بحث الفوضى الخلاقة مجلة عمران

Page 1

‫‪33‬‬

‫**‪Ali A. Alraouf‬‬

‫علي عبد الرءوف* ‬

‫الفوضى العمرانية الخالقة في فضاءات‬ ‫مدينة القاهرة بعد ثورة يناير ‪2011‬‬ ‫جسور النيل وميدان التحرير‬ ‫‪Creative Urban Chaos in Cairo’s Spaces‬‬ ‫‪after the January 2011 Revolution‬‬ ‫‪The Nile Bridges and Maidan Tahrir‬‬

‫مغايرا يرى في «الحرية البديلة الالرسمية»‪ ،‬التي تنتجها الثورات‬ ‫مفهوما‬ ‫ملخص‪ :‬يطرح البحث‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ـوعــا جــديــدً ا مــن الـفــوضــى ُيــوصــف بــ«الـفــوضــى الشعبية‬ ‫الشعبية الـصــادقــة فــي الـمــديـنــة الـعــربـيــة‪ ،‬نـ ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الخلقة التي تتجاوز اإلطار اإلبستيمولوجي المدرك‬ ‫الخلقة»‪ .‬هذه الحرية البديلة والفوضى‬ ‫عــن الـفــوضــى‪ ،‬تـبـلــورت تجلياتهما فــي أثـنــاء ثــورة الـشـعــب الـمـصــري فــي ‪ 25‬كــانــون الـثــانــي‪/‬يـنــايــر‬ ‫طرحا يناقش كيف تبلورت ظاهرة الفوضى في المدينة العربية‬ ‫‪ 2011‬وبعدها‪ .‬يقدم هذا البحث ً‬ ‫والـمـصــريــة مــن خــال مـيــاديــن عــامــة وف ـضــاءات مـهـمــة فــي نـسـيــج الـمــديـنــة‪ ،‬وال سـيـمــا فــي مـيــدان‬ ‫التحرير‪ .‬كما يقدم البحث قــراءة مغايرة لفكرة الفوضى تقترح أنــه يمكن بالفعل أن تكون لها‬ ‫أبعادها اإليجابية في السياق العمراني واإلنساني‪ ،‬وليس في السياق السياسي فحسب‪.‬‬

‫ّ‬ ‫الخلقة‪ ،‬عمران ميدان التحرير‪ ،‬فضاءات مدينة القاهرة‪،‬‬ ‫الكلمات المفتاحية‪ :‬الفوضى العمرانية‬ ‫النيل‪ ،‬ثورة ‪ 25‬يناير‬

‫‪Abstract: This study examines Cairo’s Nile Bridges and Maidan Tahrir as‬‬ ‫‪examples of key urban public arenas and critical spaces where chaos crystalized‬‬ ‫‪in the context of Arab and Egyptian Revolution of January 2011. It adopts the‬‬ ‫‪concept of «creative urban chaos» rather than the conflicting political ideas‬‬ ‫‪associated with «urban chaos». The author suggests that this concept reflects‬‬ ‫‪a battle waged between hegemonic classes wielding control over the city’s‬‬ ‫‪spaces, and marginalized classes excluded from public space, in their struggle to‬‬ ‫‪regain access to these spaces, as well as fighting to improve their deteriorating‬‬ ‫‪economic and social situation.‬‬ ‫‪Keywords: Creative Urban Chaos, Tahrir Square Urbanization, Cairo City‬‬ ‫‪Spaces, The Nile, January 25 Revolution‬‬ ‫* أكاديمي متخصص بالعمران وتخطيط المدن‪ .‬منسق مركز أبحاث عمران الخليج في بورتالند‪ ،‬أوريغون‪ ،‬الواليات المتحدة األميركية‪.‬‬ ‫‪** Professor of Urbanism and Urban Planning, Coordinator of the Gulf Centre for Urban Studies in Portland, Oregon, USA.‬‬


‫‪34‬‬

‫العدد ‪Issue 5 / 18‬‬ ‫خريف  ‪Autumn 2016‬‬

‫مقدمة‬ ‫تحليليا يؤكد أن ما حدث على جسور القاهرة وفي ميدان‬ ‫طرحا نقد ًيا‬ ‫نقدم في هذا البحث ً‬ ‫ً‬ ‫الـتـحــريــر عـلــى هــامــش ال ـثــورة ومــا بـعــدهــا‪ ،‬يـقــدم تــوثـيـ ًقــا لـفـكــرة الـفــوضــى الـشـعـبـيــة الـخـ ّـاقــة التي‬ ‫تستجيب لمطالب أكثر صدقية من عموم المجتمع‪ ،‬وتتجاوز فرضيات وافتراضات النخبة والمهنيين‬ ‫ّ‬ ‫والمنظرين لمستقبل المدينة العربية‪.‬‬ ‫المحترفين في مجاالت العمارة والعمران وتخطيط المدن‬ ‫إن الـتـحــول الـتــاريـخــي ال ــذي يـشـهــده الـعــالــم فــي الـعـقــد األخـيــر‪ ‬تــرافـقــه مـظــاهــر ديـنــامـيــة تـتـمـ ّثــل فــي الـنـمــو‬ ‫السكاني والتحضر المتنامي((( وتأثيرات العولمة والتحدي البيئي وانتشار التكنولوجيا الرقمية‪ .‬وتفاعل‬ ‫هــذه الـظــواهــر يــؤثــر فــي أكـثــر مــن سبعة مـلـيــارات مــن الـبـشــر هــم سـكــان عــالـمـنــا الـحــالــي‪ .‬وتـشـكــل المدينة‬ ‫مسرحا لهذا‪ ‬الصراع والمكان األكثر تحد ًيا لألمن اإلنساني‪ ،‬حيث تمثّل المدن أفضل أمل لتحقيق أعلى‬ ‫ً‬ ‫مستوى مــن‪ ‬جــودة الحياة ألكبر عــدد من الـنــاس‪ .‬ومــن منظور المدينة االقتصادي والسياسي والثقافي‪،‬‬ ‫باعتبارها بيئة دينامية‪ ،‬وكذلك نتيجة لالختالفات االجتماعية المنتجة إلشكاليات الوجود في المدينة‪،‬‬ ‫يستحق جميع مكونات المدينة مــزيــدً ا من الفحص والتأمل والتدقيق‪ .‬وفــي السياق الشرق األوسطي‪،‬‬ ‫لم يمثّل أي من مكونات المدينة المختلفة قيمة فارقة كما فعلت الفضاءات أو الفراغات العامة‪ ،‬من‬ ‫شوارع وساحات وميادين؛ فقد كانت تلك الميادين الوعاء الذي احتضن جموع الشباب‪ ،‬ثم باقي أفراد‬ ‫وقطاعات المجتمع‪ ،‬في تعبيرهم الجماعي عن الرفض؛ هذا الرفض الذي ُكثِّف في جنبات الفراغات‬ ‫وال ـف ـضــاءات الـعــامــة حـتــى تـحـ ّـول إلــى ث ــورات كــاسـحــة أسـقـطــت أنـظـمــة تـجــاوز تمسكها بـمـقــالـيــد الحكم‬ ‫ع ـقــو ًدا‪ .‬وقــد قــاومــت هــذه األنـظـمــة‪ ،‬ومــا زال ــت تـقــاوم جـمـيــع األطــروحــات الـثــوريــة مـقــاومــة شــرســة‪ ،‬وكــان‬ ‫شعارا لحقبة سوداء في تاريخ المجتمعات العربية وفي سردية المدينة العربية‪.‬‬ ‫العنف في الميدان‬ ‫ً‬ ‫في سياق متصل‪ ،‬تناضل الشعوب بصورة دائمة من أجل الحرية التي هي القيمة األسمى في المجتمعات‬ ‫اإلنسانية‪ ،‬ولكنها تدرك ً‬ ‫غالبا إلى الفوضى‬ ‫أيضا أن الحرية المطلقة والعديمة القيود والضوابط تؤدي ً‬ ‫المطلقة؛ فالحرية‪ ،‬فــي أكثر تعريفاتها رحــابــة ومــرونــة‪ ،‬ال تعني االنـفــات والتسيب واالنـقـضــاض على‬ ‫عــوالــم اآلخــريــن‪ ،‬ولــذلــك ُيعتبر أم ـ ًـرا جــوهــر ًيــا وجــود قـيــود قــانــونـيــة ومــرجـعـيــات أخــاقـيــة تضمن ممارسة‬ ‫الـحــريــة عـلــى نـحــو مـنـضـبــط؛ فــالـحــريــة هــي مــن أجــل اإلن ـســان ال مــن أجــل اإلس ــاءة إلـيــه‪ ،‬وهــي مــن أجــل‬ ‫االستقرار االجتماعي ال من أجــل تهديد االسـتـقــرار؛ إنها مبدأ مقدس يجب احترامه‪ ،‬إال أن على كل‬ ‫مجتمع أن يـخـتــار لحريته اإلط ــار الـخــاص الــذي يــرتـبــط بــالـسـيــاق االجـتـمــاعــي والـثـقــافــي والـعـقـيــدي‪ .‬من‬ ‫هنا تأتي أهمية إعادة تقييم أنماط معينة من الفوضى التي قد ال تُقبل في سياق معين‪ ،‬ولكنها تضيف‬ ‫وتساهم وتستجيب في سياق آخر‪.‬‬ ‫يركز البحث في ما يلي على النضال العفوي الفوضوي الهادف إلى السيطرة على الحيز أو الفضاء العام‬ ‫في المدينة‪ ،‬وعلى السعي إلى فهم أهمية هذا النضال في ضوء ظهور جماهير ثائرة ومطالِبة بحقوق‬ ‫((( تـبـ ًـعــا لتقديرات األمــم المتحدة‪ ،‬فــإن نصف سكان العالم يقطن في مــدن‪ ،‬وربما يقترب عددهم خــال عقدين من ‪ 70‬في المئة‬ ‫من إجمالي سكان األرض‪ .‬كما أن ظاهرة المدن المليونية العمالقة أصبحت ملمح كثير من قارات العالم ودوله‪ .‬انظر‪Habitat III :‬‬ ‫‪Report: New Urban Agenda ([s. l.]: UN Housing and Sustainable Urban Development, 2016).‬‬


‫تاسارد‬ ‫الفوضى العمرانية الخالقة في فضاءات مدينة القاهرة بعد ثورة يناير ‪ :2011‬جسور النيل وميدان التحرير‬

‫ُحرمت منها على مدى عقود مديدة‪ .‬كما أنه سينظر‪ ،‬باستخدامه أمثلة من األحداث السياسية األخيرة‬ ‫في مصر‪ ،‬وبالتحديد في حالة مدينة القاهرة‪ ،‬في طبيعة التحدي الذي يواجه تكوين سلطة مؤثرة تمثّلها‬ ‫الجهود الشعبية لتعريف وشغل الحيز العام من خالل تقديم نماذج إيجابية ّ‬ ‫وخلقة لظاهرة الفوضى‪.‬‬

‫اإلشكاليات البحثية‬ ‫ـوعــا ل ـلــدراســة‪ ،‬وخــاصــة مـيــاديـنـهــا‪ ،‬وت ـحــديــدً ا م ـيــدان الـتـحــريــر‪،‬‬ ‫يـتـخــذ الـبـحــث حــالــة مــديـنــة ال ـقــاهــرة مــوضـ ً‬ ‫وبعض الجسور المهمة‪ ،‬ومنها جسر الجالء وجسر الجامعة وجسر قصر النيل‪ .‬وباإلضافة إلى تحليل‬ ‫مـجـمــوعــة مــن األدب ـي ــات واألط ــروح ــات الـمـنـشــورة عــن دور ال ـف ــراغ ال ـعــام وقـيـمـتــه‪ ،‬يـعـتـمــد الـبـحــث على‬ ‫تقديم وتحليل مشاهدات تؤكد أن الفوضى ربما تكون قيمة إيجابية في بعض األحيان‪ ،‬وخاصة في‬ ‫المشهد العمراني واإلنساني في قمة ساحات تفاعلهما وتداخلهما‪ ،‬وهو الفراغ العام‪ .‬وقد ُرصد هذان‬ ‫المشهدان‪ ،‬بتنويعاتهما المتباينة والمتمايزة‪ ،‬في الــدراســات الميدانية والتجوال المستمر على جسور‬ ‫القاهرة وميادينها وشوارعها على مدار السنوات األربع الماضية(((‪.‬‬ ‫يــرصــد الـمـشـهــد األول ت ـح ـ ّـول أرص ـف ــة ج ـســور ال ـق ــاه ــرة الـمـطـلــة ع ـلــى ن ـهــر ال ـن ـيــل‪ ،‬وخ ــاص ــة ت ـلــك األك ـثــر‬ ‫أه ـم ـيــة ف ــي تـيـسـيــر حــرك ـت ـهــا ال ـم ــروري ــة (م ـث ــل ج ـســر ‪ 6‬أك ـت ــوب ــر وج ـس ــر ق ـصــر ال ـن ـيــل وج ـس ــر ال ـج ــاء) إلــى‬ ‫ســاحــات وفــراغــات عــامــة لـلـمـجـتـمــع‪ ،‬مـفـعـمــة بــاألنـشـطــة الـتــي تـمـتــد أحـيــا ًنــا لـتـصــل إلــى م ـســارات الـحــركــة‬ ‫كثيرا وقيل إنــه يجسد فوضوية‬ ‫المخصصة للسيارات على الجسر نفسه‪ .‬وقــد ُكتب عــن هــذا المشهد ً‬ ‫ال ـث ــورة وعـشــوائـيــة مــا بـعــد ‪ 25‬ي ـنــايــر‪ .‬ويــرصــد الـمـشـهــد ال ـثــانــي تـجـلـيــات اس ـت ـخــدام ال ـفــراغــات والـمـيــاديــن‬ ‫الـعــامــة فــي مــا بعد ثــورة ‪ 25‬يـنــايــر‪ ،‬وخــاصــة حــالــة مـيــدان التحرير‪ ،‬وتـحــويــل هــذه الميادين مــن تقاطعات‬ ‫مــروريــة تــدعــي الـمـســاهـمــة فــي انـسـيــاب حــركــة الـسـيــارات إلــى فــراغــات وســاحــات عــامــة مجتمعية شعبية‬ ‫وفوضوية بامتياز‪.‬‬ ‫األطروحات النظرية والمفاهيمية‬ ‫«الشجاعة تُنتج السلم‪ ‬‬ ‫والسلم ُينتج الراحة‪ ‬‬ ‫والراحة تتبعها فوضى‪ ‬‬ ‫والفوضى تؤدي إلى الخراب‬ ‫ومن الفوضى ينشأ النظام‪ ‬‬ ‫والنظام يقود إلى الشجاعة»‪.‬‬

‫ميكافيلي‪ ،‬من كتاب األمير‬

‫((( كانت هذه الدراسات الميدانية جز ًءا جوهر ًيا من الدراسات البحثية التي قمت بها في أثناء اإلعــداد لكتاب عن ميدان التحرير‬ ‫والـمـعـنــون‪ :‬شـعــب وث ــورة ومـيــدان ‪ -‬الـقـصــة الـمـعـمــاريــة والـعـمــرانـيــة لـلـتـحــريــر (فــي قيد اإلع ــداد الـنـهــائــي)‪ .‬وقــد تضمنت الــدراســات توثيقًا‬ ‫من خالل مقابالت شخصية وتدوين مالحظات ومشاهدات اجتماعية عمرانية‪ ،‬باإلضافة إلى توثيق فوتوغرافي شمل أنساق تعامل‬ ‫المجتمع مع المكان العام‪ً ،‬‬ ‫فضل عن بعض األحداث الثورية‪ ،‬وخاصة تلك التي شهدها ميدان التحرير‪.‬‬

‫‪35‬‬


‫‪36‬‬

‫العدد ‪Issue 5 / 18‬‬ ‫خريف  ‪Autumn 2016‬‬

‫وهم نيوتن عن مكان وزمان مطلقين‪ ،‬وأطاحت فيزياء الكم حلم‬ ‫نسبية آينشتاين ْ‬ ‫«لقد ضربت ّ‬ ‫نيوتن في التوصل إلــى القياسات الدقيقة الحاسمة‪ ،‬وبــددت نظرية الفوضى خيال نيوتن عن‬ ‫المحكم والحتمي»‪.‬‬ ‫إمكان التوقّع ُ‬ ‫كتاب نظرية الفوضى ‪ -‬علم الالمتوقع‬ ‫فــي تأسيس الـقــاعــدة النظرية لـهــذه الــدراســة‪ ،‬نتوقف أمــام طــرح مــؤلــف كـتــاب ‪In Defense of Chaos‬‬

‫(((‬ ‫دائما‪ ،‬لكن عد ًدا ً‬ ‫قليل من الناس يدرك‬ ‫(في الدفاع عن الفوضى) ‪ ،‬حين يقرر أن الفوضى سيئة السمعة ً‬ ‫أن النظام ال يوجد من دون ديناميات الفوضى‪ ،‬وهذا ما يقرره المؤلف بقوله إن من غير الفوضى لن يكون‬ ‫هناك خلق أو بنية أو حتى وجود؛ فالنظام هو‪ ،‬بعد كل شيء‪ ،‬مجرد تكرار ألنماط وأنساق‪ ،‬والفوضى‬ ‫هي العملية التي تؤسس تلك األنـمــاط واألنـســاق وتــوجــدهــا(((‪ .‬إن نظرية الفوضى )‪)Chaos Theory‬‬ ‫هي من أهم النظريات‪ ‬الفيزيائية التي تتعامل مع موضوع‪ ‬التحركات واألنساق‪ ‬الدينامية الالخطية التي‬ ‫نوعا من السلوك العشوائي عند إدراكها المباشر‪ .‬وينتج هذا السلوك العشوائي ّإما من طريق عدم‬ ‫تبدي ً‬ ‫وإما من طريق الطبيعة الفيزيائية االحتمالية التي تتجاوز‬ ‫القدرة على تحديد الشروط المو ّلدة الدافعة ّ‬ ‫الـمـتــوقــع أو الـمـفـتــرض‪ .‬وتـحــاول هــذه الـنـظــريــة أن تستشف الـنـظــام الـخـفــي الضمني فــي هــذه العشوائية‬ ‫تفسر خطأ بأنها عديمة النظام‬ ‫الظاهرة‪ ،‬ومحاولة وضع قواعد لدراسة مثل هذه النظم واألنساق التي َّ‬ ‫دائما هو أن الفوضى قيمة سلبية(((‪ ،‬وباستثناء التعبير الذي اس ُتهلك بشدة في‬ ‫وفاقدة التوافق‪ .‬والشائع ً‬ ‫العقد األول من القرن الحالي‪ ،‬أي «الفوضى ّ‬ ‫الخلقة» (‪ )Creative Chaos‬كما صاغته وزيرة الخارجية‬ ‫(((‬ ‫األميركية األسبق كوندوليزا رايس‪ ،‬يصعب ربط الفوضى بأي قيم إيجابية‪ .‬كانت رايس قد استخدمت‬ ‫الـتـعـبـيــر لــوصــف إيـجــابـيــات غـيــر مــرئـيــة لـمــا يـحــدث فــي ال ـشــرق األوس ــط‪ ،‬وخــاصــة تــداعـيــات أزم ــة حــرب‬ ‫الـخـلـيــج‪ .‬وفــي سـيــاق هــذه الــدراســة‪ ،‬ربـمــا يـكــون مــن المثير مـحــاولــة إسـقــاط مـقــولــة رايــس عـلــى الـعـمــارة‬ ‫والعمران في السياق المصري المعاصر‪ ،‬وبصورة خاصة في ما بعد ثورة ‪ 25‬كانون الثاني‪/‬يناير ‪.2011‬‬ ‫هــذا اإلسـقــاط يـهــدف إلــى تـقــريــر مــا إذا مــا كــان هـنــاك بالفعل فــوضــى يمكن وصـفـهــا بــالـخـ ّـاقــة‪ ،‬وكــذلــك‬ ‫تحديد الفارق بين الفوضى ّ‬ ‫مفس ًرا الهيمنة والتدخل في‬ ‫الخلقة التي يطرحها القطب األكبر في العالم‪ِّ ،‬‬ ‫مصائر الشعوب‪ ،‬والفوضى التي يطرحها شعب يناضل من أجل حريته واستقالله‪.‬‬

‫بناء على التفسيرات السابقة‪ ،‬نركز على خصوصية التحليل المطروح في الدراسة لتفسير الصراع الدائر‬ ‫َّ‬ ‫«المنظمة الرسمية» التي‬ ‫في عمران مدينة القاهرة؛ هذا الصراع الذي يبلور تباي ًنا بين النماذج العمرانية‬ ‫‪(3) L. K. Samuels, In Defense of Chaos: The Chaology of Politics, Economics and Human Action (New York: Cobden‬‬ ‫‪Press, 2013), pp. 24 - 28.‬‬ ‫‪(4) Ibid., p. 37.‬‬

‫((( انظر نظرة شاملة إلى علم الفوضى في كتاب‪ :‬جايمس غليك‪ ،‬نظرية الفوضى ‪ -‬علم الالمتو ّقع‪ ،‬ترجمة‪ :‬أحمد مغربي (بيروت‪:‬‬ ‫دار الساقي ‪.)2008‬‬

‫((( في ‪ 9‬نيسان‪ /‬أبريل ‪ ،2005‬أدلت رايس بحديث صحافي إلى جريدة واشنطن بوست األميركية‪ ،‬أذاعت فيه حينذاك نية الواليات‬ ‫المتحدة نشر الديمقراطية في العالم العربي‪ ،‬وبدء تشكيل ما ُس ّمي «الشرق األوسط الجديد»‪ ،‬كل ذلك عبر نشر «الفوضى ّ‬ ‫الخلقة»‬ ‫في الشرق األوسط من خالل جهود اإلدارة األميركية ورعايتها‪.‬‬


‫تاسارد‬ ‫الفوضى العمرانية الخالقة في فضاءات مدينة القاهرة بعد ثورة يناير ‪ :2011‬جسور النيل وميدان التحرير‬

‫تعكس قــوة وهيمنة الطبقات االجتماعية المصرية المتنفذة‪ ،‬والنماذج العمرانية «الفوضوية الشعبية»‬ ‫التي تحاول الطبقات االجتماعية المصرية المهمشة والمسحوقة فرضها بعد ثورة يناير‪ ،‬كي تستعيد من‬

‫خاللها الفضاء الذي ُحرمت منه‪ ،‬وما يصاحب ذلك من دينامية اندماجية ال يقبلها النموذج العمراني‬ ‫َّ‬ ‫المنظم»‪ .‬من هذا المنطلق ً‬ ‫أيضا‪ ،‬ومن الناحية المفاهمية‪ ،‬نتجاوز المعنى السياسي‪ ‬للفوضى‬ ‫«الرسمي‬

‫ّ‬ ‫روجت له رايس وآخرون‪ ،‬واستمد مدلوله اإلبستيمولوجي من المقترح العام نفسه الذي‬ ‫الخلقة‪ ‬الذي َّ‬

‫رسميا‪ ،‬من‬ ‫يعبر عن األشكال الجديدة‪ ،‬غير المقبولة‬ ‫ً‬ ‫نجده في العلوم الصحيحة‪ ،‬إال أنه في هذا النص ّ‬

‫وثقافيا‪ ،‬وهو ما لم تقدر الدولة على القيام به‬ ‫اجتماعيا‬ ‫استعمال الفضاء بما يناسب الطبقات الشعبية‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫اعتما ًدا على النموذج النظامي الذي ت ّتبعه‪.‬‬

‫الــواقــع أن ظـهــور نظرية الفوضى وبلورتها كــان نقلة نوعية فــي مـســار تـقــدم الفكر اإلنـســانــي؛ فمضمون‬

‫هذه النظرية هو أن تصورنا بعض ظواهر الطبيعة أنها فوضوية وعشوائية تصور محدود وغير صحيح‪،‬‬ ‫وأن اليقيني هو أن هذه الظواهر كلها مرتكزة على قوانين حاكمة‪ ،‬لكنها‪ ،‬وكما تنص النظرية‪ ،‬تتحرك‬ ‫من حالة النظام إلــى حالة الالنظام فال تصل أبــدً ا إلــى الفوضوية السلبية العشوائية والعديمة القوانين‬

‫الـمـنـظـمــة‪ .‬وكـمــا يـطــرح الـعـتـيــق(((‪ ،‬فــإن الـنـظــريــة يـمـكــن بـلــورتـهــا فــي عـبــارة «أن كــل فــوضــى هــي ال نـظــام‪،‬‬

‫ولكن ليس كل ال نظام فوضى»‪ .‬إن الجانب غير المنتظم من الطبيعة‪ ،‬والمفاجئ والمتوتر واالنقالبي‬

‫تدريجيا في‬ ‫وغير المنسجم وال المتناسق‪ ،‬أعجز العلم عن تقديم تفسير له‪ .‬بيد أن هذا العجز انقشع‬ ‫ً‬

‫سبعينيات القرن العشرين‪ ،‬بعد أن تكونت فرق بحثية في مراكز العالم األكاديمية والتقنية اجتمعت على‬ ‫هــدف واحــد هــو االهتمام بفكرة االضـطــراب والفوضى وتفسيرها‪ .‬وبــرز بين الـفــرق تلك عــالِــم الفيزياء‬ ‫ً‬ ‫متماسكا أسس لنظرية الفوضى التي أعادت صوغ المؤسسة العلمية‬ ‫تفسيرا‬ ‫ميتشل فايينبوم((( الذي قدم‬ ‫ً‬

‫على مستوى العالم كله(((‪.‬‬

‫لقد سدت هذه النظرية (الفوضى) الفجوة بين ما يعرفه العلم عن عمل فرد شي ًئا ما وما يعرفه عن عمل‬

‫الماليين الـشــيء نفسه‪ .‬ولـعــل مــن األمـثـلــة الــدالــة على ذلــك معرفة كيف تعمل خلية واحــدة مــن خاليا‬ ‫معا في دماغ اإلنسان‬ ‫الجسم اإلنساني في الجهاز العصبي‪ ،‬ومعرفة كيف تعمل ماليين الخاليا العصبية ً‬

‫وجهازه العصبي‪ .‬وبالمنطق نفسه‪ ،‬ثمة مثال آخر مرتبط بموضوع البحث‪ ،‬هو سلوك اإلنسان في إطاره‬

‫الفردي وسلوك آالف أو ماليين البشر في إطارهم الجماعي‪ .‬إذن حاولت نظرية الفوضى إيجاد تفسير‬ ‫نظامي للظواهر التي كنا نعتقد أنها خارجة عن النظام‪.‬‬

‫((( أحمد العتيق‪« ،‬نظرية الفوضى‪ :‬علم الالمتوقع»‪ ،‬الدوحة (دولة قطر)‪ ،‬العدد ‪( 69‬تموز‪ /‬يوليو ‪ ،)2013‬ص ‪.155 - 154‬‬

‫((( م ـي ـت ـشــل فــايـيـنـبــوم عــالــم‪ ‬فـيــزيــائــي ريــاضــي ول ــد فــي ‪ 19‬كــانــون األول‪/‬دي ـس ـم ـبــر ‪ .1944‬لـ ــه دراسـ ــات رائ ــدة فــي‪ ‬نـظــريــة ال ـفــوضــى‪ .‬بــدأ‬ ‫الــدراســات العليا في‪ ‬معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (‪ )MIT‬سنة ‪ُ . 1964‬سجل فــي الــدراســات العليا في‪ ‬الهندسة الكهربائية‪ ‬ثم‬ ‫تحول إلى‪ ‬الفيزياء‪ ،‬وأكمل في سنة ‪ 1970‬أطروحة الدكتوراه في عالقات الفوضى والتشتت‪.‬‬ ‫((( العتيق‪ ،‬ص ‪.155‬‬

‫‪37‬‬


‫‪38‬‬

‫العدد ‪Issue 5 / 18‬‬ ‫خريف  ‪Autumn 2016‬‬

‫ظاهرة الفوضى‪ :‬داللة المفاهيم المتباينة‬ ‫«هناك نظام وحتى جمال رائع في ما يبدو مثل الفوضى‪ .‬إذا ألقينا نظرة عن كثب على العشوائية‬ ‫حولنا‪ ،‬سوف تبدأ األنساق المنتظمة في الظهور» (‪.((1‬‬

‫إذن ه ـنــاك م ـف ـهــومــان مـتـعــاكـســان اس ـ ُت ـخــدم ف ــي ك ــل مـنـهـمــا مـصـطـلــح «ال ـف ــوض ــى»‪ :‬األول سـلـبــي‬ ‫المعنى‪ ،‬وهــو «اإلنـتــروبــي» (‪ )Entropy‬أو مقياس الفوضى أو التشتت بال فــائــدة‪ ،‬و ُيستدل منه‬ ‫ً‬ ‫دائما‬ ‫أيضا التدهور في أي منظومة (فيزيقية أو بيولوجية أو اجتماعية) بحيث يجعلها في حاجة ً‬ ‫(‪((1‬‬ ‫إلى طاقة خارجية لالرتقاء ومقاومة التدهور ‪ .‬والثاني هو «نظرية الفوضى» التي تفسر ترابط‬ ‫العناصر الـتــي تـبــدو عـشــوائـيــة‪ ،‬بينما تجمعها عــاقــات ريــاضـيــة غير خطية‪ ،‬مثل دينامية السلوك‬ ‫المناخي وتحركات البورصة‪ ،‬ويمتد المفهوم هذا من خالل رياضيات البلورات أو المتكسرات‬ ‫السحب‬ ‫(‪ )Fractal Mathematics‬إلــى العالقات الهندسية التشكيلية فــي عناصر الطبيعة‪ ،‬مــن ُّ‬ ‫إلــى األنـهــار فاألشجار‪ .‬ومــا نــراه هنا هو أن اختيار كلمة «فــوضــى» لهذه النظرية غير موفق ألن‬ ‫عشوائيا‪ .‬وكان معناها في‬ ‫الكلمة تعني في الحقيقة البحث عن النظام في ما يبدو فوضو ًيا أو‬ ‫ً‬ ‫سببا لالستغراق الكامل في تفسيرات المصطلح السلبية‪.‬‬ ‫سياق اللغة العربية بصورة خاصة‪ً ،‬‬ ‫ً‬ ‫مدخال فلسف ًيا لتفكيكية العمارة والعمران وبيئة المدينة‬ ‫الفوضى‬ ‫«الفوضى هي قانون الطبيعة‪ ،‬بينما النظام هو حلم الرجل»‪.‬‬

‫هنري آدمز‬

‫يهدف هذا الجزء إلى ربط مفاهيم الفوضى‪ ،‬وال سيما بشقها اإليجابي‪ ،‬باألطروحات الفلسفية التي‬ ‫وجدت في تجاوز القواعد قيمة إبداعية ملهمة‪ ،‬وخاصة في مجاالت العمران وتشكيل المدينة وصوغ‬ ‫التتبع التاريخي للتحوالت فــي الفلسفة المعاصرة‪ ،‬نرصد توجهات عــدة‪ ،‬أهمها حركة‬ ‫الـعـمــارة؛ فمن ّ‬ ‫الـحــداثــة ثــم مــا بعد الـحــداثــة‪ ،‬تليهما الـظــاهــريــة ثــم البنيوية ثــم مــا بعد البنيوية الـتــي نبعت منها الفلسفة‬ ‫الـتـفـكـيـكـيــة‪ .‬وكـ ــان ل ـج ـهــود ج ــاك دريـ ــدا (‪ )2004 - 1930‬وم ـع ــاص ــره روالنـ ــد بــارث ـيــس (‪)1980 - 1915‬‬ ‫األثر األكبر في صوغ فلسفة ما بعد البنيوية‪ ،‬وكان األخير هو المسؤول عن فكرة موت المؤلف التي‬ ‫أطلقها سنة ‪ ،1964‬وعنى بها إطالق الحدود لفهم المتلقّي النص األدبي وتفسيره‪ .‬ثم أعلن الحقًا أن موت‬ ‫المؤلف يعني ً‬ ‫أيضا ميالد القارئ الذي له الحق الكامل في تعددية المعاني والتفسيرات التي يتلقى بها‬ ‫العمل اإلبداعي‪.‬‬ ‫إن ال ـم ـجــال الــرئـيـســي ال ــذي تـتـعــامــل مـعــه أط ــروح ــة الـفـيـلـســوف الـفــرنـســي هــو ال ـم ـجــال الـفـلـسـفــي والـنـقــد‬ ‫األدب ــي‪ ،‬ولـكــن األطــروحــة ســرعــان مــا امـتــدت فــي تأثيرها لتشمل مـجــاالت إبــداعـيــة أخــرى‪ ،‬مثل الفنون‬ ‫‪(10) Chris Jones, «Top Ten Quotes from Aaron Sorkin for Screenwriters,» London Screen Writers Festival, 17 August‬‬ ‫‪2014, Accessed on 3/3/2016, at: http://www.londonscreenwritersfestival.com/top-ten-quotes-from-aaron-sorkin‬‬

‫وإنسانيا»‪ ،‬جــريــدة مركز طــارق والــي الـعـمــارة والـتــراث (آذار‪/‬‬ ‫عمرانيا‬ ‫(‪ ((1‬عـبــد المحسن فرحات‪« ،‬جسر لألمل عبر محيط فوضوي‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مارس ‪ ،)2015‬ص ‪.18‬‬


‫‪39‬‬

‫تاسارد‬ ‫الفوضى العمرانية الخالقة في فضاءات مدينة القاهرة بعد ثورة يناير ‪ :2011‬جسور النيل وميدان التحرير‬

‫الـتـشـكـيـلـيــة وال ـع ـمــارة وتـخـطـيــط ال ـمــدي ـنــة(‪ .((1‬وق ــد اسـتـخــدم دري ــدا لـفــظ الـتـفـكـيـكـيــة مــن صـيــاغــات ســابـقــة‬ ‫لـلـفـيـلـســوف مــارتــن هــايــدغــر وط ــرح فـيـهــا أن ال ـب ـنــاء ي ـتــداخــل مــع ال ـهــدم وال ـفــوضــى الـمـقـنـنــة ال ـتــي ُفـســرت‬ ‫بــأنـهــا الـتـفـكـيــك(‪ .((1‬وأث ــرت التفكيكية فــي جـمـيــع جــوانــب الـحـيــاة‪ ،‬وغـ ّـيــرت مـفــاهـيــم كـثـيــر مــن المفكرين‬ ‫ّ‬ ‫نوعا من الكتابة اإلبداعية‪ ،‬وهي بالتالي طريقة‬ ‫والمنظرين واألكاديميين‪ .‬ورأى دريدا العمران والعمارة ً‬ ‫لممارسة الحياة(‪.((1‬‬ ‫وجــه معاصرو دريــدا إليه نقدً ا عني ًفا(‪ ((1‬اعتمدوا فيه على وصــف التفكيكية بأنها نــوع من العدمية التي‬ ‫ّ‬ ‫تقوض المعايير األخالقية والفكرية الحيوية لألكاديمية وتُضعفها؛ بــل إن بعض هــؤالء ذهــب إلــى أن‬ ‫نظريات دريــدا نظريات انتحارية‪ ،‬أي أنها تضع حـ ًّـدا لحياتها بنفسها(‪ّ .((1‬أمــا دريــدا‪ ،‬فكرر فــي أعماله‬ ‫هز للصرح التقليدي المنتظم والمستقر أو تهديم له ككيان كلي‪ ،‬وهو ما ينتج‬ ‫المبكرة أن التفكيكية هي ٌّ‬ ‫مــا أسـمــاه ارتـعــاد الخلود وارتـعــاشــه(‪ .((1‬كما يطرح ِويغلي أن التفكيكية إطــار أو نــوع مــن االستجوابات‬ ‫الفكرية الـتــي تهز الـبـنــاء بـصــورة تكشف ضعفه؛ إذ إنـهــا تضعه تحت وطــأة الـضـغــط(‪ .((1‬مــن وجـهــة نظر‬ ‫التدمير أو الفوضى‪ ،‬بل هو القدرة على كشف الطبقات المكونة للبناء ّ‬ ‫وفكها‪،‬‬ ‫دريدا‪ ،‬ليس التفكيك هو‬ ‫َ‬ ‫ودريــدا هنا يتب ّنى فـكــرة هايدغر القائلة إن التدمير التفكيكي أو الالبنائية أو الفوضى السلبية تشوش‬ ‫على التقاليد وتبعثرها وتزعجها‪ .‬إذن‪ ،‬تتساءل التفكيكية عن األطروحة والفرضية والفكرة الرئيسية وعن‬ ‫الوضعية الخاصة‬ ‫تقريبا بكل شيء بال استثناء(‪.((1‬‬ ‫ً‬ ‫التفكيكية والعمارة وصوغ المدينة‪ :‬على هامش موت المؤلف‬

‫إن تطور المفاهيم الجديدة ونضجها في أي ثقافة ينعكسان بصور متباينة على جميع مناحي الحياة‪،‬‬ ‫ولـكــن الـعـمــران والـعـمــارة َيـبــرزان مـجـ ًـال مــن أهــم الـمـجــاالت اإلبــداعـيــة الـتــي يمكنها أن تعكس مفاهيم‬ ‫ورؤى فلسفية وفكرية جديدة وأن تجسدها‪.‬‬ ‫م ــن أه ــم ال ـفــاس ـفــة وال ـم ـف ـكــريــن ال ــذي ــن ك ــان ألف ـكــارهــم تــأث ـيــر جـ ــارف وح ــاس ــم ف ــي ال ـع ـمــران وال ـع ـمــارة‪،‬‬ ‫ك ـمــا ت ـبـ ّـيــن ل ـنــا ف ــي ال ـج ــزء ال ـس ــاب ــق‪ ،‬ه ــاي ــدغ ــر ودري ـ ـ ــدا‪ .‬ول ـك ــن األك ـث ــر أه ـم ـيــة ع ـنــد هـ ــؤالء ه ــو حــرصـهــم‬ ‫‪(12) Jonathan D. Culler, On Deconstruction: Theory and Criticism after Structuralism (Ithaca, NY: Cornell University‬‬ ‫‪Press, 1982), pp. 12 - 19.‬‬ ‫‪(13) Neil Leach, Rethinking Architecture: A Reader in Cultural Theory (New York: Routledge, 1997), p. 23.‬‬ ‫‪(14) Ibid., p. 48.‬‬

‫(‪ ((1‬في سنة ‪ ،1992‬وقّع ‪ 20‬فيلسو ًفا من جامعات مختلفة عريض ًة ترفض منح دريدا درجة الدكتوراه الفخرية من جامعة كيمبردج‪،‬‬ ‫واصفين أعماله بعدم الوضوح‪.‬‬

‫(‪ ((1‬راجــع البنكي‪ ،‬حيث يطرح وجهة نظر ستانلي فيش وهارولد بلوم‪ :‬محمد أحمد البنكي‪« ،‬التفكيك»‪ ،‬آوان‪ ،‬العدد ‪،)2003( 2‬‬ ‫ص ‪.139‬‬ ‫‪(17) Mark Wigley, The Architecture of Deconstruction: Derrida’s Haunt (Cambridge, Mass.: MIT Press, 1993), p. 62.‬‬ ‫‪(18) Ibid., p. 73.‬‬

‫ـؤسـ ًـســا لمجموعة الباحثين فــي شــأن تعليم الفلسفة‪ ،‬وهــي المجموعة الـتــي اشـتـهــرت بمواقفها المعارضة‬ ‫(‪ ((1‬ك ــان دري ــدا عـضـ ًـوا مـ ِّ‬ ‫الستراتيجية تطوير التعليم في فرنسا‪ .‬كما أنه عمل على تأسيس المعهد العالمي للفلسفة ليكون مساهمة في إصالح تدريس الفلسفة‬ ‫وتهمشها‪.‬‬ ‫وحيزا الحتضان األبحاث التي ترفضها المؤسسات الجامعية التقليدية‬ ‫ً‬ ‫ّ‬


‫‪40‬‬

‫العدد ‪Issue 5 / 18‬‬ ‫خريف  ‪Autumn 2016‬‬

‫ع ـلــى الـكـيـفـيــة واألسـ ـل ــوب وال ـع ـم ـل ـيــات الـتـصـمـيـمـيــة ال ـتــي سـتـعـكــس ب ـهــا ال ـمــدي ـنــة وع ـمــران ـهــا وع ـمــارات ـهــا‬ ‫أف ـك ــاره ــم ال ـف ـل ـس ـف ـيــة‪ .‬الـفـلـسـفــة تـسـتـعـيــن بــالـبـيـئــة الـمـبـنـيــة لـتـجـسـيــد أف ـك ــاره ــا‪ ،‬وت ـن ـفــي ف ـك ــرة أن ال ـب ـنــاء هــو‬ ‫م ـمــارســة م ــادي ــة ف ـقــط‪ .‬ك ـمــا أن ال ـع ـمــارة تـلـجــأ إل ــى الـفـلـسـفــة‪ ،‬ك ـمــا ي ـطــرح ِوي ـغ ـلــي‪ ،‬ل ـت ـصــوغ ك ـيــا ًنــا يـحـمــل‬ ‫الـمـضــامـيــن واألب ـعــاد العميقة الـتــي تــؤهـلــه لـتـجــاوز حتميته ال ـمــاديــة(‪ّ .((2‬أمــا نـيـلـســون‪ ،‬فـنــاقــش أن الـعـمــران‬ ‫وال ـع ـم ــارة ه ـمــا اس ـت ـع ــارة ب ـنــائ ـيــة ف ــي ال ـف ـكــر ال ـف ـل ـس ـفــي‪ ،‬وه ـم ــا ف ــي ال ــوق ــت ذاتـ ــه تـعـبـيــر ع ــن ط ــرق مـتـعــددة‬ ‫في التفكير(‪.((2‬‬ ‫عرفها بأنها إعــادة بناء‬ ‫إن ما اقترحه دريــدا إطــار نقدي منفتح ومــرن أسماه «استراتيجية التفكيك» التي ّ‬ ‫وتــركـيــب وتـشــريــح لـجـمـيــع الـمـعــانــي والـمـفــاهـيــم ولـيـســت هــد ًمــا أو فــوضــى‪ ،‬وه ــذا هــو الـمـطـلــوب إدراك ــه‬ ‫ف ــي أي م ـحــاولــة الخ ـت ـبــار أو تـقـيـيــم‪ ،‬أو حـتــى م ـجــرد م ـحــاولــة فـهــم ال ـعــاقــة بـيــن ال ـفــوضــويــة والـتـفـكـيـكـيــة‬ ‫وال ـع ـمــران(‪ .((2‬تـبـلــور مصطلح «الـعـمــارة التفكيكية» فــي نـهــايــة الـثـمــانـيـنـيــات مــن الـقــرن الـعـشــريــن‪ ،‬كتعبير‬ ‫رمــزي ونـظــري فــي آن عــن مجموعة مــن الـتــوجـهــات والـتـجــارب التصميمية الـتــي ظـهــرت فــي الممارسة‬ ‫المعمارية العالمية‪ ،‬وارتـكــزت جميعها على طــرح دريــدا الفلسفي‪ .‬وكـمــا يــؤكــد دري ــدا‪ ،‬فــإن التفكيكية‬ ‫ليست «طرازًا» معمار ًيا‪ ،‬وإنما هي «وسيلة او استراتيجيا أو رؤية» يتب ّناها العمراني والمعماري‪ ،‬بغرض‬ ‫خلق «تضارب وتصادم أو فوضى إيجابية» بين ما بات أمـ ًـرا عاد ًيا ومألو ًفا لدى المرء في إدراك اللغة‬ ‫والـمـعـنــى‪ ،‬ومــا ي ــراه أو يـشــاهــده ل ــوزب ــرغ(‪ .((2‬والـتـفـكـيـكـيــة الـعـمــرانـيــة الـمـعـمــاريــة‪ ،‬فــي هــذا الـمـعـنــى ووفـ ًقــا‬ ‫لـ ِ دريدا‪ ،‬هي بمثابة سؤال المعماريين ألنفسهم‪ :‬هل في مقدور البيئة المبنية أن تتخلى عن هيمنة علم‬ ‫الجمال الكالسيكي؟ وهل في إمكانها أن تتنصل من النفعية ومن الوظيفية؟ وهل ثمة مفاهيم راسخة‬ ‫تـحــدد الـنـظــام‪ ،‬وتـشـيــر أيـ ًـضــا إلــى عــدم الـنـظــام وإلــى الـتـشــويــش مـثـ ًـا؟ وهــل يمكن تشييد مبنى بالتخلي‬ ‫عن تلك المبادئ األساسية المتعا َرف عليها والمألوفة إلنشاء عمارة‪ ،‬ضمنها مبادئ االيقاع والتوازن‬ ‫والخطوط األفقية والعمودية‪ ،‬أم أن ثمة عمارة ُأخرى تنشد بالضرورة تهشيم القيم القديمة من أجل إبداع‬ ‫شيء ما جديد؟(‪.((2‬‬ ‫‪(20) Wigley, p. 86.‬‬ ‫‪(21) Fredrik Nilsson, «Philosophy and the Development of Architectural Thinking,» Paper Presented at CongressCATH‬‬ ‫‪2004: The Architecture of Philosophy/The Philosophy of Architecture, Third Conferences Promoted by CentreCATH, at‬‬ ‫‪the National Museum of Photography, Film and Television, Bradford, UK, 9 - 11 July 2004, Accessed on 8/5/2016, at:‬‬ ‫‪http://www.leeds.ac.uk/cath/congress/2004/programme/abs/114.shtml‬‬

‫(‪ ((2‬من اللحظات الفارقة في تاريخ العمارة التفكيكية تأتي حادثة تنظيم معرض «العمارة التفكيكية» سنة ‪ ،1988‬وذلك في متحف‬ ‫الفن الحديث الذي شارك في تنظيمه في مدينة نيويورك الكاتب والناقد المعماري مارك ويغلي والمعماري فيليب جونسون‪ ،‬حيث‬ ‫أكــد ويغلي في كتالوغ المعرض أن أسـطــورة التشكيالت والكتل النقية انتهت‪ ،‬وأن تقاليد التكوين الهندسي الكالسيكية‪ ،‬كالتوازن‬ ‫تبعا لتعبيرات‪ ،‬غير‬ ‫والتدرج والتناسق‪ ،‬جرى التمرد عليها بالفعل لمصلحة إنتاج بنى هندسية دينامية وغير مستقرة‪ ،‬بل ربما تكون‪ً ،‬‬ ‫مريحة ومقلقة بصر ًيا ألنها تطرح لغة جديدة وحقبة معمارية مغايرة للسائد‪.‬‬ ‫‪(23) Jonathan Loesberg, Aestheticism and Deconstruction: Pater, Derrida, and De Man (Princeton, NJ: Princeton‬‬ ‫‪University Press, 1991), p. 43.‬‬

‫(‪ ((2‬خالد السلطاني‪« ،‬تيارات عمارة ما بعد الحداثة‪ :‬التفكيكية»‪ ،‬الحوار المتمدن‪ ،2007/1/19 ،‬شوهد في تاريخ ‪ ،2015/7/12‬في‪:‬‬ ‫‪http://bit.y/1YY8jcv.‬‬


‫‪41‬‬

‫تاسارد‬ ‫الفوضى العمرانية الخالقة في فضاءات مدينة القاهرة بعد ثورة يناير ‪ :2011‬جسور النيل وميدان التحرير‬

‫ثنائية المدينة والفوضى‪ :‬إفالس الرسمي ونهضة العشوائي‬ ‫«الحكومة في حد ذاتها هي العامل المؤثر‪ ،‬قبل أي شيء‪ ،‬لتدمير النظام وفرض الفوضى»‪.‬‬ ‫ل‪ .‬ك‪ .‬صامويلز‪ ،‬في الدفاع عن الفوضى‬

‫(‪((2‬‬

‫من المهم بداي ًة تذكّ ر كم من مؤتمرات وأبحاث ودراســات وتقارير لهيئة التخطيط العمراني في مصر‬ ‫تعاملت مع نمو األحياء العشوائية على أنها ظاهرة سلبية يجب وقفها ومعاقبة المشاركين في وجودها‬ ‫وتكرارها‪ .‬فبعد عقود من العجز وإفالس الحكومات في تقديم الحلول لماليين الراغبين في الحصول‬ ‫على مسكن مالئم‪ ،‬تراجع هذا الفهم لظاهرة العشوائيات‪ ،‬وبدأت الحكومة تقدم لهم المرافق كالماء‬ ‫ً‬ ‫إدراكـ ــا لــواقــع أن تـلــك األح ـيــاء الـفــوضــويــة الـعـشــوائـيــة قــدمــت إجــابــة عــن ت ـســاؤالت عـجــزت‬ ‫وال ـكـهــربــاء‪،‬‬ ‫الحكومة وأجهزتها البحثية والتنفيذية عن إيجاد عالج لها‪ .‬وفي الوقت نفسه بدأ ظهور تيار بحثي في‬ ‫األكاديميات المصرية يتبنى ضرورة فهم أن في ظاهرة العشوائيات الكثير من الجوانب اإليجابية وأمثلة‬ ‫ذاتيا‪.‬‬ ‫لتنمية المجتمع ً‬ ‫المدن هي أكبر المراكز الحضرية‪ ،‬وتُعتبر المدينة بجميع أبعادها تجسيدً ا لثقافة المجتمعات‪ .‬ولكل‬ ‫عـصــر فـكــره وتــأثـيــره فــي شـكــل الـمــديـنــة‪ ،‬وهــو مــا يـجـعــل الـمــديـنــة عـبــارة عــن طـبـقــات مــن أزم ــان مختلفة‪.‬‬ ‫وإذا حــدث خلل فــي هــذا التعامل‪ ،‬تظهر المشكلة وتـعــم الـفــوضــى‪ .‬تتعدد أشـكــال فــوضــى الـعـمــارة في‬ ‫س ـيــاق ال ـمــدن الـعــربـيــة والـمـصــريــة وت ـتــداخــل أسـبــابـهــا‪ .‬وم ــا نــرصــده اآلن مــن فــوضــى عـمــرانـيــة ومـعـمــاريــة‬ ‫يـقــدم ص ــورة غـيــر واض ـحــة لـلـمـجـتـمــع ووض ــوح وج ــود مـشـكـلــة حـقـيـقـيــة فــي تـحــديــد ثـقــافــة مـعـيـنــة ســائــدة‪،‬‬ ‫وغ ـي ــاب ال ــرؤي ــة الـمـجـتـمـعـيــة ل ـع ـمــران ال ـمــدي ـنــة‪ .‬وف ــي س ـيــاق تـخـطـيــط ال ـمــدي ـنــة ال ـعــرب ـيــة وال ـم ـصــريــة‪ ،‬فــإن‬ ‫المفهوم الـســائــد لفوضى الـعـمــران والتخطيط هــو عــدم االنـصـيــاع للقوانين والـقــواعــد الرسمية الحاكمة‬ ‫ال ـتــي م ـصــدرهــا سـلـطــة رس ـم ـيــة‪ .‬ك ـمــا أن نـتـيـجــة ال ـت ـمــرد ع ـلــى ه ــذه ال ـقــوان ـيــن تــوصــف دائ ـ ًـم ــا بــأن ـهــا ص ــورة‬ ‫غير حضارية للمدينة‪.‬‬

‫من هذا المنطلق‪ ،‬فإن أي ظاهرة مجتمعية أو إنسانية أو عمرانية تتمرد تُستخدم لتفسير أنساق جديدة‬ ‫في المدينة‪ ،‬وتصفها بأنها مخالفة فوضوية‪ .‬يمكن رصد هذا التوجه بداي ًة من كيفية التعامل الرسمي‬ ‫مع ظهور مناطق كاملة غير رسمية‪ ،‬ووصفها في أدبيات الحكومات واألكاديميين بأنها مناطق عشوائية‬ ‫فيها فــوضــى معمارية وتخطيطية‪ .‬كما هوجمت الـتــدخــات الـتــي يضيفها المجتمع عندما يتعامل مع‬ ‫المباني السكنية الرسمية (مشاريع اإلسكان العام) أو الفراغات العامة ليجعلها أكثر مالءمة لحاجاته‪،‬‬ ‫حيث وصفت تصرفات السكان بأنها عشوائية وفوضوية وغير قانونية‪ .‬والواقع أن تفسير هذه المالمح‬ ‫ً‬ ‫حلول عملية‪،‬‬ ‫ينبع من فهم أن هذه التصرفات ليست فوضوية أو عشوائية وإنما في الواقع تقدم أحيانًا‬ ‫بل مبدعة‪ ،‬لمشكالت عجزت الحكومات عن تقديم أي حلول لها‪ ،‬ووصمت المجتمعات المحلية‬ ‫بأنها عشوائية‪ .‬ولم تدرك السلطات الرسمية القيمة الكبرى في الفوضى ّ‬ ‫الخلقة التي جعلت المجتمع‬ ‫المحلي يصوغ بيئات عمرانية تراعى حاجات المجتمع االقتصادية واالجتماعية والتعليمية والبيئية‪.‬‬ ‫‪(25) Samuels, p. 5.‬‬


‫‪42‬‬

‫العدد ‪Issue 5 / 18‬‬ ‫خريف  ‪Autumn 2016‬‬

‫يمكن من خالل فحص العمران الظاهر حولنا أن نرصد تصنيفين رئيسيين‪ ،‬أولهما هو العمران الرسمي‬ ‫القانوني الذي نرى فيه االنتظام والنظام بالمعنى السطحي‪ ،‬هذا النظام الذي يرصد في شبكة الطرقات‬ ‫الفسيحة المتعامدة‪ ،‬وتقسيمات األراضي الميكانيكية االيقاع‪ ،‬ونمطية تصميم المباني وشكلها‪ .‬والواقع‬ ‫أن هــذا اإلصــرار على فــرض «الـنـظــام» بصورته الشكلية السطحية‪ ،‬وعــدم االستجابة لحاجات المجتمع‬ ‫الحقيقية‪ ،‬وخاصة حاجات القطاعات الفقيرة والمهمشة‪ ،‬ربما يو ّلدان مستوى ال يستهان به من الفوضى‬ ‫السلبية (‪ ،((2‬أو ربـمــا يــؤديــان فــي الـنـهــايــة إلــى االنـفـجــار‪ ،‬ســواء كــان ذلــك فــي الـتــركـيـبــة البيئية الـعـمــرانـيــة أو‬ ‫سياسيا واقتصاد ًيا‬ ‫في التركيبة اإلنسانية االجتماعية‪ ،‬مجسدة في غياب العدالة االجتماعية وفرض القهر‬ ‫ً‬ ‫وثقافيا‪ّ .‬أما التصنيف الثاني‪ ،‬فهو العشوائي الفوضوي غير الرسمي‪ ،‬والذي ال ينتج من رغبة في مخالفة‬ ‫ً‬ ‫الـنـظــام بـقــدر مــا يـنـتــج مــن م ـحــاوالت لـطــرح حـلــول السـتـمــراريــة حـيــاة الـمـهـمـشـيــن والـمــرفــوضـيــن مــن أبـنــاء‬ ‫المهمشة على فوضويتهم (السلبية أو اإليجابية)‪ ،‬من‬ ‫المجتمع‪ .‬إن األنظمة الرسمية تعاقب المجتمعات‬ ‫َّ‬ ‫دون أن تــدرك توصيف الفعل الفوضوي كانعكاس لنظام القيم للفرد والمجتمع وأولوياتها‪ ،‬بما يمكن‬ ‫اعتباره العمران الداخلي للفرد والمجتمع‪ ،‬ودور القيم اإلنسانية األساسية ( الحق والخير والجمال) فيها‬ ‫في مقابل غيابها‪ ،‬أو حتى حضور نقائضها من ظلم وأنانية وقبح وعدم كفاءة(‪.((2‬‬ ‫الشكل (‪)1‬‬ ‫إخفاق الحكومات المتعاقبة في االستجابة لحاجات المجتمع‬ ‫(حالة حي إمبابة ‪ -‬شمال القاهرة)‬

‫المصدر‪ :‬المركز القومي لبحوث اإلسكان والبناء‪.‬‬ ‫(‪ ((2‬عـلــي عبد ال ــرءوف‪ ،‬الـنـقــد الـمـعـمــاري ودوره فــي تـطــويــر الـعـمــران الـمـعــاصــر‪ :‬الـحــالــة الـمـصــريــة والـعــربـيــة (الـقــاهــرة‪[ :‬رخـصــة المشاع‬ ‫اإلبداعي]‪ ،)2014 ،‬ص ‪.26 - 23‬‬ ‫(‪ ((2‬فرحات‪ ،‬ص ‪.6‬‬


‫تاسارد‬ ‫الفوضى العمرانية الخالقة في فضاءات مدينة القاهرة بعد ثورة يناير ‪ :2011‬جسور النيل وميدان التحرير‬

‫عمرانيا عند المقارنة بين التجمعات العشوائية غير الرسمية فــي بعض‬ ‫يتضح الـفــارق بين المفهومين‬ ‫ً‬ ‫أحياء القاهرة‪ ،‬مثل إمبابة ومنشأة ناصر‪ ،‬والنسيج العمراني التاريخي (في القاهرة الفاطمية ً‬ ‫مثل)‪ ،‬حيث‬ ‫نمطيا‪ ،‬في‬ ‫متشابها بغياب الشبكة الهندسية المتعامدة المتوقعة‬ ‫إحساسا‬ ‫تعطي النظرة السطحية السريعة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫حين أن األولى هي في حقيقة األمر نتاج تدهور حضاري مجتمعي‪ ،‬بينما الثانية نتاج تراكم حضاري‬ ‫مجتمعي وعمراني(‪ .((2‬إذن‪ ،‬يرتكز التفسير الشائع للفوضى في العمران على أن الفوضى في المدينة‬ ‫ِّ‬ ‫المنظمة للبناء‪،‬‬ ‫هي التمرد على النظام‪ ،‬وبالتالي فــإن السبيل إلــى منع الفوضى هو االلـتــزام بالقوانين‬ ‫واالشـتــراطــات المعمارية‪ ،‬واشـتــراطــات التنسيق الحضاري التي تنظم الطابع العام لكل منطقة في أي‬ ‫مــديـنــة‪ ،‬والـتـسـيــب فــي معاقبة مــن يـخــالــف هــذه الـقــوانـيــن واالشـتــراطــات إن ُو ِج ــدَ ْت‪ .‬ولكننا نتجاهل أن‬ ‫المشكلة تكمن أحيانًا في القانون ذاتــه‪ ،‬حيث تُستغل الثغرات التي يمكن التحايل بها على القانون‪،‬‬ ‫أو أن يـكــون الـقــانــون مجح ًفا تـجــاه مجموعات مــن المجتمع‪ ،‬أو قــد تـكــون المشكلة فــي الفساد الــذي‬ ‫خصوصا‪ ،‬ازداد في السنوات‬ ‫يــؤدي إلى التالعب بالقوانين وعــدم االلتزام بها‪ .‬وفي السياق المصري‬ ‫ً‬ ‫األخيرة اختراق القانون وعدم إنزال عقوبات‪ ،‬لما حدث من غياب أمني خالل فترة ثورة ‪ 25‬يناير وما‬ ‫بعدها‪ .‬والنتيجة أن مباني مهمة ِ‬ ‫تسجل قيمة حضارية لزمن معين فــي مناطق مميزة تــم هدمها‪ ،‬وبناء‬ ‫مبان مكانها ال تراعي ال النسيج العمراني وال الطابع العام للمنطقة‪.‬‬

‫إشكالية السياق اإلقليمي المحلي وتكثيف الطرح السلبي للفوضى‬ ‫يصيب متأمل المشهد الشرق األوسطي المعاصر كثير من اإلحباط وخيبة األمــل؛ فإضافة إلــى ما هو‬ ‫واضــح فــي محيط الـشــرق األوســط مــن صــراعــات دمــويــة وحــروب أهلية وتفكك دول وهـجــرات قسرية‬ ‫تصرح بفوضى إنسانية واضحة ومظالم كبيرة‪ ،‬يهمنا أن نشير هنا إلى الدراسات المنشورة(‪ ((2‬التي أظهرت‬ ‫بــوضــوح أن فــي مـقـيــاس الـعــالــم كـكــل ي ــزداد األغـنـيــاء فــي أضـيــق شــريـحــة غـنــى‪ ،‬وي ــزداد الـفـقــراء فــي أوســع‬ ‫يخيب اآلمــال التي كانت معقودة على العلم والتقنية وسهولة تبادل المعلومات‬ ‫شريحة ً‬ ‫فقرا‪ ،‬وهو ما ّ‬ ‫فــي إمـكــانـيــة تـضـيـيــق ه ــذه ال ـف ـجــوة‪ .‬كـمــا أن ع ــد ًدا كـبـيـ ًـرا مــن الـمـنـظـمــات الــدول ـيــة الـسـيــاسـيــة واالقـتـصــاديــة‬ ‫واالجتماعية أعلنت تر ّدي حال المدينة العربية المعاصرة‪ ،‬وال سيما في دول الربيع العربي‪.‬‬ ‫لـقــد ش ـ ّـردت الـفــوضــى السلبية‪ ،‬الـتــي تـعـ ّـمــدت دكـتــاتــوريــات الـعــالــم الـعــربــي إنـتــاجـهــا‪ ،‬مــايـيــن الـبـشــر‪ .‬كما‬ ‫أنـهــا دم ــرت رص ـيــدً ا تــراثـ ًـيــا عـمــرانـ ًـيــا ومـعـمــار ًيــا يـسـتـحـيــل اسـتــرجــاعــه فــي م ــدن وعــواصــم عــربـيــة ع ــدة‪ ،‬من‬ ‫عــدن ودمـشــق وحلب وتــدمــر‪ ،‬إلــى صنعاء وطرابلس وبـغــداد‪ّ .‬أمــا فــي السياق المصري‪ ،‬فتظهر الفجوة‬ ‫االقتصادية االجتماعية بجالء وتــزداد بمعدالت متسارعة؛ إذ تؤكد إحـصــاءات األمــم المتحدة وتقارير‬ ‫عالميا بقيمة‬ ‫(المحدد‬ ‫البنك الدولي أن حوالى ‪ 45‬في المئة من إجمالي السكان ُهم تحت خط الفقر‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫(‪ ((2‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.8‬‬

‫(‪ ((2‬انظر‪United Nations Development Programme, Human Development Report, 2014: Sustaining Human Progress- :‬‬ ‫‪Reducing Vulnerability and Building Resilience (New York: The Programme, 2014), and United Nations Human‬‬ ‫‪Settlements Programme (UN-Habitat): The State of Arab Cities Report, 2012: Challenges of Urban Transition (Kenya:‬‬ ‫‪UN-Habitat, 2012), and 53 UN-Habitat Model Projects, 2013/2014: Time to Think Urban (Nairobi: UN-Habitat, 2013).‬‬

‫‪43‬‬


‫‪44‬‬

‫العدد ‪Issue 5 / 18‬‬ ‫خريف  ‪Autumn 2016‬‬

‫دوالريــن فــي الـيــوم) وأكـثــر مــن ‪ 20‬فــي المئة ُهــم تحت خــط الفقر المدقع (دوالر واحــد فــي الـيــوم)(‪.((3‬‬ ‫كما أن شعارات ثورة ‪ 25‬يناير «عيش – حرية – عدالة اجتماعية – كرامة إنسانية»‪ ،‬ومع تأمل المشهد‬ ‫التنموي الحالي‪ ،‬تبدو صعبة التحقيق‪.‬‬ ‫إن التعامل مع المجتمع كشريك فعال لم يعد تر ًفا أو منحة‪ ،‬وإنما هو حق يرتكز على التفسير العادل‬ ‫سببا جوهر ًيا لتداعي المدينة‪ ،‬بل‬ ‫للعالقة بين اإلنسان والمدينة‪ .‬واإلخفاق في تفعيل هذه العالقة ُي َع ّد ً‬ ‫ّ‬ ‫وموتها‪ ،‬على حد تعبير‬ ‫المنظرة والعالمة االجتماعية جين جاكوبس(‪ .((3‬لذلك‪ ،‬ال بد من أجل تنفيذ أي‬ ‫خطة تنمية أو تطوير من إشراك المجتمع وتوعيته بواجباته في المدينة‪ ،‬وبحقوقه التي من أهمها حقه‬ ‫في الوصول إلى المعلومات الخاصة بخطط التنمية العمرانية‪ ،‬واالشتراك في اتخاذ القرارات الخاصة‬ ‫بـعـمــرانــه‪ ،‬والـعـلــم بـسـيــاســات الــدولــة الـعـمــرانـيــة وأولــويــات الـبـنــاء والـتـعـمـيــر‪ ،‬وآل ـيــات تخصيص األراض ــي‬ ‫والميزانيات المخصصة للمشاريع العمرانية‪.‬‬ ‫تبنيه فــي اإلدارة العمرانية لمدينة الـقــاهــرة‪ ،‬بــل إن الشواهد تشير إلــى أن العكس‬ ‫هــذا المدخل لــم يج ِر ّ‬ ‫ك ــان يـمـثــل م ـمــارســة م ـنـ َّـظ ـمــة؛ ه ــذه ال ـم ـمــارســة يـمـكــن رص ــد نـتــائـجـهــا ف ــي ت ـحــديــد م ــواق ــع ُي ـن ـقــل إل ـي ـهــا مــن‬ ‫ُأزيـلــت مـنــازلـهــم ومجتمعاتهم‪ ،‬حـيــث ُيـصــدم الـمـنـقــولــون بـعــدم مــراعــاة مــاءمــة هــذه الـمـســاكــن لحاجات‬ ‫ال ـمــواط ـن ـيــن‪ ،‬ال م ــن ح ـيــث ال ـخ ــدم ــات وال م ــن ح ـيــث تــوف ـيــر وس ــائ ــل ال ـم ــواص ــات وق ــرب ـه ــا م ــن ال ـطــرق‬ ‫ال ـت ــي ُت ـم ـكــن ه ــذه ال ـم ـج ـت ـم ـعــات م ــن مــواص ـلــة ح ـيــات ـهــا وال ــوص ــول إل ــى أم ــاك ــن عـمـلـهــا وإلـ ــى ال ـم ــدراس‬ ‫والخدمات األخرى‪.‬‬ ‫ُخصص أراض متميزة‪ ،‬وبمساحات غير مسبوقة‪ ،‬وفي أماكن حيوية لشركات استثمار‬ ‫على صعيد آخر‪ ،‬ت َّ‬ ‫عقاري عمالقة‪ ،‬إلقامة التجمعات العمرانية المغلقة (‪ )Gated Communities‬الفاخرة لفئة محددة من‬ ‫المجتمع‪ .‬تتسبب هذه السياسات غير الواضحة في انعدام الثقة بين الدولة وفئات المجتمع المهمشة‪،‬‬ ‫والـشـعــور بعدم االنـتـمــاء إلــى الـمـكــان‪ ،‬وهــي مــداخــل فاعلة للفوضى السلبية‪ .‬لــذلــك‪ ،‬فــإن فكرة العدالة‬ ‫االجـتـمــاعـيــة وض ــرورة تـعــديــل الـتـشــريـعــات والـقــوانـيــن حـتــى ال يصبح الـقــانــونــي غـيــر أخــاقــي واألخــاقــي‬ ‫وملحتين لنمو مجتمع عــادل ومنصف‪ ،‬وتنمية مدينة عــادلــة‪ .‬كما أن‬ ‫غير قانوني‪ ،‬أصبحتا ضروريتين‬ ‫ّ‬ ‫وضــوح الـقــرارات الخاصة بالتنمية العمرانية وإشــراك المجتمع في وضــع التشريعات الجديدة واتخاذ‬ ‫الملحة لحل هذه المشكلة‪ ،‬وعودة إحساس المجتمع باالنتماء إلى المكان‪،‬‬ ‫القرارات هي من األمور‬ ‫ّ‬ ‫وبــالـتــالــي إل ــزام كــل فــرد مــن أف ــراد المجتمع بــالـمـســؤولـيــة الـمـشـتــركــة فــي الـمـحــافـظــة عـلــى الـبـيـئــة العمرانية‬ ‫واتباع القوانين‪.‬‬ ‫الثورات والفضاء العمراني العام‬

‫الـ ـث ــورات ه ــي ال ـت ـح ــوالت الـعـمـيـقــة وال ـع ـن ـي ـفــة ال ـنــات ـجــة م ــن اإلطـ ــاق ال ـم ـفــاجــئ ل ـل ـطــاقــات ال ـب ـشــريــة الـتــي‬ ‫تنشئ مــوجــات الـمــد للتغيير‪ .‬تـصـطــدم هــذه الـمــوجــات بــالـقــوى السياسية الـســائــدة والـهـيــاكــل التنظيمية‪،‬‬ ‫‪(30) United Nations Human Settlements Programme (UN-Habitat), 53 UN-Habitat Model Projects, 2013/2014.‬‬ ‫‪(31) Jane Jacobs, The Death and Life of Great American Cities ([New York: Random House], 1961).‬‬


‫تاسارد‬ ‫الفوضى العمرانية الخالقة في فضاءات مدينة القاهرة بعد ثورة يناير ‪ :2011‬جسور النيل وميدان التحرير‬

‫وت ـق ــوم بــاس ـت ـبــدال ـهــا ف ــي ف ـت ــرة زم ـن ـيــة ق ـص ـيــرة ن ـس ـبـ ًـيــا‪ .‬وي ــو ّل ــد ه ــذا االصـ ـط ــدام ط ــاق ــة حــرك ـيــة ف ــوض ــوي ــة فــي‬ ‫تـجـلـيــاتـهــا األول ـي ــة‪ ،‬لـكـنـهــا شـعـبـيــة تـضــامـنـيــة وإنـســانـيــة فــي أعـمــاقـهــا الـمــركّ ـبــة والـمـعـقــدة‪ .‬وعـلــى الــرغــم من‬ ‫وجــود دالئــل وعــامــات تـمــزق وشـيــك منذ فـتــرة طويلة‪ ،‬فــإن التعجيل بالتغيير فــي مختلف المستويات‬ ‫االجـتـمــاعـيــة واالق ـت ـصــاديــة والـسـيــاسـيــة ال يـحــدث إال فــي إط ــار ث ــوري مـفــاجــئ‪ ،‬ولــذلــك يـسـتـحـيــل الـتـنـبــؤ‬ ‫ب ـهــذه ال ـت ـحــوالت الـعـمـيـقــة ال ـجــذريــة الـمـفــاجـئــة‪ .‬ول ـكــن ه ــذا ال يـتـنــاقــض مــع حـتـمـيــة حــدوثـهــا مـهـمــا تــأخــر‬ ‫ال ــوق ــت‪ ،‬ب ـس ـبــب ال ـع ــوام ــل ال ـت ــي ت ـت ــراك ــم وت ـت ـفــاقــم‪ ،‬وأه ـم ـه ــا ف ـق ــدان األمـ ــل وس ـي ـط ــرة ال ـظ ـلــم االج ـت ـمــاعــي‬ ‫وانعدام الحرية‪.‬‬ ‫شهدت مــدن عربية كثيرة‪ ،‬مثل القاهرة ودمشق وطرابلس والمنامة وتونس وصنعاء‪ ،‬حــدة الصراع من‬ ‫ْ‬ ‫أجــل فــراغ عــام للتعبير والـثــورة‪ ،‬وبالتدريج تحولت الميادين من مسارح الـثــورة إلــى مسارح العنف في‬ ‫مدن الربيع العربي‪.‬‬ ‫الشكل (‪)2‬‬ ‫إعادة عالقة المجتمع المصري بالفراغ العام‪ :‬ميدان التحرير‪ ،‬شباط‪/‬فبراير ‪2011‬‬

‫الـم ـصــدر‪:‬‬

‫‪«18 Days at the Center of Egypt’s Revolution: Tahrir Square, in Downtown Cairo,‬‬

‫‪Was the Epicenter of Antigovernment Protests that Led to the Ouster of President Hosni‬‬ ‫‪Mubarak,» New York Times, 12/2/2012, Accessed on 28/10/2016 at: http://www.nytimes.com/‬‬ ‫‪interactive/2011/02/12/world/middleeast/0212-egypt-tahrir-18-days-graphic.html.‬‬

‫ستتناول الــورقــة البحثية الـنـضــال مــن أجــل السيطرة على الـحـيــز‪/‬الـفــراغ الـعــام فــي الـمــديـنــة‪ ،‬والـسـعــي إلى‬ ‫فهم أهميتها بالنسبة إلــى ظهور جمهور جامح‪ .‬وباستخدام أمثلة من األحــداث السياسية األخـيــرة في‬ ‫الشرق األوسط‪ ،‬ننظر في طبيعة التحدي للسلطة القائمة التي تمثّلها الجهود الشعبية لتعريف الفضاء‬ ‫ال ـعــام واح ـتــالــه‪ .‬ك ــان الـمـيــدان إب ــان الــربـيــع الـعــربــي مـســاهـ ًـمــا فــي ص ــوغ مـشـهــديــة الـعـنــف ألن مــا حــدث‬ ‫ـارا غير‬ ‫فــي مـيــاديــن مــدن الــربـيــع الـعــربــي مــن عنف جـســدي مــارسـتــه سلطات األنـظـمــة الـمـهــددة لقي انـتـشـ ً‬ ‫لحظيا في انتقال متسارع ومذهل لكثير‬ ‫مسبوق‪ .‬فالشبكة العنكبوتية‪ ،‬التي تجعل التواصل االجتماعي‬ ‫ً‬ ‫مغايرا لكل ما حاولت الدولة وأجهزتها‪ ،‬وخاصة اإلعالمية‪،‬‬ ‫وعيا‬ ‫من الصور الفارقة الدالة التي خلقت ً‬ ‫ً‬

‫‪45‬‬


‫‪46‬‬

‫العدد ‪Issue 5 / 18‬‬ ‫خريف  ‪Autumn 2016‬‬

‫ساعدت في تسويقه ونشره للرأي الـعــام‪ ،‬وخاصة من خــال القنوات الرسمية والحكومية‪ .‬في مصر‪،‬‬ ‫على سبيل المثال‪ ،‬تتعدد حاالت الصور الدالة التي أحدثت دفقًا ثور ًيا‪ ،‬ومنها صورة رش الثوار بالمياه‬ ‫في أثناء تأديتهم الصالة على مدخل ميدان التحرير (جسر قصر النيل)؛ صورة قيام جنود بضرب فتاة‬ ‫محجبة متظاهرة وتجريدها من بعض ثيابها؛ سحب جثامين شهداء وإلقاؤها في جوار أكوام القمامة‪،‬‬ ‫بمعرفة من عناصر في الجيش المصري‪.‬‬ ‫البعد المكاني العمراني في المنظومة الثورية‪ ،‬وخاصة الحالة المصرية‪ ،‬نكتشف‬ ‫بتسليط الضوء على ُ‬ ‫معينة محددة‪ ،‬مثل الميادين‪ ،‬بل يمكن الواقع‪ ،‬وألسباب‬ ‫أن الثورة لم تتبلور فقط في فراغات في المدينة ّ‬ ‫عدة‪ ،‬رصدها في فراغية‪ ،‬أو باألحرى في التجسيد الفراغي للظلم االجتماعي والالمباالة العمرانية التي‬ ‫أساسيا من مالمح إدراك نظام حسني مبارك‪ .‬لذلك‪ ،‬من المهم إظهار كيف ترتبط الثورة‬ ‫ملمحا‬ ‫كانت‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ارتـبـ ً‬ ‫ـاطــا مـبــاشـ ًـرا‪ ،‬وليس مجرد ظــاهــرة ثانوية عــارضــة‪ ،‬بالسياسات المكانية والممارسات العمرانية التي‬ ‫كانت في بعض األحيان ظالمة وعنيفة تجاه المجتمعات المحلية المسحوقة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫الخالقة‬ ‫مشهدان رئيسيان في سردية القاهرة الفوضوية‬

‫ المشهد األول‪ :‬جسر قصر النيل وجسر الجامعة‬‫• شرفات عامة على النيل‬ ‫كان النيل‪ ،‬الــذي ّ‬ ‫يشكل المكون الترفيهي األكبر في مدينة القاهرة‪ ،‬قد ُمنع على أهل مجتمع القاهرة‬ ‫مــع سابق اإلصــرار والـتــرصــد؛ إذ كانت حــواف النهر تضج بنشاط العائالت والشباب واألطـفــال‪ ،‬وبعد‬ ‫حيز‬ ‫ثــورة يــولـيــو ‪ ،1952‬ظـهــرت أنـمــاط جــديــدة للتعامل مــع هــذه ال ـحــواف‪ ،‬وتـحــولــت ضـفــاف الـنـهــر مــن ّ‬ ‫عــام يـمـلـكــه الـشـعــب إلــى مـجـمــوعــة مــن األح ـيــاز الـخــاصــة عـلــى شـكــل أنــديــة تـمـلـكـهــا فـئــات خــاصــة بــد ًءا‬ ‫بالجيش والشرطة‪ ،‬ثم تطورت لتشمل باقي السلطات النافذة‪ ،‬كالقضاء واإلعالم‪ .‬شكلت هذه األندية‪،‬‬ ‫كـمــا أظـهــر عــدد كبير مــن الــدراســات التوثيقية‪ ،‬حــائـ ًـطــا مــاد ًيــا حـجــب الـنـيــل عــن سـكــان الـقــاهــرة لعشرات‬ ‫الكيلومترات(‪ .((3‬وتفاقمت المشكلة عندما تحولت فكرة أندية النهر إلى «موضة» ومنافسة شملت باقي‬ ‫القطاعات المهنية‪ ،‬مثل المهندسين والصيادلة والتجاريين‪ ،‬وجميع افرع القوات المسلحة‪ ،‬بل وحتى‬ ‫بعض األندية الرياضية‪.‬‬ ‫(‪ ((3‬أ ّثـ ــر نـهــر الـنـيــل فــي تـطــور الـقــاهــرة الـعـمــرانــي‪ ،‬كـمــا يـتـضــح مــن تـطــور الـعــواصــم ‪ -‬الـفـسـطــاط ‪ -‬الـعـسـكــر – الـقـطــائــع‪ ،‬والـتــي انحصر‬ ‫امـتــدادهــا فــي االتـجــاه الـجـنــوبــي الـشـمــالــي‪ ،‬حـيــث منعها الـنـيــل مــن االم ـتــداد غــر ًبــا‪ّ .‬أمــا فــي حقبة الـخــديــوي إسـمــاعـيــل‪ ،‬فـقــد تــأثــر عـمــران‬ ‫متأثرا بالفترة التي أمضاها‬ ‫تأثرا جذر ًيا بنهر النيل الذي تغير مجراه ليفتح آفا ًقا جديدة لنمو المدينة‪ .‬كان الخديوي إسماعيل‬ ‫ً‬ ‫القاهرة ً‬ ‫فــي إيـطــالـيــا ودراس ـتــه فــي فــرنـســا‪ ،‬إذ وجــد حـلـمــه الـعـمــرانــي مـجـســدً ا فــي الـنـمــوذج األوروب ــي لـلـمــديـنــة‪ .‬وفــي أثـنــاء زيــارتــه‪ ‬بــاريــس‪ ،‬خــال‬ ‫مشاركة مصر في معرض باريس الدولي سنة ‪ ،1867‬تأكدت رغبته في أن يرى القاهرة باريس الشرق‪ .‬وبعد عودته إلى مصر‪ ،‬اتخذ‬ ‫قرارا بأن يعهد إلى المخطط الفرنسي جورج هوسمان تخطيط القاهرة كما سبق أن خطط العاصمة الفرنسية‪ .‬وقام علي مبارك بإعداد‬ ‫ً‬ ‫ـارا لمشاريع إسماعيل العمرانية إلعــادة تخطيط القاهرة ساير فيه مخطط هوسمان‪ ،‬ومن أهم مالمحه مشروع‬ ‫مشروع قانون يضع إطـ ً‬ ‫تحويل مجرى النيل إلى الشرق من موقعه األصلي‪ ،‬وإقامة أحياء الجيزة والدقي السكنية وحدائق األورمان وحدائق الحيوانات مكان‬ ‫المجرى القديم‪.‬‬


‫تاسارد‬ ‫الفوضى العمرانية الخالقة في فضاءات مدينة القاهرة بعد ثورة يناير ‪ :2011‬جسور النيل وميدان التحرير‬

‫الشكل (‪)3‬‬ ‫األندية الخاصة‪ ،‬ومنها المخصص للجيش والشرطة التي سيطرت على امتداد الواجهة النهرية‬

‫المصدر‪ :‬الباحث‪.‬‬

‫الشكل (‪)4‬‬ ‫حالة نادي القضاة على طرف جسر الجالء‪ ،‬وجريمة بناء حائط خرساني لحجب النيل تما ًما‬ ‫عن سكان المدينة كيلومترات عدة‬

‫المصدر‪ :‬الباحث‪.‬‬

‫هــذا الـطــرح يـنــاقــش مـفـهــوم الــديـمـقــراطـيــة الـعـمــرانـيــة فــي حقبة مــا بـعــد ثــورة ‪ 25‬يـنــايــر ويــربـطــه بقيمة الـفــراغ‬ ‫الـعــام؛ فعلى الــرغــم مــن أن الـقــاهــرة هــي مــن أكـثــر عــواصــم الـعــالــم ازدحــا ًمــا وكـثــافــة سكانية وبـنــائـيــة‪ ،‬فإنها‬ ‫األقــل من حيث توافر الفراغات المفتوحة والمسطحات الخضراء‪ .‬ويستدعي الطرح واحــدً ا من أهم‬ ‫أهداف الثورة‪ ،‬وهو العدالة االجتماعية‪ ،‬ويربطها بتحقيق العدالة العمرانية‪ ،‬وأهمية االستجابة لحاجات‬ ‫البين‪ .‬وبـصــورة فاحصة‪ ،‬فــإن الـطــرح يستهدف حالة‬ ‫قطاعات عاشت عـقــو ًدا فــي حــاالت مــن التهميش ّ‬

‫‪47‬‬


‫‪48‬‬

‫العدد ‪Issue 5 / 18‬‬ ‫خريف  ‪Autumn 2016‬‬

‫شــاطــئ الـنـيــل‪ ،‬وخــاصــة فــي حــدود مــديـنــة الـقــاهــرة الـكـبــرى‪ ،‬ويـبـحــث فــي أسـبــاب اإلخ ــراج المتعمد لنهر‬ ‫النيل من منظومة الحياة العامة في القاهرة‪ ،‬وفي الوقت الذي يجري فيه اتهام القطاعات الشعبية من‬ ‫المجتمع بالفوضوية والعشوائية عند محاولة تكوين أحياز لهم تطل على النهر العظيم‪.‬‬ ‫«مرحى أيها النيل المتجسد في األرض‬ ‫القادم بسالم‬ ‫كي يحيي مصر‬ ‫إنك تخفي عبورك في ثوب الظالم‬ ‫وتمد أمواجك إلى الحدائق‬ ‫وتعطي الحياة لكل شيء ظامئ»‬

‫• إعادة استحقاق القاهريين لضفاف النهر‬

‫دعاء كهنة مصر الفرعونية للنيل‬

‫(‪((3‬‬

‫مــن منظور كثير مــن الباحثين فــي مجال العمران الـعــادل‪ ،‬تأتي عالقة سكان المدينة بفراغاتها العامة‪،‬‬ ‫ومنها الواجهات البحرية والنهرية‪ً ،‬‬ ‫أساسيا على عدالة المدينة‪ ،‬وترحيبها بقاطنيها على اختالف‬ ‫دليل‬ ‫ً‬ ‫انتماءاتهم وطبقاتهم وعقائدهم‪ .‬األكثر أهمية هو أن تحقيق هذه العدالة العمرانية االجتماعية أصبح‬ ‫أحــد األسـبــاب الرئيسية لخلق إحـســاس حقيقي باالنتماء والـتــواصــل مــع األرض والـمـكــان‪ ،‬بــل والوطن‬ ‫كـكــل‪ .‬وحــق الــوصــول إلــى الـمـكــان الـعــام والــوجــود فـيــه هــو مـحــور رئـيـســي فــي منظومة االنـتـمــاء الـمــادي‬ ‫والـعــاطـفــي الـتــي يـحـتــاج اإلنـســان إلـيـهــا‪ .‬مــن هــذا الـتـصــور تتبلور أسـئـلــة جــوهــريــة‪ ،‬أهـمـهــا‪ :‬هــل يمكن أن‬ ‫يكون نهر النيل أداة لتفعيل ديمقراطية العمران‪ ،‬بل وترسيخ فكرة الديمقراطية كلها في حقبة ما بعد‬ ‫قلبا دافـ ًقــا ودافـ ًـعــا للحياة العامة العادلة في أوصــال مدينة القاهرة‬ ‫ثــورة ‪ 25‬يناير؟ كيف يعود نهر النيل ً‬ ‫وباقي المدن المصرية؟‬ ‫ف ــي ال ـس ـن ــوات األخ ـي ــرة‪ ،‬أص ـبــح اس ـت ـك ـشــاف ال ـعــاقــة ب ـيــن الـمـجـتـمــع وال ـمــدي ـنــة والــدي ـم ـقــراط ـيــة وال ـعــدالــة‬ ‫ـورا مـهـ ًّـمــا مــن مـحــاور الـبـحــث الـعـمــرانــي‪ .‬وقــد نــاقــش ديـفـيــد هــارفــي فــي كتابه‬ ‫االجـتـمــاعـيــة والـفــراغـيــة م ـحـ ً‬ ‫‪( Social Justice and the City‬العدالة االجتماعية والمدينة) مفاهيم المدينة والعدالة والفراغ وعالقتها‬ ‫بــالـتـعــدديــة الـعـمــرانـيــة(‪ .((3‬ونــاقــش إدوارد ســوجــا فــي كـتــابــه ‪( Seeking Special Justice‬تحقيق الـعــدالــة‬ ‫الفراغية)(‪ ،((3‬بالقول إن للعدالة جغرافيتها الخاصة التي يحدث من خاللها التوزيع المتوازن والعادل‬ ‫أساسيا‪ .‬أما سوزان فينشتين‪ ،‬فتطرح في كتابها‬ ‫إنسانيا‬ ‫للمصادر والموارد والخدمات‪ ،‬وهو ما يمثّل حقًا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫‪( The Just City‬المدينة العادلة)(‪ ((3‬أنه ينبغي أن تمتد معايير التقييم لنجاح مشاريع التنمية العمرانية‬ ‫لتشمل العدالة االجتماعية‪.‬‬ ‫(‪ ((3‬نيكوس كازانتزاكيس‪ ،‬رحلة إلى مصر‪ :‬الوادي وسيناء‪ ،‬ترجمة محمد الظاهر ومنية سمارة‪ ،‬كتاب أدب ونقد؛ ‪( 1‬القاهرة‪ :‬مجلة‬ ‫أدب ونقد‪ ،)1991 ،‬ص ‪.27‬‬ ‫‪(34) David Harvey, Social Justice and the City, Geographies of Justice and Social Transformation; 1, Rev. Ed. (Athens:‬‬ ‫‪University of Georgia Press, 2009).‬‬

‫‪(35) Edward W. Soja, Seeking Spatial Justice, Globalization and Community Series (Minneapolis: University of‬‬ ‫‪Minnesota Press, 2010).‬‬ ‫‪(36) Susan S. Fainstein, The Just City (Ithaca: Cornell University Press, 2010).‬‬


‫تاسارد‬ ‫الفوضى العمرانية الخالقة في فضاءات مدينة القاهرة بعد ثورة يناير ‪ :2011‬جسور النيل وميدان التحرير‬

‫الشكل (‪)5‬‬ ‫الفراغ العمراني الوحيد(‪ ،((3‬الذي ُأنشئ بغرض أن يكون ً‬ ‫فراغا عا ًما للشعب‪،‬‬ ‫أشهرا طويلة بعد شكوى أصحاب المراكب السياحية من ضوضاء المترددين عليه‬ ‫جرى إغالقه‬ ‫ً‬ ‫ومستوياتهم‪ ،‬ثم أعيد فتحه كحديقة خاصة لها رسم دخول‪.‬‬

‫المصدر‪ :‬الباحث‪.‬‬

‫الشكل (‪)6‬‬ ‫مشروع القاهرة ‪ 2050‬الذي يستدعي تنفيذه تهجير الماليين من أحيائهم وعزلهم عن النيل‬

‫المصدر‪ :‬الموقع الرسمي لهيئة التخطيط العمراني في مصر‪.‬‬ ‫(‪ ((3‬في السياق المعرفي لدراسات العمارة والعمران وتخطيط المدن‪ُ ،‬يستخدم مصطلح الفراغ (‪ )Space‬للتعبير عن الفضاء المادي الذي يختبره‬ ‫الناس‪ ،‬سواء على مستوى الفراغات الداخلية‪ ،‬مثل المساكن والمدارس‪ ،‬أو على مستوى الفراغات الخارجية‪ ،‬مثل الشوارع والميادين والحدائق‪.‬‬

‫‪49‬‬


‫‪50‬‬

‫العدد ‪Issue 5 / 18‬‬ ‫خريف  ‪Autumn 2016‬‬

‫إن تكثيف ظاهرة «ال ديمقراطية العمران» المرصودة في عمران القاهرة الكبرى ومصر كلها يأتي في‬ ‫المقام األول من العجز عن الفصل بين ما هو قانوني وما هو غير أخالقي في الوقت ذاته‪ .‬هل يمكن‬ ‫أن يكون الفعل القانوني ً‬ ‫جانبا من إشكاليات الدراسة‬ ‫فعل غير أخالقي؟ هذا التساؤل المهم يكشف ً‬ ‫الرئيسية‪ً .‬‬ ‫مثل‪ :‬فكرة حجب النهر عن الشعب بأندية خاصة لفئات محددة من المجتمع؛ هــذا الفعل‬ ‫الــذي يـبــدو قــانــونـ ًـيــا‪ ،‬أو بــاألحــرى هــو قــانــونــي مــن حـيــث خـضــوع تـلــك األنــديــة لـقــوانـيــن الـبـنــاء واسـتـخــراج‬ ‫التراخيص وتعليمات الــدفــاع المدني‪ ،‬يمثّل بالقطع ممارسات غير أخالقية تتنافى مع مبادئ المدينة‬ ‫حاجبا وحاج ًزا عالقة الشعب بالنهر‪ .‬ديمقراطية العمران‬ ‫عمرانيا‬ ‫سورا‬ ‫العادلة عندما تشكل في مجملها ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ومبادئ المدينة العادلة تعني أن الرصيد الطبيعي ألي أمة‪ ،‬من أنهار وبحار وجبال وغابات‪ ،‬هو ملك‬ ‫للشعب بجميع طبقاته ومستوياته‪ ،‬وال يمكن حرمان الشعب من هذا الرصيد بدعوى التنمية أو الترفيه‬ ‫دائما للشعب‪ ،‬ومن خالل احترام حق الشعب‬ ‫أو حتى تنشيط السياحة‪ .‬المدينة العادلة تعطي األولوية ً‬ ‫تزدهر السياحة وتنمو المشاريع وتتطور المدينة‪.‬‬ ‫الشكل (‪)7‬‬ ‫همشون استعادتها‬ ‫الم َ‬ ‫قصون ُ‬ ‫مشهد إلحدى ضفاف النيل التي يحاول ُ‬ ‫والم َّ‬ ‫حكرا على أندية الشرطة والجيش واإلعالم والقضاء‬ ‫بعد أن أصبحت في أغلبها‬ ‫ً‬

‫المصدر‪ :‬الباحث‪.‬‬


‫تاسارد‬ ‫الفوضى العمرانية الخالقة في فضاءات مدينة القاهرة بعد ثورة يناير ‪ :2011‬جسور النيل وميدان التحرير‬

‫• جسور على النيل‬ ‫ُح ــرم الـشـعــب الـمـصــري عــامــة وال ـقــاهــري خــاصــة مــن اإلط ــال عـلــى الـنـيــل‪ ،‬وأصـبـحــت خـصـخـصــة النهر‬ ‫سمي فوضى‬ ‫وضفتيه عائقًا يحرم المصريين التواصل مع النهر‪ .‬من هنا تأتي أهمية الرصد العادل لما ّ‬ ‫الـجـســور فــي مــديـنــة الـقــاهــرة‪ .‬لـقــد تـقــدم الـعـشــرات مــن الـشـبــاب السـتـغــال جـســور الـقــاهــرة الـمـطـلــة على‬ ‫النيل‪ ،‬وفــي غياب السلطة ونشوة الحرية ونجاح الـثــورة‪ ،‬وقدموا بدائل لعالقة المصري بالنهر‪ .‬ولكن‬ ‫البشر‪ ،‬وسكان القاهرة منهم‪ ،‬ال يتوقفون أبــدً ا عن إيجاد الحلول‪ .‬وهكذا بدأ نسق جديد من التعامل‬ ‫مع نيل القاهرة يظهر من بداية األلفية الثالثة‪ .‬هذا النسق بدأ مع تحويل األجزاء المطلة على النهر‪ ،‬من‬ ‫جسر السادس من أكتوبر‪ ،‬إلى وقفة احتفالية هي األهم على مسار موكب حفالت زفاف أبناء الطبقة‬ ‫َ‬ ‫محاطين‬ ‫المتوسطة‪ .‬ويـبــدأ المشهد بتوقف موكب الـسـيــارات و«الميكروباصات»‪ ،‬ويـخــرج الـعــروســان‬ ‫بــاألهــل واألصــدقــاء فيما مـصــور الـفـيــديــو الـمـحـتــرف يـتــراقــص بـكــامـيــرتــه‪ ،‬مـسـجـ ًـا وقــائــع احـتـفــالـيــة الــزواج‬ ‫على جزء من الجسر مطل على النيل(‪ .((3‬في بعض األحيان‪ ،‬تتدخل شرطة المرور لتعطيل االحتفال‬ ‫وحث المجموعة على اإلسراع بمغادرة المكان لتحقيق االنسياب المروري المتعثر لعشرات األسباب‬ ‫األخرى‪ .‬من األنشطة التي بدأت على جسور القاهرة في وقت باكر ً‬ ‫أيضا تجمعات هواة صيد األسماك‬ ‫الذين يمكن رصدهم بصورة يومية على جسور الجالء وقصر النيل وأكتوبر‪ .‬ومــع وجــود الجماعات‬ ‫اإلنـســانـيــة‪ ،‬ومهما يكن عــددهــا مـحــدو ًدا‪ ،‬تنشط االسـتـخــدامــات الـمـســاعــدة‪ ،‬فتأخذ الـجـســور باستقطاب‬ ‫الباعة الجوالين لتقديم المشروبات الباردة والساخنة ومأكوالت التسلية للمتنزهين‪.‬‬ ‫أدت ب ـســاطــة ال ـف ـكــرة أي ـ ًـض ــا إل ــى ان ـت ـشــارهــا ال ـس ــري ــع؛ ف ـكــل م ــا ت ـح ـتــاج إل ـي ــه ه ــو م ـج ـمــوعــة م ــن ال ـكــراســي‬ ‫البالستيكية‪ ،‬وموقد لتسخين المياه‪ ،‬ووصلة كهربائية مقترضة بـ«نية حسنة» من عمود إنارة على الجسر‪.‬‬ ‫بدأت الجسور تستضيف المصريين الراغبين في الجلوس أمام النهر‪ ،‬وازداد إبداع الشباب الفوضويين‬ ‫المستغلين لـلـنـهــر‪ ،‬فـتـجــاوزت االسـتـعـمــاالت تـقــديــم الـشــاي وت ـطــورت إلــى عــربــات الـكـشــري وال ــذرة بل‬ ‫وشهيا لعائلة تتناول الطعام وتتأمل صفحة النيل‪ .‬هذا‬ ‫رخيصا‬ ‫وقــدور الفول الشهيرة التي تقدم عشاء‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫الفعل الذي لم يكن يدور حتى في فلك أحالم المصريين القاهريين بعد أن اح ُتلت ضفاف النيل كلها‬ ‫ً‬ ‫مدخل إلى‬ ‫تحول الجسر‪ ،‬الذي اعتاد أن يكون‬ ‫بمعرفة الشرطة والجيش والقضاء وغيرهم‪ .‬وبالتدريج‪ّ ،‬‬ ‫عابرا‬ ‫جزيرة الزمالك (حالة جسر الجالء)‪ ،‬أو إلى ميدان التحرير (حالة جسر قصر النيل)‪ ،‬أو شريانًا ً‬ ‫للمدينة (حالة جسر ‪ 6‬أكتوبر) إلــى شرفة عامة نشطة حيوية‪ ،‬بكل ما تعنيه الكلمة‪ .‬وبصورة ال يمكن‬ ‫رصدها إال في الوثائق الفوتوغرافية القديمة لكورنيش القاهرة‪ ،‬عندما كانت ضفاف نهر النيل متاحة‬ ‫ً‬ ‫وتأمل وعشقًا وإلها ًما‪ ،‬بل وتعبدً ا‪ .‬ومع تطور بعض مقاهي‬ ‫وتنزها‬ ‫ولهوا‬ ‫ً‬ ‫للشعب وفئاته المختلفة ً‬ ‫مرحا ً‬ ‫وجلسات هذه الشرفات العامة (الجسور) وتقديمها جرعة من الموسيقى والغناء عبر مكبرات الصوت‪،‬‬ ‫(‪ ((3‬م ـث ــل هــذه الـفـعــالـيــات كــانــت ومــا زال ــت تــوصــف بــأنـهــا أف ـعــال وتـصــرفــات فــوضــويــة عـشــوائـيــة أو «ب ـلــدي»‪ .‬تـعـبـيــر «ب ـلــدي»‪ ،‬والــذي‬ ‫حرفيا «بــادي» باللغة العربية المصرية الــدارجــة‪ُ ،‬يستخدم لوصف السلوك البدائي الفوضوي غير المحبب من طبقة الصفوة‬ ‫يعني‬ ‫ً‬ ‫وكثيرا ما ُيستخدم لتحقير وصف سلوكيات الطبقة العاملة القاهرية ذات‬ ‫والنخبة‪ ،‬أو التهكم من عقلية القرية وسلوك من ينتمي إليها‪.‬‬ ‫ً‬ ‫األصول الريفية‪.‬‬

‫‪51‬‬


‫‪52‬‬

‫العدد ‪Issue 5 / 18‬‬ ‫خريف  ‪Autumn 2016‬‬

‫مشيا إلى حالة من االختراق الحتفالية اجتماعية غنائية وموسيقية نرصد فيها مالمح‬ ‫ّ‬ ‫تحول عبور الجسر ً‬ ‫فرح وسعادة على وجوه أطفال ونساء ورجال ومسنات وشيوخ كانوا يعتقدون أن نصيبهم من السعادة‬ ‫على ضفاف نيل القاهرة انتهى‪ ،‬وإلى األبد‪.‬‬ ‫الشكل (‪)8‬‬ ‫جسر قصر النيل‪ :‬فوضوية االحتياج التي دفعت القطاعات المهمشة من المجتمع المصري‬ ‫ومتنفسا عا ًما‬ ‫إلى محاولة استحقاق النهر مكانًا‬ ‫ً‬

‫المصدر‪ :‬الباحث‪.‬‬

‫ المشهد الثاني‪ :‬ميدان التحرير‪ ،‬شباط‪/‬فبراير ‪2011‬‬‫«غياب األمن يصنع الفوضى وغياب العدل يصنع الثورة»‪.‬‬

‫الكاتب المصري جالل عامر‬

‫(‪((3‬‬

‫• دراسات ُمجددة‬ ‫كــانــت ال ـثــورة الـمـصــريــة فــي ‪ 25‬كــانــون الـثــانــي‪/‬يـنــايــر ‪ ،2011‬ومـنــذ لحظتها األول ــى‪ ،‬ث ــورة متعقلة‪ ،‬وعلى‬ ‫درجة عالية من الوعي والحكمة وتحديد األهــداف‪ .‬لم تكن ثورة جياع وال رعــاع‪ ،‬وال ثورة فوضويين‬ ‫سلبيين يشعلون كل ما تطاوله أيديهم بال مبرر(‪ ،((4‬ولذلك كانت تلقى التأييد مع كل خطوة تخطوها‪،‬‬ ‫مبررا أو حجة منطقية لتشويهها‪ .‬وفي أعقاب الثورة‪ ،‬تعددت تفسيرات‬ ‫وأعجزت أعداءها في أن يجدوا ً‬ ‫ومـعــانــي الـحــريــة الـتــي نــالـهــا الـشـعــب الـمـصــري‪ ،‬أو بــاألحــرى نــاضــل مــن أجـلـهــا مــدة ‪ 18‬يــو ًمــا خــالــدة في‬ ‫تاريخه المعاصر‪ .‬كما تباينت انعكاسات هــذه التفسيرات على االستعمال الـمــادي للفراغات العامة‪.‬‬ ‫وم ــع الـتـنـفــس ال ـتــدري ـجــي لـنـســائــم ال ـحــريــة الـجـمــاعـيــة الـمـجـتـمـعـيــة الـشـعـبـيــة‪ ،‬ب ــدأت تــدف ـقــات الـمـصــريـيــن‬ ‫(‪« ((3‬أكثر من ‪ 270‬مقولة من أجمل ما قال الساخر الكبير جالل عامر»‪ ،‬موقع عالم مشكله الساخر‪ ،‬شوهد في ‪ ،2016/11/2‬في‪:‬‬ ‫‪http://moshkla1.blogspot.com/2012/07/270.html#ixzz3RQjIvvvW.‬‬

‫(‪ ((4‬باستثناء المقر الرئيسي للحزب الوطني الحاكم على ضفة النيل‪ ،‬وقد ُحرق بالكامل ألنه كان يرمز إلى حقبة االستبداد‪ ،‬فإن عدد‬ ‫المباني التي ُحرقت في أثناء ثورة ‪ 25‬يناير ال يتجاوز أصابع اليد الواحدة‪ ،‬وكلها كانت أقسام شرطة ُأطلق منها النار على المتظاهرين‪،‬‬ ‫و ُقتل كثيرون منهم على أعتابها‪.‬‬


‫تاسارد‬ ‫الفوضى العمرانية الخالقة في فضاءات مدينة القاهرة بعد ثورة يناير ‪ :2011‬جسور النيل وميدان التحرير‬

‫إلى ميدان التحرير تتحول إلى مشهد ثابت في الصورة العمرانية واالجتماعية والثقافية للمدينة‪ .‬ومع‬ ‫هــذا الـتــدفــق تـبـلــورت أنـســاق جــديــدة مــن االسـتـعـمــال الـفــوضــوي الـخـ ّـاق لبعض فــراغــات الـمـيــدان‪ ،‬كــان‬ ‫خارجا عن القانون‪.‬‬ ‫دائما‪ ،‬وال سيما في الحقبة المباركية‪،‬‬ ‫ً‬ ‫معظمها يلتف حول نشاط كان ُيعتبر ً‬ ‫مــن أول ــى الـمــؤلـفــات الـتــي اخـتـبــرت فـكــرة تــأثـيــر الـتـقـنـيــات الــرقـمـيــة الـجــديــدة فــي عــاقــة الـمـجـتـمــع بــالـفــراغ‬ ‫الـعــام كـتــاب هيناف المعنون ب ـ ‪(  Public Space and Democracy‬الـفـضــاء الـعــام والــديـمـقــراطـيــة)(‪.((4‬‬ ‫هذا الكتاب ألقى الضوء على الكيفية التي تؤثر بها التكنولوجيات الجديدة في الحياة العامة وعالقات‬ ‫تحليليا مقارنًا لفهم الفضاء العام كمكان‪،‬‬ ‫إطارا‬ ‫السلطة‪ ،‬وأتاح مراجعات تاريخية مهمة للمفاهيم‪ ،‬مقد ًما ً‬ ‫ً‬ ‫مباشرا ُينشر على شبكة اإلنترنت‪ .‬لكن‬ ‫سياسيا‬ ‫كمنتج إلعالم يتسم بالفضول ويتضمن خطا ًبا‬ ‫وكذلك ُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫قدم حجة قوية إلعادة التفكير في األطروحة القائلة إن التطورات‬ ‫أهم ما في هذا الكتاب يكمن في أنه ّ‬ ‫التكنولوجية الحديثة ال تمثّل نهاية للفضاء الـعــام‪ ،‬بل هي فرصة إلعــادة صــوغ مفهوم المجتمع العام‬ ‫ـورا ومــرك ـ ًزا للسلطة‪ .‬هــذا الـطــرح شــديــد األهـمـيــة ألنــه يــرتـبــط ارتـبـ ً‬ ‫ـاطــا وثيقًا‬ ‫والـفـضــاء الـعــام بصفتهما مـحـ ً‬ ‫بما حــدث فــي مـيــدان التحرير فــي الـقــاهــرة؛ ففي الــواقــع‪ ،‬وكـمــا تنبأ الـكـتــاب‪ ،‬عملت التقنيات الحديثة‬ ‫وشـبـكــات الـتــواصــل عـلــى إحـيــاء دور الـمـيــدان‪ ،‬وســاعــدت عـلــى الـتــدفــق الـبـشــري الـمــذهــل إلــى الـمـكــان‪،‬‬ ‫حـيــث تــوضــح متابعة تــدفــق الـثــوار إلــى الـمـيــدان ثــم قـطــاعــات إضــافـيــة مــن المجتمع الـمـصــري أن الـبــذرة‬ ‫الرئيسية نمت مــن خــال أوســاط التواصل االجتماعي‪ ،‬ثــم تـطــورت العالقة بالميدان بسبب مــا تناقلته‬ ‫القنوات الفضائية عن قسوة قوات األمن‪ ،‬األمر الذي حفز مزيدً ا من قطاعات المجتمع المصري على‬ ‫الــذهــاب إلــى مـيــدان التحرير‪ ،‬وتـجــاوز التعاطف عبر الـتــواصــل االجتماعي إلــى اإلصــرار على الــوجــود‬ ‫المادي في فضاء الميدان‪.‬‬ ‫فــي عــالــم اإلنـتــرنــت والـتــرابــط الــرقـمــي‪ ،‬أصـبـحــت الــديـمـقــراطـيــة مـبـلــورة فــي آفــاق جــديــدة‪ ،‬مـثــل الـمــدونــات‬ ‫وشبكات الـتــواصــل االجتماعي‪ .‬كما تنامت ظــاهــرة المواطنين الصحافيين بفضل األجـهــزة المحمولة‬ ‫الخاصة بهم وقــدرتـهــم على توثيق اإلحــداث وبثّها عبر الـعــالــم‪ .‬وحتى السياسيون أدركــوا أن تفاعلهم‬ ‫مــع الـمـجـتـمــع يـتــم اآلن مــن خــال الـعـمــل عـلــى اإلنـتــرنــت‪ ،‬بينما سـ ّـوقــت للجميع أن الـمــواقــع التقليدية‬ ‫لـلــديـمـقــراطـيــة‪ ،‬مـثــل الـمـيــاديــن وال ـســاحــات والـجـمـعـيــات‪ ،‬أصـبـحــت أق ــل أهـمـيــة مــع سـيـطــرة الـتـكـنــولــوجـيــا‬ ‫الـجــديــدة‪ .‬ويـنــاقــش بــاركـيـنـســون‪ ،‬فــي كـتــابــه ‪( Democracy and Public Space‬الــديـمـقــراطـيــة والـفـضــاء‬ ‫(‪((4‬‬ ‫مبي ًنا أن هذا الطرح واآلراء النابعة منه يقوداننا إلى الخلط بين الوسط )‪)Medium‬‬ ‫العام) هذه الفكرة ‪ّ ،‬‬ ‫مقيما إحدى عشرة مدينة‪ ،‬من‬ ‫والرسالة )‪ ،)Message‬ويقدم رؤية بديلة من الفضاء العام الديمقراطي‪ً ،‬‬ ‫لندن إلــى طوكيو‪ ،‬الختبار هــذا المثال األفضل‪ .‬وهــو يدلل على أن كل ما يتم بثه عبر شبكة اإلنترنت‬ ‫هــو الـصــور والـســرد للعمل الــديـمـقــراطــي الحقيقي فــي الـفـضــاء الـمــادي‪ .‬وتـكـمــن قــوة الـكـتــاب فــي تأكيد‬ ‫باركنسون أن الفضاء والمكان المادي عنصران أساسيان في األداء الديمقراطي‪.‬‬ ‫‪(41) Marcel Hénaff and Tracy B. Strong (eds.), Public Space and Democracy (Minneapolis: University of Minnesota‬‬ ‫‪Press, 2001), p. 63.‬‬ ‫‪(42) John R. Parkinson, Democracy and Public Space: The Physical Sites of Democratic Performance (Oxford: Oxford‬‬ ‫‪University Press, 2012).‬‬

‫‪53‬‬


‫‪54‬‬

‫العدد ‪Issue 5 / 18‬‬ ‫خريف  ‪Autumn 2016‬‬

‫• مركز الفوضى ّ‬ ‫الخلقة‬ ‫تحول فيها الميدان أو الشارع من مجرد فراغ عام إلى مكان احتضان‬ ‫كثيرا من األمثلة التي ّ‬ ‫شهد التاريخ ً‬ ‫تحول إلى مكان ُسفكت فيه الدماء‪ ،‬وسقط فيه الشهداء المدافعون عن حق‬ ‫الحركات الثورية‪ ،‬بل إنه ّ‬ ‫ً‬ ‫تحول إلى فراغ عام مثل ميدان التحرير‬ ‫الحرية‪ ،‬وبالمنطق نفسه‪،‬‬ ‫واستكمال لمشهد تاريخي متصل‪ّ ،‬‬ ‫إلى ساحة الشعب‪ ،‬حيث تجمع الناس للتعبير عن آرائهم السياسية والمطالبة بحقوقهم(‪ .((4‬استندت‬ ‫الحركات السياسية إلــى المناطق العمرانية‪ ،‬وخاصة الفراغات العامة‪ ،‬كساحات للتعبير‪ .‬وكما يطرح‬ ‫هارفي‪ ،‬فليس كل جزء من المدينة مكانًا يمكن استخدامه للتعبير عن تيارات أعمق للنضال السياسي‬ ‫والـتـحــرري(‪ .((4‬ولكن من الــواضــح ً‬ ‫أيضا أن بعض الخصائص العمرانية أكثر من بعضها اآلخــر مالءمة‬ ‫لالحتجاجات المتمردة‪ ،‬مثل مركزية الفراغات العامة وقيمتها في المدينة‪ ،‬كميدان التحرير في مدينة‬ ‫الـقــاهــرة‪ ،‬ومـيــدان بــاب الـســام السماوي [تيانانمن] فــي مدينة بيجين‪ ،‬وسينتاغما فــي مدينة أثينا؛ فكل‬ ‫برمته‪.‬‬ ‫األمثلة السابقة كانت الحاضنة المهمة للنشاط الثوري واالحتجاجي ّ‬ ‫حتى الواليات األميركية ومدنها تأثرت بفوضوية ميدان التحرير البناءة‪ ،‬فانتشرت‪ ،‬من مدينة إلى مدينة‪،‬‬ ‫الـمـبــادرات الـثــوريــة الـتــي بــدأت مــع حــركــة «احـتـلــوا وول سـتــريــت»‪ ،‬مــن حـيــث الــوجــود الـمــادي فــي فــراغ‬ ‫مــركــزي عــام‪ ،‬كــأن يـكــون حــديـقــة أو مـيــدا ًنــا‪ .‬هــذه الـفــراغــات يـجــب أن تتميز كلها بــأنـهــا قــريـبــة مــن تمركز‬ ‫مقاليد السلطة‪ .‬وعن طريق تدفق الجموع البشرية إلى الفراغ‪ ،‬يتم تحويل الفراغ العام إلى ساحة نضال‬ ‫سياسي لفتح الحوار والنقاش على ما تقوم به تلك السلطة وا ّتباع أفضل السبل لمعارضتها ومقاومتها‪.‬‬ ‫وقد انتشر هذا التكتيك‪ ،‬الذي نبع من النضال النبيل في ميدان التحرير في القاهرة‪ ،‬إلى العالم كله(‪.((4‬‬ ‫وهــذا يــؤكــد لـنــا أن قــوة الـبـشــر الجماعية فــي الـفــراغ الـعــام ال تــزال األداة األكـثــر فعالية للمعارضة عندما‬ ‫تُحظر األدوات األخرى كافة وسيلة للوصول‪ .‬وكما يصر هارفي(‪ ،((4‬فإن ما أظهره ميدان التحرير للعالم‬ ‫كان حقيقة واضحة‪ :‬البشر في الشوارع وفي الساحات‪ ،‬وليس الثرثرة العاطفية على صفحات «تويتر»‬ ‫أو «فيسبوك»‪ ،‬هم الذين يرتدون أهمية و ُي ْحدثون التغيير‪.‬‬ ‫إن فهم ميدان التحرير يتجاوز استاتية الفراغ العام‪ ،‬ولكنه يتطلب فهم تعقيدات جغرافية الثورة والتظاهر‬ ‫في الميدان وفي المدينة كلها‪ .‬من هنا تأتي أهمية الميدان لتفرده بظاهرتين جديدتين في مشهد المدينة‬ ‫(‪ ((4‬خ ــال عملي الميداني‪ ،‬الــذي سبق أن أشــرت إلـيــه‪ ،‬لكي ُأعـ ّـد لكتابي عــن مـيــدان التحرير‪ ،‬تمكنت مــن توثيق مختلف أشكال‬ ‫تبعا للتعبيرات الرسمية أو األكاديمية في الفراغات والشوارع‪ ،‬وحتى في ما اعتادت‬ ‫االستعماالت الممنوعة أو الفوضوية أو العشوائية ً‬ ‫أن تكون مناطق خط أحمر حــول وســط المدينة‪ ،‬بما في ذلــك ميدان التحرير‪ ،‬والمناطق المجاورة لــوزارة الداخلية‪ .‬وكما أوضحت‬ ‫سابقًا‪ ،‬فإن منهجية هذا العمل الميداني اعتمدت على مجموعة آليات أساسية‪ ،‬أهمها التوثيق الفوتوغرافي‪ ،‬والمالحظات البصرية‬ ‫والمكتوبة‪ ،‬والـحــوارات والمقابالت‪ .‬وتــم ذلــك من خــال إطــار زمني ممتد تط ّلب الحضور إلــى ميدان التحرير في فترات وأحــداث‬ ‫ً‬ ‫وصول إلى قراءة أكثر دقة عن تطورات عالقة اإلنسان والمكان وتفاعالتها في فضاء الميدان‪.‬‬ ‫مختلفة‪،‬‬ ‫‪(44) David Harvey, Rebel Cities: From the Right to the City to the Urban Revolution (New York: Verso, 2012), p. 78.‬‬

‫(‪ ((4‬من األمثلة التي عكست تأثير ميدان التحرير الثوري والنضالي‪ ،‬إلى جانب حركة «احتلوا وول ستريت»‪ ،‬نجد‪ :‬بويرتا دل سول‬ ‫في مدريد‪ ،‬وسينتا سكوير في أثينا‪ ،‬وسان بولز كاثيدرال في لندن‪.‬‬ ‫‪(46) Harvey, Rebel Cities, p. 161.‬‬


‫تاسارد‬ ‫الفوضى العمرانية الخالقة في فضاءات مدينة القاهرة بعد ثورة يناير ‪ :2011‬جسور النيل وميدان التحرير‬

‫المصرية‪ :‬األولى هي أن الميدان في أيام الثورة وما بعدها لم يكن ً‬ ‫سلبيا‪ ،‬بل كان تجسيدً ا‬ ‫فراغا جامدً ا ً‬ ‫لعملية دينامية متجددة ونتيج ًة لتفاعل باقي المدينة ككل بأطرها العمرانية الرسمية والشعبية‪ ،‬ومدى‬ ‫تــدفــق الـنــاس مـنـهــا إلــى الـمـيــدان تـبـ ًـعــا لـتـطــورات مــا يـحــدث فـيــه وحــولــه‪ .‬الـظــاهــرة الـثــانـيــة هــي أن الـمــزيــج‬ ‫االجـتـمــاعــي فــي الـمـيــدان‪ ،‬أيــام الـثــورة‪ ،‬كــان عــاكـ ًـســا لخليط مــن الـهــويــات الـتــي تــؤكــد الـتـعــدديــة التاريخية‬ ‫لـكـيــان الـشـعــب الـمـصــري؛ فـقــد شـهــد الـمـيــدان‪ ،‬إضــافــة إلــى شـبــاب الـثــورة وجـمــاعــات الناشطين الـجــدد‪،‬‬ ‫تنظيما مثل اإلخــوان المسلمين والسلفيين‪ ،‬كما كــان هناك األقـبــاط والـعـمــال والفالحون‬ ‫كيانات أكثر‬ ‫ً‬ ‫سيرا على األقدام‪ .‬وشهد الميدان ً‬ ‫أيضا حضور مشجعي فرق كرة القدم‬ ‫الذين حضر بعضهم من القرى ً‬ ‫الـكـبــرى‪ ،‬أو مــن يـسـ َّـمــون اإلل ـتــراس‪ .‬وقــد تــداخــل هــذا الـمــزيــج ربـمــا أول مــرة فــي تــاريــخ مـصــر الـحــديــث‬ ‫معا لتحويل الميدان من فــراغ رسمي مــروري إلــى فــراغ شعبي أهلي إنساني متعدد‬ ‫مكوناته ً‬ ‫واشتركت ّ‬ ‫الهويات‪ ،‬ولكنها متناغمة في مسعاها‪ ،‬وألول مرة منذ عقود‪ ،‬نحو تحقيق هدف مشترك‪.‬‬ ‫حولت الميدان إلى فراغ لم يسبق للشعب المصري إدراكه أو معايشته‬ ‫هذه اللحظات الفريدة هي التي ّ‬ ‫أو التفاعل معه أو من خالله؛ فراغ شديد ّقيم للغاية على الرغم من وصفه بالفوضوي‪ ،‬وبصورة خاصة‬ ‫من جانب ماكينات اإلعــام التابعة لنظام يتداعى‪ .‬حتى التعامل مع ُجــدُ ر المباني المحيطة بالميدان‬ ‫الجدُ ر في أوقات‬ ‫أوجد ف ًّنا فطر ًيا‪ ،‬رغم وصف األنظمة الحاكمة له بأنه تشويه وفوضى؛ إذ اس ُتخدمت ُ‬ ‫ال ـثــورات الـشـعـبـيــة واالنـتـفــاضــات واالحـتـجــاجــات للتعبير عــن نـبــض الـشـعــوب ونـشــر رســائــل عـلـنـيــة حــرة‬ ‫ال تخضع لرقابة وســائــل اإلعــام الـعــاديــة‪ .‬وفــي حالة الـثــورة المصرية‪ ،‬تحولت ُجــدُ ر المباني المحيطة‬ ‫بميدان التحرير على نحو خاص إلى أداة لنشر الوعي السياسي واالجتماعي والثوري‪ ،‬تمهيدً ا لحقبة‬ ‫جديدة في تاريخ مصر المعاصرة‪ ،‬لتخرج لنا في النهاية ما أنتجته الثورة من قوالب تصويرية شديدة‬ ‫الخصوصية جعلتنا أمام صورة درامية حية تُجسد لنا حالة فريدة لفنانين فطريين وطنيين ولعوا بأنغام‬ ‫عاليا في الميدان‪ ،‬واستمروا في إبداعهم حتى بعد وصفهم‬ ‫الحرية وروائحها وأصواتها التي صدحت ً‬ ‫بالفوضويين‬ ‫ومشوهي تناسق المدينة(‪.((4‬‬ ‫ِّ‬ ‫الشكل (‪)9‬‬ ‫الفوضوية الرسمية‪ ،‬وحالة هدم الحائط الغرافيتي‪ ،‬ومحو ذاكرة المكان في ميدان التحرير‬

‫المصدر‪ :‬الباحث‪.‬‬ ‫(‪ ((4‬ب ـصــورة ممنهجة‪ ،‬وبـعــد خـلــع الــرئـيــس المنتخب فــي حــزيــران‪ /‬يــونـيــو ‪ ،2013‬تــولــت محافظة الـقــاهــرة حملة لمحو الـفــن الفطري‬ ‫الغرافيتي من ُجدُ ر الميدان‪ .‬وفسر محافظ القاهرة هذه الحملة بأنها إعادة الوجه الحضاري للعاصمة‪.‬‬

‫‪55‬‬


‫‪56‬‬

‫العدد ‪Issue 5 / 18‬‬ ‫خريف  ‪Autumn 2016‬‬

‫الشكل (‪)10‬‬ ‫مرحلة ما بعد ثورة ‪ 25‬يناير‪:‬‬ ‫الحكومة تسمح بالفوضى السلبية‪ ،‬وتعاقب الفوضى اإليجابية‪،‬‬ ‫حالة الباعة في الشوارع الرئيسية في وسط مدينة القاهرة‬

‫المصدر‪ :‬الباحث‪.‬‬

‫فــي أعـقــاب ثــورة ‪ 25‬يناير‪ ،‬تـعــددت تفسيرات ومعاني الحرية التي ناضل الشعب المصري مــن أجلها‬ ‫‪ 18‬يو ًما خالدة في تاريخه المعاصر‪ ،‬كما تباينت انعكاسات هذه التفسيرات على االستعمال المادي‬ ‫للفراغات العامة‪ .‬مع التنفس التدريجي لنسائم الحرية الجماعية والمجتمعية والشعبية‪ ،‬بدأ عشرات‬ ‫األلــوف مــن المصريين يتدفقون إلــى مـيــدان التحرير‪ ،‬فتحولت حـشــودهــم إلــى مشهد ثــابــت فــي صــورة‬ ‫الـمــديـنــة الـعـمــرانـيــة واالج ـت ـمــاع ـيــة وال ـث ـقــاف ـيــة‪ .‬وم ــع ه ــذا ال ـتــدفــق ت ـب ـلــورت أن ـســاق جــديــدة مــن االسـتـعـمــال‬ ‫الـفــوضــوي ال ـخـ ّـاق لـبـعــض فــراغــات الـمـيــدان‪ ،‬والـتــف معظمها حــول نـشــاط كــان ُيـعـتـبــر دائـ ًـمــا‪ ،‬وخــاصــة‬ ‫خارجا عن القانون‪ .‬من أهم تلك االنعكاسات مشاهد إعادة استخدام الشوارع‬ ‫في الحقبة المباركية‪،‬‬ ‫ً‬ ‫المؤدية إلى التحرير واألرصفة وأركان الميدان وساحته الوسطى؛ فمن ناحية‪ ،‬أعاد الباعة المتجولون‬ ‫المالحق والمطا َرد من الشرطة وأمن المحافظة‪،‬‬ ‫تنظيم دورهم في المدينة(‪ ،((4‬ونجحوا في تجاوز دور‬ ‫َ‬ ‫وتحولوا إلى حالة مالك الفراغ ومقنن وظيفته‪ ،‬بل وأوقــات استعماله‪ .‬على سبيل المثال‪ ،‬خالل ثورة‬ ‫‪ 25‬يناير وجميع األح ــداث الـتــي تلتها‪ُ ،‬فـتــح مـيــدان التحرير ليس فقط ل ــزواره ومتظاهريه وشـبــابــه وكل‬ ‫جماعات الشعب التي امتلكته‪ ،‬وإنما لمراكز نشاط متباينة أيـ ًـضــا؛ فالرصد الموثق ُيبرز وجــود أنشطة‬ ‫جديدة وتحرك أنشطة قديمة من األزقة الخلفية إلى قلب الميدان وشوارعه الرئيسية المحيطة‪ .‬واألمر‬ ‫الذي يدعو إلى التساؤل هو موقف النخبة التي تراجعت بشكل مفاجئ على الرغم من حماستها األولى‬ ‫للثورة ووصفها بأنها أفضل ما حــدث لمصر‪ ،‬وأن ثــوار ميدان التحرير هم أطهر شباب مصر وفخرها‬ ‫(‪ ((4‬ي ـقــدِّ ر بعض االقـتـصــاديـيــن أن عــدد الـبــاعــة المتجولين فــي مـصــر‪ ،‬الــذيــن يبيعون مــا قيمته ‪ 5‬مـلـيــارات دوالر مــن البضائع سنو ًيا‪،‬‬ ‫علما بــأن مـعــدل البطالة في‬ ‫يبلغ ‪ 5‬ماليين شـخــص‪ ،‬أي أقــل بمليون شخص فقط مــن عــدد العاملين‬ ‫رسميا فــي الحكومة المصرية‪ً ،‬‬ ‫ً‬ ‫مصر هو في أعلى مستوى له خالل عقد من الزمان (وفقًا لإلحصاءات الحكومية الرسمية‪ 3,4 :‬ماليين شخص)‪ ،‬وبالتالي ُيبقي الباعة‬ ‫المتجولون على بعض الحيوية فــي االقـتـصــاد الـمـصــري‪ .‬انـظــر‪Scott Sayare, «A Dictator Is Gone, but Egypt’s Traffic and :‬‬ ‫‪Congestion Seem Immovable,» The New York Times, 10/9/2012.‬‬


‫تاسارد‬ ‫الفوضى العمرانية الخالقة في فضاءات مدينة القاهرة بعد ثورة يناير ‪ :2011‬جسور النيل وميدان التحرير‬

‫اإلنـســانــي(‪ .((4‬ونــرصــد مــن هــذه األنشطة حــالــة بائعي الـمــأكــوالت‪ ،‬وخــاصــة الـمــأكــوالت الشعبية‪ ،‬وحالة‬ ‫رواد ال ـم ـي ــدان‪ ،‬وب ــاع ــة ال ـك ـتــب وال ـم ـج ــات وال ـص ـحــف‪،‬‬ ‫ح ـل ـقــات ال ـش ــاي وال ـق ـه ــوة ال ـتــي يـلـتــف حــول ـهــا ّ‬ ‫واالمـ ـت ــداد األف ـق ــي لـلـمـقــاهــي وال ـكــاف ـي ـتــريــات لـتـسـتــوعــب رغ ـبــة ال ـش ـعــب ف ــي ال ــوج ــود ال ـم ـكــانــي ال ـمــادي‬ ‫في جنبات الميدان‪ .‬ثم وصلنا إلى بائعي األعالم والشعارات الثورية التي تمجد ثورة ‪ 25‬يناير‪ .‬وعندما‬ ‫اسـتـمــرت الـحـكــومــة‪ ،‬مـمـ َّثـلــة فــي وزارة الــداخـلـيــة ومـحــافـظــة الـقــاهــرة‪ ،‬فــي تـمــاديـهــا بـتـجــاهــل الــزحــف على‬ ‫مـيــاديــن الـقــاهــرة وشــوارع ـهــا‪ ،‬تـحــول الـمـحــدود إلــى ظــاهــرة والـمـقـبــول إلــى غــزو ك ــام ــل(‪ .((5‬كـمــا تـجــاوزت‬ ‫عصابات‬ ‫شوارع القاهرة األكثر أهمية في عمرانها‬ ‫الدائرة االقتصادية صغار الباعة المتجولين‪ ،‬واحتلت‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫(‪((5‬‬ ‫َّ‬ ‫منظمة يديرها كبار تجار ومستوردي المالبس المق ّلدة والمزيفة ‪.‬‬ ‫تحول الميدان إلى ملتقى تفاعلي بين تقاليد محلية وطنية وتدفقات عالمية دولية ألفكار ومبادئ شغلت‬ ‫كل من سكن الميدان وسكنته روح الميدان‪ .‬هذه التفاعالت هي التي صاغت الكثير من الممارسات‬ ‫االجتماعية والسياسية والعمرانية في الميدان طوال أيام الثورة‪ .‬والطبقات المتعددة من التفاعل‪ ،‬بشقيه‬ ‫المحلي والعالمي‪ ،‬هي التي أفرزت تبادالت في األفكار والمعلومات والتقنية واألكثر أهمية في صوغ‬ ‫تحول الى ساحة للتفاوض بين األفراد والجماعات‪ ،‬يقودهم جمي ًعا اإلحساس‬ ‫المكان‪ .‬كما أن الميدان ّ‬ ‫بقيمة الفرد والجماعة‪ ،‬وأهمية التواصل لالتفاق ثم لتحقيق ما صيغ في مطالب الثورة أو مطالب الميدان‪،‬‬ ‫المعبرة عن حالة الحوار والتفاوض الشعبي غير المسبوقة في تاريخ مصر‬ ‫أو غيرها من المصطلحات‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫الحديث‪ .‬حالة مـيــدان التحرير الفراغية ينطبق عليها التصنيف الشهير لعالم االجتماع الفرنسي هنري‬ ‫المتخيلة أو المد َركة‬ ‫لوفيفر(‪ ،((5‬وهــو «الـفــراغــات المعيشة» )‪« )Lived Spaces‬التي تتجاوز الفراغات‬ ‫َّ‬ ‫)‪ ، )Perceived Spaces‬وتتحول إلى فراغات حقيقية عميقة في حياة الناس وذاكرتهم‪ .‬ويوضح لوفيفر‬ ‫المتخيل يكون عبر الغرق في التاريخ ورمــوزه‪ ،‬كالمشاهد الشعبية القديمة»‪ .‬وهنا‬ ‫أن «امتالك المكان‬ ‫ّ‬ ‫نستطيع فـهــم م ـحــاوالت الـهـجــوم الـحــاد عـلــى كــل مــا هــو شـعـبــي وتــراثــي وع ـفــوي‪ ،‬واتـهــامــه بــأنــه فــوضــوي‬ ‫(‪ ((4‬نشر الكاتب المصري سيد ياسين في أثناء حكم المجلس العسكري مقالة شدد فيها على عدم جدوى االستمرار في التظاهر‬ ‫واالعتصام في ميدان التحرير‪ ،‬بدعوى أن المجلس العسكري تولى زمام القيادة‪ ،‬ويجدر بالشباب الثوري أن يعود إلى بيوته ومدارسه‬ ‫وجامعاته ألن الثورة أصبحت في أيــد أمينة‪ .‬وقــد شاركه في الرؤية نفسها الكاتب سعد الدين إبراهيم في مقال في المصري اليوم‪،‬‬ ‫دعــا فيه إلــى إخــاء الـمـيــدان على الـفــور‪ .‬انـظــر‪ :‬سعد الــديــن إبــراهـيــم‪« ،‬إيــاكــم وإدم ــان مـيــدان الـتـحــريــر»‪ ،‬الـمـصــري الـيــوم‪.2011/8/27 ،‬‬ ‫ثم عاد سيد ياسين إلى كتابة مقالة ُأخرى تناول فيها حالة ميدان التحرير المعاصرة‪ ،‬واص ًفا إياها بعشوائية المولوتوف (السيد يسين‪،‬‬ ‫«من يوتوبيا الثورة إلى كوكب للعشوائيات‏!»‪ ،‬األهرام‪ )2013/3/7 ،‬‏‪ .‬وبالمثل‪ ،‬حذر الشاعر المصري فاروق جويدة في مقال أخير في‬ ‫يروعون المنطقة‪.‬‬ ‫األهرام من أنه أدرك‬ ‫حاليا ليسوا من الثوار‪ ،‬بل ُهم أطفال شوارع وبلطجية ّ‬ ‫متأخرا أن من في التحرير ً‬ ‫ً‬

‫(‪ ((5‬من أبرز التجارب المتعلقة باحتواء عربات المأكوالت واستخدامها في أحياء الفراغات تجربة مدينة بورتالند في والية أوريغون‬ ‫األمـيــركـيــة‪ ،‬حيث تحولت الـفــراغــات األكـثــر عــداء لــوجــود اإلنـســان‪ ،‬وهــي مــواقــف الـسـيــارات‪ ،‬إلــى أكـثــر الـفــراغــات نـشـ ً‬ ‫ـاطــا اجـتـمــاعـ ًـيــا؛ إذ‬ ‫حولتها المدينة إلى أماكن لوقوف العربات الصغيرة لبيع المأكوالت المتنوعة المرجعيات والثقافات‪ ،‬فأحدثت من خالل هذا القرار‬ ‫حــوا ًفــا اجتماعية نشطة ألكثر الفراغات غير االجتماعية‪ .‬وتـحــول هــذا المثال إلــى حالة دراســة في العالم كله‪ُ ،‬‬ ‫وأضيفت إليه طبقات‬ ‫ّ‬ ‫ُأخرى من خالل فهم دور هذه العربات في دعم االقتصاد المحلي وإيجاد فرص عمل جديدة‪.‬‬ ‫(‪ ((5‬عندما ُطلب من محافظ القاهرة تفسير التناقض بين موقف المحافظة من فض اعتصام رابعة بحجة أنه يعيق المرور ويسيء‬ ‫إلى البيئة‪ ،‬وموقفها من استمرار احتالل عصابات شوارع القاهرة وشرايين المرور بها‪ ،‬تمحورت إجابته حول أن هؤالء الباعة مواطنون‬ ‫شرفاء ساعدونا في مطاردة أعداء الدولة‪ ،‬وال يوجد لهم بديل يرتزقون منه‪ ،‬فوجب تركهم !!‪.‬‬

‫‪(52) Henri Lefebvre, The Production of Space, Translated by Donald Nicholson-Smith (Oxford, UK; Cambridge, Mass.:‬‬ ‫‪Blackwell, 1991).‬‬

‫‪57‬‬


‫‪58‬‬

‫العدد ‪Issue 5 / 18‬‬ ‫خريف  ‪Autumn 2016‬‬

‫المتخيل للمكان وضبطه تتم مــن خالل‬ ‫وه ـ ّـدام ومـخـ ِّـرب‪ .‬كما يــوضــح لوفيفر أن «السيطرة على الـ ُـبـعــد‬ ‫َّ‬ ‫خلق حالة من الخوف والحيازة وعدم األلفة‪ ،‬بجعل الحدود واألطراف أمكنة للقمع والرقابة‪ ،‬في مقابل‬ ‫الرأسمال الرمزي المركزي»(‪ ،((5‬ومن هنا تنطلق دعاية «الجماعات التخريبية الفوضوية في التحرير»‪.‬‬ ‫الشكل (‪)11‬‬ ‫رصد الطاقة اإلبداعية في فراغات الربيع العربي‪،‬‬ ‫وتحول ُجدُ ر الفضاءات إلى سياق لعرض اإلبداع الفني الشعبي‬ ‫ُّ‬

‫المصدر‪ :‬الباحث‪.‬‬

‫بيد أن عبقرية الميدان تتج ّلى ً‬ ‫وحلما لكثيرين‬ ‫أيضا في أنه احتوى التصنيفين اآلخرين؛ فهو مثّل رؤية‬ ‫ً‬ ‫مـمــن لــم يـسـبــق لـهــم أن رأوا الـمـيــدان‪ .‬وهـنــاك ُبـعــد آخــر مـهــم لـفـهــم الـمـيــدان وتــركـيـبـتــه‪ ،‬وهــو الـتـمـكــن من‬ ‫البعد الرقمي من خالل شبكات التواصل االجتماعي التي‬ ‫السيطرة الرقمية والمادية على صورته‪ ،‬فكان ُ‬ ‫البعد الثاني‪ ،‬فهو مادي‪ ،‬جرت فيه السيطرة الكاملة‬ ‫همشت آلة الدولة اإلعالمية الفجة وفضحتها‪ّ .‬أما ُ‬ ‫عـلــى أهــم مـيــاديــن مـصــر لـتــأكـيــد رفــض سـيـطــرة الــدولــة‪ ،‬وإلسـقــاط قيمتها وتـحــدي آلـتـهــا األمـنـيــة الـشــرســة‪.‬‬ ‫وعلى الرغم من إمكان الجزم بأن فكرة الثورة كانت نتاج حــوارات الفراغ الرقمي العام على شبكات‬ ‫التواصل االجتماعي العنكبوتية‪ ،‬فإنها لم تتحول إلى حقيقة هادرة وجاذبة ماليين من الشعب المصري‬ ‫إال عـنــدمــا اح ـتــل اآلالف ثــم الـمــايـيــن م ـيــدان الـتـحــريــر وق ــدم ــوا مــاحــم يــومـيــة مــن ال ـصـمــود والـمـقــاومــة‬ ‫والـتـضـحـيــة‪ .‬هــذه الـتـحــوالت مـسـتـجــدة بـشــدة عـلــى شـعــب يـتـعــامــل مــع كــل مــا هــو عــام مــن منطلق «ملك‬ ‫‪(53) Ibid., and Henri Lefebvre, The Urban Revolution, Translated by Robert Bononno; Foreword by Neil Smith‬‬ ‫‪(Minneapolis: University of Minnesota Press, 2003), p. 134.‬‬


‫‪59‬‬

‫تاسارد‬ ‫الفوضى العمرانية الخالقة في فضاءات مدينة القاهرة بعد ثورة يناير ‪ :2011‬جسور النيل وميدان التحرير‬

‫الـحـكــومــة»‪ ،‬وبمعنى آخــر الــرضــوخ واالسـتـســام‪ ،‬ونـشــوء حــالــة عــدائـيــة بين اإلنـســان والـمـكــان‪ .‬لقد ُحــرم‬ ‫الشعب المصري لسنوات‪ ،‬بل لعقود‪ ،‬من ممارسة أي أنشطة اجتماعية أو سياسية جماعية في الفراغ‬ ‫العام‪ ،‬فكسر ميدان التحرير هذا الحاجز النفسي والمادي الجبار‪.‬‬

‫خاتمة‬ ‫جليا من حالتي الدراسة األساسيتين في هذا البحث‪ ،‬هو أن الشعوب العطشى إلى عالقة‬ ‫تبين ً‬ ‫إن ما ّ‬ ‫مـتـمـيــزة مــع الـفــراغ الـعــام تنطلق بـفــوضــويــة إلع ــادة امـتــاك هــذا الـفــراغ حـيــن تـتــاح لـهــا الـفــرصــة‪ .‬وفــي هــذه‬ ‫االنطالقة التي تبدو عشوائية وفوضوية‪ ،‬تتبلور أنساق متميزة من استعمال الفراغ ودفق الحياة والحيوية‬ ‫فيه من خالل عالقات أكثر صدقية في التعبير عن متطلبات شاغليه وتطلعاتهم ومحاور إسعادهم‪ .‬كما‬ ‫ألقى البحث الضوء على دور الفراغات العامة في تأجيج الثورة واستمراريتها‪ ،‬وبلور أهمية وجود مكان‬ ‫لفضاءات ديمقراطية‪ ،‬وهي فراغات ال تنتقي بل تسمح للجميع بالتفاعل والتداخل والتعبير عن النفس‬ ‫وعن الجماعة؛ فراغات ال تعاقب على فقر بعض قطاعات المجتمع أو معظمها كما هي الحال في مصر‪،‬‬ ‫وال تحتفي بثراء النخبة المستثناة‪ .‬هذا هو الفراغ الديمقراطي العام (‪،)Democratic Public Space‬‬ ‫الجدُ ر واألســوار والحواجز التي تحد حركة اإلنسان‬ ‫وهذه هي المدينة العادلة‪ .‬هذه الفراغات ترفض ُ‬ ‫داخلها؛ ومن الحيوي ً‬ ‫أيضا أن نــدرك‪ ،‬كما بينت الدراسة‪ ،‬أن المعماري والعمراني والمخطط العربي‬ ‫والمصري (المهني الممارس أو األكاديمي الباحث)‪ ،‬كل هؤالء يحتاجون إلى كثير من التروي والتمهل‬ ‫قبل إصــدار أحكام على فوضوية المكان وعشوائية االستعمال‪ .‬لقد أوضــح البحث أن حيوية جسور‬ ‫القاهرة حين تُستخدم شرفات عامة مفتوحة للشعب ليسعد بإطاللته على النيل‪ ،‬واحتواءها على ميدان‬ ‫الـتـحــريــر‪ ،‬بـمــا فـيــه مــن عـقــدة مــروريــة وف ــراغ تـمــأه مــراكــز نشطة تسمح بالتفاعل اإلنـســانــي واالجـتـمــاعــي‬ ‫والثقافي‪ ،‬بل وحتى اإلبداعي‪ ،‬هي في الواقع أمثلة ّبينة على أن الفوضى العمرانية يمكن وصفها بأنها‬ ‫خـ ّـاقــة أحـيــا ًنــا‪ .‬إن قيمة الـعـمــل الـثــوري الحقيقية هــي أن هــذا الـعـمــل يحقق تطلعات المجتمعات إلــى‬ ‫العدالة‪ ،‬ولكن ليس فقط العدالة بمفهومها المعنوي األخالقي‪ ،‬بل ً‬ ‫أيضا بمفهومها المادي المحسوس‪.‬‬ ‫إن ثورة تحقيق عدالة وديمقراطية العمران وإعــادة النيل إلى المجتمع المصري هي جزء ال يتجزأ من‬ ‫يوميا بحق‬ ‫استمرارية ثــورة ‪ 25‬كانون الثاني‪/‬يناير ‪ .2011‬لــذا‪ ،‬فإن ضــرورة وقف الجريمة التي تُرتكب ً‬ ‫تعبيرا عــن استقالل الـفــراغ الـعــام واحـتــرام المصريين‪ ،‬هما عمل‬ ‫نيل مـصــر‪ ،‬وإعــادة الحياة إلــى ضفافه‬ ‫ً‬ ‫ثوري بامتياز‪.‬‬

‫المراجع ‬

‫‪References‬‬

‫العربية‬

‫كتب‬

‫حمودة‪ ،‬عبد العزيز‪ .‬المرايا المحدبة من البنيوية إلى التفكيك‪ .‬عالم المعرفة؛ ‪ .232‬الكويت‪ :‬المجلس‬ ‫الوطني للثقافة والفنون واآلداب‪.1998 ،‬‬


‫‪60‬‬

‫العدد ‪Issue 5 / 18‬‬ ‫خريف  ‪Autumn 2016‬‬

‫دري ــدا‪ ،‬جــاك‪ .‬الـكـتــابــة واالخ ـتــاف‪ .‬ترجمة كــاظــم جـهــاد؛ تقديم محمد عــال سيناصر‪ .‬الــدار البيضاء‪:‬‬ ‫دار توبقال‪.1988 ،‬‬ ‫رافـيـنــدران‪ ،‬س‪ .‬الـبـنـيــويــة والـتـفـكـيــك‪ :‬تـطــورات الـنـقــد األدب ــي‪ .‬ترجمة خــالــدة حــامــد‪ .‬بـغــداد‪ :‬دار الـشــؤون‬ ‫الثقافية العامة‪.2002 ،‬‬ ‫سعيد‪ ،‬رشــدي‪ .‬نهر النيل‪ :‬نشأته واسـتـخــدام مياهه فــي الماضي والمستقبل‪ .‬ط ‪ .2‬القاهرة‪ :‬دار الهالل‬ ‫للطباعة‪.1993 ،‬‬ ‫عـبــد ال ــرءوف‪ ،‬عـلــي‪ .‬الـنـقــد الـمـعـمــاري ودوره فــي تـطــويــر الـعـمــران الـمـعــاصــر‪ :‬الـحــالــة الـمـصــريــة والـعــربـيــة‪.‬‬ ‫القاهرة‪[ :‬رخصة المشاع اإلبداعي]‪.2014 ،‬‬ ‫غليك‪ ،‬جايمس‪ .‬نظرية الفوضى ‪ -‬علم الالمتوقع‪ .‬بيروت‪ :‬دار الساقي‪.2008 .‬‬ ‫فياض‪ ،‬ناصر‪ .‬اغتيال نهر النيل‪ .‬القاهرة‪ :‬دار نهضة مصر‪.2005 ،‬‬ ‫كازانتزاكيس‪ ،‬نيكوس‪ .‬رحلة إلى مصر‪ :‬الوادي وسيناء‪ .‬ترجمة محمد الظاهر ومنية سمارة‪ .‬كتاب أدب‬ ‫ونقد؛ ‪ .1‬القاهرة‪ :‬مجلة أدب ونقد‪.1991 ،‬‬

‫دوريات‬

‫البنكي‪ ،‬محمد أحمد‪« .‬التفكيك»‪ .‬آوان‪ .‬العدد ‪.)2003( 2‬‬

‫العتيق‪ ،‬أحمد‪« .‬نظرية الفوضى‪ :‬علم الالمتوقع»‪ .‬الدوحة (دولة قطر)‪ .‬العدد ‪( 69‬تموز‪ /‬يوليو ‪.)2013‬‬ ‫وإنسانيا»‪ .‬جريدة مركز طارق والي‬ ‫عمرانيا‬ ‫فرحات‪ ،‬عبد المحسن‪« .‬جسر لألمل عبر محيط فوضوي‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫العمارة والتراث‪ .‬آذار‪ /‬مارس ‪.2015‬‬ ‫األجنبية‬ ‫‪Books‬‬ ‫‪Bruno, Marco, Simone Carena and Minji Kim. Borrowed City: Private Use of Public‬‬ ‫‪Space in Seoul. Seoul, Korea: Damdi Pub., 2013.‬‬ ‫‪Carr, Stephen [et al.]. Public Space. Cambridge Series in Environment and Behavior.‬‬ ‫‪Cambridge, [England]; New York: Cambridge University Press, 1992.‬‬ ‫‪Culler, Jonathan D. On Deconstruction: Theory and Criticism after Structuralism.‬‬ ‫‪Ithaca, NY: Cornell University Press, 1982.‬‬ ‫‪Fainstein, Susan S. The Just City. Ithaca: Cornell University Press, 2010.‬‬ ‫‪Freitag, Ulrike [et al.] (eds.). Urban Violence in the Middle East: Changing Cityscapes‬‬ ‫‪in the Transformation from Empire to Nation State. Space and Place; 14. New York:‬‬ ‫‪Berghahn Books, 2015.‬‬


61

‫تاسارد‬ ‫ جسور النيل وميدان التحرير‬:2011 ‫الفوضى العمرانية الخالقة في فضاءات مدينة القاهرة بعد ثورة يناير‬

Graham, Stephen. Cities under Siege: The New Military Urbanism. London; New York: Verso, 2011. Gunning, Jeroen and Ilan Zvi Baron. Why Occupy a Square?: People, Protests and Movements in the Egyptian Revolution. London: Hurst and Company, 2013. Habitat III Report: New Urban Agenda. [s. l.]: UN Housing and Sustainable Urban Development, 2016. Harvey, David. Rebel Cities: From the Right to the City to the Urban Revolution. New York: Verso, 2012. ______. Social Justice and the City. Geographies of Justice and Social Transformation; 1. Rev. ed. Athens: University of Georgia Press, 2009. Hénaff, Marcel and Tracy B. Strong (eds.). Public Space and Democracy. Minneapolis: University of Minnesota Press, 2001. Jacobs, Jane. The Death and Life of Great American Cities. [New York: Random House], 1961. Leach, Neil. Rethinking Architecture: A Reader in Cultural Theory. New York: Routledge, 1997. Lefebvre, Henri. The Production of Space. Translated by Donald Nicholson-Smith. Oxford, UK; Cambridge, Mass.: Blackwell, 1991. ______. The Urban Revolution. Translated by Robert Bononno; Foreword by Neil Smith. Minneapolis: University of Minnesota Press, 2003. Loesberg, Jonathan. Aestheticism and Deconstruction: Pater, Derrida, and De Man. Princeton, NJ: Princeton University Press, 1991. Noever, Peter. Architecture in Transition: Between Deconstruction and New Modernism. Assisted by Regina Haslinger; Introduction by Alois Martin Müller; Contributions by Coop Himmelblau [et al.]; Epilogue by Philip Johnson. Munich: Prestel, 1991. Parkinson, John R. Democracy and Public Space: The Physical Sites of Democratic Performance. Oxford: Oxford University Press, 2012. Pulselli, Riccardo M. and Enzo Tiezzi. City Out of Chaos: Urban Self-Organization and Sustainability. Sustainable World; 19. Southampton, UK; Billerica, MA: WIT Press, 2009. Samuels, L. K. In Defense of Chaos: The Chaology of Politics, Economics and Human Action. New York: Cobden Press, 2013. Seikaly, May and Khawla Mattar (eds.). The Silent Revolution: The Arab Spring and the Gulf States. Berlin: Gerlach Press, 2014.


Issue 5 / 18 ‫العدد‬ Autumn 2016  ‫خريف‬

Shaftoe, Henry. Convivial Urban Spaces: Creating Effective Public Places. London; Sterling, VA: Earthscan; International Institute for Environment and Development, 2008. Soja, Edward W. Seeking Spatial Justice. Globalization and Community Series. Minneapolis: University of Minnesota Press, 2010. United Nations Development Programme. Human Development Report, 2014: Sustaining Human Progress- Reducing Vulnerability and Building Resilience. New York: The Programme, 2014. United Nations Human Settlements Programme (UN-Habitat). 53 UN-Habitat Model Projects, 2013/2014: Time to Think Urban. Nairobi: UN-Habitat, 2013. ________. The State of Arab Cities Report, 2012: Challenges of Urban Transition. Kenya: UN-Habitat, 2012. Whyte, William Hollingsworth. The Social Life of Small Urban Spaces. Washington, DC: Conservation Foundation, 1980. Wigley, Mark. The Architecture of Deconstruction: Derrida’s Haunt. Cambridge, Mass.: MIT Press, 1993. Woolley, Helen. Urban Open Spaces. London; New York: Spon Press, 2003.

Periodical Mehta, Vikas. «Lively Streets: Determining Environmental Characteristics to Support Social Behavior.» Journal of Planning Education and Research. vol. 27, no. 2 (December 2007).

Paper Presented at Conference Nilsson, Fredrik. «Philosophy and the Development of Architectural Thinking.» Paper Presented at CongressCATH 2004: The Architecture of Philosophy/The Philosophy of Architecture, Third Conferences Promoted by CentreCATH, at the National Museum of Photography, Film and Television, Bradford, UK, 9 - 11 July 2004. Accessed on 8/5/2016, at: http://www.leeds.ac.uk/cath/congress/2004/programme/abs/114.shtml.

Document Jones, Chris. «Top Ten Quotes from Aaron Sorkin for Screenwriters.» London Screen Writers Festival, 17 August 2014. Accessed on 3/3/2016, at: http://www. londonscreenwritersfestival.com/top-ten-quotes-from-aaron-sorkin.

62


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.