Days with Abdelaziz Khoja

Page 1



‫�أيام مع عبد العزيز‬ ‫حميي الدين خوجة‬ ‫سلسلة أيام معهم‪ :‬مجموعة قصص تمثيلية تحكي كل‬ ‫واحدة منها عن شاعر بأسلوب حديث‪ .‬البطلة الرئيسة‬ ‫هي فتاة تستحضر أبطالها‪ُ ،‬تحاورهم وتتعاطف معهم‬ ‫وتتعرف على حياتهم من خالل أحداث يروونها‬ ‫وأشعار يقرؤونها‪.‬‬


‫بريوت ـ لبنان‬ ‫© جميع احلقوق حمفوظة للم�ؤلفة‬ ‫الطبعة الثانية ‪2011‬‬ ‫تلفاك�س‪009615602752 :‬‬ ‫تلفون‪009613482587 :‬‬ ‫‪www.dar-alnokhba.com‬‬ ‫‪alnokhba@dar-alnokhba.com‬‬ ‫‪gharid@dar-alnokhba.com‬‬ ‫‪gharid9@hotmail.com‬‬

‫الت�صميم الفني والغالف‪ :‬غريد جحا‬


‫�إهداء‪..‬‬ ‫إلى الغارق أبدً ا‬

‫في هموم الوطن وآالمه‬ ‫دائما‬ ‫الساعي ً‬ ‫ّ‬

‫إلى تحقيق العدل والحرية‪...‬‬ ‫غريد الشيخ‬

‫بيروت ‪2001/8/1‬‬



‫�إ�شارة �ضوئية‬ ‫بقلم ‪ :‬محمد الفيتوري‬ ‫َ‬ ‫الجاذبية‬ ‫تغيرت كثير ًا‪ ،‬وأنني فقدت قدر ًا كبير ًا من تلك‬ ‫ّ‬ ‫أ ْح َس ُبني ّ‬ ‫الخاصة التي طالما اشتعلت بداخلي ك ّلما صادفت آي ًة من آيات‬ ‫ّ‬ ‫استثنائية من ظواهر‬ ‫الجمال‪ ،‬أو صورة من معجزات الطبيعة‪ ،‬أو ظاهرة‬ ‫ّ‬

‫الوجود‪.‬‬

‫ُترى كيف؟ ولماذا تالشت تلكم االنفعاالت واألحاسيس؟‬ ‫ويستفزني إلى‬ ‫ولماذا لم يعد شيء من هذا أو ذاك يستثير استغرابي‪،‬‬ ‫ّ‬

‫حدّ الجنون!‬

‫ربما حدث ذلك بسبب من ظروف اإلحباط النفسي العام‪ ،‬وضغوط‬ ‫النمطية لهذه الحياة التي نعيشها‪..‬‬ ‫اآللية‬ ‫ّ‬ ‫الواقع االجتماعي‪ ،‬أو لع ّلها نتاج ّ‬ ‫الم ِط ّلة على واقعنا العربي من أعلى‪ ،‬وافتقارنا‬ ‫إضافة إلى تماثل النماذج ُ‬

‫التطور والتجديد‪.‬‬ ‫كأ ّمة إلى‬ ‫ّ‬

‫المرة‬ ‫أحس في نفسي شيئ ًا من‬ ‫غير أنني رغم هذا ك ّله‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫التمرد هذه ّ‬ ‫ّ‬

‫فجرتها بداخلي‪ ،‬الكاتبة‬ ‫بعدما فاجأتني هذه الرغبة‬ ‫الملحة‪ ،‬التي ّ‬ ‫ّ‬ ‫الباحثة الجا ّدة غريد الشيخ‪ ،‬حين طلبت م ّني أن أساهم معها في إلقاء‬

‫بعض الضوء حول بعض ما قد يغمض على القارئ المستحدث‪ ،‬وهو‬ ‫‪7‬‬


‫الصوفية‪،‬‬ ‫يحاول اقتحام هذا العالم الغريب العجيب‪ ،‬المفعم باإلشارات‬ ‫ّ‬

‫والدالالت اللغوية‪ ،‬والمداخالت الفكر ّية‪ ،‬وتجاذبات اآلراء والمواقف‬

‫القصية‪ ،‬واألبعاد غير المحسوسة؛ وأعني به عالم الشاعر‬ ‫ذات المرامي‬ ‫ّ‬

‫العربي عبد العزيز محيي الدين خوجه‪..‬‬

‫وقلت لمحدّ ثتي إنه أحد أبرز شعراء جيله‪ ،‬الواقفين عند أقصى‬ ‫ِ‬ ‫وأنت عندما اخترتِه‪ ،‬لكي يصبح رابع‬ ‫الشعري المعاصر‪،‬‬ ‫درجات الس ّلم‬ ‫ّ‬

‫الرموز المضيئة في سلسلة كتاباتك (أ ّيام معهم) إنّما ات ِ‬ ‫ّكأت على قراءاتك‬ ‫والمتفحصة لمجمل أعماله الشعر ّية‪ ،‬وأيض ًا على ما وقر في‬ ‫المعمقة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ذهنك‪ ،‬من أصالة عطائه إيقاع ًا موسيقي ًا‪ ،‬ورؤيا إبداعية وتأمالت‪ ،‬وقبل‬ ‫هذا وذاك صدق معايشته لألرض ولقضايا العصر ولإلنسان‪..‬‬

‫ولربما خالفك البعض‪ ،‬ممن ال يعملون وال يحبون أن يعمل الناس‬ ‫توص ِ‬ ‫لت بجهدك إليه‪ ،‬ولك ّنها‬ ‫(والمقولة لطه حسين) في خالصة ما ّ‬

‫األدبي‪ ،‬وشروط عملية اإلبداع‪ ،‬التي بقدر ما تو ّفر لك من‬ ‫قوانين العمل‬ ‫ّ‬

‫وحرية االختالف‪.‬‬ ‫حر ّية الكتابة‪ ،‬تو ّفر لآلخرين حر ّية النقد‪ّ ،‬‬

‫بلى يا غريد الشيخ‪ ،‬إن الشاعر عبد العزيز محيي الدين خوجه‪ ،‬ولر ّبما‬

‫انضم إليه‪ ،‬عدد ضئيل من معاصريه من شعراء اليوم الذين هم اليوم ـ‬ ‫ّ‬ ‫وبخاصة ضمن ظروف االنحدار الشعري والفني‪ ،‬الحضاري والسياسي‪،‬‬

‫األخالقي واالجتماعي ـ هم اليوم أشبه بتلك الكائنات البشرية المالئكية‪،‬‬ ‫التي شاهدناها في أحالمنا‪ ،‬عندما ك ّنا صغار ًا‪ ،‬وهي تزاحم بأمجادها‬

‫صفحات التاريخ‪ ،‬وتصنع بطوالتها االسطور ّية التي لم نعد نشاهدها‪،‬‬ ‫‪8‬‬


‫إال عبر أفالم الخيال العلمي وفوق شاشات القنوات الفضائية‪ ..‬وأحيان ًا‬

‫تحت أقدام العبي كرة القدم‪.‬‬

‫محمد الفيتوري‬ ‫القاهرة ‪2002/7/19‬‬

‫‪9‬‬


‫ذهب الرجال مع الرجال‬ ‫بين الخبر والخبر خبر‪.‬‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫والحزن حزن‪.‬‬ ‫الحزن‬ ‫بين‬

‫وزمهرير‪ ،‬عواصف ٍ‬ ‫رعد‪ ،‬وعواصف غضب‪.‬‬ ‫برد‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫صوت فيروز يمأل المكان والزمان‪:‬‬

‫الساطع ٍ‬ ‫آت‬ ‫«الغضب‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫إيمان‬ ‫وأنا كلي‬

‫الساطع ٍ‬ ‫آت‬ ‫الغضب‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬

‫ْ‬ ‫األحزان!! «‬ ‫سأمر على‬ ‫ُّ‬ ‫ما الذي يحدث؟‬ ‫اتّكأت رغد على طاولتها وكادت تغفو دون أن تريد ذلك‪.‬‬ ‫َم ْن يغفو والحرب تشتعل؟‬

‫َمن يغفو واألشالء تحت األسقف والجدران المهدمة؟‬ ‫‪10‬‬


‫َم ْن يغفو وأقدام اليهود تدنس أرض فلسطين‪ ،‬مدارس فلسطين‪،‬‬ ‫مساجد فلسطين‪ ،‬أديرة فلسطين؟‬ ‫التقطت عيناها منظر حشود عربية تعترض وتعترض وتعترض‪.‬‬ ‫ما االعتراض؟‬ ‫ما االعتراض؟‬ ‫جاءها من التاريخ صوت أحمد محرم‪:‬‬

‫هذا ُ‬ ‫تراث المسلمين فبعضه‬ ‫ُيزجى عالني ًة وبعض يسرق‬ ‫ـب‬ ‫فنائم متق ّل ٌ‬ ‫َع ِجزَ ُ‬ ‫الحـما ُة ٌ‬

‫الحشـي ِة أو َم ِغ ٌ‬ ‫َ‬ ‫يظ ُم ْحـن َُق‬ ‫فوق‬ ‫ّ‬ ‫وقومنا‬ ‫صم في‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫السالح ُ‬ ‫القوم ٌّ‬ ‫ٌ‬ ‫وآخر ُ‬ ‫ينعق‬ ‫مستصرخ يعوي‬ ‫ُ‬

‫وجاءها صوت الفيتوري‪:‬‬

‫«دوى نفير الثأر‬ ‫ّ‬

‫يا جراح عشرين [خمسين] سن ْه‬ ‫‪11‬‬


‫نجمة إسرائيل فوق المئذن ْه‬ ‫فمن إذن يا وطني‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫للصال ْه‬ ‫ينهض ّ‬

‫بينما حوافر اليهو ْد‬

‫تدوس سقف المسجد األقصى‬ ‫وخوذات الجنو ْد‬ ‫ُ‬

‫تظ ّل ُل المطران والعابدَ‬ ‫والشماس‬ ‫ْ‬ ‫وتسجن اسم الله‬ ‫القداس‬ ‫وتركل‬ ‫ْ‬

‫و َم ْن إذن يا وطني‬

‫ُي ِ‬ ‫غم ُ‬ ‫األجراس؟»‬ ‫ض عينيه على تد ّفق‬ ‫ْ‬ ‫محرم وصوت الفيتوري وتلك األصوات‬ ‫يختلط صوت فيروز بصوت ّ‬

‫الشاجبة المستنكرة‪.‬‬

‫غير األحداث وال البشر‪.‬‬ ‫يقلقها الزمن الذي ما ّ‬

‫يقلقها الزمن الذي ما زال الظالم فيه ظالم ًا‪ ،‬وما زال المظلوم فيه‬ ‫مظلوم ًا‪.‬‬ ‫‪12‬‬


‫فجأة جاءها من قلب الجزيرة العربية‪ ،‬من مكة‪ ،‬صوت ٍ‬ ‫عال ّ‬ ‫غطى على‬ ‫صوت الجموع‪ ،‬وما لبث صاحبه أن أطل وقال منشد ًا‪:‬‬ ‫هامات تِ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ضالل‬ ‫يه من‬ ‫«وأرى بني قومي على‬ ‫يتهالكونَ ‪...‬‬

‫ْ‬ ‫الشمال‬ ‫يهرولون من اليمين إلى‬ ‫ْ‬ ‫المحال‬ ‫ومن الجنوب إلى‬

‫راع‬ ‫وأراهم في سكرة‬ ‫الص ْ‬ ‫ِ‬ ‫المذبوح أنهكه ّ‬

‫يتداولون ويصرخون يراهنون على ّ‬ ‫ياع‬ ‫الض ْ‬ ‫القالع‬ ‫وبنو قريظة والنضير على‬ ‫ْ‬ ‫يا سيدي‪:‬‬

‫كالمتاع‬ ‫مسراك في سوق النِّخاسة‬ ‫ْ‬ ‫بالوداع‬ ‫لو َح‬ ‫ْ‬ ‫وضميرنا المجروح َّ‬ ‫يا سيدي‪:‬‬

‫قد غاب حيدر ُة ّ‬ ‫جاع‬ ‫الش ْ‬

‫يهاب‬ ‫من يفتح‬ ‫َ‬ ‫الحصن المنيع وال ْ‬ ‫الباب‬ ‫وعلى يديه ُ‬ ‫‪13‬‬


‫باب‬ ‫درع ًا في ُ‬ ‫الع ْ‬

‫ِ‬ ‫السحاب‬ ‫المخبوء في دفق‬ ‫ماذا جرى للفارس‬ ‫ْ‬ ‫ذهبت بنا األيام أ ْم‬ ‫العذاب‬ ‫وجب‬ ‫َ‬ ‫ْ‬

‫الغياب‬ ‫لكنه طال‬ ‫ْ‬

‫الكتاب‬ ‫سيدي ُر ِف َع‬ ‫ْ‬ ‫وكأنه يا ّ‬ ‫سيدي‪:‬‬ ‫يا ّ‬

‫ما عاد خالد بيننا‬

‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫الرجال‬ ‫الرجال مع‬ ‫ذهب‬ ‫وتقلبت أحوالنا‬

‫ْ‬ ‫الظالل»‪.‬‬ ‫لم يبق إال متحف الذكرى ُت َل ّف ُح ُه‬ ‫نهضت لتستقبل الصوت وصاحب الصوت‪ .‬مدت كفها مصافحة‪،‬‬

‫مرددة‪:‬‬

‫« ما عاد خالد بيننا‬

‫ْ‬ ‫الرجال‬ ‫ذهب الرجال مع‬ ‫‪14‬‬


‫وتقلبت أحوا ُلنا‬

‫ْ‬ ‫لم يبق إال ُم ُ‬ ‫الظالل»‪.‬‬ ‫تحف الذكرى تل ِّفح ُه‬ ‫من بين الجموع أتى‪ .‬وجهه حزين‪ ،‬أوجاعه كبيرة‪ ،‬وضع اإلصبع على‬

‫الجرح‪ ،‬وهمس وهو يأخذ مكانه خلف طاولتها‪:‬‬

‫ْ‬ ‫الرجال‬ ‫«ذهب الرجال مع‬ ‫وتق ّلبت أحوالنا‬

‫ْ‬ ‫الظالل»‪.‬‬ ‫لم يبق إال متحف الذكرى تلفحه‬ ‫ابتسمت له‪ ،‬دعته للجلوس‪ ،‬وكان بها شوق إلى الحديث‪ ،‬شوق إلى‬

‫البوح‪ .‬قالت وهي تشعر بيأس‪:‬‬ ‫ـ بقي القهر‪.‬‬ ‫قال‪:‬‬ ‫ـ نعم‬

‫ً‬ ‫للرياح‬ ‫وامتثاال‬ ‫انحناء‬ ‫« قهر لهذا النخلِ أن يهوي‬ ‫ً‬ ‫ْ‬

‫ِ‬ ‫الجراح‬ ‫يرد على‬ ‫قهر لهذا السيف في الغمد‬ ‫المغيب ال ُّ‬ ‫ْ‬ ‫ٌ‬ ‫‪15‬‬


‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫الكفاح‬ ‫تصول إلى‬ ‫القيود وال‬ ‫المروءة في‬ ‫قهر على خيل‬ ‫ْ‬ ‫ٌ‬ ‫النباح‬ ‫صور‬ ‫قهر على صوت البالبل أخرستها عنو ًة‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ٌ‬

‫ِ‬ ‫للفالح‬ ‫صوت المؤ ّذ ِن‬ ‫تغافلت‬ ‫الرجال‬ ‫قهر على همم‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ٌ‬ ‫الرماح‬ ‫جرحي تف ّت َق وارتوت منه المنايا في أهازيج‬ ‫ْ‬

‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫الجناح‬ ‫منهوكة أوصال ُه دامي‬ ‫تساقط في يدي‬ ‫طيري‬ ‫ْ‬

‫ِ‬ ‫بعمقه خج ً‬ ‫ال َ‬ ‫باح»‪.‬‬ ‫أغوص‬ ‫ليل يسعفني‬ ‫ُ‬ ‫ال إذا انبلج ّ‬ ‫الص ْ‬ ‫قالت‪:‬‬ ‫ـ بقي الشّ تات‪.‬‬ ‫قال‪:‬‬ ‫« هكذا أمتي غدونا شتات ًا‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الشتات»‬ ‫ضالل‬ ‫ننجيك من‬ ‫كيف‬ ‫قالت‪:‬‬ ‫ـ بقي الموت‪.‬‬

‫هز رأسه رافض ًا‪:‬‬ ‫‪16‬‬


‫ُ‬ ‫غطاء‬ ‫يقرف أن يكون لنا‬ ‫«الموت‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫األقوياء‬ ‫الموت يهوى‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬

‫خفاء‬ ‫الموت ِصنديدٌ ُيبارزنا عالني ًة‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫الهواء‬ ‫يسري كما يسري‬ ‫ْ‬ ‫والرمح في يدنا ارتعدْ‬

‫والموت‪ ،‬حتى الموت يا دنيا ابتعدْ »‪.‬‬ ‫زفرت‪:‬‬

‫ تسدُّ األبواب في وجهي‪ ...‬حتى الموت يصبح حلم ًا بعيد المنال؟‬‫ْ‬ ‫الظالل؟‬ ‫لم يبق إال متحف الذكرى تل ّفحه‬ ‫لمعت عيناه فجأة‪ ،‬كأنه أراد أن يقدم لها مفاجأة ُتخرجها من كل هذا‬

‫األسى‪ ،‬قال‪:‬‬

‫«لم َ‬ ‫يبق إال نبض ذا الطفل العنيدْ‬ ‫من ِ‬ ‫القدر‬ ‫عزمه صنع‬ ‫ْ‬

‫ٍ‬ ‫في ك ّفه مليونُ‬ ‫حجر‬ ‫يفج ُرها‬ ‫قنبلة ّ‬ ‫ْ‬ ‫في عينه ُ‬ ‫اإلباء‬ ‫ومض‬ ‫ْ‬ ‫وانتشر‬ ‫شرر تطاير‬ ‫ٌ‬ ‫ْ‬ ‫‪17‬‬


‫هذا الذي كنا ظن َّنا‬

‫روحه فينا سنينا‬ ‫قد وأدنا َ‬

‫ها رهبة األحداث ُت ِ‬ ‫شع ُله يقينا‬ ‫تفجر من جديدْ‬ ‫ها قد ّ‬

‫عزفت له الدنيا النشيدْ‬ ‫يا ليتني كنت الشهيدْ‬ ‫‪......‬أخا الشهيدْ‬ ‫‪......‬أبا الشهيدْ‬ ‫يا ليتني كنت‬ ‫الخضم‪ /‬البحر في ذاك الوريدْ‬ ‫َّ‬ ‫يا ليتني تلك الحجارة في يد الطفل العنيدْ‬ ‫إني َف َد ْيت َ‬ ‫ُ‬ ‫ُك أمتي‪ ،‬يا أيها‬ ‫الطفل الشهيدْ‬ ‫إني فديتك بالقريب وبالبعيدْ‬

‫ُ‬ ‫الم ُ‬ ‫الغاضبين‬ ‫خيف وقد تطاير من عيون‬ ‫يا ليتني‬ ‫ْ‬ ‫البرق ُ‬ ‫س في الثرى‬ ‫ُ‬ ‫دم َك المقدّ ُ‬ ‫يشع على المدى‬ ‫ٌ‬ ‫لهب ُّ‬

‫ٌ‬ ‫يصب على العدا‬ ‫سخط‬ ‫ُ‬ ‫الغاشمين‬ ‫وعلى فلول‬ ‫ْ‬ ‫‪18‬‬


‫السديم‬ ‫ويضيء في أفق‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬

‫وينير في صحرائنا مثل النجو ْم‬

‫المبين»‪.‬‬ ‫ويد ّلنا‪ ...‬من ها هنا النصر‬ ‫ْ‬ ‫أطرق‪ ،‬صمت‪ ،‬فما كان منها إال أن دعته إلى المتابعة بعد أن رددت‬

‫بفرح غامض تلك األفعال التي تولد من كف صبي يقاوم بحجر‪:‬‬

‫وتفجر‪ ،‬اشتعل يقين ًا‪ ،‬صب على العدا‬ ‫فجر الحجر ّ‬ ‫ـ نعم‪ ..‬صنع القدر‪ّ ،‬‬ ‫سخط ًا‪ ،‬أشع‪ ،‬أضاء‪ ،‬أنار‪ ،‬ود ّلنا على درب النصر‪ ...‬ما درب النصر الذي‬ ‫َّ‬ ‫توضح لطفل الحجارة وما ّ‬ ‫توضح للكبار؟‬

‫تنهد‪ ،‬أطرق‪ ،‬ثم رفع إليها نظرات رأت فيها قراءته لدرب النصر‪ .‬قال‪:‬‬ ‫قدسنا‬ ‫«ال َ‬ ‫قدس‪ ،‬إال ُ‬

‫رضي ِ‬ ‫العدا‪ ،‬أم َ‬ ‫قيل ال‬ ‫وعلى السالم ِّ‬ ‫الذل ال‬

‫فالء‪ُ ،‬‬ ‫ألف ال‬ ‫ظلم‪ٌ ،‬‬ ‫مسنا ٌ‬ ‫إن ّ‬

‫أنت الفدا ْء»‪.‬‬ ‫اإلله بأن يكون لنصره َ‬ ‫شاء ُ‬ ‫اغرورقت عيناها بالدمع‪ .‬همست‪:‬‬ ‫‪19‬‬


‫السالم ّ‬ ‫الذل ال»‪.‬‬ ‫ـ «وعلى ّ‬ ‫فأكد‪:‬‬

‫فالء ألف ال»‪.‬‬ ‫ظلم ٌ‬ ‫مسنا ٌ‬ ‫ـ «إن ّ‬

‫استدارت نحوه‪ ،‬أرادت أن تسمع صوت ًا علمه طفل أن يرفض‪ .‬قالت‪:‬‬

‫نميز بين السالم ـ ّ‬ ‫الذل‪ ،‬والسالم ـ الكرامة؟ وهل‬ ‫ـ هل نستطيع أن ّ‬

‫خيل إلي أن كلمة ال‬ ‫نستطيع‪ ،‬إن شعرنا بالغبن‪ ،‬بالظلم‪ ،‬أن نقول ال؟ ُي َّ‬

‫تفجر هذا الواقع المتدهور إلى قاع ال نهاية له‪.‬‬ ‫واحدة قادرة على أن ّ‬

‫يخيل إلي أن كلمة ال واحدة قادرة على إعادة بناء حضارتنا التي اندثرت‪،‬‬ ‫بل التي بإرادتنا دثرناها‪ .‬طفل الحجر ع ّل َ‬ ‫مك وعلمنا‪ ،‬د ّلك على الطريق‬

‫ودلنا‪ ،‬فما تقول بعد له؟‬ ‫قال‪:‬‬ ‫ـ أقول وكلي إيمان‪:‬‬

‫ُ‬ ‫السماء‬ ‫الم َم َّجدُ في التراب وفي‬ ‫« يا أيها‬ ‫الطفل ُ‬ ‫ْ‬ ‫يا حام ً‬ ‫اللواء‬ ‫ال هذا‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫بالضياء‬ ‫الم ِش َّع ِة‬ ‫عمري‬ ‫لعينيك ُ‬ ‫ْ‬

‫الصبي‬ ‫يا ألف جم ٍر ثار في غضب‬ ‫ْ‬ ‫األبي‬ ‫يا ألف ثأ ٍر في دم الطفل ْ‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫عربي»‪.‬‬ ‫جيش‬ ‫مليون‬ ‫القدسي عن‬ ‫مقالعك‬ ‫ُّ‬ ‫ْ‬ ‫‪20‬‬


‫ع ّلقت‪:‬‬ ‫ـ أعتقد أن القضية هي قضية مقارنة بين كيف وكم‪ ،‬فحين تقول إن‬

‫يتفوق على مليون جيش‬ ‫مقالع طفل يغني عن مليون جيش عربي‪ ،‬أو ّ‬ ‫ويتقزم الجيش‪ ،‬يتعم ّلق األول بإرادته‪ ،‬بإقدامه‪،‬‬ ‫عربي‪ ،‬يتعملق الطفل‬ ‫ّ‬ ‫يتفوق الواحد‬ ‫بمجده‪ ،‬بقدسيته‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ويتقزم الثاني بضياعه‪ ،‬بجبنه‪ ،‬بذ ِّله‪ .‬حين ّ‬

‫المتخبط لهذه الماليين‬ ‫على الماليين‪ ،‬نستطيع أن نلمس الواقع المهلهل‬ ‫ّ‬ ‫أكرر‬ ‫تمام ًا كما نستطيع أن نتسربل بالضوء‬ ‫ّ‬ ‫المشع اآلتي من الواحد‪ .‬دعني ّ‬

‫أنا أيض ًا‪ ،‬بإيمان عميق‪ ،‬خطابك للواحد العمالق‪« :‬مقالعك القدسي عن‬ ‫مليون جيش عربي»‪.‬‬ ‫اتّسعت ابتسامته‪:‬‬ ‫ـ تقرئين ما وراء الكلمات!‬ ‫قالت‪:‬‬ ‫ـ أقرأ ما وراء األحداث!‬ ‫قال‪:‬‬ ‫ـ األحداث مخيفة‪ ،‬وما وراء األحداث مخيف‪ .‬لكنني‪ ،‬يارغد‪ ،‬أقرأ‪،‬‬

‫كما أقرأ طفل الحجر‪ ،‬تلك األجساد الفتية المتفجرة‪ ،‬جسد نضال التي‬ ‫قلت فيها‪:‬‬

‫ُ‬ ‫نضال فينا النِّضاال‬ ‫«فجري يا‬ ‫ّ‬ ‫‪21‬‬


‫فجري الكونَ ك َّله أوشاال‬ ‫ّ‬

‫وخذينا على جناحيك برق ًا‬ ‫وسناء يرتاد حلم ًا محاال‬ ‫ً‬

‫بعد أن نامت الشهامة فينا‬ ‫ورضينا الحياة ً‬ ‫ذال خباال‬ ‫تفوح عبير ًا‬ ‫أنت يا زهر ًة ُ‬

‫ضم َخ الكونَ نشو ًة وجماال‬ ‫ّ‬

‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫خفقة صلوات‬ ‫صرت في كل‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫نظرة آماال‬ ‫صرت في كل‬

‫ٍ‬ ‫عرب‬ ‫أشعلينا قولي لفتيان‬

‫م ّل ِ‬ ‫ُ‬ ‫أسرها والحباال‬ ‫ت‬ ‫الخيل َ‬ ‫وحسام ًا لم يبق ُّ‬ ‫كف نبيلٍ‬

‫الموت جرأ ًة ووباال‬ ‫يحمل‬ ‫َ‬ ‫ٍ‬ ‫والمث ّنى‬ ‫أين فرسان‬ ‫خالد ُ‬ ‫زلزلوا أ ّم َة العدا زلزاال‬

‫فاستجابت لهم رياح األماني‬ ‫وأناخوا قيا َدها استبساال‬ ‫‪22‬‬


‫إيه يا موكب الشهيدة يشدو‬

‫وجنان الفردوس ز ّفت نضاال‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬ ‫هوان‬ ‫نضال دنيا‬ ‫اتركي يا‬

‫اتركينا نحسو الهوان زالال»‬ ‫انفعلت‪ ،‬أطرقت بوجع‪ ،‬ثم التفتت إليه وقد ّ‬ ‫تذكرت أنها في حضرة‬ ‫شاعر كبير تمام ًا كما هي في حضرة أحداث كبيرة‪ .‬ابتسمت بمرارة‪:‬‬ ‫الحماة‪ ،‬في غير زمن ارتفاع‬ ‫عجز ُ‬ ‫ـ وددت لو عرفتك في غير زمن ْ‬

‫نجمة إسرائيل فوق المئذنة‪ ،‬في غير زمن انتصار خوذات الجنود‪ .‬وددت‬ ‫َ‬ ‫عرفتك في زمن الرجولة التي تصنع التاريخ المتألق‪.‬‬ ‫لو‬ ‫تنهد‪:‬‬

‫ـ لو انتظرنا‪ ،‬يا َ‬ ‫رغد‪ ،‬زمن الرغد‪ ،‬لطال انتظارنا‪ ،‬وربما ما تعارفنا‪.‬‬ ‫نهضت‪:‬‬

‫ـ سأصنع القهوة وسنشربها بعيد ًا عن جهاز التلفزيون الذي يأسرني‬

‫ويوجعني‪.‬‬ ‫قال‪:‬‬

‫ـ يأسرنا ويوجعنا‪ ..‬اصنعي القهوة ولنشربها على الشرفة‪ .‬لديك شرفة‬

‫تطل على ازرقاق ال متناه‪ ،‬فأعجب لشاشة صغيرة تكبلك‪.‬‬ ‫‪23‬‬


‫لم تمض دقائق حتى كانت القهوة جاهزة‪ ،‬وكانا جالسين على الشرفة‪.‬‬ ‫قدّ مت فنجان القهوة وكوب ًا من الماء قائلة‪:‬‬ ‫ـ الشاشة الصغيرة تأخذني إلى شوارع رام الله‪ ،‬جنين‪ ،‬نابلس‪ ،‬إلى‬

‫أز ّقة المخيمات‪ ،‬إلى كنيسة المهد التي حاصرها اليهود‪.‬‬ ‫رشف رشفة من قهوته ونظر إلى البحر الواسع‪:‬‬

‫ـ أتعرفين؟ الخارج عنا يتحكم بنا‪ .‬وكما ِ‬ ‫قلت‪ ...‬يأسرنا ويوجعنا‪.‬‬

‫الخارج عنا‪ ،‬حتى لو كان األنا الخاص بنا‪ ،‬يأسرنا ويوجعنا‪.‬‬

‫‪24‬‬


‫�سفر الأنا‬ ‫شربت بعض الماء‪ ،‬قطبت حاجبيها‪:‬‬ ‫ـ هل يأسرنا أنانا؟‬

‫الر َغد‪ .‬متصالحة ِ‬ ‫أنت‬ ‫ـ يفعل‪ ،‬ويقدر‪ ،‬بأسره هذا‪ ،‬أن يبعدنا عن زمان َّ‬ ‫مع ِ‬ ‫أناك؟‬ ‫ـ في كثير من األحيان‪.‬‬ ‫تنهد‪:‬‬

‫الر َغد‪.‬‬ ‫ـ أما أنا‪ ،‬فأطلب من َ‬ ‫أناي أن يترك يدي ألعيش زمن َّ‬

‫ـ كيف؟‬

‫ـ اسمعي (سفر األنا)‪:‬‬ ‫«مت يا أنا أو َّ‬ ‫كف عني لألبدْ‬ ‫ُ‬ ‫نفد َ‬ ‫َ‬ ‫الجلدْ‬

‫إما على جمر ال ّلظى‬ ‫البر ْد‬ ‫َ‬ ‫قدماي أو فوق َ‬ ‫‪25‬‬


‫اترك يدي‪ ،‬ال تعطني يدكا‬

‫ٍ‬ ‫بأغالل من الماضي‪،‬‬ ‫تقيدني‬ ‫ّ‬

‫ٍ‬ ‫وأغالل من اآلتي‪ ،‬وحبلٍ من مسدْ‬ ‫اترك يدي‪ ،‬ال تعطني يدكا‪،‬‬

‫ألعطي من بقايا الورد نرجس ًة‬ ‫ِ‬ ‫حلم‬ ‫أع ّل ُقها على‬ ‫أعطاف ٍ‬

‫من خبايا العمر في ٍ‬ ‫درب شر ْد‬ ‫اترك يدي‬

‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫حبنا المفقو َد‬ ‫أجنحة‬ ‫فيداي‬ ‫َ‬ ‫تالحق َّ‬ ‫في ٍ‬ ‫أفق تناءى وابتعدْ‬

‫اترك يدي‪ ،‬أحيا رغدْ »‪.‬‬ ‫ـ لماذا هذا الصراع بينك وبين أناك؟ لماذا يتشبث بك بينما تحاول‬ ‫بعزم استئصاله؟ أيقف حاجز ًا بينك وبين معرفتك من تكون؟ أال تدري‪،‬‬ ‫بسبب وجوده هذا‪ ،‬من أنت؟‬ ‫أجاب‪:‬‬ ‫«ال لست أدري من أنا؟‬ ‫‪26‬‬


‫َأطلقْ يدي حتم ًا ستعرفني‪ ،‬وأعرف َمن أنا»‪.‬‬ ‫سألت‪:‬‬ ‫ـ ما المجال الذي تريد إطالق يدك فيه؟‬ ‫استغرب سؤالها‪ ،‬وأجاب على سؤالها بسؤال‪:‬‬ ‫ـ ما مجال الشاعر؟‬ ‫ـ الكلمة‪.‬‬

‫ِ‬ ‫أحسنت‪ ،‬من هنا خاطبت أناي طالب ًا منه عشرات المرات أن يترك‬ ‫ـ‬

‫يدي‪:‬‬

‫« اترك أصابعها‪ ،‬مراسمها‪ ،‬فحبري من دمي»‪.‬‬ ‫قالت‪:‬‬ ‫أحس هذا‪.‬‬ ‫ـ ُّ‬ ‫قال‪:‬‬

‫ـ يجب أن يكون حبر الشاعر أو الكاتب من دمه‪ ،‬وإال ما وصل إلى‬

‫اآلخر‪.‬‬

‫ـ تريد الوصول؟‬ ‫‪27‬‬


‫ـ طبع ًا‪ ،‬تمام ًا كما أريد الدخول إلى خباياي‪ ،‬وهذا الدخول مربوط‬

‫بألف قيد وقيد‪.‬‬

‫ـ هل تعتقد أن الدخول إلى خباياك هو الطريق إلى اآلخر؟‬ ‫ـ تمام ًا كما أعتقد أنني إن كتبت بدمي وصلت إليه‪.‬‬

‫ـ وما الموجود في تلك الخبايا؟ أتعرف؟‬ ‫بسر ال‬ ‫ضحك‪ ،‬ثم شبك أصابعه ببعضها وكأنه على وشك البوح ٍّ‬

‫يعرفه سواه‪ ،‬ولن يعرفه سواها‪:‬‬

‫«أما خباياي‪ ،‬فأنه ُلها َم َد ْد‬ ‫خباياي‪ ،‬فتكفيني‪،‬‬ ‫أما‬ ‫َ‬

‫واألزلي‪،‬‬ ‫فلي‬ ‫حري‬ ‫ُّ‬ ‫الس ُّ‬ ‫والعلوي ّ‬ ‫ففيها العالم ّ‬ ‫ُّ‬ ‫والس ُّ‬ ‫واألبدي والرؤيا على طول األمدْ »‪.‬‬ ‫ُّ‬

‫أسندت ظهرها إلى ظهر الكرسي‪ ،‬ثم صمتت لحظة قالت بعدها‪:‬‬ ‫ـ أيها الشاعر الذي اختار من بقايا الورد نرجسة‪ ،‬والذي اختار خباياه‪،‬‬

‫والذي اكتفى بالنرجسة وبالخبايا‪ ،‬أتراه فرويد قصدك حين قال إن المكتفي‬ ‫بذاته‪ ،‬والذي يستمد المتعة من حياته الداخلية إنما هو النرجسي؟‬ ‫ضحك‪:‬‬ ‫‪28‬‬


‫ـ ولماذا هذا التردد في طرح سؤالك؟ أما ّ‬ ‫توضحت‪ ،‬بعدُ ‪ ،‬لديك سلبية‬

‫أو إيجابية النرجسية؟‬ ‫قالت‪:‬‬

‫ـ أعتقد أن في داخل كل مبدع شيئ ًا من النرجسية‪.‬‬

‫قال‪:‬‬ ‫ـ فيه الكثير من النرجسية‪ ...‬اسمعي يا رغد‪ ...‬العمل الفني‪ ،‬أي عمل‬ ‫ّ‬ ‫المتخطي لألنا الخارجي‬ ‫فني يعني وعي الذات وإدراك األنا العميق‬ ‫المزيف‪ .‬هذا الوعي ضروري جد ًا في نقطة االنطالق‪ ،‬إال أنه ّ‬ ‫يشكل‬ ‫تحرر ًا من النرجسية فيما بعد‪.‬‬ ‫سألت‪:‬‬

‫ـ ّ‬ ‫تحرر ًا أم أن الشاعر كما القارئ يعتاد على نفحة النرجسية في‬ ‫يشكل ّ‬

‫هذا العمل؟‬ ‫أجاب‪:‬‬

‫ـ بل ّ‬ ‫تحرر ًا وذلك عن طريق العمل المبدع الذي يتذوقه‬ ‫يشكل ّ‬ ‫اآلخرون‪.‬‬ ‫ـ ولكن نفحة النرجسية تبقى‪.‬‬ ‫ـ تبقى ألنها تعطي الهوية‪.‬‬ ‫ـ بيد أن الهوية الواضحة عندك في قولك‪:‬‬ ‫‪29‬‬


‫ِ‬ ‫الوعود‬ ‫«وأنا شاعر الحب وآه‬ ‫ذوب وجودي‬ ‫فاحلمي عند شدوي فهو ُ‬

‫حب إن خال من قصيدي»‬ ‫ليس في الكون ٌّ‬ ‫هذه الهوية تتعرض في رحلة شعرك‪ ،‬إلى اجتياحات كتلة المتناقضات‬

‫التي تبدو وكأنها ما زالت تبحث عن حدود الهوية‪.‬‬ ‫تنهد‪:‬‬ ‫ّ‬

‫ـ كتلة المتناقضات‪ ...‬كتلة المتناقضات‪...‬‬ ‫اسمعي‪:‬‬ ‫« بين طيني وسمائي‬ ‫ونزولي وارتقائي‬ ‫كيف أنجو من جنوني‬ ‫وهو دائي ودوائي‬ ‫كيف أنضو الثوب عني‬ ‫ِ‬ ‫لرداء‬ ‫من رداء‬

‫ويح نفسي كيف أحيا‬ ‫بين أضداد انتمائي‬ ‫‪30‬‬


‫بين برقي وارتعادي‬ ‫واشتعالي وانطفائي‬ ‫في يدي أحمل عمري‬ ‫ٍ‬ ‫نيران وماء»‬ ‫بين‬

‫سألته‪:‬‬

‫ـ وفي أجواء األضداد هذه‪ِ ،‬قدّ يس أم مض ّلل أنت؟‪...‬‬ ‫«ال لست ِقدّ يس ًا‪ ،‬وال إبليس ض ّللني بألغاز األبدْ‬ ‫لكن أنا‪...‬‬ ‫ال لست أدري من أنا‪»...‬‬

‫ـ وكيف ستعرف؟‪...‬‬ ‫«أطلق يدي حتم ًا ستعرفني وأعرف من أنا‬ ‫أطلق يدي‬ ‫في الحرف أكتبه ويكتبني‬

‫الحجاب‬ ‫على لوح من الب ّلو ِر مسحور‬ ‫ْ‬ ‫‪31‬‬


‫ْ‬ ‫البرق‬ ‫أجلو طالسمه وأعدو في جناح‬ ‫في اآلفاق أرسم طلسم ًا‬

‫ّ‬ ‫وأشكل المعنى على طلبي أنا»‬ ‫ـ وكيف تريد أن يكون هذا الكيان يا ترى؟‬ ‫«إني أنا هذا الكيانْ‬

‫قد جاء من َر ِح ِم الزمانْ‬

‫َّ‬ ‫ٍ‬ ‫وطين‬ ‫شياطين‬ ‫المرك ُب من‬ ‫قلبي‬ ‫ْ‬

‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ممزوجة بالنور وال َّل ِ‬ ‫المذاب‬ ‫هب‬ ‫وعجينة‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫الحساب؟»‬ ‫معادلة‬ ‫كيف التوازنُ في‬ ‫ْ‬

‫ـ اعتراف خطير!!‬ ‫ِ‬ ‫نقاوة برعمي‬ ‫ثدي أ ّمي‪ ،‬في‬ ‫«إني رضعت براءتي من ِ‬ ‫وخطيئتي من ثدي دنياي‪ ،‬ومن ٍ‬ ‫ْ‬ ‫العسل‬ ‫شفة كأحالم‬ ‫وانصب في مجرى عروقي‪ ،‬في دمي‬ ‫َّ‬ ‫الشراب‬ ‫هذا المزيج من‬ ‫ْ‬ ‫‪32‬‬


‫من أنا»‬ ‫تكون ْ‬ ‫تكون ما ّ‬ ‫حتى ّ‬ ‫ـ وإلى متى؟‪...‬‬ ‫«إ ّني أنا هذا الكيان‪...‬‬ ‫ْ‬ ‫األجل‬ ‫لكن إلى أجل‬

‫لم َ‬ ‫يبق لي إال وصايا من أبي‬

‫ْ‬ ‫األزل‬ ‫قت أحرفها على جدران قلبي في‬ ‫ع َّل ُ‬ ‫ْ‬ ‫ارتحل‬ ‫وأنا صبي‪ ...‬حتى‬

‫وتالو ٌة قد أسكن ْتها خف َق ُه‪..‬‬ ‫الس َور القصا ِر‬ ‫أمي من ُّ‬

‫ُّ‬ ‫الكتاب»‬ ‫أظل أذكرها‪ ..‬وفاتح َة‬ ‫ْ‬ ‫ـ وبعد هذا‪ ،‬من أنت؟‪..‬‬ ‫ْ‬ ‫الر ّبانُ‬ ‫خيال‬ ‫والسفن‪ ،‬وأشرعتي‬ ‫ُ‬ ‫«إني أنا ّ‬ ‫ْ‬ ‫ضالل‬ ‫الميناء والمدنُ ‪ ،‬وأحالمي‬ ‫إني أنا‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫الطرقات حتى‬ ‫شيء يدهشني على‬ ‫ال‬ ‫َ‬ ‫‪33‬‬


‫ْ‬ ‫دعوة من ٍ‬ ‫جمال‬ ‫حوراء‪ ،‬من أزهى‬ ‫أعين‬ ‫َ‬ ‫العب ُاد»‪.‬‬ ‫إني أنا ّ‬

‫صمت‪ ،‬فتابعت تتلو بقية القصيدة‪:‬‬ ‫«والصنم الهوى‬ ‫ُ‬

‫ُ‬ ‫والشهوات‪ ،‬والولدُ المد ّل ُل‬ ‫والمال‬ ‫ُ‬ ‫قسم»‬ ‫ُ‬ ‫والمنى ُ‬ ‫شملها بنظرة رضا‪ ،‬ثم تابع‪:‬‬ ‫والقلم‪،‬‬ ‫والكلمات‬ ‫القرطاس‬ ‫«أنا‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬

‫على ألواح أحالمي ُّ‬ ‫أخط حكاية العشاق‬

‫وأصنع ما أشاء من المنى قصص ًا وال أدري بأولها‬ ‫أشعار ًا‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫السؤال»‪.‬‬ ‫الجواب‪ ،‬وال‬ ‫وال أدري بخاتمة‬

‫ـ فخر الصانع الحاذق واعتزازه بما يصنع!‬ ‫والفرعي‪،‬‬ ‫األصلي‬ ‫« إ ّني أنا‬ ‫ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫‪34‬‬


‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫الظالل‬ ‫امتدادات‬ ‫والخطوات تمشي في‬ ‫ُ‬ ‫إني أنا المجنونُ والمعشوق ُة المثلى‬

‫ْ‬ ‫واشتعال»‬ ‫ضمير الشع ِر يرسمها احتراق ًا‬ ‫ُ‬ ‫ـ حتى تكتب؟!‬ ‫حبي وأهجرها‪ ،‬وتهجرني‬ ‫«أشكو لها ّ‬ ‫ْ‬ ‫المالل‬ ‫لكي أبكي على األلواح أغنية‬ ‫وأعود أدفنها‪ ،‬ضلوعَ العمر‪،‬‬ ‫ُ‬

‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫الغيب‪،‬‬ ‫سعاد في كتاب‬ ‫أبحث عن‬ ‫عن أخرى لها أيض ًا‪،‬‬

‫ْ‬ ‫المحال»‬ ‫جنوح النا ِر والقد ِر‬ ‫ُ‬ ‫الحب ثم اختار‬ ‫ـ أيها الشاعر الذي اختار بإرادته أن يغوص في عالم‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫حب آخر‪،‬‬ ‫ويتعذب ليكتب بدمه قصة هذا‬ ‫أن يهجر‬ ‫الحب ليعود ثانية إلى ّ‬ ‫ّ‬ ‫هل اكتشفت ماذا تريد بعد؟‬

‫التوت‬ ‫«رفق ًا يا أوراق‬ ‫ْ‬

‫كثير يستر سوءاتي‬ ‫لم يبق ٌ‬ ‫‪35‬‬


‫والجبروت‬ ‫هامات السطوة‬ ‫سقطت‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫الطرقات‬ ‫العار على‬ ‫دحرجها ُ‬

‫ِ‬ ‫الزائف عن ظلماتي‬ ‫أستار النو ِر‬ ‫وانقشعت‬ ‫ُ‬ ‫قمة سيزيف هويت‬ ‫من ّ‬

‫وانتحرت بعض بقايا أفراحي‬ ‫ْ‬ ‫حلم لجراحي‬ ‫والصخرة ٌ‬ ‫أحملها‬

‫تتعثر أقدامي في خطواتي‬ ‫وتموت اآلهة في محجرتي‬ ‫ّ‬ ‫وتجف الريش ُة في محبرتي‬

‫ِ‬ ‫الوحشة في مشكاتي»‬ ‫فغرت أفواه‬ ‫ـ أما من ضوء يبدو في األفق؟!‬ ‫المصباح‬ ‫ضوء‬ ‫«وتبدّ َد‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫أوقدُ شمع ْه‬ ‫ُت ُ‬ ‫طفأ شمع ْه‬

‫برياح‬ ‫ورياح تعصف عصف ًا‬ ‫ِ‬ ‫ٌ‬ ‫‪36‬‬


‫نضب الزيت بمسرجتي‬ ‫َ‬

‫وأضعت طريقي لصباحي»‬ ‫ُ‬ ‫ـ وأين بحثك الحثيث عن الحقيقة؟‬

‫هز رأسه آسف ًا‪:‬‬ ‫ّ‬

‫«زيف‪ٌ ..‬‬ ‫ٌ‬ ‫قناع‬ ‫زيف‬ ‫ٌ‬ ‫وقناع خلف ْ‬ ‫القاع‬ ‫ُ‬ ‫وحفرت بأظفاري حتى ْ‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫شيء‪،‬‬ ‫أبحث عن‬

‫ٍ‬ ‫ضاع‬ ‫عن أثمن‬ ‫شيء ْ‬

‫القاع‬ ‫قاع ْ‬ ‫لكن في أعماق ِ‬ ‫قناع»‬ ‫عيني ْ‬ ‫حدّ ق في ّ‬

‫ـ أبعد كل هذا البحث!!!‬ ‫ـ إنه الزيف الذي يمأل حياتنا‪ ..‬سراب‪ ..‬سراب‪.‬‬ ‫ـ ورغم البحث الحثيث والمفاجأة بعدم الوصول إلى الحقيقة ترضى‬

‫أن تكون النحلة التي تقتحم النار فتحترق!‬

‫ـ ألن لحظة االحتراق‪ ،‬يا رغد‪ ،‬هي لحظة بدء الخلود‬ ‫‪37‬‬


‫«سقطت خفقتي في ُأتون الجوى‬ ‫ليتها لم تكن في الفؤاد األخيره‬ ‫غادرتني شظى‬

‫لملمت ُحلمها‬

‫حر ًة‪ ،‬أن تكون األسير ْه‬ ‫ْ‬ ‫رضيت ّ‬ ‫غرها في السنا دعوة للغوى‬ ‫ّ‬

‫غرها في اللهيب ٍ‬ ‫معان مثير ْه‬ ‫ّ‬ ‫واستطابت لظاها‪،‬‬

‫العمر إال لها؟‬ ‫منح‬ ‫لمن ُي ُ‬ ‫ُ‬ ‫لحظة االقتحا ِم!‬ ‫بعدها!‬

‫فليكن ما يكونْ‬ ‫ٌ‬ ‫لوثة من جنونْ‬

‫ٌ‬ ‫لهب‬ ‫رشفة من ْ‬

‫ٌ‬ ‫عنب‬ ‫قطفة من ْ‬ ‫لم أنل سكر ًة َ‬ ‫مثلها‬ ‫تهت في كنهها‬ ‫ُ‬

‫سرها»‬ ‫ذلك‬ ‫السحر من ِّ‬ ‫ُ‬ ‫‪38‬‬


‫سر هذا السحر؟‬ ‫ـ وهل عرفت ّ‬ ‫«لست أدري لها ً‬ ‫أوال قبلها‬ ‫ُ‬ ‫الفناء‬ ‫العيش بعد‬ ‫هكذا‬ ‫ْ‬ ‫هائم ًا َ‬ ‫السماء‬ ‫مثل برق‬ ‫ْ‬ ‫مرة لو أعو ْد‬ ‫ليتني ّ‬

‫لحظ َة القف ِز في حضنها!!‬ ‫بدء الخلو ْد‬ ‫هي ُ‬

‫ْ‬ ‫األزل‬ ‫منذ قد صار في دفئها‬ ‫وأنا لم أزل عاشق ًا دفئها»‬

‫رغد‪ :‬الله‪ ...‬لحظة سقوط الخفقة في غمرة الجوى‪ ،‬ولحظة سقوط‬ ‫الفراشة احتراق ًا ليبدأ خلودها‪ ،‬ولحظة الشهادة والعودة من جديد‬

‫لالستشهاد ثانية‪..‬لحظات تتشابه في عم ٍر‪ ،‬الحلم فيه لحظة الذوبان‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫واستفاق‬ ‫«نظر ٌة‬

‫نظر ٌة بعدها قد ُق ْ‬ ‫تل‬ ‫ْ‬ ‫وارتحل‬ ‫‪39‬‬


‫طائر في الربى‬ ‫تار ًة ٌ‬ ‫مطر‬ ‫تار ًة قطر ٌة من ْ‬

‫كوكب في الدجى‬ ‫تار ًة‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫وتر‬ ‫تار ًة‬ ‫شهقة في ْ‬ ‫ْ‬ ‫وانعتاق‬ ‫نظر ٌة‬

‫بعدها ما ْ‬ ‫سأل‬ ‫كسر َ‬ ‫القيد عن معصم ْه؟‬ ‫كيف! من ّ‬ ‫ذوب الكون في مهجته؟‬ ‫كيف من ّ‬ ‫كيف! َمن‬

‫الملكوت على راحته؟‬ ‫بسط‬ ‫َ‬ ‫لم ْ‬ ‫الخبر‬ ‫يسل بعدها ما‬ ‫ْ‬ ‫القمر‬ ‫كيف أضحى‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ألف بد ٍر ّْ‬ ‫أطل؟‬

‫سقطت خفقتي؟‬ ‫ثم عادت فراش ْه‬

‫تذوب‬ ‫حلمها أن‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫قبل ًة وارتعاش ْه‬ ‫‪40‬‬


‫ْ‬ ‫احتراق‬ ‫حلمها‬ ‫ُ‬ ‫بعدها!‬

‫فليكن ما يكونْ »‬ ‫ـ ما بين تم ّني لحظة احتراق تساوي الخلود في عمرك‪ ،‬وبين لحظة‬ ‫بحث في قاع القاع لتجد في آخره قناع ًا‪ ،‬أين أنت؟‬ ‫ُّ‬ ‫للتسكع‬ ‫«وأعود وهم ًا‬ ‫ُ‬ ‫فوق أرصفة الزمانْ‬

‫ما بين وجداني وخطوي‬ ‫ضعت في عبث المكانْ‬ ‫سراب‬ ‫لمع من‬ ‫ْ‬ ‫وكأنني في القفر ٌ‬

‫السحاب‬ ‫أو دمعة يهمي بها وجع‬ ‫ْ‬ ‫العباب‬ ‫شكي يراودني‪ ،‬ويغمرني‬ ‫ْ‬

‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫نجمات حسير ْه‬ ‫اآلفاق‬ ‫وأعود في‬ ‫العاشقين‬ ‫وتنهدات في صدور‬ ‫ْ‬ ‫وتموت جذوات الهوى‬ ‫ُ‬ ‫الجسور‬ ‫الخفق‬ ‫و ُي َش َّي ُع‬ ‫ْ‬ ‫‪41‬‬


‫وكما يموت الزهر في أكمامه‬ ‫العبير»‬ ‫رحل‬ ‫ْ‬ ‫ع ّلقت‪:‬‬ ‫ـ أرهقتني‪...‬‬ ‫فأطلق ضحكة عالية قال بعدها‪:‬‬ ‫ـ أعتذر‪.‬‬ ‫نهضت‪:‬‬ ‫ـ نشرب عصير البرتقال؟‬ ‫عاد فضحك‪:‬‬ ‫ـ سؤالك ينبئ عن مدى احتياجك لالنتعاش بعد أجواء القلق‪.‬‬

‫وسرى الضحك إليها فوقفت تتأ ّمله باستغراب ثم ع ّلقت‪:‬‬ ‫ـ لكنك تضحك‪.‬‬

‫ـ أتريدينني أن أبكي؟‬ ‫ـ كما قصائدك‪.‬‬ ‫ـ قصائدي وليدة حاالت أيونية‪...‬‬ ‫كادت تعود فتجلس إلى كرسيها وقت سألته‪:‬‬ ‫‪42‬‬


‫ـ حاالت أيونية؟‬

‫سبابته ممازح ًا‪:‬‬ ‫بيد أنه رفع ّ‬

‫ـ سأشرح لك ولكن بعد أن تشربي قلي ً‬ ‫ال من العصير وإال توقعت أن‬

‫تنظري إلى اسوداد السماء الذي تنعكس عليه قتامة التسكع وتخبريني أن‬ ‫موعد نومك قد حان‪ ،‬وال أعود أراك أبد ًا‪.‬‬ ‫ضحكت‪:‬‬ ‫ـ لن يحدث هذا‪.‬‬ ‫قال‪:‬‬

‫ِ‬ ‫حضرت َّ‬ ‫لهم إال ْ‬ ‫كل ما ال يمكن له أال يحد َثه‪.‬‬ ‫إن‬ ‫ـ بل سيحدث‪ ،‬ا ّل ّ‬

‫ـ لي عودة‪...‬‬ ‫ـ أنتظرك‪.‬‬

‫عادت فاعتذر‪ ،‬وعادت لتصغي وقد أشرقت من جديد‪ ،‬قال‪:‬‬

‫ـ تأ ّل ِ‬ ‫قت‪.‬‬ ‫ـ شكر ًا‪.‬‬

‫عاد فضحك‪:‬‬ ‫ـ ال تحسبي أنها مقدمة غزلية ستعيدك إلى موضوع القلق‪...‬‬ ‫ـ رحم الله الجاهليين‪.‬‬ ‫‪43‬‬


‫ـ تحبينهم؟‬ ‫ـ أحب أشعارهم‪...‬‬ ‫ـ والطلل؟‬ ‫ـ أعشق المستقبل وأتجاوز الماضي‪.‬‬ ‫ـ تحلمين؟‬ ‫ـ ما دمت أعشق المستقبل فأنا أحلم‪.‬‬ ‫قال‪:‬‬ ‫حقب‬ ‫«هذا الزمان سنا‪ ...‬في عمرنا‬ ‫ٌ‬ ‫ما قيمة الحلم في دنيا من الطلل؟»‬

‫قالت‪:‬‬ ‫ـ عدنا والعود أحمدُ ‪...‬‬ ‫ضحك من جديد‪ ،‬ثم قال‪:‬‬ ‫ـ اسمعي‪:‬‬ ‫ات عمري بالقلقْ‬ ‫ذر ُ‬ ‫«وتزاوجت ّ‬

‫ٍ‬ ‫همس يوشوشني‬ ‫مرح على حلمي صدى‬ ‫ويرنّ في ٍ‬ ‫‪44‬‬


‫ويأخذني ألقْ ‪...‬‬ ‫عبر المدى‬

‫ورفيف عط ٍر قد عبقْ‬ ‫وتفتحت جذلى‬ ‫تويجات األفقْ‬ ‫ُ‬ ‫ونسيت توقي للنجاة كأنني‬ ‫ُ‬

‫ْ‬ ‫للغرق‬ ‫صرت في الملكوت برق ًا‬ ‫قد‬ ‫ُ‬ ‫أنوء‬ ‫ال حاجة لي كي َ‬ ‫ذبيح‬ ‫على عصا وهم ْ‬ ‫وجناحي المفرود‬

‫غطى رحب َة الكون الفسيح‬ ‫هذا أنا يا أنت يا روح الفلقْ‬ ‫ْ‬ ‫األرق‬ ‫لم أخش في ليلي‬ ‫وذراعي الولهى‬

‫َ‬ ‫الصبوح»‬ ‫دهشتك‬ ‫فجر‬ ‫ْ‬ ‫تعانق َ‬ ‫ع ّلقت‪:‬‬

‫ً‬ ‫ّ‬ ‫إلي‬ ‫ـ وجد‬ ‫المتسكع على أرصفة الزمان ملجأ‪.‬تتسلل من كلماتك َّ‬ ‫ٍ‬ ‫نسمات فرحة‪« :‬مرح‪ ،‬ألق‪ ،‬عبقْ ‪ ،‬جذلى‪ ،‬توق النجاة‪ ،‬ولهى‪ ،‬فجر‪»...‬‬ ‫‪45‬‬


‫شجعته عباراتها فزاد‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫«قد طال بي سفري إليك‪ ...‬لن ّتحدْ‬ ‫جمر ي ّتقدْ‬ ‫ودمي إلى ُلقياك ٌ‬ ‫ولهيبه يجتاحني وحنينه‬

‫من ِ‬ ‫بحار ترتعدْ‬ ‫رهبة اللقيا ٌ‬ ‫وضمني‪...‬‬ ‫خذني إليك‬ ‫ّ‬

‫وحبك بذرة المعنى على هذا األمد‬ ‫حبي ّ‬ ‫ّ‬ ‫تلوح‬ ‫هذا أنا يا أنت في بدئي وخاتمتي ْ‬

‫وكأننا روحان ترتعشان من ٍ‬ ‫يبوح»‬ ‫وله ْ‬ ‫قالت‪:‬‬ ‫ـ حلو‪.‬‬ ‫ثم استأنفت‪:‬‬

‫ـ حلو على أال تعود عن هذه الحالة‪...‬‬ ‫عاد فضحك ثم أنشد‪:‬‬ ‫«هذا أنا‪ ...‬ال لن أعود ولن أعود إلى السفوح‬ ‫‪46‬‬


‫هذا أنا ولئن رحلت فإنني‬ ‫تسبيح ضوء قد تألأل و انطلقْ‬

‫ٍ‬ ‫روح تماهى في المدى‬ ‫ماض إلى أبدية‪ٌ ،‬‬ ‫جرح تناثر في الشفقْ‬ ‫ٌ‬

‫صمت عن الهوى‬ ‫ولئن‬ ‫ُّ‬

‫حرقت بأ ّنتي كون ًا بـآهاتي نطقْ »‪.‬‬ ‫فلقد‬ ‫ُ‬ ‫ـ عظيم‪ ...‬وبعد؟‬ ‫ـ أخشى أنك تريدين أن تنامي‪.‬‬ ‫ـ وبعد؟‬ ‫ـ أخشى أن تكون سهرتي أزعجتك‪...‬‬

‫ـ لن أسمح بمغادرتك قبل أن تك ّلمني عن األيونات إذ خلقت عندي‬ ‫فضو ً‬ ‫ال لمعرفتها‪.‬‬ ‫أرجع ظهره إلى مسند كرسيه‪ ،‬أغمض عينيه للحظة‪ ،‬ثم عاد فوضع‬ ‫ذراعيه على الطاولة شارح ًا‪:‬‬ ‫لتكون‬ ‫مكون من أيونات تبحث عن أيونات أخرى ّ‬ ‫ـ العالم‪ ،‬يا رغد‪ّ ،‬‬

‫ذرات الجزيء الباحث عن االستقرار‪...‬‬ ‫ّ‬ ‫المتسكع الذي يجد بيت ًا‪.‬‬ ‫ـ آه‪ ...‬كما‬ ‫‪47‬‬


‫ـ إذا ِ‬ ‫شئت‪.‬‬ ‫األصلي‪.‬‬ ‫ـ نظرية كيميائية تنبع من اختصاصك‬ ‫ّ‬

‫ـ بل نظرية حياتية‪ ...‬اسمعي يا رغد‪ ،‬حتى األفكار موجودة في هذا‬

‫العالم في حالة انتظار من يأخذها فيسكبها في قوالب معينة يظهرها‬ ‫للناس؛ ومن هنا‪ ،‬فإن من تلتقي أيوناته بهذه األيونات‪ ،‬األفكار‪ ،‬ينالها‬ ‫وتصبح ملك ًا له‪.‬‬ ‫ـ ّ‬ ‫ذكرتني بتولستوي عندما يتحدّ ث عن التقاط الفكرة‪ ،‬وبالجاحظ‬

‫وقت يقول إن األفكار مطروحة على قارعة الطريق‪.‬‬ ‫قال‪:‬‬

‫ـ التقاط الفكرة وسكبها في قالب معين وإظهارها لآلخرين هي‪ ،‬يا‬

‫رغد‪ ،‬ما يسمى بعملية اإلبداع أو هي‪ ،‬انسجام األيونات‪.‬‬ ‫سألته‪:‬‬

‫ّ‬ ‫وتهل القصيدة؟‬ ‫ـ‬ ‫قال‪:‬‬

‫ـ أحسنت‪ّ ...‬‬ ‫تهل‪ ...‬فعل استخدمته بالذات في هذه الحالة‪.‬‬ ‫فرحت‪:‬‬ ‫ـ صحيح؟‬ ‫ـ اسمعي‪:‬‬ ‫‪48‬‬


‫«ه ّلت وتج ّل ْت‬

‫الجبلي‬ ‫هامات فؤادي‬ ‫خر ْت‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّْ‬

‫ِ‬ ‫وارتعشت أركانُ‬ ‫األزلي‬ ‫الكون‬ ‫ّْ‬ ‫صنعت‬ ‫لم تسأل عما‬ ‫ْ‬ ‫ارتحلت‬ ‫حتى‬ ‫ْ‬

‫ْ‬ ‫أزرق‬ ‫سديم‬ ‫خلف‬ ‫ٍ‬

‫طي‬ ‫وطوت في ُب ْر َد ْيها قلبي ّْ‬

‫ْ‬ ‫أغرق‬ ‫سبحت ولم‬ ‫وعجبت لنفسي كيف‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫النار ولم ُأ ْ‬ ‫حرق‬ ‫كيف‬ ‫ُ‬ ‫لمست َ‬ ‫رحلت إليها‬ ‫كيف‬ ‫ُ‬

‫وأنا من قدمي مو َثقْ »‬ ‫سألته‪:‬‬

‫رحلت إليها أم جاءت َ‬ ‫إليك؟‬ ‫ـ‬ ‫َ‬

‫ـ اسألي األيونات‪.‬‬ ‫ـ سأسألها‪.‬‬ ‫ـ متى؟‬ ‫‪49‬‬


‫ـ غد ًا مع الفجر‪.‬‬ ‫ـ وقت تنهضين؟‬ ‫ـ وقت أنهض‪.‬‬ ‫ـ اعتقدت أنك كصاحبة امرئ القيس‪...‬‬ ‫ـ نؤوم ُّ‬ ‫الضحى؟‬ ‫ـ نؤوم ُّ‬ ‫الضحى‪.‬‬ ‫لست‪.‬‬ ‫ـ ُ‬

‫ـ ِ‬ ‫لست؟‬

‫ـ أنا‪...‬‬ ‫ضحكت‪:‬‬

‫ـ أنا أنهض باكر ًا كي ألتقط أيوناتي‪.‬‬ ‫قال‪:‬‬

‫ٍ‬ ‫أيونات ألتقطها دون‬ ‫المجهد‪ ،‬أحيان ًا‪ ،‬عن‬ ‫سر بحثي ُ‬ ‫ـ آه‪ ...‬فهمت ّ‬ ‫جدوى‪ ...‬تكونين قد سرقتِها‪.‬‬ ‫فزت بها نظر ًا لنشاطي‪.‬‬ ‫ـ بل ُ‬

‫ـ تؤمنين بالعمل؟‬ ‫ـ أنا من طبقة البروليتاريا الكادحة‪.‬‬ ‫‪50‬‬


‫ـ حق ًا؟‬

‫ـ طبع ًا‪.‬‬ ‫ـ لم أعرف‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫اعرف‪.‬‬ ‫ـ‬

‫ٌ‬ ‫ـ‬ ‫متعبة؟‬

‫ـ بل فخورة‪.‬‬

‫‪51‬‬


‫الح�سن عندي‬ ‫� ِ‬ ‫أنت ُ‬ ‫الم ّرة الساخنة‪ ،‬ورفعت عن جبينها خصالت شعرها‬ ‫رشفت قهوتها ُ‬

‫التي داعبها نسيم البحر‪ ،‬وتأملت وجهه وهو يشرب قهوته بهدوء وسكينة‬

‫خيل إليها معها أنه بحر هادئ‪ ،‬عميق‪ ..‬وعندما التقت نظراتهما‪ ،‬سألت‪:‬‬ ‫ـ تحب؟‬

‫فاجأه سؤالها‪ ،‬وارتسمت على وجهه عالمات خفر أشبه بما يرتسم‬ ‫على وجه فتى يسأل السؤال ذاته أول مرة‪ ،‬بيد أنه تخ ّلص من ارتباكه‬

‫مجيب ًا‪:‬‬

‫ـ أحببت!‬ ‫لمعت عيناها السوداوان‪ ،‬وبان فيهما فرح خفي ُيسعد كل امرأة تسمع‬ ‫اعتراف ًا كهذا‪ ،‬حتى لو كان اعتراف ًا بحب امرأة غيرها‪.‬‬ ‫ـ اسمعي ما قلت في حبي عندما كان وكان‪:‬‬ ‫الحسن‪ِ ،‬‬ ‫فرد‬ ‫أنت‬ ‫قت‬ ‫“إن َع ِش ُ‬ ‫الحسن عندي ال ُيضاهى‪ ،‬فهو ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫وهو في عينيك كونٌ‬ ‫ساحر‪ ،‬فيه المعاني ال ُت َعدُّ‬ ‫ْ‬ ‫ٌ‬ ‫ورد‬ ‫وهو في ح ِّبك ٌ‬ ‫ْ‬ ‫لحن يستبيني‪ ،‬فيه عنـوانٌ ُّ‬

‫شجو‪ ،‬وهو في ِ‬ ‫ِ‬ ‫وورد‬ ‫أنغام‬ ‫حزنك‬ ‫وهو في‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫سعدك ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫‪52‬‬


‫ٌ‬ ‫ورندُ‬ ‫وهو‬ ‫روض يتنامى في كياني‪َ ،‬ف ُ‬ ‫وحه ندٌّ َ‬

‫وهو في ِج ِ‬ ‫ظبي‪ٌ ،‬‬ ‫وأحالم وصيدُ‬ ‫لفتة ُتغري‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫ٌ‬ ‫يدك ٌ‬

‫ِ‬ ‫ووقدُ‬ ‫وهو في غصنِك َم ْي ٌس‪ ،‬وهو في‬ ‫ْ‬ ‫صدرك آهات َ‬

‫نور َّ‬ ‫جوهر َيخفى ليبدو”‪.‬‬ ‫رق لطف ًا‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫وهو في روحك ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ع ّلقت‪:‬‬ ‫ـ أربط وجود هذه التي ال تضاهى‪ ،‬أو هذه “الجوهر الفرد” بما كان‬

‫العرب‪ ،‬في شباب زمانهم‪ ،‬يرونه من قدسية للحب‪ .‬نعم‪ ،‬قدسية ربما‬ ‫كانت السر الكامن وراء التقليد الذي كان يتوجب بدء القصائد بالنسيب‪..‬‬

‫المحب‪ ،‬وهل يباركه؟‬ ‫الحب‬ ‫يطهر‬ ‫فهل ّ‬ ‫َّ‬ ‫ُّ‬ ‫أجاب‪:‬‬

‫“رقية” تقيني‪:‬‬ ‫يطهره ويباركه ويكون‪ ،‬كما ُ‬ ‫ـ ّ‬ ‫قلت‪“ ،‬تعويذة”‪ ،‬أو ّ‬ ‫“ولقد َع َر ْج ُت ِ‬ ‫الش ِ‬ ‫الزمانَ من ّ‬ ‫جون‬ ‫إليك‬ ‫أختلس ّ‬ ‫ُ‬ ‫حب ِ‬ ‫َ‬ ‫ك أو جنوني‬ ‫وسبحت ال‬ ‫ُ‬ ‫قنديل عندي غير ّ‬ ‫َ‬ ‫رحل ْت عيو ُنك في عيوني‪،‬‬ ‫فاستجاب لها يقيني‬

‫ودلفت للمجهول أركض في ٍ‬ ‫ِ‬ ‫للمنون‬ ‫أمان‬ ‫ُ‬ ‫‪53‬‬


‫حبي وتسليمي ضمانٌ من ظنوني‬ ‫تعويذتي ّ‬

‫ِ‬ ‫البديع مر ّت ً‬ ‫ِ‬ ‫الفتون”‪.‬‬ ‫فر‬ ‫عالمك‬ ‫وضممت‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ال ِس َ‬ ‫ضحكت‪:‬‬ ‫فعالة‪ .‬كيف ال‪ ،‬واختالس الزمان من الشجون تتبعها‬ ‫رقية ّ‬ ‫ـ تعويذة أو ّ‬

‫سباحة في ظالم ال يضيئه إال وجود هذه التعويذة‪ ،‬فاقتحام آمن للمجهول!‬ ‫ٌ‬ ‫مهمتها على أكمل وجه‪.‬‬ ‫مباركة تعويذتك‪ ،‬فقد أ ّدت ّ‬ ‫تنهد‪:‬‬ ‫ّ‬

‫مهمتها‪ ،‬ولكن ال أعرف إن كانت أ ّدتها على أكمل وجه‪،‬‬ ‫ـ ربما أ ّدت ّ‬ ‫فاإلحساس المطمئِن‪ ،‬يا رغد‪ ،‬يكون أحيان ًا‪ ،‬غدار ًا‪ ..‬ففي القصيدة ذاتها‬

‫قلت‪:‬‬

‫ِ‬ ‫روحان في قلب المدى‬ ‫وتوح َد ْت‬ ‫“‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫الردى”‬ ‫لم‬ ‫تخش ُبعد ًا أو يهدّ دها َّ‬

‫سبابتها وكأنها ت ّتهمه‪:‬‬ ‫رفعت ّ‬

‫أردت تعويذة تمنحك َّ‬ ‫كل ما منحتك‪.‬‬ ‫ـ أنت‬ ‫َ‬

‫هز رأسه موافق ًا‪:‬‬ ‫ّ‬

‫أردت‪.‬‬ ‫ـ نعم‪...‬‬ ‫ُ‬

‫‪54‬‬


‫وأرجع ظهره إلى الخلف‪ّ ،‬‬ ‫وقطب‪ ،‬سأل‪:‬‬ ‫منحتني إياه؟‪ ...‬طمأنينة تدفعني القتحام العالم المسحور؟‬ ‫ـ ما الذي َ‬ ‫الختالس الزمان من الشجون؟ الختالس األحالم؟ وما دفعت ثمن ًا‬

‫لهذا؟‪..‬اسمعي‪:‬‬

‫ِ‬ ‫عينيك يدعوني‬ ‫“رأيت العالم المسحور في‬ ‫ُ‬ ‫وفي َب ْح َر ْي ِه أحالمي‬ ‫تناديني‬

‫ُأللقي عند ّ‬ ‫شط ْي ِه بأيامي‬ ‫وما يبقى من العم ِر‪،‬‬

‫خذيه وامسحي لي بعض آالمي‪،‬‬

‫َ‬ ‫الحب والزه ِر‪.‬‬ ‫رحيق‬ ‫خذيه واسكبي فيه‬ ‫ِّ‬ ‫آت‪ ،‬أنا ٍ‬ ‫أنا ٍ‬ ‫آت‬

‫لعم ٍر ك ّله ألوانْ‬

‫آت‪ ،‬أنا ٍ‬ ‫أنا ٍ‬ ‫آت‬

‫بال ٍ‬ ‫ماض وال عنوانْ ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫عينيك مأوايا‬ ‫ففي‬

‫وفيها موطني اآلتي‬ ‫‪55‬‬


‫ُ‬ ‫أعشق اإلبحار‬ ‫وفيها‬ ‫ِ‬ ‫بالغرق‬ ‫وتحيا الروح‬

‫األشعار‬ ‫وفيها أكتب‬ ‫ْ‬

‫ويصفو ا ّل ُ‬ ‫ِ‬ ‫باألرق”‪.‬‬ ‫ليل‬ ‫تنهدت‪:‬‬ ‫ّ‬

‫دفعت عمرك‪ ،‬أو ما تب ّقى من عمرك‪ ،‬لعم ٍر كله ألوان‪..‬‬ ‫ـ فهمت‪..‬‬ ‫َ‬

‫ألتخيل شكل (اآلتي)‬ ‫التجرد من الماضي‪ ،‬من العنوان‪ ،‬حتى‬ ‫فهمت هذا‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫آت‪ ،‬أنا ٍ‬ ‫هاتف ًا بإيمان‪“ :‬أنا ٍ‬ ‫آت”‪ ،‬وباحث ًا‪ ،‬أيض ًا‪ ،‬عن الموطن (اآلتي)‪،‬‬

‫باحث ًا عن جماالت مستقبلية يح ّققها وجود الهوى القادر على استعمال‬

‫فتلون الرمادي بكل ألوان قوس‬ ‫عصاه السحر ّية التي تجترح العجائب‪ّ ،‬‬

‫القزح‪ ،‬وتبعد الغيم عن وجه الشمس ووجه القمر‪ ،‬فيصفو اللون‪ ،‬وأذكر‪،‬‬

‫فيما أذكر‪ ،‬وأضع إصبعي على حقيقة ما قيل من أن الشعراء هم الذين‬ ‫ع ّلموا الناس أن للجمال غاية غير ما ألفوا من الغايات‪ ،‬فهم الذين فطنوا‬ ‫أن للوجود محاسن تشتهى بجوارح غير الحواس‪ ،‬فأي جوارح هي التي‬

‫الملون”‪ ،‬فتخلع عنك‬ ‫تأخذ بيدك إلى “العالم المسحور”‪ ،‬إلى “العمر‬ ‫ّ‬ ‫شوائب الماضي‪ ،‬وترمي عند ّ‬ ‫شط السحر واللون بما يبقى من األيام وما‬

‫ّ‬ ‫الشط خلي ًا مطمئن ًا؟‬ ‫دفعت أيامك لقاء هذا االرتماء عند‬ ‫يبقى من العمر؟‬ ‫َ‬ ‫آه يا سيدي‪ ..‬يتم ّنى كثيرون أن يدفعوا ّ‬ ‫كل أعمارهم‪ ،‬ال بعضها‪ ،‬لقاء‬ ‫الحصول على إذن بالدخول‪.‬‬

‫‪56‬‬


‫ارتسمت على شفتيه ابتسامة هادئة فيها حزن لم تستطع أن تكتشفه‬

‫فأحست أن األلوان التي كان يتحدّ ث عن‬ ‫إال حين انخفضت نبرة صوته‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وجودها في العالم المسحور المشتهى تنسحب شيئ ًا فشيئ ًا‪:‬‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫عمرك لقاء الحصول على‬ ‫عمرك أو ما بقي من‬ ‫ـ ال يكفي أن تدفعي‬

‫إذن بالدخول‪ ،‬أو لقاء الحصول على إذن بالزيارة‪ .‬ال يكفي الدخول‪ ،‬وال‬ ‫الملون ليس متحف ًا‪ ،‬بل حياة‪ ..‬ليس‬ ‫السحري‬ ‫الحب‬ ‫تكفي الزيارة‪ .‬عالم‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫فندق ًا‪ ،‬بل ج ّنة يحلم المؤمنون في البقاء فيها‪ ..‬البقاء‪.‬‬ ‫ابتسمت‪:‬‬

‫ـ تريد حب ًا بال خوف‪ ،‬بال قلق‪...‬‬ ‫قال بحزم‪:‬‬ ‫ـ بال فراق‪.‬‬ ‫قالت‪:‬‬

‫ـ تريد أال ُيع َل َن عن انتهاء التمدّ د على ّ‬ ‫شط الطمأنينة‪ ،‬وأال يسرق مارد‬

‫حب بعد اليوم؟‬ ‫شرير قوس القزح‬ ‫َ‬ ‫ويعلن أن ال لون بعد اليوم‪ ،‬أن ال َّ‬ ‫ّ‬ ‫قال‪:‬‬

‫َ‬ ‫دفعت أ ّي َ‬ ‫أعلنت َ‬ ‫وعمرك‪.‬‬ ‫امك‬ ‫أنك‬ ‫ـ حتى لو‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫أطرقت‪:‬‬

‫ِ‬ ‫تمزقه‪،‬‬ ‫ـ أفهم شعور إجبار‬ ‫المرء على مغادرة الجنة‪ ،‬أفهم قلقه‪ّ ،‬‬ ‫‪57‬‬


‫خرجت منها؟‬ ‫خرجت من الجنة؟ ُأ‬ ‫غضبه‪..‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫قال‪:‬‬

‫والتمزق والغضب حين نخرج بإرادتنا‪،‬‬ ‫ـ ال يتم ّلكنا الحزن والقلق‬ ‫ّ‬

‫لكنه يمسك بتالبيبنا حين ُن ْج َبر على الخروج‪ .‬اسمحي لي أن أقرأ لك‬

‫بعض آالم القادم على الفراق‪.‬‬ ‫ـ تفضل‪.‬‬

‫“آن األوانْ‬

‫ْ‬ ‫الغجري أ ّذنَ‬ ‫بالرحيل‬ ‫والمركب‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬

‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫العويل‪.‬‬ ‫عينان‪ ،‬واختنق‬ ‫وترقرقت‬ ‫آنَ األوانْ‬

‫ِ‬ ‫وتلعثمت‬ ‫شفتان وارتعش المكانْ‬ ‫يا ليته يقف الزمانْ‬ ‫المسير‬ ‫وتدمدم األقدار‪ :‬أنْ حان‬ ‫ْ‬

‫الحسير‬ ‫وتعثرت قدمان في الدرب‬ ‫ْ‬ ‫فكأننا غصنان في َع ِ‬ ‫الرياح‬ ‫صف‬ ‫ْ‬ ‫الجراح‬ ‫وكأننا شوقان تنهشنا‬ ‫ْ‬

‫الجناح‬ ‫وكأننا في الكون عصفوران خانهما‬ ‫ْ‬ ‫‪58‬‬


‫لكنه‪ ،‬آن األوان‪.‬‬ ‫احتضار‬ ‫دمع‬ ‫وبدا على أفق المدى ُ‬ ‫ْ‬ ‫وتشرد القلبان في تِ ِ‬ ‫المدار‬ ‫يه‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬

‫انكسار‪...‬‬ ‫المقيدُ في‬ ‫الصمت‬ ‫وتصايح‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫أنْ ال خيار”‪.‬‬

‫أطرق‪ ،‬فرددت‪:‬‬ ‫ـ آن‪ ..‬آن‪ ...‬آن‪ ..‬حان‪ ..‬كأنني أسمع أجراس ناقوس النهاية‪.‬‬ ‫ابتسم ساخر ًا‪:‬‬

‫ـ نعم‪ ..‬انتهى اإلذن بالدخول‪ ،‬انتهت‪ ،‬يا رغد‪ ،‬الزيارة إلى العالم‬

‫المسحور‪.‬‬ ‫قالت‪:‬‬

‫ـ والدافع عمره‪ ،‬أو ما تب ّقى من عمره‪ ،‬الدافع أيامه‪ ،‬أو ما تب ّقى من‬

‫أيامه‪ ،‬تزلزل المكان تحت قدميه‪ ،‬فيتعثر‪ ،‬وتغيم األشياء إذ ُترى من خالل‬

‫يتكسر‪..‬غصنان كانا أخضرين‪ ،‬وأجنحة‬ ‫عينين دامعتين‪ ،‬وكأن كل شيء‬ ‫ّ‬

‫لعصفورين كانا طليقين‪ ،‬وحياة‪ ،‬باختصار‪ ،‬تحتضر‪ .‬صور مخيفة‪ ،‬ال‬

‫ْ‬ ‫الصمت‪”:‬أن‬ ‫تمن ال ينفع حين يصرخ‬ ‫يبعدها تم ّني أن يقف الزمان‪ ،‬فهو ٍّ‬ ‫الرقية؟‬ ‫ال خيار”‪.‬أين تعويذتك إذن؟ أين ّ‬

‫ضحك طوي ً‬ ‫ال وقد أعاده سؤالها األخير إليها‪:‬‬ ‫‪59‬‬


‫ـ سبق وقلت ِ‬ ‫لك إن اإلحساس المطمئن‪،‬يا رغد‪ ،‬يكون‪ ،‬أحيان ًا‪،‬‬ ‫غدار ًا‪.‬‬ ‫هز رأسه وتابع‪:‬‬ ‫ّ‬

‫ـ نعم‪ ..‬يعطي إحساس ًا كاذب ًا بالثقة‪ .‬مثلما القناع الذي يلبسه السباحون‪،‬‬

‫يغرقهم في أحيان كثيرة‪.‬‬ ‫تنهدت‪:‬‬

‫محبين إلى لحظة يقفان فيها أمام‬ ‫ـ سامح الله تعويذتك التي أوصلت ّ‬

‫قلت في إحدى قصائد‬ ‫بعضهما ال يدريان ما قد حدث‪ ،‬أو ما سيحدث‪َ .‬‬ ‫الفراق‪:‬‬

‫عدت‪ ،‬ال أدري وال تدرين ْ‬ ‫هل‬ ‫“قد‬ ‫ُ‬ ‫حان النوى‬ ‫السنين‬ ‫لما خطونا فوق أنقاض‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫أنت ِ‬ ‫ال ِ‬ ‫أنت وال المنى‪.‬‬

‫وهربت مهزو َم الخطى‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ما بين ّ‬ ‫واليقين‪.‬‬ ‫شكي‬ ‫ْ‬

‫األنين‬ ‫الصهيل مع‬ ‫لكنه في داخلي‪ ،‬ناح ّ‬ ‫ْ‬ ‫هل نلتقي يوم ًا هنا؟‬

‫ْ‬ ‫الفراق‪.‬‬ ‫جسر‬ ‫وبكى معي‬ ‫ُ‬ ‫‪60‬‬


‫لما عبرنا فوقه‪،‬‬ ‫ّ‬

‫ْ‬ ‫للعناق‬ ‫ومددت قلبي‬ ‫ُ‬

‫وهممت ُأخفي شوق ُه‪،‬‬ ‫ُ‬

‫ْ‬ ‫ابتهال‬ ‫ورأيت في عينيك أصوات‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫أنت الغريق ُة أم أنا؟‬

‫ْ‬ ‫المحال”‬ ‫أم إننا االثنان قد خضنا‬ ‫ع ّلق‪:‬‬ ‫قلت‪.‬‬ ‫ـ ُ‬ ‫سألت‪:‬‬ ‫وعرفت؟‬ ‫ـ‬ ‫َ‬ ‫سأل‪:‬‬ ‫عرفت ماذا؟‬ ‫ـ‬ ‫ُ‬

‫ّ‬ ‫الشك من اليقين؟‬ ‫عرفت‬ ‫ـ‬ ‫َ‬ ‫لم!‬ ‫ـ ْ‬

‫كانت هي الغريقة أم أنت؟‬ ‫ـ‬ ‫َ‬ ‫عرفت إن ْ‬

‫ـ لم!‬

‫أنت ِ‬ ‫ـ وهذه العبارة التي تكررها‪“ :‬ال ِ‬ ‫أنت”‪،‬‬ ‫أنت َ‬ ‫أنت‪ ”..‬مر ًة‪ ،‬و”ال َ‬ ‫‪61‬‬


‫مرة‪ ...‬أراها وقفة عارية أمام تأمل لواقع جديد تس ّلط ضوء الفراق‬ ‫ّ‬ ‫القوي عليه‪ ،‬وضاعت من على الكتف التعويذة‪ ...‬فأرى هذا اإلعالن‬ ‫أنت‪ ،‬وكأنه يقول له‪ :‬ال أعرفك كما أنت‬ ‫أنت َ‬ ‫المرعب يقول لآلخر‪ :‬ال َ‬

‫عليه اليوم‪ ،‬وأبحث عنك كما كنت باألمس‪ .‬من هنا‪ ،‬كان فعل الهرب‬ ‫مقرون ًا بالخطى المهزومة‪ .‬إال أن بقايا من “ال أدرية”‪ ،‬ما زالت تحاول‬

‫أن تطبع اآلخر ببقايا من هوية تثير حزن القلب الممدود للعناق‪ ،‬وتسمح‬ ‫المكررة‬ ‫ألصوات ابتهال في العينين أن تمأل أفق لحظة الفراق الصامتة‬ ‫ِّ‬

‫ْ‬ ‫خيار‪..‬أجواء لحظة الفراق تخيفني!‬ ‫أن ال ْ‬ ‫ع ّلق‪:‬‬

‫ـ وترعبني‪.‬‬ ‫سألت‪:‬‬

‫الملون المحروس بتعويذة األمان‬ ‫ـ أتساءل إن كان العا َلم المسحور‬ ‫ّ‬ ‫قادر ًا بالفعل على حجب فراق قد يلوح في األفق‪.‬‬ ‫اعترض‪:‬‬

‫ّ‬ ‫إلرادتنا‪..‬تذكري هذا‪ .‬إال أنني استشرفت‬ ‫ـ تعويذة األمان تخضع‬ ‫وقت كانت تسكنني‪ ،‬استشرفت الفراق القادم مع الغد ليسرق‬ ‫يوم ًا‪،‬‬ ‫َ‬

‫جمال اليوم‪ .‬اسمعي‪:‬‬

‫ِ‬ ‫جناحك واستريحي‪...‬‬ ‫“ ضمي على زندي‬ ‫الجريح‪.‬‬ ‫ضمدي في الصدر أ ّنات‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫‪62‬‬


‫ال تفيقي كي أفيقْ‬ ‫فغد ًا يفيق ُ‬ ‫الليل‬

‫الصباح‬ ‫يهرب في‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫وغد ًا نفيقْ ‪،‬‬

‫نلملم ما تب ّقى في الحريقْ ‪،‬‬ ‫وغد ًا‬ ‫ُ‬ ‫وغد ًا نضيع على الطريقْ‬

‫الرياح”‪.‬‬ ‫تذرو‪ ،‬وتأخذنا‬ ‫ْ‬ ‫وبعد أن أدعو إلى عيش اللحظة الحاضرة بكل تفاصيلها الجميلة‪،‬‬ ‫بكل خيرها‪ ،‬وبكل سالمها‪ ،‬أعود فأفكر قلق ًا بالغد‪:‬‬ ‫مطر‬ ‫ُ‬ ‫“ح ّطي على َجدبي ْ‬ ‫ُح ّطي على قلبي يمام ْه‪،‬‬

‫ِ‬ ‫المغيب‬ ‫فغد ًا تطير حمامتي خلف‬ ‫أذوب‬ ‫غد ًا‬ ‫ُ‬ ‫أذوب‬ ‫غد ًا‬ ‫ُ‬ ‫أغيب‬ ‫غد ًا‬ ‫ُ‬

‫غد ًا‪ ،‬فغيبي‪”..‬‬ ‫‪63‬‬


‫ع ّلقت‪:‬‬ ‫ـ يرتبط الغد عندك باستيقاظ مشتِّت‪ ،‬مض ِّيع‪ ،‬سا ّد طرقات الفرح‪،‬‬ ‫الجدب والقلق إلى ما كان عليه قبل حالة الحب‪ ..‬يرتبط الغد عندك‬ ‫ُمعيد‬ ‫َ‬

‫بالغياب‪ ،‬والغياب فراق يلملم معه كل ما يمكن أن يمنح السعادة ويرحل‬ ‫آخذ ًا معه كل شيء‪.‬‬ ‫ابتسم ابتسامة فيها الكثير من السخرية‪ ،‬وهمس‪:‬‬

‫ـ ونروح‪ ،‬ونحن نسير في الهاجرة‪ ،‬ال ّ‬ ‫ظل يلوح أو سيلوح‪ ،‬نروح نجد‬ ‫أسباب ًا لما حصل‪ ،‬وربما ندّ عي أن ذاك الحب كان‪...‬‬ ‫قالت‪:‬‬

‫ـ قيد ًا‪..‬‬

‫ـ بالضبط‪...‬‬ ‫ـ وندّ عي أننا حطمنا القيد‪ ،‬ورحنا ننعم بالحرية‪ ،‬أثمن ما يمكن المرئ‬

‫أن ينعم به‪.‬‬

‫ـ الحر ّية‪ ...‬نعم‪ ...‬وهي ُت ِ‬ ‫طل ُقنا يا رغد‪.‬‬ ‫ع ّلقت‪:‬‬

‫ـ ُت ِ‬ ‫فترض‪..‬‬ ‫طل ُقنا كما ُي َ‬ ‫قال‪:‬‬

‫ـ نعم‪.‬‬ ‫‪64‬‬


‫سألت وكأنها ّ‬ ‫تشك في ماهية هذا اإلطالق‪:‬‬ ‫ـ و ُت ِ‬ ‫طل ُقنا حق ًا؟‬ ‫أجاب‪:‬‬ ‫“ تلك القيود بمعصمي ّ‬ ‫حطمتها‬ ‫يا فتن ًة بيدي أنا أبدعتها‬

‫ِ‬ ‫اللوحات‪ ،‬قد أتلفتها‬ ‫كنت في‬ ‫إن َ‬ ‫مزقتُها‬ ‫أو َ‬ ‫كنت في األشعار‪ ،‬قد ّ‬ ‫أو شمع ًة في ليلتي‪ ،‬أطفأ ُتها‬ ‫تبق إال ٌ‬ ‫لم َ‬ ‫دمعة داريتُها‬

‫أو ٌ‬ ‫آهة في خافقي أحرقتُها‬ ‫أنفاس الوجود‬ ‫وحبست‬ ‫ألقيتُها‬ ‫ُ‬ ‫َ‬

‫وقطعت أوردتي وريد ًا في وريدْ‬ ‫ُ‬

‫ورميت في ِ‬ ‫حلم الوعو ْد‬ ‫ُ‬ ‫نزق ّ‬ ‫الصبا َ‬ ‫وصرخت في اآلفاق‪ :‬إ ّني لن أعو ْد‬ ‫ُ‬ ‫الحب الوحيدْ ”‬ ‫إني كتبت نهاي َة‬ ‫ِّ‬

‫سمحت لنفسها أن تقاطعه وتكمل نظرية الحرية الشهيرة‪:‬‬ ‫‪65‬‬


‫كرر‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫سألت‪:‬‬

‫حب نما بين القيو ْد”‪.‬‬ ‫“ فخرافة‪ٌّ :‬‬ ‫حب نما بين القيود”‪.‬‬ ‫“فخرافة‪ٌّ :‬‬

‫قلت فيها‪:‬‬ ‫ـ وتلك التي َ‬ ‫ُّ‬ ‫“كل ٍ‬ ‫حبها‬ ‫نبض في حنايا النفس يدعو َّ‬ ‫غيرها‬ ‫وكأنّ َالل َه لم يخلقْ‬ ‫ً‬ ‫نساء َ‬

‫القلب لم يخفقْ غرام ًا قبلها‬ ‫وكأن‬ ‫َ‬

‫الحب قد ّ‬ ‫حل على األرض لها”‬ ‫وكأنّ‬ ‫ّ‬ ‫وقلت فيها‪:‬‬ ‫ـ‬ ‫ُ‬ ‫“ونهلتُها‪ ،‬حلم ًا تراودني رؤا ْه‬ ‫بت‪ ،‬بمسا ِم كوني ِّ‬ ‫كل ِه‬ ‫وتسر ْ‬ ‫ّ‬ ‫وتم ّلكت أقصى مدا ْه”‬

‫وقلت فيها‪:‬‬ ‫َ‬

‫ِ‬ ‫اآلمال‪ ،‬لي ُ‬ ‫ِ‬ ‫أمل‪.‬‬ ‫“رؤياك يا فرح َة‬ ‫‪66‬‬


‫ِ‬ ‫عيناك‪ ،‬أم همس ُة األحال ِم في القم ِر‬ ‫ُط ّلي على زمني‪ ،‬كم خانني زمني‬

‫حلم يراودني في هدأة السحر‪”...‬‬ ‫ٌ‬ ‫قال‪:‬‬ ‫ـ استطعت أن أجتاز الحالة‪ ،‬فقلت‪:‬‬ ‫كالعلقم‬ ‫خمرها‬ ‫ِ‬ ‫“كأسي وكأسك ُ‬ ‫وحسوتها حتى الثمالة من دمي‬

‫وندمت‪ :‬ال لم أند ِم”؟‬ ‫وتركتها‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ضحكت‪:‬‬

‫ندمت حق ًا‪ ،‬أم لم تند ِم؟‬ ‫ـ‬ ‫َ‬

‫زفر‪ ،‬وعانقت عيناه األزرق الواسع‪:‬‬

‫ـ اإلنسان يا رغد‪ ..‬آه لو تعرفين ما اإلنسان‪..‬‬ ‫قالت بسرعة‪:‬‬ ‫ـ كتلة متناقضات‪..‬‬ ‫ـ وأشياء أخرى‪...‬‬ ‫‪67‬‬


‫ندمت حق ًا أم لم تند ِم؟‬ ‫ـ أعود ألسأل‪:‬‬ ‫َ‬ ‫قال‪:‬‬

‫ِ‬ ‫أجيبك شعر ًا‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫ـ تفضل‪.‬‬ ‫تعب؟‬ ‫“ َت ِع َب الهوى أ ْم إنّ‬ ‫قلبي من هوا ُه قد ْ‬ ‫َ‬ ‫السحب؟‬ ‫هجر الضلوعَ مح ّلق ًا فوق‬ ‫ْ‬ ‫أم إنه َ‬

‫ِ‬ ‫قد ّ‬ ‫والريب‬ ‫المالمة والتج ّني‬ ‫مل من سجن‬ ‫ْ‬ ‫األرب‬ ‫عز‬ ‫أتراه في قمم الذرى يهفو إلى ّ‬ ‫ْ‬

‫ُ‬ ‫َ‬ ‫بالشهب‬ ‫البعيد‪ ،‬وال يبالي‬ ‫النجم‬ ‫ويغازل‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫وتراه ُ‬ ‫هب‬ ‫بالثلوج‪،‬‬ ‫يهزأ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وبالرياح‪ ،‬وبال ّل ْ‬

‫ويعانق الكونَ‬ ‫طرب‬ ‫الرحيب‪ ،‬من ال ّتج ّلي في‬ ‫َ‬ ‫ْ‬

‫ِ‬ ‫الغضب”‪.‬‬ ‫العلياء‪ ،‬ال يخشى‬ ‫الجوزاء في‬ ‫ويداعب‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ع ّلقت‪:‬‬

‫ـ ٌ‬ ‫توق إلى الحرية‪.‬‬ ‫قال‪:‬‬ ‫اقترب‬ ‫رحلت عن الهوى‪ ،‬وزجرته لما‬ ‫“إني‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫‪68‬‬


‫حب ِ‬ ‫فاغترب”‪.‬‬ ‫خاصمت قلبي‬ ‫ك فارحلي‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫خاصمت ّ‬ ‫ع ّلقت من جديد‪:‬‬ ‫وندمت‪ :‬ال لم أند ِم”‪.‬‬ ‫“وتركتها‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وعادت فع ّلقت‪:‬‬ ‫حب ِ‬ ‫فاغترب”‪.‬‬ ‫خاصمت قلبي‬ ‫ك فارحلي‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫“خاصمت َّ‬ ‫هزت رأسها‪:‬‬ ‫ثم ّ‬

‫ـ أفهم قول صديقك ابن الفارض الذي يرى الحب طريق ًا إلى تهذيب‬

‫الروح‪ ،‬فيقول‪“ :‬و َم ْن لم يفقهه الهوى فهو في جهل”‪ ،‬فلماذا ترحل عن‬ ‫يكن؟ َأ َو‬ ‫فتغرب قلبك بعد أن لم ْ‬ ‫الهوى‪ ،‬ولماذا تزجره وتخاصمه وتتركه ّ‬ ‫اكتفى الشاعر فيك من علم هذا األستاذ العظيم؟‬ ‫أجاب‪:‬‬ ‫ـ من يكتفي؟‬ ‫ـ إذن؟‬ ‫“تعب الهوى”‪.‬‬ ‫سألت‪:‬‬ ‫‪69‬‬


‫ـ وأراحه الفراق؟‬

‫هز رأسه نافي ًا‪:‬‬ ‫ّ‬

‫ـ ما أراحه‪.‬‬

‫ـ والحرية المرتجاة‪ ،‬هل صارت سجن ًا؟‬

‫فاجأه سؤالها‪ ،‬لكنه أجاب‪:‬‬ ‫“ال تسأليني ما الجديدْ ؟‬

‫ِ‬ ‫غيابك من جديدْ ؟‬ ‫هل في‬ ‫واأليام‬ ‫اعات‬ ‫الس ُ‬ ‫ُ‬ ‫تتشاب ُه ّ‬ ‫ّ ُ‬ ‫الملبدُ بالجليدْ‬ ‫والصدأ ّ‬

‫يذيب‬ ‫فرح‬ ‫ال حزنَ يشجيني‪ ،‬وال ٌ‬ ‫ُ‬ ‫رواسب المللِ البليدْ ”‬ ‫َ‬

‫قالت‪:‬‬ ‫ـ وبعد أن “تعب الهوى”‪ ،‬أرى أنه باإلمكان القول‪”:‬تعب الفراق”‪،‬‬

‫والدليل هذا العالم الرتيب البائس الذي ُتنبي عنه ألفاظ التشابه‪ ،‬والصدأ‪،‬‬ ‫والجليد‪ ،‬والملل‪...‬فماذا بعد؟‬

‫أجاب وقد شملت الكآبة وجهه وعينيه‪ ،‬بل حركاته كلها‪:‬‬ ‫‪70‬‬


‫“لم تعد يا ليل ُتبدي بسمت َْك‬

‫أنجم ْك‬ ‫خاصم َت ليلي‬ ‫هل ُترى‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫الفلك‬ ‫خلف‬ ‫هاجرت‬ ‫أم تراها‬ ‫ْ‬ ‫لم تعد يا ُ‬ ‫ليل في اآلفاق ْ‬ ‫لك‬ ‫وحدني دوم ًا ْ‬ ‫معك‬ ‫قدر ّ‬ ‫ٌ‬

‫َ‬ ‫أشعل ْك”‬ ‫ربما ُتحرقني كي‬ ‫قالت‪:‬‬

‫ِ‬ ‫توحد ُ‬ ‫والمخاصم‪ ،‬انقلب الفرح‬ ‫المخاصم‬ ‫الليل مع المفا ِرق‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ـ إذا ما ّ‬

‫إلى حزن‪ ،‬وغابت النجوم‪ ،‬وغاب البدر‪ ،‬أو غاب كل ما يزين صفحة‬

‫قلت‪ ،‬في القصيدة‬ ‫السماء في ليل العشاق الذي كان يزخر بالحيوية‪ .‬أما َ‬ ‫ذاتها‪:‬‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫آهات هذا الليل ُتصليني وتفري‬ ‫“إيه يا‬

‫َ‬ ‫العشاق يسري‬ ‫يؤنس‬ ‫نجم‬ ‫لم يعد في الليلِ ٌ‬ ‫ُ‬ ‫للسما ِر ُيغري‬ ‫البدر الذي قد كان‬ ‫رحل ُ‬ ‫ّ‬

‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫تجتث صبري‬ ‫األشواق ثارت في دمي‬ ‫فإذا‬

‫ُ‬ ‫المصباح من لفحات جمري”‪.‬‬ ‫سرج‬ ‫َ‬ ‫كالمنايا‪...‬أ ُ‬ ‫‪71‬‬


‫قال‪:‬‬ ‫“وأنادي‪ :‬ليس في األقداح ما يكفي شرابي‬ ‫ليس في األقداح ما يكفي لعمري‬ ‫ِ‬ ‫الحباب‬ ‫ذابت األنفاس سكرى في‬ ‫ِ‬ ‫العباب‬ ‫شراع في‬ ‫الحلم‬ ‫فإذا‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬

‫ِ‬ ‫سراب”‬ ‫سراب في‬ ‫الحب‬ ‫وإذا‬ ‫ٌ‬ ‫ُّ‬ ‫عادت فسألت‪:‬‬ ‫ “تعب الهوى”‪ ،‬أم “تعب الفراق”؟‬‫أجاب‪:‬‬ ‫ـ اسمعي‪:‬‬ ‫أنت وال النسيم رقـيق‬ ‫أنت َ‬ ‫“ال َ‬ ‫ُ‬ ‫يضيق‬ ‫الصبح يبكي والمـساء‬ ‫األبدي أطـفأ َ‬ ‫ُ‬ ‫ليلـه‬ ‫العاشق‬ ‫ُّ‬

‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫صديق‬ ‫الهالل‬ ‫النجم يحكي‪ ،‬ال‬ ‫ال‬ ‫ُ‬ ‫عمره‬ ‫هذا الذي قد كان يحيا َ‬ ‫‪72‬‬


‫ُ‬ ‫ويـفيق‬ ‫قلب ينام على الهوى‬ ‫ٌ‬ ‫مراتع ِ‬ ‫أنسنا‬ ‫قل للتي هجرت‬ ‫َ‬ ‫لهن ُ‬ ‫رفيق‬ ‫تلك األماسي ما ّ‬ ‫والغرام ُ‬ ‫رداؤنا‬ ‫أيام كنا‬ ‫ُ‬

‫ُ‬ ‫حريق‬ ‫والهيام‬ ‫والحب يشدو‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬

‫مرابع ِ‬ ‫رحلها‬ ‫الفؤاد إلى‬ ‫رحل‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫طريق‬ ‫والسراب‬ ‫قلبان ضال‬ ‫ُ‬

‫بحثت وجد َت ُه في أضلعي‬ ‫فإذا‬ ‫َ‬

‫ُ‬ ‫فطليق”‪.‬‬ ‫عش ًا خوى‪ ،‬أما الهوى‬ ‫قالت‪:‬‬

‫ـ تعب الفراق‪ ..‬أما من منفذ لمغادرة اللون الرمادي الكئيب الذي ّ‬ ‫حل‬ ‫محل قوس القزح؟ أما من ٍ‬ ‫ّ‬ ‫منفذ لمغادرة األرض المتشققة عطش ًا الحا ّلة‬ ‫ّ‬ ‫محل االخضرار؟ أما كانت الحرية المرتجاة قيد ًا؟‬

‫لمعت عيناه‪ ،‬وافترت عن ثغره ابتسامة أنشد على الفور بعدها‪:‬‬ ‫وجه ِ‬ ‫ك ِخلس ًة‬ ‫ُ‬ ‫“عانقت َ‬

‫ِ‬ ‫أغالل‬ ‫من بد ِر ذاك الليل من‬ ‫‪73‬‬


‫حر ِ‬ ‫المساء‬ ‫اس‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬

‫وقطفتُه بين النجو ِم‬ ‫ولذت ال ألوي‬ ‫ُ‬

‫إلى ٍ‬ ‫الفضاء‬ ‫قصي في‬ ‫ركن‬ ‫ْ‬ ‫ٍّ‬ ‫الم َح ّيا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫أوا ُه من ذاك ُ‬

‫نقاء‬ ‫ٍ‬ ‫باسم مثل الثر ّيا في ْ‬

‫ِ‬ ‫َ‬ ‫والقبالت‬ ‫األشواق‬ ‫ولثمتُه‪ ،‬بادلتُه‬ ‫انتشاء‬ ‫في أقصى‬ ‫ْ‬

‫لم َ‬ ‫الحلم موالتي‪،‬‬ ‫يبق إال‬ ‫َ‬ ‫يداعبنا‬

‫خفاء‬ ‫نلملمه‬ ‫ْ‬

‫وندسه كالنور في أجفاننا‬ ‫ُّ‬

‫الشتاء”‬ ‫ونصونه كالروح في عصف‬ ‫ْ‬ ‫قالت باسم ًة‪:‬‬ ‫ـ خطوة إيجابية لخروج ولو عبر الحلم‪ .‬خطوة إيجابية حتى لو كانت‬

‫القصي‪..‬المهم‬ ‫محفوفة بأجواء االختالس والخفاء والهروب إلى الركن‬ ‫ِّ‬ ‫أن يداعبنا الحلم‪ ،‬فنلملمه ونصونه‪.‬‬

‫‪74‬‬


‫شجعته‪ ،‬فنفض عنه غبار الحزن‪ ،‬وبدا ألق خلف‬ ‫كأن أقوالها هذه ّ‬

‫اللون الرمادي يزيحه‪ .‬قال‪:‬‬

‫الزحام‬ ‫ُ‬ ‫“ورشفت من بين ّ‬ ‫عبيرها‬ ‫َ‬

‫وثبات قلبي‬ ‫وتسابقت‬ ‫ُ‬ ‫إثرها‬ ‫َ‬

‫ولمحتُها‬ ‫ف ّتان ًة‬

‫ْ‬ ‫الرفاق‬ ‫بين‬ ‫وخفقت أجنحتي‬ ‫ُأ َح ِّو ُم حولها‬ ‫مثل الفراشة‬ ‫ال أخاف‬

‫ْ‬ ‫االحتراق‬ ‫وأتيتُها‬ ‫وهممت أن أفضي لها‬ ‫ُ‬ ‫‪75‬‬


‫بتلعثمي‬ ‫وتر ّددي‬

‫شوق ًا ّ‬ ‫ْ‬ ‫االشتياق‬ ‫تخطى‬ ‫وتلعثمت‬ ‫كتلعثمي‬ ‫وتر ّددت‬ ‫كتر ّددي‬

‫ْ‬ ‫العناق‬ ‫ورحلت في عينين ال تخشى‬ ‫ُ‬ ‫تفج َر بيننا‬ ‫وجدٌ ّ‬

‫ٌ‬ ‫شوق تحدّ ى صمتَنا‬

‫ْ‬ ‫وائتالق‬ ‫دمع ترقرق‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫وتعانقت أكوا ُننا‬ ‫ْ‬

‫أعشارنا‬ ‫وتشابكت‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫وتعاتبت‬

‫ْ‬ ‫الفراق؟”‬ ‫كيف التقينا صدف ًة بعد‬ ‫الحيوي‪:‬‬ ‫سألت بعد أن أصغت باهتمام للقاء الصدفة‬ ‫ّ‬ ‫‪76‬‬


‫ـ وعاد العالم المسحور يز ّينه قوس قزح‪ ،‬وعاد العاشق يستلقي على‬

‫شاطئ دنيا السعادة؟‬ ‫تنهد‪ ،‬ثم سألها‪:‬‬ ‫ّ‬

‫ـ هل يغسل العتاب سنوات الفراق؟‬ ‫أجابت‪:‬‬ ‫ـ قد يحدث هذا‪.‬‬ ‫سأل‪:‬‬ ‫ـ وتعود الحياة إلى ما كانت عليه؟‬ ‫ـ قد تعود‪...‬‬ ‫قال‪:‬‬

‫ـ تعود في لحظة الصدفة‪..‬لكن شيئ ًا ما‪ ،‬شيئ ًا كبير ًا‪ ،‬كبير ًا جد ًا يكسره‬

‫الفراق يصعب أن يلتئم‪..‬وإذا بالتلعثم والتردد والشوق المنفجر‪ ،‬إذا بكل‬ ‫المار بيننا بوجهه المتجعد‬ ‫هذا يهدأ فنص ّفق لموكب فعل (كان) الجليل‬ ‫ّ‬ ‫وعينيه الغائرتين‪ ،‬فارض ًا وجوده علينا‪ ...‬وإذا بنا ندخل عهده‪ ،‬رغم‬

‫يحب أصحاب القواعد أن‬ ‫انفجار لحظة لقاء بعد فراق‪( ،‬كنتيين) كما‬ ‫ّ‬

‫يطلقوا على أمثالنا‪ ..‬اسمعي‪:‬‬

‫“شيء في صدري‬ ‫ٌ‬

‫شيء في صد ِر َك كانْ‬ ‫ٌ‬ ‫‪77‬‬


‫ُ‬ ‫ونظرت إلى العنوانْ‬

‫ٍ‬ ‫بشيء هذا العنوانْ ؟‬ ‫هل يعنيني اليو َم‬ ‫لم يتع ّث ْر خطوي‬ ‫لم يتزايدْ خفقي‬

‫لم‬ ‫تحمر خدودي كالصبيانْ‬ ‫ّ‬

‫ِ‬ ‫مر ْت في ذهني‬ ‫أرقام‬ ‫ُ‬ ‫الهاتف ّ‬ ‫طي النسيانْ‬ ‫باهت ًة من ّ‬ ‫ها نحن مع ًا‬

‫رد ُ‬ ‫وامتدّ ت في َب ِ‬ ‫األ ْف ِق يدانْ‬ ‫وألو ِل مر ْه‬ ‫وكأنهما ّ‬ ‫ترتعشانْ‬

‫وكأ ّنا في ِ‬ ‫درب العم ِر غريبانْ‬ ‫ها نحن مع ًا‬

‫لكن‪ ،‬هل حق ًا نحن حبيبانْ‬

‫عينان تسائلها عند ا ّللقيا عينانْ‬ ‫ٍ‬ ‫بتلعثم‬ ‫فر إلى حيرانْ‬ ‫ِ‬ ‫حيران َّ‬ ‫شيء ما في قلبينا يوم ًا كانْ‬ ‫ٌ‬ ‫‪78‬‬


‫وانطفأ البركانْ‬

‫بقيت في أعيننا لمح ُة أشجانْ‬ ‫ورفات غرا ٍم‬ ‫ُ‬ ‫ورماد حنانْ‬ ‫ُ‬ ‫ورحلنا‬

‫لك ّنا لم ْ‬ ‫نترك ح ّتى عنوانْ ”‬ ‫بدا على وجهها شيء من خيبة‪ ،‬فقالت‪:‬‬ ‫ـ اعتقدت‪ ،‬في قصيدتك ما قبل األخيرة‪ ،‬أن القمر والنجوم والسماء‬

‫وقوس القزح قد تجدّ د وجودها‪ ،‬فإذا بفعل (كان) يطرد كل هذا ويعيد‬

‫إلى األجواء اللون الرمادي‪.‬‬ ‫قال‪:‬‬

‫ـ ّ‬ ‫وأؤكد ذلك بقولي‪:‬‬ ‫“جئتَني اآلن وعود ًا‬ ‫أم سراب ًا‬

‫أم قدر!؟‬ ‫اخضرار‬ ‫ليس في الروح‬ ‫ٌ‬

‫الزهر‬ ‫أحالم‬ ‫رحلت في الغيب‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫‪79‬‬


‫ُ‬ ‫نصف ٍ‬ ‫قرن!؟‬

‫ْ‬ ‫بعد أن َّ‬ ‫السؤال‬ ‫جف‬ ‫المطر!؟‬ ‫كيف يحييه‬ ‫ْ‬

‫ْ‬ ‫المحال‬ ‫الحلم آلفاق‬ ‫غادر‬ ‫ُ‬ ‫السفر”‬ ‫وارتضى فيه‬ ‫ْ‬

‫حاولت أن تبتسم‪:‬‬ ‫ـ أنا آسفة‪.‬‬ ‫رد‪:‬‬ ‫َّ‬

‫ُ‬ ‫“ألف سو ٍر‪ ،‬ك ّلما‬ ‫سور‪ ،‬الح سدُّ‬ ‫ُ‬ ‫جاوزت سور ًا‪ ،‬قام ٌ‬ ‫ُ‬ ‫جرني ّ‬ ‫ألف بح ٍر‪ ،‬ك ّلما‬ ‫للش ِّط مدُّ‬ ‫ُ‬ ‫صارعت موج ًا‪ّ ،‬‬ ‫ألف ٍ‬ ‫قيد‪ ،‬كلما ّ‬ ‫ُ‬ ‫سجانٌ وقيدُ‬ ‫حط ُ‬ ‫مت قيد ًا‪ ،‬جاء ّ‬

‫العمر سراب ًا بين ٍ‬ ‫آمال ُتوارى‪ ..‬أو ُت ّر ُّد”‪.‬‬ ‫ومضى‬ ‫ُ‬ ‫قالت‪:‬‬

‫لحب قد يأتي وقد ال‬ ‫ـ هذا العمر الذي تدور في فلكه‪ ..‬تدفعه ثمن ًا‬ ‫ٍّ‬ ‫يأتي‪ ..‬تحلم أن يعاش حيوي ًا‪ ،‬حقيقي ًا‪ ،‬فإذا به سراب يتمطى بين تناقضات‬

‫ُ‬ ‫بالرمادي‪،‬‬ ‫المتسربل‬ ‫الكنتي‬ ‫الحياة‪ .‬أخبرني عن العمر الذي “مضى”‪ ،‬أيها‬ ‫ّ‬ ‫ُّ‬ ‫‪80‬‬


‫الباحث عن لون‪ ،‬ولكن ليس بحث ًا حثيث ًا‪.‬‬ ‫قال‪:‬‬ ‫“قالوا تعدّ َ‬ ‫من‬ ‫وفر ْ‬ ‫اك الزمانُ ّ‬ ‫درب الهوى ُ‬ ‫الشباب‬ ‫أمل‬ ‫ْ‬ ‫ويحكم‪..‬‬ ‫يا‬ ‫ْ‬

‫زمن؟‬ ‫هل كان لي ٌ‬

‫شراب؟”‬ ‫وهل في الكأس ذكرى من‬ ‫ْ‬ ‫رفعت حاجبيها دهشة‪ ،‬وسألته‪:‬‬ ‫ـ أما كان؟‬ ‫قال‪:‬‬ ‫“هذا الشتاء مؤ َّبدٌ بدمي‪،‬‬

‫اليباب‬ ‫القلب سكناه‬ ‫وهذا‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬

‫الورد‪ ...‬ال أدري بملمسه‪،‬‬ ‫ُ‬

‫السحاب‬ ‫وال يدري بصحرائي‬ ‫ْ‬ ‫والغصن‬ ‫ُ‬ ‫‪81‬‬


‫عانقت غصن ًا في هوى‬ ‫ما‬ ‫ُ‬ ‫سراب‬ ‫إال وعانقني‬ ‫ْ‬ ‫األبرار‬ ‫صحبي‬ ‫يا‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ال َم َل ٌك أنا‪،‬‬

‫باب”‬ ‫لكن‪ ،‬يحاصرني ُ‬ ‫الع ْ‬ ‫قالت‪:‬‬ ‫بت أفهم اآلن وقوفها تطرق باب قطب األقطاب الذي يسكن‬ ‫ـ أفهم‪ُّ ..‬‬

‫اليباب‪ .‬أفهم نداءها الذي أفضى إلى قولها‪:‬‬ ‫الشتاء‪ ،‬ويسكن قلبه‬ ‫دمه‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫“لكن الباب غدا مغلقْ‬ ‫وعيوني ْ‬ ‫تأرق‬

‫وفؤادي ُي ْ‬ ‫حرق‬

‫ٍ‬ ‫شوق‬ ‫ضم ِة‬ ‫لم يؤذنْ لي في ّ‬ ‫كي تأخذني خلف المطلقْ‬ ‫األقطاب‬ ‫قطب‬ ‫قل لي يا َ‬ ‫ْ‬ ‫سي َد ّ‬ ‫األحباب‬ ‫كل‬ ‫ْ‬ ‫يا ّ‬

‫هل تسمع َط َ‬ ‫األبواب؟”‬ ‫رق‬ ‫ْ‬ ‫‪82‬‬


‫وعادت فسألته‪:‬‬

‫ـ هل تسمع َ‬ ‫طرق األبواب؟”‬

‫ضحك‪ ،‬فأزال األجواء المتشنجة المتو ّلدة عن الصقيع والجفاف‪.‬‬ ‫وكأنه على وشك أن ينهض ليفتح باب ًا ُأغلقَ ‪ ،‬وكأن بقايا من عمر ما زالت‪،‬‬

‫دفعه منه‪ ،‬س ُتدفع لو في األجواء ٌ‬ ‫أمل‪.‬‬ ‫رغم كل ما َ‬ ‫أجابها‪:‬‬

‫هزني ٌ‬ ‫شوق و ِو ُّد‬ ‫جسرا‪ ،‬زال‬ ‫أت‬ ‫هي ُ‬ ‫جسر‪ّ ..‬‬ ‫ٌ‬ ‫ً‬ ‫“كلما ّ‬ ‫إعصار ورعدُ‬ ‫األضلع‬ ‫أطفأت نار ًا‪ ،‬ثار في‬ ‫كلما‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ٌ‬

‫سكن العينين ُسهدُ‬ ‫فارقت ُسهد ًا‪ ،‬جدَّ وجدٌ ‪،‬‬ ‫كلما‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫دمع‪ ،‬اشتكى للدمع خدُّ‬ ‫كم تعبنا‪ ،‬ك ّلما أشرق ٌ‬

‫الخاطر وعدُ ”‬ ‫طي َب‬ ‫َ‬ ‫كلما قلنا ارتحلنا عن هوانا‪ّ ،‬‬ ‫ابتسمت ابتسامة مفعمة باالطمئنان عليه‪ ،‬ثم أشارت بعينيها إلى عمال‬

‫المقهى يستعدون إلغالق الباب‪:‬‬

‫ـ سر َقنا الوقت‪ ..‬فليقفلوا األبواب‪ ...‬المهم أال تفعل أنت‪.‬‬ ‫ضحك وهو يلملم أوراقه مستعد ًا معها للمغادرة‪:‬‬

‫ـ الله‪...‬يا رغد!‬

‫‪83‬‬


‫خيمة ال�شعر‬ ‫ليل الصحراء يضيئه بدر‪ ،‬فتكبر السماء وتصفو‪ ،‬ويصبح المدى أوسع‬

‫فأوسع‪.‬‬

‫خيمة ِّ‬ ‫الشعر بيضاء ال كما خيام أفراد القبيلة المحبوكة من شعر الماعز‬ ‫األسود‪ .‬أما أشعة القمر ونيران ِ‬ ‫القرى فترسم أخيلة تنعكس على أشجار‬

‫النخيل وبعض شجيرات األثل الصحراوية‪.‬‬

‫سألت نوف الصغيرة أمها وهي تمسك بطرف ثوبها الطويل األسود‪:‬‬ ‫ـ بدأت سهرة الشعراء؟‬ ‫أجابت األم وهي تشير بنظراتها إلى شاعر يدخل الخيمة للتو‪:‬‬ ‫ـ اسمعي الغناء‪ ،‬إنها قصيدة للشاعر المضيف الذي يدخل الخيمة‬

‫اآلن‪.‬‬

‫سألت الصغيرة‪:‬‬ ‫ـ هو الشاعر عبد العزيز الذي تحدّ ث رئيس القبيلة عنه؟‬ ‫ـ هو‪ ...‬تعالي نقترب من الخيمة ونسمع الغناء‪.‬‬

‫جلستا قريب ًا من الخيمة التي لم يكتمل عدد مدعويها بعد‪ .‬ومع ذلك‪،‬‬

‫حاسة‬ ‫فقد اخترقت رائحة القهوة العربية التي تغلي في حفرة “الربعة” ّ‬ ‫‪84‬‬


‫الشم لديهما‪ ،‬فأنعشتهما‪ .‬وزاد انتعاشهما بهبوب نسائم الصحراء العليلة‬ ‫ّ‬ ‫التي ال يعرف حالوتها إال ّ‬ ‫مر بالبوادي أو سكن فيها‪.‬‬ ‫كل من ّ‬ ‫ساد الصمت إال من صوت المنشد يغني‪:‬‬

‫“ ّ‬ ‫كل ٍ‬ ‫حبها‬ ‫نبض في حنايا النفس يدعو ّ‬ ‫وكأنّ الله لم يخلق نساء غيرها‬

‫وكأن القلب لم يخفق غرام ًا قبلها‬

‫الحب قد ّ‬ ‫حل على األرض لها”‬ ‫وكأن‬ ‫ّ‬ ‫بعدها‪ ،‬سمعتا صوت الشاعر المضيف ينشد‪:‬‬ ‫“أنا‬ ‫المجذوب والمجنونُ والعاشقْ‬ ‫ُ‬ ‫الدرويش ال ٍ‬ ‫ُ‬ ‫أنا‬ ‫شاك وال آبقْ‬

‫ْ‬ ‫المارق‬ ‫المطرود ال‬ ‫الشريدُ ال‬ ‫ُ‬ ‫أنا ّ‬

‫الس ْ‬ ‫ِ‬ ‫ارق‬ ‫أنا الباكي على‬ ‫األبواب ال ّ‬ ‫ْ‬ ‫أنا ّ‬ ‫الطارق‬ ‫الش ّح ُاذ هل من يسمع‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫كالبارق”‪.‬‬ ‫المأخوذ في عينين‬ ‫أنا‬

‫ر ّد صوت على الترحيب بالترحيب‪:‬‬ ‫‪85‬‬


‫ـ أه ً‬ ‫ال بك يا أخا العرب في عالم العشّ اق والمجانين‪.‬‬ ‫همست أم نوف في أذن ابنتها التي وضعت رأسها ذا الجدائل السوداء‬

‫الطويلة على ركبتيها‪:‬‬

‫ـ صوت جميل بن معمر‪.‬‬ ‫وجاء صوت آخر‪:‬‬ ‫َ‬ ‫موقد النا ِر يذكيها ويخمدهـا‬ ‫يا‬ ‫بأرياح وأمـطا ِر‬ ‫ُق ُّر الشتاء‬ ‫ٍ‬

‫مضرم ًة‬ ‫قم فاصطلِ النار من قلبي ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫موقد النا ِر‬ ‫ضرمها يا‬ ‫فالشوق ُي ُ‬

‫سألت نوف أمها‪:‬‬ ‫ـ جميل أيض ًا؟‬

‫ـ بل قيس بن الملوح‪.‬‬ ‫وعاد صوت جميل ليخترق سكون ليل الصحراء‪:‬‬ ‫ه��ب��وا‬ ‫ال���ن���و ُام‬ ‫أال أي��ه��ا‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫وي��ح��ك��م ّ‬

‫َ‬ ‫الحب؟‬ ‫ال��رج��ل‬ ‫ُأسائ ُلكم هل يقتل‬ ‫ُّ‬ ‫‪86‬‬


‫َّ‬ ‫��ه‬ ‫ف��ق��ال��وا‪ :‬ن��ع��م ح��ت��ى‬ ‫ي��س��ل ع��ظ��ا َم ُ‬

‫َ‬ ‫ل��ب‬ ‫وي��ت��رك��ه‬ ‫ح���ي���ران ل��ي��س ل���ه ُّ‬

‫وعاد صوت عبد العزيز ينشد‪:‬‬ ‫اله ّي ُام في ٍ‬ ‫كون بال عنوانْ‬ ‫“أنا َ‬ ‫الر ّبانُ في ٍ‬ ‫أفق بال شطآنْ‬ ‫أنا ّ‬ ‫ماض أنا ٍ‬ ‫أنا ٍ‬ ‫آت بال أزمانْ‬

‫ٍ‬ ‫نورسة على طوفانْ ”‪.‬‬ ‫أنا ر ّفات‬ ‫فر ّد قيس‪:‬‬ ‫َ‬ ‫طرحن�ك مطرح� ًا‬ ‫�ب الليال�ي أن‬ ‫َ‬ ‫وح ْس ُ‬

‫ب����دا ِر ِق�� ًل��ى تمسي وأن���ت غري ُبها‬

‫فقال عبد العزيز‪:‬‬ ‫كالطائر‬ ‫“أنا َمن طاف في الملكوت‬ ‫ْ‬ ‫ٍ‬ ‫حائر‬ ‫ويحملني جناحا‬ ‫عاشق ْ‬ ‫ساهر‬ ‫قاهر‬ ‫وزوادي ٌ‬ ‫ّ‬ ‫حنين ٌ‬ ‫ْ‬ ‫‪87‬‬


‫حاضر‬ ‫غابر‬ ‫وفي رحلي ٌ‬ ‫غرام ٌ‬ ‫ْ‬ ‫للزائر”‬ ‫أال من يفتح األبواب‬ ‫ْ‬

‫الليلي‬ ‫مرت شابة سمراء بشعرها‬ ‫نهضت نوف من جلستها وقت ّ‬ ‫ّ‬ ‫الفواح حاملة حقيبة مليئة باألوراق والكتب متجهة نحو‬ ‫األسود وعطرها ّ‬

‫الخيمة وسألت أمها التي أشرق وجهها بابتسامة واسعة وهي ترقب الفتاة‪:‬‬ ‫ـ هي الكاتبة التي تحدّ ثت عنها نساء القبيلة؟‬ ‫ـ نعم‪ ..‬هي رغد‪..‬‬ ‫ـ جاءت تستمع؟‬ ‫ـ تستمع وتشارك وتكتب‪...‬‬ ‫أصبح مثلها‪..‬‬ ‫ـ أريد أن‬ ‫َ‬

‫ضمت أم نوف رأس ابنتها إليها وقالت‪:‬‬ ‫َّ‬

‫ـ ستصبحين‪ ...‬ولكن‪ ...‬أصغي‪.‬‬

‫دخلت رغد الخيمة‪ ،‬فاستقبلت بفنجان قهوة عربية رشفت منه بعد أن‬ ‫جلست في صدر الخيمة حيث أفسح لها الشعراء العشاق مكان ًا‪ .‬وقبل أن‬

‫متأوه ًا‪:‬‬ ‫تقول أي شيء راح جميل يشكو ّ‬

‫ف��ق��د ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫إلفه‬ ‫األي���ك م��ن‬ ‫أيبكي ح��م��ام‬

‫وأصب�ر؟ وم�ا ب�ي ع�ن بثين�ة م�ن صب� ِر‬ ‫ُ‬ ‫‪88‬‬


‫ي��ج��ن بذكرها‬ ‫م��س��ح��ور‬ ‫ي��ق��ول��ون‪:‬‬ ‫ُّ‬ ‫ٌ‬

‫فأقسم م��ا ب��ي م��ن ج��ن��ون وال سح ِر‬

‫يصب للضيفة المزيد من القهوة‪:‬‬ ‫أجابه عبد العزيز وهو‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫الريح‬ ‫أجنحة من‬ ‫“كأ ّني فوق‬ ‫ِ‬ ‫تق ّل ُبني وال أشكو تباريحي‬

‫وتمخر بي إلى جرحي وتجريحي‬ ‫ُ‬ ‫كأني أمتطي شوقي على روحي‬

‫على األبواب كم ض َّلت مفاتيحي‬ ‫فما ر ّدوا وما ح ّنوا لتنويحي”‬ ‫ع ّلقت رغد‪:‬‬

‫ـ ما بين ٍ‬ ‫شاك من صب ٍر ال يجده‪ ،‬ومنتظ ٍر على األبواب للدخول إلى‬ ‫الحب مسيطر ًا على القلوب ومحرك ًا‬ ‫العالم المسحور‪ ،‬يبدو هاجس‬ ‫ّ‬ ‫قرائح الشعر‪ ...‬أسمع‪ ،‬من بين الكلمات‪ ،‬آهات عذاباته‪.‬‬

‫ابتسم الشعراء‪ ،‬وابتسمت نوف خارج الخيمة سائلة أمها ثانية‪:‬‬ ‫ـ هي ال تنشد الشعر؟‬ ‫‪89‬‬


‫ـ بل تقول نثر ًا‪.‬‬ ‫ـ ليست شاعرة؟‬ ‫ـ بل كاتبة‪.‬‬ ‫ـ آه‪...‬‬

‫في تلك اللحظة‪ ،‬اكتمل وجود الشعر إذ دخل عمر بن أبي ربيعة رافع ًا‬ ‫رأسه عالي ًا حتى يكاد‪ ،‬كما ع ّلقت الصغيرة‪ ،‬يطاول سماء البادية وسقف‬ ‫خيمة الشعر‪ .‬وانطلقت من الداخل أصوات ترحيب بالشاعر الذي ألقى‬

‫نظرة سريعة على الموجودين ثم استقرت نظراته على الفتاة السمراء‬ ‫قائ ً‬ ‫ال‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫وأدعوك وأدعوهم إلى‬ ‫جئت أخرجك وأخرجهم من أجواء اآلهات‬ ‫ـ ُ‬

‫الحب الحقيقية‪.‬‬ ‫أجواء‬ ‫ّ‬

‫استنكر جميل وقيس مع ًا َ‬ ‫قول عمر‪ ،‬أما الشاعر المضيف‪ ،‬فقد ارتسمت‬ ‫ٌ‬ ‫در كنهها لكنها د ّلت على َّ‬ ‫أن الجلسة بدأت تحلو‪.‬‬ ‫في عينيه‬ ‫ابتسامة لم ُي َ‬ ‫نظر عمر إلى رغد من جديد ووجه حديثه إليها‪:‬‬

‫فقدت الصوت منهم وأطفئت‬ ‫فلما‬ ‫ُ‬ ‫وأن���ور‬ ‫ش��ب��ت ب��ال��ع��ش��اء‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫م��ص��اب��ي��ح ّ‬

‫ك��ن��ت أرج���و غيوبه‬ ‫ق��م��ي��ر‬ ‫وغ���اب‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬

‫ٌ‬ ‫��ر‬ ‫رع���ي���ان‬ ‫وروح‬ ‫َّ‬ ‫ون������و َم ُس َّ‬ ‫ّ‬ ‫��م ُ‬ ‫‪90‬‬


‫النوم أقبلت مشية الـ‬ ‫ونفضت عني‬ ‫َ‬

‫أزور‬ ‫ح��ب��اب ورك��ن��ي خيفة ال��ق��وم‬ ‫ُ‬

‫هــــ�ت‬ ‫يـ�ت إذ القي ُتـــــه�ا فتو ّل‬ ‫فحي ُ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬

‫ِ‬ ‫تجهر‬ ‫ب��م��ك��ن��ون التحية‬ ‫وك����ادت‬ ‫ُ‬

‫وق��ال��ت وعضت بالبنان‪ :‬فضحتني‬

‫ٌ‬ ‫أعسر‬ ‫م��ي��س��ور أم���رك‬ ‫ام���رؤ‬ ‫وأن���ت‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬

‫أري��ت��ك إذ ُه�� ّن��ا عليك أل��م تخـف‬

‫ع����دوك ّ‬ ‫��ر‬ ‫رق��ي��ب�� ًا وح��ول��ي م��ن‬ ‫ّ‬ ‫ح��ض ُ‬

‫ٍ‬ ‫حـاجة‬ ‫ف��وال��ل��ه ال أدري أتعجيل‬

‫تحذر‬ ‫كنت‬ ‫س��رت بك أم قد ن��ام من َ‬ ‫ُ‬

‫ُ‬ ‫الشوق والهوى‬ ‫فقلت لها‪ :‬بل قادني‬ ‫ُ‬

‫تنظر‬ ‫إل��ي��ك وم���ا‬ ‫ٌ‬ ‫ع��ي��ن م��ن ال��ن��اس ُ‬ ‫سبابته‬ ‫وتنحنح‪ ،‬ثم التفت إلى جميل‪ ،‬فقيس‪ ،‬فالشاعر المضيف ورفع ّ‬ ‫قائ ً‬ ‫ال لرغد‪:‬‬ ‫ـ أجواء الحب الحقيقية تعني المغامرة والمخاطرة للوصول إلى‬ ‫ُ‬ ‫الشوق والهوى‪ ...‬الشوق والهوى‪.‬‬ ‫المحبوبة التي يقود إليها‬ ‫قال جميل‪:‬‬ ‫‪91‬‬


‫ـ دعنا من قصصك أو من مذكراتك اليومية‪ ...‬فالحب الحقيقي ال‬

‫يوصل إلى المحبوبة بل يوصل إلى الموت‪...‬‬

‫هز قيس رأسه موافق ًا‪ ،‬بينما ع َّلق الشاعر المضيف‪:‬‬ ‫َّ‬

‫ـ أعوذ بالله‪.‬‬ ‫وادعى عمر الجد ّية وهو يتلو قصيدة جميل التي‬ ‫ضحكت رغد‪َّ ،‬‬

‫ّ‬ ‫لخص جوابه أجواءها‪:‬‬

‫ٍ‬ ‫ن��ه��د وصاحبه‬ ‫ق��د م��ات قبلي أخ��و‬

‫م��ر ِّق ٌ‬ ‫��ش واشتفى م��ن ع���رو َة الكمدُ‬ ‫َ‬

‫ٍ‬ ‫منـيتـ ُ​ُه‬ ‫ع��ش��ق‬ ‫وك�� ّل��ه��م ك���ان م��ن‬ ‫َّ‬ ‫وج��دت بها ف��وق ال��ذي وج��دوا‬ ‫وق��د‬ ‫ُ‬ ‫أعلمه‬ ‫ك���دت‬ ‫ألره���ب أو ق��د‬ ‫إن��ي‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬

‫أن ســـوف توردني الحوض الذي وردوا‬

‫ٍ‬ ‫ْ‬ ‫ت��ج��ود به‬ ‫ب��م��ع��روف‬ ‫إن ل��م تنلني‬ ‫ُ‬

‫أو يدف�ع الل�ه عن�ي الواحــــ�د الصم�دُ‬

‫وما إن أنهى عمر تالوة قصيدة صديقه حتى عاد قيس ّ‬ ‫فأكد‪:‬‬ ‫ٌ‬ ‫ق��ت��ي��ل م���ن األش�����واق أم���ا ن��ه��اره‬

‫ٍ‬ ‫ف��أن��ي��ن‬ ‫ف����ب����اك وأم������ا ل���ي��� ُل���ه‬ ‫ُ‬ ‫‪92‬‬


‫ُ‬ ‫ون���ي���ران قلبه‬ ‫ل���ه ع���ب���ر ٌة ت��ه��م��ي‬

‫وأج��ف��انِ ِ‬ ‫ُ‬ ‫عيون‬ ‫ال��دم��وع‪،‬‬ ‫��ه‪ ،‬ت���ذري‬ ‫َ‬

‫معج ً‬ ‫ال‬ ‫ل��ي��ت أن ال��م��وت ي��أت��ي‬ ‫فيا‬ ‫َ‬ ‫ّ‬

‫ُ‬ ‫ف��ت��ون‬ ‫ع��ل��ى أن ع��ش��قَ ال��غ��ان��ي��ات‬

‫تأوه جميل‪:‬‬ ‫َّ‬

‫الحقيقي‪...‬‬ ‫ـ هو ذا الحب‬ ‫ّ‬ ‫قال عمر ساخر ًا‪:‬‬

‫بكاء وأنين‪.‬‬ ‫ـ ٌ‬ ‫قال جميل‪:‬‬

‫وموت‪ ...‬اسمع‪:‬‬ ‫ـ‬ ‫ٌ‬ ‫ِ‬ ‫أم��ت‬ ‫ع��ش��ت ال��ف��ؤاد ف��إن‬ ‫ي��ه��واك م��ا‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬

‫ِ‬ ‫ص����داك ب��ي��ن األق��ب�� ِر‬ ‫ص����داي‬ ‫يتبع‬ ‫َ‬

‫ع َّلق قيس‪:‬‬ ‫ـ الله‪ ...‬الله‪...‬‬ ‫صب عمر كأس ماء وشربه‪ ،‬ثم التفت إلى رغد التي كانت تصغي‬ ‫َّ‬ ‫‪93‬‬


‫للحوار الشعري الدائر قائ ً‬ ‫ال‪:‬‬ ‫الحقيقي؟‪ ....‬بكاء وأنين وشكوى وقتل وموت‬ ‫الحب‬ ‫ـ أرأيت‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫يجرب‬ ‫وأقبر‪ ...‬ما أجمل هذه األجواء وما أحراها أن تدفع بكل من لم ّ‬ ‫ٍ‬ ‫وكن يشعرن‬ ‫الحب أن يفعل‪ ...‬كانت حبيبات العذريين‬ ‫محظوظات ّ‬ ‫َّ‬

‫بشيء اسمه السعادة‪...‬‬

‫خفي بالشاعر الذي أضفى‬ ‫ضحكت رغد وقد بدا في عينيها إعجاب ٌّ‬ ‫حب دائم ًا ولماذا‬ ‫لتوها لماذا َأ َّ‬ ‫على أجواء الجلسة مرح ًا جذاب ًا‪ ،‬وعرفت ّ‬ ‫حب دائم ًا‪.‬‬ ‫ُأ َّ‬ ‫لكنه سرعان ما ّ‬ ‫سبابته في وجه الشاعرين العذر ّيين قائ ً‬ ‫ال‪:‬‬ ‫قطب رافع ًا ّ‬

‫صديقي‪ ،‬هو الذي يحيينا ال الذي يميتنا‪ .‬هو‪ ،‬كما‬ ‫الحقيقي‪ ،‬يا‬ ‫الحب‬ ‫ـ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬

‫تشع‪ ،‬ويدٌ تر ّبت”‪.‬‬ ‫قال مضيفنا‬ ‫ٌ‬ ‫“أنوار ّ‬

‫والتفت إلى الشاعر المضيف قائ ً‬ ‫ال‪:‬‬

‫ـ أتحفنا‪ ،‬يا ابن القوم‪ ،‬يا ابن ّ‬ ‫ترد‬ ‫مكة كما أنا ابنها‪ ،‬بتلك القصيدة التي ُّ‬

‫بها على صديقينا البدويين بل على أصدقائنا العذريين‪.‬‬ ‫قال المضيف‪:‬‬ ‫ـ أنا ال أر ّد‪ ،‬بل أشرح وجهة نظري في الحب‪.‬‬

‫قال عمر‪:‬‬

‫رد‪.‬‬ ‫ـ وجهة النظر موقف والموقف ٌّ‬ ‫‪94‬‬


‫َ‬ ‫ضحك المضيف‪:‬‬ ‫ـ ليكن ما تريد‪.‬‬ ‫“أغمضت عيني كي ِ‬ ‫يراك فؤادي‬ ‫ُ‬ ‫فسمعت آهاتي عليك تنادي‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫متي ٌم‬ ‫أدركت أ ّني في‬ ‫ُ‬ ‫هواك ّ‬

‫وعرفت ِ‬ ‫أنك غايتي ومرادي‬ ‫ُ‬

‫تشع بخاطري‬ ‫ُ‬ ‫وشعرت أنوار ًا ُّ‬ ‫ِ‬ ‫بوداد‬ ‫ويد ًا ُت َر ِّب ُت خافقي‬

‫أفنيت نفسي في ضيائك نشوة‬ ‫ُ‬ ‫تركت قيادي‬ ‫وإليك يا أملي‬ ‫ُ‬ ‫األنس في هذا الهوى‬ ‫أيقنت أن‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫جهاد”‬ ‫خير‬ ‫والحب في‬ ‫ُّ‬ ‫عينيك ُ‬

‫ع ّلق عمر‪:‬‬ ‫ـ عظيم‪.‬‬

‫وع ّلقت رغد‪:‬‬

‫ـ أعج َبتني إحالتك َ‬ ‫فعل الرؤية من العين إلى الفؤاد‪.‬‬ ‫‪95‬‬


‫بينما قال جميل‪:‬‬

‫َ‬ ‫إعجابك بقولي‪:‬‬ ‫ـ أما أنا‪ ،‬فأعجبني‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫ب��غ��زوة‬ ‫ج��م��ي��ل‬ ‫ي��ق��ول��ون ج��اه��دْ ي��ا‬

‫ٍ‬ ‫غ���ي���ره���ن أري����دُ‬ ‫ج���ه���اد‬ ‫وأي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫ٍ‬ ‫ٌ‬ ‫بشــــاش�ة‬ ‫بينهـ�ن‬ ‫حديــــــ�ث‬ ‫ل�كل‬ ‫ّ‬

‫ُّ‬ ‫وك�����ل ق��ت��ي��لٍ‬ ‫ع��ن��ده��ن ش��ه��ي��دُ ‪.‬‬ ‫َّ‬

‫قال عبد العزيز‪:‬‬ ‫وصلت إليه من مرتبة الشهادة التي ينالها قتيل‬ ‫ـ لكنني لم أصل إلى ما‬ ‫َ‬

‫الهوى‪...‬‬

‫قال عمر‪:‬‬ ‫ـ يأبى أصدقاؤنا العذريون إال ذكر الموت والقتل‪.‬‬ ‫فر ّد جميل‪:‬‬

‫ـ ألننا نعيش هاجس التهديد‪ ،‬هاجس القتل‪ ،‬هاجس الموت‪ .‬أما‬

‫سمعت ما قلته‪:‬‬

‫أح��ل��م�� ًا ف��ق��ب��ل ال��ي��وم ك���ان أوان���ه‬ ‫أم اخشى فقبل اليوم ُه���دِّ ْد ُت بالقتلِ‬ ‫‪96‬‬


‫قال عمر‪:‬‬ ‫والغم‪.‬‬ ‫الهم‬ ‫َّ‬ ‫ـ أنتم تجلبون ألنفسكم ّ‬ ‫ثم التفت إلى رغد‪:‬‬

‫ِ‬ ‫ـ أخبريني يا أستاذة‪ِ ...‬‬ ‫الموت‬ ‫الحب الذي يودي إلى‬ ‫أنت من أنصار‬ ‫ِّ‬

‫الحب الذي يخلق الدافع إلى المغامرة للوصول‬ ‫بعد المعاناة أم من أنصار‬ ‫ّ‬

‫إلى الفرح الذي أعتقد أنه غاية الشوق والهوى؟‬ ‫أجابت‪:‬‬

‫ـ يبدو أنني سأرتبك في اإلدالء بدلوي بين شعراء الغزل الحجازيين‬

‫البدو منهم والحضر‪.‬‬

‫وجهه إليها‪:‬‬ ‫أثار كالمها سؤاله الذي ّ‬

‫ـ ِ‬ ‫لست حجاز ّية؟‬ ‫دمشقية‪.‬‬ ‫ـ بل‬ ‫ّ‬

‫شآمية‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫ّ‬

‫قال المضيف‪:‬‬ ‫عرفناك باألستاذة‪.‬‬ ‫ـ أخذنا الحديث يا عمر فما ّ‬

‫ضحك عمر ثم قال للضيفة‪:‬‬

‫ـ عرفنا الشام منذ انتقل السلطان السياسي من عندنا إليها‪ ...‬لقد‬

‫انصرفنا‪ ،‬وقتها‪ ،‬عن االشتراك في الحياة العامة بعد أن كنا منشأ الخالفة‬ ‫‪97‬‬


‫التي امتدّ سلطانها على األرض‪..‬‬ ‫وصمت لحظة قال بعدها‪:‬‬ ‫َ‬

‫ـ في الحقيقة‪ ...‬نحن ـ بداوة وحضر ًا ـ لم ننصرف عن االشتراك في‬ ‫وقرب رأسه منها هامس ًا‪:‬‬ ‫الحياة العامة‪ ،‬بل‪َّ ...‬‬ ‫ـ ُصرفنا عنها‪.‬‬

‫َ‬ ‫ضحك المضيف‪ ،‬وضحكت رغد‪ ،‬وع ّلق جميل‪:‬‬ ‫“صرفنا عنها”‪ ،‬يعتقد أن هذا الصرف أ ّدى‬ ‫ـ من يسمعك تهمس بعبارة ُ‬

‫َ‬ ‫بك‪ ،‬أو بكم انتم الحضر‪ ،‬إلى ما أ ّدى بنا من حزن وكآبة يكادان يصالن بنا‬ ‫إلى حافة اليأس‪.‬‬ ‫قال قيس‪:‬‬ ‫ـ بل وصال بنا‪.‬‬

‫قال عمر رافع ًا كتفيه‪:‬‬

‫ـ كان أغلبكم فقراء‪.‬‬ ‫قال قيس‪:‬‬ ‫ـ وكنتم أغنياء‪.‬‬ ‫قال عمر‪:‬‬

‫ـ السلطان السياسي ُأخذ م ّنا ومنكم‪.‬‬ ‫‪98‬‬


‫ع ّلقت رغد‪:‬‬ ‫غير ردات الفعل‪ ،‬فانصرف‬ ‫ـ لكن المال‪ ،‬وجوده وعدمه‪ ،‬هو الذي ّ‬ ‫البدو الفقراء إلى الغزل العفيف التقي الذي ّ‬ ‫ِ‬ ‫بالدين في‬ ‫متمسك ًا‬ ‫ظل‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫العذري‪،‬‬ ‫العتراض ضمني على انتقال مركزه‪ ،‬وهكذا نشأ الحب‬ ‫محاولة‬ ‫ّ‬

‫بينما انصرف الحضريون إلى اللهو كما أعرف‪...‬‬ ‫اعترض عمر‪:‬‬

‫ـ لم َن ْل ُه‪.‬‬ ‫قالت‪:‬‬

‫ـ هكذا تقول كتب التاريخ‪.‬‬ ‫قال‪:‬‬

‫أحببت!‬ ‫ـ كتب التاريخ تقول َلهونا بينما نحن أحببنا‪ ...‬أنا‬ ‫ُ‬ ‫قال جميل‪:‬‬ ‫أحب كل النساء‪ :‬هند‪ ،‬دعد‪ ،‬الثريا‪ ،‬فاطمة و‪...‬و‪...‬‬ ‫ـ َّ‬ ‫وتن ّقل بينهن دون أسف أوحزن فقال‪:‬‬

‫أح��ب��ت سالمنا‬ ‫س��ل�ام عليها م��ا‬ ‫ٌ‬ ‫ّ‬

‫ف��ال��س�لام على أخ��رى‬ ‫ف��إن كرهته‬ ‫ُ‬

‫التفت عمر إليه‪:‬‬ ‫‪99‬‬


‫ـ أعتقد أنك القائل‪“ :‬لكل حديث بينهن بشاشة”‬

‫قال جميل موجه ًا حديثه إلى رغد ّ‬ ‫حبه‪:‬‬ ‫مؤكد ًا صدق ّ‬

‫ـ لكنني ما أحببت إالها‪...‬‬ ‫فسأل عبد العزيز جمي ً‬ ‫ال‪:‬‬

‫ـ إال رغد؟‪...‬‬ ‫فالتفت عمر إلى الشابة السمراء‪:‬‬ ‫ـ رغد؟‪ ...‬رغد؟‪ ...‬اسم حلو‪...‬‬ ‫قال قيس غامز ًا‪:‬‬

‫ـ المرأة حلوة‪.‬‬ ‫ابتسمت رغد‪:‬‬ ‫بهن‪...‬‬ ‫ـ أخرجوني من دائرة النساء اللواتي ّ‬ ‫تغزلتم ّ‬ ‫قال قيس وجميل مع ًا‪:‬‬

‫ـ نحن أخرجنا كل النساء إ ّ‬ ‫الهما‪...‬‬ ‫أما عمر فقد قال‪:‬‬

‫ـ لو ِ‬ ‫كنت في زماني‪...‬‬ ‫قالت‪:‬‬

‫لرفضت أن ُأ َ‬ ‫ضاف إلى قائمة أسماء النساء اللواتي‪..‬‬ ‫ـ‬ ‫ُ‬ ‫‪100‬‬


‫قاطعها عمر‪:‬‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫أرسلت لي كما أرسلت معظم سيدات المجتمع‪ ،‬أو‬ ‫لكنت‬ ‫ـ بل‬ ‫لترصدتِني كما ترصدنني‪...‬‬ ‫استنكرت‪:‬‬ ‫ـ أنا؟‪...‬‬ ‫قال‪:‬‬ ‫لفعلت‪.‬‬ ‫ـ وإن لم تفعلي‪،‬‬ ‫ُ‬

‫ضحك الجميع‪ ،‬وع ّلق جميل‪:‬‬

‫ـ عمر هو عمر‪.‬‬ ‫فأجاب‪:‬‬ ‫الحب الحقيقي ٌ‬ ‫دائم عن الجمال‪ ،‬وبالتالي‪ ،‬هو بحث دائم عن‬ ‫ـ‬ ‫ّ‬ ‫بحث ٌ‬

‫الشعر‪.‬‬

‫التفتت الفتاة إلى المضيف‪:‬‬ ‫ـ موافق؟‪..‬‬ ‫قال‪:‬‬ ‫ـ اسمعي‪:‬‬ ‫َ‬ ‫“اقلب‬ ‫رمادك مر ًة‪ ،‬سافر على أملٍ شريدْ‬ ‫ْ‬ ‫‪101‬‬


‫يشع من البعيدْ‬ ‫البدَّ من جم ٍر ُّ‬

‫ضم ُخ خفقة القلب الوحيدْ‬ ‫البدّ من ذكرى ُت ِّ‬ ‫زخ ِ‬ ‫اقلب رما َدك بين ّ‬ ‫الدموع‬ ‫ات‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫الضلوع‬ ‫البدَّ من ٍآه تد ّث ُرها‬ ‫ْ‬ ‫إن لم تجد جمر ًا وال نار ًا‬

‫هناك ٌ‬ ‫الربيع‬ ‫بقية من فوح أطالل‬ ‫ْ‬

‫الصقيع‬ ‫تلفح الوجدانَ في ليل‬ ‫بعض‬ ‫النسائم ُ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫اقلب رمادك في ثنايا الروح في َ‬ ‫المباح‬ ‫دمك‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫الرياح‬ ‫يطير مع‬ ‫ْ‬ ‫إ ّما ُ‬

‫الجراح‬ ‫إما يعيدُ لك‬ ‫ْ‬

‫صباح”‬ ‫اقلب رمادك ربما يأتي‬ ‫ْ‬ ‫قالت رغد‪:‬‬

‫ِ‬ ‫الرماد ٌ‬ ‫بحث عن هند أو دعد‪...‬‬ ‫قلب‬ ‫ـ ُ‬ ‫ع ّلق عمر‪:‬‬ ‫ـ أو رغد‪.‬‬ ‫قال المضيف‪:‬‬ ‫‪102‬‬


‫إخالص العذريين‪ ،‬إخالصهم لمحبوبة واحدة‪ ،‬ولمبدأ‬ ‫ـ يعجبني‬ ‫ُ‬ ‫الع ّفة‪.‬‬ ‫اعترض عمر‪:‬‬ ‫البت به‪...‬هو ذا صاحبنا جميل قد حاول‬ ‫أمر ال يمكن ّ‬ ‫ـ مبدأ العفة ٌ‬

‫اجتياز حاجز العفة وقت قال‪:‬‬

‫ن��ب��ع ف��ي ال��ع��ام ي��ا بثن ديننا‬ ‫تعالي‬ ‫ْ‬

‫ً‬ ‫س��ن��ت��وب‬ ‫ق���اب�ل�ا‬ ‫ب��دن��ي��ا ف���إنّ���ا‬ ‫ُ‬

‫لكنها هي التي رفضت وقت قالت‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫نبيعه‬ ‫ف��ق��ال��ت ل��ع�� َّن��ا ي���ا‬ ‫ج��م��ي��ل ُ‬

‫ق��ري��ب‬ ‫وآج���ا ُل���ن���ا م���ن دون ذاك‬ ‫ُ‬

‫مبرر ًا قول جميل الذي ارتبك‬ ‫أطرقت رغد خجل ًة‪ ،‬فقال عبد العزيز ّ‬

‫وما عاد يقدر على الر ّد على اتهامات عمر التي أدانته‪:‬‬

‫ِ‬ ‫“نحتاج َ‬ ‫بعض‬ ‫الوقت أيض ًا للجنونْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫للنزق‬ ‫نحتاج أيض ًا‬ ‫ُ‬ ‫‪103‬‬


‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫الغرق‬ ‫كاألطفال في أشيائنا ح ّتى‬ ‫لِ ّله ِو‬

‫ِ‬ ‫تشع عيو ُننا‬ ‫وهج األلقْ‬ ‫كالبرق من ِ‬ ‫حتى َّ‬ ‫أحتاج أن أغفو على صد ٍر حنونْ‬ ‫ُ‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اللهاث من‬ ‫السباق من‬ ‫تعبت من‬ ‫اللحاق بمن سبقْ‬ ‫إني ُ‬ ‫ٍ‬ ‫أحتاج في عينيك أن أرسو على ٍّ‬ ‫شط‬ ‫جديد في األفقْ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫األزمان بعض ًا من ثواني‬ ‫هيا لكي نجني من‬ ‫ّ‬ ‫حبنا المفقود في ِ‬ ‫درب األماني‬ ‫هيا نلملم ّ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫الجنون”‬ ‫هيا إلى بعض‬ ‫ّ‬

‫التفتت رغد إلى جميل‪:‬‬ ‫ـ لماذا رفضت بثينة عرض الجنون أو عرض النزق الذي ّبرره الشاعر‬

‫الحجازي أجمل تبرير؟‬ ‫أجاب قيس‪:‬‬

‫ـ لئال تفقد أشعاره فيها طبع ًا‪.‬‬ ‫فع ّلق عمر‪:‬‬

‫ـ بل أعتقد أنها كانت ّ‬ ‫تفضل أن يموت أو يقتل فترتاح من كل هذا‬

‫الحب‪.‬‬ ‫البؤس الذي يحمله لها هذا‬ ‫ّ‬

‫ع ّلقت رغد وهي تشمل الشاعرين العذريين بنظرة تقدير‪:‬‬ ‫‪104‬‬


‫ـ ال أعتقد‪ ...‬عمر يغالي‪.‬‬ ‫فقال عبد العزيز‪:‬‬ ‫ـ عمر يمزح‪.‬‬ ‫قال عمر‪:‬‬ ‫حب‪...‬‬ ‫جاد‪،‬‬ ‫لقاء يجب‬ ‫ـ بل أنا ٌّ‬ ‫الحب ٌ‬ ‫فالحب ٌ‬ ‫لقاء‪ ،‬وبدون اللقاء ال َّ‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫بالزيارة وقمت بها‪:‬‬ ‫وعدت‬ ‫يت مرار ًا‪.‬‬ ‫يتم‪ ...‬لقد‬ ‫ُ‬ ‫ولب ُ‬ ‫ُ‬ ‫أن َّ‬ ‫دعيت مرار ًا ّ‬ ‫ال ب����ل ن���ـ���زورك���م ب��أرض��ك��م‬ ‫ف���ي���ط���اع ق��ائ��ل��ك��م وش��اف��ع��ن��ا‬ ‫أن�����ت ف��اع��ل��ه‬ ‫أش������يء‬ ‫ق���ال���ت‪:‬‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬

‫َ‬ ‫ل��ع��م��رك‪ ،‬أم ت��خ��ادع��ن��ا؟‪..‬‬ ‫ه����ذا‪،‬‬

‫ِ‬ ‫ب��ـ��ال��ل��ه ح���ـ���دّ ث م���ا ن��ؤ ّم��ل��ـُ��ه‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ال���ص���دق واسعنا‬ ‫واص�����دق‪ ،‬ف���إن‬ ‫ً‬ ‫���ل��ا ن���ع���دُّ ل��ه‬ ‫اض������رب ل���ن���ا أج‬

‫ُ‬ ‫إخ���ل���اف م����وع����ده ت��ق��اط��ع��ن��ا‬

‫سألت رغد‪:‬‬ ‫أخلفت؟‬ ‫ـ وما‬ ‫َ‬ ‫‪105‬‬


‫أخلفت‪.‬‬ ‫ـ وما‬ ‫ُ‬ ‫ـ وما تقاطعتما؟‬ ‫ـ وما تقاطعنا‪.‬‬ ‫كررت رغد بداية قصيدة عبد العزيز‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫“نحتاج بعض الوقت أيض ًا للجنون‬ ‫ْ‬ ‫للنزق‪”...‬‬ ‫نحتاج أيض ًا‬

‫تشجع الشاعر المضيف وأنشد‪:‬‬ ‫هنا ّ‬ ‫ِ‬ ‫للقياد‬ ‫“جمحت ثم استراحت‬ ‫ِ‬ ‫للعناد‬ ‫ثم النت ثم عادت‬ ‫وإباء‬ ‫مهر ٌة ثارت غرام ًا‬ ‫ً‬

‫ِ‬ ‫الجياد‬ ‫طبع في نبيالت‬ ‫هو ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫شفاء وحيا ًة‬ ‫قبلة كانت‬ ‫ً‬

‫ِ‬ ‫الحب صادي‬ ‫لكؤوس‬ ‫وفؤاد‬ ‫ٌ‬ ‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫رعاك الل ُه رفق ًا كيف أنجو‬ ‫يا‬ ‫ُّ‬ ‫كل ٍ‬ ‫حناياي ينادي‬ ‫نبض في‬ ‫َ‬ ‫‪106‬‬


‫عت فخذني ال تسلني‬ ‫إن تم ّن ُ‬

‫ِ‬ ‫الحلم في ليلِ‬ ‫البعاد”‬ ‫ضم‬ ‫ِ‬ ‫قبل ّ‬ ‫ته ّلل وجه عمر‪ ،‬وقال شعر ًا من عنده يوافق فيه الشاعر المضيف‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫َهوي ُت ِ‬ ‫واس�ـــتحلتك نفس�ي‪ ،‬فأقبل�ي‬ ‫�ك‬ ‫وال تجعــــلي تقريبنا منـــــكم بعـــدا‬ ‫ثم التفت إلى الشابة قائ ً‬ ‫ال بحماسة‪:‬‬ ‫لقاء‬ ‫ـ هو ذا‪ٌ ...‬‬ ‫فرح ال يأس‪ ...‬إقبال ال جموح‪ٌ ،‬‬ ‫قرب ال ابتعاد‪ٌ ...‬‬ ‫يكسر القيد‪...‬‬ ‫قال الشاعر المضيف‪:‬‬

‫ـ ّ‬ ‫ذكرت كسر القيد‪ ،‬بما قلته‪:‬‬ ‫ذكرتني يا عمر‪ ،‬وقت‬ ‫َ‬ ‫“غردي‪ ...‬يا لحون الهوى َ‬ ‫الغ ِر ِد‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الرغد‬ ‫حلمك‬ ‫أغمضيني على‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫المرقد‬ ‫شوق على‬ ‫مثل نسمة‬

‫ِ‬ ‫تنعش َ‬ ‫للمشهد‬ ‫الليل بالطيب‬ ‫‪107‬‬


‫أجيء‪ ...‬سابق ًا موعدي‬ ‫حلم‬ ‫ُ‬ ‫مثل ٍ‬ ‫ِ‬ ‫السهد‬ ‫نلتقي خلس ًة في سها‬

‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫أكسر َ‬ ‫مجهد‬ ‫خافق‬ ‫القيد عن‬ ‫ُ‬

‫ِ‬ ‫للمعبد‬ ‫الحب‬ ‫قلت أسري فدا‬ ‫ِّ‬ ‫ِ‬ ‫أوقدُ‬ ‫الموقد‬ ‫النفس نذر ًا على‬ ‫َ‬

‫يا هوى‪ ...‬هاهو اليوم لي مولدي‬ ‫أرتجي موئ ً‬ ‫ال من غرا ٍم ندي‬

‫ٍ‬ ‫مثل طفلٍ‬ ‫وحيد‪ ،‬مثل قلب صدي‬ ‫جئت يا واحتي باحث ًا عن غدي‬ ‫ُ‬

‫تشتكي أضلعي من هوى سرمدي‬ ‫َّ‬ ‫ضل حتى التقى صدف ًة مقصدي”‬

‫ع ّلق عمر‪:‬‬ ‫يتغزل كما ك ّنا نفعل‪.‬‬ ‫ـ سررت أن مازال في الشعر العربي من ّ‬ ‫ابتسم الشاعر المضيف شاكر ًا‪:‬‬

‫ـ أعتقد أنك تنسى أننا اليوم‪ ،‬كما كنتم‪ ،‬شعراء عرب‪.‬‬ ‫قال عمر‪:‬‬ ‫‪108‬‬


‫ـ ولكنكم تعيشون الزمن ِ‬ ‫القلقَ ‪.‬‬ ‫أجاب‪:‬‬

‫ـ القلق أيض ًا يخلق الدافع لإلبداع‪.‬‬ ‫قال قيس‪:‬‬

‫ـ هو الذي يفعل‪.‬‬ ‫وقال جميل‪:‬‬ ‫ـ قلقنا فأبدعنا‪.‬‬ ‫موجهة كالمها لعمر‪:‬‬ ‫قالت رغد ّ‬

‫فأبدعت‪ ...‬قلقت من وجود الواشي‪ ،‬قلقت من‬ ‫أنت أيض ًا قلقت‬ ‫َ‬ ‫ـ َ‬

‫وجود أهل الحبيبات‪ ،‬قلقت من مرور زمن ساعات الحب‪ ،‬فقصصت‬ ‫علينا‪ ،‬إلى جانب قصص ح ِّب َك التي أصريت أن تصفها كلها بالصداقة‪،‬‬ ‫قصص قلقك‪.‬‬

‫لمعت عينا عمر‪ ...‬سألها هامس ًا‪:‬‬ ‫ـ ِ‬ ‫قلت لي شآمية؟‬

‫اتّسعت ابتسامتها‪:‬‬ ‫ـ نعم‪.‬‬ ‫أخفض صوته أكثر‪:‬‬ ‫‪109‬‬


‫ـ لو ك ّنا نعرف أن حفيدات َمن انتقل السلطان السياسي من عندنا إليهم‬

‫يحملن هذا القدر من الذكاء‪ ،‬لتركنا بإرادتنا‪ ،‬كما قال شاعرنا المضيف‬

‫عبد العزيز‪ ،‬قيادنا‪.‬‬

‫ضحك الجميع وشكرت رغد عمر الذي عا َد فسأل‪:‬‬ ‫ـ أتأتين ثانية إلى ديارنا؟‬ ‫أجابت‪:‬‬ ‫ـ ال أدري‪.‬‬

‫ـ ما ِ‬ ‫الحج المقبل؟‬ ‫رأيك أن أقترح عليك موسم‬ ‫ّ‬ ‫رغد‪:‬‬

‫الحج!!‬ ‫ـ موسم‬ ‫ّ‬ ‫جميل مبتسم ًا‪:‬‬

‫ـ هل نسيت يا أستاذة أنه صاحب التم ّني المشهور‪:‬‬ ‫ل��ي��ت ذا ال��ده��ر ك���ان ح��ت��م�� ًا علينا‬

‫ّ‬ ‫ح���ج���ة واع��ت��م��ارا‬ ‫ك����ل ي��وم��ي��ن‬ ‫ّ‬

‫لملمت أوراقها وساعدها عمر في ذلك بينما كان ّ‬ ‫الكل يستعدّ لمغادرة‬

‫الخيمة‪ ،‬وعاد فقال‪:‬‬

‫‪110‬‬


‫ِ‬ ‫قبيلتك‪.‬‬ ‫ـ أعطني‪ ،‬إذن‪ ،‬مكان نزول‬ ‫صافحته‪:‬‬ ‫ـ سعدت بلقائك‪.‬‬ ‫وأكملت فصافحت الجميع‪ ،‬وعادت رائحة القهوة العربية تنبعث من‬ ‫الفناجين التي توزع على الضيوف شكر ًا الجتماعهم‪.‬‬ ‫ر ّبتت والدة نوف على وجه الصغيرة وأنهضتها بحنان بالغ‪:‬‬ ‫ـ هيا إلى خيمتنا‪.‬‬

‫سألت الصغيرة التي كانت ّ‬ ‫تغط في نوم عميق‪:‬‬ ‫ـ انتهت جلسة الشعر؟‬ ‫أجابت األم وعيناها تلمعان بشدة‪:‬‬ ‫ـ كيف تنتهي وما زالت الديار تنجب الشعراء؟‬

‫‪111‬‬


‫ال�سندباد الحالم بالعودة‬ ‫ن ّقل نظراته ما بين صخرة الروشة والجالسة قبالته تحمل أوراقها وتعدّ‬

‫قلمها للكتابة‪.‬‬

‫صوت فيروز يضفي على المكان تلك الخصوصية اللبنانية األصيلة‪:‬‬ ‫من أين‪ ،‬يا ذا الذي استسمته أغصانُ‬ ‫أنت‪ ،‬فداك السرو و البان‬ ‫من أين َ‬ ‫تمر بنا‬ ‫إن َ‬ ‫كنت من غير أهلي ال ّ‬

‫أو ال فما ضاق بابن الجار جيرانُ‬ ‫ومن أنا؟ ال ْ‬ ‫تسل‪ ،‬سمراء منبتها‬

‫شمس وشطآنُ ‪.‬‬ ‫في ملتقى ما التقت‬ ‫ٌ‬ ‫لي صخر ٌة ُع ِّل َق ْت بالنجم أسكنها‬

‫طارت بها الكتب قالت‪ :‬تلك لبنانُ ‪.‬‬ ‫بدا فرح غامض في عينيه وهمس‪:‬‬ ‫ـ غريبة عالقة الشعر بالموسيقا بالمكان‪ .‬تصوري يا رغد سعيد عقل‬ ‫‪112‬‬


‫أي جمال يجتمع اآلن‪.‬‬ ‫وفيروز والرحابنة والروشة‪ّ ...‬‬ ‫ونظر إليها مضيف ًا‪:‬‬

‫ـ يضاف إليه جمال مضيفتي‪.‬‬ ‫ر ّدت على ثنائه بخفر‪:‬‬

‫ـ أشكرك‪.‬‬

‫قدرهن‪.‬‬ ‫ـ من واجبي كشاعر‬ ‫عربي تقدير السيدات حقّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫ـ يسعدني حديثك باسم الشعراء العرب‪ ،‬وشملي ضمن السيدات‬

‫قدرهن‪.‬‬ ‫اللواتي يقدّ رن حق‬ ‫ّ‬ ‫ٌ‬ ‫شيمة فينا‪.‬‬ ‫ـ هي‬

‫يعتز بها‪.‬‬ ‫ـ شيمة ّ‬

‫عاد فشمل المكان بنظرة واسعة وقال‪:‬‬

‫ـ دبيبو‪ ...‬مكان جميل‪.‬‬ ‫ـ آلفه‪.‬‬ ‫ـ ألنه جميل؟‬

‫ـ الجمال ليس سبب ًا مكاني ًا لإللفة‪ .‬ثمة قوقعة أصيلة هنا تجذبني إلى ما‬

‫إلي‪ ،‬في كثير من األحيان‪ ،‬أن هذا المكان هو ركني‬ ‫فيه من هناءة‪ّ ...‬‬ ‫يخيل ّ‬ ‫من العالم‪ ،‬هو كوني األول الذي كبرت إلفته مع معايشة بدايته ونموه‪.‬‬

‫ولد معي وكبر معي‪.‬‬

‫‪113‬‬


‫ـ ِ‬ ‫أنت رومانسية‪.‬‬ ‫ـ وأنت؟‬ ‫ـ أنا؟‬ ‫ـ أخبرني عن المكان عندك‪.‬‬ ‫تنهد وهو يجول من جديد بنظراته‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫ـ ليس كهذا‪...‬‬

‫وع ّلق وهو يشير بعينيه إلى طاولة تتح ّلق حولها النساء البيروتيات‬

‫يدخن النراجيل‪:‬‬ ‫ّ‬

‫هن أيض ًا يألفنه‪.‬‬ ‫ـ ّ‬

‫فنجاني قهوة‪:‬‬ ‫قالت وهي تطلب‬ ‫ّ‬

‫ـ كريم هو‪ ،‬يفتح ذراعيه على وسعهما‪.‬‬ ‫ـ واضح‪.‬‬ ‫ـ ومكانك؟‬

‫ـ آلفه ولكنه بعيد‪.‬‬ ‫ـ عن هنا؟‬

‫كل األمكنة التي أرتادها‪ ...‬عن ّ‬ ‫ـ عن ّ‬ ‫تشردت فيها‪.‬‬ ‫كل األمكنة التي ّ‬ ‫تشردت؟‬ ‫ـ ّ‬

‫‪114‬‬


‫سميته القوقعة‪ ،‬هو‬ ‫ـ اسمعي يا رغد‪ ...‬كل مكان غير مكانك الذي ّ‬

‫تشرد‪.‬‬ ‫مكان ّ‬

‫ـ هل كان سندباد متشرد ًا؟‬

‫ـ بامتياز‪.‬‬ ‫ضحكت‪:‬‬ ‫وكنت مثله؟‬ ‫ـ‬ ‫َ‬

‫الحر‪ ...‬باحث ًا عن الحسن‪ ،‬قانص ًا من‬ ‫كنت هو‪ ...‬طليق ًا في األفق‬ ‫ـ ُ‬ ‫ّ‬ ‫قصي المدار بدر ًا ال كالبدور‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ـ أنشدني‪.‬‬

‫ُ‬ ‫َ‬ ‫طريد المسا ِر‬ ‫الشوق يا‬ ‫“هزك‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫الحنين في األسحا ِر‬ ‫واستباك‬ ‫ُ‬

‫ِ‬ ‫َ‬ ‫الحسن من ثمين الغوالي‬ ‫صائد‬ ‫قصي المدا ِر‬ ‫قانص البدر من‬ ‫ّ‬ ‫الحر تزهو‬ ‫يا طليق ًا في أفقك ِّ‬

‫صادك الوجدُ عنو ًة في اإلسار”‬ ‫الحر؟‬ ‫ـ أين كان أفقك ّ‬ ‫‪115‬‬


‫زرعت الزمانَ شرق ًا وغرب ًا‬ ‫“قد‬ ‫ُ‬ ‫سندباد ًا قد ضاق باألسفا ِر‬

‫غربتي طالت واألماني صداها‬ ‫في دروب الجنون صوت سعاري‬ ‫ُّ‬ ‫ٍ‬ ‫حسن شاغلتُه بغرامي‬ ‫كل‬

‫نواري‬ ‫ُ‬ ‫وزرعت الحقول من ّ‬

‫ثار بي شوقي في جميع الليالي‬ ‫فاسته ّلت عيناي باألسرا ِر”‬

‫ـ أيضيق سندباد باألسفار؟‬ ‫ـ يضيق ويتعب‪.‬‬ ‫ـ ويحلم بالعودة؟‬ ‫ـ يحلم بالوصول‪.‬‬ ‫ـ إلى أين؟‬ ‫ـ إلى مكان التالقي‪ .‬اسمعي‪:‬‬ ‫ْ‬ ‫الفراق‬ ‫المسير ولم يزل ولقد تعبت من‬ ‫“طال‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫التالق”‬ ‫حلو‬ ‫السفر‬ ‫ضرني‬ ‫الطويل وغايتي ُ‬ ‫ُ‬ ‫ما ّ‬ ‫‪116‬‬


‫هتفت‪:‬‬ ‫ـ رائع‪.‬‬

‫نقل هتافها إليه شعور ًا باالنتعاش‪ ،‬فمال إليها سائ ً‬ ‫ال‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫أعجبك؟‬ ‫ـ‬ ‫ـ جد ًا‪.‬‬

‫ـ هل قال أحدهم أجمل منه من قبل؟‬ ‫دهشت لسؤاله‪ ،‬ارتبكت‪ ،‬أطرقت؛ فأطلق ضحكة عالية قال بعدها‪:‬‬ ‫ـ أرجو أال تقولي لي “ مادح نفسه يقرئك السالم”‪.‬‬ ‫لم تعرف بأن سؤاله لها كان بقصد المزاح‪ ،‬ولما شرح هذا ضحكت‬

‫بدورها‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫ـ لو كنت مكانك لقلت‪ :‬لم يقل شاعر قبلك هذا ولن يقول‪.‬‬ ‫قالت‪:‬‬

‫َ‬ ‫عندك قوقعة‪.‬‬ ‫ـ أعجبني أن حلو التالقي صار‬ ‫قال‪:‬‬

‫ـ كما مكاني‪ ،‬أو كما قوقعتي‪ ،‬أو كما مكتي‪...‬‬ ‫ـ مكة؟‬ ‫ـ هي جذوري‪ ،‬هي حنيني‪ ،‬هي موقدة ناري‪ ،‬هي‪...‬‬ ‫‪117‬‬


‫واغرورقت عيناه بالدمع‪ ...‬كادت عبراته تتفجر‪ ،‬لكنه نظر إلى‬

‫البعيد‪ ...‬إلى صفحة المياه السوداء المحيطة بالصخرة‪ ،‬ثم إلى األضواء‬

‫المزروعة على الشاطىء أسفل المقهى‪ .‬وعاد فتأمل للحظة جماعة‬

‫نراجيلهن فبائع الذرة المشوية عند بوابة‬ ‫النساء البيروتيات الساهرات مع‬ ‫ّ‬ ‫المقهى وبعض الرجال والنساء الذين تجاوزوا الستين يهرولون بألبسة‬ ‫الرياضة على أرصفة الروشة‪ .‬ثم نظر إليها وقد صفت عيناه وما عادتا‬ ‫منبئتين بانفجار دمع وشيك وقال‪:‬‬

‫“إيه يا مكة الهدى للبرايا‬

‫وجذوري في روضها المعطا ِر‬ ‫كلما زارني ٌ‬ ‫حبيب‬ ‫خيال‬ ‫ٌ‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الرحيب َ‬ ‫أوقد ناري‬ ‫مداك‬ ‫من‬ ‫كلما نادى في المنارات ٌّ‬ ‫حق‬

‫ضج وجدي واحت ّلني استعباري‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫حواليك‬ ‫إيه يا كعبتي أطوف‬

‫بنبضي‪ ...‬جسم ًا بعيد المزا ِر‬ ‫حب طه خذوني‬ ‫يا رفاقي في ّ‬ ‫فربيع القلوب في األذكا ِر‬ ‫‪118‬‬


‫والركب يحدو نشيد ًا‬ ‫يا رفاقي‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫الحبيب أحلى المزا ِر”‬ ‫ومزار‬ ‫ُ‬

‫سألته‪:‬‬ ‫أنت أم هناك؟‬ ‫ـ هنا َ‬ ‫أجاب جاد ًا‪:‬‬

‫ـ هنا لكنني هناك‪...‬‬ ‫تنهدت‪:‬‬ ‫ّ‬

‫ـ السندباد الحالم بالعودة؟‬ ‫ـ السندباد العائد‪ ،‬الطائف بنبضه حول الكعبة‪ ،‬العائش تثبيتات‬ ‫شاعر‪ ...‬يعني‬ ‫مؤرخ ًا ولست جغرافي ًا‪ ...‬أنا‬ ‫السعادة‪ ...‬أنا‪ ،‬يا رغد‪ ،‬لست ّ‬ ‫ٌ‬

‫أنني‪ ،‬في عودتي إلى مكاني ال أحطم التضامن ما بين ذاكرتي وخيالي‪ ،‬بل‬

‫تحركني من أعماق ال يمكن تصور مداها‪.‬‬ ‫أشعر بالمرونة النفسية التي ّ‬ ‫قالت‪:‬‬

‫متحركة أو‬ ‫لمست هذا من خالل العمق الشعري لمكانك‪ ،‬إنه حياة‬ ‫ـ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬

‫كما قلت‪ ،‬نابضة‪.‬‬ ‫قال‪:‬‬

‫ـ المكان عندي هو كل شيء‪ ...‬كل شيء حيث يعجز الزمن عن تسريع‬ ‫‪119‬‬


‫الذاكرة‪ .‬أتعرفين يا رغد؟‪ ...‬كتابة الشعر تعني كتابة تأويلية ـ هي كتابة‬ ‫أضيف إليها الخيال والشعر فأصبحت عميقة عميقة‪ ...‬هي أكثر عمق ًا‬

‫من الواقع ذلك ألنها تخلص التاريخ المحيط بها من روابطه العابرة‪،‬‬ ‫من شوائبه‪ .‬معرفة اإللفة‪ ،‬يا رغد‪ ،‬والوقوف عند أماكنها أكثر إلحاح ًا من‬ ‫تحديد التاريخ والجغرافيا‪ .‬اسمعي‪:‬‬

‫“تهت في اإلبحار يا قلبي طوي ً‬ ‫ال‬ ‫وشراعي أخطأ األفق البديال‬

‫هز ِ‬ ‫ت الغر‬ ‫ضج اشتياقي ّ‬ ‫ك ّلما ّ‬ ‫بة وجداني التياع ًا وذهوال‬

‫ٍ‬ ‫مغترب كم‬ ‫خبروها عن هوى‬ ‫بعثر العمر ضياع ًا ورحيال‬ ‫سندباد َّ‬ ‫شط عن موطنِه‬ ‫ٌ‬

‫للصفا يوم ًا سبيال”‬ ‫هل من‬ ‫ٍ‬ ‫رجوع ّ‬ ‫علقت‪:‬‬ ‫ـ تطوف حول المكان الذي تربط اإللفة بالرجوع إليه‪.‬‬ ‫قال‪:‬‬ ‫‪120‬‬


‫دت سنين ًا أرجعيني‬ ‫تشر ُ‬ ‫“كم ّ‬ ‫ٍ‬ ‫لحنان أرتوي منه قليال‬

‫حب من رضاب‬ ‫اسقني رشفة ّ‬ ‫زمزم ًا حلو األماني سلسبيال‬ ‫بريء‬ ‫اذكريني وأنا طفل‬ ‫ٌ‬

‫الهدي النبيال‬ ‫أرتوي من نورك‬ ‫َ‬ ‫آه يا عمري هوايا في الحنايا‬

‫ٌ‬ ‫راحل فيها معي عمر ًا طويال”‬ ‫سألته‪:‬‬ ‫ـ تستدعي المكان وتستدعي الزمان‪ ،‬مكانك األول وزمانك األول‪.‬‬ ‫قال‪:‬‬ ‫في‪ .‬ها أنا‬ ‫ـ أستدعيهما أو يستدعيانني‪ ...‬أعيش فيهما أو يعيشان ّ‬ ‫تشردي‪:‬‬ ‫أراها‪ ...‬أرى وجهها‪ ...‬أرى يديها‪ ...‬أقرأ انتظارها أوبتي من ّ‬ ‫أتيت‬ ‫“أماه‪ ...‬إني قد ُ‬ ‫يدي طفولتي‬ ‫وفي ّ‬

‫الشباب‬ ‫وتركت خلفي كل أحالم‬ ‫ْ‬ ‫‪121‬‬


‫ِ‬ ‫وبحثت عن ِ‬ ‫النحيلة‬ ‫يدك‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫تعانق أوبتي‬ ‫كي‬

‫السحاب‬ ‫ورأيتها ممدودة عبر‬ ‫ْ‬ ‫وكأنها ُ‬ ‫طوق النجاة لحيرتي‬ ‫ُ‬ ‫أعانقها‬ ‫ألثمها‪...‬‬ ‫ُ‬ ‫وقفزت ُ‬ ‫السراب”‬ ‫فعانقني‬ ‫ْ‬

‫أطرقت‪:‬‬

‫َ‬ ‫تنتظرك‪.‬‬ ‫ـ لم‬

‫كنت متأكد ًا أنها تنتظرني‪ ...‬تنتظراآليب طف ً‬ ‫ال ينفض عنه هموم‬ ‫ـ ُ‬ ‫التشرد ويلتجئ إلى مكمن األمان‪ ،‬إلى مكمن الجاذبية التي تو ّلد اإللفة‪...‬‬ ‫ولما قرأت وجع ًا كبير ًا في عينيه‪ ،‬رجته‪:‬‬

‫ـ ال تتوغل بعد‪.‬‬

‫لم يسمع رجاءها‪ ...‬بل ّ‬ ‫توغل كطفل يبحث عن بيته األول بعد ضياع‬

‫طال‪:‬‬

‫“أ ّماه‪ ...‬هل ضاع الندا‬

‫وهتفت في جوف المدى‬ ‫ُ‬ ‫‪122‬‬


‫عليا فرحتي‬ ‫ر ّدي ّ‬

‫فأجابني مستوحش ًا‬ ‫رجع الصدى”‬ ‫ُ‬ ‫ـ ال تتوغل‪.‬‬ ‫تنهد‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫“ووأدت في روحي‬ ‫ُ‬ ‫غصتي‬ ‫بقايا ّ‬

‫عالم ِ‬ ‫ك الردى‬ ‫من قال ُ‬ ‫بل عالمي‪...‬‬

‫ُ‬ ‫أحمل لوعتي‬ ‫وهربت‬ ‫ُ‬ ‫وبداخلي‬ ‫هَ ُر َم الندى”‬ ‫كأنها قرأت مشروع بكاء في عينيه‪ ...‬لكنه ما لبث أن نظر إليها مبتسم ًا‪:‬‬

‫ّ‬ ‫ـ لن ّ‬ ‫سأظل أبحث وأبحث وأبحث حتى يتحول‬ ‫أكف عن البحث‪...‬‬

‫السراب حقيقية‪ ،‬وحتى أشعر بلمسة يدها النحيلة‪ ،‬وحتى يغلق المدى‬ ‫‪123‬‬


‫جوفه‪ ،‬وحتى يمتلىء المكان فال يبقى للصدى فيه مكان‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫كالمجنون‬ ‫“وضممت‬ ‫ُ‬ ‫أطياف الرؤى عبر الزمانْ‬ ‫ُ‬ ‫فيدٌ‬ ‫تعانق أوبتي‬

‫ويدٌ تر ّب ُت في حنانْ‬ ‫أقبل ذا المكانَ‬ ‫وأنا ّ‬

‫وذا المكانَ وذا المكانْ ”‬ ‫سعدت لسعادته‪ ...‬كأنها لمحته يفتح األبواب التي كانت مغلقة‪...‬‬

‫بأم عينيها وجه أ ّمه المنتظر‪ ،‬كأن المكان ُسكن‪ ،‬وانبعثت منه‬ ‫كأنها رأت ّ‬

‫رائحة الحياة‪ ...‬كأنه َ‬ ‫نبض‪ ...‬نهض سكان البيت‪ ...‬استجابوا له‪ ،‬هاهو‬

‫يتلمس الجدران ويريد بعدُ أن يتلمس التفاصيل‪...‬‬ ‫يؤوب‪ّ ...‬‬ ‫جاءها صوته‪:‬‬

‫“وشميم روحك يا أخي‬ ‫ُ‬ ‫عدنان يعبق كل آنْ‬

‫أمي تناديه فيحضنها‬ ‫فيحضنه األمانْ ‪”...‬‬ ‫‪124‬‬


‫اعتقدت أن نجاحه في الدخول إلى مكانه‪ ،‬وأن إيجاده األشخاص‬ ‫الذين يبحث عنهم سيعطيه ألق ًا حقيقي ًا‪ ...‬بيد أن سحابة من حزن داكن‬

‫ل ّفت وجهه وسرقت من شفتيه ّ‬ ‫كل أثر البتسامة قد تلوح‪ ،‬وهمس‪:‬‬

‫ـ رحل عدنان في ريعان الصبا‪ ،‬وما عدنا نتشارك في تفاصيل حياتنا‪...‬‬

‫رحل عدنان إلى عالم الردى‪ ...‬ال أعرف يا رغد من منا رحل إلى هذا‬

‫أي عالم هو عالم الردى؟ َمن الداخل إليه؟‬ ‫العالم هو‪ ،‬أم أمي‪ ،‬أم أنا‪ّ ...‬‬ ‫َمن الداخل الحقيقي إليه؟ الراحل عنه أبد ًا أم الزائر أبد ًا؟ وها أنذا أجاهد‬ ‫للوصول إلى مكاني وعندما أصل‪ ،‬آه‪...‬‬

‫“يا أ ّم‪ ...‬ر ّدي ها أنا‬ ‫ٌ‬ ‫النواح‬ ‫طفل يعاودني‬ ‫ُ‬

‫وتحيط بي األشباح ساخر ًة‬ ‫الصباح‬ ‫ويهجرني‬ ‫ُ‬

‫ٍ‬ ‫نافذة‬ ‫ألواح‬ ‫فتجيبني‬ ‫ُ‬

‫الرياح‬ ‫تع ّنفها وتصفقها‬ ‫ُ‬

‫فتئن في مزالجها ثكلى‬ ‫ّ‬

‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫الجراح”‬ ‫وتنهشها‬ ‫تعذ ُبها‬ ‫ُ‬ ‫‪125‬‬


‫غص‪ ...‬فقالت‪:‬‬ ‫َ‬ ‫صمت‪ّ ...‬‬

‫ـ قفا ِ‬ ‫ِ‬ ‫ومنزل‪...‬‬ ‫نبك من ذكرى حبيب‬ ‫نظر إليها بوجع‪:‬‬ ‫مجرد‬ ‫ـ أليست مأساتنا‪ ،‬يا رغد‪ ،‬أن تصبح األشياء ويصبح األشخاص ّ‬

‫أطالل؟ كانت مأساة الشاعر الجاهلي عظيمة وهو يبحث عن آثار قوم‬ ‫قد رحلوا‪ ...‬لكنه كان يستطيع أن يلحق بهم‪ ،‬كان يستطيع أن يسمع‬

‫أخبارهم‪ ...‬كان يعرف أنهم يحيون‪.‬‬

‫ـ بيد أن المشكلة العويصة تكمن بأن هؤالء القوم قد رحلوا بال عودة‪.‬‬

‫بقيت خيامهم منصوبة‪ ،‬بقيت أشياؤهم موجودة‪ ،‬ورحلوا‪.‬‬ ‫ـ إنها مأساة الوجود‪.‬‬ ‫تنهد‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫صور‬ ‫العتيقة عن‬ ‫“وبحثت في الدا ِر‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ووجد ُتها‬

‫ِ‬ ‫الجدار‬ ‫العناكب في‬ ‫تحت‬ ‫ْ‬ ‫صور ّ‬ ‫الغبار‬ ‫يغطيها‬ ‫ٌ‬ ‫ْ‬

‫عبر‬ ‫تترى على قلبي ْ‬ ‫التراب‬ ‫حلم يواريه‬ ‫ْ‬ ‫ٌ‬ ‫‪126‬‬


‫أثر‬ ‫فهنا ْ‬

‫أثر‬ ‫وهنا ْ‬

‫بئر ّ‬ ‫خراب‬ ‫وأسوار‬ ‫معط ٌلة‬ ‫ْ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬

‫ُ‬ ‫اليباب‬ ‫آثار‬ ‫ْ‬ ‫وهياكل األشجا ِر ُ‬ ‫ُ‬ ‫أعجاز نخلٍ‬ ‫منقعر‬ ‫ْ‬

‫خبر”‬ ‫والسدر ُة‬ ‫ُ‬ ‫الجرداء ذكرى من ْ‬ ‫مدّ ت ك ّفها على الطاولة‪ ،‬حاولت أن تلمس بيدها ظاهر راحته لتخرجه‬

‫من حال الضياع‪ ،‬همست‪:‬‬ ‫ـ عد‪.‬‬

‫همس من مكان ٍ‬ ‫بعيد بعيد‪:‬‬ ‫ـ دعيني أنفض الغبار بعد تجوال السنين‪ ،‬دعيني أخاطبها‪...‬‬ ‫إلي وتر ّبت‬ ‫إلي‪ ...‬هي دائم ًا تسمعني وتصغي ّ‬ ‫ستسمعني‪ ...‬ستصغي ّ‬ ‫على كتفي بيدها النحيلة‪ ...‬دعيني أشكو لها ما أعانيه‪ ...‬أرى وجهها‬

‫اآلن‪...‬‬

‫ـ ولكن‪...‬‬ ‫قاطعها‪:‬‬ ‫إلي‪...‬‬ ‫ـ ال تقطعي حواري معها‪ ...‬إنها قادمة ّ‬ ‫‪127‬‬


‫أتيت‬ ‫“ أماه‪ ،‬إني قد ُ‬ ‫كما أنا طف ً‬ ‫حزين‬ ‫ال‬ ‫ْ‬

‫ما بين قلبي والهوى‬ ‫سنين‬ ‫عهدٌ تو ّث َق من‬ ‫ْ‬ ‫حبي والمنى‬ ‫ما بين ّ‬ ‫ّ‬ ‫اليقين‬ ‫شك يداع ُبه‬ ‫ْ‬

‫إ ّني أتيت وفي يدي‬

‫والحنين‬ ‫حلم الطفولة‬ ‫ْ‬

‫الزمن‬ ‫أ ّماه‪ ،‬هل تدرين ما فعل‬ ‫ْ‬ ‫ٌ‬ ‫أمل تهدّ ج داخلي‬

‫بالشجن‬ ‫عمر تك ّل َل‬ ‫ْ‬ ‫ٌ‬

‫أحالمنا في دربها‬ ‫وتعثرت‬ ‫ُ‬

‫ِ‬ ‫السفن‬ ‫كأشرعة‬ ‫وتغربت حيرى‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ُّ‬ ‫وبذرت‬ ‫كل المرافئ خضتُها‬ ‫ُ‬ ‫آمالي بها‪،‬‬

‫وهتكت‬ ‫ُ‬ ‫أسرار المدنْ‬ ‫َ‬

‫ورحلت في أسرا ِرها‬ ‫وغزو ُتها‪،‬‬ ‫ُ‬

‫لكنني‪ ،‬أ ّماه‪ ،‬لم ِ‬ ‫السكن‪”...‬‬ ‫أجد‬ ‫ْ‬ ‫‪128‬‬


‫ساد صمت أرادت له أن يسود‪ ،‬فقد كانت تنتظر أوبته‪ .‬كانت تنتظر‬ ‫أن يغلق األبواب ويرجع من مكانه عائد ًا‪ .‬وحين التفت إلى النادل طالب ًا‬ ‫كوبين من الشاي‪ ،‬أدركت أنه يعود‪ ،‬وحين ارتسمت على شفتيه ابتسامة‪،‬‬

‫أدركت أنه عاد‪ .‬ر ّدت على ابتسامته بابتسامة‪:‬‬

‫ّ‬ ‫المؤطر بزمان الطفولة إنما هو بحث عن عالم‬ ‫ـ بح ُثك عن المكان‬ ‫ّ‬ ‫ويشكل له مشكلة‬ ‫مستقر بعيد عن القلق‪ ،‬قريب مما يبحث اإلنسان عنه‬ ‫ّ‬

‫وجودية مقلقة‪ ،‬مشكلة الخلود‪...‬‬ ‫أطرق‪:‬‬

‫ـ لو أجد األبواب مفتوحة‪ ،‬ويكون أحدهم قد أزال ّ‬ ‫كل آثار الغبار‬

‫وبقايا العنكبوت‪ ،‬وأخبر أمي وأخبر عدنان أنني عائد‪ ،‬النتظرني المكان‬ ‫لكن أحد ًا لم يخبرهم‪ ...‬حتى صوتي لم‬ ‫والنتظرني األشخاص‪ّ ...‬‬

‫ْ‬ ‫يصل‪...‬‬

‫وقبل أن تع ّلق بأية جملة نهض من مكانه‪:‬‬

‫أحب أن أمشي على الرصيف هرول ًة‪ .‬ترافقينني؟‪...‬‬ ‫ـ ّ‬ ‫نهضت بنشاط‪:‬‬

‫ـ طبع ًا‪...‬‬ ‫قال‪:‬‬

‫أحب أن أكتشف بيروت!‬ ‫ـ ّ‬ ‫‪129‬‬


‫الو�ص ّية‬ ‫تسارعت خطواتها وقت وصال إلى مدخل سوق الحميدية‪ ،‬فقرأ في‬ ‫هذا التسارع جذ ً‬ ‫ال أبطأته دعوته لها‪:‬‬ ‫ـ على مهلك يا رغد‪ ...‬فهنا‪ ،‬كل خطوة تاريخ عريق‪ .‬هنا‪ ،‬كل حجر‬ ‫ّ‬ ‫متجذرة‪.‬‬ ‫حضارة‬ ‫تمهلت معتذرة‪:‬‬ ‫ّ‬

‫تشكل لي‪ ،‬أيض ًا‪ ،‬قوقعة كما ّ‬ ‫ـ الشآم كما بيروت‪ّ ،‬‬ ‫شكلت للشاعر نزار‬

‫قباني قوقعة‪.‬‬ ‫قال‪:‬‬

‫ـ وكما ّ‬ ‫شكلت لعائشة الباعونية أيض ًا‪.‬‬ ‫ـ الشاعرة الشآمية؟‬

‫ـ صديقتي الشآمية التي قرأت أشعارها كما قرأت نزار ًا‪ ،‬أحببت روحها‬

‫كما أحببت دمشق من خالل كلماتها‪.‬‬ ‫تسمرت مكانها‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫ـ حق ًا؟‬

‫ـ طبع ًا‪.‬‬ ‫‪130‬‬


‫ـ أو تحفظ من نظمها شيئ ًا؟‬ ‫ـ طبع ًا‪ .‬اسمعي‪:‬‬

‫َنزِّ ِه ّ‬ ‫الط َ‬ ‫َ‬ ‫دمشق ففيها‬ ‫رف في‬ ‫ُّ‬ ‫تختار‬ ‫كل ما تشتهي وما‬ ‫ُ‬

‫ِ‬ ‫األرض ج ّنة فتأ ّم ْل‬ ‫هي في‬

‫األنهار‬ ‫كيف تجري من تحتها‬ ‫ُ‬ ‫وماء ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫زالل‬ ‫ك ُّلها‬ ‫روضة ٌ‬ ‫وديار‬ ‫وقصور مشيد ٌة‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬

‫قالت‪:‬‬ ‫ونزه الطرف‪.‬‬ ‫ـ اغتنم الفرصة إذن ّ‬

‫بمعيتك‪.‬‬ ‫ـ ّ‬

‫ـ يشر ّفني هذا‪.‬‬

‫ـ ِ‬ ‫لك الشكر‪.‬‬

‫استوقفهما باعة الشراشف والعباءات مرات‪ ،‬واستوقفهما باعة‬

‫النحاسيات مرات‪ ،‬واستوقفتهما جموع الحجاج من كافة بلدان العالم‬ ‫إلى الجامع األموي الكبير الذي ّ‬ ‫ظل صرح ًا أراد الخليفة األموي الوليد‬ ‫‪131‬‬


‫بن عبد الملك‪ ،‬بتشييده‪ ،‬أن يكسب الهندسة المعمارية اإلسالمية منزلة‬ ‫رفيعة لكي تغدو رمز ًا لعظمة دولته الكبرى‪.‬‬ ‫بسبابته من بعيد إلى مبنى الجامع‪:‬‬ ‫قال وهو يشير ّ‬

‫ـ تعرفين‪ ،‬يا رغد‪ ،‬إن هذه العمارة اإلسالمية هي ثالثة أعاجيب الدنيا‬

‫في عصرها‪ ،‬وقد اعتبرها (سوفاجيه) “أول نجاح كبير للهندسة المعمارية‬ ‫اإلسالمية”؛ فقد كان “ نقطة االنطالق” الحقيقية للهندسة المعمارية‬ ‫اإلسالمية ولما ارتبط بها من فنون الزخرفة‪.‬‬

‫فإذا كان منزل الرسول العظيم ص ّلى الله عليه وسلم‪ ،‬في المدينة‪،‬‬

‫هو البذرة األولى للهندسة المعمارية اإلسالمية‪ ،‬فإن جامع دمشق غدا‬ ‫“قانونها الوراثي” الذي يحدّ د خصائصه األساسية‪.‬‬

‫قالت وهي تدعوه إلكمال زيارة سوق الحميدية الممتدّ إلى يمين‬

‫المسجد نحو البزورية التي دعاها “بزورية نزار قباني”‪ ،‬وهي تقول‪:‬‬

‫ـ ال أعرف التفاصيل الهندسية‪ ،‬لكنني أعرف أن هذا المسجد ُبنِ َي‬ ‫على أنقاض كنيسة القديس يوحنا التي بنيت‪ ،‬بدورها‪ ،‬على أنقاض معبد‬

‫روماني مكرس لـ”جوبيتير”‪.‬‬ ‫ع ّلق‪:‬‬

‫ـ ومنكم نستفيد‪ .‬على كل حال‪ ،‬وبعد إكمال جولتنا‪ ،‬ال بد من العودة‬

‫تمت‪.‬‬ ‫إلى الجامع الكبير‪ ،‬وإال ما اعتبرت زيارتي إلى الشآم قد ّ‬ ‫ـ ليكن‪.‬‬

‫‪132‬‬


‫دمشقي عريق ُح ّول إلى مطعم يحمل‬ ‫دعته لتناول الغداء في بيت‬ ‫ّ‬ ‫الشآمي‪ ،‬بغرفه‪ ،‬وأرض داره‪ ،‬وعرائش العنب‪ ،‬ودوالي الياسمين‪،‬‬ ‫الطابع‬ ‫ّ‬

‫وكراسيه ّ‬ ‫القش‪.‬‬

‫مدّ ت ك ّفها إلى ماء البركة وسط ساحة الدار ومسحت وجهها‪ ،‬فع ّلق‪:‬‬ ‫ـ تتصرفين كما الفتيات الصغيرات‪.‬‬

‫أتصرف بدافع حبي لسماء وماء هذا المكان‪.‬‬ ‫ـ بل‬ ‫ّ‬

‫للحظة‪ ،‬نظر إلى السماء‪ ،‬ثم إلى الماء الصافي المتد ّفق في البركة‪،‬‬ ‫ونظر إليها قائ ً‬ ‫ال‪:‬‬ ‫يخيل إلي أن غاستون باشالر كان سيستفيد منك قبل وضع دراسته‬ ‫ـ ّ‬

‫عن المكان‪.‬‬

‫قالت جا ّدة‪:‬‬

‫ـ عندما جاء جدودي الشراكسة إلى الشآم‪ ،‬خلعوا نعالهم وساروا‬

‫حفاة‪ ،‬فقد كانوا يدعونها بـ (شام شريف)‪ ،‬وكانوا يؤمنون أنها أرض‬

‫القسري‬ ‫مقدّ سة‪ ،‬وأن الوصول إليها قادر على أن يمحو عذابات التهجير‬ ‫ّ‬

‫من وطنهم‪.‬‬

‫ـ وأقاموا؟‬ ‫ـ وما زالوا‪.‬‬ ‫ـ و ُبدّ ل الوطن األساس بالوطن المقدس؟‬ ‫‪133‬‬


‫قالت‪:‬‬ ‫ـ الموضوع ليس بتلك السهولة‪ ،‬لكن الدين‪ ،‬في أحيان كثيرة‪ ،‬وطن‪.‬‬ ‫كأنه التقط فكرة طابقت ما لديه من مخزون ثقافي يدور في فلك هذا‬

‫المضمون‪.‬‬ ‫قال‪:‬‬

‫ـ ُولدت في ّ‬ ‫مكة أرض رسول الله صلى الله عليه وسلم‪ ،‬وأفهم‪ ،‬كما‬

‫فهم أجدادك‪ ،‬أن الدين وطن‪ ،‬وأفهم‪ ،‬كما فهمت أ ّمي ّ‬ ‫أن اللجوء إلى الله‬ ‫ومحبة النبي واتّباعه وزيارته‪ ،‬حيث أطلب من الله ما أريد وأضع آالمي‬

‫وآمالي بين يديه‪ ،‬هو اللجوء األمثل‪ .‬أوصتني أمي أن أفعل‪.‬‬ ‫اهتمت‪:‬‬ ‫ّ‬

‫الوصية؟‬ ‫ذت‬ ‫ـ ون ّف َ‬ ‫ّ‬ ‫ال وقو ً‬ ‫ـ فع ً‬ ‫ال‪.‬‬

‫ـ هل يمكنني االستفادة منها؟‬ ‫ـ طبع ًا‪ .‬اسمعي‪:‬‬

‫“ ولدي يا ولدي‪!...‬‬ ‫ليس في وجهتنا‬ ‫غير طيب ْه‬ ‫‪134‬‬


‫ِ‬ ‫األمجد‬ ‫النبي‬ ‫در ٌة‬ ‫ُ‬ ‫يحرسها ُ‬ ‫ّ‬ ‫نور ّ‬ ‫ْ‬ ‫با ُبها يرعاه مليونُ‬ ‫مالك‬ ‫الهم ْ‬ ‫هناك‬ ‫اغسلِ َّ‬

‫ٌ‬ ‫السماء‬ ‫أجنحة نحو‬ ‫در ُبها‬ ‫ْ‬

‫الشفاء‬ ‫نعناعها فيه‬ ‫ُف ُّلها‪ ،‬ريحا ُنها‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫قف على أبوابه‪ ،‬منحني النفس‪،‬‬ ‫خفيض ًا‬

‫حياء”‬ ‫في ْ‬ ‫ع ّلقت‪:‬‬ ‫ـ كانوا مثلها‪.‬‬ ‫قال‪:‬‬ ‫ـ وكانت مثلهم‪.‬‬ ‫قالت‪:‬‬ ‫ـ أال تعتقد أن اإليمان واحد؟‬ ‫ـ هو كذلك‪ ،‬فهو اتّجاه إلى َمعين الله حيث ُيسقى‪ ،‬يا رغد‪ ،‬أولئك‬

‫الوصية‪:‬‬ ‫بقية‬ ‫ّ‬ ‫العشاق‪ .‬اسمعي ّ‬

‫‪135‬‬


‫َ‬ ‫“ولدي! لم َ‬ ‫شي‬ ‫يبق في‬ ‫نهرك ْ‬

‫طي‬ ‫فاستعن بالِله واط ِو الدّ َ‬ ‫ْ‬ ‫رب ْ‬ ‫ْ‬ ‫الظمأ‬ ‫ليس في األبح ِر ما يشفي‬ ‫ُ‬ ‫ري‬ ‫إ ّنما‬ ‫العاشق ال يشفيه ْ‬

‫ين ِ‬ ‫الله‪ ،‬تسقى‬ ‫وات ِّج ْه حيث َم ِع ُ‬ ‫النفس إلى ِ‬ ‫النبي‬ ‫َي ِّم ِم‬ ‫َ‬ ‫فيض ْ‬ ‫وتمهل عند بد ٍر‬ ‫عرج‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ثم ّ‬

‫حي‬ ‫ِّ‬ ‫حي مجد ًا لم يزل يمثل ْ‬

‫ثم قف يا ولدي حيث ثووا هم‬

‫ِ‬ ‫الضنك َف ْي”‬ ‫أهل فضلٍ من لهيب‬ ‫قالت‪:‬‬ ‫ـ حلوة أفعال األمر التي تزخر بها الوصايا‪ .‬حلوة إن دارت في فلك‬

‫حي‪ ،‬قف‪....‬‬ ‫عرج‪ّ ،‬‬ ‫تمهل‪ِّ ،‬‬ ‫اإليمان‪ :‬استعن بالله‪ ،‬اط ِو الدرب‪ ،‬اتجه‪ّ ،‬‬ ‫قال‪:‬‬

‫ٌ‬ ‫أفعال تقود الخطى نحو الدرب الصحيح بعد أن تاه الدرب منا‬ ‫ـ نعم‪،‬‬

‫وتهنا منه‪.‬‬

‫فهمت أ ّمي قبل أن توصيني‪ ،‬ذلك التيه الذي يرسم على أجسادنا‬ ‫‪136‬‬


‫ونفوسنا آثار ًا اليمحوها إال اللجوء إلى ٍ‬ ‫حب كبي ٍر سا ٍم فقالت‪:‬‬ ‫المباح‬ ‫الحصن‬ ‫قرة عيني مثلما‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫“جئت يا ّ‬ ‫لم ْ‬ ‫الجراح‬ ‫تباريح‬ ‫يزل قل ُب َك َيدمى من‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫عت‬ ‫ضي َ‬ ‫لم يزل لي ُل َك يدجو‪ :‬كيف ّ‬ ‫الصباح‬ ‫ْ‬

‫العذراء في ِ‬ ‫الرياح‬ ‫نهب‬ ‫أشرعك‬ ‫لم تزل‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫لم يزل طيرك ضا ًال بين خبطات الجناح‬

‫حب طه للفالح”‬ ‫طر كما شاء الهدى في ِّ‬ ‫ْ‬ ‫استرخت على كرسيها وقد لمعت عيناها ببريق غريب‪:‬‬ ‫ـ أترى فعل األمر األخير في الوصية؟ إنه يدعو إلى الطيران في سماء‬

‫الهدى‪ .‬أعتقد أن سماء النهائية مفتوحة لكل طائر باحث عن حصنه‬

‫وتوجه شراعه‪.‬‬ ‫الحصين‪ ،‬عن التئام جراحه‪ ،‬وفجر ليله‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫قال‪:‬‬

‫طير ّ‬ ‫ضل دربه‪..‬و الدرب الصحيح لجوء إلى‬ ‫ـ فاقد اإليمان‪ ،‬يا رغد‪ٌ ،‬‬ ‫الله في عليائه وإلى اتّباع الرسول الكريم‪ ،‬فإذا فعلنا ذلك ّ‬ ‫فكت قيودنا‪:‬‬

‫‪137‬‬


‫مقيد ًا‬ ‫“وإذا َ‬ ‫أتيت ّ‬

‫حاشاه أن تبقى بقيدْ‬

‫ِ‬ ‫السماحة‪ :‬بابها‬ ‫بحر‬

‫ْ‬ ‫من هاهنا‬ ‫وعدْ‬ ‫فانهل‪ُ ،‬‬ ‫النبي‪..‬‬ ‫هذا ُّ‬

‫وهذه بركات ُه أبد ًا أبدْ‬ ‫آدم طين ًة‬ ‫مذ كانَ ُ‬

‫نور تج ّلى في األمدْ ‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫ٍ‬ ‫حمد في يديه‬ ‫فلواء‬ ‫ُ‬

‫وند‬ ‫يب ّْ‬ ‫على الورى ِط ٌ‬

‫األزلي يجري‬ ‫والكوثر‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫ِ‬ ‫أصابعه مد ْد”‪.‬‬ ‫من‬

‫ـ جميل جد ًا‪.‬‬ ‫تابع‪:‬‬ ‫“هذا الطريق إلى الهدى‬ ‫هذا‬ ‫المقام لمن حمدْ‬ ‫ُ‬ ‫‪138‬‬


‫وتسامقت آالؤ ُه‬

‫ٌ‬ ‫فلك يدار بال عمدْ‬

‫مفتاح جنتنا‬ ‫في ك ّفه‬ ‫ُ‬ ‫إذا ُترجى ُت َمدْ‬

‫تبقى شمائ ُله على ال ّثقلين‬ ‫يعد‪.‬‬ ‫فيض ًا ال ّْ‬

‫موالي ِّ‬ ‫صل على الحبيب المصطفى‬ ‫َ‬ ‫نورك في السماء‬ ‫ماشاء ُ‬ ‫وما اصطفى‬

‫أرواحنا‬ ‫روحه‬ ‫َ‬ ‫تطهر ُ‬ ‫حتى ّ‬

‫النفوس الواجف ْه‬ ‫حمد ًا به ُتثرى‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫موالي ِّ‬ ‫بذاته‬ ‫صل بما يليق‬ ‫َ‬ ‫وبذاتك العظمى‬ ‫صالة وارف ْه‬

‫تشع قلو ُبنا بسالمه‬ ‫حتى َّ‬ ‫وسالمك األقصى‬ ‫نجوم ًا طائف ْه‬ ‫‪139‬‬


‫دامت لنا آالؤه‬ ‫دمنا بها‪...‬‬ ‫دمنا لها‪...‬‬

‫ما شاء َ‬ ‫أمرك‬ ‫واكتفى‬

‫موالي ِّ‬ ‫النبي المصطفى”‬ ‫صل على ِّ‬ ‫سألت‪:‬‬

‫فارتحت؟‬ ‫ذت الوصية‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ـ ن ّف َ‬

‫ـ الحمد لله‪.‬‬

‫ـ ولو ن ّفذوا؟‬ ‫ـ لو جاؤوا‪.‬‬ ‫ـ لخرجنا من مآزقنا؟‬ ‫ـ لخرجنا‪ ،‬يا رغد‪ ،‬من ضياعنا‪ ،‬وتيهنا‪ ،‬وحدادنا‪.‬‬ ‫ـ لو أنهم جاؤوه‪.‬‬ ‫َ‬ ‫جاؤوك‬ ‫“لو أ ّنهم‬ ‫الضياع‬ ‫رحالهم إلى جهة‬ ‫ما شدّ وا‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫‪140‬‬


‫لو أنهم‪..‬‬ ‫ما تاه ر ّبانٌ لهم‬

‫أو َّ‬ ‫يم‬ ‫شراع‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫ضل في ٍّ ٍ‬ ‫* *‬

‫*‬

‫*‬

‫ٌ‬ ‫ِّ‬ ‫ضم ِخ بالضحايا‬ ‫أبايبل على‬ ‫طير‬ ‫الكف ُ‬ ‫الم َّ‬ ‫ٌ‬

‫ٍ‬ ‫صالة لم تص ْل َك ألن فيها ما يعدُّ من الخطايا‬ ‫في‬ ‫في ُخ ِ‬ ‫تدكها ُ‬ ‫الروح حين ُّ‬ ‫خيل المنايا‬ ‫واء‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫مجزرة على جثث السبايا‬ ‫أنقاض‬ ‫ِ‬ ‫صوت المؤ ّذ ِن‬ ‫في صدى‬

‫مقبرة مد ّم ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫رة‬ ‫ضاع في أحجار‬ ‫على قلبي شظايا‪.‬‬

‫ٌ‬ ‫تجوب مآذنَ األقصى‬ ‫أبابيل على أفيال أبرهة‬ ‫طير‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫روحي الثكلى‬ ‫تعرج‬ ‫لمن في األرض ُ‬ ‫َ‬ ‫إلي‬ ‫و َمن‬ ‫ُّ‬ ‫سيردها جذلى َّ‬ ‫وإخوتي‬

‫ذئب ُّ‬ ‫المذبوح‬ ‫قميصي‬ ‫يشق‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬

‫ثم يطوف َ‬ ‫علي”‬ ‫أرض الله كي يبكي ّ‬ ‫‪141‬‬


‫تنهدت‪:‬‬ ‫ّ‬

‫ـ لو أنهم جاؤوه‪.‬‬ ‫ـ لما حصل الذي حصل‪.‬‬ ‫ـ أعدتني إلى أجواء القرآن الكريم‪ .‬أعدتني إلى ذلك اإلرث اإلسالمي‬ ‫نعتز به‪ .‬فإذا معركة اإليمان والكفر تتج ّلى بأبهى صورها‪ ،‬تتج ّلى‬ ‫الذي ّ‬

‫باألسماء ذاتها في استحضا ٍر تجاوز التضمين إلى ما يمكن أن يدعى‬ ‫تناص ًا إيجابي ًا‪ ...‬ألفاظ قرآنية واضحة‪ :‬طير أبابيل‪ ،‬أفيال أبرهة‪ ،‬مآذن‬ ‫ّ‬ ‫األقصى‪ ،‬والذئب الذي اتهم بشق القميص‪ ...‬كل هذا ورد في صور‬ ‫شعرية جديدة أبدعتها كبشر اعتمد على اإللهيات‪.‬‬

‫ـ تعجبني‪ ،‬يا رغد‪ ،‬قراءتك الشعر وما وراء الشعر‪.‬‬ ‫ـ وتعجبني دعوتك ألولئك الضائعين التائهين إلى سلوك الدرب‬

‫الواضح الذي وضعه النبي صلى الله عليه وسلم لخالصهم‪ .‬أما كانوا‪،‬‬

‫لو جاؤوه‪ ،‬تجاوزوا محنهم كلها؟‬ ‫أجاب‪:‬‬

‫الصباح‬ ‫“لو أنهم جاؤوك النبلج‬ ‫ُ‬ ‫رياح‬ ‫فيهم وما عاثت بوجهتهم ُ‬

‫ما ع ًفرت غربان شطر صهيلهم‬ ‫بالشؤ ِم أو ّ‬ ‫رماح‬ ‫عضت على دمهم ُ‬ ‫‪142‬‬


‫ٌ‬ ‫تغمدهم‬ ‫ضج بين وجيبِهم‬ ‫ما َّ‬ ‫خوف ّ‬ ‫جراح”‬ ‫وما ُذ ّلت على نفس‬ ‫ُ‬

‫النبوي بنقاء غريب‪ ،‬بيد أنها سألته‪:‬‬ ‫أشعرها شعره‬ ‫ّ‬

‫ـ أيكون األمل الوحيد للباحث عن الدرب الصحيح إيجاد مفتاح‬

‫لباب يدخل إلى الجنة؟‪...‬‬

‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫دخول‪ِّ ،‬‬ ‫دخول‪ ،‬وبدون‬ ‫كل‬ ‫ـ األبواب‪ ،‬يا رغد‪ ،‬تنغلق في وجه أي‬

‫مفتاح‪ ،‬كل األبواب مغلقة‪.‬‬ ‫ـ قلت‪:‬‬

‫“في كفه مفتاح جنتنا”‬ ‫ـ وقلت‪:‬‬ ‫ـ والوصول؟‪...‬‬

‫“إذا ترجى ُت َم ّْد”‬

‫ـ الوصول‪ ،‬يا رغد‪ ،‬ليس سه ً‬ ‫ال‪ .‬يحتاج إلى أن يقدم المرء لربه‬

‫من منا‬ ‫ومن منا صفحاته بيضاء‪ْ ،‬‬ ‫صفحات ناصعة‪ ،‬خالية من الخطايا‪ْ ...‬‬

‫لم تلمسه الخطايا ويلمسها؟‬ ‫قالت‪:‬‬ ‫غفور‪.‬‬ ‫ـ على أن الله‬ ‫ٌ‬

‫‪143‬‬


‫سبابته قائ ً‬ ‫ال‪:‬‬ ‫رفع ّ‬

‫غفور‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫ٌ‬

‫ومحب‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫ٌّ‬ ‫محب‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫ّ‬

‫ـ ويقبل العودة إليه‪...‬‬ ‫ـ العودة الصادقة يا رغد‪ ...‬التوبة الصادقة يا رغد‪ ،‬والخضوع الصادق‬

‫يا رغد‪...‬‬

‫بت يا ر ّبي إليك وفي يدي صفحاتي‬ ‫“قد ُأ ُ‬ ‫ِ‬ ‫الحسنات‬ ‫سوداء من عظم الذنوب خفيفة‬ ‫ُ‬ ‫أجر من ثقلِ الخطايا خطوتي وشتاتي‬ ‫ُّ‬

‫ِ‬ ‫الظلمات‬ ‫جئت إليك ملتجئ ًا من‬ ‫رب ُ‬ ‫يا ّ‬

‫ِ‬ ‫النزوات‬ ‫أحرقت خلفي مركبي ورغائب‬ ‫ُ‬ ‫ّلبيك يا الله ْ‬ ‫اقبل توبتي وخضوعي‬

‫ّلبيك يا رحمن ارحم ذ ّلتي وخضوعي”‬ ‫قالت‪:‬‬ ‫ـ يقبل التوبة‪.‬‬ ‫‪144‬‬


‫قال‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫خفق قلبي‬ ‫حبيب واحدٌ في‬ ‫“ليس لي إال‬ ‫ٌ‬ ‫ألبي‬ ‫وحده أهفو إليه وله دوم ًا ّ‬

‫رب حبيبي وأنيسي في الليالي‬ ‫َ‬ ‫أنت يا ّ‬

‫ورفيقي في طريقي وخالصي عند كربي‬ ‫الحب ينبوع ًا لعمري‬ ‫أنت ذاك‬ ‫َ‬ ‫ّ‬

‫وربيع ًا في حياتي وحنان ًا بين جنبي‬

‫ولحون ًا في غنائي ونشيد ًا ملء ثغري‬ ‫وضياء في وجودي أهتدي منه لدربي”‬ ‫ً‬ ‫ابتسمت وهي ترقب مسحة اإلشعاع على وجهه‪ ،‬قالت‪:‬‬ ‫ـ الحديث عن “شام شريف” قادنا إلى الحديث عن تلك القوة الباسطة‬ ‫سماحتها وغفرانها والقابلة لكل عودة‪ ،‬والمانحة لكل ٍ‬ ‫عون‪.‬‬ ‫نهض‪:‬‬

‫َ‬ ‫الطرف” كما‬ ‫ـ ما دمنا في “شام شريف” يا رغد‪ ،‬فأنا أريد أن “أن ِّقل‬ ‫طلبت مني عائشة الباعونية‪ ،‬وأترك ِ‬ ‫لك حق االختيار‪ ،‬اختيار المكان‬

‫نمر فنلقي تحية على مكتبة جدك الظاهر بيبرس أو ً‬ ‫ال‪ ،‬ثم‬ ‫والزمان على أن ّ‬ ‫ن ّتجه إلى الجامع األموي فنص ّلي‪ ،‬وندعو الله‪ ،‬و‪ ...‬أسير حيث تسيرين!‬ ‫‪145‬‬


‫نقّل َّ‬ ‫الط ْرف‬ ‫كان البحر على يسارهما وقت اتّجها من قلب بيروت نحو جونيه‪.‬‬ ‫وبينما كانت تقود سيارتها كان يتأ ّمل زرقة البحر التي تعكس أشعة‬

‫األخاذ‪.‬‬ ‫شمس الغياب جمالها ّ‬

‫مصغ‬ ‫كان سعيد ًا وهو يترنّم بلحن أغنية‪ ،‬وكانت تبتسم في صمت‬ ‫ٍ‬ ‫تقطعه تعليقات قصيرة موجزة لها عالقة بالمكان المتن ّقل‪:‬‬ ‫ـ على يميننا أنطلياس‪.‬‬ ‫قال‪:‬‬ ‫ـ الرحابنة‪.‬‬ ‫ضحكت‪:‬‬ ‫ـ أنطلياس الرحابنة وبزورية نزار قباني‪.‬‬ ‫ـ أترين ارتباط األشخاص باألماكن؟‬ ‫ـ أرى‪.‬‬

‫بسبابتها‪ ،‬وهما‬ ‫وعاد الصمت يل ّفهما‪ ،‬وعاد يترنّم إلى أن أشارت ّ‬ ‫يدخالن نفق نهر الكلب‪ ،‬قائلة‪:‬‬ ‫‪146‬‬


‫ـ هو ذا نفق نهر الكلب‪ ،‬وها هي ذي صخوره التي حفرت عليها‬ ‫مروا بلبنان ورحلوا‪ .‬رحلوا كما يرحل ّ‬ ‫كل غا ٍز‪ .‬رحلوا كما‬ ‫أسماء غزاة ّ‬ ‫ّأرخ سعيد عقل رحيلهم بقوله‪:‬‬

‫ٍ‬ ‫مجوس‬ ‫كم رأينا على المدى‪ ،‬من‬ ‫ٍ‬ ‫وملوك‪ ،‬ومن جنود ِ‬ ‫غزاة‬ ‫وأرباب‬ ‫وأنبياء‪،‬‬ ‫شعراء‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬

‫ِ‬ ‫صالة‬ ‫جثوا‪ ،‬دون صخرنا‪ ،‬في‬ ‫وقال‪:‬‬ ‫ُّ‬ ‫وتظل األموا ُه من نهر الكلب‬ ‫كبار ًا فوق اإلهانة قدرا‬

‫كركال‪ ،‬يا رعمسيس‪ ،‬ويا برقوق‬ ‫ّ‬ ‫الشط‪ ،‬أوهام ذكرى‪.‬‬ ‫أنتم‪ ،‬في‬

‫تأ ّمل الصخر والنهر على يمينه‪ ،‬فالبحر على يساره وقال‪:‬‬

‫ـ ّ‬ ‫تذكرت صديقتنا الباعونية‪ ،‬وها أنذا أن ّقل الطرف‪ ،‬ولكن في لبنان‬

‫يسرني اكتشافه معك‪.‬‬ ‫الذي ّ‬

‫‪147‬‬


‫قالت‪:‬‬ ‫ـ من الشآم إلى لبنان أو العكس‪ .‬وما دام الحديث عن سعيد عقل‪ ،‬أرى‬

‫أن نسمع فيروز تغ ّني هذه العالقة بكلمات الشاعر وألحان الرحابنة‪ ...‬ال‬ ‫بدّ أنك سمعت أغنية أو قصيدة “سائليني”‬

‫أحبها ألسباب سأشرحها بعد سماعها‬ ‫ـ آه‪ ...‬كثير ًا‪...‬‬ ‫وأحبها‪ّ ...‬‬ ‫ّ‬ ‫معك‪.‬‬ ‫ف ّتشت عن شريط بين كوم أشرطة التسجيل المبعثرة في سيارتها‪.‬‬ ‫المهمة مع ّلق ًا‪:‬‬ ‫وحين وجدته وراحت تبحث عن األغنية‪ ،‬تو ّلى‬ ‫ّ‬ ‫ـ انتبهي للقيادة وأنا سأجد األغنية‪.‬‬

‫انطلق صوت فيروز حين استرخى الشاعر على مقعده وشعور باأللق‬

‫يغمره‪:‬‬

‫سائليني حين ّ‬ ‫رت السال ْم‬ ‫عط ُ‬

‫ّ‬ ‫واعتل ُ‬ ‫الخزا ْم‬ ‫الورد‬ ‫كيف غار‬ ‫ُ‬ ‫رحت أسترضي َّ‬ ‫الشذا‬ ‫وأنا لو‬ ‫ُ‬ ‫النثنى لبنانُ عطر ًا يا شآ ْم‬

‫ض ّف ِ‬ ‫تاك ارتاحتا في خاطري‬

‫طير ِك في ّ‬ ‫الظ ِّن وحا ْم‬ ‫واحتمى ُ‬ ‫أودعت ِشعري سكر ًة‬ ‫أنا إن‬ ‫ُ‬ ‫‪148‬‬


‫كنت ِ‬ ‫ِ‬ ‫المدا ْم‬ ‫السكب أو كنت ُ‬ ‫أنت ّ‬ ‫ُر َّد لي من صبوتي يا بردى‬ ‫ٍ‬ ‫ذكريات زرنَ في ّليا قوا ْم‬ ‫هذه الغوطة أوفى ترب ًة‬

‫بهم أم جبل النبك ُ‬ ‫القدا ْم‬

‫ظمئ الشرق فيا شام اسكبي‬

‫واملئي الكأس له حتى ِ‬ ‫الحمام‬ ‫أه ُل ِ‬ ‫ُ‬ ‫التاريخ من فضلتهم‬ ‫ك‬

‫ذكرهم في عروة الدهر وسام‬ ‫ِ‬ ‫ضقت بهم‬ ‫أمويون فإن‬

‫ألحقوا الدنيا ببستان هشام‬ ‫أنا لست َ‬ ‫الغ ِر َد الفر ْد إذا‬

‫قال طاب الجرح في شجو الحمام‬ ‫أنا حسبي أنني من جبلٍ‬ ‫هو بين الله واألرض كالم‬ ‫قمم كالشمس في قسمتها‬ ‫ٌ‬ ‫تلد النور وتعطيه األنام‬ ‫‪149‬‬


‫انتبه‪ ،‬مع نهاية األغنية‪ ،‬من استرخائه وقال‪:‬‬ ‫ـ أما وقد عشت رخاء الجمع بين الحديث عن قوقعتيك لبنان والشام‪،‬‬

‫ورخاء الجمع بين الكلمة والموسيقا‪ ،‬فأنا أبحث‪ ،‬قبل أن أتكلم في‬

‫موضوعي الذي وعدتك بالحديث عنه‪ ،‬عن أغنية فيروز الخاصة بي‪.‬‬ ‫دهشت‪:‬‬ ‫ـ أغنية فيروز الخاصة بك؟‬ ‫ـ نعم‪ ...‬أغنية مكة‪.‬‬ ‫ضحكت‪:‬‬

‫ـ آه‪ ...‬موجودة وفي الشريط ذاته‪ ...‬تعرف أنني أسجل أشرطتي‬

‫حسب الموضوعات‪ ،‬وشريط فيروز هذا يحمل األغاني القصائد‪...‬‬ ‫أرجو أن تقلب الشريط لنسمع مع ًا‪.‬‬ ‫غ ّنت فيروز بكلمات سعيد عقل‪:‬‬ ‫مك َة َ‬ ‫يت ّ‬ ‫الصيدا‬ ‫غ ّن ُ‬ ‫أهلها ِّ‬

‫والعيدُ ُ‬ ‫يمأل أضلعي عيدا‬ ‫فرحوا‪ ،‬فألأل تحت كل سما‬ ‫بيت على ِ‬ ‫بيت الهدى زيدا‬ ‫ٌ‬

‫رب العالمين عال‬ ‫وعلى اسم ّ‬ ‫‪150‬‬


‫بنيانهم كالشهب ممدودا‬ ‫يا قارئ القرآن ِّ‬ ‫صل لهم‬

‫أهلي‪ ،‬هناك‪ ،‬وطيب البيدا‬ ‫راكع ويداه آنستا‬ ‫َمن ٌ‬

‫أن ليس يبقى الباب موصودا‬ ‫األنام رأت‬ ‫أنا أينما ص ّلى‬ ‫ُ‬

‫عيني السماء تف ّتحت جودا‬ ‫نظرت إليه بطرف عينيها‪ ،‬فالحظ هذا‪ ،‬فأطلق ضحكة‪:‬‬ ‫ـ أعرف ما يجول بخاطرك‪.‬‬ ‫ـ ما يجول بخاطري؟‬

‫ـ تتوقعين أن أطالب‪ ،‬بعد أن ُشحنت بالحنين‪ ،‬بأغنية (ر ّدني إلى‬ ‫بالدي)‪ ،‬وأطالب‪ ،‬بالتالي‪ ،‬أن تعودي بي‪ ،‬بد ً‬ ‫ال من مشوارنا إلى سيدة‬ ‫حريصا‪ ،‬إلى مطار بيروت‪ ،‬لكنني لن أفعل‪.‬‬ ‫استغرقت في الضحك‪:‬‬

‫ـ لم َي ُج ْل ّ‬ ‫كل هذا في خاطري‪ ،‬لكنني كنت أحاول فقط أن ألتمس‬

‫مدى تأثير الكلمة المغ ّناة خاصة إن حملت معاني الوطن‪.‬‬ ‫سألها‪:‬‬ ‫‪151‬‬


‫ـ الطريق طويل إلى سيدة حريصا؟‬

‫ـ ليس طوي ً‬ ‫ال‪ ،‬فما إن نصل إلى جونيه حتى نتجه إلى مركز التلفريك‬

‫ومن هناك ستكون رحلتنا إلى فوق‪ ،‬أو إلى حيث قال صديقنا سعيد‬

‫عقل‪:‬إلى جبل هو بين الله واألرض كالم‪.‬‬

‫لكنني أستطيع أن أصغي إلى ما وعدتني به من قول أو شرح لما أعتقد‬

‫أنه يتركز على عالقة الشعر بالغناء‪.‬‬ ‫ـ أحسنت يا شاطرة‪.‬‬

‫رفعت رأسها عالي ًا‪:‬‬

‫ـ أرأيت مدى ذكاء ُم ِ‬ ‫راف َقتِ َك؟‬

‫رد على سؤالي لك عما إذا كان أحد قبلي قد‬ ‫ـ ما هذا السؤال؟‪ ...‬كأنه ٌّ‬ ‫قال شعر ًا كما قلت‪.‬‬ ‫قالت‪:‬‬ ‫ـ هو كذلك‪ ،‬والعين بالعين‪ ،‬والسن بالسن‪ ،‬والبادئ أظلم‪.‬‬

‫ضحك من جديد‪ ،‬وعاد ليأخذ وضع ًا في الجلوس أشبه بوضع أستاذ‬ ‫يخاطب تلميذ ًا‪:‬‬

‫ـ اسمعي‪ُ ...‬غ ّنيت قصائد كثيرة كما سمعنا قبل قليل ُ‬ ‫وغ ّنيت قصائد‬ ‫لي أيض ًا منها قصيدة (شيء كان) وقصيدة (صبر ًا يا سيد قلبي) وهما على‬

‫وزن البحر المتدارك‪ ،‬وأعلمك أن أكثر قصائد نزار قباني المغ ّناة هي على‬ ‫‪152‬‬


‫هذا الوزن‪ ،‬كذلك أغنية محمد عبد الوهاب والتي كتبها أحمد شوقي‬

‫(مضناك جفاه مرقده)‬ ‫قالت‪:‬‬

‫ـ آه اآلن عرفت‪...‬‬ ‫ـ ماذا عرفت؟‬ ‫ـ عرفت لماذا نحفظ بحر المتدارك كالتالي‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫عجل‬ ‫نغم‬ ‫متداركنا ٌ‬

‫فعلن فعلن فعلن فعلن‬

‫ـ أحسنت‪.‬‬

‫قال هذا ثم استدرك‪:‬‬

‫ـ آسف يا رغد‪ ...‬أحيان ًا تطغى علينا مصطلحات المهنة فنستخدمها‬

‫أشجع المجتهدين من طالبي بقولي‪:‬‬ ‫في حياتنا اليومية‪ ،‬وقد اعتدت أن ّ‬ ‫ِ‬ ‫وأحسنت‪.‬‬ ‫أحسنت‬ ‫َ‬ ‫قالت‪:‬‬ ‫ـ ال بأس‪ ،‬فما زلت طالبة‪.‬‬ ‫شجعتك‪.‬‬ ‫ـ عظيم‪ ،‬وهكذا فلن أشعر باالرتباك إن ّ‬

‫قالت‪:‬‬

‫ـ ال‪ ...‬لن تشعر‪ ،‬على أال أعاقب إن أخطأت‪.‬‬ ‫‪153‬‬


‫قال‪:‬‬

‫ـ ال أعتقد أنك تخطئين‪ ...‬على كل حال‪ّ ،‬‬ ‫تذكري أنني لست شيخ‬ ‫ُك َّتاب وال أحمل في يدي عص ًا أضرب بها الكسالى‪.‬‬ ‫ضحكت‪:‬‬

‫لست شيخ كتاب‪.‬‬ ‫ـ حسن ًا‪َ ،‬‬

‫ـ لنعد إلى موضوعنا‪.‬‬ ‫قالت‪:‬‬ ‫ـ تفضل‪.‬‬ ‫قال‪:‬‬ ‫ـ وكما ربطت بين المتدارك والنغم‪ ،‬دعيني أترنّم بلحن أغنية (شيء‬

‫كان)‪.‬‬

‫ـ ك ّلي آذان صاغية‪.‬‬ ‫ترنّم ثم غ ّنى‪:‬‬ ‫“شيء في صدري‬ ‫ٌ‬

‫شيء في صدرك كان‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ونظرت إلى العنوانْ‬

‫هل يعنيني اليوم بشيء هذا العنوان؟”‬ ‫‪154‬‬


‫تنحنح‪ ،‬ثم نظر بطرف عينيه إليها‪:‬‬

‫ِ‬ ‫أعجبك صوتي؟‬ ‫ـ‬ ‫قالت‪:‬‬

‫ـ ال‪ ،‬أقصد‪ ...‬أعجبني لحن القصيدة المتناسب مع كلماتها دون أن‬ ‫أنتبه تمام ًا إلى الصوت‪ ،‬وذلك ألنني أعتقد أنك لست أنت مؤ ّديها‪.‬‬ ‫ـ لست أنا طبع ًا‪.‬‬

‫ـ آه! الحمد لله‪ ،‬طمأنتَني‪.‬‬ ‫ضحك‪:‬‬

‫ـ اسمعي مقطع ًا مغ ّنى من قصيدة (صبر ًا يا سيد قلبي) على أن ّ‬ ‫تركزي‪،‬‬

‫على تناسب اللحن مع الكلمات‪ ،‬ال على الصوت‪.‬‬ ‫ـ ّ‬ ‫تفضل‪.‬‬ ‫ـ اسمعي‪:‬‬ ‫“صبر ًا يا سيد قلبي‪ ،‬صبرا‬ ‫قد أذهلني هذا األمر فعذرا‬ ‫إن كنت تلعثمت‪ ،‬فذنبي‬

‫بحبي السترا‬ ‫أني جاوزت ّ‬ ‫هرت بأنوارك تغشاني‬ ‫و ُب ُ‬ ‫لم ِ‬ ‫تبق شموس ًا أو بدرا”‬ ‫‪155‬‬


‫ـ الله!‬ ‫ـ أعجبك غنائي؟‬ ‫ـ أعجبني لحن القصيدة المتناسب مع كلماتها‪ ،‬فقط‪...‬‬ ‫ضحك‪:‬‬

‫ـ حسن ًا‪ ...‬حسن ًا‪ ...‬يجب أن ّ‬ ‫أتذكر أننا في لبنان حيث تعطى حرية‬

‫الكالم كاملة‪.‬‬

‫برمت شفتيها‪:‬‬ ‫ـ ليس بالضبط‪.‬‬ ‫استغرب‪:‬‬ ‫ـ يعني؟‬ ‫ـ ّ‬ ‫أفضل العودة إلى الغناء‪.‬‬ ‫قال‪:‬‬ ‫الروي الذي يضفي النغم على القصيدة‪.‬‬ ‫ـ تنشأ الموسيقا في الشعر من‬ ‫ّ‬

‫فالشعر يحسن وقعه على السمع لحسن وقع قافيته‪ ،‬ويسوء وقعه لضعف‬

‫قافيته وسوء وقع رو ّيه حتى لو تضمن المعاني البليغة والصور الشعرية‬ ‫الرائعة‪ .‬اسمعي مث ً‬ ‫ال قولي في قصيدة (عذراء الرصافة)‪:‬‬ ‫ٌ‬ ‫“عراقية عشتار في رسمها وفي‬ ‫‪156‬‬


‫روح ُّ‬ ‫تدل على الطه ِر‬ ‫مناقبها ٌ‬

‫على كثرة ال ّلدَّ ِ‬ ‫ات تاهت بحسنها‬ ‫بحت لها أمري‬ ‫وفي غفوة الواشين ُ‬ ‫ً‬ ‫دالال بطرفها‬ ‫فقالت وقد أغضت‬

‫حنانك إني قد أموت من األس ِر”‬ ‫أترين نغم قافية الراء المكسورة وما تعطيه من موسيقا؟‬

‫ـ أرى‪ ،‬وأرى أيض ًا موسيقا قافية الالم المكسورة الموسيقية‪:‬‬ ‫“من سكرة األملِ من بحره الهزلي‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫األزل‬ ‫بالحب مغدور ًا من‬ ‫آتيك‬ ‫ِّ‬ ‫ٌ‬ ‫عذراء حائر ٌة‬ ‫شمعة‬ ‫في داخلي‬ ‫ُ‬

‫وفي يدي ٌ‬ ‫صفراء في خجل”‬ ‫باقة‬ ‫ُ‬ ‫ـ ولو كان لدينا الكثير من الوقت‪ ،‬يا رغد‪ ،‬لقرأت لك موسيقا النون‬

‫والباء والدال‪.‬‬

‫ـ لكننا نكاد نصل‪ ...‬بل وصلنا إلى جونيه‪.‬‬

‫ترجال‪ ،‬فشمل البحر والجبل بنظرة سريعة ما لبثت أن ّ‬ ‫تركزت على‬ ‫ّ‬ ‫‪157‬‬


‫التلفريك المتن ّقل من الساحل إلى الجبل وبالعكس‪ .‬سألها‪:‬‬ ‫ـ سنصعد إلى فوق؟‬ ‫ـ إلى سيدة حريصا‪.‬‬ ‫ـ أرغب أن أرى المكان من فوق‪.‬‬ ‫ـ ّ‬ ‫تفضل‪.‬‬ ‫كان الصعود أشبه‪ ،‬كما قال‪ ،‬بالتحليق في دنيا الشعر فيه الكثير من‬

‫السمو‪ ،‬والكثير من الجمال‪.‬‬ ‫ّ‬

‫التفت رجل عجوز إليه ثم ما لبث أن سأله باهتمام بالغ‪:‬‬ ‫ـ شاعر؟‬ ‫ـ نعم‪.‬‬ ‫ـ عرفت هذا من تشبيهك‪.‬‬

‫ـ شكر ًا لك‪.‬‬ ‫ـ من لبنان؟‬

‫ـ بل من ّ‬ ‫مكة‪.‬‬

‫ـ أه ً‬ ‫ال بكل شعراء العرب في لبنان‪ .‬اكتبوا قصائد لنا‪ ،‬قصائد عنا‪ ،‬فقد‬

‫سئمنا الحرب و ُتقنا إلى الغناء‪.‬‬ ‫يشرفنا أن نفعل‪.‬‬ ‫ـ ّ‬

‫‪158‬‬


‫ابتسمت رغد هامسة‪:‬‬ ‫التعرف باآلخرين والترحيب بهم؟‬ ‫ـ أترى مدى إقبال اللبنانيين على ّ‬

‫قال وهو يتأمل اللون الخضر الممتد تحت ناظريه‪:‬‬ ‫ـ الطبيعة الجميلة تخلق نفوس ًا جميلة‪.‬‬

‫يلح أن يقف لينظر من علو إلى المنظر‬ ‫تجوال في المكان‪ ،‬وكان ّ‬ ‫ّ‬ ‫الخالب‪ ،‬وكانت تفسح له مجا ً‬ ‫ال من الصمت ليتأمل تسلل الليل إلى‬

‫الشجر والبيوت والبحر والسماء‪.‬‬

‫تنهد دون أي تعليق‪ ،‬ثم ما لبث أن تراجع خطوتين إلى الوراء وقال‪:‬‬ ‫ّ‬

‫ـ لو‪..‬‬

‫ولم يكمل الجملة‪ ،‬فهمست‪:‬‬ ‫ـ لو ماذا؟‬ ‫ـ لو‪...‬‬ ‫ـ لديك أمنية؟‬ ‫ـ أمان أوحى بها إلي المكان‪.‬‬ ‫تمن ما تريد إذن‪.‬‬ ‫ـ ّ‬

‫ابتسم وهو يرقب جموع المؤمنين صغار ًا وكبار ًا‪ ،‬نساء ورجا ً‬ ‫ال‬ ‫وأطفا ً‬ ‫ال‪ ،‬يشعل كل واحد شمعته ويتلو دعواته التي يأمل أن تستجاب‪ .‬ثم‬

‫ما لبث أن انسحب بصمت وهو يصغي إلى صوت األجراس ترن برتابة‪.‬‬ ‫‪159‬‬


‫الم ّ‬ ‫طل على ساحل جونية‪.‬‬ ‫جلسا في المطعم ُ‬

‫قال‪:‬‬

‫ـ أشكر‪ ،‬يا رغد‪ ،‬اقتراحك الرائع بزيارة هذا المكان الساحر شك ً‬ ‫ال‬ ‫ومضمون ًا‪.‬‬ ‫قالت‪:‬‬

‫ـ شك ً‬ ‫ال ومضمون ًا‪ ..‬كأنك تتكلم عن قصيدة رائعة‪.‬‬ ‫ـ سبق وقلت إن الصعود إلى هنا يشبه التحليق في دنيا الشعر‪.‬‬ ‫ـ صحيح‪.‬‬

‫ـ ويشبه‪ ،‬فيما يشبه‪ ،‬مجموعة ألفاظ ّ‬ ‫تميز قصيدة‬ ‫تشكل صور ًا بديعة ّ‬

‫عن أخرى‪ ،‬كما يشبه مجموعة ألفاظ تنبض بالجرس الذي يعطي القصيدة‬

‫إيقاعها‪.‬‬

‫ـ إنني في حضرة شاعر فماذا أقول؟‬

‫ٍ‬ ‫تتأخر في المجيء‪.‬‬ ‫ـ وأنا في حضرة الجمال يل ّفني فأعجب‬ ‫لقصيدة ّ‬

‫ّ‬ ‫ستهل‪..‬‬ ‫ـ‬

‫ـ سأختار لها‪ ،‬يا رغد‪ّ ،‬‬ ‫أرق األلفاظ‪..‬‬

‫ـ تختار؟!‬ ‫الهين‪ ،‬فهو منوط بدوافع تجربة‬ ‫ـ نعم‪ ..‬وليس اختيار اللفظ باألمر ّ‬

‫النفسية والشعورية والفكر ّية‪..‬‬ ‫الشاعر‬ ‫ّ‬

‫‪160‬‬


‫ـ الشكل والمضمون‪.‬‬ ‫القوي والمناسبة الالئقة به‪،‬‬ ‫القوي الضخم للمعنى‬ ‫ـ صحيح‪ ..‬فاللفظ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫واللفظ السهل الواضح للمعنى الرقيق حيث تستوجب السالسة المساواة‬

‫ما بين اللفظ والمعنى‪.‬‬

‫ّ‬ ‫ولكل هذا تأثير على الموسيقا؟‬ ‫ـ‬

‫ـ طبع ًا فل ّلفظ في ذاته إيقاع‪ ،‬ولعالقته باللفظ اآلخر إيقاع‪ ،‬ولرو ّيه‬

‫ولقافيته إيقاع‪ .‬ولقد سبق وأن دندنت قصيدتين لي من بحر المتدارك‬ ‫ِ‬ ‫اكتشفت‪ ،‬بالطبع‪ ،‬مكت َ​َشف ًا‪..‬‬ ‫الذي‬ ‫ضحكت‪:‬‬ ‫ـ حسن ًا‪..‬‬

‫ال‪ ،‬إلى استخدام األلفاظ التي ّ‬ ‫ـ فكيف إذا عمد الشاعر‪ ،‬مث ً‬ ‫تشكل‬ ‫أحرفها إيقاع ًا بذاتها‪ ،‬وترتبط بأخرى تحمل السمة ذاتها‪ ،‬وسكبها في‬

‫قافية موسيقية‪.‬‬

‫ـ تقصد بحر المتدارك؟‬

‫ـ بل أقصد‪ ،‬أيض ًا‪ ،‬بحر الكامل ومجزوءه والوافر وغيرهم‪..‬‬ ‫ـ أيمكن هذا؟‬

‫ـ يمكن طبع ًا‪ ...‬وقد فعلت إذ جمعت في قصيدة (لو أنهم جاؤوك)‬

‫بين أوزان الكامل ومجزوئه والوافر‪ ..‬فإذا بالكامل المخلوق للتغ ّني‬ ‫‪161‬‬


‫المحض يقتحم السامع بدندنة تفعيالته الجهيرة الواضحة الممتزجة‬

‫بالمعنى المناسب والعواطف والصور‪ .‬وإذا بمجزوئه الذي يشبه مجزوء‬ ‫الرجز يعطي التغني والترنّم للقصيدة‪ ،‬يتبعه الوافر ذو النغمة التي ّ‬ ‫ترشحه‬

‫ٍ‬ ‫قوي سرعان ما‬ ‫لألداء العاطفي بما فيه من سرعة نغم‬ ‫وتالحق وتو ّقف ّ‬ ‫يتبعه إسراع فتالحق‪.‬‬

‫تنهد وقد أعاد ظهره إلى الوراء‪:‬‬ ‫ّ‬

‫ـ لوأنهم جاؤوك‪..‬‬

‫شربت من قهوتها رشفة‪ ،‬ثم قالت‪:‬‬ ‫شرحت لي أسرار القصيدة قبل أن تقرأها لي‪.‬‬ ‫ـ لو أنك‬ ‫َ‬ ‫ـ وهل فات األوان؟‬ ‫ضحكت‪:‬‬

‫ـ لم ُيف ْت‪ ..‬بي رغبة أن أعو َد فأقرأ ّ‬ ‫كتبت‪.‬‬ ‫كل ما َ‬

‫سيدة حريصة قد استجابت لقسم من دعواتي؟‬ ‫ـ َأوال تعتقدين أن ّ‬

‫سألت‪:‬‬

‫أي قسم؟‬ ‫ـ ّ‬

‫ـ نيل الرضا‪.‬‬ ‫وعاد فاستدرك‪:‬‬ ‫قراء شعري‪.‬‬ ‫ـ رضا ّ‬ ‫‪162‬‬


‫قالت‪:‬‬

‫ـ أرى فيك امتداد ًا لشعراء العرب القدامى الذين مثّلوا أمتهم إذ عاشوا‬

‫قضاياها وهمومها فكانوا إذاعتها‪ ،‬ونالوا رضاها إذ نالوا ثقتها‪.‬‬

‫ـ كما أرى فيك‪ ،‬يا رغد‪ ،‬امتداد ًا للمرأة العربية القديمة التي تقول‬ ‫الشعر وتنقده‪ّ .‬‬ ‫بأم جندب زوجة امرئ القيس التي كانت تصغي‬ ‫ذكرتِني ّ‬

‫وتجادل ثم تحكم‪ّ .‬‬ ‫ذكرتِني بأسماء تلك النساء العريقات في الدخول‬ ‫في عالم الشعر إلقا ًء ونقد ًا‪ّ ..‬أم بسطام‪ ،‬الخرنق بنت بدر أخت الشاعر‬

‫طرفة بن العبد‪ّ ...‬‬ ‫ذكرتِني بالخنساء وليلى األخيلية‪ ،‬وسكينة بنت الحسين‬ ‫وعلية بنت المهدي‪.‬‬ ‫ّ‬

‫تنسي عائشة الباعونية‪.‬‬ ‫ـ ال َ‬

‫ـ وال أنسى نازك المالئكة وقبلها أمها‪ ،‬كذلك فدوى طوقان والكثيرات‬

‫الكثيرات‪.‬‬

‫تنهدت‪:‬‬ ‫ّ‬

‫عربي يحمل إرث أ ّمته‪.‬‬ ‫ـ جميل أن تكون في حضرة شاعر‬ ‫ّ‬

‫ـ وجميل أن تكون في حضرة امرأة عربية تتابع رسالة َم ْن سبقنها‪.‬‬ ‫نهضت‪:‬‬

‫ٌ‬ ‫تضمني إلى الالئحة‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫شرف لي أن ّ‬ ‫ـ تستح ّقين‪.‬‬

‫‪163‬‬


‫ـ شكر ًا‪..‬‬ ‫سيدة حريصا نحو ساحل جونية‪ ،‬وكان يرقب‬ ‫كان التلفريك يغادر ّ‬ ‫ذلك االنتقال بدهشة شاعر دون أن يع ّلق بحرف‪.‬‬ ‫السيارة حتى توقف واستدار ببطء‬ ‫وما إن غادرا التلفريك م ّتجهين إلى ّ‬ ‫ناظر ًا حوله‪ ،‬مع ّلق ًا‪:‬‬ ‫ـ ألول مرة أشعر أنني أرغب في البقاء هنا‪ ،‬أو العودة إلى هنا‪.‬‬ ‫سألته‪:‬‬ ‫ـ أهي اإللفة؟‬ ‫ـ هي كذلك‪.‬‬ ‫قالت‪:‬‬

‫ّ‬ ‫ولعل زيارة السيد‬ ‫ـ هذا الشعور ينتاب الكثيرين ممن زاروا لبنان‪.‬‬ ‫المسيح له خير دليل‪ .‬لقد جاء مغادر ًا أبناء الحضارة العبرانية اليهودية‬ ‫التي لم تؤمن به‪ ،‬فوجد في أبناء الحضارة الكنعانية الفينيقية قبو ً‬ ‫ومحبة‬ ‫ال‬ ‫ّ‬

‫عرف تالميذه إلى سبب مجيئه بهم إلى لبنان الذي ركبوا منه البحر‪،‬‬ ‫مما ّ‬ ‫وسافروا لنشر بشارتهم‪.‬‬

‫كان يصغي باستغراب‪:‬‬ ‫ـ رغد‪ ..‬إنك تنقلينني إلى الماضي بطريقة رشيقة وتعيدينني إلى‬

‫الحاضر ألربط الزمان بالمكان‪.‬‬

‫‪164‬‬


‫مر من هنا؟‪..‬‬ ‫المسيح ّ‬

‫قالت‪:‬‬

‫ـ زار صيدا وصور‪ ،‬وع ّنف‪ ،‬بعد أن لمس مدى تجاوبهما مع تعاليمه‪،‬‬

‫َ‬ ‫المدن التي جرت فيها أكثر معجزاته وما تابت‪ .‬عرف المسيح أن لبنان‬ ‫مكان دافئ‪ ،‬خصيب‪ ،‬يقدّ ر تالميذه‪ ،‬انطالق ًا منه أن يحققوا وصيته‬ ‫الوداعية القائلة‪“ :‬اذهبوا في األرض ك ّلها‪ ،‬وأعلنوا البشارة إلى الخلق‬

‫أجمعين”‪.‬‬

‫تنهد‪:‬‬ ‫ابتسم ابتسامة عريضة‪ّ ،‬‬

‫ـ رغد‪ ..‬هل أطلب ِ‬ ‫منك طلب ًا أخير ًا؟‬ ‫ـ ّ‬ ‫تفضل‪.‬‬

‫ـ أريد زيارة صيدا وصور غد ًا أو بعد غد‪..‬‬

‫ـ يسعدني هذا‪.‬‬ ‫بيروت‬ ‫‪2002 / 7 / 2‬‬

‫‪165‬‬


166


‫الم�صادر والمراجع‬ ‫‪ 1‬ـ األعمال الشعرية للشاعر‪:‬‬ ‫ـ أسفار الرؤيا‪ ،‬دار القرويين‪ ،‬الدار البيضاء‪،‬ط‪.1،2001‬‬ ‫ـ جئت بعد الغرق‪ ،‬دار الزهراء‪ ،‬القاهرة‪،‬ط‪.2،1994‬‬ ‫ـ الصهيل الحزين‪ ،‬دار نشر المعرفة‪ ،‬الرباط‪.1997 ،‬‬ ‫ـ مختارات شعرية‪ ،‬المبدعون للدراسات والتأليف‪،‬يبرود‪ ،‬سوريا‪،‬‬

‫ط‪.2000 1‬‬

‫ـ من خبايا الوجد‪ ،‬مطبعة المعارف الجديدة‪،‬الرباط‪،‬ط‪.2001 ،1‬‬ ‫‪ 2‬ـ دراسات عن الشاعر‪:‬‬ ‫ـ تقاسيم على أوتار إنسان‪ ،‬دراسة إدريس بلمليح‪ ،‬مطبعة دار القرويين‪،‬‬

‫الدار البيضاء‪ ،‬ط‪.1،2001‬‬

‫ـ الحب النبوي في شعر عبد العزيز خوجه‪ ،‬دار نشر المعرفة‪ ،‬الرباط‪،‬‬

‫‪.2000‬‬

‫ـ القلق والذات اإلبداعية في شعر عبد العزيز خوجه‪ ،‬د‪ .‬إدريس‬

‫بلمليح‪ ،‬دار القرويين‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬ط‪.2001 ،1‬‬

‫ـ مختارات عبد العزيز خوجه‪ ،‬اختيار ورؤيا نقدية‪ :‬عبدالله عيسى‪،‬‬ ‫‪167‬‬


‫دار نشر المعرفة‪ ،‬الرباط‪ ،‬ط‪.1997 ،2‬‬ ‫‪ 3‬ـ اإلسالم وفئوية تطور العمارة العربية‪ ،‬حيان صيداوي‪ ،‬دار المتنبي‪،‬‬

‫‪.1992‬‬

‫‪ 4‬ـ البدو والبادية‪ ،‬جبرائيل جبور‪ ،‬دار العلم للماليين‪،‬ط‪.1988 ،1‬‬ ‫‪ 5‬ـ تاريخ األدب العربي‪ ،‬أحمد حسن الزيات‪ ،‬دار الثقافة ـ بيروت‪.‬‬ ‫‪ 6‬ـ جماليات المكان‪ ،‬غاستون باشالر‪ ،‬ترجمة غالب هلسا‪ ،‬بيروت ـ‬

‫المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع‪ ،‬ط‪.1987 ،3‬‬

‫‪ 7‬ـ الحب في التراث العربي‪ ،‬سلسلة عالم المعرفة(‪ ،)63‬د‪.‬محمد‬

‫حسن عبدالله‪.‬‬

‫‪ 8‬ـ الحركة األدبية في المملكة العربية السعودية‪ ،‬د‪ .‬بكري الشيخ‬

‫أمين‪ ،‬دار العلم للماليين‪ ،‬ط‪.1995 ،1‬‬

‫‪ 9‬ـ سعيد عقل‪ ،‬اإلبحار إلى فينيقيا‪ ،‬إيمان بقاعي‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار الكتب‬

‫العلمية‪.1995 ،‬‬

‫‪ 10‬ـ قراءات نقدية في كتب سعودية‪ ،‬د‪ .‬بكري الشيخ أمين‪ ،‬الدار‬

‫السعودية للنشر والتوزيع‪.1999 ،‬‬

‫‪ 11‬ـ موجز الفلسفة اللبنانية‪ ،‬سلسلة معالم الفكر اإلنساني‪ ،‬كمال‬

‫يوسف الحاج‪ ،‬بيروت ‪.1974‬‬

‫‪ 12‬ـ الوعي والفن‪ ،‬عالم المعرفة (‪ ،)146‬الكويت‪.‬‬ ‫‪168‬‬


‫ال�سيرة الذاتية للم�ؤلفة‬ ‫حممد‪ ،‬لبنانية‪.‬‬ ‫االسم‪ :‬غريد الشّ يخ ّ‬ ‫ماجستري يف اللغة العربية وآداهبا‬ ‫اختصاصية يف حتقيق املخطوطات‬ ‫عضو يف اتحّ اد الك ّتاب اللبنانيني‪.‬‬ ‫مؤسسة ال ُّنخبة لل ّتأليف رّ‬ ‫والتمجة وال َّنرش‪ ،‬بريوت‪.‬‬ ‫صاحبة ّ‬

‫اً‬ ‫معجًم� لغو ًّي�ا‪ ،‬ه�و‪ :‬املعج�م يف اللغ�ة والنح�و والرصف‬ ‫وه�ي أول ام�رأة تؤل�ف‬ ‫والقانونية واحلديثة‪ ،‬وهو يف ستة جملدات‪ ،‬حوايل‬ ‫والفلسفية‬ ‫العلمية‬ ‫واملصطلحات‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫‪ 4600‬صفحة وحيتوي ‪ 71100‬كلمة‪.‬‬

‫األعامل األدبية‪:‬‬ ‫‪ - 1‬حتقي�ق خمط�وط اعتالل القل�وب للخرائط�ي ( ت ‪ ،)327‬دار الكتب العلمية‪،‬‬ ‫بريوت‪2000 ،‬‬ ‫‪ - 2‬معجم أش�عار العش�ق يف كت�ب رّ‬ ‫التاث الع�ريب‪ ،‬دار قنادي�ل للتأليف والرتمجة‬ ‫والنرش‪ ،‬بريوت ‪.2007‬‬ ‫مؤسس�ة ال ّنخبة لل ّتأليف رّ‬ ‫والتمجة‬ ‫‪ - 3‬معجم اإلعالم املرئي واملس�موع واملكتوب‪َّ ،‬‬ ‫والنرش‪ ،‬بريوت ‪.2007‬‬ ‫‪ - 4‬معجم املرتادفات‪ ،‬دار الراتب اجلامعية‪ ،‬بريوت‪.2005 ،‬‬ ‫‪ - 5‬معجم اإلعراب للطالب‪ ،‬دار الراتب اجلامعية‪ ،‬بريوت‪.2005 ،‬‬ ‫‪ - 6‬معجم احلروف ّ‬ ‫والظروف‪ ،‬دار الراتب اجلامعية‪ ،‬بريوت‪.2005 ،‬‬ ‫‪ - 7‬معجم األسامء ّ‬ ‫والضامئر‪ ،‬دار الراتب اجلامعية‪ ،‬بريوت‪.2005 ،‬‬ ‫‪ - 8‬معجم األفعال وترصيف األفعال‪ ،‬دار الراتب اجلامعية‪ ،‬بريوت‪.2005 ،‬‬ ‫‪ - 9‬معجم اجلموع وا ُمل َث َّنى‪ ،‬دار الراتب اجلامعية‪ ،‬بريوت‪.2005 ،‬‬ ‫‪ - 10‬علم البيان‪ ،‬دار الراتب اجلامعية‪ ،‬بريوت‪.2006‬‬ ‫‪169‬‬


‫‪ - 11‬املعاين والبديع‪ ،‬دار الراتب اجلامعية‪ ،‬بريوت‪.2006 ،‬‬ ‫‪ - 12‬املتق�ن‪ :‬جامع لدروس اللغة العربية‪ ،‬نحوها ورصفها‪ ،‬دار الراتب اجلامعية‪،‬‬ ‫بريوت‪.2005 ،‬‬ ‫‪ - 13‬املتقن يف البالغة والعروض‪ ،‬دار الراتب اجلامعية‪ ،‬بريوت‪.2005 ،‬‬ ‫‪ - 14‬املتقن يف تبسيط اللغة العربية لط ّالب املرحلة االبتدائية‪ ،‬دار الراتب اجلامعية‪،‬‬ ‫بريوت‪.2006‬‬ ‫‪ - 15‬املتقن العميل يف تبسيط اإلمالء العريب لط ّالب املرحلة االبتدائية‪ ،‬دار الراتب‬ ‫اجلامعية‪ ،‬بريوت‪.2006،‬‬ ‫‪ - 16‬املتق�ن العملي يف تبس�يط القواع�د لطالب املرحل�ة االبتدائي�ة‪ ،‬دار الراتب‬ ‫اجلامعية‪ ،‬بريوت‪.2006،‬‬ ‫‪ - 17‬املتقن العميل يف االستظهار‪ ،‬دار الراتب اجلامعية‪ ،‬بريوت‪.2006 ،‬‬ ‫‪ - 18‬سلسلة أيام معهم‪:‬‬ ‫‪ ‬جرير‪ ،‬ال ُّنخبة للتأليف والرتمجة والنرش‪ ،‬بريوت‪.2009 ،‬‬ ‫‪ ‬نزار قباين‪ ،‬ال ُّنخبة للتأليف والرتمجة والنرش‪ ،‬بريوت‪.2009 ،‬‬ ‫‪ ‬حممد الفيتوري‪ ،‬ال ُّنخبة للتأليف والرتمجة والنرش‪ ،‬بريوت‪.2010 ،‬‬ ‫‪ ‬عبد العزيز خوجة‪ ،‬ال ُّنخبة للتأليف والرتمجة والنرش‪ ،‬بريوت‪.2010 ،‬‬ ‫‪ ‬هدى ميقايت‪ ،‬دار قناديل للتأليف والرتمجة والنرش‪ ،‬بريوت‪.2005 ،‬‬ ‫‪ - 19‬فدوى طوقان‪ ،‬دراسة أدبية‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بريوت‪.1994 ،‬‬ ‫‪ - 20‬مي زيادة‪ ،‬أديبة َّ‬ ‫الشوق واحلنني‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بريوت‪.1994 ،‬‬ ‫‪ - 21‬قاسم أمني‪ ،‬بني األدب والقضية‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بريوت‪.1994 ،‬‬ ‫احلب واجلامل والغزل‪ ،‬دار الفكر اللبناين‪ ،‬بريوت‪.1999 ،‬‬ ‫‪ - 22‬موسوعة ّ‬ ‫‪ - 23‬تقني�ات التعبير يف ش�عر عب�د العزيز خوج�ة‪ ،‬دار قناديل للتألي�ف والرتمجة‬ ‫والنرش‪ ،‬بريوت‪.2004 ،‬‬ ‫واإلنس�انية‪ ،‬دار قناديل للتأليف‬ ‫ال�دالالت الف ّن ّية‬ ‫‪ - 24‬ش�عر عبد اهلل بارشاحيل‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫والرتمجة والنرش‪ ،‬بريوت ‪.2003‬‬ ‫‪ - 25‬جمموعة قصص لألطفال عن احلواس اخلمس‪ ،‬دار عون‪ ،‬بريوت‪.‬‬ ‫‪170‬‬


‫‪ - 26‬كي�ف نحك�ي حكاية لألطفال‪ ،‬قنادي�ل للتأليف والرتمج�ة والنرش‪ ،‬بريوت‪،‬‬ ‫‪.2002‬‬ ‫‪ - 27‬رّ‬ ‫التبية وال ّتعليم من خالل ال َّل ِعب‪ ،‬دار اهلادي‪ ،‬بريوت‪.2005 ،‬‬ ‫مؤسسة ال ُّنخبة‪.‬‬ ‫وميات ّمحور‪ّ ،‬‬ ‫قصة لألطفال‪َّ ،‬‬ ‫‪َ - 28‬ي َّ‬ ‫‪ - 29‬أحىل ما قيل يف اجلامل‪ ،‬دار الكتاب العريب‪ ،‬بريوت ‪.2005 ،‬‬ ‫‪ - 30‬أحىل ما قيل يف احلكمة‪ ،‬دار الكتاب العريب‪ ،‬بريوت ‪2005 ،‬‬ ‫‪ - 31‬حتقيق كتاب اإلمتاع وا ُملؤانسة‪ ،‬دار الكتاب العريب‪ ،‬بريوت ‪.2005 ،‬‬ ‫‪ - 32‬رشح ديوان جرير‪ ،‬مؤسسة ال ّنور للمطبوعات‪ ،‬بريوت‪.1998 ،‬‬ ‫‪ - 33‬رشح ديوان أيب القاسم الشّ ايب‪ ،‬مؤسسة ال ّنور للمطبوعات‪ ،‬بريوت‪.1999،‬‬ ‫‪ - 34‬رشح ديوان حافظ ابراهيم‪ ،‬مؤسسة ال ّنور للمطبوعات‪ ،‬بريوت‪.2001 ،‬‬ ‫‪ - 35‬رشح ديوان امرئ القيس‪ ،‬مؤسسة ال ّنور للمطبوعات‪ ،‬بريوت‪.2000 ،‬‬

‫‪171‬‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.