتر ك فيها مسحو‪.‬ق بعض الحشرات المجففة‪ ،‬كالنحل‬ ‫والصرايصير والنمل وغيرها!!«‬ ‫»الحشرات المجففة؟«‬ ‫»أجل أّيها الديب!«‬ ‫»عجيب! كي ف خطر مثل هذا المر على بال أطبائكم؟!«‬ ‫»نحن ل نتر ك شيئا ً إل ونفكر فيه ونجّربه«‬ ‫»ماذا عن تمقّدم علوم الطب عندكم أيها الراعي الكبر؟«‬ ‫»قضينا على المراض ُكّلها‪ ،‬إذ يندر أن يموت إنسان لدينا‪ ،‬من جّراء مرض ما‪ ،‬وهذا‬ ‫أّدى إلى تمقليل عدد المستشفيات‪ ،‬ونحن الن نحاول أن نجد عالجا ً للشيخوخة لعّلنا نوق ف‬ ‫الموت‪ ،‬بعد أن أطلنا معّدل عمر النسان إلى الضع ف«‬ ‫»تمقول إلى الضع ف أّيها الراعي الكبر؟«‬


‫»نعم‪ ،‬كّنا نعيش حوالي مائة ويثاليثين سنة الن نعيش حوالي مائتين وستين!«‬ ‫عاد الديب لمقمان إلى الحسا س بالدونّية أمام هذا التطّور المذهل‪ ،‬فنهض رافعا ً كأسه‬ ‫ليشرب نخب أبناء »سوهار«!‬ ‫وق ف الّنا س جميعاً ورفعوا كؤوسهم وشربوا النخب‪.‬‬ ‫كان ت الموسيمقى تنساب بهدوء من آلت بعضها شبيه باللت الموسيمقية على الرض‪،‬‬ ‫وما لبث ت أن رافمقتها أيصوات الفتيات التي انطلمق ت بنعومة وهدوء‪.‬‬ ‫أطر‪.‬ق الديب لمقمان مصغياً سمعه‪ ،‬ورغم الغرا‪.‬ق في ال ّ‬ ‫صور التجريدّية التي كان ت‬ ‫تبعثها الموسيمقى إل أنه أح ّ‬ ‫س بها تنشد الخلود‪ .‬ظل مصغيا ً إلى أن انته ت الممقطوعة‪،‬‬ ‫ليصّفق بحرارة مع الحضور‪.‬‬ ‫نظر نحو الميرة نور الّسماء فالراعي الكبر‪ .‬شعر أّنه أرهق الميرة بالترجمة ولم‬ ‫يدعها تأكل شيئًا‪ .‬طلب إليها أن تترجم حواراً أخيراً قبل تناول ال ّ‬ ‫طعام‪ ،‬فوافمق ت بسرور‪.‬‬ ‫»عفوًا أيها الراعي الكبر‪ ..‬ما هي رؤيتكم للموت‪ ،‬وهل تؤمنون بالبعث والحياة‬ ‫ا ُ‬ ‫لخرى؟«‬ ‫»كان بعض أجدادنا يرون فيه حياة وراحة أبدّيتين‪ ،‬حّتى أن الموتى كانوا يصطحبون‬ ‫معهم إلى المقبور بعض ما يحتاجون إليه من متاعهم وممتلكاتهم إلى تلك الحياة‪ ،‬وبعضهم‬ ‫الخر كان يرى أّن أرواحنا تحّل في كائنات أخرى وأّنه ل يموت إلّ الجسد‪ ،‬وبعضهم‬ ‫كان يرى أن الروح تصعد إلى السماوات‪ ،‬وآخرون كانوا يرون أن الروح تحّل في‬ ‫مولود إنسي آخر‪ ،‬وبعضهم كان يرى فيه حمقا ً ل مفّر منه نحو بعث منتظر وحياة ُأخرى‬ ‫في الجّنة وعذاب في النار‪ ،‬وبعضهم كان يرى أّيها الديب لمقمان أن الموت هو نهاية‬ ‫المطا ف ول يتبعه أي شيء آخر على الطال‪.‬ق‪ ،‬ونحن الن نتبع هذا العتمقاد«‬ ‫استغرب الديب لمقمان أن يسمع هذا العتمقاد الخير فهت ف‪:‬‬ ‫»أل ترى أّيها الراعي الكبر أن اعتمقادكم الحالي يتناقض مع فلسفتكم الراهنة‪ ،‬فأنتم‬ ‫تميتون الذات التي يفترض أن تكون مّتحدة مع الذات الخرى الكلّية؟!«‬ ‫»ل أظن أيها الديب‪ ،‬ليس يثمة تناقض‪ ،‬فما يموت ُهو الذات الشهوانّية الجزئية‪ ،‬أما‬ ‫الذات الروحّية فتبمقى خالدة بما حمقمقه النسان من معرفة وجمال وعمل خ ّ‬ ‫ال‪.‬ق«‬ ‫»الن اختل ف المر‪ ،‬وإن كن ت أرى حسب ما فهمته من فلسفتكم أّن ما أطلمقتم عليه‬ ‫»الذات الشهوانية الجزئية«‬ ‫فمقاطعه الراعي الكبر قائ ً‬ ‫ال‪:‬‬ ‫»أو بتعبير أد‪.‬ق أيها الديب‪ ،‬الجانب الشهواني الجزئي في الذات!«‬ ‫»ليكن أيها الراعي الكبر‪ ،‬فهذا الجانب ل ينفصل عن الذات الفردّية التي هي بدورها‬ ‫جزء من الذات الُكّلية المطلمقة وتتحد معها‪ ،‬إلى حد يستحيل معه الفصل بين ذات جزئية‬ ‫وأخرى كونّية‪ ،‬لّتحاد الكل بالجزء والجزء بالكل!«‬ ‫»نحن ولغاية الن نمقول بإمكانّية ذلك‪ ،‬كما أن ت مستمقل عّني وأنا مستمقل عنك رغم‬ ‫اشتراكنا بذات ُكلّية واحدة«‬ ‫»على أية حال أيها الراعي الكبر‪ ،‬ما يريحني أّنكم وأجدادكم فّكرتم ومازلتم تفّكرون بما‬


‫فّكرنا فيه نحن وأجدادنا‪ .‬الفار‪.‬ق أّنكم أفدتم من فكركم‪ ،‬بينما نحن أضعنا فكرنا هباًء‪ ،‬بل‬ ‫إن بعضنا اعتبر ه عبئاً علينا أو زندقة وإلحادًا‪ ،‬أو جنونا ً وتخريفًا‪ ،‬أعتذر مرة ُأخرى‬ ‫لكثرة أسئلتي أيها الراعي الكبر‪ ،‬وأعتذر للميرة نور السماء لما بذلته من جهد كبير في‬ ‫الترجمة«‬ ‫||||||||‬ ‫هت ف الراعي الكبر قاطعا ً على الديب لمقمان أّية تساؤلت ممكنة‪:‬‬ ‫»أكل لحوم هذ ه الحيوانات من الضرورات الُمباحة أّيها الديب«‬ ‫تمتم الديب لمقمان‪:‬‬ ‫»أظن أنني أدرك ت ذلك أيها الراعي الكبر«‬ ‫ظهرت على مسرح يصالة الطعام مجموعة من الفتيات يرتدين أزياء شعبية ملّونة‬ ‫وشرعن في تمقديم رقصات فولكلورّية‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫تنّبه المحتفلون إلى فتاتين وشاّبين دخلوا يصالة الطعام وقدموا إلى مائدة الراعي الكبر‬ ‫وضيوفه‪ ،‬كان ت إحدى الفتاتين بيضاء جنّية تسير مع إنسّي أسود والخرى سمراء إنسّية‬ ‫تسير مع جّني أبيض‪.‬‬ ‫وق ف الجنّيان خل ف ملك الملو ك فيما وق ف النسيان خل ف الراعي الكبر وطلبا منه شيئا ً‬ ‫ما‪:‬‬ ‫نظر الراعي الكبر إلى الديب لمقمان‪.‬‬ ‫»مواطنو كوكبنا يرغبون في أن ينزل الجن من السماء ويمرحوا معهم«‬ ‫نظر الديب لمقمان نحو ملك الملو ك متسائالً فهت ف الخر‪:‬‬ ‫»إنها رغبة الجن أيضا ً يا مولي«‬ ‫تخّو ف الديب لمقمان من أن يكون جنود الجن أفظاظا ً مع نساء الكوكب‪.‬‬ ‫»لكن دعهم يتعاملون بلط ف مع النسّيات أيها الملك‪ ،‬وامنع عليهم أن يأخذوا أي شكل‬ ‫يصُغر!«‬ ‫جّني مهما َ‬ ‫وبدا أن ملك الملو ك انزعج لسوء الظن الذي أبدا ه الملك غير المتّوج الديب لمقمان‪:‬‬ ‫»اطمئن يا مولي‪ ،‬فأن ت ل تعر ف مدى لط ف الجن حين يريديون أن يكونوا لطفاء!«‬ ‫»حسناً أيها الملك‪ ،‬لينزلوا وليحتفلوا ويمرحوا ويبتهجوا‪ ،‬لكن ل تدعهم ينزلون بأيديهم‪،‬‬ ‫ليحضر كل جنّي وجنّية بعض الهدايا لبناء الكوكب«‬ ‫»أمر مولي«‬ ‫ولم يعر ف الديب لمقمان أن ملك الملو ك سيفعل ما ل يمقدر عليه إل اللهة العظمى‪ ،‬فمقد‬ ‫أمر بأن ينزل على الكوكب أربعة مليارات جّني ِنصفهم من الناث‪ ،‬أي بعدد ُسكان‬ ‫الكوكب‪ ،‬وأن يحضر كل جّني معه ما يمكنه أن يهديه للسكان من الُحلي والجواهر‬ ‫وأفخر أنواع القمشة والملبوسات‪ ،‬وأشهى الطعمة والمشروبات‪ ،‬ولم تمر سوى‬ ‫لحظات حّتى أنيرت سماء الكوكب بمصابيح إضافّية‪ ،‬كأنها النجوم والقمار‪ ،‬ومدت في‬ ‫كل مكان‪ ،‬في الشوارع والساحات‪ ،‬في الحدائق والمتنّزهات‪ ،‬وفي كل قرية ومدينة مئات‬ ‫آل ف الموائد العامرة‪ ،‬ويصدح ت الموسيمقى من أقصى الكوكب إلى أقصا ه‪ ،‬وأقيم ت‬


‫حلمقات الرقص وجلسات الّلهو والّسمر‪ ،‬وحفالت الغناء وال ّ‬ ‫طرب‪.‬‬ ‫وفي يصالة الطعام التي يجلس فيها الراعي الكبر وضيوفه‪ ،‬فوجئ الجميع بالّستائر ترفع‬ ‫والجدران تختفي وزجاج الواجهات ُيفتح‪ ،‬ويصالة ال ّ‬ ‫طعام تتمدد وتتسع‪ ،‬لتفرد فيها مئات‬ ‫الموائد الكبيرة‪ ،‬وليظهر الل ف من فتيات الجن اللواتي َبدْون كحور العين والل ف من‬ ‫الشباب الذين بدوا كالولدان المخّلدين‪ ،‬وراحوا ينثرون الُحلي والجواهر على الحضور‪،‬‬ ‫ولينطلق يصوت ملك الملو ك داعياً الجميع إلى المرح والفرح ونسيان الهموم والتَُرح!‬ ‫فنهض الجميع يرقصون‪ ،‬فاختلط النسّيون بالجّنيات والنسيات بالجنيين ولم يبق أحد‬ ‫جالساً إل الديب لمقمان والميرة نور السماء التي كان ت تضّم رأ س الديب لمقمان إلى‬ ‫كتفها‪ ،‬وتنظر إلى جمهور الراقصين‪ ،‬الّسكارى منهم وغير الّسكارى‪ ،‬وحين حان ت‬ ‫التفاتة منها إلى وجه الديب لمقمان‪ ،‬رأته حزينا ً والّدموع تترقر‪.‬ق في عينيه يثم تنزلق على‬ ‫وجنتيه‪ ،‬فضّمته بحنان شديد‪ ،‬واحتوت رأسه تح ت ذقنها وراح ت تمسح الدموع عن‬ ‫وجنتيه وهي تسأله‪:‬‬ ‫»أية هموم هذ ه التي تجرؤ على القتراب من قلب مولي وأعجز أنا عن مواجهتها؟!«‬ ‫»هموم أهلي وأبناء موطني وأبناء كوكبي أّيتها الميرة‪ ،‬الجوع‪ ،‬المقتل‪ ،‬الموت‪،‬‬ ‫المراض‪ ،‬الكر ه‪ ،‬الحمقد‪ ،‬وملك الملو ك يلمقي بكل ما لدى الجن لبناء الزهرة حّتى دون‬ ‫أن يسألني رأيي!«‬ ‫»مولي‪ ،‬سنسّخر جن السماوات والرض وكل الكواكب ليمطروا ذهبا ً وماسا ً على أّية‬ ‫رقعة في الرض تريدها‪.‬‬ ‫ودع ت على الفور ملك الملو ك بالّتخاطر الجنّي وإذا به يجثو أمام الديب لمقمان ويضع‬ ‫يديه على قدميه ويهت ف باكيا ً غاضبا ً من جراء ما فعل‪:‬‬ ‫»ليغفر لي مولي‪ ،‬وليأمر أين يرغب أن تمطر الّسماء ذهبًا‪ ،‬وإذا شاء سأغر‪.‬ق له‬ ‫الرض بالجواهر على أل أرى دموعه«‬ ‫»هل تعر ف فلسطين أّيها الملك؟«‬ ‫»وهل هنا ك أحد ل يعر ف فلسطين يا مولي‪ ،‬وهل أنسى حبيبتي عستارت؟!«‬ ‫»أمطر عليها قدر ما تستطيع‪ ،‬أمطر على غّزة والضّفة الغربّية أكثر من باقي‬ ‫المناطق!«‬ ‫»أمر مولي«‬ ‫»وهل تعر ف كوبا؟«‬ ‫»سأجعل أعواني يعرفونها يا مولي«‬ ‫»أمطر عليها آل ف الطنان من الّذهب والما س‪ ،‬وإذا طلب فيدل أي شيء آخر‪ ،‬فاعطو ه‬ ‫أكثر مما يريد«‬ ‫»أمر مولي! إن فلسطين وكوبا‪ ،‬بجبالهما وسهولهما وشوارعهما وحدائمقهما وأسطح‬ ‫بناياتهما‪ ،‬تغرقان الن بالّذهب والما س يا مولي«‬ ‫»أحسن ت أيها الملك! وروسيا‪ ..‬أمطر على روسيا!«‬ ‫»أمر مولي!«‬


‫»على الهند وباكستان وبانغالدش«‬ ‫»أمر مولي«‬ ‫»على سوريا والردن ولبنان ومصر والسودان وبغداد والجزائر والمغرب والصومال‪،‬‬ ‫أو أقول لك‪ ،‬على كل الّدول الفمقيرة في المقارتين السيوّية والفريمقية«‬ ‫»أمر مولي«‬ ‫»وعلى أستراليا«‬ ‫»أمر مولي«‬ ‫»هل نفذت أوامري؟«‬ ‫»لو ترى حال هذ ه المقارات الن يا مولي‪ ،‬أخا ف أن يجن الفمقراء من الفرح!«‬ ‫»ل تغرقهم كثيراً بالجواهر!«‬ ‫»ل لن ُأغرقهم‪ ،‬أّية أوامر أخرى يا مولي؟«‬ ‫»أفّكر في الفمقراء في الّدول الغنّية‪ ،‬أليس في ممقدور ك أن تمطر عليهم وحدهم شيئًا؟!«‬ ‫»الفمقراء وحدهم يا مولي؟«‬ ‫»أجل فالغنياء ل يمقنعون!«‬ ‫»سنجد بعض المشّمقة في معرفة الفمقراء من الغنياء يا مولي«‬ ‫»تدّبر المر‪،‬ل أريد أن أرى فمقراء على الرض«‬ ‫»أمر مولي«‬ ‫»هل نّفذت أّيها الملك؟«‬ ‫»على الفور يا مولي«‬ ‫وأطر‪.‬ق الديب لمقمان للحظات ورأسه ُملمقى على يصدر الميرة نور السماء وعينا ه‬ ‫تنظران إلى ملك الملو ك الجايثي على قدميه‪ ،‬وما لبث أن شرع في الُبكاء والضحك معًا‪.‬‬ ‫هت ف ملك الملو ك‪:‬‬ ‫»أيتها السموات ما الذي ألّم بمولي؟!«‬ ‫وهتف ت نور السماء وهي تحتويه إليها وتطّوقه بيديها ظاّنة أن الشيطان يوسو س في‬ ‫نفسه‪:‬‬ ‫»أبعد ا الشيطان عنك‪ ،‬وكل ك برعايته وعنايته يا مولي«‬ ‫وفوجئ ت بالديب لمقمان يغر‪.‬ق بالبكاء والضحك حين سمع ما قالته‪:‬‬ ‫»ل عليك أّيتها الميرة‪ ،‬ربما هذا من تأيثير الخمرة السوهارّية«‬ ‫»ما هذ ه الخمرة التي تضحكك وتبكيك يا مولي؟ إّنه الشيطان‪ ،‬يوسو س في نفسك‪،‬‬ ‫ويدعو ك إلى تكذيب ما يحدث‪ ،‬ويهمس في أسماعك‪ ،‬مّدعيا ً أن الفلسطينيين في غّزة قد ل‬ ‫يجدون ما يأكلونه‪ ،‬وأّن الكوبيين مايزالون فمقراء إلى حد قد ل يمّكنهم من تناول أكثر من‬ ‫وجبة طعام بائسة في اليوم‪ ،‬وأّن الشعب الروسي أُِذل‪ ،‬وأّن الجوعى في الهند وبعض‬ ‫دول أفريمقيا وآسيا‪ ،‬مازالوا يتسّولون في الّشوارع‪ ،‬وينامون على الريصفة!!«‬ ‫»كفى‪ ،‬كفى‪ ،‬أّيتها الميرة‪ ،‬ليذهب الشيطان إلى الجحيم‪ ،‬إّنه كّذاب لئيم‪ ،‬وهّيا هّيا‪ ،‬قومي‬ ‫لنرقص‪ ،‬وأن ت أّيها الملك‪ُ ،‬عد إلى الرقص‪ُ ،‬عد إلى حورّياتك وفتياتك ونسائك‪ ،‬لكن‬


‫اسمع‪ ،‬أريد أن يستيمقظ فيدل ليجد المقصر الجمهوري بكل غرفه ويصالته وأروقته ممتلئا ً‬ ‫بالّذهب والما س وكل أنواع الجواهر‪ ،‬ولبأ س من أن تفعل ذلك في غّزة والمقد س أيضًا!‬ ‫مفهوم أّيها الملك؟«‬ ‫»مفهوم يا مولي«‬ ‫»هيا أيتها الميرة‪ ،‬لنرقص‪ ،‬لنرقص‪ ،‬لنرقص بجنون‪ ،‬لم أرقص منذ عشر سنوات‪ ،‬منذ‬ ‫أن أقبل الخري ف منذراً بطي سنّي عمري‪ ،‬ولم أفرح منذ عشر سنوات‪ ،‬ولم أذ‪.‬ق رضاب‬ ‫الفتيات منذ عشر سنوات‪ ،‬ولم يضّمني يصدر عاشمقة منذ عشر سنوات‪ ،‬لتزغرد فتيات‬ ‫النس والجن‪ ،‬ولتضّج السموات والرض بصدح الموسيمقى‪ ،‬وليتردد يصدى الغاني‬ ‫والناشيد من أخاديد الكون‪ ،‬ولتد‪.‬ق أقدام النس والجن تخوم اليابسة؟!«‬ ‫نهض الديب لمقمان ليرقص كما لم يرقص في حياته برفمقة الميرة نور الّسماء‪ .‬وظّل‬ ‫يرقص والميرة تحّلق معه لتذهل برقصها وجمالها الحضور‪ ،‬وتبعث في نفسه الفرح‬ ‫والّسرور‪ ،‬وهي تدور من حوِله كفراشة‪ ،‬ليحط رأسها على يصدر ه تارة وتأخذ رأسه إلى‬ ‫يصدرها تارة‪ ،‬يلّفها وتلّفه‪ ،‬يدور بها فتدور به‪ ،‬يطويها وتطويه‪ ،‬يضّمها وتضّمه‪ ،‬يشبك‬ ‫يديها وتشبك يديه‪ ،‬يكاتفها وتكاتفه‪ ،‬يراكبها وتراكبه‪ ،‬يراِئسها وترائسه‪ ،‬يواجهها‬ ‫وتواجهه‪ ،‬يجانبها وتجانبه‪ ،‬يخاددها وتخادد ه‪ ،‬يدابرها وتدابر ه‪ ،‬يباعدها وتباعد ه‪ .‬تدور‬ ‫حول نفسها كمغزل‪ ،‬وهو إليها مبتهجا ً ُيمقبل! وحين تعب دون أن تتعب هي‪ ،‬فتح لها‬ ‫ذراعيه‪ ،‬فألمق ت نفسها عليه‪ ،‬فضّمها وحواها‪ ،‬وبكل ما في قلبه من محّبة وحنان غمرها‬ ‫ورعاها‪ ،‬فأحّس ت الميرة نور السماء بما لم تحس به ِمْن مشاعر مع أي ِمَن الجن من‬ ‫قبل‪ ،‬فطّوقته بيديها‪ ،‬والتحم ت بجسد ه حّتى غدت وكأّنها قطعة منه‪ ،‬ودمع ت عيناها‬ ‫فرحًا‪ ،‬وسط تصفيق الجميع وفرحة النس والجن‪ ،‬وبهجة الراعي الكبر وأعضاء‬ ‫مجلس الّرعاية والمجلس المعرفي وكبار الُعلماء والدباء وآل ف الحضور!‬ ‫رفع ملك الملو ك شمنهور الجّبار دنّا ً كبيراً من الخمر‪ ،‬وهت ف بصوت هائل بلغة أهل‬ ‫الكوكب!‬ ‫»نخب مولي العظيم الملك لمقمان‪ ،‬وأميرة المشر‪.‬ق والمغرب‪ ،‬أميرة العوالم العلوّية‬ ‫والعوالم الّسفلّية‪ ،‬الميرة نور الّسماء«‬ ‫فهرع الجميع إلى كؤوسهم‪ ،‬فيما رفع من كانوا على الموائد كؤوسهم‪ ،‬وأحضروا كأسين‬ ‫للديب لمقمان والميرة نور الّسماء‪ ،‬وشرب الجميع كؤوسهم‪ ،‬وشرب ملك الملو ك دّن‬ ‫الخمر عن آخر ه!‪.‬‬ ‫قبل انصرافه‪ ،‬دعا الديب لمقمان الراعي الكبر ورعّيته إلى وليمة عشاء في اليوم‬ ‫التالي‪ ،‬وعاد إلى بي ت الضيافة‪ ،‬فيما ظّل ملك الملو ك وقائد المركبة وطاقمها في الحفل‬ ‫الذي استمّر حتى الصباح‪.‬‬ ‫||||||||‬ ‫حين استيمقظ قبيل الظهيرة إيثر كابو س فظيع‪ ،‬قطع عليه لّذة النوم الجميل الذي كان يغطّ‬


‫فيه‪ ،‬ألفى الديب لمقمان الميرة نور السماء مستيمقظة ومستلمقية إلى جنبه‪ ،‬بثياب النوم‬ ‫الحريرية وترممقه بنظراتها‪ ،‬همس لها‪:‬‬ ‫ ت في نوِمك؟«‬ ‫»هل هنئ ِ‬ ‫»بوجود مولي«‬ ‫»َمن يجد الَهناء بالّنوم على غطيطي؟«‬ ‫»أنا يا مولي!«‬ ‫»لو كن ت مكانك لما احتمل ت نفسي«‬ ‫»بل لكان ت السعادة تغمر ك يا مولي!«‬ ‫»ُهراء!«‬ ‫»وماذا عن نوِمك يا مولي؟«‬ ‫»أظن أنني نم ت أجمل نومة في حياتي لول أّنها انته ت إلى كابو س كالعادة«‬ ‫»لَِم تحلُم دائما ً يا مولي؟«‬ ‫»رّبما لنني ل أستطيع التخلص من هذا المقلق الذي ُيالزمني دومًا«‬ ‫»أن َ‬ ‫ ت تفّكر كثيراً يا مولي؟«‬ ‫»وكي ف يمكن أن أتوّق ف عن التفكير؟«‬ ‫»بالراحة والسترخاء وإشغال عمقلك بمسائل ل تبعث على المقلق«‬ ‫»هل في ممقدور ك أن تساعديني على فعل ذلك؟«‬ ‫»سأحاول يا مولي‪ ،‬لن أدعك تنام بعد الن دون أن أعمل على إراحة أعصابك«‬ ‫»وعمقلي كي ف سأريحه؟!«‬ ‫»إراحة العصاب تريح العمقل أيضا ً يا مولي«‬ ‫»سأكون شاكراً أّيتها الميرة وإن كن ت أظن أّن ليس يثّمة ما ُيريح أعصابي أكثر من‬ ‫ممارسة الحب‪ ،‬وقد فعلنا‪ ،‬ومع ذلك حلم ت«‬ ‫»ستعر ف في حينه يا مولي‪ .‬الن أخبرني بماذا حِلم ت؟«‬ ‫»جئ ت بيتي على الرض فوجدت ابني وابنتي وأّمهما ُحزناء يبكون!«‬ ‫»لَِم يا مولي؟«‬ ‫ّ‬ ‫»كانوا جوعى‪ ،‬لم يكن عندهم إل بمقايا نمقود حين غادرتهم‪ ،‬ولم ينلهم من ُكّل الذهب‬ ‫والجواهر التي أُنزل ت على المدينة‪ ،‬بل البلد كّله‪ ،‬قطعة واحدة‪ ،‬لمقد استولى النا س على‬ ‫الجواهر ُكّلها‪ ،‬ولم يتركوا لهم شيئًا!«‬ ‫»ألم يحاولوا يا مولي؟«‬ ‫»حاولوا‪ ،‬لكن دون جدوى‪ ،‬كان النا س يتلّمقفون الجواِهر من السماء ببراعة قبل أن تصل‬ ‫إلى الرض‪ ،‬ويبدو أّنهم لم يكونوا بارعين في اللمق ف والتلّمق ف‪ ،‬ما أحزنني أكثر أّيتها‬ ‫الميرة أّنه لم يكن لديهم أي طعام أو شراب‪ ،‬وكانوا جائعين«‬ ‫»لَِم لْم يمقترضوا من الجيران أو من معارفهم يا مولي؟«‬ ‫»يبدو أّن كبرياءهم أب ت ذلك‪ ،‬فمقد عّودتهم أن يعطوا ل أن يأخذوا‪ ،‬وإذا كان لبّد من‬ ‫الخذ‪ ،‬فليكن أقل مما أعطوا‪ .‬كانوا يرون النا س يأخذون ِمّني ويأكلون على مائدتي‪ ،‬ولم‬


‫يروني أتطّفل ذات يوم على مائدة أحد‪ ،‬أو رأوا أحداً يعطيني‪ ،‬إلى أن تبدد كل ما لدي من‬ ‫مال‪ ،‬ولم يعد أحد يتعّر ف علّي‪ ،‬حتى أّن جر س هاتفي لم يعد يرن‪ ،‬مع أّنه لم يكن يتوّق ف‬ ‫عن الّرنين إل للرد عليه‪ ،‬تصّوري أّنهم لم يحاولوا حتى مطالبة بعض المدينين لي‬ ‫بنمقود!«‬ ‫»وهل كانوا يعرفون أّنك من تسّبب ت في إنزال الّذهب والجواهر يا مولي؟!«‬ ‫»ل‪ ،‬لو أّنهم عرفوا لكان ت مصيبة لن يمقدروا على احتمالها«‬ ‫»وماذا فعل ت يا مولي؟«‬ ‫»أحسس ت برغبة هائلة في النتمقام‪ ،‬فّكرت في استدعاء ملك الملو ك كي يستعيد الجواهر‬ ‫من هؤلء الجاحدين وأن يكّومها في جبل ويضعها تح ت حراسة الجن‪ ،‬ويتر ك هؤلء‬ ‫يتوّسلون ويتحّسرون مدى الحياة‪ ،‬دون أن ينالوا شيئا ً حّتى لو ماتوا قهراً وجوعًا!«‬ ‫»ولم تستدعه يا مولي؟«‬ ‫»ل‪ ،‬لم أستدعه«‬ ‫»ولم تنّفذ رغبتك في النتمقام؟«‬ ‫»ل‪ ،‬لم أكن قادراً على تنفيذها أيتها الميرة‪ ،‬بل رح ت أتوّسل لكّل اللهة والنبياء أن‬ ‫يساعدوني للتغّلب على هذ ه الشهوة لالنتمقام«‬ ‫»وهل تغّلب ت؟«‬ ‫»أظّن ذلك«‬ ‫»وهل ترك ت أسرتك تتضّور جوعًا؟!«‬ ‫»لم أرغب في استدعاء ملك الملو ك أمامهم‪ ،‬كي ل يعرفوا أنني وراء كل ما جرى‬ ‫ ت أو إحضار ملك الملو ك‪،‬‬ ‫ويجري‪ ،‬فخرج ت إلى الخالء‪ ،‬وعبثاً حاول ت إحضار ك أن ِ‬ ‫بح ّ‬ ‫ظي البائس‪ ،‬ومصير أولدي التعساء‪ ،‬إلى أن استيمقظ ت من نومي«‬ ‫فرح ت أند ُ‬ ‫وفوجئ الديب لمقمان بملك الملو ك يمق ف أمام السرير بثياب الّنوم وهو يهت ف بانفعال‪:‬‬ ‫»ُمرني يا مولي‪ُ ،‬مرني لنزل مصيبة بالمدينة التي جعل ت أولد ك يكابدون ويالت الفمقر‬ ‫والجوع؟!!«‬ ‫»وأن ت كي ف عرف ت بالُحلم أيها الملك؟«‬ ‫»أخبرتني الميرة نور السماء يا مولي؟«‬ ‫»لكّنه كان مجّرد أضغاث أحالم أّيها الملك!«‬ ‫وفوجئ الديب لمقمان بالميرة نور السماء تهت ف‪:‬‬ ‫»للس ف كان حمقيمقة يا مولي‪ ،‬لم تحصل أسرتك على شيء وهي الن دون طعام!«‬ ‫ونهض الديب لمقمان ليجلس في الّسرير وليهت ف‪» :‬ل‪ ،‬ل‪ ،‬غير ممكن‪ ،‬مستحيل!« يثم‬ ‫غمر وجهه براحتي يديه وهو يهّز رأسه بانفعال شديد‪ ،‬جاهداً لن يكب ت اللم في دخيلته‪.‬‬ ‫لجلج يصوت ملك الملو ك متلعثمًا‪:‬‬ ‫»هل أنتمقم لَك أشد انتمقام يا مولي؟«‬ ‫وران يصم ت فظيع‪ ،‬كان الديب لمقمان خالله ما يزال تح ت وقع الصدمة‪ ،‬يكب ت أيثر‬ ‫انفعالته‪ ،‬ويجاهد للسيطرة على نفسه‪ ،‬وقد ضّم ت الميرة نور السماء رأسه إلى‬


‫يصدرها‪ ،‬وهتف ت إلى الملك شمنهور‪:‬‬ ‫»إيا ك أن تمقدم على فعل شيء دون أن يأذن مول ك أّيها الملك«‬ ‫»لن تشعر نفس مولي بالطمأنينة ما لم أنتمقم له من هؤلء الجشعين‪ ،‬الغّدارين‪،‬‬ ‫المرابين‪ ،‬المنافمقين‪ ،‬البخالء‪ ،‬من معشر النس‪ ،‬الذين لن يرتدعوا دون أن يدفعوا يثمن‬ ‫أهوائهم!«‬ ‫استكان الديب لمقمان إلى يصدر الميرة نور السماء ورفع يديه عن وجهه لينظر إلى ملك‬ ‫الملو ك ويهت ف دون أي انفعال‪:‬‬ ‫»ل أّيها الملك‪ ،‬ل تفعل شيئًا‪ ،‬وإّيا ك أن تفّكر في النتمقام‪ ،‬لمقد عش ت كفلسطيني أهوالً‬ ‫أيصعب وأمر مما ل يمقا س‪ ،‬بما تعيشه ُأسرتي الن‪ ،‬ولم أسَع إلى النتمقام وإن فّكر ُ‬ ‫ت فيه!‬ ‫أرسل من يأخذ لسرتي شيئاً من المؤونة والطعام واللبا س والجواهر أيضًا«‬ ‫»لو أنك عش ت لّذة النتمقام‪ ،‬لو أّنك جّربتها ولو مّرة يا مولي‪ ،‬لما أمرتني أن أفعل ذلك‬ ‫فمقط!«‬ ‫ُ‬ ‫»بل جّربتها أيها الملك وإن في مسائل ليس ت ذات شأن‪ ،‬ول أريد أن أجّربها الن في‬ ‫مسائل تتعّلق بمصير البشر«‬ ‫»إّني لس ت خائفاً عليك إل من هؤلء البشر الذين تؤيثرهم على نفسك يا مولي«‬ ‫»ل أظن أّن في ممقدورهم أن يفعلوا بي كفلسطيني أكثر مما فعلوا‪ ،‬هذا إذا لم أستطع‬ ‫دفعهم إلى التغلب على نوازع الشر في نفوسهم!«‬ ‫»ل أظن أّن هنا ك من يمقدر على ما تريد غير ا يا مولي«‬ ‫»سأسعى للمقائه وإقناعه أّيها الملك‪ ،‬كي يساعدني لتحمقيق ذلك«‬ ‫»وإذا لم تتمكن يا مولي؟«‬ ‫»سأسعى بالحسنى والمحبة وعمل الخير أّيها الملك«‬ ‫»أشك أّنها ستجدي شيئا ً يا مولي!«‬ ‫»أرجو ك أّيها الملك‪ ،‬إّني في حاجة إلى من ُيغني في نفسي المل والتفاؤل بالخير‪،‬‬ ‫ولس ت في حاجة إلى من يدّمر هذا المل وينّمي بذور الحمقد‪ ،‬فال تدعني أغضب عليك‪،‬‬ ‫اذهب ونّفذ ما أشرت به عليك‪ ،‬واتر ك أمر النا س لي«‬ ‫»اعذرني يا مولي‪ ،‬فأنا ل أحتمل أن أرى دخيلتك تتمّز‪.‬ق أمام عينّي وأنا المقادر على‬ ‫إراحة نفسك‪ ،‬وإعادة الطمأنينة إلى جّوانّيتك وبطينتك«‬ ‫»ل عليك أيها الملك‪ ،‬أنا بخير‪ ،‬وهذ ه مسألة سهلة أمام الهوال التي ستواجهنا‪ ،‬وإذا لم‬ ‫نتغّلب على هذ ه فلن نتغّلب على ما هو أكثر قسوة وفظاعة وإيالما ً للنفس«‬ ‫»ليس ت المشكلة مشكلة أسرتك يا مولي‪ ،‬فلمقد عرف ت من أتباعي أّنك كفلسطيني تحمل‬ ‫في دخيلتك من اللم ما تنوء الجبال بحمله!«‬ ‫»هل تتجسس علّي أّيها الملك؟«‬ ‫»معاذ ا يا مولي! لكن دفعتني رغبة عارمة لن أعر ف ما حل بأهل محبوبتي‬ ‫عستارت خالل العوام الثاليثة آل ف التي أمضيتها في قممقم ُسليمان‪ ،‬فعرف ت أّنهم قاسوا‬ ‫من الهوال ما لم يمقاسه بشر قط‪ ،‬بدءاً بمقتل جميع نسائهم ورجالهم وأطفالهم وحيواناتهم‬


‫في أريحا – وهذا ما شاهدته بعيني – مروراً بممقتل »ُجلّيات« ويصلب يسوع المسيح‪،‬‬ ‫وانتهاًء بالمجازر الحديثة في المقرن العشرين‪ ،‬التي تّوج ت بمجزرة الحرم البراهيمي!«‬ ‫»وهل عرف ت كل هذا التاريخ أّيها الملك؟«‬ ‫»ولَِم ل أعرفه يا مولي طالما أن أعواني خارج المقماقم شاهدوا كل الحداث وشهدوا‬ ‫عليها‪ ،‬ولو سأل ت الميرة نور السماء عّما شهدته من أحداث‪ ،‬لحّديثتك بما تنفطر له‬ ‫المقلوب!«‬ ‫»آ ه‪ ،‬أرجو ك أيها الملك‪ ،‬أنا أعر ف الماضي كّله‪ ،‬وعرف ت مئات المجازر وشهدت مئات‬ ‫المجازر‪ ،‬وأريد أن أنسى‪ ،‬أنسى تمامًا‪ ،‬ول أتذّكر شيئًا‪ ،‬ول أريد أن أفكر إل في‬ ‫المستمقبل‪ ،‬في المستمقبل‪ ،‬هل فهم ت؟ ليس الفلسطينيون وحدهم من عاشوا المجازر‬ ‫وويالت الحروب والمآسي‪ ،‬كل شعوب الرض عاش ت مآسيها وويالتها‪ ،‬والن ل أمل‬ ‫إل في المستمقبل‪ ،‬وليس بما خّلفته أحمقاد الماضي!!«‬ ‫»معذرة يامولي‪ ،‬وإني لتضّرع إلى ا‪ ،‬أن يكون دائما ً إلى جانبك‪ ،‬وُيلهمك المقوة‬ ‫وال ّ‬ ‫صبر والعون‪ ،‬للتغلب على الماضي‪ ،‬ورسم طر‪.‬ق المستمقبل«‬ ‫وانصر ف ملك الملو ك‪ ،‬فيما غمر الديب لمقمان رأسه في يصدر الميرة نور السماء‬ ‫وشرع في الُبكاء‪ .‬احتوته الميرة بكل جسدها وحنانها إلى أن غدا جزءاً منها‪:‬‬ ‫»لن أدع نسيم الشرور ته ّ‬ ‫ب حيث يكون مولي‪ ،‬ولن أتيح للجاحدين أن يطفئوا‬ ‫البتسامات الوادعة أمام خطا ه‪ ،‬ويطمسوا نذر المحّبة التي تنوء بها شغا ف قلبه‪ ،‬ويطفئوا‬ ‫شموع المل المنيرة في أعما‪.‬ق نفسه‪ ،‬إّني أرى المحّبة تفرد أسارير أجنحتها على قلوب‬ ‫النا س‪ ،‬وابتسامات الفرح ترتسم محّلمقة على شفا ه البشر‪ ،‬وبشائر الّسعادة تطّل ملّوحة من‬ ‫عيون الطفال‪ .‬ليطمئن قلب مولي‪ ،‬ولتغمر نفسه نسائم الهناء‪ ،‬ولترقص لمرآى عينيه‬ ‫أجمل الورود‪ .‬هي ذي المال الجميلة تلج غياهب الحاسيس وتناغي أحالم المحبة«‬ ‫»ما أعظمك أّيتها الحورية الميرة‪ ،‬ما أجمل هذا الحنان الدافق من نبل قلبك‪ ،‬كم أتمنى‬ ‫أن يصحو هذا العالم من ُسباته لينُعم بفيض محّبتك ود فء حنانك‪ ،‬يستظّل بفيء‬ ‫ابتسامتك‪ ،‬ويستنير برجاحة عمقلك‪ ،‬ويستكين إلى ابتهالت الّروح المنسدلة حّتى من‬ ‫حرير شعر ك‪ ،‬فمّدي يد ك يا مليكة قلبي وامسحي براحتها على جبين هذا العالم‪ ،‬لعّله‬ ‫يستعيد محّبته من غياهب ال ّ‬ ‫ضياع وظلمات الحمقاد«‬ ‫ق على وجهك‪ ،‬كي‬ ‫»سأفعل يا مولي كل ما تشاء أن أفعله‪ ،‬فاخلد إلى الراحة‪ ،‬واستل ِ‬ ‫تتيح لشو‪.‬ق أيصابع يد ّ‬ ‫ي أن يلثم أسرار جسد ك!«‬ ‫استلمقى الديب لمقمان على وجهه وإن على مضض‪ ،‬كما أشارت الميرة نور السماء!‬ ‫لكن ما أن أح ّ‬ ‫س بدبيب أناملها يحبو على أسارير ظهر ه بكل هذا الّشو‪.‬ق‪ ،‬وأيصابعها‬ ‫ّ‬ ‫تداعب عضالت جسد ه‪ ،‬وتِسلها عضلة إيثر عضلة‪ ،‬حّتى استسلم لخدٍر لذيذ‪ ،‬راح يسري‬ ‫في شرايين جسمه ومسامات جلد ه‪ ،‬ويدعو ه لن يبمقى مطروحا ً في الّسرير لساعة ُأخرى‪،‬‬ ‫ولو لم يكن ُهنا ك أشياء كثيرة تنتظر ه لبمقي مطروحا ً اليوم بطوله‪.‬‬ ‫س وكأّنه طرح عن كاهله حمالً يثمقي ً‬ ‫حين نهض‪ ،‬أح ّ‬ ‫ال‪ ،‬وأّنه غدا كطائر خفي ف الوزن‬


‫)‪(5‬‬ ‫حمقيمقة وخيال وجن وخوازيق!‬ ‫وهم يتناولون إفطارهم في شرفة بي ت الضيافة‪ ،‬أبدى الديب لمقمان رغبته في أن يبمقى‬ ‫على اّتصال مع كوكب الرض لي ّ‬ ‫طلع على ما يجري عليه‪ ،‬فأوعزت الميرة نور السماء‬ ‫إلى قائد المركبة‪ ،‬الذي جاء بطاقم من الجن وطلب إليهم أن يبمقوا في المركبة لتشغيل‬ ‫أجهزة التصال وريصد كل ما يجري على الكوكب‪.‬‬ ‫جاء »شاهل بيل« رجل المعرفة ترافمقه زوجته »سلمنار«‪ .‬كان ت امرأة سمراء فاتنة‬ ‫الجمال‪ ،‬يصافح ت الديب لمقمان والميرة نور السماء بتهذيب جّم‪ ،‬كان بوّد الديب لمقمان‬ ‫أن يطمئن عّما إذا َمّرت الليلة بسالم‪.‬‬ ‫»آمل أن تكون الليلة قد مّرت بسالم على أبناء كوكبكم«‬ ‫بادرت السيدة سلمنار إلى المقول‪:‬‬ ‫»ل أظن أن أبناء الكوكب سعدوا في حياتهم كما سعدوا هذ ه الليلة«‬ ‫»وهل انته ت السعادة الن؟«‬ ‫»ل أيها الديب‪ ،‬فالجن ما يزالون معنا«‬ ‫وتنّبه الديب لمقمان إلى ما يظن أنه انتهى بمرور الليل‪ ،‬وراح يتساءل في سريرته عّما‬ ‫سيجري‪ ،‬متخّوفاً من أن يمقوم الجن بإفساد أبناء الكوكب وجعلهم يغرقون في اللهو‬ ‫والمرح وتر ك العمل‪ .‬ورّبما يزرعون الشّر في نفوسهم بعد أن قاومو ه آل ف الّسنين‪.‬‬ ‫»وأين هم الن يا سّيدتي؟«‬ ‫»في المنازل‪ ،‬في المطاعم‪ ،‬في الحدائق‪ ،‬في الكروم والبساتين والحمقول والغابات‪ ،‬على‬ ‫سفوح الجبال وفي الودية والمروج والخاديد والّشعاب وعلى شواطئ النهار والبحار‬ ‫والمحيطات«‬ ‫ ت من أّن المور تجري على ما يرام‪ ،‬وأنه ليس يثمة مشاكل على كوكبكم؟«‬ ‫»أوايثمقة أن ِ‬ ‫فمقال شاهل بيل‪:‬‬ ‫»يثمة مشاكل ل تستحق التوّق ف عندها‪ ،‬كالفراط في تناول الكحول والغرا‪.‬ق في‬ ‫الملّذات الجسدّية«‬ ‫»ألن يسبب كل هذا مشاكل كالغيرة مث ً‬ ‫ال‪ ،‬قد تؤدي إلى المقتل أو سفك الدماء‪ ،‬أو مجّرد‬ ‫الّشجار باليدي؟«‬ ‫»ليس أبناء كوكبنا من يستخدمون شيئا ً للذى حتى أيديهم‪ ،‬إّن أقصى ما يفعلونه حين‬ ‫يغضبون‪ ،‬هو أن يرفعوا أيصواتهم بعض الشيء!«‬ ‫»ومتى كانوا يرفعون قبضاتهم أو يشهرون سكاكينهم أو ما شابه ذلك؟«‬ ‫»مررنا بهذ ه المرحلة منذ مئات العوام‪ ،‬واستطعنا التغّلب عليها!«‬


‫»غريب‪ ،‬كل شيء مررتم به وتجاوزتمو ه‪ ،‬أل تعانون من شيء الن؟«‬ ‫»أشياء ل تستحق الذكر!«‬ ‫»وبّم يمتاز أحدكما عن الخر؟«‬ ‫»بمدى معرفته‪ ،‬بتفّوقه في ميادين العلوم والداب والفنون‪ ،‬بتفانيه وإبداعه في عمله‪،‬‬ ‫بسمّو نفسه‪ ،‬بتهذيب لغته وحسن نطمقه ومنطمقه‪ ،‬برقّي سلوكه‪ ،‬بمدى محّبته للخرين‪،‬‬ ‫ومدى اّتحاد ه بالذات الُكلّية أو الكونّية‪ .‬يثمة جوانب كثيرة في حياتنا تمّيز النسان عن‬ ‫الخر أيها الديب لمقمان«‬ ‫وخطر للديب لمقمان أن يسأل‪:‬‬ ‫»هل الذات الكلّية أو الكونّية هذ ه‪ ،‬هي بمثابة ا عندكم؟«‬ ‫»يمكنك أن تعتبرها مجازاً كذلك‪ ،‬أما إن شئ ت الّدقة فالذات الكلية هي الوجود‪ ،‬وبعض‬ ‫فالسفتنا يعتبرونها المادة‪ ،‬لنها أيصل الوجود وأيصل كل شيء‪ ،‬وبعضهم يعتبرونها‬ ‫خاليصة الحياة وروحها التي ينتظم الوجود فيها!«‬ ‫»وهل تمقيسون مدى اّتحاد النسان بالذات الكلية أو اقترانه بها أو اقترابه منها‪ ،‬بمدى ما‬ ‫يحمقمقه من إبداع في مختل ف مجالت الحياة؟«‬ ‫»بكل تأكيد نعم!«‬ ‫»هل يمكن المقول أن العلم والبداع هما بمثابة يصالة لهذ ه الذات؟«‬ ‫»مجازيًّا‪ ،‬أو إلى حد ما‪ ،‬نعم!«‬ ‫»وبَم ُيكافأ النسان المتفّو‪.‬ق لديكم‪ ،‬أو أّنه ل ُيكاَفأ؟«‬ ‫»ل‪ ،‬بل ُيكافأ بأن نحمقق له رغباته على الكوكب«‬ ‫»حتى لو طلب أن يعيش وحد ه في قصر‪ ،‬وأن يكون لديه العشرات من الخدم‪ ،‬وأن يتنّمقل‬ ‫يصة أينما يشاء ومتى يشاء‪ ،‬وأن يتناول طعاما ً خا ّ‬ ‫بوسائط نمقل خا ّ‬ ‫يصا ً على سبيل‬ ‫المثال؟!«‬ ‫»نعم‪ ،‬يثمة إمكانّية لذلك‪ ،‬لكن ما يجعل النسان المبِدع عندنا ل يمقدم على طلبات تمّيز ه‬ ‫كثيراً عن الخرين‪ ،‬هو اعتمقاد ه أّن الخرين جزء منه‪ ،‬جزء من ذاته‪ ،‬لذا ليس من اليسير‬ ‫عليه أن يرى نفسه ممّيزاً إلى حد كبير عنهم‪ ،‬يمكن أن يكون ممّيزاً بشكل نسبي‪ ،‬وُتلّبى‬ ‫بعض رغباته العادّية«‬ ‫»كي أفهمكم بشكل جّيد أيها العالم‪ ،‬أريد أن أبّسط المسألة بمثال من عندي‪:‬‬ ‫لعتبر أن كوكبكم بي ت ريفي‪ ،‬يمقطنه أب وأم وأولدهما‪ ،‬ولعتبر أن الب هو أهم‬ ‫المبدعين في هذا البي ت‪ ،‬فهو ل يمّيز نفسه عن أولد ه وزوجته إل بمقدر ل يبعد ه عنهم‪،‬‬ ‫وهو يحرص على جمال البي ت لنه بيته‪ ،‬وعلى الكتاب الذي في المكتبة لنه جزء من‬ ‫ذاكرته‪ ،‬وعلى الجدران لنها تحميه وتحمي البي ت‪ ،‬وعلى نمقاء الهواء الذي يدخل البي ت‬ ‫كي يبمقيه نظيفا ً من الّشوائب والملّويثات‪ ،‬وعلى الهواء نفسه طبعا ً لنه يتنّفسه‪ ،‬وعلى‬ ‫النباتات والشجار حول المنزل لهمّية الكسجين الذي تفرز ه‪ ،‬وعلى جمال زهور‬ ‫الحديمقة لنها ُتريح نفسه‪ ،‬وعلى الكرم والبستان لّنه يأكل منهما الخضار والفواكه‪،‬‬ ‫وعلى الخضار والفواكه بحد ذاتها لّنه ل غنى له عنها‪ ،‬وعلى العشاب لّنه يستخرج‬


‫منها الّدواء‪ ،‬وعلى الحيوانات لنه يأكل لحمها ويشرب حليبها‪ ،‬وعلى التراب لنه ل‬ ‫غنى عنه للنبات‪ ،‬وعلى الماء لعدم إمكانية استمرار الحياة دونه‪ ،‬وعلى المكان‬ ‫لضرورته‪ ،‬وعلى الّزمان لستحالة الحياة خارجه‪ ،‬وعلى الفراغ والتساع لحرّية‬ ‫الحركة‪ ،‬وعلى الفضاء للتحليق‪ ،‬وعلى النار للطهي‪ ،‬وعلى الحرارة لنمّو الحياة‪ ،‬وعلى‬ ‫النور للرؤية‪ ،‬والنور مستمد من الشمس‪ ،‬والشمس مركز لمجموعة كونّية ل تنفصل‬ ‫بدورها عن مجموعة كونّية أخرى‪ ،‬إلى آخر ما ُهنالك من الموجودات والكائنات‬ ‫والملموسات والعنايصر والشياء وضرورتها للحياة‪ ،‬ولعتبر أّن كل فرد في هذ ه السرة‬ ‫يحمل هذ ه الرؤية البوّية‪ ،‬فهل أكون قد رسم ت مثالً مبّسطا ً لفهم فلسفتكم المعرفّية؟!«‬ ‫أطر‪.‬ق شاهل بيل قلي ً‬ ‫ال‪:‬‬ ‫»أجل يمكنكم ذلك‪ ،‬رغم أّنكم بّسطتم المر إلى حد كبير‪ ،‬فالمسألة أعمقد من هذا‬ ‫التبسيط!«‬ ‫»المشكلة أيها العالم أّنكم من كوكب آخر‪ ،‬ول أعر ف أفكاركم الدينّية ول فلسفاتكم المادّية‬ ‫والعلمانّية وأنظمة حكمكم السابمقة‪ ،‬ول تعرفون أفكارنا وفلسفاتنا نحن أبناء الرض‪ ،‬وإل‬ ‫لما كان ُهنا ك أّية مشّمقة في الحوار‪ ،‬لكن يبدو لي أّنكم عرفتم معظم ما مررنا به‪ ،‬بل وما‬ ‫نزال نعيشه من أفكار دينّية وفلسفّية وأنظمة حكم‪ ،‬وأنا أناقشكم على ضوء معرفتي‬ ‫المتواضعة لدياننا وفلسفاتنا‪ ،‬فأنا أديب ولس ت فيلسوفًا‪ ،‬وأمضي ت نص ف عمري في تعلمّ‬ ‫اللغات وقراءة الّروايات والمسرحّيات والشعر‪ ،‬والستماع إلى الموسيمقى والغناء‬ ‫ومشاهدة السينما ومن يثّم الكتابة‪ ،‬ولم أخصص للفلسفة والديان والساطير وعلم الّنفس‬ ‫والتاريخ والفضاء والفكر والسياسة والقتصاد والّنبات والطب إل النص ف الخر‪.‬‬ ‫كم بوّدي التعّر ف إليكم أكثر‪ ،‬والتجّول في مدينتكم‪ ،‬وزيارة متاحفكم ومصانعكم‪ ،‬ول‬ ‫أعر ف فيما إذا سيسمح وقتي بذلك‪ ،‬إذ يثّمة كوكب بائس يزخر بالمشاكل‪ ،‬تركته خلفي‬ ‫يعيش حالة ترّقب وقلق بعد أن نزع ت سالحه«‬ ‫ظهرت في السماء كوكبة من الجن تحمل فتيات من النس وكوكبة من الجنّيات تحمل‬ ‫شبابا ً من النس‪ ،‬كانوا يحّلمقون على ارتفاع منخفض ولجلجة ضحكاتهم تتناهى إلى‬ ‫السماع‪.‬‬ ‫هتف ت السيدة سلمنار‪:‬‬ ‫»أترى أيها الديب كم ُهم سعداء؟!«‬ ‫»حمقًا‪ ،‬يبدون سعداء‪ ،‬لكن ألن نؤّخركم عن أعمالكم؟!«‬ ‫»سنع ّ‬ ‫طل عن العمل ونحتفل ما دمتم في ضيافتنا!«‬ ‫»أهَو الراعي الكبر الذي أشار بذلك؟«‬ ‫»نعم‪ ،‬لكنها كان ت رغبة الجميع«‬ ‫سأل الديب لمقمان الميرة نور السماء عّما إذا تعب ت من الترجمة‪ ،‬فنف ت ذلك‪ ،‬فطلب إليها‬ ‫أن تسأل السيدة »سلمنار« عّما يعنيه اسمها بلغة أهل »سوهار« فسألتها فأجاب ت‪:‬‬ ‫»سلمنار‪ ..‬أي الّسالمة من النار‪ ،‬إذا كان المسّمى أنثى‪ ،‬أما إذا كان ذكراً فيذّكر المعنى‪،‬‬ ‫وهو اسم قديم كان يرتبط بدين سابق لنا‪ ،‬كان أتباعه يؤمنون بوجود الجّنة والنار في حياة‬


‫أخرى!«‬ ‫»وشاهل بيل؟«‬ ‫»شاهد الحمقيمقة!«‬ ‫»يبدو لي أن لغتكم المقديمة هذ ه كان ت قريبة من العربّية التي أتحّدث بها أنا يا سيدتي«‬ ‫»معظم اللغات عندنا كان ت متمقاربة‪ ،‬ول يستبعد أن تكون متمقاربة مع لغاتكم أيضًا«‬ ‫وتدّخل شاهل بيل متسائالً عّما إذا يوّد الديب لمقمان النهوض للتجّول في المدينة‪ ،‬على‬ ‫أن يتابعوا الحديث خالل التجوال‪ ،‬فوافق الخر على الفكرة‪ ،‬ونهض متسائالً عن ملك‬ ‫الملو ك‪ ،‬فانبثق أمامه بلمح البصر‪.‬‬ ‫»أين أن ت أيها الملك؟«‬ ‫»مع الجميالت يا مولي‪ ،‬تناولنا الفطور في جناحي«‬ ‫»أما زلن ُهن ُهن أم أّنك استبدلتهن أو أضف ت إليهن؟!«‬ ‫»ل لم أستبدلهن يا مولي‪ ،‬لكني أرح ت بعضهن‪ ،‬وأتي ت بغيرهن أيضا ً من بنات الملو ك‪،‬‬ ‫وبنات!«‬ ‫وتردد ملك الملو ك وبدا خجالً بعض الشيء لّول مرة‪:‬‬ ‫»وبنات الـ ماذا أيها الملك؟«‬ ‫»وبنات النس يا مولي‪ ،‬ايصطحب ت معي تسعا ً من ليلة المس!«‬ ‫ ف الديب لمقمان دهشته من قدرة ملك الملو ك على ايصطياد فتيات النس أيضًا‪.‬‬ ‫ولم يخ ِ‬ ‫»لكن إيا ك أن تمشكلنا مع ُمضيفينا أيها الملك؟«‬ ‫»أبداً يا مولي‪ ،‬كانوا ُسعداء‪ ،‬وهُّن الن سعيدات‪ ،‬ولول خوفي منك ليصطحب ت مائة‬ ‫منهن!«‬ ‫»مائة؟ هل ُيعمقل هذا؟!«‬ ‫»مولي‪ ..‬أن ت تنسى أنني جنّي ولس ُ‬ ‫ ت إنسيًا‪ ،‬ول تعر ف أن طاقتي الجنسّية ُتعادل طاقة‬ ‫مائة أل ف رجل‪ ،‬يثّم إنهّن جميالت وممتعات يا مولي‪ ،‬وأنا خلفي يثاليثة!«‬ ‫»أعر ف يثاليثة آل ف عام من المقهر والحرمان! لكني حمقاً لم أكن أعر ف طاقتك الخارقة‬ ‫هذ ه‪ ،‬رغم توّقعي ذلك‪ ،‬على أية حال يكفيك ِتسع إنسّيات‪ ،‬واختر من الجنّيات ما يحلو‬ ‫س أن تدع النسّيات ينصرفن متى شئن!«‬ ‫لك‪ ،‬ول تن َ‬ ‫»لمقد وقعن في ُحّبي يا مولي‪ ،‬ول يصّدقن حتى الن أنهن خليالت ملك ملو ك الجن«‬ ‫ابتسم الديب لمقمان وهو يأخذ بيد الميرة نور السماء ويهّمان للنزول من البي ت‪.‬‬ ‫»هل أرسل ت ما طلبته منك إلى أسرتي؟«‬ ‫»نعم يا مولي‪ ،‬أرسل ت لهم جنيّا ً في شكل إنسّي اّدعى أّنه يصديمقك ومرسل من قبلك‪،‬‬ ‫وقّدم لهم حمولة شاحنة مما طلبته‪ ،‬وأخبرهم أّنك بخير وتسّلم عليهم‪ ،‬وستعود إليهم قريبًا‪،‬‬ ‫وهم الن في غاية السعادة«‬ ‫»أشكر ك أيها الملك‪ ،‬أل تريد أن تتجّول معنا أن َ‬ ‫ ت وخليالتك؟«‬ ‫ويبدو أن ملك الملو ك كان قد حزم أمر ه على ما هو أجمل‪ ،‬فمقد أجاب على الفور‪:‬‬ ‫»ل‪ ،‬ليسمح لي مولي‪ ،‬فمقد دعوت الفتيات ومن يرغبن في دعوته لتناول الغداء على‬


‫المّريخ!«‬ ‫»على المريخ أيها الملك؟!«‬ ‫»أجل يا مولي‪ ،‬لقنعهن أني ملك ملو ك‪ ،‬وأنني قادر على فعل المعجزات«‬ ‫»ومتى ستعودون؟«‬ ‫»قبيل اليصيل يا مولي«‬ ‫»وإذا ما احتج ت إليك؟«‬ ‫»ما عليك إل أن تهت ف باسمي يا مولي لتجدني أمامك«‬ ‫»وإذا ما واجهتكم مشكالت على المريخ؟«‬ ‫»وهل يثمة مشاكل يمكنها أن تعترض طريمقي يا مولي وأنا خارج المقممقم؟«‬ ‫»لكن إيا ك وسفك الّدماء«‬ ‫»حتى لو اضطررت إلى ذلك يا مولي؟«‬ ‫»اعمل على أل تضطر«‬ ‫»وحتى لو كان مسببو المشاكل من غير النس؟«‬ ‫»حتى لو كانوا من الجن أو الطيور أو الحيوانات أو النباتات أو السما ك!«‬ ‫»وإذا كانوا من المالئكة والشياطين؟«‬ ‫»حتى لو كانوا كذلك‪ ،‬ل ُنريد أعداء أيها الملك‪ ،‬إذا وجدت الكوكب مأهولً بكائنات ما‪،‬‬ ‫فابحث عن أرض خالية‪ ،‬وإذا لحق بك أحد اهرب بضيوفك«‬ ‫»أمر مولي«‬ ‫س أننا دعونا مواطني الّزهرة على حفل عشاء في السماء«‬ ‫»ل تن َ‬ ‫س يا مولي‪ ،‬أوعزت إلى مليونين من مهرة الجن للتحضير للحفل«‬ ‫»لم أن َ‬ ‫»ماذا ستفعل بالمليونين أيها الملك؟«‬ ‫»سترى في المساء يا مولي«‬ ‫»هل ستمقلب الدنيا رأسا ً على عمقب؟«‬ ‫»ل لن أقلبها يا مولي«‬ ‫»حسنًا‪ ،‬سنظل قلمقين إلى أن تعودوا«‬ ‫»ل تمقلق يا مولي«‬ ‫نزل الديب لمقمان والميرة نور السماء والعاِلم »شاهل بيل« والسيدة »سلمنار« وراحوا‬ ‫يتجّولون في شوارع المدينة التي بدت واسعة ونظيفة وجميلة وتزّينها النباتات والزهور‬ ‫والشجار المختلفة‪ ،‬وكان ت شبه خالية من الحافالت‪ ،‬وقد ُأقفل ت جميع الّدوائر‬ ‫والمؤسسات والحواني ت لحتفال سّكان الكوكب بضيوفهم من أبناء الجن‪ ،‬وكان ُهنا ك‬ ‫بعض الشباب والفتيات يتجّولون في الشوارع أو ينتشرون في الحدائق والمتنّزهات‪.‬‬ ‫توقفوا في ساحة كبيرة تنتصب فيها مئات التمايثيل المختلفة لنساء ورجال‪ ،‬قال شاهل‬ ‫بيل‪:‬‬ ‫»إن هذ ه التمايثيل هي لمبدعين ومتفّوقين في تاريخنا‪ ،‬ومعظم الساحات وسطوح بعض‬ ‫البنية عندنا يمقام عليها مثل هذ ه التمايثيل«‬


‫نظر الديب لمقمان إلى أعلى البنايات‪ ،‬كان ت التمايثيل تحيط قواعد الشكال المخروطية‬ ‫والهرمية التي تعلو أسطح البنايات‪.‬‬ ‫»لكن‪ ،‬ما هي الغاية من هذ ه الشكال الساممقة للسطوح عندكم؟«‬ ‫»إنها بالدرجة الولى ترمز للتطّلع إلى المعرفة‪ ،‬وهي مستوحاة من الخوازيق التي كانوا‬ ‫يجلسون عليها العظماء والمفّكرين من أجدادنا«‬ ‫»ولماذا كانوا يخوزقونهم؟!«‬ ‫»لختالفهم معهم في أمور الدين والمذاهب والمعتمقدات والفكار والنظم السياسّية وغير‬ ‫ذلك«‬ ‫»وهل كان ت الخالفات تبلغ حد الخوزقة؟«‬ ‫»والحروب أيضًا«‬ ‫»هل كان الخال ف في العادة يدور بين دين ودين آخر‪ ،‬أو فكر وفكر آخر‪ ،‬أم بين تابعي‬ ‫الدين أو الفكر ذاته؟«‬ ‫»حدث عندنا كل ما يمكنك أن تتخّيله من يصراعات حّتى بين الب وابنه«‬ ‫»وكي ف تجاوزتم هذ ه المرحلة؟«‬ ‫»كثرة الصراعات وما كان ينجم عنها من ضحايا أّدت إلى ظهور نظام رأسمالي‬ ‫ديممقراطي‪ ،‬أتاح الحوار بين الفكار المختلفة‪ ،‬وأتاح ظهور أحزاب وأفكار جديدة‪ ،‬حتى‬ ‫بلغ المر في بعض القطار إنشاء حزب في كل قرية‪ ،‬ولم يعد في ممقدور أي جماعة أو‬ ‫أي حزب الويصول إلى السلطة إ ّ‬ ‫ل بالتحال ف مع أحزاب أخرى‪ ،‬غير أن هذ ه المرحلة لم‬ ‫تدم‪ ،‬فلمقد غدت الشعوب واعية ولم يعد في ممقدور أحد الويصول إلى الّسلطة مهما كان‬ ‫ديممقراطيا ً وعلمانيا ً ومتفانيا ً في خدمة الشعب!«‬ ‫»وهل ُيعمقل هذا؟«‬ ‫»ولماذا ل ُيعمقل؟«‬ ‫»يمكن أن تتحد الحزاب جميعا ً وتنجح في النتخابات«‬ ‫»لمقد اّتحدت! أقصى اليمين مع أقصى اليسار‪ ،‬وأكثر الحزاب تناقضا ً فيما بينها ولم‬ ‫تنجح‪ ،‬لن أكثرية الشعوب لم تعد تؤمن بالحزاب وال ّ‬ ‫طوائ ف!«‬ ‫»وبماذا أيصبح ت تؤمن؟«‬ ‫»بالمعرفة‪ ،‬بالعلم‪ ،‬بالعمل‪ ،‬بالمحّبة!«‬ ‫»ألم تكن الحزاب تؤمن بالمعرفة؟«‬ ‫»بلى‪ ،‬لكن انطالقاً من فهمها للمعرفة‪ ،‬فالمؤمن كان يرى أن ا هو مصدر الخلق‪،‬‬ ‫والعلماني كان يرى أن المادة هي المصدر«‬ ‫»ولَِم رفض ت الشعوب الماديين؟«‬ ‫»لن النتماء الحزبي ظل في معظم جوانبه أقوى من النتماء المعرفي‪ ،‬إلى أن أيصبح‬ ‫المادّيون شبه لهوتيين‪ ،‬ل يمقبلون أي نمقد لفكارهم!«‬ ‫»هل هذا يعني أنه ل يوجد لديكم أحزاب الن؟«‬ ‫»أبدًا‪ ،‬نحن الن نرى أنه كي تفّكر بشكل ُحر يجب أن تكون حّرًا‪ ،‬وخارج أي انتماء‬


‫مهما كان!«‬ ‫»وكأنك تتحدث في الالمعمقول أيها العالم؟«‬ ‫»لماذا؟«‬ ‫»أليس السلو ك المعرفي للفرد إذا جازت التسمية‪ ،‬انتماء للمعرفة بشكل أو بآخر؟«‬ ‫»أجل!«‬ ‫»إذاً ُعدنا إلى هذ ه الدّوامة‪ُ ،‬عدنا إلى النتماء حتى لو كان معرفيًا«‬ ‫»لكنه غير ممقّيد«‬ ‫»بالعكس‪ ،‬أنا أرى أنه ممقّيد ولو نسبيًا‪ ،‬فكل ما يتناقض مع المعرفة التي حددت أطرها‬ ‫وأسسها وقوانينها‪ ،‬أو لنمقل رسم ت أو وضع ت من قبل الفرد أو المجتمع أو الّسلطة‪،‬‬ ‫سيكون في مجال شك‪ ،‬وقد ُيلغى ول يؤخذ به!«‬ ‫»هل تو ّ‬ ‫ضح لي ذلك أفضل بمثال من أمثلتك المبّسطة كي أعر ف ماذا تمقصد بالضبط؟«‬ ‫»انظر إلى الّسماء أيها العالم؟«‬ ‫ونظر »شاهل بيل« والسيدة »سلمنار« والميرة نور السماء إلى السماء‪ ،‬فشاهدوا الجن‬ ‫والنس يحّلمقون في جماعات‪ ،‬ويمقومون بطمقو س عجيبة في الفضاء‪ ،‬إما يلعبون‪ ،‬أو‬ ‫يمارسون الحب‪ ،‬أو يرقصون‪ ،‬أو يغّنون أو يتمتعون بالتحليق في الفضاء‪.‬‬ ‫»هل شاهدت وتأّكدت مما يجري أيها العالم؟«‬ ‫»نعم«‬ ‫ُ‬ ‫»أل يتناقض هذا مع الطر التي وضعتموها للمعرفة أو مع رؤيتكم المعرفية؟!«‬ ‫وأطر‪.‬ق شاهل بيل للحظات‪ ،‬وما لبث أن هت ف ليفحم الديب لمقمان‪:‬‬ ‫»ل أيها الديب لمقمان‪ ،‬إنه ل يتناقض أبدا!!«‬ ‫»لمقد أفحمتني أيها العالم‪ ،‬رغم أنني شخصياً أرى أن كل هذا الذي يجري الن خيال‬ ‫يتناقض تماما ً مع معرفتي!«‬ ‫»لمقد قلتها بنفسك أّيها الديب‪ ،‬ومع ذلك ترى في المسألة تناقضا ً مع معرفتك!«‬ ‫»كي ف؟«‬ ‫»قل ت إنه خيال‪ ،‬ونسي ت أنك لم تعر ف أنه خيال إل انطالقا ً من معرفة حصل ت عليها‪،‬‬ ‫ولها أطر في عمقلك‪ ،‬إذن فهو ل يتناقض مع معرفتك!!«‬ ‫وأطر‪.‬ق الديب لمقمان مفّكراً يثّم هت ف‪:‬‬ ‫»لفترض أنه حمقيمقة‪ ،‬فهل سيتناقض حينئذ؟!«‬ ‫»بالتأكيد ل!«‬ ‫»متى سيتناقض إذن؟«‬ ‫»حين نرى أن هذا حمقيمقة ما بعدها حمقيمقة‪ ،‬أو خيال ما بعد ه خيال!«‬ ‫»هل هذا يعني أنه ل يوجد حمقيمقة يثابتة وحمقيمقة خيالّية أو متخّيلة؟!«‬ ‫»بشكل نسبي يوجد‪ ،‬أما بشكل ُمطلق فال‪ ،‬فكل حمقيمقة تخضع لزمانها ومكانها وحركتها‬ ‫وسكونها وعوالمها ومكّوناتها«‬ ‫»يبدو أن الحق معك أيها العالم‪ ،‬فأنتم توِغلون في الُمطلق والالنهائي‪ ،‬هل في ميسوري‬


‫المقول الن‪ ،‬إن ما يجري الن خيال بمقدر ما هي معرفتكم حمقيمقة؟«‬ ‫»لكن قولك هذا قد يحتمل أكثر من تأويل‪ ،‬ومع ذلك يمكنني المقول "نعم‪«.‬‬ ‫»لنُعد بحوارنا إلى الوراء أيها العالِْم‪ ،‬حين ظهرت عندكم ديكتاتوريات ملكّية أو‬ ‫جمهورية‪ ،‬أو اتحادية‪ ،‬ذات حزب واحد‪ ،‬أو أحزاب متعددة«‬

‫فمقاطعه شاهل بيل‪:‬‬ ‫»ديكتاتورية الحزاب المتعددة والمتحالفة خوزق ت من أجدادنا أكثر مما خوزق ت النظمة‬ ‫السابمقة‪ ،‬البروليتاري منها والرأسمالي!«‬ ‫»أريد أن أعر ف ماذا جرى في هذ ه المرحلة الفايصلة بين تلك الّنظم المختلفة‪ ،‬ونظامكم‬ ‫الحالي‪ ،‬فبعد سمقوط الحزاب والطوائ ف وغيرها‪ ،‬ألم يرّشح العلمانيون والمستمقلون‬ ‫أنفسهم للسلطة؟«‬ ‫»بلى‪ ،‬لكن الحزاب أخذت تغتالهم‪ ،‬فلم يعد أحد يرّشح نفسه‪ ،‬وعاش ت البالد بعد ذلك‬ ‫حالة من الفوضى‪ ،‬ورغم فوضويتها‪ ،‬كان ت أفضل من أي نظام سابق!«‬ ‫»هل حدث ذلك في بعض الدول على الكوكب أم كي ف؟«‬ ‫»بدأ بدولة ديممقراطية كبرى يحكمها حزب واحد ليبرالي‪ ،‬يثم انهارت خلفها دول أخرى‪،‬‬ ‫إلى أن انهارت الدول الرأسمالية الليبرالية ُكّلها‪ ،‬لتتبعها النظمة المختلفة ا ُ‬ ‫لخرى في‬ ‫كافة أنحاء الكوكب‪ ،‬ولم يعد هنا ك مفر من نهوض ُحكم الشعب في الدول المختلفة‪ ،‬ولم‬ ‫يكن من العسير فيما بعد أن تجد هذ ه الشعوب والمم الكثير من النمقاط المشتركة في‬ ‫أفكارها‪ ،‬فعمل ت على التمقريب فيما بينها إلى أن قررت التحاد في نظام الال دولة‪ ،‬الذي‬ ‫يمكن أن نطلق عليه مجازاً اسم دولة«‬ ‫»لدي سؤال من مئات السئلة التي تلّح علّي‪ ،‬سأسأله قبل أن ننتمقل إلى الخطوة الالحمقة‪.‬‬ ‫أريد أن أعر ف شيئاً أكثر عن الديممقراطية التي كان ت سائدة في دول الكوكب المختلفة‬ ‫والتي رفضتها الّشعوب«‬ ‫»كل نظام وكل حزب‪ ،‬كان يف ّ‬ ‫صل ديممقراطية على ممقاسه! ديممقراطية تتيح له أن يبمقى‬ ‫في الّسلطة‪ ،‬حتى الملو ك والجنرالت ابتكروا ديممقراطيات تتالءم مع مصالحهم«‬ ‫وشرع الديب لمقمان في الضحك وهو يحّلق بخياله في كوكب الرض‪.‬‬ ‫»لننتمقل إلى المرحلة الالحمقة التي شّكل ت بدايات النظام المعرفي الحالي‪ .‬كي ف وجد‬ ‫أجدادكم أن يثمة ما هو مشتر ك بين الفكر الالهوتي والفكر العلماني مث ً‬ ‫ال؟!«‬ ‫»في الفكر الالهوتي يثمة خالق هو ا وهو موجود منذ الزل‪ ،‬وفي الفكر العلماني يثمة‬ ‫ماّدة موجودة منذ الزل أيضًا‪ ،‬جاء منها الخلق‪ ،‬وانطالقا ً من هاتين النمقطتين تَّم التعّمق‬ ‫في كافة المسائل‪ ،‬وأخذت الّرؤى تتعّمق وتتطّور إلى أن ويصل ت إلى ما ويصل ت إليه‬ ‫لتشمل كافة نواحي الحياة«‬


‫»لكن كي ف حللتم مشكلة الخلق‪ ،‬بين من يرى أن الوجود مخلو‪.‬ق من خالق وبين من يرى‬ ‫أن الوجود أزلي وغير مخلو‪.‬ق؟«‬ ‫صبها‪ ،‬لم يكن من ال ّ‬ ‫»حين تَّم تحرير العمقول من تع ّ‬ ‫صعب على أجدادنا أن ينطلمقوا من‬ ‫الَعَدم‪ ،‬ليمقنعوا أجدادنا الخرين بالمعمقولية تفكيرهم«‬ ‫»آمل أن تو ّ‬ ‫ضح لي ذلك أيها العالم«‬ ‫»القرار بالخلق ينجم عنه القرار بالعَدم قبل ُكّل شيء‪ ،‬فإذا لم يكن ُهنا ك إلّ العدم‪ ،‬فهل‬ ‫كان ا عدمًا‪ ،‬وهل جاء من هذا العدم؟ يثَّم كي ف يمكن أن يأتي عد ٌم من العَدم‪ ،‬والدهى‬ ‫ق هذا العدم وجوداً بهذا الحجم الهائل من الَعَدم وليس من ماّدة ما؟!‪.‬‬ ‫من ذلك أن َيخلِ َ‬ ‫لم يجد الالهوتيون تأوي ً‬ ‫ال لذلك‪ ،‬فاقتنعوا بالوجود الزلي للمادة من تلمقاء نفسها ودون أن‬ ‫يخلمقها أحد‪ ،‬خايصة وأنه كان هنا ك من سبمقهم من المتصّوفة والفالسفة الالهوتيين من‬ ‫اعتمقد بأسبمقّية المادة‪ ،‬بل وأسبمقّية الوجود‪،‬واّتحاد ا بنفسه بهذا الوجود ُكّله وعدم انفصاله‬ ‫عنه‪ ،‬إل بمقدر انفصال ا عن أنبيائه‪ ،‬والشخص عن ذاته‪ ،‬واللوحة عن راسمها‪،‬‬ ‫والمنحوتة عن ناحتها‪ ،‬والمقصيدة عن ناظمها‪ ،‬إلى آخر ما هنالك من خالمقين ومخلوقات‪،‬‬ ‫أو من ذات وانعكاساتها‪ ،‬أو تجلياتها‪.‬‬ ‫لماذا تنظر إلّي بهذ ه الدهشة أيها الديب؟«‬ ‫»أشعر أحياناً وكأنك يصاعد من كوكب الرض إلى كوكب الزهرة‪ ،‬بل أحيانا ً أشعر أّنك‬ ‫أنا لول أنني مازل ت أنتمي إلى هذ ه النظمة البائسة على كوكب الرض«‬ ‫»يبدو لي أن البشر جميعاً في الكواكب والكوان المختلفة‪ ،‬مّروا بأنماط متشابهة من‬ ‫التطّور‪ ،‬لكن عزلتهم عن بعضهم‪ ،‬لم تتح لهم الفادة من معار ف غيرهم«‬ ‫»لكن‪ ،‬نحن على الرض لسنا معزولين عن بعضنا‪ ،‬والّدول المتطّورة نسبيا ً عندنا تعتبر‬ ‫أّن ما ويصل ت إليه من تطّور في بعض مجالت العلوم والتكنولوجيا‪ ،‬أسرا ٌر هامة ل تتيح‬ ‫لية دولة أخرى وحتى لمواطنيها الطالع عليها«‬ ‫»لمقد مررنا بما هو أسوأ من ذلك!«‬ ‫»لنعد إلى الخوازيق أّيها العالم‪ ،‬والتي جلس بعض أجدادنا أيضا ً عليها‪ ،‬وما نزال نحن‬ ‫نجلس‪ ،‬وإن اختل ف شكل الجلو س والخوزقة! أظن أنك لم تكمل لي حديثك عنها ولماذا‬ ‫هي ساممقة؟«‬ ‫»ساممقة‪ ،‬لتعطي دللة على الّسمو والشموخ والخلود‪ ،‬أو لتوحي بالرفعة والمقوة‪ ،‬وعدا‬ ‫عن الجمالية التي تضفيها على البناء بحد ذاته‪ ،‬وعلى المدينة بشكل عام‪ ،‬فهي تمقاوم‬ ‫ال ّ‬ ‫صواعق والعوايص ف والعايصير والمطار الغزيرة وغيرها من العوامل الطبيعّية‬ ‫الخرى‪ ،‬التي قد تؤّيثر على عمر البناء«‬ ‫»ولَِم استوحيتم الشكل من الخازو‪.‬ق وما عالقته بالمفاهيم التي تحّديث ت عنها‪ ،‬والدللت‬ ‫التي أشرت إليها؟«‬ ‫»الخازو‪.‬ق عند أجدادنا كان يرمز إلى عضو الذكورة والمقّوة الجنسية‪ ،‬وكانوا يرون أن‬ ‫الغريزة الجنّسية بحد ذاتها وما تدفع إليه من فعل جنسي‪ ،‬وما ينجم عن ذلك من حياة‬ ‫مسألة ممقّدسة«‬


‫»وهل تحترمون هذ ه النظرة الن؟«‬ ‫»بالتأكيد‪ ،‬ونمار س الجنس بحرّية كما ترى‪ ،‬شريطة توّفر المقبول لدى الطرفين‪ ،‬أو لدى‬ ‫الطرا ف المختلفة«‬ ‫»ولم تضعوا شروطا ً أخرى«‬ ‫»ل‪ ،‬أو أنها شروط ليس ت بذي أهمّية«‬ ‫»حتى لو كان بعض الطرا ف متزّوجين؟«‬ ‫»ل يوجد عندنا زواج حسب بعض المفاهيم التي طّبمقها أجدادنا‪ ،‬الزواج عندنا الن هو‬ ‫اّتفا‪.‬ق ايثنين على حياة مشتركة لزمن غير محدد‪ ،‬قد يكون شهرًا‪ ،‬وقد يكون العمر ُكّله!«‬ ‫»وماذا عن تكوين السرة؟«‬ ‫»إذا أنجبا يكون الولد أولدهما طبعًا!«‬ ‫»وإذا اختلفا عليهم من يأخذهم؟«‬ ‫»ل يأخذهم أحد‪ ،‬فهم أولد اليثنين‪ ،‬وقد يعيشون مع الم أو مع الب‪ ،‬أو في مؤسسات‬ ‫رعاية الطفال‪ ،‬والغالبية العظمى تختار هذا الحل‪ ،‬لنه الفضل لدى الجميع‪ ،‬وقد يأتي‬ ‫الباء معاً أو منفردين‪ ،‬ويصطحبونهم في رحالت أو زيارات وما إلى ذلك‪ .‬وانفصال‬ ‫الّرجل والمرأة عندنا ل يعني أّنهما ابتعدا أحدهما عن الخر‪ ،‬فهما يّتحدان بالذات‬ ‫الجمعّية«‬ ‫»أن ت تستخدم تعبير الذات الجمعّية لول مّرة«‬ ‫»هي جزء أكبر من الذات الفردّية أو الخايصة أو الصغرى‪ ،‬وأقل من الذات الكّلية أو‬ ‫الكونّية‪ ،‬إن التسميات ليس ت مهمة لدينا‪ ،‬المهم هو الدللت«‬ ‫»وماذا عن الخيانة الّزوجية؟«‬ ‫»ل يوجد عندنا خيانة‪ ،‬إذا اشتهى أو رغب أحد ال ّ‬ ‫طرفين طرفا ً يثالثا ً وهذا يحدث دائمًا‪،‬‬ ‫فهي حق طبيعي له‪ ،‬وإعالم الطر ف الثاني أو عدم إعالمه مرتبط بالتفا‪.‬ق الخاص‬ ‫بينهما‪ ،‬وهذا التفا‪.‬ق قابل في كل لحظة للتغيير واللغاء من قبل أي طر ف!«‬ ‫»هل هذا يعني أّنه ل يوجد عندكم رغبات غير مشروعة«‬ ‫»بل يوجد كثير‪ ،‬فكل ايثنين لهما شرعهما الخاص بهما‪ ،‬ويثمة بيننا من يتعاهدون على‬ ‫الحب والخالص إلى البد!«‬ ‫»وماذا عن المحّرمات الجنسية لديكم؟«‬ ‫»ل يوجد عندنا محّرمات بالمعنى الديني السابق‪ ،‬يوجد ما هو مكرو ه وما هو غير‬ ‫مرغوب‪ .‬المكرو ه‪ ،‬مضاجعة الم والبن ت والخ ت والخالة والعمة‪ ،‬وغير المرغوب‬ ‫مضاجعة ابنة العم والخال والخالة والعمة‪ ،‬وأّية فتاة من السرة ذاتها مهما كان ت قرابتها‪،‬‬ ‫خا ّ‬ ‫يصة إذا ما كان هد ف المضاجعة هو النجاب! يثّم إن الفتضاض للفتاة غير مرغوب‬ ‫قبل سن العشرين‪ ،‬واليالج للفتى قبل السن ذاتها أيضًا‪ ،‬ونمقصد من ذلك‪ ،‬أن يصل الفتى‬ ‫والفتاة إلى سن النضج الذي يتيح لهما إدرا ك أبعاد الُعالقة‪ ،‬لكن الرغبات الغريزّية‬ ‫العفوية والتي يعّبر عنها الطفال مع بعضهم بالمداعبة والمالمسة والتمقبيل‪ ،‬فهذ ه تعتبر‬ ‫مشروعة مهما كان سن ال ّ‬ ‫طفل‪ ،‬لكن يتم إرشاد الطفال من قبل البوين أو المؤسسة‬


‫الراعية إلى كيفية ممارستها وشروط هذ ه الممارسة حتى ل يؤذي الطفال بعضهم‪ ،‬أو‬ ‫يتناقلوا المراض‪.‬‬ ‫كذلك مكرو ه جداً عندنا أن يمقوم رجل بالغ بممارسة هذ ه المداعبات لمن هُّن دون سن‬ ‫الثامنة عشرة‪ ،‬وهذا ينطبق على الّنساء البالغات في تعاملهن مع الفتيان ال ّ‬ ‫صغار‪ .‬أظن أن‬ ‫سن الثامنة عشرة يمقارب سن الرابعة عشرة على كوكبكم!«‬ ‫»غريب أّيها العالم!«‬ ‫»ما هو الغريب؟«‬ ‫»حالنا على الرض‪ ،‬فأنظمتنا رغم العديد من الّشرائع التي تتبعها‪ ،‬لم تضع حلولً ترقى‬ ‫إلى حلولكم في هذ ه المسائل‪ ،‬إذ يثّمة مشّرعون من أممنا‪ ،‬أتاحوا الزواج من يصغيرات في‬ ‫سن التاسعة‪ ،‬ومداعبتهن وتفخيذهن وهن في السادسة‪ ،‬بل وذهب بعض الالهوتيين لدينا‬ ‫إلى إتاحة ذلك حتى مع الّرضيعة‪ ،‬وأوغلوا في الخيال إلى حّد تصورواً فيه رجالً يمكن‬ ‫أن يطأ طفلة يصغيرة ويخّرب جسدها‪ ،‬كأن يش ّ‬ ‫ق َمهبلها على شرجها ومجرى بولها‪،‬‬ ‫بحيث يصبح الثالث مجرى واِحدًا!!«‬ ‫»ولماذا تصّوروا ذلك؟«‬ ‫»لكي يعاقبو ه إذا ما تجاوز المداعبة إلى الفتضاض أو التدمير!!«‬ ‫»هل يعمقل أن تحدث مثل هذ ه اليثام عندكم؟«‬ ‫»بل ما هو أسوأ‪ ،‬إذ ل يوجد في معظم دولنا أية يثمقافة جنسّية أو توعية وتوجيه جنسي‬ ‫للطفال‪ ،‬فيعيشون طفولتهم بأشكال عشوائية‪ ،‬إلى حد قد يضاجع الخوة أخواتهم‬ ‫والخوات إخوتهن‪ ،‬وأحياناً النوع مع ذاته كأن تمار س الناث الّسحا‪.‬ق‪ ،‬أو يمار س‬ ‫الّذكور اللواط‪ ،‬والمصيبة أّن هؤلء الطفال ما أن يكبروا قليالً حتى يواجهوا عالم‬ ‫الحجاب والمنع والمحّرمات غير المعمقولة‪ ،‬مما يؤّدي إلى يصدمات نفسّية تدميرّية فظيعة‬ ‫تورث الطفل أمراضا ً مزمنة ل ينجو منها إل المقّلة!«‬ ‫»يبدو لي أنكم متخّلفون كثيراً أيها الديب‪ ،‬فما تتحّدث عنه شيء فظيع عندنا«‬ ‫»للس ف ل يوجد في كوكبنا إل الفظائع‪ ،‬وإن تسّتر بالخال‪.‬ق الزائفة!«‬ ‫»لكن لماذا ل يوجد توجيه جنسي للطفال عندكم؟«‬ ‫»المسألة تتعّلق بالتخّل ف‪ ،‬فالتحّدث مع الطفال‪ ،‬بل ومع الكبار‪ ،‬عن هذ ه المور يعتبر‬ ‫عيبا ً وعارًا‪ ،‬وينمو الطفل ويكبر أحياناً دون أن يعر ف حدود العيب والعار والحرام‪ ،‬أو‬ ‫يعرفها ويطّبمقها بشكل خاطئ‪ .‬مما ينعكس على سلوكه وحياته الجنسّية‪ ،‬كأن يصاب‬ ‫بالبرود البدي‪ ،‬وهذ ه الحالة تصيب النساء عندنا أكثر مما تصيب الّرجال‪ ،‬إذ يثمة نساء‬ ‫يتزوجن وينجبن أطفا ً‬ ‫ل ويشخن دون أن يعرفن ما هي الذروة الجنسية‪ ،‬بل دون أن‬ ‫يسمعن بها!«‬ ‫»لماذا ل تحّديثنا عّما تعرفه أن ت معايشة من قصص كوكبكم‪ ،‬فمقد نفيد منها بعض‬ ‫الشيء!«‬ ‫ س أعرفها لما يصّدق ت«‬ ‫»لو حّديثتك عن مآ ٍ‬ ‫وهتف ت السّيدة سلمنار‪:‬‬


‫»أنا سأيصّد‪.‬ق‪ ،‬يا لي ت لو تحّديثنا شيئًا!«‬ ‫»وأنا سأيصّد‪.‬ق بالتأكيد أيها الديب لمقمان!«‬ ‫»لكن هذ ه مسائل تحتاج إلى زمن وأنا متعب وفي عجلة من أمري«‬ ‫»اختصر أّيها الديب!«‬ ‫»قصة واحدة فمقط!«‬ ‫»ليكن وبعدها سنرى!«‬ ‫»عرف ت شابًا‪ ،‬كان يتردد على الطبيب النفساني‪ ،‬وكم سألته عّما يعاني منه‪ ،‬فلم يمقبل‬ ‫مصارحتي‪ ،‬حّتى طبيبه الذي كان يصديمقي لم يمقبل أن يمقول لي شيئا ً عّما ُيعاني منه‪ ،‬إلى‬ ‫أن عجز جميع الطباء عن معالجة حالته‪ ،‬كان يثمة أيثر عميق في نفسه‪ ،‬يخز ه ويجرحه‬ ‫ويؤّنبه باستمرار‪ ،‬لم يستطع تجاوز ه‪ ،‬ودفعه مراراً إلى النتحار‪ ،‬إل أنه كان يجد من‬ ‫ينمقذ ه في كل مّرة‪.‬‬ ‫فوجئ ت به ذات يوم يأتي إلّي راغباً في مصارحتي واستشارتي في المر‪ .‬كان كبير‬ ‫تسعة ُأخوة من الّذكور والناث‪ ،‬وقد افتر س إخوته الثمانية ذكوراً وإنايثا ً مستغالً‬ ‫يصغرهم‪ ،‬فما أن يبلغ أحدهم الخامسة أو السادسة حّتى يفترسه!«‬ ‫»ماذا تمقصد بالفترا س يا مولي؟«‬ ‫»الغتصاب الجنسي أيتها الميرة«‬ ‫»وظّل يمار س معهم إلى أن كبروا وبلغوا‪ ،‬وكان هو قد تخّرج من الجامعة‪ .‬ويبدو أن‬ ‫الحسا س بالذنب لم يتعّمق لديه إل بعد أن رفض ت أخواته الّزواج ممن تمقّدموا إليهن«‬ ‫»ولماذا رفضن؟«‬ ‫»لنهن لسن عذراوات‪ ،‬والعذرّية شرط أساسي للفتاة في بعض دولنا أّيها العالم‪ ،‬فتلجأ‬ ‫بعض الفتيات غير العذراوات عندنا إلى إجراء عملّية رتق عند الطبيب‪ ،‬كي تمقنع‬ ‫العريس بعذريتها وطهارتها ليلة الزفا ف!!‬ ‫المهم! لم يعد هذا الشاب قادراً على مواجهة طالبي نسبه بعد وفاة أبيه‪ ،‬كما لم يعد قادراً‬ ‫على مواجهة إخوته وأخواته‪ ،‬فهرب إلى العايصمة«‬ ‫»وماذا فعل ت له؟«‬ ‫ّ‬ ‫»كان ت مصيبة أكبر من أن أقدر على حلها‪ ،‬وأكبر من كل الكالم الذي يمكن أن أنصحه‬ ‫به‪ ،‬وتمّني ت لو أّنه لم يخبرني‪ ،‬لمقد ب ّ‬ ‫ ت أخا ف على أولدي وأولد النا س منه‪ .‬لكنه لم يعد‬ ‫يأتي إلّي‪ ،‬إلى أن عرف ت أنه عاد ليمقيم مع أسرته‪ ،‬بناء على نصيحة الطباء‪ ،‬شريطة أن‬ ‫يلتزم الّسلو ك الَّسوي مع إخوته وأخواته‪ ،‬لعّله يتحسن ويستطيع مواجهة واقعه‪.‬‬ ‫»وهل واجهُه؟«‬ ‫صد ف أو ربما القدار‪ ،‬تلعب دوراً هاما ً في إنمقاذ كثيرين من ظروفهم‬ ‫»يبدو أّن ال ّ‬ ‫الصعبة«‬ ‫»ماذا حدث؟«‬ ‫ب حريق هائل – أيثناء نومهم – في البي ت‪ ،‬وكان هو المستيمقظ الوحيد«‬ ‫»لمقد ش َّ‬ ‫»وما أسباب الحريق؟«‬


‫»انفجار اسطوانة غاز‪ ،‬كان باب المطبخ مغلمقا ً والسطوانة تهّرب الغاز‪ ،‬وحين دخل إلى‬ ‫المطبخ وضغط على زر الكهرباء ليضيء النور ه ّ‬ ‫ب الحريق‪ ،‬لتتفجر السطوانة‬ ‫ولتنتشر النار في البي ت ُكّله‪.‬‬ ‫تفانى في إنمقاذ إخوته وأخواته‪ .‬قيل لي أنه كان يل ّ‬ ‫ ف أحدهم بحرام ويحمله إلى الخارج‬ ‫ويعود ليمقتحم الحريق‪ ،‬وينمقذ آخر‪ ،‬إلى أن أنمقذ الجميع‪ ،‬واحتر‪.‬ق هو‪ .‬مات ت الم فيما بعد‬ ‫من جّراء الحريق‪ ،‬وتشّوه ت إحدى الفتيات«‬ ‫»أل يمكن أن يكون هو قد دّبر الحريق بمقصد التطهير من عذاب الضمير‪ ،‬والتكفير عن‬ ‫الّذنب‪ ،‬خايصة وأنه كان مصراً على إنمقاذ الجميع ليحتر‪.‬ق هو ويموت«‬ ‫»هذا وارد أّيها العالم‪ ،‬وقد فّكرت أنا في المر حين سمع ت المقصة‪ ،‬وعرف ت أن إخوته‬ ‫حزنوا عليه كثيرًا!!«‬ ‫»وماذا بعد أيها الديب؟«‬ ‫»يمكنك أن تعتبر هذ ه المقصة كأسوأ نموذج للتربية الجنسية عندنا«‬ ‫»يا لي ت لو تحّديثنا قصصاً أخرى عن هذ ه المسائل‪ ،‬فنحن مانزال نوليها ُجّل اهتمامنا‪،‬‬ ‫ول نظن أننا حّتى الن نسلك الطريق الفضل‪ ،‬وخا ّ‬ ‫يصة فيما يتعّلق بالجنس عند الطفال‪،‬‬ ‫أو بين الكبار وال ّ‬ ‫صغار«‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫»لدي مئات المقصص‪ ،‬وكلها حمقيمقّية وليس ت من خيالي‪ ،‬لكني لس ُ‬ ‫ ت مهيّأ لمق ّ‬ ‫صها حتى بهذا‬ ‫السلوب غير المقصصي‪ ،‬ول توجد لدي رغبة في الحديث‪ ،‬أف ّ‬ ‫ضل الستماع إليكم‬ ‫وال ّ‬ ‫طالع على عوالمكم«‬ ‫»ستطّلع على كل شيء تريد ه أّيها الديب‪ ،‬لكن أرحنا قليالً وتحّدث أن ت!«‬ ‫»هل تعب ت من الحديث؟«‬ ‫»إلى حد ما!«‬ ‫»سأحديثك بعض المقصص‪ ،‬لكن لنذهب إلى مطعم ما‪ ،‬أريد أن أرى مطاعمكم وأتناول‬ ‫قليالً من البيرة«‬ ‫»ليكن أيها الديب«‬ ‫|‬

‫)‪(6‬‬ ‫ب ّ‬ ‫طيخ وبغال وزنى أبوي!!‬ ‫ايصطحبهما شاهل بيل والسّيدة سلمنار إلى مطعم‪ ،‬ظن الديب لمقمان أّنه أرقى مطاعم‬ ‫المدينة وأجملها‪ .‬كان المطعم يعّج بالمئات من النس وضيوفهم من الجن‪ ،‬الذين كان‬ ‫معظمهم يرقصون رقصات جنونّية على مسرح المطعم‪ ،‬وبين الموائد والممرات‪،‬‬ ‫والظري ف أن بعض الطهاة والّندل كانوا يرقصون أيضا ً حتى وهم يمقومون بتمقديم‬ ‫الطلبات وتحضير ال ّ‬ ‫طعام‪ .‬وبدا أن النسيات كن مسرورات للغاية ببهلوانّيات الجن‬


‫وشمقلباتهم على المسرح‪ ،‬خا ّ‬ ‫يصة حين يمسك جّني ما إنسّية ويمقّلبها بين يديه أو يشمقلبها‬ ‫رأساً على عمقب‪ ،‬أو يمددها على كتفيه ويدور بها‪ ،‬أو يحملها على راحة يد ه‪ ،‬وهي‬ ‫تستجيب لكل ذلك بمتعة فريدة!‬ ‫رّحب مدير المطعم بهم وأفرد لهم طاولة بعيدة بعض الشيء عن الضجيج والضوضاء‪.‬‬ ‫تأّمل الديب لمقمان الراقصين والمبتهجين إنسا ً وجنًّا‪ ،‬وما لبث أن شرع في التساؤلت‬ ‫كالعادة‪:‬‬ ‫»هل يتاح لي مواطن عندكم أن يتناول طعاما ً مجانا ً في مطعم كهذا؟«‬ ‫»أنا أختل ف معك أّيها الديب حول كلمة مّجانًا‪ ،‬فهذا المواطن يعمل ويتعب ومن حّمقه أن‬ ‫يأكل ويشرب ما يشاء في أي مطعم‪ ،‬مع أّن مستوى المطاعم ل يختل ف عنه من مطعم‬ ‫إلى آخر‪ ،‬فُكّلها درجة أولى إن شئ ت التصني ف‪ ،‬وكّلها تمقّدم الطعام ذاته والمشروبات‬ ‫ذاتها وبالطريمقة ذاتها‪ ،‬والسائد أكثر لدينا هو الخدمة الذاتية‪ ،‬لذلك تجد الندل قليلين‬ ‫عندنا!«‬ ‫»لكن!«‬ ‫فمقاطعه شاهل بيل قائ ً‬ ‫ال‪:‬‬ ‫»أنسي ت أنه جاء دورنا لالستماع إليك؟«‬ ‫ّ‬ ‫»ليكن! لكن سأختصر لقول‪ ،‬إن المشاكل في كوكبنا أكثر من أن تحصى‪ ،‬وفيما يتعلق‬ ‫بالمسألة الجنسية‪ ،‬تجد نساء عندنا ورغم المقناع الخالقي يضاجعن أبناءهن‪ ،‬ورجالً‬ ‫يضاجعون بناتهم‪ ،‬ويثمة من يضاجعون البهائم والحيوانات وحتى الفواكه والخضار‪،‬‬ ‫ويثمة من يخونون نساَء هم‪ ،‬ويثمة من يخّن رجالهن‪ ،‬ويثمة من يتزّوجون امرأة كل أسبوع‬ ‫على سّنة ا ورسوله‪ ،‬ويثمة من لديهم مئات الجواري والغلمان!«‬ ‫ال‪ ،‬مه ً‬ ‫»مه ً‬ ‫ال أيها الديب‪ ،‬ماذا تمقصد بمضاجعة البهائم والفواكه والخضار؟!«‬ ‫»يا عزيزي‪ ..‬عندنا في الري ف يلجأ أبناء الفالحين إلى مضاجعة الجحشات والبغالت‬ ‫والبمقار والمعز والّنعاج والخنازير‪ .‬وفي المدينة‪ ،‬ورّبما في الري ف أيضًا‪ ،‬تلجأ النسوة‬ ‫إلى الخيار والجزر والموز والكوسا والفّمقو س والباذنجان‪ ،‬وحتى الّزجاجات السطوانية‬ ‫والصّبار!«‬ ‫»الصّبار؟«‬ ‫»نعم! ذات مرة فعلتها فتاة من قريتنا لم تجد غير ال ّ‬ ‫صبار لن شوكه يثيرها أفضل من‬ ‫أي فاكهة ُأخرى!«‬ ‫»وأن ت ماذا أدرا ك أيها الديب؟«‬ ‫»هي قال ت لي حين رأي ت شفريها متوّرمين!«‬ ‫وراح السيد شاهل بيل وزوجته يضحكان‪ ،‬فيما الديب لمقمان يتابع‪:‬‬ ‫»لكن إن شئتما الطر ف‪ ،‬فهو ما فعله أحد المراهمقين في بلدتنا مع البطيخة‪ ،‬حيث يثمقب‬ ‫في قشرها دائرة بحجم عضو ه‪ ،‬وحفر لها حفرة في الرض كي تستمقر فيها واستلمقى‬ ‫فوقها‪ .‬كان أمتع شيء في هذ ه المضاجعة‪ ،‬هو إحساسه بتمّز‪.‬ق ُلب البطيخة أمام ضغط‬ ‫عضو ه‪ ،‬فمقد كان يشعر أّنه يفتض بكارة عذراء«‬


‫كان رجل المعرفة يضحك هو والسيدة سلمنار والميرة نور السماء والديب لمقمان‬ ‫يتحّدث ببراءة الطفال‪:‬‬ ‫» وذات يوم أمعن هذا المراهق في الخيال‪ ،‬فأحضر بطيخة وبرتمقالتين!«‬ ‫فتساءل شاهل بيل‪:‬‬ ‫»ولَِم أحضر البرتمقالتين؟«‬ ‫»كي يجعل منهما نهدين يرضعهما وهو يفتض بكارة البطيخة!«‬ ‫»وهل حفر لهما أيضًا؟«‬ ‫»ل‪ ،‬يثمقبهما فمقط‪ ،‬وأمسكهما بيديه‪ ،‬وراح يمت ّ‬ ‫صهما واحدة إيثر ُأخرى وهو يضطجع فو‪.‬ق‬ ‫البطيخة‪ ،‬التي لم يكن يتركها إل وهي مثمقوبة وُمخردقة من كل مكان!«‬ ‫»فع ً‬ ‫ال هذ ه قصص حمقيمقية ول يمكن أن تكون من الخيال أيها الديب لمقمان! لكن‪ ،‬ألم‬ ‫يثر ك هذا المراهق أو يدفعك لن تفعل مثله؟!«‬ ‫وراح الديب لمقمان يبتسم‪ ،‬فمقد كان يتحّدث عن نفسه‪ ،‬فهو يصاحب هذ ه الفكار في زمن‬ ‫مراهمقته‪ ،‬وخجل من أن يمقول ذلك لشاهل بيل‪ ،‬فهت ف‪:‬‬ ‫ب وعار!«‬ ‫»ل عيب! أنا كن ت ممقتنعا ً أن هذا عي ٌ‬ ‫وحين أح ّ‬ ‫س الديب لمقمان أنه ل يجيد الكذب أضا ف بعض الحمقيمقة من خياله‪:‬‬ ‫»وإن شئ ت الحق أغواني ذات مرة‪ ،‬فمقد كان شيطاناً في ابتكار أساليب للمتعة‪ ،‬ففعلتها‪،‬‬ ‫لكني لم أكررها حين عجز خيالي عن تمثل عذراء بدلً من البطيخة! أما هو اللعين!‬ ‫فكان خياُله خصبًا‪ ،‬وكان يخاطب الفتاة المتخّيلة بأقذع الكلمات وأسفلها‪ ،‬وهو يمار س كل‬ ‫العن ف مع البطيخة‪ ،‬وكان يتمّثل رّدة فعل الفتاة وهي تتوّسل إليه وإلى إلهه وإلى عضو ه‬ ‫أل يكون معها عنيفا ً إلى هذا الحد‪ ،‬ويمقّلد ذلك بصوته‪ ،‬ليبدو كممثل يمقوم بدورين في آن‬ ‫واحد!!«‬ ‫وفيما كان الجميع يضحكون‪ ،‬هت ف شاهل بيل‪:‬‬ ‫»ل‪ ،‬هذا مسرح متكامل ول ينمقصه شيء!«‬ ‫وبدت الميرة نور السماء خجلة بعض الشيء وإن كان ت تضحك‪ ،‬أما السيدة سلمنار‪،‬‬ ‫فمقد كان ت تضحك بملء فيها‪ ،‬وكأنها تستمع إلى حكايات من بالد وا‪.‬ق الوا‪.‬ق!‬ ‫»أن ت جميل أيها الديب‪ ،‬ل تعر ف كم أجد فائدة في قصصك هذ ه‪ ،‬نحن عندنا نعطي‬ ‫جائزة لكل مراهق يحديثنا عن سلوكه وطباعه بصد‪.‬ق‪ ،‬حتى إذا وضعنا حلولً راعينا فيها‬ ‫غرائز النسان وسلوكه!«‬ ‫»شكراً لهذا الطراء أيها العالم«‬ ‫»معذرة أيها الديب لم أقصد«‬ ‫»بل اقصد يا عزيزي‪ ،‬فنحن في كوكب الرض نموت ونحن في سن المراهمقة!!«‬ ‫فتح شاهل بيل فمه دهشة‪:‬‬ ‫»ماذا تمقصد أيها الديب؟«‬ ‫»الكب ت يالزمنا منذ طفولتنا وحّتى وفاتنا‪ ،‬فال تستغرب أن يحدث معنا في الكبر ما كان‬ ‫يحدث معنا في ال ّ‬ ‫صغر نظراً لعدم وجود النساء‪ ،‬أو لعَدم توّفر الحرية الجنسية‪ ،‬وكم من‬


‫النساء والرجال لدينا ل يجدون غير العادة السّرية والبطيخ وما أدرا ك ما البطيخ؟!!«‬ ‫»إن مجتمعكم لفظيع حمقًا!«‬ ‫»حتى في المجتمعات التي فيها حرّية جنسية مطلمقة لدينا‪ ،‬تجد معظم النسوة يفضلن‬ ‫ممارسة العادة السّرية على ممارسة الجنس مع أزواجهن على سبيل المثال وهذا ينطبق‬ ‫على نسبة كبيرة من الرجال«‬ ‫»هذا موجود عندنا أيضا ً لكن بنسب قليلة جدًا‪ ،‬رغم أن الباعث على ذلك ليس الكب ت في‬ ‫معظم الحالت‪ ،‬بل الهروب من روتينية الطمقس الجنسي‪ ،‬والرغبة في إيجاد ممارسة‬ ‫ليس ت موجودة في الواقع!«‬ ‫»الكثرية من المتزوجين عندنا يتمّثلون نساء غير زوجاتهم خالل الممارسة معهن‪،‬‬ ‫وهن كذلك أيضًا‪ ،‬أي أنهم يمارسون عادة سرية مع بعضهم البعض‪ ،‬وهذا يساعد على‬ ‫إطالة أمد الزواج الفاشل!«‬ ‫»هذ ه الحالت شبه معدومة عندنا لن في ممقدورهما كزوجين النفصال بسهولة‪ ،‬إل إذا‬ ‫كانا في سن الشيخوخة ول يحّبذان النفصال«‬ ‫وسادت لحظات من الصم ت‪ .‬هت ف بعدها شاهل بيل‪:‬‬ ‫»وماذا عن الممارسات مع الحيوانات؟!«‬ ‫فهت ف الديب لمقمان‪:‬‬ ‫»ل! هذ ه مسألة مخجلة‪ ،‬فال تحرجني!«‬ ‫»أنا ل أرى فيها ما هو مخجل أيها الديب لمقمان‪ ،‬أن ت تتحّدث عن مجتمع مكبوت تكّبله‬ ‫الشرائع والمقوانين والعادات‪ ،‬ومن الطبيعي أن يبحث الفرد فيه عن متنّفس لغرائز ه‪ ،‬وقد‬ ‫مررنا بكل ما تتحدث عنه«‬ ‫»حمقا ً هل مررتم بذلك؟«‬ ‫»وأسوأ مما تتصّور«‬ ‫»سأحّديثكم بعض المقصص الخرى لكن باختصار!«‬ ‫»موافمقون!«‬ ‫»هذا المراهق اللعين الذي كان يصديمقي! فاجأني حين قال لي أن البغلة ألّذ من البطيخة‬ ‫والنعجة أيضًا! وراح يحّديثني‪ .‬قال لي‪ :‬إن بغلتهم لم تكن مرّوضة كما يجب لصغر سّنها‪،‬‬ ‫فما أن يمقترب منها حتى تضّم أذنيها إلى رأسها وتكّشر عن أسنانها وتهجم عليه لتع ّ‬ ‫ضه‪،‬‬ ‫أما حين كان يمقترب منها أبو ه أو أخو ه‪ ،‬فمقد كان ت تتمّلس بهما وتحك رأسها بأكتافهما!‬ ‫ولم يكن قادرًا على اكتشا ف هذا السر‪ ،‬إلى أن كان ذات غروب وطلب إليه أبو ه أن‬ ‫يصطحب البغلة إلى البئر ليسمقيها‪ ،‬لنها لم تشرب طول النهار‪ .‬كان ت البغلة تمر في فترة‬ ‫سفاد‪ ،‬فلم تضم ُأذنيها ولم تكّشر عن أنيابها‪ ،‬ولم تستدر لترفسه بخلفيتيها‪ ،‬فأضمر في‬ ‫نفسه أن يفعلها معها على البئر‪.‬‬ ‫أبطأ في الطريق إلى البئر كي يحل الغسق ول يرا ه أحد‪ ..‬وما أن ويصل إلى البئر وأسمقى‬ ‫البغلة حتى حل الغسق وخّف ت الرؤية‪ .‬راح يداعب البغلة بأن ملس بيديه على رأسها يثم‬ ‫عنمقها‪ ،‬فصدرها! فظهرها فبطنها وهي تستجيب‪ ،‬إلى أن بلغ قائمتيها الخلفيتين فأشبعهما‬


‫ملساً قبل أن ينتمقل إلى حيائها‪ ،‬ويالمسه ويداعبه لتستجيب وترتخي وتستسلم كّلية وتشرع‬ ‫في يثني قوائمها‪ ،‬فأشرع هو عضو ه و»سفدها«!‬ ‫وبعد ذلك الغسق راح ت البغلة تتمّلس به كّلما اقترب منها!!«‬ ‫ضحك شاهل بيل إلى أن استلمقى على قفا ه! وضحك ت السيدة سلمنار والميرة نور‬ ‫السماء‪ ،‬أما الديب لمقمان‪ ،‬فمقد شرب كأ س بيرة وراح يرقب الضحك!!‬ ‫حين توقفوا عن الضحك‪ ،‬هت ف الديب لمقمان‪:‬‬ ‫»أظن أن هذا يكفي أيها العالم؟«‬ ‫»واحدة أخرى فمقط‪ ،‬أريدها من حياتك أن ت وفي الِكَبر!!«‬ ‫»ل! لن أحديثكم عن حماقاتي ل في ال ّ‬ ‫صغر ول في الكبر‪ ،‬كفانا بطيخا ً وبرتمقالً وا أعلم‬ ‫ماذا ارتكب ت من حماقات قبل وبعد ذلك‪ ،‬سأحديثكم عن حماقات من عرفتهن من بعض‬ ‫النساء«‬ ‫»على أن تحّديثنا عن حياتك فيما بعد«‬ ‫»حياتي تحتاج إلى مجّلدات‪ ،‬وليس الن وقتها‪ ،‬لكن لبأ س بنت ف منها«‬ ‫»ليكن‪ ،‬نحن نمقبل بأي شيء منك«‬ ‫»كان لي يصديمقة شهوانية من بلد متحضر جداً على كوكبنا‪ ،‬وكان أبوها ضابطا ً في‬ ‫الجيش يعمل في بلد آخر متخل ف يستعمر ه البلد المتح ّ‬ ‫ضر!‬ ‫قال ت لي أنها ذهب ت لزيارة أبيها ذات يوم في ذا ك البلد‪ ،‬وكان يمقيم مع أختها التي تكبرها‬ ‫بعامين‪ ،‬كان عمرها عند الزيارة ايثنتي عشرة سنة‪ .‬فوجئ ت بأبيها ليالً يداعبها ويمقّبلها‬ ‫بشهوة فيما كان ت أختها نائمة‪ ،‬فاستجاب ت له‪ ،‬فعّراها وافت ّ‬ ‫ضها‪ ،‬وظل يضاجعها كل يوم‪،‬‬ ‫واكتشف ت فيما بعد أنه يضاجع أختها أيضًا‪ ،‬وقد افتضها وهي في العاشرة‪ .‬ويثابر على‬ ‫مضاجعة اليثنتين إلى أن تزّوجتا‪ ،‬وقد حمل ت يصديمقتي منه قبل زواجها‪ ،‬فأرغمها على‬ ‫الجهاض‪.‬‬ ‫الطري ف في المر أن هذ ه الخيرة »يصديمقتي« ظل ت تشتهي أباها‪ ،‬وكان ت تضاجعه ُكلما‬ ‫زارته‪ ،‬إلى أن كبر وشاخ‪ .‬ما أدهشني أنها لم تكن تكرهه‪ ،‬ولم تكن تحمقد عليه‪ ،‬بل كان ت‬ ‫تحّبه‪ ،‬ولم تناقشه يوماً في ما يجري بينهما أو بينه وبين أختها‪ ،‬ولم تكن غاضبة من‬ ‫نفسها أيضًا‪ ،‬أو تعتبر أنها فعل ت منكراً أو ارتكب ت إيثمًا‪ ،‬وكان ت ترى في قصة النبي لوط‬ ‫ل يحتذى‪ ،‬وكان ت ابنتا هذا النبي قد أسمقتا ه خمراً‬ ‫الواردة في كتاب ممقد س عندنا‪ ،‬مثا ً‬ ‫وضاجعتا ه‪ ،‬وأنجبتا منه نسالً ُنسب إلى ابنيهما منه‪.‬‬ ‫وأطر ف ما في المر‪ ،‬أنها حاول ت أن تضاجع أباها حين زارته في أحد أعياد ميالد ه‬ ‫وهو في سن الشيخوخة‪ ،‬فلم يحدث معه انتصاب رغم كل محاولتها لستثارته‪ .‬وقد‬ ‫فّسرت لي ذلك‪ ،‬بأنه ربما نوع من الثأر أو الرغبة المكبوتة في النتمقام‪ ،‬ولم أوافمقها على‬ ‫ذلك!«‬ ‫»وهل هذ ه العالقات استثنائية في مجتمعاتكم أيها الديب لمقمان؟«‬ ‫»هي استثنائية‪ ،‬ربما لنها تجري بشكل سّري في المجتمعات المختلفة‪ ،‬لتحريمها من‬ ‫قبل الشرائع والمقوانين المدنّية«‬


‫»وماذا أيضًا؟«‬ ‫»عرف ت امرأة كان ت تداعب ابنها منذ الصغر وما أن بلغ سن المراهمقة حتى كان أفضل‬ ‫عشيق لها‪ .‬لكن حين بلغ وكبر وحاول أن يتزوج ويستمقل بنفسه‪ ،‬دهمته وهو نائم وق ّ‬ ‫طعته‬ ‫بالساطور إرباً ووضعته في كيس ودفنته في حديمقة المنزل‪ .‬ارتاب الجيران في أمرها‪.‬‬ ‫فاعتمقل ت واعترف ت بجريمتها‪ .‬حكموا عليها بالعدام!«‬ ‫»هذ ه قصة مرعبة أيها الديب‪ ،‬حّديثنا عن البيئة التي نشأت فيها«‬ ‫»نشأت في بيئة ريفية تغر‪.‬ق في الجهل حتى ُأذنيها‪ ،‬فمقد كان أجدادنا يلبسون نساَء هم‬ ‫حزام العّفة حين يذهبون إلى الحج أو يغيبون عن البي ت لبضعة أيام‪ ،‬وبعضهم كان يرغم‬ ‫زوجته على ارتدائه حتى لو غاب بضع ساعات فمقط‪ .‬وبعضهم كان يخيط فرج زوجته‬ ‫إلى أن يعود من سفر ه‪ .‬غير أن النسوة المحّنكات كّن يمقمن بفك الخيوط ول يعدنها إل‬ ‫حين اقتراب عودة الزوج‪ ،‬ويروى عن جّدتي أنها فوجئ ت بجّدي يعود مبكراً من موسم‬ ‫الحج‪ ،‬فهرع ت لستمقباله وهي تزغرد وتصّفق فرحا ً وتغني‪:‬‬ ‫وتمق ّ‬ ‫طعن ُقطبانه!«‬ ‫»من فرحتك يا بو علي‬ ‫أي أن خيوط فرجها تمق ّ‬ ‫طع ت من شّدة الفرح!‬ ‫أما ذوات الحزام‪ .‬فكّن يصنعن مفتاحا ً سريا ً ويمقمن بفتح قفل الحزام بمجّرد انطال‪.‬ق قافلة‬ ‫الحج!‬ ‫وما يزال بعض الرجال عندنا يمقفلون أبواب المنازل على زوجاتهم حين النصرا ف إلى‬ ‫العمل‪ .‬تعّرف ت على واحدة من هؤلء‪ ،‬كان ت قد عمل ت نسخة سرية من المفتاح‪ ،‬وكن ت‬ ‫أزورها بين فترة وأخرى وزوجها في العمل‪ ،‬إلى أن اكتشف ت أنها تضاجع رجالً كثيرين‬ ‫لالنتمقام من زوجها الحمق‪ ،‬فلم أعد أرغب في مواقعتها‪.‬‬ ‫وما تزال بعض المجتمعات لدينا تمقوم بختان المرأة لتخفي ف الشهوة الجنسّية لديها‪.‬‬ ‫فالمفهوم الشائع عند بعض مجتمعاتنا أن طاقة المرأة الجنسية تعادل طاقة عشرات‬ ‫الرجال‪ .‬ولذلك يلجؤون إلى مختل ف الوسائل للحد منها‪ .‬وهم في الغالب يمقضون عليها‬ ‫نهائيًا‪ ،‬سواء بهذ ه الطر‪.‬ق الوحشية أو بالتربية الخاطئة التي تحايصر الطفل من طفولته‬ ‫إلى يصبا ه يثّم بلوغه‪.‬‬ ‫في هذ ه البيئة التي تشغل فروج النساء حّيزاً كبيراً من تفكيرها‪ ،‬نشأت‪ ،‬ولو تعر ف أيها‬ ‫العالم كم من العصي الغليظة تكّسرت على كتفي‪ ،‬وكم من الحبال الرفيعة المفتولة‬ ‫والمدهونة بالزي ت نهش ت من لحم ظهري‪ ،‬لكفرت بهذا الكوكب الذي ولدت فيه«‬ ‫»ومن كان يضربك بالعصي والحبال؟«‬ ‫»أبي‪ ،‬ومن هنا ك غير أبي والُسلطة فيما بعد أيها العالم‪ ،‬ل أرْتك الذات الُكلية عصي أبي‬ ‫وحباله المدهونة بالزي ت«‬ ‫»ولماذا كان أبو ك يدهن الحبال بالزي ت؟«‬ ‫»وأرباب كوكبنا ُكّلهم أنني أحياناً لم أكن أعر ف حتى لماذا يضربني تحديدًا! ما أعرفه‬


‫تماما ً أنني كن ت متخّوفاً من أن يمقتلني كما قتل أحد إخوتي‪ ،‬فمقد شّكل لي هذا التخّو ف‬ ‫كابوسا ً ظّل يالحمقني إلى أن هرب ت من البي ت على إيثر ضربة من هراوة فأ س أرادها أن‬ ‫تشق رأسي‪ ،‬لكني أملته فكسرت كتفي«‬ ‫»وهل قَتَ​َل أخا ك حمقًّا؟«‬ ‫»أجل‪ .‬كان أبي يضرب لتفه سبب‪ ،‬لخفاقي – من جراء الهواء – في إشعال النار من‬ ‫عود يثمقاب واحد على سبيل المثال‪ .‬أما الضربة الفأسية المقاضية التي كان قد جندل أخي‬ ‫بمثيلها‪ ،‬فمقد سددها لنني اختلس ت من محفظة نمقود ه خمسة عشر قرشا ً كي أذهب إلى‬ ‫»المقد س« لقص شعري وآكل الكنافة!«‬ ‫»وأين تمقع المقد س هذ ه أيها الديب؟«‬ ‫»تمقع في موطني‪ ،‬وهي مسمقط رأسي!«‬ ‫»ماذا تعني بمسمقط رأسك يا مولي؟«‬ ‫»ماذا أيتها الميرة‪ ،‬هل بدأت تنسين اللغة العربية؟«‬ ‫»اعذرني يا مولي‪ ،‬فأنا جّنية ولم أمار س العربية كثيرًا!«‬ ‫»اعتبريه مكان ولدتي‪ ،‬مع أن المعنى الحرفي ل يخلو من طرافة«‬ ‫»السيد شاهل بيل يريد أن يعر ف المعنى الحرفي!«‬ ‫»المكان الذي لمس فيه رأسي الرض لّول مرة«‬ ‫»ماذا تمقصد يا مولي؟«‬ ‫»أقصد حين نزل ت من فرج أّمي!«‬ ‫وراحوا يضحكون فتساءل الديب لمقمان‪:‬‬ ‫»هل في هذا ما ُيضحك يا جماعة؟«‬ ‫»أن ت جميل حمقاً أيها الديب لمقمان‪ ،‬لم يخطر هذا على بالنا‪ ،‬فالمولود عندنا رّبما ل‬ ‫يالمس رأسه الرض حتى بعد سنة من الولدة«‬ ‫»هذا عندكم أما في قريتنا فالمر مختل ف!«‬ ‫»ولماذا كان أبو ك يضربكم بهذ ه المقسوة؟«‬ ‫»يبدو لي أّنه كان يكرهنا كرها ً شديداً لشّكه أننا أولد حرام‪ ،‬ولم يكن ينادي أمي إل »يا‬ ‫شرموطة« أو »يا عاهرة« وهو يكيل لها فردات الحذية أو الحجارة إذا كانا في الحمقل!‬ ‫أما نحن فكثيراً ما كان ينعتنا »أولد الشرموطة« والحق إنني في طفولتي المبّكرة‪ ،‬كن ت‬ ‫أشاهد أّمي عارية مع رجل قد ل يشبه أبي‪ ،‬وقد انطبع ت هذ ه الصورة الضبابية في‬ ‫ذاكرتي وعاش ت زمنا ً طوي ً‬ ‫ال! وكان ت أمي امرأة طّيبة كثيراً وضعيفة جّدًا‪ ،‬ويستطيع أي‬ ‫رجل بمقليل من الرغام واللط ف والخبث أن يضاجعها‪ ،‬وأذكر أنها تعرض ت ذات مرة‬ ‫لمحاولة اغتصاب من قبل شاب‪ ،‬وكم توسل ت إلّي وهي تبكي وترتج ف أل ُأخبر أبي بما‬ ‫حدث‪ ،‬بل أن ل أخبر ه أن أحداً قد زارنا في البي ت‪ ،‬فمقد كان ت تف ّ‬ ‫ضل أن تستر نفسها‬ ‫وتذعن ولو على مضض لي متحّرش أو مغتصب‪ ،‬إذا ما تمادى في محاولته‪ ،‬على أن‬ ‫تثير فضيحة قد تؤدي إلى حتفها في مجتمع ل يرحم‪ .‬ويمكن لمجّرد مشاهدة فتاة فيه‬


‫تتحّدث إلى شاب على انفراد أن يمقيم الدنيا ويمقعدها وتسيل له دماء كثيرة بريئة‪ ،‬وقد‬ ‫يؤّدي إلى حرب عشائرّية أو قبلّية‪ .‬إن الهة بل »الّنة« التي ل أنساها في حياتي ولن‬ ‫أنساها هي »أّنة« أمي وهي تغربل الّزبل في مهجع الغنام‪ ،‬ومخيلتها تستعرض بعض‬ ‫يصور حياتها‪ .‬كان ت تتوق ف للحظات وتوجم وهي تطلق نظراتها إلى الرض وكأنها تريد‬ ‫أن تخترقها بها لتعر ف ما تحتها‪ ،‬يثّم تئن من أعما‪.‬ق أعماقها‪ ،‬وتكرر الّنة يثالث مرات‬ ‫متتالية‪ ،‬يزداد فيها التفّجع واللم ليبلغ ذروته في الّنة الثالثة‪ُ .‬كن ُ‬ ‫س في هذ ه الّنة ما‬ ‫ ت أح ّ‬ ‫لم أح ّ‬ ‫س به في جميع المرايثي التي قرأتها في حياتي‪ ،‬يبدو أنها كان ت تريثي فيها الحياة‬ ‫برّمتها‪ ،‬وهي تتمثل كل اللم التي عاشتها‪.‬‬ ‫كان ت هذ ه النة مزيجا ً من التأّو ه والنين ولم أسمع مثيالً لها في حياتي‪ ،‬لكني سمع ت ما‬ ‫يمقاربها من فراش الحتضار حين زرت بعد يثاليثين عاما ً يصديمقة مريضة بالسرطان‪،‬‬ ‫وحين شاهدت أّماً فلسطينية تئن على فمقد ابنها في مجزرة »يصبرا وشاتيال«!«‬ ‫وكان ت عينا الديب لمقمان قد دمعتا وهو يتذّكر أّمه‪ ،‬فيما خيم الصم ت على شاهل بيل‬ ‫والسيدة سلمنار والميرة نور السماء‪ .‬مسح الديب لمقمان دموعه وأجاب على استفسار‬ ‫»شاهل بيل« عن مجزرة »يصبرا وشاتيال« يثم عاد ليتابع الحديث عن المقرية‪:‬‬ ‫»أما ما يجري سراً خل ف هذا الستار الواهي والخال‪.‬ق الزائفة‪ ،‬فهو ل يصّد‪.‬ق إلى حد‬ ‫يدفع َمن هو مثل أبي إلى الّتفاخر – أمامي وأمام أمي وبعض إخوتي فمقط – بأنه زنى مع‬ ‫يثمانين امرأة في بلدتنا التي ل يتجاوز عدد سكانها خمسة آل ف نسمة حينئذ‪ .‬مع أن أبي‪،‬‬ ‫كان يصوم ويصّلي ويؤم النا س في الصالة‪ ،‬خايصة في عيدي »رمضان« و»الضحى«‬ ‫ وهذان عيدان دينّيان عندنا – فتصّور؟!«‬‫»هرب ت – إيثر فأسّية أبي – من هذا العالم الُمرعب‪ ،‬وترك ت قطيعنا الذي كن ت أرعا ه إلى‬ ‫غير رجعة‪ ،‬والحق أنني هرب ت إلى عالم أكثر ُرعبًا‪ ،‬ويمكنك أن تمقول أيها العالم أن‬ ‫كتفي الخر قد ُكسر أيضًا‪ ،‬لكثرة ما انهال على جسدي من عصي وهراوات وسياط في‬ ‫السجون الجميلة!‬ ‫مّرت أيام كن ت أترّحم فيها على فأسّية أبي وحباله الزيتية أمام عصيهم وسياطهم‬ ‫وكراسيهم الكهربائية وغير الكهربائية وخوازيمقهم ونيران سجائرهم و»بوابيرهم« التي‬ ‫كن ت ُأرغم على الجلو س عليها لتسلخ مؤّخرتي بنارها!«‬ ‫»ولماذا سجن ت أيها الديب؟«‬ ‫»لنني أيصبح ت متمّرداً ومخّربا ً ومجرمًا!«‬ ‫»ماذا تمقصد أيها الديب لمقمان؟«‬ ‫»عمل ت في السياسة أيها العالم وأيصبح ت فدائيًا!«‬ ‫»وهل هذ ه مسألة توجب السجن والتعذيب؟«‬ ‫»يا أخي أن ت في الكوكب سوهار وتنعم بالمحار ول تعر ف شيئا ً عن كوكب الرض‬ ‫السّيار! نعم يا عزيزي‪ ..‬يثمة دول لدينا المثل السائد لدى شعوبها والذي تحرص على‬ ‫تحفيظه لبنائها قبل أن يرفعوا رؤوسهم هو »السياسة تعاسة!« وإن شئ ت أمثالً أخرى‬ ‫»امش الحيط الحيط وقول يا رب الّستر!« و»الك ف ما بيالطم مخرز!« و يا ويل من‬


‫ينسى هذ ه المثال مثلي ويمقود ه غرور ه إلى أن يصبح سياسيًا!«‬ ‫»وأين سجن ت أيها الديب؟«‬ ‫»ل! كل شيء إل هذا السؤال‪ .‬أن ت حمقاً تبحث عن المحظورات وتدور حول الممنوعات‬ ‫أيها العالم‪ ،‬ونحن نتعب ونشمقى وننتحر حتى على الور‪.‬ق ول نعر ف أين ننشر انتحاراتنا‪،‬‬ ‫حتى »الناقد« المتبّجحة بـ »إبداع الكاتب وحّرية الكتاب« ل تنشر آهاتنا الملتاعة!!*‬ ‫لنمقل في المشتري! ُسجن ت هنا ك في المشتري لنني اشتغل ت في التعاسة وكتب ت أدبا ً‬ ‫يزخر بالّنجاسة«‬ ‫»مولي مولي! لم أفهم جّيداً وكأّنك تهذي!«‬ ‫»الهذيان ضرورة أيتها الميرة‪ ،‬فإذا لم نهِذ سنجّن‪ ،‬وإذا جننا سنطق‪ ،‬وإذا طمقمقنا سننفلق‪،‬‬ ‫وإذا انفلمقنا سنموت‪ ،‬وإذا ُمتنا سيشم ت بنا الَّسدنة الّزنيمون من كتبة العروش والمعابد‪،‬‬ ‫وهنا تكمن الطاّمة الكبرى! فهم يغتبطون بتكميم أفواهنا وبالحصار المضروب على‬ ‫حركاتنا وسكناتنا وما يّدعون أنه إفالسنا ويصم ت أقالمنا!«‬ ‫»مولي! إن الكالم يندفع من فيك كالسيل وأنا لم أعد قادرة على متابعة ما تمقول‪ ،‬ل‬ ‫تنفعل يا مولي وأرح نفسك!«‬ ‫»هل نحضر لك طبيبا ً أيها الديب لمقمان؟«‬ ‫»ل ل‪ ،‬شكراً يا سّيدتي أنا بخير‪ ،‬إّنها مجّرد حالة عارضة من النفعال تنتابني كّلما فمقدت‬ ‫السيطرة على خط استوائي المتأرجح!!«‬ ‫ضل الّذهاب إلى بي ت ال ّ‬ ‫»هل تف ّ‬ ‫ضيافة؟«‬ ‫»لم نّر شيئا ً من المدينة أّيها العالم«‬ ‫»سترى ما تريد طالما أن ت في ضيافتنا«‬ ‫»أريد أن أرى متاحفكم وآيثاركم ومعابد أجدادكم أم أنّكم هدمتموها؟«‬ ‫»ل‪ ،‬لم نهدم شيئًا‪ ،‬لكننا لم نبِن منذ آل ف السنين«‬ ‫»أليس بينكم من ينظر إلى الذات الكّلية نظرة لهوتية؟!«‬ ‫»كان هذا قبل تعميق الفكر واستيعابه‪ ،‬أما الن فال«‬ ‫»وهل يشعر النسان بامتالء روحي ول يح ّ‬ ‫س بخواء ما في نفسه؟«‬ ‫ّ‬ ‫»الذات الكلّية عندنا هي الروح وكّلما اتحد النسان بها كلما ازداد إحساسه بالشباع‬ ‫الروحي‪ ،‬غير أن هذا التحاد ل يتم عن طريق شعائر دينية أو سلو ك معّين‪ ،‬لن العمل‬ ‫ومحّبة الخر والّتفاني والّسعي إلى ما هو أجمل وأسمى‪ ،‬أيصبح بحد ذاته شعائر دينّية أو‬ ‫بديالً لها‪ ،‬وأيصبح الوجود برّمته هو المعبد أو بديالً له!«‬ ‫»وهل يمكن المقول ولو مجازاً أّن الحالة الرقى والسمى عندكم لتحاد الذات الفردّية‬ ‫بالذات الجمعّية بالذات الكلّية‪ ،‬هي اتحاد العبد بالمعبود بالمعبد بالعمل؟«‬ ‫»لكن دون إسباغ المعنى الالهوتي عليها«‬ ‫»أل يتيح ذلك لبعض الدّجالين أن يّدعوا اّتحادهم بالذات الكلّية‪ ،‬مما قد يدفع بعض النا س‬ ‫إلى تمقديسهم؟«‬ ‫»حدث مثل هذا من قبل أما الن فهو شبه مستحيل«‬


‫»لماذا؟«‬ ‫»لن فهم فلسفتنا تعّمق عند النا س‪ ،‬إلى حد عدم فصل الذات الفردّية عن الذات الكّلية‪،‬‬ ‫فهي ذات واحدة ونحن نجاز ف – إذا جاز التعبير – بتجزيئها‪ ،‬حين نؤكد أن الذات‬ ‫الفردية تتحد أو تبتعد عن الذات الكلّية بالمقدر الذي تمقترب فيه هذ ه الذات منها أو تبتعد‬ ‫عنها بعملها‪ ،‬والنا س عندنا يعرفون أن هذا فكرنا وفكر أجدادنا نحن ولم ينزله علينا أي‬ ‫إله‪ ،‬وهو نتاج لتطّور معرفي بدأ منذ آل ف الّسنين‪ ،‬يثم إنه ينبغي على من يريد أن يّدعي‬ ‫ذلك التحاد أن يمقوم بأعمال جّبارة ملموسة ومحسوسة‪ ،‬بدءاً من أعظم النجازات العلمية‬ ‫أو الفنّية أو الدبية‪ ،‬وانتهاًء بالّتفاني في خدمة النا س ومحّبتهم«‬ ‫»هل لك أن تضرب لي بعض المثلة على ذلك‪ ،‬ولتكن من حياة الراعي الكبر عندكم؟«‬ ‫»الراعي الكبر عندنا لم يمقل يوما ً أنه اّتحد بالذات الكلّية‪ ،‬رغم أّنه عّمق فكرة عدم‬ ‫انفصال الذات الفردية عن الذات الكلّية الكونية الكبرى‪ ،‬واعتبرهما واحدة‪ ،‬لكن‬ ‫التصّرفات السّيئة للفرد تمقود ه إلى أن يبتعد بذاته عن هذ ه الذات‪ ،‬وإذا ما ساءت أعماله‬ ‫كثيرًا فإنها تؤدي إلى انفصال ذاته عنها‪ ،‬لكن دون العزل التام أو النفصال المطلق‪،‬‬ ‫وبهذا المعنى ُيصبح كل فرد مّتحداً بالذات الكلّية‪.‬‬ ‫والراعي الكبر عندنا يحمل أعلى شهادتين في الطب الدماغي والجهاز العصبي‪ ،‬وقد‬ ‫طّور خاليا الجهاز المناعي النفسي‪ ،‬وخاليا الجهاز المناعي الفيزيولوجي في جسم‬ ‫النسان‪ ،‬وطّور الخاليا البداعية في الّدماغ!«‬ ‫»يبدو لي أنني لن أخرج من كوكبكم إل مجنوناً أيها العالم شاهل‪ ،‬عن ماذا تتحدث‬ ‫أن ت؟«‬ ‫»هل كالمي غير مفهوم أيها الديب؟«‬ ‫»هل يعني كالمك أنكم اكتشفتم من قبل جهازاً للمناعة النفسية في جسم النسان‪ ،‬وأّنكم‬ ‫استطعتم فرز خاليا الّدماغ أيضا ً من قبل‪ ،‬وأّنكم تعملون على تطويرها‪ ،‬أكثر مما‬ ‫طّورتموها؟!«‬ ‫»نعم أيها الديب فكالمي واضح جّدًا«‬ ‫»في الحمقيمقة هو واضح إلى حد يدفعني إلى عدم التصديق‪ ،‬فنحن حتى الن ل نعر ف أنه‬ ‫يوجد جهاز مناعي نفسي في الجسم‪ ،‬وبالتأكيد لم ولن نستطيع فرز خاليا الّدماغ لمعرفة‬ ‫الخاليا المخت ّ‬ ‫صة بالبداع وُنمقدم على تطويرها‪ ،‬يكفي أننا اكتشفنا كريات الدم البيض‪،‬‬ ‫وقد نمقوم بتطويرها بعد أل ف عام إن شاءت البساطير العظيمة التي لعن ت رّبنا ورب‬ ‫آبائنا! آخ لو أن الذات الُكلية تبعث إليكم ببسطار عظيم من عندنا لتعرفوا قيمة الحضارة‬ ‫الُبسطارية!«‬ ‫»أنا في الحمقيمقة لم أعد أفهم ما تمقصد أيها الديب؟!«‬ ‫»وهل من الضروري أن تفهموا كل شيء عندنا‪ ،‬نحن أيضا ً نتجاوزكم بآل ف العوام‬ ‫من الحضارة الُبسطارية!!«‬ ‫»مولي أنا لم أفهم أيضاً ماذا تعني بالحضارة الُبسطارّية؟!«‬ ‫»ل! أنتم ستفهمون أيتها الميرة‪ ،‬طالما تّوجني ملك الملو ك ملكا ً عليكم‪ ،‬ستفهمون حتما ً‬


‫يا معشر الجن!«‬ ‫كان شاهل بيل والسيدة سلمنار يضحكان دون أن يفهما جيدًا‪ ،‬هتف ت السيدة سلمنار لتشير‬ ‫إلى أنها قد فهم ت‪:‬‬ ‫»لمقد مّر كوكبنا بتخّل ف أكثر من التخّل ف الذي يعيشه كوكبكم الن أيها الديب لمقمان!«‬ ‫وهنا أراد الديب لمقمان أن يمقلب لها دماغها! فهو لم يخرج من حالته النفعالية التي تأتيه‬ ‫كنوبات بين يوم وآخر وأحياناً بين ساعة وأخرى‪ ،‬ليفمقد السيطرة على توازن ما ُيسّميه‬ ‫خ ّ‬ ‫طه الستوائي المتأرجح!‬ ‫»أنا كن ت أكذب عليكم أيتها السيدة سلمنار‪ ،‬كي ل تكتشفوا سر المعجزات الحضارية‬ ‫التي ويصل إليها كوكبنا‪ ،‬والّدليل على ذلك وجودي معكم‪ ،‬وتحليق الجن في السماء‪،‬‬ ‫ودعوة ملك الملو ك لبعض فتياتكم وشبابكم إلى غداء على المّريخ‪ ،‬وإذا تشائين الن أن‬ ‫تتناولي طعام الغداء على كوكب يبعد عن كوكبكم مليون سنة ضوئية ونعود قبل المساء‬ ‫فتف ّ‬ ‫ ت والسيد شاهل بيل كي تعرفا شيئا ً يسيراً من معجزات الحضارة‬ ‫ضلي‪ ،‬أن ِ‬ ‫الُبسطارّية!!«‬ ‫»وانمقلب رأ س السيدة سلمنار حمقًا‪ ،‬فراح ت تحاور الديب لمقمان بجدّية وإن أحّس ت أنه‬ ‫من غير الالئق أن يكذب عليهم ويّدعي أن كوكب الرض متخّل ف!‬ ‫»الحمقيمقة أيها الديب لمقمان أنني كن ت أظن أن كوكبكم متمقّدم علينا‪ ،‬خايصة بعد زيارتكم‬ ‫‪.‬ق إلى هذا المستوى من‬ ‫لنا‪ ،‬وتمكنكم من فك رموز لغتنا والتحّدث بها‪ ،‬نحن فعالً لم نر َ‬ ‫الحضارة‪ .‬ففي مجال الفضاء لم تستطع مرايصدنا إل رؤية الكواكب والّسدائم الواقعة‬ ‫على بعد أل ف مليون سنة ضوئية!!!«‬ ‫أح ّ‬ ‫س الديب لمقمان أنه ارتكب حماقة فظيعة‪ ،‬فمقد بدا شاهل بيل في حالة من الذهول‪،‬‬ ‫وبدلً من التوّق ف عن هذ ه الحماقات‪ ،‬راح الديب لمقمان يغر‪.‬ق فيها أكثر‪:‬‬ ‫»فمقط؟ أل ف مليون سنة ضوئية فمقط يا سيدتي‪ ،‬مرايصدنا نحن أحص ت حّبات الرمال‬ ‫الموجودة على كوكب يبعد عشرة آل ف مليون سنة ضوئية يا سيدتي‪ ،‬نعم عشرة آل ف‬ ‫مليون سنة عداً وهدرًا‪ ،‬وعرفنا أن يثمة كواكب تضّج بالحياة على بعد خمسمائة أل ف‬ ‫مليون سنة ضوئية‪ ،‬وأنا في طريمقي إليها فور انتهاء زيارتي لكوكبكم‪ ،‬وسأقيم على واحد‬ ‫منها‪ ،‬وأدعوكم لزيارتي أيضًا!!!«‬ ‫»لكن هذ ه إعجازات علمية أكبر من أن يتصّورها العمقل أيها الديب لمقمان!«‬ ‫»إنه إعجاز ُخرافة الحضارة الُبسطارّية يا سيدتي‪ ،‬وهو حمقا ً أعظم وأعمقد وأكبر من أن‬ ‫يستوعبه عمقل بشري‪ ،‬أو يصّدقه‪ ،‬عفواً مع احترامي الشديد لعمقولكم‪ ،‬وما بلغتمو ه من‬ ‫تمقّدم لبأ س به في مضمار الحضارة!!«‬ ‫بدت الدهشة الشديدة والذهول وهما يكتسحان وجهي شاهل بيل والسيدة سلمنار‪ ،‬إلى حد‬ ‫أدر ك فيه الديب لمقمان أنهما انزعجا‪ ،‬وأن الجو قد ينمقلب رأسا ً على عمقب بين لحظة‬ ‫وأخرى‪:‬‬ ‫»قولي لي يا سيدتي‪ ،‬أنتم ل تعرفون الكذب؟!«‬ ‫»نعرفه لكننا ل نمارسه ولم نعتد على سماعه‪ ،‬حتى أن الكلمة تكاد ُتلغى من قواميسنا!«‬


‫»والُمزاح أل تعرفونه أيضًا؟«‬ ‫»إذا كن ت تمقصد الكالم ال ّ‬ ‫طري ف فنحن نعرفه!«‬ ‫»ل‪ ،‬ليس الكالم ال ّ‬ ‫طري ف فحسب‪ ،‬يبدو أنكم ل تعرفونه أيضًا! هل تسمحين لي بتمقبيل‬ ‫يد ك؟«‬ ‫»لماذا؟«‬ ‫»لكي أعتذر!«‬ ‫»تعتذر عن ماذا أيها الديب؟«‬ ‫»سأقول لك بعد أن أقّبل يد ك!«‬ ‫ومّدت السيدة سلمنار يدها‪ ،‬نهض الديب لمقمان وانحنى‪ ،‬وأخذ يدها وقبلها‪:‬‬ ‫»أعتذر بشدة أيتها السيدة‪ .‬فمقد كن ت أكذب عليكما وأمزح معكما‪ ،‬من شدة غيظي‬ ‫وقهري!«‬ ‫راح شاهل بيل يضحك‪ ،‬فيما هي فتح ت فاها تعّجباً من هذا الكذب الموغل في الخيال‪،‬‬ ‫وظّل ت على هذ ه الحال للحظات إلى أن هتف ت‪:‬‬ ‫»لكن اسمح لي أيها الديب لمقمان فوجود ك معنا يثب ت أنكم متمقّدمون علينا فعالً ل قولً‬ ‫في مجال الفضاء!«‬ ‫»ل يا سّتي‪ ،‬فأنتم أرسلتم مركبات إلى كوكبنا أيضا ً لكنكم لم تتمكنوا من الّتوايصل معنا‬ ‫والتحدث إلينا‪ ،‬يثم إن طاقم مركبتنا جّني وليس إنسيًّا!«‬ ‫»حتى تمكنكم من تسخير الجن مسألة ليس ت سهلة وفي غاية التعمقيد‪ ،‬فنحن كدنا أن ننسى‬ ‫الجن!«‬ ‫»أتوسل إليك أن تظّلوا ناسيين‪ ،‬فهذ ه مسألة لها ُعالقة بالساطير والخرافات أكثر مما لها‬ ‫ُعالقة بالعلم!«‬ ‫»وما أدرا ك‪ .‬فمقد تكون الخرافة حمقيمقة وقد تكون علما ً يصرفًا؟!«‬ ‫»يبدو أننا سنبدأ يثانية من حيث انتهي ت في حواري مع السيد شاهل‪ ،‬لذا سأختصر لقول‪،‬‬ ‫يمكنك أن تعتبري ذلك علما ً وحمقيمقة‪ ،‬لكني أنا شخصياً عاجز عن إدرا ك حمقيمقتها‬ ‫وقوانينها العلمّية‪ ،‬ودعينا نكمل حوارنا حول تمقّدمكم أنتم!!«‬ ‫»ليكن أيها الديب لمقمان‪ ،‬لكن اسمح لي أن أقول‪ ،‬أنني لو لم أكن أعلم أن المعرفة هي‬ ‫أكبر من طاقتنا كبشر على إدرا ك أبعادها المطلمقة ليثار حوار ك معي‪ ،‬ووجود ك ووجود‬ ‫أعوانك معنا‪ ،‬فّي الجنون بالتأكيد!!«‬ ‫»أحمد ذاتكم الُكّلية لتفهمك معجزاتنا! هل في ممقدوري متابعة حواري مع السيد شاهل‬ ‫بيل؟«‬ ‫»بالتأكيد أيها الديب لمقمان«‬ ‫ارتفع ت موسيمقى يصاخبة في المطعم وجّن الراقصون من النس والجن‪ ،‬فعّلق الديب‬ ‫لمقمان‪:‬‬


‫»بالمناسبة‪ ،‬موسيمقاكم ورقصكم هذا يذكرانني بموسيمقانا الصاخبة ورقصنا الجنوني على‬ ‫كوكب الرض‪ ،‬يبدو لي أنكم في هذا المضمار لم تتجاوزونا أبدًا«‬ ‫»هذ ه موسيمقى للشباب والمراهمقين أيها الديب وليس ت لي ولك!«‬ ‫»حتى لو كان ت للطفال فأنا ل أحّبها‪ ،‬بل أشعر أنها تزعجني وتثير أعصابي«‬ ‫»هل أطلب إليهم أن يغّيروها؟«‬ ‫»ل‪ ،‬دعهم يمرحون فلن نفرض مزاجنا عليهم‪ ،‬يثّم يبدو أن الجن منشرحون لها أكثر‬ ‫منكم‪ .‬عن ماذا كنا نتحّدث سابمقًا؟!«‬ ‫»عن تطّورنا في علم الطب والجسد«‬ ‫»آ ه نعم! ماذا كن ت سأسأل؟ أجل! هل يعني تطّوركم هذا أيها العالم أنه في ممقدوركم أن‬ ‫تنجبوا العلماء والدباء والمبدعين متى شئتم؟!«‬ ‫»إلى حد ما نعم! نحن في طريمقنا إلى تحمقيق ذلك تمامًا!«‬ ‫»لو لم أحمل مسؤولية هذا الكوكب البائس‪ ،‬لطلب ت اللجوء النساني على كوكبكم‪،‬‬ ‫وأرح ت نفسي ِمن كّل هذا العناء!«‬ ‫»نحن نرّحب بك في أي وق ت!«‬ ‫»إذا ما فشل ت في تحمقيق أحالمي سأعود لعيش بينكم أيها العالم«‬ ‫»أهالً بك متى شئ ت«‬ ‫»أكمل لي حديثك عن الراعي الكبر أيها العالم‪ ،‬اضرب لي مثالً ملموسا ً عن فهمه‬ ‫وتطبيمقه للعدالة‪ ،‬وتفانيه في محبة النا س«‬ ‫»يثّمة نوع من الّسمك ل يأكل منه الراعي الكبر حتى الن لن أبناء الكوكب لم يأكلوا‬ ‫منه جميعاً لندرة وجود ه‪ ،‬ونعمل الن على الكثار منه بعد أن وجدنا المناخ المالئم‬ ‫لذلك!«‬ ‫»غير معمقول!«‬ ‫»ولماذا غير معمقول أيها الديب‪ ،‬يبدو أنكم ل تدركون على كوكبكم ما معنى أن يكون‬ ‫النسان راعيا ً أو زعيماً لمة‪ ،‬فلو كن ت مع أسرتك وأرسل لكم الجيران طبمقا ً يصغيراً من‬ ‫ال ّ‬ ‫طهي أل تفضل أولد ك على نفسك‪ ،‬وتتر ك حصتك الصغيرة لهم؟!«‬ ‫»ربما ممكن!«‬ ‫»رّبما؟! أنتم حمقّا ً ل تدركون معنى المسؤولية!«‬ ‫»نحن ل ندر ك؟ سامحتك الذات الكونية‪ ،‬فأولد بعض زعمائنا مث ً‬ ‫ال‪ ،‬حسابهم في البنو ك‬ ‫الخارجية أكثر من حساب آبائهم‪ ،‬انطالقا ً من المسؤولية التي يتحّملها الباء في تفضيل‬ ‫البناء وأفراد الشعب على أنفسهم! وقد ل تصّد‪.‬ق إذا ما قل ت لك أن بعض زعمائنا ل‬ ‫ينامون الليل من كثرة التفكير في مصير الشعوب‪ ،‬فمثالً تمقتضي الحرية أن يكون عدد‬ ‫السّجون عندنا أكثر من عدد الحدائق‪ ،‬وإل لن يعر ف المواطن معنى الحرية‪ ،‬ويمقتضي‬ ‫ضبط سلو ك الفرد في معظم أوطاننا أن يكون هنا ك رجل مخابرات لكل خمسة مواطنين‬ ‫على الكثر وإل لن يكون منضبطًا!‬ ‫يحق لك أن تضحك‪ ،‬لكن لبّد أن نلحق بكم‪ ،‬بل وسنتجاوزكم‪ ،‬وربما نستعمر كوكبكم‪،‬‬


‫فأنتم ل تمتلكون قوى خارقة خرافّية مثلنا‪ ،‬تصّور أن أّول عمل يصغير قم ت به‪ ،‬هو أنني‬ ‫جمع ت السلحة كّلها ووضعتها على المقمر خالل دقائق‪ ،‬وأمطرت على الكوكب ذهبا ً‬ ‫وماساً خالل دقائق‪ ،‬ويصعدت إليكم خالل دقائق‪ ،‬وذات دقائق سأنفخ في روح البشرّية‬ ‫على كوكبنا لتمقفز مائة أل ف عام إلى المام‪ ،‬وفي هذ ه الحال سنتمقّدم عليكم آل ف آل ف‬ ‫العوام!«‬ ‫»آمل ذلك أيها الديب‪ ،‬لكن إياكم أن تفّكروا في استعمارنا‪ ،‬فمقد استعمرنا بعضنا ما فيه‬ ‫الكفاية‪ ،‬وإذا ما فّكرتم بذلك‪ ،‬فلن نفهمه إل إغراقا ً في تخّلفكم!«‬ ‫»عفواً أن ت مِحق! إذ ل يعمقل أن نكون حينئذ متمقّدمين عليكم وتراودنا فكرة الستعمار‪،‬‬ ‫سنّتحد معكم‪ ،‬وبما أنني أنا من حّمقق هذ ه المعجزات الخارقة‪ ،‬يح ّ‬ ‫ق لي أن أرّشح نفسي‬ ‫لمنصب الراعي الكبر في الكوكبين وربما في الكواكب التي ل تعد التي سنوّحدها!«‬ ‫»أنا سأعطيك يصوتي حينئذ أيها الديب لمقمان«‬ ‫»أشكر ك‪ .‬آخ! يبدو أنني لن أذهب لنال قسطاً من الراحة أيها العالم‪ ،‬أريد أن أعر ف كل‬ ‫شيء‪ .‬وأن أرى كل شيء ويبدو أنني سأمكث عندكم أكثر مما توّقع ت إذا لم أغّير رأيي‬ ‫وأتابع رحلتي‪ .‬قل لي هل تحترمون المفّكرين من أجدادكم الوائل‪ ،‬وأنبياءكم ودياناتكم‬ ‫المقديمة؟«‬ ‫»طبعاً هذا شيء عادي‪ ،‬لكننا ل نمقّدسهم‪ ،‬نجّل العظماء منهم ونحترمهم‪ ،‬وخايصة من‬ ‫رقوا منهم بالفكر الديني إلى ذرى الُمطلق بحيث جعلو ه يمقترب من فكرنا الحالي‪ ،‬إننا‬ ‫ننظر إليهم نظرتنا الن إلى الراعي الكبر الذي ل يحتل مرتبة قدسّية رغم ما حمقمقه من‬ ‫منجزات عظيمة‪ ،‬ورغم سلوكه الراقي في المجالت المختلفة‪ .‬مثالً هو الوحيد بين‬ ‫زعماء كوكبنا الذي أمضى عمر ه مع زوجة واحدة‪ ،‬مع أنه خلص في بعض أبحايثه إلى‬ ‫أن من مارسوا الُحب مع نساء أكثر أو العكس عاشوا زمنا ً أطول‪ ،‬ومع ذلك ل يرى أحد‬ ‫مّنا أّنه يجب أن نف ّ‬ ‫ضله على الخرين ممن سبمقو ه وكانوا مولعين بالّنساء«‬ ‫»لكن الجميع يحّبونه ويحترمونه«‬ ‫»ل‪ ،‬يثمة من ل يحّبه ول يحترمه إلّ بمقدر ارتباطه معه بالذات الجمعّية والذات الكونّية‪،‬‬ ‫ومدى إحساسه بهذا الرتباط!«‬ ‫»هل ُيعاد تجديد انتخابه بعد الفترة الولى؟«‬ ‫»ل‪ ،‬هذا غير وارد في دستورنا‪ ،‬هي فترة واحدة غير قابلة للتجديد«‬ ‫»حّتى لو أ ّ‬ ‫يصر الشعب على بمقائه في سّدة الحكم؟«‬ ‫»حّتى الن لم يصر الشعب عندنا على بمقاء زعيم في سّدة الحكم‪ ،‬خالفا ً للدستور«‬ ‫»رّبما لن الشعب يخا ف عودة الدكتاتورّية!«‬ ‫»ل‪ ،‬هذا غير وارد‪ ،‬الشعب يريد التجديد الدائم‪ ،‬والبحث عّما هو أسمى وأجمل وأرقى!«‬ ‫»وماذا عن حدود الديممقراطّية‪ ،‬هل لديكم يصح ف معارضة مث ً‬ ‫ال؟«‬ ‫»بل ل يوجد لدينا إلّ يصح ف المعارضة‪ ،‬إذ ليس يثّمة يصحيفة خا ّ‬ ‫يصة بمجلس الّرعاية‪،‬‬ ‫فهو يعر ف أنه سينتهي بعد خمس سنوات ولن يعود يثانية إلى السلطة!«‬ ‫»فع ً‬ ‫ال‪ ،‬إن نظامكم حّيرني‪ ،‬وبماذا تعارض هذ ه الصح ف؟«‬


‫»ُكَلها تمقّدم رؤى جديدة لتطوير العلوم والداب والفنون وأجهزة إدارة الحكم«‬ ‫»أكثرها معارضة ماذا تريد؟«‬ ‫»إلغاء مجلس الّرعاية وإلغاء منصب الراعي الكبر«‬ ‫»وما البديل الذي تطرحه؟«‬ ‫»الال نظام والحرّية المطلمقة«‬ ‫»كي ف الال نظام؟ وما هي حدود الحرّية المطلمقة؟«‬ ‫»إن شئ ت رأيي‪ ،‬ل يوجد حياة خارج الّنظام‪ ،‬ول يوجد حرّية ُمطلمقة«‬ ‫»ومع ذلك أرى أّنكم قطعتم شوطا ً كبيراً في هذا المجال‪ ،‬بحيث قد يستحيل أن يأتي نظام‬ ‫موغل في المطلق أكثر منه«‬ ‫»إنهم يريدون إلغاء المسؤولية‪ ،‬وأن يفعل المرء ما ُيريد ه«‬ ‫»حتى في أن يمقتل؟«‬ ‫»ل طبعًا«‬ ‫»ماذا إذن؟«‬ ‫»مطاِلب يتعّلق معظمها بالمتعة الجنسية وإشباع الّرغبات وما إلى ذلك«‬ ‫»لكن كل هذ ه المسائل متحمقمقة في كوكبكم«‬ ‫»يثمة من يطالب بإلغاء الحياة المشتركة المحددة بين الّرجل والمرأة‪ ،‬إذ يعتبر هذا نوعا ً‬ ‫من الزواج‪ ،‬والزواج في نظر هؤلء مؤسسة فاشلة لُبد من سحمقها‪ ،‬وجعل الرجل يتمّتع‬ ‫بجسد أي امرأة يريدها وفي أي وق ت‪ ،‬وهذا ينطبق على الّنساء أيضًا‪ ،‬ويثمة من يطالب‬ ‫بمداعبة الصغيرات والصغار وما إلى ذلك حّتى لو كانوا في سن الّرضاعة!‬ ‫والفتضاض بدءاً من سن الثانية عشرة!«‬ ‫»قطعًا‪ ،‬لّبد أن يكون لهؤلء جذور كوكبّية أرضية‪ .‬هل ُهنا ك من يؤيدهم؟«‬ ‫»أقلّية ل تذكر«‬ ‫»لكن‪ ،‬أل يشّكل هؤلء نوعا ً من التحّزب؟«‬ ‫»ل!«‬ ‫»ومح ّ‬ ‫طات التلفاز والذاعات من يسيطر عليها؟«‬ ‫»عاملون من مختل ف الطرا ف‪ ،‬وهي مفتوحة للجميع‪ ،‬وأقل المتحّديثين فيها‪ ،‬هم مجلس‬ ‫الّرعاية والراعي الكبر!«‬ ‫»وإذا ما انتمقد أو شتم أحدهم الراعي الكبر أو مجلس الّرعاية عبر الذاعة أو التلفاز أو‬ ‫الصحافة‪ ،‬ماذا تفعلون له؟«‬ ‫»ل شيء‪ .‬فهذا من حّمقه‪ ،‬لكن لغتنا شّذب ت منذ زمن‪ ،‬ولم يعد فيها كلمات نابية كثيرة‪ ،‬يثّم‬ ‫إن فلسفتنا تح ّ‬ ‫ط من مكانة النسان كّلما تدّنى في لغته وسلوكه ووعيه‪ ،‬وترفع من مكانته‪،‬‬ ‫ُكّلما ارتمقى‪ ،‬على أية حال نحن نخطط لكي ل يكون لدينا خالل فترة قريبة إل النسان‬ ‫الكامل‪ ،‬بعد أن أيصبحنا نتحّكم بمعظم الجينات الورايثية والموّريثات الخرى‪ ،‬ومعظم‬ ‫خاليا الّدماغ والعصاب وما إلى ذلك«‬ ‫ونهض الديب لمقمان وهو يهت ف‪:‬‬


‫»سأذهب لرتاح وإ ّ‬ ‫ل سأجن بما حمقمقتمو ه من منجزات‪ ،‬لكن قل لي‪ ،‬ما الذي تستطيعون‬ ‫الن زراعته في جسم النسان من أعضاء؟«‬ ‫»كل شيء تمقريبًا!«‬ ‫»تمقول كل شيء؟«‬ ‫»تمقريبًا! حتى الّدماغ والخصيتين!«‬ ‫»هل هذا يعني أّن المجانين عندكم قد يزرع لهم أدمغة جديدة إذا ما فشلتم في عالجهم؟«‬ ‫»بالتأكيد«‬ ‫»لم يبق إلّ أن تمقول لي أّنكم تصنعون الدمغة؟«‬ ‫»طبعًا‪ ،‬لمقد أخبرتك قبل قليل أننا تدخلنا كثيراً في شؤون تطوير الدماغ‪ ،‬وفي المستمقبل‬ ‫المقريب لن يكون لدينا إل الدماغ الذي نريد«‬ ‫»ولن يبمقى أمامكم إل التحكم التام في خلق البشر!!«‬ ‫»هذا ما سنحمقمقه ذات زمن!«‬ ‫ ت‪ ،‬وأنا أشعر أّن دماغي لم يعد يحتمل‪،‬‬ ‫»قومي أيتها الميرة يجب أن نرتاح‪ ،‬فأن ت تعب ِ‬ ‫وكي أحتمل فيما بعد‪ ،‬ينبغي أن أبمقى مدركاً أنني أعيش في خيال‪ ،‬على أّية حال‪ ،‬لم تعد‬ ‫ُهنا ك قوة قادرة على إقناعي أن هذا واقع!«‬ ‫»أن َ‬ ‫ ت هكذا تنس ف كل ما تو ّ‬ ‫يصلنا إليه أيها الديب لمقمان!«‬ ‫»أنا لم أنس ف أيها العالم‪ ،‬أن ت أوغل ت في الخيال‪ ،‬حّتى أكثر مما يمقتضيه التوّحد مع الذات‬ ‫الكّلية!!«‬ ‫»ستعر ف أنني لم أوغل حين تدر ك أن النفس النسانية تتو‪.‬ق دوما ً إلى الكمال‪ ،‬إلى ما هو‬ ‫أجمل وأرقى وأسمى‪ ،‬وُكّلما قطع ت شوطاً في المعرفة تجاوزته إلى شوط آخر‪ ،‬وُكّلما‬ ‫عاش ت لحظة سعادة دّمرتها لتبحث عّما هو أجمل وأكثر سعادة منها‪ ،‬إنه سر هذ ه‬ ‫الصيرورة المعّمقدة بين الذات والطبيعة‪ ،‬أو بين الذات النسانية والذات الكونية‪ ،‬يمكنك‬ ‫أن تنصر ف أيها الديب!«‬ ‫وعاد الديب لمقمان ليجلس!‬ ‫»ماذا أرا ك جلس ت؟«‬ ‫»كم بوّدي أن أنصر ف‪ ،‬لو لم أجد نفسي مشدوداً إليك بأل ف حبل!«‬ ‫»سأقطعها لك أيها الديب!«‬ ‫»ل أظن أن في ممقدور ك أن تفعل ذلك أيها العالم‪ ،‬فهي حبال مسحورة! هل تريد أن تمقول‬ ‫لي أن الّسعي الدائم إلى ما هو أجمل هو دأب النسان عندكم؟«‬ ‫»نعم هذا يصحيح وأظن أننا تطّرقنا إليه أيها الديب لمقمان‪:‬‬ ‫»وما هو الجمل في نظر ك‪ ،‬أقصد متى يبلغ النسان ذروة الجمال والكمال؟«‬ ‫»حين يحمقق انسجامه الكامل مع الوجود!«‬ ‫»هل تمقصد اّتحاد ه بالذات الكلّية؟«‬ ‫»بل ذروة الكيفّية التي توّحد ه بالذات الكلّية‪ ،‬نحن نرى‪ ،‬أّن هذا الكون مسّير حسب نظام‬ ‫غاية في الدّقة‪ ،‬ولول ذلك ليصطدم ت ماليين الكواكب والنجوم واحدها بالخر‪ ،‬ودّمر‬


‫الكون وانته ت الحياة‪ ،‬وكل ما في هذا الكون من كائنات عدا النسان‪ ،‬حمقق انسجامه‬ ‫الكامل مع هذا النظام‪ ،‬ولم يشذ عنه إل النسان‪ ،‬الذي ما يزال يسعى لتحمقيق هذا‬ ‫النسجام!«‬ ‫»ولَِم شّذ عنه النسان دون باقي الكائنات؟«‬ ‫»لنه لم يمقبل بواقعه كما ُهو‪ ،‬أراد أن يحمقق انسجاما ً أرقى‪ ،‬أو توازنا ً متكافئا ً مع هذا‬ ‫النظام‪ ،‬فارتكب من الحماقات ما ل ُيحصى!«‬ ‫»ومتى سيحمقق النسان ذلك النسجام حسب رأيك؟«‬ ‫»رّبما خالل آل ف الّسنين‪ ،‬ورّبما خالل مئات الل ف‪ ،‬ورّبما خالل ماليين‪ ،‬ورّبما يدّمر‬ ‫نفسه ويدّمر الكون المحيط به دون أن يبلغ هذا الكمال من النسجام«‬ ‫»أشكر ك أّيها العالم‪ ،‬يبدو أنني سأنصر ف‪ ،‬لنال قسطا ً من الراحة رغم السئلة الكثيرة‬ ‫التي تلّح علّي‪ .‬يثمة سؤال أخير يتعّلق بالغاية التي تنشؤون عليها أجيالكم‪ ،‬فهل ينشأ‬ ‫النسان عندكم على أن غايته في الحياة هي البحث عن الكمال‪ ،‬أو لنمقل البحث عن‬ ‫السمى والجمل والكثر تكام ً‬ ‫ال‪ ،‬للويصول ذات يوم إلى أقرب حدود الكمال المطلق؟!«‬ ‫»بالتأكيد أيها الديب‪ ،‬وأظن أننا تطّرقنا إلى ذلك أيضًا‪ ،‬إنما بشكل آخر‪ ،‬والنسان عندنا‬ ‫دون هذ ه الغاية لن يكون إنسانًا! ل مجال بيننا للنسان الكسول الخمول المستكين إلى‬ ‫الماضي والَّسَل ف!«‬ ‫»وماذا عن متطّلبات الحياة‪ ،‬كالطعام والّشراب والّسكن والعمل والجنس وما إلى ذلك؟«‬ ‫»كل هذ ه المسائل حق طبيعي له وليس ت غاية‪ ،‬ل يوجد عندنا إنسان غايته أن يعمل‬ ‫ويأكل ويشرب ويتزّوج وينجب أولداً ويتعّبد لمعبود ما‪ ،‬لمقد مررنا بهذ ه الحمقبة منذ آل ف‬ ‫العوام‪ ،‬وقد تجد النسان عندنا يعمل في مهنة ل تحتاج إلى إبداع أو معرفة‪ ،‬لكنك إذا ما‬ ‫دخل ت إلى بيته ستجد فيه مكتبة قد ل تمقل عن مكتبتي‪ ،‬وقد يفهم في مختل ف مجالت‬ ‫المعرفة بمقدر ما أفهم أو أكثر!«‬ ‫»بالمناسبة هل تحددون النسل عندكم؟«‬ ‫»نعم‪ ،‬ل ُيسمح بإنجاب أكثر من طفلين عندنا‪ ،‬ومعظم المهات ل ينجبن أكثر من طفل«‬ ‫»لماذا تمقول المهات وليس الباء والمهات؟«‬ ‫»لن دور الباء عندنا يثانوي‪ ،‬إذ يثمة نساء ينجبن دون زواج أو من مضاجعة عابرة‪ ،‬أو‬ ‫يلمقحن أنفسهن في المختبرات«‬ ‫»وهؤلء الطفال إلى من ينسبون؟«‬ ‫»إلى أّمهاتهم في الغالب«‬ ‫»قل لي‪ ،‬هل تحمل المرأة عندكم تسعة أشهر؟«‬ ‫»ل‪ ،‬كان ت كذلك‪ ،‬لكننا عملناها يثمانية والن نحاول أن نعملها سبعة‪ ،‬وفي المستمقبل لن‬ ‫تكون أكثر من يثاليثة أشهر وكلما قصرت فترة الحمل كّلما زاد عمر النسان!!!«‬ ‫بدا الديب لمقمان وكأّنه سيجن حمقًا‪ .‬ألمقى نظرة على الميرة نور السماء وسألها‪:‬‬ ‫»نساء الجن أّيتها الميرة كم شهراً يحملن؟!«‬ ‫»تسعة يا مولي«‬


‫ونظر إلى رجل المعرفة وخاطبه بتوّسل‪:‬‬ ‫»يا رجل حّتى نساء الجن يحملن تسعة أشهر‪ ،‬أرجو ك‪ ،‬أستحلفك بذاتك الكونّية أو الكلّية‪،‬‬ ‫أن تكون واقعيا ً بعض الشيء‪ ،‬وأن ل تحّديثني بما ل يحتمله عمقلي الصغير‪ ،‬وأل تغرقني‬ ‫في الخيال أكثر مما أنا غار‪.‬ق فيه‪ ،‬بل أكثر مما يغر‪.‬ق فيه المجانين من بعض‬ ‫المؤّلفين!!«‬ ‫»المشكلة أيها الديب أّنك ترى الحمقيمقة خيالً ول تريد أن ترى الخيال حمقيمقة‪ ،‬وآمل أل‬ ‫يضيع عمقلك بينهما!«‬ ‫»أن ت تحّيرني حمقًا‪ ،‬لَِم تساءل ت بالمس عن الحمقيمقة والخيال حين تساءل ت عن حمقيمقتنا‬ ‫كجن وإنس على كوكبكم‪ ،‬ولَِم أجبتنا بما أجابتك به الميرة نور السماء حين تساَءلنا نحن‬ ‫فيما بعد عن حمقيمقة أو خيال ما يجري على كوكبكم؟«‬ ‫»في المّرة الولى كن ت أختبر مدى معرفتكم‪ ،‬وفي الثانية‪ ،‬أجبتكم على قدر فهمكم!!«‬ ‫»والن أيها العالم؟«‬ ‫»الن أجيبكم حسب معرفتي أنا‪ ،‬لذلك يصعب عليكم تصديمقي!«‬ ‫»وهل نحن الن حمقيمقة في نظر ك؟«‬ ‫»نعم‪ ،‬لكن بمقدر ما أنتم خيال!«‬ ‫»ل! غير معمقول! هّيا أيتها الميرة‪ ،‬دعينا نذهب‪ ،‬أعاهد ك أّيها العالم أنني لن أطر‪.‬ق‬ ‫حديث الحمقيمقة والخيال يثانية‪ ،‬وسأبذل كل جهدي لتصديق ما سأسمعه منك!«‬ ‫|‬ ‫)‪(7‬‬ ‫حرب جّنية وغزل كوني!‬ ‫لم يذهب الديب لمقمان إلى بي ت الضيافة‪ ،‬كان قلمقاً على كوكب الرض‪ ،‬فاقترح على‬ ‫الميرة نور السماء أن يذهبا إلى المركبة الفضائية لمتابعة أحوال كوكب الرض‪.‬‬ ‫وتناول الغداء ُهنا ك‪.‬‬ ‫وّدعا شاهل بيل والسيدة سلمنار على أمل اللمقاء بهما مساًء في حفل العشاء‪.‬‬ ‫أخذت الميرة نور السماء بيد الديب لمقمان وانطلمق ت به في السماء على مرأى السيدة‬ ‫سلمنار وشاهل بيل وبعض أبناء الكوكب الذين أيصيبوا بالدهشة من جّراء ما حدث‪ .‬فمقد‬ ‫انطلق أحدهما إلى جانب الخر وكأّنهما يصاروخان‪ ،‬وشّمقا عنان الفضاء بسرعة هائلة‬ ‫إلى أن نزل على سطح المركبة‪.‬‬ ‫تلّمقى الديب لمقمان النباء الواردة من كوكب الرض بارتياح نسبي شابهُ المقلق الشديد‪،‬‬ ‫فمقد خرج مئات الماليين من النا س بمسيرات دينية مهيبة سادها جّو الخشوع واليمان‪،‬‬ ‫وراح ت تطو ف شوارع مدن العالم مؤّيدة »رسل الخالص« والجراء الذي قاموا به‬ ‫بنزع سالح دول الرض‪ .‬وأقام مئات الماليين الصلوات للهتهم‪ ،‬في الكنائس والمساجد‬ ‫والمعابد والُكُنس‪ ،‬وعلى قمم الجبال وفي السهول‪ ،‬حتى أن معظم الّشعوب أمض ت الليل‬ ‫ُكّله على قمم الجبال وهي تنير الضواء وتشعل النيران وتوقد المشاعل وتمقيم ال ّ‬ ‫صلوات‬


‫وكأّنها تلّمق ت رسالة سماوية من آلهتها رغم تأكيد الديب لمقمان في رسالته إلى أبناء‬ ‫الرض على أن ما جرى كان من فعل بشر وليس من فعل آلهة‪.‬‬ ‫كان الديب لمقمان يتابع أخبار الكوكب وهو ينتمقل من مح ّ‬ ‫طة تلفزيونية إلى أخرى ويطلب‬ ‫إلى قائد المركبة أن يريه بعض المدن والعوايصم ليجزم بصّحة ما يجري‪ ،‬وهو يع ّ‬ ‫ض‬ ‫بأسنانه على شفته الّسفلى تارة وعلى إحدى ُسّبابتيه تارة أخرى‪ ،‬وقد أخذ المقلق ينتابه‬ ‫بعض الشيء‪.‬‬ ‫نظر إلى الميرة نور السماء وهت ف‪:‬‬ ‫»غريب تعّلق هؤلء البشر بالدين واللهة‪ ،‬هل ُيعمقل أّنهم لم يسألوا أنفسهم كي ف يتعّبدون‬ ‫لللهة مع أّنهم تلّمقوا رسالة من بشر؟ وعرفوا أن السلحة نزع ت من قبل بشر‪ ،‬وأن‬ ‫الجواهر التي أنزل ت على الكوكب كان ت بالتأكيد من فعل هؤلء البشر أنفسهم‍؟! حمقّا ً أكاد‬ ‫أعجز عن معرفة الكيفّية التي يفّكرون بها«‬ ‫»إنهم يعجزون عن تفسير ما يجري يا مولي فيعزونه إلى آلهتهم«‬ ‫»لكن ألم يسألوا أنفسهم أي إله منهم هذا الذي أوحى إلينا بما أوحى؟ لو أنهم يؤمنون بإله‬ ‫واحد لما أيثمقل ت دماغي بالسئلة‪ ،‬ولما احترت في تصرفاتهم وردود أفعالهم‪ .‬المسلمون‬ ‫يمقولون إن هذا من فعل إله محّمد‪ ،‬وأن الساعة آتية لريب فيها! والمسيحيون يمقولون أنه‬ ‫من فعل يسوع المسيح‪ ،‬وأنه عاد كما وعد ليخّلص البشرّية‪ ،‬واليهود يمقولون أنه من فعل‬ ‫ا وا هو »يهو ه« الذي خاطب موسى في مدين قائ ً‬ ‫ال‪» :‬أنا الّرب‪ ،‬وأنا ظهرت‬ ‫لبراهيم واسحق ويعمقوب بأني الله المقادر على كل شيء‪ ،‬وأما باسمي »يهو ه« فلم‬ ‫ُأعر ف عندهم!!« بم كان ُيعر ف إذن‪ ،‬بـ »إيل« الذي ماتزال أسماء مثل‪» :‬إسرائيل«‬ ‫و»جبرائيل« و»ميكائيل« و»إسرافيل« وغيرها ترتبط به؟! هل ُيعمقل أن يكون هذا الله‬ ‫هو الذي فعل معجزتّي نزع السالح وإنزال الجواهر؟! تصّوري‪ ،‬حتى الهنود يمقولون أّنه‬ ‫من فعل »بوذا« و»براهما« و»مهاويرا«‪ ،‬والصينيون يمقولون أنه من فعل »لوتس«‬ ‫و»كونفوشيو س«‪ ،‬والحال ذاتها مع شعوب الرض جميعًا‪ ،‬انصحيني أّيتها الميرة ماذا‬ ‫أفعل؟!«‬ ‫»ماذا يمقولون عني يا مولي؟«‬ ‫»اعتبر ك بعضهم حورّية من حواري الجّنة وقد أمر ك ا ببث رسالته إلى العالم بعد أن‬ ‫سيطر على أجهزة التصالت‪ ،‬تصّوري أن يحدث مثل هذا رغم تأكيدنا على أننا‬ ‫بشر؟!!!«‬ ‫»لكن يا مولي‪ ،‬إن شئ ت الحمقيمقة أّنه ل يوجد بشر إل أن ت‪ ،‬وأن ما جرى هو من فعل‬ ‫جن أكثر مما هو من فعل بشر!!!«‬ ‫»أنا أتحّدث عّما قلنا ه في الرسالة«‬ ‫»لن ُيصد‪.‬ق النا س أن هذ ه المعجزات هي من فعل بشر لستحالة ذلك عليهم!«‬ ‫»هل كان يجب أن أقول أنها من فعل جن كي يصّدقوا‪ ،‬هذا إذا اقتنعوا«‬ ‫»وا ل أعر ف يا مولي‪ ،‬لكن ما الذي ُيضير مولي في ذلك؟«‬ ‫»يستحيل أن تتحد شعوب الرض وهي تتبع مئات الديان والمذاهب‪ ،‬فإما إلغاؤها‪ ،‬أو‬


‫الستعاضة عنها بدين واحد يجمع فيما بينها‪ ،‬يأخذ من هذا الدين وذا ك ما هو أفضل‪ ،‬أو‬ ‫يستوحي دينا ً جديداً منها‪ ،‬والفضل أن يأتي فكر جديد يستوعب هذ ه الديان ويمقنع‬ ‫الشعوب بصوابه‪ ،‬وهو في الحمقيمقة موجود‪ ،‬لكنه يحتاج إلى يصوغ جديد وتعميم على‬ ‫النا س!«‬ ‫»تمقصد الفكر العلماني التنويري يا مولي؟«‬ ‫»أجل أيتها الميرة«‬ ‫»لعّلك أخطأت في يصوغ مفردات الّرسالة التي وجهتها إلى أبناء الكوكب«‬ ‫»هذا ما أفّكر فيه أّيتها الميرة‪ .‬يبدو لي أنني أخطأت في يصوغ بعض فمقراتها‪ ،‬فمقد‬ ‫فّكرت فيها على عجل‪ ،‬لكني أّكدت فيها على العلم والمعرفة والّرقي والمحّبة وعدم‬ ‫اليصغاء إلى رجال الكهنوت وغيرهم«‬ ‫»واختتمتها بأن دعوتهم إلى ما دعا إليه العظماء من آلهتهم وأنبيائهم ومصلحيهم!«‬ ‫»هل يمكن أن تكون هذ ه الفمقرة قد هدم ت كل شيء بذكر اللهة والنبياء والرسل‬ ‫والمصلحين؟!«‬ ‫»ممكن يا مولي‪ ،‬خايصة وأن الرسالة بُّلغ ت بطريمقة لم يمقدر عليها حتى اللهة من قبل!‬ ‫فمقد بُّلغ ت إلى جميع البشر بجميع لغاتهم‪ ،‬وليس بلغة واحدة كما في الديانات السماوية‬ ‫وغير السماوية!«‬ ‫»لكن هذ ه المسألة تحديداً كان يجب أن تدفعهم إلى إله جديد على القل!«‬ ‫»يبدو لي أن البشرية لم تصُح من هول ال ّ‬ ‫صدمة بعد‪ ،‬ولم يكن أمامها كرّدة فعل عفوّية‬ ‫غير العودة إلى دياناتها والتمّسك بآلهتها‪ ،‬لن ما جرى يظل في كل الحوال معجزات‬ ‫إلهية خارقة!«‬ ‫ ت محّمقة أّيتها الميرة‪ ،‬بماذا تنصحينني؟«‬ ‫»أن ِ‬ ‫»لتتر ك البشرية على كوكب الرض لبضعة أسابيع تفّكر وتعلل يا مولي إلى أن‬ ‫تصحو‪ ،‬وأن ت ترقبها بهدوء وترٍو من العالي‪ ،‬وبعد ذلك تمقرر ماذا ستفعل على ضوء‬ ‫ما سينجم عن يصحوتها!«‬ ‫»آ ه أيتها الميرة‪ ،‬لمقد أزح ت عن كاهلي عبئا ً يثمقيالً لبعض الوق ت‪ ،‬أشكر لك رجاحة‬ ‫عمقلك«‬ ‫»العفو يا مولي«‬ ‫»أظن أن بإمكاننا أن نأكل شيئا ً الن«‬ ‫»أمر مولي«‬ ‫كان الجميع في المركبة قد تناولوا طعام الغداء فلم ُيفرد إل مائدة للديب لمقمان والميرة‬ ‫نور السماء‪ .‬أفردت في حديمقة المركبة على جانب مسبح يصغير تحيط به وتعلو ه نوافير‬ ‫مائية أضف ت على الجو سحراً أّخاذًا‪ .‬وكان الطمقس حاّراً بعض الشيء‪ ،‬مما دفع الديب‬ ‫لمقمان والميرة نور السماء إلى نزع يثيابهما والبمقاء باللبسة الداخلية الخفيفة‪ ،‬فجلسا إلى‬ ‫المائدة كعاشمقين موّلهين‪ ،‬وراحا يضّمان واحدهما الخر‪ ،‬ويتبادلن العنا‪.‬ق والمقبالت‬ ‫والهمسات والضحكات‪ ،‬في طمقس ليس يثمة ما هو أجمل منه ول أمتع‪ ،‬ل أبهج ول‬


‫أعذب‪ ،‬فطاب بينهما الغزل‪ ،‬وراحا يجّذفان ليبحرا على ضفا ف الوله‪ ،‬ويغرقا في لّجة‬ ‫الغرام‪ ،‬فهمس الديب لمقمان في أذن الميرة نور السماء‪ ،‬بعد أن ألمقمها قطعة يصغيرة من‬ ‫فخذ حجٍل مشوي‪ ،‬وهي تلمقي رأسها على كتفه اليسر‪:‬‬ ‫»ل أظن أن يثّمة في الوجود من هو أكثر سعادة مّني‪ ،‬إّن هذ ه اللحظات الممتعة التي‬ ‫أمضيها معك‪ ،‬كافية لن تمحو عذابات العمر كّله وتحيلها إلى سعادة وهناء«‬ ‫ت كأّنه لح ٌن عذب‪:‬‬ ‫فهتف ت الميرة نور السماء بصو ٍ‬ ‫»لتظل نذر السعادة وبشائر الفرح محّلمقة في سماء مولي وُحّبي‪ ،‬وليهنأ قلبه بلذائذ‬ ‫العيش‪ ،‬وشغ ف المسّرة‪ ،‬ولتبعد عن نفسه حزائن التراح‪ ،‬وليعّم ظالم لياليه نور‬ ‫السموات‪ ،‬وضوء نهار ه أشّعة الّشمو س الكونيّ‍ة!«‬ ‫»ما أجمل الكلمات حين تنساب من شفتيك العذبتين شهداً يا مليكة قلبي‪ ،‬ما أجمل عينيك‬ ‫حين ترممقاني بلظى الشو‪.‬ق ودفق الحنان‪ ،‬ما أعذب روحك وهي تماهي بروحها روحي‪،‬‬ ‫وكأّن ا يحّل في قلبينا ويشطر نفسه إلى نصفين‪ ،‬نص ف لي ونص ف لك‪ ،‬ويناشدنا أن‬ ‫نحرص على وجود ه في جسدينا‪ ،‬نكل ه بدفق مشاعرنا‪ ،‬وأسمى خفمقات ُحّبنا‪ ،‬وملء‬ ‫نبضات قلبينا«‬ ‫»مولي وحّبي‪ ،‬لتهن الصعاب أمام خطا قدميك‪ ،‬ولترممقك اللهة بعيون المحبة‪ ،‬ولتسّخر‬ ‫قواها الّشمولية لتحمقيق أمانيك الّنبيلة‪ ،‬لتحرسك بكل قوى الكينونة الخفّية‪ ،‬ولُيفرد ظّلك‬ ‫على الرض كما في السماوات‪ ،‬وليمّجد اسمك كّل من في الكوان‪ ،‬ولترفر ف رايات‬ ‫محبتك مع سدائم كل النجوم‪ ،‬ولتذد الّشهب والنياز ك عن يصفاء عينيك‪ ،‬ولتمسح حورّيات‬ ‫الّسماء دموعهما التي طالما سال ت عطفا ً وحزنا ً وشوقا ً للبشر والمعّذبين«‬ ‫»حبيبتي‪ ..‬ل تغرقيني في بحار الُح ّ‬ ‫ب وغياهب الوَله‪ ،‬فأنا ظمئ إلى النسيان‪ ،‬والتفّيؤ في‬ ‫ظالل الرموش الهديبة‪ ،‬والوجنات التي ير ّ‬ ‫ ف وميضها بطي ف الهوى‪ ،‬فال تكِوني على‬ ‫قلب يصاغته الكينونة على تؤدة ذّرة ذّرة للمحّبة!!«‬ ‫»مولي وسّيدي‪ ،‬حّبي ونور عيني‪ ،‬ضيا قلبي ومهجتي‪ ،‬روحي وأحالمي‪ ،‬الّنسمات‬ ‫التي تداعب خصالت شعري‪ ،‬الحنّو الذي يغّل ف شغا ف قلبي‪ ،‬خذني إلى رحاب فؤاد ك‬ ‫الّدافق بالحنان‪ ،‬ضّمني إلى جوانح يصدر ك الّناسغ بروح الَّسرمدية‪ ،‬وامنحني قبسا ً من‬ ‫فيض ُحّبك‪ ،‬أطّل به على ُسهب الكوان«‬ ‫»يا مليكة روحي‪ ،‬كّلما ضممتك إلى يصدري سرت الحياة في جسدي قطرة قطرة‪،‬‬ ‫وغاب الفناء عن دخيلتي دهورًا‪ ،‬فدعيني أغر‪.‬ق في سرمدّية حّبك اللهي‪ ،‬ورّقة‬ ‫مشاعر ك الّسماوية‪ ،‬فكّلما نمقل ت رأسي من كتفك إلى كتفك الخر‪ ،‬أحسس ت بطي ف ُحبك‬ ‫ينمقلني من كون إلى كون‪ .‬وكّلما يصافح ت وجنتي نهداً من نهديك ضع ُ‬ ‫ ت في عالم‬ ‫الكوان‪ ،‬فارحمي قلبا ً ضعيفا ً ضاع بنهٍد كوني ل يرحم‪ ،‬تتدفق من مساماته أكاسير‬ ‫الحياة ينابيع وأنهارًا«‬ ‫وفيما كانا يتبادلن هذ ه الكلمات من الغزل الّرفيع‪ ،‬ويلتحمان بجسديهما ليكادا أن يصبحا‬ ‫جسداً واحدًا‪ ،‬قاطعهما يصوت قائد المركبة وقطع عليهما يصفاء خلوتهما وجمالها‪ ،‬حين‬ ‫هت ف‪:‬‬


‫»عفواً مولي ملك الملو ك لمقمان‪ ،‬عفواً أيتها الميرة نور الّسماء«‬ ‫فرفع الديب لمقمان رأسه عن رأ س الميرة ونظر بعينين هائمتين سارحتين‪ ،‬نحو قائد‬ ‫المركبة‪ ،‬فيما ظّل ت الميرة نور السماء ملتحمة بجسد ه‪ ،‬وُملمقية رأسها على يصدر ه‪:‬‬ ‫»ماذا أيها المقائد؟«‬ ‫»ملك الملو ك يا مولي في أزمة على كوكب مجهول‪ ،‬فمقد تعّرض لهجوم مباغ ت من‬ ‫قوى إلهية جّبارة‪ ،‬ويستأذنك باستخدام المقوة للدفاع عن نفسه وضيوفه«‬ ‫وحين سمع ت الميرة نور السماء كالم قائد المركبة‪ ،‬رفع ت رأسها عن يصدر الديب‬ ‫لمقمان دون أن تتكّلم‪:‬‬ ‫»أوضح لي كالمك أيها الرائد«‬ ‫»ايصطحب ملك الملو ك في دعوته إلى المّريخ قرابة عشرة آل ف إنسان من كوكب‬ ‫الزهرة‪ ،‬لكنه وجد الكوكب مأهولً وتخّو ف من حدوث مشاكل بينه وبين سّكانه‪ ،‬فذهب‬ ‫إلى المشترى فوجد ه مأهو ً‬ ‫ل بأقوام مجهولة‪ ،‬فانتمقل بضيوفه بالسرعة الخارقة الُعظمى‬ ‫وح ّ‬ ‫ط على كوكب بعيد مجهول‪ ،‬عليه بعض الحياة البدائية‪ .‬وفيما كانوا يرقصون‬ ‫ويمرحون‪ .‬فوجئوا بالفضاء على مسافة أميال منهم يعّج بآل ف المقوى اللهية المجّنحة‪،‬‬ ‫التي شرع ت في إيثارة العوايص ف نحوهم‪ .‬فسّخر ملك الملو ك قوا ه الّدفاعية بأن أقام‬ ‫أطواداً جبارة فعصف ت بها وهدمتها‪ ،‬فأقام أطواداً أكبر منها فعصف ت بها‪ ،‬وما يزال حّتى‬ ‫الن يمقيم الطواد أمامها وهي تعص ف بها وتهدمها وتتمقدم نحوهم بمقوى خارقة‬ ‫وعوايص ف عاتية ل يمقدر عليها غير اللهة‪ ،‬وإذا لم تتح له أن يستخدم قوا ه الهجومية‬ ‫التدميرية‪ ،‬فإّن هذ ه المقوى ستفتك بهم!«‬ ‫زفر الديب لمقمان تأففا ً وهو يدر ك أن ما كان متخّوفا ً منه قد حصل‪.‬‬ ‫»أليس أمامه أية وسيلة للهرب بضيوفه؟«‬ ‫»إّنه محايصر من كل الجهات يا مولي‪ ،‬وقد أقام حتى الن عشرين سّداً منيعا ً بين‬ ‫السماء وأرض الكوكب‪ ،‬فدّمرت جميعها‪ ،‬ومازال يمقيم السدود والحواجز والطواد‬ ‫الجّبارة لعاقة تمقّدمها‪ ،‬ولم يبق بينه وبينها غير بضعة أميال«‬ ‫»ألم يحاول التفاهم معها؟«‬ ‫»ليس هنا ك أي مجال للتفاهم يا مولي‪ ،‬إنها قوى شريرة ل ترحم!«‬ ‫»ما رأيك أيتها الميرة؟«‬ ‫»ارحمه يا مولي‪ .‬وأذن له باللجوء إلى قوا ه التدميرية‪ ،‬إّنه ينفجر غيظا ً وغضبا ً الن!«‬ ‫»أليس في ممقدوري أن أرا ه وأرى هذ ه المقوى أّيها الرائد؟«‬ ‫»يمكن ذلك إذا ما انتمقل ت إلى ممقصورة التصالت يا مولي«‬ ‫وهرع الديب لمقمان والميرة نور السماء إلى الممقصورة ليشاهدا الهول على الشاشة‪.‬‬ ‫كان ضيو ف ملك الملو ك يتمقوقعون على أنفسهم بين أشجار غابة‪ ،‬فيما يحاول ملك‬ ‫الملو ك ويصديمقاته الجنّيات تهدئتهم وطمأنتهم دون جدوى‪ ،‬وعلى مسافة بضعة أميال‬ ‫منهم‪ ،‬كان ت الطواد الهائلة التي ينصبها ملك الملو ك في طريق تلك المقوى تنهار تباعا ً‬ ‫وكأنها أكوام من الصفيح‪ ،‬وقد بدت تلك القوام للديب لمقمان أقرب ما تكون إلى السود‬


‫العمالقة المجّنحة‪ ،‬كان حجم الواحد منها بحجم جبل‪ ،‬وحين شاهدها أدر ك أنه ل مفَّر من‬ ‫استخدام قّوة تدميرية هائلة لردعها‪ ،‬فأعطى إشارته إلى ملك الملو ك‪ ،‬الذي كان يتوّسل‬ ‫يصارخًا‪:‬‬ ‫»مولي مولي! هل تمقبل أن تفتك قوى العداء بمو ّ‬ ‫ل ك وضيوفه؟!«‬ ‫وما أن أعطى الديب لمقمان إشارته حّتى أشار ملك الملو ك بحركة من يد ه ويصرخ‬ ‫يصرخة هائلة‪ ،‬فاندفع ت عوايص ف نارّية في اتجا ه هذ ه المقوى‪ .‬فأطلمق ت هي عوايصفها غير‬ ‫النارّية لمواجهتها‪ ،‬فايصطدم ت العوايص ف بعضها ببعض لتكتسح العوايص ف النارّية‬ ‫العوايص ف الخرى وتحرقها وهي تعص ف بها وتتمقاذفها في الفضاء في اتجا ه ُمطلمقيها‬ ‫لتحرقهم‪ ،‬لكن ما أن ُأحر‪.‬ق الفوج المهاجم من هذ ه المقوى‪ ،‬حتى فوجئ ملك الملو ك‬ ‫بظهور فوج آخر يمقذ ف العايصير الجّبارة المحّملة بالميا ه التي راح ت تطفئ العوايص ف‬ ‫النارية التي يطلمقها‪ ،‬فأمر ملك الملو ك قوا ه الجنّية بأن تهُ ّ‬ ‫ب أعايصير نارّية من خل ف هذ ه‬ ‫المقوى‪ ،‬ومن فوقها ومن أمامها وعن يسارها وعن يمينها وفي وسطها‪ ،‬فهّب ت أعايصير‬ ‫نارّية هائلة من كل مكان‪ ،‬وراح ت تلتهم كل ما يمق ف في طريمقها وكأنه هشيم‪ ،‬وتحيل‬ ‫الميا ه إلى نار حمراء‪ ،‬تفور ليتصاعد منها دخان ويمل عنان السماء‪ ،‬وسط يصراخ ملك‬ ‫الملو ك الذي ارتعدت منه الجبال‪ ،‬وزلزل ت منه بعض الكواكب والجرام‪ ،‬وهو يأخذ‬ ‫شكله الجّني!‬ ‫أدر ك ملك الملو ك أّنه هَزم هذ ه المقوى شَّر هزيمة وأبادها عن آخرها‪ ،‬فمقهمقه بملء فيه‬ ‫فرحًا‪ ،‬ليرتج الكوكب الواق ف عليه من شّدة قهمقهته‪ ،‬وراح يعلن وهو يدر ك أن الديب‬ ‫لمقمان يسمعه ويرا ه‪:‬‬ ‫»أشكر ك يا مولي إذ أتح ت لي أن أخوض حرباً ضد قوى خارقة وأنتصر عليها بيسر‬ ‫بعد يثاليثة آل ف عام من ظالم السجن«‬ ‫كان الديب لمقمان مايزال في غاية الدهشة والذهول لهول ما رأى‪ ،‬فهت ف مخاطبا ً ملك‬ ‫الملو ك الذي كان مايزال في شكله الجني الهائل‪:‬‬ ‫»حسناً أيها الملك‪ ،‬يكفيك الن هذ ه الحرب‪ .‬ايصطحب ضيوفك وعد إلينا‪ ،‬قبل أن تخرج‬ ‫إليك قوى ُأخرى قد تهزمك«‬ ‫»مولي‪ ،‬لمقد كان ت هذ ه على الغلب قوى آلهّية وهزمتها‪ ،‬فأّية آلهة يمكن أن تهزمني‬ ‫بعدها؟«‬ ‫»ما أدرا ك أنها قوى آلهية أيها الملك؟«‬ ‫»وهل يمقدر على هذ ه العوايص ف والعايصير التي دّمرت الطواد التي أقمتها أمامها غير‬ ‫اللهة أو عظماء الجن يا مولي؟«‬ ‫ّ‬ ‫»ربما يوجد آلهة وجن قادرون على تدمير الكوان كلها أيها الملك‪ ،‬فُعد قبل أن يظهر‬ ‫إليك أحدهم!«‬ ‫»مولي‪ ،‬لكن ضيوفي لم يتمّتعوا بعد كما أريد!«‬ ‫»يكفيهم الّرعب الذي أيصابهم‪ ،‬فسارع إلى إعادتهم قبل أن يتحّول يومهم إلى عزاء«‬ ‫»أمر مولي‪ ،‬سأكون عندكم فور انتهائهم من إعداد أنفسهم للعودة«‬


‫»كم تبعد عّنا أّيها الملك؟«‬ ‫»أعواني يمقولون أننا نبعد عنكم حوالي مائة أل ف سنة ضوئية يا مولي!«‬ ‫»ا يخرب بيتك يا بعيد! وهل أن َ‬ ‫ ت وايثق من أنك ستعود إلينا هذا المساء وقبل حفل‬ ‫العشاء؟!«‬ ‫»سامحتك اللهة يا مولي‪ ،‬ألم ننطلق من عندكم قبيل الظهيرة‪ ،‬وتأّخرنا بعض الوق ت‬ ‫على كوكبي المّريخ والمشتري؟«‬ ‫»لن يهدأ لي بال قبل أن أرا ك وأرى ضيوفك على الكوكب«‬ ‫»انتظر بضع دقائق ريثما يعّدون أنفسهم وستراني عندكم يا مولي«‬ ‫»سأنتظر ولن أغادر مكاني قبل أن أراكم ُهنا«‬ ‫أنهى ضيو ف ملك الملو ك الذين معظمهم من الفتيات‪ ،‬أنهوا تهيئة أنفسهم للعودة‪ ،‬فمقد‬ ‫حملوا أمتعتهم ووقفوا متأهبين وملك الملو ك يمق ف أمامهم‪.‬‬ ‫أشار ملك الملو ك بالحركة المعتادة من يد ه واختفى ليختفي الضيو ف جميعًا!‬ ‫فوجئ الديب لمقمان به يدخل عليه ممقصورة المركبة بعد لحظة هاتفًا‪ ،‬وقد أخذ شكله‬ ‫النسي‪:‬‬ ‫»السالم على مولي ملك الملو ك الديب لمقمان«‬ ‫نظر الديب لمقمان إليه وهو يدر ك أنه ما يزال يعيش هذا الكابو س الجميل منذ أن خرج‬ ‫عليه ملك الملو ك من المقممقم الذي عثر عليه في المقبر الذي أعّد ه لنفسه كي ينتحر فيه‪:‬‬ ‫»وعليك السالم أيها الملك‪ ،‬أين ضيوفك؟«‬ ‫»انظر من النافذة تراهم يا مولي«‬ ‫وألمقى الديب لمقمان نظرة عبر النافذة‪ ،‬ليرى آل ف الفتيات وبعض الّشباب يحملون‬ ‫حمقائب يصغيرة على أكتافهم وظهورهم ويخرجون من أرض المطار وكأن طائرة‬ ‫أنزلتهم للتو‪.‬‬ ‫»ما ل أفهمه أّيها الملك أّنك تستطيع العودة إلّي بهذ ه الّسرعة ول تستطيع الهرب‬ ‫بضيوفك من المقوى التي هاجمتك‪ ،‬هل لك أن تفهمني ذلك؟«‬ ‫»لّني محايصر من كل الجهات يا مولي حتى من الّسماء فكي ف سأتجاوزها؟«‬ ‫أطر‪.‬ق الديب لمقمان قلي ً‬ ‫ال‪ ،‬ويبدو أّنه اقتنع‪:‬‬ ‫»حسناً أيها الملك‪ ،‬أن ت تعر ف أنني ل أحب الحروب‪ ،‬وأتمّنى أل تمقع في أي مكان في‬ ‫الكون‪ ،‬ومع ذلك‪ُ ،‬أهنُّئك بانتصار ك على المقوى التي واجهتك«‬ ‫فأحنى ملك الملو ك رأسه وهو يهت ف‪:‬‬ ‫»أشكر مولي الذي أعر ف أنه لن يتر ك مو ّ‬ ‫ل ه ُيمقتل من ِقبل أية قوى ُمعادية دون أن يتيح‬ ‫له استخدام قوا ه الجّبارة«‬ ‫»هذ ه مسألة ليس ت في حاجة إلى تأكيد أّيها الملك‪ ،‬فأن ت يصديمقي وقد تعاهدنا على ذلك‪،‬‬ ‫ولن أسمح لّية قوة مهما كان ت أن تمقهر ك وتذّلك‪ ،‬طالما في ممقدوري وممقدور ك أن‬ ‫نواجهها‪ ،‬وإذا ل مناص من الحروب فلتكن! ما يؤلمني أنني ضعي ف أمامك‪ ،‬خا ّ‬ ‫يصة إذا‬ ‫ما احتج ت إلّي ذات يوم‪ ،‬ولم أقدر على مساعدتك‪ ،‬كي ف لي أن أمتلك قوى خارقة‬


‫تستطيع إنمقاذ ك في وق ت الضيق؟«‬ ‫»هذا ما سأعمل عليه يا مولي«‬ ‫»وهذا ما سأعمل عليه أنا أيضا ً إذا ما التمقي ت ا يومًا«‬ ‫»أشكر ك من أعما‪.‬ق قلبي يا مولي«‬ ‫»أنا لم أفعل لك شيئا ً حتى الن يستحق الّشكر أيها الملك«‬ ‫»أرجو ك يا مولي‪ ..‬لَِم هذا التفاني والتواضع؟«‬ ‫ي تفاٍن وأي تواضع أّيها الملك؟«‬ ‫»أ ّ‬ ‫»لَِم تنسى دائما ً أنك من أعادني إلى الحّرية؟«‬ ‫يصدفة وليس ت تفانيا ً أو تواضعا ً أو حّتى‬ ‫»أو ه أّيها الملك‪ ،‬ألم أقل لك أّنها كان ت مجّرد ُ‬ ‫محّبة؟«‬ ‫»ل يا مولي فكل شيء كان مرسومًا!«‬ ‫»كي ف أّيها الملك؟«‬ ‫»ألم أقل لك أن الملك سليمان أبلغني أّنه لن ُيفرج عني إلّ على يديك؟«‬ ‫»أجل أيها الملك«‬ ‫ت إلّي بمحض الصدفة‪ ،‬كان ممقّدراً لك أن تأتي إلى ُهنا ك«‬ ‫»إذن فأن ت لم تأ ِ‬ ‫»إذن فالفضل يعود إلى من ساقني إلى ُهنا ك«‬ ‫»ل يا مولي«‬ ‫»لماذا ل؟«‬ ‫»حين عثرت على المقممقم ألم يخطر ببالك أّنه قد يكون فيه جّني سجين؟«‬ ‫»بلى‪ ،‬ولم يخطر ببالي أي شيء آخر غير هذا أيها الملك!«‬ ‫»ومع ذلك فتح ت المقممقم يا مولي؟«‬ ‫»وهل تراني أتر ك سجيناً في سجن حمقير كهذا‪ ،‬وأنا لم أكر ه في حياتي شيئا ً أكثر من‬ ‫السجون‪ ،‬ولم أذ‪.‬ق المّرين إل في الّسجون؟«‬ ‫»مع أنك تفرج عن جّني قد يؤذيك يا مولي«‬ ‫»هذا ما تخّوف ت منه أيها الملك‪ ،‬ومع ذلك فتح ت المقممقم ببطء‪ ،‬إنما دون أي تردد كما‬ ‫أذكر«‬ ‫»هذا أن ت يا مولي‪ ،‬حين خلمقك ا‪ ،‬شاء أل يزرع في نفسك إل المحبة والخير وإحالل‬ ‫الحق‪ ،‬وجعل الشرور في غير ك‪ ،‬وإن كن ت أخا ف عليك يا مولي فال أخا ف إل من هذ ه‬ ‫الطيبة«‬ ‫»بل لتخ ف أيضاً من الشر الذي زرعه الخرون في نفسي‪ ،‬لكني متفائل أيها الملك‪ ،‬لبّد‬ ‫أن ينتصر الخير يوما ً فأّيام الشر لن تدوم«‬ ‫»آمل ذلك يا مولي‪ ،‬مع أنني متشائم وتراود نفسي الوساو س والشكو ك«‬ ‫ س عظيم بأن العالم ممقدم على الخير والمحّبة وإحمقا‪.‬ق‬ ‫»اطمئن أيها الملك‪ ،‬يخالجني إحسا ٌ‬ ‫العدالة«‬ ‫»آمل أن يكون إحساسك يصادقا ً يا مولي«‬


‫»والن هل تسمح لي قبل انصرافي أن أطلب منك طلبا ً وأز ّ‬ ‫ ف إليك نبأ يا مولي؟«‬ ‫»ماذا لديك أّيها الملك؟«‬ ‫»سنستغل مناسبة حفل العشاء في السماء هذا المساء ونمقوم بتتويجك رسميا ً ملكا ً على‬ ‫الجن الحمر بحضور الملو ك جميعاً ونمقيم لك وللميرة نور السماء حفل زفا ف ونتّوجها‬ ‫ملكة أيضًا!!«‬ ‫نظر الديب لمقمان إلى الميرة نور السماء التي كان ت تجلس بصم ت وخجل‪:‬‬ ‫»هل خططتما معا ً لهذ ه الليلة أيها الملك؟«‬ ‫»في الحمقيمقة يا مولي‪ ،‬كّنا نود أن نمقيم التتويج والّزواج على الكوكب الذي سنمقيم عليه‪،‬‬ ‫لكن نزولنا على الزهرة وحدوث مناسبة الحفل التي ستمقام‪ ،‬والتي ليس من السهولة‬ ‫تكرارها جعلنا نغّير رأينا«‬ ‫»سأكون سعيداً بإعالن زواجي من الميرة نور السماء أّيها الملك‪ ،‬لكني أشك في أنني‬ ‫سأكون سعيداً بتتويجي رسميا ً ملكا ً عليكم‪ ،‬فأنا ل ُأحب الملو ك‪ ،‬ول أطمح أن أكون ملكًا‪،‬‬ ‫ولم أعترض حين أعلن ت ذلك لعدم أخذي المر مأخذ الجد‪ ،‬ولن عالقتي بالجن كان ت‬ ‫وما تزال عبر ك أن ت«‬ ‫»هذا اليوم ستلبس المقالدة السحرية المطلسمة يا مولي‪ ،‬وتستطيع بعد ذلك أن تصدر‬ ‫أوامر ك إلى أي ملك من ملو ك الجن أو إلى ملو ك الجن الحمر جميعا ً دون أن تسألني‬ ‫رأيي«‬ ‫»وماذا سأفعل بمائة أل ف ملك يحكمون مائة أل ف جيش إن لم يكن مائة أل ف دولة؟«‬ ‫»يمكنك أن تستولي بهم على الكوان ُكّلها يا مولي«‬ ‫»لكن ليس لدي أية رغبة في الستيالء على أحد‪ ،‬وأف ّ‬ ‫ضل لو أنكم تعفوني من ذلك أيها‬ ‫الملك«‬ ‫»إنها رغبتي ورغبة الميرة نور السماء ورغبة ملو ك الجن جميعا ً بل ورغبة رعايانا يا‬ ‫مولي«‬ ‫»لكن ماذا بوسعي أن ُأقدم لكم‪ ،‬وكي ف أقدر على حّل مشاكلكم وأنا ل أعر ف عنها شيئا ً‬ ‫أيها الملك؟ يثم أل ترى أنه من الظلم أن يحكم إنسّي جنًّا؟!«‬ ‫»مولي‪ ،‬نحن نضع يثمقتنا بك ونجزم أنك لن تظلمنا‪ ،‬بل ولن نجد من هو أكثر عدالة منك‬ ‫ليحكم فيما بيننا بالعدل«‬ ‫»إّني أشّك في ذلك أيها الملك‪ ،‬فأنا لم أكن أعر ف فيما إذا كن ت عادلً حّتى بين أفراد‬ ‫ُأسرتي الصغيرة‪ ،‬فكي ف أعر ف أنني سأعدل فيما بينكم‪ ،‬خايصة وأنا ل أعر ف عن‬ ‫عدالتكم شيئًا«‬ ‫»مولي‪ ،‬لتكن عدالتك عدالتنا‪ ،‬ولتكن شرائعك قوانيننا‪ ،‬ولتكن أحكامك وتوجيهاتك‬ ‫ومفاهيمك ناموسا ً ونبراسا ً لنا«‬ ‫»ألن تجدوا في ذلك ظلما ً أيها الملك؟«‬ ‫»نحن نرضى بهذا الظلم يا مولي«‬


‫وأطر‪.‬ق الديب لمقمان للحظات يثم نظر إلى الميرة نور السماء‪ ،‬فرأى التوّسل في عينيها‪،‬‬ ‫وأح ّ‬ ‫س للحظات أنه يمكن أن يمقبل بالملكّية ولو من أجل عينيها!‬ ‫ُ‬ ‫»ليكن أّيها الملك‪ ،‬وآمل أن أقدر على أن أعدل فيما بينكم وأحمقق أمانيكم«‬ ‫وألمق ت الميرة نور السماء نفسها بين أحضانه‪ ،‬فضّمها إليه‪ ،‬فيما ملك الملو ك يهت ف‪:‬‬ ‫»عاش مولي العظيم«‬ ‫وراح الديب لمقمان يضحك وهو يملس على شعر الملكة المنتظرة نور السماء ويهت ف‬ ‫فيما الملك شمنهور يغادر‪:‬‬ ‫»وا لن تمقتلني إل بتعظيمك هذا أيها الملك«‬ ‫ولم يعّمقب الملك شمنهور على ما سمعه‪ ،‬فبادرت الميرة نور السماء إلى المقول‪:‬‬ ‫»أن ت لس ت ممن يمقتلهم التعظيم‪ ،‬لنك لس ت في حاجة إلى من يع ّ‬ ‫ظمك يا مولي«‬ ‫»ماذا تمقصدين أيتها الميرة؟«‬ ‫»أليس كالمي واضحا ً يا مولي؟«‬ ‫»هل تمقصدين أنني في قرارة نفسي أقتنع بذاتي كما أنا ول أطمح في أّية منايصب أو‬ ‫ألمقاب يصبغها علّي الخرون؟«‬ ‫»ويمكنني أن أضي ف إلى ذلك أّنك في قرارة نفسك ترى أّنك إنسان عظيم‪ ،‬وأن أي‬ ‫تعظيم لن يرقى إلى هذ ه العظمة التي تستشعرها في نفسك!«‬ ‫فوجئ الديب لمقمان بكالم الميرة الذي لم يعر ف كي ف تو ّ‬ ‫يصل ت إليه‪:‬‬ ‫»لنفترض أن وجهة نظر ك يصحيحة‪ ،‬أل يمكن أن يكون هذا غروراً َمَرضيًّا«‬ ‫»ل! ما لمسته حتى الن أّنه يثمقة عالية بالنفس وليس غروراً يا مولي«‬ ‫»كي ف لمس ت ذلك أيتها الميرة؟«‬ ‫»من يثق بنفسه‪ ،‬أو بعظمة نفسه وسمّوها إن شئ ت يا مولي‪ ،‬ل يشعر بالحاجة إلى‬ ‫التعظيم الهوج من أحد‪ ،‬ول يسعى إلى المنايصب الهزيلة في نظر ه والعظيمة في نظر‬ ‫الخرين‪ ،‬كمنايصب الّزعماء ملوكاً كانوا أم رؤساء‪ ،‬أباطرة‪ ،‬أو حتى أنبياء وآلهة!«‬ ‫»لكّني كن ت أحلم بأن أكون أديبا ً عظيما ً أيتها الميرة؟«‬ ‫»هذا حلم إنسانّي مشروع يا مولي‪ ،‬وليس طموحا ً في منصب أو سلطة«‬ ‫»وسلطة الدب على الّنفس أليس ت ُسلطة؟«‬ ‫»لكنها ُسلطة جميلة يا مولي‪ ،‬سلطة لن تسيء إلى أحد‪ ،‬ولن يكرهها أحد‪ ،‬سلطة تشّذب‬ ‫النفس وتسمو بها إلى الُعال«‬ ‫»المؤس ف أن تنصيبي ملكا ً سيمنعني من الكتابة«‬ ‫»ستجد وقتا ً لتكتب‪ ،‬سنعّين لك مئات المساعدين كي تتفّرغ للكتابة!«‬ ‫ ت تثيرين في نفسي الحالم المقتيلة‪ ،‬وتعيديني إلى اليام‬ ‫»آ ه ما أجملك أيتها الميرة‪ ،‬أن ِ‬ ‫الخوالي التي كن ت أعاني فيها من الّزمن الفايصل بين قلمي وخيالي!«‬ ‫»ماذا تمقصد يا مولي؟«‬ ‫»لم أكن أعر ف كي ف أوّفق بين بطء قلمي المقاتل وسرعة الضوء التي ينطلق بها عمقلي‪،‬‬ ‫فما أفّكر فيه في دقيمقة أحتاج رّبما إلى مائة سنة للتعبير عنه! ما يحزنني أنني سأموت‬


‫وأنا لم أكتب أكثر من واحد في المليون مما يدور في دماغي‪ ،‬وكثيراً ما أشعر أّن اللغة‪،‬‬ ‫أّية لغة مهما عظم ت‪ ،‬عاجزة عن التعبير عّما يدور تماماً في الخيال‪ ،‬أو يكتن ف أعما‪.‬ق‬ ‫النفس«‬ ‫»سنحاول أن نحّل هذ ه المشاكل قدر المكان يا مولي؟«‬ ‫»هل سنجد حالً لمقلمي الذي يسير ببطء النملة؟«‬ ‫»ببطء النملة يا مولي؟«‬ ‫»بل إن أبطأ أنواع النمل أسرع منه‪ ،‬لنني أكتب كل قِ ّ‬ ‫صة أو رواية يثالث مّرات‪،‬‬ ‫وبعض الفصول أكتبها أربع أو خمس مّرات‪ ،‬يثم إّنك لن تحتمليني إذا ما ُعدت إلى‬ ‫الكتابة!«‬ ‫»لماذا يا مولي؟«‬ ‫»لنني أكون كالمجنون وأعيش في عزلة شبه تاّمة لعّدة أشهر‪ ،‬وأحيانا ً سنوات!«‬ ‫»ولماذا تكون كالمجنون يا مولي«‬ ‫»لن الفر‪.‬ق بين الديب والمجنون شعرة واحدة!«‬ ‫»كي ف؟«‬ ‫»المجنون قد يبكي ويضحك ويغضب ويمار س العادة العلنية أمام النا س‪ ،‬أما الديب‬ ‫فيغلق باب غرفته على نفسه‪ ،‬ويشرع تارة في الُبكاء‪ ،‬وتارة في ال ّ‬ ‫ضحك‪ ،‬وتارة في‬ ‫الغضب‪ ،‬وتارة في ممارسة العادة السرّية مع أجمل جميالت الخيال الذي يجّسد ه‬ ‫عمقله!!«‬ ‫»وهل ستلجأ إلى هذ ه العادة وأنا إلى جانبك يا مولي؟«‬ ‫»أظن أنني لن ألجأ يا حبيبتي‪ ،‬لن خيالي لم يجّسد من هي أجمل منِك حتى الن!«‬ ‫»وماذا عن الفيلسو ف يا مولي؟«‬ ‫»الفيلسو ف يظّل واجما ً وساهمًا‪ ،‬فيبدو وكأّنه يحّد‪.‬ق في الجدران‪ ،‬أو يوِغل في المطلق‪،‬‬ ‫هذا إضافة إلى ما ذكرته عن الديب!«‬ ‫»أن ت ل توجم وتسهم؟«‬ ‫»كثيرًا! إلى حد أنني ألبس حذائي على »البجاما«‪ ،‬وأهّم للخروج من البي ت‪ ،‬لجد ابنتي‬ ‫تصرخ بي »سالمة عمقلك يا بابا هل ستخرج إلى الشارع بالبجاما؟« فأضحك على نفسي‬ ‫وأعود وأنا أدر ك أن الشعرة الفايصلة بين المجنون والديب قد بدأت تتجاوز حدود‬ ‫الدب‪ ،‬وأتمنى أل يحدث ذلك ذات يوم!«‬ ‫ودفن ت الميرة نور السماء رأسها في يصدر ه وهي تهمس‪:‬‬ ‫»ُأحب يصدقك يا مولي‪ ،‬لم أَر في حياتي من هَُو أيصد‪.‬ق منك‪ ،‬أشعر أحيانا ً وكأّنك طفل‬ ‫يتحّدث عن نفسه«‬ ‫»أنا طفل في الثامنة والربعين يا حبيبتي!«‬ ‫»أما أنا فطفلة عمرها سّتة آل ف عام يا حبيبي«‬ ‫»لكن كالمك عن العظمة والعظماء كالم خطير ول يمكن أن يصدر عن أطفال‪ ،‬ول‬ ‫أظن أنني سأسمع من بني الجن ما هو أخطر منه أيتها الميرة«‬


‫»أعر ف أّنه خطير يا مولي‪ ،‬لكن ليس عليك«‬ ‫»لكنه خطير على الزعماء والنبياء واللهة‪ ،‬فهم ل يشبعون من تعظيمهم‪ ،‬ول يكتفون‬ ‫بترديد آيات التعظيم والتكبير والتأليه حّتى لو رددت كل يثانية مدى سرمدّية الّزمن‪ ،‬ومن‬ ‫أفوا ه البشر والحيوانات‪ ،‬ومن أغصان الّنباتات!«‬ ‫»أجل يا مولي‪ ،‬إني أعر ف ذلك!«‬ ‫»ول تنسي أّنك الن مسلمة وينبغي عليك أن ترددي الّشهادتين خمس مّرات على القل‬ ‫في اليوم‪ ،‬وأن تصّلي ل والّنبي خمس مّرات في اليوم‪ ،‬وأن تطّبمقي فرائض الدين‬ ‫السالمي ا ُ‬ ‫لخرى«‬ ‫»أظن أنه يفترض في ا ومحّمد وهما بهذ ه العظمة أل يكونا في حاجة إلى شهادتي‬ ‫ويصلواتي‪ ،‬بل وأل يكونا في حاجة إلى شهادات ويصلوات الّنا س جميعًا!«‬ ‫ ت بهذا تلحدين أّيتها الميرة!«‬ ‫»أن ِ‬ ‫»بالعكس‪ ،‬أنا أدعوهما لن يكونا بمستوى عظمتهما‪ ،‬ول أظن أّن ُكّل من يمقول رأيه‬ ‫ُيصبح ملحداً يا مولي!«‬ ‫»أنا لم أقل إل رأيي‪ ،‬ومع ذلك اعتبرت من قبل بعضهم ملحدًا«‬ ‫»هؤلء جَهلة يا مولي!«‬ ‫»جهلة؟! أل تعرفين أيضا ً أّنك بمقولك هذا تطعنين في الديان‪ ،‬بل وتشيرين إلى ما ُيسّميه‬ ‫بعض أطباء المراض النفسّية عمقدة النمقص أو الّشعور بالّدونية ورّبما جنون العظمة عند‬ ‫بعض الّزعماء‪ ،‬بل عند اللهة والّرسل جميعًا‪ ،‬وتدعين إلى إلغاء الصلوات بل والمساجد‬ ‫والشهادتين وأركان السالم كلها‪ ،‬وبالتالي إلغاء السالم‪ ،‬والمسيحية واليهودّية وكل‬ ‫الديان!!«‬ ‫ّ‬ ‫»أجل يا مولي إني أطعن في الديان ُكلها وأشير إلى بعض الّسلبيات لدى آلهتها‬ ‫وأنبيائها‪ ،‬لكني ل أدعو إلى إلغائها بمقدر ما أدعوها إلى أن ترقى بوعيها وسلوكها إلى‬ ‫ذرى الكمال!«‬ ‫»الديان يثابتة ول تتغير أيتها الميرة‪ ،‬والنبياء قالوا ما لديهم وما أنزل عليهم‪ ،‬أو اّدعوا‬ ‫أّنه ُأنزل عليهم‪ ،‬ورحلوا‪ ،‬وليس في المكان إجراء أي تغيير‪ ،‬فإما أن نمقتنع ونظل‬ ‫مؤمنين‪ ،‬أو ل نمقتنع ونغدو ملحدين‪ ،‬ليس يثمة أي مجال للحلول الوسط«‬ ‫»وهل جاءت الديان من أجل اللهة أم من أجل البشر يا مولي؟!«‬ ‫»لنمقل أّنها جاءت من أجل البشر!«‬ ‫»إذا جاءت من أجل البشر‪ ،‬فلَِم ل يتدّخل البشر أنفسهم في بلورة مفاهيمها كي تتالءم مع‬ ‫ظرو ف حياتهم؟!«‬ ‫»لن اللهة والنبياء ل يمقبلون بذلك وإن ُذكر أن الّنبي محّمد قد قال أّن الّمة السالمّية‬ ‫في حاجة كل مائة عام إلى من ُيصلح لها أمور دينها«‬ ‫»إذن ليمقم اللهة والنبياء ديناً لهم في السموات وليتركوا من على الرض والكواكب وما‬ ‫تحتها وشأنهم!«‬ ‫وراح الديب لمقمان يضحك‪ ،‬فتساءل ت الميرة‪:‬‬


‫»لم تضحك يا مولي؟«‬ ‫»هل هذا قولك الفصل في مسألة الدين أيتها الميرة؟«‬ ‫»نعم يا مولي«‬ ‫»لكن إلى ماذا تستندين حين تبّتين في المسألة بهذا الطال‪.‬ق؟«‬ ‫»إضافة إلى ما قلته يا مولي‪ ،‬فإني أستند إلى أكثر من عشرين أل ف عام من استبدال‬ ‫اللهة‪ ،‬فعمري ستة آل ف عام‪ ،‬وعمر أبي أكثر من ايثني عشر أل ف عام‪ ،‬وعمر جّدي‬ ‫أكثر من خمسة وعشرين أل ف عام‪ ،‬وكل اللهة الذين عايشناهم‪ ،‬انتهوا إلى غير رجعة‪،‬‬ ‫وانته ت معهم مفاهيمهم وتعاليمهم‪ ،‬وكّنا نغّير معظم مفاهيمنا أو بعضها‪ ،‬مع اكتشا ف أو‬ ‫ظهور كل إله‪ ،‬ونمقول إن هذا هو الله الخير الحق‪ ،‬لنكتش ف بعد حمقبة من الّزمن أننا‬ ‫على خطأ‪ ،‬بل لنكتش ف أّن كل هؤلء اللهة انتهوا أو رحلوا ونحن بمقينا أحياء‪ ،‬مما يؤكد‬ ‫أنهم لم يكونوا آلهة‪ ،‬وأننا نحن الذين يصّدقناهم‪ ،‬أو أوجدناهم‪ ،‬أو تصّورناهم‪ ،‬أو رفعناهم‬ ‫إلى مراتب اللهة‪ ،‬بل ونحن من وضع سننهم وشرائعهم ورحنا نطّبمقها على أنفسنا‪ ،‬مع‬ ‫أّن بعضهم كانوا بشراً ضعفاء‪ ،‬وعاجزين عن فعل أي شيء ذي قيمة سامية!!«‬ ‫لم يصّد‪.‬ق الديب لمقمان أن الميرة نور السماء يمكن أن تكون متب ّ‬ ‫صرة إلى هذا الحد‪،‬‬ ‫فضّمها إلى يصدر ه بشّدة وهت ف‪:‬‬ ‫ ت بهذا التفكير الخير بدأت تمقتربين مّنا أيتها الميرة‪ ،‬ول أستبعد أن تنضّمي إلينا‬ ‫»أن ِ‬ ‫يومًا«‬ ‫»تمقصد المتنّورين يا مولي؟«‬ ‫»نعم«‬ ‫»بماذا أختل ف عنكم يا مولي؟«‬ ‫»نحن ل نمقتنع بوجود اللهة أيص ً‬ ‫ال أيتها الميرة‪ ،‬ونرى أن الحياة وجدت وحدها‪،‬‬ ‫وطّورت نفسها بنفسها‪ ،‬ولم يخلمقها أو يطّورها أحد‪ .‬أي أّن الوجود بحد ذاته لم يكن له‬ ‫غاية‪ ،‬وليس يثمة وجود آخر غير ه‪ ،‬سواء كان ذلك قبله أو بعد ه‪ .‬وما جاء من آلهة‬ ‫ت‬ ‫ومعبودين ليسوا أكثر من تصّورات وأفكار بدائّية أوجدها البشر‪ ،‬وحتى الجن كما أشر ِ‬ ‫ ت‪ ،‬خالل سعيهم الدائب للبحث عن سّر الخلق وما خل ف الوجود!!«‬ ‫أن ِ‬ ‫»لكنك قل ت أّنك ستسعى للمقاء ا‪ ،‬فكي ف تسعى للمقاء من ل تمقتنع بوجود ه يا مولي؟«‬ ‫»لعّلني أكتش ف أنني على خطأ ولو بنسبة واحد في البليون!«‬ ‫»وإذا ما اكتشف ت أنك على خطأ وأّن هنا ك إلهاً ما خل ف هذا الوجود‪ ،‬هل ستؤمن به يا‬ ‫مولي؟!«‬ ‫»إذا ما اقتنع ت بصدقه وعدالته ويصواب أفكار ه‪ ،‬سأكون أكثر المؤمنين به والمخلصين‬ ‫له«‬ ‫»تمقصد يصدقا ً وعدالًة ويصواب أفكار أفضل مما ويصل إلى البشر؟!«‬ ‫»بالتأكيد‪ ،‬فإذا كان ت الفكار والتعاليم المتناقضة التي ويصل ت إلى البشر‪ ،‬هي أفكار آلهة‪،‬‬ ‫فهذ ه مصيبة فظيعة‪ ،‬وأظن أنني لن أتأّنى عن هدم عروش هؤلء اللهة إذا وجدت إلى‬ ‫ذلك سبي ً‬ ‫ال!!«‬


‫»أظن أن لديك الن من المقوة ما يمّكنك من هدم عرش أي إله مستبد يا مولي!«‬ ‫»آمل ذلك أيتها الميرة‪ ،‬وآمل أن أتمّكن من هدم عروش الستبداد في دول الرض قبل‬ ‫أن أهدم عروش الستبداد في السماوات«‬ ‫»وكي ف ستهدهم كل هذ ه العروش دون أن تريق دما ً يا مولي؟«‬ ‫»طالما لدي قوى تمكنني من ذلك لن يكون المر عسيرًا«‬ ‫»هل اقتنع ت بفكرة الذات الكلية السائدة في كوكب الّزهرة؟«‬ ‫»حّتى الن ل‪ ،‬مع أّنها تزخر بكل ما هو عظيم وساٍم وخ ّ‬ ‫ال‪.‬ق«‬ ‫»ونظام الال نمقد والال دولة أو النظام بشكل عام؟«‬ ‫»أيضا ً حّتى الن لم أقتنع به‪ ،‬لكن ما حمقمقه هذا النظام من إنجازات حضارية وِمن ُرقي‬ ‫في الّسلو ك النساني‪ ،‬مسائل لبّد من التوّق ف عندها والتفكير فيها طوي ً‬ ‫ال«‬ ‫»أل ترى أّن فكرة الذات الكلّية تلتمقي مع الفكر العلماني بعدم اعتمادها مبدأ الخلق‬ ‫والخالق؟!«‬ ‫»أجل تلتمقي كثيرًا‪ ،‬لكنها تختل ف بإيجاد فكرة أو مبدأ الذات الُكّلية والذات الفردية‪ ،‬والذات‬ ‫الجمعّية«‬ ‫»أظن أن جلستنا طال ت يا مولي‪ ،‬وأن ت في حاجة إلى الّراحة‪ ،‬فأمامك حفل عشاء وحفل‬ ‫تتويج وحفل زفا ف!«‬ ‫»فعالً أيتها الميرة دعينا ننال هنا في المركبة قسطا ً من الراحة لنني تعب ت حمقًا«‬ ‫»لكن‪ ،‬أل يرغب مولي في دعوة بعض زعماء الرض وبعض أقاربه وأيصدقائه إلى‬ ‫حفل تتويجه وزفافه«‬ ‫»آ ه‪ ،‬فكرتك عظيمة لكنها جاءت متأخرة أيتها الميرة‪ ،‬كان يجب أن ُنفكر في هذا من‬ ‫قبل‪ ،‬لو ُكّنا نعر ف أنني سأتّوج وأتزوج‪ .‬كم كان بوّدي أن أدعو كلينتون وفيدل وميتران‬ ‫وميجر وكول ويلتسين ويصّدام والسد والحسن والحسين وخامنئي ومبار ك والمقذافي‬ ‫وفهد وعرفات وغيرهم‪ ،‬لكن الن‪ ،‬ل أظن أن هذا من الالئق قبل سويعات من بدء‬ ‫الحفل‪ ،‬قد نفعل ذلك في مناسبة قادمة!!«‬ ‫||||||||‬ ‫أقام ملك الملو ك الّدنيا وأقعدها‪ ،‬فمقد نصب روضا ً في السماء تمقّدر مساحته بآل ف الميال‬ ‫المرّبعة‪ .‬وأرسا ه على قواعد يصلبة شامخة‪ ،‬وقد أقامه فو‪.‬ق منطمقة شبه يصحراوية وخالية‬ ‫من السكان كي ل تحجب الشمس عن أبناء الكوكب‪ ،‬فيما لو أرادوا أن يبمقو ه بعد انتهاء‬ ‫الحفل‪ ،‬وقد أنزل ت منه آل ف آل ف المصاعد والساللم المتحركة للصعود والنزول‪،‬‬ ‫ووزع ت في ممراته آل ف أنواع الورود والّزهور ونباتات الزينة والشجار المثمرة‬ ‫وغير المثمرة‪ ،‬وسط آل ف النوافير الملونة التي كان ت ترّذ الماء في كل التجاهات‬ ‫لتتغّير ألوانه مرة كل يثانية من الزمن‪ ،‬ليظهر في أكثر من عشرين لونا ً متتابعًا‪ ،‬وكان‬ ‫يثّمة العديد من شاللت الميا ه الذهبّية التي تنحدر إلى العرش من الجهات الربع‪ ،‬وتتجّمع‬ ‫صة الرئيسية وتندفع من نوافير موّزعة حول من ّ‬ ‫في بركة من حول المن ّ‬ ‫صة العرش التي‬ ‫أقيم ت في منتص ف الّروض وُأحيط بها مسرح هائل فرش ت أرضيته بخشب البنو س‬


‫الهندي!‬ ‫وقد ُمّدت في الروض آل ف آل ف الموائد على أرضية من بالط المرمر تخللتها آل ف‬ ‫المسارح المعّدة للرقص‪ ،‬وقد حفل ت الموائد بكل ما لّذ وطاب وكّل ما يمكن أن يشتهيه‬ ‫المرء من طعام وشراب‪ ،‬ونصب عليها بعض المناظير الممقّربة لكي يتاح للذين يجلسون‬ ‫بعيدين عن منطمقة العرش عشرات الميال أن يرقبوا ما يجري عبرها‪ ،‬إذا لم يكتفوا‬ ‫بمشاهدة ما يجري على شاشات الّنمقل والبث الكبيرة التي بُّث ت في مختل ف أنحاء الّروض‬ ‫لتنمقل ُكّل ما يجري ضمن الّروض ُكّله بالصوت والصورة‪.‬‬ ‫وكان ت الرضّية ترتفع تدريجيا ً ُكّلما ابتعدت المسافة عن العرش كي يتاح للجميع الرؤية‬ ‫المباشرة إذا ما أرادوا‪.‬‬ ‫وقد انتصب العرش على قاعدة مرّبعة من حجر المرمر مجللة بالديباج وتوّسطه كرسيان‬ ‫من العاج المر ّ‬ ‫يصع بالجواهر النفيسة والمجلل بمخمل أخضر اللون‪ !،‬وسط سماء‬ ‫مكشوفة لم يعلوها إل آلت التصوير والل ف من الثرّيات الملّونة التي كان ت تتلل في‬ ‫سماء الّروض‪.‬‬ ‫وقد انتشرت في كل مكان بين الموائد وحول من ّ‬ ‫صة العرش وبين الورود والّزهور مئات‬ ‫الل ف من حورّيات الجن الفاتنات اللواتي ارتدين المالبس الحريرّية الطويلة الّشفافة‪،‬‬ ‫وعّرين أيديهن ويصدورهن وظهورهن‪ ،‬وكّن يتخ ّ‬ ‫طمن ُهنا وهنا ك وهن يعددن الموائد‬ ‫ويفردن أنواع الطعام والشراب‪ ،‬أو يضفين عليها لمساتهن السحرية لتبدو في أجمل‬ ‫شكل‪.‬‬ ‫ُبعيد الغروب‪ ،‬أوعز ملك الملو ك إلى مئات الل ف من بنات الجن وشبابهم أن يمقفوا على‬ ‫أبواب المصاعد والّساللم ومداخل الّروض ليستمقبلوا المدعويين‪ ،‬ويدّلوهم على أماكن‬ ‫جلوسهم‪ ،‬ومن كان مكاُنه بعيداً ُأعّدت له عربة سحرّية على شكل حمامة بيضاء ذات‬ ‫جناحين أخضرين لتمقّله إليه‪.‬‬ ‫وكان ملك الملو ك قد دعا إلى الحفل يثاليثاً من زوجاته السابمقات بينهن زوجته الولى‪،‬‬ ‫وبعض أولد ه وبناته والملو ك المائة أل ف وزوجاتهم بمن فيهم والدي الميرة نور السماء‬ ‫والميرة ظل المقمر التي قرر أن يتزوجها‪ ،‬كما دعا العشرة الكبار من ملو ك كل من الجن‬ ‫صفر والزر‪.‬ق والّسود والخضر وزوجاتهم‪ ،‬وكان ينوي أن يمقيم تحالفا ً معهم لكي‬ ‫ال ّ‬ ‫يكونوا عونا ً للجان الُحمر وللديب لمقمان‪ ،‬خا ّ‬ ‫يصة وأّنه كان يعر ف أن كبار الشياطين‬ ‫والبالسة هم من الجان السود‪ ،‬وكان يريد أن يكسب وّد هؤلء تحديداً أكثر من غيرهم‪،‬‬ ‫مع أنه ل يحّبهم لما يسمعه عنهم من أعمال شائنة‪ ،‬غير أنه كان يظن أنهم يمكن أن‬ ‫يمقّدموا عونا ً هاماً للديب لمقمان لمقدراتهم الخارقة‪ ،‬حتى في ممقارعة ُكّليي المقدرة من‬ ‫اللهة‪ ،‬وكان يثمة ما يكّدر يصفو ملك الملو ك‪ ،‬فمقد عر ف من الملك »حامينار« والد‬ ‫صفر الجّبار »دامردا س« كان قد طلب منه يد‬ ‫الميرة نور السماء أن ملك ملو ك الجن ال ّ‬ ‫الميرة نور السماء غير أنها أب ت الزواج منه متذّرعة بعدم رغبتها في الزواج‪ ،‬وحّبها‬ ‫للحرية ومسامرة من تشاء من الملو ك‪ ،‬فهدد بمقتلها أو شن حرب على الجان الحمر إذا ما‬ ‫سمع أنها تزوج ت من غير ه ذات يوم‪ ،‬ولشك أّنه سيفاجأ بزواجها من الديب لمقمان هذ ه‬


‫الليلة‪ ،‬ول أحد يعر ف ما الذي ستكون عليه حاله حين يراها تف ّ‬ ‫ضل إنسيّا ً عليه وعلى‬ ‫ملو ك الجّن جميعًا‪.‬‬ ‫وقد اقترح ملك الملو ك على الديب لمقمان أل يشار ك في استمقبال كبار الضيو ف‪ ،‬لن‬ ‫المر سيكون ُمرهمقا ً له‪ ،‬وتوّلى هو والملك حامينار والد الميرة نور السماء والعشرة‬ ‫الكبار من أتباعهما استمقبال كبار الضيو ف من كوكب الّزهرة ومن ملو ك الجن‪ ،‬بمن فيهم‬ ‫الملك دامردا س ملك ملو ك الجن ال ّ‬ ‫صفر الجّبار‪ ،‬وطالب يد الميرة نور السماء من أبيها‪.‬‬ ‫في المركبة‪ ،‬أقدم ت الميرة نور السماء وأربع من أميرات الجن الحورّيات‪ ،‬على تشذيب‬ ‫شعر رأ س الديب لمقمان وذقنه وشاربيه وأدخلنه الحّمام وحّممنه يثّم ضَّمخنه بأطايب‬ ‫المسك والعنبر وألبسنهُ ُحّلة ملكّية بيضاء من حرائر السماء‪ ،‬ووّشحنه بوشاح أخضر‬ ‫ُزّين بالزمّرد والياقوت‪.‬‬ ‫وقد ارتدت الميرة نور السماء حّلة بيضاء أيضا ً وتوّشح ت بوشاح أحمر ُزّين بالجواهر‬ ‫ذاتها‪ ،‬وزادت على ذلك بأن زّين ت أيصابع يديها ومعصميها وزنديها وعضديها وجيدها‬ ‫بأيثمن الجواهر‪ ،‬وعّلمق ت في أذنيها قرطين على شكل يثرّيتين من الما س الّنمقي‪ ،‬الذي ل‬ ‫تشوبه أية شائبة‪ ،‬وتطّيب ت بعطور نّفاذة تضّوع ت رائحتها الزكّية في المركبة كّلها وما‬ ‫حولها!!‬ ‫طلب الديب لمقمان ملك الملو ك ليسأله عّما إذا حضر النس والجن جميعًا‪ ،‬وعّما إذا‬ ‫أحسن الستمقبال لكبار المدعوين‪ ،‬فأبلغه أن المور سارت على ما يرام‪ ،‬ولم يخبر ه بِسّر‬ ‫الملك »دامردا س« لكنه أخبر الميرة نور السماء التي ف ّ‬ ‫ضل ت أن يبمقى المر سّراً على‬ ‫الديب لمقمان‪ ،‬كي ل ينشغل باله‪ ،‬وأشارت إلى ملك الملو ك أن يأخذ احتياطاته ويضع‬ ‫بعض جيوش الجن الحمر على ُأهبة الستعداد وأن يوكل إليهم حراسة الفضاء المحيط‬ ‫بكوكب الزهرة تحّسبا ً لية حماقات متهّورة قد يمقدم عليها الملك »دامردا س«‪ ،‬فأعلن لها‬ ‫أّنه احتاط لكّل شيء‪ ،‬مع أنه يستبعد أن يمقوم الملك دامردا س برّدة فعل طائشة وهو في‬ ‫ضيافتهم وبين ملو ك الجن وزعماء النس‪.‬‬ ‫تساءل الديب لمقمان قبل أن ينطلق موكبه إلى الحفل عّما إذا يتوّجب عليه مصافحة كبار‬ ‫الضيو ف‪ ،‬فأعلن الملك شمنهور أّن ذلك قد يستغر‪.‬ق معه يوماً بكامله‪ ،‬فمقال الديب لمقمان‪:‬‬ ‫»لكن ليس من المعمقول أل أيصافح الملك »حامينار« الذي سيزّوجني ابنته والراعي‬ ‫الكبر الذي ُأقيم الحفل على شرفه!«‬ ‫»هؤلء ستصافحهم بعد التتويج يا مولي‪ ،‬يثم إّنهم يجلسون على المائدة التي سنجلس‬ ‫عليها‪ ،‬وستحيي باقي الجماهير الجنّية والنسّية بيديك من على العرش الطائر الذي‬ ‫ستنطلق عليه إلى هنا ك‪ ،‬وسيحّلق فو‪.‬ق منطمقة الّروض كّلها«‬ ‫»قل لي‪ ،‬من يجلس أيضاً على المائدة التي سنجلس عليها أّيها الملك؟«‬ ‫»أنا وعشرة من كابر ملوكي وأربعة ملو ك ملو ك جن آخرين وأربعون ملكا ً من كبار‬ ‫ملوكهم وزوجاتهم‪ ،‬وبعض زوجاتي السابمقات وكبرى بناتي والميرة ظل المقمر‬ ‫والراعي الكبر وزوجته وشاهل بيل وزوجته ونائب الراعي الكبر وزوجته«‬ ‫»وكم تعداد هؤلء أيها الملك؟«‬


‫»قرابة مائتين يا مولي!«‬ ‫»ولَِم ل أيصافحهم قبل التتويج؟«‬ ‫»لنهم سيضطّرون إلى مصافحتك بعد ه وفي هذ ه الحال ستمضي ليلتك في‬ ‫المصافحات!«‬ ‫»أل ترى أّن المناسبة تستأهل ذلك؟ فلن أتّوج ملكا ً لملو ك الملو ك كّل يوم‪ ،‬ولن أتزّوج‬ ‫من أميرة حورّية ستغدو ملكة هذ ه الليلة كل يوم؟!«‬ ‫»يمكنك أن تفعل ما يُسر ك يا مولي!«‬ ‫»أرا ك زعل ت!«‬ ‫»ل يا مولي‪ ،‬إن ما يرضيك يرضيني!«‬ ‫»سأفعل كما رسم َ‬ ‫ ت أن ت أيها الملك فأن ت ُمصيب!«‬ ‫»شكراً يا مولي!«‬ ‫»هل يتوّجب علّي أن ألمقي كلمة ولو قصيرة بعد التتويج؟«‬ ‫»ُيف ّ‬ ‫ضل هذا يا مولي«‬ ‫»وماذا سأقول فيها أيها الملك؟«‬ ‫»هذا ما ل أخا ف عليك منه يا مولي!«‬ ‫»وا إني ل أخا ف شيئا ً أكثر من الكالم!«‬ ‫»اسم ا عندما يخرج من فمك يبدو جميالً يا مولي!«‬ ‫»رّبما لننا خصمان لدودان!«‬ ‫دخل ت فتاتان تحمالن تاجين مر ّ‬ ‫يصعين بالجواهر‪ ،‬هت ف الديب لمقمان‪:‬‬ ‫»ما هذا هل ستتوجنا منذ الن أيها الملك؟«‬ ‫»هذان تاجان عادّيان يا مولي‪ ،‬ستظهران بهما أمام المليارات من المدعوين‪ ،‬إذ ليس‬ ‫من الالئق أن نتر ك رأسيكما حاسرين على حالهما!!«‬ ‫أخذ الديب لمقمان تاج الميرة نور السماء ووضعه على رأسها‪ ،‬فأضفى على جمالها‬ ‫جمالً آخر‪ ،‬تأّملها الديب لمقمان للحظات وهت ف‪:‬‬ ‫»آ ه ما أجملك‪ ،‬ل أظن أن الملوكّية وجدت إل من أجلك‪ ،‬فهي ل تليق إل بك! ليتني‬ ‫حاول ت النتحار وأنا في عنفوان الّشباب ولم أنتظر حّتى خري ف الُعمر‪ ،‬كي أكون جديراً‬ ‫بك!!«‬ ‫فهتف ت الميرة نور السماء‪:‬‬ ‫يصلعك‬ ‫»وهل يهون عليك أن تدعني أنتظر قرابة يثاليثين عاماً لرى جمال شيبك ووقار َ‬ ‫ورزانة حضور ك ورجاحة عمقلك يا مولي؟«‬ ‫»وما جمال الّشيب ووقار ال ّ‬ ‫صلع ورزانة الحضور ورجاحة العمقل أمام عنفوان الّشباب‬ ‫أّيتها الميرة‪ ،‬لو عرفتني وأنا أسير في شوارع دمشق‪ ،‬ممشو‪.‬ق المقوام‪ ،‬مفتول‬ ‫العضالت‪ ،‬بارز »النهدين« طويل الَّشعر‪ ،‬مفتوح ال ّ‬ ‫طو‪.‬ق دارع الصدر‪ُ ،‬أعّلق بلدي‬ ‫مصلوباً على يصدري في سنسال يلت ف حول عنمقي وأتأبط بعض الكتب والحسناوات‬ ‫يالحمقنني ينشدن قربي ووّدي‪ ،‬لغّيرت رأيك!«‬


‫»ل أظن أنني كن ت سأغّير رأيي يا مولي!«‬ ‫وقطع حوارهما ملك الملو ك بصوته الفظ‪:‬‬ ‫»أعطني رأسك الن أيها الملك فمقد أدركنا الوق ت«‬ ‫واستدار الديب لمقمان هاتفًا‪:‬‬ ‫»ها ك رأسي أيها الملك‪ ،‬فمن الجدى له أن يغدو رأ س ملك على أن يظّل رأ س أديب‬ ‫يصر ما يدور فيه الّرقباء والمخبرون وسدنة الّسالطين!!«‬ ‫ُيحا ِ‬ ‫نظر الديب لمقمان إلى نفسه في المرآة فرأى التاج يتلل على رأسه فأيمقن أّنه غدا حمقا ً‬ ‫ملكًا‪ ،‬رغم هذا الُهتا ف اليمقظ في قرارة نفسه‪ ،‬الذي يذّكر ه دائما ً أّنه قطعا ً في ُحلم لن تكون‬ ‫له نهاية كما يبدو‪ ،‬فهت ف مخاطبا ً رأسه‪:‬‬ ‫»آمل أل تؤول إلى الُخواء والغرور‪ ،‬وتجنح إلى التسّلط والتكّبر والستبداد‪ ،‬أّيها الرأ س‬ ‫الذي طالما تصارع ت فيك الهواجس‪ ،‬وأيثمقلتك ُنبل الفكار!«‬ ‫فسارع ت الميرة نور السماء إلى المقول‪:‬‬ ‫»لن يؤول رأ س مولي إل إلى الكمال‪ ،‬ولن تأخذ ه يوما ً أّبهة الملو ك‪ ،‬مع أّني لم أَر من‬ ‫هو أبهى وأكثر مهابة من مولي بالّزي الملكي«‬ ‫»هذا ما يبدو لك أيتها الميرة‪ ..‬هل ننطلق إلى الحفل الملكي؟«‬ ‫»أجل يا مولي‪ ..‬كي ل نتأخر!«‬ ‫»هّيا إذن إلى العرش الطائر أّيتها الملكة!«‬ ‫|‬ ‫تتويج في السماء‬ ‫انطلق الموكب من المركبة على عرش طائر مكشو ف إضاءته كنور الّنهار‪ .‬وق ف الملك‬ ‫لمقمان والملكة نور السماء في وسطه فيما أحاطته يثماني من حوريات الجن بينهن الميرة‬ ‫ظل المقمر‪ ،‬وقد جلسن واضعات أيمانهن على خدودهن‪ ،‬وحّلق إلى جوانبه الربعة في‬ ‫أسراب منتظمة أربعمائة جّني يمتطون الخيول المجّنحة‪ ،‬وقد طار ملك الملو ك وبعض‬ ‫مرافمقيه ليسبمقوهم إلى روض الجنان‪.‬‬ ‫وما أن أطّل العرش الطائر على سماء الّروض حّتى ضّج ت السماوات الُعليا بمقرع‬ ‫ال ّ‬ ‫طبول وإطال‪.‬ق السهم النارية الملّونة بالماليين‪ ،‬ويصدح ت الموسيمقى من كافة أرجاء‬ ‫الكون وضّج ُكّل من في الّروض بالنهوض والتصفيق الحاد وزغردت حورّيات الجن‬ ‫فيما لّوح الملك لمقمان بيد ه وكذلك فعل ت الملكة نور السماء‪.‬‬ ‫راح العرش يحّلق في سماء الروض ماّراً فو‪.‬ق المدعوين‪ ،‬الذين نا ف عددهم على عشرة‬ ‫مليارات مدعو من الجن والنس‪ ،‬وُكّلما كان العرش يمقترب من مكان‪ ،‬كان تصفيق‬ ‫الموجودين فيه يزداد حّدة‪.‬‬ ‫صفر الميرة نور السماء‪ ،‬طار‬ ‫وحين شاهد الملك »دامردا س« ملك ملو ك الجن ال ّ‬ ‫يصوابه وامتل قلبه بالغضب وأح ّ‬ ‫س أّنه سيتفّجر غيظا ً وقهرًا‪ ،‬فانتفض في مجلسه وراح‬ ‫يهّز رأسه بشّدة حتى أح ّ‬ ‫س من كانوا يحيطون به بهول ما ألّم به دون أن يعرفوا السبب‪،‬‬


‫ماعدا بعض ملو ك الجن الذين كانوا يعرفون ق ّ‬ ‫صته‪ ،‬ولم تمر سوى برهة من الزمن حتى‬ ‫اندلع ت عوايص ف نارّية أحاط ت سماء كوكب الزهرة من كل الّنواحي‪ ،‬على مسافة ل‬ ‫تبعد أكثر من خمسين أل ف ميل عنه‪ ،‬فانتفض ملك الملو ك شمنهور الجّبار بدور ه‪ ،‬وقد‬ ‫ب في رأسه الجنون‪ ،‬فأمر جيوشه بأن ُته ّ‬ ‫د ّ‬ ‫ب العايصير الملتهبة في مواجهتها‪ ،‬فكان‬ ‫على ُبعد حوالي يثاليثين أل ف ميل من كوكب الّزهرة أن هدرت العايصير الشمنهورية‬ ‫الملتهبة في مواجهة العوايص ف الدامرداسّية النارّية وراحتا تنطلمقان بسرعات جنونية‬ ‫هائلة لمواجهة بعضهما‪ .‬وحين نظر الملك دامردا س إلى الملك شمنهور ورآ ه ينظر إليه‬ ‫هو والملك حامينار والد الميرة نور الّسماء‪ ،‬أيمقن أّنهما عرفا أّنه هو من يمق ف خل ف هذ ه‬ ‫العوايص ف النارّية الجبارة‪ ،‬فأشاح وجهه عنهما ليبعد الش ّ‬ ‫ك عن نفسه‪ ،‬فظّل ملك الملو ك‬ ‫يحّد‪.‬ق إليه ويبتسم بخبث‪.‬‬ ‫كّل هذا والنا س ومعظم الجن ل يدرون بما يجري‪ ،‬والملك لمقمان والملكة نور السماء‬ ‫يحّلمقان في سماء الّروض‪ ،‬لكن ما أن التمق ت العايصير بالعوايص ف على ُبعد حوالي‬ ‫أربعين أل ف ميل من الكوكب حّتى ارتّج ت السماء وأرض الزهرة وهدرت الّرعود‬ ‫وهوت الصواعق وتنايثرت الّشهب والنياز ك‪ .‬والتمع ت البرو‪.‬ق الهائلة‪ ،‬فنظر النا س‬ ‫والجن وإذا بالفا‪.‬ق البعيدة من حول الكوكب تلتهب بنار كونّية هائلة‪ ،‬فارتعب كثيرون‪،‬‬ ‫وأدر ك الملك لمقمان أّن يثّمة أمراً خطيراً يجري‪ ،‬فتساءل موّجها ً كالمه إلى الملكة نور‬ ‫السماء وهما يحّلمقان في سماء الّروض‪ ،‬فحاول ت الملكة نور الّسماء أن تمقلل من شأن ما‬ ‫يجري مع أّنها كان ت متخّوفة من أن يتحّول ليل الحفل إلى حرب ضرو س تحر‪.‬ق‬ ‫الخضر واليابس‪:‬‬ ‫»ليس يثمة ما يستوجب أن يشغل بال مولي‪ ،‬إنهم بعض ملو ك الجن يستعرضون قواهم‬ ‫يا مولي!«‬ ‫»ولَم لم يستعرضوها إلّ الن؟«‬ ‫»سأخبر ك فيما بعد يا مولي!«‬ ‫»لكني قلق أيتها الملكة‪ ،‬لمقد أحسس ت بالسماء ترتج‪ ،‬وها هو الفق أينما نظرت يلتهب‬ ‫بالنار وتتصاعد منه الّشهب‪ ،‬وكأن براكين قد تفّجرت فيه«‬ ‫»ل عليك يا مولي‪ ،‬فجيوشك تحر س السماوات حّتى إلى ما وراء حدود كوكب الزهرة‪،‬‬ ‫وليس يثمة قوة قادرة على تجاوز أعايصيرها النيرانّية الهائلة‪ ،‬فال تمقلق«‬ ‫وجاهد الملك لمقمان ليحتفظ برباطة جأشه فيما كان العرش يهبط في الروض وسط‬ ‫تصفيق الجميع وتحليق الُحرا س من الجن في السماء‪.‬‬ ‫أخذ الملك لمقمان بيد الملكة نور السماء ويصعدا بضع درجات تتبعهما الحورّيات الثماني‪،‬‬ ‫ليمقفا على العرش الروضي الذي كان يدور ببطء شديد كي يرا ه الحضور من كل‬ ‫الجهات‪ ،‬فيما جلس ت الحوريات على أطرافه وأعدن وضع أيديهن على خدودهن‪.‬‬ ‫يصعد ملك الملو ك والملك حامينار تتبعهما حورّيتان تحمالن تاجين ذهبيين مر ّ‬ ‫يصعين‬ ‫بالما س على طبمقين ذهبيين‪.‬‬ ‫عّر ف الملك شمنهور الملك لمقمان على الملك »حامينار« فتصافحا بحرارة والملك لمقمان‬


‫يهت ف‪:‬‬ ‫»إنه ليشّرفني ويسعدني هذا التمقّرب إلى أسرة جاللتكم أيها الملك«‬ ‫»إنه لفخر لنا ولسرتنا ولملو ك وأمم الجن الحمر قاطبة يا مولي«‬ ‫رفع ملك الملو ك التاج العادي عن رأ س الملك لمقمان ليتوّجه بالتاج الملكي ويلّبسه المقالدة‬ ‫السحرّية‪ ،‬فيما تّوج الملك حامينار الملكة نور السماء وسط وقو ف الجميع وتصفيمقهم‪.‬‬ ‫جلس الملك لمقمان والملكة نور السماء على كرسّيي العرش‪ ،‬وكان بريق الجواهر يشّع‬ ‫من رأسيهما من جّراء انعكا س الضواء عليه‪ ،‬فيما العرش يدور بهما ببطء ليتسّنى‬ ‫للجميع مشاهدتهما‪ .‬وقد وق ف ملك الملو ك والملك حامينار خلفهما‪.‬‬ ‫ما أن أنهى العرش دورته حّتى نهض الملك لمقمان وشرع في إلمقاء كلمة قصيرة بمناسبة‬ ‫التتويج‪:‬‬ ‫»يصاحبات الجاللة الملكات‪ ،‬أيصحاب الجاللة الملو ك‪..‬‬ ‫يصاحبات الّنيافة السّيدات‪ ،‬يصاحب المهابة الّراعي الكبر‪..‬‬ ‫يصاحبات المعالي العالمات‪ ،‬أيصحاب الّنامو س الُعلماء والدباء ورجال المعرفة‪..‬‬ ‫أيتها الحوريات الفاتنات‪ ،‬أيها الشباب العزاء‪:‬‬ ‫من المقلب أقول لكم أهالً ومرحبًا‪ ،‬وعميق شكرنا لتشريفنا بحضوركم‪ ،‬واسمحوا لي أن‬ ‫ُأحيي يصاحب المهابة الراعي الكبر‪ ،‬وأبناء كوكب الزهرة العظماء‪ ،‬الذين حّمقمقوا على‬ ‫كوكبهم معجزات حمقيمقية لم ير‪.‬ق إليها بشر معروفون حتى الن‪ ،‬وليستميحونا عذراً‬ ‫لستغالل الحفل الممقام على شرفهم لقامة حفلّي التتويج والّزفا ف‪.‬‬ ‫ضّج الروض بتصفيق حار استمّر لكثر من دقيمقتين على إيمقاع الموسيمقى‪..‬‬ ‫واسمحوا لي أّيها العزاء من أبناء الّزهرة‪ ،‬أن أهّنئ أبناء المم الجنّية‪ ،‬وملو ك المم‬ ‫الجنّية‪ ،‬ونساء وفتيات وحورّيات وشباب المم الجنّية‪ ،‬بإطال‪.‬ق سراح ملك الملو ك‬ ‫شمنهور الجّبار بعد يثاليثة آل ف عام من المقهر والحرمان في سجون الطاغية ُسليمان!!!‬ ‫وراح الجن يصّفمقون بأيديهم ويدّقون الرض بأرجلهم فرحًا‪ ،‬فيما ملك الملو ك يلّوح‬ ‫بيديه‪.‬‬ ‫وإّني أّيها الحّبة من أبناء الجن لعاهدكم‪ ،‬أل يبمقى جنّي في قممقم إذا ما استطعنا‬ ‫الويصول إليه ومعرفة مكانه! وإني لعاهدكم أيها الحبة بأن ينتهي عهد المقماقم‬ ‫والسجون إلى البد وأل يعود يثانية‪ ،‬وأن يوّلي عهد الّسجود والّركوع إلى غير رجعة«‪.‬‬ ‫ُجّن ت الجماهير الجنّية والنسّية وراح ت تصفق بأيديها وتد‪.‬ق الرض بأرجلها‪ ،‬وتطلق‬ ‫المفرقعات في الفضاء‪ ،‬فيما الفق البعيد يلتهب باحتدام الصراع بين العوايص ف‬ ‫والعايصير‪ ،‬وجعل الملك لمقمان الحناجر تبّح من الهتا ف حين يصرخ طالبا ً إلى الجماهير‬ ‫الجنّية أن تهت ف بعد ه‪:‬‬ ‫»فليسمقط سليمان! وعهد ُسليمان‪ ،‬إلى البد!!«‬ ‫انطلمق ت مئات الزغاريد من أفوا ه الحورّيات لتصاحب الُهتا ف‪ ،‬فيما اندفع النسّيون من‬ ‫أبناء الزهرة إلى الُهتا ف مع الجن‪ ..‬وما أن هدأ الُهتا ف حتى تابع الملك لمقمان‪:‬‬ ‫»وإّني أّيها الحّبة‪ ،‬يا من أوليتموني يثمقة أنا عاجز عن حملها‪ ،‬وتخالج نفسي الريبة بأن‬


‫كاهلي سينوء بها‪ ،‬لعاهدكم على أن أعمل على تغيير الصورة التي رسم ت لكم في‬ ‫أذهان أبناء النس وبعض الجن في كل الكواكب‪ ،‬لتحل محّلها يصورتكم الّنبيلة وأعمالكم‬ ‫الخّيرة«‪.‬‬ ‫اهترأت الك ّ‬ ‫ ف من التصفيق‪ ،‬وبّح ت الحناجر من الهتا ف‪ ،‬وهمس ملك الملو ك من خل ف‬ ‫الملك لمقمان‪:‬‬ ‫»وتمقول أنك ل تعر ف مشاكل أبناء الجن يا مولي؟«‬ ‫»وإني قبل أن أوّدعكم أّيها الحّبة لدعوكم لن تحيطوني علما ً بما ل أعرفه من مشاكلكم‬ ‫لعّلنا نستطيع معا ً وسوياً أن نجد الحلول لها‪ ،‬وإّنا على ذلك لمقادرون‪.‬‬ ‫وإني أيها الحبة‪ ،‬لدعوكم منذ اليوم إلى أن ترفعوا هاماتكم وأل تحنوا رؤوسكم لكائن‬ ‫أبدًا‪ ،‬وأل تسجدوا أو تركعوا لكائن أبدًا‪ ،‬بشراً كان أم إلهًا‪ ،‬جنا ً أو مالكًا!«‬ ‫وتوّق ف الملك لمقمان للحظات يرقب هيجان جماهير الجن والنس‪ ،‬التي راح ت تهت ف‬ ‫بملء حناجرها‪:‬‬ ‫»عاش ملك الملو ك لمقمان العظيم«‬ ‫فرفع الديب لمقمان يد ه‪ ،‬فتوّقف ت الجماهير‪:‬‬ ‫»بل قولوا عاش لمقمان رسول الحرية‪ ،‬عاش لمقمان رسول الخالص‪ ،‬لني سأدعوكم‬ ‫أيضا ً إلى نبذ تعظيم الّزعماء‪ ،‬فال عظيم بعد اليوم إل أنتم‪ ،‬ول مولى بعد اليوم غيركم«‬ ‫هاج ت الجماهير وماج ت كالبحار متالطمة المواج‪.‬‬ ‫»واتركوا أّيها الحبة كلمات التعظيم والتبجيل‪ ،‬نتداولها نحن الّزعماء فيما بيننا في‬ ‫المناسبات الّرسمية من قبيل اللياقة والحترام«‬ ‫»عاش لمقمان رسول الحرية‪ .‬عاش لمقمان رسول الخالص«‬ ‫»وأويصيكم أيها الحبة‪ ،‬أن تحّبوا بعضكم‪ ،‬وأل تدعوا الُكر ه يراود نفوسكم‪ ،‬وأل ُتكرهوا‬ ‫أخاكم على ما ل يرضا ه‪ ،‬وأن تتشاوروا فيما بينكم‪ ،‬وأن تأخذوا برأي الغلبية‪ ،‬وأن‬ ‫تسعوا إلى الحمقيمقة‪ ،‬وتبحثوا عن المعرفة‪ ،‬وتبدوا رأيكم في كل ما يتعّلق بحياتكم‪ ،‬وما‬ ‫يكتن ف الوجود من حولكم‪ ،‬وأل تدعوا للخو ف سبيالً إلى نفوسكم‪.‬‬ ‫وإني لويصيكم أّيها الحّبة بأبناء كوكب الّزهرة الذين أولوا ضيافتنا كل الكرم والّرعاية‪،‬‬ ‫فمّدوا أيديكم لهم كّلما دع ت حاجتهم إليكم‪ ،‬وكونوا لهم إخوة وعونا ً وسنداً في الّسراء‬ ‫ضراء‪ ،‬وأفيدوا من تجربتهم الخ ّ‬ ‫وال ّ‬ ‫القة‪ ،‬في الّسمّو بالحياة النسانية‪..‬‬ ‫عاش ت أمم الجن والنس!‬ ‫فهتف ت الجماهير خل ف الملك لمقمان مرّددة ما يمقوله‪.‬‬ ‫عاش ت وحدة الكواكب!‬ ‫عاش ت الحرّية‪ .‬عاش ت المحّبة«‬ ‫يصّفمق ت الجماهير طويالً بعد انتهاء الكلمة‪ .‬وبادر كبار المدعّوين إلى تهنئة الملكين‬ ‫بال ّ‬ ‫صعود تباعا ً إلى العرش وملك الملو ك يعّر ف الملك لمقمان على كبار ملو ك الجن‪،‬‬ ‫وكان آخر الناهضين للتهنئة الملك دامردا س والملو ك العشرة من أتباعه‪ ،‬وكان ت‬ ‫العايصير الملتهبة تخوض يصراعا ً مريراً مع العوايص ف النارّية‪ ،‬وقد أفلح ت في‬


‫احتوائها وجعلها تدور في فلكها إل أنها لم تتمكن من إيمقا ف هبوبها‪.‬‬ ‫وكان الملك دامردا س قد أضمر أن يشعل فتيل حرب ل تبمقي ول تِذر بمجّرد انتهاء‬ ‫مراسم التتويج‪ ،‬وقد استدعته ُأيصول الضيافة واللياقة الملكية ألّ ينصر ف دون أن يستأذن‬ ‫ويهّنئ الملك لمقمان بتتويجه‪.‬‬ ‫يصافح الملك دامردا س الملك لمقمان بوجه ُمتجّهم‪ ،‬ولم يصافح الملكة نور السماء التي‬ ‫كان ت تمق ف على أعصابها! وطلب على الفور الذن بالنصرا ف متذّرعا ً بانشغاله بشؤون‬ ‫ممالكه‪ ،‬فأدر ك الملك لمقمان أّن في المر شيئا ً رهيبًا‪ ،‬فاستوقفه هاتفا ً بحزم‪:‬‬ ‫»ليسمح لي يصاحب الجاللة الملك أن أبدي أسفي وعجزي عن الّسماح له وليصحاب‬ ‫الجاللة ملوكه بالنصرا ف ما لم نمقم بواجب ضيافتهم وإكرام ممقامهم الجاللي!«‬ ‫فوجئ الملك دامردا س بهذا التهذيب الجّم وجمال النطق مما لم يعتد على سماعه من‬ ‫معظم ملو ك الجن‪ ،‬فأجاب بلهجة مهّذبة بعض الشيء لكنها ل تخلو من استفزاز جعل‬ ‫دخيلة الملك شمنهور تضطرم بالنار‪:‬‬ ‫»ليسمح لي جاللتكم بإبداء شّكي في ممقدرته على إكرام ممقامنا ورأب ال ّ‬ ‫صدع الذي زرعه‬ ‫قومه في نفوسنا«‬ ‫أدر ك الملك لمقمان أّن المسألة في غاية الخطورة‪ ،‬وأن هذا الملك ربما ُأهين‪ ،‬وقد يبغي‬ ‫شيئا ً كبيرًا لرضائه‪ ،‬ربما ل يمقل عن مملكة من ممالك الجن الحمر‪ ،‬وأدر ك أن الحرب‬ ‫المستعرة في الفا‪.‬ق البعيدة بين العوايص ف والعايصير‪ ،‬لم يشعل فتيلها أحد غير ه‪:‬‬ ‫»اسمح لي أن أقول لكم أيها الملك العظيم أننا نحن معشر العرب من أبناء الرض ل‬ ‫يثير اللم في نفوسنا أكثر مما يثير ه إزعاج الضي ف أو إهانته‪ ،‬ول أظن أيها الملك العظيم‬ ‫أّني بتتويجي اليوم ملكاً على ملو ك الجن الحمر قاد ٌر على أن أتخلى عن إنسيتي وعادات‬ ‫آبائي وأجدادي‪ ،‬فإن أساء إلى شخصك‪ ،‬أو أهان ممقامك السامي أحد من قومي وأن ت في‬ ‫ضيافتي‪ ،‬فأخبرني‪ ،‬وإن شئ ت نصراً على عدو فاطلب لتجد جيوشي طوع يديك‪ ،‬وإن‬ ‫شئ ت نفوذاً أو جاها ً أو سلطة فإّني أضع جميع ممالكي تح ت نفوذ ك‪ ،‬وإن شئ ت دما ً فإني‬ ‫مستعّد لن أقّدم دمي قربانا ً على مذبح إكراِمك على أن تبرح ضيافتي متكّدراً غاضبا ً‬ ‫مهمومًا«‬ ‫أدر ك الملك دامردا س أنه أمام ملك عظيم إن لم يكن مجنونا ً أو مّدعيًا‪ ،‬فمقرر أن يختبر‬ ‫يصد‪.‬ق أقواله‪:‬‬ ‫»عفواً جاللة الملك‪ ،‬إن مطلبي لصغير أمام ما تعرضه من عظيم كرمك«‬ ‫»اطلب تنْل أيها الملك«‬ ‫»إّني لفي ريبة من أن يتراجع جاللتكم«‬ ‫»ُأشهد على نفسي جاللة الملك شمنهور وجاللة الملك حامينار‪ ،‬وجاللة الملكة نور‬ ‫السماء وأيصحاب الجاللة الملو ك العشرة من أتباعكم«‬ ‫»ولن تغضب جاللتكم؟«‬ ‫»بل سأكون سعيداً بتلبية طلب جاللتكم«‬ ‫ويصمم الملك دامردا س على طلب يد الملكة نور السماء التي أخذ قلبها ينبض بسرعة‬


‫شديدة فيما أخذ قلب أبيها وقلب ملك الملو ك يتأّججان غضبًا‪:‬‬ ‫»لمقد سبق لي وأن تمقدم ت بطلب يد الملكة نور السماء من أبيها‪ ،‬فأب ت مبدية عدم رغبتها‬ ‫في الزواج‪ ،‬إلى أن فوجئ ت هذا المساء بمقرانها من جاللتكم‪ ،‬إّنه ليشّرفني أيها الملك أن‬ ‫أتمقّدم بطلب يدها من جاللتكم«‬ ‫راَن يصم ت فظيع شمل جميع الواقفين على من ّ‬ ‫صة العرش‪ ،‬وبدا الملك لمقمان وَكأنّهُ لم‬ ‫ُيفاجأ إطالقاً بالطلب‪ ،‬ألمقى نظرة نحو الملكة نور السماء وابتسامة طفيفة مشحونة بالثمقة‬ ‫العالية بالنفس ترتسم على شفتيه‪ ،‬أدرك ت الملكة نور السماء مغزاها على الفور‪ ،‬فمّد يد ه‬ ‫إليها فأخذتها بيدها‪ ،‬فمقّدمها نحو الملك دامردا س قائ ً‬ ‫ال‪:‬‬ ‫»إّنه ليشّرفني وُيسعدني أن أهب جاللتكم قطعة من قلبي‪ ،‬ولو أنكم طلبتم قلبي نفسه‬ ‫وممالك الجن الحمر جميعًا‪ ،‬لكان ذلك أهون علّي‪ ،‬فهنيئا ً لجاللتكم بدّرة الكوان وفاتنة‬ ‫الزمان الملكة نور السماء‪ ،‬وإّني لمل أيها الملك أن تحيطوها برعايتكم‪ ،‬وتشملوها‬ ‫بعنايتكم‪ ،‬وتغمروها بفيض مشاعركم‪ ،‬وتصونوها بأهداب عيونكم!«‬ ‫ومّد الملك دامردا س يد ه ليأخذ بيد الملكة نور السماء ويمقّربها إليه ويوقفها إلى جانبه دون‬ ‫أن يفل ت يدها‪ ،‬وقد أدر ك‪ ،‬أنه أمام ملك عظيم لم يسمع عن مثيل لكرمه بين النس‬ ‫والجن‪ .‬فهت ف بصوت غاية في التأّيثر والنفعال فيما كان الصم ت يطبق على رؤو س‬ ‫الجميع‪:‬‬ ‫»إّني أيها الملك العظم لعجز عن إيجاد الكلمات الالئمقة بشكر ممقامكم الجلل‪ ،‬والّثناء‬ ‫على كرمكم العظيم‪ ،‬وإّني لو قّدم ت لكم ممالكي في المشر‪.‬ق والمغرب والسماوات الُعليا‬ ‫والُسفلى‪ ،‬وكل نسائي وكريماتي وجوار ّ‬ ‫ي‪ ،‬لما استطع ت أن أفيكم عظمة كرمكم‪ ،‬وشهامة‬ ‫نبلكم‪ ،‬لذا أعلن أمام مهابة جاللتكم بتشّرفي بمقبول هبتكم الملكة الجليلة نور السماء‪ ،‬التي‬ ‫هي حمقا ً ُدّرة الكوان وفاتنة الزمان‪ ،‬واتخاذها أختاً لي وشريكة في الحكم‪ ،‬ومالكة‬ ‫للمقالدة السماوية لقوام الجن ال ّ‬ ‫صفر‪ ،‬وتمقديمها في الوق ت نفسه هبة مني لجاللتكم لعّلني‬ ‫بهذا ُأقابل عظمة كرمكم بما تستحق أن يمقابلها أو يضاهيها‪ ،‬وحتى ل ُيمقال بين معشر‬ ‫الجن والنس‪ ،‬أّن الملك دامردا س‪ ،‬كافأ نبل الكرم وعظمته بما هو أقل منه ُنبالً وعظمة«‬ ‫وقّدم الملك دامردا س الملكة نور السماء نحو الملك لمقمان‪ ،‬ليأخذ بيدها يثانية وسط دهشة‬ ‫صعداء‪ ،‬وخمدت النيران التي كان ت تضطرم في أفئدتهم‪ ،‬وامتلت‬ ‫الجميع الذين تنّفسوا ال ّ‬ ‫نفوسهم غبطة‪ ،‬وأعجبوا بحكمة الملك لمقمان العظيمة التي فاق ت حكمة سليمان‪ .‬وحّل ت‬ ‫قضية كبيرة‪ ،‬وأوقف ت حربا ً كونّية مرعبة‪ ،‬وحّول ت ملكا ً جباراً من عدٍو لدود إلى يصديق‬ ‫ودود ونصير دائم خالل لحظات‪.‬‬ ‫وكان الملك شمنهور والملك دامردا س قد رفعا يديهما وأعطيا إشارة وق ف الحرب‪،‬‬ ‫فهدأت العوايص ف النارّية والعايصير الملتهبة التي كان ت تتصارع بجنون على مسافة من‬ ‫محيط كوكب الزهرة‪.‬‬ ‫عادت الملكة نور السماء لتأخذ مكانها إلى جانب الملك لمقمان الذي بادر إلى المقول‪:‬‬ ‫»إني حمقا ً لق ف عاجزاً عن النطق والتعبير عما يكتن ف نفسي‪ ،‬وأنا أتمقّبل من جليل‬ ‫عظمتكم أجمل دّرة عرفتها الكوان‪ ،‬فأّنى للغات أن تسمو بلواعج الّنفس حين تفيض‬


‫بعظائم المشاعر؟!«‬ ‫»إن عظمة كرمكم‪ ،‬كان ت خير تعبير عن فيض مشاعركم أيها الملك العظيم‪ .‬اسمحوا لي‬ ‫أن ُأعّبر عن فرحتي بتتويجكما‪ ،‬بإهداء الملكة نور السماء المقالدة الّسماوية‪ ،‬وإهدائكم‬ ‫صفر«‬ ‫المقالدة السحرّية للجن ال ّ‬ ‫ودون أن يسأل الملك لمقمان عن سّر هذ ه المقالدة‪ ،‬مّد عنمقه بعد عنق الملكة نور السماء‬ ‫ليلّبسه الملك دامردا س إّياها‪ ،‬غير أنه هت ف‪:‬‬ ‫»بَِم سأقدر على مكافأتكم أيها الملك العظيم؟«‬ ‫»يصداقتكم لي وزواجكم من ُأختي في العهد هي أكبر مكافأة أيها الملك«‬ ‫نزل الجميع عن من ّ‬ ‫صة العرش وانضموا إلى مائدة كبار الملو ك حيث يجلس الراعي‬ ‫الكبر وشاهل بيل والسيدة سلمنار‪ .‬وقد رغب الملك لمقمان في الجلو س إلى جانب‬ ‫الراعي الكبر‪ ،‬فأدر ك ملك الملو ك‪ ،‬أّنهما سيمضيان الليلة في الحوارات الفكرّية‪ ،‬فهت ف‪:‬‬ ‫»اسمح لي يا مولي‪ ،‬هذ ه الليلة ليلة فرح وسنحتفل أيضا ً بانعتاقي من الّسجن ولمقائي‬ ‫بزوجاتي وبناتي وأولدي وملوكي وممالكي‪ ،‬وليس بتتويجكما وزواجكما فمقط‪ ،‬ولن‬ ‫ندعكم أن ت والراعي الكبر والملكة نور السماء تمضونها في الحوارات الفكرّية‬ ‫والفلسفّية«‬ ‫لم يجد الملك لمقمان بُّداً من الذعان فجلس في مواجهة الراعي الكبر وزوجته‪،‬وكان إلى‬ ‫جانبيهما السيد شاهل بيل والسيدة سلمنار ونائب الراعي الكبر وزوجته‪ ،‬وبعض الكبار‬ ‫من ضيو ف النس‪ ،‬وجلس إلى يسار الملك لمقمان الملكة نور السماء فأبوها الملك‬ ‫حامينار فزوجته الملكة »شامنهار« فابنتهما الميرة ظل السماء‪ ،‬يثّم بعض الملو ك‬ ‫والملكات‪ ،‬وجلس إلى يمينه الميرة ظل المقمر‪ ،‬فالملك شمنهور‪ ،‬فزوجته الولى الملكة‬ ‫»نسيم الريح« فالملك دامردا س‪ ،‬فزوجته الملكة »ظل السحاب« فبعض الملو ك‬ ‫وزوجاتهم‪.‬‬ ‫ش جّرارة‪ ،‬من أمم الجن‬ ‫وما أن أخذ الجميع أماكنهم حتى عّم ت سماء الروض جيو ّ‬ ‫جميعًا‪ ،‬وكان كل جيش يمر محّلمقاً بعد الخر‪ ،‬تركب أفواج منه الخيول المجّنحة‪ ،‬وأفواج‬ ‫أخرى يحّلق جنودها بأجنحة‪ ،‬وأفواج تركب ال ّ‬ ‫ظباء‪ ،‬وأفواج تركب الّزرافات‪ ،‬وأفواج‬ ‫تحّلق دون أجنحة ودون أن تركب شيئًا‪ ،‬وتمقوم بألعاب بهلوانية في الفضاء‪ ،‬وحركات‬ ‫شيطانية وسط إضاءة ملونة باهرة وأسهم نارّية ساحرة‪ ،‬وأسما ك طائرة وغزلن رامحة‬ ‫وطيور في السماوات ُمغّردة‪ ،‬وجّن يأخذون أشكالً مختلفة‪ ،‬وموسيمقى فرحة تصدح من‬ ‫كافة الرجاء‪ ..‬وكان أكبر الفواج المحّلمقة‪ ،‬فوج الجن الّسود الذي أخذ شكله الجنّي‪ ،‬فبدا‬ ‫كل جنّي فيه بحجم جبل هائل‪ ،‬وحين مّر من فو‪.‬ق الروض‪ ،‬غ ّ‬ ‫طا ه من أقصا ه إلى أقصا ه‬ ‫وحجب الفق من كافة التجاهات‪ ،‬وكان أفراد ه يحملون بعض الكواكب والقمار على‬ ‫ظهورهم‪ ،‬فأدهشوا الجميع بجبروتهم!‬ ‫وتوال ت الستعراضات الجنّية في السماء فظهرت أفواج من الجن الخضر‪ ،‬أخذت شكل‬ ‫النس‪ ،‬وسارت في طوابير فائمقة النتظام وكأنها تسير على الرض‪ ،‬وكان يسمع لها‬ ‫وقع خطا مما أدهش الجميع!‬


‫أما آخر الفواج التي حّلمق ت في السماء فمقد كان ت أفواج الجن الزر‪.‬ق الذين عملوا العجب‪،‬‬ ‫فمقد حّلق السرب الول في شكل بشر يثابتين كاليصنام في يص ّ‬ ‫ ف مْنتظم‪ ،‬ودون أن تنم‬ ‫عنهم أية حركة‪ ،‬وهم يمقفون على أهبة الستعداد ويرتدون زيا ً عسكريا ً أزر‪.‬ق‪ ،‬تبعهم‬ ‫فوج من آل ف اليمامات الزر‪.‬ق التي حّلمق ت في مشهد منتظم أّخاذ فاردة أجنحتها دون أن‬ ‫تر ّ‬ ‫ ف بها‪ ..‬تال ه سرب من الحورّيات يحّلمقن طائرات بمالبس شّفافة بدت كلون البحر‪،‬‬ ‫وكّن يفردن أيديهن ويضممن أرجلهن‪ ..‬تالهن سرب من الفاعي العمالقة لهن رؤو س‬ ‫حورّيات وشعور طويلة كان ت متدّلية في الفضاء‪ ،‬فأدهشن الجميع بجمال وجوههن‬ ‫وطول قاماتهن الفعوانّية!‬ ‫واختتم العرض الّسمائي بمشهد غاية في الجمال‪ ،‬لكّل أنواع الحوريات ومن جميع‬ ‫طوائ ف الجن‪ .‬حورّيات في شكل جّنيات وحورّيات في شكل إنسي وحورّيات البحر‬ ‫اللواتي أجسامهن أجسام أسما ك ورؤوسهن رؤو س إنسّيات أو جّنيات‪ ،‬بعضهن بأجنحة‬ ‫وبعضهن بال أجنحة‪ ،‬وحورّيات لهن أجسام غزالت ورؤو س إنسّيات وحورّيات لهن‬ ‫ع ورؤو س جّنيات‪ ،‬وحورّيات لهن رؤو س إنسّيات وأجسام حمام وحورّيات‬ ‫أجسام أفا ٍ‬ ‫لهن رؤو س إنسّيات وأجسام خيول‪..‬‬ ‫وحين انته ت الستعراضات السمائية‪ ،‬وخال الجو إل من الُحّرا س والمرافمقين‪ ،‬أراد الملك‬ ‫لمقمان أن تحضر فرقة من حورّيات الجن للرقص‪ ،‬فنظر إلى ملك الملو ك‪ ،‬طالبا ً إليه أن‬ ‫يرفع العرش من مكانه كي تتسع يصالة الّرقص‪ ،‬فأخبر ه ملك الملو ك أّنه الن ليس في‬ ‫حاجة إليه بعد أن ارتدى المقالدة الّسحرية‪ ،‬ما عليه إل أن يشير بحركة من يد ه حّتى ينّفذ‬ ‫على الفور كل ما انتوا ه في عمقله‪ ،‬فلم ُيصّد‪.‬ق الملك لمقمان نفسه‪ ،‬إل بعد أن أشار بيد ه‬ ‫ليختفي العرش من المكان وتبدو يصالة المسرح المستديرة للعيان وقد أعّدت للرقص‬ ‫والمرح‪ .‬فأشار الملك لمقمان بحركة يثانية من يد ه لتظهر على المسرح مائة فاتنة من‬ ‫الجّنيات الحوريات‪ ،‬بالزياء الحريرّية الّشفافة المقصيرة رافالت‪ ،‬وعن الكتا ف والّنهود‬ ‫والفخاذ حاسرات‪ ،‬طويالت الّشعور‪ ،‬نحيالت الخصور‪ ،‬موّردات الخدود‪ ،‬جامحات‬ ‫ش سابالت‪ ..‬ووجاٍن ناعسات‪،‬‬ ‫النهود‪ ،‬كحيالت العيون‪ .‬في ظالل الجفون‪ ،‬برمو ٍ‬ ‫شامخات النو ف‪ ،‬رقيمقات الّشفو ف! غزلنيات العنا‪.‬ق‪ ،‬يصغيرات الشدا‪.‬ق‪ ،‬كاعبات‬ ‫ال ّ‬ ‫صدور‪ ،‬آسرات الُخصور‪ ،‬مكتنزات الردا ف‪ ،‬ظبيانّيات الظال ف‪.‬‬ ‫أفخاذهن ممتلئات‪ ،‬وسيمقانهن ممشوقات‪ ،‬وركبهن بآيات الجمال ممسوحات‪.‬‬ ‫المخفي منهّن أعظم من كل عظيم‪ ،‬من خلمقة إله ذّوا‪.‬ق أو شيطان رجيم!!‬ ‫رحن يتهادين على المسرح كاليمام‪ ،‬ويتمايلن يمنة ويسرة بانسجام‪ ،‬يتخ ّ‬ ‫ت‬ ‫طمن كحجال ٍ‬ ‫شاردات‪ ،‬ويتمقافزن كظبيات جافالت‪ ،‬يمقبلن كأطيا ف الحالم‪ ،‬ويدبرن كأنواٍر في ال ّ‬ ‫ظالم‪،‬‬ ‫ففتّن برقصهن الحضور‪ ،‬وبجمالهن الملك شمنهور‪ ،‬الذي أخذ ِدنّا ً من الخمر وشرب‬ ‫نخب الملك لمقمان‪ ،‬يثم همس يخاطبه‬ ‫»أستحلفك بنور السماء وبكل أقوامك من الجن يا مولي كي ف أحضرت هؤلء الفاتنات‪،‬‬ ‫ل أذكر أنني في حياتي طلب ت راقصات من الجن‪ ،‬إل وقل ت لهم‪ ،‬ائتوني بأجمل‬


‫الراقصات‪ ،‬فلم يحضروا من هُّن أجمل منهن«‬ ‫راح الملك لمقمان يضحك وهو يهت ف‪:‬‬ ‫»هذا سر المهنة أّيها الملك!«‬ ‫فغَر الملك شمنهور فمه دهشةً وحيرةً وهو يكاد أل يصّد‪.‬ق ما يسمعه‪:‬‬ ‫»هل بدأت تفهم في أسرار الجن أكثر مّني يا مولي؟«‬ ‫»ل! العفو أيها الملك«‬ ‫»أين الّسر إذن؟«‬ ‫»لمقد أملي ت عليهم موايصفات جمال الراقصات اللواتي أريدهن وأعمارهن وأطوالهن‬ ‫واللبا س الذي يرتدينه والّرقص الذي يؤدينه«‬ ‫أطر‪.‬ق الملك شمنهور للحظة يفّكر‪.‬‬ ‫»هل فعل ت كل هذا خالل تلك اللحظة التي أشرت بيد ك فيها يا مولي؟«‬ ‫»بالتأكيد«‬ ‫»هذا ما أعجز أنا عنه يا مولي‪ ،‬حتى أنني ل أستطيع أن أتخّيل‪ ،‬ألم أقل لك أنكم معشر‬ ‫النس أكفأ مّنا بعمقولكم وقوة خيالكم؟«‬ ‫»آمل ذلك أيها الملك«‬ ‫»بل وإّني لمل يا مولي أن تحمقق باستخدام هذ ه المقالدة كل المعجزات التي نعجز نحن‬ ‫عن تحمقيمقها‪ .‬لكن يا مولي!«‬ ‫وبدا الملك شمنهور متردداً بعض الشيء‪ ،‬فمقد كان ت الميرة »ظل المقمر« تجلس بينه‬ ‫وبين الملك لمقمان‪ ،‬وكانا يتحديثان بتمقريب رأسيهما أمامها‪ ،‬وهي تستند بظهرها إلى‬ ‫الوراء كي تتيح لهما الحديث‪ ،‬وكان كما يبدو خجالً بعض الشيء من أن تسمعه‪.‬‬ ‫»ماذا أيها الملك؟«‬ ‫خفض ملك الملو ك يصوته‪:‬‬ ‫»إن شئ ت الحق‪ ،‬أنا أخجل منك ومن الميرة ظل المقمر ومن نسائي وعشيمقاتي وجوار ّ‬ ‫ي‪،‬‬ ‫مع أّنهن يعرفنني على حمقيمقتي!«‬ ‫»عرف ت ماذا تريد أيها الملك؟«‬ ‫»أتوّسل إليك يا مولي أن تبمقي هؤلء الراقصات الفاتنات ول تأمر بإعادتهن من حيث‬ ‫أتين‪ ،‬لمضي معهن ولو ليلة واحدة!«‬ ‫»لكنهن كثيرات أيها الملك!«‬ ‫»بل ُهن قليالت بعد يثاليثة آل ف عام يا مولي!«‬ ‫»أليس في ممقدور ك أن تطلبهن إذا ما يصرفتهن؟«‬ ‫»هذا ما ل أستطيعه يا مولي أرجو ك!«‬ ‫»حتى لو أمرت الجن بإحضار الراقصات اللواتي أحضروهّن إلّي«‬ ‫وأدر ك الملك شمنهور أنه ل يشّغل عمقله أحيانًا‪:‬‬ ‫»آ ه فع ً‬ ‫ال‪ ،‬كي ف غاب هذا المر عن بالي يا مولي؟«‬ ‫»ل أعر ف!«‬


‫»لمقد لف ّ‬ ‫ ت انتباهي إلى ما يريح عمقلي يا مولي‪ ،‬ليس علّي بعد الن إل أن ُألحظ وأرقب‬ ‫طلباتك‪ ،‬لحصل على ما هو أجمل وأكثر كما ً‬ ‫ل!«‬ ‫»لكن دون إكرا ه أّيها الملك‪ ،‬إّيا ك والكرا ه‪ ،‬ضاجع من تريد برضاها وليس رغما ً‬ ‫عنها!!«‬ ‫»واللهة إّني لم ُأكِر ه ُأنثى في حياتي يا مولي‪ ،‬إل هؤلء اللواتي يحببن!«‬ ‫»يحببن ماذا أيها الملك؟«‬ ‫»يحببن العن ف والغتصاب يا مولي‪ ،‬ول يجدن متعتهن إل بهما!«‬ ‫»حتى عندكم؟! كن ت أظن أن هؤلء بين النس فمقط«‬ ‫»أو ه يا مولي لو أّنك!!«‬ ‫»أيها الملك أنا لم أفعل ذلك مع النسّيات فهل سأفعله مع الجّنيات‪ ،‬ل قدرة لي على هذ ه‬ ‫الّرغبات‪ ،‬حتى في الحالت التي كن ت فيها أنا ال ّ‬ ‫ضحّية‪ ،‬لم أقدر على ذلك!«‬ ‫»وهل تفعل النسوة ذلك عندكم يا مولي؟«‬ ‫»أحياناً تفرض امرأة نفسها عليك بفظاظة ووقاحة وأن ت ل رغبة لك فيها‪ ..‬لكن أل يوجد‬ ‫عند ك مشكلة غير الّنساء الن أيها الملك؟«‬ ‫»واللهة كّلها التي عبدتها والتي سأعبدها أّنه ل يوجد عندي غيرها يا مولي«‬ ‫»اليام أمامك وأظن أّنك ستمقر ف الّنساء‪ ،‬غير معمقول هذا الذي فعله بك ُسليمان!«‬ ‫»قتلني يا مولي‪ ،‬قتلني!«‬ ‫»الن قل لي‪ ،‬هل تعر ف شيئاً عن ممقدرة هذ ه المقالدة التي ألبسني إّياها الملك دامردا س؟«‬ ‫»بالمناسبة يا مولي أنا لم أكن أعر ف أنك عظيم إلى هذا المقدر؟«‬ ‫»أو ه هَلكتني بتعظيمك هذا يا أخي‪ ،‬أل يكفي ما أسمعه وسأسمعه من تعظيم بعد الن؟«‬ ‫»مولي‪ ،‬لو كن ت أنا مكانك لما استطع ت تفادي الحرب ال ّ‬ ‫ضرو س التي لن تمقضي على‬ ‫الماليين من الجن فحسب‪ ،‬بل على ُسّكان كوكب الزهرة أيضًا‪ .‬ما يدهشني يا مولي أنك‬ ‫كسب ت الحرب وجعل ت الملك دامردا س حليفا ً ونصيراً لنا‪ ،‬ببضع كلمات بليغة‪ ،‬ورباطة‬ ‫جأش‪ ،‬ورجاحة عمقل ل غير‪ ،‬الغريب أنك أيضاً أرغم ت الملك دامردا س على أن يتحّدث‬ ‫بلغة مهّذبة لم أسمعها منه في حياتي ما قبل السجن«‬ ‫»ألم أقل لك أّن الكلمة الطّيبة قد تفعل أفضل مما تفعله الحروب أيها الملك‪ ،‬بل ما‬ ‫يستحيل على الحروب أن تفعله؟!«‬ ‫»أظن أنك قل ت لي ذلك يا مولي«‬ ‫»نحن معشر النس والجن ل ينمقصنا إل التغّلب على الشر في نفوسنا وزرع المحبة‬ ‫والخير‪ ،‬وساعتئذ لن يكون هنا ك إل السالم والعدالة والمحّبة!«‬ ‫»وهل كن ت تفعل ذلك خالل حوار ك مع الملك دامردا س؟«‬ ‫»أجل أيها الملك‪ ،‬قذف ت بالشر بعيداً وقررت خوض المعركة بالمحبة‪ ،‬والكلمة الطّيبة‪،‬‬ ‫وأنا أرى الفق البعيد يضطرم بالعوايص ف والعايصير الملتهبة!«‬ ‫»وهل كن ت وايثمقا ً من النصر؟«‬ ‫»نعم! كن ت وايثمقا ً أنني سأنتصر أّيها الملك‪ ،‬واسأل الميرة نور السماء حين ابتسم ت لها‬


‫أدرك ت على الفور ما أقصد ه«‬ ‫»لكن كي ف عرفَ ْ‬ ‫ ت؟!«‬ ‫»لنها نور السماء وليس ت أن ت! يثاليثة آل ف عام جعل ت عمقلك جامدًا‪ ،‬سأعّلمك الشطرنج‬ ‫كي تحّر ك عمقلك وتنّشطه قلي ً‬ ‫ال!«‬ ‫»والشيطان يا مولي؟ ماذا لو تدّخل الشيطان بينكما أن ت والملك دامردا س‪ ،‬وضللكما‪،‬‬ ‫وزرع المزيد من نوازع الشر في نفسيكما‪ ،‬فماذا كان سيحصل حينئذ؟!«‬ ‫»أين هو الشيطان أّيها الملك‪ ،‬إنه فينا نحن‪ ،‬في أنفسنا‪ ،‬وما لم نتفّو‪.‬ق عليه‪ ،‬وما لم نمقتله‬ ‫في دواِخلنا لن نعر ف طعم السالم والمحّبة والخير والسعادة«‬ ‫»مولي! ملو ك الشياطين معنا على المائدة وليسوا في نفوسنا‪ ،‬وربما يعرفون ويسمعون‬ ‫كل ما يدور بيني وبينك الن‪ ،‬ول أعر ف كي ف هداهم ا ولم يتدّخلوا بينك وبين الملك‬ ‫دامردا س؟!«‬ ‫»ماذا تمقول أيها الملك؟«‬ ‫»على مائدتك يا مولي كل أنواع الجن‪ ،‬الشياطين منهم والطيبين‪ ،‬البالسة والمالئكة‪،‬‬ ‫المردة والعفاري ت‪ ،‬الخيار والشرار!«‬ ‫»أريد الشياطين تحديداً من ُهم؟«‬ ‫»إنهم السود وإن لم يكونوا سودًا‪ ،‬بل ُسمرًا‪ ،‬وقد هنأو ك ويصافحو ك!!«‬ ‫»هل تمقصد ذا ك المِلك السمر الجميل »إبليس« وأعوانه من الملو ك الذين يجلسون إلى‬ ‫جانبه؟!«‬ ‫»كن ت أظن أنه مجرد اسم على مسّمى‪ ،‬هل ُيعمقل أن يكون هذا النسان الجميل هو إبليس‬ ‫الشيطان نفسه؟!«‬ ‫»على الرجح أنه هو يا مولي!«‬ ‫»يجب أن أجلس معه وأتحّدث إليه«‬ ‫»اليام قادمة يا مولي‪ ،‬لم العجلة؟«‬ ‫»أيها الملك‪ ،‬هل ُيعمقل أن يكون إبليس جالسا ً إلى مائدتي ول أتحّدث إليه‪ ،‬إبليس الذي‬ ‫كن ت أظن أنني ما أن فّتح ت عينّي على الّدنيا حتى ظهر أمامي‪ ،‬وأغواني لكي أفعل كذا‬ ‫ي دون أن أجلس معه طوي ً‬ ‫وكذا حتى مع البطيخة‪ ،‬هل ُيعمقل أن أدعه يفل ت من يد ّ‬ ‫ال؟!«‬ ‫»أقسم لك يا مولي أنني سأدعك تمّل من التحدث إليه‪ ،‬لكن هذ ه الليلة نحن في وضع‬ ‫خاص‪ ،‬ورّبما هو يريد أن يتمّتع بالّسهر والخمر والنساء!«‬ ‫»إني ل ألُمس في هيئته إل الوقار أيها الملك‪ ،‬ومع ذلك فأن ت محق‪ ،‬فاللمقاء معه يحتاج‬ ‫إلى جو غير هذا الجو‪ ،‬ينبغي أن نكون وحدنا لنتحاور طوي ً‬ ‫ال‪ ،‬لكن لو يتاح لي أن ُأرحب‬ ‫به كما يليق بممقامه!«‬ ‫»وهل سترّحب به أيضا ً يا مولي؟«‬ ‫»طبعاً أيها الملك‪ ،‬أليس ضيفنا هو وأعوانه؟«‬ ‫»لن أخفي عليك يا مولي‪ ،‬فأنا ل ُأحبه ول أحب قومه‪ ،‬وما دعوتهم إل من أجِلك!!«‬ ‫»من أجلي؟«‬


‫»طبعا ً يا مولي‪ ،‬لعّلك تعر ف منه ذات يوم شيئاً من الحمقيمقة التي تبحث عنها‪ ،‬وما‬ ‫دعوته اليوم إل لتتعّر ف إليه‪ ،‬وستتاح لك الفريصة للترحيب به‪ ،‬فالليل أمامنا طويل«‬ ‫»أشكر ك أيها الملك«‬ ‫كان ت الملكة نور السماء تتحّدث إلى أبيها وأّمها‪ ،‬أّما الميرة »ظل المقمر« فمقد وجدت‬ ‫نفسها محشورة بين ملك الملو ك والملك لمقمان‪ ،‬وهما يتحديثان وهي يصامتة‪ ،‬حتى أّنهما لم‬ ‫ُيتيحا لها أن تأكل أو تشرب شيئًا‪ ،‬فبادر الملك لمقمان إلى العتذار منها‪ ،‬فسارع ت إلى‬ ‫المقول‪:‬‬ ‫»لكن الملك لم يجبك عن سر المقالدة يا مولي!«‬ ‫»آ ه أشكر ك أّيتها الميرة‪ ،‬لمقد نسي ت حمقّاً أنني سأل ت الملك شمنهور عن سر هذ ه المقالدة‬ ‫التي أهداني إّياها الملك دامردا س«‬ ‫فهت ف الملك شمنهور‪:‬‬ ‫»ل أعر ف عن أسرارها الكثير يا مولي‪ ،‬لكن تسخير طاقاتها ل يختل ف عن تسخير‬ ‫طاقات قالدتنا‪ ،‬فما أن تنوي شيئا ً يتعّلق بها وأن ت تلمسها أو تمسكها حّتى تنّفذ ه لك‪،‬‬ ‫وستكتش ف حدود قدراتها الكلّية عبر الممارسة‪ ،‬لكن إيا ك أن تغضب على المقالدتين أو‬ ‫تطّوح بهما أو تمقطعهما أو تدو س عليهما أو تحطمهما!!«‬ ‫»ماذا سيحدث حينئذ أيها الملك؟«‬ ‫»إن عّنف ت إحدى المقالدتين عّنف ت جميع الجن التابعين لها‪ ،‬وإن طّوح ت بها طّوح ت بهم‪،‬‬ ‫وإن ق ّ‬ ‫طعتها مّزق ت أجسادهم‪ ،‬وإن ُدس ت عليها ُدس ت على أحشائهم‪ ،‬وهذ ه أسرار ل‬ ‫يعرفها إل الجن واللهة ومن يحملون الُحلّي والدوات المسحورة يا مولي«‬ ‫جحظ ت عينا الملك لمقمان‪ ،‬وأح ّ‬ ‫س أّنه سيفمقد يصوابه ذات يوم إذا لم يظل مدركا ً أّنه يعيش‬ ‫في عالم ُمدهش قد يتعرض فيه لما هو مدهش ومعجز وخار‪.‬ق للمألو ف كل لحظة‪ ،‬ولم‬ ‫يدر ك حدود أبعاد تتويجه ملكا ً على الجن الُحمر إل الن‪ ،‬فلمقد غدت أرواح هؤلء ورّبما‬ ‫أرواح الجن ال ّ‬ ‫صفر أيضا ً بين يديه!«‬ ‫تنّفس ملء رئتيه قبل أن يهت ف‪:‬‬ ‫»شيء جّيد أنك أخبرتني أيها الملك‪ ،‬كن ت في لحظة غضب أو انفعال سأفعل شيئا ً من‬ ‫ذلك‪ ،‬خا ّ‬ ‫يصة إذا لم تستجب إحدى المقالدتين لي‪ ،‬أو عجزت عن تحمقيق طلبي«‬ ‫»يجب أن تضع في اعتبار ك يا مولي أّنهما تعجزان عن فعل كل ما يعجز أتباعهما‬ ‫فعله« لني لم أكن أفّكر في اختيار طلبي‪ ،‬كن ت ُأيصِدر أوامري‬ ‫»لكن كي ف لي أن أعر ف حدود قدراتهما وقدرات أتباعهما؟«‬ ‫»بالتجربة يا مولي‪ ،‬أنا مثالً لم أكن أعر ف أّن لدى عامة الجن فتيات بهذا الجمال الذي‬ ‫يرقص أمامنا على المسرح الن‪ ،‬فمقط«‬ ‫»التجربة وحدها ل تكفي أيها الملك‪ ،‬لبّد لي من معرفة المقدرات التي بين يدي أو تح ت‬ ‫تصّرفي كي ُأقرر على ضوئها ماذا بوسعي أن أفعل«‬ ‫انته ت الويصلة الولى من رقص الفتيات‪ ،‬يصّفق الحضور بحما س شديد‪ ،‬أشار الملك‬


‫لمقمان بحركة من يد ه فابتعدت الفتيات جانبًا‪ ،‬وقد أفردت لهن مائدة كبيرة من ال ّ‬ ‫طعام‬ ‫والّشراب ليجلسن إليها‪..‬‬ ‫)‪(9‬‬ ‫ولدة وتنبؤات مأساوية!‬ ‫أطر‪.‬ق الملك لمقمان قليالً قبل أن ُيشير بحركة يثانية من يد ه‪ ،‬فمقد أضمر أن يدعو إلى حفل‬ ‫تتويجه وزفافه كل من‪ :‬عشتار وإيزيس وعشتاروت وعناة وتيامه وإنانا وأيثينا وأفرودي ت‬ ‫والعذراء‪ ،‬ودليلة‪ ،‬والمجدلّية‪ ،‬ورحاب‪ ،‬وكليوباترا‪ ،‬وزّنوبية‪ ،‬وبلمقيس‪ ،‬وعائشة‪ ،‬وزينب‪،‬‬ ‫وخديجة‪ ،‬وماريا‪ ،‬وهيلين الطروادّية‪ ،‬وابنتها هرميونة‪ ،‬وبنلوب‪ ،‬وغيرهن من اللهات‬ ‫والنسوة المشهورات في التاريخ‪ ،‬وما أن أنهى تعدادهن في مخّيلته‪ ،‬حتى أشار بحركة‬ ‫من يد ه‪ ،‬فلم يظهر على المسرح أحد‪ ،‬فأشار يثانية فلم يظهر أحد‪ ،‬فثالثة فلم يظهر أحد‪،‬‬ ‫فمقد احتار الجن في أمرهم وعجزوا عن تلبية ال ّ‬ ‫طلب‪ ،‬فأبلغوا ملك الملو ك‪ ،‬فالتف ت إلى‬ ‫الملك لمقمان ليرا ه يجاهد ليكتم غيظه‪ ،‬فهت ف‪:‬‬ ‫»ماذا فعل ت يا مولي‪ ،‬أربك ت الجن وجعل ت الفوضى تد ّ‬ ‫ب في يصفوفهم بطلباتك‬ ‫التعجيزية!«‬ ‫»وهل هنا ك طلبات تعجيزية على الجن أيها الملك؟«‬ ‫»أجل يا مولي‪ ،‬ألم أقل لك أننا ل نمقدر على إحياء الموتى‪ ،‬وهؤلء اللواتي طلبتهن من‬ ‫الموتى!«‬ ‫»لكن بعضهن من اللهة‪ ،‬هل ُمْتن هُّن الخريات؟!«‬ ‫»إن لم يمتن‪ ،‬فإّن قوانا لم تستطع بلوغهن يا مولي!«‬ ‫»أليس في وسعكم أن تعرفوا ما إذا كّن مّيتات أو على قيد الحياة أّيها الملك؟!«‬ ‫»ليس بهذ ه الّسهولة يا مولي!«‬ ‫»لكني قرأت عن جّني ُيدعى »مفستوفيلس« جاء بهيلين الطروادّية وخاطفها باريس‬ ‫وغيرهما«‬ ‫»ربما أستحضر أرواحهم يا مولي لكنه لم يحييهم!«‬ ‫»هل هذا يعني أّنه في ممقدوركم استحضار أرواح بعض هؤلء اللواتي طلبتهن؟«‬ ‫»كل من هُْم من البشر نستطيع استحضار أرواحهم يا مولي!«‬ ‫»هذا عظيم! يعني إذا طلب ت روح »زيو س« مثالً وحضرت‪ ،‬فهذا يعني أّنه كان بشراً‬ ‫ولم يكن إلهًا«‬ ‫»هذا يصحيح يا مولي«‬ ‫»وإذا طلب ت روح »هيلين« ولم تحضر‪ ،‬فهذا يعني أّنها شخصّية خيالّية‪ ،‬وليس لها‬ ‫روح!«‬ ‫»بالضبط يا مولي«‬ ‫»وإذا أردت إيجاد روح لشخصّية خيالّية أل يمكن أن يتَّم ذلك؟«‬ ‫»ل! ل ُيمكن يا مولي!«‬


‫»وإذا أردت تجسيداً لها حسب موايصفات معّينة ُأمليها أنا؟«‬ ‫»ممكن أن تتمقّمصها إحدى فتيات الجن يا مولي إذا كان ت أنثى‪ ،‬أما إذا كان ت ذكراً‬ ‫فيمكن أن يتمقّمصها ذكر!«‬ ‫»حسن‪ ،‬فيما يتعلق بالشخصيات الحمقيمقية‪ ،‬هل لك أن تمقول لي ما هو الفر‪.‬ق بين‬ ‫استحضار الّروح واستحضار الجسد؟«‬ ‫»الجسد اليصلي ل ُيستحضر يا مولي!«‬ ‫»ما الذي ُيستحضر إذن؟«‬ ‫»جسد بال روح يا مولي«‬ ‫»عجيب أمر ك أيها الملك‪ ،‬كي ف تمقول أّنكم تستطيعون استحضار الرواح‪ ،‬وكي ف يمكن‬ ‫استحضار أجساد بال أرواح؟!«‬ ‫»الروح والجسد ل ينفصالن يا مولي‪ ،‬إّنهما ُكّل واحد ‪ ،‬وما نستحضر ه هو روح وهمّية‬ ‫بجسد وهمي!«‬ ‫»تمقصد بال حياة!«‬ ‫»أجل يا مولي«‬ ‫»وهل يمكن أن نتحّدث مع هذ ه الروح وأن نمار س شيئا ً مع هذا الجسد؟«‬ ‫»يمكن أن تتحدث يا مولي‪ ،‬لكن ل يمكن أن تمار س شيئا ً مع الجسد لّنه وهم!«‬ ‫»حتى أن ت ستجنني أّيها الملك‪ ،‬كي ف يمكنني أن أتحّدث مع الروح ول أستطيع أن‬ ‫أمار س شيئا ً مع الجسد؟!«‬ ‫»ل أعر ف يا مولي«‬ ‫»جيد أنك ل تعر ف أيها الملك‪ ،‬لنك ُقدتنا إلى حوار عمقيم!«‬ ‫»أن ت الذي طلب ت مّنا طلبات خارقة يا مولي!«‬ ‫»طّيب! هل تظن أّن ُهنا ك بين الجن من يستطيعون استحضار الرواح الحّية‪ ،‬أي‬ ‫القرب إلى إحياء الموتى؟!«‬ ‫»أظن أّن الشياطين يستطيعون فعل ذلك يا مولي!«‬ ‫»يحيون الموتى؟«‬ ‫»هذا ما أسمعه يا مولي!«‬ ‫»حسناً أيها الملك‪ ،‬ماذا لو استحضرت الن بعض الرواح النسّية‪ ،‬حسب إمكانياتكم‬ ‫طبعًا‪ ،‬إذ ليس لدي إمكانّيات شيطانّية‪ ،‬ول أعر ف فيما إذا كان ت المكانيات الدامرداسّية‬ ‫قادرة على ذلك‪ ،‬لعّلني أعر ف كي ف ستظهر هذ ه الرواح الوهمّية!!«‬ ‫»أرجو ك أل تفعل ذلك يا مولي‪ ،‬ويمكنك أن تمقوم به وحد ك فيما بعد‪ ،‬لتعر ف الفر‪.‬ق بين‬ ‫الوهم والحمقيمقة!«‬ ‫»لماذا أيها الملك؟«‬ ‫»ستثير الرعب في قلوب الجميع إنسا ً وجنًّا«‬ ‫»هل تخافون الرواح أنتم أيضًا؟«‬ ‫»كثيراً يا مولي«‬


‫»لَِم تخافونها؟«‬ ‫»لن لها قدسّية في نفوسنا يا مولي!«‬ ‫»ليكن أيها الملك‪ ،‬سأتر ك ذلك إلى ما بعد«‬ ‫»أح ّ‬ ‫س الملك لمقمان بخيبة أمل‪ ،‬فعادت نفسه إلى مساورة المقلق‪ ،‬ومّد يد ه الُيسرى على‬ ‫كتفي الملكة نور السماء وضّمها إليه وكأّنه يبحث عن المان والعزاء والخالد إلى‬ ‫الطمأنينة‪.‬‬ ‫ألمق ت الملكة رأسها على كتفه وهي تأخذ يد ه إلى ُحضنها وتحتويها بيديها وتستغر‪.‬ق في‬ ‫سكون وتأّمل‪ ،‬وكان الملك لمقمان قد تنّبه إلى أّنه أهملها لبعض الوق ت‪ ،‬فضّم رأسها وقّبل‬ ‫شعرها بمقدر ما أتاح له التاج الملكي وراح يهمس لها‪:‬‬ ‫»أعتذر يا حبيبتي لطالتي الكالم مع ملك الملو ك«‬ ‫»ل عليك يا حبيبي فمقد كن ت في شو‪.‬ق للتحّدث إلى أّمي وأبي وأختي ولم أشعر بابتعاد ك‬ ‫عّني«‬ ‫»ُأحاول أن أنسى ما يجول في ذهني وأتوّحد بفيض ُحّبك‪ ،‬غير أّن مخّيلتي الهوجاء‬ ‫تسو‪.‬ق أمامي الّرؤى والتخّيالت المستحيلة حّتى على قدراتكم الخارقة!«‬ ‫»أعلم أّن طموحات حبيبي أعظم من أن تحمقمقها خوار‪.‬ق الجن‪ ،‬لكني سأعمل على تحمقيق‬ ‫المستحيل كي يهنأ قلب حبيبي«‬ ‫ي‪ ،‬هل تعديني أل تخاطبيني إل‬ ‫»ما أجمل كلمة حبيبي وهي تنثال من شفتيك كنسيم ند ّ‬ ‫حبيبي«‬ ‫»أعد مولى قلبي أل تنطق شفتاي ول يدور على لساني إل اسم حبيبي وكل الكالم‬ ‫الجميل«‬ ‫»المسرح خال من الراقصات أل ترغب حبيبتي أن أقّدم لها ما ُيضفي على فرح مهجتها‬ ‫فرحًا«‬ ‫»أرغب أن أرى ما يجول في أعما‪.‬ق حبيبي معزوفا ً بألحان الموسيمقى«‬ ‫»إن ما يجول في أعما‪.‬ق نفسي لكبر من أن تعزفه موسيمقى الكوان كّلها يا حبيبتي‪ ،‬ولن‬ ‫تجدي فيه غير الحزن واللم والعذابات‪ ،‬ولو أّن عزفي جميل لسمعتك لحنا ً يصّور‬ ‫بعض ما يدور في نفسي«‬ ‫»هل تجيد العز ف يا حبيبي؟«‬ ‫»أعز ف بشكل سيئ على الناي يا حبيبتي«‬ ‫»أسمعنا شيئا ً ونحن من سيحكم«‬ ‫»أرجو ك يا حبيبتي أن تعفيني كي ل أجلد ك وأجلد عشرة مليارات ضي ف بعزفي البائس‬ ‫الحزين«‬ ‫»هل يعدني حبيبي أن يسمعني عزفه يومًا«‬ ‫»أعد ك يا حبيبتي«‬ ‫»ومع ذلك أرجو حبيبي أن يطلب إلى فرقة موسيمقية أن تعز ف لحنا ً مما يجول في نفسه«‬ ‫»سيكون ذلك مأساوياً يا حبيبتي‪ ،‬إذا ما أجاد العازفون التعبير عن بعض ما يعتلج في‬


‫نفسي وتضطرم به أغوار قلبي«‬ ‫ب أن أرى شيئا ً ملّحنا ً من أعما‪.‬ق حبيبي«‬ ‫»أح ّ‬ ‫»وما ذنب ضيوفنا كي نغرقهم بلواعج أحزاني؟«‬ ‫»بل وأحزاني يا حبيبي«‬ ‫»وهل يحزن الجّن أيضا ً يا حبيبتي؟«‬ ‫»نحن ل نختل ف عن البشر إل بمقوانا الخارقة يا حبيبي«‬ ‫وأشار الملك لمقمان بحركة من يد ه فظهرت على المسرح فرقة موسيمقية تضّم أكثر من‬ ‫مائتي عاز ف معظمهم من عازفي الناي والرغول والعود والكمان واليمقاع والطبل‬ ‫والبز‪.‬ق والمقانون‪ ،‬وغير ذلك من اللت الموسيمقية الشرقّية والغربّية‪ ،‬وقد ظهرت خلفهم‬ ‫فرقة كورال من عشرات المغّنيات‪.‬‬ ‫ضّج الحضور بالتصفيق الحار وانحنى العازفون والمغنّيات احتراما ً وشرعوا في أخذ‬ ‫أماكنهم‪.‬‬ ‫كان الجميع يصامتين فأشار الديب ُلمقمان بحركة من يد ه‪ ،‬فانساب لحن منفرد على ناي‬ ‫أجش‪ ،‬راح يتصاعد عاليا ً ليحّلق في سماوات الكوان‪ ،‬يعبر الكواكب والقمار‪ ،‬النجوم‬ ‫والمذّنبات‪ ،‬البحار والمحيطات‪ ،‬الصحاري والّسهوب والجبال‪ ،‬قاطعا ً مئات آل ف آل ف‬ ‫الميال ليجوب سماء فلسطين‪ ،‬ويرفر ف في سماء المقد س‪ ،‬ويشرع في الهبوط ليحط في‬ ‫حمقل حصاد‪ ،‬ولترافمقه النايات الخرى بألحانها الجّشة‪ ،‬ولتنطلق اليمقاعات بضربات‬ ‫خفيفة متواترة منذرة بولدة »ابن الّشمقاء« وفي رواية أخرى رواها الب أنه »ابن‬ ‫الّزنى« الذي سُيدعى »لمقمان«‪:‬‬ ‫كان ت أّمه تحصد في الحمقل حين جاءها المخاض‪ ،‬وكان ت الشمس تتأّلق وهي تطّل من‬ ‫خل ف جبال المقد س الشرقّية لترسل أشّعتها معانمقة أبراج الكنائس وقباب المساجد‪.‬‬ ‫انطلق يصوت مغّنيات الكورال منخفضا ً بطيئا ً رتيبًا‪:‬‬ ‫في الحمقل كان ت تحصد‬ ‫حين جاءها المخاض‬ ‫في الحمقل كان ت تحصد‬ ‫وضع ت يدها على بطنها وتأّوه ت‪ ،‬وما لبث ت أن انطرح ت أرضا ً وراح ت ُتزِحُر‬ ‫وموجات الطلق تدهمها واحدة إيثر ُأخرى‪.‬‬ ‫ضّج ت كل اللت الموسيمقّية في يصخب راح يعلو تارة وينخفض قليالً تارة ويستصرخ‬ ‫جائراً تارة أخرى وسط لّجة الكورال‪:‬‬ ‫انطرح ت أرضا ً‬ ‫تأّوه ت الم وانطرح ت أرضا ً‬ ‫راح ت ُتزِحُر الّم‬ ‫راح ت ُتزِحُر وموجات الطلق تدهمها‬ ‫اندفع »ابن الشمقاء« من فرج أّمه وراح يصرخ باكياً حين ايصطدم رأسه بالرض‪.‬‬ ‫تصاعدت أنغام فرحة رافمقها يصوت الكورال‪:‬‬


‫ولد ابُن الشمقاء‬ ‫في الحمقِل ولد ابن الّشمقاء‬ ‫وراح يصرُخ‪،‬‬ ‫يصدم رأُسه الرض‬ ‫حين َ‬ ‫راح يصُرخ‬ ‫س‬ ‫وكان ت أشعة الشم ِ‬ ‫س‬ ‫تعانق أبراج الكنائ ِ‬ ‫وقبب المساجد‬ ‫في مدينة المقد س‬ ‫بلغ ت النغام ذروة تصاعدها‪ ،‬وما لبث ت أن عادت إلى الخفوت والتباطؤ شيئا ً فشيئا ً إلى‬ ‫أن أخذت تتصاعد في توّتر وتوّجس‪ ،‬فما أن مسح ت الّم الوليد وأرضعته من يثديها‬ ‫ب إليها أن تنهض لتستأن ف الحصاد‪.‬‬ ‫ولّفعته حّتى أوعز ال ُ‬ ‫ألمقته في حذٍل بين غمور الحصاد‪ ،‬وظّللته بمنديل فرشته على عيدان منتصبة من المقصب‬ ‫لتعمل له ُخ ّ‬ ‫صًا‪ .‬ونهض ت تحصد المقمح‪.‬‬ ‫مسحته ولّفعته‬ ‫ومن يثديها أرضعته‬ ‫وعادت إلى الحصاد‬ ‫ب‬ ‫حين أوعز إليها ال ُ‬ ‫عادت إلى الحصاد‬ ‫تاركة الطفل في المهد‬ ‫ص‬ ‫تح ت الُخ ّ‬ ‫بين غمور الَّزرع‬ ‫انداح ت النغام سارحة في غياهب المقدر المجهول‪ ،‬وما لبث ت أن أخذت تتواتر‪ ،‬منذرة‬ ‫بالشؤم والّرعب‪ ،‬فحين جاءت الّم تعدو إلى الوليد في قيلولة الغداء‪ ،‬وسط َحّر المقيظ‪،‬‬ ‫وجدت أفعى تلت ف حول جسد ه في المهد‪ ،‬فلم تمقدر على الصراخ كي ل تخي ف الفعى‬ ‫وتلدغ الطفل‪ ،‬ولم تمقدر على فعل أي شيء‪ ،‬فراح ت تدوُر حوَل الُخ ّ‬ ‫ص حانية الظهر‬ ‫والّرعب يستولي عليها لتبدو وكأنها أيصيب ت بالصمم والبكم والصرخات المتوّجسة‬ ‫المستغيثة ُتكب ُ‬ ‫ ت في أعماقها أو تتالشى قبل أن تصل إلى شفتيها‪.‬‬ ‫انطلق يصوت الكورال منذراً بالّرعب‪:‬‬ ‫أجل أفعى‬ ‫حين جاءت تعدو‬ ‫وسط حّر المقيِظ‬ ‫وجدت في َمهِد ه أفعى‬ ‫تلت ف حول جسد ه‬ ‫فُأيصيب ت بال ّ‬ ‫صمم والبكم‬


‫صراخ‬ ‫ولم تمقدر على ال ّ‬ ‫ساد الضطراب والمقلق والّتوجس ألحان الموسيمقى المتصارعة‪ ،‬وانطلق نمق ٌر رتيب على‬ ‫اليمقاع رافمقته آها ٌ‬ ‫ت على الّناي‪.‬‬ ‫مّدت الّم يديها‪ ،‬متوّجسة مّدت يديها‪ ،‬لتأخذ الطفل من أحضان الفعى‪ ،‬لكن الفعى كان ت‬ ‫تلت ف حول رجليه وتتمدد على بطنه وتلمقي رأسها على يصدر ه‪ ،‬فأّنى لها أن تأخذ ه‪،‬‬ ‫فأعادت يديها وجث ت على ركبتيها إلى جانب المهد‪ ،‬وراح ت تناشد الفعى متوّسلة إليها‬ ‫بال والنبياء أل تفجعها بوليدها‪:‬‬ ‫متوّسلة إليها‬ ‫راح ت الّم تناشد الفعى‬ ‫متوّسلة إليها‪:‬‬ ‫أستحلفك بال المقدير‬ ‫بالعذراء وإبراهيم الخليل‬ ‫بمحّمد وموسى وابن الجليل‬ ‫أل تفجعيني بمن في المهد يصغير‬ ‫أل تفجعيني بمن في المهد يصغير‬ ‫كان ت الموسيمقى تنوح بمرافمقة الكورال متوّسلة بكل ما في اللحان والنغام من قدرة على‬ ‫التعبير عن التوّسل والستغايثات‪.‬‬ ‫أخذت الفعى تف ّ‬ ‫ك طّيات جسدها من حول جسد الوليد وتنزل رأسها عن يصدر ه‪ ،‬وما‬ ‫لبث ت أن غادرت الِحذل وانساب ت بين غمور الحصاد‪.‬‬ ‫شرع ت الموسيمقى في استعادة أجواء الفرح فاستعاد الكورال فرحُه‪:‬‬ ‫حّل ت الفعى نفسها‬ ‫من حول الجسد ال ّ‬ ‫صغير‬ ‫حّل ت الفعى نفسها‬ ‫وغادرت الِحذَل‬ ‫غادرت المهَد‬ ‫وانساب ت بين غمور الحصاد‬ ‫أوغل ت النغام في الفرح‪ ،‬فمقد أخذت الم الوليد‪ ،‬وضّمته إلى يصدرها‪ ،‬وعانمقته‪ ،‬ودارت‬ ‫به حول نفسها فرحة به‪:‬‬ ‫بالحضن أخذت وليدها‬ ‫بالحضِن أخذت الّم وليدها‬ ‫وضّمته وعانمقته‬ ‫ودارت به حول نفسها‬ ‫فرحة بِه‬ ‫غير أن الموسيمقى أخذت تخف ت أنغامها شيئا ً فشيئا ً وتعود إلى التوّتر وال ّ‬ ‫صراع يثانية‪ ،‬فمقد‬ ‫أقبل الب والحايصدون من الحمقل‪ ،‬فرأوا الفعى في طريمقهم‪ ،‬فانحنوا يأخذون الحجارة‬


‫بأيديهم ويرجمونها كي يمقتلوها‪ ،‬فحايصروها من كّل الجهات‪:‬‬ ‫من كل الجهات‬ ‫حايصر الب والحايصدون‬ ‫الفعى‬ ‫بالحجارة من كل الجهات‪ ..‬حايصروها‬ ‫حين رأوها‬ ‫فاستغايث ت الفعى بالم هاتفة »أجيريني« والتجأت إلى غمِر زرع‪ ،‬سمع ت الم استغايثتها‬ ‫فألمق ت الوليد في الحذِل واندفع ت تعدو يصارخة بالب والحايصدين »ل‪ ،‬ل تمقتلوها«‬ ‫بالم استغايث ت‬ ‫بالم استجارت‬ ‫بالم استغايث ت الفعى واستجارت‬ ‫فصرخ ت‪:‬‬ ‫ل تمقتلوها‬ ‫ل تمقتلوها‬ ‫يصرخ ت الّم بالب والحايصدين‬ ‫ل تمقتلوها‬ ‫أستحلفكم بال ل تمقتلوها‬ ‫واندفع ت تعدو‬ ‫نحو الفعى اندفع ت‬ ‫الّم تعدو‬ ‫ب وآخرون‬ ‫توّق ف بعض الحايصدين عن رمي الحجارة نحو الفعى‪ ،‬فيما استمّر ال ُ‬ ‫برجمها‪ ،‬غير أّن المق ّ‬ ‫ش كان يحميها من وقع الحجارة على جسدها‪ ،‬اندفع ت الم لتلمقي‬ ‫نفسها فو‪.‬ق الغمِر حيث الفعى‪ ،‬فأيصابتها بعض الحجارة التي كان يمقذفها الب‬ ‫والحايصدون‪:‬‬ ‫فو‪.‬ق الِغمِر حيث الفعى‬ ‫اندفع ت الّم‬ ‫وطرح ت نفسها‬ ‫فأيصابتها بعض الحجارة‬ ‫ب والحايصدين‬ ‫بعض حجارة ال ِ‬ ‫أيصابتها‬ ‫يصراخ الب »لَِم أّيتها العاهرة‪ ،‬لَِم أّيتها الزانية‪،‬‬ ‫تصارع ت أنغام الموسيمقى بجنون وسط ُ‬ ‫لم تدافعين عن أفعى‪ ،‬هل طار عمقلك‪ ،‬أم لّنك أفعى مثلها‍؟!«‬ ‫أيتها الزانية‬ ‫أيتها العاهرة‬ ‫ب‬ ‫قال ال ُ‬


‫لم تدافعين عن أفعى‬ ‫أّيتها الزانية‬ ‫هل طار عمقلك‬ ‫أم لنك أفعى‬ ‫لنك أفعى مثلها‬ ‫أّيتها العاهرة؟!‬ ‫أغرق ت اللحان في التوّحد باللم‪ ،‬معّبرة عن عذابات الم‪ ،‬فبكى جميع ال ّ‬ ‫ضيو ف‪ ،‬عشرة‬ ‫مليارات من النس والجن شرعوا في البكاء والتوّحد مع الموسيمقى والنغام‪ ،‬حّتى الملك‬ ‫شمنهور‪ ،‬كان أكثر الحاضرين ُحزنًا‪ ،‬فتحّول الجو‪ ،‬من جّو فرح قبل اللحان إلى جّو‬ ‫عذابات وآلم خاللها‪ ،‬وراح الملك شمنهور يصرخ باكيًا‪:‬‬ ‫»لم يا مولي تعيدني إلى تذّكر أّيام ُحزني في سجني ال ّ‬ ‫طويل‪ ،‬لَِم تدعني أبكي على نفسي‬ ‫بعَد أن حررتني‪ ،‬لَِم ل تدعني أعيش الفرح وأنسى أّيام البؤ س والّشمقاء واللم‪ ،‬أستحلفك‬ ‫بمليكة قلبك نور الّسماء أن توِق ف هذ ه الموسيمقى لّن نياط قلبي تمق ّ‬ ‫طع ت من فرط الحزن«‬ ‫وارتفع يصوت الكورال‪ ،‬لُيعيد الملك شمنهور إلى الصم ت والدموع‪:‬‬ ‫إلى ُحضنها‬ ‫حمل ت الّم الفعى‬ ‫إلى ُحضنها‬ ‫وسارت بها‬ ‫إلى أطرا ف الحمقل سارت بها‬ ‫وهنا ك في أطرا ف الحمقِل‬ ‫أطلمقتها‬ ‫في أطرا ف الحمقل‬ ‫أطلمق ت الّم الفعى‬ ‫إلى حال سبيلها‬ ‫إلى حال سبيلها أطلمقتها‪-‬‬‫أخذت أجواء الفرح تعود إلى النغام شيئا ً فشيئاً فيما كان ت الملكة نور السماء تتشّبث‬ ‫بجسد الملك لمقمان وتبكي معه‪ ،‬لتختلج دموعهما في أسمى لحظات التوّحد‪ ،‬فيما شرع‬ ‫يصوت الكورال ينشد ُمرددًا‪:‬‬ ‫بيد أّنها قبل أن تنطلق‬ ‫قبل أن تنطلق الفعى‬ ‫إلى حال سبيلها‬ ‫وقف ت على ذيلها‬ ‫على ذيلها وقف ت الفعى‬ ‫وخاطب ت الّم‪:‬‬ ‫»لمقمان« سيدعى ابُنك‬


‫ويكون غالما ً فصبيّا ً‬ ‫وسيغر‪.‬ق في دروب البؤ س‬ ‫في دروب البؤ س والشمقاء‬ ‫سيغر‪.‬ق ابُنك‬ ‫ويكون فدائيًا!‬ ‫ويكون يصحفيًا!‬ ‫قبل أن يغدو أديبا ً كبيراً‬ ‫أديبا ً كبيراً سيغدو ابُنك‬ ‫وسيغدو ملكا ً عظيما ً‬ ‫ملكا ً عظيما ً سيغدو ابُنك‬ ‫ويحكم على الكوان‬ ‫على الكوان سيحكم ابُنك‬ ‫قبل أن يواجه قدر ه‬ ‫ويرحل عن الّدنيا‬ ‫راح ت الموسيمقى توغل في الفرح مّجسدةً أحاسيس الم بعد تنبؤات الفعى‪ ،‬لتعيد البسمة‬ ‫إلى الحزناء والباكين من ماليين المستمعين والمشاهدين‪ ..‬وما لبث ت أن أخذت تبطئ شيئا ً‬ ‫فشيئا ً لتتوق ف‪.‬‬ ‫نهض الماليين ليصفمقوا بحرارة‪ ،‬ووقف ت الفرقة لتحّية الجمهور‪ ،‬ووق ف الملك لمقمان‬ ‫ورفع تاجه عن رأسه وقلبه رأساً على عمقب وهو ينحني احتراماً لعضاء الفرقة‪ ،‬وما‬ ‫لبث أن تر ك المائدة وهرع ليعانق العازفين والمنشدات اللواتي استطعن أن ينمقلن بالكلمة‬ ‫كل ما كان يدور في خياله‪ ،‬وكذلك فعل ت الملكة نور السماء‪ ،‬وسط جنون التصفيق‬ ‫وحرارة الّدموع التي راح ت تنهمر على الوجنات‪.‬‬ ‫وأمر الملك لمقمان أن تكون هذ ه الفرقة‪ ،‬الفرقة الخا ّ‬ ‫يصة بالمقصر الملكي‪ ،‬على أن تأتي‬ ‫فيما بعد إلى الكوكب الذي سيمقيم عليه‪..‬‬ ‫وما أن أنهى الملك لمقمان والملكة نور السماء تهنئة الفرقة بالنجاح الذي حمقمقته حّتى أشار‬ ‫إليها أن تعز ف ألحاناً راقصة‪ ،‬وعاد هو والميرة ليجلسا في مكانهما‪.‬‬ ‫شرع ت موسيمقى فرحة راقصة تتصاعد شيئا ً فشيئًا‪ ،‬فأخذ النا س يتحّولون من الُحزن إلى‬ ‫الفرح‪ ،‬وما لبث ت الموسيمقى أن استفّزت ُكّل حواّسهم‪ ،‬فنهضوا جميعاً إلى الرقص‪ ،‬عشرة‬ ‫مليارات من النس والجن نهضوا إلى الّرقص‪ ،‬لتضّج بهم كل يصالت ومسارح الروض‬ ‫وحدائمقه وممراته‪ .‬إنس مع إنسيات وإنس مع جنّيات وجن مع جنّيات‪ ،‬وجن مع إنسيات‪،‬‬ ‫ُكّلهم نهضوا إلى المرح والفرح والرقص‪ ،‬كّلهم ُدفعوا إلى اللهو حين ناداهم من أعماقهم‬ ‫هاجس‪ ،‬طالبا ً إليهم التمّتع بالفرح بعد أن تحسسوا ويالت الحزن‪ .‬فراحوا يغرقون في‬ ‫اللهو الُمجوني والّرقص الجنوني‪ ،‬ماعدا الملك لمقمان والملكة نور السماء‪ ،‬اللذان اّتحدا‬ ‫في جسد واحد بعد أن نهض ت الملكة لتجلس في حضن الملك ليحتويها بكل جسد ه‪،‬‬ ‫وفيض مشاعر ه‪ ،‬ويتمّنى لو أنه في ممقدور ه أن يش ّ‬ ‫ق جوانح يصدر ه ليبمقيها فيه‪.‬‬


‫همس ت الملكة وهي تطّوقه بيديها لتداعب أنفاسها ُأذنه‪:‬‬ ‫»هل كان ت هذ ه حمقاً ولدة حبيبي‪ ،‬كن ت خائفة أن تلدغك الفعى«‬ ‫قّبل ُأذنها قبالت خفية وهمس‪:‬‬ ‫»إذا يصدق ت أمي يا حبيبتي«‬ ‫انتعش جسدها وقشعريرة لذيذة تجتاحه من جّراء تمقبيلها على أذنها والهمس فيها‪.‬‬ ‫»أكان ت ولدة حبيبي مخيفة إلى هذا الحد؟!«‬ ‫»لم تكن ولدتي إل بداية شمقاء يستحيل أن يحتمله بشر يا حبيبتي«‬ ‫»ومع ذلك احتمله حبيبي«‬ ‫»لن كل ما تعّرض ت له من شمقاء بعد ذلك ل يختل ف كثيراً عن شمقاء الولدة وال ّ‬ ‫طفولة‪،‬‬ ‫بل كان أرحم في بعض الحيان«‬ ‫»متى سيحديثني حبيبي عن حياته؟«‬ ‫»ل أعر ف‪ ،‬رّبما ُأحديثك عن شيء منها‪ ،‬أما عنها ُكّلها فهذ ه مسألة طويلة تحتاج إلى‬ ‫روايات! فهنا ك فترة الطفولة وحتى سن المراهمقة وهربي من بي ت أبي‪ ،‬وهي أقسى ما‬ ‫عشته‪ .‬تأتي شمقاواتي الخرى حتى سن ما بعد العشرين‪ ،‬حيث فترة النضال التي ُكّلف ت‬ ‫فيها بمهام يصعبة‪ ،‬ودخل ت الّسجون‪ ..‬ومن يثّم تحّولي إلى الصحافة والدب منذ سن‬ ‫الرابعة والعشرين‪ ،‬أي نص ف عمري الن‪ ،‬وهذ ه الفترة شهدت الكثير من الحداث‪ ،‬ففيها‬ ‫تزّوج ت مّرتين وعشمق ت كثيرات‪ ،‬وارتكب ت حماقات مع عاهرات وغير عاهرات من‬ ‫النسّيات! وكتب ت بعض المقصص والروايات‪ ..‬أما الهم في حياتي فهو ما يبدأ بمحاولة‬ ‫انتحاري وعثوري على ملك الملو ك وقدومك إلّي وزواجي منك وتتويجي ملكًا‪ ،‬وما ل‬ ‫أعر ف إلى أين سينتهي«‬ ‫»هل ستكتب ذلك إذا ما أتيح لك؟«‬ ‫»تمقصدين حياتي كّلها؟«‬ ‫»ممكن‪ ،‬لماذا ل أكتبها إذا ما ُأتيح لي ذلك‪ ،‬أظن أن فيها ما يمكنه أن يفيد البشر‪ ،‬خا ّ‬ ‫يصة‬ ‫إذا ما تحّديث ت بصد‪.‬ق‪ ،‬فالدب دون يصد‪.‬ق ليس له أّية قيمة حمقيمقية يا حبيبتي«‬ ‫»وهل ستكتب عّني يا حبيبي؟«‬ ‫»وهل يعمقل أن أنسى روحي يا حبيبتي؟«‬ ‫»إذن ستكتب عّني بشكل جميل«‬ ‫»ل أظن أنني سأكتب في حياتي أجمل مما سأكتبه عنك يا حبيبتي«‬ ‫»متى سأقرأ بعض كتابات حبيبي السابمقة؟«‬ ‫»بعد أن نأتي بها من الرض«‬ ‫»هل فيها شيء من حياتك؟«‬ ‫»كثير يا حبيبتي‪ ،‬فأنا ل أستطيع الكتابة خارج حياتي وأفكاري‪ ،‬فأزّج بشيء منها في‬ ‫أدبي‪ ،‬أو أستوحي منها«‬ ‫»لكن هل سيصّد‪.‬ق المقُّراء أّنك تزّوج ت من حورّية جنّية وأيصبح ت ملك ملو ك؟!«‬ ‫ولَِم ل يصّدقون طالما أّن هذا هو ما َحَدث بالفعل يا حبيبتي؟ سيصّدقون قطعًا‪،‬‬


‫وسيصّدقون أنني سُأنجب من هذ ه الحورّية طفالً نصفه العلى مال ك جّني‪ ،‬ونصفه‬ ‫السفل إنسي‪ ،‬فنحن شعوب المعجزات يا حبيبتي‪ ،‬ول نصّد‪.‬ق غير المعجزات‪ ،‬وقد‬ ‫يصّدقنا أن ا نفخ في فرج فلسطينية لتنجب لنا يسوع المسيح‪ ،‬ويصدقنا أن الّنبي محمد‬ ‫يصعد إلى السماء السابعة والتمقى ا‪ ،‬فلَم ل نصّد‪.‬ق أنني سأنجب منك نسالً جديداً يوّحد‬ ‫بين النس والجن في الجسد والعمقل‪ ،‬وهذا ما سيحدث بالفعل إذا يصدق ت تنبؤاتي يا‬ ‫حبيبتي!!«‬ ‫وغمرت الملكة نور الّسماء فرحة كبيرة وراح ت تطّو‪.‬ق عنق الملك لمقمان فيما هو‬ ‫يحتضنها ويتابع‪:‬‬ ‫»وسيتكّلم هذا الفتى في المهد وسندعو ه »قاِهر الكوان««‬ ‫»ل يا حبيبي هذا السم ل يعجبني«‬ ‫ ت«‬ ‫»سّمِه أن ِ‬ ‫»سنسّميه قمر الّزمان!«‬ ‫»ل! ُأريد اسما ً جديداً وليس من أل ف ليلة وليلة!«‬ ‫»طيب! نسّميه غيث السماء«‬ ‫»غيث السماء؟«‬ ‫»أليس جمي ً‬ ‫ال؟«‬ ‫»غيث ومطر وأعايصير وعوايص ف وسحب‪ ،‬أل يوجد غير هذ ه التسميات؟«‬ ‫»آ ه! ذّكرتني‪ ،‬سُحب‪ ،‬سنسميه »سحب السماء« يا حبيبي‪ ،‬أنا فعالً أح ّ‬ ‫ب هذ ه التسميات!«‬ ‫»يبدو أّنك تصّرين على أن يظل السم ممقترنا ً باسِمك«‬ ‫»أليس جميالً هذا الخير؟«‬ ‫»يعني‪ ،‬ل بأ س به‪ ،‬ما رأيك أن نحل الموضوع بيننا؟«‬ ‫»وهل سنتشاجر منذ الن على تسمية الُغالم يا حبيبي؟«‬ ‫»ل يا حبيبتي لن نتشاجر‪ُ ،‬كن ت أوّد أن نجمع السماء أيضا ً ونسميه "ُسحب السماوات!"«‬ ‫»المير ُسحب السماوات ابن الملك لمقمان ابن الملكة نور السماء! جميل يا حبيبي‪ ،‬أنا‬ ‫موافمقة«‬ ‫»عظيم‪ ،‬إيا ك أن تتراجعي!«‬ ‫»ل لن أتراجع‪ ،‬وماذا بعد؟«‬ ‫»تريدين أن أتنبأ بمستمقبله بعد ذلك؟«‬ ‫»بل وبمستمقبلنا أيضا ً يا حبيبي«‬ ‫»وهل أنتم تحّبون الحالم والتنبؤات مثلنا معشر النس؟«‬ ‫»إنها المرة الولى التي أحلم فيها في حياتي يا حبيبي‪ ،‬أكمل أرجو ك!«‬ ‫»يا حرام يا حبيبتي‪ ،‬سأحُلم لك كل يوم!«‬ ‫»هّيا احلم لي يا حبيبي أرجو ك«‬ ‫وراح الملك لمقمان يرب ت على ظهرها وهي تستكين إلى ُحضنه كطفل‪ ،‬فيما كان الّرقص‬ ‫على أشّد ه في الّروض‪.‬‬


‫»سيكون ابننا المير ُسحب السموات‪ ،‬أجمل غلمان السموات والرض‪ ،‬بحيث ل تنظر‬ ‫إلى جماله امرأة إل وُيغمى عليها‪ ،‬ونظراً لن نصفه جّني ونصفه الخر إنسي‪ ،‬فإن‬ ‫ب!«‬ ‫آل ف النساء والفتيات من النس والجن سيغرمن به وينتحرن في سبيل ُحّبه حين يش ّ‬ ‫»ولماذا ينتحرن يا حبيبي؟«‬ ‫ب كل واحدة ستغرم به‪ ،‬فال تحتمل‬ ‫»لّنهن سيغرمن به‪ ،‬وهو ل يستطيع طبعاً أن يح َّ‬ ‫الحياة بعد ذلك فتنتحر!! إنسّيات وجّنيات سينتحرن‪ ،‬بالسكاكين والسيو ف سينتحرن‪،‬‬ ‫وبإلمقاء أنفسهن من سطوح المنازل والبنايات سينتحرن‪ ،‬وبمقذ ف أنفسهن من السموات إلى‬ ‫الكواكب سينتحرن‪ ،‬أو حّتى سينتحرن خنمقا ً بالغازات!«‬ ‫وقاطع أحالمهما يصوت ملك الملو ك هاتفا ً وهو ينحني عليهما‪:‬‬ ‫»ألن ترقصا يا مولي؟«‬ ‫نظر إليه الملك لمقمان بطر ف عينيه وزجر ه‪:‬‬ ‫»يا أخي حل عن سمانا قطع ت حبال أحالمنا!«‬ ‫نمقَز الملك شمنهور خوفاً واستمقام في وقفته وهو ل ُيصّد‪.‬ق أنه يمكن لمول ه أن يتكّلم بهذ ه‬ ‫اللغة وهذ ه اللهجة‪ ،‬فظّل محّدقاً بدهشة إلى أن زجر ه الملك لمقمان يثانية‪:‬‬ ‫»خلص قل ت لك ِحل!«‬ ‫دار الملك شمنهور على عمقبيه وانصر ف دون أن يعلم ما ألَّم بمول ه‪.‬‬ ‫»أين ويصلنا يا حبيبتي؟«‬ ‫»عند هؤلء الفتيات والنسوة اللواتي سينتحرن من أجل سحب السموات‪ ،‬لكن!«‬ ‫»لكن ماذا يا حبيبتي؟«‬ ‫ب الموت!«‬ ‫»لو أّنهن ل ينتحرن‪ ،‬فأنا ل أح ّ‬ ‫»وماذا سأفعل يا حبيبتي إذا كان جمال المير سيخلب عمقولهن‪ ،‬ويثنيهن عن رشدهن؟!«‬ ‫»طّيب‪ ،‬أكمل لي ماذا سيحدث بعد ذلك؟«‬ ‫فهت ف الملك لمقمان دون تردد وكأنه يهت ف بما هو عادي‪:‬‬ ‫»سأواجه قَدري يا حبيبتي!«‬ ‫ورفع ت الملكة نور السماء رأسها عن عنمقه وهتف ت بدهشة‪:‬‬ ‫»ماذا تمقصد يا حبيبي؟«‬ ‫»سأموت يا حبيبتي‪ ،‬وعلى الرجح سُأقتل!«‬ ‫وراح ت تضرب بمقبضة يدها ال ّ‬ ‫صغيرة على كتفه وهي تهت ف‪:‬‬ ‫»ل‪،‬ل‪،‬ل ُأريد ك أن ُتمقتل أو تموت‪ ،‬ول أريد أن تحلم لي مثل هذ ه الحالم«‬ ‫»يا حبيبتي حّتى لو لم ُأقتل‪ ،‬سأموت لنني لن أعيش مثلك أل ف العوام أو إلى البد!«‬ ‫»ل أرجو ك يا حبيبي أل تفّكر في ذلك‪ ،‬قد نجد إكسيراً ُيطيل عمر ك!«‬ ‫»لن ُيطيل عمري يا حبيبتي إل يثمرة لعينة آكُلها من شجرة الحياة التي زرعها ا في‬ ‫الجّنة!«‬ ‫»قد نصل إلى الجّنة يا حبيبي وتأكل من يثمر الشجرة حتى تشبع!«‬ ‫»آمل ذلك يا حبيبتي«‬


‫»حّديثني عن ابننا«‬ ‫وراح ت تطّو‪.‬ق عنمقه وتلتحم بجسد ه‪.‬‬ ‫»يا حبيبتي هذ ه مجرد أحالم وتنبؤات وليس من المؤكد أن تكون قدرًا«‬ ‫»ومع ذلك‪ ،‬ل أريد موتا ً فيها«‬ ‫»لكن أنا م ّ‬ ‫ ت وانتهى أمري يا حبيبتي‪ ،‬ول يصح أْن نغير الحالم على مزاجنا!«‬ ‫وأسلم ت الملكة نور السماء قدرها إليه وراح ت تلتحم بجسد ه وكأّنه سيرحل عنها الن‪،‬‬ ‫فيما هو يتابع تنبؤاته المرعبة‪:‬‬ ‫»سيستلم ملك الملو ك الحكم من بعدي على كل الكواكب التي ستكون تح ت سلطتي بما‬ ‫فيها كوكب الرض‪ ،‬ويعيث فيها خرابا ً ودمارًا‪ ،‬ويشرع في شّن حروب مرعبة‪،‬‬ ‫وانتمقامات فظيعة‪ ،‬ومسوخات مخيفة‪ ،‬ليفتك بآل ف الماليين من البشر«‬ ‫وبالكاد حّتى همس ت الملكة‪:‬‬ ‫»ولَم سيفعل كّل هذا الدمار يا حبيبي؟«‬ ‫»انتمقاماً لممقتلي يا حبيبتي‪ ،‬فالنا س الذين أحببتهم سيمقتلونني غيلة وغدرًا‪ ،‬ولن يحتمل ملك‬ ‫الملو ك ذلك فيشرع في تدمير العالم«‬ ‫س على شعرها برفق ويتابع‪:‬‬ ‫وشعر الملك لمقمان بالملكة تتجّمد بين أحضانه‪ ،‬فراح يمل ُ‬ ‫ ت في البداية بعض أفعالِه على مضض‪ ،‬لنك ستمقاومين الرغبة في النتمقام‪،‬‬ ‫»تمقبلين أن ِ‬ ‫خا ّ‬ ‫يصة وأنك كن ت تعرفين أنني كن ت أعر ف أنني سأقضي نحبي على أيدي بني البشر‪،‬‬ ‫ومع ذلك حافظ ت على جمال إنسانّيتي ولم ألّوث يد ّ‬ ‫ي بدماء البشر‪ ،‬وحين ينتصر الخير‬ ‫في نفسك تحاولين عبثاً ردع ملك الملو ك‪ ،‬فحمقد ه سيكون عظيما ً وانتمقامه لممقتلي سيكون‬ ‫فظيعًا‪ ،‬بحيث لن يبمقى طفل في الرض وبعض الكواكب ا ُ‬ ‫لخرى لن يبكي أّمه وأبا ه‪،‬‬ ‫وأخته وأخا ه‪ ،‬ويعيش الليالي ال ّ‬ ‫طويلة على الملح والماء!‬ ‫فينشب يصراع بينك وبينه‪ ،‬ل يلبث أن يتحّول إلى يصراع على السلطة‪ ،‬يثّم يتحّول إلى‬ ‫حرب ضرو س‪ ،‬تدوم بضعة أعوام‪ ،‬يهزمك فيها هزائم منكرة‪ ،‬ويمقضي على كل جيوشك‬ ‫وجيوش أبيِك وجيوش الملك دامردا س‪ ،‬وجيوش كل الملو ك الذين سينضمون إليك‪،‬‬ ‫ب بعض الملو ك واللهة من أيصدقائي في الكواكب والكوان لنجدتك‪ ،‬فيتم لك النصر‬ ‫فيه ّ‬ ‫على أيديهم بعد حروب طاحنة‪ ،‬تمقتلين فيها الملك شمنهور الجبار وتهزمين جيوشه شر‬ ‫هزيمة وتستلمين الّسلطة‪ ،‬وتمقدمين على إعادة ترتيب أوضاع الكواكب‪ ،‬وتنادين بالّسير‬ ‫على طريمقي‪ ،‬ونشر المحّبة وإحالل الّسالم بين البشر والبشر‪ ،‬وبين الجّن والجن‪ ،‬وبين‬ ‫الجن والبشر‪ ،‬وبين البشر والجن واللهة‪ ،‬فيعّم السالم وتسود المحّبة«‬ ‫كان ت الملكة نور السماء قد أخذت تتعّر‪.‬ق وهي تتوّحد بجسد الملك ُلمقمان‪ ،‬وتمقاِوم بكّل‬ ‫قوتها النفعالت التي ُيثيرها حديث أحالمه وتنبؤاته في نفسها‪ ،‬وما أن توّق ف عن‬ ‫الحديث‪ ،‬حّتى أح ّ‬ ‫س بأنفاسها تهمس متوّسلة‪:‬‬ ‫»وابننا يا حبيبي‪ ،‬ماذا حدث لبننا بعد كّل هذ ه الفظائع واللم؟«‬ ‫»سيعيش في كنفك يا حبيبتي إلى أن يبلغ أشّد ه ويؤتى قدراً وافراً من الِعلم والحكمة!«‬ ‫»وماذا سيحدث بعد ذلك؟«‬


‫»ستتنازلين له عن العرش«‬ ‫»وهل سيتبع طريمقتي وطريمقتك في الحكم؟«‬ ‫»أجل‪ .‬وستفخرين به كثيرًا‪ ،‬وسيكون ملكا ً عظيما ً وعالما ً وحكيما ً كبيرًا‪ ،‬وتسود المحّبة‬ ‫والّسالم في عهد ه كما لم يسودا من قبل«‬ ‫وراح ت تتنّفس بعمق مستشعرة بعض الراحة والطمأنينة يثّم همس ت‪:‬‬ ‫»سأعمل بُكل ما أوتي ت من ممقدرة لتغيير مجرى هذا المقدر الذي رسمته مخّيلتك‪ ،‬ولن‬ ‫أسمح بأن ُترا‪.‬ق نمقطة دم!«‬ ‫»يا حبيبتي‪ ،‬الممقّدر ل مفّر منه‪ .‬أنا لم أسمع أّن أحداً استطاع مواجهة قدر ه أو الهروب‬ ‫منه‪ ،‬وما عليِك إل أن تكملي كتابة سيرة حياتنا لنني سأكون قد شرع ت في كتابتها‬ ‫وويصل ت فيها إلى ما قبل ممقتلي‪ ،‬أكملي كتابتها فمقد يكون فيها فائدة وعبرة للبشر‪،‬‬ ‫وسأطلق على الّرواية الولى منها اسمي‪ ،‬وحين تتّمين كتابتها بتشييع جنازتي‪ ،‬اشرعي‬ ‫في كتابة الّرواية الثانية وأفضل أن يحمل عنوانها »ملك الملو ك« لنها ستتحّدث عن‬ ‫حروبه وأهواله مع الكواكب والبشر‪ .‬ومن يثّم ستأتي الّرواية الثالثة التي تتحّدث عن فترة‬ ‫ُحكمك وأف ّ‬ ‫ضل أن أسميها »الملكة نور السماء« أما الرواية الرابعة والخيرة فستكون‬ ‫بعنوان »الملك سحب السماوات« وهذ ه تتحدث عن الحمقبة التي سيحكم فيها ابننا‪،‬‬ ‫وستنشر وهو على قيد الحياة‪ ،‬وسيمقرأ النس والجن جميعاً سيرة حياتنا ويحتفظون بها‬ ‫مدى الّدهر‪ ،‬لتتناقلها الجيال!!«‬ ‫»لو أنك يا حبيبي أويصلتني إلى هذ ه النهايات السعيدة دون أن تتنبأ بموتك وموت ملك‬ ‫الملو ك وهذ ه الحروب المدّمرة واللم الفظيعة‪ ،‬لكن ت عش ت ُحلما ً جمي ً‬ ‫ال«‬ ‫»أنا آس ف يا حبيبتي‪ ،‬فحتى أحالمنا‪ ،‬ل ُيتاح لنا أن نتحّكم في وقائعها معظم الحيان«‬ ‫وضّمته بشّدة يثانية وهي تهت ف‪:‬‬ ‫»أنا خائفة يا حبيبي«‬ ‫»لماذا يا حبيبتي؟«‬ ‫»لن ما تنبأت به الفعى لّمك قد حدث فع ً‬ ‫ال‪ ،‬وأخا ف أن ل أقدر أنا على تغيير مجرى‬ ‫المقدر‪ ،‬ويحدث ما تنبأت به أن ت في ُحلمك!«‬ ‫»يا حبيبتي‪ ،‬حتى لو حدث‪ ،‬فهو لن يحدث قريبًا‪ ،‬فِلم تفكرين فيه منذ الن‪ ،‬تخّيلي أنني‬ ‫عش ت يثمانية وأربعين عاماً حتى تحمقمق ت نبوءات الفعى لّمي بأنني سأكون ملكًا‪ ،‬ولم‬ ‫تتحمقق إل في اللحظة التي يئس ت فيها من الحياة وقررت النتحار!«‬ ‫»لن أحتمل ذلك حتى لو لم يحدث إل بعد أل ف عام‪ ،‬ل أعر ف بأّية قّوة خارقة سأواجه‬ ‫محنتي فيك!«‬ ‫وقّبلها قبلة حاّرة لتصحو على نفسها وتنسى هذا الُحلم الفظيع‪ ،‬لكن ما أن أتى ملك الملو ك‬ ‫بعد لحظات حّتى راح ت تنظر إليه بعينّي الّريبة‪ ،‬وتغمر رأسها في عنق الملك لمقمان‪،‬‬ ‫وغدا من المستحيل عليها بعد هذ ه التنبؤات الفظيعة أن تنسى أن الملك لمقمان سيموت‬ ‫وأّن حروباً طاحنة ستنشب بينها وبين ملك الملو ك‪ ،‬فصمم ت على الّشروع في تغيير‬ ‫مجرى المقدر‪ ،‬بمجّرد ما تتاح لها الفريصة‪ ،‬لتظل الحياة سعيدة وجميلة‪.‬‬


‫كان ت فرقة الموسيمقى قد ُأنهك ت من جّراء العز ف‪ ،‬وكذلك ُأنهك الراقصون دون أن‬ ‫يتوقفوا‪ ،‬إلى أن جاء ملك الملو ك ليذّكر الملك لمقمان بأّنه نسي أن يوق ف الفرقة عن‬ ‫العز ف!‬ ‫»أو ه أّيها الملك حمقّا ً نسي ت!«‬ ‫ورفع الملك لمقمان يد ه‪ ،‬فراح ت الموسيمقى تختتم ويصلتها ال ّ‬ ‫طويلة‪ ،‬ليعّم التصفيق كافة‬ ‫أرجاء الّروض ويعود النس والجن إلى موائد ال ّ‬ ‫طعام والّشراب‪ ،‬ليأكلوا كما لم يأكلوا من‬ ‫قبل‪ ،‬وليشربوا كما لم يشربوا من قبل‪ ،‬وليتبادلوا العنا‪.‬ق والمقبل كما لم يتبادلوهما من قبل‪.‬‬ ‫‪(10‬‬ ‫رؤية شيطانية وآيات رّبانّية!‬ ‫نهض الملك »دامردا س« هاتفا ً منتشيا ً بما شرب من خمر‪:‬‬ ‫»لنشرب نخب مليكنا العظيم لمقمان«‬ ‫نهض الملك حامينار والملك إبليس والملك شمنهور والراعي الكبر وباقي الملو ك‬ ‫والملكات والمراء والميرات والنس والجن جميعاً وشربوا النخب‪ ،‬وأرا‪.‬ق الماليين‬ ‫منهم الخمر على رؤوسهم‪ ،‬وقد دّب ت في رؤوسهم النشوة وغاب ت عن معظمهم الصحوة‪،‬‬ ‫ونهض الملك »إبليس« وخطا بوقار شديد وبهيئة مالئكية إنسّية أذهل ت الحضور إلى أن‬ ‫وق ف على ممقربة من الملك لمقمان وهت ف بأدب جم‪ ،‬وهو ينحني احترامًا‪:‬‬ ‫»عفواً أيها الملك العظيم«‬ ‫التف ت الملك لمقمان ليرا ه واقفا ً خاِشعا ً ُمنحنيا ً بهذا التهذيب الفائق‪ ،‬فنهض عن ُكرسّيه‬ ‫ص ف على‬ ‫ويصافحه بحرارة‪ ،‬فيما نهض ت الملكة نور السماء وأشارت إلى من في ال َّ‬ ‫المائدة أن ينهضوا احتراما ً للملك‪ ،‬ودعا ه الملك ُلمقمان إلى الجلو س مكانه‪ ،‬غير أّن الملك‬ ‫إبليس أبى طالبا ً التحّدث إليه بكلمة فمقط‪ ،‬فأقسم الملك لمقمان أل ُيبيح له الحديث إل إذا‬ ‫جلس مكانه‪ ،‬فأذعن الملك إبليس وجلس مكان الملك ُلمقمان‪ ،‬ونهض ت الميرة »ظل‬ ‫المقمر« ليجلس الملك لمقمان مكانها‪.‬‬ ‫وحين عاد الجميع إلى أماكنهم‪ ،‬هت ف الملك لمقمان مرّحبا ً بالملك إبليس‪:‬‬ ‫»أل ف أهالً ومرحباً بكم أيها الملك العظيم‪ ،‬لكم تمل قلبي الغبطة وتغمر كياني بهجة‬ ‫الّسعادة بالّتشّر ف بالجلو س إلى جانب عظمتكم!«‬ ‫ولم يشعر الشيطان أنه موضع احترام وبهذا المقدر العظيم‪ ،‬منذ أن حّرم ا عليه ُدخول‬ ‫الجّنة والسماء السابعة‪ ،‬وأحّل اللعنة عليه والّتعوذ منه‪ ،‬فعجز عن إيجاد الكلمات المناسبة‬ ‫للتعبير عن شكر ه وامتنانه‪ ،‬فراح يرد مرتبكا ً متلعثما ً في البداية‪ ،‬لكن ما لبث أن تكّلم بما‬ ‫يليق بالمناسبة‪:‬‬ ‫»إّني لم أشعر بالخجل والّتواضع في حياتي إل أمام عظمتكم أّيها الملك‪ ،‬وإّني لشكر لكم‬ ‫ُحسن استمقبالكم لي‪ ،‬وتمقديركم الفائق لشخصي‪ ،‬وأنا المكرو ه من الجميع‪ ،‬والملعون من‬ ‫الجميع‪ ،‬من النس والجن‪ ،‬من المالئكة واللهة‪ ،‬دون أن أقتر ف ذنبا ً أو آتي سوءًا‪ ،‬بل‬


‫أتي ت خلمقا ً جميالً بهيًّا‪ ،‬وإّني لشكر لكم‪ ،‬من أعما‪.‬ق قلبي دعوتكم لي ولزوجتي وبعض‬ ‫ملوكي‪ ،‬لحضور حفل تتويجكم وزفافكم‪ .‬وإني ما نهض ُ‬ ‫ ت الن ودنوت من مجلسكم إل‬ ‫لطلب إليكم‪ ،‬أن تسمحوا لي أن أعرض مسرحّية قصيرة تتحّدث عن بعض مأساتي«‬ ‫فهت ف الملك لمقمان على الفور‪:‬‬ ‫»إنه لمن دواعي سروري‪ ،‬أن أرى قبساً من خلمقكم البداعي أيها الملك العظيم«‬ ‫وأشار الملك ُلمقمان إلى الملكة نور السماء‪ ،‬أن تنهض بنفسها وتدعو الملكة »بليسة«‬ ‫زوجة الملك »إبليس« لتجلس معهم‪ .‬وأشار إلى ملك الملو ك أن ينهض ليجلس ُهو‬ ‫والميرة ظل المقمر مكاني الملكين‪ ،‬فنهض ملك الملو ك مصطحبا ً الميرة ظل المقمر –‬ ‫ب في نفسه لتخّوفه من أن يمقوم »إبليس« بإغواء‬ ‫التي كان ت ماتزال واقفة – والَّريبة تد ّ‬ ‫الملك لمقمان‪ ،‬وقود ه في ضروب ال ّ‬ ‫ضالل‪.‬‬ ‫أبدت الملكة »بليسة« امتنانها البالغ للملكة »نور السماء« فيما جلس ت الملكة نور الّسماء‬ ‫إلى جانب الملك إبليس مكان ملك الملو ك‪.‬‬ ‫أشار الملك إبليس بحركة من يد ه‪ ،‬فأطفَِئ ت النوار‪ ،‬كّل النوار في كافة أنحاء الروض‬ ‫ُأطفَِئ ت وعّم ظالم حالك‪ .‬وأشار بحركة يثانية‪ ،‬فعّم الفضاء والروض نور أحمر خاف ت‪،‬‬ ‫وتشّكل في الفضاء كو ٌن مصَّغر بعض الشيء‪ ،‬عّمته مئات الكواكب والقمار والّنجوم‬ ‫والّشهب والنياز ك‪ ،‬فيما انبعث ت موسيمقى كونّية خفيفة على الناي‪ ،‬بمرافمقة بعض اللت‬ ‫الموسيمقية ا ُ‬ ‫لخرى‪.‬‬ ‫كان ت هذ ه الكواكب‪ ،‬في بداية تشّكلها وتكّونها‪ ،‬فمقد بدت غازات هائلة تتصارع فيها‬ ‫كالعوايص ف والعايصير‪ ،‬ويتصاعد منها بخار هائل ودخان كثي ف‪ ،‬ليعّما الفضاء‪،‬‬ ‫ويشّكال ُسحبا ً تغ ّ‬ ‫طي الكون‪.‬‬ ‫وكان يثمة كوكب وحيد كبير‪ ،‬بدت عليه بوادر حياة‪ ،‬فمقد تشّكل ت فوقه أرض يبا س‪،‬‬ ‫تخللتها النهار‪ ،‬وانتشرت على أجزاء منها واحات الشجار‪ ،‬وانداح ت على ُمعظمها‬ ‫ميا هُ المحيطات والبحار‪ ،‬وانتشر آل ف الل ف من المالئكة ال ّ‬ ‫صغار فو‪.‬ق يباسها‪ ،‬وراحوا‬ ‫يستصلحون الرض ويثرون تربتها‪ ،‬ويزرعونها بالّنباتات والشجار‪.‬‬ ‫كان الكوكب يحّلق سابحا ً في الكون‪ ،‬وقد لّفه ضباب كثي ف‪ ،‬فراح يزهو بجماله‪ ،‬وبوجود‬ ‫حياة عليه دون غير ه من الكواكب الدائرة حول نفسها في الفضاء‪ .‬وكان يثّمة مال ك هائل‬ ‫الحجم جميل الشكل‪ ،‬وسيم الوجه بهّي الطلعة‪ ،‬يحّلق بجناحين كبيرين في سماء الكوكب‪،‬‬ ‫ط على العشاب‪ ،‬ويتخ ّ‬ ‫ضباب‪ ،‬ويح ّ‬ ‫يعبر سحب ال ّ‬ ‫طم مرحًا‪ ،‬ويستلمقي فرحًا‪ُ ،‬يعانق‬ ‫الشجار ويداعب الّثمار‪ ،‬ويمرح مع يصغار المالئكة من أبنائه‪ ،‬يمّهد التراب ويزيل‬ ‫الحجارة‪ ،‬يسمقي النباتات بيديه‪ ،‬ويحفر بينها قنوات‪ ،‬وما يلبث أن يطير محّلمقا ً يثّم يغطس‬ ‫في ميا ه النهار ليخرج من ميا ه البحار‪ .‬وما يلبث أن يغطس في ميا ه البحار ليخرج من‬ ‫ميا ه المحيطات‪ ،‬وقد ابتّل بالماء‪ ،‬فراح يهطُ​ُل من جسمه وجناحيه‪ ،‬وكان ُكّلما هبط في‬ ‫بحٍر أو نهٍر أو محيط‪ ،‬فاض ت شطآنه لتغمر الرض اليبا س‪.‬‬ ‫وفيما كان الحضور يرقبون بذهول‪ ،‬هذا الجّو الساحر الّخاذ‪ ،‬وبهجة هذا المال ك بأرضه‬ ‫صغار‪ ،‬وإذا بمال ك عمال‪.‬ق له أربعة‬ ‫وتمّتعه بها وعنايته لها‪ ،‬مع أتباعه من المالئكة ال ّ‬


‫أجنحة‪ ،‬قدما ه تغوران في أسافل الكون ورأسه يختفي في العالي يظهر للعيان‪ ،‬وُكلما دنا‬ ‫منه كوكب عليه بعض يبا س‪ ،‬أبعد ه عنه بطر ف يد ه وكأّنه يبعد ُكرة أطفال‪ ،‬وإذا كان‬ ‫غازيّاً ينفخ عليه نفخة يصغيرة من فمه ينجم عنها إعصار‪ ،‬يغّير اّتجا ه دوران الكوكب‪.‬‬ ‫ت هائل‪ ،‬ترددت أيصداؤ ه من أرجاء الكون‪:‬‬ ‫وما لبث هذا المال ك أن هت ف بصو ٍ‬ ‫»يا ميكائيل!«‬ ‫ّ‬ ‫فظهر مال ك يصغير بالممقارنة مع ذا ك‪ .‬كان يطير بجناحين ويحلق في مسرح السماء‪ ،‬وما‬ ‫لبث أن توّق ف وهت ف‪:‬‬ ‫»أمر أخي الملك إسرافيل‪ ،‬ممقرئ الوامر الرّبانّية من اللوح المحفوظ‪ ،‬نافخ الرواح في‬ ‫الجساد‪ ،‬الموّكل بالّنفخ في الصور يوم المقيامة!!«‬ ‫»أه ً‬ ‫ال بأخي ميكائيل مانح الرزا‪.‬ق والحكمة‪ ،‬الباعث على الكمال!«‬ ‫»ُمرني أّيها الملك الكبير«‬ ‫»أوحى إلهك إلّي بأّنه ُيريد شيئاً من أديم الرض‪ ،‬فاهبط إليها وائتني بطين نمقّي منها!«‬ ‫»ماذا ُيريد ا من ال ّ‬ ‫طين أيها الملك الكبير؟«‬ ‫»هذا شأنه أّيها الملك!«‬ ‫»أستحلفك به ألم يخبر ك؟«‬ ‫»قال إّنه سيخلق إنسيًّا!«‬ ‫»أهذا كائن جديد أم ماذا أّيها الملك الكبير؟«‬ ‫»ماذا سيكون إن لم يكن كائنًا؟«‬ ‫»ولَِم سيخلمقه من أديم الرض أُيها الملك الكبير؟«‬ ‫»قال إن الملك إبليس أول ه عنايته إلى أن غدا أفضل من أديم الجّنة«‬ ‫»سأهبط حالً أيها الملك الكبير«‬ ‫»رافمقتك السالمة أيها الملك ميكائيل«‬ ‫وراح المَلك ميكائيل يحّلق هابطاً من العالي‪ ،‬يعبر الفضاء‪ ،‬ماّراً بالكواكب والّنجوم‪،‬‬ ‫ُمجتازاً الّسحب والغيوم‪.‬‬ ‫تسّمر الماليين من الحضور في ممقاعدهم‪ ،‬وتناسوا ال ّ‬ ‫طعام والّشراب والّنساء‪ ،‬ووجد‬ ‫الملك لمقمان نفسه يتحّول إلى عيون وآذان‪ ،‬فها هو الن يرى‪ ،‬وجها ً من أوجه الحمقيمقة‬ ‫التي يبحث عنها‪.‬‬ ‫كان المَلك ميكائيل قد بلغ سماء الرض‪ ،‬وأخذ يجتاز سحبها وغيومها‪ ،‬مختفيا ً تارة بين‬ ‫الّسحب والغيوم‪ ،‬وبادياً تارة أخرى‪ ،‬إلى أن هبط ليلُّفه ال ّ‬ ‫ضباب‪ ،‬وراح يجوب فو‪.‬ق سطح‬ ‫الرض‪ ،‬متلفتا ً ُيمنة ويسرة‪ ،‬فيما كان مال ك الرض يحّلق في ناحية بعيدة منها‪ ،‬يغطس‬ ‫في البحار ويخرج من المحيطات‪.‬‬ ‫ح ّ‬ ‫ط المَلك ميكائيل إلى جانب نهٍر كبيٍر ُيشبه نهر النيل‪ ،‬وراح يجمع الطين من شاطئه‪،‬‬ ‫مختاراً ما هو الفضل منه‪.‬‬ ‫وفيما كان َمال ك الرض يخرج من ميا ه المحيط‪ ،‬هاتفه هاجس الرض‪:‬‬ ‫»أن ت ُهنا تمرُح في مياهي أّيها المال ك‪ ،‬فيما آخرون‪ ،‬يسطون على أديمي دون أن‬


‫تدري«‬ ‫فصرخ المال ك بأعلى يصوته وهو يحّلق عاليا ً ناِظراً إلى الرض‪:‬‬ ‫»من يجرؤ على الَّسطو على أديِمك‪ ،‬وأن ت في رعايتي أّيتها العزيزة على قلبي؟«‬ ‫»إّنه يصنو ك ميكائيل‪ ،‬يجثو ُهنا ك إلى جانب وريدي الوسط ويجمع أديمي من حاّفته!«‬ ‫»ل أّيتها العزيزة على قلبي لن أدعه يأخذ من أديمك مثمقال ذّرة!«‬ ‫وطار المال ك بسرعات هائلة‪ ،‬إلى أن ح ّ‬ ‫ط أمام المَلك ميكائيل‪ ،‬وزجر ه بصوت هائل‪:‬‬ ‫»ما الذي تفعله بعزيزة قلبي أيها المال ك ميكائيل؟!«‬ ‫»أهالً بأخي المَلك إبليس‪ ،‬وكيل الرض وحارسها‪ ،‬وراعي الحياة فيها‪ ،‬وباعث الخير‬ ‫لها‪ ،‬والساهر دوماً على بهجتها وازدهارها وكمالها‪ .‬إّني اجمع أديما ً ل أيها المال ك!«‬ ‫»ألم يكن جديراً بك أن ُتحّيي وتسّلم وتطلب الديم من والي الرض وسّيدها أّيها‬ ‫المال ك؟!«‬ ‫»معذرة أّيها المال ك إبليس«‬ ‫ ت الجّنة وسطو ُ‬ ‫»ما موقفك لو أنني أتي ُ‬ ‫ت على أرزاقك وسّر حكمتك‪ ،‬وقدرتك على بعث‬ ‫الكمال‪ ،‬حتى لو كن ت مرسالً من قبل ا؟!«‬ ‫»أظّن أنني سأغضب منك أّيها المال ك!«‬ ‫»وأنا غضب ت ِمنك‪ ،‬فإذا كن ت حمقا ً ُمرسالً من قبل ا أو من قبل إسرافيل‪ ،‬فاذهب‬ ‫س لسوِء تصّرفك فحسب‪ ،‬بل لن ا أويصاني‬ ‫وبّلغهما أّني أرفض أن ُأعطيك شيئًا‪ ،‬لي َ‬ ‫حين أوكلني بالرض أن أيصون أديمها وألّ أفّرط بذّرة من ترابها أو نمقطة من مائها حّتى‬ ‫له! يثّم إّن الّتراب يمل العديد من الكواكب ا ُ‬ ‫لخرى والجنان والسموات‪ ،‬فلماذا ل ُيريد ه‬ ‫إل من الكوكب الذي خّول وليته إلّي؟!‪ ..‬أل يعني هذا أّنه يحاول اختبار مدى حريصي‬ ‫عليه وتمّسكي بأديمه ويصوني لترابه؟!«‬ ‫»ستغضب وجه ا أّيها المال ك!«‬ ‫ضب وجه ا إذا حريص ُ‬ ‫ ت على تنفيذ ويصايا ه؟ وعاني ت مع أتباعي ما عاني ت‪،‬‬ ‫»لَِم ُأغ ِ‬ ‫لل ف آل ف الّسنين‪ ،‬كي أظَّل أمينا ً على عهد ه‪ ،‬ووفياً له‪ ،‬وها أنذا مازل ت أشمقى في هذ ه‬ ‫الرض إلى أن يصارت فرجة للناظرين‪ ،‬تنفيذاً لتعاليمه وويصايا ه؟«‬ ‫وغضب الملك ميكائيل وطار محّلمقا ً في سماء المسرح الّسماوي ليختفي في العالي بين‬ ‫الّسحب والغيوم‪ ،‬ولم تمر سوى لحظات حّتى ظهر مال ك آخر راح يهبط من العالي‬ ‫ليح ّ‬ ‫ط على الرض على ممقربة من المال ك إبليس‪ ،‬ويهت ف‪:‬‬ ‫»السالم على أخي المال ك إبليس وكيل الرض وحارسها وراعيها«‬ ‫»وعلى أخي المال ك جبريل المكين والروح المين الّسالم«‬ ‫»لَِم أغضب ت ا أيها المال ك الُمِكّد‪ ،‬ولم ترسل إليه بأديم الرض مع المال ك ميكائيل؟«‬ ‫»هل قابل ت ا أيها المال ك النبيل‪ ،‬أم خاطبك بصوته أم أوحى لك بذلك؟!«‬ ‫»ل أيها المال ك‪ ،‬أبلغني المال ك إسرافيل«‬ ‫»ماذا قال لك أّيها المين؟«‬ ‫»قال إّنك أبي ت أن تعطي ميكائيل أديماً من باطن الرض‪ ،‬وأن ا غضب لذلك‪ ،‬فمقرر‬


‫ضر الديم«‬ ‫أن يرسلني أنا كي ُأح ِ‬ ‫»أتظّن أّيها الّروح المين أّن إسرافيل يطمع بجمال الرض ويدّبر مكيدة لي كي ُيبّين ل‬ ‫أّني لس ت جديراً بأن أكون وكيالً وحارسا ً وراعيا ً لها؟!«‬ ‫»واِ إني أيها الَملَ ُ‬ ‫ئ الوامر الَّربانية‪ ،‬وأمين اللوح‬ ‫ك الجميُل ل أجرؤ على الَّشِك بممقر ِ‬ ‫المحفوظ ونافخ الّروح في الكائنات ومن سينفخ في الصوِر يوم المقيامة؟!«‬ ‫»أو لعَّل ا يريد أن يختبر مدى وفائي له وحريصي على تنفيذ ويصايا ه؟!«‬ ‫»وهل ُيمكن أن يُشَّك الخالق في مدى وفائك وحريصك‪ ،‬يا باعث الخير وواهب الحياة‬ ‫الّدنيا؟!«‬ ‫»وا إّني لفي حيرة ِمن أمري أّيها الروح المين‪ ،‬بَم تنصحني أّيها المكين؟!«‬ ‫»إني خائ ف عليك أيها المكّد الَجِلد‪ ،‬يا من شمقي ت آل ف الّسنين وأن ت تولي الرض ُحّبك‪،‬‬ ‫وتكلؤها برعايتك وتغمرها بعنايتك‪ ،‬وتمنحها نسيم الخير من روِحك‪ ،‬إلى أن فاض ت من‬ ‫ينابيعها وأخاديدها روعة الحياة‪ ،‬إن أعطيتني الطين وكان باعث المر مكيدة من‬ ‫إسرافيل أو اختباراً من ا‪ ،‬غضب عليك ا في الحالين!«‬ ‫»إني أتوَّسل إليك أن تجد لي مخرجا ً أّيها الروح المقُ​ُد س«‬ ‫»ليس أماَمك إل أن تصَّر على عهد ك ل بالوفاء والخالص ما ُدم ت حيًّا«‬ ‫وطار المال ك جبريل محّلمقاً في العالي دون أن يأخذ طينا ً من أديم الرض‪ ،‬ولم يكد‬ ‫يختفي حتى ظهر مال ك آخر وهبط على الرض ليمق ف في مواجهة المال ك إبليس ويهت ف‬ ‫بصوت ف ّ‬ ‫ظ مسّلمًا‪:‬‬ ‫»الّسالم على المال ك إبليس باعث الخير وراعي الحياة‪ ،‬وكيل الرض وحارسها«‬ ‫»وعلى قابض أرواح الكائنات‪ ،‬ومفّر‪.‬ق الّنفو س ومسّكن الحركات مَلك الموت عزرائيل‬ ‫السالم!!!«‬ ‫»لَِم هذا اليصرار العنيد على إغضاب وجه ا أيها المال ك؟«‬ ‫»أنا ل أفهم أّيها المَلك‪ ،‬كي ف ُيصبح عندكم الخالص إلى الله إنكاراً ورفضا ً‬ ‫وإغضابًا؟!«‬ ‫»إني الّرسول الخير كي ترسل إلى ا أديماً أيها المال ك‪ ،‬وإل سيغضب منك ويحّل‬ ‫لعنته عليك!«‬ ‫»هل أبلغك هو ذلك؟«‬ ‫»ل‪ .‬أبلغني إسرافيل«‬ ‫»إّني ل أيثِ ُ‬ ‫ق بمن خلمقه ا كما خلمقني‪ ،‬بعد أن أويصاني الخالق ألّ أفّرط بذّرة من تراب‬ ‫الرض حتى له‪ ،‬يؤسفني أن أعيد ك خائبا ً أيها المال ك«‬ ‫»ستندم على سوء أفعالك أّيها المال ك!«‬ ‫»لن أندَم على ما لم أقترفه أيها المال ك‪ ،‬وأظّن أّن في ممقدور ا أن يخاطبني أو يظهر لي‬ ‫دون وسطاء إذا هو في حاجة إلى أديم من التراب الذي أوكلني به!«‬ ‫وطار المال ك عزرائيل غاضباً ليختفي في العالي‪ ،‬وفيما المال ُ‬ ‫س يجوب الرض‬ ‫ ك إبلي ُ‬ ‫قلمقا ً محتاراً في أمر ه‪ ،‬دّوى يصوت هائل عذب جميل كاِمل‪ ،‬تردد يصدا ه من أرجاء الكون‬


‫وتبددت من أمامه ُسحب الغيوم وسدائم ال ّ‬ ‫ضباب‪ .‬قال‪:‬‬ ‫ ت إليك رعايته حين كن ت مالكا ً‬ ‫‪.‬ق‪ ،‬تضّن علّي بأديم منحتك ترابه‪ ،‬وأوكل ُ‬ ‫»لَِم أيها العا ُ‬ ‫تمقيًّا؟!«‬ ‫توّق ف المال ك إبليس ونظر نحو السماء‪ .‬قال‪:‬‬ ‫»َمن الهات ُ‬ ‫ ف؟«‬ ‫قال‪:‬‬ ‫»من سيكون أيها العا ُ‬ ‫‪.‬ق إذا لم يكن إلَهك الذي خلمقك ُغالما ً وجعلك مالكا ً زكيًّا؟!«‬ ‫قال المال ك إبليس‪:‬‬ ‫»لَِم تغّير يصوتك يا إلهي؟!«‬ ‫قال‪:‬‬ ‫»يصوتي أّيها العا‪.‬ق لم يتغّير‪ ،‬أن ت الذي تغّيرت ويصار يصوتي لدنك منسيًّا«‬ ‫قال المال ك‪:‬‬ ‫»ل َأظن أّني سأنسى يصوت من خاطبني في الجّنة ِعشّيا‪ ،‬ومنحني الرض وأوكلني‬ ‫يصونها ورعايتها لجعل منها جنائن وأوجد فيها يثمراً شهيًّا!«‬ ‫قال‪:‬‬ ‫»أتشكك حتى بصوتي أيها العا‪.‬ق‪ ،‬ليتني لم أهبَك جمالً مالئكيًّا!!«‬ ‫قال المال ك‪:‬‬ ‫»إني أشكك بالصوت التي إلّي دويًّا‪ ،‬فإن كن ت إلهي أرني اليوم نفسك كي ل أظّل في‬ ‫ِريبة من أمري وأظَّل حزينا ً شمقيًا!!«‬ ‫قال‪:‬‬ ‫»أَو تكفر بي أيضا ً أيها العا‪.‬ق‪ ،‬ليتني خلمقتك كائنا ً وحشيًّا!«‬ ‫قال المال ك‪:‬‬ ‫»بل ليطمئن قلبي‪ ،‬إذ في نفسي شهوة تدفعني لن أعر ف شكل من جعلني جميالً بهّيا!«‬ ‫قال‪:‬‬ ‫»لو أرسل ت لي طينا ً لخلق منه اليوم إنسيًا‪ ،‬لريتك شيئا ً من نفسي أيها الّسامُع اليصّم‬ ‫يصبحا ً وِعشيًّا‪ ،‬أما وقد عصي ت أمري فلن تراني ما‬ ‫والمبصُر العمى‪ ،‬ولجعلتك تراني ُ‬ ‫دم َ‬ ‫ض والكواكب والسموات الّدنيا‪،‬‬ ‫ ت حيًا‪ ،‬وليحّرم عليك ملكوتي ولتظّل هائما ً في الر ِ‬ ‫ولتحَّل لعنتي عليك‪ ،‬فأن َ‬ ‫ ت منذ اليوم جنيًّا!«‬ ‫وتوّق ف الصوت الهائل‪ ،‬ولم يعد ُيسمع‪ .‬راح المال ك إبليس يجوب الرض محتاراً قلمقًا‪،‬‬ ‫تتصارع في مخّيلته الهواجس‪:‬‬ ‫»هل حمقا ً كان هذا يصوت ا‪ ،‬وهل حمقا ً كان يريد الّتراب ليخلق إنسيًا؟!«‬ ‫وأطر‪.‬ق للحظات ُيفّكر‪ ،‬وما لبث أن استأن ف حوار ه مع نفسه‪:‬‬ ‫»حمقاً كان هذا يصوت ا‪ ،‬ماذا دهاني وشّوش ذاكرتي‪ ،‬ل يتكّلم بهذ ه اللغة ذات الموسيمقى‬ ‫المتفّردة إل ا‪ ،‬حتى أّنه منحني َملَ​َكتها وجعلني ُأجيبه بها كي أفهم وأقتنع‪ ،‬لكني لم أفهم‬ ‫ولم أقتنع‪ ،‬لمقد كن ت أسمع يصوته ورّبما أرى يصورته‪ ،‬وإل ما معنى أن ينعتني بالسامع‬


‫اليصم والمبصر العمى؟ وها أنا أفمقد َمَلكة اللغة التي منحني إّياها خالل مخاطبته! حمقا ً‬ ‫كان الصوت يصوته‪ ،‬وربما التبس علي لّنه يخاطبني من بعيد‪ ،‬ولم أكن قريبا ً منه كما‬ ‫في الجّنة‪ .‬يا إلهي‪ ،‬يا من خلمقتني في أجمل شكل وأوكل ت إلّي رعاية الرض‪ ،‬ماذا‬ ‫سأفعل كي أرضيك؟! ماذا لو حاول ت أنا بنفسي خلق هذا النسي؟ ألن أحافظ على عهدي‬ ‫لك بأن أيصون تراب الرض وماَء ها‪ ،‬وألن أكون قد أرحتك من عناء عملية الخلق‪ ،‬إذا‬ ‫كن ت تريد حمقّا ً أن تخلق إنسيًا؟ أجل أجل سأفعل ذلك!«‬ ‫وشرع المَلك إبليس يجمع أفضل ما يعرفه من أديم الرض‪ .‬من شاطئ النيل )وريد‬ ‫الرض الوسط( جمع‪ ،‬من شاطئ الفرات )وريد الرض الثاني( جمع‪ ،‬وحمل ما جمعه‬ ‫إلى شاطئ الردن )شريان الرض اليصغر( حيث جمع من هنا ك أغنى التراب‪ ،‬وأهاله‬ ‫فو‪.‬ق ما أحضر ه من شاطئ النيل والفرات‪ .‬ومن مكانه على شاطئ الردن‪ ،‬مّد يد ه إلى‬ ‫بحيرة الملح وغر ف من مائها َغرفة يصغيرة‪ ،‬سكب منها فو‪.‬ق الكومة‪ ،‬ورشق الباقي في‬ ‫الّنهر‪ ،‬وما لبث أن شرع يتعّر‪.‬ق بشّدة ليهطل من جسد ه عر‪.‬ق غزير راح يسكب منه على‬ ‫الكومة‪ ،‬فسكب عليها ضعفي ما أحضر ه من الماء المالح من بحيرة الملح‪ ،‬يثم فصد‬ ‫ساعد ه‪ ،‬فانبجس الدم منه‪ ،‬فأضا ف إليها من دمه أربعة أضعا ف ما أضافه من الماء‬ ‫المالح والَعَر‪.‬ق‪ ،‬ففاض ت الحفرة التي عملها وسط الكومة‪ ،‬فاض ت بالعر‪.‬ق والّدم والماء‬ ‫المالح‪.‬‬ ‫سّمى المال ك إبليس بال قائ ً‬ ‫ال‪» :‬بسم ا الرحمن الرحيم« وشرع في خلط الكومة‬ ‫وعجنها بيديه إلى أن امتص ت العر‪.‬ق والدماء والملح‪ ،‬فغر ف عليها من ماء النهر العذب‬ ‫البارد واستأن ف الخلط بيديه‪ ،‬وراح يعجن إلى أن غدت الجبلة كتلة واحدة لدنة لّينة‪.‬‬ ‫وبدا الملك إبليس محتاراً وهو يردد‪:‬‬ ‫»لكن على أّية شاكلة تريد أن أجبله يا إلهي؟«‬ ‫وحين أدر ك أن ا لم يخلق من هو أجمل منه راح يهت ف‪:‬‬ ‫»على شاكلتي‪ ،‬فأن ت لم تخلق من هو أجمل مّني‪ ،‬أجل سأجبله على شاكلتي«‬ ‫»وسّمى بال يثانية وشرع يجبل تمثالً على شاكلته‪ ،‬وهو يذكر اسم ا‪ ،‬فصنعه واقفا ً على‬ ‫يصنع أنثى له‪ .‬وما أن‬ ‫قدميه‪ ،‬وحين رأى أّنه حسن‪ ،‬وأن لديه المزيد من الطين‪ ،‬شرع في ُ‬ ‫أنهاها حّتى أوقفها إلى جانبه‪ ،‬وراح يتأّمل جمال التمثالين وهو في غاية الفرح والدهشة‬ ‫لجمال ما جبله‪ .‬وما لبث أن استدار نحو الشمس وهو يتطاول واقفا ً على رؤو س أيصابع‬ ‫قدميه‪ ،‬ليبلغ رأسه عنان السماء‪ ،‬ولتتكسر أشعة الشمس على وجهه‪ .‬شهق شهيمقا ً عميمقا ً‬ ‫أخذ معه ممقداراً من حرارة الشمس وراح ينفثه على التمثالين ليجّفا‪ ،‬وما أن جففهما حّتى‬ ‫شرع ينادي بأعلى يصوته‪:‬‬ ‫»يا إسرافيل‪ ،‬يا نافخ الرواح في الجساد‪ ،‬إن كان إلهك يريد حمقا ً أن يخلق إنسًا‪ ،‬فها أنذا‬ ‫قد أرحته وخلمق ت ذكراً وأنثى‪ ،‬وأسميتهما آدم وحّواء‪ ،‬وإّني أناشد ك أن تنفخ في جسديهما‬ ‫روح الحياة البدّية‪ ،‬لينطلمقا في الرض وينجبا نسالً زكيًا‪ ،‬وسأرعاهما وأرعى نسلهما‬ ‫ماُدم ت حيًا!«‬ ‫غير أن أحداً لم يستجب إليه‪ ،‬فراح يصرخ باكيا ً وبأعلى يصوته مناديًا‪:‬‬


‫»يا إلهي‪ ،‬يا إسرافيل‪ ،‬لَِم ل تجيباني؟ ها أنذا قد أرحتك يا إلهي وخلمق ت إنسا ً إن كن ت تريد‬ ‫ذلك‪ ،‬لم ل تجيباني؟!«‬ ‫وما لبث أن شرع في ُبكاء مرير‪ ،‬وكأنه رضيع ُحِرم من يثدي أّمه‪ ،‬وأخذ يخاطب‬ ‫التمثالين‪:‬‬ ‫»معذرة أّيها الجميالن‪ ،‬لمقد أبى ا وإسرافيل أن ينفخا في جسديكما روح الحياة البدية‪،‬‬ ‫سأنفخ في جسديكما روح الحياة الّدنيا«‬ ‫ب في جسد آدم‬ ‫وشرع ينفخ في فم آدم وأنفه والدموع تنزلق على وجنتيه‪ ،‬وبدأت الحياة تد ّ‬ ‫شيئا ً فشيئا ً إلى أن دّب ت في كاّفة أنحاء جسد ه‪ ،‬وحين رأى الملك إبليس أّنه فائق الحسن‬ ‫والجمال‪ ،‬سجد أمامه وهو يهت ف‪:‬‬ ‫»عظيم أن دّب ت في جسد ك الحياة أّيها المخلو‪.‬ق الجميل«‬ ‫ونهض وشرع ينفخ في فم حّواء وأنفها إلى أن دّب ت الحياة في جسدها‪ ،‬وما أن تأّمل‬ ‫جمالها حتى راح يرقص فرحا ً ويصّفق بيديه ويمقفز عاليًا‪ ،‬وما لبث أن هت ف‪:‬‬ ‫»هّيا انطلمقا في الرض‪ُ ،‬كال من طّيباتها وتناكحا‪ ،‬وأنجبا نسالً كثيرًا«‬ ‫ضباب‪ ،‬الذي كان يل ّ‬ ‫انطلق آدم وحّواء يتجّولن في الرض عاريين‪ ،‬بين سحب ال ّ‬ ‫ ف‬ ‫كوكب الرض‪ ،‬لكن ما أن ابتعدا بعض الشيء والمال ك إبليس يرقبهما من بعيد‪ ،‬حّتى‬ ‫هبط عليهما من السماء مال ك هائل مجّنح‪ ،‬وحملهما وطار بهما عاليًا‪ ،‬فصرخ المال ك‬ ‫إبليس هاتفًا‪:‬‬ ‫»ل! من هذا الذي يجرؤ على اختطا ف من جبلتهما بيدي من طين أرضي الذي مزجته‬ ‫بدمي وعرقي ونفخ ت فيه من روحي‪ ،‬إّني أعوذ بال منك كائنا ً من تكون!!«‬ ‫فجاء ه هات ف من السماء‪:‬‬ ‫»يا إبليس‪ ،‬رأى ا أن خلمقك حسن فطلب أن نرفعه إلى الجنان«‬ ‫»ل ل أن ت تكذب أيها الهات ف‪ ،‬لمقد أويصاني ا أل أفّرط بذّرة من تراب الرض‪ ،‬فكي ف‬ ‫بمن خلمقته وأحييته من طينها؟!«‬ ‫وطار المال ك إبليس بأقصى سرعة ليلحق بالمال ك ويخّلص المخلوقين‪ ،‬بيد أّنه لم يتمّكن‬ ‫من اللحا‪.‬ق به‪ ،‬وحين بلغ السماء السابعة وهو يصعد خلفه ايصطدم رأسه بها ليعود‬ ‫المقهمقرى إلى الرض‪.‬‬ ‫جلس المال ك إبليس ينهل التراب ويذّر ه على نفسه‪ ،‬وينت ف شعر رأسه ويلطم بمقبضته‬ ‫على يصدر ه ويندب ح ّ‬ ‫ظه الّتعس يصارخا ً باكيا ً نائحا ً بأعلى يصوته ومن أعما‪.‬ق ُجرحه‪.‬‬ ‫ُأضيئ ت أنوار المسرح السماوي الكوني وأضواء الّروض دفعة واحدة‪ ،‬وضّج آل ف‬ ‫الماليين من الحضور بالتصفيق الحار‪ ،‬فيما شرع الممثلون الجن الذين قاموا بأدوار‬ ‫إبليس وجبريل وإسرافيل وميكائيل وعزرائيل وآدم وحّواء بالظهور على المسرح‪ ،‬وهم‬ ‫ينحنون تحّية واحتراما ً للجمهور واحداً بعد الخر‪ .‬وقد استمقبل الممثل الضخم الهائل‬ ‫الذي قام بدور المال ك إبليس بتصفيق حار‪ ،‬ويصراخ وهتا ف وُبكاء وعويل لم يشهد‬ ‫المسرح الكوني مثيالً له‪ ،‬وراح الملك ُلمقمان ُيعانق المِلك إبليس إلى جانبه ويهنُّئه على‬ ‫العرض المؤيثر الجميل‪ ،‬وآيثار الحزن والتأيثر ما تزال بادية على وجهه والدموع تترقر‪.‬ق‬


‫في عينيه‪ ،‬فيما اندفع آل ف الُمشاهدين والمشاهدات من الجن والنسيات‪ ،‬يمطرون‬ ‫الممثلين بالورود‪ ،‬ويغمرونهم بالمقبالت‪ ،‬مما دفع الملك شمنهور إلى العتمقاد بأن إبليس‬ ‫أغوى الحضور جميعا ً وحاد بهم عن جادة ال ّ‬ ‫صواب‪.‬‬ ‫وكان ت فرحة المِلك إبليس كبيرة لتعاط ف المِلك لمقمان معه‪ ،‬وتأيثر ه لمأساته‪ ،‬وإعجابه‬ ‫وإعجاب آل ف الماليين بالعرض‪ ،‬فراح يشكر ه من أعما‪.‬ق قلبه على الفريصة العظيمة‬ ‫التي أتاحها له بتمقديم هذا العرض على المسرح السماوي وأمام هذا الجمهور الهائل‪.‬‬ ‫وأمر الملك لمقمان بدعوة الممثلين إلى الحفل وإكرامهم خير إكرام‪ ،‬وأمّر بضّمهم إلى‬ ‫فرقة المسرح الملكي بعد موافمقة المِلك إبليس‪.‬‬ ‫وراح الملك لمقمان يحاِور المِلك إبليس حول العرض محاولً أن يعر ف منه باقي المق ّ‬ ‫صة‪:‬‬ ‫»في الحمقيمقة أيها الملك العظيم أنني يصعدت إلى السماء هربا ً من الظلم والعذابات وسعيا ً‬ ‫وراء الحمقيمقة‪ ،‬وها أن ت تصدمني بعرضك الجميل والمؤّيثر‪ ،‬ولكتش ف أّن الظلم ُأحيق بك‬ ‫منذ بدايات الخلق‪ ،‬وأن ممقدرتك العظيمة وحمقيمقتك الّنبيلة ُ‬ ‫طمستا وُأهملتا‪ ،‬وحّل ت بك‬ ‫اللعنات والعمقوبات دون أن تمقتر ف ذنبًا‪ ،‬ونسج ت حولك الكاذيب والفتراءات دون أن‬ ‫تأتي سوءًا‪ ،‬بل أتي ت إعجازاً عظيمًا‪ ..‬لكن ماذا جرى بعد ذلك أّيها الملك العظيم‪ ،‬هل‬ ‫تأّكدت من أّن ا هو حمقاً من كان يريد التراب وهو من أيصعد آدم وحّواء إلى السماء‬ ‫السابعة؟!«‬ ‫»أجل أيها الملك العظيم‪ ،‬تأّكدت من ذلك حين عرف ت أّنه وضعهما في الجّنة‪ ،‬فرح ت‬ ‫أتوّسل إليه أن يعفو عّني ويغفر لي‪ ،‬فأنا لم أتصّر ف بما تصّرف ت به إل تنفيذاً لويصايا ه‪،‬‬ ‫ولم أخلق آدم وحّواء إل لريحه من عملّية الخلق‪ ،‬وأيصون تراب الرض الذي أويصاني‬ ‫به‪ ،‬فأبى‪ ،‬أبى أيها الملك ولم يذعن لي ولتوّسالتي وآهاتي‪ .‬ونظراً لن آدم وحّواء كانا‬ ‫ِمن خلمقي فمقد منعهما من أكل أيثمار شجرتي الحياة والمعرفة‪ .‬وحين أخبرني أخي جبريل‬ ‫بذلك‪ ،‬لم أيصّد‪.‬ق‪ ،‬ولم أعر ف كي ف أيصل إليهما‪ ،‬فمقد منعني من ال ّ‬ ‫صعود إلى الجّنة‪،‬‬ ‫وحّولني إلى جّني بعد أن كن ت مالكًا‪ ،‬وحرمني من فلذتي كبدي اللذين خلمقتهما بيدي‪..‬‬ ‫فكان أن أرسل ت لهما الفعى لتدعوهما إلى تناول أيثمار الشجرتين‪ ،‬ليعرفا الخير من‬ ‫ظهما وح ّ‬ ‫الشر‪ ،‬وتكتب لهما الحياة البدية‪ ،‬ولسوء ح ّ‬ ‫ظي أيضًا‪ ،‬لم يأكال إل من شجرة‬ ‫المعرفة‪ ،‬فمقد اكتش ف ا فعلتهما‪ ،‬فغضب عليهما وعلى الفعى‪ ،‬وطردهما من الجّنة –‬ ‫كما طرد الفعى – وأعادهما إلى الرض حيث أنا«‬ ‫كن ت فرحا ً بعودتهما وحزينا ً لّنهما عادا إلّي بحياة قصيرة‪ ،‬هي الحياة التي وهبتهما أنا‬ ‫إّياها‪ ،‬وهاتفني يصوت إسرافيل من العالي‪:‬‬ ‫»خذهما أّيها العا‪.‬ق‪ .‬هذا ما يمقوله لك ا‪ ،‬فهاهو ُيعيد خلمقك إليك‪ ،‬هل كن ت تريدهما أن‬ ‫ينعما مثله بالحياة البدّية؟! أل يكفيك أّنك أطعمتهما من شجرة المعرفة؟ سيزرع‬ ‫كراهّيتك في نفسيهما كي ل تجني منهما ومن نسلهما إل العذابات واللعنات التي ستظّل‬ ‫ب على رأسك مادام ت الحياة!«‬ ‫تنص ّ‬ ‫فرح ت أيصرخ أيها الملك‪:‬‬ ‫»ل‪ ،‬ل‪ ،‬إني أتوّسل إليه‪ ،‬وأناشد ه برحمته وعظمة جبروته أل يفعل‪ ،‬أل يكفي أنه‬


‫حرمهما متعة الحياة البدّية‍؟«‬ ‫غير أن أحداً لم يستجب إلّي أيها الملك العظيم‪ ،‬وهاأنذا أعيش مأساتي وسط ماليين‬ ‫ب على رأسي وتمق ّ‬ ‫اللعنات وماليين الّتعاويذ التي تحايصرني وتنص ّ‬ ‫ض مضجعي وتثمقل‬ ‫ي قوة يمكنها أن تنمقذني من هذا‬ ‫على نفسي وتدّمر كياني كل لحظة‪ ،‬وكّل طرفة عين‪ ،‬فأ ّ‬ ‫العذاب‪ ،‬وتعيد إلّي بعض حّمقي في حياة كريمة‪ ،‬وتنهي هذا النزاع البدي بيني وبين ا‪،‬‬ ‫وتمحو هذ ه الكراهية التي زرعها نحوي في نفو س من خلمق ت بيد ّ‬ ‫ي‪ ،‬ومنحته دمي‬ ‫وعرقي ليسريا في جسد ه مدى الحياة‍؟!!«‬ ‫وراح الملك لمقمان يضّم الملك إبليس إليه بموّدة وتعاط ف بالغين‪ ،‬مما دفع ملك الملو ك‬ ‫وبعض الحضور إلى الجزم بأن الشيطان أغوى الملك لمقمان وضّلله عن الحق‪ .‬وكان‬ ‫الملك لمقمان يهت ف إلى الملك إبليس بكل خلجات نفسه‪:‬‬ ‫»كم أنا حزين لمأساتك أيها الملك العظيم‪ ،‬وكم يعتصر اللم قلبي وأنا أرى مبدعا ً وخالمقا ً‬ ‫عظيما ً ونبي ً‬ ‫ال مثلك‪ ،‬يكتوي بنار اللم‪ ،‬التي يعجز الخلق كّله من إنس وجن وآلهة‬ ‫وحيوان ونبات عن احتمال وطئها على النفو س‪ ،‬إّني لعاهد ك أّيها الملك العظيم أن‬ ‫أعمل بكّل ما أستطيعه على تغيير يصورتك في أذهان الخلق ووعيهم وعمقولهم‪ ،‬لعّلني‬ ‫ُأعيد إليك شيئا ً من حمقيمقتك النبيلة‪ ،‬وإّني لعاهد ك إذا ما قابل ُ‬ ‫ ت ا يوما ً أن أطرح قضّيتك‬ ‫أمامه‪ ،‬وأطلب التوبة لك والعفو عنك‪ ،‬وإعادة حّمقك المهضوم إليك‪ ،‬رغم قناعتي أّنك لم‬ ‫تمقتر ف سوءاً يستحق أن تتوب عنه«‬ ‫»لمقد حاول أخي الحبيب جبريل ذلك دون جدوى أيها الملك العظيم«‬ ‫ع اليأ س يستولي على أعما‪.‬ق نفسك‪ ،‬ليكن المل هاجسك‪ ،‬والتفاؤل‬ ‫»ومع ذلك ل تد ِ‬ ‫بالمستمقبل وإحمقا‪.‬ق الحق ونشدان العدالة غاياتك‪ ،‬فثّمة بين البشر والجن من يحّبك‪ ،‬ويثّمة‬ ‫من يرى أّنك حمقاً مظلوم‪ ،‬ولم يشتمك منذ أن أدر ك الحياة‪ ،‬ولمقد كن ت أنا أحد هؤلء‬ ‫النا س«‬ ‫»كن ت أعر ف ذلك أيها الملك‪ ،‬ولهذا أحبب ت أن أعرض عليك مأساتي«‬ ‫»إذن ل تيأ س‪ ،‬يثّم هل أبلغك جبريل أّنه رأى ا‪ ،‬وأّنه فعالً عرض عليه توبتك والعفو‬ ‫عنك؟!«‬ ‫»لم َير أح ٌد منا ا منذ أن وجد أيها الملك‪ ،‬ولم يجرؤ أحد منذ بدء الخليمقة على الّدعاء‬ ‫أّنه رآ ه‪ ،‬إننا وفي أحسن الحوال نسمع هاتفا ً يهت ف إلينا يمقول إّنه ا! إّن ا ما يزال لغزاً‬ ‫على المالئكة والجّن والنس أيها الملك! نحن نعتمقد بوجود ه‪ ،‬ويرى بعضنا أن أفعالنا‬ ‫وردود هذ ه الفعال تحدث بوحي منه!!«‬ ‫»لبُّد لنا من حّل هذا اللغز أّيها الملك العظيم‪ ،‬فثّمة من لم يعودوا خائفين من البحث عن‬ ‫الحمقيمقة وسبر أغوار الخليمقة!«‬ ‫»كم أنا سعيد لتعّرفي إليك ولمقائي بك‪ ،‬لم يبعث أحد المل في نفسي كما بعثته أن ت«‬ ‫وضّج ت موسيمقى يصاخبة فانفصال عن بعضهما‪.‬‬ ‫كان جميع الحضور ينظرون إليهما بدهشة وقد عّم الصم ت جو الحفل فغدا كمأتم‪ ،‬فأمر‬ ‫ملك الملو ك بموسيمقى يصاخبة للرقص‪ ،‬فنهض الماليين من النس والجن‪ ،‬من الرجال‬


‫والنساء‪ ،‬من الشباب والفتيات‪ ،‬من الشائبين والشائبات‪ ،‬من خريفي العمار‬ ‫والخريفّيات‪ ،‬من الطاعنين والطاعنات‪ ،‬نهضوا إلى الرقص‪ ،‬وقد دارت النشوة في‬ ‫رؤوسهم وترّنح ت أجسادهم من شّدة الّسكر‪ ،‬فأخذوا ينزعون يثيابهم‪ ،‬آل ف الماليين‬ ‫نزعوا يثيابهم وراحوا يرقصون عراة‪ ،‬بجنون راحوا يرقصون‪ ،‬إنس وجّن كانوا‬ ‫يرقصون‪ ،‬وما لبث ت الجساد أن غرق ت بالجساد والسيمقان بالفخاذ‪ ،‬فراحوا يتبادلون‬ ‫المقبل ويتعانمقون‪ ،‬في ممرات الروض‪ ،‬في حدائمقه وتح ت أشجار ه‪ ،‬على مسارحه‬ ‫ومراقصه‪ ،‬فو‪.‬ق المناضد وتحتها‪ ،‬بين الورود وعلى الشجار‪ ،‬على التراب والحشائش‪،‬‬ ‫فو‪.‬ق البالط وعلى الّسجاد‪ ،‬وسط يصخب الموسيمقى ولّجة ضوضاء الّروض‪ ،‬لتختلط‬ ‫الهات بالتغّنجات‪ ،‬والتأّوهات بالصرخات‪ ،‬والبتسامات بالضحكات‪ ،‬والنين بالفرح‪،‬‬ ‫والعط ف بالمقسوة‪ ،‬والّرفق بالعن ف‪ ،‬والمتعة باللم‪ ،‬والمقبلة بالع ّ‬ ‫ضة‪ ،‬والتطّهر بالفسق‪،‬‬ ‫والجمال بالمقبح‪ ،‬والستغايثة باللطمة‪ ،‬والهناء بالّتعاسة‪ ،‬والجنون بالتعّمقل‪ ،‬والّسكون‬ ‫بالحركة‪ ،‬والتوّسل بالّزجر‪ ،‬واللين بالشّدة‪ ،‬والفرح بالّترح‪ ،‬والّنعومة بالخشونة‪ ،‬والرأفة‬ ‫باللعنة‪ ،‬والّنبل بالحمقارة‪ ،‬والكرم بالبخل‪ ،‬والمل باليأ س‪ ،‬والسعادة بالّشمقاء‪ ،‬واللذة‬ ‫بالعذابات‪ ،‬والعدالة بال ّ‬ ‫ظلم‪ ،‬والّسالم بالَعداء‪ ،‬واللحن بال ّ‬ ‫ضجة‪ ،‬والود بالنمقمة‪ ،‬والورد‬ ‫بالشو ك‪ ،‬وال ّ‬ ‫طهارة بالّنجاسة‪ ،‬والحب بالكر ه‪ ،‬والجسد بالخر‪ ،‬والذات بالكل‪ ،‬والكل‬ ‫بالذات‪ ،‬والخير بالشر‪ ،‬والموت بالحياة‪ .‬ليتوّحد كل ذلك في ملكوت رّباني تستصرخ فيه‬ ‫الجساد تطهرها‪ ،‬والرواح غاياتها‪ ،‬والغايات وسائلها‪ ،‬والوسائل أسباب اّتباعها!!‬ ‫آل ف الماليين من الجن والنس‪ ،‬راحوا ينشرون ما يكتن ف دواخلهم‪ ،‬ويهتكون أستار‬ ‫سرائرهم‪ ،‬ويخرجون ما في بطائنهم‪ ،‬وما تنوء به نفوسهم‪ ،‬من النوازع والّرغبات‪ ،‬من‬ ‫المكبوتات والمخبوءات‪ ،‬ليظهروا للوجود على حمقيمقتهم‪ ،‬ليواجهوا بصد‪.‬ق وتحّد مكنونات‬ ‫س شابه‬ ‫ذواتهم‪ ،‬وليتخّلصوا من تبكي ت ضمائرهم‪ ،‬وليتطّهروا من أيثمقال أرجاسهم‪ ،‬في طمق ٍ‬ ‫التعّمقل والجنون‪ ،‬العشق والمجون‪ ،‬الحبور والفجور‪ ،‬ولم تشهد السموات والكواكب مثيالً‬ ‫له منذ أن وجدت!!‬ ‫‪(10‬‬ ‫رؤية شيطانية وآيات رّبانّية!‬ ‫نهض الملك »دامردا س« هاتفا ً منتشيا ً بما شرب من خمر‪:‬‬ ‫»لنشرب نخب مليكنا العظيم لمقمان«‬ ‫نهض الملك حامينار والملك إبليس والملك شمنهور والراعي الكبر وباقي الملو ك‬ ‫والملكات والمراء والميرات والنس والجن جميعاً وشربوا النخب‪ ،‬وأرا‪.‬ق الماليين‬ ‫منهم الخمر على رؤوسهم‪ ،‬وقد دّب ت في رؤوسهم النشوة وغاب ت عن معظمهم الصحوة‪،‬‬ ‫ونهض الملك »إبليس« وخطا بوقار شديد وبهيئة مالئكية إنسّية أذهل ت الحضور إلى أن‬ ‫وق ف على ممقربة من الملك لمقمان وهت ف بأدب جم‪ ،‬وهو ينحني احترامًا‪:‬‬ ‫»عفواً أيها الملك العظيم«‬


‫التف ت الملك لمقمان ليرا ه واقفا ً خاِشعا ً ُمنحنيا ً بهذا التهذيب الفائق‪ ،‬فنهض عن ُكرسّيه‬ ‫ص ف على‬ ‫ويصافحه بحرارة‪ ،‬فيما نهض ت الملكة نور السماء وأشارت إلى من في ال َّ‬ ‫المائدة أن ينهضوا احتراما ً للملك‪ ،‬ودعا ه الملك ُلمقمان إلى الجلو س مكانه‪ ،‬غير أّن الملك‬ ‫إبليس أبى طالبا ً التحّدث إليه بكلمة فمقط‪ ،‬فأقسم الملك لمقمان أل ُيبيح له الحديث إل إذا‬ ‫جلس مكانه‪ ،‬فأذعن الملك إبليس وجلس مكان الملك ُلمقمان‪ ،‬ونهض ت الميرة »ظل‬ ‫المقمر« ليجلس الملك لمقمان مكانها‪.‬‬ ‫وحين عاد الجميع إلى أماكنهم‪ ،‬هت ف الملك لمقمان مرّحبا ً بالملك إبليس‪:‬‬ ‫»أل ف أهالً ومرحباً بكم أيها الملك العظيم‪ ،‬لكم تمل قلبي الغبطة وتغمر كياني بهجة‬ ‫الّسعادة بالّتشّر ف بالجلو س إلى جانب عظمتكم!«‬ ‫ولم يشعر الشيطان أنه موضع احترام وبهذا المقدر العظيم‪ ،‬منذ أن حّرم ا عليه ُدخول‬ ‫الجّنة والسماء السابعة‪ ،‬وأحّل اللعنة عليه والّتعوذ منه‪ ،‬فعجز عن إيجاد الكلمات المناسبة‬ ‫للتعبير عن شكر ه وامتنانه‪ ،‬فراح يرد مرتبكا ً متلعثما ً في البداية‪ ،‬لكن ما لبث أن تكّلم بما‬ ‫يليق بالمناسبة‪:‬‬ ‫»إّني لم أشعر بالخجل والّتواضع في حياتي إل أمام عظمتكم أّيها الملك‪ ،‬وإّني لشكر لكم‬ ‫ُحسن استمقبالكم لي‪ ،‬وتمقديركم الفائق لشخصي‪ ،‬وأنا المكرو ه من الجميع‪ ،‬والملعون من‬ ‫الجميع‪ ،‬من النس والجن‪ ،‬من المالئكة واللهة‪ ،‬دون أن أقتر ف ذنبا ً أو آتي سوءًا‪ ،‬بل‬ ‫أتي ت خلمقا ً جميالً بهيًّا‪ ،‬وإّني لشكر لكم‪ ،‬من أعما‪.‬ق قلبي دعوتكم لي ولزوجتي وبعض‬ ‫ملوكي‪ ،‬لحضور حفل تتويجكم وزفافكم‪ .‬وإني ما نهض ُ‬ ‫ ت الن ودنوت من مجلسكم إل‬ ‫لطلب إليكم‪ ،‬أن تسمحوا لي أن أعرض مسرحّية قصيرة تتحّدث عن بعض مأساتي«‬ ‫فهت ف الملك لمقمان على الفور‪:‬‬ ‫»إنه لمن دواعي سروري‪ ،‬أن أرى قبساً من خلمقكم البداعي أيها الملك العظيم«‬ ‫وأشار الملك ُلمقمان إلى الملكة نور السماء‪ ،‬أن تنهض بنفسها وتدعو الملكة »بليسة«‬ ‫زوجة الملك »إبليس« لتجلس معهم‪ .‬وأشار إلى ملك الملو ك أن ينهض ليجلس ُهو‬ ‫والميرة ظل المقمر مكاني الملكين‪ ،‬فنهض ملك الملو ك مصطحبا ً الميرة ظل المقمر –‬ ‫ب في نفسه لتخّوفه من أن يمقوم »إبليس« بإغواء‬ ‫التي كان ت ماتزال واقفة – والَّريبة تد ّ‬ ‫الملك لمقمان‪ ،‬وقود ه في ضروب ال ّ‬ ‫ضالل‪.‬‬ ‫أبدت الملكة »بليسة« امتنانها البالغ للملكة »نور السماء« فيما جلس ت الملكة نور الّسماء‬ ‫إلى جانب الملك إبليس مكان ملك الملو ك‪.‬‬ ‫أشار الملك إبليس بحركة من يد ه‪ ،‬فأطفَِئ ت النوار‪ ،‬كّل النوار في كافة أنحاء الروض‬ ‫ُأطفَِئ ت وعّم ظالم حالك‪ .‬وأشار بحركة يثانية‪ ،‬فعّم الفضاء والروض نور أحمر خاف ت‪،‬‬ ‫وتشّكل في الفضاء كو ٌن مصَّغر بعض الشيء‪ ،‬عّمته مئات الكواكب والقمار والّنجوم‬ ‫والّشهب والنياز ك‪ ،‬فيما انبعث ت موسيمقى كونّية خفيفة على الناي‪ ،‬بمرافمقة بعض اللت‬ ‫الموسيمقية ا ُ‬ ‫لخرى‪.‬‬ ‫كان ت هذ ه الكواكب‪ ،‬في بداية تشّكلها وتكّونها‪ ،‬فمقد بدت غازات هائلة تتصارع فيها‬ ‫كالعوايص ف والعايصير‪ ،‬ويتصاعد منها بخار هائل ودخان كثي ف‪ ،‬ليعّما الفضاء‪،‬‬


‫ويشّكال ُسحبا ً تغ ّ‬ ‫طي الكون‪.‬‬ ‫وكان يثمة كوكب وحيد كبير‪ ،‬بدت عليه بوادر حياة‪ ،‬فمقد تشّكل ت فوقه أرض يبا س‪،‬‬ ‫تخللتها النهار‪ ،‬وانتشرت على أجزاء منها واحات الشجار‪ ،‬وانداح ت على ُمعظمها‬ ‫ميا هُ المحيطات والبحار‪ ،‬وانتشر آل ف الل ف من المالئكة ال ّ‬ ‫صغار فو‪.‬ق يباسها‪ ،‬وراحوا‬ ‫يستصلحون الرض ويثرون تربتها‪ ،‬ويزرعونها بالّنباتات والشجار‪.‬‬ ‫كان الكوكب يحّلق سابحا ً في الكون‪ ،‬وقد لّفه ضباب كثي ف‪ ،‬فراح يزهو بجماله‪ ،‬وبوجود‬ ‫حياة عليه دون غير ه من الكواكب الدائرة حول نفسها في الفضاء‪ .‬وكان يثّمة مال ك هائل‬ ‫الحجم جميل الشكل‪ ،‬وسيم الوجه بهّي الطلعة‪ ،‬يحّلق بجناحين كبيرين في سماء الكوكب‪،‬‬ ‫ط على العشاب‪ ،‬ويتخ ّ‬ ‫ضباب‪ ،‬ويح ّ‬ ‫يعبر سحب ال ّ‬ ‫طم مرحًا‪ ،‬ويستلمقي فرحًا‪ُ ،‬يعانق‬ ‫الشجار ويداعب الّثمار‪ ،‬ويمرح مع يصغار المالئكة من أبنائه‪ ،‬يمّهد التراب ويزيل‬ ‫الحجارة‪ ،‬يسمقي النباتات بيديه‪ ،‬ويحفر بينها قنوات‪ ،‬وما يلبث أن يطير محّلمقا ً يثّم يغطس‬ ‫في ميا ه النهار ليخرج من ميا ه البحار‪ .‬وما يلبث أن يغطس في ميا ه البحار ليخرج من‬ ‫ميا ه المحيطات‪ ،‬وقد ابتّل بالماء‪ ،‬فراح يهطُ​ُل من جسمه وجناحيه‪ ،‬وكان ُكّلما هبط في‬ ‫بحٍر أو نهٍر أو محيط‪ ،‬فاض ت شطآنه لتغمر الرض اليبا س‪.‬‬ ‫وفيما كان الحضور يرقبون بذهول‪ ،‬هذا الجّو الساحر الّخاذ‪ ،‬وبهجة هذا المال ك بأرضه‬ ‫صغار‪ ،‬وإذا بمال ك عمال‪.‬ق له أربعة‬ ‫وتمّتعه بها وعنايته لها‪ ،‬مع أتباعه من المالئكة ال ّ‬ ‫أجنحة‪ ،‬قدما ه تغوران في أسافل الكون ورأسه يختفي في العالي يظهر للعيان‪ ،‬وُكلما دنا‬ ‫منه كوكب عليه بعض يبا س‪ ،‬أبعد ه عنه بطر ف يد ه وكأّنه يبعد ُكرة أطفال‪ ،‬وإذا كان‬ ‫غازيّاً ينفخ عليه نفخة يصغيرة من فمه ينجم عنها إعصار‪ ،‬يغّير اّتجا ه دوران الكوكب‪.‬‬ ‫ت هائل‪ ،‬ترددت أيصداؤ ه من أرجاء الكون‪:‬‬ ‫وما لبث هذا المال ك أن هت ف بصو ٍ‬ ‫»يا ميكائيل!«‬ ‫فظهر مال ك يصغير بالممقارنة مع ذا ك‪ .‬كان يطير بجناحين ويحّلق في مسرح السماء‪ ،‬وما‬ ‫لبث أن توّق ف وهت ف‪:‬‬ ‫»أمر أخي الملك إسرافيل‪ ،‬ممقرئ الوامر الرّبانّية من اللوح المحفوظ‪ ،‬نافخ الرواح في‬ ‫الجساد‪ ،‬الموّكل بالّنفخ في الصور يوم المقيامة!!«‬ ‫»أه ً‬ ‫ال بأخي ميكائيل مانح الرزا‪.‬ق والحكمة‪ ،‬الباعث على الكمال!«‬ ‫»ُمرني أّيها الملك الكبير«‬ ‫»أوحى إلهك إلّي بأّنه ُيريد شيئاً من أديم الرض‪ ،‬فاهبط إليها وائتني بطين نمقّي منها!«‬ ‫»ماذا ُيريد ا من ال ّ‬ ‫طين أيها الملك الكبير؟«‬ ‫»هذا شأنه أّيها الملك!«‬ ‫»أستحلفك به ألم يخبر ك؟«‬ ‫»قال إّنه سيخلق إنسيًّا!«‬ ‫»أهذا كائن جديد أم ماذا أّيها الملك الكبير؟«‬ ‫»ماذا سيكون إن لم يكن كائنًا؟«‬ ‫»ولَِم سيخلمقه من أديم الرض أُيها الملك الكبير؟«‬


‫»قال إن الملك إبليس أول ه عنايته إلى أن غدا أفضل من أديم الجّنة«‬ ‫»سأهبط حالً أيها الملك الكبير«‬ ‫»رافمقتك السالمة أيها الملك ميكائيل«‬ ‫وراح المَلك ميكائيل يحّلق هابطاً من العالي‪ ،‬يعبر الفضاء‪ ،‬ماّراً بالكواكب والّنجوم‪،‬‬ ‫ُمجتازاً الّسحب والغيوم‪.‬‬ ‫تسّمر الماليين من الحضور في ممقاعدهم‪ ،‬وتناسوا ال ّ‬ ‫طعام والّشراب والّنساء‪ ،‬ووجد‬ ‫الملك لمقمان نفسه يتحّول إلى عيون وآذان‪ ،‬فها هو الن يرى‪ ،‬وجها ً من أوجه الحمقيمقة‬ ‫التي يبحث عنها‪.‬‬ ‫كان المَلك ميكائيل قد بلغ سماء الرض‪ ،‬وأخذ يجتاز سحبها وغيومها‪ ،‬مختفيا ً تارة بين‬ ‫الّسحب والغيوم‪ ،‬وبادياً تارة أخرى‪ ،‬إلى أن هبط ليلُّفه ال ّ‬ ‫ضباب‪ ،‬وراح يجوب فو‪.‬ق سطح‬ ‫الرض‪ ،‬متلفتا ً ُيمنة ويسرة‪ ،‬فيما كان مال ك الرض يحّلق في ناحية بعيدة منها‪ ،‬يغطس‬ ‫في البحار ويخرج من المحيطات‪.‬‬ ‫ح ّ‬ ‫ط المَلك ميكائيل إلى جانب نهٍر كبيٍر ُيشبه نهر النيل‪ ،‬وراح يجمع الطين من شاطئه‪،‬‬ ‫مختاراً ما هو الفضل منه‪.‬‬ ‫وفيما كان َمال ك الرض يخرج من ميا ه المحيط‪ ،‬هاتفه هاجس الرض‪:‬‬ ‫»أن ت ُهنا تمرُح في مياهي أّيها المال ك‪ ،‬فيما آخرون‪ ،‬يسطون على أديمي دون أن‬ ‫تدري«‬ ‫فصرخ المال ك بأعلى يصوته وهو يحّلق عاليا ً ناِظراً إلى الرض‪:‬‬ ‫»من يجرؤ على الَّسطو على أديِمك‪ ،‬وأن ت في رعايتي أّيتها العزيزة على قلبي؟«‬ ‫»إّنه يصنو ك ميكائيل‪ ،‬يجثو ُهنا ك إلى جانب وريدي الوسط ويجمع أديمي من حاّفته!«‬ ‫»ل أّيتها العزيزة على قلبي لن أدعه يأخذ من أديمك مثمقال ذّرة!«‬ ‫وطار المال ك بسرعات هائلة‪ ،‬إلى أن ح ّ‬ ‫ط أمام المَلك ميكائيل‪ ،‬وزجر ه بصوت هائل‪:‬‬ ‫»ما الذي تفعله بعزيزة قلبي أيها المال ك ميكائيل؟!«‬ ‫»أهالً بأخي المَلك إبليس‪ ،‬وكيل الرض وحارسها‪ ،‬وراعي الحياة فيها‪ ،‬وباعث الخير‬ ‫لها‪ ،‬والساهر دوماً على بهجتها وازدهارها وكمالها‪ .‬إّني اجمع أديما ً ل أيها المال ك!«‬ ‫»ألم يكن جديراً بك أن ُتحّيي وتسّلم وتطلب الديم من والي الرض وسّيدها أّيها‬ ‫المال ك؟!«‬ ‫»معذرة أّيها المال ك إبليس«‬ ‫ ت الجّنة وسطو ُ‬ ‫»ما موقفك لو أنني أتي ُ‬ ‫ت على أرزاقك وسّر حكمتك‪ ،‬وقدرتك على بعث‬ ‫الكمال‪ ،‬حتى لو كن ت مرسالً من قبل ا؟!«‬ ‫»أظّن أنني سأغضب منك أّيها المال ك!«‬ ‫»وأنا غضب ت ِمنك‪ ،‬فإذا كن ت حمقا ً ُمرسالً من قبل ا أو من قبل إسرافيل‪ ،‬فاذهب‬ ‫س لسوِء تصّرفك فحسب‪ ،‬بل لن ا أويصاني‬ ‫وبّلغهما أّني أرفض أن ُأعطيك شيئًا‪ ،‬لي َ‬ ‫حين أوكلني بالرض أن أيصون أديمها وألّ أفّرط بذّرة من ترابها أو نمقطة من مائها حّتى‬ ‫له! يثّم إّن الّتراب يمل العديد من الكواكب ا ُ‬ ‫لخرى والجنان والسموات‪ ،‬فلماذا ل ُيريد ه‬


‫إل من الكوكب الذي خّول وليته إلّي؟!‪ ..‬أل يعني هذا أّنه يحاول اختبار مدى حريصي‬ ‫عليه وتمّسكي بأديمه ويصوني لترابه؟!«‬ ‫»ستغضب وجه ا أّيها المال ك!«‬ ‫ضب وجه ا إذا حريص ُ‬ ‫ ت على تنفيذ ويصايا ه؟ وعاني ت مع أتباعي ما عاني ت‪،‬‬ ‫»لَِم ُأغ ِ‬ ‫لل ف آل ف الّسنين‪ ،‬كي أظَّل أمينا ً على عهد ه‪ ،‬ووفياً له‪ ،‬وها أنذا مازل ت أشمقى في هذ ه‬ ‫الرض إلى أن يصارت فرجة للناظرين‪ ،‬تنفيذاً لتعاليمه وويصايا ه؟«‬ ‫وغضب الملك ميكائيل وطار محّلمقا ً في سماء المسرح الّسماوي ليختفي في العالي بين‬ ‫الّسحب والغيوم‪ ،‬ولم تمر سوى لحظات حّتى ظهر مال ك آخر راح يهبط من العالي‬ ‫ليح ّ‬ ‫ط على الرض على ممقربة من المال ك إبليس‪ ،‬ويهت ف‪:‬‬ ‫»السالم على أخي المال ك إبليس وكيل الرض وحارسها وراعيها«‬ ‫»وعلى أخي المال ك جبريل المكين والروح المين الّسالم«‬ ‫»لَِم أغضب ت ا أيها المال ك الُمِكّد‪ ،‬ولم ترسل إليه بأديم الرض مع المال ك ميكائيل؟«‬ ‫»هل قابل ت ا أيها المال ك النبيل‪ ،‬أم خاطبك بصوته أم أوحى لك بذلك؟!«‬ ‫»ل أيها المال ك‪ ،‬أبلغني المال ك إسرافيل«‬ ‫»ماذا قال لك أّيها المين؟«‬ ‫»قال إّنك أبي ت أن تعطي ميكائيل أديماً من باطن الرض‪ ،‬وأن ا غضب لذلك‪ ،‬فمقرر‬ ‫ضر الديم«‬ ‫أن يرسلني أنا كي ُأح ِ‬ ‫»أتظّن أّيها الّروح المين أّن إسرافيل يطمع بجمال الرض ويدّبر مكيدة لي كي ُيبّين ل‬ ‫أّني لس ت جديراً بأن أكون وكيالً وحارسا ً وراعيا ً لها؟!«‬ ‫»واِ إني أيها الَملَ ُ‬ ‫ئ الوامر الَّربانية‪ ،‬وأمين اللوح‬ ‫ك الجميُل ل أجرؤ على الَّشِك بممقر ِ‬ ‫المحفوظ ونافخ الّروح في الكائنات ومن سينفخ في الصوِر يوم المقيامة؟!«‬ ‫»أو لعَّل ا يريد أن يختبر مدى وفائي له وحريصي على تنفيذ ويصايا ه؟!«‬ ‫»وهل ُيمكن أن يُشَّك الخالق في مدى وفائك وحريصك‪ ،‬يا باعث الخير وواهب الحياة‬ ‫الّدنيا؟!«‬ ‫»وا إّني لفي حيرة ِمن أمري أّيها الروح المين‪ ،‬بَم تنصحني أّيها المكين؟!«‬ ‫»إني خائ ف عليك أيها المكّد الَجِلد‪ ،‬يا من شمقي ت آل ف الّسنين وأن ت تولي الرض ُحّبك‪،‬‬ ‫وتكلؤها برعايتك وتغمرها بعنايتك‪ ،‬وتمنحها نسيم الخير من روِحك‪ ،‬إلى أن فاض ت من‬ ‫ينابيعها وأخاديدها روعة الحياة‪ ،‬إن أعطيتني الطين وكان باعث المر مكيدة من‬ ‫إسرافيل أو اختباراً من ا‪ ،‬غضب عليك ا في الحالين!«‬ ‫»إني أتوَّسل إليك أن تجد لي مخرجا ً أّيها الروح المقُ​ُد س«‬ ‫»ليس أماَمك إل أن تصَّر على عهد ك ل بالوفاء والخالص ما ُدم ت حيًّا«‬ ‫وطار المال ك جبريل محّلمقاً في العالي دون أن يأخذ طينا ً من أديم الرض‪ ،‬ولم يكد‬ ‫يختفي حتى ظهر مال ك آخر وهبط على الرض ليمق ف في مواجهة المال ك إبليس ويهت ف‬ ‫بصوت ف ّ‬ ‫ظ مسّلمًا‪:‬‬ ‫»الّسالم على المال ك إبليس باعث الخير وراعي الحياة‪ ،‬وكيل الرض وحارسها«‬


‫»وعلى قابض أرواح الكائنات‪ ،‬ومفّر‪.‬ق الّنفو س ومسّكن الحركات مَلك الموت عزرائيل‬ ‫السالم!!!«‬ ‫»لَِم هذا اليصرار العنيد على إغضاب وجه ا أيها المال ك؟«‬ ‫»أنا ل أفهم أّيها المَلك‪ ،‬كي ف ُيصبح عندكم الخالص إلى الله إنكاراً ورفضا ً‬ ‫وإغضابًا؟!«‬ ‫»إني الّرسول الخير كي ترسل إلى ا أديماً أيها المال ك‪ ،‬وإل سيغضب منك ويحّل‬ ‫لعنته عليك!«‬ ‫»هل أبلغك هو ذلك؟«‬ ‫»ل‪ .‬أبلغني إسرافيل«‬ ‫»إّني ل أيثِ ُ‬ ‫ق بمن خلمقه ا كما خلمقني‪ ،‬بعد أن أويصاني الخالق ألّ أفّرط بذّرة من تراب‬ ‫الرض حتى له‪ ،‬يؤسفني أن أعيد ك خائبا ً أيها المال ك«‬ ‫»ستندم على سوء أفعالك أّيها المال ك!«‬ ‫»لن أندَم على ما لم أقترفه أيها المال ك‪ ،‬وأظّن أّن في ممقدور ا أن يخاطبني أو يظهر لي‬ ‫دون وسطاء إذا هو في حاجة إلى أديم من التراب الذي أوكلني به!«‬ ‫وطار المال ك عزرائيل غاضباً ليختفي في العالي‪ ،‬وفيما المال ُ‬ ‫س يجوب الرض‬ ‫ ك إبلي ُ‬ ‫قلمقا ً محتاراً في أمر ه‪ ،‬دّوى يصوت هائل عذب جميل كاِمل‪ ،‬تردد يصدا ه من أرجاء الكون‬ ‫وتبددت من أمامه ُسحب الغيوم وسدائم ال ّ‬ ‫ضباب‪ .‬قال‪:‬‬ ‫ ت إليك رعايته حين كن ت مالكا ً‬ ‫‪.‬ق‪ ،‬تضّن علّي بأديم منحتك ترابه‪ ،‬وأوكل ُ‬ ‫»لَِم أيها العا ُ‬ ‫تمقيًّا؟!«‬ ‫توّق ف المال ك إبليس ونظر نحو السماء‪ .‬قال‪:‬‬ ‫»َمن الهات ُ‬ ‫ ف؟«‬ ‫قال‪:‬‬ ‫»من سيكون أيها العا ُ‬ ‫‪.‬ق إذا لم يكن إلَهك الذي خلمقك ُغالما ً وجعلك مالكا ً زكيًّا؟!«‬ ‫قال المال ك إبليس‪:‬‬ ‫»لَِم تغّير يصوتك يا إلهي؟!«‬ ‫قال‪:‬‬ ‫»يصوتي أّيها العا‪.‬ق لم يتغّير‪ ،‬أن ت الذي تغّيرت ويصار يصوتي لدنك منسيًّا«‬ ‫قال المال ك‪:‬‬ ‫»ل َأظن أّني سأنسى يصوت من خاطبني في الجّنة ِعشّيا‪ ،‬ومنحني الرض وأوكلني‬ ‫يصونها ورعايتها لجعل منها جنائن وأوجد فيها يثمراً شهيًّا!«‬ ‫قال‪:‬‬ ‫»أتشكك حتى بصوتي أيها العا‪.‬ق‪ ،‬ليتني لم أهبَك جمالً مالئكيًّا!!«‬ ‫قال المال ك‪:‬‬ ‫»إني أشكك بالصوت التي إلّي دويًّا‪ ،‬فإن كن ت إلهي أرني اليوم نفسك كي ل أظّل في‬ ‫ِريبة من أمري وأظَّل حزينا ً شمقيًا!!«‬


‫قال‪:‬‬ ‫»أَو تكفر بي أيضا ً أيها العا‪.‬ق‪ ،‬ليتني خلمقتك كائنا ً وحشيًّا!«‬ ‫قال المال ك‪:‬‬ ‫»بل ليطمئن قلبي‪ ،‬إذ في نفسي شهوة تدفعني لن أعر ف شكل من جعلني جميالً بهّيا!«‬ ‫قال‪:‬‬ ‫»لو أرسل ت لي طينا ً لخلق منه اليوم إنسيًا‪ ،‬لريتك شيئا ً من نفسي أيها الّسامُع اليصّم‬ ‫يصبحا ً وِعشيًّا‪ ،‬أما وقد عصي ت أمري فلن تراني ما‬ ‫والمبصُر العمى‪ ،‬ولجعلتك تراني ُ‬ ‫دم َ‬ ‫ض والكواكب والسموات الّدنيا‪،‬‬ ‫ ت حيًا‪ ،‬وليحّرم عليك ملكوتي ولتظّل هائما ً في الر ِ‬ ‫ولتحَّل لعنتي عليك‪ ،‬فأن َ‬ ‫ ت منذ اليوم جنيًّا!«‬ ‫وتوّق ف الصوت الهائل‪ ،‬ولم يعد ُيسمع‪ .‬راح المال ك إبليس يجوب الرض محتاراً قلمقًا‪،‬‬ ‫تتصارع في مخّيلته الهواجس‪:‬‬ ‫»هل حمقا ً كان هذا يصوت ا‪ ،‬وهل حمقا ً كان يريد الّتراب ليخلق إنسيًا؟!«‬ ‫وأطر‪.‬ق للحظات ُيفّكر‪ ،‬وما لبث أن استأن ف حوار ه مع نفسه‪:‬‬ ‫»حمقاً كان هذا يصوت ا‪ ،‬ماذا دهاني وشّوش ذاكرتي‪ ،‬ل يتكّلم بهذ ه اللغة ذات الموسيمقى‬ ‫المتفّردة إل ا‪ ،‬حتى أّنه منحني َملَ​َكتها وجعلني ُأجيبه بها كي أفهم وأقتنع‪ ،‬لكني لم أفهم‬ ‫ولم أقتنع‪ ،‬لمقد كن ت أسمع يصوته ورّبما أرى يصورته‪ ،‬وإل ما معنى أن ينعتني بالسامع‬ ‫اليصم والمبصر العمى؟ وها أنا أفمقد َمَلكة اللغة التي منحني إّياها خالل مخاطبته! حمقا ً‬ ‫كان الصوت يصوته‪ ،‬وربما التبس علي لّنه يخاطبني من بعيد‪ ،‬ولم أكن قريبا ً منه كما‬ ‫في الجّنة‪ .‬يا إلهي‪ ،‬يا من خلمقتني في أجمل شكل وأوكل ت إلّي رعاية الرض‪ ،‬ماذا‬ ‫سأفعل كي أرضيك؟! ماذا لو حاول ت أنا بنفسي خلق هذا النسي؟ ألن أحافظ على عهدي‬ ‫لك بأن أيصون تراب الرض وماَء ها‪ ،‬وألن أكون قد أرحتك من عناء عملية الخلق‪ ،‬إذا‬ ‫كن ت تريد حمقّا ً أن تخلق إنسيًا؟ أجل أجل سأفعل ذلك!«‬ ‫وشرع المَلك إبليس يجمع أفضل ما يعرفه من أديم الرض‪ .‬من شاطئ النيل )وريد‬ ‫الرض الوسط( جمع‪ ،‬من شاطئ الفرات )وريد الرض الثاني( جمع‪ ،‬وحمل ما جمعه‬ ‫إلى شاطئ الردن )شريان الرض اليصغر( حيث جمع من هنا ك أغنى التراب‪ ،‬وأهاله‬ ‫فو‪.‬ق ما أحضر ه من شاطئ النيل والفرات‪ .‬ومن مكانه على شاطئ الردن‪ ،‬مّد يد ه إلى‬ ‫بحيرة الملح وغر ف من مائها َغرفة يصغيرة‪ ،‬سكب منها فو‪.‬ق الكومة‪ ،‬ورشق الباقي في‬ ‫الّنهر‪ ،‬وما لبث أن شرع يتعّر‪.‬ق بشّدة ليهطل من جسد ه عر‪.‬ق غزير راح يسكب منه على‬ ‫الكومة‪ ،‬فسكب عليها ضعفي ما أحضر ه من الماء المالح من بحيرة الملح‪ ،‬يثم فصد‬ ‫ساعد ه‪ ،‬فانبجس الدم منه‪ ،‬فأضا ف إليها من دمه أربعة أضعا ف ما أضافه من الماء‬ ‫المالح والَعَر‪.‬ق‪ ،‬ففاض ت الحفرة التي عملها وسط الكومة‪ ،‬فاض ت بالعر‪.‬ق والّدم والماء‬ ‫المالح‪.‬‬ ‫سّمى المال ك إبليس بال قائ ً‬ ‫ال‪» :‬بسم ا الرحمن الرحيم« وشرع في خلط الكومة‬ ‫وعجنها بيديه إلى أن امتص ت العر‪.‬ق والدماء والملح‪ ،‬فغر ف عليها من ماء النهر العذب‬ ‫البارد واستأن ف الخلط بيديه‪ ،‬وراح يعجن إلى أن غدت الجبلة كتلة واحدة لدنة لّينة‪.‬‬


‫وبدا الملك إبليس محتاراً وهو يردد‪:‬‬ ‫»لكن على أّية شاكلة تريد أن أجبله يا إلهي؟«‬ ‫وحين أدر ك أن ا لم يخلق من هو أجمل منه راح يهت ف‪:‬‬ ‫»على شاكلتي‪ ،‬فأن ت لم تخلق من هو أجمل مّني‪ ،‬أجل سأجبله على شاكلتي«‬ ‫»وسّمى بال يثانية وشرع يجبل تمثالً على شاكلته‪ ،‬وهو يذكر اسم ا‪ ،‬فصنعه واقفا ً على‬ ‫يصنع أنثى له‪ .‬وما أن‬ ‫قدميه‪ ،‬وحين رأى أّنه حسن‪ ،‬وأن لديه المزيد من الطين‪ ،‬شرع في ُ‬ ‫أنهاها حّتى أوقفها إلى جانبه‪ ،‬وراح يتأّمل جمال التمثالين وهو في غاية الفرح والدهشة‬ ‫لجمال ما جبله‪ .‬وما لبث أن استدار نحو الشمس وهو يتطاول واقفا ً على رؤو س أيصابع‬ ‫قدميه‪ ،‬ليبلغ رأسه عنان السماء‪ ،‬ولتتكسر أشعة الشمس على وجهه‪ .‬شهق شهيمقا ً عميمقا ً‬ ‫أخذ معه ممقداراً من حرارة الشمس وراح ينفثه على التمثالين ليجّفا‪ ،‬وما أن جففهما حّتى‬ ‫شرع ينادي بأعلى يصوته‪:‬‬ ‫»يا إسرافيل‪ ،‬يا نافخ الرواح في الجساد‪ ،‬إن كان إلهك يريد حمقا ً أن يخلق إنسًا‪ ،‬فها أنذا‬ ‫قد أرحته وخلمق ت ذكراً وأنثى‪ ،‬وأسميتهما آدم وحّواء‪ ،‬وإّني أناشد ك أن تنفخ في جسديهما‬ ‫روح الحياة البدّية‪ ،‬لينطلمقا في الرض وينجبا نسالً زكيًا‪ ،‬وسأرعاهما وأرعى نسلهما‬ ‫ماُدم ت حيًا!«‬ ‫غير أن أحداً لم يستجب إليه‪ ،‬فراح يصرخ باكيا ً وبأعلى يصوته مناديًا‪:‬‬ ‫»يا إلهي‪ ،‬يا إسرافيل‪ ،‬لَِم ل تجيباني؟ ها أنذا قد أرحتك يا إلهي وخلمق ت إنسا ً إن كن ت تريد‬ ‫ذلك‪ ،‬لم ل تجيباني؟!«‬ ‫وما لبث أن شرع في ُبكاء مرير‪ ،‬وكأنه رضيع ُحِرم من يثدي أّمه‪ ،‬وأخذ يخاطب‬ ‫التمثالين‪:‬‬ ‫»معذرة أّيها الجميالن‪ ،‬لمقد أبى ا وإسرافيل أن ينفخا في جسديكما روح الحياة البدية‪،‬‬ ‫سأنفخ في جسديكما روح الحياة الّدنيا«‬ ‫ب في جسد آدم‬ ‫وشرع ينفخ في فم آدم وأنفه والدموع تنزلق على وجنتيه‪ ،‬وبدأت الحياة تد ّ‬ ‫شيئا ً فشيئا ً إلى أن دّب ت في كاّفة أنحاء جسد ه‪ ،‬وحين رأى الملك إبليس أّنه فائق الحسن‬ ‫والجمال‪ ،‬سجد أمامه وهو يهت ف‪:‬‬ ‫»عظيم أن دّب ت في جسد ك الحياة أّيها المخلو‪.‬ق الجميل«‬ ‫ونهض وشرع ينفخ في فم حّواء وأنفها إلى أن دّب ت الحياة في جسدها‪ ،‬وما أن تأّمل‬ ‫جمالها حتى راح يرقص فرحا ً ويصّفق بيديه ويمقفز عاليًا‪ ،‬وما لبث أن هت ف‪:‬‬ ‫»هّيا انطلمقا في الرض‪ُ ،‬كال من طّيباتها وتناكحا‪ ،‬وأنجبا نسالً كثيرًا«‬ ‫ضباب‪ ،‬الذي كان يل ّ‬ ‫انطلق آدم وحّواء يتجّولن في الرض عاريين‪ ،‬بين سحب ال ّ‬ ‫ ف‬ ‫كوكب الرض‪ ،‬لكن ما أن ابتعدا بعض الشيء والمال ك إبليس يرقبهما من بعيد‪ ،‬حّتى‬ ‫هبط عليهما من السماء مال ك هائل مجّنح‪ ،‬وحملهما وطار بهما عاليًا‪ ،‬فصرخ المال ك‬ ‫إبليس هاتفًا‪:‬‬ ‫»ل! من هذا الذي يجرؤ على اختطا ف من جبلتهما بيدي من طين أرضي الذي مزجته‬ ‫بدمي وعرقي ونفخ ت فيه من روحي‪ ،‬إّني أعوذ بال منك كائنا ً من تكون!!«‬


‫فجاء ه هات ف من السماء‪:‬‬ ‫»يا إبليس‪ ،‬رأى ا أن خلمقك حسن فطلب أن نرفعه إلى الجنان«‬ ‫»ل ل أن ت تكذب أيها الهات ف‪ ،‬لمقد أويصاني ا أل أفّرط بذّرة من تراب الرض‪ ،‬فكي ف‬ ‫بمن خلمقته وأحييته من طينها؟!«‬ ‫وطار المال ك إبليس بأقصى سرعة ليلحق بالمال ك ويخّلص المخلوقين‪ ،‬بيد أّنه لم يتمّكن‬ ‫من اللحا‪.‬ق به‪ ،‬وحين بلغ السماء السابعة وهو يصعد خلفه ايصطدم رأسه بها ليعود‬ ‫المقهمقرى إلى الرض‪.‬‬ ‫جلس المال ك إبليس ينهل التراب ويذّر ه على نفسه‪ ،‬وينت ف شعر رأسه ويلطم بمقبضته‬ ‫على يصدر ه ويندب ح ّ‬ ‫ظه الّتعس يصارخا ً باكيا ً نائحا ً بأعلى يصوته ومن أعما‪.‬ق ُجرحه‪.‬‬ ‫ُأضيئ ت أنوار المسرح السماوي الكوني وأضواء الّروض دفعة واحدة‪ ،‬وضّج آل ف‬ ‫الماليين من الحضور بالتصفيق الحار‪ ،‬فيما شرع الممثلون الجن الذين قاموا بأدوار‬ ‫إبليس وجبريل وإسرافيل وميكائيل وعزرائيل وآدم وحّواء بالظهور على المسرح‪ ،‬وهم‬ ‫ينحنون تحّية واحتراما ً للجمهور واحداً بعد الخر‪ .‬وقد استمقبل الممثل الضخم الهائل‬ ‫الذي قام بدور المال ك إبليس بتصفيق حار‪ ،‬ويصراخ وهتا ف وُبكاء وعويل لم يشهد‬ ‫المسرح الكوني مثيالً له‪ ،‬وراح الملك ُلمقمان ُيعانق المِلك إبليس إلى جانبه ويهنُّئه على‬ ‫العرض المؤيثر الجميل‪ ،‬وآيثار الحزن والتأيثر ما تزال بادية على وجهه والدموع تترقر‪.‬ق‬ ‫في عينيه‪ ،‬فيما اندفع آل ف الُمشاهدين والمشاهدات من الجن والنسيات‪ ،‬يمطرون‬ ‫الممثلين بالورود‪ ،‬ويغمرونهم بالمقبالت‪ ،‬مما دفع الملك شمنهور إلى العتمقاد بأن إبليس‬ ‫أغوى الحضور جميعا ً وحاد بهم عن جادة ال ّ‬ ‫صواب‪.‬‬ ‫وكان ت فرحة المِلك إبليس كبيرة لتعاط ف المِلك لمقمان معه‪ ،‬وتأيثر ه لمأساته‪ ،‬وإعجابه‬ ‫وإعجاب آل ف الماليين بالعرض‪ ،‬فراح يشكر ه من أعما‪.‬ق قلبه على الفريصة العظيمة‬ ‫التي أتاحها له بتمقديم هذا العرض على المسرح السماوي وأمام هذا الجمهور الهائل‪.‬‬ ‫وأمر الملك لمقمان بدعوة الممثلين إلى الحفل وإكرامهم خير إكرام‪ ،‬وأمّر بضّمهم إلى‬ ‫فرقة المسرح الملكي بعد موافمقة المِلك إبليس‪.‬‬ ‫وراح الملك لمقمان يحاِور المِلك إبليس حول العرض محاولً أن يعر ف منه باقي المق ّ‬ ‫صة‪:‬‬ ‫»في الحمقيمقة أيها الملك العظيم أنني يصعدت إلى السماء هربا ً من الظلم والعذابات وسعيا ً‬ ‫وراء الحمقيمقة‪ ،‬وها أن ت تصدمني بعرضك الجميل والمؤّيثر‪ ،‬ولكتش ف أّن الظلم ُأحيق بك‬ ‫منذ بدايات الخلق‪ ،‬وأن ممقدرتك العظيمة وحمقيمقتك الّنبيلة ُ‬ ‫طمستا وُأهملتا‪ ،‬وحّل ت بك‬ ‫اللعنات والعمقوبات دون أن تمقتر ف ذنبًا‪ ،‬ونسج ت حولك الكاذيب والفتراءات دون أن‬ ‫تأتي سوءًا‪ ،‬بل أتي ت إعجازاً عظيمًا‪ ..‬لكن ماذا جرى بعد ذلك أّيها الملك العظيم‪ ،‬هل‬ ‫تأّكدت من أّن ا هو حمقاً من كان يريد التراب وهو من أيصعد آدم وحّواء إلى السماء‬ ‫السابعة؟!«‬ ‫»أجل أيها الملك العظيم‪ ،‬تأّكدت من ذلك حين عرف ت أّنه وضعهما في الجّنة‪ ،‬فرح ت‬ ‫أتوّسل إليه أن يعفو عّني ويغفر لي‪ ،‬فأنا لم أتصّر ف بما تصّرف ت به إل تنفيذاً لويصايا ه‪،‬‬ ‫ولم أخلق آدم وحّواء إل لريحه من عملّية الخلق‪ ،‬وأيصون تراب الرض الذي أويصاني‬


‫به‪ ،‬فأبى‪ ،‬أبى أيها الملك ولم يذعن لي ولتوّسالتي وآهاتي‪ .‬ونظراً لن آدم وحّواء كانا‬ ‫ِمن خلمقي فمقد منعهما من أكل أيثمار شجرتي الحياة والمعرفة‪ .‬وحين أخبرني أخي جبريل‬ ‫بذلك‪ ،‬لم أيصّد‪.‬ق‪ ،‬ولم أعر ف كي ف أيصل إليهما‪ ،‬فمقد منعني من ال ّ‬ ‫صعود إلى الجّنة‪،‬‬ ‫وحّولني إلى جّني بعد أن كن ت مالكًا‪ ،‬وحرمني من فلذتي كبدي اللذين خلمقتهما بيدي‪..‬‬ ‫فكان أن أرسل ت لهما الفعى لتدعوهما إلى تناول أيثمار الشجرتين‪ ،‬ليعرفا الخير من‬ ‫ظهما وح ّ‬ ‫الشر‪ ،‬وتكتب لهما الحياة البدية‪ ،‬ولسوء ح ّ‬ ‫ظي أيضًا‪ ،‬لم يأكال إل من شجرة‬ ‫المعرفة‪ ،‬فمقد اكتش ف ا فعلتهما‪ ،‬فغضب عليهما وعلى الفعى‪ ،‬وطردهما من الجّنة –‬ ‫كما طرد الفعى – وأعادهما إلى الرض حيث أنا«‬ ‫كن ت فرحا ً بعودتهما وحزينا ً لّنهما عادا إلّي بحياة قصيرة‪ ،‬هي الحياة التي وهبتهما أنا‬ ‫إّياها‪ ،‬وهاتفني يصوت إسرافيل من العالي‪:‬‬ ‫»خذهما أّيها العا‪.‬ق‪ .‬هذا ما يمقوله لك ا‪ ،‬فهاهو ُيعيد خلمقك إليك‪ ،‬هل كن ت تريدهما أن‬ ‫ينعما مثله بالحياة البدّية؟! أل يكفيك أّنك أطعمتهما من شجرة المعرفة؟ سيزرع‬ ‫كراهّيتك في نفسيهما كي ل تجني منهما ومن نسلهما إل العذابات واللعنات التي ستظّل‬ ‫ب على رأسك مادام ت الحياة!«‬ ‫تنص ّ‬ ‫فرح ت أيصرخ أيها الملك‪:‬‬ ‫»ل‪ ،‬ل‪ ،‬إني أتوّسل إليه‪ ،‬وأناشد ه برحمته وعظمة جبروته أل يفعل‪ ،‬أل يكفي أنه‬ ‫حرمهما متعة الحياة البدّية‍؟«‬ ‫غير أن أحداً لم يستجب إلّي أيها الملك العظيم‪ ،‬وهاأنذا أعيش مأساتي وسط ماليين‬ ‫ب على رأسي وتمق ّ‬ ‫اللعنات وماليين الّتعاويذ التي تحايصرني وتنص ّ‬ ‫ض مضجعي وتثمقل‬ ‫ي قوة يمكنها أن تنمقذني من هذا‬ ‫على نفسي وتدّمر كياني كل لحظة‪ ،‬وكّل طرفة عين‪ ،‬فأ ّ‬ ‫العذاب‪ ،‬وتعيد إلّي بعض حّمقي في حياة كريمة‪ ،‬وتنهي هذا النزاع البدي بيني وبين ا‪،‬‬ ‫وتمحو هذ ه الكراهية التي زرعها نحوي في نفو س من خلمق ت بيد ّ‬ ‫ي‪ ،‬ومنحته دمي‬ ‫وعرقي ليسريا في جسد ه مدى الحياة‍؟!!«‬ ‫وراح الملك لمقمان يضّم الملك إبليس إليه بموّدة وتعاط ف بالغين‪ ،‬مما دفع ملك الملو ك‬ ‫وبعض الحضور إلى الجزم بأن الشيطان أغوى الملك لمقمان وضّلله عن الحق‪ .‬وكان‬ ‫الملك لمقمان يهت ف إلى الملك إبليس بكل خلجات نفسه‪:‬‬ ‫»كم أنا حزين لمأساتك أيها الملك العظيم‪ ،‬وكم يعتصر اللم قلبي وأنا أرى مبدعا ً وخالمقا ً‬ ‫عظيما ً ونبي ً‬ ‫ال مثلك‪ ،‬يكتوي بنار اللم‪ ،‬التي يعجز الخلق كّله من إنس وجن وآلهة‬ ‫وحيوان ونبات عن احتمال وطئها على النفو س‪ ،‬إّني لعاهد ك أّيها الملك العظيم أن‬ ‫أعمل بكّل ما أستطيعه على تغيير يصورتك في أذهان الخلق ووعيهم وعمقولهم‪ ،‬لعّلني‬ ‫ُأعيد إليك شيئا ً من حمقيمقتك النبيلة‪ ،‬وإّني لعاهد ك إذا ما قابل ُ‬ ‫ ت ا يوما ً أن أطرح قضّيتك‬ ‫أمامه‪ ،‬وأطلب التوبة لك والعفو عنك‪ ،‬وإعادة حّمقك المهضوم إليك‪ ،‬رغم قناعتي أّنك لم‬ ‫تمقتر ف سوءاً يستحق أن تتوب عنه«‬ ‫»لمقد حاول أخي الحبيب جبريل ذلك دون جدوى أيها الملك العظيم«‬ ‫ع اليأ س يستولي على أعما‪.‬ق نفسك‪ ،‬ليكن المل هاجسك‪ ،‬والتفاؤل‬ ‫»ومع ذلك ل تد ِ‬


‫بالمستمقبل وإحمقا‪.‬ق الحق ونشدان العدالة غاياتك‪ ،‬فثّمة بين البشر والجن من يحّبك‪ ،‬ويثّمة‬ ‫من يرى أّنك حمقاً مظلوم‪ ،‬ولم يشتمك منذ أن أدر ك الحياة‪ ،‬ولمقد كن ت أنا أحد هؤلء‬ ‫النا س«‬ ‫»كن ت أعر ف ذلك أيها الملك‪ ،‬ولهذا أحبب ت أن أعرض عليك مأساتي«‬ ‫»إذن ل تيأ س‪ ،‬يثّم هل أبلغك جبريل أّنه رأى ا‪ ،‬وأّنه فعالً عرض عليه توبتك والعفو‬ ‫عنك؟!«‬ ‫»لم َير أح ٌد منا ا منذ أن وجد أيها الملك‪ ،‬ولم يجرؤ أحد منذ بدء الخليمقة على الّدعاء‬ ‫أّنه رآ ه‪ ،‬إننا وفي أحسن الحوال نسمع هاتفا ً يهت ف إلينا يمقول إّنه ا! إّن ا ما يزال لغزاً‬ ‫على المالئكة والجّن والنس أيها الملك! نحن نعتمقد بوجود ه‪ ،‬ويرى بعضنا أن أفعالنا‬ ‫وردود هذ ه الفعال تحدث بوحي منه!!«‬ ‫»لبُّد لنا من حّل هذا اللغز أّيها الملك العظيم‪ ،‬فثّمة من لم يعودوا خائفين من البحث عن‬ ‫الحمقيمقة وسبر أغوار الخليمقة!«‬ ‫»كم أنا سعيد لتعّرفي إليك ولمقائي بك‪ ،‬لم يبعث أحد المل في نفسي كما بعثته أن ت«‬ ‫وضّج ت موسيمقى يصاخبة فانفصال عن بعضهما‪.‬‬ ‫كان جميع الحضور ينظرون إليهما بدهشة وقد عّم الصم ت جو الحفل فغدا كمأتم‪ ،‬فأمر‬ ‫ملك الملو ك بموسيمقى يصاخبة للرقص‪ ،‬فنهض الماليين من النس والجن‪ ،‬من الرجال‬ ‫والنساء‪ ،‬من الشباب والفتيات‪ ،‬من الشائبين والشائبات‪ ،‬من خريفي العمار‬ ‫والخريفّيات‪ ،‬من الطاعنين والطاعنات‪ ،‬نهضوا إلى الرقص‪ ،‬وقد دارت النشوة في‬ ‫رؤوسهم وترّنح ت أجسادهم من شّدة الّسكر‪ ،‬فأخذوا ينزعون يثيابهم‪ ،‬آل ف الماليين‬ ‫نزعوا يثيابهم وراحوا يرقصون عراة‪ ،‬بجنون راحوا يرقصون‪ ،‬إنس وجّن كانوا‬ ‫يرقصون‪ ،‬وما لبث ت الجساد أن غرق ت بالجساد والسيمقان بالفخاذ‪ ،‬فراحوا يتبادلون‬ ‫المقبل ويتعانمقون‪ ،‬في ممرات الروض‪ ،‬في حدائمقه وتح ت أشجار ه‪ ،‬على مسارحه‬ ‫ومراقصه‪ ،‬فو‪.‬ق المناضد وتحتها‪ ،‬بين الورود وعلى الشجار‪ ،‬على التراب والحشائش‪،‬‬ ‫فو‪.‬ق البالط وعلى الّسجاد‪ ،‬وسط يصخب الموسيمقى ولّجة ضوضاء الّروض‪ ،‬لتختلط‬ ‫الهات بالتغّنجات‪ ،‬والتأّوهات بالصرخات‪ ،‬والبتسامات بالضحكات‪ ،‬والنين بالفرح‪،‬‬ ‫والعط ف بالمقسوة‪ ،‬والّرفق بالعن ف‪ ،‬والمتعة باللم‪ ،‬والمقبلة بالع ّ‬ ‫ضة‪ ،‬والتطّهر بالفسق‪،‬‬ ‫والجمال بالمقبح‪ ،‬والستغايثة باللطمة‪ ،‬والهناء بالّتعاسة‪ ،‬والجنون بالتعّمقل‪ ،‬والّسكون‬ ‫بالحركة‪ ،‬والتوّسل بالّزجر‪ ،‬واللين بالشّدة‪ ،‬والفرح بالّترح‪ ،‬والّنعومة بالخشونة‪ ،‬والرأفة‬ ‫باللعنة‪ ،‬والّنبل بالحمقارة‪ ،‬والكرم بالبخل‪ ،‬والمل باليأ س‪ ،‬والسعادة بالّشمقاء‪ ،‬واللذة‬ ‫بالعذابات‪ ،‬والعدالة بال ّ‬ ‫ظلم‪ ،‬والّسالم بالَعداء‪ ،‬واللحن بال ّ‬ ‫ضجة‪ ،‬والود بالنمقمة‪ ،‬والورد‬ ‫بالشو ك‪ ،‬وال ّ‬ ‫طهارة بالّنجاسة‪ ،‬والحب بالكر ه‪ ،‬والجسد بالخر‪ ،‬والذات بالكل‪ ،‬والكل‬ ‫بالذات‪ ،‬والخير بالشر‪ ،‬والموت بالحياة‪ .‬ليتوّحد كل ذلك في ملكوت رّباني تستصرخ فيه‬ ‫الجساد تطهرها‪ ،‬والرواح غاياتها‪ ،‬والغايات وسائلها‪ ،‬والوسائل أسباب اّتباعها!!‬ ‫آل ف الماليين من الجن والنس‪ ،‬راحوا ينشرون ما يكتن ف دواخلهم‪ ،‬ويهتكون أستار‬ ‫سرائرهم‪ ،‬ويخرجون ما في بطائنهم‪ ،‬وما تنوء به نفوسهم‪ ،‬من النوازع والّرغبات‪ ،‬من‬


‫المكبوتات والمخبوءات‪ ،‬ليظهروا للوجود على حمقيمقتهم‪ ،‬ليواجهوا بصد‪.‬ق وتحّد مكنونات‬ ‫س شابه‬ ‫ذواتهم‪ ،‬وليتخّلصوا من تبكي ت ضمائرهم‪ ،‬وليتطّهروا من أيثمقال أرجاسهم‪ ،‬في طمق ٍ‬ ‫التعّمقل والجنون‪ ،‬العشق والمجون‪ ،‬الحبور والفجور‪ ،‬ولم تشهد السموات والكواكب مثيالً‬ ‫له منذ أن وجدت!!‬ ‫‪(12‬‬ ‫مساج كوني وحروب كوكبّية‬ ‫ما أن دخل الملك لمقمان المركبة‪ ،‬حتى أقفل ت أبوابها بإحكام وأقلع ت ببطء تح ّ‬ ‫ ف بها‬ ‫أسراب الجن المحّلمقين‪.‬‬ ‫هت ف قائد المركبة‪:‬‬ ‫»إلى أين سننطلق يا مولي؟«‬ ‫»كما قل ت لك من قبل‪ ،‬إلى كوكب بعيد ذي حياة وليكن خاليا ً من البشر«‬ ‫»حتى إذا لم نجد طلب مولي إل خارج هذ ه المجموعة الشمسّية؟«‬ ‫»وحتى إذا كان خارج المجموعات ُكّلها‪ ،‬لكن إّيا ك أن تأخذنا إلى هذا الكوكب الذي يصعد‬ ‫إليه ملك الملو ك مع ضيوفه وخاض عليه حربا ً مع تلك المقوى الجّبارة!«‬ ‫أشار إلى الملكة نور السماء أّنه سيأخذ حّماماً قبل النوم‪ ،‬فأدخل ت معه أربع حورّيات إلى‬ ‫الحّمام‪ ،‬شرعن في تحميمه وتدليك جسد ه إلى أن لن ت أعضاؤ ه وارتخ ت‪ .‬وما أن خرج‬ ‫من الحّمام حتى أدخلته الملكة نور السماء إلى ُحجرة نوم تعبق برائحة بّخور الَّند التي‬ ‫أشعلتها فيها‪ .‬وأضجعته في الّسرير على ظهر ه وطلب ت إليه أن يفرد يديه ويسترخي بكل‬ ‫ما يستطيع‪ ،‬ففعل ليغدو كالمصلوب‪ ،‬يثّم طلب ت إليه أن يتنّفس بعمق‪ ،‬بأن يأخذ شهيمقا ً من‬ ‫أنفه ويزفر ه من فمه‪ ،‬وأن ل يحاول أن يفّكر في شيء إل في الّشهيق العميق والّزفير‬ ‫ال ّ‬ ‫طويل‪ ،‬فأغمض عينيه وشرع يتنّفس‪ ،‬فيما راح ت هي تمرر أناملها ببطء وخّفة على‬ ‫جسد ه من أخمصي قدميه إلى منكبيه‪ ،‬وهي تنمقر بها وكأنها تعز ف على آلة موسيمقية‪،‬‬ ‫دون أن تك ّ‬ ‫ ف عن الهمس إليه ليستغر‪.‬ق في السترخاء والّتنفس العميق‪ .‬وما لبث الملك‬ ‫لمقمان أن وجد نفسه بين أيدي س ت حورّيات أخريات يحطن جسد ه من كل جانب‬ ‫ويشرعن في تمرير أناِملهن والّنمقر بها على جسد ه‪ .‬فمقد توّل ت الملكة نور السماء ُعنمقه‬ ‫ومنكبيه وايثنتان توّلتا يصدر ه وبطنه وايثنتان توّلتا فخذيه وساقيه وايثنتان توّلتا قدميه‪ ،‬وما‬ ‫لبثن أن أخذن يمّلسن على جسد ه برفق ولين ويمسحنه بروح الِمسك‪ ،‬وحين استرخى‬ ‫ق‪ ،‬وما أن فرغن‬ ‫تماماً وغدا جسد ه طوع أيديهن‪ ،‬شرعن في تدليكه وهو يتابع التنفس بعم ٍ‬ ‫حتى أشارت إليه الملكة نور الّسماء أن يتوّق ف عن التنّفس وينمقلب على بطنه ويظل‬ ‫مصالبا ً يديه‪ ،‬فانمقلب وقد أح ّ‬ ‫س أن جسد ه غدا خفيفًا‪.‬‬ ‫استؤنَِف ت عملية المساج من أّولها كما حدث لجسد ه من أمام‪ ،‬فمقد بدأت بالتنميل الخفي ف‬ ‫الذي راح ُينّمل في جسد ه إلى أن خّدر ه ليجد نفسه يغر‪.‬ق في متعة ليس يثمة ما هو ألّذ‬ ‫منها‪ .‬يثّم شرع ت الحورّيات في سحب أيصابع يديه وقدميه وطمقطمقتها وشّد أوردة عنمقه‬


‫وظهر ه وقبض عضالت عضديه وزنديه وربلتي ساقيه‪ ،‬وتدليك فخذيه ووركيه وردفيه‬ ‫وقرص جلد ظهر ه بخّفة والضغط والفر ك بالنامل على منكبيه والّرب ت عليهما بحاّفتي‬ ‫اليدين‪ ،‬فأح ّ‬ ‫س الملك لمقمان وكأّنهن يفصدن جسد ه ويشّرحن أعضاَء ه ويسللن أوردتهُ‬ ‫وشرايينه‪ ،‬ومالبث ت الحورّيات أن هَّدأن حركة أيديهن يثّم شرعن يملسن براحاتهن على‬ ‫جسد ه‪ ،‬فيما يصوت الملكة نور السماء يهمس إليه‪:‬‬ ‫س الكبائر من عالمك الذي أن ت فيه‪،‬‬ ‫س عالمك الذي جئ ت منه‪ ،‬وان َ‬ ‫س يا حبيبي‪ ،‬ان َ‬ ‫»ان َ‬ ‫واربأ بنفسك على ال ّ‬ ‫صغائر‪ ،‬واسُم بروحك فو‪.‬ق الضغائن‪ ،‬ودع الحمقاد للحاقدين‬ ‫والّشرور لليثمين‪ ،‬واهنأ برفيع ممقامك ونعيم أّيامك‪ ،‬وليكن الخير أنيس أماسيك والعشق‬ ‫حلي ف أّيامك والمل إشراقة فجر ك‪ ،‬والمحّبة بزوغ شمِسك والفرح ضوء نهار ك‪.‬‬ ‫س يا حبيبي‪ ،‬واخلد إلى نهود تصهل جامحة إلى من هام توّحداً بها وِعشمقا ً إليها‪،‬‬ ‫ان َ‬ ‫ت يصارخة تنبض بدفق أكاسير البدّية‪ ،‬واسكن إلى أجساد أشرع ت سهوبها‬ ‫وتشِهُر حلما ٍ‬ ‫مدداً لسنابك خيول العاشمقين«‬ ‫وراح ت النامل تمّر جارية بلمساتها السحرّية على أنحاء جسد ه وهمسات الملكة نور‬ ‫السماء تتناهى إلى أسماعه متدّفمقة بسحر الكالم العذب الذي مل دماغه بال ّ‬ ‫صور الجميلة‪،‬‬ ‫وراح يحّثه على الخالد إلى النوم العميق‪ .‬فنام ليتوّق ف دبيب الّنمل على جسد ه ولتنهض‬ ‫الحورّيات بهدوء وتبتعد عنه ليظّل مستكينا ً إلى النوم الممتع‪.‬‬ ‫‪ηηηηη‬‬ ‫تجاوزت المركبة كواكب المشتري والمّريخ وعطارد وزحل وأورانو س ونبتون‬ ‫وبلوّتون والمئات غيرها‪ .‬وراح ت توغل في الفضاء البعيد‪ ،‬متجاوزة آل ف الكواكب‬ ‫والّنجوم وقد مّرت عن كواكب كثيرة عليها حياة‬ ‫أو بعض حياة أو بداية حياة‪ ،‬وعن كواكب كثيرة لم تتشكل عليها أّية حياة بعد‪ .‬وقد ف ّ‬ ‫ضل‬ ‫قائد المركبة الّتوّغل بعيداً في الفضاء بدافع الّرغبة العارمة في الكتشا ف‪ ،‬وحين كان‬ ‫يمقترب من آخر حدود المجموعة الشمسية لح ت أمامه على شاشة رادار المركبة آل ف‬ ‫الجرام المنطلمقة نحو المركبة من مسافات بعيدة‪ ،‬فأنذر الجن ليستنفروا ُقواهم‪ .‬ونهض‬ ‫ملك الملو ك من غفوة كان قد بدأها للتو وهَرع إلى حجرة المقيادة‪ ،‬كان ت الجرام تنطلق‬ ‫نحوهم بسرعة هائلة وهي تدور حول نفسها‪ ،‬وقد بلغ حجم الواحد منها ما يمقارب يثاليثة‬ ‫أضعا ف حجم الكرة الرضية‪ .‬أبطأ قائد المركبة من سرعته فيما كان ملك الملو ك يرقب‬ ‫الجرام بدهشة بالغة وما لبث أن هت ف‪:‬‬ ‫»سنحتاج لمقوى جّبارة لمواجهة هذ ه الجرام الهائلة«‬ ‫فهت ف قائد المركبة‪:‬‬ ‫»أظن أّنها كواكب حدث خلل في توازنها فخرج ت عن مدارها حول الّشمس‪ ،‬سأحاول‬ ‫تغيير اّتجاهي وُأضاع ف سرعتي لتالفى التصاُدم معها«‬ ‫»حاول أيها المقائد«‬ ‫وغّير المقائد اّتجا ه المركبة بنسبة تسعين درجة ليعود إلى التحليق ضمن الفضاء العرضي‬ ‫للمجموعة الّشمسية‪.‬‬


‫كان ت الجرام تمقترب على خط عرض هائل يبلغ مئات الّسنين الضوئية‪ ،‬وما أن قطع‬ ‫الرائد مسافة تمقارب خمس سنين ضوئية متجاوزاً بعض الكواكب العمالقة‪ ،‬حّتى وجد‬ ‫أمامه عالماً آخر يعّج بالكواكب والنجوم والّشهب والنياز ك والقمار والمذّنبات الهائلة‬ ‫متمقاربة المسافات فيما بينها‪ ،‬فأدر ك أّنه ل جدوى من الستمرار في هذا التجا ه دون‬ ‫اللجوء إلى تخفي ف السرعة لتالفي التصادم معها‪.‬‬ ‫أحّس ت الملكة نور الّسماء بالخو ف‪ ،‬فهرع ت إلى حجرة المقيادة‪ ،‬كان ت الخطوط التي‬ ‫ترتسم على شاشة قيا س السرعة على المسافة تصطدم بأجسام لتتكّسر وترتد منذرة‬ ‫بالخطار الماحمقة‪.‬‬ ‫أشارت إلى المقائد أن يبطئ الّسرعة ويشّغل أجهزة الستشعار في التجاهات ُكّلها‪ ،‬فأبطأ‬ ‫الّسرعة إلى حدود مائة ضع ف سرعة الضوء‪.‬‬ ‫انطلمق ت الخطوط في سائر التجاهات لتصطدم بأجسام ماعدا التجا ه العكسي الذي‬ ‫انطلمقوا منه من كوكب الّزهرة‪.‬‬ ‫»لن نعود المقهمقرى أيها الرائد«‬ ‫هتف ت الملكة ويثّنى ملك الملو ك‪.‬‬ ‫شرع المقائد في إبطاء السرعة شيئا ً فشيئاً وهو يرقب خطوط وأجهزة الستشعار الذاتي‬ ‫في المركبة‪ ،‬إلى أن ارتسم ت الخطوط باستمقامة في كل التجاهات وغ ّ‬ ‫ط ت الشاشة دون‬ ‫أن تصطدم بشيء‪ .‬عّدل سير المركبة لتعود إلى النطال‪.‬ق بشكل عمودي في اّتجا ه‬ ‫الجرام السّيارة المّتجهة نحوهم‪.‬‬ ‫تساَءل ت الملكة‪:‬‬ ‫»ما مدى هذ ه السرعة؟«‬ ‫»قرابة تسعين ضع ف سرعة الضوء!«‬ ‫»بهذ ه الّسرعة لن نجتاز آل ف الكواكب الهارعة نحونا في مئات الّسنين الضوئّية‪ .‬ل‬ ‫أعر ف كي ف تكون مركبة مسحورة ول تحوي جهاز استشعار ذاتي مطلق المسافة«‬ ‫ونظرت نحو ملك الملو ك وهتف ت‪:‬‬ ‫»أِعّنا أيها الملك«‬ ‫فهت ف ملك الملو ك‪:‬‬ ‫»أنا ل أقتنع بما هو مسحور عن هذ ه العلوم النسّية! ليس أمامي إل أن أحمل الجميع‬ ‫على ظهر جّني وأدعه ينطلق بالّسرعة الخرافّية المطلمقة‪ ،‬ولن يصطدم بأي كوكب أمامه‬ ‫حتى لو كان هنا ك باليين باليين الكواكب‪ ،‬فهو قادر على تجاوزها مهما قرب ت المسافة‬ ‫بينهما‪ .‬فعينا ه قادرتان على استشعار المسافات والجسام مهما بعدت وليستا كمركبتكم‬ ‫الحممقاء هذ ه!«‬ ‫»تمقصد الستشعار والّتجاوز أيها الملك؟«‬ ‫»ل أعر ف أيها الرائد كي ف يعمل استشعار ك هذا‪ ،‬لكن قواي تستطيع أن تكون حيث تريد‬ ‫أن تكون!!«‬ ‫وتدّخل ت الملكة نور الّسماء هاتفة‪:‬‬


‫»وهل نوقظ الملك لمقمان وأبي وأمي وأختي وكل النائمين كي ينهضوا وينزلوا من‬ ‫المركبة ليركبوا على ظهر جّني؟«‬ ‫»أو يستيمقظوا ويطيروا فهم جّن‪ ،‬وأنا سأتكّفل بحمل الملك لمقمان!«‬ ‫»ل أيها الملك‪ ،‬سيكون هذا مرهمقاً للملك لمقمان وللجميع‪ ،‬لبُّد من إيجاد حل ُيبمقينا في‬ ‫المركبة‪ ،‬فالراحة التي تتاح لنا فيها ل يمكن توّفرها على ظهر أي كائن‪ ،‬إل إذا تتكّفل‬ ‫بإقامة فند‪.‬ق لنا على ظهر ه!«‬ ‫»سأفعل ذلك إكراما ً لمولي لمقمان!«‬ ‫»وهل تتكّفل بأن يظل الفند‪.‬ق يثابتا ً ول يتمايل يمينا ً وشمالً حسب حركة الجّني‪ ،‬ورّبما‬ ‫ينمقلب لنتدحرج كالكرات داخل الُغر ف والممرات!«‬ ‫»ل أعر ف أيتها الملكة إذ ليس في وسعي أن أحفر أساسات للفند‪.‬ق على ظهر الجّني!«‬ ‫»وماذا لو أحاط الفند‪.‬ق أو المركبة نفسها بدلً منه بعض الجن وتشّبثوا بها من كّل جانب‬ ‫كي تظّل يثابتة بعض الشيء«‪.‬‬ ‫»وأين هذا الجني الذي سيحمل على ظهر ه يثمقل الفند‪.‬ق أو يثمقل هذ ه المركبة بحدائمقها‬ ‫ومنتزهاتها وغرفها وقاعاتها بالجن الذين فيها والجن الذين سيتشبثون بها من الخارج‪،‬‬ ‫ويمقطع ماليين السنين الضوئية دون أن يميل أو يتزحزح قيد ُأنملة؟!«‬ ‫»ما العمل إذن أيها الملك؟«‬ ‫»التدمير‪ ،‬سأرسل جيشا ً يتمقّدم المركبة بآل ف الميال ويدّمر أي كوكب أو أي أجسام قد‬ ‫تعترض طريمقها!«‬ ‫»ل أيها الملك فمقد يكون عليها حياة‪ ،‬وقد يؤّدي تدميرها إلى اختالل في توازن نظام‬ ‫الكون!«‬ ‫»الحيوات تمل الكوان أّيتها الملكة‪ ،‬ولن ُيضيرها تدمير كون منها!!«‬ ‫»بل سيضيرها كثيراً أيها الملك!«‬ ‫ ت أيتها الملكة«‬ ‫»إذن تصّرفي أن ِ‬ ‫وفّكرت الملكة بالخاتم المطلسم الذي أهدا ه الملك إبليس للملك لمقمان‪ ،‬فهو بالتأكيد قادر‬ ‫على حل هذ ه المعضلة‪ ،‬فذهب ت إلى حجرة الملك لمقمان وسحب ت الخاتم بهدوء ِمْن‬ ‫إيصبعه‪ ،‬ولم تكد تملي عليه طلباتها حتى اندفع ت المركبة في الفضاء لتنطلق بسرعة تمقّدر‬ ‫بأل ف ضع ف مما يمكن أن يتصّور ه الخيال الخار‪.‬ق! إذ كان ت تتجاوز خالل جزء من‬ ‫ستين من الثانية آل ف الكواكب والنجوم والنياز ك المتمقاربة فيما بينها والمتباعدة‪ ،‬والتي‬ ‫قد يستغر‪.‬ق تجاوز الواحد منها عشرات السنين الضوئية!!‬ ‫حين دخل ت إلى حجرة المقيادة وجدت قائد المركبة يطبق على رأسه بمقبضتي يديه ويحّد‪.‬ق‬ ‫هلعاً في الكون المطلق الذي ل يكاد يشعر أّنه يمقطعه‪ ،‬ويتجاوز مسافات خيالية فيه‪ ،‬دون‬ ‫أن يستخدم أّية أجهزة لستشعار الفضاء أمامه‪ ،‬فيما كان ملك الملو ك يمقهمقه بصوت عاٍل‬ ‫فرحا ً بالمقدرات الجنّية الخارقة‪.‬‬ ‫ ت أيتها الملكة؟«‬ ‫»ماذا فعل ِ‬ ‫وتخّوف ت الملكة من أن تمقول الحمقيمقة‪ .‬بعد أن تنبأ الملك لمقمان بالحروب الطاِحنة التي‬


‫ستنجم بينها وبينه بعد رحيل الملك لمقمان‪.‬‬ ‫»استخدم ت المقوى السحرية للمقالدة الّسماوّية التي أهداني إّياها الملك دامردا س«‬ ‫»هائلة هذ ه المقالدة أّيتها الملكة‪ .‬إّنها ل تمقّدر بثمن‪ ،‬وقد تساوي مملكة من ممالك الجن«‬ ‫وفيما كان ت المركبة تخرج من حدود السماء الولى وتدخل حدود السماء الثانية‪ ،‬داخلة‬ ‫بذلك مجموعة شمسّية جديدة‪ ،‬ارتّج ت السموات من خلفهم فأبطأت الملكة سير المركبة‬ ‫ونظرت إلى الوراء لترى الكواكب والّنجوم التي تجاوزوها تصطدم ببعضها لتتنايثر في‬ ‫ماليين الجرام وينجم عن تصادمها انفجارات هائلة تهز الكون‪.‬‬ ‫هت ف ملك الملو ك وهو ينظر عبر منظار سحري‪:‬‬ ‫»لعّلها حرب بين أقوام من الجن«‬ ‫فهت ف قائد المركبة‪:‬‬ ‫»ل أظن‪ ،‬ذلك أّيها الملك قد تكون حرباً بين آلهة أما بين جن‪ ،‬فهذا أكبر من طاقات‬ ‫معظمهم كما أظن فبعض هذ ه الكواكب والّنجوم قد يتجاوز حجمها أل ف ضع ف حجم‬ ‫الُكرة الرضّية‪ .‬ول يمكن إخراجها عن مدارها إل بمقوى خارقة!«‬ ‫وقال ت الملكة نور السماء‪:‬‬ ‫»أل يمكن أن يكون قد حدث خلل في توازن هذ ه الكواكب والنجوم فخرج ت عن مدارها‬ ‫وراح ت ترتطم بالكواكب الخرى؟«‬ ‫فمقال قائد المركبة‪:‬‬ ‫»ومن ُيحدث الخلل في الّتوازن إن لم تحديثه اللهة أّيتها الملكة؟‪«!.‬‬ ‫فهتف ت الملكة‪:‬‬ ‫»آمل أل يؤّيثر ذلك على نظام المجموعة الشمسية ُكّله«‬ ‫فمقال قائد المركبة‪:‬‬ ‫»ل أظن ذلك فهذ ه الرتطامات وال ّ‬ ‫صدامات تجري في جانب يصغير من سماء‬ ‫المجموعة«‬ ‫»ومع ذلك قد تؤيثر على ما حولها«‬ ‫وما لبث ت الملكة أن هتف ت بهلع‪:‬‬ ‫»يثمة كواكب مسكونة بينها‪ ،‬ذا ك كوكب ينشطر إلى آل ف الجرام المأهولة بالمدن‬ ‫والُمقرى‪ ،‬انظروا!«‬ ‫وراحوا ينظرون من بعيد‪ ،‬كل من كان يمقظا ً في المركبة أخذ منظاراً سحريا ً وراح‬ ‫ينظر‪..‬‬ ‫كان الكوكب المأهول الهائل قد ارتطم بكوكب هائل آخر غير مأهول‪ ،‬فنجم عن ذلك‬ ‫زلزال مدّمر فظيع‪ ،‬تنايثر من جّرائه الكوكبان في آل ف الجرام‪ ،‬التي راح ت ترتطم‬ ‫بأجرام وكواكب ُأخرى لتنشطر بدورها‪.‬‬ ‫انفصل ت قاّرات بأكملها عن كواكبها‪ ،‬وقذف ت الُمدن الكبيرة في الفضاء‪ ،‬وتنايثرت المقرى‬ ‫في الّسماء‪ ،‬وانشطرت المحيطات إلى أقسام‪ ،‬وانهارت سالسل الجبال‪ ،‬وتفّجرت‬ ‫البراكين‪ ،‬ودّمرت الّسدود‪ ،‬واندلع ت أعايصير من ماء وريح ونار‪ ،‬وهّب ت عوايص ف‬


‫راح ت تتمقاذ ف الجبال والّسهول والنهار‪ ،‬الجزر والبحار‪ ،‬الغابات والمصار‪ ،‬وسط‬ ‫اندلع الحرائق الهائلة‪ ،‬وتطاول ألسنة النيران‪ ،‬واندفاع الّشهب‪ ،‬وفيضانات المحيطات‪،‬‬ ‫وارتطام المقاّرات بالمذّنبات‪ ،‬والنياز ك بالمقرى‪ ،‬والمحيطات بالّشهب‪ ،‬وال ّ‬ ‫صحاري‬ ‫بالغابات‪ ،‬والنهار بالجبال‪ ،‬والنجوم بالكواكب‪ ،‬والريح بال ّ‬ ‫ضباب‪ ،‬والّدخان بالعوايص ف‪،‬‬ ‫والمدن بالعوايصم‪ ،‬والقمار بالجرام‪ ،‬والّسدائم بالغيوم‪ ،‬والغيوم بالمقرى‪ ،‬والمقرى‬ ‫بالجبال‪ ،‬والجبال بالبشر‪ ،‬والبشر بالنار‪ ،‬والنار بالماء‪ ،‬والماء بالّدم‪ ،‬والّدم بالّزهور‪،‬‬ ‫وال ّزهور بالشجار‪ ،‬والشجار بالحيوانات‪ ،‬والحيوانات بالسما ك‪ ،‬والسما ك بالّسفن‪،‬‬ ‫والسفن بالموانئ‪ ،‬والموانئ بالمقطارات‪ ،‬والمقطارات بالحافالت‪ ،‬والحافالت‬ ‫بالعمارات‪ ،‬والعمارات بالجسور‪ ،‬والجسور بالحمقول‪ ،‬والحمقول بالجسام‪ ،‬والجسام‬ ‫بالعمدة‪ ،‬والعمدة بالشوارع‪ ،‬والشوارع بالبشر‪ ،‬والبشر بكل شيء‪ ،‬بكل شيء‬ ‫كان ت تصطدم أجساد البشر وأشالؤهم‪.‬‬ ‫كل هذا العالم كان يتصادم وينشطر ليتفّجر ويتنايثر‪ ،‬يفيض ويغر‪.‬ق‪ ،‬يعص ف ويدّمر‪،‬‬ ‫يصَع ُ‬ ‫ق وُيمي ت‪ ،‬يحر‪.‬ق ويلتهم‪ ،‬منذراً بفناء الحياة على تلك الكواكب‪ ،‬بل وفناء الكواكب‬ ‫نفسها‪.‬‬ ‫هت ف ملك الملو ك‪:‬‬ ‫»لم ل نوقظ الملك لمقمان ليرى هذ ه الهوال الكونّية؟«‬ ‫فهتف ت الملكة نور السماء بإيصرار‪:‬‬ ‫»ل‪ .‬عمل ت كل ما بوسعي لدعه ينام دون أحالم مزعجة‪ ،‬فهل أوقظه لريه هذ ه الهوال‬ ‫الفظيعة؟«‬ ‫ولم تعد قادرة على متابعة ما يجري في الكون الشمسي الذي خّلفو ه وراءهم‪ ،‬فأيصدرت‬ ‫أوامرها إلى الخاتم الشيطاني المطلسم‪ ،‬لتنطلق المركبة بسرعتها الُخرافّية وتوغل في‬ ‫الكون الشمسي الخر عابرة السماء الثانية‪ ،‬فيما الملكة تتمنى في نفسها أل تؤّيثر الهوال‬ ‫الجارية خلفهم على كوكبي الرض والّزهرة‪.‬‬ ‫‪ηηηηη‬‬ ‫حين استيمقظ الملك لمقمان من النوم‪ ،‬كان ت المركبة قد قطع ت ماليين الّسنين الضوئّية‪،‬‬ ‫ومّرت بكواكب مظلمة وكواكب مضيئة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫هت ف باسم الملكة نور السماء فسمعته‪ ،‬فأبطأت سير المركبة إلى أدنى سرعة وسلم ت‬ ‫زمامها للرائد وهرع ت إليه‪.‬‬ ‫»أين أن ت يا حبيبتي؟«‬ ‫»كن ت أقود المركبة يا حبيبي«‬ ‫ ت يا حبيبتي؟«‬ ‫»أن ِ‬ ‫»إنما بمساعدة خاتم إبليس الطلسمي«‬ ‫ونزع ت الخاتم وأعطته له‪.‬‬ ‫»ولَِم اضطررت إلى استخدام الخاتم؟«‬ ‫»كي تنطلق المركبة بالّسرعة الخيالّية«‬


‫»ألم تكن تنطلق من قبل بسرعة خيالّية؟«‬ ‫»بلى‪ ،‬لكنها كان ت شبه محدودة!«‬ ‫»حتى السرعات الخيالية فيها محدود وغير محدود؟ أين نحن الن؟«‬ ‫»نحن نمقترب من تخوم السماء الثانية«‬ ‫»تمقصدين المجموعة الشمسية الثانية؟«‬ ‫»ل أعر ف إذا لم نتجاوز سوى مجموعتين شمسّيتين فمقط‪ ،‬فمقد انطلمقنا بسرعات ل يمكن‬ ‫للخيال أن يتصّورها!«‬ ‫»وهل يمكن أن نتصّور منذ متى انطلمقنا من الرض؟«‬ ‫»ل يمكن تحديد ذلك بدّقة يا حبيبي«‬ ‫»منذ مليون سنة ضوئية مث ً‬ ‫ال؟«‬ ‫»بل أكثر بكثير يا حبيبي«‬ ‫»يا إلهي! هل تدركين ماذا يعني هذا؟!«‬ ‫»أدر ك يا حبيبي لّن سرعاتنا خيالّية‪ ،‬ولو لم تكن كذلك‪ ،‬لكان ت ماليين الحضارات قد‬ ‫انمقرض ت على الرض!«‬ ‫ ت من أننا الن إذا تمّكنا من الّتصال بالرض‪ ،‬سنجدهم يتحّديثون عن نزع‬ ‫»أوايثمقة أن ِ‬ ‫السلحة وما حَدث من معجزات أخرى‪ ،‬أم أن ذلك سيكون قد أيصبح في بطون كتب‬ ‫التاريخ المهملة‪ ،‬وربما نجد العكس حسب بعض النظرّيات العلمية؟!«‬ ‫»كي ف يكون العكس يا حبيبي؟«‬ ‫»قد نجد أن البشرية عادت بالزمن ماليين السنين إلى الوراء!!«‬ ‫»ل يا حبيبي‪ ،‬أنا وايثمقة أّن الّزمن على الرض لم يعد إلى الوراء‪ ،‬ولم يمقفز ماليين‬ ‫السنين إلى المام‪ ،‬ووايثمقة من أّن الّسالح ما يزال على المقمر ولم يُْبِله الزمن حتى ولم‬ ‫يصدأ بعد‪ ،‬وما يزال يصالحا ً لالستعمال«‬ ‫»آمل ذلك يا حبيبتي«‬ ‫»وإذا تريد أن تتفاءل أكثر‪ ،‬سأخبر ك أّن ذلك لم يتجاوز بضعة أسابيع وربما بضعة أّيام«‬ ‫ ت؟!«‬ ‫»كي ف عرف ِ‬ ‫»لنه تبّين أنني حامل منذ بضعة أيام يا حبيبي!«‬ ‫وهت ف الملك لمقمان بدهشة‪:‬‬ ‫»نعم؟!«‬ ‫»ألم تسمع يا حبيبي؟«‬ ‫»هل هذا يعني أن »سحب السماوات« سيشّر ف قريبًا؟«‬ ‫»رّبما بزمن الكون الذي نحن فيه قد ُيشّر ف خالل أسبوع وربما بعد ساعة!«‬ ‫وأشرع الملك لمقمان يصدر ه فاتحاً يديه على وسعهما لتلمقي الملكة نفسها عليه‪ .‬ضّمها‬ ‫وراح يتمقّلب هو وإّياها على الّسرير«‬ ‫»هل تعرفين يا حبيبتي«‬ ‫»ماذا يا حبيبي؟«‬


‫»طوال ُعمري كن ت أعتبر الحياة الواقعية حياة سخيفة‪ ،‬لكن بعد أن عش ت جمالّيات‬ ‫الحياة الخيالية‪ ،‬أكاد ل أجد كلمة ُمناسبة في كل قواميس اللغات أنع ت بها تلك الحياة‬ ‫الموغلة في الفظاعة!!«‬ ‫»سنحيلها إلى حياة خيالية يا حبيبي«‬ ‫»أل ُيفترض أن تكون الجواهر التي ُأنزل ت على الرض قد حّول ت حياة النس من حياة‬ ‫واقعية بائسة إلى حياة خيالية جميلة بعض الشيء؟!«‬ ‫»ممكن«‬ ‫»ماذا سنفعل لهل الرض كي ندعهم يحيون حياتنا يا حبيبتي؟«‬ ‫»سنفعل لهم كّل ما يريدونه ونمقدر نحن عليه‪ ،‬سنحمقق كل أحالمهم«‬ ‫»وهل سنزّوج من يريد منهم حورّيات؟!«‬ ‫»ولماذا ل يا حبيبي؟«‬ ‫»والنساء اللواتي يردن حوريين‪ ،‬من أين سنأتي لهن؟«‬ ‫»من الجن‪ ،‬ويمكن أن نحّول بعض الشباب إلى حوريين!«‬ ‫»وإلى ولدان مخّلدين؟!«‬ ‫»إلى ولدان نعم‪ ،‬أما مخّلدين‪ ،‬فال يمقدر على ذلك غير ا«‬ ‫»ومن سيحر س هؤلء الولدان؟«‬ ‫»يحرسهم من ماذا يا حبيبي«‬ ‫ ت ل تعرفين أّن بيننا من يحّبون الولدان أكثر من النساء؟!«‬ ‫»ولو يا حبيبتي‪ .‬أن ِ‬ ‫»سيحيون حياتهم بإرادتهم يا حبيبي«‬ ‫»والشيوخ والعجزة والنساء البشعات‪ ،‬هل في ممقدورنا أن ُنجّملهم أو نصّغرهم«‬ ‫»كل شيء ممكن يا حبيبي!«‬ ‫»يبدو لي أّنه لم يبق أمامنا إل المقليل كي نمنح البشر الحياة البدية‪ ،‬ونمقتل الشّر في‬ ‫نفوسهم‪ ،‬ونحيي الموتى‪ ،‬وبعدها لن يكون إل المحّبة والسعادة‪ .‬ولن يكون يثمة مشاِكل‬ ‫على الطال‪.‬ق‪ ،‬أل يمكن أن يتحمقق هذا؟!«‬ ‫»للس ف يا حبيبي‪ ،‬حتى في الخيال ل ُيمكن تحمقيق ُكل شيء!«‬ ‫»شيء ل يصّد‪.‬ق أليس كذلك؟«‬ ‫»بل ُيصّد‪.‬ق‪ .‬لن حياتنا تبمقى واقعّية وليس ت خيالية يا حبيبي‪ ،‬وإن كان ت ُمرّفهة أكثر من‬ ‫حياة البشر‪ ،‬ولدينا قدرات خارقة!«‬ ‫»إذا كان ت هذ ه الحياة واقعّية فلن يكون هنا ك أ ّ‬ ‫ي مجال لحياة خيالّية يا حبيبتي!«‬ ‫»ما رأيك يا حبيبي أن تنهض الن وتستحم وتأكل وتتر ك الحياة كما هي‪ ،‬بغض الّنظر‬ ‫عّما إذا كان ت واقعية أم خيالّية؟«‬ ‫»آ ه فع ً‬ ‫ال أشعر وكأنني لم آكل منذ شهر‪ ،‬لكن لم تمقولي لي كي ف تأّكدت من أنك حامل يا‬ ‫حبيبتي؟«‬ ‫»لم يأتني دم ال ّ‬ ‫طمث يا حبيبي«‬ ‫»لكّن دم ال ّ‬ ‫طمث قد يغيب أحيانا ً ياحبيبتي‪ ،‬خا ّ‬ ‫يصة وأن الزمن قد تغّير عليك«‬


‫»ل تمقلق إذا لم أكن حامالً سأحمل يا حبيبي«‬ ‫ى يا حبيبتي«‬ ‫»ل أريد أن تذهب فرحتنا ُسد ً‬ ‫»سنفرح يثانية‪ ،‬هّيا الن انهض!«‬ ‫»سأنهض‪ ،‬لكن كم مضى على نومي؟«‬ ‫»بالضبط ل أعر ف يا حبيبي‪ .‬فمقد مررنا على أزمان وأكوان مختلفة‪ ،‬لكن لم تمقل لي هل‬ ‫نم ت بشكل جميل بعد المساج؟«‬ ‫»آ ه فع ً‬ ‫ال‪ ،‬كان ت أجمل نومة في حياتي‪ ،‬ومع ذلك حلم ت‪ ،‬لكن بعوالم جميلة‪ ،‬يبدو لي أن‬ ‫عمقل النسان مثل قلبه‪ ،‬إذا ما توّق ف توقف ت الحياة«‬ ‫»المهم أّنك لم تَر كوابيس؟«‬ ‫»ل‪ ،‬لم أَر يا حبيبتي‪ ،‬أشكر ك«‬ ‫»أحمد ا يا حبيبي«‬ ‫»أي إله هذا الذي تحمديَنه؟«‬ ‫»الله المنّز ه عن الشرور واليثام‪ ،‬المح ّ‬ ‫ب للخير‪ ،‬الكار ه للموت‪ ،‬الّساهر على أبدّية‬ ‫الحياة‪ ،‬الطامح إلى المحبة والساعي إلى خلود البشر وإحياء الموتى!«‬ ‫»إنه الله الذي أحلم به يا حبيبتي!«‬ ‫»وبماذا سأحُلم إن لم أحُلم بما يحلم به حبيبي؟«‬ ‫وهل يمكن أن يكون هذا الله موجوداً يا حبيبتي؟«‬ ‫»لبد أن يكون موجوداً يا حبيبي!«‬ ‫»أين؟«‬ ‫»في السماوات!«‬ ‫»ولَِم لْم يمقم بأعماله الخّيرة حّتى الن يا حبيبتي؟«‬ ‫»رّبما لّن المر خرج عن يد ه ولم يعد في ممقدور ه أن يعيد المور إلى نصابها!«‬ ‫»هذا يعني أّنه إله عاجز يا حبيبتي«‬ ‫»ليس إلى حد كبير يا حبيبي!«‬ ‫»كي ف؟«‬ ‫»لننا لم نمقم بمساعدته على تحمقيق مآربه«‬ ‫»وهل هو في حاجة إلى مساعدتنا؟«‬ ‫»أجل‪ ،‬أظّن أنه ينبغي أن نكون معه بمقدر ما هو معنا«‬ ‫»إذا ما وجدت هذا الله يوما ً سأكون معه بكل طاقتي«‬ ‫»أعر ف أن حبيبي لن يتخّلى عن إلٍه نبيل‪ ،‬وأعاهد ك يا حبيبي أن أكون معكما«‬ ‫قاطعهما يصوت قائد المركبة معلنا ً أن المركبة تحّلق الن ضمن مدار كوكب هائل‬ ‫مأهول‪ ،‬فأشار إليه الملك لمقمان أن ُيبطئ سرعة التحليق إلى الحدود الدنيا‪ ،‬لّنه سيتناول‬ ‫طعامه على شرفة يستطيع منها ُمراقبة ما يجري على سطح هذا الكوكب‪.‬‬ ‫‪ηηηηη‬‬ ‫نهض الملك لمقمان والملكة نور السماء من السرير‪ .‬وما أن أخذ الملك حماما ً سريعا ً حّتى‬


‫خرج وجلس على شرفة في المسبح‪ .‬كان الجو نهاراً والشمس ترسل أشعتها من أعالي‬ ‫الّسماء‪ ،‬وبدا للملك لمقمان وكأنه يحّلق في فضاء كوكب الرض‪ .‬أخذ يرقب الكوكب عبر‬ ‫منظاٍر سحري‪ ،‬فيما أخذت الملكة منظاراً وراح ت ترقب بدورها‪.‬‬ ‫بدا الكوكب لهما من بعيد يضّج بالحياة‪ ،‬فمقد بدت لهما بعض المدن والمقرى‪ ،‬والنهار‬ ‫والمحيطات والبحار التي تمخرها السفن‪ ،‬وكان يثمة غابات وبساتين وحمقول وأنا س‬ ‫يعملون‪ ،‬وبدا أن الكوكب بدائي‪ ،‬فلم يكن هنا ك شوارع حديثة ول حافالت‪ ،‬بل عربات‬ ‫تجّرها الخيول‪ ،‬ولم يكن هنا ك مطارات ول طائرات‪ ،‬ول أي نوع من السلحة الحديثة‪،‬‬ ‫كما أن الّسفن التي شوهدت تمخر البحار‪ ،‬كان ت بدائّية‪ .‬وكان النا س يحريثون الرض‬ ‫صن‪.‬‬ ‫على الثيران والبغال والحمير والح ُ‬ ‫أشارت الملكة نور السماء إلى الملك أن يتناول إفطار ه‪ ،‬ومن يثّم سيتابعان الّنظر إلى‬ ‫الكوكب‪ ،‬فأشار هو إلى المركبة أن تنزل إلى فضاء الكوكب المقريب‪ ،‬ليتمّكنا من الّنظر‬ ‫بالعين المجّردة وهما يتناولن الفطار‪.‬‬ ‫وفيما كان المقائد يهبط بالمركبة فو‪.‬ق سماء بحر كبير‪ ،‬قّدم ت الحورّيات على المائدة وجبة‬ ‫من لحم الجداء المحّمر بالّسمن‪ ،‬وحساء الّدجاج‪ ،‬وسلطات من الخس والبندروة والخيار‪،‬‬ ‫وبطاطا ممقلية‪ ،‬واقريد س وكافيار أسود وحليب ظباء ولبن معز وعصير الفواكه‪ ،‬إضافة‬ ‫إلى النبيذ المعّتق من زمن سليمان‪.‬‬ ‫ولم يكد الملك لمقمان يشرب كأسا ً من حليب ال ّ‬ ‫ظباء الذي أدمن عليه بعد أن تذّوقه على‬ ‫الرض‪ ،‬يثّم كأسا ً من عصير الفواكه‪ ،‬حّتى كان ت المركبة تجتاز البحر وتدخل إلى منطمقة‬ ‫يصحراوّية يلّفها الضباب على ارتفاعات متوّسطة وتكثر فيها الجبال والّتالل‪ ،‬فهت ف‬ ‫مخاطبا ً الملكة‪:‬‬ ‫»يا ا ما أجمل الصحراء يا حبيبتي‪ ،‬انظري ما أجمله‍ا!«‬ ‫وفيما كان ت الملكة تتأمل جمال الصحراء رأت مشهداً عجيبا ً فهتف ت إلى الملك‪:‬‬ ‫»انظر يا حبيبي«‬ ‫وحين نظر الملك لمقمان شاهد جبالً كبيراً شاهمقا ً يتسّلمقه مئات الل ف من البشر الُعراة‬ ‫يحملون على ظهورهم يصخوراً ضخمة ينوؤون تح ت وطئتها‪ ،‬وكان ت أقدامهم ممقّيدة‬ ‫بسالسل حديدية يثخينة تحّد من طول خطواتهم‪ ،‬فتوّقف ت اللمقمة في فم الملك وهو يهت ف‪:‬‬ ‫»يا إلهي أي ظلٍم هذا؟!«‬ ‫وحين نظر إلى قّمة الجبل شاهد تمثالً ضخماً بطول أل ف ذراع لكائن يشبه البشر‪ .‬كان‬ ‫محاطا ً بسوٍر‪ ،‬وقد نبت ت داخل السور الّزهور والورود‪ .‬وكان حاملو الحجارة يضعونها‬ ‫على قّمة الجبل خارج السور‪ .‬وقد شّكل ت رجما ً كبيراً على قّمة الجبل‪ .‬ومن يثّم كانوا‬ ‫يعودون أدراجهم إلى أسفل المنحدرات حيث الوادي الّسحيق المحيط بالجبل من كل‬ ‫الجهات ليرفعوا الحجارة ويحملوها إلى المقّمة‪ ،‬فبدت أفواج منهم وهي تصعد الجبل فيما‬ ‫كان ت أفوا ٌج ُأخرى تنزل منه‪ ..‬وكان آل ف الُحّرا س من حاملي الّسياط والّسيو ف‬ ‫يرغمون الصاعدين والنازلين على الّسير في أرتال شبه منتظمة يتخلل واحدها الخر‪،‬‬ ‫صعود ويجلدون المنحدرين على‬ ‫ويجلدون الصاعدين على مؤّخراتهم ليسرعوا في ال ّ‬


‫ظهورهم ليسرعوا في النزول‪.‬‬ ‫لم يعد للملك لمقمان شهّية في ال ّ‬ ‫طعام‪ ،‬فأمر على الفور بأن تؤخذ الحتياطات لّنه سينزل‬ ‫إلى قّمة الجبل لُيخّلص هؤلء المعّذبين ويعر ف ق ّ‬ ‫صتهم‪ .‬فرجته الملكة أن يأكل شيا ً قبل‬ ‫النزول‪ ،‬فأعلن لها أنه لم يعد له أي رغبة في الطعام وهو يرى آلم هؤلء البشر أمام‬ ‫عينيه‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫طار الملك لمقمان عن الشرفة ليحلق هابطاً هو والملكة نور السماء‪ ،‬يح ّ‬ ‫ ف بهما جنود‬ ‫الجن‪ ،‬فيما ظّل ت المركبة تحّلق في الّسماء‪ .‬وقبل أن يحط الملك على رجم من ال ّ‬ ‫صخور‬ ‫والحجارة الملمقاة خارج أسوار ساحة التمثال‪ ،‬خاطب الخاتم المطلسم الذي أهدا ه إّيا ه‬ ‫الملك إبليس‪ ،‬وطلب إليه أن يلهمه هو والملكة نور السماء إتمقان اللغة التي يتكّلم بها‬ ‫هؤلء المقوم‪ .‬وما كاد يطلب إليه الطلب حّتى وجد اللغة تمتثل في دماغه وتدور على‬ ‫لسانه لتنطلق من شفتيه‪.‬‬ ‫وكان الج ّ‬ ‫الدون وحاملو السياط قد توّقفوا مندهشين ولم يعودوا يضربون حاملي‬ ‫الحجارة‪ ،‬وراحوا ينظرون إلى هذ ه المقوى الهابطة من الّسماء بأعداد هائلة‪ ،‬فيما توّق ف‬ ‫حاملو الحجارة في أماكنهم وهم يتمّنون نصرة هذ ه المقوى‪.‬‬ ‫هبط الملك لمقمان والملكة نور السماء ووقفا على رجم من الصّخور إلى جانب سور‬ ‫التمثال الهائل الذي كان ينتصب في السماء‪ ،‬وأشار الملك لمقمان بيد ه إلى رجل عجوز أن‬ ‫يطرح الصخرة عن ظهر ه ويتمقّدم منه‪ ،‬فطرح الرجل العجوز ال ّ‬ ‫صخرة عن ظهر ه وتمقّدم‬ ‫حاني الظهر‪ ،‬لنه لم يكن في ممقدور ه رفع ظهر ه لكثرة ما حمل من ال ّ‬ ‫صخور‪ ،‬ووق ف‬ ‫أمام الملك ُلمقمان في حاٍل يريثى لها‪ ،‬فخاطبه الملك بلغته قائ ً‬ ‫ال‪:‬‬ ‫»الّسالم عليكم أيها الشيخ«‬ ‫فمقال الشيخ بلغته‪:‬‬ ‫»وعلى المسّلم السالم«‬ ‫صخور على ظهوركم؟«‬ ‫»من تكونون أّيها الشيخ‪ ..‬ولَِم تحملون هذ ه ال ّ‬ ‫»نحن معارضة دينية وسياسّية‪ .‬عارضنا دين وسياسة الله داجون ملك كوكبنا‪ ،‬فُحكمنا‬ ‫بالشغال الشاّقة المؤّبدة«‬ ‫»هل قل ت الله داجون أّيها الشيخ؟«‬ ‫»أجل أّيها السّيد«‬ ‫»لعّله الله الذي كان ت تعبد ه بعض شعوب كوكبنا قبل يثاليثة آل ف عام ونّي ف؟!«‬ ‫»أنا ل أعر ف آلهتكم ول أعر ف كوكبكم أّيها السيد«‬ ‫ولم يفّكر الملك لمقمان أكثر من ذلك في نوعّية هذا الله وممقدرته‪ ،‬فصرخ على الفور‬ ‫صخور أن يطرحوا ال ّ‬ ‫صخور عن ظهورهم‪ ،‬وأمر جنود‬ ‫بمئات الل ف من حاملي ال ّ‬ ‫الجن أن ينزعوا الّسياط والّسيو ف من أيدي الج ّ‬ ‫الدين والُحّرا س دون أن يضربوهم‪ ،‬وأن‬ ‫يفّكوا السالسل من أرجل السجناء‪ ،‬وأشار إلى الملكة أن تمقوم بإحياء الّسجناء من‬ ‫عاهاتهم‪ ،‬وأن تعالج المقروح والجروح من ظهورهم وباقي أجسادهم‪ ،‬وأن تعيد للجميع‬ ‫صخور عن ال ّ‬ ‫ظهور ونزع ت سياط‬ ‫يصّحتهم‪ ،‬ولم تمر سوى لحظات حّتى ألمقي ت ال ّ‬


‫الج ّ‬ ‫الدين وسيوفهم‪ ،‬والتأم ت الجروح في الظهور والمقروح في الجساد‪ ،‬واستمقام ت‬ ‫ظهور العجزة والمسّنين‪ ،‬وارتدى الجميع لباسا ً يستر ُعريهم‪ .‬وحين شاهد مئات الل ف‬ ‫من الّسجناء أنفسهم محررين من الصخور ومعالجين من الجروح ومنتصبي الظهور‬ ‫ويرفلون بأجمل المالبس‪ ،‬أشرعوا أيديهم متضّرعين وراحوا يسجدون على الرض‪.‬‬ ‫على قّمة الجبل شرعوا في الّسجود‪ ،‬وعلى سفوح الجبل من كل الجهات شرعوا في‬ ‫السجود‪ ،‬وفي أعما‪.‬ق الوادي الَّسحيق شرعوا في السجود‪ .‬حتى الُحرا س والجالدين‬ ‫شرعوا في الّسجود‪ ،‬معتمقدين أن هذا هو الله الحمقيمقي وليس الله الذي يحكمهم‪ ،‬لكن‬ ‫س جبا ه معظمهم الرض‪ ،‬هت ف الملك لمقمان بصوت هائل‪:‬‬ ‫وقبل أن تم َّ‬ ‫»انهضوا! انهضوا أيها الحرار‪ ،‬فأنا بش ٌر مثلكم‪ ،‬ومكاف ٌح مثلكم‪ ،‬إنما كي ل أسجد لمليك‬ ‫أبدًا‪ ،‬وكي ل أع ّ‬ ‫ظم ملكا ً أبدًا‪ ،‬وكي ل أسجد لله أبدًا‪ ،‬فانهضوا وارفعوا رؤوسكم‪،‬‬ ‫واشمخوا بهاماتكم‪ ،‬فليس يثّمة من له حق في استعباد النا س وقد وَلدتهم أُّمهاتهم‬ ‫أحرارًا!!«‬ ‫وتوّق ف الملك لمقمان للحظات‪ ،‬فهت ف الرجل الشيخ‪:‬‬ ‫»عفو ك أيها السّيد النبيل‪ ،‬إّن ما فعلته لنا ل يمقدر عليه غير اللهة‪ ،‬فأخبرنا الصد‪.‬ق من‬ ‫تكون إن لم تكن من اللهة؟!«‬ ‫ت عاٍل كي يسمعه الجميع‪ ،‬فكان يصدى يصوته يتردد من الودية‬ ‫فهت ف الملك لمقمان بصو ٍ‬ ‫الّسحيمقة المحيطة بالجبل‪:‬‬ ‫»إّني أقول الصد‪.‬ق أيها الرجال‪ ،‬فأنا بش ٌر مثلكم‪ ،‬غير أّني رسول الخالص‪ .‬رسول‬ ‫الحق‪ ،‬رسول الخير‪ ،‬ورسول المحّبة‪ ،‬وأستعين بمقوى الخير من الجّن والشياطين«‪.‬‬ ‫فهت ف الرجل بدهشة‪:‬‬ ‫»وهل يوجد أخيا ٌر بين الجّن والشياطين أيها السيد النبيل‪ ،‬فنحن ل نعر ف إل أّنهم‬ ‫أشرار؟!«‬ ‫»بل العكس أيها الشيخ‪ ،‬إن الجّن والشياطين أخيار‪ ،‬وليس الشرار إل أمثال هذا الله‬ ‫المتسّلط الذي يحكمكم‪ ،‬ولول قوى الجن الخّيرة‪ ،‬وقدراتهم الخارقة‪ ،‬لظللتم ترزحون‬ ‫تح ت يثمقل ال ّ‬ ‫صخور‪ ،‬ولظّل ت أقدامكم مصّفدة بالّسالسل‪ ،‬ولما التأم ت جروحكم وقروحكم‪،‬‬ ‫ولما استمقام ت ظهوركم‪ ،‬ولما ارتديتم لباسا ً جديدًا‪ ،‬فال تلعنوا الشياطين بعد اليوم‪ ،‬ول‬ ‫تتعّوذوا منهم‪ ،‬إن كنتم تلعنونهم وتتعّوذون منهم‪ .‬بل اطلبوا لهم المغفرة والمحّبة‪ ،‬وقبول‬ ‫الّتوبة من ا!«‬ ‫فمقال الشيخ‪:‬‬ ‫»ومن هو ا هذا الذي تنادي به أيها السّيد النبيل؟«‬ ‫»إني ل ُأنادي به بمقدر ما أبحث عنه‪ ،‬لعّلني أجد ه‪ ،‬إّنه إله ُيفترض فيه أن يكر ه العبودّية‬ ‫والعبادة والتعظيم والموت‪ ،‬يكر ه الشّر وال ّ‬ ‫ب الخير للبشر‪ ،‬ولكل الكائنات‬ ‫ظلم‪ ،‬ويح ّ‬ ‫والكوان‪ ،‬ويسعى لن يحيا النسان حياة أبدّية خالدة!«‬ ‫»وإذا لم تجد ه أّيها الّسيد النبيل؟«‬ ‫»إذا لم أجد ه‪ ،‬فليس ُهنا ك آلهة‪ ،‬سأيصعد إلى تخوم الّسماء السابعة وإذا لم أجد ه فلن يكون‬


‫ُهنا ك إله«‬ ‫»وإلهنا داجون وأتباعه وأعوانه من اللهة‪ ،‬ماذا يكونون أيها السيد النبيل؟!«‬ ‫»قل لي ما هو إلهكم هذا؟!«‬ ‫»إن التمثال الهائل الذي ينتصب خلفك له‪ ،‬وعرشه ُهنا ك في العالي حيث ُيمقيم مع‬ ‫أعوانه وأتباعه على قمم الجبل العظيم‪ .‬هو إلهنا ومليكنا‪ ،‬ويمقول أّنه من خلمقنا وخلق‬ ‫السماوات والرض التي نمق ف عليها‪ ،‬وخلق الشمس والمقمر والنجوم‪ ،‬وخلق الميا ه‬ ‫والبحار والمحيطات والنهار‪ ،‬وخلق النباتات والحيوانات والشجار‪ ،‬الليل والنهار‪،‬‬ ‫وكل ما في الوجود‪ ،‬وهو منزل المطار ومسّير الّرياح ومحِدث الزلزل والبراكين‬ ‫والبرو‪.‬ق والُرعود والّسحب وال ّ‬ ‫ضباب وكل شيء!«‬ ‫»هل هو من قال لكم هذا؟«‬ ‫»بل رسله الذين ينزلون من العالي‪ ،‬وملوكه الذي يعّينهم علينا‪ ،‬والذين ُنرغم على‬ ‫تعظيمهم وتمجيدهم بمقدر ما نع ّ‬ ‫ظم اسمه ونمّجد ه!«‬ ‫»وأنتم لم تصّدقوا كل ذلك!«‬ ‫»بل يصّدقنا‪ ،‬لكّنا ُكّنا نطالب الّرسل والملو ك والولة‪ ،‬أن يرحمونا‪ ،‬ول يظلمونا‪ ،‬وأن‬ ‫يعدلوا فيما بيننا‪ ،‬وأن يتيحوا لنا أن نبدي رأينا في شؤوننا‪ ،‬وفيما حولنا قدر المكان‪ ،‬وأن‬ ‫صلوات وتمقديم ا ُ‬ ‫يخففوا عّنا وطء طمقو س العبادات وال ّ‬ ‫لضحيات‪ ،‬وأن يوّفروا المال لبناء‬ ‫المدار س والمستشفيات‪ ،‬وليس لتمجيد اللهة والولة وبناء آل ف المعابد«‬ ‫ضخم الذي يرتفع أل ف ذراع متسائ ً‬ ‫والتف ت الملك لمقمان إلى التمثال ال ّ‬ ‫ال‪:‬‬ ‫»قل ت لي أن هذا تمثال إلهكم أيها الشيخ؟!«‬ ‫»نعم أيها السيد النبيل‪ ،‬وله ماليين التمايثيل في كافة أنحاء الكوكب«‬ ‫»كم عدد ُسكان كوكبكم أيها الشيخ؟!«‬ ‫»يثاليثة عشر ملياراً أيها السيد النبيل!«‬ ‫»وهل تعيشون في دولة واحدة؟«‬ ‫»ل أيها السيد نعيش في أل ف مملكة‪ ،‬وكل مملكة يحكمها ملك معّين من قبل الله والملك‬ ‫العلى داجون«‬ ‫»وما اسم كوكبكم؟«‬ ‫»اسمه كوكب داجون على اسم الله أيها السيد النبيل«‬ ‫»وماذا يعني اسم داجون هذا بلغتكم؟«‬ ‫»يعني الله ُكّلي المقدرة أيها السيد«‬ ‫وأمر الملك لمقمان جنياً أن يمقطع رأ س التمثال ويحضر ه له‪ .‬فأخذ الجنّي الرأ س بين يديه‪،‬‬ ‫وضغط عليه من ناحية الكت ف ليكسر ه من أعلى الُعنق‪ ،‬وكأنه يمقسم خيارة! حمله الجنّي‬ ‫ووق ف أمام الملك لمقمان‪ ،‬فمّد الملك يديه ليأخذ ه فأخبر ه الجنّي أنه يثمقيل جدًا‪ ،‬فراح الملك‬ ‫يتلّمسه فيما الشيخ يهت ف بذعر‪:‬‬ ‫»إني خائ ف عليك أيها السيد النبيل من أن يضربك الله داجون بإحدى يصواعمقه الهائلة‬ ‫لنك قطع ت رأ س تمثاله!«‬


‫وطفق الملك لمقمان يضحك وهو يأمر الجنّي أن يمقذ ف الرأ س أمام قدمي الشيخ‪:‬‬ ‫»خذ أيها الشيخ المكاِفح‪ ،‬هذا ُهو رأ س تمثال إلهك ُكّلي المقدرة‪ ،‬تساعد أن ت ورفاقك‬ ‫ودحرجو ه من قّمة الجبل إلى الوادي الّسحيق الذي تحملون الحجارة منه‪ ،‬فهو إله دّجال‬ ‫متسّلط‪ ،‬ولو أضمن أل ينعتني البشر بال ّ‬ ‫ظلم‪ ،‬لحضرت إلهكم إلى هذا الوادي‪ ،‬وحكم ت‬ ‫عليه بحمل رأسه وال ّ‬ ‫صعود به إلى المقمة والعودة به إلى الوادي ليكرر ذلك مدى حياته!«‬ ‫وراح الشيخ ورفاقه يتعاونون على دحرجة الّرأ س إلى أن بلغوا به أعلى الَّسفح‪ ،‬فأفسح‬ ‫آل ف السجناء له طريمقا ً بينهم كي يتدحرج من أعلى الجبل بين يصّفين من الّسجناء‪ ،‬ورفع‬ ‫الجميع أيديهم وهتفوا بأيصواتهم‪:‬‬ ‫»عاش ت الحرّية‪ ،‬تسمقط العبودّية«‬ ‫وما أن استمقّر الرأ س في الوادي الّسحيق وتوّق ف آل ف الّسجناء عن الهتا ف حّتى عاد‬ ‫الشيخ ليمق ف أمام الملك لمقمان وقد اندفع خلفه آل ف السجناء وراحوا يمقتربون ليروا الملك‬ ‫لمقمان والملكة نور الّسماء‪ ،‬فأحاطوا بهما من كل جانب‪ .‬رفع الملك لمقمان يد ه ليوق ف‬ ‫تدافع السجناء من حولهما‪ ،‬فتوّقفوا‪ ،‬فخاطب الشيخ‪:‬‬ ‫»قل لي أيها الشيخ‪ ،‬أين يمقع عرش إلهكم داجون هذا؟!«‬ ‫»يمقع على بعد ل يمقّل عن مائة أل ف كيلو متر ناحية الشمال أيها السيد النبيل«‬ ‫»سأذهب لخّلصكم منه ومن أعوانه وأطيح بكل ملوكه وولته‪ ،‬وآمل أن تجروا‬ ‫انتخابات فيما بينكم وتنتخبوا مجلساً يحكم كوكبكم بالعدل والخير والمحّبة‪ ،‬وسأعّين‬ ‫راعياً من أعواني يساعدكم على تحمقيق غاياتكم إذا ما دع ت ال ّ‬ ‫ضرورة«‬ ‫»إننا لعاجزون عن شكر ك أيها السيد النبيل‪ ،‬وإنا لنأمل أل تغادر جهّنم قبل أن تساعدنا‬ ‫على إطال‪.‬ق سراح جميع المعّذبين والّسجناء!«‬ ‫»هل قل ت جهّنم أيها الشيخ؟«‬ ‫»نعم أيها السيد النبيل‪ ،‬فهذا الجبل الكبير ل يشّكل أكثر من رقعة يصغيرة ل تذكر في‬ ‫قاّرة يصحراوّية تبلغ مساحتها عشرات الماليين من الميال وهي جهّنم التي يعّذب فيها‬ ‫إلهنا مخالفيه ومعارضيه والخارجين على طاعته وغير المتمقّيدين بسننه وشرائعه‬ ‫المطّبمقة في الممالك الل ف!«‬ ‫وأطر‪.‬ق الملك لمقمان للحظة متعجبا ً وما لبث أن هت ف‪:‬‬ ‫»سأفعل أيها الشيخ ولن أغادر كوكبكم وفيه سجين أو معّذب«‬ ‫وأمر الملك لمقمان بتكسير أعضاء التمثال وقذفها بعيداً في كل التجاهات‪ ،‬فصعد إليه‬ ‫أربعة من الجن وقذفوا باليدين والّرجلين وباقي العضاء من العالي لتسمقط في الودية‬ ‫البعيدة‪ ،‬وسط ُهتا ف الّسجناء الذي راح يتردد من كل أرجاء الصحراء‪.‬‬ ‫أشار الملك لمقمان بيد ه‪ ،‬وهت ف موّدعا ً السجناء‪:‬‬ ‫»السالم عليكم أيها الشيخ‪ ،‬السالم عليكم أّيها الحرار«‬ ‫فهت ف الشيخ قبل أن يجيب‪:‬‬ ‫»وهل سينصر ف السيد النبيل دون أن يعّرفنا على اسمه؟«‬ ‫»اسمي ُلمقمان أيها الشيخ‪ ،‬وحرفتي أديب‪ ،‬غير أّن بعض ملو ك الجن ن ّ‬ ‫صبوني ملكا ً أعلى‬


‫عليهم«‬ ‫وهنا انحنى الشيخ وحاول أن يسجد حين وجد أّنه أمام ملك‪ ،‬فسارع الملك لمقمان بمساعدة‬ ‫أحد الجن إلى إنهاضه وعدم الّسماح له بالّسجود‪:‬‬ ‫»إّيا ك والّسجود أو الّركوع أو النحناء أيها الشيخ‪ ،‬فهذا ممنوع في أعرافي كما أعلن ُ‬ ‫ ت‬ ‫لك«‬ ‫»ألن تسمح لنا أيها الملك النبيل بإقامة بعض التمايثيل لك في مدننا‪ ،‬كي ُنخلُّد ذكرا ك؟!«‬ ‫»وهل ح ّ‬ ‫طم ت يصنم إلهكم كي تمقيموا يصنماً لي أيها الشيخ‪ ،‬أقيموا التمايثيل للمبدعين‬ ‫والعظماء بينكم قبل أو بعد رحيلهم عن الحياة«‬ ‫»وكي ف سنتعّبد إليك ونتمقّرب منك؟!«‬ ‫»يبدو أنك ل تعي ما أقوله لك أيها الشيخ«‬ ‫»بل إنني أعي‪ ،‬لكّننا أمم اعتادت التعّبد والّسجود والّركوع لللهة والملو ك والولة‪ .‬الذين‬ ‫أذاقونا اللم والعذابات‪ ،‬فكي ف لن نتعّبد أو نتمقّرب إلى من وهبنا ُحّريتنا وأعاد لنا يصّحتنا‬ ‫وكسانا؟!«‬ ‫»من أراد منكم أن يحّبني أيها الشيخ فليحّبني بنفسه ولنفسه وفي قلبه‪ ،‬وأل يهت ف باسمي‬ ‫أمام النا س‪ ،‬وأل يطلب إلى غير ه أن يحّبني وأل ُيرغم أحداً على محّبتي‪ ،‬وغير ذلك‬ ‫سيكون مغضباً لي أيها الملك‪ .‬من أراد أن يحبني فلُيخِلص في عمله‪ ،‬ويسمو بإبداعه‬ ‫ويعتني بحمقله‪ ،‬ويحرث أرضه‪ ،‬ويسعى إلى المعرفة ويشّجع العلم ويطّور العلوم‪ ،‬ويعمل‬ ‫من أجل أخيه بمقدر ما يعمل أخو ه في البشرية من أجله‪ ،‬ويحب النا س‪ ،‬ويمقتل الشّر في‬ ‫نفسه‪ ،‬فهو بذلك يتمقّرب مّني ويتعّبد إلّي ويزرع محّبتي في نفسه‪ ،‬وأزرع محّبته في‬ ‫نفسي«‬ ‫ورفع الملك لمقمان يد ه ُمحيياً وانطلق هو والملكة نور السماء‪ ،‬فارتفع ت أيدي السجناء‬ ‫ملّوحة ودمع ت عينا الشيخ وهو يلّوح ويهت ف من أعما‪.‬ق نفسه لنفسه‪:‬‬ ‫»لو أّن لي أل ف قلب لعّلني أقدر على اختزان ُحّبي لك أيها الديب العظيم والملك النبيل‬ ‫الُمحب«‬ ‫انحدر الملك لمقمان محّلمقاً هو والملكة نور السماء ليهبطا متجاوزين سفوح الجبل الكبير‪،‬‬ ‫وليعبرا الوادي الّسحيق‪ ،‬وقد انحدر خلفهما مئات الل ف من الّسجناء وراحوا يعدون‬ ‫وكأنهم يأملون اللحا‪.‬ق بهما‪ ،‬فنظر الملك لمقمان نحوهم مرة أخرى‪ ،‬فأشفق عليهم أكثر من‬ ‫ذي قبل حين أدر ك أنهم فمقراء ول نمقود لديهم‪ ،‬فلّوح بيد ه للمرة الخيرة موّدعًا‪ ،‬وأومأ‬ ‫بحركة منها فأمطرت السماء عليهم ماسا ً وذهبًا‪ ،‬فتوّقفوا عن الجري وأخذوا يجمعون‬ ‫الّذهب والما س!‪.‬‬

‫‪(13‬‬ ‫جهنم الله داجون!‬


‫اجتاز الملك لمقمان والملكة نور السماء منطمقة الجبل الكبير بأوديتها السحيمقة وقالعها‬ ‫الصخرية‪ ،‬تح ّ‬ ‫ ف بهما أسراب الجن‪ ،‬والمركبة تحّلق على ارتفاع منخفض خلفهما‪ .‬وفيما‬ ‫هما يحّلمقان فو‪.‬ق جبال وتالل شاهدا واديا ً هائالً يلّفه ضباب كثي ف ودخان خفي ف فانحدرا‬ ‫إليه‪.‬‬ ‫كان الوادي طويالً عريضاً يختفي امتداد ه في المنعطفات فلم يريا إل أّوله حيث بدا فيه‬ ‫عشرات الل ف من النسوة العاريات يراوحن وهّن واقفات في أماكنهن على جمٍر مّتمقد‪،‬‬ ‫يصراخهن وتأوهاتهن وأنينهن من شّدة اللم الذي كان يحديثه حر‪.‬ق الجمر‬ ‫وقد عال ُ‬ ‫لقدامهن وُهن يراوحن عليه‪ .‬وسط يصّفين منتظمين متمقابلين على سفحّي الوادي من‬ ‫النسوة السّجانات اللواتي ُكّن يمقفن ويلّوحن بسياطهن بالغة الطول‪ .‬ويهتفن إلى النسوة‬ ‫بصوت موّحد ذي إيمقاع سريع »تك تك تك تك تك تك« أي »أسرعن أسرعن أسرعن«‬ ‫وُكّلما انهارت قوى امرأة ووقع ت فو‪.‬ق الجمر كّن يمطرن جسدها بالّسياط‪.‬‬ ‫لم يحتمل الملك لمقمان ما رأى‪ ،‬فأمر على الفور بأن يجري نهر ُفرات بارد في الوادي‪،‬‬ ‫وأن تنتزع السياط من أيدي آل ف الّسجانات‪ .‬فاندفع ت ميا ه نهر غ ّ‬ ‫ط ت سيمقان النساء إلى‬ ‫منتصفها‪ ،‬وكّلما اجتاح السيل أقدام آل ف النسوة طفمقن يتأححن ويتأّوهن من برودة الماء‪،‬‬ ‫وهّن يتراقصن ويتمقافزن فرحاً في الماء‪ ،‬وما أن يرين موكب الملك لمقمان قاِدما ً محّلمقا ً‬ ‫فو‪.‬ق السيل حّتى يصمتن‪ ،‬وينظرن مشدوهات‪ ،‬يثم َيسُجدن‪ ،‬فيصرخ الجن بهّن أل‬ ‫يسجدن‪ ،‬فيما كان ت الملكة نور السماء تسّخر قواها لمعالجة حرو‪.‬ق أرجلهن‪ ،‬وإشفاء‬ ‫أمراضهن وإعادة النضارة إلى أجسادهن وخلع المالبس الجديدة عليهن‪.‬‬ ‫ظّل موكب الملك محّلمقاً فو‪.‬ق السيل والملك والملكة يتابعان تدّفمقه واندفاعه واجتياحه‬ ‫ش )وينبعث منه ُدخان ورماد‪ ،‬فيما‬ ‫لسيمقان الّنسوة‪ ،‬وإطفاء ه للجمر المّتمقد‪ ،‬الذي كان( يط ّ‬ ‫وقف ت السّجانات مشدوهات على سفحي الوادي وقد ُنزع ت منهن سياطهن‪.‬‬ ‫وحين كان موكب الملك يجتاز الّنسوة ُكّن يشرعن في الّزغاريد والبتهاج والهتا ف‬ ‫للحّرية بعد أن منعهن الملك من السجود‪.‬‬ ‫وحين قطع الملك ُلمقمان قرابة خمسين كيلو متراً في الوادي وهو يحّلق فو‪.‬ق السيل ُمرافمقا ً‬ ‫اندفاعُه‪ ،‬وتخليص مئات آل ف النسوة من العذاب‪ ،‬أدر ك أن الوادي ما يزال طويالً‬ ‫بمنعرجاته ومنعطفاته‪ ،‬فأمر ماء الّنهر بالسراع أكثر كي ل يتحّمل وزر عذابات النسوة‬ ‫اللواتي سيتأخر اندفاع الّسيل في الويصول إليهن‪ .‬فأسرع السيُل من جريانه إلى حد أّنه‬ ‫أخذ ُيطيح ببعض النسوة حين يدهمهن‪ ،‬ولما رأى الملك لمقمان أن بعض النسوة يتألمن‬ ‫بعد وقوعهن أمر الّنهر بأن يخف ف جريانه وأن تسبمقه سحابة ممطرة تمطر على النسوة‪،‬‬ ‫وأن يسبمقه جنود الجن لنزع سياط الّسجانات‪ ،‬فانبثمق ت سحابة أمام الملك فو‪.‬ق الوادي‪،‬‬ ‫ساقتها ري ٌح قوية بعض الشيء وراح ت تهطل المطر على أجساد النسوة المعّذبات‪ ،‬فيما‬ ‫اندفع جنود الجن أمام موكب الملك ينزعون سياط الّسجانات‪.‬‬ ‫وكان الملك شمنهور والملك حامينار والملكة شامنهاز ومئات الجن الخرين يتبعون‬ ‫موكب الملك ويرقبون أفعاله وأفعال الملكة نور السماء من شرفات المركبة الفضائية‪،‬‬ ‫وهم يتعّجبون لفعاله‪ ،‬ويلمسون كي ف دفعه نبله إلى النزول على الكوكب لتخليص‬


‫المعّذبين‪ ،‬على أن يتابع رحلته في الفضاء‪ ،‬وتمنى الملك في سريرته ألّ تطول رحلة‬ ‫الخالص على هذا الكوكب‪ ،‬وأن ل يكون ُهنا ك كواكب أخرى تعترض طريمقهم ويحتاج‬ ‫مواطنوها إلى خالص‪ ،‬كي يصل الملك لمقمان إلى غايته‪ ،‬أو بعض غاياته في العثور‬ ‫على كوكب يمكنه الستمقرار عليه ليتفّرغ لهموم كوكب الرض وهمومه الّسماوية‬ ‫الخرى‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ظّل الموكب محلمقاً في الوادي‪ ،‬يواكب اندفاعة السيل وتسبمقه الّسحابة الماطرة‪ ،‬إلى أن‬ ‫قطع فيه أكثر من مائتي ميل دون أن يصل إلى نهايته‪ ،‬وظّن ت الملكة نور السماء أّنه‬ ‫تعب من التحليق في هذا الوادي ال ّ‬ ‫طويل‪ ،‬فهتف ت إليه‪:‬‬ ‫»هل تعب ت يا حبيبي؟«‬ ‫فهت ف الملك لمقمان متسائ ً‬ ‫ال‪:‬‬ ‫»تعب ت؟ إني يا حبيبتي لم أشعر بمتعة كهذ ه في حياتي‪ ،‬تغمر نفسي بالطمأنينة وتمل قلبي‬ ‫بالعّزة وتجعل جسدي ينتشي غبطة وفرحاً وأنا أرقب الل ف المؤّلفة من المعّذبات‬ ‫يتخّلصن من عذابهن الفظيع«‬ ‫وكان الل ف من العاملين والعامالت في وادي الجمر هذا يمقفون على الّسفوح المحاذية‬ ‫للوادي‪ ،‬يرقبون ما يجري وهم في غاية الدهشة ول يلوون على شيء‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫بلغ موكب الملك نهاية الوادي‪ ،‬وكان طوله قرابة خمسمائة ميل‪ ،‬وقد خلص فيه من‬ ‫المعذبات قرابة مائتي مليون معّذبة‪.‬‬ ‫استدار الملك ُلمقمان والملكة نور السماء وتوّقفا في سماء الوادي على ارتفاع منخفض‪،‬‬ ‫ليريا مئات الل ف من النسوة اللواتي بَدون لهما قبل أن يلوذ امتدادهن خل ف منعطفات‬ ‫الوادي وتعّرجاته‪ ،‬أشار الملك لمقمان إلى امرأة أن تتمقدم نحو ه‪ ،‬فتمقّدم ت تتبعها مئات‬ ‫النسوة‪ ،‬وتوّقف ت على مسافة منه‪:‬‬ ‫»هل لي أن أسألك عّما فعلتّنه أيتها السّيدة حتى أحّل إلهكّن بكّن كَّل هذا العذاب؟!«‬ ‫»إني خجلة من أن أتفّو ه بإيثمنا أمامك أيها الله العظيم«‬ ‫»أنا لس ت إلهاً أيتها السيدة‪ ،‬أنا ملك ول تخجلي من أن تمقولي لي أ ّ‬ ‫ي شيء«‬ ‫وطأطأت جميع النسوة رؤوسهن فيما المرأة تهت ف‪:‬‬ ‫»أستميحك عذرًا أيها الملك العظيم‪ ،‬فنحن من الزانيات والعاهرات‪ ،‬الزانيات اللواتي‬ ‫أحببن وزنين دون زواج‪ ،‬والزانيات اللواتي خّن أزواجهن حين اكتشفن أن أزواجهّن‬ ‫يخونونهن‪ ،‬والعاهرات اللواتي دفعهن فمقرهن إلى بيع أجسادهن بأيثمان بخسة‪ ،‬ليِعْلن‬ ‫أنفسهن وأولدهن‪ .‬حكم علينا الله داجون بالعذاب البدي‪ ،‬وكّلما احترق ت أقدامنا‬ ‫عولج ت لنتابع رحلة العذاب ال ّ‬ ‫طويلة‪ ،‬ومن قض ت نحبها تحر‪.‬ق جّثتها في محرقة جهّنم«‬ ‫»وأين هي محرقة جهّنم هذ ه أّيتها السيدة؟«‬ ‫»إذا ما طر َ‬ ‫ت في اتجا ه الوادي عشرات الميال‪ ،‬ستجدها أمامك أيها الملك العظيم«‬ ‫»والّرجال الذين زنيتن معهم أين يعاقبهم إلهكّن داجون؟«‬ ‫»الرجال ل ُيعاقبون في شرع إلهنا‪ ،‬يؤَّنبون فمقط أيها الملك العظيم«‬ ‫وهّز الملك لمقمان رأسه أعلى وأسفل وهو يبتسم ساخراً ويهت ف إلى الملكة‪:‬‬


‫»أي إله ذكوري هذا؟!«‬ ‫يثم نظر إلى المرأة والنساء من خلفها وهو يحّر ك يد ه ويهت ف‪:‬‬ ‫»ارفعن رؤوسكن أّيتها النسوة«‬ ‫فرفع ت الّنسوة رؤوسهّن‪.‬‬ ‫»أجسامكن حق لكَّن‪ ،‬وفروجكّن ُملك لكّن‪ ،‬فهْبنها لمن تحببن‪ ،‬وامنحنها لمن تُِردن‪.‬‬ ‫اذهبن إلى حيث تشْأن‪ ،‬فأنتّن طليمقات‪ ،‬وارفعن رؤوسكن بين النساء والرجال وكل‬ ‫المم«‬ ‫وأشار الملك لمقمان بحركة من يد ه‪ ،‬فأمطرت السماء ماسا ً وذهبا ً عليهّن‪ .‬وطلب إلى الملك‬ ‫حامينار أن يتر ك أحد أعوانه ليرشدهّن إلى مبادئ الحياة الجديدة على كوكبهن‪.‬‬ ‫وارتفع موكب الملك ليحّلق في الفضاء‪ ،‬وحين أح ّ‬ ‫س أّنه تعب قليالً من الوقو ف في‬ ‫الفضاء‪ ،‬أمر بأن ُينصب له عرش طائر‪ .‬فانتصب عرش عليه أريكتان ُمريحتان وجلس‬ ‫عليهما ُهو والملكة‪.‬‬ ‫‪ηηηηη‬‬ ‫أخذ الموكب يمقطع الفيافي والمقفار باحثا ً عن محرقة جهّنم‪ ،‬وعبثا ً حاول الملك لمقمان أن‬ ‫ينسى عذابات أبناء الرض حين أيمقن أّنه سيتأخر على هذا الكوكب لبعض الوق ت‪ ،‬وقد‬ ‫تعترض رحلته كواكب ُأخرى تحتاج إلى إنمقاذ من حالت العذابات هذ ه‪.‬‬ ‫أحّس ت الملكة بمقلمقه فتساءل ت فأخبرها‪ ،‬فهتف ت‪:‬‬ ‫»ُمرني يا حبيبي بما تريد أن تفعله على كوكب الرض وسأنّفذ ه في الحال‪ ،‬وسأسّخر‬ ‫قواي والمقوى الجنّية المهداة إلّي لتنفيذ ذلك«‬ ‫فأطر‪.‬ق الملك لمقمان غامراً وجهه براحتي يديه‪ ،‬وشرع يتنّهد بعمق‪ ،‬وطفق يتكّلم دون أن‬ ‫يرفع يديه عن وجهه‪:‬‬ ‫»أرسلي رسلك إلى كل الّسجون‪ .‬كل الّسجون على كوكب الرض أرسلي رسلك إليها‪،‬‬ ‫وأطلمقي سراح كل السجناء‪ ،‬كل السجناء أطلمقي سراحهم‪ :‬الّسجناء السياسيين والسجينات‬ ‫السياسّيات‪ ،‬الّسجناء المقتلة والسجناء اللصوص والسجناء الّزناة‪ ،‬والسجناء المرتشين‪،‬‬ ‫والسجناء المستغّلين‪ ،‬والسجناء الجشعين‪ ،‬والسجناء المهّربين‪ ،‬والسجناء الممقامرين‬ ‫والسجناء الن ّ‬ ‫صابين والسجناء الجواسيس‪ ،‬كل السجناء والسجينات أطلمقي سراحهم‪،‬‬ ‫واطلبي إليهم أن يستمقيموا في حياتهم‪ ،‬وأن يحبوا النا س ويمقتلوا الّشرور واليثام في‬ ‫أنفسهم‪ ،‬وبّلغيهم كَّل مبادئي‪ ،‬كي يتمقّيدوا بها ول يضطروني يوماً إلى التفكير في الّسجون‬ ‫يثانية لمعاقبة المذنبين‪ .‬وإّيا ك واستخدام الُعن ف مع الَّسجانين‪ .‬عامليهم بلط ف‪ ،‬فهم الن بال‬ ‫سالح‪ ،‬وآمل أل يكونوا قد ُسّلحوا بالّسيو ف والّسياط والسكاكين!‬ ‫»وإلى المستشفيات‪ ،‬إلى كل المستشفيات على كوكب الرض‪ ،‬إلى مالجئ العجزة‪ ،‬وإلى‬ ‫مستشفيات المراض العمقلية ومستشفيات المراض الّنفسية وروضات المعاقين‪ ،‬أرسلي‬ ‫رسلك‪ ،‬وأعيدي النطق إلى البكم‪ ،‬والّسمع إلى اليصم‪ ،‬والبصر إلى العمى‪ ،‬والرجل‬ ‫إلى الممقعد‪ ،‬واليدي إلى الكتع‪ ،‬وال ّ‬ ‫ظهر إلى الحدب‪ ،‬والستمقامة إلى الحن ف‪ ،‬والذاكرة‬ ‫إلى من فمقدها‪ ،‬والعمقل إلى المجنون‪ ،‬والعصاب السليمة إلى مرضى العصاب‪،‬‬


‫والسوّية إلى النفو س المدّمرة‪.‬‬ ‫أشفي جرحى ومشّوهي الحرب‪ ،‬ومرضى الّسرطان والمقلب والّرئة والكبد والمعدة‬ ‫والمعاء والكلى والبنكريا س والرحم والخصيتين وكل العضاء التناسلية عند الّذكور‬ ‫والناث‪ ،‬ومرضى السنان والذن والدماغ والحنجرة والجلد وكل المراض‪ ،‬من كل‬ ‫المراض أشفي جميع النا س في كل المستشفيات وفي كل مكان على كوكب الرض‪ ،‬في‬ ‫المقرى والمدن والعوايصم‪ .‬في الحمقول والريا ف والصحاري والبوادي‪ ،‬في خيم البدو‬ ‫وقوافل الغجر وبيوت الف ّ‬ ‫الحين وقصور الغنياء‪.‬‬ ‫وازرعي يا حبيبتي‪ ،‬ازرعي كل الصحاري والجبال الجرداء على كوكب الرض‪،‬‬ ‫ازرعيها بالشجار المثمرة والشجار غير المثمرة‪ ،‬والنباتات‪ ،‬وشّمقي فيها النهار‪،‬‬ ‫يصحاري وجبال آسيا‪ ،‬ويصحاري وجبال أفريمقيا‪ ،‬ويصحاري وجبال أوروبا‪ ،‬ويصحاري‬ ‫وجبال المريكيتين وأستراليا‪ .‬ل تنسي يصحراء النمقب ويصحراء سيناء والبادية الردنية‪،‬‬ ‫وبادية الشام والصحراء الغربية‪ ،‬والّربع الخالي ونجد وشّمر والحساء والّنفوذ‪،‬‬ ‫وأراضي الخليج العربي كّلها‪ ،‬والصحراء الليبّية ويصحراء الجزائر‪ ،‬ويصحارى العرا‪.‬ق‪.‬‬ ‫وفي استراليا ازرعي الشجار وشمقي النهار في يصحراء القليم الشمالي والصحراء‬ ‫الّرملية الكبرى‪ ،‬ويصحراء أستراليا الغربية ويصحراء جبسن‪.‬‬ ‫وأريد يا حبيبتي أن تمّدي جسوراً في السماء تربط عوايصم ومدن العالم واحدتها‬ ‫بالخرى‪ ،‬ل أريد أن تبمقى عايصمة في العالم معزولة‪ ،‬أريد جسوراً للحافالت‪ ،‬وجسوراً‬ ‫للمقطارات‪ ،‬وجسورًا تهبط فيها الطائرات‪ .‬فو‪.‬ق النهار أقيمي الجسور‪ ،‬وفو‪.‬ق البحار‬ ‫أقيمي الجسور‪ ،‬وفو‪.‬ق المحيطات أقيمي الجسور‪ ،‬وفو‪.‬ق الصحاري أقيمي الجسور‪،‬‬ ‫وفو‪.‬ق المناطق المقطبية والمتجّمدة أقيمي الجسور‪ ،‬وفو‪.‬ق الجبال أقيمي الجسور وفو‪.‬ق‬ ‫المناطق الثلجية أقيمي الجسور‪ .‬وحين تفرغ قوا ك‪ ،‬وينتهي رسلك من إنجاز هذ ه المهام‬ ‫أخبريني«‬ ‫وفيما كان الملك لمقمان يصدر تعليماته‪ ،‬كان ت الملكة نور السماء تصدر الوامر لمقوى‬ ‫الجن لتحشدها في السماء‪ ،‬وما أن انتهى من توجيهاته حتى كان الفضاء يعج بمليون‬ ‫حورّية جنّية يرتدين المالبس البيض‪ ،‬سترسلهن لشفاء المرضى والعاهات والمعاقين‪،‬‬ ‫ومليون جندي لطال‪.‬ق سراح الّسجناء‪ ،‬وخمسة ماليين معماري لقامة الجسور‪ ،‬وخمسة‬ ‫ماليين لستصالح الصحاري والجبال وشق النهار‪.‬‬ ‫احتشد اليثنا عشر مليوناً من هؤلء في أفواج منتظمة‪ ،‬فحجبوا الشمس وسّدوا الفق من‬ ‫أقصا ه إلى أقصا ه وعّم ت ال ّ‬ ‫ظالل مناطق شاسعة من كوكب داجون‪ ،‬وكان مرافمقو‬ ‫وحّرا س الملك لمقمان يحّلمقون على ارتفاع منخفض تح ت هؤلء‪ .‬وحين فرغ الملك لمقمان‬ ‫من تعليماته رافعاً يديه عن وجهه‪ ،‬أخذت الملكة نور السماء تصدر أوامرها التنفيذية‬ ‫وتدلي بتعليماتها بلغة التخاطر الجّني‪ .‬فيما أخذ الملك لمقمان ُيمّتع أنظار ه بأفواج الجن‬ ‫التي ستحمل الخير إلى الرض‪.‬‬ ‫أنه ت الملكة نور السماء إيصدار أوامرها وإمالء توجيهاتها وأشارت بحركة من يدها‬ ‫فأخذت أفواج الجّن تختفي فوجا ً إيثر فوج‪ ،‬وكان أّول الفواج المختفية فوج مالئكة‬


‫الّرحمة من حورّيات الجن الذي سيعيد الصّحة السليمة والجساد المقوّية إلى كافة أبناء‬ ‫الرض‪.‬‬ ‫وحين اختف ت الفواج كّلها هتف ت الملكة‪:‬‬ ‫»هل رضي ت نفس حبيبي الن؟«‬ ‫تنّهد الملك لمقمان وقّبل الملكة على شعرها‪:‬‬ ‫»أشكر ك يا حبيبتي‪ ،‬أظن أّن همومي ستهون بعد اليوم‪ ،‬لكن هل لهؤلء الجن قادة‬ ‫يستطيعون أن ين ّ‬ ‫ظموا العمل ويوزعوا المقوى على قارات ودول ومدن ويصحاري‬ ‫ومحيطات وبحار وأنهار الكوكب؟!«‬ ‫»طبعاً حبيبي‪ ،‬ولن يتركوا مستشفى أو مريضا ً في أّية بمقعة من الرض دون الويصول‬ ‫إليه«‬ ‫»وهل سيكونون ظاهرين يا حبيبتي؟«‬ ‫»نعم يا حبيبي كل هؤلء الحوريات والجن سيكونون ظاهرين في شكلهم النسي‬ ‫الجمل!«‬ ‫»وماذا سيجيبون النا س حين يسألونهم من هم؟«‬ ‫»سيمقولون أّنهم من الجن وأّنهم رسل رسول الخالص الملك لمقمان و‪«..‬‬ ‫وقاطعها الملك لمقمان قبل أن تكمل‪:‬‬ ‫»يا إلهي هذا يعني أن البشرّية ستعر ف الن من هو وراء رسل الخالص هؤلء!«‬ ‫»وماذا في المر؟ يجب أن يعرفوا يا حبيبي«‬ ‫ضل أن أبمقى مجهو ً‬ ‫»ولماذا يجب أن يعرفوا كن ت أف ّ‬ ‫ ت أّنهم رسلك فمقط«‬ ‫ل‪ ،‬ياليتك قل ِ‬ ‫»لمقد قل ت لهم ذلك أيضًا«‬ ‫»هذا أفضل‪ ،‬على القل سيكون رسل الخالص ايثنين بَدلً من واحد«‬ ‫»ل‪ ،‬بل باليين يا حبيبي وأن ت زعيمهم وأنا زوجتك«‬ ‫»معك ح ّ‬ ‫ق! لن المقوى التي تعمل تح ت إمرتنا الن أيصبح ت مؤِمنة بنا وبرسالتنا‪ ،‬رغم‬ ‫الختال ف الديني«‬ ‫»بل رسالتك يا حبيبي ونحن لسنا أكثر من مؤمنين بها«‬ ‫»وماذا عن ا؟«‬ ‫»لم أخبرهم أن يمقولوا شيئاً عن ا‪ ،‬الجن المسلمون سيمقولون أّنهم مسلمون‪ ،‬والجن‬ ‫المسيحّيون سيمقولون أّنهم مسيحيون‪ ،‬والجن اليهود سيمقولون أّنهم يهود«‬ ‫»هل يوجد يهود أيضا ً بين الجن الذين أرسلتيهم؟«‬ ‫»أجل يا مولي‪ ،‬فثّمة جن كانوا يعبدون يهو ه قبل زمن سليمان ومايزالون«‬ ‫»وهل هنا ك من يعبد إيل وبعل وعشتار وَرْع؟!«‬ ‫»بالتأكيد يا حبيبي‪ ،‬وإن كان مفهوم اللهة قد تغّير عند بعض الجن حسب مفاهيم‬ ‫الديانات والفكار الّروحّية والفلسفّية الالحمقة«‬ ‫»لعَّل بعضهم تأّيثر بزرادش ت وبوذا وكونفوشيو س أيضًا؟«‬ ‫»بالتأكيد يا حبيبي«‬


‫»لماذا لم تخبريني هذا من قبل؟«‬ ‫»أخبرتك يا حبيبي أننا تأيثرنا بكل الديان وعبدنا مئات اللهة«‬ ‫»لكن لم تمقولي لي أّنه مايزال بين الجن من يعبدون هذ ه اللهة«‬ ‫»يا حبيبي‪ ،‬هل نسي ت أن آل ف آل ف الماليين من الجن الُحمر لم يسلموا إل على يديك‬ ‫بعد إسالم الملك شمنهور؟!«‬ ‫»وماذا كانوا قبل ذلك يا حبيبتي؟«‬ ‫»كانوا يهِويين وإيليين وبعليين وداجونيين وِعناتيين وعشتاروتيين وآنيين ومردوخيين‬ ‫ورعويين وأوزيريسيين وأدونيسيين وزيوسيين وغير ذلك!«‬ ‫وُشِد هَ الملك لمقمان وكأّنه يعي ذلك لول مرة‪:‬‬ ‫»يا إلهي! آمل أل أجن قبل أن أعر ف أين أنا ومن أنا وماذا ُأريد وكي ف سأحمقق ما ُأريد«‬ ‫»اطمئن يا حبيبي لن ُتجّن«‬ ‫وسمعا يصوت ملك الملو ك يهت ف من عٍل‪:‬‬ ‫»مولي انظر يا مولي‪ ،‬هل نسيتما أّنكما تحّلمقان فو‪.‬ق أرض جهّنمية؟!«‬ ‫فهت ف الملك لمقمان‪:‬‬ ‫س أيها الملك‪ ،‬كن ت قد أوكل ت بعض الجنود بمراقبة الرض وإعالمي إذا ما‬ ‫»ل لم أن َ‬ ‫رأوا شيئا ً ُيلف ت الّنظر«‪.‬‬ ‫||||||||‬ ‫كان المركب الملكي يجتاز بعض السالسل شبه المتوازية من الجبال المسننة البركانّية‪،‬‬ ‫وكان ت حمم البراكين تتدفق من آل ف الفّوهات في ُسفوح الجبال وتأخذ مجراها منحدرة‬ ‫عبر مئات الّسفوح لتص ّ‬ ‫ب في الودية وتتابع جريانها مشّكلة أنهاراً بركانّية‪ ،‬يتصاعد‬ ‫منها الّدخان والبخار‪.‬‬ ‫أدر ك الملك لمقمان أن مركز التمقاء مجموعة هذ ه النهار البركانية سيكون محرقة جهّنم‬ ‫التي تحّديث ت الّنسوة عنها‪ ،‬وحين مثل في مخيلته مشهد آل ف البشر وهم يمقذفون الن من‬ ‫العالي في هذا المصب المحرقة‪ ،‬أمر بالنطال‪.‬ق بأقصى سرعة لنمقاذ العدد الكبر‬ ‫منهم‪ ،‬ولم يكد يصدر المر حّتى كان الموكب فو‪.‬ق جهّنم نفسها‪ ،‬حيث كان ت تلمقى من‬ ‫أعالي الجرو ف آل ف الجساد في آن واحد وقد عال يصراخ وندب وعويل وبكاء ماليين‬ ‫البشر الذين يسيرون أو ُيحملون في مئات الرتال في اتجا ه المحرقة‪ .‬أيصدر الملك لمقمان‬ ‫أمر ه إلى الجن ليوقفوا الفظائع على الفور ففعلوا‪ ،‬حّتى أّنهم تمّكنوا من التمقاط بعض‬ ‫الجساد الملمقاة من أعالي الجرو ف قبل أن تصل إلى المحرقة وأعادوها إلى الحياة‪،‬‬ ‫ليتوّق ف بذلك العويل وال ّ‬ ‫صراخ‪.‬‬ ‫كان ت سلسلة الجبال المسّننة البركانّية تضيق شيئا ً فشيئا ً لينتهي بعضها‪ ،‬ويمتد بعضها‬ ‫الخر‪ ،‬لتنتهي إلى يثاليثة سالسل يخترقها نهران تتجّمع فيهما حمم النهار والينابيع‬ ‫البركانية كّلها‪ ،‬وما تلبث هذ ه السالسل الثالث أن تضيق بدورها لتشكل ما يشبه رأ س‬ ‫الّسهم‪ ،‬وليلتمقي الّنهران الكبيران ليصّبا في منخفض كبير واسع‪ ،‬ويشّكال خليجا ً هائالً من‬ ‫الحمم الملتهبة المّتمقدة‪ ،‬تخللته بعض الصخور الكبيرة الناتئة‪ ،‬التي كان ت تنتصب وسط‬


‫الحمم الغائرة المبربرة‪ ،‬وقد احمّر لونها دون أن تذوب‪.‬‬ ‫وحين أمعن الملك لمقمان الّنظر‪ ،‬لم يَر نهاية لطول هذا الخليج وعرضه‪ ،‬فأطبق بيديه‬ ‫على رأسه وهو ل يصّد‪.‬ق ما يرى فهت ف إلى الملكة‪:‬‬ ‫»يا إلهي‪ ،‬إذا كان هذا حال جهّنم داجون فكي ف ستكون حال جهّنمنا إذا ما وجدت؟«‬ ‫فهتف ت الملكة‪:‬‬ ‫»أرا ك ُعدت إلى ذكر ا كثيراً يا حبيبي؟«‬ ‫»ل أعر ف يا حبيبتي‪ُ ،‬كّلما ابتعدت عن ا أحسس ت به قريبا ً مّني‪ ،‬يبدو أّنه يكمن في‬ ‫ ت الحق ل أجد كلمة أبلغ من اسمه للتعبير عن هذ ه الهوال التي‬ ‫أعما‪.‬ق قلبي‪ ،‬وإن شئ ِ‬ ‫أراها!«‬ ‫ولم تجب الملكة بل أسهم ت بنظراتها إلى يسارهما – حيث تمتد منطمقة يصحراوّية قاحلة‬ ‫إلى ما ل نهاية وتنتهي إلى الجرو ف الصخرية من ناحية جهّنم – وكلمات الملك لمقمان‬ ‫تتردد في مخّيلتها »كّلما ابتعدت عن ا أحسس ت به قريبا ً مّني‪ ،‬يبدو أّنه يكمن في أعما‪.‬ق‬ ‫قلبي!«‬ ‫من أعالي هذ ه الجرو ف الصخرية المرتفعة‪ ،‬كان الموكلون بالمحرقة الجهّنمية يلمقون‬ ‫بالبشر أحياء أو بعد قطع رؤوسهم‪.‬‬ ‫وكان في هذ ه المنطمقة العديد من الجبال الممقامة من الجماجم البشرية ممن قطع ت‬ ‫رؤوسهم وألمقي بأجسادهم في جهّنم‪ .‬وبدت وهي تضّج بمئات الرتال من ماليين البشر‬ ‫الذين ينتظرون دورهم – كما يبدو – ليلمقى بهم في المحرقة الجهّنمية‪.‬‬ ‫وكان سير هذ ه المئات من الرتال الممقّيدة بالسالسل أو المحمولة على نّمقالت قد توّق ف‬ ‫حين نزل جنود الجن ومنعوا تنفيذ العمقوبات‪ ،‬فظّل ت الطوابير واقفة في أماكنها‪،‬‬ ‫والموّكلون والّسجانون والمساقون ينتظرون مصيرهم‪ .‬وكم كان بوّد الملك لمقمان أن يأمر‬ ‫الجنود ليفعلوا كّل شيء يريد ه بأسرع وق ت لو لم تكن رغبة شديدة تدفعه ليواجه هؤلء‬ ‫ويتحّدث إليهم ويعر ف المعايصي التي ارتكبوها ليعاقبوا بإلمقاء أجسادهم وجثثهم في النار‪.‬‬ ‫أخذ الموكب في الهبوط ناحية الطابور الهائل الّول الذي ايصط ّ‬ ‫ ف فيه الماليين من‬ ‫الرجال والشباب‪ .‬وكان ت حرارة الجو ل ُتطا‪.‬ق فسّخرت الملكة قواها وإذا بريح رطبة‬ ‫منعشة باردة تهب‪.‬‬ ‫تر ك الملك لمقمان العرش طائراً فو‪.‬ق جهّنم وهبط هو والملكة ليمقفا على حافة الجر ف‬ ‫الهائل‪ ،‬حيث ل يجرؤ أحد على الوقو ف خشية الوقوع في الهاوية‪ ،‬وكان المكان الذي‬ ‫وقفا فيه – على يصخرة – مرتفعا ً بعض الشيء‪.‬‬ ‫كان الرجال في حاٍل أقرب إلى الموت لكثرة ما عانوا من الجوع والتعذيب في السجون‬ ‫وما قاسو ه من اللم وهم يساقون إلى المحرقة تح ت وقع الّسياط‪ ..‬وكان ت أنصافهم الُعليا‬ ‫ُمعّراة وآيثار الضرب بادية عليها‪ ،‬حيث ارتسم ت في خطوط حمر كان ت الّدماء تنّز منها‪،‬‬ ‫وكان ت أقدامهم تصفد في الغالل الثمقيلة‪ ،‬وقد وقفوا في رتٍل منتظم شمل أربعين يصفّا ً‬ ‫متوازياً – بمقدر ما أجازت الطبيعة ذلك – امتّد إلى ما ل نهاية يمكن أن يدركها البصر‪.‬‬ ‫وكان قرابة أل ف من الموكلين بتنفيذ عمقوبة الحر‪.‬ق وقطع الرؤو س يمقفون في حاٍل من‬


‫الّذل لتخّوفهم مما قد يحدث لهم من هذ ه المقوى الخارقة التي تمل الّسماء‪.‬‬ ‫أشار الملك إلى أحد الرجال الذين أسعفهم الحظ بويصول الجن بالبمقاء على قيد الحياة‪ ،‬أن‬ ‫يدنو منه‪.‬‬ ‫ب في جسد الّرجل‪ ،‬فتمقّدم ليتوّق ف أمام الملك ويرفع يد ه‬ ‫كان قبس من الحياة قد عاد يد ّ‬ ‫محييًا‪ ،‬فرّد الملك لمقمان على تحّيته وسأله‪:‬‬ ‫»ما هو ذنبكم أّيها الّرجل؟«‬ ‫»نحن من الّثوار وزعماء الثورات الذين استخدمنا سيوفنا للطاحة بالملو ك والولة‬ ‫الظالمين‪ .‬إّنهم يمقطعون رؤوسنا على هذا الُجر ف ليضعوها على جبال الجماجم‪ ،‬ويلمقون‬ ‫بأجسامنا إلى الهاوية«‬ ‫وتأّمل الملك لمقمان للحظة قامة الّرجل النحيلة وآيثار الّسياط على يصدر ه وكتفيه‪ ،‬وهت ف‪:‬‬ ‫»بوركتم أيها الرجل وبورك ت سواعدكم وبورك ت سيوفكم‪ ،‬وبورك ت كل نمقطة دٍم أريمق ت‬ ‫من أجسادكم وأجساد إخوتكم وأبنائكم وشهدائكم«‬ ‫وأشار الملك إلى الملكة وإذا بالسالسل تمقطع من أرجلهم والعافية تعود إلى أجسامهم‪،‬‬ ‫ومطر فاتر مصحوب برغوة الصابون ولي ف الستحمام يهطل عليهم من الّسماء! فراحوا‬ ‫يغتسلون ويضحكون ويبتسمون‪.‬‬ ‫وما أن فرغوا من تليي ف أجسادهم حّتى أنزل ت الملكة عليهم مطراً فراتا ً راح يغسل‬ ‫أجسادهم‪ ،‬أتبعته بمناش ف لينّشفوا أجسامهم‪.‬‬ ‫وطلب إليها الملك لمقمان أن تلبسهم لبا س الفرسان المسلمين في عهد الّنبي محمد‪ ،‬ففعل ت‪،‬‬ ‫فأشار الملك لمقمان بحركة من يد ه وإذا بهم يمتطون خيولً حمراً وبنّية وسوداً وبيضًا‪،‬‬ ‫ويتوّشحون بالّسيو ف ويتسربلون بالّدروع والّزرود ويمتشمقون الّرماح! فهتف ت الملكة‬ ‫نور السماء متعّجبة وهي تنظر إليهم بدهشة وخيولهم تمق ف حسب ألوانها في أبهى انتظام‪:‬‬ ‫»هل تعيد إليهم الّسالح يا مولي وأن ت نزعته من كوكب الرض؟«‬ ‫فهت ف الملك ُلمقمان‪:‬‬ ‫»سي ف ُأشهر في وجه الظلم ليس من العدِل أن ُينزع!«‬ ‫»لكنك نزع ت سالح الفلسطينيين واللبنانيين والكراد والبوسنيين و‪«..‬‬ ‫»وهل ستحاسبينني الن أّيتها الملكة؟«‬ ‫فأجاب ت دون أن تلوي على شيء‪:‬‬ ‫»عفو ك يا مولي!«‬ ‫وراح ُيخاطب المحاربين الثائرين أمامه‪:‬‬ ‫ظلم وال ّ‬ ‫»لم أُِعد لكم سالحكم أّيها الرجال إلّ لتفخروا بأّنكم كنتم حملته في وجه ال ّ‬ ‫طغيان‬ ‫ذات يوم‪ ،‬أّما الن فإّني أويصيكم أل تشهروا سيوفكم من أغمادها‪ ،‬وأل تطلمقوا رماحكم‬ ‫لراقة دٍم بشري‪ .‬فالحياة على كوكبكم لن تحتاج بعد اليوم إلى الّدماء‪ ،‬بل إلى الَعَر‪.‬ق‬ ‫والكّد والجهد‪ .‬يثّمة من سيخبركم فيما بعد من أنا‪ ،‬ويملي عليكم تعاليمي ويساعدكم في‬ ‫إقامة الحياة الجديدة على كوكبكم«‬ ‫وعاد ينظر إلى الرجل الذي كان يمتطي حصانه متمقّدما ً الخرين وسأله‪:‬‬


‫»لكن قل لي أّيها المحارب‪ ،‬أما تزال الثورات قائمة على كوكبكم؟«‬ ‫ص بالماليين‬ ‫»لمقد ُعزلنا عن العالم في سجون جهّنم الّرهيبة يا مولي‪ ،‬والتي ما تزال تغ ّ‬ ‫من أبناء الكوكب‪ ،‬ومع ذلك ل أظّن أن رفاقنا قد تخّلوا عن الكفاح بعد أن دفعنا يثمنا ً‬ ‫باهظا ً في الممالك المختلفة«‬ ‫وأشار الملك بحركة من يد ه محيياً الجميع‪ ،‬فرفع المحاربون رماحهم في استمقامة إلى‬ ‫أعلى رّداً عليها وهم يهتفون معا ً بكلمة »سالم«‪.‬‬ ‫وطار الملك والملكة بضعة أمتار ليمقفا أمام الَّرتل الثاني وكان من الّنساء وقارب تعداد ه‬ ‫الّرتل الول‪.‬‬ ‫ب في قلوب الموكلين بالعمقاب فتجّمدوا في أماكنهم‪ ،‬فأشار إليهم الملك‬ ‫كان الّرعب قد د َّ‬ ‫لمقمان وهو يتجاوز بعضهم أل يخافوا‪ ،‬فلن يعاقبهم«‬ ‫كان رتل الّنسوة ُمعّرى من النص ف الُعلوي أيضًا‪ ،‬وكان ت آيثار الّسياط وقروح الحر‪.‬ق‬ ‫بادية على أيثدائهن‪.‬‬ ‫تساءل الملك لمقمان عن ذنبهن فأبلغته إحداهن أّنهن أّمهات وزوجات وأخوات وبنات‬ ‫المحاربين الذين مّر عنهم‪ ،‬وعمقوبتهن أن ُيلمقى بهّن في جهّنم وهَّن على قيد الحياة‪ .‬فأمر‬ ‫الملك لمقمان أن ُيجرى لهّن ما جرى للرجال‪ ،‬وأن يرّكبن على الخيول ويسّلحن بالّسيو ف‪.‬‬ ‫وطار إلى رتٍل يثالث من الّرجال‪ ،‬فتبّين أّنه رتل لمن تمّكن رجال المخابرات والعسس‬ ‫من اكتشا ف أّنهم ل يؤدون الصالة للله داجون ول يترددون على المعابد‪ ،‬فأمر الملك‬ ‫لمقمان بمعالجة جروحهم وأمراضهم وإكسائهم‪.‬‬ ‫ضبطوا يشتمون الله داجون‬ ‫وطار إلى رتل رابع فكان من الّرجال والّشباب الذين ُ‬ ‫وملوكه‪ ،‬أو ممن تغّيبوا عن الصالة لمّرة واحدة‪ ،‬فأمر الملك لمقمان بمعالجتهم وإكسائهم‪.‬‬ ‫وراح الملك لمقمان يمّر عن الرتال ويأُمُر بمعالجتها وإكسائها دون أن يسأل عن ذنوب‬ ‫النا س‪ ،‬إلى أن توّق ف عند رتٍل من الّنساء والّرجال الميتين المحمولين على نّمقالت أو‬ ‫ش‪.‬‬ ‫ُنعو ٍ‬ ‫كان ت الجثث ممددة على النعوش فو‪.‬ق بعضها البعض وكان عشرات الّرجال يمقومون‬ ‫بحمل النعوش الكبيرة منها‪ .‬تساءل الملك لمقمان عن ذنب هؤلء فُأبلغ أّنهم من النساء‬ ‫والرجال الذين يموتون تح ت التعذيب في الّسجون والمعتمقالت ومشاغل العمال الشاّقة‬ ‫ووادي الجمر والجبل الكبير‪ ،‬فاحتار الملك لمقمان في أمر ه ولم يعر ف ماذا في ممقدور ه أن‬ ‫يفعل للميتين سوى أن يأُمر بدفنهم بما يليق بإنسانّيتهم‪ ،‬وقبل أن يمقرر ماذا سيفعل برتل‬ ‫مئات الل ف من الموات لف ت انتباهه الَّرتل الذي يليه‪ ،‬إذ كان لمئات آل ف الطفال‬ ‫ال ّ‬ ‫صغار الذين تراوح ت أعمارهم بين سن الّرضاعة والثانية عشرة‪ ،‬وكان الكبار منهم‬ ‫يحملون ال ّ‬ ‫صغار في أحضانهم أو على ظهورهم‪ ،‬وكان ت أقدام الكبار منهم ُممقّيدة‬ ‫بالسالسل‪ ،‬وكان الل ف منهم يبكون ويصرخون وقد نحل ت أجسامهم من شّدة الجوع‬ ‫وسوء التغذية‪ ،‬فأمر الملك لمقمان بأن يصار إلى تحميمهم وإكسائهم من قبل حورّيات‬ ‫الجن‪ ،‬بعد فّك المقيود من أقدامهم وإعادة العافية إليهم‪ .‬فأنزل ت الملكة نور السماء قرابة‬ ‫نص ف مليون حورّية شرعن في تحميم الطفال تح ت وابل المطر والصابون المنهطل‬


‫من السماء‪.‬‬ ‫وما أن جفف ت أجساد الطفال وخلع ت عليهم أجمل المالبس حّتى تمقّدم الملك ُلمقمان من‬ ‫طفلة فائمقة الجمال في حدود الخامسة من ُعمرها‪ ،‬كان ت ُأختها الكبر منها قليالً تحملها‬ ‫إلى حضنها وتنوء بثمقلها‪ ،‬فأخذها الملك لمقمان ليحملها عنها‪ ،‬فضّمها إلى يصدر ه وقّبلها‬ ‫وراح يرّب ت على ظهرها ليهّدء من روعها ويوق ف نشيجها وتنّشغها‪.‬‬ ‫»خلص حبيبتي خلص‪ ،‬يلعن أبو ه داجون كان بّد ه يحرقك في النار؟«‬ ‫فأجاب ت الطفلة وهي تنشج وتتنّشغ‪:‬‬ ‫»أ‪ ..‬أ‪ ..‬آ ه«‬ ‫»خلص حبيبتي ل تبِك‪ ،‬لن أدعه يحرقك يا حبيبتي«‬ ‫وأحس ت الطفلة بشيء من الطمأنينة فطّوق ت عنق الملك لمقمان بيديها‪ ،‬وأخذت تخف ف من‬ ‫نشيجها‪ ،‬فتساءل الملك لمقمان‪:‬‬ ‫»أين بابا وماما يا حبيبتي«‬ ‫فأجاب ت الطفلة بجملة قطعتها نشجة واحدة‪:‬‬ ‫»رماهم داجون في النار«‬ ‫كب ت الملك لمقمان انفعالته في دخيلته بمقّوة خارقة وتساءل‪:‬‬ ‫»يلعن أبو ه يا حبيبتي‪ ،‬لَِم رماهم في النار؟«‬ ‫»لنهم ما بحّبو ه«‬ ‫وهت ف أحد الّسفاحين الموكلين بحر‪.‬ق الطفال‪:‬‬ ‫»هؤلء يا مولي أطفال الثائرين والمعارضين والكارهين للله والملو ك‪ ،‬والمحكومين‬ ‫الذين ُأحرقوا أو ُقتلوا‪ ،‬يحرقهم داجون كي ل يتبعوا طر‪.‬ق آبائهم حين يكبرون«‬ ‫نزل ت كلمات الّسفاح على قلب الملك لمقمان كطعن السكاكين‪ .‬فكب ت كل انفعالته وطار‬ ‫محّلمقاً بالطفلة فو‪.‬ق الماليين من البشر‪ ،‬وراح يخاطب الطفلة التي استكان ت إلى أحضانه‬ ‫وألمق ت رأسها على كتفه وهي ما تزال تنشج بين لحظة وأخرى‪:‬‬ ‫»ماذا تريدين يا حبيبتي أن ُأحضر لك‪ ،‬فأنا عندي هدايا كثيرة‪ ،‬عندي خيول‪ ،‬وُحصن‪،‬‬ ‫وحورّيات‪ ،‬وعرائس‪ ،‬وغزلن‪ ،‬وقطط‪ ،‬وخرا ف‪ ،‬وِسخال‪ ،‬وقصور‪ ،‬وكل شيء‪ ،‬وكل‬ ‫شيء تطلبينه سأهديه لك«‬ ‫وراح ت الطفلة تستعرض الهدايا في مخّيلتها وهي تستكين إلى كتفه وُتسهم بعينيها نحو‬ ‫حشود البشر تارة ونحو جهّنم تارة أخرى لترقب فورانها وغليانها والبخار المتصاعد‬ ‫منها‪ ،‬دون أن تجيب‪ ،‬فتساءل الملك لمقمان‪:‬‬ ‫»لماذا ل تجيبين يا حبيبتي؟«‬ ‫وما لبث ت الطفلة أن هتف ت بجملة قطعتها نشجة عميمقة ونشغة أعمق‪ ،‬وكأّنها تعّوض بهما‬ ‫عن كل الهدايا‪:‬‬ ‫»ما بّدي‪ ..‬هدايا‪ ..‬بّدي‪ ..‬بابا وماما«‬ ‫وأجهش ت بالُبكاء‪.‬‬ ‫ضلوعه‪ ،‬وانفجر بالبكاء وهو‬ ‫احتواها الملك لمقمان إلى ُحضنه وكأّنه يريد أن يدخلها بين ُ‬


‫يحّلق بها عالياً وعينا ه تجوبان عبر الدموع الجبال البركانّية‪ ،‬وأنهار وينابيع الحمم‬ ‫المتدّفمقة منها‪ ،‬يثم المصب الهادر في الخليج الجهّنمي‪ ،‬وما لبث أن يصرخ في أعماقه‬ ‫بصوت هائل مستعينا ً مستنجداً بكل المقوى الجنّية التي لديه والتي يعرفها‪ ،‬فسمع ت الملكة‬ ‫نور الّسماء استغايثته فحمل ت أخ ت الطفلة وهرع ت إليه وهي تصرخ »مليكي« وسمع‬ ‫ملك الملو ك شمنهور والملكة نسيم الريح والميرة ظل المقمر والملك حامينار والملكة‬ ‫شامنهاز وقائد المركبة والعاملون عليها استغايثته فهرعوا إليه وهم يهتفون متفّجعين‬ ‫»مولي« وسمع كّل من في الكوان الُعليا والّسفلى من الجن استغايثته الهائلة فهرعوا‬ ‫إليه يلّبون الّنداء‪ ،‬وقد هّزتهم يصرخته من أعماقهم وزلزل ت أركان أكوانهم‪ ،‬فهرع الملك‬ ‫إبليس والملكة بليسة وأعوانهما‪ ،‬والملك دامردا س والملكة ظل الّسحاب وأعوانهما‪،‬‬ ‫والملك نذير الّزلزل والملكة هدباء الجفون وأعوانهما‪ ،‬والملك قاهر الموت والملكة‬ ‫شمس الربيع وأعوانهما‪ .‬جميع هذ ه المقوى حضرت لتسّخر طاقاتها وقدراتها الخارقة‬ ‫لنجدة الملك لمقمان‪ ،‬فامتلت الّسماء‪ ،‬كل السماء امتلت بالجن على اختال ف مذاهبهم‬ ‫وأديانهم وأفكارهم وفلسفاتهم‪ ،‬جن مسلمون‪ ،‬وجن مسيحّيون‪ ،‬وجن يهود‪ ،‬وجن هنود‪،‬‬ ‫وجن يصينيون وجن أفارقة وجن أمريكيون وجن أوروبيون وجن فر س‪ ،‬وجن عرب‪،‬‬ ‫وجن يابانّيون‪ ،‬وجن آسيويون وجن أستراليون‪ ،‬وجن من كافة المذاهب‪ ،‬احتشدوا في‬ ‫الّسماء بماليين الماليين فضّج الكون‪ ،‬كل الكون‪ ،‬بأيصواتهم‪ ،‬ولم تمر سوى لحظات‪،‬‬ ‫لحظات قصيرة فمقط‪ ،‬حّتى قام ت قيامة الجبال البركانّية وغير البركانية فتفّجرت بميا ه‬ ‫النهار الهائلة العذبة‪ ،‬وراح ت الينابيع البركانّية تمقذ ف أنهاراً من الماء الفرات بدلً من‬ ‫الحمم‪ ،‬فانهارت بعض الجبال من جّراء اندفاع النهار من باطنها‪ ،‬وزلزل ت الرض‪ ،‬كل‬ ‫الرض في كوكب داجون زلزل ت‪ ،‬وراح ت النهار الهائلة تطارد حمم البراكين لتص ّ‬ ‫ب‬ ‫في جحيم داجون نفسه‪ .‬فارتفع الّدخان من جّراء إطفاء الحمم الملتهبة‪ ،‬وعال ليختلط‬ ‫صراخ وأيصوات الماليين من‬ ‫بالضباب والّسحب المنخفضة‪ ،‬وتعال ت أيصوات الجّن بال ُ‬ ‫أبناء كوكب داجون بالعويل‪ ،‬والملك لمقمان يحّلق عاليا ً فو‪.‬ق خليج داجون‪ ،‬حاضنا ً الطفلة‬ ‫بين ضلوعه‪ ،‬تتبعه الملكة نور السماء حاملة ُأختها‪ ،‬فملك الملو ك‪ ،‬فملو ك الجن الُحمر‬ ‫وأفواج الجّن الُحمر‪ ،‬فملو ك وملكات الجن الخرون‪ ،‬فأفواج الجن‪ :‬الجن الّسود بمقيادة‬ ‫إبليس والجن الخضر بمقيادة قاهر الموت‪ ،‬والجن الزر‪.‬ق بمقيادة نذير الزلزل‪ ،‬والجّن‬ ‫صفر بمقيادة دامردا س‪ ،‬وكان ت ال ّ‬ ‫ال ّ‬ ‫طفلة تتشّبث بعنق الملك لمقمان وتلتحم بجسد ه‪ ،‬فسألته‪:‬‬ ‫»إلى أين تحملني يا عّما ه؟«‬ ‫فهت ف الملك لمقمان من خالل دموعه‪:‬‬ ‫»إلى ماما وبابا يا حبيبتي«‬ ‫ووّد لو يناشد ا بكل أيصوات البشر وأيصوات المالئكة وأيصوات الجن جميعًا‪ ،‬لكنه لم‬ ‫يشأ أن ُيخي ف الطفلة‪ ،‬فاستعار اليصوات واكتنزها في نفسه وفّجرها في أعماقه متوّسالً‬ ‫إلى ا‪:‬‬ ‫»إلهي‪ ،‬ما قطع ت ماليين السنين الضوئية‪ ،‬إل ويحدوني أمل ضئيل في لمقائك‪ ،‬فأعّني إن‬ ‫كن ت موجودًا‪ ،‬أعّني‪ ،‬أِعد الحياة إلى كّل من ُأحر‪.‬ق جسد ه في هذ ه المحرقة الّرهيبة‪ ،‬وأِعد‬


‫الحياة إلى الموتى في أرتال النعوش التي كان ت تنتظر الحر‪.‬ق‪ ،‬أِعّني يا إلهي‪ ،‬أعّني يا‬ ‫إلهي«‬ ‫وما أن فرغ الملك لمقمان من توّسالته حّتى أخذ الّدخان يتبدد وال ّ‬ ‫ضباب يتالشى‪ ،‬وراح‬ ‫الماء العذب يتجّمع في الخليج بعد أن أطفأ الحمم البركانية وجرفها ليرتفع إلى منتص ف‬ ‫الجرو ف العالية‪ ،‬وشرع الملك لمقمان في الهبوط‪ ،‬محّلمقا ً فو‪.‬ق ميا ه الخليج‪ ،‬وهو يتوّسل في‬ ‫نفسه مستصرخا ً ا من أعماقه‪:‬‬ ‫»أعّني يا ا‪ ،‬أعّني يا ا‪ ،‬أعّني يا ا«‬ ‫وفيما كان يهت ف ويحّد‪.‬ق عبر دموعه إلى ميا ه الخليج الفسيح لمح بعض اليدي البشرّية‬ ‫تخبط في الماء‪ ،‬ومالبث أن شاهد بعض الرؤو س‪ ،‬يثم مئات اليدي‪ ،‬يثّم مئات الرؤو س‪ ،‬يثم‬ ‫آل ف اليدي‪ ،‬يثّم آل ف الرؤو س‪ ،‬يثّم أخذ البحر يمتلئ بأيادي ورؤو س البشر‪ ،‬والجساد‬ ‫ممقطوعة الرؤو س‪ ،‬آل ف آل ف الجساد ممقطوعة الرؤو س‪ ،‬وكان ت كل الجساد‬ ‫والطرا ف تظهر للحظات يثم تختفي تح ت الماء لتظهر يثانية‪ ،‬فأخذ الملك لمقمان يستصرخ‬ ‫المقوى الجنّية في أعماقه‪:‬‬ ‫»كونوا مع ا‪ ،‬أحضروا جبال الجماجم وألمقوها في البحر‪ ،‬وكونوا مع ا‪ ،‬كونوا مع‬ ‫ا«‬ ‫فهرع ماليين الجن إلى جبال الجماجم وحملوها وراحوا يلمقونها من السماء في بحر‬ ‫الخليج‪.‬‬ ‫أخذت أجسام بشرّية كاملة تندفع من الماء عمودياً إلى أعلى لترتفع قرابة متر وماتلبث‬ ‫أن تسمقط تح ت الماء لتصعد يثانية وهي تخبط الماء ممقاومة الغر‪.‬ق‪ ،‬فبدت وكأّنها أسما ك‬ ‫علمق ت بصنانير الصّيادين‪.‬‬ ‫فهت ف الملك لمقمان مّرة أخرى لمقوى الجن‪:‬‬ ‫»كونوا مع ا‪ ،‬كونوا مع ا«‬ ‫فاندفع ماليين الجن إلى الماء‪ ،‬فيما راح عشرات الماليين الخرين يرددون اسم ا‬ ‫»ا‪ ..‬ا‪ ..‬ا‪ ..‬ا‪ «..‬وانطلمق ت أيصوات الماليين من البشر – الذين أنمقذهم الملك لمقمان‬ ‫– تردد اسم ا بدورها‪ ،‬وأخذت الجبال والتالل والّسهول والودية والّسفوح والشعاب‬ ‫والغيوم تردد اسم ا‪ ،‬ليتردد اسمه في كل الكوان‪ ،‬ولتضج البوادي برجع اليصوات‬ ‫الهاتفة باسمه‪.‬‬ ‫أخذت ماليين الجساد البشرّية العارية تندفع من الماء بشكل عمودي إلى أعلى لتصعد‬ ‫إلى سماء البحر وتحّلق فيه‪ .‬أجساد رجال اندفع ت‪ ،‬أجساد نساء اندفع ت‪ ،‬أجساد أطفال‬ ‫اندفع ت‪ ،‬أجساد شيوخ اندفع ت‪ ،‬أجساد فتيات اندفع ت‪ ،‬أجساد شباب اندفع ت‪ ،‬وتتابع‬ ‫اندفاعها بالماليين لتمل السماء‪ ،‬فيما كان مئات الل ف من الموات على النعوش‬ ‫والّنمقالت ينهضون من الموت ويعودون إلى الحياة ويشرعون في ترديد اسم ا‪ .‬إنس‬ ‫وجّن وأرض وسماوات‪ ،‬حيوانات وطيور ونباتات‪ ،‬الحياء ومن ُأعيدوا إلى الحياة كانوا‬ ‫يرددون اسم ا‪ ،‬في توّحد فريد هائل خشع ت منه الكوان‪.‬‬ ‫خلع ت الملكة نور السماء أجمل المالبس على كل من عاد إلى الحياة‪ ،‬وانطلق الملك‬


‫لمقمان محّلمقا ً بالطفلة بين ماليين البشر باحثا ً عن والديها بلهفة‪ ،‬وهو يهت ف إليها‪:‬‬ ‫»الن سنعثر على بابا وماما يا حبيبتي‪ ،‬ابحثي معي عنهما بين النا س«‬ ‫ورفع ت الطفلة رأسها وراح ت تجوب بعينيها من خل ف كتفي الملك لمقمان باحثة بين‬ ‫ماليين البشر المحّلمقين‪.‬‬ ‫حمل الجّن ماليين البشر الذين كانوا يمقفون في أرتال جهّنم‪ ،‬ليبحثوا عن ذويهم في‬ ‫السماء‪ .‬حملوا الذين أركبهم الملك لمقمان على الخيول بخيولهم‪ ،‬التي راح ت تحّلق في‬ ‫ى خفَّية تحملها‪ .‬وحملوا النساء والرجال‪ ،‬الطفال‬ ‫السماء دون أن يبدو أن هنا ك قو ً‬ ‫والشيوخ‪ ،‬الّشباب والشابات‪ ،‬فراحوا يبحثون عن ذويهم في هذ ه الملحمة البشرّية‬ ‫المتالطمة في الّسماء وسط دموع الفرح واختالط النس بالجن‪ ،‬والّنساء بالرجال‬ ‫بالطفال بالخيول بالملو ك باسم ا الذي كان يمل الكون‪.‬‬ ‫اعتدل ت الطفلة في ُحضن الملك لمقمان وراح ت تبحث عن أبويها من أمامه‪ ،‬وليس من‬ ‫خل ف كتفيه‪ .‬وشاء ا أل يبحثا عنهما كثيراً بين ماليين النا س‪ ،‬فحين كان ت الطفلة تجوب‬ ‫بعينيها ُهنا وهنا ك‪ ،‬لمح ت أّمها وأباها‪ ،‬فهتف ت »ماما‪ ،‬بابا« فسمعتها الم وهتف ت »ماما«‬ ‫وسمعها الب وهت ف »بابا« واندفعا في اتجا ه الملك لمقمان مشرعين أحضانهما‪ ،‬فاندفع‬ ‫الملك لمقمان بدور ه في اتجاههما‪.‬‬ ‫أسلم الملك لمقمان الطفلة إلى أحضان الم‪ ،‬فيما أسلم ت الملكة نور السماء أختها إلى‬ ‫أحضان الب‪.‬‬ ‫انثنى الملك لمقمان على الفور هابطاً إلى الرض وجثا – لول مرة منذ قرابة يثاليثين عاما ً‬ ‫– على ركبتيه‪ ،‬واضعاً يديه فوقهما‪ ،‬شاخصا ً بعينيه إلى الّسماء‪ ،‬فهبط خلفه الماليين‬ ‫وجثوا على ركبهم وفعلوا كما فعل‪ ،‬إنس وجن فعلوا وعلى اختال ف مذاهبهم ودياناتهم‪،‬‬ ‫وحين خفض بصر ه خفض الماليين أبصارهم‪ ،‬وراح ت العيون‪ ،‬كل العيون‪ ،‬عيون‬ ‫النس والجن‪ ،‬تنظر إليه آملة كلمة منه‪ ،‬فهت ف وعينا ه تغرورقان بالّدموع‪:‬‬ ‫»حين ل يكون ُهنا ك إله‪ ،‬فليس يثّمة إل ا«‬

‫|‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.