AL ARABI BOOK
101
نه ٌـر على َسـ َـفر
استطالعات مختارة من مجلة
بقلم وعدسة :أشرف أبو اليزيد
AL ARABI BOOK
سلسلة فصلية تقدم مجموعة من املقاالت واملوضوعات لكاتب واحد أو موضوعا واحداً تتناوله عدة أقالم.
رئيس التحرير
د .عادل سالم العبداجلادر عنوان الكتاب :نه ٌر على َسفَر استطالعات مختارة من مجلة العربي بقلم وعدسة :أشرف أبواليزيد الناشر :وزارة اإلعالم ـ مجلة العربي
نه ٌـر على َسـ َـفر
الطبعة األولى 15 :يوليو 2015 العنوان: ص.ب 748 :الصفاة -دولة الكويت -الرمز البريدي13008 : بنيد القار -قطعة - 1شارع - 47قسيمة 3
استطالعات مختارة من مجلة
جميع احلقوق محفوظة للناشر جميع اآلراء الواردة في الكتاب تعبر عن فكر كاتبها. Al -Arabi Book, 101th A River on Travel, Selected Investigations Published in Al -Arabi Magazine By:Ashraf Aboul-Yazid 15 July 2015 Publisher: Ministry of Information Al-Arabi Magazine. All rights reserved. E.mail: arabimag@arabimag.net www.alarabimag.net
2
بقلم وعدسة :أشرف أبو اليزيد
استطالعات مختارة من مجلة العربي ...بقلم وعدسة أشرف أبواليزيد وزارة اإلعالم :مطبعة حكومة الكويت
15يوليو 2015
نهر على َسفَ ر ٌ
نهر على َسفَر ٌ
AL ARABI BOOK
101
استطالعات مختارة من مجلة العربي ...بقلم وعدسة أشرف أبو اليزيد الكتاب مائة وواحد
في هذا الكتاب حني يساف ُر املرءُ ال يكتشف البش� � ��ر ،وال يستكشف األمكنة ،بل تعسر علي التواصل حينا ،فأقرأ من يعيد اكتشاف ذاته .كانت اللغة ِ ّ معجم االبتسامات بضع مفردات ،تفتح لي أبوابا مغلقة هنا وهناك، وتيس� � ��ر مهمتي في التنقل بني النهر والبحر ،بني الوادي واجلبل، بني الواحة والصحراء ،بني املدن الكوزموبوليتانية ،والقرى التي لم متسها نار العوملة.
AL ALARABI ARABI BOOK BOOK
101
نهر على َس َفر ٌ أشرف أبواليزيد
استطالعات مختارة من مجلة العربي
مقدمة
بني يدي هذا الكتاب متيزت مجلة العربي منذ تاريخ إصدارها في عام 1958م باس������تطالعاتها املصورة ،التي بدأتها باستطالعات وتقارير صحفية مصورة ،لتعريف قارئها بأهم مدن الوطن العربي. وسرعان ما توسع محيط الدائرة ،لتشمل تلك االستطالعات أهم عواصم ومدن دول العالم ،مبا فيها بعض املدن اإلسالمية التاريخية في آسيا وأوربا ،التي صارت في خارج حدود الدول العربية .وال يستطيع القارئ احلصيف أن يُسمي القائمني على تلك االستطالعات بأنهم صحفيون أو مصورون ،فاحلقيقة تؤكد رحالة مستطلعون ،مألوا ذلك الفراغ الذي طاملا ملسناه أنهم ّ في أرفف املكتبة العربية ،اخلاص باجلغرافيا وأدب الرحالت، فكانوا استمراراً خلط ومنهج ابن بطوطة وابن جبير وياقوت احلموي وابن املج������اور والهمذاني .وال نبالغ حني نقول إنهم تفوقوا على من سبقهم بحكم التقدم العلمي ،حني أصبحت إن املادة االستطالعية التي الصورة دليال على هذا التفوقّ . بني يديك –عزيزي القارئ -ما هي إال روح مداد أحد أقالم محرري مجلة العربي ،الذي جمع بني فن الرواية والش������عر واألدب والفن ،ذلك اجلمع الذي أهله ألن يحوز جوائز عديدة، أهمها: جائزة «مانهي» لألدب ف������ي كوريا اجلنوبية عام ،2014ثم 6
جائزة الصحافة العربية في الثقافة من نادي دبي للصحافة عام .2015كما مت تكرميه م������ن مجلة دبي الثقافية مرتني، كإعالمي وكش������اعر ،عامي 2009و .2013و ُك ِّرم أيضاً من جمهورية تتارستان -روسيا االحتادية مرتني :بدرع شخصية العام الثقافية لدوره في التعريف بالثقافة التترية عام ،2012 ودرع احتاد الكتَّاب ومسرح الطفل للدمى ،لترجمته عملني للشاعر عبدالله طوقاي ،كتبهما لألطفال عام .2013 وفي استطالعاته ،يأتي أشرف أبواليزيد ركنا للبناء االستطالعي في مجلة العربي ،وذلك بعد د .أحمد زكي وفهمي هويدي وسليم زبال ،وعلى رأس قائمة من املستطلعني ،من أهمهم :سليمان مظهر ،ود .محمد املخزجني ،وصادق يلي ،ويوسف شهاب، وأنور الياسني ،ود .محمد املنسي قنديل ،ومحمود عبدالوهاب، ومصطفى نبيل ،ومحمد حسني زكي ،كل أولئك املستطلعني وضعوا خبراتهم العلمية والعملي������ة ،ليخرجوا لك –عزيزي القارئ -مادة صحفية جمعت بني املعرفة واملتعة. وكل الرجاء أن تكون هذه االستطالعات املجموعة في هذا السفر مرجعا للباحثني والدارسني ،ليسهل استدعاؤها ،وتعم ِّ فائدتها.
د .عادل سالم العبداجلادر رئيس حترير مجلة العربي
7
متهيد
هذه الرحالت هذه الصفحات سيرة نهر على سفر ،قد يكون مصدره شالل هادر ،أو غيم ماطر ،فال يجمع موجاته سوى شغف بالرحلة، وعشق للحياة ،وأمل في مستقبل تذوب فيه احلدود اجلغرافية ِ ٍ حدود إقامة املصطنعة التي شيدتها السياسة دون أن تفلح في قسرية بني األفئدة التي اس������تقبلت صاحب هذه السطور في الشرق والغرب. حني يساف ُر املرءُ ال يكتشف البشر ،وال يستكشف األمكنة ،بل تعسر علي التواصل حينا ،فأقرأ يعيد اكتشاف ذاته .كانت اللغة ِّ من معجم االبتسامات بضع مفردات ،تفتح لي أبوابا مغلقة هنا وهناك ،وتيسر مهمتي في التنقل بني النهر والبحر ،بني الوادي واجلبل ،بني الواحة والصحراء ،ب���ي��ن املدن الكوزموبوليتانية، والقرى التي لم متسها نار العوملة. حني تتعرقل اخلطوات أمام شباك جوازات السفر .عندما يهدك القلق من تأخر الطائرة .حينما تس������تيقظ الليل بطوله انتظا ًرا ملوعد .أو يدفعك مش������ه ٌد من فوق قمة صخرية إلى
8
قراءة الشهادتني ،تعود آمنا ،فتنسى ذلك كله ،في حلظة تأمل ساكنة ،ومشهد غروب موح ،أو بني راحتي أثر عريق ،أو في حضرة إنسان جليل. حاولت أن جتتاز الكلمات عتبات املكرور ،سعيا إلى توثيق العمارة التي أعدها شاه ًدا على احلياة ،ألنها تكشف ما يحاول اإلنسان أن يخفيه ،في بيوت العبادة ،ومنازل السكن ،ومراتع اللهو ،ومرابع العمل ،وقالع الدفاع عن األوطان. كما حاولت حتليل مضمون املد َّون بأقالم الشعراء والرواة، الشعبيني والرسميني ،لنقرأ معا سيرة املكان بعيون املقيمني فيه والعابرين به ،واملهاجرين إليه. واألهم أنني حاولت أال أقسو ،ولو قسا املكان علي ،فما أنا إال عابر ،وما هذه الصفحات سوى سيرة مسافر ،وما املكان اخلالد إال صنيعة اإلنسان املغادر. هي دعوة مني لقراءة هذه الصفحات املتفرقات ،مثلما هي دعوة للقاريء ك������ي يكتب الصفحات اخلاص������ة به ،فلن يبقى سواها. أشرف أبو اليزيد
9
نهر على َسفَر | خريطة االستطالعات ٌ
10
11
نهر على سفر
ُق ْرطبة
احل َّرة القلعة ُ َ
نهر على َسفَر | قرطبة القل َعة ُ احل ّ َرة ٌ
ما إن انطلقت بنا السيارة مغادرين أشبيلية ،في الطريق إلى قرطبة ،حتى جعلني مشه ٌد متكر ٌر أتأ َّم ُل َ تلك الرحل َة .كان املشه ُد ِ مقطورات نقل خاصة ،تشبه األقفاص ،تتخذ وضعت على خليول ْ طريقنا نفسه إلى قرطبة .ال شك في أن هذه اخليول كانت معصوبة العينني ،حتى حتتمل السرعة ،مأسورة داخل أقفاصها التي ال تتيح سيارات أوربية من كل صنف .كانت لها سوى الوقوف ،بينما جت ّ ُرها ٌ َ أسالف هذه اجليادِ -املأسورة املع َّماة -انطلقت ح َّرة املفارقة أن حتمل على صهواتها فرسانا عربا فاحتني ،واستمتعت في انطالقتها مبشاهدة اجلبال اخلضراء ،والسهول اخلصيبة ،والغابات احلية، قبل أكثر من ألف سنة. علي سأفكر في اخليول األسيرة حني ندخ ُل قرطبة ،وسيكون َّ أن أبحث أين ذهبت كل هذه الكائنات البديعة! وسأدرك أن اإلجابة ِ عربات احلوذ ّيَة استقرت عند آثار املدينة القدمية؛ عندما أرى خيول التي حتم ُل السياح املتنزهني في احلارات الضيقة ،أو على الطرق املبلطة باحلجر قرب نهر الوادي الكبير ،وحول املرابع التي حتمل هوية املدينة وتاريخها ،مثلما هي أيضا وس� � ��يلة نقل لبعض رجال الشرطة اخل ّيَالة .وهكذا انتقلت وظيفة اخليول ،ودارت دورتها ،مع التاريخ ،والبشر ،واحلكايات؛ سألت نفسي :أال تختزل رحلة هذه اخليول رحلتنا نحن العرب في هذه األرض؟ أدركت أننا وجلنا كتاب التاريخ العربي في طريقنا إلى قرطبة، ُ في أوربا ،وكان يحلو لي وأنا أتابع الالفتات على الطريق أن أخ ّمن نطق أسماء املناطق واملدن والقرى الصغيرة التي عبرنا بها ،وأن حترفها السنون، أر َّد هذه األس� � ��ماء إلى أصولها العربية ،قبل أن ِ ّ وحتر َق أطرا َفها األحداثُ ،وتغي � � � َر مكام َن احلميمية فيها حروف األبجدية اجلديدة. 14
منارة مسجد قرطبة اجلامع الشاهقة بفرادتها املربعة التصميم هي رمز املدينة كلها بال منازع ،حتى بعد أن زال منها ما كان يزين رأس���ها من كرات الذهب والفضة ،وبعد إضافة األجراس إليها.
15
نهر على َسفَر | قرطبة القل َعة ُ احل ّ َرة ٌ
ُ يختبئ في كنت أنوي أال أحدثكم عن املاضي ،لكنن� � ��ي وجدتُه ُ يعيش دونَه ،وحني تلو ُح في األفق سفو ُح عباء ِة احلاضر ،وال يكا ُد جبال قرطبة؛ التي تتفرع من سلسلة جبال سيرا موريناّ ِ ، يذك ُرني بدءُ هطل املطر بقصة فتح هذه املدينة ،حني جاءها ليال قائ ٌد أرسله طارق بن زياد اسمه مغيث الرومي ،وكانت حامية قرطبة -التي أغفلت حراسة سور املدينة ،فلم فاجأها املط ُر والبرد القارس -قد ْ يفيقوا إال وهي حتت إمرة العرب ،ولتصبح املدينة بعد ذلك وفي عام 138هجرية حاضرة دولة اإلسالم في األندلس ،حني أسس األمير عبدالرحمن بن معاوية (عب� � ��د الرحمن الداخل) دولة بني أمية في األندلس ،ولتصل في عصر اخلالفة األموية ،بني عامي 316و 400هجرية ،إلى مستوى من الرخاء لم تشهده من قبل في العصور السابقة. لع َّل تذكر صور ِة األمس ،ميحوه تأمل صورة اليوم ،مثلما ميحو جعلت املس� � ��افة ( 135كيلومت ًرا) آي َة الليل النها ُر ،أفكار متناقضة ْ تقصر ،فنقطعها مع السائق السريع الذي بني أش� � ��بيلية وقرطبة ُ ال يعرف سوى اإلسبانية ،في وقت قياس� � ��ي .اإلسبانية هي اللغة األولى والثانية والثالثة ،حتى في األماكن التي تفترض فيها أنك تستطيع التصرف بلغة محايدة كاإلجنليزية ،ولم ال واإلسبانية لغة تغزو العالم اجلديد والقدمي م ًعا؟ تعلو موسيقى السيارة حينا ،حني تصعد بنا التالل ،وتنخفض كلما هبطت السيارة الوهاد ،وكأنها راقصة فالمنكو على خشبة سجا ُده أخضر .الفالمنكو فن حتتسيه املدن اإلسبانية مع مسرح َّ خبز احلياة ،رمبا منذ الطفولة .سنشاه ُد في إحدى األمسيات فتاة في العاشرة تؤدي أدوارا حماسية ،مبروحة تقليدية ،وثوب أبيض له ذي ٌل طويل ،تع ّبر بقوة عن نفسها في حركات تستعيد بها تاريخ 16
َاب األندلس .ل ْم ي َر َها قب َل أجيال من الرقص التقليديَ .فتَاة مِ ْن كت ِ إيقاعا ظ َّل يحل ُم به قب َل أ ْن الليلة .لكن األقدام ستنس ُج في رقصتِها ً يول َد! لع َّل العر َق الذي ت َد ْح َر َج قطر ًة قطرة ،مثل نهر الذهب ،فوق الوجه البرونزي تبخ َر م ْن فلج َحف َره ج ّ ُده قبل ألف عام في قرطبة. والقلب كتبها كت اجلس َد إلى حافة املسرح ِ لعل املوسيقى التي ح َّر ْ زرياب في لفافة خبأتها شاعرة عاشقة في قميص التاريخ .ولع َّل ٌ نبتت بذرتُها في الشرق قبل أن الثوب الذي ترتديه من شجر ِة قطن ْ فارس عبر املضيق .ال أذك ُر غي َر اسم الرقصة؛ (فالمنكو) يحمل َها ٌ َاب األندلس؟ فمن منكم يتذكر َفتَاة مِ ْن كت ِ
استحضار األندلس كنت حريصاً قبل السفر أال يأسرني تاريخ املدينة ،حتى ال أظل عند حافته أستد ُر عط َفه ،وأستعي ُد بهاءه ،وأال أبكي على األطالل، كي ال أفعل مثل معظم زائريها العرب كل يوم .لكنها كانت أقوى ،مثل كل بقاع األندلس التي ِ ّ تذك ُرك بأن لك فيها حج ًرا ينطق باسم أحد أجدادك ،من العلماء والفالسفة ،والفنانني والشعراء ،واملوسيقيني والبنائني ،وسواهم ممن شكلوا أزهى عصورها. يطمئننا العالمة بدرو مارتينيث مونتابث على مشاعرنا اجلياشة جتاه قرطب� � ��ة وأخواتها ،حني يقول لنا بعد أي� � ��ام من الوصول إننا ِح َ ضار) وهي املرتبطة مبفردة (است ْ في اللغة العربية منتلك مفردةَ ْ (األندلس) .وأن هذا االس� � ��تحضار ال توازيه أو تساويه مفردة في أي لغة أخرى ،وكأنه ير ّب ُت على أكتافنا ،بأن� � ��ه ال تثريب علينا أن ينس أن يلومنا ،حني يس ّ ُر إلينا حزنه نستحض َر األندلس ،لكنه لم َ وأس� � ��اه على إخفاق احلاضر العربي ،في موازاة إش� � ��راق املاضي العربي .فلنس� � ��تحضر األندلس ،ولكن لنكتب به� � ��ا تاريخا جدي ًدا، 17
نهر على َسفَر | قرطبة القل َعة ُ احل ّ َرة ٌ
ولنحضر إليها ،ال للتباكي ،ولكن لننسج حضو ًرا جديرا بنا كأحفاد صناع حضارتها. لكن التباكي لم يكن ديدننا وحدنا ،فكل من أضا َع َ أرضه بكى، أس َ وكل من ف َّرط في حقِ ه ِ كاتب إسباني ف ،ويحكي -أو يبكي - ٌ مسيحي سنة 854ميالدية ،هو ألفارو ،عن إهمال إخوانه تراثهم رب إخواني املسيحيون ألشعار العرب وقصصهم؛ فهم القدمي( :يَ ْط ُ يدرسون كتب الفقهاء والفالسفة احملمديني ال لتفنيدها ،بل للحصول على أسلوب عربي صحيح رش� � ��يق .فأين جتد اليوم علمانيا يقرأ التعليقات الدينية على الكتب املقدس� � ��ة؟ وأين ذلك الذي يدرس اإلجنيل وكتب األنبياء والرسل؟ واأسفا! إن شباب املسيحيني الذين هم أبرز الناس مواهب ،ليسوا على علم بأي أدب ،وال أي لغة غير العربية؛ فهم يقرأون كتب العرب ويدرس� � ��ونها بلهفة وشغف ،وهم يجمعون منها مكتبات كاملة تكلفهم نفقات باهظة ،وإنهم ليترمنون في كل مكان مبدح تراث العرب .وال ي� � ��كاد يوجد منهم واحد في األلف قادر على إنشاء رسالة إلى صديق بالتينية مستقيمة ،ولكن إذا اس� � ��تدعى األمر كتابة العربية فكم منهم يستطيع أن يعبر عن نفسه في تلك اللغة بأعظم ما يكون من الرشاقة)؟ إشارة الكاتب ألفارو إلى املكتبات واقتناء الكتب آنذاك في قرطبة كانت إش� � ��ارة حق ،ألن قصر احلكم في قرطبة قبل أكثر من ألف عام في عهد خالفة احل َكم املستنصر ( 366 - 350هجرية) كان يضم أعظم مكتبة أنش� � ��أتها دولة إسالمية في العصور الوسطى، تقع فهارسها في 44كراسة -ال تضم سوى العناوين -بينما ق َّدر املؤرخون عد َد كتبها بقرابةِ نصف املليون مجلد ،حتى أن مصن ًعا خاصا لتجليد الكتب قد مت تأسيسه خلدمة هذه املكتبة وحدها، النساخني ،واملراسلني الذين يقتنون لها الكتب فضال عن عشرات َّ 18
من كل حدب وصوب ،ويُحكى أن احل َكم أوفد ألبي الفرج األصفهاني ألف دينار ليرسل إليه أول نسخة من كتاب األغاني ،وفعل .ولعل ذلك هو املؤش� � ��ر الفاعل على الرابط بني نهضة قرطبة وما كانت متلك من كتب آنذاك .وهي رسالة تأتينا من ألف عام كوصية حكيم؛ فهل من مستمع؟ املكتبات اليوم في قرطبة ليس� � ��ت عالمة عليها ،فال جند هنا سوى الكتب السياحية بأكثر من لغة (ليس من بينها العربية) ،وال جند في املتاحف غير املخطوطات واملطبوعات اإلجنيلية املب ّكرة، التي يعود أقدمها للقرن اخلامس عشر امليالدي (فقط) ،مثلما هي احلال في متحف الفنون اجلميلة ،الذي أوقعنا الظ ّ ُن في اس� � ��مه أننا سنجد به كنوزا فنية عريقة أو معاصرة ،فإذا بالبناء الضخم، الذي يعود تاريخ إنشائه لفترة معاصرة إلنشاء املسجد اجلامع في قرطبة ،ويعود تصميمه للشكل التقليدي لفضاء البيت العربي ،وقد شغله أحد كبار رجال الدولة آنذاك ،ال يضم سوى لوحات َكن َِس َّية، معظمها لفنانني مجهولني؛ (هكذا قرأنا من عمل مجهول مسجله على معظم ما شاهدنا من إطارات ملونة أو لوحات منمنمة أو متاثيل دينية للسيدة العذراء ،واملسيح عليه السالم) ،مع لوحات من تولوا من األساقفة ،إضافة لبعض األثاث والسجاد العتيق (مبساحات أسطورية) والذي سحب من أراضي القصور العربية ،واستراح على اجلدران في هذا املتحف.
منازل قرطبة ِ بوابات املدينةِ ؛ امل ُ َس � � � َّما ِة بواب ُة أشبيلية .وهي نصل إلى إحدى أسراب احلمام لتهجع على بوابة ضخمة ،مفتوحة ،وآمنة ،أغرت َ جدرانها في سالم ،بينما تعبرها الفتيات على أجنحة الضحكات 19
نهر على َسفَر | قرطبة القل َعة ُ احل ّ َرة ٌ
إلى مقاعد الدراسة ،ومتر املياه أمامها في دعة ترسم على وجهها صورة حلجارتها .يداعب األطفال صفحة املاء بالبالونات والكرات. املدينة في عصورها القدمية كانت تبدأ هن� � ��ا ،لكن قرطبة اليوم أصبحت مثل بستان زيتون ،في قلبه بضع شجيرات متثل املدينة القدمية ،بينما باقي األش� � ��جار مدينة عصرية حتاول أن تستلهم عمارة املدينة القدمية ،فتنجح أحيان� � ��ا ،وال تكاد تُخفِ ق إال قليال. فال تزال املنازل اجلديدة تستلهم املدخل األندلسي ،صغر أم كبُر. وهو مربع أو مستطيل جتده بعد البوابة اخلارجية وقبيل املدخل بعض اجللوس فيه ،كأنهم للفناء الداخلي .وحني منر ليال سنجد َ في شرفة أرضية تطل على احلياة ،ال يبخل القرطبيون في تزيينها وإعدادها ،ودائما برسوم خزفية نباتية ،وألوان ساخنة وحية ،وأصيص ورد ،ومقعد أو أكثر. أما الطوابق العلوية فقد جعلت احلديقة في الشرفات ،ومزجت بني عصرية الش� � ��قق التي تفرضها املساحات ،وتقليدية التصميم الذي يرتاح إلى إقامة احلدائق أين يو ّلَى البصر ،حتى أنهم ينطلقون إلى احلدائق التي تتوزعها امليادين القرطبية ،في األمسيات ،وكثي ًرا ما ستجد فتيات وش� � ��بانا يتس� � ��امرون ،وكبارا في السن يتنزهون مبفردهم أو مع أحفادهم ،ونس� � ��اء ورجاال بصحبة كالب من كل صنف ولون ،وهي ظاهرة تس� � ��تحق التأمل ،فال يكاد مار بك -أو مارة -ال يرافقه كلب. ما إن تعبر بوابة أشبيلية حتى تدخل تاريخ العمارة األندلسية مجسد ًة َّ في منازل قرطبة :حارات ضيقة ،بيوت ال تعلو سوى طابقني على األغلب، وأس� � ��ماء يتردد صداها منذ ألف عام :نُزُل بغداد ،فندق أ ُ َم َّية ،مطعم البيت األندلسي ،وبعض األبواب يحمل أسماء أعالم عرب أندلسيني، كالناصر ،وابن رشد ،بحروف التينية ،وجرافيكية بصرية كوفية! 20
حدائق قرطبة املعلقة على اجلدران يضع القرطبيون أصص الورد فيما ميكن أن نسميه حدائق قرطبة املعلقة .الزهور تصافح العيون ،في بهو املنازل ،وفوق البئر القدمية ،وعلى اجلدران ،وداخل الشرفات ،وباحلدائق أمام يغرسها حية رسمها على الطاوالت حينا ،والبوابات املنازل ،ومن لم ْ حينا ،وموزاييك األرضيات وال َّدرج واألسقف واجلدران أحيانا .وهو ما حملناهُ في املنزل األندلسي ،وشاهدناهُ في البيت الهندي ،ورأينا بعضه في املعبد اليهودي. في سوق الصناعات احلرفية سنتعرف على واحدة من اآلالت األولى إلنتاج الورق في العالم الغربي ،أهدتها قرطبة لإلنسانية. وفي هذه الس� � ��وق املس� � ��ماة (زاكو) ،يقدم احلرفيون من كل أنحاء قرطبة صناعاتهم التقليدية التي ورثوها ويعرضونها للبيع .وكلها مواد يتم إنتاجها بحس أندلسي صميم ،من السيراميك ،واخلشب، والرخام ،والفخار ،واملعدن ،واألحجار الكرمية ،واجللود ،والورق. حتى متاثيل النسوة البدينات الريفيات ال تكاد تراها حتى يشدك الزي املزركش العائدات به من قلب التاريخ. ومن أهم ما مييز منازل قرطبة عنايتها باالستفادة من املساحة، مهما صغر املكان ،ولعل أهمية هذه املن� � ��ازل في األحياء احمليطة باملس� � ��جد اجلامع في قرطبة ،أنها تبقى شاهدة على تراث عتيق عريق ،بجدرها البيضاء ،وحدائقها املعلقة ،ونظافتها من الداخل، وأشجارها التي تعد جزءا من نس� � ��يجها الداخلي ،كشريان جتري به دماء من طيور وزهور في أهم مكان باملن� � ��زل؛ الفناء .وللبيت القرطبي باب خشبي كبير ،ونوافذ قليلة العدد ،بقضبان حديدية مطلية باللون األسود ،تطل على الطريق الضيقة ،بينما عدد النوافذ املطلة على حديقة املنزل أكبر ،وتكاد تكون مفتوحة طوال الوقت، 21
نهر على َسفَر | قرطبة القل َعة ُ احل ّ َرة ٌ
وتس� � ��تخدم األدوار العليا غرفا للنوم ،أما الطوابق األرضية فهي للمعيشة وإعداد الطعام. ويوجد في ركن من األبواب اخلشبية ،أو بإحدى ضلفتي الباب، مداخل أصغر ،رمبا للتواصل بني من هو داخل البيت ومن هو خارجه دون فتح الباب بالكامل ،حفاظا على حرمته ،أو خلروج األطفال ودخولهم .وتتضح في هذه البيوت مثاليتها في االستغناء عن تعقيدات احلياة ،بأنها تكاد تكون مكتفية بذاتها ،من حيث جلب املياه عبر البئر ،أو االنتفاع بالثمار ،أو تخزين الغالل ،وغيرها من الوظائف التقليدية التي ال تتجاهل طبيعة الروح الشرقية في احلفاظ على أهل البيت ،دون أن يشعروا أنهم في فضاء مغلق ،بل حديقة مآلنة بالنافورات ،والبحيرات ،مهما صغ� � ��رت ،والنباتات ،مثل القرنفل والياسمني ،وأشجار النخيل والليمون والنارجن. ويساعد صغر صحن املنزل القرطبي على احلفاظ على درجة حرارته ،وكذلك حمايته من البرودة ،وتتراص البيوت جنبا إلى جنب، كأنها فريق من املؤمنني يحمي بعضه بعضا .كما يوجد في البيوت الكبيرة أكثر من فناء ،ولذلك س� � ��هل على القرطبيني اليوم حتويل هذه البيوت إلى مشاريع جتارية مع احلفاظ على بنائها األصلي، وترميمها ،خاصة أن كل املواد املستخدمة في هذه البيوت التقليدية من البيئة احمليطة .ويتم تبليط األرضيات باحلجر أو الرخام ،أو بالطات دقيقة من املوزاييك ،وتتم حماية الفناء بغطاء علوي من النسيج ،أو بزراعة كروم العنب. وللمنزل س� � ��طح من جزأين ،أحدهما منحدر مغطى بالقرميد، حلمايته من املطر ،واآلخر أصغر ،ويسمى باإلسبانية azoteaوهي تصغير لكلمة سطح ،من العربية ُسطيح ،وهو لتجفيف املالبس ،وأيضا لنباتات الزينة ،وفيما عدا لون القرميد األحمر ،فإن الطالء األبيض 22
منازل قرطبة اجلديدة تس���تلهم املدخل األندلس���ي ،وال يبخل القرطبيون في تزيينها ، وقدميها حتول ملقاه وفنادق ،وألبوابها إفريز كثير الرسوم مثلما يبني في هذه الصورة.
23
نهر على َسفَر | قرطبة القل َعة ُ احل ّ َرة ٌ
هو عنوان البيت القرطبي من الداخل واخلارج م ًعا .ولبعض غرف النوم سقف مرتفع يسمى القبة (باإلسبانية alcobaوباإلجنليزية )alcoveوتس� � ��تخدم الفخاريات وقطع الصيني في تزيني الغرف األخرى ،وفي غرفة االستقبال البد من أن يوجد مقعد كبير على األقل ،مؤثث باحلواشي ،مع أثاث مريح له أكثر من هيئة.
قلْ لل ّ َز َمان ا ْر َج ْع يا زمان
ستفاجئك مهن كثيرة في ش� � ��وارع قرطبة القدمية ،فض ً ال عن احلوذية ،سترى بائع يانصيب عجوزًا يصيح :لوتاريا ،وتستوقفك ع َّرافة تقرأ الكف ،حاملة في يدها عشبات خضراء تطلب نقودا ورقية ،ال معدنية ـ ألن اليورو الورقي الذي أطاح بالعملة احمللية في بلدان االحتاد األوربي ،يبدأ باخلمسة -وال أقل ـ ستمسك الع َّرافة ٍ كلمات كفك اليس� � ��رى ،لتقرأ خطوط العمر واحلب واملال ،وتقول باإلسبانية ،وتهز هي رأسها كأنها تفهم أنك فهمت ،وهي ال تعرف من اإلجنليزية غير كلمتني :نقود ورقية! سيمر بك أيضا عازفو اجليتار ،نغمات تقليدية ،بأصابع دربة، شباب على األغلب ،يضع أحدهم صورته مع صورة عازف شهير راحل ،كأنه يقول إنه وريث ذلك الفنان ،وبجانب الصورة قبعة أو علبة أو سلة صغيرة يتلقى فيها هبات املستمعني من املارة ،أيضا ستؤجر لك بعض احملالت القبعات املكسيكية لتحتفظ بصورة لك ترتديها .ألف مهنة ومهنة ،بعضها جاء من صندوق املاضي ،واآلخر فرضت فكرته آليات السوق اجلديدة. فاجأنا صوت أم كلثوم؛ (وعايزنا نرج� � ��ع زي زمان ،قل للزمان ارجع يا زمان) .لم نكن نحن من يترمن بهذه األغنية الشجية ،بل عبر الصوت إلينا كأنه يدعونا للقاء كوكب الشرق في قرطبة! 24
دخلنا املكان عبر بهو قصير فإذا بنا في بيت أصبح مقهى ،مثل بيوت تقليدية كثيرة هنا استجابت لرغبة السياحة املنفذ الرئيسي للدخل في مقاطعات األندلس .ابتس� � ��امة النادل وترحيبه جعالنا نتيقن أننا في أرض عربي� � ��ة خالصة ،لوال أن زبائنه من الش� � ��رق األقصى ،والغرب األدنى .القهوة العربية ،وكئوس الشاي واإلبريق النحاسي بلون الذهب ،واحللوى الشرقية ،وآلة الفونوغراف يصعد منها صوت أم كلثوم ،عاليا شجيا ،كراسي من اخلشب واخلوص، ومرايا مطعمة بالصدف ،ومتثال لقارئ ،وبئر مغطاة بثمار اجلنة، وهانحن في الباحة من بيت ذي دورين ،حتولت غرفه إلى قاعات شرقية األثاث .قال لنا مستقبلنا :اسمي محمد ،بلدي املغرب ،جئت هنا قبل 15س� � ��نة ،وكنت في الثامنة عشرة .لم أشعر بالغربة ،بل أحسست أن هذا املكان جزء من مدينة تراثية مغربية ،بتصميمه، وحاراته الضيقة ،وأم كلثوم تؤنس وحشتنا ليال ونها ًرا .وقد عرفت منه أن مثله كثيرون ،قادهم البحر واحلنني إلى العمل في مقاطعات األندلس. و«عايزنا نرجع زي زمان ،قل للزمان ارجع يا زمان» ،وصفة سحرية نطق بها صوت أم كلثوم هنا في قرطبة ،استعادة الزمان ،واستحضار األندلس ،ال يعنيان في اعتقادي سوى استعادة الروح الوثابة نحو السفر ،والرغبة الوقادة للعلم ،واملغامرة الفنية التي جاءت -مثال - مبوسيقي من أقصى الشرق العربي مثل زرياب إلى قرطبة ليفجر ثورة حلنية اليزال صداها يتردد حتى اليوم ،من الشارع الذي يحمل اسمه ،إلى األماكن التي تسترجع وقع موسيقاه. ِ نح ّ ُن دائما إلى األماكن التي حتمل األسماء العربية ،غريزة لم نستطع التغلب عليها ،أن ترى في السماء اللون الذي حتبه العني، وتسمع من األس� � ��ماء االس� � ��م الذي تفضله األذن .بني حني وآخر 25
نهر على َسفَر | قرطبة القل َعة ُ احل ّ َرة ٌ
سنرى متثاال لعالم كالغافقي ،أو فيلسوف كابن رشد ،وابن حزم، أو منر بنصب تذكاري ألشهر عاش� � ��قني في املدينة ،وأقصد ابن زيدون ،ووالدة بنت املس� � ��تكفي .لكن ذلك النصب األخير لم يكن يكفي ،واعتقدت أنه أقل شأنا مما يستحقانه من مكانة وتقدير. بل إن وجوده على الطريق دون إشارة ودون حديقة ومن غير سياج أو حرم قد يعني -ضمن ما يعني -أن أهميتهما أقل من أهمية ابن ميمون ،الذي يحتفل به اليهود على مدار العام ،في كل مكان، بدءا من املعبد ،مرورا بتمثال� � ��ه ،في متاهات احلي اليهودي ،وإلى أماكن احتفالية أخرى .إن سماحة املدينة جتعلنا نلح على أن نحضر بها ،وأن نعيد إليها روحها العربية ،تلك الروح التي لم تخمد أبدا، والشواهد كثيرة .منها كان ش� � ��اهد العاشقني ،املدون عليه الشعر الذي يستعيد غرامهما بالعربية واإلسبانية ،ويحمل كفني يقتربان دون أن تتالمسا ،تقول والدة في بيتيها: ُ ����������������اف ع������ل������ي َ �������نّ�������ي أخ ������كِ ،م�����������ن ع�����ي�����ن�����ي وم ِ َ وم����������ن َ ���������ان �������������ان ���������������ن زم ����������ك ،وم �������������ك ،وامل���������ك ِ ْ ِ ول�������������و ِأنّ�������������������ي خَ ����������ب����������أ ُت َ ����������ك ف����������ي ع�����ي�����ون�����ي �������ة َم�������������ا َك������ف������ان������ي إل�������������ى ي�������������وم ال�������ق�������ي�������ام ِ فيرد بيتا ابن زيدون: ُ �������ه ف�����ي ال�����ن�����اس م���ش���ت ِ���ه���را ���������ن غ ي�����ا َم ْ ����������دوت ب ِ ق���ل���ب���ي ع����ل����ي َ �����ف����� َك�����را ����ك ي����ق ِ ����اس����ي ال������� َه������� ّ َم وال ِ ّ����س����ن����ي ��������م أل����������قَ إن������س������انً������ا ي����ؤ َن ُ إن غ�����ب�����تَ ل ْ ��������رتَ ف������ك ُّ ����ض����را ������ل ال������ن������اس ق������د ح َ وإن َح��������ض ْ
في رحاب املسجد اجلامع نصل إلى مسجد قرطبة اجلامع ،وهو -أو كان -أكبر مسجد 26
نصب تذكاري ألشهر عاشقني في قرطبة؛ ابن زيدون ،ووالدة بنت املستكفي ،مدون عليه الشعر الذي يستعيد غرامهما بالعربية واإلسبانية ،ويحمل كفني تقتربان دون أن تتالمسا.
27
نهر على َسفَر | قرطبة القل َعة ُ احل ّ َرة ٌ
في العالم الغربي على اإلطالق ،مبساحة تصل إلى 24ألف متر مربع .خريطة املسجد /الكاتدرائية /املتحف تضم تخطيطا لألثر مختلف األلوان ،ويدل كل لون باخلريطة على مرحلة مختلفة من مراحل بناء أو توسعة شملت املسجد عبر العصور املتعاقبة ،التي واكبت اتس� � ��اع مدينة قرطبة .كان عبدالرحمن الثاني هو صاحب التوسعة األولى ( 852- 833ميالدية) ،وهو اجلزء الذي شمله أكبر تغيير عند إنشاء الكاتدرائية ،بداية من سنة 1523ميالدية ،وتقع اليوم في قلب املسجد متا ًما ،وحتمل بذخا وترفا معماريا حاول أن يبهر العني فيصرفها عن معمار املسجد ،دون جدوى .أما التوسعة الثانية فنفذها احلكم الثاني ،بني عامي 961و 966ميالدية ،في ما قام املنصور بالتوسعة الثالثة في العام 987ميالدية. ندخل حيث مكان الزيادة الثالثة وهي التي ضاعفت حجم املسجد باجتاه النهر ،أي نحو اجلنوب ،حيث أزيل جدار القبلة ،لينقل قرب ضفة الوادي الكبير ،وليبنى سور يحجز املسجد عن الشارع املبلط، أو الرصيف الذي كان منتزه أهل قرطبة مثلما هو اليوم ،حيث شيدت صارية ونافورة ومتاثيل جديدة جعلت للمنتزه روحا كنسية ،تضاء الشموع أمام قديسيه ،طل ًبا حملبة مفتقدة ،أو مغفرة مرتقبة. ثم منيل حيث زيد املسج ُد للمرة الرابعة .وقد شيد املعمار على طراز بقية املس� � ��جد ذاته ،بأقواس مزدوجة ،ومداميك (مصاطب أو حوامل) أقواس من احلجر األبيض والطوب األحمر ،كما شيد للمرة األولى على نسق املس� � ��جد األموي في دمشق .منشي نحو احملراب املس� � ��يج ،وقد قام البهو املفضي إليه على أعمدة وقوائم مزدوجة ،فوقها قبة تستند على عصبات من احلجر ،وهو الطراز الذي غزا أوربا وعرف في ما بعد باسم الطراز القوطي ،بأعمدته وعقوده املدببة ،التي تقوم عليها قباب� � ��ه .احملراب مثل غرفة من 28
الرخام س� � ��قفها قطعة واحدة ،كأنها محارة ،مع بروز التناسق بني قبته والعروق التي تدعمها ،ومما يذكر أن هذا املس� � ��جد كان من بني املساجد التي يقتصر التزيني فيها على مساحات محددة ،غير اجلامع األموي في دمشق مثال. وإذا كانت األعمدة القرطبية في املسجد هي رمز العمارة اإلسالمية التي سادت آنذاك ،فإن املئذنة الضخمة الشاهقة بفرادتها املربعة التصميم هي رمز املدينة كلها بال منازع ،حتى بعد أن زال منها ما كان يزين رأسها من كرات الذهب والفضة ،وبعد إضافة األجراس إليها .والتزال أش� � ��جار النارجن تنمو في الصحن ،مثلما تنمو في صحون بيوت كثيرة زرناها في قرطبة ،وقد جتد على األرض ثما ًرا أينعت وحان قطافها ،فلما لم متتد إليها ي ٌد ،سقطت مبفردها! كانت املقتنيات في املسجد /الكاتدرائية /املتحف تع ِ ّبر كلها عن التاريخ الرس� � ��مي ،إال في مجموعة من اإلطارات الزجاجية ،ولن أترككم تخمنون كثي ًرا ،فقد احتوت هذه اإلطارات على أسماء بناة املسجد؛ مئات من األسماء والتوقيعات واخلربشات ،نقلها اإلسبان من على األعمدة ـ حيث نقش العمال أسماءهم حف ًرا ـ على قوالب من اجلبس األبيض :عبدالله ،مسعود ،سعد ،نصر ،كمال ،يوسف...، وحروف وعالمات ورموز يتوه منها املعنى .لكن ذلك كله كان يحمل بصمات املجهولني الذين مضوا وأرادوا أن يتركوا وراءهم أث ًرا ملن يقتفي. وما أود إضافته حول النقوش املزينة لألقواس التي تعلو أبواب املسجد ،أنها تؤكد القيمة اجلمالية للحرف العربي ،مبرونته ،وطوعه التشكيلي للزخرفة ،مثلما تبرز التوريقات (الزخارف النباتية) ثراء الطبيعة القرطبية بشكل خاص واألندلسية بشكل عام ،سواء في املراوح النخيلية ،الكاملة أو أنصافها ،والزهور ومصغراتها ،والفروع 29
نهر على َسفَر | قرطبة القل َعة ُ احل ّ َرة ٌ
والسيقان ،والفصوص التي تنبس� � ��ط ،وتنكمش ،وتنثني ،كأن في احلجر حياة حني تلمس بروزها .وترتكز هذه النقوش على موجات من لفائف نباتية ،كأنها مهاد لكائنات احلروف العربية احلية ،التي يجملها التماثل والتناظر ،وخاصة في ما يعكس التكوين األيس� � ��ر صورته اليمنى ،وال شك في أن الطرز املعمارية في الغرب قد شربت من وعاء الزخرفة هذا حتى ارتوت. أما األفاريز التي تطوق الكتابات ،سواء كانت مستطيلة أو مربعة، أو داخل سياج العقود ،فتمتزج فيها األش� � ��كال الهندسية باحلياة الزخرفية النباتية امتزاجا ليس فيه انفصام .ويبقى التواتر بني اللونني املميزين ،الوردي الداكن واألبيض ،عالمة على املسجد ،والعمارة األموية ،وهو األمر الذي سنجد صداه في العمارة القرطبية حتى املعاصر منها ،فضال عن البراعة في اس� � ��تخدام األلوان التي ورد ذكرها في القرآن الكرمي ،في التعشيق والتذهيب ،مثل األخضر، واألحمر ،واألصفر ،ولوني الذهب والفضة ،وقد سمى الفنان املسلم اللون األحمر الداكن باملرجان ،كما وردت مفردته القرآنية ،واللون األزرق باإلستبرق ،واألخضر الفاحت بالسندس وهكذا .وكان توزيعها يبعث النش� � ��وة في النفس ،مثلما يدعو إليها التأمل دون كسل ،أو كلل ،أو ملل.
القلعة احلرة ِ وسطها متثال القديس نعبُ ُر القنطرةَ الرومانية ،التي يقف في رافائيل وحتت قدميه شموع املتبتلني ،محاطة بالشرائط احلمراء، وبقايا الدموع والدعوات والبركات .نصل إلى الطرف املقابل لرصيف منتزه مسجد قرطبة اجلامع حيث ينتصب بر ٌج أصبح متحفا ،ال يزال يحمل اسمه العربي :برج القلعة احلرة أو Torre Calahorra 30
باإلسبانية .ندخل «متحف احلياة األندلس� � ��ية» أو متحف الثالث ثقافات ،الذي تشرف عليه مؤسسة روجيه جارودي ،بعد إعالنه أثرا في ،1931والذي بدأ دوره كمتحف عام 1987ميالدية ،وهو متحف يعبر عن السماحة التي غمرت املدينة حني تعايش املسلمون واليهود واملسيحيون فيها. عند املدخل نتسلم سماع َة رأس ،تختارُ من بني أربع لغات ـ األملانية، اإلجنليزية ،الفرنسية ،اإلسبانية ـ تعليقا يصاحبُك كلما دخلت غرفة من غرف املتحف .تدخل املكان ،وتضغط الزر ،فينس� � ��اب التعليق الشارح باملوسيقى واملؤثرات السمعية والبصرية ملا تراه أمامك من مجس� � ��مات حتكي لك نظام الري الذي ابتدعه املسلمون في أوج ازدهار احلضارة األندلسية ،وصور احلياة في قصور اخللفاء ،ومدينة الزهراء ،ومجالس احلرمي ،ومس� � ��امر األمراء ،ورحالت القوافل، ومعمار البساتني واملنازل .حتى قصور احلمراء في غرناطة ،يضم منوذجا كامال لها ،تستطيع أن تلقي «متحف احلياة األندلس� � ��ية» ً عليه نظرة طائر ،وأن تنظر من خالل منوذج مقطعي إلى املصلني في مس� � ��اجدها ،مثلما تس� � ��تمع إلى خرير املياه في نافورتها التي حترسها األسود. حني نصل إلى س� � ��قف البرج مينحنا االرتفاع فرصة مشاهدة املدينة من عل .الس� � ��طح يرفرف عليه علمان ،للمملكة اإلسبانية، وقرطبة .ومييز علم قرطبة شريط أبيض رمبا يرمز للسهل ونهر الوادي الكبير ،يقف عليه رجل يروض أسدين ،بينما يكتمل العلم بش� � ��ريطني باللون األخضر أعلى وأدنى الشريط يرمزان للمزارع اخلضراء التي حتيط قرطبة شماال وجنو ًبا .في حني تبدو املآذن التي حتولت إلى أبراج حلمل األجراس واضحة ،في منط متكرر، ش� � ��مله التغيير القس� � ��ري للوظيفة دون أن ينجح في تغيير الشكل 31
نهر على َسفَر | قرطبة القل َعة ُ احل ّ َرة ٌ
املعماري اجلمالي. لكن الغرفة الثانية في «متحف احلياة األندلس� � ��ية» ،ويسمونها غرفة الفالس� � ��فة ،هي التي عبرت بحق عن روح قرطبة اخلالدة التي صعدت بها لتكون عاصمة للحضارة األوربية في ذلك الزمان. ها هو امللك ألفونسو العاشر جالسا أمام ثالثة من أعمدة التنوير في املدينة؛ ابن عربي ،وابن رشد ،وابن ميمون .ويأتيك عبر امليكروفون صوت األربعة في حوار فلسفي حول ُكنه احلياة ،ومعانيها .فاملسلمون مجسدون في ابن عربي وابن رشد ،واليهود حاضرون في شخص ابن ميمون ،واملسيحيون ميثلهم امللك ألفونسو احلكيم ،هم شهود القرنني الثاني عشر والثالث عشر امليالديني ،الذين حملوا للعالم الرسالة األندلسية ،للحرية والتسامح واإلبداع الفني والتقني في هذه العصور احلضارية الذهبية :يقول ابن رشد ،باإلجنليزية ،فلسفتنا حاولت ليست ذات جدوى ،إن لم تكن قادرة على الربط بني ثالثة، ُ أن أجمع بينها في جتانس العلم والدين ،العلم املؤسس على التجربة الكتشاف األسباب ،واحلكمة التي تنعكس على الغرض الذي يرمي إليه كل بحث علمي جلعل حياتنا أكثر بهاء ،والكشف الروحاني للقرآن الكرمي الذي نخلص به إلى مرامي حياتنا وتاريخنا .بينما يردد ابن توح ٌد .توحد العشق والعاشق واملعشوق ،وكل عشق هو عربي :الله ّ ُ رغبة في التوحد .وكل عشق ،بإرادتنا أو دونها ،هو تقرب لله. في القلعة احلرة وصلت إلى مغزى قرطبة؛ قيمة احلرية ،التي ِ وس َم ْت سماء املدينة في أزهى فترات حياتها ،حرية كانت تسمح ألبي بكر بن ذكوان قاضي القضاة بقرطبة رفض تسليم أموال األوقاف ألبي احلزم ابن جهور ،رأس دولة بني جهور ،كما أنها سمحت البن حيان بانتقاد أمراء الطوائف دون أن ميسه سوء منهم .وزان قيمة احلرية قيم أخرى كطلب العلم ،الذي بقيت أدواته وعالماته حتى 32
اليوم في املتحف ،من مباضع التشريح ،وأساليب املالحة ،ووسائل اجلغرافيا ،وعادت األذن تس� � ��مع ـ حتى عبر لغة أخرى ـ مفردات اللغة العربية في قرطبة. لم تتوقف اللغة اإلس� � ��بانية عن النهل من لغتن� � ��ا العربية ،وهي حتتوي على آالف املفردات التي تصافح األذن من حني آلخر .بل إننا في قراءة التراث الش� � ��عبي علينا أن نق� � ��ف أيضا عند األمثلة الشعبية التي عرفت الرحلة إلى األندلس ،ألم نقل« :عصفور في اليد خير من عشرة على الشجرة» ،هم يقولون Mejor pajaro ،en mano، que cien volandoألم نسخر ممن «يعملون من الفسيخ شربات» ،اإلسبان يقولون،Hacer de tripas corazon : وقد جمعت د .علية العناني قبل عش� � ��رين عا ًما عش� � ��رات األمثلة واحلكم واألقوال العربية التي اس� � ��تقرت بعد خروج العرب :السن بالسن والعني بالعني والبادي أظلم ،ابن الوز عوام ،دوام احلال من الدين هم بالليل ومذلة بالنهار، احملال ،وقت البطون تتوه العقولَّ ، تراعيني قيراط أراعيك قيراطني ،باب النجار مخلع ،ي ّدي (يعطي) احللق للي بال ودان ،القين� � ��ي وال تغديني ،يصطاد في املاء العكر، وغاب القط ،العب يا ف� � ��أر» Cuando no esta el gato، los .ratones bailanوإذا عرفنا كيف تشكل األمثال الشعبية آليات احلياة اليومية ،يتأكد لنا أن هناك عادات وتقاليد التزال حية في شرايني املدن التي سقتها قرونا ميا ُهنا العربية ،بل إن شبها كبي ًرا بني صيحات التهليل الفرحة للمرأة الشامية ،والنسوة اإلسبانيات، يجزم بأن جذورا واحدة سقت ثمرة هذا التشابه. وحني تستضيف جامعة قرطبة األمس� � ��يات الشعرية العربية، أتذكر مهرجانا س� � ��نويا تقيمه جارتها غرناط� � ��ة في إطار برنامج شعري تنظمه املؤسس� � ��ة األوربية العربية باملدينة برعاية األمني 33
نهر على َسفَر | قرطبة القل َعة ُ احل ّ َرة ٌ
العام للمؤسسة خيس� � ��وس جونثاليث لوبيث ،حيث تتلى قراءات شعرية عربية معاصرة ،وليعود الشعر العربي إلى أسماع أحجار قصور احلمراء .علينا أال نتوقف عن اإلنشاد ،وأن يكون نشيدنا مسموعا ،وأن نصل إلى اجلهة األخرى من اجلسر ،خاصة أن لنا هناك محطات تذكرنا. نعيش مع الشعر ونحن نصعد الطريق إلى مدينة الزهراء -أو ركامها وأنقاضها -على جبل العروس ،املشرف على قرطبة من الناحية اجلنوبية ،وبعيد ستة كيلومترات من قلب املدينة .هناك حيث بدأ في أول احملرم سنة 325هجرية ( 936ميالدية) اخلليفة عبدالرحمن الناصر في تشييد عاصمة ملوكية ذات طبقات ،يصل املاء ألعالها عبر قنوات خاصة جتمع مياه املطر على سفوح جبال سيرا مورينا .كانت أقسام املدينة على درجات ،يرقى إلى كل قسم منها بدءا من باب األقباء (جمع قبو) حيث حتيط القباب به ،مرورا بطريق مبلطة وممهدة تقوم عل������ى جوانبه غرف احلرس وتظله األعمدة واألشجار ،حتى يصل إلى باب السدة ،حيث القصر .وقد افتتح جامع الزهراء عام 941ميالدية ،وانتقل اخلليفة ومؤسسات اخلالفة إليها بعد ذلك بأربع سنوات .في هذا العبور يشاهد في املستوى األول مساكن اجلند ،ومأوى احلرس ،وأماكن أصحاب احلرف ،ممن يعملون في خدمة املدينة ،وفي املستوى الثاني قصور كبار رجال الدولة ،وجماعات احلرس اخلاص باخلليفة ،واحلمامات واملساجد اخلاصة بهم ،وفي املستوى الثالث البهو الكبير الذي أعد الستقبال امللوك األجانب وسفرائهم .وقد وردت إليها سفارة هوتو ملك الصقالبة ،إمبراطور اإلمبراطورية اجلرمانية املقدسة، وسفارة ملك الفرجنة في فرنسا ،هيو كابيه ،ومركيز بروفنسا في جنوب فرنسا ،الذي أصبح ملكا إليطاليا في 926ميالدية ،ومركيز 34
توسكانيا جريدو بن أدلبرت وس������فارة كونت برشلونة وطركونة، املغيرة بن س������ونير ،ويوحنا الكرزي ،الراهب املسيحي األملاني، حيث حجوا جميعا إلى درة أوربا آنذاك .وباإلضافة إلى ذلك كله كان هناك القصر الذي يذكر امل������ؤرخ ابن عذارى (القرن الثامن الهجري) أن حول حوض السباحة في بهو القصر كان ينتصب 12متثاال من الذهب األحمر املرصع بالدر النفيس ،املنجز بدار الصناعة في قرطبة .وأن سواري مدينة الزهراء (األعمدة) بلغت ،4313منها 1013من إفريقيا ،و 140هدية إمبراطور بيزنطة والباقي من األندلس .وإذا كانت الزهراء قد تكلفت ذلك فإمنا كانت صورة من ازدهار قرطبة التي يشاع أنها ضمت آنذاك 113 ألف دار ،و 300حمام ،وبلغ عدد مساجدها اخلاصة والعامة ثالثة آالف! ولعلي أسرفت في احلديث عن ال َزّهراء عج ًبا ،ألني لم أجد شيئا مما قيل في كتب التاريخ واعتمدته املصادر ،لم يكن هناك سوى الهواء العليل ،وبضعة أعمدة ،من واجهة رواق مدخل القصر ،وصالون عبدالرحمن الثالث ،كأنها حروف توقيع على رسالة احترقت فلم يبق منها سوى النذر اليسير .حتى أن ما لم يُسرق ،أو يُخ َّرب ،وبقي من مقتنيات ،مت نقله إلى املتاحف ،ذهب كل ش������يء ،وبقي االس������م؛ ال َز ّْهراء! أقول في الزهراء نعيش مع الشعر ألن ابن زيدون قال يتغزل يو ًما وهو يصعد الطريق ذاته الذي صعدناه قبل قليل: ����������ك ب����������ال���������� ّ َزه���������� َراءِ ُم����ش����ت����اق����ا ِإنّ�������������ي ذ َك����������ر ُت ِ واألف������������قُ ط�����ل ٌ �������د راق�����ا �����ق ،وم����������رأى األرض ق ْ ِ ٌ أص ِ ��������ائ��������لِ ِ ��������ه ّ������س������ي������م اع ول������ل������ َن ِ ���������ت����ل����ال ف��������ي َ ك�����������أ َنّ�����������هُ ّ َ ��������ل إش�����ف�����اق�����ا رق ل�����������ي ،ف��������اع��������ت ّ َ وقد خربت الزهراء أيام الفتن� � ��ة الكبرى ،لكن قول ابن زيدون 35
نهر على َسفَر | قرطبة القل َعة ُ احل ّ َرة ٌ
فيها يستحضرها متذكراً ومتشوقاً: ُ ��������ازح أَال ه������ل إل��������ى (ال����������زه����������راء) أ ْو َب ����������������ة ن ٍ ������زح������ا ت�������ق ّ َ �������ض�������ى ت�����ن�����ائ�����ي�����ه�����ا م��������دام�������� َع��������ه ن َ ��������ت ج����ن����ب����ا ُت����ه����ا ْ��������ك أش��������رق ْ �����ر ُم��������ل ٍ م�����ق�����اص�����ي ُ صبحا �����ع�����ش�����ا َء اجل���������ونَ أث����ن����اءه����ا ف���خ���ل���ن���ا ال ِ َ يمُ�������ث�������ل ق�����رط�����ي�����ه�����ا ل���������ي ال���������وه���������م ج������ه������ر ًة ���س ْ ���ح���ا ���ط َ ف���ق���ب���ت���ه���ا ف���ال���ك���وك���ب ال������� ّ َرح َ �������ب ف���ال ّ َ ���������ح ُّ ���������اح ي�������ذْ ك�������ر اخل������ل������د طيبه َم َ ���������ل ارت���������ي ٍ ضحى إذا ع��ـ��ـ��ـ��ز أن ُي��ص��ـ��ـ��دى ال��ـ��ـ��ـ��ف��ت��ى ف��ي��ه أو َي َ منوذجا لألنثروبولوجي ،وأكاد أقول إنه مثلما كان ابن زيدون ً وصف علماء احلملة الفرنسية مصر في موسوعتهم (وصف مصر)، فإن أشعار ابن زيدون وصفت قرطبة ،فكأنه احتفظ لنا بجغرافيتها، وطبوغرافيتها ،وكائناتها حية عبر القرون ،بل وأعالمها ،ويكفي أن نور َد بيتا من قصيدة امتدح بها املعتمد ،هو البيت امل ُ َط ّيَر ،جمع فيه احلروف األولى من بعض طيور قرطبة: ظاف ُر أنت إن تّغزُ ِ
ينافر لي ِط ُع َم ْن َف ُ ُ
والطيور حسب ما ترمز إليها حروف البيت ،إذ إن كل حرف يرمز بصورته إلى طائر ،هي( :أ) قمري (ن) عصفور (ت) بلبل (إ) قمري (ن) عصفور (ت) بلبل (غ) نسر (ز) شفنني (اليمام) (ظ) غراب (ا) قمري (ف) دراج (طائر مغرد نحيف طويل اجلناحني يسمى عند العامة أبو ضبة ،ويقال إن تغريده كموسيقى عبارة بالشكر تدوم النعم) (ر) زرزور (ف) دراج (ل) غرنيق (طائر من فصيلة الكراكي) (ي) ُم َّكاء (طائر سريع العدو ال يفارق أنثاه إذا غرد في غير روضه كان نذير شؤم) (ط) شرشور (أبو براقش ،يشبه البط) (ع) باشق 36
(من اجلوارح) (م) شاهني (ن) عصفور (ي) مكاء (ن) عصفور (ا) قمري (ف) دراج (ر) زرزور. ومن الطيور األخرى التي عاشت في قرطبة ووردت أيضا في ش� � ��عر ابن زيدون :األعصم؛ وهو من الغرب� � ��ان ،والبازي ،وهو من الصقور ،واحلبارى ،والرأل وهو ولد النعام ،والرهو ،من الكراكي، والسمام ،طائر رقبته قصيرة ورأسه عريض ،والسمان ،والشقراق َّ والعقعق وهما من الغربان ،والصرد ،وهو كالعصفور ،والظليم والهيق، وهما اسمان لذكر النعام ،والعنقاء ،وذكر البوم؛ الفياد ،والقبج وهو احلجل ،والهديل وهو ذكر احلمام ،والورش� � ��ان وهو ذكر القماري، من فصيلة اليمام. ولكن بستان الطيور الش� � ��عري الذي قدمه ابن زيدون ،ال يدل على موهبة شعرية وحسب ،بل على أن قرطبة كانت حديقة ثرية بطيورها ،مثلما هي اليوم ،ويضعون مناظير مقربة على ضفتي النهر لتراقب منها أسرابها ،فضال عن غنى النهر بكائناته البحرية .وقد حرص اإلسبان على وضع ٍ ثبت بأسمائها على لوحات ضخمة تراها حني تعبر اجلسور التي تربط ضفتي الوادي الكبير ،وكأنها دعوة لك لتأمل السماء واألرض وما في قلب املاء ،كما هي أيضا غنية بأشجارها وزهورها في حديقة النباتات التي منر بها كلما انطلقنا من املدينة العتيقة إلى اجلامعة مبحاذاة النهر. كنت أتطلع في جولة الوداع داخل أحد أحياء قرطبة اجلديدةُ ، ملبنى شاهق يرتقيه شاهد معماري ،يشب ُه املئذنة في تصميمه ،أو هكذا متنيت .يخرجني أحدهم من أحالمي حني يقول لي :بل هي مانعة صواعق! كانت تلك هي املسافة بني احللم والواقع ،لكن الواقع يتغير حني نحافظ على أحالمنا ،ونعمل على حتقيقها ،وما عودة اللغة العربية إلى قرطبة ،القلعة احلرة ،إال بداية األحالم. 37
نهر على سفر
برلني
مو َّحدة وردة بيضاء ...عاصمة َ
نهر على َس َفر | برلني ...وردة بيضاء ...عاصمة م َو َّحدة ٌ
خريف برلني .2003شمس خجول يحييها مطر خفيف يتسلل من سماء نيلية .أستمتع باالنتقال سي ًرا على القدمني بني ما كان يسمى بشطري العاصمة األملانية ،فلم يعد هناك ما مييز قسمي املدينة سوى ش������واهد الذاكرة .االنتقال حق ومتعة لم أبدا حتى التاسع من نوفمبر 1989يوم سقط يكونا ليتحققا ً جدار كان يشطر الوردة البيضاء ،برلني ،قبل أن تعود عاصمة ألملانيا املوحدة.
اجلدار ...في بطاقة بريدية! حني أسدلت احلرب العاملية الثانية ستار نهايتها ،توزعت األرض األملانية بني نظامني اجتماعيني عكسا صورة أطراف احلرب .ففي الغرب قامت جمهورية أملانيا االحتادية وفق نظام دميقراطي حر سعى منذ نشأته إلى الوحدة األملانية الكبرى ،أما في الشرق فقد وجد النظام الشيوعي ذاته في جمهورية أملانيا الدميقراطية التي يحكمها احلزب االشتراكي األملاني املوحد. حكم ديكتاتوري فرض قيوده على البالد ،وبنى شهرته على عزلها تتويجا حلالة عن الغرب ،وكان إنش������اء جدار برلني في 1961 ً االغتراب املتزايد بني مطرقة السلطة وسندان الشعب. ظل هذا اجلدار مقبرة الراغبني في التحليق بجناحي الهروب نحو احلرية والرخاء ،احلرية املفتقدة في بلدهم ،والرخاء الغائب عنه ،في ظل بنية حتتية أخذت تنهار عا ًما بعد آخر .كما شهد ذلك اجلدار الفاصل بني ش������رق برلني وغربها مصرع اآلالف برص������اص مواطنيهم من جنود مينعونهم م������ن فكرة اللقاء مع اآلخر في الغرب .بعض الهاربني كان يلجأ إلى املمثلية الدائمة جلمهورية أملانيا االحتادية فيعتصم بها حتى يحصل على وعد 40
قاطع بالسفر إلى الغرب .وإذ تضيق املمثلية بالجئيها وتتعرض لإلغالق مرة بعد أخرى تتحول السفارة األملانية االحتادية ذاتها إلى بساط الريح الذي سيحمل هؤالء الناجني بأحالمهم من الديكتاتورية. في منتص������ف الثمانينيات يبزغ جنم األم���ي��ن العام اجلديد للحزب الشيوعي السوفييتي ميخائيل جورباتشوف ،وتبدأ لقاءاته بنظيره األمريكي الرئيس رونالد ريجان في مؤمترات لبناء الثقة حينا ،وحينا لنزع األسلحة أو تخفيضها في أوربا .وفي خلفية السياسة املغايرة ينهض مشهد جديد في مجاالت الثقافة والفنون والتعليم والعلوم وحماية البيئة بني شطري أملانيا .فيشهد عام 1986بني مدينتي سارلوي وأيزنهوتنش������تات قيام أول عالقة توأمة بني ش������رق أملانيا وغربها .وإذ تنخفض حدة التوتر بني الشرق والغرب تقوى املطالبة باإلصالح في أملانيا الدميقراطية، وتتنامى املظاهرات في 1988تتبعها حملة اعتقاالت يائسة من سلطة بدأت قبضتها تصاب بالوهن .االعتقاالت تتوقف حني تصل املظاهرات إلى ذروتها في ما عرف داخل مدينة اليبزيغ مبظاهرات يوم االثنني (املوافق الس������ادس من نوفمبر )1989 وأمها نحو 450ألف متظاهر! وتدفع املظاهرات كال من مجلس الوزراء واملكتب السياسي للحزب االشتراكي األملاني املوحد إلى تقدمي استقالة جماعية، محدثة ش������لال في أجهزة الدولة ،ويندف������ع اآلالف إلى معابر اجلدار ليجتازوها إلى برلني الغربية .وجتري في العام التالي انتخابات عامة وحرة يتشكل بعدها حتالف من أجل أملانيا ،وفي أغسطس 1990يوافق مجلس الشعب على انضمام جمهورية أملانيا الدميقراطية رسميا إلى جمهورية أملانيا االحتادية وليصبح 41
نهر على َس َفر | برلني ...وردة بيضاء ...عاصمة م َو َّحدة ٌ
الثالث من أكتوبر عيد الوحدة األملانية ،الوحدة التي لم تشهد قطرة دم واحدة.
أمام بوابة براندنبورغ أصل إلى ساحة بوابة براندنبورغ ،بعد 13عاما بالتمام والكمال من عمر الوحدة .أسأل عن بقايا اجلدار ..وحني تأتيني اإلجابة أتعجب ،لم يبق منه شيء!! صحيح أنني سأرى جزءا منه خالل األيام التالية وهو يحم������ل توقيعات حراس وجنود أملان وروس كانوا شهو ًدا على سنوات األلم ،لكن اجلدار نفسه أصبح شبحا ينتمي للماضي .ميضي بي البح������ث إلى مركز لبيع البطاقات البريدية .داخل بعض البطاقات علب دائرية من البالس������تيك حتوي أحجا ًرا ملونة تشبه شظايا غير منتظمة .إنها كل ما بقي من جدار برلني وقد حتول إلى هدايا تذكارية .تأملت البطاقة التي ربضت خلفها بوابة براندنبورغ -بعد أن أصبحت رمزا لبرلني والوحدة األملانية -وكان الس������ور -آنذاك -على بعد أمتار خلفها ،ليصبح اآلن على بعد سنوات ضوئية من الذكريات. وقد بنيت البوابة في ما بني عامي 1788و 1791ميالدية وهي الوحيدة التي بقيت قائمة من بوابات املدينة القدمية ،وفوقها جتر اخليول عربة النصر واحلرية على سقف يحمله 12عمودا، موزعة إلى أعمدة خلفية وأمامية ،وأدناها خمسة معابر .ذهب اجلدار وبقيت ظاهرة الفتة وهي استمرار رسم جدران أخرى في أكثر من مكان لتشبه ما كان عليه اجلدار .أتعجب من الذين ال يقرأون التاريخ -تاريخ انهيار جدران الفصل العنصري - وكنت أود أن أرسل إليهم هذا التذكار ،لوال أن أح ًدا يفصل بني شطري اجلسد الواحد ال يستحق بطاقة بريدية! 42
أمام البوابة سياح ومواطنون ،عازف بيانوال يبتسم وهو يردد نشيد احلرية والوحدة مع األغاني التقليدية ،وسائقو ريكشا أملانية أنيقة ينتظرون على اجلانبني أيا من الراغبني في التجول في الساحة التاريخية الشهيرة ،التي تنتصب أمامها اليوم كرة قدم عمالقة حتيي فوز أملانيا باس������تضافة بطولة كأس العالم .2006والبوابة حتمل اسم والية براندنبورغ التي حتيط بوالية برلني ،وميتد من قلبها طريق حتى نص������ب النصر التذكاري. وإذا كانت والية برلني تبلغ مساحتها 889كيلومترا مربعا ،فإن والية براندنبورغ تبلغ 29ألفا و 479كيلومترا مربعا ،وعاصمتها بوتسدام التي ش������هدت في صيف 1945مؤمتر قادة االحتاد السوفييتي والواليات املتحدة وبريطانيا واألملانيتني مبا صدر من قرارات استمر تأثيرها نصف قرن .برلني وسط براندنبورغ تشبه الوردة البيضاء في قلب مرج أخضر.
نهر ...وقرية صيادين! ِ كرات القطن .يتسلل سحب تشبه زرقة األفق توشي ثوبها ٌ نهر شبريه شمال برلني من شرق املدينة إلى غربها ،يتعرج مثل خط طفولي يلهو في انحناءاته والتواءاته .يضيق هذا النهر في أحيان كثيرة فيكاد يشبه شارعا مائيا رصيفاه العمارة التقليدية واخلضرة األبدية .أجتول وأنا أبح������ث على ضفتيه عن تاريخ املدينة فتدلني عليه عمارتها .أبواب التزال حتتفظ بالتقاليد األملانية العريقة في العمارة من حيث االحتفاء بالنصب التذكارية، وتردد قيمة األعمدة التي حت������دد املداخل خاصة في القصور الضخمة .أسمع حوا ًرا فنيا بني األيقونات الرخامية التي تنتصب على األبواب :وردة مرة ،ومربع مرة أخرى ،ثم وردة ومربع م ًعا، 43
نهر على َس َفر | برلني ...وردة بيضاء ...عاصمة م َو َّحدة ٌ
كأنها نوتة موسيقية بعالمات حجرية .تتحول الدوائر والورد واملربعات واألقواس إلى فتاة وبستان ،أو إلى رجل يعزف ،ثم االثنني معا ،كأن األبواب أغلفة لكتب احلكايات الشعبية ،تزحف عليها أحيانا أشجار نوادر األخوين جرمي. تستوقفني سيدة في الستني تتحدث إلي باألملانية التي ال تزيد مفرداتها عندي على أصاب������ع اليد الواحدة .جذبتها آلة التصوير التي أحملها مع رغبتي في توثيق أشكال تلك األبواب التي تطل على النهر .تعرفني على نفسها ،اسمها موتسر إيبرينغ وعملت مصورة في الشرق .أعرف أنها ساف َر ْت من اجلزيرة العربية إلى أهرام مصر ،لكنها اليوم تكتفي بنزهة يومية على الرصيف العامر بظالل األش������جار .تستمتع برؤية النهر الذي يسير قرب منزلها .واملشي رياضة يومية لألجيال جميعا (وغالبا مع الكلب الصديق احلميم للكثيرات هنا!) .وال تنافسه سوى رياضة ركوب الدراجات -وخاصة في أيام اآلحاد -حني يخرج اجلميع ،األزواج واألبناء واألصدق������اء على دراجاتهم يجوبون املدينة .في إحدى محطات املترو س������يكون مشهدا مألوفا أن يأخذ الراكب دراجته معه! إنها برلني ..حيث يرسم نهر شبريه ،ذلك الشريان العذب، تاريخ املدينة التي أنشئت في العام 1237م .وخالل مئات السنني، ظلت برلني مجرد قرية لصيادي أسماك وملتقى للتجارة القادمة من -أو الذاهبة إلى -مركز الدولة البروسية .ومع تنامي اقتصاد برلني ،واحتادها مع كولن إبان حتول بروسيا إلى قوة عظمى، تصبح املدينة بعد تأسيس الرايخ األملاني في العام 1871مركز أملانيا الثقافي والصناعي والعلمي والسياسي في آن .واليوم بعد أكثر من 230عا ًما تؤكد برلني هذا احلضور الثري والتنوع 44
الغني عبر كل مشهد ،وأكاد أقول عبر كل ناصية. في طريقنا إلى قلب املدينة يتحول املشهد املعماري الرصني املتناسخ على ضفتي شبريه إلى بنايات شاهقة ،يختفي فيها احلجر التقليدي املميز للعمارة البرلينية ليحل الزجاج محله .بل إن بعض البنايات التقليدية هنا ألبستها التغييرات املعمارية أزياء زجاجية ألغراض جمالية أو اقتصادية أو أمنية أو طقسية (بحثا عن الشمس)! أتوقف عند ثالثة أبراج تبدو كأشرعة شاهقة تبحر في محيط من املباني اجلديدة عند ما يسمى (املركز اجلديد)، خالدا :مارلينه -ديتريش. في ساحة حتمل اس ًما س������ينمائيا ً يحكي لي ناجي عباس -وهو كاتب وصحفي بدأت أيامه في برلني مع الوحدة -عن حدث معماري كبير عندما قررت شركة س������وني بناء برجها املميز -الذي ينتصب أمامنا -استكماال حلضورها العمالق .ويكتشف املسؤولون األملان أن املكان الذي اشترته سوني مقام فوقه سينما عمرها عدة عقود ،مما يجعلها تاريخية ألهل برلني ،وأن هدمها ال يجوز .وتعرض سوني على اجلهات الرسمية نقل السينما التي يبلغ ارتفاعها عدة طوابق مشيدة على مساحة عدة مئات من األمتار املربعة .وكان يو ًما مش������هو ًدا اجتمعت فيه ناقالت عمالقة لتحمل املبنى بعد أن متت إحاطته بش������بكة معدنية هائلة -متاما كما يحدث عند نقل شجرة -وتنتقل السينما إلى مكان ال يفصلها عن مكانها األصلي سوى شارع واحد ،مع تعديل واجهتها أيضا!! كنت مثلي لم تشهد ذلك احلدث ،إال أنك حني تبلغ أي وإذا َ ركن باملدينة سترى اإلعمار ينهض باجلديد في مبناه وتصميمه. وس������ترى تلك الروافع البرجية الديناصورية تربض في حفرة عمالقة هنا أو مس������احة خالية هناك .مثلما جت������د كثي ًرا من 45
نهر على َس َفر | برلني ...وردة بيضاء ...عاصمة م َو َّحدة ٌ
اللوحات اإلرشادية تعلن ميالد مشاريع جديدة ،وحتول عدد كبير من املباني التاريخية العتيقة إلى مقرات حكومية ،ومنها مبنى الوزارة االحتادية لالقتصاد والعمل ،الذي كان في األصل مستشفى خدم خالل احلربني .وستالحظ في األبنية اجلديدة كيف استبدلت بالنقوش الرخامية وريثة الفن واجهات خرسانية زجاجية حينا وأخرى معدنية ،تعكس في كثير أو قليل وجه العوملة الزاحف على العناصر العتيقة التي خلفها الفن والزمن .لكن ما لم يستطع املعماريون إخفاءه تلك اخلضرة التي ال تنام في برلني ،أو رمبا تكون أول من يس������تيقظ في مدينة تبدو هادئة حني تعبرها حافالت السياحة العمالقة .اتسعت املدينة بشكل هائل ليس فقط لتسع سكانها البالغني أكثر من ثالثة ماليني و 400ألف ،وإمنا أيضا لتعج بزوارها ،الكل يأتي هنا حلضور مهرجانات أو للمش������اركة في مؤمترات أو إقامة شراكة عبر معارضها العديدة. ينضم إلينا الدكتور نادر فرجاني ،احملرر الرئيسي لتقرير التنمية اإلنسانية في العالم العربي ،ضيوفا على عبدالعظيم حماد نائب رئيس حترير األهرام ،ومدير مكتب اجلريدة في فرانكفورت ،جميعنا ضيوف املؤمتر ،لكننا في هذه األمسية نلبي دعوة حماد إلى «مطعم جورج» ،وهو على صغره من املعالم التي يؤمها العرب في هذه املدينة .قال لي جورج صاحب املطعم: أتيت إلى هنا قبل أربعني عا ًما .بدأت رحلتي خارج مصر بالعمل في ميناء الكويت ،ثم استدعيت ملصر لتأدية اخلدمة اإللزامية، وبعدها رست بي سفينة احلياة في برلني ،ومنذ ذلك احلني وأنا أسير هذه املدينة اجلميلة. يضيف جورج وهو يشير إلى مجموعة من الصور على اجلدران 46
حتكي تاريخ املدينة :كل العمالقة مروا من هنا .وأنا س������جلت بعدستي زيارة كيندي ،لقد أمضى هنا ثماني ساعات في 26 يونيو ،1963وقد أقيم منذ ش������هور معرض يؤرخ لهذه الزيارة التاريخية .تعرف هذه املدينة لها تاريخا رسميا وآخر غير رسمي. لكنهما متقاطعان بشكل عجيب .فأنا شاهدت أرنولد شوارزنيغر عندما جاء إلى برلني مجرد العب كمال أجسام درجة ثانية ،في ،1966بل إن رياضيا عراقيا اسمه اجليار هزمه في مسابقة جمعتهما .واليوم أين هما اآلن؟ أحدهما يسعى لرئاسة الواليات املتحدة بعد فوزه حاكما لوالية كاليفورنيا ،واآلخر أصبح سائق لوري ،مع زوجتني و 19طفال! وقد عرفت أن اجليار عاد إلى العراق ليرأس جمعية لكمال األجسام تعطيه 200دوالر سنويا، في حني أن ثروة أرنولد تتجاوز 100مليون دوالر! عاد بنا جورج -بقائمة وجبات مطعمه -إلى الشرق :بط وحمام وسمك وأرز وحمص وخالفه .وبرلني تنافس عواصم العالم في كونها جنة راغبي الوجبات العاملية :كباب الباش������ا االستانبولي ،والسوشي الياباني ،والكوتش التايالندي األصلي واالسباغيتي اإليطالية ،والطواجن اإلسبانية (احلريفة) ،والكبة الشامية ،واملياه الفرنسية ،واألعشاب اإلفريقية ،والتوابل الهندية، وال تنسوا ..الفالفل املصرية! وكل ذلك تشتريه بعملة موحدة هي اليورو ،الذي يقوى عوده يو ًما بعد يوم أمام ملك العمالت (سابقا) الدوالر األمريكي.
ثالث كلمات من شيللر انتهت جولة الصور -والطعام -مع جورج ،لكن رحلة توثيق العاصمة املوحدة لم تنته .أستيقظ في ساحة «جاندارمن ماركت» 47
نهر على َس َفر | برلني ...وردة بيضاء ...عاصمة م َو َّحدة ٌ
ملدينة برلني وجهان ال يفترقان؛ ثقافي تعبر عنه دار األوبرا ،وسياسي يعبر عنه مبنى الرايخستاج ،ولهما تاريخ ال ينسى.
48
49
نهر على َس َفر | برلني ...وردة بيضاء ...عاصمة م َو َّحدة ٌ
القريبة من الفندق .تدلني عليها بطاقة بريدية للمكان التقطت صورتها في العام .1910بني صورة بدايات القرن العشرين واليوم تشابه مذهل ،كأن شيئا لم يختلف .لكن احلقيقة أن هذا املكان قد أعيد ترميمه بالكامل ،ألتقط بطاقة بريدية أخرى للساحة وهي حتترق خالل قصف املدينة أثناء احلرب العاملية الثانية وبالتحديد في الرابع والعشرين من مايو .1944كانت املدينة قد منيت -خالل احلرب التي فجرها النازيون -بكارثة التدمير، فاختفى وسطها مثلما اختفت أحياؤها الصناعية متاما .كان عدد سكانها قبل احلرب أكثر من عدد سكانها اليوم بعد أكثر من 44عا ًما (بلغ في 1939أكثر من أربعة ماليني نسمة) .في ساحة جاندارمن ماركت تتقاسم كنيسة أملانية وأخرى فرنسية طرفي املكان ،بينما يتوسطها مس������رح فيلهارموني يستضيف حفالت املوسيقى الكالسيكية ،كما يس������تضيف أمامه عازفا آخر للبيانوال .ويقف أسدان من احلجر حارسني لهذا البيت املوس������يقي ،بينما يقرأ القصائد أمام ذلك احلشد كله متثال للشاعر األملاني الكبير فريدريك شيللر ( ،)1805 - 1759أكاد أسمعه ينشد: أود أن أدونها َّ لدي ثالثة دروس ُّ ُ سأكتبها بقلم يحترق ثالث كلمات ُ ألصل بها إلى الضوء اخلالد ُ ثالث كلمات عن قلوب البشر: فليكن عندنا أمل.. حتى إذا غيمت السحب حولنا وكاد السرور أن يختفى من وجهنا بعيدا حامال الظالل ً 50
وإن لم يكن لليالي سوى لون احلداد! فليكن عندنا إميان.. حيثما نحل تنقشع الغمة وتهدأ العاصفة! فليكن عندنا احلب.. يا سكان األرض! ليس حب شخص واحد وحسب، بل حب اإلنسان ،كإنسان ،إنه نداء أخوي ليعم حب اإلنسانية اجلميع! في هذه الساحة أمام كلمات ومتثال الشاعر األملاني الكبير تشهد برلني كل عام حفالت موسيقية في الهواء الطلق يحضرها اآلالف ،ممن يضيق بهم املكان التاريخي .وبرلني حتتفل بشعرائها وشعراء العالم على حد سواء وقد سبقت رحلتي بأيام إقامة مهرجانها السنوي للقراءات الشعرية ،حيث استمع 14ألفا -ممن اليزالون يؤمنون بقوة الشعر الروحية -إلى 250شاعرا من كل أنحاء العالم ،ومنهم من الواليات املتحدة جوناتان فرانزن ،ومن بريطانيا حنيف قريشي ،ومن الهند آنيتا ديساي ومن الصومال نور الدين فرح. برلني جتمع عش������اق الشعر واملسرح والس������ينما واملوسيقى والفن التشكيلي ..ألن بها شعبا يعشق احلياة ،وحكومة تتمنى أن تصبح قلب العالم عبر عاصمتها املوحدة .واألرقام جتعل برلني ثالثة أكثر املدن األوربية شعبية بعد لندن وباريس ،حيث يقضي 68مليون شخص س������نويا يوما واحدا على األقل في املدينة ،ويقضي بها يوما سبعة ماليني زائر من رجال األعمال يستضيفهم األصدقاء أو األقارب ،وبعد سقوط اجلدار اختار مليون شخص االنتقال للسكنى في برلني ،بينما رحل عنها مليون 51
نهر على َس َفر | برلني ...وردة بيضاء ...عاصمة م َو َّحدة ٌ
آخر للضواحي حولها أو لوالي������ات أملانية أخرى ،مما يعني أن ثلث سكان برلني جاءوها للمرة األولى بعد .1990 برلني التي يبلغ عدد متاحفها ،170وعدد دور السينما بها ،265وعدد املسارح ،150وعدد مكتباتها ( 250على ذكر الكتب، توجد بأملانيا 2000دار نش������ر منها 100دار تتجاوز مبيعاتها السنوية 25مليون مارك ،تنشر 70ألف عنوان جديد سنويا، وتضم نوادي أصدقاء الكتاب نحو سبعة ماليني قارئ) ،فضال عن 300قاعة لعرض الفنون التش������كيلية تع������رض لكل فناني العالم ،بدءا من ألف يورو للعمل الواحد ،هذه املدينة تش������هد كل يوم ما يصل إلى 1400حدث ثقافي واقتصادي وسياسي، ويزور متاحفها سنويا 15مليون شخص بينما يحضر حفالتها املسرحية 3ماليني ونصف املليون ش������خص! واليوم ،بعد أن أصبحت مقرا للحكم ،باتت أيضا قبلة الساسة العامليني! وتسعى برلني أيضا إلى أن حتتفي بدورها االجتماعي العاملي، إنها تريد أن تثبت ليس فقط كونها رمزا لوحدة أملانيا بل إنها س������احة لتوحيد العالم :ففي حديقة في منتصف املسافة بني الرايخستاغ (مبنى البرملان حاليا) وساحة مارلينه -ديتريش، وقرب بوابة براندنبورغ نرى دببة العالم .ليس فقط الدب األملاني بلدا حتت فكرة :يجب أن يتعرف أو الروسي ،بل دببة من ً 123 ك ٌل منا على اآلخر ،فإن ذل������ك يجعلنا نفهم بعضنا بعضا ،وأن يثق ك ٌل منا باآلخر ،وأن نحيا م ًعا حتت خيمة السالم .املكان منوذج ملشروع فني عاملي قام فيه 123رسا ًما بتلوين دببة حتمل سمات بالدهم ،ضمن مشروع بدأ في نوفمبر 2003رحلة طواف عاملية يحج فيها إلى عدة عواصم ،قبل أن تعرض الدببة في مزاد ملصلحة اليونيسيف. 52
ال حتاول املدينة نسيان املاضي ،بل رمبا تعاجله على طريقتها، أقول ذلك وهي متنح اليهود بها -على قلتهم -مبنى تاريخيا يحمل قيمة فنية كبيرة ،وأقصد هنا إلى (نيو سيناغوغه) الذي بني على شاكلة قصر احلمراء في غرناطة ،كأن اليهود طردوا من األندلس فأتوا بأجمل رموزها .لواجهة «نيو سيناغوغه» األمامية طابقان ومئذنتان وقبة تتوسطهما ،غير أن النجوم السداسية حتتل أماكن األهلة! وصمم ذلك النموذج املعماري -الفريد في برلني كلها -وبناه املعماريان إدوارد نوبلوتش وخلفه أوغوست شتولر .ومييز اجلدران احلجر ذو اللونني (مثل جدران املسجد األموي) كما يزين النوافذ ألوان األرابيسك .ورغم تهدم جزء كبير من املبنى خالل غارات 1943فإن ترميمه بدأ منذ 1988 حتى عاد ليستقبل -بدءا من - 1995معارض اجلالية اليهودية ولقاءاتها ووثائقها أيضا! وعرفت أن ذلك املبنى ينهض له أشقاء كل فترة في باقي املدن األملانية ،حت������ى في تلك املدن التي ال يزيد اليهود فيها على ع������دة آالف فقط (في برلني 10آالف، وفي أملانيا كلها 70ألفا من اليهود ،بينما يبلغ عدد املسلمني بلدا)! مليونني و 600ألف من ً 41 هل حتاول برلني جتفيف الدموع؟ رمبا! جال ذلك بخاطري وأنا أعبر قرب محطة القطارات في فريدريك شتراسه بجانب قصر الدموع .فخالل فترة التقس������يم ،وبني محطتي القطار األولى في الغرب (بانهوف تسو) واألولى في الشرق (بانهوف شاهدا على ما كان يجري عند فريدريك شتراسه) يقف بناء ً نقاط التفتيش بني قسمي قلب املدينة .هذا املبنى الذي شهد دموع املفارقني أهلهم الواقفني خلف زجاجه الس������ميك حتول في 1990إلى معلم تاريخي .لعلك تنظر إلى واجهته فال ترى 53
نهر على َس َفر | برلني ...وردة بيضاء ...عاصمة م َو َّحدة ٌ
سوى ذلك الزجاج الصامت ،الذي يقسم الصورة إلى ألف مربع ومربع ،صور املعذبني بني األملانيتني ،بكاء كان هنا ،ونحيب كان هناك .إنها احلرب التي لم يع درسها أحد ،سوى األملان رمبا. ومازلت أمتنى أن تقام قصور للدموع والرماد تدشن نهاية تاريخ احلروب على حدود فلسطني وبوابات كشمير وعتبات قبرص وحواجز الكوريتني.
شاهدة على التحول على مقربة من الرايخس������تاغ تقف دار املستشارية األملانية حيث سنجتمع أيا ًما مع املشاركني في مؤمتر «عمليات التحول في بلدان الشرقني األوس������ط واألدنى» وهو كما وصفته وزارة اخلارجية األملانية «ندوة حوار متعدد األطراف» ،نظمها وخطط لها معهد العالقات اخلارجية في ش������توتغارت .لقد اختارت برلني دار املستشارية في رسالة لضيوفها العرب تعبر عن قيمة احلدث النوعي ،وأهمية احلوار األملاني -العربي (وال أدري سببا لترويج مصطلح الشرقني األوسط واألدنى بديال عن البلدان العربية) .ومثلما كانت برلني أبرز شاهد على التحول داخل األرض األملانية ،هاهي تصبح شاه ًدا على ما يتم في الوطن العربي من حتوالت .السيدة بربارة كونرت -رئيسة املؤمتر ،وترأس أيضا شعبة منتديات احلوار مبعهد العالقات اخلارجية -تتقدمنا لتجعلنا نعبر املرحلة األولى من السياج األمني لدار املستشارية دون تفتيش .لكن السياج األمني الداخلي فوق رءوس اجلميع: زوار املستشارية من السياح ،وضيوف املؤمترات التي تعقد كل يوم في قاعات املستشارية ،واإلعالميني الذين يفدون كل يوم لتغطية مؤمترات املستشار األملاني الصحفية ،مع الساسة من 54
كثير من الشواهد املعمارية تعبر عن وجه برلني املعاصر ،مثل برج سوني ،الذي نراه من الداخل.
55
نهر على َس َفر | برلني ...وردة بيضاء ...عاصمة م َو َّحدة ٌ
ضيوف العاصمة. املبنى الهائل الذي يقع في شارع املستشار األملاني -فيلي برانت شتراسه -مصمم بطريقة عصرية ترسي مبادئ الفن املعماري احلديث الذي تتبناه أملانيا اليوم ،بعد أن خرجت -أو كادت -من تقاليد عمارة النهضة األوربية التقليدية .ش������رفة املبنى تطل على نهر شبريه ومن حديقته تستطيع رؤية مبنى الرايخستاغ .الفن يعلن عن نفس������ه في أكثر من مشهد :صور املستشارين األملان بلوحات زيتية كبيرة في الردهة األولى (تعجبت من أن صورة كول لم تعلق بعد ...ويبدو أن رسمها سيستغرق فترة أطول من املتوقع نظرا حلجم املستشار األملاني السابق!). أدنى الدرج املفضي للحديقة يقف متثال المرأة عارية ،أهداه نحات صديق للمستشار األملاني شرويدر .فطرية التمثال ولونه الداكن ال يعبران عن أملانيا قدر تعبيرها عن مفردة اخلصب األنثوي ،لكن التعليقات تتكرر -كما يقول دليلنا -من كل الزوار، بأنه غير مالئم! وبعد جولة في املكان جتمعنا مع األملان طاولة رسمية مستديرة في قاعة املؤمترات الدولية ،رجال سياسة وفكر وإعالم من املغرب وسورية والعراق واألردن ولبنان والبحرين واإلمارات وقطر وسلطنة ُعمان وفلسطني والكويت ومصر .وإذا كانت امللتقيات الناجحة هي التي تثير أسئلة أكثر مما تعثر على إجابات ،فإن هذا امللتقى كان بني هذه الساحات التي اجتازت عتبات النجاح ،خاصة عندما حت������ول امللتقى في أحيان كثيرة إلى مواجهة ساخنة ،بني األملان والعرب -على اختالفهم حتى مع أنفسهم -ويكاد يكون بينهم اتفاق على توجيه االتهام حينا واللوم أحيانا ألملانيا على دورها -أو عدم القيام بدورها -في صراع الشرق األوسط األزلي .وكانت البداية مع بعض مناذج 56
الدميقراطية في الوطن العربي.
كتاب األسئلة كانت اجللس������ات الس������اخنة تتقاطع حينا مع لقاء مبسؤول أملاني رفيع ،أو اخلروج قليال لفضاء قاعات املستشارية الرحب. وشهدت أيام املؤمتر أكثر من إضاءة ملناخ الدميقراطية واحلرية في أملانيا ،فرحلتنا البرية إلى هامبورغ كانت للتعرف على جتربة ديرشبيجل في الدميقراطية واإلعالم عنها ،حيث إنها املجلة األولى في أملانيا (يقول مدير حترير قسم الشرق األوسط ديتر بدنارتس إنها توزع أسبوعيا مليونا ومائة ألف نسخة ،وميلك احملررون نصف أسهمها هدية من مؤسس������ها) ويتناوب على رئاستها كل أسبوعني رئيسان للتحرير ،وتناقش األخبار يوميا في اجتماعني ،قبل إجازتها .وفي هامبورغ أيضا تعرفنا على جتربة تلفزيون الدولة اإلخباري «إن دي آر» كما عرضها الدكتور برنهارد فابنتس وجوليانا أيزنفور .وفي برلني التقينا مع ممثلني للبرملان والوزارة االحتادية لالقتصاد والعمل .والتقينا مع وزيرة العدل االحتادية بريغيتا تسيبريس ،حيث دار احلديث عن تطور نظام دولة القانون في أملانيا ،بني تشريع القوانني وتنفيذها. كان املترجمون الثالثة ،الدكتورة شريفة مجدي والدكتور حسن حمدان وغيرت هملر قد جعلوا من اليسير أن تصبح لغة املؤمتر هي اللغتني األملانية والعربية ،رمبا درءا لعوملة اللغة اإلجنليزية! وإذا كان سعي وزارة اخلارجية األملانية لهذه اللقاءات ظاه ُرهُ قراءة األوراق العربية للتحول في الشرق ،فإن بَاطنَه ظل البحث عن حلول سياسية واقتصادية مشتركة ،خاصة أننا عرفنا في الوزارة االحتادية لالقتصاد والعمل أن األملان منزعجون من أن 57
نهر على َس َفر | برلني ...وردة بيضاء ...عاصمة م َو َّحدة ٌ
العالم العربي ال يستورد سوى 3في املائة من حجم صادرات أملانيا للعالم .ومن املعروف أن االقتصاد األملاني يعاني صعوبات عدة أهمها البطالة ،ففي أملاني������ا 4ماليني عاطل عن العمل، ونسبة البطالة فيما كان أملانيا الشرقية تصل إلى 18باملائة، لكنها توازي 10في املائة في الغربية .ويعد نقص املؤهالت أهم املعوقات التي تواجه احلصول على عمل ثابت .ولم تعد مسألة رفع األجور واردة اليوم .لكن احللول االبتكارية جتد لها مكانا مثل شركات الفرد الواحد ،التي وصلت العمالة بها اليوم إلى 60 ألفا .كان كل لقاء وجلسة يثيران عشرات األسئلة ،كأن اجلميع متفق في البحث عن اإلجابات بدال من تقدميها.
إلى الرايخستاغ سي ًرا على األقدام نتجه من مبنى املستشارية إلى مبنى «البرملان االحتادي» البوندستاغ ،أو ما ظل يعرف باسم «الرايخستاغ» .جنتاز عتبته بعد تفتيش يسير ،ويضمنا مصعد يتسع لعشرين شخصا. سنراقب من عل -وحتت قبة فريدة -مقاعد النواب .هناك مدرجات أيضا معدة للجمهور الذي يستطيع حضور اجللسات احلية ملناقشات األعضاء مع ممثلي احلكومة واملستشار .وقد أعاد املهندس املعماري البريطاني السير نورمان فوستر ترميم وتشكيل املبنى بعد أن أخرج أحشاء املبنى املخيف -الذي كان يوما مقرا للحكومة في القرن التاس������ع عشر وحلق به الدمار في احلرب العاملية الثانية -قبل أن يحوله إلى منوذج للشفافية من خالل قبة زجاجية عمالقة منحته جائزة (صديق أملانيا) التي تبلغ قيمتها 25ألف يورو ( 28ألف دوالر) ،وأصبح املبنى املصمت منوذجا إلشعاع نور احلرية ،ومقصد أبناء برلني وزائريها، 58
بعد عملية ترميم استغرقت خمس سنوات .هناك سنرى جزءا تذكاريا من اجلدار ،ومكانا للعبادة ميكن أن يكون كنيس������ة أو �����جدا ،هكذا عبر التصميم عن حرية االعتقاد. مذبحا أو مس� ً سيدور بنا الس������لم الصاعد إلى أعلى نقطة في برلني .هناك سنرى اجلهات األربع للمدينة .وردة برلني البيضاء تفخر بانتمائها للعالم ،وتسعد بأن تضم حتت قبة رمزها الدميقراطي -الذي يتوس������ط العاصمة املوحدة متا ًما -زوا ًرا من العالم كله .قلب املدينة يتحول إلى معرض كبير ،معرض حي ،مع اهتمام سياسيي أملانيا ،وفي مقدمتهم املستشار االحتادي غيرهارد شرويدر بأن تكون هذه البقعة من العاصمة جوهرة ثقافية ضخمة في قلب عالم أوربي واحد.
في وداع الوردة البيضاء في برلني ،ظل ضيوف املؤمتر يقرأون أوراق الغضب ،بينما فريدريك شيلر يقرأ قصائد احلب ،لعله يلمس فؤاد العابرين من نهر شبريه إلى أنهار الفرات والعاصي والنيل .وحني أودعه ومدينته برلني العاصمة املوحدة ،أتذكر كلمات صوفي شول التي أعدمه������ا النازيون في 22فبراي������ر 1943عن 22عا ًما، وكانت ضمن زعماء حركة (الوردة البيضاء) املناهضة للنازية. كانت صوفي تقول قبل إعدامه������ا بأيام( :حرية الكالم ،حرية االعتقاد ،حماية املواطن الفرد من قه������ر الدول الديكتاتورية الطاغية ،تلك هي األسس التي تبني أوربا اجلديدة) ..وأقول لك يا صوفي وأنا أودع برلني ،وردتك البيضاء ..إن تلك القيم هي األسس التي تبني أي وطن جديد ..ورمبا اختصرت أيام املؤمترات كلها. 59
نهر على سفر
بيشيليه
شعوب املتوسط ...فنون العالم
نهر على َس َفر | بيشيليه ...شعوب املتوسط ...فنون العالم ٌ
مثل عملة عريقة من معدن أصيل ،ترقد مدينة بيشيليه في اجلنوب اإليطالي على ش� � ��اطئ البحر األدرياتيكي ( 34كيلومت ًرا شمال باري). تستمع بوجهني ال يتناقضان ،فيهما لغة البحر والبر .متد قدميها في املياه التي تصلها بالبحر املتوس� � ��ط ،ومتد كفيها بقنينة زيتون وحفنة كروم وكرز ،وحلوى ابتكرتها قبل خمسة قرون .ولها غير ذلك كله ول ٌع بأن جتمع على وجهيها شعوب املتوسط ،شماله وجنوبه ،وفنون العالم بكل أبجدياته. إذا كانت كل الطرق تؤدي إلى روما ،فهي تقودك أيضا إلى بيشيليه! الطريق إليها مير بإحدى مدينتني؛ بارليتا أو باري .فإلى أي منهما ستصل أوال ،قاد ًما من العاصمة اإليطالية ،بالقطار أو بالطائرة أو بالسيارة، (وقد تصلها بح ًرا!) كلما أوغلت في الطريق إليها ،أحسست أنك متضي في قراءة صفحات رواية كالسيكية ،ال تقفز فيها املفاجآت ،لكنها مآلنة باحلركات املوسيقية كسيمفونية تنتظر من يعزفها.
مدينة وثائران بيوت املدينة ،حتى اجلديد منها ،اليزال يحتفظ بطابعه احمللي .فلم تستطع البنايات الش� � ��اهقة ،أو املجمعات التجارية الصاخبة ،أن تغزو األحياء اجلديدة .أما األحياء القدمية فتحتفظ ببيوتها سواء حتولت إلى مؤسسات حكومية ،أو متاجر حديثة ،أو بقيت لساكنيها .األرضيات ذات األحجار البازلتية التي تصل بني هذه البيوت تشكل خرائط للقدم العاشقة للقدمي .حتى في األسماء الوطنية التي يحفل بها التاريخ مثل بطلهم غاريبالدي الذي وحد إيطاليا بعد سقوط نابليون ،قبل أن ينفى إلى أمريكا الالتينية ،تراه يعود على واجهة املسرح الرئيسي ،والفتات املخابز ،وأسماء املقاهي .ومثل كل احلروب الوطنية ،هناك من يرى في حركة غاريبالدي حرب عصابات ،ولكن التاريخ يقول إنه صاحب فكرة 62
قاعة املكتبة في منزل أرستقراطي ،وشرفة في بيت بسيط ،صورتان متكاملتان في حياة مدينة بيشيلية.
63
نهر على َس َفر | بيشيليه ...شعوب املتوسط ...فنون العالم ٌ
الوحدة اإليطالية ،وينتصر التاريخ في النهاية ألبطاله. وإذا كان البعض يختلف على تعريف غاريبالدي ،فأوربا كلها تدين لبيشيليه التي أجنبت املوسيقار ماورو جولياني سنة ،1783وهو أحد أشهر املؤلفني املوسيقيني العامليني والعازفني على آلة اجليتار ،وقد صادق بيتهوفن في فيينا ،عاصمة املوسيقى األوربية ،قبل أن يعود ليستق ّر في روما فيتعرف على املوسيقي العاملي روس� � ��يني ،ولتتحول مدرسته في العزف على اجليتار والتأليف له إلى ثورة موس� � ��يقية ،حتى أن دورية للموسيقى صدرت باسمه في بريطانيا هي اجلوليانيات .وبعد أن طور اإليطالي جيوفاني باتيستا اجليتار مضيفاً إليه الوتر السادس ،أصبح جولياني أول العازفني على هذا الغيتار املط ّور ورائده في أوربا .لذلك حتتفل املدينة بابنها املوسيقي الثائر ،وتقيم له مهرجا ًنا جيتار ًيا يحييه عاشقو هذه اآللة املوسيقية الثورية في العالم. التسكع في احلارات واألسواق البيشيلية يقودك إلى مشاهد متوسطية مألوفة :أصدقاء مسنني يتجادلون بصوت عال ،نساء يراقنب الطريق من الشرفات ،وأخريات يفترشن األرض أمام البيوت في الشوارع الضيقة وامللتفة تعلوها أقواس كأذرع متعانقة ،اخلضار والفاكهة واألس� � ��ماك والنداءات التقليدية ،واالبتسامات الدافئة والضحكات الساخنة مثل فطائر خبز خرجت من نار الفرن.
تاريخ وجغرافيا فيم ستتحدث مع س� � ��ائق إيطالي متحمس؟ إنها كرة القدم وجنوم الدوري اإليطالي ،وعش� � ��اقهم حول العالم ،والراغبات في الزواج بهم، وخيبة املنتخب اآلزوري في كأس األمم األوربية ،وحني تتيقن أنه استاء، تقول له :ولكننا اخترنا في مصر مدر ًبا إيطال ًيا للمنتخب الوطني ،وكأننا نطمع في حظ إيطاليا العاثر لوال أهداف أليساندرو ديل بييرو ،وليس 64
قبور تاريخية بني معظمها في أوربا بني األلفيتني اخلامسة والرابعة قبل امليالد ،متيزت بلقى أثرية متثل أدوات احلياة التي يحتاج إليها الراحل عندما يبعث إلى احلياة.
لدينا في مصر مثله! تضحك دليلتنا جوليا وأن� � ��ا أقول لها إن املدرب يقضي معظم وقته في إيطاليا مع أسرته ،وإنه يدرب منتخبنا بالبريد اإللكتروني! تتوقف السيارة قرب (دوملن التشيانكا) ،وأمام لوحة سوداء ال حتمل سوى سبعة سطور باللون األبيض تتولى جوليا شرح ما نرى ،وهو ليس سوى أخدود في األرض طوله بضعة أمتار ،ينتصب على آخر طرف له قائمان وعارضة من احلجر العريض غير املستوي .لكن ما نراه أمامنا، ويشرف على مساحات شاسعة من اللون األخضر ،ليس سوى قبور أبناء الطبقات االجتماعية العليا في املنطقة والتي متيزت بلُقى أثرية متثل أدوات احلياة التي يحتاج إليها الراحل عندما يبعث إلى احلياة. ورغم ندرة هذا النوع من القبور في أوربا ،التي بني معظمها في ما 65
نهر على َس َفر | بيشيليه ...شعوب املتوسط ...فنون العالم ٌ
بهجة احلياة لزوجني يحتفالن مبرور 25سنة على عرسهما ،وفي انتظارهما أطفال يحملون البالونات ،وفتيات يلوحن بالزهور ،وأقارب ميطرونهما بحبات احلنطة واألرز.
66
67
نهر على َس َفر | بيشيليه ...شعوب املتوسط ...فنون العالم ٌ
بني األلفيتني اخلامس� � ��ة والرابعة قبل امليالد ،وهي التي تعود ألواخر العصر النيوليتيكي وأواسط العصر البرونزي ،فإن بيشيليه وحدها بها أربعة منها ،وتتوزع بقيتها في بريطانيا وأيرلندا وفرنسا وإسبانيا وشبه اجلزيرة اإلس� � ��كندنافية ،فضال عن املوجود منها في الشرق األوسط والقوقاز .وهي املناطق التي شهدت فجر احلضارة اإلنسانية في العالم، مما يشير ألهمية وعراقة املدينة .وقد مت تسجيل خمسة آالف دوملن في العالم حتى اآلن ،وكان يعتقد أن حجارتها هبطت من السماء؛ ويبقى أن نقول إن DOLMENتعني باإلجنليزية (منضدة احلجر) ،ولم ال فرمبا كان العشاء األخير للراحل يتم حتضيره فوقها! بعي ًدا عن املوت ،تبهجنا احلياة .ففي الطريق يشدنا مشهد صاخب. كان املجتمعون أمام مبنى عتيق لكنيسة حجرية يرتدون حلل العيد ،قلنا البد أنها حفلة زفاف صباحية! وكان للسائق رأي آخر :ال نحتفل هنا بالزفاف صباح أيام اآلحاد .اس� � ��تغرقنا الطريق ،لكننا حني عدنا كان احملتفلون اليزالون متحلقني في املكان ،طفالت جميالت بزي عروس، يتبادلن التهنئة ويتناوبن الرقص ،رجل يصافحه الكثيرون ظننته والد العروس .كان الفضول قد استبد بنا ،فسألنا جوليا أن تستطلع اخلبر؛ وكانت اإلجابة املدهشة ،والتي أكدت ظن صديقنا السائق :ليس حفال للزفاف ،إنهما زوجان يحتفالن مبرور 25سنة على عرسهما .أقترب من باب الكنيس� � ��ة في انتظار خروجهما ،األطفال يحملون البالونات، والفتيات يحملن الزهور ،يخرج الزوجان في بزة س� � ��وداء ورداء ليلي، ووجهني ميألهما السرور ،وأقاربهما ميطرونهما بحبات احلنطة واألرز، وحلظات من التهليل واملرح ،وصور تسجل حلظات لن تتكرر.
بساط أشجار الزيتون ال يفاجئنا اللون األخضر بني منطقة وأخرى ،إمنا تدهشنا تنويعاته، 68
وال نعجب من البساط األرضي الذي تطرزه أشجار الزيتون ،التي تزين علم املدينة وشعارها ،متتد األيدي لتينات برية يكاد سكرها ينسيك شمس أغسطس ،هنا فردوس حقيقي من الزيتون (الذي يزرع في نحو 46في املائة من األرض) ،والكروم والكرز والتني والصبار ،وأزهار تدعوك لكي تنقطع عن العالم حتى تتفرغ لتوثيقها ببتالتها التي جلبتها من باليتة بها مليون لون .ويرعى هذه الثروة اخلضراء مائتا مزارع ،و 3500صاحب أرض زراعية ،وألفا عامل بالفالحة ،على مساحة 16ألف هكتار .نقطع بقية الطريق هابطني مشيا على األقدام حيث مكان تاريخي آخر ،مغارة كشفت املصادفة عنها ،ويعتز بها أهل بيشيليه ،ويعدونها من املزارات املهمة ،رغم أنها التزال حتت الترميم والتوسعة .كان البرد يتوغل في اجلس� � ��د كلما توغلنا في ممرها الصاعد إلى البهو األكثر اتساعا بها، نس� � ��ند ٍ بيد اخلوذة الصفراء فوق الرءوس ،ونستند باليد األخرى على جدار الدرج اخلشبي. ً ترتفع مغارة سانتا كروز 120مترا فوق سطح البحر ،يقود طرفها الغامض نحو البحر األدرياتيكي .وقد سكنها البشر حتى العصر البرونزي، كما حتكي املخلفات واللقى األثرية ،حتى أن أدوات عثر عليها بها يعود تاريخها إلى 11ألف سنة خلت ،وبدأ في إلقاء الضوء على أهمية اكتشافها سنة 1937األثري ف .س .ماجيارو ،حتى عثر عام 1940على ثالثة رسوم يصور أحدها مؤخرة حليوان .وفي 1955اكتشفت عظمة ردف تعود إلنسان نياندرثال. وهكذا يعود ثراء تاريخ املدينة إلى موقعه� � ��ا ،وخصوبة جغرافيتها، وميكننا أن نعد أسوارها -في هذا السياق -جزءا من بنية التحصني التي اعتمدتها املدن التاريخية القدمية ،وإذا كانت أقدم الوثائق املدونة لتاريخ املدينة يعود للنصف الثاني من القرن احلادي عش� � ��ر امليالدي، فإن السور قد شيد في نهاية القرن اخلامس عشر امليالدي .أما البرج 69
نهر على َس َفر | بيشيليه ...شعوب املتوسط ...فنون العالم ٌ
الكبير الذي يط ّل على املدينة األثرية فقد بناه امللك األملاني فريدريك الثالث الذي حكم إيطاليا بني 1155و1190م. في الطريق ألعلى البرج (بارتفاع 27مت � � � ًرا) مررنا بأكثر من ركن يحتفظ بتاريخ بيشيليه :آالت صناعة الباستا على مر العصور ،عجالت عربات اخليول ،أدوات اإلسكافي ،ملصقات ومحفورات وصور ورسوم، وج ّدة تغزل احلكايات مع الصوف ،ومنضدة وآلة حياكة. وغرف معيشةَ ، ومن أعلى البرج تستطيع أن تشاهد كاتدرائية سان بيتر ،وهي واحدة من أقدم الكاتدرائيات الرومانية في اجلنوب اإليطالي ،التي حتتفظ برائحة التاريخ فوق أحجارها.
باستا وسوسبيرو وأشياء أخرى نتوقف في طريق العودة عند املرفأ ،الذي س� � ��أحرص على زيارات صباحية مبكرة له .في الصيف ال تفتح احملالت قبل فترة العصر ،إال صباحا ،حتى أنك حتس بالهدوء نفسه في يوم سوق الثالثاء ،حيث تبدأ ً امليناء الصغير إال من بعض الصيادين واملتنزهني في يخوتهم .ال يعمل في الصيد سوى 450شخصا ،لكنهم يكفون حاجة املدينة التي وهبتها الطبيعة ميناءها ومرفأها ،فلم تدخل عليه أي تعديالت .يقترب موعد الغداء ،ونقترب من الفندق ،نعبر طريق القوارب اخلشبية ،والبيوت ذات الطابقني ،واملطاعم الصغيرة ،وباعة اخلضار ،واملتنزهني فوق دراجاتهم، والالفتات التي تذكرك باحتفال املدينة بالصيف. تبدأ املائدة اإليطالية في بيش� � ��يليه بالس� � ��لطة اخلضراء ،والباستا التي تلونها فرشاة الذهب األحمر (الطماطم) .أتذكر عند رؤية اللون األحمر ابتسامة مدير الثقافة حني صحبنا إلى سيدة الذهب األحمر، كنت أريد التعرف على بعض الصناعات الشعبية ،وحني وصلنا ،ارتدت السيدة العجوز ثوب االنشغال (كانت تشبه املمثل استفان روستي في 70
تأففه وأنفته) ،وأعطتنا موعداً آخر للقاء .عدنا من عندها مكتفني بلقاء الطماطم ذاتها على وجبة الغداء ،التي ستبدأ بالباستا وتستمر معها، باستا من كل شكل ونوع .وأسماك ودجاج وأرانب برية. ستش� � ��عر أنك -وهي حقيقة -في قلب ريف أصيل ،ال ينشغل إال باملائدة ،حتى تنتهي بالفاكهة أو حلوى السوسبيرو .وإذا كان لبيشيليه زيتونها ،وذهبها ،فلها حلواها ،التي كان اسمها سوسبيرتي الراهبات. وهي شطيرة صغيرة من العجني احملشو باملربى أو الكرمية املخفوقة، واملزينة بنوع من اجليل املسكر .وتصنع منذ ما يقرب من خمسة قرون. أما اخلبز البيشلي التقليدي فيسمى بالفوكاتشا ،ويشبه فطيرة البيتزا املزينة بقطع الذهب األحمر ،واحملشوة أحيانا بالزبد أو جنب املوتزاريال. والفوكاتشا املستديرة كبيرة املساحة رمز لوحدة العائلة في جنوب إيطاليا، حني جتتمع حولها وتتقاسمها. حني زرت بعض البيوت في بيش� � ��يليه لم تدهش� � ��ني الروح الدافئة لالستقبال ،سواء في بيت إحدى النبيالت ،التي صحبتنا لغرف البيت القصر ،ووقفت مبحبة كبيرة أمام علب الفضة التذكارية الصغيرة تتذكر أيام سعادتها ،فهذه العلب أهداءات من أفراد العائلة الكبيرة منذ زفافها، ومع ميالد أطفالها ،وذكرى ال� � ��زواج وهكذا .أتوقف أمام لوحات زيتية ضخمة ،بعضها لرجال دين .تقول دليلتنا :ف� � ��ي العائالت الكبيرة كان ال بد أن يوجد من بينها رجل ينتمي للكنيسة ،في إحدى مراتبها العليا. جنلس قليال في غرفة املطالعة ،الت� � ��ي تفضي لغرفة املكتبة .لم تكتف السيدة النبيلة باإلرث األرستقراطي ،لكنها تعمل أستاذة جامعية ،ولم تخف جدران املنزل العالية بساطتها ،وابتسامتها. غير بعيد من ذلك املنزل زرنا بيت س� � ��يدتني في بيشيليه القدمية. ورغم تواضع الش� � ��قتني ،إال أن نظافتهما تدالن على صاحبتيهما .في الدور العلوي تعيش قطتان ثقلت حركاتهما ،كحركة سيدة البيت ،التي 71
نهر على َس َفر | بيشيليه ...شعوب املتوسط ...فنون العالم ٌ
رحبت بنا ،ودعتنا إلى طبق الفاكهة على مائدة الغداء .حني نزولنا دعتنا جارتها في الطابق السفلي للدخول .قالت :وحدي هنا أسكن بعد رحيل زوجي ،وفي سن السابعة والستني ليس لي إال أن أشكر ربي على نعمة احلياة .تش� � ��ير لصورة لزفاف ابنتها على اجلدار ،هؤالء هم األمل .ال يؤنسها غير الصور ومتثال للسيدة العذراء ،وذكريات ترقص في املرآة الكبيرة إلى ميينها فوق صورة رفيق دربها الراحل.
مهرجان شعوب املتوسط ما إن قلد أحد أعضاء الفرقة األردنية ،الكوفية العربية لعمدة املدينة فرانشيسكو نابوليتانو ،رئيس البلدية ،ورئيس املهرجان ،حتى غمر املسرح املكشوف املطل على البحر األدرياتيكي ،تصفيق حار وتهليل أكبر ،كانت حتيتنا كضيوف للرجل الذي خص الع� � ��رب في هذا املهرجان باحتفاء خاص ،ومنع إسرائيل من املشاركة في فعالياته ،رغم متنع بعض العرب في القدوم ،أو اعتذار بعض الفرق العربية ،في اللحظة األخيرة ،عن عدم املشاركة .أما حتية بقية اجلمهور ،فكانت لعمدة املدينة الشاب، فرانكو كما ينادونه مجردا ،الذي يشارك أهل بلدته ( 53ألفا) أفراحهم صباحا يدير شؤونها ليال حتى الس� � ��اعات األولى من الصباح ،ثم تراه ً مبكتبه في مبنى البلدية. تضمنت أمسيات املهرجان وأيامه عروضا مسرحية وغنائية وتشكيلية وشعرية .ولم تقف اختيارات املهرجان الذي أدارته فنيا فلوريانا سافينو عند حدود حوض البحر املتوسط ،بل تخطتها إلى دول وثقافات أخرى ،من دولة الكويت واململكة األردنية الهاشمية ،حتى البرازيل وكوبا والسنغال!! وفي سنوات سابقة كانت هناك مشاركات عربية من السودان مثال ،وكأنها رسالة سالم من املدينة ليبحث اجلميع في ثقافاتهم عن روح التواصل بدال من البحث عن جذور الشقاق. 72
مشهد من العمل املونودرامي للممثل الكويتي عبدالعزيز احلداد (فرقة مسرح اخلليج العربي) باسم مناظرة بني الليل والنهار.
الفرقة األردنية أهدت الكوفية العربية إلى عمدة املدينة فرانشيس���كو نابوليتانو ،رئيس البلدية ،ورئيس املهرجان ،على املسرح املكشوف املطل على البحر األدرياتيكي.
73
نهر على َس َفر | بيشيليه ...شعوب املتوسط ...فنون العالم ٌ
ولعل أبرز الفرق املشاركة التي عبرت عن ذلك املعنى تلك التي ضم حبات مسبحتها املوسيقار اإليطالي ماريو ترونكو من فنانني يعزفون وينشدون ثقافاتهم املختلفة ضمن نسيج واحد .صوت حسني عطا (تونس)، وغناء وفلوت كارلوس باز (اإلكوادور) ،وإيقاعات آميت باب (السنغال)، وترومبيت عمر لوبيز (كوبا) ،وطبلة راهيس بارتي (الهند) ،ومقامات محمد بالل وآلته املوسيقية (الهند) ،وبوق ماريان سيربان (رومانيا)، وعود وغناء سيماك خليلي (إيران) ،ووتريات راؤول سيبا (األرجنتني)، وقيثارة صغير خان (الهند) ،وناي محمد عبدالله (مصر) ،وكونترباص جيوسيبي بيكوريللي (إيطاليا) ،وكمان بيرناردو بيناتزي (إيطاليا) وكمنجة جيوكومو إنفرنيزي (إيطاليا) ،وجيتار ميتاكسو (إيطاليا) وغناء كريستينا كابرارولو (األرجنتني) وعود محمد زياد الطرابلسي (املغرب) ،ووتريات سيلفيا ماينجر (أملانيا) ،وكمنجة جون مايدا (الواليات املتحدة) .وهكذا استطاع املوسيقار اإليطالي أن يوحد بلغة عاملية أقطابا متنافرة. وعلى املسرح املفتوح ،مسرح املتوس� � ��ط ،وفي ساحة املدينة ميدان إمانويل الظافر ،رقصت الفرقة األردنية (الهيل) مقدمة التراث األردني من موسيقى وأغان ،في حضور وزيرة الثقافة األردنية أسماء خضر، التي رمبا كان حضورها سب ًبا في جعل املشاركة العربية تكتسي طابعا أردنيا مع كثرة املشاركني من اململكة. املهم أن اجلمهور جتاوب مع العروض املوزعة بني مسرح غاريبالدي، ومسرح املتوسط ،وساحة إمانويل ،لكن عشرات اآلالف كانوا ينتظرون ليلة املطربة اإليطالية أنطونيال روجيرو ،حتى أن الطريق إلى مسرح املتوس� � ��ط كادت تكون مغلقة قبل العرض بساعات ،وأشعلت أنطونيال حماس جمهورها ،حتى عال نبضهم حني بدأت تغن� � ��ي أغنية ،بعنوان بيسكاتوري :Il Pescatore نائما/ في ظالل اللون األخير من الشمس الغاربة /كان صياد السمك ً 74
ولم يكن يستيقظ فوق مالمح وجهه /غير طيف ابتسامة... لم تكن معاني الكلمات وموسيقاها وحدها هي التي حركت اآلالف، كما تبني لي بعد ذلك ،وإمنا كان الوفاء من مطربتهم ،التي غنت أغنية ليست لها ،حتية لروح مؤلفها الشاعر الراحل ف .دي أندريه .وكان هذا االستقبال للمطربة واألغاني ،وراء حماسة املسرحي الكويتي فؤاد الشطي الذي اندفع يحييها ،ويقول لها إنها أم كلثوم إيطاليا! ويعرف اجلمهور اإليطالي أم كلثوم ،ويضع املنظمون صورتها على برنامج مهرجانهم ،ولكن كان ينقص أن يأتي من يقول لهم إن لديهم أم كلثوم أخرى.
تشكيليون وشعراء املعرض التش� � ��كيلي الذي عرض بني دار البلدية ودار سانتا كروز، شارك فيه فنانون من األردن :هيلدا احلياري ،وسعيد حدادين ،ودانا خريس ،والعراق :محمد الشمري وهاشم حنون ،وسورية :خالد اخلاني، ومصر :جمال عبدالناصر ،وعثمان صالح الدين عثمان ،وتركيا :ريحان عباس أوغلي ،وإيطاليا :جوليو بيستروتش� � ��ي وليوناردو كوسامي .من بني املش� � ��اركات التش� � ��كيلية التي اقتربت منها كان العمل الذي قدمه الفنان جمال عبدالناصر ،وميثل مجموعة سمكات ترتدي حلال شعبية متوسطية بألوانها الزاهية ،وفيه سلك الروح الفطرية التي ميزت كائناته في املعارض التي شاهدتها له من قبل .التركيبة املتعانقة للسمكات تكاد جتعلها مثل فرقة للباليه (الشعبي) لكن عرض السمكات على اجلدار أخذ من روح االنط� �ل��اق ،وأضاف العتمة البيض� � ��اء للخلفية ،وكان من األفضل أن تسبح في فضاء ثالثي األبعاد .بينما انتقلت الفنانة هيلدا احلياري في األعمال املعروضة لها إلى روح الكتاب التشكيلي ،ففي حني قدمت مناذج لصفحات كتاب بألوان ساخنة ،وتلقائية توزيع الكائنات على زواياه ،رأيتها التزال ترسم متواليات من األشكال الهندسية احلرة 75
نهر على َس َفر | بيشيليه ...شعوب املتوسط ...فنون العالم ٌ
فكأنها تختزل الكون في مربع اللوحة. أما الفنان خالد اخلاني فأعاد الروح إلى املوسيقى الشعبية من خالل لوحته ذات املستويات الثالثة ،التي يتوزع عليها ثالثة مناظر لعازفني ومنش� � ��دين ،بينما يذكرنا بالليالي الشعبية في حلقة موسيقية صوفية حلبية .وقدم الفنان اإليطالي ليوناردو كوسامي عمال مختلفا عن بقية املشاركات ،حيث بسط على األرض تكوينا من احلصى والورق امللون لقلوب متدرجة تعبر في ألوانها عن طرفي النقيض بني منتهى احلب وأقصى الكراهية. كما شارك ليوناردو كوسامي أيضا كشاعر في األمسية التي ضمته مع ضيوف ندوة الشعر من إيطاليا ،والبرازيل ،وفلسطني (عدنان كنفاني)، واألردن (زياد العناني) ،ولبنان (ش� � ��ربل داغر) ،وكاتب هذه السطور من مصر .وقد قرأنا قصائدنا متبوعة بترجماتها إلى اإليطالية ،ومسبوقة بعروض موس� � ��يقية راقصة إلحدى فرق الباليه الشابة ،داخل باحة دير يعود بناؤه ألكثر من 300س� � ��نة ،وتس� � ��جل لوحة حجرية تاريخية زيارة أول أبناء املل� � ��ك فرديناند ملك البوربون وزوجته م� � ��اري كارولني (يونيو 1797م) .وبعدها يكرم عمدة املدينة الش� � ��عراء مبنحهم دروعا تذكارية وأعالم بيشيليه .وفي أمسية شعرية موسيقية أخرى مبسرح غاريبالدي يقرأ ممثل إيطالي نصا هجائ ًيا لرئيس وزراء إيطاليا برلسكوني ،بدعم من تصفيق اجلمهور يصعد الشاعر إدواردو ساجننيتي ،وهو من أعالم األدب اإليطالي الكالسيكي املعاصر ،ليرجتل :إيطاليا ليست برلسكوني فقط ،إيطاليا بلد السالم اإلنساني.
وداع مسرحي لم يحمل العمل املونودرامي الذي ش� � ��اركت به الكويت ،مناظرة بني الليل والنهار ،سوى أداء ممثله عبدالعزيز احلداد (فرقة مسرح اخلليج 76
العربي) .فالنص الذي ألفه محمد أفندي اجلزائري ميكن أن يعرض في فضاء محلي مدرسي ،معني بلغة السجع ،أو تقفية السطور الشعرية ،أما حني يكون األمر مهرجاناً دولياً ،تتنافس فيه جتارب جديدة ،حتى خارج إطار اجلوائز ،فعلينا أن ندرك أهمي� � ��ة تقدمي قيمة جديدة .الفرقة هي أول فرقة مسرحية أهلية كويتية أسست في 13مايو 1963م ،والعمل هو أحدث إنتاج لهاـ وقدمته في أكثر من س� � ��احة ،آخرها مهرجان الفجيرة الدولي للمونودرام� � ��ا (2003م) .واختلفت العروض األخرى التي مزجت بني األداء احلركي واملوسيقي ،والنص املنطوق ،حتى أن اللغة البصرية كانت تغني -أحيانا -عن لغة األبجدية التي جنهلها .وهو ما فعلته أيضا عايدة أبوبكر التي قدمت مونودراما مسرح الناس (تونس). شدتني جتربة الفنان املسرحي منر سلمون (اإلسباني من أصل سوري)، للحديث عن جتربته بعد أن قدم نحو 40مشروعاً مثل بها أو أخرجها في إسبانيا وخارجها .يؤمن سلمون بضرورة مشاركة متلقي املسرح في العمل، وليس فقط كسر اإليهام املسرحي ،كما حاوله بريخت .يقول( :أحد أشكال املسرح التي قدمتها كان في إحدى املدن اإلسبانية .وكنا في مشروع تقدمي السياحة اجلغرافية عبر املسرح .كانت الدليلة السياحية ـ وهي عنصر من أفراد املسرحية الفرجوية -تصطحب فوجا من اجلمهور ،أو السياح ،من مكان إلى آخر وهو الفوج الذي ميكن أن يضاف إليه أو يخرج منه جمهور هذه املسرحية .ثم تتوقف في أماكن تاريخية بعينها ،هنا يظهر على خشبة مسرح املكان التاريخي مشهد مسرحي يناسب ذلك املكان». هذا الشكل املسرحي وسواه ،دعا الفنان منر سلمون ،وزوجته وشريكته في فرقته املسرحية ،بياتريس ،إلى أن يستعينا بجمهور مسرح غاريبالدي في مش� � ��اهد من عمله ،ودون إعداد مس� � ��بق .في األيام التالية ،وأثناء العروض ،كان يأتي إليه للتحية جمهور ،وممثل� � ��ون في عمله ،رمبا لن ميثلوا مرة أخرى قبل أن يعود إليهم سلمون في العام القادم. 77
نهر على سفر
تتارستان
كتاب البهجة واألشجان
نهر على َس َفر | تتارستان ...كتاب البهجة واألشجان ٌ
علي أن أعبر عناوين الكتب إلى في الطريق إلى جمهورية تتارستان ،كان َّ متونها ،أال أكتفي مبا هو ُمسطر في أسفار التاريخ وحسب ،أو هو ُم َد َّون الساعني إلى في آداب الرحلة فقط ،أن أعايش جهاد الباحثني التتريني َّ احلفاظ على تراثهم الشفاهي واملكتوب ،وأقترب من الدارسني للعمارة املُد َّمرة من أجل بعثها ،واملن َكسرة من أجل ترميمها ،أن أشهد يوميات الناس في تتارس� � ��تان ،وأن أحلق مع احلاملني بغد أفضل في جمهورية إسالمية عريقة احتفلت عاصمتها «قازان» قبل عامني مبرور األلفية األولى على إنشائها في عام 2005ميالدية! استغرقت الرحلة إلى العاصمة التترية أكثر من يوم كامل ،فبني الرحلة من الكويت إلى اسطنبول ،والرحلة من اسطنبول إلى قازان التي تقع إلى الشرق من مدينة موسكو ،وتبعد عنها 797كيلومترا أمضيت 15 ساعة انتظارا للطائرة التركية املسافرة إلى جمهورية تتارستان ،إحدى جمهوريات روسيا االحتادية. في رحلة الطائرة التي استمرت ثالث ساعات ودقائق بدأت أراجع ما جمعته من معلومات في رحلة القراءة التي تس� � ��بق رحلة اكتش� � ��اف الواقع. تتوسط تتارستان جمهوريات االحتاد الروس� � ��ي ،ويلتقي فيها أكبر نهرين باالحتاد هما نهرا الفوجلا والكاما ،وتسكن عاصمة تتارستان؛ «قازان» دلتا اللقاء بني النهرين .أما أقصى مسافة من شمال تتارستان إلى جنوبها فتبلغ 290كيلومترا ،بينما تصل املس� � ��افة من شرقها إلى غربها 460كيلومترا. تتماس حدود تتارس� � ��تان مع جمهورية شوفاشيا ،غر ًبا ،وجمهورية بشكيريا (بشكورتوستان) ،شرقا ،وجمهورية ماري إل ،في الشمال الغربي، وجمهورية أودمورتيا ومنطقة كيروفسكايا في الشمال ،في حني حتدها جنوبا مناطق أورينبورجسكايا ،وسمرسكايا وأوليانوفسكايا .وبجانب 80
وجه من تتارستان بالزي التقليدي لالحتفاالت
81
نهر على َس َفر | تتارستان ...كتاب البهجة واألشجان ٌ
نهريها الرئيسيني؛ الفوجلا والكاما ،يتدفق في تتارستان 500نهر ،وعدد هائل من الغدران ،وحتتفظ تتارستان مبصادر مياهها في كويبيشيفسكوي ونيزنكامس� � ��كوي .وفي اجلمهورية نحو 8000بحيرة .وبجانب مياهها العذبة يحتفظ قلب تتارستان بعدد من مصادر املياه املعدنية واملاحلة قليال .وتغطي الغابات سدس مساحة تتارستان .والنفط والغاز هما من مصادر ثروتها (فلديها احتياطي مليار طن من النفط وفي كل طن نحو 40مترا مكع ًبا من الغاز) ،ويساهم في تنمية اقتصادها كمركز صناعي وجود مختلف أنواع أحجار البناء ،والطمي ال� �ل��ازم لصناعة الطوب، واجلبس ،والفحم والنحاس. وبالرغم من أن مساحة تتارستان صغيرة ( 68ألف كيلومتر مربع)، فإنها تنقس� � ��م إلى 43مقاطعة ،و 20مدينة ،و 21منشأة مدنية ،و897 قرية ،وفي «قازان» وحدها س� � ��بع مقاطعات ،ويبلغ عدد سكانها ثالثة ماليني وسبعمائة وستني ألف نسمة. وأكداسا من أكياسا معظم ركاب الطائرة ُك َّن من النس� � ��اء ،يحملن ً ً البضائع التركية( ،سنكتش� � ��ف الحقا أنها أرخص مما يباع في السوق احمللية) .وحني وصلنا املطار الصغير (جدا) وقفنا في طابورين لعبور ختم اجلوازات ،وهو عبور اس� � ��تغرق أكثر من ساعة كاملة من التدقيق والتمحيص ،خاصة لقادم من الشرق العربي! ثم خرجنا ألخذ احلقائب، بعد مطابقة دقيقة بني اسم الراكب وملصق احلقيبة ،وهي مراجعة لم أجدها في أي مطار س� � ��ابق .بعد ذلك كان على كل مسافرة ومسافر إثبات أن ما في احلقائب لالستخدام الشخصي ،ولذلك كانت هناك بوابتان ،واحدة إلظهار املشتروات اخلاضعة للضرائب ،واألخرى لألغراض الشخصية .بحسبة بسيطة لعدد الواقفات والواقفني ،ومعاينة حركة اكتشفت أن الشمس قد تغازل احلقائب املتكاس� � ��لة والطابور البطيء، ُ وسط السماء قبل أن يدركنا الدور. 82
لكن النجدة جاءت بعد ساعة ،حني خرجت موظفة اجلمارك ومعظم شرطة املطار من النساء (أيضا) لتنادي باللغة الروسية (منستري كولتورا)! كانت تلك املناداة حتمل الكلمتني السحريتني اللتني طال انتظاري لهما، نسقت معها قبل السفر كانت حسب فهذا يعني أن «وزارة الثقافة» التي َّ الوعد بانتظارنا عند الفجر ،وأن الليل اجلمركي الطويل سينجلي ،وأن محنة الطابور لن تطالني ،لقد فعلت الكلمتان مفعول كلمات «افتح يا سمسم» في حكاية علي بابا! وهكذا ُفتحت لي بني البوابتني املكتظتني باملسافرات والبضائع بوابة ثالثة ،وكأنها ممر سحري في قصص ألف ليلة وليلة ،يلجأ إليها السندباد البحري كبرزخ ينجو من خالله من فتك طائر الرخ ،وخرجنا من املطار ليستقبلنا صيف املدينة البارد ،بدرجة حرارة ال تزيد على العشرين!
الطريق إلى «قازان» مضا ًء كان الطريق من املطار إلى قلب املدينة! كانت املسافة تبلغ 20 كيلومترا .وسألت متعجبا :هل جاء الفجر؟ فكانت اإلجابة األكثر عج ًبا من مديرة الثقافة السيدة رئيسة خانوم ،على لسان املترجم التتري رينات، إلى اإلجنليزية :إن ذلك هو ليل املدينة ،مضيء دائ ًما ،وكأن الشمس ال تنام في تتارستان ،وإمنا تغفو بنصف عني ،أو تكاد ،وما هي إال ساعتان حتى ب َّكرت الشمس باخلروج إلى عملها .وكأن النهار موصول بأخواته من النهارات التي تسبقه وتليه. نقترب من املدينة التي أسست قبل أكثر من ألف عام .إذ بعد اعتناق بُل َغار نهر الفوجلا الدين اإلسالمي في عام 922ميالدية ،بدأت «قازان» تتشكل على هيئة بيوت بدائية من اخلشب ،حتى أعلن مولدها في سنة 1005ميالدية ،وليظهر اسمها للمرة األولى في األدبيات املكتوبة سنة 1177ميالدية .ستنعم املدينة بإسالمها وسالمها أربعة قرون ونيف، 83
نهر على َس َفر | تتارستان ...كتاب البهجة واألشجان ٌ
إلى أن تدك بواباتها جحافل جيوش إيفان الرهيب في الثاني من أكتوبر عام 1552ميالدية. حني يقودنا دليلنا ومترجمنا إلى املتحف الوطني سنستعيد آالم التترين املسلمني وهم يواجهون ببسالة اجليش الفتاك إليفان الرهيب في لوحة جدارية ضخمة ،وهي مواجهة بدأت فترة زمنية مدتها خمس سنوات من احلرب االستنزافية الستعادة «قازان» .وهي املدة التي حتولت فيها ألول مرة في املدينة أساليب بناء البيت من اخلشب إلى احلجر ،كما شهدت أيضا بناء جدران حماية جديدة وجاء املعماري إيفان شريعي إلى «قازان» مع 200من مساعديه لتعمير «قازان» بالبيوت احلجرية في 1555ميالدية. في املتحف الوطني كذلك س� � ��نتعرف على تطور تشييد املنازل ،من اخلشب إلى احلجر ،وحني نذهب إلى قس� � ��م التاريخ بجامعة «قازان» (أسست اجلامعة قبل 200س� � ��نة وهي أكبر جامعات تتارستان وثالث جامعات روس� � ��يا االحتادية) ،نرى خريطة تفصيلية باحلروف العربية جلمهورية تتارستان ،ولعاصمتها «قازان» ،قبل أن يجبر بيتر األول أبناء التتار وسواهم ممن يكتبون باحلروف العربية باملدارس على استخدام األبجدية الروسية في القراءة والكتابة ،سنة 1707ميالدية ،وكانت تلك اخلاصة من األثرياء ،أما م� � ��دارس العامة فقد افتتحت للمرة مدارس َّ األولى في «قازان» في الثالث عشر من مارس سنة 1766ميالدية. اللغة التتارية اليوم في العاصمة ليس لها سوى مدرسة عليا وحيدة، تدرس موادها العلمية بها ،هي «مدرسة املرجاني العليا للتتار» .يقول لي راميل ،مدرس اللغة اإلجنليزية في ذلك الصرح التعليمي املقاوم لفناء اللغة التترية« :هناك بعض املدارس احمللية في املناطق البعيدة التزال حتتفظ بها ،إال أن التقدم للجامعات لن يكون إال باملناهج الرسمية باللغة الروسية» ،كان ذلك صوت شجن تتري يصرخ وسط البهجة حولنا. 84
نحن على أبواب «قازان»؛ املدينة التي مرت بها اإلمبراطورة كاثرين الثانية في طريقها إلى نهر الفوجلا (1767م) ،وزارها الشاعر ألكسندر بوشكني (1833م) ،وعاش بها الروائي مكسيم جوركي (1888 - 1884م)، وشاهدها الثائر فالدميير ماياكوفسكي (1927م) ،وولد فيها الشاعر القومي للتتار عبدالله طوقاي ،ودرس بجامعتها أيام شبابه فالدميير لينني حتى استبعد منها بسبب تطرفه (1890م) ،واحتفل بضم تراثها إلى اليونسكو مدير املنظمة الدولية كويتيرو ماتسورا (2003م) ،وطرد من جامعتها لسوء سلوكه الروائي الكبير ليو تولستوي (1910 - 1828م) ،بعد أن كتب أولى رواياته في شوارعها ،وعرف حبه األول بها بني بساتينها!
موعدان مع الوزيرة نشاط رئيسة خانوم مديرة الثقافة يجعل األمنيات حقائق ،لقاء وزيرة الثقافة ونائبة رئيس وزراء جمهورية تتارستان السيدة زيلفا فاليفا كان على جدول اللقاءات التي طلبتها ،وقد كان ،وفتحت لنا الوزيرة مكتبها وقلبها. سألتها عن خطة وزارتها في تعريف اجليل اجلديد بجمهورية تتارستان على عاداته وتقاليده وتراثه ،فقالت إن طرقا كثيرة تسلكها الوزارة لتمهد إلى هذا الهدف القومي النبيل ،مثل وج� � ��ود معلمني محترفني في كل مجاالت الفنون واآلداب ،يقومون بتدريب النشء على الغناء التقليدي، مثلما يتعلم آخرون أساليب تقنية في الصناعات التقليدية .كما أن هناك مؤسسات عديدة ،ليست في اجلامعات فقط ،وليست في املدن الكبيرة وحسب ،بل في القرى أيضا ،تقوم بهذا الواجب في توصيل التراث عبر األجيال على أكمل وجه. تريد الوزيرة للشعوب األخرى أن تتعرف على العادات والتقاليد التترية، لذا ال تترك مناسبة داخلية إال ويشاهد املشاركون سواء في مؤمترات 85
نهر على َس َفر | تتارستان ...كتاب البهجة واألشجان ٌ
ثقافية أو اقتصادية عروضا تقليدية ،فضال عن زيارات لفرق تترية إلى اخلارج لتقدمي عروض مماثلة .كما تنظ� � ��م وزارتها احتفاليات ثقافية ضخمة مثل األعياد الذهبية واملئوية ،للمفكرين والشعراء واملوسيقيني من التتار ،وش� � ��هدت البالد خالل زيارتنا احتفال جمهورية تتارستان بأول كتاب مطبوع بها ،وكان ذلك منذ 285عا ًما ،واالحتفال بعيد ميالد الشاعر األشهر ألكسندر بوشكني! تضيف فاليفا أن الوزارة تبنت هذا العام مش� � ��روع «تراث» من أجل احلفاظ على املواقع األثرية بدعم من كبار رجال األعمال .وتخطط الوزارة الستقطاب دعم دولي للمشاركة في جهود الترميم .ولذلك تعد الكثير من املواد الفيلمية واملطبوعات حول هذه اآلثار التي تقاوم االندثار. بتفاؤل كبير تتحدث فاليفا عن املستقبل .فقد وقعت اتفاقية تستضيف مبقتضاها جمهورية تتارستان في العام القادم 2008أعماال من العالم اإلسالمي حتت عنوان Louver Hermitage Islamic World ،2008كما أنها تسعد مبشاركة 89فيلما هذا العام في املهرجان الثالث لس� � ��ينما العالم اإلس� �ل��امي (مهرجان املنبر الذهبي) ،في سعي دءوب لترسيخ الهوية اإلسالمية للجمهورية املنفتحة ثقافيا. ليس ذلك هو أول األحداث ،ولن يكون آخرها ،فقد نظمت «قازان» في 2004ميالدية معرضا مه ًما عن اإلسالم والثقافة الروحانية ،تناول في املؤمتر املرافق له الثقافة اإلسالمية في منطقة البلغار واألورال، التي تظهر على اخلريطة النادرة باحلروف العربية. حضرت افتتاح لم يكن ذلك املوعد األول مع الوزيرة هو األخير ،فقد ُ السيدة فاليفا لألسبوع الثقافي للمملكة العربية السعودية في جمهورية تتارستان ،بعروض لزفاف تقليدي ورقصات شعبية ،وأوركسترا سعودية، على مسرح الهرم الزجاجي واحلجري؛ الذي استلهمه رئيس اجلمهورية من أهرام مصر ،وأصبح شاه ًدا على انفتاح اجلمهورية التترية في السنوات 86
األخيرة على ثقافات العالم ،ليس فقط لقبولها ألمناط معمارية مغايرة، وإمنا الستضافتها ألحداث ثقافية من املش� � ��رق واملغرب ،فقبيل ذلك األسبوع الثقافي رأينا على مسرح املدينة الذي يقف أمامه متثال كبير لفالدميير لينني أوبرا صينية راقصة غنائية سكبت ألوان نهر الياجنستي وقوميات الصني التاريخية في عيون لم تنم من س� � ��حر العرض ،الذي كان مكرسا لالحتفاء بصبية فقيرة ،لكنها حلوة الصوت .وإذا كان ذلك العرض تستقبله تتارس� � ��تان من أقصى الشرق ،فقد استقبلت األسبوع السابق عليه دون كيخوته وتابعه سانشو من أقصى الغرب ،إنها «قازان»: قلب عامر بحب الثقافة ،في الداخل واخلارج م ًعا.
حكاية ثالث عائالت )1( :بيت عتيق ك ّ ُل ش� � ��ارع في قازان له قصة ،وكل بيت في شوارعها له رواية ،وكل مسجد في أطرافها تقف منارته شاهدا على تاريخ عريق ،وعجيب أيضا. بعد س� � � ٍ �اعات من وصولنا إلى مدينة «قازان» ،كان لنا موع ٌد مع أمليرا خانوم ورفعت بيه ،وهما زوجان ميثالن اجليل النابه ألبناء تتارستان، الذين يسعون لتوثيق املاضي ،واستعادة الذاكرة ،من أجل تعميق املعرفة بحضارة ألف عام من التاريخ اإلسالمي في بالد التتار. أمليرا خانوم باحثة أخذت على عاتقها مهمة الدعوة عبر دراساتها التاريخية إلى احلفاظ على البيوت التترية اخلشبية العتيقة أو ما تبقى منها لتظل رمزا لعبقرية البناء الذي ش� � ��يدها واحلرفي الذي زخرفها واملصمم الذي أبدعها .بعض هذه البيوت التاريخية مت ترميمه بالفعل، وبعضها اآلخر سيتم حتويله إلى مزار سياحي .لكن مع األسف فإن الكثير منها تهدم مع ما تهدم من تاريخ املدينة عبر تاريخها النازف بالدماء .من بني البيوت التي رممت وتتحول إلى مزار تراثي بيت «املرجاني» وهو عالم دين له مسجد باسمه ،زرناه ،ووجدنا أن املصلني به يبلغون خمسمائة 87
نهر على َس َفر | تتارستان ...كتاب البهجة واألشجان ٌ
في صلوات اجلمعة وخصوصا خالل شهر رمضان املبارك. أما رفعت بيه ،املصور احملترف ،فتسجل عدسته التاريخ الشفاهي للمدينة ،وخاصة مهرجانها السنوي «سابانتوي»؛ الذي ميثل رحلة تراثية تلخص حياة املدن والقرى والبراري في تتارستان .ومع هذا املهرجان س� � ��تكون لنا قصص الحقة ،لكن القصة التي تأث� � ��رت بها جاءت حني جئنا مع العائلة الثقافية إلى مطعم يحمل اسم ألكسندر بوشكني ،وقد انضمت إلينا ظريفة رفقت؛ ابنتهما ،وهي فتاة في اخلامس� � ��ة عشرة، رأيت تعشق الفنون ،وتدرس في مدرسة تركية ،وتتحدث ثالث لغات. ُ رفعت بيه شار ًدا ،وتشرح لنا أمليرا س َّر شروده ،لقد كان يتذكر أيامه في هذا املكان ،قبل أن يتحول ليصب� � ��ح مطع ًما ،بعد هدم األثر التاريخي، لقد عاش رفقت بيه هنا طفولته وشبابه في بيت خشبي ،نهض مكانه ذلك املطعمُ ّ ، أخط له أبياتاً قصيرة من وحي حلظة الشجن التي عاشها: على أطالل ٍ املصو ُر للمكان /لم تزل هنا وح تس����كنه /عا َد الر ُ ِّ بيت كانت ُّ رائحة طعام األم /لم يزل صوت األب هناك /كأن اللقاء قصيدة كتبها بوشكني /على باب الوداع!
( )2مناجاة تخصصت كولزاده خانوم صفيولينا في إحياء فن األناشيد الدينية اإلسالمية ،وخاصة تلك التي تس� � ��تعيد الغناء التتري القدمي .وبجانب الغناء فإنها تعلم القرآن الكرمي لألطفال والكبار من التتار املس� � ��لمني على حد سواء (ولها طبعات صوتية لتعليم القرآن الكرمي الذي درسته على يد شيخ من األزهر الشريف) ،في استديو خاص بها ،نلتقي معها، ونس� � ��تمع إليها ،ونش� � ��اهدها وهي ترتدي أزياء تترية تقليدية ،ونعيش صباحا بهيا ،متتزج فيه حالوة الصوت ،مع احلل� � ��وى التقليدية (التي ً تشبه إحداها قبعة املولوية الصوفية الطويلة ،حتى أنني أسميتها حلوى 88
بني بناء االحتفاالت العصري الذي يستلهم معمار الهرم في مصر ،ومسرح الدمى الذي يستوحي قصور ألف ليلة وليلة ،يبرز ملمحان في مدينة قازان التي ولدت قبل أكثر من ألف عام.
89
نهر على َس َفر | تتارستان ...كتاب البهجة واألشجان ٌ
جالل الدين الرومي ،وهي مصنوعة من العسل والدقيق ،وتشبه حلوى الطحني في الشرق!) ابنتها رزاده ،عاملة تش� � ��تغل في معهد التاريخ بجمهورية تتارستان، والطريف أنها تزوجت مهندس طيران مينيا ،هو جمال محمد العنسي، درس في «قازان» ،ويقوم حاليا باستكمال دراسته في العلوم السياسية، فضال عن عمله مبصنع للخشب خارج املدينة ،ورئاسته الحتاد اجلاليات العربية للطالب الدارسني في تتارستان .والطالب في جامعات تتارستان العلمية واإلنسانية من لبنان وتونس والسعودية وسورية والسودان وليبيا واملغرب واليمن ،ومصر ،وعددهم نح� � ��و مائتي طالب ،وجلمال ورزاده ثالثة أوالد .وكان احتاد اجلاليات الذي يحمل الطابع الرسمي قد جعل اشتراكه في بداية األمر ( 50روبال) = (دوالران) ،ولكنه تغاضى عن ذلك االشتراك ،ويقوم بعمله بشكل تطوعي ،ويتركز معظم العمل في التوسط لدى الهيئات الرسمية لدى حدوث أية مشكالت (كما حدث حني مت العثور على منشورات وأسلحة بسكن بعض الطالب العرب أثناء احلرب املوسكوفية مع الشيشان!
( )3تاريخ في مكتبة املتحف الوطني يش� � ��دني منت كتاب ع� � ��ن املوتيفات التي اندثرت أو كادت ،وكانت تزين اللقى واملقتنيات التترية لبُلغار الفوجلا وخاصة منطقة الكرميني .الكتاب باللغة الروس� � ��ية ،لكن شروح صوره مترجمة إلى اإلجنليزية ،في قس� � ��م التاريخ أحتدث مع البروفيس� � ��ورة جوزيل سليمانوفا (جوزيل ،أو جوزال ،هي املرادفة لكلمة غزالة العربية) ألكتشف أن هذا الكتاب الذي اقتنيته هو واحد من سبعة كتب وضعها والدها أستاذ التاريخ ،ورائد توثيق الفنون القدمية في تتارستان :فؤاد فاليف ،وشاركته ابنته فيه. 90
جعل الراحل فؤاد فاليف ،وابنته جوزيل فاليفا سليمانوفا ،الكتاب مك َّر ًسا ألسالف التتار املعاصرين ،تتار «قازان» ،وبلغار الفوجلا ،والبلغار، والقازانيني ،وأتراك الغرب .ويفتح الكتاب صفحة جديدة في البحث التاريخي لتتارستان ،في الذكرى الثمانني مليالد فؤاد فاليف ،والذكرى األلفية لتأسيس «قازان». خص الكتاب صفحاته املرسومة لتوثيق الفنون الزخرفية التي زينت َّ األغراض احلياتية والعمارة واملنسوجات بحثا عن تقنني التطور اجلمالي لألفكار التقليدية في هذه الفنون .وحاول قدر اإلمكان أن يغطي ذلك التنوع الثري لرحلة الفن منذ أقدم العصور ،وحتى العام 1552م ،العام الذي وقعت فيه خانة «قازان» حتت أس� � ��ر القوات الروس� � ��ية الغازية. وجاء الكتاب بوتقة امتزجت فيها عصارة مائة مقالة نشرتها الدوريات املتخصصة عن هذه الفنون لبيان طابعها اإلثني. وقد اتضح ذلك كله في اإلسكتشات التوثيقية التي رسمها فؤاد فاليف للموتيفات الزخرفية على اخلشب ،واحللي التقليدية من املعادن الكرمية والفضة ،كاخلوامت والقالئد واألقراط واألس� � ��اور ،فضال عن النقوش اجلدارية ،وغيرها من اللقى واآلثار ،من الس� � ��يراميك والفخار ،وأوان وأباريق ،ومتائم وتعاويذ الصحة والسعد ،ومناذج لشجر احملاياة لدى البلغار ،وتفاصيل األزرار وربطات الثياب من أحزمة ومشابك ،للمالبس والشعر ،واألمشاط ،واملرايا ،واألختام ،ورءوس العصي ،وزخارف البلطات، وكل ما هو مصنوع من املعدن والفخار والعظم والعاج والقماش وينتمي إلى هذه احلقبة املُشكِّلة للفن التتاري في مهده ونضجه وتألقه. كما ضم الكتاب صو ًرا لصوامع الدراويش منها ما يعود تاريخه إلى القرن الرابع عشر امليالدي ،وأضرحة ذات منارات ،ترجع للتاريخ ذاته، وبعض العلب املعدنية التي رأينا مثيالتها في املتحف الوطني احلافظة للقرآن الكرمي ،واملصنوعة من الذهب ،واملزخرفة باألحجار الكرمية. 91
نهر على َس َفر | تتارستان ...كتاب البهجة واألشجان ٌ
تستكمل جوزيل خانوم مشوار أبيها ،الباحث ،واملوسيقي ،والشاعر، والكاتب ،والعالم ،مثلما تستدعي في ألبوم مصور صدر ضمن حوليات مجلة كازان التاريخية نضال أسرتها وخاصة جدها حسني فالي ،الذي أعدمته القوات البلشفية بعد نفيه عشر سنوات في سيبيريا! ثم تدخل بنا إلى قاعة محاضرات ،لتطلعنا على أعالم املقاطعات التترية ،البهية وامللونة ،والتي جتسد أمناط احلياة في بالد التتار ،فهناك أعالم حتمل رس� � ��وم كائنات برية كاأليائل ،وآخر لراع ع� � ��ازف ،وثالث لطائر ،ورابع لزخارف معمارية ،وكأنها لوحات فنية وليست أعالما .وهكذا ترسل تتارستان إلى السماء راياتها خفاقة بالفن والتاريخ معا.
مدينة قازانية فاضلة في العقد األخير ،عادت حرية األديان تنمو حتت سماء تتارستان مع أزهار عباد الشمس وسنابل القمح ،تشرب من الفوجلا ،وأنهار اجلمهورية اخلمسمائة .ولذلك بدأت عملية ترميم املساجد بكثافة (وهي التي منحت رئيس اجلمهورية جائزة امللك فيصل العاملية لنشر اإلسالم هذا العام)، وإعادة االعتبار للكنائس ،وإحياء مراس� � ��م الدين مثل حفالت الزواج داخل املساجد واملراكز الدينية ،وقد ألهم ذلك املناخ املصمم والرسام والشاعر واملعالج األرثوذكسي إلدار خانوف ،لكي يبني حول بيت أمه العتيق مجم ًعا لألديان السماوية واألرضية (يخطط حلضور 16ديانة مختلفة) والثقافات اإلنسانية جميعها. وقد ارتفع عدد اجلمعيات الدينية خالل السنوات األخيرة في تتارستان ليبلغ املائة .وأحد املبادئ األساسية في تتارستان هو االهتمام مبتطلبات الديانتني األساسيتني في البالد :اإلسالم واملسيحية ،وهناك 170جمعية أرثوذكس� � ��ية (يحضر الكاثوليك والبروتس� � ��تانت بنحو أقل ،كما يسمح لليهود واللوثريني مبمارسة شعائرهم الدينية) ،ومع وجود أعراق دينية 92
مختلفة توجد حالة من التس� � ��امح الديني والعرقي بينها ،حتت سماء احلرية املكفولة للجميع. نتوقف أمام دارة إلدار خانوف بتصميمها الفذ الذي يستلهم في هيئته اخلارجية وتقسيمه الداخلي قباب ومنارات املسجد والكنيسة واملعابد اليهودية والبوذية والوثنية .عشر سنوات أمضاها إلدار يبني بنفسه هذه العمارة التي متثل مدينة فاضلة لكل األديان ،حتيا في سالم ،وتستمتع بفضاء واحد مخصص ملمارسة احلياة الدينية والثقافية .حتى أنه يعد في مسرح داخل املبنى الفتتاح عرض مسرحي لشكسبير بسبع لغات من بينها اللغة العربية ،واللغة التترية! أمام لوحاته العمالقة ،عن املوسيقى واحلرب ،ومناذج من مجسماته الضخمة التي تنتشر في البالد ،يقف ليحكي خانوف كيف شهدت طفولته حربا مدمرة بسبب العصبيات والنزاعات التي يأمل أن تتوقف فورا وأن مشروعه إلخاء األديان يضمن السالم« :أحاول أن أخلق هوية جديدة لروسيا» .يقف خانوف بقميص (تي شيرت) بسيط وسروال قصير ،ألنه قد ال يشعر بالبرد الذي يتدثر حماية منه ُك ّ ُل من حوله ،وتكفيه ساعتان من النوم يوميا ،وثالث ساعات في عالج مرضاه ،ووجبة واحدة ،وهو دائما يتذكر كيف مات أخوه من اجلوع! يعتمد إلدار على نفسه لتمويل مشروعه ،وال يتلقى سوى دعم متمثل في مواد بناء وزجاج ممن يعاجلون لديه ،ومعظم مرضاه من املدمنني على املخدرات ،يفدون إليه طلبا للشفاء .يقدم لنا إلدار خانوف ماكيت املستقبل ملشروعه ،ال يضم املجمع الذي يشيده وحسب ،بل يضم سكة حديد لألطفال ،ونوادي ،ومساكن ،وجزيرة صناعية على مياه الفوجلا املقابل له ،وجمعية فلكية ،ويرينا على الواقع البس� � ��تان الصغير الذي يزرعه ليأكل من خضاره. في س� � ��ياق الفكرة القازانية لليوتوبيا الفاضلة التي جتمع الشعوب 93
نهر على َس َفر | تتارستان ...كتاب البهجة واألشجان ٌ
م ًعا يجمعني لقاء مسائي مع الدكتورة ساديكوفا آسيا ،عضو اجلمعية العامة جلمهورية تتارس� � ��تان ،ومديرة مركز س� � ��اكورا التتاري الياباني للثقافة واملعلومات .تتحدث ساديكوفا عن مشروعات للجيل اجلديد، من أهمها إصدار كتب تعريفية ببلدان العالم ،فاملعرفة جسر للتخاطب مع اآلخرين .وفي عصر املعلومات يجب أن تتوافر للشباب هذه الكتب املبسطة والشارحة التي تأتي في سياق اإلصالح الثقافي الذي تشهده البالد ،والتي بدأت االهتمام باألجيال اجلديدة بإنشاء جلنة لألطفال والشباب حتولت منذ س� � ��نوات إلى وزارة خاصة بهم ،واعتمدت خطة تنمية للسنوات (2010 - 2007م). إنها أحالم جتد من يرعاها ،حتت سماء تتارستان ،وخارجها ،وتدعو العرب للمشاركة في هذه الكتيبات التعريفية ببلدانهم .ومرة ثالثة ،أدرك اهتمام «قازان» وتتارستان بفكرة احلوار مع اآلخر والتعريف به ،حني ألتقي مع الباحث بوالت تاج الدين (الذي تكت� � ��ب حروفه باإلجنليزية BOULAT Tagudinويقابل بالعربية فوالذ ،وهذا معناه أيضا باللغة التترية) ،وهو يدير مركزاً حلوار احلضارات اآلسيوية واألوربية.
السابانتوي :الرقص مع التتار! جئت تتارستان لنعيش أيام السابانتوي ،وهو عيد شعبي تتري .وسابان كلمة تركية تعني احملراث .وكأن العيد (ت� � ��وي) َح ْرثٌ ملا زرعه اجلميع طوال موسم كامل .لذلك يعني السابانتوي حصاد كل شيء مبهج :فإذا أردت لم الشمل ،ورؤية األهل ،واالس� � ��تمتاع بالوصل؛ فليس لك سوى َ السابانتوي ،وإن رغبت في الغناء ،وسماع املوسيقى التقليدية والرقص ببهجة وانتشاء ،فما من مناسبة مثل السابانتوي ،وكذلك لو أحببت تذوق األطباق الشعبية واحتساء املشروبات التقليدية وتناول الثمار احمللية، فعش مع السابانتوي! 94
في قرية قوقمر على مسافة 120كيلومترا من «قازان» رأينا فجر السابانتوي .ال يفصل بني املدينة والقرية سوى بساط أخضر .توزعت على جانبي طريقنا أشجار عمالقة حتمي احملاصيل من العواصف الثلجية، مثلما حتمي املارة من الرياح اجلليدية ،فضال عن أنها مثل إطار طبيعي يزين السماء التي ترقص فيها السحب وهي تتشكل عصافير وأقما ًرا وأزها ًرا .في منتصف الطريق تذكرنا املطر فغمر األس� � ��فلت والسيارة ولكنه على مشارف قوقمر توقف ،لنشارك أهل قوقمر وعددهم 1450 شخصا فرحتهم بتدشني العيد. نبدأ ببيت العمدة الذي دعانا إلى وجبة شعبية تقليدية ساخنة( ،مثل الشرق تستهل اللقاءات بالوجبات!) ،وكالعادة يتخللها عصير املشمش (أو الكيوي واألناناس واملوز واليوسفي) ،والشاي الذي ترقد في قاع فنجانه إحدى ثمار املشمش أيضا ،وحلويات أخذت بعضها أشكاال تترية ،وامتزج اآلخر بالتركي والشرقي والروسي .وإذا كنا في العاصمة «قازان» نعبر اسيبا» ،فأنت في تتارستان مدنا وقرى يجب أن «س َب ِ ّ عن الشكر بكلمة ْ تستخدم الكلمة األصلية اإلسالمية للشكر «رحمات» ،وهي دعاء إلى الله لك بالرحمة .وهكذا توزعت من األفواه الرحمات شكرا وعرفانا ملضيفنا ،وفي ما بعد للذين استسلموا للعدس� � ��ات وهي تسجل وقائع استقبال السابانتوي. من أحد املنازل يبدأ السابانتوي ،تخرج الفتيات بحلل بهيجة األلوان، وعلى عربة يجرها حصان يصعد أطفال صغار بابتسامات ال تقل بهجة، وضوضاء من الضحكات البرية التي تطلق الفرح في سماء القرية .تتحرك القافلة ،التي يتقدمها راقص وعازف األكورديون ،وسينضم إليهما الحقا املزيد من العازفني والراقصني ،ولكن األهم هم هؤالء الذين يحملون العصي العمالقة .تخيلنا أنها ستستخدم في النزال ،ولكن مع كل بيت عرفنا سرها. 95
نهر على َس َفر | تتارستان ...كتاب البهجة واألشجان ٌ
أمام كل بيت كان األطفال يصيحون بصوت إيقاعي «كاالبا» ،وهي صيحة تترية تنبيهية للمناداة( ،مثل احلمحمة في القرى العربية إلعداد الدار لدخول الضيوف) ،وهي في الوقت نفسه إشارة ألصحاب البيت بأن قافلة السابانتوي وصلت. تخرج األم حاملة بعض الهدايا لألطفال ،قد تكون قطعا من احللوى، أو بيضا ،أو فاكهة ،ولكن األهم ،أن تقدم ألصحاب العصي قطعة من القماش امللون ،ليربطها الشاب إلى عصاه مثلما تربط الرايات ،ومعها أمنيات بالسالمة واالستقرار .قد تهدي بعض الفتيات قطعا مغزولة باليد ،ومعها دعاء بأن تتزوج قريبا .وقد تهدي العجائز الس� � ��ابانتوي اخلاص بهن طلبا للصحة .وتهدي النساء السابانتوي املطرز مع دعاء ألطفالهن بكل محبب وطول العمر .مع كل توقف تقوم موظفة أو أكثر بتسجيل هدايا أهل القرية إلى السابانتوي .وتسجل أيضا إذا كان أهل البيت غائبني عنه .وأثناء ذلك كل� � ��ه ال يتوقف العزف والغناء والرقص وصيحات «كاالبا» ،ودعوة كل بيت لنا للجلوس وتناول الكعك أو الفاكهة أو العصائر والشاي للمشاركة في السابانتوي. بعد ذلك بيوم أو أكثر ،وبعد أن تنتهي عمليات جمع هدايا السابانتوي، ستبدأ أيام املهرجان ،التي يستقبلها شهر يونيو ،من كل عام .إنه احتفال صيفي ،لكن صيف تتارستان بارد ،رمبا تتراوح درجة احلرارة فيها بني العشرين والثالثني ،لكنه بارد في أغلب األحيان ،بل وممطر أيضا .في ألعاب شعبية كثيرة ،لعل أشهرها املصارعة بالسواعد ،وتبدأ أيام املهرجان ٌ بأصغر املشاركني سنا من األطفال ،ويتصاعد العمر ومعه احلماس وقوة املصارعة وضوضاء التشجيع .كما أن هناك مسابقات تشبه التحطيب، وأخرى للعدو ،وثالثة لسباقات اخليل ،ورابعة حلمل ال ّدالء باملاء والعدو بها دون أن ينسكب ماؤها ،وخامس� � ��ة لتسلق الشجر العمالق بسيقانه الزجلة ،وسادسة لصعود األعمدة ،وس� � ��ابعة لتحطيم الفخار والعيون 96
معصوبة ،وغيرها من ألعاب كأنها من حكايات شعبية خرافية! كان العيد في أوله طقسا للحصاد ،ثم تدرج ليكون ملتقى لالجتماع، ترى فيه الفتيات أزواج املستقبل ،ولكنه صار اليوم على نحو أكبر مكانا للصلح مع الذات والغير م ًعا .وهكذا يتم فيه حل النزاعات ،واخلالفات، ودعوة القوميات األخرى للمشاهدة واملشاركة .وكانت جوائز املسابقات حتى سنوات خلت -ورمبا ال تزال كذلك في أرياف تترية نائية -خروفا! لكن اجلوائز اليوم أصبحت أكث� � ��ر عوملة ،حتى إن بعض اجلوائز ميكن أن تكون سيارة موديل جديد!! كل ذلك وسط ميادين خضراء تصطف على جنباتها جماهير جتعل من كل س� � ��احة مكانا للمباريات املختلفة. ترفرف في الهواء رايات السابانتوي امللونة ،وترقص على األرض ثياب الفتيات املزركشة ،وتتمايل طربا القبعات التقليدية مع أنغام األكورديون واآلالت املوسيقية التقليدية األخرى ،وتصافح السماء رايات السابانتوي امللونة.
شعر عبدالله طوقاي كلما قادتني اخلطى في «قازان» أو خارجها تذكرت شاعرها التتري الكبير عبدالله توقاي .كانت كلماته تتنفس هواء األمكنة واألزمنة .حتى القرية التي حتدث عنها «قرالي» كانت تشبه القرية التي زرتها في مالمح عديدة ،يقول وكأنه يصف قوقمر :لم أولد فيها ،لكنني احتفظت بحبها. مرج عشبي أخضر كغطاء من املخمل .إنها ليست مشهورة ،بل مجرد قرية صغيرة ،ولكن نهيرها منبع جمالها وهو فخر أهلها .ال نحس فيها بلسعة البرد ،أو لفحة احلر ،وتهب الرياح في مواسمها». وفي «قازان» تعيش كلمات عبدالله طوقاي« :ها هنا املوسيقى والرقص والفنون والعبو السيرك ،وها هنا الشوارع واملسارح واحملاربون وعازفو الكمان» .وهناك حديقة باسمه ،وله ركن في املتحف وبأحد اجلاليريات 97
نهر على َس َفر | تتارستان ...كتاب البهجة واألشجان ٌ
رأينا صورته عل� � ��ى احلائط في لوحة زيتية ضخم� � ��ة ،مثلما دققنا في العمالت التذكارية التي أصدرتها تتارستان مبناسبة مرور ألف عام على إنشاء «قازان» ووضعت صورة طوقاي على وجه عمالت ذهبية وفضية وبرونزية ونحاسية ضمن أعالم البالد .وفي إحدى الغابات التي زرناها، استدعيت كلمات طوقاي« :غابة عامرة بالعطور ،أكبر من البحر ،وأعلى من السحاب ،تذكرني أشجارها جيش جنكيزخان القوي العرمرم».
...وطغراء فالدميير بوبوف في ليلة السفر ،وقبل ساعات من انطالق الطائرة فج ًرا إلى محطة الترانزيت في اسطنبول ،وفي فندق فاطمة حيث نقيم ،جاءت الدكتورة ساديكوفا آس� � ��يا بصحبة ابنتها ،ومعهما الفنان فالدميير بوبوف .في حواري السابق معها أشارت إلى أعمال بابوف ،لكن الدهشة أعمق حني رأيت أعماله اخلطية العربية ،فلم يكن الضيف العجوز يتحدث العربية ليقدم بها كل هذا السحر اخلطي ،ولكنها جماليات احلروف العربية التي فتنته ،وأسرته ،فجعل منها غايته قبل سنوات. تعكس األعمال اخلطية للفنان التتري فالدميير بوبوف املقيم في «قازان» روح الفن اإلسالمي ،من حيث وحدة التكوين ،واملضمون ،وجمالياتهما. إذ يحاول الفن� � ��ان فالدميير بوبوف تقدمي ص� � ��ورة موازية ،أو «عالمة شخصية» كما يسميها ،لألسماء التي يك ِّونها جماليا مستفيدا من حرية وثراء اخلطوط العربية ،وخاصة حروف الطغراء .وترى أستاذة العلوم الفلسفية واملتخصصة في الدراسات اإلسالمية بالطانوفا أن أعمال فالدميير بوبوف التي ترسم األسماء ،حتدد روح وقدر اخلط املش ِّكلة لها ،ولذلك تعد مرآة إلعطاء تصور ذاتي عن صاحب االسم! لكنها ال تغفل حضور القيم اإلنسانية الكونية واألفكار الدينية والفلسفية التي تعد قيما أساسية في األشكال التقليدية للفنون اإلسالمية. 98
اخلط العربي أيضا كان حاض ًرا ،في جاليريهات كثيرة رأيناها ضمن جولة أعدتها السيدة رئيسة خانوم ،وتعرفنا على بعض من مؤسسات تتارستان الثقافية .إذ يوجد اثنا عشر مسرحاً رسميا وقاعات موسيقية و 88متحفا للدول� � ��ة و 300متحف نوع� � ��ي ،و 1717مكتبة ،بينها مكتبة جامعة «قازان» (أربعة ماليني وثمامنائة ألف كتاب) ،واملكتبة الوطنية جلمهورية تتارس� � ��تان (ثالثة ماليني ومائة ألف كت� � ��اب) ،وتدور مطابع تتارستان لتقدم س� � ��نوياً 500كتاب ،كما يصدر بها 170صحيفة و35 مجلة .ألتقي مع املستشرقة نورية كرايفا ،في قسم املخطوطات باملكتبة العلمية في جامعة «قازان» ،فتدلني على عدد املخطوطات العربية في أرشيف املخطوطات والذي يبلغ 25ألفا .أفكر في األسرار واملعارف واالكتشافات األدبية والتاريخية والعلمية التي ميكن أن يفصح عنها هذا العدد من الكنوز الدفينة! ومثلما استقبلتنا رئيسة خانوم عند الفجر ،جاءت لتودعني في ليل «قازان» املضيء حتت زخات املطر ،في الطريق إلى املطار تعطلت السيارة فقالت مداعبة« :ليست السيارة وحدها هي التي ال تريد مغادرتكم ،فنحن نتمنى أن تبقوا معنا فترة أطول» .قلت لها« :إن السماء أيضا تبكي .لكن عزاءنا في الذكريات التي سنستعيد بها الرحلة التتارية ،التي ضمت كثي ًرا من البهجة ،وقليال من األشجان» .لم تبرح رئيسة خانوم املطار إال بعد أن اطمأنت على ركوبنا الطائرة ،وألن ساعات االنتظار في اسطنبول كانت في رحلة العودة 40ساعة كاملة لعدم وجود رحلة يومية ،فقد سألتنا أن نطمئنها على سالمة الوصول مع املتاع! .وفي البريد اإللكتروني الذي كتبته بعد وصولي ،ختمته بالشكر الروس� � ��ي والتتري ،وأكرره هنا في خامتة سطوري إلى كل أهل تتارستان :سباسيبا ...رحمات!
99
نهر على سفر
ُبلغار الڤوجلا
على خطى أحمد بن فضالن
نهر على َسفَر | ُبلغار الڤوجلا ٌ
أمام املسجد األبيض ،في قرية بلغار على نهر الڤوجلا ،كانت الفتيات التتاريات حاضرات بأزياء من ألوان السماء ينتظرن قافلتنا ،وهن يؤدي������ن -وفق إيقاع مرس������وم -لوحات حركية تقليدية .الثياب التاريخية ،الفضاء الشاس������ع ،البرد القارس، الوجوه املختلفة ،أعادتني أكثر من ألف عام .وكأنها احتفاالت تاريخية ،فهنا وصلت خطوات أحمد بن فضالن ،رس������وال من اخلليفة العباسي ،ليفقه أهل تلك البالد ،ويزيدهم علما لدين اإلس���ل��ام ،حتى اتخذ أحفادهم من تاريخ قدوم ذلك العربي ميالدا للدين احلنيف في وطن التتار. بني يدي الرحلة التي حققها وعلق عليها وقدم لها د .سامي الدهان ،ونشرها املجمع العلمي العربي بدمشق ،بعنوان «رسالة ابن فضالن ـ أحمد بن العباس بن راشد بن حماد في وصف الرحلة إلى بالد الترك واخلزر والروس والصقالبة ،سنة 309 هـ ـ 921م». والثابت أن أحمد بن فضالن قد انطلق في رحلته من بغداد، وإذا كان عليه أن يصل إلى موقع (بلغار) على نهر الڤوجلا ،حيث تقع اليوم القرية التاريخية في تتارستان ،إحدى اجلمهوريات اإلسالمية في روسيا االحتادية ،فقد كان لزاما أن يكون اجتاهه شماال ،ملسافة تربو على ألفني وخمسمائة كيلومتر .لذلك كان السؤال األول الذي تبادر إلى ذهني ،وحاولت أن أجد إجابة له، هو ملاذا ضاعفت قافلته املسافة ،حيث اجته بها ابن فضالن إلى الشرق ،قبل أن يعود إلى الغرب الشمالي؟ كان ذلك أحد أسئلة كثيرة تلح على الذهن حني نتأمل البداية، بل ونتساءل ،كيف تسنى لذلك امللك القاطن الشمال النائي ،أن يعرف بأمر اخلليفة العباسي ،وأن يسترشده في أمور دنياه، 102
ودينه ،فيطلب منه العون املادي لبناء حصن ضد أعدائه ،ويرجوه أن يرسل من يفقه شعبه في دين اإلسالم؟
بغداد اخلليفة في عام 295للهجرة ،بويع للخالفة العباسية في بغداد اخلليفة املقتدر بالله أبا الفضل جعفر ابن اخلليفة املعتضد .كان فتى في الثالثة عش������رة من عمره ،ولذلك عرفت بطانته أن جتعل يده سخية حد اإلسراف ،حتى كان له في داره أحد عشر ألف خصي من الروم والسودان ،كما امتألت خزائنه باحللي خادم ّ واجلواهر النفيسة ،وحتى أش������يع عنه بأن دولته تدور أمورها على تدبير النساء واخلدم ،حتى قال بعض املؤرخني إنه أنفق ضياعا وتبذي ًرا ،ماعدا نفقات الدولة ،فقد سبعني مليون دينار ً اضطر في استرضاء اجلند والغلمان أن يبيع ضياعه وفرشه وأنية الذهب ،وقد خلع وأعيد ثم ُقتل ،ومكثت جثته مرمية على قارعة الطريق سنة 320للهجرة ،كما يرد في حتقيق الدهان للرحلة. فإذا كانت تلك احلال ،كما يبدو ،سلبية الصورة ،فكيف كانت الصورة اإلعالمية في اخلارج تبدو مخالفة ،ومضيئة؟ يسرد ابن مسكويه في كتابه «جتارب األمم» ما يصور حال بغداد وخالفتها سنة 305للهجرة ،أي قبل أربع سنوات من سفر ابن فضالن: «ودخلت سنة خمس وثالثمائة :وفيها ورد رسوالن مللك الروم إلى مدينة السالم ،على طريق الفرات بهدايا عظيمة وألطاف كثيرة ،يلتمسان الهدية .وكان دخولهما يوم االثنني لليلتني خلتا من (ش������هر) احملرم ،فأُنزال في دار صاعد ب������ن مخلد .وتقدم أبو احلسن ابن الفرات (أحد وزراء اخلليفة) بأن يفرش لهما ويع ّد 103
نهر على َسفَر | ُبلغار الڤوجلا ٌ
فيه ك ّل ما يحتاجان إليه من اآلالت واألواني وجميع األصناف، وأن يقام لهما وملن معهما األنزال الواس������عة واحليوان الكثير واحلالوة ،حتى يتسع بذلك ك ّل من معهما ...والتمسا (الضيفان) الوصول إلى املقتدر بالله ليبلغاه الرسالة التي معهما فأُعلما ّ متعذر صعب ،ال يجوز إال بعد لقاء وزيره ومخاطبته أن ذلك في ما قصدا إليه ،وتقرير األمر معه ،والرغبة إليه في تسهيل األذن على اخلليفة ،واملش������ورة عليه باإلجابة إلى ما التمسا. عدي ابن عبدالباقي الوارد معهما من الثغر أبا فسأل أبو عمر ّ احلسن ابن الفرات اإلذن لهما في الوصول إليه ،فوعده بذلك في يوم ذكره له». ويكمل ابن مسكويه وصفه لدراما الوصول إلى اخلليفة من قبل السفيرين فيقول: ً «وتقدم الوزير بأن يكون اجليش مصطفا في دار صاعد إلى ّ الدار التي أقطعها باملخ������ ّرم ،وأن يكون غلمانه وجنده وخلفاء احلجاب املرسومني بداره منتظمني من باب الدار إلى موضع مذهب السقوف في دار منها، مجلسه ،وبسط له في مجلس عظيم ّ يعرف بدار البستان ،بالفرش الفاخر العجيب ،وعلّقت الستور التي تشبه الفرش ،واستزاد في الفرش والبسط والستور ،ما بلغ ثمنه ثالثني ألف دينار ،ولم يبق شيء تجُ مل به الدار ،ويُفخم به األمر ،إال فعل .وجعل على مصلّى عظيم من ورائه مس������ند عال ،واخلدم بني يديه ،وخلفه ،وعن ميينه ،وشماله ،والقادة واألولياء قد مألوا الصحن ،ودخل إليه الرسوالن فشاهدا في طريقهما من اجليش وكثرة اجلمع ما هالهما». «بعد ذلك الوصف ملا شاهد الرسوالن ،وما حملاه في الرواق، ومن التقياه في الدار ،وما نظرا إليه في املجلس ،وما استمعا 104
املس���جد األبيض ،في قرية بلغار على نهر الڤوجلا ،تتارس���تان ،إحدى جمهوريات روسيا االحتادية.
املسجد القدمي واملتحف والضريح في قرية بلغار الفوجلا ،عمارة تستلهم التاريخ.
105
نهر على َسفَر | ُبلغار الڤوجلا ٌ
له من ترجمان الوزي������ر ،الذي يعدهما ،بالتم������اس املقابلة مع ّ فيصطف اجلنُد م������ن دار صاعد إلى اخلليفة ،ويأت������ي اليوم، دار السلطان في الزي احلس������ن ،وميرر الرسوالن عبر رحاب الدار والدهاليز واملمرات التي تعج بالرجال والسالح ،من ممر يفضي إلى صحن ،ومنه إلى ممر فصحن ،يخرقان الصحون واملمرات حتى كال من املشي وانبهرا ،لكثرة الرجال والسالح، ثم أدخال على اخلليفة املقتدر ،اجلالس على سرير ملكه ،وحوله األولياء وقوف على مراتبهم فلما دخ���ل��ا ق ّبال األرض ووقفا حيث استوقفهما احلاجب ،فأديا الرسالة ،فأجابهما عنه الوزير وانتهت املقابلة ،وأتبعها ذلك بعطاء آالف الدنانير ،فحمل إلى كل واحد من الرسولني عشرون ألف درهم صلة لهما ،وخرجا مع املترجم من حدود البالد». فهل نتساءل بعد ذلك ،وتلك الصورة تعبر حكايات تتناقلها األلسن عبر طريق احلرير ،عما كان في ذهن ملك الشمال حني أرسل إلى اخلليفة ما أرسل؟ وكما كانت تلك الصورة عن بغداد فاعلة في تشكيل ذهنية ملك الشمال ،فقد كانت مدعاة البن فضالن ،القادم من عاصمة الترف واحلضارة ،أن يقلل من شأن ما يراه ،ويستثير التعجب من حياة «الصقالبة» سكان الشمال في أوربا ،على أطراف نهر الفولغا ،الذين تقع عاصمتهم على مقربة من «قازان» ،اليوم.
اخلروج من قازان املطر يشتد حينا فيهطل أو يخفت أحيانا فيتحول إلى رذاذ يداعب واجهة احلافلة التي حتركت في الصباح الباكر من قازان، عاصمة جمهورية تتارستان ،باجتاه قرية البلغار التاريخية .ليس 106
الڤوجلا وحده النهر الذي يصادفنا ويصاحبنا ،فهناك نهر تركناه هو كازانكاه ،ولو لم تكن رحلتنا برية لوصلنا عبر نهر كاما ،الذي يتسع أحيانا فتخاله بح ًرا. ها نحن نتجه إلى البلغار ،وتتناوب األذن على س������ماع أدلة الرحلة ،السيدة رئيسة جاريفا التي تعشق املنطقة التاريخية، الدكتورة نورية كراييفا التي حتكي عن رحلة ابن فضالن ،املترجمة روشانيه عفيفا التي تزور املنطقة -مثلي -للمرة األولى. أكاد أعرف اآلن السبب في خط رحلة ابن فضالن املتعرج ،لقد انطلق الرجل وقافلته عبر طريق احلرير ،فاملوقع االستراتيجي أهلها للدخول ف������ي طريق القوافل التجارية ،ومع ملدينة قازان َّ السجاد الذي حمله التجار بني القرنني السابع والثامن امليالديني، شهد حوض نهر الفولغا تواصال مع الشرق والتعرف على عاداته ودينه ـ شامال املمالك العربية اإلسالمية ـ مبا سمح مللك بلغار الفولغا أملش بن يلطوار بتش������كيل أول مملكة إسالمية شمال شرق أوربا وأن يطلب إلى أمير املؤمنني املقتدر بالله أن يرسل الدين وتع ّرفه في شرائع اإلسالم، إليه بعثة من قبله ،تفقّهه في ّ مسجدا ،وتنصب له منب ًرا يقيم عليه الدعوة للخليفة وتبني له ً يتحصن في جميع مملكته ،وسأله إلى ذلك أن يبني له حصنًا ّ فيه من امللوك املخالفني له ،ورغ������م ثراء امللك البلغاري -كما يصف ابن فضالن -فإنه تعلل بأن مال خليفة املس������لمني هو للتبرك اعتزازا منه بدولتهم .ويعرف الرحالة بأن ملوك اخلزر وهم من اليهود ،هم أعداء امللك الذين اعتادوا البغي بل وفرض الضرائب على أهل البالد بتحصيل جلد حيوان السمور عن كل بيت في اململكة ،ويتمادى ابن ملك اخلزر فيخطب من يريد من بنات ملك الصقالبة ويتزوجها غص ًبا ،رغم أن اخلزري يهودي، 107
نهر على َسفَر | ُبلغار الڤوجلا ٌ
الكاتب أمام جدارية متثل مشهد وصول واستقبال ابن فضالن ،هنا خرج امللوك األربعة الذين يحكمه���م ملك الصقالبة ،م���ع إخوته وأوالده الس���تقبال وفد اخلليفة العباس���ي بالطعام ،كما استقبلتنا الفتيات التتاريات بحلوى الشكشك واخلبز الساخن.
وابنة الصقلبي مسلمة! قبيل الدخول إلى متحف ابن فضالن ،الذي يشمل فضاء خارجيا ومباني داخلية ،ميتد البصر إلى عمليات التنقيب عن إنشاءات قدمية ،بعضها يتضح أنه حديث يعود ملائة عام وحسب، خلت. وليس ميتد كما يأمل املنقبون إلى ألف سنة ْ هربنا حتت املظالت من املطر الذي اشتد ،وأخذت الرياح تطيح بنا ،يا لها من قسوة ونحن النزال في اخلريف ،قيل لي إن الشتاء يش������هد وصول درجة البرودة إلى 40حتت الصفر! تساءلت بدهشة -وقد عبرت بواية املتحف إلى داخله -هل وصل ابن فضالن شتاء أم صيفا؟ 108
وفد ابن فضالن ُ الواقع أن الوفد رحل صيفا ،وحل قبيل الصيف ،فقد غادر بغداد يوم اخلميس 11صفر 309هـ (املوافق 21يونيو 921م) وظل يصعد شرقاً وشماالً ماراً بإقليم اجلبال ،فهمذان فمدينة الري (بالقرب من العاصمة اإليرانية طهران حاليا ،وعبر نهر جيحون ،فبلغ إلى بخارى ،ثم آب غربا عبر الغابات والصحارى حتى وصل إلى الفولغا ،عند مل������ك الصقالبة ،يوم األحد 12 محرم 310هـ (املوافق 11مايو 922م) في رحلة اس������تغرقت أحد عشر شه ًرا. لكنه لم ين ُج من الشتاء القارس ،حيث فاجأه في اجلرجانية 109
نهر على َسفَر | ُبلغار الڤوجلا ٌ
على نهر جيحون ،حتى لتتجمد حليته بني اخلروج من احل ّمام والدخول إلى البيت لتصب������ح قطعة من الثلج ،وفي بيت داخل بيت ،يتد ّثر باألكسية والفراء ،لكن ذلك ال مينع من التصاق خ ّده لشدة البرد! بالوسادة ّ اآلن فقط -وأنا أقرأ عن شدة البرد -فسرت كل شيء .فقد دعتني قبل الرحلة السيدة زيليا فاليفا ،نائبة رئيس الوزراء، واملشرفة على متاحف الكرملني في قازان ،إلى زيارة معرض الثقافة التقليدية للتتار .والحظت أن األزياء الكثيرة كلها للشتاء، وكأن الصيف لم يكن له موعد مع مصممي األزياء هنا. ش������مل وفد اخلليفة أربعة ،أحمد بن فضالن ،الذي أوكلت الرسى مولى نذير اخلرمي ،وتكني إليه مهمة التفقيه ،وسوسن ّ التركي ،وبارس الصقالبي ،وقد بدأوا رحلتهم مع رسول ملك الصقالبة إلى بغداد ،عبدالله بن باشتو اخلزري .ومما أدهشني أن ملك الصقالبة أرسل رج ً ال خزري األصل ،يستنجد باخلليفة العباس������ي ضد اخلزر! ويبرر د .الدهان اختياره ملعرفته اللغة العربية ،أو لثقتهم به وبحسن إس���ل��امه .مثلما يبدو أن اثنني من أعضاء وفد بغداد يعرفان الروسية ،فاألول «سوسن» يبدو في نسبته من بالد الروس قد استجلب كرقيق ثم تعلّم العربية وحسن إسالمه ،والثاني بارس الصقالبي واسمه ونسبته دليالن على أصله .أما الثالث فهو تركي األصل يجيد لغات األتراك التي مير ببالدها الوفد في طريقه إلى الفولغا ،وقد كان حدا ًدا في خوارزم. ولعل ألسن أعضاء الوفد تعوض جهل أحمد بن فضالن باللغات األجنبية ،فهل كان كفؤا ملا اختير له ،الشريعة اإلسالمية ،والقارئ للرحلة يعرف أنه اآلمر الناهي خاللها ،لكن الوفد سيضم مع 110
تلك الشخصيات األربعة الرئيسية غلمانا ومساعدين ومعلمني. وجتدر اإلشارة إلى أن الوفد ـ بجانب املال ـ حمل أدوية طلبها ملك الصقالبة ،وهو ما يضيف إلى أبهة بغداد نباهة علمائها وأطبائها. ها نحن نقف أمام اخلريطة التي متثل املكان الذي وصله ابن فضالن .عند تلك احلدود خرج امللوك األربعة الذين يحكمهم ملك الصقالبة ،مع إخوته وأوالده الستقبال الوفد بالطعام ـ كما استقبلتنا الفتيات التتاريات بحلوى الشكشك واخلبز الساخن. ثم يسير اجلميع إلى امللك ،فيلقونه يخ ّر ساج ًدا شك ًرا لله ،ج ّل وعزّ ،وينثر ما كان في ك ّمه من دراهم على القادمني ،وينصب لهم خياما يقيمون بها. نزور املتحف وجنباته فنتعجب من امتزاج اجلديد بالقدمي، بعض اللوحات الليثوجراف التي شاهدتها في متحف الكرملني مطبوعة ومعلقة هنا ،هناك كذلك مخطوطات باللغة العربية، وأخرى باللغة التترية ذات احلروف العربية .حني هدأ املطر كانت إش������ارة لالنطالق نحو البيت التتري القدمي ،وفي مكان املأدبة التاريخية التي استقبلت ابن فضالن ،دخلنا ذلك البيت اخلشبي ،فإذا بالدفء كله يعم املكان ،وبدأت األغاني التقليدية على مسرح صغير أمام املائدة العمالقة التي متثل مأدبة تاريخية بحق. مما أدهشني هو وجود حلم اخليل على املأدبة .نحن ال نأكل اخليول ،وما قيل عن ذبح جواد من أجل ضيف كرما هو مبنزلة نادرة عربية ،حني حدثتهم دهشوا ،وهم يتناولون شرائح اخليل التي تشبه دوائر رقيقة خلبز أسمر ،وازدادت دهشتهم حني قلت لهم إننا نأكل في بالدنا احلمام ،فهم ال يأكلونه! وهكذا كانت 111
نهر على َسفَر | ُبلغار الڤوجلا ٌ
الغرائب البسيطة التي القيناها ش������واهد على عجائب كبيرة قابلت ابن فضالن قبل ألف عام. أمام اجلدارية الكبيرة للملك يستقبل ابن فضالن وهو يقرأ رسالة اخلليفة ،تأملت بدايات نص ابن فضالن« ،وبدأت فقرأت ص ْدر الكتاب .فل ّما بلغت منه« :سالم عليك فإني أحمد إليك الله الذي ال إله إال هو» .قلتُ « :ر ّد على أمير املؤمنني السالم» فر ّد ،ور ّدوا جمي ًعا بأسرهم ،ولم يزل الترجمان يترجم لنا حر ًفا حر ًفا .فلما استتممنا قراءته ك ّبروا تكبيرة ارجتت لها األرض. ثم قرأت كتاب الوزير «حامد بن العباس» ،وهو قائم ،ثم أمرته باجللوس ،فجلس عند قراءة كتاب «نذير احلرمي» فلما استتممته نثر أصحابه عليه الدراهم الكثيرة .ثم أخرجت الهدايا من الطيب والثياب واللؤلؤ له ،والمرأته .فل ْم أزل أعرض عليه وعليها شيئًا خلعت على امرأته بحضرة الناس، شيئًا حتى فرغنا من ذلك .ثم ُ وكانت جالسة إلى جنبه ،وهذه سنّتهم وز ّيهم فلما خلعت عليها نثر النساء عليها الدراهم ،وانصرفنا.
غرائب وعجائب كنت في رحلة سابقة قد ذكرت كيف أنني حني وصلت قبيل الليل إلى تتارستان فاجأتني السحب املضيئة ،وهي ما فاجأت ابن فضالن ،كذلك: «ورأيت النهار عندهم طويال جدا وإذا أنه يطول عندهم مدة من السنة ويقصر الليل ،ثم يطول الليل ويقصر النهار .فلما كانت الليلة الثانية جلست خارج القبة (اخليمة) وراقبت السماء فلم أر من الكواكب إال عددا يسيرا ظننت أنه نحو اخلمسة عشر كوك ًبا متفرقة .وإذا الشفق األحمر الذي قبل املغرب ال يغيب 112
خريطة الرحلة النادرة التي قادت اب���ن فضالن، شماال ،إلى بلغار الفوجلا ،بعد أن عرج على ممالك الشرق جلمع ما يل���زم من مال وهدايا.
113
نهر على َسفَر | ُبلغار الڤوجلا ٌ
بتة .وإذا الليل قليلة الظلمة». وعدا ما في السماء ،يتعجب ابن فضالن ملا تنبته األرض: «نزلنا مع امللك منزالً ،فدخلت أنا وأصحابي تكني ،وسوسن، وبارس ،ومعنا رجل من أصحاب امللك بني الش� � ��جر فرأينا عو ًدا صغيرا أخضر كر ّقة املغزل وأطول ،فيه عرق أخضر ،على رأس العرق ورقة عيضة مبس� � ��وطة على األرض ،مفروش عليها مثل النابت ،فيها حب ال يشك من يأكله أنه رمان أمليسي ،فأكلنا منه فإذا به من اللذة أمر عظيم ،فمازلنا نتبع� � ��ه ونأكله .ورأيت لهم تفاحا أخضر شديد اخلضرة وأشد حموضة من خل اخلمر ،تأكله ً اجلواري فيسمن عليه .ولم أر في بلدهم أكثر من شجر البندق، لقد رأيت منه غياضا تكون الغيضة أربعني فرس� � � ً �خا في مثلها. ورأيت لهم شج ًرا ال أدري ما هو ،مفرط الطول وساقه أجرد من الورق ،ورءوس� � ��ه كرءوس النخل له خوص دقاق ،إال أنه مجتمع، يجيئون إلى موضع يعرفونه من ساقه ،فيثقبونه ،ويجعلون حتته إناء فتجري إليه من ذلك الثقب ماء أطيب من العسل». وقد تتبعت آثار قصص ابن فضالن عن غرائب املخلوقات التي صادفها ـ أو سمع عنها ـ في كتب علوم احليوان ،خاصة حني ذكر أنه بالقرب من مملكة الصقالبة صحراء واسعة بها حيوان دون اجلمل في الكبر ،وفوق الثور ،رأسه رأس جمل ،وذنبه ذنب ثور وبدنه بدن بغل ،وحوافره مثل أظالف الثور ،له في وسط رأسه قرن واحد غليظ مستدير ،كلما ارتفع دق حتى يصير مثل سنان الرمح ،فمنه ما يكون طوله خمس أذرع إلى ثالث أذرع إلى أكثر وأقل ،يرتعي ورق الشجر ،جيد اخلضرة .إذا رأى الفارس قصده، فإن كان حتته جواد أمن منه يجهد ،وإن حلقه أخذه من ظهر دابته بقرنه ،ثم زج به في الهواء ،واستقبله بقرنه ،فال يزال كذلك حتى 114
يقتله .وال يعرض للدابة وبوجه وال سبب ،وهم يطلبونه في الصحراء والغياض حتى يقتلوه .وذلك أنهم يصعدون الشجر العالية التي يكون بينها .ويجتمع لذلك عدة من الرماة بالسهام املسمومة فإذا توسطهم رموه حتى يثخنوه ويقتلوه .ولقد رأيت عند امللك ثالث طيفوريات كبار تشبه اجلزع اليماني عرفت أنها معمولة من أصل قرن هذا احليوان .وذكر بعض أهل البلد أنه الكركدن. إن هذا الوصف الذي يأتي في ثناي������ا الرحلة لينطبق على حيوان وحيد القرن ذي الصوف الغزير ،الذي انقرض في العصر اجلليدي وكان يعيش في أوربا وآسيا ،وقد اختفى فيها بسبب تقلبات الطقس وصيد البشر له ،فلم تبق منه سوى أعداد ضئيلة، وكان ميكن أن يلقى مصير املاموث ،وميكن أن يكون ذلك احليوان هو ثور املسك ،الذي وجد منذ 30ألف عام. تعالى صوت الغناء التتري التقليدي ،وكأننا نسمع السيوف التي كانت جتلجل احتف������اال بقدوم ابن فضالن .ظلت اململكة اإلسالمية تكبر وتتوسع ،حتى أصبحت قازان عاصمتها ،وحني نقارن بني دخول اإلسالم إليها في عباءة السالم ،جنزع حني نشهد في املتحف الوطني لوحة متثل غزو إيفان الرهيب لتلك اململكة اإلسالمية بعد ستة قرون من العيش اآلمن ،في القرن السادس عشر ،يفجر أسوارها ،ويذبح جنودها .لكنه التاريخ، صفحات منداة بدموع الفرح ،وأخرى مثقلة بدماء احلزن. خرجت إلى النهر ،كان املطر ال يزال يهطل ،عبرنا إلى مسجد ُ يضم أكبر مصحف في العالم ،طبقا ملوسوعة جينيس لألرقام القياسية .التتاريون يريدون أن يؤكدوا انتماءهم لإلسالم ،بأكثر من شكل ،إنهم يتمسكون بتقاليده ،ويضيفون إليه ملساتهم ،التي تؤكد والءهم للدين ،واهتمامهم بالدنيا ،إلعمارها لألجيال القادمة. 115
نهر على سفر
حتت سماء
كوجرات
نهر على َسفَر | حتت سماء كوجرات ٌ
ونساك زاهدون عن مساج ٌد ومعاب ٌد ،شيوخ يتع ِ ّب ُدون آناء الليلَّ ، منارات تهت ُزّ ،وأخرى تختفي ،بوابات مهجورة ،ودروب ضجيج النهار، ٌ مزدحمة ،بيوت ليس لها من سمت البيوت شيء ،وقصور تستعيد أبهة عصور السالطني ،متاحفٌ نادرة في عرض الطريق ،ومقتنيات آسرة حتت حراسة مشددة ،أضرحة تعانق قبابها املزركشة السماء ،وقبور تفترش توابيتها احلجرية األرض ،غابات من صفيح ،وأش� � ��جار من أسمنت ،وأسوار من خيش ،وشواهد من حجر ،وهواء من رماد ،إنها السماء التي حتتها تنام أحمد آباد وسورات وفودرا وغاندي نجَ َ ار، وكثي ٌر من مدن محافظة كوجرات الهندية ،متلحفة بألف لون ولون. قبل سفرنا إلى كوجرات وبعد توقف قصير أمام بوابة بومباي، عبرنا الطريق إلى ردهة فندق التاج .أشا َر مض ِّيفُنا إلى صور ِة الرئيس املصري الراحل جمال عبد الناصر داخل إطار يجمع صور لعديد من الشخصيات العاملية وهي تزور املكان .توقف مضيفنا الكاتب أ .عباس، مشي ًرا إلى صورة ناصر قائال« :تغيرت األيام كثي ًرا بعد رحيله». وكنت أحاول أن أج َد لديهِ ـ قبل توجهي بدأ احلديث مع أ .عباس، ُ ِ االضطرابات ـ املتكررة ـ في كوجرات. إلى أحمد آباد ـ خيوطا جلذور قال لي« :إنها املرة األولى في تاريخ الهند ،أن حتدث مذبحة للمسلمني وأن يتم تدمير ملمتلكاتهم مبثل هذه الطريقة املنظمة ،واحلقائق تكشف لنا يو ًما بعد آخر كيف أن إلس� � ��رائيل ي ًدا وراء هذه األحداث .رمبا يعتقد البعض أن قولي هذا مجرد شطحات خيال ،لكن من يدرس األمر جيدا في كوجرات سيتبني له حقيقة األمر ،وأن تنامي العالقات اإلسرائيلية الهندية ال يجعل من ذلك مستبعدا). أحكي له عن الفيلم الذي أنتجته بولي وود ـ مدينة الصناعة السينمائية في الهند ـ عام 1994ليجسد إحدى صور هذه االضطرابات على خلفية قصة حب بني فتاة مسلمة وصحفي هندوسي ،لم يستطيعا 118
عروس من كوجرات ،حضرنا حفل زفافها ليلة خروجنا من أحمد آباد ،وهي ترتدي حليها كاملة ،وقد صبغت يديها باحلناء.
119
نهر على َسفَر | حتت سماء كوجرات ٌ
الزواج في قريتهما بسبب االختالف في الدين ،فجاءا إلى بومباي، التي يحمل الفيلم اس� � ��مها .يش� � ��رح لي عباس« :هذا الفيلم صورة منوذجية للعالقات اإلنس� � ��انية التي ذابت بني األعراق واألديان في الهند ،قبل أن تبعث السياسة نار الفتنة من حتت الرماد ،وهذا الفيلم نفسه الذي أخرجه ـ ماني راتنام ـ يأتي ضمن كالسيكيات السينما الهندية ويعد بني أفضل عشرة أفالم في تاريخها على اإلطالق ،فهو ال يعكس الصورة الزائفة للحياة كما تقدمها آالف األفالم الهندية التجارية» .نتذكر م ًعا أحد أحلان الفيلم الشهيرة التي قدم موسيقاها إيه .آر .رحمان. جنلس إلى طاولة الشاي ،وبيننا جهازا الالب توب ،حيث انتشرت البقع الساخنة اللتقاط شبكات اإلنترنت الالسلكية عبر إحدى شركات االتصال الهندية اخلاصة باشتراك زهيد .يبحث أ .عباس في دفاتره اإللكترونية ،ليقدم لي صورة من صفحة لكتاب محلل شئون الدفاع الشهير هيسام سولم الذي يأسف لكون اهتمام الهند مبصالح أربعة ماليني يهودي في إسرائيل يأتي على حساب مشاعر أكثر من مليار مسلم في 54بلدا! ويحذر سولم من أن هذا التقارب الهندوـ صهيوني قد يؤثر سلبا على مستقبل حياة وعمل الهنود حتى في اخلليج العربي. يردف عباس :لكن هذه احلقيقة يحاول احلكام لدينا إغماض العني عنها ،إنهم ال يعلمون أن ما حدث ف� � ��ي كوجرات قد يحدث في أي مكان آخر بالهند يجمع املسلمني والهندوس. كنت أعتق ُد قبل لقائي بعباس أن احلس املؤامراتي يرتبط بقضايانا ُ َّ فقط ،لكنني وجدته يرتبط أيضا بقضاي� � ��ا أخرى ،ولدى املدافعني عنه مبرراتهم .أفكار كثيرة متباين� � ��ة حلقت معي في رحلة الطائرة من بومباي إلى أحمد آباد ،العاصمة السابقة لكوجرات ،املستبدلة بعاصمة جديدة هي غاندينجار ،أو مدينة غاندي( ،حدث ذلك في 120
1960عندما قرر أهل كوجرات االنفصال عن بومباي ،لتكون لهم واليتهم اخلاصة ،وكذلك فعلت والية مجاورة أخرى هي ماهاراشترا). اإلسالم يشجع السالم والرحمة والتسامح ،هكذا يكتب أبو بكر طواهر في عموده األسبوعي بجريدة تاميز أوف إنديا .وفي اجلريدة نفسها مقال ملجبر رحمان عن كتاب ارشاد ماجني (مشكلة اإلسالم اليوم)، الذي يعد دعوة الستعادة الروح اإلنسانية للدين القومي .فهل يختلف احلديث على الورق ،عنه في أرض الواقع?
آلهة وعباد في أحمد آباد من نافذة الطائرة ،بني بومباي وأحمد آباد ،وقبل أن نختفي في السحاب ،يسرح النظر في السواحل الهندية الشاسعة .هنا مر الغزاة والتجار على موانئها ،وهو ما جعل للهند نصيب في جتارة العبيد .في والية كوجرات وحدها ـ التي نقصدها ـ 41ميناء ،وفي بعضها استقر بالشتات طائفة السيديني ،وهم األفارقة ذوو األصول احلبشية الذين جلبوا بسبب جتارة العبيد ،على منت السفن البريطانية والهولندية والبرتغالية ،وغيرها .إن احلضور البحري القوي تاريخيا للهند في بحر العرب ،وارتباط البالد بشبه اجلزيرة العربية وأفريقيا أدخل الهند في منظومة التجارة (العاملية) آنذاك ،وأسهم في وجود هذه التجارة. يعيش اليوم مبناطق الهند الغربية في كوجرات وكارناتاكا وأندريا براديش وماهاراشترا أحفاد هؤالء الذين جلبوا من أفريقيا ،لن نرى ذلك اخلط الوراثي في مالمح وجوههم السمراء وحسب ،بل وفي العمارة التي تسللت لتنقش بصماتها على األبواب والنوافذ ،وتدق بإزميلها على األفاريز والشرفات ،وتبقي معاملها في الثياب والسلوك. لقد بقي في كوجرات وحدها نحو 20ألفا منهم ،انخرطوا في األعمال 121
نهر على َسفَر | حتت سماء كوجرات ٌ
الدنيا باملناطق العمالية ،ونادرا ما جتدهم يفلحون داخل القرى .لقد أصبحوا شريحة من نسيج الفقراء الضخم الذي تصافحه العني في املناطق القدمية من املدن واملوانئ الكوجراتية .كان يطلق على هؤالء اسم حبشي ،ثم لقبوا باسم سيدي ،وهم األجراء .وهكذا فإن من لم تقطفه في أفريقيا يدا جتارة العبيد عبر احمليط األطلنطي حصدته يدا الرقيق عبر احمليط الهندي .ويقال إن معظم هؤالء جاءوا من إثيوبيا، ولكن منهم أيضا من جاء من منابع النيل في الصومال وغيرها .وفي القرن السادس عشر حني بزغ جن ُم األوربيني ـ ومنهم البرتغاليون ـ في املش� � ��هد الهندي ،مت جلب العبيد من مناطق إفريقية قاصية داخلية وساحلية مثل موزمبيق ،وتنزانيا ،وماالوي ،والكونغو. في أحمد آباد وسورات س� � ��نجد قبورا على قارعة الطريق تعلوها أعالم خضراء ،إنها لهم! هؤالء هم احلبشيون الذين ينسبون أنفسهم إلى بالل مؤذن الرسول (صلى الله عليه وسلم) ألنه كان من احلبشة، ويطلقون عليه حضرة بالل ،ويقتدون في سلوكهم احلياتي مبا كان عليه بالل (رضي الله عنه) ،لعلهم يجدون في القوة ال ّروحانية لهذا النسب مخرجا من فقرهم املدقع. ً على العكس من هؤالء ،القادمني إلى كوجرات من أفريقيا قس ًرا ،وعلى النقيض من ساللتهم الفقيرة ،يعيش املسلمون املهاجرون من كوجرات في جمهورية جنوب أفريقيا .ففي إحدى الضواحي املتاخمة للعاصمة جوهانسبرج توجد أغلبية هندية كوجراتية مسلمة ،وقد تأجج حضورهم خالل احلرب على أفغانستان مبلصقات وزعوها تندد باحلرب ،ووزع الكثير منهم شرائط صوتية معادية .هؤالء يقولون إنهم ينتمون لإلسالم أوال وأخي ًرا ،وإنهم ليسوا هنو ًدا ملجرد أن آباءهم وأجدادهم جاءوا من كوجرات ،وبالرغم من ذلك ال تزال عائالت كثيرة منهم متارس حياتها وفقا للطقوس الكوجراتية في األعياد واملالب� � ��س والزواج ،حتى تلك 122
العادات املقتبسة ثقافية من تقاليد الهندوس. تهبط بنا الطائرة الصغيرة في أحمد آباد ،حيث جند في استقبالنا (ر َزّاق); وهو صديق من أوديبور (في راجستان) ،جاء إلى أحمد آباد ليعقد بضع صفقات في بورصة سوق القماش ،وسيطلعنا في األيام القادمة على خبايا كثيرة في املدينة ،بفضل أصدقاء طفولته املقيمني بها. أقرأ أحدث تقرير عن كوجرات :حتققت للوالية أعلى نسبة منو اقتصادي في الهند ،وهي %15خالل السنة املالية ،2004/3وبنسبة 3ر %10خالل السنوات الثالث املاضية ،وهي النسبة األعلى أيضا .لكن َص َف ُعنا مشاه ٌد األرقام غير ما سنراه ،تُصافِ ُحنا في املدينة مشاه ٌد وت ْ أخرى :شحاذون ليس فيهم من احلياة سوى األنفاس ،ومحسنون لست ِ ومجمعات جديدة للسقوط، بيوت تراثية آيلة ٌ تعرف عنهم غير األسماءٌ ، تتحدث بلغة العوملة ،أطواق من ورد متوهج وس� � ��حابات من عطور جلر العربات ،وأفيال ملؤانسة السياح ،وبقر التوابل النفاذةِ ،جما ٌل ِ ّ للعبادة ،وخيول للقيادة ،غربا ٌن وعصافي ُر ،فراشات خضراء وسناجب سمراء ،بحيرةٌ تغرد فيها مراكب شراعية ،وعشوائيات تتعذب حتت وطأة التلوث ،دراجات نارية ،وعربات ريكشا ،سيارات يحركها العادم، وأخرى حترك الغبار ،شعارات رنانة تخفي حتتها الكثير ،وعبارات فضفاضة عن رياح التغيير ،وآراء تلونها األيام ،مصانع تقليدية يدوية تنقرض ،وأخرى ديناصورية تنه� � ��ض متخمة باملال والعمال واآلالت احلديثة ،آلهة هندوسية مصنوعة من الورق واحلجر واخلشب ،وعباد مسلمون يعيشون في بيوت من ورق وحجر وخشب!
(أسلم) يوم في حياة ْ
في احلي املسلم بأحمد آباد ،ال بد أن يعيد املعماري تعريف كلمة (املنزل) .فقد رأينا بيوتا ليس فيها من خصائص املنزل سوى أنها 123
نهر على َسفَر | حتت سماء كوجرات ٌ
تضم س� � ��كانا .كثير من هذه البيوت (مجازا) ليست لها رفاهية أن يكون لها َد َر ٌج (سلم) داخلي ،لذا هناك بيت من طابقني أو أكثر يصل بينها سلم خارجي ،شبه قائم ،تستعني بحبل للصعود إليه .قد جتد الساكن في الطابق األدنى والدكان في األعلى ،ورمبا العكس ،وكال البابني على الشارع! قد جتد احلمام في نهاية البيت /الغرفة ،وقد جتده باخلارج ،ليخدم عدة بيوت ،وقد ال جتده على اإلطالق .قد جتد البيت مجرد سرير ،يستند إلى جدار بالنهار ،ثم يُ ُ بسط بالليل، لينام عليه صاحبه .قد جتد البيت مجرد أريكة حجرية حتت نافذة. بل ورمبا كان البيت عش� � ��ة من الصفيح ،أو خيم� � ��ة من اخليش ،أو ستارا من القماش ،أو بناء من الطني ،أو علبة من الورق ،أو كيانا من اخلشب ،أو أطالال من بعض ذلك أو كله. كان بيت (أسلم) قياسا إلى ما رأيناه قص ًرا .نصعد السلم الداخلي مرورا بغرفة داخلية ،لنجد غرفة املعيشة التي تضم أرجوحة خشبية ميكن تبديل وجهها لألمام واخللف ،جنلس أمام مرآة عتيقة عمرها سبعون سنة ،في انتظار الشاي .أتأمل السلم احلديدي الذي يصعد إلى الغرفة العلوية واألخيرة ،نعجب كيف يصعد األطفال عليه? يقول أسلم :ال أحد يصعد الدور العلوي سواي أنا وزوجتي ،وهنا جنلس جميعا ،واألوالد ينامون بالطابق السفلي! لدى أسلم محل لبيع النظارات ،ليست لديه بضاعة هندية ،حتى بضاعته املقلدة واردة أوربا (يَنفي أن تكو َن من الصني) .بعد أن يودع صباحا ،يصحب ابنته الصغيرة أنجْ ُ م وأخاها عامر إلى مدرستيهما ً ابنه أسد الذي يساعده في جتارته .سيعود أسلم لتناول وجبة الغداء مع أسرته في املساء ،فهي الوجبة الرئيسية .يدرس ابناه في مدرسة كوجراتية عامة .أس� � ��أل عامر عن وجود أية مضايقات من زمالئه الهندوس ،فيجيب بالنفي .يعقب رزاق وأس� � ��لم بأن اخلالفات بني 124
املسلمني والهندوس ـ التي حدثت قبل سنوات ـ لن تتكرر ،ألن ما كان وقفت وراءه نوايا سياسية ،فاملرش� � ��حون في البرملان الهندي أرادوا ضمان أصوات الهندوس األغلبية في كوجرات على حساب االستقرار، وهو ما فطن إليه أبناء أحمد آباد .اليوم عاد أبناء كوجرات إلى سابق عهدهم تاريخيا ،كيانات متعددة األعراق تعيش في سالم. هل كان أسلم واه ًما? تتحدث الصحف عن النائب الهندي الذي يحذر من مخاطر زيادة املسلمني في كوجرات ،مقارنة بنقص عدد الهندوس .إنه ـ النائب ـ يريد أن يبقى التوازن قائما ،حتى ال يختل النسيج االجتماعي .يبلغ عدد املسلمني نحو %8من خمسني مليونا (ستون باملائة منهم من النس� � ��اء) هم سكان كوجرات ،أقلية تستحق أكثر مما تناله من خدمات ورعاية للمقدسات ووظائف. وأكاد أسأل نفس� � ��ي ،إذا كانت والية كوجرات تستثمر في 229 مشروعا صناعيا متثل نسبة 8ر %16من االستثمار الصناعي في ً الهند ،ومن عالمات كفاءة التوظيف بها وجود 5الكات من املوظفني احلكوميني ،فضال عن تدريب مليون ونصف املليون موظف خالل فترة الثمانية عشر شه ًرا األخيرة ،فكم يبلغ حجم العمالة املسلمة في ذلك كله? إن األرقام ال تتوقف عن بيان الفارق الشاسع بني احلضور الغائب لألقلية املسلمة في مقابل احلضور الراس� � ��خ لألغلبية الهندوسية في التعليم ،على سبيل املثال :فمن بني العدد الكلي للطالب الذين يكملون دراس� � ��تهم في جامعة كوجرات بعد مراحل التعليم األولية، يبلغ عدد املس� � ��لمني 1ر % 5فقط ،فيما تبلغ نس� � ��بة الهندوس 7ر .%93ومن بني هؤالء املس� � ��لمني املنخرطني باجلامعة يرسب .%32 تعلو نسبة املنضمني للجامعة من املسلمني في فادودرا (62ر ،)%10 وال تتخطى نسبة الدارسني لإلدارة احلديثة والتكنولوجيا من بينهم 125
نهر على َسفَر | حتت سماء كوجرات ٌ
نسبة 7ر ،)!( %1حيث يفضل أغلبية املسلمني دراسة اللغات ،كالهندية والكوجراتية ،يليها اختيار العلوم االجتماعية .وال يعمل في جامعة كوجرات بأكملها ـ س� � ��واء في طاقم التدريس أو الوظائف األخرى ـ سوى سبعة مسلمني ،أي ما يوازي نسبة 6ر %2وحسب ،ومنهم خمسة في أقسام اللغتني الفارسية واألردية ،وإدارة األعمال .بينما في كلية العلوم ـ حيث يوجد 11قسما ـ ال يوجد في هيئة التدريس أو الشئون اإلدارية مسلم واحد ،وهذه األرقام مأخوذة من تقرير حكومي لوالية كوجرات (ديسمبر .)2005بجانب اللغات يدرس املسلمون بأقسام كلية التجارة ( )%9والقانون ( ،)%4لكن شانديبي شيخ رئيس قسم اللغة األردية يقترح تعيني أحد املختصني باللغة األردية في مكتبة اجلامعة ،التي تضم عشرة آالف كتاب باألردية ال يوجد من يعرف محتواها بني العاملني باجلامعة! لقد نالت كوجرات ثالث جوائز من جمعية كمبيوتر الهند ،لكونها طبقت نظم احلكومة اإللكترونية ،ولتوجهها اخلدمي ومسعاها التكنولوجي. ونالت جائزة االمتياز التقني الهندية خالل سنة 2005لكونها الوالية األكثر تنمية لقطاع الطاقة بها .كما منحت جائزة مجلة إنديا توداي الستثمارها في مجال البيئة واحلرية االقتصادية .ومت توثيق %100 من أراضي الوالية إلكترونيا ورقميا .وبلغت ش� � ��بكة خطوط الفيبر البصرية 50ألف كيلومتر مما يجعلها األولى من نوعها في آسيا. ولكن ذلك التطور يستثني األقلية املس� � ��لمة ،التي يصفونها بـ «األخ األصغر» التي عليها أن تقبل بإمالءات أخيها األكبر!
عمارة آيلة للزوال من ش� � ��رفة بيت أس� � ��لم أتطلع إلى إحدى بوابات املدينة ،حتكي مج ًدا غاب ًرا .كل األمجاد في أحمدآباد غابرة ،ليس فقط نسبة إلى 126
فرق املوسيقى الشعبية التي تعزف على اآلالت النحاسية واإليقاعية ،ألوان صارخة تنتظر أن تبدأ بالعمل إلبهاج املستعمني رغم مسحة من بؤس على الوجوه.
127
نهر على َسفَر | حتت سماء كوجرات ٌ
زمان مضى ،بل أيضا لكونها في حاضر مليء بغبار العوادم .اآلثار اإلسالمية العظيمة في املدينة ـ بال استثناء ـ في حال يُرثى لها .لم متتد إليها ي ٌد لترمم مكانا ،أو جت� � ��دد آخر ،أو حتيي أث ًرا .هنا آثار أحمد آباد متروكة ملصيرهاُ .جل املساجد تهدمت مآذنها ،كثير من بيوت الله لم يعد لها سوى القباب ،حتى املسجد اجلامع ،أكبر مساجد أحمد آباد! إنها دعوة إلى مؤسسة األغا خان للعمارة اإلسالمية لتقيم مسابقة لترميم املدينة ،أو نداء إلى اليونسكو ليتبنى إنقاذ آثار عمرها قرون ،أو استغاثة موجهة لدول منظمة املؤمتر اإلسالمي لالهتمام بترميم مساجد تراثية شهدت ميالد اإلسالم في شبه القارة الهندية. فتراث مدينة أحمد آباد املعماري األصيل قد يزول ذات يوم والدول الراعية للتراث اإلنساني واإلسالمي منوطة بإنقاذ املدينة ـ العتيقة ـ املس َّورة املشهورة بشوارعها الضيقة التي تشبه متاهات أبدية .أقول هذا ولي لو ٌم على حكومة كوجرات التي تتخذ من سنة 2006عا ًما للسياحة ،وتهمل جزءا مهما من سياحتها الدينية اإلسالمية ،وفي املقابل جند أنها حازت جائزة التراث اآلس� � ��يوي الباسيفيكي التي متنحها اليونس� � ��كو لترميم معبد جورودوارا الهندوسي إثر ما ناله خالل زلزال الكبات ،في كوتش. تسجل املس� � ��اجد واألضرحة حضور عهد السالطني بقوة ،ففي القرن اخلامس عشر امليالدي مت تأسيس مسجد أحمد شاه (،)1414 ومسجد سيد علم ( ،)1420ومسجد مالك علم ( ،)1422واملسجد اجلامع ( ،)1424الذي يحتل مركز املدينة واحلياة فيها (حني أنشئت)، وشيده السلطان أحمد شاه األول ،وتسقفه 15قبة رئيسية ،تقوم على ثالثمائة عمود أسطواني باذخ اجلمال ،والبوابة الثالثية ( )1458وبوابات املدينة ( ،)1486ومسجد وضريح بيبي كوكي ( ،)1469ومسجد وضريح قطب العلم (،)1452ومسجد قطب الدين أحمد شاه ( ،)1449وفي 128
القرن التالي شيد مسجد سيدي سياد ( ،)1573مبنارتيه املصمتتني (ال ميكن املرور عبرهما إلى السقف) ،ومسجد الشيخ محمد حسن شيستي ،ومسجد وضريح راني رومباتي ( ،)1550ومسجد وضريح راني صابري ( )1514املشيد في عهد السلطان مظفر شاه ،بواسطة أرملة السلطان محمود املس� � ��مى األثر باسمها ،وقد ظهرت ملساتها األنثوية في عمارة املسجد من خالل الزخرف الذي يشبه اجلواهر، واتزان املنارتني مع قاعة الصالة كما تتزن القالدة في اجليد ،ومسجد بالدي كوتشراب ( ،)1515وفي القرن السابع عشر بني ضريح ومسجد نواب سردار خان ( ،)1669أما أشهر املعابد فمعبد سوامي نارايان، ومعبد هاتسي سنغ جني (.)1848 وتعد املنارتان املهتزتان من بني أشهر املعالم اإلسالمية األثرية في أحمد آباد ،ويقال إن من شيدهما ـ ضمن مسجد تهدم سنة 1755ـ هو املعماري املسمى باسمه املسجد :سيدي بشير .وقد شيدت هاتان املنارتان في عهد محمود شاه األول ( .)1511- 1458وفي تفاصيل املنارتني احلجرية نرى مرشات عطر ،وباقة من ورد املدينة ،وأوراقا تشبه أنصاف شمس ،وحلي من األحجار الكرمية. وبجانب هذه العمارة التراثية ،ميكننا أن نتطلع إلى أربعة أمناط معمارية مختلفة :البيوت التقليدية التي يناهز عمرها القرن ،وال تزال حتتفظ بخصائصها املعمارية التي مي� � ��زت احلس الكوزموبوليتاني للمدينة ،بشرفاتها اخلشبية أو احلجرية وأيقوناتها التي حتمل سنوات اإلنشاء وصور اآللهة والزخارف ،ونوافذها املستقيمة حينا واملقوسة أحيانا واملقسمة بطول الواجهة إلى نوافذ كبيرة للواقفني ،وصغيرة للناظرين اجلالسني ،واملدخل املرتفع عن األرض ،ببهو يفضي لباب خشبي من ضلفتني ،ثم هناك النمط العشوائي الذي أشرنا إليه سابقا ومنه الكثير في احلي املسلم .أما في احلي الهندوسي ،الذي يتميز 129
نهر على َسفَر | حتت سماء كوجرات ٌ
بشوارع مرصوفة نظيفة فنلمح النمط الثالث للبيوت التي تقام في مداخلها املعابد ،وأخي ًرا النمط املعاصر ،في أحياء أحمد آباد اجلديدة، والذي ينتمي إلى ال مكان ،بالواجهات األسمنتية ،والشرفات املعدنية، والنوافذ الزجاجية ...إلخ .وتزهو املدينة املعاصرة بأنها الوحيدة في العالم التي تضم أربعة من شواهد الكوربوازييه املعمارية ،فضال عن مجموعة أعمال للمعماري لويس خان ،واسكتشات مشاريع لفرانك لويد رايت .بعد متحف املدينة ،نرى مس� � ��رح طاغور ،وهو بناء قيد اإلجناز ،ويعد من الش� � ��واهد العمالقة التي ستضيء املدينة ثقافيا خالل الشهور القادمة.
قصة مدرستني يجذبنا الفضول ونحن نعبر الزحام مساء ،لنسأل عن دور علوي فنجاب بأنه مدرسة .نصعد مضاء في طريقنا املظلم باحلي املسلم، ُ السلم اخلارجي مستعينني باحلبل ،لنجد فصال دراسيا ألطفال من كافة األعمار يدرسون القرآن الكرمي .يخبرنا معلمهم أن الدراسة باملجان ،وأن املكان ينفق عليه فؤاد بي تاجر الس� � ��اري (زي النساء في الهند) .أتطلع لوجوه األوالد وبعضهم لم يتجاوز الثالثة أعوام. وكثير منهم يدرس في مدرسة صباحية .هم يحفظون هنا القرآن باللغة العربية ،التي ال تدرس ف� � ��ي كوجرات .في مكتبة قريبة أجد نسخا للقرآن الكرمي ،بعضها بالكوجراتية ،وبعضها اآلخر بالهندية، اللغتني الرسميتني في الوالية. ذات صباح وفي طريق نائية بأحمد آباد ،تقع العيون على صبايا يرتدين اللون األبيض ويعلو صخبهن فيغمر الشارع بضحكات ال تنتمي للصورة البائسة احمليطة باملكان والزمان .كانت الفتيات ميضني حصة الرياضة يلهون في الفناء املترب الصغير امللحق مبدرسة مشتركة 130
معبد هندوسي وناسك ومتبتلة ،مشاهد متكررة في أنحاء كوجرات.
131
نهر على َسفَر | حتت سماء كوجرات ٌ
خلف سور متهالك وبوابة صدئة ،عرفنا أنها فترة صباحية تضم 500 دارس ودارسة ،فيما تضم الفترة املسائية نحو ضعف هذا العدد. في هذه املدرسة املسماة آسيس ودياني ،يسلمني ملصق صغير إلى دائرة اخلطر احمليطة بالبنات في كوجرات :اختفاء أكثر من 40ألف فتاة في كوجرات وحدها ،ملاذا?! ويقدم امللصق صورة بيانية للعدد املفقود سنويا ،بني 976فتاة في سنة ،1961و 933في سنة .2001 الفقر ،واملرض ،ورمبا اجلرمية ،تقف جميعها وراء تسرب البنات من املدارس ،واحلياة ،بالرغم من خفض تسرب الطالب التعليمي من نحو %45قبل خمس سنوات ،إلى نحو %19فقط ،مع توظيف مائة ألف مدرس ،وإنشاء 66ألف غرفة دراسية في آخر ثالث سنوات في كوجرات. في مدرسة آسيس ودياني الكوجراتية هي اللغة األم ،وبجانبها يدرس الطالب الهندية ،وبعض املواد اإلجنليزية .تغمر االبتسامة وجوه البائسني والبائسات في أحد فصول املدرسة ،حني يغمرها ضوء آلة التصوير .كان مدير املدرسة نائما ،على ما أعتقد ،حتى أنه عندما عاد بنا إلى مكتبه ،اكتشفنا أن باملكتبة أريكة معدة كسرير ،أعادتني صورته للصورة التقليدية للبيت الكوجراتي في أحمد آباد.
الثورة البيضاء حني تقترب من لوحة املوزاييك ،تستطيع أن ترى حدود األلوان املتداخلة .لن جتد أكثر تعقي ًدا من لوحة كوجراتية في تقاطع ألوانها. االقتراب من احلكايات الهامشية في مدينة كأحمد آباد يجعلك تنسج صورة جديدة للمدينة. أولى الصور املوزاييكية هي الثورة البيضاء التي يقودها أصحاب منجم اللنب الهندي ـ إذا صح التعبير ـ في كوجرات .فالثروة اللبنية 132
مهددة باقتحام منتجات من واليات أخرى (ورمبا بلدان أخرى) ،وفي حني يفخر الكوجراتي صباح كل يوم بشرب كوب من ألبان البقر في واليته ،حتت شعار لنب طازج كل يوم ،تهدد الشركات الضخمة التي اس� � ��تعدت لهذا الغزو األبيض بأن جتعل ذلك الشعار نفسه عنوانا ملنتجاتها .كان الكوجراتي يدفع شهريا لبائع التجزئة مقدما نظير نصيب من اللنب ،يوفره احتاد تس� � ��ويق اللنب التعاوني في كوجرات، لكن ذات صباح ،تدخل حرب اللنب منحى آخر ،حني يفاجأ املستهلك بوجود نوع وحيد فقط عند البائع ،توفره هيئة تنمية األلبان الوطنية، وتغري باعة التجزئة بعمولة أكبر. في الشارع ستجد البقر الكوجراتي مدلال ،وحتى البقرات السمان التي ال جتد من يقدم لها طعاما يوميا (كما في املشهد املألوف أمام املعابد) ،فإن هناك من يساعدها ـ ويش� � ��اركها ـ في تناول املخلفات من صناديق القمامة!
مانشستر الهند بني متحف املدينة ومسرح طاغور يصادفنا متثال تكرميي تهديه املدينة إلى روح راو باهادوب رانشو ليالل تشوتاالل،)1898 - 1824( ، أول من أدخل صناعة القطن في أحمد آباد وأول رئيس هندي لبلدية أحمد آباد من سنة 1884حتى وفاته .لفتة رائعة لرائد تزهو أحمد آباد بشجرة الصناعة التي غرسها فيها. يقول لنا أحد العاملني في صناعة النسيج بأحمد آباد ،إن في املدينة 135مصنعا تقليديا كانت تعمل بالبخار واآلالت البدائية ،قبل أن يتوقف منها 110مصانع ،وتبقى 25تصارع البقاء .املصنع على بعد نحو س� � ��تة كيلومترات ،وفي مدخله عدة مكاتب أحدها يجتمع فيه ش� � ��قيقان يديران املصنع .في الطريق إلى أقسام املصنع الداخلية منر بالنساء الالتي يعملن 133
نهر على َسفَر | حتت سماء كوجرات ٌ
في نقل احلطب لتبتلعه املراج ُل النهمة التي تنت� � ��ج البخار الالزم حلركة اآلالت .نعبر ممرات ضيقة بني اآلالت التي تنتمي لعصر الصناعة األول، تكاد احلرارة تصهر ذرات الهواء ،فيما تئن التروس وراء دخان اآلالت ،بني تلوين وجتفيف القماش ،وطباعته ،وطيه .في قسم التصميم يجلس حفنة رجال بعضهم يرسم املوتيفات واآلخرون ينسخونها إلى الكمبيوتر لتلوينها، قبل أن تنقل إلى شاشات حريرية للطباعة بأكثر من لون. يعمل في املصنع نحو 300ش� � ��خص ،حتت ظ� � ��روف عمل صعبة وغير صحية ،ينتجون حوالي 80ألف ياردة م� � ��ن القماش كل يوم ،تتجه كميات كثيرة عبر احلاويات إلى دبي ،وبعض اإلنتاج إل� � ��ى دول أوربية والواليات املتحدة .والسؤال إلى متى تصمد هذه املصانع الصغيرة? كنا نزور أحد التجار الكبار فيما يشبه بورصة للقماش ،تتراوح أسعار املتر فيه من 25إلى 58روبية للمتر (الدوالر = نحو 45روبية) .الكثير من هذه األقمشة يتم تصديره عبر أفراد وشركات إلى أوربا وباقي دول العالم (ومنها منطقة اخلليج العربي) .لكن الطلب املتنامي على القماش ضئيل التكلفة ،وميكنة املصانع الزاحفة على املنطقة الصناعية في أحمد آباد، لكي حتافظ املدينة على لقبها بوصفها مانشستر الهند ـ تنافسه عليها اليوم مدينة سورات ـ جاء على حساب هذه املصانع اليدوية التي أغلقت واح ًدا بعد اآلخر .نعثر بصعوبة على أحد هذه املصانع التي تكافح للبقاء ،ويعمل بها نحو عشرين من الرجال والنس� � ��اء .بعض األيدي العاملة اجتهت إلى صناعات أخرى ،بعضها موسمي ،مثل صناعة الطائرات الورقية للمهرجان الذي تعيشه مدن كوجرات ـ وخاصة أحمدآباد ـ في يناير من كل سنة.
متحف كاليكو قرب الفسطاط في مصر القدمية ،كشفت التنقيبات خالل القرن التاسع عشر ،عن بقايا من األقمشة التي مت تصنيعها في كوجرات. 134
هذه اللقى ،وغيرها من املنس� � ��وجات الهندية املشتراة من بريطانيا والواليات الهندية األخرى تنام بسالم حتت سقف متحف واحد في أحمد آباد هو متحف كاليكو لصناعة النسيج في الهند الذي يزاوج بني الفن والتاريخ ،في عرس تضمه القاعات التي يشبه املرور فيها دخوال إلى بيت جحا. ال بد من تسجيل اسمك مسبقا لتغوص في رحلة قوامها ساعتان داخل املتحف ،مخصصة ألقل من 30زائرا كل يوم .تصحبك أستاذة في تاريخ فن النس� � ��يج ،ال يحد من صرامة إرشاداتها سوى فكاهة جتدها مرة أو مرتني في كل قاعة .ستمر بني قرون من امللبوسات القطنية واحلريرية ،تسلمك اخليوط املطبوعة لسواها املغزولة ،تتأمل مجموعة من أطقم الساري والشال النسائية من كافة واليات الهند (استخدم الش� � ��ال للمرة األولى في كشمير س� � ��نة 1450وظهر في أوربا للمرة األولى سنة ،)1767ستملي العيون مبط َّرز ٍ َات لألرض، ٍ ومعلقات للجدران وس� � ��تائر للنوافذ .هاهنا خيا ٌم للسلطان ،وهناك ٌ غرف قماشية للحرمي ،وكلها من أنفس املجموعات التي مت شدها إلى قوائم خشبية ،وتغطيتها بالبالستيك املفرغ من الهواء .لكن أعجب ما رأيت كان بابا خشبيا مغطى بالعاج املقسم إلى شرائط ووردات، ال شك أنه استغرق عشرات الس� � ��اعات إلجنازه ،فضال عن الكمية الكبيرة من أنياب الفيل املس� � ��تخدمة بحليات� � ��ه ،املثبتة في ما بينها بالنحاس .ومبنى املتحف نفسه إحدى العجائب ،ليس فقط ملساحة اللون األخضر املقام عليها ،ولكن ألنه موجود في بيت تقليدي ،جلبت أخشابه من بورما (كانت تابعة للهند) ،تهدم ،فأعيد بناؤه باخلرسانة، وأضيفت إليه واجهات خشبية نفذها حرفيو أحمد آباد ،بحيث أمكن نقلها وإهداؤها للمتحف. 135
نهر على َسفَر | حتت سماء كوجرات ٌ
معا في السماء غاندي ونهرو ً في ذلك االحتفال السنوي ،تطرز السماء بأشكال بديعة وألوان رائعة ،ستجد لوحة مرسومة :غاندي ونهرو م ًعا في السماء ،ستجد الغزالن القادمة من براري كوجرات الشمالية ،مع الطيور املهاجرة العابرة لس� � ��هولها ،س� � ��تجد الزخارف اليدوية ،والنقوش اإلسالمية والعالمات الهندوسية ،كل ذلك حتت سماء أحمد آباد. قبل شهر ونصف من انطالق املهرجان (عند شروق شمس صباح الرابع عشر من يناير) ،يسافر هؤالء احلرفيون الذين توارثوا مهارة صناعة الطائرات الورقية من مدن جيبور ،وأجرا ،وباريللي ،ورامبور، وماتهورا ،وبيكانر ،والكناو ،وغيرها ،ليحطوا الرحال في أحمد آباد، ليصنعوا الطائرات أو يبيعوا ما لديه� � ��م منها .يعلنون عن مهاراتهم بتزيني واجهات محالتهم ومنازل إقامتهم بأشكال كثيرة من الطائرات الورقية ذات اخلامات البراقة. ليس احلصول على طائرة ورقية جميلة هو غاية املراد في هذا املهرجان ،بل تتحول س� � ��ماء أحمد آباد إلى س� � ��احة منازلة يحاول كل متسابق أن يصرع طائرة منافس� � ��ه من فوق أسطح املنازل وفي الساحات العامة .تتعالى صيحات املنتصرين ممتزجة مع صرخات املنكس� � ��رين ،دون كلل أو ملل ،حتى تؤذن الشمس بالغروب ،ويرحل الضوء ،فتختفي اخليوط في أيدي اجلميع مثلما تبتلع ظلمة السماء ألوان الطائرات. في متحف صغير ،يحكي تاريخ الطيران ،حقق بانوبال شاه حلمه بجمع مناذج نادرة من الطائرات الورقية املرسومة يدويا حتت سقف واحد من بناء حديث مصمت من اخلارج يضم مقتنيات متحف مدينة أحمد آباد ،من أنتيكات ،وصور أرشيفية ،وتأريخ لصناعة النسيج، وملمح لتاريخ الفن املعاصر في كوجرات الذي زرعت شجرته مجلة 136
كومار ،وتاريخ التصوير منذ أسس أول محل تصوير بأحمد آباد سنة ،1917قبل أن يدخل التصوير الحقا إلى كالكوتا وبومباي وسيمال وحيدر آباد ،وتسجل الصور املعروضة حلظات نادرة للمدينة وناسها. في أقسام أخرى من املتحف استعراض للتنوع العرقي والديني في كوجرات عامة ،وأحمد آباد خاصة ،ليس فقط في النماذج املجسمة للمس� � ��اجد واملعابد ،ولكن أيضا في مالبس شيوخ اإلسالم ونساك الهندوس وأحبار اليهود ،كما سنجد عربة االحتفال بالزفاف التي جتوب املدينة بالعروسني .وفي املتحف أيضا سجل تاريخي حلكام البالد ورحلة االستقالل والتحرر الغاندية التي يتوسطها متثال من اجلبس األبيض للمناضل الكبير الذي ج� � ��اء أحمد آباد من جنوب أفريقيا ليدشن الثورة الصامتة ضد االستعمار البريطاني.
الطريق إلى سورات يعتقد بعض الباحثني أن املسلمني الس� � ��وارتيني (أهل سورات)، كانوا هندوسا وحتولوا إلى اإلسالم .في كتاب هانسن توماس بلوم (نحن عرب من كوجرات) ،يؤكد أن السوراتيني ينفون ذلك ،وأن لون بشرتهم املائل لألبيض إمنا بفضل أسالفهم من العرب الذين قدموا إلى سورات عبر بحر العرب واخلليج العربي ،جتا ًرا أو جنو ًدا قبل أكثر من ألف سنة .ولكون اآلباء هم من يحددون ديانة األبناء ،حتى لو كانت األم هندوس� � ��ية ،فهم يطلقون على أنفسهم أنهم عرب من كوجرات. عبرت الس������يارة ثالث نقاط مرورية في الطريق بني أحمد آباد وسورات ،وهو طريق مبواصفات عاملية ،يحده الفردوس ميينا ويسا ًرا .جنة خضراء منبسطة تغازلها األنهار ،وال يعكر صفوها سوى بعض املساكن الهامشية ،وروائح تبثها املصانع 137
نهر على َسفَر | حتت سماء كوجرات ٌ
املختلفة املنتشرة على الطريق كلما اقتربنا من حزام مدينة هنا أو هناك .هذه الوالية خصصت 74مليار روبية في مش������اريع التحكم في التلوث ،واالستفادة من نظم النقل صديقة البيئة بني املدن .وفي 700يوم فقط متت إضافة متديدات مياه الشرب إلى 8000قرية و 160مدينة في كوجرات بطول 1600كيلومتر، مما زاد في إنتاجية الزراعة ثالثة أضعاف للهكتار ،وس������اهم في دعم الثورة اخلضراء في كوجرات ،وقفزت إنتاجية القطن أضعافا ،وأضيفت مش������روعات رائدة مرتبطة بأنهار املنطقة األساسية .كما أن كوجرات هي أول والية بالهند تطبق نظام إثراء الغذاء بإضافة فيتاميني أ ،د ،في الزيت والدقيق كخطوة أولية عند التصنيع. عبرنا بوابة سورات ،التي يبلغ طول الطريق بينها حتى قلب املدينة عشرين كيلومتراً .كانت قوات الشرطة في كل مكان ،بأحد شوارع املدينة كان هناك جتمع نسائي كبير ،قيل لنا إنهن مشاركات مقعدا في االنتخابات (التي فاز فيها احلزب احلاكم بتس������عني ً من أصل 102للنواب عن سورات في البرملان الهندي) .نقترب فنكتشف أنهن مولوالت على رحيل عميد العائلة ،يتوزع اهتمام النساء بني االلتفات لعدسة العربي ومشاركة العجائز البكاء. كان البحث عن العرب ،واللغة العربية في سورات ضر ًبا من املستحيالت .الكوجراتية هي اللغة األم واألب م ًعا ،وحتل اللغة الهندية ثانية ،أما اإلجنليزية فلن جتدها إال في بعض املطاعم (النباتية جميعها) ،وما بالك باللغة العربية? لم نيأس ،وكن������ا نحاول أن جند الفتة هن������ا أو هناك ،حتى أرشدنا دليل محلي ـ بعد تطواف ساعات ـ إلى محل اجلامعة العربية .االقتراب من احلارات الضيقة بدأ يوحي بأننا نقترب 138
من مكان عربي خالص :اللحى والثياب البيضاء .وها هي قبة مسجد تلوح أخي ًرا.
اجلامعة السيفية ق ّدمنا أنفسنا إلى احلارس الهندي ،الذي قادنا إلى مكتب صغير ونظيف يجلس إليه شاب تتقدم منه نسوة يقدمن تبرعاتهن ،فيعطيهن إيصاال ،ويأخذ منهن رسالة مطوية ،رمبا بها حاجة حتتاج إلى حل أو دعاء ،ليعطيهن بدال منها مظروفا صغي ًرا به بعض البخور .تهلل وجه شيخني جالسني كان واح ٌد منهما قد تخرج في هذه اجلامعة قبل نحو خمسني سنة ،وجاب البالد العربية مترج ًما .يوصي بنا خي ًرا لدى مفضل شاكر ،أحد املسئولني باجلامعة السيفية ،فيستقبلنا بباقة ورد قبل أن يجوب بنا هذا البناء الذي يشع نورا بفضل نظافته وهدوئه. ويجمع تصميم اجلامعة بني طراز عصري وآخر تقليدي ،ويكمل بها طالب هنود وآسيويون وأفارقة دراساتهم االعليا. متتلك اجلامعة السيفية حياة أكادميية متكاملة ،فنسبة األساتذة للطالب والطالبات ( ،)7 : 1وتكاد الفصول الدراسية تكون دراسة ش� � ��خصية فعدد الطالب في كل فصل وصف مح� � ��دود ،ويقل كلما صعدنا عا ًما دراسيا من األعوام األحدعشر مدة الدراسة باجلامعة. وهم يدرسون في قاعات مجهزة جتهيزًا الفتا ،من معامل للصوتيات، واستوديوهات لتسجيل قراءات الطالب للقرآن ،وغرف للتدريب على التالوة ،ألصحاب املستويني الصوتيني العالي واخلفيض ،ومكتبة من أربعة طوابق ،بني الدوريات اليومية واألسبوعية والشهرية والفصلية، وصوال إلى املراجع األدبية واللغوية والتاريخية ،بأكثر من لغة ،ومساكن إقامة منفصلة لكل من الطالبات والطالب ،القادمني من أنحاء الهند والعالم اإلسالمي. 139
نهر على َسفَر | حتت سماء كوجرات ٌ
وكليات اجلامعة السيفية سبع :للغة العربية الفصحى واآلداب ،والشريعة اإلسالمية ،وتاريخ اإلسالم ،والدراسات الفلسفية ،واللغات ،والعلوم البحتة واالجتماعية وكلية االختبارات اخلارجية ،بينما تنقسم إدارات اجلامعة إلى: معهد الزهراء لتالوة وحفظ القرآن الكرمي ،وإنشاء النظم للتدريب على كتابة الشعر الكالسيكي ،والتنشئة الثقافية لتهيئة الوعي بأحدث الوسائل التعليمية، والتدريب الفني ،واملنزلي الذي يوفر معرفة وممارسة مالئمة لفنون احلياة من الرسم إلى الطهو ،وخدمة املجتمع لالنخراط في عدد من املؤسسات العاملة في تنمية املجتمعات احمللية ،وخيمة الرياضة للترفيه البدني ،ومحل الشفاء وهو وحدة العناية الصحية والتمريض ،واملوائد السيفية ،حيث يتم االجتماع لتناول الوجبات .وفي الفصول التي يجتمع فيها التدريس للطالب والطالبات، جتلس الفتيات وراء مشربية وستائر قماشية ،يصلهن صوت املدرس ،ويصل صوتهن إليه ،لكنهن ال يظهرن ألحد .وفي عمارة اجلامعة آيات كثيرة ،بعضها مستمد من املس�� ��اجد الفاطمية في مصر كاألزهر واألقمر ،وبعضها يعتمد أحدث التقنيات لترديد صدى الصوت واالحتفاظ به نقيا .ويشرف سلطان البهرة ـ الذي ينفق على اجلامعة واجلامع ـ على االمتحانات سنويا في شهر شوال من كل عام ،حيث يتابع طوال فترة زيارته إلى سورات ،االستماع إلى الطالب املمتحنني ،في قاعة الصالة. في خروجنا من س�� ��ورات من�� ��ر بقلعتها ،التي جمع لها صف�� ��ر آقا ـ غالم الس�� ��لطان محمود كجراتي امللقب بخداوند خان ـ خيرة بنائني ذلك الزمان، فجعلوا خندقها الذي يفصلها عن اليابسة عرضه عشرين ذراعا ومألوه ماء، فيما ارتفع السور عشرين ذراعا ،بعرض خمسة عشر ذراعا ،وربط البناءون بني كل حجرين مبصهور احلديد ،وصنعوا بها نوافذ للقتال ،كما نعبر بقصر السلطان أكبر املطل مرورا مبجموعة من الش�� ��واهد املثبتة على األرض ،لم يكن أي شاهد منها يشبه اآلخر ،كانت قبور األرمن والهولنديني ترقد لألبد وسط سور متوسط االرتفاع ،نقرأ بعض األسماء ،ومنها بارن هنري أودريان 140
فان ريد ،مدير شركة الهند الشرقية الهولندي .يربط بني مجموعتي القبور درج ،ويدل عليهما الفتة واحدة .ليس لوجود املقابر هنا س�� ��وى تعليق واحد، هو أن س�� ��ورات مقبرة الغزاة .ثم نصعد إلى جسر سردار قبل أن نهبط إلى طريق أحمد آتاد السريع.
معابد «تيك أواي» كثيرة هي املساجد ،أو أطاللها في أحمد آباد .في كل زاوية نلمح أثرا من مسجد ،وقليل منها ما يستخدم اليوم ألداء الشعائر ،فهي إما مخربة ،أو مهجورة ،ورمبا يؤمها للصالة القليل ،ويأوي إليها للنوم الكثير .عكس املعابد الهندوسية التي تلقى عناية بالغة .فهي إما معابد مغلقة ال يدخلها سوى الهندوس ،وخاصة بعد أحداث الشغب ،وأخرى مرممة وتس� � ��تخدم مزارا للمصلني والسياح أو على حد سواء .لكن ما يثير االنتباه في أحمد آباد ،وغاندي جنار ،وسورات ،ومانينجار، وبارودا وهي مدن كوجرات التي شملتها الرحلة ،هو وجود معابد في كل ركن .بعض هذه املعابد ال يعدو أن يكون ركنا من بناء ،ال تتجاوز مس� � ��احته املتر املربع .ورمبا يقف بجانبه أو يجل� � ��س بجواره راع أو راعية ،يساعد (أو تساعد) املصلني في إيقاد الشموع ورش الزيوت ودق النواقيس .ما أعجب معابد التيك أواي يتوقف بها العامل قبل الذهاب للعمل ،أو ربة البيت قبل النزول للسوق .في أحد الدوارات (امليادين) رأيت أربعة معابد يواجه كل منها ش� � ��ارعا ،يغمر زائرها الضوء املنبعث من شموعها ،ويضمخ أنفه رائحة الزيت املقطر من جوانبها ،وميلي عيونه بالورد الذي يطوق سياجها.
خوذة لكل مواطن لم أجد جدال حول موضوع في جريدة أحمد آباد اإلجنليزية اليومية 141
نهر على َسفَر | حتت سماء كوجرات ٌ
األولى (تاميز أوف إنديا) أكثر مما وجدته حول اخلوذة الواقية للرأس لراكبي الدراجات البخارية املنتشرة في ش� � ��وارع مدن كوجرات ،كما ينتشر الشعر في حلية ناس� � ��ك بوذي .وصلنا أحمد آباد بعد أيام من التطبيق اجلبري والنهائي لوضع خوذة الرأس ،وحاول وزراء ومحامون ووكاالت كثيرة االعتراض ـ ألكثر من سبب ـ على هذا القانون ،وباءت محاوالتهم جميعا بالفشل .خوذة لكل مواطن أصبح شعار املواطنني في أحمد آباد ،ولم تنجح ش� � ��كاوى الذين تأملت أعناقهم من منع ذلك اإلكراه في الزي! لكن تعب الرقبة يهون ،بعد أن طلعت على الكوجراتيني إحصائية تقول إن حوادث الرأس قلت بنسبة النصف ـ حسب دائرة (من أجل حياة الهند) التابعة إلدارة شرطة املرور في أحمد آباد ـ كما أوردت املستش� � ��فيات تقارير مماثلة ،رغم أن الشرطة خالفت في عشرة أيام فقط 2500راكب! القانون صارم ،في لبس اخلوذات ،وفي ربط أحزمة القيادة للسائق وجاره ،ولكنه ال يفعل شيئا لطرق ال تصلح حتى لعبور البقر! الدراجات النارية ال يستخدمها الرجال وحسب ،بل يكاد كل من تتاح له القيادة في أحمد آباد أن يقود مركبة ما ،وفرضت حكاية «خوذة لكل مواطن» على بعض الفتيات أن يحمني شعورهن من الهواء والتلوث بربطها ـ فيبدون كامللثمات ـ حتى يصلن إلى أماكن الدراسة أو العمل. الطريف كانت الصور التي التقطتها اجلريدة لشرطيني يخالفان القانون، ولرجل آخر يسحب دراجته أمام عيون الشرطي ،حتى ال يركبها بدون خوذة .وعلى األرصفة ،وبجانب باعة ثمار البرتقال ،وأخواتها ،يجلس مروجو ثمار التكنولوجيا الواقية للرأس يبيعون اخلوذات املعدنية.
ماسة وسط الركام وس� � ��ط ركام الرماد الذي يضبب الرؤية ،والغبار الذي يتشح بعوادم عربات الريكش� � ��ا ،وس� � ��ط زحام املدينة املتخ� � ��م بالفقر، 142
نتجه إلى املنطق� � ��ة الصناعية ،حيث يقال إن أحم� � ��د آباد لديها يجلب املاس وحدها -ثالثة آالف وخمسمائة مصنع لألملاس!ُ اخلام من املناجم املتاخمة لوالية كوجرات ،ومن مناطق أخرى تتراوح املسافة بينها مئات الكيلومترات .في أحد املصانع التي زرناها، كانت الدراجات النارية الرابضة أمام املصنع تشي بعدد العاملني فيه الذين يتجاوزون اخلمسمائة ،يعملون من الثامنة صباحا حتى الثانية عشرة ظه ًرا .في قلب املصنع نتعرف إلى ثالثة أنواع من اآلالت املعاجلة لألملاس .األولى يدوية ،وتشبه القبقاب اخلشبي، مباسك من املعدن ،وعدسة مكبرة تتيح للعامل رؤية أطراف املاسة الدقيقة التي قد ال تتجاوز نصف السنتيمتر حجما .يقوم بصقل املاسة أربعة على كل طاولة فوق عجلة دوارة .أما النوع الثاني ،فله شاشة ،وماكينة للبري ،وماسك لألملاسة .فيما تدخل األملاسات في مرحلة الحقة إلى ماكينات ليزر مزودة بشاش� � ��ة الكمبيوتر، للمرحلة اخلتامية لصقلها ،قبل أن تجُ از من قبل مشرف اجلودة (أكبرهم سنا) ،وتتم هذه العمليات بنقل املاسة من مرحلة ألخرى في ورقة مطوية كمغلف يحفظ بها بياناتها .هذا املصنع ،كباقي املصانع التي رأيناها ،بدأ من مرحلة صفرية ،لم يكن العمال فيه يتجاوزون العشرين ،أسسه ش� � ��ري ماجنيباي دوالكيا في ،1978 ليصبح إمبراطورية األملاس التي نراها .اآلن جتمع عدة مصانع املاس� � ��ات الواردة إليها لصقلها ،ثم ترس� � ��ل من أحمد آباد ـ ومن الفروع األخرى في سورات والتي وبافنجار ـ إلى املصنع الرئيسي في بومباي ،ليتم استخدامها في التصميمات املختلفة .ال ميكن ملن يسير في الش� � ��ارع املقابل لهذه املصانع أن يتخيل ما يخفيه من مال ،رمبا يكفي األملاس الذي لدى مصنع واحد منها إلعمار مدينة .تتوارث عائلة ماجنيباي أسطورة األملاس ،وقد تضاعفت 143
نهر على َسفَر | حتت سماء كوجرات ٌ
لديهم ـ وبالتأكيد لدى سواهم ـ كمية التصدير في األعوام األخيرة، حيث تذهب املاسات إلى بلجيكا ،واليابان ،ودولة اإلمارات العربية املتحدة ،وتايلند ،وسنغافورة ،وسويسرا والواليات املتحدة.
األربعة الكبار في ظل شجرة سالم في كوجرات وحدها تستطيع أن تستعيد ذكرى األربعة الكبار في تاريخ الهند; جواهر الل نهرو ،واملهامتا غاندي ،ورابندرانات طاغور وسردار باتيل .ليس فقط في اجلسور واحلدائق املشيدة باسمهم ،بل في املعالم الكبرى التي احتفت بهم الوالية التي ينتمون إليها .فهناك قاعة مسرح طاغور ،وهناك متحف معماري الهند املوحدة والرجل احلديدي في كوجرات سردار فالبهي باتيل ،أول وزير للداخلية ،وأول نائب لرئيس الوزراء ،وهناك املنزل الذي أقام فيه غاندي ،بعد أن هبطت قدماه إلى أحمد آباد قادما من جنوب أفريقيا. في الطريق إلى العاصمة غاندي جنار ،أو مدينة غاندي سنتوقف في (غاندي أشرم) ،املنزل الذي نستعيد فيه حياة املهامتا غاندي، وهو املكان الذي عاش فيه املناضل الكبير ،وبه ترك منضدته وسترته وأدواته ،ومنها مغزله الشهير .تستوقفني لوحة مجسمة جتسد رحلة طولها 241ميال قطعها غاندي من أجل حفنة ملح ،ومعه من استطاع اخلروج في الرحلة املاراثونية من املقيمني معه في سبارماتي أشرم ليقاوم قوانني امللح ،املفروضة على الشعب الهندي ،وليعلمهم معنى االعتماد على النفس ،وليستحث فيهم حلن التجانس في ما بينهم. في مقر اإلقامة الذي أصبح متحفا حلياة غاندي نقرأ تعاليمه ،التي أمالها عبر سني حياته ،كل يوم ،ومنها نتعلم الكثير عن الغاندية ـ التي متيز كوجرات كما قال لنا في كلية العلوم االجتماعية باجلامعة ـ يقول غاندي( :على املرء أال يحوز أو يحتفظ مبا ليس في حاجة 144
إليه ،من مأكل وملبس وأثاث). أما رفيق غاندي سردار باتيل فيقول« :رغبتي الوحيدة أن تصبح الهند قوة منتجة ،ال يجوع فيها إنسان ،وال يبكي فيها أحد من أجل لقمة العيش» .بعد أكثر من خمسني عاما من رحيل سردار ،لم تزل رغبته عصية على التحقق ،مع أكثر من مليار نسمة يسكنون بالده .يُجل أه ُل كوجرات القائد الذي أجنبته واليتهم ،ويخصصون له متحفا أهليا (مقام في القصر الذي شيده شاه جيهان قبل أن يبني حتفته تاج محل ،مما يعد بروفة لذلك األثر الرائع) .في ذكرى وفاة سردار باتيل يأتي محافظ الوالية ليكرم فنانني كبارا أسهموا بإبداعاتهم في املتحف الذي يضم كل متعلقات باتيل الشخصية والعملية، من مالبسه وحقيبته ،إلى كتبه وخطبه ،مع الرسوم باحلبر واللوحات الزيتية والتماثيل اجلبسية واحلجرية التي يهديها الفنانون حتية لذلك الرجل .قرب مسرح طاغور ،وأمام حديقة بسيطة ،قرأت على شاهد من الرخام األسود هذه العبارات «شجرة سالم ،مهداة من املنظمات غير احلكومية في كوجرات، بواسطة تشاندرا شيكر ،في 25فبراير ،2003رئيس وزراء الهند السابق ،لتخليد مشاهد التماسك واألخوة خالل القالقل املدنية التي عصفت بكوجرات في .»2002في تلك احلديقة انتصبت الشجرة الصغيرة ،التي ال تعلو املترين ،فوق مربع على أركانه أهرامات صغيرة من األحجار امللونة .إنها األلوان التي تعيش حتت سماء كوجرات ،حتلم بالسالم.
145
نهر على سفر
ُ السلطان عرش ُّ
أكْ ــبر
ُ نهر على َسفَر | السلطان أكْ ـبر ٌ عرش ُّ
ٍ ٍ كثيرات، محطات في الرحلة من دلهي إلى أجرا ،توقفت في ٍ صفحات من كتاب «طبقات أكبري» ملؤلفه نظام نت أقرأ خاللها ُك ُ الدين أحمد بخشي ،الذي يضم ـ بلسانه ـ ذك ًرا مجمال عن «جالئل فتوحات ،وعظائم حاالت ،أتباع احلضرة املقدسة املنزلة ملركز دائرة الرأفة وقطب فلك اخلالفة السلطان السعيد ،ملك امللوك العادلُ ،مظهر القدرة اإللهية ،صاحب التأييد الس������ماوي ،رافع عرش العظمة واجلالل ،باني قصر الدولة واإلقبال ،رافع املسند احلقيقي واملجازي ،أبي الفتح جالل الدين محمد أكبر بادشاه غازي ،خلد الله ملكه ،وأيد ظالل عدله وإحسانه». كنت أبحث عن شخص امتلك كل هذه الصفات ،لكنه بقدر ما ُ مدحه وزيره وصديقه أبو الفضل بن املبارك ،أشهر مؤرخي عصر السلطان جالل الدين أكبر ،في كتابه «أكبر نامه» ،الذي تناول به أحداث ست وأربعني سنة قضاها السلطان باحلكم ،بقدر ما نال من هجاء ،فما كان من مناقب عند محبيه ،أصبح مجرد مثالب عند كارهيه ،وبني احملبة والبغض ،وبني احلقائق واألس������اطير، وبني دلهي وأجرا ،ومدن وعواصم أخرى ،وجدت طرفا من سيرة ذلك الرجل ،بل إنني حتدثت إلى جالل الدين محمد أكبر نفسه، واستمعت منه ،فبالرغم من أنه مات ـ تاريخيا ـ في العام 1605 ُ ميالدية ،لكن لقائي به جاء بعد ذلك بأكثر من أربعة قرون!
إنه العام 2008م. ميتد بساط أحمر ،ليس أمام قصر السلطان أكبر في عاصمته أجرا بالهند ،ولكن على سلم هرم زجاجي عمالق في مدينة قازان عاصمة تتارستان ،إحدى جمهوريات روسيا االحتادية. سيهبط السلطان أكبر من املركبة التي أقلته ،ويلوح للجماهير 148
املصطفة على جانبي البساط املُفضي إلى املسرح الكبير وكأنه يستمع إلى األغنية التي رددها له محبه: «عظيم الشان ،شاهنشاه»؛ أي عظيم الشأن ،ملك امللوك. أمعنت النظر ،لهذا الش������خص الذي بعث شخصية السلطان ُ أكبر من مرقدها بعد 400سنة ،إنه املمثل إريتيك روشان ،الذي جاء ليقدم فيلمه «جودا أكبر» في مهرجان املنبر الذهبي الدولي لسينما العالم اإلسالمي (قبل أن يصبح اسمه «مهرجان قازان الدولي لسينما العالم اإلسالمي»). جاء إريتيك روشان من أسرة فنية ،لوالدين منتجني للسينما، حتى أنه ظهر طفال في أفالم بوليوود ،وعمل لسنوات مخرجا مساعدا ،وتزوج ممثلة ،قبل أن يفتح له فيلم «جودا أكبر» الذي قام ببطولته ـ مع مواطنته ملكة جمال العالم املمثلة آيشورايا راي ـ أبواب النجومية والشهرة بعد جتسيده شخصية السلطان املغولي جالل الدين أكبر ،وبعد جناح الفت للفيلم التاريخي جتاريا في الهند وخارجها .بل إن روشان نال بعد أيام من لقائنا األول جائزة أفضل ممثل عن دوره في هذا الفيلم باملهرجان نفسه. لم أبحث كثي ًرا عن أوجه الش������به واالختالف بني السلطانني؛ احلقيقي واملمثل ،فقد تكفلت املنمنمات التي ظهرت في مخطوطات «أكبر نامه» املصورة بتقدمي مالمح الشخصية التي استلهمها الفيلم، والتي منحت صفات أخرى إضافي������ة ،غير التي كتبها املؤرخون احملبون ،تعطي تلك الشخصية مظاهر القوة ،ولم ال ،وهو يصطاد ويروض احليوانات البرية ،ويص������ارع ويهزم من هم أضخم منه جسديا ،مثلما متنحه خصال الرحمة ،والتسامح الديني. ميا «دهلي»، نحن اآلن في دلهي ،أو كما كان اسمها مدونا قد ً سننتقل إلى نقطة تالية من احملطات التي حتمل بصمات جالل 149
ُ نهر على َسفَر | السلطان أكْ ـبر ٌ عرش ُّ
الدين مثل عاصمته فتح بور سيكري ،في راجستان ،وحتى ميناء ٍ كتابات سورات في كوجرات ،ووصوال إلى أكرا (أجرا ،وآغره في أخرى) ،حيث ضريح تاج محل. رقعة جغرافية كبيرة تشير إلى اتساع ٌملك السلطان الذي شهد نشاطات عس������كرية ،وصوال إلى بالط السلطان الذي كان قبلة املؤرخني و َمحج األدباء ومجلس املفكرين وقاعدة العقائد واملذاهب، ومدرس������ة العلماء ،ومنهم من كان مقربا في «مجلسه اخلاص/ خاص -ي – محل» ،الذي س������مي في ُجل الكتاب������ات التاريخية «عبادت -خانه» أو «مكان العبادة» .نحن هنا في دهلي التي متثل، مع سلطانها ،مركز الهندوستان ،ونهاية طبقة سالطينها.
أمام ضريح همايون كان والده؛ الس������لطان همايون ( 17مارس 1508م ـ 7مارس 1556م) ،من أحفاد أش������هر اثنني في تاريخ املعارك اآلس������يوية؛ األمير تيمور (تيمورلنك في األدبيات التاريخية العربية ،وتعني تيمور األعرج) ،وملك املغول األشهر جنكيز خان ،منهما جاء ُعمر شيخ ميرزا حاكم فرغانة ،والد سيد السالطني محمد بابر ،فاحت وج ّ ُد سلطاننا جالل الدين .لقد عثرت على تخطيط يشرح الهند َ ساللته ،السابقة عليه والالحقه له ،للشيخ ياسني العجلوني. وقفت أمام مدخل ضريح الس������لطان هماي������ون (1530م) ،في دلهي ،حتمل كل مآثر العمارة املغولية ،التي نرى آثارها اليوم في ميا) ،الهند والباكستان وبنجالديش وكشمير الهند اإلسالمية (قد ً (حاليا) .وهي عمارة مزجت مبرونة تقاليد العمارة احمللية في الهند قبل اإلسالم وحضارة ما بعد الفتوحات ،حيث استخدمت كتقليد محلي -احلجر واخلش������ب كمادتني أساسيتني ،وهو150
ما يجعلها تختلف عن العمارة الفارس������ية في إيران وتركس������تان وأفغانستان التي ش������يدت من الطوب الطيني (اللنب) واحملروق (اآلجر) وزينت بالفسيفساء اخلزفية .بديال عن التزيني اخلارجي متيزت العمارة املغولية بالنقش على احلجر واجلص والفسيفساء الرخامية والترصيع واحلجارة امللونة. كانت مساقط األبنية املغولية في رحلتنا ذوات مساقط ،وهي صحون واسعة محاطة بأروقة مسقوفة أحيانا بقباب صغيرة ،ومن النافورة التي رأيناها أمام الضريح ،واحلدائق التي أحاطت بالقالع، كما شاهدناها من عل ،تتضح العناية الكبرى بتنظيم احلدائق واملياه ،وهو إرث من أسرة الصفويني في إيران ،وشاعت العقود املدبب الفارسية( ،قسمها العلوي مقعر نحو اخلارج) والفاطمية (بقوس علوي مستقيم) ،كما انتشرت القباب ذوات األقواس املدببة والدائرية ومعظمها من طبقتني بينهما فراغ واس������ع ،مما يجعل عنصرها العلوي يشبه الكأس املقلوب .أما األروقة فهي مظللة أو غير مظللة ،تعلوها قبة أو قنط������رة .وهناك رفارف بارزة في الواجهات أو فوق األروقة أو أسفل طاسة القبة من ألواح حجرية كبيرة أو رخام محمول بواس������طة مساند حجرية ،وقل استعمال األعمدة واستخدمت العضائد بدال منها. أما مآذن العمارة املغولية فقدت من احلجر ،وهي تبدو مضلعة أو اسطوانية مخروطية ذات شكل نخلي ،زخارفها ،وزخارف اجلدران في املنشآت تنتهي مبقرنصات ومحاريب ونقوش حجرية ،وتطعم حجارة البناء األساسية بحجارة من لون مختلف (خلط) كالرخام. وقد شاع استخدام الرخام األبيض كمادة أساسية للبناء ،وكثيرا ما جند فسيفساء حجرية أو رخامية أو أحجار كرمية مغروسة أو مخلوطة مثلما خلطت قطع الزجاج امللون على اجلدران لتعكس 151
ُ نهر على َسفَر | السلطان أكْ ـبر ٌ عرش ُّ
أشعة الضوء بافتتان ملون .وقد استخدمت الرسوم اجلدارية امللونة باحلوائط والسقوف والعضائد كبديل عن الترصيع لسرعتها وقلة كلفتها ،مثلما رس������مت املواضيع الزخرفية باأللوان فوق أرضية بيضاء من الكل������س أو اجلص أو عجينة الص������دف ،بحيث تبدو كالرخام الناصع البياض .عمارة ستبلغ قمتها في ضريح حفيده شاه جهان وزوجته احملبة ،واملعروف باسم تاج محل ،والذي اختتمنا به رحلتنا في راجستان على خطى السلطان أكبر.
الشمس أشرقت حني ْ ُ قبل وفاته ،أرسل الس������لطان همايون ابنه األمير جالل الدين من دهلي إلى سوالك ،مع ركن السلطنة بيرام خان ،لدفع ورفع (قتال) اسكندر خان أفغاني .وحني وصل جالل الدين إلى قرية كالنور (تتبع الهور عاصمة إقليم البنجاب في الباكستان حاليا) جاء خبر وفاة السلطان همايون ،فأجلس بيرم خان األمير جالل الدين على عرش السلطنة ظهر يوم اجلمعة الثاني من ربيع األول س������نة 963هجرية ،مبوافقة أمراء وق������ادة اجليش ،أمام قصبة (قلعة) كالنور. يقول نظام الدين أحمد بخشي ،بترجمة الدكتور أحمد عبدالقادر الشاذلي ،عن الفارسية ،بتصرف: الشمس على ال َعرش، أشرقت «عندما ْ ُ ُ الفلك رباطه جيدا على الغُ الم، وعق َد فرح كل العظماء ،ورفعوه على الرأس عاليا، ونشروا ما هو الئق بالعرش على امللك سعيد احلظ، العالم من نورها». الشمس عالية ،استفاد فكلما كانت ُ ُ تبدأ سنوات حكم جالل الدين ،بالنوروز ،وهو عيد أول السنة 152
آيتان معماريتان من عهد السلطان أكبر ،قلعته احلصينة القريبة من تاج محل ،وقصره على مش���ارف مدينة أجرا ،حيث كان يجلس الوزراء قرب مس���رح الفن املطل على البركة املائية.
153
ُ نهر على َسفَر | السلطان أكْ ـبر ٌ عرش ُّ
الشمسية ،واحتفال أساسه فارسي ،مطلعه 21مارس ،حني تدخل الشمس برج احلمل ،كما أنه بداية الربيع في الهند ،وقد اعتاد املغول االحتفال به تسع عش������رة يو ًما (مقابل 12يو ًما فقط في إيران). السنوات التاليات امتدت في بسط النفوذ ،باحلرب واحلصار حينا ،وبعهود السالم حينا آخر ،فخضعت قالع كواليار ،ورنتهبور، وترهنده ،وكاكرون وغيرها وقصبتي سكندره ،وأركدار وسواهما، يروض األفيال اخلاصة في مال������وه ،ويصيد القردة في فيروزه، ويغزو ويخضع مناطق وواليات عديدة ،ويخلع األلقاب على حلفائه، ومنهم شاه الصفويني طهماسب. كانت هناك رابطة قوية من الود واالحتاد بني السلطان األب همايون وشاه طهماسب صفوي ،لذلك أراد طهماسب جتديد هذه العالقة مع االبن ،فأرس������ل معصوم بيك ابن عمه بهدايا وحتف مع رسالة إلى بالط الس������لطان أكبر في آكره ،فأنعم السلطان على الرسول مببلغ 700ألف تنكه ،واستضافه شهرين في دار اخلالفة ،ومنحه خلعة خاصة وجوادا ،قبل أن يعود بتحف وهدايا هندوستانية إلى طهماسب. لكن هذه العاطفة اجلياشة جتاه املقربني كان يقابلها رد فعل قاس من الس������لطان جالل الدين ضد اخلائنني ،وهو ما أمر به ضد أدهم خان كوكلتاش ،الذي قتل اخلان األعظم وكيل السلطنة، غرورا وغواية ،وتهجم على احلرم السلطاني ،فخرج له جالل الدين وضربه ،وأمر بإلقائه حيا من فوق سطح القصر ،وملا بقي فيه رمق حياة أعاد جنوده الكرة ،وقد جاء هذا املشهد في فيلم جودا أكبر ( 214دقيقة) قاسيا وعنيفا ،لكنه يكشف بعدا هاما من شخصية احلاكم الذي ينزع قناع احللم في مواقف ال ينفع معها. 154
لقاء مع البرتغاليني ولكن محك قراءة تاريخ جالل الدين أكبر يظهر جليا في عالقته، كسلطان مسلم ،باألديان األخرى ،السماوية واألرضية ،التي نشأت في الهند أو جاءتها من الشرق والغرب. ففي القرن الس������ادس عش������ر مت توثيق أول حضور للكاثوليك األوربيني في بالد الهند .وقد راسل السلطان جالل الدين أكبر إلى البعث������ة الكاثوليكية املقيمة في مين������اء ومدينة جوا «»Goa وكانت برتغالية ،جاءت مع أساطيل البرتغال عام 916هـ1510 /م، إلى شواطئ جوا « »Goaوديو « »Diuودامان « »Damanعلى سواحل الهند الغربية ،قبل أن تتوسع على باقي الشواطئ الهندية، حتى أنها وصلت أعالي خليج البنغال عام 944هـ1537 /م .أراد السلطان أكبر من البعثة الكاثوليكية البرتغالية أن يوفدوا إليه من يعرفه بدينهم كما يكشف الباحث الدكتور سعد الغامدي ،أستاذ التاريخ اإلسالمي ودراساته الشرقية في بحث له ،شارك به في العام ( 2008عام الفيلم أيض������ا) ،مبؤمتر أقامته في مصر كلية دار العلوم بجامعة املنيا. وصل الوفد الديني البرتغالي إلى بالط السلطان أكبر ،مبدينة الفتح في سيكري في عام 986هـ1578 /م ،ميثل منظمة «القس بول» ،وقد بدت مظاهر تأثر السلطان بشروح الوفد كثيرا ،حتى أنه خصص مربيا منهم ليعلم ابنه مراد اللغة البرتغالية ،وطلب نفس ُه اللغة البرتغالية (وهو األمي الذي ال أكبر أيضاً أن يُ َعلً َم هو ُ يعرف القراءة والكتابة). وضم السلطان أكبر رعاية الطقوس الكاثوليكية ،إلى غيرها من الديانات األ ُ َخر التي يعتنقها مواطنوه ،كالهندوسية والبوذية واليانية والزرادشتية والبوذية التبتية الالما والسمنية السندية 155
ُ نهر على َسفَر | السلطان أكْ ـبر ٌ عرش ُّ
والبراهمية ،كما سمح ببناء كنس في مدينة الفتح بسيكري ،وبناء آخر في مدينة الهور .وترك لهم ولباقي مواطنيه حرية التعبد؛ وشاركهم في مناسبات أقاموها داخل مدينة الفتح في سيكري، لكنه رفض طلبا لهم بأن يعتنق املسيحية. هكذا كان السلطان أكبر مسلما وهنديا ،في آن واحد .فهو كمسلم يتبع القرآن الكرمي وأحاديث الرس������ول (صلى الله عليه وسلم)، ويجد في الكتاب والسنة مصدر سماحته ،كما أنه كهنديا يعرف أن ترابط تلك األعراق واألديان في وطن قوي موحد يستلزم منه أن يكون عادال في سياسته الدينية التسامحية جتاه من ينتمون إليها .كافة األديان ،ودلي ً ال يهدي إلى حريات التعبد والتسامح فيما بني اصحاب الديانات و أتباعها من مواطني دولته .وتكفي إش������ارات من آيات الله للتدليل على مصدر نهج السلطان أكبر: الر ْش ُد ِ م ْن الغي» ( البقرة ،من اآلية: ين َق ْد َت َب نّ َ َ «لاَ ِإكْ َرا َه ِ ف ِ ّ ي الد ِ ي ُّ َ م ْن َ ّ ،)256 آمنُ و ْا َوا َل ِّذينَ َه ُ «إن ا َل ِّذينَ َ الص ِاب ِئني َ ّصا َرى َو ّ َ ���ادو ْا َوال َن َ مم ِ عن َدَ ر ِ ّب ِه َ آمنَ ِ بال َل ِّه َوا ْل َي ْو ِم ِ اآلخ ِ���ر َو َع ِم َل َ ���م أَ ْج ُر ُه ْ صالحِ ًا َف َل ُه ْ ���و ٌف َع َل ْي ِه ْم َو َ ْمَ و َ ���م َي ْح َزنُونَ » (البقرة :اآلي���ةَ .)62:ف ِب َما ال خَ ْ ال ُه ْ َر ْح َم ٍة ِ منَ ال َل ِّه ِلنْ���تَ َل ُه ْم َو َل ْو ُكنْتَ َف ًّظا َغ ِلي َ َضوا ���ظ ا ْل َقل ِْب ال ْنف ُّ َ ���او ْر ُه ْم ِفي األ ْم ِر» (آل ِم ْن َ ح ْو ِل َكَ ف ْ اس َتغْ ِف ْرَ ل ُه ْم َوشَ ِ اع ُف َعن ُْه ْم َو ْ ���س أَ ْن ُتؤْ ِمنَ ِإ اّ َل ِب ِ���إذ ِْن ال َل ِّه» ( عمران ،اآلي���ةَ « .)159 :و َما َكانَ ِل َنفْ ٍ يونس ،من اآلية « .)100:وال جتادلوا أه���ل الكتاب إال بالتي هي أحسن» (العنكبوت :اآلية.)46 :
سطور «أكبر نامه» سنعود إلى «أكبر نامه» ،ذلك السجل التاريخي لسنوات حكم السلطان جالل الدين ،وفيه يقدم الوزير أبو الفضل بن الشيخ 156
مبارك (1011-958هـ1602-1551 /م)؛ القائد العسكري واملستشار اخلاص للسلطان سيرة تفصيلية. كان تفتح ذهن ذلك املؤرخ واملعلم وراء انفتاح السلطان نفسه على أديان الهند ،فاملعلم خبير بأسرارها التي يرويها في مجلس السلطان ،رواية العارف بأس������رارها ،ولم ال وهو صديق علماء الهندوس ،وإمامهم في «عبادت خانه». وقفت في املكان الذي اتخذه السلطان ساحة للنقاش ،وأمامه، على مرأى ،أول مس������رح مفتوح ،كانت تؤدى به االس������تعراضات واألداءات املوسيقية .وفي الوقت الذي كان فيه العلماء يتبادلون األراء واألفكار ،كان الفنانون يلعبون على األوتار .كان رسول اللغة الفارسية ،لغة البالط السلطاني ،يعلمها ملن شاء من األكابر .وقد ساند أفكار سلطانه ،ودافع عنها ،حتى أنه قدم حياته فداء لها، حيث اغتيل مبؤامرة قام على رأسها ابن السلطان أكبر ،األمير سالم (امللقب بجهان كير في ما بعد) ،بيد بير -سينغ ،Bir- Singh يوم اجلمعة 4ربيع األول عام 1011ه������ـ1602 /8 /12 /م ،كما يروي حاكم بخارى ،عبدالله البخاري. مقابل ما ذكره أبو الفضل من مدي������ح مفصل في «أكبر نامه» يأتي هجوم مؤلف منتخب التواريخ .إنه اإلمام البدعوني ،أحد سبعة أئمة مبسجد السلطان (إمام األربعاء ،حيث كان هناك إمام لكل يوم من أيام األس������بوع) ،صاحب الصوت احلسن ،والترتيل اجلميل ومترجم اللغة الفارسية ،الذي نقل من العربية بنا ًء على أمر السلطان ،معجم البلدان لياقوت احلموي ،وجامع التواريخ لرشيد الدين الهمداني. لم يحب البدعوني فكرة التقارب بني األديان فغاب عن ساحة أرض كانت تدر عليه مخصصاً احلوار ،وسحب السلطان منه نصف ٍ 157
ُ نهر على َسفَر | السلطان أكْ ـبر ٌ عرش ُّ
يقتات منه و عياله ،فاعتزل مجلسه واستقال من اإلمامة؛ فسحبت منه بقية األرض؛ فاعتزل الناس والب���ل��اط ،واختفى علنا بينما أخذ يراقب سرا األحداث و يد ِّونها ،من شاهدي عيان ثقةَ ،د ًو َن أس������ماءهم في منتخب التواريخ ،وأخفى كتابه ،وحني ُعثر عليه أصبح أكثر املؤلفات طلبا ،وخاصة أنه أخرج بجرأة سلطان البالد من الدين كليا. وفيما تدور هذه األحداث في الفيلم على مسرح تتصدره قصة زواج السلطان باألميرة الهندوسية ،لكن التفاصيل كلها ،اخلاصة بالزواج ،أو املؤامرات ،أو احلروب ،تصب في بناء شخصية لقائد مغولي أراد أن يكون استثناء ،وأن يأخذ بالسالم أكثر مما ميكن أن متنحه املعارك.
مسجد فتح بور سكري اجتهنا للصالة في مسجد فتح بور سكري (أنشئ في 1571م)، الذي تناوب عليه أئمة السلطان ،وهو من أوائل املساجد املغولية التي بناها جالل الدين ،ومس������احته 165مترا طوال و 133مترا عرضا ،ويضم قاعة صالة ومدرسة تؤلفها سلسلة غرف حتيط بالصحن ،وله أبواب ثالثة مفتوحة على الصحن ورواقه .تشبه قاعة الصالة مسجد أصفهان ذا التأثير السلجوقي ،أما الغرف وراء الرواق فيبرز بها التأثير العثماني ،بينما يبدو التأثير الهندي في الزخارف. يرتفع املسجد عن مستوى الشارع بثالثة عشر مترا ونصف املتر وحتته مستودعات وخزانات ماء ،صعدنا األدراج التي تتقدم البوابات ،لنواجه بالبناء املصنوع من احلجر الرملي األحمر املرصع بالرخام األبيض ،ثم عبرنا إل������ى قاعة الصالة ،وهي أضيق من 158
الصحن ( 109 X 133مترا) .الطريف أن هناك مكانا يضم عددا من قبور النساء. في سنة حكمه الثانية عش������رة ،التي بدأت الثالثاء الثاني من رمضان 974هجرية ،أراد السلطان أن ميضي أيام النوروز في صيد القمرغه .والقمرغه كلمة تركية تصور إحدى طرق املغول بالصيد وفيها يحيط اجلي������ش مبنطقة الصيد من كل جانب ثم يتقدم أفراده من كل جانب لتضيق احللقة ،بينما يقوم السلطان بالصيد داخل هذه الدائرة ثم يُسمح للوزراء واملقربني في أيام النوروز األخيرة باملشاركة في الصيد. كما رأينا ،كانت الهند ،وخاصة راجستان ،مكانا رحبا لكل الكائنات احلية .رأينا طيور الطاووس تقفز من سور بيت لفناء آخر .تابعنا القردة تتقافز من ساحة معبد إلى شجرته .كانت السناجب تلهو في براءة ،والبقر يعبر في اس������ترخاء .الغزالن تتماهى مع رمال الصحراء ،واجلمال مترح فوق الكثبان .حديقة حيوانات سوارها املدن وسقفها السماء.
ترويض الفيلة ،وصيد القردة بدأ األمراء املشاركون في القمرغه بطرد احليوانات حول الهور أمامهم من كل ناحية ،حتى عد املؤرخون بأنه كانت هناك 15ألف حيوان ،بني غزالن وبقر وحش������ي وابن آوى وثعالب .وسط هذه الدائرة التي يبلغ قطرها خمسة فراسخ من كل ناحية أقيمت خيمة سلطانية معتادة ،يركب منها الس������لطان يوميا على جواد سريع، فسمح لألمراء ،وبعدهم املقربني ،حتى وبدأ الصيادون يزيدونُ ، شارك كل من باجليش في الصيد ،وحتى يتم رياضته ،سافر إلى مدينة تهته ،وعندما وصل إلى شاطئ نهر الهور قفز في النهر 159
ُ نهر على َسفَر | السلطان أكْ ـبر ٌ عرش ُّ
راكبا فرسه ،ثم عبر س������ابحا ،بينما غرق بعض من تبعه ،وهو، السلطان ،تعلم الرماية ،والسباحة ،وركوب اخليل ،وترويض الفيلة، وصيد القردة. بعد بدء احلمالت العربية على ش������به القارة الهندية ،بزعامة محمد بن القاسم الثقفي ( 92هجرية 710 /ميالدية) ،تأسست حقبة جديدة للمنطقة حتت السيادة اإلسالمية ،توجت بتأسيس قواعد للمسلمني في إقليمي السند والبنجاب 714( ،ميالدية)، ولكن بقيت مجرد إدارة تابعة للحكم األموي. ومثلت الدولة الغزنوية ( 1030 - 979ميالدية) مرحلة جديدة، فقد ورثوا حكم السامانيني في إيران وآسيا الوسطى ،وورثوا حكم العرب في حكم الهند ،وفي حني استقلت عن احلكم العباسي، إال أنها لم تشأ أن تهاجمه ،بل إن سلطانها محمود الغزنوي وطد عالقته بالعباسيني ،وحرص على احلصول من قبل خالفتهم على اعتراف بأنه سلطان املسلمني في الشرق .حتى أن املؤرخ لنظام امللك الطوسي س������جل منوذجا من تلك األلقاب؛ فقد نُعت بأنه «أمني امللة وميني الدولة» ،و«نظام الدين وكهف اإلسالم واملسلمني، وولي أمير املؤمنني» ،ولقب بأنه «املنتقم من أعداء الله» ،و«شهاب الدولة» حتى أن اخلليفة أصدر مرسوما معتادا مينح بهذه األلقاب سمى فيه الغزنوي «الناصر لدين الله».
بداية ونهاية وقد حقق الغزنويون أساسا مللك مستقر في آسيا الوسطى وإيران والهند وورثتهم في حكم أفغانستان وشبه القارة الهندية األسرة األفغانية الغورية ( 1215 - 1148ميالدية) ،وقد تبلور حكمها في الهند في عهد السلطان غياث الدين أبو الفتح محمد بن سام 160
اهتم السلطان أكبر برياضة ترويض الفيلة ومارسها ،وعلى الدرب الذي يؤدي لبوابة قلعته في عنبر يركب السياح الفيلة وسط طبيعة سخية اجلمال.
161
ُ نهر على َسفَر | السلطان أكْ ـبر ٌ عرش ُّ
الغوري الذي ُمنح لقب «معني أمير املؤمنني» تقديرا جلهوده في نشر اإلسالم .وجاء عبده ،قطب الدين أيبك( ،حكم بني عامي 1206و 1210ميالدية) ،ليكون املؤسس احلقيقي لسلطنة دهلي (دلهي) ،والذي أصبح أول مؤسس لقواعد نظام سياسي إسالمي في الهند ،مستقلة عن العباسيني .واكتسبت سلطنة دهلي مكانة وأهمية كبيرتني ،فتوافد رس������ل العباسيني في عهد «ميني أمير املؤمنني» السلطان شمس الدين التتمش معترفني به سلطانا على الهند ،وأن عاصمته دهلي من ديار اإلسالم .الغريب أن التتمش أوصى باحلكم البنته رضية ،القوية ،لكن ابنه ركن الدين فيروز شاه حكم بدال منها ،وكان ضعيفا ،فقامت القالقل ،واالضطرابات، واعتلت رضية عرش البالد كأول حاكمة لبلد إسالمي ( 18ربيع األول 634هجرية 19 /نوفمبر 1236ميالدية) وبرعت ألكثر من ألف يوم ويوم في احلكم ،وظهر أن مسلمي البالد هناك كانوا على وعي راق بأن اعترفوا بقدرتها وحكمها. لكن اجتياح الشرق في خوارزم من قبل قوات جنكيز خان (1219 ميالدية) وانهيار قلب الدولة العباسية على يدي هوالكو (1258 ميالدية) أفقد الدولة اململوكية في الهند حليفا كانت تكتسب منه شرعية وجودها في حكم الهند .وهكذا بدأت تغييرات جذرية في حكم تلك البالد في عهد األسرة األفغانية اخللجية (1290 ـ 1320ميالدية) ،ودولة تغلق التي تلتها واس������تمرت 4سنوات، على الرغم من أنها حافظت من ضرب العمالت باسم اخللفاء الراشدين األربعة ،وحني اتخذت الدولة اململوكية في مصر من اخللفاء العباسيني خلفاء للدولة ،كما يقول الدكتور أحمد محمد اجلوارنة ،بجامعة اليرموك ،أدركت سلطنة دلهي أنها مضطرة إلعالن الوالء للخليفة العباسي اجلديد في القاهرة ،فظهر اسم 162
بلغ فن العمارة في عهد السلطان أكبر شأنا عاليا ،وجسد قمته بعده ضريح حفيده شاه جهان وزوجته احملبة ،واملعروف باسم تاج محل ،الصورة لألثر والبوابة.
163
ُ نهر على َسفَر | السلطان أكْ ـبر ٌ عرش ُّ
اخلليفة «املستكفي بالله» على نقود تداولها جتار دهلي (1244 ميالدية). وحني حضر موفد اخلليفة العباسي مبوافقة رسمية للسلطان تغلق ،دعا خطيب املس������جد في يوم اجلمعة للخليفة العباس������ي ووزعت دراهم ذهبية وفضية على الفق������راء واحملتاجني .لكن حمالت األمير تيمور ـ حتى على قلب دهلي ـ جعلت ممارسات جنوده تعيد البالد إلى فوضى وب������ؤس ومعاناة لم تعرفها ،وهي املدينة العامرة بالنشاط والعمران واحلضارة. وقد أسس خلفه في ش������به القارة الهندية ،خضر خان ،أسرة جديدة اسمها األسياد ،سكت العملة باسم تيمور ،وقرأت خطبة اجلمعة باس������م ابنه األكبر ش������اه رخ ميرزا ،حتى استولى أمراء األفغان على احلكم ،حتت قيادة أس������رة اللودية ( 1451ـ 1526 ميالدية) ،وتواكب ذلك مع نقل اخلالفة من القاهرة إلى األسرة العثمانية اجلديدة ،ومرت الدول������ة األفغانية بحالة من الضياع السياس������ي والصراعات الداخلية ،وظهر املغول ببأسهم ،ولبى زعيمهم ،ظهير الدين محمد بابر (حكم بني عامي 1526ـ 1530 ميالدية) نداء ناشده فيه األمير األفغاني دولت خان لودي للمجيء للهند واالستيالء على السلطة ،فدخلها بابر ،وهو جد سلطاننا جالل الدين محمد أكبر ،ووالد السلطان همايون ،ليرتبط تاريخا بدأناه ،بآخر وصلنا إليه ،وليستمر حكم املغول بني 1526و1857 ميالدية ،وقد حررتهم نزعات االنفصال عن الدولة اإلسالمية املركزية من اتباع دولة اخلالفة ،ب������ل وأرادوا أن تكون لهم دولة خالفة مستقلة ،وفعلوا ما كانت دول اخلالفة تفعل ،فقرئت باسم اخلطبة فوق منابر املساجد املنتشرة بالهند ،وهو مظهر سيادي بحت ،وسكت العمالت والنقود اإلس���ل��امية باسمهم ،ووشحت 164
املراسيم والفرمانات بتوقيعاتهم وأختامهم .ولم يكن جالل الدين أكبر خالفا لهم ،بل أراد أن يضيف مظاهر له وحده ،متثلت في اجتاهاته السياسية والدينية. كان نظام احلكم لدى املغول رأسه السلطان الذي يجمع بني يديه جميع سلطات الدولة العس������كرية واملدنية والدينية ،ولكن يظهر لنا حرص جالل الدين أكبر على مشاورة رجاله ،واجللوس مع أبناء الشعب لسماع شكواهم (أو السير بينهم متخفيا كما ذكرت سيرته وأظهر الفيلم) .لقد علق على أبواب القصر أجراسا يدقها أي مظلوم لتُسمع شكاواه .وكان للسلطان وكيل يعتمد عليه فى تصريف األمور ،ووزير يأتي بعده في املرتبة ,مسؤول عن شئون املال في الدولة وميرجنتش يلي الوزير فى املرتبة ,يختص بدفع رواتب اجلند والقادة ويشرف على شؤون البالط ويعد مسئوال عن جيش السلطان اخلاص ،ثم خان سامان مختص باإلشراف على البالط ,يالزم السلطان في ترحاله ،وقاضي القضاة ،واحملتسب الذي يراقب سلوك الناس ومينع ممارسة البدع وارتكاب ما ينافي الشرع واآلداب. أخي ًرا س������نصل إلى املكان الذي يجتمع فيه علية الرجال في بالط السلطان أكبر ،كأني أسمع مشورتهم ،وإخبارياتهم .كأني به أراه يغضب على أحدهم فيأمره ببدء رحلة احلج ،وهي الرحلة األخيرة في حياة أحدهم .كأني أرى ـ قرب بركة املياه ـ منصة تبدأ عليها وصلة من الفن ،لعازفني وراقصات .هنا عرش السلطان أكبر الذي جمع خصاال وخصائل فرقت اآلراء حوله ،ولكنه يبقى رمزا المبراطورية كبيرة ،ذهب رجالها ،وبقيت آثارها ،وعاشت قصصها تُروى ،من أجل عبر وآيات منسية ،أو تكاد. 165
نهر على سفر
اجن ُچو ُج َو ْ
ُ اآلسيوية الثقافة عاصمة ِ َّ
ُ الثقافة اآلسيو ّ َية عاصمة نهر على َسفَر | ُج َواجنْ ُچو... ِ ٌ
في منتصف الطري� � ��ق من العاصمة الكورية اجلنوبية (س� � ��يئول) إلى مقصدِ نا جنوبها؛ مدينةِ (جواجن چو) ،توقفنا في مدينة عجيبة هي (سو ـ وون) .لم ِ يأت العجب من اسمها ،وال من أشكال منحوتاتها الشجرية في حدائقها املمتدة على مرمى البصر ،وال من آثارها التاريخية التي تلهو جداول املياه حتتها وعبرها ،بل العجب هو أننا نزورها في الشهر الذي خصصته للطاقة النظيفة! كنا قرأنا قبل وصولنا بأسبوعني ،أن احلكومة الكورية اجلنوبية حظرت على املؤسسات العامة تشغيل مكيفات الهواء ملدة أسبوع من أجل التغلب على أسوأ أزمة لنقص الطاقة الكهربائية، وأمرت باتخاذ تدابير احترازية؛ مثل جتهيز مأوى لكبار السن والنساء طلب الوزارة جاء بوثيقة رس� � ��مية أرسلت إلى جميع احلوامل وغيرهمُ . املؤسسات العامة في شتى أنحاء البالد وعبر الهاتف ،كما قررت الوزارة إطفاء األنوار الداخلية في املؤسس� � ��ات العامة مبدئيا واستخدامها في األماكن التي حتتاج إلى اإلضاءة مثل ال َّد َرج ـ الذي تبنته بديال للمصاعد وفق احلاجة ـ والطوابق حتت األرض ،بل وحثت املؤسسات العامة التي متلك مولدات الطوارئ بس� � ��عة أكبر 500كيلو وات إلى تشغيلها خالل الفترة من الساعة الثانية بعد الظهر حتى الساعة السادسة مساء ،مع مراقبة متشددة في القطاع اخلاص .لكن مدينة (سو ـ وون) لم تكن تطبق ذلك التحول للطاقة النظيفة تطبيقا لقرار حكومة البالد ،وإمنا هو اجتاه تبنته منذ سنوات ،ودعت في مؤمتر ليوم واحد حضرناه جتارب مماثلة خلمسة مدن عاملية ،ممثلة بعمدة كل منها ،لتقدم هذه املدن تاريخها في توفير الطاقة ،والتحول إلى الطاقة البديلة والنظيفة. حني جتولنا في (سو ـ وون) ،لم نَ َر سوى العربات التي تُشحن بالكهرباء املو ّلَدة بالطاقة احلركية ،حتى محالت العصائر كانت تُشغل خالطات الفواكه التي تستمد كهربتها من حركة شابات يقمن بقيادة دراجة ثابتة، لتصبح الطاقة احلركية للعجالت تيارا كهربائيا ،وكذلك محالت أخرى 168
قلب مدينة سو ـ وون في الطريق إلى جواجن جو ،تذخر بأشكال منحوتات شجرية في حدائقها املمتدة على مرمى البصر ،وآثار تاريخية تلهو جداول املياه حتتها وعبرها.
مشهد بانورامي ملدينة جواجن جو.
169
ُ الثقافة اآلسيو ّ َية عاصمة نهر على َسفَر | ُج َواجنْ ُچو... ِ ٌ
أحسست أن مدينة (سو وون) تقدم تشحن الهواتف النقالة بالطريقة ذاتها. ُ أفكا ًرا جديدة ،ولكن فكرتها األساسية ،كما رأيتها ،هي أنها متهد الطريق للوصول إلى مدينة (جواجن چو) ،وأن علي أن أستعد ألفكار تقدمها هذه تؤهل بنيتها التحتية لتكون عاصمة للثقافة اآلسيوية. املدينة التي ِ ّ
مجمع الثقافة اآلسيوية رحلتنا إلى مدين� � ��ة (جواجن چو) كانت للمش� � ��اركة في منتدى جمعية الصحفيني اآلسيويني الثقافي ،الذي نُظم من أجل دراسة وتقومي مدى إسهام صحفيي أكبر قارات العالم في تعزيز التبادل والتواصل الثقافيني بني البلدان اآلسيوية .تفتح مدينة (جواجن چو) ذراعيها إلعالميني من كوريا واليابان وبنجالديش وإندونيسيا وقرغيزستان وكمبوديا والفلبني ومصر وباكستان وسنغافورة وتركيا وڤيتنام ،يتوزعون عبر تخصصات مختلفة وأجيال متباينة ،مهمتهم التوصل -عبر جلس� � ��ات نقاشية موسعة -إلى كيفية احلفاظ على والترويج للثقافة اآلسيوية .قِ سما املنتدى يتناوالن، كما يحمل عنواناهما (دور اإلعالم في ترويج وازدهار الثقافة اآلسيوية) و(خصائص املجمعات الثقافية في البلدان اآلسيوية ،مع التركيز على دور «مجمع الثقافة اآلسيوية» املنشود ،الذي يستضيف فعاليات املنتدى). واحلقيقة أن أوراق املنتدى لم حتمل فقط صيغة التجارب البينية واخلاصة بكل بلد ،ب� � ��ل كان هناك مجال للحوار حول أدوار املؤسس� � ��ات الثقافية كاملتاحف ،واملنظمات الثقافية ،وقصور الثقافة ،وغيرها. لب األمر كله ،لذا وجبت زيارة إنشاءاته ويبدو أن هذا املجمع الثقافي هو ّ ُ التي تكتمل مرحلتها األولى العام القادم ،وتُختتم كلها بعد عشر سنوات! بدأت رحلة العجب ،ألننا وجدنا أنفسنا في موقع اإلنشاءات نتجه إلى باطن األرض .خالصة القول أن املصمم لم يشأ أن يكون مجمعه صاد ًما للعيون بامتداده فوق األرض ،بل ب� � ��دأ من قلب التربة ،وكأنه يبحث عن 170
من التصميم املعماري ملجمع الثقافة اآلسيوية يقصد الزوار إلى باطن األرض ،بينما النور ينفذ من األسقف املتناغمة مع الفضاء املتخم باللون األخضر.
171
ُ الثقافة اآلسيو ّ َية عاصمة نهر على َسفَر | ُج َواجنْ ُچو... ِ ٌ
جذور الثقافة في باطن القارة العمالقة ،أراد أن تكون األضواء آتية من وحي لألفكار ،أراد أن تنس� � ��جم اإلنشاءات املعمارية مع السماء ،كأنها ٌ الطبيعة ،فتأخذ النور الطبيعي طاملا أشرقت الشمس ،وتسمح لألشجار أن تنمو على أسقفه ،ولسيقان البامبو أن حتيط به. يا لها من عِ مارة ،ويا له من هدف أنشئت من أجله ،كما يقول شعارها «ننث ُر بذو َر الثقافة ،مثلما تنشر الزهور بتالتها ،فتتفتح براعم الثقافة اآلسيوية». يقف دليلنا أمام مجسم للمجمع يشبه قطعة البيتزا الضخمة املزركشة بالزيتون والفلفل! هذا هو املشهد اجلوي للمكان بعد اكتماله ،ولكن األقسام اخلمسة األساسية كانت ترتفع أمامنا كلما بدأ الرجل احلديث :هذه هي وكالة معلومات الثقافة اآلسيوية ،وتضم معه ًدا للبحث الثقافي ومركزاً للمعلومات وأكادميية ثقافية ،تتخصص جميعا بآسيا .وهذه وكالة ثقافية لألطفال ،تضم متحفا ومركز تنمية احملت� � ��وى الثقافي .أما هنا فمركز الترويج الثقافي ويضم قاعات معارض متعددة االستخدامات ،وهنا وكالة للتبادل الثقافي ،بها قاعة 18مايو التذكارية ،ومركز خدمة الزوار .وأخي ًرا، مسرح الفنون اآلسيوية ،ويضم القاعة الكبرى التي تتسع أللفي مشاهد، فضال عن قاعة محاضرات تتسع جللوس 520شخصا. يقول لي ساجن ـ كي ،الرئيس املؤسس جلمعية الصحفيني اآلسيويني، إن «مجمع الثقافة اآلسيوية هو أضخم مشروع ثقافي في تاريخ كوريا اجلنوبية ،وسيكرس لتعزيز التفاهم بني الشعوب اآلسيوية ،واالحترام املتبادل بينها ،فضال عن ترويج الثقافات اآلسيوية دون متييز ،من أجل النهوض بحيوات الناس» .هذا سيحدث ،كما عرفت ،عبر سبعة مناطق ثقافية حتتويها املدينة ،مثل شارع اآلتيليه ،وثقافات الطعام اآلسيوي، وشارع الفنون التخصصية ،ومناطق العروض الفنية املتبادلة ،والثقافات اآلسيوية التقليدية ،والوسائل السمع ـ بصرية ،واملناطق التقنية والتعليمية 172
واحلفاظ على البيئة الثقافية ،وهي منطقة مقامة أمام جبل ميديوجن، كمتنزه بيئي للبحث في الثقافة البيئية اآلسيوية.
مدينة الدميقراطية لكن ملاذا اختيرت مدينة (جواجن چو) لتحمل على كتفيها هذه املهمة فسر لي ساجن ـ كي« :هذه املدينة نعدها واحدة الدميقراطية الشاقة؟ يُ ِ ّ الكورية اجلنوبية ،إنها املدينة التي شهدت ميالد حركة 18مايو الدميقراطية، ومهدت للتحول في البالد ،حتى وإن جاء بعد س� � ��نوات طويلة من ذلك التاريخ». ففي الفترة من 18مايو إلى 27مايو 1980حتركت انتفاضة شعبية ضد الرئيس الكوري اجلنوبي شون دو -هوان ،وهي احلركة التي سحقها في نهاية املطاف اجليش الكوري اجلنوبي ،لكنها كانت شرارة التغيير من احلكم الديكتاتوري إلى النظام الدميقراطي. كان صديقي الكوري اجلنوبي قد أعطاني نسخة من فيلم ذاع صيته عنوانه (هوارياهون هايوجا) .الفيلم بعك� � ��س عنوانه اجلذاب (ويعني: إجازة ساحرة) يتناول أحداث مدينة (جواجن چو) ،ويروي أنه بعد اغتيال الرئيس الكوري الديكتاتور بارك شنغ هي في 26أكتوبر عام 1979وقعت البالد فريسة للفوضى وعدم االستقرار لبعض الوقت وآلت السلطة بعد ذلك للرئيس شن دو هوان إثر انقالب عسكري في 12ديسمبر من نفس العام .استمرت احلركات املناهضة للديكتاتورية ،لتبلغ مداها في 18مايو 1980بإقليم شوال اجلنوبي باملدينة عندما تدافعت احلشود اجلماهيرية نحو الشارع .ولقمع الثورة نظمت احلكومة عملية عسكرية عرفت باسم هوارياهون هايوغا ش� � ��ارك بها أكثر من 20ألف جندي نزلوا الشوارع والطرقات لقمع االنتفاضة على مدى 10أيام. الفيلم الذي يحمل اسم العملية العسكرية أشعل لدى اجلمهور الكوري 173
ُ الثقافة اآلسيو ّ َية عاصمة نهر على َسفَر | ُج َواجنْ ُچو... ِ ٌ
اجلنوبي ذكريات أليمة استدعاها املخرج السينمائي كيم جي هوون بدقة. ركز الفيلم على قصص غير عادية ألشخاص عاديني ،من بينهم مني ـ وو سائق التاكسي وشقيقه األصغر جني ـ وو ،وهما يتيمان عاشا حياتيهما معتمدين على نفسيهما بعد وفاة أبويهما .كان أحدهما يحب املمرضة شيناي التي التقى بها يوما أثناء تردده على الكنيسة .تقوم شرطة مكافحة الشغب مدججة بالرصاص وبالقنابل املسيلة للدموع مبطاردة املتظاهرين واملارة األبرياء .شاهد مني ـ وو ش� � ��قيقه األصغر ورفيق دربه جني ـ وو يخ ّر صريعا ويلفظ أنفاسه األخيرة أمام عينيه .كان ذلك حافزا ملني ـ وو ملواصلة النضال وبقوة وتصميم حتى سقط هو اآلخر شهيدا من أجل الدميقراطية بجانب والد حبيبته التي فقدت األب والرفيق وبقيت وحيدة مع األحزان ..وقد أنفق املخرج نحو 4ماليني دوالر إلعادة إحياء املشاهد احلقيقية ،بل واستورد سيارات عسكرية من النوع الذي كان مستعمال وقتها من مصر ،واس� � ��تورد 20ألف قطعة مالبس شبيهة من الصني، فجاءت األحداث مشابهة متاما ملا وقع من أحداث سواء بالسيارات أو بالزيني املدني أو العسكري ،مما أدهش الكثير من املشاهدين حني عرض في 2007م .احلدث التاريخي الكبير عرف الطريق إلى السينما الكورية عبر أكثر من فيلم مثل (خنفساء) عام ،1996و(حلوى بنكهة النعناع) عام 1999هي أفالم تعرضت لتلك األحداث التاريخية .خنفساء يجسد قصة فتاة صغيرة تعرضت ملشكالت بدنية ونفسية بسبب تلك األحداث وحلوى بنكهة النعناع يتناول احلوادث ومدى تأثيرها على الظروف احمليطة من خالل سرد ذكريات بطل الفيلم. في مدينة جواجن چو الكورية انطلقنا مع تباشير ضوء الصباح الباكر إلى مقبرة النصب التذكاري لضحايا 18مايو .كأن الشمس غابت كي تفسح للغيم مكانا ترش� � ��رش منه قطرات املطر فوق التماثيل الضخمة واخلضراء لعدد من اجلرحى من شباب النساء والرجال الذين حملوا 174
الفتات وأعالم كوريا .ال بد أن من بينهم شبابا مثل مني ـ وو ،وشقيقه. صمت يلف املكان وصرخات املطر تدق خفيفا فوق النصب التذكاري ٌ والعشب األخضر .صمت جعلني أحاول اإلصغاء له وأنا أغمض عيني، ألحلم ،فأجدني ـ عندما فتحتهما ـ أمام تلك التماثيل وشخوصها على قيد احلياة ،متضي قدما واحدا تلو اآلخر ،تترك أماكنها وتدعوني ومن يدوي صوت عال المرأة في مالبسها معي من اجلمهور ملتابعتها ،في حني ِ ّ العسكرية.
ذات يوم ،رمبا اكتشفت حني فتحت عيني أنني لم أعد في حديقة املقبرة ،بل هو املساء مبدرسة جواجن چو الثانوية للبنات حيث تعرض مسرحية مستوحاة من حياة أولئك الذين شاركوا في ما نعرفه في الوقت احلاضر باسم حركة جواجن چو الدميقراطية. كل كتب التاريخ وفيم� � ��ا يتعلق مبدينة جواجن چو تقول إنها مس� � ��قط رأس الدميقراطية الكورية ،حيث تظاهر أه� � ��ل املدينة لالحتجاج ضد األحكام العرفية ومن أجل حرية الصحافة .مشاهد احلركة والهجمات العسكرية عليها ،حية ،لكن حتى اآلن ال أحد يعرف من أعطى األمر للجنود إلطالق النار على هؤالء الضحايا .على الرغم من أن انتفاضة جواجن چو الدميقراطية لم جتلب الدميقراطية مباشرة إلى كوريا اجلنوبية ،بل احتاج األمر إلى حركات أخرى أدت في نهاية املطاف إلى بلد دميقراطي نعرفه اليوم ،إال أنه عام 1993أعلن الرئيس كيم يونغ سام موقفه في خطاب :إن الدماء التي سالت في جواجن چو في عام 1980هي حجر الزاوية في دميقراطية هذا البلد. حتولت طوابق مدرس� � ��ة جواجن چو الثانوية للبن� � ��ات إلى طبقات من التاريخ ،أو عقود من الزمن ،أو مشاهد انتقال من النظام العسكري إلى 175
ُ الثقافة اآلسيو ّ َية عاصمة نهر على َسفَر | ُج َواجنْ ُچو... ِ ٌ
سواه ،وكنا قد تلقينا إشارة حتذير قبل دخول املسرح بأننا قد نعاني من حلظات يكتنفنا فيها الظالم وهي التي كانت في الواقع تعادل السنوات املظلمة للديكتاتورية التي حتكم البالد. في الطابق الزمني األول ،لم نكن نتخيل ضخامة هذا املشروع الفني. بدأ هذا املشروع كجزء من برنامج معهد التنمية الذي استضافه مسرح الفنون اآلسيوية في مجمع الثقافة اآلسيوية بجمهورية كوريا .وفي إطار بعثة لتطوير الفنون اآلسيوية ،مت إنتاج العمل املسرحي الفريد الذي يحمل عنوان «ذات يوم ،رمبا» ،من قبل مجموعة من الفنانني واخلبراء الدوليني من مجمع الثقافة اآلسيوية في كوريا ،ومتحف الفن ،كوتشي ،ومتحف القرن 21للفن املعاصر ،في كانازاوا في اليابان .و(احلمّ ِ ، فك ْر ،حت َّدثْ ) ، dreamthinkspeakوهي شركة بريطانية تعد املنتج الرئيسي. اسمحوا لي أن أعترف أنه عندما مت حظر استخدام الكاميرات لدينا اندهشت ،و شعرت باألسف ،حيث يجب أن يرى القراء صورة مع الكلمات لبعض املشاهد من العمل الذي نكتب عنه .ولكن ،عندما كنا نعبر العقود والطوابق ،كان لزاما أن نرى أن مثل هذا األداء فريد من نوعه ،ويجب احلفاظ عليه ،إلعطاء كل جمهور جديد نظرة الدهشة الطازجة .غرف التحقيقات التي تسيطر عليها الش������رطة مليئة بالشباب الذين وقعوا في األسر ،يتأرجحون بني االستجواب والتعذيب لالعتراف ببعض اجلرائم التي لم يرتكبوها .اخترع املخرج هذه الطريقة عبر إظهار غرف بشكل منفصل ميكن أن تعطيك مشهدا ال يراه اآلخرون. هذا االبتكار كان إحدى حيل املخرج البارز وهو يثبت أنه إذا لم نتمكن من رؤية الصورة كاملة ،فنحن ما نزال قادرين على اكتشاف احلقيقة ،حتى عندما غطى فريق من املمثلني واملمثالت أعيننا بغمامات س������وداء ،كنا قادرين على االستماع إلى أولئك 176
صورة تذكارية ملؤمتر جمعية الصحفيني اآلسيويني في جواجن جو.
مشهد من ألف ليلة وليلة آسيوية مع كونشرتو أوركسترا آسيا للموسيقى التقليدية، والذي أقيم احتفا ًال بلقاء وزراء ثقافة كوريا ودول جنوب شرق آسيا في مدينة (جواجن چو) وجمع عبر طريق احلرير موسيقى تقليدية من 11دولة.
177
ُ الثقافة اآلسيو ّ َية عاصمة نهر على َسفَر | ُج َواجنْ ُچو... ِ ٌ
الذين يعانون ،وأصوات أجسادهم تتحرك ،وقد يكونون قتلى ،ورمبا يؤخذ بهم مسحولني إلى غرف التعذيب. مرت كل تلك الس� � ��نوات لتصبح كوريا ،مثل جمي� � ��ع البلدان املنفتحة حتت مظلة األس� � ��واق املفتوحة ،جميع العالمات التجارية تعبر احلدود متهد طريق احلرير للعوملة .ويرسلنا املخرج الكبير إلى مستوى أعلى، وطابق آخر ،وعقود جديدة من مراكز التسوق ،وألعاب الفيديو ،املتاجر واملقاهي (حيث يتم تقدمي املشروبات احلقيقية مع الكعك احلقيقي!). كما لم يسمح الصور بدأت في رسم املشهد ،وأنا أسأل نفسي :هل كان ذلك املشهد هو ما حلمت به حركة 18مايو الدميقراطية؟ هل هذه هي الدميقراطية؟ أن نشترك معا في السلوك نفسه بالسعي لشراء املنتجات كنت أتأرجح في العاملية ذاتها؟ العديد من األسئلة والقليل من اإلجاباتُ ، أفكاري بني حلم جواجن چو وكابوس احلقيقة. طيلة العرض نتابع سيدة عجوزا وهي جتر عربة يد تقليدية ،إنها تسير ويس� � ��اعدها اجلمهور في تخطي الطوابق ،وكنت أشعر أن السيدة هي كوريا نفسها ،وهي معنا تبحث في تلك العقود الثالثة املاضية .وصلنا إلى الطابق األخير لنشعر ببعض االسترخاء ،حيث تضاء الشموع أمام صور ضحايا 18مايو .في جميع الغرف كانت هناك السيدات اللواتي تقدم لنا احللويات واملشروبات ،وحتى سألتني أن أغني بينما كانت تؤدي ٍ واجلنسيات كلها تردد ورائي: حركات راقصة ،في نهاية األغنية هتفت ُ حتيا بالدي. كما اإلنتاج ،كان اجلمهور متعدد اجلنسيات .بدأنا نشعر بنبضات قلوب أولئك الضحايا الغائبني ،وحني عدنا إلى أماكنهم على خش� � ��بة املسرح بالطابق األول أصبحنا في مكان أولئك الذين كانوا في املشهد األول، فكنا نحن تلك التماثيل ذاتها ،في حني وضعت مئات الشموع على املقاعد، التي كانت تستقبل اجلمهور ،تبادل لألماكن ،ومزيد من الذكريات. 178
جاسيجي ماسيجي :بينالي األفكار سنلتقي مع أحد أبطال حركة 18مايو الدميقراطية ،ولكنه لن يتحدث عن التاريخ ،بل سيحدثنا عن املستقبل ،خاصة مستقبل الفن ،إذ إنه يشرف على أشهر حدث فني تشكيلي في البالد؛ بينالي (جواجن چو). حينما نس� � ��مع كلمة بينالي ،وهي وحدها تعني حدثا يقام كل سنتني، يترادف معها الفن التشكيلي ،خاصة املعاصر .لكن بينالي (جواجن چو) مخصص للتصميم ،إنه ينقل الفن من مساحة النخبة إلى فضاء العامة، حيث يدخل التصميم ،كفن ،في حياتنا اليومية .كل عامني تخصص فكرة تتناوب عليها كل األعمال ،هذه املرة تدور األفكار حول (أي شيء ميكن ُ أن يصبح شيئا). أي شيء ،أو جاسيجي باللغة الكورية ،يتحول على أيدي هؤالء املصممني إلى شيء له معناه وقيمته وشكله وفائدته .ألن التصميم هو قلب احلياة اليومية .حني نستخدم األشياء في البيت واملكتب والشارع فهذا يعني أن مصمم هذه األشياء منحها وظيفة تؤديها ،وهذا يعني ،مع جودة التصميم، أن لدينا شي ًئا خاصا بنا وله فائدة. التصميم في بينالي (جواجن چو) مفهو ٌم كوني شامل ،ألن املصمم اجليد عليه أن يفهم طبائع البشر ،وأن يرى األشياء بعيونهم ،وباملعنى الدقيق ميكن لكل امرئ أن يصبح مصمم� � ��ا ،ولذلك لم يكن غريبا أن يخصص البينالي قس ًما لتصميمات ربات البيوت واألساتذة واألطفال وغيرهم من املواطنني العاديني ،وهي جرأة تحُ سب للقائمني على العمل الضخم. كذلك جند أن التصميم ينمو ويتطور جنبا إلى جنب مع املجتمع ،أنظر إلى تطور عربة األطفال ،وإلى تطور الدراجة ،إنها تتبدل لتضيف مفاهيم الفخامة والرفاهية ،لكنها تظل تقدم اخلدمة أو الوظيفة التي صممت من أجلها .املصمم اجلريء ينقل املجتمع إلى آفاق جديدة ،يجعله يستريح إلى التغييرات ،ويتقبلها ،ويتبناها ،ويدعول لها. 179
ُ الثقافة اآلسيو ّ َية عاصمة نهر على َسفَر | ُج َواجنْ ُچو... ِ ٌ
األهم هو أن التصميم هوية .التصميم يس� � ��اعدنا بشكل الحدود له لتعريف ذواتنا ،يكفي أن ترتدي نظارة محددة ليكتش� � ��ف اآلخرون ،من تصميمها ميولك الشبابية ،واأللوان التي حتبها ،وصرامتك التي يعبر عنها إطار العدس� � ��تني .هويتنا تكمن في اختيار تصميمات حتدد كيف يرانا اآلخرون من خاللها. وإذا كانت «جاسيجي» تعني أي شيء ،فإن «ماسيجي» معناها :شيءٌ ما .ال أحد يكترث بشيء ليست لديه عالمات .أنت تضيف شيئا لتعكس فكرة تقدم الشيء /التصميم للمتلقي .وهنا يتأكد لنا في بينالي (جواجن چو) أن التصميم أذواق .إنها قدرة التصميم على اإلفصاح عنا ،وعما نريد أن نكون .االختالفات التي تعبر عنها األلوان والرموز والصور لتحكي عنك كل شيء تود إخباره لآلخرين. التصميم يحدد الشخصية ،فهذا جوهره احلقيقي ،واألهم أنه يضيف قيمة للفن .فالتصميم يقع في املساحة الرمادية بني الفن والتجارة ،وهو يعطي قيمته اإلضافية حني ينجح املصمم في عرض قيمة جتارية ،حترك املستهلكني لشرائه .إن أكياس الهدايا التي نش� � ��تريها لها هدف واحد هو تعبئة شيء بداخلها ،لكننا نختار بني هذه األكياس ألكثر من سبب، وبالتحديد ألكثر من قيمة ،وهنا لب التصميم .ولن تكون للتصميم فائدة دون أن يحقق هدفه ،أو أهدافه بالتحديد ،اجلمالية واملنفعية.
على مائدة الكيمتشي ذات مس� � ��اء متتد املوائد التقليدية للطعام الكوري الش� � ��عبية .موائد تقليدية ألنها جتبرك على اجللوس أرضا ،وطعام كوري ش� � ��عبي ألنك ميكن أن تصفه دون أن تكتش� � ��ف كنهه ،في معظم األحيان .من املمكن أن يتبرع أحد ليش� � ��رح لك ماذا يعني ـ مثال ـ طبق البيبيمباب ،فتعرف أنه املكون من األرز املسلوق املضافة إليه تشكيلة من اخلضر ،اللحم أو 180
املأكوالت البحرية ،باإلضافة إلى البيض املقلي ،كأحد أش� � ��هر األطباق الكورية التقليدية .بالطبع إذا زرت كوريا ٍ مرات فستجد عائلة (الكيمتشي) الذي يعد أحدأفضلخمسةأطعمة صحيةفيالعالم،معزيتالزيتون والصوياوالعدس واللنب. الكيمتشي ،وهو أشهر أنواع املخلالت الكورية،يحتويعلىكمياتكبيرة مناألليافاملفيدة،ويعد غنيابفيتامين� � ��ات»أ «و»ب»و»ج «وبهمقادير كبيرةمنبكتيريااحلمضاللبنياملفيدة،الت � � �يجتعلمنهغذاءفعاال أنواعاعديدة وواقيامناإلصابةمبرضالس� � ��رطان .صحيح أن هناك ً منالكيميتشي،حسب مكوناتهاملستخدمةفيإعداده،ولكن الكوريني يعنون بكلمة «كيمتشي»امللفوف «الكرنب». يحتوي «كيمتشي» على18 وحدةحراريةلكل100 جرام،لذلك يعد طعاماقليلالسعراتاحلراريه ويحتوىعلىكميات كبيرةمنالكالسيوم، واحلديد،والفوس� � ��فور،مما يجعلهفاعالفيوقاي � � �ةالعظاموصحتها ويقيمنفقر الدم ،كما يحوي الثوم كمكونرئيسمادةأليس� �ي��ن،ولها خاصية عاليةفيمكافحةالبكتيرياالضارة ،ولعل ذلك ما دعا إلى اعتبار الكيمتشي السبب الرئيسي،فيعدمتأثركوريانسبياوسالمتهامن «إنفلونزاالطيور»الذياجتاحآسياقبل سنوات. عادة ما يتناولالكوريونالكيمتش � � �يمعاألرز.ومباأناألرزـ هناك ـ يطبخعادةدونأيمقبالتأوتوابل،فيتمتناولهعادةإلىجانبطبق آخرجانبيمثلالكيمتشي.وهناك أيضااملأكوالتالبحريةاملخللة،وهي املكونغيرالنباتياملستخدمفيإعدادالكيمتشي،فهيغنيةبالبروتني الذييفتقرإليهاألرز.وعندتخميرالكيمتشي،تتج ّزأالبروتيناتاملوجودة فياملأكوالتالبحريةاملخللةإلىأحماضأمينيةوتصبحمصادرمنتجة للكالسيوم. ما لم يحتج إلى شرح كانت وجبة السمك ،تلك التي أنضجتها نيران 181
ُ الثقافة اآلسيو ّ َية عاصمة نهر على َسفَر | ُج َواجنْ ُچو... ِ ٌ
الش� � ��واء ،ففتحت ذراعيها ،وكان هناك طبق به عشرات من األسماك الصغيرة التي ال يزيد طولها عن بضعة س� � ��نتيميترات وتش� � ��به أسماك البوري بعد أن حتولت إلى أقزام ،وعرفت أنها نوع من املقبالت.
أحد عشر كوك ًبا موسيقيا اعتقدنا بعد تلك الوجبة التي امتدت لساعتني أننا سنتجه إلى الفندق، ولكن البرنامج كان يضم عرضا موسيقيا (ظننا أنه ألغي بسبب الوقت)، وبدال من ركوب السيارات ،ولدواعي الهضم ،قرر املنظمون أن نسير من املطعم إلى دار األوبرا ،مشوار ميكن أن يهضم كل ما تناولناه خالل فترة إقامتنا بسبب اعتماد الكوريني على أطعمة قليلة السعرات احلرارية. وحني وصلنا األوبرا ،أخذنا نصعد درجا وراء آخر ،حتى وصلنا إلى ساحة املسرح ،لكن العرض كان يستحق املغامرة ،ألننا نسينا الكيمتشي وأخواته ومائدته وسعراته ،وعش� � ��نا ليلة من ألف ليلة وليلة آسيوية مع كونشرتو أوركسترا آسيا للموسيقى التقليدية ،والذي أقيم احتفاء بلقاء وزراء ثقافة كوريا ودول جنوب شرق آسيا في مدينة (جواجن چو). مدير األوركسترا تشوي ساجن وا يؤمن بقوة املوسيقى التقليدية ،وكيف أنها تعزز فهمنا لذواتنا واآلخ� � ��ر ،تاريخيا وثقافيا ،فضال عن أنها جتتاز حدود اللغات والعادات لنقف م ًعا .في العرض فاجأتني الوجبة الدسمة كوكب له أقماره التي تعزف التي قدمها أحد عشر كوك ًبا موس� � ��يقيا ،كل ٌ وتغني ،بل وترقص أحيانا .كانت النوتة العربية تتسلل أحيانا ـ خاصة عند عزف العود ـ ألكتشف الهجرات العربية عبر طريق احلرير املوسيقي. أين كان ميكن أن أرى (احلاجة ستي نور مايا كورني بونتي آدي) القادمة من س� � ��لطنة بروناي ،وهي تغني بينما جتوب املسرح كفراشة مع فريقها املوسيقي الذي يعزف أحدهم على عوده؟ عرفت أن هذه الرقصة اسمها (جيبني وجوجيت) .أين كنت سأسمع (سينات نو) الكمبودية ،تلك الزهرة 182
أوحت به لي مالبس الفريق املصاحب اخلضراء في بس� � ��تان أرز أبيض ْ لها؟ كان لكل كوكب مداره وأقماره وموسيقاه وأوتاره .كانت تقدم رقصة املنديل األحمر التقليدية الشهيرة .ومن كوريا حمل االفتتاح أغنية (بيتجويل آريراجن) التقليدية املجس� � ��دة لروح مدينة (جواجن چ� � ��و) احلامية للثقافة التقليدية ،تالها عرض تايالند (حياة األرز) ،الذي قسم إلى أربع حركات تبدأ بلقاء الزوجني؛ مطر السماء وثرى األرض ،ليولد األرز ،يليها منو األرز األخضر ،ثم مراسيم احلصاد ،وأخي ًرا احلرية ،حيث ميكن أن يدخل األرز في صناعات كثيرة بحياتنا. من فيتنام قطعة من اخليال الثنني يجسدان الشعب الفيتنامي ،ويعبران عن صوتني متمايزين للحب ،الهادئ والهادر .ومن ميامنار اشتق العرض من خمسة أغنيات ش� � ��عبية ،لها اإليقاع ذاته واللحن نفسه ،مع اختالف الكلمات ،وكأنها لعبة تورية بالكلمات ،وهي أيضا رو ٌح ش� � ��عبية ميكن أن جندها لدى لهجاتنا العربية احملكية احمللية .تبارت فرق الوس والفلبني وسنغافورة وماليزيا في براعة لتكمل مشهد الليلة الساحرة ،وكان في فريق جمعية الصحفيني اآلسيويني صديقنا اإلندونيسي إدي سوبرابتو ،الذي يدير إحدى القنوات التلفزيونية ،فكان يردد األغنية اإلندونيسية .مثلما كان هناك آيفان ليم أحد مؤسسي اجلمعية من سنغافورة ،وأخذ اجلميع ينشد بعد أن انطلقنا في شوارع سيئول األغنية التي عزفها األوركسترا التقليدي :سنجابورااا! حسبت أننا بدأنا باملؤمتر ،نظريا ،وانتهينا إلى التطبيق ،عمليا .كنا نبحث ُ في سبل التواصل الثقافي بني الشعوب اآلسيوية ،وها هي مدينة (جواجن چو) تقدم لنا النموذج .إنها رس� � ��الة أن ننتقل من مرحلة نثر األفكار إلى منطقة غرس التطبيقات .لم تعد مدينة (جواجن چو) مدينة دميقراطية كورية وحسب ،بل أصبحت مدينة دميقراطية ثقافية تسمح لألصوات أن تغني، وللحياة أن تعبر عن نفسها ،حياة اجلميع ،بكل فهم وحب ومساواة. 183
نهر على سفر
أوزبكسـتان مزارات وبازارات
نهر على َسفَر | أوزبكسـتان ...مزارات وبازارات ٌ
من بُخا َرى إلى ْ طشقند ،ومن َش ْه َر َسبْذ إلى َس َم ْرقند ،تأخذك ال ِّرحلة كتبت التاريخ ،فضمها قو ًّيا إلى صدره .هي مدن اإلمامة بني مدن ْ واإلمارة ،وهي باملثل حواضر الفنون والعمارة ،كما أنها أيضا منابت الغزاة ومرابط املقاومني ،وفيها كذلك مدارس الش� � ��يوخ ومساجد املؤمنني .لكل مدينة هنا أكثر من حكاية؛ واحدة تؤرخ مليالدها ،وأخرى تع ِّر ُ ف بش� � ��بابها ،وثالثة توثق حلاضرها ،ومنها ما يتنبأ باملستقبل. أنتم اآلن ..في أوزبكستان. لم يكن ما نشاه ُده سوى متثال من البازلت األسود ،لكنه ،بالرغم من صمته ،كان يقول لنا الكثير! في اخلامسة من صباح يوم 26أبريل عام 1966يثور جبل من حتت مدينة طشقند ليزلزل األرض بقوة 7 درجات ونصف الدرجة مبقياس ريختر .وبالرغم من أن من رحلوا كانوا 15فقي ًدا وحسب ،فإن 300ألف شخص من سكان املدينة فقدوا بيوتهم في حلظات .في املشهد الذي نراه تتوقف الساعة عند تلك اللحظة ،ويشق األرض شر ٌخ يصل الساعة احلجرية بالتمثال. في قلب طشقند يقوم هذا التمثال لرب عائلة يحمي زوجه وطفله، وفي اخللفية تبدو مشاهد القادمني من جمهوريات االحتاد السوفييتي (الس� � ��ابق) ليعاونوا املدينة على النهوض ،مرة أخرى .لم يكن ذلك الزلزال هو األول ،لكن زالزل أخرى تاريخية واجتماعية واقتصادية ُ تعترك احلياة في طش� � ��قند؛ فهل تنجح في جتاوزها؟ سؤال يؤرق املدينة التي حتتفل مبرور 2200عام على تأسيسها! ِّ تخطت الساعة منتصف الليل .نصل مطار طشقند ،نشك ُل ـ أنا وزميلي املصور ـ العربيني الوحيدين على منت الطائرة القادمة من األراضي الصينية إلى عاصمة أوزبكستان ،إحدى جمهوريات االحتاد السوفييتي السابق ،والتي استعادت اس� � ��تقاللها عنه ـ رسم ًّيا ـ في األول من يناير .1992 186
مشهدان من مدينة سمرقند ،األول لقلب املدينة التاريخي الذي رممته اليونسكو حني االحتفال بسمرقند عاصمة للثقافة اإلسالمية ،والثاني إلحدى املعالم التاريخية وقد حتول من مدرسة إلى سوق كبير.
187
نهر على َسفَر | أوزبكسـتان ...مزارات وبازارات ٌ
بالرغم من كل الترتيبات املسبقة مع اجلهات املعنية في أوزبكستان، واالتصاالت مع سفارة أوزبكستان في دولة الكويت ،تركنا اجلميع ـ هنا وهناك ـ حتت رحمة إجراءات املطار املطولة واململة واجلديدة حتى على مدمني السفر ومج ِّربيه .كان ركاب الطائرة األوزبك أغلبهم من متوسطي احلال الذين وفروا ثمن تذكرة إلى أورومتشي (عاصمة شينج ياجن في شمال غرب الصني) ،ليشتروا من هناك بضائع كثيرة: أجهزة تلفزيون ،وأطباقاً القطة للقنوات الفضائية ،دمى أطفال ولعباً صينية أخرى رخيصة ،أدوات جتهيز املطبخ ،ستائر ومفارش وأغطية، ومالبس ،حتى صناديق الفاكهة ،ف ِّكر في أي شيء وستجده معهم، أي شيء. وكأنهم قادمون من بادية ليس فيها ّ بعد أيام سنكتشف الس َّر؛ فقد اشترى رفاق الطائرة أشياء رخيصة من الصني ،تعينهم على احلياة في بلد ترتفع تكاليف معيشته بشكل كبير ،وتكاد متثل عملته عائقا في املعامالت املادية ،حيث إن اليورو الواحد قيمته أكثر من ألفي سومس ـ عملة أوزبكستان ـ فإذا عرفت أن ورقة البنكنوت من فئة اخلمسمائة سومس أثقل وأكبر من اخلمسمائة يورو ،أدركت أنه ال توجد محافظ جلدية تتسع لهذه األوراق املزينة بصور األمير تيمور ،وآثار بالده ،ولهذا يشد األوزبكيون رزمات البنكنوت م ًعا باألربطة املطاطية ،بينما يحش� � ��رونها في جيوبهم وسراويلهم. اكتشفت في متاهة هذه العملة أن أسلم طريقة لعدِّ ها ،عند الدفع ُ واملعامالت األخرى ،هي أن أصنع من كل عش� � ��رة آالف م ًعا حزمة، وأتوقع أن تلجأ أوزبكستان إلى زلزال يقضي بإلغاء أصفار عملتها الستة ،ورمبا نحكي عن ذلك في استطالع قادم!
التي استقلت عن االحتاد السوفييتي ،هو زلزال األبجديات .فقبل الثورة الروس� � ��ية ،وقبل ضم هذه اجلمهوري� � ��ات ـ التي كانت كيانات إسالمية وريثة إلمبراطوريات ال تخضع خلطوط احلدود السياسية التي نراها اليوم ـ كانت أوزبكستان ،مثل كثيرات من جيرانها ،تكتب لغتها باأللفب� � ��اء العربية ،ألنها أصل تراثه� � ��م وميراثهم التاريخيني، وحضارتهم اإلسالمية. لم يكن ذلك اخلط العربي مجرد أبجدي� � ��ة تكتب بها النصوص، قدر كونه هوية ثقافية ،ويسعى كثيرون ـ من املسلمني احملافظني أو املتطرفني الوطنيني ـ إلى استعادة ذلك احلرف ،بدعم من دول تكتب به ،كإيران وباكستان (العرب غائبون عن هذه املعادلة). ثم جاءت األلفباء الروسية ،أو احلروف السيرليك ،التي است ُخدِ مت س� � ��بعني عا ًما ،فأصبحت هناك أجيال ال تق� � ��رأ إال بها ،ولم تدرس س� � ��واها ،ولن تس� � ��تطيع التفكير إال من خاللها! إنها األبجدية التي فرضها االحتاد السوفييتي ،وينادي كثيرون ـ من خريجي املؤسسات التعليمية السوفييتية ـ باإلبقاء عليها ،الستمرار العالقة مع روسيا، وعدم فك االرتباط معها علميا واقتصاديا. أما اليوم ،فقد انتصر دعاة تبني احلروف الالتينية ـ التي تستخدم في اللغة التركية اآلن ـ باعتبار أن ذلك احلرف الالتيني هو املقروء عامليا ،وهو حرف يعتبره الكثير بوابة الدخول إلى مجتمع علماني، يرسخه ذوو االنتماء التركي عرقيا وقبليا ،املنادين مبجتمع مفتوح، واحلريصني على دميقراطية ليبرالية ،والطامحني في اقتصاد حر، والعازمني على التوجه إلى الغرب.
زلزال األبجديات
ذاكرة احلضارة اإلسالمية
زلزال آخر يعصف بطشقند ،ومدن أوزبكستان ،وكثير من النظم 188
كان زلزال األبجديات الهاجس الذي يعصف بي وأنا أجتول بني 189
نهر على َسفَر | أوزبكسـتان ...مزارات وبازارات ٌ
فج ُّل ما أراه مكتوب باحلروف مخطوطات طشقند في أكثر من مؤسسةُ ، العربية ،إن لم يكن ُكلّه ،فكيف يكون التواصل مع الذاكرة والتاريخ واحلضارة .كان ذلك سؤالي األساس في لقائي بالسيد منصوروف علي املسألة وقال« :األم ُر ليس وزير الثقافة بأوزبكستان ،الذي ه َّون َّ صع ًبا ،بل إنني أرى فيها ميزة كبرى في معرفة أبجديات ثالث ،أما ما جهلناه فعلينا أن نتعلمه» .ثم نهض منصوروف إلى مكتبه ،وعاد إلي شارحا« :انظر ،أنا أتعلم احلروف بكراسة بها تدريبات بخط يده وقال ً العربية ،ها هي صفحة من مخطوط ،وها هي احلروف والكلمات التي أرسمها ،ألتعلم قراءتها ،والنطق بها ،وممارسة كتابتها». ال شك أن العاملني بالثقافة ليسوا وحدهم املطالبني بتعلم األبجدية، فعلى امتداد البالد ،هناك أكثر من عشرة آالف أثر تاريخي (عدد يأتي في املرتبة الثانية بعد الصني ،فقدوا منها خمسة آالف َم ْعلم تاريخي، على حد قول وزير الثقافة) ،عليها نقوش باللغة العربية واحلروف العربية للغات الفرس والترك واألوزبك ،تنتظر من يقرؤها ،وأال يعبر بها الزائر عبور الكرام ،وعدا اآلثار ،التي تعد جزءا مهما من ذاكرة احلضارة اإلسالمية ،فإن هناك اآلثار املدونة ،وهي املخطوطات التي جتعل أوزبكستان في طليعة دول العالم من حيث حجم املخطوطات بها. هذه املخطوطات تش� � ��كل ـ كما يقول لي السيد رحمانوف ،مدير الثقافة ـ وثائق طريق احلرير القدمي ،وهو مشروع مستمر بدأ إحياؤه انطالقا من تركمانستان وصوال إلى أوزبكستان مرو ًرا بإيران والهند وباكس� � ��تان ،وبدعم من مركز التراث العاملي حلفظ وارشفة تراث اإلنسانية ،ومن املقدر لهذا املشروع أن يكتمل اجلزء األكبر منه في العام 2015م. كان لقاؤنا مبنصوروف ورحمانوف في مبنى بسيط يحمل مسحة 190
تاريخية ،وقد قادانا فيه إلى مكتبة للمطبوعات النادرة ،واملخطوطات. كانت العناوين ـ املدونة بأكثر من لغة ـ تبعث على الدهشة ،لكن األمر الذي كسر فرحتنا بهذه االكتش� � ��افات هو اجلو اخلانق الذي تعيش فيه هذه الكنوز .كانت حرارة الصيف في طشقند تتخطى 35درجة مئوية ،وهذه احلرارة تتجاوز العتبات لتحيط بنارها تلك املطبوعات اآلسرة في هيئتها واملخطوطات النادرة في قيمتها وتنتظر رعاية أكثر. وكل ذلك امليراث ال يجد من ير ِّو ُج له ،أو يكتب عنه ،وال توجد مجلة ثقافية ـ باملعنى الشامل ـ تصدرها وزارة الثقافة سوى Moziydan ،SadoKأو «صدى التاريخ» ،في خمس� �ي��ن صفحة فقط ،باللغات كتب اإلجنليزية واألوزبكية والروسية ،كما تصدر في بعض املناسبات ٌ تذكارية عن مدينة أو أثر أو حدث.
البيروني حي ًا اختلفت صورة األسى إلى إعجاب حينما زرنا معهد االستشراق ألبي الريحان البيروني ،والتقانا فيه املسئولون عنه؛ الباحثون تاشوف نورياغدي ،وإيلموراداف إسرائيل ،وعابدوف بختيار ،ورائق بهاديروف، وباباخان قاسيم خانف (حنيف). ثالثون ألف مجلد ،في كل منها مخطوط أو أكثر ،في خزانات معدة خصيصا للحفاظ على تلك الكنوز املكتوبة ،بدرجة حرارة مناسبة، وتهوية واجبة ،وأجهزة المتصاص الرطوبة .بدأ املعهد في سنة 1945 طباعة املجلدات املفهرسة ،لعناوين املخطوطات وفقا ملوضوعاتها، فضال عن وجود موجز للمخطوطات باللغة اإلجنليزية مصنفة تبعا حلقب تاريخية بعينها .ويصدرون كتا ًبا ـ متواض ًعا ـ كل سنة بعنوان «شرق شنا سليك». ُ نعرف أن البيروني ترك للعلوم اإلنس� � ��انية 181كتا ًبا ـ بني ونحن 191
نهر على َسفَر | أوزبكسـتان ...مزارات وبازارات ٌ
الرسائل والكتابات املترجمة واملتفرقات املوسوعية ـ منها 26كتا ًبا عن الهند ،ولم يبق من هذه الذخيرة سوى 42كتابًا ،بينها ترجمته عن اللغة السنسكريتية ـ التي كان يجيدها ـ ألثر النجوم .هذه الشخصية الفذة استحقت أن ينس� � ��ب إليها هذا املعهد الذي جعل من حضور البيروني حيا ،مع طائفة من األسماء األخرى لعلماء أوزبكستان تزين أسماؤهم جدار البناء الذي يختفي وسط غابة من األشجار! يساعد هذا املعهد طالبا من كل أنحاء العالم على اإلطالع على مخطوطاته النادرة ،التي جتعل من أوزبكستان ـ مع باقي مقتنيات املكتبات واملتاحف في اجلمهورية ـ خزانة املخطوطات للثقافة اإلس� �ل��امية .وبجانب معهد االستش� � ��راق ـ التابع ألكادميية العلوم وتأس� � ��س سنة 1943ـ توجد مخطوط� � ��ات حضارتنا في عهدها األزهى ف� � ��ي مكتبة إدارة مسلمي أوزبكستان ،ومتحف علي شيرنوائي لألدب ،وجامعة طشقند اإلسالمية ،ومعهد اإلمام البخاري ،واملكتبة الوطنية.
قرآن مسجد النغار آتا! ال تقف املخطوطات عند نسخ القرآن الكرمي النادرة ،ومنها مصحف عثمان ،بل توجد مؤلفات في التاريخ ومصنفات في اآلداب ومدونات في العلوم وتآليف للفنون ،وهي مكتوبة جميعها باللغات العربية والفارسية واألوزبكية والطاجيكية واألذرية (أذربيجان) والتترية والتركية واألويجورية (لغة إقليم شينج ياجن شمال غرب الصني) ،والبشتو واألوردية وسواها، وحتمل أسماء علماء وأدباء الشرق :أبو بكر الرازي ،ابن سينا ،الفارابي، اخلوارزمي ،الزمخشري ،خواجة أحرار ولي ،عبد الرحمن جامي ،علي شيرنوائي ،الفردوسي ،أمير خسرو ،وبالطبع البيروني ،وأسماء أخرى ال مجال حلصرها .بعض هذه املخطوط� � ��ات احملفوظة هنا ال يوجد منها إال نسخة وحيدة في العالم كله! 192
في إحدى زياراتنا ملدرسة تاريخية في طشقند ،حتولت ككثير من مزارات وآثار أوزبكستان إلى بازار مفتوح ،التقينا باخلطاط األوزبكي حبيب الله صالح ،وكان من دواعي فخره وإجنازه الذي يحفظه له اجلميع أنه قام بعمل نسختني من القرآن الكرمي املعروف باسم «قرآن النغار» وقد حفظت النسخة األولى من هذا القرآن في مسجد النغار آتا ،بقرية النغار ناحية قماشي مبحافظة قشقاادراديا ،وكان به ـ كما يقال ـ 160ورقة ،يرجح بعض العلماء تاريخها إلى القرنني الثالث عشر أو الرابع عشر امليالدي ،ولم يتبق منه سوى 16ورقة رأيناها مبكتبة اإلدارة الدينية ملسلمي أوزبكستان ،ورأينا ورقة منه في مكتبة معهد أبي الريحان البيروني ،ورأينا ورقتني في مكتبة ابن سينا مبحافظة بخارى! أما النسختان اللتان أجنزهما حبيب الله صالح فقد توزعتا بني مسجد النغار آتا ،وخزانة جامعة طشقند اإلسالمية. هذه املخطوطات هي التي ستجعل طشقند ـ بعد كل هزة تاريخية ـ تستعيد عافيتها ،ألنها متثل عقلها الذي ال ميوت .إنها جتعل من طشقند عنقاء املدن اإلسالمية ،التي تبعث من جديد ،حاملة أسرارها وأفكارها! وهكذا هي املدينة املتجددة ،منذ 22قرنًا ،عندما ولدت عند حوض نهر تشيرتشيك كمدينة زراعية ،ومستوطنة منت حتى أصبحت على ما عليه اليوم .ومنذ كانت في مهدها مجرد مستوطنة لفالحي وراء نهر جيحون ،اسمها شاشتيبا ،حيث استخدم هؤالء األوائل احلديد والبرونز لصنع أدواتهم ،مثلما نس� � ��جوا أقمشتهم .ثم هناك أيضا قامت احلصون األولى ملدينة كانت خليفة لشاشتيبا ،في تلك الواحة، عاصمتها كانكا ،التي تبعد اليوم 70كيلومترا عن طشقند املعاصرة، وورد ذكرها في السجالت التاريخية الصينية باسم «يوني» ،و«شي». ثم أصبحت املدينة ،بد ًءا من القرن الثالث للميالد ،عاصمة لدولة 193
نهر على َسفَر | أوزبكسـتان ...مزارات وبازارات ٌ
تشاتشناب (شعب تشاتش) ،وورد ذكرها جغرافيا للمرة األولى ،في كتابات امللك ش� � ��ابور األول فوق آثار الزرداشتيني بإيران ،عام 263 ميالدية .وقد بدأ حتولها لتكون ضمن إمبراطوريات آسيا الوسطى حني ضمها اآلفتاليتيون إلى دولتهم ،في القرن اخلامس للميالد ،وفي القرن التالي حلت اخلاقانية التركية محل اآلفتاليتيني ،وانعكست رواية مؤرخي الصني للتسمية احمللية تشاتش لتكون «جي ـ تشي» أو «ش� � ��ي» ،أي «حجر» ،لتنال تس� � ��ميتها التركية طاش قند «املدينة احلجرية» ،وهو عكس الواقع ملدينة لم تكن أب ًدا حجرية ،حتى اليوم، وهي تبدو لنا من أعلى أبراجها .وتشير النقود التي عثر عليها في تنقيبات املدينة ،والتي تعود ملمالك املشرق واملغرب من الصني إلى بيزنطة ،إلى أن عاصمة تشاتش كانت مركزًا حيويا للتجارة العاملية، مثلما أصبحت بعد ذلك مم ًرا رئيسيا لطريق احلرير الكبير. حتوالت طشقند وتقلباتها جعلتها عربية ،حني انضمت جدتها شاش إلى اخلالفة في عهد املأمون ( 833 - 813ميالدية) ،وأسمتها املصادر العربية ـ في القرنني التاسع والعاشر ـ بنكات! ويذكر االصطخري أن «معظم ما يستخرج من الزئبق والذهب وغيرها من املعادن يأتي من بالد ما وراء النهر» ،وتضم املعادن األخ� � ��رى الفضة والنحاس واحلديد والقصدير .ثم جتعلها تركية ـ في احتاد سياس� � ��ي جديد يضمها إلى خاقانية القرخانيني ـ ويرد اسمها التركي ،للمرة األولى، في كتابات أبي الريحان البيروني ،ح� �ي��ن انضمت ،مثل باقي مدن تركستان ،إلى دولة خوارزم شاه ،إلى أن استولى عليها التتر املغول، لتخضع حلكم تش� � ��اغاتاي ـ ابن جنكيزخان ـ حت� � ��ى تنتقل في عهد األمير تيمور ـ الذي أصبح حاك ًما لعموم بالد ما وراء النهر ـ مركزًا للثقافة وبيتا للحضارة .ومتر الدهور والعصور فتنمو املدينة ،وتشتهر بكثرة أسواقها ،وكان أكبرها سوق ريجستان الذي كان موصوال بكل 194
مقبرة األمير تيمور.
املجمع اإلسالمي في طشقند.
195
نهر على َسفَر | أوزبكسـتان ...مزارات وبازارات ٌ
شوارعها لضخامته. يصفها الرحالة األمريكي يوجني سكايلر ـ الذي زارها في 1873 ميالدية ـ بأن ال مدينة جتاري طشقند في تنوعها الثري ،بشوارعها امللتوية ،كثيرة الصعود والهبوط ،التي تفاجئك عند نهاياتها بجدار أو مئذنة شاهقة .لكن ذلك كله كان قبل أكثر من 13عق ًدا ،فاالحتاد السوفييتي استطاع أن يشكل طش� � ��قند العصرية على منط مدنه، شوارع متسعة ،مبان بواجهات رمادية ،حدائق ،ومتاثيل ،وليل يبدأ مبك ًرا يع ِّب ُر عنه السكون فهل تبقى ـ بعد 17عا ًما من االستقالل ـ على تلك الهيئة؟ أم أنها تستعد لطفرة معمارية جديدة؟ األسئلة كثيرة ونحن نغادر طشقند إلى سمرقند؛ أسئلة عن البناء املعماري اجلدي� � ��د الذي تخلى عن األبني� � ��ة ذات الطابق والطابقني ملصلحة عمارة عمالقة ،وكأن الذاكرة تناست زلزال أبريل ،66أسئلة عن الغالء الذي قدم نفسه بقوة ،في مدينة كوزموبوليتانية ،ويجعلنا نس� � ��أل عن مدى احتمال ارتفاع األسعار ،إال بالعمل في مهن خارج اإلطار الرسمي( ..أو الزراعة كما قال لنا سائقنا بختيار) ،أسئلة كثيرة، لم نتوقف عن طرحها إال حني ألهتنا املشاهد اخلارجية اخلضراء والبديعة في الطريق حتى وصلنا إلى عتبات سمرقند.
َجنَّاتُ سمرقند في كل ركن من املدينة كان الفن يخاطبنا ،بآياته في العمارة ،وحتفه وإبدعاته في فنون املنمنمات .في الكتاب املعنون «تاريخ األمير تيمور» (سرد الوقائع املهمة في عهد تيمور) ،كتب ابن عربشاخ« :بأمر من تيمور ُشيدت بساتني بهية كثيرة وقصور شاهقة في سمرقند .وكان كل ما ُشيد جميلاً بالغ األبهة ،وجماله تام الروعة ،مثير للعجب ،محير للعقول .وقد ثبت قواعد البساتني وزينها بفواكه لطيفة ونباتات زينة. 196
وأطلق على أحدها اسم «جنة عدن» ،والثانية «زينة الدنيا» والثالثة «جنة الفردوس» والرابعة «البس� � ��تان الشمالي» ،والتالية «الفردوس األعلى». أحد الفنون املهمة التي تدعونا للتأمل في اآليات املعمارية لسمرقند هي الرسومات التي يحاول الفنانون اليوم تقليدها ونقلها من مخطوطات رسوم الشاهنامة و«طاهر وزهرة» .يأتي عرض التركيبات املصورة بطريقة فريدة :فهي مزخرفة بطريقة تسمى «ظرافشان» ،تتم ِّ برش جزيئات ذهبية اللون ،حيث يتكرر النسق ويكمل محور اللوحة في قلبها. وهي تقنية تطورت على مر السنني وجرى استخدامها في األعمال اإلبداعية في مدارس املنمنمات في مدن تبريز ِ وحرات وسمرقند بصفة خاصة وفي أعمال مظفر علي ومحمود مذهب ،وتسهل هذه التقنية من توضيح التناقض اللصيق باملوضوع األساسي للوحة .وبعد التطور اجلديد في تقنيات الـ«ظرافشان» القدمية وتطويرها ،كانت الزخرفة تس� � ��تخد ُم أحيا ًنا في هوامش اللوحات مع سمات رمزية وجتريدية .الرسوم املنمنمات ليست على صفحات الكتب وحسب، بل يرسم الفنانون األوزبك منمنماتهم فوق كل شيء (تقري ًبا). في صندوق اسمه «املسرح الشرقي» بريشة بوالتوف ،وهو على شكل مستطيل ،ويشغل خلفية مجمع راجستان في سمرقند ،عرض الفنان أداء أربعة فناني عرائس مينحون احلياة للدمى بقوة موهبتهم .يرتبط املؤدون بعرائسهم بخيوط رفيعة ،.بينما ينقل الفنان الصور الرمزية لستار املسرح مبهارة ،ويس� � ��تخدم ذلك الستار حاجزًا بني التعبيري والال تعبيري ،وبني املادي والروحاني ،وبني الظاهري واملتس� � ��امي، والوسيط بني أشكال الواقع العديدة .ويُعرض الستار كرمز مقدس يعكس شمول العالم وفي الوقت نفسه يخبئ شيئًا أهم ،يشق التعبير عنه مثلما يشق بلوغه. 197
نهر على َسفَر | أوزبكسـتان ...مزارات وبازارات ٌ
من بني النماذج املهمة للرسوم املعاصرة لفن املنمنمات ما قدمه الفنان شاه محمود محمدينوف الذي استعاد طور هذا الفن ،الذي بدأ ممارسته في سن الثالثة عشرة في متحف علي شير نوائي للفن، وحاول التلميذ الصغير اس� � ��تخدام موضوعات من األدب األوزبكي القدمي ،خاصة أعمال العالم املوسوعي محمود قشجري صاحب كتاب «ألسنة القوميات التركمانية» (ديواني لوغاتيت تورك) الذي ظهر في القرن احلادي عشر امليالدي .ونرى في ذلك العمل نصوص األساطير القدمية وحكايات الزمن الغابر واألغنيات والقصائد امللحمية .أراد الفنان الصغير االستمرار في تقدمي سلسلة من املنمنمات متثل ما جرى حتى العصر احلالي. في العام 1968مت االحتفال بالذكرى السنوية لألديب علي شير نوائي في أوزبكستان ،فأعد شاه محمود محمدينوف خمسني رس ًما أول ًّيا بألوان املاء ،مرسومة بطريقة حتاكي أسلوب رسم املنمنمات، حتى أن أستاذه س� � ��ليمانوف أطرى عليها كثي ًرا ،وأطلق على الفنان الصغير بهزاد القرن العشرين .ودعاه للعمل في املتحف ورتب َ لشغله بأعماله اإلبداعية احلرة ومنحه فرصة التعليم الفني في مدرس� � ��ة بنكوف للفن في طشقند. يس� � ��تخدم الفنان خمسة أو ستة ألوان باألس� � ��اس (وهي األحمر والذهبي واألبيض واألزرق الداكن واألخضر) ،وأحيا ًنا يزداد بريقها مبزجها بألوان كثيفة من نفس الدرجة واخلامة ،ومعها يزداد زخرف أعماله الفنية .ويستند تلوينه باألساس في كل لوحة على حدة إلى ظل لوني واحد .ومن اإلضافة املاهرة للون واإلطار اخلارجي للوحة، واملوضوع ال� � ��ذي يقدمه في عمله؛ ن� � ��رى أن محمدينوف من أتباع مدرسة األس� � ��اتذة القدماء ،ولكنه في الوقت نفس� � ��ه مبتكر ومبدع معاصر .وباتباع مبادئ هذه «التقنية» مجموعة من احلكايات الهندية 198
القدمية هي «كليلة ودمنة». تقدم املنمنمات ـ أيض� � ��ا ـ صو ًرا من الواق� � ��ع واحلياة ،فال تكتفي بتصوير امللوك ،وال تقتصر على وصف اآلداب ،ففي منمنمة للفنان شمس الدين باسم «أولوك» نرى مشه ًدا لعيد النيروز ـ عيد االحتفال بالربيع ـ في ألعاب مضحكة وجريئة وشجاعة .ونرى سماء الربيع الزرقاء والش� � ��جرة املزهرة وحركات اجلياد وركضها واخلطر العام احملدق ،وذلك كله بعي ًدا عن خيمة األمير تيمور ،حيث يجلس القائد احلربي العظيم يشاهد احلدث مع خلصائه في اهتمام بالغ ،ويغمر املنمنمة مزاج احتفالي مرح ،وقد متكن الفنان من بلوغ هذه احلالة املزاجية للوحة باستخدام طيف لوني براق ،فكأن سماء الربيع الزرقاء الصافية مغسولة بنور ربيعي ،تزينه السحب املجعدة الشكل بينما وجوه املشاهدين تترقب نتيجة املباراة.
شَ ْه َر َس ْبذ :الزواج على الطريقة التيمورية
حني تتأمل الطريق إلى شهرسبذ ،مس� � ��قط رأس األمير تيمور، ُ وسنعرف السبب تيمورلنك كما نسميه نحن في أدبياتنا التاريخية، الحقا ،ميكن أن جتعل من الطريق قارئا للحاضر في أوزبكس� � ��تان. كيف؟ أنت قد تظن أنك في أوربا الشرقية ،حيث تستوقفك الشرطة كل بضعة كيلومترات ،للتفتيش ،عن األوراق ،ورمبا داخل السيارة .لم ينقذنا من موقف ـ رأينا فيه كثيرين ـ يُعطل الرحلة ،سوى ورقة سحرية أصدرتها وزارة اإلعالم األوزبكية باسمينا ،حملها سائقنا في كل مكان، تسمح لنا بحمل آالت التصوير .شرطة صارمة الوجه ،تكفي إشارة من ذراع به عصا حمراء تضيء ليال لتتوقف في صمت. ثم أنك قد تعتقد مبرورك بقرية عربية ،على ش� � ��اطيء النيل ،أو 199
نهر على َسفَر | أوزبكسـتان ...مزارات وبازارات ٌ
ٍ باسمات وضعن أقفاص الفاكهة وادي الرافدين ،حني جتد فالحات على جانب الطريق الزراعية ،للبيع. وقد تسرح لوهلة فتتخيل أنك في كوريا اجلنوبية ،وقد حتولت كل سيارات الطريق إلى ماركة واحدة من إنتاجها ،حيث يوجد مصنع لها بالبالد! هل هذا يفس� � ��ر وجود الكوريني بكثرة في أوزبكستان؟ ولو رأيت ما رأيناه ،ألطلقت على الطريق اسم :شارع دايو السريع، وهي سيارات رمادية وسوداء وفضية وزرقاء ولكن ليس فيها سيارة واحدة لونها أحمر! ورمبا تتأمل الس� � ��حنات ذات العيون اخلضراء والشعر األشقر، واألبدان العمالقة وراء مقود بعض السيارات ،أو أمام بعض املتاجر، فتقول إنك في قلب موسكو. أما حني تن� � ��زل لتناول الغداء في أحد املطاعم ،فقد تش� � ��ك أنك وصلت اس� � ��تنبول ،أو إنك في قلب طهران ،وبعض أسماء األطعمة هي نفسها هنا وهناك .وال أبالغ إن قلت إنك تعيش البداوة ـ أحيانا ـ حني تشاهد قطعانا من األغنام ومعها حاديها! لكنك قد تقول إنك في القاهرة أو بيروت ،وأنت تس� � ��م ُع في تلك املطاعم موسيقى شرقية ،خالصة ،تتردد فيها األصوات من أحمد عدوية إلى إيهاب توفيق ،ومن نانسي عجرم إلى أليسا! ولو لم أسمعها قت ،بل ويقوم الشباب املوزع بني هذه الثقافات ـ التي بأذني ما َّ صد ُ حتيا على قارعة الطريق مثلما توجد في قلب املدن األوزبكية ـ للرقص على تلك اإليقاعات الشرقية! الشباب ال حتركه املوسيقى وحس� � ��ب ،وال تتنازعه اللغات فقط، وإمنا ـ كذلك ـ يلهمه التاريخ .ففي قلب حر قائظ بصباح في صيف أوزبكستان ،تتجه مواكب العرسان اجلدد إلى حيث ينتصب متثال لألمير تيمور أمام قصره الغابر (آك سراي) ،ليلتقطوا الصور التذكارية 200
في بداية حياتهم الزوجية ،وال ينس� � ��ون أن يضعوا عند أقدام رمز أمتهم أكاليل الورد.
تيمور ..األمير احملارب كانت شهرسبذ ـ وتقع جنوب سمرقند ،ومعناها باللغة الفارسية املدينة اخلضراء ـ تسمى فيما مضى مدينة «كش» ،حني ولد بها تيمور في سنة 1336ميالدية .وقد عاش تيمور صباه في قبيلة «البرالس» األوزبكية حيث نشأ أجداده ،فأتقن فنون احلرب ،وعندما تُو ِّفي «كازغان» آخر إيلخانات تركستان سنة ( 758هـ = 1357م) قام «تغلق تيمور» صاحب «قشغر» ـ في ش� � ��ينج ياجن (راجع مجلة «العربي» ،سبتمبر )2008ـ بغزو بالد ما وراء النهر ،وجعل ابنه «إيلياس خواجه» قائ ًدا للحملة، وأرسل معه تيمور وزي ًرا .لكن العالقة بني الرجلني ساءت؛ فف َّر تيمور، وانضم إلى صهره األمير حسني حفيد كازغان آخر إيلخانات تركستان، واستطاعا جمع جيش حملاربة إيلياس خواجه ،لكنهما لم ينجحا في سعيهما ،فف َّرا إلى خراس� � ��ان ،وانضما إلى خدمة امللك «معز الدين حسني كرت» .وملَّا علم األمير تغلق تيمور بوجودهما بعث إلى معز الدين بتسليمهما له ،غير أن تيمور وصاحبه هربا إلى قندهار ومنها إلى سيستان ،فاحتال واليها وهاجمهما ،وفي أثناء الهجوم أصيب تيمور بجراحات شديدة ،وتعرضت قدمه اليمنى لضربة أورثتها عاهة فس ِّمي «تيمور لنك» أي تيمور األعرج! جعلته يعرجُ ، ثم يقع خالف بني تيمور وصهره ،يتفوق فيه األول ،ويدخل سمرقند في الثاني عشر من شهر رمضان لسنة 771هجرية ( 14من أبريل 1370ميالدية) ،ويعلن نفسه حاك ًما عليها ،ويزعم انحداره من نسل مجلسا جنكيز خان ،ويظه ُر رغبته في إعادة مجد دولة املغول ،ويك َّون ً للشورى يضم إليه كبار األمراء والعلماء. 201
نهر على َسفَر | أوزبكسـتان ...مزارات وبازارات ٌ
حفل زفاف لعروسني في مدينة شهرسبذ حيث يطيب للعروسني التقاط الصور التذكارية أمام متثال األمير تيمور ،حتى عند درجة حرارة تقترب من األربعني نهار الصيف!
202
203
نهر على َسفَر | أوزبكسـتان ...مزارات وبازارات ٌ
قام تيمور بعد ذلك بتنظيم جيش جرار معظمه من األتراك ،يفي بتطلعاته التوس� � ��عية ،فاجته إلى مدينة خوارزم ،وضمها إلى بالده، بعد أن أصابها اخلراب والتدمير من جراء هجومه املتواصل عليها، كما سيطر على صحراء القفجاق ،والتي متتد بني سيحون وبحيرة خوارزم وبحر اخلزر .ثم أرسل ابنه ميرانشاه( ،كان في الرابعة عشرة من عمره) ليسيطر على إقليم خراسان كله ،وأفغانستان. ثم اجته في سنة 1385ميالدية إلى مازندران ،فاستسلمت دون قتال ،ثم انطلقت جيوش تيمورلنك تفتح أذربيجان ،وتستولي على إقليم فارس ،وتُغِ ير على أصفهان التي كانت قد ثارت على نوابه ،وبلغ عدد القتلى فيها سبعني أل ًفا .وفي سنة 1388ميالدية يهاجم «توقتمش» ملك بالد القفجاق؛ بالد ما وراء النهر ،ويثور أهالي أذربيجان ضد تيمورلنك ،ويعلنون والءهم لتوقتمش ،فيتوقف تيمورلنك عن التوسع، ويتجه إلى أذربيجان لقمع الثورة ،ويفر توقتمش ،فيدخل تيمورلنك خوارزم ،ويقال إنه خربها حتى أنه لم يجد فيها جدا ًرا يُستراح حتت ظله ،وقد ظلت خرا ًبا خالية ثالث س� � ��نوات من الس� � ��كان حتى أمر تيمورلنك بإعادة تعميرها. لمَ َّا ك َّرر توقتمش هجومه مرة أخرى على بالد ما وراء النهر في سنة 1389ميالدية ،تعقَّبه تيمورلنك حتى أرض املغول وصحراء القفجاق وهزمه ،وتخلص منه ،وأناب ابنه «ميرانش� � ��اه» في حكم خراسان، وحفيده «بير محمد» في حكم غزنة وكابل. بعد ذلك قصد ذلك احملارب التوس� � ��عي إيران في شهر رمضان 794هجرية (املوافق لشهر أغسطس 1392ميالدية) ،ساعيا إلخماد الثورات التي ش َّبت بها ،وظل هناك خمس سنوات مشغوالً بقمع تلك ُسمى حروبه هذه بـحروب السنني اخلمس ،وقد بدأها الثورات .وت َّ بإخضاع «جرجان» و«مازندان» ،ثم اجته إلى العراق فاستولى على 204
«واسط» و«البصرة» وس� � ��واهما ،ثم واصل سيره ففتح بالد أرمينية والكرج ،حتى أنه زحف في نحو مائة ألف جندي واحتل موسكو ملدة عام واحد! وبالرغم من أنه بلغ آنذاك الستني من عمره ،فإنه واصل الغزو فاجته إلى الهند متذ ِّر ًعا بأن التغلقيني يتساهلون مع الهندوس وانقض بجيش� � ��ه اجلرار على قوات محمود تغلق في أمر اإلسالم، َّ في ديسمبر 1397ميالدية ،واحتل «دلهي» عاصمة دولة «آل تغلق»، ال بغنائم وفيرة ،ومعه سبعون في ً وعاد تيمورلنك إلى سمرقند مح َّم ً ال حتمل األحجار والرخام التي أحضرها من دلهي ،ليبني بها مسج ًدا في سمرقند. ً ولم ميكث تيمورلنك طويال في سمرقند بعد عودته الظافرة من الهند ،واستعد للخروج ومواصلة الغزو والفتح ،وانطلق في حملة كبيرة ُسميت بحملة السنوات الس� � ��بع ( 809 -802هـ 1405 -1399 /م) ملعاقبة سلطان املماليك «فرج برقوق» ملساعدته أحمد اجلالئري خان بغداد في حربه ضد تيمورلنك ،وتأديب السلطان العثماني «بايزيد األول» سلطان الدولة العثمانية الذي كان يحكم شرق آسيا الصغرى. وبدأ تيمورلنك غزواته باكتس� � ��اح بالد الكرج (القوقاز) ونهبها سنة (802هـ = 1399م) ،ثم سار إلى «عينتاب» ففتحها ،واجته إلى حلب حيث دار قتال دام أربعة أيام سقطت بعدها ،وبلغ عدد القتلى فيها عشرين ألفاً واألسرى أكثر من ثالثمائة ألف .وفي العام التالي اجته إلى بغداد ،فهاجمها ودمر أسوارها ،وأحرق بيوتها ،حتى سقطت. ثم واصل نحو آس� � ��يا الصغرى فاقتحم «سيواس» واألناضول ،وعاد بعدها إلى سمرقند ،ليستعد لغزو الصني في خريف 1404ميالدية، لكن جيشه عانى قسوة البرد ،ولم تتحمل صحته ذلك اجلو القارس، فأصيب باحلمى التي أودت بحياته في 18من فبراير 1405م) ،بعد أن دانت له البالد من «دلهي» إلى دمشق ،ومن بحيرة آرال إلى اخلليج 205
نهر على َسفَر | أوزبكسـتان ...مزارات وبازارات ٌ
العربي ،وبعد وفاته نقل جثمانه إلى سمرقند حيث دفن هناك في ضريحه املعروف بـ«كور أمير» ،أي مقبرة األمير.
آك سراي؛ القصر وأياديه البيضاء وصلنا إلى آك س� � ��راي ،والترجمة احلرفية له :القصر األبيض، ولكن (آك) ال تعني اللون فحسب ،وإمنا تعني أيضا األيادي البيضاء املنعمة ،التي متنح وتهب. بني القصر في «ساعات السعادة» التي تنبأ بها العرافون لألمير. ويقال إنه بعد غزو تيمور لعاصمة خوارزم (اآلن في تركمانستان)، أرسل من هناك كثي ًرا من احلرفيني واملهرة من الفنانني ليبنوا في مسقط رأس األمير آيات معمارية ،منها هذا القصر الذي بديء فيه ربيع عام 1380ميالدية ،واكتمل بن� � ��اؤه في 1396ميالدية ،وطبقا لسفير ملك قشتالة فإن زينة القصر استمرت حتى بعد اكتمال بناء القصر بثماني سنوات! كانت آثار القصر تنم عن بذخ وترف ال مثيل لهما في ذلك العصر، لم نر منها اليوم إال البوابة العمالقة ،التي كان يعلوها حمام سباحة! كان تيمور لنك يأمر أن تقام القصور وسط بساتني ،ومنها ما ميثل رؤية فنية لالجتماعات واللقاءات التي عقدها بنفس� � ��ه ومن زوايا مختلفة .وفي أحدها كان يضحك ،وفي أخرى كان عارم الغضب. كما م ّثل في الرسوم املعارك التي شارك فيها واالجتماعات الرسمية واملفاوضات التي ُعقدت مع األمراء والسادة والعلماء وعلية القوم من رجال الدولة .ثم إنه عرض اجتماعات حضرها للسالطني ،وممثلي السالطني وسفراء األمصار األجنبية واألماكن الطبيعية واملواضع الس� � ��رية التي يأوي إليها ،واملعارك التي وقعت في الهند وكبشاك واإلستيب وفارس ،وانتصاراته وركض األعداء املهزومني ،ولوحات 206
ألقربائه وأحفاده وأمرائه وأتباعه من العسكر ،واحلفالت وجلسات السمر واخلمر ،واحتفاالت السادة وأقداح الشراب ومطربيه املفضلني ومختلف الشعراء وعشيقاته العازبات واملتزوجات ،فضال عن أحداث متداخلة ومتصلة وقعت له في مختلف األصقاع. كانت كل هذه اللوحات ممُ ثلة وكأنها حقيقية ال مبالغة فيها .وكان الغرض من هذه اللوحات هو تقدمي األحداث وكأنها حقيقية ،ليطالعها من لم يس� � ��بق له رؤيتها قط وكأنه يراها حتدث» .ومن بني ماوضع (تيمور بك) حديقتان :األولى وهي األبعد تسمى بوجي بولدي ،واألخرى وهي األقرب تس� � ��مى بوجي ديلكوش .ومن حديقة بوجي ديلكوش إلى بوابات فيروز أعطى األمر بزرع املمشى على اجلانبني بأشجار احلور .ومت ً أيضا تشييد املبنى الكبير (أولوج ُكشك) في حديقة بوجي ديلكوش ،وجدران ذلك املبنى مزخرفة برسوم متثل معركة تيمور بك في هندوستان (بال ُد الهند).
وأشياء أخرى حادثة القطن، ٌ على امتداد البصر متتد حقول القطن بني كل مدينتني من املدن احملافظات الثالث عشرة في أوزبكستان ،والتي متثل على علمهابثالث عشرة جنمة .تستدعي صور الذهب األبيض الطالع في البساط األخضر حادثة شهيرة تعود للعام 1984ميالدية. آنذاك أرسل مكتب املدعي العام السوفييتي في موسكو محققني إلى أوزبكستان ،اعتقلوا كثيرين من املوظفني واإلداريني بتهمة الفساد في زراعة القطن وتصنيعه .كانت تلك شرارة لغضب أوزبكي على رأس موسكو ،واختيار بريجينيف ألوزبكس� � ��تان دون سواها إلقامة هذا التحقيق ،وللمرة األولى تسمح السلطات األوزبكية لصحافتها بتوجيه نقد إلى موسكو لفرضها ثقافة املنتوج الواحد ،وهو القطن، 207
نهر على َسفَر | أوزبكسـتان ...مزارات وبازارات ٌ
على البالد ،الذي خرب بيئة أوزبكستان ،وجعل اقتصادها يعتمد كلية على بيعه لالحتاد السوفييتي ،حتى أن األوزبكيني كانوا -مرغمني يزرعون القطن في كل ش� � ��بر من أراضيهم على حساب كل شيءعداه! لقد وصل جنون القطن لدى االحت� � ��اد لدرجة حتويل نصف مياه بحر األورال ـ على حدود أوزبكستان الشمالية ـ إلى ري زراعة القطن .لذلك رحب اجلميع ـ على اختالف انتماءاتهم ـ باالنفصال عن موسكو يوم جاءت الفرصة إلعالن االستقالل. لكن ما حدث مع القطن قد كان ،وأفرز نتائج س� � ��يئة ،ليس فقط بالتأثير الس� � ��لبي على رابع أكبر بحيرات العالم ،بل إن حتويل مياه نهري آمو داريا وس� � ��ير داريا ـ اللذين كانا يصبان في بحر األورال ـ إلى ري حقول القطن ،فتدفقت مياه الري ،حتى وصلت إلى حدود مدينتي بخارى وسمرقند ،وهدد ،واليزال يهدد أبنيتها التاريخية. لعل ذلك ما فس� � ��ر انهيار كثير من املآذن ،ومي� �ل��ان أخرى (كما في سمرقند ،بحيث أنها اآلن تشبه برج بيزا املائل ،لكنها دون دعامات متنع الكارثة) .كما أن حتويل هذين النهرين عن تلك البحيرة العمالقة، جعل ما يصل إليها من مواد ملوثا ،حتى أن 30ألف كيلومتر مربع من أرضها مزروعة بالكيماويات .وقد اكتفت أوزبكس� � ��تان في عام 1991بإعالنها أنها لن تبيع القطن إلى روسيا إال بالعملة الصعبة، وملا رفضت موسكو ،واجهت أوزبكستان مشكلة إلى من تبيعه ،فوقعت في مارس 1992معاهدة صداقة مع موسكو ،مت فيها التوصل إلى تسوية نزاع القطن ،ورفع سعره إلى املستوى العاملي ،لكن ذلك هدد مصانع القطن في أوزبكستان نفسها ،فتوصل البلدان إلى مقايضة (النفط مقابل القطن) ،تعطي فيه روسيا البترول ألوزبكستان ،مقابل القطن ،بالسعر العاملي للمنتوجني! أو مبادلة الذهب األسود بالذهب األبيض ،حتت سماء العمالت اخلضراء! 208
حاولت أوزبكستان وجاراتها ـ بعد االنفصال عن االحتاد السوفييتي ـ وضع إطار ينظم عالقاتها ،فشكلت كومنولث دول آسيا الوسطى أواخر عام 1991من أوزبكستان وكازاخستان وقرغيزستان وتركمانستان، التي خرجت من هذه املجموعة بعد فترة قليلة .ثم تغير اس� � ��م تلك الرابطة إلى االحتاد االقتصادي آلسيا الوسطى عام ،1994وأصبح ـ مرة ثالثة ـ التعاون االقتصادي آلس� � ��يا الوسطى عام 1998حينما انضمت إليها طاجيكستان! واستقر االسم على منظمة آسيا الوسطى للتعاون عام ،2002كما انضمت إليها روسيا عام .2004وفي عام 2005بدأ احلديث بدمج هذه املجموعة مبنظمة تعاون أوروـ آسيا التي تشكلت في مايو 2001بني روسيا وروسيا البيضاء وكزاخستان وقرغيزستان وطاجيكستان وانضمت إليها أوزبكستان في أغسطس ،2006إضافة إلى روابط إقليمية أخرى تربط هذه الدول ببعضها، منها كومنولث الدول املستقلة (تأسست عام 1991من 11جمهورية سوفياتية سابقة بينها جمهوريات آسيا الوسطى غير أن تركمانستان خرجت منها كعضو عام 2005واكتفت بصفة إشرافية تعاونية). وال ننسى أن نضيف «منظمة ش� � ��نجهاي للتعاون» ،كأهم منظمة لتأطير العالقات بني دول آس� � ��يا الوسطى وإقليمها القريب وجتمع الصني وروسيا مع دول آسيا الوس� � ��طى ،ما عدا تركمانستان .كما تشكل قمة الدول التركية (تأسس� � ��ت عام )1992إطا ًرا آخر لوجوه العالقات البينية لدول آسيا الوسطى بجانب املنظمات األخرى التي تضم هذه الدول مثل منظمة التع� � ��اون االقتصادي (إيكو) ومنظمة املؤمتر لدول العالم اإلس� �ل��امي ،ومنظمة األمن والتعاون األوربي. وهي كلها إطارات تكاد تفتقد إلجناز األهداف املعلنة الرامية حلل مشكالت هذه الدول مع جاراتها. 209
نهر على َسفَر | أوزبكسـتان ...مزارات وبازارات ٌ
بخارى؛ اإلمامة واإلمارة لم تكن العم� � ��ارة وحدها ،أو املنمنمات وحس� � ��ب هي ما صاحبنا وصادفنا في رحلتنا بني املزارات والبازارات في أوزبكستان ،بل كان نصيب وافر .وتستدعي حكايات املوسيقى مشارف مدينة للموسيقى ٌ بخارى التي انطلقنا إليها بعد مغادرتنا شهرسبذ. في خواتيم القرن السادس عشر امليالدي ،كانت بخارى قد أصبحت عاصمة إلمارة مستقلة حتمل االسم نفسها ،وعاملًا كوزموبوليتانيا شامال ،تزدهر أس� � ��واقها بأطياف من التجارة التي تعبرها من كل اجلهات .بدأ مقام (الشاش) في بخارى من بالط األمير ،كأبرز ما مييز املوسيقى والثقافة الطاجيكية واألوزبكية على حد سواء .الصورة تنقلها املنمنمات حيث يجلس العازفون على األرض بقيثاراتهم ثنائية األوتار ،الدوتار ،واجليدجاك والدويرا ،أمام األميرات. الترجمة احلرفية للشاش مقام ،واملقامات الستة ،البياتي ،الراست، النوى ،الدوكاه ،السيكاه ،والعراق ،وهي األسماء الستة نفسه املعروفة في املوسيقى الشرقية ،مع مشتقاتها. قبيل عزف الش� � ��اش نس� � ��تمع إلى متهيد من أناشيد صوفية ملؤ ٍّد وحيد ،يبث صبابته وأشواقه ،وأمله وندمه ،ويعلو شيئا فشيئا ،بعد كل وقفة .أفضل من تؤدي الشاش مقام في التقليد الكالسيكي هي املطربة مناجاة يولشيفا ،التي تستعيد ـ على أنغام أستاذها شوكت؛ الذي يرافقها غال ًبا ـ غزليات كبار شعراء األوزبك الصوفيني. متتلك يوليشيفا صوتا واسع املدى ،قوي اإلدراك ،يسير اإلفهام، وقد بدأت الغناء في طفولتها حيث ولدت سنة 1960بوادي فرغانة (جنوب طشقند) ،حتى أن موهبتها دعت كثيرين لنصحها بترك الغناء الكالسيكي واحتراف األوبرا! لكنها أصرت أن تكون صوت ثقافتها، وش� � ��عبها .مما جعلها بعد نحو ربع قرن من الغناء رمزًا للموسيقى 210
هنا مع نسخة نادرة من مصحف أمير املؤمنني عثمان بن عفان يرفع هذا األوزبكي بدعائه إلى اخلالق األكرم في مكتبة املجمع اإلسالمي بطشقند.
التمثال التذكاري الذي يوثق لزلزال مدينة طشقند.
211
نهر على َسفَر | أوزبكسـتان ...مزارات وبازارات ٌ
والثقافة األزبكيتني .بهجة احلياة وطقوسها هي امللمح الرئيسي في املوسيقى الوسط آسيوية ،ولدى األوزبك ما يسمونه سنة توي ،وهو احتفال يستمر أربعني يوماً بعد الرزق مبولود ،يتم فيها طهوره وإشهار إسالمه ،مثلما لديهم أعياد مماثلة لالحتفال بالزواج ،وهذه املسمات ال تخفي التراتبية في األسرة املسلمة ،حيث ال جتلس النساء بجانب الرجال ،وال يتقدم الصغار على الكبار. لكل مدينة مطربوها وموسيقيوها احملددون لالحتفاالت بالزواج، ولذلك يحضر اجلمهور حفالت الزفاف ملش� � ��اهدة هؤالء الفنانني. ومنهم شير علي جوراييف .لكن من الطريف أن هناك من مينحون العروس والعريس بركتهم ،وهو تقليد جنده لدى األوزبك ،ويعرفون في مناطق بخارى وسمرقند باس� � ��م (سوزاندا) ،وفي خوارزم باسم (خالبا) ،أما في طشقند وفرغانة فهم (أوتني أوي)!
سيد درويش األوزبك! ليست موس� � ��يقى اليوم في أوزبكس� � ��تان هي ما تقدمه يوليشيفا وحسب ،أو هي فقط املوسيقى العابرة للفضائيات واملطاعم ـ من روسيا والشرق العربي وسواهم لكنها أيضا موسيقى الشارع ،إذا صح التعبير .نقصد إلى ذلك احلديث عن أحد رواد املوسيقى األوزبكية، وهو حوظ عبد العزيز رسولوف ( 1852ـ 1936م) ،الذي يعد أيقونة حد سواء. املوسيقى الشعبية لدى أمتي األوزبك والطاجيك ،على ٍّ استقى رسولوف موس� � ��يقاه وإيقاعاته من فناني الشوارع ،مغنني وموسيقيني ،وكان مما أذهله املوسيقيني املوهوبني الذين كانوا يعزفون املقامات على العود .كان رسولوف كثير التجوال في املشرق العربي، وفي بغداد ،أعجبه أحد املوسيقيني فاقد البصر وكان يعزف على الساز .وقد تذكر عبد العزيز تلك القطعة املوسيقية وكتبها من أجل 212
القيثارة ذات الوترين وأسماها «.»Gadoiy كما استلهم رسولوف قطعة موسيقية أخرى سمعها في مصر قبل نحو ثمانني عا ًما! وفي عامي 1930و 1931قام املوسيقار األوزبكي ميرونوف بكتابة هاتني القطعتني في نوتات موسيقية ونشرهما فيما بعد ،وقد أصبحتا مادتني للدراسة ،تؤديان على القيثارة واآلالت األخرى بواسطة تالميذ عبد العزيز رس� � ��ولوف .كما اتخذ دونى ذاكيروف أغنية « »Gadoiyلتكون مثاال تعزف به اآلالت املوسيقية األوزبكية التقليدية .ولعبد العزيز رسولوف أغنية أخرى مشهورة هي قربان علوم ،ألفها بتأثير من املوسيقى اإليرانية واآلذربيجانية ،إن كان حبه للموسيقى الشعبية جعل من عروضه مصد ًرا للبهجة.
قاموس املسافر بعد أيام من اإلقامة والتنقل بني ربوع أوزبكستان ،ستلتقط أذناك مفردات تر ُّدها إلى لغات أصلية تنطقها كالعربية ،أو ال تس� � ��تغربها كالتركية ،أو على علم ببعض مفرداتها ،كالفارسية (التي يتحدث بها زميلي سليمان حيدر ،ويجادل بها الباعة ،فيصل معهم إلى أسعار مهاودة)! إن مفردة «ستان» تعني الشعب أو البلد ،فأوزبكستان معناها شعب األوزبك أو بلده ،وما له املعنى نفسه في لغتنا العربية واللغة األوزبكية كلمات :األمير ،والبازار ،واخلان («بلعة خانة» ،أو «باالخانة» هي البلكونة ،و«الشاي خانة» هو املقهى) ،والبيك ،والتبة (هضبة)، واحلاجي (احلاج) ،واحلرام ،وحضرة ،وداب (احملرفة من اآلداب)، ورباط (مكان اإلقامة) ،وشمس ،وعربة ،وقلعة ،وقم (كوم) ،وكافر، ومدرسة ،ومفتي ،ومقدس ،و ُمال ،ومؤذن ،ونقارة (طبلة) ،وم َّداح (راو)، عدا بعض مفردات الفارسية والتركية مثل نان (خبز) ،ونهان (مخفي)، وعيران (شراب اللنب) ،وشيشليك (حلم مشوي على كباب) ،وفرجني 213
نهر على َسفَر | أوزبكسـتان ...مزارات وبازارات ٌ
(أجنبي) ،وقشالق (مضرب خيام ،مكان إقامة مؤقت) ،وبوظة.. اللغة األوزبكية ـ التي كانت ت ُكتب باحلروف العربية حتى 1920ـ هي حفيدة اللغة التركية ،وقد حلت اللغة األوزبكية األدبية اجلديدة ،التي جتمع بني لهجات أهل املدن والريف ،محل تلك اللغة القدمية في .1923 دخول املفردات واملصطلحات العربية والفارسية ـ وبالطبع الروسية ـ إلى جانب املفردات التركية هو الذي ط َّور هذه اللغة اجلديدة. الطريف أننا لدى كل زيارة إلى كل أثر تاريخي كانت لنا مالحظة، هي أن الالفتات جديدة ،بينما اجلدران حتمل أث ًرا لالفتات القدمية التي وضعها الس� � ��وفيات ،الذين كان لهم فضل كبير في احلفريات والتنقيبات والترميمات .هذا االستبدال في الالفتات كان يعني السيادة، التي حولت اللغة الرئيسية في تلك الالفتات إلى األوزبكية ،وحولت حروفها إلى الالتينية.
نور السماء في إحدى املدارس التاريخية مبدينة بخارى توقعنا أن نبتعد ـ ونحن نحضر حفال للموسيقى التقليدية ـ عن فكرة املزار الذي آل إلى بازار؛ تلك الفكرة التي رأيناها في كل مسجد وخبرناها بكل مدرسة ولقيناها بكل خانقاه ومررنا بها بكل ضري� � ��ح! بدأ العزف التقليدي والرقص الشعبي باألزياء الفولكلورية ،التي تلبسها فتيات من مدن أوزبكستان، مثلما ترتديها أخريات ال تخفي قسماتهن أصولهن الروسية .ثم بدأت أطباق العشاء تنزل مع كل نغمة ،ولكن ورقة تسللت مع القائمة أكدت لنا فكرة مزاوجة املزار والبازار ،تعلن لنا عن أن الثياب التي ترتديها الراقصات العارضات يوجد مثله� � ��ا للبيع ،في احملالت التي حتيط بنا ،حيث تتخذ طاولتنا ،مع أكثر من خمسني طاولة أخرى ،مكانها في بهو املدرسة (أو التي كانت مدرسة) .أما فصول الدراسة فقد 214
حتولت إلى ورش للفنون ومتاجر للبضائع ،ومحالت لبيع املنتوجات التقليدية .فهناك شطرجن قطعه لألمير تيمور ووزرائه وجنوده وفيالقه، وهناك قبعات وأوشحة وثياب تقليدية ،ويوجد صناديق زينة ،وسترى حوامل خشبية لكتاب الله ،مع عش� � ��رات أخرى من البضائع .وعلى باب (املدرسة) يوجد بنك صغير جتلس فيه فتاتان ،واحدة لتبديل الدوالر ،وأخرى لتغيير اليورو ،إلى رزم أوراق العملة احمللية .الغريب إنك ال جتد البنية التحتية األساس� � ��ية التي يحتاج إليها السائح في هذه املزارات التاريخية اخلالدة ،لكنك س� � ��تجد طريقة للدفع ،إنها ثقافة إحياء البازار مع ـ بل ورمبا قبل ـ املزار. مي� � ��ا «إن النور يهبط عادة من الس� � ��ماء ،أما في إذا كان يقال قد ً بخارى فإنه يصعد إلى الس� � ��ماء» ،فرمبا كان م� � ��رد ذلك القول هو كونها مدينة املعرفة ،مبا أنشيء فيها من مئات املدارس وما تأسس بها من عشرات املساجد ،وما ارتفع في سمائها من منارات ومآذن، ومن عاش على أرضها من أئمة وأمراء .لكنها كانت كذلك في أوج ازدهارها ،واحتضانها إلثنيات األرض وأعراقها جمي ًعا ،وقبل أن تردم بحيراتها ،ويرحل عنها علماء حضارتنا اإلسالمية وفقهاؤها كلهم. ولن تستعيد بخارى مكانتها ،إال إذا استعادت مكانها .وحينئذ سيكون لها نورها اخلاص ،الذي يصعد مرة أخرى إلى السماء.
215
نهر على سفر
شينج يانغ الصني ا ُمل ْس ِلمة! ِّ
الصني ا ُمل ْس ِلمة! نهر على َسفَر | شينج يانغ ِّ ... ٌ
س������واء كان ش� ً �����يخا «أويغور ًيا» يتجه لصالة الظهر في جامع «عيد كاه» ،مبدينة «قشغر» ،ش������مال غرب الصني ،أو كان شا ًبا «قرغيز ًيا» يبني خيمته بني كفي جبل «موزتاج آتا» الذي غطت الثلوج قمته مبنطقة «ش������ينج يانغ» ،أو كان موسيق ًيا «قازاق ًيا» يعزف على قيثارة «الدو نغ بوال» ،ذات الوترين ،في قلب «بازار األحد» ،فإن ما يجم ُع بينهم دين واح ٌد هو اإلسالم ،يوحدهم مع أكثر من عشرين مليون آخرين ،ميثلون عشر قوميات في أكبر بلدان العالم :الصني!
على خطى اإلسالم الزمان :اخلامس والعشرون من أغسطس العام 651امليالدي. املكان :الصني حتت حكم اإلمبراطور تانغ قاو تسوجن ،سليل أسرة وحتديدا في مدينة تانغ (التي حكمت بني عامي 618و907م)، ً تشانغآن ،عاصمة الصني في ذلك الزمان قبل أكثر من 13قر ًنا. احلدث :وصول مبعوث ثالث اخللفاء ال َّراشدين؛ ُعثمان بن عفان للقاء اإلمبراطور للتعريف بأحوال اخلالفة اإلسالمية ،وعادات املسلمني .إنه احلدث الذي اعتبر -رسم ًّيا -تاريخ دخول اإلسالم سجلت املصادر التاريخية إلى الصني ،وخالل 148سنة الحقةّ ، أن العرب أوفدوا 39مبعوثا إلى أسرة تانغ امللكية! الزمان :صيف العام ،2008واملكان :الصني؛ اإلمبراطورية ال وحتديدا في عهد ساللة احلزب تغيب عن منتجاتها الشمس، ً ُ الشيوعي للرئيس ماو ،واحلدث :وصول بعثة «العربي» إلى أكثر املناطق الصينية قر ًبا إلى ذلك الدين احلنيف في مهده ،ولكنها أبعدها في الوقت نفسه جغراف ًيا عن العاصمة بكني على تخوم احلدود الدولية مع كازخس������تان ،وأوزبكستان ،وباكستان (التي 218
تصلها بقشغر طريق دولية) ،وقيرغيزيا. الرحلة بدأت في الكويت ،ومنها إلى كراتشي ( 1949كلم) ،ثم تساءلت بكني ،وصوال إلى أورومجي ،وأخي ًرا قشغر ( 3861كلم). ُ وأنا أحسب مجموع املسافة ( 5810كلم) كيف كانت قوافل طريق احلرير تصل على ظهور اجلمال .نستعي ُد هنا مهد الرحلة مع مسلمني اليزالون يعيشون على الفطرة األولى ،بل ويكتبون لسانهم وأبجديتهم بحروف تشبه أبجديتنا العربية. نحن عل������ى أول الطريق البرية التي تس������ميها املراجع بطريق احلرير ،حيثُ نُ ِسجت عالقات الصني بجيرانها ب ًّرا .كانت تلك الطريق تبدأ في تشانغآن ،ومتر بآسيا الوسطى وأفغانستان وبالد فارس حتى تصل إلى بالد الشام بجزيرة العرب ،قبل أن تصل إلى قلب أوربا .وقد م َّهد انتشار اإلس���ل��ام في هذه البقاع إلى قدوم كثير من التجار املسلمني يحملون إلى الصني ،إلى جانب البضائع ،العقيدة اإلسالمية والعادات اخلاصة بها .يقال إن أكثر من 4000أسرة من التجار األجانب أقاموا في مدينة تشانغآن في عهد أسرة تانغ ،كان معظمهم من بالد فارس وبلدان العرب. وإلى جانب التبادل التجاري طلب حكام أسرة تانغ -أحيانا - مساعدات عسكرية من بالد العرب لقمع االضطرابات الداخلية، فجاء اجليش العربي إلى الصني عبر الطريق احلريرية أيضا، ومكث بعض هؤالء اجلنود املسلمني في الصني ،فتركوا نسلهم حيث وصلنا. ينتشر اإلسالم تدريجيا في أنحاء البالد خالل الفترات التاريخية التالية ،من أسرة س������ونغ (1279-960م) ،وأسرة يوان (-1206 1368م) حتى أوائل أس������رة مينغ (1644 -1368م) .وهو تاريخ طويل تعرض املسلمون خالله لتقلبات السياسة وتغيرات املجتمع 219
الصني ا ُمل ْس ِلمة! نهر على َسفَر | شينج يانغ ِّ ... ٌ
وتبدالت االقتصاد .ويتحول املسلمون إلى أقليات متفرقة نتيجة لهذه الصراعات ،تشكل مجموعتني ،إحداهما تتكون من ست قوميات تتناثر في منطقة ش������ينج يانغ ذات احلكم الذاتي في شمال غرب الصني ،واألخرى تتكون من أربع قوميات تعيش في مختلف األماكن داخل الصني.
اإلسالم ...وقوميات عشر يرجع تاري������خ قومية األويغور إلى الق������رن الثالث قبل امليالد، وكلمة أويغور تعني «التضام������ن» أو «االحتاد» باللغة األويغورية، وهم يتوزعون في منطقة ش������ينج يانغ الويغورية الذاتية احلكم رئيسيا وعددهم نحو ثمانية ماليني نسمة. في اليوم األول من الوصول إلى قشغر تأخذنا أقدامنا إلى ساحة ُ ٍ نراقب احلياة اليومية التي ساعات نعيش مسجد «عيد كاه» حيث ُ ميضي بها املتنزهون األويغوريون أوقاتهم .إنهم يأتون للوقوف أمام عدسات عشرات املصورين املنتشرين في الساحة ،يحمل كل منهم كاميرا رقمي������ة ،ويحتفظ بديكور التصوير الالزم وفق الطلب ،فمنهم من يص ِّور زبائنه فوق اجلمل أو احلصان ،ومنهم من يجذب أفراد األسرة بنزهة مصورة في الساحة فوق عربة يجرها اخليل وجتاوره فيها سيدة متبرجة بالزي التقليدي ،وآخرون يجتذبون األطفال بعربة جترها عنزة برية! اجلميع متأنق ،ليس فقط هنا استعدا ًدا للتصوير ،بل في كل مكان. صباحا في قلب نص ُل موسم الفاكهة ،درجة احلرارة تتجاوز ً املدينة الثالثني مئوية ،وهي تنضج الثمار التي تش������تهيها بقاع الصني جمي ًعا .طماطم بحجم التمر ،شما ٌم بطعم السكر ،برتقال بلون الشمس ،وعنب وخوخ وبرقوق وموز ،ومشمش بال حدود، 220
إن قشغر سلة فاكهة حت ِّر ُ ك احلواس جميعها. يحكي لنا دليلنا إنه في أواس������ط القرن العاش������ر ،مع اعتناق شاتوك بوراخان ملك مملكة قراخان احمللية اإلسالم بدأ دخول الدين اجلديد إلى شينج يانغ ،وكانت قش������غر (قه شغه ر ،كما تُكتب هنا) أولى محطاته هناك ،لينتش������ر بعدها في يارتشيانغ وكوتشار ،ثم شمال ش������ينج يانغ بعد القرن الرابع عشر ،وحتى القرن السادس عشر الذي شهد دخول اإلسالم في شينج يانغ كلها .أحدها مس������جد عيد كاه ،الذي شيده حاكم قشغر ،شيخ اسميرزا ،للمرة األولى في 1442م ،حيث كان يصلي على أرواح الراحلني من عائلته. جتديد املسجد ،وتطويره ،على مدى أكثر من خمسة قرون ،جعله ميتد اليوم 140مت ًرا طوال ،من اجلنوب إلى الشمال ،و 120مت ًرا من الشرق إلى الغرب ،ليغطي مساحة 16800متر مربع ،وأقسامه النموذجية تتكون من قاعة للصالة ،وبرج للبوابة ،مع عدة أبنية ملحقة به ،لعل أطرفها برجني قصيرين حولهما باحتان كبيرتان، يس������تخدمهما املؤذنون للدعوة إلى الصالة ،مثلما يستخدمهما الوعاظ للدروس الدينية ،وعلى جانبي البوابة الضخمة ،عمودان ميثالن منارتني متصلتني بزاويتي اجلدار ،طول الواحد منهما 18مت ًرا. أصابنا حزن ش������ديد لرؤية الغدران الداخلية في املسجد قد جفت .أصبح املسجد مزا ًرا مجانيا ألهل البالد ،ولغير أهل املدينة يدخلونه بعشرين يوانًا للفرد ،وهي أقل الرسوم بني املزارات األخرى التي مررنا بها ويصل بعضها إلى 60يوا ًنا (ما يعادل 7يورو). هناك بعض األواني الفخارية التي تستخدم للشرب ،والصنابير التي تصلح للوضوء .في األعياد ،وفي أيام املهرجانات الشعبية، 221
الصني ا ُمل ْس ِلمة! نهر على َسفَر | شينج يانغ ِّ ... ٌ
جبال شينج يانغ امللونة
متتلئ ساحات املسجد الداخلية ،واخلارجية ،وهي أضخم بنحو خمس مرات ،بنحو 50ألف������ا يأتون وعلى وجه كل منهم مالمح قوميته التي تنصهر في بوتقة اإلسالم. قبل عدة أعوام تقدم املصمم دان زياو ،من معهد منطقة شوجننج للعمارة والهندسة جلائزة امللك فيصل في العمارة ،ملصلحة مدينة قشغر ،التي فازت باعتبارها مدينة إسالمية منوذجية تهدف إلى جمع السكان فيها بدال من انتشارهم خارجها ،فقد ُعرف في املدينة اإلسالمية بناء مساكنها حول املسجد وميادين األسواق بعكس املدينة في األديان األخرى مثل البوذية ،ورأى أن ذلك قد ساعد على انتشار اإلسالم في الصني. تذكرك احملالت املمتدة على جانبي سور املسجد بتلك التي 222
مررت بها في أس������واق املدن اإلس���ل��امية ،في القاهرة ودمشق واسطنبول ،وغيرها ،فاملسجد كان قلب املدينة ،تنقضي الصالة فيه ،فيسعى اجلميع إلى الرزق .باعة جوالون ،ورجال كثيرون يلعبون الورق ليس في الس������احة وحده������ا ،ولكن على األرصفة الظليلة بالش������جر .أوراق األش������جار امللونة كقوس قزح تعطيك التفاتة سحرية إلى حكايات ألف ليلة وليلة .هنا ال يتسم اللهو وحده بالبس������اطة ،بل املهن التي تكاد تندر أن جتتمع في مكان ٍ واحد :باعة اجللود الطبيعية للحيوانات البرية وأكثرها شهرة الثعالب ثلجية اللون ،وباعة األحج������ار التي يبلغ أحجام بعضها املتر ،إنهم يتفاءلون باألحجار الطبيعية ،ومنهم فنانون يشترونها ليصنعوا منها مقتنيات يصل ثمن بعضها إلى ألف دوالر .وهناك 223
الصني ا ُمل ْس ِلمة! نهر على َسفَر | شينج يانغ ِّ ... ٌ
مهن طريفة كذلك ،فال يكاد يخلو شارع من معمل أسنان ،يق ّوم عاجا ورمبا ذه ًبا! وهناك األسنان ويبيضها ويزرع بدل التالف ً املنجد ،وبائع املسواك ،وأصحاب املكتبات التي نداف القطن ،أو َّ ِّ حتتشد بكتب باللغة األويغورية ،وال تخش فهناك قواميس عربية وإجنليزية قشغرية! وبجوار عربات تبيع أنواع العصير ،هناك عربات أخرى تبيع لك البطي������خ ،وإذا لم تكن ميزانيتك تتحمل شراء بطيخة كاملة ،فلك أن تشتري شريحة (شقة) وفق الطلب. َس ُّن السكاكني له زاوية ،وتركيب حدوات اخليول له ركن ،وزيت الشعر أيضا له دكاكينه ،أما املطاعم فح ّدث وال حرج ،فأنت تعيش في ملتقى الطرق بني قوميات الصني وثقافات اإلسالم وأعراق العالم ،ستجد كل شيء ،وعليك أن تدقق في صورة األطباق التي تصاحب احلروف غير املفهومة ،فرمبا تطلب طبق أرز ،وتأتيك سمكة ضخمة فوقها غطاء وهمي من األرز .ألم تر ذيلها حتت األرز في الصورة ،فتدفع ثمن ما ال تأكله! يتس������م املسلمون من قومية األويغور باحلماسة واحلفاوة بضيوفهم ،وهم موهوبون في الغناء والرقص .لذلك فإن هناك محالت لبيع اآلالت الوترية واإليقاعية املصنوعة من جلود الثعابني .جتد أيضا محالت تبيع األسطوانات األصلية واملنسوخة ،للمقامات الشرقية األويغورية التي تتماس مع املوسيقى التركية .يقول دليلنا إن اهتمام األويغوريني باملوسيقى تخطى حاجز اإلعجاب ،إلى الشغف ،حتى أنها تكاد تشغلهم عن العلم والعمل!
قازاقي وموسيقي من القوميات العشر املنتشرة في منطقة شينج يانغ األويغورية الذاتية احلكم :القازاق ،وعددهم نحو مليون وربع املليون نسمة. 224
خريطة العالم القدمي قبل ألف عام كما ظهرت في ديوان لغات الترك للعالم محمود القشغري.
في أواسط القرن اخلامس عشر تش������كلت قومية القازاق بعد تأسيس مملكة قازاق خان .وقد وصل اإلسالم حينها إلى مروج قومية القازاق ،وانتشر فيها على نطاق واسع بعد القرن الثامن عشر ،وأضيفت الشريعة اإلسالمية في «قانون توكه» ،املستخدم قاعدة حلكم هذه القومية .وفي تاريخ قومية القازاق ظهر علماء وأئمة بارعون في اللغة العربية والعلوم اإلسالمية. في سوق األحد مبدينة قشغر ،وهو يحمل تلك التسمية لكنه يُفتح طوال أيام األسبوع ،نرى أحد القازاق يحمل الدو نغ بوال، إنه يبيع اآلالت املوس������يقية ،ويعزف عليه������ا ،ببراعة ،أليس ابن 225
الصني ا ُمل ْس ِلمة! نهر على َسفَر | شينج يانغ ِّ ... ٌ
القازاق املوهوبني في الغناء والرقص .إن اآللة عبارة عن قيثارة ذات وترين (دو) (نغبوال) .ويقول لنا إنه يغني بعض أبيات صالح وسلمى ،وهي من املالحم الشعبية عندهم ،ومتثل قصة عشق، كما لدينا قيس وليلى .يشتغل هو بالتجارة ،ولكن معظم عائلته يعملون بتربية املواشي ،والزراعة. باإلضافة إلى اآلالت الوترية ،يزخر السوق في قشغر (البازار) بعديد اآلالت املوسيقية ،منها الطبول التي يصنع بعضها من جلود الثعابني ،ومنها أيضا البزق .ويستخدم القشغريون جدار ثمرة القرع لبعض هذه اآلالت ،كما يزخرفونها ،ويزينونها وتوضع في البيوت ملونة ومرسومة ،والطريف أنهم يشبهون الشخص األخرق بالقرعة ،ألن رأسه كبير وفارغ!
إلى سقف العالم في الصباح الباكر انطلقنا خارجني من قشغر .وللتوقيت في املدينة قصة .فهم ال يعترفون بتوقيت بكني ،وهم يسألونك حني موعدا :بتوقيت قشغر أم بتوقيت بكني؟ أال يذكرنا ذلك حتدد ً بالريفيني في مصر حني تغيرت الس������اعة الشتوية والصيفية، وتسألهم عن الوقت فيقولون :حكومة أم أهالي؟ إن احلكومة هنا هي بكني الصني ،أما األهالي فهم األويغوريون في قشغر! كان مقصدنا للرحلة سقف العالم ،وهو ليس تعبي ًرا مجازيا بل تلك التسمية احلقيقية لقمة أبي اجلبال الثلجية موزتاج آتا، الذي يبلغ ارتفاعه 7500متر ،ويعده اخلبراء األيسر صعو ًدا بني أقرانه مثلما يعتبرونه مرحلة أولية لصعود قمة إفرست ،وتنظم رحالت للوصول إلى قمته الثلجية على م������دى 23يو ًما بكلفة ثالثة آالف يورو ،شاملة كل شيء ،حتى الوجبات الساخنة ،مع 226
قائد محنك! لكننا كنا نبحث عند سفح موزتاج آتا عن قوميات القرغيز ،إحدى القوميات اإلسالمية العشر في شينج يانغ ،وقد وجدناهم! عاش القرغيز في ش������ينج يانغ منذ القدم ،وشاركوا في عهد أسرة تش������ينغ امللكية مع القوميات احمللية األخرى في املعارك التي كان يقودها اجليش احلكومي إلخماد محاوالت االنقسام واالنفصال من بعض املمالك الصغيرة في ش������ينج يانغ .يشتغل شباب منهم معظمهم بتربية املواشي إلى جانب الزراعة .يتجول ٌ على صهوة اجلياد ،وآخرون ف������وق دراجاتهم الهوائية والنارية. هبطنا إلى حيث يقيمون خيامهم وعشنا ساعات نراقب تقاليدهم، بد ًءا من بناء مسكنهم اخلاص. يبدأ بناء اخليمة القرغيزية الدائرية الشكل ،التي تشبه قبة مس������جد ،على أرض ممهدة ،يختارها القرغيزيون بعناية ألنها ستصبح بيتهم لشهور قبل أن ينتقلوا ملكان آخر لدواعي املناخ. هيكل اخليمة التي تستند إلى عمود في املنتصف عبارة عن خشب يشبه شبكة سياج احلدائق ،وعليه يضعون طبقات من السجاد امللون .يهم القرغيزي أن يكون بيته من الداخل كثير األلوان بهيج الهيئة .يستند إلى عمود اخليمة األوسط الفرن الذي يستخدم الوقود .كثير من اخليام بها مصدر للطاقة الشمسية ،أو مولد للكهرباء ،يعم������ل عليه التلفزيون الذي ال ت������كاد خيمة قرغيزية تخلو منه. دعانا «ومرزاق» القرغيزي لتناول الشاي في خيمته .كان سقف مفتوحا ،حني بدأ الثلج يسقط ،فقامت زوجته اخليمة الدائري ً «طورغان» بشد بساط بحبل ممتد فأغلقت السقف في حني بقي الباب مصد ًرا للضوء .الشاي بحليب املاعز مع اخلبز كانا عالمة 227
الصني ا ُمل ْس ِلمة! نهر على َسفَر | شينج يانغ ِّ ... ٌ
الترحيب بنا .يدعو «ومرزاق» زوجته «طورغان» وابنته «جومليرايا» جراب يضم منتجات مصنوعة يدويا. لفتح بازار قيرغيزيا ،وهو ٌ في حني تعرض «طورغان» ما حاكته يداها من تطريز للسجاد املعلق ،واجلراب الصوفي من وبر اجلمل ،ويعرض لنا «ومرزاق» نتاج يديه من نحت دقيق على قرن حيوان الياك! توقف املطر الثلجي ،فخرجنا إلى السيارة ،كانت تصدر عن اخليمة املجاورة أصوات مختلفة؛ ميزنا فيها أصوات سيدات يغنني ،وامرأة تصرخ ،قيل لنا إن السيدة تلد ،وإن القرغيز من عائلتها يأتون للتسرية عنها ومساعدتها في الوالدة .لم نر سوى قدور املاء الساخن وهي حتمل إلى غرفة الوالدة!
أوزبك وطاجيك يقول دليلنا عن «األوزبك» حني نسأله في طريق العودة عن باقي القوميات املسلمة في شينج يانغ إنهم موزعون بني أورومتشي، وقشغر ،ويينينغ ،وتاتشنغ ،وإنهم قومية بدوية استوطنت الصني في القرن اخلامس عشر ،واعتنقت اإلسالم ،وتشبه لغتهم اللغة يس������ر عليهم فهم اإلسالم وقبوله. األوزبكية نط ًقا وكتابة ،مما َّ أنشأ األوزبكيون مساجد كبيرة في قاشر وييلي ويارقند وتشتاي، ويبلغ عددهم نحو خمسة عشر ألف نس������مة ،يشتغل معظمهم بالتجارة ،وهم في جنوب ش������ينج يانغ ينس������جون احلرير ،وفي شمالها ميارسون تربية املواشي. نتوقف عند أبناء قومية أخرى ،يقطنون بيوتا من احلجر ،وهم من أبناء قومية الطاجيك ،الذين يبلغون نحو 33ألف نس������مة في الصني .نعرف أنه في القرن احلادي عشر اعتنق أسالف 228
الطاجيك مذهب الطائفة اإلس������ماعيلية .وهم يشتغلون بتربية املواشي والزراعة ،وعندهم مالحم شعرية مثلما تعرف عندهم ملحمة الشعر التاريخية الفارسية القدمية «وانغتشوو» ،كما يحلق الصقر ،الذي يسكن الهضاب مثلهم ،في أعمالهم األدبية.
...وتتار حني زرنا نهر الفوجلا ،وتعرفنا إلى تتار مدينة قازان ،عاصمة جمهورية تتارستان ،في عدد سابق من مجلة العربي (أكتوبر ،)2007 تساءلنا عن مهد هؤالء التتار .إنهم هم أحفاد قبائل بدوية تركية كانت حتكمها مملكة ترجو خان في شمال الصني في عهد أسرة تانغ .وقد هاجرت قومية التتار من احلدود املشتركة بني الصني وروسيا إلى منطقة ش������ينج يانغ ،في الفترة ما بني عشرينيات وثالثينيات القرن التاسع عشر ،وكان أكثرهم جتا ًرا ورجال دين، فأنشأوا التعليم اإلسالمي في يينينغ وتاتشنغ وغيرهما .ال يتجاوز عدد أبناء قومية التتار 6000نسمة ،وميارسون التجارة أو األعمال الثقافية والطبية ،داخل مدن شينج يانغ ،أما في املناطق الرعوية فيشتغلون بتربية املواشي ،وتربية النحل .وميثلون أعلى نسب عدد املتعلمني إذا قورنوا بالقوميات األخرى .وجتمع أعمالهم األدبية مزيجا قوامه فنون األويغور والروس واألوزبك.
...وقوميات أخرى! أما قومية هوي فهم أسالف املس������لمني من العرب والفرس، الذين جاءوا الصني في سفارات دبلوماسية أو رحالت جتارية، في عهد أس������رتي تانغ وس������ونغ (العام 618م – العام 1127م) 229
الصني ا ُمل ْس ِلمة! نهر على َسفَر | شينج يانغ ِّ ... ٌ
وحملوا معهم اإلسالم إلى الصني .وفي القرن الثالث عشر أتى بعض املسلمني من آسيا الوسطى مع جيش منغوليا إلى الصني واس������توطنوا في أنحاء البالد حرفيني وجتا ًرا وعلماء ،وأطلق عليهم «أبناء هويهوي». بدأت قومية هوي تستخدم اللغة الصينية (لغة هان) بعد أسرة مينغ (العام 1368م -العام 1644م) ،ولكن أئمة املساجد مازالوا يستخدمون اللغة العربية في الشؤون الدينية حتى اليوم .ميارس أبناء قومية هوي في األرياف الزراعة إضافة إلى التجارة واحلرف اليدوية ،ويش������تغل أبناؤها في املدن بتجارة السلع الصغيرة أو التجارة اجلوالة ،إضافة إلى صناعات املأكوالت واملجوهرات واجللود وجتارتها ،يبلغ عدد أبن������اء هذه القومية أكثر من 8.6 ماليني نسمة ،وبجانب تشينج يانغ ،ينتشرون في أنحاء الصني، خاصة في منطقة نينغشيا الذاتية احلكم لقومية هوي ومقاطعة تشينغهاي ومقاطعة قانسو ،ومقاطعة شنشي ،ومقاطعة يوننان الواقعة في جنوب غرب������ي الصني ،ومقاطع������ات خبي ،وخنان، وش������اندونغ ،ومنطقة منغوليا الداخلية الذاتية احلكم .وتوجد في الصني منطقة خاصة لقومية هوي -منطقة نينغشيا الذاتية احلكم لقومية هوي -وواليتان ذاتيتا احلكم لقومية هوي ،و11 محافظة ذاتية احلكم لقومية هوي! القوميات املسلمة في الصني متتلك لغتها اخلاصة ،لكن ذلك يتهدد بخطر تنظيمي متارسه مؤسسات احلكومة الصينية التعليمية بشكل تدريجي .فعلى الرغم من أن اللغة العربية هي لغة الدين الذي ينتمي له معظم هذه القوميات ،فقد فرضت بعض القواعد القسرية إلغالق املدارس التي تدرس اللغة العربية ،وقد حتول بعضها إلى مستشفى زرناه في قلب املدينة القدمية من قشغر. 230
يعاقب واألكثر من ذلك هو أن تعليم اللغ������ة العربية يعد جرمية ُ عليها من ميارس������ها .واآلن يبدو أن الدور على اللغات القومية مثل األويغورية ،فاحلكومة الصينية جعلت تعليم تلك اللغة يبدأ من الصف الثالث ،وليس عند دخول املدرسة ،كما كان ،وبديال فهم يبدأون بتعليم اللغة الصينية .ويتوقعون أن األويغورية ستلقى مصير اللغة العربية أيضا بعد سنوات ،حيث إن الوظائف التي يعلن عنها تعطي األولوية لدارسي العلوم باللغة الصينية! وكان تعليم اللغة العربية قد اس������تقر في املساجد مع انتشار اإلسالم وزيادة عدد املس������لمني في عهد جيا جينغ ألسرة مينغ (1566 – 1522م) ،على يد السيد خو دنغ تشو (1597 – 1522م) العالم واملعلّم املسلم من قومية هوي في مقاطعة شانشي ،وكان يستقبل الطالب في بيته ويعلمهم مجاناً اللغة العربية والعلوم اإلسالمية ،قبل أن ينتقل إلى املسجد .فبدأ هذا النوع من التعليم في مقاطعة شانشي وامتد تدريجيا إلى مقاطعات خنان وشاندونغ ويوننان وقانسو وبكني وغيرها. وبعد ثورة العام ،1911بدأ املسلمون الصينيون بإنشاء مدارس حديثة ،تدرس فيها اللغتان الصينية والعربية ،تقبل أوالد املسلمني وتدرس املواد الثقافية الصينية والعربية في وقت واحد .بعض هذه املدارس ابتدائية ،منها املدرسة االبتدائية اإلسالمية األولى من الدرجة الثانية في العاصمة ( ،)1908ومدرسة سيهجني في شاويانغ ( ،)1906ومدرسة مويوان في تش������ينج يانغ (،)1906 واملدرسة االبتدائية اإلسالمية للدرجة الثانية في تشيتشيهار؛ وبعضها متوسطة منها املدرسة العامة في شمال غربي الصني (كانت املدرسة اإلسالمية العام ،)1928ومدرسة داتشنغ للمعلمني في جينان (انتقلت إلى بكني العام ،)1925واملدرسة اإلسالمية 231
الصني ا ُمل ْس ِلمة! نهر على َسفَر | شينج يانغ ِّ ... ٌ
للمعلمني في شانغهاي ( ،)1928ومدرسة مينغده املتوسطة في كومنينغ مبقاطعة يوننان ( .)1930وواضح أن هذه املدارس واملعاهد العلمية اليوم -باإلضافة إلى انتقال معظمها إلى العاصمة -قد أصبحت متهد لتخريج من ميارسون اللغة العربية خلدمة الدولة، كما في الس������فارات اخلارجية ،ولم تعد ،كما نشأت ،لغة حوار متارس في احلياة العامة. هكذا انتقلت اللغة من املساجد إلى املدارس ،ومن املدارس إلى اجلامعات ،وأنشأت وزارة التعليم في الصني العام « 1982جلنة تأليف ومراجعة الكتب املنهجي������ة للغات األجنبية باجلامعات»، س������ميت الحقا «اللجنة الوطنية لتوجيه أعمال تدريس اللغات األجنبية في اجلامعات» ،وتتبعها فرقة اللغة العربية التي أعدت «منهج تعليم اللغة العربية في اجلامعات الصينية» للتنسيق بني األقسام العربية في اجلامعات ،كما أنشئ «مجمع اللغة العربية بالصني للتدريس والدراسات» العام ،1985لوضع خطط تنفيذية خاصة بتدريس اللغة العربية ودراس������اتها .وقد أنشئ مبوافقة احلكومة الصينية معهد العلوم اإلسالمية في شينج يانغ ،وهو ضمن معاهد مماثلة في بكني ولياونينغ وتش������ينغهاي ونينغشيا وقانسو وخنان ويوننان وخبي .ويتبع معهد بكني -الذي أنشئ أوال في - 1955اجلمعية اإلسالمية الصينية وحتت رئاسة جلنة الدولة لشؤون القوميات مباشر ًة ،ويقبل املعهد الطلبة املسلمني من أنحاء الصني ،ومدة الدراسة فيه 4سنوات (معاهد العلوم اإلسالمية في خارج العاصمة تكون مدة الدراسة فيها سنتني أو ثالث سنوات فقط) ،ومن مقررات هذه املعاهد الرئيسة اللغة العربية واملواد الدينية. من القوميات التي لها لغتها قومية ساالر ،التي تستوطن محافظة 232
شيونهوا الذاتية احلكم لقومية ساالر مبقاطعة تشينغهاي ،ويبلغ عدد أبنائها نحو 90ألف نسمة ،ولها لغتها اخلاصة -لغة ساالر، ولكنها ليست مكتوبة ،لذلك تستخدم لغة هان في الكتابة .ويحافظ مسلمو قومية ساالر على كثير من الروايات الشعبية الرائعة ،ومتثل أوبرا اإلبل التقليدية تاريخ هجرة أسالف قومية ساالر من آسيا الوسطى إلى شيونهوا ،وهي شائعة على نطاق واسع بني أبناء القومية .أما قومية دونغشيانغ فتقطن منطقة حتمل اسمها تابعة لوالية لينشيا مبقاطعة قانسو ،ويبلغ عدد أبنائها نحو 370ألف نسمة .وطوائف مسلمي قومية دونغشيانغ متعددة ،ولكل طائفة مسجد خاص ،وتتأثر عادات أبناء قومية دونغشيانغ مبذاهب هذه الطوائف .وهم اليزالون يحتفظون بأول نسخة مخطوطة من القرآن الكرمي الذي أتى به أسالفهم من آسيا الوسطى .وهناك لغة شفهية أيضا لقومية باوآن التي تقطن منطقة جبل جيشي بلينشيا في مقاطعة قانسو ،ويبلغ عددهم نحو 150ألف نسمة. ويوجد في كل قرية تقطنها قومية باوآن مسجد كبير.
رعاة عشرة ماليني رأس راع يحمل عصاه ويهش بها على غنمه وهو يصيح فيها حتى ال تتفرق الشياه التي تكتنز بالصوف .الصوف الذي يصنع منه كل ش������يء -تقريبا -من الس������ترات إلى القبعات إلى السجاد واألحذية وأغطية املقاعد والوسائد واألغطية والقفازات ،وما لم تسعفنا به الذاكرة. يتقدم القطيع الذي يتجاوز عدده املائة رأس كبش ضخم البد أنه أثبت تفوق������ه بقرنيه في أحد التنافس������ات الكثيرة التي تتم بني الزعامات الغنمية .تسير قطعان الغنم بحوافر منفصلة، 233
الصني ا ُمل ْس ِلمة! نهر على َسفَر | شينج يانغ ِّ ... ٌ
مجترة وماضغة ،تهتز فوق رؤوس������ها الق������رون املجوفة .ويكاد يتجاوز وزن أكبرها 200كيلوج������رام كما يترجم لنا الدليل على لسان الراعي. قد يصل عمر اخلروف إلى عشرين عاما .وتضع النعجة من واحد إلى ثالثة حمالن بعد فترة حمل تص������ل إلى 150يوما، ويقف احلمل فور والدته ،بل ويعدو ويلهو خالل أيام ،حتى يصل عمره أربعة أشهر فيقف راسخا ،وهذه الغنم البرية تتمتع بقوة حاستي البصر والشم ،وسيلتيها للهرب والفكاك من احليوانات املفترسة. في القرى حتيك النساء الصوف باإلبرة ،حتى في أثناء احلديث أو املشي أو رعاية األطفال ،ومراقبة احليوانات .وقبيل موسم حصاد احملاصيل أو جمع اخلشب تبدأ النساء حبك سترة جديدة، زوجا من غط������اء األذن .لتوفر الدفء ألفراد أو قبعة أخرى أو ً األسرة في الشتاء البارد القادم. يرتدي الرجال في شينج يانغ معاطف سوداء ثقيلة مبطنة بجلد الغنم .وتبطن قبعاتهم أيضا باجللد ،كما يصنعون أغطية من اخلامة ذاتها .وال عجب أن يوجد بالصني أكبر رؤوس األغنام في العالم ( 130مليو ًنا) .وفي شينج يانغ وحدها 10ماليني رأس من الغنم املرينو األسترالي األصل ،الذي يربى ألجل الصوف ،واحلليب، واألجبان ،فضال عن حلم الضأن الذي يقدم كخروف كامل في شينج يانغ ،ويؤخذ منه الكباب الذي يسمونه يانغروتشيوان ،الذي يشوى مع قطع من الدهن. ومن التعبيرات الشائعة التي تتخذ الغنم مادة لها قولهم «الغنم األسود في األسرة» ،وكأنه شخص غير مرغوب (البطة السوداء في التعبير العربي الدارج) ،وذلك ألن صوف الغنم األس������ود ال 234
ميكن صبغه ومن ثم فإنه أقل قيمة .كما يقولون« :شد الصوف على عينيه» ،الرتداء قبعة كبيرة احلجم تنزلق دائما على العيون، مسببة عدم الرؤية ،ويقولون أيضا «مصبوغ بالصوف» ،أي إن الصوف اخلام مصبوغ ولي������س املالبس ،مما يعني جودة أفضل وقوة أكبر ،وأخي ًرا يقولون« ،مكسو بالصوف» ،وهو قول معناه أن تُخدع أو أن تُسرق أغراضك.
اسم احلجر وابتسامة احلرير ً رئيسا ،ولهم خبرة نشاطا ميارس أبناء قومية األويغور الزراعة ً وفيرة في زراعة القطن وفنون البس������تنة .نح ُن في الطريق إلى سوزاق ،وهو اسم قرية ندر فيها املاء فاستحقت االسم الذي يعني باللغة األويغورية املاء البعيد .يضيفنا صاحب البيت وعائلته ،اسمه طاش ومعناه احلجر .رغم اسمه كانت ابتسامة طاش ناعمة مثل احلرير .عرفنا سر التس������مية ،لقد كانت أمه تفقد أبناءها بعد والدتها لهم ،لكن مضيفنا عاش ،فأسموه طاش ،أي إنه الرجل الذي قاوم املوت! لألسماء هنا معانيها ،فمنهم من يسمي ابنته مبا يعني (كفاية) ،وهو داللة على أن تكون تلك آخر املعاناة التي كان يعانيها سابقا األب .االسم نفسه يتكرر في العائلة الواحدة، أما األجيال اجلديدة فتميل لتس������مية ثنائية ،مثل محمد علي، ومحمد صالح ،مثل حفيد املزارع طاش. هناك قول شهير في قش������غر ،إن القروي إذا امتلك ماال بنى بيتًا ،أما القرغيزي ،فيشتري حصانا .عدا األرض التي يزرعها باملشمش ،فإن بيت «طاش» بس������تان صغير ،وبهو مماثل له في احلجم ،وقاعة استقبال كبيرة متتد على جوانب ثالثة منها طاولة أرضية ،وضع عليها الرجل أطايب ما عنده ،ووقفت زوجته تقدم 235
الصني ا ُمل ْس ِلمة! نهر على َسفَر | شينج يانغ ِّ ... ٌ
الشاي ،بالياسمني ،وهو الشراب الذي جتده في كل مكان ،يشبه وأنواعا من اخلبز احمللي سانزاه، الشاي األخضر ،طع ًما ولو ًنا، ً وبلتقوميق ،ونان .الزخارف احمللية على اجلدران واألسقف اخلشبية تنقل لك روح البهجة ،وتعتبر صورة للبساتني التي عبرتها في القرية ،بثمارها وأوراقها وغصونها الالهية. الطريف أن أصحاب البيت ربطوا ساق قطتهم بثقل كيلو جرام، إن القطة تنظف البيوت من الفئران ،وقد قل عددها في القرية، ووجب عليهم أن يحافظوا على قطتهم!
جتا ٌر بال حدود عشر قوميات ،وعشرون مليون نس������مة ،هذان هما الرقمان اللذان يصفان املسلمني بشكل عام ،لكن هناك خصوصيات رمبا تصف كل مسلم حني يتعلق األمر باالقتصاد ،ألنهم يتفوقون في عدة مجاالت أهمها التجارة ،التي ورثوها عن األسالف الذين جابوا القارات والبلدان بحثا عن تسعة أعشار الرزق! وكثي ٌر من التجار ميثلون أسالف هؤالء الذين عركوا احلياة في قوافل طريق احلرير .وكانت جتارة الرس������ول الكرمي (صلى الله عليه وسلم) وعمل اخللفاء الراشدين بالتجارة داف ًعا لعشق هذه املهنة املربحة للمسلمني في الصني. كما يربي املسلمون املواشي ،بشكل يتفوقون فيه على غيرهم من رعاة القوميات األخرى ،ويولي املزارعون املسلمون في أرياف الصني اهتماما أكبر لتربية املواش������ي مقارنة بسواهم ،وأقاموا صناعات تعتمد على تلك الثروة احليوانية من حلوم ومعاجلة اجللود ومنتجات األلبان. وتقدم األماكن الدينية حول املزارات اإلسالمية فرصة للمسلمني 236
ً مربحا ،هكذا رأينا في نشاطا جتار ًيا ملمارسة السياحة الدينية ً القرى واملدارس واألضرحة.
بيت وحصان ودراجة نارية إذا كان الريفي يوفر لبناء بيت ،والقرغيزي لش������راء حصان، فإن املرأة منذ صباها تدخر القتناء دراجة نارية .إنهن يعتبرنها جز ًءا مكم ً ال من أسلوب احلياة ،يذهنب بها إلى األعمال واألسواق واملدارس ،ويبتكرن مهارات في قيادتها ،وحماية الوجه والرأس والذراعني ،سواء كن مبفردهن ،أو صحنب أوالدهن.
البيت في تصميم بيت املس������لم ،تقع غرفة رب األس������رة في أقصى الغرب حتى إذا قام للصالة خمس م������رات بغرفته موليا وجهه شطر البيت احلرام كان باقي أفراد األسرة خلفه .الغرفة التي اتساعا، استقبلنا فيها صاحب البيت املسلم هي األكبر ،واألكثر ً مبرزة مكانة صاحب البيت بني أفراد األسرة وهي أكمل أماكن البيت زخرفة ،تتوسط غرف البيت في مكان يغمره نور الشمس، متتد فيها طاولة طويلة على هيئة مستطيل ينقص ضل ًعا .عليها مزهريات ومباخر ،نحاسية أو فخارية ،وجدران الغرفة المعة ونظيفة حتى لدى الذين يسكنون في البيوت الطينية (ياودونغ) في شينج يانغ .يقدم الش������اي الساخن ،األخضر عادة ،أو شاي الياسمني ،قبل تقدمي أطايب الطعام ،بعد أن متد ربة البيت طستا من النحاس ذا قاعة خفية وإبريق مياه تغسل بها يدي الضيف، مثلما تس������تخدم في الوضوء .وتوضع القنينة في أحيان كثيرة على موائد املطاعم اإلسالمية ليغسل الزبائن أيديهم قبل تناول 237
الصني ا ُمل ْس ِلمة! نهر على َسفَر | شينج يانغ ِّ ... ٌ
الطعام ،لذلك فهي من العالمات املميزة للمطاعم اإلس���ل��امية في شمال غربي الصني. ومثل غرفة الف� � ��رن في الريف املصري ،حي� � ��ث توجد مصطبة دافئة فوق الفرن للنوم وقت البرد ،فإن بيت املسلم الصيني لديه مصطبة مجوفة( ،كانغ) ،متثل سري ًرا ،في جوفه مدخنة متصلة مبوقد .وإذا كان املن� � ��دوس أو الصندوق معروف� � ��ا في بيوت دول ميا حيث حتتفظ العروس بأش� � ��يائها الثمينة، اخلليج العربي قد ً فإن ذلك الصندوق اخلشبي الكبير ،ال يخلو منه بيت املسلم في شينج يانغ ،يشتريه الشاب عند الزواج إن لم يكن قادرا على شراء مستلزمات عش الزوجية األخرى .يبلغ طول هذا الصندوق عموما مت ًرا وعرضه ستني سم ،وارتفاعه سبعني سم .الصندوق الذي يصنع من ألواح خشبية سميكة وله أربع أرجل يستخدم جلملة واسعة من األغراض :لتخزين احلبوب أو حلفظ املالبس وغير ذلك .يطلى الصندوق بدهان أحمر فاحت ،وترسم عليه أشكال ورسوم تقليدية ذات خصائص إسالمية. الصندوق ،وج� � ��دران الغرف ،والس� � ��قوف ومصطبة كانغ تتميز بالزخارف اإلس� �ل��امية التقليدية ،التي تدمج مع بعض العبارات باحلروف العربية. مفتوحا وبعده حني متر على بيوت قشغر القدمية قد جتد الباب ً ستارة زرقاء ،وهي عادة قدمية ملس� � ��لمي الصني ،يرجع تاريخها ألواسط عهد أسرة تانغ اإلمبراطورية ( )907-618عندما وقعت اضطرابات اجتماعية في أنحاء البالد ،جعلت إمبراطور الصني يطلب دعما عربيا الستعادة النظام في ملكه فجاءه جيش عربي قمع املتمردين وأعاد الهدوء إلى البالد .بعد إجناز مهمتهم استقر أفراد اجليش العربي في الصني ،وتزوجوا من صينيات .وقد أصدر 238
اإلمبراطور وزوجته مرسوما ُكتب على احلرير األزرق يطلب من جميع املواطنني عدم إزعاج املس� � ��توطنني اجلدد وأفراد أسرهم، ومن يومها اعتاد املسلمون الصينيون تعليق ستائر زرقاء على أبواب بيوتهم لتمييزها عن بيوت أبناء القوميات األخرى .وتفضل الستائر اخلضراء للنوافذ ،باعتبار األخضر رمزا للحياة الطيبة في الدنيا والسعادة في اجلنة .ولهذا السبب يستخدم اللون األخضر كثيرا في البنايات اإلسالمية ،مثل املس� � ��اجد وقباب املباني اإلسالمية املهمة وغيرها .وهذا اللون يظهر دائما في بيوت املسلمني أيضا، مثل إطارات النوافذ ولوحات فن اخلط املعلقة على جدران الغرف الرئيسة وأوجه األثاث .وعلى هذا فإن األخضر هو اللون املفضل في ستائر نوافذ بيوتهم ،وإن كان القماش الذي تصنع منه الستائر يختلف ،من احلرير الغالي إلى األقمشة الرخيصة ،فإن األخضر يجمع بينها .وقد أضيفت إلى الس� � ��تائر اخلضراء في الس� � ��نوات األخيرة الستائر البيضاء ،رمزًا للحداثة من جانب اجليل اجلديد من مسلمي الصني. ويعلق املسلمون سجاجيد ذات ألوان زاهية ،ومن ال يقدر على ثمنها يزين املصاطب بأشرطة قماش ملونة عليها رسوم ألشكال إسالمية تقليدية مثل الدائرة واملعني واألشكال املتعددة الزوايا ،وفي وسط هذه األشكال يوجد عادة رسم لزهرية جميلة فيها نباتات خضراء وثمار يانعة .كما تزين البيوت لوحات باللغتني العربية والصينية أو رسوم لألماكن اإلسالمية املقدسة كبيت الله احلرام.
مستقبل اإلسالم في شينج يانغ من صور التعليم الديني في منطقة شينج يانغ الكتاتيب الصغيرة، واملدارس امللحقة ببعض املس������اجد الكبيرة .إنها تشبه إلى حد 239
الصني ا ُمل ْس ِلمة! نهر على َسفَر | شينج يانغ ِّ ... ٌ
كبير التعليم اإلسالمي في دول آسيا الوسطى من حيث الطرق اإلدارية والتعليمية وكذلك مواد التدريس. بدأ تعليم اإلسالم في البيوت مبواد التدريس متفرقة وغير موحدة ،وعملية التدريس غير منتظمة .ثم تطور األمر ،وانتقل التدريس إلى داخل املسجد ،حيث تتسع ساحة التعليم لعدد أكبر من طالب العلم ،واألئمة ،وأضحت ساحة التعليم الديني جزءا ال يتجزأ من التخطيط املعماري للمسجد ،حيث توجد عادة في كل مسجد قاعتان ملحقتان تقع إحداهما في جنوب قاعته الرئيسة واألخرى في شمالها ،وهما مخصصتان للتعليم الديني. خالل القرون الثالثة املاضية كان التعليم في املساجد يتم على مرحلتني؛ األولى مخصصة لألطفال الذين يبدأون دراستهم من تعلم احلروف العربية قراءة وكتابة ،حتى ميكنهم تالوة القرآن بالعربية بلغة صحيحة .وفضال عن ذلك يدرسون األحكام اإلسالمية األساسية وأداء الصالة باحلركات والتعبيرات السليمة ،وقراءة كتابات دينية عامة ،وتستغرق هذه املرحلة ثالث أو أربع سنوات. وعندما يكمل التلميذ دراسته في املسجد يصبح مسلما مخلصا أمينا .أما املرحلة الثانية للتعليم في املساجد فتستمر ست أو سبع سنوات ،وعلى الطالب أن يبذل جه ًدا شا ًقا في دراسته الطويلة، وحتت إرشاد األئمة يتعلم نوعني من احملتويات املدرسية :املواد األساسية مثل اللغة العربية واللغة الفارسية وعلم الفلسفة وعلم البالغة ،وكذلك املواد الدينية التي يبلغ عددها ثالث عشرة مادة، منها القرآن الكرمي وتفس������يره ،واحلديث النبوي ،وعلم الكالم، وعلم السنة ،ومذهب الصوفيني وغيرها .وبعد أن يُتم دراسته في املس������جد ،ويقر األئمة تخرجه يصبح مؤه���ل��ا ليكون إماما يقود األعمال الدينية والتعليمية في املساجد .ولكن هذه صورة 240
من املاضي ،بعد أن اجتذبت املعاهد الرس������مية -التي لها حق التأهيل -الراغبني في دراسة التعليم اإلسالمي .املستقبل قد يكون غامضا إذا لم تول العناية الكافي������ة لهؤالء ،وغيرهم من أبناء املسلمني ،فمنطقتهم متلك الكثير ،ولكن ال يحصلون في معيشتهم إال على القليل. في مدينة قشغر تصعد إلى ربوة تشاهد فيها قسمي املدينة القدمي واملعاصر ،فتكتشف التناقض وتتنبأ باملستقبل .فاملدينة القدمية شقتها طريق عصرية تفضي بك إلى القسم اجلديد، الذي يشبه عمائر بكني العصرية ،حيث يسكن أصحاب الوظائف املرموقة ،ومعظمهم من غير أبناء قشغر .تلتفت للوراء ،فتجد املدينة القدمية وسكانها املسلمني وقد حتولت أرضهم وبيوتهم إلى مجرد مزار للفرجة ،بل حتول ه������ؤالء إلى جزء من متحف مفتوح ،يعاني صعوبة احلياة. كانت هناك أربع لوحات صغيرة ملونة قد جتتمع على أبواب البيوت في قشغر القدمية ،التي بنيت على هضبة لتحميها من الفيضان .تش������ير اللوحة األولى إلى عنوان البيت ،والثانية إلى الرقم اخلاص باإلطفاء ،والثالثة إلى وصف أصحاب البيت بالود، ترحيبا بالزوار ،أما الرابعة فهي إشارة إلى أن ترميم البيت أو بناءه ،مت بدعم من احلكومة! أليست تلك تذكرة للساكن واملار بأن أصحاب البيت أصدقاء للعوز؟
241
نهر على سفر
كوستاريكا
قصيدة الفردوس والبركان!
نهر على َس َفر | كوستاريكا ...قصيدة الفردوس والبركان! ٌ
َ توقظك طيو ُر الطوقان؛ فتفطر معك السناجب، أين ميكن أن وترقص أمامك الفراشات العمالقة ذات األجنحة الزرقاء املضيئة؟ وأين تلهو ملرآك قردة ضئيلة احلجم ،واس������عة القفزات؟ وأين متطر الليل كله فكأنك حتت ش���ل��ال أبدي ،ثم يش������رق النهار أبدا؟ وأين ميكن لك بشمس ربيعية ال تكاد توحي بأنها ستغيب ً أن تضع قدما في قارة وأخرى في سواها؟ وأين ميكن أن جتد البركان والفردوس متالزمني؟ إنها كوستاريكا! نشرات األخبار تظهر رماد بركان أيسلندا العمالق مثل كانت ُ حارس أعمى يحمل هراوة يط ِّوح بها في الهواء ،بدا الرما ُد مثل «كنج كوجن» أسطوري يخرج من حتت عباءة اجلليد فيجعل الطيور قلت وأنا أتابع األخبار إن رحلة عبور احلديدية تكف عن الطيرانُ . األطلنطي لن تتم ،وأنى لها ذلك والبركان يتم َّر ُد كقاطع طريق لي، يجب أن مير بأوربا؟ ثم هدأت السحابة الداكنة ،وببصيص نور انطلقنا من مطار القاهرة إلى مدريد ،وكأن الرحلة إلى وسط األمريكتني يجب أن متر بأرض األسالف التي يسكن أحفادهم اليوم في بلدانها؛ مستعمراتها السابقة. احمليط األزرق الذي امتد ،بني العالم القدمي بخلقه والعالم احلديث باكتشافه ،كان يشبه بساطا سرمديا .تخفيه عن العيون بني حني وآخر سحابات بيضاء وكأنها ندف قطن تطرز ذلك البساط أو حتاول .أين ميكن أن تضع الساعة بعي ًدا عن البصر حتى ال تقتفي آثار العقارب وهي تتخطى مؤش������ر الساعة 11 مرة؟! في مطار العاصمة الكوستاريكية كانت اإلجراءات أبسط مما تصورتها ،طبقا لصعوبة إجراءات املغادرة من القاهرة .فلم تكن هناك على جواز السفر تأشيرة من سفارة كوستاريكية ،فليست 244
هناك أي سفارة كوستاريكية في أي دولة عربية ،كان كل ما لدي هو ذلك اخلطاب الذي أصدرته وزارة اخلارجية بالعاصمة سان خوسيه بناء على طلب جامعة كوستاريكا ،التي دعت ضيوفا من 13دولة ليحلوا مكرمني ببيت الش������عر الكوستاريكي ،لكن تلك الرس������الة املوثقة التي وصلت بالبريد اإللكتروني كانت كافية لعبوري إلى أراضي كوستاريكا بخامت حجمه كطابع بريد. ما إن خرجت من املطار حتى وجدت الفتة حتمل اسمي بخط عربي مكتوب على عجل ،يحمل الالفتة الشاعر نوربرتو ساليناس؛ رئيس بيت الشعر ،ورئيس مهرجان كوستاريكا العاملي للشعر. تخفيفا عن تعب السفر الذي كان قد استمر يو ًما كامال وجدته يحمل النس������خة األولى لديواني الصادر باإلسبانية ،ضمن 18 ديوانا آخر صدرت هذا العام لشعراء املهرجان من كوستاريكا والعالم ،من بينها خمسة لشعراء عرب ،هم خلود املعال (اإلمارات العربية املتحدة) ،وفخري رطروط (شاعر فلسطيني مقيم في نيكاراجوا) ،وطه عدنان (اململكة املغربية) ،وطلعت شاهني (مترجم مصري متخصص في األدب املكتوب باإلسبانية) ،مع كاتب هذه السطور. كان املطار عنوانا للعمارة التي ستستقبلني بها العاصمة سان خوسيه :البساطة والنظافة .لم يكن مبنى عمالقا ،ولم تكن هناك طائرات أكثر مما في أي مدينة صغيرة بأي مطار إقليمي .لكن الدقة والهدوء كانا مؤشرين على سالسة اإلجراءات. في الطريق إلى قلب العاصمة سان خوسيه ،التي وصلناها بسيارة نوربرتو بعد نصف ساعة ،كان مؤشر اللون األخضر ال يهبط أب ًدا ،ميأل األفق على امتداد البصر ،إنه امللمح األول الذي ال تخطئه العني في هذه البالد ،وكأن على الزائر أن يأخذ معه 245
نهر على َس َفر | كوستاريكا ...قصيدة الفردوس والبركان! ٌ
رئات إضافية ليتنفس هذا الهواء النقي ،إنها الدولة األكثر خضرة في العالم ،كما أنها حتتل املرتبة األولى في مؤشر الكوكب السعيد وفق مؤسسة االقتصادات اجلديدة ،التي تقوم بحساب كم املوارد الذي تستخدمه الشعوب على كوكب األرض ،باإلضافة إلى عمر املواطنني ونسبة سعادتهم في حياتهم نتيجة لذلك.
في أرض التيكوس! مساحة البالد الصغيرة ( 51ألف كيلومتر مربع) ،لم متنعها من أن حتظى مبوقع جغرافي استثنائي ،فهي تسكن قلب دول أمريكا الوسطى ،وحتدي ًدا بني نيكاراجوا في الشمال ،وبنما في اجلنوب .ال يزيد خط املسافة بني أقصى الشمال واجلنوب على 484كيلومت ًرا ،لكن تلك املسافة تضيق إذا أخذناها من الشرق حيث شاطئها على البحر الكاريبي إلى الغرب حيث تطل على احمليط الهادي ليكون 119كيلومتراً فقط .وعلى الرغم من أنها تقع على مسافة عشر درجات فقط شمال خط االستواء فإن درجات احلرارة فيها تتباين بشكل هائل ،بسبب جغرافيا ثرية، تشكل جباال ومرتفعات وبراكني ،فضال عن تباين مستويات الرطوبة فيها وشدة سقوط األمطار .في معظم مناطق كوستاريكا هناك موسمان وحسب ،هما إنفيرنو ،وفيرانو ،أي الشتاء والصيف، وهي ترجمة خادعة! فاملطر حاضر في الفصلني ،والرطوبة ماثلة فيهما ،والشمس جتدد العهد كل صباح على مدار العام! كان نوربرتو ،وكت������ب التاريخ ،يعرفونني بكوس������تاريكا للمرة األولى عن كثب :بلد له مذاق خاص ،وتاريخ أكثر خصوصية. يفخر أهلوه بأنهم منذ العام 1949أصبحوا أبناء أول قطر في األمريكتني من دون جيش نظامي .كثيرون من الـ«تيكوس» كما 246
بائع مسن يبيع منتجات غذائية معظمها صناعة منزلية
في كل سوق محلية هناك متجر أو أكثر لبيع األيقونات الدينية.
247
نهر على َس َفر | كوستاريكا ...قصيدة الفردوس والبركان! ٌ
يسمي الكوستاريكيون أنفسهم ،يتذكرون بكبرياء أنهم حتى أثناء وجود اجليش كان لديهم مدرسون أكثر من اجلنود .ولهذا بلغت نسبة التعليم 93في املائة .ساعدت احلكومات املتعاقبة ،التي استفادت من ميزانية كانت تضيع على اجليش ،في تطهير أنابيب مياه الشرب ،وتطعيم األطفال ،وتطوير اخلدمات الصحية ،ليكون الش������عب بني أكثر أبناء أمريكا الالتينية عم ًرا .ألكثر من ستة عقود ،ورؤساء كوستاريكا يدافعون عن القيم التي أخمدت حربها األهلية :إشاعة السالم ،وإتاحة االستقرار ،وتعميم التعليم.
أرض السالم عشية االنتخابات الرئاسية الكوستاريكية للعام ،1948قاد خوسيه فيغيريس فيريرا انتفاضة مسلحة انتهت بحرب أهلية دامت 44يوما ،خلفت وراءها مئات القتلى في واحد من أكثر األحداث دموية في تاريخ كوستاريكا في القرن العشرين ،وسيطر خوسيه فيغيريس على احلكومة اجلديدة وألغى اجليش ،ليتنحى في نوفمبر 1949ميالدية النظام الذي يسيطر عليه اجليش عن احلكم فتأخذ حكومة مدنية بزمام السلطة ،ويتحول فيغيريس إلى بطل وطني ،ويصبح رئيسا للبالد في العام 1953بعد فوزه في أول انتخابات دميقراطية جترى في ظل الدستور اجلديد. وقبل ثالثني عا ًما (ديسمبر )1980تنشئ األمم املتحدة في كوستاريكا جامعة السالم ،بهدف توفير مؤسسة راقية للتعليم العالي ،لتعزيز روح التفاهم والتسامح والتعايش السلمي بني كل البشر ،يدرس بها 170طالبة وطالبا ينتمون إلى 50دولة ،لنيل درجة املاجستير في مجال السالم .يقع احلرم اجلامعي في قلب محمية لغابة خضراء تسكنها القردة ،والغزالن ،والزواحف ،مع 248
أكثر من 300نوع من الطيور ،ونحو مائة نوع من النباتات .ويتم متويل برامج اجلامعة من خالل تبرعات ودعم عدد من احلكومات واملؤسسات واملعاهد التي تؤمن برسالة هذه اجلامعة. وفي العام 1987يفوز الرئيس الكوستاريكي أوسكار آرياس سانشيز بجائزة نوبل للسالم تكليال جلهوده في إنهاء احلرب األهلية في أميركا الوس������طى ،مبعاهدة وقع عليها خمسة من رؤساء أمريكا الوسطى. خالل إقامتنا في س������ان خوس������يه ،كنا نرى الفتات تعلن عن انتخابات رئاسية جديدة ،جعلت السيدة لورا شنشيال ،االشتراكية احملافظة والنائبة السابقة لرئيس كوستاريكا أوسكار آرياس، حتقق فوزا ساحقا في االنتخابات لتصبح أول امرأة تتولى الرئاسة في البالد ،لتنض������م لعدد من الزعيمات ف������ي أمريكا الالتينية بينهن ميشيل باشيليت رئيسة تشيلي ،وكريستينا فرنانديز رئيسة األرجنتني. أين ذلك املش������هد احلاضر املتوج بالسالم من التاريخ الغابر املكبل باألغالل؟ في العام 1719ميالدية ،وبعد قرنني وأكثر من وصول كرس������توفر كولومبس إليها حني وطأت قدماه في العام 1502ميالدية شاطئ كارياري األطلنطي ،وصف أحد احلكام اإلسبان مس������تعمرة كوس������تاريكا بأنها األكثر فقراً وبؤسا على ً مستوى األمريكتني! على عكس ما دار في البيرو واملكسيك من معارك دامية ،كانت كوستاريكا أقل مقاومة جليوش االحتالل القادم من أعالي البحار .وبالرغم من ذلك أصبح بُعد كوستاريكا اجلغرافي مع صعوبة إنشاء طرق للتجارة ،أحد أسباب عزلة الكوستاريكيني النسبية ،فضال عن أن رقابة التاج اإلسباني لم تكن قوية ،كما تبخر حلم العثور عل������ى الذهب بها ،ورمبا هذا 249
نهر على َس َفر | كوستاريكا ...قصيدة الفردوس والبركان! ٌ
ما دعا إلى إطالق ذلك احلكم «التجاري» بس������بب عدم قدرة كوستاريكا على املشاركة في حتقيق رخاء املستعمرات ،بالرغم من أن اسمها Costa Ricaيعني باإلسبانية :الشاطئ الثري (باإلجنليزية !)Rich Coast
الكوستاريكيون يبلغ عدد سكان كوستاريكا أكثر بقليل من أربعة ماليني ونصف املليون نسمة ،يش ِّكل البيض واملهجنون نسبة غالبة ( 94في املائة) من عدد السكان ،أما السود املتحدرون من منطقة البحر الكاريبي فال يتجاوزون نسبة 3في املائة ،فيما تعد نسبة الهنود األمريكيني األصليني 1في املائة ،ويعيش معظم هؤالء مبنازل للهنود في كورديليرا دي تاالمانكا أو جواناكاستي ،ومثلهم نسبة الصينيني، وتتركز النسبة الباقية بني ذي األصول اإلفريقية السوداء الذين يقتربون من نسبة 3في املائة ،وهم يتحدرون من ساللة مهاجري جامايكا من العمال السود في القرن التاسع عشر ،والعبيد الذين أُحضروا خالل جتارة الرقيق عبر األطلنطي. سكان كوستاريكا البيض هم أسالف اإلسبان األوائل الذين استقروا خالل القرون اخلمسة املاضية ،باإلضافة إلى ذوي األصول اإليطالية ،واألملانية ،واإلجنليزية ،والــهولندية ،والفرنسية،واأليرلندية، والبـــرتغالية ،واللــبنانية ،والبولندية ،وهناك جاليات أمريكية، وكندية ،وأوربية ويهودية .وأنا أع ّ ُد النقطة السوداء في تاريخ كوس������تاريكا املعاصر هو تصويتها ملصلحة قيام دولة االحتالل اإلسرائيلي في العام ،1948وهو األمر الذي اعتذر عنه في أكثر من مناسبة ،خالل مهرجان كوستاريكا العاملي للشعر ،شعراء كثيرون من كوستاريكا ،وهم يعلنون أن تلك احلادثة إرث تاريخي 250
ينوء بكاهلهم ،يودون لو غيروه ،وأقاموا عالقات طيبة مع العرب. وأنا أعتقد صعوبة ذلك ،فالتزال كوستاريكا تقيم سفارتها لدى الصهاينة في القدس عاصمة فلسطني السليبة.
جنان أم سجون؟ األمن الذي تنعم به كوس������تاريكا اليوم يس������تقطب الكثير من الالجئني ،معظمهم من كولومبيا ونيكاراجوا (ميثلون نحو 10في املائة من إجمالي عدد السكان) ،فضال عما استوعبتهم البالد من الفارين من أتــــــون احلروب األهلية والنظم الديكـــــتاتورية للجــــيران خالل سبعينينات وثمانينيات القرن العشرين ،وخاصة من تشيلي واألرجنتيـــــن ،والسلفادور ،وحسب إحصاءات البنك الدولي يقطن البالد حوالي 441ألف مهـــــاجر غير شرعي ،بينما يعيش 127ألف كوستاريكي شرعيا خارج بالدهم. كنت أتص������ور ،وأنا أقرأ تلك اإلحصاءات الفردوس������ية ،أنني ُ أجتول في يوتوبيا منسية بني األمريكتني ،بالد بال جيش ،وتكا ُد تكون بال أمية ،ومناخ تطيب لك اإلقامة به ،وطبيعة لو وزعت على الصحراء العربية لكفتها خضرة ،لكن القلق بدأ يساورني وهناك حتذيرات وتوصيات« :ال متش وأنت حتمل الكاميرا ..ضع حقيبتك على صدرك وامسكها بكلتا يديك ..اترك أغراضك املهمة في الفندق ..ال تسر وحي ًدا بعد الغروب ..ال تخرج يدك من نافذة السيارة ..احذر ..احرص ..احترس» ماذا يحدث أيها األصدقاء الكوستاريكيون؟ نظرة فاحصة ،إلى عمارة البيوت الكوستاريكية تكشف لك ذلك الهاجس اخلفي .البيوت في معظمها -وقد انطلقنا في طول البالد وعرضها لنحو أس������بوعني -هي من طابق وحيد، 251
نهر على َس َفر | كوستاريكا ...قصيدة الفردوس والبركان! ٌ
مادته اخلشب ،أو احلجر ،أو املعدن ،املهم أنها أكواخ أو فيالت أو بيوت وحيدة الطابق ،كأنها جز ٌر منعزلة .ستدهشك بالداخل الستائر املطرزة ،واللوحات ذات احلس الشعبي ،والصور امللونة، واملقتنيات لرموز البالد مثل العربة اخلشبية التي يجرها املزارع أو ثوره ،والكرسيان اللذين يوضعان في الشرفة أو مدخل البيت للجلوس الحتساء الشراب والكالم ،واملزروعات الكثيفة داخل البيت وحوله وأمامه وعلى ش������رفته ونوافذه ،ولكن ستدهشك باملثل تلك احلصون الكثيرة التي تدجج نسبة كبيرة من بيوت شاهدناها :أبواب معدنية ،أسوار حديدية ،حتى أن هناك أسال ًكا شائكة تطوق البيوت أحيانا! يكثر ذلك في املدن ،ويقل ونحن على الطريق بني مدينة وأخرى ،ويندر في املساحات اخلضراء الشاسعة ،حيث تكون اجلغرافيا الصعبة بانحداراتها هي اجلدران احلامية. يعزو الكثيرون قلة اإلحساس باألمان إلى وجود فقراء معوزين ومتشردين في أطراف املدنُ ،جلهم من املهاجرين ،كما تدل عليهم السحنات ،يأتون مبشكالتهم ،التي تضج بها بالدهم ،وفي ظل ظروف حياة تقتر في إتاحة العمل ،وتسرف في معدالت الغالء، ً مناخا لهؤالء في سلوك إجرامي يسد جوعهم .على يكون ذلك أطراف سان خوسيه ،وفي حي يطلقون عليه تسمية شعبية بأنه حي املشردين ميكن أن تشاهد هؤالء يبحثون في القمامة عن شيء ما ،كما ميكنك في قلب املدينة أن ترى كثي ًرا من الباعة اجلائلني يفرشون مالءات عليها البضائع الصينية التي تغرق األسواق ,طم ًعا في حفنة دوالرات( .العملة في كوستاريكا هي الكولون ،والدوالر األمريكي يساوي 500كولون ،وميكن أن تتعامل به وباليورو في معظم املتاجر ،جن ًبا إلى جنب مع العملة احمللية 252
في السجن مينح السجناء فرصة للتعبير الفني عن مواهبهم ،فظهرت براعة هذا النحات السجني في نحت األسد اخلشبي!
253
نهر على َس َفر | كوستاريكا ...قصيدة الفردوس والبركان! ٌ
للبالد) .حني تقترب الش������رطة يهرب الباعة اجلائلون بعد أن يجمعوا بضاعتهم في صرة قماش������ية ،بانتظار خالء الساحة مرة أخرى.
داخل سجن حقيقي كنت أقارن في السطور السابقة بني جنان الطبيعة وسجون إذا ُ سكانها ،فإن الرحلة امتدت بنا للدخول إلى سجن حقيقي ،في مدينة سان كارلوس ،شمال العاصمة سان خوسيه. كان هناك اتفاق بني بيت الشعر وجامعة كوستاريكا مع وزارة العدل الكوستاريكية بأن زائ ًرا سيأتي لقراءة الشعر العربي في مسرح السجن ،وأن ترجمة باإلسبانية ستصاحبه ،وأن مغنيا إكوادوريا سيعزف للمساجني بصحبة جيتاره ،وأن موظفة مبنظمة للعمل اخليري ستوزع بعض امللصقات واملطبوعات اإلرشادية عن مددت ظهر يدي مثلما حماية البيئة على النزالء .عند البوابة ُ فعل املترجم أوجستو سيزار والفنان إلباتو توريس للحارس ،كان علينا أن نقبل بطباعة ختم السجن على ظهر اليد ،حتى نخرج نحن وال يحدث استبدال بنا وراء القضبان! كانت التعليمات تقضي بأال نستخدم الفيديو ،وأال نصور وجوه السجناء ،فبعضهم ينتظر احلكم .عبرنا مدخل السجن ،ومررنا شارحا« :هذه مبجموعة من املشغوالت اخلشبية ،قال لي املترجم ً العربات والطيور اخلشبية يصنعها املسجونون كجزء من إعادة تأهليهم ،والسجن يعرضها للبيع ملصلحتهم» .في الطريق إلى حيث املسرح ،أدهشني نحات يحفر على اخلشب أس ًدا ،كان املسجون يفجر طاقة احلرية املسلوبة منه في جسد األسد الرابض .لم أمتالك من الوقوف أمامه ،واستأذنته في التقاط صورة .وكان 254
أردت .بعد أن انتهينا من ندوتنا الشعرية والغنائية ،وفي لي ما ُ طريق العودة ،طلب نزالء لم يحظوا بحضور الندوة من «إلباتو توريس» أن يعزف لهم .في حديقة السجن جلس املغني اإلكوادوري يغني وهو يداعب جيتاره ،بينما س������يزار يترجم لهم قصيدتي: «قا َل املسجون احلال ُم /للسجان الظالم /من يُ ْد َ لست ريك أ ّنَك ّ سجيني؟! /هل ِ تفصلُنا /إال ذات القضبان».
جوالت الشعراء لم تكن جوالت الشعر في سان كارلوس مقصورة على السجن، فخالل ثالثة أيام كنا نقيم ثالث أو أرب������ع فعاليات يوميا ،في مدارس ،ومعاهد ،وجامعات ،ونواد ،ومتنزهات .ولم يكن هذا األمر مخطط������ا لي وحدي ،فبعد االفتتاح الذي أقيم مبس������رح العاصمة انطلق ضيوف مهرجان كوستاريكا العاملي للشعر إلى مقاطعات البالد املختلفة ،فقرأ د .طلعت ش������اهني أشعاره في بيريس زيليدون مع الشاعر جوان بيرنال (كوستاريكا) وفخري رطروط (املقيم في نيكاراجوا) ،بينما ألقت خلود املعال أشعارها في آالخويال مع شاعرة نيكاراجوا مارتا لينور ،وكانت مقاطعة جاكو في استقبال قصائد ديوان طه عدنان (أكره احلب). في املدن الكوستاريكية األخرى قرأ الكوري آن دو -هن أشعاره مع الكوستاريكية ديانا آفييال في مونتي فيردي ،بينما استقبلت مقاطعة ليمون أبيات اإلسبانية آتيانا ألبرتي ،ابنة الشاعر اإلسباني الكبير رافائيل ألبرتي ،واحتش������د جمهور هيرديا للقاء زوجها الشاعر الكوبي أليكس باوسيدس ،وسافرت املكسيكية بيانكا لوس بوليدو إلى بيلني ،واحتفت سانتا آنا باإلسبانية بياتريس روسو ،واستعرض اإليطالي كالوديو بوتساني بأدائه التمثيلي 255
نهر على َس َفر | كوستاريكا ...قصيدة الفردوس والبركان! ٌ
الشعراء في جوالتهم بني املدارس واجلامعات ومسرح املدينة.
256
257
نهر على َس َفر | كوستاريكا ...قصيدة الفردوس والبركان! ٌ
قصائده في توريالبا ،بينما همس ش������اعر بنما هيكتور كوالدو بقصائده في هاتيلييو ،أما األميركي جان أوترس������تروم فكان مسرحه الشعري مدينة سان رامون ،وكانت خواناكاست مدينة لقصائد آدلي ريفييورو الفنزويلية ،فيما بقي ألفريدو تريخوس في عاصمة بالده سان خوسيه. كان نوربرتو ساليناس ،مؤس������س املهرجان ورئيسه ،يريد أن تتاح خلمسني ألف كوس������تاريكي الفرصة ليكونوا شهو ًدا على فعاليات مهرجان كوستاريكا العاملي للشعر هذا العام في ندوات الشعر املختلفة ،وأال تستحوذ العاصمة على الشعراء والشعر. يلقي الشعراء ضيوف املهرجان قصائدهم بلغاتهم األم ،فيما يقوم مترجمون من كوستاريكا (وأحيانا من إسبانيا واملكسيك) بقراءة القصائد املتضمنة في دواوينهم املنشورة باإلسبانية ،والتي ترجمها مترجمون أكفاء ومستعربون (ترجمت ديواني الدكتورة نادية جمال الدين رئيس قس������م اللغة اإلسبانية بكلية األلسن، جامعة القاهرة) ،بينما يقوم الش������عراء الحقا بتوقيع الدواوين التي يش������تريها جمهورهم ،حيث بلغ سعر النسخة ألفي كولون (ما يعادل 4دوالرات أمريكية) ،مع صور تذكارية. صدرت دواوين الشعراء باللغة الرسمية الوحيدة للبالد :اإلسبانية؛ اللغة األم لنحو 97في املائة من سكان البالد .الباقون يتحدثون لغات الهنود احلمر واإلجنليزية ،كما أن هناك لهجتني رئيستني ملتحدثي الكوستاريكية من السكان األصليني ،وهما الكوستاريكية، والنيكويانية التي تشبه اللهجة النيكويانية السائدة في نيكاراجوا. اإلسبانية التي يتحدث بها مواطنو كوستاريكا ت ِّ ُرشد استخدام الضمير ( )túالعائد على صيغة املخاطب ،والذي يعتبره أهل كوستاريكا عاميا ،فيستخدمون عوضا عنه صيغة اجلمع .عدا 258
عن ذلك االختالف اللغوي ،هناك اختالف طريف ،ففي حني تتبادل النسوة التحية بقبلتني في إسبانيا ،فإن الكوستاريكيات يكتفني بقبلة واحدة!
املدارس ...مسرح وحديقة ومكتبة! بنسبة املتعلمني التي تصل إلى 97في املائة في كوستاريكا (حسب إحصاء يناير ،)2009وتعد البالد واحدة من أعلى املعدالت في أمريكا الالتينية ،والعالم .تنتشر املدارس االبتدائية والثانوية في جميع األنحاء ،ويضمن الدستور للفرد حقه في التعليم اجلامعي العام ،أما التعليم االبتدائي فإلزامي ،وفي مرحلتي ما قبل املدرسة تكون مجانية .قلة من املدارس في كوستاريكا تتجاوز الدراسة بها الصف الثانى عش������ر ،إذ إنه حني يجت������از التالميذ الصف احلادي عشر ،يحصلون على دبلومة البكالوريوس الكوستاريكية املعتمدة من قبل وزارة التربية والتعليم الكوستاريكية .كما توجد في كوستاريكا جامعات خاصة وعامة ،وتعد جامعة كوستاريكا من أفضل املؤسسات التعليمية في وسط األمريكتني قاطبة. إحدى الفعاليات التي كنا شهو ًدا عليها كانت حفل افتتاح مكتبة بإحدى مدارس سان كارلوس ،مبناسبة اليوم العاملي للكتاب .بدأ احلفل بتحية الضيوف ،ثم عرض الطالب والطالبات مسرحية متعددة املشاهد مس������تمدة من األدب اإلس������باني ،عن الثواب والعقاب ،في الدنيا واآلخرة ،وسط تصفيق الزمالء واألساتذة، وبعد مشاركتنا الشعرية والغنائية ،تقدم القس الفتتاح املكتبة وأداء بعض الصلوات ،ورش املاء املقدس .وسط دعاء اجلميع بأن تكون املكتبة مساحة جديدة لألدب والفن واحلياة .في كل مدرسة زرناها كان هناك مسرح ،وحديقة ومكتبة .إنها إشارة 259
نهر على َس َفر | كوستاريكا ...قصيدة الفردوس والبركان! ٌ
إلى أن التعليم عبر املناهج الدراسية وحدها ليس كافيا ،ال بد أن تدعمها الفنون ،وأن يكون ذلك كله وسط احتفاء بالطبيعة وحرص عليها ،وأنه إذا بدأ احلرص في املدرسة ،فسيمتد لباقي أنحاء البالد.
بلد صغير ...متنزه كبير املتنزهات العامة ال تخطئها العني أنى تولي البصر في كوستاريكا، وقد أمضى كوستاريكي اسمه ألفارو أوغالدي أربعني عا ًما يطور املتنزهات القومية في بالده .وطبقا له فإن تاريخ كوستاريكا ينقسم إلى حقبتني منفصلتني :حقبة ما قبل التزام الشعب احملافظة على التنوع البيولوجي الفريد في البالد لفائدة األجيال القادمة، واحلقبة التي تلت االلتزام بذلك. أس������س ألفارو أوغالدي مع زمالئه ومنهم ماريو بوزا نظام املتنزهات في كوستاريكا ،وشغل هو نفسه منصب املدير القومي لذلك النظام مرتني ،وعمل كشخصية قيادية في منظمات أخرى مهمة للمحافظة على الطبيعة .وفي العام 1999أطلقت عليه مجلة تامي لقب «قائد في مجال البيئة» للقرن العشرين .كان ألفارو وماريو ،وهما عاملا أحياء ،يدركان أن حماية التنوع البيولوجي في كوستاريكا هي الهدف ،لبلد صغير تبلغ مساحته ثلث الواحد في املائة من الكتلة األرضية للعالم فقط ،إال أنه موطن خمسة في املائة من جميع األنواع احلياتية على هذا الكوكب .لم يكن هناك من يستخدم تعبير (تـــنوع بيولوجي) آنذاك ،ولكن شكل احلياة االستوائية بالبالد كان موضع دراسة طوال عقود ،ألساتذة في جامعة كوستاريكا آمنوا بالنظام اإليكولوجي ونظرية التطور واالرتقاء ،وكان ذلك ما ألهم العاملني الشابني بضرورة إقناع شعب 260
البركان العجوز شمال مدينة سان كارلوس ،كوستاريكا ،حلظة ثورته الليلية.
املتنزهات العامة ال تخطئها العني أنى تولي البصر في كوستاريكا.
261
نهر على َس َفر | كوستاريكا ...قصيدة الفردوس والبركان! ٌ
كوس������تاريكا مبا ينبغي عمله إلنشاء هذه املتنزهات واحملافظة على ما هو فريد. كان إنشاء متنزهات ومحميات طبيعية هو املهمة التي تُعنى باملستقبل ،ولم تكن السياحة سوى فائدة الحقة لهذا اجلهد ،فلم تكن سوى سبب ثانوي في ذلك الوقت .تب ّدلت البالد بالكامل خالل سنوات قليلة من بدء إنشاء املتنزهات .وال يوجد اليوم مواطن من كوستاريكا يجهل ما ينص عليه نظام احملافظة على الطبيعة، أو ال يعرف األمور املتعلقة بالثروة الطبيعية للبالد .لم يكن في كوستاريكا ،قبل عام ،1970أي مناطق طبيعية محمية ،وكانت معظم األماكن الطبيعية تتعرض لضغوط من صناعات التعدين وصيد الطيور وقطع األشجار ،وعلى وجه اخلصوص في أماكن مثل شبه جزيرة أوسا ( ،)Osa Peninsulaاملتنوعة بيولوج ًّيا، مما لفت انتباه العالم ليأتيها زوارها ملجرد مشاهدة كائناتها، ولم يعد اقتصادها مرتبطا بالتعدين أو بقطع األشجار للمتاجرة بخشبها ،بل أصبح اقتصا ًدا يقوم بالكامل على الطبيعة. ال تزال كوس������تاريكا تعاني من مشكالت بيئية بسبب البشر، ففي داخل املتنزهات ،هناك مشكلة صيد الطيور ،كما أن هناك مشكلة احلرائق الطبيعية ،لكن التطور العمراني غير املخطط يؤثر سلبا ،مما يؤدي إلى تلوث املياه وانعدام معاجلة مياه شبكات الصرف الصحي ،التي قد تضر مبا يجاورها من متنزهات .أما اخلطر احلقيقي الذي يحيق بكوستاريكا والعالم فال يزال يربض على مرمى حجر ،إنها التأثيرات السلبية للتغير املناخي ،وثقب األوزون وتردي حالة احمليط اجل������وي ،وتزايد األنواع احلياتية املنقرضة أو املعرضة خلطره ،وذوبان القطبني اجلليديني ،والثلوج التي تذوب من أعالي اجلبال ،وما أكثرها في كوستاريكا ،تسبب 262
الفيضانات بشكل أخذ يتواتر في السنوات القليلة املاضية.
زيارة لبركان عجوز شمال مدينة سان كارلوس قادتنا الناشطة االجتماعية فاني فوجلسوجن بسيارتها ذات الدفع الرباعي إلى إحدى القمم اجلبلية لواحد من خمسة براكني التزال نشطة في كوستاريكا ،من بني نحو 160بركانا كانت موجودة بها. كانت الشمس قد اختفت ولم تترك للسماء سوى ألوان قوس قزح ،واملطر اخلفيف يدق على النوافذ املغلقة .كل ربع ساعة أو أكثر تتوقف السيارة ،ونهبط ونتطلع للسماء .كانت صحبتنا املكونة من فانيا والشاعرين الكوستاريكيني فيفيان وسيزار والفنان إلباتو ترفع األعن������اق نحو قمة داكنة في س������ماء أظلمها املطر وسحبه ،تأملتهم وهم يشبهون عبا ًدا وثنيني يتضرعون آللهتهم على جدارية متحفية. يكرر سيزار كل وقفة جملة واحدة ترجمتها لي فانية« :سيكون املشهد أفضل بعد 500متر» .صرنا نتقدم خمسمائة فأخرى، ونحن نرصد حركة ما عند فوهة البركان .تأملت املكان الذي ميتلئ بفنادق ومطاعم .كانت الساحات واحلدائق خالية بسبب جلوء النزالء والزبائن إلى داخ������ل املباني هربا من املطر الذي اشتد .املكان يستفيد من قربه من البركان ليقدم العصائر الباردة أمام مشهد احلمم الساخنة. لم يطل االنتظار طويال .بدأ شرر يتسلل مثل برق يوحي بأن سحابة تصعد من قلب البركان ،وال تنزل من غيم السماء .كان البركان يس������عل ،قبل أن تنفجر النيران لتؤجج الليل بضوئها، وفالشات تصدح وهي حتاول التقاط صور لتثاؤب ذلك الكائن 263
نهر على َس َفر | كوستاريكا ...قصيدة الفردوس والبركان! ٌ
كنت قبل الرحلة ،قبل أسبوع واحد أمتنى لبركان الهاجع .تعجبتُ ، أيسلندا أن يخمد ،وهنا ،نرجو لبركان آرينا في شمال كوستاريكا أن يشتعل .ما أقصى اإلنسان في تطرفه بني النقيضني!
بالد القديسني يعجب الناظر خلريطة كوستاريكا التفصيلية من أسماء املدن ،التي تبدأ باسم (سان) ،وتعني القديس :سان كارلوس ،سان رامون ،سان جيراردو دي ريفاس ،سانت كروز ،سان إيزيدورا اجلنرال ،سان فيتو ..وبالطبع سان خوسيه! تشعر أيضا بأنه في كل سوق محلية هناك متجر أو أكثر لبيع األيقونات الدينية للمسيح عليه السالم ،والسيدة العذراء ،والصلبان .تشعر باهتمام كبير في تشييد الكنائس ،التي تتعملق أمام عمارة البيوت ،حتس أن الدين ميثل عنص ًرا أساسياً في احلراك االجتماعي ،بالرغم مم� � ��ا تبدو عليه مظاهر التحرر الشكلي .تذكرت اختيار القس ليفتتح مكتبة مدرسة. تقول دراسة اس� � ��تقصائية وطنية عن العقيدة ،أجرتها جامعة كوستاريكا عام ،2007إن الرومان الكاثوليك ميثلون سبعني ونصف في املائة من الكوس� � ��تاريكيني ،كما ميارس الطقوس الكاثوليكية ٪44.9من الس� � ��كان ويعتنق 13.8في املائة مذهب اإلجنيليني البروتس� � ��تانت ،وبينما ينتمي 4.3في املائة إلى ديانات كالبوذية (أغلبهم صينيون الذين بلغ عددهم 40ألفا) واليهودية ،واإلسالم، والهندوسية ،فإن 11.3في املائة قالوا في تلك الدراسة إنهم ال يعتنقون أي ديانة!
صباح اخلير باألرز والفول! في كل مدينة سوق رئيسة تتركز بها املطاعم واحملال التجارية. 264
يأتي اجلميع ليبدأ نهارهم هنا .سواء كانوا يقصدونها للتبضع أو الفطور أو لش������راء وردتهم القومية :البنفس������ج .الكل يطالع الصحف كل صباح .الصحف الرياضية هي السائدة .صحف رواجا .وضعت «مراس������لون بال الفضائح والتابلويد هي األكثر ً حدود» كوستاريكا في املرتبة األولى بأمريكا الالتينية في حرية الصحافة ،وفي املرتبة الـ 21على مستوى العالم. منر مبدخل السوق فتصافح العيون جدارية ضخمة .اجلداريات امللونة هي شاهد حاضر في كثير من الشوارع والبيوت ،سواء كانت للتجميل ،أو اإلعالن ،أو التعبير الغاضب .نأخذ أماكننا في مطعم ونطلب الئحة الوجبات .كلمة السر في املطعم الكوستاريكي هي اجلالو بنتو ،خليط األرز مع الفول ،فهما حاضران في الوجبات الثالث .يأتي األرز عادة مخلوطا باللحم أو الدجاج أو الفول ،حني عرفوا في أحد املطاعم احمللية أنني ال آكل حلم اخلنزير الذي خلطوه باألرز ،جاءوا لي بأرز ،لكنهم خلطوه بالتونة! وكأن على األرز أال يأتي مبفرده .أما الفول فهم يصنعون منه حينا عجينة مصنوعا من تشبه الزبدة ،تدهن مع اخلبز ،الذي ميكن أن يكون ً املاجنو املجففة .الفاكهة هنا حتضر بالزيت لتكون طعا ًما شعبيا. أما األجبان ،فبفضل الثروة احليوانية التي ال تخطئها العني في مراعي البالد ،فهي أكثر من رائعة .وهم يبيعونها طازجة تعلق كالثمار في أبواب املتاجر بالقرى.
ال بد من تورتوجويرو! من زار كوستاريكا ولم يزر البحر الكاريبي فكأنه لم يزرها. صغته على وزن أمثال كالشيهية كثيرة تعج بالكتابات التي مثل ُ نقرأها عن بلدان أمريكا الالتينية .كانت وجهتنا األخيرة ،انطالقا 265
نهر على َس َفر | كوستاريكا ...قصيدة الفردوس والبركان! ٌ
من العاصمة وعودة إليها ،هي رحلتنا إلى تورتوجويرو ،أو بيت السالحف ،كما يعني اسمها .في الطريق إلى تورتوجويرو وكنا نعبر وادي كارتاجو ،قال لنا دليلنا املبتسم دائما كارلوس: «في العام 1559ميالدية قررت إسبانيا إحكام قبضتها على كوستاريكا ،فأرسلت خوان فاسكيز دي كورونادو ليؤسس عاصمة للمستعمرة في وادي كارتاجو .وقد استمرت العاصمة هنا حتى ثار بركان إرازو ليدمر املدينة الصغيرة في العام 1723ميالدية». سجلة تترجم عباراتِها ذاتيا .يقول جملة كان كارلوس مثل ُم ِّ باللغة اإلس������بانية ويتبعها بأخرى باللغ������ة اإلجنليزية .قال لنا، وهو يطلب من قائد احلافلة أن يتمهل« :لعله من حسن حظكم أننا نأخذ هذه الطريق غير الرسمية للرحلة بني سان خوسيه ومحمية تورتوجويرو ،فالطريق الرسمية عطلتها السيول ،ولذلك ستتعرفون عبر هذه الطريق األطول واألكثر وعورة على نكهة البالد احمللية ،فترون مدنا ال يراها السياح ،واألكثر دهشة أنكم سترون بعد قليل النقطة التي تفصل القارتني ،أمريكا الشمالية وأمريكا اجلنوبية ،عن بعضهما البعض». جهز اجلميع آالت التصوير ،قليل������ة هي البلدان التي تفصل قارتني ،أو جتمع بينهما .هي احلال في سيناء املصرية واسطنبول التركية وها هي مرة أخرى في كارتاجو الكوستاريكية .التقطت صورة جلسر قدمي يحدد النقطة الفاصلة ،يعبر جدوال صغي ًرا ال تكاد املياه فيه تصل إلى املنتصف. على مساحة أكثر من 126ألف هكتار تعيش كائنات ونباتات تبلغ 1500نوع ،مما يجعل من تورتوجويرو محمية نادرة .يستقبلنا رودولفو دادا في منتجعه ،وهو يفخر بأنه سليل أسرة فلسطينية جاءت قبل نحو قرن إلى كوس������تاريكا .فقدت األسرة بيتها في 266
جديدا لها في كوستاريكا .لم يبق من فلسطني فأقامت وطنا ً الوطن األم س������وى كلمات عربية تعد على األصابع وصور على جدران الذاكرة لعائلة عربية .في مساء اخلتام دعوني ألضيء ش������معة على روح ش������اعر عراقي راحل كان يُد ِّرس في جامعة كوس������تاريكا هو أنور الغس������اني الذي توفي هذا العام ،بعد أن ساهم في توسعة آفاق املهرجان الش������عري باستضافة العرب، وكان الشاعر أحمد الشهاوي أول عربي يدعى إليه ،جاءت بعده الشاعرة املغربية عائشة البصري ،ثم حللنا نحن خمسة عرب م ًعا وكأننا ملكنا املهرجان. كان الغساني من بني جماعة كركوك األدبية مع فاضل العزاوي وجان دمو واألب يوسف سعيد ،التي تشكلت في ستينيات القرن املاضي، وقد انتقل في العام 1962إلى بغداد قبل أن يسافر في العام 1968 إلى أملانيا فيحصل على الدكتوراه في الصحافة من جامعة اليبزك في ،1979ويقوم بالتدريس في أملانيا واجلزائر ،ثم يرحل ليقيم في سان خوسيه أستاذا للصحافة واإلعالم في جامعة كوستاريكا. على ضوء الشمعتني اللتني أضاءتا روح الغساني الراحل كان الشاعر الكوستاريكي نوربرتو ساليناس يقرأ كلمات محبة وتقدير ووداع، وكان املغني اإلكوادوري إلباتو توريس يعزف على جيتاره مقطوعة جعل عنوانها «ألف ليلة وليلة» ينشد فيها« :ها هي «شهرزاد» تفت ُح ك َّل األبواب /تري ُد أن يناديه� � ��ا أح ٌد من قصور احلمراء /تريد أن ينقذها كما يأخذ املد بيد اجلزر /لن تنتهي القصة عند الفجر/ لن تكون هناك نهاية /ستكون القصة مثل وشم /يدوم وسط حرائق الرقص /على أنغام الرومبا /بانتظار شروق الشمس» ،وكنا جمي ًعا بعد أن امتد بنا الليل نتداول الشعر بكل اللغات في بالد الفردوس والبركان ننتظر شمس قصيدة جديدة. 267
نهر على سفر
يوتوبيا ...وفوبيا
مانديال النـد
نهر على َس َفر | يوتوبيا ...وفوبيا مانديال النـد ٌ
صباحا ذات يوم صيفي كان موع ُدنا مع الطائرة التي في التاسعة ً ستتجه بنا إلى دبي ؛ حلقة الوصل بني مطار الكويت الدولي ومطار جوهانسبرج في جنوب إفريقيا .حني انتصف النهار بدأت طائرتنا الثانية رحلتها من اجلزيرة العربية إلى تخ� � ��وم القارة اإلفريقية، وعلى خالف الغبار الذي تركناه رمزًا للصيف بشطآن مدن اخلليج العربية ،كانت الس� � ��واحل اإلفريقية ،ونح� � ��ن نحلق فوق األراضي الصومالية وما بعدها وصوالً إلى سواحل كينيا ،تُظهر في مرآة السماء الصافية تلك اجلغرافيا البرية للقارة السمراء :الصحراء. اجلبال .الهضاب .املراعي .جن ًبا إلى الودي� � ��ان التي كانت أنها ًرا قبل أن جتففها السنوات .بعد منتصف الرحلة -التي استمرت ثماني ساعات وربع الساعة -كان الظالم قد حل ،وكأنه يذكرني بلون القارة التي جنتاز سماءها على ارتفاع 40ألف قدم ،بدرجة حرارة خارجية وصل� � ��ت إلى 68درجة حتت الصفر ،كما تش� � ��ير شاشة املعلومات .لكننا مع اقترابنا من مطار جوهانسبرج ،كانت ً سألت بساطا النهائ ًيا. أنوار املدينة تشبه أشجا ًرا من النور ،تطرز ُ ً نفس� � ��ي ،هل أضاءت احلرية البالد التي عانت طويال ،كما فعلت الكهرباء في الظالم الذي حجب الرؤية في الس� � ��اعات األخيرة؟ لم تكن اإلجابة بسهولة السؤال ،ألنه كان علي أن أكتشف في أيام قليلة ماذا حل بالبالد التي حتتفل مب� � ��رور 16عا ًما على غروب نظام الفصل العنصري. كأنني على موعد معه ،كان نيلس� � ��ون مانديال في الطائرة التي أقلتنا إلى بالده .قضيت بصحبته أكثر من ساعة ونصف الساعة من خالل الفيلم الذي قام ببطولته املمثل مورجان فرميان ويسجل أيام مانديال األولى بعد وصوله إلى سدة احلكم حني فاز بأول انتخابات حرة في جنوب إفريقيا ،كأول زعيم أسود يحكم وطنه .كان الفيلم 270
خريطة جنوب إفريقيا ،ومتثال عمالق حملررها نيلسون مانديال ،في ميدان يحمل اسمه باحلي الراقي في جوهانسبرج.
271
نهر على َس َفر | يوتوبيا ...وفوبيا مانديال النـد ٌ
مثل حكاية خيالية ،يرصد مثاليات ذلك الرجل االستثنائي .استعان مانديال على قسوة 26عا ًما في سجنه بجزيرة روبن آيالند ...بالشعر ليكسر احلجر .استمد عزميته من اإللهام ليحقق به األحالم. ٍ متهيد لواقع لكن الفيلم الذي شاهدته في السماء لم يكن سوى وليت البصر والسمع وجدت وصلت ،وأنى على األرض .ألنني حني ُ ُ كلمات مانديال ،وصور مانديال ،وآثار مانديال ،وتذكارات مانديال، ومتاثيل مانديال .أدركت حينئذ أنني في «مانديال الند» .حتى في حمى انشغال البالد باستقبال كأس العالم بعد أسبوعني لم يكن هناك من ينسى دور مانديال بإحضار تلك األيقونة الذهبية إلى مالعب القارة اإلفريقية للمرة األول� � ��ى ،ورمبا للمرة األخيرة في حياتنا! في مطار جوهانسبرج الذي يتمطى كدودة عمالقة اجتهنا إلى شاب أسمر طويل أحد مكاتب االس� � ��تعالمات ،كان يقف باملكتب ٌ القامة واسع االبتسامة ،نسأله عن الفنادق املتاحة ،ونحن نقطع حواره مع رجل يكبره سنا أبيض البشرة .على عادة ما نتخذ في الس� � ��فر من أماكن لإلقامة تتيح االنتقال في أركان املدن األربعة سألناه عن فندق يكون في قلب املدينة .نظر إلينا الرجل األبيض بدهشة وقلق وسمح لنفسه بالتدخل« :ال أنصحكما بذلك .هذا هو اخلطر بعينه» .عاود الشاب عرض اختياراته .وقال لنا إنه بإمكاننا أن نستأجر فيال في احلي الشمالي باملدينة؛ (عرفنا بعد ذلك أنه أحد أحياء ُسكنى البيض) .ومادام أهل البالد أدرى بشعابها ،فقد استقررت مع زميلي املصور سليمان حيدر على اختيار ما اقترحه ُ �اب ،خاصة بعد أن عرفنا أن صاحب الفيال سيكون سائقنا الش� � � ُ ودليلنا خالل فترة إقامتنا في جوهانسبرج .بعد قليل حضر سائق اسمه كينيث ،أقلنا إلى الفيال ،التي ال تبعد سوى 15دقيقة عن 272
املطار .في الطريق قال لنا كينيث إن الفيال التي سنقطن بها تبعد عن قلب املدينة بنحو ساعة ،إن لم يكن هناك زحام!
في احلي الشمالي املكان الذي قصدناه متسع الشوارع ،وعلى جانبي الطرق اجلانبية فيالت ُم َس َّو َرة .حني وصلنا غايتنا أدار السائق جهاز التحكم ليفتح بوابة تعبر بها السيارة مدخل الفيال .بعد قليل جاء صاحب الفيال، هيكتور ،وهو شاب أسمر بدين .بعد حديث استمر إلى منتصف الليل ،قسمنا أيام اإلقامة على الرحالت الداخلية في جوهانسبرج وما حولها .بدأت أشعر باالطمئنان .احلي آمن .هادئ .زال عني تخوف أثارته كلمات الرجل األبيض ف� � ��ي املطار ،وقد أوحى إلي حللت ً أدرت مفتاح التلفزيون ،كانت هناك أرضا غير آمنة. بأنني ُ ُ برنامجا مثي ًرا اس� � ��مه «الدرجة الثالثة» .كان مذيعة شقراء تقدم ً املوضوع الذي تدور حوله احللقة يناقش سؤاال وحي ًدا« :هل انتهى عهد الفصل العنصري؟» ،في املادة الفيلمية التي عرضتها شاهدت رجال أبيض يوجه لكمة إلى املصور احتدا ًما وغض ًبا من س� � ��ؤال وجهته إليه املذيعة وهو ال يزال يرتدي قميصا يحمل علم البالد أثناء حكم الفصل العنصري .انتهى التسجيل ،وأخبرتنا املذيعة أن الثائر العنصري ألقي القبض عليه ونال غرامة كبيرة! أشخاصا مختلفني، في اإلعالن الذي تلى البرنامج يخاطب املذي ُع ً يدعوهم للتأمني على حياتهم ،وهو يقول« :الشاب سيجد من يرعى والديه حني يغيب لألبد ...الرجل سيطمئن ألن مبلغ التأمني سيغطي نفقات تعليم ابنته اللغة الفرنسية حني ال يكون هناك لينفق عليها.. على اجلميع أن يرحلوا -ش� � ��بابا وناضجني -بعد التأمني على حياتهم ،ألن -شركة ما -ستجعلهم يرحلون وهم مطمئنون في 273
نهر على َس َفر | يوتوبيا ...وفوبيا مانديال النـد ٌ
دنياهم اآلخرة إلى أن مبلغ التأمني -الذي يصل إلى مليون راند ـ سيغطي النفقات التي قد ال يستطيع توفيرها وهو حي»! �ذت جريدة من الطائ� � ��رة ،والصحف هنا معظمها كنت قد أخ� � � ُ ُ باإلجنليزية ،وقليل منها بغير اللغة االقتصادية للبالد التي تعتمد 11لغة رس� � ��مية هي لغات قبائلها .كان التحقيق الرئيس يناقش قضية اغتيال أصحاب املزارع من البيض ،وفي صفحة تالية خبر عن اعتذار إحدى الصحف لنشرها رسو ًما مسيئة للرسول عليه الصالة والس� �ل��ام ،زاعمة بأن أصحاب الديانات األخرى لديهم حس فكاهة فيما يخص أنبياءهم ،وأنها لم تقصد اإلساءة ملشاعر املسلمني بالبالد. �ت النو ُم ،بينما نباح كالب كان اللي ُل قد انتصف ،ولذلك حاول� � � ُ قلت إن عيون الصباح ستكشف لي حراسة يتردد بني حني وآخرُ . حقيقة ما تزعمه وسائل اإلعالم .كنت أستغرب ما أقرأ وأشاهد وأسمع ،فالبالد ستستقبل جماهير والعبي كأس العالم بعد أيام، وإن لم تكن يوتوبيا من األمان ،فإنها ستكون مستنقعا لفوبيا من اخلوف!
الطريق إلى «سو وي تو» ولدت جوهانسبرج .هنا ينطقونها دجوبرج. منذ قرن وبضع سنوات، ْ لكننا في تدويننا سنلتزم باسمها الرسمي .ولدت جوهانسبرج وفي فمها ملعقة من ذهب ،ألن بناءها جاء ليخدم املنقبني عن املعدن النفيس (اكتشف الذهب في جنوب إفريقيا سنة 1871ميالدية). اآلن ال يبقى على الطريق التي منر بها من ذكرى للذهب في املدينة سوى تلك العنابر التي تشبه أقفاص تربية الدجاج واألرانب« .هنا عاش العمال الذين اشتغلوا عمرهم باملناجم ،لم تكن تلك املنطقة 274
تسمح للنساء بالدخول إليها .إنها مناطق للرجال وحسب .اآلن ال يوجد تنقيب عن الذهب داخل املدينة .لكن هناك عمليات تنقيب خارجها» .كانت تلك عبارات هكتور وهو يشير إلى مجموعة من املكعبات احلجرية التي تشبه بيوتا بسبب تلك النوافذ الضيقة التي تشبه فتحات في زنازين. لم تعد جوهانسبرج مدينة واحدة .رمبا تكون بدأت مع الذهب، لكنها اآلن متتد مثل أخطبوط ،فلها ذراع في كل اجتاه. ونحن نغ� � ��ادر احلي كانت هناك مالحظة أدهش� � ��تني .الفيالت اجلميلة ،سواء تلك املفردة ،أو التي تشغل حيزًا في مجمع للفيالت، تعلو أسوارها األسالك الشائكة .األسوار التي حتيط بها ليست سوى أعمدة من حراب .األسالك إما دائرية كما تراها في اخلنادق واحلروب ،أو هي شرائط غال ًبا ما ترى عليها إشارة أنها موصولة بالكهرباء .كان الهدوء واجلمال اللذان يلفان احلي يخفيان في قلبه خوفا غامضا .على األرصفة رأيت عالمة أزعم أنني أراها للمرة األولى ،دائرة يقطعها خط أحمر تعني ممنوع ،أما الرس� � ��م فكان ميثل بائ ًعا على رصيف حتت مظلة .غير ٍ بعيد من اإلش� � ��ارة كان هناك باعة مؤقتون ،لكن حمى كأس العالم سمحت لهم بأن يبيعوا األعالم والقبعات وصفارات الفوفوزيال وسواها ،لكن آخرين لم يكونوا يحملون شي ًئا ،سوى بعض اآلالت التي تستخدم في الطالء والنجارة والزراعة ،إنهم عمال يسرحون من أجل مهنة وقتية. قال هكتور« :في جنوب إفريقيا نحو 4ماليني مهاجر من زميبابوي وحدها .أغلبهم عاطلون يأتون بحثا عن أش� � ��غال دنيا .انظر ،ها هم ،رجال ونساء على حد س� � ��واء» .على مر األيام سنكتشف أن هناك معضلة في العالقات بني جنوب إفريقي� � ��ا وإفريقيا ،حتى أن زيارة السيد زوما رئيس البالد إلى هراري كانت وراء مساءلة 275
نهر على َس َفر | يوتوبيا ...وفوبيا مانديال النـد ٌ
له في اجلمعية العامة .يعتقد زوما أن عليه دو ًرا لتأمني السالم في زميبابوي ودارفور ومناطق إفريقية أخرى يتوقع أن يؤمن مع مشاركني له في االحتاد اإلفريقي واألمم املتحدة اتفاقات سالم تاريخية .كانت قضية استجواب زوما لزيارته إلى زميبابوي تدور بينما اجلماهير في ديربان ،أحد موانئ جنوب إفريقيا على احمليط الهندي ،حتيي العداء الفائز مباراثون جنوب أفريقيا ،وكان عداء من زميبابوي! تعودنا على مشهد املهاجرين البؤساء ،عاطلني وأجراء ،ونحن نبتعد عن األحياء الراقية ،ونقترب من «سو وي تو» .إنها مدينة لها لغتها اخلاصة .ال يعيش بها سوى السود ،وال يقطن معظمهم سوى أكشاك تفتقر للحياة اآلدمية ،قوامها غرفة وحيدة أضيق من أن تتسع لعائلة ،عليها أن تقضي حاجتها في حمام ملحق بها من اخلارج .كان ظهورنا في «سو وي تو» غريبا ،على الرغم من أننا لسنا من ذوات البشرة الشقراء ،إال أننا وسط منطقة ال يسكنها سوى السود .بدت لنا مظاهر احلياة البائسة في املهن البسيطة التي ال تسمن وال تغني من جوع. قرب طاولتني رأينا فتاتني تبيعان بعض احللي التقليدية واألعمال اليدوية .تقدمت منا إحداهما وعرفتنا على نفسها« :اسمي سامانتا. أنا رس� � ��امة .هذه البطاقات امللونة بريشتي .أيضا أنا أطبع على القماش بالطباعة احلريرية» .تأملت رس� � ��وم س� � ��امانتا .لو أنها ولدت في الطرف اآلخر من املدينة ،لو أنها لوالدين موس� � ��رين، رمبا لكانت فنانة تشكيلية معروفة ،تدرس في بريطانيا وتعرض أعمالها في باريس وتقتنى لوحاتها في نيويورك .لكن س� � ��امانتا قدرها «سو وي تو». ٍ خطوات من سامانتا يوجد شاهد معماري تشبه قمته على بُعد 276
جز ًءا من مئذنة سامراء امللوية .حتت قبة الشاهد األسطواني ،التي تصلها بالسماء نافذة تشبه عالمة ( )+وقف عازف على نايه يقدم أحلانا حزينة .درنا حول مائدة أسطوانية حجرية ،على طرفها وضع العازف طبقا ليضع زوار املكان بعضا مما يتيسر لهم من النقود. لم أصدق أن املكان الذي شهد توقيع اتفاق نهاية الفصل العنصري حتول إلى غرفة لعازف بائس. في مواجهة سوق شعبية جتد فيها كل ما سيذكرك بجنوب إفريقيا، نصب تذكاري أدغالها وحيواناتها ،رسومها ومشغوالتها ،كان هناك ٌ أمام س� � ��احة كبيرة يجري فوق حصاها نهر من مياه يعلوه جس ٌر. كانت الساحة خالية إال من مارة يعدون فوق اجلسر ،ومصور يعرض علينا أن يصورنا أمام النصب .شكرناه ونحن نشير آللتي التصوير اللتني نحملهما .كان امليدان ،والنصب ،حتية للشهداء من الطالب الذين تظاهروا ضد الفصل العنصري .في ذلك اليوم خرج األوالد إلى مدارس� � ��هم دون أن يخبروا آباءهم بعزمهم على التظاهر .لم يعد أح ٌد حيا من املظاهرة .سالت دماء الصبية ،برصاص الشرطة العنصرية .ال أدري هل كان خياال أم أنه ظل احلصى في النهر؟ كنت أملح لونا أحمر اليزال يسيل حتت اجلسر الصغير. يضيف هكتور :اسم هذا احلي املدينة مختصر السم ساوث ويست تاونشيبس .أي إن «سو» ترمز للجنوب ،و«وي» للغرب ،و«تو» للمدن (تاونس) التي اجتمعت حتت مظلة هذه املدينة السمراء. مرة أخرى ،وليست أخيرة س� � ��يظهر لنا مانديال .قال هيكتور: «ليس كل ما في سو وي تو أسود .اآلن سنتجه إلى شارع عاش به اثنان حصال على جائزة نوبل للسالم .هذا الشارع في سو وي تو ستجدانه في موسوعة جينيس لألرقام القياسية ،وأما املكرمان بجائزة نوبل فهما نيلسون مانديال ،والقس ديزموند توتو .عبرت 277
نهر على َس َفر | يوتوبيا ...وفوبيا مانديال النـد ٌ
السيارة بنا منزل القس توتو .اليزال يسكنه ،من حني آلخر ،لذا ال يصرح ألحد بزيارته بغرض الفرجة .قبل أن نعود لبيت نيلسون مانديال مررنا ببيت زوجته الثانية ،ويني مانديال ،وعرفنا أنها تقضي هذا الصيف بإسبانيا .عدنا إلى بيت نيلسون مانديال الذي حتول ٍ تذكارات كثي� � ��رة .على جدار الواجهة يخفي مزا ًرا ،واليزال يضم اإلسمنت موضع رصاصات أطلقتها الشرطة حني جاءت العتقال ويني مانديال .رائحة املكان بالصور الكثيرة ملانديال ،وأوالده الذين رحلوا ،وابنته التي تزوجت أمي ًرا من سوازيالند ،وزوجته ،وأمه، أعادتني حلياة مانديال احلقيقية .كنا قد وصلنا إلى الشجرة التي شهدت مولد أبنائه .كانت الشجرة قد انحنت مثل كهل آملته السنون. جلست قليال أتذكر أيام مانديال ،قبل أن يعود إلى هذا املنزل إثر ُ إطالق سراحه في 11فبراير 1992م. كان نيلسون مانديال يحلم ،وكنا نؤمن بحلمه .كان زعيما حقيقيا لديه طموح ،وكان أملنا أن تصيب ع� � ��دوى طموحه كل الزعماء. كان يريد إفريقيا جديدة ،وكانت تل� � ��ك إرادتنا كلنا .كان مانديال يخطط لعالم مختلف ملا بعد احلرب الباردة ،والفصل العنصري، واالستعمار .وكان ذلك أهم ما نحلم به. في متحف آخر هو ( )Apartheid Museumيسجل سنوات الفصل العنصري كانت عمارة املكان تعيد لنا صورة احلياة القاسية التي عاشها أبناء البالد .نعبر البوابة إلى غرفة مليئة بالالفتات احلقيقية التي أعيدت إلى احلياة :إنها الالفتات التي كانت تسمح لألوربيني فقط مبمارسة حياة حتظرها على سواهم .كثيرة هي البطاقات املُكبرة التي متثل مواطنني جنوب إفريقيني كان عليهم أن يعاقـَبُ� � ��وا إذا عبروا إلى مناطق غير مج� � ��ازة لهم .في واجهة املكان الذي س� � ��جنت فيه البطاقات جتلس جلنة حتدد العقوبات 278
فتاة ترتدي أحد األزياء التقليدية حيث تعمل في قرية الزولو الفولكلورية.
279
نهر على َس َفر | يوتوبيا ...وفوبيا مانديال النـد ٌ
ملن يخالف أوامر الشرطة. وهي تكاد تبكي ،وقفت فتاة سمراء تتأمل البطاقات ،رمبا تبحث عن أحد أفراد عائلتها وراء التاريخ واألسوار والقيود .كانت تلك نقطة في التاريخ البد أن لها جذو ًرا.
يوم في حياة الزولو ٌ كان سكان «البالد» من اخلوي خوي ،الذين ميزجون في حياتهم لصا .كانت بني الرعي والقنص ،مع البوشمن ،الذين كانوا رعاة خُ ً اجلماعتان قريبت� �ي��ن حتى يكاد التمييز بينهما في علم اإلناس� � ��ة (األنثروبولوجي) يكون صع ًبا .لكننا نحكي هنا عن تاريخ 40ألف سنة خلت! سنعبر القرون لنصل إلى بداية التقومي امليالدي فيكون وضوحا حني يسرد علينا العلماء كيف املشهد األنثروبولوجي أكثر ً اتصلت جماعة اخلوي خوي بقبائل البانتو ،التي متارس الصيد وجمع الثمار ـ ليمارسوا م ًعا الرعي وليهاجروا جنوبًا من املكان الذي جمعهم م ًعا -بوتسوانا اليوم -إلى رأس الرجاء الصالح. التعايش بني اجلماعتني على امتداد قرون األلف األولى للميالد أفضى بنا إلى جماعات مستوطنة .لم ترع هذه اجلماعات احليوانات في حظائر وحسب ،بل بدأت بزراعة الشعير وتعدين أدوات القنص، وصناعة الفخار .وبدأ عص ٌر ظهرت فيه القرى التي جتمع أبناء هذه اجلماعات .في القرن امليالدي الثالث ظهر ما عرف باسم كوا زولو ناتال .وهذه صورة لنشأة الزولو الذين انتشروا بني املقاطعة الشمالية ،وجوتنج ،وفري ستيت. بعد ذلك بقرون ستتجه الهجرات القبلية إلى اجلزء الشرقي من جنوب إفريقيا ،لتكون مستعمرات قروية ،ولتبتدع في القرن اخلامس عشر ثورتها الصناعية ،وليبدأ عصر تصنيع احلديد ،والتنقيب عن 280
الذهب والبحث عن النحاس ،وقد كانا على عمق يصل إلى 25مت ًرا في باطن األرض .اليوم مييز األنثروبولوجيون بني ثالث قبائل في تلك البقعة من البالد؛ الزولو ،والسوازي ،والكوسا (تنطق الكاف �ت أن هكتور من قبيلة الزولو ،وأن قريبة من حرف اخلاء) .عرف� � � ُ زوجته أيضا من الزولو ،لكنها ليست من العائلة نفسها ،أما ابنتهما فقد كان اسمها سميحة ،أو كما ينطقانها سميخة! عرض علينا هكتور أن يضمن برنامجنا زيارة للقرية التي ظل بها حتى تزوج، وكانت فرصة لنا للتعرف عن كثب على حياة الزولو. وصلنا القرية فاس� � ��تقبلنا عدد من الراقصني التقليديني ،بزي شعبي باذخ األلوان ،وأغان فولكلورية عالية الصخب ،وأداء حركي استثنائي السرعة .الفتاة التي اصطحبتنا إلى داخل قرية تضم ٌ محيط واحد من األدغال ،أرشدتنا أربع قبائل أخرى ،ويجمع بينها إلى املسرح الذي يقع في مقدمة القرية ،حيث عرض فيل ٌم يلخص قصة احلياة واحلضارة في جنوب القارة. زرنا الزولو ،ومنهم صناع احلراب ،وزرنا القبائل األخرى التي متارس حياتها ،ومنها ملك يتخذ ثالث زوجات الواحدة منهن تبلغ ضعفه حجما أو أكثر ،بال مبالغة .في نهاية اجلولة قدمتنا الفتاة إلى قائد املجموعة ،الذي دعا زعيم القبيلة بالقرية لتوسط مسرح آخر إلى ميينه قارع الطبلة العمالقة ،وخلفه ويساره مجموعة من العازفني اآلخرين .بدأت احلفلة الراقصة التي اختتمت -حتية لكأس العالم -برقصة الديكسي الشهيرة .حني حضر موعد الطعام، تقدمنا هكتور إلى مائدة حافلة عليها أطباق حلوم التماسيح والنعام والدجاج واألسماك .كانت ثمار القرع بني ما طهي من طعام مع ً منتفخا على غير العادة .اكتفى سليمان السبانخ .أما األرز فكان وفعلت مثله بعد أن أضفت قط ًعا من صدر النعام، باخلضراوات، ُ 281
نهر على َس َفر | يوتوبيا ...وفوبيا مانديال النـد ٌ
أما هكتور فلم يدع شي ًئا إال وأصاب منه القليل والكثير. في طريق العودة إلى جوهانسبرج لم نخرج عن األجواء التقليدية حني عرجنا على سوق السحرة .ف ِّك ْر في أي شيء غريب وستجده: هنا قر ٌد محنط .هيكل عظمي لذئب .جلد ثعبان .ذيل حليوان بري. رأس ثور منزوع العينني .صخور ملونة .ربطات أعشاب برية .الكثير من املساحيق والعديد من األواني البالستيكية .زجاجات حتوي سوائل .هنا ستأتي زوجة تشكو من زوجها فتعد لها الساحرة ما يعيده إليها .هنا سيأتي رجل ليشتري شي ًئا يجعل قلب رئيسه في العمل يلني له .لم نكن نريد شي ًئا سوى التقاط بعض الصور. على ناصية السوق كان يقف ش� � ��اب ضخم اجلثة جعله هكتور مسؤوال عنا حتى ال تهاجمنا الساحرات وال يتعرض لنا املشعوذون. نقده ما أراده ،ولكننا حني انتهينا طاردتنا نسوة صورنا «محالتهن». كن يرغنب في مكافأة إضافية ،حني رفض هكتور أخذت املرأة حتدق بنا جمي ًعا واح ًدا تلو اآلخر ،وكأنها تقرأ تعاويذ .حني كانت تقابلنا مشكلة على الطريق كنا نتذكر لعنة تلك الساحرة ونضحك ،ألن هكتور قال لنا إن سحرها لن يسافر معنا ،فهو محدود جغراف ًيا بجوهانسبرج وضواحيها .كانت تلك حياة يومية آلالف السنني ،ولم تستطع احلياة اجلديدة في جنوب إفريقيا أن تغير منها شي ًئا.
وقفة تاريخية كان انتشار اإلسالم في الشمال اإلفريقي ودول البلقان قد حول سبل التجار األوربيني إلى جحيم ،مما جعل اإلسبان والبرتغاليني يبحثون عن دروب بحرية للوصول إلى الهن� � ��د ،بعي ًدا عن موانئ البحر املتوس� � ��ط الذي أصبح في القرن اخلامس عشر ميالدي بحيرة إسالمية .ولذلك تركزت آمالهم في رأس الرجاء الصالح، 282
النوارس ترحب مبرتادي شواطئ كيب تاون ،والفرق الشعبية تعزف لهم في ميناء املدينة.
283
نهر على َس َفر | يوتوبيا ...وفوبيا مانديال النـد ٌ
حول ذيل القارة الس� � ��مراء ،ليكون مالذهم لتأمني جتارة التوابل، أهم بضاعة في العصور الوسطى .وقد شهد العام 1487م وصول الغرب األوربي إلى جن� � ��وب القارة اإلفريقية للم� � ��رة األولى .كان بارثلميو دياز وصحبه في حملة من 3سفن قد دار حول الرأس، الذي س� � ��ماه دياز « »Cabo da Boa Esperançaوترجمتها رأس الرجاء الصالح .بعد ذلك بعشر سنوات دار فاسكو دا جاما حول املكان نفسه ،قبل أن ينجح في الوصول إلى الهند في العام 1498م .هكذا بدأ البرتغاليون بتوجي� � ��ه األنظار نحو ذلك الكنز املالحي ،الذي سرعان ما اجتذب إليه مالحني أكثر سطوة ،وشهد صراعا بريطان ًيا -هولند ًيا على القرن السادس عش� � ��ر امليالدي ً الرأس الذي صعد على اخلارط� � ��ة املالحية كمحطة نظامية بني احمليطني ،األطلنطي والهندي .في العام 1624امليالدي حتطمت أمام صخور جبل الكيب املعروفة باسم جبل املائدة سفينة تابعة لشركة الهند الشرقية الهولندية ،وقد بنى بحارتها املنعزلون على اجلزيرة التي تقبع قبالة اجلبل قلعة آوتهم ملدة عام ،قبل أن تنقذهم قافلة هولندية أخرى. لم يكن الهولنديون ينوون «احت� �ل��ال» الكيب وما حولها ،لكنهم أرادوا تأمني مسار جتارتهم ،وهذا ما جعل تأمني التجارة يتحول إلى احتالل رسمي ،بعد وصول جان فان ريبيك إلى خليج املائدة (نسبة إلى اجلبل املطل عليه والذي يشبه مائدة نسبة إلى استواء رأسه!) في السادس من أبريل سنة 1652م .تزدهر التجارة ،وتتسع مبا يجعل من جان فان ريبيك يسعى للبحث عن عمالة تكفيه ،فـ«يستورد» من موزمبيق ،وجاوة -في إندونيسيا -ومدغشقر عبي ًدا ،وها هم يبنون مستعمرتهم األولى في جزيرة «روبن آيالند». و َّدعنا هكتور ،وانطلقنا إلى كي� � ��ب تاون .بالرغم من قوة الرياح 284
االستثنائية وصلنا إلى مطار كيب تاون بعد أقل من ساعتني على مغادرتنا جوهانسبرج .املضيف اجلوي املرح الذي يرتدي قميص كأس العالم بدال من الزي التقليدي ،وسط حمى استقبال جنوب إفريقيا للبطولة األولى في كرة القدم ،جعلنا ننسى اهتزاز الطائرة التي حملت إلى أعرق مدن جنوب أفريقيا كل األجناس .أوربيات متبرجات ،ومسلمات منقبات ،أفارقة مهجنني ،وصحفيني عربيني، وسكانا للبالد ولدوا بها ،يرثها آباؤهم ،لكنهم اليوم محكومون بزمرة مانديال من املجاهدين األحرار. حتى العام 1745امليالدي ،لم يكن عدد البيض في «البالد» قد جتاوز األلف نسمة .كانت شركة الهند الشرقية -الهولندية قد سمحت لبعض املواطنني ببناء مساكن ومزاولة الزراعة ،لكن قبضة الشركة خفت بعد أن زاد عددهم ،ثم هاجر هؤالء ليتخففوا لألبد من سيطرة شركة الهند الشرقية الهولندية عليهم .عبر هؤالء نهر أوليفانت وصوال إلى نهر السمك الكبير .مارسوا عزلتهم ،وسط لسكناهم .وإذا أعمال الزراعة ،حول أكواخ الطني التي شيدوها ُ رحل، كانوا يسمون في املاضي Trekboersومعناها مزارعون َّ فقد عرفوا الحقا باسم Boerوقد انقطعت بهم السبل ،بسبب عزلتهم ،عن التمدن الذي طال األوربيني في القرن الثامن عشر، بفضل الثورة الفرنسية ،وأفكار التحرر ،والدميقراطية .وشكل هؤالء «البوير» النمط اإلفريقي للحياة ،ثقافة ومسل ًكا .وهو القرن نفسه الذي شهد اضمحالل القوة الهولندية ،ومنو السطوة البريطانية، التي توجت في العام 1795امليالدي بغزو البريطانيني للكيب ،حتى ال يقع رأس الرجاء الصالح بأيدي الفرنس� � ��يني املنتشني بالثورة، وهناك أسس التاج البريطاني مستعمرة قوامها 25أل ًفا من العبيد، يحكمهم عشرون ألفا من البيض ،ويساعدهم 15ألفا من قبيلة 285
نهر على َس َفر | يوتوبيا ...وفوبيا مانديال النـد ٌ
الكوسان ،وألف ممن كانوا أرقاء سو ًدا قبل أن ينالوا حريتهم. أصبحت السطوة في الكيب للبيض وحسب ،وبدأ التمييز على أس� � ��اس لون البش� � ��رة يتحقق على أرض الواقع .وبالرغم من أن البريطانيني سلموا املستعمرة للهولنديني في العام 1803امليالدي، إال أنهم ،كرد فعل على احلروب النابوليونية ،قرروا تأمني الكيب ضد الفرنسيني ،فاستعادوا كيب تاون بعد ثالث سنوات إثر هزميتهم للهولنديني .ومت تسليم املستعمرة بشكل دائم للبريطانيني في الثالث عشر من أغسطس سنة 1814ميالدية .وما هي إال سنوات وبدأت الهجرات اإلجنليزية تشكل املجتمع اجلديد في كيب تاون بداية من الشرق في العام 1820امليالدي .أراد البريطانيون أن يتوسعوا ليكونوا منطقة وسطى بني البوير املزارعني الرعاة والكوسا .ثم بدأت احلروب تشكل وجه احلياة بني القادمني والسكان األصليني. وفي العام 1824م يبدأ امللك موشوي ش� � ��وي يعلن عن قيام كيان جديد لشعب الباسوتو .في ثالثينيات القرن التاسع عشر ينتصر محاربو البوير على الزولو في معركة نهر الدماء .تتأسس في العام 1838م جمهورية البوير وبعدها بست سنوات ينتصر البريطانيون على الكوسا إثر مذبحة القطيع الكبرى. في العام 1860م يصل الهنود إلى الترانسفال حيث أسس البوير جمهوريتهم .بعد ذلك بثماني سنوات يضم االحتالل البريطاني أرض الباسوتو إلى مستعمراتهم (هي اليوم مملكة ليسوتو) .في العام 1869م يُكتشف األملاس في كيمبرلي قرب جوهانسبرج .وفي العام 1871م يُكتشف الذهب في الترانسفال الشرقية .في العام 1877م يُلحق البريطانيون جمهورية البوير مبستعمراتهم .في العام 1881م ينتصر البوير على البريطانيني وتصبح الترانسفال تُعرف للمرة األولى باسم جمهورية جنوب إفريقيا .بني الهنود الذين جاءوا إلى 286
لم تعد الوجوه التقليدية للقبائل اجلنوب إفريقية إال مجرد مشهد فولكلوري ،مثل هذا الراقص واملغني والعازف على شاطئ كيب تاون
287
نهر على َس َفر | يوتوبيا ...وفوبيا مانديال النـد ٌ
الناتال نتعرف على موهانداس غاندي ،الذي سيقود بالده الحقا للثورة البيضاء ،ثورة امللح ،ضد االحت� �ل��ال البريطاني .في العام 1897م يضم االحتالل البريطاني مملكة الزولو إلى مستعمراته. بني عامي 1899و1902م تشتعل املعارك بني اإلجنليز والبوير.
سيتسوتو وإليزابيث ...قصة امرأتني في كيب تاون كانت دليلتنا سيدة شابة اسمها سيتسوتو .ولدت سيتسوتو ودرست في حي سو وي تو ،الذي ميثل قلب جوهانسبرج النابض ،لكنها بعد أن اجتازت سن املراهقة أرادت أن جترب محيطا مختلفا .لم تكن األم تريد البنتها الصغيرة سيتسوتو أن تغادر سو وي تو ،لكن مع إحلاح سيتسوتو ،أرسلتها إلى كيب تاون ،فخالها قسيس هناك ،سيتولى رعايتها لو احتاجت إلى هذه الرعاية .في كيب تاون تتعرف سيتسوتو على زميل لها في اجلامعة ،وفي قمة جبل شامبان يتفقان على الزواج .بعد التخرج عملت سيتسوتو في جوهانسبرج ،ولكن الزواج يجعلها تترك العمل لتأتي إلى كيب تاون، عملت عامني ،وابتسمت احلياة البنة سو وي تو في كيب تاون .لكن سيتس� � ��وتو ،حني أجنبت ابنتها الوحيدة أولو ،لم تستطع أن تعو َد للعمل بعد إجازة الوضع ،لقد درست اإلعالم والصحافة في كيب تاون ،لكنها ال تستطيع أن تلتحق بعمل دائم .حتب احلياة في كيب تاون ،لكنها ال تنسى أن لها أ ًّما وشقيقة كبرى في جوهانسبرج. قالت لي سوتو« :أري ُد أن أضع ح ًّدا لرغبتي املتأرجحة بني العيش في كيب تاون والعودة إلى جوهانسبرج .هنا كل شيء جميل ،لكن ال يس� � ��تطيع زوجي وحده أن يغطي نفقات العائلة ،وأنا بال عمل دائم ،بالرغم من سعيي اليومي بني الشركات التي تعمل في مجال تخصصي .أحيانا تكون هناك امرأة كسول بيضاء توكل لي بعض 288
األشغال التي تعجز عن إجنازها ألقوم بكتابتها ،ألنها تكره الكتابة كنت أعم ُل ورمبا لم تدرس بالرغم من أنها تش� � ��غل الوظيفة التي ُ بها قبل أن أجنب أولو». العثور على عمل في مجال اإلعالم ليس هينا في ظل منافسة شرسة في مجتمع اليزال يحمل سمت املاضي .ال تكاد تشعر في كيب تاون أنك بجنوب إفريقيا .ليس هناك من أثر ملانديال إال في جزيرة روبن ،وحديقة النباتات ،حيث يزين متثال نصفي له حوضا رئيسا للبالد. للزهور زاره حني كان ً ذهبنا لرؤية عائلة سيتسوتو .في البيت شاهدنا ألبومي صور يقدمان حفلني لزفاف سيتسوتو ،األول حفل غربي أقامته عائلتها لها في س� � ��و وي تو بجوهانس� � ��برج ،أما الثاني فكان مراسم على طريقة الزولو والكوسا أشرفت عليه عائلتها اجلديدة وأقيم في كيب تاون ،مبالبس تقليدية ،لم تستطع خالله العروس رفع عينيها من على األرض إال لت� � ��أكل طعام اللحم واألرز ال� � ��ذي أعدته لها حماتها ،على عكس احلفل الغربي الذي بادلت فيه زوجها كوالن القبالت عالنية! في إحدى اجلوالت قادتنا أقدامنا إلى أحد شواطئ كيب تاون .يبيع الصيادون السمك باملزاد ،ينادون بأعلى صوت ،تكاد أصواتهم متس أجنحة النوارس التي حتلق فوقهم .هناك التقيت ليز ،أو إليزابيث، التي ولدت لعائلة من املستعمرين .التقيتها في سوق شاطئي تبيع األشغال الفنية .قالت لي أعيش في كيب تاون ،وأشعر بنفسي هنا، ولدت في بريتوريا .أصمم بعض الصناعات ،لكنني بالرغم من أنني ُ أعاني من سرقة الصينيني ألفكاري .يأتي أحدهم ومعه كاميرا، يلتقط صو ًرا ،ثم يعود للسوق بعد فترة وقد أغرقه بتقليد للمنتج الذي ابتكرته .تناولت ليز قطعة من الفخار املصنوع باليد لبعض 289
نهر على َس َفر | يوتوبيا ...وفوبيا مانديال النـد ٌ
األيقونات اجلنوب إفريقية ،ثم قارنتها بأخرى مصنوعة من املطاط. كان التقليد املطاطي بدي ًعا ،وقد ال يكلف ُع ْش� � ��ر تكلفة الصناعة قلت لها وأنا أتأمل أشغالها إنني اشتريت بعض اليدوية .لدهشتي ُ األكواب التي صممتها من مطار جوهانسبرج .قالت إن شقيقها يروج ملصنوعاتها محليا ودوليا .فهي ال تذهب إلى دجوبرج ألنها تش� � ��عر بأنها مدينة متعصبة .عالية الص� � ��راخ .حني عرفت أنني عربي قالت إنها ذهبت مبنتجاتها للمش� � ��اركة في معرض مبدينة دبي ،والتقت هناك بسيدة مصرية ،علمتها عبارة التزال تذكرها: «إن شاء الله». هبت عاصفة شديدة كادت تطيح ببعض أغراض باعة املشغوالت التقليدية املعروضة قبالة البحر ،صرخت ليز في خادمة سوداء أن تنتبه كي ال يتحطم شيء .تبادلنا التحية مع ليز وانطلقنا على الرمال البيضاء وأنا أستعيد قصة سيتسوتو التي تبحث عن عمل في وطنها لتبقى بجوار ابنتها وزوجها فال جتد ،وقارنتها بقصة ليز التي تتنقل بحرية وكأن بشرتها البيضاء جناحان يعبران بها تساءلت؛ أال تختصر قصة سيتسوتو وليز احلياة اخلرائط بيسر. ُ في كيب تاون؟
جوجوليتو والجنا ...ضحايا وضاحيتان بعد جولتنا في كيب تاون ،لم تس� � ��تطع سيتسوتو أن تخفي عنا رغبتها في أن نرى اجلزء اآلخر من كيب تاون .أرادت أن نرى جز ًءا عزيزًا عليها .هكذا خرجنا من قلب املدينة إلى أطرافها عبرنا بني ضاحيتني هما جوجوليتو ،والجنا. كان اليوم هو األحد ،وقد اعتاد املكان الذي يعيش به الس� � ��ود وامللونون استقبال اجلميع ـ من أنحاء كيب تاون -وخاصة يومي 290
السبت واألحد -لتتحول الضاحية إلى كرنفال شعبي .ترتدي الفتيات أفضل ما لديهن .هناك طقس جتتمع حول� � ��ه العائلة واألصدقاء حيث يتم شراء اللحم وشواؤه .وسط دخان الشواء ميكنك أن ترى وجوها من كل األجناس ،واألعمار .الكل يرقص ،ويغني ،ويشرب، ً ضجيجا ويأكل ،وأصوات األغاني في مسجالت السيارات تصدر ً كبي ًرا .قالت سيتسوتو« :إنهم يحاولون أن ينقلوا أجواء سو وي تو إلى هنا .صحيح أنني ال أحب أن آتي بشكل منتظم ،لكن احلياة صاخبة هنا في حدها األقصى». في أحد بيوت جوجوليتو ،ومعظمها من الصاج واخلشب ،التقينا بعائلة بسيطة ،كان الفتى على عجلة من أمره للخروج ،تبعناه فإذا به يتجه إلى كوخ من الصفيح يدير فيه صاحبه عدة ألعاب فيديو، انهمك الفتى مع صحبه في اللعب ،والصراخ أمام الكاميرا .على مرمى البصر كانت هناك مقبرة جوجوليت� � ��و ،وأعتقد أن احلياة البائسة ألهل احلي ال تبعد كثي ًرا عن حياة القبور .وعدتهم احلكومة في إطار كأس العالم بأنهم جمي ًعا س� � ��يحظون ببيوت في ،2010 ولكن كانت األكواخ أكبر من عدد البيوت التي استطاعت احلكومة كأسا أخرى للعالم حتى استكمالها .قال رجل يشكو« :رمبا ننتظر ً نسكن بيوتًا». في مفترق الطرق الذي يفصل بني الضاحية والطريق العام عرفنا أن هذا امليدان هو الذي ولدت عنده شرارة املظاهرات في كيب تاون ضد نظام الفصل العنصري ،وقبل أن نغادر احلي كان هناك نصب لسبعة من الشباب قتلوا خالل إحدى تلك املظاهرات .احلياة في حي الجنا أفضل ،فاألكواخ أقل ،والبيوت على بؤس� � ��ها أكثر. لكن اجلرمية تشتعل وتلتهم نارها صبا وفتوة األجيال الصغيرة. إنهم يبحثون عن عمل فال يجدون ،لذا يهربون إلى هنا ويروجون 291
نهر على َس َفر | يوتوبيا ...وفوبيا مانديال النـد ٌ
املخدرات ،ويسرقون ،حتت إمرة شبكات منظمة للجرمية .تذكرت بيوت احلي الذي سكناه في جوهانس� � ��برج .كانت البيوت هنا ال تكشف عن مثل ذلك اخلوف ،لكنني عرفت السبب ،فكل البيوت في كيب تاون تتمتع بأنظمة أمنية على مدار الس� � ��اعة .شركات احلراسة تؤمن حماية إلكترونية للمنازل .كان األمن الذي رأيناه خادعا .كان اخلوف مختبئًا خلف دوائر كهربائية مغلقة .إنه سجن ً كبير تتحكم به أزرار تدار بالكهرباء وأجهزة التحكم عن بُعد .ومرة أخرى رأينا الفوبيا خلف قناع اليوتوبيا.
كل الطرق تؤدي إلى روبن آيالند صف طوي ٌل ال ترى نهايته .إنهم ركاب العبارة التي تتسع ملائتني وستة ركاب .بعد نحو 20دقيقة توسط ثالثتنا أنا وسليمان وسيتسوتو الركاب ،وخضعنا معهم لتفتيش دقيق كأننا نصعد إلى منت طائرة تتجه إلى مطار أوربي. انطلقت العبارة التي حتمل اسم «حريتي» بسرعة بالغة ،ال تسبقنا سوى النوارس التي حتلق عند األفق .بعد نصف ساعة أبطأت العبارة من حركتها ،وتوقف الفيلم الذي تعرضه عن تاريخ اجلزيرة .كنا قد وصلنا .لدهشتي كان على منت السفينة رج ٌل ملتح بصحبة سيدتني منقبتني ،ال شك أن إحداهما زوجته ،وقد تكون األخرى ابنته .هل يقطع هؤالء املسافة لزيارة اجلزيرة وعالم سجن مانديال؟ تبددت دهشتي حني عرفت أن الثالثة ومعهم شخص آخر ،كانت وجهتهم «كرامات» ،وهو ضريح يضم رفات أحد األولياء الذين يحظون بزيارة عشرات املسلمني على مدار األسبوع .قبة الضريح اخلضراء واملنارتان الضئيلتان اللتان تشبهان عمودين عند زاويتي املدخل جتعل املكان يشبه مسج ًدا ،وهو ما دعا الفتاة السمراء املرشدة لضيوف اجلزيرة 292
فارق شاسع بني السفينة التي حملتنا إلى اجلزيرة الشهيرة ،التي سجن بها مانديال ورفاقه ،وبني املشهد الذي كان ميثل قدوم املعتقلني إليها.
293
نهر على َس َفر | يوتوبيا ...وفوبيا مانديال النـد ٌ
إلى تصحح املعلومة لفرنسي اعتقد أن املكان مسج ٌد. نوعا من النباتات ،وطريق ألف طائر بطريق ،ومائة وعش� � ��رون ً واحد ،ومدرسة بها أستاذان أحدهما ناظر املدرسة ،وبضعة بيوت يسكنها نحو 200شخص ،وضريح لولي مسلم ،وسجن ،ومكتب بريد ،ومستشفى ،ومتجر وحيد .هذه هي معالم ومشاهد جزيرة آيالند .لكن حكايات الذين جاءوها هي التي جعلتها إرثا عامليا. قالت لنا املرش� � ��دة« :أرجو أال يأخذ أح ٌد ش� � ��ي ًئا من اجلزيرة، ولو حصاة ،فهي تراث عاملي ينبغ� � ��ي احلفاظ عليه كما هو .حني وقفنا ببوابة السجن تقدم منا رجل مدور الوجه ،يرتدي نظارات وقميصا وسرواال بني اللون ،وحذا ًء شديد اللمعان .عرفنا طبية، ً بنفسه .كان تاندومات أحد زمالء مانديال في محبسه .كنا نقف مع شخص له حكايته اخلاصة ،مثلما كان شاهد عيان على أيام مانديال في السجن. انضممت إلحدى حركات املقاومة في «كنت في التاسعة عشرة حني ُ ُ فهربت عرفت أن درك الفصل العنصري يبحث عني، سو وي تو .وقد ُ ُ من البالد بأوراق مزورة .خمس سنوات قضيتها بني ليسوتو وأجنوال وحوكمت لتهم عدت مت اإلبالغ عني ،فقبضوا علي، وزميبابوي ،وحني ُ ُ ثالث ،اخلروج بأوراق مزورة ،والعودة للبالد بأوراق مزورة ،واالنضمام إلى حركة محظورة .كانت فترة ما قبل احملاكمة جحي ًما .فعلوا بنا ما أعجز عن سرده .واألقسى أنهم أحضروا رفاقنا من الفتيات والنساء وأذاقوهن مر العذاب بألوان ال يسعني اليوم استعادتها .وحني حوكمت قضوا علي بالبقاء في روبن آيالند سبع سنوات ،وقادوني بسيارة مع آخرين مكبل اليدين من جوهانسبرج إلى كيب تاون ( 1393كيلو مترا). ثم حملتنا القوارب إلى روبن آيالند ،حيث مت تس� � ��ليمنا إلى محطة استقبال جردتنا من أسمائنا ،وأصبحنا أرقا ًما» ،كان تاندومات ميسك 294
بنموذج ُمكبر إلحدى البطاقات .لم يكن فيها للشخص سوى بصمتي إبهامه ،واسمه الذي ودعه ورقمه الذي سينادى به. توقفت كثي ًرا أمام زنزانة مانديال ،وكأنني أسمع صوته يتلو القصيدة ُ التي ألهمته احتمال 26سنة في زنزانة يكاد يلمس الواقف بها بيديه طرفي اجلدار. أعادتنا «احلرية» إلى ش� � ��اطئ كيب تاون ،مررنا في طريقنا لقلب املدينة بأحد قصور الرئاسة الذي يس� � ��تقبل الرئيس زوما وزوجاته الثالث .بدا أنه أكبر من جزيرة روبن آيالن� � ��د .رمبا يحاول اجلميع أن يعوضوا أنفسهم عن مرارة األمس .لكن املرارة التزال باقية على األلسن والوجوه .تذكرت تاندومات .كان ذو األربعة والعشرين ربي ًعا قد حتول بعد سنوات السجن واحلرية إلى مؤرخ .يستعي ُد الصور وهو يحدث نفسه أكثر مما يحدثنا« :هنا كنا ندرس .هنا كنا نقضي حاجتنا. هنا كنت مع الرفاق نكسر األحجار خالل فترة األشغال الشاقة .هنا كان احملتجزون في احلبس االنفرادي يعيشون فال يكلمون أح ًدا ،وال كنت في دهشة من عودة تاندومات للعمل كمرشد حتى حراسهم»ُ . ٍ سنوات من حريته .رمبا يكون ذلك سال ًما في السجن الذي اقتطع مع النفس .همست سيتسوتو بأن تاندومات يجد نفسه محظوظا ألنه أ َّمن لنفسه عمال دائ ًما .صحيح أن كثيراً من رفاق الزنازين باألمس انضموا الي� � ��وم إلى احلكومة اجلديدة ،مبن فيه� � ��م الرئيس احلالي، يعقوب زوما ،لكن من بني هؤالء أيضا من ال يج ُد عمال. يقاوم تاندومات فوبيا السجن الذي حرمه سنوات شبابه بيوتوبيا نفسا عميقا ونحن حرية التجول به كهال .نتجه إلى احمليط ونأخذ ً ننظر إلى السحاب الذي يبدو كخبز أبيض على صحفة جبل املائدة املستوية .وكان هناك س� � ��ؤال اليزال يتردد في الهواء :هل انتصرت اليوتوبيا على الفوبيا في مانديال الند؟ 295
نهر على سفر
َف ُّن ا ُمل َن ْم َن َمات
األدب والتاريخ واألسطورة
نهر على َسفَر | َف ُّن ا ُملن َْمن ََمات ...األدب والتاريخ واألسطورة ٌ
مخطوطة فيرجيل احملفوظة في الفاتيكان.
منمنمة مبكرة توظف اجلسد البشري مع الكائنات احلية بالطريقة التي كانت ترسم بها اللوحات اجلدارية اجلبسية.
في مدرسة للفن أقيمت ملحقة بسوق للعاديات ،مبدينة سمرقند، أجتول عبر البصر آيات الفن املعلقة واملوزع� � ��ة على األركان ،حتى أتوقف أمام دكان مفتوح ،يجلس في قلبه رجل غاب عما حوله وهو يسكب فيها ينحني بريشته الدقيقة فوق ورقة متوس� � ��طة املساحة، ُ عصارة الفن ،وخالصة األدب ،وروح التاريخ ،وسحائب األسطورة. لم ينتبه الفناني احلِ رفي حلضوري إال ح� �ي��ن انتهى من لون ،واجته ليغسل الريشة فيختار آخر .نظر إلي بصمت ،وأشار إلى كرسي أمامه، ألجلس ،وكأنه في خلوة ال يريد أن يفسدها بكالم ،وكأنه ينسج قصيدة روحانية ال يصح أن تدخلها مفردة مادية .هو األمر نفسه كلما تـأملت هؤالء الفنانني الذين يحيون فن املنمنمات حول العالم .إنهم يفتحون لك بوابات التأمل في دقائق اخلطوط التي تتسع لعظائم احلكايات،
التاريخي منها واألسطوري. َ ّ َ ُ تصف اليو َم كلمة (منمنمة) ،في اللغة العربية ،كل ما هو ُمصغّر، ويقابلها في اللغة اإلجنليزية miniatureالتي استمدت مفردتها من كلمة miniumالالتينية ،وهي «الصورة الدقيقة املزخرفة في ص َغّرة، املخطوطات» .وميكن وصف املنمنمات بأنها «لوحات مصورة ُم َ تضم رسوما وزخرفة ونصوصا ،ذات تفاصيل دقيقة». هكذا تُع ِّبر املنمنمات ،في تقاليد الفن ،عن لوحات صغيرة خاصة، ظهرت بقوة في املخطوطات البيزنطية الدينية ،غير أن إنتاج املنمنمات أسلوب اعتمدته فنون رسم أخرى ازدهرت في ثقافات مغايرة ،خاصة في آسيا ،كما ظهر بالفنون الفارسية والعثمانية والهندية وصممت لتجمع لوحاتها ف� � ��ي ألبوم ،يكون مرجعا ،أو كتابا ،أو موس� � ��وعة ،أو
298
299
نهر على َسفَر | َف ُّن ا ُملن َْمن ََمات ...األدب والتاريخ واألسطورة ٌ
ملحمة ،أو ديوانا.
اإللياذة أوال أما أقدم صور املنمنمات التي تشبه املوجودة حاليا ،فهي ما ظهر ضمن سلسلة من الرسومات امللونة ،كأجزاء من املنمنمات ،ملشاهد من ملحمة اإللياذة ،تعود للقرن الثالث امليالدي .وتتشابه هذه اللوحات في األسلوب واملعاجلة مع الفن التصويري خالل الفترة الكالسيكية الرومانية الالحقة .حيث تغلب املشاهد الطبيعية على تلك الرسوم ،كما في جداريات العصر الروماني ،وكما في مخطوطة فيرجيل احملفوظة بالفاتيكان ،ذات القيمة الفنية العالية ،واملعروفة باسم Vaticanus Vergiliusالتي تعود ألوائل القرن اخلامس امليالدي ،وتبلغ أبعادها 15.7 × 11.8سنتيمتراً. وتوفر تلك املنمنمة ،وشقيقاتها في املجموعة نفسها ،فرصة لدراسة الطريقة واألسلوب املنتميني للرسم الكالسيكي ،حيث يتضح لنا أن املنمنمات هي نسخ مباش� � ��ر من سلسلة قدمية ،بألوان غير شفافة. كما أن املُراجع ألسلوب هذه املنمنمات املبكرة ميكنه أن يرى بوضوح توظيف اجلسد البشري ،بجانب املشاهد الطبيعية ،والكائنات احلية والطبيعة الصامتة ،بالطريقة ذاتها التي رسمت بها اللوحات اجلدارية اجلبسية. بدراسة اللوحات ،في هذه املجموعة ،نرى أن اخللفيات مت تلوينها بالكامل ،لتغطي جميع أجزاء سطح الصفحة ،ومن ثم ،وعلى اخللفية املصبوغة ،مت رسم األشكال املرغوبة وتلوينها .وبعد ذلك ،وكمرحلة ثالثة ،أضيفت تفاصيل أصغر وأكثر دقة ،وبطريقة بارزة .وللمحافظة على املنظور في الرسم ،كانت األشكال املرسومة أعلى اللوحة تبدو أصغر من تلك املوجودة بأسفل الرسم. 300
سبعة أطباء في منمنمة تعود للقرن السادس امليالدي ،محفوظة باملدرسة البيزنطية.
301
نهر على َسفَر | َف ُّن ا ُملن َْمن ََمات ...األدب والتاريخ واألسطورة ٌ
في القرن السادس امليالدي ،تظهر مجموعة أخرى من املنمنمات املميزة ،وتعرف باسم Dioscurides Viennaومنها اللوحة التي تصور سبعة أطباء ،احملفوظة باملدرس� � ��ة البيزنطية ،واملنسوخة من أعمال سابقة ،وهي اللوحات التي مهدت لظهور تيار الرسوم الشارحة مبنمنمات املخطوطات البيزنطية الدينية. شيء ما يجب أن يلحظه ناق ُد الفن ،حني يطالع اللوحات التي ظهرت في تلك املخطوطات البيزنطية الدينية ،التي نفذت برعاية وهيمنة كنسية؛ هو أن الهواء الطلق في سابقاتها قد غاب ،وباتت املخطوطات البيزنطية تتنفس هواء الدير املغلق برتاج التقاليد احملافظة ،ولعل هذا ما جعل تلك املنمنمات أسيرة للمزيد من النمطية والتقليدية. تتسرب األلوان التي تصور البشرة بلونها الفاحت ،وتطغى الصبغات البنية والزرقاء الرمادية واحملايدة ،وتنضج معاجلة تقنية الرس� � ��م. وفي حني يخضع ذلك كله للح� � ��س البيزنطي ،تظهر على نحو الفت استعارة شرقية ،تتمثل في استخدام الصبغات الذهبية في التزيني والزخرفة والعناوين. وقد انتقل تأثير هذا الفن البيزنطي إلى روح املخطوطات واللوحات واجلداريات اإليطالية في القرون الوسطى .وكان ذلك على أوضح ما يكون في فسيفس� � ��اء كنائس رافينا وفينيسيا ،كما في فسيفساء «معجزات اخلبز والسمك» ،بكنيسة القديس أبولينير اجلديدة ،في رافينا بإيطاليا .وقد الزم هذا التأثي� � ��ر الفنون األوربية حتى القرن الثاني عشر امليالدي. في مدارس الزخرفة احمللية بأوربا الغربية ،كان التزيني هو الدافع األساس� � ��ي لظهور املنمنمات .هكذا بدا األمر في مخطوطات عهد امليروفنيجان Merovingianالتي ظهرت في منتصف القرن اخلامس امليالدي ،حول جغرافيا فرنسا املعاصرة .وقد ظهر مثيل لتلك املنمنمات 302
شمال إيطاليا ،كما برزت االجتاهات نفسها في فنون شبه اجلزيرة األيبيرية ،وفنون اجلزر البريطانية؛ حيث ندر اس� � ��تخدام أي متثيل للكائن البشري ،كما خرجت املنمنمة من إطار الرسم إلى التشكيل، كما يتضح في حليات ثالث محفوظة باملتحف الوطني الفرنس� � ��ي. أما التطور الكبير ،في جذور املنمنمات األوربية ،فقد جاء مع املدرسة األجنلوسكسونية ،وال سيما في كانتربري ،ووينشستر. وقد استمدت تلك املنمنمات ما تتميز به ،من رسم حر ،من النماذج الكالسيكية الرومانية ،كما غاب عنها ،إلى حد كبير ،التأثر بالعناصر البيزنطية ،بينما ظل الفن األجنلوساكسوني اجلنوبي مبعزل عن اخلط العام لتطور املنمنمات الغربية في القرون الوسطى.
النموذج البيزنطي حتت إمرة ملوك كارولنجي ظهرت مدرسة فنية متقدمة مستمدة من النماذج الكالسيكية ،وخاصة النموذج البيزنطي ،وتدين بأصولها للملك شارملان ،وقد ظهرت منمنماتها في شكلني؛ ينسخ األول التقاليد البيزنطية ،حيث تس� � ��تلهم موضوعاته بشكل عام من صور األناجيل األربعة ،أو صور األباطرة أنفسهم ،حيث الصبغة الرسمية ،والتلوين الباذخ للصفحات ،والتذهيب البارز ،للرسم املؤسس ضمن عمارة ما ثابتة ،وتخلو من املناظر الطبيعية باملعن� � ��ى احلقيقي للكلمة ،ترافق بزخرفة إطارية وافرة ،وهو الشكل املؤسس للمدرسة الغربية القارية بشكل عام ،كما في لوحة التعميد ( 19 × 24سم) ،التي تعود للقرن العاشر امليالدي ،احملفوظة باملكتبة البريطانية. أما الش� � ��كل الثاني ،فقد ابتدعت منمنمات حاولت أن تكون ذات رسوم شارحة ،بأن تنقل ،مثاال ،صورا من وقائع اإلجنيل .وقد أصبحت تلك املنمنمات اجلديدة أكثر حتررا ،وتتصل ،إذا أردنا العودة للجذور، 303
نهر على َسفَر | َف ُّن ا ُملن َْمن ََمات ...األدب والتاريخ واألسطورة ٌ
برعت املنمنمات في توثيق التفاصيل الدقيقة ،ويبني هنا مشهدان من القصور التي يعرف كل قصر فيها بلونه املختلف عن اآلخر ،حيث يجتمع صاحب
304
القصر مع األصدقاء ،بينما يتناهى للسمع صوت املوسيقى والغناء ممتزجا بصوت خرير املاء.
305
نهر على َسفَر | َف ُّن ا ُملن َْمن ََمات ...األدب والتاريخ واألسطورة ٌ
باألصول الكالسيكية اليونانية ،متييزا لها عن النماذج البيزنطية. في آسيا ،ازدهرت مدرسة رسوم املنمنمات للسالجقة في القرن احلادي عشر ،وكان من املعتاد أن يقال إنه في العصور الوسطى لم يكن هناك من فنون املنمنمات غير منمنمات الكتب املرسومة والرسم الشرقي ،ولكن الفنان األوزبكي رائد فن املنمنمات جنكيز أحمروف، اعتقد ،وأتباعه بوجود هذا اجلنس الفني في األزمان القدمية .بيد أن األحداث التاريخية الكارثية ،من معارك محلية دموية ،التي قضت على واحات آسيا الوسطى اخلصيبة بعد سقوط أسرة التيموريني في القرن السادس عشر ،كانت السبب وراء غياب عينات من رسوم أشخاصا. املنمنمات املطلية بالورنيش مع رسوم املنمنمات التي متثل ً وبالعودة إلى إمكانات تقاليد املنمنمات الشرقية ،وباتباع مبادئ لغة الفن احلديث ،فإن الفنانني متكنوا من تقدمي تفسيراتهم اخلاصة، ورؤاهم بالكامل فيما يتعلق بالكالسيكيات ،وأن يعيدوا تفسير الواقع احلاضر بأسلوبهم اخلاص. ومن املهم أن نشير إلى أن املنمنمات كانت مرآة العصر في توثيق احلياة والعمارة ،وهو ما نلحظه -مثاال -في عمارة احلديقة باملنمنمات الفارسية .فالفنون الزخرفية الفارسية ،وصناعة السجاد اإليراني، متثل في جوهرها إعادة إنشاء للحديقة التي يتم تصويرها كخلفية مساندة للحدث. تبدو احلدائق الفارسية متأنقة مبا فيها من زخارف نباتية وتلميحات تقدم -على نحو خاص -إشارة إلى اجلنة ،والنعيم في اآلخرة .وفي املنمنمات الفارسية تبدو احلديقة باعتبارها حيلة تلهم سواها من أشكال الفن والشعر ،والرسم خصوصا .احلديقة التي تضم شخوصا يتحاورون حول موضوع القصيدة (على س� � ��بيل املث� � ��ال) ،تقدم حينا وصفا للحديقة امللكية ،كما اكتشفها العرب لدى فتح املدائن ،عاصمة 306
الساس� � ��انيني ،مع قنوات املياه وأنواع النباتات وفصائل احليوانات، مرصعة باجلواهر ومعقودة بالذهب والفضة. وقد رسم السجاد الفارس� � ��ي -كذلك -ليجسد بأشكاله تصوير احلدائق التي قدمتها املنمنمات .ومع ه� � ��ذا ،فليس هناك أي دليل الستمرار هذا التقليد في العصر اإلسالمي حتى وقت الشاه عباس األول .واستنس� � ��خت عناصر احلديقة الكائنات ثالثية األبعاد ،وكان اخللفاء العباسيون يضعون أشجارا ذهبية في باحات قصور مدينتهم، ورسمت حدائق األجنحة مثمنة األضالع لها شرفات علوية. تصور املنمنمات بعض األحداث األكثر أهمية في حياة الشخصيات داخل احلديقة ،وتظهر حديقة في لوحة منمنمات فارسية من القرن الرابع عشر امليالدي ،ولها فناء مسور من كل اجلهات ،بينما يجلس األمير على منصة مرتفعة مفروشة بالسجاد في فناء احلديقة ،وغالبا حتت مظلة ،فيما تطل بغصونها األشجار املزهرة والنباتات من وراء السياج .وال يفوت املنمنمات أيضا تصوير العمال في احلديقة ممن يقومون على شؤون البستنة. وقد استوحيت احلدائق املغولية من احلدائق التيمورية في خراسان وما وراء النهر ،ورمبا يعود ذلك إلى عمليات الترحيل من حدائق املغول لرسامني كثيرين ،جاءوا مع أس� � ��اليبهم إلى جغرافيا جديدة ،فكتبوا وطنهم في حدائق املنمنمات .ولظاهر الدين محمد بابور نفسه رسوم توضيحية كثيرة تعود للقرن السادس عشر امليالدي ،تصور نباتاتها خصب األرض ،وثراء الزخرفة املعمارية. وهكذا ستظل املنمنمات؛ التاريخية واملعاصرة ،صورة للتاريخ واحلياة، ومرادفا لألس� � ��اطير والوقائع ،ومعادال موضوعيا حلياة املجتمعات وتطورها ،وش� � ��اهدا على أعالمها وأبطالها ،وطغاتها أيضا ،وهو ما حتاول الفصول التالية إضاءته. 307
نهر على َسفَر | َف ُّن ا ُملن َْمن ََمات ...األدب والتاريخ واألسطورة ٌ
َحكْ ٌي وشَ ْر ٌح وتوثيقٌ وتشكيل
الشاهنامة ...ملحمة امللوك
يختز ُل هذا العنوان؛ َح ْك ٌي َ وش � � � ْر ٌح وتوثي ٌق وتشكيل ،دور املنمنمة املرس� � ��ومة على م ِّر العصور .فاملنمنمة املصورة واملخطوطة حتكي وتشرح بينما هي توثق وتتشكل. يبدأ احلكي بكون املنمنمات سج ً ال زاخراً باملالحم ،سواء تلك التي ألفها شعراء مجهولون ،ورواة منسيون ،أو املالحم التي أعاد صياغتها ش� � ��عراء عظام على مر العصور .وترتبط املالحم مبيالد ثقافة ،أو نشأة أمة ،أو خلق العالم برمته ،ويقيم أبطالها في برزخ من احلقيقة واخليال ،وفضاء من األساطير والوقائع. اليوم ،ونحن ننتذكر أبطال املالحم ال ُكبرى في التاريخ اإلنساني، نتذاكر دورهم املُلهِ م ،وإجنازهم املُل َهم .لقد عاشوا ،سواء كانوا أبطاال من حلم ودم ،أو كائنات أسطورية ،ليجسدوا مشاعر احلب واحلقد، وأحاسيس الفوز واالنكسار ،ومراحل ألم املعاناة وأمل االرتقاء. خففت املالحم املروية على البشر معاناتهم ،لذلك انتشرت املرويات بني اجلماعات اإلنسانية برمتها ،وإذ تعاني املالحم اليوم ردة قد تقضي عليها ،بسبب تنامي تأثير املادة اإلعالمية املتدفقة ،التي أزاحت الرواة الشعبيني والشفاهيني ،فال نزال نعقد األمل على أمرين إلحياء املالحم؛ األول ،هو أن تتصدى مؤسسات لدعم هذا الفن الشفاهي ،وإدخاله في املنظومة اإلعالمية الرقمية بكل وسائطها ،والثاني ،هو أن نعيد قراءة املنمنمات احلافظة لف� � ��ن املالحم ،في كل العصور ،ومبختلف اللغات ،وفي كل أنحاء العالم. نختار في السطور التالية مناذج من مالحم ،نقلتها ي ُد الفن إلى صفحات املنمنمات ،ولم يقتصر ذلك على عصور نشأتها ،بل تواصل توثيقها حتى عصرنا احلالي ،على أيدي فنانني استلهموا روح املنمنمة، وطوروا شكلها ،وأعادوا إحياء أدواتها. 308
يصف اجلزء األول من ملحمة الشاعر الفارسي الفردوسي (كتاب امللوك) ،كيف علَّم جمش� � ��يد؛ ملك إيران ،البش� � ��ر صناعة األسلحة للحرب ،وغزل النسيج ،وبناء املنازل ،وتشييد السفن .هكذا سيتردد اسم جمشيد في الشعر ،وصورته في املنمنمات ،وهو يلقي الدروس، ويدرب أبناء املجتمع. بعد أكثر من ألف ع� � ��ام على تدوين ملحمة الفردوس� � ��ي ،ال يزال اإليرانيون يقرأون قصيدة الفردوسي املطولة ،التي عدوها ملحمتهم القومية ،الساردة لتاريخهم الوطني .تسجل «الشاهنامة» تاريخ إيران القدمي ،منذ أول ملك أس� � ��طوري حكم تلك الب� �ل��اد ،إلى آخر ملوك اإلمبراطورية الساسانية في القرن السابع امليالدي .وعلى الرغم من أن الفردوسي اعترف بأن «ما س� � ��أقوله قد رواه اجلميع من قبلي»، بقيت رواية الشاعر التي أخذها مما تناقلته األخبار على لسان سابقيه أسلوبا فذا جديدا وخال ًدا. بل إن هذه امللحمة توثقها املكتبة العربية ،طبعة بعد أخرى ،حيث صدرت أحدثها عن دار سعاد الصباح للنشر والتوزيع في دولة الكويت. ويبلغ طول امللحمة 50ألف بيت من الش� � ��عر ،وقد ظهرت في القرن العاشر امليالدي .كانت تلك حلظة فاصلة في التاريخ اإليراني ،فقد سادت اللغة العربية ،بعد أن زالت دولة الساسانيني ،وأصبح اللسان العربي لغة األدب في إيران ،أما اللغة الفارسية الوسطى؛ التي كانت أداة احلضارة الساسانية اآلفلة ،فقد كانت -هي األخرى -ستلحق بحضارتها وتزول .في تلك اللحظة الفاصلة ظهر الفردوسي في خضم أدب ناشئ مكتوب باللغة الفارسية ،لتصبح ملحمته رائعة ذلك األدب اجلديد ،والقدمي بلغته ومضمونه. ال تروي «الشاهنامة» سيرة بطل وحيد ،وال تقدم صورة حلياة ملك 309
نهر على َسفَر | َف ُّن ا ُملن َْمن ََمات ...األدب والتاريخ واألسطورة ٌ
واحد ،كما أنها ليست مغامرة طويلة ذات قصة مرتبطة ،ولكنها تروي س� � ��يرة 50ملكا ،تقدمها معاجلة عبقرية بثالثة مستويات مختلفة، الصوفي ،وامللحمي ،والتاريخي ،كما تقول الباحثة اإليرانية املتخصصة في الدراسات الصينية الدكتورة نهال جتدد ،املسؤولة في «اليونسكو» عن مشروع طريق احلرير: «يركز الفردوسي بقصيدته على قوة القدر الذي ال يُرد ،وهو موضوع ملحمي منوذجي ،يتفق متاما مع القدرية املتأصلة في النفس اإليرانية. وعلى الرغم من هذا فإن أبطال الفردوسي بشر يتعذبون ميضهم الشك وتنال منهم نكبات الزمن ،وهم أخلق بالرثاء منهم باإلدانة» .ويتغنى اجلزء األول من «الشهنامة» باألساطير ،ففي البداية هناك «بشداديان» ،أي أول املخلوقات ،الذين علموا البشر كيف يلبسون ويشكلون املعادن ويسخرون النار ويروضون احليوانات ،وينظمون أنفسهم في مجتمعات. بعد حكم 700سنة اضطر امللك جمشيد -بدافع الكبرياء -إلى التنازل عن تاجه لكائن شيطاني مستبد هو «زهاق» الذي حكم البالد ألف سنة، ثم جاء حاكم عادل اسمه «فريدون» فقضى على حكم «زهاق» الفاسد، وهكذا يتبدى الصراع بني قوى الظالم والنور ،موفرا مادة خصبة لفناني املنمنمات. وفي امللحمة ،التي تناقلتها الروايات ،مثلما تبادل رسمها املنمنمون ،مواقف عصيبة ،حتيي بقوة اشعار الفردوسي اخلالدة ،التي قال هو نفسه عنها: «أضنيت نفسي في هذه السنني الثالثني ،وبعثت إيران من املوت بفضل اللغة ،ال ،لن أموت أب ًدا ،فإني أعيش ،بعد أن غرست بذرة الكالم».
درة املالحم الروسية نحن أمام ثالثة رجال يرتدون الدروع واخلوذات ويحملون السالح وميتطون صهوات جيادهم القوية ،يقفون حارسني لألرض الروسية ضد 310
مشهد من ملحمة الشاهنامة ،كتاب امللوك ،التي تناقلتها الروايات ،مثلما تبادل رسمها املنمنمون.
311
نهر على َسفَر | َف ُّن ا ُملن َْمن ََمات ...األدب والتاريخ واألسطورة ٌ
أعداء البالد ،إنهم إيليا املورومي ،ودوبرينا نيكيتيتش وإليوشا بوبوفتش، أبطال «البيليني» ،أو املالحم الروسية ،الذين ذاع صيتهم ،وغنى الناس في أرياف البالد الروسية ،على أنغام السيتار ،قصصهم. وقد ظل هؤالء الش� � ��عراء املغنون حتى أوائل القرن العشرين ،في شمال روسيا ،بإقليم أرخاجنلسك وحول بحيرة أونيجا .كانت األحداث تروى بإيقاع بطيء من ثالثة أو أربعة أزمنة ،مبا يضفي على قصص الفرسان هيبة وجالال. ويعود فضل جمع هذه القصص الغنائية في القرن الثامن عش� � ��ر التي متثل كنزا تراثيا شعبيا -للباحث اإلجنليزي ريتشارد جيمس.وفي القرن التالي ظهر تأثير هذه املجموعات امللحمية الشعبية في أدب ألكسندر بوش� � ��كني وجوجول وموسيقى رمس� � ��كي كورساكوف ومسورجسكي ،وفنون فاسنتسوف وفروبل ،وسينما أيزنشتني (فيلم ألكسندر نفسكي). احتفظ الفرسان بقواهم اخلارقة ،وانتقلت شعبيتهم حتى إلى مفردات اللغة الدارجة ،وفي كييف تظل شخصية إيليا املورومي األكثر شعبية، وهو الذي ولد ألبوين من الفالحني ،وظل مشلوال ثالثني عاما (33 سنة في رواية أخرى) ،حتى زاره ثالثة حجاج ،طلبوا منه أن ينهض ليقدم ش� � ��رابا أو طعاما لهم ،فلما عبر لهم عن عجزه ،وأفصح عن عدم قدرته على حتريك قدميه أو ذراعيه ،سألوه للمرة الثالثة فنهض مبعجزة ،وأحس بقوة هرقلية في جسده ،وأنبأه احلجاج بأنه سيكون مقاتال عظيما ،وأنه لن ميوت في ساحة املعركة ،وهكذا حولت امللحمة الشعبية إيليا من شخص مقعد إلى بطل ال يقهر. استخدم إيليا املورومي قوته في استصالح الغابة ،كما يفعل الفالحون واحلطابون في قريته ،ثم رحل إلى كييف ليدافع عن روسيا املقدسة. ويشتري حيوانا يركبه ،هو جواد قصير أشعث الشعر ،لكنه يقفز به في 312
كل خطوة فرسخا ( 1006أمتار) ،ويتصدى لقاطع الطريق سولوفاي (عندليب باللغة الروسية) ،الذي يبني عش� � ��ه فوق سبع من أشجار البلوط مبفترق طريق بقلب الغابة .رغم صوت العندليب القاهر فال يخشى إيليا املورومي ،ويصوب سهمه ليفقأ عني سولوفاي ،ويأسر الطائر ويأخذه إلى قصر أمير كييف. هناك يصبح إيليا املورومي «آتامان» ،أي رئيس� � ��ا للفرس� � ��ان ،أو قائداً للبوجاتير األقوياء باللهج� � ��ة الدارجة .ويتحدى أعداء الوطن، ويتصدى للخصوم ،وهم التتار الذين يصورهم الشعر والرسم بهيئات كاريكاتورية. وتبدو إحدى السمات املميزة للمقاتل امللحمي إيليا املورومي أنه خادم أرض روسيا ،ولكنه ال يضع نفسه أبدا في خدمة ملك طاغ .وهو فالح شجاع ،براء من اخليالء ،بعيد عن األنانية ،يصارح األمير برأيه حني يسيء األخير سلطانه ،ومليء بالطيبة ،ومحب للمزاح ،وهي صفات جعلته بطال قوميا ،وجعلت ملحمته يعاد تصويرها منمنمة ومنحوتة وزيتية ،وسينمائية أيضا.
التاريخ السري للمغول ...ملحمة جنكيز خان تعرف امللحمة القومية للش� � ��عب املغولي بأنها املصدر األساس� � ��ي للتعريف بجنكيز خان وإمبراطوريته ،وهي أيضا متزج بني الفولكلور واألساطير ،وتنبض بسيرة مجتمع السهوب في القرنني الثاني عشر والثالث عشر امليالديني. التاريخ السري للمغول (موجنيول -أون -نيوقا طوبقان) ،هو االسم املرادف لتلك امللحمة ،وهي مجهولة املؤلف ،ولكن يتفق العلماء على أنها كتبت في العام 1240ميالدية .وقد قس� � ��م التاريخ السري إلى أجزاء ثالثة؛ تتناول في اجلزء األول أسالف جنكيز خان وأنسابهم، 313
نهر على َسفَر | َف ُّن ا ُملن َْمن ََمات ...األدب والتاريخ واألسطورة ٌ
وفي الثاني القصص التي ارتبطت بحروب جنكيزخان وحياته ،أما اجلزء األخي� � ��ر ،وهو األقصر ،فقد خصص البن� � ��ه ووريثه أوجوداي ( 1241 - 1228ميالدية. البداية اخلرافية بأن األب األول للمغول كان ذئبا ،وأن زوجته كانت غزالة ،هي مفتتح تلك امللحم� � ��ة ،التي متزج اخليال بالواقع .وتتردد صورة الذئب في األساطير لدى الشعوب األورو آسيوية ،ولكن اخليالي واخلرافي األول ،يتحول إل� � ��ى توثيق جدي حني يتعلق األمر بالقبيلة الذهبية ،التي تعد قاعدة أنساب الشعب املغولي .أما القسم الثاني فهو لب امللحمة ،وهو الذي يستغرق 12سنة ،ويؤرخ للقبائل املغولية، التي توحدت على يد جنكيز خان. قدمت امللحمة جنكيز خان بطال أسطوريا ،ومحاربا كبير ،ومعادال موضوعيا ألس� � ��اطير البراري ،ورجال داهية في إدارة أمور الدولة، خاصة حني قرر وضع حد للخالف والشقاق بني القبائل املغولية: «وكانت الس� � ��ماء بنجومها تدور على غير ه� � ��دى ،وكان كثير من الناس في نزاع وشقاق ،ال يأوون إلى مضاجعهم ،بل يوقعون اخلراب بعضهم بالبعض اآلخر .وكانت األرض ذات األدمي ،تدور إلى األمام وإلى اخللف ،وكان الشعب بأجمعه في شقاق». وأثبت العلماء أن بعض الروايات التي جاءت في التاريخ السري تعود بأصولها إلى أساطير آسيا الوسطى ،مثل حكاية السهام اخلمسة املربوطة في حزمة ،التي تذكرنا بقصص فارس� � ��ية قدمية ،وكذلك بحكاية عن قبائل الصقالبة ،وهي القصة الشهيرة عن السهام التي تنكسر متفرقة ،وتس� � ��تعصي على الكسر مجتمعة ،ولهذا توصي بها األم التي تقول ألبنائها اخلمسة في امللحمة: «أنتم يا أبنائي اخلمسة ولدمت من بطن واحدة ،فإذا كنتم متفرقني، مثل السهام اخلمسة التي رأيتموها قبل قليل فرادى ،أصبح من السهل 314
ألي أحد أن يكسركم واحدا واحدا .أما إذا كنتم على هدف واحد، مثل هذه السهام اخلمسة احملزومة في حزمة واحدة ،فكيف ألحد أن يكسركم؟!». وقد بقيت امللحمة مصدر تأريخ للشعوب املجاورة لفترة 750سنة، وكانت مرجعا في كتاب جامع التواريخ للمؤلف الفارسي رشيد الدين ( 1318 - 1247ميالدية) ،وكانت كذلك مرجعا لكتاب يوان شيه (تاريخ أسرة يوان) ،الذي يضم احلوليات الصينية الشهيرة إلمبراطورية املغول في الصني ،من القرن الثالث عشر إلى القرن الرابع عشر .كما تتضمن «أكبر نامة» ،وهي حوليات اإلمبراطور أكبر وأسالفه للمؤرخ املغولي أبو الفضل ( 1602 - 1551ميالدية) ،نصوصا من ذلك التاريخ السري. واألهم أن املنمنمات الصينية واملغولية والفارسية والهندية كان لها نصيب في أن تنهل من التاريخ السري ،تاريخا وشعر وفنا باملثل. وإلى جانب املالحم ،علينا أن نشير إلى موضوعات تاريخية أخرى، بعضها مستلهم من القرآن الكرمي ،مثل قصة نبينا يوسف عليه السالم مع امرأة العزيز في مصر ،فضال عن أشعار أدباء عاصروا مرحلة ازدهار فن املنمنمات.
َر ّ َس ُامو ا ُملن َْم َن َمات الفارسية
نتعرف في العهد الصفوي على رسام املنمنمات علي نقي ،الذي اتبع نهج أبيه الشيخ عباسي ،املش� � ��هور بلوحاته السبع املؤرخة بني عامي 1684و 1685ميالدية ،ومثل أبيه ،وشقيقه محمد نقي ،عمل الفنان علي نقي بشكل انتقائي خضع فيه للتأثيرات األسلوبية التي جتمع بني األوربية والهندية ،ولم تكن أعماله تقل جودة عن لوحات أبيه ،إال أنها كانت أكثر جرأة. كما يعد عباسي أحد رسامي املنمنمات الصفوية ،وترك سبع عشرة 315
نهر على َسفَر | َف ُّن ا ُملن َْمن ََمات ...األدب والتاريخ واألسطورة ٌ
لوحة رسمت بني عامي 1650و 1683ميالدية .كان عباسي يرسم على ورقة صغيرة لها شكل املستطيل غير ملونة اخللفية وضعت داخل إطار مزين بالنباتات .إن مجموعة األعمال املنسوبة لعباسي ،ومساعديه وتالميذه ،ميكن أن توصف بأسلوبها املنمق بأنها تقدم شخصياتها بنعومة وسالسة ،مثل عمل عباسي املبكر عن العب الكروبات والدف، واألعمال التي حتمل وجوها ناعمة ومرقطة ،ومثلثة الشكل ،وهناك عيون حزينة ،على األغلب ،بينما هناك خلفيات ملشاهد طبيعية (تبدو كأنها مستنسخة من مثيالت إيطالية) وبلدات في األفق نائية .وينظر أيضا أسلوبه في حوالي عشرين من اللوحات األخرى التي تعزى له أو مساعديه وأتباعه. وخالفا ملعاصريه زمان محمد وعلي ،لم يكن عباسي ينسخ مباشرة املوضوعات األوربية ،ورمبا كان انتقال التأثير األوربي إليه تدريجيا عبر النماذج التركية ،وهو ما ظهر باملثل في محاوالته تصوير املوضوعات الهندية قرب نهاية حياته املهنية ،والتي تظهر ألفة مع تفاصيل أزياء الهنود وأمناط التصوير الهندي ،وتع� � ��د محاولته األكثر جناحا في الطريقة الهندية رسمه امللون لألمير يركب الفيل مع املوكب ،ويعود تاريخها إلى عام 1675ميالدية. وباستثناء مجموعة من الرسوم التوضيحية في مخطوطة مجهولة، كان عباسي يشتغل على تقدمي لوحات ألبومات صور احلكام (مثل الشاه عباس الثاني والشاه سليمان) ،بينما ظهرت هناك أيضا أعمال موضوعها الفروسية والعذراء والطفولة والشباب والنساء في املناظر الطبيعية أو التنزه واالستماع إلى املوسيقى ،وهو ما برع فيه ولداه الفنانان محمد نقي وعلي نقي. كما يُعد فنان احلقبة املغولية الرس� � ��ام أبو احلسن نادر الزمان، املولود في العام 1589ميالدية ،ببالط األمير س� � ��الم (الذي أصبح 316
الحقا اإلمبراطور جهاجنير) ،خير خلف لوالده الفنان آغا رضا ،ابن هرات ،فقد عاش وعمل كفنان طيلة حياته .درب الوال ُد ابنه ليكون فنان بالط مثله ،وأعطاه لقبه هو «نادر الزمان» وعنى به ـ كما ندرك ـ أعجوبة العصر .كان الفنان الوالد قد أظهر مهارة كبرى في البالط املغولي ،لدى مريد بادشاه ،وتشهد بذلك مجموعته في لوحات ألبوم قصر كلستان. عزز الفنانان ،األب واالبن ،عبر استخدامهما للون واخلط ،وبشكل ملحوظ ،العناصر الفارسية في اللوحة املغولية في تلك الفترة ،وأصبح أبو احلسن أفضل رسام بورتريه في عصره ،بفضل دراسته لتقنيات الصور والنقوش األوربية ونسخه لكثير منها. وتشمل موضوعات أبي احلسن صورا رمزية للحكام ومشاهد جلموع اجلمهور العام صورت حاشية احلاكم وكذلك الدراويش ،فضال عن لوحات األقرباء واملسؤولني رفيعي املستوى من املغول ،واشتهرت لديه صورة يحتفظ بها متحف جيميه ف� � ��ي باريس لإلمبراطور جهاجنير وصورة والده أكبر في يديه. وميكن أن نشير في احلقبة نفسها للفنان رضا آغا الهروي (-1599 1605ميالدية) ،الذي ارتبط باألمير سليم (اإلمبراطور جهاجنير)، وقد وقع باسم آغا زاد ،وكان مثل أبي احلسن رسا ًما للبالط، كما يعد حبيب الله الصفجي ( 1628-1587ميالدية) أحد الفنانني األكثر حتفظا ،ونشاطا ،في عهد الشاه عباس األول (حكم -1587 1628ميالدية) .وللفنان حبيب الله العديد من اللوحات املوقعة ،مبا في ذلك منوذج منمنمات لسرب من الطيور ،إضافة إلى نسخة من منطق الطير لفريد الدين العطار ( 1483ميالدية) ،ويحتفظ بها متحف متروبوليتان للفنون في نيويورك ،وهناك -باملتحف نفسه -عمل آخر للفنان ميثل مزارعا يحرث بصحبة اثنني من ،وله ألبوم «ظفرنامه»، 317
نهر على َسفَر | َف ُّن ا ُملن َْمن ََمات ...األدب والتاريخ واألسطورة ٌ
وبه تصوير للجمال مع رجل ملتح يحمل املغزل ولوحة لشاب يحمل بندقية (متحف ستاتليتش اإلسالمي في برلني) ،ورسم المرأة شابة جتلس في حقل للكمثرى (مجموعة جورج باسيل روبنسون ،لندن)، ولوحة لصياد شاب ومنمنمة لسيدة جالسة في رداء برتقالي (وكلتاهما في مكتبة سراي توبكابي مبدينة اسطنبول) ،ومنمنمة لقافلة جمال عربية (متحف ميدلهافموزيت في ستوكهولم). هذه اللوحات تقد منوذجا لفن الرسام الذي متيز بتقدمي تفاصيل معقدة لألزياء واحللي ـ من الذهب والفضة ـ وصورة للعصر ،خاصة حني نقرأ ما بني األلوان ،فنرى كيف كان الصياد يتودد إلى صقره، بألفة ،وكيف تنقش خيوط الذهب متوازية على املالبس ،وكيف كانت القفازات ثرية ،تبدو بهرجتها حني يضربها الضوء ،وكيف كانت تبدو خناجر الزي الرسمي والقلنسوات في ذلك العصر. أما علي بن سلطان ميرزا فهو سيد رسامي العصر الصفوي املبكر، وقد ولد ،على األرجح ،بني عامي 1500و1510ميالدية ،وتوفي حوالي العام 1575ميالدية .نال علي بن سلطان تدريبه األساسي كرسام من والده ،لكنه تتلمذ أيضا على أيدي فنانني آخرين. أنتج علي بن سلطان لوحاته حتت رعاية الشاه طهماسب ،وتكشف أعماله عن متكنه من التقاليد التفصيلية والتركيبية ،ووضوح اجلمع بني املراقبة املضنية للمشهد املرس� � ��وم مع ميل للنظام الكالسيكي، فضال عن انتباه إلى الفروق الدقيقة في املالبس ،واإلمياءات ،مبا يجعلها مصدرا مهما للحياة االجتماعية في العهد الصفوي ،جنبا إلى جنب مع أعمال العديد من معاصريه مثل مظفر علي والشيخ محمد املدعومني من قبل الش� � ��اه ميرزاابن أخ إبراهيم الذي كان متذوقاً للرسم واخلط ومحتفيا بهما. وقد أنتج علي ميرزا في الفترة األخيرة من حياته عددا كبيرا من 318
اللوحات ذات الصفحة الواحدة ،واملصممة إلدراجها في ألبومات ،تقدم في معظمها « -بورتريهات» لشباب ونساء ومشاهد من البالط.كما يجب أال أن نغفل الرسام واملزخرف عبد الله شيرازي ،الذي يعد أحد فنارات رسم املنمنمات في القرن السادس عشر ،وكان أحد أعضاء محترف رسم املخطوطات لدى أبي الفتح إبراهيم بهرام ملدة عشرين عاما ،باعتباره حاكم مش� � ��هد حتى اغتياله في قزوين سنة 1577ميالدية. واحدة من أروع املخطوطات التي أنتجتها ورشة إبراهيم ميرزاهي نس� � ��خة من لهفت جامي ،بعنوان زليخا ويوسف ،ومؤرخة في 1565 ميالدية ،وتضمنت الرسوم املعمارية نقشات مذهبة مؤطرة.
َم ْد َر ُ سة ُبخَ ا َرى لفنِّ ا ُملن َْمن ََم ِات
ميكن أن نقسم احلديث عن فنِّ املُنَ ْمنَ َم ِ ات في بخارى ،بجمهورية أوزبكستان املعاصرة ،إلى حقبتني؛ تاريخية قدمية ،وتأصيلية معاصرة. وقد اشتهرت قدميا مدارس بخارى وس� � ��مرقند وطشقند ،وال تزال املخطوطات احملفوظة في أرش� � ��يف هذه املدن ،أو املنقولة منها إلى متاحف العالم حتكي الكثير. ومنوذجا للمدارس التاريخية في رسم املنمنمات ،جند أن مدرسة بُخارى تعود بنا إلى ب� �ل��اد فارس ،فقد نهضت هذه املدرس� � ��ة على أكتاف الفنانني واخلطاطني والنساخني الذين هربوا من هرات ،بسبب الغزوات املتكررة على املدينة من قبل ُعبيد الله خان (1539 - 1512 ميالدية) .ولذلك من اجللي أن يتضح في منمنمات مدرسة بُخارى ذلك التأثير الفارس� � ��ي ،رغم أن هذه الفترة لم تخلف لنا منمنمات تخص نخبتها احلاكمة. 319
نهر على َسفَر | َف ُّن ا ُملن َْمن ََمات ...األدب والتاريخ واألسطورة ٌ
ومع أن املنمنمات التي ظهرت أوائل القرن السادس عشر كانت تقلد سابقاتها التي ظهرت منتصف القرن السابق عليها في بالط التيموريني ،كما توثقها منمنمات س� � ��مرقند وطشقند ،فإنها لم تبق على منمنمات مماثلة .باملقابل نعثر على موجتي تأثير حلقتا مبدرسة بخارى في رسم املنمنمات ،وكلتاهما جاءت من هرات؛ كانت األولى على النسق التيموري تقدم بالط السلطان حسني ( 1506 - 140ميالدية)، ويحتفظ متحف الفن احلر في واشنطن بإحدى هذه املنمنمات ،التي تبني العمارة ،واملشاهد الطبيعية ،واألزياء ،وأغطية الرأس بشكل مميز عن رسوم هرات .وقد استمر هذا األس� � ��لوب قويا في بخارى حتى منتصف القرن السادس عشر .ولعل أهم مخطوطة تعود لهذه الفترة هي نسخة من مؤلف سعدي (جلستان) ،وحتتفظ بها مؤسسة M. Bodmerفي جنيف ،وقد أمر بنس� � ��خها السلطان علي في هرات ( 1500ميالدية) ،ولكن رس� � ��ومها أضيفت ملن خلف عبيد الله خان، وهو عبد العزيز سلطان ( 1550 - 1539ميالدية). إن البناء التركيبي للمنمنمات ،واألسلوب اخلاص برسومها ،يعودان بشكل واضح إلى األصول اخلاصة مبخطوطة «جلستان» التي رسمت للسلطان حسني .ومخطوطات بعض هذه السنوات نسخها خطاطون أمثال سلطان علي مشهد ،الذي لم يعش أبدا في بخارى. مجموعة أخرى من مخطوطات بُخارى ميكن أن تعزى إلى رعاية عبد العزيز س� � ��لطان ،وهو أحد أعظم املكتبيني ف� � ��ي عهد ما بعد التيموريني ،في آسيا الوسطى .ويقول مؤرخو الفن إن لوحات تلك الفترة تعود بأسلوبها وتركيبها إلى تأثير مدرسة الفن في عهد الصفويني، خاصة العام 1525ميالدية ،حيث نقلها إلى بخارى شيخ زاده ،الذي كان تلميذا لبهزاد .وهكذا كان أسلوب بهزاد في هرات ،وتأثيره هو وتالميذه ،قد أصبحا عتيقا في ب� �ل��اط الصفويني ،وقد بزه حينئذ 320
ال تعد املنمنمات مجرد لوحات فنية ،بل هي توثيق تاريخي وأنثروبولوجي للحياة في عصر إنشاء املنمنمة ،ليس فقط للمنشآت ،واملالبس ،ولكن ألسلوب احلياة وأنواع األسلحة ووسائل النقل.
321
نهر على َسفَر | َف ُّن ا ُملن َْمن ََمات ...األدب والتاريخ واألسطورة ٌ
األسلوب التبريزي ،للرسام سلطان محمد ،وأتباعه. ثم سعى شيخ زاده باحثا عن مصدر جديد للرعاية لدى الشهبانيني، فقام بتس� � ��طيح الفضاء املعماري وزاد من زيناته الزخرفية ،وهو ما يتضح في املش� � ��هد اجلامع الذي بديوان حافظ ،الذي قدمه للشاه طهماسب شقيق ميرزافي حوالي 1527ميالدية. ومثل الربع األخير من القرن السادس عشر فترة انتقالية في مدرسة بخارى لرسوم املنمنمات ،حيث تفكك بش� � ��كل نهائي النمط األساسي للتصميم البخاري ،وأضيفت الرسوم التوضيحية للمخطوطات ،ولم تبق سوى عالقة ضئيلة -تكاد أحيانا تكون معدومة -مع النص املرافق لها، ومثاال على ذلك هناك أكثر من 300منمنمة تنسخ شخصيات واحدة. ونتيجة لغزو صفويي خراسان ألوزبك بخارى ( 1586ميالدية) ،كانت هناك موجة جديدة من التأثيرات الفنية من مشهد وهرات ،وظهرت املنمنمات التي رسمها في شبان يرتدون العمائم في خراسان األوزبكية، مما يجعلنا نفترض أن الفنانني احملليني كان� � ��وا يعملون ملصلحة رعاة أوزبكيني جدد. ومن املهم أن نشير إلى أن وليام موركروفت ،وكان ممثال للحكومة البريطانية في الهند ،وقام بدراسة الفنون واحلرف اليدوية في كشمير بني عامي 1819و 1823ميالدية ،قد أكد أن جتارة املخطوطات املص َّدرة منشرة بشكل هائل ،وكانت املنمنمات الكشمير تنقل إلى آسيا الوسطى خالل فترة السلطنة الدورانية بني عامي 1752و 1819ميالدية ،وتشهد مجموعات كشميرية لدى خزائن االحتاد السوفييتي السابق على دقة تقارير موركروفت ،وقد أكد هو نفسه ترحيل بعض فناني كشمير إلى مدن آسيا الوسطى خالل أوائل القرن التاسع عشر ،وأن هؤالء ظلوا يحافظون على أسلوب العمل الوطني اخلاص بهم ،وال يوجد أي دليل على إنتاج الكتب املصورة في بخارى نفسها بعد نهاية القرن السابع عشر. 322
وخالل العقود املاضية جرى إحياء لتلك املدرسة البخارية ،واليوم يتبوأ فن املنمنمات في أوزبكستان ،التي تضم مدن بخارى وسمرقند وطشقند (العاصمة) ،مكانة كبيرة. لاً لقد أخذ فن املنمنمات وقتًا طوي في تطوره ،حتى حجز لنفسه مكا ًنا ش � � � َرف ًيا في تاريخ فنون العالم .وقدم فنانو وأس� � ��اتذة الفنون الش� � ��عبية األوزبك الكثير من األعمال الفني� � ��ة العظيمة في القرنني العشرين واحلادي والعشرين ،والتي ال تعتبر مجرد مثار لإلعجاب لثراء تشكيلها وخيالها اخلصب فحسب ،بل ت ُعد ً أيضا دليلاً إلى التاريخ القدمي ،وجتسد الشخصية املتنوعة واملتفردة لثقافة الفن لدى الشعب األوزبكي ،وهي بحق كنو ٌز فنية عاملية.بيد أن اإلسهام األهم واألكبر للفن الشعبي األوزبكي للثقافة العاملية على مر العصور ولكل األمم، هو فن املنمنمات. ومن املهم التأكيد أن قضية الفن الشعبي في زمن السوفييت كانت متثل عبئًا ثقيلاً وظاهرة آخذة في االنقراض .ولهذا فإن أساتذة الصنوف األساسية للفنون الشعبية صائغي احللي واملجوهرات ،وصانعي الفخار واخلزف ،والرسامني على القماش ،والنقاشني على اجللود ،ونساجي األبسطة ،وحفاري اخلشب ،ومركبي اجلص مت الزج بهم إلى املنفى، وشمل احلظر تداول أعمالهم اإلبداعية .تلك األعمال التي لم تدعمها الدولة ،ولم يكن ثمة طلب عليها؛ بسبب تدني مستوى معيشة الشعب في ذلك الوقت .واملوقف املوصوف في ُمجمله يكاد يتمثل في رسم تصويري صغير ،وهو منمنم ٌة من أعمالِ عبقري الشعر األوزبكي علي شير نواعي ،حيث ترى األسد مكبال بأصفاد من النقوش الغامضة عليها مكتوب «األسد املكبل يسعى للتحرر» .ولهذه الشخصية معان مختلفة وال تعني فقط حرية الفن اإلبداعي ككل ،بل ً أيضا فردية كل فنان على حدة. 323
نهر على َسفَر | َف ُّن ا ُملن َْمن ََمات ...األدب والتاريخ واألسطورة ٌ
ومن الوثائق املهمة لعهد التيموريني ،ال� � ��ذي رعت مبوجبه الدولة أساتذة الفن الشعبي ،نتعرف على موضوع مؤرخي الفن .إذ جند أستاذ املنمنمات ،ومدير الكتابخانة (املكتبة) كمال الدين جعفري تبريزي من ِحرات ،يخب� � ��ر األمير غياث الدين بايس� � ��ونكور ( )1434 – 1397في تقريره بالوفاء بـ»أوامر الدولة» املُصممة ملصلحة الرسوم الفنية للمباني، وتصميم املنمنمات للكتب ،والتصميم الفني واجلرافيكي لدواوين الشعر. وكذلك فإن األمير بايسونكور (ابن شاه روح) نفسه كان من فناني اخلط املوهوبني .وفي متحف القرآن في مشهد نرى مناذج كثيرة من أعمال بايسونكور معروضة في مكان بارز. وفي تلك الظروف املواتية للفن اإلبداعي نشأ أستاذ املنمنمات العبقري كمال الدين بهزاد ( .)1536 – 1455ومن اجلدير بالذكر أن الشاعر علي شير نواعي (األمير الكبير في بالط التيموريني في خراسان) كان معلم وراعي بهزاد .أما اآلن ،وفيما يتعلق بالفن الشعبي (الفولكلور) في أوزبكستان ،فأود اإلشارة إلى بعض النقاط الفارقة في عملية ترميم وتأهيل وتنمية الفن الشعبي التقليدي. وأحد األنواع املنسية من الفن الفولكلوري هو الرسم على املينا والذي استعاده ن .حوملاتوف بالرسم على صناديق صغيرة مصنوعة بالطريقة القدمية باس� � ��تخدام تقنية الصائغني .وقدم مجموعة من الصناديق برسوم مينا بإطار من الفضة والنيكل بزخرفة شرقية وأحيا ًنا بإضافة قطع من الفيروز واألحجار النفيسة وقالدات العنق .وفي العادة فإن شكل الصندوق وطريقة رسمه ميتزجان بأسلوب متجانس .يراعي في أعماله كل التفاصيل ،والتركيب الكلي لدى إدخاله لعناصر تصويرية ورسم لشخصيات .ودائ ًما ما يبقي في ذهنه مجمل التصميم واللوحة ويحافظ على اتساق األسلوب في العمل ككل. وتقدم سلسلة من صناديقه/أعماله الفنية التي يستخدم فيها ألوانا 324
باهتة بسخاء ،لسيناريو يدور في محيط من املناظر الطبيعية .وهي عامرة بالشعرية وبها نوع من التأمل الفلسفي ،ومن هذه األعمال «موسيقى» و«تأمل» و«الطائر» ،و«عالم الطبيعة» و«الباقة» ،وغيرها. وقد اس� � ��تخدم التقنية الفنية في رس� � ��م اجلداريات في زخرفة قصر «تركستان» وهو مبنى الس� � ��فارة التركية في طشقند ،ومسرح الدراما املوس� � ��يقية في بلدة جوليستان ،وترميم مطعم «أوزبكستان» في موسكو. والنهج الزخرفي ،واألسلوب الشعري ،واأللق البالغ ،واالنسجام في ٍ سمات أصيلة في أعماله الفنية .وبغض النظر عن الفن ،صارت جمي ًعا مسألة اإلبقاء على تقاليد الرسم القدمية واحلفاظ على بناء الصورة ومتاسك األسلوب وهي من الصفات اللصيقة بالنهضة الفنية املشرقية، فإن إدراك الفنان لتمثيل الصورة فيما يتصل بالفنانني املعاصرين في أوزبكستان يستوجب تفس� � ��ير احلياة اليومية وعالقات البشر ،وهي قدمية في املنطقة منذ قرون ،ولها صلة وثيقة باحلاضر. إن تناولنا لهذه املنمنمات الش� � ��رقية في احلضارة اإلسالمية ال يعني إغفالنا ملدارس فنون املنمنم� � ��ات الصينية والهندية والعثمانية والتأثيرات املتبادلة بينها ،لكن لذلك حديثا يطول ،ال تتسع له مقالة منمنمة تضيء تاريخ ذلك الفن املغموس في حبر نوستاجليا احلكايات والتاريخ واألدب.
* نشر في «العربي» ،سبتمبر 2014 ** فاز بهذا املوضوع بجائزة الصحافة العربية ،من قبل نادي دبي للصحافة ،في فرع الثقافة ،مايو 2015
325
أشرف أبو اليزيد
الـمحتويات بني يدي هذا الكتاب ...د .عادل سالم العبد اجلادر
4
هذه الرحالت ...أشرف أبو اليزيد
6
< قرطبة ...القلعة احلرة ،نشر في العدد ، 555مجلة العربي ،فبراير 2005
10
< برلني وردة بيضاء ...عاصمة م َو َّحدة نشر في العدد ،546مجلة العربي ،مايو 2004
36
< بيشيلية ...شعوب املتوسط ...فنون العالم، نشر في العدد ،553مجلة العربي 2004 ،
58
< تتارستان ...كتاب البهجة واألشجان، نشر في العدد ، 587مجلة العربي ،أكتوبر 2007
76
< بلغار الفوجلا ...على خطى أحمد بن فضالن ، نشر في العدد ، 650مجلة العربي ,يناير 2013
98
< حتت سماء كوجرات ،نشر في العدد ، 568مجلة العربي ،مارس 2006
114
< عرش السلطان أكبر ،نشر في العدد ، 676مجلة العربي ،مارس ،2015
144
< جواجن جو ...عاصمة الثقافة اآلسيوية، نشر في العدد ،662مجلة العربي ،يناير 2014
164
< أوزبكستان ...مزارات وبازارات ،نشر في العدد ، 602مجلة العربي يناير 602
182
< شينج يانغ ...الصني املسلمة، نشر في العدد ،598مجلة العربي ،سبتمبر 2008
214
< كوستاريكا ...قصيدة الفردوس والبركان، نشر في العدد ،622مجلة العربي ،سبتمبر
240
< يوتوبيا فوبيا مانديال الند ،نشر في العدد ،626مجلة العربي ،يناير 2011
266
< فن املنمنمات ...األدب والتاريخ واألسطورة، نشر في العدد ، 670مجلة العربي ،سبتمبر2014
294
الصور مبشاركة الفنان :سليمان حيدر (صفحات ) 285, 277 ,209 ،193 ،185 املخرجة :فاطمة الزهراء حسن (صفحات ) 161 ،159 ،151 ،145 ،144
326
< محرر مبجلة «العربي» منذ العام ،2002روائي وش� � ��اعر وصحف� � ��ي من مصر ،عضو احتاد كتاب مصر ،رئيس حترير «آسيا إن» العربية ،ورئيس جمعية الصحفيني اآلسيويني (. ) AJA < ولد في 13م� � ��ارس 1963م ،درس األدب اإلجنليزي ،عم� � ��ل بالترجمة ،قبل أن يتفرغ للصحافة الثقافية ،فكان سكرتير التحرير واملشرف الفني في كل من مجلة نزوى ،سلطنة ُعمان ،ومجلة(أدب ونقد في مصر ،واحملرر الثقافي لوكالة أنباء رويترز في القاهرة. < نشر استطالعاته املصورة عن أكثر من 30بلدًا في مجلة العربي ،وقدم للمكتبة العربية نحو 30كتابا بني التأليف والترجمة ،كما قدم للتلفزيون سلسلة من اللقاءات مع أيقونات الثقافات غير العربية في برنامجه «اآلخر» الذي بثه تلفزيون دولة الكويت. < شارك في مؤمترات وندوات وفعاليات ثقافية مبصر واملغرب وسورية وتونس والكويت ودولة اإلمارات العربية املتحدة واململكة العربية السعودية واليمن واألردن ،وروسيا وأملانيا وأسبانيا وإيطاليا وكوريا اجلنوبية وكوستاريكا.
اجلوائز والتكرميات < جائزة مانهي لألدب عام 2014م في كوريا اجلنوبي� � ��ة (Manhae Grand Prize .)in literature < تكرمي املكتب الثقافي لس� � ��فارة جمهورية مصر العربية ف� � ��ي دولة الكويت بدرع جنيب محفوظ لإلبداع عام .2014 < جائزة الصحافة العربية ،في الثقافة ،من نادي دبي للصحافة.2015 ، < تكرمي مجلة دبي الثقافية مرتني ،كإعالمي وشاعر ،عامي 2009و.2013 < تكرمي جمهورية تتارستان ،روسيا االحتادية ،مرتني ،بدرع شخصية العام الثقافية لدوره في التعريف بالثقافة التترية ( ،)2012ودرع احتاد الكتاب ومسرح الطفل للدمى ،لترجمته عملني للشاعر عبد الله طوقاي كتبهما لألطفال (.)2013
املؤلفات :الرواية < شماوس ،دار عني للنشر ،القاهرة.2008 ، < حديقة خلفية ،مكتبة املشارق للنشر والتوزيع ،القاهرة.2011 ، < ،31مكتبة املشارق للنشر والتوزيع ،القاهرة.2011 ،
327
الشعر < وشوشة البحر ،إصدار خاص ،القاهرة.1989 ، < األصداف ،إصدار خاص ،القاهرة.1996 ، < ذاكرة الصمت ،دار اجلديد ،بيروت.2000 ، < فوق صراط املوت ،كاف نون ،القاهرة.2001 ، < ذاكرة الفراشات ،مكتبة غريب ،القاهرة.2005 ،
الدراسات والترجمات < سيرة اللون (دراسات في الفن التش� � ��كيلي املعاصر) ،الهيئة املصرية العامة للكتاب، القاهرة.2003 ، < مذكرات مسافر ،رحلة شيخ األزهر مصطفى عبدالرازق إلى أوربا (حتقيق /أدب رحلة)، سلسلة ارتياد اآلفاق ،أبو ظبي.2008 ، < الشيخ مصطفى عبدالرازق مسافرا (حتقيق /أدب رحلة) ،دار العني للنشر واألبحاث، القاهرة.2009 ، < عبث الشباب (حتقيق جلريدة بيرم التونسي (الشباب)) ،مكتبة اإلسكندرية ،اإلسكندرية، .2008 < سيرة مسافر( ،أدب رحلة) ،دار هفن للنشر ،القاهرة.2008 ، < أنا والس� � ��وريالية ،س� � ��لفادور دالي (ترجمة) ،سلس� � ��لة كتاب دبي الثقافية ،دبي ،يوليو 2010 < ألف حياة وحياة ،الشاعر كو أون (شعر مترجم) ،سلس� � ��لة كتاب دبي الثقافية ،دبي، .2012 ديس يحلق بعيدًا ،الشاعر تشو أو ـ هيون (شعر مترجم) ،بيت الغشام للنشر والترجمة، < قِ ٌ مسقط ،سلطنة عمان.2013 ، < طريق احلرير ،موسوعة ثقافية مصورة ،مكتبة اإلسكندرية.2013 ، < نون النسوة ...نهر الفن ،سير ذاتية ،سلسلة كتاب الهالل.2013 ، < نهر على سفر( ،أدب رحلة) ،سلسلة كتاب العربي ،الكويت.2015 ،
أعمال مترجمة للمؤلف < ذاكرة الفراشات ،أنطولوجيا شعرية مترجمة إلى اللغة اإلجنليزية ،القاهرة.2013 ، < ذاكرة الفراشات ،أنطولوجيا ش� � ��عرية مترجمة إلى اللغة الفارسية ،ترجمة :د.نسرين شكيبي ممتاز ،دار نشر أفراز ،طهران.2013 ، < أنطولوجيا ش� � ��عرية مترجمة إلى اللغة التركية ،ترجمة :متني فندقجي ،الناشر :آرت شوب ،اسطنبول2012 ، < ديوان (شارع في القاهرة)( ،مختارات ش� � ��عرية) ،ترجمة :د.نادية جمال الدين ،صدر
328
باللغة اإلسبانية ،الناشران :بيت الشعر في سان خوسيه وجامعة كوستاريكا ،كوستاريكا، 2010 < شماوس( ،ترجمة كورية) ،ترجمة :جامعة هانكوك للدراسات األجنبية ،صدر عن جمعية كوريا والشرق األوسط ،سيئول.2008 ،
أدب الطفل < أطفال من وطني العربي (ديوان شعر) ،سلس� � ��لة كتاب العربي الصغير ،العدد ،170 الكويت ،نوفمبر .2006 < حكاية فنان عمره 5000عام (تاريخ الفن املصري) ،املركز القومي لثقافة الطفل ،املجلس األعلى للثقافة ،القاهرة.2006 ، < حكايات كورية (قصص شعبية مترجمة) ،سلس� � ��لة كتاب العربي الصغير ،العدد ،188 الكويت ،مايو .2008 < َر َّحالة العرب (أدب رحلة) ،سلسلة كتاب العربي الصغير ،العدد ،196الكويت ،يناير .2009 < شورالي ،حكاية احلطاب وشريرة الغاب (ترجمة مللحمة كتبها شاعر تتارستان عبدالله طوقاي) ،سلسلة كتاب العربي الصغير ،العدد ،210الكويت ،مارس .2010 < ساعي بريد حتت املاء (قصة ش� � ��عرية) ،سلس� � ��لة كتاب العربي الصغير ،العدد ،218 الكويت ،نوفمبر .2010 < العنزة واخلروف( ،ترجمة مللحمة كتبها شاعر تتارستان عبدالله طوقاي) ،سلسلة كتاب العربي الصغير ،الكويت.2013 ، < سلسلة «مغامرات ماجد على طريق احلرير» أسبوعيا ملدة 4سنوات2015 - 2011 ، مبجلة ماجد ،اإلمارات ،لتعريف القراء العرب بجغرافيا وتاريخ وعادات وتقاليد شعوب هذا الدرب الشهير. مغامرات سمر املصورة ،مجلة «العربي الصغير» قصائد لألطفال ،مجلة «العربي الصغير».
املوقع اإللكتروني www.ashrafdali.com ; ;www.ashrafdali.com/blog ashrafdali@gmail.com ; ashraf_dali@yahoo.com ;
329
AL ARABI BOOK
أسعار النسخ وقيمة االشتراكات الكــويت 1دينـــــار السعودية 15ريــاال األردن 1دينــــــــار ســـورية 50ليـرة البحرين 1دينـــــار مصــــــر 5جنيــــهات السودان 200جنيه تـــــــونس 2دينــــــــار
اجلزائـر 120دينـارا اليــــــــمن 150ريـــاال قطــــــــر 15ريــــــــاال سلطنة عمان 1ريـــال لبنـــــــان 5000ليرة اإلمارات 15درهمــــا املغـــرب 20درهمـــــا
سعر النسخة خارج الوطن العربي 3دوالرات أمريكية االشتــــــراك في الكــــــويت 5دنــانــــــــير في الدول العربية 8دوالرات أمريكــــــية خارج الوطن العربي 16دوال ًرا أمريكيا.
االشـ ــتراكـ ــات
قسم االشتراكات -مجلة العربي -وزارة اإلعالم ص .ب 748 :الصفاة -الكويت الرمز البريدي 13008 على طالب االشتراك حتويل القيمة مبوجب حوالة مصرفية أو شيك بالدينار الكويتي باسم وزارة اإلعالم. 330
مكتب «العربي» الرئيسي في الكويت ص .ب 748الصفاة -الكويت -الرمز البريدي13008 : بنيد القار -قطعة - 1شارع - 47قسيمة 3 هاتف البدالة )00965( 22512081 / 82 / 86 فاكس)00965( 22512044 : P.O.Box: 748 / Al Safat Kuwait.
E.mail: arabimag@arabimag.net www.alarabimag.net
املراسالت باسم رئيس التحرير
مراسلو «العرب ــي» في اخل ـ ــارج القاهرة :الهرم 5 -شارع ترعة املريوطية -عمارات اخلليج عمارة 3الدور األول -دار عني للدراسات هاتف002039812448 : بيــروت :ص .ب 70827أنطلياس /لبنان هاتف - 009613408407 :فاكس009614408448 : دمشق :ص .ب 7699 هاتف - 00963114417653 :فاكس00963114449567 : الرباط :ص .ب 7729دار احلديث هاتف - 0021237679972 :فاكس0021237778438 :
331
AL ARABI BOOK
إصدارات كتاب العربي
د .أحمد زكي «يناير »1984 -1احلرية د .عبد احلليم منتصر «أبريل »1984 -2العلم في حياة اإلنسان -3املجالت الثقافية والتحديات املعاصر ة مجموعة كتاب «يوليو »1984 د .محمود السمرة «أكتوبر »1984 -4العروبة واإلسالم وأوربا -5العربي ومسيرة ربع قرن مع:احلياة.. والناس ..والوحدة في دول اخلليج العربي مجموعة كتاب «نوفمبر »1984 -6 -7 -8 -9 -10 -11 -12 -13 -14 -15 -16 -17
د .فاخر عاقل «يناير »1985 طبائع البشر د .أحمد كمال أبو املجد «أبريل »1985 حوار ..المواجهة .. مجموعة كتاب «يوليو »1985 آراء ودراسات في الفكر القومي محمد خليفة التونسي «أكتوبر »1985 أضواء على لغتنا السمحة مجموعة كتاب «يناير »1986 الكويت ربع قرن من االستقالل نظرات في الواقع االقتصادي املعاص ر د .حازم الببالوي «أبريل »1986 السلوك اإلنساني ..احلقيقة واخليال د .فخري الدباغ «يوليو »1986 مجموعة كتاب «أكتوبر »1986 آراء حول قدمي الشعر وجديده مجموعة كتاب «يناير »1987 املسلمون والعصر د .عبد احملسن صالح «أبريل »1987 من أسرار احلياة والكون مجموعة كتاب «يوليو »1987 دراسات حول الطب الوقائ ي د .فؤاد زكريا «أكتوبر »1987 خطاب إلى العقل العرب ي
332
-18املسرح العربي بني النقل والتأصيل مجموعة كتاب «يناير »1988 -19الفلسطينيون من االقتالع إلى املقاومة مجموعة كتاب «أبريل »1988 محمد عبد الله عنان «يوليو »1988 -20أندلسيات مجموعة كتاب «أكتوبر »1988 -21ماذا في العلم والطب من جديد؟ د .عبد العزيز كامل «يناير »1989 -22اإلسالم والعروبة في عالم متغير مجموعة كتاب «أبريل »1989 -23الطفل العربي واملستقبل! مجموعة كتاب «يوليو »1989 -24القصة العربية أجيال وآفاق د .شاكر مصطفى «أكتوبر »1989 -25تاريخنا ...وبقايا صور مجموعة كتاب «يناير »1990 -26اإلنسان والبيئة صراع أو توافق؟ د .زكي جنيب محمود «أبريل »1990 -27نافذة على فلسفة العصر عبد الرزاق البصير «يوليو »1990 -28نظرات في األدب والنقد د .محمد عمارة «يوليو »1997 -29اإلسالم وضرورة التغيير -30اخلليج العربي وآفاق القرن مجموعة ك ــتاب « أكتوبر »1997 الواحد والعشرين مجموعة من الكتاب «يناير»1998 - 31القصة العربية . محمود املراغي « أبريل » 1998 - 32أرقام تصنع العالم د .شاكر مصطفى « يوليو » 1998 - 33على جناح طائر
333
AL ARABI BOOK
إصدارات كتاب العربي
مجموعة من الكتاب « أكتوبر »1998 - 34املسلمون من آسيا إلى أوربا مجموعة من الكتّاب « يناير »1999 - 35إسبانيا ..أصوات وأصداء عربية مجموعة من الكتاب «أبريل »1999 - 36ثورات في الطب والعلوم محمد مستجاب «يوليو »1999 - 37نبش الغراب في واحة العربي - 38املثقفون والسلطة في عاملنا العربي أحمد بهاء الدين «أكتوبر »1999 مجموعة من الكتّاب «يناير»2000 - 39التعبير باأللوان مجموعة من الكتاب «أبريل »2000 - 40حضارة احلاسوب واإلنترنت مجموعة من الكاتبات «يوليو »2000 - 41شهرزاد تبوح بشجونها نخبة من الشعراء «أكتوبر »2000 - 42قوافي احلب والشجن د .محمد املخزجني «يناير »2001 - 43الطب البديل سليمان مظهر «أبريل »2001 - 44منمنمات تاريخية نخبة من الكتّاب «يوليو »2001 - 45اإلسالم والتطرف د .أحمد أبو زيد «أكتوبر »2001 - 46الطريق إلى املعرفة د .نقوال زيادة «يناير »2002 - 47إيقاع على أوتار الزمن مجموعة من الكتّاب «أبريل »2002 - 48دمار البيئة ...دمار اإلنسان مجموعة من الكتّاب «يوليو »2002 - 49اإلسالم والغرب مجموعة من الكتّاب «أكتوبر »2002 -50ثقافة الطفل العربي د .سليمان العسكري وآخرون «يناير »2003 -51الثقافة الكويتية أصداء وآفاق
334
فاروق شوشة «أبريل »2003 -52جمال العربية نخبة من الكتّاب «يوليو »2003 -53كلمات من طمي الفرات مجموعة من الكتّاب «أكتوبر »2003 -54مرفأ الذاكرة نخبة من الكتاب «يناير »2004 -55مستقبل الثورة الرقمية نخـ ـبـ ــة مــن الك ـت ــاب «إبـ ــريــل »2004 -56فلسطني روح العرب املمزق د.محمد جابر األنصاري «يوليو »2004 -57مراجعات في الفكر القومي نخبة من الكتاب «اكتوبر »2005 -58األندلس صفحات مشرقة نخبة من الكتاب «يناير »2005 -59الغرب بعيون عربية (اجلزء األول) نخبة من الكتاب «أبريل »2005 -60الغرب بعيون عربية (اجلزء الثاني) د .أحمد أبوزيد«يوليو »2005 - 61املعرفة وصناعة املستقبل د .جابر عصفور «أكتوبر »2005 -62غواية التراث محمد مستجاب «يناير »2006 - 63نبش الغراب «املجموعة الثانية» جار النبي احللو وعلي سيد علي «أبريل »2006 -64دائرة معارف العرب مجموعة من الكتاب «يوليو »2006 -65حوار املشارقة واملغاربة «اجلزء األول» مجموعة من الكتاب «أكتوبر »2006 -66حوار املشارقة واملغاربة «اجلزء الثاني» - 67الثقافة العلمية واستشراف املستقبل العرب ي مجموعة من الكتاب «يناير»2007 - 68عن الدهشة واأللم 50قصة بأقالم عربي ة مجموعة من الكتّاب «أبريل »2007 - 69املجالت الثقافية مهمة اإلصالح مجموعة من الكتّاب «يوليو »2007 وسؤال املعرفة (اجلزء )1
335
AL ARABI BOOK
إصدارات كتاب العربي
- 70املجالت الثقافية مهمة اإلصالح وسؤال املعرفة (اجلزء )2 - 71البحث عن آفاق أرحب مختارات من القصة الكويتية « - 72العربي» نصف قرن من املعرفة واالستنارة اجلزء االول « - 73العربي» نصف قرن من املعرفة واالستنارة اجلزء الثاني - 74نبش الغراب «املجموعة الثالثة» - 75نساء في التاريخ العربي -76قصص على الهواء بأقالم شابة -77جتارب في اإلبداع العربي - 78إعادة قراءة التاريخ - 79وجع الذاكرة - 80مستقبليات - 81الثقافة العربية في ظل وسائط االتصال احلديثة (اجلزء )1 - 82الثقافة العربية في ظل وسائط االتصال احلديثة (اجلزء )2 - 83حوارات العربي (اجلزء )1
مجموعة من الكتّاب «أكتوبر »2007 إعداد :د .مرسل العجمي «يناير »2008 نخبة من الكتّاب «أبريل »2008 نخبة من الكتّاب «يوليو »2008 تأليف :محمد مستجاب «أكتوبر »2008 تأليف سنية قراعة «يناير »2009 مجموعة من الكتاب «أبريل »2009 نخبة من الكتاب «يوليو »2009 د .قاسم عبده قاسم «أكتوبر »2009 سعدية مفرح « ..يناير »2010 د .أحمد أبو زيد «أبريل »2010 مجموعة من الباحثني «يوليو »2010
مجموعة من الباحثني «أكتوبر »2010 مجموعة من الكتاب «يناير »2011
336
عبود طلعت عطية «أبريل »2011 -84معرض العربي مجموعة من الباحثني «يوليو »2011 - 85العرب يتجهون شرقا (اجلزء )1 مجموعة من الباحثني «أكتوبر »2011 - 86العرب يتجهون شرقا (اجلزء )2 مجموعة من الكتاب «يناير »2012 - 87املسرح العربي ..مسيرة تتجدد د.جابر عصفور «أبريل »2102 -88عوالم شعرية معاصرة أمني الباشا «يوليو »2012 -89شمس الليل - 90الثقافة العربية في املهجر (اجلزء ) 1مجموعة من الباحثني «أكتوبر »2012 - 91الثقافة العربية في املهجر (اجلزء )2مجموعة من الباحثني «يناير »2013 - 92ويسهر اخللق ..سير ومختارات (املجموعة )1سعدية مفرح «ابريل »2013 من الشعراء العرب - 93قضايا السينما العربي ة - 94اجلزيرة واخلليج العربي - 95اجلزيرة واخلليج العربي ( -اجلزء )2 -96يوم مثالي ملشاهدة الكاجنارو وقصص أخر ى « -97الثقافة العربية على طريق احلرير» - 98نافذة على فلسفة العصر (اجلزء الثاني) - 99اإلعالم بأعالم اإلسالم -100 -101نهر على سفر
337
( مجموعة من الكتاب) «يوليو »2013 (مجموعة من الكتاب) «أكتوبر »2013 (مجموعة من الكتاب) «يناير »2014 تقدمي :شريف صالح «أبريل »2014 (مجموعة من الكتاب) «يوليو »2014 أ .د .زكي جنيب محمود الشيخ محمد أبوزهرة -يناير 2015 مجموعة من الشعراء العرب في -ابريل 2015 أشرف أبو اليزيد -يوليو 2015
نه ٌـر على َسـ َـفر
استطالعات مختارة من مجلة
بقلم وعدسة :أشرف أبو اليزيد
نهر على سفر /أشرف أبواليزيد -ط- 1 الكويت :وزارة اإلعالم- 2015 ، 336ص20 ،سم ( -كتاب العربي.)101 ، - 1الرحالت - 2 .أدب الرحالت .أ -العنوان رقم اإليداع2015 /643 : ردمك978-99906-38-67 - 1 :
تصميم الغالف :أشرف أبو اليزيد االخراج الفني :حافظ فاروق 338