الرواية والعمارة[1]

Page 1

‫‪2013‬‬

‫حتليل العمران املصري والعربي يف اإلبداع الروائي املعاصر‬

‫علي عبد الرءوف‬ ‫أستاذ نظريات العمارة والعمران‬ ‫‪alialraouf@yahoo.com‬‬ ‫‪2013‬‬

‫العمارة واملدينة والرواية‪ :‬بناء النص ونص البناء‬

‫من رواية المنبع ‪ The Fountainhead‬للكاتبة اين راند إلى رواية منزل‬ ‫الرمل والضباب ‪ House of Sand and Fog‬للكاتب اندريه دوبس‬ ‫‪ ،9111‬ومرورا برواية المدن الالمرئية ‪ Invisible Cities‬للكاتب‬ ‫ايتالو كالفينو‪ ،‬أثبتت األعمال الروائية قدرتها المتميزة على تقديم فهما‬ ‫نقديا لإلنسان والمكان والعمارة والعمران‪ .‬الروايات لديها القدرة لتصف‬ ‫بصورة مكثفة األماكن‪ ،‬سواء الحقيقية أو المتخيلة‪ ،‬وتختبر التأثير‬ ‫العاطفي لالماكن والفراغات التي نعيشها‪.‬‬


‫العمارة واملدينة والرواية‪ :‬بناء النص ونص البناء‬ ‫حتليل العمران املصري والعربي يف اإلبداع الروائي املعاصر‬ ‫علي عبد الرءوف‬ ‫مقدمة‬ ‫من رواية المنبع ‪ The Fountainhead‬للكاتبة اين راند إلى رواية منزل الرمل والضباب ‪House‬‬ ‫‪ of Sand and Fog‬للكاتب اندريه دوبس ‪ ،9111‬ومرورا برواية المدن الالمرئية ‪Invisible‬‬ ‫‪ Cities‬للكاتب ايتالو كالفينو‪ ،‬أثبتت األعمال الروائية قدرتها المتميزة على تقديم فهما نقديا لإلنسان‬ ‫والمكان والعمارة والعمران‪ .‬الروايات لديها القدرة لتصف بصورة مكثفة األماكن‪ ،‬سواء الحقيقية أو‬ ‫المتخيلة‪ ،‬وتختبر التأثير العاطفي لالماكن والفراغات التي نعيشها‪.‬‬ ‫"ماذا تكون المدينة سوى البشر" ‪....‬‬

‫ويليام شكسبير‬

‫توقفت مليا أمام مقولة الروائي العظيم ويليام شكسبير‪ ،‬التي تلخص بعبقرية‪ ،‬قيمة عالقة اإلنسان‬ ‫والمكان في أكثر صورها تحضرا؛ المدينة‪ .‬وكما هو مطروح في أدبيات النقد المعماري فان العمارة‬ ‫يمكن تفسيرها وفهمها من خالل أنها نصا بصريا رمزيا ‪ .Architecture as a Text‬من هنا نبعت‬ ‫قضية هذا المقال؛ ما هي الصورة اإلدراكية من جهة الروائيين والمبدعين القاصين للعمارة‬ ‫والعمران؟ كيف يتعاملون مع عمارة وعمران وشخصية المكان أو المدينة؟ و كيف تصبح الرواية‬ ‫مهما كان اندفاعها الخيالي وسيلة للتوثيق التاريخي للغة المعمارية أو العمرانية التي ميزت حقبات‬ ‫بعينها في مكان ما؟ كيف تكون الرواية أداة نقدية للعمارة والعمران؟ وأخيرا كيف يمكن أن تكون‬ ‫الرواية مصدر الهام للمعماري؟‬ ‫وبصورة متزايدة تحظى فكرة رصد وتحليل العالقة بين اإلنسان والمكان بنصيب وافر من‬ ‫األطروحات والمعالجات في مجاالت إبداعية هامة مثل التصوير الفوتوغرافي والسينما والتصوير‬ ‫الفني‪ .‬إال أن العمل الروائي بمساحاته وتركيباته المعقدة‪ ،‬يبقى مجاال رائدا يتميز بسماته المتفردة في‬ ‫هذا الرصد‪ .‬والواقع أن العالقة بين العمارة وأشكال فنية إبداعية متمايزة هي حقيقة اقرها المعماريون‬ ‫والنقاد على السواء‪ ،‬ومن هنا صيغ التعريف الشهير للعمارة بأنها أم الفنون‪ .‬وكما يطرح الخياري (‬ ‫‪ ،)2192‬فان كل الفنون تحب العمارة فالتصوير الفوتوغرافي ينقل طرحا صادقا عن المكان أو البناء‬ ‫بشكل صامت يفترض فيه الحيادية‪ .‬أما الفن التشكيلي فانه يضيف إلى المكان رؤية وإحساس الفنان‬ ‫وتفسيره للمكان ثم يشرك المتلقي في تجربة بصرية عاطفية ثرية ومتعددة األبعاد والتفسيرات‪ .‬ولكن‬ ‫الرواية هي نوع من العمارة في كتابتها وتنظيمها وهي تشغل أوعية وفراغات معمارية وعمرانية في‬ ‫أحداثها‪ .‬إن عالقة الرواية بالمدينة وعالقة المدينة بالرواية‪ ،‬كما يرى التكرلي (‪ ،)2112‬هي عالقة‬ ‫تبادل وجود وتواصل مختلط‪ ،‬وهي عالقة متناقضة ومتشعبة‪ ،‬تتجاوز طرفيها لتضم اليها طرفا ثالثا‬


‫علي عبد الرءوف‬

‫هم القراء‪ ،‬سكان المدن‪ .‬ومن تالقي وامتزاج هذه األطراف الثالثة في ما بينها على مستويات‬ ‫مختلفة‪ ،‬ينتج‪ ،‬بالضرورة‪ ،‬وعي حاد بالذات وبالمحيط وبالوجود نفسه‪ .‬ولذا أصبحت عالقة الروائي‬ ‫بالمكان هي عالقة جوهرية‪ ،‬فالمكان يحمل ويحتوي الزمان والماضي والجماعة اإلنسانية والعالقات‬ ‫المتشابكة بين أفرادها‪.‬‬ ‫وعلى الصعيد اإلقليمي‪ ،‬لقد وثقت الرواية العربية التجربة اإلنسانية والحس المكاني‪ ،‬كما نبهت إلى‬ ‫حاالت تغيره أو تدهوره أو اندثاره في أحيان أخرى‪ .‬في األعمال الروائية فان شخصيات األماكن‬ ‫والمدن التي وقعت بها أحداث روايات هامة‪ ،‬شكلت عنصرا هاما في البناء الروائي‪ .‬فقد استطاع‬ ‫الروائيون بتوظيف أنماط العمارة‪ ،‬تحقيق أهداف فنية ودرامية جوهرية في رواياتهم‪ .‬وميزت‬ ‫األوصاف السردية بين عمارة وعمران الثقافات العربية المحلية المتمايزة‪ .‬فعلى سبيل المثال اختلفت‬ ‫حارات ومشربيات نجيب محفوظ في البيئة المصرية‪ ،‬عن ديوانيات وأحواش عبده خال في الخليج‪،‬‬ ‫أو أبراج وناطحات سحاب هاني النقشبندي في مدينة دبي‪ ،‬أو بيوت القرية الطينية في سرد الطيب‬ ‫الصالح‪ ،‬او تطوان البيضاء ومراكش الحمراء في روايات المغاربة أمثال محمد شكري ومحمد‬ ‫زفزاف وسالم بن حميش‪ .‬بناء على ذلك يهدف المقال إلى فهم أوسع لطبيعة العالقة بين العمل‬ ‫الروائي والعمل المعماري العمراني والتأثير اإلبداعي النقدي التبادلي بينهما‪ .‬ويتتبع المقال في‬ ‫منهجية تحليلية مجموعة من األعمال الروائية الهامة التي صدرت في مصر والعالم العربي وقدمت‬ ‫في نسيجها الروائي فهما أو تصورا أو نقدا للعمارة والعمران العربي المعاصر‪.‬‬

‫تفاعل اإلنسان والمكان هو ركيزة لتميز النتاج المعماري والعمراني‪ ،‬حالة دولة مالي والمسجد الكبير‪.‬‬

‫‪ .1‬المراجعة النقدية ألدبيات بلورة العالقة بين العمارة والرواية‬ ‫الدراسات النقدية المنشورة باللغة العربية‪ ،‬والتي تتناول موضوعات العمارة والعمران‪ ،‬بصورة‬ ‫عامة‪ ،‬محدودة للضعف المرصود من جهة الكتاب والنقاد واألكاديميين العرب في إنتاجهم المنشور‪.‬‬ ‫أما األدبيات المنشورة عربيا‪ ،‬والتي تتأمل العالقة بين العمارة والمجاالت اإلبداعية األخرى‬ ‫كالموسيقى أو الرواية فيمكن عدها على أصابع األيدي‪ .‬من بين هذه الدراسات المحدودة يبرز ما‬ ‫قدمته سامية محرز في كتابها أطلس القاهرة األدبي (محرز‪ .)2192 ،‬حققت الباحثة رصدا توثيقيا‬ ‫ثريا للعالقة بين النص الروائي وبين حاالت المكان والفضاءات العامة والحميمة‪ ،‬باإلضافة إلى‬ ‫تجارب التحرك في مدينة القاهرة‪ .‬وفي خالل هذا الرصد يتوقف قارئ النصوص‪ ،‬التي انتقتها‬ ‫الباحثة‪ ،‬أمام أطروحات وصفية أو نقدية تتعامل مع البنية المعمارية والعمرانية لمدينة القاهرة على‬ ‫لسان الكاتب أو أبطال روايته‪ .‬ومن أهمها االنتقاالت العمرانية من القاهرة اإلسالمية ببساطتها‬ ‫وتقليديتها إلى القاهرة الكوسموبوليتية كما أسمتها الباحثة (محرز‪ .2192 ،‬ص‪ .)22 :‬إال أنها في هذا‬ ‫الرصد اكتفت بالجانب ألتوثيقي دون دالالت نقدية عميقة تتولد من هذا التوثيق الثري الذي شمل‬ ‫‪February 28, 2013‬‬

‫العمارة والمدينة والرواية‪ :‬نص البناء وبناء النص‪.‬‬


‫إطارا زمنيا ممتدا من بدايات القرن العشرين إلى العقد األول من القرن الواحد والعشرين‪ .‬ومن‬ ‫منظور محرز‪ ،‬فحين يسجل الكاتب حاضر وماضي حي معين أو منطقة معينة‪ ،‬فهو يدون على‬ ‫الخارطة التي تنتجها انحيازاته االقتصادية واالجتماعية والسياسية والجمالية‪ ،‬وهي ترى أن الجغرافيا‬ ‫األدبية وسيلة لطرح أسئلة جديدة والتطلع إلى إجابات جديدة‪.‬‬ ‫كما افرد الرباط (‪ )2112‬في كتابه ثقافة البناء وبناء الثقافة‪ ،‬فصال تحدث فيه عن السرد الروائي‪،‬‬ ‫وعالقته بالقاهرة التاريخية في أعمال نجيب محفوظ وجمال الغيطاني‪ .‬وتحدث الرباط عن أن األبنية‬ ‫هي أبطال هذه األعمال الروائية مؤكدا قيمة المكان‪ ،‬وخاصة عميق التراث‪ ،‬في توليد طاقة سردية‬ ‫مختلفة ينتبه إليها الروائي المبدع‪ .‬كما تناولت العالقة بين العمل الروائي والبنية العمرانية مجموعة‬ ‫من المقاالت النقدية‪ ،‬التي نشرت في جرائد يومية أو دوريات ثقافية شهرية ‪ ،‬منها مقالي مشاري‬ ‫النعيم (‪ ،)2192 ، 2112‬ومحمد الخياري (‪ ،)2192‬وحشمت (‪ .)2119‬بينما قدم السيد (‪)2199‬‬ ‫مراجعة نقدية في العالقة بين العمارة واألدب‪ ،‬وأشار بصورة خاصة إلى دور العمارة في الرواية‪.‬‬ ‫وأشار إلى أن أحداث بعض الروايات ال تكتمل روعة إدراكها إال بوصف دقيق وتفصيلي لصروح‬ ‫عمرانية "حقيقية" تشكل جزءا ال يتجزأ من فهم وتفاصيل الحبكة وسرد القصة‪ .‬واستشهد السيد بأمثلة‬ ‫من التراث الروائي واألعمال المعاصرة للتأكيد على القيمة اإلبداعية للمكان في السرد الروائي‪ .‬من‬ ‫روايات دان براون مثل رواية شيفرة دافنشي وكذلك تشارلز ديكنز ورواياته مثل قصة مدينتين او‬ ‫روايتي "أوليفر تويست" و"ديفيد كوبرفيلد" والتي دارت أحداثها في مدينة لندن ووصفت معالمها‪.‬‬ ‫وهناك رواية البؤساء لفكتور هيجو التي تناولت باريس القرن التاسع عشر بالتفصيل‪ .‬وبالمقابل في‬ ‫األدب العربي يبرز نجيب محفوظ ورواياته زقاق المدق ونجد أمين معلوف ورواية ليو األفريقي التي‬ ‫تقدم حكايات مكانية ألربعة من أهم مدن العروبة و الحضارة اإلسالمية‪.‬‬ ‫أما المؤرخ العمراني الصياد )‪ (AlSayyad, 2011‬فقد قدم قراءة لتعددية القاهرة في كتابه‬ ‫المنشور باللغة االنجليزية بعنوان القاهرة‪ :‬قراءات تاريخية لمدينة‪ .‬يروي الصياد قصص القاهرة‬ ‫المتعددة المتغيرة‪ ،‬المدينة أو باألحرى مجموعة المدن التي تغيرت وتبدلت وتحولت ووصلت إلى‬ ‫حالتها المعاصرة؛ بيئة عمرانية ومعمارية ثرية ومتعددة الطبقات‪ .‬وبجانب مرجعيات وفيرة‬ ‫ألطروحة الصياد فانه يستخدم أعمال الروائيين القاهريين نجيب محفوظ الذي يمثل‪ ،‬تبعا لتصور‬ ‫الصياد‪ ،‬الرؤية األكثر إلهاما في رسم القاهرة وخاصة في الثالثية‪ .‬ثم يتناول اثر خيري شلبي في‬ ‫روايته الشهيرة رحلة الطرشجي الحلوجي ويعتبرها األكثر إبداعا وخاصة قدرة المؤلف على إخراج‬ ‫كيانات تاريخية من إطارها الزمني وتقديمها في اللحظة المعاصرة لتتفاعل مع بطل الرواية‪ .‬ووصف‬ ‫الصياد للرواية بأنها األكثر إبداعا‪ ،‬كان مرجعه االستعادة اإلنسانية التاريخية التي يقدمها خيري شلبي‬ ‫لإلنسان والمكان في لحظة نشأة القاهرة‪ .‬حيث يرسم شلبي صورة واقعية خيالية لبطل الرواية وهو‬ ‫يتلقى دعوة لإلفطار في أول شهر رمضان من مؤسس القاهرة المعز لدين هللا الفاطمي‪ .‬ويصف‬ ‫الراوي رحلته في القاهرة الوليدة وتحيته العابرة للمقريزي صاحب "خطط المقريزي" عندما يصادفه‬ ‫في الطريق‪ .‬ثم يلتق ي مع القائد جوهر الصقلي وهو يستعرض ويناقش خرائط المدينة الجديدة حيث‬ ‫يشهد اعتماد جوهر الصقلي لخرائط الجامع األزهر والقصر الشرقي الكبير‪ ،‬قصر الخالفة الفاطمية‬ ‫بعد أن تأكد أنها تتطابق مع رؤية المعز لدين هللا الفاطمي‪ .‬ثم ينهي الصياد المرجعيات الروائية بما‬ ‫وصفها األكثر شجاعة‪ ،‬وهي رواية عمارة يعقوبيان لعالء األسواني‪ ،‬وهي الرواية التي تتبعت تاريخ‬ ‫المدينة عبر عدة عقود خالل القرن العشرين‪.‬‬


‫علي عبد الرءوف‬

‫ولكن منذ قرابة العقدين واجهت جينفر بلومر (‪ )9111‬إشكاليات وتساؤالت فلسفية هامة عن العالقة‬ ‫بين النص المكتوب والعمارة‪ .‬وهي تناقش أن العمارة هي نظام تمثيل وتصوير بإمكانات هامة‬ ‫تتجاوز الطرح الرمزي‪ .‬عقدت بلومر مواجهة بين إطارين ثقافيين أولهما أدبي ممثال في رواية‬ ‫جيمس جويس واستخدمت االستراتيجيات المجازية التي وظفها في تحليل ثالث من أعمال جيوفاني‬ ‫باتيستا بيرانيزي ‪Giambattista Piranesi (Campo Marzio, Collegio, and‬‬ ‫)‪ .the Carceri‬المزج بين استراتيجيات "يقظة فينيجانز" ‪Finnegans Wake‬‬ ‫‪ ،‬التي اسماها جويس نفسه االستراتيجيات المعمارية مع االستراتيجيات التقليدية للتفكير المعماري‪،‬‬ ‫جعل بلومر تخلق أسلوب جديد في التفكير المعماري ال يسيطر عليه النموذج الخطي‪ ،‬ولكنه يالءم‬ ‫أفكار واطر نظرية من مجاالت معرفية مختلفة‪ .‬أما فاندينبرج (‪ )2191‬فقد طرح فكرة رؤية العمل‬ ‫الروائي كعمل معماري له بنية وهو يشير إلى أهمية المكان واصفا الرواية بأنها بناء من األحداث‬ ‫تجري وتحكى في بيئة مبنية من األماكن‪ ،‬وهذه العالقة هي ما تقدم للراوية اإلثارة والغموض ورسم‬ ‫الشخصيات‪.‬‬ ‫‪ .2‬إشكاليات وتساؤالت نظرية‪ :‬المفاهيم واألفكار األساسية‬ ‫من التساؤالت النظرية األساسية ما له عالقة بتصور السرد الروائي للمدينة وبيئتها المبنية‪ .‬ما هي‬ ‫المدينة الروائية‪ ،‬وكيف يمكن تشكيلها؟ كيف يمكن أن نصنف اإلدراك المكاني في الرواية؟ الواقع أن‬ ‫في الرواية هناك مدنا متنوعة‪ ،‬مدنا متخيلة وال مرئية (كالفينو‪ ،)2192 ،‬ومدنا واقعية مرئية‬ ‫وموجودة‪ ،‬على غرار اإلدراك الواقعي لمدينة لندن في أعمال تشارلز ديكنز ومدينة القاهرة في‬ ‫أعمال نجيب محفوظ ومدينة اإلسكندرية في سرد إبراهيم عبد المجيد‪ .‬ولذلك يعتمد المقال على‬ ‫صياغة مجموعة من األفكار والمفاهيم تتضافر بصورة عضوية لتشكل البنية البحثية للمقال‪.‬‬ ‫الفكرة األولى‪ :‬الرواية كبناء درامي متكامل يتمكن فيه الكاتب من خلق عالم تتفاعل فيه‬ ‫الشخوص واإلحداث واألماكن‪ .‬فالمكان يمثل "مسرح الحدث" في كل من الرواية والعمارة‪.‬‬ ‫والكثير من الروايات التي تصف المكان المعماري وتعتمد عليه اعتمادا"كمنصة للقصة"‬ ‫اوكخشبة المسرح التي ال تقوم الرواية بدونها مطلقا‪ .‬فإحدى دعائم الرواية هي قيمة المكان‬ ‫وقدرته على إيجاد ساحة التفاعل بين اإلنسان والحدث‪.‬‬ ‫الفكرة الثانية‪ :‬الرواية في مجملها‪ ،‬ترصد عالقة إنسان ما بمكان ما‪ .‬هذا الرصد يمكن أن‬ ‫يتنوع ما بين ثالث احتماالت للتعامل مع إشكالية المكان‪ .‬أولها أن هذا المكان واقعا حقيقيا له‬ ‫بيئته المادية الملموسة والمعروفة في نطاق جغرافي معلوم‪ .‬ثانيها أن يكون المكان نسيجا‬ ‫افتراضيا لعوالم خيالية ال واقعية‪ .‬من هذا المنظور فإن المهم في المدينة في الرواية ليس‬ ‫اسمها وال مالمحها وال التصريح بها أو الكناية عنها‪ ،‬بل المهم هو ما صورة تلك المدينة في‬ ‫سياق الرواية؟ وما تدعم به توجهات الكاتب في رسم الشخصيات واألحداث؟ وثالثها أن‬ ‫يكون التعامل مع المكان كنطاق استشرافي مستقبلي‪ .‬فالعمارة واألدب‪ ،‬يتشابهان في القدرة‬ ‫على التخيل وربط األحداث ونسجها في قالب إبداعي متكامل‪.‬‬ ‫الفكرة الثالثة‪ :‬وهي ترتبط بفرضية إمكانية رؤية القاهرة كخماسية مكانية انعكست أو يمكن‬ ‫استنتاجها من التحليل النقدي لألعمال الروائية المعاصرة‪ .‬وهذه القراءات المكانية الخمس‬ ‫‪February 28, 2013‬‬

‫العمارة والمدينة والرواية‪ :‬نص البناء وبناء النص‪.‬‬


‫هي القاهرة اإلسالمية‪ ،‬القاهرة الخديوية‪ ،‬القاهرة العشوائية‪ ،‬والبيئي المقدس (فيما وراء‬ ‫المدينة)‪ ،‬والمستقبلي (فيما بعد المدينة)‪.‬‬ ‫بناء على المفاهيم السابقة تأتي أهمية القراءة النقدية التحليلية لإلبداع الروائي المرتبط بالنطاق‬ ‫جغرافي مكاني معين لقدرتها على تقديم تصورا أكثر عمقا ودقة لتعقيد وتركيب وربما إعادة تركيب‬ ‫عالقة اإلنسان بالمكان‪.‬‬ ‫‪ .3‬بنية العمل الروائي‬ ‫العمارة والرواية شكالن من أشكال التعبير الثقافي عن المجتمعات واإلنتاج اإلبداعي لها‪ ،‬تشتركان‬ ‫في بعض السمات وتختلفان في البعض اآلخر‪ .‬تشترك الرواية والعمارة في أنهما‪ ،‬كل بأسلوبه‬ ‫الخاص‪ ،‬يتضمنان مضمونا ً ثقافيا ً يختلف من مكان إلى آخر‪ ،‬ومن زمان إلى آخر‪ ،‬ومن كاتب أو‬ ‫معماري إلى آخر‪ .‬والرواية تتناول حدثا يحتاج إلى المكان‪ ،‬ومحتوى البحث يربط بين التعبير الثقافي‬ ‫والمكان‪ ,‬ومحاولة فهم عضوية التأثير المتبادل‪ ،‬وآفاق التقارب واالختالف بين الرواية والعمارة في‬ ‫المدن العربية‪.‬‬ ‫القيمة الكبرى في مناقشة العمل الروائي المعاصر أنها تعني التعامل مع التغيرات االجتماعية‬ ‫والسياسية واالقتصادية والثقافية‪ .‬وهذه التغيرات تقوم في أساسها على التغير المكاني الجغرافي‬ ‫الروائي‪ ،‬الذي يساير تلك التغيرات التي أحدثها الزمان‪ .‬إذن التعامل مع المكان باعتباره مكونا أساسيا ً‬ ‫في صلب المعمار الروائي هو احد المحاور الهامة في بنية العمل وتطوره‪ .‬والواقع إن الروائي فرد‬ ‫من ضمن جماعة إنسانية‪ ،‬وأحيانا يرغب أن يكون لسان حالها حيال قضية من القضايا‪ .‬إنه يستقرئ‬ ‫الظروف والمستجدات ليصيغها في بنية روائية معالجة درامية كلية‪ ،‬يخلق منها نسيجا ً متماسكا ً يكمل‬ ‫بعضه بعضا ً في سياقات تقرأ بكليتها وليس بجزئياتها‪ ،‬في نص واحد يمكن تحليله إلى بنيات‬ ‫مترابطة‪ .‬وهذا ما يسمى بالهيكل العام للرواية أو عمارة الرواية‪ .‬فالبناء الروائي ال يختلف كثيراً عن‬ ‫البناء المعماري‪ ،‬حيث يمكن تطويره أو هدمه من أساسه ليقوم بدال منه بناء آخر بمواصفات مختلفة‪،‬‬ ‫لكن يبقى البناء في أغراضه الضرورية واحدا في كل الحاالت‪ ،‬والمعالجات الفنية في الرواية جزء‬ ‫أساسي يكمله البناء الفني (القحطاني‪.)2111 ،‬‬ ‫‪ .1-3‬أهمية المكان في العمل الروائي‬ ‫إدراك العالقة الوثيقة بين اإلنسان والمكان من القيم العامة فيي اإلبيداع الروائيي‪ .‬وطبيعية هيذه العالقية‬ ‫المركبة بين اإلنسان والمكان الذي يألفه ويعيش فيه مين خيالل عمليية التيأثير والتيأثر قيد تكيون كاشيفة‬ ‫ومحفزة وملهمة‪ .‬وقد نشأت أهمية المكان في العمل الروائي بسيبب اليدور اليذي يقيوم بيه فيي البنياء او‬ ‫المعمييار اإلبييداعي للرواييية‪ .‬هييذا الييدور الييذي ال يقييل أهمييية عيين بيياقي العناصيير الروائييية الرئيسييية‬ ‫(الحدث‪ ،‬الشخصية‪ ،‬الزمان)‪ .‬فالمكان هو اإلطار المرئي والمادي‪ ،‬الذي سيجل اإلنسيان خالليه ثقافتيه‬ ‫وفكره وفنونه‪ ،‬مخاوفه وآماله‪ ،‬وأسراره‪ ،‬وكل ما يتصيل بيه وميا وصيل إلييه مين ماضييه ليورثيه إليى‬ ‫المستقبل (الرواية والمكان‪ :‬ياسين النصير‪ .)92 :‬إن المسياحة المكانيية التيي تقيع فيهيا األحيداث‪ ،‬التيي‬ ‫تفصيل بييين القيارئ وعييالم الروايية‪ ،‬لهييا دور أساسيي فييي تشيكيل اليينص الروائيي‪ ،‬فالرواييية رحلية فييي‬ ‫الزمان‪ ،‬والمكان معا‪.‬‬


‫علي عبد الرءوف‬

‫وعلى المسيتوى اإلنسياني فيان اختييار المكيان وتهيئتيه يميثالن جيزءاً مين بنياء الشخصيية‪ .‬فالثابيت أن‬ ‫الييذات البشييرية ال تكتمييل داخييل حييدود ذاتهييا‪ ،‬ولكنهييا تنبسييط خييارج هييذه الحييدود‪ ،‬لتشييكل فضييائها‬ ‫الوجودي‪ ،‬وتسقط على المكان قيمها الحضارية‪ .‬وهذا ما يعزز دور المكان في العمل الروائي ويأخذه‬ ‫موضع دراسة واهتمام فيه‪ ،‬بل أنه قد يكون في بعض األحيان هو الهدف في وجود العمل كله‪ .‬وتبرز‬ ‫أهميية المكيان فييي البنياء الروائييي مين خيالل داللتييه وميا يحملييه مين إشيارات وتفسيييرات‪ ،‬فالمكيان فييي‬ ‫الرواييية سييواء كييان مغلق يا ً أم مفتوح ياً‪ ،‬يسييتطيع أن يفسيير كثيييراً ميين الييدالالت االجتماعييية والنفسييية‪،‬‬ ‫وأحالتهييا إلييى عييالم رمييزي أو واقعييي متخيييل (النصييير‪ .)9111 ،‬إن مفهييوم المكييان الروائييي ق يد ميير‬ ‫بتحوالت أساسية‪ ،‬وتعاملت الرواية مع المكان تعامالً خاصاً‪ ،‬يتميز بالتنوع والتعدد‪ ،‬إذ أصبح المكيان‬ ‫بمثابة مرآة تعكس الصدى النفسي للشخصية مع ما يعتمل في أعماقها‪.‬‬ ‫والتبادل اإلبداعي بين المدينة وبيئتها المعمارية وبين الرواية ثنائي االتجاهات‪ .‬فبقدر ما أتاحت‬ ‫المدينة من مادة خام إنسانية ثرية ومتجددة إلى الروائيين على مدى القرون الثالثة الماضية‪ ،‬بقدر ما‬ ‫عمل هؤالء على نحت مالمح المدينة وتخليدها‪ .‬لقد وثقوا‪ ،‬وبصورة خالدة‪ ،‬صورا لغوية تعكس كل‬ ‫ما ملكته مدينتهم من بيئات معمارية وعمرانية وطبيعية مختلفة‪ .‬لم ينسوا إي معلم من معالمها وال إي‬ ‫شارع أو زقاق أو زاوية من زوايا بيوتها‪ .‬كانوا يسعون ‪ ،‬بمحبة وحماس‪ ،‬لكي يحتفظوا بتفاصيل‬ ‫الحياة البشرية في المدن بين صفحات رواياتهم (التكرلي‪.)2112 ،‬‬ ‫‪ .4‬العمارة والمدينة والرواية‪ :‬تاريخ وإشكالية االرتباط‬ ‫كلمة (روى) في اللغة العربية تأتي بمعنى نقل‪ ،‬والراوي هو الناقل‪ .‬أما الرواية بصياغتها اإلبداعية‬ ‫الفنية فتعني البناء الروائي ذاتي الصياغة‪ ،‬وليس النقل باللغة المباشرة للحدث‪ .‬إن ربط فكرة‬ ‫"المكان" بالرواية لها ما يبررها من الناحية النقدية المحضة فالرواية أساسا نتاج لتيارات التمدن في‬ ‫القرن السابع عشر‪ ،‬أي أن بداياتها كانت مع حالة التحضر والمدنية التي رافقت النهضة األوروبية‬ ‫الحديثة‪ .‬لذا كان ظهور الرواية ترجمه لنشأة الطبقة المتوسطة في المجتمع‪ ،‬وإمكانية التعبير عن‬ ‫هموم هذه الطبقة وإشكاالتها (النعيم‪ .)2112 ،‬ويؤكد النابلسي (‪ )9111‬هذا الطرح في كتابه‬ ‫(جماليات المكان في الرواية العربية)‪:‬‬ ‫"أن الرواية العربية المعاصرة قد ظهرت في العالم العربي‪ -‬كما هو الحال في‬ ‫أوروبا ‪ -‬مع ظهور الطبقة المتوسطة‪ ،‬وتشابك العالقات بين جماعات هذه الطبقة‪،‬‬ ‫سواء كان ذلك في المدينة‪ ،‬أو في البلدة أو القرية‪ ،‬وبما أن البيئة التي ترعرعت‬ ‫فيهما الطبقة المتوسطة‪ ،‬كانت بالدرجة األولى المدينة‪ ،‬ثم البلدة‪ ،‬ثم القرية فقد كان‬ ‫لهذه األماكن الثالثة حضور جمالي واضح"‪ .‬النابلسي (‪.)9111‬‬ ‫نتناول في الجزء التالي التفسيرات المختلفة في بيان مساهمة المدينة وبيئتها المعمارية والعمرانية في‬ ‫نشأة مجاال إبداعيا جديدا يتجاوز القوالب التاريخية المعروفة كالمالحم واألساطير والسير الشعبية‪.‬‬ ‫‪ .1-4‬دور المدينة في نشأة الرواية‬

‫في بدايات االستقرار اإلنساني كانت التجمعات البشرية منتشرة على األرض في مشهد مفعم بالبدائية‪،‬‬ ‫ثم كانت المدن ونشوء الحضارات القديمة التي رافقها ظهور المالحم واألساطير وما تتضمنه من‬ ‫‪February 28, 2013‬‬

‫العمارة والمدينة والرواية‪ :‬نص البناء وبناء النص‪.‬‬


‫خياالت قد تكون بالقطع ملهمة ومثيرة‪ ،‬ولكنها منفصلة عن شؤون البشر العاديين‪ .‬وفي بداية القرن‬ ‫السابع عشر‪ ،‬حين كانت النهضة األوروبية قد تكاملت وازدهرت المدن في أنحاء أوروبا‪ ،‬ازداد‬ ‫الوعي بأهمية شخصية الفرد وتصاعد الشعور بالذات ضمن مجتمعات تتفاعل فيها المصالح‬ ‫وتتضارب اإلرادات ورغبات الطموح‪ .‬كانت هذه الحقبة بصراعاتها وتفاعالتها مثالية إلفراز فن‬ ‫أدبي جديد‪ ،‬يأخذ بنظر االعتبار ما تأسس في العالم من تغيرات‪ ،‬ولم يكن في المستطاع إال أن ينشأ‬ ‫هذا الفن حامال صفات الفن الروائي‪ ،‬من اتساع في الحدود وتنوع في المستويات وقابلية على احتواء‬ ‫وهضم أصناف أدبية متعددة (التكرلي‪.)2112 ،‬‬ ‫تعتمد طبيعة الفن الروائي في تشكيله ألطروحاته اإلبداعية على تقديم صور تعكس المجتمع في إطار‬ ‫زمني معين‪ ،‬يتداخل فيها الواقعي والتخيلي‪ .‬ولذا تتعدد فرضيات عالقة المدينة بنشأة الرواية‪ .‬فمنذ‬ ‫بداية الفن الروائي‪ ،‬واجهت الرواية المدينة مواجهة بها الكثير من المشاعر والتناقضات‪ .‬هذه‬ ‫المواجهات كانت في معظمها كاشفة وناقدة وفي الوقت ذاته باحثة ومستكشفة‪ .‬وكما يطرح التكرلي‬ ‫(‪ )2112‬كانت الرواية بمثابة مرآة ممتدة على سعة األفق‪ ،‬وضعت أمام أبصار سكان المدينة‪،‬‬ ‫وراحت تبدي لهم دقائق حياتهم باأللوان‪ ،‬وإذا بهم يجدون أنفسهم‪ ،‬على حين غرة‪ ،‬عرايا أمام أنفسهم‪،‬‬ ‫فال يطيقون هذا العرض الالمألوف وهذا الظهور المفاجئ لتفاصيل عيوبهم وخباياهم المخجلة‪.‬‬ ‫ويضيف التكرلي (‪ )2112‬متشككا في أن نشوء المدن هو السبب الوحيد لظهور الفن الروائي‪ ،‬ولكنه‬ ‫يؤكد بأن وجود المدينة والمجتمع المدني كان من األسباب القوية الفاعلة لتأسيس الفن الروائي‪ .‬لقد‬ ‫وفر نشوء مجتمعات المدينة بتعقيداتها وتشابك العالقات اإلنسانية بين ساكنيها‪ ،‬كما ثريا من المادة‬ ‫الخام ألولئك الكتّاب الذين وجدوا الطريق ممهدا أمامهم البتكار فن أدبي جديد إلى ح ٍد ما‪ ،‬فاندفعوا‬ ‫يستخدمون هذه المادة الخام لكتابة شكل أدبي له صلة بالمالحم واألساطير وحكايات الجدات‪ ،‬ولكنه‬ ‫يختلف عنها بما يتناوله من شخصيات معاصرة وأحداث من الحاضر القريب ومشاكل تمس الناس‬ ‫العاديين وتمس قلب القارئ‪.‬‬ ‫يقدم رحيم (‪ )2111‬أيضا تفسيرا لنشأة الرواية كقالب إبداعي جديد ارتبط بنشأة المدينة‪ .‬ويفسر كيف‬ ‫أصبح الفن الروائي ممكن الوجود مع انبثاق المدينة البورجوازية الحديثة التي ولدت إبان الثورة‬ ‫الصناعية؟‪ .‬وكيف أن ثقافة المدينة من خالل شروطها االجتماعية هي التي خلقت الرواية؟‪ .‬ففي‬ ‫المدينة التي راحت تتوسع يوما ً بعد آخر‪ ،‬وتكتظ بالسكان القادمين‪ ،‬في الغالب‪ ،‬من األرياف‬ ‫واإلقطاعيات انتعش فن الرواية‪ .‬فهذه المدينة شهدت تحوالت سريعة في المناحي كافة لتكون المـركز‬ ‫العصبـي لحضارتنـا اإلنسانية الجديدة‪ ،‬وقلب أحداثها المتسارعة العاصفة‪ .‬غابت الطبيعة‪ ،‬وأقيمت‬ ‫األكواخ المتالصقة الممتدة للعمال إلى جانب فيالت البورجوازيين وعماراتهم الشاهقة‪ .‬وتحدد أفق‬ ‫النظر‪ ،‬وتعكرت زرقة السماء بدخان المصانع‪ .‬وفي خضم الحياة الصعبة‪ ،‬تحت وطأة عالقات‬ ‫اجتماعية واقتصادية جديدة‪ ،‬أفرزها العهد الصناعي‪ ،‬طرأ تغير على عالقة اإلنسان بالزمان‬ ‫والمكان‪ ،‬واضمحل الحب العاطفي‪ ،‬وأصبحت المدينة كما يصورها (رحيم‪ )2111 ،‬مادية وفردية‬ ‫وقذرة‪ ..‬بال قلب‪ ..‬بال ضمير‪ ..‬المبالية‪ ،‬وقاسية‪.‬‬ ‫في هذا اإلطار ص ّور الروائيون في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر المدينة‪ .‬وكانت رواياتهم‬ ‫تحمل نبرة الهجاء لها‪ ،‬والشعور باالزدراء تجاهها وعدِّها موطن الخطيئة والرذائل والشر‪ .‬ولعل‬ ‫روايات أميل زوال وتشارلس ديكنز هي األمثلة األكثر تصويراً لمناخ المدينة االجتماعي والثقافي في‬ ‫تلك الحقبة‪ .‬فروايات ديكنز بخاصة ما هي إالّ مقاالت عن عدم وضوح لندن وعسر استيعابها (الري‪،‬‬ ‫‪ 9191‬ص‪ .)22:‬قسوة الصورة التي رسمتها الرواية للمدينة ساعد في تولّد الحنين لحياة الماضي‬


‫علي عبد الرءوف‬

‫الريفية والرعوية‪ .‬ومن ثم راحت الرواية تغادر أشكالها التقليدية لتبتكر لنفسها طرقا ً مغايرة للتعبير‪،‬‬ ‫ورؤية متجددة للحياة والعالم‪ ،‬وأسلوبا ً مبتكراً للتعامل مع األشياء‪ ،‬وشكالً حديثا ً في األدب‪ ،‬ولغة‬ ‫مختلفة‪.‬‬ ‫وبالفعل فإذا كانت الرواية واحدة من صناعات المدينة البورجوازية الحديثة‪ ،‬فإنها لم تكتف بتصوير‬ ‫نمط الحياة في هذه المدينة‪ ،‬بل اخترقت فضــاء المدن الصغيرة واألقاليم واألرياف‪ .‬فالعالقة بين‬ ‫المدينة والرواية هي قلقة وغير ثابتة‪ .‬بل أن البعض ناقش أنها مخلوق إقليمي في األغلب الن هناك‬ ‫روائيين عظام من القرنين التاسع عشر والعشرين كان بؤرة الرواية لديهم هي اإلقليم والبلدة والقرية‬ ‫والمقاطعة منهم وتوماس مان وكونراد وفوكنر دستويفسكي وتولستوي‪ .‬إن النسيج االجتماعي عندهم‬ ‫هو نسيج المدينة أو المستقرة الصغيرة وليست المدينة العاصمة الكبرى‪ .‬على المقابل هناك مجموعة‬ ‫أخرى من الروائيين كانت بؤرة رواياتهم المدينة الكبيرة مثل هنري ميلر‪ ،‬ألبرتو مورافيا‪ ،‬إيريس‬ ‫مردوك‪ ،‬نجيب محفوظ‪ ،‬ميالن كونديرا‪ ،‬الطاهر بن جلون‪ ،‬وعشرات غيرهم‪ .‬فالمدينة هي التي غذت‬ ‫الرواية ال بمناخ فضاءاتها فقط وإنما بما وفرته من أرضية لنشوئها كذلك‪.‬‬

‫روح مدينة لندن التي صورها الروائي االنجليزي تشارلز ديكنز‬

‫ويؤكد البازعي (‪ )2111‬على العالقة بين المدينة والمجتمع‪ ،‬مفسرا أن المدينة والمجتمع المدني على‬ ‫تفاوت أوضاعه ومستوياته وأنماطه‪ ،‬هو اإلطار والمشهد الذي تنمو فيه الشخصيات وتتشكل األحداث‬ ‫وتنمو الدالالت"‪ .‬إذن من المالمح الهامة لألعمال الروائية التعامل مع المكان‪ ،‬باعتباره محتوى‬ ‫أساسيا ً في صلب المعمار الروائي‪ .‬بعض الروايات التي يتعرض لها البحث جعلت المتلقي يعايش‬ ‫المكان وكأنه يسير فيه بصورة فنية‪ ،‬تبعد كل البعد عن الرصد الجغرافي الجاف والحدث التاريخي‬ ‫المكرر‪ ،‬والخيال الفارغ من المضمون‪ .‬مع أن الكثير من الروايات السردية ذكرت المكان بصورته‬ ‫الجغرافية المباشرة‪ ،‬كمكان مجسد في صورته الجامدة‪ .‬هنا يتجاوز الكاتب الروائي وصف المكان‬ ‫بالمفردات المكررة المملة‪ ،‬لكنه يوظف المكان توظيفا ً يليق به كعنصر محوري في الحدث الروائي‪،‬‬ ‫فتمتزج أحداث الزمان بمكونات المكان في انسجام تام مع الشخصية المحورية في العمل الروائي‪.‬‬ ‫يعالج المؤلف هنا عالقة اإلنسان بالواقع االجتماعي من خالل جغرافية المدينة والقرية والظروف‬ ‫التي تكتنف هذه البيئة‪ .‬يعالج المؤلف هنا عالقة اإلنسان بالواقع االجتماعي من خالل جغرافية المدينة‬ ‫والقرية والظروف التي تكتنف هذه البيئة‪.‬‬ ‫‪February 28, 2013‬‬

‫العمارة والمدينة والرواية‪ :‬نص البناء وبناء النص‪.‬‬


‫إن الرواية‪ ،‬اليوم‪ ،‬تتحدث عن إشكالية وجود اإلنسان وعالقته مع ذاته واآلخرين والعالم‪ ،‬ومع‬ ‫المؤسسات وأشكال السلطة‪ ،‬وحيرة اإلنسان وقلقه وهو يتعامل مع مفردات الحياة‪ .‬فقد اعتمدت‬ ‫الرواية على الخبرة الحياتية المباشرة‪ ،‬واستمدت طاقتها الداخلية من سير البشر االعتياديين الذين‬ ‫يولدون ويموتون‪ ..‬يحبون ويكرهون ويكافحون ويعادي بعضهم بعضاً‪ .‬الرواية تبحث وتسعى لإلجابة‬ ‫عن تساؤالت ماذا نعني بالفرد؟ أين تكمن هويته؟‪ .‬وعند هذه النقطة يمكن القول أن الفرد المستقل‪،‬‬ ‫المميز الشخصية هو ابن المدينة الحديثة‪ ..‬المدينة التي اقترحت حين تأسيسها‪ ،‬الرواية جنسا ً أدبيا ً‬ ‫يخصها ـ أي المدينة ـ قبل أن يخص غيرها (رحيم‪.)2111 ،‬‬ ‫المدينة إذن هي السبب األول واالهم في نشوء الرواية واستمرار وجودها‪ ،‬وفي تطورها السريع الذي‬ ‫كان يماشي تطور المدينة‪ ،‬ويبتكر األشكال المالئمة للتعبير عما كان يتأسس في واقع المجتمع‪ .‬ولذا‬ ‫يمكننا االدعاء بأن الفن الروائي‪ ،‬بما هو عليه من تعقيد وال تحديد ومن جمع واستفادة من أصناف‬ ‫أدبية متعددة‪ ،‬ما كان ليوجد لوال قيام المدينة ومجتمعها قبل ذلك بزمن طويل‪ .‬يشهد على ذلك ما‬ ‫نالحظه من تماثل يلفت النظر بين شكل الرواية بمواصفاتها المتنوعة والمتنافرة أحيانا‪ ،‬وبين‬ ‫تركيبات المدينة االجتماعية والهندسية واألخالقية التي تحوي من المتناقضات ما ال سبيل إلى‬ ‫حصره‪ .‬وهكذا‪ ،‬حين اندثرت تلك المدن وتغيرت األمارات والمالمح بمرور الزمان القاسي‪ ،‬مكثت‬ ‫الصور في الروايات‪ ،‬حية مشرقة في أذهان البشر‪ ،‬تختلط بالعواطف الحارة التي حملها أولئك‬ ‫المؤلفون لمدنهم (التكرلي‪.)2112 ،‬‬ ‫‪ .2-4‬المعماري بطال أو روائيا‬ ‫يبحث الروائي‪ ،‬على مدى تاريخ الرواية‪ ،‬عن مادة فنه الخام ويجدها في مجتمع المدينة‪ ،‬وهو‪ ،‬بسبب‬ ‫وجوده داخل مجتمع المدينة ومعايشته لتصرفات وعالقات األفراد وفهمه لداللتها‪ ،‬يملك حسب‬ ‫طاقاته الخالقة‪ ،‬أن يبدع أعماال تنفذ إلى األعماق وتكشف الحقائق لمعاصريه‪ .‬جانب هام من الوعي‬ ‫المعاصر بأهمية العالقة بين الرواية والعمارة نبع من محطات إبداعية هامة أسقطت ضوءا مكثفا‬ ‫على معنى أن يكون المعماري بطال مجتمعيا جديدا أو أن يكون المعماري نفسه هو راوي اإلحداث‬ ‫وبانيها‪ .‬من أكثر الروايات التي قدمت طرحا نقديا لصياغة دور المعماري في السياق المجتمعي‪،‬‬ ‫رواية المنبع ‪ The Fountainhead‬التي صدرت عام ‪ 9121‬للكاتبة أين راند‪ .‬بطل الرواية هاورد‬ ‫روارك‪ ،‬هو معماري شاب يختار النضال بدالً من تقديم تنازالت من رؤيته الفنية والشخصية‪ .‬وتتبع‬ ‫الرواية معركته لممارسة عمارة الحداثة‪ ،‬التي يؤمن أنها متفوقة‪ ،‬على الرغم من أن السياق الثقافي‬ ‫حوله يرتكز على عبادة التقاليد‪ .‬العالقات المعقدة بين بطل الرواية هاورد وأنماط مختلفة من األفراد‬ ‫الذين يساعدون أو يعرقلون تقدمه‪ ،‬أو كليهما‪ ،‬جعل الرواية دراما رومانسية وعمل فلسفي‪ .‬ولذا‬ ‫فسرت شخصية هاورد المعماري الحداثي على انه التجسيد للروح البشرية تبعا لفهم المؤلفة راند‪،‬‬ ‫ونضاله يمثل انتصارا للنزعة الفردية على الجماعية‪.‬‬ ‫الروائي التركي اورهان باموك‪ ،‬الذي درس العمارة‪ ،‬والحاصل على جائزة نوبل في األدب عام‬ ‫‪ ، 2111‬ساهم كثيرا في بلورة عالقة العمارة باألدب‪ .‬تمكن باموك من فهم المدينة في حقيقتها األكثر‬ ‫تعقيدا من مجرد الرصد الوصفي‪ ،‬وخاصة عندما يكون محور إبداعه مدينة اسطنبول متعددة الطبقات‬ ‫التاريخية والقراءات التفسيرية‪ .‬رواية اسطنبول‪ :‬ذكريات والمدينة‪ ،‬هي مذكرات السيرة الذاتية‬ ‫أل ورهان باموك‪ .‬فالرواية تتحدث عن التغيير الثقافي الشاسع التي هزت تركيا؛ معركة ال تنتهي بين‬ ‫الحداثة ومقاومة انحسار الماضي‪ .‬كما أنها مديح للتقاليد العائلية المشتركة المفقودة‪.‬‬


‫علي عبد الرءوف‬

‫"يرى راسكن أن المشهد الرائع ال يمكن الحفاظ عليه أبدا ألنه عرضي‪ ،‬إن خراب‬ ‫المشهد‪ ،‬ال نية المصمم‪ ،‬هو ما يجعله جميال‪ ،‬وهذا يفسر سبب عدم حب عدد كبير‬ ‫من أهل اسطنبول للقصور الخشبية التي تم ترميمها‪ ،‬ينقطع ارتباطهم الواهي الجميل‬ ‫بالماضي حين يختفي الخشب المسود المتعفن تحت دهانات المعة تجعلها تبدو كما‬ ‫لو كانت المدينة في قمة مجدها وازدهارها في القرن الثامن عشر"‪.‬‬ ‫اورهان باموك‪ ،‬اسطنبول‪ :‬الذكريات والمدينة‪.‬‬ ‫والتشبيه األكثر مالئمة لسياق اورهان باموك هو ان المدينة في األصل كائن حي يعيش مع الناس‬ ‫ويعبر عن زمنهم وأسلوب حياتهم وصراعاتهم بالمفهوم االيجابي أو السلبي للصراع‪ .‬والرواية غالبا‬ ‫ما تحكي عن شيء حدث في الماضي يصعب تحديده بدقة في الحاضر‪ ،‬وبالتأكيد سيكون أكثر‬ ‫صعوبة في المستقبل‪ .‬فهذه المدينة الثرية اسطنبول‪ ،‬مثلها مثل المدن التاريخية االستثنائية في عمقها‬ ‫التاريخي كالقاهرة وروما‪ ،‬هي مجموعة من الحكايات الالنهائية التي يمكن أن تصور مقاطع من‬ ‫المدينة في أزمنة مختلفة‪.‬‬

‫اسطنبول المدينة المركبة التي ألهمت اورهان باموك لرصد ونقد مجتمعها وأمكنتها‪.‬‬

‫‪ .5‬معايير انتقاء األعمال الروائية‬ ‫منهجية الدراسة البحثية في هذا المقال والية اختبار الفرضيات األساسية واألفكار المحورية لها‬ ‫تتطلب توجه أكثر شمولية في ضمان تنوع السرد الروائي‪ ،‬الذي يتعامل مع البيئة المبنية‪ ،‬سواء على‬ ‫صعيد المدن العربية او العاصمة المصرية القاهرة‪ .‬ولذلك فعلى الرغم من وفرة اإلنتاج الروائي في‬ ‫مصر والعالم العربي‪ ،‬إال إن الدراسة انتقت مجموعة من الروايات لتحليلها اعتمادا على مجموعة‬ ‫متسقة من المعايير أهمها ما يلي‪:‬‬ ‫‪ .9‬أهمية مفهوم المكان للمؤلف‪ ،‬وتأثيره الواضح على الصياغة الدرامية واإلبداعية للعمل‬ ‫الروائي‪ .‬باإلضافة إلى وعي الروائي بالتأثير المتبادل بين اإلنسان والمكان وبين بناء النص‬ ‫والبنية المعمارية والعمرانية‪.‬‬ ‫‪February 28, 2013‬‬

‫العمارة والمدينة والرواية‪ :‬نص البناء وبناء النص‪.‬‬


‫‪.2‬‬ ‫‪.1‬‬ ‫‪.2‬‬ ‫‪.1‬‬

‫تنوع الحقبات الزمنية واألطر المكانية التي أبدعت فيها وخاللها األعمال الروائية المنتقاة‪.‬‬ ‫القدرة النقدية في العمل الروائي على مواجهة عمارة وعمران المكان وتقديم طرح عميق‬ ‫لقضاياه‪.‬‬ ‫التنوع اإلبداعي لإلعمال الروائية من حيث واقعيتها الشديدة‪ ،‬وارتباطها بعمارة وعمران‬ ‫مناطق قائمة ومعروفة‪ ،‬أو كونها أعمال تخيلية تتناول إرهاصات مستقبلية وأماكن تخيلية‪.‬‬ ‫التنوع المكاني من حيث الدائرة الفراغية المعمارية والعمرانية التي تقع بها إحداث الرواية‬ ‫بحيث يحقق هذه المعيار‪ ،‬وبقدر المتاح‪ ،‬تغطية وفهما ألقاليم متمايزة مختلفة من مدن عربية‬ ‫أو مصرية‪ ،‬وال يقتصر فقط على العاصمة أو المدن الكبرى‪.‬‬

‫‪ .6‬شخصية المدينة في العمل الروائي‬ ‫"المدن أجساد لها روائح واختمارات شمائل وثأليل‪ .‬أعراق وثماالت ندخلها‬ ‫متحسسين أركانها وكأننا في قبة الكون نبحث عن المدينة التي أضعناها ذات يوم"‪.‬‬ ‫(النعيمي‪ 2111 ،‬ص‪.)921:‬‬ ‫أخذت شخصية المدينة بعداً فنيا ً عند كبار الكتاب اإلقليميين والعالميين في القرن العشرين‪ ،‬مثل‬ ‫تشارلز ديكنز ونجيب محفوظ والطاهر بن جلون وجيمس جويس وغيرهم‪ .‬لقد ارتبط بعض الكتّاب‬ ‫بالمكان‪ ،‬ليس بوصفه مكانا ً فحسب‪ ،‬بل بوصفه إشكالية فنية وظفها الكاتب في البناء الروائي‬ ‫اإلبداعي‪ .‬وأقام من خاللها بنا ًء روائيا ً لفت نظر الدارسين‪ ،‬كظاهرة جديدة مواكبة لألحداث التي تدور‬ ‫في العالم العربي‪ ،‬في توازن فني بين الخيال والواقع‪ ،‬وان استقى المعلومة من مخزون الذاكرة فقد‬ ‫استطاع توظيف هذا الماضي في خدمة الحاضر‪ ،‬وليس بالنقل التاريخي السردي التقليدي‪.‬‬ ‫تمثل المدينة الفضاء المفتوح الذي يمكن أن يسجل الحدث بكل أعماقه وتأثيراته ألنه ال يوجد من‬ ‫يدرك المدينة بكل تفاصيلها‪ ،‬وأقصد هنا أن هناك مجاال دائما إلبداء الرأي وإلضافة الكثير على‬ ‫الواقع حتى المادي منه وهو ما يحتاجه األدب الروائي‪ .‬في المدينة هناك شيء غامض يصعب فهمه‬ ‫كليا يمكن للرواية أن تسجله بتفاصيل شخصية بحته يسجلها الراوي‪ ،‬يصعب رصدها على ارض‬ ‫الواقع (النعيم‪.)2112 ،‬‬ ‫عالقة الرواية بالمكان هامة في تصنيف اإلدراك اإلنساني للمكان‪ ،‬سواء كانت الرواية تتعامل مع‬ ‫احيزة حقيقية أو تخيلية‪ ،‬فإنها في كال الحالتين تقدم ما يسمى للمعماريين والعمرانيين‪ ،‬األماكن‬ ‫التخيلية‪ ،‬حتى ولو كانت واقعية ألنها تقدم بصورة ومنظور جديد على لسان الراوي‪ .‬فالعالقة بين فن‬ ‫السرد وفن العمارة تتجلى في كيفية إدراك أو استيعاب القصة أو الرواية وفق قراءتين‪ :‬األولى حدثية‬ ‫درامية‪ ،‬أما القراءة األخرى فهي معمارية مكانية‪ .‬تقدم الرواية‪ ،‬في الغالب‪ ،‬وصفًا‪ ،‬للمظاهر‬ ‫والمالمح والمشاهد الطبيعية والبشرية والعمرانية‪ .‬ثمة انتباه شديد لتفاصيل تلك المظاهر من أجل‬ ‫اكتشاف الخف ّي والجوهر ّ‬ ‫ي فيها‪ .‬نحن في قلب تلك المالمح الدقيقة لألشكال واألشياء التي ستساهم‬ ‫ً‬ ‫بطريقة ما في إيقاظ معان يستهدفها السارد أو يحفـِّز عبرها أمرًا دفينا في ذاكرة قارئه‪ .‬ومن هنا تقوم‬ ‫خصوصيات القصّاصين والساردين‪ ،‬إلى جانب عوامل أخرى‪ ،‬على الدقة الوصفية التي تستنتج‬ ‫المالمح المتميزة‪ ،‬المرئيّة بإحساس مرهف‪.‬‬


‫علي عبد الرءوف‬

‫من أعمق ما طرح في السرد الروائي لفتح أفاق أوسع لفهم إشكالية المكان‪ ،‬رواية مدن المرئية التي‬ ‫كتبها الروائي الفيلسوف ايتالو كالفينو عام ‪ .9122‬الرواية هي عمل إبداعي تش ّكل حكايات المدن‬ ‫بتصنيفاتها التسعة‪ ،‬العمود الفقري للرواية‪ .‬ح ّدد كالفينو شخصية لك ّل مدينة فهناك "مدن وذاكرة"‪،‬‬ ‫"مدن ورغبة"‪" ،‬مدن وعالمات"‪" ،‬مدن خفاف"‪" ،‬مدن تجاريّة"‪" ،‬مدن وعيون"‪" ،‬مدن وأسماء"‪،‬‬ ‫"مدن والموتى"‪" ،‬مدن والسماء"‪" ،‬مدن مستمرّة"‪" ،‬مدن مخفيّة"‪.‬‬ ‫"هي مدن ظاهرها رموز‪ ،‬مدن خفيّة ال تُرى‪ ،‬والغريب فيها أنّها تفتقر إلى الصالبة‪،‬‬ ‫إلى الما ّدة في تكوينها‪ .‬هي مدن أشكال وأصوات وحركات‪ ،‬مدن تشعر بوجودها وال‬ ‫تراها" كالفينو‪ .2192 ،‬ص‪.9 :‬‬ ‫مدن كالفينو مطعّمة بالخيال والمجاز وعناصر الخرافة‪ ،‬وقلّما نجد وصفا ً عمرانيّا ً ما خال عدداً من‬ ‫األسطر السريعة الخالية من الدقّة العمرانيّة الجيوميتريّة‪ .‬فعلى مستوى الوصف العمراني للمكان؛ فلم‬ ‫يهدف كالفينو من وصفه هذه المدن إلى تحديد مزاياها أو وصف عمران مبانيها أو طبيعتها‬ ‫الجغرافية‪ ،‬وإنّما الوصف ثري بالخيالي والحسي والخرافي‪ .‬فمدنه وإن اختلفَت أسماؤها عن مدننا‪،‬‬ ‫هي المدن التي نحلم بها في قرارة أنفسنا‪ ،‬المدن الخرافيّة المتّشحة بالضباب‪ :‬نراها لكنّنا نعجز عن‬ ‫تبيّن معالمها‪ ،‬نتبعها ونعجز عن لمسها‪ ،‬نش ّمها ونعجز عن إبقاء رائحتها في كياننا‪.‬‬ ‫"سأروي لكم عن مدينة زنوبيا‪ ...‬فهي تقوم على أرض جافّة وهي ضخمة األبنية‬ ‫والدور فيها شيدت من الخيزران والخارصين‪ .‬وك ّل شرفاتها تقوم على ركائز ذات‬ ‫ش جانبيّة‪ ،‬وتعلو‬ ‫ارتفاعات متفاوتة‪ ،‬تجتاز الواحدة األخرى‪ ،‬تربطها مرتقيات ومما ٍ‬ ‫ّ‬ ‫مظالت وبراميل لخزانات الماء‪ ،‬ودورات التجاه الريح‪ ،‬وبكرات بارزة‬ ‫األبنية‬ ‫وبرك أسماك وغرانيق"‪( .‬كالفينو‪ : 2192 ،‬ص ‪)21‬‬ ‫على مستوى أخر حلل النعيمي (‪ )2111‬مجموعة من المدن التي سافر إليها‪ ،‬وافرد النص السردي‬ ‫لتقديم مفتاح شخصية كل مدينة كما اختبرها هو مكانيا وإنسانيا‪ .‬واستخدم استعارة أن المكان كالكائن‬ ‫ال يمكن استبداله‪ ،‬وأكد تحليله في المدن العربية التي كتب عنها‪ ،‬ومنها اليمن ومراكش والقاهرة‪ .‬كما‬ ‫ركز على القيمة التاريخية للمدينة وتأثيرها على تميز شخصيتها التي يلتقطها األديب المبدع‪ .‬ففي‬ ‫رأيه أن المدن تسحرنا ال بأبهتها فقط وإنما بالتاريخ الذي يتجسد في كل زاوية منها‪.‬‬ ‫‪ .7‬الحالة المكانية في الرواية العربية‬ ‫يعني هذا الجزء من الدراسة بتحليل بعض النماذج من اإلبداع الروائي العربي التي تم انتقائها بناء‬ ‫على المعايير التي نص عليها البحث سابقا‪ .‬كما يستكشف هذا الجزء أعماال روائية تتعامل مع عمارة‬ ‫وعمران المدن حديثة الظهور على مسرح العمران العربي مثل دبي بجانب المدن التقليدية مثل‬ ‫دمشق ومراكش‪.‬‬ ‫يعتبر األديب السوري خيري الذهبي الرواية معماراً قبل كل شيء‪ .‬مثلت بساتين دمشق وحاراتها أو‬ ‫باألحرى البيئة المكانية بشقيها الطبيعي والمادي‪ ،‬أهم مكون لعمارة وزمن أعماله‪ .‬وفي خمسينيات‬ ‫القرن العشرين عندما كانت دمشق ال تزال مدينة ريفية اختلط فيها الريف بكل غنائيته مع المدينة‬ ‫بسياقها الحضري‪ ،‬قضى سنوات طفولته ومراهقته األولى‪ .‬ويؤمن الذهبي(‪ )2111‬بقيمة عمارة‬ ‫‪February 28, 2013‬‬

‫العمارة والمدينة والرواية‪ :‬نص البناء وبناء النص‪.‬‬


‫المكان وتأثيرها على المبدع الروائي‪ ،‬بل ويستدعي من ذاكرته حواراً للروائي الراحل نجيب محفوظ‬ ‫حين يسأله المحاور‪ :‬من أين جئت بهذه األسئلة الصارمة المعمارية في رواياتك؟ ويكون جواب‬ ‫محفوظ المعتد بنفسه وبتاريخه‪ :‬ال تنس أني ابن ألولئك المهندسين العظماء الذين صنعوا األهرام وأبا‬ ‫سنبل (الذهبي‪.)2111 ،‬‬ ‫ثم وجد الكاتب أرضية إبداعية خصبة في البيت الدمشقي وعمارته‪ ،‬وصاغ أعمال درامية حكمها‬ ‫ثنائية المرأة والبيت الدمشقي ("حسيبة"‪ .)9192 ،‬حيث وثق قدرة المرأة على التفرد في صناعة جنة‬ ‫من وورود‪ ،‬فمألت البيت‪ ،‬الباحة‪ ،‬الجدران‪ ،‬الدرج‪ ،‬المشرقة‪ ،‬الممر الواصل إلى المشرقة بالورود‬ ‫وحين غص المكان بورودها الداخلية المنعكسة وروداً في أصص‪ .‬هذا البيت استطاعت المرأة تحويله‬ ‫إلى ذاكرة‪ ،‬وإلى تاريخ وإلى حيوات فاستطاعت االغتناء به عن العالم الخارجي‪ ،‬ولكنها أبداً لم تتخل‬ ‫عن حقها في العالم الخارجي‪ .‬كما أن إشكالية حيوية المكان ونموه شغلت الذهبي في رواية "لو لم‬ ‫يكن اسمها فاطمة"‪ .‬ففي هذه الرواية ابتعد عن المدينة في الجزء األكبر من الرواية‪ ،‬ومضى إلى‬ ‫حيث المدن الميتة باحثا عن سبب موتها‪ ،‬وسورية كانت دائما ً حافلة بالمدن والقرى الميتة تبعا لتعبيره‬ ‫مثل ترقا‪ ،‬وتدمر‪ ،‬وأفاميا‪ ،‬وسرجلة‪ ،‬والرصافة‪ ،‬وإيبال‪ .‬واستخدم الذهبي (‪ )2111‬البناء النصي‬ ‫للعمل في اختبار هذا التحرك البندولي ما بين االزدهار والموت في حياة المدن‪ ،‬بل وقدم تفسيرا‬ ‫انثروبولوجيا وهو ازدهار طرق القوافل حين يهدأ الصراع بين الشرق والغرب فتأخذ حظها في‬ ‫التجارة بينهما وتزدهر ثم ينحرف طريق القوافل‪ ،‬أو ينقطع‪ ،‬فتعود إلى عزلتها وتكيسها‪.‬‬

‫صحن البيت الدمشقي‪ ،‬قلب الحياة ومملكة المرأة الدمشقية وملهم للرواية السورية‪.‬‬

‫‪ .1-7‬الرواية في الخليج‬ ‫حاولت بعض األعمال الروائية الصادرة في وعن الخليج‪ ،‬الربط بين القيم االجتماعية وبين التشكيل‬ ‫المعماري والعمراني‪ .‬وفي إطار الخط البحثي للدراسة استعرض هنا مجموعة من األمثلة البارزة‬ ‫والمفعمة بالدالالت‪ .‬أولها عمل الروائي عبد الرحمن منيف وهو الرائد في إسقاط الضوء الكاشف‬ ‫على أحرج لحظات التحول في الخليج العربي من حالة ما قبل النفط إلى حالة الوفرة‪ .‬كما أقدم‬ ‫مساهمة الروائيات السعوديات المعاصرات وخاصة من حيث تأثر إبداعهم الروائي بالتراث المكاني‪.‬‬ ‫آما المثالين األخيرين فهما لروائيين كتبا تصوراتهما في الخمس سنوات األخيرة‪ .‬حيث رصدت‬ ‫الرواية األولى النقلة النوعية في عمارة وديموغرافية مدينة دبي‪ ،‬المدينة التي أصبحت ماركة‬ ‫عمرانية سوقت خليجيا وعربيا‪ .‬أما الرواية الثانية فقفزت إلى قلب المستقبل ورسمت صورة لحالة‬ ‫أهم مدن الخليج وسكانها بعد قرن من الزمان تنطفئ فيه كل شعالت أبار النفط‪.‬‬


‫علي عبد الرءوف‬

‫مدن الملح – عبد الرحمن منيف‪.‬‬ ‫تعد رواية مدن الملح واحدة من أشهر الروايات العربية‪ ،‬وقد تفوقت في تصور الحياة مع بداية‬ ‫اكتشاف النفط والتحوالت المتسارعة التي حلت بمدن وقرى الجزيرة العربية‪ .‬وتعد الرواية العمل‬ ‫األبرز للروائي الراحل منيف‪ ،‬وهي تتألف من خمسة أجزاء‪ :‬يصف الجزء األول التغيرات العميقة‬ ‫في بنية المجتمع البدوي الصحراوي بعد ظهور النفط‪ ،‬في الجزء الثاني يبدأ بوصف رجال األعمال‬ ‫الذين وفدوا على المنطقة الخليجية ودخولهم في تحالفات مع حكام المنطقة‪ .‬أما األجزاء الثالثة‬ ‫األخيرة تصف التحوالت والتفاعالت السياسية في شبه تطابق واضح مع تاريخ حكام آل سعود‪ .‬هذا‬ ‫التناول الجريء وغير المسبوق من الروائيين السعوديين والعرب كان سببا قاطعا في تصنيف‬ ‫الرواية كعمال معارضا لنظام الحكم السعودي ومنعت رواياته من دخول المملكة العربية السعودية‬ ‫إلى وقت ليس ببعيد‪ .‬ثم سمح بنشرها الحقا في معرض الكتاب بالرياض‪ -‬وكثير من الدول الخليجية‪.‬‬ ‫"في وقت من األوقات كانت حران مدينة الصيادين والمسافرين العائدين‪ ،‬أما اآلن‬ ‫فلم تعد مدينة ألحد‪ .‬أصبح الناس فيها بال مالمح‪ .‬إنهم كل األجناس وال جنس لهم‪.‬‬ ‫إنهم كل البشر وال إنسان‪ .‬اللغات إلى جانب اللهجات واأللوان والديانات‪ .‬األموال‬ ‫فيها وتحتها ال تشبه أية أموال أخرى‪ .‬ومع ذلك ال أحد غنيا أو يمكن أن يكون كذلك‪.‬‬ ‫كل من فيها يركض‪ ،‬لكن ال أحد يعرف إلى أين أو إلى متى‪ .‬تشبه خلية النحل وتشبه‬ ‫المقبرة‪ .‬حتى التحية فيها ال تشبه التحية في أي مكان آخر‪ ،‬إذ ما يكاد الرجل يلقي‬ ‫السالم حتى يتفرس في الوجوه التي تتطلع إليه‪ ،‬وقد امتأل خوفا من أن يقع شيء ما‬ ‫بين السالم ورد السالم"‪ .‬من رواية األخدود‪.‬‬

‫المدن الخليجية في حقبة ما قبل النفط (مجموعة المتحف الوطني في البحرين)‪.‬‬

‫وكان البيت التقليدي الخليجي بعمارته المحققة لمتطلبات هذه القيم االجتماعية ونمط الحياة المتبع‬ ‫ومبادئ الحياة األساسية مثل الخصوصية وعدم االختالط‪ .‬ولذا مثل الفناء الداخلي أو الحوش الذي‬ ‫يحتل مساحة كبيرة في البيت المتنزه األول لمحارم األسرة الخليجية؛ إذ يوفر لهن تعويضا عن‬ ‫الخروج المقنن والمحدد بتعاليم العائلة وصحبة رجالها‪ ،.‬كما يتيح متنفسا ترويحيا يقنعن به‬ ‫(الخياري‪ .)2192 ،‬وعلي سبيل المثال نجد الروائية ليلى العثمان في روايتها المبكرة (وسمية تخرج‬ ‫من البحر) ترسم صورة لمنزل خليجي تقليدي في حقبة ما قبل دخول ثروة النفط‪ ،‬و يبدو فيها الحوش‬ ‫في قلب المشهد‪:‬‬ ‫‪February 28, 2013‬‬

‫العمارة والمدينة والرواية‪ :‬نص البناء وبناء النص‪.‬‬


‫"كان البيت كبيرا‪ ،‬مربع الحوش‪ .‬تتوسطه بركة ماء يتدلى دلوها‪ .‬وكم سقط الدلو‪.‬‬ ‫وكم تراكضت وسمية القتالعه من منفاه بالملص‪ .‬وحين يفلح أحدنا ينتصر على‬ ‫اآلخر‪ .‬ويغيظه‪.‬حول البركة‪ ،‬كانت تنحسر في دوائر‪ ،‬قطرات الماء المتساقطة من‬ ‫الدلو‪ ،‬وكنا نزرع حولها بعض الشعير‪ .‬ونتراهن من يكبر نبته أكثر‪ .‬من الحوش‬ ‫الكبير الذي تلتف حوله اللواوين من ثالث جهات‪ ،‬تتفرع أحواش أخرى‪ :‬حوش‬ ‫المطبخ‪ .‬وفيه مطبخان‪ ،‬واحد كبير أليام الوالئم‪ ،‬وآخر صغير تدخله أم وسمية كل‬ ‫يوم‪ ،‬فتفوح في خياشيمي روائح «المكبوس» و«المع ّدس»‪ "..‬العثمان‪ : 2111 ،‬ص‬ ‫‪ 92‬و‪.91‬‬ ‫وفي إطار قدرة العمل الروائي على رصد التغير العميق في البنية المكانية للمدينة الخليجية‪ ،‬نرى‬ ‫أعمال الروائيين السعوديين نموذجا هاما‪ .‬هنا يتطور البناء الروائي نتيجة لتطورات عمرانية ومدنية‬ ‫جعلت من المجتمع أكثر تعقيدا وأكثر تشابكا من ذلك المجتمع البدوي البسيط‪ .‬وكما فعل عبد الرحمن‬ ‫منيف‪ ،‬ركزت أميمة الخميس (‪ )2112‬في روايتها (بحريات) على حالة االنتقال في من التجمع‬ ‫البدوي الصحراوي البدائي إلى المدينة المعاصرة المعقدة‪:‬‬ ‫"في نهاية كل مصب لفرع وادي (حنيفة) العظيم تنشأ روضة‪ ،‬تتجاور هذه الرياض‬ ‫لتكون مدينة تحدب عليها أشجار النخيل وتطوقها‪ ،‬ولكن الرياض انفلتت من أمومة‬ ‫النخيل ونفرت إلى الشمال حيث الشوارع الباذخة‪ ،‬وقصور االسمنت‪ ،‬ومغامرة مدن‬ ‫النفط مع العالم‪ .‬عام ‪9111‬هدمت الرياض سورها القديم‪ ،‬وج َّزت الحبل السري‬ ‫بخفة وحذر‪ ،‬كانت المدينة تتلصص بخطوات حذرة على طرق تشق وأبنية ترتفع‬ ‫وأصوات آلالت عجيبة تهدر هنا وهناك كغيالن ضخمة‪ ،‬فتعكر هواء نسج بالصمت‬ ‫لمئات السنين‪ .‬وفي منتصف الستينات ما ربح بيت (آل معبل) طينيا ً كبيراً وسط‬ ‫نخيل الباطن برزت حوله بعض البيوتات الصغيرة‪ ،‬إما لزوجة جديدة أو المرأه ابن‬ ‫مع مالحق شرقية للخدم‪ .‬تصنع البيوت الكبيرة عادة مجدها ودستورها الخاص‪،‬‬ ‫طقوس وتفاصيل مطمئنة لحقيقتها‪ ،‬وانتماءات وشروط تقوم مقام العقيدة في البيت‬ ‫الكبير‪ ،‬أوقات قهوه (أبوصالح) وأماكن الجلوس‪ ،‬وتوزيع الهدايا بعد السفر‪ ،‬يصبح‬ ‫البيت كتلة كبيرة ثقيلة تتحرك سوياً‪ ،‬كتلة تسحب نفسها ببطء على مسارات األيام‪،‬‬ ‫خشية أن ينفرط أي من طقوسها العقدية المبجلة "‪( .‬الخميس‪.)2112 ،‬‬ ‫وكما يفسر (النعيم‪ ،)2112 ،‬الصورة المعمارية في الرواية السعودية بشكل عام تتخفى خلف صدمة‬ ‫الحداثة التي غالبا ما تثير مخيلة كاتب الرواية‪ ،‬كون الحدث هنا كان شامال على مستوى المكان‬ ‫واإلنسان‪ .‬فلم يعد المكان الذي يعرفه جيل كامل عاش القرية والمدن الطينية موجودا وأصبح هناك‬ ‫مجال واسع إلعادة تصور هذا المكان بعاطفة كبيرة تخلط الحقيقة بالخيال‪ .‬اختفاء المكان المادي في‬ ‫حد ذاته جعل من الصورة المتخيلة مقبولة طالما أن جزءا من الحقيقة موجود‪ ،‬وهو ما يعطي الرواية‬ ‫فرادتها في تفسير الحدث‪ ،‬على عكس العمارة التي تبحث في الصورة المادية األكثر جمودا وثباتا‬ ‫رغم أنها تقدم التفاصيل المهمة للحدث االجتماعي‪.‬‬


‫علي عبد الرءوف‬

‫مدينة الرياض الجديدة‪ ،‬وهي واحدة من أسرع المدن نموا وتوسعا في العالم العربي‪.‬‬

‫تسونامي – حمود السايق ‪.2002‬‬ ‫"كان هناك المئات غيره من الرجال والنساء‪ ،‬معظمهم في ربيع العمر قد قدموا من‬ ‫أنحاء البالد والكثير منهم من نجد‪ ،‬ينتظرون دورهم إلنهاء فحصهم والحلم يراودهم‬ ‫السايق (‪ .)2111‬ص‪22 :‬‬ ‫بفرصة للهجرة والسفر"‬ ‫في عام ‪ 2111‬صدرت رواية "تسونامي" للمؤلف حمود السايق‪ ،‬وهو غالبا اسم مستعار لمؤلف ناقد‬ ‫تعامل بحنكة مع الرواية التي حجبت من عدة بالد خليجية وخاصة السعودية كما سبق أن تم التعامل‬ ‫مع روايات عبد الرحمن منيف‪ .‬والمختلف في رواية السايق أن أحداثها تدور عام ‪ 2911‬عن عالم لم‬ ‫يعد فيه للنفط قيمة تذكر‪ ،‬وتعود بلدان الخليج كما كانت تعتمد على الصيد والرعي وبعض الزراعة‪.‬‬ ‫ويصبح أمل الشاب الخليجي حمود بطل الرواية الهجرة من الرياض الى سريالنكا للعمل سائقا عند‬ ‫احد األسر هناك‪ .‬حيث تنقلب اآلية ويصبح خدم المنازل والعمال والسائقين في تلك البالد األسيوية‬ ‫من بالد الخليج‪ .‬وعلى الرغم من االنطالق الخيالي للكاتب إال انه نبه بقوة إلى ما يجهله أو يتجاهله‬ ‫الكثيرين في بالد الخليج من االقتراب السريع نحو عصر ما بعد البترول‪.‬‬ ‫"مراجل وأبراج وخزانات معدنية ضخمة مطمورة في الرمال تبدو لهم من بعد‪ ،‬أو‬ ‫ما يظهر منها بفعل انعكاس أشعة الشمس عنها‪ ،‬هي أشبه ما تكون بالكائنات‬ ‫األسطورية ‪ ....‬من هنا كان يضخ النفط‪ ،‬من تحت هذه الكثبان الرملية وتلك الجبال‬ ‫الجيرية‪ ،‬من حقل يسمى بالغوار وربما الفوار يندفع إلى أعلى ليجمع ويفصل عن‬ ‫الغاز ثم يساق في أنابيب وناقالت ليصل الى العالم كله ويجعله يتنفس‪"...‬‬ ‫السايق (‪ .)2111‬ص‪.21:‬‬ ‫"أعلنت بعثة من الهند للتنقيب عن اآلثار في ما كان يعرف بالرياض بوسط نجد عن‬ ‫عثورها على بقايا جسر مدفون في األرض بمنطقة العليا األثرية مصنوع من مادة‬ ‫االلومنيوم والزجاج المقوى‪ ،‬اتضح الحقا وبعد مقارنته بصور قديمة انه قمة برج‬ ‫يقال له المملكة وتعود ملكيته لثري عاش في ذلك المكان قبل مائتي عام تقريبا‪ ،‬اسمه‬ ‫الوليد‪ .‬وقد أوضح السيد كومار قائد البعثة أن أعمال الحفريات ستستغرق عدة أيام‬ ‫‪February 28, 2013‬‬

‫العمارة والمدينة والرواية‪ :‬نص البناء وبناء النص‪.‬‬


‫إلزالة ما اندفن تحت الجسر العلوي وستكون فرصة عظيمة لدراسة ظاهرة الغني‬ ‫المفاجئ التي تطرأ على بعض المجتمعات وهي غير مستعدة له"‪.‬‬ ‫السايق (‪ .)2111‬ص‪911 :‬‬

‫وانتقاال من المدن السعودية الى باقي مدن الخليج نتوقف أمام رواية ليلة واحدة في دبي – هاني‬ ‫نقشبندي ‪ .2191‬دار الساقي للطباعة والنشر‪ .‬الرواية تتخذ دبي مسرحا ألحداثها وترصد تناقضاتها‪،‬‬ ‫وتستخدم المكان كمبرر أساسيا للبناء النصي الدرامي‪.‬‬ ‫"دبي هي نيويورك وهي دلهي‪ ،‬هي باريس وهي القاهرة‪ ،‬هي الرياض وبيروت‪.‬‬ ‫دبي هي أنا‪ ،‬وهي أنت‪ .‬دبي هي كما تريد أن تراها"‪( .‬نقشبندي‪.)2191 ،‬‬ ‫وتدور أحداث الرواية في أجواء دبي المدينة الصاخبة والصادمة والشهيرة بديناميكية التغيرات‬ ‫المعمارية والعمرانية واإلنسانية المتالحقة‪ .‬المدينة التي اتهمت بأنها على حساب قيم إنسانية‪ ،‬فقدت‬ ‫هويتها وسط صحراء تعبق رائحة المال في أجوائها‪ .‬والرواية ترصد التمزق اإلنساني في مدينة‬ ‫تتقافز ناطحات السحاب بها‪ .‬وأحداثها تصور امرأة تعيش وحيدة في دبي‪ ،‬استيقظت ذات صباح على‬ ‫تجربة مختلفة في عالقته مكانها الحميم بضوء الشمس‪ .‬لم تعد الشمس التي اعتاد ضيائها أن يمأل‬ ‫غرفتها كل صباح‪ ،‬قادرة على النفاذ لمكانها‪ .‬وعندما بحثت عن السبب صدمت بوجود عمارة تناطح‬ ‫السحاب نبتت بجوار نافذتها في ليلة واحدة‪ .‬كانت العمارة ما تزال تصعد إلى السماء أكثر وأكثر‪ ،‬فيما‬ ‫بدأ سكان جدد يشغلون طوابقها واحدا تلو اآلخر في مساء اليوم‪ .‬أحست بضياع هويتها وبدأت تسأل‪:‬‬ ‫من أنا؟ أين أنا؟ وأصيبت ذاكرتها بخلل نسيت معه اسمها‪ .‬هذه العمارة أو ناطحة السحاب التي نبتت‬ ‫بالليل‪ ،‬بزجاجها األخضر مثلت مسخا أسطوريا اخضر منع الشمس وافقد الهوية والذاكرة لبطلة‬ ‫القصة‪ ،‬كما يبدو انه افقد دبي هويتها أيضا كما يشير إليها المؤلف بأنها مدينة إشكالية حديثة‪ .‬ولكن‬ ‫المؤلف أيضا يدافع عن دبي إيقونة الخليج ويتعاطف مع مدينة األبراج والرمال‪:‬‬ ‫"العراقة الحقيقية للمدن ال تكمن في األحجار‪ ،‬وال في األزقة القديمة التي تتلوى في‬ ‫العالم كله بالطريقة ذاتها‪ ،‬بل تكمن في اإلنسان ذاته ‪ ...‬إن العراقة التي تفتقدها دبي‬


‫علي عبد الرءوف‬

‫هي تهمة ال مبرر لها‪ ،‬إذ حيث وجد اإلنسان وجدت ثقافة ضاربة في القدم‪ ،‬سواء‬ ‫كان في دبي المدينة الحديثة ام في لندن المدينة القديمة"‪(.‬نقشبندي‪.)2191 ،‬‬ ‫ولكن تسلسل دراما القصة يبلور تساؤال عن تأثير المدينة وهل دبي تمسخ اإلنسان وتجرده من‬ ‫إنسانيته وهويته؟ وتبرر البطلة عالقتها بالمدينة عندما استعادت هويتها وتذكرت اسمها‪:‬‬ ‫"نحن ال نحب هذه المدينة‪ ،‬بل نحب المال ‪ ...‬ال احد يريد أن يكون وحيدا في هذا‬ ‫العالم األسمنتي"‪(.‬نقشبندي‪.)2191 ،‬‬

‫شكل ()‪ :‬كاريكاتير يسخر من االقتصاد الهش لمدينة دبي الذي انتهى إلى مباني غير منتهية وغير مستعملة وعمران‬ ‫مشوه ومواطنين يستجدون لمواصلة نمط حياة استهالكي اعتادوا عليه‪.‬‬

‫‪ .2-7‬الرواية العربية وقيمة التراث المكاني‬ ‫من أهم الروايات العربية التي تؤكد قيمة المحلية وايجابية التراث المكاني‪ ،‬رواية موسم الهجرة إلى‬ ‫الشمال للروائي السوداني األشهر الطيب الصالح‪ .‬في هذا العمل الفريد والهام في اإلبداع العربي‬ ‫المعاصر‪ ،‬وبينما يحاول الصالح إنارة الثابت والمتحول‪ ،‬األصيل والوافد‪ ،‬المتكامل والمتمزق‪ ،‬في‬ ‫هوية اإلنسان الذي يرحل من واقع له عمقه وحنكته وخبرته إلى أفق غربي مفعم بالتجريب والتجديد‪،‬‬ ‫يذكرنا الصالح بقيم خالدة وغامضة في عمارة وعمران المكان‪.‬‬ ‫"هذه الدار الكبيرة ليست من الحجر وال الطوب األحمر‪ ،‬ولكنها من الطين نفسه‬ ‫الذي يزرع فيه القمح‪ ،‬قائمة على أطراف الحقل تماماً‪ ،‬تكون إمتداداً له‪ .‬وهذا واضح‬ ‫من شجيرات الطلح والسنط النامية في فناء الدار والنباتات التي نمت في الحيطان‬ ‫نفسها حيث تسرب إليها الماء من األرض المزروعة‪ .‬وهي دار فوضى قائمة دون‬ ‫نظام‪ ،‬اكتسبت هيئتها هذه على مدى أعوام طويلة‪ :‬غرف كثيرة مختلفة األحجام‪،‬‬ ‫بنيت بعضها لصق بعض في أوقات مختلفة‪ ،‬أما حسب الحاجة إليها أو ألن جدي‬ ‫توفر له شيء من المال لم يجد وسيلة أخرى ينفقه فيها‪ .‬غرف تؤدي بعضها إلى‬ ‫بعض‪ ،‬بعضها لها أبواب وطيئة البد أن تنحني كي تدخلها وبعضها ليست لها أبواب‬ ‫إطالقاً‪ ،‬بعضها لها نوافذ كثيرة‪ ،‬وبعضها ليست لها نوافذ‪ .‬حيطانها ملساء مطلية‬ ‫بمادة هي خليط من الرمل الخشن والطين األسود وزبالة البهائم‪ ،‬وكذلك السطوح‪،‬‬ ‫‪February 28, 2013‬‬

‫العمارة والمدينة والرواية‪ :‬نص البناء وبناء النص‪.‬‬


‫واألسقف من جذع النخيل وخشب السنط وجريد النخيل‪ .‬دار متاهة‪ ،‬باردة في‬ ‫الصيف‪ ،‬دافئة في الشتاء‪ .‬إذا نظرت إليها من الخارج‪ ،‬دون عطف‪ ،‬أحسست بها‬ ‫كيانا ً هشا ً لن يقوى على البقاء‪ ،‬ولكنها تغالب الزمن بشيء كالمعجزة"‪.‬‬ ‫هذا الوصف ال يتحدث فقط عن البيت كمأوى ولكن البيت ككيان يحتوي داخله حياة العائلة التي تتمدد‬ ‫وتنمو خالله‪ .‬والوصف أيضا يقدم مالمح لمبادئ العمارة البيئية وتكنولوجيا البناء المتوافق مع الموقع‬ ‫ومع المواد المتاحة‪ .‬يبهر األداء المناخي للبيت الكاتب أيضا وهو يستدعي صورة من قري السودان‬ ‫قاسية المناخ‪.‬‬ ‫‪ .3-7‬النقد الروائي لتغريب عمارة وعمران المغرب‬ ‫في إطار عالقة اإلنسان والمكان سجلت الرواية المغربية ما يتميز به هذا النطاق الجغرافي الثري من‬ ‫العالم العربي‪ ،‬وما به من تنوع وامتزاج بين كل من الحضارات اإلسالمية واألمازيغية والرومانية؛‬ ‫باإلضافة إلى ألوان متعاقبة من قوى االستعمار البريطاني ثم البرتغالي والفرنسي‪ .‬وهذا الخليط الممتد‬ ‫على مستوى الزمان والمكان يحقق نوعا فريدا من العمارة شديدة التميز والثراء‪ .‬ولكن العمارة هي‬ ‫منتج ثقافي بامتياز ومن ثم فان ما يصيب الثقافة يصيب العمارة‪ .‬فلقد تعولمت العمارة المغربية بشكل‬ ‫متسارع‪ .‬وهي وإن كانت طوال تاريخها نموذجا لتجاور العمارات ومعرضا فريدا لتآلف الذوقين‬ ‫الشرقي والغربي‪ ،‬إال أنها في العقود األخيرة تعرضت لعاصفة من التشويه والطمس معا‪ .‬كان لحلول‬ ‫األبراج الضخمة والمجمعات السكنية الحديثة محل الوحدات السكنية العتيقة األنيقة الراقية‪ ،‬كان لذلك‬ ‫كله األثر المباشر في فقدان المغرب‪ ،‬السيما المدن العريقة فيه مثل مراكش وتطوان وطنجة‬ ‫شخصيتها المعمارية المعروفة‪.‬‬ ‫وقد مارس الروائيين المغاربة أقصى درجات النقد ولم يغب مشهد تداعي العمران التقليدي في المدن‬ ‫التاريخية عن الرواية المغربية المعاصرة‪ .‬فقد وقفت الرواية حاملة كاميرا السرد لتسجل مالمح هذه‬ ‫العمارة المميزة‪ ،‬وتدهورها المتسارع بفعل االجتياح العمراني الحداثي‪ .‬ومن هؤالء المبدعين يبرز‬ ‫الروائي محمد األشعري في روايته (القوس والفراشة) موليا اهتماما كبيرا بمسألة العبث العمراني‬ ‫بالمغرب‪ ،‬ما دعاه إلى اإلشارة الواضحة لما أصاب الثقافة المغربية بفعل رياح الثقافات الغربية‪ ،‬وما‬ ‫التبدل المشوه لعمارة المغرب إال دليال شاخصا على هذا الخلل من وجهة نظره‪ .‬ينعى األشعري‬ ‫المدينة العريقة مراكش التي فقدت شخصيتها المعمارية بشكل مؤلم‪ ،‬وبدت مسرحا لعبث عمارة‬ ‫العولمة والرأسمالية معا‪ .‬فاختفت العمارة األصيلة وسط ضجيج عمارة الغرب‪ ،‬وداست العمارة‬ ‫العمالقة على رؤوس العمارة البسيطة‪ ،‬فانتشرت األبراج على رفات المساكن الحميمية المقياس‪ .‬وفي‬ ‫الرواية يصيغ المؤلف رثاء (مراكش) المدينة الجميلة‪:‬‬ ‫"وبالفعل طارت مراكش حقيقة ال مجازا في السنوات العشر األخيرة‪ .‬طارت أثمنة‬ ‫عقاراتها إلى عنان السماء‪ ،‬وطارت الدور القديمة‪ ،‬والرياضات والفنادق من بين‬ ‫أصحابها األصليين‪ ،‬وعصف بها زلزال حقيقي محا دروبا وأزقة وحواري عتيقة‪،‬‬ ‫وأنبت مكانها قصورا ومطاعم وإقامات ودور ضيافة‪ ،‬واشتعلت بين المالكين الجدد‬ ‫حرب عقارية‪ ،‬جعلتهم يتبارون في تشييد أبنية مذهلة‪ ،‬تليق باستيهاماتهم وأحالمهم‬ ‫الشرقية‪ ،‬مستعملين سقوفا وأبوابا وفسيفساء يقتلعونها من هنا وهناك‪ ،‬حتى نشبت‬ ‫حمى رهيبة في مفاصل الدور القديمة جراء ما تعرضت له من بتر وتقطيع‬


‫علي عبد الرءوف‬

‫‪,‬واستئصال لكل تفاصيلها قبل زرعها بشكل عدواني في قصور ورياضات تغلق‬ ‫بشكل محكم على الليل السري للمدينة"‪ - .‬القوس والفراشة ص ‪.911‬‬ ‫وهكذا يطلعنا الراوي في رواية األشعري على الشكل الذي آلت إليه العمارة المغربية بعد تشويهها‬ ‫بشكل ممنهج‪ ،‬بدت معه العمارة بال هوية‪ ،‬وهو الوصف الذي ينتظم ثقافة وعمارة العولمة على‬ ‫السواء‪.‬‬ ‫"قصور تختلط فيها أساليب معمارية ال عالقة لها بمراكش‪ ،‬أساليب وأشكال‬ ‫استوردها الوافدون الجدد من رحالتهم وأفالمهم ولوحات مستكشفيهم من الهند‬ ‫وتركيا وإيران ومنغوليا والصين واليمن وزنجبار‪ ....‬وفي هذا الخليط الذي حصلوا‬ ‫على رخص رسمية بإنجازه كترميم لذاكرة المدينة‪ ،‬تم طمس هذه الذاكرة بصفة تامة‬ ‫ونهائية‪ ،‬وفي قلب هذا الشكل الجديد‪ ،‬كرس األثرياء ما جمعوه من تحف عبر العالم‪،‬‬ ‫زجاجيا وفسيفساء ومنحوتات وأواني وزرابي وآالت موسيقية‪ ،‬بل وسواري‪،‬‬ ‫ومرمر وخزف من حفريات أركيولوجية عبر العالم‪ ."....‬الرواية ص ‪.919‬‬

‫روح مدينة مراكش مكثفة في ثراء ساحتها العامة‪ ،‬ساحة الفنا (تصوير‪ :‬علي عبد الرءوف)‬

‫‪ .8‬البنية المعمارية والعمرانية للقاهرة‬ ‫تاريخ مدينة القاهرة المركب (ابو لغد؛ حمدان ‪9111‬؛ ريموند‪2112 ،‬؛ الصياد ‪ )2199‬يميزه تعدد‬ ‫الطبقات المشكلة لبنية المدينة ومورفولوجيتها العمرانية والمعمارية‪ .‬كما يتميز بديناميكية وحيوية‬ ‫األحداث والتحوالت التي شهدتها وخاصة مع تغيرات عميقة صاحبت مشهد نمو هذه المدينة من‬ ‫لحظة ميالدها‪ .‬أسّس القاهرة القائد المعز لدين هللا من عدة مدن ولتكون عاصمة أسس الدولة‬ ‫الفاطمية‪ ،‬وقد قام جوهر الصقلي سنة ‪ 119‬هـ (‪ 111‬م) ببناء سور حول ثالث مدن وقام بتسمية‬ ‫المدن الثالث القاهرة‪ ،‬وتض ّم القاهرة مدينة الفسطاط التي أسسها عمرو بن العاص سنة ‪21‬هـ‪،‬‬ ‫ومدينة العسكر التي أسسها صالح بن علي العباسى سنة ‪912‬هـ‪ ،‬ومدينة القطائع التي أسّسها أحمد بن‬ ‫طولون سنة ‪211‬هـ‪ .‬نمت القاهرة في إطار النطاق الجغرافي الذي يمكن ان يطلق عليه القاهرة‬ ‫اإلسالمية او قاهرة المجتمع اإلسالمي التي أحيطت باألسوار الدفاعية التي تتخللها بوابات أهمها‬ ‫النصر والفتوح وزويلة‪ .‬هذه القاهرة األولى أنتجت الرصيد التراثي لعمارة وعمران المجتمعات‬ ‫‪February 28, 2013‬‬

‫العمارة والمدينة والرواية‪ :‬نص البناء وبناء النص‪.‬‬


‫اإلسالمية وخاصة في الحقبات الفاطمية والمملوكية‪ .‬مورفولوجية القاهرة او البنية العامة للمدينة‬ ‫عبارة عن مجموعة أحياء وكل حي هو وحدة مغلقة تترابط فيما بينها عن طريق شبكة متدرجة من‬ ‫الطرق‪ ،‬وأزقة تصب في حواري (عطفات‪/‬عطفة) وتؤدي بدورها إلى الشارع الرئيسي للحي‬ ‫(درب)‪ .‬وهو الذي يسمى الحي عادة باسمه ويتصل بالنهاية بالشارع الكبير عن طريق بوابة‬ ‫(ريمون‪.)9122 ،‬‬

‫وقد تجاوزت القفزات العمرانية للقاهرة الحدود الواضحة لعمران القرن الثامن عشر والتاسع عشر‪.‬‬ ‫فبعد تجاوز أسوار القاهرة اإلسالمية بأحيائها التراثية العريقة‪ ،‬انتظم عمران أحياء جديدة‪ ،‬خارج‬ ‫األسوار‪ ،‬فاصال بوضوح بين طبقات اجتماعية وثقافية مختلفة في المجتمع‪ .‬فقد ضمت القاهرة ثالث‬ ‫تصنيفات واضحة من األحياء العمرانية التي تعبر عن طور محدد من أطوار المدينة المركبة‪ .‬هذه‬ ‫األحياء كان لها مالمح واضحة ولها شخصيات متمايزة حتى وعلى الرغم من التقارب المكاني بينها‪.‬‬ ‫فعلى سبيل المثال كان حي جاردن سيتي‪ ،‬الذي انشاته شركة بلجيكية عام ‪ ،9112‬موطنا للطبقة‬ ‫االرستقراطية واألجنبية الوافدة بينما كان حي السيدة زينب المتاخم له حيا شعبيا محتفظا بأصالته‪.‬‬ ‫والى جانب هذين التصنيفين كان ظهور التصنيف الثالث من عمران القاهرة أو القاهرة الثالثة التي‬ ‫اتسمت بأحياء ومناطق بال روح أو مالمح أو شخصية وأحيانا بال تاريخ‪ .‬هذا النمط العمراني مضافا‬ ‫إلى األنماط السابقة هو ما ساهم في خلق صورة المدينة المتشظية المبعثرة (ريموند‪.)2119 ،‬‬ ‫تعود بدايات ظهور هذا التشظي والتبعثر في الصورة العمرانية للقاهرة إلى بداية عقد الثمانينيات‬ ‫عندما بدأت الهجرة من الريف الى المدينة بمعدالت متزايدة‪ .‬هذه الموجات من ترييف المدينة التي‬ ‫تواكبت بال هوادة توافقت مع توجه رأسمالي لمصر ‪ .‬وفجأة استيقظت القاهرة في نهاية الثمانينيات‬ ‫وأوائل التسعينيات على ازدواجيات الرسمي والالرسمي‪ ،‬المخطط والعشوائي‪ ،‬المبهر الرأسي‬ ‫والمتهالك الرديء‪ .‬وأصبحت الظاهرة مجسدة بوضوح في كل حي من أحياء القاهرة بال استثناء‪ .‬هذه‬ ‫الهجرة من الريف المصري إلى العاصمة‪ ،‬لم تؤثر فقط سلبا على الرصيد الزراعي لمصر‪ ،‬ولكن‬ ‫أنتجت إطارا عشوائيا للمدن الكبرى‪ ،‬وباألخص العاصمة القاهرة‪ .‬الظاهرة المشتركة في هذه األطر‬ ‫العشوائية أنها مجتمعات غير مرئية بالنسبة لألنساق الرسمية والقانونية للدولة‪ ،‬وبالتالي تستمد كل‬ ‫احتياجاتها المعيشية (الكهرباء والماء وحتى البث الفضائي) من تصرفات غير قانونية‪.‬‬


‫علي عبد الرءوف‬

‫هذه الحالة من االنحدار العمراني للقاهرة أصبحت حقيقة تؤكدها األحزمة الكثيفة من المستقرات‬ ‫الالرسمية التي تحيط بالمدينة‪ ،‬وتنتج في مجملها القاهرة الثالثة التي انعكست فيها ثقافة العشوائيات‬ ‫وامتدت تدريجيا الى قلب القاهرة األولى والثانية‪ .‬في الجزء التالي نرصد الكيفية التي انعكس بها هذا‬ ‫التشريح العمراني وثالثية القاهرة‪ :‬اإلسالمية والخديوية والعشوائية على اإلنتاج الروائي المعاصر‪.‬‬ ‫‪ .2‬التصنيف المكاني لألطروحات الروائية في مصر المعاصرة‬ ‫‪ .1-2‬االنعكاس الروائي للبنية المعمارية والعمرانية للقاهرة‬ ‫إذن اتسم النسيج العمراني للقاهرة األولى‪ ،‬القاهرة اإلسالمية‪ ،‬بتعقيد درامي عبقري الهم اثنين من أهم‬ ‫الروائيين المصريين وأقدرهم على التحليل الناقد والواقعية المفرطة إلى درجة الخروج من حتمية‬ ‫الواقعية إلى تجليات االستشراف‪ .‬وهذين المبدعين الرائدين هما نجيب محفوظ ويحيى حقي‪ .‬األول‬ ‫هو الحائز على جائزة نوبل لآلداب عام ‪ 9191‬عن مجمل أعماله التي رصد فيها كيف عبرت عمارة‬ ‫القاهرة األولى والتركيب العمراني ألزقتها وحواريها عن تفاعالت اجتماعيه وتناقضات إنسانية‪.‬‬ ‫لمزيد من الرصد الواقعي فقد تعمد محفوظ أن يستوحي عناوين رواياته من أسماء حقيقية ألحياء‬ ‫وشوارع وأزقة هذه القاهرة األولى‪ ،‬ومنها على سبيل المثال روايات زقاق المدق وخان الخليلي‬ ‫والسكرية وكلها مناطق حقيقية في النسيج العمراني للقاهرة اإلسالمية‪ ،‬ولها مفرداتها المعمارية‬ ‫والتشكيلية الخاصة‪.‬‬

‫‪ .10‬األطروحات الروائية والتصنيفات المكانية لعمران القاهرة‬ ‫جماليات المكان في األعمال الروائية‪ ،‬بمعناها الفني وبمعناها الجغرافي‪ ،‬تعني الجماليات التي تصنع‬ ‫من المكان بطالً من أبطال العمل الروائي‪ .‬القدرة على صياغة المهد الذي يحتضن أبطال الرواية‬ ‫ويتدخل في صنع مصائرهم‪ .‬إنه المكان الذي نتغير خالل عبورنا فيه‪ ،‬المكان الذي نغدو فيه غير ما‬ ‫كنا عليه قبل دخولنا فيه وهذا ما يتم تحليله من خالل فحص النماذج الروائية المنتقاة وتحليلها‪ .‬تبين‬ ‫وجود تصنيفات بارزة أهمها‪:‬‬ ‫‪ .1-10‬الطرح التراثي التأصيلي (القاهرة األولى‪ :‬القاهرة اإلسالمية)‪:‬‬ ‫بين القصرين والسكرية وخان الخليلي‪ -‬نجيب محفوظ‪.‬‬ ‫‪February 28, 2013‬‬

‫العمارة والمدينة والرواية‪ :‬نص البناء وبناء النص‪.‬‬


‫قنديل أم هاشم – يحيى حقي‪.‬‬ ‫خطط الغيطاني – جمال الغيطاني ‪.2111‬‬

‫القاهرة اإلسالمية (القاهرة األولى) (علي عبد الرءوف)‬

‫ما هي الكيفية التي تعامل بها الروائيون العرب مع التراث العمراني في المدن التاريخية خاصة؟‬ ‫وهل يمكن أن تكون الرواية أداة لتحفيز الحفاظ على التراث المعماري والعمراني؟ كيف قدم‬ ‫الروائيون صورا أكثر قيمة وداللة لهذا التراث بمكوناته المعمارية والعمرانية المختلفة؟ ‪ ،‬وكيف‬ ‫اشعروا قرائهم بالغيرة على فقد هذا التراث وتداعيه المستمر؟ بل وكيف خلقوا عالقة وثيقة بين‬ ‫المواطن العادي الذي يسكن النطاقات األثرية التاريخية من المدينة‪ ،‬ويتعامل معها في إطار حياته‬ ‫اليومية‪ ،‬وبين قيمة ما حوله بحيث يرتفع وعيه ويشعر بمسئوليته الوطنية نحو هذا التراث‪.‬‬ ‫يلعب المكان دورا محوريا بل وبطوليا في أعمال نجيب محفوظ الذي ولد في الجمالية‪ ،‬وهي احد أهم‬ ‫أحياء القاهرة اإلسالمية التي أمدته برصيد إنساني معماري عمراني تأمل فيه منذ صغره تعقيدات‬ ‫الحياة اإلنسانية وتجسدها في المكان‪ .‬ولذلك كان محفوظ شديد التعلق بالمكان لدرجة انه كان يعاقب‬ ‫أبطال رواياته‪ ،‬احيانا‪ ،‬على رغبة التمرد ومغادرة هذا األحياء الثرية تبعا لطرحه‪ .‬كان محفوظ مؤمنا‬ ‫إن هذا التكوين المعماري المجسّم في الناس والمقاهي واألزقة والحارات والسالملك والحرملك‬ ‫وجلسات المشربيات وعالقة الناس بالمكان فيها قدرة خاصة على النفاذ والتحديد واالنضباط‬ ‫للمعطيات والممكنات‪.‬‬ ‫"أغلب رواياتي كانت تدور في عقلي كخواطر حية أثناء جلوسي في هذه المنطقة ‪...‬‬ ‫يخيل لي أنه ال بد من االرتباط بمكان معين أو شيء معين يكون نقطة انطالق‬ ‫للمشاعر واألحاسيس‪ ،..‬وحتى المكان يصبح في بعض العمال بطالً (كالزقاق‬ ‫في"زقاق المدق"والعوامة في"ثرثرة فوق النيل"والفندق في"ميرامار"‪.‬‬ ‫نجيب محفوظ‬ ‫ما كتبه نجيب محفوظ في أعماله الروائية يجعله وبامتياز معماري الرواية‪ ،‬وراوي العمارة‬ ‫المصرية‪ .‬أن قدرته في أن يصور القاهرة الفاطمية على النحو الذي أبدعه في الثالثية كان إبداعا غير‬ ‫مسبوقا ومفرطا في الحساسية‪ .‬كما استطاعت عمارة محفوظ السردية أن تقدم لنا طبقات المجتمع‬ ‫حسب غناه وفقره‪ ،‬فقد كان وصف مساكن كل طبقة بليغا في اإلشارة إلى المعاناة التي تسحقها‪ ،‬أو‬ ‫إلى النعيم الذي يغرقها‪ ...‬وهي تقنية تخرج عن الدور التزييني للوصف إلى مرحلة البناء النفسي‬ ‫للشخصية‪ ،‬بل والبناء االجتماعي للوطن‪.‬‬


‫علي عبد الرءوف‬

‫تجسد روايات محفوظ أيضا لحظات االنتفاض الوطني حتى في خضم حالة اللهو التي سادت البالد‬ ‫وخاصة لطائفة التجار الذين تنازعهم روحانياتهم ووطنيتهم وحبهم لحياة المتعة واللهو كما جسدها‬ ‫محفوظ بعبقرية خالدة في شخصية "سي السيد" الذي ينطلق من عالمه األمن في القاهرة األولى إلى‬ ‫شوارع القاهرة الثانية (القاهرة الخديوية) أثناء ثورة ‪ 9191‬متأثرا ببطولة أبنائه وتضحياتهم من اجل‬ ‫مصر‪ .‬وقد قدمت روايات محفوظ تشريحا لعمارة المسكن المصري في القاهرة اإلسالمية ووظف‬ ‫مكوناته المختلفة في التركيب والتصاعد الدرامي للرواية مقدما دمجا بين المفاهيم الفراغية والمفاهيم‬ ‫االجتماعية في الحرملك والسالملك والحوش الداخلي والمشربيات وغيرها‪.‬‬ ‫وعلى نفس المنهج فقد قدمت بعض األعمال الروائية التي اهتمت بالقاهرة اإلسالمية‪ ،‬قدمت صرخة‬ ‫تحذيرية لتداعيات اإلهمال‪ .‬فعلى سبيل المثال يتناول الروائي المصري محمود الورداني في روايته‬ ‫«أوان القطاف» قيمة مجموعة قالوون في شارع المعز مقدما وصفا باهرا لقيمتها المعمارية‪:‬‬ ‫"هذه أقدم مجموعة متكاملة ولو فشلت جهود الترميم لفقدنا ما ال يمكن تعويضه‪ .‬في‬ ‫النهار ‪ -‬يجب أن ترى المكان في النهار ‪ -‬ستكتشف سحر مجموعة قالوون‪.‬‬ ‫وستكتشف إيقاع العمارة والعالقات المحسوبة بين القباب واألعمدة والمآذن‬ ‫والمداخل واألبواب"‪ .‬محمود الورداني‪ ،‬من محرز (‪ )2192‬ص‪.11:‬‬ ‫‪ .2-10‬الطرح التغريبي (القاهرة الثانية‪ :‬قاهرة الخديوية)‪:‬‬ ‫قطعة من أوربا ‪ -‬رضوى عاشور‪2111 .‬‬ ‫عمارة يعقوبيان – عالء األسواني‪2212 .‬‬ ‫قالت ضحى – بهاء طاهر‪9111 .‬‬ ‫رضوى عاشور – قطعة من أوربا‬ ‫ترصد رضوى عاشور (‪ ،)2111‬مالبسات التحول الدرامي من القاهرة األولى؛ القاهرة اإلسالمية‪،‬‬ ‫إلى القاهرة الثانية؛ القاهرة الخديوية‪ .‬وهذا العمل الروائي نموذجا للرصد التوثيقي الذي ندرك من‬ ‫خالله صفحات هامة من تاريخ العمران والعمارة في المدينة األهم في العالم العربي‪ .‬فالكاتبة تفسر‬ ‫التحول في عمران القاهرة بحالة االنبهار التي عاشها الخديوي إسماعيل في عالقته مع مدينته‬ ‫المفضلة باريس منذ كان طالبا بها وحتى زيارته التاريخية التي شهد فيها مالمح ثورتها المعمارية‬ ‫والعمرانية التي قادها المخطط هاوسمان‪ .‬تلك الثورة التي أبهرت وإعادة صياغة علوم التخطيط‬ ‫والعمران في أوربا‪ .‬عاد الخديوي إلى مصر وهو حاسما وجازما في أن القاهرة تستحق االنتقال إلى‬ ‫أفق جديد‪ ،‬ولذا عهد إلى وزير أشغاله على مبارك بان يتولى التنسيق ألعمال تخطيط القاهرة الجديدة‬ ‫تاركا القاهرة اإلسالمية‪ ،‬ماديا ومعنويا‪ ،‬تتوارى وتختفي خلف أسوارها العالية‪.‬‬ ‫"كان هذا الحي الجديد‪ ،‬القاهرة الرومية كما يسميها بعض المؤرخين‪ ،‬يخلف وراءه‬ ‫القاهرة اإلسالمية‪ ،‬يتركها مستتبة في ماضيها‪ ،‬قانعة به أو غارقة فيه‪ ،‬ويتطلع إلى‬ ‫عالم جديد‪ ،‬يسحب إليه المدينة بمؤسسات حكمها وقصور حكامها ومراكزها‬ ‫التجارية‪ ،‬ينقلها غربا ‪ -‬ال مجاز هنا ‪ -‬اقصد الغرب الجغرافي‪ ،‬حيث تمتد قاهرة‬ ‫إسماعيل من ميدان عابدين وميدان العتبة إلى النيل غربهما‪ ،‬ومن شاطئ النيل إلى‬ ‫الجزيرة غربه‪ .‬نزل الوالي من القلعة‪ ،‬وانتقل مقر الحكم إلى قصر عابدين"‪.‬‬ ‫‪February 28, 2013‬‬

‫العمارة والمدينة والرواية‪ :‬نص البناء وبناء النص‪.‬‬


‫قالت ضحى – بهاء طاهر‪1222 .‬‬ ‫في رواية قالت ضحى للروائي بهاء طاهر (‪ )9111‬نرى مساحات موجزة ولكنها قاطعة لتفعيل دور‬ ‫النقد المعماري والعمراني وإدماجه في بنية النص الروائي‪ .‬إشكاليتين من أهم إشكاليات عمارة‬ ‫وعمران القاهرة الثانية الخديوية تطرحهم الرواية‪ .‬اإلشكالية األولى تخص التشوه البصري المستمر‬ ‫لكل النطاق التجاري الذي شغل األدوار األرضية والميزانين من عمارات وسط المدينة األنيق‪ .‬في‬ ‫غيبة معايير يقنن االستعماالت التجارية وما يمكن لها أن تضيف للكيان المعماري الذي يأويها‪،‬‬ ‫أصبحت تلك المحالت اعتداءا صارخا على كل القيم الجمالية والبصرية والتشكيلية‪.‬‬ ‫"أنا اعني أن الشارع أيضا حياة‪ ،‬أجزاؤه كأعضاء الجسم وحين تغيرها فكأنك تبتر‬ ‫عضوا من جسد"‪ .‬بطلة القصة ضحى تستنكر ما وجدته في شارع قصر النيل من‬ ‫الفتات لبيع المحالت التجارية التي تميزه‪ .‬ص‪29:‬‬ ‫كما تشير البطلة‪ ،‬أصحاب المحالت يملكون كل درجات الحرية في تشكيل واجهات محالتهم‬ ‫وألوانها وموادها وأسلوب إضاءتها وشكل وحجم ومكان الفتاتها‪ .‬هذه الحرية الغير مسئولة والتي ال‬ ‫تخضع إلى مرجعية قانونية من إي نوع‪ ،‬أفسدت الرصيد المعماري وشوهته وخاصة عندما امتد‬ ‫التشويه إلى األدوار العليا بعد أن تحول معظمها إلى مكاتب وورش إنتاجية‪ ،‬فتبارت في وضع‬ ‫الالفتات المتناثرة على جسد العمارات المستباح ومعه انتشرت أجهزة التكييف بأورامها المتعددة‬ ‫وانتهت بتحويل الشرفات األنيقة إلى مخازن مفتوحة لألثاث القديم‪ .‬المحصلة انك تنظر إلى عمارة لها‬ ‫ماض جميل وتلمح عالمات‪ ،‬ولكنها تحولت الى مسخ مشوه يثير األلم‪.‬‬ ‫"‪ ...‬كانت تلتفت برأسها بعيدا عني وهي تنظر في شرود إلى مدخل "الهيلتون"‪،‬‬ ‫وقالت فجأة بصوت غاضب‪ :‬لماذا وضعوا هذا المبنى هنا؟ لماذا بنوا هذه "التورته"‬ ‫الزرقاء بجوار المتحف؟ هذا تدنيس للمكان"‪ .‬ص‪.21 :‬‬

‫يتناول طاهر أيضا على لسان البطلة فكرة التوافق العمراني في القاهرة‪ .‬فالبطلة تستنكر التناقض‬ ‫العمراني بين الفندق الجديد وبين المتحف المصري وهي تساؤالت مشروعة لها عالقة بقضية‬


‫علي عبد الرءوف‬

‫التناسق والتوافق العمراني والمسئولية عن صياغة معايير عمرانية للتنمية منطقة ما تضمن‬ ‫استمرارية مستقبلية لهذا التوافق‪.‬‬ ‫عمارة يعقوبيان – عالء األسواني‬ ‫عمارة يعقوبيان رواية للكاتب عالء االسواني نشرت عام ‪ ،2112‬وهو اسم حقيقي لعمارة موجودة‬ ‫فعالً بشارع طلعت حرب بناها المليونير جاكوب يعقوبيان عميد الجالية األرمينية عام ‪ .9112‬من‬ ‫بداية الرواية يستوقفك أن رغبة المالك في عمل تحفة معمارية تحقق على يد المعماري االيطالي‪،‬‬ ‫وهنا يتضح ضعف إدراك قيمة المعماري الوطني وخاصة أن تلك الحقبة (منتصف الثالثينيات)‪،‬‬ ‫كانت شاهدا على عودة الجيل األول من المعماريين المصريين إلى ارض الوطن بعد إنهاء دراساتهم‬ ‫في أرقى مدارس العمارة بسويسرا وفرنسا وانجلترا‪.‬‬ ‫"في عام ‪ 9112‬فكر المليونير هاجوب يعقوبيان‪ ،‬عميد الجالية األرمينية في مصر‬ ‫آنذاك‪ ،‬في إنشاء عمارة سكنية تحمل اسمه فتخير لها أهم موقع في شارع سليمان‬ ‫باشا وتعاقد لبنائها مع مكتب هندسي ايطالي شهير وضع له تصميما جميال‪ :‬عشرة‬ ‫ادوار شاهقة من الطراز األوربي الكالسيكي الفخم‪ :‬الشرفات مزدانة بتماثيل لوجوه‬ ‫إغريقية منحوتة على الحجر واألعمدة والدرجات والممرات كلها بالرخام الطبيعي"‬ ‫وقد استخدم األسواني هذا المبنى الكائن بوسط القاهرة‪ ،‬وبالتحديد في شارع سليمان باشا‪ ،‬شاهدا على‬ ‫تاريخ مصر الحديث في المائة سنة األخيرة بكل ما يحمله من أزمات ونجاحات ونكبات‪ .‬فالمبنى‬ ‫الذي بدا كتحفة معمارية سرعان ما ظهرت عليه أعراض قاهرة ما بعد ثورة ‪ 21‬يوليو وخاصة في‬ ‫دوره األرضي وسطحه العلوي‪ .‬ففي الدور األرضي تحول المحل األنيق إلى متجر باذخ فج الذوق‬ ‫يبيع المالبس ويتجاهل كل القيم الجمالية والتشكيلية للمبنى‪ .‬أما السطح فهو حزام عشوائي يماثل‬ ‫األحزمة العشوائية التي أصبحت تحيط بالقاهرة تدريجيا‪ .‬لقد تحولت حجرات السطح التي بنيت‬ ‫لتكون مخازن وغرف للغسيل إلى مستعمرة متكاملة‪ .‬لقد نشأ جمعا جديد فوق السطح له استقالليته‬ ‫الكاملة عن كل قيم وأسلوب حياة قاطني شقق العمارة‪ .‬وتدريجيا أصبح هذا الجمع صورة من أي‬ ‫تجمع عشوائي محيطا بالقاهرة يمكن رصد مالمحه من أطفال تجري شبه عرايا وسيدات جالسات‬ ‫على أعتاب حجراتهن ومشاجرات عنيفة تنطلق في لحظات وتنطفئ في دقائق قليلة وتستمر الحياة‬ ‫وكأن شيء لم يكن‪ .‬كما نالحظ الكثير من اإلضافات المبنية التي تقسم السطح وتعيد تقسيمه وتضيف‬ ‫إليه احتياجات ما يستجد من سكان فرادى أو عائالت بأكملها‪.‬‬

‫بشر وأسطح‪ :‬أسطح وسط المدينة التي تحولت إلى أحزمة ال رسمية تحيط بالعمران الرأسي ( ‪Antonino‬‬ ‫‪.)© Savojardo‬‬

‫‪February 28, 2013‬‬

‫العمارة والمدينة والرواية‪ :‬نص البناء وبناء النص‪.‬‬


‫‪ .3-10‬الطرح العشوائي والهامشي (القاهرة الثالثة‪ :‬القاهرة العشوائية)‪:‬‬ ‫قاع المدينة – يوسف إدريس‪.9111 ،‬‬ ‫مالك الحزين – إبراهيم أصالن‪.‬‬ ‫حكايات فضل هللا عثمان ‪ -‬إبراهيم أصالن‪.‬‬ ‫عصافير النيل – إبراهيم أصالن ‪.9111‬‬ ‫بيت النار ‪ -‬محمود الورداني‪.2192 ،‬‬ ‫عشوائية الوجود وعبثية العمارة التي تحتوي هذا الوجود هو طرح نقدي قيم أضاء جوانب من‬ ‫عمران القاهرة لم تحظى باالهتمام الذي يحولها إلى قضايا اجتماعية وعمرانية‪ .‬وصف يوسف‬ ‫إدريس في قاع المدينة الرحلة من العمران المنتظم االرستقراطي إلى تحالف العشوائي والمهمش‬ ‫والالمبني والمتداعي حاد الفقر في روايته قاع المدينة (‪ .)1252‬والواقع أن رصد إدريس للمهمش‬ ‫والعشوائي بالقاهرة يطرح إطار زمنيا مختلفا عن ما ذهب إليه الكثيرون من منظري العمران‬ ‫والتخطيط من أن العشوائيات بدأت بالقاهرة في نهاية السبعينيات وبصورة أدق بعد سنوات االنفتاح‬ ‫االقتصادي‪ .‬كما أن إدريس اعتمد على تعمق في المدينة‪ ،‬أدرك منه الرؤى الحياتية المختلفة التي‬ ‫تتباين تباين مذهل في مسافات ال تزيد عن عدة كيلومترات‪.‬‬ ‫"انه مصري مائة في المائة‪ ،‬أبوه من المنيرة وأمه من العباسية وله أقارب فقراء في‬ ‫الصعيد‪ ،‬وسافر ورأى وانتقل وحقق ولمس بنفسه أقصى درجات الحاجة‪ .‬وهو متأكد‬ ‫انه ال يزال في القاهرة لم يغادرها‪ ،‬وان المكان الذي يمشي فيه حي من أحيائها‪،‬‬ ‫ولكن المرئيات تتاب ع كلما تقدم ويحس بالذهول وانه يدلى بحبل في بئر ال قرار فيها"‬ ‫قاع المدينة (‪.)9111‬‬ ‫ويبدع إدريس في وصف االنحدارات المتتالية في رحلة قاع المدينة‪:‬‬ ‫"الشوارع أول األمر مستقيمة ذات طول وعرض وأسماء مشهورة‪...‬والبيوت على‬ ‫الجانبين مزدحمة ومكدسة‪ ...‬ولكنها بيوت لها أرقام وبلكونات ونوافذ بشيش وزجاج‬ ‫وبوابات ذات زخارف ‪...‬ويتقدمون ‪ ...‬وتضيق الشوارع وتقل شهرتها‪ ،‬وتفقد‬ ‫البيوت أرقامها وتنقص أدوارها ‪ ...‬وتصغر أبوابها وتصبح نوافذها بال شيش ‪...‬‬ ‫ويتقدمون ‪ ...‬وتضييق الشوارع وتضيق وتفضي إلى حارات ‪ ...‬وتتقادم البيوت‬ ‫ويفصلها عن الحاضر أحقاب وأحقاب‪ ،‬وتصبح النوافذ فتحات ليس فيها غير الحديد‬ ‫‪ ...‬ويتقدمون ‪ ...‬وتتعرج الحواري وتتداخل وتؤدي إلى أزقة ‪ ...‬وتفقد البيوت ما‬ ‫فوقها من طالء وما في نوافذها من حديد ‪ ...‬ويوغلون في التقدم ‪ ...‬وتتلوى األزقة‬ ‫والمسالك وتؤدي إلى مكان ليس له كيان‪ ،‬كل ما فيه يختلط بكل ما فيه"‪ .‬إدريس‬ ‫(‪ – )9111‬قاع المدينة‪.‬‬ ‫رحلة عمرانية من موضع إلى موضع‪ ،‬أو باألحرى من قمة إلى قاع في نفس المدينة التي تفقد في‬ ‫تسارع مدهش كل قيم المعمار والعمران اإلنساني‪ .‬وال تزيد على دهشة الراوي بما يرى‪ ،‬إال دهشته‬ ‫وهو مدرك تماما أن كل ما يراه في نفس جغرافية مدينته التي اعتقد انه يعرفها جيدا‪.‬‬


‫علي عبد الرءوف‬

‫أعمال مختارة ‪ -‬إبراهيم أصالن‬ ‫أما الروائي إبراهيم أصالن فقد كان عنصرا أصيال في سرد عشوائية الوجود وعبثية العمارة في‬ ‫بعض بقاع القاهرة‪ ،‬ألنه كان ينتمي إليها ويختبرها في حياته اليومية‪ .‬ولد إبراهيم أصالن بمحافظة‬ ‫الغربية ونشأ وتربى في القاهرة وتحديدا في حي إمبابة والكيت كات‪ ،‬وقد ظل لهذين المكانين‬ ‫الحضور األكبر والطاغي في كل أعمال الكاتب بداية من مجموعته القصصية األولى "بحيرة‬ ‫المساء" مرورا بعمله وروايته األشهر "مالك الحزين"‪ ،‬وحتى كتابه "حكايات فضل هللا عثمان"‬ ‫وروايته "عصافير النيل"‪ .‬واستمر أصالن يقطن في الكيت كات حتى وفاته ولم يخرج من ذلك الحي‬ ‫برغم شهرته التي حققها فيما بعد كأديب ورئيس تحرير‪ .‬عصافير النيل‪ :‬إنها حكاية المكان‪..‬ماذا لو‬ ‫استنطقنا األمكنة‪..‬ماذا يمكن أن تقول؟‪..‬ماذا يمكن أن تحكي؟‪..‬تلك هي حكاية عصافير النيل‪..‬هل‬ ‫األماكن تسكننا أم نسكنها‪..‬وهل تصبح هي هي بعد أن يمضي من يمضي ويأتي من يأتي؟ في مواقع‬ ‫مختلفة من سرد إبراهيم أصالن نواجه عمارة بال مسكن‪ ،‬وهو ما اختص به من يعيشون تحت خط‬ ‫الفقر‪ ،‬وهو ما يطلق عليه سكان العشوائيات؛ حيث وسمت العشوائية كل شيء حتى األشكال الثابتة‬ ‫والمستقرة للمساكن‪.‬‬ ‫"مشيت في الشارع الذي كان مسقوفا بخيوط علقت فيها آالف من األعالم الفضية‬ ‫المقصوصة والفوانيس الورقية الملونة‪ .‬كنت اعرف انه ينتهي بتلك المنطقة‬ ‫المزدحمة باألكواخ التي نفصل بينه وبين الساحة التي يقام فيها السوق‪ ،‬حيث يمكنني‬ ‫أن أدخن السيجارة وراء المساكن الشعبية الصفراء‪ ،‬واشرب من األزيار المنصوبة‬ ‫تحت الشجرة الوحيدة عند المبنى الحكومي المهجور"‪ .‬حكايات فضل هللا عثمان‪،‬‬ ‫ص‪29 :‬‬ ‫في مالك الحزين يؤكد أصالن على األهمية األكبر لنهر النيل في حياة أهل إمبابة فهو مرتبط ارتباطا‬ ‫وثيقا بحياة الناس‪ .‬النهر هو مصدر الحياة ولذا فهو مرتبط بنشاط مهني وهو الصيد‪ ،‬ولكنه أيضا‬ ‫مكانا للتأمل والهدوء‪ .‬واستمرارية الصيد في رؤية أصالن يجعل من امبابه تجسيد للتداخل الريفي‬ ‫البدائي في حيز المدينة‪ ،‬والمهمش فيها في الوقت نفسه (حشمت‪ .)2119،‬ولكن أصالن أيضا يرصد‬ ‫صدمة ان النهر تغير وفقد عنفوانه وأصبح شبيها بماء قذر (ماء الغسيل) ص‪ .921 :‬ولم يعد بطل‬ ‫الرواية يوسف يسميه نهري مستخدما ضمير الملكية للتعبير عن العالقة الحميمة بين اإلنسان والنهر‪.‬‬ ‫تشير الرواية أيضا إلى ما تسميه حشمت (‪ )2119‬قوة التدمير التي تعمل من داخل امبابة نفسها‬ ‫لتدمير البنية المكانية المالئمة لمجتمع المكان واستبدالها عن طريق تجار بدؤا فقراء ثم تيسر حالهم‬ ‫فاشتروا البيوت القديمة وحولوها إلى عمارات خرسانية حديثة‪ .‬يصف أصالن هذا الرجل على انه‬ ‫سرطان حقيقي يفترس كل شيء‪" :‬انه يتقد وينتشر مثل السرطان داخل الحارة‪ .‬يشتري البيوت‬ ‫القديمة ثم يهدمها (ص‪.)21:‬‬

‫‪February 28, 2013‬‬

‫العمارة والمدينة والرواية‪ :‬نص البناء وبناء النص‪.‬‬


‫ال رسمية إمبابة والحجم المذهل لنموها العمراني في غفلة وإهمال وتهميش من القوى الحاكمة‪.‬‬ ‫‪http://www.skyscraperlife.com‬‬

‫بيت النار ‪ -‬محمود الورداني‬ ‫يرسم الروائي المصري محمود الورداني في روايته «بيت النار» بانوراما لتحوالت القاهرة خالل‬ ‫أربعة عقود تبدأ من الستينات حتى نهاية السبعينات‪ .‬والبناء الدرامي للرواية يتتبع رحلة طالب يتيم‬ ‫يتحمل مسؤولية أسرة تتنقل بين أحياء العاصمة المصرية بسبب ضغوط الحياة ولقمة العيش‪ .‬ومن‬ ‫خالل هذا االنتقاالت يرصد الورداني التحوالت االجتماعية والسياسية لمصر‪ .‬وبصورة أليمة يتأمل‬ ‫المدينة العاصمة القاهرة التي تتوسع بإضافة أحياء جديدة لتصير وحشا أو متاهة‪ .‬وتتزامن تحوالت‬ ‫الرواية مع تحوالت مكانية تصنف ما حدث في عمران القاهرة حيث ينشأ الطفل مصطفى في الحي‬ ‫الشعبي بوالق أبو العال‪ .‬ولكنه من خالل شوارع بوالق يلمح ومضات من حي الزمالك األرستقراطي‬ ‫الذي يفصله نهر النيل عن بوالق‪ .‬ثم ينتقل بطل الرواية إلى القاهرة الجديدة؛ قاهرة الخديوي إسماعيل‬ ‫حيث يعمل في مطبعة في وسط القاهرة بالقرب من قصر عابدين الذي أصبح مقرا الملك فاروق‪.‬‬ ‫ومع تعقد الظروف المادية‪ ،‬يبدأ مصطفى عمله عند المكوجي مسئوال عن «بيت النار» كما يطلعه‬ ‫عمله ككواء على عالم مختلف‪ ،‬هو حي الزمالك‪ .‬ثم يناقش الورداني ديناميكية العمران في القاهرة‬ ‫ومصر بعد تدفق األموال من العمل بالخليج في عقد التسعينيات‪ .‬حيث يسقط تساؤالته على حالة أخته‬ ‫وزوجها العائد من السعودية سمينا له لحية سوداء ضخمة‪ ،‬وشرائه أرضا ليبني بيتا في حي جديد‬ ‫سرعان ما أصبح من عشوائيات القاهرة‪ ،‬التي يرصد الورداني نموها كعشب شيطاني‪.‬‬ ‫النطاق الجغرافي الذي تغطيه الرواية يمتد من شبرا مصر في الستينات‪ ،‬مدن العمال‪ ،‬لتصل إلى‬ ‫بعض أحياء القاهرة الخديوية ثم إلى حدود الزمالك‪ ،‬الطبقة العليا وانتهاء بالجيزة والعمرانية‪ ،‬موطن‬ ‫العشوائي والال رسمي‪ .‬وهو اهتمام يرصد بدقة وشغف مجموعة التحوالت والتشوهات كذلك التي‬ ‫طرأت على هذا النطاق الجغرافي وصوالً لنهاية السبعينات تقريباً‪ .‬ونقصد هنا األماكن التي عمل فيها‬ ‫مصطفى بطل الرواية‪ ،‬وكذلك األماكن التي سكنها مع أسرته الصغيرة بينما تنتقل من مسكن إلى آخر‬ ‫حسب موجات الصعود والهبوط في وضعهم المادي المهدد والمتأزم أغلب الوقت‪ ،‬وكذلك األماكن‬ ‫التي هرب إليها مختبئا ً من أعين أمن الدولة في مرحلة عمله الثوري السري‪ .‬في كل تلك األماكن –‬ ‫التي تكاد تغطي القاهرة الكبرى في الحقيقة – يصف الورداني المباني والشوارع بعين يقظة و ُمحبة‪،‬‬ ‫وينقل لقارئه روح المكان وسكانه‪.‬‬ ‫أما تحوالت األمكنة التى يسجلها «الوردانى» بحرفية بالغة فيمكن أن نقتصر في تمثيلها على حكاية‬ ‫شارع فيصل والحمى التي صاحبت نشأته‪ ،‬حيث اندفع المئات من أصحاب األراضي الزراعية هناك‬


‫علي عبد الرءوف‬

‫والتى كانوا قد اشتروها رخيصة وقاموا بـ«تسقيعها» عدة سنوات انتظاراً المثل هذه الفرصة‪ ،‬اندفعوا‬ ‫يبيعون ويشترون ويهرسون األرض على جانبي الطريق الذى كان مجرد ترعة عريضة تروى‬ ‫األرض الزراعية بموازاة شارع الهرم‪ ،‬كانت خلية نحل تعمل ليالً ونهاراً‪ ،‬تضع األساس على عجل‬ ‫ثم تقيم األعمدة وسرعان ما يمأل البناءون المساحات بين األعمدة‪ ،‬بينما كان المصريون العائدون من‬ ‫الخليج والسعودية يشترون الشقق بسرعة‪ ،‬وانتشرت الالفتات على الواجهات غير المكتملة‪ :‬موبيليات‬ ‫حراء‪ ،‬صالون مكة‪ ،‬قهوة الرياض‪ ،‬مصبغة المصطفى وهكذا‪ .‬وتصل قمة األزمة الوجودية‬ ‫والعمرانية إلى أقصاها عندما يتأمل بطل الرواية تآكل المحيط الزراعي حول القاهرة الكبرى‪،‬‬ ‫وتحوله إلى هياكل إسمنتية ويعلق‪" :‬هذه قاهرة أخرى ال أعرفها"‪.‬‬

‫شارع الملك فيصل‪ ،‬تجسيد ال يعالج للتداعي المعماري والعمراني‪.‬‬

‫‪ .4-10‬الطرح البيئي والمقدس (خارج القاهرة‪ :‬عمارة وعمران الصحراء)‪:‬‬ ‫الجبل – فتحي غانم‪9111 .‬‬ ‫واحة الغروب – بهاء طاهر‪2119 .‬‬ ‫أوان القطاف – محمود الورداني‪2112 .‬‬ ‫يخرج فتحي غانم (الجبل‪ ،)1252 ،‬من نطاق جغرافيا القاهرة الكبرى الى قرى صعيد مصر‪ .‬ففي‬ ‫رواية الجبل التي نشرت للمرة األولى عام ‪ ،9111‬وكانت أول عمال روائيا للمؤلف‪ ،‬تتمحور أحداث‬ ‫القصة حول قرية القرنة الواقعة في سفح الجبل بغرب نهر النيل باألقصر‪ ،‬وهي القرية التي شهدت‬ ‫التجسيد الحقيقي لفكر المعماري والمخطط المصري حسن فتحي‪ .‬ومن الصراعات الرئيسية في‬ ‫القرية الخالف بين هيئ ة اآلثار التي كانت تابعة لوزارة المعارف العمومية في هذا الحين‪ ،‬وبين أهالي‬ ‫القرية‪ .‬كان محور الخالف هو فهم القرية لكل ما هو موجود في باطن أراضيهم التي ورثوها عن‬ ‫األجداد‪ ،‬من تماثيل ومومياوات هو ملكهم في الوقت الذي اعتبرتهم الهيئة لصوص أثار‪ .‬يقدم غانم‬ ‫طرحا جديدا لمشروع حسن فتحي يراه على هيئة حل بديل لهذا الصراع عن طريق نقل أهالي القرنة‬ ‫إلى ما سوق لهم على انه قرية نموذجية جهزت بيوتها بالمياه والكهرباء‪ ،‬صممها حسن فتحي مؤمنا‬ ‫إيمانا عميقا بتقديمه حال مثاليا لبيئة معمارية وعمرانية أكثر رقيا للمجتمعات المصرية البسيطة‪،‬‬ ‫ولكن المفاجأة كانت في حركة الرفض النتقال تهجيري والتمسك بالمكان القديم‪.‬‬ ‫واستغل غانم الذي كان يعمل محققا بالشئون القانونية بوزارة المعارف تكليفه بمهمة التحقيق في‬ ‫القضية ككل ليستكشف آفاق جديدة لعالقة اإلنسان بالمكان ويقد تفسيرا أخرا للمشروع فرصد خالفات‬ ‫األ هالي مع المعماري حسن فتحي التي كانت حادة وعنيفة حرقت فيها إحدى السيارات كما رصد‬ ‫تعليمات مدير الشئون القانونية التي نبهه فيها إلى خطورة الموقف وإمكان اتهام األهالي بالعنف وعدم‬ ‫احترام القانون‪ ،‬ولكن معايشة فتحي غانم حولته من محقق يتعامل مع أهالي مخربين ورافضين إلى‬ ‫إنسان تبين له أن هؤالء البسطاء مجني عليهم وأنهم ضحايا عملية تحديث وضعها حسن فتحي دون‬ ‫أن يعرف شيئا عن حياتهم وعاداتهم‪ .‬بل وانتهى غانم إلى إن هؤالء البسطاء معتزون بحياتهم‬ ‫‪February 28, 2013‬‬

‫العمارة والمدينة والرواية‪ :‬نص البناء وبناء النص‪.‬‬


‫ومتمسكون بها وليسوا ضد التطوير‪ ،‬فقط يجب أن يتم من داخلهم‪ ،‬وال يفرض عليهم من خارجهم أو‬ ‫من سلطات اعلي‪.‬‬

‫مسجد قرية القرنة التي صممها المعماري المصري حسن فتحي رائد عمارة الفقراء‪.‬‬

‫واحة الغروب – بهاء طاهر‪2008 .‬‬ ‫بعد تجربة بهاء طاهر في ترجمة رواية الخيميائي لباولو كويلهو‪ ،‬والتي اسماها في النسخة المترجمة‬ ‫ساحر الصحراء‪ ،‬اقترب من الصحراء كنطاق جديد او مكان يمثل أرضية جديدة إلبداعه الروائي‪.‬‬ ‫فقدم طاهر (واحة الغروب‪ )2119 ،‬حيث يؤكد فيها على توافق العمران مع البيئة المحيطة ومع القيم‬ ‫االجتماعية والسياق الثقافي للواحة‪ .‬وبحيث تحقق البيئة المبنية تناغما مع البيئة الطبيعية دون أن‬ ‫يتدخل المعماري أو العمراني المحترف‪ ،‬ولكنها قيمة المعرفة الفطرية المركبة التي خلقت عمارة بال‬ ‫معماريين‪.‬‬ ‫"ولفت نظري منذ دخلنا الواحة كثرة النخيل قرب عيون الماء‪ ،‬بل ورأيت نخيال‬ ‫غائصا في البحيرات ال تطفو سوى قممه‪ ،‬ولكن اآلن‪ ،‬فجأة‪ ،‬بعد أن ارتقينا ربوة‪،‬‬ ‫اخضر األفق كله أمام عيني‪ ،‬غابة ال يحدها البصر من سعف متشابك في الفضاء‪.‬‬ ‫بحر اخضر داكن كثيف ومتموج تنهض فوقه البلدة مثل جزيرة بأسوارها الرمادية‬ ‫ومساكنها الصفراء المبنية فوق هضبة هرمية"‪ .‬طاهر‪ -2119 ،‬ص‪.11:‬‬ ‫"كان األطفال يحفرون في األرض قنوات يصبون فيها ماء ويضعون على حوافها‬ ‫غصونا صغيرة خضراء ليرووا بساتين تشبه بساتين أبائهم‪ .‬ولكن أهم شيئا أنهم ال‬ ‫ينسون أيضا بناء أسوارا رملية عالية حول بساتينهم‪ .‬يتعلمون األسوار منذ الصغر‪.‬‬ ‫أما البنات فيلعبن على حدة بعيدا عن الصبيان‪.‬أسوار أخرى!"‪ .‬طاهر‪-2119 ،‬‬ ‫ص‪.921:‬‬


‫علي عبد الرءوف‬

‫توافق المبني والطبيعي في واحة سيوة‪ ،‬المصدر‪http://tourismeg2011.com :‬‬

‫أما محمود الورداني في (أوان القطاف‪ )2002 ،‬فيطرح نقدا بيئيا لعمران المدينة وال يراه فقط في‬ ‫بعده اآلني ولكن يسقطه على المستقبل‪ .‬ومن ثم يحذر من خطورة ما سنتركه لألجيال المستقبلية‪،‬‬ ‫وهذا هو المقوم الرئيسي لفكرة التنمية المتواصلة‪ .‬ينقد الورداني المدينة التي فقدت القدرة على أن‬ ‫تشعر سكانها بالحياة وتقربهم من إنسانيتهم‪ .‬المدينة التي فقدت القدرة على أن توفر لسكانها بيئة‬ ‫صحية متوازنة أو عمران ممتع بصريا ولونيا‪.‬‬ ‫"‪..‬كيف أتزوج يوما‪ ،‬وأنجب أطفاال يعيشون في هذه المدينة؟ أية تعاسة ستلحق بهم‬ ‫عندما يتطلعون حولهم‪ ،‬فيها‪ ،‬فال يجدون إال غابة واسعة مزروعة باالسمنت‬ ‫واأللوان الرمادية والبنية؟! وال اخفي أيضا أنني خفت على أحفادي أكثر‪ ،‬عندما‬ ‫فكرت في حالهم إذا ما خرجوا إلى الدنيا‪ ،‬وعاشوا في هذه المدينة دون أن يروا‬ ‫زهرة أو يعرفوا معنى هذه الكلمة‪"..‬‬ ‫‪ .5-10‬الطرح المستقبلي (القاهرة القاهرة‪ :‬ماذا حدث وماذا سيحدث للمصريين)‪:‬‬ ‫يوتوبيا – احمد خالد توفيق‪2010.‬‬ ‫هل يمكن أن تكون القاهرة قاهرة وقاسية لسكانها وأهلها في المستقبل؟ تساؤل مؤلم ولكنه‪ ،‬وأمام‬ ‫شواهد متعددة‪ ،‬يصبح سؤاال حيويا يستحق المواجهة‪ .‬طرح توفيق (‪ )2191‬تصورا كاسحا لمنطق‬ ‫الحياة في مستقبل مصر‪ ،‬واستخدم تداعيات فكرة انتشار المجتمعات المغلقة لتقديم معادلة عمرانية‬ ‫مخيفة عن مصر في عام ‪ .2121‬حيث يتصور الكاتب أن االنفصال واالنعزال ساد منطق الحياة بين‬ ‫قطاعين أساسيين أصبحا هم المكونين الوحيدين للمجتمع المصري‪ .‬فقد عزل األغنياء أنفسهم في‬ ‫"يوتوبيا"‪ ،‬وهو االسم المحمل بالدالالت الذي أطلقه الكاتب على المجمع السكني المغلق في الساحل‬ ‫الشمالي‪ .‬هذا المجمع‪ ،‬الذي يعطي فيه اإلحساس باألمان أفراد المارينز األمريكيين المنتشرين لمراقبة‬ ‫أسواره وبواباته وحتى مطاره‪ .‬أما السكان المحظوظين في داخل المجمع‪ ،‬فقد استهلكوا أوقاتهم اآلمنة‬ ‫‪ ،‬تحت الحراسة األمريكية‪ ،‬في تعاطي المخدرات وممارسة المتع إلى أقصاها بل وإعادة تفسيرها‬ ‫لتتجاوز حدود الجنوني والوحشي والسادي‪ .‬أما المكون األخر من الشعب‪ ،‬وهو الغالبية الساحقة‪ ،‬فقد‬ ‫عاشوا خارج المجمع المغلق األمن ينسحقون انسحاقا جماعيا وفرديا وينهشون لحم بعضهم البعض‬ ‫من اجل العيش دون توافر ادني مالمح لحياة إنسانية‪.‬‬

‫‪February 28, 2013‬‬

‫العمارة والمدينة والرواية‪ :‬نص البناء وبناء النص‪.‬‬


‫المجتمعات المغلقة ‪ Gated Communities‬هو تعبير يصف مشروعات إسكانية تعتمد على خلق‬ ‫مجتمع سكاني مستقل‪ ،‬ومنفصل له شخصيته وهويته المتمايزة‪ .‬وعلى المستوى التنظيري فال يوجد‬ ‫إجماع على مفهوم المجتمعات المغلقة وعن صفاتها ومالمحها التي تختلف من ثقافة إلى أخرى ومن‬ ‫بلد إلى أخر‪ .‬والتعريف األكثر داللة واقترابا من وصف هذه المجتمعات هو أنها "مناطق خاصة‬ ‫يحظر وينظم الدخول إليها بحيث يتواجد داخلها القاطنون المنتمون ويبقى خارجها المتطفلون‬ ‫الالمنتمون"‪ .‬والتعريف األكثر شيوعا أن المجتمعات المغلقة هي اصطالح عام يعبر عن مناطق‬ ‫سكنية مغلقة تضم خدمات متنوعة تتراوح ما بين السوبر ماركت الصغير إلى ملعب الجولف‪ .‬ومنذ‬ ‫بداية التسعينات شهدت المجتمعات المغلقة نموا مطردا وأصبحت ظاهرة عالمية تحدث في أشكال‬ ‫مختلفة وثقافات وبالد مختلفة حيث انتقلت من أوربا وأمريكا إلى أمريكا الجنوبية وخاصة البرازيل‬ ‫واألرجنتين ثم إلى أسيا وخاصة في الهند وماليزيا والفلبين ثم أخيرا إلى العالم العربي وخاصة دول‬ ‫الخليج‪ .‬والواقع أن المجتمعات المغلقة أو المجمعات السكنية الحدائقية ‪ Compounds‬كما تسمى في‬ ‫نطاق عالمنا العربي أصبحت اتجاه مؤثرا وفاعال في سوق اإلسكان واالستثمار العقاري في دول‬ ‫العالم بشقيه المتقدم والنامي‪ ،‬كما أنها بالتبعية أثرت تأثيرا جوهريا في البيئة العمرانية بإبعادها‬ ‫المختلفة‪ .‬ظهر التوجه نحو نموذج تنمية المجتمعات المغلقة في الدول العربية وخاصة دول الخليج في‬ ‫نهايات الثمانينيات وبداية التسعينيات ‪ ،‬وساعدت الطفرة االقتصادية وظهور شرائح اجتماعية جديدة‬ ‫ذات متطلبات عمرانية وإسكانية مختلفة باإلضافة إلى زيادة عدد الوافدين من األجانب بسبب‬ ‫التوجهات االستثمار ية اإلقليمية إلى انتشار هذا النمط التنموي الذي انتشر أيضا بسبب داللته‬ ‫االجتماعية على انتماء قاطني هذه المجتمعات إلى فئة راقية ومتميزة‪.‬‬ ‫"‪...‬أحيانا يخيل لي أننا معتقلون وان الذين بالخارج هم األحرار‪...‬يذكرك األمر‬ ‫بمعسكرات االعتقال النازية التي تراها في أفالم الحرب‪( ....‬يوتوبيا)‪ ...‬المستعمرة‬ ‫المنعزلة التي كونها األثرياء على الساحل الشمالي ليحموا أنفسهم من بحر الفقر‬ ‫الغاضب بالخارج‪ ،‬والتي صارت تحوي كل شيء يريدونه‪...‬يمكنك أن ترى معي‬ ‫معالمها‪..‬البوابات العمالقة‪ ..‬السلك المكهرب ‪..‬دوريات الحراسة التي تقوم بها شركة‬ ‫(س يفكو) التي يتكون أكثر العاملين فيها من (مارينز) متقاعدين‪...‬أحيانا يحاول احد‬ ‫الفقراء التسلل للداخل من دون تصريح‪ ،‬فتلحقه طائرة الهليوكوبتر وتقتله كما حدث‬ ‫في ذلك المشهد الذي ال يفارق خيالي‪( ."...‬توفيق‪.)2191 ،‬‬ ‫‪ .11‬مالحظات ختامية‬ ‫طبيعة تدرج العالقة اإلنسانية مع المكان تبدأ من مستوى التواجد الجغرافي ثم تصل إلى مستوى‬ ‫التواجد النفعي وأخيرا مستوي التواجد العاطفي الوجداني (الوجد)‪ .‬ولذا فان كل مدينة أو نطاق‬ ‫عمراني‪ ،‬لها محتواها البنائي ومحتواها الثقافي‪ .‬فالمدينة تعبر عن قصص وسرد ديناميكي لحياة‬ ‫مجتمع هذه المدينة‪ .‬ومهما كانت عمرانها وعمارتها جميلة أو قبيحة بمعايير التطور المعاصر أو القيم‬ ‫الجمالية المسيطرة عالميا فال يمكن أن تزال وتسقط محليتها‪ .‬ال يجوز أن نطبق نموذجا عاما على كل‬ ‫المدن وتسقط تميز وتمايز محتوياتها الثقافية اإلنسانية‪ .‬ومن هنا تأتي قيمة المعرفة الداخلية بالمكان‬ ‫(قراءة المجتمع والمكان)‪ ،‬وهي المعرفة الحقيقية التي يجب أن يسعى إليها المصمم والمخطط من‬ ‫خالل فهم قصص المكان من سرد مواطنيه ومبدعيه‪ .‬وهذا الفهم التركيبي له استنتاجين يمثال‬ ‫المحصلة المتممة للدراسة‪:‬‬


‫علي عبد الرءوف‬

‫الفكرة األولى‪ :‬أن العمارة والعمران والشخصية المكانية للمدينة‪ ،‬تقدم رصيدا مثيرا وملهما لإلبداع‬ ‫الروائي‪ .‬إال أن تتبع كيفية ونوعية تأثير هذا الرصيد في العقدين األخيرين يؤكد نوعا من الضمور‬ ‫اإلبداعي المعاصر في فن صناعة المكان‪ .‬فبينما أخذت عمارة وعمران القاهرة اإلسالمية والقاهرة‬ ‫الخديوية أنصبة بارزة في خريطة التأثير على المبدعين الروائيين‪ ،‬فإننا في المقابل رصدنا غيابا‬ ‫واضحا لعمارة وعمران الحركة المعاصرة‪ .‬التوجه الروائي إلدراك الحقبة المعاصرة كان منصبا‬ ‫على ثالث بدائل أساسية‪:‬‬ ‫‪ ‬عمارة العشوائي والالرسمي وتعبيرها عن الحالة العامة للمجتمع‪.‬‬ ‫‪ ‬عمارة االنعزال واالنفصال في المجتمعات المغلقة سواء السكنية او الترفيهية كالمول‬ ‫والنادي‪.‬‬ ‫‪ ‬عمارة المبهر وااليقوني الغائب عن متطلبات المجتمع‪.‬‬ ‫الفكرة الثانية‪ :‬وهي التي تعني الحركة المعمارية والعمرانية في مصر والعالم العربي‪ .‬وقد أوضحت‬ ‫الدراسة أن العالقة بين الرواية والعمارة وثيقة ولكنها أيضا متعددة المستويات ومتنوعة األدوار‪ .‬فمن‬ ‫الدراسة يمكن أن نرى التداخل العميق بين األعمال الروائية وبين حركة العمارة والعمران‪ .‬هذا‬ ‫التداخل يمكن أن يصيغ آفاق جديدة في التعليم والممارسة على السواء من خالل فهم ثالث ادوار‬ ‫رئيسية يمكن أن تقدمها الرواية‪:‬‬ ‫الراوية كعمل توثيقي‪.‬‬ ‫الرواية كعمل نقدي‪.‬‬ ‫الرواية كعمل ملهم‪.‬‬ ‫الدور التوثيقي‪ :‬الرواية كآلية للتوثيق‬ ‫لقد أثبتت الرواية وخاصة التي تعاملت مع القاهرة اإلسالمية أو القاهرة الخديوية‪ ،‬قدرة مبهرة على‬ ‫توثيق التراث المكاني للمناطق ذات القيمة في القاهرتين‪ .‬لقد قدمت الروايات في مصر على مدار‬ ‫القرن الماضي سجال تاريخيا لنسيج عمراني متميز تتخلله حياة إنسانية مكثفة‪ ،‬ورصدت الروايات في‬ ‫هذا السجل الشخصية العمرانية والمالمح واللغة المعمارية وحتى مستوى مواد وتفاصيل البناء‪ .‬هذا‬ ‫الدور التوثيقي يجب رؤيته من قبل الممارسين في أثناء التعامل مع المناطق الخاصة وجعل هذه‬ ‫النوعية من الروايات حافزا لفهم أعمق وقراءة اصدق للمكان‪.‬‬ ‫الدور النقدي‪ :‬الرواية كأداة نقدية‬ ‫كشف التحليل النصي الذي تم في أجزاء الدراسة المختلفة‪ ،‬أن األعمال الروائية تملك القدرة على‬ ‫تقديم أطروحات نقدية متعمقة‪ .‬يجب أن تتبنى برامج النقد المعماري والعمراني في مدارس العمارة‬ ‫والتخطيط الرؤى النقدية التي قدمتها األعمال الروائية في اإلنتاج الروائي العربي والمصري‪ .‬فقد‬ ‫تعددت األطروحات النقدية لتشمل مفردات اللغة المعمارية وإشكاليات التوافق العمراني وتحديات‬ ‫الحفاظ على التراث وعلى البيئة‪ .‬الرواية إذا أدركت واستوعبت كأداة نقدية في العمارة والعمران‪،‬‬

‫‪February 28, 2013‬‬

‫العمارة والمدينة والرواية‪ :‬نص البناء وبناء النص‪.‬‬


‫يمكن أن نستشف منها قضايا نقدية ملحة وتلفت نظرنا إلى بقاع قد ال يسقط عليها الضوء أبدا في‬ ‫المشهد المعماري‪.‬‬ ‫الدور الملهم‪ :‬الرواية كرافد إبداعي‬ ‫تقدم الروايات على المستوى المعماري والعمراني ما يعرف بالفراغات التخيلية أو الفراغات‬ ‫الالمادية التي تمثل ذخيرة إبداعية ورافد إلهامي هام للمعماريين والعمرانيين‪ .‬ومن هنا قد يكون من‬ ‫الجائز ان تتبنى استوديوهات العمارة في مدارس العمارة أفكار حول تحويل الفراغات التخيلية‬ ‫‪ Imagined Spaces‬في النصوص الروائية إلى فراغات مدركة ‪ Perceived Spaces‬في‬ ‫التصورات المعمارية والعمرانية‪.‬‬ ‫ومن ثم فقد يكون من الضروري للمعماريين والعمرانيين سواء العاملين في األطر األكاديمية أو‬ ‫أوساط الممارسة المهنية‪ ،‬إدراك قيمة وقدرة الرواية بشقها ألتوثيقي أو النقدي أو الملهم على تقديم‬ ‫إجابات لتساؤالت مشروعة منها‪:‬‬ ‫هل يكون من العدالة أن نترك ألحفادنا مدن إسمنتية حديدية باردة ومشوهة كما صورت قسوتها‬ ‫نصوص روائية متعددة؟ هل مدينة ناطحات السحاب هي اإلجابة النموذجية لمستقبل العمران العربي‬ ‫والخليجي؟ هل يمكن تخيل المدينة التي يرثها األحفاد واألجيال القادمة؟ هل تتحول مدينة القاهرة‬ ‫بسيطرة ثقافة الزحام إلى مدينة قاسية تتنافس فيها الجماعة القاطنة بها بدون رحمة وبال إنسانية؟ هل‬ ‫يمكن أن تساهم الرواية في أن تستعيد المدن العربية والخليجية عامة ومدينة القاهرة خاصة‪ ،‬روحها‬ ‫التي تتشكل من أرواح البشر القاطنين بها‪ ،‬تتأثر بهم ويتأثرون بها؟ هل يمكن أن توثق الرواية‬ ‫الملهمة مراحل فقدان روح المدينة؟‬ ‫إن ما وضح في الدراسة يؤكد أن الرواية بأدوارها الثالث‪ ،‬قادرة على تنبيه وتحفيز والهام‬ ‫المعماريين والعمرانيين لصياغة حقبة أكثر إنسانية في العمران العربي والمصري المعاصر شريطة‬ ‫أن تعتبر من قبل المعماريين والعمرانيين على أنها مجال إبداعي متفرد يملك قدرات نقدية وطاقات‬ ‫إبداعية ملهمة‪.‬‬ ‫المراجع والقراءات المختارة‬ ‫احمد‪ ،‬مرشد‪ .2111 .‬أنسنة المكان في روايات عبد الرحمن منيف‪ .‬دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر‪.‬‬ ‫األشعري‪ ،‬محمد‪ .2199.‬القوس والفراشة‪ .‬المركز الثقافي العربي‪.‬‬ ‫العثمان‪ ،‬ليلى‪ .2111 .‬وسمية تخرج من البحر‪ .‬دار المدى‪.‬‬ ‫الخميس‪ ،‬اميمة‪ .2112 .‬البحريات‪ .‬دار المدى‪.‬‬ ‫التكرلي‪ ،‬فؤاد‪ .2112 .‬هل الرواية ابنة شرعية للمدينة؟‪ .‬الشرق األوسط – جريدة العرب الدولية‪99 .‬‬ ‫ديسمبر ‪ 2112‬العدد ‪.9291‬‬ ‫الصالح‪ ،‬الطيب‪ .‬موسم الهجرة إلى الشمال‪ .‬دار الجبل‪ ،‬بيروت‪.‬‬ ‫النعيمي‪ ،‬خليل‪ .2111 .‬مخيلة األمكنة (مدن ونصوص)‪ .‬القاهرة‪ :‬مكتبة األسرة‪.‬‬ ‫المحادين‪ ،‬عبد الحميد‪ .2119 .‬جدلية المكان والزمان واإلنسان في الرواية الخليجية‪ .‬المؤسسة‬ ‫العربية للدراسات والنشر‪.‬‬ ‫السايق‪ ،‬حمود‪ . 2111 .‬تسونامي‪( .‬بيروت‪ :‬دار الفارابي)‪.‬‬


‫علي عبد الرءوف‬

‫الخياري‪ ،‬محمد أبو السعود‪ .2192 .‬الروايات العربية متاحف سردية‪ .‬الرواية والعمارة‪ .‬عدد‬ ‫خاص‪ ،‬مجلة العربي ‪ ،‬العدد ‪ 129‬نوفمبر ‪.2192‬‬ ‫الذهبي‪ ،‬خيري‪ .2111 .‬الزمن والعمارة في الرواية‪ .‬محاضرة في المركز الفرنسي لدراسات الشرق‬ ‫األدنى‪ .‬جريدة الثورة السورية‪ .‬عدد االثنين ‪2111-2-1‬م‪.‬‬ ‫الرباط‪ ،‬ناصر‪ .2002 .‬ثقافة البناء وبناء الثقافة‪ :‬بحوث ومقاالت في نقد وتاريخ العمارة‪ .‬رياض‬ ‫الريس للكتب والنشر‪.‬‬ ‫الذهبي‪ ،‬خيري‪ .2111 .‬لو لم يكن اسمها فاطمة‪ .‬روايات الهالل‪.‬‬ ‫القحطاني‪ ،‬سلطان‪ .2111 .‬مقدمة في تحوالت الرواية في األدب المحلي‪ .‬مجلة الحرس الوطني‪ ،‬عدد‬ ‫‪.221‬‬ ‫ّ‬ ‫النّصير‪ ،‬ياسين‪ .9111 .‬الرواية والمكان‪ .‬دار الشؤون الثقافية العامة ‪ ،‬بغداد‪.‬‬ ‫النصير‪،‬ياسين‪ .9199 .‬إشكالية المكان في النص األدبي ـ دراسات في الشعر والرواية‪ .‬بغداد‪ :‬دار‬ ‫الشؤون الثقافية ‪.‬‬ ‫النابلسي‪ ،‬شاكر‪ .9112 .‬جماليات المكان في الرواية العربية‪ .‬المؤسسة العربية للدراسات والنشر‪.‬‬ ‫النعيم‪ ،‬مشاري بن عبد هللا‪ .‬الرواية والعمارة‪ - .‬جريدة الرياض‪ .‬عدد‪ 92 :‬مايو ‪.2112‬‬ ‫النعيم‪ ،‬مشاري بن عبد هللا‪ .‬الرواية والعمارة‪ :‬الواقع والمتخيل ‪ -‬جريدة الرياض‪ 21 .‬أغسطس‬ ‫‪ 2192‬عدد‪.91911 :‬‬ ‫الورداني‪ ،‬محمود‪ .2192 .‬بيت النار‪ .‬دار ميريت – القاهرة‪.‬‬ ‫الورداني‪ ،‬محمود‪ .2112 .‬أوان القطاف‪ .‬دار الهالل – القاهرة‪.‬‬ ‫هلسا‪،‬غالب‪. 9191 .‬المكان في الرّواية العربيّة ‪ ،‬ط‪ ، 9‬دار ابن هانىء ‪ ،‬دمشق ‪.‬‬ ‫كالفينو‪ ،‬إيتالو‪ .2192 .‬مدن المرئية‪ .‬ترجمة ياسين طه حافظ ‪.‬دار المدى" (بيروت ‪ -‬دمشق ‪-‬‬ ‫بغداد)‪.‬‬ ‫توفيق‪ ،‬احمد خالد‪ .2191 .‬يوتوبيا‪ .‬الدوحة‪ :‬دار بلومزيري‪ ،‬مؤسسة قطر للنشر‪.‬‬ ‫طاهر‪ ،‬بهاء‪ .‬واحة الغروب‪ .2119 .‬الطبعة الرابعة‪ .‬دار الشروق‪.‬‬ ‫حسين‪ ،‬فهد‪ .2111 .‬المكان في الرواية البحرينية‪ ،‬دراسة نقدية‪ .‬فراديس للنشر والتوزيع‪.‬‬ ‫حمدان‪ ،‬جمال‪ .9111 .‬القاهرة‪ .‬كتاب الهالل‪ ،‬العدد ‪ .191‬القاهرة‪ :‬دار الهالل‪.‬‬ ‫محرز‪ ،‬سامية‪ .2192 .‬أطلس القاهرة األدبي‪ ،‬مائة عام في شوارع القاهرة‪ .‬دار الشروق‪.‬‬ ‫حشمت‪ ،‬دينا‪ .2119.‬إمبابة مدينة مفتوحة‪ :‬دراسة لرواية مالك الحزين إلبراهيم أصالن‪ .‬أمكنة‪ .‬العدد‬ ‫الثالث‪ .‬ص‪.992-11:‬‬ ‫الري‪ ،‬جورج هنري‪ ( .9191 .‬الرواية والمدينة ) مجلة الثقافة األجنبية ـ العدد ‪.9191 / 1‬‬ ‫رحيم‪ ،‬سعد‪ .2111 .‬الرواية والمدينة‪ :‬إشكالية عالقة قلقة‪ .‬الحوار المتمدن‪-‬العدد‪/ 2111 - 9291 :‬‬ ‫‪92 / 9‬‬ ‫ريمون‪ ،‬اندريه‪ .9122 .‬فصول من التاريخ االجتماعي للقاهرة العثمانية‪ .‬ترجمة‪ :‬زهير الشايب‪.‬‬ ‫كتاب روز اليوسف‪ .‬عدد ‪.92‬‬ ‫السيد‪ ،‬وليد‪ .2199 .‬الرواية‪ .‬مجلة الفن‪ ،‬البحث المعماري والتصميم (لونارد)‪ .‬العدد الرابع المجلد‬ ‫األول‪.‬‬ ‫حواس‪ ،‬سهير‪ .‬القاهرة الخديوية‪ .‬القاهرة‪ :‬أفاق للنشر والتوزيع‪.‬‬ ‫عبد الجواد‪ ،‬توفيق‪ .9191 .‬مصر العمارة في القرن العشرين‪ .‬مكتبة االنجلو المصرية‪.‬‬ ‫عبد الرءوف‪ ،‬علي‪ 9119. .‬النقد المعماري ودوره في تطوير العمارة المصرية المعاصرة رسالة‬ ‫ماجستير غير منشورة جامعة القاهرة ‪.‬‬ ‫‪February 28, 2013‬‬

‫العمارة والمدينة والرواية‪ :‬نص البناء وبناء النص‪.‬‬


. ‫ القضايا النقدية والتوجهات اإلبداعية‬: ‫ العمارة المصرية المعاصرة‬.2119 .‫ علي‬،‫عبد الرءوف‬ .2119 ‫ المملكة السعودية إبريل‬، ‫ الرياض‬، ‫مجلة البناء‬ .)‫ دار الشروق‬:‫ (القاهرة‬.‫ مؤرخ ومهندس العمران‬:‫ علي مبارك‬.9199 .‫ محمد‬،‫عمارة‬ .‫ مكتبة النهضة المصرية‬.‫ (بدون تاريخ) اشتراكية الفيال‬.‫ سيد‬،‫كريم‬ Alsayyad, Nezar. 2199. Cairo: Histories of a City. Cambridge: Belknap Press of Harvard University Press. Bloomer, Jennifer. 1995. Architecture and the Text, The (S)crypts of Joyce and Piranesi. Yale University Press. Raymound, Andre. 2007. Cairo: City of Histories. Cairo: American University Press. Carr, S., M. Francis, L. Rivlin &A. Stone. 1992. Public Space. (Cambridge University Press, Cambridge). Gehi, Jan. 2010. Cities for People. (Island Press). Marcus, C.C. & Francis, C. (eds.) 1998. People Places. (John Wiley & Sons, N.Y.). Mitchell, Timothy. 1989. Colonizing Egypt, (The American University of in Cairo press, Cairo). Mitchell, Timothy. 2002. Rule of Experts, Egypt, Techno-Politics, Modernity. (University of California press, Berkeley). Sakr, Tarek. 1993. Early Twentieth-Century Islamic Architecture in Cairo. (American University in Cairo Press, Cairo). Sherif, Lobna. 2002. Architecture as a System of Appropriation: Colonization in Egypt. In UIA International Conference on Architectural Heritage, Alexandria, Egypt. Sims, David. 2199. Understanding Cairo: The Logic of a City Out of Control. The American University in Cairo Press. Vandenburgh, Jane. 2010. Architecture of the Novel. Counterpoint.


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.