مجلة أور الأدبية

Page 22

‫باب األقصوصة‬

‫مغادرة‬

‫الكاتب‬ ‫عمر حمش‬

‫تنهمر الرسائل اللجوجة يف هاتفي‪ ،‬والحافلة لم‬ ‫تغادر المحطة بعد‪.‬‬ ‫تسأل أيم فيها‪:‬أين وصلت ‪.‬‬ ‫‪..‬األكل سيربد‪.‬‬ ‫انتبه لنفسك‪..‬‬ ‫يقولون الطريق من دمشق غري آمن‪.‬‬ ‫انتبه لنفسك‪. ..‬‬ ‫‪.‬يا لتوقيت أيم‪ ،‬كعادتها تضبطه وفق مشاعرها‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ـأخريا سوف ُتفرح قلب الوالدة برؤيتك طالت غيبتك‬ ‫هذه المرة‪.‬قال السائق‪.‬‬

‫ُ‬ ‫حفرت حفريت ‪..‬‬ ‫الموت؛‬ ‫قبل‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫أخرتت موطن مأواي األخري‪ ،‬ولقد راقين التعرف إليه‪.‬‬ ‫ُش ِده الحارس؛ حين علم ّ‬ ‫أن تلك الحفرة ما هي إال حفريت‪ ،‬فباعد‬ ‫المسافة اليت بيننا‪ ،‬وقد اتسعت عيناه‪ ،‬وعال جبينه‪ ،‬حىت أيقن أنّ‬ ‫أشج َ‬ ‫ٌّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫رأسه بالفأس؛ وشرع بمناوليت آخر قطع‬ ‫جدي‪ ،‬وأنين لن‬ ‫األمر‬ ‫البالط‪.‬‬ ‫نقدته ما يف جييب‪ ،‬وقلت‪ :‬احفظ قربي يا أخي‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫أهرول خلف الجنازات‪ ،‬فأشاركهم‬ ‫غدوت‬ ‫األمر عند هذا؛ بل‬ ‫لم أترك‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫سيهرول خلف‬ ‫وأخمن من منهم؛‬ ‫وأتمعن يف الوجوه‪،‬‬ ‫الطقوس‪،‬‬ ‫نعيش‪.‬‬ ‫كنت أقول‪ :‬شارك غريك؛ غدا فيك يشرتكون‪.‬‬ ‫الجنازات؛ لم ُ‬ ‫نهايات‬ ‫مبارحة المقربة‪ ،‬بل يف‬ ‫أك متعجال يف‬ ‫بعد‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫نهضت‪،‬‬ ‫الصمت؛‬ ‫جمع‪ ،‬وعاود‬ ‫كل مراسم؛ كنت أنزوي‪ ،‬فإذا ما غادر‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫وشوك‪ ،‬وشجريات‪ ،‬حىت‬ ‫المعالم‪ ،‬من شواهد‪،‬‬ ‫وتتبعت‬ ‫خطوت‪،‬‬ ‫ثم‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ويل ‪..‬‬ ‫بباب‬ ‫وخشعت كمن يقف‬ ‫وقفت أمام قربي‪،‬‬ ‫وصلت؛‬ ‫إذا ما‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫وقصدت مدخيل‪ّ ،‬‬ ‫دلفت‬ ‫ثم‬ ‫فزنعت بالطيت‪،‬‬ ‫انثنيت‪،‬‬ ‫صحوت؛‬ ‫فإذا ما‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫رطوبة‬ ‫تشمم‬ ‫رحلة‬ ‫يف‬ ‫ألشرع‬ ‫رميل؛‬ ‫عىل‬ ‫وتمددت‬ ‫رأسي‪،‬‬ ‫مخضعا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫صعود‪،‬‬ ‫الحشرات المتهيئة‪ ،‬والمتالحقة يف‬ ‫ومراقبة صغار‬ ‫حفريت‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫شقوق صفوف الطوب اليت كنت رصصتها‪.‬‬ ‫ويف هبوط عىل‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫المتمدد‪،‬‬ ‫غور القادم‪ ،‬وأرى جسدي‬ ‫أسرب‬ ‫األمر‪ ،‬وأنا‬ ‫هكذا سار‬ ‫وأربطيت المنحلة عىل مواضع كفين‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫قمت‬ ‫ارتويت‪ ،‬واستكان قليب؛‬ ‫ساعة‪ ،‬فإذا ما‬ ‫أظل عىل هذا‬ ‫كنت‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫متثاقال‪ ،‬وخرجت راضيا‪ّ ،‬‬ ‫ألمضي نحو الحارس‬ ‫أعدت بالطيت‪،‬‬ ‫ثم‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫الذي ّ‬ ‫ُ‬ ‫ثم ُّ‬ ‫يلتقط دراهمي‪ّ ،‬‬ ‫يفر‪،‬‬ ‫ويؤخر أخرى‪ ،‬وهو‬ ‫خطوة‪،‬‬ ‫يقدم‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫العالق بجلبايب‪.‬‬ ‫الرمل‬ ‫أغادر نافضا‬ ‫ويلتفت‪ ،‬وأنا‬ ‫فمت آمنا؛ وقد ّ‬ ‫ٌ‬ ‫حبور‪ ،‬واكتنفتين‬ ‫مسين‬ ‫وسرعان ما حان حيين‪ِ ،‬‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫أرقب مراسمي‪.‬‬ ‫وأخذت‬ ‫غبطة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫وأشري‪،‬‬ ‫أتأرجح‪،‬‬ ‫وكنت من فوقهم‬ ‫صامتين بالقبور‪،‬‬ ‫يمرون‬ ‫كانوا‬ ‫ُ‬ ‫وأصيح‪:‬‬ ‫من هنا ‪ ..‬من هنا ‪ ..‬كفى ‪ ..‬هنا‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫يقف متنحيا‪،‬‬ ‫والحارس‬ ‫قربي‪،‬‬ ‫يتجاوزون‬ ‫ولكم كانت فجيعيت؛ وهم‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫يرمق تجهمي‪ّ ،‬‬ ‫ويحركه‪.‬‬ ‫يخرج لسانه؛‬ ‫ثم‬ ‫أنيق مبتسم؛‬ ‫رجل‬ ‫قربه‬

‫‪22‬‬

‫يا عم أنت أدرى ‪ ...‬السفر واإلجازات شبه مستحيلة يف هذه الحرب‪.‬‬ ‫أبو مصطفى السائق‪ ،‬كان مرسال أيب ّ‬ ‫إيل حين قطعت الطرق‪،‬‬ ‫وتعذر السفر ألشهر عدة لطالما أتاين محمال بمكاتيبه ـ أيب الذي‬ ‫ال يعرتف بالهاتف النقال‪ ،‬وال بالرسائل القصرية‪ ،‬ويعلن يف كل مرة‬ ‫أنها ال تكفيه ليشرح مشاعره‪ ،‬وال تتسع لقائمة توصياته ـ وكانت‬ ‫اإلرسالية األشهى‪ ،‬اليت أنتظرها‪ ،‬هي طعام أيم الذي أتقاسمه‬ ‫مع أيب مصطفى‪ ،‬إذ يضطر للبقاء معي‪ ،‬ريثما يتمكن من العودة ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫أمال باشغاله بشابة‪،‬‬ ‫المقعد الخاوي بجواري‪ ،‬أشعل يف نفيس‬ ‫لعلها تكسب السفر القاحل نداوة تنعش وتختصر الوقت ‪.‬لكن خاب‬ ‫أميل إذ اندفعت سيدة تبدو بالستين من عمرها بكتلتها الضخمة‬ ‫إىل مقعدي‪ ،‬أزاحتين باتجاه النافذة‪.‬وشغلت ثالثة أرباع المقعد مما‬ ‫دفع بالسائق لالبتسام بخبث ‪...‬‬ ‫تمش األمور معك عىل ما يرام‪ ،‬دكتورنا الغايل‪.‬‬ ‫ـ لم‬ ‫ِ‬ ‫تجاهلت مزاحه‪ ،‬فقد خشيت أن تنتبه السيدة بأنها المقصودة‪،‬وبدأت‬ ‫أبحث عن منفذ للهواء‪ ،‬يخفف من رائحة تعرقها أتتعرق بكانون؟‬ ‫كنت قد تعودت عىل رائحة البارود المتسرب بدماء الجرحى‪،‬لكن ما‬ ‫أن خرجت من دوامة ضحايا الحرب‪ ،‬حىت عدت إىل نزقي‪ ،‬هان األمر‬ ‫ّ‬ ‫عيل بتذكري ما تركته يف المشفى الذي أختص به‪.‬‬

‫أغلقت كتايب‪ ،‬ورحت أراقب الوشوم المغروزة بتجاعيد وجهها‪ ،‬واليت‬ ‫تعطي صرامة لوجهها العابس‪ .‬عينيها كعيين الصقر‪ .‬الجمود‬ ‫فيهما يخبئ حزنا دفينا‪،‬أرى يدها عدة أكمام فوق بعضها البعض‪..‬‬ ‫كم عباءة ترتدي هذه السيدة؟‪.‬‬

‫شعرت بالعداوة اتجاهها‪ ،‬قد يكون لتوتر أعصايب من رائحة العفن‪،‬‬ ‫أو لخيبة أصابتين باشغالها مكان صبية الحلم‪ ،‬بل ربما من ازعاجها‬ ‫المزتايد مع مرور الوقت‪ ،‬ومع كل انعطاف للطريق‪،‬تحشرين أكرث‬ ‫وأشعر أنين بالكاد اتنفس‪ ،‬فقد تركت جسدها بال مباالة ‪،‬كتلة حرة‬ ‫دون أن تقاوم‪ ،‬عىل األقل لو تتمسك بحافة المقعد‪،‬حاولت ان ألفت‬ ‫نظرها بتأففي لكن خجلت من شيخوختها‪ ،‬و لم أتجرأ عىل قطع‬ ‫شرودها المستمر‪ ،‬وبت أشك برؤيتها يل‪ ،‬فمالمحها الحيادية ال‬ ‫توحي بأنها تهتم لمن يجلس بقربها‪.‬‬ ‫ساعات طويلة تفصلين عن طعام أيم ‪.‬ماذا تطبخ هذه ألوالدها؟‬ ‫وماذا لوكانت أيم؟ ‪.‬سألت نفيس ‪..‬هل كنت سأتافف منها‪،‬راح‬ ‫ذهين يخلق لها األعذار‪،‬قد تكون مهجرة‪،‬أو عىل سفر طويل‪ ،‬تمنيت‬ ‫أن أفتح حديثا معها‪›،‬‬ ‫لكن صمتها المربم حال دون ذلك‪.‬‬ ‫رددت عىل رسائل أيم باخبارها بانزعاجي من رفيقة السفر هذه‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫عيل ‪،‬تنصحين بتجاهل األمر‬ ‫التفاصيل‪،‬وتهون‬ ‫أيم تهتم بأدق‬ ‫المهم أن أصل بالسالمة‪.‬‬ ‫أجفلين صوت السيدة حين دقت بكفها عىل صدرها‪ ،‬ومدت كامل‬ ‫جذعهاصوب مقدمة الحافلة‬ ‫ـ اهلل أكرب ياساتر ‪....‬‬ ‫جاء ذلك تزامنا مع صراخ السائق وهو يوقف الحافلة فجأة‪:‬‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.