باب األقصوصة
مغادرة
الكاتب عمر حمش
تنهمر الرسائل اللجوجة يف هاتفي ،والحافلة لم تغادر المحطة بعد. تسأل أيم فيها:أين وصلت . ..األكل سيربد. انتبه لنفسك.. يقولون الطريق من دمشق غري آمن. انتبه لنفسك. .. .يا لتوقيت أيم ،كعادتها تضبطه وفق مشاعرها. ً ـأخريا سوف ُتفرح قلب الوالدة برؤيتك طالت غيبتك هذه المرة.قال السائق.
ُ حفرت حفريت .. الموت؛ قبل ِ ُ أخرتت موطن مأواي األخري ،ولقد راقين التعرف إليه. ُش ِده الحارس؛ حين علم ّ أن تلك الحفرة ما هي إال حفريت ،فباعد المسافة اليت بيننا ،وقد اتسعت عيناه ،وعال جبينه ،حىت أيقن أنّ أشج َ ٌّ َ ّ رأسه بالفأس؛ وشرع بمناوليت آخر قطع جدي ،وأنين لن األمر البالط. نقدته ما يف جييب ،وقلت :احفظ قربي يا أخي. ُ ُ َ أهرول خلف الجنازات ،فأشاركهم غدوت األمر عند هذا؛ بل لم أترك ُ ُ ُ َ سيهرول خلف وأخمن من منهم؛ وأتمعن يف الوجوه، الطقوس، نعيش. كنت أقول :شارك غريك؛ غدا فيك يشرتكون. الجنازات؛ لم ُ نهايات مبارحة المقربة ،بل يف أك متعجال يف بعد ِ ِ ِ ّ ُ ُ ٌ نهضت، الصمت؛ جمع ،وعاود كل مراسم؛ كنت أنزوي ،فإذا ما غادر ُ ُ َ ّ وشوك ،وشجريات ،حىت المعالم ،من شواهد، وتتبعت خطوت، ثم ٍ ّ ُ ُ ُ ويل .. بباب وخشعت كمن يقف وقفت أمام قربي، وصلت؛ إذا ما ِ ُ ُ ُ ُ ُ وقصدت مدخيلّ ، دلفت ثم فزنعت بالطيت، انثنيت، صحوت؛ فإذا ما ُ َ رطوبة تشمم رحلة يف ألشرع رميل؛ عىل وتمددت رأسي، مخضعا ِ ِ ِ صعود، الحشرات المتهيئة ،والمتالحقة يف ومراقبة صغار حفريت، ٍ ٍ ِ شقوق صفوف الطوب اليت كنت رصصتها. ويف هبوط عىل ِ ّ َ ُ ُ المتمدد، غور القادم ،وأرى جسدي أسرب األمر ،وأنا هكذا سار وأربطيت المنحلة عىل مواضع كفين. ً ّ ُ ُ ُ قمت ارتويت ،واستكان قليب؛ ساعة ،فإذا ما أظل عىل هذا كنت ُ َ متثاقال ،وخرجت راضياّ ، ألمضي نحو الحارس أعدت بالطيت، ثم ُ ً الذي ّ ُ ثم ُّ يلتقط دراهميّ ، يفر، ويؤخر أخرى ،وهو خطوة، يقدم َ َ ُ ُ العالق بجلبايب. الرمل أغادر نافضا ويلتفت ،وأنا فمت آمنا؛ وقد ّ ٌ حبور ،واكتنفتين مسين وسرعان ما حان حيينِ ، ٌ ُ ُ أرقب مراسمي. وأخذت غبطة، ُ َ َ ُ ُ وأشري، أتأرجح، وكنت من فوقهم صامتين بالقبور، يمرون كانوا ُ وأصيح: من هنا ..من هنا ..كفى ..هنا. ُ َ َ ُ يقف متنحيا، والحارس قربي، يتجاوزون ولكم كانت فجيعيت؛ وهم ُ ٌ ُ ُ ّ يرمق تجهميّ ، ويحركه. يخرج لسانه؛ ثم أنيق مبتسم؛ رجل قربه
22
يا عم أنت أدرى ...السفر واإلجازات شبه مستحيلة يف هذه الحرب. أبو مصطفى السائق ،كان مرسال أيب ّ إيل حين قطعت الطرق، وتعذر السفر ألشهر عدة لطالما أتاين محمال بمكاتيبه ـ أيب الذي ال يعرتف بالهاتف النقال ،وال بالرسائل القصرية ،ويعلن يف كل مرة أنها ال تكفيه ليشرح مشاعره ،وال تتسع لقائمة توصياته ـ وكانت اإلرسالية األشهى ،اليت أنتظرها ،هي طعام أيم الذي أتقاسمه مع أيب مصطفى ،إذ يضطر للبقاء معي ،ريثما يتمكن من العودة . ً أمال باشغاله بشابة، المقعد الخاوي بجواري ،أشعل يف نفيس لعلها تكسب السفر القاحل نداوة تنعش وتختصر الوقت .لكن خاب أميل إذ اندفعت سيدة تبدو بالستين من عمرها بكتلتها الضخمة إىل مقعدي ،أزاحتين باتجاه النافذة.وشغلت ثالثة أرباع المقعد مما دفع بالسائق لالبتسام بخبث ... تمش األمور معك عىل ما يرام ،دكتورنا الغايل. ـ لم ِ تجاهلت مزاحه ،فقد خشيت أن تنتبه السيدة بأنها المقصودة،وبدأت أبحث عن منفذ للهواء ،يخفف من رائحة تعرقها أتتعرق بكانون؟ كنت قد تعودت عىل رائحة البارود المتسرب بدماء الجرحى،لكن ما أن خرجت من دوامة ضحايا الحرب ،حىت عدت إىل نزقي ،هان األمر ّ عيل بتذكري ما تركته يف المشفى الذي أختص به.
أغلقت كتايب ،ورحت أراقب الوشوم المغروزة بتجاعيد وجهها ،واليت تعطي صرامة لوجهها العابس .عينيها كعيين الصقر .الجمود فيهما يخبئ حزنا دفينا،أرى يدها عدة أكمام فوق بعضها البعض.. كم عباءة ترتدي هذه السيدة؟.
شعرت بالعداوة اتجاهها ،قد يكون لتوتر أعصايب من رائحة العفن، أو لخيبة أصابتين باشغالها مكان صبية الحلم ،بل ربما من ازعاجها المزتايد مع مرور الوقت ،ومع كل انعطاف للطريق،تحشرين أكرث وأشعر أنين بالكاد اتنفس ،فقد تركت جسدها بال مباالة ،كتلة حرة دون أن تقاوم ،عىل األقل لو تتمسك بحافة المقعد،حاولت ان ألفت نظرها بتأففي لكن خجلت من شيخوختها ،و لم أتجرأ عىل قطع شرودها المستمر ،وبت أشك برؤيتها يل ،فمالمحها الحيادية ال توحي بأنها تهتم لمن يجلس بقربها. ساعات طويلة تفصلين عن طعام أيم .ماذا تطبخ هذه ألوالدها؟ وماذا لوكانت أيم؟ .سألت نفيس ..هل كنت سأتافف منها،راح ذهين يخلق لها األعذار،قد تكون مهجرة،أو عىل سفر طويل ،تمنيت أن أفتح حديثا معها›، لكن صمتها المربم حال دون ذلك. رددت عىل رسائل أيم باخبارها بانزعاجي من رفيقة السفر هذه، ّ ّ عيل ،تنصحين بتجاهل األمر التفاصيل،وتهون أيم تهتم بأدق المهم أن أصل بالسالمة. أجفلين صوت السيدة حين دقت بكفها عىل صدرها ،ومدت كامل جذعهاصوب مقدمة الحافلة ـ اهلل أكرب ياساتر .... جاء ذلك تزامنا مع صراخ السائق وهو يوقف الحافلة فجأة: