16 minute read

مغادرة

تنهمر الرسائل اللجوجة يف هاتفي، والحافلة لم تغادر المحطة بعد. تسأل أيم فيها:أين وصلت . ..األكل سيربد. انتبه لنفسك.. يقولون الطريق من دمشق غري آمن. انتبه لنفسك.. . .يا لتوقيت أيم، كعادتها تضبطه وفق مشاعرها. فرح قلب الوالدة برؤيتك طالت غيبتك ُ سوف ت ً أخريا هذه المرة.قال السائق.

يا عم أنت أدرى ... السفر واإلجازات شبه مستحيلة يف هذه الحرب. حين قطعت الطرق، ّ أبو مصطفى السائق، كان مرسال أيب إيل وتعذر السفر ألشهر عدة لطالما أتاين محمال بمكاتيبه ـ أيب الذي ال يعرتف بالهاتف النقال، وال بالرسائل القصرية، ويعلن يف كل مرة أنها ال تكفيه ليشرح مشاعره، وال تتسع لقائمة توصياته ـ وكانت اإلرسالية األشهى، اليت أنتظرها، هي طعام أيم الذي أتقاسمه مع أيب مصطفى، إذ يضطر للبقاء معي، ريثما يتمكن من العودة . باشغاله بشابة، ً المقعد الخاوي بجواري، أشعل يف نفيس أمال لعلها تكسب السفر القاحل نداوة تنعش وتختصر الوقت .لكن خاب أميل إذ اندفعت سيدة تبدو بالستين من عمرها بكتلتها الضخمة إىل مقعدي، أزاحتين باتجاه النافذة.وشغلت ثالثة أرباع المقعد مما دفع بالسائق لالبتسام بخبث ... األمور معك عىل ما يرام، دكتورنا الغايل. ِ ـ لم تمش تجاهلت مزاحه، فقد خشيت أن تنتبه السيدة بأنها المقصودة،وبدأت أبحث عن منفذ للهواء، يخفف من رائحة تعرقها أتتعرق بكانون؟ كنت قد تعودت عىل رائحة البارود المتسرب بدماء الجرحى،لكن ما أن خرجت من دوامة ضحايا الحرب، حىت عدت إىل نزقي، هان األمر بتذكري ما تركته يف المشفى الذي أختص به. ّ عيل أغلقت كتايب، ورحت أراقب الوشوم المغروزة بتجاعيد وجهها، واليت تعطي صرامة لوجهها العابس. عينيها كعيين الصقر. الجمود فيهما يخبئ حزنا دفينا،أرى يدها عدة أكمام فوق بعضها البعض.. كم عباءة ترتدي هذه السيدة؟. شعرت بالعداوة اتجاهها، قد يكون لتوتر أعصايب من رائحة العفن، أو لخيبة أصابتين باشغالها مكان صبية الحلم، بل ربما من ازعاجها المزتايد مع مرور الوقت، ومع كل انعطاف للطريق،تحشرين أكرث وأشعر أنين بالكاد اتنفس، فقد تركت جسدها بال مباالة ،كتلة حرة دون أن تقاوم، عىل األقل لو تتمسك بحافة المقعد،حاولت ان ألفت نظرها بتأففي لكن خجلت من شيخوختها، و لم أتجرأ عىل قطع شرودها المستمر، وبت أشك برؤيتها يل، فمالمحها الحيادية ال توحي بأنها تهتم لمن يجلس بقربها. ساعات طويلة تفصلين عن طعام أيم .ماذا تطبخ هذه ألوالدها؟ وماذا لوكانت أيم؟ .سألت نفيس ..هل كنت سأتافف منها،راح ذهين يخلق لها األعذار،قد تكون مهجرة،أو عىل سفر طويل، تمنيت أن أفتح حديثا معها،‹ لكن صمتها المربم حال دون ذلك. رددت عىل رسائل أيم باخبارها بانزعاجي من رفيقة السفر هذه، ،تنصحين بتجاهل األمر ّ ن عيل ّ أيم تهتم بأدق التفاصيل،وتهو المهم أن أصل بالسالمة. أجفلين صوت السيدة حين دقت بكفها عىل صدرها، ومدت كامل جذعهاصوب مقدمة الحافلة ـ اهلل أكرب ياساتر .... جاء ذلك تزامنا مع صراخ السائق وهو يوقف الحافلة فجأة:

Advertisement

الكاتب عمر حمش

حفريت .. ُ ؛ حفرت ِ قبل الموت موطن مأواي األخري، ولقد راقين التعرف إليه. ُ أخرتت تلك الحفرة ما هي إال حفريت، فباعد ّ ه الحارس؛ حين علم أن ِ د ُ ش ّ المسافة اليت بيننا، وقد اتسعت عيناه، وعال جبينه، حىت أيقن أن ه بالفأس؛ وشرع بمناوليت آخر قطع َ رأس ّ ، وأنين لن أشج ٌّ جدي َ األمر البالط. نقدته ما يف جييب، وقلت: احفظ قربي يا أخي. خلف الجنازات، فأشاركهم ُ أهرول ُ عند هذا؛ بل غدوت َ لم أترك األمر خلف ُ من منهم؛ سيهرول ُ يف الوجوه، وأخمن ُ ، وأتمعن َ الطقوس نعيش. كنت أقول: شارك غريك؛ غدا فيك يشرتكون. ِ المقربة، بل يف نهايات ِ متعجال يف مبارحة ُ ؛ لم أك ِ بعد الجنازات ، ُ ؛ نهضت ُ ، وعاود الصمت ٌ مراسم؛ كنت أنزوي، فإذا ما غادر جمع ّ كل ، وشجريات، حىت ٍ ، من شواهد، وشوك َ المعالم ُ ، وتتبعت ُ خطوت ّ ثم .. ّ ويل ِ كمن يقف بباب ُ أمام قربي، وخشعت ُ ؛ وقفت ُ إذا ما وصلت ُ دلفت ّ مدخيل، ثم ُ بالطيت، وقصدت ُ ، فزنعت ُ ؛ انثنيت ُ فإذا ما صحوت ِ رطوبة ِ تشمم ِ يف رحلة َ عىل رميل؛ ألشرع ُ مخضعا رأسي، وتمددت ، ٍ المتهيئة، والمتالحقة يف صعود ٍ صغار الحشرات ِ حفريت، ومراقبة صفوف الطوب اليت كنت رصصتها. ِ ويف هبوط عىل شقوق د، ّ القادم، وأرى جسدي المتمد َ غور ُ ، وأنا أسرب ُ هكذا سار األمر وأربطيت المنحلة عىل مواضع كفين. ُ ، واستكان قليب؛ قمت ُ ، فإذا ما ارتويت ً عىل هذا ساعة ّ أظل ُ كنت نحو الحارس َ بالطيت، ألمضي ُ أعدت ّ متثاقال، وخرجت راضيا، ثم ، ُّ يفر ّ دراهمي، ثم ُ أخرى، وهو يلتقط ُ ، ويؤخر ً م خطوة ّ الذي يقد بجلبايب. َ العالق َ نافضا الرمل ُ ، وأنا أغادر ُ ويلتفت ، واكتنفتين ٌ ين حبور ّ ت آمنا؛ وقد مس ِ وسرعان ما حان حيين، فم مراسمي. ُ أرقب ُ ، وأخذت ٌ غبطة ، ُ ، وأشري ُ من فوقهم أتأرجح ُ بالقبور، وكنت َ صامتين َ كانوا يمرون : ُ وأصيح من هنا .. من هنا .. كفى .. هنا. متنحيا، ُ يقف ُ ، والحارس َ قربي َ ولكم كانت فجيعيت؛ وهم يتجاوزون كه. ّ لسانه؛ ويحر ُ يخرج ّ تجهمي، ثم ُ مبتسم؛ يرمق ٌ أنيق ُ قربه رجل

ماذا لو كانت أيم؟

اللتقط ما أسقطته، ارتطمت جبهيت بركبتها، و فاحت من قدميها رائحة أرض موحلة . ها، أخرجت منديال قماشيا ّ ت يدها إىل عب ّ مد ومسحت وجهها به، بدأ تنفسها يهدأ ببطء، كمن توقف للتو عن الركض. عادت الحافلة للتوقف ست الخطر مرة أخرى ،ال سيما أن السائق ّ توج قة ّ لم يربر توقفه ،وظلت نظراتنا المتسائلة معل ىن به، وهو يقفز من مقعده، ويتجه صوبنا. انح بسرعة عىل رأس السيدة يقبله،ويقول بأعىل صوته وكأنه يتكلم بلسان الجميع وينظر إيل تارة وإليها تارة أخرى بعينين تشع السعادة منهما : ـ بارك اهلل بك يا أخيت، كيف استطعت أن ؟.يرّتتصريف بهذا الشكل المح ابتسمت بحزن شديد، وعىل زاوية فمها تجمعت دمعتان يف أخدودين، وكأنهما أعدا لذلك. أجابته بجمل متقطعة : ـ يا أخي أنا ما فعلت إال ما أحسست به، إين عائدة من دفن ابين .. هربنا إىل الشام خوفا من أن نموت جوعا،فقتلوه بسيارة مفخخة ...المجرمون ال يعرفون بأن ولدي لم يسمع صوت االنفجار الذي قتله ..حىت قربه تصدق المحسنون به علينا. ا: ً وعاد مرة أخرى يقبل رأسها مواسي ا ...واآلن إىل أين ً ـ اهلل يرحمه ويحتسبه شهيد يف الالذقية؟ ً أنت ذاهبة..؟هل تعرفين أحدا أجابته بحسرة، وهي تودع بحرص هوية ابنها مع أوراقه بمحفظتها المهرتئة: ـ ال أدري ...أهل ما عندي ...زوجي مات وارتاح قبل الحرب، وتابعت تكلم نفسها، مع تنهيدة حارة خرجت من أعماقها. )آه ... هنيئا له ما شاف الذي شفناه...مافجع بولده( . صافحين السائق ومضى يصافح كل الركاب.، مهنئا إياهم بالسالمة وأخذ يخربهم: المسلحون غادروا عىل عجل وكأن اشارة وصلت إليهم بأنهم يف خطر، لذلك فشلوا بكمينهم هذا. ـ عىل عجل ؟قلت يف نفيس أي عجل وإحساسي يشري بأنه مضى دهر عىل احتجازنا !. راحت منقذيت تحمد اهلل عىل سالميت، وتعيد يل أشيايئ اليت عبقت بالمسك .تطهرت دموعي بظهر كفها ...وتمتمت بشكرها لكن خذلين حلقي. بحنان غامر مسدت رأسي وهمست :) اهلل يحميك ألمك(. أعدت يدها الدافئة إحساسي بالطمأنينة، و أعادت صويت. هاتفي عىل ابتهاالت أيم، كي أصل ُ فتحت خجىل: ٍ ا، فكتبت لها بيد ً سالم اطمنيئ... سأصل بعد قليل بصحبة أيم ...سأقيم مجلس عزاء.

]هذا ابين، اهلل يحميك ..دعه يل، هو أخرس، ال يتكلم ..وال يسمع[. هويته معي ....نعم معي نحن من دير الزور،وعادت تولول ...هذا ولدي ...أخرس ..أخرس ال يحكي . وكأنها تؤكد عىل أوامرها يل بعدم السمع أو النطق .. ـ .آخ يا ولدي .... حرموين منك ياولدي ...ما شبعت منك ياعمري. تابعت بصوت مفجوع. تشد رأسي إليها تريد إخفاء وجهي تحت إبطها. يف ً مذعورا ً صغريا ً طفال ُّ شعرت بالتالشي،بت حضن أمه. ا ً .....بيديها المرتجفتين أخذت تخرج أوراق مصفرة من محفظتها ،..امتدت األشواك من ا وخوفا ً ، أخذت أتصبب عرق ّ حلقي إىل شفيت ً.خشيت عليها من موت يقرتب منها باحتمال انكشاف أمرها..وسمعت صوت ورود الرسائل إىل هاتفي المخبأ يف ثنايا عباءتها ..كصوت قطرات الماء ... نوافذ الحافلة تكاد أن تتهشم من ضغط ا ً األصوات المتداخلة عليها، نساء ينتحبن هلع ـ وأطفال يصرخون بذعر شديد. وصيحات المسلحين اهلل أكرب... اهلل أكرب.الرجل الذي خلفي يرتل آيات قرآنية لينجو بروحه. بدا الجو جنائزيا مع غروب الشمس ،وبالتدريج بدأت انفصل عمن حويل، اقتصر وعيي عىل إرهايب تكفل بالتحقيق معها وعىل ولولتها وندبها الهستريي،ملوحة بكمها الممتد كراية سوداء خارج كفها، ولشدة صدقها بما كانت تفعله صدقتها. شرعت تخرج األوراق...بطريقة مسرحية مذهلة ... ..ألفي لرية هل تريدهم؟هذه شهادة معهد الصم والبكم ..وهذه شهادة طبية ،وهذي هويته ..وأسقطت من يديها هوية مشروخة. وغطتها بقدمها، فخيمت بطرف عباءتها الواسعة عىل هوية ابنها، وراحت تبكي وتبكي مع عينيها كل مسامات وجهها، يعلو صدرها ويهبط مع لهاثها المخيف- مسح المسلح بنظرة قاسية مشككة وجهينا ...ودفع بعقب بندقيته يدها المحملة باألوراق فتناثرت.صرخ بها: اخرسي ياامرأة. وتابع حصاده ببقية الركاب . ..سارا بضباب الرؤية، واناأغوص يف مقعدي ،أثبت فكي بيدي كي ال أسمع اصطكاكه. لكنهما تجاوزانا .نسيا أن يعودا إلينا،أم أنهما اقتنعا بأدائها االرتجايل المذهل، والذي لم تتوقف عنه حىت جاءها صوت كالعواء ـ قلت لك اخرسي ياامرأة ...أوجعت رأسي بنباحك. انحبس نشيجها،وتمسكت بيدي، تشد أصابعي بكل قوتها، حىت شعرت أنهم التصقوا، وفقدت الحركة بهم. عاد البلل إىل حلقي برتجلهما من الحافلة، وبانزياح شبح الموت عنا. مع سري الحافلة الناجية سارعت بانحنايئ ـ أكلناها ياشباب. حاجز إرهايب . عكست المرآة نظرات أبو مصطفى القلقة و والخائفة.بل المشفقة شعرت ّ المسلطة عيل أنه يشيعين. .صعد اثنان من المسلحين إىل الحافلة، بينما أحاط بضعة منهم بمقدمة الحافلة، وأشهروا يف عروقي .. ّ بنادقهم عليها. تجمد الدم ـ اهلل أكرب... اهلل أكرب. صرخ أحدهم وكأنه يكرب عىل ذبيحة . قال اآلخر بلكنة غريبة قريبة للفصحى: ـ عسكري ـ موظف بالدولة الكافرة ـ أو ومن تلك الطائفة اللعينة يسلمنا نفسه ورأسه فورا لنقطعه .. مفهوم ... ، ّ يا لسخرية القدر، أغلب شروطهم منطبقة عيل عنقي . ّ وكافية لجز تراءت يل أيم، تنتظرين عىل طاولة الطعام، وصوت أيب يطن بأذين، وهو يديل بنصائحه ولو ّ برسالته األخرية يل، )ال تستسلم ألسر مذل كلفك ذلك حياتك(. كيف يل أال استسلم وانا األعزل إال من ذعري. شعرت بأن السيدة.تراقب ارتجاف ساقي ،وضعت يدها بحنو عىل ركبيت. ومع انشغالهما ّ وقبل أن يصل المسلحان إيل بهويات المسافرين، نكزتين وبدأت تسرد أوامرها يل،بهمس يخرج من حلقها دون أن تحرك شفتيها ونظراتها تتابعهما: ـ بسرعة هات ..هات ياولدي ...هات اعطين مامعك . ناولتها محفظيت وهاتفي، رفعت منديلها الملفوف عىل عنقها، وأسقطت ما بيدها يف عبها بخفة ساحر .ثم فتحت محفظتها الرجالية ه بيدي، ُ المشققة. أما الكتاب الذي نسيت ته تحتها برشاقة مذهلة. ّ ته بغضب ودس َ خطف كانت تتصرف بثقة، وكأنها متدربة عىل ا ً ا أمامها، مستسلم ً هذه المواقف ،بت مرتبك ه ّ لتعليماتها الصارمة، تهمس يل: التتفو بحرف. صرخ يب أحدهما: ـ هويتك .. .لم أجرؤ عىل النظر يف عينيه .صرخت هي بوجهه:

الكاتبة صديقة علي

حزن الفرح .. قهقهة الحزن

ثة أصناف، للبيت للسهل ال من األشواق ث ٍ مشتاق هو، طاو وأوال لألصدقاء، جاء كظمآن يرد حياض الماء بعد طول ترحال تحت السماء، والطارق، وشمس النهار، جلس بين أقاربه الذين لم يصدقوا احتفاظه بتلك الذاكرة، اليت سرعان ما لمع بريقها، وهو يتمعن يف وجوه بنات أخته، مح واألصوات مصدر إلهامه الوأوالدهن، اعتمد الم لتميزيهم، طلب إحضار مهباج القهوة، فأحضروه من مكانه اآلمن حيث احتفظوا به نصف قرن من الزمان »سريجع أخونا.سريجع، إليمانهم بنبوءة أمهاتهم: .وصربنا، فخجل األبناء من ويجتمع شملنا بإرادة الخالق« ر َ ٌ ج َ سخريتهم إزاء انتظار أمهاتهم ألخيهن الغائب المه ده، وأراضيه وعقاراته الكثرية، اليت استوىل العن ب ل. وجاهدت األخوات يف االحتفاظ ببعض العليها االحت األراضي، بعد أن دفعن كل ما يمتلكن من مجوهرات، ومدخرات، واقرتاض من األقارب، والمقربين، احتفظن بسه، وكوفياته وقمبازه المخطط باألسود الببعض م واألبيض، وحطته الروزا.

وكاد أن يغمى عليها .. أجهشت بالبكاء، «إسمح يل بأن أقبل جبينك، وأشم اقرتبت منه: - رائحتك«. عىل يديها، نظر إىل زوجها ّ ، شد ً انتفض واقفا مازن .. وكان ينقل نظره بينهما بذهول المصدوم من مواجهة شبح.. . شبك «مازن تعال..«اقرتب سعيد من مازن: - قة المرتعشة ّ أصابعه يف يد صديقه المتعر نقل قدمك يا مازن .. ُ بفعل المرض: -«هيا أ عها للوراء ..إقفز قفزتين إخبط قدمك بشدة: ِ أرج -«جفرا ويا هالربع، ربع الفدائية مية وعشرين سبع صاروا خمس مية« وارتفع صوت مازن مرددا : -«قالت قديش العدد« ولولح سعيد الطوييس بمسبحته العبا دور رويس الدبكة، وارتفع الصوتان األجشان المتعبان: «هذا جيل الثورة، انطلقي- ي ..« ّ د ِ يا ثورتتا م وصرخ مازن سرور : «ولك سعيد، يا حبيب قليب »- تعانقا حد االلتحام، بكيا حىت النشيج ..ضحكا حىت الهسترييا.... نصف قرن عىل أخر لقاء لهما، قبل إلقاء القبض عىل سعيد وخرية شباب البلد مجد الكروم، وإيداعهم شاحنة انطلقت شماال نحو الحدود اللبنانية. وصار رجوعهما تسلال .. قرن من عمر الزمان مضى عىل أمنية سعيد طوييس.

بكى بشدة لعظيم إخالصهن، وبعد الحديث الذي استمر ليال سبع تباعا دون أن يناموا إال سويعات اختلسوها من ساعات النهار، أعلن الخال سعيد طوييس أنه يريد زيارة صديقه يف قرية كفر ياسيف المجاورة، وعدوه بتنفيذ الزيارة يف الحال.. فهم عىل استعداد إلحضار لبن العصفور من أجله. يف اليوم التايل، استحم الخال سعيد ابن العقود الثمانية، قضى نصف قرن منها يف المهجر، لبس حطته البيضاء المغسولة بالصابون والنيلة اليت منحتها تلك الزرقة العميقة الجذابة مع بياضها، تناول منديل القماش، فهو ال يحب )الكلينكس (الورقي الذي يتفتت عىل الوجه حين مسح العرق. -ها قد وصلنا بيت صديق شبابك مازن سرور. اغرورقت عيناه فلملم شفتيه، تمخط وبذل جهده الستعادة رباطة جاشه اليت وعد بها... فصديقه يعاين بضع أمراض شيخوخة، دلف الباب مع مرافقه من أبناء اخته، : -يا ساتر ... حدودب ُ خرجت امراة متقدمة يف العمر أ ظهرها بعض اليشء: -تفضل.. وجعلت تتفرس يف وجهه : من وجهك لىٌ َ -هذا الوجه مألوف .. دعين أتم قليال .. قالت بانفعال وهو يتخذ مجلسه، «بهاتين اليدين وضعت لك طعاما، من زمان.. - زمان كثري؟!« راح صفنت المرأة، احتفظ بصمته مبتسما -« وأطلق ضحكته تعرفيين يا عربية، خخخهه » أنت ..أنت سعيد الشهرية بصوت خفيض ...: -« الطوييس، ورحمة ابين وأبوي وأيم. أنت سعيد الطوييس«...

الكاتبة اسمهان خاليلة

ورقة التوتحين تسقط عن أوهامنا

الدخان كثيف، روائح التبغ والمشروبات الكحولية، وموسيقى الجاز تمأل األجواء يف البار، الذي يقصده كل مساء سكان الحي المجاور، الذي يفيض الفقر عن حاجة قاطنيه، لكنهم ال يتوانون عن طقوسهم مهما جاعت بطونهم، يجدون يف الخمر لقي القبض عىل ُ سي ٍ ا من أرق ً ا آمنا، وهروب ً ذالالرديء، الذي يقدمه لهم يعقوب، م ر عليهم َّ لين بكوابيس ليلتهم السابقة حين يتعذ َّ حم ُ غفوتهم، فيما لو لم يأتوا إليه، م

النقود يف جيوبهم. ِّ المجيء بسبب شح الكاتبة ريتا الحكيم آه! كيف يختلط الماضي بالحاضر لمجرد - دعهم يف أحالمهم الوردية، ال تمارس القمع أن تسمع أغنية.. أغنية نقلتين بكل خيبايت، معهم.. يكفيهم قمع رجاالت الوطن. وانكسارايت إىل حضن »شام« الدافئ.. إىل عرها.. إىل صوتها َ رائحة الليل الحالك يف ش يطأطئ يعقوب رأسه، ويعود أدراجه إىل مكانه المعتاد بين زجاجات الخمر والكؤوس، وال يعقوب ال يشرب الخمر، لكنه يبيعه لهم، بق وهم يراقبون َّ ، والش ِ يشرتون منه لحظات اللذة وضحكتها.. إىل عنادها وهي تمعن يف ر سؤاله اللجوج: ِّ يغادرين إال وهو يكر فتيات الليل ينادمن زبائنهن. .. إىل ٍ تقبييل، وكأنين سأغادر إىل غري رجعة - ألم تسأم من أحالمك؟، وترتفع ضحكته يف الزوايا المعتمة من البار تتشابك األيدي، همسها وهي تلعق شهويت عىل جسدها. لتقطع صمت الجدران الحزين. وتكرث الهمهمات، والوشوشة.. ثم فجأة تعلو عن بدء طقوس ً الضحكات الهستريية، معلنة َ يا لك من شرير أيها اليعقوب اللعين! وضعت طلبت زجاجة أخرى ألكمل درب نزوحي إىل َ لخلع أثواب ذواكر ٍ يائسة ٍ الثمالة يف محاوالت ا.. كيف سأسامحك، ً ازف ملح َّ عىل جرحي الن رحم الذكريات، وأطفئ حرائق مدينيت بأعقاب لم ينجح النسيان ٍ بثقوب ٍ بالعفن، وممتلئة ٍ مثقلة تغرز يف خاصرة شوقي إليها كل َ وأنت سجائري وكأنين أنتقم لها، ولنفيس و«لشام«. يف رتقها. ! َ وخناجرك َ سكاكينك »شام« ناشطة سياسية تدعم األحرار، وتدافع استقر الوهم الجميل يف رؤوس الشاربين بعد عن المعتقلين.. إنها فاكهة الجنة عىل األرض، ط خيبة أيايم َّ اد البار الدائمين، أتأب َّ كنت من رو أن هدأ يعقوب، وعاد المقهورون إىل ملء ات، ولم تتحدث معي َّ ومر ٍ ات َّ دخلت السجن مر الماضية، وأعاقرها خمرة يعقوب الرديئة، ثم كؤوسهم، ومتابعة ما فاتهم من أحالم بسبب عن معاناتها بين القضبان.. وألنين أحرتم ، ٍ صغرية ٍ أجلسها عىل حضين، وأداعبها كطفلة ا ً أنا أيض ُ تصرف يعقوب غري المسؤول، وعدت صمتها، لم أسألها عن أي شيء.. تركت لها ا. ً لم أفلح يف إنجابها يوم األمر وأنا عىل يقين أنها تصدح الموسيقى يف األجواء، وتبدأ القدود ستفضي يل، وتبوح بأدق التفاصيل حول تلك المياسة بالرقص، والعناق الحار عىل أنغام ا ً أغاين الستينيات، اليت كان يعقوب شغوف المرحلة اليت تشاركناها، بها، وهذه هي المزية الوحيدة اليت جعلتين ال حين كانت داخل السجن.. أنقطع عن البار رغم كل سيئاته. وأنا كنت خارجه. كيف لهذا القلب النابض نيِّ ا م ً هنا يف هذا الجو الخانق أستعيد بعض َّ زج ُ أن ييرِّبالحب، والفكر الن بعد عدة كؤوس، وتبدأ رحلة العودة إىل به يف أقبية التعذيب؟ الوراء، إىل »شام« الممشوقة القوام، ونهديها كيف لهذا الحماس أن العارمين حين يعانقان زرقة السماء، كيف يدفن يف رطوبة القهر؟ يجتمع رخام صدرها وقبة السماء؟ هذه األسئلة ما فتأت َ فرج ُ تنخر تفكريي، إىل أن أ لطالما سألتها عن السر يف ذلك، كانت تجيبين لزتيد َّ بقبلة وعناق.. تضع سبابتها عىل شفيت عن »شام« ولم أصدق ذلك إال حين رأيتها بكامل ق خصرها، الذي يشبه ِّ من شهويت وأنا أطو لقي برأسها ُ ا لم تطأها أقدام الحرب، ت ً ا بكر ً مدن عنفوانها، وحزنها البهي تعانقين؛ لتخفي بين الجميل عىل كتفي، وجسدها البض يلتصق ُّ ال تمت ً ة َّ وطني ً حمة ُ بجسدي لنشكل بذلك ل عن ُ دموعها ما عجزت لتلك اللحمة اليت يتداولونها يف النشرات ٍ بصلة سؤالها عنه. اإلخبارية والصحف المحلية. كانت »شام« تتحاشى ، وكلما َّ النظر إىل عيين « »شام« تذوب بين ذراعي، وأغنية foule La » ابة العشق األوىل.. أخطف القبالت، َّ إىل بو يف زرقة عينيها، ُ قت َّ حد تغمضهما، وتقول يل برباءة طفلة: عارات ِّ الش »إديث بياف« ِّ ا من كل ً تطوينا تحت جناحيها، هرب واللمسات، وأحشو بها أكمام الذاكرة، وجيوبها الواسعة؛ ألستعين بها عىل سجين الجديد بعد تنا، َّ - هيا بنا نكمل الحلم عىل مفارش أسر د َّ خل ُ أحياء.. هناك ن ُ بعث ُ وتحت وسائدنا.. هناك ن اليت أتخموا بها عقولنا القاصرة.. الجسد هو الحياة اسمها، وعنوان ِ ت َّ ، منه اشتق ُّ الوطن األم رحيل »شام« إىل السماء البعيدة. ٍ مثايل لالجئ ٌّ عالج ناجع ألمثايل، وحل ُ الموت بذكرياته. ُّ رحل عنه الوطن/شام/ وتركه يتخبط ا ً وطن َ لك ُ .. هناك سأنجب ٍ سة َّ مقد ٍ كأيقونات ة، وفسحته َّ عىل الحري ُّ .. شبابيكه تطل َ يشبهك ماوية تزخر بأغانينا المفضلة. َّ الس سكنها. يبدأ اآلن دور يعقوب يف الشتم وكيل مألت كأسي األخري، وتجرعته دفعة واحدة .. مجموعة أغاين َ - هل تذكر هدييت األوىل لك اللعنات عىل السكارى.. أصحو من رحليت »شام« ُ ا أغادر به البار.. عانقت ً ا مقنع ً ألجد سبب ؟ َ »إديث بياف« األثرية لديك ت عىل كتف يعقوب يف ِّ إىل الماضي وأرب ل واألخري، ومسحت دموعها َّ مي األو ْ وه يف هذه اللحظة اليت كنت أستعيد فيها محاولة مين لتهدئته، وإقناعه بأنه يتصرف مثل بالعودة ىن م ٍ ، عىل وعد َّ المنهمرة عىل وجنيت األيام. ِ ا، وما يليه من قادم ً إليها غد حواري مع »شام«، عال صوت »إديث بياف«وهي : نيِّ تغ »La vie en rose» لطة مع الشعب، حين يقطع أعناق ُّ رجال الس .. أو تحت التعذيب ً ة َّ أحالمهم.. أو يئدها حي يف أقبية الموت. لم أتمالك نفيس، وقلت له:

This article is from: