مجلة الدوحة وزارة الثقافة والفنون والتراث
جدار العقل وعقل الجدار :تأمل ت معمارية نقدية د .علي عبد الرءوف أستاذ العمارة والتصميم العمراني جامعة قطر alialraouf@yahoo.com
لن اكون حجرا اخر في الجدار لم استشعر الخطورة الحقيقية للجدار بمعناه الرمزي والمعنوي ال وانا استمع في مراهقتي ،الى اغنية الفريق الموسيقي النجليزي بينك فلويد Pink Floydالشهيرة "حجرا اخر في الجبدار" مبن اللببوم الثكثر شهرة في نهاية السبعينيات حيث صدر عام 1979بعنوان "الجدار" .ثكانت اغنيببة مفضببلة لببي لنها ترصد لحظة التمرد على تحويل طل ب المدارس الى مجرد بلوثكات حجرية تضاف الى الجببدار العمل ق الذي تتبناه المؤسسة التعليمية الرافضة للتمايز والحرية والبداع .قمة البلغة المتمببردة علببى افكار القولبة والنمذجببة وحصببار العقببول فببي ثكلمببات الغنيببة" :ل نحتبباج تعليمببا...ل نحتبباج سببيطرة فكرية...ل نريد سخرية سوداء في الفصول...ايها المببدرس اتببرك الطفبال...ففبي النهايبة انببت مجببرد حجرا اخر في الجدار...لن اثكون حجرا اخر في الجدار" .معاني ثورية تحمل رفض القولبة والرغبة في التفرد وحرية التفسير وعدالة الختلف.
من هذا المنطلق ثكان تأملي الدائم للجدار المادي والمعنوي ،ثم اصبح الجدار محورا رئيسيا في فكري عندما ارتبطت بالعمارة والتصميم مهنيا واثكاديميا .فالجدار او الحائط هو احد اهم مفردات المعمبباري والعمراني في تشكيله للصياغات الفراغية المختلفة التي يشغلها النسببان او الجماعببة النسببانية حيببث يمارسون خللها انشطتهم المختلفة .الجدار في العمارة يحتضن داخله فراغ مكبباني انسبباني ،وطبيعببة تشكيل الجدار ومواد بنائه تساهم في الدراك النساني والشعور الحسي بهببذا الفببراغ .فهنبباك جببدران صلبة معتمة حارسة فاصلة ثكالجدران الحجرية والسمنتية ،وهناك الجببدران الزجاجيببة الشببفافة الببتي تسمح بالتواصل البصري الى داخل المبنى واستكشاف تجربته المعمارية والفراغية والجمالية.
عمل جرافيتي يحذر من قولبة ونمذجة العقول الشبابية وخاصة من خلل المؤسسات العسكرية. جدران لها تاريخ القصة التاريخية للجدار شديدة الثراء ،ففي العمارة الفرعونية ثكان الجدار سواء خارجيببا مثببل جببدران المعابد الجنائزية او داخليا مثل جدران مقابر وادي الملوك والملكات في صعيد مصر ،جدارا معرفيببا وسجل تاريخيا ثريا لوقائع واحتفالت وغزوات وطقوس ورقصات وصلوات .ثكان الجدار هو ثكتببا ب الحضارة المفتوح الذي ترثكه الفراعنة للعالم من بعدهم.هذا النسق الثقافي والموروث الجتماعي،الذي يعود إلى زمن الفراعنة،استمر مع الفتح العربي السببلمي لمصببر ،ونظببرا لحجببم المشببقة الببتي ثكببان يلقيها الحجاج في انتقالهم إلى مكة في رحلة تستغر ق شهورا ثكببان المصببريون يخلببدون تلببك الرحلببة على جدران منببازلهم لتببذثكرهم ومببن حببولهم بقدسببية وروحانيببة الفريضببة.اسببتمرفن التعبببير الشببعبي المصري عن الرحلة المقدسةحتى الوقت المعاصر في بلد النوبة وريف وصعيد مصر ،حيث مازال
الجدار الخارجي للمنزل يقدم شاهدا على الحالة النفسية والروحانية بببل والجتماعيببة وتتجببدد معالجبة هذا الجدار مع ديناميكية النسق الجتماعي .فمع عودة الحجاج تنتشر رسوم"الكعبة" بيت ا الحرام، وحولها الطائرات والبواخر وعبارات الشكر والمنيات والدعوات "حج مبرور وذنب موفور"يتبارى مصريون خلل موسم الحج في العلن عن أدائهم لتلك الفريضة من خلل تزيين واجهببات منببازلهم برسوم وعبارات تتعلببق بمناسببك الحببج وزيبباراتهم للراضببي المقدسببة .جببدران البببيوت تتحببول الببي جداريات تتسم بالحيوية وتؤسس لظاهرة يتسم بها الريف المصري ،ويبرى البعببض أن تلببك الظبباهرة نوع من التفاخر والتعبير عن الحب المتوارث من المصريين للحببج ثكفريضببة ليببس ثكببل إنسببان قببادرا على أدائها .ويتولى رسببم هببذه المنبباظر الجميلببة فنببانون شببعبيون بطريقببة فطريببة وتلقائيببة.ثببم تتغيببر شخصية الجدار الخارجي للبيت الشعبي في صعيد مصر استعدادا لسببتقبال شببهر رمضببان المعظببم، ويسترم التجدد مع مناسبات اخرى ثكالمولود الجديد او الزواج حتى يمكن تشبيه الحائط بالشاشببة الببتي تتغير مشاهدها بصورة موسمية.
الجدار الحتفالي على المنزل النوبي تيمنا برحلة الحج المقدسة والعودة السالمة بالحج المبرور والذنب المغفور. الجدران المعمارية والعمرانية احيانا تكون باردة قاسية تمز ق الشعو ب وتدمي القلببو ب خاصببة عنببدما تتحول الى اسوار .واشهر هذا التصنيف جدار برلين الذي بني عام 1961وبقى رمزا للقهببر والظلم
حتى ثورة 1989التي بدأت في مدينة ليبزج اللمانية وامتدت لكل مدن المانيا وانتهت بسببقوط جببدار برلين ،وعجز الشرطة اللمانية الشرقية عن ايقبباف سببيل المببواطنين المنببدفعين الببى الشببطر الغربببي لمدينة برلين تنفسا للحرية واقترابا من اقار ب واصببدقاء فرقتهببم الحجببار العاليببة والسببلك الشببائكة التي مزقت اجساد بعض ممن تجرء بمحاولة العبور .الدراما مماثلة ولكنهببا اثكببثر قسببوة ووحشببية ول انسانية في حالة جدار الضببفة الغربيببة بالراضببي المحتلببة حيببث يمببز ق الجببدار الخرسبباني الرمببادي البارد شعب ثكامل ويمنعه مببن الوصببول الببى المدرسببة والطبببيب والجامعببة ،واحيانببا رغيببف الخبببز. المدهش ان فكرة الحصار بالجدران مازالت رائجة ولم يتعلم حببراس السببجون الكبببرى ،الببتي تخلقهببا الجدران ،من تجربة برلين .فما تزال اسرائيل تحاصر نفسها اثكثر من حصارها للخرين بمشببروعها لبناء جدار على الحدود اللبنانية ومشروعها الخر مع مبارك المخلوع لعببزل الشببعب الفلسببطيني مببن جهة شبه جزيرة سيناء بجبدران مبن الفبولذ .امببا جببدار السببفارة السببرائيلية فبي القباهرة الببذي بنتببه الحكومة المصرية بعد ثورة 25يناير ،فحياته ثكانت قصيرة لم تستمر سوي ايام معببدودة اسببتخدم فببي بداياتها ثكمجال للجرافيتي الرافض الثائر ثببم انتهببت حيبباته بانتفاضببة مببن الثببوار هببدموا فيهببا الجببدار الخرساني بأيديهم العارية.
جدار او سور برلين اثناء انشائه عام 1961ليمز ق الشعب اللماني ويخلق حالة مقاومة ينهيها ثورة 1989التي اعادت صياغة اوروبا والعالم.
جدران الثورة الجدار المعماري الخارجي طالما استخدم فببي اوقببات الثبورات الشبعبية والنتفاضببات والحتجاجببات للتعبير عن نبض الشعو ب ونشر رسائل علنية حرة ل تخضع لرقابة وسائل العلم العادية .في حالببة الثورة المصرية تحولت الجدران وخاصة جببدران المببباني المحيطببة بميببدان التحريببر الببى اداة لنشببر الوعي السياسي والجتماعي والثوري تمهيدا لحقبة جديدة في تاريخ مصر المعاصرة.لتخببرج لنببا فببي النهاية ما انتجته الثورة من قوالب تصويرية شديد الخصوصية.جعلتنا أمام صورة درامية حيببة ُتجسببد لنا حالة فريدة لفنانين فطريين وطنيين مولعين بانغام وروائح واصوات الحرية التي صدحت عاليا في الميدان.
عمارة اللجدار :ديمقراطية العمارة الشفافية والخترا ق البصري قيمة من القيم التشكيلية والرمزية التي تحققها الجدران المعمارية .تأمببل عبقرية المعماري الشهير المريكي الصيني الصل اي ام بيببي فببي خلببق الهببرم الشببفاف البببديع امببام الواجهات التاريخية العريقة لمتحف اللوفر ليضمن استمرارية بصببرية وشببفافية مطلقببة بيببن المتحببف القديم والجناح الجديد دون خلل في التسا ق المعماري والعمراني للتكوين الصلي .ثكمببا يقببدم الجببدار الشفاف في المسجد والمرثكز السلمي بمدينة بينزبيرج بمقاطعة بافاريببا اللمانيببة مثببال متميببز علببى مفهوم القيمة الرمزية لشفافية البصرية .حيث ينفتح المسجد علببى المجتمببع المحيببط ويسببمح بتواصببل بصري يرى فيه المتحرك بجوار المبنى رقي العبادات السلمية وتحضر المسببلمين .يسببتوقفنا ايضببا مبنى البرلمان اللماني الذي افتتببح عببام 1999للمعمبباري العببالمي نورمببان فوسببتر الببذي صببمم قبببة زجاجية عملقة محاطة بمنحدرات يصعد اليها عامة الشبعب وعنبدما يصبلوا البى القمبة ينظببرن البى
القاعة الرئيسية بمن فيها من رؤساء ونوا ب طارحا رسالة رمزية بليغة مفادها ان السلطة بيببد الشببعب وهو القوى والعلى والمراقب ،قمة الديموقراطية عندما تسقط الجدران.
شفافية جدار مسجد خلقت تواصل بصريا غير مسبوقا في عمارة المساجد بين الفراغات الداخلية وحياة الشارع الخارجية لتجعل المسجد ثكيانا مرحبا ومستقبل.
شفافية جدران العمل المعماري لتحقيق التسا ق مع المحيط العمراني ،حالة متحف اللوفر في باريس.
المعماري والجدار الذاتي اخطر ما يواجه المبدع هو ان يخلق جدرانه الذاتية التي تحكم افكاره ،وتحصر ابداعاته .هذه الظاهرة الببتي اسببميها"بنبباء الجببدران الذاتيببة :جببدران العقببل والببروح" ،والببتي انتشببرت بيببن المعمبباريين والعمرانيين العر ب فانقسموا الى تصنيفين متمبايزين .الول يبنبي حبول عقلبه جبدارا يحاصببر داخلبه افكارا تراثية قديمة ويستبسل لمنع التدفقات والنبضات البداعية الغربية من القترا ب .الثبباني اسببتخدم الجدار العقلي لتحقيق العكس فحجب العمق التاريخي تماما واسقطه من منظومة انتاج المكان ،وتوجه الى النفتاح في الجدار ببوابات عملقة على المشروع الغربي محتضنا باستسلم ثكل ما يطببرح خلل هذا المشروع دون مواجهة نقدية او تفسيرية .والواقع ان ثكل الجدارين او التوجهين متحيزين فاصلين عنصريين .فالمبدع يتمتع ويلهم بالرفض والتمرد وهبدم ثكبل الجبدران .ببل ان البعبض يفسببر عبقريبة العملية البداعية فببي القببدرة علببى هببدم الجببدران لبنبباء فضبباءات ارحببب للتأمببل والتفكببر والمسبباهمة المبدعة.
مبنى البرلمان اللماني للمعماري الشهير نورمان فوستر وشفافية الجدار تعبيرا عن الديموقراطية وقيمة الشعو ب. مدن الجدران والمجتمعا ت المغلقة
ظهر التوجه نحو نموذج تنمية المجتمعات المغلقة في الدول العربية وخاصة دول الخليج في نهايات الثمانينيات وبداية التسعينيات ،وساعدت الطفرة القتصادية وظهور شرائح اجتماعية جديدة ذات متطلبات عمرانية وإسكانية مختلفة بالضافة إلى زيادة عدد الوافدين من الجانب بسبب التوجهات الستثمارية القليمية إلى انتشار هذا النمط التنموي الذي انتشر أيضا بسبب دللته الجتماعية على انتماء قاطني هذه المجتمعات إلى فئة راقية ومتميزة.وفي إطار التصنيف العام للمجتمعات المغلقة يمكن لنا أن نرصد المجتمعات المغلقة الفقية أو مدن الفيلت المغلقة وهو النمط الثكثر شيوعا في عالمنا العربي.المجتمعات أو المدن المغلقة والمسورة قديمة قدم المستقرات النسانية عندما بدأت المجتمعات في مواجهة أعداء طامعين في ثروات ومقومات مجتمع ما ،ومع ظهور مفهوم الدولة والمن بصورة معاصرة أزيلت السوار أو ترثكت لقيمتها التاريخية وليس لقيمتها المنية .وفي العقود الخيرة ظهرت مفاهيم المجتمعات المغلقة وأصبحت توجها جديدا في مفاهيم التصميم المعماري والعمراني .
المجتمعات المغلقة هو تعبير يصف مشروعات إسكانية تعتمد على خلق مجتمع سكاني مستقل، ومنفصل له شخصيته وهويته المتمايزة ،وعلى المستوى التنظيري فل يوجد إجماع على مفهوم المجتمعات المغلقة وعن صفاتها وملمحها التي تختلف من ثقافة إلى أخرى ومن بلد إلى أخر. والتعريف الثكثر دللة واقترابا من وصف هذه المجتمعات هو أنها " مناطق خاصة يحظر وينظم الدخول إليها بحيث يتواجد داخلها القاطنون المنتمون ويبقى خارجها المتطفلون اللمنتمون " .والواقع أن المجتمعات المغلقة أو المجمعات السكنية الحدائقية Compoundsثكما تسمى في نطا ق عالمنا العربي أصبحت اتجاه مؤثرا وفاعل في سو ق السكان والستثمار العقاري في دول العالم بشقيه المتقدم والنامي ،ثكما أنها بالتبعية أثرت تأثيرا جوهريا في البيئة العمرانية بإبعادها المختلفة.
المجتمعات المغلقة تثير العديد من التساؤلت الهامة ثكما أنها تولد نقاشا قويا ومستمرا في أدبيات العمران والسكان حول تأثيرها المستقبلي على الحياة العمرانية في المدن التي تبنى خللها وحولها.
التساؤل الهام هو ما الذي يجعل المجتمع أمنا؟ هل يعزل سكان المجتمعات المغلقة المجرمين والجريمة عنهم ام أنهم يعزلون ويعاقبون أنفسهم ؟ والطرح المعاصر يتناول ايجابيات وسلبيات النفصال أو التكامل والتفاعل ،فالبعض يرى أن النفصال حتمي في المجتمعات السكنية لمنع الجريمة وتحقيق نوعية حياة متميزة ونتيجة لهذا التوجه ظهرت المجتمعات المغلقة حيث يدعي السكان أن الجدران العالية والسوار أعطتهم المان ووفرت البيئة العمرانية المثالية اليوتوبية .وتبعا لطروحات بحثية موثقة فان تلك الفرضية غير صحيحة على إطلقها حيث تبين ان في خلل العشرين عاما الماضية انتقال عشرات اللف من الناس في امريكا للسكن فى المجتمعات المغلقة ومن خلل دراسات بحثية متعددة ومقابلت معمقة مع السكان تبين ان دوافع المان والخوف من التعددية العرقية ثكان على رأس قائمة السبا ب التي دفعت هؤلء السكان لتخاذ قرار سكن المجتمعات المغلقة ثم اثكتشفوا تدريجيا أن أفكارهم او بالحرى أحلمهم تحولت الى أوهام حيث توضح الدراسة ان تلك المجتمعات ليست أمنه مقارنة بغيرها من مناطق السكن ثكما أنها أحبطت
السكان بكم القوانين والقواعد المحددة والملزمة في تلك المجتمعات وقللت من حريتهم وتفاعلهم الجتماعي.المجتمعات المغلقة لها دللة رمزية سلبية حيث تنمي ثقافة الخوف والعزلة وتمثل دعوة الى خصخصة الحياة العامة والفراغ العام وتحويل المجتمع بصورته العامة والكلية إلى مصدر للعداء .بالضافة إلى انه في إطار ثورة تقنية ومعلوماتية وإمكانيات مذهلة للتعرض والتفاعل لم يصبح مقبول او ملئما ان تطرح حلول تدعو للنفصال خلف البوا ب والسوار لدواعي أمنية.
هدم وتفكيك ودبناء الجدار :ديناميكية الحياة والدبداع والعمارة التحدي الحقيقي هو تنبه المعماري والعمراني الى مهمته الولى وهي صياغة حوارا بين النسان والمكان او بالحرى صياغة نطاقات حياتية ديناميكية مفعمة بالطاقة والتحولت .هذا الفهم يسقط الحصار الفكري والعقلي ،ويهدم ثكل الجدران المعنوية والمادية احيانا ويتبنى مدخل لستمرارية تعريف واعادة تعريف الجدار او الغلف المعماري .ثكما يعطي مشروعية ثكاملة لهدم جدران العقول واعادة تفكيك عقول الجدران. علي عبد الرءوف alialraouf@yahoo.com
اعادة صياغة مبدعة للجدار الذي اقامه المجلس العسكري في شارع محمد محمود بالقر ب من ميدان التحرير.