�أيام مع عبد العزيز حميي الدين خوجة سلسلة أيام معهم :مجموعة قصص تمثيلية تحكي كل واحدة منها عن شاعر بأسلوب حديث .البطلة الرئيسة هي فتاة تستحضر أبطالهاُ ،تحاورهم وتتعاطف معهم وتتعرف على حياتهم من خالل أحداث يروونها وأشعار يقرؤونها.
بريوت ـ لبنان © جميع احلقوق حمفوظة للم�ؤلفة الطبعة الثانية 2011 تلفاك�س009615602752 : تلفون009613482587 : www.dar-alnokhba.com alnokhba@dar-alnokhba.com gharid@dar-alnokhba.com gharid9@hotmail.com
الت�صميم الفني والغالف :غريد جحا
�إهداء.. إلى الغارق أبدً ا
في هموم الوطن وآالمه دائما الساعي ً ّ
إلى تحقيق العدل والحرية... غريد الشيخ
بيروت 2001/8/1
�إ�شارة �ضوئية بقلم :محمد الفيتوري َ الجاذبية تغيرت كثير ًا ،وأنني فقدت قدر ًا كبير ًا من تلك ّ أ ْح َس ُبني ّ الخاصة التي طالما اشتعلت بداخلي ك ّلما صادفت آي ًة من آيات ّ استثنائية من ظواهر الجمال ،أو صورة من معجزات الطبيعة ،أو ظاهرة ّ
الوجود.
ُترى كيف؟ ولماذا تالشت تلكم االنفعاالت واألحاسيس؟ ويستفزني إلى ولماذا لم يعد شيء من هذا أو ذاك يستثير استغرابي، ّ
حدّ الجنون!
ربما حدث ذلك بسبب من ظروف اإلحباط النفسي العام ،وضغوط النمطية لهذه الحياة التي نعيشها.. اآللية ّ الواقع االجتماعي ،أو لع ّلها نتاج ّ الم ِط ّلة على واقعنا العربي من أعلى ،وافتقارنا إضافة إلى تماثل النماذج ُ
التطور والتجديد. كأ ّمة إلى ّ
المرة أحس في نفسي شيئ ًا من غير أنني رغم هذا ك ّله، ّ التمرد هذه ّ ّ
فجرتها بداخلي ،الكاتبة بعدما فاجأتني هذه الرغبة الملحة ،التي ّ ّ الباحثة الجا ّدة غريد الشيخ ،حين طلبت م ّني أن أساهم معها في إلقاء
بعض الضوء حول بعض ما قد يغمض على القارئ المستحدث ،وهو 7
الصوفية، يحاول اقتحام هذا العالم الغريب العجيب ،المفعم باإلشارات ّ
والدالالت اللغوية ،والمداخالت الفكر ّية ،وتجاذبات اآلراء والمواقف
القصية ،واألبعاد غير المحسوسة؛ وأعني به عالم الشاعر ذات المرامي ّ
العربي عبد العزيز محيي الدين خوجه..
وقلت لمحدّ ثتي إنه أحد أبرز شعراء جيله ،الواقفين عند أقصى ِ وأنت عندما اخترتِه ،لكي يصبح رابع الشعري المعاصر، درجات الس ّلم ّ
الرموز المضيئة في سلسلة كتاباتك (أ ّيام معهم) إنّما ات ِ ّكأت على قراءاتك والمتفحصة لمجمل أعماله الشعر ّية ،وأيض ًا على ما وقر في المعمقة ّ ّ ذهنك ،من أصالة عطائه إيقاع ًا موسيقي ًا ،ورؤيا إبداعية وتأمالت ،وقبل هذا وذاك صدق معايشته لألرض ولقضايا العصر ولإلنسان..
ولربما خالفك البعض ،ممن ال يعملون وال يحبون أن يعمل الناس توص ِ لت بجهدك إليه ،ولك ّنها (والمقولة لطه حسين) في خالصة ما ّ
األدبي ،وشروط عملية اإلبداع ،التي بقدر ما تو ّفر لك من قوانين العمل ّ
وحرية االختالف. حر ّية الكتابة ،تو ّفر لآلخرين حر ّية النقدّ ،
بلى يا غريد الشيخ ،إن الشاعر عبد العزيز محيي الدين خوجه ،ولر ّبما
انضم إليه ،عدد ضئيل من معاصريه من شعراء اليوم الذين هم اليوم ـ ّ وبخاصة ضمن ظروف االنحدار الشعري والفني ،الحضاري والسياسي،
األخالقي واالجتماعي ـ هم اليوم أشبه بتلك الكائنات البشرية المالئكية، التي شاهدناها في أحالمنا ،عندما ك ّنا صغار ًا ،وهي تزاحم بأمجادها
صفحات التاريخ ،وتصنع بطوالتها االسطور ّية التي لم نعد نشاهدها، 8
إال عبر أفالم الخيال العلمي وفوق شاشات القنوات الفضائية ..وأحيان ًا
تحت أقدام العبي كرة القدم.
محمد الفيتوري القاهرة 2002/7/19
9
ذهب الرجال مع الرجال بين الخبر والخبر خبر.
ِ ِ والحزن حزن. الحزن بين
وزمهرير ،عواصف ٍ رعد ،وعواصف غضب. برد ٌ ٌ صوت فيروز يمأل المكان والزمان:
الساطع ٍ آت «الغضب ُ ُ ْ إيمان وأنا كلي
الساطع ٍ آت الغضب ُ ُ
ْ األحزان!! « سأمر على ُّ ما الذي يحدث؟ اتّكأت رغد على طاولتها وكادت تغفو دون أن تريد ذلك. َم ْن يغفو والحرب تشتعل؟
َمن يغفو واألشالء تحت األسقف والجدران المهدمة؟ 10
َم ْن يغفو وأقدام اليهود تدنس أرض فلسطين ،مدارس فلسطين، مساجد فلسطين ،أديرة فلسطين؟ التقطت عيناها منظر حشود عربية تعترض وتعترض وتعترض. ما االعتراض؟ ما االعتراض؟ جاءها من التاريخ صوت أحمد محرم:
هذا ُ تراث المسلمين فبعضه ُيزجى عالني ًة وبعض يسرق ـب فنائم متق ّل ٌ َع ِجزَ ُ الحـما ُة ٌ
الحشـي ِة أو َم ِغ ٌ َ يظ ُم ْحـن َُق فوق ّ وقومنا صم في ِ ُ السالح ُ القوم ٌّ ٌ وآخر ُ ينعق مستصرخ يعوي ُ
وجاءها صوت الفيتوري:
«دوى نفير الثأر ّ
يا جراح عشرين [خمسين] سن ْه 11
نجمة إسرائيل فوق المئذن ْه فمن إذن يا وطني َ ُ للصال ْه ينهض ّ
بينما حوافر اليهو ْد
تدوس سقف المسجد األقصى وخوذات الجنو ْد ُ
تظ ّل ُل المطران والعابدَ والشماس ْ وتسجن اسم الله القداس وتركل ْ
و َم ْن إذن يا وطني
ُي ِ غم ُ األجراس؟» ض عينيه على تد ّفق ْ محرم وصوت الفيتوري وتلك األصوات يختلط صوت فيروز بصوت ّ
الشاجبة المستنكرة.
غير األحداث وال البشر. يقلقها الزمن الذي ما ّ
يقلقها الزمن الذي ما زال الظالم فيه ظالم ًا ،وما زال المظلوم فيه مظلوم ًا. 12
فجأة جاءها من قلب الجزيرة العربية ،من مكة ،صوت ٍ عال ّ غطى على صوت الجموع ،وما لبث صاحبه أن أطل وقال منشد ًا: هامات تِ ٍ ِ ْ ضالل يه من «وأرى بني قومي على يتهالكونَ ...
ْ الشمال يهرولون من اليمين إلى ْ المحال ومن الجنوب إلى
راع وأراهم في سكرة الص ْ ِ المذبوح أنهكه ّ
يتداولون ويصرخون يراهنون على ّ ياع الض ْ القالع وبنو قريظة والنضير على ْ يا سيدي:
كالمتاع مسراك في سوق النِّخاسة ْ بالوداع لو َح ْ وضميرنا المجروح َّ يا سيدي:
قد غاب حيدر ُة ّ جاع الش ْ
يهاب من يفتح َ الحصن المنيع وال ْ الباب وعلى يديه ُ 13
باب درع ًا في ُ الع ْ
ِ السحاب المخبوء في دفق ماذا جرى للفارس ْ ذهبت بنا األيام أ ْم العذاب وجب َ ْ
الغياب لكنه طال ْ
الكتاب سيدي ُر ِف َع ْ وكأنه يا ّ سيدي: يا ّ
ما عاد خالد بيننا
ُ ْ الرجال الرجال مع ذهب وتقلبت أحوالنا
ْ الظالل». لم يبق إال متحف الذكرى ُت َل ّف ُح ُه نهضت لتستقبل الصوت وصاحب الصوت .مدت كفها مصافحة،
مرددة:
« ما عاد خالد بيننا
ْ الرجال ذهب الرجال مع 14
وتقلبت أحوا ُلنا
ْ لم يبق إال ُم ُ الظالل». تحف الذكرى تل ِّفح ُه من بين الجموع أتى .وجهه حزين ،أوجاعه كبيرة ،وضع اإلصبع على
الجرح ،وهمس وهو يأخذ مكانه خلف طاولتها:
ْ الرجال «ذهب الرجال مع وتق ّلبت أحوالنا
ْ الظالل». لم يبق إال متحف الذكرى تلفحه ابتسمت له ،دعته للجلوس ،وكان بها شوق إلى الحديث ،شوق إلى
البوح .قالت وهي تشعر بيأس: ـ بقي القهر. قال: ـ نعم
ً للرياح وامتثاال انحناء « قهر لهذا النخلِ أن يهوي ً ْ
ِ الجراح يرد على قهر لهذا السيف في الغمد المغيب ال ُّ ْ ٌ 15
ِ ِ ُ الكفاح تصول إلى القيود وال المروءة في قهر على خيل ْ ٌ النباح صور قهر على صوت البالبل أخرستها عنو ًة ُ ْ ٌ
ِ للفالح صوت المؤ ّذ ِن تغافلت الرجال قهر على همم َ ْ ْ ٌ الرماح جرحي تف ّت َق وارتوت منه المنايا في أهازيج ْ
َ ٌ الجناح منهوكة أوصال ُه دامي تساقط في يدي طيري ْ
ِ بعمقه خج ً ال َ باح». أغوص ليل يسعفني ُ ال إذا انبلج ّ الص ْ قالت: ـ بقي الشّ تات. قال: « هكذا أمتي غدونا شتات ًا
ِ ِ ِ الشتات» ضالل ننجيك من كيف قالت: ـ بقي الموت.
هز رأسه رافض ًا: 16
ُ غطاء يقرف أن يكون لنا «الموت ُ ْ األقوياء الموت يهوى ُ ْ
خفاء الموت ِصنديدٌ ُيبارزنا عالني ًة، ْ الهواء يسري كما يسري ْ والرمح في يدنا ارتعدْ
والموت ،حتى الموت يا دنيا ابتعدْ ». زفرت:
تسدُّ األبواب في وجهي ...حتى الموت يصبح حلم ًا بعيد المنال؟ْ الظالل؟ لم يبق إال متحف الذكرى تل ّفحه لمعت عيناه فجأة ،كأنه أراد أن يقدم لها مفاجأة ُتخرجها من كل هذا
األسى ،قال:
«لم َ يبق إال نبض ذا الطفل العنيدْ من ِ القدر عزمه صنع ْ
ٍ في ك ّفه مليونُ حجر يفج ُرها قنبلة ّ ْ في عينه ُ اإلباء ومض ْ وانتشر شرر تطاير ٌ ْ 17
هذا الذي كنا ظن َّنا
روحه فينا سنينا قد وأدنا َ
ها رهبة األحداث ُت ِ شع ُله يقينا تفجر من جديدْ ها قد ّ
عزفت له الدنيا النشيدْ يا ليتني كنت الشهيدْ ......أخا الشهيدْ ......أبا الشهيدْ يا ليتني كنت الخضم /البحر في ذاك الوريدْ َّ يا ليتني تلك الحجارة في يد الطفل العنيدْ إني َف َد ْيت َ ُ ُك أمتي ،يا أيها الطفل الشهيدْ إني فديتك بالقريب وبالبعيدْ
ُ الم ُ الغاضبين خيف وقد تطاير من عيون يا ليتني ْ البرق ُ س في الثرى ُ دم َك المقدّ ُ يشع على المدى ٌ لهب ُّ
ٌ يصب على العدا سخط ُ الغاشمين وعلى فلول ْ 18
السديم ويضيء في أفق ُ ْ
وينير في صحرائنا مثل النجو ْم
المبين». ويد ّلنا ...من ها هنا النصر ْ أطرق ،صمت ،فما كان منها إال أن دعته إلى المتابعة بعد أن رددت
بفرح غامض تلك األفعال التي تولد من كف صبي يقاوم بحجر:
وتفجر ،اشتعل يقين ًا ،صب على العدا فجر الحجر ّ ـ نعم ..صنع القدرّ ، سخط ًا ،أشع ،أضاء ،أنار ،ود ّلنا على درب النصر ...ما درب النصر الذي َّ توضح لطفل الحجارة وما ّ توضح للكبار؟
تنهد ،أطرق ،ثم رفع إليها نظرات رأت فيها قراءته لدرب النصر .قال: قدسنا «ال َ قدس ،إال ُ
رضي ِ العدا ،أم َ قيل ال وعلى السالم ِّ الذل ال
فالءُ ، ألف ال ظلمٌ ، مسنا ٌ إن ّ
أنت الفدا ْء». اإلله بأن يكون لنصره َ شاء ُ اغرورقت عيناها بالدمع .همست: 19
السالم ّ الذل ال». ـ «وعلى ّ فأكد:
فالء ألف ال». ظلم ٌ مسنا ٌ ـ «إن ّ
استدارت نحوه ،أرادت أن تسمع صوت ًا علمه طفل أن يرفض .قالت:
نميز بين السالم ـ ّ الذل ،والسالم ـ الكرامة؟ وهل ـ هل نستطيع أن ّ
خيل إلي أن كلمة ال نستطيع ،إن شعرنا بالغبن ،بالظلم ،أن نقول ال؟ ُي َّ
تفجر هذا الواقع المتدهور إلى قاع ال نهاية له. واحدة قادرة على أن ّ
يخيل إلي أن كلمة ال واحدة قادرة على إعادة بناء حضارتنا التي اندثرت، بل التي بإرادتنا دثرناها .طفل الحجر ع ّل َ مك وعلمنا ،د ّلك على الطريق
ودلنا ،فما تقول بعد له؟ قال: ـ أقول وكلي إيمان:
ُ السماء الم َم َّجدُ في التراب وفي « يا أيها الطفل ُ ْ يا حام ً اللواء ال هذا ْ َ بالضياء الم ِش َّع ِة عمري لعينيك ُ ْ
الصبي يا ألف جم ٍر ثار في غضب ْ األبي يا ألف ثأ ٍر في دم الطفل ْ
ِ ِ عربي». جيش مليون القدسي عن مقالعك ُّ ْ 20
ع ّلقت: ـ أعتقد أن القضية هي قضية مقارنة بين كيف وكم ،فحين تقول إن
يتفوق على مليون جيش مقالع طفل يغني عن مليون جيش عربي ،أو ّ ويتقزم الجيش ،يتعم ّلق األول بإرادته ،بإقدامه، عربي ،يتعملق الطفل ّ يتفوق الواحد بمجده ،بقدسيته، ّ ويتقزم الثاني بضياعه ،بجبنه ،بذ ِّله .حين ّ
المتخبط لهذه الماليين على الماليين ،نستطيع أن نلمس الواقع المهلهل ّ أكرر تمام ًا كما نستطيع أن نتسربل بالضوء ّ المشع اآلتي من الواحد .دعني ّ
أنا أيض ًا ،بإيمان عميق ،خطابك للواحد العمالق« :مقالعك القدسي عن مليون جيش عربي». اتّسعت ابتسامته: ـ تقرئين ما وراء الكلمات! قالت: ـ أقرأ ما وراء األحداث! قال: ـ األحداث مخيفة ،وما وراء األحداث مخيف .لكنني ،يارغد ،أقرأ،
كما أقرأ طفل الحجر ،تلك األجساد الفتية المتفجرة ،جسد نضال التي قلت فيها:
ُ نضال فينا النِّضاال «فجري يا ّ 21
فجري الكونَ ك َّله أوشاال ّ
وخذينا على جناحيك برق ًا وسناء يرتاد حلم ًا محاال ً
بعد أن نامت الشهامة فينا ورضينا الحياة ً ذال خباال تفوح عبير ًا أنت يا زهر ًة ُ
ضم َخ الكونَ نشو ًة وجماال ّ
ٍ ِ خفقة صلوات صرت في كل ٍ ِ نظرة آماال صرت في كل
ٍ عرب أشعلينا قولي لفتيان
م ّل ِ ُ أسرها والحباال ت الخيل َ وحسام ًا لم يبق ُّ كف نبيلٍ
الموت جرأ ًة ووباال يحمل َ ٍ والمث ّنى أين فرسان خالد ُ زلزلوا أ ّم َة العدا زلزاال
فاستجابت لهم رياح األماني وأناخوا قيا َدها استبساال 22
إيه يا موكب الشهيدة يشدو
وجنان الفردوس ز ّفت نضاال ُ ٍ هوان نضال دنيا اتركي يا
اتركينا نحسو الهوان زالال» انفعلت ،أطرقت بوجع ،ثم التفتت إليه وقد ّ تذكرت أنها في حضرة شاعر كبير تمام ًا كما هي في حضرة أحداث كبيرة .ابتسمت بمرارة: الحماة ،في غير زمن ارتفاع عجز ُ ـ وددت لو عرفتك في غير زمن ْ
نجمة إسرائيل فوق المئذنة ،في غير زمن انتصار خوذات الجنود .وددت َ عرفتك في زمن الرجولة التي تصنع التاريخ المتألق. لو تنهد:
ـ لو انتظرنا ،يا َ رغد ،زمن الرغد ،لطال انتظارنا ،وربما ما تعارفنا. نهضت:
ـ سأصنع القهوة وسنشربها بعيد ًا عن جهاز التلفزيون الذي يأسرني
ويوجعني. قال:
ـ يأسرنا ويوجعنا ..اصنعي القهوة ولنشربها على الشرفة .لديك شرفة
تطل على ازرقاق ال متناه ،فأعجب لشاشة صغيرة تكبلك. 23
لم تمض دقائق حتى كانت القهوة جاهزة ،وكانا جالسين على الشرفة. قدّ مت فنجان القهوة وكوب ًا من الماء قائلة: ـ الشاشة الصغيرة تأخذني إلى شوارع رام الله ،جنين ،نابلس ،إلى
أز ّقة المخيمات ،إلى كنيسة المهد التي حاصرها اليهود. رشف رشفة من قهوته ونظر إلى البحر الواسع:
ـ أتعرفين؟ الخارج عنا يتحكم بنا .وكما ِ قلت ...يأسرنا ويوجعنا.
الخارج عنا ،حتى لو كان األنا الخاص بنا ،يأسرنا ويوجعنا.
24
�سفر الأنا شربت بعض الماء ،قطبت حاجبيها: ـ هل يأسرنا أنانا؟
الر َغد .متصالحة ِ أنت ـ يفعل ،ويقدر ،بأسره هذا ،أن يبعدنا عن زمان َّ مع ِ أناك؟ ـ في كثير من األحيان. تنهد:
الر َغد. ـ أما أنا ،فأطلب من َ أناي أن يترك يدي ألعيش زمن َّ
ـ كيف؟
ـ اسمعي (سفر األنا): «مت يا أنا أو َّ كف عني لألبدْ ُ نفد َ َ الجلدْ
إما على جمر ال ّلظى البر ْد َ قدماي أو فوق َ 25
اترك يدي ،ال تعطني يدكا
ٍ بأغالل من الماضي، تقيدني ّ
ٍ وأغالل من اآلتي ،وحبلٍ من مسدْ اترك يدي ،ال تعطني يدكا،
ألعطي من بقايا الورد نرجس ًة ِ حلم أع ّل ُقها على أعطاف ٍ
من خبايا العمر في ٍ درب شر ْد اترك يدي
ٌ ُ حبنا المفقو َد أجنحة فيداي َ تالحق َّ في ٍ أفق تناءى وابتعدْ
اترك يدي ،أحيا رغدْ ». ـ لماذا هذا الصراع بينك وبين أناك؟ لماذا يتشبث بك بينما تحاول بعزم استئصاله؟ أيقف حاجز ًا بينك وبين معرفتك من تكون؟ أال تدري، بسبب وجوده هذا ،من أنت؟ أجاب: «ال لست أدري من أنا؟ 26
َأطلقْ يدي حتم ًا ستعرفني ،وأعرف َمن أنا». سألت: ـ ما المجال الذي تريد إطالق يدك فيه؟ استغرب سؤالها ،وأجاب على سؤالها بسؤال: ـ ما مجال الشاعر؟ ـ الكلمة.
ِ أحسنت ،من هنا خاطبت أناي طالب ًا منه عشرات المرات أن يترك ـ
يدي:
« اترك أصابعها ،مراسمها ،فحبري من دمي». قالت: أحس هذا. ـ ُّ قال:
ـ يجب أن يكون حبر الشاعر أو الكاتب من دمه ،وإال ما وصل إلى
اآلخر.
ـ تريد الوصول؟ 27
ـ طبع ًا ،تمام ًا كما أريد الدخول إلى خباياي ،وهذا الدخول مربوط
بألف قيد وقيد.
ـ هل تعتقد أن الدخول إلى خباياك هو الطريق إلى اآلخر؟ ـ تمام ًا كما أعتقد أنني إن كتبت بدمي وصلت إليه.
ـ وما الموجود في تلك الخبايا؟ أتعرف؟ بسر ال ضحك ،ثم شبك أصابعه ببعضها وكأنه على وشك البوح ٍّ
يعرفه سواه ،ولن يعرفه سواها:
«أما خباياي ،فأنه ُلها َم َد ْد خباياي ،فتكفيني، أما َ
واألزلي، فلي حري ُّ الس ُّ والعلوي ّ ففيها العالم ّ ُّ والس ُّ واألبدي والرؤيا على طول األمدْ ». ُّ
أسندت ظهرها إلى ظهر الكرسي ،ثم صمتت لحظة قالت بعدها: ـ أيها الشاعر الذي اختار من بقايا الورد نرجسة ،والذي اختار خباياه،
والذي اكتفى بالنرجسة وبالخبايا ،أتراه فرويد قصدك حين قال إن المكتفي بذاته ،والذي يستمد المتعة من حياته الداخلية إنما هو النرجسي؟ ضحك: 28
ـ ولماذا هذا التردد في طرح سؤالك؟ أما ّ توضحت ،بعدُ ،لديك سلبية
أو إيجابية النرجسية؟ قالت:
ـ أعتقد أن في داخل كل مبدع شيئ ًا من النرجسية.
قال: ـ فيه الكثير من النرجسية ...اسمعي يا رغد ...العمل الفني ،أي عمل ّ المتخطي لألنا الخارجي فني يعني وعي الذات وإدراك األنا العميق المزيف .هذا الوعي ضروري جد ًا في نقطة االنطالق ،إال أنه ّ يشكل تحرر ًا من النرجسية فيما بعد. سألت:
ـ ّ تحرر ًا أم أن الشاعر كما القارئ يعتاد على نفحة النرجسية في يشكل ّ
هذا العمل؟ أجاب:
ـ بل ّ تحرر ًا وذلك عن طريق العمل المبدع الذي يتذوقه يشكل ّ اآلخرون. ـ ولكن نفحة النرجسية تبقى. ـ تبقى ألنها تعطي الهوية. ـ بيد أن الهوية الواضحة عندك في قولك: 29
ِ الوعود «وأنا شاعر الحب وآه ذوب وجودي فاحلمي عند شدوي فهو ُ
حب إن خال من قصيدي» ليس في الكون ٌّ هذه الهوية تتعرض في رحلة شعرك ،إلى اجتياحات كتلة المتناقضات
التي تبدو وكأنها ما زالت تبحث عن حدود الهوية. تنهد: ّ
ـ كتلة المتناقضات ...كتلة المتناقضات... اسمعي: « بين طيني وسمائي ونزولي وارتقائي كيف أنجو من جنوني وهو دائي ودوائي كيف أنضو الثوب عني ِ لرداء من رداء
ويح نفسي كيف أحيا بين أضداد انتمائي 30
بين برقي وارتعادي واشتعالي وانطفائي في يدي أحمل عمري ٍ نيران وماء» بين
سألته:
ـ وفي أجواء األضداد هذهِ ،قدّ يس أم مض ّلل أنت؟... «ال لست ِقدّ يس ًا ،وال إبليس ض ّللني بألغاز األبدْ لكن أنا... ال لست أدري من أنا»...
ـ وكيف ستعرف؟... «أطلق يدي حتم ًا ستعرفني وأعرف من أنا أطلق يدي في الحرف أكتبه ويكتبني
الحجاب على لوح من الب ّلو ِر مسحور ْ 31
ْ البرق أجلو طالسمه وأعدو في جناح في اآلفاق أرسم طلسم ًا
ّ وأشكل المعنى على طلبي أنا» ـ وكيف تريد أن يكون هذا الكيان يا ترى؟ «إني أنا هذا الكيانْ
قد جاء من َر ِح ِم الزمانْ
َّ ٍ وطين شياطين المرك ُب من قلبي ْ
ٍ ٍ ممزوجة بالنور وال َّل ِ المذاب هب وعجينة ْ ِ الحساب؟» معادلة كيف التوازنُ في ْ
ـ اعتراف خطير!! ِ نقاوة برعمي ثدي أ ّمي ،في «إني رضعت براءتي من ِ وخطيئتي من ثدي دنياي ،ومن ٍ ْ العسل شفة كأحالم وانصب في مجرى عروقي ،في دمي َّ الشراب هذا المزيج من ْ 32
من أنا» تكون ْ تكون ما ّ حتى ّ ـ وإلى متى؟... «إ ّني أنا هذا الكيان... ْ األجل لكن إلى أجل
لم َ يبق لي إال وصايا من أبي
ْ األزل قت أحرفها على جدران قلبي في ع َّل ُ ْ ارتحل وأنا صبي ...حتى
وتالو ٌة قد أسكن ْتها خف َق ُه.. الس َور القصا ِر أمي من ُّ
ُّ الكتاب» أظل أذكرها ..وفاتح َة ْ ـ وبعد هذا ،من أنت؟.. ْ الر ّبانُ خيال والسفن ،وأشرعتي ُ «إني أنا ّ ْ ضالل الميناء والمدنُ ،وأحالمي إني أنا ُ ِ الطرقات حتى شيء يدهشني على ال َ 33
ْ دعوة من ٍ جمال حوراء ،من أزهى أعين َ العب ُاد». إني أنا ّ
صمت ،فتابعت تتلو بقية القصيدة: «والصنم الهوى ُ
ُ والشهوات ،والولدُ المد ّل ُل والمال ُ قسم» ُ والمنى ُ شملها بنظرة رضا ،ثم تابع: والقلم، والكلمات القرطاس «أنا ُ ُ ُ
على ألواح أحالمي ُّ أخط حكاية العشاق
وأصنع ما أشاء من المنى قصص ًا وال أدري بأولها أشعار ًا ُ ْ ِ السؤال». الجواب ،وال وال أدري بخاتمة
ـ فخر الصانع الحاذق واعتزازه بما يصنع! والفرعي، األصلي « إ ّني أنا ُّ ُّ 34
ِ ْ الظالل امتدادات والخطوات تمشي في ُ إني أنا المجنونُ والمعشوق ُة المثلى
ْ واشتعال» ضمير الشع ِر يرسمها احتراق ًا ُ ـ حتى تكتب؟! حبي وأهجرها ،وتهجرني «أشكو لها ّ ْ المالل لكي أبكي على األلواح أغنية وأعود أدفنها ،ضلوعَ العمر، ُ
ٍ ُ ِ الغيب، سعاد في كتاب أبحث عن عن أخرى لها أيض ًا،
ْ المحال» جنوح النا ِر والقد ِر ُ الحب ثم اختار ـ أيها الشاعر الذي اختار بإرادته أن يغوص في عالم ّ ّ حب آخر، ويتعذب ليكتب بدمه قصة هذا أن يهجر الحب ليعود ثانية إلى ّ ّ هل اكتشفت ماذا تريد بعد؟
التوت «رفق ًا يا أوراق ْ
كثير يستر سوءاتي لم يبق ٌ 35
والجبروت هامات السطوة سقطت ُ ْ ِ الطرقات العار على دحرجها ُ
ِ الزائف عن ظلماتي أستار النو ِر وانقشعت ُ قمة سيزيف هويت من ّ
وانتحرت بعض بقايا أفراحي ْ حلم لجراحي والصخرة ٌ أحملها
تتعثر أقدامي في خطواتي وتموت اآلهة في محجرتي ّ وتجف الريش ُة في محبرتي
ِ الوحشة في مشكاتي» فغرت أفواه ـ أما من ضوء يبدو في األفق؟! المصباح ضوء «وتبدّ َد ِ ُ أوقدُ شمع ْه ُت ُ طفأ شمع ْه
برياح ورياح تعصف عصف ًا ِ ٌ 36
نضب الزيت بمسرجتي َ
وأضعت طريقي لصباحي» ُ ـ وأين بحثك الحثيث عن الحقيقة؟
هز رأسه آسف ًا: ّ
«زيفٌ .. ٌ قناع زيف ٌ وقناع خلف ْ القاع ُ وحفرت بأظفاري حتى ْ ٍ ُ شيء، أبحث عن
ٍ ضاع عن أثمن شيء ْ
القاع قاع ْ لكن في أعماق ِ قناع» عيني ْ حدّ ق في ّ
ـ أبعد كل هذا البحث!!! ـ إنه الزيف الذي يمأل حياتنا ..سراب ..سراب. ـ ورغم البحث الحثيث والمفاجأة بعدم الوصول إلى الحقيقة ترضى
أن تكون النحلة التي تقتحم النار فتحترق!
ـ ألن لحظة االحتراق ،يا رغد ،هي لحظة بدء الخلود 37
«سقطت خفقتي في ُأتون الجوى ليتها لم تكن في الفؤاد األخيره غادرتني شظى
لملمت ُحلمها
حر ًة ،أن تكون األسير ْه ْ رضيت ّ غرها في السنا دعوة للغوى ّ
غرها في اللهيب ٍ معان مثير ْه ّ واستطابت لظاها،
العمر إال لها؟ منح لمن ُي ُ ُ لحظة االقتحا ِم! بعدها!
فليكن ما يكونْ ٌ لوثة من جنونْ
ٌ لهب رشفة من ْ
ٌ عنب قطفة من ْ لم أنل سكر ًة َ مثلها تهت في كنهها ُ
سرها» ذلك السحر من ِّ ُ 38
سر هذا السحر؟ ـ وهل عرفت ّ «لست أدري لها ً أوال قبلها ُ الفناء العيش بعد هكذا ْ هائم ًا َ السماء مثل برق ْ مرة لو أعو ْد ليتني ّ
لحظ َة القف ِز في حضنها!! بدء الخلو ْد هي ُ
ْ األزل منذ قد صار في دفئها وأنا لم أزل عاشق ًا دفئها»
رغد :الله ...لحظة سقوط الخفقة في غمرة الجوى ،ولحظة سقوط الفراشة احتراق ًا ليبدأ خلودها ،ولحظة الشهادة والعودة من جديد
لالستشهاد ثانية..لحظات تتشابه في عم ٍر ،الحلم فيه لحظة الذوبان. ْ واستفاق «نظر ٌة
نظر ٌة بعدها قد ُق ْ تل ْ وارتحل 39
طائر في الربى تار ًة ٌ مطر تار ًة قطر ٌة من ْ
كوكب في الدجى تار ًة ٌ ٌ وتر تار ًة شهقة في ْ ْ وانعتاق نظر ٌة
بعدها ما ْ سأل كسر َ القيد عن معصم ْه؟ كيف! من ّ ذوب الكون في مهجته؟ كيف من ّ كيف! َمن
الملكوت على راحته؟ بسط َ لم ْ الخبر يسل بعدها ما ْ القمر كيف أضحى ْ َ ألف بد ٍر ّْ أطل؟
سقطت خفقتي؟ ثم عادت فراش ْه
تذوب حلمها أن ْ ُ قبل ًة وارتعاش ْه 40
ْ احتراق حلمها ُ بعدها!
فليكن ما يكونْ » ـ ما بين تم ّني لحظة احتراق تساوي الخلود في عمرك ،وبين لحظة بحث في قاع القاع لتجد في آخره قناع ًا ،أين أنت؟ ُّ للتسكع «وأعود وهم ًا ُ فوق أرصفة الزمانْ
ما بين وجداني وخطوي ضعت في عبث المكانْ سراب لمع من ْ وكأنني في القفر ٌ
السحاب أو دمعة يهمي بها وجع ْ العباب شكي يراودني ،ويغمرني ْ
ٍ ِ نجمات حسير ْه اآلفاق وأعود في العاشقين وتنهدات في صدور ْ وتموت جذوات الهوى ُ الجسور الخفق و ُي َش َّي ُع ْ 41
وكما يموت الزهر في أكمامه العبير» رحل ْ ع ّلقت: ـ أرهقتني... فأطلق ضحكة عالية قال بعدها: ـ أعتذر. نهضت: ـ نشرب عصير البرتقال؟ عاد فضحك: ـ سؤالك ينبئ عن مدى احتياجك لالنتعاش بعد أجواء القلق.
وسرى الضحك إليها فوقفت تتأ ّمله باستغراب ثم ع ّلقت: ـ لكنك تضحك.
ـ أتريدينني أن أبكي؟ ـ كما قصائدك. ـ قصائدي وليدة حاالت أيونية... كادت تعود فتجلس إلى كرسيها وقت سألته: 42
ـ حاالت أيونية؟
سبابته ممازح ًا: بيد أنه رفع ّ
ـ سأشرح لك ولكن بعد أن تشربي قلي ً ال من العصير وإال توقعت أن
تنظري إلى اسوداد السماء الذي تنعكس عليه قتامة التسكع وتخبريني أن موعد نومك قد حان ،وال أعود أراك أبد ًا. ضحكت: ـ لن يحدث هذا. قال:
ِ حضرت َّ لهم إال ْ كل ما ال يمكن له أال يحد َثه. إن ـ بل سيحدث ،ا ّل ّ
ـ لي عودة... ـ أنتظرك.
عادت فاعتذر ،وعادت لتصغي وقد أشرقت من جديد ،قال:
ـ تأ ّل ِ قت. ـ شكر ًا.
عاد فضحك: ـ ال تحسبي أنها مقدمة غزلية ستعيدك إلى موضوع القلق... ـ رحم الله الجاهليين. 43
ـ تحبينهم؟ ـ أحب أشعارهم... ـ والطلل؟ ـ أعشق المستقبل وأتجاوز الماضي. ـ تحلمين؟ ـ ما دمت أعشق المستقبل فأنا أحلم. قال: حقب «هذا الزمان سنا ...في عمرنا ٌ ما قيمة الحلم في دنيا من الطلل؟»
قالت: ـ عدنا والعود أحمدُ ... ضحك من جديد ،ثم قال: ـ اسمعي: ات عمري بالقلقْ ذر ُ «وتزاوجت ّ
ٍ همس يوشوشني مرح على حلمي صدى ويرنّ في ٍ 44
ويأخذني ألقْ ... عبر المدى
ورفيف عط ٍر قد عبقْ وتفتحت جذلى تويجات األفقْ ُ ونسيت توقي للنجاة كأنني ُ
ْ للغرق صرت في الملكوت برق ًا قد ُ أنوء ال حاجة لي كي َ ذبيح على عصا وهم ْ وجناحي المفرود
غطى رحب َة الكون الفسيح هذا أنا يا أنت يا روح الفلقْ ْ األرق لم أخش في ليلي وذراعي الولهى
َ الصبوح» دهشتك فجر ْ تعانق َ ع ّلقت:
ً ّ إلي ـ وجد المتسكع على أرصفة الزمان ملجأ.تتسلل من كلماتك َّ ٍ نسمات فرحة« :مرح ،ألق ،عبقْ ،جذلى ،توق النجاة ،ولهى ،فجر»... 45
شجعته عباراتها فزاد: ّ «قد طال بي سفري إليك ...لن ّتحدْ جمر ي ّتقدْ ودمي إلى ُلقياك ٌ ولهيبه يجتاحني وحنينه
من ِ بحار ترتعدْ رهبة اللقيا ٌ وضمني... خذني إليك ّ
وحبك بذرة المعنى على هذا األمد حبي ّ ّ تلوح هذا أنا يا أنت في بدئي وخاتمتي ْ
وكأننا روحان ترتعشان من ٍ يبوح» وله ْ قالت: ـ حلو. ثم استأنفت:
ـ حلو على أال تعود عن هذه الحالة... عاد فضحك ثم أنشد: «هذا أنا ...ال لن أعود ولن أعود إلى السفوح 46
هذا أنا ولئن رحلت فإنني تسبيح ضوء قد تألأل و انطلقْ
ٍ روح تماهى في المدى ماض إلى أبديةٌ ، جرح تناثر في الشفقْ ٌ
صمت عن الهوى ولئن ُّ
حرقت بأ ّنتي كون ًا بـآهاتي نطقْ ». فلقد ُ ـ عظيم ...وبعد؟ ـ أخشى أنك تريدين أن تنامي. ـ وبعد؟ ـ أخشى أن تكون سهرتي أزعجتك...
ـ لن أسمح بمغادرتك قبل أن تك ّلمني عن األيونات إذ خلقت عندي فضو ً ال لمعرفتها. أرجع ظهره إلى مسند كرسيه ،أغمض عينيه للحظة ،ثم عاد فوضع ذراعيه على الطاولة شارح ًا: لتكون مكون من أيونات تبحث عن أيونات أخرى ّ ـ العالم ،يا رغدّ ،
ذرات الجزيء الباحث عن االستقرار... ّ المتسكع الذي يجد بيت ًا. ـ آه ...كما 47
ـ إذا ِ شئت. األصلي. ـ نظرية كيميائية تنبع من اختصاصك ّ
ـ بل نظرية حياتية ...اسمعي يا رغد ،حتى األفكار موجودة في هذا
العالم في حالة انتظار من يأخذها فيسكبها في قوالب معينة يظهرها للناس؛ ومن هنا ،فإن من تلتقي أيوناته بهذه األيونات ،األفكار ،ينالها وتصبح ملك ًا له. ـ ّ ذكرتني بتولستوي عندما يتحدّ ث عن التقاط الفكرة ،وبالجاحظ
وقت يقول إن األفكار مطروحة على قارعة الطريق. قال:
ـ التقاط الفكرة وسكبها في قالب معين وإظهارها لآلخرين هي ،يا
رغد ،ما يسمى بعملية اإلبداع أو هي ،انسجام األيونات. سألته:
ّ وتهل القصيدة؟ ـ قال:
ـ أحسنتّ ... تهل ...فعل استخدمته بالذات في هذه الحالة. فرحت: ـ صحيح؟ ـ اسمعي: 48
«ه ّلت وتج ّل ْت
الجبلي هامات فؤادي خر ْت ُ ّ ّْ
ِ وارتعشت أركانُ األزلي الكون ّْ صنعت لم تسأل عما ْ ارتحلت حتى ْ
ْ أزرق سديم خلف ٍ
طي وطوت في ُب ْر َد ْيها قلبي ّْ
ْ أغرق سبحت ولم وعجبت لنفسي كيف ُ ُ النار ولم ُأ ْ حرق كيف ُ لمست َ رحلت إليها كيف ُ
وأنا من قدمي مو َثقْ » سألته:
رحلت إليها أم جاءت َ إليك؟ ـ َ
ـ اسألي األيونات. ـ سأسألها. ـ متى؟ 49
ـ غد ًا مع الفجر. ـ وقت تنهضين؟ ـ وقت أنهض. ـ اعتقدت أنك كصاحبة امرئ القيس... ـ نؤوم ُّ الضحى؟ ـ نؤوم ُّ الضحى. لست. ـ ُ
ـ ِ لست؟
ـ أنا... ضحكت:
ـ أنا أنهض باكر ًا كي ألتقط أيوناتي. قال:
ٍ أيونات ألتقطها دون المجهد ،أحيان ًا ،عن سر بحثي ُ ـ آه ...فهمت ّ جدوى ...تكونين قد سرقتِها. فزت بها نظر ًا لنشاطي. ـ بل ُ
ـ تؤمنين بالعمل؟ ـ أنا من طبقة البروليتاريا الكادحة. 50
ـ حق ًا؟
ـ طبع ًا. ـ لم أعرف. ْ اعرف. ـ
ٌ ـ متعبة؟
ـ بل فخورة.
51
الح�سن عندي � ِ أنت ُ الم ّرة الساخنة ،ورفعت عن جبينها خصالت شعرها رشفت قهوتها ُ
التي داعبها نسيم البحر ،وتأملت وجهه وهو يشرب قهوته بهدوء وسكينة
خيل إليها معها أنه بحر هادئ ،عميق ..وعندما التقت نظراتهما ،سألت: ـ تحب؟
فاجأه سؤالها ،وارتسمت على وجهه عالمات خفر أشبه بما يرتسم على وجه فتى يسأل السؤال ذاته أول مرة ،بيد أنه تخ ّلص من ارتباكه
مجيب ًا:
ـ أحببت! لمعت عيناها السوداوان ،وبان فيهما فرح خفي ُيسعد كل امرأة تسمع اعتراف ًا كهذا ،حتى لو كان اعتراف ًا بحب امرأة غيرها. ـ اسمعي ما قلت في حبي عندما كان وكان: الحسنِ ، فرد أنت قت “إن َع ِش ُ الحسن عندي ال ُيضاهى ،فهو ُ َ ُ وهو في عينيك كونٌ ساحر ،فيه المعاني ال ُت َعدُّ ْ ٌ ورد وهو في ح ِّبك ٌ ْ لحن يستبيني ،فيه عنـوانٌ ُّ
شجو ،وهو في ِ ِ وورد أنغام حزنك وهو في ُ ْ سعدك ٌ ٌ 52
ٌ ورندُ وهو روض يتنامى في كيانيَ ،ف ُ وحه ندٌّ َ
وهو في ِج ِ ظبيٌ ، وأحالم وصيدُ لفتة ُتغري، ْ ٌ يدك ٌ
ِ ووقدُ وهو في غصنِك َم ْي ٌس ،وهو في ْ صدرك آهات َ
نور َّ جوهر َيخفى ليبدو”. رق لطف ًا، ْ وهو في روحك ٌ ٌ ع ّلقت: ـ أربط وجود هذه التي ال تضاهى ،أو هذه “الجوهر الفرد” بما كان
العرب ،في شباب زمانهم ،يرونه من قدسية للحب .نعم ،قدسية ربما كانت السر الكامن وراء التقليد الذي كان يتوجب بدء القصائد بالنسيب..
المحب ،وهل يباركه؟ الحب يطهر فهل ّ َّ ُّ أجاب:
“رقية” تقيني: يطهره ويباركه ويكون ،كما ُ ـ ّ قلت“ ،تعويذة” ،أو ّ “ولقد َع َر ْج ُت ِ الش ِ الزمانَ من ّ جون إليك أختلس ّ ُ حب ِ َ ك أو جنوني وسبحت ال ُ قنديل عندي غير ّ َ رحل ْت عيو ُنك في عيوني، فاستجاب لها يقيني
ودلفت للمجهول أركض في ٍ ِ للمنون أمان ُ 53
حبي وتسليمي ضمانٌ من ظنوني تعويذتي ّ
ِ البديع مر ّت ً ِ الفتون”. فر عالمك وضممت ُ َ ال ِس َ ضحكت: فعالة .كيف ال ،واختالس الزمان من الشجون تتبعها رقية ّ ـ تعويذة أو ّ
سباحة في ظالم ال يضيئه إال وجود هذه التعويذة ،فاقتحام آمن للمجهول! ٌ مهمتها على أكمل وجه. مباركة تعويذتك ،فقد أ ّدت ّ تنهد: ّ
مهمتها ،ولكن ال أعرف إن كانت أ ّدتها على أكمل وجه، ـ ربما أ ّدت ّ فاإلحساس المطمئِن ،يا رغد ،يكون أحيان ًا ،غدار ًا ..ففي القصيدة ذاتها
قلت:
ِ روحان في قلب المدى وتوح َد ْت “ ّ َ الردى” لم تخش ُبعد ًا أو يهدّ دها َّ
سبابتها وكأنها ت ّتهمه: رفعت ّ
أردت تعويذة تمنحك َّ كل ما منحتك. ـ أنت َ
هز رأسه موافق ًا: ّ
أردت. ـ نعم... ُ
54
وأرجع ظهره إلى الخلفّ ، وقطب ،سأل: منحتني إياه؟ ...طمأنينة تدفعني القتحام العالم المسحور؟ ـ ما الذي َ الختالس الزمان من الشجون؟ الختالس األحالم؟ وما دفعت ثمن ًا
لهذا؟..اسمعي:
ِ عينيك يدعوني “رأيت العالم المسحور في ُ وفي َب ْح َر ْي ِه أحالمي تناديني
ُأللقي عند ّ شط ْي ِه بأيامي وما يبقى من العم ِر،
خذيه وامسحي لي بعض آالمي،
َ الحب والزه ِر. رحيق خذيه واسكبي فيه ِّ آت ،أنا ٍ أنا ٍ آت
لعم ٍر ك ّله ألوانْ
آت ،أنا ٍ أنا ٍ آت
بال ٍ ماض وال عنوانْ . ِ عينيك مأوايا ففي
وفيها موطني اآلتي 55
ُ أعشق اإلبحار وفيها ِ بالغرق وتحيا الروح
األشعار وفيها أكتب ْ
ويصفو ا ّل ُ ِ باألرق”. ليل تنهدت: ّ
دفعت عمرك ،أو ما تب ّقى من عمرك ،لعم ٍر كله ألوان.. ـ فهمت.. َ
ألتخيل شكل (اآلتي) التجرد من الماضي ،من العنوان ،حتى فهمت هذا ّ ّ آت ،أنا ٍ هاتف ًا بإيمان“ :أنا ٍ آت” ،وباحث ًا ،أيض ًا ،عن الموطن (اآلتي)،
باحث ًا عن جماالت مستقبلية يح ّققها وجود الهوى القادر على استعمال
فتلون الرمادي بكل ألوان قوس عصاه السحر ّية التي تجترح العجائبّ ،
القزح ،وتبعد الغيم عن وجه الشمس ووجه القمر ،فيصفو اللون ،وأذكر،
فيما أذكر ،وأضع إصبعي على حقيقة ما قيل من أن الشعراء هم الذين ع ّلموا الناس أن للجمال غاية غير ما ألفوا من الغايات ،فهم الذين فطنوا أن للوجود محاسن تشتهى بجوارح غير الحواس ،فأي جوارح هي التي
الملون” ،فتخلع عنك تأخذ بيدك إلى “العالم المسحور” ،إلى “العمر ّ شوائب الماضي ،وترمي عند ّ شط السحر واللون بما يبقى من األيام وما
ّ الشط خلي ًا مطمئن ًا؟ دفعت أيامك لقاء هذا االرتماء عند يبقى من العمر؟ َ آه يا سيدي ..يتم ّنى كثيرون أن يدفعوا ّ كل أعمارهم ،ال بعضها ،لقاء الحصول على إذن بالدخول.
56
ارتسمت على شفتيه ابتسامة هادئة فيها حزن لم تستطع أن تكتشفه
فأحست أن األلوان التي كان يتحدّ ث عن إال حين انخفضت نبرة صوته، ّ وجودها في العالم المسحور المشتهى تنسحب شيئ ًا فشيئ ًا:
ِ ِ عمرك لقاء الحصول على عمرك أو ما بقي من ـ ال يكفي أن تدفعي
إذن بالدخول ،أو لقاء الحصول على إذن بالزيارة .ال يكفي الدخول ،وال الملون ليس متحف ًا ،بل حياة ..ليس السحري الحب تكفي الزيارة .عالم ّ ّ ّ فندق ًا ،بل ج ّنة يحلم المؤمنون في البقاء فيها ..البقاء. ابتسمت:
ـ تريد حب ًا بال خوف ،بال قلق... قال بحزم: ـ بال فراق. قالت:
ـ تريد أال ُيع َل َن عن انتهاء التمدّ د على ّ شط الطمأنينة ،وأال يسرق مارد
حب بعد اليوم؟ شرير قوس القزح َ ويعلن أن ال لون بعد اليوم ،أن ال َّ ّ قال:
َ دفعت أ ّي َ أعلنت َ وعمرك. امك أنك ـ حتى لو َ َ أطرقت:
ِ تمزقه، ـ أفهم شعور إجبار المرء على مغادرة الجنة ،أفهم قلقهّ ، 57
خرجت منها؟ خرجت من الجنة؟ ُأ غضبه.. َ َ قال:
والتمزق والغضب حين نخرج بإرادتنا، ـ ال يتم ّلكنا الحزن والقلق ّ
لكنه يمسك بتالبيبنا حين ُن ْج َبر على الخروج .اسمحي لي أن أقرأ لك
بعض آالم القادم على الفراق. ـ تفضل.
“آن األوانْ
ْ الغجري أ ّذنَ بالرحيل والمركب ُّ ُ
ْ ِ العويل. عينان ،واختنق وترقرقت آنَ األوانْ
ِ وتلعثمت شفتان وارتعش المكانْ يا ليته يقف الزمانْ المسير وتدمدم األقدار :أنْ حان ْ
الحسير وتعثرت قدمان في الدرب ْ فكأننا غصنان في َع ِ الرياح صف ْ الجراح وكأننا شوقان تنهشنا ْ
الجناح وكأننا في الكون عصفوران خانهما ْ 58
لكنه ،آن األوان. احتضار دمع وبدا على أفق المدى ُ ْ وتشرد القلبان في تِ ِ المدار يه ْ ّ
انكسار... المقيدُ في الصمت وتصايح ُ َ ْ َّ أنْ ال خيار”.
أطرق ،فرددت: ـ آن ..آن ...آن ..حان ..كأنني أسمع أجراس ناقوس النهاية. ابتسم ساخر ًا:
ـ نعم ..انتهى اإلذن بالدخول ،انتهت ،يا رغد ،الزيارة إلى العالم
المسحور. قالت:
ـ والدافع عمره ،أو ما تب ّقى من عمره ،الدافع أيامه ،أو ما تب ّقى من
أيامه ،تزلزل المكان تحت قدميه ،فيتعثر ،وتغيم األشياء إذ ُترى من خالل
يتكسر..غصنان كانا أخضرين ،وأجنحة عينين دامعتين ،وكأن كل شيء ّ
لعصفورين كانا طليقين ،وحياة ،باختصار ،تحتضر .صور مخيفة ،ال
ْ الصمت”:أن تمن ال ينفع حين يصرخ يبعدها تم ّني أن يقف الزمان ،فهو ٍّ الرقية؟ ال خيار”.أين تعويذتك إذن؟ أين ّ
ضحك طوي ً ال وقد أعاده سؤالها األخير إليها: 59
ـ سبق وقلت ِ لك إن اإلحساس المطمئن،يا رغد ،يكون ،أحيان ًا، غدار ًا. هز رأسه وتابع: ّ
ـ نعم ..يعطي إحساس ًا كاذب ًا بالثقة .مثلما القناع الذي يلبسه السباحون،
يغرقهم في أحيان كثيرة. تنهدت:
محبين إلى لحظة يقفان فيها أمام ـ سامح الله تعويذتك التي أوصلت ّ
قلت في إحدى قصائد بعضهما ال يدريان ما قد حدث ،أو ما سيحدثَ . الفراق:
عدت ،ال أدري وال تدرين ْ هل “قد ُ حان النوى السنين لما خطونا فوق أنقاض ْ ّ أنت ِ ال ِ أنت وال المنى.
وهربت مهزو َم الخطى، ُ ما بين ّ واليقين. شكي ْ
األنين الصهيل مع لكنه في داخلي ،ناح ّ ْ هل نلتقي يوم ًا هنا؟
ْ الفراق. جسر وبكى معي ُ 60
لما عبرنا فوقه، ّ
ْ للعناق ومددت قلبي ُ
وهممت ُأخفي شوق ُه، ُ
ْ ابتهال ورأيت في عينيك أصوات ُ ِ أنت الغريق ُة أم أنا؟
ْ المحال” أم إننا االثنان قد خضنا ع ّلق: قلت. ـ ُ سألت: وعرفت؟ ـ َ سأل: عرفت ماذا؟ ـ ُ
ّ الشك من اليقين؟ عرفت ـ َ لم! ـ ْ
كانت هي الغريقة أم أنت؟ ـ َ عرفت إن ْ
ـ لم!
أنت ِ ـ وهذه العبارة التي تكررها“ :ال ِ أنت”، أنت َ أنت ”..مر ًة ،و”ال َ 61
مرة ...أراها وقفة عارية أمام تأمل لواقع جديد تس ّلط ضوء الفراق ّ القوي عليه ،وضاعت من على الكتف التعويذة ...فأرى هذا اإلعالن أنت ،وكأنه يقول له :ال أعرفك كما أنت أنت َ المرعب يقول لآلخر :ال َ
عليه اليوم ،وأبحث عنك كما كنت باألمس .من هنا ،كان فعل الهرب مقرون ًا بالخطى المهزومة .إال أن بقايا من “ال أدرية” ،ما زالت تحاول
أن تطبع اآلخر ببقايا من هوية تثير حزن القلب الممدود للعناق ،وتسمح المكررة ألصوات ابتهال في العينين أن تمأل أفق لحظة الفراق الصامتة ِّ
ْ خيار..أجواء لحظة الفراق تخيفني! أن ال ْ ع ّلق:
ـ وترعبني. سألت:
الملون المحروس بتعويذة األمان ـ أتساءل إن كان العا َلم المسحور ّ قادر ًا بالفعل على حجب فراق قد يلوح في األفق. اعترض:
ّ إلرادتنا..تذكري هذا .إال أنني استشرفت ـ تعويذة األمان تخضع وقت كانت تسكنني ،استشرفت الفراق القادم مع الغد ليسرق يوم ًا، َ
جمال اليوم .اسمعي:
ِ جناحك واستريحي... “ ضمي على زندي الجريح. ضمدي في الصدر أ ّنات ِ ّ 62
ال تفيقي كي أفيقْ فغد ًا يفيق ُ الليل
الصباح يهرب في ُ ْ وغد ًا نفيقْ ،
نلملم ما تب ّقى في الحريقْ ، وغد ًا ُ وغد ًا نضيع على الطريقْ
الرياح”. تذرو ،وتأخذنا ْ وبعد أن أدعو إلى عيش اللحظة الحاضرة بكل تفاصيلها الجميلة، بكل خيرها ،وبكل سالمها ،أعود فأفكر قلق ًا بالغد: مطر ُ “ح ّطي على َجدبي ْ ُح ّطي على قلبي يمام ْه،
ِ المغيب فغد ًا تطير حمامتي خلف أذوب غد ًا ُ أذوب غد ًا ُ أغيب غد ًا ُ
غد ًا ،فغيبي”.. 63
ع ّلقت: ـ يرتبط الغد عندك باستيقاظ مشتِّت ،مض ِّيع ،سا ّد طرقات الفرح، الجدب والقلق إلى ما كان عليه قبل حالة الحب ..يرتبط الغد عندك ُمعيد َ
بالغياب ،والغياب فراق يلملم معه كل ما يمكن أن يمنح السعادة ويرحل آخذ ًا معه كل شيء. ابتسم ابتسامة فيها الكثير من السخرية ،وهمس:
ـ ونروح ،ونحن نسير في الهاجرة ،ال ّ ظل يلوح أو سيلوح ،نروح نجد أسباب ًا لما حصل ،وربما ندّ عي أن ذاك الحب كان... قالت:
ـ قيد ًا..
ـ بالضبط... ـ وندّ عي أننا حطمنا القيد ،ورحنا ننعم بالحرية ،أثمن ما يمكن المرئ
أن ينعم به.
ـ الحر ّية ...نعم ...وهي ُت ِ طل ُقنا يا رغد. ع ّلقت:
ـ ُت ِ فترض.. طل ُقنا كما ُي َ قال:
ـ نعم. 64
سألت وكأنها ّ تشك في ماهية هذا اإلطالق: ـ و ُت ِ طل ُقنا حق ًا؟ أجاب: “ تلك القيود بمعصمي ّ حطمتها يا فتن ًة بيدي أنا أبدعتها
ِ اللوحات ،قد أتلفتها كنت في إن َ مزقتُها أو َ كنت في األشعار ،قد ّ أو شمع ًة في ليلتي ،أطفأ ُتها تبق إال ٌ لم َ دمعة داريتُها
أو ٌ آهة في خافقي أحرقتُها أنفاس الوجود وحبست ألقيتُها ُ َ
وقطعت أوردتي وريد ًا في وريدْ ُ
ورميت في ِ حلم الوعو ْد ُ نزق ّ الصبا َ وصرخت في اآلفاق :إ ّني لن أعو ْد ُ الحب الوحيدْ ” إني كتبت نهاي َة ِّ
سمحت لنفسها أن تقاطعه وتكمل نظرية الحرية الشهيرة: 65
كرر: ّ سألت:
حب نما بين القيو ْد”. “ فخرافةٌّ : حب نما بين القيود”. “فخرافةٌّ :
قلت فيها: ـ وتلك التي َ ُّ “كل ٍ حبها نبض في حنايا النفس يدعو َّ غيرها وكأنّ َالل َه لم يخلقْ ً نساء َ
القلب لم يخفقْ غرام ًا قبلها وكأن َ
الحب قد ّ حل على األرض لها” وكأنّ ّ وقلت فيها: ـ ُ “ونهلتُها ،حلم ًا تراودني رؤا ْه بت ،بمسا ِم كوني ِّ كل ِه وتسر ْ ّ وتم ّلكت أقصى مدا ْه”
وقلت فيها: َ
ِ اآلمال ،لي ُ ِ أمل. “رؤياك يا فرح َة 66
ِ عيناك ،أم همس ُة األحال ِم في القم ِر ُط ّلي على زمني ،كم خانني زمني
حلم يراودني في هدأة السحر”... ٌ قال: ـ استطعت أن أجتاز الحالة ،فقلت: كالعلقم خمرها ِ “كأسي وكأسك ُ وحسوتها حتى الثمالة من دمي
وندمت :ال لم أند ِم”؟ وتركتها، ُ ضحكت:
ندمت حق ًا ،أم لم تند ِم؟ ـ َ
زفر ،وعانقت عيناه األزرق الواسع:
ـ اإلنسان يا رغد ..آه لو تعرفين ما اإلنسان.. قالت بسرعة: ـ كتلة متناقضات.. ـ وأشياء أخرى... 67
ندمت حق ًا أم لم تند ِم؟ ـ أعود ألسأل: َ قال:
ِ أجيبك شعر ًا. ـ ـ تفضل. تعب؟ “ َت ِع َب الهوى أ ْم إنّ قلبي من هوا ُه قد ْ َ السحب؟ هجر الضلوعَ مح ّلق ًا فوق ْ أم إنه َ
ِ قد ّ والريب المالمة والتج ّني مل من سجن ْ األرب عز أتراه في قمم الذرى يهفو إلى ّ ْ
ُ َ بالشهب البعيد ،وال يبالي النجم ويغازل َ ْ وتراه ُ هب بالثلوج، يهزأ ِ ِ وبالرياح ،وبال ّل ْ
ويعانق الكونَ طرب الرحيب ،من ال ّتج ّلي في َ ْ
ِ الغضب”. العلياء ،ال يخشى الجوزاء في ويداعب َ ْ ع ّلقت:
ـ ٌ توق إلى الحرية. قال: اقترب رحلت عن الهوى ،وزجرته لما “إني ُ ْ 68
حب ِ فاغترب”. خاصمت قلبي ك فارحلي، ُ ُ ْ خاصمت ّ ع ّلقت من جديد: وندمت :ال لم أند ِم”. “وتركتها، ُ وعادت فع ّلقت: حب ِ فاغترب”. خاصمت قلبي ك فارحلي، ُ ُ ْ “خاصمت َّ هزت رأسها: ثم ّ
ـ أفهم قول صديقك ابن الفارض الذي يرى الحب طريق ًا إلى تهذيب
الروح ،فيقول“ :و َم ْن لم يفقهه الهوى فهو في جهل” ،فلماذا ترحل عن يكن؟ َأ َو فتغرب قلبك بعد أن لم ْ الهوى ،ولماذا تزجره وتخاصمه وتتركه ّ اكتفى الشاعر فيك من علم هذا األستاذ العظيم؟ أجاب: ـ من يكتفي؟ ـ إذن؟ “تعب الهوى”. سألت: 69
ـ وأراحه الفراق؟
هز رأسه نافي ًا: ّ
ـ ما أراحه.
ـ والحرية المرتجاة ،هل صارت سجن ًا؟
فاجأه سؤالها ،لكنه أجاب: “ال تسأليني ما الجديدْ ؟
ِ غيابك من جديدْ ؟ هل في واأليام اعات الس ُ ُ تتشاب ُه ّ ّ ُ الملبدُ بالجليدْ والصدأ ّ
يذيب فرح ال حزنَ يشجيني ،وال ٌ ُ رواسب المللِ البليدْ ” َ
قالت: ـ وبعد أن “تعب الهوى” ،أرى أنه باإلمكان القول”:تعب الفراق”،
والدليل هذا العالم الرتيب البائس الذي ُتنبي عنه ألفاظ التشابه ،والصدأ، والجليد ،والملل...فماذا بعد؟
أجاب وقد شملت الكآبة وجهه وعينيه ،بل حركاته كلها: 70
“لم تعد يا ليل ُتبدي بسمت َْك
أنجم ْك خاصم َت ليلي هل ُترى َ ْ َ ْ الفلك خلف هاجرت أم تراها ْ لم تعد يا ُ ليل في اآلفاق ْ لك وحدني دوم ًا ْ معك قدر ّ ٌ
َ أشعل ْك” ربما ُتحرقني كي قالت:
ِ توحد ُ والمخاصم ،انقلب الفرح المخاصم الليل مع المفا ِرق، َ ـ إذا ما ّ
إلى حزن ،وغابت النجوم ،وغاب البدر ،أو غاب كل ما يزين صفحة
قلت ،في القصيدة السماء في ليل العشاق الذي كان يزخر بالحيوية .أما َ ذاتها:
ِ ِ آهات هذا الليل ُتصليني وتفري “إيه يا
َ العشاق يسري يؤنس نجم لم يعد في الليلِ ٌ ُ للسما ِر ُيغري البدر الذي قد كان رحل ُ ّ
ُ ُّ تجتث صبري األشواق ثارت في دمي فإذا
ُ المصباح من لفحات جمري”. سرج َ كالمنايا...أ ُ 71
قال: “وأنادي :ليس في األقداح ما يكفي شرابي ليس في األقداح ما يكفي لعمري ِ الحباب ذابت األنفاس سكرى في ِ العباب شراع في الحلم فإذا ٌ ُ
ِ سراب” سراب في الحب وإذا ٌ ُّ عادت فسألت: “تعب الهوى” ،أم “تعب الفراق”؟أجاب: ـ اسمعي: أنت وال النسيم رقـيق أنت َ “ال َ ُ يضيق الصبح يبكي والمـساء األبدي أطـفأ َ ُ ليلـه العاشق ُّ
ُ ُ صديق الهالل النجم يحكي ،ال ال ُ عمره هذا الذي قد كان يحيا َ 72
ُ ويـفيق قلب ينام على الهوى ٌ مراتع ِ أنسنا قل للتي هجرت َ لهن ُ رفيق تلك األماسي ما ّ والغرام ُ رداؤنا أيام كنا ُ
ُ حريق والهيام والحب يشدو ُ ُّ
مرابع ِ رحلها الفؤاد إلى رحل ُ ِ ُ طريق والسراب قلبان ضال ُ
بحثت وجد َت ُه في أضلعي فإذا َ
ُ فطليق”. عش ًا خوى ،أما الهوى قالت:
ـ تعب الفراق ..أما من منفذ لمغادرة اللون الرمادي الكئيب الذي ّ حل محل قوس القزح؟ أما من ٍ ّ منفذ لمغادرة األرض المتشققة عطش ًا الحا ّلة ّ محل االخضرار؟ أما كانت الحرية المرتجاة قيد ًا؟
لمعت عيناه ،وافترت عن ثغره ابتسامة أنشد على الفور بعدها: وجه ِ ك ِخلس ًة ُ “عانقت َ
ِ أغالل من بد ِر ذاك الليل من 73
حر ِ المساء اس ْ ّ
وقطفتُه بين النجو ِم ولذت ال ألوي ُ
إلى ٍ الفضاء قصي في ركن ْ ٍّ الم َح ّيا، ّ أوا ُه من ذاك ُ
نقاء ٍ باسم مثل الثر ّيا في ْ
ِ َ والقبالت األشواق ولثمتُه ،بادلتُه انتشاء في أقصى ْ
لم َ الحلم موالتي، يبق إال َ يداعبنا
خفاء نلملمه ْ
وندسه كالنور في أجفاننا ُّ
الشتاء” ونصونه كالروح في عصف ْ قالت باسم ًة: ـ خطوة إيجابية لخروج ولو عبر الحلم .خطوة إيجابية حتى لو كانت
القصي..المهم محفوفة بأجواء االختالس والخفاء والهروب إلى الركن ِّ أن يداعبنا الحلم ،فنلملمه ونصونه.
74
شجعته ،فنفض عنه غبار الحزن ،وبدا ألق خلف كأن أقوالها هذه ّ
اللون الرمادي يزيحه .قال:
الزحام ُ “ورشفت من بين ّ عبيرها َ
وثبات قلبي وتسابقت ُ إثرها َ
ولمحتُها ف ّتان ًة
ْ الرفاق بين وخفقت أجنحتي ُأ َح ِّو ُم حولها مثل الفراشة ال أخاف
ْ االحتراق وأتيتُها وهممت أن أفضي لها ُ 75
بتلعثمي وتر ّددي
شوق ًا ّ ْ االشتياق تخطى وتلعثمت كتلعثمي وتر ّددت كتر ّددي
ْ العناق ورحلت في عينين ال تخشى ُ تفج َر بيننا وجدٌ ّ
ٌ شوق تحدّ ى صمتَنا
ْ وائتالق دمع ترقرق، ٌ وتعانقت أكوا ُننا ْ
أعشارنا وتشابكت ْ ُ وتعاتبت
ْ الفراق؟” كيف التقينا صدف ًة بعد الحيوي: سألت بعد أن أصغت باهتمام للقاء الصدفة ّ 76
ـ وعاد العالم المسحور يز ّينه قوس قزح ،وعاد العاشق يستلقي على
شاطئ دنيا السعادة؟ تنهد ،ثم سألها: ّ
ـ هل يغسل العتاب سنوات الفراق؟ أجابت: ـ قد يحدث هذا. سأل: ـ وتعود الحياة إلى ما كانت عليه؟ ـ قد تعود... قال:
ـ تعود في لحظة الصدفة..لكن شيئ ًا ما ،شيئ ًا كبير ًا ،كبير ًا جد ًا يكسره
الفراق يصعب أن يلتئم..وإذا بالتلعثم والتردد والشوق المنفجر ،إذا بكل المار بيننا بوجهه المتجعد هذا يهدأ فنص ّفق لموكب فعل (كان) الجليل ّ وعينيه الغائرتين ،فارض ًا وجوده علينا ...وإذا بنا ندخل عهده ،رغم
يحب أصحاب القواعد أن انفجار لحظة لقاء بعد فراق( ،كنتيين) كما ّ
يطلقوا على أمثالنا ..اسمعي:
“شيء في صدري ٌ
شيء في صد ِر َك كانْ ٌ 77
ُ ونظرت إلى العنوانْ
ٍ بشيء هذا العنوانْ ؟ هل يعنيني اليو َم لم يتع ّث ْر خطوي لم يتزايدْ خفقي
لم تحمر خدودي كالصبيانْ ّ
ِ مر ْت في ذهني أرقام ُ الهاتف ّ طي النسيانْ باهت ًة من ّ ها نحن مع ًا
رد ُ وامتدّ ت في َب ِ األ ْف ِق يدانْ وألو ِل مر ْه وكأنهما ّ ترتعشانْ
وكأ ّنا في ِ درب العم ِر غريبانْ ها نحن مع ًا
لكن ،هل حق ًا نحن حبيبانْ
عينان تسائلها عند ا ّللقيا عينانْ ٍ بتلعثم فر إلى حيرانْ ِ حيران َّ شيء ما في قلبينا يوم ًا كانْ ٌ 78
وانطفأ البركانْ
بقيت في أعيننا لمح ُة أشجانْ ورفات غرا ٍم ُ ورماد حنانْ ُ ورحلنا
لك ّنا لم ْ نترك ح ّتى عنوانْ ” بدا على وجهها شيء من خيبة ،فقالت: ـ اعتقدت ،في قصيدتك ما قبل األخيرة ،أن القمر والنجوم والسماء
وقوس القزح قد تجدّ د وجودها ،فإذا بفعل (كان) يطرد كل هذا ويعيد
إلى األجواء اللون الرمادي. قال:
ـ ّ وأؤكد ذلك بقولي: “جئتَني اآلن وعود ًا أم سراب ًا
أم قدر!؟ اخضرار ليس في الروح ٌ
الزهر أحالم رحلت في الغيب ُ ْ 79
ُ نصف ٍ قرن!؟
ْ بعد أن َّ السؤال جف المطر!؟ كيف يحييه ْ
ْ المحال الحلم آلفاق غادر ُ السفر” وارتضى فيه ْ
حاولت أن تبتسم: ـ أنا آسفة. رد: َّ
ُ “ألف سو ٍر ،ك ّلما سور ،الح سدُّ ُ جاوزت سور ًا ،قام ٌ ُ جرني ّ ألف بح ٍر ،ك ّلما للش ِّط مدُّ ُ صارعت موج ًاّ ، ألف ٍ قيد ،كلما ّ ُ سجانٌ وقيدُ حط ُ مت قيد ًا ،جاء ّ
العمر سراب ًا بين ٍ آمال ُتوارى ..أو ُت ّر ُّد”. ومضى ُ قالت:
لحب قد يأتي وقد ال ـ هذا العمر الذي تدور في فلكه ..تدفعه ثمن ًا ٍّ يأتي ..تحلم أن يعاش حيوي ًا ،حقيقي ًا ،فإذا به سراب يتمطى بين تناقضات
ُ بالرمادي، المتسربل الكنتي الحياة .أخبرني عن العمر الذي “مضى” ،أيها ّ ُّ 80
الباحث عن لون ،ولكن ليس بحث ًا حثيث ًا. قال: “قالوا تعدّ َ من وفر ْ اك الزمانُ ّ درب الهوى ُ الشباب أمل ْ ويحكم.. يا ْ
زمن؟ هل كان لي ٌ
شراب؟” وهل في الكأس ذكرى من ْ رفعت حاجبيها دهشة ،وسألته: ـ أما كان؟ قال: “هذا الشتاء مؤ َّبدٌ بدمي،
اليباب القلب سكناه وهذا ْ ُ
الورد ...ال أدري بملمسه، ُ
السحاب وال يدري بصحرائي ْ والغصن ُ 81
عانقت غصن ًا في هوى ما ُ سراب إال وعانقني ْ األبرار صحبي يا ُ َ ال َم َل ٌك أنا،
باب” لكن ،يحاصرني ُ الع ْ قالت: بت أفهم اآلن وقوفها تطرق باب قطب األقطاب الذي يسكن ـ أفهمُّ ..
اليباب .أفهم نداءها الذي أفضى إلى قولها: الشتاء ،ويسكن قلبه دمه ُ ُ “لكن الباب غدا مغلقْ وعيوني ْ تأرق
وفؤادي ُي ْ حرق
ٍ شوق ضم ِة لم يؤذنْ لي في ّ كي تأخذني خلف المطلقْ األقطاب قطب قل لي يا َ ْ سي َد ّ األحباب كل ْ يا ّ
هل تسمع َط َ األبواب؟” رق ْ 82
وعادت فسألته:
ـ هل تسمع َ طرق األبواب؟”
ضحك ،فأزال األجواء المتشنجة المتو ّلدة عن الصقيع والجفاف. وكأنه على وشك أن ينهض ليفتح باب ًا ُأغلقَ ،وكأن بقايا من عمر ما زالت،
دفعه منه ،س ُتدفع لو في األجواء ٌ أمل. رغم كل ما َ أجابها:
هزني ٌ شوق و ِو ُّد جسرا ،زال أت هي ُ جسرّ .. ٌ ً “كلما ّ إعصار ورعدُ األضلع أطفأت نار ًا ،ثار في كلما ُ ِ ٌ
سكن العينين ُسهدُ فارقت ُسهد ًا ،جدَّ وجدٌ ، كلما ُ َ دمع ،اشتكى للدمع خدُّ كم تعبنا ،ك ّلما أشرق ٌ
الخاطر وعدُ ” طي َب َ كلما قلنا ارتحلنا عن هواناّ ، ابتسمت ابتسامة مفعمة باالطمئنان عليه ،ثم أشارت بعينيها إلى عمال
المقهى يستعدون إلغالق الباب:
ـ سر َقنا الوقت ..فليقفلوا األبواب ...المهم أال تفعل أنت. ضحك وهو يلملم أوراقه مستعد ًا معها للمغادرة:
ـ الله...يا رغد!
83
خيمة ال�شعر ليل الصحراء يضيئه بدر ،فتكبر السماء وتصفو ،ويصبح المدى أوسع
فأوسع.
خيمة ِّ الشعر بيضاء ال كما خيام أفراد القبيلة المحبوكة من شعر الماعز األسود .أما أشعة القمر ونيران ِ القرى فترسم أخيلة تنعكس على أشجار
النخيل وبعض شجيرات األثل الصحراوية.
سألت نوف الصغيرة أمها وهي تمسك بطرف ثوبها الطويل األسود: ـ بدأت سهرة الشعراء؟ أجابت األم وهي تشير بنظراتها إلى شاعر يدخل الخيمة للتو: ـ اسمعي الغناء ،إنها قصيدة للشاعر المضيف الذي يدخل الخيمة
اآلن.
سألت الصغيرة: ـ هو الشاعر عبد العزيز الذي تحدّ ث رئيس القبيلة عنه؟ ـ هو ...تعالي نقترب من الخيمة ونسمع الغناء.
جلستا قريب ًا من الخيمة التي لم يكتمل عدد مدعويها بعد .ومع ذلك،
حاسة فقد اخترقت رائحة القهوة العربية التي تغلي في حفرة “الربعة” ّ 84
الشم لديهما ،فأنعشتهما .وزاد انتعاشهما بهبوب نسائم الصحراء العليلة ّ التي ال يعرف حالوتها إال ّ مر بالبوادي أو سكن فيها. كل من ّ ساد الصمت إال من صوت المنشد يغني:
“ ّ كل ٍ حبها نبض في حنايا النفس يدعو ّ وكأنّ الله لم يخلق نساء غيرها
وكأن القلب لم يخفق غرام ًا قبلها
الحب قد ّ حل على األرض لها” وكأن ّ بعدها ،سمعتا صوت الشاعر المضيف ينشد: “أنا المجذوب والمجنونُ والعاشقْ ُ الدرويش ال ٍ ُ أنا شاك وال آبقْ
ْ المارق المطرود ال الشريدُ ال ُ أنا ّ
الس ْ ِ ارق أنا الباكي على األبواب ال ّ ْ أنا ّ الطارق الش ّح ُاذ هل من يسمع ُ ْ كالبارق”. المأخوذ في عينين أنا
ر ّد صوت على الترحيب بالترحيب: 85
ـ أه ً ال بك يا أخا العرب في عالم العشّ اق والمجانين. همست أم نوف في أذن ابنتها التي وضعت رأسها ذا الجدائل السوداء
الطويلة على ركبتيها:
ـ صوت جميل بن معمر. وجاء صوت آخر: َ موقد النا ِر يذكيها ويخمدهـا يا بأرياح وأمـطا ِر ُق ُّر الشتاء ٍ
مضرم ًة قم فاصطلِ النار من قلبي ّ ُ َ موقد النا ِر ضرمها يا فالشوق ُي ُ
سألت نوف أمها: ـ جميل أيض ًا؟
ـ بل قيس بن الملوح. وعاد صوت جميل ليخترق سكون ليل الصحراء: ه��ب��وا ال���ن���و ُام أال أي��ه��ا ُ ّ وي��ح��ك��م ّ
َ الحب؟ ال��رج��ل ُأسائ ُلكم هل يقتل ُّ 86
َّ ��ه ف��ق��ال��وا :ن��ع��م ح��ت��ى ي��س��ل ع��ظ��ا َم ُ
َ ل��ب وي��ت��رك��ه ح���ي���ران ل��ي��س ل���ه ُّ
وعاد صوت عبد العزيز ينشد: اله ّي ُام في ٍ كون بال عنوانْ “أنا َ الر ّبانُ في ٍ أفق بال شطآنْ أنا ّ ماض أنا ٍ أنا ٍ آت بال أزمانْ
ٍ نورسة على طوفانْ ”. أنا ر ّفات فر ّد قيس: َ طرحن�ك مطرح� ًا �ب الليال�ي أن َ وح ْس ُ
ب����دا ِر ِق�� ًل��ى تمسي وأن���ت غري ُبها
فقال عبد العزيز: كالطائر “أنا َمن طاف في الملكوت ْ ٍ حائر ويحملني جناحا عاشق ْ ساهر قاهر وزوادي ٌ ّ حنين ٌ ْ 87
حاضر غابر وفي رحلي ٌ غرام ٌ ْ للزائر” أال من يفتح األبواب ْ
الليلي مرت شابة سمراء بشعرها نهضت نوف من جلستها وقت ّ ّ الفواح حاملة حقيبة مليئة باألوراق والكتب متجهة نحو األسود وعطرها ّ
الخيمة وسألت أمها التي أشرق وجهها بابتسامة واسعة وهي ترقب الفتاة: ـ هي الكاتبة التي تحدّ ثت عنها نساء القبيلة؟ ـ نعم ..هي رغد.. ـ جاءت تستمع؟ ـ تستمع وتشارك وتكتب... أصبح مثلها.. ـ أريد أن َ
ضمت أم نوف رأس ابنتها إليها وقالت: َّ
ـ ستصبحين ...ولكن ...أصغي.
دخلت رغد الخيمة ،فاستقبلت بفنجان قهوة عربية رشفت منه بعد أن جلست في صدر الخيمة حيث أفسح لها الشعراء العشاق مكان ًا .وقبل أن
متأوه ًا: تقول أي شيء راح جميل يشكو ّ
ف��ق��د ِ ِ ِ إلفه األي���ك م��ن أيبكي ح��م��ام
وأصب�ر؟ وم�ا ب�ي ع�ن بثين�ة م�ن صب� ِر ُ 88
ي��ج��ن بذكرها م��س��ح��ور ي��ق��ول��ون: ُّ ٌ
فأقسم م��ا ب��ي م��ن ج��ن��ون وال سح ِر
يصب للضيفة المزيد من القهوة: أجابه عبد العزيز وهو ّ ٍ الريح أجنحة من “كأ ّني فوق ِ تق ّل ُبني وال أشكو تباريحي
وتمخر بي إلى جرحي وتجريحي ُ كأني أمتطي شوقي على روحي
على األبواب كم ض َّلت مفاتيحي فما ر ّدوا وما ح ّنوا لتنويحي” ع ّلقت رغد:
ـ ما بين ٍ شاك من صب ٍر ال يجده ،ومنتظ ٍر على األبواب للدخول إلى الحب مسيطر ًا على القلوب ومحرك ًا العالم المسحور ،يبدو هاجس ّ قرائح الشعر ...أسمع ،من بين الكلمات ،آهات عذاباته.
ابتسم الشعراء ،وابتسمت نوف خارج الخيمة سائلة أمها ثانية: ـ هي ال تنشد الشعر؟ 89
ـ بل تقول نثر ًا. ـ ليست شاعرة؟ ـ بل كاتبة. ـ آه...
في تلك اللحظة ،اكتمل وجود الشعر إذ دخل عمر بن أبي ربيعة رافع ًا رأسه عالي ًا حتى يكاد ،كما ع ّلقت الصغيرة ،يطاول سماء البادية وسقف خيمة الشعر .وانطلقت من الداخل أصوات ترحيب بالشاعر الذي ألقى
نظرة سريعة على الموجودين ثم استقرت نظراته على الفتاة السمراء قائ ً ال: ِ وأدعوك وأدعوهم إلى جئت أخرجك وأخرجهم من أجواء اآلهات ـ ُ
الحب الحقيقية. أجواء ّ
استنكر جميل وقيس مع ًا َ قول عمر ،أما الشاعر المضيف ،فقد ارتسمت ٌ در كنهها لكنها د ّلت على َّ أن الجلسة بدأت تحلو. في عينيه ابتسامة لم ُي َ نظر عمر إلى رغد من جديد ووجه حديثه إليها:
فقدت الصوت منهم وأطفئت فلما ُ وأن���ور ش��ب��ت ب��ال��ع��ش��اء ُ ُ م��ص��اب��ي��ح ّ
ك��ن��ت أرج���و غيوبه ق��م��ي��ر وغ���اب ُ ٌ
ٌ ��ر رع���ي���ان وروح َّ ون������و َم ُس َّ ّ ��م ُ 90
النوم أقبلت مشية الـ ونفضت عني َ
أزور ح��ب��اب ورك��ن��ي خيفة ال��ق��وم ُ
هــــ�ت يـ�ت إذ القي ُتـــــه�ا فتو ّل فحي ُ ْ ّ
ِ تجهر ب��م��ك��ن��ون التحية وك����ادت ُ
وق��ال��ت وعضت بالبنان :فضحتني
ٌ أعسر م��ي��س��ور أم���رك ام���رؤ وأن���ت ُ ُ
أري��ت��ك إذ ُه�� ّن��ا عليك أل��م تخـف
ع����دوك ّ ��ر رق��ي��ب�� ًا وح��ول��ي م��ن ّ ح��ض ُ
ٍ حـاجة ف��وال��ل��ه ال أدري أتعجيل
تحذر كنت س��رت بك أم قد ن��ام من َ ُ
ُ الشوق والهوى فقلت لها :بل قادني ُ
تنظر إل��ي��ك وم���ا ٌ ع��ي��ن م��ن ال��ن��اس ُ سبابته وتنحنح ،ثم التفت إلى جميل ،فقيس ،فالشاعر المضيف ورفع ّ قائ ً ال لرغد: ـ أجواء الحب الحقيقية تعني المغامرة والمخاطرة للوصول إلى ُ الشوق والهوى ...الشوق والهوى. المحبوبة التي يقود إليها قال جميل: 91
ـ دعنا من قصصك أو من مذكراتك اليومية ...فالحب الحقيقي ال
يوصل إلى المحبوبة بل يوصل إلى الموت...
هز قيس رأسه موافق ًا ،بينما ع َّلق الشاعر المضيف: َّ
ـ أعوذ بالله. وادعى عمر الجد ّية وهو يتلو قصيدة جميل التي ضحكت رغدَّ ،
ّ لخص جوابه أجواءها:
ٍ ن��ه��د وصاحبه ق��د م��ات قبلي أخ��و
م��ر ِّق ٌ ��ش واشتفى م��ن ع���رو َة الكمدُ َ
ٍ منـيتـ ُُه ع��ش��ق وك�� ّل��ه��م ك���ان م��ن َّ وج��دت بها ف��وق ال��ذي وج��دوا وق��د ُ أعلمه ك���دت ألره���ب أو ق��د إن��ي ُ ُ ُ
أن ســـوف توردني الحوض الذي وردوا
ٍ ْ ت��ج��ود به ب��م��ع��روف إن ل��م تنلني ُ
أو يدف�ع الل�ه عن�ي الواحــــ�د الصم�دُ
وما إن أنهى عمر تالوة قصيدة صديقه حتى عاد قيس ّ فأكد: ٌ ق��ت��ي��ل م���ن األش�����واق أم���ا ن��ه��اره
ٍ ف��أن��ي��ن ف����ب����اك وأم������ا ل���ي��� ُل���ه ُ 92
ُ ون���ي���ران قلبه ل���ه ع���ب���ر ٌة ت��ه��م��ي
وأج��ف��انِ ِ ُ عيون ال��دم��وع، ��ه ،ت���ذري َ
معج ً ال ل��ي��ت أن ال��م��وت ي��أت��ي فيا َ ّ
ُ ف��ت��ون ع��ل��ى أن ع��ش��قَ ال��غ��ان��ي��ات
تأوه جميل: َّ
الحقيقي... ـ هو ذا الحب ّ قال عمر ساخر ًا:
بكاء وأنين. ـ ٌ قال جميل:
وموت ...اسمع: ـ ٌ ِ أم��ت ع��ش��ت ال��ف��ؤاد ف��إن ي��ه��واك م��ا ُ ْ
ِ ص����داك ب��ي��ن األق��ب�� ِر ص����داي يتبع َ
ع َّلق قيس: ـ الله ...الله... صب عمر كأس ماء وشربه ،ثم التفت إلى رغد التي كانت تصغي َّ 93
للحوار الشعري الدائر قائ ً ال: الحقيقي؟ ....بكاء وأنين وشكوى وقتل وموت الحب ـ أرأيت َّ ّ يجرب وأقبر ...ما أجمل هذه األجواء وما أحراها أن تدفع بكل من لم ّ ٍ وكن يشعرن الحب أن يفعل ...كانت حبيبات العذريين محظوظات ّ َّ
بشيء اسمه السعادة...
خفي بالشاعر الذي أضفى ضحكت رغد وقد بدا في عينيها إعجاب ٌّ حب دائم ًا ولماذا لتوها لماذا َأ َّ على أجواء الجلسة مرح ًا جذاب ًا ،وعرفت ّ حب دائم ًا. ُأ َّ لكنه سرعان ما ّ سبابته في وجه الشاعرين العذر ّيين قائ ً ال: قطب رافع ًا ّ
صديقي ،هو الذي يحيينا ال الذي يميتنا .هو ،كما الحقيقي ،يا الحب ـ ّ َّ ّ
تشع ،ويدٌ تر ّبت”. قال مضيفنا ٌ “أنوار ّ
والتفت إلى الشاعر المضيف قائ ً ال:
ـ أتحفنا ،يا ابن القوم ،يا ابن ّ ترد مكة كما أنا ابنها ،بتلك القصيدة التي ُّ
بها على صديقينا البدويين بل على أصدقائنا العذريين. قال المضيف: ـ أنا ال أر ّد ،بل أشرح وجهة نظري في الحب.
قال عمر:
رد. ـ وجهة النظر موقف والموقف ٌّ 94
َ ضحك المضيف: ـ ليكن ما تريد. “أغمضت عيني كي ِ يراك فؤادي ُ فسمعت آهاتي عليك تنادي ُ ِ متي ٌم أدركت أ ّني في ُ هواك ّ
وعرفت ِ أنك غايتي ومرادي ُ
تشع بخاطري ُ وشعرت أنوار ًا ُّ ِ بوداد ويد ًا ُت َر ِّب ُت خافقي
أفنيت نفسي في ضيائك نشوة ُ تركت قيادي وإليك يا أملي ُ األنس في هذا الهوى أيقنت أن ُ َ ِ ِ جهاد” خير والحب في ُّ عينيك ُ
ع ّلق عمر: ـ عظيم.
وع ّلقت رغد:
ـ أعج َبتني إحالتك َ فعل الرؤية من العين إلى الفؤاد. 95
بينما قال جميل:
َ إعجابك بقولي: ـ أما أنا ،فأعجبني ٍ ُ ب��غ��زوة ج��م��ي��ل ي��ق��ول��ون ج��اه��دْ ي��ا
ٍ غ���ي���ره���ن أري����دُ ج���ه���اد وأي ّ ّ
ٍ ٌ بشــــاش�ة بينهـ�ن حديــــــ�ث ل�كل ّ
ُّ وك�����ل ق��ت��ي��لٍ ع��ن��ده��ن ش��ه��ي��دُ . َّ
قال عبد العزيز: وصلت إليه من مرتبة الشهادة التي ينالها قتيل ـ لكنني لم أصل إلى ما َ
الهوى...
قال عمر: ـ يأبى أصدقاؤنا العذريون إال ذكر الموت والقتل. فر ّد جميل:
ـ ألننا نعيش هاجس التهديد ،هاجس القتل ،هاجس الموت .أما
سمعت ما قلته:
أح��ل��م�� ًا ف��ق��ب��ل ال��ي��وم ك���ان أوان���ه أم اخشى فقبل اليوم ُه���دِّ ْد ُت بالقتلِ 96
قال عمر: والغم. الهم َّ ـ أنتم تجلبون ألنفسكم ّ ثم التفت إلى رغد:
ِ ـ أخبريني يا أستاذةِ ... الموت الحب الذي يودي إلى أنت من أنصار ِّ
الحب الذي يخلق الدافع إلى المغامرة للوصول بعد المعاناة أم من أنصار ّ
إلى الفرح الذي أعتقد أنه غاية الشوق والهوى؟ أجابت:
ـ يبدو أنني سأرتبك في اإلدالء بدلوي بين شعراء الغزل الحجازيين
البدو منهم والحضر.
وجهه إليها: أثار كالمها سؤاله الذي ّ
ـ ِ لست حجاز ّية؟ دمشقية. ـ بل ّ
شآمية. ـ ّ
قال المضيف: عرفناك باألستاذة. ـ أخذنا الحديث يا عمر فما ّ
ضحك عمر ثم قال للضيفة:
ـ عرفنا الشام منذ انتقل السلطان السياسي من عندنا إليها ...لقد
انصرفنا ،وقتها ،عن االشتراك في الحياة العامة بعد أن كنا منشأ الخالفة 97
التي امتدّ سلطانها على األرض.. وصمت لحظة قال بعدها: َ
ـ في الحقيقة ...نحن ـ بداوة وحضر ًا ـ لم ننصرف عن االشتراك في وقرب رأسه منها هامس ًا: الحياة العامة ،بلَّ ... ـ ُصرفنا عنها.
َ ضحك المضيف ،وضحكت رغد ،وع ّلق جميل: “صرفنا عنها” ،يعتقد أن هذا الصرف أ ّدى ـ من يسمعك تهمس بعبارة ُ
َ بك ،أو بكم انتم الحضر ،إلى ما أ ّدى بنا من حزن وكآبة يكادان يصالن بنا إلى حافة اليأس. قال قيس: ـ بل وصال بنا.
قال عمر رافع ًا كتفيه:
ـ كان أغلبكم فقراء. قال قيس: ـ وكنتم أغنياء. قال عمر:
ـ السلطان السياسي ُأخذ م ّنا ومنكم. 98
ع ّلقت رغد: غير ردات الفعل ،فانصرف ـ لكن المال ،وجوده وعدمه ،هو الذي ّ البدو الفقراء إلى الغزل العفيف التقي الذي ّ ِ بالدين في متمسك ًا ظل ّ ٍ ٍ العذري، العتراض ضمني على انتقال مركزه ،وهكذا نشأ الحب محاولة ّ
بينما انصرف الحضريون إلى اللهو كما أعرف... اعترض عمر:
ـ لم َن ْل ُه. قالت:
ـ هكذا تقول كتب التاريخ. قال:
أحببت! ـ كتب التاريخ تقول َلهونا بينما نحن أحببنا ...أنا ُ قال جميل: أحب كل النساء :هند ،دعد ،الثريا ،فاطمة و...و... ـ َّ وتن ّقل بينهن دون أسف أوحزن فقال:
أح��ب��ت سالمنا س��ل�ام عليها م��ا ٌ ّ
ف��ال��س�لام على أخ��رى ف��إن كرهته ُ
التفت عمر إليه: 99
ـ أعتقد أنك القائل“ :لكل حديث بينهن بشاشة”
قال جميل موجه ًا حديثه إلى رغد ّ حبه: مؤكد ًا صدق ّ
ـ لكنني ما أحببت إالها... فسأل عبد العزيز جمي ً ال:
ـ إال رغد؟... فالتفت عمر إلى الشابة السمراء: ـ رغد؟ ...رغد؟ ...اسم حلو... قال قيس غامز ًا:
ـ المرأة حلوة. ابتسمت رغد: بهن... ـ أخرجوني من دائرة النساء اللواتي ّ تغزلتم ّ قال قيس وجميل مع ًا:
ـ نحن أخرجنا كل النساء إ ّ الهما... أما عمر فقد قال:
ـ لو ِ كنت في زماني... قالت:
لرفضت أن ُأ َ ضاف إلى قائمة أسماء النساء اللواتي.. ـ ُ 100
قاطعها عمر:
ِ ِ أرسلت لي كما أرسلت معظم سيدات المجتمع ،أو لكنت ـ بل لترصدتِني كما ترصدنني... استنكرت: ـ أنا؟... قال: لفعلت. ـ وإن لم تفعلي، ُ
ضحك الجميع ،وع ّلق جميل:
ـ عمر هو عمر. فأجاب: الحب الحقيقي ٌ دائم عن الجمال ،وبالتالي ،هو بحث دائم عن ـ ّ بحث ٌ
الشعر.
التفتت الفتاة إلى المضيف: ـ موافق؟.. قال: ـ اسمعي: َ “اقلب رمادك مر ًة ،سافر على أملٍ شريدْ ْ 101
يشع من البعيدْ البدَّ من جم ٍر ُّ
ضم ُخ خفقة القلب الوحيدْ البدّ من ذكرى ُت ِّ زخ ِ اقلب رما َدك بين ّ الدموع ات ْ ْ الضلوع البدَّ من ٍآه تد ّث ُرها ْ إن لم تجد جمر ًا وال نار ًا
هناك ٌ الربيع بقية من فوح أطالل ْ
الصقيع تلفح الوجدانَ في ليل بعض النسائم ُ ِ ْ اقلب رمادك في ثنايا الروح في َ المباح دمك ْ ْ الرياح يطير مع ْ إ ّما ُ
الجراح إما يعيدُ لك ْ
صباح” اقلب رمادك ربما يأتي ْ قالت رغد:
ِ الرماد ٌ بحث عن هند أو دعد... قلب ـ ُ ع ّلق عمر: ـ أو رغد. قال المضيف: 102
إخالص العذريين ،إخالصهم لمحبوبة واحدة ،ولمبدأ ـ يعجبني ُ الع ّفة. اعترض عمر: البت به...هو ذا صاحبنا جميل قد حاول أمر ال يمكن ّ ـ مبدأ العفة ٌ
اجتياز حاجز العفة وقت قال:
ن��ب��ع ف��ي ال��ع��ام ي��ا بثن ديننا تعالي ْ
ً س��ن��ت��وب ق���اب�ل�ا ب��دن��ي��ا ف���إنّ���ا ُ
لكنها هي التي رفضت وقت قالت: ُ نبيعه ف��ق��ال��ت ل��ع�� َّن��ا ي���ا ج��م��ي��ل ُ
ق��ري��ب وآج���ا ُل���ن���ا م���ن دون ذاك ُ
مبرر ًا قول جميل الذي ارتبك أطرقت رغد خجل ًة ،فقال عبد العزيز ّ
وما عاد يقدر على الر ّد على اتهامات عمر التي أدانته:
ِ “نحتاج َ بعض الوقت أيض ًا للجنونْ ُ ْ للنزق نحتاج أيض ًا ُ 103
ِ ْ الغرق كاألطفال في أشيائنا ح ّتى لِ ّله ِو
ِ تشع عيو ُننا وهج األلقْ كالبرق من ِ حتى َّ أحتاج أن أغفو على صد ٍر حنونْ ُ
ِ ِ ِ اللهاث من السباق من تعبت من اللحاق بمن سبقْ إني ُ ٍ أحتاج في عينيك أن أرسو على ٍّ شط جديد في األفقْ ُ ِ األزمان بعض ًا من ثواني هيا لكي نجني من ّ حبنا المفقود في ِ درب األماني هيا نلملم ّ ّ ِ الجنون” هيا إلى بعض ّ
التفتت رغد إلى جميل: ـ لماذا رفضت بثينة عرض الجنون أو عرض النزق الذي ّبرره الشاعر
الحجازي أجمل تبرير؟ أجاب قيس:
ـ لئال تفقد أشعاره فيها طبع ًا. فع ّلق عمر:
ـ بل أعتقد أنها كانت ّ تفضل أن يموت أو يقتل فترتاح من كل هذا
الحب. البؤس الذي يحمله لها هذا ّ
ع ّلقت رغد وهي تشمل الشاعرين العذريين بنظرة تقدير: 104
ـ ال أعتقد ...عمر يغالي. فقال عبد العزيز: ـ عمر يمزح. قال عمر: حب... جاد، لقاء يجب ـ بل أنا ٌّ الحب ٌ فالحب ٌ لقاء ،وبدون اللقاء ال َّ ُّ ّ ِ بالزيارة وقمت بها: وعدت يت مرار ًا. يتم ...لقد ُ ولب ُ ُ أن َّ دعيت مرار ًا ّ ال ب����ل ن���ـ���زورك���م ب��أرض��ك��م ف���ي���ط���اع ق��ائ��ل��ك��م وش��اف��ع��ن��ا أن�����ت ف��اع��ل��ه أش������يء ق���ال���ت: َ ٌ
َ ل��ع��م��رك ،أم ت��خ��ادع��ن��ا؟.. ه����ذا،
ِ ب��ـ��ال��ل��ه ح���ـ���دّ ث م���ا ن��ؤ ّم��ل��ـُ��ه َ ْ ال���ص���دق واسعنا واص�����دق ،ف���إن ً ���ل��ا ن���ع���دُّ ل��ه اض������رب ل���ن���ا أج
ُ إخ���ل���اف م����وع����ده ت��ق��اط��ع��ن��ا
سألت رغد: أخلفت؟ ـ وما َ 105
أخلفت. ـ وما ُ ـ وما تقاطعتما؟ ـ وما تقاطعنا. كررت رغد بداية قصيدة عبد العزيز: ّ “نحتاج بعض الوقت أيض ًا للجنون ْ للنزق”... نحتاج أيض ًا
تشجع الشاعر المضيف وأنشد: هنا ّ ِ للقياد “جمحت ثم استراحت ِ للعناد ثم النت ثم عادت وإباء مهر ٌة ثارت غرام ًا ً
ِ الجياد طبع في نبيالت هو ٌ ٌ شفاء وحيا ًة قبلة كانت ً
ِ الحب صادي لكؤوس وفؤاد ٌ ِّ َ رعاك الل ُه رفق ًا كيف أنجو يا ُّ كل ٍ حناياي ينادي نبض في َ 106
عت فخذني ال تسلني إن تم ّن ُ
ِ الحلم في ليلِ البعاد” ضم ِ قبل ّ ته ّلل وجه عمر ،وقال شعر ًا من عنده يوافق فيه الشاعر المضيف: ِ َهوي ُت ِ واس�ـــتحلتك نفس�ي ،فأقبل�ي �ك وال تجعــــلي تقريبنا منـــــكم بعـــدا ثم التفت إلى الشابة قائ ً ال بحماسة: لقاء ـ هو ذاٌ ... فرح ال يأس ...إقبال ال جموحٌ ، قرب ال ابتعادٌ ... يكسر القيد... قال الشاعر المضيف:
ـ ّ ذكرت كسر القيد ،بما قلته: ذكرتني يا عمر ،وقت َ “غردي ...يا لحون الهوى َ الغ ِر ِد ّ ِ ِ الرغد حلمك أغمضيني على ِ ٍ المرقد شوق على مثل نسمة
ِ تنعش َ للمشهد الليل بالطيب 107
أجيء ...سابق ًا موعدي حلم ُ مثل ٍ ِ السهد نلتقي خلس ًة في سها
ِ ٍ أكسر َ مجهد خافق القيد عن ُ
ِ للمعبد الحب قلت أسري فدا ِّ ِ أوقدُ الموقد النفس نذر ًا على َ
يا هوى ...هاهو اليوم لي مولدي أرتجي موئ ً ال من غرا ٍم ندي
ٍ مثل طفلٍ وحيد ،مثل قلب صدي جئت يا واحتي باحث ًا عن غدي ُ
تشتكي أضلعي من هوى سرمدي َّ ضل حتى التقى صدف ًة مقصدي”
ع ّلق عمر: يتغزل كما ك ّنا نفعل. ـ سررت أن مازال في الشعر العربي من ّ ابتسم الشاعر المضيف شاكر ًا:
ـ أعتقد أنك تنسى أننا اليوم ،كما كنتم ،شعراء عرب. قال عمر: 108
ـ ولكنكم تعيشون الزمن ِ القلقَ . أجاب:
ـ القلق أيض ًا يخلق الدافع لإلبداع. قال قيس:
ـ هو الذي يفعل. وقال جميل: ـ قلقنا فأبدعنا. موجهة كالمها لعمر: قالت رغد ّ
فأبدعت ...قلقت من وجود الواشي ،قلقت من أنت أيض ًا قلقت َ ـ َ
وجود أهل الحبيبات ،قلقت من مرور زمن ساعات الحب ،فقصصت علينا ،إلى جانب قصص ح ِّب َك التي أصريت أن تصفها كلها بالصداقة، قصص قلقك.
لمعت عينا عمر ...سألها هامس ًا: ـ ِ قلت لي شآمية؟
اتّسعت ابتسامتها: ـ نعم. أخفض صوته أكثر: 109
ـ لو ك ّنا نعرف أن حفيدات َمن انتقل السلطان السياسي من عندنا إليهم
يحملن هذا القدر من الذكاء ،لتركنا بإرادتنا ،كما قال شاعرنا المضيف
عبد العزيز ،قيادنا.
ضحك الجميع وشكرت رغد عمر الذي عا َد فسأل: ـ أتأتين ثانية إلى ديارنا؟ أجابت: ـ ال أدري.
ـ ما ِ الحج المقبل؟ رأيك أن أقترح عليك موسم ّ رغد:
الحج!! ـ موسم ّ جميل مبتسم ًا:
ـ هل نسيت يا أستاذة أنه صاحب التم ّني المشهور: ل��ي��ت ذا ال��ده��ر ك���ان ح��ت��م�� ًا علينا
ّ ح���ج���ة واع��ت��م��ارا ك����ل ي��وم��ي��ن ّ
لملمت أوراقها وساعدها عمر في ذلك بينما كان ّ الكل يستعدّ لمغادرة
الخيمة ،وعاد فقال:
110
ِ قبيلتك. ـ أعطني ،إذن ،مكان نزول صافحته: ـ سعدت بلقائك. وأكملت فصافحت الجميع ،وعادت رائحة القهوة العربية تنبعث من الفناجين التي توزع على الضيوف شكر ًا الجتماعهم. ر ّبتت والدة نوف على وجه الصغيرة وأنهضتها بحنان بالغ: ـ هيا إلى خيمتنا.
سألت الصغيرة التي كانت ّ تغط في نوم عميق: ـ انتهت جلسة الشعر؟ أجابت األم وعيناها تلمعان بشدة: ـ كيف تنتهي وما زالت الديار تنجب الشعراء؟
111
ال�سندباد الحالم بالعودة ن ّقل نظراته ما بين صخرة الروشة والجالسة قبالته تحمل أوراقها وتعدّ
قلمها للكتابة.
صوت فيروز يضفي على المكان تلك الخصوصية اللبنانية األصيلة: من أين ،يا ذا الذي استسمته أغصانُ أنت ،فداك السرو و البان من أين َ تمر بنا إن َ كنت من غير أهلي ال ّ
أو ال فما ضاق بابن الجار جيرانُ ومن أنا؟ ال ْ تسل ،سمراء منبتها
شمس وشطآنُ . في ملتقى ما التقت ٌ لي صخر ٌة ُع ِّل َق ْت بالنجم أسكنها
طارت بها الكتب قالت :تلك لبنانُ . بدا فرح غامض في عينيه وهمس: ـ غريبة عالقة الشعر بالموسيقا بالمكان .تصوري يا رغد سعيد عقل 112
أي جمال يجتمع اآلن. وفيروز والرحابنة والروشةّ ... ونظر إليها مضيف ًا:
ـ يضاف إليه جمال مضيفتي. ر ّدت على ثنائه بخفر:
ـ أشكرك.
قدرهن. ـ من واجبي كشاعر عربي تقدير السيدات حقّ ّ ّ
ـ يسعدني حديثك باسم الشعراء العرب ،وشملي ضمن السيدات
قدرهن. اللواتي يقدّ رن حق ّ ٌ شيمة فينا. ـ هي
يعتز بها. ـ شيمة ّ
عاد فشمل المكان بنظرة واسعة وقال:
ـ دبيبو ...مكان جميل. ـ آلفه. ـ ألنه جميل؟
ـ الجمال ليس سبب ًا مكاني ًا لإللفة .ثمة قوقعة أصيلة هنا تجذبني إلى ما
إلي ،في كثير من األحيان ،أن هذا المكان هو ركني فيه من هناءةّ ... يخيل ّ من العالم ،هو كوني األول الذي كبرت إلفته مع معايشة بدايته ونموه.
ولد معي وكبر معي.
113
ـ ِ أنت رومانسية. ـ وأنت؟ ـ أنا؟ ـ أخبرني عن المكان عندك. تنهد وهو يجول من جديد بنظراته: ّ ـ ليس كهذا...
وع ّلق وهو يشير بعينيه إلى طاولة تتح ّلق حولها النساء البيروتيات
يدخن النراجيل: ّ
هن أيض ًا يألفنه. ـ ّ
فنجاني قهوة: قالت وهي تطلب ّ
ـ كريم هو ،يفتح ذراعيه على وسعهما. ـ واضح. ـ ومكانك؟
ـ آلفه ولكنه بعيد. ـ عن هنا؟
كل األمكنة التي أرتادها ...عن ّ ـ عن ّ تشردت فيها. كل األمكنة التي ّ تشردت؟ ـ ّ
114
سميته القوقعة ،هو ـ اسمعي يا رغد ...كل مكان غير مكانك الذي ّ
تشرد. مكان ّ
ـ هل كان سندباد متشرد ًا؟
ـ بامتياز. ضحكت: وكنت مثله؟ ـ َ
الحر ...باحث ًا عن الحسن ،قانص ًا من كنت هو ...طليق ًا في األفق ـ ُ ّ قصي المدار بدر ًا ال كالبدور. ّ ـ أنشدني.
ُ َ طريد المسا ِر الشوق يا “هزك ّ َ الحنين في األسحا ِر واستباك ُ
ِ َ الحسن من ثمين الغوالي صائد قصي المدا ِر قانص البدر من ّ الحر تزهو يا طليق ًا في أفقك ِّ
صادك الوجدُ عنو ًة في اإلسار” الحر؟ ـ أين كان أفقك ّ 115
زرعت الزمانَ شرق ًا وغرب ًا “قد ُ سندباد ًا قد ضاق باألسفا ِر
غربتي طالت واألماني صداها في دروب الجنون صوت سعاري ُّ ٍ حسن شاغلتُه بغرامي كل
نواري ُ وزرعت الحقول من ّ
ثار بي شوقي في جميع الليالي فاسته ّلت عيناي باألسرا ِر”
ـ أيضيق سندباد باألسفار؟ ـ يضيق ويتعب. ـ ويحلم بالعودة؟ ـ يحلم بالوصول. ـ إلى أين؟ ـ إلى مكان التالقي .اسمعي: ْ الفراق المسير ولم يزل ولقد تعبت من “طال ُ ُ ْ التالق” حلو السفر ضرني الطويل وغايتي ُ ُ ما ّ 116
هتفت: ـ رائع.
نقل هتافها إليه شعور ًا باالنتعاش ،فمال إليها سائ ً ال: ِ أعجبك؟ ـ ـ جد ًا.
ـ هل قال أحدهم أجمل منه من قبل؟ دهشت لسؤاله ،ارتبكت ،أطرقت؛ فأطلق ضحكة عالية قال بعدها: ـ أرجو أال تقولي لي “ مادح نفسه يقرئك السالم”. لم تعرف بأن سؤاله لها كان بقصد المزاح ،ولما شرح هذا ضحكت
بدورها ،فقال:
ـ لو كنت مكانك لقلت :لم يقل شاعر قبلك هذا ولن يقول. قالت:
َ عندك قوقعة. ـ أعجبني أن حلو التالقي صار قال:
ـ كما مكاني ،أو كما قوقعتي ،أو كما مكتي... ـ مكة؟ ـ هي جذوري ،هي حنيني ،هي موقدة ناري ،هي... 117
واغرورقت عيناه بالدمع ...كادت عبراته تتفجر ،لكنه نظر إلى
البعيد ...إلى صفحة المياه السوداء المحيطة بالصخرة ،ثم إلى األضواء
المزروعة على الشاطىء أسفل المقهى .وعاد فتأمل للحظة جماعة
نراجيلهن فبائع الذرة المشوية عند بوابة النساء البيروتيات الساهرات مع ّ المقهى وبعض الرجال والنساء الذين تجاوزوا الستين يهرولون بألبسة الرياضة على أرصفة الروشة .ثم نظر إليها وقد صفت عيناه وما عادتا منبئتين بانفجار دمع وشيك وقال:
“إيه يا مكة الهدى للبرايا
وجذوري في روضها المعطا ِر كلما زارني ٌ حبيب خيال ٌ
ِ ِ الرحيب َ أوقد ناري مداك من كلما نادى في المنارات ٌّ حق
ضج وجدي واحت ّلني استعباري ّ ِ حواليك إيه يا كعبتي أطوف
بنبضي ...جسم ًا بعيد المزا ِر حب طه خذوني يا رفاقي في ّ فربيع القلوب في األذكا ِر 118
والركب يحدو نشيد ًا يا رفاقي، ُ ِ الحبيب أحلى المزا ِر” ومزار ُ
سألته: أنت أم هناك؟ ـ هنا َ أجاب جاد ًا:
ـ هنا لكنني هناك... تنهدت: ّ
ـ السندباد الحالم بالعودة؟ ـ السندباد العائد ،الطائف بنبضه حول الكعبة ،العائش تثبيتات شاعر ...يعني مؤرخ ًا ولست جغرافي ًا ...أنا السعادة ...أنا ،يا رغد ،لست ّ ٌ
أنني ،في عودتي إلى مكاني ال أحطم التضامن ما بين ذاكرتي وخيالي ،بل
تحركني من أعماق ال يمكن تصور مداها. أشعر بالمرونة النفسية التي ّ قالت:
متحركة أو لمست هذا من خالل العمق الشعري لمكانك ،إنه حياة ـ ُ ّ
كما قلت ،نابضة. قال:
ـ المكان عندي هو كل شيء ...كل شيء حيث يعجز الزمن عن تسريع 119
الذاكرة .أتعرفين يا رغد؟ ...كتابة الشعر تعني كتابة تأويلية ـ هي كتابة أضيف إليها الخيال والشعر فأصبحت عميقة عميقة ...هي أكثر عمق ًا
من الواقع ذلك ألنها تخلص التاريخ المحيط بها من روابطه العابرة، من شوائبه .معرفة اإللفة ،يا رغد ،والوقوف عند أماكنها أكثر إلحاح ًا من تحديد التاريخ والجغرافيا .اسمعي:
“تهت في اإلبحار يا قلبي طوي ً ال وشراعي أخطأ األفق البديال
هز ِ ت الغر ضج اشتياقي ّ ك ّلما ّ بة وجداني التياع ًا وذهوال
ٍ مغترب كم خبروها عن هوى بعثر العمر ضياع ًا ورحيال سندباد َّ شط عن موطنِه ٌ
للصفا يوم ًا سبيال” هل من ٍ رجوع ّ علقت: ـ تطوف حول المكان الذي تربط اإللفة بالرجوع إليه. قال: 120
دت سنين ًا أرجعيني تشر ُ “كم ّ ٍ لحنان أرتوي منه قليال
حب من رضاب اسقني رشفة ّ زمزم ًا حلو األماني سلسبيال بريء اذكريني وأنا طفل ٌ
الهدي النبيال أرتوي من نورك َ آه يا عمري هوايا في الحنايا
ٌ راحل فيها معي عمر ًا طويال” سألته: ـ تستدعي المكان وتستدعي الزمان ،مكانك األول وزمانك األول. قال: في .ها أنا ـ أستدعيهما أو يستدعيانني ...أعيش فيهما أو يعيشان ّ تشردي: أراها ...أرى وجهها ...أرى يديها ...أقرأ انتظارها أوبتي من ّ أتيت “أماه ...إني قد ُ يدي طفولتي وفي ّ
الشباب وتركت خلفي كل أحالم ْ 121
ِ وبحثت عن ِ النحيلة يدك ُ َ تعانق أوبتي كي
السحاب ورأيتها ممدودة عبر ْ وكأنها ُ طوق النجاة لحيرتي ُ أعانقها ألثمها... ُ وقفزت ُ السراب” فعانقني ْ
أطرقت:
َ تنتظرك. ـ لم
كنت متأكد ًا أنها تنتظرني ...تنتظراآليب طف ً ال ينفض عنه هموم ـ ُ التشرد ويلتجئ إلى مكمن األمان ،إلى مكمن الجاذبية التي تو ّلد اإللفة... ولما قرأت وجع ًا كبير ًا في عينيه ،رجته:
ـ ال تتوغل بعد.
لم يسمع رجاءها ...بل ّ توغل كطفل يبحث عن بيته األول بعد ضياع
طال:
“أ ّماه ...هل ضاع الندا
وهتفت في جوف المدى ُ 122
عليا فرحتي ر ّدي ّ
فأجابني مستوحش ًا رجع الصدى” ُ ـ ال تتوغل. تنهد: ّ “ووأدت في روحي ُ غصتي بقايا ّ
عالم ِ ك الردى من قال ُ بل عالمي...
ُ أحمل لوعتي وهربت ُ وبداخلي هَ ُر َم الندى” كأنها قرأت مشروع بكاء في عينيه ...لكنه ما لبث أن نظر إليها مبتسم ًا:
ّ ـ لن ّ سأظل أبحث وأبحث وأبحث حتى يتحول أكف عن البحث...
السراب حقيقية ،وحتى أشعر بلمسة يدها النحيلة ،وحتى يغلق المدى 123
جوفه ،وحتى يمتلىء المكان فال يبقى للصدى فيه مكان: ِ كالمجنون “وضممت ُ أطياف الرؤى عبر الزمانْ ُ فيدٌ تعانق أوبتي
ويدٌ تر ّب ُت في حنانْ أقبل ذا المكانَ وأنا ّ
وذا المكانَ وذا المكانْ ” سعدت لسعادته ...كأنها لمحته يفتح األبواب التي كانت مغلقة...
بأم عينيها وجه أ ّمه المنتظر ،كأن المكان ُسكن ،وانبعثت منه كأنها رأت ّ
رائحة الحياة ...كأنه َ نبض ...نهض سكان البيت ...استجابوا له ،هاهو
يتلمس الجدران ويريد بعدُ أن يتلمس التفاصيل... يؤوبّ ... جاءها صوته:
“وشميم روحك يا أخي ُ عدنان يعبق كل آنْ
أمي تناديه فيحضنها فيحضنه األمانْ ”... 124
اعتقدت أن نجاحه في الدخول إلى مكانه ،وأن إيجاده األشخاص الذين يبحث عنهم سيعطيه ألق ًا حقيقي ًا ...بيد أن سحابة من حزن داكن
ل ّفت وجهه وسرقت من شفتيه ّ كل أثر البتسامة قد تلوح ،وهمس:
ـ رحل عدنان في ريعان الصبا ،وما عدنا نتشارك في تفاصيل حياتنا...
رحل عدنان إلى عالم الردى ...ال أعرف يا رغد من منا رحل إلى هذا
أي عالم هو عالم الردى؟ َمن الداخل إليه؟ العالم هو ،أم أمي ،أم أناّ ... َمن الداخل الحقيقي إليه؟ الراحل عنه أبد ًا أم الزائر أبد ًا؟ وها أنذا أجاهد للوصول إلى مكاني وعندما أصل ،آه...
“يا أ ّم ...ر ّدي ها أنا ٌ النواح طفل يعاودني ُ
وتحيط بي األشباح ساخر ًة الصباح ويهجرني ُ
ٍ نافذة ألواح فتجيبني ُ
الرياح تع ّنفها وتصفقها ُ
فتئن في مزالجها ثكلى ّ
ّ ُ الجراح” وتنهشها تعذ ُبها ُ 125
غص ...فقالت: َ صمتّ ...
ـ قفا ِ ِ ومنزل... نبك من ذكرى حبيب نظر إليها بوجع: مجرد ـ أليست مأساتنا ،يا رغد ،أن تصبح األشياء ويصبح األشخاص ّ
أطالل؟ كانت مأساة الشاعر الجاهلي عظيمة وهو يبحث عن آثار قوم قد رحلوا ...لكنه كان يستطيع أن يلحق بهم ،كان يستطيع أن يسمع
أخبارهم ...كان يعرف أنهم يحيون.
ـ بيد أن المشكلة العويصة تكمن بأن هؤالء القوم قد رحلوا بال عودة.
بقيت خيامهم منصوبة ،بقيت أشياؤهم موجودة ،ورحلوا. ـ إنها مأساة الوجود. تنهد: ِ صور العتيقة عن “وبحثت في الدا ِر ُ ْ ووجد ُتها
ِ الجدار العناكب في تحت ْ صور ّ الغبار يغطيها ٌ ْ
عبر تترى على قلبي ْ التراب حلم يواريه ْ ٌ 126
أثر فهنا ْ
أثر وهنا ْ
بئر ّ خراب وأسوار معط ٌلة ْ ٌ ٌ
ُ اليباب آثار ْ وهياكل األشجا ِر ُ ُ أعجاز نخلٍ منقعر ْ
خبر” والسدر ُة ُ الجرداء ذكرى من ْ مدّ ت ك ّفها على الطاولة ،حاولت أن تلمس بيدها ظاهر راحته لتخرجه
من حال الضياع ،همست: ـ عد.
همس من مكان ٍ بعيد بعيد: ـ دعيني أنفض الغبار بعد تجوال السنين ،دعيني أخاطبها... إلي وتر ّبت إلي ...هي دائم ًا تسمعني وتصغي ّ ستسمعني ...ستصغي ّ على كتفي بيدها النحيلة ...دعيني أشكو لها ما أعانيه ...أرى وجهها
اآلن...
ـ ولكن... قاطعها: إلي... ـ ال تقطعي حواري معها ...إنها قادمة ّ 127
أتيت “ أماه ،إني قد ُ كما أنا طف ً حزين ال ْ
ما بين قلبي والهوى سنين عهدٌ تو ّث َق من ْ حبي والمنى ما بين ّ ّ اليقين شك يداع ُبه ْ
إ ّني أتيت وفي يدي
والحنين حلم الطفولة ْ
الزمن أ ّماه ،هل تدرين ما فعل ْ ٌ أمل تهدّ ج داخلي
بالشجن عمر تك ّل َل ْ ٌ
أحالمنا في دربها وتعثرت ُ
ِ السفن كأشرعة وتغربت حيرى ْ ّ ُّ وبذرت كل المرافئ خضتُها ُ آمالي بها،
وهتكت ُ أسرار المدنْ َ
ورحلت في أسرا ِرها وغزو ُتها، ُ
لكنني ،أ ّماه ،لم ِ السكن”... أجد ْ 128
ساد صمت أرادت له أن يسود ،فقد كانت تنتظر أوبته .كانت تنتظر أن يغلق األبواب ويرجع من مكانه عائد ًا .وحين التفت إلى النادل طالب ًا كوبين من الشاي ،أدركت أنه يعود ،وحين ارتسمت على شفتيه ابتسامة،
أدركت أنه عاد .ر ّدت على ابتسامته بابتسامة:
ّ المؤطر بزمان الطفولة إنما هو بحث عن عالم ـ بح ُثك عن المكان ّ ويشكل له مشكلة مستقر بعيد عن القلق ،قريب مما يبحث اإلنسان عنه ّ
وجودية مقلقة ،مشكلة الخلود... أطرق:
ـ لو أجد األبواب مفتوحة ،ويكون أحدهم قد أزال ّ كل آثار الغبار
وبقايا العنكبوت ،وأخبر أمي وأخبر عدنان أنني عائد ،النتظرني المكان لكن أحد ًا لم يخبرهم ...حتى صوتي لم والنتظرني األشخاصّ ...
ْ يصل...
وقبل أن تع ّلق بأية جملة نهض من مكانه:
أحب أن أمشي على الرصيف هرول ًة .ترافقينني؟... ـ ّ نهضت بنشاط:
ـ طبع ًا... قال:
أحب أن أكتشف بيروت! ـ ّ 129
الو�ص ّية تسارعت خطواتها وقت وصال إلى مدخل سوق الحميدية ،فقرأ في هذا التسارع جذ ً ال أبطأته دعوته لها: ـ على مهلك يا رغد ...فهنا ،كل خطوة تاريخ عريق .هنا ،كل حجر ّ متجذرة. حضارة تمهلت معتذرة: ّ
تشكل لي ،أيض ًا ،قوقعة كما ّ ـ الشآم كما بيروتّ ، شكلت للشاعر نزار
قباني قوقعة. قال:
ـ وكما ّ شكلت لعائشة الباعونية أيض ًا. ـ الشاعرة الشآمية؟
ـ صديقتي الشآمية التي قرأت أشعارها كما قرأت نزار ًا ،أحببت روحها
كما أحببت دمشق من خالل كلماتها. تسمرت مكانها: ّ ـ حق ًا؟
ـ طبع ًا. 130
ـ أو تحفظ من نظمها شيئ ًا؟ ـ طبع ًا .اسمعي:
َنزِّ ِه ّ الط َ َ دمشق ففيها رف في ُّ تختار كل ما تشتهي وما ُ
ِ األرض ج ّنة فتأ ّم ْل هي في
األنهار كيف تجري من تحتها ُ وماء ٌ ٌ زالل ك ُّلها روضة ٌ وديار وقصور مشيد ٌة ٌ ُ
قالت: ونزه الطرف. ـ اغتنم الفرصة إذن ّ
بمعيتك. ـ ّ
ـ يشر ّفني هذا.
ـ ِ لك الشكر.
استوقفهما باعة الشراشف والعباءات مرات ،واستوقفهما باعة
النحاسيات مرات ،واستوقفتهما جموع الحجاج من كافة بلدان العالم إلى الجامع األموي الكبير الذي ّ ظل صرح ًا أراد الخليفة األموي الوليد 131
بن عبد الملك ،بتشييده ،أن يكسب الهندسة المعمارية اإلسالمية منزلة رفيعة لكي تغدو رمز ًا لعظمة دولته الكبرى. بسبابته من بعيد إلى مبنى الجامع: قال وهو يشير ّ
ـ تعرفين ،يا رغد ،إن هذه العمارة اإلسالمية هي ثالثة أعاجيب الدنيا
في عصرها ،وقد اعتبرها (سوفاجيه) “أول نجاح كبير للهندسة المعمارية اإلسالمية”؛ فقد كان “ نقطة االنطالق” الحقيقية للهندسة المعمارية اإلسالمية ولما ارتبط بها من فنون الزخرفة.
فإذا كان منزل الرسول العظيم ص ّلى الله عليه وسلم ،في المدينة،
هو البذرة األولى للهندسة المعمارية اإلسالمية ،فإن جامع دمشق غدا “قانونها الوراثي” الذي يحدّ د خصائصه األساسية.
قالت وهي تدعوه إلكمال زيارة سوق الحميدية الممتدّ إلى يمين
المسجد نحو البزورية التي دعاها “بزورية نزار قباني” ،وهي تقول:
ـ ال أعرف التفاصيل الهندسية ،لكنني أعرف أن هذا المسجد ُبنِ َي على أنقاض كنيسة القديس يوحنا التي بنيت ،بدورها ،على أنقاض معبد
روماني مكرس لـ”جوبيتير”. ع ّلق:
ـ ومنكم نستفيد .على كل حال ،وبعد إكمال جولتنا ،ال بد من العودة
تمت. إلى الجامع الكبير ،وإال ما اعتبرت زيارتي إلى الشآم قد ّ ـ ليكن.
132
دمشقي عريق ُح ّول إلى مطعم يحمل دعته لتناول الغداء في بيت ّ الشآمي ،بغرفه ،وأرض داره ،وعرائش العنب ،ودوالي الياسمين، الطابع ّ
وكراسيه ّ القش.
مدّ ت ك ّفها إلى ماء البركة وسط ساحة الدار ومسحت وجهها ،فع ّلق: ـ تتصرفين كما الفتيات الصغيرات.
أتصرف بدافع حبي لسماء وماء هذا المكان. ـ بل ّ
للحظة ،نظر إلى السماء ،ثم إلى الماء الصافي المتد ّفق في البركة، ونظر إليها قائ ً ال: يخيل إلي أن غاستون باشالر كان سيستفيد منك قبل وضع دراسته ـ ّ
عن المكان.
قالت جا ّدة:
ـ عندما جاء جدودي الشراكسة إلى الشآم ،خلعوا نعالهم وساروا
حفاة ،فقد كانوا يدعونها بـ (شام شريف) ،وكانوا يؤمنون أنها أرض
القسري مقدّ سة ،وأن الوصول إليها قادر على أن يمحو عذابات التهجير ّ
من وطنهم.
ـ وأقاموا؟ ـ وما زالوا. ـ و ُبدّ ل الوطن األساس بالوطن المقدس؟ 133
قالت: ـ الموضوع ليس بتلك السهولة ،لكن الدين ،في أحيان كثيرة ،وطن. كأنه التقط فكرة طابقت ما لديه من مخزون ثقافي يدور في فلك هذا
المضمون. قال:
ـ ُولدت في ّ مكة أرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وأفهم ،كما
فهم أجدادك ،أن الدين وطن ،وأفهم ،كما فهمت أ ّمي ّ أن اللجوء إلى الله ومحبة النبي واتّباعه وزيارته ،حيث أطلب من الله ما أريد وأضع آالمي
وآمالي بين يديه ،هو اللجوء األمثل .أوصتني أمي أن أفعل. اهتمت: ّ
الوصية؟ ذت ـ ون ّف َ ّ ال وقو ً ـ فع ً ال.
ـ هل يمكنني االستفادة منها؟ ـ طبع ًا .اسمعي:
“ ولدي يا ولدي!... ليس في وجهتنا غير طيب ْه 134
ِ األمجد النبي در ٌة ُ يحرسها ُ ّ نور ّ ْ با ُبها يرعاه مليونُ مالك الهم ْ هناك اغسلِ َّ
ٌ السماء أجنحة نحو در ُبها ْ
الشفاء نعناعها فيه ُف ُّلها ،ريحا ُنها، ُ ْ قف على أبوابه ،منحني النفس، خفيض ًا
حياء” في ْ ع ّلقت: ـ كانوا مثلها. قال: ـ وكانت مثلهم. قالت: ـ أال تعتقد أن اإليمان واحد؟ ـ هو كذلك ،فهو اتّجاه إلى َمعين الله حيث ُيسقى ،يا رغد ،أولئك
الوصية: بقية ّ العشاق .اسمعي ّ
135
َ “ولدي! لم َ شي يبق في نهرك ْ
طي فاستعن بالِله واط ِو الدّ َ ْ رب ْ ْ الظمأ ليس في األبح ِر ما يشفي ُ ري إ ّنما العاشق ال يشفيه ْ
ين ِ الله ،تسقى وات ِّج ْه حيث َم ِع ُ النفس إلى ِ النبي َي ِّم ِم َ فيض ْ وتمهل عند بد ٍر عرج ّ ّ ثم ّ
حي ِّ حي مجد ًا لم يزل يمثل ْ
ثم قف يا ولدي حيث ثووا هم
ِ الضنك َف ْي” أهل فضلٍ من لهيب قالت: ـ حلوة أفعال األمر التي تزخر بها الوصايا .حلوة إن دارت في فلك
حي ،قف.... عرجّ ، تمهلِّ ، اإليمان :استعن بالله ،اط ِو الدرب ،اتجهّ ، قال:
ٌ أفعال تقود الخطى نحو الدرب الصحيح بعد أن تاه الدرب منا ـ نعم،
وتهنا منه.
فهمت أ ّمي قبل أن توصيني ،ذلك التيه الذي يرسم على أجسادنا 136
ونفوسنا آثار ًا اليمحوها إال اللجوء إلى ٍ حب كبي ٍر سا ٍم فقالت: المباح الحصن قرة عيني مثلما َ ُ ْ “جئت يا ّ لم ْ الجراح تباريح يزل قل ُب َك َيدمى من ِ ْ عت ضي َ لم يزل لي ُل َك يدجو :كيف ّ الصباح ْ
العذراء في ِ الرياح نهب أشرعك لم تزل ُ ُ ْ لم يزل طيرك ضا ًال بين خبطات الجناح
حب طه للفالح” طر كما شاء الهدى في ِّ ْ استرخت على كرسيها وقد لمعت عيناها ببريق غريب: ـ أترى فعل األمر األخير في الوصية؟ إنه يدعو إلى الطيران في سماء
الهدى .أعتقد أن سماء النهائية مفتوحة لكل طائر باحث عن حصنه
وتوجه شراعه. الحصين ،عن التئام جراحه ،وفجر ليله، ُّ قال:
طير ّ ضل دربه..و الدرب الصحيح لجوء إلى ـ فاقد اإليمان ،يا رغدٌ ، الله في عليائه وإلى اتّباع الرسول الكريم ،فإذا فعلنا ذلك ّ فكت قيودنا:
137
مقيد ًا “وإذا َ أتيت ّ
حاشاه أن تبقى بقيدْ
ِ السماحة :بابها بحر
ْ من هاهنا وعدْ فانهلُ ، النبي.. هذا ُّ
وهذه بركات ُه أبد ًا أبدْ آدم طين ًة مذ كانَ ُ
نور تج ّلى في األمدْ . ٌ ٍ حمد في يديه فلواء ُ
وند يب ّْ على الورى ِط ٌ
األزلي يجري والكوثر ُ ُّ ِ أصابعه مد ْد”. من
ـ جميل جد ًا. تابع: “هذا الطريق إلى الهدى هذا المقام لمن حمدْ ُ 138
وتسامقت آالؤ ُه
ٌ فلك يدار بال عمدْ
مفتاح جنتنا في ك ّفه ُ إذا ُترجى ُت َمدْ
تبقى شمائ ُله على ال ّثقلين يعد. فيض ًا ال ّْ
موالي ِّ صل على الحبيب المصطفى َ نورك في السماء ماشاء ُ وما اصطفى
أرواحنا روحه َ تطهر ُ حتى ّ
النفوس الواجف ْه حمد ًا به ُتثرى ُ ِ موالي ِّ بذاته صل بما يليق َ وبذاتك العظمى صالة وارف ْه
تشع قلو ُبنا بسالمه حتى َّ وسالمك األقصى نجوم ًا طائف ْه 139
دامت لنا آالؤه دمنا بها... دمنا لها...
ما شاء َ أمرك واكتفى
موالي ِّ النبي المصطفى” صل على ِّ سألت:
فارتحت؟ ذت الوصية، َ ـ ن ّف َ
ـ الحمد لله.
ـ ولو ن ّفذوا؟ ـ لو جاؤوا. ـ لخرجنا من مآزقنا؟ ـ لخرجنا ،يا رغد ،من ضياعنا ،وتيهنا ،وحدادنا. ـ لو أنهم جاؤوه. َ جاؤوك “لو أ ّنهم الضياع رحالهم إلى جهة ما شدّ وا ْ ُ 140
لو أنهم.. ما تاه ر ّبانٌ لهم
أو َّ يم شراع. ْ ضل في ٍّ ٍ * *
*
*
ٌ ِّ ضم ِخ بالضحايا أبايبل على طير الكف ُ الم َّ ٌ
ٍ صالة لم تص ْل َك ألن فيها ما يعدُّ من الخطايا في في ُخ ِ تدكها ُ الروح حين ُّ خيل المنايا واء ِ ٍ مجزرة على جثث السبايا أنقاض ِ صوت المؤ ّذ ِن في صدى
مقبرة مد ّم ٍ ٍ رة ضاع في أحجار على قلبي شظايا.
ٌ تجوب مآذنَ األقصى أبابيل على أفيال أبرهة طير ُ ٌ روحي الثكلى تعرج لمن في األرض ُ َ إلي و َمن ُّ سيردها جذلى َّ وإخوتي
ذئب ُّ المذبوح قميصي يشق َ ٌ َ
ثم يطوف َ علي” أرض الله كي يبكي ّ 141
تنهدت: ّ
ـ لو أنهم جاؤوه. ـ لما حصل الذي حصل. ـ أعدتني إلى أجواء القرآن الكريم .أعدتني إلى ذلك اإلرث اإلسالمي نعتز به .فإذا معركة اإليمان والكفر تتج ّلى بأبهى صورها ،تتج ّلى الذي ّ
باألسماء ذاتها في استحضا ٍر تجاوز التضمين إلى ما يمكن أن يدعى تناص ًا إيجابي ًا ...ألفاظ قرآنية واضحة :طير أبابيل ،أفيال أبرهة ،مآذن ّ األقصى ،والذئب الذي اتهم بشق القميص ...كل هذا ورد في صور شعرية جديدة أبدعتها كبشر اعتمد على اإللهيات.
ـ تعجبني ،يا رغد ،قراءتك الشعر وما وراء الشعر. ـ وتعجبني دعوتك ألولئك الضائعين التائهين إلى سلوك الدرب
الواضح الذي وضعه النبي صلى الله عليه وسلم لخالصهم .أما كانوا،
لو جاؤوه ،تجاوزوا محنهم كلها؟ أجاب:
الصباح “لو أنهم جاؤوك النبلج ُ رياح فيهم وما عاثت بوجهتهم ُ
ما ع ًفرت غربان شطر صهيلهم بالشؤ ِم أو ّ رماح عضت على دمهم ُ 142
ٌ تغمدهم ضج بين وجيبِهم ما َّ خوف ّ جراح” وما ُذ ّلت على نفس ُ
النبوي بنقاء غريب ،بيد أنها سألته: أشعرها شعره ّ
ـ أيكون األمل الوحيد للباحث عن الدرب الصحيح إيجاد مفتاح
لباب يدخل إلى الجنة؟...
ٍ ٍ دخولِّ ، دخول ،وبدون كل ـ األبواب ،يا رغد ،تنغلق في وجه أي
مفتاح ،كل األبواب مغلقة. ـ قلت:
“في كفه مفتاح جنتنا” ـ وقلت: ـ والوصول؟...
“إذا ترجى ُت َم ّْد”
ـ الوصول ،يا رغد ،ليس سه ً ال .يحتاج إلى أن يقدم المرء لربه
من منا ومن منا صفحاته بيضاءْ ، صفحات ناصعة ،خالية من الخطاياْ ...
لم تلمسه الخطايا ويلمسها؟ قالت: غفور. ـ على أن الله ٌ
143
سبابته قائ ً ال: رفع ّ
غفور. ـ ٌ
ومحب. ـ ٌّ محب. ـ ّ
ـ ويقبل العودة إليه... ـ العودة الصادقة يا رغد ...التوبة الصادقة يا رغد ،والخضوع الصادق
يا رغد...
بت يا ر ّبي إليك وفي يدي صفحاتي “قد ُأ ُ ِ الحسنات سوداء من عظم الذنوب خفيفة ُ أجر من ثقلِ الخطايا خطوتي وشتاتي ُّ
ِ الظلمات جئت إليك ملتجئ ًا من رب ُ يا ّ
ِ النزوات أحرقت خلفي مركبي ورغائب ُ ّلبيك يا الله ْ اقبل توبتي وخضوعي
ّلبيك يا رحمن ارحم ذ ّلتي وخضوعي” قالت: ـ يقبل التوبة. 144
قال: ِ خفق قلبي حبيب واحدٌ في “ليس لي إال ٌ ألبي وحده أهفو إليه وله دوم ًا ّ
رب حبيبي وأنيسي في الليالي َ أنت يا ّ
ورفيقي في طريقي وخالصي عند كربي الحب ينبوع ًا لعمري أنت ذاك َ ّ
وربيع ًا في حياتي وحنان ًا بين جنبي
ولحون ًا في غنائي ونشيد ًا ملء ثغري وضياء في وجودي أهتدي منه لدربي” ً ابتسمت وهي ترقب مسحة اإلشعاع على وجهه ،قالت: ـ الحديث عن “شام شريف” قادنا إلى الحديث عن تلك القوة الباسطة سماحتها وغفرانها والقابلة لكل عودة ،والمانحة لكل ٍ عون. نهض:
َ الطرف” كما ـ ما دمنا في “شام شريف” يا رغد ،فأنا أريد أن “أن ِّقل طلبت مني عائشة الباعونية ،وأترك ِ لك حق االختيار ،اختيار المكان
نمر فنلقي تحية على مكتبة جدك الظاهر بيبرس أو ً ال ،ثم والزمان على أن ّ ن ّتجه إلى الجامع األموي فنص ّلي ،وندعو الله ،و ...أسير حيث تسيرين! 145
نقّل َّ الط ْرف كان البحر على يسارهما وقت اتّجها من قلب بيروت نحو جونيه. وبينما كانت تقود سيارتها كان يتأ ّمل زرقة البحر التي تعكس أشعة
األخاذ. شمس الغياب جمالها ّ
مصغ كان سعيد ًا وهو يترنّم بلحن أغنية ،وكانت تبتسم في صمت ٍ تقطعه تعليقات قصيرة موجزة لها عالقة بالمكان المتن ّقل: ـ على يميننا أنطلياس. قال: ـ الرحابنة. ضحكت: ـ أنطلياس الرحابنة وبزورية نزار قباني. ـ أترين ارتباط األشخاص باألماكن؟ ـ أرى.
بسبابتها ،وهما وعاد الصمت يل ّفهما ،وعاد يترنّم إلى أن أشارت ّ يدخالن نفق نهر الكلب ،قائلة: 146
ـ هو ذا نفق نهر الكلب ،وها هي ذي صخوره التي حفرت عليها مروا بلبنان ورحلوا .رحلوا كما يرحل ّ كل غا ٍز .رحلوا كما أسماء غزاة ّ ّأرخ سعيد عقل رحيلهم بقوله:
ٍ مجوس كم رأينا على المدى ،من ٍ وملوك ،ومن جنود ِ غزاة وأرباب وأنبياء، شعراء ٌ ٌ ُ
ِ صالة جثوا ،دون صخرنا ،في وقال: ُّ وتظل األموا ُه من نهر الكلب كبار ًا فوق اإلهانة قدرا
كركال ،يا رعمسيس ،ويا برقوق ّ الشط ،أوهام ذكرى. أنتم ،في
تأ ّمل الصخر والنهر على يمينه ،فالبحر على يساره وقال:
ـ ّ تذكرت صديقتنا الباعونية ،وها أنذا أن ّقل الطرف ،ولكن في لبنان
يسرني اكتشافه معك. الذي ّ
147
قالت: ـ من الشآم إلى لبنان أو العكس .وما دام الحديث عن سعيد عقل ،أرى
أن نسمع فيروز تغ ّني هذه العالقة بكلمات الشاعر وألحان الرحابنة ...ال بدّ أنك سمعت أغنية أو قصيدة “سائليني”
أحبها ألسباب سأشرحها بعد سماعها ـ آه ...كثير ًا... وأحبهاّ ... ّ معك. ف ّتشت عن شريط بين كوم أشرطة التسجيل المبعثرة في سيارتها. المهمة مع ّلق ًا: وحين وجدته وراحت تبحث عن األغنية ،تو ّلى ّ ـ انتبهي للقيادة وأنا سأجد األغنية.
انطلق صوت فيروز حين استرخى الشاعر على مقعده وشعور باأللق
يغمره:
سائليني حين ّ رت السال ْم عط ُ
ّ واعتل ُ الخزا ْم الورد كيف غار ُ رحت أسترضي َّ الشذا وأنا لو ُ النثنى لبنانُ عطر ًا يا شآ ْم
ض ّف ِ تاك ارتاحتا في خاطري
طير ِك في ّ الظ ِّن وحا ْم واحتمى ُ أودعت ِشعري سكر ًة أنا إن ُ 148
كنت ِ ِ المدا ْم السكب أو كنت ُ أنت ّ ُر َّد لي من صبوتي يا بردى ٍ ذكريات زرنَ في ّليا قوا ْم هذه الغوطة أوفى ترب ًة
بهم أم جبل النبك ُ القدا ْم
ظمئ الشرق فيا شام اسكبي
واملئي الكأس له حتى ِ الحمام أه ُل ِ ُ التاريخ من فضلتهم ك
ذكرهم في عروة الدهر وسام ِ ضقت بهم أمويون فإن
ألحقوا الدنيا ببستان هشام أنا لست َ الغ ِر َد الفر ْد إذا
قال طاب الجرح في شجو الحمام أنا حسبي أنني من جبلٍ هو بين الله واألرض كالم قمم كالشمس في قسمتها ٌ تلد النور وتعطيه األنام 149
انتبه ،مع نهاية األغنية ،من استرخائه وقال: ـ أما وقد عشت رخاء الجمع بين الحديث عن قوقعتيك لبنان والشام،
ورخاء الجمع بين الكلمة والموسيقا ،فأنا أبحث ،قبل أن أتكلم في
موضوعي الذي وعدتك بالحديث عنه ،عن أغنية فيروز الخاصة بي. دهشت: ـ أغنية فيروز الخاصة بك؟ ـ نعم ...أغنية مكة. ضحكت:
ـ آه ...موجودة وفي الشريط ذاته ...تعرف أنني أسجل أشرطتي
حسب الموضوعات ،وشريط فيروز هذا يحمل األغاني القصائد... أرجو أن تقلب الشريط لنسمع مع ًا. غ ّنت فيروز بكلمات سعيد عقل: مك َة َ يت ّ الصيدا غ ّن ُ أهلها ِّ
والعيدُ ُ يمأل أضلعي عيدا فرحوا ،فألأل تحت كل سما بيت على ِ بيت الهدى زيدا ٌ
رب العالمين عال وعلى اسم ّ 150
بنيانهم كالشهب ممدودا يا قارئ القرآن ِّ صل لهم
أهلي ،هناك ،وطيب البيدا راكع ويداه آنستا َمن ٌ
أن ليس يبقى الباب موصودا األنام رأت أنا أينما ص ّلى ُ
عيني السماء تف ّتحت جودا نظرت إليه بطرف عينيها ،فالحظ هذا ،فأطلق ضحكة: ـ أعرف ما يجول بخاطرك. ـ ما يجول بخاطري؟
ـ تتوقعين أن أطالب ،بعد أن ُشحنت بالحنين ،بأغنية (ر ّدني إلى بالدي) ،وأطالب ،بالتالي ،أن تعودي بي ،بد ً ال من مشوارنا إلى سيدة حريصا ،إلى مطار بيروت ،لكنني لن أفعل. استغرقت في الضحك:
ـ لم َي ُج ْل ّ كل هذا في خاطري ،لكنني كنت أحاول فقط أن ألتمس
مدى تأثير الكلمة المغ ّناة خاصة إن حملت معاني الوطن. سألها: 151
ـ الطريق طويل إلى سيدة حريصا؟
ـ ليس طوي ً ال ،فما إن نصل إلى جونيه حتى نتجه إلى مركز التلفريك
ومن هناك ستكون رحلتنا إلى فوق ،أو إلى حيث قال صديقنا سعيد
عقل:إلى جبل هو بين الله واألرض كالم.
لكنني أستطيع أن أصغي إلى ما وعدتني به من قول أو شرح لما أعتقد
أنه يتركز على عالقة الشعر بالغناء. ـ أحسنت يا شاطرة.
رفعت رأسها عالي ًا:
ـ أرأيت مدى ذكاء ُم ِ راف َقتِ َك؟
رد على سؤالي لك عما إذا كان أحد قبلي قد ـ ما هذا السؤال؟ ...كأنه ٌّ قال شعر ًا كما قلت. قالت: ـ هو كذلك ،والعين بالعين ،والسن بالسن ،والبادئ أظلم.
ضحك من جديد ،وعاد ليأخذ وضع ًا في الجلوس أشبه بوضع أستاذ يخاطب تلميذ ًا:
ـ اسمعيُ ...غ ّنيت قصائد كثيرة كما سمعنا قبل قليل ُ وغ ّنيت قصائد لي أيض ًا منها قصيدة (شيء كان) وقصيدة (صبر ًا يا سيد قلبي) وهما على
وزن البحر المتدارك ،وأعلمك أن أكثر قصائد نزار قباني المغ ّناة هي على 152
هذا الوزن ،كذلك أغنية محمد عبد الوهاب والتي كتبها أحمد شوقي
(مضناك جفاه مرقده) قالت:
ـ آه اآلن عرفت... ـ ماذا عرفت؟ ـ عرفت لماذا نحفظ بحر المتدارك كالتالي: ُ عجل نغم متداركنا ٌ
فعلن فعلن فعلن فعلن
ـ أحسنت.
قال هذا ثم استدرك:
ـ آسف يا رغد ...أحيان ًا تطغى علينا مصطلحات المهنة فنستخدمها
أشجع المجتهدين من طالبي بقولي: في حياتنا اليومية ،وقد اعتدت أن ّ ِ وأحسنت. أحسنت َ قالت: ـ ال بأس ،فما زلت طالبة. شجعتك. ـ عظيم ،وهكذا فلن أشعر باالرتباك إن ّ
قالت:
ـ ال ...لن تشعر ،على أال أعاقب إن أخطأت. 153
قال:
ـ ال أعتقد أنك تخطئين ...على كل حالّ ، تذكري أنني لست شيخ ُك َّتاب وال أحمل في يدي عص ًا أضرب بها الكسالى. ضحكت:
لست شيخ كتاب. ـ حسن ًاَ ،
ـ لنعد إلى موضوعنا. قالت: ـ تفضل. قال: ـ وكما ربطت بين المتدارك والنغم ،دعيني أترنّم بلحن أغنية (شيء
كان).
ـ ك ّلي آذان صاغية. ترنّم ثم غ ّنى: “شيء في صدري ٌ
شيء في صدرك كان ٌ ُ ونظرت إلى العنوانْ
هل يعنيني اليوم بشيء هذا العنوان؟” 154
تنحنح ،ثم نظر بطرف عينيه إليها:
ِ أعجبك صوتي؟ ـ قالت:
ـ ال ،أقصد ...أعجبني لحن القصيدة المتناسب مع كلماتها دون أن أنتبه تمام ًا إلى الصوت ،وذلك ألنني أعتقد أنك لست أنت مؤ ّديها. ـ لست أنا طبع ًا.
ـ آه! الحمد لله ،طمأنتَني. ضحك:
ـ اسمعي مقطع ًا مغ ّنى من قصيدة (صبر ًا يا سيد قلبي) على أن ّ تركزي،
على تناسب اللحن مع الكلمات ،ال على الصوت. ـ ّ تفضل. ـ اسمعي: “صبر ًا يا سيد قلبي ،صبرا قد أذهلني هذا األمر فعذرا إن كنت تلعثمت ،فذنبي
بحبي السترا أني جاوزت ّ هرت بأنوارك تغشاني و ُب ُ لم ِ تبق شموس ًا أو بدرا” 155
ـ الله! ـ أعجبك غنائي؟ ـ أعجبني لحن القصيدة المتناسب مع كلماتها ،فقط... ضحك:
ـ حسن ًا ...حسن ًا ...يجب أن ّ أتذكر أننا في لبنان حيث تعطى حرية
الكالم كاملة.
برمت شفتيها: ـ ليس بالضبط. استغرب: ـ يعني؟ ـ ّ أفضل العودة إلى الغناء. قال: الروي الذي يضفي النغم على القصيدة. ـ تنشأ الموسيقا في الشعر من ّ
فالشعر يحسن وقعه على السمع لحسن وقع قافيته ،ويسوء وقعه لضعف
قافيته وسوء وقع رو ّيه حتى لو تضمن المعاني البليغة والصور الشعرية الرائعة .اسمعي مث ً ال قولي في قصيدة (عذراء الرصافة): ٌ “عراقية عشتار في رسمها وفي 156
روح ُّ تدل على الطه ِر مناقبها ٌ
على كثرة ال ّلدَّ ِ ات تاهت بحسنها بحت لها أمري وفي غفوة الواشين ُ ً دالال بطرفها فقالت وقد أغضت
حنانك إني قد أموت من األس ِر” أترين نغم قافية الراء المكسورة وما تعطيه من موسيقا؟
ـ أرى ،وأرى أيض ًا موسيقا قافية الالم المكسورة الموسيقية: “من سكرة األملِ من بحره الهزلي ِ ِ األزل بالحب مغدور ًا من آتيك ِّ ٌ عذراء حائر ٌة شمعة في داخلي ُ
وفي يدي ٌ صفراء في خجل” باقة ُ ـ ولو كان لدينا الكثير من الوقت ،يا رغد ،لقرأت لك موسيقا النون
والباء والدال.
ـ لكننا نكاد نصل ...بل وصلنا إلى جونيه.
ترجال ،فشمل البحر والجبل بنظرة سريعة ما لبثت أن ّ تركزت على ّ 157
التلفريك المتن ّقل من الساحل إلى الجبل وبالعكس .سألها: ـ سنصعد إلى فوق؟ ـ إلى سيدة حريصا. ـ أرغب أن أرى المكان من فوق. ـ ّ تفضل. كان الصعود أشبه ،كما قال ،بالتحليق في دنيا الشعر فيه الكثير من
السمو ،والكثير من الجمال. ّ
التفت رجل عجوز إليه ثم ما لبث أن سأله باهتمام بالغ: ـ شاعر؟ ـ نعم. ـ عرفت هذا من تشبيهك.
ـ شكر ًا لك. ـ من لبنان؟
ـ بل من ّ مكة.
ـ أه ً ال بكل شعراء العرب في لبنان .اكتبوا قصائد لنا ،قصائد عنا ،فقد
سئمنا الحرب و ُتقنا إلى الغناء. يشرفنا أن نفعل. ـ ّ
158
ابتسمت رغد هامسة: التعرف باآلخرين والترحيب بهم؟ ـ أترى مدى إقبال اللبنانيين على ّ
قال وهو يتأمل اللون الخضر الممتد تحت ناظريه: ـ الطبيعة الجميلة تخلق نفوس ًا جميلة.
يلح أن يقف لينظر من علو إلى المنظر تجوال في المكان ،وكان ّ ّ الخالب ،وكانت تفسح له مجا ً ال من الصمت ليتأمل تسلل الليل إلى
الشجر والبيوت والبحر والسماء.
تنهد دون أي تعليق ،ثم ما لبث أن تراجع خطوتين إلى الوراء وقال: ّ
ـ لو..
ولم يكمل الجملة ،فهمست: ـ لو ماذا؟ ـ لو... ـ لديك أمنية؟ ـ أمان أوحى بها إلي المكان. تمن ما تريد إذن. ـ ّ
ابتسم وهو يرقب جموع المؤمنين صغار ًا وكبار ًا ،نساء ورجا ً ال وأطفا ً ال ،يشعل كل واحد شمعته ويتلو دعواته التي يأمل أن تستجاب .ثم
ما لبث أن انسحب بصمت وهو يصغي إلى صوت األجراس ترن برتابة. 159
الم ّ طل على ساحل جونية. جلسا في المطعم ُ
قال:
ـ أشكر ،يا رغد ،اقتراحك الرائع بزيارة هذا المكان الساحر شك ً ال ومضمون ًا. قالت:
ـ شك ً ال ومضمون ًا ..كأنك تتكلم عن قصيدة رائعة. ـ سبق وقلت إن الصعود إلى هنا يشبه التحليق في دنيا الشعر. ـ صحيح.
ـ ويشبه ،فيما يشبه ،مجموعة ألفاظ ّ تميز قصيدة تشكل صور ًا بديعة ّ
عن أخرى ،كما يشبه مجموعة ألفاظ تنبض بالجرس الذي يعطي القصيدة
إيقاعها.
ـ إنني في حضرة شاعر فماذا أقول؟
ٍ تتأخر في المجيء. ـ وأنا في حضرة الجمال يل ّفني فأعجب لقصيدة ّ
ّ ستهل.. ـ
ـ سأختار لها ،يا رغدّ ، أرق األلفاظ..
ـ تختار؟! الهين ،فهو منوط بدوافع تجربة ـ نعم ..وليس اختيار اللفظ باألمر ّ
النفسية والشعورية والفكر ّية.. الشاعر ّ
160
ـ الشكل والمضمون. القوي والمناسبة الالئقة به، القوي الضخم للمعنى ـ صحيح ..فاللفظ ّ ّ
واللفظ السهل الواضح للمعنى الرقيق حيث تستوجب السالسة المساواة
ما بين اللفظ والمعنى.
ّ ولكل هذا تأثير على الموسيقا؟ ـ
ـ طبع ًا فل ّلفظ في ذاته إيقاع ،ولعالقته باللفظ اآلخر إيقاع ،ولرو ّيه
ولقافيته إيقاع .ولقد سبق وأن دندنت قصيدتين لي من بحر المتدارك ِ اكتشفت ،بالطبع ،مكت ََشف ًا.. الذي ضحكت: ـ حسن ًا..
ال ،إلى استخدام األلفاظ التي ّ ـ فكيف إذا عمد الشاعر ،مث ً تشكل أحرفها إيقاع ًا بذاتها ،وترتبط بأخرى تحمل السمة ذاتها ،وسكبها في
قافية موسيقية.
ـ تقصد بحر المتدارك؟
ـ بل أقصد ،أيض ًا ،بحر الكامل ومجزوءه والوافر وغيرهم.. ـ أيمكن هذا؟
ـ يمكن طبع ًا ...وقد فعلت إذ جمعت في قصيدة (لو أنهم جاؤوك)
بين أوزان الكامل ومجزوئه والوافر ..فإذا بالكامل المخلوق للتغ ّني 161
المحض يقتحم السامع بدندنة تفعيالته الجهيرة الواضحة الممتزجة
بالمعنى المناسب والعواطف والصور .وإذا بمجزوئه الذي يشبه مجزوء الرجز يعطي التغني والترنّم للقصيدة ،يتبعه الوافر ذو النغمة التي ّ ترشحه
ٍ قوي سرعان ما لألداء العاطفي بما فيه من سرعة نغم وتالحق وتو ّقف ّ يتبعه إسراع فتالحق.
تنهد وقد أعاد ظهره إلى الوراء: ّ
ـ لوأنهم جاؤوك..
شربت من قهوتها رشفة ،ثم قالت: شرحت لي أسرار القصيدة قبل أن تقرأها لي. ـ لو أنك َ ـ وهل فات األوان؟ ضحكت:
ـ لم ُيف ْت ..بي رغبة أن أعو َد فأقرأ ّ كتبت. كل ما َ
سيدة حريصة قد استجابت لقسم من دعواتي؟ ـ َأوال تعتقدين أن ّ
سألت:
أي قسم؟ ـ ّ
ـ نيل الرضا. وعاد فاستدرك: قراء شعري. ـ رضا ّ 162
قالت:
ـ أرى فيك امتداد ًا لشعراء العرب القدامى الذين مثّلوا أمتهم إذ عاشوا
قضاياها وهمومها فكانوا إذاعتها ،ونالوا رضاها إذ نالوا ثقتها.
ـ كما أرى فيك ،يا رغد ،امتداد ًا للمرأة العربية القديمة التي تقول الشعر وتنقدهّ . بأم جندب زوجة امرئ القيس التي كانت تصغي ذكرتِني ّ
وتجادل ثم تحكمّ . ذكرتِني بأسماء تلك النساء العريقات في الدخول في عالم الشعر إلقا ًء ونقد ًاّ ..أم بسطام ،الخرنق بنت بدر أخت الشاعر
طرفة بن العبدّ ... ذكرتِني بالخنساء وليلى األخيلية ،وسكينة بنت الحسين وعلية بنت المهدي. ّ
تنسي عائشة الباعونية. ـ ال َ
ـ وال أنسى نازك المالئكة وقبلها أمها ،كذلك فدوى طوقان والكثيرات
الكثيرات.
تنهدت: ّ
عربي يحمل إرث أ ّمته. ـ جميل أن تكون في حضرة شاعر ّ
ـ وجميل أن تكون في حضرة امرأة عربية تتابع رسالة َم ْن سبقنها. نهضت:
ٌ تضمني إلى الالئحة. ـ شرف لي أن ّ ـ تستح ّقين.
163
ـ شكر ًا.. سيدة حريصا نحو ساحل جونية ،وكان يرقب كان التلفريك يغادر ّ ذلك االنتقال بدهشة شاعر دون أن يع ّلق بحرف. السيارة حتى توقف واستدار ببطء وما إن غادرا التلفريك م ّتجهين إلى ّ ناظر ًا حوله ،مع ّلق ًا: ـ ألول مرة أشعر أنني أرغب في البقاء هنا ،أو العودة إلى هنا. سألته: ـ أهي اإللفة؟ ـ هي كذلك. قالت:
ّ ولعل زيارة السيد ـ هذا الشعور ينتاب الكثيرين ممن زاروا لبنان. المسيح له خير دليل .لقد جاء مغادر ًا أبناء الحضارة العبرانية اليهودية التي لم تؤمن به ،فوجد في أبناء الحضارة الكنعانية الفينيقية قبو ً ومحبة ال ّ
عرف تالميذه إلى سبب مجيئه بهم إلى لبنان الذي ركبوا منه البحر، مما ّ وسافروا لنشر بشارتهم.
كان يصغي باستغراب: ـ رغد ..إنك تنقلينني إلى الماضي بطريقة رشيقة وتعيدينني إلى
الحاضر ألربط الزمان بالمكان.
164
مر من هنا؟.. المسيح ّ
قالت:
ـ زار صيدا وصور ،وع ّنف ،بعد أن لمس مدى تجاوبهما مع تعاليمه،
َ المدن التي جرت فيها أكثر معجزاته وما تابت .عرف المسيح أن لبنان مكان دافئ ،خصيب ،يقدّ ر تالميذه ،انطالق ًا منه أن يحققوا وصيته الوداعية القائلة“ :اذهبوا في األرض ك ّلها ،وأعلنوا البشارة إلى الخلق
أجمعين”.
تنهد: ابتسم ابتسامة عريضةّ ،
ـ رغد ..هل أطلب ِ منك طلب ًا أخير ًا؟ ـ ّ تفضل.
ـ أريد زيارة صيدا وصور غد ًا أو بعد غد..
ـ يسعدني هذا. بيروت 2002 / 7 / 2
165
166
الم�صادر والمراجع 1ـ األعمال الشعرية للشاعر: ـ أسفار الرؤيا ،دار القرويين ،الدار البيضاء،ط.1،2001 ـ جئت بعد الغرق ،دار الزهراء ،القاهرة،ط.2،1994 ـ الصهيل الحزين ،دار نشر المعرفة ،الرباط.1997 ، ـ مختارات شعرية ،المبدعون للدراسات والتأليف،يبرود ،سوريا،
ط.2000 1
ـ من خبايا الوجد ،مطبعة المعارف الجديدة،الرباط،ط.2001 ،1 2ـ دراسات عن الشاعر: ـ تقاسيم على أوتار إنسان ،دراسة إدريس بلمليح ،مطبعة دار القرويين،
الدار البيضاء ،ط.1،2001
ـ الحب النبوي في شعر عبد العزيز خوجه ،دار نشر المعرفة ،الرباط،
.2000
ـ القلق والذات اإلبداعية في شعر عبد العزيز خوجه ،د .إدريس
بلمليح ،دار القرويين ،الدار البيضاء ،ط.2001 ،1
ـ مختارات عبد العزيز خوجه ،اختيار ورؤيا نقدية :عبدالله عيسى، 167
دار نشر المعرفة ،الرباط ،ط.1997 ،2 3ـ اإلسالم وفئوية تطور العمارة العربية ،حيان صيداوي ،دار المتنبي،
.1992
4ـ البدو والبادية ،جبرائيل جبور ،دار العلم للماليين،ط.1988 ،1 5ـ تاريخ األدب العربي ،أحمد حسن الزيات ،دار الثقافة ـ بيروت. 6ـ جماليات المكان ،غاستون باشالر ،ترجمة غالب هلسا ،بيروت ـ
المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ،ط.1987 ،3
7ـ الحب في التراث العربي ،سلسلة عالم المعرفة( ،)63د.محمد
حسن عبدالله.
8ـ الحركة األدبية في المملكة العربية السعودية ،د .بكري الشيخ
أمين ،دار العلم للماليين ،ط.1995 ،1
9ـ سعيد عقل ،اإلبحار إلى فينيقيا ،إيمان بقاعي ،بيروت ،دار الكتب
العلمية.1995 ،
10ـ قراءات نقدية في كتب سعودية ،د .بكري الشيخ أمين ،الدار
السعودية للنشر والتوزيع.1999 ،
11ـ موجز الفلسفة اللبنانية ،سلسلة معالم الفكر اإلنساني ،كمال
يوسف الحاج ،بيروت .1974
12ـ الوعي والفن ،عالم المعرفة ( ،)146الكويت. 168
ال�سيرة الذاتية للم�ؤلفة حممد ،لبنانية. االسم :غريد الشّ يخ ّ ماجستري يف اللغة العربية وآداهبا اختصاصية يف حتقيق املخطوطات عضو يف اتحّ اد الك ّتاب اللبنانيني. مؤسسة ال ُّنخبة لل ّتأليف رّ والتمجة وال َّنرش ،بريوت. صاحبة ّ
اً معجًم� لغو ًّي�ا ،ه�و :املعج�م يف اللغ�ة والنح�و والرصف وه�ي أول ام�رأة تؤل�ف والقانونية واحلديثة ،وهو يف ستة جملدات ،حوايل والفلسفية العلمية واملصطلحات ّ ّ ّ 4600صفحة وحيتوي 71100كلمة.
األعامل األدبية: - 1حتقي�ق خمط�وط اعتالل القل�وب للخرائط�ي ( ت ،)327دار الكتب العلمية، بريوت2000 ، - 2معجم أش�عار العش�ق يف كت�ب رّ التاث الع�ريب ،دار قنادي�ل للتأليف والرتمجة والنرش ،بريوت .2007 مؤسس�ة ال ّنخبة لل ّتأليف رّ والتمجة - 3معجم اإلعالم املرئي واملس�موع واملكتوبَّ ، والنرش ،بريوت .2007 - 4معجم املرتادفات ،دار الراتب اجلامعية ،بريوت.2005 ، - 5معجم اإلعراب للطالب ،دار الراتب اجلامعية ،بريوت.2005 ، - 6معجم احلروف ّ والظروف ،دار الراتب اجلامعية ،بريوت.2005 ، - 7معجم األسامء ّ والضامئر ،دار الراتب اجلامعية ،بريوت.2005 ، - 8معجم األفعال وترصيف األفعال ،دار الراتب اجلامعية ،بريوت.2005 ، - 9معجم اجلموع وا ُمل َث َّنى ،دار الراتب اجلامعية ،بريوت.2005 ، - 10علم البيان ،دار الراتب اجلامعية ،بريوت.2006 169
- 11املعاين والبديع ،دار الراتب اجلامعية ،بريوت.2006 ، - 12املتق�ن :جامع لدروس اللغة العربية ،نحوها ورصفها ،دار الراتب اجلامعية، بريوت.2005 ، - 13املتقن يف البالغة والعروض ،دار الراتب اجلامعية ،بريوت.2005 ، - 14املتقن يف تبسيط اللغة العربية لط ّالب املرحلة االبتدائية ،دار الراتب اجلامعية، بريوت.2006 - 15املتقن العميل يف تبسيط اإلمالء العريب لط ّالب املرحلة االبتدائية ،دار الراتب اجلامعية ،بريوت.2006، - 16املتق�ن العملي يف تبس�يط القواع�د لطالب املرحل�ة االبتدائي�ة ،دار الراتب اجلامعية ،بريوت.2006، - 17املتقن العميل يف االستظهار ،دار الراتب اجلامعية ،بريوت.2006 ، - 18سلسلة أيام معهم: جرير ،ال ُّنخبة للتأليف والرتمجة والنرش ،بريوت.2009 ، نزار قباين ،ال ُّنخبة للتأليف والرتمجة والنرش ،بريوت.2009 ، حممد الفيتوري ،ال ُّنخبة للتأليف والرتمجة والنرش ،بريوت.2010 ، عبد العزيز خوجة ،ال ُّنخبة للتأليف والرتمجة والنرش ،بريوت.2010 ، هدى ميقايت ،دار قناديل للتأليف والرتمجة والنرش ،بريوت.2005 ، - 19فدوى طوقان ،دراسة أدبية ،دار الكتب العلمية ،بريوت.1994 ، - 20مي زيادة ،أديبة َّ الشوق واحلنني ،دار الكتب العلمية ،بريوت.1994 ، - 21قاسم أمني ،بني األدب والقضية ،دار الكتب العلمية ،بريوت.1994 ، احلب واجلامل والغزل ،دار الفكر اللبناين ،بريوت.1999 ، - 22موسوعة ّ - 23تقني�ات التعبير يف ش�عر عب�د العزيز خوج�ة ،دار قناديل للتألي�ف والرتمجة والنرش ،بريوت.2004 ، واإلنس�انية ،دار قناديل للتأليف ال�دالالت الف ّن ّية - 24ش�عر عبد اهلل بارشاحيلّ ، ّ والرتمجة والنرش ،بريوت .2003 - 25جمموعة قصص لألطفال عن احلواس اخلمس ،دار عون ،بريوت. 170
- 26كي�ف نحك�ي حكاية لألطفال ،قنادي�ل للتأليف والرتمج�ة والنرش ،بريوت، .2002 - 27رّ التبية وال ّتعليم من خالل ال َّل ِعب ،دار اهلادي ،بريوت.2005 ، مؤسسة ال ُّنخبة. وميات ّمحورّ ، قصة لألطفالَّ ، َ - 28ي َّ - 29أحىل ما قيل يف اجلامل ،دار الكتاب العريب ،بريوت .2005 ، - 30أحىل ما قيل يف احلكمة ،دار الكتاب العريب ،بريوت 2005 ، - 31حتقيق كتاب اإلمتاع وا ُملؤانسة ،دار الكتاب العريب ،بريوت .2005 ، - 32رشح ديوان جرير ،مؤسسة ال ّنور للمطبوعات ،بريوت.1998 ، - 33رشح ديوان أيب القاسم الشّ ايب ،مؤسسة ال ّنور للمطبوعات ،بريوت.1999، - 34رشح ديوان حافظ ابراهيم ،مؤسسة ال ّنور للمطبوعات ،بريوت.2001 ، - 35رشح ديوان امرئ القيس ،مؤسسة ال ّنور للمطبوعات ،بريوت.2000 ،
171