كوثاريا - رواية نعيم ال مسافر

Page 1


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫سلسلة الرواية العربية المعاصرة )‪(41‬‬ ‫سلسلة تصدر عن دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‬ ‫المؤلف‪ :‬نعيم آل مسافر‬ ‫العنوان‪ :‬كوثاريا‬ ‫التصنيف‪ :‬رواية‬ ‫الطبعة األولى‪ :‬أغسطس ‪2016‬‬ ‫تصميم الغالف‪ :‬المبدع سراج وصفي‬ ‫تصميم الكتاب ومراجعته لغويا‪ :‬د‪ .‬جمال الجزيري‬ ‫الناشر‪ :‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‬ ‫دار نشر إلكترونية مجانية ال تھدف للربح‬ ‫للمراسلة لنشر أعمالكم في السالسل المختلفة التي تصدرھا الدار‪ ،‬الرجاء قراءة التعريف بمجموعة‬ ‫دار‬

‫كتابات‬

‫جديدة‬

‫للنشر‬

‫اإللكتروني‬

‫لمعرفة‬

‫مواصفات‬

‫تجھيز‬

‫الملف‪:‬‬

‫‪/https://www.facebook.com/groups/Ketabat.Jadidah.Ebook.Publishers‬‬ ‫وإرسال الملف وفقا لشروط النشر على إيميل د‪ .‬جمال الجزيري أو على الخاص في صفحته على‬ ‫الفيسبوك‪:‬‬ ‫‪elgezeery@gmail.com‬‬ ‫‪https://www.facebook.com/gamal.elgezeery‬‬ ‫@‪ 2016‬حقوق نشر النصوص ملك ألصحابھا‪ ،‬وحقوق ھذه الطبعة اإللكترونية ملك لدار كتابات‬ ‫جديدة للنشر اإللكتروني‪ .‬وكل كاتب مسئول عن لغته وعن أسلوبه وعن محتوى كتابه وأية‬ ‫منازعات خاصة بحقوق الملكية الفكرية يكون طرفھا المؤلف وليست الدار طرفا فيھا‪ .‬وال يحق‬ ‫للكاتب أن ينشر كتابه بشكله الموجود ھنا ولغته الحالية في أي مكان إال إذا وضع اسم المراجع‬ ‫اللغوي على غالف الكتاب وفي بياناته‪.‬‬

‫‪ 2‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫جميع الحقوق محفوظة‬ ‫الطبعة األولى‬ ‫‪ 1437‬ھـ ‪2016-‬م‬

‫دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‬ ‫رقم اإليداع في دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‬ ‫‪2016/8/10/432‬‬ ‫رقم الكتاب في السلسلة‪41 :‬‬ ‫السلسلة‪ :‬الرواية العربية المعاصرة‬ ‫المؤلف‪ :‬حسام خوام آل يحيى‬ ‫العنوان‪ :‬الروز‬ ‫التصنيف‪ :‬رواية‬ ‫الطبعة األولى‪ :‬أغسطس ‪2016‬‬ ‫عدد الصفحات‪169 :‬‬ ‫الناشر‪ :‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‬ ‫رقم اإليداع في الدار‪2016/8/10/432 :‬‬ ‫يتحمل المؤلف كامل المسؤولية القانونية عن محتوى مصنفه وال يعبّر ھذا‬ ‫المصنف عن رأي دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪.‬‬ ‫حقوق نشر النصوص ملك ألصحابھا‪ ،‬وحقوق ھذه الطبعة اإللكترونية ملك لدار‬ ‫كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ .‬وكل كاتب مسؤول عن لغته وعن أسلوبه وعن‬ ‫محتوى كتابه‪ ،‬وأية منازعات خاصة بحقوق الملكية الفكرية يكون طرفھا المؤلف‬ ‫وليست الدار طرفا فيھا‪.‬‬

‫‪ 3‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫عن رواية كـوثـاريـا‬ ‫* حصلت على جائزة محمد الحمراني للرواية عام ‪٢٠١٢‬‬ ‫* صدرت عن دار ميزوبوتاميا في بغداد عام ‪٢٠١٤‬‬ ‫* صدر عنھا كتاب )كوثاريا المدينة والسؤال( عن دار‬ ‫كتابات جديدة للنشر األلكتروني‪ ،‬عام ‪ ،٢٠١٦‬تحرير وتقديم‬ ‫الناقد امجد نجم الزيدي‪ ،‬جمع فيه الدراسات التي ُكتبت عنھا‬ ‫والحوارات الصحفية التي أجريت مع الكاتب بشأنھا‪.‬‬ ‫* فازت ضمن القائمة القصيرة لجائزة بغداد للرواية عام‬ ‫‪.٢٠١٦‬‬ ‫* تناولھا مجموعة من الباحثين في الدراسات األكاديمية في‬ ‫الجامعات العراقية‪.‬‬

‫‪ 4‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫"نحن معاشر قريش من النبط‪ ،‬من أھل كوثاريا‪ ،‬قِيل إن‬ ‫إبراھيم ولد بھا‪ ،‬وكان النبط سكانھا"‬ ‫ابن عباس‬ ‫اللسان‪411/7/‬‬

‫‪ 5‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫مردوخ‬ ‫قرب الموقد‪ ،‬كنت أطلب من أبي أن يحدثني بقصة النبي‬ ‫إبراھيم‪ ،‬من بين كل قصص األنبياء التي كان يحكيھا لي في‬ ‫الطفولة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫مازلت أستغربُ حتى لحظتي‬ ‫كانت تلك القصة تأسرني‪...‬‬ ‫ھذه‪ ،‬أن يُعلق إبراھيم الفأس في عنق مردوخ‪ ،‬بدالً من‬ ‫تحطيمه كما األصنام األخرى!‬ ‫السبب المعروف ھو اتھامه بالتحطيم‪ ،‬حتى يُحرج الكھنة‪،‬‬ ‫وتتضح الحقيقة للناس المخدوعين بعبادة األصنام‪ .‬ما كان‬ ‫ھذا السبب ال ُمعلن يُرضي فضولي‪ .‬لطالما تساءلت عن وجود‬ ‫ب آخر جعله يترك ھذا الصنم دون أن يحطمه‪.‬‬ ‫سب ٍ‬ ‫ظل ھذا السؤال يالحقني‪ ...‬كتبته على جدران السجون‬ ‫الرطبة بحروف باردة‪ ،‬خططته على أراضي المعارك‬ ‫الساخنة بحروف لزجة‪ ،‬حتى أُ‬ ‫ُ‬ ‫صبت بداء تعدد الشخصية‪ .‬لم‬ ‫تُسعفني األجوبة‪ ،‬والويل لمن ال تسعفه األجوبة‪...‬‬ ‫‪ 6‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫الفصل األول‬ ‫كاتب السيناريو‬

‫‪ 7‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫اللوحة‬ ‫عند ارتفاع األصيل‪ ،‬في شارع يكتظ بالمارة‪ ،‬سحبني أحدھم‬ ‫بسرعة مفاجئة‪ ،‬أدخلني في سيارة سوداء مظللة الزجاج‬ ‫ُ‬ ‫شعرت أني أجلسُ بين شخصين‬ ‫مركونة على الرصيف‪.‬‬ ‫ملثمين‪ ،‬مكتوفا ً‪ ،‬معصوب العينين‪ ،‬والسيارة تنطلق بسرعة‬ ‫كبيرة! بعد مرور وقت خمنت أنه نصف ساعة تقريبا ً‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫سمعت المدينة تضج باألذان‪ ...‬بعد مضي ما يقارب ذلك‬ ‫الوقت‪ ،‬توقفت السيارة‪ ،‬أنزلوني عند باب مزرعة‪ ،‬رفعوا‬ ‫العصابة عن عيني‪ .‬حاولت تخمين المسافة التي تقطعھا‬ ‫سيارة مسرعة في ساعة من الزمن؛ فتوقعت أنھم لم يبتعدوا‬ ‫بي كثيرا عن كوثاريا‪ ،1‬وأني مازلت في إحدى ضواحيھا‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫تفرست في مالمحھم المكفھرة‪ ،‬بعد أن رفع كل منھم اللثام‬ ‫عن وجھه؛ فعرفت منھم سالم وحازم‪ ،‬رفيق ّي عندما كنت‬ ‫نزيالً في سجن إصالح األحداث‪ ،‬وسجن أبو غريب من‬ ‫بعده! توقعت أنھم مازالوا يعملون لصالح سمير‪ ،‬زعيمھم‬ ‫‪ ‬‬

‫‪ 1‬كاثي‪ ،‬كاثي ربا‪ ،‬كوثاريا‪ :‬إحدى مدن العراق القديم‪ .‬‬

‫‪ 8‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫السابق في تلك السجون‪ ،‬وأنھم يقتادونني اآلن إليه‪ .‬ظننت‬ ‫أني قد تخلصت منھم ومنه‪ ،‬بعد أن أُطلق سراحنا من سجن‬ ‫أبو غريب في العفو العام‪ .‬لكن ھاھي األقدار تجمعني بھم من‬ ‫جديد‪ .‬أي قدر لعين ھذا؟!‬ ‫أخبراني والتجھم با ٍد على وجھيھما‪:‬‬ ‫ـ سمير ينتظرك على أح ﱢر من الجمر‪...‬‬ ‫ـ سمير مرةً أخرى؟! ـ ُ‬ ‫قلت في نفسي ـ ال أستطع رفع رأسي‬ ‫نحو األعلى ألخاطبك؛ فقد يظنوني أدعو عليھم‪ ،‬وال أستطيع‬ ‫التكھن بما سيفعلونه بي إن ظنوا ذلك‪ .‬لكني سأخاطبك أنﱠى‬ ‫َ‬ ‫ألست موجودا في كل‬ ‫وجھت وجھي وستسمعني بالتأكيد‪،‬‬ ‫مكان‪ ،‬تسمع وترى؟ أنت تحيرني أكثر من سمير؛ فھو‬ ‫يمكنني معرفة سبب تصرفاته‪ ،‬يمكنني التنبؤ حسب أي‬ ‫سيناريو ستسير األحداث‪ ،‬أما أنت‪ ،‬فتخطيطاتك عجيبة‪ ،‬ال‬ ‫يمكن التكھن بھا أو تصورھا‪.‬‬ ‫ي عادل ٍ أنت؟‬ ‫أ ُ‬ ‫‪ 9‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫ھل أغمضت السماء عيونھا عما يجري؟ أم أنھا ستمطر يوما ً‬ ‫ما‪ ،‬وتنبت ھذه المزرعة رجاالً ونساءاً وأطفاالً؟ ھل ستنبت‬ ‫جثتي معھم؟ ويُعرف بعد فوات األوان أنه اختطفني‪ ،‬وأراد‬ ‫لي أن أكون ضمن مجھولي الھوية المدفونين ھنا‪ ...‬ما فائدة‬ ‫معرفة الحقيقة آنذاك؟‬ ‫كما اتخذ القائد الضرورة من سجن إصالح األحداث ـ‬ ‫ومعتقالته األخرى ـ مصانع أنتجت من األصنام المتحكمة في‬ ‫أقدار الناس ما فاق نتاج أصابع آزر‪ ،2‬فإن سمير يتخذ اليوم‬ ‫من ھذه المزرعة مكانا آخر على شاكلتھا‪.‬‬ ‫ما الذي يزرعه في ھذه المزرعة؟ ربما تقتضي مصلحته‬ ‫عدم رمي بعض الجثث في األماكن التي تتناقلھا األخبار؛‬ ‫فيعمد إلى دفنھا ھنا‪ .‬أو أنه يتخذ منھا مقراً لتنفيذ مشاريع‬ ‫طالما حلم بتحقيقھا‪...‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ 2‬آزر‪ :‬مستشار النمرود وأشھر صانع لألصنام‪ .‬‬

‫‪ 10‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫ھل يريد سمير تعذيبي أو مساومتي على أمر ما قبل قتلي؟‬ ‫في كلتا الحالتين‪ ،‬قد تسنح لي فرصة انتحال شخصية‬ ‫تخلصني من براثنه‪.‬‬ ‫لكن على أي شيء يريد مساومتي؟ ربما يمكنني التخمين‪...‬‬ ‫أرسلھم الختطافي كي يطلب فدية مقابل إطالق سراحي‪ .‬لكنه‬ ‫يعرف جيداً أال أح ًدا سيسأل عن مجھول ھوية عديم المالمح‬ ‫مثلي؟ فضال عن دفع مبلغ من المال لفديتي‪ .‬وال أظنه اليوم‬ ‫بحاجة لمبلغ تافه كھذا‪ .‬ال بد أنه تصيد ـ كثيراً ـ في ماء‬ ‫الفوضى العكر؛ فھو يجيد انتھاز الفرص‪ ،‬يجيد التصيد في‬ ‫ظروف كھذه‪ ،‬ولو فُسح له مجال بمقدار خرم إبرة لنفذ من‬ ‫لفعل ما يريد‪ .‬كيف الحال وباب الفوضى مفتوح على‬ ‫خالله‬ ‫ِ‬ ‫مصراعيه‪ ،‬مثل باب إحتماالت ما سيفعله بي بعد قليل؟‬ ‫عصر االنفالت والفوضى أيقظ جميع خفافيش ليل الكبت‬ ‫والعسكرة؛ فخرجوا يتخبطون ُعميانَا ھائمين على وجوھھم‪،‬‬ ‫يصطدمون بكل شيء‪ ،‬ويحطمون كل ما يصطدمون به‪ .‬كل‬ ‫واحد منھم ي ّدعي أنه البلبل الفتان الحريص على البستان‪،‬‬ ‫‪ 11‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫ويستدعي جيوش الظالم ونيران األحقاد من الجيران‬ ‫إلحراقه وتتبع عصافيره بالقتل والتدمير‪ ،‬من شجرة إلى‬ ‫شجرة‪ ،‬من عش إلى آخر‪ .‬قاموا بتقسيمه إلى عدة أقسام‬ ‫بخطوط وحواجز وھمية‪ ،‬والموت مصير من يتجاوزھا ومن‬ ‫ال يتجاوزھا أيضا ً‪.‬‬ ‫ھذه المجموعة من العصافير تنتمي إلى النخيل؛ فيجب‬ ‫أن ُتقتل‪ ،‬كي تعادي وتقاتل المجموعة التي تنتمي إلى‬ ‫البرتقال‪ .‬تلك تنتمي إلى البادية؛ فيجب أن تقاتل المجموعة‬ ‫التي تنتمي إلى القصب‪ .‬بستان من شماله حتى جنوبه‪ ،‬من‬ ‫شرقه إلى غربه‪ ،‬من قممه الثلجية حتى مستنقعاته الملحية‪،‬‬ ‫مرورا بباديته الغربية حتى سھله الرسوبي‪ ،‬صار ُمجدبا ً‪،‬‬ ‫يعج بالدماء‪ ...‬جثث العصافير باتت تمأل األنھار والمزابل‪،‬‬ ‫تباع رؤوسھا بأسعار مختلفة‪ ،‬وحسب األھمية‪...‬‬ ‫ھل يريد سمير تخليصھم من ذاكرتھم‪ ،‬وبعقاقير السعادة‬ ‫الوھمية‪3‬؟ التي يدعي أنھا تحل جميع المشاكل‪ ،‬وتُذھب ذاكرة‬ ‫‪ ‬‬ ‫‪ 3‬عقاقير السعادة‪ :‬حبوب الھلوسة‪ .‬‬

‫‪ 12‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫متعاطيھا بشكل مؤقت‪ ،‬حتى ينتھي تأثير مفعولھا عليه؛‬ ‫فالذاكرة أشد ما يمقته ويريد التخلص منه‪ .‬يعتبرھا بقايا‬ ‫نسيان ال يمكن الوثوق بھا أو اعتمادھا كأرشيف للماضي‬ ‫يمكن العودة إليه ومعرفة تفاصيله‪ .‬يعتقد أنھا تحتفظ ـ وبشكل‬ ‫عشوائي ـ ببعض الصور التي تريد أن تحتفظ بھا دون‬ ‫غيرھا‪.‬‬ ‫أدخلوني إلى بيت كبير يتوسط المزرعة‪ ،‬وبعد المرور بعدة‬ ‫غرف وممرات‪ ،‬وجدت نفسي واقفا أمام سمير‪ُ .‬خيل إل ّي أني‬ ‫أسمع أثناء وقوفي أمامه صيحات وتوسالت تتعالى من‬ ‫الغرف المجاورة‪ .‬أسمع الجدران ترددھا بوجل‪ .‬كأني أرى‬ ‫تلك الصيحات والتوسالت مج ﱠسمة أمامي‪ ،‬كحمائم عمالقة‪،‬‬ ‫تجوب المكان وتخترق الجدران‪ ،‬لتنضم إلى أسراب أخرى‬ ‫تمأل المزرعة‪ ،‬تجثو على األشجار‪ ،‬تتمرغ بالعشب‪.‬‬ ‫كان جالسا ً خلف مكتبه يحتسي الشاي‪ ،‬واضعا ً سيجارته بين‬ ‫إصبعيه البنصر واألوسط‪ ،‬ينفث دخانھا من أنفه الكبير الذي‬ ‫تعرض للكسر عدة مرات‪ ،‬وشفي دون مراجعة طبيب‪،‬‬ ‫‪ 13‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫فصار كأنف مالكم محترف‪ .‬بدا عليه أنه غير عابئ‬ ‫بإحضاري؛ فلم يدعوني للجلوس‪ ،‬أو يخبرني بسبب استدعائه‬ ‫ُ‬ ‫خمنت أنه مستغر ٌ‬ ‫ق ـ كعادته ـ في تأمالته واستذكاره‬ ‫لي‪.‬‬ ‫ليالي الطفولة التي كان يقضيھا عند فوزية‪ ،‬حيث تغرقه‬ ‫بعاطفة أمومة محرومة‪.‬‬ ‫كان يحدثني دوما ً عن تلك الجارة العاقر الحسناء التي تقضي‬ ‫ضا لشيء من لوعتھا على‬ ‫معظم وقتھا باللعب معه‪ ،‬تعوي ً‬ ‫إنجاب طفل؛ فھي تعيش معظم الوقت وحيدة‪ ،‬بسب تأخر‬ ‫زوجھا حمود األعرج في العمل‪.‬‬ ‫حمود تس ﱠرح من الجيش بعد أن فقد ساقه في الحرب‪ ،‬وصار‬ ‫يعمل حارسا ً ليليا ً في سوق المدينة‪ ،‬مدعيًا أنه يتخذ من عمل‬ ‫الحراسة وسيلة لقتل الفراغ‪ .‬يقضي معظم ساعات النھار في‬ ‫المقھى بلعب الدومينو مع بعض العمال المصريين الذين‬ ‫مألوا كوثاريا خالل حرب الثمانينيات‪.‬‬ ‫لطالما استغل سمير تعلقھا به‪ ،‬كي توصي زوجھا بحمايته‬ ‫من عقوبات المعلمين؛ فھيبته ووقاره ودماثة خلقه‪ ،‬طيبته‬ ‫‪ 14‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫بشكل جلي‪ ،‬جعلت معلمي المدرسة‬ ‫التي تبدو على محياه‬ ‫ٍ‬ ‫التي يرتادھا ال ير ﱡدون له طلبًا‪.‬‬ ‫ظل سمير يستحضرھا بنشوة كبيرة‪ ،‬كلما تناول عقاقير‬ ‫السعادة الوھمية‪ ،‬أو شاھد عذابات الضعفاء ‪ .‬فوزية وعقاقير‬ ‫السعادة وعذابات الضعفاء‪ ،‬لھا نفس الطعم واللون والرائحة‪،‬‬ ‫نفس اللذة والنشوة منقطعة النظير‪.‬‬ ‫سھرات بريئة على أفالم ومسلسالت أسبوعية أمام علبة‬ ‫حلويات‪ .‬سرير حديدي مطلي باللون األحمر‪ ،‬وناموسية‬ ‫وردية شفافة منصوبة عليه دوما‪ ،‬فراش ناعم معطر بعطر‬ ‫أنثوي‪ ،‬غطاء رقيق دافئ حنون كصاحبته‪ .‬كل ذلك كان‬ ‫يجعله ينسى للحظات أنه من سريﱠة القرود المجاورة‪ ،‬ينسى‬ ‫قن الدجاج العفن الذي يسكن فيه وأمه المتديﱢكة دوما ً‪.‬‬ ‫ما كان ينغص عليھم تلك السھرات سوى القائد‬ ‫الضرورة‪ ،‬حيث تُلغى جميع البرامج اليومية واألسبوعية‪،‬‬ ‫وتنشغل القناة الوحيدة بعرض زياراته وخطاباته التي تستمر‬ ‫‪ 15‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫حتى وقت متأخر من الليل‪ .‬وليأسھم من الخالص‪ ،‬باتت‬ ‫جزءاً من سھرتھم‪.‬‬ ‫لطالما تمنى سمير أن يكون مثله‪ ،‬وراودته تلك األمنية حتى‬ ‫في أحالم الصحو‪ .‬تقمص شخصيته في أيامه الطويلة في‬ ‫الفيلم ذي الساعات الثالث‪ ،4‬حفظ ضحكته في أيامه المميتة‬ ‫التي استمرت ثماني سنوات‪ ...‬يرفع متنيه نحو األعلى‬ ‫ويخفضھما أثناء تأديتھا‪ .‬بينما تنشغل فوزيه في تلك السھرات‬ ‫بالحياكة ـ التي تجيدھا ـ من بلوزات وجوارب‪ ،‬وتكرس‬ ‫معظم وقتھا لتوفير كل ما يحتاجه سمير من مستلزمات‪.‬‬ ‫كانت تحاول تدجينه‪ ،‬ترويضه‪ ،‬إعادة صناعته من جديد‪،‬‬ ‫بناءه كأي طفل سوي‪.‬‬ ‫لكن محاوالتھا باءت بالفشل؛ فقد دخل السجن بسببھا عندما‬ ‫حاول اغتصابھا ـ عدة مرات ـ ولم تنفع شكاواھا الكثيرة‬ ‫ألمه‪ .‬حتى اضطرت لالدعاء في مركز الشرطة أنه حاول‬ ‫سرقتھا؛ فسلم نفسه معترفًا بالسرقة!‬ ‫‪ ‬‬ ‫‪ 4‬فيلم األيام الطويلة عن حياة صدام حسين‪ .‬‬

‫‪ 16‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫يستمر بنفث دخان سجارته‪ ،‬كأنه خارج الزمان والمكان‪،‬‬ ‫محدقا ً في لوحة على الجدار‪ ،‬كأنه يستمع لموسيقى ھادئة‪ .‬في‬ ‫اللوحة‪ ،‬زروق صغير في داخله مجداف‪ ،‬متوقف عند‬ ‫شاطيء‪ ،‬أمامه جزيرة‪ ،‬بينه وبينھا أمواج عاتيه تكاد تخرج‬ ‫من اللوحة‪ .‬تبدو الجزيرة كثيفة األشجار‪ ،‬القرود تتقافز بينھا‪،‬‬ ‫في وسطھا جبل كبير‪ ،‬يقف على قمته فارس وبجانبه أميرة‪.‬‬ ‫تتغيير مالمحه بعد استغراقه في التحديق في اللوحة‪ ،‬كمن‬ ‫يصل نقطة يبدو أنھا مھمة‪ .‬يطفئ سيجارته بسرعة ك َم ْن‬ ‫يروم الخروج ألمر مستعجل‪ ،‬يتجه صوب اللوحة المعلقة‬ ‫على الجدار‪...‬‬ ‫يركب الزورق المتوقف عند الشاطئ‪ ،‬تبتل قدماه وھو يدفعه‬ ‫إلى الماء دفعة قوية‪ ،‬يسير خاللھا الزورق مسرعا ً‪ .‬يقفز في‬ ‫داخله والمجداف بيده‪ ،‬يجدف بعيداً نحو جزيرة الكنز‬ ‫الموعودة‪ ،‬باحثًا عن حورية بحر أحالمه‪ ،‬غير عابئ‬ ‫باألمواج العاتية واحتمال الغرق والبقاء في اللوحة معلقا على‬ ‫الحائط‪.‬‬ ‫‪ 17‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫يصل الجزيرة داخل اللوحة تار ًكا قاربه عند الشاطئ‪ .‬يقفز‬ ‫إلى الماء‪ ،‬يھرول بسرعة كبيرة على الرمال بحثًا عنھا بين‬ ‫األشجار الكثيفة واألغصان المتشابكة‪ .‬يناديھا بأعلى صوته‬ ‫والصدى يردد معه‪:‬‬ ‫ـ فوزية‪ ...‬فوزية‪ ...‬ف‪ ..‬و‪ ..‬ز‪...‬‬ ‫غير عابئ بالحيوانات المفترسة التي تراقبه بامتعاض‪،‬‬ ‫والقردة التي تسخر منه وترميه بجوز الھند‪ ،‬يھرول مسرعا ً‬ ‫رغم سقوطه على األرض عدة مرات‪ ،‬يصل الجانب الثاني‬ ‫من الجزيرة‪ ،‬حيث الجبل حاد السفح عالي القمة‪ .‬يراھا على‬ ‫قمته بمالبس بيضاء شفافة وابتسامة سحرية‪ ،‬وشعر طويل‬ ‫متسربل كشالل كستنائي‪...‬‬ ‫يراھا كأنھا أميرة رومية‪ ،‬وإلى جانبھا حمود كأنه فارس‬ ‫مغوار من فرسان الطاولة المستديرة بزيه القتالي المھيب‪.‬‬ ‫يناديھا بأعلى صوته‪ ،‬يتوسلھا وھي تضحك منه‪ ،‬كذلك حمود‬ ‫وقرود الجزيرة وأشجارھا‪ .‬أصوات القھقھة تدفعه إلى الخلف‬ ‫بال ھوادة‪ ،‬يسقط على األرض‪ ،‬فإذا به خارج اللوحة‪...‬‬ ‫‪ 18‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫ض بالفطرة‬ ‫قا ٍ‬ ‫أتفحص المكان بفضول شديد‪ ،‬مستغربا حصولھم على أثاث‬ ‫ثمين ـ كالذي أرى ـ وجدران بيضاء مطلية بعناية شديدة‪،‬‬ ‫نقوش وألوان متناسقة كلوحة فنان بارع وإضاءة جميلة تدل‬ ‫على ذوق رفيع‪ .‬مكتبة كبيرة تأخذ الركن المقابل ـ حيث‬ ‫أجلس ـ تغص بأنواع الكتب الثمينة المصفوفة بعناية على‬ ‫الرفوف‪ ،‬فوھات موت معدنية باردة تمأل المكان‪ .‬كل واحد‬ ‫منھم يمسك بواحدة منھا‪ .‬مجموعة منھا قرب المكتبة‪ .‬إحداھا‬ ‫كانت تتكئ بقربي على المكتب! قُربھا مني لھذه الدرجة‬ ‫زادني ضعفًا ووھنًا‪ً ،‬‬ ‫بدال من أن يشجعني على اإلمساك بھا‬ ‫والقضاء عليھم؛ فقد تصورت أن سمير أراد اختباري بجعلھا‬ ‫قريبة مني لھذه الدرجة‪ ،‬وربما كان شاجورھا خاليا ً من‬ ‫الرصاص‪ .‬لم يخطر في ذھني تفسير غير ھذا‪ّ ،‬‬ ‫وإال فما‬ ‫الداعي لقيام خاطفين بترك بندقية في متناول يد مخطوف؟!‬ ‫ُ‬ ‫تمنيت أن أتحسس معدنھا البارد عدة مرات‪ ...‬تحدثت إليھا‬ ‫في داخلي‪ ،‬وربما كانت تسمعني‪:‬‬ ‫‪ 19‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫ـ يا لك من باردة‪ ،‬ھادئة‪ ،‬صامتة‪ ،‬مخادعة‪ ،‬يمكنك تسخين‬ ‫برودتك وقذفي بحمم مميتة‪ .‬يمكنك انتزاع مالءة الھدوء‪،‬‬ ‫إلغراق كل َمن في الغرفة بحمم الضجيج‪ ،‬النار‪ ،‬الدم‪ ،‬خالل‬ ‫ثانية واحدة‪ .‬يمكنك أن تخرجي عن صمتك بضغطة سبابة‬ ‫واحدة من ي ِد أي أح ٍد منھم‪ .‬ثم يعودون بعد ذلك لشرب‬ ‫الشاي‪ ،‬إشعال سجائر جديدة‪ ،‬الضحك‪ ،‬وكأن شيئا لم يكن!‬ ‫ضغطة السبابة على الزناد عندھم كضغطة ظفر اإلبھام‪،‬‬ ‫التي كانوا يمارسونھا على قمل المالبس األبيض‪ ،‬خالل‬ ‫سنين السجن األسود‪ .‬ال مشكلة لديھم في ذلك؛ فكلھا‬ ‫ضغطات أصابع من نفس اليد‪ ،‬واألشياء التي يضغطون‬ ‫عليھا متساوية القيمة بالنسبة لھم‪ .‬من تع ّود تناول عقار‬ ‫السعادة‪ ،‬عقار مصادرة العقل‪ ،‬يمكنه أن يقوم بأي شيء‪،‬‬ ‫وعندما يُسأل عن ذلك‪ ،‬يجيب ببالھة‪:‬‬ ‫ـ ھـــــا؟؟؟!!!!‬ ‫ب ُ‬ ‫الغت بنظراتي المتفحصة‪ ،‬المقصودة‪ ،‬متحاشيا ً النظر في‬ ‫عيني سمير‪ ،‬حتى ال يقرأ في عيني ما يعتمل في نفسي‪ ،‬من‬ ‫‪ 20‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫تعجب واستھجان كبيرين‪ ،‬للتحول المفاجئ في حياته‪ .‬لديه‬ ‫عينان تشبھان عيني القرد خبثا‪ ،‬والثعلب مكرا‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫زممت شفتي تأ ﱡسفًا على حظي العاثر‪ ،‬وظروفي التي فرضت‬ ‫ُ‬ ‫بلعت ريقي عدة مرات‬ ‫عل ّي التعامل مع ھكذا مخلوق خطير‪.‬‬ ‫أثناء استماعي لما يعرضه عل ّي من عروض وإغراءات‪،‬‬ ‫يُفترض أن يسيل لھا لعاب المعدمين أمثالي‪ .‬ال أدري لِ َم كنت‬ ‫أشعر بجفاف شديد في فمي‪ ،‬وھبوط صاعق في نبضات‬ ‫قلبي‪ ،‬بينما كان يردد الويا شفته السفلى‪:‬‬ ‫ـ أنت واحد منا‪ ،‬أريدك رابطا ً بيني وبين بقية المجموعات‪،‬‬ ‫التابعة لي في المدن األخرى‪.‬‬ ‫كان قد منحني دوري السابق كمحكم )للمضاربات‪(5‬‬ ‫ومسابقات قمل المالبس األبيض‪ ،‬عالقات طيبة مع أكثر‬ ‫النزالء في السجن اإلصالحي وأبي غريب‪ ...‬فقد كان الجميع‬ ‫يخطبون ودي‪ ،‬كي أتحيز لھم بعض الشيء‪.‬‬ ‫‪ ‬‬

‫‪ 5‬مضاربة‪ :‬تسمية محلية للشجار داخل السجن‪ ،‬حيث يحوله السجناء الى شيء أشبه بمباراة‪ .‬‬

‫‪ 21‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫حكوا لي حكاياتھم التي أوصلتھم لھذا الحال‪ ،‬ھمومھم‪،‬‬ ‫معاناتھم‪ ،‬آمالھم‪ ،‬طموحاتھم‪ ،‬التي يرغبون بتحقيقھا بعد‬ ‫اإلفراج عنھم‪ ،‬وأعطوني عناوينھم أمال باللقاء خارج السجن‪.‬‬ ‫سمير يعرف كل ذلك‪ ،‬يعرف كل ما كان يجري بين جدران‬ ‫السجن‪ ،‬ويريد اليوم استثمار عالقاتي تلك‪ ،‬بجعلي رابطا ً بينه‬ ‫وبينھم‪.‬‬ ‫بعد تفكير وئيد أسعدني ھذا العرض‪ ،‬حيث عرفت أنه لم‬ ‫ُ‬ ‫اعتبرت ذلك فرصة‬ ‫يختطفني لقتلي أو المساومة عل ّي‪.‬‬ ‫سانحة للخالص؛ فبمجرد خروجي لتنفيذ تلك المھمة‪ ،‬لن‬ ‫أعود إلى مزرعته أب ًدا‪ .‬وجواز السفر‪ ،‬القابع في جيبي كمارد‬ ‫سحري صغير‪ ،‬بإمكانه حملي بعيداً‪ ،‬إلى أي بلد أشاء‪.‬‬ ‫لكن الخيبة تالحقني أينما ذھبت‪ .‬لم يكن ذلك ھو السبب‬ ‫الحقيقي الختطافي؛ فقد غير رأيه بعد دقائق! وعاد ليعرض‬ ‫علي عرضا ً آخر‪:‬‬ ‫ـ ال أريدك راب ً‬ ‫طا بيني وبين المجموعات التابعة لي في‬ ‫المدن األخرى؛ فھذه مھمة أقل من شأنك الكبير لدي‪ ...‬أريد‬ ‫‪ 22‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫أن أنصبك قاضيا ً للمحكمة الشرعية التي أسستھا ھنا؛ فأنت‬ ‫قاض بالفطرة‪ ،‬كما كنت تقول لي أني قائد بالفطرة‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫بدا على نبيل أنه لم يرق له أن يتخذني سمير قاضيا ً؛ فربما‬ ‫كان يمنﱢي نفسه بھذا المنصب‪...‬‬ ‫أول حكم أصدره نبيل ونفذه في سن الرابعة عشرة من‬ ‫معاناته‪ ،‬كان حكم اإلعدام صعقًا بالكھرباء بحق زوج أمه‪،‬‬ ‫أثناء نومه مخموراً‪.‬‬ ‫كان زوج أمه يحاول نھشه بكل ما أتاه الخمر من مخالب؛‬ ‫قدر تغلﱠب عليه عدة مرات‪ .‬لم تنفع‬ ‫فقاوم بضراوة لتغيير ٍ‬ ‫ف وجھھا من الكدمات طيلة‬ ‫شكواه الكثيرة ألمه‪ ،‬التي لم يُ ْش َ‬ ‫فترة زواجھا الثاني‪ ،‬حتى ترملھا ودخول ولدھا السجن‪.‬‬ ‫ربﱠ َ‬ ‫ت سمير على كتفي‪ ،‬سلمني فوھة معدنية عيار تسعة‬ ‫موت‪ ،‬قائمة بأسماء العصافير الموجودة في القفص‪ ،‬أو التي‬ ‫يجب أن تتواجد فيه‪ ،‬قائمة أخرى بأسماء محالت يجب أن‬ ‫تُعاقب‪ .‬عرفت الكثير من األسماء فيھا‪ ،‬بعد أن تفحصتھا‬ ‫‪ 23‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫جيداً‪ .‬كانت قائمة فيھا الكثير من الروائح‪ ،‬وأسماء مؤنثة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫بحثت عن اسم فوزية بينھا‪ ،‬فلم أجده!‬ ‫قطع استنشاقي لروائح القائمة‪ ،‬تھيؤ الجميع لتأدية صالة‬ ‫المغرب‪ ،‬وصوت ينبعث من القاعة المجاورة للمكتب‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫صوت خاشع رخيم‪ ...‬بدا لي مألوفا‪ ،‬يشبه صوت سالم‬ ‫الذي كان يغني لنا في السجن‪ .‬لم أتبين أداءه في البداية‪ ،‬إن‬ ‫ً‬ ‫تھليال أم غناء‪...‬‬ ‫كان‬ ‫ُ‬ ‫دخلت في ذاكرتي الصوتية‪ ،‬توغلت فيھا أكثر فأكثر‪ ،‬لكنھا لم‬ ‫تأخذني لنتائج واضحة‪ ...‬فقادني فضولي إلى القاعة‪ ،‬حيث‬ ‫مصدر الصوت‪:‬‬ ‫ـ إنه ھ َو‪! ...‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫مططت شفتي السفلى قليالً‪ ،‬فإذا‬ ‫لوحت سبابتي في الھواء‪،‬‬ ‫بھا تنمط أكثر فأكثر‪ ،‬دون إرادتي! حاولت إيقافھا دون‬ ‫جدوى‪ ،‬صارت تؤلمني‪ ،‬ألن ف ﱠك ّي كماش ٍة يمسكانھا بقوة‪...‬‬ ‫تجمع الدم فيھا‪ ،‬بل تجمعت روحي فيھا‪ ،‬وارتفعت حرارتھا‪،‬‬ ‫أحسست بوجعھا في قلبي‪:‬‬ ‫‪ 24‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫ـ ھل أصبح سالم وليا ً صالحا ً‪ ،‬تح ُل لعنتهُ على من يستھزئ‬ ‫به؟ ُ‬ ‫قلت بصوت منخفض‪.‬‬ ‫جاء صوت سمير ھامسا ً بأذني‪:‬‬ ‫ـ بل أنت أصبحت غبيًا؛ فھذه كوثاريا الجديدة‪...‬‬ ‫ُ‬ ‫مسحت شفتي عدة مرات‪ ،‬بعد أن نزع سمير كماشة أصابعه‬ ‫ُ‬ ‫حاولت إرجاعھا إلى وضعھا الطبيعي‪ ،‬دون‬ ‫المدببة عنھا‪،‬‬ ‫جدوى‪...‬‬ ‫أنساني ألمھا العجب العجاب الذي شاھدته‪ ،‬فركت عيني عدة‬ ‫مرات‪ ،‬وضعت أصابعي أمامھما‪ ،‬قمت بع ّدھا‪ ،‬ألتأكد أني‬ ‫ُ‬ ‫رأيت نبيل يجلس بكل خشوع‬ ‫لست في حلم أو كابوس‪ ...‬فقد‬ ‫ُ‬ ‫في المحراب ليصلي باآلخرين!‬ ‫عرفت أني لست في حلم وال‬ ‫كابوس‪ ،‬من خالل لكزة سمير في ظھري‪ ،‬كأنه قرأ ما يدور‬ ‫بخلدي‪:‬‬ ‫ـ من تاب‪ ،‬تاب ﷲ عليه‪...‬‬ ‫قلت في نفسي‪:‬‬ ‫‪ 25‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫ـ ﷲ‪ !!!...‬سمير يتحدث باسم ﷲ‪ ،‬ويوزع التوبة على‬ ‫المخطئين‪ ،‬ونبيل يؤ ﱡم المصلين؟!‬ ‫تراءت لي مناظر عديدة خالل تأدية الطقس الجماعي خلف‬ ‫نبيل‪ ،‬المعارك التي دارت حوله‪ ،‬أو التي أشعلھا‪ .‬كان من‬ ‫أھم مشعالت الحروب في السجن‪ .‬كانت حربه أطول من‬ ‫حرب داحس والغبراء‪ .‬لكنھا كانت حرب داحس وداحس‪ ،‬ال‬ ‫ُ‬ ‫زمن‬ ‫غبراء فيھا‪ ،‬سوى وجوه مقترفيھا‪ .‬أي زمن ھذا؟ إنه‬ ‫ﱡ‬ ‫يمت للنبل بشيء؟ كيف تسنﱠى له كل ھذه‬ ‫نبيل‪ ،‬لكن ھل‬ ‫السطوة والسلطان‪ ،‬على رقاب الناس ومصائرھم؟‬ ‫حرب نبيل لم تنته بعد؛ فقد تحولت إلى نمط جديد أكثر فت ًكا‬ ‫من سابقاتھا‪ .‬تلك كانت واضحة المعالم‪ُ ،‬معلنة األھداف‪ ،‬أما‬ ‫ھذا النمط الجديد من حربه فيكتنفه الغموض‪ ،‬غير واضح‬ ‫المالمح‪ ،‬يتستر بأقدس المقدسات ليوھم المغرر بھم أنھا‬ ‫حرب مقدسة‪ ،‬وليست حرب داحس متشبه بغبراء‪.‬‬ ‫خلفية داحس أصبحت أكبر من السابق‪ ،‬تطورت حسب‬ ‫نظرية التطور في كوثاريا‪ ،‬أصبحت اليوم ھي األغلى‪ ،‬ال‬ ‫‪ 26‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫تقدر بثمن‪ ...‬فال مؤخرات الغواني وال مقدماتھن‪ ،‬تضاھيھا‬ ‫ثمنا ً وسطوة‪ ،‬صارت أكثر قوة من ذي قبل‪ .‬إنھا تتحول إلى‬ ‫رأس بمرور األيام‪ ،‬بل تطيح بالرؤوس أيضا ً‪ .‬من اآلن‬ ‫فصاعداً‪ ،‬يجب أن تطأطئ الرؤوس للمؤخرات؛ فھذا زمن‬ ‫مؤخرة داحس ال مقدمته‪ .‬أي رأس ال يمتثل ألوامرھا‬ ‫يُقطع‪ ...‬من قال لھا برأسه ھكذا‪ ،‬قالت له ھكذا‪...‬‬ ‫ـ السالم عليكم ورحمة ﷲ وبركاته‪...‬‬ ‫ـ السالم عليكم ورحمة ﷲ وبركاته‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ي اآلخرون؛ فَھُ ْم كاألبالسة‬ ‫انتبھت لنفسي‪ ،‬خشيةَ أن ينتبه إل ﱠ‬ ‫في مثل ھذه األمور‪ .‬ما زاد خوفي ورعبي‪ ،‬انتباھھم لشرود‬ ‫ذھني‪ ،‬وعودتي للماضي أثناء الصالة‪ .‬نظرات متوعدة‬ ‫ي‪ ،‬أثناء تحريك شفاھھم بصوت خافت‪ ،‬كمن يتلو‬ ‫وجھوھا إل ﱠ‬ ‫أدعية تعقيب الصالة‪.‬‬ ‫تحدث نبيل عن السھو‪ ،‬أثناء تأدية أي طقس عبادي‪ ،‬وعدم‬ ‫التركيز فيه‪ ،‬وعقوبته وعواقبه‪ ...‬ربما كان في حديثه إشارة‬ ‫‪ 27‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫لي بأنه أحس بشرود ذھني وعودتي أليام السجن‪ ،‬وتذكري‬ ‫لمن أصبح يُلقب بالشيخ‪ ،‬كيف كان حاله‪...‬‬ ‫كيف صار نبيل واعظًا؟ كيف تعلﱠم ﱠ‬ ‫فن انتحال ھذا الدور؟‬ ‫يُ َشرْ ِع ُن أ ﱠ‬ ‫ي محظور‪ ،‬ويحل أي إشكال شرعي‪ ،‬قد يطرأ على‬ ‫أذھان األتباع المخدوعين!‬ ‫كيف تعلم سمير فن الحديث بھذه الفترة القصيرة وأجاده؟‬ ‫كيف تح ﱠ‬ ‫صل على ھذه األموال الطائلة؟ ھل علﱠم نفسه بنفسه‪،‬‬ ‫استعدادا لھذا الوضع الفوضوي المنفلت؟ ھل حص َل على‬ ‫األموال ذات فوضى؟ كانت أسئلة وإجابات غير كافية‪،‬‬ ‫إلقناع فضولي‪...‬‬ ‫ربما دخل دورة سريعة مكثفة‪ ،‬عند شيطان رجيم‪ ،‬ألھمه فن‬ ‫الحديث وفن القيادة اللذين مارسھما نوعا ما أيام السجن‪.‬‬ ‫وھذا الشيطان ھو الذي أعطاه ھذه الثروة الھائلة من العمالت‬ ‫النقدية الخضراء التي أراه يوزعھا على أتباعه المقربين‬ ‫بكرم‪...‬‬ ‫‪ 28‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫ھل تقمص الضرورة لھذا الحد؟ لكن ذاك مات على أيدي‬ ‫صانعيه‪ ،‬فلماذا لم يمت بداخل سمير؟ ال بد أن شبحه مازال‬ ‫موجو ًدا‪ ،‬وربما ھو معنا اآلن‪ ،‬يوشوش في أذنيه‪ ،‬يعطيه‬ ‫التعليمات ويسيره‪.‬‬ ‫أال يمكن التخلص من الضرورة؟! مضى وبقيت ظالله في‬ ‫األرض‪ ،‬وأنﱠى لنا الخالص؟‬ ‫كان سمير يحاول تقليده بكل شيء‪ ،‬منذ شاھده أول مرة على‬ ‫التلفاز ذي القناة الواحدة‪ ،‬في بيت فوزية‪ .‬كان يتصور أنه‬ ‫يدخل معه في الشاشة‪ ،‬يسي ُر خلفه‪ ،‬أمامه‪ ،‬يفعل كل ما‬ ‫ظل له‪ ،‬يزور معه القطعات والقطعان‪.‬‬ ‫يفعله‪ ...‬يتحول إلى ٍ‬ ‫جوار في مرعى الحرمان‪.‬‬ ‫الخراف أضاحي له‪ ،‬الشياه‬ ‫ٍ‬ ‫يحصد السنابل ألنھا مثقلة بالحبوب‪ ،‬ومھمته المقدسة تقتضي‬ ‫أن يرفع الحمل عن كاھلھا‪ .‬يقتلع الزھور‪ ،‬ألنھا متلبسة دوما‬ ‫بجريمة الجمال‪ ،‬فما الفائدة المرجوة من رائحتھا‪ ،‬وھو يمتلك‬ ‫رائحة التفاح المتعفن؟ يجفف األھوار بحجة أنھا مليئة‬ ‫بالبعوض‪ ،‬ينفي ماليين العصافير ألنھا تعكر مزاجه كل‬ ‫‪ 29‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫صباح بزقزقتھا؛ فھو يحب أن يستمع ألصوات طبول‬ ‫الموت‪ ،‬أصوات الفوھات المعدنية العمالقة‪ .‬تُخرجه فوزية‬ ‫من شاشة التلفاز بعد أن ينام؛ فيستعيد في حضنھا الدافئ كل‬ ‫ما شاھده بشكل كوابيس‪...‬‬

‫‪ 30‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫الخالسة‬

‫‪6‬‬

‫ً‬ ‫قليال‪ ،‬لما استطاع أتباع سمير‬ ‫ليتني استعجلت بالسفر‬ ‫اختطافي‪ ،‬وإحضاري في مزرعته المقبرة ھذه‪ .‬لكنت اآلن‬ ‫في بلد آخر‪ ،‬بعي ًدا عن كوثاريا‪ ...‬في بلد ال سطوة لسمير فيه‪.‬‬ ‫ماض‬ ‫أبدأ ھناك حياة جديدة‪ ،‬حيث ال أحد يعرفني‪ ،‬وال‬ ‫ٍ‬ ‫يالحقني‪ ،‬أعود حقيقيا ً كما كنت في السابق‪ ،‬قبل أن يفرض‬ ‫ي القد ُر مصاحبته في رحلة حياتي الماضية‪...‬‬ ‫عل ﱠ‬ ‫كما يفرض القدر اآلباء‪ ،‬األمھات‪ ،‬األشكال‪ ،‬األنبياء‪،‬‬ ‫الحكام ‪ ،‬األوطان‪ ...‬يفرض أحيانا أصحابًا قدريين ال يمكن‬ ‫التخلص منھم‪ّ ،‬إال بعد أن يأخذ مرامه‪ ،‬من وضعھم في‬ ‫طريق حياة من يشاء‪ .‬قدر لعين وضعه حجر عثرة في بداية‬ ‫طريق حياتي‪ ،‬منذ دخلت اإلصالحية‪ ،‬وحتى متى ال أدري‪.‬‬ ‫فصرت متو ﱢر ًما لكثرة الدمى التي تعتمل بداخلي‪.‬‬ ‫آه‪ ...‬حشد من الدمى يصطرع بداخلي‪ ،‬ويريد كل منھا‬ ‫تلبﱡسي‪ ،‬ليصير وجھي المدفون بين أقنعة ال تُحصى‪ .‬أفكر‬ ‫‪ ‬‬ ‫‪ 6‬الخالسة‪ :‬غرفة التعذيب المخيفة المرعبة‪ .‬‬

‫‪ 31‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫أيھا سأكون اليوم ألتخلص منه؟ فقد جربتھا جميعا في السابق‬ ‫اتقا ًءا لشره المستطير‪.‬‬ ‫ي‪ ،‬عند‬ ‫ھذه وغيرھا‪ ،‬بعضٌ من تساؤالت كثيرة أل ﱠحت عل ﱠ‬ ‫ُ‬ ‫ركزت‬ ‫تمرير خرزات المسبحة بعد الصالة‪ ،‬خلف نبيل‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫نسبت معھا متنقال‬ ‫النظر عليھا وھي تنساب بين أصابعي‪ ،‬ا‬ ‫بين خرزة وأخرى‪ ،‬سنة وأخرى‪ ،‬سجن وآخر‪ ...‬لكنھا ملساء‬ ‫ال يمكن التشبث بھا‪ ،‬كآمالي بالخالص من ورطة التعامل‪،‬‬ ‫من جديد‪ ،‬مع ھذه المخلوقات الخطرة‪.‬‬ ‫ج ﱠر سمير المسبحة التي كنت أنسابُ مع خرزاتھا من يدي‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫فوقعت في يدي األخرى‪.‬‬ ‫شاھدت نفسي أجلس في راحتھا بال‬ ‫حول وال قوة؛ فأمرتھا بالنھوض‪:‬‬ ‫ت سابقًا‪ ،‬بانتظار لحظة الخالص‪.‬‬ ‫ـ قومي لمسايرته كما فعل ِ‬ ‫ال بد من وجود فرصة‪ ،‬في أحلك الظروف توجد فرصة‪،‬‬ ‫عندما تُغلق جميع األبواب‪ ،‬وتُقطع السبل‪ ،‬يكون ھنالك ضوء‬ ‫في نھاية اليأس‪ .‬بصيص إن تمسكت به وآمنت أني أراه‬ ‫‪ 32‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫ستحصل المعجزة‪ ،‬وأتخلص من قدر اسمه سمير‪ .‬ال فائدة‬ ‫تُرتجى من الجلوس واالستكانة؛ فالكارثة قد وقعت‪...‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫فرأيت مسبحتي بيد سمير‪ ،‬وھو‬ ‫نھضت من راحة يدي؛‬ ‫يناديني بإشارة من سبابته للدخول وراءه لغرفته الخاصة‪.‬‬ ‫تبعته متح ﱢس ًسا جواز السفر من خلف قماش جيب البنطال‪:‬‬ ‫ـ إيه أيھا المخلص الصغير‪ ،‬الساكن كمارد ينتظر اإلشارة‪،‬‬ ‫متى سيحين دورك؟ اختبئ جيدا‪ ...‬ستحين ساعتك بمجرد‬ ‫خروجي من ھذا المكان ألي مھمة‪ .‬سأمتطيك وأحلق بعي ًدا‪...‬‬ ‫دخل ْ‬ ‫ت مجموعة من خفافيش سمير الملثمين يسوقون فوجً ا‬ ‫من العصافير‪ ،‬معصوبي األعين‪ ،‬مكبلي األجنحة‪ ،‬ومن كال‬ ‫الجنسين‪ .‬يسيرون بھم نحو المجھول‪ ،‬بيعت كرامتھم وبالتالي‬ ‫حياتھم‪ ،‬وقُبض ثمنھا مق ﱢد ًما‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫رأيت نفسي بين ھؤالء المساكين‪ ،‬إن لم أوافق على العمل مع‬ ‫ظل الضرورة في األرض‪ .‬أحسست بألم اإلھانات في قلبي‬ ‫ُ‬ ‫شعرت بلضربات التي يتلقونھا تنزل على وجھي‬ ‫وروحي‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫تعثرت معھم‪ ،‬كدت أسقط على األرض‪.‬‬ ‫وقفاي‪.‬‬ ‫‪ 33‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫ُ‬ ‫أحسست بقطعة صفيح صدئة قريبة من أوردتي‪ ،‬مددت يدي‬ ‫ألبعدھا‪ ،‬لكنھا لم تكن موجودة ّإال في ذھني‪ ،‬أو في إحدى‬ ‫ُ‬ ‫فتبعت‬ ‫الغرف المجاورة‪ ،‬وربما في إحدى زوايا المزرعة؛‬ ‫سمير حيث غرفته‪.‬‬ ‫ـ إنه في الخالسة‪ .‬قال سالم بمجرد دخوله علينا‪.‬‬ ‫تناو َل سمير مجموعة من أقراص عقاقير السعادة‪ ،‬وقفز‬ ‫متوجﱢ ھًا نحو تلك الغرفة‪ .‬تبعته؛ فرأيته يُمسك معتقالً ويشبعه‬ ‫ضربا ً‪ ،‬حتى بادره بضربة رأسية أردته إلى األرض‬ ‫ُ‬ ‫فرأيت ساقه االصطناعية تظھر أثناء سقوطه‪.‬‬ ‫صريعا ً‪...‬‬ ‫مسح المسكين الدم النازف من أنفه‪ ،‬ورمق سمير بنظرة‬ ‫احتقار‪ ،‬كأنه يعرف قدره جيداً‪ .‬كانت ھيئة ذلك الرجل توحي‬ ‫من النظرة األولى بأنه رجل وقور وشجاع‪ .‬كان الشيب يغزو‬ ‫رأسه ولحيته‪ ،‬والحزن والطيبة باديتان على وجھه بشكل‬ ‫ْ‬ ‫جلي‪ .‬ر ﱠ‬ ‫وقعت في نفسي محبته‪.‬‬ ‫ق قلبي لحاله‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫حاولت مخاطبة رجولة سمير وشجاعته المزعومتين اللتين‬ ‫يتباھى بھما كثيراً‪:‬‬ ‫‪ 34‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫ـ أول مرة أراك تضرب معاقًا‪ .‬ال حول له وال قوة‪...‬‬ ‫ُ‬ ‫أردت بھذا القول أن أرى ردة فعله األولية ومدى استجابته‪،‬‬ ‫ألقرر االستمرار بالدفاع عن ذلك المسكين‪ ،‬أو أتركه يالقي‬ ‫مصيره المحتوم‪.‬‬ ‫صرخ سمير في وجھي‪:‬‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫أخلصت له فوزية وف ﱠ‬ ‫ـ ھذا الذي‬ ‫رأت فيه‬ ‫ضل ْته عل ّي‪ ،‬ماذا‬ ‫أفضل مني؟ لو أنھا طاوعتني لطاوعتھا‪ ،‬وألصبحت أي‬ ‫إنسان تريد‪ ...‬قائد فرقه موسيقية‪ ،‬وربما معلم‪ ،‬أو أي شيء‬ ‫آخر‪ .‬ھي الجانية األولى عل ّي‪ ،‬قاتلتي‪ ،‬وھذا المعاق سالحھا‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫أصبحت قائد حثالة من أشباه الرجال‬ ‫لواله لكانت لي‪ ...‬ولما‬ ‫أمثالكم‪ .‬ھي الجانية علي‪ ،‬وھذا أداتھا‪ ،‬سأقتص منھا ومنه في‬ ‫آن واحد‪ ،‬سأحرق قلبھا القاسي‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫عرفت أن ھذا المسكين ھو حمود األعرج زوج‬ ‫عندھا‬ ‫ُ‬ ‫رثيت لحاله‪،‬‬ ‫فوزية‪ ،‬العقدة المستعصية في نفس سمير‪.‬‬ ‫ولمصيره األسود الذي سيالقيه‪ ،‬وأي عذاب سيرى قبل ذلك؛‬ ‫لكثرة ما ح ﱠدثني سمير أيام السجن‪ ،‬عن حقده عليه وبغضه‬ ‫‪ 35‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫له‪ ،‬وتو ﱡع ِده أمامي بتقطيعه بأسنانه إن تسلﱠطَ عليه يوما ً‪ .‬ھاھو‬ ‫اليوم تحت رحمته‪ ،‬وال خوف من قانون‪ ،‬أو ذرة من ضمير‬ ‫تردعه‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ناجيت ذلك الموجود العادل؛ فقد كنت ألجأ إليه في مثل ھذه‬ ‫الظروف‪ ،‬رغم شكي به‪:‬‬ ‫ـ ھل حقا أنت موجود؟ ھل أنت عادل حقا ً؟ إن َ‬ ‫كنت موجوداً؛‬ ‫فمن لمسكين مثل حمود؟ ھل ستتركه يتقطع إربًا‪ ،‬بين مخالب‬ ‫ھذا الوحش المتغطرس؟ لكن لِ َم العجب؟ فقد تركتني سابقا ً‬ ‫أمكث أجمل سني عمري بين أربعة جدران‪ ،‬لجريمة لم‬ ‫اقترفھا‪ .‬ولم تكتف بذلك؛ فقد وضعت سمير في طريقي‪ ،‬أو‬ ‫وضعتني في طريقه‪ ،‬ال أدري‪ ...‬المھم أنك جمعتنا في مكان‬ ‫واحد‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫خرجت من اإلصالحية‬ ‫ظننت أنك عوضتني عندما‬ ‫ُ‬ ‫وتخلصت منه؛ فجمعتني به مرة ثانية في أبو غريب‪ .‬تعلم‬ ‫أني أخشى سبﱠ سمير؛ فكيف أسب القائد الضرورة‪ ،‬وأدخل‬ ‫ُ‬ ‫أقنعت نفسي حينھا بأن ھذا اختبا ًرا آخر‬ ‫السجن مرة أخرى؟‬ ‫‪ 36‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫من اختباراتك العجيبة‪ .‬خدعتھا بإقناعھا أنك عوضتني عن‬ ‫ُ‬ ‫مررت به‪ ،‬وذلك بالعفو العام الذي صدر آخر عصر‬ ‫كل ما‬ ‫الكبت والعسكرة‪ .‬لكن ھا أنت تجمعني به مرة أخرى! وھو‬ ‫يزداد قوة وتسلطا ً عل ّي‪ ،‬وأنا ازداد ضعفا وانقياداً له‪...‬‬ ‫ُ‬ ‫فرحت أول األمر‪،‬‬ ‫تلبيةً لرجائي‪ ،‬قرر سمير ترك حمود حيًّا‪.‬‬ ‫وتصورت أن للعادل ي ًدا غيبية تدخلت في األمر‪ .‬لكنه أص ﱠر‬ ‫على قطع خرطوم المياه اللزجة الذي يطفئ به حمود نار‬ ‫فوزية‪ ،‬لعلھا تخضع وتذعن له فيما بعد‪ ،‬أو تظل مشتعلة حد‬ ‫اإلحراق‪ ،‬وھذا يكفيه تشفﱢيًا بھما‪.‬‬ ‫تبددت في ذھني فكرة وجود يد الغيب‪ ،‬التي تصورت أنھا‬ ‫ُ‬ ‫رفعت رأسي نحو األعلى‪:‬‬ ‫تدخلت إلنقاذ حمود‪.‬‬ ‫ـ كالعادة‪ ،‬تخيب ظنﱢي كلما رجوتُك‪...‬‬ ‫لكن ما أدھشھم جميعا ً تلك اللحظة‪ ،‬بعد أن خلعوا سروال‬ ‫حمود‪ ،‬أنھم لم يجدوا عنده ذلك الخرطوم كي يقطعوه! مما‬ ‫حدا بھم الھروب خارج غرفة الخالسة‪ ،‬خوفا ً من ردة فعل‬ ‫سمير‪...‬‬ ‫‪ 37‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫فقد حمود وعيه إثر ركالت غضب وحقد و ﱠجھھا له سمير‪،‬‬ ‫وانتقل إلى معركته األخيرة في جبھات القتال في حرب‬ ‫الثمانينيات‪ ،‬عندما التحق بالجيش‪ ،‬بعد إنتھاء إجازة الزواج‬ ‫من ابنة عمه فوزية‪.‬‬ ‫كان الموت بين السماء واألرض‪ ،‬وكالھما يستعر بنار‬ ‫وقو ُدھا الناسُ ‪ ،‬الحجارة‪ ،‬المعادن‪ ،‬اآلمال‪ ،‬األحالم‪ ،‬وكل‬ ‫شيء قابل أو غير قابل لالحتراق‪ .‬كانت كتيبته تنتظر دورھا‬ ‫في االنصھار بجھنم أرضية‪ ،‬وأمامھم مضيق بين جبلين‪ ،‬فيه‬ ‫ب الجيش اآلري بطﱠا ِريﱠة‬ ‫ممر واحد‪ .‬في الجھة المقابلة نص َ‬ ‫صواريخ مضادة للدروع‪ ،‬لتصطاد بسھولة كل دبابة أو ذبابة‬ ‫تمر‪.‬‬ ‫أخرج حمود صورة صغيرة لفوزية من جيبه‪ ،‬نظر إليھا‬ ‫خلسة حتى ال يراه الجنود‪ ،‬نظر إليھا مليًّا‪:‬‬ ‫ـ ودا ًعا يا ابنة العم‪ ...‬بعد لحظات ستدخل دبابتي ھذا‬ ‫المضيق‪ ،‬وسأتف ﱠحم‪ ،‬ويعودون بي إليك ملفوفا بقطعة قماش‬ ‫رباعية األلوان‪ .‬ستنثرين شعرك الكستنائي‪ ،‬تشقﱢين جيبك‪،‬‬ ‫‪ 38‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫تلطمين خ ﱠديك الورديين أمام الناس‪ .‬سينظرون إليك بشغف‪،‬‬ ‫رغم الدموع التي تترقرق في عيونھم‪ .‬ستصبحين مطمعا ً‬ ‫للرجال‪ ،‬ويتقدم الكثيرون لخطبتك‪ ،‬أو للنيل منك بأي ِة طريقة‪.‬‬ ‫سيكون المھم عندھم الحصول عليك‪ ،‬وعلى األموال التي‬ ‫ستحصلين عليھا من الحكومة عوضا ً عني‪ .‬سأتحول بعدھا‬ ‫إلى ذكرى مزعجة‪ .‬ھل ستنسينني يا فوزية؟ تتزوجين من‬ ‫ت أول مولود يولد‬ ‫بعدي؟ مازلت أتذكر يوم والدتك؛ فأن ِ‬ ‫ُ‬ ‫حفرت تاريخ ذلك اليوم على جذع شجرة التوت في‬ ‫لعمي‪.‬‬ ‫نك لي‪ ،‬ولم أكن‬ ‫البستان‪ .‬عمي أخبرني لحظة والدتك أ ِ‬ ‫أعرف ما يعني ذلك‪ .‬كان عمري آنذاك عشر سنوات‪.‬‬ ‫ھل تذكرين؟ عندما كنت أحملك على كتفي‪ ،‬وأدور بك بين‬ ‫جدران البيت‪ ،‬البستان‪ ،‬الشط‪ ،‬الحقول والمراعي‪ .‬في البيت‬ ‫كنت أجلب لك أي شيء تريدين‪ ،‬حتى وإن كان ممنوعا ً على‬ ‫األطفال اللعب به‪ .‬في البستان‪ ،‬أتسلق األشجار لجلب صغار‬ ‫العصافير وبيضھا‪ ،‬أنصبُ الفخاخ لصيد كبارھا‪ ،‬أما صيد‬ ‫الفراشات والزنابير فلهُ شأن آخر‪.‬‬ ‫‪ 39‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫ُ‬ ‫كنت أجلسك على الشاطئ‪ ،‬أصطاد لك‬ ‫ھل تذكرين؟ عندما‬ ‫خذك إلى الحقول‬ ‫األسماك والسالحف الصغيرة؟ وكيف آ ِ‬ ‫ُ‬ ‫كنت أحقق لك‬ ‫والمراعي‪ ،‬لصيد الجراد والقبّرات واألرانب‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫عرفت المستحيل أمام تنفيذ أي رغبة‬ ‫جميع رغباتك‪ ،‬وما‬ ‫منھا‪ .‬ھل تتذكرين؟‬ ‫تخيﱠ َل أ ﱠن صورتھا تقول له‪:‬‬ ‫ـ إذن حقق رغبتي األخيرة وعد سال ًما؛ فقد وع ْدتَني بذلك‪ .‬ھل‬ ‫َ‬ ‫نسيت أني كنت أنتظرك منذ الطفولة؟ منذ كان أبوانا يرددان‬ ‫ق كل شيء بك‪ ،‬روحي‬ ‫"فوزية لحمود وحمود لفوزية"‪ .‬تعلﱠ َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫مازلت‬ ‫حصلت عليك قبل أيام‪،‬‬ ‫وقلبي ومشاعري‪ ...‬لقد‬ ‫أحاول نزع جلباب االنتظار الملتصق بي لكثرة ما تجلببته‬ ‫بانتظارك‪ .‬إني أوشك على خلعه من ذاكرتي‪ ،‬أوشك أن أضع‬ ‫حجراً ثقيالً فيه‪ ،‬وأرميه في شط اللقاء‪ ،‬ليرقد في قاعه وال‬ ‫ُ‬ ‫ك‪ ،‬عند التحاقك‬ ‫يطفو بعد ذلك‪ .‬ستعود‪ ...‬ألني‬ ‫دلقت خلف َ‬ ‫بالجيش آخر مرة‪ ،‬طاسه ماء‪ ،‬وقبضةً من حبات رز نيء‪.‬‬ ‫أمك تصدقت بورقة نقدية وطلبت منك أن تعبرھا‪ ،‬ستعبر ھذا‬ ‫‪ 40‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫المضيق بصدقتھا ودعواتھا‪ .‬ستعود‪ ...‬ما ارتديت لك كل‬ ‫مالبس النوم التي اقتنيتھا لي؛ فلم يكن أسبوع إجازة الزواج‬ ‫كافيا ً لذلك‪ ،‬سأرتديھا عندما تعود من الحرب‪.‬‬ ‫عاد حمود للتحديق في صورة فوزية‪ ،‬ولكن في المستشفى‬ ‫العسكري ھذه المرة‪ ،‬بين أنين وصيحات الجنود المصابين‪:‬‬ ‫ـ سأعود إليك يا فوزية بعد أيام‪ ،‬ولكن‪ ...‬ليتني ال أعود‪ ،‬ليت‬ ‫الحرب التھمتني‪ .‬إنھا حرب عاھرة أرادت مضاجعتي ـ وھل‬ ‫ُ‬ ‫رفضت أن أتخذ غيرك‬ ‫ھنالك حربٌ غير عاھرة ـ لكني‬ ‫ْ‬ ‫تكتف باليسرى فقط! ليتني‬ ‫اغتصبت ساقي الثالثة‪ ،‬لم‬ ‫رفيقة؛ ف‬ ‫ِ‬ ‫تحولت إلى صورة مزججه معلقة في إحدى زوايا البيت‪،‬‬ ‫وشريط أسود يغطي إحدى زاويتيھا العلويتين‪ ،‬على أن أعود‬ ‫لك بعد أيام بھذا الحال‪ .‬رجل بساق واحدة‪ ،‬كالشجرة التي‬ ‫ن ُ‬ ‫قشت عليھا اسمك في البستان‪ .‬سأعود اليك فاق ًدا لرمز‬ ‫فحولتي‪ .‬سأطلقك يا فوزية‪ ،‬لتبدئي حياتك من جديد‪ ،‬لم أعد‬ ‫رجالً كما كنت‪...‬‬ ‫لكن الصورة أجابته مرة ثانية‪:‬‬ ‫‪ 41‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫ـ أنا فراشك وغطاؤك؛ فال تھتم‪ ...‬متى كان ذلك الشيء وحده‬ ‫رمز رجولتك؟ لقد أحببتك قبل أن أعرف أن لدى الرجال‬ ‫شيء مختلف عما ھو عند النساء‪ .‬ال عليك‪ ،‬سأدعي أني‬ ‫عاقر‪ ،‬ولن يعرف أقرب المقربين بشيء‪ .‬المھم أنك معي‪،‬‬ ‫وتط ّوقني بعطفك وحنانك‪ ،‬أنت ابن عمي يا حمود‪...‬‬ ‫أفاق حمود عندما غسل ُ‬ ‫ت وجھه‪ ،‬في غرفة الخالسة‪ ،‬وناولتهُ‬ ‫قدحا ً من الماء ليشرب‪ .‬كان وجھه أكثر إشراقا ً وتحديا‪ ،‬وكأنه‬ ‫يولد من جديد‪ ،‬وكأنه أكثر رجولةً من السابق‪ ،‬وأنه جدير‬ ‫بابنة عمه فوزية‪ .‬حسدته على ذلك وتمنيت أن أكون ظله‪...‬‬ ‫صرخ سمير كالمجنون‪:‬‬ ‫ي في معركة فوزية‪،‬‬ ‫ـ حمود يھزمني كل مرة‪ ،‬انتص َر عل ﱠ‬ ‫ي بعوقه‪ ،‬ال خرطوم لديه ألقطعه‪ .‬إنه‬ ‫وھاھو اليوم ينتصر عل ﱠ‬ ‫ي بالرغم من فقدانه رمز رجولته‪ .‬شبح الضرورة‬ ‫يتمرجل عل ﱠ‬ ‫يطلب مني أن أنتصر عليه وأقھره‪...‬‬ ‫ك إحدى الفوھات المعدنية الباردة‪ ،‬توجه نحو إحدى‬ ‫أمس َ‬ ‫الغرف التي تضم مجموعة من المخطوفين‪ .‬وبضغطة واحدة‬ ‫‪ 42‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫من سبابته‪ ،‬جعلھا تمطرھم وابال ً من كرات نارية‪ ،‬ال تميز‬ ‫بين أعمارھم‪ ،‬أسمائھم‪ ،‬أديانھم‪ ،‬مذاھبھم‪ ،‬قومياتھم‪ .‬تقافزوا‬ ‫ْ‬ ‫وقعت عليھا قطرات‬ ‫كقطرات سمن مغلي في صفيح ساخن‬ ‫من الماء‪.‬‬ ‫بعد أن أصبحت فوھة الموت ساخنة‪ ،‬كسخونة سوائلھم‬ ‫الحمراء‪ ،‬توقفوا عن التقافز والحركة‪ ،‬اصطبغت أرضية‬ ‫الغرفة بتلك السوائل‪ ،‬ھدأت ثائرته؛ فالتفت إلي بابتسامة‬ ‫مرعبة‪:‬‬ ‫ـ ال تبتئس‪ ...‬فھذه السوائل الملونة تستحق أن تجري ھكذا‬ ‫تحت قدمي‪.‬‬ ‫ـ ) ‪( ...‬‬ ‫ـ انھا دماء رمادية‪ ،‬كدماء قمل المالبس األبيض‪ ،‬الذي كنا‬ ‫نتسابق به في السجن‪.‬‬

‫‪ 43‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫العوق العظيم‬ ‫ُ‬ ‫فككت قيود حمود‬ ‫كانت الريح تئن في المزرعة‪ ،‬حيث‬ ‫ي‪ ،‬معصوب العينين كما جاءوا‬ ‫األعرج‪ ،‬وأخرجتُه متكئا ً عل ﱠ‬ ‫به كي ال يعرف الطريق المؤدي إليھا‪:‬‬ ‫ْ‬ ‫تماسك يا حمود‪ ،‬يجب أن تظل متماسكا‪ ،‬سأوصلك إلى باب‬ ‫ـ‬ ‫المزرعة الخارجي‪.‬‬ ‫وامض بعيدا قدر اإلمكان‪ ،‬ال تلتفت إلى‬ ‫ِ‬ ‫الوراء‪ .‬يجب أال تموت أو تتحول مثلي إلى دمية‪ ،‬يتالعب‬ ‫بھا سمير كيفما يشاء‪ ،‬لعلﱢي أشعر أن حياتي لم تذھب سدى‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫دفعت ثمنا غاليا ً جداً إلنقاذ حياتك‪ ،‬لقد أخبرته أني وافقت‬ ‫على العمل معه‪ ،‬مقابل إطالق سراحك‪ .‬أتصور أني ما ُخلقت‬ ‫ّإال إلنقاذك؛ فعد إلى ابنة عمك فوزية‪ ،‬إنھا جديرة بك وأنت‬ ‫جدير بھا‪...‬‬ ‫ھل تسمع؟‬ ‫ـ )‪(...‬‬

‫‪ 44‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫ـ حتى الريح متواطئة معھم‪ .‬ال تريد أن يسمع أح ٌد‬ ‫استغاثةَ وآال َم العصافير التي تتعذب في كوثاريا‪ .‬إنھا تريد‬ ‫دفع أجسادھم الشفافة بعيدا من ھنا كي ال تثير الشكوك‬ ‫والشبھات حول المكان‪ .‬لكن األجساد الشفافة تأبى الرحيل؛‬ ‫فھي متمسكة بالجدران وأغصان األشجار والعشب والماء‪،‬‬ ‫كي تُثبت الجريمة وتحكي ما جرى‪ ...‬مازال مردوخ‪ 7‬يتناسل‬ ‫في نفوسنا‪ ،‬يلد األصنام تلو األصنام؛ فكل من تتوفر له‬ ‫فرصة التسلط‪ ،‬يظھر الصنم القابع في داخله‪ ،‬يصير‬ ‫دكتاتو ًرا يحاول أن يكون مردو ًخا آخر ‪ .‬كلنا آزر وھذه البالد‬ ‫كلھا كوثاريا‪ ،‬وأنﱠى لنا بإبراھيم جديد؟‬ ‫أنت الحقيقي وغيرك الوھم يا حمود‪ ،‬أنت ثابت وھم زائلون‪،‬‬ ‫ق حيًّا ألشعر حقا أنه موجود‪ .‬ھل ھو موجود حقًّا؟‬ ‫اب َ‬ ‫خرج حمود عن صمته‪:‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ 7‬مردوخ ‪ :‬كبير اآللھة عند العراقيين القدامى‪ ،‬وھو اسم الصنم الذي وضع إبراھيم الفأس في عنقه‪ ،‬في حادثة تحطيم‬ ‫األصنام المشھورة‪ ،‬كما تقول بعض كتب التأريخ اإلسالمية‪ .‬‬

‫‪ 45‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫ضا‪ ...‬فقد جمعني بك ليعطي ناصر فرصة رد‬ ‫ـ وعادل أي ً‬ ‫فضلي عليه‪ ،‬بالرغم من أنه في قبره‪ .‬ناصر كان صديقي‪،‬‬ ‫أكلنا في قصعة واحدة لسنين طويلة في الجيش‪ ،‬نمنا في ملجأ‬ ‫ت لم‬ ‫واحد تحت األرض‪ .‬واجھنا الموت معا ً في الحرب مرا ٍ‬ ‫أعد أتذكر عددھا‪ ،‬لكثرتھا ولتقادم الزمان عليھا‪ .‬لكني أتذكر‬ ‫في إحدى مواجھاتنا مع الموت في حرب الثمانينيات‪ ،‬كادت‬ ‫الحرب تبتلع ناصر‪ .‬عندما تُرك مصابا ً في األرض الحرام‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫زحفت نحوه وسحبته‪ .‬كان‬ ‫وال أحد يستطيع الوصول إليه‪.‬‬ ‫يائسا ً من الحياة‪ ،‬وتوسلني أن أتركه يواجه الموت؛ فال فائدة‬ ‫من موتنا معا ً‪ .‬الطلب الوحيد الذي طلبه مني ھو‪ :‬العناية بك‪.‬‬ ‫كان يُحبك أكثر من أي شيء آخر‪.‬‬ ‫وھاھو ـ ناصر ـ اليوم يرد لي فضل إنقاذ حياته‪ ،‬بإنقاذ حياتي‬ ‫ُ‬ ‫من خاللك‪.‬‬ ‫عرفت أنك أخاه منذ رأيتك‪ .‬كنت أسكن في مكان‬ ‫آخر آنذاك‪ ،‬ولكني أعرفك من خالل الصور‪ ،‬من خالل‬ ‫ُ‬ ‫رتحلت من ھناك إلى العاصمة‪ ،‬بعد‬ ‫حديثه المتواصل عنك‪ .‬ا‬ ‫ُ‬ ‫أقمت ھنا‪،‬‬ ‫تسريحي من الجيش‪ ،‬إثر بتر ساقي في الحرب‪.‬‬ ‫‪ 46‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫ُ‬ ‫كنت‬ ‫ألخفي ما بي من عوق خفي أصاب رمز رجولتي‪ .‬ما‬ ‫أتحمل نظرات الناس المتفحصة في مدينتي السابقة‪ ،‬تلك‬ ‫النظرات التي تتصور ما تحت مالبسي‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫تيقنت أن إنقاذي سيكون على يديك‪ .‬لي‬ ‫عندما رأيتك قبل قليل‬ ‫ٌ‬ ‫دين في عنق أخيك‪ ،‬وربما في ضمير ﷲ‪ .‬والعدالة تقتضي‬ ‫أن يُرد ھذا الدين‪ .‬الحياة سيناريو بديع‪ ...‬كتبهُ ھ َو‪ ،‬وال‬ ‫يستطيع أحد تغيير ھذا السيناريو‪ ،‬وھ َو كاتب حكيم‪ ...‬لقد‬ ‫أثبتت لي تجارب الحياة ذلك‪ .‬أحيانا تقصر عقولنا عن فھم‬ ‫بعض األحداث‪ ،‬ونظن أنه يظلمنا‪ ،‬ويتبين بعد حين خطأ تلك‬ ‫الظنون‪...‬‬ ‫ما إن يقوم كل منا بتحطيم أصنامه الداخلية‪ ،‬حتى تقتضي‬ ‫عدالة كاتب السيناريو أن يُبعث إبراھيم جديد‪ .‬كنت أسأل‬ ‫نفسي‪ :‬لماذا يعذبني بعوقي المزدوج ھذا؟ ع ُ‬ ‫رفت اليوم أنه‬ ‫ز ﱠودني بقوة كبيرة‪ ،‬م ﱠكن ْتني من قھر ھذا النمرود‪ .‬لوال عوقي‬ ‫ھزمت سمير ھذا اليوم‪ ،‬وف ﱠو ﱡ‬ ‫ُ‬ ‫النيل مني‪.‬‬ ‫ت عليه فرصة‬ ‫لما‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫قلت له والدموع في عيني‪:‬‬ ‫‪ 47‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫ـ اذھب بعيداً من ھنا بفوزيتك‪ ،‬وعوقك العظيم ھذا‪ ،‬اذھب‬ ‫إلى حيث ال يوجد سمير‪ .‬وأعدك إن تبينت لي الحكمة من كل‬ ‫ما مر بي‪ ،‬سأراجع اعتقادي في كاتب السيناريو‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫عدت متجوالً في المزرعة‬ ‫بعد أن أوصلته إلى الباب‪،‬‬ ‫المليئة برائحة الموت‪ ،‬قبل عودتي إلى البيت الذي يتوسطھا‪،‬‬ ‫متحسسا ً جواز السفر في جيبي بين لحظة وأخرى‪ .‬ليس في‬ ‫ذھني سوى ناصر يحدثني‪ ،‬بوجه مصفر وفرائص مرتعدة‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫أديت نيابة عني وعنك مھمة األخذ‬ ‫فعلتُھا‪ ...‬لقد قتلته‪...‬‬ ‫بالثأر‪ .‬لقد حرمك من حنان أبيك واالرتماء بين أحضانه‬ ‫واالختباء تحت عباءته‪ .‬جعلني فجأة معيالً ألفواه‬ ‫جائعة‪ .‬غدر به لغير ذنب اقترفه؛ فقد كان شجاراً عاديا ً من‬ ‫أجل ساقية ماء‪ ،‬است ﱠل خنجره الصدئ وغرسه في الظھر‬ ‫المتعب المنحني‪ .‬غرسه في ظھر حياتنا كلھا‪ ،‬في ظھر‬ ‫سعادتنا‪ .‬لم تفلح صرخاتي بتنبيھه‪ ...‬وقبل أن يلتفت كانت‬ ‫الطعنة قد فعلت فعلھا‪ .‬تلتھا طعنات أخرى‪ ،‬تمسكت به‪،‬‬ ‫أضربه‪ ،‬أشتمه‪ ،‬والدموع تحجب ناظري‪ ،‬وصراخي يمزق‬ ‫‪ 48‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫السكون‪ .‬رماني في الساقية التي كان ماؤھا محم ًّرا‪ ،‬وھو‬ ‫يجري بعيداً عني‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫أمسيت كلما أدخل معركة‪ ،‬أكره أن أرى جثث القتلى؛ فأبي‬ ‫أول قتيل أراه في حياتي‪ .‬لكني في الحرب أرى عدداً كبيراً‬ ‫من القتلى‪ ،‬وال يھتز لي طرف‪ .‬الكثيرون منھم يُقتلون بيدي؛‬ ‫فقدري جعل صنفي في الجيش رامي مدرعة‪ ،‬لم يجعله سائقًا‬ ‫أو مخاب ًرا‪ .‬بل راميًا‪ ،‬يموت الكثيرون بضغطة زر من‬ ‫إصبعه‪.‬‬ ‫عندما أتفرس في وجوه الجنود اآلريين القتلى‪ ،‬أرى مالمحھم‬ ‫ُ‬ ‫سئمت‬ ‫تكلمني‪ ،‬تعاتبني‪ ،‬لماذا تقتلنا؟ ھل قتلنا أباك؟ لقد‬ ‫عاري‪ ...‬فقتلته‪.‬‬ ‫ً‬ ‫رجال في‬ ‫اآلن جاء دورك لتكون ابن أبيك المغدور‪ ،‬وتكون‬ ‫تح ﱡم ِل الجزء المتبقي من المسؤلية تجاه ثأره‪ .‬عليك أن‬ ‫تعترف بقتله بدالً عني؛ فأنت حدث ولن يحكمك القاضي‬ ‫باإلعدام‪ .‬سيشنقونني إن لم تعترف بقلته بدالً عني‪ .‬ستكون‬ ‫‪ 49‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫عقوبتك بأن تدخل سجن األحداث اإلصالحي بضع سنوات‪،‬‬ ‫وبعد انقضاء فترة محكوميتك‪ ،‬سنعود للعيش م ًعا من جديد‪.‬‬ ‫سأروي لك جميع تفاصيل عملية قتل ذلك الجبان‪ ،‬لتعترف‬ ‫بھا‪ ،‬وتمثل الدور جيداً أثناء كشف الداللة الذي ستجريه‬ ‫ْ‬ ‫الشرطة معك‪ .‬وال‬ ‫تخف علي‪ ،‬فقد اتفقت مع النائب ضابط أن‬ ‫يسجلني حاضراً ھذه الليلة في وحدتي العسكرية‪ ،‬حتى ال‬ ‫تحوم حولي الشبھات‪ .‬وعدته بمبلغ كبير ليفعل ذلك‪ .‬ال تھتم‬ ‫ُ‬ ‫رتبت كل شيء‪ ،‬وقد جاء دورك‪.‬‬ ‫لھذه التفاصيل؛ فقد‬ ‫يجب أن تدفع جزءاً من الثمن‪ .‬يكفيني ألما ً أن عينيه الھلعتين‬ ‫وتوسالته ستالحقني ما حييت‪ .‬كل من قتلتُھم في الحرب لم‬ ‫أ َر وجوھھم ّإال بعد قتلھم‪ ،‬ھذه المرة األولى التي أواجه فيھا‬ ‫عيني الضحية قبل الموت‪...‬‬ ‫لم تمھلك الحرب طويال يا ناصر؛ فقد كانت تلك الليلة آخر‬ ‫َ‬ ‫مرة أراك فيھا‪...‬‬ ‫ك العسكرية‪ ،‬وأنا‬ ‫عدت آخر الليل إلى وحدت َ‬ ‫اعترفت في صباح اليوم التالي بارتكاب جريمة القتل تلك‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ومثلت دورك على أكمل وجه في كشف الداللة‪ .‬ال أدري‬ ‫‪ 50‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫حفظت الدور جيدا؟ أم‬ ‫كنت بارعا ً في تمثيله؟ ألني‬ ‫لماذا‬ ‫ألني كنت أتمنى أن أكون حقا ً أنا قاتله؟ أم ھو الخوف الذي‬ ‫يصنع األعاجيب؟! خوفي من ثأر أبناء الضحية كان أول‬ ‫ُ‬ ‫ظننت أني بلجوئي إلى االعتراف ودخول‬ ‫وھم أصدقه‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫السجن اإلصالحي‪ ،‬سأضرب عصفورين بحجر واحد‪ .‬وھما‬ ‫تخليصك من حبل المشنقة‪ ،‬والھروب من أبناء الضحية‪ .‬ما‬ ‫ُ‬ ‫كنت أحسب أن لألقدار حسابات أخرى‪ ...‬فقد أخبرتني أمي‬ ‫َ‬ ‫عدت‬ ‫ك‬ ‫في أول زيارة لھا‪ ،‬والدموع تترقرق في عينيھا‪ ،‬أن َ‬ ‫ُ‬ ‫ملفوفا ً بقطعة القماش الملونة‪ ،‬فدا ًء لوطن‬ ‫عشت حياتي غريبًا‬ ‫فيه! وأن أبناء الضحية لن يطالبوني بدمه‪ ،‬بعد أن دفعت‬ ‫العشيرة لھم دية القتيل‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ربيت‬ ‫كنت أظنك والدي يا ناصر؟ وأنت حقا ً والدي؛ فقد‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ك‬ ‫نسيت يا‬ ‫وعلمت‪ ...‬لكنك لم تنسْ ‪ ،‬لم تكن مستعداً لتنسى‪ .‬ليت َ‬ ‫ناصر‪ ،‬ل ُكنا أنا وأنت اآلن في وضع آخر‪.‬‬ ‫ھل تعلم بأني ُ‬ ‫كنت أنتظر زيارتك في السجن‪ ،‬كلما أتى موعد‬ ‫الزيارة؟ بالرغم من علمي أن الحرب قد أكلتك! حتى يوم‬ ‫‪ 51‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫خروجي كنت أتصور أن أجدك منتظ ًرا عند باب السجن‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫شعرت بالدفء بعدھما‬ ‫لتحضنني بين ذراعيك الدافئين‪ .‬ما‬ ‫أب ًدا يا ناصر‪ .‬مازا َل برد سجن إصالح األحداث يستعر بين‬ ‫َ‬ ‫فعلت بي؟ ترميني في مكان‬ ‫أضلعي‪ .‬أيفعل األب بولده ما‬ ‫يسود فيه سمير ونبيل؟‬ ‫ھل تعلم أن أمك وزوجتك اختلفتا وتشاجرتا على ثمنك‪ ،‬الذي‬ ‫يدفعه الضرورة عوضا عن الذين تأكلھم الحرب من أمثالك؟‬ ‫لم تكن زوجتك صابرة مثل أمك‪ .‬أصبحت منذ سنين في‬ ‫أحضان رجل آخر‪ ،‬مستمتعةً معه بثمن دمائك‪ .‬وأنا مازلت‬ ‫أدور بنفس الدوامة؛ فھاھو سمير يُحضرني اليوم مخطوفًا‪،‬‬ ‫على وجه السرعة إلى مزرعته‪.‬‬

‫‪ 52‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫الفصل الثاني‬ ‫دمى‬ ‫‪ 53‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫شبح الضرورة‬ ‫أثناء عودتي من باب المزرعة إلى البيت الذي يتوسطھا ـ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫حاولت أن‬ ‫طردت طيف ناصر وحديثه المؤلم ـ‬ ‫بعد أن‬ ‫أعرف‪ ،‬في أي جھة من ضواحي كوثاريا تقع ھذه المزرعة‬ ‫المقبرة‪ ،‬فلم أستطع‪ .‬ألنھا مدينة مد ﱠورة‪ ،‬بناھا ضرورة سابق‪،‬‬ ‫وظل سكانھا يدورون في حلقة ُمفرغة‪ .‬ظلت تتنقل كغانية‪،‬‬ ‫ق‬ ‫بين يدي دكتاتور وآخر منذ ذلك الحين‪ ...‬ال أدري كيف أُطل َ‬ ‫عليھا قديما ً )الوردة المزھرة أو ھبة ﷲ‪(8‬؟ لم أستنشق فيھا‬ ‫يوما ً سوى رائحة الموت والحروب‪ .‬ربما ال يشم عطرھا‬ ‫المزعوم أحد‪ ،‬سوى كل قائد ضرورة‪ ،‬وأتباعه من عبَدة‬ ‫األصنام البشرية‪ .‬ھذا حالھا وھي ھبة ﷲ! لو كان اسمھا ھبة‬ ‫الشيطان‪ ،‬فكيف سيكون حالھا؟‬ ‫يبدو أن )عطاء الصنم‪ *(9‬ھو أكثر األسماء تعبيرا عن‬ ‫ماھيتھا؛ فلھا قدرة فائقة على إنتاج األصنام البشرية‪ .‬كلما‬ ‫‪ ‬‬ ‫‪ 8‬بعض األسماء القديمة لمدينة بغداد‪ .‬‬ ‫‪ 9‬اسم من أسماء بغداد قديما‪ .‬‬

‫‪ 54‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫ظھر فيھا صنم‪ ،‬صار ضرورة لمدة من الزمن‪ ،‬وما إن‬ ‫يسقط‪ ،‬حتى يظھر آخر وآخر‪ ...‬في دائرة مغلقة كبنائھا‬ ‫المدور‪ .‬ما العجب في أن تُنتج مثل سمير‪ ،‬الذي صار نفوذه‬ ‫كبيراً كزعيم ال يُقھر‪ ،‬زعيم قادم من المجھول‪ ،‬بالنسبة إلى‬ ‫الناس المختلفين في ماضيه وفيما يقوم به اآلن‪.‬‬ ‫سمير مازال يعتقد أن شبح القائد الضرورة قد تلبﱠس به‪ ،‬منذ‬ ‫اليوم الذي شاھده فيه على شاشة التلفاز‪ ،‬معلقا ً بحبل غليظ‪.‬‬ ‫متدل كدمية‬ ‫تسمرت عيناه غير مصدق! أحقًّا ھذا ھو‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫بائسة؟! ظن أول األمر أنه قد تناول جرعةً كبيرة من عقاقير‬ ‫السعادة الوھمية‪ .‬لكن الحبل بدأ يضيق الخناق عليه‪ ،‬أفلت‬ ‫يديه المربوطتين خلفه ـ كما تصورھما ـ وضعھما بين الحبل‬ ‫الغليظ ورقبته‪ ،‬ليتنفس ثانية واحدة‪ .‬استعرض خاللھا أيامه‬ ‫الطويلة والقصيرة‪ ،‬ووجوه ضحاياه التي انتھزت الفرصة‬ ‫وزحفت نحوه بالماليين‪ ،‬كذرات الرمل الغاضبة‪ ،‬وأغلقت‬ ‫جميع المسامات كيال تمنحه فرصة التعرق‪ ،‬وترطيب جسمه‬

‫‪ 55‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫الساخن‪ .‬صار َع الحبل الغليظ طلبا ً لنسمة ھواء‪ ،‬خارت‬ ‫قواه‪ ،‬جحظت عيناه‪ ،‬ولما ينت ِه استعراض صور الضحايا‪...‬‬ ‫ال يدري متى استيقظ من تلك الشنقة الفظيعة‪ ،‬لكنه بين الحياة‬ ‫والموت‪ ،‬بين ال ُحلم والحقيقة‪ ،‬شاھد الشبح يخرج من جسد‬ ‫الضرورة ـ بنفس ھيئته ـ يجوب أرجاء شاشة التلفاز‪ ،‬مثل‬ ‫خفاش مذعور يبحث عن َمخرج‪ .‬يصطدم بسقفھا وجدرانھا‬ ‫عدة مرات‪ ،‬يسقط على أرضيتھا متعبا ً‪ ،‬ينظر نحوه نظرة‬ ‫ثاقبة‪ ،‬تخترق جسمه وروحه‪ ،‬ينطلق خارج الشاشة باتجاھه‪،‬‬ ‫يغشاه حتى يتلبﱠسه تماما ً‪...‬‬ ‫استيقض إثر ذلك‪ ،‬يشعر أن الضرورة يسكن رأسه‪ ،‬يأكل‪،‬‬ ‫يمشي‪ ،‬ينام‪ ،‬يصحو معه‪ .‬يحدثه ويمده بالكثير من األفكار‪،‬‬ ‫يراوده في أحالمه‪ ،‬إن أراد شيئا مھ ًّما منه‪ ،‬حتى صار‬ ‫يرافقه كظله‪...‬‬ ‫عاد سمير ليغيﱢر رأيه من جديد في سبب إحضاري مخطوفاً؛‬ ‫فقال‪:‬‬ ‫‪ 56‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫ـ لم أرسل في طلبك‪ ،‬كي أجعل منك قاضيا ً في محكمتي‬ ‫الشرعية؛ فعندي الكثيرون ممن يمكنھم القيام بذلك‪ .‬إنما‬ ‫ُ‬ ‫أصبحت وأتباعي‬ ‫أريدك ساعدي األيمن في كل شيء‪ .‬لقد‬ ‫قوة كبيرة‪ ...‬المستقبل لنا‪ ،‬نحن الواقعـ وكل شيء غيرنا‬ ‫مزيﱠف‪ ،‬نحن الفعل‪ ،‬وغيرنا رد الفعل‪ ،‬زمام المبادرة بأيدينا‪،‬‬ ‫ال بأيدي من يحكمون كوثاريا اليوم‪.‬‬ ‫يجب أن نختلق ألنفسنا حكاية تليق بوضعنا الجديد‪ .‬ستقول‪:‬‬ ‫لن يصدق اآلخرون حكايتنا االفتراضية؟ ھذا صحيح‪ ،‬لكن‬ ‫يجب أن نصدقھا نحن أوالً‪ .‬كيف سيصدقونھا إن لم نعتبرھا‬ ‫نحن حقيقةً‪ ،‬نتصرف على أساس إيماننا بھا؟ يجب أن ننسى‬ ‫ماضينا‪ ،‬وننظر إلى األمام فقط‪.‬‬ ‫أبو حازم يمكن تسويقه على أنه أحد المضطھدين السابقين‪.‬‬ ‫أعرف الكثيرين من أمثاله‪ ...‬لسنا وحدنا من ن ﱠدعي أن مقتوالً‬ ‫ما كان بطالً‪ .‬أعرف الكثيرين يفعلون ذلك؛ فكل من له قتيل‬ ‫أو مغدور أيام الكبت والعسكرة ـ ألي سبب كان ـ صار‬ ‫يدعي أنه بطل من أبطال األساطير‪ ،‬يحوك حوله الحكايات‪.‬‬ ‫‪ 57‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫أتظن أن كل من ُسميت المدارس والشوارع بأسمائھم كانوا‬ ‫أبطاالً بحق؟‬ ‫أما الحقيقيون منھم‪ ،‬ربما كانوا متھورين أو طالب سلطة‪،‬‬ ‫قتلھم تھورھم‪ .‬وھنالك اليوم من يتنعم بالسلطة والمال متذرعا ً‬ ‫بدمائھم‪.‬‬ ‫نبيل بشكله الوردي الجميل‪ ،‬وبما يرتديه من مالبس بيضاء‬ ‫نظيفة‪ ،‬بلحيته ومسبحته الطويلتين يجب أن نصدقه‪ .‬نحن‬ ‫نقف خلفه في الكثير من المسائل‪ ،‬بل ننام خلفه أيضا ً‪ .‬وإن‬ ‫َ‬ ‫قلت إنه مزيف‪ ،‬فھل تستطيع التمييز بينه وبين من ھو‬ ‫حقيقي؟ في ھذا الكم الھائل من الكھنة الذين يملؤون الشوارع‬ ‫وأماكن العبادة والـ‪ ...‬الدنيا قوادة كبيرة‪ ،‬يجب أن نتعامل‬ ‫معھا كما نتعامل مع القوادات‪.‬‬ ‫ال حاجة لنا بالحقيقيين؟ نبيل لديه فتاوى على مقاسنا‪ ،‬ھل‬ ‫تستطيع أن تلبس مالبس ليست على مقاسك؟ إذن ال تستخدم‬ ‫فتاوى بغير مقاسك أيضا ً‪ ،‬وال تفتخر بأبطال ليسوا بمقاسك‪.‬‬ ‫وسالم مؤذن رائع بصوته الرخيم‪ ،‬وكان يقرأ لنا القرآن في‬ ‫‪ 58‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫السجن‪ ،‬ھل نسيت؟ لم يكن مغنﱢيًا‪ .‬وھو أفضل من كل مؤذن‬ ‫ينظر لنا نظرة دونية‪ .‬أما حازم فھو يتيم مضطھد‪ ،‬مالك‬ ‫طاھر‪.‬‬ ‫نحن كنا مسجونين ألننا كنا معارضين‪ ،‬أدخلونا سجن‬ ‫األحداث ألن عرافات وقارئات فنجان الضرورة‪ ،‬أخبرنه‬ ‫بأننا سنكبر ونكون خلفاءه؛ فاعتقلونا ونحن أحداث صغار‬ ‫بتھم ملفقة‪.‬‬ ‫أنت شتمت القائد الضرورة واعتُقلت؟ ھل شتمته حقًّا؟ أم أنھم‬ ‫لفﱠقُوا لك ذلك؟ عمو ًما‪ ،‬معرفة الحقيقة ليست مھمة‪ ،‬واعتقالك‬ ‫يكفي ألن تكون معارضا ً سابقًا‪ ،‬مضطھَداً‪ ،‬ومن حقك أن‬ ‫تستفيد من النظام الجديد‪ .‬المھم أنك مظلوم وتستحق أن تأخذ‬ ‫ثمن ذلك؛ فال تعترض‪.‬‬ ‫صحيح أن حقيقتنا ھي كما تعرف‪ ،‬لكن يجب أن نتناساھا‪،‬‬ ‫بماذا تنفعنا الحقيقة؟‬ ‫الضرورة متلبس بي ويحدثني‪ ،‬أستشيره؛ فيشير علي في‬ ‫ي بھذه بھذه الفكرة ذات حلم‪،‬‬ ‫أحيان كثيرة‪ .‬ھو الذي أوحى إل ﱠ‬ ‫‪ 59‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫في إحدى ليالي )بوكا‪ (10‬معتقل دوامة المجھول الصحراوي‬ ‫ذاك‪ .‬أقس َم لي بشرفه أن تاريخه لم يكن حقيقيًّا‪ ،‬تأريخ وھمي‬ ‫اختلقه وصدقه؛ فصدقه اآلخرون‪.‬‬ ‫ھؤالء الناس‪ ،‬الذين تتألم لما يجري لھم على يدي‪ ،‬لن‬ ‫ي نظرة احترام‪ ،‬مھما فعلنا‪ .‬حتى وإن تبنا‬ ‫ينظروا إليك وإل ﱠ‬ ‫وتفانينا في توبتنا والتزمنا بھا‪ ،‬مكاننا معروف ومصيرنا‬ ‫معروف‪ .‬سيھابوننا ويعتبروننا قدراً يجب عليھم تقبله‬ ‫والخضوع له‪ ،‬عندما نصبح أقوياء‪ ،‬ولن نكون أقوياء دون‬ ‫السلطة والمال‪...‬‬ ‫ُ‬ ‫لعبت على حبال شياطين الجوار‪ ،‬من عرب وفرس‬ ‫لقد‬ ‫وأتراك‪ ،‬كل منھم التقت بعض مصالحه وطموحاتي‬ ‫الشخصية‪ .‬نفذوا الكثير مما وعدوا به في المرات السابقة‪،‬‬ ‫من رزم خضراء ال تُعد‪ ،‬فوھات معدنية ال تُغلق‪ ،‬عدسات‬ ‫عيون موت الصقة ال تخطئ‪ ...‬ومكاسب سياسية‪ ،‬زرعت‬ ‫من خاللھا أتباعي‪ ،‬في أكثر مفاصل النظام الجديد حساسية‪.‬‬ ‫‪ ‬‬

‫‪ 10‬بوكا‪ :‬سجن صحراوي جنوب العراق سيء الصيت‪ ،‬اتخذته قوات االحتالل األمريكي مكانا ً العتقال المسلحين‬ ‫القادمين من خلف الحدود‪ ،‬وحاملي السالح من العراقيين سُنة وشيعة؛ فصار مكانا ً لصناعة أخطر اإلرھابيين‪ .‬‬

‫‪ 60‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫كل ھذا تمھيد لتحقيق حلمي الكبير بتأسيس دولتي‪ ،‬دولة‬ ‫الوھم السعيدة‪ ،‬وذلك بمجرد استيالئي على السلطة كما‬ ‫أخطط‪ .‬سيعيش في دولتي الموعودة نبيل وأشباھه سعداء‪ ،‬ال‬ ‫يُنظر إليھم بعين االحتقار واالستصغار‪ .‬قانونھا ودستورھا‪،‬‬ ‫وحتى عاداتھا وتقاليدھا اإلجتماعية‪ ،‬ال تنظر إليھم كما ينظر‬ ‫إليھم الناس اآلن‪ .‬سيتخلصون من عقدة النقص التي يحاول‬ ‫الناس إلصاقھا بھم‪.‬‬ ‫دولة يتعاطى فيھا الجميع عقاقير السعادة الوھمية‪ ،‬ليفعلوا ما‬ ‫يشاؤون دون شعور بالذنب‪ .‬الشعور بالذنب شيء فظيع‪ ،‬لم‬ ‫َ‬ ‫تحملت عقوبات جرائم لم ترتكبھا‪.‬‬ ‫تجربه أنت؛ فقد‬ ‫صدقني ما من دولة أو نظام على وجه األرض يھبان للناس‬ ‫ھذه الحرية التي أھبھا‪ ،‬والسعادة التي أمنحھا‪ .‬تساعدني على‬ ‫ذلك دول وحكومات إقليمية‪ ،‬وقوى عظمى تتابع خطوات‬ ‫تحقيق حلمي‪ ،‬تراقب إلى أي مدى ستصل تلك الخطوات‪.‬‬

‫‪ 61‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫حتى أمراء النفط الذين يرتبطون مع روبرت مردوخ‬

‫‪11‬‬

‫بعالقات وثيقة‪ ،‬ومصالح متبادلة‪ ،‬يساعدونني‪...‬‬ ‫ـ مردوخ ثانية؟! ُ‬ ‫قلت في نفسي‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ 11‬روبرت مردوخ‪ :‬إمبراطور اإلعالم الغربي الذي دعم جورج بوش بماكينته اإلعالمية العمالقة‪ ،‬إبان احتالل العراق‪ .‬‬

‫‪ 62‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫بوكا‬ ‫عندما جلسنا على العشاء‪ ،‬حد ﱠ‬ ‫ق سمير في وجھي‪ ،‬بعينيه‬ ‫المحمرتين الواسعتين‪ ،‬مع تكشيرة أظھرت اصطفاف أسنانه‬ ‫الصفراء‪ .‬ھل ھذه التكشيرة ابتسامة أم شيء آخر؟ ھل نزل‬ ‫عليه شبح الضرورة ليوحي إليه بشيء مھم؟ فھو ما يزال في‬ ‫عالم البرزخ‪ ،‬ولم يذھب إلى اآلخرة؛ فمن الممكن أن يأتيه‬ ‫اآلن ويوحي له بقتلي‪ .‬ھذه خاتمة مثالية لحياة كحياتي‪ .‬حياة‬ ‫قضيتھا بدفع ثمن أخطاء غيري‪ .‬ماذا أفعل؟ ھل أتجاھله‬ ‫وأستمر في تناول العشاء‪ ،‬منتظرا ردة فعله؟ أم أسأله عن‬ ‫سبب التحديق والتكشيرة؟‬ ‫بدا لي أنه قرأ عالمات االستفھام في مالمحي؛ فقال‪:‬‬ ‫ـ لم أرسل في طلبك من أجل مشروع تطھير الكالب‪ ،‬الذي‬ ‫أماله عل ّي الضرورة في أحد أحالمي‪ .‬لقد أمرني بتطھير‬ ‫الكالب؛ فال يجوز أن تظل نجسة‪ ،‬مثل ھذه المخلوقات‬ ‫ق إالّ نجاستھا‪ ،‬وتصبح أفضل من الكثيرين‪ .‬ال‬ ‫الوفية‪ .‬لم تب َ‬ ‫بد من وضع حد لھذا؛ فالضرورة متلبس بي‪ ،‬وأستطيع أن‬ ‫‪ 63‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫أفعل ما أشاء‪ ،‬سلطاتي ُمطلقة‪ ...‬يُغطس الكلب بالماء‬ ‫الجاري سبع مرات؛ فيصبح طاھراً‪ .‬غسل الكالب وتطھيرھا‬ ‫أھون من غسل قلب حمود وفوزية‪ .‬القطط الجبانة المتملقة‬ ‫تكون طاھرة! رغم أنھا تسرق أھلھا وتھرب بما سرقته‪،‬‬ ‫ي قانون‬ ‫وھذه المخلوقات الوفية نجسة؟ أيةُ عدالة ھذه؟ وأ ُ‬ ‫ظالم ھذا؟ إذن كيف يقولون إن زمن الظلم قد ولى وال رجعة‬ ‫له؟‬ ‫أم َر جميع أتباعه بأن يعتبروا ھذا العام عام تطھير الكالب‪،‬‬ ‫ويقوموا بإطالق حملة التطھير‪ .‬وكانت فتاوى نبيل جاھزة‪،‬‬ ‫ورھن اإلشارة‪ ،‬العتبار الكالب طاھرة شرعا ً‪ .‬وأعلن تحديه‬ ‫ـ بالمناظرة ـ لكل من يعترض على فتواه‪ ،‬أو يدعي بطالنھا‪.‬‬ ‫وأن لديه أدلة وبراھين قاطعة‪ ،‬تؤيد فتواه‪ ...‬وقام بتكليف‬ ‫حازم وسالم للقيام بالحملة‪...‬‬ ‫جار على قدم وساق‪) .‬قال نبيل(‪ .‬المشكلة الوحيدة‬ ‫ـ العمل‬ ‫ٍ‬ ‫التي مازالت مستعصية ھي أن الكالب مازالت متمسكة‬ ‫بوضعھا السابق وترفض الحملة‪ .‬يبدو أنھا استفادت من‬ ‫‪ 64‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫رفض الماعز حملة ستر عورتھا وإلباسھا البيجاما‪ .‬وھنالك‬ ‫تقارير سرية شبه مؤكدة تشير إلى وجود اجتماعات سرية‬ ‫بينھما وتبادل للخبرات‪ .‬السعار السري مستمر‪ ،‬وقد يتحول‬ ‫إلى سعار علني؛ فنفقد زمام المبادرة‪ .‬واألدھى واألمر من‬ ‫ق أمامنا سوى‬ ‫ذلك أن عقاقير السعادة ال تجدي نفعا ً! لم تب َ‬ ‫رائحة التفاح المتعفن‪ ،‬ويمكننا جلبھا من أصدقاء الجوار‪ .‬ھي‬ ‫الحل الوحيد للقضاء على التمرد والكفر بالفتوى وعدم‬ ‫انقيادھم األعمى لنا‪ .‬عصيانھم قد يُغري أنواعا أخرى‬ ‫بالعصيان‪...‬‬ ‫ُ‬ ‫شعرت أني سجين لدى سمير وھو يحدثني؛ فما فرقي عن‬ ‫السجين؟ ال حول وال قوة لي‪ ،‬أمام ھذا الدكتاتور الذي أُبتليت‬ ‫به‪ ،‬كما أُبتلي به الكثيرون‪ .‬بعد كل سجن أو عفو عام ـ وفي‬ ‫كال العصرين ـ يخرج أكثر قوةً ونفوذا‪ ،‬وأكثر خبرة‪.‬‬ ‫بعد صدور العفو العام في العھد الكوثاري الجديد‪ ،‬خرج‬ ‫سمير من شرنقته الصفراء ضرورةً بكل معنى الكلمة؛ فقد‬ ‫التقى في )بوكا( بضرورات قادمين من دول الجوار‪ ،‬أكثر‬ ‫‪ 65‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫بشاعةً منه‪ .‬شعر بالخجل أمام شبح الضرورة‪ ،‬لصغره أمام‬ ‫وأحس‪ ،‬للمرة األولى في حياته‪ ،‬أنه غير جدير بتلبسه‬ ‫ھؤالء‪.‬‬ ‫َ‬ ‫الشبح أو مرافقته له‪ ،‬وأنه غير جدير باقتفاء أثره‪ ،‬والتنعم‬ ‫بنصائحه التي ال تخطر على بال الشيطان نفسه‪...‬‬ ‫ك سمير حديثه عن تطھير الكالب‪ ،‬وعاد يتحدث عن‬ ‫تر َ‬ ‫فوزية قائالً‪:‬‬ ‫ـ لقد رأيتھا ھناك‪ ...‬عندما كنا نخرج من كمب إلى آخر في‬ ‫)بوكا(‪ ،‬أو عند التعداد ونحن نرتدي بدالت السجن الصفراء‪،‬‬ ‫ونضع أيدينا فوق ھاماتنا‪ ،‬كان يرافقني شبح الضرورة‬ ‫كظلي‪ ،‬يسلﱢيني‪ ،‬يب ﱢشرني بأن يوم اإلفراج بات قريبًا ج ًّدا‪.‬‬ ‫ي بدخولي لھذا المكان؛ فلقائي بأشباھه‬ ‫أخبرني أنه تفضل عل ﱠ‬ ‫من الضرورات الصغار فرصة ال تُعوض‪ .‬وسأخرج‬ ‫بخبرات جديدة‪ ،‬أحتاج خارجه عشرات السنين لتعلمھا‪.‬‬ ‫بينما يحدثني الشبح رأيتھا ھناك! على السياج العالي ال ُمغطى‬ ‫ي‬ ‫باألسالك الشائكة! واقفة ترتدي عباءة بيضاء‪ ،‬ترنو إل ﱠ‬ ‫‪ 66‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫ُ‬ ‫نسيت أنه كان يُحدثني حينھا‪ ،‬ولم أعد‬ ‫بعينيھا العسليتين‪.‬‬ ‫أستمع إليه‪.‬‬ ‫ت أحد لزيارتي‪ ،‬لكنھا جاءت‪.‬‬ ‫منذ دخولي سجن )بوكا(‪ ،‬لم يأ ِ‬ ‫ُ‬ ‫كنت على يقين أنھا لن تنساني‪ ،‬جاءت رغم المخاطر الكبيرة‬ ‫وبُعد المسافة‪ .‬تف ﱠر ُ‬ ‫ست في عينيھا وفي ھيئتھا؛ فقلت لھا‪:‬‬ ‫ت أقل ألقًا من‬ ‫منك يا فوزية؟ لقد أصبح ِ‬ ‫ـ لقد أخذ العمر مأخذه ِ‬ ‫ت أكثر جماالً وبھا ًء‪ .‬انزلي من ھذا‬ ‫السابق؟ لكن ال‬ ‫عليك؛ فأن ِ‬ ‫ِ‬ ‫فراقك‪،‬‬ ‫السور‪ ،‬تعالي إلى جانبي‪ .‬دعيني أريك ما فعله بي‬ ‫ِ‬ ‫إليك‪ .‬تحت مالبسي الصفراء ھذه‪ ،‬نا ٌر حمراء تكاد‬ ‫وشوقي‬ ‫ِ‬ ‫يك‪ .‬تعالي أحدثك عن دموعي التي‬ ‫تُحرق قلبي الملھوف عل ِ‬ ‫سكبتُھا على وسادتي في ليالي الفراق‪ ،‬ھل تعلمين أن سجن‬ ‫إصالح األحداث وأبو غريب و)بوكا( يعرفونك جيداً؟ فقد‬ ‫ُ‬ ‫بك في لياليھا‪،‬‬ ‫وبكيتك كثيراً‪.‬‬ ‫رسمتك على جدرانھا‬ ‫ِ‬ ‫حلمت ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫بك في نھاراتھا‪...‬‬ ‫و‬ ‫فكرت ِ‬

‫‪ 67‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫لكنھا حلﱠقت في الفضاء الفسيح‪ ...‬لقد كانت حمامة تقف على‬ ‫األسالك الشائكة التي تغطي أسوار السجن وتص ﱠورْ تُھا‬ ‫فوزية!‬ ‫خاصمني حينھا شبح الضرورة أسبوعا كامالً‪ ،‬ولم ألتق به‬ ‫ّإال عند باب الخروج‪ ،‬وھو يھنئني باإلفراج عني‪.‬‬ ‫دخل علينا نبيل‪ ،‬وأراد إخراجنا من ھذا الجو‪ ،‬باقتراح‬ ‫تنصيب حازم متحدثا ً باسم المجموعة‪ ،‬بعد أن ناول سمير‬ ‫أقراصا ً من عقاقير السعادة‪ .‬أثار استغرابي مديحه لحازم!‬ ‫فھو ال يمتدح أحدا ّإال لغاية في نفسه‪:‬‬ ‫ـ حازم على قدر ال بأس به من التعليم‪ ،‬وجه جديد يمكننا‬ ‫رسمه وتسويقه للمجتمع‪ ،‬دون أن يعترض عليه أحد‪ .‬ال‬ ‫تأريخ له لكي ينبشه المعترضون أو المنافسون‪...‬‬ ‫وافق سمير على الفور‪ ،‬وناقش المنصب والدور الذي‬ ‫سيرسمونه لحازم‪ .‬استھوته الفكرة كثيرا‪ ،‬وأطلق العنان‬ ‫لخياله في كيفية االستفادة من ورقة حازم الرابحة‪ ،‬غير‬ ‫المستعملة سابقا ً‪ ،‬والتي ليس لھا سوابق تذكر في السجالت‬ ‫‪ 68‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫الرسمية‪ ،‬أو في سجالت ذاكرة الناس‪ ،‬التي ال تغادر‬ ‫صغيرة وال كبيرة ّإال أحصتھا‪:‬‬ ‫ـ يمكن إضافة أبو حازم إلى قوائم المفرومين طعاما ً للكائنات‬ ‫النھرية‪ ،‬أو الذين ألقوھم أحيا ًء لنمور االبن المدلل‪ ،‬أو ضحايا‬ ‫المقابر الجماعية‪ .‬المھم أن نرسم من موته ھالة قدسية تضفي‬ ‫على شخصية حازم ھالة أخرى مثلھا‪ .‬المسألة ال تحتاج‬ ‫سوى قصة مفبركة‪ ،‬مقتبس حكم مزور‪ ،‬تقرير صادر من‬ ‫زمن الكبت والعسكرة‪ ،‬يشير إلى أن أبا حازم كان متواطئا‬ ‫مع العصافير في زقزقتھا‪ ،‬وحلم ذات يوم أنه عصفور طليق‪.‬‬ ‫لقد اغتالوه ليالً وھو نائم على فراشه قبل أن يُصحوا منه‬ ‫حلمه‪ ،‬لعجزھم عن اإلمساك به متلبسا بجريمة التواطؤ أثناء‬ ‫النھار‪ .‬أما الخمر الذي كان يحتسيه‪ ،‬فھو من باب التعتيم‬ ‫على أجھزتھم االستخبارية‪ ،‬كي يوحي لھم أنه غير مھتم لھم‬ ‫وال لمعارضتھم‪ .‬والمستمسكات المطلوبة يمكن لسالم‬ ‫تزويرھا بسھولة‪ .‬وإن رفضت الجھات المعنية ذلك‪ ،‬يمكننا‬

‫‪ 69‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫تأديبھم على رفضھم ھذا؛ فمن ال ينفذ رغباتنا المقدسة لم‬ ‫يولد بعد‪...‬‬

‫‪ 70‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫حفلة تنكرية‬ ‫استم َع سالم لحديثھما عن حازم‪ ،‬وكيفية تلميعه وتسويقه‬ ‫كمتحدث باسم المجموعة‪ .‬استغل خروجھما ليعبر لي عن‬ ‫امتعاضه؛ فربما كان يُمني نفسه بھذا المنصب‪ .‬كانت شفتاه‬ ‫تتحركان بالحديث كشخص يظھر على شاشة التلفاز‪،‬‬ ‫والصوت مقطوع تماما‪ ،‬فقد كنت منشغالً عنه في كيفية‬ ‫خالصي من المأزق‪...‬‬ ‫ق ألمه سوى حازم‪ ،‬ابن زوجھا من‬ ‫بعد سجن نبيل لم يب َ‬ ‫زوجته األولى‪ ،‬ذلك الزوج الذي قتله ولدھا نبيل ودخل‬ ‫ْ‬ ‫تخلصت ھي من الوحشين ـ الزوج والولد ـ في آن‬ ‫السجن‪.‬‬ ‫واحد‪ .‬واھتمت بحازم اھتماما منقطع النظير‪ ،‬والقى ھذا‬ ‫االھتمام نصيبه من االستجابة في قلب الفتى‪ ،‬حيث وجد فيه‬ ‫تعويضا ً عن حنان األم الذي فقده في وقت مبكر‪.‬‬ ‫وحين بدأت تظھر عليه عالمات البلوغ‪ ،‬جاھ َد إلخفائھا بكل‬ ‫ما أوتي من حياء‪ ،‬احتراما لزوجة أبيه‪ ،‬باعتبارھا أ ًّما ثانية‪.‬‬ ‫‪ 71‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫عانت أم نبيل األم ﱠرين لفقدانھا زوجھا‪ ،‬ومحاوالت إغوائھا‪،‬‬ ‫واصطيادھا فريسة سھلة من قبل أم سمير‪ ،‬التي أصبحت‬ ‫مثل رجل فقد زوجتيه برحيل ضرتيھا عنھا؛ فقد ھربتا‬ ‫بأطفالھما خارج البالد خالصا ً منھا وفزعا ً من سمير‪.‬‬ ‫كانت أم سمير تحذر أم نبيل من الزواج مرة ثالثة‪ ،‬بعد‬ ‫تجربتين فاشلتين‪ .‬زاعمة أنھا سمعت نبيل في إحدى زياراتھا‬ ‫للسجن يتوعد بقتلھا إن خرج ووجدھا متزوجة مرة ثالثة‪.‬‬ ‫كانت تطلب منھا‪ ،‬كلما التقتھا‪ ،‬أن تجرب ولو لمرة واحدة؛‬ ‫فلن تخسر شيئاً‪ ،‬وبعدھا تقرر االستمرار من عدمه‪ .‬لكن أم‬ ‫نبيل لم تضعف أمام براعة جارتھا الغبراء التي ال ترغب‬ ‫بأي داحس‪ ،‬مھما كان صھيله عاليا‪.‬‬ ‫كانت أم سمير غبراء‪ ،‬خبيرة في اصطياد الغبراوات‬ ‫الضعيفات‪ .‬تتربص بھن كعنكبوت ماھر يتربص بفريسته‪،‬‬ ‫ثم يُطبق عليھا مرة واحدة وال يدع لھا مجاالً للتراجع‪َ .‬م ْن‬ ‫تضعه في قائمة ضحاياھا ال يمكن أن ينجو أبداً‪ .‬تعرف‬ ‫مواطن الضعف واإلثارة عند أي غبراء‪ ،‬وكيف تثيرھا‬ ‫‪ 72‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫وتخمدھا؛ فھي غبراء وتعرف مشاعر مثيالتھا جيداً‪،‬‬ ‫ومتشبھة بداحس‪ ،‬تتقن دوره بكل صھيل الذكورة الجامح في‬ ‫نفسھا‪.‬‬ ‫كانت تحاول لمس أماكن اإلثارة في جسد أم نبيل كلما‬ ‫زارتھا‪ ،‬بطريقة تحاول جھد اإلمكان جعلھا عفوية؛ فيتدفق‬ ‫الدم إلى وجه أم نبيل دفعة واحدة‪ .‬حتى صارت تُدمن ھذه‬ ‫اإلثارة البسيطة كل يوم‪ ،‬وتفسح المجال ألم سمير بالقيام بھا‬ ‫دون أن تطلب منھا ذلك‪ .‬مدت العنكبوت حبائلھا أكثر فأكثر‪،‬‬ ‫وتحينت الفرصة تلو األخرى‪.‬‬ ‫إحدى المرات سنحت ألم سمير الفرصة التي ال يمكن‬ ‫تفويتھا‪ ،‬لتضرب ضربتھا القاضية وتوقع بأم نبيل التي‬ ‫استمرأت لعبة الفريسة أمام صيادتھا الماھرة‪ ،‬وذلك عندما‬ ‫طلبت أم نبيل االستحمام عندھا‪.‬‬ ‫بعد لحظات من دخولھا الحمام‪ ،‬دخلت وراءھا وعرضت‬ ‫عليھا تدليكھا‪ .‬مانعت أول األمر‪ ،‬ثم استجابت إللحاحھا؛‬ ‫فاستخدمت األخيرة براعتھا بلمس أكثر المناطق إثارة في‬ ‫‪ 73‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫جسمھا‪ .‬ھربت منھا والنار تشتعل في أوصالھا‪ ،‬وعادت‬ ‫لبيتھا تاركة إكمال اإلستحمام‪ .‬ما كان أمامھا سوى حازم‪،‬‬ ‫ذلك الفتى اليافع المراھق الذي بدأت تظھر على وجھه بثور‬ ‫حمراء وتسھل استمالته؛ فأصبح منذ ذلك اليوم رجل اإلطفاء‬ ‫البارع‪ ،‬وأم سمير مشعلة الحرائق إلى أن ماتت‪...‬‬ ‫عاد الصوت إلى شاشة التلفاز؛ فانتبھت إلى سالم يقول‪:‬‬ ‫ـ إن جعلوا حازم متحدثا ً باسمھم؛ فربما يرشحون أم نبيل في‬ ‫االنتخابات القادمة؛ فثلث القائمة االنتخابية يُفترض أن تكون‬ ‫من النساء‪ .‬قد يجعلونھا وزيرة للمرأة‪ .‬أي إمرأة أخرى يمكن‬ ‫أن يثقوا بھا أكثر من أم نبيل؟!‬ ‫ـ ) ‪( ...‬‬ ‫ُ‬ ‫تعودت أن أكتفي بالصمت أحياناً‪ ،‬أوالھمھمة باألجوبة الحذرة‬ ‫إثر سماعي أحاديث كھذه‪ ،‬أحيانا ً أخرى؛ فال أعرف ماذا‬ ‫يبتغون من ورائھا‪ .‬من المحتمل أنھم طلبوا من سالم أن‬ ‫يحدثني بھذا الحديث لسبر أغواري‪ ،‬ومعرفة ما أفكر فيه‪.‬‬ ‫‪ 74‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫كان اتخاذ طريقتي السابقة باإلنصات إليھم‪ ،‬وعدم إعطاء‬ ‫أجوبة يمكن أن توقع بي‪ ،‬خياري األفضل دائما ً‪.‬‬ ‫ھاھو تحولي لمجموعة من الدمى في سبيل الخالص من‬ ‫سمير وتجنبه‪ ،‬يوقعني في ِشراكه مرة أخرى‪ ،‬لدرجة يصعب‬ ‫عل ّي التخلص منه ھذه المرة‪ ،‬وھو بكل ھذه القوة والجبروت‬ ‫والتسلط‪ .‬ماذا أفعل للتخلص منه؟ فأنا ال أجيد سوى لعبة‬ ‫االنتحال‪...‬‬ ‫ُ‬ ‫ي مجابھته‬ ‫لقد‬ ‫كنت مخطئا ً منذ البداية‪ ،‬كان يجب عل ﱠ‬ ‫والتخلص منه‪ ،‬في أول لقاء لي معه في اإلصالحية‪ .‬اآلن وقد‬ ‫عرفت بعد فوات األوان‪ ،‬بعدما صلب عوده وأصبح ما‬ ‫أصبح عليه‪ ،‬صار من الصعب علي التخلص منه‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫أصغيت لنفسي بدالً من ذلك؟ ربما كان لحياتي مسار‬ ‫ليتني‬ ‫آخر‪ ،‬غير الذي سارت عليه‪ ،‬ولما أدمنت انتحال شخصيات‬ ‫مختلفة‪ ،‬ألصير دمية مشدودة بخيوط ال مرئية‪ ،‬تحركھا‬ ‫األقدار والظروف‪...‬‬ ‫‪ 75‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫لكن لماذا أتخلص منه؟ ھو أيضا ً ربما يكون مثلي‪ ،‬ي ّدعي ما‬ ‫يقوم به‪ ،‬ليخفي حقيقته‪ .‬ربما ي ّدعي أنه آلة قتل وتدمير عديمة‬ ‫المشاعر‪ ،‬ليُخفي شخصية العاشق الكبير‪ ...‬فولعه بفوزية‬ ‫حقيقي‪ ،‬ودليل ذلك إصراره على تقديسھا والتمسك بھا‪،‬‬ ‫واستعداده للتضحية من أجلھا بكل شيء‪ .‬وربما ھو ي ّدعي أنه‬ ‫عاشق كبير‪ ،‬ليُخفي شخصيته الحقيقية كآلة للدمار‪ .‬لو كان‬ ‫حقا ً يحبھا‪ ،‬لغيﱠ َرهُ ذلك الحب؛ فالحبيب يحاول إرضاء حبيبه‬ ‫بتنفيذ رغباته‪ ،‬والقيام بما يريد‪.‬‬ ‫كالنا قاتل‪ ،‬لكننا نختلف في طريقة القتل فقط‪ ،‬في نوع‬ ‫الضحية التي تختارھا الظروف‪ .‬ھو يقتل َمن يقف في‬ ‫طريقه‪ ،‬أو َمن تقتضي المصلحة قتله‪ .‬العملية بالنسبة له‬ ‫كعملية الضغط بظفر إبھامه على قمل المالبس األبيض أيام‬ ‫السجن‪ .‬كأنه مصاب بعمى األلوان تجاه الدماء‪ ،‬يرى كل‬ ‫الدماء التي يسفكھا رمادية‪ ،‬ويمارس ذلك بنفس الھدوء‬ ‫وبرودة األعصاب والالمباالة‪ ،‬دون أن يرف له جفن‪.‬‬

‫‪ 76‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫أنا في حالتي ھذه‪ ،‬التي أتحول فيھا إلى أية دمية أشاء‪ ،‬متى‬ ‫ما أشاء‪ ،‬ثم أتركھا‪ ،‬فإني أمارس نوعا ً آخر من القتل‪ ،‬بنفس‬ ‫الھدوء وبرودة الدم‪.‬‬ ‫كالنا لم يواجه قدره‪ ...‬الفرق الوحيد بيننا ھو أن سمير خضع‬ ‫له‪ ،‬ولم يفكر أبدا في مواجھته والتغلب عليه‪ .‬وأنا تجنبته‬ ‫بادعائي شخصيات لم أكنھا يوما؛ فوقعت في فخ المجانبة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫وقعت في فخ االدعاء واالختباء خلف تلك الشخصيات‪ .‬كالنا‬ ‫وصل لنفس النتيجة‪ ،‬بإضاعته شخصيتة الحقيقية التي كان‬ ‫عليھا‪ ،‬أو التي يُفترض أن يكون عليھا‪ ،‬لو وا َجهَ قد َره‪.‬‬ ‫يبدو أن الجميع م ّدعون مثلي! ويحاولون إخفاء شخصياتھم‬ ‫الحقيقية خلف الشخصيات التي ي ّدعونھا‪ .‬حتى القائد‬ ‫الضرورة كان يحاول أن يبدو على خالف ما ھو عليه حقيقةً‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫لست المزيف‬ ‫الجميع مزيفون‪ ،‬ليست ھناك شخصية حقيقية‪،‬‬ ‫الوحيد‪ .‬لماذا ألوم نفسي وأؤنبھا؟ لو أن الجميع ظھروا‬ ‫بشخصياتھم الحقيقية أمام البعض اآلخر‪ ،‬تُرى ھل سيتم ﱠكنون‬ ‫من العيش معاً؟ ھل ستستمر حياتھم ھكذا؟‬ ‫‪ 77‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫ربما لم تكن الحياة مسر ًحا كبيراً كما قيِل‪ ،‬إنما ھي حفلة‬ ‫تن ﱡكريﱠة كبيرة‪ .‬وما أكثر الدمى واألقنعة!!! كل ما أحتاجه ھو‬ ‫انتحال الشخصية المالئمة‪ ،‬للفرار من سمير إلى األبد‪،‬‬ ‫الذھاب بعيدا إلى حيث ال سطوة له ھناك‪ .‬وھذا الدفتر‬ ‫الصغير في جيبي قادر على حملي‪ ،‬كحصان أسطوري‪،‬‬ ‫والتحليق بي بعيداً من ھنا‪.‬‬ ‫المھمة التي كلفني بھا سمير عصر اليوم‪ ،‬كرابط بينه وبين‬ ‫المجموعات األخرى التي تحت إمرته‪ ،‬وا ﱠدعى أنه أرسل في‬ ‫طلبي من أجلھا‪ ،‬ستمنحني فرصة للخروج من ھذه المزرعة‬ ‫لعدة أيام‪ ،‬وھذه األيام ستكون كافية لترتيب مستلزمات السفر‪.‬‬ ‫سأجعل تنفيذي إياھا شرطا آخر من شروط موافقتي على‬ ‫العمل معه؛ فھو اليوم كريم معي بطريقة لم أعھدھا سابقا ً!‬ ‫ي أمث َل استغالل‪ ،‬للخالص منه‪.‬‬ ‫يجب أن أستغل حاجته إل ﱠ‬ ‫يجب أن أصر على إقناعه بأن أقوم بتنفيذھا‪ ،‬وسيوافق على‬ ‫ذلك‪ ،‬حتى وإن لم يكن مقتنعا؛ فليس أمامه سوى الموافقة‪.‬‬

‫‪ 78‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫ي تداعياتي الذھنية‪ ،‬التي أوصلتني الى أمل‬ ‫قطع سمير عل ﱠ‬ ‫ُمحتمل للخالص‪ ،‬عندما قال لي‪:‬‬ ‫ـ لم أرسل في طلبك لتأسيس دولتي السعيدة؛ فجميع‬ ‫ضرورات الجوار يساعدونني في ذلك‪ ،‬وخزائنھم مفتوحة‬ ‫بسخاء لتوطيد أركانھا‪ .‬شبح الضرورة استدعى كل شياطين‬ ‫الجن واإلنس لمساعدتي‪ ،‬المحتلون القادمون من النصف‬ ‫الثاني للكرة األرضية يساعدونني‪ ،‬ھؤالء الفتيان والشبان لو‬ ‫طلبت منھم أن يعبدوني لفعلوا؛ فھم يمرون بحالة تنويم‬ ‫ُ‬ ‫ضمنت‬ ‫عقائدي‪ ،‬وھي أشد وطأة من التنويم المغناطيسي‪ .‬لقد‬ ‫الجنة لمن يموت منھم في أي عملية‪ .‬أما الذين رأيتھم يؤدون‬ ‫الصالة قبل قليل‪ ،‬مازالوا يؤدونھا‪ ،‬ألنھم لم يتمكنوا من حجز‬ ‫مقع ٍد ھناك حتى اآلن؛ فلم يقطع كل منھم الرأس العاشر بعد‪.‬‬ ‫دولتي الموعودة ستتحقق ال محالة‪ ،‬ما ھي إال مسالة وقت‬ ‫فقط؛ فما حاجتي لبائس مثلك في تحقيقھا؟‬ ‫ُ‬ ‫استمعت لكلماته بقلق شديد‪ ،‬وأحسست أني لست في دوامة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫بش ﱢ‬ ‫دخلت‬ ‫ق األنفس‬ ‫بل في متاھة‪ ...‬كلما خرجت من مأزق ِ‬ ‫‪ 79‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫في مأزق آخر‪ .‬كلما بي َّن لي سمير سبب إحضاري إليه‬ ‫مخطوفاً‪ ،‬نفاه وحدثني عن آخر‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫أرسلت في طلبك من أجل فوزية؛ فقد تورمت ذاكرتي بھا‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫مازلت أستنشقھا أل ًما ينتشر في‬ ‫أصبحت ُكلي مريضا ً بھا‪.‬‬ ‫خالياي‪ .‬الحديث عنھا يخفف عني كثيراً‪ ،‬ومنذ فارقتك ال أجد‬ ‫من أحدثه عنھا‪ .‬مع من أتحدث؟ نبيل يغار منھا‪ ،‬ھؤالء‬ ‫البلھاء عقولھم ال تحتمل فكرة التصديق بأن نصف إله مثلي‬ ‫يمكنه أن يعشق امرأة‪.‬‬ ‫ـ لكن بِ َم ستحدثني عنھا؟ ھل بقي شيء لم تقله لي في األيام‬ ‫الخوالي؟‬ ‫ـ ال يھم‪ ،‬سأعيد عليك كل ما قلته لك سابقا‪ .‬مازلت أتجرع‬ ‫فراقھا كل لحظة‪ ،‬أدمنت السكر بذكراھا منذ زمن طويل‪...‬‬ ‫بطول شوقي إليھا‪ .‬إنھا تتحول في ذھني إلى طيف قد ال‬ ‫يتطابق معھا‪ُ ،‬‬ ‫ق بھذا الطيف اللعين‬ ‫بت أخاف أن أتعلﱠ َ‬ ‫وأسلوھا‪ .‬لكن عندما تُر ِھ ُ‬ ‫ي بطريقتك السحرية‬ ‫ف السمع إل ﱠ‬ ‫ھذه‪ ،‬أشعر أني أستعيدھا‪.‬‬ ‫‪ 80‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫أقصى ما أبتغيه ھو أن أستعيدھا في ذھني من براثن ذلك‬ ‫الطيف الذي يكاد يُنسيني إياھا‪ ،‬ويحلﱡ محلﱠھا في مخيﱢلتي‪ .‬لقد‬ ‫ُ‬ ‫أرسلت في طلبك ألحدثك عنھا‪...‬‬ ‫ي بدرجة مقنعة وكأنه‬ ‫حديثي عن فوزية مع شخص يصغي إل ﱠ‬ ‫مھتم لما أقول‪ ،‬ويقدر معاناتي وصدقي ـ كما تفعل ـ يعطيني‬ ‫ُ‬ ‫وصلت إلى درجة قريبة من‬ ‫دافعا لالستمرار في الحياة‪.‬‬ ‫الموت‪ ،‬عندما فارقتك‪ ،‬وما كانت عقاقير السعادة سوى‬ ‫مسكنات وقتية لأللم الذي يعتريني‪.‬‬ ‫أو تظن أنك كنت تختبئ عني‪ ،‬خلف الشخصيات التي كنت‬ ‫ُ‬ ‫كنت أعرف شخصيتك‬ ‫تنتحلھا في اإلصالحية وأبو غريب؟‬ ‫ُ‬ ‫ع كبير‪،‬‬ ‫الحقيقية الخائفة المترددة جيداً‪.‬‬ ‫كنت أعرف أنك م ﱠد ٍ‬ ‫وأتغاضى عنك لحاجتي إليك في الحديث عنھا‪ ،‬ألني كنت‬ ‫أريد َمن أتحدث إليه عن فوزية؛ فحديثي مع نفسي يمزقني‬ ‫كل يوم‪ .‬أنت ُ‬ ‫َ‬ ‫كنت تدعي ذلك‬ ‫تتقن فن اإلصغاء‪ ،‬حتى وإن‬ ‫ي ـ بشكل مقنع ـ دو َر المنصت البارع‬ ‫أيضا ً‪ ،‬وتمثل عل ﱠ‬

‫‪ 81‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫ي بطرقتك البارعة ھذه‬ ‫لحديثي‪ ،‬ال يھم‪ ،‬المھم أن استماعك إل ﱠ‬ ‫يرفع عن كاھلي عب َء التفكير فيھا لوحدي‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫قرأت وجوه كل َمن التقيتُھم‪ ،‬في مراحل حياتي المختلفة‪،‬‬ ‫لقد‬ ‫فلم أجدك فيھم‪ ،‬سأعطيك ما تريد‪ ،‬ولن تضطر ألن تقوم بأي‬ ‫شيء‪ ،‬سوى حسن اإلصغاء إلي عندما أتحدث عنھا‪.‬‬ ‫لن تضطر للخطف‪ ،‬القتل‪ ،‬زرع عبوة ناسفة‪ ،‬تنفيذ عملية‬ ‫انتحارية‪ ،‬أو تنفيذ أيﱟ من العمليات التي ننفذھا‪ .‬سيكون كل‬ ‫ما أملك تحت تصرفك‪ .‬ستكون قوتي خاضعة لضعفك‪ ،‬بل‬ ‫ستجدني تابعا ً لك‪ .‬سأكون دمية تحركھا كيفما تشاء‪ ...‬لكن إن‬ ‫لم توافق‪ ،‬فلن أتردد في القيام بأي شيء للحصول عليك‪.‬‬ ‫عندما أحدثك عنھا وتصغي إلي بطريقتك الفريدة ھذه‪ ،‬أراھا‬ ‫في عينيك تتجلى أمامي‪ ،‬بشعرھا الكستنائي الطويل المربوط‬ ‫من الخلف بشالھا الوردي‪ .‬تصبح الدنيا وردية أمامي‪ ،‬ثم‬ ‫تتوارى عني غير مبالية‪ ،‬أضطر للحاق بھا ومحاولة لفت‬ ‫انتباھھا إل ّي‪ .‬أتح ﱠول إلى حمل وديع تفعل بي ما تشاء‪ ،‬إلى‬ ‫ولد مطيع مستعد للقيام بكل ما تطلبه مني‪.‬‬ ‫‪ 82‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫حتى االستحمام الذي كرھته في طفولتي بسبب طريقة أمي‬ ‫ُ‬ ‫كنت أراه رائعا ً عند فوزية‪ .‬كان يمنحني فرصة‬ ‫العنيفة‪،‬‬ ‫للتعري أمامھا تماما ً‪ ،‬كان أملي أن ترى في جسمي قسمات‬ ‫الذكر الذي قد يجذب فيھا األنثى‪ .‬لكنھا لم تكن ترى ف َي ّإال‬ ‫الطفل الذي ال يجذب فيھا ّإال المرأة المحرومة من األمومة‪.‬‬ ‫كان عزائي الوحيد في ذلك مالمسة يديھا الرقيقتين لجسمي‬ ‫العاري‪ ،‬مع رغوة الصابون التي تزيدھما رقة ونعومة؛‬ ‫فأحلق في سماء الراحة والمتعة لدقائق مستقطعة من حياتي‪،‬‬ ‫أشعر حينھا بأني ذو جسد شفاف‪ ،‬وأجنحة بيضاء كأجنحة‬ ‫المالئكة‪.‬‬ ‫ما يضبط كل ذلك ويجعله متوازنا إصغاؤك إلي‪ ،‬حضورك‬ ‫في الحدث كشاھد إثبات لما جرى‪ ،‬يثبت لي أن ذلك قد حصل‬ ‫يوما ً ما‪ .‬وجودك مثل وجود كاميرا فوتوغرافية‪ ،‬توثق تلك‬ ‫األحداث لحظة بلحظة‪ ،‬تصنع من تلك الصور ألبوما أعود‬ ‫إليه‪ ،‬أقلب صوره وأبتسم‪ ،‬بنشوة‪ ،‬أستعيد تلك اللحظات‬ ‫الجميلة‪.‬‬ ‫‪ 83‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫سر ولعي بفوزية ال يعرفه أحد غيرك‪ ،‬وصدري ما عاد‬ ‫يتسع للحفاظ عليه‪ .‬ال يمكنني البوح به لغيرك‪،‬‬

‫قد‬

‫يستضعفني ھؤالء إن فعلت‪ .‬ما فائدة السر إذا ُدفن في الصدر‬ ‫دون البوح به ألحد؟ ما الذي يثبت وجوده إن بقي مكتوماً؟‬ ‫أعتقد أنه صار كذلك ليُباح به؛ فال سر بال بوح‪ ...‬أال توافقني‬ ‫الرأي؟‬ ‫ـ ) ‪( ...‬‬ ‫ْ‬ ‫بقيت مشاعر سمير تجاه فوزية مكنونة في داخله؟!‬ ‫كيف‬ ‫رغم كل تلك التغيرات التي طرأت عليه‪ ،‬بمرور الزمن؟‬ ‫وبرغم تحوله ـ مع مرور األيام ـ إلى دمية شديدة الخطورة‪،‬‬ ‫قادرة على القتل والتدمير بمنتھى الوحشية؟ كيف بقي لحد‬ ‫اآلن يتذكرھا بول ٍه شديد ويحن إليھا؟ ھاھو اليوم يحدثني‬ ‫عنھا‪ ،‬بنفس الشوق الذي حدثني به في أول مرة باح لي بسره‬ ‫ومشاعره تجاھھا‪ ،‬في السجن اإلصالحي عندما ُكنا أطفاالً!‬ ‫ال أستطع التمييز إن كان سمير جاداً فيما يقول؟ أم أنه قد بالغ‬ ‫في تناول عقاقير السعادة؟ تلك العقاقير التي تجعله يھذي‬ ‫‪ 84‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫بالترھات‪ .‬رغم عشرتي الطويلة معه‪ ،‬وحفظي له عن ظھر‬ ‫قلب‪ ،‬لم أستطع يوما ً أن أميز بين حالتَ ّي الصحو والھذيان‬ ‫لديه‪ ...‬فھما بالنسبة له وجھان لعملة واحدة‪ ،‬يُجيد تقليبھا متى‬ ‫شاء‪ ،‬ببراعة منقطعة النظير‪ .‬في الصحو يدعي أنه يھذي‪،‬‬ ‫وفي حالة الھذيان يتصرف وكأنه‬ ‫صاح تماماً‪ ،‬ويعي ما‬ ‫ٍ‬ ‫يقول‪ ،‬ويتقلب بينھما في لحظة وأخرى حسب ما يقتضيه‬ ‫األمر‪ .‬لكي أزن تصرفاتي معه‪ ،‬وأجيد انتحال الشخصية التي‬ ‫ُ‬ ‫أحسست ھذه‬ ‫ادعيھا‪ ،‬كنت أعتبره في حالة ھذيان دائم‪ .‬لكنني‬ ‫المرة‪ ،‬من قسمات وجھه المتوسلة‪ ،‬ونبرته الصادقة‪ ،‬أنه‬ ‫يقول الحقيقة‪ ،‬وأن ھذا ھو السبب الرئيس الذي جعله‬ ‫يحضرني مخطوفا ً‪ ،‬في ھذا اليوم المشؤوم‪...‬‬

‫‪ 85‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫الفصل الثالث‬ ‫لقاء مع القدر‬

‫‪ 86‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫)المضاربة(‬ ‫ُ‬ ‫قضيت تلك الليلة‬ ‫بعد أن خل َد سمير واآلخرون للنوم‪،‬‬ ‫العصيبة متملمال على الفراش‪ ،‬مستذك ًرا حياتي الماضية التي‬ ‫أوصلھا لقائي بالقدر ـ في كل مرحلة من مراحلھا ـ لھذا‬ ‫الحال‪...‬‬ ‫ُ‬ ‫التقيت بقدري المتمثل بسمير‪ ،‬في أول يوم من دخولي السجن‬ ‫اإلصالحي‪ ،‬بعد اعترافي بجريمة القتل التي نفذھا ناصر‪،‬‬ ‫ثأراً ألبينا المغدور على الساقية‪...‬‬ ‫ارتعدت فرائصي خوفا ً ورعبا ً‪ ،‬منذ اللحظات األولى التي‬ ‫رأيت فيھا سمير‪ ،‬حيث عرفت من النظرات الموحية التي‬ ‫كان يوجھھا له النزالء‪ ،‬ومن حديثھم الھامس‪ ،‬وتعابير‬ ‫وجوھھم‪ ،‬أنھم يھابون جنابه‪.‬‬ ‫كانت سيطرته داخل السجن مطلقة؛ فھو دكتاتور صغير‪،‬‬ ‫يمكنه أن يفعل ما يشاء بأي أحد منھم‪ .‬حدثني منذ اليوم األول‬ ‫عن قوانينه التي ش ّرعھا ھناك‪ ،‬وأجب َر الجميع على االلتزام‬ ‫‪ 87‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫بھا‪ ...‬توعدني بأن تكون أيامي في السجن جحي ًما ال يُطاق‪،‬‬ ‫إن لم ألتزم بھا كما اآلخرين‪.‬‬ ‫كانت تجري في تلك األيام مسابقات قمل المالبس األبيض‪،‬‬ ‫التي يصطادونھا بين طيات المالبس‪ ،‬ويعدمونھا بضغطة‬ ‫ظفر اإلبھام بعد انتھاء المسابقة؛ فتصورت أن مصيري‬ ‫سيكون مثلھا‪ ،‬إن لم أطعه‪ ،‬إن لم أ ُدرْ في فلكه‪...‬‬ ‫كان فوز سمير في تلك المسابقة يُعطيھا نھاية احتفالية سعيدة‪.‬‬ ‫يغني فيھا بصوته األجش المزعج‪ ،‬ويدعي الجميع استمتاعھم‬ ‫بنھيقه المتواصل‪ .‬يرقص نبيل حتى الصباح‪ ،‬ويتلوى جسمه‬ ‫الرشيق بأنواع الرقص الشرقي والغربي‪ ،‬حسب طلبات‬ ‫المشاھدين‪ .‬وتختتم بأغاني يؤديھا سالم‪...‬‬ ‫صوت سالم الرخيم ومواويله العذبة تُسعد أناسا ً وتُبكي‬ ‫آخرين‪ .‬تتحول تلك الخفافيش إلى سنونوات مھاجرة‪ ،‬تحن‬ ‫وتئن شوقا لألعشاش األولى‪ ،‬حيث دفء األمھات وحنانھا‪.‬‬ ‫يحلقون أسرابا من السنونو تتلو أسرابا أخرى ـ عبر فتحات‬ ‫‪ 88‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫التھوية ـ إلى أشجار تقف بقدم واحدة في الحديقة‪ ،‬التي تفصل‬ ‫بين القاعات‪.‬‬ ‫يستنشقون نسيم النقاء خارج الزمان والمكان‪ ،‬يشعرون‬ ‫بشفافية تماھي شفافية األشباح‪ ،‬يبحثون‪ ،‬بطفولة مفرطة‪ ،‬عن‬ ‫أحضان األمھات‪ .‬لكن صدى جدران القاعة يردد بدالً عن‬ ‫مواويل سالم أغاني من نوع آخر‪ ،‬تعيدھم إلى حرمانھم‬ ‫المبكر مثقلين بالدموع‪ .‬يشعرون لحظة نزول تلك القطرات‬ ‫المالحة‪ ،‬حتى وصولھا األجفان‪ ،‬أنھم مازالوا بش ًرا‪ ،‬وبمجرد‬ ‫عبور تلك اللحظة يعودون إلى وحشيتھم السابقة‪.‬‬ ‫وإن لم يفز سمير بتلك البطولة‪ ،‬تحصل مشادات كالمية بين‬ ‫مجموعته‪ ،‬وأتباع المجموعات من المدن األخرى‪ ،‬تتطور‬ ‫إلى شجار يجلب شجارات أخرى‪ ،‬ومعارك طاحنة تتحول‬ ‫إلى )مضاربات(‪ ،‬ال تنتھي نھايات سعيدة‪.‬‬ ‫بعدھا تُعقد ھُدنة‪ ،‬ويُح ﱠد ُد موع ٌد للصلح‪ ،‬تجلس فيه األطراف‬ ‫المتخاصمة‪ ،‬يُحدد فيھا ال ُمعتدي وال ُمعتدى عليه‪ .‬من أھم‬ ‫‪ 89‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫مواصفات ال ُمعتدى عليه‪ ،‬اأنه أضعف األطراف المتخاصمة؛‬ ‫فالقوي في قانونھم ال يُعتبر ُمعتديا ً‪ ،‬حتى وإن كان غير ذلك‪.‬‬ ‫وتُحتسب التعويضات على أنواع متعددة‪ ،‬منھا أن يدفع‬ ‫الطرف ال ُمعتدي عدة أشرطة من أقراص عقار السعادة‪ ،‬أو‬ ‫يبيت أحد أشباه نبيل من المجموعة ال ُمعتدية عند زعيم‬ ‫المجموعة ال ُمعتدى عليھا عدة ليال‪ ،‬ويفعل به الزعيم ما‬ ‫يشاء‪ ،‬وقد يھديه بعض الليالي لمساعديه‪ ،‬حسب أھميتھم في‬ ‫المجموعة‪.‬‬ ‫كان بعض أشباه نبيل ُمجبرين على اتخاذ ھذا الدور‪ ،.‬حيث‬ ‫يجر عليھم تلك الويالت شكلھم الجميل‪ ،‬غلبة الھرمونات‬ ‫األنثوية‪ ،‬عدم قدرتھم على الدفاع عن أنفسھم‪ .‬يتمنون الموت‬ ‫في البداية‪ .‬لكن بالتدريج‪ ،‬شيئا فشيئا ً‪ ،‬يتأقلمون مع وضعھم‬ ‫الجديد‪ .‬ويحصلون بذلك على الكثير من االمتيازات داخل‬ ‫السجن‪ ،‬امتيازات تساعدھم على البقاء أكثر من غيرھم‪،‬‬ ‫وعلى الفتك باألقوى الذي ال يستطيعون الفتك به دونھا‪.‬‬ ‫الشبيه ال يغسل المالبس وأواني الطبخ‪ ،‬وال يشترك بالمعارك‬ ‫‪ 90‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫التي تتخللھا لكمات وطعنات بآالت حادة‪ .‬ھو يتلقى لكمات‬ ‫وطعنات من نوع آخر‪ ،‬بآالت لدنة غير متوحشة‪.‬‬ ‫حالة واحدة يتعرض فيھا الشبيه للضرب‪ ،‬عند عودته من‬ ‫مجموعة قضى فيھا مدة محكومية معينة‪ .‬يحاكمه فيھا زعيم‬ ‫مجموعته على ما فعلوه به‪ ،‬ويسأله بغيرة شديدة‪ .‬يحقق معه‬ ‫كما يحقق الزوج الغيور مع زوجة يشك في سلوكھا‪ ،‬ويطلب‬ ‫منه أن يروي له‪ ،‬بالتفصيل الممل‪ ،‬ما فعلت به المجموعة‬ ‫األخرى‪ ،‬ويستشيط غضبا عند سماع التفاصيل‪ ،‬ويضربه‬ ‫لذلك ضربا ً مبرحا‪.‬‬ ‫في غير ذلك من األوقات‪ ،‬يقضي الشبيه وقته في االھتمام‬ ‫بشكله‪ ،‬وحياكة بعض المنتجات التي يبيعھا يوم زيارة‬ ‫السجناء‪ ،‬من لوحات‪ ،‬حقائب‪ ،‬جوارب‪ ،‬أحذية‪.‬‬ ‫كان نبيل أغنى النزالء‪ ،‬حيث يُتاح له الوقت الكافي للحياكة‪،‬‬ ‫البيع والشراء‪ ،‬وبالسعر الذي يحدده‪ ...‬فمن يمكنه االمتناع‬ ‫عن الشراء‪ ،‬ووراءه سمير؟‬ ‫‪ 91‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫نبيل يفتعل المعارك ويطفئھا متى شاء بإشارة من إصبعه؛‬ ‫آن واحد‪ .‬كل شيء عنده‬ ‫فھو أضعف النزالء وأقواھم في ٍ‬ ‫يمكن أن يُباع ويُشترى‪ ...‬فلو ُحكم عليه بالمبيت بضعة ليالي‬ ‫عند إحدى المجموعات األخرى‪ ،‬وكان ال يرغب بذلك‪ ،‬يدفع‬ ‫بدالً نقديًّا عن العقوبة لزعيم تلك المجموعة‪.‬‬ ‫وإن لم تُفلح مساوماته‪ ،‬يشتري أحد األشباه ـ من مجموعته أو‬ ‫من مجموعة أخرى ـ ليقضي تلك العقوبة ً‬ ‫بدال عنه‪ .‬كانت‬ ‫قوانين سمير تسمح بذلك‪ ،‬وھو يمتلك المال والدھاء الكافي‪.‬‬ ‫ق‬ ‫نبيل يردد دائما مقولته المشھورة‪ :‬القوانين وضعت لتُطَبﱠ َ‬ ‫على الضعفاء فقط‪...‬‬ ‫دمت بمشاھدة الشجار داخل السجن؛ فقد كان يختلف تماما ً‬ ‫ص ُ‬ ‫ُ‬ ‫عن الشجار خارجه‪ .‬داخل السجن يبدأ بشكل عفوي‪ ،‬تقاذف‬ ‫بالكلمات كأي شجار آخر‪ ،‬ثم يتوقف عند ھذا الحد‪ ،‬دون‬ ‫التقاذف بأشياء أخرى‪ ،‬ألن اإلشتباك باأليدي‪ ،‬أو بأي آلة‬ ‫أخرى‪ ،‬ممنوع في السجن‪ ،‬ويُعاقب مرتكبوه بالحبس‬ ‫االنفرادي‪ ،‬أو النقل عدة أيام إلى قاعات العزل التي تضم‬ ‫‪ 92‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫نزالء مصابين بأمراض ُمعدية‪ .‬وال يتھاون المشرفون في‬ ‫تنفيذ ھذه العقوبات‪ ،‬حتى وإن تھاونوا في تنفيذ غيرھا‪.‬‬ ‫ثم يتحول إلى شجار ُممنھج‪ ،‬كأنه لعبة رياضية لھا قوانينھا‪،‬‬ ‫يسمونھا )المضاربة(‪ .‬يتفقون على موعد محدد إلقامتھا‪،‬‬ ‫وعلى النھاية المفترضة لھا‪ ،‬كأن تستمر حتى يقع أحد‬ ‫الطرفين على األرض‪ ،‬ويكون الذي بقي واقفا ً ھو الفائز‪ ،‬أو‬ ‫أن تنتھي )المضاربة( بوصول أحدھما إلى اإلغماء‪ ،‬شرط‬ ‫أال تسيل الدماء من أحد الطرفين‪ ،‬وال تتسبب بكسر عظم أو‬ ‫ازرقاق أو احمرار أي جزء من أجزاء الجسم الظاھرة من‬ ‫المالبس‪.‬‬ ‫يكون النزالء يوم المضاربة منقسمين إلى مراقبين لباب‬ ‫القاعة‪ ،‬ومشجعين أو متفرجين‪ ،‬بينما يزداد العراك قسوة‬ ‫ووحشية‪ ،‬واألعين تزداد احمراراً واألوداج انتفاخا‪ ،‬دون أن‬ ‫يحمر أو ينتفخ غيرھا من أعضاء الجسم‪ .‬الغريب في األمر‬ ‫أن تنتھي )المضاربة(‪ ،‬دون أن تترك حقداً‪ ،‬أو ضغينة ً في‬

‫‪ 93‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫نفوسھم! حيث يعودون بعدھا للتحدث‪ ،‬واألكل م ًعا‪ ،‬وكأن‬ ‫شيئا ً لم يكن!‬ ‫أظل َمت الدنيا في عيني‪ ،‬لھذا المصير األسود‪ ،‬وللمصاعب‬ ‫المحتملة التي سأالقيھا حتى انتھاء مدة محكوميتي‪ .‬لم يكن‬ ‫ُ‬ ‫انتحلت‬ ‫أمامي ّإال االدعاء بأني على شاكلة سمير‪ ...‬ف‬ ‫شخصيته وصرت أقلده في كل تصرفاته‪ ،‬حتى أصبحت‬ ‫بمرور األيام من أقرب المقربين إليه بعد نبيل‪ .‬وصار‬ ‫يُحدثني عن سر ولعه بفوزية كل ليل؛ فأحاول أن أتصنع‬ ‫اإلصغاء إليه أثناء ذلك‪ ،‬طمعا ً في رضاه الذي يمنحني األمان‬ ‫في السجن اإلصالحي‪ .‬يمنحني وقتا ً للمطالعة في مكتبة‬ ‫اإلصالحية التي ال يدخلھا أحد‪ ،‬حتى أدمنت ذلك‪ ،‬وقرأت‬ ‫معظم كتبھا‪.‬‬ ‫أفادتني تلك المطالعات كثيراً‪ ،‬في إجادة مھارة االنتحال‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫كنت‬ ‫وربما الخوف أيضا ً مما سأالقية إن لم أتُقن إجادتھا‪.‬‬ ‫أخبئ شخصيتي الضعيفة الخائفة المھزوزة‪ ،‬خلف الشخصية‬ ‫التي أريد أن انتحلھا‪ ،‬ألكون على شاكلتھم‪ ،‬ألبدو على غير‬ ‫‪ 94‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫ُ‬ ‫فصرت أتحول‬ ‫ما أنا عليه‪ ،‬من الوھن في عيون النزالء‪...‬‬ ‫في أية لحظة إلى الشخص الذي أريد أن أكونه‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫صرت كلما دعتني الضرورة النتحال أي شخصية‪ ،‬أقوم‬ ‫بذلك على أكمل وجه‪ .‬حتى تحولت إلى مجموعة من‬ ‫الشخصيات‪ ،‬أنتح ُل أي واحدة منھا‪ ،‬متى شئت‪ ،‬بمنتھى‬ ‫السھولة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫صرت نديم سمير المفضل‪ ،‬وصار يحدثني‬ ‫بمرور األيام‪،‬‬ ‫بكل شيء‪ ،‬كقرين له‪ .‬حاول أن يتعلم بعض الكلمات‬ ‫والعبارات مما أعرفه‪ ،‬مقابل منحي منصب التحكيم‪ ،‬في‬ ‫مسابقات قمل المالبس األبيض‪) ،‬والمضاربات(‪ ،‬على حد‬ ‫سواء‪ .‬ظل يردد تلك الكلمات بشكل ببغائي‪ ،‬من غير فھم لما‬ ‫تعني‪ ،‬ومن يسخر منه يتعرض لألذى‪.‬‬ ‫"أصل اإلنسان قرد"‪ ،‬عبارةٌ صارت ھاج ًسا يتطور لديه شيئا‬ ‫فشيئًا‪ ،‬ألنه يشبه القرود بالكثير من الصفات‪ .‬أول لقب أطلق‬ ‫عليه في طفولته القرد‪ ،‬رغم أن والدته وزوجات أبيه ّ‬ ‫كن‬ ‫يعتبرنه أجمل من غزال‪.‬‬ ‫‪ 95‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫كان سمير أكبر طفل في سريﱠة القرود من إخوته الذكور‬ ‫عار‪ ،‬في حي فقير‬ ‫نصف‬ ‫واإلناث‪ .‬قضى معظم طفولته‬ ‫َ‬ ‫ٍ‬ ‫تتالصق بيوته‪ ،‬بشكل يجعل الھمس مسموعا ً بين الجيران‪،‬‬ ‫واألسرار مشاعة‪ .‬كلما نظر في المرآة‪ ،‬تعجب من قبول‬ ‫النساء االقتران بأبيه‪ ،‬وصبرھن عليه في بيت واحد‪ ،‬رغم‬ ‫أيام اإلجازة القصيرة كل شھر‪ ،‬حيث كان أبوه يقضي‬ ‫اإلجازة من الجيش‪ ،‬في حرب الثمانينيات‪ ،‬بالنوم معظم‬ ‫النھار‪ ،‬وبالطواف معظم الليل على زوجاته الثالث‪ ،‬ألنه‬ ‫سيغيب عنھن شھراً كامال‪ ،‬وإن حدثت معركة في جبھات‬ ‫القتال على الحدود‪ ،‬قد يتأخر أكثر من شھرين‪ ،‬وثالثة أجساد‬ ‫مشتعلة تنتظر عودته إلطفائھا‪.‬‬ ‫كان يقوم‪ ،‬خالل اإلجازة‪ ،‬بتصرفات دونجوانيه أمام زوجاته‬ ‫وجاراته‪ ،‬كديك شبق في قن كبير‪ .‬الحي كله عبارة عن قن‬ ‫خال من الديكة التي‬ ‫كبير‪ ،‬مليء بالدجاج واألفراخ الصغيرة‪ٍ ،‬‬ ‫تقاتل بعيداً على الحدود وتحلم بريشة واحدة‪ .‬وجود أي ديك‬ ‫يثير لواعج دجاجات الحي المشتعالت شبقا ً لموعد اإلجازة‪.‬‬ ‫‪ 96‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫أي ديك بإمكانه أن يسجل حضوراً ال بأس به‪ ،‬وأبو سمير‬ ‫متديﱢ ٌ‬ ‫ك بكل ما أوتي من شباب وذكورة طاغية‪ ،‬رغم تطوره‬ ‫من أصل القرود‪ .‬طوله الممشوق‪ ،‬عضالت ذراعيه‬ ‫المفتولين اللذين يتعمد إظھارھما من البذلة العسكرية‬ ‫المرقطة‪ ،‬شاربه األسود الذي يُغطي شفته العليا‪ ،‬وقد تع ﱠود‬ ‫م ﱠ‬ ‫صه بعد تناول أي شراب‪ ،‬الذي يشاركه ذلك وتبقى بعض‬ ‫القطرات معلقة‪ ،‬فيقوم بمصھا مفتخرا برمز فحولته‪ .‬لشاربه‬ ‫فوائد أخرى‪ ،‬حيث يقضمه بأسنانه كلما اعتراه القلق‪ ،‬ويم ﱢسده‬ ‫َ‬ ‫أنصت ل ُمحدثه‬ ‫مرة ويج ﱠره أخرى بإبھامه وسبابته‪ ،‬كلما‬ ‫وأراد التركيز‪.‬‬ ‫ذقنه يلمع باستمرار‪ ،‬يحلقه بشفرة الحالقة نحو األعلى‪.‬‬ ‫يدعكه بالكولونيا‪ ،‬فتعطيه بريقًا آخر‪ .‬لون سمرته يشير إلى‬ ‫َح ﱢر بساتين النخل الزھدي المستعرة في روحه‪ .‬ال يعرف‬ ‫شيئا ً غير التمتع قدر اإلمكان في إجازته الشھرية التي‬ ‫يقضيھا بالطواف على زوجاته الثالث‪ ،‬أو القفز إلى األقنان‬ ‫المجاورة لممارسة تَ َديﱡ ِكه فيھا؛ فربما تكون تلك إجازته‬ ‫‪ 97‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫األخيرة‪ .‬أيةُ إجازة قد تكون األخيرة‪ ،‬ألنه يعتبر نفسه وباقي‬ ‫زمالئه من المقاتلين‪ ،‬كالمحكومين باإلعدام مع وقف التنفيذ‪،‬‬ ‫كذلك يشعر من تضطره األقدار لرفقة سمير‪.‬‬ ‫ألم سمير نظرية خاصة بالرجال تحاول إشاعتھا في الحي‬ ‫أمام النساء‪ ،‬كلما تجمعن عص ًرا عند باب أحد البيوت‪:‬‬ ‫ـ الرجل ال يعيبه شيء سوى جيبه‪ .‬شيء آخر من أعضاء‬ ‫جسمه قد يُعيبه أيضا ً‪ ،‬إن توقف عن العمل‪ ،‬أو قصر في أداء‬ ‫واجبه‪.‬‬ ‫استمرت المعركة في الجبھة إحدى المرات‪ ،‬واستمر اشتعال‬ ‫األجساد الثالثة لفترة لم تعتد عليھا من قبل‪ ،‬ولما ينطفئ‬ ‫االشتعال بعد‪ ،‬فرجل اإلطفاء غادر إلى حيث ال رجعة‪.‬‬ ‫لم يجدوا له جثة ليلفﱡوھا بقطعة القماش رباعية األلوان‪،‬‬ ‫تنصتوا سراً لإلذاعة المشوشة؛ فلم يسمعوا اسمه مع‬ ‫األسرى‪ .‬أُعتبر مفقو ًدا‪ ،‬وفقدت العائلة معه االستقرار‪ ،‬في‬ ‫وطن يفتقد إلى الكثير من مقومات ما تعنيه ھذه الكلمة من‬ ‫ﱠ‬ ‫وسكن ُم ُدنًا‬ ‫ت بناتھن وأوالدھن‪،‬‬ ‫معنى‪ .‬ھربت زوجتاه‪ ،‬آخذا ٍ‬ ‫‪ 98‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫أخرى‪ ،‬ولم تعد األفراخ تلتقي من جديد‪ .‬لم تعرف أم سمير‬ ‫إن كن قد تزوجن أم غادرن البالد‪.‬‬ ‫أم سمير لم تتزوج بعد فقدان أبيه‪ .‬كان سمير يعتقد أنھا أكثر‬ ‫وفا ًء من األخريات‪ .‬لكنه كلما حاول تجميع بعض الذكريات‬ ‫عن والده‪ ،‬يتذكر شجاره معھا في منتصف الليل بطريقة‬ ‫الھمس والكلمات المضغوطة‪.‬‬ ‫كلما تقدم به السجن أكثر‪ ،‬ونبتت له شعيرات خشنة في‬ ‫مناطق متفرقة من جسمه‪ ،‬تذكر معارك أمه وأبية الليلية‬ ‫الخافتة‪ ،‬وإجبارھا على المقاربة كل ليلة بالقوة‪ ،‬أو تھديدھا‬ ‫بالمبيت عند إحدى ضراتھا‪.‬‬ ‫بعد عراك وتھديد خافت الصوت‪ ،‬ولكمات مدفونة‪ ،‬يعم‬ ‫سكون مريب‪ ...‬تليه لحظات توقد‪ ،‬حيث تبدأ األنفاس‬ ‫بالتصاعد من قبل الطرفين‪ ،‬ويبدأ السرير بحركة متوالية إلى‬ ‫األمام والخلف‪ ،‬وتتسارع األنفاس مع حركة السرير‪ ،‬تصبح‬ ‫العالقة طردية بينھما‪ .‬يزداد سمير خوفا ً‪ ،‬ال يدري ماذا‬ ‫يحصل‪ ،‬يظنه شجاراً بين أبويه‪ .‬ثم تتوقف األنفاس الالھثة‬ ‫‪ 99‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫عن الشھيق والزفير‪ ،‬ويتوقف السرير عن حركته المتوالية؛‬ ‫فيطمئن أن المعركة انتھت وأن أبويه مازاال أحياء‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫وخرجت من سجن إصالح األحداث‪،‬‬ ‫يوم انتھت محكوميتي‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫أحسست بأن كل شيء قد تغير‪ ...‬األلوان صارت براقة‪،‬‬ ‫وأصحبت أستطيع التمييز بينھا‪ .‬في داخل السجن كانت بلون‬ ‫واحد‪ ...‬لون رمادي‪ ،‬مثل دم قمل المالبس األبيض‪ ،‬حتى‬ ‫الھواء صار بكراً غير متعفن‪ ،‬ال تشبع رئتاي من استنشاقه‪.‬‬ ‫وأشعة الشمس لھا لون ذھبي دافئ يغمرني بسخاء‪ ،‬مختلفة‬ ‫عنھا عندما كنت أنتظر دوري في الجلوس تحتھا‪ ،‬ھناك‬ ‫كانت أشعتھا المنبعثة من فتحات التھوية العلوية في قاعات‬ ‫السجن كئيبة شاحبة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫أصبحت‬ ‫نُزع عن كاھلي عبء مسايرة سمير واتقاء شره‪،‬‬ ‫أفكر أن بإمكاني اختيار الدور الذي أريده‪ ،‬وأن أكون كيفما‬ ‫أشاء‪ ،‬وذلك بالعمل والبدء من جديد كأي إنسان َس ِويﱟ ‪ .‬صار‬ ‫ي نسيان دوري الذي فرضه علي ناصر؛ فما‬ ‫من السھل عل ﱠ‬ ‫أنا إال ظ ٌل لقاتل في مسرحية كتبھا القدر وأخرجھا ناصر‪،‬‬ ‫‪ 100‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫وفرض علي دور السجين البريء فيھا‪ ،‬مما صيرني دمية‬ ‫يحركھا سمير بخيوط القدر‪...‬‬ ‫لكن البدء من جديد يحتاج إلى مؤھالت‪ ...‬وال شيء لدي‬ ‫سوى شھادة المتوسطة التي حصلت عليھا في اإلصالحية‪،‬‬ ‫حيث منحني موقعي‪ ،‬ك ُم َح ﱢك ٍم للمسابقات والمضاربات بين‬ ‫النزالء‪ ،‬مزيدا من الوقت للدراسة ولمطالعة معظم الكتب‬ ‫المتوفرة في مكتبتھا‪ .‬شھادة ومطالعات ال تؤھالني للحصول‬ ‫على وظيفة عامة‪ ،‬أو أي عمل محترم‪.‬‬ ‫ومما زاد األمر سوءاً ھي صورتي في عيون اآلخرين‪ ...‬لم‬ ‫أ َر في عيونھم صورة ذلك الفتى الوديع المسالم الذي دخل‬ ‫اإلصالحية بذنب غيره‪ ،‬إنما صورة القاتل الذي أخذ بثأر أبيه‬ ‫ونجا من حبل المشنقة بسبب حداثة سنه؛ فصار مسخا ً من‬ ‫مسوخ كوثاريا التي ال تُعد‪ ...‬جعلني ھذا أقف كثيرا أمام‬ ‫المرآة‪ ،‬أبحث في الصورة التي تنعكس في وجھھا عن ذاتي‬ ‫المفقودة‪ ،‬فال أراھا‪ .‬أرى صوراً لكثير من الشخصيات التي‬

‫‪ 101‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫انتحلتُھا واحدة تلو األخرى‪ .‬ربما كانت تظھر صورتي‬ ‫الحقيقة معھا‪ ،‬ولكني لم أعد أميزھا‪.‬‬ ‫أتسكع في شوارع ذاكرتي‪ ،‬لعلﱢي أحظى بمالمح الشخصية‬ ‫الذي كنت عليھا يوما ً ما؛ فأرسم بعضا ً منھا على الشخصية‬ ‫التي أروم أن أكونھا‪ .‬لكن ال تصادفني ّإال وجوه الدمى التي‬ ‫صرتھا لمرات عديدة!‬ ‫يا لَلخيبة‪ ...‬لقد أضعت ذاتي رغم حرصي الشديد بالحفاظ‬ ‫عليھا صافية‪ ،‬نقية‪ُ ،‬مخبأة في أعماقي‪ ،‬غير متأثرة بكل ما‬ ‫كنت أالقيه في اإلصالحية من أمور تشوھھا‪ .‬لكني اليوم‬ ‫أكتشف ـ بعد انقضاء المحكومية ـ أني أضعتھا‪...‬‬ ‫أترك كل ھذا‪ ،‬وأدور في عيون مدينتي المدورة بحثا ً عنھا‪...‬‬ ‫لكن صور الدمى تحيطني من كل الجھات‪ .‬أتعجب من ذلك!‬ ‫ھل أمست كوثاريا مدينة للدمى؟ ھل أصبح الجميع مزيفين؟‬ ‫أم صار ما بداخلي من صور ينعكس أمامي؛ فال أرى الذوات‬ ‫الحقيقية لآلخرين؟ وأصبحت أرى كل شيء مزيفا ً مثلي‪ .‬أنا‬ ‫المزيف أم ھم المزيفون؟‬ ‫‪ 102‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫لم يكن أمامي إزاء ذلك سوى استثمار مھارتي في االنتحال‪،‬‬ ‫واتخاذھا مھنة أعتاش منھا‪ .‬طورت مھارتي في ھذا المجال‬ ‫بالممارسة العملية‪ ،‬وصقلت أدواتي أكثر‪ ،‬وذلك بمراقبة‬ ‫تصرفات الشخصية التي أريد انتحالھا‪ ،‬والقراءة عنھا‬ ‫ُ‬ ‫فأصبحت‬ ‫وتقمصھا بشكل أمثل‪ .‬دام األمر سنين طويلة‪،‬‬ ‫أتمترس خلف ساتر سميك من الدمى‪ ...‬أخبئ صورتي‬ ‫الحقيقة خلفھا‪ ،‬وكلما طال احتمائي خلف ذلك الساتر‪ ،‬الذي‬ ‫حرصت أن يكون منيعا في معركة الحياة‪ ،‬تضاءلت فرصتي‬ ‫في الوصول إليھا أكثر‪...‬‬

‫‪ 103‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫في المقبرة‬ ‫بعد خروجي من اإلصالحية بفترة‪ ،‬وفي ظھيرة يوم تموزي‬ ‫قائظ‪ ،‬ذھبت لزيارة قبر ناصر‪ .‬على غير موعد ھناك التقيت‬ ‫سمير ونبيل‪ .‬التقيتھما بالرغم من عقدي العزم على أال‬ ‫ألتقيھما أب ًدا‪ ،‬ما بقيت لي الحياة‪.‬‬ ‫كانت الشمس في كبد السماء تنشر أشعتھا الذھبية على من‬ ‫يستحق أو ال يستحق من األحياء واألموات؛ فمن يضاھي‬ ‫الشمس كرما وعطاء؟ والمسامات تجود ھي األخرى بما‬ ‫تستطيع من ماء وأمالح ومواد أخرى‪ ،‬بقطرات ترطب‬ ‫األجسام‪ ،‬فتصبح ميادين واسعة تسير فيھا جيوش جرارة من‬ ‫كتائب الذرات الرملية التي تتقدم ببطء الحتالل كل بقعة في‬ ‫الجسم‪ ،‬فتزيدھا رطوبة العرق التصاقا وقوة وعزيمة على‬ ‫التسلق واالنتشار‪...‬‬ ‫أجساد األسالف الموغلين في سكنى ھذا المكان زحفت‬ ‫تحيينا‪ ،‬تعانقنا‪:‬‬ ‫‪ 104‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫ـ نحن المتفسخون الرمليون السابقون‪ ،‬وأنتم الطينيون‬ ‫الالحقون‪...‬‬ ‫ربما زحفت لتطلب منا شيئا من عقاقير السعادة؛ فلم تكن تلك‬ ‫العقاقير متداولة في زمنھم‪ .‬كان للسعادة شراب آنذاك‪ .‬ربما‬ ‫أرادوھا ألنھا ناجعة أكثر من ذلك الشراب؛ فھي يمكن أن‬ ‫تتمشى في أوردة من يتعاطاھا متغنجة‪ ،‬دون أن يترنح لفرط‬ ‫نشوته‪ .‬ال رائحة وال ترنح‪ ،‬ابتسامة بلھاء فقط‪ ،‬لسبب أو دون‬ ‫سبب‪ .‬وربما يرى متعاطيھا العالم بالمقلوب‪.‬‬ ‫أطال سمير وقوفه عند قبر أمه‪ ،‬الذي أخبرني أنه يزوره‬ ‫كثي ًرا‪ .‬لم أجرؤ على قطع وقوفه واستعجاله للذھاب‪ .‬ال أدري‬ ‫إن كان متعاطيا لعقاقير السعادة أم ال؛ فبالرغم من المدة‬ ‫الطويلة لمصاحبته مازلت ال أميز بين حالة الصحو وغيرھا‬ ‫ألنوائه الجوية‪ ،‬ألنه يجيد إتقان الدورين ببراعة كبيرة‪،‬‬ ‫وليس أمامي من خيار غير تحمل حرارة الشمس وانتظاره‪.‬‬

‫‪ 105‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫وقف على قبر أمه الحبيبة اللدودة طويال‪ ...‬ودمعة متحيرة‬ ‫تتأرجح بين جفنيه تخاف النزول‪ ،‬كي ال يبدو أنه عاطفي‬ ‫وقابل للبكاء كإنسان‪.‬‬ ‫ق في تأمله اسم أمه المنقوش على القبر‪ ،‬مسح برفق ما‬ ‫غر َ‬ ‫عليه من غبار‪ ،‬شع َر بقشعريرة غريبة تعيده لسني عمره‬ ‫األولى‪ .‬أحس بھا وكأنھا تمسد رأسه بأصابعھا المدببة‪،‬‬ ‫تغرزھا في شعره‪ .‬عاد َحمالً وديعا ً بلمسة واحدة لتراب‬ ‫قبرھا‪ ،‬اختفت أنيابه المفترسة وتقلمت أظافره الحادة التي‬ ‫نھشت الضعفاء كثي ًرا‪ .‬صغر حجم أنفه الملتصق بوجھه‬ ‫كضفدع مستنقع كبير‪ .‬تخيل أنه يرتمى في أحضانھا‪ ،‬يفرك‬ ‫وجھه بغطاء الرأس الذي ترتديه دوما‪ ،‬يلمس ما فوق شفتھا‬ ‫العليا‪:‬‬ ‫ـ لماذا ال يطول شاربك كالرجال؟‬ ‫ـ بقاء شاربي قصيراً خي ٌر لي من الذھاب لجبھات الموت‬ ‫البعيدة؛ فأعود بساق واحدة مثل حمود األعرج‪ ،‬أو ملفوفة‬ ‫‪ 106‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫بال َعلم‪ .‬وإن لم أعد بإحدى المصيبتين‪ ،‬فسأبقى على الجبال‬ ‫العالية طعاما للنسور‪ ،‬وربما لألسماك في )نھر جاسم‪.(12‬‬ ‫ابتسامة نشاز ارتسمت ـ بعفوية طفل ـ على وجھه المتجھم‬ ‫دو ًما‪ ،‬سرعان ما تالشت‪ .‬تمنى لو يھدم القبر‪ ،‬يُخرج‬ ‫عظامھا‪ ،‬يُحرقھا‪ ،‬يذروھا في الھواء؛ فھو يح ﱢملھا كامل‬ ‫المسؤولية لكل ما م ﱠر‪ ،‬وما سيمرﱡ به خالل حياته القادمة‪...‬‬ ‫ضرتيھا‪ ،‬بدءاً بما يجلبه أبوه من حلويات‬ ‫كانت ترسله لسرقة ُ‬ ‫وھدايا أيام اإلجازة‪ .‬بعد تمرسه صار يجتھد أكثر‪ ،‬ويسرق ما‬ ‫عندھن من نقود ومصوغات ذھبية‪ ،‬يعطيھا ألمه إمعانا منه‬ ‫بإرضائھا‪.‬‬ ‫كان يندھش كثيراً من أنھا تُعيد لھن كل ما يسرقه! وترسله‬ ‫مرة ثانية وثالثة لسرقته! سأل نفسه كثي ًرا عن سبب دورة‬ ‫السرقة في البيت؟‬ ‫عندما يھرب من المدرسة ويعود للبيت‪ ،‬يجد أمه في غرفة‬ ‫إحدى ضراتھا والباب مقفل‪ .‬يجن جنونھا لرؤيته‪ ،‬تأمره‬ ‫‪ ‬‬

‫‪ 12‬نھر جاسم‪ :‬نھر صغير شرق مدينة البصرة دارت عنده معارك طاحنة في الحرب العراقية اإليرانية‪ .‬‬

‫‪ 107‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫بالعودة للمدرسة‪ .‬يخرج من البيت وأذناه حمراوان‪ ،‬ال يعود‬ ‫إلى المدرسة خوفا ً من أن تحمر أشياء أخرى من جسمه‪.‬‬ ‫يضطر إلى الدخول في فوھة الشارع التي تبتلع كل من يدخل‬ ‫فيھا‪ ،‬وتصبح مدرسة جديدة له‪ ،‬يتعلم فيھا كل فنون الخراب‪،‬‬ ‫كي يتشجع ويندفع بأقصى قوته نحو ما يريد‪ ،‬ينسى كل بؤسه‬ ‫وتعاسته‪ ،‬نص َحه رفقاء التشرد بتعاطي عقاقير السعادة‬ ‫الوھمية‪.‬‬ ‫عندما تناولھا أول مرة ضحك حتى كلﱠت عضالت وجھه‪،‬‬ ‫بحث عن التجھم حتى وصل حافة االنتحار‪ ،‬تبعثرت األشياء‬ ‫أمامه وتجمعت‪ ،‬انھارت السماء‪ ،‬سقطت على األرض عدة‬ ‫مرات‪.‬‬ ‫كلما تحرش به عمود الكھرباء قرب باب دارھم‪ ،‬تصدى له‬ ‫بضربة رأسية‪ ،‬سيشعر بألمھا في اليوم التالي‪ ،‬عندما يكتشفھا‬ ‫وقد أصبحت كدمة منتفخة في مقدمة رأسه‪.‬‬ ‫خفة يده بالسرقة فن أتقنه في مدرسة الشارع أيضا‪ ،‬وتم ﱠر َن‬ ‫عليه كثيرا في البيت قبل ذلك‪ .‬كان ھذا الفن يستلزم أن يتعلم‬ ‫‪ 108‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫فنونا أخرى‪ ،‬كالدفاع عن النفس عندما يتعرض لإلمساك به‬ ‫متلبسا بالسرقة‪ .‬أجاد الدفاع وتمرس به‪ ،‬واستھواه الھجوم‬ ‫وتفنن به‪.‬‬ ‫ضا‪ ،‬في معارك أبناء الضﱡ ﱠرات‬ ‫فن القتال تعلمه في البيت أي ً‬ ‫التي تفتعلھا أمه أغلب األحيان‪ ،‬عندما تصبح الديك المسيطر‬ ‫على قن الدجاج‪ ،‬حتى عودة أبيه من جبھات الموت‪.‬‬ ‫كانت تقوم ـ وبجدارة فائقة ـ بتنفيذ وصية أبيه التقليدية‪ ،‬يوم‬ ‫التحاقه بالجيش‪:‬‬ ‫ـ كوني رجل البيت من بعدي ‪.‬‬ ‫بمجرد اطمئنانھا من خروجه‪ ،‬تدخل غرفتھا وتخرج بعد‬ ‫لحظات‪ .‬سيجارة مشتعلة بيدھا‪ ،‬دخان يخرج من أنفھا‬ ‫باتجاھين متوازيين‪ .‬ال يحتاج زغب شاربھا لالسترجال ّإال‬ ‫لحظات‪ ،‬حتى يصبح كشارب مراھق عاشق‪.‬‬ ‫تمنى سمير في تلك اللحظات وسط المقبرة وھو ينظر إلى‬ ‫قبر أمه‪ ،‬لو أنه عرف قبل دخوله السجن ما كانت تفعله مع‬ ‫‪ 109‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫ضراتھا‪ ،‬عندما كان يذھب إلى المدرسة‪ ،‬وعندما يستغرق‬ ‫في النوم‪.‬‬ ‫بينما جيوش ذرات األسالف الرملية تزداد التصاقا وصعو ًدا‬ ‫ُ‬ ‫حاولت جر سمير ونبيل خارج المقبرة‪ ،‬لتقصير‬ ‫نحو األعلى‪،‬‬ ‫مدة اللقاء والخالص منھما بأسرع وقت ممكن؛ فخرجا‬ ‫كطفلين فاقدين‪ ،‬يستوحشان لحضن األمومة الدافئ الذي‬ ‫يتمنى المرء العودة إليه‪ ،‬كلما شعر بالبرد الروحي إثر‬ ‫اتساخه بالخطايا‪ ،‬فإلى أي ُحجر سيعودان وقد ھ ﱠدھما التشرد؟‬ ‫ال يدريان متى يتر ﱠجالن من على صھوة جواد الزمن الجامح‬ ‫الذي خاض بھما األھوال تلو األھوال‪ ،‬من طفولة بائسة إلى‬ ‫سجن إصالح األحداث‪ ،‬يسبحان في فضاء فسيح من الھموم‬ ‫واآلالم والخطايا‪ .‬جزء مني كان يسبح معھما‪ ،‬يحاول ج ﱢري‬ ‫نحو األعماق!‬ ‫خرج سمير من تأمالته والتفت إل ّي‪ ،‬قائالً‪:‬‬ ‫ـ استطاعت تلقين أحدھم درسا لن ينساه‪ ،‬عندما حاول‬ ‫التحرش بإحدى ضراتھا‪.‬‬ ‫‪ 110‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫في حرب الثمانينيات‪ ،‬خال القن من الديكة تقريبا ً‪ ،‬وعج‬ ‫بالشغيلة من أقطار أخرى‪ .‬كانوا يقومون بشتى األعمال‬ ‫لحصد النقود والعودة إلى بالدھم؛ فحاول ذلك المسكين‬ ‫ضا؛ فكانت أم سمير الدجاجة المتديﱢكة له بالمرصاد‪.‬‬ ‫ك أي ً‬ ‫التد ﱡي َ‬ ‫ْ‬ ‫مارست معه كل فنون القتال التي تعلمتھا من والده‪ ،‬عند‬ ‫تمنﱡعھا أيام اإلجازة من إعطائه حق الفراش‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫سمعت منه ھذه القصة عدة مرات‪ ،‬وأحفظ تفاصيلھا‬ ‫كنت قد‬ ‫عن ظھر قلب‪ .‬لكن اآلن ليس بيدي سوى االستماع إليه؛ فال‬ ‫أستطيع توقع ردة فعله‪ ،‬كيف ستكون شدة عنفھا‪.‬‬ ‫تمنى نبيل‪ ،‬وھو يستمع إلى سمير‪ ،‬لو أن أمه تسكن في ذلك‬ ‫القبر‪ ،‬بدالً من ھذه المرأة الشجاعة بنظره‪ ،‬أمه التي لم تصبر‬ ‫دون زوج‪ ،‬بعد أن ابتلعت الحرب أباه في إحدى المعارك‪،‬‬ ‫ولفظته أشالء ممزقة‪ ،‬أمه التي تزوجت بأرمل‪ ،‬متوحش‪،‬‬ ‫شاذ‪ ،‬طامع بالھبة الدسمة التي تحصل عليھا مثيالتھا‪ ،‬أرامل‬ ‫الجنود‪ ،‬من خزائن البلد‪ ،‬تلك الخزائن التي يسيطر عليھا‬ ‫القائد الضرورة‪ ،‬وينفقھا وقو ًدا لمحارقه التي ال تنتھي‪.‬‬ ‫‪ 111‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫وج َد ذلك االنتھازي فرصته السانحة للعيش على قفاھا‪ ،‬ھو‬ ‫وولده الوحيد حازم‪ ،‬من طليقته السابقة‪ ،‬التي وھبت له كل‬ ‫شيء ـ حتى طفلھا الوحيد ـ مقابل الخالص منه‪ ...‬فقد كان‬ ‫يجبرھا على القيام بأعمال ال ترغب في القيام بھا‪ ،‬كالتزيﱡن‬ ‫أمام أصحابه في جلسات الخمر ولعب الورق‪ .‬لكنه بعد انتھاء‬ ‫السھرة يضربھا بقسوة! رغم أنھا سددت بدالً عنه ـ وبأمر‬ ‫ْ‬ ‫أمست بذلك حافزا‬ ‫منه ـ الخسارة التي تكبدھا في اللعب!‬ ‫كبيراً الجتھاد أصحابه في الفوز عليه ـ ولو بالغش ـ‬ ‫ليحصلوا على جائزة لحمھا البض‪ .‬يتفقون بينھم دون علمه‬ ‫ويتبادلون األدوار كل ليلة‪...‬‬ ‫كان حازم الرابح الوحيد في كل تلك المعمعة؛ فقد تخلص من‬ ‫أبيه السكير الشاذ‪ ،‬بعد قتله على يد نبيل‪ ،‬ودخول األخير‬ ‫سجن إصالح األحداث‪ .‬تخلص من ھجمات نبيل الليلية التي‬ ‫كان يسدد فيھا حازم فاتورة شذوذ أبيه‪.‬‬ ‫في أول زيارة لنبيل في السجن‪ ،‬طلب من حازم االعتناء‬ ‫بأمه؛ فھو يعتبره بمقام أخيه‪ .‬وھي تُعتبر بمقام أمه‪ .‬فرحت أم‬ ‫‪ 112‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫نبيل بھذا الطلب‪ ،‬وأكدت على العناية بحازم واتخاذه ول ًدا‬ ‫)يسد وحشة الغياب(‪.‬‬

‫‪ 113‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫األرض السفلى‬ ‫إن أراد المرء أن يظل على قيد الحياة في كوثاريا‪ ،‬فالبد له‬ ‫أن يتقن فن انتحال شخص آخر على شاكلة َعبدة مردوخ‪...‬‬ ‫فيفقد بذلك ذاته‪ ،‬يصير دمية مسلوبة اإلرادة‪ ،‬يحركھا‬ ‫الالعبون الكبار‪ ،‬ويصبح آزر جدي ًدا‪ ،‬بصورة وأخرى‪ .‬بغير‬ ‫ھذا ليس أمامه إال أن يكون حطبًا لمحرقة النمرود التي‬ ‫اشتعلت في أوصالنا منذ زمن بعيد‪ ،‬بأسباب وأسماء مختلفة‪:‬‬ ‫احتالالت‪ ،‬ثورات‪ ،‬انقالبات‪ ،‬حروب طاحنة‪ ،‬تبدأ من حيث‬ ‫تنتھي‪ ،‬في دوامة من القھر واالستالب‪...‬‬ ‫أنّى لتلك المحرقة أن تكون بر ًدا وسال ًما علينا ـ كما كانت‬ ‫على إبراھيم ـ إن لم نقم بتحطيم األصنام التي تناسلت بداخل‬ ‫كل منا؟!‬ ‫أفكار راودتني عند رجوعي سي ًرا على األقدام‪ ،‬مع فلول‬ ‫منھارة تستجدي الحياة من عدو يحلق بنسوره المعدنية فوق‬ ‫الغيوم‪ .‬ثغر كوثاريا صار محطم األسنان‪ ،‬لكمات محترفة‬ ‫وجھت إليه‪ ،‬سيتعذر عليه االبتسام لفترة ال يعلم أمدھا أحد‪.‬‬ ‫‪ 114‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫كيف كان الضرورة ي ﱠدعي أن ذلك الثغر مبتسم؟ لم أ َر يوما ً‬ ‫تلك االبتسامة الم ﱠدعاة‪ .‬ربما كان يبتسم له خوفا ً‪.‬‬ ‫كان قد جعل األرض السفلى‪ ،‬بكل مدنھا‪ ،‬بوابة لدفع فواتير‬ ‫دموية باھظة‪ ،‬نيابة عن اآلخرين؛ فلم تعد كوثاريا بالد‬ ‫الشمس‪ ،‬بل بلد الحروب‪ ،‬الدمار‪ ،‬األحالم المذبوحة‪ .‬وعندما‬ ‫س للبوابة الشرقية‪ ،‬أراد أن‬ ‫انتھى دوره كقائد ضرورة وحار ٍ‬ ‫يبتلع جيرانه من أمراء الرمل والبترول‪ ،‬حلفاء األمس الذين‬ ‫كان دوره الدفاع عنھم؛ فابتدأ بجاره الجنوبي الصغير‪.‬‬ ‫ارتكب حماقة كبيرة بظنه أنه مخلوق خرافي‪ ،‬يمكنه ابتالعھم‬ ‫واحداً تلو اآلخر؛ فشد أسياده من الالعبين الكبار خيوطه‪،‬‬ ‫ذ ﱠكروه أنه دمية بائسة ليس ّإال‪...‬‬ ‫مدينة باب البحر السفلي التي كانت منطلقًا لقواته الغازية‪،‬‬ ‫أمست بوابةً لھزيمته‪ .‬أصبحت تلك المدينة ثغر كوثاريا‬ ‫ُ‬ ‫المتجھم‪.‬‬ ‫رأيت فيھا أركان الحكم الدكتاتوري تتھاوى تحت‬ ‫أقدام الرافضين ركنًا ركنا‪.‬‬

‫‪ 115‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫ُ‬ ‫رافقت اندالع انتفاضة الجياع‪ ،‬طوال الطريق‪ ،‬يحدوني أمل‬ ‫كبير بالحصول على ضالتي المنشودة‪ .‬أمل صار يكبر‬ ‫بداخلي‪ ،‬كلما قاربت الوصول لمدينتي المد ﱠورة‪ .‬في رحلة‬ ‫الھزيمة الراجلة تلك‪ ،‬مررت بالمدن الجنوبية وھي تشتعل‬ ‫رفضا ً لعقود طويلة من الكبت والعسكرة‪ ...‬عقود ختمھا‬ ‫الضرورة بھزيمة نكراء‪ ،‬جلبھا داء اإللوھية المستحكم لديه‪.‬‬ ‫كنت كلما مررت بمجموعة من المنتفضين شاركتھم ذلك‬ ‫األمل‪ ،‬بحثًا عن ذاتي المفقودة التي ُكنتھا يوما ً ما‪ .‬لكني أعود‬ ‫دمية كلما مررت بموطئ قدم يسيطر عليه أزالم الضرورة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫أو المتصيدون في ماء الفوضى العكر‪.‬‬ ‫أعطيت سالحي ثمنا‬ ‫للعبور من ضفة إلى أخرى‪ ،‬لنھر ربما ال يتجاوز عرضه‬ ‫عشرة أمتار‪ .‬كانت الفوضى العارمة تجتاح كل شيء‪،‬‬ ‫كالفوضى التي كانت تعتري أعماقي في محاولة البحث عني‪.‬‬ ‫رأيت الدخان المنبعث من األبنية الحكومية‪ ،‬وتلك الفوضى‬ ‫بداية لالنتظام‪ ،‬والخراب بداية للتعمير‪ ،‬والھزيمة بداية‬ ‫للنصر‪ ،‬وكل ذلك بداية لنھاية الضرورة‪ .‬حاولت أن أُعبر‬ ‫‪ 116‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫ُ‬ ‫تمنيت أن‬ ‫لآلخرين عمليًّا عني‪ ،‬لمن يعرفني ومن ال يعرفني‪.‬‬ ‫أقول لھم‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫لست من أشباه سمير‪ .‬شخصيتي‬ ‫ـ لست كما تظنون‪،‬‬ ‫المتشبھة به‪ ،‬ھي شخصية أخرى‪ ...‬اضطررت أن أستعير‬ ‫مالمحھا يوما ً ما‪ ،‬فتلبستني وصار ُكلﱢي‪ .‬إنما أنا ذاك الطفل‬ ‫الذي كان أنا قبل دخول السجن اإلصالحي‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫أصبحت قاب قوسين من إيجاد ذاتي‪ ،‬عندما أوشكت على‬ ‫الوصول إلى مدينتي‪ .‬فقط محطة أخيرة وأنتقل بعدھا‬ ‫عشت فيه‪ .‬سأطرق أبوابه بيتا ً‬ ‫ُ‬ ‫للدوران ھناك‪ ،‬في الحي الذي‬ ‫بعد آخر‪ ،‬سأخبر أھله أني وجدت ضالتي‪ ،‬وانتصرت على‬ ‫الدمى التي تعتمل بداخلي‪.‬‬ ‫لكن خيبة األمل كانت لي بالمرصاد في عرض الطريق‪،‬‬ ‫عندما رأيت سمير ونبيل وآخرين يقطعون الطريق‪،‬‬ ‫وينتحلون شعارات المنتفضين وصفاتھم‪ .‬يبحثون عن دور‬ ‫لھم في تلك الفوضى‪ ،‬يصطادون في مائھا العكر‪ ...‬على‬ ‫حساب فجر يوشك أن ينبثق‪ ،‬وشمس تكاد تُشرق وتبدد‬ ‫‪ 117‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫الظالم‪ .‬على حساب مارد يحاول القيام من الرماد؛ فيعيد‬ ‫ُ‬ ‫العبث بضبط عداداته‪.‬‬ ‫ترتيب منظومة كل شيء ت ﱠم‬ ‫عندھا بدا لي الحصول على صورتي الحقيقة أشبه‬ ‫بالمستحيل‪ ،‬وأني كنت أعدو خلف سراب في صحراء‬ ‫شاسعة‪ ،‬كلما اقتربت منه وجدته وھ ًما‪ ،‬تيقنت أني لن أجد‬ ‫ذاتي المفقودة في ذلك الفراغ‪ ،‬مادام سمير وأمثاله يأخذون‬ ‫حيﱢ ًزا فيه‪ .‬الشمس والخفافيش ال يمكن أن يظھرا في وقت‬ ‫واحد‪ ،‬ال بد أن ظھور أحدھما حقيقي واآلخر وھمي تخيلت‬ ‫ظھوره‪.‬‬ ‫تركت البحث عني خالل أيام االنتفاضة‪ ،‬وتقوقعت في البيت‪،‬‬ ‫مستمتعا ً بدفء حنان األم الذي ُحرمت منه في وقت مبكر من‬ ‫حياتي‪ ،‬سجينًا ثم جنديًّا بعد ذلك‪ .‬نظراتھا الحانية كانت‬ ‫تُشعرني بأن بقايا إنسان الزالت تقبع في داخلي‪ ،‬بقايا قد‬ ‫ض الغبار الذي تراكم علي‪ ،‬من‬ ‫تسنح لھا فرصه الخروج ونف ِ‬ ‫خالل ھزائمي‪ ،‬خيباتي‪ ،‬انكساراتي‪ ،‬أمام القدر عدة مرات‪.‬‬

‫‪ 118‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫ُ‬ ‫كنت عليھا ـ‬ ‫أھدتني تلك األيام رؤية مالمح من ذاتي ـ التي‬ ‫ُ‬ ‫رأيت نفسي في عينيھا الحزينتين‪ ،‬عندما‬ ‫في عيون أمي‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫كنت طفال‪ ،‬أذھب إلى المدرسة‪ ،‬ألعب في الشارع‪ ،‬أتحين‬ ‫فرصة نومھا ظھ ًرا وأذھب للسباحة في النھر مع أقراني‪،‬‬ ‫ي من الغرق‪.‬‬ ‫إلى أن تستيقظ وتجبرني على العودة خوفا عل ﱠ‬ ‫أراقب النجوم عندما أستلقي على ظھري فوق سطح الدار في‬ ‫ي من‬ ‫ليالي الصيف‪ .‬أحاول ع ﱠدھا فتمنعني من ذلك‪ ،‬خوفا ً عل ﱠ‬ ‫أن تسقط جفوني‪ .‬ما رأيت نفسي بشكل جلي ّإال في نظراتھا‬ ‫ال ُمبالغة بالخوف علي من كل شيء‪.‬‬ ‫كيف أمكنھا موافقة ناصر على ما فعله بي؟ ألنه ولدھا البكر‬ ‫ﱡ‬ ‫ين الذي اختارته؟‬ ‫وتكن له محبة أكثر مني؟ أم أنه أھون الش ﱠر ِ‬ ‫لكنھا فقدتنا نحن االثنين في آن واحد‪.‬‬ ‫بحذر طريدة راقبت‪ ،‬في تلك األيام‪ ،‬مخاض األحداث‪ ،‬وأي‬ ‫مسخ متوقع ستلد‪ ،‬ألرسم مالمح دمية جديدة أكونھا في قابل‬ ‫األيام‪ ،‬متوقعا ً ھيمنة الضرورة مرة أخرى‪.‬‬

‫‪ 119‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫لم تدم تلك المالزمة طويال‪ ،‬حتى عاد الضرورة يھيمن على‬ ‫مقاليد األمور بوحشية منقطعة النظير؛ فقد سمح له أسياده‬ ‫األصدقاء األعداء بذلك‪.‬‬ ‫تحينت فرصة العفو العام عن الجنود الھاربين من الجيش‪،‬‬ ‫وكان سمير وأتباعه يتدافعون للحصول على تلك الورقة التي‬ ‫يريد الجميع الحصول عليھا‪ ،‬لتؤمن لھم العودة إلى مقرات‬ ‫الفلول المھزومة‪ ،‬التي ألقت السالح في معركة خاسرة‪.‬‬ ‫عودة تؤ ﱢمن للمنخرطين فيھا فرصة للنجاة من بطش أزالم‬ ‫الضرورة؛ فقد ساقوا الكثيرين للدفن أحيا ًء في حُفر كبيرة‪.‬‬ ‫ومعظمھم ِسيقوا بغير ذنب اقترفوه‪ ،‬وكان يُفترض أن يسوقوا‬ ‫سمير وباقي الدمى بدالً عنھم‪.‬‬ ‫كان عزائي الوحيد في فشل انتفاضة الجياع‪ ،‬وفشلي بالبحث‬ ‫عني‪ ،‬وعودة ھيمنة الدكتاتور ثانيةً‪ ،‬ھو أني صرت بعيدا عن‬ ‫سمير بالتحاقي بالجيش‪ ،‬وأنه صار بعيدا عن تحقيق مآرب‬ ‫أراد تحقيقھا من خالل تلك الفوضى‪ .‬وأني لم أعد محتاجا‬ ‫النتحال دور يمكنني مسايرته فيه‪ ،‬وتجنبه قدر اإلمكان‪.‬‬ ‫‪ 120‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫ما كنت احتمل فكرة أن يكون سمير وأمثاله بدالء‬ ‫للضرورة ‪ ،‬يحكمون قبضتھم كما فعل‪ ،‬ونحتاج لعمر كامل‬ ‫من انكسارات وھزائم للتخلص منھم‪.‬‬

‫‪ 121‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫عودة الماء‬ ‫لم يدم خالصي من سمير طويال‪ ،‬حتى التقيته بعد سنوات في‬ ‫ضا‪ .‬ليتني كنت شجاعا‬ ‫سجن أبي غريب‪ ،‬بتھمة لم أرتكبھا أي ً‬ ‫الرتكابھا‪ ...‬فقد ا ﱠدعى أحدھم أني قمت بسب الضرورة‪،‬‬ ‫ولحسن حظي أني دخلت السجن بدالً من اإلعدام رميا ً‬ ‫بالرصاص‪.‬‬ ‫في كوثاريا مدينة صناعة األصنام‪ ،‬ال يفكر المرء في سبب‬ ‫اعتقاله‪ ،‬بل في كيفية خروجه من المعتقل حيًّا‪ .‬وأسوأ ما في‬ ‫ذلك المعتقل أن سمير يظھر من جديد في حياتي ومعه نبيل‬ ‫وسالم‪ ،‬وقد صار )سميركو( ھذه المرة‪.‬‬ ‫كيف وثق الناس به وأعطوه أموالھم لتشغيلھا في شركته‬ ‫الوھمية؟ كثيرون قالوا حينھا إن شركة توظيف األموال‬ ‫الوھمية تلك كانت لنجل الضرورة األرعن‪ ،‬وأن سمير‬ ‫وأمثاله ِسيقوا كبش فداء يل ﱢمع به صورته أمام الشعب‬ ‫المخدوع‪ .‬لكنه أكد لي قيامه بذلك ً‬ ‫فعال؛ فسمير يعترف بكل‬ ‫‪ 122‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫جريمة تُنسب إليه‪ ،‬شرط أال تكون عقوبتھا اإلعدام‪ ،‬حيث‬ ‫يفتخر بأن يكون متعھد جرائم‪.‬‬ ‫كان يفترض بي أن أتخلص من كثير من مخاوفي التي‬ ‫رافقتني منذ البداية‪ ،‬وأوصلتني لداء تعدد الشخصيات‪ .‬ال‬ ‫أدري إن كنت سأجد عالجا له أم ال؟ فأسباب المرض والبيئة‬ ‫المالئمة الستفحاله تتوفر من جديد‪ .‬سمير يظھر مرة أخرى‬ ‫في حياتي‪ ،‬ويصيبني وجودي معه في مكان واحد‬ ‫باضطرابات نفسية نادرة‪ ،‬تؤدي ألن يستفحل مرض التعدد‬ ‫عل ّي من جديد‬ ‫تحد ٍ كبير‪ ...‬قدري يتمثل فيه كل مرة‪ ،‬يدعوني لمنازلته‬ ‫والتخلص منه‪ .‬لكن مخاوفي من نتيجة ذلك تجعلني أھرب‬ ‫لالنتحال‪ ،‬بادعائي أني على شاكلته‪ .‬ويفرضني ـ من جديد ـ‬ ‫بسطوته على النزالء َحك ًما في أبوغريب‪ ،‬كما كنت في‬ ‫اإلصالحية من قبل‪.‬‬ ‫الح لي الخالص منه مرة أخرى بعد إطالق سراحي‪ ،‬إثر‬ ‫ُ‬ ‫تنفست‬ ‫العفو الذي أصدره القائد الضرورة قُبيل زوال حكمه‪.‬‬ ‫‪ 123‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫صعداء األمل‪ ،‬خار ًجا من السجن متو ﱢجھًا حيث أحضان األم‬ ‫التي تتقبل ولدھا العائد على أية حال وبأية خيبة‪ .‬لكن صمتا‬ ‫مطبقا ً كان يعم أرجاء البيت الذي كان يضج بأحاديثھا معي‪،‬‬ ‫ونواعيھا على ناصر‪ ،‬وأبي من قبله‪ ...‬فقد ذھبت إلى العالم‬ ‫اآلخر‪ ،‬حيث زوجھا وولدھا القتيلين‪.‬‬ ‫ھل كانت تنعاني في غيابي حيا ً؟ ليتني سمعت تلك النواعي‪...‬‬ ‫ال بد أن للمفقود حيًّا نواعي تختلف عن المفقود ميﱢتًا؟‬ ‫ُ‬ ‫تمنيت أن تستقبلني بعد خروجي من أبو غريب‪ ،‬لتذيب الجليد‬ ‫الذي تراكم على روحي من سنين السجن الرتيبة الباردة؛‬ ‫فتغمرني بأحضانھا الدافئة‪.‬‬ ‫شعور راودني سابقا عند خروجي من السجن اإلصالحي‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫تمنيت أن يستقبلني ناصر‬ ‫فتى نبت الشعر بعارضيه‪ ،‬حيث‬ ‫بأحضان األبوة التي ع ﱠودني عليھا منذ يتمي المبكر‪ ،‬ليزيل‬ ‫ُ‬ ‫تمنيت أن يقول لي‬ ‫شيئا ً من معاناتي‪ ،‬بسبب رفقة سمير‪.‬‬ ‫ناصر‪ :‬السجن للرجال‪ ،‬لقد قمت بتضحية كبيرة بدالً عني‪.‬‬ ‫‪ 124‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫جلﱡ ما كنت أبتغيته من لقاء ناصر ھذه الكلمات‪ ،‬وجلﱡ ما‬ ‫كنت أبتغيته من لقاء أمي بعد خروجي من سجن أبوغريب‪،‬‬ ‫ھو حضن دافئ وكلمات صادقة‪ ،‬تُعينني على البحث عني‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ضعت مني‪ ...‬بين السجون واألصنام والدمى‪ ،‬وسئمت‬ ‫لقد‬ ‫الدمية التي أصبحتھا‪ .‬سئمت سجن األقدار الكبير الذي‬ ‫ُ‬ ‫أصبت بداء الحنين بسبب‬ ‫صارت تقبع فيه ذاتي المفقودة‪ ،‬و‬ ‫غربتي الداخلية‪.‬‬ ‫كان طيف أمي يراودني في كل زاوية من زوايا البيت‪،‬‬ ‫أتشمم رائحتھا في بقايا مالبسھا السوداء‪ ،‬أسمع صدى‬ ‫نواعيھا‪ ،‬أُقلبُ بقايا أغراضھا بحثا عن عبق األمومة‬ ‫فيھا‪ ،‬أتصفح صورھا ألحاول استعادة نظراتھا الحانية‪.‬‬ ‫نظرات كنت أرى نفسي فيھا أيام اإلجازة من الجيش‪ ،‬في‬ ‫تلك السنين التي قضيتھا بين سجن وآخر بحال أشبه بھما‪،‬‬ ‫سوى أنھا كانت خالية من سمير‪ ،‬وھذا ما أعانني على‬ ‫ُ‬ ‫كنت سخيا ً جداً في تبديد عمر‬ ‫احتمالھا واعتبارھا حياة‪.‬‬ ‫قضيتُه في الضياع‪ ،‬حي مع وقف التنفيذ أو ميت بنيﱠ ِة الحياة!‬ ‫‪ 125‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫أل ﱠح ْ‬ ‫ي في تلك األيام فكرة السفر‪ ،‬لترك كوثاريا بأ ْسرھا‬ ‫ت عل ﱠ‬ ‫ألم ماتت‬ ‫إلى األبد‪ ،‬لم يب َ‬ ‫ق لي فيھا سوى بعض ذكريات ٍ‬ ‫بالحزن المؤبد‪ ،‬وأب وأخ قتيلين‪ ،‬ألسباب تافھة‪.‬‬ ‫لكل مواطن معنى مكنون في صميمه عن وطنه‪ ،‬ومعنى ھذا‬ ‫المستوطن بالنسبة لي ھو األھل واألحبة‪ .‬وأولئك صاروا‬ ‫تحت التراب‪ ،‬فتحولوا إلى مشاعر وأحاسيس مكنونة في‬ ‫داخلي أحملھا معي حيث أذھب‪.‬‬ ‫كوثاريا صارت مستوطنا ً آخر‪ ،‬للضرورات وأشباحھا‪،‬‬ ‫ولسمير ونبيل‪ ،‬ولألصنام التي تقف في مركز الدائرة لمدنه‬ ‫المدورة‪ .‬ﱡ‬ ‫بت أشعر بغربة مر ﱠكبة فيه‪ ،‬غربة داخلية وغربة‬ ‫خارجية‪.‬‬ ‫صارت كوثاريا بل ًدا للمسوخ الذين يتصورون أنھم أھلھا‪ .‬لِ َم‬ ‫ال أھاجر إلى مدن أخرى غير مدورة؟ حتى ال أدور في‬ ‫دائرة مغلقة‪ .‬مدن ال تنتصب فيھا أصنام عسكرية‪ ،‬بل‬ ‫تنتصب فيھا أصنام مدنية عارية‪ ،‬ال تُرعب من يراھا‪،‬‬ ‫‪ 126‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫عار من الماضي‪ ،‬كما‬ ‫ولسان حالھا يقول كل يوم‪ :‬أنت‬ ‫ٍ‬ ‫ولدتك أمك‪ ،‬ويمكنك أن تبدأ من جديد‪.‬‬ ‫تتبعت لفترة ـ ليست بالقصيرة ـ أخبار المھربين‬ ‫والمھاجرين‪ ،‬وسبل الھجرة لبلد يمكنني أن أبحث عن ذاتي‬ ‫المفقودة فيه‪ .‬سنحت لي فرص عديدة أثناء بحثي عن المنفى‬ ‫االختياري المنشود‪ ،‬لم أغتنمھا بحثًا عن األفضل‪ ،‬وحرصا ً‬ ‫مني على عدم الوقوع في سوء االختيار‪ ،‬ولن ينفعني الندم‬ ‫بعدھا‪ ،‬ألنھا ستكون فرصتي األخيرة بالخالص‪ .‬اجتررت‬ ‫أياما ً متشابھة رتيبة كنفق مظلم‪ ،‬في آخره بصيص ضوء‬ ‫الھجرة‪.‬‬ ‫يُ ْت ٌم مب ﱢك ٌر وما يقتضيه من حرمان‪ ،‬عدم شعور بالطمأنينة‬ ‫حيال القادم ‪ ،‬حروب طاحنة ال يكاد ينطفئ أوارھا حتى يعود‬ ‫مرة أخرى أكثر استعاراً‪ ،‬تُحرق اآلمال واألحالم بغ ٍد أفضل‪.‬‬ ‫دوامة ثأر ال تفتر حتى تبدأ من جديد‪ ،‬متواصلةً ً‬ ‫جيال بعد‬ ‫جيل‪ ،‬صن ٌم ضرورة يصنع اليأس الذي يجعل الجميع يفكرون‬ ‫في التغالب ال غير‪ ،‬سجون تلد المسوخ تلو المسوخ‪ ،‬مدن‬ ‫‪ 127‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫مدورة يدور ساكنوھا بين كل ذلك في دائرة مغلقة‪ ،‬مشوھي‬ ‫النفوس يبحثون عن ال شيء‪ ...‬جعل كل ذلك كوثاريا في‬ ‫عيون الكثيرين ﱟ‬ ‫كقن كبير‪ ،‬تتصارع فيھا الديكة الكبار على‬ ‫النفوذ‪ ،‬ويذھب اآلخرون ضحايا لذلك الصراع‪ ،‬بين حي‬ ‫وميت‪ .‬رسم كل ذلك لحياة الكثيرين مسارات كثيرة بين‬ ‫العنف واالستالب‪ ،‬وجعلنا نركب ھذا المركب الصعب‪،‬‬ ‫صنع منا مجموعة من الدمى ضاعت بينھا ذواتنا‪.‬‬ ‫لوال كل ھذا‪ ،‬ربما كان ھنالك عدد غير منت ٍه من المسارات‬ ‫مسار كنا سنسلك؟ وكيف سنكون حينھا؟‬ ‫ي‬ ‫لحياتنا؟ أ ُ‬ ‫ٍ‬ ‫غادرني ھاجس الھجرة الذي ألح علي كثي ًرا آنذاك‪ ،‬تبددت‬ ‫ً‬ ‫طويال وظننتھا ترياق الحياة‪ ،‬عندما‬ ‫فكرتھا التي عشتھا‬ ‫رأيت الصنم يھوي إلى األرض‪ ،‬يُجر بالحبال! لتُفتح بجره‬ ‫المدن المدورة وتتحول إلى دوائر مفتوحة‪ ،‬ال يقف الموت‬ ‫فيھا على مسافة متساوية من الجميع‪ ،‬بل يقف األمل بدالً‬ ‫منه‪ ،‬ينفض عن ثيابه غبار يأس عقود ماضية من كبت‬ ‫وعسكرة وموت مجاني‪ .‬رأيت غيوم العھد الجديد تمطر‬ ‫‪ 128‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫مقابر األحالم بآمال منتظرة‪ ،‬وتتبدد شيئا ً فشيئا ً عن شمسه‬ ‫ي أن من سيقفون بدالً من الصنم في مراكز‬ ‫الفتية‪ُ .‬خيل إل ﱠ‬ ‫المدن المدورة‪ ،‬سينفخون في صور العھد الجديد‪ ،‬ألرى‬ ‫األحالم تنسلﱡ من أجداث اليأس مسرعةً إلينا‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫عدلت عن فكرة‬ ‫رأيت الماء عائدا من الغربة مب ﱢشراً بالحياة؛ ف‬ ‫الھجرة‪ ،‬ألبقى قريبا من ذكرياتي‪ ،‬من ذاتي الضائعة‪ ،‬من‬ ‫البيت الذي يدور فيه طيف أمي وأستشعر فيه أنفاسھا‪...‬‬ ‫ألبقى قريبا ً من القبر الذي ينام فيه ناصر نومته األخيرة‪.‬‬ ‫استشعرت رفات ناصر تتوسلني البقاء‪ ،‬كأنھا تشعر بالدفء‬ ‫وھي ترقد تحت أطباق ثرى كوثاريا‪ .‬وتخاف أن يحتضن‬ ‫جر ٍأم نائية في المنفى الذي أريد الوصول إليه‬ ‫رفاتي ترابُ ِح ِ‬ ‫بأي ثمن‪ٍ ،‬أم لم تلدني كھذه األرض؛ فال أشعر بالدفء بعد‬ ‫ذلك‪ .‬أكاد أسمع ناصر يقول لي‪:‬‬ ‫ـ إني باق ھنا مع رفات األسالف‪ ،‬إن شئت فاذھب لوحدك‪.‬‬ ‫لقد عاد الماء؛ فما الداعي للھجرة؟ لم تعد المدن مدورة‬ ‫كالسابق‪ ،‬ومحرك الدمى اتضح أنه دمية أيضا‪ ،‬قرر‬ ‫‪ 129‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫المتالعبون بھا إنھاء الدور الذي كانت تمثله على مسرح‬ ‫الحياة‪ .‬ولم يعد لسمير سلطان عليك‪.‬‬ ‫لم أصدق أول األمر أن كل شيء كان وھ ًما! وأن كل الدوائر‬ ‫التي فتحت بدأت تعود لالنغالق من جديد‪ ،‬وبسرعة‬ ‫أسطورية عجيبة! فقد عادت األصنام تحكم البالد بأسماء‬ ‫جديدة‪ ،‬في فوضى عارمة‪ .‬كان ھنالك قائد ضرورة واحد‪،‬‬ ‫وھؤالء مجموعة من الضرورات‪ ،‬دمى يحركھا آخرون‪.‬‬ ‫وأشباح الضرورة مستكلبون على إعادة كل شيء إلى ما كان‬ ‫عليه‪.‬‬ ‫ھنالك اليوم من يتسابق بنا جمعيا لتحقيق مكاسب يريد‬ ‫تحقيقھا‪ ،‬كما كنا نتسابق بقمل المالبس األبيض أيام السجن‪.‬‬ ‫صرنا ننتھي نفس النھاية التي كانت تنتھيھا‪ُ ،‬مدھشين من‬ ‫تلك النھاية التي ال نعرف أسبابھا‪.‬‬ ‫إلى متى سنظل حطبا ً لنار يتدفأ بھا اآلخرون؟‬ ‫يظن المتقاتلون على جثة الوطن أنھم حقيقيون! لكنھم لو‬ ‫تلمسوا الخيوط الخفية التي تحركھم‪ ،‬لعرفوا أنھم دمى‬ ‫‪ 130‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫يحركھا الالعبون الحقيقيون‪ .‬كما حركني ناصر ألدخل‬ ‫السجن بدالً عنه‪ ،‬واستلم الخيوط سمير‪ ،‬وكل أولئك كان‬ ‫يحركھم الضرورة بخيوط مختلفة‪.‬‬ ‫أين أنا من كل ذلك؟ متى أقطع خيوطي الوھمية ھذه؟ متى‬ ‫أكون كما يُفترض بي أن أكون؟ فقد تصورت لمرات عديدة‬ ‫ُ‬ ‫أني قطعتھا‪،‬‬ ‫وتخلصت منھا‪ .‬لن يتم لي ذلك ّإال بالبحث عني‪،‬‬ ‫والغوص في أعماقي كصياد ماھر إليجادي‪ .‬ما أجدت‬ ‫انتحال الشخصيات في الحياة خارج السجن‪ّ ،‬إال ألني مزيف‬ ‫كدمية يحركھا اآلخرون‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫عدت أتھيأ للھجرة من جديد‪ ،‬متأسفا ً على الوقت الذي‬ ‫ُ‬ ‫أصبحت قاب‬ ‫أمضيته في تصديق فجر كاذب‪ ،‬وآمال مزيفة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫بعت بيت‬ ‫قوسين أو أدنى من الھجرة بإصداري جواز سفر‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫وقبضت جز ًءامن ثمنه‪ ،‬بانتظار أن أقبض ما تبقى؛‬ ‫الذكريات‬ ‫فيأتي ھذا اليوم المشؤوم‪ ،‬ويرسل سمير من يختطفني‪،‬‬ ‫ويجعلني في قبضته من جديد‪.‬‬

‫‪ 131‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫الفصل الرابع‬ ‫الذات المفقودة‬ ‫‪ 132‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫بساط الريح‬ ‫خرجت صبا ًحا من مزرعة الجثث كمن يُبعث من قبره‪ ،‬غير‬ ‫ُ‬ ‫خرجت كعصفور‬ ‫مصدق بأنه يمكن أن يُبعث من جديد‪.‬‬ ‫يخرج من القفص‪ ،‬بعد يأسه المطلق من بصيص أمل‪ ،‬ال‬ ‫يدري أين يذھب وعلى أي شجرة يحط‪ .‬لقد كان ذلك اليوم ـ‬ ‫الذي اختطفني فيه سمير ـ وليلته دھرا كامالً من الخوف‬ ‫واالنتظار‪ ،‬كانا كافيين بالقدر الالزم لسلب قدرة أجنحتي‬ ‫على الطيران والتحليق عاليًا‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫نجحت في إقناع سمير بأني صرت واحدا من مجموعته‪.‬‬ ‫وأصررت على أن أكون الرابط بينه وبين المجموعات‬ ‫األخرى‪ ،‬التي تعمل بإمرته في المدن األخرى‪ ،‬باإلضافة إلى‬ ‫اإلصغاء إليه كلما أراد الحديث عن فوزية‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫أصبحت أسافر كل يوم إلى إحدى المدن القريبة من‬ ‫العاصمة‪ ،‬ألزور واحدة من تلك المجموعات‪ .‬أنقل إليھم‬ ‫تعليمات سمير التي ز ﱠودني بھا حرفيا ً‪ .‬في كل مدينة مجموعة‬ ‫‪ 133‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫تابعة له‪ ،‬ش ﱠكلھا زمالء سابقون من الخفافيش البشرية الذين‬ ‫على شاكلته‪.‬‬ ‫أجدت دور الرابط بينه وبينھم ببراعة‪ ،‬كي ال يش ﱡكوا بنيﱠتي‬ ‫في الفرار من براثن الوضع المزري الذي وضعني فيه‬ ‫القدر‪ ،‬كما فعل بي في كل مرحلة من مراحل العمر‪ .‬سمير ال‬ ‫يثق بوسائل االتصال الحديثة‪ ،‬يعتبرھا ُمراقبة‪ .‬كان يعتمد‬ ‫على االتصال المباشر‪ ،‬من خالل رابط يختاره ممن يثق بھم‬ ‫ثقةً كبيرة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫نقلت تعليماته لكل مجموعة التقيتھا‪ ،‬بكل حرص وأمانة؛‬ ‫فربما كان له رابط غيري ـ ال أعرفه ـ أوصاه بمراقبتي‪.‬‬ ‫أعطيتھم معلومات عن األماكن التي يمكنھم الحصول على‬ ‫المال من خاللھا‪.‬‬ ‫كانوا خليطًا غير متجانس من مختلف شرائح المجتمع‪،‬‬ ‫مسؤولين في الحكومة‪ ،‬رجال دين‪ ،‬ضباط ‪ ،‬مقاولين‪ ،‬شيوخ‬ ‫عشائر‪ ،‬والكثير من السجناء السابقين‪.‬‬ ‫‪ 134‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫ُ‬ ‫طلبت من سمير أن يسمح لي بعدم العودة كل يوم إلى‬ ‫المزرعة ـ لحين تنفيذ المھمة ـ خوفا ً من أن يالحقني أحد‬ ‫وينكشف أمرنا‪.‬‬ ‫عند عودتي من المھمة إلى المدينة عصر كل يوم‪ ،‬أحاول‬ ‫ترتيب متطلبات السفر‪ ،‬من توفير المبلغ الالزم لذلك‪ ،‬من‬ ‫خالل الحصول على ما تبقى من ثمن بيت العائلة الذي بعته‬ ‫استعداداً للھجرة‪ ،‬والذھاب بعيداً والخروج لألبد من ھذا النفق‬ ‫المظلم الذي يسمى الوطن‪ .‬كانت الھجرة نقطة ضوء في آخر‬ ‫النفق‪.‬‬ ‫وھاھو بساط الريح يحملني كسندباد خارج لتوه من مغامرة‬ ‫مرعبة‪ ،‬شعور راودني عند ركوبي السيارة المتوجھة إلى‬ ‫الحدود الغربية نحو الھالل الخصيب‪ .‬مصباح عالء الدين‬ ‫السحري في جيبي‪ ،‬أتحسسه كل لحظة ألخرجه في الوقت‬ ‫المناسب؛ فيمنحني فرصة الذھاب بعيداً عنه‪ ،‬الى بلد اخر‬ ‫اكثر بُعداً عن كوثاريا‪.‬‬

‫‪ 135‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫عدد كبير من أشباح الضرورة الھاربين من الوضع الجديد‬ ‫يتلقون مني أخبار كوثاريا بشغف كبير‪ ،‬وعندما أنقل لھم‬ ‫أخبار عمليات سمير وأتباعه ـ وكأنني من منفذيھا ـ يتلقونھا‬ ‫بفخر شديد وتزداد وجوھھم صلفا ً‪.‬‬ ‫ـ لن يھنئوا بھا‪ ...‬شعار كانوا يرددونه خالل الحديث معي‪.‬‬ ‫كي أجيد تمثيل الدور عليھم بشكل مقنع‪ ،‬قلت لھم‪:‬‬ ‫ـ اختلط الحابل بالنابل في كوثاريا‪ ،‬وأنصاركم في كل مكان‪،‬‬ ‫حتى في المفاصل الحساسة للنظام الجديد‪ .‬يحاولون زعزعة‬ ‫ثقة الناس به وخلط األمور‪ .‬وبھذا سيضطر الكثيرون تمني‬ ‫عودة الماضي؛ فتسنح لكم فرصة العودة من جديد بأسماء‬ ‫وشعارات جديدة‪ ،‬مستفيدين من تجاربكم السابقة‪ ،‬وتجربتكم‬ ‫الحالية‪ ،‬في السيطرة وعدم زعزعتكم إلى األبد‪ .‬كل مرة‬ ‫يحصل ممثلوكم في النظام الجديد على مكاسب جديدة‪،‬‬ ‫وبقانون النظام الجديد نفسه‪ ،‬لقد باتت عودتكم وشيكة‪.‬‬ ‫كانت مالمحھم الصلفة تتھلل فرحا كلما تحدثت عن ذلك‪،‬‬ ‫وتزداد كلماتھم حماسة وشعارات جوفاء تصك سمعي‪ ،‬وتثير‬ ‫‪ 136‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫صا في أمعائي‪ ،‬كالذي كنت أعانيه عندما ألتقي بسمير‪.‬‬ ‫مغ ً‬ ‫رأيته في عيونھم ينظر إلي‪ ،‬ويخرج لسانه مستھينا بي‪،‬‬ ‫يتوعد باالنتقام مني‪ ...‬فأتحامل على نفسي‪ ،‬وأتحاشى النظر‬ ‫في عيونھم‪ ،‬التي تملؤھا نظرات الشك والريب‪ ،‬وذلك إلخفاء‬ ‫شعوري بالمغص الذي يكاد يمزق أحشائي‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫تمكنت من الحصول على ثقتھم‪ ،‬ثقة عمياء‬ ‫في النھاية‬ ‫سريعة‪ ،‬منحتني في غضون أيام قليلة مكانا ً مجانيا ً للسكن‬ ‫بينھم كبطل خرافي‪ ،‬يمنحھم اآلمال والوعود لتنفيذ كل ما‬ ‫ُ‬ ‫حللت ضيفًا عزي ًزا عليھم‪ ،‬ريثما أسافر إلى البلد‬ ‫يطلبون‪.‬‬ ‫المجاور‪ ،‬لتنفيذ المھمة السرية المزعومة‪ ،‬التي أتيت من أجل‬ ‫تنفيذھا‪ ،‬وأقنعتھم بالقدوم من أجلھا عندما قلت لھم‪:‬‬ ‫ـ سأذھب أللتقي شخصية مھمة ھناك‪ ،‬لقاء يُتوقع له أن يكون‬ ‫ناج ًحا‪ ،‬بل ھو نقلة نوعية في عالقاتنا الخارجية‪ .‬وسأنقل إلى‬ ‫الداخل بعد عودتي أخباركم ومساعدتكم لي في ذلك‪ .‬سأكون‬ ‫بإنتظاركم يو ًما ما‪ ،‬عند إحدى بوابات مدينتكم المدورة‬ ‫المنصورة دوما ً منذ أُسست‪.‬‬ ‫‪ 137‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫رددت بشكل ببغائي ما كان يردده سمير دوما ً‪:‬‬ ‫ـ كوثاريا بلدكم‪ ،‬ال بلد الذين تمأل الصحاري‪ ،‬األنھار‪،‬‬ ‫ثالجات الطب العدلي‪ ،‬جثثھم؛ فھم وقود للمحرقة ال أكثر‪...‬‬

‫‪ 138‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫قلب ﷲ‬ ‫ُ‬ ‫ألححت على الضرورات الذين التقيتھم في الھالل الخصيب ـ‬ ‫وبإصرار شديد ـ على تزويدي بأسماء وعناوين أشخاص‬ ‫يساعدونني‪ ،‬ويوفرون لي كل ما أحتاجه‪ ،‬لتنفيذ المھمة‬ ‫المزعومة التي أتيت من أجلھا في البلد المجاور‪ .‬وذلك‬ ‫ألتجنب الذھاب إليھم‪ ،‬وإلى المدن التي يسكنونھا ھناك؛‬ ‫فينقطع الخيط األخير الذي قد يربطني بسمير وكوثاريا‪.‬‬ ‫قررت أن أقيم بشكل مؤقت في ذلك البلد الجميل؛ فاشتغلت‬ ‫بواب عمارة‪ ،‬وغيرت اسمي ولھجتي‪ ،‬واختلقت قصة جديدة‬ ‫لحياتي‪ .‬أحطت نفسي بوھم‪ ،‬منحني مجاالً للخالص من‬ ‫الماضي بشكل مؤقت‪ ،‬وسيمنحني فرضة للتفكير في كيفية‬ ‫االنطالق إلى جزيرة النحاس‪ ،‬التي تقع في عرض البحر‪،‬‬ ‫الذي يفصل بين أرض األحالم ومقابر األحالم‪ ،‬لعلي أتمكن‬ ‫ھناك من ترتيب محاولة السفر إلى بالد األحالم‪ ،‬ألعيش‬ ‫حياة جديدة وأك ﱢون أسرة أجنﱢبُھا ك ﱠل ما مر بي‪ ،‬لعلي أجد‬ ‫نفسي التي ضاعت بين براثن الضرورة وناصر وسمير‬ ‫‪ 139‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫والمجتمع والظروف‪ ...‬حتى وجدتني أحاول لملمة ما اقتطعه‬ ‫كل واحد منھم‪ ،‬ألعيد تشكيل صورتي المفقودة‪.‬‬ ‫استھوتني اإلقامة المؤقتة في ذلك البلد‪ ،‬الوسطي المتسامح‬ ‫في ثقافته وعاداته وتقاليده؛ فھو ملتقى للجھات األربع‬ ‫المختلفة‪ ،‬أخذ من كل جھة منھا شيئا ً مختلفا وخرج من ذلك‬ ‫االختالف بمزيج يمكنني أال أكون نشازا فيه‪.‬‬ ‫تحركت مشاعري للمرة األولى تجاه إحدى أشجار الطيب‪،‬‬ ‫التي كنت أراھا أينما وجھت نظري‪ .‬كانت شقيقة زوجة‬ ‫بواب العمارة المجاورة‪ ،‬شجرة طيب فواحة‪ ،‬تختلف عن‬ ‫أشجار الصفصاف التي كنت أراھا في كوثاريا‪ ،‬والتي لم‬ ‫تشعرني يوما ً بالدافع الضروري لتسلقھا‪.‬‬ ‫استشعرت وفي أكثر من مرة رغبتھا في ذلك‪ .‬كان تغنجھا‬ ‫ومالمحھا الفاتنة تزيد رغباتي استعاراً في كل مرة أراھا‬ ‫فيھا‪ .‬كنت أستمع لكلماتھا اللينة الممطوطة‪ ،‬تخرج من األنف‬ ‫مباشرة مع استعمال قليل لشفاه كحبات الكرز رقة عذوبة‪،‬‬ ‫وقدرة على إطفاء الظمأ‪.‬‬ ‫‪ 140‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫ُ‬ ‫أيقنت أن من سمى ھذا البلد )قلب ﷲ( لم يكن مخطئًا‪...‬‬ ‫فھاھو قلبي يدق فيه للمرة األولى‪ .‬شعور لم يراودني في‬ ‫حياتي السابقة‪ ،‬عندما كنت قريبا ً من سمير بعيداً عنه بنفس‬ ‫ي في أي لحظة‪ ،‬فال‬ ‫الوقت‪ ،‬كما الموت الذي قد ينقضﱡ عل ﱠ‬ ‫يجعلني في مزاج جيد لالستمتاع بالحياة‪.‬‬ ‫اعتبرت ھذا الشعور بشارة خير أولى‪ ،‬تبشرني بقرب‬ ‫عثوري على ذاتي التي أضعتھا‪ ...‬فعندما أُقبل على الحياة‪،‬‬ ‫وأخطط لرسم مسار جديد لھا‪ ،‬فھذا يعني أنني إنسان‪ ،‬أنني‬ ‫حي‪ .‬عندما أشعر بالحاجة لالتصال بالجنس اآلخر‪ ،‬إذن‬ ‫يمكنني التقدم أكثر في عملية البحث عني‪ .‬وربما لو نفذت‬ ‫تلك الرغبات التي تجيش بداخلي‪ ،‬فقد أحصل على نتائج‬ ‫طيبة‪.‬‬ ‫شعور أجربه ألول مرة باالنجذاب نحو شخص آخر‪ ،‬بھذا‬ ‫ُ‬ ‫أصبحت أرى كل شيء مختلفًا‪،‬‬ ‫المقدار الغريب من الجاذبية!‬ ‫كمن يرتدي نظارة وردية‪ ،‬ويرى كل األشياء بلونھا الحميم‪،‬‬ ‫صار الصبح مختلفا ً عن الليل ألول مرة في حياتي‪.‬‬ ‫‪ 141‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫بدا لي أن ذاتي الضائعة بداخلي ھي التي انجذبت نحو شجرة‬ ‫الطيب الفواحة تلك‪ ،‬وھذه إشارة منھا كي تدلني عليھا‪ .‬لم‬ ‫أعھد يوما ً أن انجذبت أي من الدمى التي تعتمل بداخلي نحو‬ ‫أي أنثى‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫عزمت على التمسك بخيط الجاذبية ھذا‪ ،‬ورسم خارطة‬ ‫طريق جديدة لحياتي‪ ،‬فإن تتبعته أكثر وسرت خلفه‪ ،‬فربما‬ ‫أجد ضالتي المنشودة‪ ،‬بوصولي نھاية ھذا الخيط‪ ،‬حتما‬ ‫سأضع نھاية للضياع‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫وجدت ضالتي‪..‬‬ ‫ربما لن أغادر )قلب ﷲ( إن‬ ‫لكن فحولتي المؤجلة سنين طويلة‪ ،‬لم تمنحني القدرة الالزمة‬ ‫على القيام بتسلق شجرة الطيب تلك ـ ولو لمرة واحدة ـ رغم‬ ‫توفر أكثر من فرصة للتسلق!‬ ‫ْ‬ ‫أمست تمقتني بشدة‪ ،‬وتقذعني بأبشع الكلمات التي تخدش‬ ‫رجولتي‪ ،‬وسط دھشتي الكبيرة لعجزي عن تسلقھا! كنت‬ ‫بحاجة لمرة واحدة فقط‪...‬‬ ‫‪ 142‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫غربة في الوطن رأيت أبشع وجوھھا بدخولي السجن عدة‬ ‫مرات‪ .‬ليتني ارتكبت تلك الجرائم‪ ،‬لما صرت دمية تحركھا‬ ‫األقدار والضرورات‪ .‬يُ ْت ٌم ُم َر ﱠكبٌ لفقد ناصر الذي صار أبا‬ ‫ثانيا بعد األب الذي صبغت دماءه مياه الساقية‪ .‬تاله فقد ِحجر‬ ‫األم الدافئ ومرفأ االستراحة بين سجن وسجن‪ ،‬وضياع‬ ‫وآخر‪ .‬وھا أنا أھرب وحيداً من غربتي الداخلية إلى غربة‬ ‫المنافي‪ ،‬معتق ًدا أني أبحث عن ذاتي المفقودة‪ .‬وال أدري إن‬ ‫كنت ھاربا منھا بنية البحث عنھا؟‬ ‫لكن الخالص جدير بالمحاولة‪ ،‬وسأحاول مادمت قادرا ً‪...‬‬ ‫وذلك بھجرتي من غربة الوطن إلى غربة المنفى‪ ،‬أھاجر من‬ ‫غربتي الداخلية بحثا ً عن ذاتي لعلي أجدھا؛ فتصير وطننا ً‪،‬‬ ‫أھالً‪ ،‬أصدقاء‪ ،‬حبيبة‪ ،‬في أي مكان أستق ُر فيه‪.‬‬ ‫أي وطن ذاك الذي ال أھل لي فيه‪ ،‬ال أصدقاء‪ ،‬ال حبيبة؟ ھل‬ ‫كان أھلي ھُم أمي وناصر؟ ھل كنت غريبا عنھم أم أنھم‬ ‫كانوا غرباء عني؟ ھل كان سمير ونبيل وحازم وسالم‬ ‫والذين تعرفت عليھم في الجيش أو في السنوات التي عشتھا‬ ‫‪ 143‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫بين السجنين‪ ،‬أصدقاء أم أعداء؟ شجرة الطيب في )قلب ﷲ(‬ ‫ھل كانت حبيبة أم شيئا آخر؟‬ ‫ھل وطني الحقيقي ھو المكان الذي سأجد فيه ذاتي‪ ،‬فحولتي‪،‬‬ ‫أھلي‪ ،‬أصدقائي‪ ،‬أحبتي؟ وكل ذلك ھل سيساعدني في عملية‬ ‫البحث عني؟‬

‫‪ 144‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫جزيرة النحاس‬ ‫ُ‬ ‫دلفت إلى المقھى الذي كنت أرتاده يوميًّا‪ ،‬متأبطا أملي‬ ‫بالحصول على حياة أفضل‪ ،‬في محطتي الجديدة التي أروم‬ ‫الھجرة إليھا‪ .‬لد ﱠ‬ ‫ب‪ ،‬وسأتفق معه على‬ ‫ي موعد مع المھرﱢ ِ‬ ‫كيفية تھريبي من جزيرة النحاس إلى أرض األحالم‪...‬‬ ‫كان مقھى يعج بالغرباء على ضفاف تلك الجزيرة الجميلة‪،‬‬ ‫التي يتضح فيھا للعيان انصھار الكثير من الحضارات في‬ ‫بوتقتھا‪ .‬سياح كثر‪ ،‬مالمح السكان متعددة‪ ،‬لغات متعددة‪.‬‬ ‫بدت لي في عرض البحر‪ ،‬مثل واحة في عرض الصحراء‪.‬‬ ‫أستريح فيھا لفترة‪ ،‬واتخذھا محطة مؤقتة لحين تدبير أمور‬ ‫سفري إلى أرض األحالم التي يمكن أن أبدأ فيھا من جديد‪.‬‬ ‫جزيرة النحاس محطة أخيرة‪ ،‬لرحلة الھرب من سمير‬ ‫وكوثاريا إلى األبد‪ .‬نحاسھا الدافئ في ذلك الصيف الذي‬ ‫يختلف عن صيف مدينتي المدورة‪ ،‬الحار دوما ً مثل‬ ‫الرصاص‪َ ،‬منَ َحني مزيدا من الوقت للتعرف على الكثيرين‬ ‫‪ 145‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫من الذين يفھمون لغتي؛ فقد أجدت انتحال الشخصية التي‬ ‫يمكنھم االطمئنان إليھا‪.‬‬ ‫وعدني )بولص( ـ المھاجر من أجل كرامته ھو اآلخر ـ بأن‬ ‫يرتب لي موعداً مع أحد المھربين؛ فصارت الدنيا واسعة في‬ ‫عيني كما يفترض أن تتسع‪ .‬أجنحة اآلمال صارت تنبت على‬ ‫كتفي كأجنحة نسور عمالقة‪ ،‬لتحملني عبر البحر الشاسع إلى‬ ‫ھناك‪ ،‬حيث ال يوجد شبح للضرورة‪.‬‬ ‫كنت في ذلك المقھى أعد الدقائق الثقيلة لحضور )بولص(‬ ‫والمھرب؛ فقد كان حضوري قبل ساعة من أھم موعد في‬ ‫حياتي أمراً مريعا ً‪ ،‬ساعة ال تنقضي‪...‬‬ ‫ُ‬ ‫حاولت إشغال نفسي بالتدخين‪ ،‬ومشاھدة التلفاز‪ ،‬والتنقل‬ ‫بعيني المنتظرتين بين رواد المقھى‪ ،‬واالستماع ضجراً‬ ‫ألحاديثھم التي ال أفھم أكثرھا‪...‬‬ ‫نادل المقھى عربي مھاجر من مدن الجحيم مثلي‪ ،‬عرفني‬ ‫عليه بولص في األيام األولى من قدومي إلى الجزيرة‪ .‬كان‬ ‫يتنقل بين قنوات التلفاز بحثا ً عن قناة ما‪ ،‬وربما كان ال يبحث‬ ‫‪ 146‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫عن شي سوى التنقل العشوائي بين قنواته‪ .‬ھذا التنقل‬ ‫العشوائي لم يشعرني برغبة لمتابعة أي برنامج فيه قتالً‬ ‫للوقت‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫مستحيال سيصير‬ ‫تململت في جلستي منتظ ًرا‪ ،‬أتخيل ما كان‬ ‫متا ًحا أمامي في األرض الواسعة التي ال يفصلني عنھا سوى‬ ‫لقائي المرتقب مع المھرب‪ .‬وأركب بعدھا عباب البحر حيث‬ ‫ال توجد مدن مدورة‪ ،‬يدور فيھا الناس سكارى وما ھم‬ ‫بسكارى‪ ،‬ولكن معين الضرورات ال ينضب‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫تخيلت أني رأيت صورة سمير في تلفاز المقھى مبتس ًما!‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫أصبحت أتخيل صورته! إنه‬ ‫ضحكت من نفسي‪ ...‬ھل‬ ‫يالحقني حتى في المنام مثل كابوس يتكرر علي كل ليلة‪،‬‬ ‫ويخرج لي من عيون أي شخص أحدثه‪ ،‬دالقا لسانه لي‪:‬‬ ‫ـ ستعود ‪ ،‬أينما ذھبت ‪ ،‬ستعود‪...‬‬ ‫ضا! تصورت أن‬ ‫وھاھو يظھر لي على شاشة التلفاز أي ً‬ ‫خوفي ھو الذي يجعل صورته مجسمة أمام عيني أينما‬ ‫أشحت بوجھي‪.‬‬ ‫‪ 147‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫ما ھي إال دقائق وألتقي بالمھرب‪ ،‬أتفق معه على ثمن وموعد‬ ‫تھريبي؛ فأبدأ حياة جديدة‪ ،‬أنسى كل ما مضى‪...‬‬ ‫ـ إنه ھو‪!!! ...‬‬ ‫خرجت ھاتان الكلمتان من أعماقي‪ ،‬عندما حانت مني التفاتة‬ ‫أخرى للتلفاز‪ ،‬كحمم تتسابق للخروج من فوھة بركان يكاد‬ ‫ينفجر بين لحظة وأخرى‪ ،‬ليحيل كل ما حوله إلى رماد‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫طلبت من النادل إعادة الصورة في التلفاز‪ ،‬وفرائصي ترتعد‬ ‫لھول المفاجأة‪ ،‬والدم ينز في عروقي‪ ...‬اندھش النادل لردة‬ ‫فعلي الغريبة‪ ،‬وحدق بي كمن يحدق في وجه مخبول‪ ...‬فقال‪:‬‬ ‫ـ إنھا دعاية إعالمية‪ ،‬لحملة انتخابية في كوثاريا‪.‬‬ ‫ـ ) ‪!!! ( ...‬‬ ‫ـ ألم تقل أنك من ھناك؟‬ ‫ُ‬ ‫خرجت على الفور مسر ًعا كحافلة تعطلت فراملھا‪،‬‬ ‫اصطدمت بشخصين عند الباب‪ ،‬ربما كانا بولص والمھرب‪.‬‬ ‫حدقا بي مندھشين! النادل يشيعني بنظراته مناديا ً‪:‬‬ ‫‪ 148‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫ـ الحساب‪...‬‬ ‫ـ ) ‪!!! ( ....‬‬ ‫ُ‬ ‫تخيلت أن بولص وقف متحيراً في باب المقھى‪ ،‬وذلك‬ ‫ُ‬ ‫وعدت أن‬ ‫لمغادرتي موعداً انتظرته بفارغ الصبر‪ ،‬موعد‬ ‫أدفع من أجله ضعف ما يستحق‪ .‬صفقته الرابحة ستفشل‬ ‫بذھابي قبل أن ألتقي المھرب؛ فحاول استعادتھا يائسا ً‬ ‫بمناداتي‪:‬‬ ‫ـ الموعد‪...‬‬ ‫ـ ) ‪( ....‬‬ ‫ليس أمامي متسع من الوقت ألشرح لھما تفاصيل الكارثة‬ ‫التي ستقع‪ ،‬يجب أن أعود بأسرع ما يمكن؛ فاإلخطبوط تزداد‬ ‫أذرعه عد ًدا وقوة‪ ،‬يريد ابتالع كوثاريا بأسرھا‪ .‬ما الذي‬ ‫يضمن أن ذاتي التي سأھاجر بحثًا عنھا سأجدھا ھناك؟‬ ‫ُ‬ ‫تيقنت عندما رأيت سمير على شاشة التلفاز مرشحا ً‪ ،‬أني‬ ‫تركتھا خلفي ھناك‪ ،‬حيث كان يجب أن أواجھه منذ البداية‪،‬‬ ‫‪ 149‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫لكنني أضعتھا بمجانبته‪ ،‬أضعتھا متص ﱢو ًرا أني أخبئھا حفاظا ً‬ ‫عليھا‪.‬‬ ‫جميعنا مشاركون بصنع المحرقة التي لم تكن برداً وسالما ً‬ ‫علينا كما كانت على إبراھيم؛ فھو استخدم فأسه لتحطيم‬ ‫مشعليھا‪ ،‬ونحن استخدمنا فؤوسنا لجمع الحطب وزيادة‬ ‫أوارھا؛ فصرنا حطبًا لھا‪.‬‬ ‫ـ الموعد‪ ،‬الحساب‪...‬‬ ‫كلمتان رددتھما كثيراً وأنا أحزم أمتعتي ألغادر الفندق‬ ‫متعجال‪ ،‬ولم تفارقا مخيلتي طوا َل الطريق من جزيرة‬ ‫النحاس إلى كوثاريا‪ ،‬مروراً بقلب ﷲ والھالل الخصيب‪.‬‬ ‫صارتا شفرة الدخول إلى مغارة القدر‪ ،‬إلى عالمي الحقيقي‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫إليجاد الذات التي‬ ‫كنت عليھا‪ ،‬وقضيت ما مضى من عمري‬ ‫بتخبئتھا‪ ،‬البحث عنھا بنفس الوقت‪ ،‬حتى أضعتھا‪ .‬وصلت‬ ‫لمرحلة يئست من إيجادھا‪ .‬واليوم في المرحلة األخيرة من‬ ‫رحلتي في البحث عنھا‪ ،‬ھا أنا أجدھا! تتعثر نظراتي بھا‬ ‫مصادفة على شاشة التلفاز‪ .‬ربما لم تكن مصادفة؟ ربما يوجد‬ ‫‪ 150‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫كتب ذلك‬ ‫كاتب للسيناريو ـ كما قال حمود األعرج ـ وقد‬ ‫َ‬ ‫عنوة لحكمة يعرفھا ھو وحده‪.‬‬ ‫في المرحلة األخيرة للھرب وفقدانھا إلى األبد‪ ،‬ھا أنا أجدھا‬ ‫ومالمحھا تتضح أمامي شيئا ً فشيئا ً بمجرد وصولي إلى‬ ‫كوثاريا‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫أ‬ ‫ضحيت أرى ُكنھي يخرج من العتمة إلى النور‪ ،‬منذ أن‬ ‫خطت قدمي أول خطوة داخل مزرعة الجثث‪ .‬ظھر بشكل‬ ‫تدريجي ھادئ أمامي‪ ،‬ربما أراد أن يخفف عل ّي ھول‬ ‫المفاجأة‪ ،‬لتتحمل أعصابي تقبل فرحة لقائه بعد فراق طويل‪.‬‬ ‫كأني أراه عند الباب يرفع قبعته‪:‬‬ ‫ـ أھال بعودتك‪...‬‬ ‫بمجرد أن رأيت شيئا ً من مالمحي أحسست بكاتب السيناريو‪،‬‬ ‫كان أكثر اقترابا ً مني‪ ،‬يكاد يكون لصق قلبي‪ .‬ربما ھو الذي‬ ‫اختار لي دوراً عشت فيه حياتي الماضية ھاربا ً من ذلك‬ ‫الدور‪ ،‬متخفﱢيًا خلف الشخصيات الكثيرة التي تلبﱠ ْستُھا بمختلف‬ ‫الوسائل‪ ،‬متوھما ً أني أبحث عن دوري‪.‬‬ ‫‪ 151‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫تمنيت أن ألتقي حمود ھناك‪ ،‬أخبره أني قد أعدت النظر‬ ‫بإيماني بكاتب السيناريو‪ ،‬كما وعدته‪ .‬أخبره أني رجعت إلى‬ ‫كوثاريا ألواجه قدري‪ .‬وأني خمنت السبب غير ال ُمعلن الذي‬ ‫دعا إبراھيم لعدم تحطيم مردوخ ووضع الفأس في عنقه‪.‬‬ ‫ربما كان إبراھيم يريد اإليحاء لنا بأن مھمة تحطيم األصنام‬ ‫ليست مھمته وحده‪ ،‬بل مھمة الجميع‪ ،‬ال بد لكل منا تحطيم‬ ‫أصنامه الداخلية بنفسه حتى يحين الخالص‪.‬‬ ‫كانت فأسي تدعوني منذ البداية لتحطيم أول مردوخ ألتقيه في‬ ‫اإلصالحية متمثالً بسمير‪ ،‬لكن جبني وتقاعسي جعالني‬ ‫أتحاشاه بانتحالي شخصيات على شاكلته‪ ،‬ألصير بذلك آزر‬ ‫جدي ًدا مثل الجميع‪ ،‬صانعي القائد الضرورة وغيره من‬ ‫الضرورات الصغار‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫رأيت كل شيء يبدو ھادئا في المزرعة‪ ،‬كما رأيته في المرة‬ ‫السابقة عندما جاءوا بي مخطوفا ً إليھا‪ .‬تعكره صيحات‬ ‫مكتومة تنبعث بين الحين واآلخر‪ ،‬كأحجار تھوي في بئر‬ ‫عميق من األلم والوحشة‪ ،‬ال أميز منھا سوى صوت فوزية‪.‬‬ ‫‪ 152‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫أرى طيفھا يسير بموازاتي‪ ،‬يظھر عن بعد تارة ويختفي‬ ‫أخرى خلف األشجار‪ .‬صورتھا مختلفة عن الصورة التي‬ ‫رسمھا سمير في ذھني‪ ،‬المرأة الجسد المشتھاة‪ ...‬تخيلتھا‬ ‫كوثاريا بلياليھا الواحدة بعد األلف‪ ،‬بسحرھا وجمالھا الذي‬ ‫تغزل به الشعراء‪.‬‬ ‫لقد أتمت شھرزاد الحكاية‪ ،‬وفي الليلة الثانية بعد األلف‪،‬‬ ‫الحت أمامي ضالتي المنشودة‪ ،‬كما كانت تلوح في عيني‬ ‫أمي من قبل‪.‬‬ ‫أشعر بطيفھا يؤازرني‪ ،‬يشد من عزيمتي في إنجاز ما كان‬ ‫يفترض بي إنجازه من البداية؛ فالشمس يمكن أن تُشرق من‬ ‫المغرب بعد حين‪ ،‬ليظھر بيننا إبراھيم آخر يكمل المھمة‪.‬‬ ‫لكوثاريا عينان مبتسمتان رغم كل آزر‪ ،‬وقحتان على الدموع‬ ‫كعيني فوزية‪ .‬اآلن اتضح لي قول الشاعر‪ :‬على أنھما‬ ‫شمسان منذ طفولته نائمتان في أھدابه‪ ،‬وبدأت أسمع أية أغنية‬ ‫تنشدان‪...‬‬ ‫‪ 153‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫عن المؤلف‬ ‫نعيم آل مسافر ‪.‬‬ ‫مواليد ‪ 1970‬العراق‪ /‬الشطرة ‪.‬‬ ‫ابتدأ النشر عام ‪. 1988‬‬ ‫صدر له ‪:‬‬ ‫كبوة جواد‪ /‬مجموعة شعرية‪ /‬عن منشورات مجلة الشرارة‪/‬‬ ‫العراق‪.2010 /‬‬ ‫تجاعيد وجه الماء مجموعة قصصية‪ /‬عن منشورات مجلة‬ ‫الشرارة‪ /‬العراق‪.2011 /‬‬ ‫حسون ‪ /313‬نصوص أدبية‪ /‬عن دار تموز ‪ /‬سوريا‪/‬‬ ‫‪.2012‬‬ ‫الرواق األخير‪ /‬مسرحية‪ /‬صدرت ضمن مجموعة مشركة‪/‬‬ ‫عن دار الضياء ‪.‬‬ ‫شظايا األصابع البنفسجية‪ /‬مسرحية‪ /‬مخطوط ‪.‬‬ ‫خروج عن النص‪ /‬مسرحية‪ /‬مخطوط ‪.‬‬ ‫‪ 154‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫كوثاريا‪ /‬رواية‪ /‬ط‪ 1‬صدرت عن دار ميزوبوتاميا‪/‬بغداد‪/‬‬ ‫‪.2014‬‬ ‫حاصل على مجموعة من الجوائز والشھادات التقديرية ‪.‬‬

‫‪ 155‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫صدر في ھذه السلسلة‬ ‫‪ -1‬جمال الجزيري‪ :‬مقھى األدباء‪ :‬رواية قصصية‪ .‬ط‪ ،1‬يونيو ‪2015‬‬ ‫‪http://www.mediafire.com/?zswdkv9aslw5h6j‬‬ ‫‪ -2‬جمال الجزيري‪ :‬خارطة العودة‪ :‬رواية تفاعلية غنائية‪ .‬ط‪ ،1‬يونيو ‪.2015‬‬ ‫‪http://www.mediafire.com/?ic8ob4o2ppto187‬‬ ‫‪ -3‬أحمد سيد طه‪ :‬حكايات ألف نيلة ونيلة‪ :‬رواية‪ .‬ط‪ ،1‬يونيو ‪.2015‬‬ ‫‪http://www.mediafire.com/?0we9ua9c2wx6ax2‬‬ ‫‪ -4‬محمد السيد الغتوري‪ :‬أنشودة الشيطان‪ :‬رواية‪ .‬ط‪ ،1‬يونيو ‪.2015‬‬ ‫‪http://www.mediafire.com/?3whm8nzqk4c23k2‬‬ ‫‪ -5‬أميمة أحمد العزيز‪ :‬القالدة‪ :‬رواية‪ .‬دار حمارتك العرجا للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪،1‬‬ ‫أغسطس ‪.2015‬‬ ‫‪http://www.mediafire.com/?ia0gxee0lk6dpet‬‬ ‫‪ -6‬محمد السيد الغتوري‪ :‬أسطورة العصامية‪ :‬رواية‪ .‬دار حمارتك العرجا للنشر‬ ‫اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪.2015‬‬ ‫‪http://www.mediafire.com/?lzm8mdiooipge5i‬‬ ‫‪ -7‬أشرف توفيق‪ :‬نجمة يناير‪ :‬رواية‪ .‬دار حمارتك العرجا للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪،1‬‬ ‫أغسطس ‪.2015‬‬ ‫‪http://www.mediafire.com/?gi8rgsy02399cz4‬‬

‫‪ 156‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫‪ -8‬إيھاب بديوي‪ :‬مئة عام من الحزن‪ :‬رواية‪ .‬دار حمارتك العرجا للنشر اإللكتروني‪:‬‬ ‫ط‪ ،1‬أغسطس ‪.2015‬‬ ‫‪http://www.mediafire.com/?9cz3e438oda78o7‬‬ ‫‪ -9‬جمال الجزيري‪ :‬طقوس العبور‪ :‬رواية قصيرة‪ .‬دار حمارتك العرجا للنشر‬ ‫اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪.2015‬‬ ‫‪http://www.mediafire.com/?o0ds9okuzdffpk1‬‬ ‫‪ -10‬جمال الجزيري‪ :‬نار ھادئة‪ :‬رواية قصيرة‪ .‬دار حمارتك العرجا للنشر‬ ‫اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪.2015‬‬ ‫‪http://www.mediafire.com/?kjb25vibqkqp60k‬‬ ‫‪ -11‬جمال الجزيري‪ :‬ھروب دائري‪ :‬رواية قصيرة‪ .‬دار حمارتك العرجا للنشر‬ ‫اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪.2015‬‬ ‫‪http://www.mediafire.com/?knvo5fh95l2qpz9‬‬ ‫‪ -12‬جمال الجزيري‪ :‬فيلم طويل‪ :‬رواية قصيرة‪ .‬دار حمارتك العرجا للنشر‬ ‫اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪.2015‬‬ ‫‪http://www.mediafire.com/?8ag10ozn00jyn7m‬‬ ‫‪ -13‬جمال الجزيري‪ :‬مشروع تخرج‪ :‬رواية قصيرة‪ .‬دار حمارتك العرجا للنشر‬ ‫اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪.2015‬‬ ‫‪http://www.mediafire.com/?592droqa4m6gvc9‬‬ ‫‪ -14‬جمال الجزيري‪ :‬وقود الحركة أو الموعد اآلخر‪ :‬رواية قصيرة‪ .‬دار حمارتك‬ ‫العرجا للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪.2015‬‬ ‫‪ 157‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫‪http://www.mediafire.com/?p5is4zzo1kbis11‬‬ ‫‪ -15‬محمد السيد الغتوري‪ :‬مش عيب! رواية‪ .‬دار حمارتك العرجا للنشر اإللكتروني‪:‬‬ ‫ط‪ ،1‬أغسطس ‪.2015‬‬ ‫‪http://www.mediafire.com/?cdtmoqp3nkhws5v‬‬ ‫‪ -16‬إيھاب البديوي‪ :‬أوناس… خيال الظل‪ :‬رواية‪ .‬دار حمارتك العرجا للنشر‬ ‫اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪.2015‬‬ ‫‪http://www.mediafire.com/?yrwcxreqcx0a9c5‬‬ ‫‪ -17‬سمير أحمد الشريف‪ :‬ھمس الشبابيك‪ :‬رواية‪ .‬ط‪ ،1‬نوفمبر ‪.2015‬‬ ‫‪http://www.mediafire.com/?kg99nn1d3e48x7a‬‬ ‫‪ -18‬ھاني النجار‪ :‬قھوة محروس في اليوم المنحوس‪ :‬رواية‪ .‬ط‪ ،1‬نوفمبر ‪.2015‬‬ ‫‪http://www.mediafire.com/?0m04fzbtz6zt6re‬‬ ‫‪ -19‬أشرف مصطفى توفيق‪ :‬األفوكاتو‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪:‬‬ ‫ط‪ ،1‬ديسمبر ‪.2015‬‬ ‫‪http://www.mediafire.com/?jyay8jo0xscucff‬‬ ‫‪ -20‬زيد عمران‪ :‬العابرة‪ :‬أقدم قصة حب في التاريخ‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر‬ ‫اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬فبراير ‪.2016‬‬ ‫‪http://www.mediafire.com/?hbtyn4900t8b890‬‬ ‫‪ -21‬بشرى رسوان‪ :‬اعترافات كرسي االنتظار‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر‬ ‫اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬فبراير ‪.2016‬‬ ‫‪http://www.mediafire.com/?3suvim00ago3gce‬‬ ‫‪ 158‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫‪ -22‬عبد الجواد خفاجي‪ :‬عودة الفلﱡوص‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪:‬‬ ‫ط‪ ،1‬فبراير ‪.2016‬‬ ‫‪http://www.mediafire.com/?i3axeoyifsb5d9s‬‬ ‫‪ -23‬إيھاب بديوي‪ :‬سقارة‪ :‬أسطورة الصقر الحارس‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة‬ ‫للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬فبراير ‪.2016‬‬ ‫‪http://www.mediafire.com/?daxbh7zy97en9xy‬‬ ‫‪ -24‬زيد عمران‪ :‬قرية الصبﱢير‪ :‬ضريح النبي العاشق‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة‬ ‫للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬فبراير ‪.2016‬‬ ‫‪http://www.mediafire.com/?roaf9km6jv3mh9r‬‬ ‫‪ -25‬محمد يوب‪ :‬الجبل األبيض‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪،1‬‬ ‫أبريل ‪.2016‬‬ ‫‪http://www.mediafire.com/download/6b86p6rbyn5wqdc/%D9‬‬ ‫‪%85%D8%AD%D9%85%D8%AF_%D9%8A%D9%88%D‬‬ ‫‪8%A8%D8%8C_%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%A8%‬‬ ‫‪D9%84_%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%A8%D9%8A‬‬ ‫‪%D8%B6%D8%8C_%D8%B1%D9%88%D8%A7%D9%8‬‬ ‫‪A%D8%A9%D8%8C_%D8%B71%D8%8C_%D8%A3%D‬‬ ‫‪8%A8%D8%B1%D9%8A%D9%84_2016.pdf‬‬ ‫‪ -26‬فيصل سليم التالوي‪ :‬عش الدبابير‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪:‬‬ ‫ط‪ ،1‬أبريل ‪.2016‬‬

‫‪ 159‬‬ ‫‪ ‬‬


2016 ‫ أغسطس‬،1‫ ط‬:‫ دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‬.‫ رواية‬:‫ كوثاريا‬:‫نعيم آل مسافر‬

http://www.mediafire.com/download/b3b761m429y4dh3/%D9 %81%D9%8A%D8%B5%D9%84_%D8%B3%D9%84%D9 %8A%D9%85_%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%84%D 8%A7%D9%88%D9%8A%D8%8C_%D8%B9%D8%B4_ %D8%A7%D9%84%D8%AF%D8%A8%D8%A7%D8%A8 %D9%8A%D8%B1%D8%8C_%D8%B1%D9%88%D8%A 7%D9%8A%D8%A9%D8%8C_%D8%B71%D8%8C_%D8 %A3%D8%A8%D8%B1%D9%8A%D9%84_2016.pdf ،1‫ ط‬:‫ دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‬.‫ رواية‬:‫ دفتر عاملة‬:‫ مارينا سو﷼‬-27 .2016 ‫أبريل‬ http://www.mediafire.com/download/yj737x61ewplpxg/%D9 %85%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D9%86%D8%A7_%D 8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A7%D9%84%D 8%8C_%D8%AF%D9%81%D8%AA%D8%B1_%D8%B9 %D8%A7%D9%85%D9%84%D8%A9%D8%8C_%D8%B 1%D9%88%D8%A7%D9%8A%D8%A9%D8%8C_%D8% B71%D8%8C_%D8%A3%D8%A8%D8%B1%D9%8A%D9 %84_2016.pdf ‫ ﱠ‬:‫ أشرف مصطفى توفيق‬-28 :‫ دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‬.‫ رواية‬:‫الجالشة‬ .2016 ‫ أبريل‬،1‫ط‬ http://www.mediafire.com/download/mlpddl54li65qvt/%D8% A3%D8%B4%D8%B1%D9%81_%D9%85%D8%B5%D8% 160


2016 ‫ أغسطس‬،1‫ ط‬:‫ دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‬.‫ رواية‬:‫ كوثاريا‬:‫نعيم آل مسافر‬

B7%D9%81%D9%89_%D8%AA%D9%88%D9%81%D9% 8A%D9%82%D8%8C_%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9 %84%D8%A7%D8%B4%D8%A9%D8%8C_%D8%B1%D 9%88%D8%A7%D9%8A%D8%A9%D8%8C_%D8%B71 %D8%8C_%D8%A3%D8%A8%D8%B1%D9%8A%D9%8 4_2016.pdf ‫ دار كتابات جديدة‬.‫ رواية قصيرة‬:‫ رجال الفرقة الحادية عشر‬:‫ عروبة شنكان‬-29 .2016 ‫ أبريل‬،1‫ ط‬:‫للنشر اإللكتروني‬ http://www.mediafire.com/download/ud4bvev1ead5p4a/%D8 %B9%D8%B1%D9%88%D8%A8%D8%A9_%D8%B4%D 9%86%D9%83%D8%A7%D9%86%D8%8C_%D8%B1%D 8%AC%D8%A7%D9%84_%D8%A7%D9%84%D9%81% D8%B1%D9%82%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D8%AD %D8%A7%D8%AF%D9%8A%D8%A9_%D8%B9%D8% B4%D8%B1%D8%8C_%D8%B1%D9%88%D8%A7%D9 %8A%D8%A9_%D9%82%D8%B5%D9%8A%D8%B1%D 8%A9%D8%8C_%D8%B71%D8%8C_%D8%A3%D8%A8 %D8%B1%D9%8A%D9%84_2016.pdf ‫ دار كتابات جديدة للنشر‬.‫ رواية‬:‫ من أول السطر‬:‫ الشريف عبد اإلله العبدلي‬-30 .2016 ‫ أبريل‬،1‫ ط‬:‫اإللكتروني‬ http://www.mediafire.com/download/tsdnap3r8bj7da1/%D8 %A7%D9%84%D8%B4%D8%B1%D9%8A%D9%81_%D 161


2016 ‫ أغسطس‬،1‫ ط‬:‫ دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‬.‫ رواية‬:‫ كوثاريا‬:‫نعيم آل مسافر‬

8%B9%D8%A8%D8%AF_%D8%A7%D9%84%D8%A5% D9%84%D9%87_%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A8% D8%AF%D9%84%D9%8A%D8%8C_%D9%85%D9%86_ %D8%A3%D9%88%D9%84_%D8%A7%D9%84%D8%B3 %D8%B7%D8%B1%D8%8C_%D8%B1%D9%88%D8%A 7%D9%8A%D8%A9%D8%8C_%D8%B71%D8%8C_%D8 %A3%D8%A8%D8%B1%D9%8A%D9%84_2016.pdf ‫ دار كتابات جديدة للنشر‬.‫ رواية تاريخية‬:‫ بيت الماسخ‬:‫ عبد الرحيم الماسخ‬-31 .2016 ‫ أبريل‬،1‫ ط‬:‫اإللكتروني‬ http://www.mediafire.com/download/pb88emvw7bie5z0/%D8 %B9%D8%A8%D8%AF_%D8%A7%D9%84%D8%B1%D 8%AD%D9%8A%D9%85_%D8%A7%D9%84%D9%85% D8%A7%D8%B3%D8%AE%D8%8C_%D8%A8%D9%8A %D8%AA_%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%B 3%D8%AE%D8%8C_%D8%B1%D9%88%D8%A7%D9% 8A%D8%A9_%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8 %AE%D9%8A%D8%A9%D8%8C_%D8%B71%D8%8C_ %D8%A3%D8%A8%D8%B1%D9%8A%D9%84_2016.pdf ‫ دار كتابات جديدة للنشر‬.‫ رواية‬:‫ بدون رقابة‬:‫ الشريف عبد اإلله العبدلي‬-32 .2016 ‫ أبريل‬،1‫ ط‬:‫اإللكتروني‬ http://www.mediafire.com/download/h8k6emp60y7loo3/%D8 %A7%D9%84%D8%B4%D8%B1%D9%8A%D9%81_%D 162


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫‪8%B9%D8%A8%D8%AF_%D8%A7%D9%84%D8%A5%‬‬ ‫‪D9%84%D9%87_%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A8%‬‬ ‫‪D8%AF%D9%84%D9%8A%D8%8C_%D8%A8%D8%AF‬‬ ‫‪%D9%88%D9%86_%D8%B1%D9%82%D8%A7%D8%A8‬‬ ‫‪%D8%A9%D8%8C_%D8%B1%D9%88%D8%A7%D9%8‬‬ ‫‪A%D8%A9%D8%8C_%D8%B71%D8%8C_%D8%A3%D‬‬ ‫‪8%A8%D8%B1%D9%8A%D9%84_2016.pdf‬‬ ‫‪ -33‬الشريف عبد اإلله العبدلي‪ :‬صداقات مشبوھة‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر‬ ‫اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أبريل ‪.2016‬‬ ‫‪http://www.mediafire.com/download/4u823qni43fatft/%D8%‬‬ ‫‪A7%D9%84%D8%B4%D8%B1%D9%8A%D9%81_%D8‬‬ ‫‪%B9%D8%A8%D8%AF_%D8%A7%D9%84%D8%A5%D‬‬ ‫‪9%84%D9%87_%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A8%D‬‬ ‫‪8%AF%D9%84%D9%8A%D8%8C_%D8%B5%D8%AF%‬‬ ‫‪D8%A7%D9%82%D8%A7%D8%AA_%D9%85%D8%B4‬‬ ‫‪%D8%A8%D9%88%D9%87%D8%A9%D8%8C_%D8%B‬‬ ‫‪1%D9%88%D8%A7%D9%8A%D8%A9%D8%8C_%D8%‬‬ ‫‪B71%D8%8C_%D8%A3%D8%A8%D8%B1%D9%8A%D9‬‬ ‫‪%84_2016.pdf‬‬ ‫‪ -34‬الشريف عبد اإلله العبدلي‪ :‬حب وأشياء أخرى‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر‬ ‫اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬يونيو ‪.2016‬‬

‫‪ 163‬‬ ‫‪ ‬‬


2016 ‫ أغسطس‬،1‫ ط‬:‫ دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‬.‫ رواية‬:‫ كوثاريا‬:‫نعيم آل مسافر‬

http://www.mediafire.com/download/8fc6uf8tycbti0p/%D8% A7%D9%84%D8%B4%D8%B1%D9%8A%D9%81_%D8 %B9%D8%A8%D8%AF_%D8%A7%D9%84%D8%A5%D 9%84%D9%87_%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A8%D 8%AF%D9%84%D9%8A%D8%8C_%D8%AD%D8%A8_ %D9%88%D8%A3%D8%B4%D9%8A%D8%A7%D8%A1 _%D8%A3%D8%AE%D8%B1%D9%89%D8%8C_%D8% B1%D9%88%D8%A7%D9%8A%D8%A9%D8%8C_%D8 %B71%D8%8C_%D9%8A%D9%88%D9%86%D9%8A% D9%88_2016.pdf ‫ دار كتابات جديدة للنشر‬.‫ رواية‬:‫ بوست للفضفضة‬:‫ أشرف مصطفى توفيق‬-35 .2016 ‫ يونيو‬،1‫ ط‬:‫اإللكتروني‬ http://www.mediafire.com/download/oobow9vfdrob5om/%D8 %A3%D8%B4%D8%B1%D9%81_%D9%85%D8%B5%D8 %B7%D9%81%D9%89_%D8%AA%D9%88%D9%81%D9 %8A%D9%82%D8%8C_%D8%A8%D9%88%D8%B3%D 8%AA_%D9%84%D9%84%D9%81%D8%B6%D9%81%D 8%B6%D8%A9%D8%8C_%D8%B1%D9%88%D8%A7% D9%8A%D8%A9%D8%8C_%D8%B71%D8%8C_%D9%8 A%D9%88%D9%86%D9%8A%D9%88_2016.pdf ‫ دار كتابات جديدة‬.‫ رواية‬:‫ يسألونك عن الغسيل‬:‫ الشريف عبد اإلله العبدلي‬-36 .2016 ‫ يونيو‬،1‫ ط‬:‫للنشر اإللكتروني‬ 164


2016 ‫ أغسطس‬،1‫ ط‬:‫ دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‬.‫ رواية‬:‫ كوثاريا‬:‫نعيم آل مسافر‬

http://www.mediafire.com/download/f2aavj92h9cddls/%D8% A7%D9%84%D8%B4%D8%B1%D9%8A%D9%81_%D8 %B9%D8%A8%D8%AF_%D8%A7%D9%84%D8%A5%D 9%84%D9%87_%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A8%D 8%AF%D9%84%D9%8A%D8%8C_%D9%8A%D8%B3% D8%A3%D9%84%D9%88%D9%86%D9%83_%D8%B9% D9%86_%D8%A7%D9%84%D8%BA%D8%B3%D9%8A %D9%84%D8%8C_%D8%B1%D9%88%D8%A7%D9%8 A%D8%A9%D8%8C_%D8%B71%D8%8C_%D9%8A%D 9%88%D9%86%D9%8A%D9%88_2016.pdf .‫ رواية تفاعلية‬:‫ سرديات نخلة‬:‫ سامية عبد الرحمن خليفة وصالح جبار خلفاوي‬-37 .2016 ‫ يونيو‬،1‫ ط‬:‫دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‬ http://www.mediafire.com/download/5dvj0g5yhvpucoq/%D8 %B3%D8%A7%D9%85%D9%8A%D8%A9_%D8%B9%D 8%A8%D8%AF_%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%AD% D9%85%D9%86_%D8%AE%D9%84%D9%8A%D9%81% D8%A9_%D9%88%D8%B5%D8%A7%D9%84%D8%AD_ %D8%AC%D8%A8%D8%A7%D8%B1_%D8%AE%D9% 84%D9%81%D8%A7%D9%88%D9%8A%D8%8C_%D8% B3%D8%B1%D8%AF%D9%8A%D9%91%D8%A7%D8% AA%D9%8F_%D9%86%D8%AE%D9%92%D9%84%D8 %A9%D8%8C_%D8%B1%D9%88%D8%A7%D9%8A%D 8%A9_%D8%AA%D9%81%D8%A7%D8%B9%D9%84% 165


2016 ‫ أغسطس‬،1‫ ط‬:‫ دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‬.‫ رواية‬:‫ كوثاريا‬:‫نعيم آل مسافر‬

D9%8A%D8%A9%D8%8C_%D9%8A%D9%88%D9%86 %D9%8A%D9%88_2016.pdf ‫ دار كتابات جديدة للنشر‬.‫ رواية‬:‫ خيانة وعشق‬:‫ الشريف عبد اإلله العبدلي‬-38 .2016 ‫ يونيو‬،1‫ ط‬:‫اإللكتروني‬ http://www.mediafire.com/download/jj7y44ra06jhpzt/%D8% A7%D9%84%D8%B4%D8%B1%D9%8A%D9%81_%D8 %B9%D8%A8%D8%AF_%D8%A7%D9%84%D8%A5%D 9%84%D9%87_%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A8%D 8%AF%D9%84%D9%8A%D8%8C_%D8%AE%D9%8A% D8%A7%D9%86%D8%A9_%D9%88%D8%B9%D8%B4 %D9%82%D8%8C_%D8%B1%D9%88%D8%A7%D9%8 A%D8%A9%D8%8C_%D8%B71%D8%8C_%D9%8A%D 9%88%D9%86%D9%8A%D9%88_2016.pdf :‫ دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‬.‫ رواية‬:‫ صدام‬:‫ الشريف عبد اإلله العبدلي‬-39 .2016 ‫ يونيو‬،1‫ط‬ http://www.mediafire.com/download/cib0kc8hk819853/%D8 %A7%D9%84%D8%B4%D8%B1%D9%8A%D9%81_%D 8%B9%D8%A8%D8%AF_%D8%A7%D9%84%D8%A5% D9%84%D9%87_%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A8% D8%AF%D9%84%D9%8A%D8%8C_%D8%B5%D8%AF %D8%A7%D9%85%D8%8C_%D8%B1%D9%88%D8%A

166


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫‪7%D9%8A%D8%A9%D8%8C_%D8%B71%D8%8C_%D9‬‬ ‫‪%8A%D9%88%D9%86%D9%8A%D9%88_2016.pdf‬‬ ‫‪ -40‬حسام خوام آل يحيى‪ :‬الروز‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪،1‬‬ ‫أغسطس ‪.2016‬‬ ‫‪http://www.mediafire.com/download/88jdahzpe9oe9o1/%D8‬‬ ‫‪%AD%D8%B3%D8%A7%D9%85_%D8%AE%D9%88%D‬‬ ‫‪8%A7%D9%85_%D8%A2%D9%84_%D9%8A%D8%AD‬‬ ‫‪%D9%8A%D9%89%D8%8C_%D8%A7%D9%84%D8%B‬‬ ‫‪1%D9%88%D8%B2%D8%8C_%D8%B1%D9%88%D8%‬‬ ‫‪A7%D9%8A%D8%A9%D8%8C_%D8%B71%D8%8C_%‬‬ ‫‪D8%A3%D8%BA%D8%B3%D8%B7%D8%B3_2016.pdf‬‬ ‫‪ -41‬نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪،1‬‬ ‫أغسطس ‪.2016‬‬

‫‪ 167‬‬ ‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫فھرس‬ ‫العنوان‬

‫الصفحة‬

‫عن رواية كثاريا‬

‫‪4‬‬

‫مردوخ‬

‫‪6‬‬ ‫الفصل األول ‪ :‬كاتب السيناريو‬

‫اللوحة‬

‫‪7‬‬

‫قاضي بالفطرة‬

‫‪19‬‬

‫الخالسة‬

‫‪31‬‬

‫العوق العظيم‬

‫‪44‬‬ ‫الفصل الثاني ‪ :‬دمى‬

‫شبح الضرورة‬

‫‪54‬‬

‫بوكا‬

‫‪63‬‬

‫حفلة تنكرية‬

‫‪71‬‬ ‫الفصل الثالث ‪ :‬لقاء مع القدر‬

‫المضاربة‬

‫‪87‬‬

‫في المقبرة‬

‫‪104‬‬

‫األرض السفلى‬

‫‪114‬‬

‫عودة الماء‬

‫‪122‬‬ ‫‪ 168‬‬

‫‪ ‬‬


‫نعيم آل مسافر‪ :‬كوثاريا‪ :‬رواية‪ .‬دار كتابات جديدة للنشر اإللكتروني‪ :‬ط‪ ،1‬أغسطس ‪ 2016‬‬

‫الفصل الرابع ‪ :‬الذات المفقودة‬ ‫بساط الريح‬

‫‪133‬‬

‫قلب ﷲ‬

‫‪139‬‬

‫جزيرة النحاس‬

‫‪145‬‬

‫عن المؤلف‬

‫‪154‬‬

‫صدر في ھذه السلسلة‬

‫‪156‬‬

‫‪ 169‬‬ ‫‪ ‬‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.