الإيمان بالقرآن الكريم

Page 1


‫‪‬‬ ‫ِ‬ ‫اّللِ﴾ [احلشر‪.]21 :‬‬ ‫ص ِد ًعا ِم ْن َخ ْشيَ ِة َ‬ ‫﴿لَ ْو أَنْ َزلْنَا َه َذا الْقرآن َعلَى َجبَ ٍل لَ​َرأَيْتَهُ َخاش ًعا ُمتَ َ‬

‫‪1‬‬


‫سلسلة أركان اإلميان (‪)5‬‬

‫اإلميان ابلقرآن الكرمي‬ ‫والكتب السماوية‬

‫أتليف‬ ‫الصالّيب‬ ‫الدكتور علي حممد حممد ّ‬

‫‪2‬‬


‫اّللِ الَر ْ​ْحَ ِن الَرِحي ِم﴾‬ ‫﴿بِ ْس ِم َ‬

‫اإلهداء‬ ‫إىل كل إنسان يبحث عن منهج هللا يف الوجود‬ ‫أهدي هذا الكتاب‪..‬‬ ‫قال تعاىل‪:‬‬

‫﴿فَمن َكا َن ي رجو لَِقاء ربِ​ِه فَ ْلي عمل عمالً ص ِ‬ ‫اِلا والَ ي ْش ِرْك بِعِبادةِ ربِ​ِ‬ ‫َح ًدا ﴾‬ ‫أ‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َْ ُ َ َ َ ْ َ ْ َ َ َ ً َ ُ‬ ‫َْ‬ ‫[الكهف‪.]110 :‬‬

‫‪3‬‬


‫اّللِ الَر ْ​ْح ِ‬ ‫ان الَرِحي ِم ﴾‬ ‫﴿بِ ْس ِم َ َ‬ ‫مقدمة‬

‫إن اِلمد هلل‪ ،‬حنمده ونستعينه‪ ،‬ونستهديه‪ ،‬ونستغفره‪ ،‬ونعوذُ ابهللِ من شرور أنفسنا‪،‬‬ ‫أشهد‬ ‫ومن سيئات أعمالنا‪ ،‬من يهده هللا فال مضل له‪ ،‬ومن يضلل فال هادي له‪ ،‬و ُ‬ ‫أ ْن ال إله إال هللا وحده ال شريك له‪ ،‬وأشهد أن حممداً عبده ورسوله‪.‬‬ ‫َِ‬ ‫اّللَ َح َق تُ َقاتِ​ِه َوالَ َ​َتُوتُ َن إِالَ َوأَنْتُ ْم‬ ‫ين َآمنُوا اتَ ُقوا َ‬ ‫قال تعاىل‪َ​َ ﴿ :‬يأَيُّ َها الذ َ‬ ‫ُم ْسلِ ُمو َن﴾[آل عمران‪.]102 :‬‬ ‫َِ‬ ‫س وِ‬ ‫ِ‬ ‫اح َدةٍ َو َخلَ َق ِمْن َها‬ ‫َاس اتَ ُقوا َربَ ُك ُم الذي َخلَ َق ُك ْم م ْن نَ ْف ٍ َ‬ ‫وقال تعاىل‪َ​َ ﴿ :‬يأَيُّ َها الن ُ‬ ‫اّلل‬ ‫َزْو َج َها َوبَ َ‬ ‫اّللَ الَ ِذي تَ َساءَلُو َن بِ​ِه َوالَْر َحا َ إِ َن َ​َ‬ ‫ث ِمْن ُه َما ِر َجاالً َكثِ ًريا َونِ َساءً َواتَ ُقوا َ‬ ‫َكا َن َعلَْي ُك ْم َرقِيبًا ﴾ [النساء‪.]1 :‬‬ ‫وقال تعاىل‪َ﴿ :‬يأَيُّها الَ ِ‬ ‫صلِ ْح لَ ُك ْم‬ ‫ذ‬ ‫ين َآمنُوا اتَ ُقوا َ‬ ‫اّللَ َوقُولُوا قَ ْوالً َس ِد ً‬ ‫يدا ۝ يُ ْ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫اّللَ َوَر ُسولَهُ فَ َق ْد فَ َاز فَ ْوًزا‬ ‫أ َْع َمالَ ُك ْم َويَ ْغ ِفْر لَ ُك ْم ذُنُوبَ ُك ْم َوَم ْن يُ ِط ْع َ‬ ‫ِ‬ ‫يما﴾[األجزاب‪.]71-70 :‬‬ ‫َعظ ً‬ ‫َي ِ‬ ‫اِلمد بعد الرضا‪.‬‬ ‫اِلمد إذا‬ ‫رضيت‪ ،‬ولك ُ‬ ‫اِلمد حىت ترضى‪ ،‬ولك ُ‬ ‫رب لك ُ‬ ‫َ‬

‫الكتاب يتحدث عن اإلميان ابلقرآن الكرمي والكتب السماوية‪ ،‬وهو‬ ‫بعد‪ :‬فهذا‬ ‫أما ُ‬ ‫ُ‬ ‫من ضمن سلسلة أركان اإلميان‪ ،‬وقد قمت بتقسيمه إىل اببني؛ أما الباب الول‪:‬‬

‫فقد خصص لإلميان ابلقرآن الكرمي‪ ،‬وهو ينقسم إىل ثالثة فصول‪:‬‬ ‫الفصل الول‪ :‬حتدثت فيه عن القرآن الكرمي‪ ،‬تعريفه وعظمته وأمساؤه‪ ،‬مث صفاته‪،‬‬ ‫ومنها‪ :‬اِلكيم‪ ،‬والعزيز‪ ،‬والكرمي‪ ،‬واجمليد‪ ،‬والعظيم‪ ،‬والبشري‪ ،‬والنذير‪.‬‬ ‫‪4‬‬


‫ويف الفصل الثاين‪ :‬أشرت إىل خصائص القرآن الكرمي‪ ،‬واليت من أمهها كونه كتاب‬ ‫ومبني ومي َسر‪ ،‬وكتاب هداية‪ ،‬وكتاب اإلنسانية كلها والزمن‬ ‫إهلي‪ ،‬وحمفوظ ومعجز‪َ ،‬‬ ‫ومهيمن على الكتب السماوية السابقة‪.‬‬ ‫كله‪ ،‬ونزل أبرقى اللغات وأمجعِها‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫ويف الفصل الثالث‪ :‬تكلمت عن مقاصد القرآن الكرمي‪ ،‬واليت من أمهها‪ ،‬تصحيح‬ ‫العقائد والتصورات‪ ،‬وتزكية النفس البشرية‪ ،‬وعبادة هللا وتقواه‪ ،‬وإقامة العدل بني‬ ‫الناس‪ ،‬والشورى‪ ،‬واِلرية‪ ،‬ورفع اِلرج‪ ،‬وتقرير كرامة اإلنسان ابلخالق والفضائل‪،‬‬ ‫وتقرير حقوق اإلنسان‪ ،‬كحق اِلياة واِلرية واملساواة والعدالة‪ ،‬وحق الفرد يف حماكمة‬ ‫عادلة‪ ،‬وحق اِلماية من تعسف السلطة‪ ،‬وحق الفرد يف ْحاية عرضه ومسعته‪ ،‬وحق‬ ‫اللجوء‪ ،‬وحقوق القليات‪ ،‬وحق املشاركة يف اِلياة العامة‪ ،‬وحق الدعوة والبالغ‬ ‫واِلقوق االقتصادية‪ ،‬وحق املِْلكية‪ ،‬وحق العامل‪ ،‬وحق الفرد يف كفايته من مقومات‬ ‫اِلياة‪ ،‬وأتكيد حقوق الضعفاء‪.‬‬ ‫ومن مقاصد القرآن الكرمي‪ :‬تكوين السرة الصاِلة‪ ،‬وإنصاف املرأة وحتريرها من ظلم‬ ‫اجلاهلية‪ ،‬وبناء المة الشهيدة على الناس‪ ،‬والسماحة والرْحة‪ ،‬والوفاء ابلعهود‬ ‫والعقود‪.‬‬ ‫ويف الفصل الرابع‪ :‬تكلمت عن مجع القرآن وكتابته‪ ،‬وقد بينت املراحل اليت مَر هبا‬ ‫املشروع اِلضاري يف مجع القرآن الكرمي‪ ،‬وكتابته من عهد النيب صلى هللا عليه وسلم‬ ‫إىل عهد عثمان بن عفان رضي هللا عنه‪.‬‬ ‫أما الباب الثاين‪ :‬فقد حتدث عن الكتب السماوية‪ ،‬وقد تضمن مخسة فصول‪:‬‬ ‫‪5‬‬


‫الفصل الول‪ :‬يف وجوب اإلميان ابلكتب السماوية ‪.‬‬ ‫والفصل الثاين‪ :‬يف الكتب اليت ورد ذكرها يف القرآن الكرمي‪.‬‬ ‫والفصل الثالث‪ :‬يف حتريف الكتب السابقة ‪.‬‬ ‫والفصل الرابع‪ :‬يف أمهية اإلميان ابلكتب السماوية‪.‬‬ ‫أما الفصل اخلامس‪ :‬ففي بيان أن القرآن الكرمي نسخ الكتب السابقة كلها‪.‬‬ ‫هذا وقد‬ ‫ُ‬ ‫انتهيت من هذا الكتاب يو اخلميس يف الساعة السادسة إال ربع مساءً‬ ‫بتاريخ ‪ 24‬شعبان ‪1431‬ه املوافق ‪ ، 2010/8/5‬والفضل هللِ‬ ‫بعد‪،‬‬ ‫من‬ ‫قبل ومن ُ‬ ‫ُ‬ ‫صدور العباد لالنتفاع به‪،‬‬ ‫وأسأله سبحانه وتعاىل أن يتقبل هذا العمل‪ ،‬ويشرح‬ ‫َ‬ ‫اّللُ لِلن ِ‬ ‫ك‬ ‫وج ْوده‪ ،‬قال تعاىل‪َ ﴿ :‬ما يَ ْفتَ ِح َ‬ ‫َاس ِم ْن َر ْ​ْحٍَة فَالَ ْمُْ ِس َ‬ ‫ويبارك فيه مبنه وكرمه ُ‬ ‫اِلَ ِك ُيم ﴾ [فاطر‪.]2 :‬‬ ‫ك فَالَ ُمْرِس َل لَهُ ِم ْن بَ ْع ِدهِ َوُه َو الْ َع ِز ُيز ْ‬ ‫َهلَا َوَما ميُْ ِس ْ‬ ‫أقف بقلب خاش ٍع ٍ‬ ‫منيب أما خالقي‬ ‫وال يسعين يف هناية هذا الكتاب إال أن َ‬

‫وجوده‪ ،‬متربائً من حويل وقويت‪ ،‬ملتجئاً‬ ‫العظيم‪ ،‬وإهلي الكرمي‪ ،‬معرتفاً بفضله وكرمه ُ‬ ‫إليه يف كل حركايت وسكنايت‪ ،‬وحيايت وْمايت‪ ،‬فاهلل خالقي هو املتفضل‪ ،‬وريب الكرمي‬

‫هو املعني‪ ،‬وإهلي العظيم هو املوفق‪ ،‬فلو ختلى عين ووكلين إىل عقلي ونفسي لتبلد‬ ‫مين العقل‪ ،‬ولغابت الذاكرة‪ ،‬وليبست الصابع‪ ،‬وجلف ِ‬ ‫ت العواطف‪ ،‬ولتحجرت‬ ‫املشاعر‪ ،‬ولعجز القلم عن البيان‪ ،‬اللهم بصرين مبا يرضيك‪ ،‬واشرح له صدري‪،‬‬ ‫وجنبين اللهم ما ال يرضيك‪ ،‬واصرفه عن قليب وتفكريي‪ ،‬وأسألك أبمسائك اِلسىن‬ ‫وصفاتك العلى أن جتعل عملي لوجهك خالصاً‪ ،‬ولعبادك انفعاً‪ ،‬وأن تثيبين على ِ‬ ‫كل‬ ‫حرف كتبته‪ ،‬وجتعله يف ميزان حسنايت‪ ،‬وأن تثيب إخواين الذين أعانوين على إَتا‬ ‫انتشار بني الناس‪ ،‬ونرجو من كل مسلم‬ ‫وجود وال‬ ‫هذا اجلهد الذي لوالك ما كان له ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫‪6‬‬


‫يطلع على هذا الكتاب أال ينسى العبد الفقري إىل عفو ربه ومغفرته ورْحته ورضوانه‬ ‫من دعائه‪.‬‬

‫ي وأَ ْن أَعمل ص ِ‬ ‫ِ‬ ‫﴿ر ِ‬ ‫اِلًا‬ ‫ب أ َْوِز ْع ِين أَ ْن أَ ْش ُكَر نِ ْع َمتَ َ‬ ‫ك الَِيت أَنْ َع ْم َ‬ ‫ت َعلَ َي َو َعلَى َوال َد َ َ ْ َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ك ِيف عِب ِاد َك ال َ ِ​ِ‬ ‫ني ﴾ [النمل‪.]19 :‬‬ ‫ضاهُ َوأ َْد ِخ ْل ِين بَِر ْ​ْحَتِ َ‬ ‫تَ ْر َ‬ ‫صاِل َ‬ ‫َ‬ ‫ِ َِ‬ ‫ِ‬ ‫وان ِاب ِإلميَ ِ‬ ‫ان‬ ‫ين َسبَ ُق َ‬ ‫وأختم هذا الكتاب بقول هللا تعاىل‪َ ﴿ :‬ربَنَا ا ْغفْر لَنَا َو ِإل ْخ َواننَا الذ َ‬ ‫ِ ِ​ِ‬ ‫ِ‬ ‫وف َرِح ٌيم ﴾ [احلشر‪.]10 :‬‬ ‫ك َرُؤ ٌ‬ ‫ين َآمنُوا َربَنَا إِنَ َ‬ ‫َوالَ َْجت َع ْل يف قُلُوبِنَا غالًّ للَذ َ‬ ‫سبحانك اللهم وحبمدك أشهد أن ال إله إال أنت‪ ،‬أستغفرك وأتوب إليك‪.‬‬

‫الصالّيب‬ ‫علي حممد حممد َّ‬ ‫غفر هللا له ولوالديه وجلميع املسلمني‬

‫‪Website.www.alsallab.com‬‬ ‫‪Mail: info@alsallab.com‬‬

‫‪7‬‬


‫الباب األول ‪ :‬اإلميان ابلقرآن الكرمي‬ ‫الفصل األول‪ :‬القرآن الكرمي‪ :‬تعريفه‪ ،‬عظمته‪ ،‬أمساؤه‪ ،‬صفاته‬ ‫الفصل الثاين‪ :‬خصائص القرآن الكرمي‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬مقاصد القرآن الكرمي‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬مجع القرآن الكرمي وكتابته‬

‫‪8‬‬


‫الفصل األول ‪ :‬القرآن الكرمي‬ ‫تعريفه‪ ،‬عظمته‪ ،‬وأمساؤه‪ ،‬صفاته‬ ‫املبحث األول‪ :‬تعريف القرآن الكرمي‬ ‫املبحث الثاين‪ :‬عظمة القرآن الكرمي‬ ‫املبحث الثالث‪ :‬أمساء القرآن الكرمي‬ ‫املبحث الرابع‪ :‬صفات القرآن الكرمي‬

‫‪9‬‬


‫املبحث األول ‪ :‬تعريف القرآن الكرمي‬ ‫أوالً ـ القرآن لغة‪:‬‬

‫بفعل وال ٍ‬ ‫اسم وليس ٍ‬ ‫حرف‪ ،‬لكنهم‬ ‫أهل العل ِم رْحهم هللا على أ َن لف َ‬ ‫ظ «قرآن» ٌ‬ ‫اتفق ُ‬

‫اختلفوا فيه من جهة االشتقاق أو عدمه‪ ،‬ومن جهة كونه مهموزاً أو غري مهموٍز‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫وم ْن جهة كونه مصدراً أو وصفاً على أقوال عدة جتمل فيما أييت(‪:)1‬‬ ‫القول األول‪ :‬إنه اسم علم غري منقول‪ ،‬وضع من أول المر علماً على الكال املنَزل‬ ‫اسم جام ٌد غريُ مهموز‪ ،‬مثل التوراة واإلجنيل‪،‬‬ ‫على حممد صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وهو ٌ‬ ‫مروي عن ٍ‬ ‫مجاعة من العلماء منهم‪ :‬الشافعي‪ ،‬وابن كثري‪ ،‬وغريمها رْحهم‬ ‫وهذا ُ‬ ‫القول ٌّ‬ ‫اسم‪ ،‬وليس‬ ‫هللا مجيعاً‪ ،‬وقد نقل ابن منظور أ َن الشافعي رْحه هللا كان يقول‪ :‬القرآن ٌ‬ ‫ِ‬ ‫لكتاب هللاِ مثل التوراة واإلجنيل(‪.)2‬‬ ‫اسم‬ ‫مبهموٍز‪ ،‬ومل يؤخذ من قر ُ‬ ‫أت‪ ،‬ولكنه ٌ‬ ‫القول الثاين والثالث‪ :‬مها قوالن للقائلني أبن لفظ القرآن مهموز(‪:)3‬‬ ‫األول‪ :‬أن القرآن مصدر «قرأ» مبعىن «تال» كالرجحان والغفران‪ ،‬مث نُِق َل من‬ ‫وجعِ َل امساً للكال املنَزل على نبينا حممد صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬ويشهد له‬ ‫املصدر‪ُ ،‬‬ ‫قوله تعاىل‪﴿ :‬فَِإذَا قرأانهُ فَاتَبِ ْع قرآنهُ ﴾ [القيامة‪ ]18 :‬أي‪ :‬قراءته‪.‬‬ ‫وقول حسان بن اثبت يرثي عثمان رضي هللا عنه‪:‬‬ ‫السج ِ‬ ‫ي َق ِ‬ ‫ود بِ​ِ‬ ‫الليل تَ ْسبِْيحاً وقرآان‬ ‫ع‬ ‫ط‬ ‫ه‬ ‫ض َحوا ِأب ْ‬ ‫َْشَ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ط عُْن َوا ُن ُّ ُ‬ ‫ُ َ‬ ‫أي‪ :‬قراء ًة(‪.)1‬‬ ‫(‪ )1‬معجم مقاييس اللغة‪ ،)396/2( ،‬املصباح املنري‪ ،‬ص (‪ ،)259‬لسان العرب‪.)131 128/1( ،‬‬ ‫(‪ )2‬لسان العرب (‪ )128 /1‬مادة ((قرأ))‪.‬‬ ‫(‪ )3‬معىن مهموز‪ :‬أن اهلمزة يف لفظ «القران» أصلية‪ ،‬من «قرأ»‪.‬‬

‫‪10‬‬


‫مشتق من «ال َقْرِء» مبعىن اجلمع‪ ،‬ومنه‪:‬‬ ‫الثاين‪ :‬أن القرآن‬ ‫وصف على وزن فعالن‪ٌّ ،‬‬ ‫ٌ‬ ‫بعضه إىل‬ ‫أت الشيءَ قرآانً‪ :‬مجعته وضممت َ‬ ‫قرأ املاءَ يف اِلوض؛ إذا مجعه‪ ،‬وقر ُ‬ ‫بعض(‪ .)2‬ومسي القرآن قرآانً‪ ،‬لنه مجع ِ‬ ‫الوعيد‪،‬‬ ‫و‬ ‫المر‬ ‫و‬ ‫‪،‬‬ ‫ص‬ ‫ص‬ ‫الق‬ ‫الوعد و َ‬ ‫النهي‪ ،‬و َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫واآلَيت والسور بعضها إىل ٍ‬ ‫مصدر كالغفران والكفران(‪.)3‬‬ ‫بعض‪ ،‬وهو‬ ‫ٌ‬ ‫القوالن الرابع واخلامس‪ :‬مها قوالن للقائلني أبن لفظ القرآن غريُ مهموٍز‪ ،‬لكنهم‬ ‫اختلفوا يف أصل اشتقاقه على قولني أيضاً‪:‬‬

‫أحدمها‬ ‫األول‪ :‬أنه ٌّ‬ ‫ممت ُ‬ ‫ت الشيء ابلشيء» إذا َ‬ ‫ض ُ‬ ‫مشتق من القرآن‪ ،‬تقول‪« :‬قَرنْ ُ‬ ‫إىل اآلخر‪.‬‬

‫السور واآلَيت و ِ‬ ‫اجلمع بني‬ ‫اِلروف فيه‪ ،‬ومنه ُمس َي‬ ‫فسمي القرآن به‪ :‬لِقران ُّ‬ ‫ُ‬ ‫قالوا‪ُ :‬‬ ‫اِلج والعمرة يف إحراٍ و ٍ‬ ‫احد قراانً(‪.)4‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫بعضها بعضاً‪ ،‬ويُشبه‬ ‫الثاين‪ :‬أنه ٌّ‬ ‫مجع قرينة‪ ،‬لن آَيته يُصد ُق ُ‬ ‫مشتق من «القرائن» ُ‬ ‫بعضها بعضاً(‪.)5‬‬ ‫ُ‬ ‫القول الثاين‪ ،‬لُِق ِ‬ ‫رب اشتقاقه من كلمة‬ ‫أرجح هذه القو ِال هو ُ‬ ‫ويظهر وهللا أعلم أن َ‬ ‫ِ‬ ‫الكتاب املنزل(‪.)6‬‬ ‫القرآن لفظاً ومعىن‪ .‬وأصبح لفظ القرآن بعد ذلك ‪ :‬علماً على‬

‫(‪ )1‬عظمة القران الكرمي‪ ،‬حممود الدوسري ص (‪.)47‬‬ ‫(‪ )2‬لسان العرب (‪.)128/1‬‬ ‫(‪ )3‬عظمة القران الكرمي ص (‪ ،)47‬ومن القائلني هبذا القول الزجاج‪.‬‬ ‫(‪ )4‬الربهان يف علو القران‪ ،‬للزركشي (‪.)278/1‬‬ ‫(‪ )5‬اإلتقان يف علو القران‪ ،‬للسيوطي ص (‪.)137‬‬ ‫(‪ )6‬عظمة القران الكرمي ص (‪.)49‬‬

‫‪11‬‬


‫اثنياً ـ القرآن اصطالحاً‪:‬‬

‫وقد ذكر العلماء رْحهم هللا للقرآن الكرمي تعريفاً اصطالحياً يُ ِ‬ ‫ب معناه‪ ،‬ومييزه عن‬ ‫قر ُ‬ ‫املنزل على نبيه حممد صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬امل ْع ِجُز‬ ‫غريه‪ ،‬فعرفوه أبنه‪ :‬كال ُ هللاِ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫املنقول ابلتواتر(‪.)1‬‬ ‫املصاحف‪،‬‬ ‫املكتوب يف‬ ‫بلفظه‪ ،‬املتعبَ ُد بتالوته‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬

‫***‬

‫(‪ )1‬املصدر نفسه ص (‪.)49‬‬

‫‪12‬‬


‫املبحث الثاين ‪ :‬عظمة القرآن الكرمي‬ ‫حتدث املوىل عز وجل يف كتابه عن عظمة القرآن الكرمي‪ ،‬ومن خالل آَيته اِلكيمة‬ ‫نبني هذه العظمة‪ ،‬وإليك التفصيل‪:‬‬ ‫‪1‬ـ ثناء هللا على كتابه‪:‬‬ ‫أثىن هللا تعاىل على كتابه العزيز يف آَيت كثرية‪ْ ،‬ما ُّ‬ ‫يدل على عظمته؛ فقد وصفه‬ ‫اك َسْب ًعا ِم َن الْ َمثَ ِاين َوالْقرآن الْ َع ِظ َيم﴾‬ ‫«ابلعظيم» يف قوله تعاىل‪َ ﴿ :‬ولَ​َق ْد آتَْي نَ َ‬ ‫[احلجر‪.]87 :‬‬ ‫ووصفه «ابإلحكا » يف قوله تعاىل‪﴿ :‬الر كِتَاب أ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ت ِم ْن لَ ُد ْن‬ ‫ت آَيتهُ مثَُ فُصلَ ْ‬ ‫ُحك َم ْ‬ ‫ٌ ْ‬ ‫َح ِكي ٍم َخبِ ٍري﴾ [هود‪.]1 :‬‬ ‫وذكر هيمنته على الكتب السابقة يف قوله تعاىل‪﴿ :‬وأَنْزلْنَا إِلَي َ ِ‬ ‫اب ِاب ِْلَِق‬ ‫َ َ ْ‬ ‫ك الْكتَ َ‬ ‫مص ِدقًا لِ‬ ‫ني ي َديِْه ِمن الْ ِكتَ ِ‬ ‫اب َوُم َهْي ِمناً َعلَْي ِه﴾ [املائدة‪ .]48 :‬وهذا الكتاب هو‬ ‫ب‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َُ َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ملقاصد الكتب املنز ِلة قبله‪ ،‬الشاهد املؤَتن على ما جاء فيها‪ ،‬يُِقُّر‬ ‫املهيمن اِلافظ‬ ‫الصحيح فيها‪ ،‬ويُصح ُح اخلطأ‪.‬‬ ‫َ‬ ‫علي حكيم» يف قوله تعاىل‪﴿ :‬وإِنَهُ ِيف أُِ الْ ِكتَ ِ‬ ‫اب لَ َديْنَا‬ ‫ووصفه يف أ الكتاب أبنه « ٌّ‬ ‫َ‬ ‫لَ َعلِ ٌّي َح ِك ٌيم﴾ [الزخرف‪ .]4 :‬فهذه شهادةٌ من هللا تعاىل بعل ِو شأن القرآن وحكمته‪،‬‬ ‫علي» يف حمله‪ ،‬وشرفه‪ ،‬وقدره‪ ،‬فهو ٍ‬ ‫عال على‬ ‫يب أ َن من عظمة القرآن أنه « ٌّ‬ ‫وال ر َ‬ ‫مجيع كتب هللا تعاىل‪ ،‬بسبب كونه معجزاً ابقياً على وجه الدهر(‪ .)1‬ومعىن اِلكيم‪:‬‬ ‫خلل يف أي ٍ‬ ‫أي ٍ‬ ‫حكيم يف ذاته‪،‬‬ ‫وجه من الوجوه‪ ،‬فهو‬ ‫املنظوُ نظماً متقناً‪ ،‬ال يعرتيه ُّ‬ ‫ٌ‬ ‫(‪ )1‬التفسري الكبري (‪.)167 / 27‬‬

‫‪13‬‬


‫حاكم على غريه‪ ،‬والقرآن «حكيم» كذلك فيما يشتمل من الوام ِر‪ ،‬والنواهي‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫ِ‬ ‫ف للحكمة والعدل وامليزان‪.‬‬ ‫حكم خمال ٌ‬ ‫والخبار‪ ،‬وليس فيه ٌ‬ ‫ومن ثناء هللا تعاىل على القرآن أن وصفه يف ثالث سور أبنه «كتاب مبارك»‪ .‬قال‬ ‫تعاىل‪﴿ :‬وه َذا كِتاب أَنْزلْناه مبارٌك م ِ ِ‬ ‫ني يَ َديِْه َولِتُ ْن ِذ َر أَُ الْ ُقَرى َوَم ْن‬ ‫صد ُق الَذي بَْ َ‬ ‫َ َ َ ٌ َ َ ُ َُ َ ُ َ‬ ‫ِ ِ‬ ‫حوَهلا والَ ِذ ِ‬ ‫صالَِتِ​ِ ْم ُ​ُيَافِظُو َن ﴾ [األنعام‪.]92 :‬‬ ‫ين يُ ْؤمنُو َن ِابآلخرةِ يُ ْؤمنُو َن بِه َوُه ْم َعلَى َ‬ ‫َْ َ َ َ‬ ‫ِ‬ ‫ن﴾ [األنعام‪:‬‬ ‫اب أَنْ َزلْنَاهُ ُمبَ َارٌك فَاتَبِ ُعوهُ َواتَ ُقوا لَ َعلَ ُك ْم تُْر َْحُو َ‬ ‫وقال تعاىل‪َ ﴿ :‬وَه َذا كتَ ٌ‬ ‫‪ .]155‬وقال تعاىل‪َ ﴿ :‬وَه َذا ِذ ْكٌر ُمبَ َارٌك أَنْ َزلْنَاهُ أَفَأَنْتُ ْم لَهُ ُمْن ِكُرو َن﴾ [األنبياء‪.]50 :‬‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ب اِلياة هبذا‬ ‫وبركة هذا الكتاب َتتد إىل يو القيامة‪ ،‬وعطاؤه ان ال ينفد ‪ ..‬يواك ُ‬ ‫العطاء‪ ،‬مث أييت شفيعاً لصحابه(‪.)1‬‬ ‫‪ 2‬ـ عظمة ُمنَـ ِّّزلِّ ِّه سبحانه وتعاىل‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫صفات‬ ‫العظيم‪ :‬ذو العظمة واجلالل يف ملكه وسلطانه عز وجل‪ ،‬والعظمةُ صفةٌ من‬ ‫بعضهم بعضاً‪،‬‬ ‫هللا‪ ،‬ال يقوُ هلا خلق‪ ،‬وهللا تعاىل خلق بني اخللق عظمةً يعظم هبا ُ‬ ‫فمن الناس من يعظَم ملال‪ ،‬ومنهم من يُ َعظَم ٍ‬ ‫لفضل‪ ،‬ومنهم يعظَ ُم لعل ٍم‪ ،‬ومنهم من‬ ‫ٍ‬ ‫لسلطان‪ ،‬ومنهم من يعظَم جلاهٍ‪ ،‬وكل واحد من اخللق إمنا يعظم مبعىن دون‬ ‫يعظَم‬ ‫عرف حق عظمة هللا أال‬ ‫معىن‪ ،‬وهللا عز وجل يعظم يف الحوال كلها‪ ،‬فينبغي ملن َ‬ ‫ٍ‬ ‫القائم على كل‬ ‫يتكلم بكلمة يكرهها هللا‪ ،‬وال يرتكب معصية ال يرضاها هللا‪ ،‬إذ هو ُ‬ ‫ٍ‬ ‫نفس مبا كسبت(‪.)2‬‬ ‫جيوز‬ ‫فاهلل تعاىل هو‬ ‫عظيم يف ذاته وأمسائه وصفاته كلها‪ ،‬فال ُ‬ ‫العظيم املطلق؛ لنه ٌ‬ ‫ُ‬ ‫(‪ )1‬عظمة القران الكرمي ص(‪.)59‬‬ ‫(‪ )2‬النهج المسى يف شرح أمساء هللا اِلسىن‪ ،‬حممد بن ْحد (‪.)265 / 1‬‬

‫‪14‬‬


‫شيء دون ٍ‬ ‫قَصر عظمته على ٍ‬ ‫شيء منها‪ ،‬ل َن ذلك حتكم مل أيذن به هللا(‪.)1‬‬ ‫ُْ‬ ‫فمن عظمته تعاىل‪ :‬أنه ال ي ُش ُّق عليه أن ُيفظ السماو ِ‬ ‫ات السبع والرضني السبع‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ودهُ ِح ْفظُ ُه َما َوُه َو الْ َعلِ ُّي الْ َع ِظ ُيم ﴾‬ ‫ومن فيها‪ ،‬وما فيها‪ ،‬كما قال تعاىل‪َ ﴿ :‬والَ يَ ُؤ ُ‬ ‫[البقرة‪:‬‬

‫‪.]255‬‬

‫ضح ذلك جلياً يف عِدة‬ ‫وتتجلى عظمةُ القرآن العظي ِم يف عظمة ُم ِنزله جل جالله‪ ،‬ويت ُ‬

‫آَيت‪ ،‬منها‪:‬‬

‫ِ‬ ‫اب الَ ريْب فِ ِيه ِمن ر ِ‬ ‫قوله تعاىل‪﴿ :‬امل ۝ تَْن ِزيل الْ ِكتَ ِ‬ ‫ني ۝ أَ ْ يَ ُقولُو َن‬ ‫ب الْ َعالَم َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫افْرتاه بل هو ا ِْل ُّق ِمن ربِ ِ ِ‬ ‫ك لَ َعلَ ُه ْم يَ ْهتَ ُدو َن﴾‬ ‫ك لتُ ْنذ َر قَ ْوًما َما أ َ​َ​َت ُه ْم ِم ْن نَذي ٍر ِم ْن قَ ْبل َ‬ ‫َ​َ ُ َ ْ ُ َ َ ْ َ َ‬

‫[السجدة‪ 1 :‬ـ ‪.]3‬‬

‫وقوله تعاىل‪﴿:‬حم ۝ تَْن ِزيل الْ ِكتَ ِ‬ ‫اِلَ ِكي ِم ﴾ [اجلاثية‪،‬األحقاف‪.]2-1:‬‬ ‫اّللِ الْ َع ِزي ِز ْ‬ ‫اب ِم َن َ‬ ‫ُ‬

‫فضل جربيل الذي نزل ابلقرآن‪:‬‬ ‫‪3‬ـ ُ‬

‫نوه هللا تعاىل بشأن من نزل ابلقرآن على رسولنا حممد صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وهو‬

‫أمني الوحي اإلهلي‪ ،‬وذكر فضله يف عدة آَيت‪ ،‬منها‪:‬‬ ‫يل عليه السال ‪ُ ،‬‬ ‫جرب ُ‬ ‫قال تعاىل‪﴿ :‬قُل نَ​َزلَه روح الْ ُق ُد ِس ِمن ربِك ِاب ِْل ِق لِي ث بِ َ ِ‬ ‫دى َوبُ ْشَرى‬ ‫ْ َ َ َ َُ َ‬ ‫ْ ُ​ُ ُ‬ ‫ت الذ َ‬ ‫ين َآمنُوا َوُه ً‬ ‫ِ ِ​ِ‬ ‫ني ﴾ [النحل‪.]102 :‬‬ ‫ل ْل ُم ْسلم َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وقال تعاىل‪﴿ :‬وإِنَهُ لَتَ ْن ِزيل ر ِ‬ ‫ك‬ ‫ني ۝ نَ​َزَل بِ​ِه ُّ‬ ‫ني ۝ َعلَى قَ ْلبِ َ‬ ‫وح الَم ُ‬ ‫ب الْ َعالَم َ‬ ‫الر ُ‬ ‫َُ‬ ‫َ‬ ‫لِتَ ُكو َن ِمن الْمْن ِذ ِ‬ ‫ين ﴾ [الشعراء‪ 192 :‬ـ ‪ .]194‬وقد وصف هللا تعاىل جربيل عليه‬ ‫ر‬ ‫َ ُ َ‬ ‫السال خبمس صفات يف قوله تعاىل‪﴿ :‬إِنَه لَ​َقو ُل رس ٍ‬ ‫ول َك ِرٍمي ۝ ِذي قُ َوةٍ ِعنْ َد ِذي‬ ‫ُ ْ َُ‬ ‫ني ۝ ُمطَ ٍاع مثَ​َ أ َِم ٍ‬ ‫الْ َعر ِش َم ِك ٍ‬ ‫ني ﴾ [التكوير‪.]21-19:‬‬ ‫ْ‬ ‫(‪ )1‬عظمة القران الكرمي ص (‪.)60‬‬

‫‪15‬‬


‫وهذه الصفات اخلمس تتضمن تزكيةَ ِ‬ ‫سند القرآن العظيم‪ ،‬وأنه مساعُ نبينا حممد صلى‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫هللا عليه وسلم من جربيل عليه السال ‪ ،‬ومساع جربيل المني من رب العاملني‪،‬‬

‫فناهيك هبذا السند علواً وجاللة(‪.)1‬‬ ‫‪ 4‬ـ القرآن تنزيل رب العاملني‪:‬‬

‫ِ‬ ‫ب الْعالَ ِمني ۝ نَزَل بِ​ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ني ﴾ [الشعراء‪.]193-192 :‬‬ ‫الر‬ ‫ه‬ ‫ُّ‬ ‫وح الَم ُ‬ ‫يل َر ِ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫قال تعاىل‪َ ﴿ :‬وإنَهُ لَتَ ْنز ُ‬ ‫وقال تعاىل‪﴿ :‬إِ َان أَنْ َزلْنَاهُ ِيف لَْي لَ ِة الْ َق ْد ِر ﴾ [القدر‪.]1 :‬‬ ‫ِ‬ ‫يف عظيم للقرآن(‪.)2‬‬ ‫العظمة‪،‬‬ ‫وإسناد اإلنزال إليه تشر ٌ‬ ‫ُ‬ ‫وفيه ضمريُ‬

‫فمن عظمة القرآن أنّه نزل من هللا تعاىل وحده ال من غريه‪ ،‬لنفع الناس‬

‫وهدايتهم‪ ،‬فاجتمعت يف القرآن العظيم فضائل‪ ،‬منها‪:‬‬ ‫‪‬‬

‫أنه أفضل الكتب السماوية‪.‬‬

‫‪‬‬

‫نزل به أفضل الرسل وأقواهم‪ ،‬جربيل المني على وحي هللا تعاىل‪.‬‬

‫‪‬‬

‫نزل على أفضل اخللق حممد صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬

‫‪‬‬

‫نزل لفضل أمة أخرجت للناس‪.‬‬

‫‪‬‬

‫نزل أبفضل اللسنة وأفصحها‪ ،‬وأوسعها‪ ،‬وهو اللسان العريب املبني(‪.)3‬‬

‫‪ 5‬ـ القرآن مستقيم ليس فيه عوج‪:‬‬ ‫قال تعاىل‪ِ ِ ِ ْ ﴿ :‬‬ ‫ِ​ِ ِ‬ ‫اب َوَملْ َْجي َع ْل لَهُ عِ َو ًجا ۝ قَيِ ًما‬ ‫اِلَ ْم ُد َّلل الَذي أَنْ َزَل َعلَى َعْبده الْكتَ َ‬ ‫لِي ْن ِذر أبْسا ش ِ‬ ‫يدا ِمن لَ ُدنْه وي ب ِشر الْمؤِمنِني الَ ِذين ي عملُو َن ال َ ِ ِ‬ ‫َجًرا‬ ‫د‬ ‫ً‬ ‫ُ َ ًَ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫صاِلَات أَ َن َهلُْم أ ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ َُ َ ُ‬

‫َح َسناً ﴾ [الكهف‪ 1 :‬ـ ‪.]2‬‬

‫(‪ )1‬عظمة القران الكرمي ص (‪.)93‬‬ ‫(‪ )2‬التحرير والتنوير‪ ،‬الطاهر بن عاشور (‪.)402/30‬‬ ‫(‪ )3‬تفسري السعدي (‪.)485/3‬‬

‫‪16‬‬


‫ونفي العوج عن القرآن له عدة أوجه‪ ،‬منها‪:‬‬

‫اّللِ لَ​َو َج ُدوا‬ ‫الول‪ :‬نفي التناقض عن آايته‪ ،‬كما قال تعاىل‪َ ﴿ :‬ولَْو َكا َن ِم ْن ِعْن ِد َغ ِْري َ‬ ‫ِ​ِ‬ ‫اختِالَفًا َكثِ ًريا ﴾ [النساء‪.]82 :‬‬ ‫فيه ْ‬ ‫الثاين‪ :‬إن كل ما ذكر هللا تعاىل يف القرآن من التوحيد والنبوة والحكا والتكاليف‪،‬‬ ‫وهو حق وصدق‪ ،‬وال خلل يف شيء منه البتة(‪.)1‬‬ ‫وأخرب تعاىل كذلك عن القرآن أنه ليس فيه تضاد‪ ،‬وال اختالف‪ ،‬وال عيب من‬ ‫العيوب اليت يف كال البشر‪ ،‬فقال تعاىل‪﴿ :‬قرآانً َعَربِيًّا َغ ْ َري ِذي ِع َو ٍج﴾ [الزمر‪،]28 :‬‬ ‫أي‪ :‬ليس فيه خلل وال نقص بوجه من الوجوه‪ ،‬ال يف ألفاظه‪ ،‬وال يف معانيه‪ ،‬وهذا‬ ‫يستلزُ كمال اعتداله واستقامته(‪.)2‬‬

‫فقد وصف هللا تعاىل كتابه العزيز أبوصاف عظيمة ُّ‬ ‫تدل على أنه كامل من مجيع‬ ‫الوجوه‪ ،‬وعظيم بكل ما تعرب عنه الكلمات‪ ،‬منها‪:‬‬

‫نفي العوج عنه‪ :‬وهذا يقتضي أنه ليس يف أخباره كذب‪ ،‬وال يف أوامره‬ ‫‪‬‬ ‫ُ‬ ‫عبث‪.‬‬ ‫ظلم وال ٌ‬ ‫ونواهيه ٌ‬ ‫‪‬‬

‫إثبات أنه مستقيم مقيم‪ :‬فالقرآن العظيم مستقيم يف ذاته‪ ،‬مقيم للنفوس‬

‫على جادة الصواب‪ ،‬وإثبات االستقامة يقتضي أنه ال ُ​ُيربُ وال أيمر إال أبجل‬ ‫الخبار‪ ،‬وهي الخبار اليت َتأل القلوب معرفةً‪ ،‬وإمياانً‪ ،‬وعقالً‪ ،‬كاإلخبار أبمساء هللا‬ ‫وصفاته وأفعاله‪ ،‬واإلخبار ابلغيوب املتقدمة واملتأخرة‪ ،‬وأن أوامره ونواهيه‪،‬تزكي‬ ‫النفوس وتطهرها وتنميها وتكملها الشتماهلا على كمال العدل‪ ،‬والقسط‪،‬‬ ‫َ‬ ‫(‪ )1‬التفسري الكبري‪ ،‬للرازي (‪.)64/21‬‬ ‫(‪ )2‬تفسري ابن كثري (‪ ،)53/4‬تفسري السعدي (‪.)724 723/1‬‬

‫‪17‬‬


‫واإلخالص‪ ،‬والعبودية هلل رب العاملني‪ ،‬وحده ال شريك له‪ ،‬فحقيق بكتاب موصوف‬ ‫مبا ذُكر‪ ،‬أن َُيمد هللا تعاىل نفسه على إنزاله(‪ ،)1‬وينفي العوج عن القرآن الكرمي‪،‬‬ ‫وإثبات استقامته فتتجلى عظمته‪ ،‬وعلو شأنه‪ ،‬ومنزلته عند هللا(‪.)2‬‬ ‫‪6‬ـ خشوع اجلبال ُّ‬ ‫وتصدعها‪:‬‬

‫ِ‬ ‫اّللِ﴾‬ ‫ص ِد ًعا ِم ْن َخ ْشيَ ِة َ‬ ‫قال تعاىل‪﴿ :‬لَْو أَنْ َزلْنَا َه َذا الْقرآن َعلَى َجبَ ٍل لَ​َرأَيْتَهُ َخاش ًعا ُمتَ َ‬

‫صخره‪ ،‬من شدة أتثره من خشية هللا‪ ،‬ففي‬ ‫اجلبل‪ ،‬وتصد َ‬ ‫ع ُ‬ ‫[احلشر‪ ]21 :‬أي‪ :‬التعظ ُ‬

‫هذا‪ :‬بيا ُن حقيقة أتثري القرآن وفعاليته يف املخلوقات‪ ،‬ولو كانت جبالً أش َم‪ ،‬وحجراً‬

‫(‪)3‬‬ ‫وضرب التصدعُ مثالً لشدة االنفعال والتأثر؛ لن منتهى أتثر الجسا‬ ‫أصم ‪ُ ،‬‬ ‫الصلبة أن تنشق وتتصدع‪ ،‬وال ُيصل ذلك بسهولة‪.‬‬

‫واخلشوعُ‪ :‬هو التطأطؤ والركوع‪ ،‬أي‪ :‬لرأيته ينزل أعاله إىل الرض‪.‬‬

‫والتصدع‪ :‬التشقق‪ ،‬أي‪ :‬لتزلزل وتشقق من خوف هللا تعاىل(‪.)4‬‬

‫َتثيل لعلو قدره‪ ،‬وشدة أتثريه يف النفوس‪ ،‬ملا‬ ‫وال شك أ َن هذا ٌ‬ ‫تعظيم لشأن القرآن‪ ،‬و ٌ‬

‫فيه من ابل ِغ املواعظ والزواجر‪ ،‬وملا اشتمل عليه من الوعد اِلق‪ ،‬والوعيد الكيد‪،‬‬ ‫اجلبل يف غلظته وقساوته لو فهم هذا القرآن كما فهمتموه خلشع وتصدع‬ ‫فإذا كان ُ‬

‫ع‬ ‫تلني قلوبكم‬ ‫وختشع وتتصد َ‬ ‫يليق بكم أيُّها البشر أال َ‬ ‫من خوف هللا تعاىل‪ ،‬فكيف ُ‬ ‫َ‬ ‫من خشية هللا‪ ،‬وقد فهمتم عن هللا أمره‪ ،‬وتدبرمت كتابه(‪ ،)5‬واملقصود من إيراد االية‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫اِلث على أتمل مواعظه اجلليلة‪ ،‬إذ ال عذر لحد يف‬ ‫عظمة القرآن الكرمي‪ ،‬و ُّ‬ ‫إبر ُاز‬ ‫(‪ )1‬عظمة القران الكرمي ص (‪.)70‬‬ ‫(‪ )2‬املصدر نفسه ص (‪.)70‬‬ ‫(‪ )3‬أضواء البيان (‪.)76/8‬‬ ‫(‪ )4‬التحرير والتنوير (‪.)104/28‬‬ ‫(‪ )5‬تفسري ابن كثري (‪.)344 343/4‬‬

‫‪18‬‬


‫ذلك‪ ،‬وأداء حق هللا تعاىل يف تعظيم كتابه‪ ،‬وتوبيخ من ال ُيرتُ هذا القرآن العظيم‪،‬‬ ‫وفيه كذلك َتثيل وختييل ِ‬ ‫لعلو شأن القرآن وقوة أتثري ما فيه من املواعظ(‪.)1‬‬

‫‪ 7‬ـ انقياد اجلمادات لعظمة القرآن‪:‬‬ ‫ال أَو قُ ِطع ِ‬ ‫قال تعاىل‪﴿ :‬ولَو أَ َن قرآانً سِري ِ ِ‬ ‫ض أ َْو ُكلِ َم بِ​ِه الْ َم ْوتَى﴾‬ ‫َُْ‬ ‫ت بِه ا ْجلبَ ُ ْ َ ْ‬ ‫ت بِه ال َْر ُ‬ ‫َْ‬ ‫[الرعد‪.]31 :‬‬ ‫تعظيم شأن القرآن العظيم‪.‬‬ ‫فهذا شر ٌط جوابُه حمذوف‪ ،‬واملر ُاد منه‪ُ :‬‬

‫وزعزعت عن مضاجعها‪ ،‬أو‬ ‫واملعىن‪ :‬ولو أ َن قرآانً ُسريت به اجلبال عن مقارها‪ُ ،‬‬ ‫قُطعت به الرض حىت تتصدع وتتزايل قِطَعاً‪ ،‬أو ُكلم به املوتى‪ ،‬فتسمع وجتيب‪،‬‬

‫لكان هذا القرآن‪ ،‬لكونه غاية يف التذكري‪ ،‬وهناية يف التخويف(‪.)2‬‬ ‫واملقصود‪ :‬بيا ُن عظم شأن القرآن العظيم‪ ،‬وفساد رأي الكفرة‪ ،‬حيث مل يقدروا قدره‬ ‫العلي‪ ،‬ومل يعدوه من قبيل اآلَيت فاقرتحوا غريه‪ْ ،‬ما أُويت موسى وعيسى عليهما‬ ‫ال﴾‪ ،‬وزعزعت‬ ‫ت بِ​ِه ْ‬ ‫اجلِبَ ُ‬ ‫السال ‪ .‬فاملعىن‪ :‬أي‪ :‬إبنزاله أو بتالوته ﴿ َولَ ْو أَ َن قرآانً ُسِ َري ْ‬ ‫وجعِلت‬ ‫عن مقارها كما فُعل ذلك ابلطور ملوسى عليه الصالة والسال أي‪ :‬شققت ُ‬ ‫أهناراً ﴿أَو قُ ِطع ِ‬ ‫ض﴾‪ ،‬كما فعل ابِلجر حني ضربه موسى عليه السال‬ ‫ْ َْ‬ ‫ت بِه ال َْر ُ‬ ‫بعصاه‪ ،‬أو جعلت قِطَعاً متصدعة أي‪ :‬بعد ﴿أ َْو ُكلِ َم بِ​ِه الْ َم ْوتَى﴾ أحييت بقراءته‬ ‫عليها‪ ،‬كما أُحييت لعيسى عليه السال ‪ ،‬لكان هذا القرآن‪ ،‬لكونه الغاية القصوى‬ ‫يف االنطواء على عجائب آاثر قدرة هللا تعاىل وهيبته(‪.)3‬‬

‫(‪ )1‬تفسري أيب السعود (‪ )233/8‬زاد املسري (‪.)224/8‬‬ ‫(‪ )2‬الكشاف‪ ،‬للزخمشري (‪ ،)498/2‬عظمة القران الكرمي ص (‪.)72‬‬ ‫(‪ )3‬تفسري أيب السعود (‪.)22 21/5‬‬

‫‪19‬‬


‫‪ 8‬ـ حتدي اإلنس واجلن ابلقرآن‪:‬‬ ‫من مظاهر عظمة القرآن ِ‬ ‫اإلنس واجل َن أن أيتوا‬ ‫وعلو شأنه‪ ،‬أن هللا تعاىل حتدى‬ ‫َ‬ ‫مبثله‪ ،‬أو بعش ِر سوٍر من مثله أو بسورةٍ مثله(‪.)1‬‬ ‫ِ‬ ‫اجتَم َع ْ ِ‬ ‫اجلِ ُّن َعلَى أَ ْن َأيْتُوا مبِ​ِثْ ِل َه َذا الْقرآن الَ َأيْتُو َن‬ ‫س َو ْ‬ ‫قال تعاىل‪﴿ :‬قُ ْل لَئ ْن ْ َ‬ ‫ت اإلنْ ُ‬ ‫ِ​ِ ِ ِ‬ ‫ض ُه ْم لِبَ ْع ٍ‬ ‫ض ظَ ِه ًريا ﴾ [اإلسراء ‪.]88‬‬ ‫مبثْله َولَ ْو َكا َن بَ ْع ُ‬ ‫وقال تعاىل‪﴿ :‬أَ ي ُقولُو َن افْرتاه قُل فَأْتُوا بِع ْش ِر سوٍر ِمثْلِ ِه م ْفرتَي ٍ‬ ‫ت َو ْادعُوا َم ِن‬ ‫ُ َ​َ​َ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ َُ‬ ‫َ​َ ُ ْ‬ ‫ِ‬ ‫اّللِ إِ ْن ُكْن تم ِ ِ‬ ‫استَطَعتُم ِمن د ِ‬ ‫اعلَ ُموا أَ​َمنَا أُنْ ِزَل‬ ‫ون َ‬ ‫ني ۝ فَِإ َملْ يَ ْستَجيبُوا لَ ُك ْم فَ ْ‬ ‫ْ ْ​ْ ْ ُ‬ ‫صادق َ‬ ‫ُْ َ‬ ‫اّللِ َوأَ ْن الَ إِلَهَ إِالَ ُه َو فَ َه ْل أَنْتُ ْم ُم ْسلِ ُمو َن ﴾ [هود‪ 13 :‬ـ ‪.]14‬‬ ‫بِعِْل ِم َ‬ ‫ومع ذلك كله‪ ،‬ما اثبوا إىل رشدهم‪ ،‬وما وجدوا ما يتكلمون به‪ ،‬فعادوا ملا هنوا عنه‪،‬‬ ‫وقالوا‪« :‬اختلقه حممد عمداً»‪ ،‬فاستدرجهم هللا تعاىل من حيث ال يعلمون‪ ،‬ووصل‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫مثل القرآن فعجزوا‪.‬‬ ‫هبم إىل غاية التبكيت واخلذالن‪ ،‬وحتداهم أن أيتوا بسورة َ‬ ‫اّللِ‬ ‫قال تعاىل‪﴿ :‬أَ ي ُقولُو َن افَْرتاه قُل فَأْتُوا بِسورةٍ ِمثْلِ ِه و ْادعوا م ِن استَطَعتُم ِمن د ِ‬ ‫ون َ‬ ‫َ ُ َ ْ ْ​ْ ْ ُ‬ ‫َْ‬ ‫َُ‬ ‫َُ ْ‬ ‫إِ ْن ُكْن تم ِ ِ‬ ‫ني ﴾ [يونس‪.]38 :‬‬ ‫صادق َ‬ ‫ُْ َ‬ ‫ِ‬ ‫ت الذين كفروا؛ ومل يستسلموا؛ صاروا كالذي يتخبطه الشيطا ُن من ِ‬ ‫املس‪ ،‬مرةً‬ ‫وملا ُهب َ‬ ‫ِ‬ ‫يقولون استهزاء‪﴿ :‬لَو نَ َشاء لَ ُق ْلنَا ِمثْل ه َذا إِ ْن ه َذا إِالَ أ ِ‬ ‫ني ﴾‬ ‫َساطريُ الَ​َول َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫[األنفال‪ ]31 :‬وأخرى يقولون عابثني‪﴿ :‬ائْ ِ‬ ‫ت بِقرآن َغ ِْري َه َذا أ َْو بَ ِدلْهُ﴾ [يونس‪.]15 :‬‬ ‫أمرهم على ما يقول هللا العظيم‪﴿ :‬بَ ْل َك َذبُوا ِمبَا َملْ ُُِييطُوا بِعِْل ِم ِه َولَ َما َأيِْتِ​ِ ْم‬ ‫وصار ُ‬ ‫ِ‬ ‫َِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ف َكا َن َعاقِبَةُ‬ ‫َأتْ ِويلُهُ َك َذل َ‬ ‫ين م ْن قَ ْبل ِه ْم فَانْظُْر َكْي َ‬ ‫ك َك َذ َ‬ ‫ب الذ َ‬

‫(‪ )1‬عظمة القران الكرمي ص (‪.)73‬‬

‫‪20‬‬


‫ِ​ِ‬ ‫ني﴾[يونس‪.)1(]39 :‬‬ ‫الظَالم َ‬

‫فهذا القرآن العظيم ليس ألفاظاً وعبار ٍ‬ ‫ات ُياول اإلنس واجلن أن ُياكوها‪ ،‬كال وريب‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫إنه كال هللا تعاىل‪ ،‬الذي حتدى به اخللق كلهم‪ ،‬فقال عز من قائل حكيم‪﴿ :‬قُ ْل لَئِ ْن‬ ‫ِ​ِ ِ ِ‬ ‫ِ​ِ‬ ‫اجتَمعت ا ِإلنْس و ِْ‬ ‫ض ُه ْم‬ ‫اجل ُّن َعلَى أَ ْن َأيْتُوا مبثْ ِل َه َذا الْقرآن الَ َأيْتُو َن مبثْله َولَ ْو َكا َن بَ ْع ُ‬ ‫ْ َ​َ ْ‬ ‫َُ‬ ‫لِبَ ْع ٍ‬ ‫ض ظَ ِه ًريا ﴾ [اإلسراء‪.]88 :‬‬

‫ِ‬ ‫بشرف القرآن وعظمتِه‪ ،‬وهذه االية وحنوها تُسمى آَيت التحدي‪ ،‬وهو‬ ‫فهذا تنويهُ‬ ‫تعجيز اخللق أن أيتوا مبثل هذا القرآن الكرمي‪ ،‬أو سورة منه(‪.)2‬‬ ‫ُ‬

‫اب أن يكون كالمه ككال رب العاملني؟! أ كيف ِ‬ ‫املخلوق من تر ٍ‬ ‫يقد ُر‬ ‫يقدر‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫وكيف ُ‬ ‫الناقص الفقريُ من كل الوجوه أن أييتَ بكال ككال الكامل‪ ،‬الذي له الكمال‬ ‫ُ‬ ‫املطلق‪ ،‬والغىن الواسع من مجيع الوجوه؟ هذا ليس يف اإلمكان؛ وال يف قدرة‬ ‫اإلنسان‪ ،‬وكل َم ْن له أدىن ذوق ومعرفة أبنواع الكال ‪ ،‬إذا وزن هذا القرآن العظيم‬ ‫ظهر له الفرق العظيم(‪.)3‬‬ ‫بغريه من كال البلغاء؛ َ‬ ‫إنس ِ‬ ‫للخ ْلق من ٍ‬ ‫وج ٍن مطمعاً يف اإلتيان مبثله‪،‬‬ ‫فعظمةُ القرآن‪ُّ ،‬‬ ‫وعلو شأنه‪ ،‬ال جتعل َ‬ ‫ولو كان بعضهم لبعض ظهرياً(‪.)4‬‬

‫(‪ )1‬عظمة القران الكرمي ص (‪.)75‬‬ ‫(‪ )2‬املصدر نفسه ص (‪.)76‬‬ ‫(‪ )3‬عظمة القران الكرمي ص (‪.)77‬‬ ‫(‪ )4‬املصدر نفسه ص (‪.)77‬‬

‫‪21‬‬


‫املبحث الثالث ‪ :‬أمساء القرآن الكرمي‬ ‫للقرآن الكرمي أمساء عظيمة‪ ،‬من أمهها‪:‬‬ ‫‪ 1‬ـ الفرقان‪:‬‬ ‫مسى هللا تعاىل القرآن فرقاانً يف أربع آَيت يف كتابه املبارك‪ ،‬وهي‪:‬‬ ‫ِ​ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ني نَ ِذ ًيرا﴾[الفرقان‪.]1 :‬‬ ‫قوله تعاىل‪﴿ :‬تَبَ َارَك الَذي نَ​َزَل الْ ُفْرقَا َن َعلَى َعْبده ليَ ُكو َن ل ْل َعالَم َ‬ ‫وقال تعاىل‪َ ﴿ :‬وأَنْ َزَل الْ ُفْرقَا َن﴾ [آل عمران‪.]4 :‬‬ ‫وقال تعاىل‪﴿ :‬شهر رمضا َن الَ ِذي أُنْ ِزَل فِ ِيه الْقرآن ه ِ‬ ‫َاس وب يِنَ ٍ‬ ‫ات ِم َن ا ْهلَُدى‬ ‫َ ْ ُ َ​َ َ‬ ‫دى للن ِ َ َ‬ ‫ُ ً‬ ‫والْ ُفرقَ ِ‬ ‫ان﴾ [البقرة ‪.]185‬‬ ‫َ ْ‬ ‫ِ‬ ‫َاس علَى م ْك ٍ‬ ‫ث َونَ​َزلْنَاهُ تَْن ِزيالً ﴾‬ ‫وقال تعاىل‪َ ﴿ :‬وقرآانً فَ َرقْ نَاهُ لتَ ْقَرأَهُ َعلَى الن ِ َ ُ‬ ‫[اإلسراء‪.]106 :‬‬ ‫املفسرون يف ِّ‬ ‫سبب تسمية القرآن ابلفرقان أقواالً‪ ،‬منها‪:‬‬ ‫وذكر ّ‬

‫متفرقاً‪ ،‬أنزله تعاىل يف نيف وعشرين سنة‪ ،‬يف‬ ‫‪‬‬ ‫ُمسي بذلك‪ ،‬أل ّن نزوله كان ّ‬ ‫ِ‬ ‫الكتب نزلت مجلةً واحد ًة(‪.)1‬‬ ‫سائر‬ ‫حني أ َن َ‬ ‫‪‬‬

‫يفرق بني احلق والباطل‪ ،‬واِلالل واِلرا ‪ ،‬واجململ واملبني‪،‬‬ ‫ُمسي بذلك‪ ،‬ألنه ّ‬

‫واخلري والشر‪ ،‬واهلدى والضالل‪ ،‬والغي والرشاد‪ ،‬والسعادة والشقاوة‪ ،‬واملؤمنني‬ ‫والكافرين‪ ،‬والصادقني والكاذبني‪ ،‬والعادلني والظاملني‪ ،‬وبه ُمسي عمر بن اخلطاب‬ ‫رضي هللا عنه الفاروق‪.‬‬ ‫سبب تسمية القرآن ابلفرقان بقوله‪ :‬ووجه تسميته‬ ‫وقد بني ُ‬ ‫ابن عاشور رْحه هللا َ‬ ‫(‪ )1‬عظمة القران الكرمي ص (‪.)152‬‬

‫‪22‬‬


‫امتاز عن بقية الكتب السماوية بكثرةِ ما فيه من بيان التفرقة بني اِلق‬ ‫الفرقان أنه َ‬ ‫ض ُد هديه ابلدالئل والمثال وحنوها‪ ،‬وحسبُك ما اشتمل‬ ‫والباطل‪ ،‬فإن القرآن يَ ْع ُ‬

‫جتد مثله يف التوراة واإلجنيل‪ ،‬كقوله تعاىل‪:‬‬ ‫عليه من بيان التوحيد وصفات هللا ْما ال ُ‬ ‫س َك ِمثْلِ ِه َش ْيءٌ﴾ [الشورى‪.)1(]11 :‬‬ ‫﴿لَْي َ‬ ‫اخللق يف ظلمات الضالالت‪،‬‬ ‫‪‬‬ ‫وقيل‪ :‬الفرقا ُن‪ :‬هو النجاةُ‪ُ ،‬مسي بذلك ل َن َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اب‬ ‫وسى الْكتَ َ‬ ‫وابلقرآن وجدوا النجاة‪ ،‬وعليه ْحل املفسرون قوله تعاىل‪َ ﴿ :‬وإ ْذ آتَْي نَا ُم َ‬ ‫َوالْ ُفْرقَا َن لَ َعلَ ُك ْم َِتْتَ ُدو َن ﴾ [البقرة‪.)2(]53 :‬‬ ‫وسواء كانت تسميةُ القرآن العظيم ابلفرقان؛ لن نزوله كان متفرقاً يف نيف وعشرين‬ ‫سنة‪ ،‬بينما سائر كتب هللا تعاىل نزلت مجلةً واحد ًة‪ ،‬أو ُمسي بذلك لنه يفرق بني‬ ‫االختالف يف التنوع‬ ‫اِلق والباطل‪ ،‬أو لن فيه جناة من ظلمات الضالالت‪ ،‬فهذا‬ ‫ُ‬ ‫يدل داللةً صرُيةً على عظمة القرآن‪ ،‬وِرفْ ِ‬ ‫ُّ‬ ‫عة منزلته عند هللا تعاىل‪ِ ،‬‬ ‫وعلو شأنه(‪.)3‬‬ ‫‪ 2‬ـ الربهان‪:‬‬ ‫َاس‬ ‫مسى هللا القرآن برهاانً يف اية واحدة يف كتابه العزيز‪ ،‬وهي قوله تعاىل‪َ​َ ﴿ :‬يأَيُّ َها الن ُ‬ ‫خطاب لكل أصحاب ِ‬ ‫امللل‪،‬‬ ‫قَ ْد َجاءَ ُك ْم بُْرَها ٌن ِم ْن َربِ ُك ْم﴾ [النساء‪ .]174 :‬فهذا‬ ‫ٌ‬

‫اليهود والنصارى واملشركني وغريهم‪ ،‬أ َن هللا تعاىل أقا َ هبذا القرآن اِلجة عليهم‪،‬‬ ‫تُربهن هلم بطال َن ما هم عليه من الدين املنسوخ‪ ،‬وهذه اِلجةُ تشمل الدلة العقلية‬ ‫والنقلية واآلَيت االفاقية‪ ،‬كما قال تعاىل‪﴿ :‬سنُ ِري ِهم آَيتنَا ِيف اآلفَ ِ‬ ‫اق َوِيف أَنْ ُف ِس ِه ْم‬ ‫َ ْ‬ ‫اِلَ ُّق﴾ [فصلت‪.]53 :‬‬ ‫ني َهلُْم أَنَهُ ْ‬ ‫َح َىت يَتَ بَ َ َ‬ ‫(‪ )1‬عظمة القران الكرمي ص (‪.)153‬‬ ‫(‪ )2‬املصدر نفسه ص (‪.)154‬‬ ‫(‪ )3‬املصدر نفسه‪.‬‬

‫‪23‬‬


‫بل كفى ابلقرآن العظيم وحده برهاانً على صدق الرسول صلى هللا عليه وسلم يف‬ ‫دعوى الرسالة(‪.)1‬‬ ‫أوضح‬ ‫فالقرآن برها ٌن من هللا لعباده‪ ،‬أقا به اِلجةَ عليهم‪ ،‬وأظهر من خالله‬ ‫َ‬ ‫كل‬ ‫الدالالت‪ ،‬وأقواها على موضوعاته ومعانيه وحقائقه يف العقيدة واِلياة‪ ،‬و ُّ‬ ‫من تعامل مع أدلة القرآن يف يُسرها ووضوحها‪ ،‬وأتثر قلبه وعقله هبا‪ ،‬وقارهنا ابلدلة‬

‫والرباهني والقيسة اليت أوجدِتا العقول البشرية‪ ،‬وقررِتا وبينتها‪ ،‬كل من فعل ذلك‬

‫درك طرفاً من الربهان القرآين‪ ،‬ويسره‪ ،‬ووضوحه(‪.)2‬‬ ‫يُ ُ‬

‫وتتجلى عظمة القرآن الكرمي ومنزلتُه العالية من خالل تسميته ابلربهان‪ ،‬ذلك لن‬ ‫هللا تعاىل أقا َ به اِلُجة على عباده‪ ،‬تُربهن هلم بطالن ما هم فيه من الدين املنسوخ‪،‬‬ ‫عقول البش ِر على اختالف فهومهم‬ ‫وهي ُحجة متنوعة يف االستدالل لتستوعبها ُ‬ ‫وثقافاِتم‪ ،‬وهذا من رْحة هللا تعاىل وحكمته(‪.)3‬‬

‫‪ 3‬ـ احلق‪:‬‬

‫اضع ِعدة من كتابه‪ ،‬أنخ ُذ منها ما له صلة‬ ‫مسى هللا تعاىل القرآن حقاً يف مو َ‬ ‫مبوضوعنا‪ ،‬وهي‪ :‬قوله تعاىل‪﴿ :‬وإِنَهُ َِلَ ُّق الْيَ ِق ِ‬ ‫ني ﴾ [احلاقة‪ .]51 :‬أي‪ :‬وإن القرآن‬ ‫َ‬ ‫يب فيه‪ ،‬وال يتطر ُق إليه شك(‪.)4‬‬ ‫لكونه من عند هللا ٌّ‬ ‫حق ال ر َ‬ ‫ِ‬ ‫ف ِاب ِْل ِق علَى الْب ِ‬ ‫اط ِل فَيَ ْد َمغُهُ فَِإ َذا ُه َو َز ِاه ٌق﴾ [األنبياء‪.]18 :‬‬ ‫وقال تعاىل‪﴿ :‬بَ ْل نَ ْقذ ُ َ َ َ‬ ‫والقذف‪ :‬الرمي‪ ،‬أي‪ :‬نرمي ِ‬ ‫ابِلق على الباطل أي‪ :‬يقهره ﴿فَيَ ْد َمغُهُ﴾‬

‫(‪ )1‬فتح القدير (‪ ،)542/1‬أضواء البيان (‪.)80 79/7‬‬ ‫ت َعلَْي ُك ْم بَِوكِ ٍيل *}‬ ‫{قُ ْل لَ ْس ُ‬ ‫(‪ )2‬مفاتيح للتعامل مع القران ص (‪.)34‬‬ ‫(‪ )3‬عظمة القران الكرمي ص (‪.)156‬‬ ‫(‪ )4‬فتح القدير‪ ،‬للشوكاين (‪.)401/5‬‬

‫‪24‬‬


‫يبلغ الدماغ‪ ،‬ومنه الدامغة‪ ،‬واِلق هنا‪ :‬القرآن‪،‬‬ ‫أصل الدمغ‪ُّ :‬‬ ‫شج الرأس حىت َ‬ ‫و ُ‬ ‫والباطل‪ :‬الشيطان يف قول جماهد(‪.)1‬‬ ‫وقال تعاىل‪﴿ :‬وَك َذ ِ​ِ‬ ‫ت َعلَْي ُك ْم بَِوكِ ٍيل ﴾ [األنعام‪.]66 :‬‬ ‫ك َوُه َو ْ‬ ‫وم َ‬ ‫اِلَ ُّق قُ ْل لَ ْس ُ‬ ‫َ َ‬ ‫ب به قَ ُ‬ ‫يف اآلَيت‬ ‫والضمري يف قوله عائ ٌد على القرآن؛ الذي فيه تصر ُ‬

‫اِلَ ُّق﴾‪ ،‬مجلة اعرتاضية‪ ،‬تتضمن شهادةَ هللا أبن هذا‬ ‫وقوله تعاىل‪ :‬مجلةٌ ﴿ َوُه َو ْ‬ ‫اِلق من هللاِ(‪ ،)2‬واملعىن‬ ‫القرآن املنَزل على هذا ِ‬ ‫النيب الكرمي صلى هللا عليه وسلم هو ُّ‬

‫﴿وَك َذ ِ​ِ‬ ‫ك﴾‪ ،‬أي ابلقرآن الذي جئتم به‪ ،‬واهلدى‪ ،‬والبيان‪﴿ ،‬قُ ْل‬ ‫وم َ‬ ‫َ َ‬ ‫ب به قَ ُ‬ ‫اِلَ ُّق﴾‪ ،‬أي‪ :‬الذي ليس وراءه حق‪،‬‬ ‫َعلَْي ُك ْم بَِوكِ ٍيل ﴾‪ ،‬يعين‪ :‬قريشاً‪َ ﴿ ،‬وُه َو ْ‬ ‫ِ‬ ‫لست مبوكل بكم(‪.)3‬‬ ‫لست عليكم حبفيظ‪ ،‬و ُ‬ ‫ت َعلَْي ُك ْم بَِوك ٍيل ﴾‪ ،‬أي‪ُ :‬‬ ‫لَ ْس ُ‬ ‫اب فَالنَار مو ِع ُده فَالَ تَ ُ ِ ٍ ِ‬ ‫ِ​ِ‬ ‫َحَز ِ‬ ‫ك ِيف مْريَة مْنهُ إِنَهُ‬ ‫وقوله تعاىل‪َ ﴿ :‬وَم ْن يَ ْك ُفْر بِه م َن ال ْ‬ ‫ُ َْ ُ‬ ‫ك َولَ ِك َن أَ ْكثَ​َر الن ِ‬ ‫َاس الَ يُ ْؤِمنُو َن ﴾ [هود‪ .]17 :‬وقوله تعاىل‪َ ﴿ :‬وَم ْن يَ ْك ُفْر‬ ‫ْ‬ ‫اِلَ ُّق ِم ْن َربِ َ‬ ‫ك ِيف ِمْريٍَة‬ ‫بِ​ِه﴾ أي ابلقرآن‪ ،‬ومل يُصدق بتلك الشواهد اِلقة‪ .‬وقوله تعاىل‪﴿ :‬فَالَ تَ ُ‬ ‫(‪)4‬‬ ‫ِ‬ ‫يض بغريه‬ ‫مْنهُ﴾ يف شك من أمر القرآن‪ ،‬وكونه من عند هللا عز وجل ‪ ،‬وفيه تعر ٌ‬ ‫صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬لنه معصوٌ عن الشك يف القرآن(‪.)5‬‬ ‫ك﴾ ‪ :‬أي‪ :‬القرآن حق من هللا تعاىل ال مرية وال شك‬ ‫وقوله تعاىل ﴿إِنَهُ ْ‬ ‫اِلَ ُّق ِم ْن َربِ َ‬ ‫فيه‪ .‬وقوله تعاىل‪َ ﴿ :‬ولَ ِك َن أَ ْكثَ​َر الن ِ‬ ‫َاس الَ يُ ْؤِمنُو َن ﴾‪ ،‬أي‪ :‬إما جهالً منهم وإما‬ ‫ت‬ ‫لَ ْس ُ‬ ‫﴿قُ ْل‬

‫ظلماً وعناداً وبغياً‪ ،‬وإال فمن قصده حسناً‪ ،‬وفهمه مستقيماً‪ ،‬فالبد أن يؤمن به‪،‬‬

‫(‪ )1‬تفسري القرطيب (‪.)295/11‬‬ ‫(‪ )2‬تفسري الثعاليب (‪.)529/1‬‬ ‫(‪ )3‬تفسري ابن كثري (‪315/3‬‬ ‫(‪ )4‬تفسري أيب السعود (‪.).)195/4‬‬ ‫(‪ )5‬فتح القدير‪ ،‬للشوكاين (‪.)288/2‬‬

‫‪25‬‬


‫لنه يرى ما يدعوه إىل اإلميان من ِ‬ ‫كل وج ٍه(‪.)1‬‬ ‫وب ۝ قُل جاء ا ِْل ُّق وما ي ب ِ‬ ‫وقال تعاىل‪﴿ :‬قُل إِ َن رِيب ي ْق ِ‬ ‫ف ِاب ِْل ِق َعالَ الْغُي ِ‬ ‫ىء‬ ‫د‬ ‫ذ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ َ‬ ‫الْب ِ‬ ‫اِلَ ُّق ﴾ أي‪ :‬وهو‬ ‫يد ﴾ [سبأ‪ 48 :‬ـ ‪ .]49‬وقوله تعاىل‪﴿ :‬قُ ْل َجاء ْ‬ ‫اط ُل َوَما يُعِ ُ‬ ‫َ‬ ‫اإلسال والقرآن(‪ ،)2‬فهذا القرآن العظيم الذي جاء به النيب صلى هللا عليه وسلم هو‬ ‫اِلق‪ :‬اِلق القوي الذي يقذف به هللا تعاىل‪ ،‬فمن ذا يقف للحق الذي يقذف به‬ ‫هللا تعاىل؟‬ ‫يقف هلا أح ٌد يف طريق‪ ،‬يقذف هبا هللا‬ ‫وكأَمنا اِلق قذيفةٌ تصدعُ ُ‬ ‫وخترق وتنفذ‪ ،‬وال ُ‬ ‫تعاىل عال الغيوب‪ ،‬فهو يقذف هبا عن علم‪ ،‬ويوجهها على علم‪ ،‬وال ُيفى عليه‬ ‫يق أم امه تعاىل مكشوف ليس فيه ستور(‪.)3‬‬ ‫ٌ‬ ‫هدف‪ ،‬وال تغيب عنه غاي ة‪ ،‬فالطر ُ‬

‫تربز عظمتهُ ومنزلتُه العالية‪ ،‬فال بد أن‬ ‫ومن خالل تسمية القرآن الكرمي ابسم اِلق ُ‬ ‫الناس هبذا اِلق الوحد‪ ،‬ويستجيبوا له؛ لن مصدره هو اإلله الوحد جل‬ ‫َ‬ ‫يؤمن ُ‬

‫جالله(‪.)4‬‬

‫‪ 4‬ـ النبأ العظيم‪:‬‬

‫ِ‬ ‫ضو َن ﴾‬ ‫قال تعاىل‪﴿ :‬قُ ْل ُه َو نَبَأٌ َعظ ٌيم ۝ أَنْتُ ْم َعْنهُ ُم ْع ِر ُ‬ ‫عظيم‪ ،‬وشأن بليغ‪ ،‬وهو‬ ‫ُ‬ ‫إرسال هللا إَيي إليكم أي‪ :‬غافلون‪ .‬يف ﴿أَنْتُ ْم َعْنهُ‬ ‫ضو َن ﴾ أي‪ :‬غافلون ‪ .‬يف قوله عز وجل‪﴿ :‬قُ ْل ُه َو نَبَأٌ َع ِظ ٌيم ﴾ يعين‪:‬‬ ‫ُم ْع ِر ُ‬ ‫[ص‪ 67 :‬ـ ‪]68‬‬

‫(‪ )1‬تفسري السعدي (‪.)359/2‬‬ ‫(‪ )2‬زاد املسري (‪.)466/6‬‬ ‫(‪ )3‬يف ظالل القرآن (‪.)2915/5‬‬ ‫(‪ )4‬عظمة القران الكرمي ص (‪.)161‬‬

‫‪26‬‬

‫أي‪ :‬خرب‬


‫القرآن‬

‫(‪)1‬‬

‫وقال تعاىل‪َ ﴿ :‬ع َم يَتَ َساءَلُو َن ۝ َع ِن النَبَِإ الْ َع ِظي ِم ﴾ [النبأ‪ 1 :‬ـ ‪.]2‬‬

‫مسعت‬ ‫أت وال‬ ‫والشك أبن القرآن نبأ عظيم‪ ،‬فمنذ إجياد البشرية‪ ،‬وتكوينها‪ ،‬ما ر ْ‬ ‫ْ‬ ‫وعظيم يف معناه‪،‬‬ ‫وعظيم يف روعته‪،‬‬ ‫عظيم يف أسلوبه‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫مبثل هذا القرآن العظيم‪ ،‬فهو ٌ‬

‫وعظيم يف‬ ‫وعظيم يف وعده ووعيده‪ ،‬وعظيم يف أحكامه‪،‬‬ ‫وعظيم يف مجال تركيبه‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫وعظيم يف أخباره وقصصه وأمثاله(‪.)2‬‬ ‫أمره وهنيه‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫‪ 5‬ـ البالغ‪:‬‬

‫قال تعاىل‪َ ﴿ :‬ه َذا بَالَغٌ لِلن ِ‬ ‫َاس َولِيُ ْن َذ ُروا بِ​ِه﴾ [إبراهيم‪.]52 :‬‬

‫فلما بني البيان املبني يف هذا القرآن قال يف مدحه‪َ ﴿ :‬ه َذا بَالَغٌ لِلن ِ‬ ‫َاس﴾‪ ،‬أي‪:‬‬ ‫يتبلغون ويتزودون إىل الوصول إىل أعلى املقامات‪ ،‬وأفضل الكرامات ما اشتمل عليه‬ ‫من الصول والفروع‪ ،‬ومجيع العلو اليت ُيتاجه ا العب اد ﴿ َولِيُ ْن َذ ُروا بِ​ِه﴾‪ ،‬ملا فيه من‬ ‫ِ‬ ‫الرتهيب من أعمال وما أعد هللا لهلها من العقاب(‪.)3‬‬ ‫‪ 6‬ـ الروح‪:‬‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫كر ِ‬ ‫ِ‬ ‫اب َوالَ‬ ‫قال تعاىل‪َ ﴿ :‬وَك َذل َ‬ ‫وحا م ْن أ َْم ِرَان َما ُكْن َ‬ ‫ت تَ ْد ِري َما الْكتَ ُ‬ ‫ك أ َْو َحْي نَا إلَْي َ ُ ً‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ورا َهنْ ِدي بِ​ِه َم ْن نَ َشاءُ ِم ْن ِعبَ ِاد َان﴾ [الشورى‪.]52 :‬‬ ‫اإلميَا ُن َولَك ْن َج َع ْلنَاهُ نُ ً‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وحا ِم ْن‬ ‫ك أ َْو َحْي نَا إِلَْي َ‬ ‫ك ﴾ حني أوحينا إىل الرسل قبلك ﴿ َوَك َذل َ‬ ‫واملعىن‪َ ﴿ :‬وَك َذل َ‬ ‫ك ُر ً‬ ‫أ َْم ِرَان﴾‪ ،‬وهو‪ :‬هذا القرآن مساه روحاً‪ ،‬لن الروح ُييا به اجلسد‪ ،‬والقرآن حتيا به‬ ‫القلوب والرواح‪ ،‬وحتيا به مصاحل الدنيا والدين‪ ،‬ملا فيه من اخلري الكثري‪ ،‬وهو حمض‬

‫(‪ )1‬تفسري ابن كثري (‪.)43/4‬‬ ‫(‪ )2‬عظمة القرآن الكرمي ص (‪.)162‬‬ ‫(‪ )3‬تفسري السعدي (‪.)428/1‬‬

‫‪27‬‬


‫منة هللا على رسوله صلى هللا عليه وسلم وعباده املؤمنني‪ ،‬من غري سبب منهم؛ وهلذا‬ ‫ِ‬ ‫اب َوالَ ا ِإلميَا ُن﴾ ‪:‬‬ ‫قال تعاىل ﴿ َما ُكْن َ‬ ‫ت تَ ْد ِري﴾ أي‪ :‬قبل نزوله عليك ﴿ َما الْكتَ ُ‬ ‫علم أبخبار الكتب السابقة‪ ،‬وال إميان وعمل ابلشرائع اإلهلية‪ ،‬بل‬ ‫أي‪ :‬ليس عندك ٌ‬ ‫كنت أمياً ال ُّ‬ ‫ورا َهنْ ِدي بِ​ِه َم ْن‬ ‫ختط وال تقرأ‪ ،‬فجاءك هذا ُ‬ ‫الروح الذي ﴿ َج َع ْلنَاهُ نُ ً‬ ‫نَ َشاءُ ِم ْن ِعبَ ِاد َان﴾ يستضيئون به يف ظلمات الكفر والبدع‪ ،‬والهواء املردية‪ ،‬ويعرفون‬ ‫به اِلقائق‪ ،‬ويهتدون به إىل الصراط املستقيم(‪.)1‬‬ ‫‪ 7‬ـ املوعظة‪:‬‬

‫َاس قَ ْد َجاءَتْ ُك ْم َم ْو ِعظَةٌ ِم ْن َربِ ُك ْم﴾ [يونس‪ ]57 :‬يعين‪ :‬القرآن‬ ‫قال تعاىل‪َ​َ ﴿ :‬يأَيُّ َها الن ُ‬ ‫يتعظ به من قرأه وعرف معناه‪.‬‬

‫َي أيها الناس قد جاءكم كتاب جامع للحكمة العملية‪ ،‬الكاشفة عن حماسن‬ ‫العمال ومقاحبها‪ ،‬املرغبة يف احملاسن‪ ،‬والزاجرة عن املقابح‪.‬‬ ‫جامع لكل املواعظ أو الوصاَي اِلسنة؛ اليت تُصلح الخالق‬ ‫كتاب‬ ‫قد جاءكم ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫والعمال‪ ،‬وتزجر عن الفواحش‪ ،‬وتشفي الصدور من الشكوك وسوء االعتقاد‪،‬‬ ‫وِتدي إىل اِلق واليقني والصراط املستقيم املوصل إىل سعادة الدنيا واآلخرة(‪.)2‬‬ ‫وم َذكراً(‪.)3‬‬ ‫فكفى ابلقرآن واعظاً‪ ،‬وكفى ابلقرآن زاجراً‪ ،‬وكفى ابلقرآن هادَيً ُ‬ ‫‪ 8‬ـ الشفاء‪:‬‬

‫مسى هللا عز وجل القرآن العظيم شفاءً يف ثالثة مواضع من كتابه‪ ،‬وهي‪:‬‬ ‫َاس قَ ْد َجاءتْ ُكم َم ْو ِعظَةٌ ِمن َربِ ُك ْم َو ِش َفاء لِ َما ِيف‬ ‫قوله تعاىل‪َ​َ ﴿ :‬ي أَيُّ َها الن ُ‬ ‫(‪ )1‬تفسري السعدي (‪.)435-434/4‬‬ ‫(‪ )2‬التفسري املنري يف العقيدة والشريعة‪ ،‬وهبة الزحيلي (‪.)213/6‬‬ ‫(‪ )3‬عظمة القرآن الكرمي ص (‪.)173‬‬

‫‪28‬‬


‫الص ُدوِر﴾[يونس‪:‬‬ ‫ُّ‬

‫‪ .]57‬أي‪ :‬دواء للقلوب من أمراضها اليت هي ُّ‬ ‫أشد من أمراض‬

‫البدان‪ ،‬كالشك‪ ،‬والنفاق‪ ،‬واِلسد‪ ،‬واِلقد‪ ،‬وأمثال ذلك(‪.)1‬‬ ‫ِ ِ​ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ني﴾ [اإلسراء‪ ]82 :‬فالقرآن‬ ‫وقال تعاىل‪َ ﴿ :‬ونُنَ ِزُل م َن الْقرآن َما ُه َو ش َفاءٌ َوَر ْ​ْحَةٌ ل ْل ُم ْؤمن َ‬ ‫كله شفاءٌ ورْحةٌ للمؤمنني(‪.)2‬‬ ‫ِ​ِ‬ ‫دى َو ِش َفاءٌ﴾ [فصلت‪.]44 :‬‬ ‫وقال تعاىل‪﴿ :‬قُ ْل ُه َو للَذ َ‬ ‫ين َآمنُوا ُه ً‬ ‫فالقرآن الكرمي شفاءٌ من أمراض القلوب والنفوس واجلوارح‪ ،‬وأمراض السياسة‬ ‫واالقتصاد واِلياة واِلضارة‪ ،‬وغريها من أمراض العصر‪ ،‬فمن عظمة القرآن الكرمي‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وعظمة أتثريه‪ :‬أ َن فيه الشفاء الكامل لمراض االعتقادات الباطلة‪،‬‬ ‫وعلو شأنه‪،‬‬ ‫والخالق املذمومة‪ ،‬والمراض اجلسدية‪ ،‬وشفاؤه ميتد كذلك إىل المراض املعاصرة‬ ‫الناس بتعاليمه وأدويته النافعة فعملوا هبا(‪.)3‬‬ ‫املزمنة؛ لو أخذ ُ‬

‫‪ 9‬ـ أحسن احلديث‪:‬‬

‫اّلل نَ​َزَل أَحسن ا ِْل ِد ِ‬ ‫يث﴾ [الزمر‪ .]23 :‬يعين‪ :‬أحكم اِلديث‪ ،‬وهو‬ ‫ْ َ​َ َ‬ ‫قال تعاىل‪َُ ﴿ :‬‬ ‫القرآن(‪ ،)4‬وأحسن الكتب املنزلة من كال هللا‪ ،‬هذا القرآن‪ ،‬وإذا كان هو الحسن‪،‬‬ ‫أحسن‬ ‫أجل املعاين‪ ،‬لنه‬ ‫عُلِ َم أ َن ألفاظَه‬ ‫أوضحها‪ ،‬وأن معانيه ُّ‬ ‫أفصح اللفاظ و ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫اِلديث يف لفظه ومعناه‪ ،‬متشابه يف اِلسن واالئتالف‪ ،‬وعد االختالف بوجه من‬ ‫الوجوه‪ ،‬حىت إنه كلما تدبره املتدبر‪ ،‬وتفكر فيه املتفكر‪ ،‬رأى من اتفاقه‪ ،‬حىت يف‬

‫(‪ )1‬روح املعاين (‪.)176/1‬‬ ‫(‪ )2‬عظمة القرآن الكرمي ص (‪.)175‬‬ ‫(‪ )3‬عظمة القران الكرمي ص (‪.)176‬‬ ‫(‪ )4‬املصدر نفسه ص (‪.)177‬‬

‫‪29‬‬


‫يبهر الناظرين‪ ،‬وجيز أبنه ال يصدر إال من حكيم عليم(‪.)1‬‬ ‫معانيه الغامضة ما ُ‬

‫وقد ُمسي القرآن حديثاً يف مواضع كثرية من كتاب هللا تعاىل‪ ،‬منها‪ :‬قوله تعاىل‪:‬‬ ‫َي ح ِد ٍ‬ ‫ك َاب ِخ ٌع‬ ‫يث بَ ْع َدهُ يُ ْؤِمنُو َن ﴾ [األعراف‪ .]185 :‬وقوله تعاىل‪﴿ :‬فَلَ َعلَ َ‬ ‫﴿فَبِأ ِ َ‬ ‫ك علَى آ َاث ِرِهم إِ ْن َمل ي ْؤِمنُوا ِهب َذا ْ ِ ِ‬ ‫َس ًفا ﴾ [الكهف‪ .]6 :‬وقوله تعاىل‪:‬‬ ‫نَ ْف َس َ َ‬ ‫َ‬ ‫ُْ‬ ‫اِلَديث أ َ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ب‬ ‫﴿أَفَم ْن َه َذا ا ِْلَديث تَ ْع َجبُو َن ﴾ [النجم‪ .]59 :‬وقوله تعاىل‪﴿ :‬فَ َذ ْرِين َوَم ْن يُ َكذ ُ‬ ‫ِهب َذا ا ِْل ِد ِ‬ ‫يث﴾ [القلم‪.]44 :‬‬ ‫َ َ‬ ‫وكون القرآن العظيم أحسن اِلديث على اإلطالق‪ ،‬وأحسن الكتب املنزلة من كال‬

‫هللا تعاىل‪ ،‬من حيث فصاحة ألفاظه ووضوحها‪ ،‬وجاللة معانيه وكثرِتا ونفعها؛ دل‬ ‫ذلك على عظمته‪ِ ،‬‬ ‫وعلو شأنه ورفعته(‪.)2‬‬

‫***‬

‫(‪ )1‬املصدر نفسه ص (‪.)178‬‬ ‫(‪ )2‬املصدر نفسه ص (‪.)179‬‬

‫‪30‬‬


‫صفات القرآن الكرمي‬ ‫املبحث الرابع ‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫ذكر املوىل عز وجل أوصافاً عديدة للقرآن الكرمي‪ ،‬منها‪:‬‬ ‫‪ 1‬ـ احلكيم‪:‬‬

‫ك‬ ‫وصف هللا تبارك وتعاىل كتابه أبنه‬ ‫حكيم يف عدة آَيت‪ ،‬منها‪ :‬قوله تعاىل‪﴿ :‬تِْل َ‬ ‫ٌ‬ ‫آَيت الْ ِكتَ ِ‬ ‫اِلَ ِكي ِم ﴾‬ ‫اِلَ ِكي ِم ﴾ [يونس‪ .]1 :‬وقال تعاىل‪﴿ :‬يس ۝ َوالْقرآن ْ‬ ‫اب ْ‬ ‫[يس‪ 1 :‬ـ ‪ .]2‬فهذا قَ َس ٌم من هللا تعاىل ابلقرآن اِلكيم‪ ،‬وقد وصفه ابِلكمة‪ ،‬وهي‬

‫وضع ِ‬ ‫كل شيء يف موضعه الالئق به‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫كل ٍ‬ ‫أحد مبا يناسبه ويؤثر فيه كائناً َم ْن كان‪ ،‬وهذا من‬ ‫اِلكيم‬ ‫والقرآن‬ ‫ُياطب َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫مقتضيات أ ْن يكو َن حكيماً‪.‬‬ ‫والقرآن اِلكيم يُريب أيضاً حبكمة‪ ،‬وفق منهج عقلي ونفسي مستقيم‪ ،‬منهج يوجه‬ ‫يسمح بكل‬ ‫طاقات البشر إىل الوجه الصاحل القومي‪ ،‬ويقرر للحياة كذلك نظاماً‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬ ‫نشاط بشري يف حدود ذلك املنهج اِلكيم(‪.)1‬‬ ‫ومن إحكا آَيت القرآن اِلكيم‪:‬‬ ‫‪‬‬

‫أبجل اللفاظ وأوضحها‪ ،‬وأبينها‪ ،‬الد ِ‬ ‫أهنا جاءت ِ‬ ‫الة على أجل املعاين‬

‫وأحسنها‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫أهنا حمفوظةٌ من التغيري والتبديل‪ ،‬والزَيدة والنقص والتحريف‪.‬‬

‫‪‬‬

‫مجيع ما فيها من الخبار السابقة والالحقة‪ ،‬والمور الغيبية كلها مطابقة‬ ‫أن َ‬

‫للواقع‪ ،‬مطابق هلا الواقع‪ ،‬مل ُيالفها كتاب من الكتب اإلهلية‪ ،‬ومل ُيرب خبالفها نيب‬ ‫(‪ )1‬يف ظالل القرآن (‪.)2958/5‬‬

‫‪31‬‬


‫من النبياء‪ ،‬ومل أيت ولن أييت علم حمسوس وال معقول صحيح يناقض ما دلت‬ ‫عليه‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫أهنا ما أمرت بشيء‪ ،‬إال هو خالص املصلحة‪ ،‬أو راجحها‪ ،‬وال هنت عن‬

‫شيء‪ ،‬إال وهو خالص املفسدة‪ ،‬أو راجحها‪ ،‬وكثريا ما جيمع بني المر ابلشيء‪ ،‬مع‬ ‫ذكر حكمته وفائدته‪ ،‬والنهي عن الشيء مع ذكر مضرته‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫أهنا مجعت بني الرتغيب والرتهيب‪ ،‬والوعظ البليغ‪ ،‬الذي تعتدل به النفوس‬

‫اخلرية‪ ،‬وحتتكم فتعمل ابجلز ‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫أنك جتد آَيِتا املتكررة كالقصص والحكا وحنوها‪ ،‬قد اتفقت كلها‬

‫وتواطأت فليس فيها تناقض وال اختالف‪.‬‬ ‫وأىن للباطل أن يدخل على هذا الكتاب اِلكيم‪ ،‬وهو تنزيل من حكيم ْحيد‪،‬‬ ‫واِلكمة ظاهرة يف بنائه‪ ،‬وتوجيهه‪ ،‬وطريقة نزوله‪ ،‬ويف عالجه للقلب البشري من‬ ‫أقصر طريق(‪.)1‬‬ ‫‪ -2‬العزيز‪:‬‬

‫ِ‬ ‫اب‬ ‫قال هللا تعاىل يف وصف القرآن ‪َ ﴿ :‬وإِنَهُ لَكتَ ٌ‬ ‫مناله ووجود مثله(‪.)2‬‬

‫ِّ‬ ‫صلَت‪]41:‬‬ ‫ع ِزيز﴾[فُ ّ‬ ‫َ‬

‫أي يصعب‬

‫والعزيز‪ :‬النفيس‪ ،‬وأصله من العزة‪ ،‬وهي املنعة؛ لن الشيء النفيس يدافع عنه وُيمى‬ ‫عن النبذ‪ ،‬ومثل ذلك يكون عزيزا‪ ،‬والعزيز أيضا‪ :‬الذي يغلب وال يغلب‪ ،‬وكذلك‬

‫(‪ )1‬تفسري السعدي (‪.)227/4‬‬ ‫(‪ )2‬املفردات يف غريب القرآن ص (‪.)236-235‬‬

‫‪32‬‬


‫حجج القرآن(‪.)1‬‬ ‫ووصف تعاىل الكتاب ابلعزة؛ لنه بصحة معانيه ْمتنع الطعن فيه‪ ،‬واإلزراء عليه‪،‬‬ ‫وهو حمفوظ من هللا تعاىل(‪ ،)2‬ومجيع أقوال املفسرين أبنه (عزيز) ما يلي‪:‬‬ ‫‪‬‬

‫جيد إليه سبيالً‪ ،‬وال يستطيع أن يغريه‪ ،‬أو يزيد فيه أو‬ ‫منيع من الشيطان ال ُ‬

‫ينقص منه‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫كرمي على هللا‪ ،‬وعزيز على هللا‪ ،‬وعزيز من عند هللا‪.‬‬

‫‪‬‬

‫منيع من الباطل‪ ،‬ومن كل من أراده بتحريف أو سوء‪.‬‬ ‫عدميُ النظري‪ٌ ،‬‬

‫‪‬‬

‫وقاهر‪ ،‬واملتأمل يف هذه القوال‬ ‫ميتنع على الناس أن يقولوا مثله فهو ٌ‬ ‫غالب ٌ‬

‫جيدها مجيعاً تنطبق على وصفاً ﴿ َع ِز ٌيز ﴾‪ ،‬وهي من اختالف التنوع ال التضاد‪ ،‬تدل‬ ‫على عظمة القرآن‪ ،‬وعزته‪ ،‬وعلو شأنه‪ ،‬ورفعته‪.‬‬

‫ِ‬ ‫اب َع ِز ٌيز ﴾‬ ‫فنحمد هللا العزيز الذي أنزل كتاابً عزيزاً‪َ ﴿ :‬وإِنَهُ لَكتَ ٌ‬ ‫ول ِم ْن أَنْ ُف ِس ُك ْم َع ِز ٌيز َعلَْي ِه َما َعنِت ُّْم﴾ [التوبة‪ .]128 :‬لمة‬ ‫نيب عزيز ﴿لَ​َق ْد َجاءَ ُك ْم َر ُس ٌ‬ ‫ِ ِ ِ ِ ِ​ِ ِ ِ ِ‬ ‫ني﴾ [املنافقون‪.)3(]8 :‬‬ ‫عزيزة ﴿ َو َّلل الْعَزةُ َولَر ُسوله َول ْل ُم ْؤمن َ‬ ‫‪ 3‬ـ الكرمي‪:‬‬ ‫قال تعاىل‪﴿ :‬فَالَ أُقْ ِسم ِمبواقِ ِع الن ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُّجو ۝ َوإِنَهُ لَ​َق َس ٌم لَْو تَ ْعلَ ُمو َن َعظ ٌيم ۝ إِنَهُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ َ​َ‬ ‫لَقرآن َك ِرميٌ﴾ [الواقعة‪ 75 :‬ـ ‪.]77‬‬ ‫[فصلت‪]41 :‬‬

‫على‬

‫اسم جامع ملا ُيمد‪ ،‬وذلك أن فيه البيان واهلدى واِلكمة‪ ،‬وهو ُمعظم عند‬ ‫والكرمي‪ٌ :‬‬

‫(‪ )1‬عظمة القرآن الكرمي ص (‪.)179‬‬ ‫(‪ )2‬التحرير والتنوير (‪.)71/25‬‬ ‫(‪ )3‬نفسري ابن عطية (‪.)19/5‬‬

‫‪33‬‬


‫هللا عز وجل(‪.)1‬‬ ‫‪ 4‬ـ اجمليد‪:‬‬

‫*يف لَو ٍح َْحم ُف ٍ‬ ‫ِ‬ ‫وظ ﴾ [الربوج‪ 21 :‬ـ ‪.]22‬‬ ‫قال تعاىل‪﴿ :‬بَ ْل ُه َو قرآن َجمي ٌد ِ ْ‬ ‫وقال تعاىل‪﴿ :‬ق والْقرآن الْم ِج ِ‬ ‫يد ﴾ [ق‪.]1 :‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫واملعىن‪ :‬إن هذا القرآن الذي كذبوا به شريف الر ِ‬ ‫تبة يف نظمه وأسلوبه حىت بلغ حد‬ ‫ُ‬ ‫اإلعجاز‪ ،‬متناه يف الشرف والكر والربكة‪ ،‬وليس هو كما يقولون‪ :‬إنه ِش ْعٌر وكهانة‬ ‫ِ‬ ‫وس ْحٌر‪ ،‬وإمنا هو كال هللا املصون عن التغيري والتحريف‪ ،‬املكتوب يف اللوح‬ ‫احملفوظ(‪.)2‬‬

‫‪ 5‬ـ العظيم‪:‬‬

‫اك َسْب ًعا ِم َن‬ ‫لقد نوه هللا تبارك وتعاىل بعظمة القرآن‪ ،‬فقال تعاىل‪َ ﴿ :‬ولَ​َق ْد آتَْي نَ َ‬ ‫ِ​ِ‬ ‫الْمثَ ِاين والْقرآن الْ َع ِظيم *الَ َ​َتَُد َن َعْي نَ ْي َ ِ‬ ‫اجا ِمْن ُه ْم َوالَ َْحتَز ْن َعلَْي ِه ْم‬ ‫ك إ َىل َما َمت َْعنَا به أ َْزَو ً‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫واخ ِفض جنَاح َ ِ ِ ِ‬ ‫ني ﴾ [احلجر‪ 87 :‬ـ ‪.]88‬‬ ‫ك ل ْل ُم ْؤمن َ‬ ‫َ ْ ْ َ َ‬ ‫يقول تعاىل لنبيه صلى هللا عليه وسلم‪ :‬كما اتيناك القرآن العظيم فال تنظر َن إىل الدنيا‬ ‫وزينتها وما متعنا به أهلها‪ ،‬استغ ِن مبا آَتك هللا من القرآن العظيم‪ ،‬عما فيه من املتاع‬ ‫والزهرة الفانية(‪ ،)3‬فالقرآن هو النعمة العُظمى اليت كل نعمة‪ ،‬وإن عظمت‪ ،‬فهي‬ ‫ابلنسبة إليها حقريةٌ ضئيلةٌ‪ ،‬فعليك أن تستغين به(‪.)4‬‬

‫(‪ )1‬زاد املسري (‪.)151/8‬‬ ‫(‪ )2‬التفسري املنري (‪.)545/15‬‬ ‫(‪ )3‬عظمة القران الكرمي ص (‪.)196‬‬ ‫(‪ )4‬الكشاف‪ ،‬للزخمشري (‪.)549/2‬‬

‫‪34‬‬


‫‪ 6‬ـ البشري والنذير‪:‬‬

‫صلَت آَيته قرآانً عربِيًّا لَِقوٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫قال هللا تعاىل يف وصف القرآن العظيم‪﴿ :‬كتَ ٌ‬ ‫اب فُ ْ َ ُ ُ‬ ‫َ​َ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ض أَ ْكثَ ُرُه ْم فَ ُه ْم الَ يَ ْس َمعُو َن ﴾ [فصلت‪ 3 :‬ـ ‪ .]4‬فهذا‬ ‫يَ ْعلَ ُمو َن ۝ بَ ِش ًريا َونَذ ًيرا فَأ ْ‬ ‫َعَر َ‬ ‫وصف للقرآن العظيم أنه‪ :‬يبشر من امن ابجلنة‪ ،‬وينذر من كفر ابلنار(‪.)1‬‬

‫‪ 7‬ـ ال أيتيه الباطل من بني يديه وال من خلفه‪:‬‬ ‫قال تعاىل‪﴿ :‬الَ أيْتِ ِيه الْب ِ‬ ‫اطل ِم ْن بَْ ِ‬ ‫ني يَ َديِْه َوالَ ِم ْن َخ ْل ِف ِه﴾ [فصلت‪.]42 :‬‬ ‫َ َ ُ‬ ‫فاهلل عز وجل مل جيعل للباطل مدخالً على هذا الكتاب العزيز‪ ،‬وأىن له أن يدخل‬ ‫عليه وهو صادر من هللا اِلق العظيم؟!‬ ‫قال تعاىل‪﴿ :‬ولَو َكا َن ِمن ِعْن ِد َغ ِري َِ‬ ‫ِ​ِ‬ ‫اختِالَفًا َكثِ ًريا ﴾ [النساء‪.]82 :‬‬ ‫اّلل لَ​َو َج ُدوا فيه ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َْ‬ ‫اّللِ ولَكِن تَص ِد ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ني‬ ‫يق الَذي بَْ َ‬ ‫وقال تعاىل‪َ ﴿ :‬وَما َكا َن َه َذا الْقرآن أَ ْن يُ ْف َ​َرتى م ْن ُدون َ َ ْ ْ َ‬ ‫ِ‬ ‫ي َدي ِه وتَ ْف ِ‬ ‫اب الَ ريْب فِ ِيه ِمن ر ِ‬ ‫صيل الْ ِكتَ ِ‬ ‫ني ﴾ [يونس‪.)2(]37 :‬‬ ‫ب الْ َعالَم َ‬ ‫َْ‬ ‫َْ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫***‬

‫(‪ )1‬تفسري ابن عطية (‪.)4/5‬‬ ‫(‪ )2‬عظمة القرآن الكرمي ص (‪.)199‬‬

‫‪35‬‬


‫الفصل الثاين ‪ :‬خصائص القرآن الكرمي‬

‫أوالً ـ القرآن الكرمي كتاب إهلي‬ ‫اثنياً ـ القرآن الكرمي كتاب حمفوظ‬ ‫اثلثاً ـ القرآن الكرمي كتاب معجز‬ ‫وميسر‬ ‫رابعاً ـ القرآن الكرمي كتاب مبني َّ‬ ‫خامساً ـ القرآن الكرمي كتاب هداية‬ ‫سادساً ـ القرآن الكرمي كتاب اإلنسانية كلها‬ ‫سابعاً ـ القرآن الكرمي كتاب الزمن كله‬ ‫اثمناً ـ القرآن الكرمي نزل أبرقى اللغات وأمجعها‬ ‫ومهيمن عليها‬ ‫اتسعاً ـ القرآن الكرمي مص ّدق لكتب هللا السابقة‬ ‫ٌ‬

‫‪36‬‬


‫الفصل الثاين ‪ :‬خصائص القرآن الكرمي‬ ‫خصائص القرآن الكرمي كثريةٌ‪ ،‬منها‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫أوالً ـ القرآن الكرمي كتاب إهلي‪:‬‬

‫كتاب هللا تعاىل؛ الذي يتضم ُن كلماته إىل خامت‬ ‫أوىل خصائص القرآن الكرمي‪ ،‬أنه ُ‬ ‫ومعىن‪ ،‬أوحاه هللا‬ ‫رسله وأنبيائه حممد صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فهو ُّ‬ ‫إهلي املصدر‪ :‬لفظاً ً‬ ‫إىل رسوله ونبيه حممد صلى هللا عليه وسلم عن طريق الوحي اجللي‪ ،‬وهو نزول‬

‫«الرسول امللكي» جربيل عليه السال على «الرسول البشري» حممد صلى هللا عليه‬ ‫وسلم‪ ،‬وليس عن طرق الوحي اآلخرى من اإلهلا أو النفث يف الروع‪ ،‬ومن الرؤَي‬ ‫الصادقة أو غريها‪.‬‬ ‫قال تعاىل‪﴿ :‬كِتَاب أ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ت ِم ْن لَ ُد ْن َح ِكي ٍم َخبِ ٍري ﴾ [هود‪.]1 :‬‬ ‫آَيتُهُ مثَُ فُصلَ ْ‬ ‫ُحك َم ْ‬ ‫ٌ ْ‬ ‫ت َ‬ ‫ك لَتُلَ َقى الْقرآن ِم ْن لَ ُد ْن‬ ‫وقال سبحانه ُياطب رسوله صلى هللا عليه وسلم‪َ ﴿ :‬وإِنَ َ‬ ‫َح ِكي ٍم َعلِي ٍم ﴾ [النمل‪.]6 :‬‬ ‫اك إِالَ ُمبَ ِشًرا َونَ ِذيًرا ﴾‬ ‫وقال تعاىل‪َ ﴿ :‬وِاب ِْلَِق أَنْ َزلْنَاهُ َوِاب ِْلَِق نَ​َزَل َوَما أ َْر َس ْلنَ َ‬ ‫[اإلسراء‪.]105:‬‬

‫أرسخ يف‬ ‫وقد اقتضت حكمةُ هللا تعاىل أ ْن ينزله منجماً وفقاً للحوادث؛ ليكو َن َ‬ ‫مواجهة احملن والشدائد اليت تنزل به وأبصحابه‪ ،‬كما قال تعاىل‪﴿ :‬وقَ َ َ ِ‬ ‫ين َك َفُروا‬ ‫َ‬ ‫ال الذ َ‬ ‫اح َدةً َك َذلِ ِ‬ ‫لَوالَ نُ ِزَل علَي ِه الْقرآن ُمجلَةً و ِ‬ ‫ت بِ​ِه فُ َؤ َاد َك َوَرتَ ْلنَاهُ تَ ْرتِيالً ۝ َوالَ‬ ‫َ‬ ‫ك لنُثَبِ َ‬ ‫َْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ َ‬ ‫َح َس َن تَ ْف ِس ًريا ﴾ [الفرقان‪.]33-32 :‬‬ ‫ك ِمبَثَ ٍل إِالَ ِجْئ نَ َ‬ ‫َأيْتُونَ َ‬ ‫اك ِاب ِْلَِق َوأ ْ‬ ‫وحكمة أخرى‪ ،‬وهي أ ْن يقرأه الرسول الكرمي على املؤمنني به على مهل‪ ،‬وحيث‬ ‫يستوعبونه حفظاً وفهماً وعمالً‪ ،‬كما قال هللا عز وجل‪ ﴿:‬وقرآان قرأانه لتقرأه َعلَى‬ ‫‪37‬‬


‫َاس علَى م ْك ٍ‬ ‫ث َونَ​َزلْنَاهُ تَْن ِزيالً ﴾[اإلسراء‪.]106 :‬‬ ‫الن ِ َ ُ‬

‫ولكن القرآن عند هللا تعاىل كتاب معلو أوله وآخره‪ ،‬مس َج ٌل يف أ الكتاب‪ ،‬أو‬ ‫اللوح احملفوظ‪ ،‬أو الكتاب املكنون‪ ،‬كما صر َح بذلك القرآن نفسه‪﴿ :‬حم ۝‬ ‫ني ۝ إِ َان جع ْلنَاهُ قرآانً َعربِيًّا لَعلَ ُكم تَ ْع ِقلُو َن ۝ وإِنَهُ ِيف أُِ الْ ِكتَ ِ‬ ‫والْكِتَ ِ‬ ‫اب الْمبِ ِ‬ ‫اب‬ ‫َ​َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫لَ َديْنَا لَ َعلِ ٌّي َحكِ ٌيم﴾ [الزخرف‪ 1 :‬ـ ‪.]4‬‬ ‫وقال تعاىل‪﴿ :‬بل هو قرآن َِجمي ٌد ۝ ِيف لَو ٍح َْحم ُف ٍ‬ ‫وظ ﴾ [الربوج‪ 21 :‬ـ ‪.]22‬‬ ‫ْ‬ ‫َ ْ َُ‬ ‫اب م ْكنُ ٍ‬ ‫ِ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ون ۝ الَ َميَ ُّسهُ إِالَ الْ ُمطَ َهُرو َن‬ ‫وقال تعاىل‪﴿ :‬إنَهُ لَقرآن َك ِرميٌ ۝ ِيف كتَ َ‬ ‫ِ‬ ‫۝ تَْن ِزيل ِمن ر ِ‬ ‫ني ﴾ [الواقعة‪ 77 :‬ـ ‪.]80‬‬ ‫ب الْ َعالَم َ‬ ‫ٌ َْ‬ ‫أي قارئ للقرآن له عقل ِ‬ ‫س يستيقن أن ه ليس كال ب شر‪ ،‬وأن ه متميز عن‬ ‫و ُّ‬ ‫وح ٌّ‬ ‫ٌ‬ ‫ك ال الرسول صلى هللا عليه وسلم؛ الذي يتمثل يف ال حديث النبوي‪ ،‬وإن ك ان يف‬

‫وجود آية قرآنية ضمن حديث نبوي‪ ،‬جيعل هلا نوراً خاصاً‬ ‫ذروة البالغ ة البشرية‪ ،‬وإن َ‬ ‫ُيس به َم ْن يقرؤها أو يسمعها‪ ،‬ويشعر أهنا ليست من جنس م ا قبلها وما‬ ‫بعدها(‪.)1‬‬ ‫ومن روائع ما قال اإلما ابن القيم عن «اخلطاب القرآين» قوله يف كتابه «التبيان يف‬ ‫أقسا القرآن»‪ :‬أتمل يف خطاب القرآن جتد ملكاً له امللك كله‪ ،‬وله اِلَ ْم ُد كله‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وموردها إليه‪ ،‬مستوَيً على العرش‪ ،‬ال ختفى‬ ‫أزمةُ المور كلها بيده‪،‬‬ ‫ومصدرها منه‪ُ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫عليه خافيةٌ من أقطار ْملكته‪ ،‬عاملاً مبا يف نفوس عبيده‪ ،‬مطلعاً على أسرارهم‬ ‫وعالنيتهم‪ ،‬منفرداً بتدبري اململكة‪ ،‬يسمع ويرى‪ ،‬يعطي ومينع‪ ،‬ويثيب ويعاقب‪،‬‬ ‫ويكر ويهني‪ ،‬وُيلق ويرزق‪ ،‬ومييت وُييي‪ ،‬ويقدر ويقضي ويدبر‪ ،‬المور انزلة من‬ ‫(‪ )1‬كيف نتعامل مع القرآن الكرمي؟ ‪ ،‬د‪ .‬يوسف القرضاوي ص (‪.)21‬‬

‫‪38‬‬


‫عنده دقيقها وجليلها‪ ،‬وصاعدة إليه‪ ،‬ال تتحرك ذرةٌ إال إبذنه‪ ،‬وال تسقط ورقةٌ إال‬ ‫وينصح‬ ‫بعلمه‪ ،‬فتأمل كيف جتده يثين على نفسه‪ ،‬وميجد نفسه‪ ،‬وُيمد نفسه‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫عباده‪ ،‬ويدهلم على ما فيه سعادِتم وفالحهم‪ ،‬ويرغبهم فيه‪ ،‬وُيذرهم ْما فيه‬ ‫هال ُكهم‪ ،‬ويتعرف إليهم أبمسائه وصفاته‪ ،‬ويتحبب إليهم بنعمه واالئه‪ ،‬يذكرهم بنعمه‬ ‫عليهم‪ ،‬وأيمرهم مبا يستوجبون به َتامها‪ ،‬وُيذرهم من نقمه‪ ،‬ويذكرهم مبا أعد هلم‬ ‫ِ‬ ‫العقوبة إن عصوه‪ ،‬وُيربهم بصنعه يف‬ ‫من الكرامة إن أطاعوه‪ ،‬وما أعد هلم من‬ ‫أوليائه وأعدائه‪ ،‬وكيف كانت عاقبةُ هؤالء وهؤالء‪ ،‬ويثين على أوليائه لصاحل أعماهلم‬ ‫وقبيح صفاِتم‪ ،‬ويضرب المثال‪،‬‬ ‫وأحسن أوصافهم‪ ،‬ويذ أعداءه بسيئ أعماهلم‪ِ ،‬‬ ‫وجييب على شبه أعدائه أحسن الجوبة‪ ،‬ويصدق الصادق‪،‬‬ ‫وينوع الدلة والرباهني‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ويكذب الكاذب‪ ،‬ويقول اِلق ويهدي السبيل‪ ،‬ويدعو إىل دار السال ‪ ،‬ويذكر‬

‫أوصافهم وحسنها ونعيمها‪ ،‬وُيذر من دار البوار‪ ،‬ويذكر عذاهبا وقبحها واالمها‪،‬‬ ‫ويذكر عباده بفقرهم إليه‪ ،‬وشدة حاجتهم إليه من كل وجه‪ ،‬وأهنم ال غىن هلم عنه‬ ‫طرفة عني‪ ،‬ويذكرهم بغناه عنهم وعن مجيع املوجودات‪ ،‬وأنه الغين بنفسه عن كل ما‬ ‫سواه‪ ،‬وكل ما سواه فقري إليه(‪.)1‬‬ ‫اثنياً ـ القرآن الكرمي كتاب حمفوظ‪:‬‬

‫ومن خصائص القرآن أنه كتاب حمفوظ‪ ،‬توىل هللا تعاىل حفظه ِ‬ ‫بنفسه‪ ،‬ومل يكل‬ ‫ٌ‬ ‫حفظه إىل ٍ‬ ‫أحد‪ ،‬كما فعل مع الكتب املقدسة اآلخرى(‪.)2‬‬ ‫وقد نوه هللا سبحانه بعظمة القرآن بذكر حفظه قبل نزوله يف آَيت‪ ،‬منها‪:‬‬ ‫(‪ )1‬املصدر نفسه د‪.‬يوسف القرضاوي ص (‪ ،)21‬نقالً عن التبيان يف أقسا القران‪ ،‬البن قيم اجلوزية‪.‬‬ ‫(‪ )2‬كيف نتعامل مع القران؟ ص(‪.)22‬‬

‫‪39‬‬


‫قوله تعاىل‪َ ﴿ :‬كالَ إِ َهنَا تَ ْذكِرةٌ ۝ فَمن َشاء ذَ َكره ۝ ِيف صح ٍ‬ ‫ف ُم َكَرَم ٍة‬ ‫َ ْ َ َُ‬ ‫ُ​ُ‬ ‫َ‬ ‫وع ٍة ُمطَ َهَرةٍ ۝ ِأبَيْ ِدي َس َفَرةٍ ۝ كَِراٍ بَ​َرَرةٍ ﴾ [عبس‪ 11 :‬ـ ‪.]16‬‬ ‫َمْرفُ َ‬

‫۝‬

‫وأما حفظ هللا تعاىل للقرآن أثناء نزوله؛ فيدل عليه قوله تعاىل‪َ ﴿ :‬وِاب ِْلَِق أَنْ َزلْنَاهُ‬ ‫َوِاب ِْلَِق نَ​َزَل﴾ [اإلسراء‪.]105 :‬‬ ‫وأما حفظ هللا تعاىل للقرآن بعد نزوله؛ فيدل عليه قوله تعاىل‪﴿ :‬إِ َان َحنن نَ​َزلْنا ِ‬ ‫الذ ْكَر‬ ‫ُْ َ‬ ‫َوإِ َان لَهُ َِلَافِظُو َن ﴾ [احلجر‪.]9 :‬‬ ‫دل على التأكيد من ِعدة ٍ‬ ‫والصيغ ةُ ت ُّ‬ ‫أوجه يعرفها دارسو العربية‪ ،‬منها‪ :‬امسية اجلملة‪،‬‬ ‫وأتكيدها حبرف إن‪ ،‬ودخول الال املؤكدة على اخلرب (ِلافظون)(‪ )1‬وِلفظ هللا إَيه‬ ‫فقد بقي كما هو‪ :‬طودا أشم‪ ،‬عزيزا ال يقتحم ِْحاه‪ ،‬وكل حماولة لتغيري حرف منه‬

‫ِ‬ ‫ِ َِ‬ ‫ِ‬ ‫اب‬ ‫ٌّ‬ ‫ين َك َفُروا ِابلذ ْك ِر لَ َما َجاءَ ُه ْم َوإِنَهُ لَكتَ ٌ‬ ‫مقضي عليها ابلفشل‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬إ َن الذ َ‬ ‫ْح ٍ‬ ‫ِ​ِ ِ ِ‬ ‫ني ي َدي ِه والَ ِمن خ ْل ِف ِه تَْن ِزيل ِمن ح ِكي ٍم َِ‬ ‫يد ﴾‬ ‫َع ِز ٌيز ۝ الَ َأيْتيه الْبَاط ُل م ْن بَْ ِ َ ْ َ ْ َ‬ ‫ٌ ْ َ‬ ‫[فصلت‪.]42-41 :‬‬ ‫ِ‬ ‫ف عن الكتب السابقة فحفظه‬ ‫وقد هيأ هللا تبارك وتعاىل للقرآن العظيم ظروفاً ختتل ُ‬ ‫دوهنا‪ ،‬ومن ذلك‪:‬‬ ‫العرب الوائل يف جاهليتهم كانوا‬ ‫‪ 1‬هيأ أمة قوية يف ذاكرِتا وحافظتها‪ ،‬ذلك أ َن َ‬ ‫متمكنني من ذلك‪ ،‬حيث يَْرُوون ألوفاً من أبيات الشعر من غري تدوين‪ ،‬إمنا‬ ‫يعتمدون يف ذلك على اِلفظ‪.‬‬

‫اِلفظ‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬ولَ​َق ْد ي َسرَان الْقرآن لِ ِ‬ ‫‪ 2‬هيأ للقرآن العظيم سهولةَ ِ‬ ‫لذ ْك ِر فَ َه ْل‬ ‫َ َ ْ‬ ‫ِم ْن ُم َدكِ ٍر ﴾ [القمر‪.]17 :‬‬ ‫(‪ )1‬املصدر نفسه (‪.)24‬‬

‫‪40‬‬


‫‪ 3‬هيأ له أمة مستقرة ْمكنة يف اِلفظ والفهم‪ ،‬والمانة‪ ،‬فكان اِلفاظ ُيفظونه على‬ ‫يدي رسول هللا صلى هللا عليه وسلم حىت يُ ِتقنُوا اِلفظ‪ ،‬مث يُدونونه بعد ذلك‪،‬‬ ‫ويقف عليهم بنفسه يف مراجعة ذلك‪.‬‬ ‫ظ ما‬ ‫‪ 4‬هيأ له مراجعة ِ‬ ‫النيب صلى هللا عليه وسلم له يف املأل العلى‪ ،‬حيث كان ُيف ُ‬ ‫يوحي إليه‪ ،‬مث يُراجعه على جربيل عليه السال مرةً كل سنة‪ ،‬ويف السنة الخرية من‬

‫يل القرآن كله على رسول هللا صلى هللا عليه وسلم مرتني‪.‬‬ ‫حياته املباركة راجع جرب ُ‬ ‫لعبث ٍ‬ ‫جمال ِ‬ ‫وظل اِلفا ُظ املتقنون‬ ‫‪ 5‬بعد الفراغ من تدوينه مل يَعُ ْد هناك ٌ‬ ‫عابث‪َ ،‬‬ ‫ٍ‬ ‫نسخة تكتب من املصحف مراجعةً فاحصةً‪ ،‬وملا أصبح للمصحف‬ ‫كل‬ ‫يُراجعون َ‬ ‫مطابع خاصة‪ُ ،‬كونت جلان متخصصة ومتأهلة من كبار ُحفاظ العامل اإلسالمي‪،‬‬ ‫تُراجع وتُدقق كل حرف منه قبل أن أتذن بطبعه‪.‬‬ ‫ظ الذي قدره هللا له منذ الزل‪ ،‬وهو‬ ‫وهبذه الوسائل حتقق للقرآن العظيم ذلك اِلف ُ‬ ‫اللوح احملفوظ‪ ،‬وأجنز وعده الصادق‪﴿ :‬إِ َان َحنن نَ​َزلْنا ِ‬ ‫الذ ْكَر َوإِ َان لَهُ َِلَافِظُو َن ﴾‬ ‫ُْ َ‬ ‫[احلجر‪.)1(]9 :‬‬ ‫ويف سبك اجلملتني من الداللة على كمال الكربَيء واجلاللة‪ ،‬وعلى فخامة شأن‬ ‫التنزيل ما ال ُيفى(‪.)2‬‬ ‫اثلثاً ـ القرآن الكرمي كتاب معجز‪:‬‬ ‫اإلعجاز‪ ،‬فهو املعجزةُ الكربى حملمد صلى هللا عليه‬ ‫ومن خصائص القرآن الكرمي‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫العرب بغريها‪ ،‬برغم ما ظهر على يديه من معجزات ال‬ ‫وسلم؛ اليت مل يتحد‬ ‫َ‬ ‫(‪ )1‬عظمة القرآن الكرمي ص (‪.)109‬‬ ‫(‪ )2‬املصدر نفسه ص (‪.)107‬‬

‫‪41‬‬


‫حتصى(‪.)1‬‬ ‫‪ 1‬ـ تعريف املعجزة‪:‬‬ ‫خارق للعادة‪ ،‬مقرو ٌن ابلتحدي‪ ،‬ساملٌ من املعارضة‪ ،‬يظ ِهُره هللاُ على يد رسله(‪.)2‬‬ ‫أمر ٌ‬ ‫ٌ‬

‫‪2‬ـ شروط املعجزة‪:‬‬

‫نستطيع أن نتلمس شروطها‪:‬‬ ‫ومن خالل التعريف السابق للمعجزة‬ ‫ُ‬

‫أ أن تكون من المور اخلارقة للعادة‪ :‬مثل عد إحراق النار لسيدان إبراهيم عليه‬

‫الصالة والسال ‪ ،‬وعد إغراق املاء ملوسى عليه السال وقومه‪ ،‬وعد سيالنه عليهم‪،‬‬ ‫ومثل القرآن الكرمي‪.‬‬

‫ارق من صنع هللا وإجنازه‪ ،‬قال تعاىل‪َ ﴿ :‬ولَ​َق ْد أ َْر َس ْلنَا ُر ُسالً ِم ْن‬ ‫ب أن يكون اخل ُ‬ ‫ِ‬ ‫ك ِمْن هم من قَصصنَا علَي َ ِ‬ ‫ِ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ص َعلَْي َ‬ ‫قَ ْبل َ ُ ْ َ ْ َ ْ َ ْ‬ ‫ص ْ‬ ‫ك َومْن ُه ْم َم ْن َملْ نَ ْق ُ‬ ‫ك َوَما َكا َن لَر ُسول أَ ْن َأيْيتَ‬ ‫ِ‬ ‫اّللِ قُ ِ‬ ‫ك الْ ُمْب ِطلُو َن﴾‬ ‫اّللِ فَِإذَا َجاءَ أ َْمُر َ‬ ‫ِ​ِبيٍَة إِالَ إبِ​ِ ْذ ِن َ‬ ‫ض َي ِاب ِْلَِق َو َخ ِسَر ُهنَال َ‬ ‫[غافر‪.]78 :‬‬ ‫ج سالمتها من املعارضة‪.‬‬ ‫د أن تقع على مقتضى قول من يدعيها‪.‬‬ ‫ه التحدي هبا‪.‬‬ ‫و أن يستشهد هبا مدعي الرسالة على هللا عز وجل‪.‬‬ ‫ز أتخر المر املعجز عن دعوى الرسالة(‪.)3‬‬

‫(‪ )1‬كيف نتعامل مع القرآن العظيم؟ ص (‪.)32‬‬ ‫(‪ )2‬اإلتقان يف علو القرآن‪ ،‬للسيوطي (‪ ،)3/4‬مباحث يف إعجاز القرآن‪ ،‬مصطفى مسلم ص (‪.)14‬‬ ‫(‪ )3‬مباحث يف إعجاز القرآن ص (‪.)18‬‬

‫‪42‬‬


‫وقد توافرت هذه الشروط يف إعجاز القرآن‪.‬‬ ‫‪3‬ـ القرآن الكرمي هو املعجزة العظمى‪:‬‬ ‫ملا زعم املشركون أن حممداً صلى هللا عليه وسلم هو الذي ألف القرآن‪ ،‬قال هللا‬ ‫يث ِمثْلِ ِه إِ ْن َكانُوا ِ ِ‬ ‫تعاىل‪﴿ :‬أَ ي ُقولُو َن تَ َق َولَه بل الَ ي ْؤِمنُو َن ۝ فَ ْليأْتُوا ِحب ِد ٍ‬ ‫ني‬ ‫صادق َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ َْ ُ‬ ‫َْ‬ ‫اخلَالُِقو َن ﴾ [الطور‪ 33 :‬ـ ‪.]35‬‬ ‫۝ أَ ْ ُخلِ ُقوا ِم ْن َغ ِْري َش ْي ٍء أَ ْ ُه ُم ْ‬ ‫مث حتداهم بعشر سور‪﴿ :‬أَ ي ُقولُو َن افْرتاه قُل فَأْتُوا بِع ْش ِر سوٍر ِمثْلِ ِه م ْفرتَي ٍ‬ ‫ت َو ْادعُوا‬ ‫ُ َ​َ​َ‬ ‫َْ‬ ‫َ َُ‬ ‫َ​َ ُ ْ‬ ‫ِ‬ ‫اّللِ إِ ْن ُكْن تم ِ ِ‬ ‫م ِن استَطَعتُم ِمن د ِ‬ ‫اعلَ ُموا أَ​َمنَا أُنْ ِزَل‬ ‫ون َ‬ ‫ني ۝ فَِإ َملْ يَ ْستَجيبُوا لَ ُك ْم فَ ْ‬ ‫َ ْ ْ​ْ ْ ُ‬ ‫صادق َ‬ ‫ُْ َ‬ ‫اّللِ َوأَ ْن الَ إِلَهَ إِالَ ُه َو فَ َه ْل أَنْتُ ْم ُم ْسلِ ُمو َن ﴾ [هود‪ 13 :‬ـ ‪.]14‬‬ ‫بِعِْل ِم َ‬ ‫ٍ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ورةٍ ِم ْن‬ ‫مث حتداهم بسورة واحدة‪َ ﴿ :‬وإ ْن ُكْن تُ ْم ِيف َريْب ْمَا نَ​َزلْنَا َعلَى َعْبد َان فَأْتُوا ب ُس َ‬ ‫اّللِ إِ ْن ُكْن تم ِ ِ‬ ‫ِمثْلِ ِه و ْادعوا ُشه َداء ُكم ِمن د ِ‬ ‫ني ۝ فَِإ ْن َملْ تَ ْف َعلُوا َولَ ْن تَ ْف َعلُوا‬ ‫ون َ‬ ‫َ ُ َ َ ْ ْ ُ‬ ‫صادق َ‬ ‫ُْ َ‬ ‫ُعد ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ين ﴾ [البقرة‪ 23 :‬ـ ‪.]24‬‬ ‫َاس َوا ِْل َج َارةُ أ ْ‬ ‫َار الَِيت َوقُ ُ‬ ‫فَاتَ ُقوا الن َ‬ ‫َت للْ َكاف ِر َ‬ ‫ود َها الن ُ‬ ‫وقال تعاىل أيضاً‪﴿ :‬أَ ي ُقولُو َن افْرتاه قُل فَأْتُوا بِس ِ ِ ِ‬ ‫استَطَ ْعتُ ْم ِم ْن‬ ‫ورةٍ مثْله َو ْادعُوا َم ِن ْ‬ ‫ْ َ‬ ‫َُ‬ ‫َ​َ ُ ْ‬ ‫اّللِ إِ ْن ُكْن تم ِ ِ‬ ‫د ِ‬ ‫ني ﴾ [يونس‪.]38 :‬‬ ‫ون َ‬ ‫ُ‬ ‫صادق َ‬ ‫ُْ َ‬

‫العجز إىل يو‬ ‫مجيع اخللق أن يعارضوا ما جاء به‪ ،‬مث س َجل على اخللق مجيعاً َ‬ ‫َ‬ ‫فعجز ُ‬ ‫ِ‬ ‫اجتَم َع ْ ِ‬ ‫اجلِ ُّن َعلَى أَ ْن َأيْتُوا مبِ​ِثْ ِل َه َذا الْقرآن‬ ‫س َو ْ‬ ‫القيامة بقوله تعاىل‪﴿ :‬قُ ْل لَئ ْن ْ َ‬ ‫ت اإلنْ ُ‬ ‫ِ​ِ ِ ِ‬ ‫ض ُه ْم لِبَ ْع ٍ‬ ‫ض ظَ ِه ًريا ﴾ [اإلسراء‪.]88 :‬‬ ‫الَ َأيْتُو َن مبثْله َولَ ْو َكا َن بَ ْع ُ‬ ‫ِّ‬ ‫األنبياء‬ ‫النيب صلى هللا عليه وسلم‪« :‬ما من‬ ‫وعن أيب هريرة رضي هللا عنه قال‪ :‬قال ُّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ش ُر‪ ،‬وإ ّ​ّنا كان الذي أوتيتُه وحياً‬ ‫امن عليه البَ َ‬ ‫ٌّ‬ ‫نيب إال أُعط َي من اآلايت ما مثْـلُه َ‬

‫‪43‬‬


‫أكثرهم اتبعاً يوم القيامة»(‪.)1‬‬ ‫أوحاه هللاُ َّ‬ ‫إيل‪ ،‬فأرجو أَ ْن أكو َن َ‬ ‫إ َن معجز ِ‬ ‫تتماثل من حيث إهنا حسية وخمصوصة بزمنها‪ ،‬أو مبن حضرها‪،‬‬ ‫ات النبياء‬ ‫ُ‬ ‫أو منقرضة ابنقراض من شاهدها‪.‬‬ ‫ط أح ٌد‬ ‫أما معجزةُ نبينا حممد صلى هللا عليه وسلم فهي القرآن الكرميُ‪ ،‬الذي مل يع َ‬ ‫أدومها‪ ،‬الشتماله على الدعوة واِلجة‪ ،‬واستمرار حتديه يف أسلوبه‬ ‫مثله‪ ،‬وهو ُ‬ ‫أفيدها و ُ‬

‫اجلن واإلنس َع ْن أن أيتوا بسورةٍ مثله جمتمعني أو‬ ‫وبالغته ومعانيه وأخباره‪ ،‬وعجز ُّ‬ ‫متفرقني يف مجيع العصار‪ ،‬مع اعتناء معارضيه مبعارضته فلم ولن يقدروا‪ ،‬فع َم نفعه‬ ‫ِ‬ ‫سيوج ُد إىل اخر الدهر‪ ،‬ولذلك فإ َن حممداً‬ ‫وم ْن غاب‪ ،‬ومن ُوج َد ومن َ‬ ‫حضر َ‬ ‫َم ْن َ‬ ‫أكثر النبياء أتباعاً(‪.)2‬‬ ‫صلى هللا عليه وسلم ُ‬ ‫هذا شر ٌح للحديث على وجه اإلمجال‪ ،‬وأما أسباب اختصاص نبينا حممد صلى هللا‬

‫عليه وسلم عن سائر النبياء هبذه املعجزة الظاهرة‪ ،‬فيبينها حممود اللوسي فيقول‪:‬‬ ‫لثالثة أسباب صار هبا من ِ‬ ‫أخص إعجازه‪ ،‬وأظهر آَيته‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫معجز كل ٍ‬ ‫رسول موافِ ٌق لألغلب من أحوال عصره‪ ،‬والشائع املنتشر من انس‬ ‫‪ 1‬إن َ‬ ‫ِ‬ ‫ص‬ ‫ث نبينا حممد صلى هللا عليه وسلم يف عصر‬ ‫الفصاحة والبالغة ُخ َ‬ ‫دهره‪ ،‬فلما بُعِ َ‬ ‫ابلقرآن يف إجيازه وإعجازه‪ ،‬مبا َع َجَز عنه الفصحاءُ‪ ،‬وأذعن له البلغاءُ‪ ،‬وتبلد فيه‬ ‫العجز عنه أقهر‪ ،‬والتقصريُ فيه أظهر‪ ،‬فصارت معجزاته وإن‬ ‫الشعراء‪ ،‬ليكو َن‬ ‫ُ‬ ‫اختلفت متشاكلة املعاين‪ ،‬خمتلفة العلل‪.‬‬

‫‪ 2‬إن املعجزةَ يف ِ‬ ‫العرب‬ ‫كل يو حبسب أفهامهم‪ ،‬وعلى قدر عقوهلم وأذهاهنم‪ ..‬و ُ‬ ‫(‪ )1‬رواه الشيخان‪ ،‬اللؤلؤ واملرجان ص (‪.)93‬‬ ‫(‪ )2‬رسالة خامت النبيني حممد‪ ،‬د‪ .‬اثمر بن انصر ص (‪.)155‬‬

‫‪44‬‬


‫أصح الناس أفهاماً‪ ،‬وأحدهم أذهاانً‪ ،‬فخصوا من معجزات القرآن مبا جتول فيه‬ ‫ُّ‬ ‫أفهامهم‪ ،‬وتصل إليه أذهاهنم(‪.)1‬‬ ‫‪ 3‬وهذه املعجزةُ مجعت بني الدليل ملا فيه من اإلعجاز وغريه من وجوه الداللة‪،‬‬ ‫وبني املدلول مبا فيه من بيان اإلميان وأدلته‪ ،‬وبيان الحكا الشرعية والقصص‬ ‫والمثال‪ ،‬والوعد والوعيد‪ ،‬وغري ذلك من علومه اليت ال تَنْح ِ‬ ‫صُر‪ ،‬مث جعل مع حفظه‬ ‫َ‬ ‫وتالوته من أفضل العمال اليت يُتقرب هبا إىل هللا تعاىل ‪ ..‬وهلذا توفرت الدواعي‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫يفوت الع َد‬ ‫على حفظه على مر الدهور والعصار‪ ،‬ففي كل قرن ترى م ْن حفظته ما ُ‬ ‫واإلحصاء‪ ،‬ويستنفد جنو السماء‪ ،‬ومثل ذلك مل يتفق لغريه من الكتب اإلهلية‬ ‫املقدسة(‪.)2‬‬ ‫أكثرهم َتبعاً» آيةٌ من آَيت نبوته‪،‬‬ ‫ويف قوله صلى هللا عليه وسلم‪« :‬فأرجو أ ْن أكو َن َ‬

‫كما قال النووي‪ :‬فإنه أخرب صلى هللا عليه وسلم هبذا يف زمن قلة من املسلمني‪ ،‬مث‬ ‫م َن هللا تعاىل وفتح على املسلمني البالد‪ ،‬وابرك فيهم‪ ،‬حىت انتهى المر‪ ،‬واتسع‬ ‫اِلمد على هذه النعمة وسائر‬ ‫اإلسال يف املسلمني إىل هذه الغاية املعروفة‪ ،‬وهلل ُ‬ ‫نعمه اليت ال حتصى(‪.)3‬‬ ‫توضيح هذا اإلعجاز‪:‬‬ ‫بيان حال حممد صلى هللا عليه وسلم‪:‬‬ ‫معروف عند املشركني‪ ،‬فهو‪:‬‬ ‫إن وضعه صلى هللا عليه وسلم من الناحية العلمية‬ ‫ٌ‬ ‫أ بشر مثلهم‪ ،‬وليس من جنس اخر‪.‬‬ ‫(‪ )1‬رسالة خامت النبيني حممد‪ ،‬د‪ .‬اثمر بن انصر ص (‪.)155‬‬ ‫(‪ )2‬املصدر نفسه ص (‪.)155‬‬ ‫(‪ )3‬شرح مسلم‪ ،‬للنززي (‪.)188/2‬‬

‫‪45‬‬


‫أمي‪ ،‬ال يقرأ وال يكتب‪.‬‬ ‫ب ٌّ‬

‫قبل ذلك ابخلطابة‪ ،‬وال ابلشعر‪ ،‬وال ابلرائسة يف‬ ‫ج‬ ‫َ‬ ‫جتاوز الربعني‪ ،‬ومل يكن معروفاً َ‬ ‫مبجال ٍ‬ ‫جمال الكال ‪ ،‬بل كان يعمل ٍ‬ ‫ِ‬ ‫بعيد عن الكلمة‪ ،‬وهو التجارة‪ ،‬ومل ُ​ُيفظ عنه‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫أثر يدل على إنشائه لقصيدة‪ ،‬أو حىت خطبة نثرية‪.‬‬ ‫قبل البعثة ٌ‬ ‫َ‬

‫ٍ‬ ‫العرب على فصاحته‬ ‫أمجع ُ‬ ‫د أنه صلى هللا عليه وسلم أتى بكتاب نسبه إىل هللا‪َ ،‬‬ ‫وبالغته وحسن نظمه‪ ،‬واشتماله على علو شىت‪ ،‬واداب ترتى‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫وقوع التحدي هبذا الكتاب‪:‬‬

‫أ إن هذا التحدي قائم يف وجه ِ‬ ‫كل معارض للرسول صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬ ‫ب التحدي أبن أيتوا بسورةٍ من مثله‪.‬‬

‫يستعني مبن شاء من أعو ٍان وشهداءَ سواء كانوا من اجلن‪ ،‬أو من‬ ‫ج وللمعارض أن‬ ‫َ‬

‫اإلنس‪ ،‬أو من اجلن واإلنس جمتمعني معاً‪.‬‬ ‫وجود دواعي التحدي‪:‬‬ ‫‪‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫وبالغة ٍ‬ ‫وبيان‪.‬‬ ‫فصاحة‬ ‫أ العرب أهل‬

‫ب إن معارضي الرسول صلى هللا عليه وسلم أهل عداوةٍ‬ ‫ٍ‬ ‫عظيمة له‪.‬‬ ‫ُ‬

‫أبي وسيلة‪ ،‬ومن ِ‬ ‫ج وهم حريصون أش َد اِلرص على إبطال دعوته ِ‬ ‫أي طريق‪.‬‬

‫نبوة حممد صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬لهنم‪ :‬عجزوا‬ ‫‪‬‬ ‫نتيجةُ التح ّدي صد ُق ّ‬ ‫ِ‬ ‫اإلتيان بسورة من مثله‪ ،‬ولو كان عندهم أدىن أتهل وَتكن لفعلوا‪،‬‬ ‫غاية العجز عن‬ ‫ولكنهم مل يقدروا‪ ،‬إذ كال ُ الفقري الناقص اجلاهل ال يكون أبداً مثل كال الذي له‬ ‫ليس‬ ‫ُ‬ ‫الكمال املطلق‪ ،‬والغىن املطلق‪ ،‬والقدرة املطلقة‪ ،‬والعلم املطلق‪ ،‬فكما أن هللا َ‬

‫مثيل وال شبيهٌ‪،‬‬ ‫كمثله شيءٌ يف ذاته وأمسائه وصفاته وأفعاله‪ ،‬فبالضرورة ليس لكالمه ٌ‬ ‫‪46‬‬


‫وغاب فؤاده‪ ،‬وهذا‬ ‫وال يشتبه كالمه بكال املخلوقني إال على من اختل عقله‪،‬‬ ‫َ‬ ‫قاطع على صحة ما جاء به صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬ويبقى على‬ ‫برها ٌن‬ ‫ساطع ودليل ٌ‬ ‫ٌ‬

‫عجز عن هذا التحدي قراران ال مفَر من اختاذ أحدمها‪:‬‬ ‫َم ْن َ‬

‫‪ 1‬إما أن يؤمن أبن حممداً صلى هللا عليه وسلم ٌ‬ ‫رسول من هللا‪ ،‬وأ َن القرآن ٌّ‬ ‫حق كال ُ‬ ‫هللاِ‬ ‫يق الناجني يف الدنيا‬ ‫العقل‪،‬‬ ‫مقتضى‬ ‫هو‬ ‫وهذا‬ ‫‪،‬‬ ‫وسبيل الفطرة السليمة‪ ،‬وطر ُ‬ ‫ُ‬ ‫واآلخرة‪.‬‬

‫‪ 2‬وإما أن يعانِ‬ ‫َ‬ ‫سبيل اجلاحدين‪،‬‬ ‫وهذا‬ ‫‪،‬‬ ‫حق‬ ‫قرآن‬ ‫ال‬ ‫ن‬ ‫أ‬ ‫نفسه‬ ‫من‬ ‫يعلم‬ ‫وهو‬ ‫‪،‬‬ ‫د‬ ‫ٌّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ومقتضى اجلهل والعناد‪ ،‬وأصحاب النفوس املريضة؛ والقلوب السقيمة؛ وطريق‬ ‫اخلاسرين يف الدنيا واآلخرة‪.‬‬ ‫وقد كان هذا التحدي سبباً يف إسال الكثريين؛ ل َن القرآن هبذه االستثارة للعقول‬ ‫واللباب والقلوب يدعو للتفكر يف القرآن بشكل أكرب‪ ،‬وجيعل اإلنسان الشاك‬ ‫يصل إىل النهاية احملمودة إذا كان ْمن يبحث عن اِلق‬ ‫يتدبَر أكثر وأكثر‪ ،‬حىت َ‬ ‫متجرداً من اهلوى(‪.)1‬‬ ‫‪4‬ـ وجوه إعجاز القرآن‪:‬‬

‫قد كتب العلماءُ البلغاءُ قدمياً وحديثاً حول «إعجاز القرآن» ووجوهِ هذا اإلعجاز‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ين ابلنظم‬ ‫ين إبخباره ابلغيوب‪ ،‬ومنهم من عُ َ‬ ‫وألفت يف ذلك كتب شىت‪ ،‬فمنهم من عُ َ‬

‫والعبارة والسلوب‪ ،‬أو ما يسمى «اإلعجاز البياين»‪ ،‬وقد كتب فيه القدماء مثل‬

‫الرماين‪ ،‬واخلطايب‪ ،‬واجلُرجاين‪ ،‬والفخر الرازي‪ ،‬وغريهم‪ ،‬وكتب فيه‬ ‫الباقالين‪ ،‬و ُّ‬ ‫احملدثون‪ ،‬مثل‪ :‬مصطفى صادق الرافعي‪ ،‬وسيد قطب يف كتابه «التصوير الفين يف‬ ‫(‪ )1‬رسالة خامت النبيني حممد‪ ،‬د‪ .‬اثمر بن انصر ص (‪.)155‬‬

‫‪47‬‬


‫القرآن» ومثله «مشاهد القيامة يف القرآن» وطبقه يف تفسريه «يف ظالل القرآن»‪،‬‬ ‫وكتاب الدكتور بدوي طبانة «بالغة القرآن»‪ ،‬والدكتور حممد عبد هللا دراز «النبأ‬ ‫ِ‬ ‫ين ابإلعجاز التشريعي أو اإلصالحي الذي جاء به القرآن‪،‬‬ ‫العظيم»‪ ،‬ومنهم من عُ َ‬ ‫كما فعل الشيخ حممد رشيد رضا يف كتابه «الوحي احملمدي» حيث جدد التحدي‬ ‫يستحيل أن أييتَ هبا‬ ‫املقاصد اليت جاء القرآن ليحققها يف اِلياة‪ ،‬وأنه‬ ‫ابلقرآن‪ ،‬وبني‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫رجل أمي يف أمة أمية‪ ،‬وقد فاقت كل ما جاء به الفالسفة واملصلحون‪ ،‬ومثل ذلك‪:‬‬ ‫ٌ‬

‫املقاالت اليت كتبها العالمة حممد أبو زهرة يف جملة «املسلمون» الشهرية املصرية‪،‬‬

‫دليل على أنه من هللا»(‪.)1‬‬ ‫حتت عنوان‪« :‬شريعةُ القرآن ٌ‬

‫ويف عصران ظهر نوعٌ جدي ٌد أطلق عليه اإلعجاز العلمي‪ ،‬ويقصد به‪ :‬ما تضمنه‬ ‫القرآن من إشارات ودالالت على حقائق علمية كانت جمهولةً للناس يف وقت نزول‬ ‫تصدر من رسول أمي يف بيئة أمية‪،‬‬ ‫القرآن‪ ،‬وتعترب سابقة لعصرها‪ ،‬وال تتصور أن‬ ‫َ‬ ‫ويف عاٍَمل ال يعرف عن هذه اِلقائق شيئاً(‪ ،)2‬واشتهر يف هذا امليدان كل من الشيخ‬ ‫عبد اجمليد الزنداين والدكتور زغلول راغب حممد النجار‪.‬‬ ‫انب‬ ‫انب اإلعجاز القرآين فقال‪ :‬وتتعدد جو ُ‬ ‫وقد خلص الدكتور زغلول النجار جو َ‬ ‫اإلعجاز القرآين‪ :‬مبعىن عجز البشر عن اإلتيان بشيء مثله بتعدد الزواَي؛ اليت ينظر‬

‫منها إنسان حمايد إىل كتاب هللا‪ ،‬ومن هذه اجلوانب‪:‬‬ ‫اإلعجاز اللغوي‪ ،‬الديب‪ ،‬البياين‪ ،‬البالغي‪ ،‬النظمي‪ ،‬اللفظي‪ ،‬والداليل‪.‬‬ ‫اإلعجاز العقدي «االعتقادي»‪.‬‬ ‫(‪ )1‬مث أصدر رْحه هللا قبل وفاته كتااب بعنوان "املعجزة الكربى للقرآن"‪.‬‬ ‫(‪ )2‬كيف نتعامل مع القرآن العظيم؟ ص (‪.)34‬‬

‫‪48‬‬


‫اإلعجاز التعبدي «العبادي»‪.‬‬ ‫اإلعجاز الخالقي‪.‬‬ ‫اإلعجاز التشريعي‪.‬‬ ‫اإلعجاز التارُيي‪.‬‬ ‫اإلعجاز الرتبوي‪.‬‬ ‫اإلعجاز النفسي‪.‬‬ ‫اإلعجاز االقتصادي‪.‬‬ ‫اإلعجاز اإلداري‪.‬‬ ‫اإلعجاز التنبؤي‪.‬‬ ‫اإلعجاز العلمي‪.‬‬ ‫إعجاز التحدي لإلنس واجلن جمتمعني أن أيتوا بشيء من مثله يف أسلوبه‪ ،‬أو‬ ‫مضمونه أو حمتواه‪ ،‬دون أن يتمكن أحد من ذلك(‪.)1‬‬ ‫وميس ٌر‪:‬‬ ‫مبني َّ‬ ‫كتاب َّ ٌ‬ ‫رابعاً ـ القرآن ٌ‬

‫مبني» مي َسُر الفهم والذكر‪ ،‬ومع السمو البالغي‬ ‫كتاب َ ٌ‬ ‫ومن خصائص القرآن‪ :‬أنه « ٌ‬

‫يد أن‬ ‫والبياين للقرآن الكرمي‪ ،‬فإنه‬ ‫سلسل كاملاء العذب ُّ‬ ‫الزالَل‪ ،‬مي َسٌر لكل من ير ُ‬ ‫ٌ‬ ‫يعقل ويذكر‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬ولَ​َق ْد ي َسرَان الْقرآن لِ ِ‬ ‫لذ ْك ِر فَ َه ْل ِم ْن ُم َدكِ ٍر ﴾ [القمر‪.]17 :‬‬ ‫َ َ ْ‬ ‫وقال تعاىل‪﴿ :‬فَِإَمنَا ي َسرَانه بِلِسانِ ِ ِ ِ ِ‬ ‫ني َوتُْن ِذ َر بِ​ِه قَ ْوًما لُدًّا [مرمي‪.]97 :‬‬ ‫َ ْ ُ َ َ‬ ‫ك لتُبَشَر بِه الْ ُمتَق َ‬

‫اخللق ما‬ ‫لقد نوه هللا تعاىل بشأن القرآن العظيم‪ ،‬وأخرب أنه يسره وسهله ليتذكر ُ‬ ‫وإرشاد ملصاِلهم الشرعية‪.‬‬ ‫هدى هلم‪،‬‬ ‫ُيتاجونه من التذكري‪ْ ،‬ما هو ً‬ ‫ٌ‬ ‫(‪ )1‬من آَيت اإلعجاز العلمي‪ ،‬السماء يف القرآن ص (‪.)13 ،12‬‬

‫‪49‬‬


‫ِ‬ ‫اللغات وأبينها‪ ،‬وجاء على ِ‬ ‫لسان أفضل الرسل صلى‬ ‫أبفصح‬ ‫وسبب تيسريه‪ :‬أنه نزل‬ ‫ِ‬ ‫َ‬

‫هللا عليه وسلم‪.‬‬

‫يرجع إىل تيسري ما يُر ُاد منه‪ ،‬وهو فهم السامع املعاينَ اليت عناها‬ ‫ومعىن تيسريه‪ُ :‬‬ ‫املتكلم به‪ ،‬من دون كلفة على هذا السامع وال إغالق(‪.)1‬‬ ‫وتدرك أسر ُاره‪،‬‬ ‫وهذا الكتاب ٌ‬ ‫مبني ل َن هللا أنزله لتُ ْع َق َل معانيه‪ ،‬وتُ ْف َقهَ‬ ‫ُ‬ ‫أحكامه‪َ ،‬‬ ‫وتتدبر آَيته‪ ،‬فهو مبني ال غامض وال مغلق وال ملغز وال معقد‪ .‬قال تعاىل‪﴿ :‬إِ َان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اب فُصلَ ْ‬ ‫أَنْ َزلْنَاهُ قرآانً َعَربِيًّا لَ َعلَ ُك ْم تَ ْعقلُو َن ﴾ [يوسف‪ .]2 :‬قال تعاىل‪﴿ :‬كتَ ٌ‬ ‫آَيتُهُ‬ ‫ت َ‬ ‫قرآانً َعَربِيًّا لَِق ْوٍ يَ ْعلَ ُمو َن ﴾ [فصلت‪.]3 :‬‬ ‫وقد وصف هللا هذا القرآن أبنه‪﴿ :‬نُ ِ‬ ‫ني ﴾ [املائدة‪ .]15 :‬وقال تعاىل‪:‬‬ ‫اب ُمبِ ٌ‬ ‫ور َوكتَ ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫﴿ه ِ‬ ‫َاس وب يِنَ ٍ‬ ‫ات ِمن ا ْهل َدى والْ ُفرقَ ِ‬ ‫ان﴾ [البقرة‪ .]185 :‬وقال تعاىل‪َ ﴿ :‬وَما أَنْ َزلْنَا‬ ‫دى للن ِ َ َ‬ ‫َ ُ َ ْ‬ ‫ُ ً‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫علَي َ ِ‬ ‫اختَ لَ ُفوا فِ ِيه﴾ [النحل‪ .]64 :‬إىل غري ذلك من‬ ‫ني َهلُ​ُم الَذي ْ‬ ‫اب إِالَ لتُبَِ َ‬ ‫َْ‬ ‫ك الْكتَ َ‬ ‫اآلَيت اليت استفاضت يف هذا املعىن(‪.)2‬‬ ‫خامساً ـ القرآن الكرمي كتاب هداية‪:‬‬

‫ٍ‬ ‫الناس من‬ ‫ومن خصائص القرآن الكرمي أنه ُ‬ ‫كتاب هداية للعاملني‪ ،‬أنزله هللا ليُ ْخر َ‬ ‫ِج َ‬ ‫الظلمات إىل النور‪.‬‬ ‫ِ َِ‬ ‫اّلل وِ ُّ َ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ين َك َفُروا‬ ‫‪ 1‬قال تعاىل‪َ َُ ﴿ :‬‬ ‫ين َآمنُوا ُ​ُيْ ِر ُج ُه ْم م َن الظُّلُ َمات إ َىل النُّور َوالذ َ‬ ‫يل الذ َ‬ ‫أَولِ‬ ‫وهنُم ِمن النَوِر إِ َىل الظُّلُم ِ‬ ‫ات أُولَئِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫اب النَا ِر ُه ْم فِ َيها‬ ‫ح‬ ‫َص‬ ‫أ‬ ‫ك‬ ‫ج‬ ‫ر‬ ‫ُي‬ ‫وت‬ ‫غ‬ ‫ا‬ ‫ط‬ ‫ال‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫اؤ‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ ْ َ‬ ‫َْ ُ‬ ‫َخالِ ُدو َن ﴾ [البقرة‪.]257 :‬‬ ‫(‪ )1‬عظمة القرآن الكرمي ص (‪.)103‬‬ ‫(‪ )2‬كيف نتعامل مع القرآن العظيم؟ ص (‪.)40‬‬

‫‪50‬‬


‫ك لِتُخرِج النَاس ِمن الظُّلُم ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ات إِ َىل النُّوِر إبِ​ِ ْذ ِن‬ ‫‪ 2‬وقال تعاىل‪﴿ :‬الر كتَ ٌ‬ ‫اب أَنْ َزلْنَاهُ إلَْي َ ْ َ َ َ َ‬ ‫اط الْع ِزي ِز ا ِْل ِم ِ‬ ‫ِ​ِ ِ ِ ِ‬ ‫يد ﴾ [إبراهيم‪.]1 :‬‬ ‫َرهب ْم إ َىل صَر َ َ‬ ‫العرب هبداه‪ ،‬فخرجوا من الظلمات إىل النور‪ ،‬ومن‬ ‫وقد حتقق هذا حينما اهتدى ُ‬ ‫التخلف إىل قمة اِلضارة واملدنية‪ ،‬ومن الذل والتبعية إىل السيادة والعاملية‪ ،‬مث أوصلوا‬ ‫ٍ‬ ‫هدايته إىل العامل ِمن حوهلم ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫كسى حبلة العزة‬ ‫ي‬ ‫ابلعامل‬ ‫فإذا‬ ‫‪،‬‬ ‫وإخالص‬ ‫وتضحية‬ ‫أبمانة‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫عرب الزمن أهنم أصبحوا بتمسكهم‬ ‫اقع‬ ‫َ‬ ‫وال ِرِفعة والبهاء واجلمال‪ ،‬و َ‬ ‫أثبت و ُ‬ ‫املسلمني َ‬

‫ابلقرآن أرقى المم‪ ،‬وبتخلفهم عنه‪ ،‬وأخذهم مبا عند المم من ضالل أخس‬ ‫المم(‪.)1‬‬

‫‪ 3‬وقال تعاىل‪﴿ :‬إِ َن ه َذا الْقرآن ي ه ِدي لِلَِيت ِهي أَقْ و وي ب ِشر الْمؤِمنِ َ ِ‬ ‫ين‬ ‫َ َ ُ َ َُ ُ ُ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َْ‬ ‫ني الذ َ‬ ‫ي عملُو َن ال َ ِ ِ‬ ‫َجًرا َكبِ ًريا ﴾ [اإلسراء‪.]9 :‬‬ ‫صاِلَات أَ َن َهلُْم أ ْ‬ ‫َْ َ‬ ‫ٍ‬ ‫يؤكد هللا أن هذا القرآن أقوُ من ِ‬ ‫أي ابحث‬ ‫أي‬ ‫هداية يراها البشر‪ ،‬ومل يستطع ُّ‬ ‫جيد يف التشريع الوضعي ما يصل‬ ‫جيد خلالً يف تشريع القرآن‪ ،‬أو أن َ‬ ‫موضوعي أن َ‬ ‫ِ‬ ‫ب على العاقل استدامة‬ ‫إىل تشريع القرآن فضالً عن أن يتفوق عليه‪ ،‬وهذا يوج ُ‬ ‫القرآن‪ ،‬ومالزمة العمل به‪.‬‬ ‫إن ما يف القرآن من هداية وتشريع صاحلٌ لكل زمان ومكان ال تَْبطُ ُل قيمه‪ ،‬بل ال‬ ‫صلُ ُح إال هو‪ ،‬مهما اختلفت العصور‪ ،‬وتنوعت اِلضارات‪ ،‬إنه تسامى على كل‬ ‫يَ ْ‬ ‫المم قدمياً وحديثاً‪ ،‬حىت أقرت اجملامع القانونية الدولية الفقه اإلسالمي‬ ‫قانون عرفته ُ‬

‫س منه القوانني‪ ،‬وإن القوانني اِلديثة يف تطورها تتسامى لتقرتب‬ ‫مصدراً أساسياً تُ ْقتَ بَ ُ‬

‫(‪ )1‬إعجاز القران الكرمي‪ ،‬د‪ .‬حممد صادق درويش ص (‪.)46‬‬

‫‪51‬‬


‫من تشريع القرآن(‪.)1‬‬ ‫كافل إلحقاق‬ ‫وكيف ال يكو ُن كذلك‪ ،‬وهو تشر ٌ‬ ‫شامل جلميع النواحي‪ ،‬و ٌ‬ ‫يع رابينٌّ ٌ‬ ‫اِلق‪ ،‬وصيانة مصاحل الناس يف مجيع شؤوهنم‪ :‬املالية واالجتماعية والسرية والدولية‪،‬‬ ‫يف حني أنه مل يوج ْد إىل االن تشريع شامل أو عادل مع ما مر على اإلنسانية من‬ ‫ٍ‬ ‫مجيع‬ ‫جتارب وخربات‪ ،‬حىت إن هللا حتدى العاملَ أن أيتوا مبثل القرآن‪ ،‬واملثلية تشمل َ‬ ‫جوانب القرآن سواء اللفاظ واملعاين‪ ،‬وإذا عجزوا عما هو من جنس ما يستطيعونه‪،‬‬ ‫ويتفوقون فيه‪ ،‬وهو نظم القرآن‪ ،‬فهم ُّ‬ ‫أشد عجزاً عن تشريع القرآن وهدايته‪ ،‬ملا‬ ‫ُيتاجه إىل علم حميط بكل شيء‪ ،‬وليس هذا إال هللا عز وجل(‪.)2‬‬ ‫‪ 4‬وقال تعاىل‪﴿ :‬أَفَح ْكم ْ ِ ِ ِ‬ ‫اّللِ ُح ْك ًما لَِق ْوٍ يُوقِنُو َن﴾‬ ‫َح َس ُن ِم َن َ‬ ‫اجلَاهليَة يَْب غُو َن َوَم ْن أ ْ‬ ‫ُ َ‬ ‫[املائدة‪.]50 :‬‬ ‫استنكر هللا تعاىل على من أعرض عن تشريعه‪ ،‬وجلأ إىل تشريع الناس‪ ،‬وما هذا إال‬ ‫لنه ال تشريع أحسن منه‪ ،‬وال هداية مثله‪ ،‬فكيف يرتك إىل ما دونه(‪)3‬؟‬ ‫اجل ِ‬ ‫اهلِيَ ِة يَْب غُو َن﴾‪ ،‬ينكر هللا تعاىل على َم ْن خر َج عن حكم هللا املشتمل‬ ‫﴿أَفَ ُح ْك َم َْ‬ ‫على كل خري‪ ،‬الناهي عن ِ‬ ‫كل شر‪ ،‬وعدل إىل ما سواه من االراء والهواء‬ ‫أهل‬ ‫واالصطالحات؛ اليت وضعها الرجال بال مستند من شريعة هللا‪ ،‬كما كان ُ‬ ‫اجلاهلية ُيكمون به الضالالت واجلهاالت مبا يضعوهنا ابرائهم وأهوائهم‪َ ﴿ .‬وَم ْن﴾‬ ‫اّللِ ُح ْك ًما لَِق ْوٍ يُوقِنُو َن ﴾‪ ،‬ملن عقل عن‬ ‫وم ْن ُ‬ ‫َح َس ُن ِم َن َ‬ ‫أعدل من هللا يف ﴿أ ْ‬ ‫أي‪َ :‬‬ ‫أرحم خبلقه من الوالدة‬ ‫هللا شرعه‪ ،‬وامن به وأيقن‪ ،‬وعلم أ َن هللا‬ ‫أحكم اِلاكمني‪ ،‬و ُ‬ ‫ُ‬ ‫(‪ )1‬إعجاز القران الكرمي‪ ،‬د‪ .‬حممد صادق درويش ص (‪.)47‬‬ ‫(‪ )2‬املصدر نفسه ص (‪.)48‬‬ ‫(‪ )3‬إعجاز القران الكرمي‪ ،‬د‪ .‬حممد صادق درويش ص (‪.)48‬‬

‫‪52‬‬


‫بولدها‪ ،‬فإنه تعاىل هو العامل بكل شيء‪ ،‬القادر على كل شيء‪ ،‬العادل يف كل‬ ‫شيء(‪.)1‬‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫يت لَ ُك ُم‬ ‫ت َعلَْي ُك ْم ن ْع َم ِيت َوَرض ُ‬ ‫ت لَ ُك ْم دينَ ُك ْم َوأَْ​َتَ ْم ُ‬ ‫‪ 5‬قال هللا تعاىل‪﴿ :‬الْيَ ْوَ أَ ْك َم ْل ُ‬ ‫ا ِإل ْسالَ َ ِديناً﴾ [املائدة‪ُ .]3 :‬يثنا هللا تعاىل يف هذه االية على التمسك هبديه من‬ ‫خالل مدحه دينه ابلكمال والتما ‪ ،‬والنفوس تتطلع إىل ما كان كذلك(‪.)2‬‬

‫أكمل تعاىل هلم دينَهم‪ ،‬فال ُيتاجون‬ ‫هذه أكربُ نعم هللا تعاىل عن هذه المة‪ ،‬حيث َ‬

‫إىل دين غريه‪ ،‬وال إىل نيب غري نبيهم صلوات هللا وسالمه عليه‪ ،‬وهلذا جعله هللا تعاىل‬ ‫حالل إال ما أحله‪ ،‬وال حرا إال ما‬ ‫خامت النبياء‪ ،‬وبعثه إىل اإلنس واجلن‪ ،‬فال َ‬ ‫حرمه‪ ،‬وال دين إال ما شرعه‪ ،‬وكل ٍ‬ ‫وصدق ال كذب فيه وال‬ ‫حق‬ ‫شيء‬ ‫أخرب به فهو ٌّ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫الدين‪َ ،‬تت عليهم النعمة‪ ،‬وهلذا قال تعاىل‪ :‬أي‪ :‬فأرضوه‬ ‫خلف‪ ...‬فلما‬ ‫أكمل هلم َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ت َعلَْي ُك ْم ن ْع َم ِيت َوَرض ُ‬ ‫ت لَ ُك ْم دينَ ُك ْم َوأَْ​َتَ ْم ُ‬ ‫أنتم ﴿الْيَ ْوَ أَ ْك َم ْل ُ‬ ‫يت لَ ُك ُم ا ِإل ْسالَ َ‬ ‫ِديناً﴾‪ ،‬فإنه الدين الذي أحبه هللا ورضيه‪ ،‬وبعث به أفضل الرسل الكرا ‪ ،‬وأنزل به‬ ‫أشرف كتبه(‪.)3‬‬ ‫َ‬ ‫كمال دينه سبحانه وَتامه بكمال مصدره الصل القرآن الكرمي؛ وهلذا ال ميلك من‬ ‫و ُ‬ ‫يتلو القرآن‪ ،‬ويتدبر معانيه إال أن ُير ساجداً لعظمة منزله‪ .‬قال تعاىل‪﴿ :‬لَ ْو أَنْ َزلْنَا﴾‬ ‫اشعا متص ِدعا ِمن خ ْشي ِة َِ‬ ‫ِ‬ ‫ض ِرُهبَا‬ ‫ك ال َْمثَ ُ‬ ‫ال نَ ْ‬ ‫اّلل َوتِلْ َ‬ ‫﴿ َه َذا الْقرآن َعلَى َجبَ ٍل لَ​َرأَيْتَهُ َخ ً َُ َ ً ْ َ َ‬ ‫لِلن ِ‬ ‫َاس لَ َعلَ ُه ْم يَتَ َف َكُرو َن ﴾[احلشر‪.]21 :‬‬ ‫(‪ )1‬املصدر نفسه ص (‪ ،)48‬تفسري ابن كثري (‪.)68/2‬‬ ‫(‪ )2‬تفسري ابن كثري (‪.)13/2‬‬ ‫(‪ )3‬إعجاز القران الكرمي‪ ،‬د‪ .‬حممد صادق درويش ص (‪.)49‬‬

‫‪53‬‬


‫سادساً ـ القرآن الكرمي كتاب اإلنسانية كلها‪:‬‬

‫ِ‬ ‫اإلنسانية كلِها؛ الذي خاطب هللا تعاىل به‬ ‫كتاب‬ ‫ومن خصائص القرآن الكرمي أنه ُ‬ ‫مجيع البشر إىل يو القيامة‪ ،‬فلم يُقيد بزمان‪ ،‬وال مبكان‪ ،‬وال جنس وال طبقة‪ ،‬بل هو‬ ‫َ‬

‫مو َجهٌ إىل الثقلني‪ ،‬خاطبهم مجيعاً مبا يسعدهم يف الدنيا واآلخرة من العقائد‬ ‫الصحيحة‪ ،‬والعبادات اِلكيمة‪ ،‬والحكا الرفيعة‪ ،‬والخالق الفاضلة؛ اليت تستقيم‬ ‫هبا حياِتم‪.‬‬ ‫نصوص الكتاب والسنة وإمجاعُ المة على عاملية القرآن(‪.)1‬‬ ‫ولقد تضافرت‬ ‫ُ‬

‫ومن اآلَيت اليت صرحت بعاملية القرآن العظيم قوله تعاىل‪﴿ :‬تَبَ َارَك الَ ِذي نَ​َزَل‬ ‫ِ​ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫اك‬ ‫ني نَ ِذ ًيرا ﴾ [الفرقان‪ .]1 :‬وقال تعاىل‪َ ﴿ :‬وَما أ َْر َس ْلنَ َ‬ ‫الْ ُفْرقَا َن َعلَى َعْبده ليَ ُكو َن ل ْل َعالَم َ‬ ‫ِ ِ‬ ‫صَرفْ نَا لِلن ِ‬ ‫َاس ِيف َه َذا الْقرآن‬ ‫إِالَ َر ْ​ْحَةً ل ْل َعالَم َ‬ ‫ني ﴾ [األنبياء‪ .]107 :‬وقال تعاىل‪َ ﴿ :‬ولَ​َق ْد َ‬ ‫ِمن ُك ِل مثَ ٍل فَأ َ​َ​َب أَ ْكثَر الن ِ ِ‬ ‫ضَربْنَا‬ ‫ورا ﴾ [اإلسراء‪ .]89 :‬وقال تعاىل‪َ ﴿ :‬ولَ​َق ْد َ‬ ‫ْ َ‬ ‫َاس إالَ ُك ُف ً‬ ‫ُ‬ ‫لِلن ِ‬ ‫َاس ِيف َه َذا الْقرآن ِم ْن ُك ِل َمثَ ٍل لَ َعلَ ُه ْم يَتَ َذ َكُرو َن ﴾ [الزمر‪ .]27 :‬وقال تعاىل‪﴿ :‬إِ َان‬ ‫ِ ِ​ِ‬ ‫أَنْزلْنَا علَي َ ِ‬ ‫ض َل فَِإَمنَا ي ِ‬ ‫اب لِلن ِ‬ ‫ض ُّل َعلَْي َها‬ ‫َاس ِاب ِْلَ ِق فَ َم ِن ْاهتَ َدى فَلنَ ْفسه َوَم ْن َ‬ ‫َ َْ‬ ‫ك الْكتَ َ‬ ‫َ‬ ‫ت َعلَْي ِه ْم بَ َوكِ ٍيل ﴾ [الزمر‪.]41 :‬‬ ‫َوَما أَنْ َ‬ ‫فالقرآن ال ِ‬ ‫ب صنفاً واحداً من البشر له جتاه عقلي أو نفسي معني‪ ،‬مغفالً عن‬ ‫ُياط‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ب كل الصناف‪،‬‬ ‫عداه من الصناف ذوي االجتاهات املتعددة‪ ،‬كال‪ ،‬إنه ُياط ُ‬ ‫كل االجتاهات اإلنسانية السوية‪ ،‬يف تو ٍ‬ ‫ازن ال يقدر عليه إال منزل القرآن‪،‬‬ ‫ويشبع َ‬ ‫ُ‬ ‫وخالق اإلنسان(‪.)2‬‬

‫(‪ )1‬عظمة القرآن الكرمي ص (‪.)110‬‬ ‫(‪ )2‬كيف نتعامل مع القرآن العظيم؟ ص (‪.)60‬‬

‫‪54‬‬


‫جيد يف القرآن ما ِ‬ ‫يرضي منطقه‪ ،‬وأيخذ بلبه إذا مسعه‬ ‫‪ 1‬إن طالب احلقيقة العقلية ُ‬ ‫ملكوت السماو ِ‬ ‫ِ‬ ‫ات والرض‪ ،‬وما خلق هللا من‬ ‫يصيح ابلعقل أن ينظر ويفكر يف‬ ‫شيء‪.‬‬ ‫وأن يعتمـد على الربهـان وحـ َده فـي العقـليات‪ .‬قـال تعـاىل‪﴿ :‬قُ ْل َهاتُوا‬ ‫‪‬‬ ‫ب رهانَ ُكم إِ ْن ُكْن تم ِ ِ‬ ‫ني ﴾ [البقرة‪.]111:‬‬ ‫صادق َ‬ ‫ُْ َ‬ ‫ُْ َ ْ‬

‫وعلى املشاهدة والتجربة يف احلسيات‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬أ َ​َوَملْ يَْنظُ​ُروا ِيف‬ ‫‪‬‬ ‫وت ال َسماو ِ‬ ‫ملَ ُك ِ‬ ‫ات َوال َْر ِ‬ ‫اّللُ ِم ْن َش ْي ٍء﴾ [األعراف‪.]185 :‬‬ ‫ض َوَما َخلَ َق َ‬ ‫َ‬ ‫َ​َ‬ ‫‪ ‬وعلى الصدق وتوثيق الرواية يف النقليات‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬ائْ تُ ِوين بِ ِكتَ ٍ‬ ‫اب ِم ْن‬ ‫قَب ِل ه َذا أَو أَ َاثرةٍ ِمن ِعلْ ٍم إِ ْن ُكْن تم ِ ِ‬ ‫ني ﴾ [األحقاف ‪.]4‬‬ ‫صادق َ‬ ‫ُْ َ‬ ‫ْ َ ْ َ ْ‬ ‫ويكفي أ َن مشتقات العقل مثل ﴿يَ ْع ِقلُو َنً و تَ ْع ِقلُو َن ﴾‪ ،‬ذكرت يف القرآن مثانياً‬ ‫ومخسني وذكرت مشتقات الفكر سبع عشرة مرة‪ ،‬وذكرت كلمة﴿الَلْب ِ‬ ‫اب﴾‪ ،‬أي‪:‬‬ ‫َ‬

‫أخر‬ ‫العقول ست عشرةَ وهذا غري اآلَيت اليت اشتملت على كلمات ومشتقات َ‬ ‫مثل‪« :‬النظر»‪ ،‬و«االعتبار» و«التدبر» و«اِلجة» و«الربهان» و«النهى»‬ ‫و«اِلكمة» و«العلم» وحنو ذلك ْما يبحث عنه طالب اِلقائق العقلية‪ ،‬فال جيدونه‬ ‫يف كتاب ديين غري القرآن‪.‬‬ ‫جيد يف القرآن ما يرضي ذوقه‪ ،‬ويغذي وجدانه‪،‬‬ ‫‪ 2‬والباحث عن احلقيقة الروحية ُ‬ ‫ويشبِ ُع هنمه وتطلعاته يف افاق الروح‪ ،‬يف مثل قصة موسى والعبد الصاحل‪ ،‬الذي قال‬ ‫هللا فيه‪﴿ :‬فَ َو َج َدا َعْب ًدا ِم ْن ِعبَ ِاد َان آتَْي نَاهُ َر ْ​ْحَةً ِم ْن ِعْن ِد َان َو َعلَ ْمنَاهُ ِم ْن لَ ُد َان ِع ْل ًما ﴾‬ ‫[الكهف‪.]65 :‬‬

‫البصري ابهلل‬ ‫الباحث عن «اإلميان» يف اخلطاب القرآين ما ينشئ اإلميان‬ ‫جيد‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫‪55‬‬


‫ورساالته ولقائه وجزائه‪ ،‬ويطا ِرُد اجلحود والشك والنفاق‪ ،‬ويقيم الدلة الناصعة على‬

‫وجود هللا تعاىل‪ ،‬وعلى وحدانيته‪ ،‬وعظيم قدرته‪ ،‬وابلغ حكمته‪ ،‬وواس ِع رْحته‪ ،‬وعلى‬ ‫ِ‬ ‫ِ​ِ‬ ‫ين لِئَالَ يَ ُكو َن لِلن ِ‬ ‫الر ُس ِل﴾‬ ‫َاس َعلَى َ‬ ‫اّللِ ُح َجةٌ بَ ْع َد ُّ‬ ‫ين َوُمْنذر َ‬ ‫بعثه رسله ﴿ ُمبَش ِر َ‬ ‫[النساء‪ .]165 :‬وعلى عدالة اجلزاء يف اآلخرة‪﴿ :‬لِيج ِز َ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ي‬ ‫ين أ َ‬ ‫ي الذ َ‬ ‫َساءُوا مبَا َعملُوا َوَْجي ِز َ‬ ‫َْ َ‬ ‫َِ‬ ‫َح َسنُوا ِاب ِْلُ ْس َىن ﴾ [النجم‪.]31 :‬‬ ‫ين أ ْ‬ ‫ال ذ َ‬ ‫ومصري‬ ‫مصري املؤمنني جنا ًة وحيا ًة طيبةً يف الدنيا‪ ،‬وفالحاً يف اآلخرة‪،‬‬ ‫َ‬ ‫وجيلي له القرآن َ‬ ‫املكذبني‪ :‬شقاء يف الدنيا‪ ،‬وعذاابً يف العقىب‪.‬‬

‫اإلميان يف القرآن يبين وال يهد ‪ ،‬وجيمع وال يفرق‪ ،‬ويسامح وال يتعصب‪ ،‬فهو‬ ‫وبكل نيب أرسل‪ ،‬قال تعاىل‪ُ ﴿ :‬كلٌّ آمن ِاب َّللِ‬ ‫بكل كتاب أنزل‪ِ ،‬‬ ‫يوجب اإلميا َن ِ‬ ‫َ​َ‬ ‫ِ ِ​ِ ِ ِ​ِ‬ ‫َح ٍد ِم ْن ُر ُسلِ ِه﴾ [البقرة‪.]285 :‬‬ ‫َوَمالَئ َكته َوُكتُبِه َوُر ُسله الَ نُ َف ِر ُق بَْ َ‬ ‫ني أ َ‬

‫جيد يف القرآن ضالته وطلبته‪ ،‬وإذا كان موضوع‬ ‫‪ 3‬واِلريص على القيم الخالقية ُ‬ ‫الخالق هو «اخلري» فالقرآن قد َ‬ ‫دل على «اخلري» كما هدى إىل «اِلق» وقد‬

‫اخلَْ َري‬ ‫فعل اخل ِري إحدى شعب ثالثة ملهمة اجملتمع املسلم‪ ،‬قال تعاىل‪َ ﴿ :‬وافْ َعلُوا ْ‬ ‫جعل َ‬ ‫َ‬ ‫لَ َعلَ ُك ْم تُ ْفلِ ُحو َن ﴾ [احلج ‪.]77‬‬ ‫ِ‬ ‫طلب منه أن يدعو إىل اخلري‪ ،‬ويدل‬ ‫ولكنه مل يكتف من املسلم بفعل اخلري‪ ،‬بل َ‬ ‫اخلَِْري﴾ [آل عمران‪.]104 :‬‬ ‫عليه‪ ،‬قال تعاىل‪َ ﴿ :‬ولْتَ ُك ْن ِمْن ُك ْم أ َُمةٌ يَ ْدعُو َن إِ َىل ْ‬

‫شعوره‬ ‫‪ 4‬وعاشق القيم اجلمالية جيد يف القرآن ما ينمي حاسته اجلمالية‪ ،‬ويغذي َ‬ ‫النظار من االستمتاع جبمال الطبيعة يف السماء‪،‬‬ ‫لفت إليه القرآن‬ ‫الفين‪ ،‬وذلك مبا َ‬ ‫َ‬ ‫﴿وزيَنَاها لِلن ِ‬ ‫ِ‬ ‫ين ﴾ [احلجر‪ .]16 :‬وقال تعاىل‪َ ﴿ :‬ولَ​َق ْد َزيَنَا ال َس َماءَ الدُّنْيَا‬ ‫ر‬ ‫َاظ‬ ‫َ​َ َ‬ ‫َ‬ ‫ِمبَ َ ِ‬ ‫يح﴾ [امللك‪ .]5 :‬ومجال الطبيعة يف الرض ابتداء من مجال النبات‪ ،‬قال تعاىل‪:‬‬ ‫صاب َ‬ ‫‪56‬‬


‫ِ ِ‬ ‫ات‬ ‫ت ِم ْن ُك ِل َزْو ٍج َهبِ ٍ‬ ‫﴿ َوأَنْبَ تَ ْ‬ ‫يج ﴾ [احلج‪ .]5 :‬وقال تعاىل‪﴿ :‬فَأَنْبَ ْت نَا بِه َح َدائ َق َذ َ‬ ‫ِ‬ ‫َهبج ٍة﴾[النمل‪ .]60 :‬ومجال اِليواانت ﴿ولَ ُكم فِيها َمج ٌ ِ‬ ‫ني‬ ‫َ ْ َ َ‬ ‫ني تُِرُيُو َن َوح َ‬ ‫ال ح َ‬ ‫َْ‬ ‫ص َوَرُك ْم﴾[التغابن‪ .]3 :‬ومجال‬ ‫ص َوَرُك ْم فَأ ْ‬ ‫َح َس َن ُ‬ ‫تَ ْسَر ُحو َن﴾[النحل‪ .]6 :‬ومجال اإلنسان ﴿ َو َ‬ ‫اّللِ الَ ِذي أَتْ َق َن ُك َل َش ْي ٍء﴾[النمل‪.]88 :‬‬ ‫صْن َع َ‬ ‫املخلوقات كلها ﴿ ُ‬ ‫ووراء ذلك كله ما احتواه أسلوب القرآن ذاته من مجال بياين معجز يف نظمه ومعناه‪،‬‬ ‫ويف شكله ومضمونه‪ ،‬وصفه املشركون أنفسهم فقالوا‪ :‬إن له ِلالوة‪ ،‬وإن عليه‬ ‫لطالوة‪ ،‬وإن أعاله ملثمر‪ ،‬وإ َن أسفله ِ‬ ‫ملغد ٌق‪ ،‬وإنه يعلو وال يعلى عليه(‪.)1‬‬ ‫سابعاً ـ القرآن الكرمي كتاب الزمن كله‪:‬‬

‫من خصائص القرآن‪ :‬أنه كتاب الزمن كله‪ ،‬وكتاب اإلنسانية كلها‪ ،‬وكتاب ِ‬ ‫الدين‬ ‫ُ‬ ‫كتاب اخللود‪،‬‬ ‫كتاب الزمن كله‪ :‬أنه ُ‬ ‫كله‪ ،‬وكتاب اِلقيقة كلها‪ ،‬ومعىن أ َن القرآن ُ‬ ‫ليس كتاب عصر معني‪ ،‬أو كتاب جيل أو أجيال‪ ،‬مث ينتهي أمده‪ ،‬بل القرآن هو‬

‫الرض ومن عليها‪ ،‬وهو الكتاب الصاحل واملصلح‬ ‫الكتاب الباقي إىل أن َ‬ ‫َ‬ ‫يرث هللاُ‬ ‫اختلفت العصور‪ ،‬وتنو ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫عت اِلضارات‪ ،‬ال تبطل قيمته‪،‬‬ ‫لكل زمان ومكان(‪ ،)2‬مهما‬ ‫ُ‬ ‫بل ال يصلح إال هو‪.‬‬ ‫تعاليم القرآن موجهة للعامل أبسره‪ ،‬فهي للناس كافة يف شىت أرجاء العامل‪ ،‬بغض‬ ‫إن َ‬ ‫النظر عن أصلهم‪ ،‬أنزلت إليهم لتدخل السرور والبهجة إىل قلوهبم‪ ،‬وتطهر نفوسهم‪،‬‬ ‫وِتذب أخالقهم‪ ،‬وتوجه جمتمعهم‪ ،‬وتستبدل سطوة القوي ابلعدل والخوة‪ .‬وقد‬ ‫أكد هللا عز وجل أن يف القرآن حلوالً جلميع قضاَي البشر ﴿ونَ​َزلْنَا علَي َ ِ‬ ‫اب‬ ‫َ َْ‬ ‫ك الْكتَ َ‬ ‫(‪ )1‬كيف نتعامل مع القرآن العظيم؟ ص (‪.)62‬‬ ‫(‪ )2‬املصدر نفسه ص (‪.)56‬‬

‫‪57‬‬


‫ٍ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ​ِ‬ ‫ني ﴾ [النحل‪ .]89 :‬فالقرآن له أعلى‬ ‫دى َوَر ْ​ْحَةً َوبُ ْشَرى ل ْل ُم ْسلم َ‬ ‫تْب يَاانً ل ُك ِل َش ْيء َوُه ً‬ ‫حظوة لدى املسلمني‪ ،‬وهو ليس جمرد كتاب صلوات‪ ،‬أو أدعية نبوية‪ ،‬أو غذاء‬ ‫للروح أو تسابيح روحانية فحسب‪ ،‬بل إنه أيضاً القانون السياسي‪ ،‬وكنز العلو ‪،‬‬ ‫ومراة الجيال‪ ،‬إنه سلوى اِلاضر‪ ،‬وأمل املستقبل(‪.)1‬‬ ‫اثمناً ـ القرآن الكرمي نزل أبرقى اللغات وأمجعها‪:‬‬ ‫االختيار من اِلق عز‬ ‫لقد اختار هللا عز وجل اللغة العربية لينزل هبا اخر كتبه‪ ،‬وهذا‬ ‫ُ‬ ‫وجل هلذه اللغة العظيمة إمنا يعود إىل ما َتتاز به من مرونة‪ ،‬واتساع‪ ،‬وقدرة على‬ ‫وغىن يف املفردات والصيغ والوزان(‪.)2‬‬ ‫االشتقاق‪ ،‬والنحت‪ ،‬والتصريف‪ً ،‬‬

‫صر على أ َن اللغة العربية هي أرقى اللغات‪ ،‬وأمجعها‬ ‫فكل دارس للغات العامل يُ ُّ‬ ‫للمعاين الكثرية حتت اللفاظ القليلة‪ ،‬وأحسنها ِتذيباً‪ ،‬وأكثرها إيضاحاً وبياانً‬ ‫للمطلوب‪ ،‬ولذلك أشاد القرآن الكرمي هبا يف عِدة آَيت‪ ،‬منها‪ :‬قوله تعاىل‪﴿ :‬إِ َان‬

‫َج َع ْلنَاهُ قرآانً َعَربِيًّا لَ َعلَ ُك ْم تَ ْع ِقلُو َن ﴾ [الزخرف‪ .]3 :‬وقوله تعاىل‪﴿ :‬إِ َان أَنْ َزلْنَاهُ قرآانً َعَربِيًّا‬ ‫لَ َعلَ ُك ْم تَ ْع ِقلُو َن ﴾ [يوسف‪.]2 :‬‬ ‫لقد أراد هللا تعاىل أن يكو َن القرآن كتاابً خماطباً به كل المم يف مجيع العصور؛ لذلك‬ ‫أنزله ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫لسباب يلوح يل‬ ‫أفصح كال بني لغات البشر‪ ،‬وهي اللغة العربية‪،‬‬ ‫هي‬ ‫بلغة‬ ‫ُ‬ ‫منها‪ :‬أ َن تلك اللغة أوفر اللغات مادة‪ ،‬وأقلها حروفاً‪ ،‬وأفصحها هلجة‪ ،‬وأكثرها‬ ‫تصرفاً يف الداللة على أغراض املتكلم‪ ،‬وأوفرها ألفاظاً‪ ،‬وجعله جامعاً لكثر ما ميكن‬ ‫أن تتحمله اللغة العربية يف نظم تراكيبها من املعاين‪ ،‬يف أقل ما يسمح به نظم تلك‬ ‫(‪ )1‬دراسات إسالمية يف العالقات االجتماعية والدولية‪ ،‬د‪ .‬حممد عبد هللا دراز ص (‪.)18‬‬ ‫(‪ )2‬لغة القرآن مكانتها والخطار اليت ِتددها‪ ،‬إبراهيم حممد أبو عباء ص (‪.)12 ،11‬‬

‫‪58‬‬


‫اللغة‪ ،‬فكان قوا أساليبه جارَيً على أسلوب اإلجياز‪ ،‬فلذلك كثر فيه ما مل يكثر مثله‬ ‫يف كال بلغاء العرب(‪.)1‬‬

‫ِّ‬ ‫هيمن عليها‪:‬‬ ‫اتسعاً ـ القرآن الكرمي مص ّد ٌق لكتب هللا السابقة ُ‬ ‫وم ٌ‬ ‫قال تعاىل‪﴿ :‬وأَنْزلْنا إِلَيك الْكِتاب ِاب ِْل ِق م ِ ِ‬ ‫ني ي َديِْه ِمن الْكِتَ ِ‬ ‫اب َوُم َهْي ِمناً‬ ‫َ َ​َ ْ َ َ َ َ ُ َ‬ ‫صدقًا ل َما بَْ َ َ‬ ‫َ‬ ‫علَي ِ‬ ‫رقيب على الكتب السابقة؛ لنه‬ ‫العظيم‬ ‫قرآن‬ ‫ال‬ ‫أن‬ ‫له‪:‬‬ ‫و‬ ‫ق‬ ‫ومعىن‬ ‫‪.‬‬ ‫]‬ ‫‪48‬‬ ‫[املائدة‪:‬‬ ‫﴾‬ ‫ه‬ ‫َْ‬ ‫ٌ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫بني‬ ‫يشهد بصحتها﴿ َوُم َهْيمناً َعلَْيه﴾‪ ،‬ويقرر أصوهلا‪ ،‬وما يتأبد من فروعها‪ ،‬ويُ ُ‬ ‫أحكامها املنسوخة بتعني وقت انتهاء مشروعيتها‪.‬‬ ‫صدق‪ ،‬وما أخرب‬ ‫أو على معىن أنه ٌ‬ ‫أمني عليها‪ ،‬فما أخرب عن صدقه ْما ورد فيها ُ‬ ‫ابطل‪.‬‬ ‫بزيفه فهو ٌ‬ ‫أو على معىن أنه اِلافظ هلا‪ ،‬فهو الذي حفظ ما جاء فيها من التوحيد‪ ،‬وكليات‬

‫الدين إىل يو القيامة‪.‬‬ ‫أو على معىن أنه دال على صدقها‪ ،‬أي‪ :‬هو دليل على أهنا من عند هللا‪ ،‬لنه جاء‬ ‫كما نعتته هذه الكتب(‪.)2‬‬ ‫أمني‬ ‫اسم «املهيمن» يتضمن هذا كله‪ ،‬فهو ٌ‬ ‫وهذه القوال كلها متقاربة املعىن‪ ،‬فإن َ‬ ‫وشاه ٌد‪ ،‬وحاكم على كل كتاب قبله‪ ،‬جعل هللا هذا الكتاب العظيم؛ الذي أنزله‬ ‫اخر الكتب وخاَتها وأْشلها وأعظمها وأحكمها‪ ،‬حيث مجع فيه حماسن ما قبله‪،‬‬ ‫وزاده من الكماالت ما ليس يف غريه؛ فلهذا جعله شاهداً وأميناً وحاكماً عليها‬ ‫كلها‪ ،‬وتكفل تعاىل حبفظه بنفسه الكرمية‪.‬‬ ‫(‪ )1‬عظمة القرآن الكرمي ص (‪.)98‬‬ ‫(‪ )2‬تفسري الطربي (‪.)267-266/6‬‬

‫‪59‬‬


‫فقال تعاىل‪﴿ :‬إِ َان َحنن نَ​َزلْنا ِ‬ ‫الذ ْكَر َوإِ َان لَهُ َِلَافِظُو َن ﴾ [احلجر‪.]9 :‬‬ ‫ُْ َ‬ ‫‪ 1‬ـ عالقة اهليمنة ابلتصديق‪:‬‬

‫والشك أن مفهو اهليمن ة أمتُّ وأْشل من مفهو التصديق؛ لن اهليمن ة ال تقتصر‬ ‫على جمرد الشهادة هلذه الكتب بصحة إنزال أصوهلا‪ ،‬وتقرير أصوهلا وشرائعه ا‪ ،‬بل‬ ‫تتعدى ذلك‪ ،‬فتُبني ما اعرتاه ا من نسخ أو حتريف‪ ،‬وم ا عرض هلا من زيف وفساد‪،‬‬

‫فالقرآن بذلك مهيمن على املعاين الصحيحة اليت كانت يف تلك الكتب‪ ،‬وشاهد‬

‫بكوهنا من عند هللا‪ ،‬وبذلك تتالقى اهليمنة مع التصديق‪ ،‬ولكنه كذلك يشهد على‬ ‫هذه الكتب مبا أصاهبا من حتريف‪ ،‬وتسرب إليها من ابطل‪ ،‬وبه تنفرد اهليمنةُ عن‬ ‫فمفهومها إذاً أمت‪ ،‬وأْشل من مفهو التصديق(‪.)1‬‬ ‫التصديق‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫‪ 2‬ـ مظاهر هيمنة القرآن على الكتب السابقة‪:‬‬ ‫هليمنة القرآن العظيم على كتب هللا املنزلة قبله فوق ما تقد من تصديقه هلا‬ ‫مظاهر متعددة‪ ،‬من أمهها ما يلي‪:‬‬ ‫أ ـ إخباره بتحريف الكتب السابقة وتبديلها‪:‬‬ ‫اّللِ‬ ‫ِ​ِ‬ ‫ِ‬ ‫اب ِأبَيْ ِدي ِه ْم مثَُ يَ ُقولُو َن َه َذا ِم ْن ِعْن ِد َ‬ ‫ين يَ ْكتُبُو َن الْكتَ َ‬ ‫قال تعاىل‪﴿ :‬فَ َويْ ٌل للَذ َ‬ ‫لِي ْشرتوا بِ​ِه َمثَناً قَلِيالً فَويل َهلم ِْمَا َكت بت أ ِ‬ ‫َيدي ِ‬ ‫يل َهلُْم ِْمَا يَ ْك ِسبُو َن ﴾[البقرة‪.]79 :‬‬ ‫و‬ ‫و‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫َ ْ ٌ ُْ َ َ ْ‬ ‫َ َُ‬ ‫ْ َ​َ ٌ‬ ‫ب ـ بيان املسائل الكربى اليت خالفوا فيها احلق‪:‬‬ ‫ففي جانب العقائد على سبيل املثال نفى القرآن العظيم ما صرحت به الانجيل‬ ‫(‪ )1‬دراسات إسالمية يف العالقات االجتماعية والدولية‪ ،‬د‪ .‬حممد عبد هللا دراز ص (‪.)18‬‬

‫‪60‬‬


‫صلَبُوهُ‬ ‫احملرفة من قتل عيسى عليه السال ‪ ،‬وصلبه‪ ،‬قال تعاىل‪َ ﴿ :‬وَما قَتَ لُوهُ َوَما َ‬ ‫َولَ ِك ْن ُشبِهَ َهلُْم﴾ [النساء‪ .]157 :‬وحكم على النصارى ابلكفر لقوهلم ابلتثليث‪،‬‬ ‫َِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ال‬ ‫يح ابْ ُن َمْرَميَ َوقَ َ‬ ‫ين قَالُواْ إ َن اّللَ ُه َو الْ َمس ُ‬ ‫وألوهية املسيح‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬لَ​َق ْد َك َفَر الذ َ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫يل ْاعبُ ُدواْ اّللَ َرِيب َوَربَ ُك ْم إِنَهُ َمن يُ ْش ِرْك ِابّللِ فَ َق ْد َحَرَ اّللُ َعلَ ِيه‬ ‫الْ َمس ُ‬ ‫يح َ​َي بَِين إ ْسَرائ َ‬ ‫اجلنَةَ ومأْواه النَار وما لِلظَالِ ِمني ِمن أَنصار لَ​َق ْد َك َفر الَ ِذين قَالُوا إِ َن َ ِ‬ ‫ث ثَالَثٍَة‬ ‫اّللَ َاثل ُ‬ ‫َ ْ َ‬ ‫َْ َ َ َ ُ ُ َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ٍِ ِ ِ ِ ِ‬ ‫اب‬ ‫ين َك َفُروا مْن ُه ْم َع َذ ٌ‬ ‫َوَما م ْن إلَه إالَ إلَهٌ َواح ٌد َوإ ْن َملْ يَْن تَ ُهوا َع َما يَ ُقولُو َن لَيَ َم َس َن الذ َ‬ ‫أَلِ ٌيم ﴾ [املائدة‪ 72 :‬ـ ‪.]73‬‬ ‫ِ‬ ‫ب إىل هللا تعاىل كثرياً من النقائص‪ ،‬واليت جاء القرآن‬ ‫أما التوراة احملرفة فإهنا تَْنس ُ‬

‫العظيم أن اليهود ن سبوا إىل هللا عز‬ ‫العظيم بدحضه ا وإبطاهل ا‪ ،‬ف لقد أخرب القرآن‬ ‫ُ‬ ‫وجل الولد‪ ،‬كم ا وصف اليهود هللا ابلفقر‪ ،‬والبخل‪ ،‬وغل اليد‪ ،‬فبني القرآن ال كرمي‬ ‫ت الْي هود عزي ر ابن َِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َص َارى‬ ‫اّلل َوقَالَت الن َ‬ ‫كذهبم‪ ،‬وزورهم‪ ،‬وهبتاهنم‪ .‬ق ال تع اىل‪َ ﴿ :‬وقَالَ َ ُ ُ ٌَُْ ْ ُ‬ ‫اهئو َن قَوَل الَ ِ‬ ‫اّللِ ذَلِك قَوُهلم ِأبَفْ و ِاه ِهم يض ِ‬ ‫الْم ِ‬ ‫ذ‬ ‫ن‬ ‫اب‬ ‫يح‬ ‫س‬ ‫ين َك َفُروا ِم ْن قَ ْب ُل قَاتَلَ ُه ُم َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫اّللُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ ْ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ ُ‬ ‫اّلل قَوَل الَ ِذين قَالُوا إِ َن َ ِ‬ ‫ِ‬ ‫أَ‬ ‫اّللَ فَقريٌ‬ ‫َىن يُ ْؤفَ ُكو َن ﴾ [التوبة‪ .]30 :‬وقال تعاىل‪﴿ :‬لَ​َق ْد َمس َع َُ ْ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫اِلَِر ِيق ﴾‬ ‫اب ْ‬ ‫ب َما قَالُوا َوقَ ْت لَ ُه ُم الَنْبِيَاءَ بِغَ ِْري َح ٍق َونَ ُق ُ‬ ‫ول ذُوقُوا َع َذ َ‬ ‫َوَْحن ُن أَ ْغنيَاءُ َسنَ ْكتُ ُ‬ ‫ت الْي هود ي ُد َِ‬ ‫ِ‬ ‫ت أَيْ ِدي ِه ْم َولُعِنُوا ِمبَا‬ ‫اّلل َم ْغلُولَةٌ غُلَ ْ‬ ‫[آل عمران‪ .]181 :‬وق ال تع اىل‪َ ﴿ :‬وقَالَ َ ُ ُ َ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ف يَ َشاءُ﴾[املائدة‪.)1(]64 :‬‬ ‫قَالُوا بَ ْل يَ َداهُ َمْب ُسوطَتَان يُْنف ُق َكْي َ‬ ‫ج ـ بني القرآن كثرياً من املسائل اليت أخفوها‪:‬‬ ‫ارس لسفار العهد القدمي يرى أهنا‪ :‬قد خلت من ذكر اليو‬ ‫فمن ذلك‪ :‬أن الد َ‬ ‫(‪ )1‬عظمة القرآن الكرمي ص (‪ )126‬تعاىل هللا عما يقولون علوا عظيما‪.‬‬

‫‪61‬‬


‫اآلخر ونعيمه وجحيمه وإذا كانت اليهوديةُ يف أصلها تقرر البعث‪ ،‬والنشور‪،‬‬ ‫ئ بذلك القرآن ذلك ُّ‬ ‫يدل على أن اليو اآلخر‬ ‫واِلساب‪ ،‬واجلنة والنار‪ ،‬كما يُنبأ ُ‬

‫وما فيه وما يتصل به‪ ،‬من املسائل اليت أخفاها أهل الكتاب(‪ .)1‬قال تعاىل‪َ​َ ﴿ :‬يأ َْه َل‬ ‫ني لَ ُكم َكثِريا ِْمَا ُكْن تُم ُختْ ُفو َن ِمن الْ ِكتَ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫اب َويَ ْع ُفو َع ْن‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫الْكتَاب قَ ْد َجاءَ ُك ْم َر ُسولُنَا يُبَ ُ ْ ً‬ ‫اّللِ نُ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ني ﴾ [املائدة‪.)2(]15 :‬‬ ‫اب ُمبِ ٌ‬ ‫ور َوكتَ ٌ‬ ‫َكث ٍري قَ ْد َجاءَ ُك ْم م َن َ ٌ‬ ‫***‬

‫(‪ )1‬عظمة القران الكرمي ص (‪.)126‬‬ ‫(‪ )2‬املصدر نفسه ص (‪.)126‬‬

‫‪62‬‬


‫الفصل الثالث ‪ :‬مقاصد القرآن الكرمي‬ ‫أوالً ـ تصحيح العقائد والتصورات‬ ‫اثنياً ـ تزكية النفس اإلنسانية‬ ‫اثلثاً ـ عبادة هللا وتقواه‬ ‫رابعاً ـ إقامة العدل بني الناس‬ ‫خامساً ـ الشورى‬ ‫سادساً ـ احلرية‬ ‫سابعاً ـ رفع احلرج‬ ‫اثمناً ـ تقرير كرامة اإلنسان‬ ‫اتسعاً ـ تقرير حقوق اإلنسان‬ ‫عاشراً ـ تكوين األسرة الصاحلة‬ ‫احلادي عشر ـ إنصاف املرأة وحتريرها من ظلم اجلاهلية‬ ‫الثاين عشر ـ بناء األمة الشهيدة على الناس‬ ‫الثالث عشر ـ السماحة‬ ‫الرابع عشر ـ الرمحة‬ ‫اخلامس عشر ـ الوفاء ابلعهود والعقود‬

‫‪63‬‬


‫تصلح اإلنسانية بغريها‪،‬‬ ‫دعا القرآن الكرمي إىل الكثري من املبادأئ واملقاصد اليت ال‬ ‫ُ‬ ‫واليت ِم ْن أمهها‪:‬‬ ‫أوالً ـ تصحيح العقائد والتصورات‪:‬‬

‫وإنكار للشرك‪ ،‬وبيا ٌن‬ ‫أ ـ القرآن العظيم من ّأوله إىل اخره دعوةٌ إىل التوحيد‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫الشرك أعظم جر ٍ‬ ‫مية يقرتفُها‬ ‫لسوء عاقبة املشركني يف الدارين‪ ،‬وقد اعترب القرآن‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ك لِ َم ْن يَ َشاءُ﴾‬ ‫خملوق‪ .‬قال تعاىل‪﴿ :‬إِ َن َ‬ ‫اّللَ الَ يَ ْغفُر أَ ْن يُ ْشَرَك بِ​ِه َويَ ْغفُر َما ُدو َن ذَل َ‬ ‫[النساء‪ .]48 :‬وإن حقيقة الشرك احنطا ٌط ابإلنسان من مرتبة السيادة على الكون‬ ‫كما أراد هللا له إىل مرتبة العبودية واخلضوع للمخلوقات‪ ،‬سواء كانت مجاداً‪ ،‬أو‬ ‫اجتَنِبُوا ِ‬ ‫س ِم َن‬ ‫ج‬ ‫الر‬ ‫ْ‬ ‫نباَتً‪ ،‬أو حيواانً‪ ،‬أو إنساانً‪ ،‬إىل غري ذلك‪ .‬قال هللا تعاىل‪﴿ :‬فَ ْ‬ ‫َ‬ ‫ِ​ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ني بِ​ِه َوَم ْن يُ ْش ِرْك ِاب َّللِ فَ َكأَ​َمنَا‬ ‫اجتَنِبُوا قَ ْوَل ُّ‬ ‫الزوِر ۝ ُحنَ َفاءَ َّلل َغ ْ َري ُم ْش ِرك َ‬ ‫ال َْو َاثن َو ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ​ِ‬ ‫الريح ِيف م َك ٍ‬ ‫ان َس ِح ٍيق ﴾ [احلج‪.]31-30 :‬‬ ‫َخَر م َن ال َس َماء فَتَ ْخطَُفهُ الطَْريُ أ َْو َِتْ ِوي به ِ ُ َ‬

‫نيب‬ ‫والدعوة إىل التوحيد هي املبدأ الول املشرتك بني رساالت النبيني مجيعاً‪ ،‬فكل ٍ‬ ‫اّللَ َما لَ ُك ْم ِم ْن إِلٍَه َغ ْريُهُ﴾ [األعراف‪ .]59 :‬وقال تعاىل‪:‬‬ ‫اندى قومه أن ﴿ ْاعبُ ُدوا َ‬ ‫اّلل و ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫وت﴾ [النحل‪.]36:‬‬ ‫اجتَنبُوا الطَاغُ َ‬ ‫﴿ َولَ​َق ْد بَ َعثْ نَا ِيف ُك ِل أَُمة َر ُسوالً أَن ْاعبُ ُدوا َ​َ َ ْ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ول إِالَ نُ ِ‬ ‫ك ِمن رس ٍ‬ ‫وحي إِلَْي ِه أَنَهُ الَ إِلَهَ إِالَ أ َ​َان‬ ‫وقال تعاىل‪َ ﴿ :‬وَما أ َْر َس ْلنَا م ْن قَ ْبل َ ْ َ ُ‬ ‫اعب ُد ِ‬ ‫ون ﴾ [األنبياء‪.]25 :‬‬ ‫فَ ْ ُ‬ ‫ك ِعبَ ِادي‬ ‫فال مكان للوسطاء بني هللا عز وجل وبني خلقه‪ ،‬قال تعاىل‪َ ﴿ :‬وإِ َذا َسأَلَ َ‬ ‫ِ‬ ‫يب﴾ [البقرة‪.]186 :‬‬ ‫َع ِين فَإِين قَ ِر ٌ‬ ‫ال ربُّ ُكم ادع ِوين أ ِ‬ ‫ب لَ ُك ْم﴾ [غافر‪.]60 :‬‬ ‫وقال تعاىل‪َ ﴿ :‬وقَ َ َ ُ ْ ُ ْ‬ ‫َستَج ْ‬ ‫وقد أصلح القرآن هنا ما أفسدته الدَيانت الوثنية والكتابية احملرفة من عقيدة‬ ‫‪64‬‬


‫الرب أشبه ابملخلوقني‪ ،‬فهو يتعب ويند وُياف‪،‬‬ ‫التوحيد‪ ،‬حىت اليهود جعلت َ‬ ‫ويصارع إسرائيل‪ ،‬فيصرعه إسرائيل‪ ،‬فال يتمكن من اإلفالت منه إال ٍ‬ ‫بوعد منه مبباركة‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫نسله‪ ،‬فأطلق سراحه!!‬ ‫الكنائس ابلصور‬ ‫والنصرانيةُ أتثرت بوثنية روما‪ ،‬وطغت عليها الوثنيةُ حىت امتألت‬ ‫ُ‬ ‫والتماثيل‪ ،‬وأخذت عقيدةُ التثليث والفداء من عقيدة اهلنود يف «كرشنة»‪ ،‬كل ما‬ ‫فعلوه أهنم حذفوا اسم كرشنة‪ ،‬ووضعوا اسم «يسوع»(‪.)1‬‬ ‫ب ـ تصحيح العقيدة يف النبوة والرسالة‪:‬‬ ‫وذلك بعدة أساليب‪:‬‬ ‫‪ ‬بيان احلاجة إىل النبوة والرسالة‪:‬‬ ‫قال تعاىل‪َ ﴿ :‬كا َن النَاس أَُمةً و ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ​ِ‬ ‫ين َوأَنْ َزَل َم َع ُه ُم‬ ‫ث َ‬ ‫اح َدةً فَبَ َع َ‬ ‫اّللُ النَبِيِ َ‬ ‫ُ َ‬ ‫ين َوُمنْذر َ‬ ‫ني ُمبَش ِر َ‬ ‫الْ ِكتاب ِاب ِْل ِق لِيح ُكم بني الن ِ ِ‬ ‫اختَ لَ ُفوا فِ ِيه﴾ [البقرة ‪ .]213‬وقال تعاىل‪﴿ :‬لِئَالَ‬ ‫يما ْ‬ ‫َ َ َ َ ْ َ َْ َ‬ ‫َاس ف َ‬ ‫يَ ُكو َن لِلن ِ‬ ‫الر ُس ِل﴾ [النساء‪ .]165 :‬وقال تعاىل‪َ ﴿ :‬وَما أَنْ َزلْنَا‬ ‫َاس َعلَى َ‬ ‫اّللِ ُح َجةٌ بَ ْع َد ُّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫علَي َ ِ‬ ‫اختَ لَ ُفوا فِ ِيه﴾ [النحل‪.]64 :‬‬ ‫ني َهلُ​ُم الَذي ْ‬ ‫اب إِالَ لتُبَِ َ‬ ‫َْ‬ ‫ك الْكتَ َ‬ ‫‪ ‬بيان وظائف الرسل يف التبشري واإلنذار‪:‬‬ ‫قال تعاىل‪﴿ :‬رسالً مب ِش ِرين ومْن ِ‬ ‫أبناء‬ ‫وال‬ ‫‪،‬‬ ‫ة‬ ‫اهل‬ ‫الرسل‬ ‫فليس‬ ‫‪.‬‬ ‫ذ ِرين﴾ [النساء‪]165 :‬‬ ‫ً‬ ‫ُ ُ َُ َ َ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫وحى إِ َ​َ‬ ‫يل أَ​َمنَا إِ َهلُ ُك ْم إِلَهٌ‬ ‫بشر يوحى إليهم ﴿قُ ْل إَمنَا أ َ​َان بَ َشٌر مثْ لُ ُك ْم يُ َ‬ ‫اهلة‪ ،‬إمنا هم ٌ‬ ‫وِ‬ ‫اح ٌد﴾ [الكهف‪.]110 :‬‬ ‫َ‬ ‫ميلكون أن يدعوا إىل توحيد هللا‪ ،‬ولكن ال ميلكون هدايةَ القلوب‪ ،‬وال السيطرةَ عليها‬ ‫(‪ )1‬كيف نتعامل مع القرآن العظيم؟ ص (‪.)66‬‬

‫‪65‬‬


‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫صْي ِط ٍر﴾ [الغاشية‪ 21 :‬ـ ‪.]22‬‬ ‫ت ُم َذكٌر ۝ لَ ْس َ‬ ‫﴿فَ َذكْر إَِمنَا أَنْ َ‬ ‫ت َعلَْي ِه ْم مبُ َ‬

‫‪ ‬تفنيد الشبهات اليت أاثرها الناس من قدمي يف وجه الرسل‪:‬‬ ‫اّللُ لَنْ َزَل‬ ‫كقوهلم‪﴿ :‬إِ ْن أَنْتُ ْم إِالَ بَ َشٌر ِمثْ لُنَا﴾ [إبراهيم‪ .]10 :‬وقوهلم‪َ ﴿ :‬ولَْو َشاءَ َ‬ ‫ِ‬ ‫ت َهلُْم ُر ُسلُ ُه ْم‬ ‫َمالَئ َكةً﴾ [املؤمنون‪ .]24 :‬فقد رد عليهم القرآن مبثل قوله تعاىل‪﴿ :‬قَالَ ْ‬ ‫اّللَ َميُ ُّن َعلَى َم ْن يَ َشاءُ ِم ْن ِعبَ ِادهِ﴾ [إبراهيم‪ .]11 :‬ومثل‬ ‫إِ ْن َْحن ُن إِالَ بَ َشٌر ِمثْ لُ ُك ْم َولَ ِك َن َ‬ ‫ِ​ِ‬ ‫قوله تعاىل‪﴿ :‬قُل لَو َكا َن ِيف الَر ِ ِ‬ ‫ني لَنَ َزلْنَا َعلَْي ِه ْم ِم َن‬ ‫ض َمالَئ َكةٌ ميَْ ُشو َن ُمطْ َمئن َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ ْ‬ ‫ال َس َم ِاء َملَ ًكا َر ُسوالً ﴾ [اإلسراء‪.)1(]95 :‬‬ ‫بيان عاقبة الذين صدقوا املرسلني وعاقبة الذين كذبوا املرسلني‪:‬‬ ‫‪‬‬ ‫ويف القرآن الكرمي ثروة طائلة من قصص الرسل مع أْمهم‪ ،‬تنتهي دائماً هبالك‬ ‫اه ْم‬ ‫املكذبني‪ ،‬وجناة املؤمنني‪ .‬قال تعاىل‪َ ﴿ :‬وقَ ْوَ نُ ٍ‬ ‫وح لَ َما َك َذبُوا ُّ‬ ‫الر ُس َل أَ ْغَرقْ نَ ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ​ِ‬ ‫اه ْم لِلن ِ‬ ‫اب الَر ِس‬ ‫يما ۝ َو َع ًادا َوَمثُ َ‬ ‫َاس آيَةً َوأ َْعتَ ْد َان للظَالم َ‬ ‫َو َج َع ْلنَ ُ‬ ‫ود َوأ ْ‬ ‫َص َح َ‬ ‫ني َع َذ ًااب أَل ً‬ ‫وقُروانً بني َذلِ َ ِ‬ ‫ربَان تَ ْتبِريا ﴾ [الفرقان‪ 37 :‬ـ‬ ‫ضَربْنَا لَهُ ال َْمثَ َ‬ ‫ك َكث ًريا ۝ َوُكالًّ َ‬ ‫َ ُ َْ َ‬ ‫ال َوُكالًّ تَ​َْ‬ ‫ً‬ ‫ِ‬ ‫‪ .]39‬وقال تعاىل‪﴿ :‬مثَُ نُن ِجي رسلَنا والَ ِ‬ ‫ِ​ِ‬ ‫ني﴾‬ ‫ذ‬ ‫ين َآمنُوا َك َذل َ‬ ‫ك َح ًّقا َعلَْي نَا نُْن ِج الْ ُم ْؤمن َ‬ ‫َ ُ​َُ َ َ‬ ‫[يونس‪.]103 :‬‬

‫ج ـ تثبيت عقيدة اإلميان ابآلخرة‪:‬‬ ‫وْما عين به القرآن‪ ،‬وكرره يف سوره املكية واملدنية اإلميان ابآلخرة‪ ،‬وما فيها من جزاء‬ ‫أساليب‬ ‫وحساب وجنة وانر‪ ،‬وقد اختذ القرآن يف تثبيت هذه العقيدة وتصحيحها‬ ‫َ‬ ‫شىت؛ منها‪:‬‬ ‫‪‬‬

‫إقامة األدلة على إمكان البعث ببيان قدرة هللا على إعادة اخللق كما‬

‫(‪ )1‬املصدر نفسه ص (‪.)67‬‬

‫‪66‬‬


‫يدهُ َوُه َو أ َْه َو ُن َعلَْي ِه﴾‬ ‫بدأهم أول مرة‪ .‬قال تعاىل‪َ ﴿ :‬وُه َو الَ ِذي يَْب َدأُ ْ‬ ‫اخلَْل َق مثَُ يُعِ ُ‬ ‫[الروم‪.]27 :‬‬ ‫‪ ‬التنبيه على خلق األجرام العظيمة؛ اليت يُ ْعتَ بَ ُر َخ ْل ُق اإلنسان جبوارها شيئاً‬ ‫هيناً‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬أَوَمل ي روا أَ َن َ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ض َوَملْ يَ ْع َي ِخبَْل ِق ِه َن‬ ‫اّللَ الَذي َخلَ َق ال َس َم َاوات َوال َْر َ‬ ‫َ ْ َ​َ ْ‬ ‫بَِق ِاد ٍر َعلَى أَ ْن ُُْييِ َي الْ َم ْوتَى بَلَى إِنَهُ َعلَى ُك ِل َش ْي ٍء قَ ِد ٌير ﴾ [األحقاف‪.]33 :‬‬ ‫‪‬‬

‫بيان حكمة هللا تعاىل يف اجلزاء‪ ،‬حىت ال يستوي احملسن واملسيء‪ ،‬والرب‬

‫والفاجر‪ ،‬يف النهاية تكون اِلياة عبثاً وابطالً يتنزه هللا تعاىل عنه‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬أَ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ات َكالْم ْف ِس ِ‬ ‫صِ‬ ‫اِل ِ‬ ‫َْجنعل الَ ِذين آمنُوا وع ِ‬ ‫ين ِيف ال َْر ِ‬ ‫ني‬ ‫د‬ ‫ال‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ل‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ​َ‬ ‫ض أَ ْ َْجن َع ُل الْ ُمتَق َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َُ‬ ‫َكالْ ُف َجا ِر ﴾ [ص‪ .]28 :‬وقال تعاىل‪﴿ :‬أَفَ َح ِسْب تُ ْم أَ​َمنَا َخلَ ْقنَا ُك ْم َعبَ ثًا َوأَنَ ُك ْم إِلَْي نَا الَ‬ ‫تُْر َجعُو َن ﴾‬ ‫[القيامة‪.]36 :‬‬

‫‪‬‬

‫[املؤمنون‪:‬‬

‫َُيس ِ‬ ‫دى ﴾‬ ‫ب اإلنْ َسا ُن أَ ْن يُْ َرت َك ُس ً‬ ‫‪ .]115‬وقال تعاىل‪﴿ :‬أ َْ َ ُ‬

‫إبطال األوهام اليت أشاعها الشرك واملشركون من أن اهلتهم املزعومة تشفع‬

‫أهل الكتاب من شفاعة القديسني‬ ‫هلم عند هللا يو القيامة‪ ،‬وكذلك ما زعمه ُ‬ ‫وغريهم‪ ،‬وهذا ما كذبه القرآن‪ ،‬وأبطله أشد اإلبطال‪ ،‬فال شفاعة إال إبذن هللا‪ ،‬وال‬ ‫شفاعة إال ملؤمن موح ٍد‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬ما لِلظَالِ ِمني ِمن َِ‬ ‫ْحي ٍم َوالَ َش ِفي ٍع يُطَاعُ ﴾‬ ‫َ‬ ‫َ ْ‬ ‫ِ​ِ‬ ‫ني ﴾ [املدثر‪ .]48 :‬وقال تعاىل‪:‬‬ ‫[غافر‪ .]18 :‬وقال تعاىل‪﴿ :‬فَ َما تَْن َفعُ ُه ْم َش َف َ‬ ‫اعةُ الشَافع َ‬ ‫﴿ َم ْن َذا الَ ِذي يَ ْش َف ُع عِْن َدهُ إِالَ إبِ​ِ ْذنِ​ِه﴾ [البقرة‪ .]255 :‬وال ينفع اإلنسا َن إال سعيُه‪ ،‬وال‬ ‫ُيمل وزر غريه ﴿أَالَ تَ ِزر وا ِزرةٌ ِوْزر أُخرى ۝ وأَ ْن لَيس لِ ِإلنْس ِ‬ ‫ان إِالَ َما َس َعى﴾‬ ‫ُ َ َ َ َْ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ َ‬ ‫ِ‬ ‫[النجم‪ .]39-38 :‬وقال تعاىل‪﴿ :‬ووج ُدوا ما ع ِملُوا ح ِ‬ ‫َح ًدا ﴾‬ ‫اضًرا َوالَ يَظْل ُم َربُّ َ‬ ‫َ​َ َ َ َ‬ ‫ك أَ‬ ‫َ‬ ‫[الكهف‪.]49 :‬‬ ‫‪67‬‬


‫‪‬‬

‫بيان ما ينتظر املؤمنني األبرار يف اآلخرة من املثوبة والرضوان‪ ،‬وما أعد‬

‫حديث القرآن عن القيامة وأهواهلا‪،‬‬ ‫للكفرة الفجار من العقاب واخلسران‪ ،‬وهلذا كثر‬ ‫ُ‬ ‫و ِ‬ ‫الكتاب الذي ال يغادر صغرية وال كبرية إال أحصاها‪ ،‬وعن امليز ِان الذي تُ ْوَز ُن به‬ ‫يضيع على اإلنس ان مثقال حبة من خردل‪ ،‬وعن‬ ‫اِلسنات والسيئات حىت ال‬ ‫َ‬ ‫اِلساب الدقيق الذي ال يظلم نفساً شيئاً‪ ،‬وال ُيمل وازرة وزر أخرى‪ ،‬وعن اجلنة‬

‫وم ا فيه ا من ألوان النعيم املادي والروحي‪ ،‬وعن النار وما فيه ا من صنوف العذاب‬ ‫الليم ال حسي واملعنوي‪ ،‬ذلك لن إن س ان اآلخرة هو‬ ‫امتداد إلنسان الدنيا روحاً‬ ‫ٌ‬ ‫وجسماً‪ ،‬فالب َد أن يشمل الثواب أو العقاب كليهما(‪.)1‬‬ ‫اثنياً ـ تزكية النفس البشرية‪:‬‬ ‫فالح يف الوىل واآلخرة‬ ‫ومن مقاصد القرآن‪ :‬الدعوةُ إىل تزكية النفس البشرية‪ ،‬فال َ‬ ‫إال ابلتزكية‪ ،‬كما قال تعاىل‪َ ﴿ :‬ونَ ْف ٍ‬ ‫ورَها َوتَ ْق َو َاها ۝‬ ‫س َوَما َس َو َاها ۝ فَأَ ْهلَ​َم َها فُ ُج َ‬

‫فالنفس بفطرِتا‬ ‫اها ﴾ [الشمس‪ 7 :‬ـ ‪.]10‬‬ ‫اب َم ْن َد َس َ‬ ‫قَ ْد أَفْ لَ َح َم ْن َزَك َ‬ ‫اها ۝ َوقَ ْد َخ َ‬ ‫ُ‬ ‫مستعدةٌ للفجور الذي يدنسها ويدسيها‪ ،‬استعدادها للتقوى اليت تطهرها وتزكيها‪،‬‬ ‫ي الطريقني‪ :‬طريق التزكية‪ ،‬أو طريق التدسية‪،‬‬ ‫ُيتار أ َ‬ ‫وعلى اإلنسان بعقله وإرادته أن َ‬

‫يق الفالح‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬قَ ْد أَفْ لَ َح‬ ‫يب أنه إذا اختار طريق التزكية فقد اختار طر َ‬ ‫وال ر َ‬ ‫َم ْن تَ​َزَكى ﴾ [األعلى‪.]14 :‬‬ ‫وقال سبحانه فيمن أييت ربه يو القيامة‪﴿ :‬ومن أيْتِ​ِه مؤِمناً قَ ْد ع ِمل ال َ ِ‬ ‫اِل ِ‬ ‫ات‬ ‫َ​َ ْ َ ُْ‬ ‫ص َ‬ ‫َ َ‬ ‫ِ​ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ين فِ َيها‬ ‫فَأُولَئِ َ‬ ‫ات الْعُلَى ۝ َجن ُ‬ ‫َر َج ُ‬ ‫ك َهلُ​ُم الد َ‬ ‫َات َع ْدن َْجت ِري م ْن َْحتت َها ال َْهنَ ُار َخالد َ‬ ‫(‪ )1‬كيف نتعامل مع القرآن العظيم؟ ص (‪.)68‬‬

‫‪68‬‬


‫ِ‬ ‫ك َجَزاءُ َم ْن تَ​َزَكى ﴾ [طه‪ 75 :‬ـ ‪.]76‬‬ ‫َو َذل َ‬

‫ورساالت النبياء مجيعاً كان من مقاصدها‪ :‬الدعوةُ إىل التزكية‪ ،‬وهلذا رأينا موسى‬ ‫ُ‬ ‫ك إِ َىل أَ ْن تَ​َزَكى ۝‬ ‫عليه السال يقول لفرعون حني أ ُْرِس َل إليه من ربه‪َ ﴿ :‬ه ْل لَ َ‬ ‫ِ‬ ‫ك فَتَ ْخ َشى ﴾ [النازعات‪ 18 :‬ـ ‪.]19‬‬ ‫ك إِ َىل َربِ َ‬ ‫َوأ َْهديَ َ‬

‫ُّع ِ‬ ‫ب الساسية لرسالة حممد صلى هللا عليه وسلم‪ :‬التزكيةُ‪ ،‬كما جاء‬ ‫وكان من الش َ‬ ‫ذلك يف أربع آَيت من كتاب هللا‪ ،‬منها ما جاء يف دعوة إبراهيم وإمساعيل عليهما‬ ‫ث فِي ِه ْم َر ُسوالً ِمْن ُه ْم يَْت لُو‬ ‫السال لألمة املسلمة املوعودة قال تعاىل‪َ ﴿ :‬ربَنَا َوابْ َع ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اِلَ ِك ُيم ﴾‬ ‫ت الْ َع ِز ُيز ْ‬ ‫اب َو ْ‬ ‫اِلِ ْك َمةَ َويَُزكِْي ِه ْم إِنَ َ‬ ‫آَيتِ َ‬ ‫ك أَنْ َ‬ ‫ك َويُ َعل ُم ُه ُم الْكتَ َ‬ ‫َعلَْي ِه ْم َ‬ ‫[البقرة‪ .]129 :‬ومنها قوله عز وجل‪َ ﴿ :‬ك َما أ َْر َس ْلنَا فِي ُك ْم َر ُسوالً ِمْن ُك ْم يَْت لُو َعلَْي ُك ْم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اِلِ ْك َمةَ َويُ َعلِ ُم ُك ْم َما َملْ تَ ُكونُوا تَ ْعلَ ُمو َن ﴾‬ ‫اب َو ْ‬ ‫آَيتنَا َويَُزكي ُك ْم َويُ َعل ُم ُك ُم الْكتَ َ‬ ‫َ‬ ‫ِ​ِ‬ ‫ث فِي ِه ْم َر ُسوالً ِم ْن‬ ‫[البقرة‪ .]151 :‬وقال سبحانه‪﴿ :‬لَ​َق ْد َم َن َ‬ ‫ني إِ ْذ بَ َع َ‬ ‫اّللُ َعلَى الْ ُم ْؤمن َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫أَنْ ُف ِس ِهم ي ْت لُو علَي ِهم ِ​ِ ِ‬ ‫اِلِ ْك َمةَ َوإِ ْن َكانُوا ِم ْن قَ ْب ُل لَِفي‬ ‫اب َو ْ‬ ‫آَيته َويَُزكي ِه ْم َويُ َعل ُم ُه ُم الْكتَ َ‬ ‫ْ َ َْ ْ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ضالٍَل ُمبِ ٍ‬ ‫ني َر ُسوالً‬ ‫ني ﴾[آل عمران‪ .]164 :‬وقال تعاىل‪ُ ﴿ :‬ه َو الذي بَ َع َ‬ ‫َ‬ ‫ث ِيف الُميِ َ‬ ‫ِمْن هم ي ْت لُو علَي ِهم آَيتِ​ِه وي َزكِي ِهم وي علِمهم الْ ِ‬ ‫اِلِ ْك َمةَ َوإِ ْن َكانُوا ِم ْن قَ ْب ُل لَِفي‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫اب َو ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ ْ َ َ ْ ْ َ َُ ْ ََُ ُ ُ ُ‬ ‫ضالٍَل ُمبِ ٍ‬ ‫ني ﴾[اجلمعة‪.]2 :‬‬ ‫َ‬ ‫اّللِ‬ ‫ض ُل َ‬ ‫وال تتم هذه التزكية إال بفضل من هللا وتوفيقه‪ ،‬كما قال تعاىل‪َ ﴿ :‬ولَْوالَ فَ ْ‬ ‫ِ ِ‬ ‫اّللَ يَُزكِي َم ْن يَ َشاءُ﴾ [النور‪.]21 :‬‬ ‫َح ٍد أَبَ ًدا َولَكِ َن َ‬ ‫َعلَْي ُك ْم َوَر ْ​ْحَتُهُ َما َزَكى مْن ُك ْم م ْن أ َ‬ ‫كما ال ب َد من جهد اإلنسان وجهاده‪ ،‬كما قال تعاىل‪َ ﴿ :‬وَم ْن تَ​َزَكى فَِإَمنَا يَتَ َزَكى‬ ‫اّللِ الْم ِ‬ ‫لِنَ ْف ِس ِه وإِ‬ ‫صريُ ﴾ [فاطر‪.]18 :‬‬ ‫ىل‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫وقد بني القرآن الكرمي أثر العبادات يف هذه التزكية‪ ،‬كقوله تعاىل يف أثر الزكاة‪ُ ﴿ :‬خ ْذ‬ ‫‪69‬‬


‫ِ​ِ‬ ‫ِ‬ ‫ص َدقَةً تُطَ ِهُرُه ْم َوتَُزكِي ِه ْم ِهبَا﴾ [التوبة‪.]103 :‬‬ ‫م ْن أ َْم َواهل ْم َ‬

‫ث عليها القرآن يف هذه التزكية املنشودة لألنفس‪ ،‬قال‬ ‫أثر االداب اليت َح َ‬ ‫كما بني َ‬ ‫ِ‬ ‫ضوا ِمن أَب ِ‬ ‫ِ ِ​ِ‬ ‫ك أ َْزَكى َهلُْم إِ َن َ‬ ‫وج ُه ْم َذل َ‬ ‫تعاىل‪﴿ :‬قُ ْل ل ْل ُم ْؤمن َ‬ ‫ني يَغُ ُّ ْ ْ َ‬ ‫صا ِره ْم َوَُْي َفظُوا فُ ُر َ‬ ‫اّللَ‬ ‫ِ‬ ‫صنَ عُو َن ﴾ [النور‪.]30 :‬‬ ‫َخبِريٌ مبَا يَ ْ‬ ‫وقال يف أدب االستئذان‪﴿ :‬وإِ ْن قِ‬ ‫يل لَ ُك ُم ْارِجعُوا فَ ْارِجعُوا ُه َو أ َْزَكى لَ ُك ْم﴾‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫[النور‪.]28 :‬‬ ‫يب فيه أن صالح المم واجملتمعات إمنا هو بصالح أفرادها‪،‬‬ ‫إن المر الذي ال ر َ‬ ‫وصالح الفراد إمنا هو بصالح أنفسهم اليت بني جنوهبم‪ ،‬وبعبارة أخرى بتزكية هذه‬ ‫ُ‬

‫النفس‪ ،‬حىت تنتقل من «النفس المارة ابلسوء» إىل «النفس اللوامة»‪ ،‬مث «النفس‬ ‫َِ‬ ‫ين‬ ‫املطمئنة»‪ ،‬وهذا ُيتاج إىل جهاد‪ ،‬لكنه جهاد غري ضائع‪ ،‬كما قال تعاىل‪َ ﴿ :‬والذ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ​ِ‬ ‫ني ﴾ [العنكبوت‪.)1(]69 :‬‬ ‫َه ْم ُسبُلَنَا َوإِ َن َ‬ ‫اّللَ لَ َم َع الْ ُم ْحسن َ‬ ‫َج َ‬ ‫اه ُدوا فينَا لَنَ ْهديَن ُ‬ ‫اثلثاً ـ عبادة هللا وتقواه‪:‬‬

‫‪ 1‬لقد بني القرآن أن املهمة الوىل لإلنسان أن يقو بعبادة هللا تعاىل‪َ ﴿ :‬وَما‬ ‫اجلِ َن وا ِإلنْس إِالَ لِي عب ُد ِ‬ ‫ون ﴾ [الذارايت‪ .]56 :‬فاهلل تعاىل هو خالق اإلنسان‬ ‫َخلَ ْق ُ‬ ‫َ ُْ‬ ‫ت ْ َ َ‬ ‫ورازقه‪ ،‬ومدبر أمره‪ ،‬واملنعم عليه بنعم وفرية ال ميكن لإلنسان إحصاؤها‪ ،‬قال تعاىل‪:‬‬ ‫﴿وإِ ْن تَع ُّدوا نِعمةَ َِ‬ ‫وها﴾ [إبراهيم‪.]34 :‬‬ ‫صَ‬ ‫اّلل الَ ُْحت ُ‬ ‫َ ُ َْ‬ ‫ومن هذه النعم نعمةُ اإلجياد‪ ،‬ونعمةُ الرزق‪ ،‬ونعمةُ العقل‪ ،‬ونعمةُ اإلرادة‪ ،‬ونعم ةُ‬ ‫القدرة‪ ،‬ونعم ةُ البي ان «النطقي» و«اخلطي»‪ ،‬ونعمةُ تسخري الكون لإلنسان‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫أظهرها يف‬ ‫وعدد القرآن مجالً من هذه النعم الوفرية السابغة يف عدد من سور القرآن‪ُ ،‬‬ ‫(‪ )1‬كيف نتعامل مع القرآن الكرمي؟ ص (‪.)85‬‬

‫‪70‬‬


‫سورة النحل‪ ،‬اليت تسمى «سورة النعم»‪ ،‬ومن حق اخلالق الرازق املنعم أ ْن يُ ْش َكَر فال‬ ‫ي ْك َفر‪ ،‬وأن ي ْذ َكر فال ي ْنسى‪ ،‬وأن يطاع فال ي عصى‪ ،‬وال يتأتَى ذلك إال ابلعبادةِ‬ ‫ُ َ‬ ‫ُْ َ‬ ‫ُ َ‬ ‫ُ ُ‬ ‫ُ َ‬ ‫ِ‬ ‫َاس‬ ‫اخلالصة له‪ ،‬فالعبادةُ من حقه َ‬ ‫وحده جل وعال؛ ولذا قال تعاىل‪َ​َ ﴿ :‬يأَيُّ َها الن ُ‬ ‫َِ‬ ‫َِ‬ ‫ين ِم ْن قَ ْبلِ ُك ْم لَ َعلَ ُك ْم تَتَ ُقو َن ۝ الَ ِذي َج َع َل لَ ُك ُم‬ ‫ْاعبُ ُدوا َربَ ُك ُم الذي َخلَ َق ُك ْم َوالذ َ‬ ‫الَر ِ‬ ‫اشا وال َسماء بِنَاء وأَنْزَل ِمن ال َسم ِاء ماء فَأَخرج بِ​ِه ِمن الثَمر ِ‬ ‫ات ِرْزقًا لَ ُك ْم‬ ‫ْ َ‬ ‫ض فَر ً َ َ َ ً َ َ َ َ َ ً ْ َ َ‬ ‫َ َ​َ‬ ‫فَالَ َْجت َعلُوا َِّللِ أَنْ َد ًادا َوأَنْتُ ْم تَ ْعلَ ُمو َن ﴾ [البقرة‪ 21 :‬ـ ‪.]22‬‬ ‫أتمل القرآن الكرمي والسنة النبوية‪ ،‬وما حتويه من أخبار‪ ،‬وأوامر ونواهٍ‪ ،‬ووعد‬ ‫وعند ُّ‬ ‫ووعيد‪ ،‬جندها كلها تدور حول تقرير ألوهية هللا سبحانه وتعاىل‪ ،‬وعبودية اإلنسان‬ ‫له‪.‬‬ ‫خلق اإلنسان؛ وتسخريُ الكون له؛ وإجياد العقل والقلب واإلرادة فيه‪،‬‬ ‫فإذا كان ُ‬ ‫وإرسال الرسل‪ ،‬وإنزال الكتب‪ ،‬وخلق اجلنة والنار‪ ،‬وقبل ذلك وبعده ما تقتضيه‬ ‫كل‬ ‫صفات الباري جل وعال من كونه يف ذاته وصفاته وأفعاله حكيماً عليماً‪ ،‬خلق َ‬ ‫ٍ‬ ‫شيء وقدره تقديراً‪ ،‬ومل ُيلق شيئاً عبثاً‪ ،‬ومل يوجد شيئاً لغري حكمة‪ .‬وإذا كان‬ ‫اجمليد وما فيه من أخبار وأوامر ووعد ووعيد جاء لجل هذه املهمة العظيمة‪،‬‬ ‫القرآن ُ‬ ‫أال وهي تعبيد اخللق كلهم هلل سبحانه‪ ،‬ولذلك جعل هللاُ دائرَة العبادةِ اليت خلق هللا‬ ‫هلا اإلنسان‪ ،‬وجعلها غايته يف اِلياة‪ ،‬ومهمته يف الرض‪ ،‬دائرًة رحبةً واسعةً‪ :‬أن‬ ‫تشمل شؤون اإلنسان كلها‪ ،‬وتستوعب حياته مجيعاً‪ ،‬وتستغرق مجيع مناشطه‬ ‫وأعماله(‪.)1‬‬ ‫‪1‬ـ عبادة هللا تعاىل‪:‬‬ ‫(‪ )1‬العبادة يف اإلسال ‪ ،‬للقرضاوي ص (‪.)53‬‬

‫‪71‬‬


‫جامع ِ‬ ‫لكل ما ُيبه هللا ويرضاه من القوال‬ ‫اسم‬ ‫ٌ‬ ‫فالعبادةُ يف مفهو اإلسال ‪ٌ :‬‬ ‫والعمال الباطنة والظاهرة‪ ،‬فالصالة‪ ،‬والزكاة‪ ،‬والصيا ‪ ،‬واِلج‪ ،‬وصدق اِلديث‪،‬‬ ‫وأداءُ المانة‪ ،‬وبر الوالدين‪ ،‬وصلة الرحا ‪ ،‬والوفاء ابلعهود‪ ،‬والمر ابملعروف‪،‬‬ ‫والنهي عن املنكر‪ ،‬وجهاد الكفار واملنافقني‪ ،‬واإلحسان إىل اجلار واليتامى واملساكني‬ ‫وابن السبيل واململوك من االدميني‪ ،‬والبهائم‪ ،‬والدعاء والذكر والقراءة‪ ،‬وأمثال ذلك‬ ‫حب هللا ورسوله صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وخشية هللا‪ ،‬واإلانبة‬ ‫من العبادة‪ ،‬وكذلك ُّ‬ ‫إليه‪ ،‬وإخالص الدين له‪ ،‬والصرب ِلكمه‪ ،‬والشكر لنعمه‪ ،‬والرضا بقضائه‪ ،‬والتوكل‬ ‫عليه‪ ،‬والرجاء لرْحته‪ ،‬واخلوف من عذابه‪ ،‬وأمثال ذلك هي من العبادة (‪.)1‬‬ ‫وهبذا التعريف اجلامع ال ميكن أن ُير َج أي شيء من نشاطات اإلنسان وأعماله‪،‬‬ ‫سواء إن كان ذلك يف العبادة احملضة‪ ،‬أو يف املعامالت املشروعة‪ ،‬أو يف العادات اليت‬ ‫(‪)2‬‬ ‫املسلم أن تكو َن حياتُه كلها عباد ًة من‬ ‫ُيرص‬ ‫لذلك‬ ‫و‬ ‫‪،‬‬ ‫طُبِ َع اإلنسان على فعلها‬ ‫ُ‬ ‫ِلظة التكليف إىل املوت‪ ،‬امتثاالً لقول هللا تعاىل‪﴿ :‬قُل إِ َن صالَِيت ونُس ِ‬ ‫اي‬ ‫ي‬ ‫حم‬ ‫و‬ ‫ي‬ ‫ك‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ُ َ َ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫وْمَ​َ ِايت َِّللِ ر ِ‬ ‫ني ﴾ [األنعام‪.]162 :‬‬ ‫ب الْ َعالَم َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫املسلم لتقوى هللا‪ ،‬كما جاء يف االية اليت ذكرانها‪ْ ﴿ :‬اعبُ ُدوا‬ ‫وهذه العبادات كلها تُع ُّد َ‬ ‫َِ‬ ‫َِ‬ ‫ين ِم ْن قَ ْبلِ ُك ْم لَ َعلَ ُك ْم تَتَ ُقو َن ﴾ [البقرة‪.)3(]21 :‬‬ ‫َربَ ُك ُم الذي َخلَ َق ُك ْم َوالذ َ‬

‫‪ 2‬ـ تقوى هللا تعاىل‪:‬‬ ‫يعمل‬ ‫جيعل ُ‬ ‫العبد بينه وبني ربه وقايةً من غضبه وسخطه وعذابه‪ ،‬وهي أن َ‬ ‫وهي أن َ‬ ‫(‪ )1‬جمموع الفتاوى البن تيمية (‪.)150/10‬‬ ‫(‪ )2‬فقه النصر والتمكني يف القرآن الكرمي‪ ،‬للمؤلف ص (‪.)185‬‬ ‫(‪ )3‬كيف تتعامل مع القران الكرمي؟ ص (‪.)79‬‬

‫‪72‬‬


‫يرتك معصيةَ هللاِ على نوٍر من هللاِ‪،‬‬ ‫بطاعة هللا على نور من هللا‪ ،‬يرجو ثواب هللا‪ ،‬وأن َ‬ ‫عقاب هللا (‪.)1‬‬ ‫ُ‬ ‫ُياف َ‬

‫أساس تقوى هللا خشية هللا‪ ،‬وذلك من عمل القلب‪ ،‬ولذا أضافها القرآن إليه وقال‪:‬‬ ‫و ُ‬ ‫ِ‬ ‫اّللِ فَِإ َهنَا ِمن تَ ْقوى الْ ُقلُ ِ‬ ‫وب ﴾ [احلج‪.]32 :‬‬ ‫وم ْن يُ َع ِظ ْم َش َعائَِر َ‬ ‫﴿ َذل َ‬ ‫ك َ‬ ‫ْ َ‬ ‫وأيمر هللا تعاىل املؤمنني ابلتقوى قبل أوامره سبحانه‪ ،‬لتكون حافزاً له على امتثال ما‬ ‫َِ‬ ‫ين َآمنُوا اتَ ُقوا َ‬ ‫اّللَ َوابْتَ غُوا إِلَْي ِه الْ َو ِسيلَةَ‬ ‫أيمر به‪ ،‬كما يف قوله تعاىل‪َ​َ ﴿ :‬يأَيُّ َها الذ َ‬ ‫اه ُدوا ِيف سبِيلِ ِه لَعلَ ُكم تُ ْفلِحو َن ﴾ [املائدة‪ .]35 :‬وقال تعاىل‪َ﴿ :‬يأَيُّها الَ ِ‬ ‫وج ِ‬ ‫ين َآمنُوا‬ ‫ذ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ​َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫صلِ ْح لَ ُك ْم أ َْع َمالَ ُك ْم َويَ ْغ ِفْر لَ ُك ْم ذُنُوبَ ُك ْم َوَم ْن يُ ِط ْع‬ ‫اتَ ُقوا َ‬ ‫اّللَ َوقُولُوا قَ ْوالً َس ِد ً‬ ‫يدا ۝ يُ ْ‬ ‫َِ‬ ‫ِ‬ ‫ين‬ ‫َ‬ ‫اّللَ َوَر ُسولَهُ فَ َق ْد فَ َاز فَ ْوًزا َعظ ً‬ ‫يما ﴾ [األحزاب‪ 70 :‬ـ ‪ .]71‬وقال تعاىل‪َ​َ ﴿ :‬يأَيُّ َها الذ َ‬ ‫اّلل وُكونُوا مع ال َ ِ ِ‬ ‫ني ﴾ [التوبة‪ .]119 :‬وقال تعاىل‪﴿ :‬فَاتَ ُقوا َ‬ ‫صادق َ‬ ‫َ​َ‬ ‫اّللَ‬ ‫َآمنُوا اتَ ُقوا َ​َ َ‬ ‫ِ​ِ‬ ‫وأَصلِحوا َذات ب ينِ ُكم وأ ِ‬ ‫ني ﴾ [األنفال‪.]1 :‬‬ ‫َطيعُوا َ‬ ‫اّللَ َوَر ُسولَهُ إِ ْن ُكْن تُ ْم ُم ْؤمن َ‬ ‫َ ْ ُ‬ ‫َ َْ ْ َ‬

‫ويذكر هللا يف القرآن التقوى أحياانً قبل النواهي‪ ،‬لتكو َن دافعاً لالنتهاء عنها‪ ،‬كما يف‬ ‫قوله تعاىل‪َ﴿ :‬يأَيُّها الَ ِ‬ ‫ِ​ِ‬ ‫اّللَ َو َذ ُروا َما بَِقي ِم َن ِ‬ ‫ين َآمنُوا اتَ‬ ‫ني‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ق‬ ‫ذ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫الرَاب إِ ْن ُكْن تُ ْم ُم ْؤمن َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِ ٍ ِ‬ ‫اّللِ ورسولِ​ِه وإِ‬ ‫ِ‬ ‫ؤ‬ ‫ر‬ ‫م‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ف‬ ‫م‬ ‫ت‬ ‫ب‬ ‫ت‬ ‫ن‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫وس أ َْم َوالِ ُك ْم الَ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫۝ فَإ ْن َملْ تَ ْف َعلُوا فَأْ َذنُوا حبَْرب م َن َ َ َ ُ َ‬ ‫ْ ْ ُ ُ‬ ‫تَظْلِ ُمو َن َوالَ تُظْلَ ُمو َن ﴾ [البقرة‪ 278 :‬ـ ‪.]279‬‬ ‫يقص علينا القرآن أن الرسل مجيعاً دعوا أقوامهم إىل تقوى هللا‪ ،‬كما جند يف سورة‬ ‫بل ُّ‬ ‫الشعراء نوحاً [‪ ،]108‬وهوداً [‪ ،]126‬وصاِلاً [‪ ،]150‬ولوطاً [‪ ،]163‬وشعيباً‬ ‫[‪ ]179‬يقول كل منهم لقومه‪﴿ :‬فَاتَ ُقوا َ ِ‬ ‫َطيع ِ‬ ‫ون ﴾‬ ‫اّللَ َوأ ُ‬ ‫وهلذا جعل القرآن وصية هللا لألولني واآلخرين هي التقوى‪ ،‬كما قال تعاىل‪َ ﴿ :‬ولَ​َق ْد‬ ‫(‪ )1‬فقه النصر والتمكني‪ ،‬للمؤلف ص (‪.)204‬‬

‫‪73‬‬


‫و َ َِ‬ ‫ِ‬ ‫اّللَ﴾ [النساء‪.]131 :‬‬ ‫اب ِم ْن قَ ْبلِ ُك ْم َوإِ َ​َي ُك ْم أ َِن اتَ ُقوا َ‬ ‫ين أُوتُوا الْكتَ َ‬ ‫َ‬ ‫صْي نَا الذ َ‬

‫ومل يكتف القرآن من املؤمنني مبجرد التقوى‪ ،‬بل قال تعاىل‪َ﴿ :‬يأَيُّها الَ ِ‬ ‫ين َآمنُوا‬ ‫ذ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫اّللَ َح َق تُ َقاتِ​ِه َوالَ َ​َتُوتُ َن إِالَ َوأَنْتُ ْم ُم ْسلِ ُمو َن ﴾ [آل عمران‪ ،]102 :‬ومعناه‪ :‬بذل‬ ‫اتَ ُقوا َ‬ ‫اجلهد‪ ،‬واستفراغ الوسع يف تقواه عز وجل‪ ،‬يف حدود الطاقة واالستطاعة‪،‬‬

‫استَطَ ْعتُ ْم﴾ [التغابن‪ ،]16 :‬وليست‬ ‫كما ق ال تعاىل يف االية اآلخرى‪﴿ :‬فَاتَ ُقوا َ‬ ‫اّللَ َما ْ‬ ‫ب يف‬ ‫هذه االيةُ انسخةً لالية اآلخرى‪ ،‬بل مبينةً هلا‪ :‬أن تقوى هللا حق تقواه إمنا تُطْلَ ُ‬

‫إطار املقدور للمكلف‪ ،‬وال يكلف هللا نفساً إال وسعها‪.‬‬

‫والتقوى ال تعين العصمةَ من الذنوب‪ ،‬فاملتقون ليسوا مالئكةً أطهاراً‪ ،‬وال أنبياء‪ ،‬بل‬ ‫هم بشر يصيبون وُيطئون‪ ،‬ومزيتهم هي رهافةُ حسهم‪ ،‬ويقظةُ ضمائرهم‪ ،‬كما قال‬ ‫تعاىل‪﴿ :‬إِ َن الَ ِذين اتَ َقوا إِذَا م َسهم طَائِ‬ ‫ان تَ َذ َكروا فَِإذَا هم مب ِ‬ ‫ف ِمن الشَيطَ ِ‬ ‫صُرو َن ﴾‬ ‫ٌ‬ ‫ُ ْ ُْ‬ ‫ْ‬ ‫َ ْ َ ُْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫[األعراف‪.]201 :‬‬ ‫يثوب إىل رشده‪ ،‬ويتوب إىل ربه‪،‬‬ ‫فإذا زلت قد ُ أحدهم إىل املعصية‪ ،‬فسرعان ما ُ‬ ‫َِ‬ ‫ين إِ َذا فَ َعلُوا‬ ‫ويقرع اببَه مستغفراً‪ ،‬كما قال تعاىل يف وصف املتقني من عباده‪َ ﴿ :‬والذ َ‬ ‫اّلل فَاست ْغ َفروا لِ ُذنُوهبِ​ِم ومن ي ْغ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُّ‬ ‫اّللُ َوَْمل‬ ‫ن‬ ‫الذ‬ ‫ر‬ ‫ف‬ ‫وب إِالَ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ​َ ْ َ ُ‬ ‫فَاح َشةً أ َْو ظَلَ ُموا أَنْ ُف َس ُه ْم ذَ َكُروا َ​َ ْ َ ُ‬ ‫يِ‬ ‫صُّروا َعلَى َما فَ َعلُوا َوُه ْم يَ ْعلَ ُمو َن ﴾ [آل عمران‪.]135 :‬‬ ‫ُ‬ ‫ومن تدبر القرآن وجده قد ربط خريات الدنيا واآلخرة كلها ابلتقوى‪ ،‬فمن مثار‬ ‫التقوى العاجلة واالجلة‪:‬‬

‫ِّ‬ ‫كل ٍ‬ ‫ب العبد‪:‬‬ ‫‪‬‬ ‫ُ‬ ‫ضيق‪ ،‬والرزق من حيث ال ََْيتَس ُ‬ ‫املخرج من ِّ​ّ‬ ‫ِ‬ ‫ب﴾‬ ‫قال تعاىل‪َ ﴿ :‬وَم ْن يَت َِق َ‬ ‫اّللَ َْجي َع ْل لَهُ خمََْر ًجا ۝ َويَْرُزقْهُ ِم ْن َحْي ُ‬ ‫ث الَ َُْيتَس ُ‬ ‫[الطالق‪ 2 :‬ـ ‪.]3‬‬ ‫‪74‬‬


‫كل أمر‪:‬‬ ‫السهولة‬ ‫‪‬‬ ‫ُ‬ ‫واليسر يف ِّ​ّ‬ ‫اّللَ َْجي َع ْل لَهُ ِم ْن أ َْم ِرهِ يُ ْسًرا ﴾ [الطالق‪.]4 :‬‬ ‫قال تعاىل‪َ ﴿ :‬وَم ْن يَت َِق َ‬ ‫تيسري العلم النافع‪:‬‬ ‫‪‬‬ ‫اّلل بِ ُك ِل ش ٍ‬ ‫يء َعلِ ٌيم ﴾ [البقرة‪.]282 :‬‬ ‫اّللَ َويُ َعلِ ُم ُك ُم َ‬ ‫قال تعاىل‪َ ﴿ :‬واتَ ُقوا َ‬ ‫َ‬ ‫اّللُ َو َُ‬ ‫إطال ُق نور البصرية‪:‬‬ ‫‪‬‬ ‫اّللَ َْجي َع ْل لَ ُك ْم فُ ْرقَاانً﴾ [األنفال‪.]29 :‬‬ ‫قال تعاىل‪﴿ :‬إِ ْن تَتَ ُقوا َ‬ ‫حمبة هللا وحمبة مالئكته والقبول يف األرض‪:‬‬ ‫‪‬‬ ‫اّلل ُُِي ُّ ِ‬ ‫ِ ِ​ِ‬ ‫ِ‬ ‫ني ﴾ [آل عمران‪.]76 :‬‬ ‫ب الْ ُمتَق َ‬ ‫قال تعاىل‪﴿ :‬بَلَى َم ْن أ َْو َ​َف ب َع ْهده َواتَ َقى فَإ َن َ​َ‬ ‫أحببت‬ ‫أحب هللا العبد قال جلربيل‪ :‬قد‬ ‫وقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪« :‬إذا َ‬ ‫ُ‬ ‫أحب‬ ‫يل عليه السال ‪ ،‬مث ينادي يف أهل السماء‪ :‬إ َن هللا قد َ‬ ‫فالانً فأحبه‪ ،‬فيحبُّه جرب ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الرض»(‪.)1‬‬ ‫القبول يف‬ ‫مث‬ ‫‪،‬‬ ‫السماء‬ ‫أهل‬ ‫يوضع له ُ‬ ‫ُ‬ ‫فالانً فأحبوه‪ ،‬فيحبه ُ‬ ‫نصرة هللا عز وجل وأتييده وتسديده‪:‬‬ ‫‪‬‬ ‫ِ‬ ‫ني ﴾‬ ‫اّللَ َو ْاعلَ ُموا أَ َن َ‬ ‫وهي املعية املقصودة بقول هللا عز وجل‪َ ﴿ :‬واتَ ُقوا َ‬ ‫اّللَ َم َع الْ ُمتَق َ‬ ‫[البقرة‪.]194 :‬‬ ‫‪‬‬

‫كات من السماء واألرض‪:‬‬ ‫الرب ُ‬

‫‪‬‬

‫البشرى وهي الرؤاي الصاحلة وثناء اخللق وحمبتهم‪:‬‬

‫قال تعاىل‪﴿ :‬ولَو أَ َن أَهل الْ ُقرى آمنُوا واتَ َقوا لَ​َفتَحنَا علَي ِهم ب رَك ٍ‬ ‫ات ِم َن ال َس َم ِاء‬ ‫َْ‬ ‫ْ َ َ َ َ ْ ْ َ ْ ْ َ​َ‬ ‫َوال َْر ِ‬ ‫ض﴾ [األعراف‪.]96 :‬‬

‫(‪ )1‬مسلم رقم (‪.)2637‬‬

‫‪75‬‬


‫َِ‬ ‫اّللِ الَ َخو ٌ ِ‬ ‫ين َآمنُوا‬ ‫قال تعاىل‪﴿ :‬أَالَ إِ َن أ َْولِيَاءَ َ‬ ‫ْ‬ ‫ف َعلَْيه ْم َوالَ ُه ْم َُْيَزنُو َن ۝ الذ َ‬ ‫اِلَيَاةِ الدُّنْيَا َوِيف اآلخرةِ﴾‬ ‫َوَكانُوا يَتَ ُقو َن ۝ َوَكانُوا يَتَ ُقو َن ۝ َهلُ​ُم الْبُ ْشَرى ِيف ْ‬

‫[يونس‪ .]64-62:‬والبشرى يف اِلياة الدنيا هي ما بشر هللا به املؤمنني املتقني يف غري‬ ‫ٍ‬ ‫مكان يف كتابه‪ ،‬وعن النيب صلى هللا عليه وسلم‪« :‬الرؤَي الصاِلةُ من هللا»(‪ ،)1‬وعن‬

‫الرجل يَ ْع َم ُل هللِ وُيبُّه الناس‪،‬‬ ‫قلت لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪:‬‬ ‫أيب ذر قال‪ُ :‬‬ ‫ُ‬ ‫فقال‪« :‬تلك ِ‬ ‫عاج ُل بشرى املؤمن»(‪.)2‬‬ ‫‪‬‬

‫احلفظ من كيد األعداء ومكرهم‪:‬‬

‫ط﴾‬ ‫اّللَ ِمبَا يَ ْع َملُو َن ُِحمي ٌ‬ ‫ضُّرُك ْم َكْي ُد ُه ْم َشْي ئًا إِ َن َ‬ ‫صِربُوا َوتَتَ ُقوا الَ يَ ُ‬ ‫قال تعاىل‪َ ﴿ :‬وإِ ْن تَ ْ‬ ‫[آل عمران‪.]120 :‬‬

‫حفظ الذرية الضعاف بعناية هللا تعاىل‪:‬‬ ‫‪‬‬ ‫قال تعاىل‪﴿ :‬ولْيخ َ ِ‬ ‫ين لَ ْو تَ​َرُكوا ِم ْن َخ ْل ِف ِه ْم ذُ ِريَةً ِض َعافًا َخافُوا َعلَْي ِه ْم فَ ْليَ تَ ُقوا‬ ‫َ​َ ْ َ‬ ‫ش الذ َ‬ ‫يدا ﴾ [النساء‪ .]9 :‬ويف االية إشارةٌ إىل إرشاد املسلمني الذين‬ ‫َ‬ ‫اّللَ َولْيَ ُقولُوا قَ ْوالً َس ِد ً‬ ‫ٍ‬ ‫ظ أبناءَهم‪،‬‬ ‫ُيشون ترك ذرية‬ ‫ضعاف‪ ،‬إىل التقوى يف سائر شؤوهنم‪ ،‬حىت ُيف َ‬ ‫ويدخلوا حتت حفظ هللا وعنايته‪ ،‬وااليةُ تشعُِر ابلتهديد بضياع أوالدهم إن فقدوا‬ ‫تقوى هللا‪ ،‬وإشارة إىل أ َن تقوى الصول حتفظ الفروع‪ ،‬وأن الرجال الصاِلني‬ ‫ِ‬ ‫ني يَتِيم ْ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ني ِيف‬ ‫ُُْي َفظون يف ذريتهم الضعاف كما يف آية‪َ ﴿ :‬وأَ​َما ا ْجل َد ُار فَ َكا َن لغُالَ​َم ْ َ‬ ‫ومها ص ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫اِلًا﴾ [الكهف‪ .]82 :‬فإن الغالمني ُح ِفظا‬ ‫الْ َمدينَة َوَكا َن َْحتتَهُ َكْن ٌز َهلَُما َوَكا َن أَبُ َُ َ‬ ‫بربكة أبيهما يف أنفسهما وماهلما(‪.)3‬‬

‫(‪ )1‬البخاري‪ ،‬رقم ‪6986‬‬ ‫(‪ )2‬مسلم‪.)2642( ،‬‬ ‫(‪ )3‬فقه النصر والتمكني‪ ،‬للمؤلف ص (‪.)204‬‬

‫‪76‬‬


‫سبب لقبول األعمال اليت هبا سعادة العباد يف الدنيا واآلخرة‪:‬‬ ‫‪‬‬ ‫ِ‬ ‫قال تعاىل‪﴿ :‬إَِمنَا ي تَ َقبَل َ ِ‬ ‫ني ﴾ [املائدة‪.]27 :‬‬ ‫اّللُ م َن الْ ُمتَق َ‬ ‫َ ُ‬ ‫سبب النجاة من عذاب الدنيا‪:‬‬ ‫‪‬‬

‫قال هللا تعاىل‪﴿ :‬وأَ​َما َمثُود فَه َدي نَاهم فَاستَحبُّوا الْعمى علَى ا ْهل َدى فَأَخ َذ ِْتُم ص ِ‬ ‫اع َقةُ‬ ‫ُ َ ْ ُْ ْ َ َ​َ َ ُ‬ ‫َ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ين َآمنُوا َوَكانُوا يَتَ ُقو َن ﴾‬ ‫الْ َع َذاب ا ْهلُون مبَا َكانُوا يَ ْكسبُو َن ۝ َوجنَ​َْي نَا الذ َ‬ ‫[فصلت‪.]18-17 :‬‬

‫‪‬‬

‫تكفري السيئات‪ ،‬وهو سبب النجاة من النار‪ ،‬وعظم األجر هو سبب‬

‫الفوز ابجلنة‪:‬‬

‫قال تعاىل‪﴿ :‬ومن ي ت َِق َ ِ‬ ‫ِ​ِ ِ‬ ‫َجًرا ﴾ [الطالق‪.]5 :‬‬ ‫اّللَ يُ َكفْر َعْنهُ َسيِئَاته َويُ ْعظ ْم لَهُ أ ْ‬ ‫َ​َ ْ َ‬ ‫هم الورثة جلنة هللا‪:‬‬ ‫‪‬‬ ‫ث ِم ْن عِبَ ِاد َان َم ْن َكا َن تَِقيًّا ﴾ [مرمي‪.]63 :‬‬ ‫ك ْ‬ ‫اجلَنَةُ الَِيت نُوِر ُ‬ ‫قال تعاىل‪﴿ :‬تِْل َ‬ ‫يسريون إىل اجلنة ركباانً‪:‬‬ ‫‪‬‬

‫ب إليهم اجلنة حتيةً هلم‪ ،‬ودفعاً ملشقتهم‪ .‬قال تعاىل‪:‬‬ ‫مع أن هللا عز وجل يقر ُ‬ ‫ِ‬ ‫ٍِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ني إِ َىل‬ ‫ني َغ ْ َري بَعيد ﴾ [ق‪ .]31 :‬وقال تعاىل‪﴿ :‬يَ ْوَ َْحن ُشُر الْ ُمتَق َ‬ ‫﴿ َوأ ُْزل َفت ا ْجلَنَةُ ل ْل ُمتَق َ‬ ‫الَر ْ​ْح ِ‬ ‫ان َوفْ ًدا ﴾ [مرمي‪.]85 :‬‬ ‫َ‬

‫‪‬‬

‫ومشقة‪:‬‬

‫جتمع بني املتحابني من أهلها حني تنقلب كل صدقة وحمبة إىل عداوة‬ ‫ُ‬

‫ِ‬ ‫ٍِ‬ ‫ِ‬ ‫ض ُه ْم لِبَ ْع ٍ‬ ‫ني ﴾ [الزخرف‪.]67 :‬‬ ‫قال تعاىل‪﴿ :‬الَخالَءُ يَ ْوَمئذ بَ ْع ُ‬ ‫ض َع ُد ٌّو إِالَ الْ ُمتَق َ‬

‫ومن بركة التقوى أن هللا عز وجل ينزع ما قد يعلق بقلوهبم من الضغائن والغل‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫َات وعي ٍ‬ ‫ون‬ ‫فتزداد مودِتم وتتم حمبتهم وصحبتهم‪ .‬قال تعاىل‪﴿ :‬إِ َن الْ ُمتَق َ‬ ‫ني ِيف َجن َ ُ​ُ‬ ‫‪77‬‬


‫ِ​ِ‬ ‫ص ُدوِرِه ْم ِم ْن ِغ ٍل إِ ْخ َواانً َعلَى ُسُرٍر‬ ‫وها بِ َسالٍَ آمن َ‬ ‫۝ ْاد ُخلُ َ‬ ‫ني ۝ َونَ​َز ْعنَا َما ِيف ُ‬ ‫ِ‬ ‫ني﴾[احلجر‪ 45 :‬ـ ‪.)1(]47‬‬ ‫ُمتَ َقابِل َ‬ ‫أساليب شىت من المر هبا‪ ،‬وبيان ااثرها‪ ،‬والثناء على‬ ‫تتخ ُذ دعوة القرآن إىل التقوى‬ ‫َ‬ ‫أهلها‪ ،‬والرتغيب يف حماسنهم‪ ،‬وجتلية فضائلهم‪ ،‬والرتهيب من تركها‪ ،‬واإلعراض‬

‫يظهر الفرق بني املتقني والفجار‪ ،‬أو بني أهل الرب‬ ‫عنها‪ ،‬واالتصاف أبضدادها‪ ،‬حىت َ‬

‫والتقوى‪ ،‬وأهل اإلمث والعدوان(‪.)2‬‬ ‫رابعاً ـ إقامة العدل بني الناس‪:‬‬

‫العدل من السس والقيم اليت جاءت هبا مجيع الشرائع السماوية‪ ،‬فأنزل هللا به كتبه‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اب‬ ‫وأرسل به رسله‪ .‬قال تعاىل‪﴿ :‬لَ​َق ْد أ َْر َس ْلنَا ُر ُسلَنَا ِابلْبَ يِنَات َوأَنْ َزلْنَا َم َع ُه ُم الْكتَ َ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َاس ِابلْ ِق ْس ِط﴾ [احلديد‪ :]25 :‬أي‪ :‬العدل‪ ،‬فما من كتاب أنزل وال‬ ‫َوالْم َيزا َن ليَ ُقوَ الن ُ‬

‫المم بني طائع اخذ منه بنصيب‪،‬‬ ‫رسول أُرسل إال أمر أمته ابلعدل‪ ،‬وأوجبه عليها‪ ،‬و ُ‬ ‫ٍ‬ ‫مائل عن ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫الرسل ما تزال جتد ُد ما نسيته‬ ‫و‬ ‫هوى‪،‬‬ ‫أو‬ ‫جبهل‬ ‫القسط‬ ‫و‬ ‫العدل‬ ‫وحائد‬ ‫ُ‬ ‫الرساالت خبا ِمت النبياء حممد صلى‬ ‫الناس مبا نسوا إىل أن ختمت‬ ‫ُ‬ ‫الجيال‪ ،‬وتذكر َ‬ ‫هللا عليه وسلم‪.‬‬

‫النيب حممد صلى هللا عليه وسلم‬ ‫وملا كانت هذه الرسالةُ احملمدية خاَتةَ الرساالت‪ ،‬و ُّ‬ ‫خامت النبياء والرسل‪ ،‬وهذه المةُ اليت جعلها هللا شاهدةً على الناس وقيمة على‬ ‫البشرية‪ ،‬تبلغها دين هللا‪ ،‬وتشهد هلا ابإلميان أو عليها ابلكفر والعصيان هي خاَتة‬ ‫(‪ )1‬فقه النصر والتمكني ص (‪.)209‬‬ ‫(‪ )2‬كيف نتعامل مع القرآن العظيم؟ ص (‪.)82‬‬

‫‪78‬‬


‫ِ‬ ‫ك َج َع ْلنَا ُك ْم أَُمةً َو َسطًا لِتَ ُكونُوا ُش َه َداءَ َعلَى الن ِ‬ ‫َاس﴾‬ ‫المم قال تعاىل‪َ ﴿ :‬وَك َذل َ‬ ‫العدل من أهم ما جيب على هذه المة‪ ،‬بل هو من أعظم‬ ‫[البقرة‪ :]143 :‬فقد ك ان ُ‬

‫ِ‬ ‫إبجياب العدل على هذه المة‪،‬‬ ‫اِلق تبارك وتعاىل‬ ‫م ا مييزه ا عن المم‪ ،‬ومل يكتف ُّ‬ ‫بل أراد منها أن جتعلَه ُخلقاً من أخالقها‪ ،‬وصفةً من صفاِتا‪ ،‬وصبغةً تصطبغ هبا من‬

‫دون الناس‪ ،‬فأمرها أن تكو َن قائمةً ابلعدل‪ ،‬بل قوامةً به بني الناس‪ ،‬هلل عز وجل‪ ،‬ال‬ ‫لي ٍ‬ ‫شيء آخر‪ ،‬فال حتايب فيه قريباً لقرابته‪ ،‬وال تضار عدواً لعداوته‪ .‬قال تعاىل‪:‬‬

‫ِ‬ ‫ني َِّللِ ُش َه َداءَ ِابلْ ِق ْس ِط َوالَ َْجي ِرَمنَ ُك ْم َشنَآ ُن قَ ْوٍ َعلَى أَالَ تَ ْع ِدلُوا ْاع ِدلُوا‬ ‫﴿ ُكونُوا قَ َوام َ‬ ‫اّللَ َخبِريٌ ِمبَا تَ ْع َملُو َن ﴾[املائدة‪.]8 :‬‬ ‫اّللَ إِ َن َ‬ ‫ب لِلتَ ْق َوى َواتَ ُقوا َ‬ ‫ُه َو أَقْ َر ُ‬ ‫حق لكل الناس مجيع الناس‪ ،‬ال‬ ‫فالعدل الذي أمر ب ه هللا عز وجل يف القرآن الكرمي ٌّ‬

‫عدالً بني املسلمني فحسب‪ ،‬وال عدالً مع أهل الكتاب دون سائر الناس‪ ،‬وإمن ا هو‬ ‫ل كل إنسان بوصفه إنس ان‪ ،‬فهذه الصفة صفة ال ن اس هي اليت يرتتب عليه ا حق‬ ‫العدل يف املنهج الرب اين‪ ،‬وهذه الصف ة هي اليت يلتقي عليها البشر مجيعاً مؤمنني‬ ‫وكف اراً‪ ،‬أصدق اء وأعداءً‪ ،‬سوداً وبيضاً‪ ،‬عرابً وعجماً‪ ،‬والمة املسلمة قيم ة على‬ ‫اِلكم بني الناس ابلعدل مىت حكمت أمرهم(‪.)1‬‬ ‫فالعدل من مقاصد القرآن الكرمي‪ ،‬وقد أوجبه هللا على املؤمنني به‪ ،‬ولو كان مراغمةً‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ب‬ ‫لعواطف البغض والعداوة‪َ ﴿ ،‬والَ َْجي ِرَمنَ ُك ْم َشنَآ ُن قَ ْو َعلَى أَالَ تَ ْعدلُوا ْاعدلُوا ُه َو أَقْ َر ُ‬ ‫ِ‬ ‫اجب‪ ،‬ولو كان فيه مراغمة لكافة عواطف اِلب وا‪-‬ملودة‬ ‫للتَ ْق َوى﴾‪ ،‬وهو كذلك و ٌ‬ ‫َِ‬ ‫ِ‬ ‫ني ِابلْ ِق ْس ِط ُش َه َداءَ َِّللِ َولَْو َعلَى أَنْ ُف ِس ُك ْم أَ ِو‬ ‫ين َآمنُوا ُكونُوا قَ َوام َ‬ ‫والقرابة ﴿ َ​َيأَيُّ َها الذ َ‬ ‫ِ‬ ‫ني﴾ [النساء‪.]135 :‬‬ ‫الْ َوال َديْ ِن َوالَقْ َربِ َ‬ ‫(‪ )1‬انظر‪ :‬يف ظالل القرآن (‪.)414/2‬‬

‫‪79‬‬


‫والمة مأمورة أبن تقو ابلعدل والقسط والشهادة هلل‪ ،‬وليس لحد سواه‪ ،‬وأن يكون‬ ‫ذلك منهم بدافع التقوى واخلوف من هللا عز وجل؛ حىت يصبح اجلميع أما العدل‬ ‫سواء‪ ،‬من دون اعتبار لدوافع اِلب والوالء والقرابة‪ ،‬أو البغضاء والشنان والعداوة؛‬ ‫لهنا إمنا تقو ابلعدل والقسط بني الناس هلل وأبمر هللا‪ ،‬والعدل هبذه الصورة الشاملة‬ ‫مل تعرفه البشرية قط إال على يد هذه المة‪ ،‬ومل تنعم به البشرية قط إال حتت حكم‬ ‫المة املسلمة(‪.)1‬‬ ‫خامساً ـ الشورى‪:‬‬ ‫من مقاصد القرآن الكرمي‪ :‬حتقيق ْمارسة الشورى بني الناس‪.‬‬ ‫اّللِ َخ ْريٌ َوأَبْ َقى‬ ‫‪ 1‬قال تعاىل‪﴿ :‬فَ َما أُوتِيتُ ْم ِم ْن َش ْي ٍء فَ َمتَاعُ ْ‬ ‫اِلَيَاةِ الدُّنْيَا َوَما ِعْن َد َ‬ ‫لِلَ ِذين آمنوا وعلَى رهبِ​ِم ي ت وَكلُو َن ۝ والَ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ش َوإِذَا َما‬ ‫ذ‬ ‫ين َْجيتَنبُو َن َكبَائَر ا ِإل ِْمث َوالْ َف َواح َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ ُ َ َ َ ْ َ​َ َ‬ ‫َِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ورى بَْي نَ ُه ْم‬ ‫استَ َجابُوا لَِرهبِ​ِ ْم َوأَقَ ُاموا ال َ‬ ‫ين ْ‬ ‫صالَ​َة َوأ َْمُرُه ْم ُش َ‬ ‫َغضبُوا ُه ْم يَ ْغفُرو َن ۝ َوالذ َ‬ ‫ِ‬ ‫اه ْم يُْن ِف ُقو َن﴾[الشورى‪ 36 :‬ـ ‪.]38‬‬ ‫َوْمَا َرَزقْ نَ ُ‬

‫وهناك دالالت لطيفة لقيمة الشورى يف اإلسال ‪ ،‬يف ضوء تفسري هذه االية‪ ،‬فاالية‬ ‫وردت يف سورة ِ‬ ‫حتم ُل اسم الشورى‪ ،‬وهي سورة الشورى‪ ،‬وتسمية إحدى سور‬ ‫ِ‬ ‫يف لمر الشورى‪ ،‬وتنويه أبمهيتها‬ ‫القرآن الكرمي ابسم الشورى هو يف حد ذاته تشر ٌ‬ ‫ومنزلتها‪ ،‬وجاءت الشورى يف هذه االية وصفاً تقريرَيً‪ ،‬ضمن صفات أساسية‬ ‫جلماعة املؤمنني املسلمني‪ ،‬فهم بعد إمياهنم متوكلون على رهبم‪ ،‬جمتنبون لكبائر اإلمث‬ ‫والفواحش‪ ،‬مستجيبون لمر رهبم‪ ،‬مقيمون لصالِتم‪ ،‬وأمرهم شورى بينهم‪ ،‬ويزكون‬

‫(‪ )1‬الوسطية يف القرآن الكرمي‪ ،‬للمؤلف (‪.)94‬‬

‫‪80‬‬


‫أمواهلم‪ ،‬وينفقون منها يف سبيل هللا(‪.)1‬‬ ‫وهي اية مكية‪ْ ،‬ما يدل على أن الشورى يف اإلسال ْمارسةٌ اجتماعية قبل أن تكون‬ ‫تصف حال املسلمني يف ِ‬ ‫كل زمان ومكان‪ ،‬فهي‬ ‫من الحكا السلطانية‪ ،‬وهي‬ ‫ُ‬ ‫ليست طارئ ةً وال مرحليةً‪ ،‬ولقد جعل هللا سبحانه احرتا َ الشورى من أمثن خصال‬ ‫املؤمنني وصفاِتم‪.‬‬

‫وهي جتعل مجيع املسلمني فيما مل ينزل فيه وحي‪ ،‬شورى بينهم‪ ،‬فهي حق هلم مجيعاً‪،‬‬ ‫إال ما كان من شأن أهل العلم والتخصص‪ ،‬فإن املؤمنني ُيملهم إمياهنم أن يردوا ما‬ ‫ط الحكا من النصوص(‪.)2‬‬ ‫يعلم كيف يستنب ُ‬ ‫أشكل عليهم إىل َم ْن ُ‬

‫وقد انتبه عدد من العلماء إىل وقوع هذه االية الكرمية كصفة من ضمن صفات تعد‬

‫ورى بَْي نَ ُه ْم﴾‪ ،‬وهو ما يعين أهنا‬ ‫من املقومات والركان االساسية يف ﴿ َوأ َْمُرُه ْم ُش َ‬ ‫َِ‬ ‫استَ َجابُوا لَِرهبِ​ِ ْم َوأَقَ ُاموا‬ ‫ين ْ‬ ‫واحدةٌ من تلك الفرائض والركان‪ .‬قال تعاىل‪َ ﴿ :‬والذ َ‬ ‫ِ‬ ‫اه ْم يُْن ِف ُقو َن ﴾‪،‬‬ ‫ال َ‬ ‫ورى بَْي نَ ُه ْم َوْمَا َرَزقْ نَ ُ‬ ‫صالَةَ﴾ يدل على جاللة موقع ﴿ َوأ َْمُرُه ْم ُش َ‬

‫لذكره هلا مع اإلميان وإقامة الصالة‪ ،‬ويدل على أهنم مأمورون هبا‪.‬‬ ‫‪ 2‬وقال تعاىل‪﴿ :‬فَبِما ر ْ​ْح ٍة ِمن َِ ِ‬ ‫ظ الْ َق ْل ِ‬ ‫ضوا‬ ‫ب الَنْ َف ُّ‬ ‫ت فَظًّا َغلِي َ‬ ‫ت َهلُْم َولَ ْو ُكْن َ‬ ‫اّلل لْن َ‬ ‫َ َ​َ َ‬ ‫اّللِ‬ ‫ِمن حولِك فَاعف عْن هم و ِ‬ ‫ت فَتَ َوَك ْل َعلَى َ‬ ‫استَ ْغفْر َهلُْم َو َشا ِوْرُه ْم ِيف ال َْم ِر فَِإ َذا َعَزْم َ‬ ‫ْ َْ َ ْ ُ َ ُْ َ ْ‬ ‫ِ​ِ‬ ‫ني ﴾[ال عمران‪.]159 :‬‬ ‫إِ َن َ‬ ‫اّللَ ُُِي ُّ‬ ‫ب الْ ُمتَ َوكل َ‬ ‫وهذه االية جاءت خطاابً لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم بصفته داعياً وهادَيً‪،‬‬ ‫ومرشداً ومربياً‪ ،‬وأمرياً وقائداً‪ ،‬وهذا ما يقتضيه أن يكون رفيقاً ابلناس‪ ،‬متلطفاً معهم‪،‬‬ ‫(‪ )1‬الشورى يف معركة البناء‪ ،‬أْحد الريسوين ص (‪.)21‬‬ ‫(‪ )2‬الشورى مراجعات يف الفقه والسياسة‪ ،‬د أْحد اإلما ص (‪.)15‬‬

‫‪81‬‬


‫رحيماً هلم‪ ،‬عفواً عنهم‪ ،‬متساحماً معهم‪ ،‬بل مستغفراً هلم يف أخطائهم وذنوهبم‪،‬‬ ‫المر لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم من هللا‬ ‫ومستشرياً هلم‪ ،‬ومراعياً الرائهم‪ ،‬وهذا ُ‬

‫مبشاورة أصحابه ٌ‬ ‫أمر لكل من يقو مقامه من الدعاة والقادة والمراء‪ ،‬بل إ َن العلماءَ‬ ‫الحوج إىل هذا‬ ‫واملفسرين يعتربون أ َن هؤالء مأمورون من ابب أوىل وأحرى‪ ،‬فهم‬ ‫ُ‬ ‫المر‪ ،‬وبفارق كبري جداً عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬ومن هنا عُدت هذه‬ ‫االيةُ قاعد ًة كربى يف اِلكم واإلمارة‪ ،‬وعالقة اِلاكم ابحملكو ‪ ،‬فالشورى من قواعد‬ ‫الشريعة وعزائم الحكا ‪ ،‬ومن ال يستشري أهل العلم والدين وأهل التخصص يف‬ ‫فنون العلو فعزله واجب‪ ،‬وهذا ما ال خالف فيه(‪.)1‬‬ ‫إن الشورى مقصد من املقاصد اإلسالمية‪ ،‬وجزء من الشريعة اإلسالمية‪.‬‬ ‫سادساً ـ احلرية‪:‬‬ ‫إبطال عبودية البشر للبشر‪ ،‬وتعميم اِلرية لكل الن اس‪،‬‬ ‫من مقاصد القرآن الكرمي‪ُ :‬‬ ‫ِ‬ ‫ف للحرية‪ ،‬فذلك استقراؤهم من‬ ‫متشو ٌ‬ ‫ومن قواعد الفقه قول الفقه اء‪ :‬الشارعُ‬ ‫تصرف ات الشريعة؛ اليت دلت على أن من أهم مقاصدها إبطال العبودي ة وتعميم‬ ‫ِ‬ ‫وقف هبا‬ ‫دأب الشريعة يف رعي املصاحل املشرتكة‪ ،‬وحفظ النظا العا ‪َ ،‬‬ ‫اِلري ة‪ ،‬ولكن ُ‬ ‫عن إبطال العبودية بوجه عا ‪ ،‬وتعويضها ابِلرية‪ ،‬وإطالق العبيد من ربق ة العبودي ة‪،‬‬ ‫مقصدها‪ ،‬كان ذلك التوقف من‬ ‫وإبطال أسباب جتدد العبودية‪ ،‬مع أن ذلك ُيد‬ ‫َ‬

‫العبيد عمال يف‬ ‫قائم على نظا الرق‪ ،‬فكان ُ‬ ‫أجل أ َن نظا َ اجملتمعات يف كل قطر ٌ‬ ‫اِلقول‪ ،‬وخد يف املنازل والغروس‪ ،‬ورعاة لألنعا ‪ ،‬وكانت اإلماء حالئل لسادِتن‪،‬‬ ‫الرقيق لذلك من أكرب اجلماعات‬ ‫وخادم ات يف منازهلم‪ ،‬وحاضنات لبنائهم‪ ،‬فكان ُ‬ ‫(‪ )1‬انظر‪ :‬يف ظالل القران (‪.)414 /2‬‬

‫‪82‬‬


‫أقيم عليها النظا العائلي واالقتصادي واالجتماعي لدى المم حني طرقتهم‬ ‫اليت َ‬ ‫عقد‬ ‫دعوة اإلسال ‪ ،‬فلو جاء اإلسال بقلب ذلك النظا رأساً على عقب؛ النفرط ُ‬ ‫نظا املدينة انفراطاً تعسر معه عودة انتظامه‪ ،‬فهذا موجب إحجا الشريعة عن‬ ‫إبطال الرق املوجود‪ ،‬وأما إحجامها عن إبط ال جتدد سبب االسرتق اق الذي هو‬ ‫السر يف اِلروب‪ ،‬فألن المم اليت سبقت ظهور اإلسال قد َتتعت ابسرتقاق من‬ ‫وقع يف أسرها‪ ،‬وخضع إىل قوِتا‪ ،‬وكان من أكرب مقاصد سي اسة اإلسال إيق اف‬ ‫غلواء تلك المم‪ ،‬واالنتصاف للضعفاء من القوَيء‪ ،‬وذلك ببسط جناح سلطة‬ ‫اإلسال على العامل‪ ،‬وابنتشار اتباعه يف القطار‪ ،‬فلو أن المم اليت استقرت هلا‬ ‫قبل أمنت عواقب اِلروب اإلسالمية وأخطر تلك العواقب يف‬ ‫سيادة العامل من ُ‬ ‫السيب ملا ترددت المم من العرب وغريهم‬ ‫نفوس المم السائدة السر واالستعباد و ُ‬ ‫يف التصميم على رفض إجابة الدعوة اإلسالمية اتكاالً على الكثرة والقوة‪ ،‬وأمناً من‬

‫(‪)1‬‬ ‫وصمة السر واالستعباد ‪ ،‬كما قال صفوان بن أمية يف مثله‪ :‬لن تربُّين قر ٌ‬ ‫يش خريٌ‬ ‫من أن تربُّين هوازن‪.‬‬

‫وكما قال النابغة‪:‬‬ ‫ْت حرائرا‬ ‫وال نسويت حىت َميُْ َ‬

‫نال مقاديت‬ ‫حذاراً على أن ال تُ َ‬

‫(‪)2‬‬

‫فنظر اإلسال ُ إىل طر ٍيق بني مقصدي‪ :‬نشر اِلرية وحفظ نظا العامل‪ ،‬أبن سلَط‬ ‫عوامل اِلرية على عوامل العبودية مقاومة هلا لتقليلها‪ ،‬وعالجاً للباقي منها‪ ،‬وذلك‬ ‫(‪ )1‬مقاصد الشريعة اإلسالمية‪ ،‬الطاهر بن عاشور ص (‪.)393‬‬ ‫(‪ )2‬املصدر نفسه ص (‪.)392‬‬

‫‪83‬‬


‫إببطال أسباب كثرية من أسباب االسرتقاق‪ ،‬وقصره على سبب السر خاصة‪،‬‬ ‫بعض أبنائها‪،‬‬ ‫فأبطل االسرتقاق االختياري‪ ،‬وهو بيع املرء نفسه‪ ،‬أو بيع كبري العائلة َ‬

‫وقد كان ذلك شائعاً يف الشرائع‪ ،‬وأبطل االسرتقاق لجل اجلناية‪ ،‬أبن ُُْي َك َم على‬ ‫اجلاين ببقائه عبداً للمجين عليه‪ ،‬وقد حكى القرآن عن حالة مصر‪﴿ :‬قَالُوا َجَز ُاؤهُ‬ ‫من وِج َد ِيف رحلِ ِه فَهو جزاؤه﴾ [يوسف‪ .]75 :‬وقال‪َ ﴿ :‬ك َذلِ ِ ِ‬ ‫ف َما َكا َن‬ ‫َ‬ ‫وس َ‬ ‫َ ْ ُ َ َ​َ ُ​ُ‬ ‫ك ك ْد َان ليُ ُ‬ ‫َْ ُ‬ ‫لِيأْخ َذ أَخاه ِيف ِدي ِن الْملِ ِ‬ ‫ك﴾ [يوسف‪.]76 :‬‬ ‫َ ُ َُ‬ ‫َ‬ ‫االسرتقاق يف الدَين الذي كان شرعاً للرومان‪ ،‬وكان أيضاً من شريعة سولون‬ ‫وأبطل‬ ‫َ‬

‫االسرتقاق يف الفْت واِلروب الداخلية الواقعة بني‬ ‫قبل‪ ،‬وأبطل‬ ‫َ‬ ‫يف اليوانن من ُ‬ ‫املسلمني‪ ،‬وأبطل اسرتقاق السائبة‪ ،‬كما اسرتقت السيارةُ يوسف عليه السال إذ‬ ‫وجدوه‪.‬‬ ‫ترفع ضرر‬ ‫مث إن اإلسال التفت إىل عالج الرق املوجود‪ ،‬والذي سيوجد‪ ،‬بروافع ُ‬ ‫الرق‪ ،‬وذلك بتقليله عن طريق تكثري أسباب رفعه‪ ،‬وبتخفيف ااثر حالته‪ ،‬وذلك‬ ‫بتعديل تصرف املالكني يف عبيدهم الذي كان مالكه معنتاً(‪.)1‬‬ ‫ومن منافذ اِلرية لألرقاء اليت فتحها اإلسال ‪:‬‬ ‫‪ 1‬جعل اإلسال حترير الرقاء قربة إىل هللا‪َ ﴿ :‬وَما أ َْد َر َاك َما الْ َع َقبَةُ ﴾ [البلد‪.]12 :‬‬ ‫‪ 2‬كفارة ميني اِلانث‪ :‬إطعا عشرة مساكني‪ ،‬أو حترير رقبة‪.‬‬

‫‪ 3‬كفارة الظهار ملن أراد أن يرجع زوجته بدايته حترير رقبة‪ ،‬قال هللا تعاىل‪﴿ :‬والَ ِ‬ ‫ين‬ ‫ذ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ‬ ‫ِ ِ ِ ِ‬ ‫ودو َن لِ َما قَالُوا فَتَ ْح ِر ُير َرقَبَ ٍة ِم ْن قَ ْب ِل أَ ْن يَتَ َمآ َسا َذلِ ُك ْم‬ ‫يُظَاهُرو َن م ْن ن َسائ ِه ْم مثَُ يَعُ ُ‬ ‫اّللُ ِمبَا تَ ْع َملُو َن َخبِريٌ ﴾ [اجملادلة‪.]3 :‬‬ ‫وعظُو َن بِ​ِه َو َ‬ ‫تُ َ‬ ‫(‪ )1‬مقاصد الشريعة ص (‪.)393‬‬

‫‪84‬‬


‫‪ 4‬من أفطر يف هنار رمضان‪ :‬فعليه كفارة‪ ،‬منها حترير رقبة‪.‬‬ ‫‪ 5‬ملك اليمني إذا أجنبت من سيدها‪ ،‬تسمى «أ ولد»‪ ،‬فإذا مات سيدها قبلَها‬ ‫صارت حرًة‪.‬‬ ‫ْ‬

‫العبد مع سيده على مبل ٍغ من املال يدفعه‪ ،‬أو يقو بعمل‬ ‫‪ 6‬املكاتبة‪ :‬أن يتفق ُ‬ ‫َِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ضلِ ِه‬ ‫احا َح َىت يُ ْغنِيَ ُه ُم َ‬ ‫اّللُ ِم ْن فَ ْ‬ ‫ين الَ َجي ُدو َن ن َك ً‬ ‫يصريُ بعده حراً‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬الذ َ‬ ‫والَ ِذين ي ب ت غُو َن الْ ِكتاب ِْمَا ملَ َكت أَْميانُ ُكم فَ َكاتِبوهم إِ ْن علِمتم فِ‬ ‫ِ‬ ‫وه ْم ِم ْن‬ ‫ت‬ ‫آ‬ ‫و‬ ‫ا‬ ‫ري‬ ‫خ‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ي‬ ‫ُ‬ ‫َ َ َْ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ َ ْ َ ْ ُ ُ ْ َ ُْْ ْ َ ً َ ُ‬ ‫آَت ُك ْم﴾ [النور‪.]33 :‬‬ ‫َم ِال َ‬ ‫اّللِ الَ ِذي َ‬ ‫‪ 7‬العبد الذي ميلكه اثنان أو مجاعة‪ ،‬فإذا حَرَر واح ٌد منهم نصيبه‪ ،‬امتنع أن يباع‬ ‫العبد‪.‬‬

‫ات لِْل ُف َقَراء‬ ‫‪ 8‬حترير الرقاء مصرف من مصارف الزكاة‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬إَِمنَا ال َ‬ ‫ص َدقَ ُ‬ ‫والْمساكِ ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫الرقَ ِ‬ ‫وهبُْم َوِيف ِ‬ ‫ني َوِيف َسبِ ِيل اّللِ َوابْ ِن‬ ‫ني َعلَْي َها َوالْ ُم َؤلَ​َف ِة قُلُ ُ‬ ‫اب َوالْغَا ِرم َ‬ ‫ني َوالْ َعامل َ‬ ‫َ َ​َ‬ ‫يضةً ِم َن اّللِ َواّللُ َعلِ ٌيم َح ِك ٌيم﴾ [التوبة‪.]60 :‬‬ ‫ال َسبِ ِيل فَ ِر َ‬ ‫لقد انقرض الرق أما أبواب اِلرية اليت فتحها اإلسال ‪ ،‬ومل يكن اإلسال أول من‬ ‫أابح الرق‪ ،‬بل كان أول من حرر الرقاء أبسلوب منطقي‪ ،‬أبسلوب الرتغيب َترة‬ ‫وأبسلوب الرتهيب َترة أخرى عن طريق الكفارات‪ ،‬كما رأينا(‪.)1‬‬ ‫لقد قتل اإلسال مشاعر اإلحساس ابلعبودية‪ ،‬أبن ترفع عن نداء العبد بكلمة‬ ‫ٍ‬ ‫أبسلوب أرقى‪ ،‬وهو كلمة‪ :‬غالمي وجارييت‪ ،‬وفتاي وفتايت‪ ،‬قال صلى‬ ‫عبدي‪ ،‬وإمنا‬ ‫هللا عليه وسلم‪« :‬ال يقولن أح ُدكم عبدي وأميت‪ ،‬وليقل فتاي وفتايت‪ ،‬وال يقل‬

‫(‪ )1‬حقوق اإلنسان يف اإلسال ‪ ،‬د‪ .‬مبارك سيف اهلاجري وعبد املنعم حسني العمري ص (‪.)107‬‬

‫‪85‬‬


‫أحدكم‪ِ :‬ريب‪ ،‬وليقل سيدي»(‪.)1‬‬ ‫النيب صلى هللا عليه وسلم عن التشديد يف اخلدمة‪ ،‬ففي اِلديث‪« :‬ال‬ ‫وقد هنى ًّ‬ ‫يكلفه من العمل ما يغلبه‪ ،‬فإن كلفه فليعنه»‪ ،‬والمر بكفاية مؤنتهم وكسوِتم‪ ،‬ففي‬ ‫حديث أيب ذر رضي هللا عنه قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪« :‬عبيدكم‬ ‫َخ َولكم‪ ،‬إمنا هم إخوانكم‪ ،‬جعلهم هللا حتت أيديكم‪ ،‬فمن ُجعِ َل أخوه حتت يده‬ ‫فليطعمه ْما أيكل‪ ،‬وليلبسه ْما يلبس»(‪ )2‬وهنى عن ضرهبم الضرب اخلارج عن اِلد‬ ‫الالز ‪ ،‬فإذا مثل الرجل بعبده عتق عليه(‪.)3‬‬ ‫بث اِلرية‪،‬‬ ‫فمن استقراء هذه التصرفات وحنوها حصل لنا أب َن الشريعةَ قاصدةٌ َ‬ ‫والقضاءَ على العبودية للمخلوق‪.‬‬

‫ترك اخليار للناس كافة يف اختيار املعت َق ِد بعد تبني الرشد‬ ‫والقرآن الكرمي من مقاصده ُ‬ ‫من الغي‪ ،‬وترتك هلم كذلك حرية التفكري‪ ،‬وحرية التعبري‪ .‬وإليك الشرح‪:‬‬ ‫‪ 1‬ـ حرية االعتقاد‪:‬‬ ‫أسس اإلسال حرية االعتقاد إلبطال املعتقدات الضالة اليت أ ْكَرهَ دعاةُ الضاللة‬ ‫هدى‪ ،‬وال كتاب منري‪،‬‬ ‫أتباعهم ومريديهم على اعتقادها من دون فهم وال ً‬ ‫وابلدعاء إىل إقامة الرباهني على العقيدة اِلقة‪ ،‬مث ابلمر حبسن جمادلة املخالفني‬ ‫وردهم إىل اِلق ابلكلمة واملوعظة‪ ،‬وأحسن اجلدل‪ ،‬مث بنفي اإلكراه يف الدين(‪ ،)4‬قال‬ ‫ِ‬ ‫الر ْش ُد ِم َن الْغَ ِي﴾ [البقرة‪.]256 :‬‬ ‫ني ُّ‬ ‫تعاىل‪﴿ :‬الَ إِ ْكَراهَ ِيف الدي ِن قَ ْد تَبَ َ َ‬ ‫(‪ )1‬البخاري رقم (‪ )2552‬مسلم رقم (‪.)2249‬‬ ‫(‪ )2‬مقاصد الشريعة‪ ،‬حممد الطاهر بن عاشور ص (‪.)395‬‬ ‫(‪ )3‬املصدر نفسه ص (‪.)395‬‬ ‫(‪ )4‬مقاصد الشريعة ص (‪.)396‬‬

‫‪86‬‬


‫مجيع َم ْن على الرض من الناس يف دي ِن‬ ‫اخلالق جلت قدرتُه‬ ‫ولو أراد‬ ‫ُ‬ ‫لدخل ُ‬ ‫َ‬ ‫لكن له حكمةٌ يف إعطاء الناس اِلرية فيما ُيتارون وما يسلكون من‬ ‫اإلسال ‪ ،‬و ْ‬ ‫ِ‬ ‫ك آلَ​َم َن َم ْن ِيف ال َْر ِ‬ ‫طريق‪ ،‬حيث قال‪َ ﴿ :‬ولَ ْو َشاءَ َربُّ َ‬ ‫ض ُكلُّ ُه ْم َمج ًيعا أَفَأَنْ َ‬ ‫ت تُ ْك ِرهُ‬ ‫ِ​ِ‬ ‫ني ﴾ [يونس‪.]99 :‬‬ ‫َاس َح َىت يَ ُكونُوا ُم ْؤمن َ‬ ‫الن َ‬ ‫قادر على التمييز بني اِلق‬ ‫وال شك أ َن اإلنسان مبا وهبه هللا من عقل ومسع وبصر ٌ‬ ‫اختيار الطريق الصحيح‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬إِ َان َخلَ ْقنَا ا ِإلنْ َسا َن ِم ْن‬ ‫يستطيع‬ ‫والباطل‪ ،‬حىت‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫نُطْ َف ٍ‬ ‫اج نَب تَلِ ِيه فَجع ْلنَاه َِمسيعا ب ِ‬ ‫صريا ۝ إِ َان َه َديْنَاهُ ال َسبِ‬ ‫يل إِ َما َشاكًِرا َوإِ َما‬ ‫ش‬ ‫َم‬ ‫أ‬ ‫ة‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬

‫ورا﴾[اإلنسان‪ 2 :‬ـ ‪.]3‬‬ ‫َك ُف ً‬

‫وتتكرُر اآلَيت القرآنية يف أكثر من سورةٍ حول حر ِية االعتقاد‪ ،‬وعد إجبار َم ْن مل‬ ‫ِ‬ ‫ب هللا تبارك وتعاىل نبيَه حممداً صلى هللا عليه‬ ‫يقتنع ابإلسال على اعتناقه‪ ،‬فيخاط ُ‬ ‫اِلَ ُّق ِم ْن َربِ ُك ْم فَ َم ْن َشاءَ فَ ْليُ ْؤِم ْن َوَم ْن َشاءَ فَ ْليَ ْك ُفْر﴾‬ ‫وسلم قائالً‪َ ﴿ :‬وقُ ِل ْ‬ ‫اك َعلَْي ِه ْم َح ِفيظًا َوَما‬ ‫[الكهف‪ .]29 :‬وقال تعاىل‪َ ﴿ :‬ولَْو َشاءَ َ‬ ‫اّللُ َما أَ ْشَرُكوا َوَما َج َع ْلنَ َ‬ ‫ِ‬ ‫اك َعلَْي ِه ْم‬ ‫ضوا فَ َما أ َْر َس ْلنَ َ‬ ‫ت َعلَْي ِه ْم بَِوك ٍيل ﴾ [األنعام‪ .]107 :‬وقال تعاىل‪﴿ :‬فَِإ ْن أ َْعَر ُ‬ ‫أَنْ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ت ُم َذكٌِر‬ ‫َحفيظًا إِ ْن َعلَْي َ‬ ‫ك إِالَ الْبَالَغُ﴾ [الشورى‪ .]48 :‬وقال تعاىل‪﴿ :‬فَ َذكْر إَِمنَا أَنْ َ‬ ‫ِ‬ ‫ول فَ َق ْد‬ ‫صْي ِط ٍر ﴾ [الغاشية‪ 21 :‬ـ ‪ .]22‬وقال تعاىل‪َ ﴿ :‬م ْن يُ ِط ِع الَر ُس َ‬ ‫۝ لَ ْس َ‬ ‫ت َعلَْي ِه ْم مبُ َ‬ ‫اك َعلَْي ِه ْم َح ِفيظًا ﴾ [النساء‪.]80 :‬‬ ‫اع َ‬ ‫اّللَ َوَم ْن تَ َوَىل فَ َما أ َْر َس ْلنَ َ‬ ‫أَطَ َ‬ ‫والدين اإلسالمي اِلنيف ليس دين قم ٍع وإكراهٍ‬ ‫دين يس ٍر‪ ،‬يقو على مبدأ‬ ‫بل‬ ‫‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫وسائل اإلقناع‪ ،‬والتزا جادة العقل من خالل منهج اِلوار البنَاء‪ ،‬والتعبري اِلر‪،‬‬

‫واجلدال املوضوعي املنطقي يف النقاش‪ ،‬البعيد عن املهاترات وإاثرة الفْت‪ ،‬والشريعةُ‬ ‫أيمر رسوله‬ ‫اإلسالمية تشدد وتؤكد على قدسية هذا املنهج؛ لذا جند أن اخلالق ُ‬ ‫‪87‬‬


‫يدعو الناس إىل دين اإلسال ابِلكمة‪ ،‬وُياطبه‬ ‫حممداً صلى هللا عليه وسلم أبن َ‬ ‫ِ‬ ‫قائالً‪﴿ :‬ادع إِ َىل سبِ ِيل ربِك ِاب ِْلِ ْكم ِة والْمو ِعظَِة ْ ِ ِ‬ ‫َح َس ُن﴾‬ ‫ُْ َ َ َ‬ ‫اِلَ َسنَة َو َجاد ْهلُْم ِابلَِيت ه َي أ ْ‬ ‫َ َ َْ‬ ‫[النحل‪.]125 :‬‬ ‫ويف جمادلة أهل الكتاب يقول تعاىل خماطباً املؤمنني‪﴿ :‬والَ ُجتَ ِادلُوا أ َْهل الْ ِكتَ ِ‬ ‫اب إِالَ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِ َِ‬ ‫ِ‬ ‫ين ظَلَ ُموا ِمْن ُه ْم َوقُولُوا َآمنَا ِابلَ ِذي أُنْ ِزَل إِلَْي نَا َوأُنْ ِزَل إِلَْي ُك ْم‬ ‫ِابلَِيت ه َي أ ْ‬ ‫َح َس ُن إالَ الذ َ‬ ‫وإِ َهلنَا وإِ َهل ُكم و ِ‬ ‫اح ٌد َوَْحن ُن لَهُ ُم ْسلِ ُمو َن ﴾ [العنكبوت‪.)1(]46 :‬‬ ‫َ ُ َ ُ َْ‬ ‫‪ 2‬ـ حرية التعبري «األقوال»‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫منطقة اإلذن الشرعي‪ ،‬وقد أمر هللا ببعضها يف‬ ‫االعتقاد يف‬ ‫يح ابلرأي و‬ ‫فهي التصر ُ‬ ‫قوله تعاىل‪﴿ :‬ولْت ُكن ِمْن ُكم أُمةٌ ي ْدعو َن إِ َىل ا ْخل ِري وأيْمرو َن ِابلْمعر ِ‬ ‫وف َويَْن َه ْو َن َع ِن‬ ‫ْ َ َ ُ‬ ‫َ​َ ْ‬ ‫َ ُْ‬ ‫َْ َ َ ُ ُ‬ ‫ك ُه ُم الْ ُم ْفلِ ُحو َن ﴾ [آل عمران‪ .]104 :‬وقال تعاىل‪ُ ﴿ :‬كْن تُ ْم َخ ْ َري أ َُم ٍة‬ ‫الْ ُمْن َك ِر َوأُولَئِ َ‬ ‫أُخ ِرج ِ‬ ‫َاس َأتْمرو َن ِابلْمعر ِ‬ ‫وف َوتَْن َه ْو َن َع ِن الْ ُمْن َك ِر﴾ [آل عمران‪ .]110 :‬وقال‬ ‫ْ َ ْ‬ ‫َ ُْ‬ ‫ت للن ِ ُ ُ‬ ‫تعاىل‪﴿ :‬والْمؤِمنو َن والْمؤِمنات ب عضهم أَولِ‬ ‫ض أيْمرو َن ِابلْمعر ِ‬ ‫ٍ‬ ‫وف َويَْن َه ْو َن َع ِن‬ ‫ع‬ ‫ب‬ ‫اء‬ ‫ي‬ ‫َ ُْ‬ ‫ْ‬ ‫َ ُ ْ ُ َ ُ ْ َ ُ َ ْ ُ ُ ْ ْ َ ُ َ َ ُ​ُ‬ ‫الْمْن َك ِر﴾ [التوبة‪ .]71 :‬وقال تعاىل‪َ﴿ :‬يب ِ‬ ‫صالَةَ وأْمر ِابلْمعر ِ‬ ‫وف َوانْهَ َع ِن‬ ‫َ َُ​َ‬ ‫ين أَق ِم ال َ َ ُ ْ َ ُْ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫الْمْن َك ِر و ْ ِ‬ ‫ك ِم ْن َعْزِ ال ُ​ُموِر ﴾ [لقمان‪.]17 :‬‬ ‫ك إِ َن َذل َ‬ ‫َصابَ َ‬ ‫اص ْرب َعلَى َما أ َ‬ ‫ُ َ‬ ‫وقد جاء التوجيه القرآين الكرمي ابلتزا القول اِلسن‪ ،‬وترك ما عداه ْما ال فائدةَ منه‪،‬‬

‫أو ْما فيه مضرةٌ يف الدين‪ ،‬أو يف العالقات االجتماعية بني أفراد اجملتمع املسلم‪.‬‬ ‫وقد حدد القرآن الكرمي والسنة النبوية املطهرة ضوابط الكال وادابه حتديداً دقيقاً‬ ‫وواضحاً‪ ،‬جنمل شيئاً منه فيما يلي‪:‬‬

‫‪ 1‬الضوابط املتعلقة ابللفظ يف مثل قوله تعاىل‪َ﴿ :‬يأَيُّها الَ ِذين آمنُوا الَ تَ ُقولُوا ر ِ‬ ‫اعنَا‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫(‪ )1‬حقوق اإلنسان وحرَيته الساسية‪ ،‬د‪ .‬صاحل عبد هللا الراجحي ص (‪.)111‬‬

‫‪88‬‬


‫وقُولُوا انْظُرَان و ْ ِ ِ‬ ‫اب أَلِ ٌيم ﴾ [البقرة‪.]104 :‬‬ ‫ين َع َذ ٌ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ‬ ‫امسَعُوا َول ْل َكاف ِر َ‬

‫ِ‬ ‫ش‬ ‫‪ 2‬الضوابط املتعلقة ابملضمون يف مثل قوله سبحانه‪﴿ :‬قُ ْل إَِمنَا َحَرَ َرِيب الْ َف َواح َ‬ ‫َما ظَ َهَر ِمْن َها َوَما بَطَ َن َوا ِإل ْمثَ َوالْبَ ْغ َي بِغَ ِْري ْ‬ ‫اِلَِق َوأَ ْن تُ ْش ِرُكوا ِاب َّللِ َما َملْ يُنَ ِزْل بِ​ِه ُس ْلطَاانً‬ ‫اّللِ َما الَ تَ ْعلَ ُمو َن ﴾ [األعراف‪.]33 :‬‬ ‫َوأَ ْن تَ ُقولُوا َعلَى َ‬ ‫َِ‬ ‫ين‬ ‫‪ 3‬الضوابط املتعلقة ابهلدف والسلوب يف مثل قوله عز وجل‪َ​َ ﴿ :‬ي أَيُّ َها الذ َ‬ ‫يدا﴾ [األحزاب‪.]70 :‬‬ ‫َآمنُوا اتَ ُقوا َ‬ ‫اّللَ َوقُولُوا قَ ْوًال َس ِد ً‬ ‫‪ 4‬الضوابط املتعلق ة ب التوقف والتثبت من املصدر يف مثل قوله تعاىل‪َ ﴿ :‬وإِذَا َجاءَ ُه ْم‬ ‫ِ‬ ‫اخلو ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ف أَ َذاعُوا بِ​ِه ولَو رُّدوه إِ َىل الَرس ِ‬ ‫ول َوإِ َىل أ ِ‬ ‫ُويل ال َْم ِر مْن ُه ْم لَ َعل َمهُ‬ ‫َْ َ ُ‬ ‫ُ‬ ‫أ َْمٌر م َن ال َْم ِن أَ ِو َْْ‬ ‫َِ‬ ‫اّللِ َعلَْي ُك ْم َوَر ْ​ْحَتُهُ الَتَبَ ْعتُ ُم الشَْيطَا َن إِالَ قَلِيالً ﴾‬ ‫ض ُل َ‬ ‫ين يَ ْستَ ْنبِطُونَهُ ِمْن ُه ْم َولَ ْوالَ فَ ْ‬ ‫ال ذ َ‬ ‫ادر إىل المور قبل ُّ‬ ‫حتققه ا‪ ،‬فيخرب هبا‬ ‫[النساء‪ .]83 :‬واالي ة الخرية‪ :‬إنك ٌار على من يب ُ‬ ‫ويفشيها وينشرها‪ ،‬وقد ال تكو ُن هلا صحةٌ‪ ،‬وقد قال رسول هللا صلى هللا عليه‬

‫وسلم‪« :‬كفى ابملرء كذب اً أن ُيدث بكل م ا مسع»(‪ ،)1‬وعن املغرية بن شعبة أن‬ ‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪« :‬هنى عن قيل وقال»(‪ ،)2‬أي‪ :‬الذي يكثر من‬ ‫ِ‬ ‫اِلديث عما يقول الناس من غري تثبت‪ ،‬وال تدبر‪ ،‬وال تبني(‪.)3‬‬ ‫‪ 5‬كما حر هللا ورسوله صلى هللا عليه وسلم الكذب والغيبة والنميمة وشهادة الزور‬ ‫والسب والشتم والقذف يف أدلة ظاهرة معلومة من الكتاب‪ ،‬والسنة‪ ،‬وإمجاع‬ ‫المة(‪.)4‬‬ ‫(‪ )1‬مسلم رقم (‪.)7‬‬ ‫(‪ )2‬مسلم رقم (‪.)4485‬‬ ‫(‪ )3‬تفسري ابن كثري (‪ ،)529/1‬حرية التعبري‪ ،‬حممد بن حممد اخلرعان ص (‪.)45‬‬ ‫(‪ )4‬حرية التعبري‪ ،‬د‪ .‬حممد اخلزعان ص (‪.)46‬‬

‫‪89‬‬


‫‪ 3‬ـ حرية الفكر‪:‬‬

‫مل يرتك القرآن الكرمي أسلوابً نفسياً أو واقعياً إال واتبعه من أجل ِ‬ ‫حث اإلنسان على‬ ‫ُ‬ ‫التفكري‪ ،‬واستعمال عقله بصورةٍ و ٍ‬ ‫اضحة جلية‪ ،‬وإليك أخي القارئ الكرمي البيان‪:‬‬

‫أ طلب القرآن الكرميُ من الناس أن يستعملوا عقوهلم‪ ،‬ويفكروا‪ ،‬ولنستمع هلذه‬ ‫ِ ِ ٍ‬ ‫ِ ِ‬ ‫وموا َِّللِ َمثْ َىن َوفَُر َادى مثَُ‬ ‫اآلَيت يف اإلميان ورسوله‪﴿ :‬قُ ْل إَمنَا أَعظُ ُك ْم ب َواح َدة أَ ْن تَ ُق ُ‬ ‫تَتَ َف َكُروا﴾ [سبأ‪.]46 :‬‬

‫ويف تفسري طبيعة الرسالة وشخصية الرسول صلى هللا عليه وسلم يقول تعاىل‪﴿ :‬قُ ْل‬ ‫ول لَ ُكم ِعْن ِدي خزائِن َِ‬ ‫ك إِ ْن أَتَبِ ُع إِالَ‬ ‫ب َوالَ أَقُ ُ‬ ‫ول لَ ُك ْم إِ​ِين َملَ ٌ‬ ‫الَ أَقُ ُ ْ‬ ‫َ​َ ُ‬ ‫اّلل َوالَ أ َْعلَ ُم الْغَْي َ‬ ‫يل قُل هل يستَ ِوي ال َْعمى والْب ِ‬ ‫ما ي ِ‬ ‫صريُ أَفَالَ تَتَ َف َكُرو َن ﴾ [األنعام‪.]50 :‬‬ ‫َ َ​َ‬ ‫َ ُ َ‬ ‫وحى إ َ​َ ْ َ ْ َ ْ‬ ‫ويف لفت النظر إىل أسرار التشريعات املختلفة عبادية أو اجتماعية‪ ،‬يقول تعاىل‪:‬‬ ‫اخلَ ْم ِر َوالْ َمْي ِس ِر قُ ْل فِي ِه َما إِ ْمثٌ َكبِريٌ َوَمنَافِ ُع لِلن ِ‬ ‫َاس َوإِْمثُ​ُه َما أَ ْك َربُ ِم ْن‬ ‫ك َع ِن ْ‬ ‫﴿يَ ْسأَلُونَ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اّللُ لَ ُك ُم اآلَيت لَ َعلَ ُك ْم‬ ‫ني َ‬ ‫ك َماذَا يُْنف ُقو َن قُ ِل الْ َع ْف َو َك َذل َ‬ ‫نَ ْفعِ ِه َما َويَ ْسأَلُونَ َ‬ ‫ك يُبَِ ُ‬ ‫تَتَ َف َكُرو َن ﴾[البقرة‪.]219 :‬‬

‫ويف إشعار اإلنسان أبن هذا الكو َن كلَه خلِق الرتفاقه‪ ،‬وي ِ‬ ‫وعلوه وسفلُه‬ ‫ه‬ ‫بر‬ ‫ر‬ ‫س‬ ‫وحبره ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫ُ َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ َ‬ ‫له(‪ ،)1‬يقول تعاىل‪﴿ :‬وس َخر لَ ُكم ما ِيف ال َسماو ِ‬ ‫ض َِ‬ ‫ات َوَما ِيف ال َْر ِ‬ ‫مج ًيعا ِمْنهُ إِ َن ِيف‬ ‫َ​َ َ ْ َ‬ ‫َ​َ‬ ‫َذلِ‬ ‫ك آلَ​َي ٍ‬ ‫ت لَِق ْوٍ يَتَ َف َكُرو َن ﴾ [اجلاثية‪.]13 :‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ب طلب القرآن الكرمي من البشر أن يستعملوا عقوهلم فيما تراه عيوهنم ببساطة من‬

‫(‪)1‬‬

‫حقوق اإلنسان بني تعاليم اإلسال وإعالن المم املتحدة‪ ،‬حممد الغزايل ص (‪ ،)81-80‬حقوق اإلنسان‪ ،‬د‪ .‬هاين الطعيمات ص‬ ‫(‪.)154‬‬

‫‪90‬‬


‫ظواهر يومية‪ ،‬ويفكروا فيها‪ ،‬ويف سبب وكيفية وجودها‪ ،‬وذلك حىت يعرفوا أن هنالك‬ ‫سبباً‪ ،‬وهناك عالقة بني كل ما يتضمنه هذا الكون؛ الذي متَ ترتيبه إبحكا ودقة‪،‬‬ ‫ويف النظر يف السماوات وما حوته‪ ،‬ويف الرض وما عليها‪ ،‬يقول تعاىل‪﴿ :‬قُ ِل انْظُ​ُروا‬ ‫ما َذا ِيف ال َسماو ِ‬ ‫ات َوال َْر ِ‬ ‫ض﴾ [يونس‪.]101 :‬‬ ‫َ‬ ‫َ​َ‬ ‫ِ‬ ‫ض َوَما بَْي نَ ُه َما‬ ‫وقال تعاىل‪﴿ :‬أ َ​َوَملْ يَتَ َف َكُروا ِيف أَنْ ُف ِس ِه ْم َما َخلَ َق َ‬ ‫اّللُ ال َس َم َاوات َوال َْر َ‬

‫إِالَ ِاب ِْلَِق َوأَ َج ٍل ُم َسم ًى﴾ [الروم‪.]8 :‬‬

‫وقال تعاىل‪﴿ :‬أَفَالَ ي ْنظُرو َن إِ َىل ا ِإلبِ ِل َكيف خلِ َقت ۝ وإِ َىل ال َسم ِاء َكي ِ‬ ‫ت‬ ‫ف ُرف َع ْ‬ ‫ْ َ ُ ْ‬ ‫َ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬ ‫ِ‬ ‫اجلِب ِال َكي ِ‬ ‫ت ۝ َوإِ َىل ال َْر ِ‬ ‫ت ﴾[الغاشية‪ 17 :‬ـ ‪.]20‬‬ ‫ف ُسط َح ْ‬ ‫ف نُصبَ ْ‬ ‫ض َكْي َ‬ ‫۝ َوإِ َىل ْ َ ْ َ‬ ‫وخ ْل ِقه يقول تعاىل‪﴿ :‬فَ ْليَ ْنظُِر ا ِإلنْ َسا ُن ِم َم ُخلِ َق‬ ‫ويف النظر يف أصل نشأة اإلنسان َ‬ ‫۝ ُخلِ َق ِم ْن َم ٍاء َدافِ ٍق ۝ َُيْرج ِم ْن بَْ ِ‬ ‫الرتائِ ِ‬ ‫الصلْ ِ‬ ‫ب ﴾ [الطارق‪ 5 :‬ـ ‪ .]7‬وقال‬ ‫ني ُّ‬ ‫ب َو َ​َ‬ ‫ُ​ُ‬ ‫تعاىل‪﴿ :‬أَوَمل ي ر ا ِإلنْسا ُن أَ َان خلَ ْقنَاه ِمن نُطْ َف ٍة فَِإ َذا هو خ ِ‬ ‫ني ﴾ [يس‪.]77 :‬‬ ‫ص ٌيم ُمبِ ٌ‬ ‫َُ َ‬ ‫َ ُ ْ‬ ‫َ ْ َ​َ َ‬ ‫هاجم الذين يلغون عقوهلم‬ ‫العقل اإلنساينَ للتفكر‬ ‫َ‬ ‫ج وحىت ُيفز القرآن الكرمي َ‬ ‫وتفكريهم‪ ،‬ونعى عليهم هذه الطريقة يف اِلياة اليت جتعلُهم كالدواب‪ ،‬ذلك أ َن العقل‬

‫اإلنساين وملكة التفكري هي اليت َتي ُز اإلنسان من اِليوان‪ ،‬يقول تعاىل‪َ ﴿ :‬ولَ​َق ْد‬ ‫ِ‬ ‫ني الَي ب ِ‬ ‫َذ َرأْ َان ِجلَ َهن َ​َم َكثِ ًريا ِم َن ا ْجلِ ِن َوا ِإل ِ‬ ‫صُرو َن ِهبَا‬ ‫نس َهلُْم قُلُ ٌ‬ ‫وب الَ يَ ْف َق ُهو َن هبَا َوَهلُْم أ َْع ُ ٌ ُْ‬ ‫ك ُه ُم الْغَافِلُو َن ﴾‬ ‫َض ُّل أُولَئِ َ‬ ‫َوَهلُْم آذَا ٌن الَ يَ ْس َمعُو َن ِهبَا أُولَئِ َ‬ ‫ك َكالَنْ َعاِ بَ ْل ُه ْم أ َ‬ ‫[األعراف‪.]179 :‬‬

‫د نبه القرآن الكرمي إىل العوائق الواقعية اليت تعطل التفكري‪ ،‬وطلب إزالتها حىت ال‬ ‫تقف بوجه العقل اإلنساين‪ ،‬والتفكري الصحيح‪ ،‬فرفض التبعية الفكرية‪ ،‬واإلُياء‬ ‫َ‬ ‫الفكري املتوارث عائلياً واجتماعياً‪ ،‬فأكد بذلك شخصية كل فرد‪ ،‬واستقالليته‬ ‫‪91‬‬


‫ِ ِ‬ ‫اّللُ قَالُوا بَ ْل نَتَبِ ُع َما أَلْ َفْي نَا َعلَْي ِه‬ ‫يل َهلُ​ُم اتَبِعُوا َما أَنْ َزَل َ‬ ‫الفكرية‪ .‬قال تعاىل‪َ ﴿ :‬وإ َذا ق َ‬ ‫آاب ُؤُه ْم الَ يَ ْع ِقلُو َن َشْي ئًا َوالَ يَ ْهتَ ُدو َن ﴾ [البقرة‪ .]170 :‬وقال تعاىل‪:‬‬ ‫آابءَ َان أ َ​َولَْو َكا َن َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ك َما‬ ‫آابءَ َان َعلَى أَُم ٍة َوإِ َان َعلَى آ َاث ِره ْم ُم ْهتَ ُدو َن ۝ َوَك َذل َ‬ ‫﴿بَ ْل قَالُوا إ َان َو َج ْد َان َ‬ ‫ِ‬ ‫ال م ْرتفُ َ ِ‬ ‫ٍِ ِ ِ‬ ‫آابءَ َان َعلَى أَُم ٍة َوإِ َان‬ ‫أ َْر َس ْلنَا ِم ْن قَ ْبل َ‬ ‫وها إ َان َو َج ْد َان َ‬ ‫ك ِيف قَ ْريَة م ْن نَذي ٍر إالَ قَ َ ُ َ‬ ‫َعلَى آ َاث ِرِه ْم ُم ْقتَ ُدو َن ﴾ [الزخرف‪ 22 :‬ـ ‪.]23‬‬ ‫فاملرتفون عاد ًة ال يريدون التفكري يف السس االجتماعية واالقتصادية والعقائدية‪،‬‬ ‫يد حىت التفكري يف وضع‬ ‫لهنم طبقة مستفيدة من الوضع القائم‪ ،‬فهي ال تر ُ‬ ‫جديد(‪.)1‬‬ ‫كما نبه القرآن الكرمي إىل عائق اخر ذي أتثري عملي‪ ،‬أال وهو الطاعة العمياء بال‬ ‫فكر لصحاب اجلاه والسلطان‪ ،‬قال تعاىل‪َ ﴿ :‬وقَالُوا َربَنَا إِ َان أَطَ ْعنَا َس َادتَنَا َوُك َ​َرباءَ َان‬ ‫وان ال َسبِيالَ ﴾ [األحزاب‪.]67 :‬‬ ‫َضلُّ َ‬ ‫فَأ َ‬ ‫ه واستعمل القرآن الكرمي أسلوب املقارنة الفكرية بني الشيء وضده ِ‬ ‫ط العملية‬ ‫لينش َ‬

‫الفكرية‪ ،‬وليخلق ملكةَ املقار ِنة‪ ،‬ويطور املقدرة على التفكري بشكل صحيح(‪ ،)2‬قال‬ ‫ِ‬ ‫ُّور﴾‬ ‫تعاىل‪﴿ :‬قُ ْل َه ْل يَ ْستَ ِوي ال َْع َمى َوالْبَصريُ أَْ َه ْل تَ ْستَ ِوي الظُّلُ َم ُ‬ ‫ات َوالن ُ‬ ‫[الرعد‪.]16 :‬‬ ‫ٍ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ت‬ ‫ب َ‬ ‫ف َ‬ ‫َصلُ َها َاثبِ ٌ‬ ‫وقال تعاىل‪﴿ :‬أَ​َملْ تَ​َر َكْي َ‬ ‫اّللُ َمثَالً َكل َمةً طيِبَةً َك َش َجَرةٍ طَيِبَة أ ْ‬ ‫ضَر َ‬ ‫وفَرعُ َها ِيف ال َسم ِاء ۝ تُ ْؤِيت أُ ُكلَ َها ُك َل ِح ٍ‬ ‫ال لِلن ِ‬ ‫َاس‬ ‫اّللُ ال َْمثَ َ‬ ‫ب َ‬ ‫ني إبِ​ِ ْذ ِن َرِهبَا َويَ ْ‬ ‫ض ِر ُ‬ ‫َ‬ ‫َْ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ ٍ ٍ‬ ‫َت ِم ْن فَ ْو ِق ال َْر ِ‬ ‫ض َما َهلَا‬ ‫اجتُث ْ‬ ‫لَ َعلَ ُه ْم يَتَ َذ َكُرو َن ۝ َوَمثَ ُل َكل َمة َخبِيثَة َك َش َجَرةٍ َخبِيثَة ْ‬ ‫(‪ )1‬حقوق اإلنسان وحرَيته الساسية ص (‪.)155‬‬ ‫(‪ )2‬حقوق اإلنسان وحرَيته الساسية ص (‪.)155‬‬

‫‪92‬‬


‫ِم ْن قَ َرا ٍر﴾ [إبراهيم‪ 24 :‬ـ ‪.]26‬‬

‫و وأفرد القرآن الكرمي مكانةً خاصةً للذين يفكرون ويتعمقون يف التفكري‪ ،‬ويصبح‬

‫تفكريُهم علماً انفعاً لإلنسان يف هذه اِلياة‪ ،‬وميزهم‪ ،‬عن غريهم وما ذلك إال مرحلة‬

‫أخرى متقدمة من كيفية طلب التفكري وضرورته‪ ،‬واحرتا العقل اإلنساين‪ ،‬ودفعه حنو‬ ‫َِ‬ ‫أرقى مراحل العلم‪ ،‬قال سبحانه وتعاىل‪﴿ :‬ي رفَ ِع َ َ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ين أُوتُوا‬ ‫َْ‬ ‫ين َآمنُوا مْن ُك ْم َوالذ َ‬ ‫اّللُ الذ َ‬ ‫الْعِْلم درج ٍ‬ ‫ات﴾ [اجملادلة‪.]11 :‬‬ ‫َ َ​َ َ‬

‫املنهج القرآينُّ وضع حرية التفكري يف االجتاه السليم واملنطق الصحيح‪،‬‬ ‫وهبذا يكون‬ ‫ُ‬ ‫مجود وال تقليد‪ ،‬وإمنا هي دعوة لتكرمي العقل‬ ‫فليس فيها أوها وخرافات‪ ،‬وليس فيها ٌ‬ ‫اإلنساين‪ ،‬وحتريره من ربقة البالدة واخلمول‪ ،‬وتنبيهه إىل أداء مهمته يف البحث‬

‫والتفكري(‪.)1‬‬ ‫ولقد ظهرت حرية العلم والتعليم والتأليف والتفكري يف أمجل مظه ٍر يف القرون الثالث‬ ‫الوىل من َتريخ اإلسال ‪ ،‬إذ نشر العلماءُ فتاواهم ومذاهبهم وعلمهم‪ ،‬واحت َج كل‬

‫فريق لرأيه‪ ،‬ومل يكن ذلك موجباً للمناوأة وال للحزازات‪ ،‬وقد قال رسول هللا صلى هللا‬

‫عليه وسلم‪« :‬نضَر هللا امرأً مسع مقاليت فوعاها فأداها كما مسعها‪ ،‬فرب حامل فقه‬ ‫إىل ما هو أفقه منه‪ ،‬ورب حامل فقه إىل ما ليس بفقيه»(‪.)2‬‬ ‫وهذا هو املقا ُ الذي حتقق فيه مالك بن أنس حني قال له اخلليفة أبو جعفر‬ ‫أبعث إىل ِ‬ ‫كل‬ ‫املنصور‪ :‬إين‬ ‫عزمت أن أكتب من كتابك «يعين املوطأ» نسخاً‪ ،‬مث ُ‬ ‫ُ‬

‫مص ٍر من المصار نسخةً‪ ،‬وامرهم أن يعملوا مبا فيها‪ ،‬وال يتعدوها إىل غريها‪.‬‬ ‫(‪ )1‬حقوق اإلنسان وحرَيته الساسية ص (‪.)156‬‬ ‫(‪ )2‬مقاصد الشريعة‪ ،‬حممد الطاهر بن عاشور ص (‪.)397‬‬

‫‪93‬‬


‫أقاويل‪ ،‬ومسعوا‬ ‫الناس قد سبقت هلم‬ ‫فقال اإلما ‪ :‬ال تفعل َي أمري املؤمنني‪ ،‬فإ َن َ‬ ‫ُ‬ ‫كل قو مبا سبق إليهم من اختالف أصحاب رسول هللا صلى هللا‬ ‫أحاديث‪ ،‬وأخذ ُّ‬ ‫الناس وما هم عليه(‪.)1‬‬ ‫عليه وسلم وغريهم وأن ردهم عن ذلك شديد‪ ،‬فدع َ‬ ‫‪ 4‬ـ حرية التنقل‪:‬‬

‫ِ‬ ‫لكل ٍ‬ ‫كفل اإلسال حريةَ التنقل ِ‬ ‫حدود‬ ‫داخل‬ ‫ذلك‬ ‫كان‬ ‫اء‬ ‫و‬ ‫س‬ ‫‪،‬‬ ‫يد‬ ‫ر‬ ‫ي‬ ‫حسبما‬ ‫فرد‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫إمجال صور التنقل فيما يلي‪:‬‬ ‫الدولة اإلسالمية أ خارجها‪ ،‬وميكن ُ‬ ‫أ ـ التنقل لتحقيق نفع ديين ودنيوي‪:‬‬

‫وذلك مثل التنقل طلباً للرزق ابلطرق املشروعة‪ ،‬من جتارةٍ وغريها‪ ،‬قال هللا تعاىل‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ور﴾‬ ‫ض َذلُوالً فَ ْام ُشوا ِيف َمنَاكِبِ َها َوُكلُوا ِم ْن ِرْزق ِه َوإِلَْي ِه الن ُ‬ ‫﴿ ُه َو الَذي َج َع َل لَ ُك ُم ال َْر َ‬ ‫ُّش ُ‬ ‫[امللك‪.]15 :‬‬ ‫ومثل التنقل طلباً للعلم‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬فَلَ ْوالَ نَ َفَر ِم ْن ُك ِل فِْرقٍَة ِمْن ُه ْم طَائَِفةٌ لِيَ تَ َف َق ُهوا‬ ‫ِيف ِ‬ ‫الدي ِن َولِيُ ْن ِذ ُروا قَ ْوَم ُه ْم إِ َذا َر َجعُوا إِلَْي ِه ْم لَ َعلَ ُه ْم َُْي َذ ُرو َن ﴾ [التوبة‪.]122 :‬‬

‫ومثل السفر بقصد زَيرة الرحا واإلخوان يف هللا‪ ،‬وبقصد زَيرة البقاع الشريفة‬

‫كمكة واملدينة‪ ،‬ومثل السفر بقصد الرتويح عن النفس على الوجه املشروع‪،‬‬ ‫القلب على املشاهدة اجلديدة اليت مل أتلفها‬ ‫فالسي اح ةُ مباحة‪ ،‬لهنا تفتح َ‬ ‫العني و َ‬ ‫القلب‪ ،‬بل قد تكون السياحةُ مندوابً إليها‪ ،‬إذا كانت على سبيل‬ ‫ُ‬ ‫العني‪ ،‬وال ميلَها ُ‬ ‫التدبر واالعتبار‪ ،‬ومعرفة سنن هللا تعاىل يف المم السالفة‪ ،‬ق ال هللا تعاىل‪﴿ :‬قُ ْل ِسريُوا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِيف ال َْر ِ‬ ‫ني ﴾ [األنعام‪.]11 :‬‬ ‫ض مثَُ انْظُ​ُروا َكْي َ‬ ‫ف َكا َن َعاقبَةُ الْ ُم َكذبِ َ‬ ‫ب ـ التنقل ألداء واجب ديين‪:‬‬

‫(‪ )1‬املصدر نفسه ص (‪.)397‬‬

‫‪94‬‬


‫كالسفر لداء فريضة اِلج‪ ،‬أو اجلهاد يف سبيل هللا‪ ،‬قال تعاىل‪َ ﴿ :‬وأ َِذ ْن ِيف الن ِ‬ ‫َاس‬ ‫وك ِرجاالً وعلَى ُك ِل ِ ِ‬ ‫ني ِم ْن ُك ِل فَ ٍج َع ِم ٍيق ﴾ [احلج‪ .]27 :‬وقال‬ ‫َ‬ ‫ِاب ِْلَ ِج َأيْتُ َ َ َ َ‬ ‫ضام ٍر َأيْت َ‬ ‫اه ُدوا ِأبَموالِ ُكم وأَنْ ُف ِس ُكم ِيف سبِ ِيل َِ ِ‬ ‫تعاىل‪﴿ :‬انِْفروا ِخ َفافًا وثَِقاالً وج ِ‬ ‫َ​َ‬ ‫ْ َ‬ ‫اّلل َذل ُك ْم َخ ْريٌ‬ ‫َْ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫لَ ُك ْم إِ ْن ُكْن تُ ْم تَ ْعلَ ُمو َن ﴾ [التوبة‪.]41 :‬‬ ‫وهذا خطاب للمؤمنني‪ ،‬وعقب ذلك أنزل هللا تعاىل يف شأن املنافقني قوله تعاىل‪:‬‬ ‫اص ًدا الَتَب ع َ ِ‬ ‫ضا قَ ِريبا وس َفرا قَ ِ‬ ‫الش َقةُ َو َسيَ ْحلِ ُفو َن‬ ‫ت َعلَْي ِه ُم ُّ‬ ‫وك َولَك ْن بَعُ َد ْ‬ ‫َُ‬ ‫﴿لَ ْو َكا َن َعَر ً ً َ َ ً‬ ‫ِ‬ ‫اّللُ يَ ْعلَ ُم إِ َهنُْم لَ َك ِاذبُو َن ﴾‬ ‫استَطَ ْعنَا َخلَ​َر ْجنَا َم َع ُك ْم يُ ْهلِ ُكو َن أَنْ ُف َس ُه ْم َو َ‬ ‫ِاب َّلل لَ ِو ْ‬

‫[التوبة‪ ،]42 :‬أي‪ :‬لو كان ما دعوِتم إليه من اخلروج يف سبيل هللا سفراً وسطاً‪ ،‬ومتاعاً‬

‫من الدنيا َس ْه َل املأخذ‪ ،‬التبعوك‪ ،‬وخرجوا معك طلباً للغنيمة(‪.)1‬‬ ‫جـ اهلجرة حفاظاً على سالمة العقيدة‪:‬‬

‫ض للذل أو املهانة‪ ،‬أو خاف أن يفْت يف‬ ‫أوجب اإلسال اهلجرة على كل مسلم تعر َ‬ ‫دينه‪ ،‬ووصف الذين يتقاعسون عن اهلجرة‪ ،‬مع استطاعتهم هلا؛ أبهنم من الظاملني‬

‫لنفسهم‪ ،‬ومل يستثن من ذلك إال الفئة العاجزة فعالً عن اهلجرة من كبار السن‬ ‫ِ َِ‬ ‫اه ُم الْ َمالَئِ َكةُ ظَالِ ِمي أَنْ ُف ِس ِه ْم‬ ‫ين تَ َوفَ ُ‬ ‫والنساء والولدان‪ ،‬وقد قال عز وجل‪﴿ :‬إ َن الذ َ‬ ‫قَالُوا فِيم ُكْن تم قَالُوا ُكنَا مست ْ ِ‬ ‫ني ِيف ال َْر ِ‬ ‫ض َ‬ ‫اّللِ َو ِاس َعةً‬ ‫ُ َْ‬ ‫ض َعف َ‬ ‫ض قَالُوا أَ​َملْ تَ ُك ْن أ َْر ُ‬ ‫َ ُْ‬ ‫صريا ۝ إِالَ الْمست ْ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ك مأْواهم جهنَم وساء ْ ِ‬ ‫ني ِم َن‬ ‫ُ َْ‬ ‫ض َعف َ‬ ‫ت َم ً‬ ‫فَتُ َهاجُروا ف َيها فَأُولَئ َ َ َ ُ ْ َ َ ُ َ َ َ‬ ‫الرج ِال والنِس ِاء والْ ِولْ َد ِان الَ يستَ ِطيعو َن ِ‬ ‫سبِيالً ﴾ [النساء‪ 97 :‬ـ‬ ‫ن‬ ‫و‬ ‫د‬ ‫ت‬ ‫ه‬ ‫ي‬ ‫ال‬ ‫و‬ ‫ة‬ ‫ل‬ ‫ي‬ ‫ح‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َْ ُ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َِ َ َ َ‬

‫‪.)2(]98‬‬

‫(‪ )1‬حقوق اإلنسان وحرَيته الساسية ص(‪.)140‬‬ ‫(‪ )2‬حقوق اإلنسان وحرَيته الساسية ص (‪.)140‬‬

‫‪95‬‬


‫إ َن اإلسال اعتىن ابِلرية أبنواعها‪ ،‬وقدرها حق قدرها‪ ،‬سواء حرية االعتقاد‪ ،‬أو‬ ‫حرية التعبري‪ ،‬أو حرية الفكر‪ ،‬أو حرية التنقل‪ ،‬وجعل اِلرية مقصداً من مقاصده‪.‬‬ ‫سابعاً ـ رفع احلرج‪:‬‬ ‫إن من مقاصد القرآن الكرمي رفع اِلرج عن املكلفني‪ ،‬ووردت آَيت كثرية جداً تبني‬ ‫أن هذا الدين دين يسر‪ ،‬وأن هللا قد رفع اِلرج عن هذه المة فيما يشق عليها‪،‬‬ ‫حيث مل يكلفها إال وسعها‪ ،‬وسأبني أدلةَ التيس ِري‪ ،‬مث أدلة رفع اِلرج‪ ،‬مث أدلة عد‬ ‫التكليف بغري الوسع والطاقة‪.‬‬ ‫‪ 1‬ـ أدلة التيسري والتخفيف‪:‬‬ ‫يد بِ ُك ُم الْعُ ْسَر﴾‬ ‫يد َ‬ ‫اّللُ بِ ُك ُم الْيُ ْسَر َوالَ يُِر ُ‬ ‫قال تعاىل‪﴿ :‬يُِر ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ضعِي ًفا ﴾ [النساء‪ .]28 :‬وقال‬ ‫يد َ‬ ‫سبحانه‪﴿ :‬يُِر ُ‬ ‫ف َعْن ُك ْم َو ُخل َق ا ِإلنْ َسا ُن َ‬ ‫اّللُ أَ ْن ُ​ُيَف َ‬ ‫عز وجل‪َ ﴿ :‬ونُيَ ِسُرَك لِلْيُ ْسَرى ﴾ [األعلى‪ .]8 :‬وقال تعاىل‪﴿ :‬فَِإ َن َم َع الْعُ ْس ِر يُ ْسًرا‬ ‫اّللَ َْجي َع ْل لَهُ ِم ْن‬ ‫۝ إِ َن َم َع الْعُ ْس ِر يُ ْسًرا ﴾ [الشرح‪ 5 :‬ـ ‪ .]6‬وقال تعاىل‪َ ﴿ :‬وَم ْن يَت َِق َ‬ ‫اّللُ بَ ْع َد عُ ْس ٍر يُ ْسًرا ﴾ [الطالق‪.]7 :‬‬ ‫أ َْم ِرهِ يُ ْسًرا ﴾ [الطالق‪ .]4 :‬وقال تعاىل‪َ ﴿ :‬سيَ ْج َع ُل َ‬ ‫[البقرة‪:‬‬

‫‪ .]185‬وقال‬

‫هذه بعض اآلَيت اليت تفيد التيسري على هذه المة‪ ،‬وقد ذكر املفسرون يف تفسريهم‬ ‫هذه اآلَيت؛ أن هللا أراد هلذه المة اليسر‪ ،‬ومل يرد هلا العسر(‪.)1‬‬

‫‪ 2‬ـ أدلة رفع احلرج‪:‬‬

‫من أقوى الدلة على رفع اِلرج قوله تعاىل‪﴿ :‬وما جعل علَي ُكم ِيف ِ‬ ‫الدي ِن ِم ْن َحَرٍج﴾‬ ‫َ​َ َ َ َ َ ْ ْ‬

‫[احلج‪ ،]78 :‬أي‪ :‬ما كلفكم ما ال تطيقون‪ ،‬وما ألزمكم بشيء يشق عليكم إال جعل‬

‫(‪ )1‬تفسري الطربي (‪ ،)156/2‬تفسري ابن كثري (‪.)217/1‬‬

‫‪96‬‬


‫(‪)1‬‬ ‫اّللُ لِيَ ْج َع َل َعلَْي ُك ْم ِم ْن َحَرٍج َولَ ِك ْن‬ ‫يد َ‬ ‫هللا لكم فرجاً وخمرجاً ‪ .‬وقال سبحانه‪َ ﴿ :‬ما يُِر ُ‬ ‫يد لِيُطَ ِهَرُك ْم َولِيُتِ َم نِ ْع َمتَهُ َعلَْي ُك ْم لَ َعلَ ُك ْم تَ ْش ُكُرو َن ﴾ [املائدة‪ .]6 :‬وقال سبحانه‪:‬‬ ‫يُِر ُ‬ ‫﴿لَيس علَى الض ِ‬ ‫َِ‬ ‫ين الَ َِجي ُدو َن َما يُْن ِف ُقو َن َحَر ٌج إِ َذا‬ ‫ُّع َفاء َوالَ َعلَى الْ َمْر َ‬ ‫ْ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ضى َوالَ َعلَى الذ َ‬ ‫ص ُحوا َِّللِ َوَر ُسولِ​ِه﴾ [التوبة‪.]91 :‬‬ ‫نَ َ‬ ‫ِ‬ ‫وقال تعاىل‪﴿ :‬ما َكا َن علَى النِ ِ ِ‬ ‫اّللُ لَهُ﴾ [األحزاب‪ .]38 :‬وقال‬ ‫ض َ‬ ‫َ‬ ‫يما فَ َر َ‬ ‫َ‬ ‫َيب م ْن َحَرٍج ف َ‬

‫ج َوالَ َعلَى الْ َم ِر ِ‬ ‫ج﴾‬ ‫يض َحَر ٌ‬ ‫س َعلَى ال َْع َمى َحَر ٌج َوالَ َعلَى ال َْعَرِج َحَر ٌ‬ ‫تعاىل‪﴿ :‬لَْي َ‬ ‫[النور‪.]61 :‬‬

‫ويف هذه اآلَيت داللةٌ ظاهرةٌ على رفع اِلرج عن هذه المة‪ ،‬وأ َن هللا مل جيعل يف‬ ‫جند‬ ‫التشريع حرجاً‪ ،‬وبعض هذه اآلَيت وإن كانت خاصةً يف أحكا معينة‪ ،‬ولكننا ُ‬ ‫ورفع اِلرج يف هذه الحكا والفروض إبعادة الشيء‬ ‫التعليل عاماً‪ ،‬فكأ َن‬ ‫َ‬ ‫التخفيف َ‬

‫إىل أصله‪ ،‬وهو رفع اِلرج عن هذه المة‪ ،‬فكل شيء يؤدي إىل اِلرج لسبب خاص‬

‫أو عا فهو معفو عنه‪ ،‬رجوعاً إىل الصل والقاعدة(‪.)2‬‬ ‫‪ 3‬ـ أدلة عدم التكليف مبا يضاد الوسع والطاقة‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫اّللُ نَ ْف ًسا إِالَ ُو ْس َع َها﴾ [البقرة‪.]286 :‬‬ ‫ف َ‬ ‫قال سبحانه‪﴿ :‬الَ يُ َكل ُ‬ ‫وقال هللا تعاىل كما يف اِلديث الصحيح‪« :‬قد فعلت»(‪.)3‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫صًرا‬ ‫وكذلك قوله تعاىل‪َ ﴿ :‬ربَنَا الَ تُ َؤاخ ْذ َان إِ ْن نَسْي نَا أ َْو أ ْ‬ ‫َخطَأْ َان َربَنَا َوالَ َْحتم ْل َعلَْي نَا إِ ْ‬ ‫َكما َْح ْلته علَى الَ ِ‬ ‫ين ِم ْن قَ ْبلِنَا﴾ [البقرة‪.]286 :‬‬ ‫ذ‬ ‫َ َ َُ َ‬ ‫َ‬ ‫يضيق عليه‪ ،‬وال ُيرج فيه‪ ،‬قال تعاىل‪:‬‬ ‫يعجز عنه‪ ،‬وال ُ‬ ‫يسع اإلنسا َن فال ُ‬ ‫والوسع‪ :‬ما ُ‬

‫(‪ )1‬تفسري الطربي (‪.)207/17‬‬ ‫(‪ )2‬الوسطية يف ضوء القرآن‪ ،‬د انصر العمر ص (‪.)106‬‬ ‫(‪ )3‬مسلم رقم (‪.)126‬‬

‫‪97‬‬


‫ِ‬ ‫اّللُ نَ ْف ًسا إِالَ ُو ْس َع َها﴾ ُيملها إال ما تسعه وتطيقه وال تعجز عنه‪،‬‬ ‫ف َ‬ ‫أي‪﴿ :‬الَ يُ َكل ُ‬

‫أو ُيرجها دون مدى غاية الطاقة‪ ،‬فال يكلفها مبا يتوقف حصوله على َتا صرف‬ ‫تقع يف هذه اِلدود‪ ،‬ففي طاقة اإلنسان وقدرته‬ ‫القدرة‪ ،‬فإن عامة أحكا اإلسال ُ‬ ‫اإلتيان أبكثر من مخس صلوات‪ ،‬وصيا أكثر من شهر‪ ،‬ولك َن هللا جلت قدرتُه‪،‬‬ ‫اليسر‪ ،‬ومل يرد هبا العُ ْسَر(‪.)1‬‬ ‫ووسعت رْحتُه‪ ،‬أراد هبذه المة َ‬

‫َِ‬ ‫ين َآمنُوا‬ ‫ومن الدلة على أ َن التكليف حبدود الوسع والطاقة قوله تعاىل‪َ ﴿ :‬والذ َ‬ ‫ِ‬ ‫وع ِملُوا ال َ ِ ِ‬ ‫اجلَن َِة ُه ْم فِ َيها‬ ‫اب ْ‬ ‫ف نَ ْف ًسا إِالَ ُو ْس َع َها أُولَئِ َ‬ ‫صاِلَات الَ نُ َكل ُ‬ ‫َ​َ‬ ‫ك أْ‬ ‫َص َح ُ‬ ‫َخالِ ُدو َن ﴾ [األعراف‪.]42 :‬‬ ‫ِ‬ ‫ف نَ ْف ًسا إِالَ ُو ْس َع َها﴾ [املؤمنون‪ .]62 :‬فسنة هللا جارية على‬ ‫ُ‬ ‫ويقول سبحانه‪َ ﴿ :‬والَ نُ َكل ُ‬ ‫أنه ال يكلف النفوس إال وسعها‪ ،‬وجاء التأكيد على هذه القاعدة عند ذكر بعض‬ ‫ود لَه ِرْزقُه َن وكِسوُِتُ َن ِابلْمعر ِ‬ ‫ِ‬ ‫وف الَ‬ ‫الحكا الفرعية‪ ،‬فقال سبحانه‪َ ﴿ :‬و َعلَى الْ َمولُ ُ ُ َ ْ َ‬ ‫َ ُْ‬ ‫س إِالَ ُو ْس َع َها﴾ [البقرة‪.]232 :‬‬ ‫تُ َكلَ ُ‬ ‫ف نَ ْف ٌ‬ ‫ِ‬ ‫وكذلك قوله تعاىل‪﴿ :‬لِيُ ْن ِف ْق ذُو َس َع ٍة ِم ْن َس َعتِ ِه َوَم ْن قُ ِد َر َعلَْي ِه ِرْزقُهُ فَ ْليُ ْن ِف ْق ْمَا َ‬ ‫آَتهُ‬ ‫ِ‬ ‫آَت َها﴾ [الطالق‪.]7 :‬‬ ‫ف َ‬ ‫َ‬ ‫اّللُ نَ ْف ًسا إِالَ َما َ‬ ‫اّللُ الَ يُ َكل ُ‬ ‫ال الْيَتِي ِم إِالَ ِابلَِيت ِه َي أْ ْح َس ُن َح َىت يَْب لُ َغ‬ ‫وكذلك أيضاً قوله تعاىل‪َ ﴿ :‬والَ تَ ْقَربُوا َم َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ف نَ ْف ًسا إِالَ ُو ْس َع َها﴾ [األنعام‪.]152 :‬‬ ‫أُ‬ ‫َشدَهُ َوأ َْوفُوا الْ َكْي َل َوالْم َيزا َن ِابلْق ْسط الَ نُ َكل ُ‬ ‫هذه هي اآلَيت اليت وردت مبينةً أ َن التكليف حبسب الوسع والطاقة‪ ،‬وتبني أن رفع‬ ‫اِلرج من مقاصد القرآن الكرمي‪.‬‬ ‫اثمناً ـ تقرير كرامة اإلنسان‪:‬‬ ‫(‪ )1‬رفع اِلرج يف الشريعة اإلسالمية‪ ،‬صاحل بن ْحيد ص (‪.)73‬‬

‫‪98‬‬


‫اإلهلي لإلنسان يف ِعدةِ أموٍر‪ ،‬منها‪:‬‬ ‫يظهر التكرميُ ُّ‬

‫‪ 1‬ـ اإلنسان خليفة يف األرض‪:‬‬

‫أكد القرآن الكرمي أن اإلنسان خملوق كرمي على هللا‪ ،‬فقد خلق اد بيديه‪ ،‬ونفخ فيه‬ ‫من روحه‪ ،‬وجعله يف الرض خليفة‪ ،‬تكرمياً لإلنسان‪ ،‬وجاء ذلك يف حوار بديع‪،‬‬ ‫ال ربُّك لِْلمالَئِ َك ِة إِ​ِين جاعِل ِيف الَر ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َجت َع ُل فِ َيها‬ ‫ض َخلي َفةً قَالُوا أ َْ‬ ‫ْ‬ ‫قال تعاىل‪َ ﴿ :‬وإ ْذ قَ َ َ َ َ‬ ‫َ ٌ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫من ي ْف ِس ُد فِيها ويس ِف ِ‬ ‫ك قَ َ‬ ‫ال إِ​ِين أ َْعلَ ُم َما الَ‬ ‫س لَ َ‬ ‫َ َ​َ ْ ُ‬ ‫َْ ُ‬ ‫ك الد َماءَ َوَْحن ُن نُ َسب ُح حبَ ْمد َك َونُ َقد ُ‬ ‫تَ ْعلَ ُمو َن ﴾ [البقرة‪.]30 :‬‬

‫‪ 2‬ـ اإلنسان حمور الرساالت السماوية‪:‬‬ ‫املقصود غايةً وهدفاً يف ابتعاث الرسل‪ ،‬واختيار النبياء‪ ،‬وإنزال‬ ‫إن اإلنسان هو‬ ‫ُ‬ ‫الصحف‪ ،‬وإن هللا سبحانه وتعاىل الذي جعل اد َ خليفةً يف الرض‪،‬‬ ‫الكتب و ُّ‬ ‫سدى‪ ،‬وإمنا‬ ‫اقتضت حكمته ومشيئته ورْحته ابإلنسان أال ُيلقه عبثاً‪ ،‬وأال يرتكه ً‬

‫تكفل هبدايته وإرشاده‪ ،‬وأخذ بيده إىل الطريق القو ‪ ،‬واملنهج المثل‪ ،‬وطمأنه منذ‬ ‫استقراره يف الرض أنه لن يدعه طعاماً سائغاً لوساوس الشيطان‪ ،‬ولن يرتكه هنباً‬ ‫للوهم‪ ،‬واخلبط‪ ،‬والضالل‪ ،‬والشهوات‪ ،‬ولن يسلمه للجهالة واِلرية والضياع‪ ،‬وإمنا‬ ‫أكرمه ابهلداية والرشاد ابليت هي أقو (‪ ،)1‬قال تعاىل‪﴿ :‬قُ ْلنَا اهبِطُوا ِمْن ها َِ‬ ‫مج ًيعا فَِإ َما‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ف َعلَي ِه ْم َوالَ ُه ْم َُْيَزنُو َن ﴾ [البقرة‪.]38 :‬‬ ‫اي فَالَ َخ ْو ٌ‬ ‫ى فَ َم ْن تَب َع ُه َد َ‬ ‫َأيْتيَ نَ ُك ْم م ِين ُه َد ً‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ال اهبِطَا ِمْن ها َِ‬ ‫ض ُك ْم لِبَ ْع ٍ‬ ‫دى‬ ‫مج ًيعا بَ ْع ُ‬ ‫وقال تعاىل‪﴿ :‬قَ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ض َع ُد ٌّو فَإ َما َأيْتيَ نَ ُك ْم م ِين ُه ً‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫يشةً‬ ‫ض َع ْن ذ ْك ِري فَِإ َن لَهُ َمعِ َ‬ ‫اي فَالَ يَض ُّل َوالَ يَ ْش َقى ۝ َوَم ْن أ َْعَر َ‬ ‫فَ َم ِن اتَبَ َع ُه َد َ‬ ‫ِ‬ ‫ضن ًكا َوَْحن ُشُرهُ يَ ْوَ الْ ِقيَ َام ِة أ َْع َمى ﴾‬ ‫ضن ًكا َوَْحن ُشُرهُ يَ ْوَ الْقيَ َام ِة أ َْع َمى ﴾ ﴿ َمعِ َ‬ ‫يشةً َ‬ ‫َ‬ ‫(‪ )1‬حقوق اإلنسان‪ ،‬د‪ .‬حممد الزحيلي ص (‪.)21‬‬

‫‪99‬‬


‫[طه‪ 123 :‬ـ ‪.]124‬‬

‫وهكذا توالت الرسل‪ ،‬وتتابع النبياء‪ ،‬وأُنزلت الكتب‪ ،‬وكلها تدور على حمور و ٍ‬ ‫احد‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫هو اإلنسان‪ ،‬مبا ُيقق له السعادة يف الدنيا واآلخرة‪ ،‬وجاءت الشرائع لتأم ِ‬ ‫ني مصاحل‬

‫الناس جبلب النفع هلم‪ ،‬ودفع املضار عنهم‪ ،‬فرتشدهم إىل اخلري‪ ،‬وِتديهم إىل سواء‬ ‫ِ‬ ‫ف هلم طريق اخلري‪،‬‬ ‫السبيل‪ ،‬وتدهلم على الرب‪ ،‬وأتخذ بيدهم إىل اهلدى القومي‪ ،‬وتكش ُ‬ ‫وحتذرهم من الغواية والشر(‪.)1‬‬ ‫وجاءت الشريعة لتحصيل املصاحل وتكميله ا‪ ،‬وتقليل املف اسد وتعطيلها(‪ ،)2‬فإن‬ ‫الحكا الشرعية إمنا شرعت جللب املصاحل‪ ،‬أو لدرء املفاسد(‪.)3‬‬ ‫‪ 3‬ـ تكليف املالئكة ابلسجود آلدم‪:‬‬ ‫مل يقتصر المر اإلهلي ابختيار اإلنسان خليفة يف الرض‪ ،‬بل أتكد ذلك يف السماء‬ ‫واجلنات العال‪ ،‬واقرتن ابلفعل والتطبيق‪ ،‬وأعلن هللا تعاىل ذلك يف املأل العلى‬ ‫إبرادته عن خلق اد ‪ ،‬واختاذه خليفة‪ ،‬وسجل ذلك يف اللوح احملفوظ‪ ،‬وأنزله وحياً‬ ‫يتلى على البشر‪ ،‬مث أمر هللا تعاىل املالئكة ابلسجود الد تعظيماً‪ ،‬واحرتاماً له؛ لن‬ ‫ك لِْل َمالَئِ َك ِة إِ​ِين َخالِ ٌق بَ َشًرا‬ ‫اإلرادة اإلهلية تعلقت ابختياره‪ ،‬فقال تعاىل‪﴿ :‬إِ ْذ قَ َ‬ ‫ال َربُّ َ‬ ‫اج ِ‬ ‫وحي فَ َقعوا لَه س ِ‬ ‫ني ۝ فَِإذَا س َوي تُه ونَ َفخت فِ ِيه ِمن ر ِ‬ ‫ِم ْن ِط ٍ‬ ‫ين ۝ فَ َس َج َد‬ ‫د‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫َمجعو َن ۝ إِالَ إِبلِ‬ ‫ِ‬ ‫الْ َمالَئِ َكةُ ُكلُّ‬ ‫ين ﴾ [ص‪ 71 :‬ـ ‪.]74‬‬ ‫أ‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫يس ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫استَ ْك َ​َرب َوَكا َن م َن الْ َكاف ِر َ‬ ‫َ‬ ‫ك لِْلمالَئِ َك ِة إِ​ِين خالِق ب َشرا ِمن صلْص ٍال ِمن َْحٍإ مسنُ ٍ‬ ‫ون‬ ‫وقال تعاىل‪َ ﴿ :‬وإِ ْذ قَ َ‬ ‫ال َربُّ َ َ‬ ‫َ ٌَ ً ْ َ َ ْ َ َْ‬ ‫ِ​ِ‬ ‫۝ فَِإذَا س َوي تُه ونَ َفخ ِ ِ ِ ِ‬ ‫ت فِ ِيه ِم ْن‬ ‫ين ۝ َونَ َف ْخ ُ‬ ‫ََُْ ْ ُ‬ ‫ت فيه م ْن ُروحي فَ َقعُوا لَهُ َساجد َ‬ ‫(‪ )1‬حقوق اإلنسان‪ ،‬د‪ .‬حممد الزحيلي ص (‪.)22‬‬ ‫(‪ )2‬جمموع الفتاوى (‪.)48/20‬‬ ‫(‪ )3‬املوافقات للشاطيب (‪.)195/1‬‬

‫‪100‬‬


‫ِ َ ِ​ِ‬ ‫ِ​ِ‬ ‫ِ‬ ‫يس أ َ​َ​َب‬ ‫ين ۝ فَ َس َج َد الْ َمالَئِ َكةُ ُكلُّ ُه ْم أ ْ‬ ‫ُروحي فَ َقعُوا لَهُ َساجد َ‬ ‫َمجَعُو َن ۝ إال إبْل َ‬ ‫اج ِ‬ ‫أَ ْن ي ُكو َن مع ال َس ِ‬ ‫ين﴾[احلجر‪ 28 :‬ـ ‪.]31‬‬ ‫د‬ ‫َ َ​َ‬ ‫َ‬ ‫وكرر القرآن الكرمي هذا المر‪ ،‬وهذه القصة يف عدة سور قرآنية لتذكري اإلنسان‬

‫بفضل هللا تعاىل أوالً‪ ،‬وليعرف مكانته من الوجود والكون اثنياً‪ ،‬وليحذره من غواية‬ ‫إبليس اثلثاً(‪.)1‬‬ ‫‪ 4‬ـ تفضيل اإلنسان عن سائر املخلوقات‪:‬‬ ‫صرح القرآن الكرمي هبذا التفضيل والتكرمي‪ ،‬قال تعاىل‪َ ﴿ :‬ولَ​َق ْد َكَرْمنَا بَِين َ‬ ‫آد َ‬ ‫و َْح ْلنَاهم ِيف الْ ِرب والْبح ِر ورزقْ نَاهم ِمن الطَيِب ِ‬ ‫اه ْم َعلَى َكثِ ٍري ِْم َْن َخلَ ْقنَا‬ ‫ات َوفَ َ‬ ‫ضلْنَ ُ‬ ‫َ َ َ ْ َ​َ​َ ُ ْ َ َ‬ ‫َ َ ُْ‬ ‫تَ ْف ِ‬ ‫ضيالً ﴾ [اإلسراء‪.]70 :‬‬ ‫‪ 5‬ـ تسخري ما يف الكون لإلنسان‪:‬‬

‫اّلل س َخر لَ ُكم ما ِيف ال َسماو ِ‬ ‫ات َوَما ِيف ال َْر ِ‬ ‫َسبَ َغ‬ ‫ض َوأ ْ‬ ‫قال تعاىل‪﴿ :‬أَ​َملْ تَ​َرْوا أَ َن َ​َ َ َ ْ َ‬ ‫َ​َ‬ ‫علَي ُكم نِعمه ظَ ِ‬ ‫اهَرًة َوَاب ِطنَةً﴾ [لقمان‪.]20 :‬‬ ‫َ ْ ْ َ​َُ‬

‫وصرح القرآن الكرمي أبن هللا تعاىل خلق النعا ‪ ،‬وملَكها لإلنسان‪ ،‬مث ذللها له‬ ‫ِ ِ‬ ‫ت‬ ‫للركوب‪ ،‬والكل‪ ،‬واملنافع‪ ،‬واملشارب‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬أ َ​َوَملْ يَ​َرْوا أَ َان َخلَ ْقنَا َهلُْم ْمَا َعملَ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وهبُْم َوِمْن َها َأيْ ُكلُو َن ۝‬ ‫اها َهلُْم فَ ِمْن َها َرُك ُ‬ ‫أَيْدينَا أَنْ َع ًاما فَ ُه ْم َهلَا َمال ُكو َن ۝ َو َذلَْلنَ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ب أَفَالَ يَ ْش ُكُرو َن ﴾ [يس‪ 71 :‬ـ ‪.]73‬‬ ‫َوَهلُْم ف َيها َمنَاف ُع َوَم َشا ِر ُ‬ ‫ووجه القرآن الكرمي اإلنسان إىل البحث يف الكون‪ ،‬والتعرف على خواصه وأسراره‪،‬‬ ‫واالنتفاع به يف اِلياة‪.‬‬

‫فقال تعاىل عن الثروة املائية‪َ ﴿ :‬وُه َو الَ ِذي َس َخَر الْبَ ْحَر لِتَأْ ُكلُوا ِمْنهُ َِلْ ًما طَ ِرًَّي‬

‫(‪ )1‬حقوق اإلنسان‪ ،‬د‪ .‬حممد الزحيلي ص (‪.)28‬‬

‫‪101‬‬


‫وهنَا﴾ [النحل‪ .]14 :‬وقال تعاىل‪﴿ :‬وهو الَ ِذي أَنْ َشأَ جن ٍ‬ ‫َات‬ ‫َوتَ ْستَ ْخ ِر ُجوا ِمْنهُ ِح ْليَةً تَ ْلبَ ُس َ‬ ‫َ‬ ‫ََُ‬ ‫ات و َغري معر َ ٍ‬ ‫معر َ ٍ‬ ‫الرَما َن ُمتَ َش ِاهبًا َو َغ ْ َري‬ ‫ع خمُْتَلِ ًفا أُ ُكلُهُ َوالَزيْتُو َن َو ُّ‬ ‫َخ َل َوالَزْر َ‬ ‫وشات َوالن ْ‬ ‫وش َ ْ َ َ ُْ‬ ‫َ ُْ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ب‬ ‫ص ِادهِ َوالَ تُ ْس ِرفُوا إِنَهُ الَ ُُِي ُّ‬ ‫ُمتَ َشابِه ُكلُوا م ْن َمثَِرهِ إِ َذا أَْمثَ​َر َوآتُوا َح َقهُ يَ ْوَ َح َ‬ ‫ِ‬ ‫ني﴾ [األنعام‪.]141 :‬‬ ‫الْ ُم ْس ِرف َ‬

‫فءٌ َوَمنَافِ ُع َوِمْن َها‬ ‫وقال تعاىل عن الثروة احليوانية‪َ ﴿ :‬والَنْ َعا َ َخلَ َق َها لَ ُك ْم فِ َيها ِد ْ‬ ‫ِ‬ ‫َأتْ ُكلُو َن ۝ ولَ ُكم فِيها َمج ٌ ِ‬ ‫ني تَ ْسَر ُحو َن ۝ َوَْحت ِم ُل أَثْ َقالَ ُك ْم إِ َىل‬ ‫َ ْ َ َ‬ ‫ني تُِرُيُو َن َوح َ‬ ‫ال ح َ‬ ‫بَلَ ٍد َملْ تَ ُكونُوا َابلِغِ ِيه إِالَ بِ ِش ِق الَنْ ُف ِ‬ ‫ال‬ ‫وف َرِح ٌيم ۝ َو ْ‬ ‫اخلَْي َل َوالْبِغَ َ‬ ‫س إِ َن َربَ ُك ْم لَ​َرُؤ ٌ‬ ‫وِْ ِ‬ ‫وها َوِزينَةً َوَُيْلُ ُق َما الَ تَ ْعلَ ُمو َن ﴾ [النحل‪ 5 :‬ـ ‪.]8‬‬ ‫اِلَم َري ل َْرتَكبُ َ‬ ‫َ‬ ‫اِل ِد َ ِ ِ‬ ‫س َش ِدي ٌد َوَمنَافِ ُع لِلن ِ‬ ‫َاس‬ ‫وقال تعاىل عن الثروة الصناعية‪َ ﴿ :‬وأَنْ َزلْنَا َْ‬ ‫يد فيه َأبْ ٌ‬ ‫ولِ‬ ‫صرهُ ور ُسلَهُ ِابلْغَْي ِ‬ ‫ي َع ِز ٌيز ﴾ [احلديد‪ .]25 :‬وقال تعاىل‪:‬‬ ‫ن‬ ‫ي‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫اّلل‬ ‫م‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫ي‬ ‫ب إِ َن َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫اّللَ قَ ِو ٌّ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ َ ُ َ ْ َ ُ​ُ َُ‬ ‫ات وقَ ِدر ِيف ال َسرِد واعملُوا ص ِ‬ ‫ِ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫اِلًا إِ​ِين ِمبَا‬ ‫﴿ َوأَلَنَا لَهُ ْ‬ ‫اِلَ ِد َ‬ ‫ْ َ َْ َ‬ ‫يد ۝ أَن ْاع َم ْل َسابغَ َ ْ‬ ‫تَعملُو َن ب ِ‬ ‫صريٌ ﴾ [سبأ‪ 10 :‬ـ ‪.]11‬‬ ‫َْ َ‬ ‫‪ 6‬ـ تكرمي اإلنسان ابلعقل‪:‬‬

‫فالعقل هو الداة الكربى للمعرفة‪ ،‬ويتفرع عنه التفكري‪ ،‬واإلرادة‪ ،‬واالختيار‪ ،‬وكسب‬ ‫العلو ؛ لذلك كان‬ ‫ك بِ​ِه ِع ْل ٌم‬ ‫س لَ َ‬ ‫لَْي َ‬ ‫[اإلسراء‪.]36 :‬‬

‫اإلنسا ُن مسؤوالً عما يصدر عنه‪ ،‬قال‬ ‫ك‬ ‫صَر َوالْ ُف َؤ َاد ُك ُّل أُولَئِ َ‬ ‫إِ َن ال َس ْم َع َوالْبَ َ‬

‫ف َما‬ ‫تعاىل‪َ ﴿ :‬والَ تَ ْق ُ‬ ‫َكا َن َعْنهُ َم ْس ُؤوالً ﴾‬

‫وعد القرآن الكرمي اإلنسا َن الذي يعطل حواسه وعقله أضل من النعا واِليوان؛‬ ‫لن لديه وسائل املعرفة‪ ،‬لكنه عطلها عما خلقت له‪ .‬قال تعاىل‪﴿ :‬إِ َن َشَر الدَو ِ‬ ‫آب‬ ‫َ‬ ‫َِ‬ ‫ين الَ يَ ْع ِقلُو َن ﴾ [األنفال‪.]22 :‬‬ ‫ِعْن َد َ‬ ‫اّللِ ُّ‬ ‫الص ُّم الْبُ ْك ُم الذ َ‬ ‫‪102‬‬


‫وقد تعددت اآلَيت القرآنية صراحةً وإشارًة يف خماطبة العقل‪ ،‬ودعوته للتفكري‪،‬‬ ‫والنظر والبحث يف الكون‪ ،‬وجعل التفكري فريضة إسالمية‪ .‬قال تعاىل‪﴿ :‬إِ َن ِيف َخ ْل ِق‬

‫َِ‬ ‫ض واختِالَ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ف اللَْي ِل والن َ ِ‬ ‫ين‬ ‫ال َس َم َاوات َوال َْر ِ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫َهار آلَ َ​َيت ل ِويل الَلْبَاب ۝ الذ َ‬ ‫اّلل قِياما وقُعودا وعلَى جنُوهبِ​ِم وي تَ َف َكرو َن ِيف خ ْل ِق ال َسماو ِ‬ ‫ات َوال َْر ِ‬ ‫ض َربَنَا‬ ‫َ‬ ‫َ​َ‬ ‫يَ ْذ ُكُرو َن َ​َ َ ً َ ُ ً َ َ ُ ْ َ َ ُ‬ ‫ما خلَ ْقت ه َذا اب ِطالً سبحانَ ِ‬ ‫اب النَا ِر ﴾ [آل عمران‪ 190 :‬ـ ‪ .]191‬وقال‬ ‫ُْ َ َ‬ ‫ك فَقنَا َع َذ َ‬ ‫َ َ َ َ َ‬

‫ِ‬ ‫آَيتِ​ِه يُِري ُك ُم الَْْرب َق َخ ْوفًا َوطَ َم ًعا َويُنَ ِزُل ِم َن ال َس َم ِاء َماءً فَيُ ْحيِي بِ​ِه‬ ‫تعاىل‪َ ﴿ :‬وم ْن َ‬ ‫ِ‬ ‫ك آلَ​َي ٍ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ت لَِق ْوٍ يَ ْع ِقلُو َن ﴾[الروم‪ ]24 :‬وقال تعاىل‪﴿ :‬إِ َن ِيف‬ ‫ال َْر َ‬ ‫ض بَ ْع َد َم ْوِتَا إ َن ِيف ذَل َ َ‬ ‫ض واختِالَ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ف اللَي ِل والنَها ِر والْ ُف ْل ِ‬ ‫ك الَِيت َْجت ِري ِيف الْبَ ْح ِر ِمبَا‬ ‫َخ ْل ِق ال َس َم َاوات َوال َْر ِ َ ْ‬ ‫ْ َ َ َ‬ ‫اّلل ِمن ال َسم ِاء ِمن م ٍاء فَأ ِ‬ ‫ث فِ َيها‬ ‫ض بَ ْع َد َم ْوِ​ِتَا َوبَ َ‬ ‫َحيَا بِه ال َْر َ‬ ‫ْ‬ ‫َاس َوَما أَنْ َزَل َُ َ َ ْ َ‬ ‫يَْن َف ُع الن َ‬ ‫ت لَِقوٍ‬ ‫ِ‬ ‫ض آلَ​َي ٍ‬ ‫ِمن ُك ِل َدآبٍَة وتَ ْ ِ‬ ‫الرَي ِح وال َسح ِ‬ ‫اب الْ ُم َس َخ ِر بَْ َ‬ ‫ني ال َس َماء َوال َْر ِ َ‬ ‫ص ِريف َِ َ َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ي ع ِقلُو َن ﴾[البقرة‪ ]164 :‬وقال تعاىل‪﴿ :‬وِيف الَر ِ ِ‬ ‫َات ِم ْن‬ ‫ات َو َجن ٌ‬ ‫ض قطَ ٌع ُمتَ َجا ِوَر ٌ‬ ‫َْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫اب وزرعٌ وََِنيل ِصْن وا ٌن و َغري ِصْن و ٍان يس َقى ِمبَ ٍاء و ِ‬ ‫اح ٍد ونُ َف ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ض َها َعلَى‬ ‫ض ُل بَ ْع َ‬ ‫َ َ‬ ‫أ َْعنَ َ َ ْ َ ٌ َ َ ْ ُ َ ُ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ك آلَ​َي ٍ‬ ‫ِ‬ ‫بَ ْع ٍ‬ ‫ت لَِق ْوٍ يَ ْع ِقلُو َن ﴾[الرعد‪.]4 :‬‬ ‫ض ِيف الُ ُك ِل إ َن ِيف ذَل َ َ‬ ‫العقل وحتثه‪ ،‬وتؤدي ابلعقل إىل اإلميان ابهلل تعاىل‪ ،‬واليقني أبنه‬ ‫وآَيت كثرية تثريُ َ‬ ‫اخلالق املدبر‪.‬‬ ‫وابملقابل إذا فشل العقل يف أداء هذه الوظيفة فقد وجوده‪ ،‬وسلب اإلنسان‬ ‫إنسانيته‪ ،‬وهذا ما أكده القرآن الكرمي بنفي العقل عن الكفار‪ ،‬وحكم عليهم أبهنم‬ ‫ال يعقلون‪ ،‬وذلك لعد االستفادة من السمع والبصر لالنتفاع من آَيت الكون اليت‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫وعندئذ ينسلخ الكافر من إنسانيته‪،‬‬ ‫تنط ُق بوجود هللا تعاىل‪ ،‬وتوجب طاعته‪،‬‬ ‫‪103‬‬


‫(‪)1‬‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫ن‬ ‫أ‬ ‫ف‬ ‫أ‬ ‫اه‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫ه‬ ‫هل‬ ‫إ‬ ‫ذ‬ ‫اخت‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ت‬ ‫َي‬ ‫أ‬ ‫َر‬ ‫أ‬ ‫﴿‬ ‫تعاىل‪:‬‬ ‫قال‬ ‫‪،‬‬ ‫ويتساوى ابِليوان مث ينحدر عنه‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َُ َ َ ُ َ‬ ‫َْ َ َْ‬ ‫تَ ُكو ُن علَي ِه وكِ‬ ‫ب أَ َن أَ ْكثَ​َرُه ْم يَ ْس َمعُو َن أ َْو يَ ْع ِقلُو َن إِ ْن ُه ْم إِالَ‬ ‫َ‬ ‫س‬ ‫حت‬ ‫أ‬ ‫۝‬ ‫ال‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ ُ‬ ‫َْ َ‬

‫َض ُّل َسبِيالً ﴾[الفرقان‪ 43 :‬ـ ‪.]44‬‬ ‫َكالَنْ َعاِ بَ ْل ُه ْم أ َ‬ ‫‪7‬ـ تكرمي اإلنسان ابألخالق والفضائل‪:‬‬

‫تظهر كرامة اإلنسان والدعوة إىل تكرميه بدعوة اإلسال إىل الخالق الفاضلة‪،‬‬ ‫وترغيب الفرد واجملتمع مبعايل المور‪ ،‬والتسامي عن املادة‪،‬‬ ‫(‪)2‬‬ ‫واِلض على اخلري والفضيلة بني الناس ؛ لذلك وصف القرآن الكرمي نبيَه حممداً‬ ‫صلى هللا عليه وسلم أبعلى ِ‬ ‫ك لَ َعلَى ُخلُ ٍق‬ ‫أومسة الفخار والثناء‪ ،‬فقال تعاىل‪َ ﴿ :‬وإِنَ َ‬ ‫ِ‬ ‫عثت‬ ‫َعظي ٍم ﴾ [القلم‪ .]4 :‬وبني ذلك رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فقال‪« :‬إمنا بُ ُ‬ ‫لَتِ َم مكارَ الخالق»(‪.)3‬‬ ‫فدعا اإلسال ُ الناس مجيعاً إىل ِ ِ‬ ‫الرب‪ ،‬والرْحة‪ ،‬واإلخاء‪ ،‬واملودة‪ ،‬والتعاون‪ ،‬والوفاق‪،‬‬ ‫َ‬

‫والصدق‪ ،‬واإلحسان‪ ،‬ووفاء الوعد‪ ،‬وأداء المانة‪ ،‬وتطهري القلب‪ ،‬وختليصه من‬

‫الشوائب‪ ،‬كما دعا إىل العدل واملساحمة والعفو‪ ،‬واملغفرة والصرب والثبات‪ ،‬ودعا إىل‬ ‫ث على النصيحة وغري ذلك من مكار‬ ‫وح َ‬ ‫المر ابملعروف والنهي عن املنكر‪َ ،‬‬ ‫الخالق والفضائل(‪ ،)4‬والخالق الفاضلة تزين اإلنسانيةَ‪ ،‬وتُعلي شأهنا‪ ،‬وتُنسق بني‬ ‫أفرادها‪ ،‬وتصون العالقات اجلماعية‪ ،‬وتوجيهها إىل اخلري والكمال‪ ،‬لتصور اِلياة‬ ‫البشرية يف أمجل صورها‪ ،‬وأحسن أحواهلا‪ ،‬وتتجنب الرذيلة‪ ،‬والفساد اخلُلُقي‬ ‫(‪ )1‬حقوق اإلنسان‪ ،‬للزحيلي ص (‪.)54‬‬ ‫(‪ )2‬جمموع الفتاوى (‪.)48/20‬‬ ‫(‪ )3‬املوافقات للشاطيب (‪.)195/1‬‬ ‫(‪ )4‬حقوق اإلنسان‪ ،‬للزحيلي ص (‪.)28‬‬

‫‪104‬‬


‫واالجتماعي(‪.)1‬‬ ‫‪ 8‬ـ تكرمي اإلنسان يف تشريع األحكام‪:‬‬ ‫مجيع الحكا الشرعية‪ ،‬ويدفع ملعرفة العلة فيها واِلكمة من‬ ‫وهذا ٌ‬ ‫ابب و ٌ‬ ‫اسع يُغطي َ‬ ‫نضرب بعض المثلة فقط كنماذج‪:‬‬ ‫تشريعها‪ ،‬ولذلك‬ ‫ُ‬

‫أ ـ وجود اإلنسان‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫قال تعاىل‪﴿ :‬وِمن ِ​ِ‬ ‫اجا لِتَ ْس ُكنُوا إِلَْي َها َو َج َع َل‬ ‫آَيته أَ ْن َخلَ َق لَ ُك ْم م ْن أَنْ ُفس ُك ْم أ َْزَو ً‬ ‫َ ْ َ‬ ‫ِ‬ ‫ك آلَ​َي ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ت لَِق ْوٍ يَتَ َف َكُرو َن ﴾ [الروم‪ .]21 :‬أي‪ :‬أتنسوا‬ ‫بَْي نَ ُك ْم َم َوَد ًة َوَر ْ​ْحَةً إ َن ِيف َذل َ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اجا ﴾‪ ،‬أي‪ :‬جنسكم ﴿ لِتَ ْس ُكنُوا إِلَْي َها﴾أي أتنسوا هبا‪ ،‬فإ َن‬ ‫﴿م ْن أَنْ ُفس ُك ْم أ َْزَو ً‬ ‫اجملانسة من دواعي التضامن والتعاون ‪َ ﴿ ،‬و َج َع َل بَْي نَ ُك ْم َم َوَد ًة َوَر ْ​ْحَةً﴾‪ ،‬أي‪ :‬تواداً‬

‫وتراْحاً بعصمة الزواج بعد أن مل يكن لقاء وال سبب يوجب التعاطف من قرابة أو‬ ‫ِ‬ ‫ك آلَ​َي ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ت لَِق ْوٍ يَتَ َف َكُرو َن ﴾‬ ‫رحم‪﴿ ،‬إ َن ِيف ذَل َ َ‬ ‫(‪)2‬‬ ‫أي‪ :‬يف بدائع هذه الفاعيل املتينة املبنية على اِلكم البالغة‬ ‫ب ـ حقوق األوالد‪:‬‬

‫قال تعاىل‪َ﴿ :‬يأَيُّها الَ ِذين آمنوا قُوا أَنْ ُفس ُكم وأَهلِ‬ ‫اِلِ َج َارةُ﴾‬ ‫ن‬ ‫ال‬ ‫ا‬ ‫ه‬ ‫ود‬ ‫ق‬ ‫و‬ ‫ا‬ ‫ر‬ ‫ان‬ ‫م‬ ‫ك‬ ‫ي‬ ‫َاس َو ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ َُ‬ ‫َ ْ َْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫أنفسهم النار أبفعاهلم‪،‬‬ ‫[التحرمي‪ ]6 :.‬أمر هللا عز وجل يف هذه االية أبن يقي املؤمنون َ‬

‫وأهليهم ابلنصح‪ ،‬والوعظ‪ ،‬واإلرشاد‪ ،‬وهذا يتطلب االلتزا التا أبحكا الشرع أمراً‬

‫وهنياً‪ ،‬وترك املعاصي‪ ،‬وفعل الطاعات‪ ،‬ومتابعة القيا ابلعمال الصاِلة‪ ،‬وحث‬ ‫الزوجة والوالد على أداء الفرائض‪ ،‬واجتناب النواهي‪ ،‬ومراقبتهم املستمرة يف‬ ‫(‪ )1‬حقوق اإلنسان يف اإلسال ‪ ،‬للزحيلي ص (‪.)54‬‬ ‫(‪ )2‬حماسن التأويل‪ ،‬للقامسي (‪.)4772/13‬‬

‫‪105‬‬


‫ذلك(‪.)1‬‬ ‫ج ـ احرتام إرادة اإلنسان يف العقود والتصرفات‪:‬‬ ‫ومن ذلك‪ :‬إرشاد القرآن الكرمي إىل كتابة املداينة بني الطراف‪ ،‬مث أمر ابإلشهاد‬ ‫َِ‬ ‫ين َآمنُوا إِ َذا تَ َدايَْن تُ ْم‬ ‫عليها‪ ،‬وبني اِلكمة والغاية من ذلك‪ :‬قال تعاىل‪َ​َ ﴿ :‬يأَيُّ َها الذ َ‬ ‫بِ َدي ٍن إِ َىل أَج ٍل مسمى فَا ْكتُبوه ولْي ْكتُب ب ي نَ ُكم َكاتِب ِابلْع ْد ِل والَ أيْب َكاتِ‬ ‫ب أَ ْن‬ ‫ْ‬ ‫َ ُ َ ً ُ ُ َ َ ْ َْ ْ ٌ َ َ َ َ‬ ‫ٌ‬ ‫اّلل ربَه والَ ي بخ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ب َولْيُ ْملِ ِل الَ ِذي َعلَْي ِه ْ‬ ‫ب َك َما َعلَ َمهُ َ‬ ‫س مْنهُ‬ ‫اّللُ فَ ْليَ ْكتُ ْ‬ ‫يَ ْكتُ َ‬ ‫اِلَ ُّق َولْيَ تَق َ​َ َ ُ َ َْ َ ْ‬ ‫يديْ ِن ِم ْن ِر َجالِ ُك ْم﴾‬ ‫استَ ْش ِه ُدوا َش ِه َ‬ ‫َشْي ئًا﴾ [البقرة‪ .]282 :‬مث قال تعاىل‪َ ﴿ :‬و ْ‬ ‫ط ِعْن َد َِ‬ ‫[البقرة‪ .]282 :‬مث بني تعاىل اِلكمة والغاية‪ ،‬فقال‪﴿ :‬ذَلِ ُك ْم أَقْ َس ُ‬ ‫اّلل َوأَقْ َوُ‬ ‫لِلشَهادةِ وأ َْدىن أَالَ تَرَ​َتبوا إِالَ أَ ْن تَ ُكو َن ِجتارًة ح ِ‬ ‫س َعلَْي ُك ْم‬ ‫اضَرًة تُ ِد ُير َ‬ ‫َ​َ َ َ‬ ‫َ​َ َ‬ ‫ْ ُ‬ ‫وهنَا بَْي نَ ُك ْم فَلَْي َ‬

‫وها﴾ [البقرة‪.]282 :‬‬ ‫اح أَالَ تَ ْكتُبُ َ‬ ‫ُجنَ ٌ‬

‫كما أن هللا حر الغش واالعتداء على أموال اآلخرين‪ ،‬واغتصاب حقوقهم؛ لن‬ ‫ذلك ُيل ابلكرامة السامية للطرفني‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬والَ َأتْ ُكلُوا أَموالَ ُكم ب ي نَ ُكم ِابلْب ِ‬ ‫اط ِل‬ ‫ْ َ ْ َْ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫اِلُ َكاِ لِتَأْ ُكلُوا فَ ِري ًقا ِم ْن أ َْم َو ِال الن ِ‬ ‫َاس ِاب ِإل ِْمث َوأَنْتُ ْم تَ ْعلَ ُمو َن ﴾‬ ‫َوتُ ْدلُوا ِهبَا إِ َىل ْ‬ ‫[البقرة‪ .]188 :‬وقال تعاىل‪﴿ :‬الَ َأتْ ُكلُوا أَموالَ ُكم ب ي نَ ُكم ِابلْب ِ‬ ‫اط ِل إِالَ أَ ْن تَ ُكو َن ِجتَ َارًة َع ْن‬ ‫ْ َ ْ َْ ْ َ‬ ‫تَ​َر ٍ‬ ‫اض ِمْن ُك ْم﴾ [النساء‪.]29 :‬‬ ‫لقد احرت اإلسال اإلنسان‪ ،‬واعترب إرادته أساساً يف التعاقد‪ ،‬والتعامل حىت سبق‬

‫تشريعات العامل يف سلطان اإلرادة العقدية‪ ،‬مث اعتد ابإلرادة اإلنسانية يف سائر‬ ‫التصرفات‪ ،‬وأبطل التصرفات اليت تقع ابإلكراه‪ ،‬فقال رسول هللا صلى هللا عليه‬

‫(‪ )1‬التفسري املنري للزحيلي (‪.)320-316/28‬‬

‫‪106‬‬


‫وسلم‪ُ « :‬رفِ َع عن أميت اخلَطَأُ والنسيا ُن وما استُ ْك ِرُهوا عليه»(‪ ،)1‬ومجع اِلديث بني‬ ‫اخلطأ والنسيان‪ ،‬واإلكراه؛ لن اإلرادةَ مفقودةٌ حقيقةً يف هذه اِلاالت‪ ،‬كما حر‬ ‫اإلسال أكل مال اإلنسان إال عن طيب نفسه(‪.)2‬‬ ‫د ـ العقوابت‪:‬‬

‫ِ‬ ‫ُويل الَلْب ِ‬ ‫ص ِ‬ ‫اب لَ َعلَ ُك ْم تَتَ ُقو َن ﴾ [البقرة‪.]179 :‬‬ ‫قال تعاىل‪َ ﴿ :‬ولَ ُك ْم ِيف الْق َ‬ ‫اص َحيَاةٌ َ​َيأ ِ َ‬ ‫لقد حرص املشرعُ اِلكيم على التكرمي اإلنساين حىت يف ابب العقوابت‪ ،‬فقصد‬ ‫حفظ الدماء‪ ،‬والنفس‪ ،‬واِلياة عامة‪ ،‬وراعى الكرامة اإلنسانية‪ ،‬فنص على الشياء‬ ‫املمنوعة واحملرمة‪ ،‬وحذر منها‪ ،‬ورهب من ارتكاهبا‪ ،‬فإن حصل اخللل‪ ،‬ووقع اخلطأ‪،‬‬ ‫ميس كرامة اإلنسان‪ ،‬فشرع‬ ‫أو العدوان واإلمث‪ ،‬شرع العقاب‬ ‫املناسب للجرمية مبا ال ُّ‬ ‫َ‬ ‫القصاص‪ ،‬ومنع املثلة والعدوان‪ ،‬واعترب العقوبة أتديباً‪ ،‬وإصالحاً وزجراً وردعاً(‪.)3‬‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫وقد ورد يف النصوص الشرعية أدلةً كثريةً يف رعاية اجلانب اإلنساين مع املتهم‪،‬‬ ‫واجملر ‪ ،‬واجلاين‪ ،‬سواء يف معاملته‪ ،‬والتحقيق معه‪ ،‬أ يف حماكمته‪ ،‬وأتمني حقوقه‬ ‫اإلنسانية‪ ،‬ومنحه اِلق يف الدفاع عن نفسه‪ ،‬أ يف معاقبته‪ ،‬وتنفيذ اِلكم عليه‬ ‫ابلسجن وغريه(‪.)4‬‬ ‫اعى فيها الناحية اإلنسانية؛ َ‬ ‫لهنا ما شرعت‬ ‫وبعد‪ :‬فإ َن مجيع الحكا الشرعية ُمر ً‬ ‫أصالً إال ملصلحته‪ ،‬وإن الشريعة الغراء راعت إنسانيةَ اإلنسان ابلحكا اِلكيمة‬ ‫العادلة املناسبة له قبل الوالدة وبعدها‪ ،‬ومست برعاية اليتيم والطفال خاصة‪ ،‬مث‬ ‫(‪ )1‬البخاري (‪ ،)564‬سنن البيهقي (‪.)192 /10‬‬ ‫(‪ )2‬حقوق اإلنسان‪ ،‬للزحيلي ص (‪.)64‬‬ ‫(‪ )3‬املصدر نفسه ص (‪.)66‬‬ ‫(‪ )4‬حماسن التأويل‪ ،‬للقامسي (‪.)4772 /13‬‬

‫‪107‬‬


‫اإلنسان عامة‪ ،‬طوال فرتة اِلياة‪ ،‬مث رعت شؤونه عند املوت‪ ،‬والتجهيز‪ ،‬والغسيل‪،‬‬ ‫والتكفني‪ ،‬والصالة عليه‪ ،‬ومواراته الرتاب‪ ،‬وعد االعتداء على امليت‪ ،‬أو إيذائه‬ ‫بكلمة‪ ،‬أو غيبة‪ ،‬أو ابجللوس على قربه‪ ،‬وهي أحكا إنسانية بكل ما يف الكلمة من‬ ‫معىن‪ْ ،‬ما يدركه الباحث يف العلو الشرعية واملتفقه يف الفقه وأحكا اإلسال ‪ ،‬كما‬ ‫ً‬ ‫يتجلى لنا التكرمي اإلهلي لإلنسان يف كل صغرية وكبرية‪ ،‬ويف مجيع شؤون اِلياة‬ ‫وأطوار اإلنسان؛ ليكون املكَر ‪ ،‬واملفضَل‪ ،‬واملق َد عند هللا‪ ،‬واخلليفة يف الرض(‪.)1‬‬ ‫اتسعاً ـ تقرير حقوق اإلنسان‪:‬‬ ‫ليست‬ ‫من مقاصد القرآن الكرمي تقرير حقوق اإلنسان‪ ،‬فحقوق اإلنسان يف اإلسال‬ ‫ْ‬ ‫منحةً من ملك أو حاكم‪ ،‬أو قرار صادر عن سلطة حملية أو منظمة دولية‪ ،‬وإمنا هي‬ ‫حقوق ملزمة حبكم مصدرها اإلهلي ال تقبل اِلذف وال النسخ وال التعطيل‪ ،‬وال‬ ‫ٌ‬ ‫جيوز التنازل عنها(‪ ،)2‬ومن هذه اِلقوق‪:‬‬ ‫يسمح ابالعتداء عليها‪ ،‬وال ُ‬ ‫ُ‬

‫‪ 1‬ـ حق احلياة‪:‬‬

‫حياة اإلنسان مقدسةٌ‪ ،‬ال جيوز ٍ‬ ‫لحد أن يعتدي عليها‪ ،‬قال تعاىل‪َ ﴿ :‬م ْن قَتَ َل نَ ْف ًسا‬ ‫ض فَ َكأَ​َمنَا قَتَل النَاس َِ‬ ‫س أ َْو فَ َس ٍاد ِيف ال َْر ِ‬ ‫بِغَ ِْري نَ ْف ٍ‬ ‫مج ًيعا﴾ [املائدة‪.]32 :‬‬ ‫َ َ‬ ‫بسلطان الشر ِ‬ ‫ِ‬ ‫يعة‪ ،‬وابإلجراءات اليت تقرها‪ ،‬وكيان‬ ‫ب هذه القدسية إال‬ ‫وال تُ ْسلَ ُ‬ ‫اإلنسان املادي واملعنوي ِْحًى حتميه الشريعة يف حياته وبعد ْماته‪ ،‬ومن حقه الرتفق‬ ‫والتكرمي يف التعامل مع جثمانه(‪.)3‬‬

‫‪ 2‬ـ حق احلرية‪:‬‬ ‫(‪ )1‬حقوق اإلنسان‪ ،‬للزحيلي (‪.)78‬‬ ‫(‪ )2‬حقوق اإلنسان حملمد الغزايل ص (‪.)174‬‬ ‫(‪ )3‬املصدر نفسه ص (‪.)174‬‬

‫‪108‬‬


‫حرية اإلنسان مقدسةٌ كحياته سواء وهي الصفةُ الطبيعيةُ الوىل اليت هبا يولد‬ ‫اإلنسان‪ ،‬وقد بينا أن من مقاصد الشريعة اِلرية‪ ،‬وحتدثنا عن أنواعها‪ ،‬كحرية‬ ‫املعتقدات‪ ،‬وحرية التعبري‪ ،‬وحرية الفكر‪ ،‬وحرية التنقل‪.‬‬ ‫جيوز تقييدها أو اِلد منها‬ ‫وجيب توفري الضماانت الكافية ِلماية حرية الفراد‪ ،‬وال ُ‬

‫جيوز لشعب أن يعتدي على‬ ‫إال بسلطان الشريعة‪ ،‬وابإلجراءات اليت تقرها‪ ،‬وال ُ‬ ‫حرية شعب اخر‪ ،‬وللشعب املعتدى عليه أن يرد العدوان‪ ،‬ويسرتد حريته بكل السبل‬ ‫ك َما َعلَْي ِه ْم ِم ْن َسبِ ٍيل ﴾‬ ‫صَر بَ ْع َد ظُْل ِم ِه فَأُولَئِ َ‬ ‫املمكنة‪ ،‬قال تعاىل‪َ ﴿ :‬ولَ َم ِن انْتَ َ‬ ‫[الشورى‪.]41 :‬‬ ‫وعلى اجملتمع الدويل مساندة ِ‬ ‫كل شعب جياهد من أجل حريته‪ ،‬ويتحمل املسلمون‬ ‫َِ‬ ‫َاه ْم ِيف ال َْر ِ‬ ‫ض أَقَ ُاموا‬ ‫ين إِ ْن َم َكن ُ‬ ‫يف هذا واجباً‪ ،‬وال ترخص فيه‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬الذ َ‬ ‫صالَ​َة وآتَوا الَزَكا َة وأَمروا ِابلْمعر ِ‬ ‫وف َوَهنَْوا َع ِن الْ ُمْن َك ِر﴾ [احلج‪.]41 :‬‬ ‫ال َ َ ُ‬ ‫َ َُ َ ُْ‬

‫‪ 3‬ـ حق املساواة‪:‬‬

‫ِ‬ ‫قال تعاىل‪َ﴿ :‬يأَيُّ َها الن ِ‬ ‫واب َوقَبَائِ َل‬ ‫َاس إ َان َخلَ ْقنَا ُك ْم م ْن ذَ َك ٍر َوأُنْثَى َو َج َع ْلنَا ُك ْم ُشعُ ً‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫فالناس مجيعاً سواسية أما‬ ‫اّللِ أَتْ َقا ُك ْم﴾ [احلجرات‪.]13 :‬‬ ‫لِتَ َع َارفُوا إِ َن أَ ْكَرَم ُك ْم ِعْن َد َ‬ ‫ُ‬

‫فضل ٍ‬ ‫لعريب على عجمي‪ ،‬وال‬ ‫الشريعة‪ ،‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪« :‬ال َ‬ ‫لعجمي على عريب‪ ،‬وال لْحر على أسود‪ ،‬وال لسود على أْحر إال ابلتقوى»(‪،)1‬‬

‫وال َتايز بني الفراد يف تطبيقها عليهم‪ ،‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪« :‬لو أ َن‬ ‫لقطعت يدها»(‪.)2‬‬ ‫بنت حمم ٍد سرقت‬ ‫ُ‬ ‫فاطمةَ َ‬ ‫(‪ )1‬مسند اإلما أْحد (‪.)411/5‬‬ ‫(‪ )2‬مسلم‪.)1315/3( ،‬‬

‫‪109‬‬


‫والناس كلهم يف القيمة اإلنسانية سواءٌ‪ ،‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪« :‬كلكم‬ ‫الد ‪ ،‬واد من تراب»(‪ ،)1‬وإمنا يتفاضلون حبسب عملهم‪ ،‬قال تعاىل‪َ ﴿ :‬ولِ ُك ٍل‬ ‫ات ِْمَا َع ِملُوا﴾ [األحقاف‪.]19 :‬‬ ‫َد َر َج ٌ‬ ‫وكل فكر‪ ،‬وكل تشريع‪ ،‬وكل وضع يسوغُ التفرقةَ بني الفراد على أساس اجلنس‪ ،‬أو‬

‫العرق‪ ،‬أو اللون‪ ،‬أو اللغة‪ ،‬أو الدين‪ ،‬هو مصادرةٌ مباشرةٌ هلذا املبدأ اإلسالمي‬ ‫العا (‪.)2‬‬ ‫ولكل فرد حق يف االنتفاع ابملوارد املادية للمجتمع من خالل فرصة عمل متكافئة‬ ‫لفرص غريه‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬فَ ْام ُشوا ِيف َمنَاكِبِ َها َوُكلُوا ِم ْن ِرْزقِ ِه﴾ [امللك‪ ،]15 :‬وال جيوز‬ ‫ال َذ َرةٍ َخ ْ ًريا يَ​َرهُ ۝‬ ‫التفرقة بني الفراد كماً وكيفاً‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬فَ َم ْن يَ ْع َم ْل ِمثْ َق َ‬ ‫ال ذَ َرةٍ َشًّرا يَ​َرهُ ﴾ [الزلزلة‪ 7 :‬ـ ‪.]8‬‬ ‫َوَم ْن يَ ْع َم ْل ِمثْ َق َ‬ ‫‪ 4‬ـ حق العدالة‪:‬‬ ‫كل ٍ‬ ‫من حق ِ‬ ‫فرد أن يتحاكم إىل الشريعة‪ ،‬وأن يتحاكم إليها دون سواها‪ ،‬قال تعاىل‪:‬‬

‫ٍ‬ ‫اّللِ والَرس ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ول﴾ [النساء‪.]59 :‬‬ ‫﴿فَإ ْن تَنَ َاز ْعتُ ْم ِيف َش ْيء فَ ُرُّدوهُ إ َىل َ َ ُ‬ ‫ِ‬ ‫اّللُ َوالَ تَتَبِ ْع أ َْه َواءَ ُه ْم﴾ [املائدة‪.]49 :‬‬ ‫اح ُك ْم بَْي نَ ُه ْم ِمبَا أَنْ َزَل َ‬ ‫وقال تعاىل‪َ ﴿ :‬وأَن ْ‬ ‫اّلل‬ ‫ب َُ‬ ‫ومن حق الفرد أن يدفع عن نفسه ما يلحقه من ظلم‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬الَ ُُِي ُّ‬ ‫لس ِ‬ ‫وء ِم َن الْ َق ْوِل إِالَ َم ْن ظُلِ َم﴾ [النساء‪ ،]148 :‬ومن واجبه أن يدفع الظلم عن‬ ‫ا ْجلَ ْهَر ِاب ُّ‬ ‫غريه مبا ميلك‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫شرعية حتميه وتنصفه وتدفع عنه‪ ،‬ما ِلقه من‬ ‫سلطة‬ ‫ومن حق الفرد أن يلجأَ إىل‬ ‫(‪ )1‬من خطبة الوداع نقال عن حقوق اإلنسان‪ ،‬للغزايل ص (‪.)175‬‬ ‫(‪ )2‬حقوق اإلنسان‪ ،‬حملمد الغزايل ص (‪.)175‬‬

‫‪110‬‬


‫يقيم هذه السلطة‪ ،‬ويوفر هلا الضماانت‬ ‫ضرر أو ظلم‪ ،‬وعلى اِلاكم املسلم أن َ‬ ‫الكفيلة حبيدِتا واستقالهلا(‪.)1‬‬ ‫ِ‬ ‫اّلل أيْمرُكم أَ ْن تُؤُّدوا الَم َ ِ‬ ‫ني الن ِ‬ ‫َاس أَ ْن‬ ‫قال تعاىل‪﴿ :‬إِ َن َ​َ َ ُ ُ ْ َ‬ ‫اانت إِ َىل أ َْهل َها َوإِ َذا َح َك ْمتُ ْم بَْ َ‬ ‫َ‬ ‫َْحت ُكموا ِابلْع ْد ِل إِ َن َ ِ ِ ِ‬ ‫اّلل َكا َن َِمسيعا ب ِ‬ ‫ِ​ِ ِ‬ ‫ص ًريا ﴾ [النساء‪ .]58 :‬وقال‬ ‫ُ َ‬ ‫ً َ‬ ‫اّللَ نع َما يَعظُ ُك ْم به إ َن َ​َ‬ ‫ني الن ِ‬ ‫اك َخلِي َفةً ِيف ال َْر ِ‬ ‫َاس ِاب ِْلَِق َوالَ تَتَبِ ِع‬ ‫ود إِ َان َج َع ْلنَ َ‬ ‫تعاىل‪َ​َ ﴿ :‬ي َد ُاو ُ‬ ‫اح ُك ْم بَْ َ‬ ‫ض فَ ْ‬ ‫ضلُّو َن عن سبِ ِيل َِ‬ ‫اّللِ إِ َن الَ ِذين ي ِ‬ ‫ا ْهلوى فَي ِ‬ ‫اب َش ِدي ٌد ِمبَا‬ ‫ك َع ْن َسبِ ِيل َ‬ ‫ضلَ َ‬ ‫اّلل َهلُْم َع َذ ٌ‬ ‫َ َ‬ ‫َ​َ ُ‬ ‫َْ َ‬ ‫اِلِس ِ‬ ‫اب ﴾[ص‪.]26 :‬‬ ‫نَ ُسوا يَ ْوَ ْ َ‬ ‫‪ 5‬ـ حق الفرد يف حماكمة عادلة‪:‬‬

‫تثبت‬ ‫ب‬ ‫الرباءةُ هي الصل‪ ،‬وهو‬ ‫ٌّ‬ ‫ومستمر حىت مع اِتا الشخص ما مل ْ‬ ‫َ‬ ‫مستصح ٌ‬ ‫حمكمة ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫عادلة إدانةً هنائيةً‪ ،‬وال جترميَ إال ٍ‬ ‫بنص‪ ،‬قال تعاىل‪َ ﴿ :‬وَما ُكنَا‬ ‫إدانتُه أما َ‬ ‫ِ‬ ‫ث َر ُسوالً ﴾ [اإلسراء‪.]15 :‬‬ ‫ني َح َىت نَْب َع َ‬ ‫ُم َعذبِ َ‬ ‫وال ُيكم بتجرمي شخص‪ ،‬وال يعاقب على جر إال بعد ثبوت ارتكابه له أبدلة ال‬ ‫تقبل املراجعة أما حمكمة ذات طبيعة قضائية كاملة‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬إن جاء ُكم فَ ِ‬ ‫اس ٌق‬ ‫َ​َ ْ‬ ‫بِنَ بٍَإ فَتَ بَ يَنُوا﴾ [احلجرات‪ ،]6 :‬وقال تعاىل‪َ ﴿ :‬وإِ َن الظَ َن الَ يُ ْغ ِين ِم َن ا ِْلَِق َشْي ئًا ﴾‬ ‫[النجم‪.]28 :‬‬

‫العقوبة اليت قدرِتا الشريعةُ للجر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ود‬ ‫جتاوز‬ ‫مية‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬تِْل َ‬ ‫وال جيوز حبال ُ‬ ‫ك ُح ُد ُ‬ ‫َِ‬ ‫وها﴾ [البقرة‪.]229 :‬‬ ‫اّلل فَالَ تَ ْعتَ ُد َ‬

‫ُخَرى﴾ [اإلسراء‪،]15 :‬‬ ‫وال يؤخ ُذ إنسا ٌن جبريرةِ غريه‪ ،‬قال تعاىل‪َ ﴿ :‬والَ تَ ِزُر َوا ِزَرةٌ ِوْزَر أ ْ‬ ‫ٍ‬ ‫ىء ِمبا َكس ِ‬ ‫ني﴾‬ ‫ب َره ٌ‬ ‫وكل إنسان مستقل مبسؤوليته عن أفعاله‪ ،‬قال تعاىل‪ُ ﴿ :‬ك ُّل ْام ِر َ َ َ‬

‫(‪ )1‬احقوق اإلنسان‪ ،‬للغزايل (‪.)175‬‬

‫‪111‬‬


‫جيوز حبال أن َتت َد املسألةُ إىل ذويه من أهل وأقارب أو أتباع‬ ‫[الطور‪ .]21 :‬وال ُ‬ ‫ال معاذَ َِ‬ ‫اعنَا ِعْن َدهُ إِ َان إِذًا‬ ‫اّلل أَ ْن َأنْ ُخ َذ إِالَ َم ْن َو َج ْد َان َمتَ َ‬ ‫وأصدقاء‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬قَ َ َ َ‬ ‫لَظَالِ ُمو َن ﴾ [يوسف‪.)1(]79 :‬‬ ‫‪ 6‬ـ حق احلماية من تعسف السلطة‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫جيوز مطالبته بتقدمي تفس ٍري‬ ‫لكل فرد اِلق يف ْحايته من تعسف السلطات معه‪ ،‬وال ُ‬ ‫لعمل من أعماله‪ ،‬أو وض ٍع من أوضاعه‪ ،‬وال توجيه إِتا له إال بناء على قرائن قوية‬ ‫تدل على تورطه فيما يوجه إليه‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬والَ ِذين ي ؤذُو َن الْمؤِمنِني والْمؤِمنَ ِ‬ ‫ات‬ ‫ُْ َ َ ُْ‬ ‫َ َ ُْ‬ ‫ِ‬ ‫احتَ َملُوا ُهبْتَاانً َوإِْمثًا ُمبِيناً ﴾ [األحزاب‪.]58 :‬‬ ‫بِغَ ِْري َما ا ْكتَ َسبُوا فَ َقد ْ‬

‫‪ 7‬ـ حق الفرد يف محاية عرضه ومسعته‪:‬‬ ‫قال تعاىل‪َ﴿ :‬يأَيُّها الَ ِذين آمنوا الَ يسخر قَو ِمن قَوٍ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َُ َ ْ َ ْ ْ ٌ ْ ْ‬ ‫َوالَ نِ َساءٌ ِم ْن نِ َس ٍاء َع َسى أَ ْن يَ ُك َن َخ ْ ًريا ِمْن ُه َن َوالَ‬

‫َع َسى أَ ْن يَ ُكونُوا َخ ْ ًريا ِمْن ُه ْم‬ ‫تَ ْل ِمُزوا أَنْ ُف َس ُك ْم َوالَ تَنَابَُزوا‬

‫ِابلَلْ َق ِ‬ ‫اب﴾ [احلجرات‪.]11 :‬‬ ‫ِ‬ ‫جيوز انتهاكها‪ ،‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪:‬‬ ‫رض الفرد ومسعته حرمةٌ ال ُ‬ ‫ع ُ‬ ‫ِ‬ ‫كحرمة يومكم هذا‪ ،‬يف شهركم هذا‪،‬‬ ‫«إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرا ٌ‬ ‫يف بلدكم هذا»(‪.)2‬‬

‫وُير تتبع عوراته‪ ،‬وحماولة النيل من شخصيته‪ ،‬وكيانه الديب‪ .‬قال تعاىل‪َ​َ ﴿ :‬يأَيُّ َها‬ ‫الَ ِذين آمنُوا ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ض ُك ْم‬ ‫ب بَ ْع ُ‬ ‫اجتَنبُوا َكث ًريا م َن الظَ ِن إِ َن بَ ْع َ‬ ‫َ َ ْ‬ ‫ض الظَ ِن إ ْمثٌ َوالَ َجتَ َس ُسوا َوالَ يَ ْغتَ ْ‬ ‫ب أَح ُد ُكم أَ ْن أيْ ُكل َِلم أ ِ‬ ‫ِ‬ ‫اب‬ ‫اّللَ إِ َن َ‬ ‫َخ ِيه َمْي تًا فَ َك ِرْهتُ ُموهُ َواتَ ُقوا َ‬ ‫بَ ْع ً‬ ‫اّللَ تَ َو ٌ‬ ‫ضا أ َُُي ُّ َ ْ َ َ َْ‬ ‫(‪ )1‬حقوق اإلنسان‪ ،‬للغزايل ص (‪.)176‬‬ ‫(‪ )2‬مسلم‪.)889( ،‬‬

‫‪112‬‬


‫َرِح ٌيم﴾ [احلجرات‪.]12 :‬‬ ‫‪ 8‬ـ حق اللجوء‪:‬‬

‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫من ِ‬ ‫حق ِ‬ ‫حيث أيمن‪ ،‬يف نطاق دار‬ ‫كل مسلم‬ ‫مضطهد أو مظلو أن يلجأ إىل ُ‬ ‫َ‬ ‫حق يك ُفلُه اإلسال ُ ِ‬ ‫مضطه ٍد‪َ ،‬أَيً كانت جنسيته‪ ،‬أو عقيدته‪،‬‬ ‫لكل‬ ‫اإلسال ‪ ،‬وهو ٌّ‬ ‫َ‬ ‫أو لونه‪ ،‬ويتحمل املسلمون واجب توفري المن له مىت جلأ إليهم‪.‬‬ ‫قال تعاىل‪﴿ :‬وإِ ْن أَح ٌد ِمن الْم ْش ِركِني استجارَك فَأ َِجره ح َىت يسمع َكالَ َِ ِ‬ ‫اّلل مثَُ أَبْل ْغهُ‬ ‫ُْ َ َ ْ َ َ َ‬ ‫َ َ َ ُ َ َْ َ َ‬ ‫َمأْ َمنَهُ﴾ [التوبة‪.]6 :‬‬

‫ص ُّد عنه مسلم‪ ،‬قال‬ ‫أمن للناس مجيعاً‪ ،‬ال يُ َ‬ ‫وبيت هللا اِلرا مبكة املشرفة هو مثابةٌ و ٌ‬ ‫ِ‬ ‫ت‬ ‫تعاىل‪َ ﴿ :‬وَم ْن َد َخلَهُ َكا َن آمناً﴾ [آل عمران‪ ،]97 :‬وقال تعاىل‪َ ﴿ :‬وإِ ْذ َج َع ْلنَا الْبَ ْي َ‬ ‫َمثَابَةً لِلن ِ‬ ‫َاس َوأ َْمناً﴾ [البقرة‪.)1(]125 :‬‬ ‫‪ 9‬ـ حقوق األقليات‪:‬‬

‫ُيكمها املبدأُ القرآين العا ‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬الَ إِ ْكَر َاه ِيف‬ ‫الوضاع الدينية لألقليات ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫حتكمها‬ ‫لألقليات‪،‬‬ ‫الشخصية‬ ‫ال‬ ‫و‬ ‫الح‬ ‫و‬ ‫ة‬ ‫املدني‬ ‫الوضاع‬ ‫و‬ ‫‪.‬‬ ‫ن﴾ [البقرة‪]256 :‬‬ ‫ي‬ ‫الد‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫اح ُك ْم بَْي نَ ُه ْم أ َْو‬ ‫هم حتاكموا إلينا‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬فَِإ ْن َجاءُ َ‬ ‫وك فَ ْ‬ ‫اح ُك ْم بَْي نَ ُه ْم‬ ‫ضُّر َ‬ ‫ض َعْن ُه ْم فَلَ ْن يَ ُ‬ ‫تُ ْع ِر ْ‬ ‫وك َشْي ئًا َوإِ ْن َح َك ْم َ‬ ‫ت فَ ْ‬

‫شريعةُ اإلسال إن‬ ‫ض َعْن ُه ْم َوإِ ْن‬ ‫أ َْع ِر ْ‬ ‫ِابلْ ِق ْس ِط﴾ [املائدة‪ ،]42 :‬فإن مل يتحاكموا إلينا كان عليهم أن يتحاكموا إىل شرائعهم‬ ‫ك َو ِعْن َد ُه ُم الت َْوَراةُ فِ َيها‬ ‫ف ُ​ُيَ ِك ُمونَ َ‬ ‫ما دامت تنتمي عندهم لصل إهلي‪َ ﴿ :‬وَكْي َ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ح ْكم َِ‬ ‫ك﴾[املائدة‪ .]43 :‬وقال تعاىل‪َ ﴿ :‬ولْيَ ْح ُك ْم أ َْه ُل‬ ‫اّلل مثَُ يَتَ َولَْو َن ِم ْن بَ ْعد ذَل َ‬ ‫ُ ُ‬ ‫اّللُ فِ ِيه﴾[املائدة‪.]47 :‬‬ ‫ا ِإل ِْجن ِيل ِمبَا أَنْ َزَل َ‬ ‫(‪ )1‬حقوق اإلنسان‪ ،‬حممد الغزايل ص (‪.)177‬‬

‫‪113‬‬


‫‪ 10‬ـ حق املشاركة يف احلياة العامة‪:‬‬ ‫يعلم مبا جيري يف حياِتا‪ ،‬من شؤون تتصل ابملصلحة‬ ‫من حق كل فرد يف المة أن َ‬ ‫العامة للجماعة‪ ،‬وعليه أن يُ ْس ِه َم فيها بقدر ما تتبع له قدرته ومواهبه إعماالً ملبدأ‬

‫أهل‬ ‫الشورى‪ ،‬قال تعاىل‪َ ﴿ :‬وأ َْمُرُه ْم ُش َ‬ ‫ورى بَْي نَ ُه ْم﴾ [الشورى‪ ،]28 :‬وكل فرد يف المة ٌ‬ ‫لتويل املناصب‪ ،‬والوظائف العامة‪ ،‬مىت توافرت فيه شرائطه ا الشرعية‪ ،‬وال تسقط‬

‫تنقص حتت ِ‬ ‫أي اعتبار عنصري أو طبقي‪ ،‬قال رسول هللا صلى هللا‬ ‫هذه الهليةُ أو ُ‬

‫عليه وسلم‪« :‬املسلمو َن تتكافأ دماؤهم‪ ،‬وهم ي ٌد على من سواهم‪ ،‬ويسعى بذمتهم‬ ‫أدانهم»(‪.)1‬‬ ‫أساس العالقة بني اِلاكم والمة‪ ،‬ومن حق المة أن ختتار حكامها‬ ‫والشورى‬ ‫ُ‬ ‫اِلق يف حماسبتهم ويف عزهلم إذا حادوا عن‬ ‫إبرادِتا اِلرة‪ ،‬تطبيقاً هلذا املبدأ‪ ،‬وهلا ُّ‬ ‫لست خبريكم‪،‬‬ ‫ليت عليكم‪ ،‬و ُ‬ ‫الشريعة‪ ،‬قال أبو بكر الصديق رضي هللا عنه‪ِ « :‬إين و ُ‬ ‫الكذب خيانةٌ‪...‬‬ ‫أسأت فقوموين‪،‬‬ ‫أحسنت فأعينوين‪ ،‬وإ ْن‬ ‫فإن‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫الصدق أمانةٌ‪ ،‬و ُ‬ ‫عصيت هللاَ ورسولَه‪ ،‬فال طاعة يل عليكم»(‪.)2‬‬ ‫أطعت هللاَ ورسولَه‪ ،‬فإذا‬ ‫أطيعوين ما‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬

‫‪ 11‬ـ حق الدعوة والبالغ‪:‬‬ ‫لكل ٍ‬ ‫ِ‬ ‫اِلق يف أن يشارَك مع غريه أو منفرداً يف حياة اجملتمع دينياً‪ ،‬واجتماعياً‪،‬‬ ‫فرد ُّ‬ ‫وثقافياً‪ ،‬وسياسياً‪ ...‬إخل وأن ِ‬ ‫ويصنع من الوسائل ما هو‬ ‫ئ من املؤسسات‪،‬‬ ‫ينشأ َ‬ ‫َ‬ ‫ضروري ملمارسة هذا اِلق‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬قُل ه ِذهِ سبِيلِي أَدعو إِ َىل َِ‬ ‫صريةٍ‬ ‫ِ‬ ‫ُْ‬ ‫ْ َ َ‬ ‫اّلل َعلَى بَ َ‬ ‫أ َ​َان َوَم ِن اتَبَ َع ِين﴾ [يوسف‪.]108 :‬‬

‫(‪ )1‬صحيح سنن أيب داود‪ ،‬اللباين (‪.)525/2‬‬ ‫(‪ )2‬التاريخ اإلسالمي‪ ،‬عبد العزيز اِلميدي (‪ )28/9‬الشورى فريضة إسالمية للمؤلف ص (‪.)56‬‬

‫‪114‬‬


‫ِ‬ ‫ومن حق ِ‬ ‫ب‬ ‫أيمر ابملعروف‪ ،‬وينهى عن املنكر‪ ،‬وأن يطال َ‬ ‫كل فرد بل ومن واجبه أن َ‬ ‫اجملتمع إبقامة املؤسسات اليت ِتيئ لألفراد الوفاء هبذه املسؤولية‪ ،‬تعاوانً على الرب‬ ‫َ‬ ‫اخل ِري وأيْمرو َن ِابلْمعر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وف‬ ‫َ ُْ‬ ‫والتقوى‪ ،‬قال تعاىل‪َ ﴿ :‬ولْتَ ُك ْن مْن ُك ْم أ َُمةٌ يَ ْدعُو َن إ َىل َْْ َ َ ُ ُ‬ ‫َويَْن َه ْو َن َع ِن الْ ُمْن َك ِر﴾[ال عمران‪ ، )1(]104 :‬وحق اإلنسان يف إنكار املنكر‪ ،‬ورفض‬ ‫القرآن بقوله تعاىل‪َ ﴿ :‬والَ تَْرَكنُوا‬ ‫َِ ِ ِ‬ ‫صُرو َن ﴾‬ ‫اّلل م ْن أ َْوليَاءَ مثَُ الَ تُْن َ‬ ‫ب ِين إِسرائِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ود‬ ‫يل َعلَى ل َسان َد ُاو َ‬ ‫َ َْ َ‬

‫الفساد‪ ،‬ومقاومة الظلم البني‪ ،‬والكفر البواح‪ ،‬قرره‬ ‫إِ َىل الَ ِذين ظَلَموا فَتَم َس ُكم النَار وما لَ ُكم ِمن د ِ‬ ‫ون‬ ‫َ ُ َ ُ ُ َ​َ ْ ْ ُ‬ ‫[هود‪ .]13 :‬وقال تعاىل‪﴿ :‬لُعِن الَ ِ‬ ‫ين َك َفُروا ِم ْن‬ ‫ذ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫و ِعيسى اب ِن مرَمي َذلِ َ ِ‬ ‫اه ْو َن َع ْن ُمْن َك ٍر‬ ‫َ َ ْ َْ َ‬ ‫ص ْوا َوَكانُوا يَ ْعتَ ُدو َن ۝ َكانُوا الَ يَتَ نَ َ‬ ‫ك مبَا َع َ‬ ‫ِ‬ ‫س َما َكانُوا يَ ْف َعلُو َن ﴾ [املائدة‪ 78 :‬ـ ‪ ،]79‬كيف ال وقد قي َد هللا الطاعة‬ ‫فَ َعلُوهُ لَبْئ َ‬ ‫للرسول صلى هللا عليه وسلم نفسه ابملعروف‪ ،‬فقال يف بيعة النساء‪﴿ :‬والَ ي ع ِ‬ ‫ك‬ ‫صينَ َ‬ ‫َ َْ‬ ‫ِيف معر ٍ‬ ‫نيب هللا صاحل‪َ ﴿ :‬والَ تُ ِطيعُوا أ َْمَر‬ ‫وف﴾ [املمتحنة‪ .]12 :‬وقال على لسان ِ‬ ‫َ ُْ‬ ‫الْمس ِرفِني ۝ الَ ِ‬ ‫ين يُ ْف ِس ُدو َن ِيف ال َْر ِ‬ ‫صلِ ُحو َن ﴾ [الشعراء‪ 151 :‬ـ ‪.]152‬‬ ‫ذ‬ ‫ُْ َ‬ ‫ض َوالَ يُ ْ‬ ‫َ‬ ‫بل إن اإلسال قد ارتقى هبذه المور من مرتبة اِلقوق إىل مرتبة الفرائض‬ ‫والواجبات‪ ،‬لن ما كان من اِلقوق ِ‬ ‫ميك ُن لصاحبه أن يتنازل عنه‪ ،‬أما الواجبات‬ ‫التنازل عنها(‪.)2‬‬ ‫املفروضة فال جيوز ُ‬ ‫‪ 12‬ـ احلقوق االقتصادية‪:‬‬

‫ملك هلل تعاىل‪َِّ﴿ :‬للِ‬ ‫ك ال َسماو ِ‬ ‫ات َوال َْر ِ‬ ‫ض َوَما فِي ِه َن‬ ‫ل‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫الطبيعة بثرواِتا مجيعاً‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ​َ‬ ‫َوُه َو َعلَى ُك ِل َش ْي ٍء قَ ِد ٌير ﴾ [املائدة‪ ،]120 :‬وهي عطاء منه للبشر‪ ،‬منحهم حق‬

‫(‪ )1‬حقوق اإلنسان‪ ،‬للغزايل ص (‪.)179‬‬ ‫(‪ )2‬كيف نتعامل مع القرآن العظيم؟ ص (‪.)74‬‬

‫‪115‬‬


‫االنتفاع هبا‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬وس َخر لَ ُكم ما ِيف ال َسماو ِ‬ ‫ض َِ‬ ‫ات َوَما ِيف ال َْر ِ‬ ‫مج ًيعا ِمْنهُ﴾‬ ‫َ​َ َ ْ َ‬ ‫َ​َ‬ ‫[اجلاثية‪.]13 :‬‬ ‫وحر عليهم إفسادها وتدمريها‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬والَ تَعث وا ِيف الَر ِ ِ ِ‬ ‫ين ﴾‬ ‫ْ‬ ‫َ َْ ْ‬ ‫ض ُم ْفسد َ‬ ‫[الشعراء‪.]183 :‬‬ ‫وال جيوز ٍ‬ ‫لحد أن ُيرَ اخر أو يعتدي على حقه يف االنتفاع مبا يف الطبيعة من‬ ‫ُ‬ ‫ورا ﴾ [اإلسراء‪.]20 :‬‬ ‫مصادر الرزق‪َ ﴿ :‬وَما َكا َن َعطَاءُ َربِ َ‬ ‫ك َْحمظُ ً‬

‫فلكل إنسان اِلق يف العمل‪ ،‬واملشي يف مناكب الرض سعياً لكسب رزقه‪ ،‬قال‬ ‫ِ‬ ‫ض َذلُوالً فَ ْام ُشوا ِيف َمنَاكِبِ َها َوُكلُوا ِم ْن ِرْزقِ ِه َوإِلَْي ِه‬ ‫تعاىل‪ُ ﴿ :‬ه َو الَذي َج َع َل لَ ُك ُم ال َْر َ‬ ‫ور ﴾ [امللك‪.]15 :‬‬ ‫الن ُ‬ ‫ُّش ُ‬ ‫ضي ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫صالَةُ فَانْتَ ِشُروا ِيف ال َْر ِ‬ ‫ض َوابْتَغُوا ِم ْن‬ ‫ت ال َ‬ ‫حىت يف يو اجلمعة قال تعاىل‪﴿ :‬فَإذَا قُ َ‬ ‫اّللِ﴾ [اجلمعة‪.]10 :‬‬ ‫ض ِل َ‬ ‫فَ ْ‬ ‫ضالً ِم ْن َربِ ُك ْم﴾ [البقرة‪.]198 :‬‬ ‫اح أَ ْن تَْب تَغُوا فَ ْ‬ ‫س َعلَْي ُك ْم ُجنَ ٌ‬ ‫ويف اِلج قال تعاىل‪﴿ :‬لَْي َ‬ ‫ولكل إنسان اِلق يف أن يتمتع بثمرة ما كسب من حالل عن طريق التملك‪ ،‬رجالً‬ ‫ص ِ‬ ‫صيب ِْمَا ا ْكتَسبوا ولِلنِس ِاء نَ ِ‬ ‫كان أو امرأة‪﴿ :‬لِ ِلرج ِال نَ ِ‬ ‫ب﴾‬ ‫يب ْمَا ا ْكتَ َس ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫َُ َ َ‬ ‫[النساء‪.)1(]32 :‬‬

‫‪ 13‬ـ حق محاية امللكية‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫ملكية نشأت عن كسب حالل إال للمصلحة العامة‪ ،‬قال تعاىل‪:‬‬ ‫ال ُ‬ ‫جيوز انتزاعُ‬ ‫﴿والَ َأتْ ُكلُوا أَموالَ ُكم ب ي نَ ُكم ِابلْب ِ‬ ‫اط ِل﴾ [البقرة‪ .]188 :‬ومع تعويض عادل لصاحبها‪،‬‬ ‫ْ َ ْ َْ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ف‬ ‫قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪َ « :‬م ْن أخ َذ من‬ ‫الرض شيئاً بغ ِري حقه ُخس َ‬ ‫(‪ )1‬كيف نتعامل مع القران العظيم؟ ص (‪.)74‬‬

‫‪116‬‬


‫به يو القيامة إىل سبع أرضني»(‪ .)1‬وحرمة امللكية العامة أعظم‪ ،‬وعقوبة االعتداء‬ ‫عليها أشد‪ ،‬لنه عدوان على اجملتمع كله‪ ،‬وخيانة لألمة أبسرها‪ ،‬قال رسول هللا‬ ‫صلى هللا عليه وسلم‪َ « :‬م ِن استعملناه على ٍ‬ ‫ذلك‬ ‫عمل فرزقناه ِرزقاً‪ ،‬فما أخ َذ َ‬ ‫بعد َ‬ ‫غلول»(‪.)2‬‬ ‫فهو ٌ‬ ‫‪ 14‬ـ حق العامل‪:‬‬ ‫شعار رفعه اإلسال جملتمعه‪ ،‬قال تعاىل‪َ ﴿ :‬وقُ ِل ْاع َملُوا﴾ [التوبة‪ .]105 :‬وإذا‬ ‫لعمل ٌ‬ ‫ا ُ‬ ‫ُيب إذا‬ ‫كان َح ُّق العمل االتقا ُن‪ ،‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪« :‬إن هللاَ ُّ‬ ‫عمل أح ُدكم عمالً أن يتقنه»(‪.)3‬‬ ‫َ‬ ‫حق العامل‪:‬‬

‫أ أن يوَف أجره املكافئ جلهده دون حيف عليه‪ ،‬أو ْماطلة له‪ ،‬قال رسول هللا صلى‬ ‫جيف عرقه»(‪.)4‬‬ ‫هللا عليه وسلم‪« :‬أعطوا الجري أجره قبل أن َ‬ ‫ب أن توفر له حياة كرمية تتناسب مع ما يبذله من جهد وعرق‪.‬‬ ‫جدير به من تكرمي اجملتمع له‪ ،‬قال تعاىل‪َ ﴿ :‬وقُ ِل ْاع َملُواْ فَ َس َ​َريى‬ ‫ج أن ميُْنَ َح ما هو ٌ‬ ‫اّللُ َع َملَ ُك ْم َوَر ُسولُهُ َوالْ ُم ْؤِمنُو َن﴾‬ ‫اّللُ َع َملَ ُك ْم َوَر ُسولُهُ َوالْ ُم ْؤِمنُو َن ﴿فَ َس َ​َريى َ‬ ‫[التوبة‪.]105 :‬‬ ‫د أن جيد اِلماية؛ اليت حتول دون غبنه‪ ،‬واستغالل ظروفه(‪.)5‬‬ ‫‪ 15‬ـ حق الفرد يف كفايته من مقومات احلياة‪:‬‬ ‫(‪ )1‬صحيح البخاري‪.)115/2( ،‬‬ ‫(‪ )2‬صحيح سنن أيب داود (‪.)230/2‬‬ ‫(‪ )3‬صحيح اجلامع الصغري وزَيدته‪ ،‬لأللباين رقم (‪.)1880‬‬ ‫(‪ )4‬صحيح سنن ابن ماجه‪ ،‬لأللباين (‪.)59/2‬‬ ‫(‪ )5‬حقوق اإلنسان‪ ،‬للغزايل ص (‪.)181‬‬

‫‪117‬‬


‫من حق الفرد أن ينال كفايته من ضرورات اِلياة‪ ،‬من طعا ‪ ،‬وشراب‪ ،‬وملبس‪،‬‬ ‫ومسكن‪ ..‬وْما يلز لصحة بدنه من رعاية‪ ،‬وما يلز لصحة روحه‪ ،‬وعقله من عل ٍم‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫اجب المة ليشمل ما ال‬ ‫ومعرفة‪ ،‬وثقافة‪ ،‬يف نطاق ما تسمح به موارد المة‪ ،‬وميتد و ُ‬ ‫يستقل هو بتوفريه لنفسه من ذلك(‪ .)1‬قال تعاىل‪﴿ :‬إَِمنَا الْ ُم ْؤِمنُو َن‬ ‫يستطيع الفرد أن‬ ‫َ‬ ‫إِ ْخ َوةٌ﴾ [احلجرات‪ .]10 :‬وقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪« :‬املسلم أخو املسلم ال‬ ‫يظلمه وال يسلمه وال ُيذله»(‪.)2‬‬ ‫قال ابن حز تعليقاً على هذا اِلديث‪َ :‬م ْن تركه جيوع ويعري وهو قادر على إطعامه‬ ‫وكسوته فقد أسلمه(‪ .)3‬إ َن الخوة ليست جمرد عاطفة‪ ،‬ولكنها عقد تكافل وتعاون‬ ‫وَتزر‪ ،‬وهو عقد طرفه الساسي المة ْمثلة يف مستوَيت مرتاتبة تبدأ ابلسرةِ‪ ،‬حيث‬ ‫أوجب على أفرادها التكافل يف اإلرث والوصية والنفقة‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬وأُولُو الَرحاِ‬ ‫َْ‬ ‫َ‬ ‫ض ُه ْم أ َْوَىل بِبَ ْع ٍ‬ ‫ض﴾ [األنفال‪.]75 :‬‬ ‫بَ ْع ُ‬ ‫اجلا ِر ِ‬ ‫اجلُنُ ِ‬ ‫اجلَا ِ‬ ‫أهل‬ ‫أييت‬ ‫مث‬ ‫‪،‬‬ ‫ب﴾ [النساء‪]36 :‬‬ ‫ر‬ ‫و‬ ‫َب‬ ‫ر‬ ‫ق‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ي‬ ‫ذ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫مث اجلرية؛ قال تعاىل‪َ ﴿ :‬و َْ‬ ‫ْ َ‬ ‫ُ‬ ‫اِلي‪ ،‬مث اجملتمع كله عن طريق الزكاةِ‪ ،‬وهي فريضةٌ مل ِزمة‪ ،‬مث النفقة التطوعية(‪.)4‬‬ ‫‪ 16‬ـ أتكيد حقوق الضعفاء‪:‬‬ ‫حقوق اإلنسان عامةً‪ ،‬ولكنه عُين عنايةً فائقةً حبقوق الضعفاء من‬ ‫قرر القرآن الكرمي‬ ‫َ‬ ‫جيور عليهم القوَيء‪ ،‬أو‬ ‫أمرهم اِلكا ُ‬ ‫بين اإلنسان خاصة خيفةَ أن َ‬ ‫يهمل َ‬ ‫َ‬ ‫واملسؤولون‪ ،‬جند مظاهر هذه العناية يف سور القرآن الكرمي مكيه ومدنيه‪ ،‬كقوله‬

‫(‪ )1‬املصدر نفسه ص (‪.)182‬‬ ‫(‪ )2‬البخاري (‪ )6951‬ومسلم (‪.)2580‬‬ ‫(‪ )3‬املصدر نفسه (‪.)109/1‬‬ ‫(‪ )4‬احمللى‪ ،‬نقالً عن اِلرَيت‪ ،‬للغنوشي (‪.)108/1‬‬

‫‪118‬‬


‫تعاىل‪﴿ :‬فَأَ​َما الْيَتِ َيم فَالَ تَ ْق َهْر ﴾ [الضحى‪ ،]9 :‬ويف سورة املدثر يتحدث عن اجملرمني‬

‫يف سقر‪ ،‬وأسباب دخوهلم فيها‪ ،‬فيقول على لسان أصحاب اليمني حيث يسألوهنم‪:‬‬ ‫ك ِمن الْمصلِني ۝ وَمل نَ ُ ِ ِ ِ‬ ‫ني﴾‪،‬‬ ‫ك نُطْع ُم الْم ْسك َ‬ ‫﴿ َما َسلَ َك ُك ْم ِيف َس َقَر۝ قَالُوا َملْ نَ ُ َ ُ َ َ‬ ‫َْ‬ ‫ت الَ ِذي‬ ‫وهاَتن السورَتن الضحى واملدثر من أوائل ما نزل‪ ،‬ويف سورة املاعون ﴿أ َ​َرأَيْ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ض َعلَى طَ َعاِ الْ ِمس ِك ِ‬ ‫ني ﴾‬ ‫ك الَ ِذي يَ ُدعُّ الْيَتِ َيم ۝ َوالَ َُيُ ُّ‬ ‫ب ِابلدي ِن ۝ فَ َذل َ‬ ‫يُ َكذ ُ‬ ‫ْ‬ ‫فلم ِ‬ ‫ض على ذلك‪ ،‬والدعوة إليه‪.‬‬ ‫يكتف إبجياب إطعا املسكني‪ ،‬بل‬ ‫أوجب اِل َ‬ ‫َ‬ ‫ويف سورة اِلاقة‪ ،‬علل القرآن دخول صاحب الشمال اجلحيم بقوله تعاىل‪﴿ :‬إِنَهُ‬

‫ض َعلَى طَعاِ‬ ‫َكا َن الَ يُ ْؤِم ُن ِاب َّللِ الْ َع ِظي ِم ۝ َوالَ َُيُ ُّ‬ ‫َ‬ ‫اإلميان ابهلل برتك اِلض على إطعا املسكني‪.‬‬

‫الْ ِمس ِك ِ‬ ‫ض على‬ ‫ني ﴾‪ ،‬فقرن اِل َ‬ ‫ْ‬

‫ويف سورة الفجر خاطب القرآن اجملتمع اجلاهلي املتظامل بقوله‪َ ﴿ :‬كالَ بَ ْل الَ تُ ْك ِرُمو َن‬ ‫آضو َن َعلَى طَ َعاِ الْ ِمس ِك ِ‬ ‫ني ﴾ وأمر ابحملافظة على مال اليتيم إن‬ ‫الْيَتِ َيم ۝ والَ َحتَ ُّ‬ ‫ْ‬ ‫كان له مال‪ ،‬إذ جعل ذلك من وصاَيه العشر يف سورة [األنعام‪َ ﴿ :]152 :‬والَ تَ ْقَربُوا‬ ‫ِ‬ ‫َشدَهُ﴾‬ ‫َم َ‬ ‫ال الْيَتِي ِم إِالَ ِابلَِيت ه َي أْ ْح َس ُن َح َىت يَْب لُ َغ أ ُ‬ ‫اعد للمحافظة على مال اليتيم‪ ،‬وحسن استغالله‪ ،‬وتنميته‬ ‫ويف سورة النساء وضع القو َ‬ ‫ِ َِ‬ ‫ٍ‬ ‫ين َأيْ ُكلُو َن‬ ‫ابملعروف يف مجلة من اآلَيت انتهت بوعيد شديد‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬إ َن الذ َ‬ ‫ِ​ِ‬ ‫صلَ ْو َن َسعِ ًريا﴾‬ ‫أ َْم َو َال الْيَ تَ َامى ظُْل ًما إَِمنَا َأيْ ُكلُو َن ِيف بُطُوهن ْم َان ًرا َو َسيَ ْ‬

‫وقد جعل القرآن للمساكني واليتامى إذا كانوا فقراء حظاً يف أموال الدولة من الزكاة‬ ‫ِ​ِ‬ ‫ات لِْل ُف َقر ِاء والْمساكِ ِ‬ ‫ني‬ ‫والفيء ومخس الغنيمة‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬إَِمنَا ال َ‬ ‫ني َوالْ َعامل َ‬ ‫ص َدقَ ُ َ َ َ َ‬ ‫ِ‬ ‫الرقَ ِ‬ ‫وهبُْم َوِيف ِ‬ ‫اّللِ َوابْ ِن ال َسبِ ِيل﴾[التوبة‪.]60 :‬‬ ‫ني َوِيف َسبِ ِيل َ‬ ‫َعلَْي َها َوالْ ُم َؤلَ​َف ِة قُلُ ُ‬ ‫اب َوالْغَا ِرم َ‬ ‫اّلل َعلَى رسولِ​ِه ِمن أ َْه ِل الْ ُقرى فَلِلَ ِه ولِلَرس ِ‬ ‫ول َولِ ِذي الْ ُقْرَ​َب‬ ‫َ ُ‬ ‫ْ‬ ‫َُ‬ ‫وقال تعاىل‪َ ﴿ :‬ما أَفَاءَ َُ‬ ‫َ‬ ‫‪119‬‬


‫والْيَ تَ َامى والْمساكِ ِ‬ ‫ني الَ ْغنِيَ ِاء ِمْن ُك ْم﴾[احلشر‪.]7 :‬‬ ‫ني َوابْ ِن ال َسبِ ِيل َك ْي الَ يَ ُكو َن ُدولَةً بَْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ​َ‬

‫ويل المر أبخذها‪ ،‬فقال تعاىل‪:‬‬ ‫أمر َ‬ ‫وإمنا جعلنا الزكاة من أموال الدولة‪ ،‬لن هللا َ‬ ‫ِ​ِ‬ ‫ِ‬ ‫ص َدقَةً تُطَ ِهُرُه ْم َوتَُزكِي ِه ْم ِهبَا﴾ [التوبة‪ .]103 :‬فإذا مل تتول الدولة‬ ‫﴿ ُخ ْذ م ْن أ َْم َواهل ْم َ‬ ‫أخذها‪ ،‬كان على أر ِ‬ ‫ابب الموال أداؤها إىل الفقراء‪ ،‬يبحثون هم عن الفقراء‪ ،‬وال‬ ‫يبحث الفقراء عنهم‪.‬‬

‫س الِْربُّ‬ ‫كما جعل هلم حقاً يف أموال أقارهبم وسائر المة بعد ذلك‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬لَْي َ‬ ‫وه ُكم قِبل الْم ْش ِرِق والْم ْغ ِر ِ‬ ‫ُّ‬ ‫ب َولَكِ َن الِْ َرب َم ْن َآم َن ِاب َّللِ َوالْيَ ْوِ اآلخر‬ ‫َ َ‬ ‫أَ ْن تُ َولوا ُو ُج َ ْ َ َ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫والْمالَئِ َك ِة والْ ِكتَ ِ‬ ‫ني‬ ‫ني َوآتَى الْ َم َ‬ ‫ال َعلَى ُحبِه َذ ِوي الْ ُقْرَ​َب َوالْيَ تَ َامى َوالْ َم َساك َ‬ ‫اب َوالنَبِيِ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫ِ​ِ‬ ‫الرقَ ِ‬ ‫ني َوِيف ِ‬ ‫صالَ​َة َوآتَى الَزَكا َة﴾ [البقرة‪ .]177 :‬قال‬ ‫اب َوأَقَا َ ال َ‬ ‫َوابْ َن ال َسبِ ِيل َوال َسائل َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ني َوابْ َن ال َسبِ ِيل﴾ [اإلسراء‪ .]26 :‬وقال تعاىل‪:‬‬ ‫تعاىل‪َ ﴿ :‬وآت ذَا الْ ُقْرَ​َب َح َقهُ َوالْم ْسك َ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ني َوالْيَ تَ َامى‬ ‫﴿يَ ْسأَلُونَ َ‬ ‫ك َما َذا يُْنف ُقو َن قُ ْل َما أَنْ َف ْقتُ ْم م ْن َخ ٍْري فَل ْل َوال َديْ ِن َوالَقْ َربِ َ‬ ‫والْمساكِ ِ‬ ‫ني َوابْ ِن ال َسبِ ِيل﴾ [البقرة‪.]215 :‬‬ ‫َ َ​َ‬ ‫وسل السيوف للدفاع عن املستضعفني‬ ‫وأهم من ذلك كله‪ :‬أن القرآن شرع القتال‪َ ،‬‬

‫يف الرض‪ ،‬بل حرض أبلغ التحريض على القت ال ذوداً عن حرماِتم‪ ،‬ودرءاً للظلم‬ ‫عنهم‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬فَ ْلي َقاتِل ِيف سبِ ِيل َِ َ ِ‬ ‫اِلَيَا َة الدُّنْيَا ِابآلخرِة َوَم ْن‬ ‫ين يَ ْشُرو َن ْ‬ ‫ُ ْ َ‬ ‫اّلل الذ َ‬ ‫ِ‬ ‫اّللِ فَي ْقتَل أَو ي ْغلِب فَسو َ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫يما ۝ َوَما لَ ُك ْم الَ‬ ‫ف نُ ْؤتيه أ ْ‬ ‫يُ َقات ْل ِيف َسب ِيل َ ُ ْ ْ َ ْ َ ْ‬ ‫َجًرا َعظ ً‬ ‫الرج ِال والنِس ِاء والْ ِولْ َد ِان الَ ِ‬ ‫اّللِ‬ ‫ضع ِفني ِ‬ ‫تُ َقاتِلُو َن ِيف َسبِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ين يَ ُقولُو َن َربَنَا‬ ‫ذ‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ت‬ ‫س‬ ‫م‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫يل‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُْ‬ ‫أَخ ِرجنا ِمن ه ِذهِ الْ َقري ِة الظَ ِامل أَهلُها واجعل لَنا ِمن لَدنْ ِ‬ ‫ك‬ ‫اج َع ْل لَنَا ِم ْن لَ ُدنْ َ‬ ‫ْ َ َ َْ ْ َ ْ ُ َ‬ ‫ْ َْ ْ َ‬ ‫ك َوليًّا َو ْ‬ ‫َْ‬ ‫نَ ِ‬ ‫ص ًريا﴾ [النساء‪ 74 :‬ـ ‪.]75‬‬ ‫هذه بعض اِلقوق اليت قررها القرآن لإلنسان وال نقول أعلنها‪ ،‬إذ كان المر أكرب‬ ‫‪120‬‬


‫من إعالن‪ ،‬إنه بالغ من رب الناس للناس‪ ،‬أسست عليه عقيدة‪ ،‬وهنضت على‬ ‫أساسه ثقافة وتربية‪ ،‬وبين عليه فقه وتشريع‪ ،‬وقامت عليه دولة وأمة‪ ،‬وامتدت به‬ ‫حضارة وَتريخ(‪.)1‬‬ ‫عاشراً ـ تكوين األسرة الصاحلة‪:‬‬ ‫ومن املقاصد اليت هدف إليها القرآن الكرمي‪:‬‬ ‫تكوين السرة الصاِلة‪ ،‬اليت هي ركيزةُ‬ ‫ُ‬

‫اجملتم ِع الصا ِحل‪ ،‬ونواةُ المة الصاِلة(‪.)2‬‬

‫وال ريب أن‬ ‫اج الذي يربط بني الرجل واملرأة رابطاً‬ ‫أساس تكوين السرة هو الزو ُ‬ ‫َ‬ ‫وثيق العُرا‪ ،‬مكني البيان‪ ،‬مؤسساً على تقوى من هللا ورضوان‪ ،‬وقد اعترب‬ ‫شرعياً َ‬

‫القرآن هذا الزواج ايةً من آَيت هللا‪ ،‬مثل خلق السماوات والرض‪ ،‬وخلق اإلنسان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫من تراب‪ ،‬وذلك يف قوله تعاىل‪﴿ :‬وِمن ِ​ِ‬ ‫اجا‬ ‫آَيته أَ ْن َخلَ َق لَ ُك ْم م ْن أَنْ ُفس ُك ْم أ َْزَو ً‬ ‫َ ْ َ‬ ‫لِتس ُكنوا إِلَي ها وجعل ب ي ن ُكم موَد ًة ور ْ​ْحةً إِ َن ِيف َذلِ‬ ‫ك آلَ​َي ٍ‬ ‫ت لَِق ْوٍ يَتَ َف َكُرو َن﴾‬ ‫َ‬ ‫َ ْ ُ ْ َ َ َ َ َ َْ َ ْ َ َ َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫[الروم‪.]21 :‬‬

‫يرشد إليها القرآن‪،‬‬ ‫فأشار إىل الدعائم الثالثة اليت تقو عليها اِلياة الزوجية‪ ،‬كما ُ‬ ‫وهي‪ :‬السكون‪ ،‬واملودة‪ ،‬والرْحة‪ ،‬ويعين ابلسكون‪ :‬سكون النفس من اضطراهبا‬ ‫يعرف‬ ‫وثوراهنا توقاً إىل اجلنس اآلخر‪ ،‬ابإلشباع املشروع يف ظل مرضاة هللا‪ ،‬فال ُ‬ ‫اإلسال ُ السرَة إال بني رجل وامرأة‪ ،‬منذ السرة البشرية الوىل من اد وزوجه‬ ‫اجلَنَةَ﴾ [البقرة‪.]35 :‬‬ ‫ك ْ‬ ‫ت َوَزْو ُج َ‬ ‫اس ُك ْن أَنْ َ‬ ‫﴿ْ‬ ‫(‪ )1‬كيف نتعامل مع القرآن العظيم؟ ص (‪.)76‬‬ ‫(‪ )2‬املصدر نفسه ص (‪.)86‬‬

‫‪121‬‬


‫ال يعرف ما يدعو إليه املتحللون من الغربيني اليو من السرة الوحيدة اجلنس‪ ،‬حبيث‬ ‫أمر ضد الفطرة‪ ،‬وضد الخالق‪ ،‬وضد‬ ‫يتزوج الرجل الرجل‪ ،‬واملرأة املرأة‪ ،‬وهذا ٌ‬ ‫الشرائع‪ ،‬وهو لألسف ما حاول مؤَتر السكان يف القاهرة «‪ » 1994‬ومؤَتر املرأة‬ ‫يف بكني أن يفرضاه على العامل(‪.)1‬‬ ‫وهبذا يقاوم القرآن الكرمي نزعتني منحرفتني‪:‬‬ ‫اج‪ ،‬وتنظر إىل الغريزة اجلنسية‬ ‫أوهلما‪ :‬نزعة الرهبانية املنافية للفطرة‪ ،‬اليت حتر الزو َ‬ ‫رجس من عمل الشيطان‪ ،‬وتنفر من ظل املرأة‪ ،‬ولو كانت أختاً أو أماً‪ ،‬لهنا‬ ‫وكأهنا ٌ‬

‫أُحبولةُ الشيطان‪.‬‬

‫واثنيها‪ :‬نزعة اإلابحية اليت تطلق العنا َن للغريزة‪ ،‬بال ضابط وال رابط‪ ،‬وتنادي حبرية‬ ‫االستمتاع اجلنسي بني الرجل واملرأة‪ ،‬دون ارتباط مبسؤولية شرعية‪ ،‬تتكون من خالهلا‬ ‫حياة زوجية ذات هدف‪ ،‬تنشأ منها أسرة مرتابطة‪ ،‬تقو على أمومة حانية‪ ،‬وأبوة‬ ‫مشاعر احملبة‪ ،‬وعواطف اإليثار‬ ‫راعية‪ ،‬وبنوة ابرة‪ ،‬وأخوة عاطفة‪ ،‬وترتَب يف ظلها‬ ‫ُ‬ ‫والتعاون(‪.)2‬‬ ‫وقد استهدف الشارع ِّع ّدةَ مقاصد من تكوين األسرة‪ ،‬منها‪:‬‬ ‫ظ النسل‪:‬‬ ‫‪ 1‬ـ حف ُ‬ ‫اج املشروع على ما يكون بني ذكر وأنثى‪،‬‬ ‫قصر اإلسال ُ الزو َ‬ ‫وحتقيقاً هلذا امل َقصد َ‬ ‫كل صور اللقاء خار َج الزواج املشروع‪ ،‬كما حر العالقات الشاذة اليت ال تؤدي‬ ‫وحر َ‬

‫اصل لألجيال‪ ،‬قال هللا جل شأنه‪ُ ﴿ :‬ه َو‬ ‫إىل اإلجناب‪ ،‬ويف هذا تعمريٌ لألرض‪ ،‬وتو ٌ‬ ‫(‪ )1‬املصدر نفسه ص (‪.)86‬‬ ‫(‪ )2‬كيف نتعامل مع القرآن العظيم؟ ص (‪.)87‬‬

‫‪122‬‬


‫أَنْ َشأَ ُك ْم ِم َن ال َْر ِ‬ ‫استَ ْع َمَرُك ْم فِ َيها﴾ [هود‪.)1(]61 :‬‬ ‫ض َو ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ني‬ ‫وقال تعاىل‪َ ﴿ :‬و َ‬ ‫اجا َو َج َع َل لَ ُك ْم م ْن أ َْزَواج ُك ْم بَن َ‬ ‫اّللُ َج َع َل لَ ُك ْم م ْن أَنْ ُفس ُك ْم أ َْزَو ً‬ ‫َو َح َف َدةً﴾ [النحل‪.]72 :‬‬ ‫ب لَنَا ِم ْن أ َْزو ِاجنَا وذُ ِرَ​َيتِنَا قَُرةَ أ َْع ُ ٍ‬ ‫اج َع ْلنَا‬ ‫ني َو ْ‬ ‫وكان من دعاء عباد الرْحن‪َ ﴿ :‬ربَنَا َه ْ‬ ‫َ َ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ني إِ َم ًاما ﴾ [الفرقان‪.]74 :‬‬ ‫ل ْل ُمتَق َ‬ ‫ب هب ِيل ِمن ال َ ِ​ِ‬ ‫ِ‬ ‫ني ۝ فَبَشَْرَانهُ بِغُالٍَ َحلِي ٍم ﴾‬ ‫صاِل َ‬ ‫وقال اخلليل إبراهيم‪َ ﴿ :‬ر َ ْ‬ ‫َ‬ ‫[الصافات‪ 100 :‬ـ ‪.]101‬‬ ‫وقال زكرَي عليه السال ‪﴿ :‬فَهب ِيل ِمن لَدنْ ِ‬ ‫ث ِم ْن ِآل‬ ‫ك َوليًّا ۝ يَِرثُِين َويَِر ُ‬ ‫ْ ُ َ‬ ‫َ ْ‬ ‫اجع ْلهُ ر ِ‬ ‫ب َر ِضيًّا ﴾ [مرمي‪ 5 :‬ـ ‪.]6‬‬ ‫يَ ْع ُق َ‬ ‫وب َو ْ َ َ‬ ‫امسُهُ َُْي َ​َي َملْ َْجن َع ْل لَهُ ِم ْن قَ ْب ُل َِمسيًّا﴾‬ ‫فجاء اجلواب اإلهلي‪َ​َ ﴿ :‬ي َزَكرَ​َي إِ َان نُبَ ِشُرَك بِغُالٍَ ْ‬ ‫[مرمي‪.]7 :‬‬ ‫‪ 2‬ـ حتقيق السكن واملودة والرمحة‪:‬‬ ‫تنحصر العالقة‬ ‫وشرع هللا أحكاماً واداابً للمعاشرة ابملعروف بني الزوجني‪ ،‬حىت ال‬ ‫َ‬ ‫اشروه َن ِابلْمعر ِ‬ ‫ِ‬ ‫وف﴾‬ ‫َ ُْ‬ ‫بني الزوجني يف صورة جسدية حبتة‪ ،‬قال هللا تعاىل‪َ ﴿ :‬و َع ُ ُ‬ ‫[النساء‪.]19 :‬‬ ‫واملعروف هنا‪ :‬ما يقره العرف السليم‪ ،‬واعتاده أهل االعتدال واالستقامة من الناس‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الصياِ الَرفَ ُ ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اس‬ ‫قال تعاىل‪﴿ :‬أُح َل لَ ُك ْم لَْي لَةَ َ‬ ‫اس لَ ُك ْم َوأَنتُ ْم لبَ ٌ‬ ‫ث إ َىل ن َسآئ ُك ْم ُه َن لبَ ٌ‬ ‫َهلُ َن﴾ [البقرة ‪ ،]187‬وإمنا عرب عن هذه العالقة ابللباس‪ ،‬ملا توحي به هذه الكلمةُ من‬ ‫(‪ )1‬ميثاق السرة يف اإلسال ‪ ،‬اللجنة العاملية للمرأة والطفل ص (‪.)132‬‬

‫‪123‬‬


‫ِ‬ ‫يع َع َم َل‬ ‫الزينة والسرت واللصوق والدفء‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬فَ ْ‬ ‫استَ َج َ‬ ‫اب َهلُْم َرُّهبُْم أَِين الَ أُض ُ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ض ُك ْم ِم ْن بَ ْع ٍ‬ ‫ض﴾ [آل عمران‪ .]195 :‬ومعىن ‪ :‬أن‬ ‫َعام ٍل مْن ُك ْم م ْن ذَ َك ٍر أ َْو أُنْثَى بَ ْع ُ‬ ‫ض ُك ْم ِم ْن بَ ْع ٍ‬ ‫تناقض‪ ،‬بل‬ ‫ض﴾‪ ،‬والرجل من املرأة‪ ،‬فال خصومةَ وال‬ ‫املرأة من ﴿بَ ْع ُ‬ ‫َ‬

‫وتناسق وتعاو ٌن(‪.)1‬‬ ‫تكامل‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫‪ 3‬ـ حفظ النسب‪:‬‬

‫وهلذا املقصد أبطل هللا تعاىل نظا َ التبين‪ ،‬وأمران إبرجاع نسب الوالد ابلتبين إىل‬ ‫أنساهبم اِلقيقية‪ ،‬قال هللا جل شأنه‪َ ﴿ :‬وَما َج َع َل أ َْد ِعيَاءَ ُك ْم أَبْنَاءَ ُك ْم َذلِ ُك ْم قَ ْولُ ُك ْم‬ ‫ِأبَفْ و ِ‬ ‫ول ا ِْلَ َق وُهو يَ ْه ِدي ال َسبِ‬ ‫ط ِعْن َد‬ ‫ق‬ ‫ي‬ ‫اّلل‬ ‫و‬ ‫م‬ ‫ك‬ ‫اه‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫وه ْم ِآل َابئِ ِه ْم ُه َو أَقْ َس ُ‬ ‫ُ‬ ‫يل ۝ ْادعُ ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫الدي ِن وموالِي ُكم ولَيس علَي ُكم جن ِ‬ ‫اّللِ فَِإ ْن َمل تَعلَموا آابءهم فَِإخوانُ ُكم ِيف ِ‬ ‫يما‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ ْ َ ْ َ َ ْ ْ َُ ٌ‬ ‫اح ف َ‬ ‫ْ ْ ُ َ َُ ْ ْ َ ْ‬ ‫اّلل غَ ُفورا رِ‬ ‫أَخطَأْ ُمت بِ​ِه ولَ ِ‬ ‫يما ﴾ [األحزاب‪ 4 :‬ـ ‪.]5‬‬ ‫ح‬ ‫ن‬ ‫ا‬ ‫ك‬ ‫و‬ ‫م‬ ‫ك‬ ‫وب‬ ‫ل‬ ‫ق‬ ‫ت‬ ‫د‬ ‫م‬ ‫ع‬ ‫ت‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫ن‬ ‫ك‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ ً َ ً‬ ‫ْ ْ َ‬ ‫َْ‬ ‫وقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪« :‬أميا ٍ‬ ‫رجل دعا إىل غري والديه‪ ،‬أو توىل غري‬

‫مواليه الذين أعتقوه‪ ،‬فإن عليه لعنةُ هللا واملالئكة والناس أمجعني إىل يو القيامة‪ ،‬ال‬ ‫عدل»(‪.)3‬‬ ‫يُ ْقبَ ُل منه صرف(‪ )2‬وال ٌ‬

‫ولجل حفظ النسب حَر اإلسال أيضاً الزىن‪ ،‬وشرعت الحكا اخلاصة ابلعدة‪،‬‬

‫وعد كتم ما يف الرحا ‪ ،‬وإثبات النسب وجحده‪ ،‬وهي أحكا ٌ هلا تفصيلها يف‬ ‫مظاهنا من املراجع الفقهية(‪.)4‬‬ ‫‪ 4‬ـ اإلحصان‪:‬‬ ‫(‪ )1‬ميثاق السرة يف اإلسال ص (‪.)135‬‬ ‫(‪ )2‬العدل‪ :‬التوبة أو الفدية‪ ،‬حديث صحيح رواه أْحد والدارمي‪.‬‬ ‫(‪ )3‬الصرف‪ :‬الفريضة أو النافلة‪ ،‬وقيل‪ :‬التوبة‪.‬‬ ‫(‪ )4‬ميثاق السرة يف اإلسال ص (‪.)137‬‬

‫‪124‬‬


‫يوفر الزواج الشرعي صو َن العفاف‪ِ ،‬‬ ‫وُيق ُق اإلحصان‪ ،‬وُيفظ العراض‪ُّ ،‬‬ ‫ويسد ذرائع‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬

‫(‪)1‬‬ ‫الفساد اجلنسي ابلقضاء على فوضى اإلابحية واالحنالل ‪ ،‬وقد اختص اإلسال ُ‬ ‫مبراعاته للفطرة البشرية‪ ،‬وقبوهلم بواقعه‪ ،‬وحماولة ِتذيبها‪ ،‬واالرتقاء هبا‪ ،‬ال كبتها‬ ‫ب الشَهو ِ‬ ‫ات ِمن النِس ِاء والْ َقنَ ِ‬ ‫وقمعها‪ ،‬قال هللا جل شأنه‪ُ ﴿ :‬زيِ َن لِلن ِ‬ ‫اط ِري‬ ‫َ َ َ‬ ‫َاس ُح ُّ َ َ‬ ‫اِلر ِ ِ‬ ‫اِلياةِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الْم َقْنطَرةِ ِمن ال َذ َه ِ‬ ‫ب َوالْ ِفض َِة َو ْ‬ ‫ث ذَل َ‬ ‫ك َمتَاعُ َْ​َ‬ ‫اخلَْي ِل الْ ُم َس َوَمة َوالَنْ َعا َو َْْ‬ ‫ُ َ َ‬ ‫اّلل ِعْن َدهُ حسن الْم ِ‬ ‫ات مستحبةٌ مستل َذة‪،‬‬ ‫آب ﴾[ال عمران‪ ،]14 :‬وهي شهو ٌ‬ ‫الدُّنْيَا َو َُ‬ ‫ُُْ َ‬ ‫لكنها جيب أن توضع يف مكاهنا ال تتعداها‪ ،‬وال تطغى على ما هو أكر يف اِلياة‬

‫وأعلى(‪.)2‬‬

‫ث‬ ‫والقرآن الكرمي ال يضع أي قيد على االستمتاع بني املرء وزوجه‪﴿ :‬نِ َسا ُؤُك ْم َحْر ٌ‬ ‫َىن ِشْئ تُ ْم﴾ [البقرة‪ ،]223 :‬ما دا االستمتاع يف موضع اِلرث‪ ،‬ويف‬ ‫لَ ُك ْم فَأْتُوا َحْرثَ ُك ْم أ َ‬ ‫ِ‬ ‫ك َع ِن الْ َم ِحْي ِ‬ ‫غري زمن الذى‪ ،‬قال تعاىل‪َ ﴿ :‬ويَ ْسأَلُونَ َ‬ ‫َذى فَ ْ‬ ‫اعتَ ِزلُوا الن َساءَ‬ ‫ض قُ ْل ُه َو أ ً‬ ‫ِيف الْ َم ِح ِ‬ ‫اّللُ إِ َن‬ ‫ث أ َ​َمَرُك ُم َ‬ ‫وه َن ِم ْن َحْي ُ‬ ‫وه َن َح َىت يَطْ ُهْر َن فَِإذَا تَطَ َه ْر َن فَأْتُ ُ‬ ‫يض َوالَ تَ ْقَربُ ُ‬ ‫ِ‬ ‫ين ﴾[البقرة‪.)3(]222 :‬‬ ‫َ‬ ‫ني َوُُِي ُّ‬ ‫اّللَ ُُِي ُّ‬ ‫ب التَ َوابِ َ‬ ‫ب الْ ُمتَطَه ِر َ‬ ‫‪ 5‬ـ حفظ التدين يف األسرة‪:‬‬ ‫السرةُ هي حمضن الفراد‪ ،‬ال برعاية أجسادهم فقط‪ ،‬بل بغرس القيم الدينية واخللقية‬ ‫يف نفوسهم‪ ،‬وتبدأ مسؤولية السرة يف هذا اجملال قبل تكون اجلنني‪ ،‬حبسن اختيار‬ ‫ٍ‬ ‫كل من الزوجني إىل اآلخر‪ ،‬وأولوية املعيار الديين واخللقي يف هذا االختيار(‪ .)4‬قال‬ ‫(‪ )1‬املصدر نفسه ص (‪.)137‬‬ ‫(‪ )2‬املصدر نفسه ص (‪.)138‬‬ ‫(‪ )3‬كيف نتعامل مع القرآن العظيم؟ ص (‪.)87‬‬ ‫(‪. )4‬ميثاق السرة يف اإلسال ص (‪.)138‬‬

‫‪125‬‬


‫تعاىل‪﴿ :‬والَ تَْنكِحوا الْم ْش ِرَك ِ‬ ‫ات‬ ‫ُ ُ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ني‬ ‫أ َْع َجبَ ْت ُك ْم َوالَ تُْنك ُحوا الْ ُم ْش ِرك َ‬ ‫ك يَ ْدعُو َن إِ َىل النَا ِر‬ ‫أ َْع َجبَ ُك ْم أُولَئِ َ‬ ‫لِلن ِ‬ ‫َاس لَ َعلَ ُه ْم يَتَ َذ َكُرو َن ﴾[البقرة‪.]221 :‬‬ ‫وقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪« :‬إذا‬ ‫خطب إليكم َم ْن ترضو َن دينَه ُ‬ ‫وخلَُقهُ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫يض»(‪.)1‬‬ ‫الرض‬ ‫فزوجوه‪ ،‬إال تفعلوا تكن فتنةٌ يف‬ ‫ٌ‬ ‫وفساد عر ٌ‬ ‫وتستمر مسؤوليةُ السرةِ بتعليم العقيدة والعبادة والخالق لفراد السرة‪ ،‬وتدريبهم‬ ‫َح َىت يُ ْؤِم َن َول َ​َمةٌ ُم ْؤِمنَةٌ َخ ْريٌ ِم ْن‬ ‫َح َىت يُ ْؤِمنُوا َولَ َعْب ٌد ُم ْؤِم ٌن َخ ْريٌ ِم ْن‬ ‫اجلَن َِة َوالْ َم ْغ ِفَرةِ إبِ​ِ ْذنِ​ِه‬ ‫اّللُ يَ ْدعُو إِ َىل ْ‬ ‫َو َ‬

‫ُم ْش ِرَك ٍة َولَْو‬ ‫ُم ْش ِرٍك َولَ ْو‬ ‫آَيتِ​ِه‬ ‫َويُبَِ ُ‬ ‫ني َ‬

‫على ْمارستها‪ ،‬ومتابعة ذلك حىت بلوغ الطفال رشدهم‪ ،‬واستقالهلم ابملسؤولية‬ ‫الدينية عن تصرفاِتم(‪ ،)2‬قال تعاىل‪﴿ :‬وأْمر أَهلَك ِابل َ ِ‬ ‫اصطَِ ْرب َعلَْي َها الَ‬ ‫َ ُْ ْ َ‬ ‫صالَة َو ْ‬ ‫ك َوالْ َعاقِبَةُ لِلتَ ْق َوى ﴾ [طه ‪.]132‬‬ ‫ك ِرْزقًا َْحن ُن نَْرُزقُ َ‬ ‫نَ ْسأَلُ َ‬ ‫صالَةِ والَزَكاةِ‬ ‫ِ‬ ‫وقال جل شأنه عن النيب إمساعيل عليه السال ‪َ ﴿ :‬وَكا َن َأيْ ُمُر أ َْهلَهُ ابل َ َ‬ ‫َوَكا َن عِْن َد َربِ​ِه َمْر ِضيًّا ﴾ [مرمي‪.]55 :‬‬ ‫ِ‬ ‫َِ‬ ‫َاس َو ْ‬ ‫اِلِ َج َارةُ‬ ‫ين َآمنُوا قُوا أَنْ ُف َس ُك ْم َوأ َْهلي ُك ْم َان ًرا َوقُ ُ‬ ‫وقال تعاىل‪َ​َ ﴿ :‬يأَيُّ َها الذ َ‬ ‫ود َها الن ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫اّللَ َما أ َ​َمَرُه ْم َويَ ْف َعلُو َن َما يُ ْؤَمُرو َن ﴾‬ ‫صو َن َ‬ ‫َعلَْي َها َمالَئ َكةٌ غالَ ٌظ ش َد ٌاد الَ يَ ْع ُ‬ ‫[التحرمي‪.]6 :‬‬

‫احلادي عشر ـ إنصاف املرأة وحتريرها من ظلم اجلاهلية‪:‬‬ ‫إنصاف املرأة وحتر ُيرها من ظلم اجلاهلية‬ ‫من أهم ما جاء به القرآن الكرمي هنا‬ ‫ُ‬ ‫وظالمها‪ ،‬ومن حتكم الرجل يف مصريها بغري حق‪ ،‬فكر القرآن املرأة‪ ،‬وأعطاها‬ ‫ُ‬ ‫(‪ )1‬حديث حسن رواه الرتمذي وابن ماجه واِلاكم والبيهقي‪ ،‬ميثاق السرة يف اإلسال ص (‪.)154‬‬ ‫(‪ )2‬املصدر نفسه ص (‪.)138‬‬

‫‪126‬‬


‫حقوقها بوصفها إنساانً‪ ،‬وكرمها بوصفها أنثى‪ ،‬وكرمها بوصفها بنتاً‪ ،‬وكرمها بوصفها‬ ‫زوجة‪ ،‬وكرمها أماً‪ ،‬وكرمها بوصفها عضواً يف اجملتمع(‪.)1‬‬ ‫وبعض الناس ينكرون إنسانية املرأة‪ ،‬واخرون يرَتبون فيها‪ ،‬وغريُهم‬ ‫ُ‬ ‫لقد جاء اإلسال ُ‬ ‫يعرتف إبنسانيتها‪ ،‬ولكنه يعتربها خملوقاً ُخلِ َق خلدمة الرجل‪ ،‬فكان من فضل اإلسال‬

‫أنه كرَ املرأة‪ ،‬وأكد إنسانيتها‪ ،‬وأهليتها للتكليف واملسؤولية واجلزاء ودخول اجلنة‪،‬‬ ‫واعتربها إنساانً كرمياً له كل ما للرجل من حقوق إنسانية؛ لهنما فرعان من شجرة‬ ‫واحدة‪ ،‬وأخوان ولدمها أب واحد هو اد ‪ ،‬وأ واحدة هي حواء‪ ،‬فهما متساوَين‬ ‫يف أصل النشأة‪ ،‬متساوَين يف اخلصائص اإلنسانية العامة‪ ،‬متساوَين يف التكاليف‬ ‫واملسؤولية‪ ،‬متساوَين يف اجلزاء واملصري(‪ ،)2‬ويف ذلك يقول القرآن الكرمي‪َ​َ ﴿ :‬يأَيُّ َها‬ ‫َِ‬ ‫س وِ‬ ‫ِ‬ ‫ث ِمْن ُه َما‬ ‫اح َدةٍ َو َخلَ َق ِمْن َها َزْو َج َها َوبَ َ‬ ‫َاس اتَ ُقوا َربَ ُك ُم الذي َخلَ َق ُك ْم م ْن نَ ْف ٍ َ‬ ‫الن ُ‬ ‫اّللَ َكا َن َعلَْي ُك ْم َرقِيبًا ﴾‬ ‫اّللَ الَ ِذي تَ َساءَلُو َن بِ​ِه َوال َْر َحا َ إِ َن َ‬ ‫ِر َجاالً َكثِ ًريا َونِ َساءً َواتَ ُقوا َ‬ ‫[النساء‪.]1 :‬‬

‫وإذا كان الناس كل الناس رجاالً ونساءً‪ ،‬خلقهم رُّهبم من نفس واحدة‪ ،‬وجعل من‬

‫هذه النفس زوجاً تكملها وتكتمل هبا‪ ،‬كما قال يف آية أخرى‪﴿ :‬وجعل منها زوجها‬ ‫ليسكن إليها﴾ [األعراف‪ ،]2 :‬وبث يف هذه السرة الواحدة رجاالً كثرياً ونساءً‪ ،‬كلهم‬ ‫عباد ٍ‬ ‫أمرت اآلية‬ ‫ٌ‬ ‫لرب واحد‪ ،‬وأوالد ل واحدة وأب واحد‪ ،‬فالخوة جتمعهم‪ ،‬وهلذا ُ‬

‫الناس بتقوى هللا‪ ،‬ورعاية الرحم الواشجة بينهم‪﴿ :‬واتقوا هللا الذي تساءلون به‬ ‫َ‬ ‫والرحا ﴾ [النساء‪.]1 :‬‬ ‫(‪ )1‬كيف نتعامل مع القرآن العظيم؟ ص (‪.)89‬‬ ‫(‪ )2‬مالمح اجملتمع املسلم‪ ،‬د‪ .‬يوسف القرضاوي ص (‪.)321‬‬

‫‪127‬‬


‫أخ املرأة‪ ،‬واملرأة شقيقة الرجل‪ ،‬ويف هذا قال الرسول ﷺ‪« :‬إمنا‬ ‫والرجل هبذا النص ٌ‬

‫النساء شقائق الرجال»(‪.)1‬‬

‫‪ 1‬ـ يف مساواة املرأة للرجل يف التكليف والتدين والعبادة‪:‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ​ِ‬ ‫ِ​ِ‬ ‫ِ​ِ‬ ‫ني‬ ‫ني َوالْ ُم ْؤمنَات َوالْ َقانت َ‬ ‫ني َوالْ ُم ْسل َمات َوالْ ُم ْؤمن َ‬ ‫يقول القرآن الكرمي‪﴿ :‬إِ َن الْ ُم ْسلم َ‬ ‫ص ِادقِ‬ ‫اشع ِ‬ ‫صابِر ِ‬ ‫ص ِادقَ ِ‬ ‫والْ َقانِتَ ِ‬ ‫اشعِني و ْ ِ‬ ‫اخل ِ‬ ‫صابِ‬ ‫ِ‬ ‫ات‬ ‫و‬ ‫ات‬ ‫ال‬ ‫و‬ ‫ين‬ ‫ر‬ ‫ال‬ ‫و‬ ‫ات‬ ‫ال‬ ‫و‬ ‫ني‬ ‫ال‬ ‫و‬ ‫ات‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫اخلَ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫اِلافِظَ ِ‬ ‫صائِ ِمني وال َ ِ ِ‬ ‫والْمتَص ِدقِني والْمتَ ِ ِ‬ ‫ات و ْ ِ ِ‬ ‫ات‬ ‫اِلَافظ َ‬ ‫َ ُ َ َ َ ُ َ‬ ‫وج ُه ْم َو َْ‬ ‫ني فُ ُر َ‬ ‫صائ َم َ‬ ‫صدقَات َوال َ َ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫وال َذاكِ ِرين َ ِ‬ ‫يما﴾ [األحزاب‪.]35 :‬‬ ‫َع َد َ‬ ‫اّللَ َكث ًريا َوال َذاكَرات أ َ‬ ‫اّللُ َهلُم َم ْغفَرًة َوأ ْ‬ ‫َجًرا َعظ ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫‪ 2‬ـ يف التكاليف الدينية االجتماعية األساسية‪:‬‬

‫أ َْولِيَاء‬ ‫الَزَكا َة‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ات‬ ‫يسوي القرآن بني اجلنسني بقوله تعاىل‪َ ﴿ :‬والْ ُم ْؤمنُو َن َوالْ ُم ْؤمنَ ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫بَ ْع ٍ‬ ‫صالَ​َة‬ ‫يمو َن ال َ‬ ‫ض َأيْ ُمُرو َن ابلْ َم ْعُروف َويَْن َه ْو َن َع ِن الْ ُمن َك ِر َويُق ُ‬ ‫ك َس َْري َْحُ ُه ُم اّللُ إِ َن اّللَ َع ِز ٌيز َح ِك ٌيم﴾ [التوبة‪.]71 :‬‬ ‫َويُ ِطيعُو َن اّللَ َوَر ُسولَهُ أ ُْولَئِ َ‬ ‫توجه التكليف اإلهلي إليه وإىل زوجه على السواء‪:‬‬ ‫‪ 3‬ـ ويف قصة آدم َّ‬ ‫ث ِشْئ تُ َما‬ ‫ك ْ‬ ‫اجلَنَةَ َوُكالَ ِمْن َها َر َغداً َحْي ُ‬ ‫َنت َوَزْو ُج َ‬ ‫قال تعاىل‪َ ﴿ :‬وقُ ْلنَا َ​َي َ‬ ‫اس ُك ْن أ َ‬ ‫آد ُ ْ‬ ‫والَ تَ ْقراب ه ِذهِ الشَجرةَ فَتَ ُك َ ِ‬ ‫ِ​ِ‬ ‫ني﴾ [البقرة‪ .]35 :‬واجلديد يف هذه القصة‬ ‫وان م َن الْظَالم َ‬ ‫َ َ​َ َ‬ ‫َ​َ‬ ‫ض ُه ْم‬ ‫بَ ْع ُ‬ ‫َويُ ْؤتُو َن‬

‫كما ذكرها القرآن َأهنا نسبت اإلغواء إىل الشيطان ال إىل حواء كما فعلت التوراة‬ ‫احملرفة‪﴿ :‬فأزهلما الشيطان عنها فأخرجهما ْما كاان فيه﴾ [البقرة‪.]36 :‬‬

‫ومل تنفرد حواء ابلكل من الشجرة وال كانت البادئة‪ ،‬بل كان اخلطأ منهما معاً‪ ،‬كما‬ ‫كان الند ُ والتوبةُ منهما مجيعاً‪َ ﴿ :‬ربَنَا ظَلَ ْمنَا أَنْ ُف َسنَا َوإِ ْن َملْ تَ ْغ ِفْر لَنَا َوتَ ْر َْحْنَا لَنَ ُكونَ َن‬ ‫ِمن ْ ِ‬ ‫ين ﴾ [األعراف‪.]83 :‬‬ ‫اخلَاس ِر َ‬ ‫َ‬ ‫(‪ )1‬رواه أْحد‪ ،‬وأبو داود‪ ،‬والرتمذي عن عائشة‪ .‬كما يف صحيح اجلامع الصغري (‪.)2333‬‬

‫‪128‬‬


‫بل يف بعض اآلَيت نسبةُ اخلطأ إىل اد َ ابلذات وابلصالة‪َ ﴿ :‬ولَ​َق ْد َع ِه ْد َان إِ َىل َ‬ ‫آد َ‬ ‫ِمن قَبل فَنَ ِسي وَمل َِجن ْد لَه عزما ﴾ [طه‪﴿ ،]115 :‬فَوسو ِ‬ ‫س إِلَْيه الشَْيطَا ُن قَال َ‬ ‫َيآد ُ‬ ‫ْ ُْ َ َْ‬ ‫ُ َْ ً‬ ‫َ َْ َ‬ ‫ك َعلَى َشجرةِ ْ ِ ٍ‬ ‫َه ْل أ َُدلُّ َ‬ ‫صى َ‬ ‫اخلُْلد َوُم ْلك الَ يَْب لَى ﴾ [طه‪ .]12 :‬وقال تعاىل‪َ ﴿ :‬و َع َ‬ ‫آد ُ‬ ‫َ​َ‬ ‫َربَهُ فَغَ َوى ﴾ [طه‪.]121 :‬‬ ‫اب َعلَْي ِه َوَه َدى ﴾ [طه‪،]122 :‬‬ ‫كما نسب إليه التوبة وحده أيضاً‪﴿ :‬مثَُ ْ‬ ‫اجتَ بَاهُ َربُّهُ فَتَ َ‬ ‫ِ‬ ‫تبع له‪.‬‬ ‫ْما ُ‬ ‫يفيد أنه الصل يف املعصية وامرأتُه ٌ‬ ‫ومهما يكن المر فإ َن خطيئة حواء ال ُيمل تبعتها إال هي‪ ،‬وبناِتا بريئات من‬ ‫ت‬ ‫ُخَرى﴾ [الزمر‪﴿ ]7 :‬تِْل َ‬ ‫ت َهلَا َما َك َسبَ ْ‬ ‫ك أَُمةٌ قَ ْد َخلَ ْ‬ ‫إمثها‪َ ﴿ ،‬والَ تَ ِزُر َوا ِزَرةٌ ِوْزَر أ ْ‬ ‫َولَ ُك ْم َما َك َسْب تُ ْم َوالَ تُ ْسأَلُو َن َع َما َكانُوا يَ ْع َملُو َن ﴾ [البقرة‪.]134 :‬‬ ‫‪ 4‬ـ ويف مساواة املرأة للرجل يف اجلزاء‪:‬‬

‫ِ‬ ‫يع َع َم َل َع ِام ٍل ِمْن ُك ْم‬ ‫ُ‬ ‫ودخول اجلنة يقول هللا تعاىل‪﴿ :‬فَ ْ‬ ‫استَ َج َ‬ ‫اب َهلُْم َرُّهبُْم أَِين الَ أُض ُ‬ ‫ِ‬ ‫ض ُك ْم ِم ْن بَ ْع ٍ‬ ‫فنص القرآن يف صراحة‬ ‫ض﴾ [آل عمران‪ُّ ،]195 :‬‬ ‫م ْن ذَ َك ٍر أ َْو أُنْثَى بَ ْع ُ‬ ‫فاجلميع‬ ‫على أ َن العمال ال تضيع عند هللا‪ ،‬سواء أكان العامل ذكراً أ أنثى‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫بعضهم من بعض‪ ،‬من طينة واحدة‪ ،‬وطبيعة واحدة‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬من ع ِمل ص ِ‬ ‫اِلًا‬ ‫َْ َ َ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َح َس ِن َما َكانُوا‬ ‫َجَرُه ْم ِأب ْ‬ ‫َه ْم أ ْ‬ ‫م ْن ذَ َك ٍر أ َْو أُنْثَى َوُه َو ُم ْؤم ٌن فَلَنُ ْحيِيَ نَهُ َحيَاةً طَيِبَةً َولَنَ ْج ِزيَن ُ‬ ‫ي عملُو َن ﴾[النحل‪ .]97 :‬وقال تعاىل‪﴿ :‬ومن ي عمل ِمن ال َ ِ‬ ‫اِل ِ‬ ‫ات ِم ْن ذَ َك ٍر أ َْو أُنْثَى‬ ‫ص َ‬ ‫َْ َ‬ ‫َ​َ ْ َْ َ ْ َ‬ ‫اجلَنَةَ َوالَ يُظْلَ ُمو َن نَِق ًريا ﴾ [النساء‪.]124 :‬‬ ‫ك يَ ْد ُخلُو َن ْ‬ ‫َوُه َو ُم ْؤِم ٌن فَأُولَئِ َ‬ ‫‪ 5‬ـ ويف احلقوق املالية للمرأة‪:‬‬

‫أبطل اإلسال ما كان عليه كثري من المم عرابً وعجماً من حرمان النساء من‬ ‫التملك واملرياث‪ ،‬أو التضييق عليهن يف التصرف فيما ميلكن‪ ،‬واستبداد الزواج‬ ‫‪129‬‬


‫أبموال املتزوجات منهن‪ ،‬فأثبت هلن حق التملك أبنواعه وفروعه‪ ،‬وحق التصرف‬ ‫أبنواعه املشروعة‪ ،‬فشرع الوصية واإلرث هلن كالرجال‪ ،‬وأعطاه َن حق البيع والشراء‬ ‫واإلجارة واهلبة واإلعارة‪ ،‬والوقف والصدقة والكفالة واِلوالة والرهن وغري ذلك من‬ ‫العقود والعمال‪ ،‬ويتبع ذلك حقوق الدفاع عن ماهلا‪ ،‬كالدفاع عن نفسها ابلتقاضي‬ ‫وغريه من العمال املشروعة(‪.)1‬‬ ‫‪ 6‬ـ املرأة ابعتبارها أماً‪:‬‬ ‫يعرف التاريخ ديناً وال نظاماً كَر املرأة ابعتبارها أماً‪ ،‬وأعلى من مكانتها‪ ،‬مثل‬ ‫ال ُ‬ ‫اإلسال ‪ ،‬لقد أ َك َد الوصيةَ هبا‪ ،‬وجعلها َتلية للوصية بتوحيد هللا وعبادته‪ ،‬وجعل بِرها‬ ‫مشاق‬ ‫من أصول الفضائل‪ ،‬كما جعل حقها أوكد من حق الب ملا حتملته من َ‬ ‫اِلمل والوضع واإلرضاع والرتبية‪ ،‬وهذا ما يقرره القرآن‪ ،‬ويكرره يف أكثر من سورة‪،‬‬

‫صْي نَا ا ِإلنْ َسا َن‬ ‫ليثبته يف أذهان البناء ونفوسهم‪ ،‬وذلك يف مثل قوله تعاىل‪َ ﴿ :‬وَو َ‬ ‫ِ​ِ‬ ‫بِوالِ َدي ِه َْحلَْته أ ُُّمه وهناً علَى وه ٍن وفِ‬ ‫صالُهُ ِيف َع َام ْ ِ‬ ‫يل‬ ‫ك إِ َ​َ‬ ‫ني أ َِن ا ْش ُكْر ِيل َول َوال َديْ َ‬ ‫َ ْ َ ُ ُ َْ َ َْ َ َ‬ ‫ِ ِ‬ ‫الْم ِ‬ ‫صريُ ﴾ [لقمان‪ ،]14 :‬وقال تعاىل‪َ ﴿ :‬وَو َ‬ ‫صْي نَا ا ِإلنْ َسا َن بَِوال َديْه إِ ْح َساانً َْحَلَْتهُ أ ُُّمهُ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫صالُهُ ثَالَثُو َن َش ْهًرا﴾ [األحقاف‪.)2(]15 :‬‬ ‫ُكْرًها َوَو َ‬ ‫ض َعْتهُ ُكْرًها َو َْحْلُهُ َوف َ‬ ‫ومن توجيهات القرآن الكرمي أنه وضع أما املؤمنني واملؤمنات أمثلة وقدوة حسنة‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫أثر ومكانةٌ يف َتريخ اإلميان‪.‬‬ ‫لمهات صاِلات‪ ،‬كان هل َن ٌ‬ ‫تستجيب إىل وحي هللا وإهلامه‪ ،‬وتُلقي ولدها وفلذة كبدها يف‬ ‫فأ موسى‬ ‫‪‬‬ ‫ُ‬ ‫ِ ِ‬ ‫وسى أَ ْن أ َْر ِضعِ ِيه فَِإذَا‬ ‫اليم‪ ،‬مطمئنة إىل وعد رهبا‪ ،‬قال تعاىل‪َ ﴿ :‬وأ َْو َحْي نَا إ َىل أُ ُم َ‬ ‫(‪ )1‬مالمح اجملتمع املسلم ص (‪ ،)324‬وانظر اإلسال واملرأة لألستاذ سعيد الفغاين ص (‪.)72‬‬ ‫(‪ )2‬مالمح اجملتمع املسلم ص (‪.)328‬‬

‫‪130‬‬


‫ك وج ِ‬ ‫ِخ ْف ِ‬ ‫ت َعلَي ِه فَأَلْ ِق ِيه ِيف الْي ِم والَ َختَ ِايف والَ َْحتزِين إِ َان ر ُّ ِ ِ‬ ‫اعلُوهُ ِم َن‬ ‫ْ‬ ‫َ َ‬ ‫آدوهُ إلَْي َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫ِ‬ ‫ني﴾[القصص‪.]7 :‬‬ ‫الْ ُمْر َسل َ‬

‫وأ مرمي اليت نذرت ما يف بطنها حمرراً هلل‪ ،‬خالصاً من كل شرك أو عبودية‬ ‫‪‬‬ ‫ِ‬ ‫يع‬ ‫نذرها‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬فَتَ َقبَ ْل ِم ِين إِنَ َ‬ ‫ك أَنْ َ‬ ‫ت ال َسم ُ‬ ‫لغريه‪ ،‬داعية هللا أن يتقبل منها َ‬ ‫ِ‬ ‫لود أنثى على غري ما كانت تتوقع‪ ،‬مل مينعها‬ ‫الْ َعل ُيم ﴾ [آل عمران‪ .]35 :‬فلما كان املو ُ‬ ‫ذلك من الوفاء بنذرها‪ ،‬سائلة هللا أن ُيفظها من كل سوء‪ ،‬قال تعاىل‪َ ﴿ :‬وإِ​ِين‬ ‫ِ‬ ‫ك وذُ ِريَتَ ها ِمن الشَيطَ ِ‬ ‫ان الَرِجي ِم ﴾ [آل عمران‪.]36 :‬‬ ‫أُعي ُذ َها بِ َ َ َ َ ْ‬ ‫ومرمي ابنة عمران أ املسيح عيسى‪ ،‬جعلها القرآن ايةً يف الطهر‪ ،‬والقنوت‬ ‫‪‬‬ ‫هلل‪ ،‬والتصديق بكلماته‪:‬‬ ‫وحنَا وص َدقَت بِ َكلِم ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ​ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ات‬ ‫صنَ ْ‬ ‫﴿ َوَمْرَميَ ابْنَةَ ع ْمَرا َن الَِيت أَ ْح َ‬ ‫ت فَ ْر َج َها فَنَ َف ْخنَا فيه م ْن ُر َ َ ْ َ‬ ‫ِ​ِ‬ ‫رِهبا وُكتُبِ ِه وَكانَ ِ‬ ‫ني ﴾ [التحرمي‪.)1(]12 :‬‬ ‫َ​َ َ َ ْ‬ ‫ت م َن الْ َقانت َ‬ ‫‪7‬ـ املرأة ابعتبارها بنتاً‪:‬‬

‫كان العرب يف اجلاهلية يتشاءمون مبيالد البنات‪ ،‬ويضيقون به‪ ،‬حىت قال أحد االابء‬ ‫ِ‬ ‫وبرها‬ ‫نصرها بكاءٌ‪ُّ ،‬‬ ‫وقد بشر أب َن زوجه ولدت أنثى ‪ :‬وهللا ما هي بنعم الولد‪ُ ،‬‬ ‫سرقةٌ‪ .‬يريد أهنا ال تستطيع أن تنصر أابها وأهلها إال ابلصر ِاخ و ِ‬ ‫البكاء‪ ،‬ال ابلقتال‬ ‫ُ‬ ‫والسالح‪ ،‬وال أ ْن ت َربهم إال أبن أتخذ من ِ‬ ‫مال زوجها لهلها‪.‬‬

‫يئد ابنته يدفنها حية خشيةً من فق ٍر‬ ‫تبيح لألب أن َ‬ ‫وكانت التقاليد املتوارثة عندهم ُ‬ ‫قد يقع‪ ،‬أو من عا ٍر قد جتلبه على قومها حني تكرب‪ ،‬ويف ذلك يقول القرآن منكراً‬

‫َي َذنْ ٍ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ت ۝ ِأب ِ‬ ‫ت﴾ [التكوير‪ 8 :‬ـ ‪.]9‬‬ ‫ب قُتلَ ْ‬ ‫ودةُ ُسئلَ ْ‬ ‫عليهم‪ ،‬ومقرعاً هلم‪َ ﴿ :‬وإِ َذا الْ َم ْوءُ َ‬ ‫(‪ )1‬مالمح اجملتمع املسلم‪ ،‬ص (‪.)331‬‬

‫‪131‬‬


‫ِ ِ‬ ‫َح ُد ُه ْم ِابلُنْثَى ظَ َل‬ ‫ويصف َ‬ ‫ُ‬ ‫حال االابء عند والدة البنات‪ ،‬قال تعاىل‪َ ﴿ :‬وإذَا بُشَر أ َ‬ ‫وجهه مسوًّدا وهو َك ِظيم ۝ ي ت وارى ِمن الْ َقوِ ِمن س ِ‬ ‫وء َما بُ ِشَر بِ​ِه أَميُْ ِس ُكهُ َعلَى‬ ‫َ​َ َ َ َ ْ ْ ُ‬ ‫َ ْ ُ ُ ُ ْ َ ََُ ٌ‬ ‫ٍ‬ ‫الرت ِ‬ ‫اب أَالَ َساءَ َما َُْي ُك ُمو َن ﴾ [النحل‪ 58 :‬ـ ‪.]59‬‬ ‫ُهون أَ ْ يَ ُد ُّسهُ ِيف َُّ‬ ‫الب اِلق يف بيع ابنته إذا شاء‪ ،‬وبعضها اآلخر‬ ‫وكانت ُ‬ ‫بعض الشرائع القدمية تعطي َ‬ ‫يسلمها إىل ٍ‬ ‫اخر ليقتلها‪.‬‬ ‫كشريعة ْحورايب جت ُيز له أن َ‬ ‫رجل َ‬

‫البنت كاالبن هبة من هللا ونعمة يهبها ملن يشاء من عباده‪،‬‬ ‫جاء اإلسال ُ فاعترب َ‬ ‫قال تعاىل‪﴿ :‬يَ َهب لِم ْن يَ َشاء إِ َان ًاث ويَ َهب لِم ْن يَ َشاء ُّ‬ ‫ك‬ ‫الذ‬ ‫ُ‬ ‫ور ۝ أ َْو يَُزِو ُج ُه ْم ذُ ْكَراانً‬ ‫َ‬ ‫ُ َ ُ َ‬ ‫ُ َ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫يما إِنَهُ َعلِ ٌيم قَ ِد ٌير﴾[الشورى‪ 49 :‬ـ ‪.]50‬‬ ‫َوإ َان ًاث َوَْجي َع ُل َم ْن يَ َشاءُ َعق ً‬ ‫أعظم أثراً‪ ،‬وأخلد ذكراً‪ ،‬من‬ ‫َ‬ ‫وبني القرآن الكرمي يف قصصه أ َن بعض البنات قد تكو ُن َ‬ ‫كث ٍري من البناء الذكور‪ ،‬كما يف قصة مرمي ابنة عمران اليت اصطفاها هللا وطهرها‪،‬‬

‫واصطفاها على نساء العاملني‪ ،‬وقد كانت أمها عندما ْحلت هبا تتمىن أن تكون‬ ‫ذكراً ِ‬ ‫ُيد ُ اهليكل‪ ،‬ويكون من الصاِلني(‪ ،)1‬قال تعاىل‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ت ْامرأَةُ ِعمرا َن ر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ت‬ ‫ك َما ِيف بَطِْين ُحمَ​َرًرا فَتَ َقبَ ْل ِم ِين إِنَ َ‬ ‫ت لَ َ‬ ‫ب إِ​ِين نَ َذ ْر ُ‬ ‫ك أَنْ َ‬ ‫﴿إ ْذ قَالَ َ ْ َ َ‬ ‫ال َس ِميع الْعلِ‬ ‫ت رِ‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ق‬ ‫ا‬ ‫ه‬ ‫ت‬ ‫ع‬ ‫ض‬ ‫و‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫ل‬ ‫ف‬ ‫۝‬ ‫يم‬ ‫َ‬ ‫ض ْعتُ َها أُنْثَى َو َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫اّللُ أ َْعلَ ُم ِمبَا َو َ‬ ‫ب إِ​ِين َو َ‬ ‫َ‬ ‫ض َع ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ​َ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ ُ‬ ‫ِ‬ ‫ك وذُ ِريَتَ ها ِمن الشَيطَ ِ‬ ‫ان الَرِجي ِم‬ ‫س ال َذ َكُر َكالُنْثَى َوإِ​ِين َمسَْي تُ َها َمْرَميَ َوإِ​ِين أُعي ُذ َها بِ َ َ َ َ ْ‬ ‫َولَْي َ‬ ‫۝ فَتَ َقبَلَها رُّهبا بَِقب ٍ‬ ‫اَت َح َسناً﴾ [آل عمران‪ 35 :‬ـ ‪.]37‬‬ ‫ول َح َس ٍن َوأَنْبَ تَ َها نَبَ ً‬ ‫َ َ​َ ُ‬ ‫كل ٍ‬ ‫وجعل رسول اإلسال صلى هللا عليه وسلم اجلنةَ جزاءَ ِ‬ ‫أب ُُْي ِس ُن صحبةَ بناته‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ورعاية حق هللا فيهن‪ ،‬حىت يبلُ ْغ َن‪ ،‬أو ميوت‬ ‫وُيرص على تربيتهن وحسن أتديبهن‪،‬‬ ‫عنهن‪ ،‬وجعل منزلته جبواره صلى هللا عليه وسلم يف دار النعيم املقيم‪ ،‬قال صلى هللا‬ ‫(‪ )1‬مالمح اجملتمع املسلم ص (‪ )233-232‬اإلسال واملرأة لسعيد الفغاين ص (‪.)51‬‬

‫‪132‬‬


‫ثالث ٍ‬ ‫بنات‪ ،‬فصرب على لوائه َن وضرائه َن وسرائه َن‪،‬‬ ‫عليه وسلم‪َ « :‬م ْن كا َن له ُ‬ ‫أدخله هللا اجلنة برْحتِ ِه إَيهن»‪ ،‬فقال رجل‪ :‬واثنتان َي رسول هللا؟ قال‪« :‬واثنتان»‪.‬‬ ‫قال رجل‪َ :‬ي رسول هللا‪ ،‬وواحدة؟ قال‪« :‬وواحدة»(‪.)1‬‬ ‫مل تع ْد والدةُ ِ‬ ‫البنت عبئاً ُ​ُياف منه‪،‬‬ ‫وطالع حنس يُتطري به‪ ،‬بل نعمةٌ تُ ْش َكُر ورْحةٌ‬ ‫ُ‬ ‫تُرجى‪ ،‬وتُطلب ملا وراءها من فضل هللا تعاىل‪ ،‬وجزيل مثوبته‪ ،‬وهبذا أبطل اإلسال‬ ‫عادة الو ِأد إىل البد‪ ،‬وأصبح ِ‬ ‫للبنت يف قلب أبيها مكان عظيم(‪.)2‬‬ ‫َ‬ ‫‪ 8‬ـ املرأة ابعتبارها زوجة‪:‬‬ ‫كانت بعض الدَيانت واملذاهب ِ‬ ‫تعتربُ املرأةَ رجساً من عمل الشيطان‪ ،‬جيب الفرار‬ ‫منه‪ ،‬واللجوء إىل حياة التبتل والرهبنة‪ ،‬وبعضها اآلخر كان يعترب الزوجة جمرد ٍ‬ ‫الة ملتاع‬ ‫ُ‬ ‫الرجل‪ ،‬أو طاهٍ لطعامه‪ ،‬أو خاد ملنزله‪ ،‬فجاء اإلسال يعلِ ُن بطالن الرهبانية‪ ،‬وينهى‬ ‫عن التبتل‪ ،‬وُيث على الزواج‪ ،‬ويعترب الزوجية اية من آَيت هللا يف الكون‪ ،‬قال‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫تعاىل‪﴿ :‬وِمن ِ​ِ‬ ‫اجا لِتَ ْس ُكنُوا إِلَْي َها َو َج َع َل بَْي نَ ُك ْم‬ ‫آَيته أَ ْن َخلَ َق لَ ُك ْم م ْن أَنْ ُفس ُك ْم أ َْزَو ً‬ ‫َ ْ َ‬ ‫ِ‬ ‫ك آلَ​َي ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ت لَِق ْوٍ يَتَ َف َكُرو َن ﴾ [الروم‪.]21 :‬‬ ‫َم َوَدةً َوَر ْ​ْحَةً إ َن ِيف ذَل َ َ‬ ‫وقرَر اإلسال للزوجة حقوقاً على زوجها‪ ،‬ومل جيع ْلها جمَرد حرب على ورق‪ ،‬بل جعل‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ورقيب‪ ،‬من إميان املسلم وتقواه أوالً‪ ،‬ومن ضمري اجملتمع‬ ‫حافظ‬ ‫أكثر من‬ ‫عليها َ‬ ‫ويقظته اثنياً‪ ،‬ومن حكم الشرع وإلزامه اثلثاً‪.‬‬ ‫وأول هذه اِلقوق‪ :‬الصداق‪ :‬الذي أوجبه هللا للمرأة على الرجل إشعاراً منه برغبته‬ ‫ِ​ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ب لَ ُك ْم َع ْن َش ْي ٍء‬ ‫ص ُدقَاِت َن ْحنلَةً فَِإ ْن ط ْ َ‬ ‫فيها‪ ،‬وإرادته هلا‪ ،‬قال تعاىل‪َ ﴿ :‬وآتُوا الن َساءَ َ‬ ‫(‪ )1‬رواه اِلاكم وصحح إسناده ووافقه الذهيب (‪.)176/4‬‬ ‫(‪ )2‬مالمح اجملتمع املسلم‪ ،‬د‪.‬يوسف القرضاوي ص (‪.)334‬‬

‫‪133‬‬


‫ِمْنهُ نَ ْف ًسا فَ ُكلُوهُ َهنِيئًا َم ِريئًا ﴾ [النساء‪.]4 :‬‬ ‫جندها يف مدنيات أخرى‪ ،‬فتدفع هي للرجل بعض ماهلا‪ ،‬مع‬ ‫فأين هذا من املرأةِ اليت ُ‬ ‫َ‬ ‫أ َن فطرة هللا جعلت املرأةَ مطلوبةً ال طالبة؟‬ ‫ف بتوفري املأكل وامللبس واملسكن‬ ‫واثين هذه اِلقوق‪ :‬النفقة‪ ،‬فالرجل مكل ٌ‬ ‫ابملعروف‪ ،‬واملعروف‪ :‬هو ما يتعارف عليه أهل الدين والفضل من الناس بال إسراف‬ ‫ِ‬ ‫آَت ُه‬ ‫وال تقتري‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬لِيُ ْن ِف ْق ذُو َس َع ٍة ِم ْن َس َعتِ ِه َوَم ْن قُ ِد َر َعلَْي ِه ِرْزقُهُ فَ ْليُ ْن ِف ْق ْمَا َ‬ ‫ِ‬ ‫آَت َها﴾ [الطالق‪.]7 :‬‬ ‫ف َ‬ ‫َ‬ ‫اّللُ نَ ْف ًسا إِالَ َما َ‬ ‫اّللُ الَ يُ َكل ُ‬ ‫اشروه َن ِابلْمعر ِ‬ ‫ِ‬ ‫وف﴾‬ ‫واثلث اِلقوق‪ :‬املعاشرة ابملعروف‪ ،‬قال تعاىل‪َ ﴿ :‬و َع ُ ُ‬ ‫َ ُْ‬ ‫[النساء‪ .]19 :‬وهو حق جامع يتضمن إحسان املعاملة يف ِ‬ ‫كل عالقة بني املرء وزوجه‪،‬‬ ‫من حسن اخللق‪ ،‬ولني اجلانب‪ ،‬وطيب الكال ‪ ،‬وبشاشة الوجه‪ ،‬وتطييب نفسها‬ ‫ابملمازحة‪ ،‬والرتفيه عنها‪.‬‬

‫ٍ‬ ‫معصية‪ ،‬واحملافظة على‬ ‫أوجب عليها طاعةَ الزوج يف غري‬ ‫ويف مقابل هذه اِلقوق‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫تنفق منه إال إبذنه‪ ،‬وعلى بيته‪ ،‬فال ِ‬ ‫تدخ ُل فيه أحداً إال برضاه‪ ،‬ولو كان‬ ‫ماله‪ ،‬فال ُ‬ ‫من أهلها‪.‬‬ ‫وهذه الواجبات ليست كثريًة وال ظاملةً يف مقابل ما على الرجل من حقوق‪ ،‬فمن‬ ‫املقرر أ َن كل حق يق اب ل ه واجب‪ ،‬ومن عدل اإلسال أن ه مل ي جعل الواجب ات على‬ ‫وحدها‪ ،‬وال على الرجل وحده‪ ،‬بل قال تعاىل‪َ ﴿ :‬وَهلُ َن ِمثْ ُل الَ ِذي َعلَْي ِه َن‬ ‫املرأة َ‬ ‫ِابلْمعر ِ‬ ‫وف﴾ [البقرة‪ .]228 :‬فللنساء من اِلقوق مثل ما عليهن من الواجب ات‪.‬‬ ‫َ ُْ‬ ‫ومن مجيل ما يروى أن ابن عباس رضي هللا عنه وقف أما املراة يصلِ ُح هيئته‪،‬‬ ‫ويُ َع ِد ُل من زينته‪ ،‬فلما سئل يف ذلك قال‪ :‬أتزي ُن المرأيت كما تتزي ُن يل‪ ،‬مث تال االية‬ ‫‪134‬‬


‫الكرمية‪﴿ :‬وَهل َن ِمثْل الَ ِذي علَي ِه َن ِابلْمعر ِ‬ ‫وف﴾ [البقرة‪ .]228 :‬وهذا من عميق فقه‬ ‫َْ‬ ‫َ ُْ‬ ‫َُ ُ‬ ‫الصحابة للقرآن الكرمي(‪.)1‬‬ ‫ومل يهدر اإلسال ُ شخصية املرأة بزوجها‪ ،‬ومل يذهبا يف شخصية زوجها‪ ،‬كما هو‬ ‫الشأن يف التقاليد الغربية اليت جتعل املرأة َتبعة للرجل‪ ،‬فال تُعرف ابمسها ونسبها‬ ‫ولقبها العائلي‪ ،‬بل أبهنا زوجة فالن‪.‬‬ ‫أما اإلسال فقد أبقى للمرأة شخصيتها املستقلة املتميزة‪ ،‬وهلذا عرفنا زوجات الرسول‬ ‫صلى هللا عليه وسلم أبمسائهن وأنساهبن‪ ،‬فخدجية بنت خويلد‪ ،‬وعائشة بنت أيب‬ ‫بكر‪ ،‬وحفصة بنت عمر‪ ،‬وميمونة بنت اِلارث‪ ،‬وصفية بنت ُحيَي‪ ،‬وكان أبوها‬ ‫يهودَيً حمارابً للرسول صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬ ‫كما أن شخصيتها املدنية ال تنقص ابلزواج‪ ،‬وال تفقد أهليتها للعقود واملعامالت‬ ‫وسائر التصرفات‪ ،‬فلها أن تبيع وتشرتي‪ ،‬وتؤجر أمالكها‪ ،‬وتستأجر‪ ،‬وِتب من ماهلا‬ ‫وتتصدق وتوكل وختاصم‪.‬‬

‫بعض البالد مقيَد ًة إىل ٍ‬ ‫أمر مل تصل إليه املرأة الغربية إال حديثاً‪ ،‬والزالت يف ِ‬ ‫حد‬ ‫وهذا ٌ‬

‫ما إبرادة الزوج(‪.)2‬‬

‫‪ 9‬ـ احملافظة على أنوثة املرأة‪:‬‬ ‫تظل ينبوعاً لعواطف اِلنان والرقة واجلمال‪،‬‬ ‫اإلسال ُ ُيافظ على أنوثة املرأة‪ ،‬حىت َ‬ ‫بعض ما ُح ِر على الرجال‪ ،‬مبا تقتضيه طبيعة النثى ووظيفتها‪،‬‬ ‫وهلذا أحل هلا َ‬

‫كالتحلي ابلذهب‪ ،‬ولبس اِلرير اخلالص‪ ،‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪« :‬إن‬ ‫(‪ )1‬مالمح اجملتمع املسلم‪ ،‬ص(‪ .)340‬وانظر اإلسال واملرأة‪ ،‬لألستاذ سعيد الفغاين ص (‪.)72‬‬ ‫(‪ )2‬مالمح اجملتمع املسلم‪ ،‬ص(‪ .)341‬وانظر اإلسال واملرأة‪ ،‬لألستاذ سعيد الفغاين ص (‪.)72‬‬

‫‪135‬‬


‫هذين حرا ٌ على ذكور أميت‪ ،‬حل إلانثهم»(‪.)1‬‬

‫كما أنه حر عليها كل ما جيايف هذه النوثة‪ ،‬من التشبه ابلرجال يف الزي واِلركة‬ ‫س لبسة‬ ‫س املرأةُ لبسة الرجل‪ ،‬كما هنى الرجل أن يلبَ َ‬ ‫والسلوك وغريها‪ ،‬فنهى أن تلبَ َ‬

‫املرأة‪ ،‬ولعن املتشبهات من النساء ابلرجال‪ ،‬مثلما َلعن املتشبهني من الرجال‬ ‫ينظر هللاُ‬ ‫ابلنساء‪ ،‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪« :‬ثالثةٌ ال يدخلون اجلنة‪ ،‬وال ُ‬ ‫(‪)2‬‬ ‫ِ‬ ‫القيامة‪ُّ :‬‬ ‫يوث»(‪.)3‬‬ ‫العاق لوالديه‪ ،‬واملرأةُ املرتجلةُ ‪ ،‬والد ُ‬ ‫إليهم يوَ‬ ‫واإلسال ُيمي هذه النوثة‪ ،‬ويرعي ضعفها‪ ،‬فيجعلها أبداً يف ِ‬ ‫ظل رجل مكفولةَ‬ ‫النفقات‪ ،‬مكفيةَ اِلاجات‪ ،‬فهي يف كنف أبيها أو زوجها أو أوالدها أو إخوِتا‬ ‫جيب عليهم نفقتها‪ ،‬وفق شريعة اإلسال ‪ ،‬فال تضطرها اِلاجة إىل اخلوض يف جلج‬ ‫اِلياة وصراعها‪ ،‬ومزاْحة الرجال ابملناكب‪.‬‬ ‫ظ على ُخلُقها وحيائها‪ ،‬وُيرص على مسعتها وكرامتها‪ ،‬ويصون عفافها‬ ‫واإلسال ُ ُيافِ ُ‬ ‫من خواطر السوء‪ ،‬وألسنة السوء؛ فضالً عن أيدي السوء أن َتت َد إليها‪ :‬وهلذا ِ‬ ‫ب‬ ‫يوج‬ ‫ُ‬ ‫اإلسال عليها‪:‬‬

‫الغض من بصرها واحملافظة على عفتها ونظافتها‪:‬‬ ‫أ‬ ‫ُّ‬ ‫ضن ِمن أَب ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫وج ُه َن﴾ [النور‪.]31 :‬‬ ‫قال تعاىل‪َ ﴿ :‬وقُ ْل ل ْل ُم ْؤمنَات يَ ْغ ُ‬ ‫ض َْ ْ ْ َ‬ ‫صا ِره َن َوَُْي َفظْ َن فُ​ُر َ‬ ‫ب االحتشا والتسرت يف لباسها وزينتها دون ٍ‬ ‫إعنات هلا‪ ،‬وال ٍ‬ ‫تضييق عليها‪:‬‬ ‫قال تعاىل‪﴿ :‬وال يبدين زينتهن إال ما ظهر منها وليضربن خبمرهن على جيوهبن﴾‬ ‫[النور‪.]31 :‬‬ ‫(‪ )1‬سنن ابن ماجه رقم (‪.)3595‬‬ ‫(‪ )2‬املرتجلة‪ :‬املتشبهة ابلرجال‪.‬‬ ‫(‪ )3‬مسند أْحد رقم (‪ ،)1680‬وإسناده صحيح‪ ،‬والديوث‪ :‬الذي ال يبايل من دخل على أهله‪.‬‬

‫‪136‬‬


‫ج أال تبدي زينتها اخلفية كالشعر والعنق والنحر والذراعني والساقني إال لزوجها‬ ‫يشق عليها أن تسرت منهم استتارها من الجانب‪:‬‬ ‫وحمارمها الذين ُّ‬ ‫قال تعاىل‪﴿ :‬والَ ي ب ِدين ِزينَ تَ ه َن إِالَ لِب عولَتِ ِه َن أَو ِ‬ ‫آاب ِء بُعُولَتِ ِه َن أ َْو أَبْنَائِ ِه َن‬ ‫ُ​ُ‬ ‫ُْ َ ُ‬ ‫آابئ ِه َن أ َْو َ‬ ‫ْ َ‬ ‫ِ​ِ‬ ‫ِ​ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َخ َواِتِ​ِ َن أ َْو نِ َسائِ ِه َن أ َْو َما‬ ‫أ َْو أَبْنَاء بُعُولَت ِه َن أ َْو إِ ْخ َواهن َن أ َْو بَِين إِ ْخ َواهن َن أ َْو بَِين أ َ‬ ‫ِ َِ‬ ‫ُويل ا ِإلرب ِة ِمن ِ ِ‬ ‫ت أَْميَا ُهنُ َن أَ ِو التَابِعِ َ ِ‬ ‫ين َملْ يَظْ َهُروا َعلَى‬ ‫َملَ َك ْ‬ ‫الر َجال أَ ِو الط ْف ِل الذ َ‬ ‫ني َغ ْري أ ِ ْ َ َ‬ ‫عور ِ‬ ‫ات النِ َس ِاء﴾ [النور‪.]31 :‬‬ ‫ََْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ني‬ ‫د أن تتوقر يف مشيها وكالمها‪ :‬قال تعاىل‪َ ﴿ :‬والَ يَ ْ‬ ‫ض ِربْ َن ِأب َْر ُجل ِه َن ليُ ْعلَ َم َما ُ​ُيْف َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ض‬ ‫م ْن ِزينَت ِه َن﴾ [النور‪ .]31 :‬وقال‪﴿ :‬فَ َال َختْ َ‬ ‫ض ْع َن ِابلْ َق ْوِل فَيَطْ َم َع الَذي ِيف قَ ْلبِه َمَر ٌ‬ ‫َوقُ ْل َن قَ ْوالً َم ْعُروفًا ﴾‬ ‫بل هي مأمورةٌ‪ ،‬أن تقول قوالً معروفاً(‪.)1‬‬ ‫[األحزاب‪]32 :‬‬

‫فليست ْمنوعة من الكال ‪ ،‬وليس صوِتا عورة‪،‬‬

‫ه أن تتجنب كل ما جيذب االنتباه إليها‪ ،‬ويغري هبا‪ ،‬من تربج اجلاهلية الوىل أو‬ ‫الخرية‪.‬‬

‫فهذا ليس من خلق املرأة العفيفة قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ُّ « :‬أميا امرأةٍ‬ ‫ِ‬ ‫الناس رُيها فهي زانية»(‪.)2‬‬ ‫استعطرت‪ ،‬مث‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫خرجت من بيت َها ليش َم ُ‬ ‫و أن َتتنع عن اخللوة أبي ٍ‬ ‫حمرماً هلا‪:‬‬ ‫رجل ليس زوجها وال ْ‬

‫صوانً لنفسها ونفسه من هواجس اإلمث‪ ،‬ولسمعتها من ألسنة السوء‪ ،‬قال رسول هللا‬ ‫رجل ابمرأةٍ إال مع ذي حمر »(‪.)3‬‬ ‫صلى هللا عليه وسلم‪« :‬ال ُيلو َن ٌ‬ ‫ز أال ختتلط مبجتمع الرجال الجانب إال ِلاجة داعية‪ ،‬ومصلحة معتربة‪ ،‬وابلقدر‬ ‫(‪ )1‬مالمح اجملتمع املسلم (‪.)367-366‬‬ ‫(‪ )2‬سنن الرتمذي رقم (‪ )2786‬حديث صحيح‪.‬‬ ‫(‪ )3‬البخاري رقم (‪.)1088‬‬

‫‪137‬‬


‫الالز ‪:‬‬ ‫كالصالة يف املسجد‪ ،‬وطلب العلم‪ ،‬والتعاون على الرب والتقوى‪ ،‬حبيث ال ُْحتَرُ املرأةُ‬ ‫من املشاركة يف خدمة جمتمعها‪ ،‬وال تنسى اِلدود الشرعية يف لقاء الرجال‪.‬‬

‫إ َن اإلسال َ هبذه الحكا ُيمي أنوثةَ املرأة من أنياب املفرتسني من انحية‪ ،‬وُيفظ‬ ‫عليها حياءها وعفافها ابلبعد عن عوامل االحنراف والتضليل من انحية اثنية‪،‬‬ ‫ويصو ُن عرضها من ألسنة املفرتين واملرجفني من انحية اثلثة‪ ،‬وهو مع هذا كله‬ ‫ظ على نفسها وأعصاهبا من التوتر والقلق‪ ،‬ومن اهلزات واالضطراابت‪ ،‬نتيجة‬ ‫ُيافِ ُ‬ ‫جلموح اخليال‪ ،‬وانشغال القلب‪ ،‬وتوزع عواطفه بني شىت املثريات واملهيجات وهو‬ ‫أيضاً هبذا الحكا والتشريعات ُيمي الرجل من عوامل االحنراف والقلق‪ ،‬وُيمي‬ ‫اجملتمع كله من عوامل السقوط واالحنالل(‪.)1‬‬ ‫الثاين عشر ـ بناء األمة الشهيدة على الناس‪:‬‬ ‫من أهداف اإلسال الساسية‪ :‬تكوين أ ٍ‬ ‫النيب صلى هللا عليه‬ ‫ُمة متميزة‪ ،‬ولقد‬ ‫استطاع ُّ‬ ‫َ‬

‫وسلم حتقيق ذلك وفق رؤية واضحة‪ ،‬مبنية على عقيدة راسخة‪ ،‬وشريعة حاكمة‪،‬‬ ‫العرب من الفرقة‪ ،‬والشتات‪ ،‬والعصبيات القبلية‪ ،‬والنعرات اجلاهلية‪ ،‬وانتقلوا‬ ‫وختلص ُ‬

‫نقلةً كبريًة يف عامل الفكر‪ ،‬وعامل الشعور‪ ،‬وعامل الواقع‪ ،‬وأصبحت تلك القبائل أمةً‬ ‫واحد ًة‪ ،‬تعبد إهلاً واحداً‪ ،‬وختضع لكتاب و ٍ‬ ‫احد‪ ،‬وتنقاد لزعامة الرسول صلى هللا عليه‬ ‫وسلم املبني واملوضح هلم التعاليم اإلهلية‪ ،‬وأصبحت هذه المةُ ال تقوُ على رابطة‬ ‫عرقية وال لونية وال إقليمية وال طبقية‪ ،‬بل هي أمةُ عقيدةٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ورسالة قبل كل شيء‪.‬‬ ‫(‪ )1‬مالمح اجملتمع املسلم (‪.)368‬‬

‫‪138‬‬


‫ِ​ِ‬ ‫ني ِم ْن‬ ‫هي أمة اإلسال أو أمة املسلمني كما قال هللا تعاىل‪ُ ﴿ :‬ه َو َمسَا ُك ُم الْ ُم ْسلم َ‬ ‫يدا َعلَْي ُك ْم َوتَ ُكونُوا ُش َه َداءَ َعلَى الن ِ‬ ‫َاس﴾[احلج‪:‬‬ ‫قَ ْب ُل َوِيف َه َذا لِيَ ُكو َن الَر ُس ُ‬ ‫ول َش ِه ً‬ ‫‪.)2()1(]78‬‬ ‫النيب صلى هللا عليه وسلم لتؤدي دوراً كونياً‬ ‫فقد أخرج هللا المة املسلمة اليت قادها ُّ‬ ‫كبرياً‪ ،‬ولتحمل منهجاً إهلياً عظيماً‪ ،‬ولتنشىء يف الرض واقعاً فريداً‪ ،‬ونظاماً جديداً‪،‬‬ ‫وهذا الدور الكبري يقتضي التجرد والعطاء‪ ،‬والتميز والتماسك‪ ،‬وبتعبري خمتصر‬ ‫يقتضي أن تكو َن طبيعةُ هذه المة من العظمة؛ حبيث تسامي عظمة الدور الذي‬ ‫قدره هللا هلا يف هذه اِلياة‪ ،‬وتسامي املكانة اليت أعدها هللا هلا يف اآلخرة(‪.)3‬‬ ‫ومل تنل هذه المةُ هذه املكانة السامقة بني المم مصادفةً وال جزافاً وال حماابة‪ ،‬فاهلل‬ ‫سبحانه وتعاىل منَزه عن أن يكون يف ملكه شيء من ذلك‪ ،‬فكل شيء عنده‬ ‫ُيلق ما يشاء وُيتار‪ ،‬وهو سبحانه عندما أخرب أ َن هذه المة خريُ أمة‬ ‫مبقدار‪ ،‬وهو ُ‬ ‫أخرجت للناس‪ ،‬بني وجه ذلك وعلته يف االية نفسها‪ ،‬قال تعاىل‪ُ ﴿ :‬كْن تُ ْم َخ ْ َري أ َُم ٍة‬ ‫أُخ ِرج ِ‬ ‫َاس َأتْمرو َن ِابلْمعر ِ‬ ‫وف َوتَْن َه ْو َن َع ِن الْ ُمْن َك ِر َوتُ ْؤِمنُو َن ِاب َّللِ﴾‬ ‫ْ َ ْ‬ ‫َ ُْ‬ ‫ت للن ِ ُ ُ‬ ‫خري أم ة‬ ‫[آل عمران‪ ،]110 :‬فبهذه المور الثالثة العظيمة القدر ك انت هذه المةُ َ‬ ‫أخرجت للناس‪.‬‬ ‫أمور‬ ‫على أ َن هذه المور ليست هي كل ما كانت به هذه المة خري أمة؛ إذ هناك ٌ‬ ‫وخالل كثرية أهلت هذه المة هلذه اخلريية‪ ،‬ولكن هذه المور الثالثة أمهها‬ ‫ٌ‬ ‫(‪ )1‬كيف نتعامل مع القرآن العظيم؟ ص (‪.)97‬‬ ‫(‪ )2‬يف ظالل القرآن (‪.)129/1‬‬ ‫(‪ )3‬املصدر نفسه (‪.)171/1‬‬

‫‪139‬‬


‫وأعظمها‪ ،‬إذ ال تدو وال تستمر هذه اخلريية‪ ،‬وال حتفظ إال إبقامتها وأدائها‪ ،‬فإن‬ ‫المور يف جيل من الجيال هذه المةُ مل تكن َح ِريَةً هبذه اخلريية اليت‬ ‫فقدت هذه‬ ‫َ‬ ‫حظيت هبا(‪.)1‬‬ ‫أوصاف األمة اإلسالمية يف القرآن الكرمي‪:‬‬ ‫أبرز ما مييّـ ُز هذه األمة عن غريها من األمم أوصاف أربعة‪:‬‬ ‫ُ‬

‫‪ 1‬ـ الرابنية‪:‬‬

‫رابنية املصدر‪ ،‬ورابنية الوجهة‪ ،‬فهي أمةٌ أنشأها وحي هللا تعاىل‪ ،‬وتعهدِتا تعاليمه‬ ‫وأحكامه‪ ،‬وهي من اكتمل هلا دينها‪ ،‬وَتت به نعمة هللا عليها‪ ،‬كما قال تعاىل‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫يت لَ ُك ُم ا ِإل ْسالَ َ ِديناً﴾‬ ‫ت َعلَْي ُك ْم ن ْع َم ِيت َوَرض ُ‬ ‫ت لَ ُك ْم دينَ ُك ْم َوأَْ​َتَ ْم ُ‬ ‫﴿الْيَ ْوَ أَ ْك َم ْل ُ‬ ‫[املائدة‪.]3 :‬‬ ‫ِ‬ ‫ك‬ ‫فإن تعاىل هو صانع هذه المة‪ ،‬وهلذا جنده يقول يف القرآن الكرمي‪َ ﴿ :‬وَك َذل َ‬ ‫َج َع ْلنَا ُك ْم أَُمةً َو َسطًا﴾ [البقرة‪ ،]143 :‬فهذا التعبري يفيد أن هللا هو جاعل هذه‬ ‫﴿ َج َع ْلنَا ُك ْم﴾‪ ،‬ومستخدمها‪ ،‬وصانعها‪.‬‬

‫ٍ‬ ‫ت لِلن ِ‬ ‫َاس﴾ [آل عمران‪ ،]110 :‬فتعبري‬ ‫ُخ ِر َج ْ‬ ‫ومثل ذلك قوله تعاىل‪ُ ﴿ :‬كْن تُ ْم َخ ْ َري أ َُمة أ ْ‬ ‫ت﴾ يدل على أن هناك ُخم ِرجاً أخرج هذه المة‪ ،‬فهي مل تظهر اعتباطاً‪ ،‬ومل‬ ‫ُخ ِر َج ْ‬ ‫﴿أ ْ‬ ‫مقصود ِ‬ ‫متعهد ابلعناية‬ ‫نبات‬ ‫ٌ‬ ‫تكن نباَتً برَيً ينبت وحده دون أن يزرعه زارع‪ ،‬بل هو ٌ‬

‫والرعاية‪ ،‬والذي أخرج هذه المة‪ ،‬وزرعها‪ ،‬وهيأها لرسالتها هو هللا جل شأنه‪.‬‬

‫فهي أمةٌ مصدرها رابين‪ ،‬ووجهتُها رابنية كذلك؛ لهنا تعيش هلل‪ ،‬ولعبادة هللا‪،‬‬ ‫ولتحقيق منهج هللا يف أرض هللا‪ ،‬فهي من هللا وإىل هللا‪ ،‬كما قال تعاىل لرسوله صلى‬ ‫(‪ )1‬الوسطية يف القرآن الكرمي‪ ،‬للمؤلف ص (‪.)71‬‬

‫‪140‬‬


‫ِ‬ ‫هللا عليه وسلم‪﴿ :‬قُل إِ َن صالَِيت ونُس ِكي وَْحمياي وْمَ​َ ِايت َِّللِ ر ِ‬ ‫ني ۝ الَ‬ ‫ب الْ َعالَم َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ُ َ َ َ َ‬ ‫ْ‬ ‫يك لَهُ ﴾ [األنعام‪ 162 :‬ـ ‪.]163‬‬ ‫َش ِر َ‬ ‫‪ 2‬ـ الوسطية‪:‬‬

‫الوسطية اليت تؤه ُل هذه المة للشهادة على الناس‪ ،‬وثبوِتا مكان الستاذية للبشرية‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ك َج َع ْلنَا ُك ْم أَُمةً َو َسطًا لِتَ ُكونُوا ُش َه َداءَ َعلَى الن ِ‬ ‫َاس‬ ‫وفيها جاءت االية الكرمية‪َ ﴿ :‬وَك َذل َ‬ ‫يدا﴾ [البقرة‪.]143 :‬‬ ‫َويَ ُكو َن الَر ُس ُ‬ ‫ول َعلَْي ُك ْم َش ِه ً‬

‫ومن وسطية شاملة جامعة‪ ،‬وسطية يف االعتقاد والتصور‪ ،‬ووسطية يف الشعائر‬ ‫والتعبد‪ ،‬ووسطية يف الخالق والسلوك‪ ،‬ووسطية يف النظم والتشريع‪ ،‬ووسطية يف‬

‫الفكار واملشاعر‪ ،‬ووسطية بني الروحية واملادية‪ ،‬بني املثالية والواقعية‪ ،‬بني العقالنية‬ ‫والوجدانية‪ ،‬بني الفردية واجلماعية‪ ،‬بني الثبات والتطور(‪.)1‬‬ ‫إهنا المةُ اليت َتثل «الصراط املستقيم» بني السبل املتعرجة وامللتوية‪ ،‬صراط هللا الذي‬ ‫له ما يف السماوات وما يف الرض‪ ،‬صراط الذين أنعم هللا عليهم من النبيني‬ ‫والصديقني والشهداء والصاِلني‪ ،‬ال صراط املغضوب عليهم وال الضالني‪.‬‬ ‫‪ 3‬ـ الدعوة‪:‬‬

‫هي أمةُ دعوةٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ورسالة‪ ،‬وليست أمة منكفئة عن نفسها حتتكر رسالة ِ‬ ‫اِلق واخلري‬

‫المر‬ ‫واهلداية لذاِتا‪ ،‬وال تعمل على نشرها يف الناس‪ ،‬بل الدعوةُ فريضةٌ عليها‪ ،‬و ُ‬ ‫أساس تفضيلها على كل المم‪.‬‬ ‫ابملعروف والنهي عن املنكر مع اإلميان ابهلل ُ‬

‫لكل الجناس‪ ،‬و ِ‬ ‫إ َن رسالةَ اإلسالِ رسالةٌ عامليةٌ‪ ،‬رسالةٌ ِ‬ ‫لكل اللوان‪ ،‬ولكل القاليم‪،‬‬ ‫ولكل الشعوب‪ ،‬ولكل اللغات‪ .‬قال تعاىل‪﴿ :‬تَبارَك الَ ِذي نَ​َزَل الْ ُفرقَا َن علَى عب ِدهِ‬ ‫ْ َ َْ‬ ‫َ​َ‬

‫(‪ )1‬كيف نتعامل مع القرآن العظيم؟ ص (‪.)98‬‬

‫‪141‬‬


‫اّللِ‬ ‫لِي ُكو َن لِْلعالَ ِم ِ‬ ‫َاس إِ​ِين َر ُس ُ‬ ‫ول َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫ني نَذ ًيرا ﴾ [الفرقان‪ .]1 :‬وقال تعاىل‪﴿ :‬قُ ْل َ​َيأَيُّ َها الن ُ‬ ‫إِلَي ُكم َِ‬ ‫مج ًيعا﴾ [األعراف‪.]158 :‬‬ ‫ْ ْ‬ ‫‪ 4‬ـ الوحدة‪:‬‬ ‫المةُ اليت يريدها اإلسال أمةٌ الوحدة‪ ،‬وإن تكونت من عروق وألوان وطبقات‪ ،‬فقد‬ ‫صهرها اإلسال مجيعاً يف بوتقته‪ ،‬وأذاب الفوارق بينها‪ ،‬وربطها ابلعروة الوثقى ال‬ ‫ِ ِ​ِ‬ ‫ِ‬ ‫اعب ُد ِ‬ ‫ون ﴾‬ ‫انفصا هلا‪ .‬قال تعاىل‪﴿ :‬إ َن َهذه أَُمتُ ُك ْم أَُمةً َواح َد ًة َوأ َ​َان َربُّ ُك ْم فَ ْ ُ‬ ‫[األنبياء‪ .]92 :‬وقال تعاىل‪﴿ :‬وإِ َن ه ِذهِ أَُمتُ ُكم أَُمةً و ِ‬ ‫اح َدةً وأ َ​َان ربُّ ُكم فَاتَ ُق ِ‬ ‫ون ﴾‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫[املؤمنون‪.]52 :‬‬

‫جيوز أن نقول يف تعبريان‪ :‬المم اإلسالمية‪ ،‬بل المة اإلسالمية‪ ،‬فهي أمة‬ ‫وهلذا ال ُ‬ ‫واحدة كما أمر هللا‪ ،‬وليست أْماً متفرقة كما أراد االستعمار‪ ،‬وهي أمة ذات شعوب‪،‬‬ ‫واب َوقَبَائِ َل لِتَ َع َارفُوا﴾ [احلجرات‪ ،]13 :‬فال أبس أن‬ ‫كما قال تعاىل‪َ ﴿ :‬و َج َع ْلنَا ُك ْم ُشعُ ً‬ ‫نقول‪« :‬الشعوب اإلسالمية» بدل «المم اإلسالمية»(‪.)1‬‬ ‫ومن املفيد هنا أ ْن ننبِه على قضية ِ‬ ‫ذات شأن‪ ،‬وهي‪ :‬أ َن اإلميان ابلمة املؤسسة على‬ ‫تضم مجيع املسلمني يف رحاهبا حيث كانوا؛ ال‬ ‫عقيدة اإلسال وأخوة اإلميان‪ ،‬واليت ُّ‬ ‫ينفي أن هناك خصوصيات معينة ل ِ‬ ‫كل قو يعتزون هبا‪ ،‬وُيافظون عليها‪ ،‬وال‬

‫يُ ِ‬ ‫مانع من ذلك إذا مل تتحول إىل عصبية عرقية تقاو إخوة اإلسال ‪،‬‬ ‫فرطون فيها‪ ،‬وال َ‬ ‫أو إىل نزعة أاننية انفصالية ِ‬ ‫ِتد ُد وحدة دولة اإلسال ‪.‬‬ ‫ولقد ترك رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وأصحابه من بعده القبائل تقاتل حتت‬ ‫راَيِتا اخلاصة يف ظل القيادة اإلسالمية العامة‪ ،‬ليكون ذلك مصدراً إضافياً ِلماسهم‬ ‫(‪ )1‬كيف نتعامل مع القرآن العظيم؟ ص (‪.)101‬‬

‫‪142‬‬


‫وإقدامهم؛ حىت ال جيلبوا العار على أقوامهم وعشائرهم‪.‬‬ ‫حب الرجل لقومه وعشريته‪ ،‬ورغبته يف جلب اخلري هلم‪ ،‬ودفع ِ‬ ‫الشر عنهم نزعةٌ‬ ‫إن َ‬ ‫خطر يف حبه لسرته‪ ،‬واهتمامه هبا‪.‬‬ ‫خطر فيها‪ ،‬كما ال َ‬ ‫فطريةٌ ال غبار عليها‪ ،‬وال َ‬

‫واخلطر إمنا يتمثل فيما إذا وقفوا موقفاً معادَيً لإلسال ‪ ،‬وحادوا هللا ورسوله صلى هللا‬

‫عليه وسلم‪ ،‬هنا حترُ املوادة واملواالة‪ ،‬ولو كانت لقرب الناس لإلنسان‪ ،‬كأمه وأبيه‬ ‫وبناته وبنيه وزوجه وأخيه‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬الَ َِجت ُد قَ ْوًما يُ ْؤِمنُو َن ِاب َّللِ َوالْيَ ْوِ اآلخر‬ ‫آابءَ ُه ْم أ َْو أَبْنَاءَ ُه ْم أ َْو إِ ْخ َو َاهنُْم أ َْو َع ِش َريَِتُْم﴾‬ ‫يُ َو ُّ‬ ‫آدو َن َم ْن َحآ َد َ‬ ‫اّللُ َوَر ُسولَهُ َولَْو َكانُوا َ‬

‫[اجملادلة‪ .]22 :‬وقال تعاىل‪:‬‬ ‫﴿َيأَيُّها الَ ِذين آمنُوا َال تَتَ ِخ ُذوا آابء ُكم وإِخوانَ ُكم أَولِياء إِ ِ‬ ‫استَ َحبُّوا الْ ُك ْفَر َعلَى‬ ‫ن‬ ‫ْ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ ْ َ َْ ْ ْ َ َ‬ ‫ِ‬ ‫اإلميَ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِْ‬ ‫آاب ُؤُك ْم َوأَبْنَا ُؤُك ْم‬ ‫ان َوَم ْن يَتَ َوَهلُْم ِمْن ُك ْم فَأُولَئِ َ‬ ‫ك ُه ُم الظَال ُمو َن ۝ قُ ْل إ ْن َكا َن َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وها َوِجتَ َارةٌ َختْ َش ْو َن َك َس َاد َها َوَم َساكِ ُن‬ ‫اج ُك ْم َو َعش َريتُ ُك ْم َوأ َْم َو ٌال اقَْ​َرتفْ تُ ُم َ‬ ‫َوإ ْخ َوانُ ُك ْم َوأ َْزَو ُ‬ ‫ب إِلَي ُكم ِمن َِ‬ ‫ِ​ِ ِ ٍ‬ ‫ِ​ِ‬ ‫اّلل ِأب َْم ِرهِ‬ ‫تَ ْر َ‬ ‫اّلل َوَر ُسوله َوج َهاد ِيف َسبِيله فَ​َ​َرتبَ ُ‬ ‫ض ْوَهنَا أ َ‬ ‫صوا َح َىت َأيِْيتَ َُ‬ ‫َح َ ْ ْ َ‬ ‫ِ​ِ‬ ‫ِ‬ ‫ني ﴾ [التوبة‪ 23 :‬ـ ‪.]24‬‬ ‫َو َ‬ ‫اّللُ الَ يَ ْهدي الْ َق ْوَ الْ َفاسق َ‬ ‫وُيب قومه وعشريته وشعبه‪ ،‬ولكن إذا تعارض ذلك‬ ‫الرجل أسرته‪َ ،‬‬ ‫ال أبس أن َ‬ ‫ُيب ُ‬

‫مع حب هللا ورسوله صلى هللا عليه وسلم؛ فإن حب هللا ورسوله صلى هللا عليه‬ ‫كل ٍ‬ ‫وسلم أغلى من ِ‬ ‫شيء‪ ،‬هنا يتغىن املسلم بقول القائل‪:‬‬

‫ِ‬ ‫أب ِيل س َواهُ‬ ‫أيب اإلس ال ُ ال َ‬

‫ِ (‪)1‬‬

‫إذا افتخ روا بق ٍ‬ ‫يس أو َت يم‬

‫الثالث عشر ـ السماحة‪:‬‬ ‫(‪ )1‬كيف نتعامل مع القران العظيم؟ ص(‪.)102‬‬

‫‪143‬‬


‫السماحة أول أوصاف الشريعة‪ ،‬وأكرب مقاصدها‪ ،‬والسماحة‪ :‬سهولة املعاملة فيما‬ ‫أرشق‬ ‫اعتاد الناس فيه املشادة‪ ،‬فهي وسط بني الشدة والتساهل‪ ،‬ولفظ السماحة هو ُ‬ ‫لفظ يدل على هذا املعىن‪ ،‬يقال‪ :‬مسح فالن؛ إذا جاء ٍ‬ ‫مبال له‪ .‬قال املقن ُع الكندي‪:‬‬ ‫ل يس العط اء م ن الفض ِ‬ ‫ود وم ا ل ديك قلي ُل‬ ‫ول مساح ةً‬ ‫ح ىت جت َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َيد العجم ابلندى يف قوله‪:‬‬ ‫فالسماحةُ ُّ‬ ‫أخص من اجلود‪ ،‬وهلذا قابلها ز ُ‬ ‫ٍ‬ ‫ت عل ى اب ِن اِلَ ْش َرِج‬ ‫إ َن الس ماحةَ وامل روء َة والن دى‬ ‫ق ي قُبَ ة ُ‬ ‫ض ِربَ ْ‬ ‫ُّ‬ ‫فتدل السماحةُ على خلق اجلود والبذل‪ ،‬ويف اِلديث عن َجابر بن عبد هللا قال‪:‬‬

‫رحم هللاُ َر ُجالً مسحاً إذا ابع‪ ،‬مسحاً إذا‬ ‫قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪َ « :‬‬ ‫اشرتى‪ ،‬مسحاً إذا اقتضى»(‪.)1‬‬ ‫فالسماحة من أكرب صفات اإلسال الكائنة وسطاً بني طريف إفراط وتفريط‪ ،‬ويف‬ ‫أحب الدي ِن‬ ‫اِلديث الصحيح عن ابن عباس عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ُّ « :‬‬ ‫إىل هللاِ اِلنيفيةُ السمحةُ»(‪.)2‬‬ ‫فرجع معىن السماحة إىل التيسري املعتدل‪ ،‬وهو معىن اليسر املوصوف به اإلسال ‪،‬‬ ‫يد بِ ُك ُم الْعُ ْسَر﴾ [البقرة‪.]185 :‬‬ ‫يد َ‬ ‫اّللُ بِ ُك ُم الْيُ ْسَر َوالَ يُِر ُ‬ ‫قال تعاىل‪﴿ :‬يُِر ُ‬

‫واستقراء الشريعة يدل على هذا الصل يف تشريع اإلسال ‪ ،‬فليس االستدالل عليه‬

‫تثبت‬ ‫مبجرد هذه االية‪ ،‬أو هذا اخلرب‪ ،‬حىت يقول‬ ‫ٌ‬ ‫معرتض‪ :‬إ َن الصول القطعية ال ُ‬ ‫القطع‪ ،‬وهلذا قال‬ ‫ابلظواهر‪ ،‬ل َن أدلةَ هذا الصل كثريةٌ منتشرةٌ‪ ،‬وكثرة الظواهر تفيد َ‬ ‫ِ‬ ‫ك هبذه الكلمة‬ ‫يسر‪ ،‬وحسبُ َ‬ ‫اإلما مالك بن أنس يف مو َ‬ ‫ودين هللا ٌ‬ ‫اضع من (املوطأ)‪ُ :‬‬ ‫من ذلك اإلما ‪ ،‬فإنه ما قاهلا حىت استخلصها من استقراء الشريعة‪ ،‬إن السماحةَ‬ ‫(‪ )1‬البخاري رقم (‪.)2076‬‬ ‫(‪ )2‬البخاري‪ ،‬الدب املفرد رقم (‪.)188‬‬

‫‪144‬‬


‫ٍ‬ ‫وصف الطمئنان النفس‪ ،‬وأعو ُن على قبول اهلدى واإلرشاد(‪ ،)1‬قال تعاىل‪:‬‬ ‫أكمل‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫﴿فَبِما ر ْ​ْح ٍة ِمن َِ ِ‬ ‫ظ الْ َق ْل ِ‬ ‫ك﴾‬ ‫ب الَنْ َف ُّ‬ ‫ت فَظًّا َغلِي َ‬ ‫ضوا ِم ْن َح ْول َ‬ ‫ت َهلُْم َولَ ْو ُكْن َ‬ ‫اّلل لْن َ‬ ‫َ َ​َ َ‬ ‫[آل عمران‪.]159 :‬‬ ‫إ َن حكمةَ السماحة يف الشريعة أ َن هللا جعل هذه الشريعة دين الفطرة‪ ،‬وأمور الفطرة‬ ‫راجعةٌ إىل اجلبلة‪ ،‬فهي كائنة يف النفوس‪ ،‬سهل عليها قبوهلا‪ ،‬ومن الفطرة النفور من‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ضعِي ًفا ﴾‬ ‫يد َ‬ ‫الشدة واإلعنات‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬يُِر ُ‬ ‫ف َعْن ُك ْم َو ُخل َق ا ِإلنْ َسا ُن َ‬ ‫اّللُ أَ ْن ُ​ُيَف َ‬ ‫[النساء‪.]28 :‬‬ ‫وقد أر َاد هللاُ أن تكو َن الشريعةُ اإلسالميةُ شريعةً عامةً دائمةً‪ ،‬فاقتضى ذلك أن يكون‬

‫تنفي ُذها بني المة سهالً‪ ،‬وال يكو ُن ذلك إال إذا انتفى عنها اإلعنات‪ ،‬فهي‬ ‫ِ‬ ‫حايل ُخ َويصتها‬ ‫بسماحتها أش َد مالءمة للنفوس؛ ل َن فيها إراحة‬ ‫النفوس يف ْ‬

‫وجمتمعها(‪.)2‬‬

‫يخ أن‬ ‫أثر عظيم يف انتشار الشريعة‪ ،‬وطول دوامها‪ ،‬إذ أراان التار ُ‬ ‫وقد ظهر للسماحة ٌ‬ ‫سرعة امتثال المم للشرائع‪ ،‬ودوامهم على اتباعها؛ كان على مقدار اقرتاب الدَين‬

‫بعض الدَين من الشدة حداً متجاوزاً لصل السماحة ِلق‬ ‫من السماحة‪ ،‬فإذا َ‬ ‫بلغ ُ‬ ‫اتباعه العنت‪ ،‬ومل يلبثوا أن ينصرفوا عنه‪ ،‬أو ِ‬ ‫يفرطوا يف معظمه‪.‬‬

‫وقد حافظ اإلسال على استدامة وصف السماحة لحكامه‪ ،‬فقدر هلا أهنا إن‬ ‫عرض هلا من العوارض الزمنية أو اِلالية ما يصريها مشتملة على شدة فتح هلا ابب‬ ‫اضطَُر َغ ْ َري َاب ٍغ َوالَ َعا ٍد فَالَ إِ ْمثَ َعلَْي ِه﴾‬ ‫الرخصة املشروع بقوله تعاىل‪﴿ :‬فَ َم ِن ْ‬ ‫(‪ )1‬أصول النظا االجتماعي‪ ،‬حممد الطاهر بن عاشور ص(‪.)51‬‬ ‫(‪ )2‬مقاصد الشريعة اإلسالمية‪ ،‬حممد الطاهر بن عاشور ص(‪.)271‬‬

‫‪145‬‬


‫اضطُِرْرُْمت إِلَْي ِه﴾ [األنعام ‪ ،]119‬ويف اِلديث‪« :‬إن‬ ‫[البقرة‪ .]173 :‬وبقوله تعاىل‪﴿ :‬إِالَ َما ْ‬ ‫ُيب أن تؤتى رخصه كما ُِ‬ ‫ائمه»(‪ .)1‬ومن قواعد الفقه املشهورة‪:‬‬ ‫ز‬ ‫ع‬ ‫تؤتى‬ ‫أن‬ ‫ب‬ ‫ُي‬ ‫ُّ‬ ‫هللاَ ُّ‬ ‫ُ ُ‬ ‫ُ‬ ‫«املشقة جتلب التيسري»‪.‬‬ ‫‪ 1‬ومن مساحة القرآن الكرمي‪ ،‬إنكارهُ على أصحاب النزعات املتطرفة‪ ،‬والذين‬ ‫(‪)2‬‬ ‫آد َ ُخ ُذوا ِزينَ تَ ُك ْم‬ ‫ُيرمون الطيبات والزينة اليت أخرج لعباده ‪ .‬قال تعاىل‪َ​َ ﴿ :‬يبَِين َ‬ ‫ِ‬ ‫ِعْن َد ُك ِل َم ْس ِج ٍد َوُكلُوا َوا ْشَربُوا َوالَ تُ ْس ِرفُوا إِنَهُ الَ ُُِي ُّ‬ ‫ب الْ ُم ْس ِرف َ‬ ‫ني ۝ قُ ْل َم ْن َحَرَ‬ ‫الرزِق قُل ِهي لِلَ ِ‬ ‫اّللِ الَِيت أَخرج لِعِب ِادهِ والطَيِب ِ‬ ‫ات ِ‬ ‫ِ‬ ‫اِلَيَاةِ ُّ‬ ‫الدنْيَا‬ ‫ذ‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ين َآمنُوا ِيف ْ‬ ‫ِزينَةَ َ‬ ‫ْ‬ ‫َْ َ َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ك نُ َف ِ‬ ‫ص ُل اآلَيت لَِق ْوٍ يَ ْعلَ ُمو َن ﴾ [األعراف‪ 31 :‬ـ ‪.]32‬‬ ‫صةً يَ ْوَ الْقيَ َام ِة َك َذل َ‬ ‫َخال َ‬ ‫َِ‬ ‫ين َآمنُوا الَ ُحتَ ِرُموا‬ ‫ويف القرآن املدين ُياطب اجلماعة املؤمنة بقوله‪َ​َ ﴿ :‬يأَيُّ َها الذ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ين ۝ َوُكلُوا ِْمَا َرَزقَ ُك ُم‬ ‫اّللُ لَ ُك ْم َوالَ تَ ْعتَ ُدوا إِ َن َ‬ ‫َح َل َ‬ ‫اّللَ الَ ُُِي ُّ‬ ‫طَيِبَات َما أ َ‬ ‫ب الْ ُم ْعتَد َ‬ ‫اّللَ الَ ِذي أَنْتُ ْم بِ​ِه ُم ْؤِمنُو َن ﴾ [املائدة‪ 87 :‬ـ ‪.]88‬‬ ‫اّللُ َحالَالً طَيِبًا َواتَ ُقوا َ‬ ‫َ‬ ‫وهاَتن اآليتان الكرميتان تبينان للمسلمني حقيقة منهج اإلسال يف التمتع‬ ‫ابلطيبات‪ ،‬ومقاومة الغلو الذي ُوِج َد يف بعض الدَين‪ ،‬أو عند بعض املتنطعني(‪.)3‬‬ ‫‪ 2‬ومن مساحة اإلسال أيضاً ما يتبعه من منهج يف الدعوة إىل هللا عز وجل‪،‬‬ ‫ك ِاب ِْلِ ْك َم ِة‬ ‫وجدال املخالفني‪ ،‬ففي القرآن الكرمي قال تعاىل‪ْ ﴿ :‬ادعُ إِ َىل َسبِ ِيل َربِ َ‬ ‫ِ‬ ‫والْمو ِعظَِة ْ ِ ِ‬ ‫َح َس ُن﴾[النحل‪.)4(]125 :‬‬ ‫اِلَ َسنَة َو َجاد ْهلُْم ِابلَِيت ه َي أ ْ‬ ‫َ َْ‬ ‫جيد أهنا ال تكتفي ابلمر ابجلدال ابلطريقة اِلسنة‪ ،‬بل أمرت‬ ‫ومن أتمل االيةَ الكرميةَ ُ‬

‫(‪ )1‬صحيح ابن حبان رقم (‪.)354‬‬ ‫(‪ )2‬أصول النظا االجتماعي ص (‪.)52‬‬ ‫(‪ )3‬املصدر نفسه ص(‪.)52‬‬ ‫(‪ )4‬مساحة اإلسال ‪ ،‬عمر عبد العزيز ص(‪.)370‬‬

‫‪146‬‬


‫ابليت هي أحسن‪ ،‬فإذا كان هناك طريقتان للحوار واملناقشة إحدامها حسنة‪،‬‬ ‫واآلخرى أحسن منها‪ ،‬وجب على املسلم أن ِ‬ ‫جياد َل ابليت هي أحسن؛ جذابً للقلوب‬ ‫النافرة‪ ،‬وتقريباً لألنفس املتباعدة(‪.)1‬‬ ‫فىت من قريش جاء إىل النيب صلى هللا‬ ‫‪ 3‬من مساحة النيب صلى هللا عليه وسلم أن ً‬ ‫عليه وسلم يستأذنه يف الزىن‪ ،‬فثار الصحابة‪ ،‬ومهوا به جلرأته على النيب صلى هللا عليه‬

‫النيب صلى هللا عليه وسلم وقف موقفاً اخر فقال‪« :‬ادنه» فدان‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫وسلم‪ ،‬ولكن َ‬ ‫«أحتبه لمك؟» قال‪ :‬ال وهللاِ‬ ‫الناس ُيبونه لمهاِتم»‪،‬‬ ‫وال‬ ‫«‬ ‫قال‪:‬‬ ‫فداك؟‬ ‫هللا‬ ‫جعلين‬ ‫‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫مث قال له مثل ذلك يف ابنته وأخته وعمته وخالته‪ ،‬يف كل ذلك يقول‪« :‬أحتبه‬ ‫الناس‬ ‫لكذا؟» فيقول‪ :‬ال‪ ،‬جعلين هللا فداك‪ ،‬فيقول صلى هللا عليه وسلم‪« :‬وال ُ‬ ‫ُيبونه»‪ .‬فوضع يده عليه‪ ،‬وقال‪« :‬اللهم اغفر ذنبه‪ ،‬وطهر قلبه‪ ،‬وحصن فرجه»‪،‬‬ ‫فلم يكن بعد ذلك يلتفت إىل شيء(‪.)2‬‬

‫وإمنا عامله النيب صلى هللا عليه وسلم هبذا الرفق‪ ،‬حتسيناً للظن به‪ ،‬وأ َن اخلري ِ‬ ‫كام ٌن‬ ‫فيه‪ ،‬والشر طارأئ عليه‪ ،‬فلم يزل ُياوره حىت اقتنع عقله‪ ،‬واطمأن قلبه إىل خبث‬

‫الزىن وفحشه‪ ،‬وكسب مع ذلك دعاء النيب صلى هللا عليه وسلم(‪.)3‬‬ ‫الرابع عشر ـ الرمحة‪:‬‬ ‫وهي من الخالق القرآنية العظيمة اليت كانت هلا العناية الكربى يف القرآن الكرمي‬

‫(‪ )1‬املصدر نفسه ص(‪.)30‬‬ ‫(‪ )2‬مسند أْحد (‪.)256/5‬‬ ‫(‪ )3‬مساحة اإلسال ‪ ،‬د‪.‬عمر عبد العزيز ص(‪.)31‬‬

‫‪147‬‬


‫من حيث ذكرها‪ ،‬والتوبة بشأهنا ملا هلا من عظي ِم الث ِر يف اِلياة الدينية والدنيوية(‪.)1‬‬ ‫‪ 1‬ـ الرمحة صفة من صفات هللا تعاىل‪:‬‬ ‫الرْحة صفةٌ من صفات اِلق تبارك وتعاىل‪ ،‬اليت وصف هبا نفسه كثرياً يف القرآن‬ ‫العظيم يف حنو مئيت اية‪ ،‬فضالً عن تصدر كل سورة بصفيت الرْحن الرحيم‪ ،‬وذلك يف‬

‫البسملة اليت هي ايةٌ من ِ‬ ‫كل سورة عدا سورة براءة(‪ ،)2‬وذلك للداللة على مبلغ‬ ‫ِ‬ ‫ت ُك َل َش ْي ٍء‬ ‫رْحته العظيمة‪ ،‬وْشوهلا العا بعباده وخملوقاته‪ .‬قال تعاىل‪َ ﴿ :‬وَر ْ​ْحَِيت َوس َع ْ‬ ‫َِ‬ ‫َِ‬ ‫ِ​ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ين يَتَبِعُو َن‬ ‫ين ُه ْم ِب َ​َيتنَا يُ ْؤمنُو َن ۝ الذ َ‬ ‫ين يَتَ ُقو َن َويُ ْؤتُو َن الَزَكا َة َوالذ َ‬ ‫فَ َسأَ ْكتُبُ َها للَذ َ‬ ‫َيب ال ُِم َي﴾ [األعراف‪ 156 :‬ـ ‪ .]157‬وقال تعاىل على لسان مالئكته الكرا ‪:‬‬ ‫الَر ُس َ‬ ‫ول النِ َ‬ ‫﴿ربَنا و ِسعت ُك َل شي ٍء ر ْ​ْحةً و ِع ْلما فَا ْغ ِفر لِلَ ِذين َ​َتبوا واتَب عوا سبِيلَ ِ‬ ‫اب‬ ‫َ ُ َ َُ َ َ‬ ‫َ​َ َ ْ َ‬ ‫ك َوق ِه ْم َع َذ َ‬ ‫ْ‬ ‫َْ َ َ َ ً‬ ‫ا ْجلَ ِحي ِم ﴾ [غافر‪.]7 :‬‬

‫وقال تعاىل تعليماً للنيب صلى هللا عليه وسلم أ ْن يقول للمشركني إ ْن هم كذبوه‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ ِ ٍ‬ ‫ني ﴾ [األنعام‪.]147 :‬‬ ‫﴿ َربُّ ُك ْم ذُو َر ْ​ْحَة َواس َعة َوالَ يَُرُّد َأبْ ُسهُ َع ِن الْ َق ْو الْ ُم ْج ِرم َ‬ ‫ولقد قرر هللا تعاىل يف كتابه الكرمي أن الرْحةَ صفته الثابتة اليت ال تزول عنه أبداً‪ ،‬كما‬ ‫ب َربُّ ُك ْم َعلَى نَ ْف ِس ِه الَر ْ​ْحَةَ﴾ [األنعام‪.] 54 :‬‬ ‫قال سبحانه‪َ ﴿ :‬كتَ َ‬ ‫وقد ظهرت ااثر رْحته يف اخلليقة كلها‪ ،‬فما ِمن ٍ‬ ‫أحد مسل ٍم أو كاف ٍر إال وعليه من‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ااثر رْحته يف هذه الدنيا‪ ،‬ففيها يتعايشون‪ ،‬ويؤاخون‪ ،‬ويو ُّادون‪ ،‬وفيها يتقلَبون‪ ،‬لكنها‬

‫للمؤمنني خاصةً يف اآلخرة‪ ،‬الحظ للكافرين فيها(‪.)3‬‬ ‫‪ 2‬ـ من مظاهر رمحته خبلقه‪:‬‬ ‫(‪ )1‬أخالق النيب (ص) يف القران والسنة‪ ،‬د‪ .‬أْحد اِلداد (‪.)611/2‬‬ ‫(‪ )2‬أخالق النيب (ص) (‪.)612/2‬‬ ‫(‪ )3‬حماسن التأويل‪ ،‬للقامسي (‪.)157/7‬‬

‫‪148‬‬


‫أجل مظاهر رْحة هللا تعاىل أن بعث هلم رسله ترتى‪ ،‬مث بعث خامت أنبيائه‪ ،‬وسيد‬ ‫من ُّ‬ ‫رسله‪ ،‬وصفوته من خلقه حممد بن عبد هللا صلوات هللا وسالمه عليه؛ الذي امْت به‬ ‫على المة‪ ،‬وكشف به الظلمة‪ ،‬وأزاح به الغمة‪ ،‬وجعله رْحة للعاملني أمجعني‪ ،‬كما‬ ‫ِ ِ‬ ‫ني ﴾ [األنبياء‪ .]107 :‬وكما قال تعاىل‪:‬‬ ‫قال تعاىل‪َ ﴿ :‬وَما أ َْر َس ْلنَ َ‬ ‫اك إِالَ َر ْ​ْحَةً ل ْل َعالَم َ‬ ‫ِ​ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫﴿لَ​َق ْد جاء ُكم رس ٌ ِ‬ ‫ني‬ ‫يص َعلَْي ُك ْم ِابلْ ُم ْؤمن َ‬ ‫ول م ْن أَنْ ُفس ُك ْم َع ِز ٌيز َعلَْيه َما َعنت ُّْم َح ِر ٌ‬ ‫َ َ ْ َُ‬ ‫وف َرِح ٌيم ﴾ [التوبة‪.]128 :‬‬ ‫َرُؤ ٌ‬ ‫وقد حدَث النيب صلى هللا عليه وسلم عن رْحة هللا تعاىل‪ ،‬ومبلغ سعتها وكنهها‪،‬‬ ‫ضِيب»(‪.)1‬‬ ‫اخللق كتب عنده فوق عرشه‪ :‬إن رْحيت‬ ‫سبقت َغ َ‬ ‫فقال‪« :‬إن هللاَ ملَا قَ َ‬ ‫ْ‬ ‫ضى َ‬ ‫وقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪« :‬جعل هللا الرْحةَ مئةَ ٍ‬ ‫فأمسك عنده‬ ‫جزء‪،‬‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬ ‫ِ‬ ‫اخلالئق‪ ،‬حىت‬ ‫احم‬ ‫أنزل يف‬ ‫تسعة وتسعني‪ ،‬و َ‬ ‫ُ‬ ‫الرض جزءاً واحداً‪ ،‬فمن ذلك اجلزء ترت ُ‬ ‫ترفع الدَابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه»(‪.)2‬‬

‫ومن حديث عمر بن اخلطاب رضي هللا عنه قال‪ :‬قُ ِد َ على رسول هللا صلى هللا‬ ‫عليه وسلم بسيب‪ ،‬فإذا امرأةٌ من السيب تسعى قد حتلب ثديُها‪ ،‬إذا وجدت صبياً يف‬

‫السيب أخذته‪ ،‬وألصقته ببطنها‪ ،‬وأرضعته‪ ،‬فقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪:‬‬

‫«أترو َن هذه املرأ َة طارحةً و َلدها يف النار؟» قلنا‪ :‬ال وهللا وهي تقدر على أن ال‬ ‫أرحم بعبادهِ من هذه‬ ‫تطرحه‪ ،‬فقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪« :‬هللاُ ُ‬ ‫بو ِ‬ ‫لدها»(‪.)3‬‬ ‫‪ 3‬ـ حض املؤمنني على التحلي ابلرمحة‪:‬‬ ‫(‪ )1‬مسلم رقم (‪.)2751‬‬ ‫(‪ )2‬مسلم رقم (‪.)2754‬‬ ‫(‪ )3‬مسلم رقم (‪ ،)2754‬حتلَب‪ :‬اجتمع حليب ثديها فيه‪.‬‬

‫‪149‬‬


‫ندب هللا تعاىل عباده إىل التحلي ابلرْحة‪ ،‬وحثهم عليها يف بعض مواطنها؛ لكبري‬ ‫أجرها‪ ،‬وعظيم ثواهبا‪ ،‬وذلك كالرْحة ابلوالدين اللَذين‬ ‫أمهيتها يف تلك املواطن‪ ،‬لينالوا َ‬ ‫عظم هللا شأهنما‪ ،‬وقرن شكرمها بشكره‪ ،‬وطاعتهما بطاعته‪ ،‬فكانت الرْحةُ عند‬ ‫َ‬ ‫الكرب حمتَمة‪ ،‬حيث قال تعاىل‪﴿ :‬و ِ‬ ‫اح ُّ‬ ‫الذ ِل ِم َن الَر ْ​ْحَِة وقُ ْل َر ِب‬ ‫َ ْ‬ ‫اخف ْ‬ ‫ض َهلَُما َجنَ َ‬ ‫صغِ ًريا ﴾ [اإلسراء‪.]24 :‬‬ ‫ْار َْحْ ُه َما َك َما َربَيَ ِاين َ‬

‫ول‬ ‫وقد قال هللا جل ذكره يف شأن أصحاب حممد صلى هللا عليه وسلم‪ُ ﴿ :‬حمَ َم ٌد َر ُس ُ‬ ‫اّللِ والَ ِ‬ ‫ين َم َعهُ أ َِشدَاءُ َعلَى الْ ُك َفا ِر ُر َْحَاءُ بَْي نَ ُه ْم﴾ [الفتح‪ .]29 :‬كما أثبتها بالزمها‬ ‫ذ‬ ‫َ َ َ‬ ‫ف َأيِْيت َ‬ ‫هلم‪ ،‬وملن اتصف بصفاِتم بقوله سبحانه‪َ ﴿ :‬م ْن يَْرتَ َد ِمْن ُك ْم َع ْن ِدينِ ِه فَ َس ْو َ‬ ‫اّللُ‬ ‫َعَزةٍ علَى الْ َكافِ‬ ‫بَِقوٍ ُُِيبُّ هم وُُِيبُّونَه أ َِذلٍَة علَى الْم ْؤِمنِني أ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ين﴾ [املائدة‪.]54 :‬‬ ‫ر‬ ‫َ‬ ‫َ ُ َ‬ ‫ْ ُْ َ ُ‬ ‫َ‬ ‫إذ الذلة اليت يتحلون هبا فيما بينهم بسبب الرتاحم بينهم‪ ،‬وهذا دليل على أ َن الرْحة‬ ‫من أجل صفات املؤمنني‪ ،‬حيث كان حديث القرآن عن الرْحة لديهم يف معرض‬ ‫االمتنان والثناء واملدح البليغ‪ْ ،‬ما يدل على عظيم مكانة املرتاْحني من املسلمني عند‬ ‫هللا تعاىل‪ ،‬وقد َ‬ ‫دل على ذلك ما أعده هللا تعاىل هلم من الجر والثواب الذي أخرب‬ ‫هللا تعاىل عنه بقوله‪﴿ :‬مثَُ َكا َن ِمن الَ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اص ْوا ِابلْ َمْر َْحَِة ۝‬ ‫و‬ ‫ت‬ ‫و‬ ‫رب‬ ‫ص‬ ‫ل‬ ‫اب‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫اص‬ ‫و‬ ‫ت‬ ‫و‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ن‬ ‫آم‬ ‫ين‬ ‫ذ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ​َ َ‬ ‫َ َ َ َ َ َْ‬ ‫اب الْ َمْي َمنَ ِة ﴾ [البلد‪ 17 :‬ـ ‪ .]18‬أي‪ :‬أصحاب اليمني الذين يُ ْعطَْو َن‬ ‫أُولَئِ َ‬ ‫كأْ‬ ‫َص َح ُ‬ ‫اب الْيَ ِم ِ‬ ‫اب الْيَ ِم ِ‬ ‫ني‬ ‫ني َما أ ْ‬ ‫كتبهم أبمياهنم‪ ،‬والذين قال هللا تعاىل فيهم‪َ ﴿ :‬وأ ْ‬ ‫َص َح ُ‬ ‫َص َح ُ‬ ‫ود ۝ و ِظ ٍل ْمَْ ُد ٍ‬ ‫ود ۝ وطَْل ٍح مْنض ٍ‬ ‫۝ ِيف ِس ْد ٍر خمَْض ٍ‬ ‫ود ۝ وم ٍاء مس ُك ٍ‬ ‫وب ۝‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫وفَاكِه ٍة َكثِريةٍ ۝ الَ م ْقطُوع ٍة والَ ْمَْنُ ٍ‬ ‫وع ٍة ﴾ [الواقعة‪ 72 :‬ـ ‪.)1(]34‬‬ ‫وعة ۝ َوفُ​ُر ٍش َمْرفُ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫وقد كان رسول هللا صلى هللا عليه وسلم القدوةَ اِلسنةَ يف حتقيق هذا املقصد‪ ،‬وهو‬ ‫(‪ )1‬أخالق النيب (ص) (‪.)615/2‬‬

‫‪150‬‬


‫الرْحة ابلعاملني‪ ،‬فكانت رْحته ابملؤمنني‪ ،‬وابلهل‪ ،‬والعيال‪ ،‬وابلضعفاء‪ ،‬والكافرين‪،‬‬ ‫واِليوان‪ ،‬وكتب السرية مليئةٌ ابملواقف والحاديث الدالة على ذلك‪.‬‬ ‫اخلامس عشر ـ الوفاء ابلعهود والعقود‪:‬‬ ‫والوفاء من أخالق السلوك االجتماعية العظيمة؛ اليت كان للقرآن الكرمي هبا عناية‬ ‫فائقة؛ ملا له من عظيم الداللة على تزكية النفوس‪ ،‬وصفاء الفطر‪ ،‬وسالمة اإلميان(‪.)1‬‬ ‫‪ 1‬ـ الرتغيب ابلوفاء ابلعهد‪:‬‬ ‫ب هللا تعاىل ابلوفاء ابلعهود مبا أع َد هللا هلم من الثواب‪ ،‬ومبا أثىن به عليهم يف‬ ‫رغ َ‬ ‫اّلل فَسي ْؤتِ ِيه أَجرا ع ِ‬ ‫ُْحم َكم الكتاب‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬ومن أَو َ​َف ِمبَا عاه َد علَي ِ‬ ‫يما ﴾‬ ‫ظ‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ​َ ْ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫َ َ َْ َ َ‬ ‫[الفتح‪.]10 :‬‬ ‫وقد فصل يف آَيت أخرى عظمة ذلك الجر فقال‪﴿ :‬إَِمنَا ي تَ َذ َكر أُولُو الَلْب ِ‬ ‫اب ۝‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬ ‫الَ ِذين يوفُو َن بِعه ِد َِ‬ ‫اق ۝ والَ ِذين ي ِ‬ ‫اّللُ بِ​ِه أَ ْن‬ ‫صلُو َن َما أ َ​َمَر َ‬ ‫ضو َن الْ ِميثَ َ‬ ‫اّلل َوالَ يَْن ُق ُ‬ ‫َْ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ ُ‬ ‫َِ‬ ‫يوصل وَُيْ َشو َن رَهبم وَُيَافُو َن سوء ِْ ِ‬ ‫ص َربُوا ابْتِغَاءَ َو ْج ِه َرهبِ​ِ ْم‬ ‫ين َ‬ ‫ُ َ َ َ ْ َ ُْ َ‬ ‫اِل َساب ۝ َوالذ َ‬ ‫ُ َ‬ ‫ِ‬ ‫ك َهلُْم‬ ‫َوأَقَ ُاموا ال َ‬ ‫اه ْم ِسًّرا َو َعالَنِيَةً َويَ ْد َرأُو َن ِاب ِْلَ َسنَ ِة ال َسيِئَةَ أُولَئِ َ‬ ‫صالَةَ َوأَنْ َف ُقوا ْمَا َرَزقْ نَ ُ‬ ‫ِ‬ ‫آابئِ ِه ْم َوأ َْزَو ِاج ِه ْم َوذُ ِرَ​َيِتِ​ِ ْم‬ ‫َات َع ْد ٍن يَ ْد ُخلُ َ‬ ‫عُ ْقىب الدَا ِر ۝ َجن ُ‬ ‫وهنَا َوَم ْن َ‬ ‫صلَ َح م ْن َ‬ ‫والْمالَئِ َكةُ ي ْد ُخلُو َن َعلَْي ِهم ِمن ُك ِل اب ٍ‬ ‫ب ۝ َوأ َْزَو ِاج ِه ْم َوذُ ِرَ​َيِتِ​ِ ْم َوالْ َمالَئِ َكةُ يَ ْد ُخلُو َن‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ ْ‬ ‫َ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ص َْربُْمت فَنِ ْع َم عُ ْقىب الدَا ِر ﴾[الرعد‪ 19 :‬ـ ‪.]24‬‬ ‫َعلَْي ِه ْم م ْن ُك ِل َابب ۝ َسالٌَ َعلَْي ُك ْم مبَا َ‬

‫العظيم مل يقتصر عليهم‪ ،‬بل سرى إىل أصوهلم وفروعهم‬ ‫الجر‬ ‫فرتى أن ذلك‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫أي نعيم للمرء أكربُ من أن يصحبه فيه أصوله وفروعه وأهلوه‪ ،‬ال جرَ ال‬ ‫وأهليهم‪ ،‬و ُّ‬ ‫يفرط عاقل هبذا الثناء‪ ،‬وذلك اجلزاءُ بعد أن يعلمه وهو قادر على أن يناله؛ إال أن‬

‫(‪ )1‬املصدر نفسه (‪.)549/2‬‬

‫‪151‬‬


‫يكون ْمن غلبت عليه شقوته‪ ،‬وأولئك هلم سوء الدار‪.‬‬ ‫‪ 2‬ـ األوامر القرآنية ابلوفاء ابلكيل والوزن‪:‬‬ ‫الوفاء ابلكيل والوزن‪ ،‬وهو اجملال الذي يتعلق كليةً حبقوق اآلخرين‪ ،‬وما يرتتب عليه‬ ‫مبين‬ ‫من قوا حياِتم ومعاشهم‪ ،‬وهو اجملال الذي ال سبيل إىل التساهل فيه؛ لنه ٌّ‬ ‫صلِ ُح ِ‬ ‫للناس أحوا َهلم‪ ،‬وُيفظ هلم حقوقهم‪ ،‬وهلذا‬ ‫على املشاحة واملقاصة‪ ،‬فالوفاء فيه يُ ْ‬

‫تكرر المر به يف القرآن الكرمي مخس مرات‪ ،‬منها قوله تعاىل‪َ ﴿ :‬وأ َْوفُوا الْ َكْي َل‬ ‫َوالْ ِم َيزا َن ِابلْ ِق ْس ِط﴾ [األنعام‪ .]152 :‬وقال تعاىل‪َ ﴿ :‬وأ َْوفُوا الْ َكْي َل إِذَا كِلْتُ ْم َوِزنُوا‬ ‫ِابلْ ِق ْسطَ ِ‬ ‫اس الْ ُم ْستَ ِقي ِم﴾[اإلسراء‪.)1(]35 :‬‬ ‫وحتدث القرآن الكرمي عن شعيب عليه السال مع قومه‪ ،‬فقد كان قومه حبكم موقع‬

‫بالدهم اجلغرايف يتحكمون يف طرق التجارة املوصلة بني ْشال اجلزيرة وجنوهبا‪ ،‬وبني‬ ‫مصر والشا وبالد العراق‪ ،‬فكانوا يفرضون على الناس ما شاؤوا من املعامالت‬ ‫التجارية اجلائرة‪ ،‬سعياً إىل جين الربح الفاحش‪ ،‬دون مراعاةٍ ملا يقع على غريهم من‬ ‫الظلم والغب‪ ،‬وقد شاعت فيهم هذه املعامالت‪ ،‬حىت صارت أمراً متعارفاً عليه‬ ‫استهل دعوته مبحار ِبة ما كانوا عليه من‬ ‫عندهم‪ ،‬فلما بعث هللا شعيباً عليه السال‬ ‫َ‬ ‫عبادة الصنا والواثن‪ ،‬مث ثىن مبحاربة تلك املعامالت اجلائرة‪ ،‬ومن أبرزها‪ :‬نقص‬ ‫(‪)2‬‬ ‫اّللَ َما‬ ‫اه ْم ُش َعْي بًا قَ َ‬ ‫ال َ​َيقَ ْوِ ْاعبُ ُدوا َ‬ ‫َخ ُ‬ ‫امليزان واملكيال ‪ .‬قال تعاىل‪َ ﴿ :‬وإِ َىل َم ْديَ َن أ َ‬ ‫ِ ٍِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫اس‬ ‫لَ ُك ْم م ْن إلَه َغ ْريُهُ قَ ْد َجاءَتْ ُك ْم بَينَةٌ م ْن َرب ُك ْم فَأ َْوفُوا الْ َكْي َل َوالْم َيزا َن َوالَ تَْب َخ ُسوا النَ َ‬ ‫أَ ْشيَاءَ ُه ْم َوالَ تُ ْف ِس ُدوا ِيف ال َْر ِ‬ ‫صالَ ِح َها ذَلِ ُك ْم َخ ْريٌ لَ ُك ْم إِ ْن ُكْن تُ ْم‬ ‫ض بَ ْع َد إِ ْ‬ ‫(‪ )1‬أخالق النيب (ص) (‪.)554/2‬‬ ‫(‪ )2‬أسباب هالك المم السالفة‪ ،‬سعيد حممد اباب ص(‪.)450‬‬

‫‪152‬‬


‫ِ​ِ‬ ‫ني﴾[األعراف‪.]85 :‬‬ ‫ُم ْؤمن َ‬

‫اه ْم ُش َعْي بًا‬ ‫َخ ُ‬ ‫وهلذه االية نظائر يف سورة [هود‪ 84 :‬ـ ‪ ،]85‬قال تعاىل‪َ ﴿ :‬وإِ َىل َم ْديَ َن أ َ‬ ‫ِ ٍ‬ ‫ال َوالْ ِم َيزا َن إِ​ِين أ َ​َرا ُك ْم‬ ‫صوا الْ ِم ْكيَ َ‬ ‫قَال َيقَ ْوِ ْاعبُ ُدوا َ‬ ‫اّللَ َما لَ ُك ْم م ْن إِلَه َغ ْريُهُ َوالَ تَْن ُق ُ‬ ‫اف علَي ُكم ع َذاب ي وٍ ُِحم ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ال َوالْ ِم َيزا َن‬ ‫يط ۝ َوَ​َيقَ ْوِ أ َْوفُوا الْ ِم ْكيَ َ‬ ‫خبٍَْري َوإِ​ِين أ َ‬ ‫َخ ُ َ ْ ْ َ َ َْ‬ ‫ِابلْ ِقس ِط والَ تَبخسوا النَاس أَ ْشياءهم والَ تَعث وا ِيف الَر ِ ِ ِ‬ ‫ين ﴾وقال تعاىل يف‬ ‫ْ‬ ‫َ َ َ ُ ْ َ َْ ْ‬ ‫ض ُم ْفسد َ‬ ‫ْ َ َُْ‬ ‫سورة الشعراء ﴿أَوفُوا الْ َكيل وَال تَ ُكونُوا ِمن الْمخ ِ‬ ‫س ِرين﴾ [الشعراء‪. ]181 :‬‬ ‫ْ‬ ‫َْ َ‬ ‫َ ُْ َ‬ ‫وجند تركيز شعيب عليه السال على معاجلة هذا االحنراف املتأصل يف قومه أبساليب‬ ‫خمتلفة‪ْ ،‬شلت المر والنهي‪ ،‬والرتغيب والرتهيب‪ .‬وقد كان لقو شعيب معامالت‬ ‫ِ‬ ‫س هذا العمل‪،‬‬ ‫أخرى جائرة غري نقص املكيال وامليزان‪ ،‬وذلك أمر متوقع ْمن ميار ُ‬ ‫وجند شعيباً عليه السال يذكر هذه املعامالت يف مجلة من المور اليت هناهم عنها‪،‬‬ ‫وهي‪:‬‬ ‫أ ـ خبس الناس أشياءهم‪:‬‬ ‫َاس أَ ْشيَاءَ ُه ْم﴾ [األعراف‪ .]85 :‬والبخس يف‬ ‫وذلك يف قوله تعاىل‪َ ﴿ :‬والَ تَْب َخ ُسوا الن َ‬ ‫الصل هو‪ :‬النقص‪ ،‬ومن أحسن ما قيل يف ِ‬ ‫البخس‬ ‫هللا‪:‬‬ ‫رْحه‬ ‫العريب‬ ‫ابن‬ ‫قول‬ ‫ه‬ ‫حد‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬

‫النقص ابلتعييب والتزهيد‪ ،‬أو املخادعة عن القيمة‪ ،‬أو‬ ‫يف لسان العرب هو‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫(‪)1‬‬ ‫أعم من نقص‬ ‫‪.‬‬ ‫االحتيال يف التزيد يف الكيل أو النقصان منه‬ ‫فالبخس على هذا ُّ‬ ‫ُ‬ ‫فيعم‬ ‫امليزان واملكيال‪ ،‬فإنه يكو ُن يف املكيل واملوزون وغريمها كاملعدودات‪ ،‬واملق َدرات‪ُّ ،‬‬

‫تصرف يُقصد منه انتقاص حقوق الناس‪ ،‬ولذلك صور كثرية ال تنقضي(‪.)2‬‬ ‫كل ُّ‬ ‫َ‬

‫(‪ )1‬أحكا القران (‪.)318/2‬‬ ‫(‪ )2‬أسباب هالك المم السالفة‪ ،‬سعيد حممد اباب ص(‪.)450‬‬

‫‪153‬‬


‫ب ـ الفساد يف األرض‪:‬‬

‫وقد ورد يف قوله تعاىل‪َ ﴿ :‬والَ تُ ْف ِس ُدوا ِيف ال َْر ِ‬ ‫صالَ ِح َها﴾ [األعراف‪.]85 :‬‬ ‫ض بَ ْع َد إِ ْ‬ ‫وقوله‪﴿ :‬والَ تَعث وا ِيف الَر ِ ِ ِ‬ ‫الفساد يف الرض أعم من‬ ‫ين ﴾ [هود‪ .]85 :‬و ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ َْ ْ‬ ‫ض ُم ْفسد َ‬ ‫ِ‬ ‫كل ما سبق‪ ،‬فيدخل فيه كل معصية كانوا يعملوهنا‪ ،‬من عبادةِ غ ِري هللا‪ ،‬ونقص‬ ‫املكيال وامليزان‪ ،‬وخبس الناس حقوقهم‪ ،‬وغري ذلك(‪.)1‬‬ ‫ج ـ قطع الطريق‪:‬‬

‫ِ ِ ِ ٍ ِ‬ ‫هني‬ ‫قال تعاىل‪َ ﴿ :‬والَ تَ ْقعُ ُدوا ب ُكل صَراط تُوع ُدو َن﴾ [األعراف‪ .]86 :‬ويف هذه االية ٌ‬ ‫عما كانوا يفعلونه من القعود يف طريق من يريد اجمليء إىل شعيب عليه السال‬ ‫لسماع دعوته‪ ،‬فيصدونه‪ ،‬ويقولون‪ :‬إنه كذاب(‪ ،)2‬وهذا من الوجه اليت ُْحلت عليها‬ ‫هذه اجلملة‪ ،‬وذكر فيها وجهان اخران‪ ،‬أوهلما‪ :‬قطع الطريق وسلب أموال الناس‪،‬‬ ‫واثنيهما‪ :‬القعود يف الطرق لخذ العشور من الناس‪ ،‬وجوز الشوكاين رْحه هللا ْحل‬ ‫اجلملة على هذه الوجه كلها(‪.)3‬‬ ‫وعلى الرغم من اجلهود اليت بذهلا شعيب عليه السال يف معاجلة هذه االحنرافات يف‬ ‫غري العناد واإلصرار‪ ،‬وذلك لشيوع تلك االحنرافات بينهم‪،‬‬ ‫قومه‪ ،‬فإنه مل َ‬ ‫يلق منهم َ‬ ‫وأتصلها فيهم‪ ،‬ويف اخر المر ردوا عليه رداً قبيحاً‪ ،‬إذ اعتربوا حماوالته يف صرفهم عن‬ ‫معامالِتم اجلائرة ضرابً من اهلذَين‪ ،‬سببه ما يداو عليه من الصالة‪ ،‬قال تعاىل‪:‬‬ ‫آاب ُؤ َان أ َْو أَ ْن نَ ْف َع َل ِيف أ َْم َوالِنَا َما‬ ‫﴿قَالُوا ُ‬ ‫َصالَتُ َ‬ ‫بأَ‬ ‫ك َأتْ ُمُرَك أَ ْن نَْرتَُك َما يَ ْعبُ ُد َ‬ ‫َيش َعْي ُ‬ ‫يد ﴾[هود‪ ،]87 :‬فقوهلم‪ :‬يعنون به‪ :‬ما درجوا عليه من‬ ‫ت ْ‬ ‫اِلَلِ ُيم الَرِش ُ‬ ‫نَ َشاءُ إِنَ َ‬ ‫َِنْ َ‬ ‫ك لَ‬ ‫(‪ )1‬املصدر نفسه ص(‪.)451‬‬ ‫(‪ )2‬املصدر نفسه ص(‪.)451‬‬ ‫(‪ )3‬املصدر نفسه ص(‪ ،)452‬فتح القدير (‪.)224/2‬‬

‫‪154‬‬


‫نقص املكيال وامليزان﴿أ َْو أَ ْن نَ ْف َع َل ِيف أ َْم َوالِنَا َما نَ َشاءُ﴾‪ ،‬وخبس الناس حقوقهم‪،‬‬ ‫وسائر معامالِتم الظاملة‪ ،‬فاستهزؤوا بشعيب‪ ،‬وأنكروا عليه تدخله يف تلك المور‪،‬‬ ‫بدعوى أن الموال هلم‪ ،‬وهم أحرار فيها‪ ،‬يتصرفون فيها كيف شاؤوا‪ ،‬ويفرضون على‬ ‫الناس ما ُيقق هلم الرابح‪.‬‬ ‫وهذا عني ما ِ‬ ‫يردده املنحرفون عن املنهج الرابين يف هذا العصر‪ ،‬بل ويف كل عصر‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫أكل أموال الناس ابلباطل عن طريق الغش واخلداع‪ ،‬واِليل والراب وسائر‬ ‫يتعاطون َ‬ ‫املعامالت احملرمة‪ ،‬فإذا ُهنوا عن ذلك‪ ،‬تعللوا واحتجوا مبا يسمونه حرية االقتصاد‪،‬‬

‫الدين يف هذه المور(‪.)1‬‬ ‫واستنكروا أن يتدخل ُ‬

‫والجدر هبؤالء‪ ،‬السيما املنتسبني منهم إىل اإلسال أن يعتربوا مبا حل أبشباههم يف‬

‫أحدهم‬ ‫سالف الزمان من اهلالك بسبب معامالِتم الظاملة‪ ،‬وإصرارهم عليها‪،‬‬ ‫أفيأمن ُ‬ ‫ُ‬

‫أن أيخذه هللا بعاجل العذاب‪ ،‬وجيعله عربة لهل زمانه وملن بعده‪ ،‬كما جعل قوَ‬ ‫ٍ‬ ‫شعيب عربةً لهل زماهنم وملن بعدهم‪ ،‬والعاقل من اتعظ بغريه‪ ،‬ال من ُوعظ به‬ ‫غريُه(‪ ،)2‬فقد كان قو شعيب أهل شرك وكفر‪ ،‬وتطفيف للمكاييل واملوازين‪ ،‬ومل ُْجت ِد‬ ‫معهم دعوةُ شعيب إَيهبم إىل التوحيد‪ ،‬وإيفاء الكيل وامليزان‪ ،‬بل ازدادوا عناداً‬ ‫وإصراراً‪ ،‬فأصاهبم عذاب الظلة‪ ،‬وهي‬ ‫سحابة أظلتهم‪ ،‬فيها شرر من انر وهلب‪ ،‬ووهج عظيم‪ ،‬مث جاءِتم صيحة من‬ ‫السماء‪ ،‬ورجفة من الرض شديدة من أسفل منهم‪ ،‬فزهقت الرواح‪ ،‬وفاضت‬ ‫النفوس‪ ،‬ومخدت الجسا (‪.)3‬‬ ‫(‪ )1‬يف ظالل القران (‪.)609/4‬‬ ‫(‪ )2‬أسباب هالك المم السالفة ص(‪.)453‬‬ ‫(‪ )3‬تفسري ابن كثري (‪.)242 /2‬‬

‫‪155‬‬


‫‪3‬ـ األمر ابلوفاء ابلعقود‪:‬‬ ‫قال تعاىل‪َ﴿ :‬يأَيُّها الَ ِذين آمنُوا أَوفُوا ِابلْع ُق ِ‬ ‫ود﴾ [املائدة‪ .]1 :‬ومعىن االية‪َ :‬ي أيها‬ ‫ُ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ ْ‬ ‫الذين التزمتم إبميانكم أنواع العقود والعهود يف إظهار الطاعة‪ ،‬أوفوا بتلك العقود اليت‬ ‫ط‬ ‫التزمتم هبا‪ ،‬وإمنا مسى هللا تعاىل هذه التكاليف عقوداً؛ لنه ربطها بعباده‪ ،‬كما يُْربَ ُ‬ ‫ِ‬ ‫ابلشيء ابِلبل املوثق(‪ ،)1‬فاالية الكرمية تنادي املوصوفني ابإلميان أن يفوا‬ ‫الشيءُ‬ ‫ابلعقود اليت التزموا هبا‪ ،‬ووصفهم ابإلميان ِتييجاً هلم على ِ‬ ‫الوفاء ابلعقود؛ لن ذلك‬ ‫من مقتضيات اإلميان الذي تعلقوا به(‪.)2‬‬ ‫‪4‬ـ األمر ابلوفاء ابلنذر‪:‬‬

‫ضوا تَ َفثَهم ولْيوفُوا نُ ُذورهم ولْيطَ​َوفُوا ِابلْب ي ِ‬ ‫ت الْ َعتِ ِيق ﴾[احلج‪.]29 :‬‬ ‫قال تعاىل‪﴿ :‬مثَُ لْيَ ْق ُ‬ ‫َْ‬ ‫َُ ْ َ َ‬ ‫ُْ َ ُ‬ ‫والنذور‪ :‬مجع نذر‪ ،‬وهو التزا قربة مل تتعني يف الشرع(‪ ،)3‬ومنه ما وردت فيه االية؛ ْما‬ ‫ينذره اِلاج من أعمال الرب يف حجه من هدي وحنوه‪ ،‬وهو ما ْشلته اية املائدة‬ ‫السابقة؛ لن عقداً يعقده املؤمن مع هللا تبارك وتعاىل‪ ،‬فإفراده ابلذكر من بني سائر‬ ‫العقود يدل على أمهية الوفاء به‪ ،‬وحىت ال يفرط فيه املؤمن‪ ،‬فيتخلى عن عد اإليفاء‬ ‫به لعد املطالب يف الدنيا‪ ،‬إذ ال يزع على اإليفاء به إال قوة اإلميان(‪ ،)4‬ولذلك كان‬ ‫ِتديد هللا تعاىل للمفرطني به خميفاً‪ ،‬حيث قال‪َ ﴿ :‬وَما أَنْ َف ْقتُ ْم ِم ْن نَ َف َق ٍة أ َْو نَ َذ ْرُْمت ِم ْن‬ ‫ُ‬ ‫اّلل ي علَمه وما لِلظَالِ ِم ِ‬ ‫ِ‬ ‫صا ٍر ﴾ [البقرة‪.]270 :‬‬ ‫َ‬ ‫ني م ْن أَنْ َ‬ ‫نَ ْذ ٍر فَإ َن َ​َ َ ْ ُ ُ َ َ‬ ‫(‪ )1‬التفسري الكبري (‪.)123/11‬‬ ‫(‪ )2‬أخالق النيب (ص) (‪.)558/2‬‬ ‫(‪ )3‬أي‪ :‬ليزيلوا أوساخهم وشعثهم كطول الشعر والظفر‪.‬‬ ‫(‪ )4‬الياقوت النفيس‪ ،‬للشاطري ص(‪.)264‬‬

‫‪156‬‬


‫النذر يعلمه هللا تعاىل فإن رهن اجملازاة به أداءً أو تفريطاً‪ ،‬فال ُيادع إال‬ ‫فإذا كان ُ‬ ‫نفسه إن هو مل ِ‬ ‫يف به‪ ،‬أما إذا وَف به فإنه يكون ذا مكانة عالية عند هللا تعاىل‪ ،‬كما‬ ‫يدل عليه تنويه هللا تعاىل أبهل هذا اخللق العظيم يف كتابه الكرمي(‪.)1‬‬ ‫‪5‬ـ تنويه القرآن الكرمي أبهل الوفاء‪:‬‬

‫اب ۝ الَ ِ‬ ‫قال تعاىل‪﴿ :‬إَِمنَا ي تَ َذ َكر أُولُو الَلْب ِ‬ ‫ين يُوفُو َن بِ َع ْه ِد‬ ‫ذ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬ ‫اق﴾ [الرعد‪ 19 :‬ـ ‪ .]20‬فنعتهم هللا تعاىل أبويل اللباب‪ ،‬أي‪:‬‬ ‫الْ ِميثَ َ‬

‫َِ‬ ‫ضو َن‬ ‫اّلل َوالَ يَْن ُق ُ‬ ‫أصحاب عقول‪،‬‬

‫حيث هدِتم عقوهلم إىل وجوب احرتا العهود واملواثيق اليت التزموا هبا خلالقهم يف‬

‫اإلميان والعبادة‪ ،‬واملخلوقني يف املعامالت والسلوك‪ ،‬فال ينقضون عهداً وال ميثاقاً‪،‬‬ ‫ومنها قوله سبحانه يف سياق تعداد صفات أهل الرب من عباده‪َ ﴿ :‬والْ ُموفُو َن بِ َع ْه ِد ِه ْم‬ ‫صابِ ِرين ِيف الْبأْس ِ‬ ‫ضَر ِاء و ِحني الْبأْ ِس أُولَئِك الَ ِ‬ ‫ك‬ ‫ذ‬ ‫ال‬ ‫و‬ ‫اء‬ ‫َ‬ ‫ص َدقُوا َوأُولَئِ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫إِذَا َع َ‬ ‫ين َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫اه ُدوا َوال َ َ‬ ‫ُه ُم الْ ُمتَ ُقو َن ﴾ [البقرة‪.]177 :‬‬

‫أهل صدق‬ ‫فوصف هللا تعاىل‬ ‫َ‬ ‫أصحاب هذه الخالق‪ ،‬ومنها ُخلق الوفاء‪ ،‬أبهنم ُ‬ ‫وأهل تقوى‪ ،‬وذلك لهنم صدقوا ما عاهدوا هللا عليه‪ ،‬واتقوا عذابه وعقابه الذي‬ ‫مبلغ هذا الثناء من امللك اجلليل املتضمن للتنويه‬ ‫وعد به الناكثني واخلائنني‪ ،‬فتأمل َ‬ ‫العظيم أبهل تلك الخالق الكرمية جتد التعبري قاصراً عن إدراك كنهه‪ ،‬ملا ينطوي‬

‫عليه من اجلزاء الكبري ال معد لولئك املوصفني هبذه الصفات‪ ،‬إذ هو حبسب مقا‬ ‫املثين واملثيب‪ ،‬جعلنا هللا ْمن انل حظاً من ثنائه وجزائه الكرمي‪ ،‬فإن جزاءه الكرمي هلو‬ ‫ُ‬ ‫اجلزاء الوَف‪ ،‬وال َغْرَو أن ين ال أهل الوفاء ذلك الثناء وذلك اجلزاء العظيم‪ ،‬فإهنم قد‬ ‫حتلوا بذلك اخللق العظيم الذي هو من صفات اِلق تبارك وتع اىل‪ ،‬ف إن ه سبحانه ذو‬ ‫(‪ )1‬املصدر نفسه (‪.)559/2‬‬

‫‪157‬‬


‫الوفاء الذي ال يدانيه وفاء‪ ،‬كما أخرب سبحانه عن نفسه‪ ،‬وهو أصدق القائلني بقوله‬ ‫اّللِ﴾ [التوبة‪.]111 :‬‬ ‫تعاىل‪َ ﴿ :‬وَم ْن أ َْو َ​َف بِ َع ْه ِدهِ ِم َن َ‬ ‫نيب هللا إبراهيم عليه‬ ‫كما أنه من صفات أنبياء هللا عليهم الصالة السال ‪ ،‬فهذا ُّ‬

‫املثل يف الوفاء‪ ،‬إذ وَف وفاء مل يُعرف أحد من البشر أن ابتلي‬ ‫السال قد َ‬ ‫ضرب َ‬ ‫مبثله‪ ،‬وذلك حينما أمره هللا تعاىل أبن يذبح ابنه‪ ،‬فلذة كبده بيده‪ ،‬فما كان منه إال‬

‫أن امتثل أمر ربه‪ ،‬وطاوعه ابنه على أمر ربه‪ ،‬وتله للجبني‪ ،‬ليحقق أمر هللا‪ ،‬فلما علم‬ ‫هللا صدقه ووفاءه فداه بِ ِذبِ ٍح عظيم‪ ،‬وانداه معرباً عن رضاه عنه‪ ،‬وعن وفائه بقوله‪:‬‬

‫﴿َيإِبْ َر ِاه ُيم ۝‬

‫[الصافات‪.)1(]105-104 :‬‬

‫ِ‬ ‫ِ​ِ‬ ‫ني﴾‬ ‫ت ُّ‬ ‫الرْؤَ​َي إِ َان َك َذل َ‬ ‫ك َْجن ِزي الْ ُم ْحسن َ‬ ‫ص َدقْ َ‬ ‫قَ ْد َ‬

‫كما ابتاله هللا أيضاً بكلمات من التكاليف الشرعية‪ ،‬قال تعاىل‪َ ﴿ :‬وإِ ِذ‬ ‫إِب ر ِاهيم ربُّه بِ َكلِم ٍ‬ ‫ال إِ​ِين ج ِ‬ ‫ك لِلن ِ‬ ‫ال َوِم ْن ذُ ِريَِيت قَ َ‬ ‫َاس إِ َم ًاما قَ َ‬ ‫ات فَأَ​َ​َتَُه َن قَ َ‬ ‫ال الَ‬ ‫اعلُ َ‬ ‫َ‬ ‫َْ َ َ ُ َ‬ ‫ين ُ ِ‬ ‫ِ​ِ‬ ‫ني ﴾ [البقرة‪ .]124 :‬فاستح َق بذلك أن ينوه هللا تعاىل بوفائه هذا‪،‬‬ ‫َ​َ‬ ‫ال َع ْهدي الظَالم َ‬ ‫ابْتَ لَى‬

‫نيب هللا يوسف عليه‬ ‫فقال‪ :‬وَف جبميع ما أمره هللا به من التكاليف الشرعية وكذلك ُّ‬ ‫لق الوفاء ْحله على أن ينسى ما عمله إخوانه معه من مكر وخديعة؛‬ ‫السال ‪ ،‬فإن ُخ َ‬

‫حبيث كانوا يهدفون إىل أن يلقوه حتفه حينما ألقوه يف غيابة اجلُب‪ ،‬انهيك عما‬ ‫نيب هللا يعقوب عليه السال من حزن عميق على فقد ابنه يوسف عليه‬ ‫أورثوه أابهم َ‬ ‫السال ؛ حىت ابيضت عيناه من اِلزن‪ ،‬ومع ذلك فلما وفد إليه إخوته بعد أن مكنه‬ ‫ِ‬ ‫هللا من خزائن الرض‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬أَالَ تَرْو َن أَِين أ ِ‬ ‫ني ﴾‬ ‫ُويف الْ َكْي َل َوأ َ​َان َخ ْريُ الْ ُمْن ِزل َ‬ ‫َ‬ ‫[يوسف‪ .]59 :‬هذا هو الوفاء حبقوق الناس عامة‪ ،‬واإلخوة والرحا منهم خاصة‪،‬‬

‫(‪ )1‬أخالق النيب (ص) (‪.)560/2‬‬

‫‪158‬‬


‫يب فهو الكرمي ابن الكرمي ابن‬ ‫وهذا هو اخللق الكرمي الالئق من نيب كرمي‪ ،‬وال ر َ‬ ‫الكرمي‪ ،‬عليهم وعلى نبينا أفضل الصالة والتسليم(‪.)1‬‬ ‫‪6‬ـ ما أعده هللا ألهل الوفاء من األجر واجلزاء‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ب ِهبَا‬ ‫ورا ۝ َعْيناً يَ ْشَر ُ‬ ‫قال تعاىل‪﴿ :‬إ َن الَبْ َر َار يَ ْشَربُو َن م ْن َكأْ ٍس َكا َن مَز ُ‬ ‫اج َها َكافُ ً‬ ‫ِ‬ ‫وهنَا تَ ْف ِج ًريا ۝ يُوفُو َن ِابلنَ ْذ ِر َوَُيَافُو َن يَ ْوًما َكا َن َشُّرهُ ُم ْستَ ِط ًريا ﴾‬ ‫اّللِ يُ َف ِجُر َ‬ ‫اد َ‬ ‫عبَ ُ‬ ‫[الدهر‪ .]7-5:‬فسماهم هللا تعاىل أبراراً‪ ،‬ومعلو أن البرار هلم صفات كثرية تدل على‬

‫لكن مل يذكر هللا تعاىل يف هذه اآلية الدالة على مبلغ ثواهبم‬ ‫عظمة إمياهنم وتعبدهم‪ ،‬و ْ‬

‫أبلغ يف التوفر على أداء‬ ‫وأجرهم إال صفة الوفاء واخلوف‪ ،‬وذلك لن هذا‬ ‫الوصف ُ‬ ‫َ‬

‫الواجبات‪ ،‬لن َم ْن وَف مبا أوجبه هللا على نفسه هلل‪ ،‬كان أوَف مبا أوجبه هللا عليه‬ ‫ابلوىل(‪ ،)2‬وذلك يدل على قوة اإلميان‪ ،‬إذ ال يدفع إىل الوفاء ابلنذر إال قوة‬

‫وتفاوت ِ‬ ‫الناس عند هللا تعاىل إمنا يكون حبسب قوة إمياهنم وضعفه‪ ،‬كما دل‬ ‫اإلميان‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫اّللِ أَتْ َقا ُك ْم﴾ [احلجرات‪ .]13 :‬جعلنا هللا من أهل‬ ‫عليه قوله تَعاىل‪﴿ :‬إِ َن أَ ْكَرَم ُك ْم ِعْن َد َ‬ ‫الوفاء والتقوى مبنه وكرمه(‪.)3‬‬ ‫فهذه من أهم مقاصد القرآن الكرمي‪ ،‬وقد تناولنا بعضها‪ ،‬كتصحيح املعتقد‪ ،‬وتقوى‬ ‫هللا وعبادته‪ ،‬وتزكية النفس‪ ،‬واِلرية‪ ،‬والشورى‪ ،‬وكرامة اإلنسان‪ ،‬وحترير املرأة من ظلم‬ ‫اجلاهلية‪ ،‬وتكوين السرة‪ ،‬وبناء المة الشهيدة على الناس‪ ،‬والسماحة‪ ،‬والرْحة‪،‬‬ ‫والوفاء ابلعهود‪.‬‬ ‫***‬ ‫(‪ )1‬أخالق النيب (ص) (‪.)560/2‬‬ ‫(‪ )2‬أخالق النيب (ص) (‪.)561/2‬‬ ‫(‪ )3‬املصدر نفسه (‪.)561/2‬‬

‫‪159‬‬


160


‫الفصل الرابع ‪ :‬مجع القرآن الكرمي وكتابته‬ ‫أوالً ـ مجع القرآن الكرمي كتابة من فم الرسول صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬ ‫اثنياً ـ مجع القرآن الكرمي يف مصحف واحد يف عهد أيب الصديق رضي هللا عنه‪.‬‬ ‫اثلثاً ـ مجع القرآن الكرمي يف عدد من املصاحف يف عهد عثمان ذي النورين‬ ‫رضي هللا عنه‪.‬‬ ‫رابعاً ـ هل املصاحف العثمانية مشتملة على مجيع األحرف السبعة؟‬ ‫خامساً ـ عدد املصاحف اليت أرسلها عثمان رضي هللا عنه إىل األمصار‪.‬‬ ‫سادساً ـ الفرق بني مجع الصديق ومجع عثمان رضي هللا عنهما‪.‬‬

‫‪161‬‬


‫الفصل الرابع ‪ :‬مجع القرآن الكرمي وكتابته‬ ‫وردت لفظة «اجلمع» مبعىن‪« :‬اِلفظ مع دقة الرتتيب» عدة مرات يف كتاب هللا‪،‬‬ ‫وذلك من مثل قوله تعاىل خماطباً خامتَ أنبيائه ورسله صلى هللا عليه وسلم‪﴿ :‬الَ ُحتَ ِرْك‬ ‫ِ‬ ‫ك لِتَ ْع َج َل بِ​ِه ۝ إِ َن َعلَْي نَا َمجْ َعهُ َوقرآنهُ ۝ فَِإ َذا قرآانهُ فَاتَبِ ْع قرآنهُ ۝ مثَُ‬ ‫بِ​ِه ل َسانَ َ‬ ‫إِ َن َعلَْي نَا بَيَانَهُ ﴾ [القيامة‪ 16 :‬ـ ‪.]19‬‬ ‫وهذا املعىن اَته هللا تعاىل خلامت أنبيائه ورسله صلى هللا عليه وسلم و ٍ‬ ‫لعدد غ ِري قليل‬ ‫من صحابته الكرا ‪ ،‬ومن تبعهم من الصاِلني إىل اليو ‪ ،‬وحىت يو الدين‪ ،‬وهؤالء‬ ‫تدارسوا القرآن الكرمي‪ ،‬وال يزالون يتدارسونه ويستظهرونه‪ ،‬ليتمكنوا من القراءة به يف‬ ‫الصلوات املكتوبة‪ ،‬ويف النوافل‪ ،‬ويف االستشهاد‪.‬‬ ‫كما وردت لفظة «اجلمع» مبعىن‪« :‬الكتابة والتدوين»‪.‬‬ ‫مر مجع القرآن وتدوينه مبراحل ثالثة‪:‬‬ ‫وقد ّ‬

‫أوالً ـ مجع القرآن الكرمي كتابة من فم رسول هللا صلى هللا عليه وسلم(‪:)1‬‬ ‫إن مجيع الحاديث الواردة يف هذا الشأن تتفق على أن ترتيب آَيت القرآن‪ ،‬حسبما‬ ‫تيب توقيفي‪ ،‬مل جيتهد فيه رسول هللا وال أحد من‬ ‫عليه املصحف االن‪ ،‬إمنا هو تر ٌ‬ ‫تيب بعضها إىل جانب بعض‬ ‫الصحابة يف عهده أو من بعده‪ ،‬وإمنا كان يتلقى تر َ‬

‫وحياً من عند هللا بواسطة جربيل‪.‬‬

‫كنت جالساً عند رسول‬ ‫روى اإلما أْحد إبسناده عن عثمان بن أيب العاص‪ ،‬قال‪ُ :‬‬ ‫شخص ببصره مث صوبه‪ ،‬قال‪« :‬أَتين جربيل فأمرين أن‬ ‫هللا صلى هللا عليه وسلم إذ‬ ‫َ‬

‫(‪ )1‬مدخل إىل دراسة اإلعجاز العلمي د‪ .‬زغلول النجار‪.‬‬

‫‪162‬‬


‫أضع هذه االية هذا املوضع من هذه السورة»‪﴿ :‬إِ َن ا َّلل أيْمر ِابلْع ْد ِل وا ِإلحس ِ‬ ‫ان‬ ‫َ َ ُ​ُ َ َ ْ َ‬ ‫َوإِيتَ ِاء ِذي الْ ُقْرَ​َب﴾ [النحل‪.)1(]90 :‬‬

‫إن من مظاهر عناية هللا ابلقرآن الكرمي وحفظه ما مت على يد الرسول صلى هللا عليه‬ ‫وسلم وأمته من حفظ القرآن يف صدورهم‪ ،‬وكتابته يف الصحف‪ ،‬وقد بلغ الرسول‬ ‫صلى هللا عليه وسلم وأمته يف ذلك أرقى مناهج التوثيق‪ ،‬ذلك أ َن القرآن الكرمي نزل‬

‫على رسول هللا صلى هللا عليه وسلم منجماً يف ثالث وعشرين سنة(‪ ،)2‬حسب‬ ‫اِلوادث ومقتضى اِلال‪ ،‬وكانت السورةُ تد َون ساعةَ نزوهلا‪ ،‬إذ كان املصطفى صلى‬ ‫هللا عليه وسلم إذا ما نزلت عليه ايةٌ أو آَيت قال‪ :‬ضعوها يف مكان كذا‪ ...‬سورة‬ ‫كذا(‪.)3‬‬ ‫تيب آَيته هبذه الطريقة‬ ‫وهلذا اتفق العلماء على أن مجع القرآن توقيفي‪ ،‬مبعىن أن تر َ‬ ‫اليت نراه عليها اليو يف املصاحف إمنا هو أبمر هللا‪ ،‬ووحي من هللا(‪.)4‬‬ ‫وما يقال عن ترتيب آَيت القرآن هو الذي يقوله إمجاع املؤرخني واحملدثني والباحثني‬ ‫عن ترتيب السور‪ ،‬ووضع البسملة يف رؤوسها‪ ،‬قال القاضي أبو بكر الباقالين رواية‬ ‫عن مكي رْحه هللا يف تفسري سورة «براءة»‪ :‬إ َن ترتيب اآلَيت يف السور‪ ،‬ووضع‬ ‫توقيف من هللا عز وجل‪ ،‬وملا مل يؤمر بذلك يف أول سورة‬ ‫البسملة يف الوائل هو‬ ‫ٌ‬ ‫براءة تُِرَكت بال بسملة(‪.)5‬‬ ‫مسعت ربيعة‬ ‫مسعت ُسلَيمان بن بالل يقول‪:‬‬ ‫وروى القرطيب عن ابن وهب قال‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫(‪ )1‬مسند أْحد‪ ،‬ال أيتيه الباطل‪ ،‬د‪ .‬حممد سعيد رمضان البوطي ص(‪.)217‬‬ ‫(‪ )2‬مباحث يف علو القران‪ ،‬مناع القطان ص(‪.)105‬‬ ‫(‪)3‬اإلتقان يف علو القران‪ ،‬للسيوطي (‪.)61 60/1‬‬ ‫(‪ )4‬الربهان يف علو القران (‪.)235 234/1‬‬ ‫(‪ )5‬تفسري القرطيب (‪ )61/1‬البخاري (‪.)165/5‬‬

‫‪163‬‬


‫يُسأل‪ :‬مل قدمت البقرةُ و ُال عمران وقد نزل قبلهما بضع ومثانون سورة‪ ،‬وإمنا نزلتا يف‬

‫املدينة؟ فقال ربيعة‪ :‬قد قدمتا‪ ،‬وألف القرآن على عل ٍم ْمن ألفه‪.‬‬

‫هذا عن تر ِ‬ ‫تيب اي القرآن وسوره‪ ،‬أما عن كتابته‪ ،‬فمن املعلو أوالً أن النيب صلى هللا‬ ‫أمجع على ذلك عامة املؤرخني‪ ،‬وكل‬ ‫عليه وسلم كان أمياً ال يقرأ وال يكتب‪َ ،‬‬ ‫املشركني الذين كانوا على عهد رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬لذا فقد كان يعهد‬ ‫ٍ‬ ‫أشخاص من الصحابة أبعياهنم كانوا يُس َمون‬ ‫بكتابة ما يتنزل عليه من القرآن إىل‬

‫كتاب الوحي‪ ،‬وأشهرهم اخللفاء الربعة‪ ،‬وأيب بن كعب‪ ،‬وزيد بن اثبت‪ ،‬ومعاوية بن‬ ‫حسنة‪ ،‬وعبد هللا بن‬ ‫أيب سفيان‪ ،‬واملغرية بن شعبة‪ ،‬والزبري بن العوا ‪ُ ،‬‬ ‫وشَر ْحبيل بن ْ‬ ‫رواحة‪ ،‬وقد كانوا يكتبون ما يتنزل من القرآن تباعاً حسب الرتتيب الذي أييت به‬ ‫جربيل؛ فيما تيسر هلم من العظا املرققة واملخصصة لذلك‪ ،‬وألواح اِلجارة الرقيقة‬ ‫واجللود‪ ،‬وقد كانوا يضعون ما يكتبونه يف بيت رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬مث‬ ‫يكتبون لنفسهم إ ْن شاؤوا نسخاً عنها ُيفظوهنا لديهم‪ ،‬ولقد كان من الصحابة من‬ ‫يتتبع ما ينزل من آَيت القرآن ويتتبع ترتيبها فيحفظها عن ظهر قلب‪ ،‬حىت كان‬ ‫فيهم من حفظ القرآن كله‪ ،‬فمن املشاهري أيب بن كعب‪ ،‬وزيد بن اثبت‪ ،‬واخرون(‪.)1‬‬ ‫وظل الصحابة يعكفون على حفظ القرآن غيباً‪ ،‬حىت ارتفعت نسبةُ اِلفاظ منهم إىل‬ ‫َ‬ ‫عدد ال ُيصى‪.‬‬ ‫يتضح لك من هذا الذي ذكرانه أن القرآن وعاه الصدر الول من الصحابة‪ ،‬وبلغوه‬ ‫بعدهم بطريقتني اثنتني‪:‬‬ ‫إىل َم ْن َ‬

‫إحدمها‪ :‬الكتابة اليت كانت تتم للقرآن أبمر الرسول صلى هللا عليه وسلم لشخاص‬

‫(‪ )1‬ال أيتيه الباطل‪ ،‬حممد سعيد رمضان البوطي ص(‪.)217‬‬

‫‪164‬‬


‫أبعياهنم وكل إليهم هذا المر‪ ،‬ومل ينتقل رسول هللا صلى هللا عليه وسلم إىل جوار ربه‬ ‫إال والقرآن مكتوب كله يف بيته‪.‬‬ ‫الثانية‪ :‬حفظه يف الصدور عن طريق التلقي الشفهي من كبار قراء الصحابة‬ ‫وحفاظهم؛ الذين تل َق ْوه بدورهم عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم؛ الذي أقرهم‬ ‫على كيفية النطق والداء(‪.)1‬‬ ‫ظ يف‬ ‫بعد الوحي هبا مباشرًة ُُْي َف ُ‬ ‫وكان كل ما يكتب من آَيت وسوِر القرآن الكرمي َ‬ ‫بيت رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬مع استنساخ ُكتاب الوحي نسخاً لنفسهم من‬ ‫مجيع ما أُملي على ٍ‬ ‫مجع القرآن الكرمي كله كتابة وحفظاً على‬ ‫كل منهم‪ ،‬وبذلك متَ ُ‬ ‫عهد رسول هللا صلى هللا عليه وسلم(‪.)2‬‬ ‫ض الرسول صلى هللا عليه وسلم ابلقرآن مرةً‬ ‫وثبت أ َن جربيل عليه السال كان يعا ِر ُ‬ ‫واحد ًة يف ِ‬ ‫كل سنة‪ ،‬مث عارضه به يف السن ِة اليت تويف فيها صلى هللا عليه وسلم‬ ‫مرتني(‪ ،)3‬ومعىن هذا أ َن القرآن الكرمي كان يف صورته التامة يف هذه السنة اليت مت‬ ‫البغوي‬ ‫عرضه فيها مرتني‪ ،‬ولذلك شواهد كثرية ذكرها العلماء‪ ،‬من أظهرها ما أورده‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬

‫السلمي أنه قال‪ :‬كانت قراءة أيب بكر وعمر وعثمان‪ ،‬وزيد بن‬ ‫عن أيب عبد الرْحن ُّ‬ ‫اثبت‪ ،‬واملهاجرين والنصار واحد ًة‪ ،‬كانوا يقرؤون القراءة العامة فيه‪ ،‬وهي القراءةُ اليت‬ ‫قرأها رسول هللا صلى هللا عليه وسلم على جربيل مرتني يف العا الذي قُبض فيه‪،‬‬ ‫ئ الناس هبا حىت مات‪ ،‬ولذلك‬ ‫وكان زيد قد شهد العرضة الخرية‪ ،‬وكان يقرأ ُ‬

‫(‪ )1‬تفسري القرطيب (‪ )61/1‬البخاري (‪.)165/5‬‬ ‫(‪ )2‬الربهان للزركشي (‪ ،)238/1‬اإلتقان (‪ ،)58/1‬فتح الباري يف شرح البخاري (‪ ،)18/9‬ال أيتيه الباطل ص(‪.)218‬‬ ‫(‪ )3‬املصدر نفسه ص(‪.)219‬‬

‫‪165‬‬


‫اعتمده الصديق يف مجعه أوالً‪ ،‬وواله عثما ُن على َكتَبة املصحف(‪.)1‬‬

‫على أن القرآن رغم ذلك مل جيمع بني دفتني يف مصحف على عهد رسول هللا صلى‬ ‫لضيق ِ‬ ‫هللا عليه وسلم‪ ،‬وذلك ِ‬ ‫الوقت بني اخ ِر اي ٍة نزلت من القرآن وبني وفات ه صلى‬ ‫هللا عليه وسلم(‪.)2‬‬ ‫اثنياً ـ مجع القرآن الكرمي يف مصحف واحد على عهد اخلليفة األول أيب بكر‬ ‫الصديق رضي هللا عنه‪:‬‬ ‫كان من ضمن شهداء املسلمني يف حرب مسيلمة الك َذاب يف اليمامة كثريٌ من‬ ‫نتج عن ذلك أ ْن قا أبو بكر رضي هللا عنه مبشورة عمر بن‬ ‫حفظة القرآن‪ ،‬وقد َ‬ ‫اخلطاب رضي هللا عنه جبمع القرآن‪ ،‬حيث ُِ‬ ‫مج َع من الرقاع والعظا وال َس ْعف ومن‬ ‫(‪)3‬‬ ‫أسند أبو بكر الصديق رضي هللا عنه هذا العمل العظيم‪،‬‬ ‫صدور الرجال ‪ ،‬و َ‬ ‫ي الضخم إىل الصحايب اجلليل زيد بن اثبت النصاري رضي هللا‬ ‫و‬ ‫املشروع اِلضار َ‬ ‫َ‬ ‫عنه‪.‬‬ ‫إيل أبو بكر رضي هللا عنه فقال‪ :‬إن‬ ‫يروي زيد بن اثبت رضي هللا عنه فيقول‪ :‬بعث َ‬

‫(‪)4‬‬ ‫ِ‬ ‫أتمر‬ ‫القتل قد استحر يوَ اليمامة بقراء القرآن‪ ،‬وإين أرى أ ْن َ‬ ‫عمر أَتين فقال‪ :‬إ َن َ‬ ‫(‪)5‬‬ ‫رسول هللاِ صلى هللا عليه وسلم‬ ‫أفعل شيئاً مل يفعله ُ‬ ‫قلت لعمر‪َ :‬‬ ‫جبمع القرآن‪ُ ،‬‬ ‫كيف ُ‬ ‫؟ فقال عمر‪ :‬هذا وهللاِ خريٌ‪ ،‬فلم يزل عمر يراجعين حىت شر َح هللا صدري للذي‬ ‫أيت يف ذلك الذي رأى عمر‪ ،‬قال زي ٌد‪ :‬قال أبو بكر‪ :‬وإنك‬ ‫صدر عمر‪ ،‬ور ُ‬ ‫شر َح له َ‬ ‫(‪ )1‬مدخل إىل دراسة اإلعجاز العلمي ص(‪.)68‬‬ ‫(‪ )2‬البخاري رقم (‪.)4710‬‬ ‫(‪ )3‬شرح السنة (‪َ ،)50/3‬تيز المة اإلسالمية‪ ،‬د‪ .‬إسحاق السعدي (‪.)595/1‬‬ ‫(‪ )4‬ال أيتيه الباطل ص(‪.)219‬‬ ‫(‪ )5‬حروب الردة وبناء الدولة‪ ،‬أْحد سعيد ص(‪.)145‬‬

‫‪166‬‬


‫(‪)1‬‬ ‫الوحي لرسول هللا صلى هللا عليه‬ ‫تكتب‬ ‫كنت‬ ‫وقد‬ ‫‪،‬‬ ‫شاب عاقل ال نتهمك‬ ‫رجل ٌّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬

‫وسلم‪ ،‬فتتبع القرآن فامجَ ْعهُ(‪ ،)2‬قال زيد‪ :‬فوهللا لو كلفوين نقل ٍ‬ ‫جبل من اجلبال ما‬ ‫(‪)3‬‬ ‫فتتبعت القرآن من العسب‬ ‫أبثقل َعلي ْما كلفين به من مجع القرآن‪،‬‬ ‫كان‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫(‪)6‬‬ ‫ِ (‪)5‬‬ ‫واللِخاف(‪ ،)4‬وصدوِ‬ ‫اخر‬ ‫وجدت‬ ‫حىت‬ ‫قال‪:‬‬ ‫‪.‬‬ ‫الكتاف‬ ‫و‬ ‫‪،‬‬ ‫قاع‬ ‫الر‬ ‫و‬ ‫الرجال‪،‬‬ ‫ر‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫النصاري‪ ،‬مل أجدها مع ٍ‬ ‫سورةِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫أحد غريه‪ ،‬وهي قوله تعاىل‪:‬‬ ‫التوبة مع أيب خزمية‬ ‫ِ​ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫﴿لَ​َق ْد جاء ُكم رس ٌ ِ‬ ‫ني‬ ‫يص َعلَْي ُك ْم ِابلْ ُم ْؤمن َ‬ ‫ول م ْن أَنْ ُفس ُك ْم َع ِز ٌيز َعلَْيه َما َعنت ُّْم َح ِر ٌ‬ ‫َ َ ْ َُ‬ ‫وف َرِح ٌيم ﴾ [التوبة‪ ،]128 :‬حىت خاَتة براءة‪ ،‬وكانت الصحف عند أيب بكر يف‬ ‫َرُؤ ٌ‬ ‫حياته حىت توفاه هللا‪ ،‬مث عند عمر حياته حىت توفاه هللا‪ ،‬مث عند حفصة بنت عمر‬

‫رضي هللا عنهم(‪.)7‬‬ ‫اضح أن الصحابة رضي هللا‬ ‫وعلق البغوي على هذا اِلديث فقال‪ :‬فيه البيا ُن الو ُ‬ ‫عنهم مجعوا بني الدفتني القرآن الذي أنزله هللا سبحانه وتعاىل على رسوله صلى هللا‬ ‫عليه وسلم من غري أن يزيدوا فيه أو ينقصوا منه شيئاً‪ ،‬والذي ْحلهم على مجعه ما‬ ‫جاء يف اِلديث؛ وهو أنه كان مفرقاً يف العسب واللخاف وصدور الرجال‪ ،‬فخافوا‬ ‫ِ‬ ‫ودع ْوه إىل مجعه‪،‬‬ ‫ذهاب بعضه بذهاب حفظته‪ ،‬ففزعوا فيه إىل خليفة رسول هللا‪َ ،‬‬ ‫فرأى يف ذلك رأيهم‪ ،‬فأمر جبمعه يف موض ٍع و ٍ‬ ‫احد ٍ‬ ‫ابتفاق من مجيعهم‪ ،‬فكتبوه كما‬ ‫مسعوا من رسول هللا صلى هللا عليه وسلم من غري أن يقدموا شيئاً أو يؤخروا أو‬ ‫(‪ )1‬استحر‪ :‬كثر واشتد‪.‬‬ ‫(‪ )2‬أي‪ :‬من الشياء اليت عندك وعند غريك‪.‬‬ ‫(‪ )3‬العسب‪ :‬جريد النخل‪.‬‬ ‫(‪ )4‬اللخاف‪ :‬مجع خلفة‪ ،‬وهي صفائح اِلجارة‪.‬‬ ‫(‪ )5‬الرقاع‪ :‬مجع رقعة‪ ،‬وهي قطع اجللود‪.‬‬ ‫(‪ )6‬الكتاف‪ :‬مجع كتف‪ ،‬وهو العظم الذي للبعري أو الشاة‪.‬‬ ‫(‪ )7‬البخاري رقم (‪.)4986‬‬

‫‪167‬‬


‫يضعوا له ترتيباً مل أيخذوه من رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وكان رسول هللا صلى‬ ‫هللا عليه وسلم يلقى أصحابه‪ ،‬ويعلمهم ما ينزل عليه من القرآن على الرتتيب الذي‬ ‫ٍ‬ ‫بتوقيف جربيل صلوات هللا عليه إَيه على ذلك‪ ،‬وإعالمه عند‬ ‫هو االن يف مصاحفنا‬ ‫اية أن هذه االية تكتب ع ِقب ِ‬ ‫كل ٍ‬ ‫ِ‬ ‫نزول ِ‬ ‫اية كذا يف السورة اليت يذكر فيها كذا(‪.)1‬‬ ‫َ َ‬ ‫وهكذا يتضح للقارئ الكرمي أن من أوليات أيب بكر الصديق رضي هللا عنه‪ :‬أنه أول‬ ‫ص ْوحان رْحه هللا‪ :‬أول من مجع القرآن‬ ‫من مجع القرآن الكرمي‪ ،‬يقول صعصعة بن َ‬ ‫بني اللوحني‪ ،‬وورث الكاللة(‪ ،)2‬أبو بكر‪.‬‬ ‫وقال علي بن أيب طالب رضي هللا عنه‪ :‬يرحم هللا أاب بكر‪ ،‬هو أول من مجع القرآن‬ ‫بني اللوحني(‪.)3‬‬

‫يد بن ٍ‬ ‫اثبت هلذه املهمة العظيمة‪ ،‬وذلك لنه‬ ‫وقد اختار أبو بكر رضي هللا عنه ز َ‬

‫رأى فيه املقومات الساسية للقيا هبا‪ ،‬وهي‪:‬‬ ‫لب منه‪.‬‬ ‫‪ 1‬كونه شاابً‪ ،‬حيث كان عمره واحداً وعشرين عاماً‪ ،‬فيكون أنش َ‬ ‫ط ملا يُطْ ُ‬

‫‪ 2‬كونه أكثر أتهيالً‪ ،‬فيكون أوعى له‪ ،‬إذ َم ْن وهبه هللا عقالً راجحاً فقد يسر له‬ ‫ُسبُ َل اخلري‪.‬‬ ‫كن إليه النفوس‪،‬‬ ‫‪ 3‬كونه ثقة‪ ،‬فليس هو موضعاً للتهمة‪ ،‬فيكون عملُه مقبوالً‪ ،‬وتر ُ‬ ‫وتَطمئن إليه القلوب‪.‬‬

‫(‪ )1‬شرح السنة‪ ،‬للبغوي (‪.)522/4‬‬ ‫(‪ )2‬الكاللة‪ :‬من ال ولد له وال والد‪.‬‬ ‫(‪ )3‬أخرجه ابن أيب شيبة (‪ )196/7‬وإسناده صحيح‪.‬‬

‫‪168‬‬


‫‪ 4‬كونه كاتباً للوحي‪ ،‬فهو بذلك ذو خربةٍ‬ ‫وْمارسة ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫عملية له‬ ‫سابقة يف هذا المر‪،‬‬ ‫فليس غريباً عن هذا العمل‪ ،‬وال دخيالً عليه(‪.)1‬‬ ‫جعلت الصديق ي ِ‬ ‫ِ‬ ‫رش ُح زيداً جلمع القرآن‪ ،‬فكان به جديراً‪،‬‬ ‫هذه‬ ‫الصفات اجلليلةُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫وابلقيا به خبرياً‪.‬‬ ‫ويضاف لذلك أنه أحد الصحابة الذين مجعوا القرآن على عهد النيب صلى هللا‬ ‫‪5‬‬ ‫ُ‬ ‫عليه وسلم مع اإلتقان‪.‬‬ ‫ت شيئاً من القرآن إال إذا‬ ‫وأما الطريقة اليت اتبعها زيد يف مجع القرآن؛ فكان ال يثبِ ُ‬ ‫النيب صلى هللا عليه وسلم وحمفوظاً من الصحابة‪ ،‬فكان ال‬ ‫كان مكتوابً بني يدي ِ‬ ‫ِ‬ ‫وهم‪ ،‬وأيضاً مل‬ ‫يكتفي ابِلفظ دون الكتابة‪ ،‬خشيةَ أ ْن يكو َن يف اِلفظ خطأ أو ٌ‬ ‫يقبل من ٍ‬ ‫املكتوب‬ ‫أحد شيئاً جاء به إال إذا أتى معه شاهدان يشهدان أن ذلك‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ب بني يدي رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وأنه من الوجوه اليت نزل هبا‬ ‫ُكت َ‬ ‫القرآن(‪.)2‬‬ ‫وعلى هذا املنهج استمر زي ٌد رضي هللا عنه يف مجع القرآن َح ِذراً‪ ،‬متثبتاً‪ ،‬مبالغاً يف‬ ‫الدقة والتحري(‪.)3‬‬ ‫نقول عنها من غري ٍ‬ ‫تردد‪ :‬إهنا طريقةٌ فذة‬ ‫إن زيداً اتبع طريقة يف اجلمع‬ ‫نستطيع أن َ‬ ‫ُ‬ ‫يف َتريخ الصناعة العقلية اإلنسانية‪ ،‬وإهنا طريقة التحقيق العلمي املألوف يف العصر‬ ‫الصحايب اجلليل قد اتبع هذه الطريقة بدقة دوهنا كل دقة‪ ،‬وإن هذه‬ ‫اِلديث‪ ،‬وإن‬ ‫َ‬ ‫الدقة يف َمجْ ِع القرآن متصلةٌ إبميان زيد ابهلل‪ ،‬فالقرآن كال هللا جل شأنه‪ ،‬فكل ٍ‬ ‫ِتاون‬ ‫ُ‬ ‫(‪ )1‬التفوق والنجابة على هنج الصحابة‪ْ ،‬حد العجمي ص(‪.)73‬‬ ‫(‪ )2‬املصدر نفسه ص(‪.)74‬‬ ‫(‪ )3‬أبو بكر الصديق‪ ،‬للمؤلف ص(‪.)264‬‬

‫‪169‬‬


‫يف أمره‪ ،‬أو ٍ‬ ‫إغفال للدقة يف مجعه وزر؛ ما كان أحرص زيداً يف حسن إسالمه‪،‬‬ ‫ومجيل صحبته لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم أن يتنزه عنه‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫بتكليف من خليفة املسلمني أيب بكر‬ ‫إن ما قا به زيد بن اثبت رضي هللا عنه‬ ‫ِ‬ ‫ومعاونة أيب بن‬ ‫الصديق رضي هللا عنه‪ ،‬ومشورةِ عمر بن اخلطاب رضي هللا عنه‪،‬‬ ‫كعب رضي هللا عنه‪ ،‬ومشاركة مجهور الصحابة ْمن كان ُيفظ القرآن أو يكتبه(‪،)1‬‬ ‫مظهر من مظاهر العناية الرابنية حبفظ القرآن‬ ‫وإقر ُار َمجْ ٍع من املهاجرين والنصار ٌ‬ ‫الكرمي‪،‬‬ ‫وتوفيق من هللا لألمة اإلسالمية‪ ،‬وتسدي ٌد منه ملسريِتا‪ ،‬ويتضمن ذلك أيضاً‬ ‫ٌ‬ ‫كما قال أبو زهرة‪ :‬حقيقتني مهمتني تدالن على إمجاع المة كلِها على ْحاية‬ ‫القرآن الكرمي من التحريف والتغيري والتبديل‪ ،‬وأنه مصو ٌن بعناية هللا سبحانه وتعاىل‪،‬‬ ‫ظ حبفظه وإهلا املؤمنني ابلقيا عليه‪ ،‬وحياطته(‪.)2‬‬ ‫وحمفو ٌ‬ ‫الوىل‪ :‬أن عمل زيد رضي هللا عنه مل يكن كتابة مبتدأة‪ ،‬ولكنه مجع مكتوب(‪ ،)3‬فقد‬ ‫ُكتِب القرآن كلُّه يف عهد النيب صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وعمل ز ٍ‬ ‫يد االبتدائي هو‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ب عليها‪ ،‬والتأكد من سالمتها أبمرين‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫البحث عن الرقاع والعظا اليت كان قد ُكت َ‬ ‫بشهادةِ اثنني على الرقعة اليت فيها االيةُ وااليتان أو اآلَيت‪ ،‬وحبفظ ز ٍ‬ ‫يد نفسه‪،‬‬ ‫وابِلافظني من الصحابة‪ ،‬وقد كانوا اجلمع الغفري‪ ،‬والعدد الكب ِري‪ ،‬فما كان ٍ‬ ‫لحد أن‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫أصل قائ ٍم ٍ‬ ‫أصل مادي قائ ٍم‪ ،‬بل إنه أخ َذ من ٍ‬ ‫يقول‪ :‬إ َن زيداً كتب من غري ٍ‬ ‫اثبت‬

‫نقرر أن ما كتبه زيد هو َتاماً ما ُكتِ‬ ‫ب يف عصر الرسول صلى هللا‬ ‫مادي‪ ،‬وبذلك ُِ‬ ‫َ‬ ‫عليه وسلم‪ ،‬وأنه ليس كتابة زيد‪ ،‬بل ما كتب يف عصره عليه الصالة والسال ‪،‬‬ ‫(‪ )1‬اِلضارة اإلسالمية‪ ،‬توفيق الواعي ص(‪.)281‬‬ ‫(‪َ )2‬تيز المة اإلسالمية (‪.)603/1‬‬ ‫(‪ )3‬املصدر نفسه (‪.)603/1‬‬

‫‪170‬‬


‫وأماله‪ ،‬وما حفظه الروح القدس‪.‬‬ ‫الثانية‪ :‬أن عمل زيد مل يكن عمالً أحادَيً‪ ،‬بل كان عمالً مجاعياً من مشيخة صحابة‬ ‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فقد طلب أبو بكر إىل كل ما عنده شيءٌ مكتوب‬ ‫كل من ُيفظ القرآن أن يديل إليه مبا ُيفظه‪ ،‬واجتمع لز ٍ‬ ‫يد‬ ‫أن جييء به إىل زيد‪ ،‬وإىل ِ َ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫أصحاب رسول هللا‬ ‫ب‬ ‫ُ‬ ‫من الرقاع والعظا وجريد النخل ورقيق اِلجارة‪ ،‬وكل ما َكتَ َ‬

‫ت ايةً‬ ‫صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وعند ذلك بدأ زيد يرتبه ويوازنه ويستشهد عليه‪ ،‬وال يثبِ ُ‬ ‫إال إذا اطمأن إىل إثباِتا‪ ،‬كما أوحيت إىل رسول هللا(‪.)1‬‬

‫كتب‪ ،‬تذاكره الناس‪ ،‬وتعرفوه‪ ،‬وأقروه‪،‬‬ ‫واستمر المر كذلك‪ ،‬حىت إذا ما أمتَ زي ٌد ما َ‬

‫فكان املكتوب متواتراً ابلكتاب‪ ،‬ومتواتراً ابِلفظ يف الصدور‪ ،‬وما مت هذا الكتاب يف‬ ‫الوجود غري القرآن‬

‫(‪)2‬‬

‫وامي هللا عناية من الرْحن خاصة هبذا القرآن العظيم(‪.)3‬‬

‫وشرف لألمة اإلسالمية َتيزت به على سائر المم‪ ،‬ووفقها هللا خلدمة كتابه يف منهج‬ ‫مجيع المم(‪.)4‬‬ ‫علمي سبقت إليه َ‬

‫اثلثاً ـ مجع القرآن الكرمي يف عدد من املصاحف على عهد ذي النورين أمري‬ ‫املؤمنني عثمان بن عفان رضي هللا عنه‪:‬‬ ‫‪1‬ـ الباعث على مجع القرآن يف عهد عثمان رضي هللا عنه‪:‬‬ ‫عن أنس بن مالك رضي هللا عنه‪ :‬أن حذيفة بن اليمان قَ ِد َ على عثمان رضي هللا‬ ‫ع‬ ‫عنه‪ ،‬وكان يُغازي أهل الشا يف فتح أرمينية‪ ،‬وأذربيجان مع أهل العراق‪ ،‬فأفز َ‬ ‫(‪ )1‬دراسات يف القران‪ ،‬أْحد خليل ص(‪.)90‬‬ ‫(‪َ )2‬تيز المة اإلسالمية (‪.)604/1‬‬ ‫(‪ )3‬دراسات َترُيية من القران الكرمي‪ ،‬حممد بيومي ص(‪.)32 31‬‬ ‫(‪ )4‬املصدر نفسه (‪.)604/1‬‬

‫‪171‬‬


‫أمري املؤمنني‪،‬‬ ‫حذيفةَ رضي هللا عنه اختالفُهم يف القراءة‪ ،‬فقال حذيفةُ لعثمان‪َ :‬ي َ‬ ‫ِ‬ ‫اختالف اليهود والنصارى‪.‬‬ ‫الكتاب‬ ‫أدرك هذه المة قبل أن ُيتلفوا يف‬ ‫َ‬ ‫ابلص ِ‬ ‫نردها‬ ‫ننسخها يف املصاحف‪ ،‬مث ُّ‬ ‫فأرسل عثما ُن إىل حفصة أ ْن أرسلي إلينا ُّ‬ ‫حف ُ‬ ‫َ‬

‫وعبد هللا بن الزبري‪،‬‬ ‫بن اثبت‪َ ،‬‬ ‫فأمر ز َ‬ ‫يد َ‬ ‫إليك‪ ،‬فأرسلت هبا حفصةُ إىل عثمان‪َ ،‬‬ ‫وعبد الرْحن بن اِلارث بن هشا رضي هللا عنهم‪ ،‬فنسخوها يف‬ ‫وسعيد بن العاص‪َ ،‬‬ ‫َ‬ ‫املصاحف‪ ،‬وقال عثمان للرهط القرشيني الثالثة‪ :‬إذا اختلفتم أنتم وزيد بن اثبت يف‬ ‫ٍ‬ ‫شيء من القرآن؛ فاكتبوه بلسان قريش‪ ،‬فإمنا نزل بلساهنم‪ ،‬ففعلوا‪ ،‬حىت إذا نسخوا‬ ‫حف إىل حفصة‪ ،‬فأرسل إىل‬ ‫الصحف يف املصاحف‪ ،‬رَد عثمان رضي هللا عنه ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫الص َ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫كل أ ٍ‬ ‫ُفق مبصحف ْما نسخوا‪ ،‬وأمر مبا سواه من القرآن يف ِ‬ ‫ِ‬ ‫مصحف‬ ‫صحيفة‪ ،‬أو‬ ‫كل‬ ‫أن ُ​ُير َق(‪.)1‬‬ ‫ويؤخذ من اِلديث الصحيح أمور‪ ،‬منها‪:‬‬ ‫السبب اِلامل لعثمان رضي هللا عنه على مجع القرآن مع أنه كان جمموعاً‪،‬‬ ‫أ أن‬ ‫َ‬ ‫مرتباً يف صحف أيب بكر الصديق‪ ،‬إمنا هو‬ ‫اختالف قراء املسلمني يف القراءةِ اختالفاً‬ ‫ُ‬ ‫أوشك أن يؤدي هبم إىل أخط ِر ٍ‬ ‫فتنة يف كتاب هللا تعاىل‪ ،‬وهو أصل الشريعة‪ ،‬ودعامة‬

‫الدين‪ ،‬وأساس بناء المة االجتماعي والسياسي واخلُلُقي‪ ،‬حىت إن بعضهم كان‬ ‫ِ‬ ‫خليفة‬ ‫ع ذلك حذيفةَ‪ ،‬ففزع إىل‬ ‫يقول لبعض‪ :‬إن قراءيت خريٌ من قراءتك‪ ،‬فأفز َ‬ ‫املسلمني ِ‬ ‫وإمامهم‪ ،‬وطلب إليه أن يُ ْد ِرَك المة قبل أن ختتلف‪ ،‬فيستشري بينهم‬

‫وحترف عن مواضعها‬ ‫نص القرآن‪ُ ،‬‬ ‫أمره‪ ،‬ويعظم خطبُه‪ ،‬فيُمس ُّ‬ ‫ُ‬ ‫االختالف‪ ،‬ويتفاقم ُ‬ ‫كلماته وآَيته‪ ،‬كالذي وقع بني اليهود والنصارى من اختالف كل أمة على نفسها‬ ‫(‪ )1‬البخاري‪ ،‬رقم (‪.)4987‬‬

‫‪172‬‬


‫يف كتاهبا‪.‬‬ ‫قاطع أبن القرآن الكرمي كان جمموعاً يف صحف‬ ‫ب أن هذا اِلديث الصحيح ٌ‬ ‫ومضموماً يف خيط‪ ،‬وقد اتفقت كلمةُ ِ‬ ‫الصحف‬ ‫المة اتفاقاً َتماً على أ َن ما يف تلك ُّ‬ ‫النيب صلى هللا عليه وسلم يف اخر ٍ‬ ‫عرضة على أمني الوحي‬ ‫هو القرآن كما تلقته عن ِ‬ ‫جربيل عليه السال ‪ ،‬وأ َن تلك الصحف ظلت يف رعاية اخلليفة الول أيب بكر‬ ‫الصديق‪ ،‬مث انتقلت بعده إىل رعاية اخلليفة الثاين عمر بن اخلطاب‪ ،‬مث عرف عمر‬ ‫حضور أجله‪ ،‬ومل ِ‬ ‫يول عهده أحداً معيناً يف خالفة املسلمني‪ ،‬وإمنا جعل المر شورى‬ ‫يف الرهط املتصفني ابلرضا من رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬أوصى حبفظ‬ ‫اعتمد يف مجعه‬ ‫الصحف عند ابنته حفصة أ املؤمنني رضي هللا عنها‪ ،‬وأ َن عثمان‬ ‫َ‬ ‫الصحف‪ ،‬وعنها نقل مصحفه «الرمسي»‪ ،‬وأنه أمر أربعةً من أشهر قراء‬ ‫على تلك ُّ‬ ‫الصحابة إتقاانً ِلفظ القرآن‪ ،‬ووعياً ِلروفه‪ ،‬وأداءً لقراءاته‪ ،‬وفهماً إلعرابه ولغته‪:‬‬ ‫ثالثة قرشيني وواحداً أنصارَيً‪ ،‬وهو زيد بن اثبت صاحب اجلمع الول يف عهد‬ ‫الصديق إبشارة الفاروق‪.‬‬ ‫ويف بعض الرواَيت‪ :‬أن الذين أمرهم عثمان أن يكتبوا من الصحف اثنا عشر رجالً‪،‬‬ ‫فيهم أُيب بن كعب‪ ،‬واخرون من قريش والنصار(‪.)1‬‬ ‫ج وأنخذ من هذا‪ :‬أن الفتوحات يف عهد عثمان كانت إبذن وأمر من اخلليفة‪،‬‬ ‫يصدر من املدينة‪ ،‬وأن الوالَيت اإلسالمية كلها كانت خاضعة‬ ‫وأن القرار العسكري ُ‬

‫لمر اخلليفة عثمان يف عهده‪ ،‬بل يدل على أن هناك إمجاعاً من الصحابة والتابعني‬ ‫يف مجيع القاليم على خالفة عثمان‪ ،‬وقدو حذيفة بن اليمان إىل املدينة‪ ،‬لرفع‬ ‫(‪ )1‬عثمان بن عفان‪ ،‬لصادق عرجون ص(‪.)171‬‬

‫‪173‬‬


‫اختالف الناس يف قراءة القرآن‪ ،‬يدل على أن القضاَي الشرعية الكربى كان يستشار‬ ‫فيها اخلليفة يف املدينة‪ ،‬وأ َن املدينة ما زالت دار السنة‪ ،‬وجممع فقه اء الصحابة(‪.)1‬‬ ‫‪ 2‬ـ استشارة مجهور الصحابة يف مجع عثمان‪:‬‬ ‫مجع عثمان رضي هللا عنه املهاجرين والنصار‪ ،‬وشاورهم يف المر‪ ،‬وفيهم أعيا ُن‬ ‫المة‪ ،‬وأعال ُ الئمة‪ ،‬وعلماءُ الصحابة‪ ،‬ويف طليعتهم علي بن أيب طالب رضي هللا‬ ‫عنهم‪ ،‬وعرض عثمان رضي هللا عنه هذه املعضلة على صفوة المة وقادِتا اهلادين‬

‫أمرها‪ ،‬ودارسوه‪ ،‬وانقشهم فيها وانقشوه‪ ،‬حىت عرف رأيهم وعرفوا‬ ‫املهديني‪ ،‬ودارسهم َ‬

‫رأيه‪ ،‬فأجابوه إىل رأيه يف صراحة ال جتعل للريب إىل قلوب املؤمنني سبيالً‪ ،‬وظهر‬ ‫للناس يف أرجاء الرض من عقد عليه إمجاعهم‪ ،‬فلم يعرف قط يومئذ هلم خمالف‪،‬‬ ‫وال عرف عند أحد نكري‪ ،‬وليس شأن القرآن الذي ُيفى على ِ‬ ‫احاد المة فضالً عن‬ ‫علمائها وأئمتها البارزين(‪.)2‬‬ ‫إ َن عثمان رضي هللا عنه مل يبتدع يف مجعه املصحف‪ ،‬بل سبقه إىل ذلك أبو بكر‬ ‫الصديق رضي هللا عنه‪ ،‬كما أنه مل يضع ذلك من قبل نفسه‪ ،‬إمنا فعله عن مشورة‬ ‫أيت‪ ،‬وقالوا أيضاً‪:‬‬ ‫نعم ما ر َ‬ ‫للصحابة رضي هللا عنهم‪ ،‬وأعجبهم هذا الفعل‪ ،‬وقالوا‪َ :‬‬ ‫قد أحسن‪ ،‬أي‪ :‬يف فعله يف املصاحف(‪.)3‬‬

‫وقد أدرك مصعب بن سعد صحابة النيب صلى هللا عليه وسلم حني مشق(‪ )4‬عثمان‬

‫(‪ )1‬املدينة النبوية يف فجر اإلسال والعصر الراشدي (‪.)244/2‬‬ ‫(‪ )2‬عثمان بن عفان‪ ،‬لصادق عرجون ص(‪.)175‬‬ ‫(‪ )3‬فتنة مقتل عثمان بن عفان‪ ،‬حممد الغبان (‪.)78/1‬‬ ‫(‪ )4‬مشق يف الكتابة‪ :‬مد يف حروفها وجودها‪.‬‬

‫‪174‬‬


‫رضي هللا عنه املصاحف‪ ،‬فراهم قد أُعجبوا هبذا الفعل منه(‪.)1‬‬ ‫يعيب على عثمان رضي هللا عنه بذلك‪ ،‬ويقول‪:‬‬ ‫وكان علي رضي هللا عنه ينهى َم ْن ُ‬ ‫َي أيها الناس ال تغلوا يف عثمان‪ ،‬وال تقولوا فيه إال خرياً أو قولوا خرياً فوهللا ما‬

‫فعل الذي فعل أي‪ :‬يف املصاحف إال عن مأل منا مجيعاً أي‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫لفعلت مثل الذي فعل(‪.)2‬‬ ‫يت‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫الصحابة وهللا لو ول ُ‬ ‫وبعد اتفاق هذا اجلمع الفاضل من خرية اخللق على هذا المر املبارك‪ ،‬يتبني لكل‬ ‫متجرٍ‬ ‫ِ‬ ‫اجب على املسلم الرضا هبذا الصنيع الذي صنعه عثمان‬ ‫و‬ ‫ال‬ ‫أن‬ ‫اهلوى‬ ‫عن‬ ‫د‬ ‫َ‬ ‫رضي هللا عنه‪ ،‬وحفظ به القرآن الكرمي(‪.)3‬‬ ‫قال القرطيب يف التفسري‪ :‬وكان هذا من عثمان رضي هللا عنه بعد أن مجع املهاجرين‬ ‫والنصار‪ ،‬وجلة أهل اإلسال ‪ ،‬وشاورهم يف ذلك‪ ،‬فاتفقوا على مجعه مبا صح‪ ،‬وثبت‬ ‫من القراءة املشهورة عن النيب صلى هللا عليه وسلم واطراح ما سواه‪ ،‬واستصوبوا رأيه‪،‬‬ ‫وكان رأَيً سديداً موفقاً(‪.)4‬‬ ‫رابعاً ـ هل املصاحف العثمانية مشتملة على مجيع األحرف السبعة؟‬

‫ذهب الشيخ احملقق حممد صادق عرجون رْحه هللا إىل أ َن صحف ِ‬ ‫الص ِديق؛ اليت‬ ‫كانت أصالً للمصحف اإلما إبمجاع املسلمني؛ مل تكن جامعةً لألحرف السبعة‬ ‫اليت وردت يف صحاح الحاديث إبنزال القرآن عليها‪ ،‬بل كانت حرفاً منها‪ ،‬وهو‬ ‫الذي وقعت به العرضة الخرية‪ ،‬واستقَر عليها المر يف اخر حياة رسول هللا صلى‬ ‫(‪ )1‬التاريخ الصغري للبخاري (‪ ،)94/1‬إسناده حسن لغريه‬ ‫(‪ )2‬فتح الباري (‪ ،)18/9‬إسناده صحيح‪.‬‬ ‫(‪ )3‬فتنة مقتل عثمان بن عفان (‪.)78/1‬‬ ‫(‪ )4‬اجلامع لحكا القران (‪.)78/1‬‬

‫‪175‬‬


‫هللا عليه وسلم‪ ،‬وإمنا كانت الحرف السبعة أوالً من ابب التيسري على المة‪ ،‬مث‬ ‫ارتفع حكمها ملا استفاض القرآن‪ ،‬وَتازج الناس‪ ،‬وتو َحدت لغاِتم‪.‬‬ ‫َ‬ ‫الطحاوي‪ :‬إَمن ا كانت ال َسعة للناس يف اِلروف‪ ،‬لعجزهم عن أخذ القرآن‬ ‫ق ال اإلم ا‬ ‫ُّ‬ ‫على غري لغ اِتم‪َ ،‬‬ ‫يشق على‬ ‫لهنم كانوا ِأميني‪ ،‬ال يكتب إال القليل منهم‪ ،‬ف ل َما كان ُّ‬

‫كل ذي لغة أن يتح َول إىل غريها من اللُّغات‪ ،‬ولو َرا َ ذلك مل يتهيأ له إال مبشقة‬ ‫عظيمة؛ ُوسع هلم يف اختالف اللفاظ‪ ،‬إذا كان املعىن متَفقاً‪ ،‬فكانوا كذلك حىت‬

‫كثر منهم من يكتب‪ ،‬وعادت لغاِتم إىل لسان رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪،‬‬

‫فقدروا بذلك على حفظ ألفاظه‪ ،‬فلم يسعهم حينئذ أن يقرؤوا خبالفها‪.‬‬ ‫وقال ابن عبد ِ‬ ‫الرب‪ :‬فبات هبذا أن تلك السبعة الحرف إمنا كانت يف وقت خاص‬ ‫لضرورة دعت إىل ذلك‪ ،‬مثَ ارتفعت تلك الضرورة‪ ،‬فارتفع حكم هذه السبعة‬ ‫الحرف‪ ،‬وعاد ما يقرأ به القرآن على حرف واحد(‪.)1‬‬ ‫وقال الطربي‪ :‬إ َن القراءة على الحرف السبعة مل تكن واجبة على المة‪ ،‬وإمنا كان‬ ‫جائزاً هلم‪ ،‬ومرخصاً هلم فيه‪ ،‬فلما رأى الصحابة أن المة تفرتق‪ ،‬وختتلف إذا مل‬ ‫جيتمعوا على حرف واحد؛ أمجعوا على ذلك إمجاعاً شائعاً‪ ،‬وهم معصومون من‬ ‫الضاللة(‪.)2‬‬ ‫وهذا اِلرف الذي كتبت به صحف اإلمجاع القاطع‪ ،‬ونقل عنها املصحف اإلما ؛‬ ‫جامع لقراءات القراء السبعة وغريها‪ْ ،‬ما يقرأ به الناس‪ ،‬ونقل متواتراً عن رسول هللا‬ ‫صلى هللا عليه وسلم؛ لن الحرف الواردة يف اِلديث غري هذه القراءات(‪.)3‬‬ ‫(‪ )1‬عثمان بن عفان‪ ،‬لصادق عرجون ص(‪.)180‬‬ ‫(‪ )2‬املصدر نفسه ص(‪.)180‬‬ ‫(‪ )3‬املصدر نفسه (‪.)180‬‬

‫‪176‬‬


‫خامساً ـ عدد املصاحف اليت أرسلها عثمان رضي هللا عنه إىل األمصار‪:‬‬ ‫ملا فرغ عثمان رضي هللا عنه من مجع املصاحف‪ ،‬أرسل إىل كل أفق مبصحف‪،‬‬ ‫كل مصحف ُيالف املصحف الذي أرسله إىل االفاق‪ ،‬وقد‬ ‫وأمرهم أن ُيرقوا َ‬ ‫اختلفوا يف عدد املصاحف اليت فرقها يف المصار‪ ،‬فقيل‪ :‬إهنا أربعة‪ ،‬وقيل‪ :‬إهنا‬ ‫مخسة‪ ،‬وقيل‪ :‬إهنا ستة‪ ،‬وقيل‪ :‬إهنا سبعة‪ ،‬وقيل‪ :‬مثانية‪.‬‬ ‫أما كوهنا أربعة‪ ،‬فقيل‪ :‬إنه أبقى مصحفاً ابملدينة‪ ،‬وأرسل مصحفاً إىل الشا ‪،‬‬ ‫ومصحفاً إىل الكوفة‪ ،‬ومصحفاً إىل البصرة‪ .‬وأما كوهنا مخسة‪ ،‬فالربعة املتقد ذكرها‬ ‫ومصحف لهل مكة‪ .‬وأما كوهنا ستة فاخلمسة املتقدمة‪ ،‬والسادس اختلف فيه‪،‬‬ ‫فقيل‪ :‬جعله خاصاً لنفسه‪ ،‬وقيل‪ :‬أرسله إىل البحرين‪ .‬وأما كوهنا سبعة‪ ،‬فالستة‬ ‫املتقد ذكرها‪ ،‬والسابع أرسله إىل اليمن‪ .‬وأما كوهنا مثانية‪ ،‬فالسبعة املتقد ذكرها‪،‬‬ ‫والثامن كان لعثمان يقرأ فيه‪ ،‬وهو الذي قُتِ َل وهو بني يديه(‪.)1‬‬ ‫الناس إىل قراءاته مبا ُيتمله‬ ‫وبعث رضي هللا عنه مع كل مصحف َم ْن ُ‬ ‫يرشد َ‬

‫رمسه من القراءات ْما صح وتواتر‪ ،‬فكان عبد هللا بن السائب مع املصحف املكي‪،‬‬

‫السلمي مع املصحف‬ ‫واملغرية بن شهاب مع املصحف الشامي‪ ،‬وأبو عبد الرْحن ُّ‬ ‫الكويف‪ ،‬وعامر بن قيس مع املصحف البصري‪ ،‬وأمر زيد بن اثبت أن يقرأئ الناس‬ ‫ابملدين(‪.)2‬‬ ‫من هذا االستعراض يتضح أن حفظ القرآن الكرمي قد مت بطريقة مل ُيظ هبا كتاب‬ ‫اخر يف َتريخ البشرية كلها‪ ،‬وذلك لن هللا تعاىل هو الذي تعهد حبفظه قائالً‪﴿ :‬إِ َان‬ ‫(‪ )1‬أضواء البيان يف َتريخ القران‪ ،‬صابر حسن ص(‪.)77‬‬ ‫(‪ )2‬املصدر نفسه ص ‪ ،78‬عثمان بن عفان‪ ،‬للمؤلف ص(‪.)256‬‬

‫‪177‬‬


‫َحنن نَ​َزلْنا ِ‬ ‫الذ ْكَر َوإِ َان لَهُ َِلَافِظُو َن ﴾ ‪.]9‬‬ ‫ُْ َ‬

‫فوفق هللا سبحانه نفراً من عباده الصاِلني ليقوموا هبذا الدور العظيم؛ يف ظل من‬ ‫الرعاية اإلهلية اليت حفظت لنا القرآن حفظاً كامالً‪ ،‬حرفاً حرفاً‪ ،‬وكلمة كلمة‪ ،‬واية‬ ‫اية‪ ،‬وسورة سورة‪ ،‬يف نفس لغة الوحي «اللغة العربية» على مدى يزيد على أربعة‬ ‫عشر قرانً‪ ،‬وتعهد ربنا تبارك وتعاىل هبذا اِلفظ تعهداً مطلقاً؛ حىت يبقى القرآن‬ ‫العظيم شاهداً على اخللق أمجعني أبنه كال رب العاملني(‪.)1‬‬

‫سادساً ـ الفرق بني مجع الصديق‪ ،‬ومجع عثمان رضي هللا عنهما‪:‬‬ ‫الفرق بني َمجْع أيب بكر ومجع عثمان‪ :‬أ َن مجع أيب بكر كان خلشيته أن يذهب شيء‬

‫من القرآن بذهاب ْحلته‪ ،‬لنه مل يكن جمموعاً يف موضع واحد‪ ،‬فجمعه يف صحائف‬ ‫مرتب اآلَيت على ما وقفهم عليه النيب صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬

‫ومجع عثمان كان ملا كثُر االختالف يف وجوه القراءة حىت قرؤوه بلغاِتم على اتساع‬ ‫ُ‬ ‫اللغات‪ ،‬فأدى ذلك إىل ختطئة بعضهم بعضاً‪ ،‬فخشي من تفاقم المر يف ذلك‪،‬‬ ‫فنسخ تلك الصحف يف مصحف واحد مرتب اآلَيت والسور‪ ،‬واقتصر من سائر‬ ‫اللغات على لغة قريش‪ ،‬حمتجاً أبنه نزل بلغتهم‪ ،‬وإن كان قد وسع يف قراءته بلغة‬ ‫غريهم دفعاً للحرج واملشقة يف ابتداء المر‪ ،‬فرأى أ َن اِلاجة قد انتهت‪ ،‬فاقتصر‬ ‫على لغة واحدة(‪.)2‬‬ ‫***‬

‫(‪ )1‬مدخل إىل دراسة اإلعجاز العلمي ص (‪.)71 70‬‬ ‫(‪ )2‬عثمان بن عفان‪ ،‬للمؤلف ص(‪.)253‬‬

‫‪178‬‬


‫الباب الثاين ‪ :‬اإلميان ابلكتب السماوية‬ ‫الفصل األول‪ :‬أمهية اإلميان ابلكتب السماوية‪.‬‬ ‫الفصل الثاين‪ :‬وجوب اإلميان ابلكتب السماوية‪.‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬الكتب اليت ورد ذكرها يف القرآن الكرمي‪.‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬حتريف الكتب السابقة‪.‬‬ ‫الفصل اخلامس‪ :‬القرآن الكرمي نسخ الكتب السابقة كلها‪.‬‬

‫‪179‬‬


‫الفصل األول ‪ :‬أمهية اإلميان ابلكتب السماوية‬ ‫‪ 1‬ـ اإلميان ابلكتب السابقة ركن من أركان اإلميان‪ ،‬ال يتم اإلميان إال به‪.‬‬ ‫جامع‬ ‫‪ 2‬ـ اإلميان ابلكتب السابقة يؤّكد وحدة الرساالت اإلهلية‪ ،‬وأن اإلسال‬ ‫ٌ‬ ‫ِ‬ ‫لكل الدَيانت السماوية‪ ،‬واملسلمون أوىل الناس مجيعاً بقيادة البشرية على هنج‬ ‫اإلسال ‪ ،‬فاملؤمن‬ ‫يعتقد أن أي طائفة من أهل الكتاب ميلكون أساساً وأصالً‬ ‫ُ‬ ‫جيعل أهل الكتاب قريبني من اإلسال واملسلمني لو أنصفوا‪ ،‬قال‬ ‫لدينهم‪ ،‬وهذا ْما ُ‬ ‫ِ‬ ‫تعاىل‪﴿ :‬شرع لَ ُكم ِمن ِ‬ ‫الدي ِن ما و َ ِ​ِ‬ ‫صْي نَا بِ​ِه‬ ‫ك َوَما َو َ‬ ‫وحا َوالَذي أ َْو َحْي نَا إِلَْي َ‬ ‫صى به نُ ً‬ ‫َ َ‬ ‫َ​َ َ ْ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ​ِ‬ ‫إِب ر ِاهيم وموسى وعِ‬ ‫ني َما‬ ‫ين َوالَ تَتَ َفَرقُوا فيه َك َُرب َعلَى الْ ُم ْش ِرك َ‬ ‫يسى أَ ْن أَق ُ‬ ‫يموا الد َ‬ ‫َْ َ َ ُ َ َ َ‬ ‫ِ ِ​ِ ِ‬ ‫ِ​ِ‬ ‫يب ﴾ [الشورى‪.]13 :‬‬ ‫وه ْم إِلَْي ِه َ‬ ‫تَ ْدعُ ُ‬ ‫اّللُ َْجيتَِيب إلَْيه َم ْن يَ َشاءُ َويَ ْهدي إلَْيه َم ْن يُن ُ‬ ‫‪ 3‬ـ اإلميان ابلكتب اإلهلية جزءٌ من اإلميان ابلقرآن‪ ،‬وجزءٌ من اإلميان أب َن هللا‬ ‫سبحانه هو اهلادي‪ ،‬وأ َن هداية هللا مل تنقطع عن البشر‪ ،‬فما ِمن ٍ‬ ‫أمة إال وقد أنزل هللا‬ ‫ْ‬ ‫هدى‪ ،‬قال تعاىل‪َ ﴿ :‬وإِ ْن ِم ْن أَُم ٍة إِالَ َخالَ فِ َيها نَ ِذ ٌير ﴾ [فاطر‪.]24 :‬‬ ‫هبا ً‬

‫كل ما سبقه من كتب‪ ،‬وهو سليم‬ ‫‪ 4‬ـ املسلم يؤمن أ ّن القرآن قد اشتمل على ّ‬ ‫من أي حتريف‪ ،‬فالقرآن يصدق ابلكتب السابقة‪ ،‬وهو املرجع الوحيد لبيان ما فيها‬ ‫من حق‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬وأَنْزلْنا إِلَيك الْكِتاب ِاب ِْل ِق م ِ ِ‬ ‫ني ي َديِْه ِمن الْ ِكتَ ِ‬ ‫اب‬ ‫َ َ​َ ْ َ َ َ َ ُ َ‬ ‫صدقًا ل َما بَْ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َوُم َهْي ِمناً َعلَْي ِه﴾ [املائدة‪.]48 :‬‬ ‫‪ 5‬ـ اإلميان ابلكتب السابقة ينمي لدى املسلم الشعور بوحدة البشرية‪ ،‬ووحدة‬

‫دينها‪ ،‬ووحدة رسلها‪ ،‬ووحدة مصدرها‪ ،‬وأن المة اإلسالمية ورثت العقائد السماوية‬ ‫ووحدة النبوات منذ فجر البشرية‪ ،‬واحملافظة على تراث العقيدة‪ ،‬وتراث النبوة‪ ،‬ورائدة‬ ‫‪180‬‬


‫موكب اإلميان على الرض إىل آخر الزمان‪.‬‬ ‫‪ 6‬ـ اإلميان ابلكتب السابقة‪ ،‬ينقي روح املؤمن من التعصب الذميم ضد‬ ‫الدَيانت‪ ،‬وضد املؤمنني ابلدَيانت‪ ،‬ما داموا على الطريق الصحيح(‪.)1‬‬ ‫واملوقف الذي ينبغي أن يتخذه املسلم من تلك الكتب «التوراة واإلجنيل»‪ ،‬أن يؤمن‬ ‫ورد خمالفاً أصول القرآن العامة فال يؤمن‬ ‫مبا ورد فيها ْما قرره القرآن الكرمي‪ ،‬أما ما َ‬

‫يعتقد يف بطالنه‪ ،‬أما ماعدا ذلك من القصص واملواعظ اليت مل يذكرها‬ ‫به‪ ،‬بل ُ‬

‫القرآن‪ ،‬وال تناقض أصوله فال يصدقها وال يكذهبا‪ ،‬وذلك اتباعاً ملا ورد عن النيب‬ ‫صلى هللا عليه وسلم‪« :‬إذا حدثكم أهل الكتاب فال تصدقوهم وال تكذبوهم‪ ،‬وقولوا‬ ‫امنا ابهلل وكتبه ورسله‪ ،‬فإن كان حقاً مل تكذبوهم‪ ،‬وإن كان ابطالً مل تصدقوهم»(‪.)2‬‬ ‫فأخبار أهل الكتاب على ثالثة أقسام‪:‬‬ ‫األول‪ :‬ما علمنا صحته‪ ،‬وشهد له ابلصدق ما أبيدينا من الوحي؛ فذاك صحيح‪.‬‬ ‫الثاين‪ :‬ما علمنا كذبه‪ ،‬ودل على كذبه خمالفته ملا لدينا من الوحي‪.‬‬ ‫نؤمن به‬ ‫الثالث‪ :‬ما هو مسكوت عنه‪ ،‬ال من هذا القبيل‪ ،‬وال من هذا القبيل‪ ،‬فال ُ‬ ‫النيب صلى هللا عليه‬ ‫وال نكذبه‪ُ ،‬‬ ‫وجتوز حكايته ملا أخرج البخاري يف «صحيحه» أن َ‬

‫وسلم قال‪« :‬بلغوا عين ولو اية‪ ،‬وحدثوا عن بين إسرائيل وال حرج‪ ،‬ومن كذب علي‬ ‫متعمداً فليتبوأ مقعده من النار»(‪.)3‬‬ ‫***‬

‫(‪ )1‬العقيدة اإلسالمية‪ ،‬د‪ .‬أْحد جلي ص (‪.)211‬‬ ‫(‪ )2‬البخاري رقم (‪ ،)4485‬وأْحد رقم (‪.)17225‬‬ ‫(‪ )3‬البخاري رقم (‪.)3461‬‬

‫‪181‬‬


‫الفصل الثاين ‪ :‬وجوب اإلميان ابلكتب السماوية‬ ‫جييء ذكر اإلميان ابلكتب السماوية يف القرآن يف صيغة المر َترة‪ ،‬وصفة للمؤمنني‬ ‫َترة أخرى‪ ،‬كما جييءُ عد اإلميان ابلكتب املنزلة أو اإلميان ببعضها دون البعض‬ ‫اآلخر عالمة على الكفر َترة اثلثة‪.‬‬ ‫‪ 1‬فمن أمثلة المر قوله تعاىل‪﴿ :‬قُولُوا َآمنَا ِاب َّللِ َوَما أُنْ ِزَل إِلَْي نَا َوَما أُنْ ِزَل إِ َىل إِبْ َرا ِه َيم‬ ‫اق وي ع ُقوب والَسب ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫اع ِ‬ ‫وسى َو ِعْيسى َوَما أ ِ‬ ‫اط َوَما أ ِ‬ ‫ُويتَ النَبِيُّو َن ِم ْن‬ ‫يل َوإ ْس َح َ َ َ ْ َ َ ْ َ‬ ‫ُويتَ ُم َ‬ ‫َ‬ ‫َوإ ْمسَ َ‬ ‫ِ​ِ‬ ‫َح ٍد ِمْن ُه ْم َوَْحن ُن لَهُ ُم ْسلِ ُمو َن ﴾ [البقرة‪.]136 :‬‬ ‫َرهب ْم الَ نُ َف ِر ُق بَْ َ‬ ‫ني أ َ‬ ‫ِ‬ ‫‪ 2‬كما جاء يف صيغة مشاهبة له يف سورة [آل عمران‪ ]48 :‬قال تعاىل‪َ ﴿ :‬ويُ َعل ُمهُ‬ ‫اِلِ ْكمةَ والتَوراةَ وا ِإل ِْ‬ ‫الْ ِ‬ ‫يل ﴾‬ ‫جن‬ ‫و‬ ‫اب‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ َْ َ َ‬ ‫‪ 3‬وقد أييت المر يف صيغة ٍ‬ ‫جمملة يف مثل قوله يف سورة [النساء‪ ،]136 :‬قال تعاىل‪:‬‬ ‫اب الَ ِذي نَ​َزَل َعلَى رسولِ​ِه والْ ِكتَ ِ‬ ‫﴿َيأَيُّها الَ ِذين آمنُوا ِآمنُوا ِاب َّللِ ورسولِ​ِه والْ ِكتَ ِ‬ ‫اب‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َُ َ‬ ‫َ​َ ُ َ‬ ‫الَ ِذي أَنْ َزَل ِم ْن قَ ْب ُل﴾‬ ‫‪ 4‬أما وصف املؤمنني أبهنم هم الذين يؤمنون ابلكتب املنزلة كلها فيجيء يف مثل‬ ‫هذه الصيغة‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬امل ۝ ذَلِك الْ ِكتاب الَ ريب فِ ِيه ه َد ِ ِ‬ ‫ني ۝‬ ‫ى ل ْل ُمتَق َ‬ ‫ُ ً‬ ‫َ َ ُ َْ َ‬ ‫ب وي ِقيمو َن ال َ ِ‬ ‫َِ‬ ‫ِ‬ ‫الَ ِذ ِ ِ ِ‬ ‫ين يُ ْؤِمنُو َن ِمبَا‬ ‫صالَ​َة َوْمَا َرَزقْ نَ ُ‬ ‫ين يُ ْؤمنُو َن ابلْغَْي َ ُ ُ‬ ‫اه ْم يُْنف ُقو َن ۝ َوالذ َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ك َوِابآلخرةِ ُه ْم يُوقِنُو َن ﴾ [البقرة‪ 1 :‬ـ ‪.]4‬‬ ‫ك َوَما أُنْ ِزَل ِم ْن قَ ْبل َ‬ ‫أُنْ ِزَل إِلَْي َ‬ ‫‪ 5‬أما وصف الذين ال يؤمنون ابلكتب كلها‪ ،‬أو الذين يؤمنون ببعضها‪ ،‬ويكفرون‬ ‫ببعض أبهنم كفار‪ ،‬فيجيء يف مثل قوله تعاىل‪َ ﴿ :‬وَم ْن يَ ْك ُفْر ِاب َّللِ َوَمالَئِ َكتِ ِه َوُكتُبِ ِه‬ ‫ِ​ِ ِ‬ ‫يدا ﴾ [البقرة‪.]136 :‬‬ ‫ضالَالً بَعِ ً‬ ‫ض َل َ‬ ‫َوُر ُسله َوالْيَ ْو اآلخر فَ َق ْد َ‬ ‫‪182‬‬


‫اّللُ بَ ْغيًا أَ ْن يُنَ ِزَل َ‬ ‫‪ 6‬وقال تعاىل‪﴿ :‬بِْئ َس َما ا ْش َ​َرتْوا بِ​ِه أَنْ ُف َس ُه ْم أَ ْن يَ ْك ُفُروا ِمبَا أَنْ َزَل َ‬ ‫اّللُ‬ ‫ب ولِْل َكافِ‬ ‫ِ‬ ‫ضلِ ِه َعلَى من ي َشاء ِمن ِعب ِادهِ فَباءوا بِ‬ ‫ضٍ‬ ‫ضٍ‬ ‫ِ‬ ‫اب﴾‬ ‫ر‬ ‫غ‬ ‫ى‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫ب‬ ‫غ‬ ‫ف‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ين َع َذ ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫﴿م ِهني ۝ وإِ َذا قِ‬ ‫اّللُ قَالُوا نُ ْؤِم ُن ِمبَا أُنْ ِزَل َعلَْي نَا َويَ ْك ُفُرو َن ِمبَا‬ ‫يل َهلُْم ِآمنُوا ِمبَا أَنْ َزَل َ‬ ‫ُ ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫اّللِ ِم ْن قَ ْب ُل إِ ْن ُكْن تُ ْم‬ ‫َوَراءَهُ َوُه َو ْ‬ ‫ص ِدقًا لِ َما َم َع ُه ْم قُ ْل فَلِ َم تَ ْقتُلُو َن أَنْبِيَاءَ َ‬ ‫اِلَ ُّق ُم َ‬ ‫ِ​ِ‬ ‫ني﴾[البقرة‪ 90 :‬ـ ‪.]91‬‬ ‫ُم ْؤمن َ‬ ‫ومفهو هذه اآلَيت وأمثاهلا‪ ،‬سواء كانت أمراً مباشراً‪ ،‬أو وصفاً للمؤمنني‪ ،‬أو وصفاً‬ ‫يتم إميا ُن املرء إال‬ ‫اجب‪ ،‬ال ُّ‬ ‫أمر و ٌ‬ ‫للكافرين‪ ،‬هو أ َن اإلميا َن ابلكتب السماوية كلها ٌ‬ ‫به‪.‬‬ ‫وذلك أمر بديهي ابلنسبة للمؤمن‪ ،‬فما دا يؤمن ابهلل‪ ،‬وص ْد ِق ما نزل من عنده من‬

‫الوحي‪ ،‬وما دا هللا ُيربه يف كتابه الكرمي أنه قد أَنزل كتباً سابقة على النبياء‬ ‫يؤمن هبذه الكتب املنزلة‪ ،‬ويعتقد يقيناً أهنا منزلة من عند هللا‪،‬‬ ‫اجب أن َ‬ ‫والرسل‪ ،‬فالو ُ‬ ‫ولو شك يف هذه اِلقيقة‪ ،‬أو كذب هبا فلن يكو َن مؤمناً على اإلطالق‪ ،‬وكيف‬ ‫يكون مؤمناً ابهلل حقاً‪ ،‬وهو يكذب خرباً اتياً إليه من هللا‪ ،‬كذلك لو قال‪ :‬إنه يؤمن‬ ‫ببعض الكتب أهنا منزلة من عند هللا حقاً‪ ،‬ويشك ويكذب أن غريها من الكتب‬ ‫منزل من عند هللا‪ ،‬فهل يكون مؤمناً ابهلل ولو زعم ذلك؟‬ ‫إن من بني دعائم اإلميان‪ :‬التصديق‪ ،‬فكيف يوجد اإلميان إذا ك َذب اإلنسان حرفاً‬ ‫واحداً ْما أخربه هللا به؟ وما قيمةُ دعواه أنه مؤمن ابهلل‪ ،‬أو مؤمن ببعض الكتب اليت‬ ‫أنزهلا هللا؟ إهنا دعوة مردودة على صاحبها؛ لن الدليل العملي يكذهبا‪ .‬مث إن‬ ‫الكتب السماوية كلها حتتوي على حقيقة واحدة‪ ،‬وهي المر بعبادة هللا وحده‪.‬‬ ‫ولقد اختلفت الكتب املنزلة يف اللغات اليت نزلت هبا‪ ،‬لن هللا يقول‪َ ﴿ :‬وَما أ َْر َس ْلنَا‬ ‫ِ‬ ‫ان قَوِم ِه لِي بِني َهلم فَي ِ‬ ‫ٍ ِ ِ​ِ ِ‬ ‫اّللُ َم ْن يَ َشاءُ َويَ ْه ِدي َم ْن يَ َشاءُ َوُه َو‬ ‫ض ُّل َ‬ ‫م ْن َر ُسول إالَ بل َس ْ َُ َ ُْ ُ‬ ‫‪183‬‬


‫اِلَ ِك ُيم ﴾[إبراهيم‪.]4 :‬‬ ‫الْ َع ِز ُيز ْ‬

‫الكتب نزلَت على أقوا خمتلفني‪ ،‬فاختلفت من َمث لغاِتم‪ ،‬كذلك اختلفت‬ ‫وهذه‬ ‫ُ‬ ‫هذه الكتب فيما حتتويه من شرائع خمتلفة لألقوا املختلفة‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬لِ ُك ٍل َج َع ْلنَا‬ ‫اّلل َجلعلَ ُكم أَُمةً و ِ‬ ‫ِمْن ُكم ِشرعةً وِ‬ ‫آَت ُك ْم﴾‬ ‫اء‬ ‫ش‬ ‫و‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫ا‬ ‫اج‬ ‫ه‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫اح َدةً َولَ ِك ْن لِيَ ْب لَُوُك ْم ِيف َما َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َْ َ ُ‬ ‫ْ َ‬ ‫ْ َْ َ‬ ‫[املائدة‪.]48 :‬‬ ‫ولكن القضيةَ الصليةَ يف هذه ضشالكتب كلها واحدةٌ مل تتغري‪َ ﴿ ،‬وَما أ َْر َس ْلنَا ِم ْن‬ ‫ٍ ِ ِ ِ​ِ‬ ‫قَبلِ َ ِ‬ ‫اعب ُد ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ون ﴾[األنبياء‪.]25 :‬‬ ‫ْ‬ ‫ك م ْن َر ُسول إالَ نُوحي إلَْيه أَنَهُ الَ إلَهَ إالَ أ َ​َان فَ ْ ُ‬ ‫اجتَنِبُوا‬ ‫وقال تعاىل‪َ ﴿ :‬ولَ​َق ْد بَ َعثْ نَا ِيف ُك ِل أَُم ٍة َر ُسوالً أ َِن ْاعبُ ُدوا َ‬ ‫اّللَ َو ْ‬ ‫وت﴾[النحل‪.]36 :‬‬ ‫الطَاغُ َ‬ ‫ِ‬ ‫وقال تعاىل‪﴿ :‬شرع لَ ُكم ِمن ِ‬ ‫الدي ِن ما و َ ِ​ِ‬ ‫صْي نَا‬ ‫ك َوَما َو َ‬ ‫وحا َوالَذي أ َْو َحْي نَا إِلَْي َ‬ ‫صى به نُ ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ​َ َ ْ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ​ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ين َوالَ تَتَ َفَرقُوا فِ ِيه﴾[الشورى‪.]13 :‬‬ ‫به إبْ َراه َيم َوُم َ‬ ‫يسى أَ ْن أَق ُ‬ ‫يموا الد َ‬ ‫وسى َوع َ‬ ‫كذلك نزلت الكتب كلُّها لتنذر الناس بيو اِلساب‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬رفِيع الدَرج ِ‬ ‫ات‬ ‫َ ُ َ​َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ِ ِ ِ​ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫الر ِ‬ ‫ِ‬ ‫وح م ْن أ َْم ِرهِ َعلَى َم ْن يَ َشاءُ م ْن عبَاده ليُ ْنذ َر يَ ْوَ التَالَق ۝ يَ ْوَ‬ ‫ذُو الْ َعْر ِش يُْلقي ُّ َ‬ ‫اّللِ ِمْن هم شيء لِ‬ ‫ك الْي و َِّللِ الْو ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اح ِد الْ َق َها ِر ۝‬ ‫ل‬ ‫م‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُه ْم َابرُزو َن الَ َُيْ َفى َعلَى َ ُ ْ َ ْ ٌ َ ُ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ك الْي و َِّللِ الْو ِ‬ ‫يو هم اب ِرزو َن الَ َُيْ َفى علَى َِ ِ‬ ‫اح ِد الْ َق َها ِر‬ ‫ُْ َ ُ‬ ‫َ‬ ‫اّلل مْن ُه ْم َش ْيءٌ ل َم ِن الْ ُم ْل ُ َ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫سِ‬ ‫اِلِس ِ‬ ‫ت الَ ظُلْم الْي وَ إِ‬ ‫اّللَ َس ِ‬ ‫۝ الْيَ ْوَ ُْجتَزى ُك ُّل نَ ْف ٍ‬ ‫َ‬ ‫اب ﴾‬ ‫يع‬ ‫ر‬ ‫ن‬ ‫ب‬ ‫س‬ ‫ك‬ ‫ا‬ ‫مب‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫[غافر‪.]17-15 :‬‬ ‫المر كذلك‪ ،‬فاإلميا ُن ابلكتب كلها هو كاإلميان ابلكتاب الواحد سواء‪،‬‬ ‫وما دا‬ ‫ُ‬ ‫والقضية عند املؤمن واضحة‪ ،‬وال حتتاج إىل جدال‪ ،‬إمنا اجلدال قد جاء يف اِلقيقة‬ ‫من أهل الكتاب؛ لهنم رفضوا أن يؤمنوا أبن القرآن منزل من عند هللا‪ ،‬وحساب‬ ‫هؤالء على هللا(‪ ،)1‬كما أن أسالفهم قد حَرفوا الكتب السماوية «التوراة واإلجنيل»‪.‬‬ ‫(‪ )1‬ركائز اإلميان‪ ،‬ص (‪.)194‬‬

‫‪184‬‬


‫الفصل الثالث ‪ :‬الكتب اليت ورد ذكرها يف القرآن الكرمي‬ ‫من الكتب اليت أنزلت على الرسل السابقني ما مساه هللا تعاىل لنا يف القرآن الكرمي‪،‬‬ ‫ومنها ما مل ِ‬ ‫ِ‬ ‫الكتب اليت ورد ذكرها يف القرآن الكرمي‪:‬‬ ‫يسمه لنا‪ ،‬فمن‬ ‫‪ 1‬ـ الصحف‪:‬‬

‫ِ​ِ‬ ‫الصح ِ‬ ‫ُوىل﴾‬ ‫ف ال َ‬ ‫وكل الذي جاء يف القرآن عنها قوله تعاىل‪﴿ :‬أ َ​َوَملْ َأتِْت ْم بَيِنَةُ َما ِيف ُّ ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وسى ۝ َوإِبْ َر ِاه َيم الَ ِذي َو َ​َف‬ ‫[طه‪ ]133 :‬وقوله تعاىل‪﴿ :‬أَ ْ َملْ يُنَ بَأْ مبَا ِيف ُ‬ ‫ص ُحف ُم َ‬ ‫۝ أَالَ تَ ِزر وا ِزرةٌ ِوزر أُخرى ۝ وأَ ْن لَي ِ‬ ‫ِ‬ ‫س ل ِإلنْ َسان إِالَ َما َس َعى ۝ وأَ َن َس ْعيَهُ‬ ‫ُ َ َ َْ ْ َ‬ ‫َ ْ َ‬

‫ك الْ ُمْن تَ َهى‬ ‫ف يَُرى ۝ مثَُ ُْجيَزاهُ ْ‬ ‫َس ْو َ‬ ‫اجلَ​َزاءَ ال َْو َ​َف ۝ َوأَ َن إِ َىل َربِ َ‬ ‫ِ‬ ‫صلَى ۝ بَ ْل تُ ْؤثُِرو َن ْ‬ ‫اِلَيَاةَ‬ ‫وقوله تعاىل‪﴿ :‬قَ ْد أَفْ لَ َح َم ْن تَ​َزَكى ۝ َوذَ َكَر ْ‬ ‫اس َم َربِه فَ َ‬ ‫ِ‬ ‫ُوىل ۝ صح ِ‬ ‫الصح ِ‬ ‫ِ‬ ‫ف‬ ‫ف ال َ‬ ‫ُ​ُ‬ ‫الدُّنْيَا ۝ َواآلخرةُ َخ ْريٌ َوأَبْ َقى ۝ إ َن َه َذا لَفي ُّ ُ‬ ‫ِ ِ‬ ‫وسى﴾ [األعلى‪ 14 :‬ـ ‪.]19‬‬ ‫إبْ َراه َيم َوُم َ‬ ‫‪ 2‬ـ التوراة‪:‬‬ ‫﴾[النجم‪ 36 :‬ـ ‪]42‬‬

‫ذكر القرآن الكرمي التوراة (‪ )18‬مرة‪ ،‬وهو الكتاب الذي أنزله هللا سبحانه‬

‫ِّ‬ ‫تستطيع‬ ‫حديث القرآن عن التوراة‬ ‫وتعاىل على موسى عليه السالم‪ ،‬وخالصة‬ ‫ُ‬ ‫إمجاله يف االيت‪:‬‬ ‫وذكر‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬إِ َان‬ ‫أ وصف القرآن التوراة أبهنا ً‬ ‫هدى ونور وفرقان‪ ،‬وضياءٌ ٌ‬ ‫أَنْزلْنا التَورا َة فِ‬ ‫وسى َوَه ُارو َن‬ ‫م‬ ‫ا‬ ‫ن‬ ‫ي‬ ‫آت‬ ‫د‬ ‫ق‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫﴿‬ ‫تعاىل‪:‬‬ ‫وقال‬ ‫]‬ ‫‪44‬‬ ‫[املائدة‪:‬‬ ‫﴾‬ ‫ور‬ ‫ن‬ ‫و‬ ‫دى‬ ‫ه‬ ‫ا‬ ‫يه‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ًَ ٌ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َْ‬ ‫ِ ِ ِ ِ‬ ‫ني ﴾ [األنبياء‪.]48 :‬‬ ‫الْ ُفْرقَا َن َوضيَاءً َوذ ْكًرا ل ْل ُمتَق َ‬ ‫ِ‬ ‫اب َ​َتَ ًاما‬ ‫وسى الْكتَ َ‬ ‫ب إن التوراة كتاب شامل لكل شيء‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬مثَُ آتَْي نَا ُم َ‬ ‫‪185‬‬


‫ٍ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫دى َوَر ْ​ْحَةً﴾ [األنعام‪.]154 :‬‬ ‫َعلَى الَذي أ ْ‬ ‫َح َس َن َوتَ ْفصيالً ل ُك ِل َش ْيء َوُه ً‬

‫وحتدث القرآن الكرمي عن ألواح موسى عليه السال ‪ ،‬وقد وردت يف ثالثة مواضع‪،‬‬ ‫فقال تعاىل‪﴿ :‬وَكتَ ب نَا لَه ِيف الَلْو ِاح ِمن ُك ِل َشي ٍء مو ِعظَةً وتَ ْف ِ‬ ‫صيالً لِ ُك ِل﴾‬ ‫َ ْ ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ َْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ال بِْئ َس َما‬ ‫ضبَا َن أ َِس ًفا قَ َ‬ ‫وسى إِ َىل قَ ْوِم ِه َغ ْ‬ ‫[األعراف‪ ]145 :‬وقال تعاىل‪َ ﴿ :‬ولَ َما َر َج َع ُم َ‬ ‫خلَ ْفتُم ِوين ِمن ب ع ِدي أَع ِج ْلتُم أَمر وأَلْ َقى الَلْواح وأَخ َذ بِرأْ ِس أ ِ‬ ‫َخ ِيه َجيُ​ُّرهُ إِلَْي ِه﴾‬ ‫ْ َْ‬ ‫َ ْ َْ َ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ​َ َ َ َ‬ ‫اح َوِيف‬ ‫وسى الْغَ َ‬ ‫[األعراف‪ ]150 :‬وقال تعاىل‪َ ﴿ :‬ولَ َما َس َك َ‬ ‫ب أَ‬ ‫ت َع ْن ُم َ‬ ‫َخ َذ الَلْ َو َ‬ ‫ضُ‬ ‫نُسختِها هدى ور ْ​ْحةٌ لِلَ ِ‬ ‫ين ُه ْم لَِرهبِ​ِ ْم يَْرَهبُو َن ﴾ [األعراف‪.]154 :‬‬ ‫ذ‬ ‫ْ َ َ ُ ً َ​َ َ‬ ‫َ‬ ‫ج إن الرساالت اليت جاءت بعدها مصدقة هلا‪ ،‬فلقد قال هللا تعاىل عن عيسى‬ ‫عليه السال ‪﴿ :‬وقَ َفي نا علَى آ َاث ِرِهم بِعِيسى اب ِن مرمي م ِ ِ‬ ‫ني يَ َديِْه ِم َن‬ ‫َ َْ َ‬ ‫صدقًا ل َما بَْ َ‬ ‫ْ َ ْ َ ْ َ​َ ُ َ‬ ‫ِ‬ ‫وسى‬ ‫الت َْوَراة﴾ [املائدة‪ ]46 :‬وقال عن حممد صلى هللا عليه وسلم‪َ ﴿ :‬ولَ​َق ْد آتَْي نَا ُم َ‬ ‫الْ ِكتَاب وقَ َفي نَا ِمن ب ع ِدهِ ِاب ُّلرس ِل وآتَي نَا ِعيسى ابن مرَمي الْب يِنَ ِ‬ ‫وح الْ ُق ُد ِس‬ ‫ات َوأَيَ ْد َانهُ بُِر ِ‬ ‫َ َ ْ ْ َْ‬ ‫ُ ْ‬ ‫َ ْ َ َْ َ َ‬ ‫أَفَ ُكلَما جاء ُكم رس ٌ ِ‬ ‫استَ ْك َْربُْمت فَ َف ِري ًقا َك َذبْتُ ْم َوفَ ِري ًقا تَ ْقتُلُو َن‬ ‫ول مبَا الَ َِتَْوى أَنْ ُف ُس ُك ُم ْ‬ ‫َ َ َ ْ َُ‬ ‫اّللُ بِ ُك ْف ِرِه ْم فَ َقلِيالً َما يُ ْؤِمنُو َن ۝ لَ َعنَ ُه ُم َ‬ ‫ف بَ ْل لَ َعنَ ُه ُم َ‬ ‫۝ َوقَالُوا قُلُوبُنَا غُْل ٌ‬ ‫اّللُ‬ ‫اّللِ‬ ‫بِ ُك ْف ِرِهم فَ َقلِيالً ما ي ؤِمنو َن ۝ ولَ َما جاءهم كِتاب ِمن ِعْن ِ‬ ‫ص ِد ٌق لِ َما َم َع ُه ْم‬ ‫م‬ ‫د‬ ‫َ‬ ‫َ ُْ ُ‬ ‫َُ‬ ‫َ َ َُ ْ َ ٌ ْ‬ ‫ْ‬ ‫اّللِ‬ ‫َِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ين َك َفُروا فَلَ َما َجاءَ ُه ْم َما َعَرفُوا َك َفُروا بِ​ِه فَلَ ْعنَةُ َ‬ ‫َوَكانُوا م ْن قَ ْب ُل يَ ْستَ ْفت ُحو َن َعلَى الذ َ‬ ‫ِ‬ ‫ين ﴾[البقرة‪ 87 :‬ـ ‪.]89‬‬ ‫َعلَى الْ َكاف ِر َ‬

‫د إن القرآن حتدث عن بعض الذي جاء يف التوراة‪ ،‬ولنأخذ هذين املثالني‪:‬‬ ‫ني ِابلْ َع ْ ِ‬ ‫الول‪ :‬قوله تعاىل‪َ ﴿ :‬وَكتَ ْب نَا َعلَْي ِه ْم فِ َيها أَ َن النَ ْفس ِابلنَ ْف ِ‬ ‫ف‬ ‫ني َوالَنْ َ‬ ‫س َوالْ َع ْ َ‬ ‫َ‬ ‫اجلروح قِصاص فَمن تَصد َ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َق بِه فَ ُه َو َك َف َارةٌ لَهُ‬ ‫ِابلَنْف َوالُذُ َن ِابلُذُن َوالس َن ِابلس ِن َو ُْ​ُ َ َ ٌ َ ْ َ‬ ‫ك ُه ُم الظَالِ ُمو َن ﴾ [املائدة‪.]45 :‬‬ ‫َوَم ْن َملْ َُْي ُك ْم ِمبَا أَنْ َزَل َ‬ ‫اّللُ فَأُولَئِ َ‬ ‫‪186‬‬


‫َِ‬ ‫ول النِ َ ِ ِ ِ‬ ‫واب ِعْن َد ُه ْم‬ ‫ين يَتَبِعُو َن الَر ُس َ‬ ‫َيب الُم َي الَذي َجي ُدونَهُ َم ْكتُ ً‬ ‫الثاين‪ :‬قوله تعاىل‪﴿ :‬الذ َ‬ ‫ِيف الت َْوَراةِ َوا ِإل ِْجن ِيل﴾ [األعراف‪.)1(]157 :‬‬ ‫ه ذكر القرآن الذين كلفوا حبمل أمانة«التوراة» منهم من ْحلها أبمانة‪ ،‬ومنهم من مل‬ ‫ُيملها‪ ،‬فقال تعاىل عن الصاِلني منهم‪﴿ :‬وِمن قَوِ‬ ‫وسى أَُمةٌ يَ ْه ُدو َن ِاب ِْلَِق َوبِ​ِه‬ ‫م‬ ‫َ ْ ْ ُ َ‬ ‫يَ ْع ِدلُو َن ﴾ [األعراف‪.]159 :‬‬ ‫ِ‬ ‫وقال عن املفسدين منهم‪ ( :‬مثَل الَ ِذ ِ‬ ‫اِلِ َما ِر‬ ‫وها َك َمثَ ِل ْ‬ ‫ين ُْحلُوا التَ ْوَراةَ مثَُ َملْ َُْيملُ َ‬ ‫َ ُ َ‬ ‫ِ‬ ‫َُي ِمل أَس َفارا بِْئس مثَل الْ َقوِ الَ ِذين َك َذبوا ِ​ِبَي ِ‬ ‫ِ​ِ‬ ‫ني﴾‬ ‫اّللِ َو َ‬ ‫ت َ‬ ‫اّللُ الَ يَ ْهدي الْ َق ْوَ الظَالم َ‬ ‫َ ُ َ‬ ‫ْ ُ ْ ً َ َ ُ ْ‬

‫ث عن ْحلة‬ ‫[اجلمعة‪ ]5 :‬لكن هؤالء أصبحوا هم الكثرة الغالبة‪ ،‬فأخذ القرآن ال يتحد ُ‬ ‫التوراة «بين إسرائيل» إال ويعمهم ابخليانة ونقض امليثاق‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬فَبِما نَ ْق ِ‬ ‫ض ِه ْم‬ ‫َ‬ ‫وهبم قَ ِ‬ ‫ِ‬ ‫اسيَةً﴾ [املائدة‪]13 :‬‬ ‫ميثَاقَ ُه ْم لَ َعن ُ‬ ‫َاه ْم َو َج َع ْلنَا قُلُ َُْ‬ ‫ضْي نَا إِ َىل ب ِين إِ ْسرائِيل ِيف الْ ِكتَ ِ‬ ‫ض َمَرتَ ْ ِ‬ ‫اب لَتُ ْف ِس ُد َن ِيف ال َْر ِ‬ ‫ني َولَتَ ْعلُ َن‬ ‫وقال تعاىل‪َ ﴿ :‬وقَ َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫عُلًُّوا َكبِ ًريا﴾ [اإلسراء‪.]4 :‬‬ ‫و أكد القرآن أن التوراة املوجودة االن بني أيدينا ليست هي التوراة اليت أنزهلا هللا‬

‫على موسى عليه السال وإمنا هي حمرفة من قبل بين إسرائيل الذين خانوا العهد‬ ‫(‪)2‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫اب إِالَ أ َ​َم ِاينَ َوإِ ْن ُه ْم‬ ‫ونقضوا امليثاق قال تعاىل‪َ ﴿ :‬ومْن ُه ْم أُميُّو َن الَ يَ ْعلَ ُمو َن الْكتَ َ‬ ‫اّللِ‬ ‫ِ​ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اب ِأبَيْ ِدي ِه ْم مثَُ يَ ُقولُو َن َه َذا ِم ْن ِعْن ِد َ‬ ‫ين يَ ْكتُبُو َن الْكتَ َ‬ ‫إالَ يَظُنُّو َن ۝ فَ َويْ ٌل للَذ َ‬ ‫لِي ْشرتوا بِ​ِه َمثَناً قَلِيالً فَويل َهلم ِْمَا َكت بت أ ِ‬ ‫َيدي ِ‬ ‫ن ﴾ [البقرة‪:‬‬ ‫و‬ ‫و‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫يل َهلُْم ِْمَا يَ ْك ِسبُو َ‬ ‫َ​َ ْ‬ ‫َ َُ‬ ‫َ ْ ٌ ُْ‬ ‫ْ َ​َ ٌ‬ ‫‪ ]79-78‬وقال تعاىل‪﴿ :‬أَفَتَطْمعو َن أَ ْن ي ْؤِمنُوا لَ ُكم وقَ ْد َكا َن فَ ِر ِ‬ ‫ٌ‬ ‫َُ‬ ‫يق مْن ُه ْم يَ ْس َمعُو َن َكالَ َ‬ ‫ُ‬ ‫َْ‬ ‫(‪ )1‬احملكم يف العقيدة د‪ .‬حممد عياش ص(‪.)183‬‬ ‫(‪ )2‬احملكم يف العقيدة ص(‪.)184‬‬

‫‪187‬‬


‫اّللِ مثَُ ُ​ُيَ ِرفُونَهُ ِم ْن بَ ْع ِد َما َع َقلُوهُ َوُه ْم يَ ْعلَ ُمو َن ﴾ [البقرة‪ ]75 :‬وقال تعاىل‪﴿ :‬فَبِ َما‬ ‫َ‬ ‫ض ِهم ِميثَاقَهم لَعنَاهم وجع ْلنَا قُلُ َ ِ‬ ‫اسيةً ُ​ُي ِرفُو َن الْ َكلِم عن مو ِ‬ ‫ِ‬ ‫اضعِ ِه َونَ ُسوا َحظًّا‬ ‫وهبُْم قَ َ َ‬ ‫ُْ َ ُْ َ َ​َ‬ ‫َ َ ْ َ​َ‬ ‫نَ ْق ْ‬ ‫ِْمَا ذُكُِروا بِ​ِه﴾ [املائدة‪.)1(]13 :‬‬ ‫‪ 3‬ـ اإلجنيل‪:‬‬

‫وذكر القرآن الكرميُ اإلجنيل «‪ »12‬مرة‪ ،‬ويكاد يكون حديث القرآن عن اإلجنيل‬ ‫قريباً عن حديثه عن التوراة‪ ،‬إال يف بعض النقاط‪ ،‬واإلجنيل هو الكتاب الذي أنزله‬ ‫هللا سبحانه وتعاىل على عبده ورسوله عيسى عليه السال ‪.‬‬ ‫أ ـ وصف القرآن اإلجنيل أبنه هدى ونور وموعظة‪:‬‬ ‫قال تعاىل‪﴿ :‬وقَ َفي نَا علَى آ َاث ِرِهم بِعِيسى اب ِن مرَمي مص ِدقًا لِما بني ي َدي ِه ِمن التَوراةِ‬ ‫َ ْ َ‬ ‫ْ َ ْ َ ْ َ ُ َ َ َْ َ َ ْ َ ْ َ‬ ‫وآتَي ناه ا ِإل ِْجنيل فِ ِيه هدى ونُور وم ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫دى َوَم ْو ِعظَةً‬ ‫صدقًا ل َما بَْ َ‬ ‫َ َْ ُ‬ ‫ُ ً َ ٌ َُ َ‬ ‫ني يَ َديْه م َن الت َْوَراة َوُه ً‬ ‫َ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ني ﴾ [املائدة‪.]46 :‬‬ ‫ل ْل ُمتَق َ‬ ‫ب ـ ومما ورد يف القرآن الكرمي‪:‬‬ ‫أن اإلجنيل جاء مكمالً أو معدالً ملا جاء يف التوراة من أحكا ‪ ،‬ومل يصف القرآن‬ ‫اإلجنيل مبا وصف به التوراة من أنه كتاب شامل يفصل كل شيء‪ ،‬بل على العكس‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ٍ‬ ‫نسخ ِ‬ ‫ِلكمة‬ ‫بعض ما ورد يف التوراة من أحكا ‪،‬‬ ‫جاء وكأنه يصفه مبهمة حمدودة هي ُ‬ ‫يعلمها هللا‪ ،‬يقول القرآن على لسان عيسى ﴿ومص ِدقًا لِ‬ ‫ي ِمن التَوراةِ‬ ‫د‬ ‫ي‬ ‫ني‬ ‫ب‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َْ‬ ‫َُ َ َ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ض الَ ِذي ُح ِرَ َعلَْي ُك ْم﴾[آل عمران‪.]50 :‬‬ ‫َولُح َل لَ ُك ْم بَ ْع َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اب‬ ‫وهلذا ربط القرآن بينهما يف مهمة عيسى عليه السال فقال‪َ ﴿ :‬ويُ َعل ُمهُ الْكتَ َ‬ ‫اِلِ ْكمةَ والتَوراةَ وا ِإل ِْ‬ ‫يل ۝ َوَر ُسوالً إِ َىل بَِين إِ ْسَرائيِ َل أَِين قَ ْد ِجْئ تُ ُك ْم ِ​ِبيٍَة ِم ْن َربِ ُك ْم‬ ‫جن‬ ‫َو ْ َ َ ْ َ َ َ‬ ‫(‪ )1‬املصدر نفسه ص(‪.)184‬‬

‫‪188‬‬


‫إبِ​ِ ْذ ِن َِ‬ ‫اّلل َوأُبْ ِرىءُ‬ ‫وما تَد ِ‬ ‫َخُرو َن ِيف‬ ‫َ​َ‬

‫أَِين أَخلُق لَ ُكم ِمن ِ‬ ‫الط ِ‬ ‫ني َك َهْي ئَ ِة الطَِْري فَأَنْ ُف ُخ فِ ِيه فَيَ ُكو ُن طَْ ًريا‬ ‫ْ ُ ْ َ‬ ‫اّللِ َوأُنَبِئُ ُك ْم ِمبَا َأتْ ُكلُو َن‬ ‫ُحيِي الْ َم ْوتَى إبِ​ِ ْذ ِن َ‬ ‫ص َوأ ْ‬ ‫الَ ْك َمهَ َوالَبْ َر َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ​ِ‬ ‫ني ﴾ [آل عمران‪ 48 :‬ـ ‪.]49‬‬ ‫بُيُوتِ ُك ْم إِ َن ِيف َذل َ‬ ‫ك آلَيَةً لَ ُك ْم إِ ْن ُكْن تُ ْم ُم ْؤمن َ‬ ‫ج ـ هناك فرق واضح يف اهتمام القرآن‪ ،‬فالظاهر اهتمامه برسالة موسى أكثر‬ ‫من اإلجنيل‪ ،‬ويظهر هذا يف عدد املرات اليت ذكرت فيها التوراة «‪ »81‬مرة بينما‬ ‫ذكر اإلجنيل «‪ »12‬مرة‪ ،‬وذكر موسى «‪ »136‬مرة بينما مل يذكر عيسى إال‬

‫أظهر يف الداللة على اهتما القرآن ابلتوراة أكثر‬ ‫«‪ »25‬مرة‪ ،‬هناك إشارة رمبا تكون َ‬ ‫من اهتمامه ابإلجنيل‪ ،‬وهي قوله تعاىل‪﴿ :‬قَالُوا َ​َيقَ ْوَمنَا إِ َان َِمس ْعنَا كِتَ ًااب أُنْ ِزَل ِم ْن بَ ْع ِد‬ ‫موسى م ِ ِ‬ ‫اِلَِق َوإِ َىل طَ ِر ٍيق ُم ْستَ ِقي ٍم﴾‬ ‫ني يَ َديِْه يَ ْه ِدي إِ َىل ْ‬ ‫صدقًا ل َما بَْ َ‬ ‫ُ َ َُ‬ ‫[األحقاف‪29 :‬ـ‪.)1(]30‬‬

‫د ـ جاءت يف اإلجنيل كما يف التوراة البشارة ابلرسول صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬قال‬ ‫َِ‬ ‫ول النَِيب ال ُِمي الَ ِذي َِجي ُدونَه م ْكتواب عِْن َدهم ِيف التَوراةِ‬ ‫ين يَتَبِعُو َن الَر ُس َ َ َ‬ ‫َُ ًُ‬ ‫َْ‬ ‫ُْ‬ ‫تعاىل‪﴿ :‬الذ َ‬ ‫ِ‬ ‫الطيِب ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ات َوُ​ُيَ ِرُ َعلَْي ِه ُم‬ ‫َوا ِإل ْجن ِيل َأيْ ُمُرُه ْم ِابلْ َم ْعُروف َويَْن َه ُ‬ ‫اه ْم َع ِن الْ ُمْن َك ِر َوُ​ُي ُّل َهلُ​ُم َ‬ ‫ِ َِ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫اخلَبَائِ َ‬ ‫ث َويَ َ‬ ‫صَرُه ْم َوالَ ْغالَ َل الَِيت َكانَ ْ‬ ‫ض ُع َعْن ُه ْم إِ ْ‬ ‫ين َآمنُوا بِه َو َعَزُروهُ‬ ‫ت َعلَْيه ْم فَالذ َ‬ ‫ونَصروه واتَب عوا الن ِ‬ ‫ك ُه ُم الْ ُم ْفلِ ُحو َن ﴾ [األعراف‪ ]157 :‬وقال‬ ‫ُّور الَذي أُنْ ِزَل َم َعهُ أُولَئِ َ‬ ‫َ َُ ُ َ َ ُ‬ ‫َ‬ ‫اّللِ إِلَي ُكم م ِ ِ‬ ‫ال عِيسى ابن مرَمي َيب ِين إِسرائِ‬ ‫ِ‬ ‫ني‬ ‫يل إِ​ِين َر ُس ُ‬ ‫صدقًا ل َما بَْ َ‬ ‫ول َ ْ ْ ُ َ‬ ‫تعاىل‪َ ﴿ :‬وإ ْذ قَ َ َ ْ ُ َ ْ َ ْ َ َ‬ ‫َْح ُد فَلَ َما جاءهم ِابلْب يِنَ ِ‬ ‫ي ِمن التَوراةِ ومب ِشرا بِرس ٍ‬ ‫ات قَالُوا‬ ‫ول َأيِْيت ِم ْن بَ ْع ِدي ْ‬ ‫امسُهُ أ ْ َ‬ ‫َ َُ ْ َ‬ ‫يَ َد َ َ ْ َ َ َُ ً َ ُ‬ ‫ِ‬ ‫ني ﴾[الصف‪.)2(]6 :‬‬ ‫َه َذا س ْحٌر ُمبِ ٌ‬ ‫(‪ )1‬احملكم يف العقيدة ص (‪.)185‬‬ ‫(‪ )2‬العقيدة اإلسالمية د‪ .‬أْحد حممد جلي ص (‪.)197‬‬

‫‪189‬‬


‫هـ إ ّن القرآن جاء مصدقاً أيضاً لرسالة عيسى عليه السالم كما هو ِ‬ ‫مصد ُق‬ ‫ني لَ َما آتَْي تُ ُكم ِمن‬ ‫َخ َذ اّللُ ِميثَ َ‬ ‫اق النَبِيِ ْ َ‬ ‫جلميع الرساالت السابقة قال تعاىل‪َ ﴿ :‬وإِ ْذ أ َ‬ ‫ول ُّم ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ٍ ِ ٍ‬ ‫ال أَأَقْ َرْرُْمت‬ ‫نصُرنَهُ قَ َ‬ ‫صد ٌق ل َما َم َع ُك ْم لَتُ ْؤمنُ َن بِه َولَتَ ُ‬ ‫كتَاب َوح ْك َمة مثَُ َجاء ُك ْم َر ُس ٌ َ‬ ‫ِ​ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫دين ﴾ [آل‬ ‫ص ِري قَالُوا أَقْ َرْرَان قَ َ‬ ‫َخ ْذ ُْمت َعلَى َذل ُك ْم إِ ْ‬ ‫َوأ َ‬ ‫ال فَا ْش َه ُدوا َوأ َ​َان َم َع ُك ْم م َن الشَاه َ‬ ‫اّللِ‬ ‫عمران‪ ]81 :‬وقال تعاىل‪﴿ :‬قُل َم ْن َكا َن َع ُد ًّوا جلِ​ِِْ‬ ‫رب‬ ‫ك إبِ​ِ ْذ ِن َ‬ ‫يل فَِإنَهُ نَ​َزلَهُ َعلَى قَلْبِ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫م ِ ِ‬ ‫ِ ِ​ِ‬ ‫ِ‬ ‫ني ﴾[البقرة‪.]97 :‬‬ ‫دى َوبُ ْشَرى ل ْل ُم ْؤمن َ‬ ‫صدقًا ل َما بَْ َ‬ ‫َُ‬ ‫ني﴾ ﴿يَ َديْه َوُه ً‬ ‫و ـ وحتدث القرآن عن محلة اإلجنيل كما حتدث عن ْحلة التوراة‪ ،‬فقسمهم إىل‬ ‫قسمني‪ :‬فئةٌ وقفت مع اإلجنيل ِ‬ ‫اِلق‪ ،‬وأخرى كاذبةٌ كافرةٌ خائنةٌ‪ ،‬فقال عن الوىل‪:‬‬ ‫﴿فَلَ َما أَح َ ِ‬ ‫ص ُار‬ ‫اّللِ قَ َ‬ ‫يسى ِمْن ُه ُم الْ ُك ْفَر قَ َ‬ ‫صا ِري إِ َىل َ‬ ‫ال ا ِْلَ​َوا ِريُّو َن َْحن ُن أَنْ َ‬ ‫ال َم ْن أَنْ َ‬ ‫َ‬ ‫سع َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َِ‬ ‫ِ‬ ‫ول فَا ْكتُ ْب نَا‬ ‫ت َواتَبَ ْعنَا الَر ُس َ‬ ‫اّلل َآمنَا ِاب َّلل َوا ْش َه ْد ِأبَ َان ُم ْسل ُمو َن ۝ َربَنَا َآمنَا مبَا أَنْ َزلْ َ‬ ‫ِ َِ‬ ‫ِ​ِ‬ ‫ين﴾ ﴿ َوالْبَغْ َ‬ ‫ين ﴾ [آل عمران‪ 52 :‬ـ ‪ ]53‬وأما الثانية فهم‪َ ﴿ :‬وم َن الذ َ‬ ‫َم َع الشَاهد َ‬ ‫ضاءَ‬ ‫ِ ِ ِ ِ‬ ‫ف ي نَ بِئُهم َ ِ‬ ‫صنَ عُو َن ﴾[املائدة‪.]14 :‬‬ ‫اّللُ مبَا َكانُوا يَ ْ‬ ‫إ َىل يَ ْو الْقيَ َامة َو َس ْو َ ُ ُ ُ‬ ‫ز ـ وخيلص القرآن إىل أ ّن اإلجنيل الذي بني أيدينا اال َن ليس هو كالم هللا‪ ،‬بل‬ ‫هو من حتريف احملرفني‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬وإِ َن ِمْن هم لَ​َف ِري ًقا ي ْلوو َن أَلْ ِسنَ تَ هم ِابلْ ِكتَ ِ‬ ‫اب‬ ‫ُْ‬ ‫ُْ‬ ‫َ‬ ‫َُ‬ ‫ِ‬ ‫اب وما ُهو ِمن الْ ِكتَ ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫اّللِ َوَما ُه َو ِم ْن عِْن ِد‬ ‫اب َويَ ُقولُو َن ُه َو ِم ْن ِعْن ِد َ‬ ‫لتَ ْح َسبُوهُ م َن الْكتَ َ َ َ َ‬ ‫اّللِ‬ ‫اّللِ الْ َك ِذب وهم ي علَمو َن ۝ ما َكا َن لِب َش ٍر أَ ْن ي ْؤتِيه َ ِ‬ ‫اب‬ ‫ى‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫ن‬ ‫و‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫ق‬ ‫ي‬ ‫و‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ َُ‬ ‫اّللُ الْكتَ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ ُ‬ ‫َ َ‬ ‫ِ‬ ‫ون َِ ِ‬ ‫َاس ُكونُوا ِعبادا ِيل ِمن د ِ‬ ‫ول لِلن ِ‬ ‫ني ِمبَا‬ ‫َو ْ‬ ‫اِلُ ْك َم َوالنُّبُ َوَة مثَُ يَ ُق َ‬ ‫ْ ُ‬ ‫ًَ‬ ‫اّلل َولَك ْن ُكونُوا َرَابنيِ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اب َوِمبَا ُكْن تُ ْم تَ ْد ُر ُسو َن ﴾ [آل عمران‪ 78 :‬ـ ‪.]79‬‬ ‫ُكْن تُ ْم تُ َعل ُمو َن الْكتَ َ‬ ‫واِلقيقة أن القرآن ال يفصل يف مقدار التحريف الذي ورد على التوراة واإلجنيل‪،‬‬ ‫مصدر ثقة‪ ،‬لن الهواء‬ ‫وكأن هدفه فقط أن يقول لنا إن هذين الكتابني ليسا‬ ‫َ‬ ‫‪190‬‬


‫ِ‬ ‫ف زماانً‬ ‫دخلتهما‪ ،‬أما التفصيل فال حنتاجه حنن‪ ،‬وأيضاً فإ َن مقدار التحريف خمتل ٌ‬ ‫ومذاهب(‪ ،)1‬فلم يهتم القرآن إال ابلذي فيه الفائدة للناس‪.‬‬ ‫ومكاانً‬ ‫َ‬ ‫‪ 4‬ـ الزبور‪:‬‬

‫بور يف اللغة‬ ‫هو الكتاب الذي أنزله هللا سبحانه وتعاىل على داود عليه السال ‪ ،‬والز ُ‬

‫املكتوب‪ ،‬ومجعه ُزبٌُر‪ ،‬وكل كتاب يسمى زبوراً‪ ،‬قال تعاىل‪:‬‬ ‫الكتاب املزبور أي‬ ‫هو‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫الزبُِر ﴾ [القمر‪ ]52 :‬أي مسج ٌل يف كتب املالئكة‪ ،‬مث غلب‬ ‫﴿ َوُك ُّل َش ْي ٍء فَ َعلُوهُ ِيف ُّ‬

‫ود‬ ‫ُ‬ ‫إطالق لفظ الزبور على ما أنزل على داود عليه السال ‪ ،‬قال تعاىل‪َ ﴿ :‬وآتَْي نَا َد ُاو َ‬ ‫ورا ﴾ ‪.]163‬‬ ‫َزبُ ً‬ ‫الرض‪،‬‬ ‫وأخرب سبحانه وتعاىل أن ْما كتبه يف الزبور وراثةُ الصاِلني‬ ‫َ‬ ‫﴿ولَ​َق ْد َكت ب نا ِيف الَزبوِر ِمن ب ع ِد ِ‬ ‫الذ ْك ِر أَ َن الَرض ي ِرثُها ِعب ِ‬ ‫ي‬ ‫اد‬ ‫َْ َ‬ ‫ُ ْ َْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ورا ﴾ [النساء‪.]163 :‬‬ ‫[األنبياء‪ ]105 :‬وقال تعاىل‪َ ﴿ :‬وآتَْي نَا َد ُاو َ‬ ‫ود َزبُ ً‬

‫قال سبحانه‪:‬‬ ‫صِ‬ ‫اِلُو َن ﴾‬ ‫ال َ‬

‫هذه هي الكتب السابقة اليت مساها هللا لنا يف كتابه‪ ،‬إال أنه توجد كتب أخرى‬

‫أُنزلت ومل تسم لنا‪ ،‬بل ذكرت جمملةٌ‪ ،‬كما يف قوله تعاىل‪﴿ :‬لَ​َق ْد أ َْر َس ْلنَا ُر ُسلَنَا‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َاس ِابلْ ِق ْس ِط﴾[احلديد‪.]25 :‬‬ ‫ِابلْبَ يِنَات َوأَنْ َزلْنَا َم َع ُه ُم الْكتَ َ‬ ‫اب َوالْم َيزا َن ليَ ُقوَ الن ُ‬

‫جيوز لنا أن ننسب كتاابً‬ ‫نؤمن هبذه الكتب اليت مل تس َم إمجاالً‪ ،‬كما أنه ال ُ‬ ‫وعلينا أن َ‬

‫إىل هللا تعاىل سوى ما نسبه إىل نفسه‪ ،‬وأخربان القرآن الكرميُ أنه من الكتب اليت‬ ‫أنزهلا تعاىل على ٍ‬ ‫رسول من رسله(‪.)2‬‬ ‫***‬ ‫(‪ )1‬احملكم يف العقيدة ص (‪.)187‬‬ ‫(‪ )2‬العقيدة اإلسالمية‪ ،‬أْحد جلي ص (‪.)198‬‬

‫‪191‬‬


‫الفصل الرابع ‪ :‬حتريف الكتب السماوية السابقة‬ ‫أخربان هللا يف كتابه املنزل أن أهل الكتاب حرفوا كتبهم‪ ،‬فلم تعد يف صورِتا اليت‬ ‫أنزهلا‪.‬‬

‫فقد جاء عن اليهود قوله تعاىل‪ِ ﴿ :‬من الَ ِذين هادوا ُ​ُي ِرفُو َن الْ َكلِم عن مو ِ‬ ‫اضعِ ِه﴾‬ ‫َ َ َُ َ‬ ‫َ َ ْ َ​َ‬ ‫وهبم قَ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫اسيَةً ُ​ُيَ ِرفُو َن‬ ‫[النساء‪ ]46 :‬وقال تعاىل‪﴿ :‬فَبِ َما نَ ْقض ِه ْم ميثَاقَ ُه ْم لَ َعن ُ‬ ‫َاه ْم َو َج َع ْلنَا قُلُ َُْ‬ ‫ول الَ َُيزنْ َ ِ‬ ‫الْ َكلِم عن مو ِ‬ ‫ين‬ ‫اضعِ ِه﴾[املائدة‪ ]13 :‬وقال تعاىل‪َ​َ ﴿ :‬يأَيُّ َها الَر ُس ُ‬ ‫ُْ َ‬ ‫ك الذ َ‬ ‫َ َ ْ َ​َ‬ ‫ِ َِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ َِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ادوا‬ ‫ين قَالُوا َآمنَا ِأبَفْ َواه ِه ْم َوَملْ تُ ْؤِم ْن قُلُ ُ‬ ‫ين َه ُ‬ ‫وهبُْم َوم َن الذ َ‬ ‫يُ َسارعُو َن يف الْ ُك ْف ِر م َن الذ َ‬ ‫ِ ٍ‬ ‫َمسَاعُو َن لِْل َك ِذ ِ‬ ‫وك ُ​ُيَ ِرفُو َن الْ َكلِ َم ِم ْن بَ ْع ِد‬ ‫ين َملْ َأيْتُ َ‬ ‫ب َمسَاعُو َن ل َق ْو َ‬ ‫آخ ِر َ‬ ‫مو ِ‬ ‫اضعِ ِه﴾[املائدة‪.]41 :‬‬ ‫َ​َ‬ ‫اّللِ‬ ‫وجاء عن النصارى قوله تعاىل‪﴿ :‬وإِ َن ِمْن هم لَ​َف ِري ًقا ي ْلوو َن أَلْ ِسنَ تَ هم ِابلْ ِكتَ ِ‬ ‫اب َ‬ ‫ُْ‬ ‫ُْ‬ ‫َ‬ ‫َُ‬ ‫اّللِ الْ َك ِ‬ ‫ب َوُه ْم يَ ْعلَ ُمو َن ﴾[آل عمران‪.]78 :‬‬ ‫ذ‬ ‫َويَ ُقولُو َن َعلَى َ‬ ‫َ‬ ‫المر وجدان أن هناك ثالثةَ أنو ٍاع من التحريف على القل قد وقعت‬ ‫وإذ تدبران هذا َ‬ ‫أهل الكتاب‪ ،‬وكلُّها ِ‬ ‫يف ِ‬ ‫كتب ِ‬ ‫وردت اإلشارةُ إليه يف القرآن(‪.)1‬‬

‫‪ 1‬ـ حتريف املعىن مع بقاء اللفظ على ما هو عليه‪:‬‬ ‫إن هللا قد حر الراب يف مجيع كتبه املنزلة‪ :‬التوراة واإلجنيل والقرآن‪ .‬والتوراةُ اليت بني‬ ‫أيدي اليهود اليو رغم كل ما حدث فيها من حتريفات شنيعة ما تزال حتمل نصاً‬ ‫بتحرمي الراب‪ ،‬ونصاً بوجوب المانة يف التعامل مع الناس‪ ،‬ومع ذلك فاليهود كما‬ ‫هو معلو يتعاملون ابلراب على نطاق دويل‪ ،‬ويسلبون عن طريقه أمو َال الناس‬ ‫(‪ )1‬ركائز اإلميان ص (‪.)195‬‬

‫‪192‬‬


‫بغري حق‪ ،‬وعن ذلك يقول هللا تعاىل‪﴿ :‬فَبِظُْل ٍم ِمن الَ ِذين هادوا حَرمنَا علَي ِهم طَيِب ٍ‬ ‫ات‬ ‫َ َ َ ُ َ ْ َْ ْ َ‬ ‫اّللِ َكثِ‬ ‫أِ‬ ‫ص ِد ِهم َع ْن َسبِ‬ ‫َخ ِذ ِهم ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الرَاب َوقَ ْد ُهنُوا َعْنهُ َوأَ ْكلِ ِه ْم‬ ‫أ‬ ‫و‬ ‫۝‬ ‫ا‬ ‫ري‬ ‫يل‬ ‫ب‬ ‫و‬ ‫م‬ ‫هل‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ُح‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ َ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫اط ِل وأ َْعتَ ْد َان لِْل َكافِ ِر ِ‬ ‫أَمو َال الن ِ ِ ِ‬ ‫يما ﴾ [النساء‪ 160 :‬ـ ‪.]161‬‬ ‫ين مْن ُه ْم َع َذ ًااب أَل ً‬ ‫َاس ابلْبَ َ‬ ‫َ‬ ‫َْ‬ ‫فكيف حتايلوا على النص املوجود يف كتاهبم‪ ،‬أو بعبارةٍ أخرى حرفوه ليبيحوا لنفسهم‬ ‫التعامل ابلراب مع الناس‪ ،‬وسلب أمواهلم؟‬ ‫لقد قالوا‪ :‬إن الراب غريُ جائز يف التعامل مع اليهود‪ ،‬وكذلك المانةُ واجبةٌ يف تعامل‬

‫أبس‬ ‫اليهود بعضهم مع بعض‪ ،‬أما إ ْن كان الذي نتعامل معه من غري اليهود فال َ‬ ‫أتكل ماله‪ ،‬وذلك ما وردت عنه‬ ‫عليك أن تتعامل معه ابلراب‪ ،‬وال أبس عليك أن َ‬ ‫اإلشارةُ يف سورة ال عمران‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬وِمن أ َْه ِل الْكِتَ ِ‬ ‫اب َم ْن إِ ْن َأتَْمْنهُ بِ​ِقْنطَا ٍر‬ ‫َ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ​ِ‬ ‫ِ​ِ‬ ‫ك‬ ‫ت َعلَْي ِه قَائِ ًما ذَل َ‬ ‫ك َوِمْن ُه ْم َم ْن إِ ْن َأتَْمْنهُ بِدينَا ٍر الَ يُ َؤده إِلَْي َ‬ ‫يُ َؤده إِلَْي َ‬ ‫ك إِالَ َما ُد ْم َ‬ ‫ِأب َ​َهنُم قَالُوا لَيس علَي نا ِيف ال ُِميِني سبِيل وي ُقولُو َن علَى َِ ِ‬ ‫ب َوُه ْم يَ ْعلَ ُمو َن ﴾‬ ‫ْ َ َ َْ‬ ‫َ‬ ‫اّلل الْ َكذ َ‬ ‫َ َ ٌ َ​َ‬ ‫ْ‬ ‫[آل عمران‪.]75 :‬‬ ‫أي‪ :‬إهنم قالوا‪ :‬ال حر َج علينا يف سلب أموال «الميني» الذين ليسوا يهوداً‪،‬‬ ‫كذب على هللا‪ ،‬فإنه حر‬ ‫أابح هلم ذلك‪ ،‬وهم يعلمون أن هذا ٌ‬ ‫ويزعمون أن هللا َ‬ ‫سلب أمو ِال الناس مجيعاً‪ ،‬أُميني وغري أُميني(‪.)1‬‬ ‫عليهم الراب إطالقاً‪ ،‬وحر عليهم َ‬ ‫‪ 2‬ـ التحريف ابلتغيري واإلضافة‪:‬‬ ‫فأما اليهود فقد أضافوا إىل التوراة جمموعةً من القصص والساطري ما أنزل‬ ‫‪‬‬ ‫بعضها يصل إىل َح ِد ال ُفحش يف ِ‬ ‫حق أنبيائهم‪ ،‬وما من أنبيائهم‬ ‫هللا هبا من سلطان‪ُ ،‬‬ ‫يليق ابلرجل العادي‪ ،‬فضالً عن النيب املعصو ‪ ،‬بل إهنم جترؤوا‬ ‫إال ألصقوا به سلوكاً ال ُ‬

‫(‪ )1‬ركائز اإلميان ص (‪.)197‬‬

‫‪193‬‬


‫على مقا اللوهية‪ ،‬وقالوا يف حق هللا سبحانه وتعاىل كالماً ال ُير ُج من فم مؤمن‬ ‫قط‪ ،‬وال ُيطر له على ابل‪ ،‬وقد ظلوا يرددون هذه القوال وغريها حىت زمن الرسول‬ ‫صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وسجل عليهم القرآن أقواهلم‪ ،‬ومعتقداِتم الفاسدة‪ ،‬قال تعاىل‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫َِ‬ ‫ِ‬ ‫َ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ب َما قَالُواْ َوقَ ْت لَ ُه ُم‬ ‫﴿ل َق ْد َمس َع اّللُ قَ ْوَل الذ َ‬ ‫ين قَالُواْ إ َن اّللَ فَقريٌ َوَْحن ُن أَ ْغنيَاء َسنَ ْكتُ ُ‬ ‫اِل ِريق ذَلِك ِمبا قَدَمت أَي ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫س‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫اّلل‬ ‫ن‬ ‫أ‬ ‫و‬ ‫م‬ ‫ك‬ ‫ي‬ ‫د‬ ‫ُ‬ ‫الَنبِيَاء بِغَ ِْري َح ٍق َونَ ُق ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ َ ْ ْ‬ ‫ول ذُوقُواْ َع َذ َ‬ ‫اب َْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫بِظَالٍَ لِْلعبِ ِ‬ ‫يد ﴾ [آل عمران‪ 181 :‬ـ ‪.]182‬‬ ‫َ‬ ‫يقل سخفاً وبشاعة‪ ،‬ولكن‬ ‫‪‬‬ ‫وأما اإلجنيل فيحوي من التغيري واإلضافة ما ال ُّ‬ ‫يف اجتاه اخر‪ ،‬ذلك هو أتليه عيسى عليه السال ‪ ،‬والزعم أبنه ابن هللا‪ ،‬قال تعاىل‪:‬‬ ‫اب لِتَ ْحسبوهُ ِمن الْ ِكتَ ِ‬ ‫﴿وإِ َن ِمْن هم لَ​َف ِري ًقا ي لْوو َن أَلْ ِسنَ تَ هم ِابلْ ِكتَ ِ‬ ‫اب َوَما ُه َو ِم َن‬ ‫ُْ‬ ‫ُْ‬ ‫َ‬ ‫َُ َ‬ ‫َُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اب ولَكِن ُكونُوا رَابنِيِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫اب َوِمبَا ُكْن تُ ْم تَ ْد ُر ُسو َن ۝ َوالَ‬ ‫َ َ‬ ‫ني مبَا ُكْن تُ ْم تُ َعل ُمو َن الْكتَ َ‬ ‫الْكتَ َ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ني أ َْرَاب ًاب أ َ​َأيْ ُمُرُك ْم ِابلْ ُك ْف ِر بَ ْع َد إِ ْذ أَنْتُ ْم ُم ْسلِ ُمو َن ﴾‬ ‫َأيْ ُمَرُك ْم أَ ْن تَتَخ ُذوا الْ َمالَئ َكةَ َوالنَبِيِ َ‬ ‫[آل عمران‪ 78 :‬ـ ‪.]80‬‬ ‫وأسطورةُ ألوهية عيسى وبنوته هلل وكون هللا ثالثة‪ :‬الب‪ ،‬واالبن‪ ،‬وروح القدس‪ ،‬كلُّها‬ ‫إضافات أضيفت إىل اإلجنيل املنزل من عند هللا‪ ،‬كتبوها أبيديهم‪ ،‬وزعموا أهنا من‬ ‫عند هللا‪ ،‬وقد رد القرآن عليهم رداً مفصالً يف أكثر من سورة‪ ،‬وبني حقيقة التوحيد‪،‬‬ ‫َاس َِ‬ ‫ال َ ِ‬ ‫اخت ُذ ِوين وأ ُِمي إِ َهلَْ ِ‬ ‫ت لِلن ِ‬ ‫ني‬ ‫قال تعاىل‪َ ﴿ :‬وإِ ْذ قَ َ‬ ‫ت قُ ْل َ‬ ‫يسى ابْ َن َمْرَميَ أَأَنْ َ‬ ‫َ‬ ‫اّللُ َ​َيع َ‬ ‫اّللِ‬ ‫ِ‬ ‫ِمن د ِ‬ ‫ك َما يَ ُكو ُن ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ت قُ ْلتُهُ فَ َق ْد‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫ول‬ ‫ق‬ ‫أ‬ ‫ن‬ ‫أ‬ ‫يل‬ ‫ن‬ ‫ا‬ ‫ح‬ ‫ب‬ ‫س‬ ‫ال‬ ‫ق‬ ‫ون‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ ُ‬ ‫س ِيل حبَ ٍق إِ ْن ُكْن ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ت َعالَ الْغُي ِ‬ ‫وب ۝ َما‬ ‫ك إِنَ َ‬ ‫َعل ْمتَهُ تَ ْعلَ ُم َما ِيف نَ ْف ِسي َوالَ أ َْعلَ ُم َما ِيف نَ ْف ِس َ‬ ‫ك أَنْ َ ُ ُ‬ ‫ت‬ ‫ت َهلُْم إِالَ َما أ َ​َمْرتَِين بِ​ِه أ َِن ْاعبُ ُدوا َ‬ ‫ت َعلَْي ِه ْم َش ِه ً‬ ‫يدا َما ُد ْم ُ‬ ‫اّللَ َرِيب َوَربَ ُك ْم َوُكْن ُ‬ ‫قُ ْل ُ‬ ‫ت الَرقِيب َعلَْي ِ‬ ‫فِي ِه ْم فَلَ َما تَ َوفَْي تَِ‬ ‫ت َعلَى ُك ِل َشي ٍء َش ِهي ٌد ۝ َهلُْم إِالَ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫أ‬ ‫و‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ن‬ ‫أ‬ ‫ت‬ ‫ن‬ ‫ك‬ ‫ين‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫‪194‬‬


‫ت فِي ِه ْم فَلَ َما‬ ‫َما أ َ​َمْرتَِين بِ​ِه أ َِن ْاعبُ ُدوا َ‬ ‫ت َعلَْي ِه ْم َش ِه ً‬ ‫يدا َما ُد ْم ُ‬ ‫اّللَ َرِيب َوَربَ ُك ْم َوُكْن ُ‬ ‫تَوفَي ت ِين ُكْنت أَنْت الَرقِ‬ ‫ت َعلَى ُك ِل َش ْي ٍء َش ِهي ٌد ﴾[املائدة‪ 116 :‬ـ ‪.]117‬‬ ‫َ َْ‬ ‫يب َعلَْي ِه ْم َوأَنْ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫ولكن املهم أن أانجيلهم الربعة املعتمدة «إجنيل مرقص» و«إجنيل لوقا» و«إجنيل‬

‫مىت» و«إجنيل يوحنا»(‪ ،)1‬متضاربةٌ بعضها مع بعض يف هذا الشأن‪ْ ،‬ما ينفي أن‬ ‫مصدرها هو هللا‪ ،‬وفضالً عن‬ ‫تكون كلها من مصدر واحد‪ ،‬فضالً عن أن يكون‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫منعت الكنيسةُ تداوله‪،‬‬ ‫ذلك كله فإن هناك إجنيالً خامساً هو «إجنيل براناب»‬ ‫ٍ‬ ‫حرمان‬ ‫يوجد عنده إبصدار قرار‬ ‫وأحرقت ما وقع يف يدها من نسخه‪ ،‬وهددت َم ْن ُ‬ ‫رسول‬ ‫ضده‪ ،‬أي‪ :‬اِلرمان يف زعمهم من رضوان هللا ومغفرته لنه يقرر أن عيسى ٌ‬ ‫بشر‪ ،‬وليس رابً وال إهلاً‪ ،‬وأنه بشَر ِ‬ ‫ببعثة حممد صلى هللا عليه وسلم من بعده(‪.)2‬‬ ‫ٌ‬ ‫َ َ‬ ‫‪ 3‬ـ التحريف ابلكتمان‪:‬‬ ‫فهو على نوعني‪ :‬كتما ُن أحكا الشريعة‪ ،‬وكتما ُن اإلشارة إىل بعثة حممد صلى هللا‬ ‫عليه وسلم‪.‬‬ ‫أما كتمان أحكا الشريعة فالقرآن يسجل عليهم أهنم أمروا بعد الكتمان فعصوا‬ ‫اّلل ِميث َ َ ِ‬ ‫ِ‬ ‫اب لَتُبَ يِنُنَهُ لِلن ِ‬ ‫َخ َذ َُ َ‬ ‫هللا‪ ،‬قال تعاىل‪َ ﴿ :‬وإِ ْذ أ َ‬ ‫َاس َوالَ تَ ْكتُ ُمونَهُ‬ ‫ين أُوتُوا الْكتَ َ‬ ‫اق الذ َ‬ ‫فَنَ بَ ُذوهُ وراء ظُ ُهوِرِهم وا ْش َ​َرتْوا بِ​ِه َمثَناً قَلِيالً فَبِ‬ ‫ن ﴾ [آل عمران‪]187 :‬‬ ‫ئ‬ ‫س َما يَ ْش َرتُو َ‬ ‫ْ‬ ‫َْ‬ ‫َ​َ َ‬ ‫َ‬ ‫َِ‬ ‫ِ‬ ‫اب يَ ْع ِرفُونَهُ َك َما يَ ْع ِرفُو َن أَبْنَاءَ ُه ْم َوإِ َن فَ ِري ًقا ِمْن ُه ْم‬ ‫ين آتَْي نَ ُ‬ ‫اه ُم الْكتَ َ‬ ‫قال تعاىل‪﴿ :‬الذ َ‬ ‫لَيَ ْكتُ ُمو َن ا ِْلَ َق َوُه ْم يَ ْعلَ ُمو َن ﴾[البقرة‪.]146 :‬‬ ‫بكل ٍ‬ ‫ويسجل عليهم أن هللا أخذ عليهم ميثاقاً أب ْن يؤمنوا ِ‬ ‫رسول أييت من عند هللا‬ ‫(‪ )1‬ركائز اإلميان ص (‪.)198‬‬ ‫(‪ )2‬املصدر نفسه ص (‪.)198‬‬

‫‪195‬‬


‫مصدقاً ملا معهم‪ ،‬كما يسجل عليهم أ َن خرب بعثة حممد صلى هللا عليه وسلم موجود‬ ‫ني لَ َما آتَْي تُ ُك ْم ِم ْن‬ ‫َخ َذ َ‬ ‫اّللُ ِميثَ َ‬ ‫اق النَبِيِ َ‬ ‫عندهم يف التوراة واإلجنيل‪ ،‬قال تعاىل‪َ ﴿ :‬وإِ ْذ أ َ‬ ‫ول م ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ٍ ِ ٍ‬ ‫ال أَأَقْ َرْرُْمت‬ ‫صُرنَهُ قَ َ‬ ‫صد ٌق ل َما َم َع ُك ْم لَتُ ْؤمنُ َن بِه َولَتَ ْن ُ‬ ‫كتَاب َوح ْك َمة مثَُ َجاءَ ُك ْم َر ُس ٌ ُ َ‬ ‫ِ​ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ين ۝‬ ‫ص ِري قَالُوا أَقْ َرْرَان قَ َ‬ ‫َخ ْذ ُْمت َعلَى َذل ُك ْم إِ ْ‬ ‫َوأ َ‬ ‫ال فَا ْش َه ُدوا َوأ َ​َان َم َع ُك ْم م َن الشَاهد َ‬ ‫فَمن تَوَىل ب ع َد ذَلِ‬ ‫ك هم الْ َف ِ‬ ‫ك فَأُولَئِ‬ ‫اس ُقو َن ﴾ [آل عمران‪ 81 :‬ـ ‪.]82‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ ْ َ َْ‬ ‫ُ‬ ‫ول َِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫وقال تعاىل‪﴿ :‬وإِ ْذ قَ َ ِ‬ ‫ص ِدقًا‬ ‫يل إِ​ِين َر ُس ُ‬ ‫اّلل إِلَْي ُك ْم ُم َ‬ ‫َ‬ ‫ال ع َ‬ ‫يسى ابْ ُن َمْرَمي َيبَِين إ ْسَرائ َ‬ ‫ِ‬ ‫ي ِمن التَوراةِ ومب ِشرا بِرس ٍ‬ ‫َْحَ ُد فَلَ َما َجاءَ ُه ْم‬ ‫امسُهُ أ ْ‬ ‫ول َأيِْيت ِم ْن بَ ْع ِدي ْ‬ ‫ل َما بَْ َ‬ ‫ني يَ َد َ َ ْ َ َ َُ ً َ ُ‬ ‫َِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ول‬ ‫ين يَتَبِعُو َن الَر ُس َ‬ ‫ِابلْبَ يِنَات قَالُوا َه َذا س ْحٌر ُمبِ ٌ‬ ‫ني ﴾[الصف‪ .]6 :‬وقال تعاىل‪﴿ :‬الذ َ‬ ‫النَِيب ال ُِمي الَ ِذي َِجي ُدونَه م ْكتواب ِعْن َدهم ِيف التَوراةِ وا ِإل ِْجن ِيل أيْمرهم ِابلْمعر ِ‬ ‫وف‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ ًُ‬ ‫َْ َ‬ ‫ُْ‬ ‫َ ُ​ُ ُ ْ َ ُْ‬ ‫الطيِب ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫صَرُه ْم‬ ‫ات َوُ​ُيَ ِرُ َعلَْي ِه ُم ْ‬ ‫اخلَبَائِ َ‬ ‫ث َويَ َ‬ ‫َويَْن َه ُ‬ ‫ض ُع َعْن ُه ْم إِ ْ‬ ‫اه ْم َع ِن الْ ُمْن َك ِر َوُ​ُي ُّل َهلُ​ُم َ‬ ‫ِ َِ‬ ‫ِ‬ ‫ُّور الَ ِذي أُنْ ِزَل‬ ‫َوالَ ْغالَ َل الَِيت َكانَ ْ‬ ‫ين َآمنُوا بِه َو َعَزُروهُ َونَ َ‬ ‫صُروهُ َواتَبَ عُوا الن َ‬ ‫ت َعلَْيه ْم فَالذ َ‬ ‫ك ُه ُم الْ ُم ْفلِ ُحو َن ﴾[األعراف‪.]157 :‬‬ ‫َم َعهُ أُولَئِ َ‬ ‫ص ْوا أمر رِهبم‪ ،‬وكتموا اِلق‬ ‫وعلى الرغم من هذه الوصاَي كلها لهل الكتاب فقد َع َ‬ ‫الذي أُمروا إبعالنه على الناس‪.‬‬

‫وأما إنكارهم لبعثة الرسول صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فقد اجتهدوا يف َْحم ِو ِ‬ ‫كل ذكر‬ ‫صريح له عليه الصالة والسال يف كتبهم‪ ،‬وأخفوه عن الناس‪ ،‬ومع كل اجتهادهم‬ ‫ات يف التوراة واإلجنيل‪ ،‬ال ميكن تفسريها إال أبهنا إشارةٌ جمليء‬ ‫بقيت إشار ٌ‬ ‫هذا فقد ْ‬ ‫الرسول صلى هللا عليه وسلم(‪.)1‬‬ ‫وصدق هللا العظيم إذ يقول‪﴿ :‬الَ ِذين آتَي نَاهم الْ ِ‬ ‫اب يَ ْع ِرفُونَهُ َك َما يَ ْع ِرفُو َن أَبْنَاءَ ُه ْم‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ ُ​ُ‬ ‫(‪ )1‬ركائز اإلميان ص (‪.)200‬‬

‫‪196‬‬


‫ِ‬ ‫َوإِ َن فَ ِري ًقا ِمْن ُه ْم لَيَ ْكتُ ُمو َن ْ‬ ‫اِلَ َق َوُه ْم يَ ْعلَ ُمو َن ﴾[البقرة‪ .]146 :‬وقال تعاىل‪َ ﴿ :‬وَد َكثريٌ‬ ‫ِمن أ َْه ِل الْكِتَ ِ‬ ‫اب لَْو يَُرُّدونَ ُك ْم ِم ْن بَ ْع ِد إِميَانِ ُك ْم ُك َف ًارا َح َس ًدا ِم ْن ِعْن ِد أَنْ ُف ِس ِه ْم ِم ْن بَ ْع ِد‬ ‫ْ‬ ‫اّللِ‬ ‫ِ‬ ‫ني َهلُ​ُم ْ‬ ‫اب ِم ْن ِعْن ِد َ‬ ‫َما تَبَ َ َ‬ ‫اِلَ ُّق﴾[البقرة‪ .]109 :‬وقال تعاىل‪َ ﴿ :‬ولَ َما َجاءَ ُه ْم كتَ ٌ‬ ‫َِ‬ ‫م ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ين َك َفُروا فَلَ َما َجاءَ ُه ْم َما َعَرفُوا‬ ‫َُ‬ ‫صد ٌق ل َما َم َع ُه ْم َوَكانُوا م ْن قَ ْب ُل يَ ْستَ ْفت ُحو َن َعلَى الذ َ‬ ‫ِ‬ ‫َك َفروا بِ​ِه فَلَعنةُ َِ‬ ‫ين ۝ بِْئ َس َما ا ْش َ​َرتْوا بِ​ِه أَنْ ُف َس ُه ْم أَ ْن يَ ْك ُفُروا ِمبَا أَنْ َزَل‬ ‫َْ‬ ‫اّلل َعلَى الْ َكاف ِر َ‬ ‫ُ‬ ‫ِ ِ ِ​ِ‬ ‫اّلل ِمن فَ ْ ِ ِ‬ ‫ضٍ‬ ‫ضٍ‬ ‫ب‬ ‫َ‬ ‫ب َعلَى َغ َ‬ ‫ضله َعلَى َم ْن يَ َشاءُ م ْن عبَاده فَبَاءُوا بِغَ َ‬ ‫اّللُ بَ ْغيًا أَ ْن يُنَ ِزَل َُ ْ‬ ‫ِ ِ ِ​ِ‬ ‫ولِْل َكافِ ِرين ع َذاب م ِهني ۝ ِمن فَ ْ ِ ِ‬ ‫ضٍ‬ ‫ب‬ ‫ضله َعلَى َم ْن يَ َشاءُ م ْن عبَاده فَبَاءُوا بِغَ َ‬ ‫َ َ ٌ ُ ٌ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫علَى َغ ٍ ِ ِ‬ ‫ني ﴾[البقرة‪ 89 :‬ـ ‪.]90‬‬ ‫َ‬ ‫اب ُم ِه ٌ‬ ‫َ‬ ‫ين َع َذ ٌ‬ ‫ضب َول ْل َكاف ِر َ‬ ‫***‬

‫‪197‬‬


‫الفصل اخلامس ‪ :‬القرآن الكرمي نسخ الكتب السابقة كلها‬ ‫ينسخ الكتب السابقة كلها وينزل كتابه الخري ليبقى يف‬ ‫شاء هللا سبحانه وتعاىل أن َ‬

‫يرس ُل إىل قومه خاصة‪ ،‬بينما‬ ‫الرض إىل قيا الساعة‪ ،‬كان كل رسول من السابقني َ‬ ‫بعِ‬ ‫َاس‬ ‫ن‬ ‫ال‬ ‫ا‬ ‫ه‬ ‫َي‬ ‫أ‬ ‫َي‬ ‫﴿‬ ‫تعاىل‪:‬‬ ‫قال‬ ‫كافة‪،‬‬ ‫ية‬ ‫ر‬ ‫البش‬ ‫إىل‬ ‫وسلم‬ ‫عليه‬ ‫هللا‬ ‫صلى‬ ‫حممد‬ ‫الرسول‬ ‫ث‬ ‫ُّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ِ َِ‬ ‫ك ال َسماو ِ‬ ‫ول َِ ِ‬ ‫ات َوال َْر ِ‬ ‫ض الَ إِلَهَ إِالَ ُه َو ُُْييِي‬ ‫إِ​ِين َر ُس ُ‬ ‫اّلل إلَْي ُك ْم َمج ًيعا الذي لَهُ ُم ْل ُ َ َ‬ ‫ِ‬ ‫َيب ال ُِم ِي الَ ِذي يُ ْؤِم ُن ِاب َّللِ َوَكلِ َماتِ​ِه َواتَبِعُوهُ لَ َعلَ ُك ْم‬ ‫يت فَ ِآمنُوا ِاب َّللِ َوَر ُسولِ​ِه النِ ِ‬ ‫َوُمي ُ‬ ‫اك إِالَ َكافَةً لِلن ِ‬ ‫َاس بَ ِش ًريا َونَ ِذ ًيرا﴾‬ ‫َِتْتَ ُدو َن﴾ [األعراف‪ .]158 :‬وقال تعاىل‪َ ﴿ :‬وَما أ َْر َس ْلنَ َ‬ ‫[سبأ‪.]28 :‬‬

‫وكذلك كانت الكتب السابقة تنزل لقوا معينني‪ ،‬بينما أنزل القرآن للناس كافة‪،‬‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ني ﴾ [القلم‪.]52 :‬‬ ‫قال تعاىل‪َ ﴿ :‬وَما ُه َو إِالَ ذ ْكٌر ل ْل َعالَم َ‬ ‫لذلك اقتضت مشيئة هللا أن ينسخ هذا الكتاب الشامل الكامل ما سبقه من‬ ‫الكتب مجيعاً‪ ،‬ويهيمن عليها‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬وأَنْزلْنَا إِلَي َ ِ‬ ‫ص ِدقًا لِ َما‬ ‫َ َ ْ‬ ‫اب ِاب ِْلَِق ُم َ‬ ‫ك الْكتَ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ني ي َديِْه ِمن الْ ِكتَ ِ‬ ‫اّللُ َوالَ تَتَبِ ْع أ َْه َواءَ ُه ْم َع َما‬ ‫اح ُك ْم بَْي نَ ُه ْم ِمبَا أَنْ َزَل َ‬ ‫اب َوُم َهْيمناً َعلَْيه فَ ْ‬ ‫بَْ َ َ‬ ‫َ‬ ‫اّلل َجلعلَ ُكم أَُمةً و ِ‬ ‫اِل ِق لِ ُك ٍل جع ْلنَا ِمْن ُكم ِشرعةً وِ‬ ‫جاء َك ِ‬ ‫اء‬ ‫ش‬ ‫و‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫ا‬ ‫اج‬ ‫ه‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫اح َدةً‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َْ َ ُ‬ ‫ْ َ‬ ‫ْ ْ َ‬ ‫َ​َ َ‬ ‫ِ ِ‬ ‫اّللِ مرِجع ُكم َِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫آَت ُكم فَ ْ ِ‬ ‫مج ًيعا فَيُنَ بِئُ ُك ْم ِمبَا ُكْن تُ ْم‬ ‫استَب ُقوا ا ْخلَْ َريات إ َىل َ َ ْ ُ ْ‬ ‫َولَك ْن ليَ ْب لَُوُك ْم ِيف َما َ ْ‬ ‫ِ​ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫اح َذ ْرُه ْم أَ ْن‬ ‫اح ُك ْم بَْي نَ ُه ْم ِمبَا أَنْ َزَل َ‬ ‫اّللُ َوالَ تَتَبِ ْع أ َْه َواءَ ُه ْم َو ْ‬ ‫فيه َختْتَل ُفو َن ۝ َوأَن ْ‬ ‫اّلل أَ ْن ي ِ‬ ‫صيبَ ُه ْم بِبَ ْع ِ‬ ‫وك َع ْن بَ ْع ِ‬ ‫ض‬ ‫ض َما أَنْ َزَل َ‬ ‫يَ ْفتِنُ َ‬ ‫اعلَ ْم أَ​َمنَا يُِر ُ‬ ‫اّللُ إِلَْي َ‬ ‫ك فَِإ ْن تَ َولَْوا فَ ْ‬ ‫يد َُ ُ‬ ‫اس ُقو َن ۝ أَفَح ْكم ْ ِ ِ ِ‬ ‫َاس لَ​َف ِ‬ ‫ذُنُوهبِ​ِ ْم َوإِ َن َكثِ ًريا ِم َن الن ِ‬ ‫َح َس ُن ِم َن‬ ‫اجلَاهليَة يَْب غُو َن َوَم ْن أ ْ‬ ‫ُ َ‬ ‫اّللِ ُح ْك ًما لَِق ْوٍ يُوقِنُو َن ﴾ [املائدة‪ 48 :‬ـ ‪.]50‬‬ ‫َ‬ ‫‪198‬‬


‫ومل يعد يقبل من أحد أن يستمسك مبا سبق من الكتب ويرفض القرآن‪ ،‬قال تعاىل‪:‬‬ ‫اب لَستُم علَى َشي ٍء ح َىت تُِقيموا التَوراةَ وا ِإل ِْ‬ ‫﴿قُل َيأ َْهل الْ ِكتَ ِ‬ ‫يل َوَما أُنْ ِزَل إِلَْي ُك ْم ِم ْن‬ ‫جن‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ​ْ‬ ‫ُ َْ َ َ‬ ‫َْ َ‬ ‫ْ‬ ‫َربِ ُك ْم﴾ [املائدة‪.]68 :‬‬ ‫وإقامة التوراة واإلجنيل ابلنسبة لهل الكتاب املخاطبني هبذه االية معناها‪ :‬اإلقرار‬

‫بوحدانية هللا‪ ،‬ذلك أن التوراة واإلجنيل املنَزلني من عند هللا يقرران هذه الوحدانية‬ ‫تقريراً جازماً‪ ،‬ولك َن أهل الكتاب حرفومها‪ ،‬فاملطلوب منهم هو إقامتها مرة أخرى‪،‬‬ ‫أي‪ :‬الرجوع إىل أصل التوحيد‪ ،‬مث إن التوراة واإلجنيل قد ذكرا حممداً صلى هللا عليه‬ ‫وسلم وأمرا ابتباعه عند ظهوره‪ ،‬فإقامتهما معناها واإلميان ابلرسول صلى هللا عليه‬ ‫اّللِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ين ِعْن َد َ‬ ‫وسلم‪ ،‬وما نزل عليه من وحي‪ ،‬أي‪ :‬اإلسال ‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬إ َن الد َ‬ ‫ا ِإل ْسالَ ُ﴾ [آل عمران‪.]19 :‬‬ ‫وقال تعاىل‪َ ﴿ :‬وَم ْن يَْب تَ ِغ َغ ْ َري ا ِإل ْسالَِ ِديناً فَلَ ْن يُ ْقبَ َل ِمْنهُ َوُه َو ِيف اآلخرةِ ِم َن‬ ‫اخل ِ‬ ‫ِ‬ ‫ين ﴾ [آل عمران‪.]85 :‬‬ ‫ر‬ ‫اس‬ ‫َْ َ‬ ‫يسمع يب أح ٌد‬ ‫نفس حمم ٍد بيده‪ ،‬ال‬ ‫ُ‬ ‫وقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪« :‬والذي ُ‬ ‫يؤمن ابلذي أرسلت به إال كان من‬ ‫من هذه المة‬ ‫ٌّ‬ ‫يهودي وال نصراينٌّ‪ ،‬مث ُ‬ ‫ميوت وال ُ‬ ‫ِ‬ ‫أصحاب النا ِر»(‪.)1‬‬ ‫***‬

‫(‪ )1‬صحيح مسلم بشرح النووي (‪.)160/2‬‬

‫‪199‬‬


‫خالصة الباب‬ ‫ضح لنا‪:‬‬ ‫ويف خالصة هذا الباب يتّ ُ‬

‫‪ 1‬أن هللا عز وجل أنزل كتباً ورد ذكرها يف القرآن الكرمي‪ ،‬هي برتتيبها التارُيي كما‬ ‫أييت‪ :‬صحف إبراهيم التوراة الزبور اإلجنيل القرآن‪.‬‬ ‫‪ 2‬وأن هذه الكتب مجيعاً حتتوي على حقيقة أساسية هي وحدانية هللا عز وجل‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫إخالص العبادة له من غري شريك‪ ،‬وطاعتُه فيما أيمر به وينهى عنه‪.‬‬ ‫ووجوب‬ ‫ُ‬

‫وجود يف صورِتا املنزلة؛ لهنا إما‬ ‫‪ 3‬أن الكتب السابقة على القرآن مل يعد هلا ٌ‬ ‫ضاعت‪ ،‬ومل يعد هلا أثر معروف‪ ،‬كصحف إبراهيم‪ ،‬وإما حرفت على أيدي‬ ‫أصحاهبا كالتوراة واإلجنيل‪.‬‬ ‫الغالب إما ابلتغيري واإلضافة‪ ،‬وإما ابلكتمان‪ ،‬ومن أبرز اإلضافات‬ ‫‪ 4‬أن التحريف‬ ‫َ‬ ‫أساطريُ التوراة‪ ،‬وقصةُ أتليه عيسى عليه السال ‪ ،‬وقصةُ التثليث‪ ،‬ومن أبرز ما كتموه‬ ‫اإلخبار عن بعثة الرسول صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬ ‫ُ‬

‫نسخ الكتب السابقة كلها ما ضاع منها وما حرف‪،‬‬ ‫‪ 5‬أن مشيئة هللا قد اقتضت َ‬ ‫وأنزل القرآن مصدقاً ملا بني يديه من الكتاب‪ ،‬ومهيمناً عليه‪ ،‬وانسخاً لكل ما سبق‬

‫تنزيله من عند هللا‪.‬‬ ‫***‬

‫‪200‬‬


‫اخلامتـة‬ ‫وبعد؛ فهذا ما يسره هللا يل من اِلديث عن اإلميان ابلقرآن الكرمي والكتب السماوية‬ ‫يف هذا الكتاب‪ ،‬وقد مسيته «اإلميان ابلقرآن الكرمي والكتب السماوية»‪ ،‬فما كان فيه‬ ‫أتوب إليه‪ ،‬وهللاُ ورسولُه بريئان منه‪ ،‬وحسيب أين‬ ‫من خطأ‪،‬‬ ‫فأستغفر هللا تعاىل‪ ،‬و ُ‬ ‫ُ‬ ‫كنت حريصاً أال أقع يف اخلطأ‪ ،‬وعسى أال أحرَ من الجر‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ينفع هبذا الكتاب اإلنسان أينما وجد‪ ،‬ويكون سبباً يف زَيدة إميانه‪،‬‬ ‫وأدعو هللا أن َ‬ ‫وهدايته‪ ،‬أو تعليمه‪ ،‬أو تذكريه‪ ،‬وأن يذكرين من يقرؤه من إخواين املسلمني يف‬

‫دعائه‪ ،‬فإن دعوة الخ لخيه بظهر الغيب مستجابةٌ إن شاء هللا تعاىل‪ .‬وأختم هذا‬ ‫َِ‬ ‫اّللُ َعلَْي ِه ْم‬ ‫ين أَنْ َع َم َ‬ ‫الكتاب بقول هللا تعاىل‪َ ﴿ :‬وَم ْن يُ ِط ِع َ‬ ‫اّللَ َوالَر ُسوَل فَأُولَئِ َ‬ ‫ك َم َع الذ َ‬ ‫الص ِد ِيقني والشُّه َد ِاء وال َ ِ​ِ‬ ‫ِمن النَبِيِني و ِ‬ ‫ك َرفِي ًقا ﴾ [النساء‪.]69 :‬‬ ‫ني َو َح ُس َن أُولَئِ َ‬ ‫صاِل َ‬ ‫َ​َ َ َ‬ ‫َ​َ‬ ‫َ‬ ‫وبقول الشاعر‪:‬‬

‫َي ُمْن‬

‫ِزَل اآلَيت وال ُفرق‬

‫ِ‬ ‫ان‬

‫ك ُحْرَم ةُ الق رآن‬ ‫بي ين وبين َ‬ ‫واعص م ب ه قَ ْل ِيب ِم ن ال َش ِ‬ ‫يطان‬ ‫ْ‬ ‫َ‬

‫اش ر ْح ب ه ص دري ملعرف ِة اهلُ َدى‬

‫وأ َِج‬

‫يَ ِس ْر ب ه أ َْم ِري واقْ ِ‬ ‫ض م اريب‬ ‫َخلِ ص نيَ يت‬ ‫احطُ ْط ب ه وزري وأ ْ‬ ‫وْ‬ ‫وح ِق ق ت وبيت‬ ‫وا ْك ِش ْ‬ ‫فبه ُ‬ ‫ض ِري َ‬

‫ْر ب ه َج َس ِدي م ن النِ َري ِان‬ ‫َص لِ ْح َش اين‬ ‫ُد ْد ب ه أ َْزِري وأ ْ‬

‫وا ْش‬ ‫و ْأربِ ْح ب ه بَْيعِ ي ب ال ُخ ْس ر ِان‬ ‫أ ِْ‬ ‫َمج ْل ب ه ذك ري َوأ َْع ِل َم َك اين‬

‫طَ ِه ر ب ه قل يب‪ ،‬وص ِ‬ ‫ف س ريريت‬ ‫ْ‬ ‫وش ِرف مهَ يت‬ ‫واقْطَ ْع ب ه طَ َمعِ ي َ‬

‫َكث‬

‫َس ِهْر ب ه لَْيلِ ي َوأَظْ ِم َج َوا ِرِحي‬ ‫أْ‬

‫أس‬ ‫ْ‬ ‫‪201‬‬

‫ِ‬ ‫أح ي َجنَ اين‬ ‫ْر ب ه َوَرع ي َو ْ‬ ‫بِ ْل بَِف ْي ِ‬ ‫أج َف اين‬ ‫ض دموعه ا ْ‬


‫وا ْغ ِس‬

‫و ْامُز ْج هُ َي ر ِ‬ ‫ب بِلَ ْح ِم ي َم ْع َد ِم ي‬ ‫َ‬

‫وخلَ ْقتَ ِين‬ ‫أَنْ َ‬ ‫ص َوْرتَِين َ‬ ‫ت ال ذي َ‬ ‫أَنْ َ َ‬ ‫ورِْحْتَ ِين‬ ‫ت ال ذي َعلَ ْمتَ ِين َ‬ ‫ت الَ ذي أَطْ َع ْمتَ ِين َو َس َقْي تَِين‬ ‫أَنْ َ‬

‫َوَه‬

‫َو َج َع ْل‬ ‫ِم ْن َغ ِْري َكس ِ‬ ‫ب يَ ٍد وال ُد َك‬ ‫ْ‬ ‫اإلح َس‬ ‫َو َغ َم ْرتَِين ِابل َف ْ‬ ‫ض ِل و ْ‬

‫ص ْرتَِين‬ ‫َو َج َْربتَ ِين َو َس َْرتتَِين َونَ َ‬ ‫ت الَ ِذي َاويْتَ ِين َو َحْب وتَِين‬ ‫أَنْ َ‬ ‫َوَزَر ْع‬ ‫َونَ َش‬

‫َض‬ ‫ْل ب ه قَ ْل ِيب ِم َن ال ْ‬ ‫ِ‬ ‫َديْتَِين ل َش َرائِ ِع ا ِإلْميَ‬ ‫ت ص ْد ِري و ِ‬ ‫اع َي الق رآن‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫غَ ِ‬ ‫ان‬ ‫ِ‬ ‫ان‬ ‫ِ‬ ‫ان‬ ‫ِ‬ ‫ان‬

‫وه َدي تَِين ِم ن ح ريةِ اخلُ ْذ ِ‬ ‫الن‬ ‫َ​َ ْ‬ ‫ْ َ َْ‬ ‫والعط ف من ك برْح ٍة وحنَ ِ‬ ‫ان‬ ‫َ‬

‫ني ال ُقلُ و ِ‬ ‫ب َم َود ًة‬ ‫ت يل بَ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫رت يل يف الع املني َحم ِ‬ ‫اس ناً‬ ‫َ َ‬ ‫َْ‬

‫ت َع‬ ‫َو َس َْرت َ‬ ‫َح َىت َج َع ْل‬

‫ت ِذ ْك ِري يف َِ‬ ‫الربيَ ِة ش ائِعاً‬ ‫َو َج َع ْل َ‬ ‫وهللاِ ل و َعلِ ُم وا قَبِ ْي َح َس ِريْ َرِيت‬

‫ص‬ ‫ْن أبْ َ‬ ‫ت َِ‬ ‫مج‬ ‫َ‬

‫ِ ِ‬ ‫ص‬ ‫ا ِره ْم ع ْ‬ ‫ْي َع ُهم إِ ْخ‬

‫يَ ِاين‬ ‫َوِاين‬

‫لَب ال َس ال َ َعل َي َم ْن يَ ْل َق ِاين‬ ‫َ‬ ‫ت بَ ْع َد كرام ٍة ِهبَ َو ِان‬ ‫ولَبُ ْؤ ُ‬ ‫ِ‬ ‫ت ع ن َس ْق ِطي وع ن طُ ْغي ِاين‬ ‫َو َحل ْم َ‬

‫ص ْحبَِيت‬ ‫َول ْ‬ ‫َعَر ُ‬ ‫ض ْوا َع ِين َوَملُّ وا ُ‬ ‫ِ‬ ‫ومثَ الِ​ِيب‬ ‫لك ْن َس َْرت َ‬ ‫ت َم َع اييب َ‬

‫ِخبَ و ِ‬ ‫اطري َو َج َوا ِرِحي َولِ َس ِاين‬ ‫َ‬

‫ك امل َح ِام ُد وامل َدائِ ُح كلُّه ا‬ ‫فل َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬

‫أنت‪ ،‬أستغفرك‪ ،‬وأتوب إليك‪.‬‬ ‫سبحانك اللهم وحبمدك‪ُ ،‬‬ ‫أشهد أن ال إله إال َ‬ ‫***‬

‫‪202‬‬


‫فهرس املوضوعات‬ ‫اإلهداء‪3......................................................................‬‬ ‫الباب الول ‪ :‬اإلميان ابلقرآن الكرمي ‪8............................................‬‬ ‫الفصل الول ‪ :‬القرآن الكرمي ‪9...............................................‬‬ ‫املبحث الول ‪ :‬تعريف القرآن الكرمي ‪10 ..................................‬‬ ‫أوالً القرآن لغة‪10 ..................................................‬‬ ‫اثنياً القرآن اصطالحاً ‪12 ...........................................‬‬ ‫املبحث الثاين ‪ :‬عظمة القرآن الكرمي ‪13 ...................................‬‬ ‫‪ 1‬ثناء هللا على كتابه ‪13 .........................................‬‬ ‫‪ 2‬عظمة ُمنَ ِزلِ​ِه سبحانه وتعاىل ‪14 ................................‬‬ ‫فضل جربيل الذي نزل ابلقرآن ‪15 .............................‬‬ ‫‪3‬‬ ‫ُ‬ ‫‪ 4‬القرآن تنزيل رب العاملني ‪16 ...................................‬‬ ‫‪ 5‬القرآن مستقيم ليس فيه عوج ‪16 ...............................‬‬ ‫‪ 6‬خشوع اجلبال وتصدُّعها ‪18 ...................................‬‬ ‫‪ 7‬انقياد اجلمادات لعظمة القرآن ‪19 .............................‬‬ ‫‪ 8‬حتدي اإلنس واجلن ابلقرآن ‪20 ................................‬‬ ‫املبحث الثالث ‪ :‬أمساء القرآن الكرمي ‪22 ...................................‬‬ ‫‪ 1‬الفرقان ‪22 ..................................................‬‬ ‫‪ 2‬الربهان ‪23 ..................................................‬‬ ‫‪ 3‬اِلق ‪24 ....................................................‬‬ ‫‪4‬‬ ‫‪5‬‬ ‫‪6‬‬ ‫‪7‬‬ ‫‪8‬‬

‫النبأ العظيم ‪26 ..............................................‬‬ ‫البالغ‪27 ...................................................‬‬ ‫الروح‪27 ....................................................‬‬ ‫املوعظة ‪28 ..................................................‬‬ ‫الشفاء ‪28 ..................................................‬‬ ‫‪203‬‬


‫‪ 9‬أحسن اِلديث‪29 ...........................................‬‬ ‫صفات القرآن الكرمي ‪31 ..................................‬‬ ‫املبحث الرابع ‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫‪ 1‬اِلكيم ‪31 ..................................................‬‬ ‫‪ -2‬العزيز ‪32 ...................................................‬‬ ‫‪ 3‬الكرمي ‪33 ...................................................‬‬ ‫‪ 4‬اجمليد ‪34 ....................................................‬‬ ‫‪ 5‬العظيم ‪34 ..................................................‬‬ ‫‪ 6‬البشري والنذير ‪35 ............................................‬‬ ‫‪ 7‬ال أيتيه الباطل من بني يديه وال من خلفه ‪35 ...................‬‬ ‫الفصل الثاين ‪ :‬خصائص القرآن الكرمي ‪36 ....................................‬‬ ‫أوالً القرآن الكرمي كتاب إهلي ‪37 .....................................‬‬ ‫اثنياً القرآن الكرمي كتاب حمفوظ ‪39 ..................................‬‬ ‫اثلثاً القرآن الكرمي كتاب معجز ‪41 ...................................‬‬ ‫‪ 1‬تعريف املعجزة ‪42 ...........................................‬‬ ‫‪ 2‬شروط املعجزة‪42 .............................................‬‬ ‫‪ 3‬القرآن الكرمي هو املعجزة العظمى ‪43 ............................‬‬ ‫‪ 4‬وجوه إعجاز القرآن ‪47 ........................................‬‬ ‫مبني ومي َسٌر ‪49 ...................................‬‬ ‫كتاب َ ٌ‬ ‫رابعاً القرآن ٌ‬ ‫خامساً القرآن الكرمي كتاب هداية ‪50 ................................‬‬ ‫سادساً القرآن الكرمي كتاب اإلنسانية كلها ‪54 .........................‬‬ ‫سابعاً القرآن الكرمي كتاب الزمن كله ‪57 ..............................‬‬ ‫اثمناً القرآن الكرمي نزل أبرقى اللغات وأمجعها‪58 .......................‬‬ ‫ِ‬ ‫هيمن عليها ‪59 ........‬‬ ‫َتسعاً القرآن الكرمي مصد ٌق لكتب هللا السابقة ُ‬ ‫وم ٌ‬ ‫‪ 1‬عالقة اهليمنة ابلتصديق ‪60 ...................................‬‬ ‫‪ 2‬مظاهر هيمنة القرآن على الكتب السابقة ‪60 ...................‬‬ ‫‪204‬‬


‫الفصل الثالث ‪ :‬مقاصد القرآن الكرمي ‪63 .....................................‬‬ ‫أوالً تصحيح العقائد والتصورات ‪64 ..................................‬‬ ‫اثنياً تزكية النفس البشرية ‪68 .........................................‬‬ ‫اثلثاً عبادة هللا وتقواه ‪70 ............................................‬‬ ‫رابعاً إقامة العدل بني الناس ‪78 ......................................‬‬ ‫خامساً الشورى‪80 .................................................‬‬ ‫سادساً اِلرية ‪82 ...................................................‬‬ ‫‪ 1‬حرية االعتقاد ‪86 ............................................‬‬ ‫‪ 2‬حرية التعبري «القوال» ‪88 ....................................‬‬ ‫‪ 3‬حرية الفكر ‪90 ..............................................‬‬ ‫‪ 4‬حرية التنقل ‪94 ..............................................‬‬ ‫سابعاً رفع اِلرج ‪96 ................................................‬‬ ‫اثمناً تقرير كرامة اإلنسان ‪98 ........................................‬‬ ‫‪ 1‬اإلنسان خليفة يف الرض ‪99 .................................‬‬ ‫‪2‬‬ ‫‪3‬‬ ‫‪4‬‬ ‫‪5‬‬ ‫‪6‬‬ ‫‪7‬‬ ‫‪8‬‬ ‫َتسعاً‬ ‫‪1‬‬ ‫‪2‬‬ ‫‪3‬‬

‫اإلنسان حمور الرساالت السماوية ‪99 ...........................‬‬ ‫تكليف املالئكة ابلسجود آلد ‪100 ...........................‬‬ ‫تفضيل اإلنسان عن سائر املخلوقات ‪101 .....................‬‬ ‫تسخري ما يف الكون لإلنسان ‪101 ............................‬‬ ‫تكرمي اإلنسان ابلعقل ‪102 ...................................‬‬ ‫تكرمي اإلنسان ابلخالق والفضائل ‪104 ........................‬‬ ‫تكرمي اإلنسان يف تشريع الحكا ‪105 ........................‬‬ ‫تقرير حقوق اإلنسان ‪108 ....................................‬‬ ‫حق اِلياة ‪108 .............................................‬‬ ‫حق اِلرية ‪108 .............................................‬‬ ‫حق املساواة ‪109 ...........................................‬‬ ‫‪205‬‬


‫‪ 4‬حق العدالة ‪110 ............................................‬‬ ‫‪ 5‬حق الفرد يف حماكمة عادلة ‪111 ..............................‬‬ ‫‪ 6‬حق اِلماية من تعسف السلطة ‪112 ..........................‬‬ ‫‪ 7‬حق الفرد يف ْحاية عرضه ومسعته ‪112 .........................‬‬ ‫‪ 8‬حق اللجوء ‪113 ............................................‬‬ ‫‪ 9‬حقوق القليات ‪113 ........................................‬‬ ‫‪ 10‬حق املشاركة يف اِلياة العامة ‪114 ...........................‬‬ ‫‪ 11‬حق الدعوة والبالغ ‪114 ...................................‬‬ ‫‪ 12‬اِلقوق االقتصادية ‪115 ....................................‬‬ ‫‪ 13‬حق ْحاية امللكية ‪116 .....................................‬‬ ‫‪ 14‬حق العامل ‪117 ..........................................‬‬ ‫‪ 15‬حق الفرد يف كفايته من مقومات اِلياة ‪117 ..................‬‬ ‫‪ 16‬أتكيد حقوق الضعفاء‪118 .................................‬‬ ‫عاشراً تكوين السرة الصاِلة ‪121 ...................................‬‬ ‫اِلادي عشر إنصاف املرأة وحتريرها من ظلم اجلاهلية ‪126 ..............‬‬ ‫‪ 1‬يف مساواة املرأة للرجل يف التكليف والتدين والعبادة ‪128 .........‬‬ ‫‪ 2‬يف التكاليف الدينية االجتماعية الساسية ‪128 .................‬‬ ‫‪ 3‬ويف قصة آد تو َجه التكليف اإلهلي إليه وإىل زوجه ‪128 .........‬‬ ‫‪ 4‬ويف مساواة املرأة للرجل يف اجلزاء ‪129 .........................‬‬ ‫‪ 5‬ويف اِلقوق املالية للمرأة ‪129 .................................‬‬ ‫‪ 6‬املرأة ابعتبارها أماً‪130 .......................................‬‬ ‫‪ 7‬املرأة ابعتبارها بنتاً ‪131 .......................................‬‬ ‫‪ 8‬املرأة ابعتبارها زوجة ‪133 .....................................‬‬ ‫‪ 9‬احملافظة على أنوثة املرأة ‪135 ..................................‬‬ ‫الثاين عشر بناء المة الشهيدة على الناس ‪138 .......................‬‬ ‫‪206‬‬


‫‪ 1‬الرابنية‪140 .................................................‬‬ ‫‪ 2‬الوسطية ‪141 ...............................................‬‬ ‫‪ 3‬الدعوة ‪141 ................................................‬‬ ‫‪ 4‬الوحدة ‪142 ................................................‬‬ ‫الثالث عشر السماحة ‪143 .........................................‬‬ ‫الرابع عشر الرْحة ‪147 .............................................‬‬ ‫اخلامس عشر الوفاء ابلعهود والعقود ‪151 ............................‬‬ ‫‪ 1‬الرتغيب ابلوفاء ابلعهد ‪151 ..................................‬‬ ‫‪ 2‬الوامر القرآنية ابلوفاء ابلكيل والوزن ‪152 ......................‬‬ ‫‪ 3‬المر ابلوفاء ابلعقود ‪156 .....................................‬‬ ‫‪ 4‬المر ابلوفاء ابلنذر ‪156 ......................................‬‬ ‫‪ 5‬تنويه القرآن الكرمي أبهل الوفاء ‪157 ............................‬‬ ‫‪ 6‬ما أعده هللا لهل الوفاء من الجر واجلزاء ‪159 ..................‬‬ ‫الفصل الرابع ‪ :‬مجع القرآن الكرمي وكتابته‪161 .................................‬‬ ‫أوالً مجع القرآن الكرمي كتابة من فم رسول هللا ﷺ ‪162 ................‬‬ ‫اثنياً مجع القرآن الكرمي يف مصحف واحد‪166 ........................‬‬ ‫اثلثاً مجع القرآن الكرمي يف عدد من املصاحف ‪171 ....................‬‬ ‫‪ 1‬الباعث على مجع القرآن يف عهد عثمان رضي هللا عنه ‪171 .......‬‬ ‫‪ 2‬استشارة مجهور الصحابة يف مجع عثمان ‪174 ...................‬‬ ‫رابعاً هل املصاحف العثمانية مشتملة على مجيع الحرف السبعة؟ ‪175 ..‬‬ ‫خامساً عدد املصاحف اليت أرسلها عثمان إىل المصار ‪177 ...........‬‬ ‫سادساً الفرق بني مجع الصديق‪ ،‬ومجع عثمان رضي هللا عنهما ‪178 .....‬‬ ‫الباب الثاين ‪ :‬اإلميان ابلكتب السماوية ‪179 .....................................‬‬ ‫الفصل الول ‪ :‬أمهية اإلميان ابلكتب السماوية‪180 ............................‬‬ ‫الفصل الثاين ‪ :‬وجوب اإلميان ابلكتب السماوية ‪182 ..........................‬‬ ‫‪207‬‬


‫الفصل الثالث ‪ :‬الكتب اليت ورد ذكرها يف القرآن الكرمي ‪185 ...................‬‬ ‫‪ 1‬الصحف ‪185 ..............................................‬‬ ‫‪ 2‬التوراة ‪185 .................................................‬‬ ‫‪ 3‬اإلجنيل ‪188 ................................................‬‬ ‫‪ 4‬الزبور ‪191 .................................................‬‬ ‫الفصل الرابع ‪ :‬حتريف الكتب السماوية السابقة ‪192 ..........................‬‬ ‫‪ 1‬حتريف املعىن مع بقاء اللفظ على ما هو عليه ‪192 ..............‬‬ ‫‪ 2‬التحريف ابلتغيري واإلضافة ‪193 ...............................‬‬ ‫‪ 3‬التحريف ابلكتمان‪195 ......................................‬‬ ‫الفصل اخلامس ‪ :‬القرآن الكرمي نسخ الكتب السابقة كلها ‪198 .................‬‬ ‫خالصة الباب‪200 ............................................................‬‬ ‫اخلاَت ة ‪201 ...................................................................‬‬ ‫فهرس املوضوعات ‪203 ........................................................‬‬ ‫كتب صدرت للمؤلف ‪209 ....................................................‬‬

‫‪208‬‬


‫كتب صدرت للمؤلف‬ ‫‪ 1‬السرية النبوية عرض وقائع وحتليل أحداث‬ ‫‪ 2‬سرية اخلليفة الول أبو بكر الصديق رضي هللا عنه شخصيته وعصره‬ ‫‪ 3‬سرية أمري املؤمنني عمر بن اخلطاب رضي هللا عنه شخصيته وعصره‬ ‫‪ 4‬سرية أمري املؤمنني عثمان بن عفان رضي هللا عنه شخصيته وعصره‬ ‫‪ 5‬سرية أمري املؤمنني علي بن أيب طالب رضي هللا عنه شخصيته وعصره‬ ‫‪ 6‬سرية أمري املؤمنني اِلسن بن علي بن أيب طالب شخصيته وعصره‬ ‫‪ 7‬الدولة العثمانية عوامل النهوض والسقوط‬ ‫‪ 8‬فقه النصر والتمكني يف القرآن الكرمي‬ ‫‪َ 9‬تريخ اِلركة السنوسية يف إفريقيا‬ ‫‪َ 10‬تريخ دوليت املرابطني واملوحدين يف الشمال اإلفريقي‬ ‫‪ 11‬عقيدة املسلمني يف صفات رب العاملني‬ ‫‪ 12‬الوسطية يف القرآن الكرمي‬ ‫‪ 13‬الدولة الموية عوامل االزدهار وتداعيات االهنيار‬ ‫‪ 14‬معاوية بن أيب سفيان شخصيته وعصره‬ ‫‪ 15‬عمر بن عبد العزيز شخصيته وعصره‬ ‫‪ 16‬خالفة عبد هللا بن الزبري‬ ‫‪ 17‬عصر الدولة الزنكية‬ ‫‪ 18‬عماد الدين زنكي‬ ‫‪209‬‬


‫‪ 19‬نور الدين حممود‬ ‫‪ 20‬دولة السالجقة‬ ‫‪ 21‬اإلما الغزايل وجهوده يف اإلصالح والتجديد‬ ‫‪ 22‬الشيخ عبد القادر اجليالين‬ ‫‪ 23‬الشيخ عمر املختار‬ ‫‪ 24‬عبد امللك بن مروان بنوه‬ ‫‪ 25‬فكر اخلوارج والشيعة يف ميزان أهل السنة واجلماعة‬ ‫‪ 26‬حقيقة اخلالف بني الصحابة‬ ‫‪ 27‬وسطية القرآن يف العقائد‬ ‫‪ 28‬فتنة مقتل عثمان‬ ‫‪ 29‬السلطان عبد اِلميد الثاين‬ ‫‪ 30‬دولة املرابطني‬ ‫‪ 31‬دولة املوحدين‬ ‫‪ 32‬عصر الدولتني الموية والعباسية وظهور فكر اخلوارج‬ ‫‪ 33‬الدولة الفاطمية‬ ‫‪ 34‬حركة الفتح اإلسالمي يف الشمال اإلفريقي‬ ‫‪ 35‬صالح الدين اليويب وجهوده يف القضاء على الدولة الفاطمية وحترير‬ ‫بيت املقدس‬ ‫‪ 36‬اسرتاتيجية شاملة ملناصرة الرسول (ﷺ) دروس مستفادة من اِلروب‬ ‫الصليبية‬ ‫‪210‬‬


‫‪ 37‬الشيخ عز الدين بن عبد السال سلطان العلماء‬ ‫‪ 38‬اِلمالت الصليبية (الرابعة واخلامسة والسادسة والسابعة) واليوبيون بعد‬ ‫صالح الدين‬ ‫‪ 39‬املشروع املغويل عوامل االنتشار وتداعيات االنكسار‬ ‫‪ 40‬سيف الدين قطز ومعركة عني جالوت يف عهد املماليك‬ ‫‪ 41‬اإلميان ابهلل جل جالله (‪)1‬‬ ‫‪ 42‬اإلميان ابليو االخر (‪)5‬‬ ‫‪ 43‬الشورى يف اإلسال‬ ‫‪ 44‬السلطان حممد الفاتح‬ ‫‪ 45‬اإلميان ابلقدر (‪)6‬‬ ‫‪ 46‬اإلميان ابملالئكة (‪)2‬‬ ‫‪ 47‬اإلميان ابلقرآن الكرمي والكتب السماوية (‪)3‬‬

‫‪211‬‬


‫مفكر ومؤرخ وفقيه‬ ‫ ولد يف مدينة بنغازي بليبيا عا ‪ 1383‬ه ‪1963 /‬‬‫ انل درجة اإلجازة العاملية (الليسانس) من كلية الدعوة وأصول الدين من جامعة املدينة‬‫املنورة عا ‪ ، 1993‬وابلرتتيب الول‪.‬‬ ‫ حصل على درجة املاجستري من كلية أصول الدين يف جامعة أ درمان اإلسالمية عا‬‫‪. 1996‬‬ ‫ انل درجة الدكتوراه يف الدراسات اإلسالمية أبطروحته فقه التمكني يف القرآن الكرمي‬‫من جامعة أ درمان اإلسالمية ابلسودان عا ‪. 1999‬‬ ‫ اشتهر مبؤلفاته واهتماماته يف علو القرآن الكرمي والفقه والتاريخ والفكر اإلسالمي‪.‬‬‫‪ -‬زادت مؤلفات الدكتور الصاليب عن ستني مؤل ًفا أبرزها‪:‬‬

‫‪ ‬السرية النبوية عرض وقائع وحتليل أحداث‬ ‫‪ ‬سري اخللفاء الراشدين‬ ‫‪ ‬الدولة اِلديثة املسلمة‬ ‫‪ ‬وسطية القرآن الكرمي يف العقائد‪.‬‬ ‫‪ ‬صفحات مشرقة من التاريخ اإلسالمي‪.‬‬ ‫‪َ ‬تريخ كفاح الشعب اجلزائري‬ ‫‪ ‬العدالة واملصاِلة الوطنية‬

‫‪ ‬وآخر مؤلفاته "اإلابضية‪ .‬مدرسة إسالمية بعيدة عن اخلوارج"‪.‬‬

‫‪212‬‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.