A river on travel

Page 1

‫‪AL ARABI BOOK‬‬

‫‪101‬‬

‫نه ٌـر على َسـ َـفر‬

‫استطالعات مختارة من مجلة‬

‫بقلم وعدسة‪ :‬أشرف أبو اليزيد‬


‫‪AL ARABI BOOK‬‬

‫سلسلة فصلية تقدم مجموعة من املقاالت واملوضوعات لكاتب واحد‬ ‫أو موضوعا واحداً تتناوله عدة أقالم‪.‬‬

‫رئيس التحرير‬

‫د‪ .‬عادل سالم العبداجلادر‬ ‫عنوان الكتاب‪ :‬نه ٌر على َسفَر‬ ‫استطالعات مختارة من مجلة العربي‬ ‫بقلم وعدسة‪ :‬أشرف أبواليزيد‬ ‫الناشر‪ :‬وزارة اإلعالم ـ مجلة العربي‬

‫نه ٌـر على َسـ َـفر‬

‫الطبعة األولى‪ 15 :‬يوليو ‪2015‬‬ ‫العنوان‪:‬‬ ‫ص‪.‬ب‪ 748 :‬الصفاة ‪ -‬دولة الكويت ‪ -‬الرمز البريدي‪13008 :‬‬ ‫بنيد القار ‪ -‬قطعة ‪ - 1‬شارع ‪ - 47‬قسيمة ‪3‬‬

‫استطالعات مختارة من مجلة‬

‫جميع احلقوق محفوظة للناشر‬ ‫جميع اآلراء الواردة في الكتاب تعبر عن فكر كاتبها‪.‬‬ ‫‪Al -Arabi Book, 101th‬‬ ‫‪A River on Travel, Selected Investigations Published‬‬ ‫‪in Al -Arabi Magazine‬‬ ‫‪By:Ashraf Aboul-Yazid‬‬ ‫‪15 July 2015‬‬ ‫‪Publisher: Ministry of Information‬‬ ‫‪Al-Arabi Magazine.‬‬ ‫‪All rights reserved.‬‬ ‫‪E.mail: arabimag@arabimag.net‬‬ ‫‪www.alarabimag.net‬‬

‫‪2‬‬

‫بقلم وعدسة‪ :‬أشرف أبو اليزيد‬


‫استطالعات مختارة من مجلة العربي ‪ ...‬بقلم وعدسة أشرف أبواليزيد‬ ‫وزارة اإلعالم‪ :‬مطبعة حكومة الكويت‬

‫‪ 15‬يوليو ‪2015‬‬

‫نهر على َسفَ ر‬ ‫ٌ‬

‫نهر على َسفَر‬ ‫ٌ‬

‫‪AL ARABI BOOK‬‬

‫‪101‬‬

‫استطالعات مختارة من مجلة العربي ‪ ...‬بقلم وعدسة أشرف أبو اليزيد الكتاب مائة وواحد‬

‫في هذا الكتاب‬ ‫حني يساف ُر املرءُ ال يكتشف البش� � ��ر‪ ،‬وال يستكشف األمكنة‪ ،‬بل‬ ‫تعسر علي التواصل حينا‪ ،‬فأقرأ من‬ ‫يعيد اكتشاف ذاته‪ .‬كانت اللغة ِ ّ‬ ‫معجم االبتسامات بضع مفردات‪ ،‬تفتح لي أبوابا مغلقة هنا وهناك‪،‬‬ ‫وتيس� � ��ر مهمتي في التنقل بني النهر والبحر‪ ،‬بني الوادي واجلبل‪،‬‬ ‫بني الواحة والصحراء‪ ،‬بني املدن الكوزموبوليتانية‪ ،‬والقرى التي لم‬ ‫متسها نار العوملة‪.‬‬

‫‪AL‬‬ ‫‪ALARABI‬‬ ‫‪ARABI BOOK‬‬ ‫‪BOOK‬‬

‫‪101‬‬

‫نهر على َس َفر‬ ‫ٌ‬ ‫أشرف أبواليزيد‬

‫استطالعات مختارة من مجلة العربي‬


‫مقدمة‬

‫بني يدي هذا الكتاب‬ ‫متيزت مجلة العربي منذ تاريخ إصدارها في عام ‪1958‬م‬ ‫باس������تطالعاتها املصورة‪ ،‬التي بدأتها باستطالعات وتقارير‬ ‫صحفية مصورة‪ ،‬لتعريف قارئها بأهم مدن الوطن العربي‪.‬‬ ‫وسرعان ما توسع محيط الدائرة‪ ،‬لتشمل تلك االستطالعات‬ ‫أهم عواصم ومدن دول العالم‪ ،‬مبا فيها بعض املدن اإلسالمية‬ ‫التاريخية في آسيا وأوربا‪ ،‬التي صارت في خارج حدود الدول‬ ‫العربية‪ .‬وال يستطيع القارئ احلصيف أن يُسمي القائمني على‬ ‫تلك االستطالعات بأنهم صحفيون أو مصورون‪ ،‬فاحلقيقة تؤكد‬ ‫رحالة مستطلعون‪ ،‬مألوا ذلك الفراغ الذي طاملا ملسناه‬ ‫أنهم ّ‬ ‫في أرفف املكتبة العربية‪ ،‬اخلاص باجلغرافيا وأدب الرحالت‪،‬‬ ‫فكانوا استمراراً خلط ومنهج ابن بطوطة وابن جبير وياقوت‬ ‫احلموي وابن املج������اور والهمذاني‪ .‬وال نبالغ حني نقول إنهم‬ ‫تفوقوا على من سبقهم بحكم التقدم العلمي‪ ،‬حني أصبحت‬ ‫إن املادة االستطالعية التي‬ ‫الصورة دليال على هذا التفوق‪ّ .‬‬ ‫بني يديك –عزيزي القارئ ‪ -‬ما هي إال روح مداد أحد أقالم‬ ‫محرري مجلة العربي‪ ،‬الذي جمع بني فن الرواية والش������عر‬ ‫واألدب والفن‪ ،‬ذلك اجلمع الذي أهله ألن يحوز جوائز عديدة‪،‬‬ ‫أهمها‪:‬‬ ‫جائزة «مانهي» لألدب ف������ي كوريا اجلنوبية عام ‪ ،2014‬ثم‬ ‫‪6‬‬

‫جائزة الصحافة العربية في الثقافة من نادي دبي للصحافة‬ ‫عام ‪ .2015‬كما مت تكرميه م������ن مجلة دبي الثقافية مرتني‪،‬‬ ‫كإعالمي وكش������اعر‪ ،‬عامي ‪ 2009‬و‪ .2013‬و ُك ِّرم أيضاً من‬ ‫جمهورية تتارستان ‪ -‬روسيا االحتادية مرتني‪ :‬بدرع شخصية‬ ‫العام الثقافية لدوره في التعريف بالثقافة التترية عام ‪،2012‬‬ ‫ودرع احتاد الكتَّاب ومسرح الطفل للدمى‪ ،‬لترجمته عملني‬ ‫للشاعر عبدالله طوقاي‪ ،‬كتبهما لألطفال عام ‪.2013‬‬ ‫وفي استطالعاته‪ ،‬يأتي أشرف أبواليزيد ركنا للبناء االستطالعي‬ ‫في مجلة العربي‪ ،‬وذلك بعد د‪ .‬أحمد زكي وفهمي هويدي وسليم‬ ‫زبال‪ ،‬وعلى رأس قائمة من املستطلعني‪ ،‬من أهمهم‪ :‬سليمان‬ ‫مظهر‪ ،‬ود‪ .‬محمد املخزجني‪ ،‬وصادق يلي‪ ،‬ويوسف شهاب‪،‬‬ ‫وأنور الياسني‪ ،‬ود‪ .‬محمد املنسي قنديل‪ ،‬ومحمود عبدالوهاب‪،‬‬ ‫ومصطفى نبيل‪ ،‬ومحمد حسني زكي‪ ،‬كل أولئك املستطلعني‬ ‫وضعوا خبراتهم العلمية والعملي������ة‪ ،‬ليخرجوا لك –عزيزي‬ ‫القارئ ‪ -‬مادة صحفية جمعت بني املعرفة واملتعة‪.‬‬ ‫وكل الرجاء أن تكون هذه االستطالعات املجموعة في هذا‬ ‫السفر مرجعا للباحثني والدارسني‪ ،‬ليسهل استدعاؤها‪ ،‬وتعم‬ ‫ِّ‬ ‫فائدتها‪.‬‬

‫د‪ .‬عادل سالم العبداجلادر‬ ‫رئيس حترير مجلة العربي‬

‫‪7‬‬


‫متهيد‬

‫هذه الرحالت‬ ‫هذه الصفحات سيرة نهر على سفر‪ ،‬قد يكون مصدره شالل‬ ‫هادر‪ ،‬أو غيم ماطر‪ ،‬فال يجمع موجاته سوى شغف بالرحلة‪،‬‬ ‫وعشق للحياة‪ ،‬وأمل في مستقبل تذوب فيه احلدود اجلغرافية‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫حدود‬ ‫إقامة‬ ‫املصطنعة التي شيدتها السياسة دون أن تفلح في‬ ‫قسرية بني األفئدة التي اس������تقبلت صاحب هذه السطور في‬ ‫الشرق والغرب‪.‬‬ ‫حني يساف ُر املرءُ ال يكتشف البشر‪ ،‬وال يستكشف األمكنة‪ ،‬بل‬ ‫تعسر علي التواصل حينا‪ ،‬فأقرأ‬ ‫يعيد اكتشاف ذاته‪ .‬كانت اللغة ِّ‬ ‫من معجم االبتسامات بضع مفردات‪ ،‬تفتح لي أبوابا مغلقة هنا‬ ‫وهناك‪ ،‬وتيسر مهمتي في التنقل بني النهر والبحر‪ ،‬بني الوادي‬ ‫واجلبل‪ ،‬بني الواحة والصحراء‪ ،‬ب���ي��ن املدن الكوزموبوليتانية‪،‬‬ ‫والقرى التي لم متسها نار العوملة‪.‬‬ ‫حني تتعرقل اخلطوات أمام شباك جوازات السفر‪ .‬عندما‬ ‫يهدك القلق من تأخر الطائرة‪ .‬حينما تس������تيقظ الليل بطوله‬ ‫انتظا ًرا ملوعد‪ .‬أو يدفعك مش������ه ٌد من فوق قمة صخرية إلى‬

‫‪8‬‬

‫قراءة الشهادتني‪ ،‬تعود آمنا‪ ،‬فتنسى ذلك كله‪ ،‬في حلظة تأمل‬ ‫ساكنة‪ ،‬ومشهد غروب موح‪ ،‬أو بني راحتي أثر عريق‪ ،‬أو في‬ ‫حضرة إنسان جليل‪.‬‬ ‫حاولت أن جتتاز الكلمات عتبات املكرور‪ ،‬سعيا إلى توثيق‬ ‫العمارة التي أعدها شاه ًدا على احلياة‪ ،‬ألنها تكشف ما يحاول‬ ‫اإلنسان أن يخفيه‪ ،‬في بيوت العبادة‪ ،‬ومنازل السكن‪ ،‬ومراتع‬ ‫اللهو‪ ،‬ومرابع العمل‪ ،‬وقالع الدفاع عن األوطان‪.‬‬ ‫كما حاولت حتليل مضمون املد َّون بأقالم الشعراء والرواة‪،‬‬ ‫الشعبيني والرسميني‪ ،‬لنقرأ معا سيرة املكان بعيون املقيمني‬ ‫فيه والعابرين به‪ ،‬واملهاجرين إليه‪.‬‬ ‫واألهم أنني حاولت أال أقسو‪ ،‬ولو قسا املكان علي‪ ،‬فما أنا‬ ‫إال عابر‪ ،‬وما هذه الصفحات سوى سيرة مسافر‪ ،‬وما املكان‬ ‫اخلالد إال صنيعة اإلنسان املغادر‪.‬‬ ‫هي دعوة مني لقراءة هذه الصفحات املتفرقات‪ ،‬مثلما هي‬ ‫دعوة للقاريء ك������ي يكتب الصفحات اخلاص������ة به‪ ،‬فلن يبقى‬ ‫سواها‪.‬‬ ‫أشرف أبو اليزيد‬

‫‪9‬‬


‫نهر على َسفَر | خريطة االستطالعات‬ ‫ٌ‬

‫‪10‬‬

‫‪11‬‬


‫نهر على سفر‬

‫ُق ْرطبة‬

‫احل َّرة‬ ‫القلعة ُ‬ ‫َ‬


‫نهر على َسفَر | قرطبة القل َعة ُ‬ ‫احل ّ َرة‬ ‫ٌ‬

‫ما إن انطلقت بنا السيارة مغادرين أشبيلية‪ ،‬في الطريق إلى‬ ‫قرطبة‪ ،‬حتى جعلني مشه ٌد متكر ٌر أتأ َّم ُل َ‬ ‫تلك الرحل َة‪ .‬كان املشه ُد‬ ‫ِ‬ ‫مقطورات نقل خاصة‪ ،‬تشبه األقفاص‪ ،‬تتخذ‬ ‫وضعت على‬ ‫خليول‬ ‫ْ‬ ‫طريقنا نفسه إلى قرطبة‪ .‬ال شك في أن هذه اخليول كانت معصوبة‬ ‫العينني‪ ،‬حتى حتتمل السرعة‪ ،‬مأسورة داخل أقفاصها التي ال تتيح‬ ‫سيارات أوربية من كل صنف‪ .‬كانت‬ ‫لها سوى الوقوف‪ ،‬بينما جت ّ ُرها‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫أسالف هذه اجليادِ ‪ -‬املأسورة املع َّماة ‪ -‬انطلقت ح َّرة‬ ‫املفارقة أن‬ ‫حتمل على صهواتها فرسانا عربا فاحتني‪ ،‬واستمتعت في انطالقتها‬ ‫مبشاهدة اجلبال اخلضراء‪ ،‬والسهول اخلصيبة‪ ،‬والغابات احلية‪،‬‬ ‫قبل أكثر من ألف سنة‪.‬‬ ‫علي‬ ‫سأفكر في اخليول األسيرة حني ندخ ُل قرطبة‪ ،‬وسيكون َّ‬ ‫أن أبحث أين ذهبت كل هذه الكائنات البديعة! وسأدرك أن اإلجابة‬ ‫ِ‬ ‫عربات احلوذ ّيَة‬ ‫استقرت عند آثار املدينة القدمية؛ عندما أرى خيول‬ ‫التي حتم ُل السياح املتنزهني في احلارات الضيقة‪ ،‬أو على الطرق‬ ‫املبلطة باحلجر قرب نهر الوادي الكبير‪ ،‬وحول املرابع التي حتمل‬ ‫هوية املدينة وتاريخها‪ ،‬مثلما هي أيضا وس� � ��يلة نقل لبعض رجال‬ ‫الشرطة اخل ّيَالة‪ .‬وهكذا انتقلت وظيفة اخليول‪ ،‬ودارت دورتها‪ ،‬مع‬ ‫التاريخ‪ ،‬والبشر‪ ،‬واحلكايات؛ سألت نفسي‪ :‬أال تختزل رحلة هذه‬ ‫اخليول رحلتنا نحن العرب في هذه األرض؟‬ ‫أدركت أننا وجلنا كتاب التاريخ العربي‬ ‫في طريقنا إلى قرطبة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫في أوربا‪ ،‬وكان يحلو لي وأنا أتابع الالفتات على الطريق أن أخ ّمن‬ ‫نطق أسماء املناطق واملدن والقرى الصغيرة التي عبرنا بها‪ ،‬وأن‬ ‫حترفها السنون‪،‬‬ ‫أر َّد هذه األس� � ��ماء إلى أصولها العربية‪ ،‬قبل أن ِ ّ‬ ‫وحتر َق أطرا َفها األحداثُ ‪ ،‬وتغي � � � َر مكام َن احلميمية فيها حروف‬ ‫األبجدية اجلديدة‪.‬‬ ‫‪14‬‬

‫منارة مسجد قرطبة اجلامع الشاهقة بفرادتها املربعة التصميم هي رمز املدينة كلها بال‬ ‫منازع‪ ،‬حتى بعد أن زال منها ما كان يزين رأس���ها من كرات الذهب والفضة‪ ،‬وبعد إضافة‬ ‫األجراس إليها‪.‬‬

‫‪15‬‬


‫نهر على َسفَر | قرطبة القل َعة ُ‬ ‫احل ّ َرة‬ ‫ٌ‬

‫ُ‬ ‫يختبئ في‬ ‫كنت أنوي أال أحدثكم عن املاضي‪ ،‬لكنن� � ��ي وجدتُه‬ ‫ُ‬ ‫يعيش دونَه‪ ،‬وحني تلو ُح في األفق سفو ُح‬ ‫عباء ِة احلاضر‪ ،‬وال يكا ُد‬ ‫جبال قرطبة؛ التي تتفرع من سلسلة جبال سيرا مورينا‪ّ ِ ،‬‬ ‫يذك ُرني‬ ‫بدءُ هطل املطر بقصة فتح هذه املدينة‪ ،‬حني جاءها ليال قائ ٌد أرسله‬ ‫طارق بن زياد اسمه مغيث الرومي‪ ،‬وكانت حامية قرطبة ‪ -‬التي‬ ‫أغفلت حراسة سور املدينة‪ ،‬فلم‬ ‫فاجأها املط ُر والبرد القارس ‪ -‬قد‬ ‫ْ‬ ‫يفيقوا إال وهي حتت إمرة العرب‪ ،‬ولتصبح املدينة بعد ذلك وفي‬ ‫عام ‪ 138‬هجرية حاضرة دولة اإلسالم في األندلس‪ ،‬حني أسس‬ ‫األمير عبدالرحمن بن معاوية (عب� � ��د الرحمن الداخل) دولة بني‬ ‫أمية في األندلس‪ ،‬ولتصل في عصر اخلالفة األموية‪ ،‬بني عامي‬ ‫‪ 316‬و‪ 400‬هجرية‪ ،‬إلى مستوى من الرخاء لم تشهده من قبل في‬ ‫العصور السابقة‪.‬‬ ‫لع َّل تذكر صور ِة األمس‪ ،‬ميحوه تأمل صورة اليوم‪ ،‬مثلما ميحو‬ ‫جعلت املس� � ��افة (‪ 135‬كيلومت ًرا)‬ ‫آي َة الليل النها ُر‪ ،‬أفكار متناقضة‬ ‫ْ‬ ‫تقصر‪ ،‬فنقطعها مع السائق السريع الذي‬ ‫بني أش� � ��بيلية وقرطبة ُ‬ ‫ال يعرف سوى اإلسبانية‪ ،‬في وقت قياس� � ��ي‪ .‬اإلسبانية هي اللغة‬ ‫األولى والثانية والثالثة‪ ،‬حتى في األماكن التي تفترض فيها أنك‬ ‫تستطيع التصرف بلغة محايدة كاإلجنليزية‪ ،‬ولم ال واإلسبانية لغة‬ ‫تغزو العالم اجلديد والقدمي م ًعا؟‬ ‫تعلو موسيقى السيارة حينا‪ ،‬حني تصعد بنا التالل‪ ،‬وتنخفض‬ ‫كلما هبطت السيارة الوهاد‪ ،‬وكأنها راقصة فالمنكو على خشبة‬ ‫سجا ُده أخضر‪ .‬الفالمنكو فن حتتسيه املدن اإلسبانية مع‬ ‫مسرح َّ‬ ‫خبز احلياة‪ ،‬رمبا منذ الطفولة‪ .‬سنشاه ُد في إحدى األمسيات فتاة‬ ‫في العاشرة تؤدي أدوارا حماسية‪ ،‬مبروحة تقليدية‪ ،‬وثوب أبيض‬ ‫له ذي ٌل طويل‪ ،‬تع ّبر بقوة عن نفسها في حركات تستعيد بها تاريخ‬ ‫‪16‬‬

‫َاب األندلس‪ .‬ل ْم ي َر َها قب َل‬ ‫أجيال من الرقص التقليدي‪َ .‬فتَاة مِ ْن كت ِ‬ ‫إيقاعا ظ َّل يحل ُم به قب َل أ ْن‬ ‫الليلة‪ .‬لكن األقدام ستنس ُج في رقصتِها‬ ‫ً‬ ‫يول َد! لع َّل العر َق الذي ت َد ْح َر َج قطر ًة قطرة‪ ،‬مثل نهر الذهب‪ ،‬فوق‬ ‫الوجه البرونزي تبخ َر م ْن فلج َحف َره ج ّ ُده قبل ألف عام في قرطبة‪.‬‬ ‫والقلب كتبها‬ ‫كت اجلس َد إلى حافة املسرح‬ ‫ِ‬ ‫لعل املوسيقى التي ح َّر ْ‬ ‫زرياب في لفافة خبأتها شاعرة عاشقة في قميص التاريخ‪ .‬ولع َّل‬ ‫ٌ‬ ‫نبتت بذرتُها في الشرق قبل أن‬ ‫الثوب الذي ترتديه من شجر ِة قطن ْ‬ ‫فارس عبر املضيق‪ .‬ال أذك ُر غي َر اسم الرقصة؛ (فالمنكو)‬ ‫يحمل َها‬ ‫ٌ‬ ‫َاب األندلس؟‬ ‫فمن منكم يتذكر َفتَاة مِ ْن كت ِ‬

‫استحضار األندلس‬ ‫كنت حريصاً قبل السفر أال يأسرني تاريخ املدينة‪ ،‬حتى ال أظل‬ ‫عند حافته أستد ُر عط َفه‪ ،‬وأستعي ُد بهاءه‪ ،‬وأال أبكي على األطالل‪،‬‬ ‫كي ال أفعل مثل معظم زائريها العرب كل يوم‪ .‬لكنها كانت أقوى‪ ،‬مثل‬ ‫كل بقاع األندلس التي ِ ّ‬ ‫تذك ُرك بأن لك فيها حج ًرا ينطق باسم أحد‬ ‫أجدادك‪ ،‬من العلماء والفالسفة‪ ،‬والفنانني والشعراء‪ ،‬واملوسيقيني‬ ‫والبنائني‪ ،‬وسواهم ممن شكلوا أزهى عصورها‪.‬‬ ‫يطمئننا العالمة بدرو مارتينيث مونتابث على مشاعرنا اجلياشة‬ ‫جتاه قرطب� � ��ة وأخواتها‪ ،‬حني يقول لنا بعد أي� � ��ام من الوصول إننا‬ ‫ِح َ‬ ‫ضار) وهي املرتبطة مبفردة‬ ‫(است ْ‬ ‫في اللغة العربية منتلك مفردةَ ْ‬ ‫(األندلس)‪ .‬وأن هذا االس� � ��تحضار ال توازيه أو تساويه مفردة في‬ ‫أي لغة أخرى‪ ،‬وكأنه ير ّب ُت على أكتافنا‪ ،‬بأن� � ��ه ال تثريب علينا أن‬ ‫ينس أن يلومنا‪ ،‬حني يس ّ ُر إلينا حزنه‬ ‫نستحض َر األندلس‪ ،‬لكنه لم َ‬ ‫وأس� � ��اه على إخفاق احلاضر العربي‪ ،‬في موازاة إش� � ��راق املاضي‬ ‫العربي‪ .‬فلنس� � ��تحضر األندلس‪ ،‬ولكن لنكتب به� � ��ا تاريخا جدي ًدا‪،‬‬ ‫‪17‬‬


‫نهر على َسفَر | قرطبة القل َعة ُ‬ ‫احل ّ َرة‬ ‫ٌ‬

‫ولنحضر إليها‪ ،‬ال للتباكي‪ ،‬ولكن لننسج حضو ًرا جديرا بنا كأحفاد‬ ‫صناع حضارتها‪.‬‬ ‫لكن التباكي لم يكن ديدننا وحدنا‪ ،‬فكل من أضا َع َ‬ ‫أرضه بكى‪،‬‬ ‫أس َ‬ ‫وكل من ف َّرط في حقِ ه ِ‬ ‫كاتب إسباني‬ ‫ف‪ ،‬ويحكي ‪ -‬أو يبكي ‪-‬‬ ‫ٌ‬ ‫مسيحي سنة ‪ 854‬ميالدية‪ ،‬هو ألفارو‪ ،‬عن إهمال إخوانه تراثهم‬ ‫رب إخواني املسيحيون ألشعار العرب وقصصهم؛ فهم‬ ‫القدمي‪( :‬يَ ْط ُ‬ ‫يدرسون كتب الفقهاء والفالسفة احملمديني ال لتفنيدها‪ ،‬بل للحصول‬ ‫على أسلوب عربي صحيح رش� � ��يق‪ .‬فأين جتد اليوم علمانيا يقرأ‬ ‫التعليقات الدينية على الكتب املقدس� � ��ة؟ وأين ذلك الذي يدرس‬ ‫اإلجنيل وكتب األنبياء والرسل؟ واأسفا! إن شباب املسيحيني الذين‬ ‫هم أبرز الناس مواهب‪ ،‬ليسوا على علم بأي أدب‪ ،‬وال أي لغة غير‬ ‫العربية؛ فهم يقرأون كتب العرب ويدرس� � ��ونها بلهفة وشغف‪ ،‬وهم‬ ‫يجمعون منها مكتبات كاملة تكلفهم نفقات باهظة‪ ،‬وإنهم ليترمنون‬ ‫في كل مكان مبدح تراث العرب‪ .‬وال ي� � ��كاد يوجد منهم واحد في‬ ‫األلف قادر على إنشاء رسالة إلى صديق بالتينية مستقيمة‪ ،‬ولكن‬ ‫إذا اس� � ��تدعى األمر كتابة العربية فكم منهم يستطيع أن يعبر عن‬ ‫نفسه في تلك اللغة بأعظم ما يكون من الرشاقة)؟‬ ‫إشارة الكاتب ألفارو إلى املكتبات واقتناء الكتب آنذاك في قرطبة‬ ‫كانت إش� � ��ارة حق‪ ،‬ألن قصر احلكم في قرطبة قبل أكثر من ألف‬ ‫عام في عهد خالفة احل َكم املستنصر (‪ 366 - 350‬هجرية) كان‬ ‫يضم أعظم مكتبة أنش� � ��أتها دولة إسالمية في العصور الوسطى‪،‬‬ ‫تقع فهارسها في ‪ 44‬كراسة ‪ -‬ال تضم سوى العناوين ‪ -‬بينما ق َّدر‬ ‫املؤرخون عد َد كتبها بقرابةِ نصف املليون مجلد‪ ،‬حتى أن مصن ًعا‬ ‫خاصا لتجليد الكتب قد مت تأسيسه خلدمة هذه املكتبة وحدها‪،‬‬ ‫النساخني‪ ،‬واملراسلني الذين يقتنون لها الكتب‬ ‫فضال عن عشرات َّ‬ ‫‪18‬‬

‫من كل حدب وصوب‪ ،‬ويُحكى أن احل َكم أوفد ألبي الفرج األصفهاني‬ ‫ألف دينار ليرسل إليه أول نسخة من كتاب األغاني‪ ،‬وفعل‪ .‬ولعل‬ ‫ذلك هو املؤش� � ��ر الفاعل على الرابط بني نهضة قرطبة وما كانت‬ ‫متلك من كتب آنذاك‪ .‬وهي رسالة تأتينا من ألف عام كوصية حكيم؛‬ ‫فهل من مستمع؟‬ ‫املكتبات اليوم في قرطبة ليس� � ��ت عالمة عليها‪ ،‬فال جند هنا‬ ‫سوى الكتب السياحية بأكثر من لغة (ليس من بينها العربية)‪ ،‬وال‬ ‫جند في املتاحف غير املخطوطات واملطبوعات اإلجنيلية املب ّكرة‪،‬‬ ‫التي يعود أقدمها للقرن اخلامس عشر امليالدي (فقط)‪ ،‬مثلما هي‬ ‫احلال في متحف الفنون اجلميلة‪ ،‬الذي أوقعنا الظ ّ ُن في اس� � ��مه‬ ‫أننا سنجد به كنوزا فنية عريقة أو معاصرة‪ ،‬فإذا بالبناء الضخم‪،‬‬ ‫الذي يعود تاريخ إنشائه لفترة معاصرة إلنشاء املسجد اجلامع في‬ ‫قرطبة‪ ،‬ويعود تصميمه للشكل التقليدي لفضاء البيت العربي‪ ،‬وقد‬ ‫شغله أحد كبار رجال الدولة آنذاك‪ ،‬ال يضم سوى لوحات َكن َِس َّية‪،‬‬ ‫معظمها لفنانني مجهولني؛ (هكذا قرأنا من عمل مجهول مسجله‬ ‫على معظم ما شاهدنا من إطارات ملونة أو لوحات منمنمة أو متاثيل‬ ‫دينية للسيدة العذراء‪ ،‬واملسيح عليه السالم)‪ ،‬مع لوحات من تولوا‬ ‫من األساقفة‪ ،‬إضافة لبعض األثاث والسجاد العتيق (مبساحات‬ ‫أسطورية) والذي سحب من أراضي القصور العربية‪ ،‬واستراح على‬ ‫اجلدران في هذا املتحف‪.‬‬

‫منازل قرطبة‬ ‫ِ‬ ‫بوابات املدينةِ ؛ امل ُ َس � � � َّما ِة بواب ُة أشبيلية‪ .‬وهي‬ ‫نصل إلى إحدى‬ ‫أسراب احلمام لتهجع على‬ ‫بوابة ضخمة‪ ،‬مفتوحة‪ ،‬وآمنة‪ ،‬أغرت‬ ‫َ‬ ‫جدرانها في سالم‪ ،‬بينما تعبرها الفتيات على أجنحة الضحكات‬ ‫‪19‬‬


‫نهر على َسفَر | قرطبة القل َعة ُ‬ ‫احل ّ َرة‬ ‫ٌ‬

‫إلى مقاعد الدراسة‪ ،‬ومتر املياه أمامها في دعة ترسم على وجهها‬ ‫صورة حلجارتها‪ .‬يداعب األطفال صفحة املاء بالبالونات والكرات‪.‬‬ ‫املدينة في عصورها القدمية كانت تبدأ هن� � ��ا‪ ،‬لكن قرطبة اليوم‬ ‫أصبحت مثل بستان زيتون‪ ،‬في قلبه بضع شجيرات متثل املدينة‬ ‫القدمية‪ ،‬بينما باقي األش� � ��جار مدينة عصرية حتاول أن تستلهم‬ ‫عمارة املدينة القدمية‪ ،‬فتنجح أحيان� � ��ا‪ ،‬وال تكاد تُخفِ ق إال قليال‪.‬‬ ‫فال تزال املنازل اجلديدة تستلهم املدخل األندلسي‪ ،‬صغر أم كبُر‪.‬‬ ‫وهو مربع أو مستطيل جتده بعد البوابة اخلارجية وقبيل املدخل‬ ‫بعض اجللوس فيه‪ ،‬كأنهم‬ ‫للفناء الداخلي‪ .‬وحني منر ليال سنجد‬ ‫َ‬ ‫في شرفة أرضية تطل على احلياة‪ ،‬ال يبخل القرطبيون في تزيينها‬ ‫وإعدادها‪ ،‬ودائما برسوم خزفية نباتية‪ ،‬وألوان ساخنة وحية‪ ،‬وأصيص‬ ‫ورد‪ ،‬ومقعد أو أكثر‪.‬‬ ‫أما الطوابق العلوية فقد جعلت احلديقة في الشرفات‪ ،‬ومزجت‬ ‫بني عصرية الش� � ��قق التي تفرضها املساحات‪ ،‬وتقليدية التصميم‬ ‫الذي يرتاح إلى إقامة احلدائق أين يو ّلَى البصر‪ ،‬حتى أنهم ينطلقون‬ ‫إلى احلدائق التي تتوزعها امليادين القرطبية‪ ،‬في األمسيات‪ ،‬وكثي ًرا‬ ‫ما ستجد فتيات وش� � ��بانا يتس� � ��امرون‪ ،‬وكبارا في السن يتنزهون‬ ‫مبفردهم أو مع أحفادهم‪ ،‬ونس� � ��اء ورجاال بصحبة كالب من كل‬ ‫صنف ولون‪ ،‬وهي ظاهرة تس� � ��تحق التأمل‪ ،‬فال يكاد مار بك ‪ -‬أو‬ ‫مارة ‪ -‬ال يرافقه كلب‪.‬‬ ‫ما إن تعبر بوابة أشبيلية حتى تدخل تاريخ العمارة األندلسية‬ ‫مجسد ًة‬ ‫َّ‬ ‫في منازل قرطبة‪ :‬حارات ضيقة‪ ،‬بيوت ال تعلو سوى طابقني على األغلب‪،‬‬ ‫وأس� � ��ماء يتردد صداها منذ ألف عام‪ :‬نُزُل بغداد‪ ،‬فندق أ ُ َم َّية‪ ،‬مطعم‬ ‫البيت األندلسي‪ ،‬وبعض األبواب يحمل أسماء أعالم عرب أندلسيني‪،‬‬ ‫كالناصر‪ ،‬وابن رشد‪ ،‬بحروف التينية‪ ،‬وجرافيكية بصرية كوفية!‬ ‫‪20‬‬

‫حدائق قرطبة املعلقة‬ ‫على اجلدران يضع القرطبيون أصص الورد فيما ميكن أن نسميه‬ ‫حدائق قرطبة املعلقة‪ .‬الزهور تصافح العيون‪ ،‬في بهو املنازل‪ ،‬وفوق‬ ‫البئر القدمية‪ ،‬وعلى اجلدران‪ ،‬وداخل الشرفات‪ ،‬وباحلدائق أمام‬ ‫يغرسها حية رسمها على الطاوالت حينا‪ ،‬والبوابات‬ ‫املنازل‪ ،‬ومن لم‬ ‫ْ‬ ‫حينا‪ ،‬وموزاييك األرضيات وال َّدرج واألسقف واجلدران أحيانا‪ .‬وهو‬ ‫ما حملناهُ في املنزل األندلسي‪ ،‬وشاهدناهُ في البيت الهندي‪ ،‬ورأينا‬ ‫بعضه في املعبد اليهودي‪.‬‬ ‫في سوق الصناعات احلرفية سنتعرف على واحدة من اآلالت‬ ‫األولى إلنتاج الورق في العالم الغربي‪ ،‬أهدتها قرطبة لإلنسانية‪.‬‬ ‫وفي هذه الس� � ��وق املس� � ��ماة (زاكو)‪ ،‬يقدم احلرفيون من كل أنحاء‬ ‫قرطبة صناعاتهم التقليدية التي ورثوها ويعرضونها للبيع‪ .‬وكلها‬ ‫مواد يتم إنتاجها بحس أندلسي صميم‪ ،‬من السيراميك‪ ،‬واخلشب‪،‬‬ ‫والرخام‪ ،‬والفخار‪ ،‬واملعدن‪ ،‬واألحجار الكرمية‪ ،‬واجللود‪ ،‬والورق‪.‬‬ ‫حتى متاثيل النسوة البدينات الريفيات ال تكاد تراها حتى يشدك‬ ‫الزي املزركش العائدات به من قلب التاريخ‪.‬‬ ‫ومن أهم ما مييز منازل قرطبة عنايتها باالستفادة من املساحة‪،‬‬ ‫مهما صغر املكان‪ ،‬ولعل أهمية هذه املن� � ��ازل في األحياء احمليطة‬ ‫باملس� � ��جد اجلامع في قرطبة‪ ،‬أنها تبقى شاهدة على تراث عتيق‬ ‫عريق‪ ،‬بجدرها البيضاء‪ ،‬وحدائقها املعلقة‪ ،‬ونظافتها من الداخل‪،‬‬ ‫وأشجارها التي تعد جزءا من نس� � ��يجها الداخلي‪ ،‬كشريان جتري‬ ‫به دماء من طيور وزهور في أهم مكان باملن� � ��زل؛ الفناء‪ .‬وللبيت‬ ‫القرطبي باب خشبي كبير‪ ،‬ونوافذ قليلة العدد‪ ،‬بقضبان حديدية‬ ‫مطلية باللون األسود‪ ،‬تطل على الطريق الضيقة‪ ،‬بينما عدد النوافذ‬ ‫املطلة على حديقة املنزل أكبر‪ ،‬وتكاد تكون مفتوحة طوال الوقت‪،‬‬ ‫‪21‬‬


‫نهر على َسفَر | قرطبة القل َعة ُ‬ ‫احل ّ َرة‬ ‫ٌ‬

‫وتس� � ��تخدم األدوار العليا غرفا للنوم‪ ،‬أما الطوابق األرضية فهي‬ ‫للمعيشة وإعداد الطعام‪.‬‬ ‫ويوجد في ركن من األبواب اخلشبية‪ ،‬أو بإحدى ضلفتي الباب‪،‬‬ ‫مداخل أصغر‪ ،‬رمبا للتواصل بني من هو داخل البيت ومن هو خارجه‬ ‫دون فتح الباب بالكامل‪ ،‬حفاظا على حرمته‪ ،‬أو خلروج األطفال‬ ‫ودخولهم‪ .‬وتتضح في هذه البيوت مثاليتها في االستغناء عن تعقيدات‬ ‫احلياة‪ ،‬بأنها تكاد تكون مكتفية بذاتها‪ ،‬من حيث جلب املياه عبر‬ ‫البئر‪ ،‬أو االنتفاع بالثمار‪ ،‬أو تخزين الغالل‪ ،‬وغيرها من الوظائف‬ ‫التقليدية التي ال تتجاهل طبيعة الروح الشرقية في احلفاظ على‬ ‫أهل البيت‪ ،‬دون أن يشعروا أنهم في فضاء مغلق‪ ،‬بل حديقة مآلنة‬ ‫بالنافورات‪ ،‬والبحيرات‪ ،‬مهما صغ� � ��رت‪ ،‬والنباتات‪ ،‬مثل القرنفل‬ ‫والياسمني‪ ،‬وأشجار النخيل والليمون والنارجن‪.‬‬ ‫ويساعد صغر صحن املنزل القرطبي على احلفاظ على درجة‬ ‫حرارته‪ ،‬وكذلك حمايته من البرودة‪ ،‬وتتراص البيوت جنبا إلى جنب‪،‬‬ ‫كأنها فريق من املؤمنني يحمي بعضه بعضا‪ .‬كما يوجد في البيوت‬ ‫الكبيرة أكثر من فناء‪ ،‬ولذلك س� � ��هل على القرطبيني اليوم حتويل‬ ‫هذه البيوت إلى مشاريع جتارية مع احلفاظ على بنائها األصلي‪،‬‬ ‫وترميمها‪ ،‬خاصة أن كل املواد املستخدمة في هذه البيوت التقليدية‬ ‫من البيئة احمليطة‪ .‬ويتم تبليط األرضيات باحلجر أو الرخام‪ ،‬أو‬ ‫بالطات دقيقة من املوزاييك‪ ،‬وتتم حماية الفناء بغطاء علوي من‬ ‫النسيج‪ ،‬أو بزراعة كروم العنب‪.‬‬ ‫وللمنزل س� � ��طح من جزأين‪ ،‬أحدهما منحدر مغطى بالقرميد‪،‬‬ ‫حلمايته من املطر‪ ،‬واآلخر أصغر‪ ،‬ويسمى باإلسبانية ‪ azotea‬وهي‬ ‫تصغير لكلمة سطح‪ ،‬من العربية ُسطيح‪ ،‬وهو لتجفيف املالبس‪ ،‬وأيضا‬ ‫لنباتات الزينة‪ ،‬وفيما عدا لون القرميد األحمر‪ ،‬فإن الطالء األبيض‬ ‫‪22‬‬

‫منازل قرطبة اجلديدة تس���تلهم املدخل األندلس���ي‪ ،‬وال يبخل القرطبيون في تزيينها ‪،‬‬ ‫وقدميها حتول ملقاه وفنادق‪ ،‬وألبوابها إفريز كثير الرسوم مثلما يبني في هذه الصورة‪.‬‬

‫‪23‬‬


‫نهر على َسفَر | قرطبة القل َعة ُ‬ ‫احل ّ َرة‬ ‫ٌ‬

‫هو عنوان البيت القرطبي من الداخل واخلارج م ًعا‪ .‬ولبعض غرف‬ ‫النوم سقف مرتفع يسمى القبة (باإلسبانية ‪ alcoba‬وباإلجنليزية‬ ‫‪ )alcove‬وتس� � ��تخدم الفخاريات وقطع الصيني في تزيني الغرف‬ ‫األخرى‪ ،‬وفي غرفة االستقبال البد من أن يوجد مقعد كبير على‬ ‫األقل‪ ،‬مؤثث باحلواشي‪ ،‬مع أثاث مريح له أكثر من هيئة‪.‬‬

‫قلْ لل ّ َز َمان ا ْر َج ْع يا زمان‬

‫ستفاجئك مهن كثيرة في ش� � ��وارع قرطبة القدمية‪ ،‬فض ً‬ ‫ال عن‬ ‫احلوذية‪ ،‬سترى بائع يانصيب عجوزًا يصيح‪ :‬لوتاريا‪ ،‬وتستوقفك‬ ‫ع َّرافة تقرأ الكف‪ ،‬حاملة في يدها عشبات خضراء تطلب نقودا‬ ‫ورقية‪ ،‬ال معدنية ـ ألن اليورو الورقي الذي أطاح بالعملة احمللية في‬ ‫بلدان االحتاد األوربي‪ ،‬يبدأ باخلمسة ‪ -‬وال أقل ـ ستمسك الع َّرافة‬ ‫ٍ‬ ‫كلمات‬ ‫كفك اليس� � ��رى‪ ،‬لتقرأ خطوط العمر واحلب واملال‪ ،‬وتقول‬ ‫باإلسبانية‪ ،‬وتهز هي رأسها كأنها تفهم أنك فهمت‪ ،‬وهي ال تعرف‬ ‫من اإلجنليزية غير كلمتني‪ :‬نقود ورقية!‬ ‫سيمر بك أيضا عازفو اجليتار‪ ،‬نغمات تقليدية‪ ،‬بأصابع دربة‪،‬‬ ‫شباب على األغلب‪ ،‬يضع أحدهم صورته مع صورة عازف شهير‬ ‫راحل‪ ،‬كأنه يقول إنه وريث ذلك الفنان‪ ،‬وبجانب الصورة قبعة أو‬ ‫علبة أو سلة صغيرة يتلقى فيها هبات املستمعني من املارة‪ ،‬أيضا‬ ‫ستؤجر لك بعض احملالت القبعات املكسيكية لتحتفظ بصورة لك‬ ‫ترتديها‪ .‬ألف مهنة ومهنة‪ ،‬بعضها جاء من صندوق املاضي‪ ،‬واآلخر‬ ‫فرضت فكرته آليات السوق اجلديدة‪.‬‬ ‫فاجأنا صوت أم كلثوم؛ (وعايزنا نرج� � ��ع زي زمان‪ ،‬قل للزمان‬ ‫ارجع يا زمان)‪ .‬لم نكن نحن من يترمن بهذه األغنية الشجية‪ ،‬بل عبر‬ ‫الصوت إلينا كأنه يدعونا للقاء كوكب الشرق في قرطبة!‬ ‫‪24‬‬

‫دخلنا املكان عبر بهو قصير فإذا بنا في بيت أصبح مقهى‪ ،‬مثل‬ ‫بيوت تقليدية كثيرة هنا استجابت لرغبة السياحة املنفذ الرئيسي‬ ‫للدخل في مقاطعات األندلس‪ .‬ابتس� � ��امة النادل وترحيبه جعالنا‬ ‫نتيقن أننا في أرض عربي� � ��ة خالصة‪ ،‬لوال أن زبائنه من الش� � ��رق‬ ‫األقصى‪ ،‬والغرب األدنى‪ .‬القهوة العربية‪ ،‬وكئوس الشاي واإلبريق‬ ‫النحاسي بلون الذهب‪ ،‬واحللوى الشرقية‪ ،‬وآلة الفونوغراف يصعد‬ ‫منها صوت أم كلثوم‪ ،‬عاليا شجيا‪ ،‬كراسي من اخلشب واخلوص‪،‬‬ ‫ومرايا مطعمة بالصدف‪ ،‬ومتثال لقارئ‪ ،‬وبئر مغطاة بثمار اجلنة‪،‬‬ ‫وهانحن في الباحة من بيت ذي دورين‪ ،‬حتولت غرفه إلى قاعات‬ ‫شرقية األثاث‪ .‬قال لنا مستقبلنا‪ :‬اسمي محمد‪ ،‬بلدي املغرب‪ ،‬جئت‬ ‫هنا قبل ‪ 15‬س� � ��نة‪ ،‬وكنت في الثامنة عشرة‪ .‬لم أشعر بالغربة‪ ،‬بل‬ ‫أحسست أن هذا املكان جزء من مدينة تراثية مغربية‪ ،‬بتصميمه‪،‬‬ ‫وحاراته الضيقة‪ ،‬وأم كلثوم تؤنس وحشتنا ليال ونها ًرا‪ .‬وقد عرفت‬ ‫منه أن مثله كثيرون‪ ،‬قادهم البحر واحلنني إلى العمل في مقاطعات‬ ‫األندلس‪.‬‬ ‫و«عايزنا نرجع زي زمان‪ ،‬قل للزمان ارجع يا زمان»‪ ،‬وصفة سحرية‬ ‫نطق بها صوت أم كلثوم هنا في قرطبة‪ ،‬استعادة الزمان‪ ،‬واستحضار‬ ‫األندلس‪ ،‬ال يعنيان في اعتقادي سوى استعادة الروح الوثابة نحو‬ ‫السفر‪ ،‬والرغبة الوقادة للعلم‪ ،‬واملغامرة الفنية التي جاءت ‪ -‬مثال ‪-‬‬ ‫مبوسيقي من أقصى الشرق العربي مثل زرياب إلى قرطبة ليفجر‬ ‫ثورة حلنية اليزال صداها يتردد حتى اليوم‪ ،‬من الشارع الذي يحمل‬ ‫اسمه‪ ،‬إلى األماكن التي تسترجع وقع موسيقاه‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫نح ّ ُن دائما إلى األماكن التي حتمل األسماء العربية‪ ،‬غريزة لم‬ ‫نستطع التغلب عليها‪ ،‬أن ترى في السماء اللون الذي حتبه العني‪،‬‬ ‫وتسمع من األس� � ��ماء االس� � ��م الذي تفضله األذن‪ .‬بني حني وآخر‬ ‫‪25‬‬


‫نهر على َسفَر | قرطبة القل َعة ُ‬ ‫احل ّ َرة‬ ‫ٌ‬

‫سنرى متثاال لعالم كالغافقي‪ ،‬أو فيلسوف كابن رشد‪ ،‬وابن حزم‪،‬‬ ‫أو منر بنصب تذكاري ألشهر عاش� � ��قني في املدينة‪ ،‬وأقصد ابن‬ ‫زيدون‪ ،‬ووالدة بنت املس� � ��تكفي‪ .‬لكن ذلك النصب األخير لم يكن‬ ‫يكفي‪ ،‬واعتقدت أنه أقل شأنا مما يستحقانه من مكانة وتقدير‪.‬‬ ‫بل إن وجوده على الطريق دون إشارة ودون حديقة ومن غير سياج‬ ‫أو حرم قد يعني ‪ -‬ضمن ما يعني ‪ -‬أن أهميتهما أقل من أهمية‬ ‫ابن ميمون‪ ،‬الذي يحتفل به اليهود على مدار العام‪ ،‬في كل مكان‪،‬‬ ‫بدءا من املعبد‪ ،‬مرورا بتمثال� � ��ه‪ ،‬في متاهات احلي اليهودي‪ ،‬وإلى‬ ‫أماكن احتفالية أخرى‪ .‬إن سماحة املدينة جتعلنا نلح على أن نحضر‬ ‫بها‪ ،‬وأن نعيد إليها روحها العربية‪ ،‬تلك الروح التي لم تخمد أبدا‪،‬‬ ‫والشواهد كثيرة‪ .‬منها كان ش� � ��اهد العاشقني‪ ،‬املدون عليه الشعر‬ ‫الذي يستعيد غرامهما بالعربية واإلسبانية‪ ،‬ويحمل كفني يقتربان‬ ‫دون أن تتالمسا‪ ،‬تقول والدة في بيتيها‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫����������������اف ع������ل������ي َ‬ ‫�������نّ�������ي‬ ‫أخ‬ ‫������ك‪ِ ،‬م�����������ن ع�����ي�����ن�����ي وم ِ‬ ‫َ‬ ‫وم����������ن َ‬ ‫���������ان‬ ‫�������������ان‬ ‫���������������ن زم‬ ‫����������ك‪ ،‬وم‬ ‫�������������ك‪ ،‬وامل���������ك ِ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫ول�������������و ِأنّ�������������������ي خَ ����������ب����������أ ُت َ‬ ‫����������ك ف����������ي ع�����ي�����ون�����ي‬ ‫�������ة َم�������������ا َك������ف������ان������ي‬ ‫إل�������������ى ي�������������وم ال�������ق�������ي�������ام ِ‬ ‫فيرد بيتا ابن زيدون‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫�������ه ف�����ي ال�����ن�����اس م���ش���ت ِ���ه���را‬ ‫���������ن غ‬ ‫ي�����ا َم ْ‬ ‫����������دوت ب ِ‬ ‫ق���ل���ب���ي ع����ل����ي َ‬ ‫�����ف����� َك�����را‬ ‫����ك ي����ق ِ‬ ‫����اس����ي ال������� َه������� ّ َم وال ِ‬ ‫ّ����س����ن����ي‬ ‫��������م أل����������قَ إن������س������انً������ا ي����ؤ َن ُ‬ ‫إن غ�����ب�����تَ ل ْ‬ ‫��������رتَ ف������ك ُّ‬ ‫����ض����را‬ ‫������ل ال������ن������اس ق������د ح َ‬ ‫وإن َح��������ض ْ‬

‫في رحاب املسجد اجلامع‬ ‫نصل إلى مسجد قرطبة اجلامع‪ ،‬وهو ‪ -‬أو كان ‪ -‬أكبر مسجد‬ ‫‪26‬‬

‫نصب تذكاري ألشهر عاشقني في قرطبة؛ ابن زيدون‪ ،‬ووالدة بنت املستكفي‪ ،‬مدون عليه الشعر‬ ‫الذي يستعيد غرامهما بالعربية واإلسبانية‪ ،‬ويحمل كفني تقتربان دون أن تتالمسا‪.‬‬

‫‪27‬‬


‫نهر على َسفَر | قرطبة القل َعة ُ‬ ‫احل ّ َرة‬ ‫ٌ‬

‫في العالم الغربي على اإلطالق‪ ،‬مبساحة تصل إلى ‪ 24‬ألف متر‬ ‫مربع‪ .‬خريطة املسجد‪ /‬الكاتدرائية‪ /‬املتحف تضم تخطيطا لألثر‬ ‫مختلف األلوان‪ ،‬ويدل كل لون باخلريطة على مرحلة مختلفة من‬ ‫مراحل بناء أو توسعة شملت املسجد عبر العصور املتعاقبة‪ ،‬التي‬ ‫واكبت اتس� � ��اع مدينة قرطبة‪ .‬كان عبدالرحمن الثاني هو صاحب‬ ‫التوسعة األولى (‪ 852- 833‬ميالدية)‪ ،‬وهو اجلزء الذي شمله أكبر‬ ‫تغيير عند إنشاء الكاتدرائية‪ ،‬بداية من سنة ‪ 1523‬ميالدية‪ ،‬وتقع‬ ‫اليوم في قلب املسجد متا ًما‪ ،‬وحتمل بذخا وترفا معماريا حاول أن‬ ‫يبهر العني فيصرفها عن معمار املسجد‪ ،‬دون جدوى‪ .‬أما التوسعة‬ ‫الثانية فنفذها احلكم الثاني‪ ،‬بني عامي ‪ 961‬و‪ 966‬ميالدية‪ ،‬في‬ ‫ما قام املنصور بالتوسعة الثالثة في العام ‪ 987‬ميالدية‪.‬‬ ‫ندخل حيث مكان الزيادة الثالثة وهي التي ضاعفت حجم املسجد‬ ‫باجتاه النهر‪ ،‬أي نحو اجلنوب‪ ،‬حيث أزيل جدار القبلة‪ ،‬لينقل قرب‬ ‫ضفة الوادي الكبير‪ ،‬وليبنى سور يحجز املسجد عن الشارع املبلط‪،‬‬ ‫أو الرصيف الذي كان منتزه أهل قرطبة مثلما هو اليوم‪ ،‬حيث شيدت‬ ‫صارية ونافورة ومتاثيل جديدة جعلت للمنتزه روحا كنسية‪ ،‬تضاء‬ ‫الشموع أمام قديسيه‪ ،‬طل ًبا حملبة مفتقدة‪ ،‬أو مغفرة مرتقبة‪.‬‬ ‫ثم منيل حيث زيد املسج ُد للمرة الرابعة‪ .‬وقد شيد املعمار على‬ ‫طراز بقية املس� � ��جد ذاته‪ ،‬بأقواس مزدوجة‪ ،‬ومداميك (مصاطب‬ ‫أو حوامل) أقواس من احلجر األبيض والطوب األحمر‪ ،‬كما شيد‬ ‫للمرة األولى على نسق املس� � ��جد األموي في دمشق‪ .‬منشي نحو‬ ‫احملراب املس� � ��يج‪ ،‬وقد قام البهو املفضي إليه على أعمدة وقوائم‬ ‫مزدوجة‪ ،‬فوقها قبة تستند على عصبات من احلجر‪ ،‬وهو الطراز‬ ‫الذي غزا أوربا وعرف في ما بعد باسم الطراز القوطي‪ ،‬بأعمدته‬ ‫وعقوده املدببة‪ ،‬التي تقوم عليها قباب� � ��ه‪ .‬احملراب مثل غرفة من‬ ‫‪28‬‬

‫الرخام س� � ��قفها قطعة واحدة‪ ،‬كأنها محارة‪ ،‬مع بروز التناسق بني‬ ‫قبته والعروق التي تدعمها‪ ،‬ومما يذكر أن هذا املس� � ��جد كان من‬ ‫بني املساجد التي يقتصر التزيني فيها على مساحات محددة‪ ،‬غير‬ ‫اجلامع األموي في دمشق مثال‪.‬‬ ‫وإذا كانت األعمدة القرطبية في املسجد هي رمز العمارة اإلسالمية‬ ‫التي سادت آنذاك‪ ،‬فإن املئذنة الضخمة الشاهقة بفرادتها املربعة‬ ‫التصميم هي رمز املدينة كلها بال منازع‪ ،‬حتى بعد أن زال منها ما‬ ‫كان يزين رأسها من كرات الذهب والفضة‪ ،‬وبعد إضافة األجراس‬ ‫إليها‪ .‬والتزال أش� � ��جار النارجن تنمو في الصحن‪ ،‬مثلما تنمو في‬ ‫صحون بيوت كثيرة زرناها في قرطبة‪ ،‬وقد جتد على األرض ثما ًرا‬ ‫أينعت وحان قطافها‪ ،‬فلما لم متتد إليها ي ٌد‪ ،‬سقطت مبفردها!‬ ‫كانت املقتنيات في املسجد‪ /‬الكاتدرائية‪ /‬املتحف تع ِ ّبر كلها عن‬ ‫التاريخ الرس� � ��مي‪ ،‬إال في مجموعة من اإلطارات الزجاجية‪ ،‬ولن‬ ‫أترككم تخمنون كثي ًرا‪ ،‬فقد احتوت هذه اإلطارات على أسماء بناة‬ ‫املسجد؛ مئات من األسماء والتوقيعات واخلربشات‪ ،‬نقلها اإلسبان‬ ‫من على األعمدة ـ حيث نقش العمال أسماءهم حف ًرا ـ على قوالب‬ ‫من اجلبس األبيض‪ :‬عبدالله‪ ،‬مسعود‪ ،‬سعد‪ ،‬نصر‪ ،‬كمال‪ ،‬يوسف‪...،‬‬ ‫وحروف وعالمات ورموز يتوه منها املعنى‪ .‬لكن ذلك كله كان يحمل‬ ‫بصمات املجهولني الذين مضوا وأرادوا أن يتركوا وراءهم أث ًرا ملن‬ ‫يقتفي‪.‬‬ ‫وما أود إضافته حول النقوش املزينة لألقواس التي تعلو أبواب‬ ‫املسجد‪ ،‬أنها تؤكد القيمة اجلمالية للحرف العربي‪ ،‬مبرونته‪ ،‬وطوعه‬ ‫التشكيلي للزخرفة‪ ،‬مثلما تبرز التوريقات (الزخارف النباتية) ثراء‬ ‫الطبيعة القرطبية بشكل خاص واألندلسية بشكل عام‪ ،‬سواء في‬ ‫املراوح النخيلية‪ ،‬الكاملة أو أنصافها‪ ،‬والزهور ومصغراتها‪ ،‬والفروع‬ ‫‪29‬‬


‫نهر على َسفَر | قرطبة القل َعة ُ‬ ‫احل ّ َرة‬ ‫ٌ‬

‫والسيقان‪ ،‬والفصوص التي تنبس� � ��ط‪ ،‬وتنكمش‪ ،‬وتنثني‪ ،‬كأن في‬ ‫احلجر حياة حني تلمس بروزها‪ .‬وترتكز هذه النقوش على موجات‬ ‫من لفائف نباتية‪ ،‬كأنها مهاد لكائنات احلروف العربية احلية‪ ،‬التي‬ ‫يجملها التماثل والتناظر‪ ،‬وخاصة في ما يعكس التكوين األيس� � ��ر‬ ‫صورته اليمنى‪ ،‬وال شك في أن الطرز املعمارية في الغرب قد شربت‬ ‫من وعاء الزخرفة هذا حتى ارتوت‪.‬‬ ‫أما األفاريز التي تطوق الكتابات‪ ،‬سواء كانت مستطيلة أو مربعة‪،‬‬ ‫أو داخل سياج العقود‪ ،‬فتمتزج فيها األش� � ��كال الهندسية باحلياة‬ ‫الزخرفية النباتية امتزاجا ليس فيه انفصام‪ .‬ويبقى التواتر بني اللونني‬ ‫املميزين‪ ،‬الوردي الداكن واألبيض‪ ،‬عالمة على املسجد‪ ،‬والعمارة‬ ‫األموية‪ ،‬وهو األمر الذي سنجد صداه في العمارة القرطبية حتى‬ ‫املعاصر منها‪ ،‬فضال عن البراعة في اس� � ��تخدام األلوان التي ورد‬ ‫ذكرها في القرآن الكرمي‪ ،‬في التعشيق والتذهيب‪ ،‬مثل األخضر‪،‬‬ ‫واألحمر‪ ،‬واألصفر‪ ،‬ولوني الذهب والفضة‪ ،‬وقد سمى الفنان املسلم‬ ‫اللون األحمر الداكن باملرجان‪ ،‬كما وردت مفردته القرآنية‪ ،‬واللون‬ ‫األزرق باإلستبرق‪ ،‬واألخضر الفاحت بالسندس وهكذا‪ .‬وكان توزيعها‬ ‫يبعث النش� � ��وة في النفس‪ ،‬مثلما يدعو إليها التأمل دون كسل‪ ،‬أو‬ ‫كلل‪ ،‬أو ملل‪.‬‬

‫القلعة احلرة‬ ‫ِ‬ ‫وسطها متثال القديس‬ ‫نعبُ ُر القنطرةَ الرومانية‪ ،‬التي يقف في‬ ‫رافائيل وحتت قدميه شموع املتبتلني‪ ،‬محاطة بالشرائط احلمراء‪،‬‬ ‫وبقايا الدموع والدعوات والبركات‪ .‬نصل إلى الطرف املقابل لرصيف‬ ‫منتزه مسجد قرطبة اجلامع حيث ينتصب بر ٌج أصبح متحفا‪ ،‬ال يزال‬ ‫يحمل اسمه العربي‪ :‬برج القلعة احلرة أو ‪Torre Calahorra‬‬ ‫‪30‬‬

‫باإلسبانية‪ .‬ندخل «متحف احلياة األندلس� � ��ية» أو متحف الثالث‬ ‫ثقافات‪ ،‬الذي تشرف عليه مؤسسة روجيه جارودي‪ ،‬بعد إعالنه‬ ‫أثرا في ‪ ،1931‬والذي بدأ دوره كمتحف عام ‪ 1987‬ميالدية‪ ،‬وهو‬ ‫متحف يعبر عن السماحة التي غمرت املدينة حني تعايش املسلمون‬ ‫واليهود واملسيحيون فيها‪.‬‬ ‫عند املدخل نتسلم سماع َة رأس‪ ،‬تختارُ من بني أربع لغات ـ األملانية‪،‬‬ ‫اإلجنليزية‪ ،‬الفرنسية‪ ،‬اإلسبانية ـ تعليقا يصاحبُك كلما دخلت غرفة‬ ‫من غرف املتحف‪ .‬تدخل املكان‪ ،‬وتضغط الزر‪ ،‬فينس� � ��اب التعليق‬ ‫الشارح باملوسيقى واملؤثرات السمعية والبصرية ملا تراه أمامك من‬ ‫مجس� � ��مات حتكي لك نظام الري الذي ابتدعه املسلمون في أوج‬ ‫ازدهار احلضارة األندلسية‪ ،‬وصور احلياة في قصور اخللفاء‪ ،‬ومدينة‬ ‫الزهراء‪ ،‬ومجالس احلرمي‪ ،‬ومس� � ��امر األمراء‪ ،‬ورحالت القوافل‪،‬‬ ‫ومعمار البساتني واملنازل‪ .‬حتى قصور احلمراء في غرناطة‪ ،‬يضم‬ ‫منوذجا كامال لها‪ ،‬تستطيع أن تلقي‬ ‫«متحف احلياة األندلس� � ��ية»‬ ‫ً‬ ‫عليه نظرة طائر‪ ،‬وأن تنظر من خالل منوذج مقطعي إلى املصلني‬ ‫في مس� � ��اجدها‪ ،‬مثلما تس� � ��تمع إلى خرير املياه في نافورتها التي‬ ‫حترسها األسود‪.‬‬ ‫حني نصل إلى س� � ��قف البرج مينحنا االرتفاع فرصة مشاهدة‬ ‫املدينة من عل‪ .‬الس� � ��طح يرفرف عليه علمان‪ ،‬للمملكة اإلسبانية‪،‬‬ ‫وقرطبة‪ .‬ومييز علم قرطبة شريط أبيض رمبا يرمز للسهل ونهر‬ ‫الوادي الكبير‪ ،‬يقف عليه رجل يروض أسدين‪ ،‬بينما يكتمل العلم‬ ‫بش� � ��ريطني باللون األخضر أعلى وأدنى الشريط يرمزان للمزارع‬ ‫اخلضراء التي حتيط قرطبة شماال وجنو ًبا‪ .‬في حني تبدو املآذن‬ ‫التي حتولت إلى أبراج حلمل األجراس واضحة‪ ،‬في منط متكرر‪،‬‬ ‫ش� � ��مله التغيير القس� � ��ري للوظيفة دون أن ينجح في تغيير الشكل‬ ‫‪31‬‬


‫نهر على َسفَر | قرطبة القل َعة ُ‬ ‫احل ّ َرة‬ ‫ٌ‬

‫املعماري اجلمالي‪.‬‬ ‫لكن الغرفة الثانية في «متحف احلياة األندلس� � ��ية»‪ ،‬ويسمونها‬ ‫غرفة الفالس� � ��فة‪ ،‬هي التي عبرت بحق عن روح قرطبة اخلالدة‬ ‫التي صعدت بها لتكون عاصمة للحضارة األوربية في ذلك الزمان‪.‬‬ ‫ها هو امللك ألفونسو العاشر جالسا أمام ثالثة من أعمدة التنوير في‬ ‫املدينة؛ ابن عربي‪ ،‬وابن رشد‪ ،‬وابن ميمون‪ .‬ويأتيك عبر امليكروفون‬ ‫صوت األربعة في حوار فلسفي حول ُكنه احلياة‪ ،‬ومعانيها‪ .‬فاملسلمون‬ ‫مجسدون في ابن عربي وابن رشد‪ ،‬واليهود حاضرون في شخص‬ ‫ابن ميمون‪ ،‬واملسيحيون ميثلهم امللك ألفونسو احلكيم‪ ،‬هم شهود‬ ‫القرنني الثاني عشر والثالث عشر امليالديني‪ ،‬الذين حملوا للعالم‬ ‫الرسالة األندلسية‪ ،‬للحرية والتسامح واإلبداع الفني والتقني في هذه‬ ‫العصور احلضارية الذهبية‪ :‬يقول ابن رشد‪ ،‬باإلجنليزية‪ ،‬فلسفتنا‬ ‫حاولت‬ ‫ليست ذات جدوى‪ ،‬إن لم تكن قادرة على الربط بني ثالثة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫أن أجمع بينها في جتانس العلم والدين‪ ،‬العلم املؤسس على التجربة‬ ‫الكتشاف األسباب‪ ،‬واحلكمة التي تنعكس على الغرض الذي يرمي‬ ‫إليه كل بحث علمي جلعل حياتنا أكثر بهاء‪ ،‬والكشف الروحاني للقرآن‬ ‫الكرمي الذي نخلص به إلى مرامي حياتنا وتاريخنا‪ .‬بينما يردد ابن‬ ‫توح ٌد‪ .‬توحد العشق والعاشق واملعشوق‪ ،‬وكل عشق هو‬ ‫عربي‪ :‬الله ّ ُ‬ ‫رغبة في التوحد‪ .‬وكل عشق‪ ،‬بإرادتنا أو دونها‪ ،‬هو تقرب لله‪.‬‬ ‫في القلعة احلرة وصلت إلى مغزى قرطبة؛ قيمة احلرية‪ ،‬التي‬ ‫ِ‬ ‫وس َم ْت سماء املدينة في أزهى فترات حياتها‪ ،‬حرية كانت تسمح ألبي‬ ‫بكر بن ذكوان قاضي القضاة بقرطبة رفض تسليم أموال األوقاف‬ ‫ألبي احلزم ابن جهور‪ ،‬رأس دولة بني جهور‪ ،‬كما أنها سمحت البن‬ ‫حيان بانتقاد أمراء الطوائف دون أن ميسه سوء منهم‪ .‬وزان قيمة‬ ‫احلرية قيم أخرى كطلب العلم‪ ،‬الذي بقيت أدواته وعالماته حتى‬ ‫‪32‬‬

‫اليوم في املتحف‪ ،‬من مباضع التشريح‪ ،‬وأساليب املالحة‪ ،‬ووسائل‬ ‫اجلغرافيا‪ ،‬وعادت األذن تس� � ��مع ـ حتى عبر لغة أخرى ـ مفردات‬ ‫اللغة العربية في قرطبة‪.‬‬ ‫لم تتوقف اللغة اإلس� � ��بانية عن النهل من لغتن� � ��ا العربية‪ ،‬وهي‬ ‫حتتوي على آالف املفردات التي تصافح األذن من حني آلخر‪ .‬بل‬ ‫إننا في قراءة التراث الش� � ��عبي علينا أن نق� � ��ف أيضا عند األمثلة‬ ‫الشعبية التي عرفت الرحلة إلى األندلس‪ ،‬ألم نقل‪« :‬عصفور في‬ ‫اليد خير من عشرة على الشجرة»‪ ،‬هم يقولون ‪Mejor pajaro‬‬ ‫‪ ،en mano، que cien volando‬ألم نسخر ممن «يعملون من‬ ‫الفسيخ شربات»‪ ،‬اإلسبان يقولون‪،Hacer de tripas corazon :‬‬ ‫وقد جمعت د‪ .‬علية العناني قبل عش� � ��رين عا ًما عش� � ��رات األمثلة‬ ‫واحلكم واألقوال العربية التي اس� � ��تقرت بعد خروج العرب‪ :‬السن‬ ‫بالسن والعني بالعني والبادي أظلم‪ ،‬ابن الوز عوام‪ ،‬دوام احلال من‬ ‫الدين هم بالليل ومذلة بالنهار‪،‬‬ ‫احملال‪ ،‬وقت البطون تتوه العقول‪َّ ،‬‬ ‫تراعيني قيراط أراعيك قيراطني‪ ،‬باب النجار مخلع‪ ،‬ي ّدي (يعطي)‬ ‫احللق للي بال ودان‪ ،‬القين� � ��ي وال تغديني‪ ،‬يصطاد في املاء العكر‪،‬‬ ‫وغاب القط‪ ،‬العب يا ف� � ��أر» ‪Cuando no esta el gato، los‬‬ ‫‪ .ratones bailan‬وإذا عرفنا كيف تشكل األمثال الشعبية آليات‬ ‫احلياة اليومية‪ ،‬يتأكد لنا أن هناك عادات وتقاليد التزال حية في‬ ‫شرايني املدن التي سقتها قرونا ميا ُهنا العربية‪ ،‬بل إن شبها كبي ًرا‬ ‫بني صيحات التهليل الفرحة للمرأة الشامية‪ ،‬والنسوة اإلسبانيات‪،‬‬ ‫يجزم بأن جذورا واحدة سقت ثمرة هذا التشابه‪.‬‬ ‫وحني تستضيف جامعة قرطبة األمس� � ��يات الشعرية العربية‪،‬‬ ‫أتذكر مهرجانا س� � ��نويا تقيمه جارتها غرناط� � ��ة في إطار برنامج‬ ‫شعري تنظمه املؤسس� � ��ة األوربية العربية باملدينة برعاية األمني‬ ‫‪33‬‬


‫نهر على َسفَر | قرطبة القل َعة ُ‬ ‫احل ّ َرة‬ ‫ٌ‬

‫العام للمؤسسة خيس� � ��وس جونثاليث لوبيث‪ ،‬حيث تتلى قراءات‬ ‫شعرية عربية معاصرة‪ ،‬وليعود الشعر العربي إلى أسماع أحجار‬ ‫قصور احلمراء‪ .‬علينا أال نتوقف عن اإلنشاد‪ ،‬وأن يكون نشيدنا‬ ‫مسموعا‪ ،‬وأن نصل إلى اجلهة األخرى من اجلسر‪ ،‬خاصة أن لنا‬ ‫هناك محطات تذكرنا‪.‬‬ ‫نعيش مع الشعر ونحن نصعد الطريق إلى مدينة الزهراء ‪ -‬أو‬ ‫ركامها وأنقاضها ‪ -‬على جبل العروس‪ ،‬املشرف على قرطبة من‬ ‫الناحية اجلنوبية‪ ،‬وبعيد ستة كيلومترات من قلب املدينة‪ .‬هناك‬ ‫حيث بدأ في أول احملرم سنة ‪ 325‬هجرية (‪ 936‬ميالدية) اخلليفة‬ ‫عبدالرحمن الناصر في تشييد عاصمة ملوكية ذات طبقات‪ ،‬يصل‬ ‫املاء ألعالها عبر قنوات خاصة جتمع مياه املطر على سفوح جبال‬ ‫سيرا مورينا‪ .‬كانت أقسام املدينة على درجات‪ ،‬يرقى إلى كل قسم‬ ‫منها بدءا من باب األقباء (جمع قبو) حيث حتيط القباب به‪ ،‬مرورا‬ ‫بطريق مبلطة وممهدة تقوم عل������ى جوانبه غرف احلرس وتظله‬ ‫األعمدة واألشجار‪ ،‬حتى يصل إلى باب السدة‪ ،‬حيث القصر‪ .‬وقد‬ ‫افتتح جامع الزهراء عام ‪ 941‬ميالدية‪ ،‬وانتقل اخلليفة ومؤسسات‬ ‫اخلالفة إليها بعد ذلك بأربع سنوات‪ .‬في هذا العبور يشاهد في‬ ‫املستوى األول مساكن اجلند‪ ،‬ومأوى احلرس‪ ،‬وأماكن أصحاب‬ ‫احلرف‪ ،‬ممن يعملون في خدمة املدينة‪ ،‬وفي املستوى الثاني قصور‬ ‫كبار رجال الدولة‪ ،‬وجماعات احلرس اخلاص باخلليفة‪ ،‬واحلمامات‬ ‫واملساجد اخلاصة بهم‪ ،‬وفي املستوى الثالث البهو الكبير الذي‬ ‫أعد الستقبال امللوك األجانب وسفرائهم‪ .‬وقد وردت إليها سفارة‬ ‫هوتو ملك الصقالبة‪ ،‬إمبراطور اإلمبراطورية اجلرمانية املقدسة‪،‬‬ ‫وسفارة ملك الفرجنة في فرنسا‪ ،‬هيو كابيه‪ ،‬ومركيز بروفنسا في‬ ‫جنوب فرنسا‪ ،‬الذي أصبح ملكا إليطاليا في ‪ 926‬ميالدية‪ ،‬ومركيز‬ ‫‪34‬‬

‫توسكانيا جريدو بن أدلبرت وس������فارة كونت برشلونة وطركونة‪،‬‬ ‫املغيرة بن س������ونير‪ ،‬ويوحنا الكرزي‪ ،‬الراهب املسيحي األملاني‪،‬‬ ‫حيث حجوا جميعا إلى درة أوربا آنذاك‪ .‬وباإلضافة إلى ذلك كله‬ ‫كان هناك القصر الذي يذكر امل������ؤرخ ابن عذارى (القرن الثامن‬ ‫الهجري) أن حول حوض السباحة في بهو القصر كان ينتصب‬ ‫‪ 12‬متثاال من الذهب األحمر املرصع بالدر النفيس‪ ،‬املنجز بدار‬ ‫الصناعة في قرطبة‪ .‬وأن سواري مدينة الزهراء (األعمدة) بلغت‬ ‫‪ ،4313‬منها ‪ 1013‬من إفريقيا‪ ،‬و‪ 140‬هدية إمبراطور بيزنطة‬ ‫والباقي من األندلس‪ .‬وإذا كانت الزهراء قد تكلفت ذلك فإمنا‬ ‫كانت صورة من ازدهار قرطبة التي يشاع أنها ضمت آنذاك ‪113‬‬ ‫ألف دار‪ ،‬و‪ 300‬حمام‪ ،‬وبلغ عدد مساجدها اخلاصة والعامة ثالثة‬ ‫آالف! ولعلي أسرفت في احلديث عن ال َزّهراء عج ًبا‪ ،‬ألني لم‬ ‫أجد شيئا مما قيل في كتب التاريخ واعتمدته املصادر‪ ،‬لم يكن‬ ‫هناك سوى الهواء العليل‪ ،‬وبضعة أعمدة‪ ،‬من واجهة رواق مدخل‬ ‫القصر‪ ،‬وصالون عبدالرحمن الثالث‪ ،‬كأنها حروف توقيع على‬ ‫رسالة احترقت فلم يبق منها سوى النذر اليسير‪ .‬حتى أن ما لم‬ ‫يُسرق‪ ،‬أو يُخ َّرب‪ ،‬وبقي من مقتنيات‪ ،‬مت نقله إلى املتاحف‪ ،‬ذهب‬ ‫كل ش������يء‪ ،‬وبقي االس������م؛ ال َز ّْهراء! أقول في الزهراء نعيش مع‬ ‫الشعر ألن ابن زيدون قال يتغزل يو ًما وهو يصعد الطريق ذاته‬ ‫الذي صعدناه قبل قليل‪:‬‬ ‫����������ك ب����������ال���������� ّ َزه���������� َراءِ ُم����ش����ت����اق����ا‬ ‫ِإنّ�������������ي ذ َك����������ر ُت ِ‬ ‫واألف������������قُ ط�����ل ٌ‬ ‫�������د راق�����ا‬ ‫�����ق‪ ،‬وم����������رأى‬ ‫األرض ق ْ‬ ‫ِ‬ ‫ٌ‬ ‫أص ِ‬ ‫��������ائ��������لِ ِ‬ ‫��������ه‬ ‫ّ������س������ي������م اع‬ ‫ول������ل������ َن ِ‬ ‫���������ت����ل����ال ف��������ي َ‬ ‫ك�����������أ َنّ�����������هُ ّ َ‬ ‫��������ل إش�����ف�����اق�����ا‬ ‫رق ل�����������ي‪ ،‬ف��������اع��������ت ّ َ‬ ‫وقد خربت الزهراء أيام الفتن� � ��ة الكبرى‪ ،‬لكن قول ابن زيدون‬ ‫‪35‬‬


‫نهر على َسفَر | قرطبة القل َعة ُ‬ ‫احل ّ َرة‬ ‫ٌ‬

‫فيها يستحضرها متذكراً ومتشوقاً‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫��������ازح‬ ‫أَال ه������ل إل��������ى (ال����������زه����������راء) أ ْو َب‬ ‫����������������ة ن ٍ‬ ‫������زح������ا‬ ‫ت�������ق ّ َ‬ ‫�������ض�������ى ت�����ن�����ائ�����ي�����ه�����ا م��������دام�������� َع��������ه ن َ‬ ‫��������ت ج����ن����ب����ا ُت����ه����ا‬ ‫ْ��������ك أش��������رق ْ‬ ‫�����ر ُم��������ل ٍ‬ ‫م�����ق�����اص�����ي ُ‬ ‫صبحا‬ ‫�����ع�����ش�����ا َء اجل���������ونَ أث����ن����اءه����ا‬ ‫ف���خ���ل���ن���ا ال ِ‬ ‫َ‬ ‫يمُ�������ث�������ل ق�����رط�����ي�����ه�����ا ل���������ي ال���������وه���������م ج������ه������ر ًة‬ ‫���س ْ‬ ‫���ح���ا‬ ‫���ط َ‬ ‫ف���ق���ب���ت���ه���ا ف���ال���ك���وك���ب ال������� ّ َرح َ‬ ‫�������ب ف���ال ّ َ‬ ‫���������ح ُّ‬ ‫���������اح ي�������ذْ ك�������ر اخل������ل������د طيبه‬ ‫َم َ‬ ‫���������ل ارت���������ي ٍ‬ ‫ضحى‬ ‫إذا ع��ـ��ـ��ـ��ز أن ُي��ص��ـ��ـ��دى ال��ـ��ـ��ـ��ف��ت��ى ف��ي��ه أو َي َ‬ ‫منوذجا لألنثروبولوجي‪ ،‬وأكاد أقول إنه مثلما‬ ‫كان ابن زيدون‬ ‫ً‬ ‫وصف علماء احلملة الفرنسية مصر في موسوعتهم (وصف مصر)‪،‬‬ ‫فإن أشعار ابن زيدون وصفت قرطبة‪ ،‬فكأنه احتفظ لنا بجغرافيتها‪،‬‬ ‫وطبوغرافيتها‪ ،‬وكائناتها حية عبر القرون‪ ،‬بل وأعالمها‪ ،‬ويكفي أن‬ ‫نور َد بيتا من قصيدة امتدح بها املعتمد‪ ،‬هو البيت امل ُ َط ّيَر‪ ،‬جمع فيه‬ ‫احلروف األولى من بعض طيور قرطبة‪:‬‬ ‫ظاف ُر‬ ‫أنت إن تّغزُ ِ‬

‫ينافر‬ ‫لي ِط ُع َم ْن‬ ‫َف ُ‬ ‫ُ‬

‫والطيور حسب ما ترمز إليها حروف البيت‪ ،‬إذ إن كل حرف يرمز‬ ‫بصورته إلى طائر‪ ،‬هي‪( :‬أ) قمري (ن) عصفور (ت) بلبل (إ) قمري‬ ‫(ن) عصفور (ت) بلبل (غ) نسر (ز) شفنني (اليمام) (ظ) غراب (ا)‬ ‫قمري (ف) دراج (طائر مغرد نحيف طويل اجلناحني يسمى عند‬ ‫العامة أبو ضبة‪ ،‬ويقال إن تغريده كموسيقى عبارة بالشكر تدوم‬ ‫النعم) (ر) زرزور (ف) دراج (ل) غرنيق (طائر من فصيلة الكراكي)‬ ‫(ي) ُم َّكاء (طائر سريع العدو ال يفارق أنثاه إذا غرد في غير روضه‬ ‫كان نذير شؤم) (ط) شرشور (أبو براقش‪ ،‬يشبه البط) (ع) باشق‬ ‫‪36‬‬

‫(من اجلوارح) (م) شاهني (ن) عصفور (ي) مكاء (ن) عصفور (ا)‬ ‫قمري (ف) دراج (ر) زرزور‪.‬‬ ‫ومن الطيور األخرى التي عاشت في قرطبة ووردت أيضا في‬ ‫ش� � ��عر ابن زيدون‪ :‬األعصم؛ وهو من الغرب� � ��ان‪ ،‬والبازي‪ ،‬وهو من‬ ‫الصقور‪ ،‬واحلبارى‪ ،‬والرأل وهو ولد النعام‪ ،‬والرهو‪ ،‬من الكراكي‪،‬‬ ‫والسمام‪ ،‬طائر رقبته قصيرة ورأسه عريض‪ ،‬والسمان‪ ،‬والشقراق‬ ‫َّ‬ ‫والعقعق وهما من الغربان‪ ،‬والصرد‪ ،‬وهو كالعصفور‪ ،‬والظليم والهيق‪،‬‬ ‫وهما اسمان لذكر النعام‪ ،‬والعنقاء‪ ،‬وذكر البوم؛ الفياد‪ ،‬والقبج وهو‬ ‫احلجل‪ ،‬والهديل وهو ذكر احلمام‪ ،‬والورش� � ��ان وهو ذكر القماري‪،‬‬ ‫من فصيلة اليمام‪.‬‬ ‫ولكن بستان الطيور الش� � ��عري الذي قدمه ابن زيدون‪ ،‬ال يدل‬ ‫على موهبة شعرية وحسب‪ ،‬بل على أن قرطبة كانت حديقة ثرية‬ ‫بطيورها‪ ،‬مثلما هي اليوم‪ ،‬ويضعون مناظير مقربة على ضفتي النهر‬ ‫لتراقب منها أسرابها‪ ،‬فضال عن غنى النهر بكائناته البحرية‪ .‬وقد‬ ‫حرص اإلسبان على وضع ٍ‬ ‫ثبت بأسمائها على لوحات ضخمة تراها‬ ‫حني تعبر اجلسور التي تربط ضفتي الوادي الكبير‪ ،‬وكأنها دعوة‬ ‫لك لتأمل السماء واألرض وما في قلب املاء‪ ،‬كما هي أيضا غنية‬ ‫بأشجارها وزهورها في حديقة النباتات التي منر بها كلما انطلقنا‬ ‫من املدينة العتيقة إلى اجلامعة مبحاذاة النهر‪.‬‬ ‫كنت أتطلع‬ ‫في جولة الوداع داخل أحد أحياء قرطبة اجلديدة‪ُ ،‬‬ ‫ملبنى شاهق يرتقيه شاهد معماري‪ ،‬يشب ُه املئذنة في تصميمه‪ ،‬أو‬ ‫هكذا متنيت‪ .‬يخرجني أحدهم من أحالمي حني يقول لي‪ :‬بل هي‬ ‫مانعة صواعق! كانت تلك هي املسافة بني احللم والواقع‪ ،‬لكن الواقع‬ ‫يتغير حني نحافظ على أحالمنا‪ ،‬ونعمل على حتقيقها‪ ،‬وما عودة‬ ‫اللغة العربية إلى قرطبة‪ ،‬القلعة احلرة‪ ،‬إال بداية األحالم‪.‬‬ ‫‪37‬‬


‫نهر على سفر‬

‫برلني‬

‫مو َّحدة‬ ‫وردة بيضاء ‪ ...‬عاصمة َ‬


‫نهر على َس َفر | برلني ‪ ...‬وردة بيضاء ‪ ...‬عاصمة م َو َّحدة‬ ‫ٌ‬

‫خريف برلني ‪ .2003‬شمس خجول يحييها مطر خفيف يتسلل‬ ‫من سماء نيلية‪ .‬أستمتع باالنتقال سي ًرا على القدمني بني ما‬ ‫كان يسمى بشطري العاصمة األملانية‪ ،‬فلم يعد هناك ما مييز‬ ‫قسمي املدينة سوى ش������واهد الذاكرة‪ .‬االنتقال حق ومتعة لم‬ ‫أبدا حتى التاسع من نوفمبر ‪ 1989‬يوم سقط‬ ‫يكونا ليتحققا ً‬ ‫جدار كان يشطر الوردة البيضاء‪ ،‬برلني‪ ،‬قبل أن تعود عاصمة‬ ‫ألملانيا املوحدة‪.‬‬

‫اجلدار ‪ ...‬في بطاقة بريدية!‬ ‫حني أسدلت احلرب العاملية الثانية ستار نهايتها‪ ،‬توزعت‬ ‫األرض األملانية بني نظامني اجتماعيني عكسا صورة أطراف‬ ‫احلرب‪ .‬ففي الغرب قامت جمهورية أملانيا االحتادية وفق نظام‬ ‫دميقراطي حر سعى منذ نشأته إلى الوحدة األملانية الكبرى‪ ،‬أما‬ ‫في الشرق فقد وجد النظام الشيوعي ذاته في جمهورية أملانيا‬ ‫الدميقراطية التي يحكمها احلزب االشتراكي األملاني املوحد‪.‬‬ ‫حكم ديكتاتوري فرض قيوده على البالد‪ ،‬وبنى شهرته على عزلها‬ ‫تتويجا حلالة‬ ‫عن الغرب‪ ،‬وكان إنش������اء جدار برلني في ‪1961‬‬ ‫ً‬ ‫االغتراب املتزايد بني مطرقة السلطة وسندان الشعب‪.‬‬ ‫ظل هذا اجلدار مقبرة الراغبني في التحليق بجناحي الهروب‬ ‫نحو احلرية والرخاء‪ ،‬احلرية املفتقدة في بلدهم‪ ،‬والرخاء الغائب‬ ‫عنه‪ ،‬في ظل بنية حتتية أخذت تنهار عا ًما بعد آخر‪ .‬كما شهد‬ ‫ذلك اجلدار الفاصل بني ش������رق برلني وغربها مصرع اآلالف‬ ‫برص������اص مواطنيهم من جنود مينعونهم م������ن فكرة اللقاء مع‬ ‫اآلخر في الغرب‪ .‬بعض الهاربني كان يلجأ إلى املمثلية الدائمة‬ ‫جلمهورية أملانيا االحتادية فيعتصم بها حتى يحصل على وعد‬ ‫‪40‬‬

‫قاطع بالسفر إلى الغرب‪ .‬وإذ تضيق املمثلية بالجئيها وتتعرض‬ ‫لإلغالق مرة بعد أخرى تتحول السفارة األملانية االحتادية ذاتها‬ ‫إلى بساط الريح الذي سيحمل هؤالء الناجني بأحالمهم من‬ ‫الديكتاتورية‪.‬‬ ‫في منتص������ف الثمانينيات يبزغ جنم األم���ي��ن العام اجلديد‬ ‫للحزب الشيوعي السوفييتي ميخائيل جورباتشوف‪ ،‬وتبدأ لقاءاته‬ ‫بنظيره األمريكي الرئيس رونالد ريجان في مؤمترات لبناء الثقة‬ ‫حينا‪ ،‬وحينا لنزع األسلحة أو تخفيضها في أوربا‪ .‬وفي خلفية‬ ‫السياسة املغايرة ينهض مشهد جديد في مجاالت الثقافة والفنون‬ ‫والتعليم والعلوم وحماية البيئة بني شطري أملانيا‪ .‬فيشهد عام‬ ‫‪ 1986‬بني مدينتي سارلوي وأيزنهوتنش������تات قيام أول عالقة‬ ‫توأمة بني ش������رق أملانيا وغربها‪ .‬وإذ تنخفض حدة التوتر بني‬ ‫الشرق والغرب تقوى املطالبة باإلصالح في أملانيا الدميقراطية‪،‬‬ ‫وتتنامى املظاهرات في ‪ 1988‬تتبعها حملة اعتقاالت يائسة من‬ ‫سلطة بدأت قبضتها تصاب بالوهن‪ .‬االعتقاالت تتوقف حني‬ ‫تصل املظاهرات إلى ذروتها في ما عرف داخل مدينة اليبزيغ‬ ‫مبظاهرات يوم االثنني (املوافق الس������ادس من نوفمبر ‪)1989‬‬ ‫وأمها نحو ‪ 450‬ألف متظاهر!‬ ‫وتدفع املظاهرات كال من مجلس الوزراء واملكتب السياسي‬ ‫للحزب االشتراكي األملاني املوحد إلى تقدمي استقالة جماعية‪،‬‬ ‫محدثة ش������لال في أجهزة الدولة‪ ،‬ويندف������ع اآلالف إلى معابر‬ ‫اجلدار ليجتازوها إلى برلني الغربية‪ .‬وجتري في العام التالي‬ ‫انتخابات عامة وحرة يتشكل بعدها حتالف من أجل أملانيا‪ ،‬وفي‬ ‫أغسطس ‪ 1990‬يوافق مجلس الشعب على انضمام جمهورية‬ ‫أملانيا الدميقراطية رسميا إلى جمهورية أملانيا االحتادية وليصبح‬ ‫‪41‬‬


‫نهر على َس َفر | برلني ‪ ...‬وردة بيضاء ‪ ...‬عاصمة م َو َّحدة‬ ‫ٌ‬

‫الثالث من أكتوبر عيد الوحدة األملانية‪ ،‬الوحدة التي لم تشهد‬ ‫قطرة دم واحدة‪.‬‬

‫أمام بوابة براندنبورغ‬ ‫أصل إلى ساحة بوابة براندنبورغ‪ ،‬بعد ‪ 13‬عاما بالتمام والكمال‬ ‫من عمر الوحدة‪ .‬أسأل عن بقايا اجلدار‪ ..‬وحني تأتيني اإلجابة‬ ‫أتعجب‪ ،‬لم يبق منه شيء!! صحيح أنني سأرى جزءا منه خالل‬ ‫األيام التالية وهو يحم������ل توقيعات حراس وجنود أملان وروس‬ ‫كانوا شهو ًدا على سنوات األلم‪ ،‬لكن اجلدار نفسه أصبح شبحا‬ ‫ينتمي للماضي‪ .‬ميضي بي البح������ث إلى مركز لبيع البطاقات‬ ‫البريدية‪ .‬داخل بعض البطاقات علب دائرية من البالس������تيك‬ ‫حتوي أحجا ًرا ملونة تشبه شظايا غير منتظمة‪ .‬إنها كل ما بقي‬ ‫من جدار برلني وقد حتول إلى هدايا تذكارية‪ .‬تأملت البطاقة‬ ‫التي ربضت خلفها بوابة براندنبورغ ‪ -‬بعد أن أصبحت رمزا‬ ‫لبرلني والوحدة األملانية ‪ -‬وكان الس������ور ‪ -‬آنذاك ‪ -‬على بعد‬ ‫أمتار خلفها‪ ،‬ليصبح اآلن على بعد سنوات ضوئية من الذكريات‪.‬‬ ‫وقد بنيت البوابة في ما بني عامي ‪ 1788‬و‪ 1791‬ميالدية وهي‬ ‫الوحيدة التي بقيت قائمة من بوابات املدينة القدمية‪ ،‬وفوقها‬ ‫جتر اخليول عربة النصر واحلرية على سقف يحمله ‪ 12‬عمودا‪،‬‬ ‫موزعة إلى أعمدة خلفية وأمامية‪ ،‬وأدناها خمسة معابر‪ .‬ذهب‬ ‫اجلدار وبقيت ظاهرة الفتة وهي استمرار رسم جدران أخرى‬ ‫في أكثر من مكان لتشبه ما كان عليه اجلدار‪ .‬أتعجب من الذين‬ ‫ال يقرأون التاريخ ‪ -‬تاريخ انهيار جدران الفصل العنصري ‪-‬‬ ‫وكنت أود أن أرسل إليهم هذا التذكار‪ ،‬لوال أن أح ًدا يفصل بني‬ ‫شطري اجلسد الواحد ال يستحق بطاقة بريدية!‬ ‫‪42‬‬

‫أمام البوابة سياح ومواطنون‪ ،‬عازف بيانوال يبتسم وهو يردد‬ ‫نشيد احلرية والوحدة مع األغاني التقليدية‪ ،‬وسائقو ريكشا‬ ‫أملانية أنيقة ينتظرون على اجلانبني أيا من الراغبني في التجول‬ ‫في الساحة التاريخية الشهيرة‪ ،‬التي تنتصب أمامها اليوم كرة‬ ‫قدم عمالقة حتيي فوز أملانيا باس������تضافة بطولة كأس العالم‬ ‫‪ .2006‬والبوابة حتمل اسم والية براندنبورغ التي حتيط بوالية‬ ‫برلني‪ ،‬وميتد من قلبها طريق حتى نص������ب النصر التذكاري‪.‬‬ ‫وإذا كانت والية برلني تبلغ مساحتها ‪ 889‬كيلومترا مربعا‪ ،‬فإن‬ ‫والية براندنبورغ تبلغ ‪ 29‬ألفا و‪ 479‬كيلومترا مربعا‪ ،‬وعاصمتها‬ ‫بوتسدام التي ش������هدت في صيف ‪ 1945‬مؤمتر قادة االحتاد‬ ‫السوفييتي والواليات املتحدة وبريطانيا واألملانيتني مبا صدر‬ ‫من قرارات استمر تأثيرها نصف قرن‪ .‬برلني وسط براندنبورغ‬ ‫تشبه الوردة البيضاء في قلب مرج أخضر‪.‬‬

‫نهر‪ ...‬وقرية صيادين!‬ ‫ِ‬ ‫كرات القطن‪ .‬يتسلل‬ ‫سحب تشبه‬ ‫زرقة األفق توشي ثوبها‬ ‫ٌ‬ ‫نهر شبريه شمال برلني من شرق املدينة إلى غربها‪ ،‬يتعرج مثل‬ ‫خط طفولي يلهو في انحناءاته والتواءاته‪ .‬يضيق هذا النهر في‬ ‫أحيان كثيرة فيكاد يشبه شارعا مائيا رصيفاه العمارة التقليدية‬ ‫واخلضرة األبدية‪ .‬أجتول وأنا أبح������ث على ضفتيه عن تاريخ‬ ‫املدينة فتدلني عليه عمارتها‪ .‬أبواب التزال حتتفظ بالتقاليد‬ ‫األملانية العريقة في العمارة من حيث االحتفاء بالنصب التذكارية‪،‬‬ ‫وتردد قيمة األعمدة التي حت������دد املداخل خاصة في القصور‬ ‫الضخمة‪ .‬أسمع حوا ًرا فنيا بني األيقونات الرخامية التي تنتصب‬ ‫على األبواب‪ :‬وردة مرة‪ ،‬ومربع مرة أخرى‪ ،‬ثم وردة ومربع م ًعا‪،‬‬ ‫‪43‬‬


‫نهر على َس َفر | برلني ‪ ...‬وردة بيضاء ‪ ...‬عاصمة م َو َّحدة‬ ‫ٌ‬

‫كأنها نوتة موسيقية بعالمات حجرية‪ .‬تتحول الدوائر والورد‬ ‫واملربعات واألقواس إلى فتاة وبستان‪ ،‬أو إلى رجل يعزف‪ ،‬ثم‬ ‫االثنني معا‪ ،‬كأن األبواب أغلفة لكتب احلكايات الشعبية‪ ،‬تزحف‬ ‫عليها أحيانا أشجار نوادر األخوين جرمي‪.‬‬ ‫تستوقفني سيدة في الستني تتحدث إلي باألملانية التي ال‬ ‫تزيد مفرداتها عندي على أصاب������ع اليد الواحدة‪ .‬جذبتها آلة‬ ‫التصوير التي أحملها مع رغبتي في توثيق أشكال تلك األبواب‬ ‫التي تطل على النهر‪ .‬تعرفني على نفسها‪ ،‬اسمها موتسر إيبرينغ‬ ‫وعملت مصورة في الشرق‪ .‬أعرف أنها ساف َر ْت من اجلزيرة‬ ‫العربية إلى أهرام مصر‪ ،‬لكنها اليوم تكتفي بنزهة يومية على‬ ‫الرصيف العامر بظالل األش������جار‪ .‬تستمتع برؤية النهر الذي‬ ‫يسير قرب منزلها‪ .‬واملشي رياضة يومية لألجيال جميعا (وغالبا‬ ‫مع الكلب الصديق احلميم للكثيرات هنا!)‪ .‬وال تنافسه سوى‬ ‫رياضة ركوب الدراجات ‪ -‬وخاصة في أيام اآلحاد ‪ -‬حني يخرج‬ ‫اجلميع‪ ،‬األزواج واألبناء واألصدق������اء على دراجاتهم يجوبون‬ ‫املدينة‪ .‬في إحدى محطات املترو س������يكون مشهدا مألوفا أن‬ ‫يأخذ الراكب دراجته معه!‬ ‫إنها برلني‪ ..‬حيث يرسم نهر شبريه‪ ،‬ذلك الشريان العذب‪،‬‬ ‫تاريخ املدينة التي أنشئت في العام ‪1237‬م‪ .‬وخالل مئات السنني‪،‬‬ ‫ظلت برلني مجرد قرية لصيادي أسماك وملتقى للتجارة القادمة‬ ‫من ‪ -‬أو الذاهبة إلى ‪ -‬مركز الدولة البروسية‪ .‬ومع تنامي اقتصاد‬ ‫برلني‪ ،‬واحتادها مع كولن إبان حتول بروسيا إلى قوة عظمى‪،‬‬ ‫تصبح املدينة بعد تأسيس الرايخ األملاني في العام ‪ 1871‬مركز‬ ‫أملانيا الثقافي والصناعي والعلمي والسياسي في آن‪ .‬واليوم‬ ‫بعد أكثر من ‪ 230‬عا ًما تؤكد برلني هذا احلضور الثري والتنوع‬ ‫‪44‬‬

‫الغني عبر كل مشهد‪ ،‬وأكاد أقول عبر كل ناصية‪.‬‬ ‫في طريقنا إلى قلب املدينة يتحول املشهد املعماري الرصني‬ ‫املتناسخ على ضفتي شبريه إلى بنايات شاهقة‪ ،‬يختفي فيها‬ ‫احلجر التقليدي املميز للعمارة البرلينية ليحل الزجاج محله‪ .‬بل‬ ‫إن بعض البنايات التقليدية هنا ألبستها التغييرات املعمارية أزياء‬ ‫زجاجية ألغراض جمالية أو اقتصادية أو أمنية أو طقسية (بحثا‬ ‫عن الشمس)! أتوقف عند ثالثة أبراج تبدو كأشرعة شاهقة تبحر‬ ‫في محيط من املباني اجلديدة عند ما يسمى (املركز اجلديد)‪،‬‬ ‫خالدا‪ :‬مارلينه ‪ -‬ديتريش‪.‬‬ ‫في ساحة حتمل اس ًما س������ينمائيا‬ ‫ً‬ ‫يحكي لي ناجي عباس ‪ -‬وهو كاتب وصحفي بدأت أيامه في‬ ‫برلني مع الوحدة ‪ -‬عن حدث معماري كبير عندما قررت شركة‬ ‫س������وني بناء برجها املميز ‪ -‬الذي ينتصب أمامنا ‪ -‬استكماال‬ ‫حلضورها العمالق‪ .‬ويكتشف املسؤولون األملان أن املكان الذي‬ ‫اشترته سوني مقام فوقه سينما عمرها عدة عقود‪ ،‬مما يجعلها‬ ‫تاريخية ألهل برلني‪ ،‬وأن هدمها ال يجوز‪ .‬وتعرض سوني على‬ ‫اجلهات الرسمية نقل السينما التي يبلغ ارتفاعها عدة طوابق‬ ‫مشيدة على مساحة عدة مئات من األمتار املربعة‪ .‬وكان يو ًما‬ ‫مش������هو ًدا اجتمعت فيه ناقالت عمالقة لتحمل املبنى بعد أن‬ ‫متت إحاطته بش������بكة معدنية هائلة ‪ -‬متاما كما يحدث عند‬ ‫نقل شجرة ‪ -‬وتنتقل السينما إلى مكان ال يفصلها عن مكانها‬ ‫األصلي سوى شارع واحد‪ ،‬مع تعديل واجهتها أيضا!!‬ ‫كنت مثلي لم تشهد ذلك احلدث‪ ،‬إال أنك حني تبلغ أي‬ ‫وإذا َ‬ ‫ركن باملدينة سترى اإلعمار ينهض باجلديد في مبناه وتصميمه‪.‬‬ ‫وس������ترى تلك الروافع البرجية الديناصورية تربض في حفرة‬ ‫عمالقة هنا أو مس������احة خالية هناك‪ .‬مثلما جت������د كثي ًرا من‬ ‫‪45‬‬


‫نهر على َس َفر | برلني ‪ ...‬وردة بيضاء ‪ ...‬عاصمة م َو َّحدة‬ ‫ٌ‬

‫اللوحات اإلرشادية تعلن ميالد مشاريع جديدة‪ ،‬وحتول عدد‬ ‫كبير من املباني التاريخية العتيقة إلى مقرات حكومية‪ ،‬ومنها‬ ‫مبنى الوزارة االحتادية لالقتصاد والعمل‪ ،‬الذي كان في األصل‬ ‫مستشفى خدم خالل احلربني‪ .‬وستالحظ في األبنية اجلديدة‬ ‫كيف استبدلت بالنقوش الرخامية وريثة الفن واجهات خرسانية‬ ‫زجاجية حينا وأخرى معدنية‪ ،‬تعكس في كثير أو قليل وجه العوملة‬ ‫الزاحف على العناصر العتيقة التي خلفها الفن والزمن‪ .‬لكن‬ ‫ما لم يستطع املعماريون إخفاءه تلك اخلضرة التي ال تنام في‬ ‫برلني‪ ،‬أو رمبا تكون أول من يس������تيقظ في مدينة تبدو هادئة‬ ‫حني تعبرها حافالت السياحة العمالقة‪ .‬اتسعت املدينة بشكل‬ ‫هائل ليس فقط لتسع سكانها البالغني أكثر من ثالثة ماليني‬ ‫و‪ 400‬ألف‪ ،‬وإمنا أيضا لتعج بزوارها‪ ،‬الكل يأتي هنا حلضور‬ ‫مهرجانات أو للمش������اركة في مؤمترات أو إقامة شراكة عبر‬ ‫معارضها العديدة‪.‬‬ ‫ينضم إلينا الدكتور نادر فرجاني‪ ،‬احملرر الرئيسي لتقرير‬ ‫التنمية اإلنسانية في العالم العربي‪ ،‬ضيوفا على عبدالعظيم‬ ‫حماد نائب رئيس حترير األهرام‪ ،‬ومدير مكتب اجلريدة في‬ ‫فرانكفورت‪ ،‬جميعنا ضيوف املؤمتر‪ ،‬لكننا في هذه األمسية نلبي‬ ‫دعوة حماد إلى «مطعم جورج»‪ ،‬وهو على صغره من املعالم التي‬ ‫يؤمها العرب في هذه املدينة‪ .‬قال لي جورج صاحب املطعم‪:‬‬ ‫أتيت إلى هنا قبل أربعني عا ًما‪ .‬بدأت رحلتي خارج مصر بالعمل‬ ‫في ميناء الكويت‪ ،‬ثم استدعيت ملصر لتأدية اخلدمة اإللزامية‪،‬‬ ‫وبعدها رست بي سفينة احلياة في برلني‪ ،‬ومنذ ذلك احلني وأنا‬ ‫أسير هذه املدينة اجلميلة‪.‬‬ ‫يضيف جورج وهو يشير إلى مجموعة من الصور على اجلدران‬ ‫‪46‬‬

‫حتكي تاريخ املدينة‪ :‬كل العمالقة مروا من هنا‪ .‬وأنا س������جلت‬ ‫بعدستي زيارة كيندي‪ ،‬لقد أمضى هنا ثماني ساعات في ‪26‬‬ ‫يونيو ‪ ،1963‬وقد أقيم منذ ش������هور معرض يؤرخ لهذه الزيارة‬ ‫التاريخية‪ .‬تعرف هذه املدينة لها تاريخا رسميا وآخر غير رسمي‪.‬‬ ‫لكنهما متقاطعان بشكل عجيب‪ .‬فأنا شاهدت أرنولد شوارزنيغر‬ ‫عندما جاء إلى برلني مجرد العب كمال أجسام درجة ثانية‪ ،‬في‬ ‫‪ ،1966‬بل إن رياضيا عراقيا اسمه اجليار هزمه في مسابقة‬ ‫جمعتهما‪ .‬واليوم أين هما اآلن؟ أحدهما يسعى لرئاسة الواليات‬ ‫املتحدة بعد فوزه حاكما لوالية كاليفورنيا‪ ،‬واآلخر أصبح سائق‬ ‫لوري‪ ،‬مع زوجتني و‪ 19‬طفال! وقد عرفت أن اجليار عاد إلى‬ ‫العراق ليرأس جمعية لكمال األجسام تعطيه ‪ 200‬دوالر سنويا‪،‬‬ ‫في حني أن ثروة أرنولد تتجاوز ‪ 100‬مليون دوالر!‬ ‫عاد بنا جورج ‪ -‬بقائمة وجبات مطعمه ‪ -‬إلى الشرق‪ :‬بط‬ ‫وحمام وسمك وأرز وحمص وخالفه‪ .‬وبرلني تنافس عواصم‬ ‫العالم في كونها جنة راغبي الوجبات العاملية‪ :‬كباب الباش������ا‬ ‫االستانبولي‪ ،‬والسوشي الياباني‪ ،‬والكوتش التايالندي األصلي‬ ‫واالسباغيتي اإليطالية‪ ،‬والطواجن اإلسبانية (احلريفة)‪ ،‬والكبة‬ ‫الشامية‪ ،‬واملياه الفرنسية‪ ،‬واألعشاب اإلفريقية‪ ،‬والتوابل الهندية‪،‬‬ ‫وال تنسوا‪ ..‬الفالفل املصرية! وكل ذلك تشتريه بعملة موحدة‬ ‫هي اليورو‪ ،‬الذي يقوى عوده يو ًما بعد يوم أمام ملك العمالت‬ ‫(سابقا) الدوالر األمريكي‪.‬‬

‫ثالث كلمات من شيللر‬ ‫انتهت جولة الصور ‪ -‬والطعام ‪ -‬مع جورج‪ ،‬لكن رحلة توثيق‬ ‫العاصمة املوحدة لم تنته‪ .‬أستيقظ في ساحة «جاندارمن ماركت»‬ ‫‪47‬‬


‫نهر على َس َفر | برلني ‪ ...‬وردة بيضاء ‪ ...‬عاصمة م َو َّحدة‬ ‫ٌ‬

‫ملدينة برلني وجهان ال يفترقان؛ ثقافي تعبر عنه دار األوبرا‪ ،‬وسياسي يعبر عنه مبنى‬ ‫الرايخستاج‪ ،‬ولهما تاريخ ال ينسى‪.‬‬

‫‪48‬‬

‫‪49‬‬


‫نهر على َس َفر | برلني ‪ ...‬وردة بيضاء ‪ ...‬عاصمة م َو َّحدة‬ ‫ٌ‬

‫القريبة من الفندق‪ .‬تدلني عليها بطاقة بريدية للمكان التقطت‬ ‫صورتها في العام ‪ .1910‬بني صورة بدايات القرن العشرين واليوم‬ ‫تشابه مذهل‪ ،‬كأن شيئا لم يختلف‪ .‬لكن احلقيقة أن هذا املكان‬ ‫قد أعيد ترميمه بالكامل‪ ،‬ألتقط بطاقة بريدية أخرى للساحة‬ ‫وهي حتترق خالل قصف املدينة أثناء احلرب العاملية الثانية‬ ‫وبالتحديد في الرابع والعشرين من مايو ‪ .1944‬كانت املدينة قد‬ ‫منيت ‪ -‬خالل احلرب التي فجرها النازيون ‪ -‬بكارثة التدمير‪،‬‬ ‫فاختفى وسطها مثلما اختفت أحياؤها الصناعية متاما‪ .‬كان‬ ‫عدد سكانها قبل احلرب أكثر من عدد سكانها اليوم بعد أكثر‬ ‫من ‪ 44‬عا ًما (بلغ في ‪ 1939‬أكثر من أربعة ماليني نسمة)‪ .‬في‬ ‫ساحة جاندارمن ماركت تتقاسم كنيسة أملانية وأخرى فرنسية‬ ‫طرفي املكان‪ ،‬بينما يتوسطها مس������رح فيلهارموني يستضيف‬ ‫حفالت املوسيقى الكالسيكية‪ ،‬كما يس������تضيف أمامه عازفا‬ ‫آخر للبيانوال‪ .‬ويقف أسدان من احلجر حارسني لهذا البيت‬ ‫املوس������يقي‪ ،‬بينما يقرأ القصائد أمام ذلك احلشد كله متثال‬ ‫للشاعر األملاني الكبير فريدريك شيللر (‪ ،)1805 - 1759‬أكاد‬ ‫أسمعه ينشد‪:‬‬ ‫أود أن أدونها‬ ‫َّ‬ ‫لدي ثالثة دروس ُّ‬ ‫ُ‬ ‫سأكتبها بقلم يحترق‬ ‫ثالث كلمات‬ ‫ُ‬ ‫ألصل بها إلى الضوء اخلالد‬ ‫ُ‬ ‫ثالث كلمات عن قلوب البشر‪:‬‬ ‫فليكن عندنا أمل‪..‬‬ ‫حتى إذا غيمت السحب حولنا‬ ‫وكاد السرور أن يختفى من وجهنا‬ ‫بعيدا‬ ‫حامال الظالل‬ ‫ً‬ ‫‪50‬‬

‫وإن لم يكن لليالي سوى لون احلداد!‬ ‫فليكن عندنا إميان‪..‬‬ ‫حيثما نحل تنقشع الغمة وتهدأ العاصفة!‬ ‫فليكن عندنا احلب‪..‬‬ ‫يا سكان األرض!‬ ‫ليس حب شخص واحد وحسب‪،‬‬ ‫بل حب اإلنسان‪ ،‬كإنسان‪ ،‬إنه نداء أخوي‬ ‫ليعم حب اإلنسانية اجلميع!‬ ‫في هذه الساحة أمام كلمات ومتثال الشاعر األملاني الكبير‬ ‫تشهد برلني كل عام حفالت موسيقية في الهواء الطلق يحضرها‬ ‫اآلالف‪ ،‬ممن يضيق بهم املكان التاريخي‪ .‬وبرلني حتتفل بشعرائها‬ ‫وشعراء العالم على حد سواء وقد سبقت رحلتي بأيام إقامة‬ ‫مهرجانها السنوي للقراءات الشعرية‪ ،‬حيث استمع ‪ 14‬ألفا ‪ -‬ممن‬ ‫اليزالون يؤمنون بقوة الشعر الروحية ‪ -‬إلى ‪ 250‬شاعرا من كل‬ ‫أنحاء العالم‪ ،‬ومنهم من الواليات املتحدة جوناتان فرانزن‪ ،‬ومن‬ ‫بريطانيا حنيف قريشي‪ ،‬ومن الهند آنيتا ديساي ومن الصومال‬ ‫نور الدين فرح‪.‬‬ ‫برلني جتمع عش������اق الشعر واملسرح والس������ينما واملوسيقى‬ ‫والفن التشكيلي‪ ..‬ألن بها شعبا يعشق احلياة‪ ،‬وحكومة تتمنى‬ ‫أن تصبح قلب العالم عبر عاصمتها املوحدة‪ .‬واألرقام جتعل‬ ‫برلني ثالثة أكثر املدن األوربية شعبية بعد لندن وباريس‪ ،‬حيث‬ ‫يقضي ‪ 68‬مليون شخص س������نويا يوما واحدا على األقل في‬ ‫املدينة‪ ،‬ويقضي بها يوما سبعة ماليني زائر من رجال األعمال‬ ‫يستضيفهم األصدقاء أو األقارب‪ ،‬وبعد سقوط اجلدار اختار‬ ‫مليون شخص االنتقال للسكنى في برلني‪ ،‬بينما رحل عنها مليون‬ ‫‪51‬‬


‫نهر على َس َفر | برلني ‪ ...‬وردة بيضاء ‪ ...‬عاصمة م َو َّحدة‬ ‫ٌ‬

‫آخر للضواحي حولها أو لوالي������ات أملانية أخرى‪ ،‬مما يعني أن‬ ‫ثلث سكان برلني جاءوها للمرة األولى بعد ‪.1990‬‬ ‫برلني التي يبلغ عدد متاحفها ‪ ،170‬وعدد دور السينما بها‬ ‫‪ ،265‬وعدد املسارح ‪ ،150‬وعدد مكتباتها ‪( 250‬على ذكر الكتب‪،‬‬ ‫توجد بأملانيا ‪ 2000‬دار نش������ر منها ‪ 100‬دار تتجاوز مبيعاتها‬ ‫السنوية ‪ 25‬مليون مارك‪ ،‬تنشر ‪ 70‬ألف عنوان جديد سنويا‪،‬‬ ‫وتضم نوادي أصدقاء الكتاب نحو سبعة ماليني قارئ)‪ ،‬فضال‬ ‫عن ‪ 300‬قاعة لعرض الفنون التش������كيلية تع������رض لكل فناني‬ ‫العالم‪ ،‬بدءا من ألف يورو للعمل الواحد‪ ،‬هذه املدينة تش������هد‬ ‫كل يوم ما يصل إلى ‪ 1400‬حدث ثقافي واقتصادي وسياسي‪،‬‬ ‫ويزور متاحفها سنويا ‪ 15‬مليون شخص بينما يحضر حفالتها‬ ‫املسرحية ‪ 3‬ماليني ونصف املليون ش������خص! واليوم‪ ،‬بعد أن‬ ‫أصبحت مقرا للحكم‪ ،‬باتت أيضا قبلة الساسة العامليني!‬ ‫وتسعى برلني أيضا إلى أن حتتفي بدورها االجتماعي العاملي‪،‬‬ ‫إنها تريد أن تثبت ليس فقط كونها رمزا لوحدة أملانيا بل إنها‬ ‫س������احة لتوحيد العالم‪ :‬ففي حديقة في منتصف املسافة بني‬ ‫الرايخستاغ (مبنى البرملان حاليا) وساحة مارلينه ‪ -‬ديتريش‪،‬‬ ‫وقرب بوابة براندنبورغ نرى دببة العالم‪ .‬ليس فقط الدب األملاني‬ ‫بلدا حتت فكرة‪ :‬يجب أن يتعرف‬ ‫أو الروسي‪ ،‬بل دببة من ‪ً 123‬‬ ‫ك ٌل منا على اآلخر‪ ،‬فإن ذل������ك يجعلنا نفهم بعضنا بعضا‪ ،‬وأن‬ ‫يثق ك ٌل منا باآلخر‪ ،‬وأن نحيا م ًعا حتت خيمة السالم‪ .‬املكان‬ ‫منوذج ملشروع فني عاملي قام فيه ‪ 123‬رسا ًما بتلوين دببة حتمل‬ ‫سمات بالدهم‪ ،‬ضمن مشروع بدأ في نوفمبر ‪ 2003‬رحلة طواف‬ ‫عاملية يحج فيها إلى عدة عواصم‪ ،‬قبل أن تعرض الدببة في‬ ‫مزاد ملصلحة اليونيسيف‪.‬‬ ‫‪52‬‬

‫ال حتاول املدينة نسيان املاضي‪ ،‬بل رمبا تعاجله على طريقتها‪،‬‬ ‫أقول ذلك وهي متنح اليهود بها ‪ -‬على قلتهم ‪ -‬مبنى تاريخيا‬ ‫يحمل قيمة فنية كبيرة‪ ،‬وأقصد هنا إلى (نيو سيناغوغه) الذي‬ ‫بني على شاكلة قصر احلمراء في غرناطة‪ ،‬كأن اليهود طردوا من‬ ‫األندلس فأتوا بأجمل رموزها‪ .‬لواجهة «نيو سيناغوغه» األمامية‬ ‫طابقان ومئذنتان وقبة تتوسطهما‪ ،‬غير أن النجوم السداسية‬ ‫حتتل أماكن األهلة! وصمم ذلك النموذج املعماري ‪ -‬الفريد في‬ ‫برلني كلها ‪ -‬وبناه املعماريان إدوارد نوبلوتش وخلفه أوغوست‬ ‫شتولر‪ .‬ومييز اجلدران احلجر ذو اللونني (مثل جدران املسجد‬ ‫األموي) كما يزين النوافذ ألوان األرابيسك‪ .‬ورغم تهدم جزء‬ ‫كبير من املبنى خالل غارات ‪ 1943‬فإن ترميمه بدأ منذ ‪1988‬‬ ‫حتى عاد ليستقبل ‪ -‬بدءا من ‪ - 1995‬معارض اجلالية اليهودية‬ ‫ولقاءاتها ووثائقها أيضا! وعرفت أن ذلك املبنى ينهض له أشقاء‬ ‫كل فترة في باقي املدن األملانية‪ ،‬حت������ى في تلك املدن التي ال‬ ‫يزيد اليهود فيها على ع������دة آالف فقط (في برلني ‪ 10‬آالف‪،‬‬ ‫وفي أملانيا كلها ‪ 70‬ألفا من اليهود‪ ،‬بينما يبلغ عدد املسلمني‬ ‫بلدا)!‬ ‫مليونني و‪ 600‬ألف من ‪ً 41‬‬ ‫هل حتاول برلني جتفيف الدموع؟ رمبا! جال ذلك بخاطري‬ ‫وأنا أعبر قرب محطة القطارات في فريدريك شتراسه بجانب‬ ‫قصر الدموع‪ .‬فخالل فترة التقس������يم‪ ،‬وبني محطتي القطار‬ ‫األولى في الغرب (بانهوف تسو) واألولى في الشرق (بانهوف‬ ‫شاهدا على ما كان يجري عند‬ ‫فريدريك شتراسه) يقف بناء‬ ‫ً‬ ‫نقاط التفتيش بني قسمي قلب املدينة‪ .‬هذا املبنى الذي شهد‬ ‫دموع املفارقني أهلهم الواقفني خلف زجاجه الس������ميك حتول‬ ‫في ‪ 1990‬إلى معلم تاريخي‪ .‬لعلك تنظر إلى واجهته فال ترى‬ ‫‪53‬‬


‫نهر على َس َفر | برلني ‪ ...‬وردة بيضاء ‪ ...‬عاصمة م َو َّحدة‬ ‫ٌ‬

‫سوى ذلك الزجاج الصامت‪ ،‬الذي يقسم الصورة إلى ألف مربع‬ ‫ومربع‪ ،‬صور املعذبني بني األملانيتني‪ ،‬بكاء كان هنا‪ ،‬ونحيب كان‬ ‫هناك‪ .‬إنها احلرب التي لم يع درسها أحد‪ ،‬سوى األملان رمبا‪.‬‬ ‫ومازلت أمتنى أن تقام قصور للدموع والرماد تدشن نهاية تاريخ‬ ‫احلروب على حدود فلسطني وبوابات كشمير وعتبات قبرص‬ ‫وحواجز الكوريتني‪.‬‬

‫شاهدة على التحول‬ ‫على مقربة من الرايخس������تاغ تقف دار املستشارية األملانية‬ ‫حيث سنجتمع أيا ًما مع املشاركني في مؤمتر «عمليات التحول‬ ‫في بلدان الشرقني األوس������ط واألدنى» وهو كما وصفته وزارة‬ ‫اخلارجية األملانية «ندوة حوار متعدد األطراف»‪ ،‬نظمها وخطط‬ ‫لها معهد العالقات اخلارجية في ش������توتغارت‪ .‬لقد اختارت‬ ‫برلني دار املستشارية في رسالة لضيوفها العرب تعبر عن قيمة‬ ‫احلدث النوعي‪ ،‬وأهمية احلوار األملاني ‪ -‬العربي (وال أدري سببا‬ ‫لترويج مصطلح الشرقني األوسط واألدنى بديال عن البلدان‬ ‫العربية)‪ .‬ومثلما كانت برلني أبرز شاهد على التحول داخل األرض‬ ‫األملانية‪ ،‬هاهي تصبح شاه ًدا على ما يتم في الوطن العربي من‬ ‫حتوالت‪ .‬السيدة بربارة كونرت ‪ -‬رئيسة املؤمتر‪ ،‬وترأس أيضا‬ ‫شعبة منتديات احلوار مبعهد العالقات اخلارجية ‪ -‬تتقدمنا‬ ‫لتجعلنا نعبر املرحلة األولى من السياج األمني لدار املستشارية‬ ‫دون تفتيش‪ .‬لكن السياج األمني الداخلي فوق رءوس اجلميع‪:‬‬ ‫زوار املستشارية من السياح‪ ،‬وضيوف املؤمترات التي تعقد كل‬ ‫يوم في قاعات املستشارية‪ ،‬واإلعالميني الذين يفدون كل يوم‬ ‫لتغطية مؤمترات املستشار األملاني الصحفية‪ ،‬مع الساسة من‬ ‫‪54‬‬

‫كثير من الشواهد املعمارية تعبر عن وجه برلني املعاصر‪ ،‬مثل برج سوني‪ ،‬الذي‬ ‫نراه من الداخل‪.‬‬

‫‪55‬‬


‫نهر على َس َفر | برلني ‪ ...‬وردة بيضاء ‪ ...‬عاصمة م َو َّحدة‬ ‫ٌ‬

‫ضيوف العاصمة‪.‬‬ ‫املبنى الهائل الذي يقع في شارع املستشار األملاني ‪ -‬فيلي‬ ‫برانت شتراسه ‪ -‬مصمم بطريقة عصرية ترسي مبادئ الفن‬ ‫املعماري احلديث الذي تتبناه أملانيا اليوم‪ ،‬بعد أن خرجت ‪ -‬أو‬ ‫كادت ‪ -‬من تقاليد عمارة النهضة األوربية التقليدية‪ .‬ش������رفة‬ ‫املبنى تطل على نهر شبريه ومن حديقته تستطيع رؤية مبنى‬ ‫الرايخستاغ‪ .‬الفن يعلن عن نفس������ه في أكثر من مشهد‪ :‬صور‬ ‫املستشارين األملان بلوحات زيتية كبيرة في الردهة األولى (تعجبت‬ ‫من أن صورة كول لم تعلق بعد‪ ...‬ويبدو أن رسمها سيستغرق فترة‬ ‫أطول من املتوقع نظرا حلجم املستشار األملاني السابق!)‪.‬‬ ‫أدنى الدرج املفضي للحديقة يقف متثال المرأة عارية‪ ،‬أهداه‬ ‫نحات صديق للمستشار األملاني شرويدر‪ .‬فطرية التمثال ولونه‬ ‫الداكن ال يعبران عن أملانيا قدر تعبيرها عن مفردة اخلصب‬ ‫األنثوي‪ ،‬لكن التعليقات تتكرر ‪ -‬كما يقول دليلنا ‪ -‬من كل الزوار‪،‬‬ ‫بأنه غير مالئم! وبعد جولة في املكان جتمعنا مع األملان طاولة‬ ‫رسمية مستديرة في قاعة املؤمترات الدولية‪ ،‬رجال سياسة وفكر‬ ‫وإعالم من املغرب وسورية والعراق واألردن ولبنان والبحرين‬ ‫واإلمارات وقطر وسلطنة ُعمان وفلسطني والكويت ومصر‪ .‬وإذا‬ ‫كانت امللتقيات الناجحة هي التي تثير أسئلة أكثر مما تعثر على‬ ‫إجابات‪ ،‬فإن هذا امللتقى كان بني هذه الساحات التي اجتازت‬ ‫عتبات النجاح‪ ،‬خاصة عندما حت������ول امللتقى في أحيان كثيرة‬ ‫إلى مواجهة ساخنة‪ ،‬بني األملان والعرب ‪ -‬على اختالفهم حتى‬ ‫مع أنفسهم ‪ -‬ويكاد يكون بينهم اتفاق على توجيه االتهام حينا‬ ‫واللوم أحيانا ألملانيا على دورها ‪ -‬أو عدم القيام بدورها ‪ -‬في‬ ‫صراع الشرق األوسط األزلي‪ .‬وكانت البداية مع بعض مناذج‬ ‫‪56‬‬

‫الدميقراطية في الوطن العربي‪.‬‬

‫كتاب األسئلة‬ ‫كانت اجللس������ات الس������اخنة تتقاطع حينا مع لقاء مبسؤول‬ ‫أملاني رفيع‪ ،‬أو اخلروج قليال لفضاء قاعات املستشارية الرحب‪.‬‬ ‫وشهدت أيام املؤمتر أكثر من إضاءة ملناخ الدميقراطية واحلرية‬ ‫في أملانيا‪ ،‬فرحلتنا البرية إلى هامبورغ كانت للتعرف على جتربة‬ ‫ديرشبيجل في الدميقراطية واإلعالم عنها‪ ،‬حيث إنها املجلة‬ ‫األولى في أملانيا (يقول مدير حترير قسم الشرق األوسط ديتر‬ ‫بدنارتس إنها توزع أسبوعيا مليونا ومائة ألف نسخة‪ ،‬وميلك‬ ‫احملررون نصف أسهمها هدية من مؤسس������ها) ويتناوب على‬ ‫رئاستها كل أسبوعني رئيسان للتحرير‪ ،‬وتناقش األخبار يوميا‬ ‫في اجتماعني‪ ،‬قبل إجازتها‪ .‬وفي هامبورغ أيضا تعرفنا على‬ ‫جتربة تلفزيون الدولة اإلخباري «إن دي آر» كما عرضها الدكتور‬ ‫برنهارد فابنتس وجوليانا أيزنفور‪ .‬وفي برلني التقينا مع ممثلني‬ ‫للبرملان والوزارة االحتادية لالقتصاد والعمل‪ .‬والتقينا مع وزيرة‬ ‫العدل االحتادية بريغيتا تسيبريس‪ ،‬حيث دار احلديث عن تطور‬ ‫نظام دولة القانون في أملانيا‪ ،‬بني تشريع القوانني وتنفيذها‪.‬‬ ‫كان املترجمون الثالثة‪ ،‬الدكتورة شريفة مجدي والدكتور حسن‬ ‫حمدان وغيرت هملر قد جعلوا من اليسير أن تصبح لغة املؤمتر‬ ‫هي اللغتني األملانية والعربية‪ ،‬رمبا درءا لعوملة اللغة اإلجنليزية!‬ ‫وإذا كان سعي وزارة اخلارجية األملانية لهذه اللقاءات ظاه ُرهُ‬ ‫قراءة األوراق العربية للتحول في الشرق‪ ،‬فإن بَاطنَه ظل البحث‬ ‫عن حلول سياسية واقتصادية مشتركة‪ ،‬خاصة أننا عرفنا في‬ ‫الوزارة االحتادية لالقتصاد والعمل أن األملان منزعجون من أن‬ ‫‪57‬‬


‫نهر على َس َفر | برلني ‪ ...‬وردة بيضاء ‪ ...‬عاصمة م َو َّحدة‬ ‫ٌ‬

‫العالم العربي ال يستورد سوى ‪ 3‬في املائة من حجم صادرات‬ ‫أملانيا للعالم‪ .‬ومن املعروف أن االقتصاد األملاني يعاني صعوبات‬ ‫عدة أهمها البطالة‪ ،‬ففي أملاني������ا ‪ 4‬ماليني عاطل عن العمل‪،‬‬ ‫ونسبة البطالة فيما كان أملانيا الشرقية تصل إلى ‪ 18‬باملائة‪،‬‬ ‫لكنها توازي ‪10‬في املائة في الغربية‪ .‬ويعد نقص املؤهالت أهم‬ ‫املعوقات التي تواجه احلصول على عمل ثابت‪ .‬ولم تعد مسألة‬ ‫رفع األجور واردة اليوم‪ .‬لكن احللول االبتكارية جتد لها مكانا‬ ‫مثل شركات الفرد الواحد‪ ،‬التي وصلت العمالة بها اليوم إلى ‪60‬‬ ‫ألفا‪ .‬كان كل لقاء وجلسة يثيران عشرات األسئلة‪ ،‬كأن اجلميع‬ ‫متفق في البحث عن اإلجابات بدال من تقدميها‪.‬‬

‫إلى الرايخستاغ‬ ‫سي ًرا على األقدام نتجه من مبنى املستشارية إلى مبنى «البرملان‬ ‫االحتادي» البوندستاغ‪ ،‬أو ما ظل يعرف باسم «الرايخستاغ»‪ .‬جنتاز‬ ‫عتبته بعد تفتيش يسير‪ ،‬ويضمنا مصعد يتسع لعشرين شخصا‪.‬‬ ‫سنراقب من عل ‪ -‬وحتت قبة فريدة ‪ -‬مقاعد النواب‪ .‬هناك‬ ‫مدرجات أيضا معدة للجمهور الذي يستطيع حضور اجللسات‬ ‫احلية ملناقشات األعضاء مع ممثلي احلكومة واملستشار‪ .‬وقد‬ ‫أعاد املهندس املعماري البريطاني السير نورمان فوستر ترميم‬ ‫وتشكيل املبنى بعد أن أخرج أحشاء املبنى املخيف ‪ -‬الذي كان‬ ‫يوما مقرا للحكومة في القرن التاس������ع عشر وحلق به الدمار‬ ‫في احلرب العاملية الثانية ‪ -‬قبل أن يحوله إلى منوذج للشفافية‬ ‫من خالل قبة زجاجية عمالقة منحته جائزة (صديق أملانيا)‬ ‫التي تبلغ قيمتها ‪ 25‬ألف يورو (‪ 28‬ألف دوالر)‪ ،‬وأصبح املبنى‬ ‫املصمت منوذجا إلشعاع نور احلرية‪ ،‬ومقصد أبناء برلني وزائريها‪،‬‬ ‫‪58‬‬

‫بعد عملية ترميم استغرقت خمس سنوات‪ .‬هناك سنرى جزءا‬ ‫تذكاريا من اجلدار‪ ،‬ومكانا للعبادة ميكن أن يكون كنيس������ة أو‬ ‫�����جدا‪ ،‬هكذا عبر التصميم عن حرية االعتقاد‪.‬‬ ‫مذبحا أو مس� ً‬ ‫سيدور بنا الس������لم الصاعد إلى أعلى نقطة في برلني‪ .‬هناك‬ ‫سنرى اجلهات األربع للمدينة‪ .‬وردة برلني البيضاء تفخر بانتمائها‬ ‫للعالم‪ ،‬وتسعد بأن تضم حتت قبة رمزها الدميقراطي ‪ -‬الذي‬ ‫يتوس������ط العاصمة املوحدة متا ًما ‪ -‬زوا ًرا من العالم كله‪ .‬قلب‬ ‫املدينة يتحول إلى معرض كبير‪ ،‬معرض حي‪ ،‬مع اهتمام سياسيي‬ ‫أملانيا‪ ،‬وفي مقدمتهم املستشار االحتادي غيرهارد شرويدر بأن‬ ‫تكون هذه البقعة من العاصمة جوهرة ثقافية ضخمة في قلب‬ ‫عالم أوربي واحد‪.‬‬

‫في وداع الوردة البيضاء‬ ‫في برلني‪ ،‬ظل ضيوف املؤمتر يقرأون أوراق الغضب‪ ،‬بينما‬ ‫فريدريك شيلر يقرأ قصائد احلب‪ ،‬لعله يلمس فؤاد العابرين‬ ‫من نهر شبريه إلى أنهار الفرات والعاصي والنيل‪ .‬وحني أودعه‬ ‫ومدينته برلني العاصمة املوحدة‪ ،‬أتذكر كلمات صوفي شول‬ ‫التي أعدمه������ا النازيون في ‪ 22‬فبراي������ر ‪ 1943‬عن ‪ 22‬عا ًما‪،‬‬ ‫وكانت ضمن زعماء حركة (الوردة البيضاء) املناهضة للنازية‪.‬‬ ‫كانت صوفي تقول قبل إعدامه������ا بأيام‪( :‬حرية الكالم‪ ،‬حرية‬ ‫االعتقاد‪ ،‬حماية املواطن الفرد من قه������ر الدول الديكتاتورية‬ ‫الطاغية‪ ،‬تلك هي األسس التي تبني أوربا اجلديدة)‪ ..‬وأقول‬ ‫لك يا صوفي وأنا أودع برلني‪ ،‬وردتك البيضاء‪ ..‬إن تلك القيم‬ ‫هي األسس التي تبني أي وطن جديد‪ ..‬ورمبا اختصرت أيام‬ ‫املؤمترات كلها‪.‬‬ ‫‪59‬‬


‫نهر على سفر‬

‫بيشيليه‬

‫شعوب املتوسط‪ ...‬فنون العالم‬


‫نهر على َس َفر | بيشيليه‪ ...‬شعوب املتوسط‪ ...‬فنون العالم‬ ‫ٌ‬

‫مثل عملة عريقة من معدن أصيل‪ ،‬ترقد مدينة بيشيليه في اجلنوب‬ ‫اإليطالي على ش� � ��اطئ البحر األدرياتيكي (‪ 34‬كيلومت ًرا شمال باري)‪.‬‬ ‫تستمع بوجهني ال يتناقضان‪ ،‬فيهما لغة البحر والبر‪ .‬متد قدميها في‬ ‫املياه التي تصلها بالبحر املتوس� � ��ط‪ ،‬ومتد كفيها بقنينة زيتون وحفنة‬ ‫كروم وكرز‪ ،‬وحلوى ابتكرتها قبل خمسة قرون‪ .‬ولها غير ذلك كله ول ٌع‬ ‫بأن جتمع على وجهيها شعوب املتوسط‪ ،‬شماله وجنوبه‪ ،‬وفنون العالم‬ ‫بكل أبجدياته‪.‬‬ ‫إذا كانت كل الطرق تؤدي إلى روما‪ ،‬فهي تقودك أيضا إلى بيشيليه!‬ ‫الطريق إليها مير بإحدى مدينتني؛ بارليتا أو باري‪ .‬فإلى أي منهما ستصل‬ ‫أوال‪ ،‬قاد ًما من العاصمة اإليطالية‪ ،‬بالقطار أو بالطائرة أو بالسيارة‪،‬‬ ‫(وقد تصلها بح ًرا!) كلما أوغلت في الطريق إليها‪ ،‬أحسست أنك متضي‬ ‫في قراءة صفحات رواية كالسيكية‪ ،‬ال تقفز فيها املفاجآت‪ ،‬لكنها مآلنة‬ ‫باحلركات املوسيقية كسيمفونية تنتظر من يعزفها‪.‬‬

‫مدينة وثائران‬ ‫بيوت املدينة‪ ،‬حتى اجلديد منها‪ ،‬اليزال يحتفظ بطابعه احمللي‪ .‬فلم‬ ‫تستطع البنايات الش� � ��اهقة‪ ،‬أو املجمعات التجارية الصاخبة‪ ،‬أن تغزو‬ ‫األحياء اجلديدة‪ .‬أما األحياء القدمية فتحتفظ ببيوتها سواء حتولت‬ ‫إلى مؤسسات حكومية‪ ،‬أو متاجر حديثة‪ ،‬أو بقيت لساكنيها‪ .‬األرضيات‬ ‫ذات األحجار البازلتية التي تصل بني هذه البيوت تشكل خرائط للقدم‬ ‫العاشقة للقدمي‪ .‬حتى في األسماء الوطنية التي يحفل بها التاريخ مثل‬ ‫بطلهم غاريبالدي الذي وحد إيطاليا بعد سقوط نابليون‪ ،‬قبل أن ينفى‬ ‫إلى أمريكا الالتينية‪ ،‬تراه يعود على واجهة املسرح الرئيسي‪ ،‬والفتات‬ ‫املخابز‪ ،‬وأسماء املقاهي‪ .‬ومثل كل احلروب الوطنية‪ ،‬هناك من يرى في‬ ‫حركة غاريبالدي حرب عصابات‪ ،‬ولكن التاريخ يقول إنه صاحب فكرة‬ ‫‪62‬‬

‫قاعة املكتبة في منزل أرستقراطي‪ ،‬وشرفة في بيت بسيط‪ ،‬صورتان متكاملتان في حياة‬ ‫مدينة بيشيلية‪.‬‬

‫‪63‬‬


‫نهر على َس َفر | بيشيليه‪ ...‬شعوب املتوسط‪ ...‬فنون العالم‬ ‫ٌ‬

‫الوحدة اإليطالية‪ ،‬وينتصر التاريخ في النهاية ألبطاله‪.‬‬ ‫وإذا كان البعض يختلف على تعريف غاريبالدي‪ ،‬فأوربا كلها تدين‬ ‫لبيشيليه التي أجنبت املوسيقار ماورو جولياني سنة ‪ ،1783‬وهو أحد‬ ‫أشهر املؤلفني املوسيقيني العامليني والعازفني على آلة اجليتار‪ ،‬وقد صادق‬ ‫بيتهوفن في فيينا‪ ،‬عاصمة املوسيقى األوربية‪ ،‬قبل أن يعود ليستق ّر في‬ ‫روما فيتعرف على املوسيقي العاملي روس� � ��يني‪ ،‬ولتتحول مدرسته في‬ ‫العزف على اجليتار والتأليف له إلى ثورة موس� � ��يقية‪ ،‬حتى أن دورية‬ ‫للموسيقى صدرت باسمه في بريطانيا هي اجلوليانيات‪ .‬وبعد أن طور‬ ‫اإليطالي جيوفاني باتيستا اجليتار مضيفاً إليه الوتر السادس‪ ،‬أصبح‬ ‫جولياني أول العازفني على هذا الغيتار املط ّور ورائده في أوربا‪ .‬لذلك‬ ‫حتتفل املدينة بابنها املوسيقي الثائر‪ ،‬وتقيم له مهرجا ًنا جيتار ًيا يحييه‬ ‫عاشقو هذه اآللة املوسيقية الثورية في العالم‪.‬‬ ‫التسكع في احلارات واألسواق البيشيلية يقودك إلى مشاهد متوسطية‬ ‫مألوفة‪ :‬أصدقاء مسنني يتجادلون بصوت عال‪ ،‬نساء يراقنب الطريق من‬ ‫الشرفات‪ ،‬وأخريات يفترشن األرض أمام البيوت في الشوارع الضيقة‬ ‫وامللتفة تعلوها أقواس كأذرع متعانقة‪ ،‬اخلضار والفاكهة واألس� � ��ماك‬ ‫والنداءات التقليدية‪ ،‬واالبتسامات الدافئة والضحكات الساخنة مثل‬ ‫فطائر خبز خرجت من نار الفرن‪.‬‬

‫تاريخ وجغرافيا‬ ‫فيم ستتحدث مع س� � ��ائق إيطالي متحمس؟ إنها كرة القدم وجنوم‬ ‫الدوري اإليطالي‪ ،‬وعش� � ��اقهم حول العالم‪ ،‬والراغبات في الزواج بهم‪،‬‬ ‫وخيبة املنتخب اآلزوري في كأس األمم األوربية‪ ،‬وحني تتيقن أنه استاء‪،‬‬ ‫تقول له‪ :‬ولكننا اخترنا في مصر مدر ًبا إيطال ًيا للمنتخب الوطني‪ ،‬وكأننا‬ ‫نطمع في حظ إيطاليا العاثر لوال أهداف أليساندرو ديل بييرو‪ ،‬وليس‬ ‫‪64‬‬

‫قبور تاريخية بني معظمها في أوربا بني األلفيتني اخلامسة والرابعة قبل امليالد‪ ،‬متيزت‬ ‫بلقى أثرية متثل أدوات احلياة التي يحتاج إليها الراحل عندما يبعث إلى احلياة‪.‬‬

‫لدينا في مصر مثله! تضحك دليلتنا جوليا وأن� � ��ا أقول لها إن املدرب‬ ‫يقضي معظم وقته في إيطاليا مع أسرته‪ ،‬وإنه يدرب منتخبنا بالبريد‬ ‫اإللكتروني!‬ ‫تتوقف السيارة قرب (دوملن التشيانكا)‪ ،‬وأمام لوحة سوداء ال حتمل‬ ‫سوى سبعة سطور باللون األبيض تتولى جوليا شرح ما نرى‪ ،‬وهو ليس‬ ‫سوى أخدود في األرض طوله بضعة أمتار‪ ،‬ينتصب على آخر طرف له‬ ‫قائمان وعارضة من احلجر العريض غير املستوي‪ .‬لكن ما نراه أمامنا‪،‬‬ ‫ويشرف على مساحات شاسعة من اللون األخضر‪ ،‬ليس سوى قبور أبناء‬ ‫الطبقات االجتماعية العليا في املنطقة والتي متيزت بلُقى أثرية متثل‬ ‫أدوات احلياة التي يحتاج إليها الراحل عندما يبعث إلى احلياة‪.‬‬ ‫ورغم ندرة هذا النوع من القبور في أوربا‪ ،‬التي بني معظمها في ما‬ ‫‪65‬‬


‫نهر على َس َفر | بيشيليه‪ ...‬شعوب املتوسط‪ ...‬فنون العالم‬ ‫ٌ‬

‫بهجة احلياة لزوجني يحتفالن مبرور ‪ 25‬سنة على عرسهما‪ ،‬وفي انتظارهما أطفال يحملون‬ ‫البالونات‪ ،‬وفتيات يلوحن بالزهور‪ ،‬وأقارب ميطرونهما بحبات احلنطة واألرز‪.‬‬

‫‪66‬‬

‫‪67‬‬


‫نهر على َس َفر | بيشيليه‪ ...‬شعوب املتوسط‪ ...‬فنون العالم‬ ‫ٌ‬

‫بني األلفيتني اخلامس� � ��ة والرابعة قبل امليالد‪ ،‬وهي التي تعود ألواخر‬ ‫العصر النيوليتيكي وأواسط العصر البرونزي‪ ،‬فإن بيشيليه وحدها بها‬ ‫أربعة منها‪ ،‬وتتوزع بقيتها في بريطانيا وأيرلندا وفرنسا وإسبانيا وشبه‬ ‫اجلزيرة اإلس� � ��كندنافية‪ ،‬فضال عن املوجود منها في الشرق األوسط‬ ‫والقوقاز‪ .‬وهي املناطق التي شهدت فجر احلضارة اإلنسانية في العالم‪،‬‬ ‫مما يشير ألهمية وعراقة املدينة‪ .‬وقد مت تسجيل خمسة آالف دوملن‬ ‫في العالم حتى اآلن‪ ،‬وكان يعتقد أن حجارتها هبطت من السماء؛ ويبقى‬ ‫أن نقول إن ‪ DOLMEN‬تعني باإلجنليزية (منضدة احلجر)‪ ،‬ولم ال‬ ‫فرمبا كان العشاء األخير للراحل يتم حتضيره فوقها!‬ ‫بعي ًدا عن املوت‪ ،‬تبهجنا احلياة‪ .‬ففي الطريق يشدنا مشهد صاخب‪.‬‬ ‫كان املجتمعون أمام مبنى عتيق لكنيسة حجرية يرتدون حلل العيد‪ ،‬قلنا‬ ‫البد أنها حفلة زفاف صباحية! وكان للسائق رأي آخر‪ :‬ال نحتفل هنا‬ ‫بالزفاف صباح أيام اآلحاد‪ .‬اس� � ��تغرقنا الطريق‪ ،‬لكننا حني عدنا كان‬ ‫احملتفلون اليزالون متحلقني في املكان‪ ،‬طفالت جميالت بزي عروس‪،‬‬ ‫يتبادلن التهنئة ويتناوبن الرقص‪ ،‬رجل يصافحه الكثيرون ظننته والد‬ ‫العروس‪ .‬كان الفضول قد استبد بنا‪ ،‬فسألنا جوليا أن تستطلع اخلبر؛‬ ‫وكانت اإلجابة املدهشة‪ ،‬والتي أكدت ظن صديقنا السائق‪ :‬ليس حفال‬ ‫للزفاف‪ ،‬إنهما زوجان يحتفالن مبرور ‪ 25‬سنة على عرسهما‪ .‬أقترب‬ ‫من باب الكنيس� � ��ة في انتظار خروجهما‪ ،‬األطفال يحملون البالونات‪،‬‬ ‫والفتيات يحملن الزهور‪ ،‬يخرج الزوجان في بزة س� � ��وداء ورداء ليلي‪،‬‬ ‫ووجهني ميألهما السرور‪ ،‬وأقاربهما ميطرونهما بحبات احلنطة واألرز‪،‬‬ ‫وحلظات من التهليل واملرح‪ ،‬وصور تسجل حلظات لن تتكرر‪.‬‬

‫بساط أشجار الزيتون‬ ‫ال يفاجئنا اللون األخضر بني منطقة وأخرى‪ ،‬إمنا تدهشنا تنويعاته‪،‬‬ ‫‪68‬‬

‫وال نعجب من البساط األرضي الذي تطرزه أشجار الزيتون‪ ،‬التي تزين‬ ‫علم املدينة وشعارها‪ ،‬متتد األيدي لتينات برية يكاد سكرها ينسيك شمس‬ ‫أغسطس‪ ،‬هنا فردوس حقيقي من الزيتون (الذي يزرع في نحو ‪ 46‬في‬ ‫املائة من األرض)‪ ،‬والكروم والكرز والتني والصبار‪ ،‬وأزهار تدعوك لكي‬ ‫تنقطع عن العالم حتى تتفرغ لتوثيقها ببتالتها التي جلبتها من باليتة بها‬ ‫مليون لون‪ .‬ويرعى هذه الثروة اخلضراء مائتا مزارع‪ ،‬و‪ 3500‬صاحب‬ ‫أرض زراعية‪ ،‬وألفا عامل بالفالحة‪ ،‬على مساحة ‪ 16‬ألف هكتار‪ .‬نقطع‬ ‫بقية الطريق هابطني مشيا على األقدام حيث مكان تاريخي آخر‪ ،‬مغارة‬ ‫كشفت املصادفة عنها‪ ،‬ويعتز بها أهل بيشيليه‪ ،‬ويعدونها من املزارات‬ ‫املهمة‪ ،‬رغم أنها التزال حتت الترميم والتوسعة‪ .‬كان البرد يتوغل في‬ ‫اجلس� � ��د كلما توغلنا في ممرها الصاعد إلى البهو األكثر اتساعا بها‪،‬‬ ‫نس� � ��ند ٍ‬ ‫بيد اخلوذة الصفراء فوق الرءوس‪ ،‬ونستند باليد األخرى على‬ ‫جدار الدرج اخلشبي‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ترتفع مغارة سانتا كروز ‪ 120‬مترا فوق سطح البحر‪ ،‬يقود طرفها‬ ‫الغامض نحو البحر األدرياتيكي‪ .‬وقد سكنها البشر حتى العصر البرونزي‪،‬‬ ‫كما حتكي املخلفات واللقى األثرية‪ ،‬حتى أن أدوات عثر عليها بها يعود‬ ‫تاريخها إلى ‪ 11‬ألف سنة خلت‪ ،‬وبدأ في إلقاء الضوء على أهمية اكتشافها‬ ‫سنة ‪ 1937‬األثري ف‪ .‬س‪ .‬ماجيارو‪ ،‬حتى عثر عام ‪ 1940‬على ثالثة‬ ‫رسوم يصور أحدها مؤخرة حليوان‪ .‬وفي ‪ 1955‬اكتشفت عظمة ردف‬ ‫تعود إلنسان نياندرثال‪.‬‬ ‫وهكذا يعود ثراء تاريخ املدينة إلى موقعه� � ��ا‪ ،‬وخصوبة جغرافيتها‪،‬‬ ‫وميكننا أن نعد أسوارها ‪ -‬في هذا السياق ‪ -‬جزءا من بنية التحصني‬ ‫التي اعتمدتها املدن التاريخية القدمية‪ ،‬وإذا كانت أقدم الوثائق املدونة‬ ‫لتاريخ املدينة يعود للنصف الثاني من القرن احلادي عش� � ��ر امليالدي‪،‬‬ ‫فإن السور قد شيد في نهاية القرن اخلامس عشر امليالدي‪ .‬أما البرج‬ ‫‪69‬‬


‫نهر على َس َفر | بيشيليه‪ ...‬شعوب املتوسط‪ ...‬فنون العالم‬ ‫ٌ‬

‫الكبير الذي يط ّل على املدينة األثرية فقد بناه امللك األملاني فريدريك‬ ‫الثالث الذي حكم إيطاليا بني ‪ 1155‬و‪1190‬م‪.‬‬ ‫في الطريق ألعلى البرج (بارتفاع ‪ 27‬مت � � � ًرا) مررنا بأكثر من ركن‬ ‫يحتفظ بتاريخ بيشيليه‪ :‬آالت صناعة الباستا على مر العصور‪ ،‬عجالت‬ ‫عربات اخليول‪ ،‬أدوات اإلسكافي‪ ،‬ملصقات ومحفورات وصور ورسوم‪،‬‬ ‫وج ّدة تغزل احلكايات مع الصوف‪ ،‬ومنضدة وآلة حياكة‪.‬‬ ‫وغرف معيشة‪َ ،‬‬ ‫ومن أعلى البرج تستطيع أن تشاهد كاتدرائية سان بيتر‪ ،‬وهي واحدة‬ ‫من أقدم الكاتدرائيات الرومانية في اجلنوب اإليطالي‪ ،‬التي حتتفظ‬ ‫برائحة التاريخ فوق أحجارها‪.‬‬

‫باستا وسوسبيرو وأشياء أخرى‬ ‫نتوقف في طريق العودة عند املرفأ‪ ،‬الذي س� � ��أحرص على زيارات‬ ‫صباحية مبكرة له‪ .‬في الصيف ال تفتح احملالت قبل فترة العصر‪ ،‬إال‬ ‫صباحا‪ ،‬حتى أنك حتس بالهدوء نفسه في‬ ‫يوم سوق الثالثاء‪ ،‬حيث تبدأ‬ ‫ً‬ ‫امليناء الصغير إال من بعض الصيادين واملتنزهني في يخوتهم‪ .‬ال يعمل‬ ‫في الصيد سوى ‪ 450‬شخصا‪ ،‬لكنهم يكفون حاجة املدينة التي وهبتها‬ ‫الطبيعة ميناءها ومرفأها‪ ،‬فلم تدخل عليه أي تعديالت‪ .‬يقترب موعد‬ ‫الغداء‪ ،‬ونقترب من الفندق‪ ،‬نعبر طريق القوارب اخلشبية‪ ،‬والبيوت ذات‬ ‫الطابقني‪ ،‬واملطاعم الصغيرة‪ ،‬وباعة اخلضار‪ ،‬واملتنزهني فوق دراجاتهم‪،‬‬ ‫والالفتات التي تذكرك باحتفال املدينة بالصيف‪.‬‬ ‫تبدأ املائدة اإليطالية في بيش� � ��يليه بالس� � ��لطة اخلضراء‪ ،‬والباستا‬ ‫التي تلونها فرشاة الذهب األحمر (الطماطم)‪ .‬أتذكر عند رؤية اللون‬ ‫األحمر ابتسامة مدير الثقافة حني صحبنا إلى سيدة الذهب األحمر‪،‬‬ ‫كنت أريد التعرف على بعض الصناعات الشعبية‪ ،‬وحني وصلنا‪ ،‬ارتدت‬ ‫السيدة العجوز ثوب االنشغال (كانت تشبه املمثل استفان روستي في‬ ‫‪70‬‬

‫تأففه وأنفته)‪ ،‬وأعطتنا موعداً آخر للقاء‪ .‬عدنا من عندها مكتفني بلقاء‬ ‫الطماطم ذاتها على وجبة الغداء‪ ،‬التي ستبدأ بالباستا وتستمر معها‪،‬‬ ‫باستا من كل شكل ونوع‪ .‬وأسماك ودجاج وأرانب برية‪.‬‬ ‫ستش� � ��عر أنك ‪ -‬وهي حقيقة ‪ -‬في قلب ريف أصيل‪ ،‬ال ينشغل إال‬ ‫باملائدة‪ ،‬حتى تنتهي بالفاكهة أو حلوى السوسبيرو‪ .‬وإذا كان لبيشيليه‬ ‫زيتونها‪ ،‬وذهبها‪ ،‬فلها حلواها‪ ،‬التي كان اسمها سوسبيرتي الراهبات‪.‬‬ ‫وهي شطيرة صغيرة من العجني احملشو باملربى أو الكرمية املخفوقة‪،‬‬ ‫واملزينة بنوع من اجليل املسكر‪ .‬وتصنع منذ ما يقرب من خمسة قرون‪.‬‬ ‫أما اخلبز البيشلي التقليدي فيسمى بالفوكاتشا‪ ،‬ويشبه فطيرة البيتزا‬ ‫املزينة بقطع الذهب األحمر‪ ،‬واحملشوة أحيانا بالزبد أو جنب املوتزاريال‪.‬‬ ‫والفوكاتشا املستديرة كبيرة املساحة رمز لوحدة العائلة في جنوب إيطاليا‪،‬‬ ‫حني جتتمع حولها وتتقاسمها‪.‬‬ ‫حني زرت بعض البيوت في بيش� � ��يليه لم تدهش� � ��ني الروح الدافئة‬ ‫لالستقبال‪ ،‬سواء في بيت إحدى النبيالت‪ ،‬التي صحبتنا لغرف البيت‬ ‫القصر‪ ،‬ووقفت مبحبة كبيرة أمام علب الفضة التذكارية الصغيرة تتذكر‬ ‫أيام سعادتها‪ ،‬فهذه العلب أهداءات من أفراد العائلة الكبيرة منذ زفافها‪،‬‬ ‫ومع ميالد أطفالها‪ ،‬وذكرى ال� � ��زواج وهكذا‪ .‬أتوقف أمام لوحات زيتية‬ ‫ضخمة‪ ،‬بعضها لرجال دين‪ .‬تقول دليلتنا‪ :‬ف� � ��ي العائالت الكبيرة كان‬ ‫ال بد أن يوجد من بينها رجل ينتمي للكنيسة‪ ،‬في إحدى مراتبها العليا‪.‬‬ ‫جنلس قليال في غرفة املطالعة‪ ،‬الت� � ��ي تفضي لغرفة املكتبة‪ .‬لم تكتف‬ ‫السيدة النبيلة باإلرث األرستقراطي‪ ،‬لكنها تعمل أستاذة جامعية‪ ،‬ولم‬ ‫تخف جدران املنزل العالية بساطتها‪ ،‬وابتسامتها‪.‬‬ ‫غير بعيد من ذلك املنزل زرنا بيت س� � ��يدتني في بيشيليه القدمية‪.‬‬ ‫ورغم تواضع الش� � ��قتني‪ ،‬إال أن نظافتهما تدالن على صاحبتيهما‪ .‬في‬ ‫الدور العلوي تعيش قطتان ثقلت حركاتهما‪ ،‬كحركة سيدة البيت‪ ،‬التي‬ ‫‪71‬‬


‫نهر على َس َفر | بيشيليه‪ ...‬شعوب املتوسط‪ ...‬فنون العالم‬ ‫ٌ‬

‫رحبت بنا‪ ،‬ودعتنا إلى طبق الفاكهة على مائدة الغداء‪ .‬حني نزولنا دعتنا‬ ‫جارتها في الطابق السفلي للدخول‪ .‬قالت‪ :‬وحدي هنا أسكن بعد رحيل‬ ‫زوجي‪ ،‬وفي سن السابعة والستني ليس لي إال أن أشكر ربي على نعمة‬ ‫احلياة‪ .‬تش� � ��ير لصورة لزفاف ابنتها على اجلدار‪ ،‬هؤالء هم األمل‪ .‬ال‬ ‫يؤنسها غير الصور ومتثال للسيدة العذراء‪ ،‬وذكريات ترقص في املرآة‬ ‫الكبيرة إلى ميينها فوق صورة رفيق دربها الراحل‪.‬‬

‫مهرجان شعوب املتوسط‬ ‫ما إن قلد أحد أعضاء الفرقة األردنية‪ ،‬الكوفية العربية لعمدة املدينة‬ ‫فرانشيسكو نابوليتانو‪ ،‬رئيس البلدية‪ ،‬ورئيس املهرجان‪ ،‬حتى غمر املسرح‬ ‫املكشوف املطل على البحر األدرياتيكي‪ ،‬تصفيق حار وتهليل أكبر‪ ،‬كانت‬ ‫حتيتنا كضيوف للرجل الذي خص الع� � ��رب في هذا املهرجان باحتفاء‬ ‫خاص‪ ،‬ومنع إسرائيل من املشاركة في فعالياته‪ ،‬رغم متنع بعض العرب‬ ‫في القدوم‪ ،‬أو اعتذار بعض الفرق العربية‪ ،‬في اللحظة األخيرة‪ ،‬عن‬ ‫عدم املشاركة‪ .‬أما حتية بقية اجلمهور‪ ،‬فكانت لعمدة املدينة الشاب‪،‬‬ ‫فرانكو كما ينادونه مجردا‪ ،‬الذي يشارك أهل بلدته (‪ 53‬ألفا) أفراحهم‬ ‫صباحا يدير شؤونها‬ ‫ليال حتى الس� � ��اعات األولى من الصباح‪ ،‬ثم تراه‬ ‫ً‬ ‫مبكتبه في مبنى البلدية‪.‬‬ ‫تضمنت أمسيات املهرجان وأيامه عروضا مسرحية وغنائية وتشكيلية‬ ‫وشعرية‪ .‬ولم تقف اختيارات املهرجان الذي أدارته فنيا فلوريانا سافينو‬ ‫عند حدود حوض البحر املتوسط‪ ،‬بل تخطتها إلى دول وثقافات أخرى‪ ،‬من‬ ‫دولة الكويت واململكة األردنية الهاشمية‪ ،‬حتى البرازيل وكوبا والسنغال!!‬ ‫وفي سنوات سابقة كانت هناك مشاركات عربية من السودان مثال‪ ،‬وكأنها‬ ‫رسالة سالم من املدينة ليبحث اجلميع في ثقافاتهم عن روح التواصل‬ ‫بدال من البحث عن جذور الشقاق‪.‬‬ ‫‪72‬‬

‫مشهد من العمل املونودرامي للممثل الكويتي عبدالعزيز احلداد (فرقة مسرح اخلليج‬ ‫العربي) باسم مناظرة بني الليل والنهار‪.‬‬

‫الفرقة األردنية أهدت الكوفية العربية إلى عمدة املدينة فرانشيس���كو نابوليتانو‪ ،‬رئيس‬ ‫البلدية‪ ،‬ورئيس املهرجان‪ ،‬على املسرح املكشوف املطل على البحر األدرياتيكي‪.‬‬

‫‪73‬‬


‫نهر على َس َفر | بيشيليه‪ ...‬شعوب املتوسط‪ ...‬فنون العالم‬ ‫ٌ‬

‫ولعل أبرز الفرق املشاركة التي عبرت عن ذلك املعنى تلك التي ضم‬ ‫حبات مسبحتها املوسيقار اإليطالي ماريو ترونكو من فنانني يعزفون‬ ‫وينشدون ثقافاتهم املختلفة ضمن نسيج واحد‪ .‬صوت حسني عطا (تونس)‪،‬‬ ‫وغناء وفلوت كارلوس باز (اإلكوادور)‪ ،‬وإيقاعات آميت باب (السنغال)‪،‬‬ ‫وترومبيت عمر لوبيز (كوبا)‪ ،‬وطبلة راهيس بارتي (الهند)‪ ،‬ومقامات‬ ‫محمد بالل وآلته املوسيقية (الهند)‪ ،‬وبوق ماريان سيربان (رومانيا)‪،‬‬ ‫وعود وغناء سيماك خليلي (إيران)‪ ،‬ووتريات راؤول سيبا (األرجنتني)‪،‬‬ ‫وقيثارة صغير خان (الهند)‪ ،‬وناي محمد عبدالله (مصر)‪ ،‬وكونترباص‬ ‫جيوسيبي بيكوريللي (إيطاليا)‪ ،‬وكمان بيرناردو بيناتزي (إيطاليا) وكمنجة‬ ‫جيوكومو إنفرنيزي (إيطاليا)‪ ،‬وجيتار ميتاكسو (إيطاليا) وغناء كريستينا‬ ‫كابرارولو (األرجنتني) وعود محمد زياد الطرابلسي (املغرب)‪ ،‬ووتريات‬ ‫سيلفيا ماينجر (أملانيا)‪ ،‬وكمنجة جون مايدا (الواليات املتحدة)‪ .‬وهكذا‬ ‫استطاع املوسيقار اإليطالي أن يوحد بلغة عاملية أقطابا متنافرة‪.‬‬ ‫وعلى املسرح املفتوح‪ ،‬مسرح املتوس� � ��ط‪ ،‬وفي ساحة املدينة ميدان‬ ‫إمانويل الظافر‪ ،‬رقصت الفرقة األردنية (الهيل) مقدمة التراث األردني‬ ‫من موسيقى وأغان‪ ،‬في حضور وزيرة الثقافة األردنية أسماء خضر‪،‬‬ ‫التي رمبا كان حضورها سب ًبا في جعل املشاركة العربية تكتسي طابعا‬ ‫أردنيا مع كثرة املشاركني من اململكة‪.‬‬ ‫املهم أن اجلمهور جتاوب مع العروض املوزعة بني مسرح غاريبالدي‪،‬‬ ‫ومسرح املتوسط‪ ،‬وساحة إمانويل‪ ،‬لكن عشرات اآلالف كانوا ينتظرون‬ ‫ليلة املطربة اإليطالية أنطونيال روجيرو‪ ،‬حتى أن الطريق إلى مسرح‬ ‫املتوس� � ��ط كادت تكون مغلقة قبل العرض بساعات‪ ،‬وأشعلت أنطونيال‬ ‫حماس جمهورها‪ ،‬حتى عال نبضهم حني بدأت تغن� � ��ي أغنية‪ ،‬بعنوان‬ ‫بيسكاتوري ‪:Il Pescatore‬‬ ‫نائما‪/‬‬ ‫في ظالل اللون األخير من الشمس الغاربة‪ /‬كان صياد السمك ً‬ ‫‪74‬‬

‫ولم يكن يستيقظ فوق مالمح وجهه‪ /‬غير طيف ابتسامة‪...‬‬ ‫لم تكن معاني الكلمات وموسيقاها وحدها هي التي حركت اآلالف‪،‬‬ ‫كما تبني لي بعد ذلك‪ ،‬وإمنا كان الوفاء من مطربتهم‪ ،‬التي غنت أغنية‬ ‫ليست لها‪ ،‬حتية لروح مؤلفها الشاعر الراحل ف‪ .‬دي أندريه‪ .‬وكان هذا‬ ‫االستقبال للمطربة واألغاني‪ ،‬وراء حماسة املسرحي الكويتي فؤاد الشطي‬ ‫الذي اندفع يحييها‪ ،‬ويقول لها إنها أم كلثوم إيطاليا! ويعرف اجلمهور‬ ‫اإليطالي أم كلثوم‪ ،‬ويضع املنظمون صورتها على برنامج مهرجانهم‪ ،‬ولكن‬ ‫كان ينقص أن يأتي من يقول لهم إن لديهم أم كلثوم أخرى‪.‬‬

‫تشكيليون وشعراء‬ ‫املعرض التش� � ��كيلي الذي عرض بني دار البلدية ودار سانتا كروز‪،‬‬ ‫شارك فيه فنانون من األردن‪ :‬هيلدا احلياري‪ ،‬وسعيد حدادين‪ ،‬ودانا‬ ‫خريس‪ ،‬والعراق‪ :‬محمد الشمري وهاشم حنون‪ ،‬وسورية‪ :‬خالد اخلاني‪،‬‬ ‫ومصر‪ :‬جمال عبدالناصر‪ ،‬وعثمان صالح الدين عثمان‪ ،‬وتركيا‪ :‬ريحان‬ ‫عباس أوغلي‪ ،‬وإيطاليا‪ :‬جوليو بيستروتش� � ��ي وليوناردو كوسامي‪ .‬من‬ ‫بني املش� � ��اركات التش� � ��كيلية التي اقتربت منها كان العمل الذي قدمه‬ ‫الفنان جمال عبدالناصر‪ ،‬وميثل مجموعة سمكات ترتدي حلال شعبية‬ ‫متوسطية بألوانها الزاهية‪ ،‬وفيه سلك الروح الفطرية التي ميزت كائناته‬ ‫في املعارض التي شاهدتها له من قبل‪ .‬التركيبة املتعانقة للسمكات تكاد‬ ‫جتعلها مثل فرقة للباليه (الشعبي) لكن عرض السمكات على اجلدار‬ ‫أخذ من روح االنط� �ل��اق‪ ،‬وأضاف العتمة البيض� � ��اء للخلفية‪ ،‬وكان من‬ ‫األفضل أن تسبح في فضاء ثالثي األبعاد‪ .‬بينما انتقلت الفنانة هيلدا‬ ‫احلياري في األعمال املعروضة لها إلى روح الكتاب التشكيلي‪ ،‬ففي حني‬ ‫قدمت مناذج لصفحات كتاب بألوان ساخنة‪ ،‬وتلقائية توزيع الكائنات‬ ‫على زواياه‪ ،‬رأيتها التزال ترسم متواليات من األشكال الهندسية احلرة‬ ‫‪75‬‬


‫نهر على َس َفر | بيشيليه‪ ...‬شعوب املتوسط‪ ...‬فنون العالم‬ ‫ٌ‬

‫فكأنها تختزل الكون في مربع اللوحة‪.‬‬ ‫أما الفنان خالد اخلاني فأعاد الروح إلى املوسيقى الشعبية من خالل‬ ‫لوحته ذات املستويات الثالثة‪ ،‬التي يتوزع عليها ثالثة مناظر لعازفني‬ ‫ومنش� � ��دين‪ ،‬بينما يذكرنا بالليالي الشعبية في حلقة موسيقية صوفية‬ ‫حلبية‪ .‬وقدم الفنان اإليطالي ليوناردو كوسامي عمال مختلفا عن بقية‬ ‫املشاركات‪ ،‬حيث بسط على األرض تكوينا من احلصى والورق امللون‬ ‫لقلوب متدرجة تعبر في ألوانها عن طرفي النقيض بني منتهى احلب‬ ‫وأقصى الكراهية‪.‬‬ ‫كما شارك ليوناردو كوسامي أيضا كشاعر في األمسية التي ضمته مع‬ ‫ضيوف ندوة الشعر من إيطاليا‪ ،‬والبرازيل‪ ،‬وفلسطني (عدنان كنفاني)‪،‬‬ ‫واألردن (زياد العناني)‪ ،‬ولبنان (ش� � ��ربل داغر)‪ ،‬وكاتب هذه السطور من‬ ‫مصر‪ .‬وقد قرأنا قصائدنا متبوعة بترجماتها إلى اإليطالية‪ ،‬ومسبوقة‬ ‫بعروض موس� � ��يقية راقصة إلحدى فرق الباليه الشابة‪ ،‬داخل باحة دير‬ ‫يعود بناؤه ألكثر من ‪ 300‬س� � ��نة‪ ،‬وتس� � ��جل لوحة حجرية تاريخية زيارة‬ ‫أول أبناء املل� � ��ك فرديناند ملك البوربون وزوجته م� � ��اري كارولني (يونيو‬ ‫‪1797‬م)‪ .‬وبعدها يكرم عمدة املدينة الش� � ��عراء مبنحهم دروعا تذكارية‬ ‫وأعالم بيشيليه‪ .‬وفي أمسية شعرية موسيقية أخرى مبسرح غاريبالدي‬ ‫يقرأ ممثل إيطالي نصا هجائ ًيا لرئيس وزراء إيطاليا برلسكوني‪ ،‬بدعم‬ ‫من تصفيق اجلمهور يصعد الشاعر إدواردو ساجننيتي‪ ،‬وهو من أعالم‬ ‫األدب اإليطالي الكالسيكي املعاصر‪ ،‬ليرجتل‪ :‬إيطاليا ليست برلسكوني‬ ‫فقط‪ ،‬إيطاليا بلد السالم اإلنساني‪.‬‬

‫وداع مسرحي‬ ‫لم يحمل العمل املونودرامي الذي ش� � ��اركت به الكويت‪ ،‬مناظرة بني‬ ‫الليل والنهار‪ ،‬سوى أداء ممثله عبدالعزيز احلداد (فرقة مسرح اخلليج‬ ‫‪76‬‬

‫العربي)‪ .‬فالنص الذي ألفه محمد أفندي اجلزائري ميكن أن يعرض في‬ ‫فضاء محلي مدرسي‪ ،‬معني بلغة السجع‪ ،‬أو تقفية السطور الشعرية‪ ،‬أما‬ ‫حني يكون األمر مهرجاناً دولياً‪ ،‬تتنافس فيه جتارب جديدة‪ ،‬حتى خارج‬ ‫إطار اجلوائز‪ ،‬فعلينا أن ندرك أهمي� � ��ة تقدمي قيمة جديدة‪ .‬الفرقة هي‬ ‫أول فرقة مسرحية أهلية كويتية أسست في ‪ 13‬مايو ‪1963‬م‪ ،‬والعمل هو‬ ‫أحدث إنتاج لهاـ وقدمته في أكثر من س� � ��احة‪ ،‬آخرها مهرجان الفجيرة‬ ‫الدولي للمونودرام� � ��ا (‪2003‬م)‪ .‬واختلفت العروض األخرى التي مزجت‬ ‫بني األداء احلركي واملوسيقي‪ ،‬والنص املنطوق‪ ،‬حتى أن اللغة البصرية‬ ‫كانت تغني ‪ -‬أحيانا ‪ -‬عن لغة األبجدية التي جنهلها‪ .‬وهو ما فعلته أيضا‬ ‫عايدة أبوبكر التي قدمت مونودراما مسرح الناس (تونس)‪.‬‬ ‫شدتني جتربة الفنان املسرحي منر سلمون (اإلسباني من أصل سوري)‪،‬‬ ‫للحديث عن جتربته بعد أن قدم نحو ‪ 40‬مشروعاً مثل بها أو أخرجها في‬ ‫إسبانيا وخارجها‪ .‬يؤمن سلمون بضرورة مشاركة متلقي املسرح في العمل‪،‬‬ ‫وليس فقط كسر اإليهام املسرحي‪ ،‬كما حاوله بريخت‪ .‬يقول‪( :‬أحد أشكال‬ ‫املسرح التي قدمتها كان في إحدى املدن اإلسبانية‪ .‬وكنا في مشروع تقدمي‬ ‫السياحة اجلغرافية عبر املسرح‪ .‬كانت الدليلة السياحية ـ وهي عنصر من‬ ‫أفراد املسرحية الفرجوية ‪ -‬تصطحب فوجا من اجلمهور‪ ،‬أو السياح‪ ،‬من‬ ‫مكان إلى آخر وهو الفوج الذي ميكن أن يضاف إليه أو يخرج منه جمهور‬ ‫هذه املسرحية‪ .‬ثم تتوقف في أماكن تاريخية بعينها‪ ،‬هنا يظهر على خشبة‬ ‫مسرح املكان التاريخي مشهد مسرحي يناسب ذلك املكان»‪.‬‬ ‫هذا الشكل املسرحي وسواه‪ ،‬دعا الفنان منر سلمون‪ ،‬وزوجته وشريكته‬ ‫في فرقته املسرحية‪ ،‬بياتريس‪ ،‬إلى أن يستعينا بجمهور مسرح غاريبالدي‬ ‫في مش� � ��اهد من عمله‪ ،‬ودون إعداد مس� � ��بق‪ .‬في األيام التالية‪ ،‬وأثناء‬ ‫العروض‪ ،‬كان يأتي إليه للتحية جمهور‪ ،‬وممثل� � ��ون في عمله‪ ،‬رمبا لن‬ ‫ميثلوا مرة أخرى قبل أن يعود إليهم سلمون في العام القادم‪.‬‬ ‫‪77‬‬


‫نهر على سفر‬

‫تتارستان‬

‫كتاب البهجة واألشجان‬


‫نهر على َس َفر | تتارستان ‪ ...‬كتاب البهجة واألشجان‬ ‫ٌ‬

‫علي أن أعبر عناوين الكتب إلى‬ ‫في الطريق إلى جمهورية تتارستان‪ ،‬كان َّ‬ ‫متونها‪ ،‬أال أكتفي مبا هو ُمسطر في أسفار التاريخ وحسب‪ ،‬أو هو ُم َد َّون‬ ‫الساعني إلى‬ ‫في آداب الرحلة فقط‪ ،‬أن أعايش جهاد الباحثني التتريني َّ‬ ‫احلفاظ على تراثهم الشفاهي واملكتوب‪ ،‬وأقترب من الدارسني للعمارة‬ ‫املُد َّمرة من أجل بعثها‪ ،‬واملن َكسرة من أجل ترميمها‪ ،‬أن أشهد يوميات‬ ‫الناس في تتارس� � ��تان‪ ،‬وأن أحلق مع احلاملني بغد أفضل في جمهورية‬ ‫إسالمية عريقة احتفلت عاصمتها «قازان» قبل عامني مبرور األلفية‬ ‫األولى على إنشائها في عام ‪ 2005‬ميالدية!‬ ‫استغرقت الرحلة إلى العاصمة التترية أكثر من يوم كامل‪ ،‬فبني الرحلة‬ ‫من الكويت إلى اسطنبول‪ ،‬والرحلة من اسطنبول إلى قازان التي تقع‬ ‫إلى الشرق من مدينة موسكو‪ ،‬وتبعد عنها ‪ 797‬كيلومترا أمضيت ‪15‬‬ ‫ساعة انتظارا للطائرة التركية املسافرة إلى جمهورية تتارستان‪ ،‬إحدى‬ ‫جمهوريات روسيا االحتادية‪.‬‬ ‫في رحلة الطائرة التي استمرت ثالث ساعات ودقائق بدأت أراجع‬ ‫ما جمعته من معلومات في رحلة القراءة التي تس� � ��بق رحلة اكتش� � ��اف‬ ‫الواقع‪.‬‬ ‫تتوسط تتارستان جمهوريات االحتاد الروس� � ��ي‪ ،‬ويلتقي فيها أكبر‬ ‫نهرين باالحتاد هما نهرا الفوجلا والكاما‪ ،‬وتسكن عاصمة تتارستان؛‬ ‫«قازان» دلتا اللقاء بني النهرين‪ .‬أما أقصى مسافة من شمال تتارستان‬ ‫إلى جنوبها فتبلغ ‪ 290‬كيلومترا‪ ،‬بينما تصل املس� � ��افة من شرقها إلى‬ ‫غربها ‪ 460‬كيلومترا‪.‬‬ ‫تتماس حدود تتارس� � ��تان مع جمهورية شوفاشيا‪ ،‬غر ًبا‪ ،‬وجمهورية‬ ‫بشكيريا (بشكورتوستان)‪ ،‬شرقا‪ ،‬وجمهورية ماري إل‪ ،‬في الشمال الغربي‪،‬‬ ‫وجمهورية أودمورتيا ومنطقة كيروفسكايا في الشمال‪ ،‬في حني حتدها‬ ‫جنوبا مناطق أورينبورجسكايا‪ ،‬وسمرسكايا وأوليانوفسكايا‪ .‬وبجانب‬ ‫‪80‬‬

‫وجه من تتارستان بالزي التقليدي لالحتفاالت‬

‫‪81‬‬


‫نهر على َس َفر | تتارستان ‪ ...‬كتاب البهجة واألشجان‬ ‫ٌ‬

‫نهريها الرئيسيني؛ الفوجلا والكاما‪ ،‬يتدفق في تتارستان ‪ 500‬نهر‪ ،‬وعدد‬ ‫هائل من الغدران‪ ،‬وحتتفظ تتارستان مبصادر مياهها في كويبيشيفسكوي‬ ‫ونيزنكامس� � ��كوي‪ .‬وفي اجلمهورية نحو ‪ 8000‬بحيرة‪ .‬وبجانب مياهها‬ ‫العذبة يحتفظ قلب تتارستان بعدد من مصادر املياه املعدنية واملاحلة‬ ‫قليال‪ .‬وتغطي الغابات سدس مساحة تتارستان‪ .‬والنفط والغاز هما من‬ ‫مصادر ثروتها (فلديها احتياطي مليار طن من النفط وفي كل طن نحو‬ ‫‪ 40‬مترا مكع ًبا من الغاز)‪ ،‬ويساهم في تنمية اقتصادها كمركز صناعي‬ ‫وجود مختلف أنواع أحجار البناء‪ ،‬والطمي ال� �ل��ازم لصناعة الطوب‪،‬‬ ‫واجلبس‪ ،‬والفحم والنحاس‪.‬‬ ‫وبالرغم من أن مساحة تتارستان صغيرة (‪ 68‬ألف كيلومتر مربع)‪،‬‬ ‫فإنها تنقس� � ��م إلى ‪ 43‬مقاطعة‪ ،‬و‪ 20‬مدينة‪ ،‬و‪ 21‬منشأة مدنية‪ ،‬و‪897‬‬ ‫قرية‪ ،‬وفي «قازان» وحدها س� � ��بع مقاطعات‪ ،‬ويبلغ عدد سكانها ثالثة‬ ‫ماليني وسبعمائة وستني ألف نسمة‪.‬‬ ‫وأكداسا من‬ ‫أكياسا‬ ‫معظم ركاب الطائرة ُك َّن من النس� � ��اء‪ ،‬يحملن‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫البضائع التركية‪( ،‬سنكتش� � ��ف الحقا أنها أرخص مما يباع في السوق‬ ‫احمللية)‪ .‬وحني وصلنا املطار الصغير (جدا) وقفنا في طابورين لعبور‬ ‫ختم اجلوازات‪ ،‬وهو عبور اس� � ��تغرق أكثر من ساعة كاملة من التدقيق‬ ‫والتمحيص‪ ،‬خاصة لقادم من الشرق العربي! ثم خرجنا ألخذ احلقائب‪،‬‬ ‫بعد مطابقة دقيقة بني اسم الراكب وملصق احلقيبة‪ ،‬وهي مراجعة لم‬ ‫أجدها في أي مطار س� � ��ابق‪ .‬بعد ذلك كان على كل مسافرة ومسافر‬ ‫إثبات أن ما في احلقائب لالستخدام الشخصي‪ ،‬ولذلك كانت هناك‬ ‫بوابتان‪ ،‬واحدة إلظهار املشتروات اخلاضعة للضرائب‪ ،‬واألخرى لألغراض‬ ‫الشخصية‪ .‬بحسبة بسيطة لعدد الواقفات والواقفني‪ ،‬ومعاينة حركة‬ ‫اكتشفت أن الشمس قد تغازل‬ ‫احلقائب املتكاس� � ��لة والطابور البطيء‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وسط السماء قبل أن يدركنا الدور‪.‬‬ ‫‪82‬‬

‫لكن النجدة جاءت بعد ساعة‪ ،‬حني خرجت موظفة اجلمارك ومعظم شرطة‬ ‫املطار من النساء (أيضا) لتنادي باللغة الروسية (منستري كولتورا)!‬ ‫كانت تلك املناداة حتمل الكلمتني السحريتني اللتني طال انتظاري لهما‪،‬‬ ‫نسقت معها قبل السفر كانت حسب‬ ‫فهذا يعني أن «وزارة الثقافة» التي َّ‬ ‫الوعد بانتظارنا عند الفجر‪ ،‬وأن الليل اجلمركي الطويل سينجلي‪ ،‬وأن‬ ‫محنة الطابور لن تطالني‪ ،‬لقد فعلت الكلمتان مفعول كلمات «افتح يا‬ ‫سمسم» في حكاية علي بابا! وهكذا ُفتحت لي بني البوابتني املكتظتني‬ ‫باملسافرات والبضائع بوابة ثالثة‪ ،‬وكأنها ممر سحري في قصص ألف‬ ‫ليلة وليلة‪ ،‬يلجأ إليها السندباد البحري كبرزخ ينجو من خالله من فتك‬ ‫طائر الرخ‪ ،‬وخرجنا من املطار ليستقبلنا صيف املدينة البارد‪ ،‬بدرجة‬ ‫حرارة ال تزيد على العشرين!‬

‫الطريق إلى «قازان»‬ ‫مضا ًء كان الطريق من املطار إلى قلب املدينة! كانت املسافة تبلغ ‪20‬‬ ‫كيلومترا‪ .‬وسألت متعجبا‪ :‬هل جاء الفجر؟ فكانت اإلجابة األكثر عج ًبا‬ ‫من مديرة الثقافة السيدة رئيسة خانوم‪ ،‬على لسان املترجم التتري رينات‪،‬‬ ‫إلى اإلجنليزية‪ :‬إن ذلك هو ليل املدينة‪ ،‬مضيء دائ ًما‪ ،‬وكأن الشمس ال‬ ‫تنام في تتارستان‪ ،‬وإمنا تغفو بنصف عني‪ ،‬أو تكاد‪ ،‬وما هي إال ساعتان‬ ‫حتى ب َّكرت الشمس باخلروج إلى عملها‪ .‬وكأن النهار موصول بأخواته‬ ‫من النهارات التي تسبقه وتليه‪.‬‬ ‫نقترب من املدينة التي أسست قبل أكثر من ألف عام‪ .‬إذ بعد اعتناق‬ ‫بُل َغار نهر الفوجلا الدين اإلسالمي في عام ‪ 922‬ميالدية‪ ،‬بدأت «قازان»‬ ‫تتشكل على هيئة بيوت بدائية من اخلشب‪ ،‬حتى أعلن مولدها في سنة‬ ‫‪ 1005‬ميالدية‪ ،‬وليظهر اسمها للمرة األولى في األدبيات املكتوبة سنة‬ ‫‪ 1177‬ميالدية‪ .‬ستنعم املدينة بإسالمها وسالمها أربعة قرون ونيف‪،‬‬ ‫‪83‬‬


‫نهر على َس َفر | تتارستان ‪ ...‬كتاب البهجة واألشجان‬ ‫ٌ‬

‫إلى أن تدك بواباتها جحافل جيوش إيفان الرهيب في الثاني من أكتوبر‬ ‫عام ‪ 1552‬ميالدية‪.‬‬ ‫حني يقودنا دليلنا ومترجمنا إلى املتحف الوطني سنستعيد آالم التترين‬ ‫املسلمني وهم يواجهون ببسالة اجليش الفتاك إليفان الرهيب في لوحة‬ ‫جدارية ضخمة‪ ،‬وهي مواجهة بدأت فترة زمنية مدتها خمس سنوات‬ ‫من احلرب االستنزافية الستعادة «قازان»‪ .‬وهي املدة التي حتولت فيها‬ ‫ألول مرة في املدينة أساليب بناء البيت من اخلشب إلى احلجر‪ ،‬كما‬ ‫شهدت أيضا بناء جدران حماية جديدة وجاء املعماري إيفان شريعي‬ ‫إلى «قازان» مع ‪ 200‬من مساعديه لتعمير «قازان» بالبيوت احلجرية‬ ‫في ‪ 1555‬ميالدية‪.‬‬ ‫في املتحف الوطني كذلك س� � ��نتعرف على تطور تشييد املنازل‪ ،‬من‬ ‫اخلشب إلى احلجر‪ ،‬وحني نذهب إلى قس� � ��م التاريخ بجامعة «قازان»‬ ‫(أسست اجلامعة قبل ‪ 200‬س� � ��نة وهي أكبر جامعات تتارستان وثالث‬ ‫جامعات روس� � ��يا االحتادية)‪ ،‬نرى خريطة تفصيلية باحلروف العربية‬ ‫جلمهورية تتارستان‪ ،‬ولعاصمتها «قازان»‪ ،‬قبل أن يجبر بيتر األول أبناء‬ ‫التتار وسواهم ممن يكتبون باحلروف العربية باملدارس على استخدام‬ ‫األبجدية الروسية في القراءة والكتابة‪ ،‬سنة ‪ 1707‬ميالدية‪ ،‬وكانت تلك‬ ‫اخلاصة من األثرياء‪ ،‬أما م� � ��دارس العامة فقد افتتحت للمرة‬ ‫مدارس‬ ‫َّ‬ ‫األولى في «قازان» في الثالث عشر من مارس سنة ‪ 1766‬ميالدية‪.‬‬ ‫اللغة التتارية اليوم في العاصمة ليس لها سوى مدرسة عليا وحيدة‪،‬‬ ‫تدرس موادها العلمية بها‪ ،‬هي «مدرسة املرجاني العليا للتتار»‪ .‬يقول لي‬ ‫راميل‪ ،‬مدرس اللغة اإلجنليزية في ذلك الصرح التعليمي املقاوم لفناء‬ ‫اللغة التترية‪« :‬هناك بعض املدارس احمللية في املناطق البعيدة التزال‬ ‫حتتفظ بها‪ ،‬إال أن التقدم للجامعات لن يكون إال باملناهج الرسمية باللغة‬ ‫الروسية»‪ ،‬كان ذلك صوت شجن تتري يصرخ وسط البهجة حولنا‪.‬‬ ‫‪84‬‬

‫نحن على أبواب «قازان»؛ املدينة التي مرت بها اإلمبراطورة كاثرين‬ ‫الثانية في طريقها إلى نهر الفوجلا (‪1767‬م)‪ ،‬وزارها الشاعر ألكسندر‬ ‫بوشكني (‪1833‬م)‪ ،‬وعاش بها الروائي مكسيم جوركي (‪1888 - 1884‬م)‪،‬‬ ‫وشاهدها الثائر فالدميير ماياكوفسكي (‪1927‬م)‪ ،‬وولد فيها الشاعر القومي‬ ‫للتتار عبدالله طوقاي‪ ،‬ودرس بجامعتها أيام شبابه فالدميير لينني حتى‬ ‫استبعد منها بسبب تطرفه (‪1890‬م)‪ ،‬واحتفل بضم تراثها إلى اليونسكو‬ ‫مدير املنظمة الدولية كويتيرو ماتسورا (‪2003‬م)‪ ،‬وطرد من جامعتها‬ ‫لسوء سلوكه الروائي الكبير ليو تولستوي (‪1910 - 1828‬م)‪ ،‬بعد أن كتب‬ ‫أولى رواياته في شوارعها‪ ،‬وعرف حبه األول بها بني بساتينها!‬

‫موعدان مع الوزيرة‬ ‫نشاط رئيسة خانوم مديرة الثقافة يجعل األمنيات حقائق‪ ،‬لقاء وزيرة‬ ‫الثقافة ونائبة رئيس وزراء جمهورية تتارستان السيدة زيلفا فاليفا كان‬ ‫على جدول اللقاءات التي طلبتها‪ ،‬وقد كان‪ ،‬وفتحت لنا الوزيرة مكتبها‬ ‫وقلبها‪.‬‬ ‫سألتها عن خطة وزارتها في تعريف اجليل اجلديد بجمهورية تتارستان‬ ‫على عاداته وتقاليده وتراثه‪ ،‬فقالت إن طرقا كثيرة تسلكها الوزارة لتمهد‬ ‫إلى هذا الهدف القومي النبيل‪ ،‬مثل وج� � ��ود معلمني محترفني في كل‬ ‫مجاالت الفنون واآلداب‪ ،‬يقومون بتدريب النشء على الغناء التقليدي‪،‬‬ ‫مثلما يتعلم آخرون أساليب تقنية في الصناعات التقليدية‪ .‬كما أن هناك‬ ‫مؤسسات عديدة‪ ،‬ليست في اجلامعات فقط‪ ،‬وليست في املدن الكبيرة‬ ‫وحسب‪ ،‬بل في القرى أيضا‪ ،‬تقوم بهذا الواجب في توصيل التراث عبر‬ ‫األجيال على أكمل وجه‪.‬‬ ‫تريد الوزيرة للشعوب األخرى أن تتعرف على العادات والتقاليد التترية‪،‬‬ ‫لذا ال تترك مناسبة داخلية إال ويشاهد املشاركون سواء في مؤمترات‬ ‫‪85‬‬


‫نهر على َس َفر | تتارستان ‪ ...‬كتاب البهجة واألشجان‬ ‫ٌ‬

‫ثقافية أو اقتصادية عروضا تقليدية‪ ،‬فضال عن زيارات لفرق تترية إلى‬ ‫اخلارج لتقدمي عروض مماثلة‪ .‬كما تنظ� � ��م وزارتها احتفاليات ثقافية‬ ‫ضخمة مثل األعياد الذهبية واملئوية‪ ،‬للمفكرين والشعراء واملوسيقيني‬ ‫من التتار‪ ،‬وش� � ��هدت البالد خالل زيارتنا احتفال جمهورية تتارستان‬ ‫بأول كتاب مطبوع بها‪ ،‬وكان ذلك منذ ‪ 285‬عا ًما‪ ،‬واالحتفال بعيد ميالد‬ ‫الشاعر األشهر ألكسندر بوشكني!‬ ‫تضيف فاليفا أن الوزارة تبنت هذا العام مش� � ��روع «تراث» من أجل‬ ‫احلفاظ على املواقع األثرية بدعم من كبار رجال األعمال‪ .‬وتخطط الوزارة‬ ‫الستقطاب دعم دولي للمشاركة في جهود الترميم‪ .‬ولذلك تعد الكثير‬ ‫من املواد الفيلمية واملطبوعات حول هذه اآلثار التي تقاوم االندثار‪.‬‬ ‫بتفاؤل كبير تتحدث فاليفا عن املستقبل‪ .‬فقد وقعت اتفاقية تستضيف‬ ‫مبقتضاها جمهورية تتارستان في العام القادم ‪ 2008‬أعماال من العالم‬ ‫اإلسالمي حتت عنوان ‪Louver Hermitage Islamic World‬‬ ‫‪ ،2008‬كما أنها تسعد مبشاركة ‪ 89‬فيلما هذا العام في املهرجان الثالث‬ ‫لس� � ��ينما العالم اإلس� �ل��امي (مهرجان املنبر الذهبي)‪ ،‬في سعي دءوب‬ ‫لترسيخ الهوية اإلسالمية للجمهورية املنفتحة ثقافيا‪.‬‬ ‫ليس ذلك هو أول األحداث‪ ،‬ولن يكون آخرها‪ ،‬فقد نظمت «قازان»‬ ‫في ‪ 2004‬ميالدية معرضا مه ًما عن اإلسالم والثقافة الروحانية‪ ،‬تناول‬ ‫في املؤمتر املرافق له الثقافة اإلسالمية في منطقة البلغار واألورال‪،‬‬ ‫التي تظهر على اخلريطة النادرة باحلروف العربية‪.‬‬ ‫حضرت افتتاح‬ ‫لم يكن ذلك املوعد األول مع الوزيرة هو األخير‪ ،‬فقد‬ ‫ُ‬ ‫السيدة فاليفا لألسبوع الثقافي للمملكة العربية السعودية في جمهورية‬ ‫تتارستان‪ ،‬بعروض لزفاف تقليدي ورقصات شعبية‪ ،‬وأوركسترا سعودية‪،‬‬ ‫على مسرح الهرم الزجاجي واحلجري؛ الذي استلهمه رئيس اجلمهورية من‬ ‫أهرام مصر‪ ،‬وأصبح شاه ًدا على انفتاح اجلمهورية التترية في السنوات‬ ‫‪86‬‬

‫األخيرة على ثقافات العالم‪ ،‬ليس فقط لقبولها ألمناط معمارية مغايرة‪،‬‬ ‫وإمنا الستضافتها ألحداث ثقافية من املش� � ��رق واملغرب‪ ،‬فقبيل ذلك‬ ‫األسبوع الثقافي رأينا على مسرح املدينة الذي يقف أمامه متثال كبير‬ ‫لفالدميير لينني أوبرا صينية راقصة غنائية سكبت ألوان نهر الياجنستي‬ ‫وقوميات الصني التاريخية في عيون لم تنم من س� � ��حر العرض‪ ،‬الذي‬ ‫كان مكرسا لالحتفاء بصبية فقيرة‪ ،‬لكنها حلوة الصوت‪ .‬وإذا كان ذلك‬ ‫العرض تستقبله تتارس� � ��تان من أقصى الشرق‪ ،‬فقد استقبلت األسبوع‬ ‫السابق عليه دون كيخوته وتابعه سانشو من أقصى الغرب‪ ،‬إنها «قازان»‪:‬‬ ‫قلب عامر بحب الثقافة‪ ،‬في الداخل واخلارج م ًعا‪.‬‬

‫حكاية ثالث عائالت‪ )1( :‬بيت عتيق‬ ‫ك ّ ُل ش� � ��ارع في قازان له قصة‪ ،‬وكل بيت في شوارعها له رواية‪ ،‬وكل‬ ‫مسجد في أطرافها تقف منارته شاهدا على تاريخ عريق‪ ،‬وعجيب أيضا‪.‬‬ ‫بعد س� � � ٍ‬ ‫�اعات من وصولنا إلى مدينة «قازان»‪ ،‬كان لنا موع ٌد مع أمليرا‬ ‫خانوم ورفعت بيه‪ ،‬وهما زوجان ميثالن اجليل النابه ألبناء تتارستان‪،‬‬ ‫الذين يسعون لتوثيق املاضي‪ ،‬واستعادة الذاكرة‪ ،‬من أجل تعميق املعرفة‬ ‫بحضارة ألف عام من التاريخ اإلسالمي في بالد التتار‪.‬‬ ‫أمليرا خانوم باحثة أخذت على عاتقها مهمة الدعوة عبر دراساتها‬ ‫التاريخية إلى احلفاظ على البيوت التترية اخلشبية العتيقة أو ما تبقى‬ ‫منها لتظل رمزا لعبقرية البناء الذي ش� � ��يدها واحلرفي الذي زخرفها‬ ‫واملصمم الذي أبدعها‪ .‬بعض هذه البيوت التاريخية مت ترميمه بالفعل‪،‬‬ ‫وبعضها اآلخر سيتم حتويله إلى مزار سياحي‪ .‬لكن مع األسف فإن الكثير‬ ‫منها تهدم مع ما تهدم من تاريخ املدينة عبر تاريخها النازف بالدماء‪ .‬من‬ ‫بني البيوت التي رممت وتتحول إلى مزار تراثي بيت «املرجاني» وهو عالم‬ ‫دين له مسجد باسمه‪ ،‬زرناه‪ ،‬ووجدنا أن املصلني به يبلغون خمسمائة‬ ‫‪87‬‬


‫نهر على َس َفر | تتارستان ‪ ...‬كتاب البهجة واألشجان‬ ‫ٌ‬

‫في صلوات اجلمعة وخصوصا خالل شهر رمضان املبارك‪.‬‬ ‫أما رفعت بيه‪ ،‬املصور احملترف‪ ،‬فتسجل عدسته التاريخ الشفاهي‬ ‫للمدينة‪ ،‬وخاصة مهرجانها السنوي «سابانتوي»؛ الذي ميثل رحلة تراثية‬ ‫تلخص حياة املدن والقرى والبراري في تتارستان‪ .‬ومع هذا املهرجان‬ ‫س� � ��تكون لنا قصص الحقة‪ ،‬لكن القصة التي تأث� � ��رت بها جاءت حني‬ ‫جئنا مع العائلة الثقافية إلى مطعم يحمل اسم ألكسندر بوشكني‪ ،‬وقد‬ ‫انضمت إلينا ظريفة رفقت؛ ابنتهما‪ ،‬وهي فتاة في اخلامس� � ��ة عشرة‪،‬‬ ‫رأيت‬ ‫تعشق الفنون‪ ،‬وتدرس في مدرسة تركية‪ ،‬وتتحدث ثالث لغات‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫رفعت بيه شار ًدا‪ ،‬وتشرح لنا أمليرا س َّر شروده‪ ،‬لقد كان يتذكر أيامه في‬ ‫هذا املكان‪ ،‬قبل أن يتحول ليصب� � ��ح مطع ًما‪ ،‬بعد هدم األثر التاريخي‪،‬‬ ‫لقد عاش رفقت بيه هنا طفولته وشبابه في بيت خشبي‪ ،‬نهض مكانه‬ ‫ذلك املطعم‪ُ ّ ،‬‬ ‫أخط له أبياتاً قصيرة من وحي حلظة الشجن التي عاشها‪:‬‬ ‫على أطالل ٍ‬ ‫املصو ُر للمكان‪ /‬لم تزل هنا‬ ‫وح تس����كنه‪ /‬عا َد‬ ‫الر ُ‬ ‫ِّ‬ ‫بيت كانت ُّ‬ ‫رائحة طعام األم‪ /‬لم يزل صوت األب هناك‪ /‬كأن اللقاء قصيدة كتبها‬ ‫بوشكني‪ /‬على باب الوداع!‬

‫(‪ )2‬مناجاة‬ ‫تخصصت كولزاده خانوم صفيولينا في إحياء فن األناشيد الدينية‬ ‫اإلسالمية‪ ،‬وخاصة تلك التي تس� � ��تعيد الغناء التتري القدمي‪ .‬وبجانب‬ ‫الغناء فإنها تعلم القرآن الكرمي لألطفال والكبار من التتار املس� � ��لمني‬ ‫على حد سواء (ولها طبعات صوتية لتعليم القرآن الكرمي الذي درسته‬ ‫على يد شيخ من األزهر الشريف)‪ ،‬في استديو خاص بها‪ ،‬نلتقي معها‪،‬‬ ‫ونس� � ��تمع إليها‪ ،‬ونش� � ��اهدها وهي ترتدي أزياء تترية تقليدية‪ ،‬ونعيش‬ ‫صباحا بهيا‪ ،‬متتزج فيه حالوة الصوت‪ ،‬مع احلل� � ��وى التقليدية (التي‬ ‫ً‬ ‫تشبه إحداها قبعة املولوية الصوفية الطويلة‪ ،‬حتى أنني أسميتها حلوى‬ ‫‪88‬‬

‫بني بناء االحتفاالت العصري الذي يستلهم معمار الهرم في مصر‪ ،‬ومسرح الدمى الذي‬ ‫يستوحي قصور ألف ليلة وليلة ‪ ،‬يبرز ملمحان في مدينة قازان التي ولدت قبل أكثر من‬ ‫ألف عام‪.‬‬

‫‪89‬‬


‫نهر على َس َفر | تتارستان ‪ ...‬كتاب البهجة واألشجان‬ ‫ٌ‬

‫جالل الدين الرومي‪ ،‬وهي مصنوعة من العسل والدقيق‪ ،‬وتشبه حلوى‬ ‫الطحني في الشرق!)‬ ‫ابنتها رزاده‪ ،‬عاملة تش� � ��تغل في معهد التاريخ بجمهورية تتارستان‪،‬‬ ‫والطريف أنها تزوجت مهندس طيران مينيا‪ ،‬هو جمال محمد العنسي‪،‬‬ ‫درس في «قازان»‪ ،‬ويقوم حاليا باستكمال دراسته في العلوم السياسية‪،‬‬ ‫فضال عن عمله مبصنع للخشب خارج املدينة‪ ،‬ورئاسته الحتاد اجلاليات‬ ‫العربية للطالب الدارسني في تتارستان‪ .‬والطالب في جامعات تتارستان‬ ‫العلمية واإلنسانية من لبنان وتونس والسعودية وسورية والسودان وليبيا‬ ‫واملغرب واليمن‪ ،‬ومصر‪ ،‬وعددهم نح� � ��و مائتي طالب‪ ،‬وجلمال ورزاده‬ ‫ثالثة أوالد‪ .‬وكان احتاد اجلاليات الذي يحمل الطابع الرسمي قد جعل‬ ‫اشتراكه في بداية األمر (‪ 50‬روبال) = (دوالران)‪ ،‬ولكنه تغاضى عن‬ ‫ذلك االشتراك‪ ،‬ويقوم بعمله بشكل تطوعي‪ ،‬ويتركز معظم العمل في‬ ‫التوسط لدى الهيئات الرسمية لدى حدوث أية مشكالت (كما حدث‬ ‫حني مت العثور على منشورات وأسلحة بسكن بعض الطالب العرب أثناء‬ ‫احلرب املوسكوفية مع الشيشان!‬

‫(‪ )3‬تاريخ‬ ‫في مكتبة املتحف الوطني يش� � ��دني منت كتاب ع� � ��ن املوتيفات التي‬ ‫اندثرت أو كادت‪ ،‬وكانت تزين اللقى واملقتنيات التترية لبُلغار الفوجلا‬ ‫وخاصة منطقة الكرميني‪ .‬الكتاب باللغة الروس� � ��ية‪ ،‬لكن شروح صوره‬ ‫مترجمة إلى اإلجنليزية‪ ،‬في قس� � ��م التاريخ أحتدث مع البروفيس� � ��ورة‬ ‫جوزيل سليمانوفا (جوزيل‪ ،‬أو جوزال‪ ،‬هي املرادفة لكلمة غزالة العربية)‬ ‫ألكتشف أن هذا الكتاب الذي اقتنيته هو واحد من سبعة كتب وضعها‬ ‫والدها أستاذ التاريخ‪ ،‬ورائد توثيق الفنون القدمية في تتارستان‪ :‬فؤاد‬ ‫فاليف‪ ،‬وشاركته ابنته فيه‪.‬‬ ‫‪90‬‬

‫جعل الراحل فؤاد فاليف‪ ،‬وابنته جوزيل فاليفا سليمانوفا‪ ،‬الكتاب‬ ‫مك َّر ًسا ألسالف التتار املعاصرين‪ ،‬تتار «قازان»‪ ،‬وبلغار الفوجلا‪ ،‬والبلغار‪،‬‬ ‫والقازانيني‪ ،‬وأتراك الغرب‪ .‬ويفتح الكتاب صفحة جديدة في البحث‬ ‫التاريخي لتتارستان‪ ،‬في الذكرى الثمانني مليالد فؤاد فاليف‪ ،‬والذكرى‬ ‫األلفية لتأسيس «قازان»‪.‬‬ ‫خص الكتاب صفحاته املرسومة لتوثيق الفنون الزخرفية التي زينت‬ ‫َّ‬ ‫األغراض احلياتية والعمارة واملنسوجات بحثا عن تقنني التطور اجلمالي‬ ‫لألفكار التقليدية في هذه الفنون‪ .‬وحاول قدر اإلمكان أن يغطي ذلك‬ ‫التنوع الثري لرحلة الفن منذ أقدم العصور‪ ،‬وحتى العام ‪1552‬م‪ ،‬العام‬ ‫الذي وقعت فيه خانة «قازان» حتت أس� � ��ر القوات الروس� � ��ية الغازية‪.‬‬ ‫وجاء الكتاب بوتقة امتزجت فيها عصارة مائة مقالة نشرتها الدوريات‬ ‫املتخصصة عن هذه الفنون لبيان طابعها اإلثني‪.‬‬ ‫وقد اتضح ذلك كله في اإلسكتشات التوثيقية التي رسمها فؤاد فاليف‬ ‫للموتيفات الزخرفية على اخلشب‪ ،‬واحللي التقليدية من املعادن الكرمية‬ ‫والفضة‪ ،‬كاخلوامت والقالئد واألقراط واألس� � ��اور‪ ،‬فضال عن النقوش‬ ‫اجلدارية‪ ،‬وغيرها من اللقى واآلثار‪ ،‬من الس� � ��يراميك والفخار‪ ،‬وأوان‬ ‫وأباريق‪ ،‬ومتائم وتعاويذ الصحة والسعد‪ ،‬ومناذج لشجر احملاياة لدى‬ ‫البلغار‪ ،‬وتفاصيل األزرار وربطات الثياب من أحزمة ومشابك‪ ،‬للمالبس‬ ‫والشعر‪ ،‬واألمشاط‪ ،‬واملرايا‪ ،‬واألختام‪ ،‬ورءوس العصي‪ ،‬وزخارف البلطات‪،‬‬ ‫وكل ما هو مصنوع من املعدن والفخار والعظم والعاج والقماش وينتمي‬ ‫إلى هذه احلقبة املُشكِّلة للفن التتاري في مهده ونضجه وتألقه‪.‬‬ ‫كما ضم الكتاب صو ًرا لصوامع الدراويش منها ما يعود تاريخه إلى‬ ‫القرن الرابع عشر امليالدي‪ ،‬وأضرحة ذات منارات‪ ،‬ترجع للتاريخ ذاته‪،‬‬ ‫وبعض العلب املعدنية التي رأينا مثيالتها في املتحف الوطني احلافظة‬ ‫للقرآن الكرمي‪ ،‬واملصنوعة من الذهب‪ ،‬واملزخرفة باألحجار الكرمية‪.‬‬ ‫‪91‬‬


‫نهر على َس َفر | تتارستان ‪ ...‬كتاب البهجة واألشجان‬ ‫ٌ‬

‫تستكمل جوزيل خانوم مشوار أبيها‪ ،‬الباحث‪ ،‬واملوسيقي‪ ،‬والشاعر‪،‬‬ ‫والكاتب‪ ،‬والعالم‪ ،‬مثلما تستدعي في ألبوم مصور صدر ضمن حوليات‬ ‫مجلة كازان التاريخية نضال أسرتها وخاصة جدها حسني فالي‪ ،‬الذي‬ ‫أعدمته القوات البلشفية بعد نفيه عشر سنوات في سيبيريا! ثم تدخل‬ ‫بنا إلى قاعة محاضرات‪ ،‬لتطلعنا على أعالم املقاطعات التترية‪ ،‬البهية‬ ‫وامللونة‪ ،‬والتي جتسد أمناط احلياة في بالد التتار‪ ،‬فهناك أعالم حتمل‬ ‫رس� � ��وم كائنات برية كاأليائل‪ ،‬وآخر لراع ع� � ��ازف‪ ،‬وثالث لطائر‪ ،‬ورابع‬ ‫لزخارف معمارية‪ ،‬وكأنها لوحات فنية وليست أعالما‪ .‬وهكذا ترسل‬ ‫تتارستان إلى السماء راياتها خفاقة بالفن والتاريخ معا‪.‬‬

‫مدينة قازانية فاضلة‬ ‫في العقد األخير‪ ،‬عادت حرية األديان تنمو حتت سماء تتارستان مع‬ ‫أزهار عباد الشمس وسنابل القمح‪ ،‬تشرب من الفوجلا‪ ،‬وأنهار اجلمهورية‬ ‫اخلمسمائة‪ .‬ولذلك بدأت عملية ترميم املساجد بكثافة (وهي التي منحت‬ ‫رئيس اجلمهورية جائزة امللك فيصل العاملية لنشر اإلسالم هذا العام)‪،‬‬ ‫وإعادة االعتبار للكنائس‪ ،‬وإحياء مراس� � ��م الدين مثل حفالت الزواج‬ ‫داخل املساجد واملراكز الدينية‪ ،‬وقد ألهم ذلك املناخ املصمم والرسام‬ ‫والشاعر واملعالج األرثوذكسي إلدار خانوف‪ ،‬لكي يبني حول بيت أمه‬ ‫العتيق مجم ًعا لألديان السماوية واألرضية (يخطط حلضور ‪ 16‬ديانة‬ ‫مختلفة) والثقافات اإلنسانية جميعها‪.‬‬ ‫وقد ارتفع عدد اجلمعيات الدينية خالل السنوات األخيرة في تتارستان‬ ‫ليبلغ املائة‪ .‬وأحد املبادئ األساسية في تتارستان هو االهتمام مبتطلبات‬ ‫الديانتني األساسيتني في البالد‪ :‬اإلسالم واملسيحية‪ ،‬وهناك ‪ 170‬جمعية‬ ‫أرثوذكس� � ��ية (يحضر الكاثوليك والبروتس� � ��تانت بنحو أقل‪ ،‬كما يسمح‬ ‫لليهود واللوثريني مبمارسة شعائرهم الدينية)‪ ،‬ومع وجود أعراق دينية‬ ‫‪92‬‬

‫مختلفة توجد حالة من التس� � ��امح الديني والعرقي بينها‪ ،‬حتت سماء‬ ‫احلرية املكفولة للجميع‪.‬‬ ‫نتوقف أمام دارة إلدار خانوف بتصميمها الفذ الذي يستلهم في هيئته‬ ‫اخلارجية وتقسيمه الداخلي قباب ومنارات املسجد والكنيسة واملعابد‬ ‫اليهودية والبوذية والوثنية‪ .‬عشر سنوات أمضاها إلدار يبني بنفسه هذه‬ ‫العمارة التي متثل مدينة فاضلة لكل األديان‪ ،‬حتيا في سالم‪ ،‬وتستمتع‬ ‫بفضاء واحد مخصص ملمارسة احلياة الدينية والثقافية‪ .‬حتى أنه يعد‬ ‫في مسرح داخل املبنى الفتتاح عرض مسرحي لشكسبير بسبع لغات‬ ‫من بينها اللغة العربية‪ ،‬واللغة التترية!‬ ‫أمام لوحاته العمالقة‪ ،‬عن املوسيقى واحلرب‪ ،‬ومناذج من مجسماته‬ ‫الضخمة التي تنتشر في البالد‪ ،‬يقف ليحكي خانوف كيف شهدت طفولته‬ ‫حربا مدمرة بسبب العصبيات والنزاعات التي يأمل أن تتوقف فورا وأن‬ ‫مشروعه إلخاء األديان يضمن السالم‪« :‬أحاول أن أخلق هوية جديدة‬ ‫لروسيا»‪ .‬يقف خانوف بقميص (تي شيرت) بسيط وسروال قصير‪ ،‬ألنه‬ ‫قد ال يشعر بالبرد الذي يتدثر حماية منه ُك ّ ُل من حوله‪ ،‬وتكفيه ساعتان‬ ‫من النوم يوميا‪ ،‬وثالث ساعات في عالج مرضاه‪ ،‬ووجبة واحدة‪ ،‬وهو‬ ‫دائما يتذكر كيف مات أخوه من اجلوع!‬ ‫يعتمد إلدار على نفسه لتمويل مشروعه‪ ،‬وال يتلقى سوى دعم متمثل‬ ‫في مواد بناء وزجاج ممن يعاجلون لديه‪ ،‬ومعظم مرضاه من املدمنني‬ ‫على املخدرات‪ ،‬يفدون إليه طلبا للشفاء‪ .‬يقدم لنا إلدار خانوف ماكيت‬ ‫املستقبل ملشروعه‪ ،‬ال يضم املجمع الذي يشيده وحسب‪ ،‬بل يضم سكة‬ ‫حديد لألطفال‪ ،‬ونوادي‪ ،‬ومساكن‪ ،‬وجزيرة صناعية على مياه الفوجلا‬ ‫املقابل له‪ ،‬وجمعية فلكية‪ ،‬ويرينا على الواقع البس� � ��تان الصغير الذي‬ ‫يزرعه ليأكل من خضاره‪.‬‬ ‫في س� � ��ياق الفكرة القازانية لليوتوبيا الفاضلة التي جتمع الشعوب‬ ‫‪93‬‬


‫نهر على َس َفر | تتارستان ‪ ...‬كتاب البهجة واألشجان‬ ‫ٌ‬

‫م ًعا يجمعني لقاء مسائي مع الدكتورة ساديكوفا آسيا‪ ،‬عضو اجلمعية‬ ‫العامة جلمهورية تتارس� � ��تان‪ ،‬ومديرة مركز س� � ��اكورا التتاري الياباني‬ ‫للثقافة واملعلومات‪ .‬تتحدث ساديكوفا عن مشروعات للجيل اجلديد‪،‬‬ ‫من أهمها إصدار كتب تعريفية ببلدان العالم‪ ،‬فاملعرفة جسر للتخاطب‬ ‫مع اآلخرين‪ .‬وفي عصر املعلومات يجب أن تتوافر للشباب هذه الكتب‬ ‫املبسطة والشارحة التي تأتي في سياق اإلصالح الثقافي الذي تشهده‬ ‫البالد‪ ،‬والتي بدأت االهتمام باألجيال اجلديدة بإنشاء جلنة لألطفال‬ ‫والشباب حتولت منذ س� � ��نوات إلى وزارة خاصة بهم‪ ،‬واعتمدت خطة‬ ‫تنمية للسنوات (‪2010 - 2007‬م)‪.‬‬ ‫إنها أحالم جتد من يرعاها‪ ،‬حتت سماء تتارستان‪ ،‬وخارجها‪ ،‬وتدعو‬ ‫العرب للمشاركة في هذه الكتيبات التعريفية ببلدانهم‪ .‬ومرة ثالثة‪ ،‬أدرك‬ ‫اهتمام «قازان» وتتارستان بفكرة احلوار مع اآلخر والتعريف به‪ ،‬حني‬ ‫ألتقي مع الباحث بوالت تاج الدين (الذي تكت� � ��ب حروفه باإلجنليزية‬ ‫‪ BOULAT Tagudin‬ويقابل بالعربية فوالذ‪ ،‬وهذا معناه أيضا باللغة‬ ‫التترية)‪ ،‬وهو يدير مركزاً حلوار احلضارات اآلسيوية واألوربية‪.‬‬

‫السابانتوي‪ :‬الرقص مع التتار!‬ ‫جئت تتارستان لنعيش أيام السابانتوي‪ ،‬وهو عيد شعبي تتري‪ .‬وسابان‬ ‫كلمة تركية تعني احملراث‪ .‬وكأن العيد (ت� � ��وي) َح ْرثٌ ملا زرعه اجلميع‬ ‫طوال موسم كامل‪ .‬لذلك يعني السابانتوي حصاد كل شيء مبهج‪ :‬فإذا‬ ‫أردت لم الشمل‪ ،‬ورؤية األهل‪ ،‬واالس� � ��تمتاع بالوصل؛ فليس لك سوى‬ ‫َ‬ ‫السابانتوي‪ ،‬وإن رغبت في الغناء‪ ،‬وسماع املوسيقى التقليدية والرقص‬ ‫ببهجة وانتشاء‪ ،‬فما من مناسبة مثل السابانتوي‪ ،‬وكذلك لو أحببت تذوق‬ ‫األطباق الشعبية واحتساء املشروبات التقليدية وتناول الثمار احمللية‪،‬‬ ‫فعش مع السابانتوي!‬ ‫‪94‬‬

‫في قرية قوقمر على مسافة ‪ 120‬كيلومترا من «قازان» رأينا فجر‬ ‫السابانتوي‪ .‬ال يفصل بني املدينة والقرية سوى بساط أخضر‪ .‬توزعت على‬ ‫جانبي طريقنا أشجار عمالقة حتمي احملاصيل من العواصف الثلجية‪،‬‬ ‫مثلما حتمي املارة من الرياح اجلليدية‪ ،‬فضال عن أنها مثل إطار طبيعي‬ ‫يزين السماء التي ترقص فيها السحب وهي تتشكل عصافير وأقما ًرا‬ ‫وأزها ًرا‪ .‬في منتصف الطريق تذكرنا املطر فغمر األس� � ��فلت والسيارة‬ ‫ولكنه على مشارف قوقمر توقف‪ ،‬لنشارك أهل قوقمر وعددهم ‪1450‬‬ ‫شخصا فرحتهم بتدشني العيد‪.‬‬ ‫نبدأ ببيت العمدة الذي دعانا إلى وجبة شعبية تقليدية ساخنة‪( ،‬مثل‬ ‫الشرق تستهل اللقاءات بالوجبات!)‪ ،‬وكالعادة يتخللها عصير املشمش (أو‬ ‫الكيوي واألناناس واملوز واليوسفي)‪ ،‬والشاي الذي ترقد في قاع فنجانه‬ ‫إحدى ثمار املشمش أيضا‪ ،‬وحلويات أخذت بعضها أشكاال تترية‪ ،‬وامتزج‬ ‫اآلخر بالتركي والشرقي والروسي‪ .‬وإذا كنا في العاصمة «قازان» نعبر‬ ‫اسيبا»‪ ،‬فأنت في تتارستان مدنا وقرى يجب أن‬ ‫«س َب ِ ّ‬ ‫عن الشكر بكلمة ْ‬ ‫تستخدم الكلمة األصلية اإلسالمية للشكر «رحمات»‪ ،‬وهي دعاء إلى‬ ‫الله لك بالرحمة‪ .‬وهكذا توزعت من األفواه الرحمات شكرا وعرفانا‬ ‫ملضيفنا‪ ،‬وفي ما بعد للذين استسلموا للعدس� � ��ات وهي تسجل وقائع‬ ‫استقبال السابانتوي‪.‬‬ ‫من أحد املنازل يبدأ السابانتوي‪ ،‬تخرج الفتيات بحلل بهيجة األلوان‪،‬‬ ‫وعلى عربة يجرها حصان يصعد أطفال صغار بابتسامات ال تقل بهجة‪،‬‬ ‫وضوضاء من الضحكات البرية التي تطلق الفرح في سماء القرية‪ .‬تتحرك‬ ‫القافلة‪ ،‬التي يتقدمها راقص وعازف األكورديون‪ ،‬وسينضم إليهما الحقا‬ ‫املزيد من العازفني والراقصني‪ ،‬ولكن األهم هم هؤالء الذين يحملون‬ ‫العصي العمالقة‪ .‬تخيلنا أنها ستستخدم في النزال‪ ،‬ولكن مع كل بيت‬ ‫عرفنا سرها‪.‬‬ ‫‪95‬‬


‫نهر على َس َفر | تتارستان ‪ ...‬كتاب البهجة واألشجان‬ ‫ٌ‬

‫أمام كل بيت كان األطفال يصيحون بصوت إيقاعي «كاالبا»‪ ،‬وهي‬ ‫صيحة تترية تنبيهية للمناداة‪( ،‬مثل احلمحمة في القرى العربية إلعداد‬ ‫الدار لدخول الضيوف)‪ ،‬وهي في الوقت نفسه إشارة ألصحاب البيت‬ ‫بأن قافلة السابانتوي وصلت‪.‬‬ ‫تخرج األم حاملة بعض الهدايا لألطفال‪ ،‬قد تكون قطعا من احللوى‪،‬‬ ‫أو بيضا‪ ،‬أو فاكهة‪ ،‬ولكن األهم‪ ،‬أن تقدم ألصحاب العصي قطعة من‬ ‫القماش امللون‪ ،‬ليربطها الشاب إلى عصاه مثلما تربط الرايات‪ ،‬ومعها‬ ‫أمنيات بالسالمة واالستقرار‪ .‬قد تهدي بعض الفتيات قطعا مغزولة‬ ‫باليد‪ ،‬ومعها دعاء بأن تتزوج قريبا‪ .‬وقد تهدي العجائز الس� � ��ابانتوي‬ ‫اخلاص بهن طلبا للصحة‪ .‬وتهدي النساء السابانتوي املطرز مع دعاء‬ ‫ألطفالهن بكل محبب وطول العمر‪ .‬مع كل توقف تقوم موظفة أو أكثر‬ ‫بتسجيل هدايا أهل القرية إلى السابانتوي‪ .‬وتسجل أيضا إذا كان أهل‬ ‫البيت غائبني عنه‪ .‬وأثناء ذلك كل� � ��ه ال يتوقف العزف والغناء والرقص‬ ‫وصيحات «كاالبا»‪ ،‬ودعوة كل بيت لنا للجلوس وتناول الكعك أو الفاكهة‬ ‫أو العصائر والشاي للمشاركة في السابانتوي‪.‬‬ ‫بعد ذلك بيوم أو أكثر‪ ،‬وبعد أن تنتهي عمليات جمع هدايا السابانتوي‪،‬‬ ‫ستبدأ أيام املهرجان‪ ،‬التي يستقبلها شهر يونيو‪ ،‬من كل عام‪ .‬إنه احتفال‬ ‫صيفي‪ ،‬لكن صيف تتارستان بارد‪ ،‬رمبا تتراوح درجة احلرارة فيها بني‬ ‫العشرين والثالثني‪ ،‬لكنه بارد في أغلب األحيان‪ ،‬بل وممطر أيضا‪ .‬في‬ ‫ألعاب شعبية كثيرة‪ ،‬لعل أشهرها املصارعة بالسواعد‪ ،‬وتبدأ‬ ‫أيام املهرجان‬ ‫ٌ‬ ‫بأصغر املشاركني سنا من األطفال‪ ،‬ويتصاعد العمر ومعه احلماس وقوة‬ ‫املصارعة وضوضاء التشجيع‪ .‬كما أن هناك مسابقات تشبه التحطيب‪،‬‬ ‫وأخرى للعدو‪ ،‬وثالثة لسباقات اخليل‪ ،‬ورابعة حلمل ال ّدالء باملاء والعدو‬ ‫بها دون أن ينسكب ماؤها‪ ،‬وخامس� � ��ة لتسلق الشجر العمالق بسيقانه‬ ‫الزجلة‪ ،‬وسادسة لصعود األعمدة‪ ،‬وس� � ��ابعة لتحطيم الفخار والعيون‬ ‫‪96‬‬

‫معصوبة‪ ،‬وغيرها من ألعاب كأنها من حكايات شعبية خرافية!‬ ‫كان العيد في أوله طقسا للحصاد‪ ،‬ثم تدرج ليكون ملتقى لالجتماع‪،‬‬ ‫ترى فيه الفتيات أزواج املستقبل‪ ،‬ولكنه صار اليوم على نحو أكبر مكانا‬ ‫للصلح مع الذات والغير م ًعا‪ .‬وهكذا يتم فيه حل النزاعات‪ ،‬واخلالفات‪،‬‬ ‫ودعوة القوميات األخرى للمشاهدة واملشاركة‪ .‬وكانت جوائز املسابقات‬ ‫حتى سنوات خلت ‪ -‬ورمبا ال تزال كذلك في أرياف تترية نائية ‪ -‬خروفا!‬ ‫لكن اجلوائز اليوم أصبحت أكث� � ��ر عوملة‪ ،‬حتى إن بعض اجلوائز ميكن‬ ‫أن تكون سيارة موديل جديد!! كل ذلك وسط ميادين خضراء تصطف‬ ‫على جنباتها جماهير جتعل من كل س� � ��احة مكانا للمباريات املختلفة‪.‬‬ ‫ترفرف في الهواء رايات السابانتوي امللونة‪ ،‬وترقص على األرض ثياب‬ ‫الفتيات املزركشة‪ ،‬وتتمايل طربا القبعات التقليدية مع أنغام األكورديون‬ ‫واآلالت املوسيقية التقليدية األخرى‪ ،‬وتصافح السماء رايات السابانتوي‬ ‫امللونة‪.‬‬

‫شعر عبدالله طوقاي‬ ‫كلما قادتني اخلطى في «قازان» أو خارجها تذكرت شاعرها التتري‬ ‫الكبير عبدالله توقاي‪ .‬كانت كلماته تتنفس هواء األمكنة واألزمنة‪ .‬حتى‬ ‫القرية التي حتدث عنها «قرالي» كانت تشبه القرية التي زرتها في مالمح‬ ‫عديدة‪ ،‬يقول وكأنه يصف قوقمر‪ :‬لم أولد فيها‪ ،‬لكنني احتفظت بحبها‪.‬‬ ‫مرج عشبي أخضر كغطاء من املخمل‪ .‬إنها ليست مشهورة‪ ،‬بل مجرد‬ ‫قرية صغيرة‪ ،‬ولكن نهيرها منبع جمالها وهو فخر أهلها‪ .‬ال نحس فيها‬ ‫بلسعة البرد‪ ،‬أو لفحة احلر‪ ،‬وتهب الرياح في مواسمها»‪.‬‬ ‫وفي «قازان» تعيش كلمات عبدالله طوقاي‪« :‬ها هنا املوسيقى والرقص‬ ‫والفنون والعبو السيرك‪ ،‬وها هنا الشوارع واملسارح واحملاربون وعازفو‬ ‫الكمان»‪ .‬وهناك حديقة باسمه‪ ،‬وله ركن في املتحف وبأحد اجلاليريات‬ ‫‪97‬‬


‫نهر على َس َفر | تتارستان ‪ ...‬كتاب البهجة واألشجان‬ ‫ٌ‬

‫رأينا صورته عل� � ��ى احلائط في لوحة زيتية ضخم� � ��ة‪ ،‬مثلما دققنا في‬ ‫العمالت التذكارية التي أصدرتها تتارستان مبناسبة مرور ألف عام على‬ ‫إنشاء «قازان» ووضعت صورة طوقاي على وجه عمالت ذهبية وفضية‬ ‫وبرونزية ونحاسية ضمن أعالم البالد‪ .‬وفي إحدى الغابات التي زرناها‪،‬‬ ‫استدعيت كلمات طوقاي‪« :‬غابة عامرة بالعطور‪ ،‬أكبر من البحر‪ ،‬وأعلى‬ ‫من السحاب‪ ،‬تذكرني أشجارها جيش جنكيزخان القوي العرمرم»‪.‬‬

‫‪ ...‬وطغراء فالدميير بوبوف‬ ‫في ليلة السفر‪ ،‬وقبل ساعات من انطالق الطائرة فج ًرا إلى محطة‬ ‫الترانزيت في اسطنبول‪ ،‬وفي فندق فاطمة حيث نقيم‪ ،‬جاءت الدكتورة‬ ‫ساديكوفا آس� � ��يا بصحبة ابنتها‪ ،‬ومعهما الفنان فالدميير بوبوف‪ .‬في‬ ‫حواري السابق معها أشارت إلى أعمال بابوف‪ ،‬لكن الدهشة أعمق حني‬ ‫رأيت أعماله اخلطية العربية‪ ،‬فلم يكن الضيف العجوز يتحدث العربية‬ ‫ليقدم بها كل هذا السحر اخلطي‪ ،‬ولكنها جماليات احلروف العربية‬ ‫التي فتنته‪ ،‬وأسرته‪ ،‬فجعل منها غايته قبل سنوات‪.‬‬ ‫تعكس األعمال اخلطية للفنان التتري فالدميير بوبوف املقيم في «قازان»‬ ‫روح الفن اإلسالمي‪ ،‬من حيث وحدة التكوين‪ ،‬واملضمون‪ ،‬وجمالياتهما‪.‬‬ ‫إذ يحاول الفن� � ��ان فالدميير بوبوف تقدمي ص� � ��ورة موازية‪ ،‬أو «عالمة‬ ‫شخصية» كما يسميها‪ ،‬لألسماء التي يك ِّونها جماليا مستفيدا من حرية‬ ‫وثراء اخلطوط العربية‪ ،‬وخاصة حروف الطغراء‪ .‬وترى أستاذة العلوم‬ ‫الفلسفية واملتخصصة في الدراسات اإلسالمية بالطانوفا أن أعمال‬ ‫فالدميير بوبوف التي ترسم األسماء‪ ،‬حتدد روح وقدر اخلط املش ِّكلة‬ ‫لها‪ ،‬ولذلك تعد مرآة إلعطاء تصور ذاتي عن صاحب االسم! لكنها ال‬ ‫تغفل حضور القيم اإلنسانية الكونية واألفكار الدينية والفلسفية التي‬ ‫تعد قيما أساسية في األشكال التقليدية للفنون اإلسالمية‪.‬‬ ‫‪98‬‬

‫اخلط العربي أيضا كان حاض ًرا‪ ،‬في جاليريهات كثيرة رأيناها ضمن‬ ‫جولة أعدتها السيدة رئيسة خانوم‪ ،‬وتعرفنا على بعض من مؤسسات‬ ‫تتارستان الثقافية‪ .‬إذ يوجد اثنا عشر مسرحاً رسميا وقاعات موسيقية‬ ‫و‪ 88‬متحفا للدول� � ��ة و‪ 300‬متحف نوع� � ��ي‪ ،‬و‪ 1717‬مكتبة‪ ،‬بينها مكتبة‬ ‫جامعة «قازان» (أربعة ماليني وثمامنائة ألف كتاب)‪ ،‬واملكتبة الوطنية‬ ‫جلمهورية تتارس� � ��تان (ثالثة ماليني ومائة ألف كت� � ��اب)‪ ،‬وتدور مطابع‬ ‫تتارستان لتقدم س� � ��نوياً ‪ 500‬كتاب‪ ،‬كما يصدر بها ‪ 170‬صحيفة و‪35‬‬ ‫مجلة‪ .‬ألتقي مع املستشرقة نورية كرايفا‪ ،‬في قسم املخطوطات باملكتبة‬ ‫العلمية في جامعة «قازان»‪ ،‬فتدلني على عدد املخطوطات العربية في‬ ‫أرشيف املخطوطات والذي يبلغ ‪ 25‬ألفا‪ .‬أفكر في األسرار واملعارف‬ ‫واالكتشافات األدبية والتاريخية والعلمية التي ميكن أن يفصح عنها هذا‬ ‫العدد من الكنوز الدفينة!‬ ‫ومثلما استقبلتنا رئيسة خانوم عند الفجر‪ ،‬جاءت لتودعني في ليل‬ ‫«قازان» املضيء حتت زخات املطر‪ ،‬في الطريق إلى املطار تعطلت السيارة‬ ‫فقالت مداعبة‪« :‬ليست السيارة وحدها هي التي ال تريد مغادرتكم‪ ،‬فنحن‬ ‫نتمنى أن تبقوا معنا فترة أطول»‪ .‬قلت لها‪« :‬إن السماء أيضا تبكي‪ .‬لكن‬ ‫عزاءنا في الذكريات التي سنستعيد بها الرحلة التتارية‪ ،‬التي ضمت كثي ًرا‬ ‫من البهجة‪ ،‬وقليال من األشجان»‪ .‬لم تبرح رئيسة خانوم املطار إال بعد أن‬ ‫اطمأنت على ركوبنا الطائرة‪ ،‬وألن ساعات االنتظار في اسطنبول كانت‬ ‫في رحلة العودة ‪ 40‬ساعة كاملة لعدم وجود رحلة يومية‪ ،‬فقد سألتنا أن‬ ‫نطمئنها على سالمة الوصول مع املتاع!‪ .‬وفي البريد اإللكتروني الذي‬ ‫كتبته بعد وصولي‪ ،‬ختمته بالشكر الروس� � ��ي والتتري‪ ،‬وأكرره هنا في‬ ‫خامتة سطوري إلى كل أهل تتارستان‪ :‬سباسيبا‪ ...‬رحمات!‬

‫‪99‬‬


‫نهر على سفر‬

‫ُبلغار الڤوجلا‬

‫على خطى أحمد بن فضالن‬


‫نهر على َسفَر | ُبلغار الڤوجلا‬ ‫ٌ‬

‫أمام املسجد األبيض‪ ،‬في قرية بلغار على نهر الڤوجلا‪ ،‬كانت‬ ‫الفتيات التتاريات حاضرات بأزياء من ألوان السماء ينتظرن‬ ‫قافلتنا‪ ،‬وهن يؤدي������ن ‪ -‬وفق إيقاع مرس������وم ‪ -‬لوحات حركية‬ ‫تقليدية‪ .‬الثياب التاريخية‪ ،‬الفضاء الشاس������ع‪ ،‬البرد القارس‪،‬‬ ‫الوجوه املختلفة‪ ،‬أعادتني أكثر من ألف عام‪ .‬وكأنها احتفاالت‬ ‫تاريخية‪ ،‬فهنا وصلت خطوات أحمد بن فضالن‪ ،‬رس������وال من‬ ‫اخلليفة العباسي‪ ،‬ليفقه أهل تلك البالد‪ ،‬ويزيدهم علما لدين‬ ‫اإلس���ل��ام‪ ،‬حتى اتخذ أحفادهم من تاريخ قدوم ذلك العربي‬ ‫ميالدا للدين احلنيف في وطن التتار‪.‬‬ ‫بني يدي الرحلة التي حققها وعلق عليها وقدم لها د‪ .‬سامي‬ ‫الدهان‪ ،‬ونشرها املجمع العلمي العربي بدمشق‪ ،‬بعنوان «رسالة‬ ‫ابن فضالن ـ أحمد بن العباس بن راشد بن حماد في وصف‬ ‫الرحلة إلى بالد الترك واخلزر والروس والصقالبة‪ ،‬سنة ‪309‬‬ ‫هـ ـ ‪921‬م»‪.‬‬ ‫والثابت أن أحمد بن فضالن قد انطلق في رحلته من بغداد‪،‬‬ ‫وإذا كان عليه أن يصل إلى موقع (بلغار) على نهر الڤوجلا‪ ،‬حيث‬ ‫تقع اليوم القرية التاريخية في تتارستان‪ ،‬إحدى اجلمهوريات‬ ‫اإلسالمية في روسيا االحتادية‪ ،‬فقد كان لزاما أن يكون اجتاهه‬ ‫شماال‪ ،‬ملسافة تربو على ألفني وخمسمائة كيلومتر‪ .‬لذلك كان‬ ‫السؤال األول الذي تبادر إلى ذهني‪ ،‬وحاولت أن أجد إجابة له‪،‬‬ ‫هو ملاذا ضاعفت قافلته املسافة‪ ،‬حيث اجته بها ابن فضالن‬ ‫إلى الشرق‪ ،‬قبل أن يعود إلى الغرب الشمالي؟‬ ‫كان ذلك أحد أسئلة كثيرة تلح على الذهن حني نتأمل البداية‪،‬‬ ‫بل ونتساءل‪ ،‬كيف تسنى لذلك امللك القاطن الشمال النائي‪ ،‬أن‬ ‫يعرف بأمر اخلليفة العباسي‪ ،‬وأن يسترشده في أمور دنياه‪،‬‬ ‫‪102‬‬

‫ودينه‪ ،‬فيطلب منه العون املادي لبناء حصن ضد أعدائه‪ ،‬ويرجوه‬ ‫أن يرسل من يفقه شعبه في دين اإلسالم؟‬

‫بغداد اخلليفة‬ ‫في عام ‪ 295‬للهجرة‪ ،‬بويع للخالفة العباسية في بغداد اخلليفة‬ ‫املقتدر بالله أبا الفضل جعفر ابن اخلليفة املعتضد‪ .‬كان فتى‬ ‫في الثالثة عش������رة من عمره‪ ،‬ولذلك عرفت بطانته أن جتعل‬ ‫يده سخية حد اإلسراف‪ ،‬حتى كان له في داره أحد عشر ألف‬ ‫خصي من الروم والسودان‪ ،‬كما امتألت خزائنه باحللي‬ ‫خادم‬ ‫ّ‬ ‫واجلواهر النفيسة‪ ،‬وحتى أش������يع عنه بأن دولته تدور أمورها‬ ‫على تدبير النساء واخلدم‪ ،‬حتى قال بعض املؤرخني إنه أنفق‬ ‫ضياعا وتبذي ًرا‪ ،‬ماعدا نفقات الدولة‪ ،‬فقد‬ ‫سبعني مليون دينار‬ ‫ً‬ ‫اضطر في استرضاء اجلند والغلمان أن يبيع ضياعه وفرشه‬ ‫وأنية الذهب‪ ،‬وقد خلع وأعيد ثم ُقتل‪ ،‬ومكثت جثته مرمية على‬ ‫قارعة الطريق سنة ‪ 320‬للهجرة‪ ،‬كما يرد في حتقيق الدهان‬ ‫للرحلة‪.‬‬ ‫فإذا كانت تلك احلال‪ ،‬كما يبدو‪ ،‬سلبية الصورة‪ ،‬فكيف كانت‬ ‫الصورة اإلعالمية في اخلارج تبدو مخالفة‪ ،‬ومضيئة؟ يسرد ابن‬ ‫مسكويه في كتابه «جتارب األمم» ما يصور حال بغداد وخالفتها‬ ‫سنة ‪ 305‬للهجرة‪ ،‬أي قبل أربع سنوات من سفر ابن فضالن‪:‬‬ ‫«ودخلت سنة خمس وثالثمائة‪ :‬وفيها ورد رسوالن مللك الروم‬ ‫إلى مدينة السالم‪ ،‬على طريق الفرات بهدايا عظيمة وألطاف‬ ‫كثيرة‪ ،‬يلتمسان الهدية‪ .‬وكان دخولهما يوم االثنني لليلتني خلتا‬ ‫من (ش������هر) احملرم‪ ،‬فأُنزال في دار صاعد ب������ن مخلد‪ .‬وتقدم‬ ‫أبو احلسن ابن الفرات (أحد وزراء اخلليفة) بأن يفرش لهما ويع ّد‬ ‫‪103‬‬


‫نهر على َسفَر | ُبلغار الڤوجلا‬ ‫ٌ‬

‫فيه ك ّل ما يحتاجان إليه من اآلالت واألواني وجميع األصناف‪،‬‬ ‫وأن يقام لهما وملن معهما األنزال الواس������عة واحليوان الكثير‬ ‫واحلالوة‪ ،‬حتى يتسع بذلك ك ّل من معهما‪ ...‬والتمسا (الضيفان)‬ ‫الوصول إلى املقتدر بالله ليبلغاه الرسالة التي معهما فأُعلما‬ ‫ّ‬ ‫متعذر صعب‪ ،‬ال يجوز إال بعد لقاء وزيره ومخاطبته‬ ‫أن ذلك‬ ‫في ما قصدا إليه‪ ،‬وتقرير األمر معه‪ ،‬والرغبة إليه في تسهيل‬ ‫األذن على اخلليفة‪ ،‬واملش������ورة عليه باإلجابة إلى ما التمسا‪.‬‬ ‫عدي ابن عبدالباقي الوارد معهما من الثغر أبا‬ ‫فسأل أبو عمر‬ ‫ّ‬ ‫احلسن ابن الفرات اإلذن لهما في الوصول إليه‪ ،‬فوعده بذلك‬ ‫في يوم ذكره له»‪.‬‬ ‫ويكمل ابن مسكويه وصفه لدراما الوصول إلى اخلليفة من‬ ‫قبل السفيرين فيقول‪:‬‬ ‫ً‬ ‫«وتقدم الوزير بأن يكون اجليش مصطفا في دار صاعد إلى‬ ‫ّ‬ ‫الدار التي أقطعها باملخ������ ّرم‪ ،‬وأن يكون غلمانه وجنده وخلفاء‬ ‫احلجاب املرسومني بداره منتظمني من باب الدار إلى موضع‬ ‫مذهب السقوف في دار منها‪،‬‬ ‫مجلسه‪ ،‬وبسط له في مجلس عظيم ّ‬ ‫يعرف بدار البستان‪ ،‬بالفرش الفاخر العجيب‪ ،‬وعلّقت الستور‬ ‫التي تشبه الفرش‪ ،‬واستزاد في الفرش والبسط والستور‪ ،‬ما‬ ‫بلغ ثمنه ثالثني ألف دينار‪ ،‬ولم يبق شيء تجُ مل به الدار‪ ،‬ويُفخم‬ ‫به األمر‪ ،‬إال فعل‪ .‬وجعل على مصلّى عظيم من ورائه مس������ند‬ ‫عال‪ ،‬واخلدم بني يديه‪ ،‬وخلفه‪ ،‬وعن ميينه‪ ،‬وشماله‪ ،‬والقادة‬ ‫واألولياء قد مألوا الصحن‪ ،‬ودخل إليه الرسوالن فشاهدا في‬ ‫طريقهما من اجليش وكثرة اجلمع ما هالهما»‪.‬‬ ‫«بعد ذلك الوصف ملا شاهد الرسوالن‪ ،‬وما حملاه في الرواق‪،‬‬ ‫ومن التقياه في الدار‪ ،‬وما نظرا إليه في املجلس‪ ،‬وما استمعا‬ ‫‪104‬‬

‫املس���جد األبيض‪ ،‬في قرية بلغار على نهر الڤوجلا‪ ،‬تتارس���تان‪ ،‬إحدى جمهوريات روسيا‬ ‫االحتادية‪.‬‬

‫املسجد القدمي واملتحف والضريح في قرية بلغار الفوجلا‪ ،‬عمارة تستلهم التاريخ‪.‬‬

‫‪105‬‬


‫نهر على َسفَر | ُبلغار الڤوجلا‬ ‫ٌ‬

‫له من ترجمان الوزي������ر‪ ،‬الذي يعدهما‪ ،‬بالتم������اس املقابلة مع‬ ‫ّ‬ ‫فيصطف اجلنُد م������ن دار صاعد إلى‬ ‫اخلليفة‪ ،‬ويأت������ي اليوم‪،‬‬ ‫دار السلطان في الزي احلس������ن‪ ،‬وميرر الرسوالن عبر رحاب‬ ‫الدار والدهاليز واملمرات التي تعج بالرجال والسالح‪ ،‬من ممر‬ ‫يفضي إلى صحن‪ ،‬ومنه إلى ممر فصحن‪ ،‬يخرقان الصحون‬ ‫واملمرات حتى كال من املشي وانبهرا‪ ،‬لكثرة الرجال والسالح‪،‬‬ ‫ثم أدخال على اخلليفة املقتدر‪ ،‬اجلالس على سرير ملكه‪ ،‬وحوله‬ ‫األولياء وقوف على مراتبهم فلما دخ���ل��ا ق ّبال األرض ووقفا‬ ‫حيث استوقفهما احلاجب‪ ،‬فأديا الرسالة‪ ،‬فأجابهما عنه الوزير‬ ‫وانتهت املقابلة‪ ،‬وأتبعها ذلك بعطاء آالف الدنانير‪ ،‬فحمل إلى‬ ‫كل واحد من الرسولني عشرون ألف درهم صلة لهما‪ ،‬وخرجا‬ ‫مع املترجم من حدود البالد»‪.‬‬ ‫فهل نتساءل بعد ذلك‪ ،‬وتلك الصورة تعبر حكايات تتناقلها‬ ‫األلسن عبر طريق احلرير‪ ،‬عما كان في ذهن ملك الشمال حني‬ ‫أرسل إلى اخلليفة ما أرسل؟ وكما كانت تلك الصورة عن بغداد‬ ‫فاعلة في تشكيل ذهنية ملك الشمال‪ ،‬فقد كانت مدعاة البن‬ ‫فضالن‪ ،‬القادم من عاصمة الترف واحلضارة‪ ،‬أن يقلل من شأن‬ ‫ما يراه‪ ،‬ويستثير التعجب من حياة «الصقالبة» سكان الشمال‬ ‫في أوربا‪ ،‬على أطراف نهر الفولغا‪ ،‬الذين تقع عاصمتهم على‬ ‫مقربة من «قازان»‪ ،‬اليوم‪.‬‬

‫اخلروج من قازان‬ ‫املطر يشتد حينا فيهطل أو يخفت أحيانا فيتحول إلى رذاذ‬ ‫يداعب واجهة احلافلة التي حتركت في الصباح الباكر من قازان‪،‬‬ ‫عاصمة جمهورية تتارستان‪ ،‬باجتاه قرية البلغار التاريخية‪ .‬ليس‬ ‫‪106‬‬

‫الڤوجلا وحده النهر الذي يصادفنا ويصاحبنا‪ ،‬فهناك نهر تركناه‬ ‫هو كازانكاه‪ ،‬ولو لم تكن رحلتنا برية لوصلنا عبر نهر كاما‪ ،‬الذي‬ ‫يتسع أحيانا فتخاله بح ًرا‪.‬‬ ‫ها نحن نتجه إلى البلغار‪ ،‬وتتناوب األذن على س������ماع أدلة‬ ‫الرحلة‪ ،‬السيدة رئيسة جاريفا التي تعشق املنطقة التاريخية‪،‬‬ ‫الدكتورة نورية كراييفا التي حتكي عن رحلة ابن فضالن‪ ،‬املترجمة‬ ‫روشانيه عفيفا التي تزور املنطقة ‪ -‬مثلي ‪ -‬للمرة األولى‪.‬‬ ‫أكاد أعرف اآلن السبب في خط رحلة ابن فضالن املتعرج‪ ،‬لقد‬ ‫انطلق الرجل وقافلته عبر طريق احلرير‪ ،‬فاملوقع االستراتيجي‬ ‫أهلها للدخول ف������ي طريق القوافل التجارية‪ ،‬ومع‬ ‫ملدينة قازان َّ‬ ‫السجاد الذي حمله التجار بني القرنني السابع والثامن امليالديني‪،‬‬ ‫شهد حوض نهر الفولغا تواصال مع الشرق والتعرف على عاداته‬ ‫ودينه ـ شامال املمالك العربية اإلسالمية ـ مبا سمح مللك بلغار‬ ‫الفولغا أملش بن يلطوار بتش������كيل أول مملكة إسالمية شمال‬ ‫شرق أوربا وأن يطلب إلى أمير املؤمنني املقتدر بالله أن يرسل‬ ‫الدين وتع ّرفه في شرائع اإلسالم‪،‬‬ ‫إليه بعثة من قبله‪ ،‬تفقّهه في ّ‬ ‫مسجدا‪ ،‬وتنصب له منب ًرا يقيم عليه الدعوة للخليفة‬ ‫وتبني له‬ ‫ً‬ ‫يتحصن‬ ‫في جميع مملكته‪ ،‬وسأله إلى ذلك أن يبني له حصنًا‬ ‫ّ‬ ‫فيه من امللوك املخالفني له‪ ،‬ورغ������م ثراء امللك البلغاري ‪ -‬كما‬ ‫يصف ابن فضالن ‪ -‬فإنه تعلل بأن مال خليفة املس������لمني هو‬ ‫للتبرك اعتزازا منه بدولتهم‪ .‬ويعرف الرحالة بأن ملوك اخلزر‬ ‫وهم من اليهود‪ ،‬هم أعداء امللك الذين اعتادوا البغي بل وفرض‬ ‫الضرائب على أهل البالد بتحصيل جلد حيوان السمور عن كل‬ ‫بيت في اململكة‪ ،‬ويتمادى ابن ملك اخلزر فيخطب من يريد من‬ ‫بنات ملك الصقالبة ويتزوجها غص ًبا‪ ،‬رغم أن اخلزري يهودي‪،‬‬ ‫‪107‬‬


‫نهر على َسفَر | ُبلغار الڤوجلا‬ ‫ٌ‬

‫الكاتب أمام جدارية متثل مشهد وصول واستقبال ابن فضالن‪ ،‬هنا خرج امللوك األربعة‬ ‫الذين يحكمه���م ملك الصقالبة‪ ،‬م���ع إخوته وأوالده الس���تقبال وفد اخلليفة العباس���ي‬ ‫بالطعام‪ ،‬كما استقبلتنا الفتيات التتاريات بحلوى الشكشك واخلبز الساخن‪.‬‬

‫وابنة الصقلبي مسلمة!‬ ‫قبيل الدخول إلى متحف ابن فضالن‪ ،‬الذي يشمل فضاء‬ ‫خارجيا ومباني داخلية‪ ،‬ميتد البصر إلى عمليات التنقيب عن‬ ‫إنشاءات قدمية‪ ،‬بعضها يتضح أنه حديث يعود ملائة عام وحسب‪،‬‬ ‫خلت‪.‬‬ ‫وليس ميتد كما يأمل املنقبون إلى ألف سنة‬ ‫ْ‬ ‫هربنا حتت املظالت من املطر الذي اشتد‪ ،‬وأخذت الرياح‬ ‫تطيح بنا‪ ،‬يا لها من قسوة ونحن النزال في اخلريف‪ ،‬قيل لي‬ ‫إن الشتاء يش������هد وصول درجة البرودة إلى ‪ 40‬حتت الصفر!‬ ‫تساءلت بدهشة ‪ -‬وقد عبرت بواية املتحف إلى داخله ‪ -‬هل‬ ‫وصل ابن فضالن شتاء أم صيفا؟‬ ‫‪108‬‬

‫وفد ابن فضالن‬ ‫ُ‬ ‫الواقع أن الوفد رحل صيفا‪ ،‬وحل قبيل الصيف‪ ،‬فقد غادر‬ ‫بغداد يوم اخلميس ‪ 11‬صفر ‪ 309‬هـ (املوافق ‪ 21‬يونيو ‪921‬م)‬ ‫وظل يصعد شرقاً وشماالً ماراً بإقليم اجلبال‪ ،‬فهمذان فمدينة‬ ‫الري (بالقرب من العاصمة اإليرانية طهران حاليا‪ ،‬وعبر نهر‬ ‫جيحون‪ ،‬فبلغ إلى بخارى‪ ،‬ثم آب غربا عبر الغابات والصحارى‬ ‫حتى وصل إلى الفولغا‪ ،‬عند مل������ك الصقالبة‪ ،‬يوم األحد ‪12‬‬ ‫محرم ‪ 310‬هـ (املوافق ‪ 11‬مايو ‪922‬م) في رحلة اس������تغرقت‬ ‫أحد عشر شه ًرا‪.‬‬ ‫لكنه لم ين ُج من الشتاء القارس‪ ،‬حيث فاجأه في اجلرجانية‬ ‫‪109‬‬


‫نهر على َسفَر | ُبلغار الڤوجلا‬ ‫ٌ‬

‫على نهر جيحون‪ ،‬حتى لتتجمد حليته بني اخلروج من احل ّمام‬ ‫والدخول إلى البيت لتصب������ح قطعة من الثلج‪ ،‬وفي بيت داخل‬ ‫بيت‪ ،‬يتد ّثر باألكسية والفراء‪ ،‬لكن ذلك ال مينع من التصاق خ ّده‬ ‫لشدة البرد!‬ ‫بالوسادة‬ ‫ّ‬ ‫اآلن فقط ‪ -‬وأنا أقرأ عن شدة البرد ‪ -‬فسرت كل شيء‪ .‬فقد‬ ‫دعتني قبل الرحلة السيدة زيليا فاليفا‪ ،‬نائبة رئيس الوزراء‪،‬‬ ‫واملشرفة على متاحف الكرملني في قازان‪ ،‬إلى زيارة معرض‬ ‫الثقافة التقليدية للتتار‪ .‬والحظت أن األزياء الكثيرة كلها للشتاء‪،‬‬ ‫وكأن الصيف لم يكن له موعد مع مصممي األزياء هنا‪.‬‬ ‫ش������مل وفد اخلليفة أربعة‪ ،‬أحمد بن فضالن‪ ،‬الذي أوكلت‬ ‫الرسى مولى نذير اخلرمي‪ ،‬وتكني‬ ‫إليه مهمة التفقيه‪ ،‬وسوسن‬ ‫ّ‬ ‫التركي‪ ،‬وبارس الصقالبي‪ ،‬وقد بدأوا رحلتهم مع رسول ملك‬ ‫الصقالبة إلى بغداد‪ ،‬عبدالله بن باشتو اخلزري‪ .‬ومما أدهشني‬ ‫أن ملك الصقالبة أرسل رج ً‬ ‫ال خزري األصل‪ ،‬يستنجد باخلليفة‬ ‫العباس������ي ضد اخلزر! ويبرر د‪ .‬الدهان اختياره ملعرفته اللغة‬ ‫العربية‪ ،‬أو لثقتهم به وبحسن إس���ل��امه‪ .‬مثلما يبدو أن اثنني‬ ‫من أعضاء وفد بغداد يعرفان الروسية‪ ،‬فاألول «سوسن» يبدو‬ ‫في نسبته من بالد الروس قد استجلب كرقيق ثم تعلّم العربية‬ ‫وحسن إسالمه‪ ،‬والثاني بارس الصقالبي واسمه ونسبته دليالن‬ ‫على أصله‪ .‬أما الثالث فهو تركي األصل يجيد لغات األتراك‬ ‫التي مير ببالدها الوفد في طريقه إلى الفولغا‪ ،‬وقد كان حدا ًدا‬ ‫في خوارزم‪.‬‬ ‫ولعل ألسن أعضاء الوفد تعوض جهل أحمد بن فضالن باللغات‬ ‫األجنبية‪ ،‬فهل كان كفؤا ملا اختير له‪ ،‬الشريعة اإلسالمية‪ ،‬والقارئ‬ ‫للرحلة يعرف أنه اآلمر الناهي خاللها‪ ،‬لكن الوفد سيضم مع‬ ‫‪110‬‬

‫تلك الشخصيات األربعة الرئيسية غلمانا ومساعدين ومعلمني‪.‬‬ ‫وجتدر اإلشارة إلى أن الوفد ـ بجانب املال ـ حمل أدوية طلبها‬ ‫ملك الصقالبة‪ ،‬وهو ما يضيف إلى أبهة بغداد نباهة علمائها‬ ‫وأطبائها‪.‬‬ ‫ها نحن نقف أمام اخلريطة التي متثل املكان الذي وصله ابن‬ ‫فضالن‪ .‬عند تلك احلدود خرج امللوك األربعة الذين يحكمهم‬ ‫ملك الصقالبة‪ ،‬مع إخوته وأوالده الستقبال الوفد بالطعام ـ كما‬ ‫استقبلتنا الفتيات التتاريات بحلوى الشكشك واخلبز الساخن‪.‬‬ ‫ثم يسير اجلميع إلى امللك‪ ،‬فيلقونه يخ ّر ساج ًدا شك ًرا لله‪ ،‬ج ّل‬ ‫وعزّ‪ ،‬وينثر ما كان في ك ّمه من دراهم على القادمني‪ ،‬وينصب‬ ‫لهم خياما يقيمون بها‪.‬‬ ‫نزور املتحف وجنباته فنتعجب من امتزاج اجلديد بالقدمي‪،‬‬ ‫بعض اللوحات الليثوجراف التي شاهدتها في متحف الكرملني‬ ‫مطبوعة ومعلقة هنا‪ ،‬هناك كذلك مخطوطات باللغة العربية‪،‬‬ ‫وأخرى باللغة التترية ذات احلروف العربية‪ .‬حني هدأ املطر‬ ‫كانت إش������ارة لالنطالق نحو البيت التتري القدمي‪ ،‬وفي مكان‬ ‫املأدبة التاريخية التي استقبلت ابن فضالن‪ ،‬دخلنا ذلك البيت‬ ‫اخلشبي‪ ،‬فإذا بالدفء كله يعم املكان‪ ،‬وبدأت األغاني التقليدية‬ ‫على مسرح صغير أمام املائدة العمالقة التي متثل مأدبة تاريخية‬ ‫بحق‪.‬‬ ‫مما أدهشني هو وجود حلم اخليل على املأدبة‪ .‬نحن ال نأكل‬ ‫اخليول‪ ،‬وما قيل عن ذبح جواد من أجل ضيف كرما هو مبنزلة‬ ‫نادرة عربية‪ ،‬حني حدثتهم دهشوا‪ ،‬وهم يتناولون شرائح اخليل‬ ‫التي تشبه دوائر رقيقة خلبز أسمر‪ ،‬وازدادت دهشتهم حني قلت‬ ‫لهم إننا نأكل في بالدنا احلمام‪ ،‬فهم ال يأكلونه! وهكذا كانت‬ ‫‪111‬‬


‫نهر على َسفَر | ُبلغار الڤوجلا‬ ‫ٌ‬

‫الغرائب البسيطة التي القيناها ش������واهد على عجائب كبيرة‬ ‫قابلت ابن فضالن قبل ألف عام‪.‬‬ ‫أمام اجلدارية الكبيرة للملك يستقبل ابن فضالن وهو يقرأ‬ ‫رسالة اخلليفة‪ ،‬تأملت بدايات نص ابن فضالن‪« ،‬وبدأت فقرأت‬ ‫ص ْدر الكتاب‪ .‬فل ّما بلغت منه‪« :‬سالم عليك فإني أحمد إليك‬ ‫الله الذي ال إله إال هو»‪ .‬قلت‪ُ « :‬ر ّد على أمير املؤمنني السالم»‬ ‫فر ّد‪ ،‬ور ّدوا جمي ًعا بأسرهم‪ ،‬ولم يزل الترجمان يترجم لنا حر ًفا‬ ‫حر ًفا‪ .‬فلما استتممنا قراءته ك ّبروا تكبيرة ارجتت لها األرض‪.‬‬ ‫ثم قرأت كتاب الوزير «حامد بن العباس»‪ ،‬وهو قائم‪ ،‬ثم أمرته‬ ‫باجللوس‪ ،‬فجلس عند قراءة كتاب «نذير احلرمي» فلما استتممته‬ ‫نثر أصحابه عليه الدراهم الكثيرة‪ .‬ثم أخرجت الهدايا من الطيب‬ ‫والثياب واللؤلؤ له‪ ،‬والمرأته‪ .‬فل ْم أزل أعرض عليه وعليها شيئًا‬ ‫خلعت على امرأته بحضرة الناس‪،‬‬ ‫شيئًا حتى فرغنا من ذلك‪ .‬ثم‬ ‫ُ‬ ‫وكانت جالسة إلى جنبه‪ ،‬وهذه سنّتهم وز ّيهم فلما خلعت عليها‬ ‫نثر النساء عليها الدراهم‪ ،‬وانصرفنا‪.‬‬

‫غرائب وعجائب‬ ‫كنت في رحلة سابقة قد ذكرت كيف أنني حني وصلت قبيل‬ ‫الليل إلى تتارستان فاجأتني السحب املضيئة‪ ،‬وهي ما فاجأت‬ ‫ابن فضالن‪ ،‬كذلك‪:‬‬ ‫«ورأيت النهار عندهم طويال جدا وإذا أنه يطول عندهم مدة‬ ‫من السنة ويقصر الليل‪ ،‬ثم يطول الليل ويقصر النهار‪ .‬فلما كانت‬ ‫الليلة الثانية جلست خارج القبة (اخليمة) وراقبت السماء فلم‬ ‫أر من الكواكب إال عددا يسيرا ظننت أنه نحو اخلمسة عشر‬ ‫كوك ًبا متفرقة‪ .‬وإذا الشفق األحمر الذي قبل املغرب ال يغيب‬ ‫‪112‬‬

‫خريطة الرحلة‬ ‫النادرة التي قادت‬ ‫اب���ن فضالن‪،‬‬ ‫شماال‪ ،‬إلى بلغار‬ ‫الفوجلا‪ ،‬بعد أن‬ ‫عرج على ممالك‬ ‫الشرق جلمع ما‬ ‫يل���زم من مال‬ ‫وهدايا‪.‬‬

‫‪113‬‬


‫نهر على َسفَر | ُبلغار الڤوجلا‬ ‫ٌ‬

‫بتة‪ .‬وإذا الليل قليلة الظلمة»‪.‬‬ ‫وعدا ما في السماء‪ ،‬يتعجب ابن فضالن ملا تنبته األرض‪:‬‬ ‫«نزلنا مع امللك منزالً‪ ،‬فدخلت أنا وأصحابي تكني‪ ،‬وسوسن‪،‬‬ ‫وبارس‪ ،‬ومعنا رجل من أصحاب امللك بني الش� � ��جر فرأينا عو ًدا‬ ‫صغيرا أخضر كر ّقة املغزل وأطول‪ ،‬فيه عرق أخضر‪ ،‬على رأس‬ ‫العرق ورقة عيضة مبس� � ��وطة على األرض‪ ،‬مفروش عليها مثل‬ ‫النابت‪ ،‬فيها حب ال يشك من يأكله أنه رمان أمليسي‪ ،‬فأكلنا منه‬ ‫فإذا به من اللذة أمر عظيم‪ ،‬فمازلنا نتبع� � ��ه ونأكله‪ .‬ورأيت لهم‬ ‫تفاحا أخضر شديد اخلضرة وأشد حموضة من خل اخلمر‪ ،‬تأكله‬ ‫ً‬ ‫اجلواري فيسمن عليه‪ .‬ولم أر في بلدهم أكثر من شجر البندق‪،‬‬ ‫لقد رأيت منه غياضا تكون الغيضة أربعني فرس� � � ً‬ ‫�خا في مثلها‪.‬‬ ‫ورأيت لهم شج ًرا ال أدري ما هو‪ ،‬مفرط الطول وساقه أجرد من‬ ‫الورق‪ ،‬ورءوس� � ��ه كرءوس النخل له خوص دقاق‪ ،‬إال أنه مجتمع‪،‬‬ ‫يجيئون إلى موضع يعرفونه من ساقه‪ ،‬فيثقبونه‪ ،‬ويجعلون حتته‬ ‫إناء فتجري إليه من ذلك الثقب ماء أطيب من العسل»‪.‬‬ ‫وقد تتبعت آثار قصص ابن فضالن عن غرائب املخلوقات التي‬ ‫صادفها ـ أو سمع عنها ـ في كتب علوم احليوان‪ ،‬خاصة حني ذكر‬ ‫أنه بالقرب من مملكة الصقالبة صحراء واسعة بها حيوان دون‬ ‫اجلمل في الكبر‪ ،‬وفوق الثور‪ ،‬رأسه رأس جمل‪ ،‬وذنبه ذنب ثور‬ ‫وبدنه بدن بغل‪ ،‬وحوافره مثل أظالف الثور‪ ،‬له في وسط رأسه‬ ‫قرن واحد غليظ مستدير‪ ،‬كلما ارتفع دق حتى يصير مثل سنان‬ ‫الرمح‪ ،‬فمنه ما يكون طوله خمس أذرع إلى ثالث أذرع إلى أكثر‬ ‫وأقل‪ ،‬يرتعي ورق الشجر‪ ،‬جيد اخلضرة‪ .‬إذا رأى الفارس قصده‪،‬‬ ‫فإن كان حتته جواد أمن منه يجهد‪ ،‬وإن حلقه أخذه من ظهر دابته‬ ‫بقرنه‪ ،‬ثم زج به في الهواء‪ ،‬واستقبله بقرنه‪ ،‬فال يزال كذلك حتى‬ ‫‪114‬‬

‫يقتله‪ .‬وال يعرض للدابة وبوجه وال سبب‪ ،‬وهم يطلبونه في الصحراء‬ ‫والغياض حتى يقتلوه‪ .‬وذلك أنهم يصعدون الشجر العالية التي‬ ‫يكون بينها‪ .‬ويجتمع لذلك عدة من الرماة بالسهام املسمومة فإذا‬ ‫توسطهم رموه حتى يثخنوه ويقتلوه‪ .‬ولقد رأيت عند امللك ثالث‬ ‫طيفوريات كبار تشبه اجلزع اليماني عرفت أنها معمولة من أصل‬ ‫قرن هذا احليوان‪ .‬وذكر بعض أهل البلد أنه الكركدن‪.‬‬ ‫إن هذا الوصف الذي يأتي في ثناي������ا الرحلة لينطبق على‬ ‫حيوان وحيد القرن ذي الصوف الغزير‪ ،‬الذي انقرض في العصر‬ ‫اجلليدي وكان يعيش في أوربا وآسيا‪ ،‬وقد اختفى فيها بسبب‬ ‫تقلبات الطقس وصيد البشر له‪ ،‬فلم تبق منه سوى أعداد ضئيلة‪،‬‬ ‫وكان ميكن أن يلقى مصير املاموث‪ ،‬وميكن أن يكون ذلك احليوان‬ ‫هو ثور املسك‪ ،‬الذي وجد منذ ‪ 30‬ألف عام‪.‬‬ ‫تعالى صوت الغناء التتري التقليدي‪ ،‬وكأننا نسمع السيوف‬ ‫التي كانت جتلجل احتف������اال بقدوم ابن فضالن‪ .‬ظلت اململكة‬ ‫اإلسالمية تكبر وتتوسع‪ ،‬حتى أصبحت قازان عاصمتها‪ ،‬وحني‬ ‫نقارن بني دخول اإلسالم إليها في عباءة السالم‪ ،‬جنزع حني‬ ‫نشهد في املتحف الوطني لوحة متثل غزو إيفان الرهيب لتلك‬ ‫اململكة اإلسالمية بعد ستة قرون من العيش اآلمن‪ ،‬في القرن‬ ‫السادس عشر‪ ،‬يفجر أسوارها‪ ،‬ويذبح جنودها‪ .‬لكنه التاريخ‪،‬‬ ‫صفحات منداة بدموع الفرح‪ ،‬وأخرى مثقلة بدماء احلزن‪.‬‬ ‫خرجت إلى النهر‪ ،‬كان املطر ال يزال يهطل‪ ،‬عبرنا إلى مسجد‬ ‫ُ‬ ‫يضم أكبر مصحف في العالم‪ ،‬طبقا ملوسوعة جينيس لألرقام‬ ‫القياسية‪ .‬التتاريون يريدون أن يؤكدوا انتماءهم لإلسالم‪ ،‬بأكثر من‬ ‫شكل‪ ،‬إنهم يتمسكون بتقاليده‪ ،‬ويضيفون إليه ملساتهم‪ ،‬التي تؤكد‬ ‫والءهم للدين‪ ،‬واهتمامهم بالدنيا‪ ،‬إلعمارها لألجيال القادمة‪.‬‬ ‫‪115‬‬


‫نهر على سفر‬

‫حتت سماء‬

‫كوجرات‬


‫نهر على َسفَر | حتت سماء كوجرات‬ ‫ٌ‬

‫ونساك زاهدون عن‬ ‫مساج ٌد ومعاب ٌد‪ ،‬شيوخ يتع ِ ّب ُدون آناء الليل‪َّ ،‬‬ ‫منارات تهت ُزّ‪ ،‬وأخرى تختفي‪ ،‬بوابات مهجورة‪ ،‬ودروب‬ ‫ضجيج النهار‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫مزدحمة‪ ،‬بيوت ليس لها من سمت البيوت شيء‪ ،‬وقصور تستعيد أبهة‬ ‫عصور السالطني‪ ،‬متاحفٌ نادرة في عرض الطريق‪ ،‬ومقتنيات آسرة‬ ‫حتت حراسة مشددة‪ ،‬أضرحة تعانق قبابها املزركشة السماء‪ ،‬وقبور‬ ‫تفترش توابيتها احلجرية األرض‪ ،‬غابات من صفيح‪ ،‬وأش� � ��جار من‬ ‫أسمنت‪ ،‬وأسوار من خيش‪ ،‬وشواهد من حجر‪ ،‬وهواء من رماد‪ ،‬إنها‬ ‫السماء التي حتتها تنام أحمد آباد وسورات وفودرا وغاندي نجَ َ ار‪،‬‬ ‫وكثي ٌر من مدن محافظة كوجرات الهندية‪ ،‬متلحفة بألف لون ولون‪.‬‬ ‫قبل سفرنا إلى كوجرات وبعد توقف قصير أمام بوابة بومباي‪،‬‬ ‫عبرنا الطريق إلى ردهة فندق التاج‪ .‬أشا َر مض ِّيفُنا إلى صور ِة الرئيس‬ ‫املصري الراحل جمال عبد الناصر داخل إطار يجمع صور لعديد من‬ ‫الشخصيات العاملية وهي تزور املكان‪ .‬توقف مضيفنا الكاتب أ‪ .‬عباس‪،‬‬ ‫مشي ًرا إلى صورة ناصر قائال‪« :‬تغيرت األيام كثي ًرا بعد رحيله»‪.‬‬ ‫وكنت أحاول أن أج َد لديهِ ـ قبل توجهي‬ ‫بدأ احلديث مع أ‪ .‬عباس‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫االضطرابات ـ املتكررة ـ في كوجرات‪.‬‬ ‫إلى أحمد آباد ـ خيوطا جلذور‬ ‫قال لي‪« :‬إنها املرة األولى في تاريخ الهند‪ ،‬أن حتدث مذبحة للمسلمني‬ ‫وأن يتم تدمير ملمتلكاتهم مبثل هذه الطريقة املنظمة‪ ،‬واحلقائق تكشف‬ ‫لنا يو ًما بعد آخر كيف أن إلس� � ��رائيل ي ًدا وراء هذه األحداث‪ .‬رمبا‬ ‫يعتقد البعض أن قولي هذا مجرد شطحات خيال‪ ،‬لكن من يدرس‬ ‫األمر جيدا في كوجرات سيتبني له حقيقة األمر‪ ،‬وأن تنامي العالقات‬ ‫اإلسرائيلية الهندية ال يجعل من ذلك مستبعدا)‪.‬‬ ‫أحكي له عن الفيلم الذي أنتجته بولي وود ـ مدينة الصناعة السينمائية‬ ‫في الهند ـ عام ‪ 1994‬ليجسد إحدى صور هذه االضطرابات على‬ ‫خلفية قصة حب بني فتاة مسلمة وصحفي هندوسي‪ ،‬لم يستطيعا‬ ‫‪118‬‬

‫عروس من كوجرات‪ ،‬حضرنا حفل زفافها ليلة خروجنا من أحمد آباد‪ ،‬وهي ترتدي حليها‬ ‫كاملة‪ ،‬وقد صبغت يديها باحلناء‪.‬‬

‫‪119‬‬


‫نهر على َسفَر | حتت سماء كوجرات‬ ‫ٌ‬

‫الزواج في قريتهما بسبب االختالف في الدين‪ ،‬فجاءا إلى بومباي‪،‬‬ ‫التي يحمل الفيلم اس� � ��مها‪ .‬يش� � ��رح لي عباس‪« :‬هذا الفيلم صورة‬ ‫منوذجية للعالقات اإلنس� � ��انية التي ذابت بني األعراق واألديان في‬ ‫الهند‪ ،‬قبل أن تبعث السياسة نار الفتنة من حتت الرماد‪ ،‬وهذا الفيلم‬ ‫نفسه الذي أخرجه ـ ماني راتنام ـ يأتي ضمن كالسيكيات السينما‬ ‫الهندية ويعد بني أفضل عشرة أفالم في تاريخها على اإلطالق‪ ،‬فهو‬ ‫ال يعكس الصورة الزائفة للحياة كما تقدمها آالف األفالم الهندية‬ ‫التجارية»‪ .‬نتذكر م ًعا أحد أحلان الفيلم الشهيرة التي قدم موسيقاها‬ ‫إيه‪ .‬آر‪ .‬رحمان‪.‬‬ ‫جنلس إلى طاولة الشاي‪ ،‬وبيننا جهازا الالب توب‪ ،‬حيث انتشرت‬ ‫البقع الساخنة اللتقاط شبكات اإلنترنت الالسلكية عبر إحدى شركات‬ ‫االتصال الهندية اخلاصة باشتراك زهيد‪ .‬يبحث أ‪ .‬عباس في دفاتره‬ ‫اإللكترونية‪ ،‬ليقدم لي صورة من صفحة لكتاب محلل شئون الدفاع‬ ‫الشهير هيسام سولم الذي يأسف لكون اهتمام الهند مبصالح أربعة‬ ‫ماليني يهودي في إسرائيل يأتي على حساب مشاعر أكثر من مليار‬ ‫مسلم في ‪ 54‬بلدا! ويحذر سولم من أن هذا التقارب الهندوـ صهيوني‬ ‫قد يؤثر سلبا على مستقبل حياة وعمل الهنود حتى في اخلليج العربي‪.‬‬ ‫يردف عباس‪ :‬لكن هذه احلقيقة يحاول احلكام لدينا إغماض العني‬ ‫عنها‪ ،‬إنهم ال يعلمون أن ما حدث ف� � ��ي كوجرات قد يحدث في أي‬ ‫مكان آخر بالهند يجمع املسلمني والهندوس‪.‬‬ ‫كنت أعتق ُد قبل لقائي بعباس أن‬ ‫احلس املؤامراتي يرتبط بقضايانا‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫فقط‪ ،‬لكنني وجدته يرتبط أيضا بقضاي� � ��ا أخرى‪ ،‬ولدى املدافعني‬ ‫عنه مبرراتهم‪ .‬أفكار كثيرة متباين� � ��ة حلقت معي في رحلة الطائرة‬ ‫من بومباي إلى أحمد آباد‪ ،‬العاصمة السابقة لكوجرات‪ ،‬املستبدلة‬ ‫بعاصمة جديدة هي غاندينجار‪ ،‬أو مدينة غاندي‪( ،‬حدث ذلك في‬ ‫‪120‬‬

‫‪ 1960‬عندما قرر أهل كوجرات االنفصال عن بومباي‪ ،‬لتكون لهم‬ ‫واليتهم اخلاصة‪ ،‬وكذلك فعلت والية مجاورة أخرى هي ماهاراشترا)‪.‬‬ ‫اإلسالم يشجع السالم والرحمة والتسامح‪ ،‬هكذا يكتب أبو بكر طواهر‬ ‫في عموده األسبوعي بجريدة تاميز أوف إنديا‪ .‬وفي اجلريدة نفسها‬ ‫مقال ملجبر رحمان عن كتاب ارشاد ماجني (مشكلة اإلسالم اليوم)‪،‬‬ ‫الذي يعد دعوة الستعادة الروح اإلنسانية للدين القومي‪ .‬فهل يختلف‬ ‫احلديث على الورق‪ ،‬عنه في أرض الواقع?‬

‫آلهة وعباد في أحمد آباد‬ ‫من نافذة الطائرة‪ ،‬بني بومباي وأحمد آباد‪ ،‬وقبل أن نختفي في‬ ‫السحاب‪ ،‬يسرح النظر في السواحل الهندية الشاسعة‪ .‬هنا مر الغزاة‬ ‫والتجار على موانئها‪ ،‬وهو ما جعل للهند نصيب في جتارة العبيد‪ .‬في‬ ‫والية كوجرات وحدها ـ التي نقصدها ـ ‪ 41‬ميناء‪ ،‬وفي بعضها استقر‬ ‫بالشتات طائفة السيديني‪ ،‬وهم األفارقة ذوو األصول احلبشية الذين‬ ‫جلبوا بسبب جتارة العبيد‪ ،‬على منت السفن البريطانية والهولندية‬ ‫والبرتغالية‪ ،‬وغيرها‪ .‬إن احلضور البحري القوي تاريخيا للهند في‬ ‫بحر العرب‪ ،‬وارتباط البالد بشبه اجلزيرة العربية وأفريقيا أدخل‬ ‫الهند في منظومة التجارة (العاملية) آنذاك‪ ،‬وأسهم في وجود هذه‬ ‫التجارة‪.‬‬ ‫يعيش اليوم مبناطق الهند الغربية في كوجرات وكارناتاكا وأندريا‬ ‫براديش وماهاراشترا أحفاد هؤالء الذين جلبوا من أفريقيا‪ ،‬لن نرى‬ ‫ذلك اخلط الوراثي في مالمح وجوههم السمراء وحسب‪ ،‬بل وفي‬ ‫العمارة التي تسللت لتنقش بصماتها على األبواب والنوافذ‪ ،‬وتدق‬ ‫بإزميلها على األفاريز والشرفات‪ ،‬وتبقي معاملها في الثياب والسلوك‪.‬‬ ‫لقد بقي في كوجرات وحدها نحو ‪ 20‬ألفا منهم‪ ،‬انخرطوا في األعمال‬ ‫‪121‬‬


‫نهر على َسفَر | حتت سماء كوجرات‬ ‫ٌ‬

‫الدنيا باملناطق العمالية‪ ،‬ونادرا ما جتدهم يفلحون داخل القرى‪ .‬لقد‬ ‫أصبحوا شريحة من نسيج الفقراء الضخم الذي تصافحه العني في‬ ‫املناطق القدمية من املدن واملوانئ الكوجراتية‪ .‬كان يطلق على هؤالء‬ ‫اسم حبشي‪ ،‬ثم لقبوا باسم سيدي‪ ،‬وهم األجراء‪ .‬وهكذا فإن من لم‬ ‫تقطفه في أفريقيا يدا جتارة العبيد عبر احمليط األطلنطي حصدته يدا‬ ‫الرقيق عبر احمليط الهندي‪ .‬ويقال إن معظم هؤالء جاءوا من إثيوبيا‪،‬‬ ‫ولكن منهم أيضا من جاء من منابع النيل في الصومال وغيرها‪ .‬وفي‬ ‫القرن السادس عشر حني بزغ جن ُم األوربيني ـ ومنهم البرتغاليون ـ في‬ ‫املش� � ��هد الهندي‪ ،‬مت جلب العبيد من مناطق إفريقية قاصية داخلية‬ ‫وساحلية مثل موزمبيق‪ ،‬وتنزانيا‪ ،‬وماالوي‪ ،‬والكونغو‪.‬‬ ‫في أحمد آباد وسورات س� � ��نجد قبورا على قارعة الطريق تعلوها‬ ‫أعالم خضراء‪ ،‬إنها لهم! هؤالء هم احلبشيون الذين ينسبون أنفسهم‬ ‫إلى بالل مؤذن الرسول (صلى الله عليه وسلم) ألنه كان من احلبشة‪،‬‬ ‫ويطلقون عليه حضرة بالل‪ ،‬ويقتدون في سلوكهم احلياتي مبا كان عليه‬ ‫بالل (رضي الله عنه)‪ ،‬لعلهم يجدون في القوة ال ّروحانية لهذا النسب‬ ‫مخرجا من فقرهم املدقع‪.‬‬ ‫ً‬ ‫على العكس من هؤالء‪ ،‬القادمني إلى كوجرات من أفريقيا قس ًرا‪ ،‬وعلى‬ ‫النقيض من ساللتهم الفقيرة‪ ،‬يعيش املسلمون املهاجرون من كوجرات‬ ‫في جمهورية جنوب أفريقيا‪ .‬ففي إحدى الضواحي املتاخمة للعاصمة‬ ‫جوهانسبرج توجد أغلبية هندية كوجراتية مسلمة‪ ،‬وقد تأجج حضورهم‬ ‫خالل احلرب على أفغانستان مبلصقات وزعوها تندد باحلرب‪ ،‬ووزع‬ ‫الكثير منهم شرائط صوتية معادية‪ .‬هؤالء يقولون إنهم ينتمون لإلسالم‬ ‫أوال وأخي ًرا‪ ،‬وإنهم ليسوا هنو ًدا ملجرد أن آباءهم وأجدادهم جاءوا من‬ ‫كوجرات‪ ،‬وبالرغم من ذلك ال تزال عائالت كثيرة منهم متارس حياتها‬ ‫وفقا للطقوس الكوجراتية في األعياد واملالب� � ��س والزواج‪ ،‬حتى تلك‬ ‫‪122‬‬

‫العادات املقتبسة ثقافية من تقاليد الهندوس‪.‬‬ ‫تهبط بنا الطائرة الصغيرة في أحمد آباد‪ ،‬حيث جند في استقبالنا‬ ‫(ر َزّاق); وهو صديق من أوديبور (في راجستان)‪ ،‬جاء إلى أحمد آباد ليعقد‬ ‫بضع صفقات في بورصة سوق القماش‪ ،‬وسيطلعنا في األيام القادمة‬ ‫على خبايا كثيرة في املدينة‪ ،‬بفضل أصدقاء طفولته املقيمني بها‪.‬‬ ‫أقرأ أحدث تقرير عن كوجرات‪ :‬حتققت للوالية أعلى نسبة منو‬ ‫اقتصادي في الهند‪ ،‬وهي ‪ %15‬خالل السنة املالية ‪ ،2004/3‬وبنسبة‬ ‫‪3‬ر‪ %10‬خالل السنوات الثالث املاضية‪ ،‬وهي النسبة األعلى أيضا‪ .‬لكن‬ ‫َص َف ُعنا مشاه ٌد‬ ‫األرقام غير ما سنراه‪ ،‬تُصافِ ُحنا في املدينة مشاه ٌد وت ْ‬ ‫أخرى‪ :‬شحاذون ليس فيهم من احلياة سوى األنفاس‪ ،‬ومحسنون لست‬ ‫ِ‬ ‫ومجمعات جديدة‬ ‫للسقوط‪،‬‬ ‫بيوت تراثية آيلة‬ ‫ٌ‬ ‫تعرف عنهم غير األسماء‪ٌ ،‬‬ ‫تتحدث بلغة العوملة‪ ،‬أطواق من ورد متوهج وس� � ��حابات من عطور‬ ‫جلر العربات‪ ،‬وأفيال ملؤانسة السياح‪ ،‬وبقر‬ ‫التوابل النفاذة‪ِ ،‬جما ٌل ِ ّ‬ ‫للعبادة‪ ،‬وخيول للقيادة‪ ،‬غربا ٌن وعصافي ُر‪ ،‬فراشات خضراء وسناجب‬ ‫سمراء‪ ،‬بحيرةٌ تغرد فيها مراكب شراعية‪ ،‬وعشوائيات تتعذب حتت‬ ‫وطأة التلوث‪ ،‬دراجات نارية‪ ،‬وعربات ريكشا‪ ،‬سيارات يحركها العادم‪،‬‬ ‫وأخرى حترك الغبار‪ ،‬شعارات رنانة تخفي حتتها الكثير‪ ،‬وعبارات‬ ‫فضفاضة عن رياح التغيير‪ ،‬وآراء تلونها األيام‪ ،‬مصانع تقليدية يدوية‬ ‫تنقرض‪ ،‬وأخرى ديناصورية تنه� � ��ض متخمة باملال والعمال واآلالت‬ ‫احلديثة‪ ،‬آلهة هندوسية مصنوعة من الورق واحلجر واخلشب‪ ،‬وعباد‬ ‫مسلمون يعيشون في بيوت من ورق وحجر وخشب!‬

‫(أسلم)‬ ‫يوم في حياة ْ‬

‫في احلي املسلم بأحمد آباد‪ ،‬ال بد أن يعيد املعماري تعريف كلمة‬ ‫(املنزل)‪ .‬فقد رأينا بيوتا ليس فيها من خصائص املنزل سوى أنها‬ ‫‪123‬‬


‫نهر على َسفَر | حتت سماء كوجرات‬ ‫ٌ‬

‫تضم س� � ��كانا‪ .‬كثير من هذه البيوت (مجازا) ليست لها رفاهية أن‬ ‫يكون لها َد َر ٌج (سلم) داخلي‪ ،‬لذا هناك بيت من طابقني أو أكثر يصل‬ ‫بينها سلم خارجي‪ ،‬شبه قائم‪ ،‬تستعني بحبل للصعود إليه‪ .‬قد جتد‬ ‫الساكن في الطابق األدنى والدكان في األعلى‪ ،‬ورمبا العكس‪ ،‬وكال‬ ‫البابني على الشارع! قد جتد احلمام في نهاية البيت‪ /‬الغرفة‪ ،‬وقد‬ ‫جتده باخلارج‪ ،‬ليخدم عدة بيوت‪ ،‬وقد ال جتده على اإلطالق‪ .‬قد‬ ‫جتد البيت مجرد سرير‪ ،‬يستند إلى جدار بالنهار‪ ،‬ثم يُ ُ‬ ‫بسط بالليل‪،‬‬ ‫لينام عليه صاحبه‪ .‬قد جتد البيت مجرد أريكة حجرية حتت نافذة‪.‬‬ ‫بل ورمبا كان البيت عش� � ��ة من الصفيح‪ ،‬أو خيم� � ��ة من اخليش‪ ،‬أو‬ ‫ستارا من القماش‪ ،‬أو بناء من الطني‪ ،‬أو علبة من الورق‪ ،‬أو كيانا من‬ ‫اخلشب‪ ،‬أو أطالال من بعض ذلك أو كله‪.‬‬ ‫كان بيت (أسلم) قياسا إلى ما رأيناه قص ًرا‪ .‬نصعد السلم الداخلي‬ ‫مرورا بغرفة داخلية‪ ،‬لنجد غرفة املعيشة التي تضم أرجوحة خشبية‬ ‫ميكن تبديل وجهها لألمام واخللف‪ ،‬جنلس أمام مرآة عتيقة عمرها‬ ‫سبعون سنة‪ ،‬في انتظار الشاي‪ .‬أتأمل السلم احلديدي الذي يصعد‬ ‫إلى الغرفة العلوية واألخيرة‪ ،‬نعجب كيف يصعد األطفال عليه? يقول‬ ‫أسلم‪ :‬ال أحد يصعد الدور العلوي سواي أنا وزوجتي‪ ،‬وهنا جنلس‬ ‫جميعا‪ ،‬واألوالد ينامون بالطابق السفلي!‬ ‫لدى أسلم محل لبيع النظارات‪ ،‬ليست لديه بضاعة هندية‪ ،‬حتى‬ ‫بضاعته املقلدة واردة أوربا (يَنفي أن تكو َن من الصني)‪ .‬بعد أن يودع‬ ‫صباحا‪ ،‬يصحب‬ ‫ابنته الصغيرة أنجْ ُ م وأخاها عامر إلى مدرستيهما‬ ‫ً‬ ‫ابنه أسد الذي يساعده في جتارته‪ .‬سيعود أسلم لتناول وجبة الغداء‬ ‫مع أسرته في املساء‪ ،‬فهي الوجبة الرئيسية‪ .‬يدرس ابناه في مدرسة‬ ‫كوجراتية عامة‪ .‬أس� � ��أل عامر عن وجود أية مضايقات من زمالئه‬ ‫الهندوس‪ ،‬فيجيب بالنفي‪ .‬يعقب رزاق وأس� � ��لم بأن اخلالفات بني‬ ‫‪124‬‬

‫املسلمني والهندوس ـ التي حدثت قبل سنوات ـ لن تتكرر‪ ،‬ألن ما كان‬ ‫وقفت وراءه نوايا سياسية‪ ،‬فاملرش� � ��حون في البرملان الهندي أرادوا‬ ‫ضمان أصوات الهندوس األغلبية في كوجرات على حساب االستقرار‪،‬‬ ‫وهو ما فطن إليه أبناء أحمد آباد‪ .‬اليوم عاد أبناء كوجرات إلى سابق‬ ‫عهدهم تاريخيا‪ ،‬كيانات متعددة األعراق تعيش في سالم‪.‬‬ ‫هل كان أسلم واه ًما? تتحدث الصحف عن النائب الهندي الذي‬ ‫يحذر من مخاطر زيادة املسلمني في كوجرات‪ ،‬مقارنة بنقص عدد‬ ‫الهندوس‪ .‬إنه ـ النائب ـ يريد أن يبقى التوازن قائما‪ ،‬حتى ال يختل‬ ‫النسيج االجتماعي‪ .‬يبلغ عدد املسلمني نحو ‪ %8‬من خمسني مليونا‬ ‫(ستون باملائة منهم من النس� � ��اء) هم سكان كوجرات‪ ،‬أقلية تستحق‬ ‫أكثر مما تناله من خدمات ورعاية للمقدسات ووظائف‪.‬‬ ‫وأكاد أسأل نفس� � ��ي‪ ،‬إذا كانت والية كوجرات تستثمر في ‪229‬‬ ‫مشروعا صناعيا متثل نسبة ‪ 8‬ر ‪ %16‬من االستثمار الصناعي في‬ ‫ً‬ ‫الهند‪ ،‬ومن عالمات كفاءة التوظيف بها وجود ‪ 5‬الكات من املوظفني‬ ‫احلكوميني‪ ،‬فضال عن تدريب مليون ونصف املليون موظف خالل‬ ‫فترة الثمانية عشر شه ًرا األخيرة‪ ،‬فكم يبلغ حجم العمالة املسلمة‬ ‫في ذلك كله?‬ ‫إن األرقام ال تتوقف عن بيان الفارق الشاسع بني احلضور الغائب‬ ‫لألقلية املسلمة في مقابل احلضور الراس� � ��خ لألغلبية الهندوسية‬ ‫في التعليم‪ ،‬على سبيل املثال‪ :‬فمن بني العدد الكلي للطالب الذين‬ ‫يكملون دراس� � ��تهم في جامعة كوجرات بعد مراحل التعليم األولية‪،‬‬ ‫يبلغ عدد املس� � ��لمني ‪ 1‬ر ‪ % 5‬فقط‪ ،‬فيما تبلغ نس� � ��بة الهندوس ‪7‬ر‬ ‫‪ .%93‬ومن بني هؤالء املس� � ��لمني املنخرطني باجلامعة يرسب ‪.%32‬‬ ‫تعلو نسبة املنضمني للجامعة من املسلمني في فادودرا (‪62‬ر ‪،)%10‬‬ ‫وال تتخطى نسبة الدارسني لإلدارة احلديثة والتكنولوجيا من بينهم‬ ‫‪125‬‬


‫نهر على َسفَر | حتت سماء كوجرات‬ ‫ٌ‬

‫نسبة ‪ 7‬ر‪ ،)!( %1‬حيث يفضل أغلبية املسلمني دراسة اللغات‪ ،‬كالهندية‬ ‫والكوجراتية‪ ،‬يليها اختيار العلوم االجتماعية‪ .‬وال يعمل في جامعة‬ ‫كوجرات بأكملها ـ س� � ��واء في طاقم التدريس أو الوظائف األخرى ـ‬ ‫سوى سبعة مسلمني‪ ،‬أي ما يوازي نسبة ‪6‬ر‪ %2‬وحسب‪ ،‬ومنهم خمسة‬ ‫في أقسام اللغتني الفارسية واألردية‪ ،‬وإدارة األعمال‪ .‬بينما في كلية‬ ‫العلوم ـ حيث يوجد ‪ 11‬قسما ـ ال يوجد في هيئة التدريس أو الشئون‬ ‫اإلدارية مسلم واحد‪ ،‬وهذه األرقام مأخوذة من تقرير حكومي لوالية‬ ‫كوجرات (ديسمبر ‪ .)2005‬بجانب اللغات يدرس املسلمون بأقسام‬ ‫كلية التجارة (‪ )%9‬والقانون (‪ ،)%4‬لكن شانديبي شيخ رئيس قسم‬ ‫اللغة األردية يقترح تعيني أحد املختصني باللغة األردية في مكتبة‬ ‫اجلامعة‪ ،‬التي تضم عشرة آالف كتاب باألردية ال يوجد من يعرف‬ ‫محتواها بني العاملني باجلامعة!‬ ‫لقد نالت كوجرات ثالث جوائز من جمعية كمبيوتر الهند‪ ،‬لكونها طبقت‬ ‫نظم احلكومة اإللكترونية‪ ،‬ولتوجهها اخلدمي ومسعاها التكنولوجي‪.‬‬ ‫ونالت جائزة االمتياز التقني الهندية خالل سنة ‪ 2005‬لكونها الوالية‬ ‫األكثر تنمية لقطاع الطاقة بها‪ .‬كما منحت جائزة مجلة إنديا توداي‬ ‫الستثمارها في مجال البيئة واحلرية االقتصادية‪ .‬ومت توثيق ‪%100‬‬ ‫من أراضي الوالية إلكترونيا ورقميا‪ .‬وبلغت ش� � ��بكة خطوط الفيبر‬ ‫البصرية ‪ 50‬ألف كيلومتر مما يجعلها األولى من نوعها في آسيا‪.‬‬ ‫ولكن ذلك التطور يستثني األقلية املس� � ��لمة‪ ،‬التي يصفونها بـ «األخ‬ ‫األصغر» التي عليها أن تقبل بإمالءات أخيها األكبر!‬

‫عمارة آيلة للزوال‬ ‫من ش� � ��رفة بيت أس� � ��لم أتطلع إلى إحدى بوابات املدينة‪ ،‬حتكي‬ ‫مج ًدا غاب ًرا‪ .‬كل األمجاد في أحمدآباد غابرة‪ ،‬ليس فقط نسبة إلى‬ ‫‪126‬‬

‫فرق املوسيقى الشعبية التي تعزف على اآلالت النحاسية واإليقاعية‪ ،‬ألوان صارخة تنتظر‬ ‫أن تبدأ بالعمل إلبهاج املستعمني رغم مسحة من بؤس على الوجوه‪.‬‬

‫‪127‬‬


‫نهر على َسفَر | حتت سماء كوجرات‬ ‫ٌ‬

‫زمان مضى‪ ،‬بل أيضا لكونها في حاضر مليء بغبار العوادم‪ .‬اآلثار‬ ‫اإلسالمية العظيمة في املدينة ـ بال استثناء ـ في حال يُرثى لها‪ .‬لم‬ ‫متتد إليها ي ٌد لترمم مكانا‪ ،‬أو جت� � ��دد آخر‪ ،‬أو حتيي أث ًرا‪ .‬هنا آثار‬ ‫أحمد آباد متروكة ملصيرها‪ُ .‬جل املساجد تهدمت مآذنها‪ ،‬كثير من‬ ‫بيوت الله لم يعد لها سوى القباب‪ ،‬حتى املسجد اجلامع‪ ،‬أكبر مساجد‬ ‫أحمد آباد! إنها دعوة إلى مؤسسة األغا خان للعمارة اإلسالمية لتقيم‬ ‫مسابقة لترميم املدينة‪ ،‬أو نداء إلى اليونسكو ليتبنى إنقاذ آثار عمرها‬ ‫قرون‪ ،‬أو استغاثة موجهة لدول منظمة املؤمتر اإلسالمي لالهتمام‬ ‫بترميم مساجد تراثية شهدت ميالد اإلسالم في شبه القارة الهندية‪.‬‬ ‫فتراث مدينة أحمد آباد املعماري األصيل قد يزول ذات يوم والدول‬ ‫الراعية للتراث اإلنساني واإلسالمي منوطة بإنقاذ املدينة ـ العتيقة ـ‬ ‫املس َّورة املشهورة بشوارعها الضيقة التي تشبه متاهات أبدية‪ .‬أقول‬ ‫هذا ولي لو ٌم على حكومة كوجرات التي تتخذ من سنة ‪ 2006‬عا ًما‬ ‫للسياحة‪ ،‬وتهمل جزءا مهما من سياحتها الدينية اإلسالمية‪ ،‬وفي‬ ‫املقابل جند أنها حازت جائزة التراث اآلس� � ��يوي الباسيفيكي التي‬ ‫متنحها اليونس� � ��كو لترميم معبد جورودوارا الهندوسي إثر ما ناله‬ ‫خالل زلزال الكبات‪ ،‬في كوتش‪.‬‬ ‫تسجل املس� � ��اجد واألضرحة حضور عهد السالطني بقوة‪ ،‬ففي‬ ‫القرن اخلامس عشر امليالدي مت تأسيس مسجد أحمد شاه (‪،)1414‬‬ ‫ومسجد سيد علم (‪ ،)1420‬ومسجد مالك علم (‪ ،)1422‬واملسجد‬ ‫اجلامع (‪ ،)1424‬الذي يحتل مركز املدينة واحلياة فيها (حني أنشئت)‪،‬‬ ‫وشيده السلطان أحمد شاه األول‪ ،‬وتسقفه ‪ 15‬قبة رئيسية‪ ،‬تقوم على‬ ‫ثالثمائة عمود أسطواني باذخ اجلمال‪ ،‬والبوابة الثالثية (‪ )1458‬وبوابات‬ ‫املدينة (‪ ،)1486‬ومسجد وضريح بيبي كوكي (‪ ،)1469‬ومسجد وضريح‬ ‫قطب العلم (‪،)1452‬ومسجد قطب الدين أحمد شاه (‪ ،)1449‬وفي‬ ‫‪128‬‬

‫القرن التالي شيد مسجد سيدي سياد (‪ ،)1573‬مبنارتيه املصمتتني‬ ‫(ال ميكن املرور عبرهما إلى السقف)‪ ،‬ومسجد الشيخ محمد حسن‬ ‫شيستي‪ ،‬ومسجد وضريح راني رومباتي (‪ ،)1550‬ومسجد وضريح‬ ‫راني صابري (‪ )1514‬املشيد في عهد السلطان مظفر شاه‪ ،‬بواسطة‬ ‫أرملة السلطان محمود املس� � ��مى األثر باسمها‪ ،‬وقد ظهرت ملساتها‬ ‫األنثوية في عمارة املسجد من خالل الزخرف الذي يشبه اجلواهر‪،‬‬ ‫واتزان املنارتني مع قاعة الصالة كما تتزن القالدة في اجليد‪ ،‬ومسجد‬ ‫بالدي كوتشراب (‪ ،)1515‬وفي القرن السابع عشر بني ضريح ومسجد‬ ‫نواب سردار خان (‪ ،)1669‬أما أشهر املعابد فمعبد سوامي نارايان‪،‬‬ ‫ومعبد هاتسي سنغ جني (‪.)1848‬‬ ‫وتعد املنارتان املهتزتان من بني أشهر املعالم اإلسالمية األثرية في‬ ‫أحمد آباد‪ ،‬ويقال إن من شيدهما ـ ضمن مسجد تهدم سنة ‪ 1755‬ـ‬ ‫هو املعماري املسمى باسمه املسجد‪ :‬سيدي بشير‪ .‬وقد شيدت هاتان‬ ‫املنارتان في عهد محمود شاه األول (‪ .)1511- 1458‬وفي تفاصيل‬ ‫املنارتني احلجرية نرى مرشات عطر‪ ،‬وباقة من ورد املدينة‪ ،‬وأوراقا‬ ‫تشبه أنصاف شمس‪ ،‬وحلي من األحجار الكرمية‪.‬‬ ‫وبجانب هذه العمارة التراثية‪ ،‬ميكننا أن نتطلع إلى أربعة أمناط‬ ‫معمارية مختلفة‪ :‬البيوت التقليدية التي يناهز عمرها القرن‪ ،‬وال تزال‬ ‫حتتفظ بخصائصها املعمارية التي مي� � ��زت احلس الكوزموبوليتاني‬ ‫للمدينة‪ ،‬بشرفاتها اخلشبية أو احلجرية وأيقوناتها التي حتمل سنوات‬ ‫اإلنشاء وصور اآللهة والزخارف‪ ،‬ونوافذها املستقيمة حينا واملقوسة‬ ‫أحيانا واملقسمة بطول الواجهة إلى نوافذ كبيرة للواقفني‪ ،‬وصغيرة‬ ‫للناظرين اجلالسني‪ ،‬واملدخل املرتفع عن األرض‪ ،‬ببهو يفضي لباب‬ ‫خشبي من ضلفتني‪ ،‬ثم هناك النمط العشوائي الذي أشرنا إليه سابقا‬ ‫ومنه الكثير في احلي املسلم‪ .‬أما في احلي الهندوسي‪ ،‬الذي يتميز‬ ‫‪129‬‬


‫نهر على َسفَر | حتت سماء كوجرات‬ ‫ٌ‬

‫بشوارع مرصوفة نظيفة فنلمح النمط الثالث للبيوت التي تقام في‬ ‫مداخلها املعابد‪ ،‬وأخي ًرا النمط املعاصر‪ ،‬في أحياء أحمد آباد اجلديدة‪،‬‬ ‫والذي ينتمي إلى ال مكان‪ ،‬بالواجهات األسمنتية‪ ،‬والشرفات املعدنية‪،‬‬ ‫والنوافذ الزجاجية‪ ...‬إلخ‪ .‬وتزهو املدينة املعاصرة بأنها الوحيدة في‬ ‫العالم التي تضم أربعة من شواهد الكوربوازييه املعمارية‪ ،‬فضال عن‬ ‫مجموعة أعمال للمعماري لويس خان‪ ،‬واسكتشات مشاريع لفرانك‬ ‫لويد رايت‪ .‬بعد متحف املدينة‪ ،‬نرى مس� � ��رح طاغور‪ ،‬وهو بناء قيد‬ ‫اإلجناز‪ ،‬ويعد من الش� � ��واهد العمالقة التي ستضيء املدينة ثقافيا‬ ‫خالل الشهور القادمة‪.‬‬

‫قصة مدرستني‬ ‫يجذبنا الفضول ونحن نعبر الزحام مساء‪ ،‬لنسأل عن دور علوي‬ ‫فنجاب بأنه مدرسة‪ .‬نصعد‬ ‫مضاء في طريقنا املظلم باحلي املسلم‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫السلم اخلارجي مستعينني باحلبل‪ ،‬لنجد فصال دراسيا ألطفال من‬ ‫كافة األعمار يدرسون القرآن الكرمي‪ .‬يخبرنا معلمهم أن الدراسة‬ ‫باملجان‪ ،‬وأن املكان ينفق عليه فؤاد بي تاجر الس� � ��اري (زي النساء‬ ‫في الهند)‪ .‬أتطلع لوجوه األوالد وبعضهم لم يتجاوز الثالثة أعوام‪.‬‬ ‫وكثير منهم يدرس في مدرسة صباحية‪ .‬هم يحفظون هنا القرآن‬ ‫باللغة العربية‪ ،‬التي ال تدرس ف� � ��ي كوجرات‪ .‬في مكتبة قريبة أجد‬ ‫نسخا للقرآن الكرمي‪ ،‬بعضها بالكوجراتية‪ ،‬وبعضها اآلخر بالهندية‪،‬‬ ‫اللغتني الرسميتني في الوالية‪.‬‬ ‫ذات صباح وفي طريق نائية بأحمد آباد‪ ،‬تقع العيون على صبايا‬ ‫يرتدين اللون األبيض ويعلو صخبهن فيغمر الشارع بضحكات ال تنتمي‬ ‫للصورة البائسة احمليطة باملكان والزمان‪ .‬كانت الفتيات ميضني حصة‬ ‫الرياضة يلهون في الفناء املترب الصغير امللحق مبدرسة مشتركة‬ ‫‪130‬‬

‫معبد هندوسي وناسك ومتبتلة‪ ،‬مشاهد متكررة في أنحاء كوجرات‪.‬‬

‫‪131‬‬


‫نهر على َسفَر | حتت سماء كوجرات‬ ‫ٌ‬

‫خلف سور متهالك وبوابة صدئة‪ ،‬عرفنا أنها فترة صباحية تضم ‪500‬‬ ‫دارس ودارسة‪ ،‬فيما تضم الفترة املسائية نحو ضعف هذا العدد‪.‬‬ ‫في هذه املدرسة املسماة آسيس ودياني‪ ،‬يسلمني ملصق صغير إلى‬ ‫دائرة اخلطر احمليطة بالبنات في كوجرات‪ :‬اختفاء أكثر من ‪ 40‬ألف‬ ‫فتاة في كوجرات وحدها‪ ،‬ملاذا?! ويقدم امللصق صورة بيانية للعدد‬ ‫املفقود سنويا‪ ،‬بني ‪ 976‬فتاة في سنة ‪ ،1961‬و‪ 933‬في سنة ‪.2001‬‬ ‫الفقر‪ ،‬واملرض‪ ،‬ورمبا اجلرمية‪ ،‬تقف جميعها وراء تسرب البنات من‬ ‫املدارس‪ ،‬واحلياة‪ ،‬بالرغم من خفض تسرب الطالب التعليمي من‬ ‫نحو ‪ %45‬قبل خمس سنوات‪ ،‬إلى نحو ‪ %19‬فقط‪ ،‬مع توظيف مائة‬ ‫ألف مدرس‪ ،‬وإنشاء ‪ 66‬ألف غرفة دراسية في آخر ثالث سنوات‬ ‫في كوجرات‪.‬‬ ‫في مدرسة آسيس ودياني الكوجراتية هي اللغة األم‪ ،‬وبجانبها‬ ‫يدرس الطالب الهندية‪ ،‬وبعض املواد اإلجنليزية‪ .‬تغمر االبتسامة وجوه‬ ‫البائسني والبائسات في أحد فصول املدرسة‪ ،‬حني يغمرها ضوء آلة‬ ‫التصوير‪ .‬كان مدير املدرسة نائما‪ ،‬على ما أعتقد‪ ،‬حتى أنه عندما‬ ‫عاد بنا إلى مكتبه‪ ،‬اكتشفنا أن باملكتبة أريكة معدة كسرير‪ ،‬أعادتني‬ ‫صورته للصورة التقليدية للبيت الكوجراتي في أحمد آباد‪.‬‬

‫الثورة البيضاء‬ ‫حني تقترب من لوحة املوزاييك‪ ،‬تستطيع أن ترى حدود األلوان‬ ‫املتداخلة‪ .‬لن جتد أكثر تعقي ًدا من لوحة كوجراتية في تقاطع ألوانها‪.‬‬ ‫االقتراب من احلكايات الهامشية في مدينة كأحمد آباد يجعلك تنسج‬ ‫صورة جديدة للمدينة‪.‬‬ ‫أولى الصور املوزاييكية هي الثورة البيضاء التي يقودها أصحاب‬ ‫منجم اللنب الهندي ـ إذا صح التعبير ـ في كوجرات‪ .‬فالثروة اللبنية‬ ‫‪132‬‬

‫مهددة باقتحام منتجات من واليات أخرى (ورمبا بلدان أخرى)‪ ،‬وفي‬ ‫حني يفخر الكوجراتي صباح كل يوم بشرب كوب من ألبان البقر في‬ ‫واليته‪ ،‬حتت شعار لنب طازج كل يوم‪ ،‬تهدد الشركات الضخمة التي‬ ‫اس� � ��تعدت لهذا الغزو األبيض بأن جتعل ذلك الشعار نفسه عنوانا‬ ‫ملنتجاتها‪ .‬كان الكوجراتي يدفع شهريا لبائع التجزئة مقدما نظير‬ ‫نصيب من اللنب‪ ،‬يوفره احتاد تس� � ��ويق اللنب التعاوني في كوجرات‪،‬‬ ‫لكن ذات صباح‪ ،‬تدخل حرب اللنب منحى آخر‪ ،‬حني يفاجأ املستهلك‬ ‫بوجود نوع وحيد فقط عند البائع‪ ،‬توفره هيئة تنمية األلبان الوطنية‪،‬‬ ‫وتغري باعة التجزئة بعمولة أكبر‪.‬‬ ‫في الشارع ستجد البقر الكوجراتي مدلال‪ ،‬وحتى البقرات السمان‬ ‫التي ال جتد من يقدم لها طعاما يوميا (كما في املشهد املألوف أمام‬ ‫املعابد)‪ ،‬فإن هناك من يساعدها ـ ويش� � ��اركها ـ في تناول املخلفات‬ ‫من صناديق القمامة!‬

‫مانشستر الهند‬ ‫بني متحف املدينة ومسرح طاغور يصادفنا متثال تكرميي تهديه‬ ‫املدينة إلى روح راو باهادوب رانشو ليالل تشوتاالل‪،)1898 - 1824( ،‬‬ ‫أول من أدخل صناعة القطن في أحمد آباد وأول رئيس هندي لبلدية‬ ‫أحمد آباد من سنة ‪ 1884‬حتى وفاته‪ .‬لفتة رائعة لرائد تزهو أحمد‬ ‫آباد بشجرة الصناعة التي غرسها فيها‪.‬‬ ‫يقول لنا أحد العاملني في صناعة النسيج بأحمد آباد‪ ،‬إن في املدينة‬ ‫‪ 135‬مصنعا تقليديا كانت تعمل بالبخار واآلالت البدائية‪ ،‬قبل أن يتوقف‬ ‫منها ‪ 110‬مصانع‪ ،‬وتبقى ‪ 25‬تصارع البقاء‪ .‬املصنع على بعد نحو س� � ��تة‬ ‫كيلومترات‪ ،‬وفي مدخله عدة مكاتب أحدها يجتمع فيه ش� � ��قيقان يديران‬ ‫املصنع‪ .‬في الطريق إلى أقسام املصنع الداخلية منر بالنساء الالتي يعملن‬ ‫‪133‬‬


‫نهر على َسفَر | حتت سماء كوجرات‬ ‫ٌ‬

‫في نقل احلطب لتبتلعه املراج ُل النهمة التي تنت� � ��ج البخار الالزم حلركة‬ ‫اآلالت‪ .‬نعبر ممرات ضيقة بني اآلالت التي تنتمي لعصر الصناعة األول‪،‬‬ ‫تكاد احلرارة تصهر ذرات الهواء‪ ،‬فيما تئن التروس وراء دخان اآلالت‪ ،‬بني‬ ‫تلوين وجتفيف القماش‪ ،‬وطباعته‪ ،‬وطيه‪ .‬في قسم التصميم يجلس حفنة‬ ‫رجال بعضهم يرسم املوتيفات واآلخرون ينسخونها إلى الكمبيوتر لتلوينها‪،‬‬ ‫قبل أن تنقل إلى شاشات حريرية للطباعة بأكثر من لون‪.‬‬ ‫يعمل في املصنع نحو ‪ 300‬ش� � ��خص‪ ،‬حتت ظ� � ��روف عمل صعبة وغير‬ ‫صحية‪ ،‬ينتجون حوالي ‪ 80‬ألف ياردة م� � ��ن القماش كل يوم‪ ،‬تتجه كميات‬ ‫كثيرة عبر احلاويات إلى دبي‪ ،‬وبعض اإلنتاج إل� � ��ى دول أوربية والواليات‬ ‫املتحدة‪ .‬والسؤال إلى متى تصمد هذه املصانع الصغيرة?‬ ‫كنا نزور أحد التجار الكبار فيما يشبه بورصة للقماش‪ ،‬تتراوح أسعار‬ ‫املتر فيه من ‪ 25‬إلى ‪ 58‬روبية للمتر (الدوالر = نحو ‪ 45‬روبية)‪ .‬الكثير من‬ ‫هذه األقمشة يتم تصديره عبر أفراد وشركات إلى أوربا وباقي دول العالم‬ ‫(ومنها منطقة اخلليج العربي)‪ .‬لكن الطلب املتنامي على القماش ضئيل‬ ‫التكلفة‪ ،‬وميكنة املصانع الزاحفة على املنطقة الصناعية في أحمد آباد‪،‬‬ ‫لكي حتافظ املدينة على لقبها بوصفها مانشستر الهند ـ تنافسه عليها اليوم‬ ‫مدينة سورات ـ جاء على حساب هذه املصانع اليدوية التي أغلقت واح ًدا‬ ‫بعد اآلخر‪ .‬نعثر بصعوبة على أحد هذه املصانع التي تكافح للبقاء‪ ،‬ويعمل‬ ‫بها نحو عشرين من الرجال والنس� � ��اء‪ .‬بعض األيدي العاملة اجتهت إلى‬ ‫صناعات أخرى‪ ،‬بعضها موسمي‪ ،‬مثل صناعة الطائرات الورقية للمهرجان‬ ‫الذي تعيشه مدن كوجرات ـ وخاصة أحمدآباد ـ في يناير من كل سنة‪.‬‬

‫متحف كاليكو‬ ‫قرب الفسطاط في مصر القدمية‪ ،‬كشفت التنقيبات خالل القرن‬ ‫التاسع عشر‪ ،‬عن بقايا من األقمشة التي مت تصنيعها في كوجرات‪.‬‬ ‫‪134‬‬

‫هذه اللقى‪ ،‬وغيرها من املنس� � ��وجات الهندية املشتراة من بريطانيا‬ ‫والواليات الهندية األخرى تنام بسالم حتت سقف متحف واحد في‬ ‫أحمد آباد هو متحف كاليكو لصناعة النسيج في الهند الذي يزاوج‬ ‫بني الفن والتاريخ‪ ،‬في عرس تضمه القاعات التي يشبه املرور فيها‬ ‫دخوال إلى بيت جحا‪.‬‬ ‫ال بد من تسجيل اسمك مسبقا لتغوص في رحلة قوامها ساعتان‬ ‫داخل املتحف‪ ،‬مخصصة ألقل من ‪ 30‬زائرا كل يوم‪ .‬تصحبك أستاذة‬ ‫في تاريخ فن النس� � ��يج‪ ،‬ال يحد من صرامة إرشاداتها سوى فكاهة‬ ‫جتدها مرة أو مرتني في كل قاعة‪ .‬ستمر بني قرون من امللبوسات‬ ‫القطنية واحلريرية‪ ،‬تسلمك اخليوط املطبوعة لسواها املغزولة‪ ،‬تتأمل‬ ‫مجموعة من أطقم الساري والشال النسائية من كافة واليات الهند‬ ‫(استخدم الش� � ��ال للمرة األولى في كشمير س� � ��نة ‪ 1450‬وظهر في‬ ‫أوربا للمرة األولى سنة ‪ ،)1767‬ستملي العيون مبط َّرز ٍ‬ ‫َات لألرض‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ومعلقات للجدران وس� � ��تائر للنوافذ‪ .‬هاهنا خيا ٌم للسلطان‪ ،‬وهناك‬ ‫ٌ‬ ‫غرف قماشية للحرمي‪ ،‬وكلها من أنفس املجموعات التي مت شدها إلى‬ ‫قوائم خشبية‪ ،‬وتغطيتها بالبالستيك املفرغ من الهواء‪ .‬لكن أعجب‬ ‫ما رأيت كان بابا خشبيا مغطى بالعاج املقسم إلى شرائط ووردات‪،‬‬ ‫ال شك أنه استغرق عشرات الس� � ��اعات إلجنازه‪ ،‬فضال عن الكمية‬ ‫الكبيرة من أنياب الفيل املس� � ��تخدمة بحليات� � ��ه‪ ،‬املثبتة في ما بينها‬ ‫بالنحاس‪ .‬ومبنى املتحف نفسه إحدى العجائب‪ ،‬ليس فقط ملساحة‬ ‫اللون األخضر املقام عليها‪ ،‬ولكن ألنه موجود في بيت تقليدي‪ ،‬جلبت‬ ‫أخشابه من بورما (كانت تابعة للهند)‪ ،‬تهدم‪ ،‬فأعيد بناؤه باخلرسانة‪،‬‬ ‫وأضيفت إليه واجهات خشبية نفذها حرفيو أحمد آباد‪ ،‬بحيث أمكن‬ ‫نقلها وإهداؤها للمتحف‪.‬‬ ‫‪135‬‬


‫نهر على َسفَر | حتت سماء كوجرات‬ ‫ٌ‬

‫معا في السماء‬ ‫غاندي ونهرو ً‬ ‫في ذلك االحتفال السنوي‪ ،‬تطرز السماء بأشكال بديعة وألوان‬ ‫رائعة‪ ،‬ستجد لوحة مرسومة‪ :‬غاندي ونهرو م ًعا في السماء‪ ،‬ستجد‬ ‫الغزالن القادمة من براري كوجرات الشمالية‪ ،‬مع الطيور املهاجرة‬ ‫العابرة لس� � ��هولها‪ ،‬س� � ��تجد الزخارف اليدوية‪ ،‬والنقوش اإلسالمية‬ ‫والعالمات الهندوسية‪ ،‬كل ذلك حتت سماء أحمد آباد‪.‬‬ ‫قبل شهر ونصف من انطالق املهرجان (عند شروق شمس صباح‬ ‫الرابع عشر من يناير)‪ ،‬يسافر هؤالء احلرفيون الذين توارثوا مهارة‬ ‫صناعة الطائرات الورقية من مدن جيبور‪ ،‬وأجرا‪ ،‬وباريللي‪ ،‬ورامبور‪،‬‬ ‫وماتهورا‪ ،‬وبيكانر‪ ،‬والكناو‪ ،‬وغيرها‪ ،‬ليحطوا الرحال في أحمد آباد‪،‬‬ ‫ليصنعوا الطائرات أو يبيعوا ما لديه� � ��م منها‪ .‬يعلنون عن مهاراتهم‬ ‫بتزيني واجهات محالتهم ومنازل إقامتهم بأشكال كثيرة من الطائرات‬ ‫الورقية ذات اخلامات البراقة‪.‬‬ ‫ليس احلصول على طائرة ورقية جميلة هو غاية املراد في هذا‬ ‫املهرجان‪ ،‬بل تتحول س� � ��ماء أحمد آباد إلى س� � ��احة منازلة يحاول‬ ‫كل متسابق أن يصرع طائرة منافس� � ��ه من فوق أسطح املنازل وفي‬ ‫الساحات العامة‪ .‬تتعالى صيحات املنتصرين ممتزجة مع صرخات‬ ‫املنكس� � ��رين‪ ،‬دون كلل أو ملل‪ ،‬حتى تؤذن الشمس بالغروب‪ ،‬ويرحل‬ ‫الضوء‪ ،‬فتختفي اخليوط في أيدي اجلميع مثلما تبتلع ظلمة السماء‬ ‫ألوان الطائرات‪.‬‬ ‫في متحف صغير‪ ،‬يحكي تاريخ الطيران‪ ،‬حقق بانوبال شاه حلمه‬ ‫بجمع مناذج نادرة من الطائرات الورقية املرسومة يدويا حتت سقف‬ ‫واحد من بناء حديث مصمت من اخلارج يضم مقتنيات متحف مدينة‬ ‫أحمد آباد‪ ،‬من أنتيكات‪ ،‬وصور أرشيفية‪ ،‬وتأريخ لصناعة النسيج‪،‬‬ ‫وملمح لتاريخ الفن املعاصر في كوجرات الذي زرعت شجرته مجلة‬ ‫‪136‬‬

‫كومار‪ ،‬وتاريخ التصوير منذ أسس أول محل تصوير بأحمد آباد سنة‬ ‫‪ ،1917‬قبل أن يدخل التصوير الحقا إلى كالكوتا وبومباي وسيمال‬ ‫وحيدر آباد‪ ،‬وتسجل الصور املعروضة حلظات نادرة للمدينة وناسها‪.‬‬ ‫في أقسام أخرى من املتحف استعراض للتنوع العرقي والديني في‬ ‫كوجرات عامة‪ ،‬وأحمد آباد خاصة‪ ،‬ليس فقط في النماذج املجسمة‬ ‫للمس� � ��اجد واملعابد‪ ،‬ولكن أيضا في مالبس شيوخ اإلسالم ونساك‬ ‫الهندوس وأحبار اليهود‪ ،‬كما سنجد عربة االحتفال بالزفاف التي‬ ‫جتوب املدينة بالعروسني‪ .‬وفي املتحف أيضا سجل تاريخي حلكام‬ ‫البالد ورحلة االستقالل والتحرر الغاندية التي يتوسطها متثال من‬ ‫اجلبس األبيض للمناضل الكبير الذي ج� � ��اء أحمد آباد من جنوب‬ ‫أفريقيا ليدشن الثورة الصامتة ضد االستعمار البريطاني‪.‬‬

‫الطريق إلى سورات‬ ‫يعتقد بعض الباحثني أن املسلمني الس� � ��وارتيني (أهل سورات)‪،‬‬ ‫كانوا هندوسا وحتولوا إلى اإلسالم‪ .‬في كتاب هانسن توماس بلوم‬ ‫(نحن عرب من كوجرات)‪ ،‬يؤكد أن السوراتيني ينفون ذلك‪ ،‬وأن لون‬ ‫بشرتهم املائل لألبيض إمنا بفضل أسالفهم من العرب الذين قدموا‬ ‫إلى سورات عبر بحر العرب واخلليج العربي‪ ،‬جتا ًرا أو جنو ًدا قبل‬ ‫أكثر من ألف سنة‪ .‬ولكون اآلباء هم من يحددون ديانة األبناء‪ ،‬حتى‬ ‫لو كانت األم هندوس� � ��ية‪ ،‬فهم يطلقون على أنفسهم أنهم عرب من‬ ‫كوجرات‪.‬‬ ‫عبرت الس������يارة ثالث نقاط مرورية في الطريق بني أحمد‬ ‫آباد وسورات‪ ،‬وهو طريق مبواصفات عاملية‪ ،‬يحده الفردوس‬ ‫ميينا ويسا ًرا‪ .‬جنة خضراء منبسطة تغازلها األنهار‪ ،‬وال يعكر‬ ‫صفوها سوى بعض املساكن الهامشية‪ ،‬وروائح تبثها املصانع‬ ‫‪137‬‬


‫نهر على َسفَر | حتت سماء كوجرات‬ ‫ٌ‬

‫املختلفة املنتشرة على الطريق كلما اقتربنا من حزام مدينة هنا‬ ‫أو هناك‪ .‬هذه الوالية خصصت ‪ 74‬مليار روبية في مش������اريع‬ ‫التحكم في التلوث‪ ،‬واالستفادة من نظم النقل صديقة البيئة بني‬ ‫املدن‪ .‬وفي ‪ 700‬يوم فقط متت إضافة متديدات مياه الشرب‬ ‫إلى ‪ 8000‬قرية و‪ 160‬مدينة في كوجرات بطول ‪ 1600‬كيلومتر‪،‬‬ ‫مما زاد في إنتاجية الزراعة ثالثة أضعاف للهكتار‪ ،‬وس������اهم‬ ‫في دعم الثورة اخلضراء في كوجرات‪ ،‬وقفزت إنتاجية القطن‬ ‫أضعافا‪ ،‬وأضيفت مش������روعات رائدة مرتبطة بأنهار املنطقة‬ ‫األساسية‪ .‬كما أن كوجرات هي أول والية بالهند تطبق نظام‬ ‫إثراء الغذاء بإضافة فيتاميني أ‪ ،‬د‪ ،‬في الزيت والدقيق كخطوة‬ ‫أولية عند التصنيع‪.‬‬ ‫عبرنا بوابة سورات‪ ،‬التي يبلغ طول الطريق بينها حتى قلب‬ ‫املدينة عشرين كيلومتراً‪ .‬كانت قوات الشرطة في كل مكان‪ ،‬بأحد‬ ‫شوارع املدينة كان هناك جتمع نسائي كبير‪ ،‬قيل لنا إنهن مشاركات‬ ‫مقعدا‬ ‫في االنتخابات (التي فاز فيها احلزب احلاكم بتس������عني‬ ‫ً‬ ‫من أصل ‪ 102‬للنواب عن سورات في البرملان الهندي)‪ .‬نقترب‬ ‫فنكتشف أنهن مولوالت على رحيل عميد العائلة‪ ،‬يتوزع اهتمام‬ ‫النساء بني االلتفات لعدسة العربي ومشاركة العجائز البكاء‪.‬‬ ‫كان البحث عن العرب‪ ،‬واللغة العربية في سورات ضر ًبا من‬ ‫املستحيالت‪ .‬الكوجراتية هي اللغة األم واألب م ًعا‪ ،‬وحتل اللغة‬ ‫الهندية ثانية‪ ،‬أما اإلجنليزية فلن جتدها إال في بعض املطاعم‬ ‫(النباتية جميعها)‪ ،‬وما بالك باللغة العربية?‬ ‫لم نيأس‪ ،‬وكن������ا نحاول أن جند الفتة هن������ا أو هناك‪ ،‬حتى‬ ‫أرشدنا دليل محلي ـ بعد تطواف ساعات ـ إلى محل اجلامعة‬ ‫العربية‪ .‬االقتراب من احلارات الضيقة بدأ يوحي بأننا نقترب‬ ‫‪138‬‬

‫من مكان عربي خالص‪ :‬اللحى والثياب البيضاء‪ .‬وها هي قبة‬ ‫مسجد تلوح أخي ًرا‪.‬‬

‫اجلامعة السيفية‬ ‫ق ّدمنا أنفسنا إلى احلارس الهندي‪ ،‬الذي قادنا إلى مكتب صغير‬ ‫ونظيف يجلس إليه شاب تتقدم منه نسوة يقدمن تبرعاتهن‪ ،‬فيعطيهن‬ ‫إيصاال‪ ،‬ويأخذ منهن رسالة مطوية‪ ،‬رمبا بها حاجة حتتاج إلى حل أو‬ ‫دعاء‪ ،‬ليعطيهن بدال منها مظروفا صغي ًرا به بعض البخور‪ .‬تهلل وجه‬ ‫شيخني جالسني كان واح ٌد منهما قد تخرج في هذه اجلامعة قبل نحو‬ ‫خمسني سنة‪ ،‬وجاب البالد العربية مترج ًما‪ .‬يوصي بنا خي ًرا لدى‬ ‫مفضل شاكر‪ ،‬أحد املسئولني باجلامعة السيفية‪ ،‬فيستقبلنا بباقة ورد‬ ‫قبل أن يجوب بنا هذا البناء الذي يشع نورا بفضل نظافته وهدوئه‪.‬‬ ‫ويجمع تصميم اجلامعة بني طراز عصري وآخر تقليدي‪ ،‬ويكمل بها‬ ‫طالب هنود وآسيويون وأفارقة دراساتهم االعليا‪.‬‬ ‫متتلك اجلامعة السيفية حياة أكادميية متكاملة‪ ،‬فنسبة األساتذة‬ ‫للطالب والطالبات (‪ ،)7 : 1‬وتكاد الفصول الدراسية تكون دراسة‬ ‫ش� � ��خصية فعدد الطالب في كل فصل وصف مح� � ��دود‪ ،‬ويقل كلما‬ ‫صعدنا عا ًما دراسيا من األعوام األحدعشر مدة الدراسة باجلامعة‪.‬‬ ‫وهم يدرسون في قاعات مجهزة جتهيزًا الفتا‪ ،‬من معامل للصوتيات‪،‬‬ ‫واستوديوهات لتسجيل قراءات الطالب للقرآن‪ ،‬وغرف للتدريب على‬ ‫التالوة‪ ،‬ألصحاب املستويني الصوتيني العالي واخلفيض‪ ،‬ومكتبة من‬ ‫أربعة طوابق‪ ،‬بني الدوريات اليومية واألسبوعية والشهرية والفصلية‪،‬‬ ‫وصوال إلى املراجع األدبية واللغوية والتاريخية‪ ،‬بأكثر من لغة‪ ،‬ومساكن‬ ‫إقامة منفصلة لكل من الطالبات والطالب‪ ،‬القادمني من أنحاء الهند‬ ‫والعالم اإلسالمي‪.‬‬ ‫‪139‬‬


‫نهر على َسفَر | حتت سماء كوجرات‬ ‫ٌ‬

‫وكليات اجلامعة السيفية سبع‪ :‬للغة العربية الفصحى واآلداب‪ ،‬والشريعة‬ ‫اإلسالمية‪ ،‬وتاريخ اإلسالم‪ ،‬والدراسات الفلسفية‪ ،‬واللغات‪ ،‬والعلوم البحتة‬ ‫واالجتماعية وكلية االختبارات اخلارجية‪ ،‬بينما تنقسم إدارات اجلامعة إلى‪:‬‬ ‫معهد الزهراء لتالوة وحفظ القرآن الكرمي‪ ،‬وإنشاء النظم للتدريب على كتابة‬ ‫الشعر الكالسيكي‪ ،‬والتنشئة الثقافية لتهيئة الوعي بأحدث الوسائل التعليمية‪،‬‬ ‫والتدريب الفني‪ ،‬واملنزلي الذي يوفر معرفة وممارسة مالئمة لفنون احلياة من‬ ‫الرسم إلى الطهو‪ ،‬وخدمة املجتمع لالنخراط في عدد من املؤسسات العاملة‬ ‫في تنمية املجتمعات احمللية‪ ،‬وخيمة الرياضة للترفيه البدني‪ ،‬ومحل الشفاء‬ ‫وهو وحدة العناية الصحية والتمريض‪ ،‬واملوائد السيفية‪ ،‬حيث يتم االجتماع‬ ‫لتناول الوجبات‪ .‬وفي الفصول التي يجتمع فيها التدريس للطالب والطالبات‪،‬‬ ‫جتلس الفتيات وراء مشربية وستائر قماشية‪ ،‬يصلهن صوت املدرس‪ ،‬ويصل‬ ‫صوتهن إليه‪ ،‬لكنهن ال يظهرن ألحد‪ .‬وفي عمارة اجلامعة آيات كثيرة‪ ،‬بعضها‬ ‫مستمد من املس�� ��اجد الفاطمية في مصر كاألزهر واألقمر‪ ،‬وبعضها يعتمد‬ ‫أحدث التقنيات لترديد صدى الصوت واالحتفاظ به نقيا‪ .‬ويشرف سلطان‬ ‫البهرة ـ الذي ينفق على اجلامعة واجلامع ـ على االمتحانات سنويا في شهر‬ ‫شوال من كل عام‪ ،‬حيث يتابع طوال فترة زيارته إلى سورات‪ ،‬االستماع إلى‬ ‫الطالب املمتحنني‪ ،‬في قاعة الصالة‪.‬‬ ‫في خروجنا من س�� ��ورات من�� ��ر بقلعتها‪ ،‬التي جمع لها صف�� ��ر آقا ـ غالم‬ ‫الس�� ��لطان محمود كجراتي امللقب بخداوند خان ـ خيرة بنائني ذلك الزمان‪،‬‬ ‫فجعلوا خندقها الذي يفصلها عن اليابسة عرضه عشرين ذراعا ومألوه ماء‪،‬‬ ‫فيما ارتفع السور عشرين ذراعا‪ ،‬بعرض خمسة عشر ذراعا‪ ،‬وربط البناءون‬ ‫بني كل حجرين مبصهور احلديد‪ ،‬وصنعوا بها نوافذ للقتال‪ ،‬كما نعبر بقصر‬ ‫السلطان أكبر املطل مرورا مبجموعة من الش�� ��واهد املثبتة على األرض‪ ،‬لم‬ ‫يكن أي شاهد منها يشبه اآلخر‪ ،‬كانت قبور األرمن والهولنديني ترقد لألبد‬ ‫وسط سور متوسط االرتفاع‪ ،‬نقرأ بعض األسماء‪ ،‬ومنها بارن هنري أودريان‬ ‫‪140‬‬

‫فان ريد‪ ،‬مدير شركة الهند الشرقية الهولندي‪ .‬يربط بني مجموعتي القبور‬ ‫درج‪ ،‬ويدل عليهما الفتة واحدة‪ .‬ليس لوجود املقابر هنا س�� ��وى تعليق واحد‪،‬‬ ‫هو أن س�� ��ورات مقبرة الغزاة‪ .‬ثم نصعد إلى جسر سردار قبل أن نهبط إلى‬ ‫طريق أحمد آتاد السريع‪.‬‬

‫معابد «تيك أواي»‬ ‫كثيرة هي املساجد‪ ،‬أو أطاللها في أحمد آباد‪ .‬في كل زاوية نلمح‬ ‫أثرا من مسجد‪ ،‬وقليل منها ما يستخدم اليوم ألداء الشعائر‪ ،‬فهي‬ ‫إما مخربة‪ ،‬أو مهجورة‪ ،‬ورمبا يؤمها للصالة القليل‪ ،‬ويأوي إليها للنوم‬ ‫الكثير‪ .‬عكس املعابد الهندوسية التي تلقى عناية بالغة‪ .‬فهي إما معابد‬ ‫مغلقة ال يدخلها سوى الهندوس‪ ،‬وخاصة بعد أحداث الشغب‪ ،‬وأخرى‬ ‫مرممة وتس� � ��تخدم مزارا للمصلني والسياح أو على حد سواء‪ .‬لكن‬ ‫ما يثير االنتباه في أحمد آباد‪ ،‬وغاندي جنار‪ ،‬وسورات‪ ،‬ومانينجار‪،‬‬ ‫وبارودا وهي مدن كوجرات التي شملتها الرحلة‪ ،‬هو وجود معابد في‬ ‫كل ركن‪ .‬بعض هذه املعابد ال يعدو أن يكون ركنا من بناء‪ ،‬ال تتجاوز‬ ‫مس� � ��احته املتر املربع‪ .‬ورمبا يقف بجانبه أو يجل� � ��س بجواره راع أو‬ ‫راعية‪ ،‬يساعد (أو تساعد) املصلني في إيقاد الشموع ورش الزيوت‬ ‫ودق النواقيس‪ .‬ما أعجب معابد التيك أواي يتوقف بها العامل قبل‬ ‫الذهاب للعمل‪ ،‬أو ربة البيت قبل النزول للسوق‪ .‬في أحد الدوارات‬ ‫(امليادين) رأيت أربعة معابد يواجه كل منها ش� � ��ارعا‪ ،‬يغمر زائرها‬ ‫الضوء املنبعث من شموعها‪ ،‬ويضمخ أنفه رائحة الزيت املقطر من‬ ‫جوانبها‪ ،‬وميلي عيونه بالورد الذي يطوق سياجها‪.‬‬

‫خوذة لكل مواطن‬ ‫لم أجد جدال حول موضوع في جريدة أحمد آباد اإلجنليزية اليومية‬ ‫‪141‬‬


‫نهر على َسفَر | حتت سماء كوجرات‬ ‫ٌ‬

‫األولى (تاميز أوف إنديا) أكثر مما وجدته حول اخلوذة الواقية للرأس‬ ‫لراكبي الدراجات البخارية املنتشرة في ش� � ��وارع مدن كوجرات‪ ،‬كما‬ ‫ينتشر الشعر في حلية ناس� � ��ك بوذي‪ .‬وصلنا أحمد آباد بعد أيام من‬ ‫التطبيق اجلبري والنهائي لوضع خوذة الرأس‪ ،‬وحاول وزراء ومحامون‬ ‫ووكاالت كثيرة االعتراض ـ ألكثر من سبب ـ على هذا القانون‪ ،‬وباءت‬ ‫محاوالتهم جميعا بالفشل‪ .‬خوذة لكل مواطن أصبح شعار املواطنني‬ ‫في أحمد آباد‪ ،‬ولم تنجح ش� � ��كاوى الذين تأملت أعناقهم من منع ذلك‬ ‫اإلكراه في الزي! لكن تعب الرقبة يهون‪ ،‬بعد أن طلعت على الكوجراتيني‬ ‫إحصائية تقول إن حوادث الرأس قلت بنسبة النصف ـ حسب دائرة (من‬ ‫أجل حياة الهند) التابعة إلدارة شرطة املرور في أحمد آباد ـ كما أوردت‬ ‫املستش� � ��فيات تقارير مماثلة‪ ،‬رغم أن الشرطة خالفت في عشرة أيام‬ ‫فقط ‪ 2500‬راكب! القانون صارم‪ ،‬في لبس اخلوذات‪ ،‬وفي ربط أحزمة‬ ‫القيادة للسائق وجاره‪ ،‬ولكنه ال يفعل شيئا لطرق ال تصلح حتى لعبور‬ ‫البقر! الدراجات النارية ال يستخدمها الرجال وحسب‪ ،‬بل يكاد كل من‬ ‫تتاح له القيادة في أحمد آباد أن يقود مركبة ما‪ ،‬وفرضت حكاية «خوذة‬ ‫لكل مواطن» على بعض الفتيات أن يحمني شعورهن من الهواء والتلوث‬ ‫بربطها ـ فيبدون كامللثمات ـ حتى يصلن إلى أماكن الدراسة أو العمل‪.‬‬ ‫الطريف كانت الصور التي التقطتها اجلريدة لشرطيني يخالفان القانون‪،‬‬ ‫ولرجل آخر يسحب دراجته أمام عيون الشرطي‪ ،‬حتى ال يركبها بدون‬ ‫خوذة‪ .‬وعلى األرصفة‪ ،‬وبجانب باعة ثمار البرتقال‪ ،‬وأخواتها‪ ،‬يجلس‬ ‫مروجو ثمار التكنولوجيا الواقية للرأس يبيعون اخلوذات املعدنية‪.‬‬

‫ماسة وسط الركام‬ ‫وس� � ��ط ركام الرماد الذي يضبب الرؤية‪ ،‬والغبار الذي يتشح‬ ‫بعوادم عربات الريكش� � ��ا‪ ،‬وس� � ��ط زحام املدينة املتخ� � ��م بالفقر‪،‬‬ ‫‪142‬‬

‫نتجه إلى املنطق� � ��ة الصناعية‪ ،‬حيث يقال إن أحم� � ��د آباد لديها‬ ‫يجلب املاس‬ ‫ وحدها ‪ -‬ثالثة آالف وخمسمائة مصنع لألملاس!‬‫ُ‬ ‫اخلام من املناجم املتاخمة لوالية كوجرات‪ ،‬ومن مناطق أخرى تتراوح‬ ‫املسافة بينها مئات الكيلومترات‪ .‬في أحد املصانع التي زرناها‪،‬‬ ‫كانت الدراجات النارية الرابضة أمام املصنع تشي بعدد العاملني‬ ‫فيه الذين يتجاوزون اخلمسمائة‪ ،‬يعملون من الثامنة صباحا حتى‬ ‫الثانية عشرة ظه ًرا‪ .‬في قلب املصنع نتعرف إلى ثالثة أنواع من‬ ‫اآلالت املعاجلة لألملاس‪ .‬األولى يدوية‪ ،‬وتشبه القبقاب اخلشبي‪،‬‬ ‫مباسك من املعدن‪ ،‬وعدسة مكبرة تتيح للعامل رؤية أطراف املاسة‬ ‫الدقيقة التي قد ال تتجاوز نصف السنتيمتر حجما‪ .‬يقوم بصقل‬ ‫املاسة أربعة على كل طاولة فوق عجلة دوارة‪ .‬أما النوع الثاني‪ ،‬فله‬ ‫شاشة‪ ،‬وماكينة للبري‪ ،‬وماسك لألملاسة‪ .‬فيما تدخل األملاسات‬ ‫في مرحلة الحقة إلى ماكينات ليزر مزودة بشاش� � ��ة الكمبيوتر‪،‬‬ ‫للمرحلة اخلتامية لصقلها‪ ،‬قبل أن تجُ از من قبل مشرف اجلودة‬ ‫(أكبرهم سنا)‪ ،‬وتتم هذه العمليات بنقل املاسة من مرحلة ألخرى‬ ‫في ورقة مطوية كمغلف يحفظ بها بياناتها‪ .‬هذا املصنع‪ ،‬كباقي‬ ‫املصانع التي رأيناها‪ ،‬بدأ من مرحلة صفرية‪ ،‬لم يكن العمال فيه‬ ‫يتجاوزون العشرين‪ ،‬أسسه ش� � ��ري ماجنيباي دوالكيا في ‪،1978‬‬ ‫ليصبح إمبراطورية األملاس التي نراها‪ .‬اآلن جتمع عدة مصانع‬ ‫املاس� � ��ات الواردة إليها لصقلها‪ ،‬ثم ترس� � ��ل من أحمد آباد ـ ومن‬ ‫الفروع األخرى في سورات والتي وبافنجار ـ إلى املصنع الرئيسي‬ ‫في بومباي‪ ،‬ليتم استخدامها في التصميمات املختلفة‪ .‬ال ميكن‬ ‫ملن يسير في الش� � ��ارع املقابل لهذه املصانع أن يتخيل ما يخفيه‬ ‫من مال‪ ،‬رمبا يكفي األملاس الذي لدى مصنع واحد منها إلعمار‬ ‫مدينة‪ .‬تتوارث عائلة ماجنيباي أسطورة األملاس‪ ،‬وقد تضاعفت‬ ‫‪143‬‬


‫نهر على َسفَر | حتت سماء كوجرات‬ ‫ٌ‬

‫لديهم ـ وبالتأكيد لدى سواهم ـ كمية التصدير في األعوام األخيرة‪،‬‬ ‫حيث تذهب املاسات إلى بلجيكا‪ ،‬واليابان‪ ،‬ودولة اإلمارات العربية‬ ‫املتحدة‪ ،‬وتايلند‪ ،‬وسنغافورة‪ ،‬وسويسرا والواليات املتحدة‪.‬‬

‫األربعة الكبار في ظل شجرة سالم‬ ‫في كوجرات وحدها تستطيع أن تستعيد ذكرى األربعة الكبار في‬ ‫تاريخ الهند; جواهر الل نهرو‪ ،‬واملهامتا غاندي‪ ،‬ورابندرانات طاغور‬ ‫وسردار باتيل‪ .‬ليس فقط في اجلسور واحلدائق املشيدة باسمهم‪ ،‬بل‬ ‫في املعالم الكبرى التي احتفت بهم الوالية التي ينتمون إليها‪ .‬فهناك‬ ‫قاعة مسرح طاغور‪ ،‬وهناك متحف معماري الهند املوحدة والرجل‬ ‫احلديدي في كوجرات سردار فالبهي باتيل‪ ،‬أول وزير للداخلية‪ ،‬وأول‬ ‫نائب لرئيس الوزراء‪ ،‬وهناك املنزل الذي أقام فيه غاندي‪ ،‬بعد أن‬ ‫هبطت قدماه إلى أحمد آباد قادما من جنوب أفريقيا‪.‬‬ ‫في الطريق إلى العاصمة غاندي جنار‪ ،‬أو مدينة غاندي سنتوقف‬ ‫في (غاندي أشرم)‪ ،‬املنزل الذي نستعيد فيه حياة املهامتا غاندي‪،‬‬ ‫وهو املكان الذي عاش فيه املناضل الكبير‪ ،‬وبه ترك منضدته وسترته‬ ‫وأدواته‪ ،‬ومنها مغزله الشهير‪ .‬تستوقفني لوحة مجسمة جتسد رحلة‬ ‫طولها ‪ 241‬ميال قطعها غاندي من أجل حفنة ملح‪ ،‬ومعه من استطاع‬ ‫اخلروج في الرحلة املاراثونية من املقيمني معه في سبارماتي أشرم‬ ‫ليقاوم قوانني امللح‪ ،‬املفروضة على الشعب الهندي‪ ،‬وليعلمهم معنى‬ ‫االعتماد على النفس‪ ،‬وليستحث فيهم حلن التجانس في ما بينهم‪.‬‬ ‫في مقر اإلقامة الذي أصبح متحفا حلياة غاندي نقرأ تعاليمه‪ ،‬التي‬ ‫أمالها عبر سني حياته‪ ،‬كل يوم‪ ،‬ومنها نتعلم الكثير عن الغاندية ـ‬ ‫التي متيز كوجرات كما قال لنا في كلية العلوم االجتماعية باجلامعة‬ ‫ـ يقول غاندي‪( :‬على املرء أال يحوز أو يحتفظ مبا ليس في حاجة‬ ‫‪144‬‬

‫إليه‪ ،‬من مأكل وملبس وأثاث)‪.‬‬ ‫أما رفيق غاندي سردار باتيل فيقول‪« :‬رغبتي الوحيدة أن‬ ‫تصبح الهند قوة منتجة‪ ،‬ال يجوع فيها إنسان‪ ،‬وال يبكي فيها‬ ‫أحد من أجل لقمة العيش»‪ .‬بعد أكثر من خمسني عاما من‬ ‫رحيل سردار‪ ،‬لم تزل رغبته عصية على التحقق‪ ،‬مع أكثر من‬ ‫مليار نسمة يسكنون بالده‪ .‬يُجل أه ُل كوجرات القائد الذي‬ ‫أجنبته واليتهم‪ ،‬ويخصصون له متحفا أهليا (مقام في القصر‬ ‫الذي شيده شاه جيهان قبل أن يبني حتفته تاج محل‪ ،‬مما يعد‬ ‫بروفة لذلك األثر الرائع)‪ .‬في ذكرى وفاة سردار باتيل يأتي‬ ‫محافظ الوالية ليكرم فنانني كبارا أسهموا بإبداعاتهم في‬ ‫املتحف الذي يضم كل متعلقات باتيل الشخصية والعملية‪،‬‬ ‫من مالبسه وحقيبته‪ ،‬إلى كتبه وخطبه‪ ،‬مع الرسوم باحلبر‬ ‫واللوحات الزيتية والتماثيل اجلبسية واحلجرية التي يهديها‬ ‫الفنانون حتية لذلك الرجل‪ .‬قرب مسرح طاغور‪ ،‬وأمام حديقة‬ ‫بسيطة‪ ،‬قرأت على شاهد من الرخام األسود هذه العبارات‬ ‫«شجرة سالم‪ ،‬مهداة من املنظمات غير احلكومية في كوجرات‪،‬‬ ‫بواسطة تشاندرا شيكر‪ ،‬في ‪ 25‬فبراير ‪ ،2003‬رئيس وزراء‬ ‫الهند السابق‪ ،‬لتخليد مشاهد التماسك واألخوة خالل القالقل‬ ‫املدنية التي عصفت بكوجرات في ‪ .»2002‬في تلك احلديقة‬ ‫انتصبت الشجرة الصغيرة‪ ،‬التي ال تعلو املترين‪ ،‬فوق مربع‬ ‫على أركانه أهرامات صغيرة من األحجار امللونة‪ .‬إنها األلوان‬ ‫التي تعيش حتت سماء كوجرات‪ ،‬حتلم بالسالم‪.‬‬

‫‪145‬‬


‫نهر على سفر‬

‫ُ‬ ‫السلطان‬ ‫عرش ُّ‬

‫أكْ ــبر‬


‫ُ‬ ‫نهر على َسفَر |‬ ‫السلطان أكْ ـبر‬ ‫ٌ‬ ‫عرش ُّ‬

‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫كثيرات‪،‬‬ ‫محطات‬ ‫في الرحلة من دلهي إلى أجرا‪ ،‬توقفت في‬ ‫ٍ‬ ‫صفحات من كتاب «طبقات أكبري» ملؤلفه نظام‬ ‫نت أقرأ خاللها‬ ‫ُك ُ‬ ‫الدين أحمد بخشي‪ ،‬الذي يضم ـ بلسانه ـ ذك ًرا مجمال عن «جالئل‬ ‫فتوحات‪ ،‬وعظائم حاالت‪ ،‬أتباع احلضرة املقدسة املنزلة ملركز‬ ‫دائرة الرأفة وقطب فلك اخلالفة السلطان السعيد‪ ،‬ملك امللوك‬ ‫العادل‪ُ ،‬مظهر القدرة اإللهية‪ ،‬صاحب التأييد الس������ماوي‪ ،‬رافع‬ ‫عرش العظمة واجلالل‪ ،‬باني قصر الدولة واإلقبال‪ ،‬رافع املسند‬ ‫احلقيقي واملجازي‪ ،‬أبي الفتح جالل الدين محمد أكبر بادشاه‬ ‫غازي‪ ،‬خلد الله ملكه‪ ،‬وأيد ظالل عدله وإحسانه»‪.‬‬ ‫كنت أبحث عن شخص امتلك كل هذه الصفات‪ ،‬لكنه بقدر ما‬ ‫ُ‬ ‫مدحه وزيره وصديقه أبو الفضل بن املبارك‪ ،‬أشهر مؤرخي عصر‬ ‫السلطان جالل الدين أكبر‪ ،‬في كتابه «أكبر نامه»‪ ،‬الذي تناول به‬ ‫أحداث ست وأربعني سنة قضاها السلطان باحلكم‪ ،‬بقدر ما نال‬ ‫من هجاء‪ ،‬فما كان من مناقب عند محبيه‪ ،‬أصبح مجرد مثالب‬ ‫عند كارهيه‪ ،‬وبني احملبة والبغض‪ ،‬وبني احلقائق واألس������اطير‪،‬‬ ‫وبني دلهي وأجرا‪ ،‬ومدن وعواصم أخرى‪ ،‬وجدت طرفا من سيرة‬ ‫ذلك الرجل‪ ،‬بل إنني حتدثت إلى جالل الدين محمد أكبر نفسه‪،‬‬ ‫واستمعت منه‪ ،‬فبالرغم من أنه مات ـ تاريخيا ـ في العام ‪1605‬‬ ‫ُ‬ ‫ميالدية‪ ،‬لكن لقائي به جاء بعد ذلك بأكثر من أربعة قرون!‬

‫إنه العام ‪2008‬م‪.‬‬ ‫ميتد بساط أحمر‪ ،‬ليس أمام قصر السلطان أكبر في عاصمته‬ ‫أجرا بالهند‪ ،‬ولكن على سلم هرم زجاجي عمالق في مدينة قازان‬ ‫عاصمة تتارستان‪ ،‬إحدى جمهوريات روسيا االحتادية‪.‬‬ ‫سيهبط السلطان أكبر من املركبة التي أقلته‪ ،‬ويلوح للجماهير‬ ‫‪148‬‬

‫املصطفة على جانبي البساط املُفضي إلى املسرح الكبير وكأنه‬ ‫يستمع إلى األغنية التي رددها له محبه‪:‬‬ ‫«عظيم الشان‪ ،‬شاهنشاه»؛ أي عظيم الشأن‪ ،‬ملك امللوك‪.‬‬ ‫أمعنت النظر‪ ،‬لهذا الش������خص الذي بعث شخصية السلطان‬ ‫ُ‬ ‫أكبر من مرقدها بعد ‪ 400‬سنة‪ ،‬إنه املمثل إريتيك روشان‪ ،‬الذي‬ ‫جاء ليقدم فيلمه «جودا أكبر» في مهرجان املنبر الذهبي الدولي‬ ‫لسينما العالم اإلسالمي (قبل أن يصبح اسمه «مهرجان قازان‬ ‫الدولي لسينما العالم اإلسالمي»)‪.‬‬ ‫جاء إريتيك روشان من أسرة فنية‪ ،‬لوالدين منتجني للسينما‪،‬‬ ‫حتى أنه ظهر طفال في أفالم بوليوود‪ ،‬وعمل لسنوات مخرجا‬ ‫مساعدا‪ ،‬وتزوج ممثلة‪ ،‬قبل أن يفتح له فيلم «جودا أكبر» الذي‬ ‫قام ببطولته ـ مع مواطنته ملكة جمال العالم املمثلة آيشورايا راي ـ‬ ‫أبواب النجومية والشهرة بعد جتسيده شخصية السلطان املغولي‬ ‫جالل الدين أكبر‪ ،‬وبعد جناح الفت للفيلم التاريخي جتاريا في‬ ‫الهند وخارجها‪ .‬بل إن روشان نال بعد أيام من لقائنا األول جائزة‬ ‫أفضل ممثل عن دوره في هذا الفيلم باملهرجان نفسه‪.‬‬ ‫لم أبحث كثي ًرا عن أوجه الش������به واالختالف بني السلطانني؛‬ ‫احلقيقي واملمثل‪ ،‬فقد تكفلت املنمنمات التي ظهرت في مخطوطات‬ ‫«أكبر نامه» املصورة بتقدمي مالمح الشخصية التي استلهمها الفيلم‪،‬‬ ‫والتي منحت صفات أخرى إضافي������ة‪ ،‬غير التي كتبها املؤرخون‬ ‫احملبون‪ ،‬تعطي تلك الشخصية مظاهر القوة‪ ،‬ولم ال‪ ،‬وهو يصطاد‬ ‫ويروض احليوانات البرية‪ ،‬ويص������ارع ويهزم من هم أضخم منه‬ ‫جسديا‪ ،‬مثلما متنحه خصال الرحمة‪ ،‬والتسامح الديني‪.‬‬ ‫ميا «دهلي»‪،‬‬ ‫نحن اآلن في دلهي‪ ،‬أو كما كان اسمها مدونا قد ً‬ ‫سننتقل إلى نقطة تالية من احملطات التي حتمل بصمات جالل‬ ‫‪149‬‬


‫ُ‬ ‫نهر على َسفَر |‬ ‫السلطان أكْ ـبر‬ ‫ٌ‬ ‫عرش ُّ‬

‫الدين مثل عاصمته فتح بور سيكري‪ ،‬في راجستان‪ ،‬وحتى ميناء‬ ‫ٍ‬ ‫كتابات‬ ‫سورات في كوجرات‪ ،‬ووصوال إلى أكرا (أجرا‪ ،‬وآغره في‬ ‫أخرى)‪ ،‬حيث ضريح تاج محل‪.‬‬ ‫رقعة جغرافية كبيرة تشير إلى اتساع ٌملك السلطان الذي شهد‬ ‫نشاطات عس������كرية‪ ،‬وصوال إلى بالط السلطان الذي كان قبلة‬ ‫املؤرخني و َمحج األدباء ومجلس املفكرين وقاعدة العقائد واملذاهب‪،‬‬ ‫ومدرس������ة العلماء‪ ،‬ومنهم من كان مقربا في «مجلسه اخلاص‪/‬‬ ‫خاص‪ -‬ي – محل»‪ ،‬الذي س������مي في ُجل الكتاب������ات التاريخية‬ ‫«عبادت‪ -‬خانه» أو «مكان العبادة»‪ .‬نحن هنا في دهلي التي متثل‪،‬‬ ‫مع سلطانها‪ ،‬مركز الهندوستان‪ ،‬ونهاية طبقة سالطينها‪.‬‬

‫أمام ضريح همايون‬ ‫كان والده؛ الس������لطان همايون (‪ 17‬مارس ‪1508‬م ـ ‪ 7‬مارس‬ ‫‪1556‬م)‪ ،‬من أحفاد أش������هر اثنني في تاريخ املعارك اآلس������يوية؛‬ ‫األمير تيمور (تيمورلنك في األدبيات التاريخية العربية‪ ،‬وتعني‬ ‫تيمور األعرج)‪ ،‬وملك املغول األشهر جنكيز خان‪ ،‬منهما جاء ُعمر‬ ‫شيخ ميرزا حاكم فرغانة‪ ،‬والد سيد السالطني محمد بابر‪ ،‬فاحت‬ ‫وج ّ ُد سلطاننا جالل الدين‪ .‬لقد عثرت على تخطيط يشرح‬ ‫الهند َ‬ ‫ساللته‪ ،‬السابقة عليه والالحقه له‪ ،‬للشيخ ياسني العجلوني‪.‬‬ ‫وقفت أمام مدخل ضريح الس������لطان هماي������ون (‪1530‬م)‪ ،‬في‬ ‫دلهي‪ ،‬حتمل كل مآثر العمارة املغولية‪ ،‬التي نرى آثارها اليوم في‬ ‫ميا)‪ ،‬الهند والباكستان وبنجالديش وكشمير‬ ‫الهند اإلسالمية (قد ً‬ ‫(حاليا)‪ .‬وهي عمارة مزجت مبرونة تقاليد العمارة احمللية في‬ ‫الهند قبل اإلسالم وحضارة ما بعد الفتوحات‪ ،‬حيث استخدمت‬ ‫ كتقليد محلي ‪ -‬احلجر واخلش������ب كمادتني أساسيتني‪ ،‬وهو‬‫‪150‬‬

‫ما يجعلها تختلف عن العمارة الفارس������ية في إيران وتركس������تان‬ ‫وأفغانستان التي ش������يدت من الطوب الطيني (اللنب) واحملروق‬ ‫(اآلجر) وزينت بالفسيفساء اخلزفية‪ .‬بديال عن التزيني اخلارجي‬ ‫متيزت العمارة املغولية بالنقش على احلجر واجلص والفسيفساء‬ ‫الرخامية والترصيع واحلجارة امللونة‪.‬‬ ‫كانت مساقط األبنية املغولية في رحلتنا ذوات مساقط‪ ،‬وهي‬ ‫صحون واسعة محاطة بأروقة مسقوفة أحيانا بقباب صغيرة‪ ،‬ومن‬ ‫النافورة التي رأيناها أمام الضريح‪ ،‬واحلدائق التي أحاطت بالقالع‪،‬‬ ‫كما شاهدناها من عل‪ ،‬تتضح العناية الكبرى بتنظيم احلدائق‬ ‫واملياه‪ ،‬وهو إرث من أسرة الصفويني في إيران‪ ،‬وشاعت العقود‬ ‫املدبب الفارسية‪( ،‬قسمها العلوي مقعر نحو اخلارج) والفاطمية‬ ‫(بقوس علوي مستقيم)‪ ،‬كما انتشرت القباب ذوات األقواس املدببة‬ ‫والدائرية ومعظمها من طبقتني بينهما فراغ واس������ع‪ ،‬مما يجعل‬ ‫عنصرها العلوي يشبه الكأس املقلوب‪ .‬أما األروقة فهي مظللة‬ ‫أو غير مظللة‪ ،‬تعلوها قبة أو قنط������رة‪ .‬وهناك رفارف بارزة في‬ ‫الواجهات أو فوق األروقة أو أسفل طاسة القبة من ألواح حجرية‬ ‫كبيرة أو رخام محمول بواس������طة مساند حجرية‪ ،‬وقل استعمال‬ ‫األعمدة واستخدمت العضائد بدال منها‪.‬‬ ‫أما مآذن العمارة املغولية فقدت من احلجر‪ ،‬وهي تبدو مضلعة أو‬ ‫اسطوانية مخروطية ذات شكل نخلي‪ ،‬زخارفها‪ ،‬وزخارف اجلدران‬ ‫في املنشآت تنتهي مبقرنصات ومحاريب ونقوش حجرية‪ ،‬وتطعم‬ ‫حجارة البناء األساسية بحجارة من لون مختلف (خلط) كالرخام‪.‬‬ ‫وقد شاع استخدام الرخام األبيض كمادة أساسية للبناء‪ ،‬وكثيرا‬ ‫ما جند فسيفساء حجرية أو رخامية أو أحجار كرمية مغروسة أو‬ ‫مخلوطة مثلما خلطت قطع الزجاج امللون على اجلدران لتعكس‬ ‫‪151‬‬


‫ُ‬ ‫نهر على َسفَر |‬ ‫السلطان أكْ ـبر‬ ‫ٌ‬ ‫عرش ُّ‬

‫أشعة الضوء بافتتان ملون‪ .‬وقد استخدمت الرسوم اجلدارية امللونة‬ ‫باحلوائط والسقوف والعضائد كبديل عن الترصيع لسرعتها وقلة‬ ‫كلفتها‪ ،‬مثلما رس������مت املواضيع الزخرفية باأللوان فوق أرضية‬ ‫بيضاء من الكل������س أو اجلص أو عجينة الص������دف‪ ،‬بحيث تبدو‬ ‫كالرخام الناصع البياض‪ .‬عمارة ستبلغ قمتها في ضريح حفيده‬ ‫شاه جهان وزوجته احملبة‪ ،‬واملعروف باسم تاج محل‪ ،‬والذي اختتمنا‬ ‫به رحلتنا في راجستان على خطى السلطان أكبر‪.‬‬

‫الشمس‬ ‫أشرقت‬ ‫حني‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫قبل وفاته‪ ،‬أرسل الس������لطان همايون ابنه األمير جالل الدين‬ ‫من دهلي إلى سوالك‪ ،‬مع ركن السلطنة بيرام خان‪ ،‬لدفع ورفع‬ ‫(قتال) اسكندر خان أفغاني‪ .‬وحني وصل جالل الدين إلى قرية‬ ‫كالنور (تتبع الهور عاصمة إقليم البنجاب في الباكستان حاليا)‬ ‫جاء خبر وفاة السلطان همايون‪ ،‬فأجلس بيرم خان األمير جالل‬ ‫الدين على عرش السلطنة ظهر يوم اجلمعة الثاني من ربيع األول‬ ‫س������نة ‪ 963‬هجرية‪ ،‬مبوافقة أمراء وق������ادة اجليش‪ ،‬أمام قصبة‬ ‫(قلعة) كالنور‪.‬‬ ‫يقول نظام الدين أحمد بخشي‪ ،‬بترجمة الدكتور أحمد عبدالقادر‬ ‫الشاذلي‪ ،‬عن الفارسية‪ ،‬بتصرف‪:‬‬ ‫الشمس على ال َعرش‪،‬‬ ‫أشرقت‬ ‫«عندما‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫الفلك رباطه جيدا على الغُ الم‪،‬‬ ‫وعق َد‬ ‫فرح كل العظماء‪ ،‬ورفعوه على الرأس عاليا‪،‬‬ ‫ونشروا ما هو الئق بالعرش على امللك سعيد احلظ‪،‬‬ ‫العالم من نورها»‪.‬‬ ‫الشمس عالية‪ ،‬استفاد‬ ‫فكلما كانت‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫تبدأ سنوات حكم جالل الدين‪ ،‬بالنوروز‪ ،‬وهو عيد أول السنة‬ ‫‪152‬‬

‫آيتان معماريتان من عهد السلطان أكبر‪ ،‬قلعته احلصينة القريبة من تاج محل‪ ،‬وقصره‬ ‫على مش���ارف مدينة أجرا‪ ،‬حيث كان يجلس الوزراء قرب مس���رح الفن املطل على البركة‬ ‫املائية‪.‬‬

‫‪153‬‬


‫ُ‬ ‫نهر على َسفَر |‬ ‫السلطان أكْ ـبر‬ ‫ٌ‬ ‫عرش ُّ‬

‫الشمسية‪ ،‬واحتفال أساسه فارسي‪ ،‬مطلعه ‪ 21‬مارس‪ ،‬حني تدخل‬ ‫الشمس برج احلمل‪ ،‬كما أنه بداية الربيع في الهند‪ ،‬وقد اعتاد‬ ‫املغول االحتفال به تسع عش������رة يو ًما (مقابل ‪ 12‬يو ًما فقط في‬ ‫إيران)‪.‬‬ ‫السنوات التاليات امتدت في بسط النفوذ‪ ،‬باحلرب واحلصار‬ ‫حينا‪ ،‬وبعهود السالم حينا آخر‪ ،‬فخضعت قالع كواليار‪ ،‬ورنتهبور‪،‬‬ ‫وترهنده‪ ،‬وكاكرون وغيرها وقصبتي سكندره‪ ،‬وأركدار وسواهما‪،‬‬ ‫يروض األفيال اخلاصة في مال������وه‪ ،‬ويصيد القردة في فيروزه‪،‬‬ ‫ويغزو ويخضع مناطق وواليات عديدة‪ ،‬ويخلع األلقاب على حلفائه‪،‬‬ ‫ومنهم شاه الصفويني طهماسب‪.‬‬ ‫كانت هناك رابطة قوية من الود واالحتاد بني السلطان األب‬ ‫همايون وشاه طهماسب صفوي‪ ،‬لذلك أراد طهماسب جتديد هذه‬ ‫العالقة مع االبن‪ ،‬فأرس������ل معصوم بيك ابن عمه بهدايا وحتف‬ ‫مع رسالة إلى بالط الس������لطان أكبر في آكره‪ ،‬فأنعم السلطان‬ ‫على الرسول مببلغ ‪ 700‬ألف تنكه‪ ،‬واستضافه شهرين في دار‬ ‫اخلالفة‪ ،‬ومنحه خلعة خاصة وجوادا‪ ،‬قبل أن يعود بتحف وهدايا‬ ‫هندوستانية إلى طهماسب‪.‬‬ ‫لكن هذه العاطفة اجلياشة جتاه املقربني كان يقابلها رد فعل‬ ‫قاس من الس������لطان جالل الدين ضد اخلائنني‪ ،‬وهو ما أمر به‬ ‫ضد أدهم خان كوكلتاش‪ ،‬الذي قتل اخلان األعظم وكيل السلطنة‪،‬‬ ‫غرورا وغواية‪ ،‬وتهجم على احلرم السلطاني‪ ،‬فخرج له جالل الدين‬ ‫وضربه‪ ،‬وأمر بإلقائه حيا من فوق سطح القصر‪ ،‬وملا بقي فيه رمق‬ ‫حياة أعاد جنوده الكرة‪ ،‬وقد جاء هذا املشهد في فيلم جودا أكبر‬ ‫(‪ 214‬دقيقة) قاسيا وعنيفا‪ ،‬لكنه يكشف بعدا هاما من شخصية‬ ‫احلاكم الذي ينزع قناع احللم في مواقف ال ينفع معها‪.‬‬ ‫‪154‬‬

‫لقاء مع البرتغاليني‬ ‫ولكن محك قراءة تاريخ جالل الدين أكبر يظهر جليا في عالقته‪،‬‬ ‫كسلطان مسلم‪ ،‬باألديان األخرى‪ ،‬السماوية واألرضية‪ ،‬التي نشأت‬ ‫في الهند أو جاءتها من الشرق والغرب‪.‬‬ ‫ففي القرن الس������ادس عش������ر مت توثيق أول حضور للكاثوليك‬ ‫األوربيني في بالد الهند‪ .‬وقد راسل السلطان جالل الدين أكبر‬ ‫إلى البعث������ة الكاثوليكية املقيمة في مين������اء ومدينة جوا «‪»Goa‬‬ ‫وكانت برتغالية‪ ،‬جاءت مع أساطيل البرتغال عام ‪916‬هـ‪1510 /‬م‪،‬‬ ‫إلى شواطئ جوا «‪ »Goa‬وديو «‪ »Diu‬ودامان «‪ »Daman‬على‬ ‫سواحل الهند الغربية‪ ،‬قبل أن تتوسع على باقي الشواطئ الهندية‪،‬‬ ‫حتى أنها وصلت أعالي خليج البنغال عام ‪944‬هـ‪1537 /‬م‪ .‬أراد‬ ‫السلطان أكبر من البعثة الكاثوليكية البرتغالية أن يوفدوا إليه من‬ ‫يعرفه بدينهم كما يكشف الباحث الدكتور سعد الغامدي‪ ،‬أستاذ‬ ‫التاريخ اإلسالمي ودراساته الشرقية في بحث له‪ ،‬شارك به في‬ ‫العام ‪( 2008‬عام الفيلم أيض������ا)‪ ،‬مبؤمتر أقامته في مصر كلية‬ ‫دار العلوم بجامعة املنيا‪.‬‬ ‫وصل الوفد الديني البرتغالي إلى بالط السلطان أكبر‪ ،‬مبدينة‬ ‫الفتح في سيكري في عام ‪986‬هـ‪1578 /‬م‪ ،‬ميثل منظمة «القس‬ ‫بول»‪ ،‬وقد بدت مظاهر تأثر السلطان بشروح الوفد كثيرا‪ ،‬حتى‬ ‫أنه خصص مربيا منهم ليعلم ابنه مراد اللغة البرتغالية‪ ،‬وطلب‬ ‫نفس ُه اللغة البرتغالية (وهو األمي الذي ال‬ ‫أكبر أيضاً أن يُ َعلً َم هو ُ‬ ‫يعرف القراءة والكتابة)‪.‬‬ ‫وضم السلطان أكبر رعاية الطقوس الكاثوليكية‪ ،‬إلى غيرها‬ ‫من الديانات األ ُ َخر التي يعتنقها مواطنوه‪ ،‬كالهندوسية والبوذية‬ ‫واليانية والزرادشتية والبوذية التبتية الالما والسمنية السندية‬ ‫‪155‬‬


‫ُ‬ ‫نهر على َسفَر |‬ ‫السلطان أكْ ـبر‬ ‫ٌ‬ ‫عرش ُّ‬

‫والبراهمية‪ ،‬كما سمح ببناء كنس في مدينة الفتح بسيكري‪ ،‬وبناء‬ ‫آخر في مدينة الهور‪ .‬وترك لهم ولباقي مواطنيه حرية التعبد؛‬ ‫وشاركهم في مناسبات أقاموها داخل مدينة الفتح في سيكري‪،‬‬ ‫لكنه رفض طلبا لهم بأن يعتنق املسيحية‪.‬‬ ‫هكذا كان السلطان أكبر مسلما وهنديا‪ ،‬في آن واحد‪ .‬فهو كمسلم‬ ‫يتبع القرآن الكرمي وأحاديث الرس������ول (صلى الله عليه وسلم)‪،‬‬ ‫ويجد في الكتاب والسنة مصدر سماحته‪ ،‬كما أنه كهنديا يعرف‬ ‫أن ترابط تلك األعراق واألديان في وطن قوي موحد يستلزم منه‬ ‫أن يكون عادال في سياسته الدينية التسامحية جتاه من ينتمون‬ ‫إليها‪ .‬كافة األديان‪ ،‬ودلي ً‬ ‫ال يهدي إلى حريات التعبد والتسامح‬ ‫فيما بني اصحاب الديانات و أتباعها من مواطني دولته‪ .‬وتكفي‬ ‫إش������ارات من آيات الله للتدليل على مصدر نهج السلطان أكبر‪:‬‬ ‫الر ْش ُد ِ‪ ‬م ْن‪ ‬الغي» ( البقرة‪ ،‬من اآلية‪:‬‬ ‫ين َق ْد َت َب نّ َ َ‬ ‫«لاَ ِإكْ َرا َه ِ‪ ‬ف ِ ّ‬ ‫ي‪ ‬الد ِ‬ ‫ي ُّ‬ ‫َ‪ ‬م ْن‬ ‫‪َ ّ ،)256‬‬ ‫آمنُ و ْا َوا َل ِّذينَ َه ُ‬ ‫«إن ا َل ِّذينَ َ‬ ‫الص ِاب ِئني َ‬ ‫ّصا َرى َو ّ َ‬ ‫���ادو ْا َوال َن َ‬ ‫مم ِ‪ ‬عن َد‪َ ‬ر ِ ّب ِه‬ ‫َ‬ ‫آمنَ ِ‪ ‬بال َل ِّه َوا ْل َي ْو ِم ِ‬ ‫اآلخ ِ���ر َو َع ِم َل َ‬ ‫���م أَ ْج ُر ُه ْ‬ ‫صالحِ ًا َف َل ُه ْ‬ ‫���و ٌف َع َل ْي ِه ْم َو َ‬ ‫ْم‪َ ‬و َ‬ ‫���م َي ْح َزنُونَ » (البقرة‪ :‬اآلي���ة‪َ .)62:‬ف ِب َما‬ ‫ال‪ ‬خَ ْ‬ ‫ال ُه ْ‬ ‫َر ْح َم ٍة ِ‪ ‬منَ ‪ ‬ال َل ِّه ِلنْ���تَ َل ُه ْم َو َل ْو ُكنْتَ َف ًّظا َغ ِلي َ‬ ‫َضوا‪ ‬‬ ‫���ظ ا ْل َقل ِْب ال ْنف ُّ‬ ‫َ‬ ‫���او ْر ُه ْم ِفي األ ْم ِر» (آل‬ ‫ِم ْن َ‬ ‫‪ ‬ح ْو ِل َك‪َ ‬ف ْ‬ ‫اس َتغْ ِف ْر‪َ ‬ل ُه ْم َوشَ ِ‬ ‫اع ُف َعن ُْه ْم َو ْ‬ ‫���س أَ ْن ُتؤْ ِمنَ ِإ اّ َل ِب ِ���إذ ِْن ال َل ِّه» (‬ ‫عمران‪ ،‬اآلي���ة‪َ « .)159 :‬و َما َكانَ ِل َنفْ ٍ‬ ‫يونس‪ ،‬من اآلية‪ « .)100:‬وال جتادلوا أه���ل الكتاب إال بالتي هي‬ ‫أحسن» (العنكبوت‪ :‬اآلية‪.)46 :‬‬

‫سطور «أكبر نامه»‬ ‫سنعود إلى «أكبر نامه»‪ ،‬ذلك السجل التاريخي لسنوات حكم‬ ‫السلطان جالل الدين‪ ،‬وفيه يقدم الوزير أبو الفضل بن الشيخ‬ ‫‪156‬‬

‫مبارك (‪1011-958‬هـ‪1602-1551 /‬م)؛ القائد العسكري واملستشار‬ ‫اخلاص للسلطان سيرة تفصيلية‪.‬‬ ‫كان تفتح ذهن ذلك املؤرخ واملعلم وراء انفتاح السلطان نفسه‬ ‫على أديان الهند‪ ،‬فاملعلم خبير بأسرارها التي يرويها في مجلس‬ ‫السلطان‪ ،‬رواية العارف بأس������رارها‪ ،‬ولم ال وهو صديق علماء‬ ‫الهندوس‪ ،‬وإمامهم في «عبادت خانه»‪.‬‬ ‫وقفت في املكان الذي اتخذه السلطان ساحة للنقاش‪ ،‬وأمامه‪،‬‬ ‫على مرأى‪ ،‬أول مس������رح مفتوح‪ ،‬كانت تؤدى به االس������تعراضات‬ ‫واألداءات املوسيقية‪ .‬وفي الوقت الذي كان فيه العلماء يتبادلون‬ ‫األراء واألفكار‪ ،‬كان الفنانون يلعبون على األوتار‪ .‬كان رسول اللغة‬ ‫الفارسية‪ ،‬لغة البالط السلطاني‪ ،‬يعلمها ملن شاء من األكابر‪ .‬وقد‬ ‫ساند أفكار سلطانه‪ ،‬ودافع عنها‪ ،‬حتى أنه قدم حياته فداء لها‪،‬‬ ‫حيث اغتيل مبؤامرة قام على رأسها ابن السلطان أكبر‪ ،‬األمير سالم‬ ‫(امللقب بجهان كير في ما بعد)‪ ،‬بيد بير‪ -‬سينغ ‪،Bir- Singh‬‬ ‫يوم اجلمعة ‪ 4‬ربيع األول عام ‪1011‬ه������ـ‪1602 /8 /12 /‬م‪ ،‬كما‬ ‫يروي حاكم بخارى‪ ،‬عبدالله البخاري‪.‬‬ ‫مقابل ما ذكره أبو الفضل من مدي������ح مفصل في «أكبر نامه»‬ ‫يأتي هجوم مؤلف منتخب التواريخ‪ .‬إنه اإلمام البدعوني‪ ،‬أحد‬ ‫سبعة أئمة مبسجد السلطان (إمام األربعاء‪ ،‬حيث كان هناك إمام‬ ‫لكل يوم من أيام األس������بوع)‪ ،‬صاحب الصوت احلسن‪ ،‬والترتيل‬ ‫اجلميل ومترجم اللغة الفارسية‪ ،‬الذي نقل من العربية بنا ًء على‬ ‫أمر السلطان‪ ،‬معجم البلدان لياقوت احلموي‪ ،‬وجامع التواريخ‬ ‫لرشيد الدين الهمداني‪.‬‬ ‫لم يحب البدعوني فكرة التقارب بني األديان فغاب عن ساحة‬ ‫أرض كانت تدر عليه مخصصاً‬ ‫احلوار‪ ،‬وسحب السلطان منه نصف ٍ‬ ‫‪157‬‬


‫ُ‬ ‫نهر على َسفَر |‬ ‫السلطان أكْ ـبر‬ ‫ٌ‬ ‫عرش ُّ‬

‫يقتات منه و عياله‪ ،‬فاعتزل مجلسه واستقال من اإلمامة؛ فسحبت‬ ‫منه بقية األرض؛ فاعتزل الناس والب���ل��اط‪ ،‬واختفى علنا بينما‬ ‫أخذ يراقب سرا األحداث و يد ِّونها‪ ،‬من شاهدي عيان ثقة‪َ ،‬د ًو َن‬ ‫أس������ماءهم في منتخب التواريخ‪ ،‬وأخفى كتابه‪ ،‬وحني ُعثر عليه‬ ‫أصبح أكثر املؤلفات طلبا‪ ،‬وخاصة أنه أخرج بجرأة سلطان البالد‬ ‫من الدين كليا‪.‬‬ ‫وفيما تدور هذه األحداث في الفيلم على مسرح تتصدره قصة‬ ‫زواج السلطان باألميرة الهندوسية‪ ،‬لكن التفاصيل كلها‪ ،‬اخلاصة‬ ‫بالزواج‪ ،‬أو املؤامرات‪ ،‬أو احلروب‪ ،‬تصب في بناء شخصية لقائد‬ ‫مغولي أراد أن يكون استثناء‪ ،‬وأن يأخذ بالسالم أكثر مما ميكن‬ ‫أن متنحه املعارك‪.‬‬

‫مسجد فتح بور سكري‬ ‫اجتهنا للصالة في مسجد فتح بور سكري (أنشئ في ‪ 1571‬م)‪،‬‬ ‫الذي تناوب عليه أئمة السلطان‪ ،‬وهو من أوائل املساجد املغولية‬ ‫التي بناها جالل الدين‪ ،‬ومس������احته ‪ 165‬مترا طوال و‪ 133‬مترا‬ ‫عرضا‪ ،‬ويضم قاعة صالة ومدرسة تؤلفها سلسلة غرف حتيط‬ ‫بالصحن‪ ،‬وله أبواب ثالثة مفتوحة على الصحن ورواقه‪ .‬تشبه‬ ‫قاعة الصالة مسجد أصفهان ذا التأثير السلجوقي‪ ،‬أما الغرف‬ ‫وراء الرواق فيبرز بها التأثير العثماني‪ ،‬بينما يبدو التأثير الهندي‬ ‫في الزخارف‪.‬‬ ‫يرتفع املسجد عن مستوى الشارع بثالثة عشر مترا ونصف‬ ‫املتر وحتته مستودعات وخزانات ماء‪ ،‬صعدنا األدراج التي تتقدم‬ ‫البوابات‪ ،‬لنواجه بالبناء املصنوع من احلجر الرملي األحمر املرصع‬ ‫بالرخام األبيض‪ ،‬ثم عبرنا إل������ى قاعة الصالة‪ ،‬وهي أضيق من‬ ‫‪158‬‬

‫الصحن (‪ 109 X 133‬مترا)‪ .‬الطريف أن هناك مكانا يضم عددا‬ ‫من قبور النساء‪.‬‬ ‫في سنة حكمه الثانية عش������رة‪ ،‬التي بدأت الثالثاء الثاني من‬ ‫رمضان ‪ 974‬هجرية‪ ،‬أراد السلطان أن ميضي أيام النوروز في‬ ‫صيد القمرغه‪ .‬والقمرغه كلمة تركية تصور إحدى طرق املغول‬ ‫بالصيد وفيها يحيط اجلي������ش مبنطقة الصيد من كل جانب ثم‬ ‫يتقدم أفراده من كل جانب لتضيق احللقة‪ ،‬بينما يقوم السلطان‬ ‫بالصيد داخل هذه الدائرة ثم يُسمح للوزراء واملقربني في أيام‬ ‫النوروز األخيرة باملشاركة في الصيد‪.‬‬ ‫كما رأينا‪ ،‬كانت الهند‪ ،‬وخاصة راجستان‪ ،‬مكانا رحبا لكل الكائنات‬ ‫احلية‪ .‬رأينا طيور الطاووس تقفز من سور بيت لفناء آخر‪ .‬تابعنا‬ ‫القردة تتقافز من ساحة معبد إلى شجرته‪ .‬كانت السناجب تلهو‬ ‫في براءة‪ ،‬والبقر يعبر في اس������ترخاء‪ .‬الغزالن تتماهى مع رمال‬ ‫الصحراء‪ ،‬واجلمال مترح فوق الكثبان‪ .‬حديقة حيوانات سوارها‬ ‫املدن وسقفها السماء‪.‬‬

‫ترويض الفيلة‪ ،‬وصيد القردة‬ ‫بدأ األمراء املشاركون في القمرغه بطرد احليوانات حول الهور‬ ‫أمامهم من كل ناحية‪ ،‬حتى عد املؤرخون بأنه كانت هناك ‪ 15‬ألف‬ ‫حيوان‪ ،‬بني غزالن وبقر وحش������ي وابن آوى وثعالب‪ .‬وسط هذه‬ ‫الدائرة التي يبلغ قطرها خمسة فراسخ من كل ناحية أقيمت خيمة‬ ‫سلطانية معتادة‪ ،‬يركب منها الس������لطان يوميا على جواد سريع‪،‬‬ ‫فسمح لألمراء‪ ،‬وبعدهم املقربني‪ ،‬حتى‬ ‫وبدأ الصيادون يزيدون‪ُ ،‬‬ ‫شارك كل من باجليش في الصيد‪ ،‬وحتى يتم رياضته‪ ،‬سافر إلى‬ ‫مدينة تهته‪ ،‬وعندما وصل إلى شاطئ نهر الهور قفز في النهر‬ ‫‪159‬‬


‫ُ‬ ‫نهر على َسفَر |‬ ‫السلطان أكْ ـبر‬ ‫ٌ‬ ‫عرش ُّ‬

‫راكبا فرسه‪ ،‬ثم عبر س������ابحا‪ ،‬بينما غرق بعض من تبعه‪ ،‬وهو‪،‬‬ ‫السلطان‪ ،‬تعلم الرماية‪ ،‬والسباحة‪ ،‬وركوب اخليل‪ ،‬وترويض الفيلة‪،‬‬ ‫وصيد القردة‪.‬‬ ‫بعد بدء احلمالت العربية على ش������به القارة الهندية‪ ،‬بزعامة‬ ‫محمد بن القاسم الثقفي (‪ 92‬هجرية ‪ 710 /‬ميالدية)‪ ،‬تأسست‬ ‫حقبة جديدة للمنطقة حتت السيادة اإلسالمية‪ ،‬توجت بتأسيس‬ ‫قواعد للمسلمني في إقليمي السند والبنجاب‪ 714( ،‬ميالدية)‪،‬‬ ‫ولكن بقيت مجرد إدارة تابعة للحكم األموي‪.‬‬ ‫ومثلت الدولة الغزنوية (‪ 1030 - 979‬ميالدية) مرحلة جديدة‪،‬‬ ‫فقد ورثوا حكم السامانيني في إيران وآسيا الوسطى‪ ،‬وورثوا حكم‬ ‫العرب في حكم الهند‪ ،‬وفي حني استقلت عن احلكم العباسي‪،‬‬ ‫إال أنها لم تشأ أن تهاجمه‪ ،‬بل إن سلطانها محمود الغزنوي وطد‬ ‫عالقته بالعباسيني‪ ،‬وحرص على احلصول من قبل خالفتهم على‬ ‫اعتراف بأنه سلطان املسلمني في الشرق‪ .‬حتى أن املؤرخ لنظام‬ ‫امللك الطوسي س������جل منوذجا من تلك األلقاب؛ فقد نُعت بأنه‬ ‫«أمني امللة وميني الدولة»‪ ،‬و«نظام الدين وكهف اإلسالم واملسلمني‪،‬‬ ‫وولي أمير املؤمنني»‪ ،‬ولقب بأنه «املنتقم من أعداء الله»‪ ،‬و«شهاب‬ ‫الدولة» حتى أن اخلليفة أصدر مرسوما معتادا مينح بهذه األلقاب‬ ‫سمى فيه الغزنوي «الناصر لدين الله»‪.‬‬

‫بداية ونهاية‬ ‫وقد حقق الغزنويون أساسا مللك مستقر في آسيا الوسطى وإيران‬ ‫والهند وورثتهم في حكم أفغانستان وشبه القارة الهندية األسرة‬ ‫األفغانية الغورية (‪ 1215 - 1148‬ميالدية)‪ ،‬وقد تبلور حكمها‬ ‫في الهند في عهد السلطان غياث الدين أبو الفتح محمد بن سام‬ ‫‪160‬‬

‫اهتم السلطان أكبر برياضة ترويض الفيلة ومارسها‪ ،‬وعلى الدرب الذي يؤدي لبوابة‬ ‫قلعته في عنبر يركب السياح الفيلة وسط طبيعة سخية اجلمال‪.‬‬

‫‪161‬‬


‫ُ‬ ‫نهر على َسفَر |‬ ‫السلطان أكْ ـبر‬ ‫ٌ‬ ‫عرش ُّ‬

‫الغوري الذي ُمنح لقب «معني أمير املؤمنني» تقديرا جلهوده في‬ ‫نشر اإلسالم‪ .‬وجاء عبده‪ ،‬قطب الدين أيبك‪( ،‬حكم بني عامي‬ ‫‪ 1206‬و‪ 1210‬ميالدية)‪ ،‬ليكون املؤسس احلقيقي لسلطنة دهلي‬ ‫(دلهي)‪ ،‬والذي أصبح أول مؤسس لقواعد نظام سياسي إسالمي‬ ‫في الهند‪ ،‬مستقلة عن العباسيني‪ .‬واكتسبت سلطنة دهلي مكانة‬ ‫وأهمية كبيرتني‪ ،‬فتوافد رس������ل العباسيني في عهد «ميني أمير‬ ‫املؤمنني» السلطان شمس الدين التتمش معترفني به سلطانا على‬ ‫الهند‪ ،‬وأن عاصمته دهلي من ديار اإلسالم‪ .‬الغريب أن التتمش‬ ‫أوصى باحلكم البنته رضية‪ ،‬القوية‪ ،‬لكن ابنه ركن الدين فيروز‬ ‫شاه حكم بدال منها‪ ،‬وكان ضعيفا‪ ،‬فقامت القالقل‪ ،‬واالضطرابات‪،‬‬ ‫واعتلت رضية عرش البالد كأول حاكمة لبلد إسالمي (‪ 18‬ربيع‬ ‫األول ‪ 634‬هجرية ‪ 19 /‬نوفمبر ‪ 1236‬ميالدية) وبرعت ألكثر‬ ‫من ألف يوم ويوم في احلكم‪ ،‬وظهر أن مسلمي البالد هناك كانوا‬ ‫على وعي راق بأن اعترفوا بقدرتها وحكمها‪.‬‬ ‫لكن اجتياح الشرق في خوارزم من قبل قوات جنكيز خان (‪1219‬‬ ‫ميالدية) وانهيار قلب الدولة العباسية على يدي هوالكو (‪1258‬‬ ‫ميالدية) أفقد الدولة اململوكية في الهند حليفا كانت تكتسب منه‬ ‫شرعية وجودها في حكم الهند‪ .‬وهكذا بدأت تغييرات جذرية‬ ‫في حكم تلك البالد في عهد األسرة األفغانية اخللجية (‪1290‬‬ ‫ـ ‪ 1320‬ميالدية)‪ ،‬ودولة تغلق التي تلتها واس������تمرت ‪ 4‬سنوات‪،‬‬ ‫على الرغم من أنها حافظت من ضرب العمالت باسم اخللفاء‬ ‫الراشدين األربعة‪ ،‬وحني اتخذت الدولة اململوكية في مصر من‬ ‫اخللفاء العباسيني خلفاء للدولة‪ ،‬كما يقول الدكتور أحمد محمد‬ ‫اجلوارنة‪ ،‬بجامعة اليرموك‪ ،‬أدركت سلطنة دلهي أنها مضطرة‬ ‫إلعالن الوالء للخليفة العباسي اجلديد في القاهرة‪ ،‬فظهر اسم‬ ‫‪162‬‬

‫بلغ فن العمارة في عهد السلطان أكبر شأنا عاليا‪ ،‬وجسد قمته بعده ضريح حفيده‬ ‫شاه جهان وزوجته احملبة‪ ،‬واملعروف باسم تاج محل‪ ،‬الصورة لألثر والبوابة‪.‬‬

‫‪163‬‬


‫ُ‬ ‫نهر على َسفَر |‬ ‫السلطان أكْ ـبر‬ ‫ٌ‬ ‫عرش ُّ‬

‫اخلليفة «املستكفي بالله» على نقود تداولها جتار دهلي (‪1244‬‬ ‫ميالدية)‪.‬‬ ‫وحني حضر موفد اخلليفة العباسي مبوافقة رسمية للسلطان‬ ‫تغلق‪ ،‬دعا خطيب املس������جد في يوم اجلمعة للخليفة العباس������ي‬ ‫ووزعت دراهم ذهبية وفضية على الفق������راء واحملتاجني‪ .‬لكن‬ ‫حمالت األمير تيمور ـ حتى على قلب دهلي ـ جعلت ممارسات‬ ‫جنوده تعيد البالد إلى فوضى وب������ؤس ومعاناة لم تعرفها‪ ،‬وهي‬ ‫املدينة العامرة بالنشاط والعمران واحلضارة‪.‬‬ ‫وقد أسس خلفه في ش������به القارة الهندية‪ ،‬خضر خان‪ ،‬أسرة‬ ‫جديدة اسمها األسياد‪ ،‬سكت العملة باسم تيمور‪ ،‬وقرأت خطبة‬ ‫اجلمعة باس������م ابنه األكبر ش������اه رخ ميرزا‪ ،‬حتى استولى أمراء‬ ‫األفغان على احلكم‪ ،‬حتت قيادة أس������رة اللودية (‪ 1451‬ـ ‪1526‬‬ ‫ميالدية)‪ ،‬وتواكب ذلك مع نقل اخلالفة من القاهرة إلى األسرة‬ ‫العثمانية اجلديدة‪ ،‬ومرت الدول������ة األفغانية بحالة من الضياع‬ ‫السياس������ي والصراعات الداخلية‪ ،‬وظهر املغول ببأسهم‪ ،‬ولبى‬ ‫زعيمهم‪ ،‬ظهير الدين محمد بابر (حكم بني عامي ‪ 1526‬ـ ‪1530‬‬ ‫ميالدية) نداء ناشده فيه األمير األفغاني دولت خان لودي للمجيء‬ ‫للهند واالستيالء على السلطة‪ ،‬فدخلها بابر‪ ،‬وهو جد سلطاننا‬ ‫جالل الدين محمد أكبر‪ ،‬ووالد السلطان همايون‪ ،‬ليرتبط تاريخا‬ ‫بدأناه‪ ،‬بآخر وصلنا إليه‪ ،‬وليستمر حكم املغول بني ‪ 1526‬و‪1857‬‬ ‫ميالدية‪ ،‬وقد حررتهم نزعات االنفصال عن الدولة اإلسالمية‬ ‫املركزية من اتباع دولة اخلالفة‪ ،‬ب������ل وأرادوا أن تكون لهم دولة‬ ‫خالفة مستقلة‪ ،‬وفعلوا ما كانت دول اخلالفة تفعل‪ ،‬فقرئت باسم‬ ‫اخلطبة فوق منابر املساجد املنتشرة بالهند‪ ،‬وهو مظهر سيادي‬ ‫بحت‪ ،‬وسكت العمالت والنقود اإلس���ل��امية باسمهم‪ ،‬ووشحت‬ ‫‪164‬‬

‫املراسيم والفرمانات بتوقيعاتهم وأختامهم‪ .‬ولم يكن جالل الدين‬ ‫أكبر خالفا لهم‪ ،‬بل أراد أن يضيف مظاهر له وحده‪ ،‬متثلت في‬ ‫اجتاهاته السياسية والدينية‪.‬‬ ‫كان نظام احلكم لدى املغول رأسه السلطان الذي يجمع بني يديه‬ ‫جميع سلطات الدولة العس������كرية واملدنية والدينية‪ ،‬ولكن يظهر‬ ‫لنا حرص جالل الدين أكبر على مشاورة رجاله‪ ،‬واجللوس مع‬ ‫أبناء الشعب لسماع شكواهم (أو السير بينهم متخفيا كما ذكرت‬ ‫سيرته وأظهر الفيلم)‪ .‬لقد علق على أبواب القصر أجراسا يدقها‬ ‫أي مظلوم لتُسمع شكاواه‪ .‬وكان للسلطان وكيل يعتمد عليه فى‬ ‫تصريف األمور‪ ،‬ووزير يأتي بعده في املرتبة‪ ,‬مسؤول عن شئون‬ ‫املال في الدولة وميرجنتش يلي الوزير فى املرتبة‪ ,‬يختص بدفع‬ ‫رواتب اجلند والقادة ويشرف على شؤون البالط ويعد مسئوال عن‬ ‫جيش السلطان اخلاص‪ ،‬ثم خان سامان مختص باإلشراف على‬ ‫البالط‪ ,‬يالزم السلطان في ترحاله‪ ،‬وقاضي القضاة‪ ،‬واحملتسب‬ ‫الذي يراقب سلوك الناس ومينع ممارسة البدع وارتكاب ما ينافي‬ ‫الشرع واآلداب‪.‬‬ ‫أخي ًرا س������نصل إلى املكان الذي يجتمع فيه علية الرجال في‬ ‫بالط السلطان أكبر‪ ،‬كأني أسمع مشورتهم‪ ،‬وإخبارياتهم‪ .‬كأني‬ ‫به أراه يغضب على أحدهم فيأمره ببدء رحلة احلج‪ ،‬وهي الرحلة‬ ‫األخيرة في حياة أحدهم‪ .‬كأني أرى ـ قرب بركة املياه ـ منصة تبدأ‬ ‫عليها وصلة من الفن‪ ،‬لعازفني وراقصات‪ .‬هنا عرش السلطان‬ ‫أكبر الذي جمع خصاال وخصائل فرقت اآلراء حوله‪ ،‬ولكنه يبقى‬ ‫رمزا المبراطورية كبيرة‪ ،‬ذهب رجالها‪ ،‬وبقيت آثارها‪ ،‬وعاشت‬ ‫قصصها تُروى‪ ،‬من أجل عبر وآيات منسية‪ ،‬أو تكاد‪.‬‬ ‫‪165‬‬


‫نهر على سفر‬

‫اجن ُچو‬ ‫ُج َو ْ‬

‫ُ‬ ‫اآلسيوية‬ ‫الثقافة‬ ‫عاصمة‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬


‫ُ‬ ‫الثقافة اآلسيو ّ َية‬ ‫عاصمة‬ ‫نهر على َسفَر | ُج َواجنْ ُچو‪...‬‬ ‫ِ‬ ‫ٌ‬

‫في منتصف الطري� � ��ق من العاصمة الكورية اجلنوبية (س� � ��يئول) إلى‬ ‫مقصدِ نا جنوبها؛ مدينةِ (جواجن چو)‪ ،‬توقفنا في مدينة عجيبة هي (سو‬ ‫ـ وون)‪ .‬لم ِ‬ ‫يأت العجب من اسمها‪ ،‬وال من أشكال منحوتاتها الشجرية في‬ ‫حدائقها املمتدة على مرمى البصر‪ ،‬وال من آثارها التاريخية التي تلهو‬ ‫جداول املياه حتتها وعبرها‪ ،‬بل العجب هو أننا نزورها في الشهر الذي‬ ‫خصصته للطاقة النظيفة! كنا قرأنا قبل وصولنا بأسبوعني‪ ،‬أن احلكومة‬ ‫الكورية اجلنوبية حظرت على املؤسسات العامة تشغيل مكيفات الهواء‬ ‫ملدة أسبوع من أجل التغلب على أسوأ أزمة لنقص الطاقة الكهربائية‪،‬‬ ‫وأمرت باتخاذ تدابير احترازية؛ مثل جتهيز مأوى لكبار السن والنساء‬ ‫طلب الوزارة جاء بوثيقة رس� � ��مية أرسلت إلى جميع‬ ‫احلوامل وغيرهم‪ُ .‬‬ ‫املؤسسات العامة في شتى أنحاء البالد وعبر الهاتف‪ ،‬كما قررت الوزارة‬ ‫إطفاء األنوار الداخلية في املؤسس� � ��ات العامة مبدئيا واستخدامها في‬ ‫األماكن التي حتتاج إلى اإلضاءة مثل ال َّد َرج ـ الذي تبنته بديال للمصاعد‬ ‫وفق احلاجة ـ والطوابق حتت األرض‪ ،‬بل وحثت املؤسسات العامة التي‬ ‫متلك مولدات الطوارئ بس� � ��عة أكبر ‪ 500‬كيلو وات إلى تشغيلها خالل‬ ‫الفترة من الساعة الثانية بعد الظهر حتى الساعة السادسة مساء‪ ،‬مع‬ ‫مراقبة متشددة في القطاع اخلاص‪ .‬لكن مدينة (سو ـ وون) لم تكن تطبق‬ ‫ذلك التحول للطاقة النظيفة تطبيقا لقرار حكومة البالد‪ ،‬وإمنا هو اجتاه‬ ‫تبنته منذ سنوات‪ ،‬ودعت في مؤمتر ليوم واحد حضرناه جتارب مماثلة‬ ‫خلمسة مدن عاملية‪ ،‬ممثلة بعمدة كل منها‪ ،‬لتقدم هذه املدن تاريخها في‬ ‫توفير الطاقة‪ ،‬والتحول إلى الطاقة البديلة والنظيفة‪.‬‬ ‫حني جتولنا في (سو ـ وون)‪ ،‬لم نَ َر سوى العربات التي تُشحن بالكهرباء‬ ‫املو ّلَدة بالطاقة احلركية‪ ،‬حتى محالت العصائر كانت تُشغل خالطات‬ ‫الفواكه التي تستمد كهربتها من حركة شابات يقمن بقيادة دراجة ثابتة‪،‬‬ ‫لتصبح الطاقة احلركية للعجالت تيارا كهربائيا‪ ،‬وكذلك محالت أخرى‬ ‫‪168‬‬

‫قلب مدينة سو ـ وون في الطريق إلى جواجن جو‪ ،‬تذخر بأشكال منحوتات شجرية في‬ ‫حدائقها املمتدة على مرمى البصر‪ ،‬وآثار تاريخية تلهو جداول املياه حتتها وعبرها‪.‬‬

‫مشهد بانورامي ملدينة جواجن جو‪.‬‬

‫‪169‬‬


‫ُ‬ ‫الثقافة اآلسيو ّ َية‬ ‫عاصمة‬ ‫نهر على َسفَر | ُج َواجنْ ُچو‪...‬‬ ‫ِ‬ ‫ٌ‬

‫أحسست أن مدينة (سو وون) تقدم‬ ‫تشحن الهواتف النقالة بالطريقة ذاتها‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫أفكا ًرا جديدة‪ ،‬ولكن فكرتها األساسية‪ ،‬كما رأيتها‪ ،‬هي أنها متهد الطريق‬ ‫للوصول إلى مدينة (جواجن چو)‪ ،‬وأن علي أن أستعد ألفكار تقدمها هذه‬ ‫تؤهل بنيتها التحتية لتكون عاصمة للثقافة اآلسيوية‪.‬‬ ‫املدينة التي ِ ّ‬

‫مجمع الثقافة اآلسيوية‬ ‫رحلتنا إلى مدين� � ��ة (جواجن چو) كانت للمش� � ��اركة في منتدى جمعية‬ ‫الصحفيني اآلسيويني الثقافي‪ ،‬الذي نُظم من أجل دراسة وتقومي مدى‬ ‫إسهام صحفيي أكبر قارات العالم في تعزيز التبادل والتواصل الثقافيني‬ ‫بني البلدان اآلسيوية‪ .‬تفتح مدينة (جواجن چو) ذراعيها إلعالميني من كوريا‬ ‫واليابان وبنجالديش وإندونيسيا وقرغيزستان وكمبوديا والفلبني ومصر‬ ‫وباكستان وسنغافورة وتركيا وڤيتنام‪ ،‬يتوزعون عبر تخصصات مختلفة‬ ‫وأجيال متباينة‪ ،‬مهمتهم التوصل‪ -‬عبر جلس� � ��ات نقاشية موسعة‪ -‬إلى‬ ‫كيفية احلفاظ على والترويج للثقافة اآلسيوية‪ .‬قِ سما املنتدى يتناوالن‪،‬‬ ‫كما يحمل عنواناهما (دور اإلعالم في ترويج وازدهار الثقافة اآلسيوية)‬ ‫و(خصائص املجمعات الثقافية في البلدان اآلسيوية‪ ،‬مع التركيز على دور‬ ‫«مجمع الثقافة اآلسيوية» املنشود‪ ،‬الذي يستضيف فعاليات املنتدى)‪.‬‬ ‫واحلقيقة أن أوراق املنتدى لم حتمل فقط صيغة التجارب البينية واخلاصة‬ ‫بكل بلد‪ ،‬ب� � ��ل كان هناك مجال للحوار حول أدوار املؤسس� � ��ات الثقافية‬ ‫كاملتاحف‪ ،‬واملنظمات الثقافية‪ ،‬وقصور الثقافة‪ ،‬وغيرها‪.‬‬ ‫لب األمر كله‪ ،‬لذا وجبت زيارة إنشاءاته‬ ‫ويبدو أن هذا املجمع الثقافي هو ّ ُ‬ ‫التي تكتمل مرحلتها األولى العام القادم‪ ،‬وتُختتم كلها بعد عشر سنوات!‬ ‫بدأت رحلة العجب‪ ،‬ألننا وجدنا أنفسنا في موقع اإلنشاءات نتجه إلى‬ ‫باطن األرض‪ .‬خالصة القول أن املصمم لم يشأ أن يكون مجمعه صاد ًما‬ ‫للعيون بامتداده فوق األرض‪ ،‬بل ب� � ��دأ من قلب التربة‪ ،‬وكأنه يبحث عن‬ ‫‪170‬‬

‫من التصميم املعماري ملجمع الثقافة اآلسيوية يقصد الزوار إلى باطن األرض‪ ،‬بينما‬ ‫النور ينفذ من األسقف املتناغمة مع الفضاء املتخم باللون األخضر‪.‬‬

‫‪171‬‬


‫ُ‬ ‫الثقافة اآلسيو ّ َية‬ ‫عاصمة‬ ‫نهر على َسفَر | ُج َواجنْ ُچو‪...‬‬ ‫ِ‬ ‫ٌ‬

‫جذور الثقافة في باطن القارة العمالقة‪ ،‬أراد أن تكون األضواء آتية من‬ ‫وحي لألفكار‪ ،‬أراد أن تنس� � ��جم اإلنشاءات املعمارية مع‬ ‫السماء‪ ،‬كأنها ٌ‬ ‫الطبيعة‪ ،‬فتأخذ النور الطبيعي طاملا أشرقت الشمس‪ ،‬وتسمح لألشجار‬ ‫أن تنمو على أسقفه‪ ،‬ولسيقان البامبو أن حتيط به‪.‬‬ ‫يا لها من عِ مارة‪ ،‬ويا له من هدف أنشئت من أجله‪ ،‬كما يقول شعارها‬ ‫«ننث ُر بذو َر الثقافة‪ ،‬مثلما تنشر الزهور بتالتها‪ ،‬فتتفتح براعم الثقافة‬ ‫اآلسيوية»‪.‬‬ ‫يقف دليلنا أمام مجسم للمجمع يشبه قطعة البيتزا الضخمة املزركشة‬ ‫بالزيتون والفلفل! هذا هو املشهد اجلوي للمكان بعد اكتماله‪ ،‬ولكن األقسام‬ ‫اخلمسة األساسية كانت ترتفع أمامنا كلما بدأ الرجل احلديث‪ :‬هذه هي‬ ‫وكالة معلومات الثقافة اآلسيوية‪ ،‬وتضم معه ًدا للبحث الثقافي ومركزاً‬ ‫للمعلومات وأكادميية ثقافية‪ ،‬تتخصص جميعا بآسيا‪ .‬وهذه وكالة ثقافية‬ ‫لألطفال‪ ،‬تضم متحفا ومركز تنمية احملت� � ��وى الثقافي‪ .‬أما هنا فمركز‬ ‫الترويج الثقافي ويضم قاعات معارض متعددة االستخدامات‪ ،‬وهنا وكالة‬ ‫للتبادل الثقافي‪ ،‬بها قاعة ‪ 18‬مايو التذكارية‪ ،‬ومركز خدمة الزوار‪ .‬وأخي ًرا‪،‬‬ ‫مسرح الفنون اآلسيوية‪ ،‬ويضم القاعة الكبرى التي تتسع أللفي مشاهد‪،‬‬ ‫فضال عن قاعة محاضرات تتسع جللوس ‪ 520‬شخصا‪.‬‬ ‫يقول لي ساجن ـ كي‪ ،‬الرئيس املؤسس جلمعية الصحفيني اآلسيويني‪،‬‬ ‫إن «مجمع الثقافة اآلسيوية هو أضخم مشروع ثقافي في تاريخ كوريا‬ ‫اجلنوبية‪ ،‬وسيكرس لتعزيز التفاهم بني الشعوب اآلسيوية‪ ،‬واالحترام‬ ‫املتبادل بينها‪ ،‬فضال عن ترويج الثقافات اآلسيوية دون متييز‪ ،‬من أجل‬ ‫النهوض بحيوات الناس»‪ .‬هذا سيحدث‪ ،‬كما عرفت‪ ،‬عبر سبعة مناطق‬ ‫ثقافية حتتويها املدينة‪ ،‬مثل شارع اآلتيليه‪ ،‬وثقافات الطعام اآلسيوي‪،‬‬ ‫وشارع الفنون التخصصية‪ ،‬ومناطق العروض الفنية املتبادلة‪ ،‬والثقافات‬ ‫اآلسيوية التقليدية‪ ،‬والوسائل السمع ـ بصرية‪ ،‬واملناطق التقنية والتعليمية‬ ‫‪172‬‬

‫واحلفاظ على البيئة الثقافية‪ ،‬وهي منطقة مقامة أمام جبل ميديوجن‪،‬‬ ‫كمتنزه بيئي للبحث في الثقافة البيئية اآلسيوية‪.‬‬

‫مدينة الدميقراطية‬ ‫لكن ملاذا اختيرت مدينة (جواجن چو) لتحمل على كتفيها هذه املهمة‬ ‫فسر لي ساجن ـ كي‪« :‬هذه املدينة نعدها واحدة الدميقراطية‬ ‫الشاقة؟ يُ ِ ّ‬ ‫الكورية اجلنوبية‪ ،‬إنها املدينة التي شهدت ميالد حركة ‪ 18‬مايو الدميقراطية‪،‬‬ ‫ومهدت للتحول في البالد‪ ،‬حتى وإن جاء بعد س� � ��نوات طويلة من ذلك‬ ‫التاريخ»‪.‬‬ ‫ففي الفترة من ‪ 18‬مايو إلى ‪ 27‬مايو ‪ 1980‬حتركت انتفاضة شعبية‬ ‫ضد الرئيس الكوري اجلنوبي شون دو‪ -‬هوان‪ ،‬وهي احلركة التي سحقها‬ ‫في نهاية املطاف اجليش الكوري اجلنوبي‪ ،‬لكنها كانت شرارة التغيير من‬ ‫احلكم الديكتاتوري إلى النظام الدميقراطي‪.‬‬ ‫كان صديقي الكوري اجلنوبي قد أعطاني نسخة من فيلم ذاع صيته‬ ‫عنوانه (هوارياهون هايوجا)‪ .‬الفيلم بعك� � ��س عنوانه اجلذاب (ويعني‪:‬‬ ‫إجازة ساحرة) يتناول أحداث مدينة (جواجن چو)‪ ،‬ويروي أنه بعد اغتيال‬ ‫الرئيس الكوري الديكتاتور بارك شنغ هي في ‪ 26‬أكتوبر عام ‪ 1979‬وقعت‬ ‫البالد فريسة للفوضى وعدم االستقرار لبعض الوقت وآلت السلطة بعد‬ ‫ذلك للرئيس شن دو هوان إثر انقالب عسكري في ‪ 12‬ديسمبر من نفس‬ ‫العام‪ .‬استمرت احلركات املناهضة للديكتاتورية‪ ،‬لتبلغ مداها في ‪ 18‬مايو‬ ‫‪ 1980‬بإقليم شوال اجلنوبي باملدينة عندما تدافعت احلشود اجلماهيرية‬ ‫نحو الشارع‪ .‬ولقمع الثورة نظمت احلكومة عملية عسكرية عرفت باسم‬ ‫هوارياهون هايوغا ش� � ��ارك بها أكثر من ‪ 20‬ألف جندي نزلوا الشوارع‬ ‫والطرقات لقمع االنتفاضة على مدى ‪ 10‬أيام‪.‬‬ ‫الفيلم الذي يحمل اسم العملية العسكرية أشعل لدى اجلمهور الكوري‬ ‫‪173‬‬


‫ُ‬ ‫الثقافة اآلسيو ّ َية‬ ‫عاصمة‬ ‫نهر على َسفَر | ُج َواجنْ ُچو‪...‬‬ ‫ِ‬ ‫ٌ‬

‫اجلنوبي ذكريات أليمة استدعاها املخرج السينمائي كيم جي هوون بدقة‪.‬‬ ‫ركز الفيلم على قصص غير عادية ألشخاص عاديني‪ ،‬من بينهم مني ـ وو‬ ‫سائق التاكسي وشقيقه األصغر جني ـ وو‪ ،‬وهما يتيمان عاشا حياتيهما‬ ‫معتمدين على نفسيهما بعد وفاة أبويهما‪ .‬كان أحدهما يحب املمرضة‬ ‫شيناي التي التقى بها يوما أثناء تردده على الكنيسة‪ .‬تقوم شرطة مكافحة‬ ‫الشغب مدججة بالرصاص وبالقنابل املسيلة للدموع مبطاردة املتظاهرين‬ ‫واملارة األبرياء‪ .‬شاهد مني ـ وو ش� � ��قيقه األصغر ورفيق دربه جني ـ وو‬ ‫يخ ّر صريعا ويلفظ أنفاسه األخيرة أمام عينيه‪ .‬كان ذلك حافزا ملني ـ‬ ‫وو ملواصلة النضال وبقوة وتصميم حتى سقط هو اآلخر شهيدا من أجل‬ ‫الدميقراطية بجانب والد حبيبته التي فقدت األب والرفيق وبقيت وحيدة‬ ‫مع األحزان‪ ..‬وقد أنفق املخرج نحو ‪ 4‬ماليني دوالر إلعادة إحياء املشاهد‬ ‫احلقيقية‪ ،‬بل واستورد سيارات عسكرية من النوع الذي كان مستعمال‬ ‫وقتها من مصر‪ ،‬واس� � ��تورد ‪ 20‬ألف قطعة مالبس شبيهة من الصني‪،‬‬ ‫فجاءت األحداث مشابهة متاما ملا وقع من أحداث سواء بالسيارات أو‬ ‫بالزيني املدني أو العسكري‪ ،‬مما أدهش الكثير من املشاهدين حني عرض‬ ‫في ‪2007‬م‪ .‬احلدث التاريخي الكبير عرف الطريق إلى السينما الكورية‬ ‫عبر أكثر من فيلم مثل (خنفساء) عام ‪ ،1996‬و(حلوى بنكهة النعناع) عام‬ ‫‪ 1999‬هي أفالم تعرضت لتلك األحداث التاريخية‪ .‬خنفساء يجسد قصة‬ ‫فتاة صغيرة تعرضت ملشكالت بدنية ونفسية بسبب تلك األحداث وحلوى‬ ‫بنكهة النعناع يتناول احلوادث ومدى تأثيرها على الظروف احمليطة من‬ ‫خالل سرد ذكريات بطل الفيلم‪.‬‬ ‫في مدينة جواجن چو الكورية انطلقنا مع تباشير ضوء الصباح الباكر‬ ‫إلى مقبرة النصب التذكاري لضحايا ‪ 18‬مايو‪ .‬كأن الشمس غابت كي‬ ‫تفسح للغيم مكانا ترش� � ��رش منه قطرات املطر فوق التماثيل الضخمة‬ ‫واخلضراء لعدد من اجلرحى من شباب النساء والرجال الذين حملوا‬ ‫‪174‬‬

‫الفتات وأعالم كوريا‪ .‬ال بد أن من بينهم شبابا مثل مني ـ وو‪ ،‬وشقيقه‪.‬‬ ‫صمت يلف املكان وصرخات املطر تدق خفيفا فوق النصب التذكاري‬ ‫ٌ‬ ‫والعشب األخضر‪ .‬صمت جعلني أحاول اإلصغاء له وأنا أغمض عيني‪،‬‬ ‫ألحلم‪ ،‬فأجدني ـ عندما فتحتهما ـ أمام تلك التماثيل وشخوصها على‬ ‫قيد احلياة‪ ،‬متضي‪ ‬قدما واحدا تلو اآلخر‪ ،‬تترك أماكنها وتدعوني ومن‬ ‫يدوي صوت عال المرأة في مالبسها‬ ‫معي من اجلمهور ملتابعتها‪ ،‬في حني ِ ّ‬ ‫العسكرية‪.‬‬

‫ذات يوم‪ ،‬رمبا‬ ‫اكتشفت حني فتحت عيني أنني لم أعد في حديقة املقبرة‪ ،‬بل هو املساء‬ ‫مبدرسة جواجن چو الثانوية للبنات حيث تعرض مسرحية مستوحاة من‬ ‫حياة أولئك الذين شاركوا في ما نعرفه في الوقت احلاضر باسم حركة‬ ‫جواجن چو الدميقراطية‪.‬‬ ‫كل كتب التاريخ وفيم� � ��ا يتعلق مبدينة جواجن چو تقول إنها مس� � ��قط‬ ‫رأس الدميقراطية الكورية‪ ،‬حيث تظاهر أه� � ��ل املدينة لالحتجاج ضد‬ ‫األحكام العرفية ومن أجل حرية الصحافة‪ .‬مشاهد احلركة والهجمات‬ ‫العسكرية عليها‪ ،‬حية‪ ،‬لكن حتى اآلن ال أحد يعرف من أعطى األمر للجنود‬ ‫إلطالق النار على هؤالء الضحايا‪ .‬على الرغم من أن انتفاضة جواجن‬ ‫چو الدميقراطية لم جتلب الدميقراطية مباشرة إلى كوريا اجلنوبية‪ ،‬بل‬ ‫احتاج األمر إلى حركات أخرى أدت في نهاية املطاف إلى بلد دميقراطي‬ ‫نعرفه اليوم‪ ،‬إال أنه عام ‪ 1993‬أعلن الرئيس كيم يونغ سام موقفه في‬ ‫خطاب‪ :‬إن الدماء التي سالت في جواجن چو في عام ‪ 1980‬هي حجر‬ ‫الزاوية في دميقراطية هذا البلد‪.‬‬ ‫حتولت طوابق مدرس� � ��ة جواجن چو الثانوية للبن� � ��ات إلى طبقات من‬ ‫التاريخ‪ ،‬أو عقود من الزمن‪ ،‬أو مشاهد انتقال من النظام العسكري إلى‬ ‫‪175‬‬


‫ُ‬ ‫الثقافة اآلسيو ّ َية‬ ‫عاصمة‬ ‫نهر على َسفَر | ُج َواجنْ ُچو‪...‬‬ ‫ِ‬ ‫ٌ‬

‫سواه‪ ،‬وكنا قد تلقينا إشارة حتذير قبل دخول املسرح بأننا قد نعاني من‬ ‫حلظات يكتنفنا فيها الظالم وهي التي كانت في الواقع تعادل السنوات‬ ‫املظلمة للديكتاتورية التي حتكم البالد‪.‬‬ ‫في الطابق الزمني األول‪ ،‬لم نكن نتخيل ضخامة هذا املشروع الفني‪.‬‬ ‫بدأ هذا املشروع كجزء من برنامج معهد التنمية الذي استضافه مسرح‬ ‫الفنون اآلسيوية في مجمع الثقافة اآلسيوية بجمهورية كوريا‪ .‬وفي إطار‬ ‫بعثة لتطوير الفنون اآلسيوية‪ ،‬مت إنتاج العمل املسرحي الفريد الذي يحمل‬ ‫عنوان «ذات يوم‪ ،‬رمبا»‪ ،‬من قبل مجموعة من الفنانني واخلبراء الدوليني‬ ‫من مجمع الثقافة اآلسيوية في كوريا‪ ،‬ومتحف الفن‪ ،‬كوتشي‪ ،‬ومتحف‬ ‫القرن ‪ 21‬للفن املعاصر‪ ،‬في كانازاوا في اليابان‪ .‬و(احلم‪ّ ِ ،‬‬ ‫فك ْر‪ ،‬حت َّدثْ )‬ ‫‪ ، dreamthinkspeak‬وهي شركة بريطانية تعد املنتج الرئيسي‪.‬‬ ‫اسمحوا لي أن أعترف أنه عندما مت حظر استخدام الكاميرات لدينا‬ ‫اندهشت‪ ،‬و شعرت باألسف‪ ،‬حيث يجب أن يرى القراء صورة مع الكلمات‬ ‫لبعض املشاهد من العمل الذي نكتب عنه‪ .‬ولكن‪ ،‬عندما كنا نعبر العقود‬ ‫والطوابق‪ ،‬كان لزاما أن نرى أن مثل هذا األداء فريد من نوعه‪ ،‬ويجب‬ ‫احلفاظ عليه‪ ،‬إلعطاء كل جمهور جديد نظرة الدهشة الطازجة‪ .‬غرف‬ ‫التحقيقات التي تسيطر عليها الش������رطة مليئة بالشباب الذين‬ ‫وقعوا في األسر‪ ،‬يتأرجحون بني االستجواب والتعذيب لالعتراف‬ ‫ببعض اجلرائم التي لم يرتكبوها‪ .‬اخترع املخرج هذه الطريقة‬ ‫عبر إظهار غرف بشكل منفصل ميكن أن تعطيك مشهدا ال يراه‬ ‫اآلخرون‪.‬‬ ‫هذا االبتكار كان إحدى حيل املخرج البارز وهو يثبت أنه إذا‬ ‫لم نتمكن من رؤية الصورة كاملة ‪ ،‬فنحن ما نزال قادرين على‬ ‫اكتشاف احلقيقة‪ ،‬حتى عندما غطى فريق من املمثلني واملمثالت‬ ‫أعيننا بغمامات س������وداء‪ ،‬كنا قادرين على االستماع إلى أولئك‬ ‫‪176‬‬

‫صورة تذكارية ملؤمتر جمعية الصحفيني اآلسيويني في جواجن جو‪.‬‬

‫مشهد من ألف ليلة وليلة آسيوية مع كونشرتو أوركسترا آسيا للموسيقى التقليدية‪،‬‬ ‫والذي أقيم احتفا ًال بلقاء وزراء ثقافة كوريا ودول جنوب شرق آسيا في مدينة‬ ‫(جواجن چو) وجمع عبر طريق احلرير موسيقى تقليدية من ‪ 11‬دولة‪.‬‬

‫‪177‬‬


‫ُ‬ ‫الثقافة اآلسيو ّ َية‬ ‫عاصمة‬ ‫نهر على َسفَر | ُج َواجنْ ُچو‪...‬‬ ‫ِ‬ ‫ٌ‬

‫الذين يعانون‪ ،‬وأصوات أجسادهم تتحرك‪ ،‬وقد يكونون قتلى‪ ،‬ورمبا‬ ‫يؤخذ بهم مسحولني إلى غرف التعذيب‪.‬‬ ‫مرت كل تلك الس� � ��نوات لتصبح كوريا‪ ،‬مثل جمي� � ��ع البلدان املنفتحة‬ ‫حتت مظلة األس� � ��واق املفتوحة‪ ،‬جميع العالمات التجارية تعبر احلدود‬ ‫متهد طريق احلرير للعوملة‪ .‬ويرسلنا املخرج الكبير إلى مستوى أعلى‪،‬‬ ‫وطابق آخر‪ ،‬وعقود جديدة من مراكز التسوق‪ ،‬وألعاب الفيديو‪ ،‬املتاجر‬ ‫واملقاهي (حيث يتم تقدمي املشروبات احلقيقية مع الكعك احلقيقي!)‪.‬‬ ‫كما لم يسمح الصور بدأت في رسم املشهد‪ ،‬وأنا أسأل نفسي‪ :‬هل كان‬ ‫ذلك املشهد هو ما حلمت به حركة ‪ 18‬مايو الدميقراطية؟ هل هذه هي‬ ‫الدميقراطية؟ أن نشترك معا في السلوك نفسه بالسعي لشراء املنتجات‬ ‫كنت أتأرجح في‬ ‫العاملية ذاتها؟ العديد من األسئلة والقليل من اإلجابات‪ُ ،‬‬ ‫أفكاري بني حلم جواجن چو وكابوس احلقيقة‪.‬‬ ‫طيلة العرض نتابع سيدة عجوزا وهي جتر عربة يد تقليدية‪ ،‬إنها تسير‬ ‫ويس� � ��اعدها اجلمهور في تخطي الطوابق‪ ،‬وكنت أشعر أن السيدة هي‬ ‫كوريا نفسها‪ ،‬وهي معنا تبحث في تلك العقود الثالثة املاضية‪ .‬وصلنا‬ ‫إلى الطابق األخير لنشعر ببعض االسترخاء‪ ،‬حيث تضاء الشموع أمام‬ ‫صور ضحايا ‪ 18‬مايو‪ .‬في جميع الغرف كانت هناك السيدات اللواتي‬ ‫تقدم لنا احللويات واملشروبات‪ ،‬وحتى سألتني أن أغني بينما كانت تؤدي‬ ‫ٍ‬ ‫واجلنسيات كلها تردد ورائي‪:‬‬ ‫حركات راقصة‪ ،‬في نهاية األغنية هتفت‬ ‫ُ‬ ‫حتيا بالدي‪.‬‬ ‫كما اإلنتاج‪ ،‬كان اجلمهور متعدد اجلنسيات‪ .‬بدأنا نشعر بنبضات قلوب‬ ‫أولئك الضحايا الغائبني‪ ،‬وحني عدنا إلى أماكنهم على خش� � ��بة املسرح‬ ‫بالطابق األول أصبحنا في مكان أولئك الذين كانوا في املشهد األول‪،‬‬ ‫فكنا نحن تلك التماثيل ذاتها‪ ،‬في حني وضعت مئات الشموع على املقاعد‪،‬‬ ‫التي كانت تستقبل اجلمهور‪ ،‬تبادل لألماكن‪ ،‬ومزيد من الذكريات‪.‬‬ ‫‪178‬‬

‫جاسيجي ماسيجي‪ :‬بينالي األفكار‬ ‫سنلتقي مع أحد أبطال حركة ‪ 18‬مايو الدميقراطية‪ ،‬ولكنه لن يتحدث‬ ‫عن التاريخ‪ ،‬بل سيحدثنا عن املستقبل‪ ،‬خاصة مستقبل الفن‪ ،‬إذ إنه يشرف‬ ‫على أشهر حدث فني تشكيلي في البالد؛ بينالي (جواجن چو)‪.‬‬ ‫حينما نس� � ��مع كلمة بينالي‪ ،‬وهي وحدها تعني حدثا يقام كل سنتني‪،‬‬ ‫يترادف معها الفن التشكيلي‪ ،‬خاصة املعاصر‪ .‬لكن بينالي (جواجن چو)‬ ‫مخصص للتصميم‪ ،‬إنه ينقل الفن من مساحة النخبة إلى فضاء العامة‪،‬‬ ‫حيث يدخل التصميم‪ ،‬كفن‪ ،‬في حياتنا اليومية‪ .‬كل عامني تخصص فكرة‬ ‫تتناوب عليها كل األعمال‪ ،‬هذه املرة تدور األفكار حول (أي شيء ميكن‬ ‫ُ‬ ‫أن يصبح شيئا)‪.‬‬ ‫أي شيء‪ ،‬أو جاسيجي باللغة الكورية‪ ،‬يتحول على أيدي هؤالء املصممني‬ ‫إلى شيء له معناه وقيمته وشكله وفائدته‪ .‬ألن التصميم هو قلب احلياة‬ ‫اليومية‪ .‬حني نستخدم األشياء في البيت واملكتب والشارع فهذا يعني أن‬ ‫مصمم هذه األشياء منحها وظيفة تؤديها‪ ،‬وهذا يعني‪ ،‬مع جودة التصميم‪،‬‬ ‫أن لدينا شي ًئا خاصا بنا وله فائدة‪.‬‬ ‫التصميم في بينالي (جواجن چو) مفهو ٌم كوني شامل‪ ،‬ألن املصمم اجليد‬ ‫عليه أن يفهم طبائع البشر‪ ،‬وأن يرى األشياء بعيونهم‪ ،‬وباملعنى الدقيق‬ ‫ميكن لكل امرئ أن يصبح مصمم� � ��ا‪ ،‬ولذلك لم يكن غريبا أن يخصص‬ ‫البينالي قس ًما لتصميمات ربات البيوت واألساتذة واألطفال وغيرهم من‬ ‫املواطنني العاديني‪ ،‬وهي جرأة تحُ سب للقائمني على العمل الضخم‪.‬‬ ‫كذلك جند أن التصميم ينمو ويتطور جنبا إلى جنب مع املجتمع‪ ،‬أنظر‬ ‫إلى تطور عربة األطفال‪ ،‬وإلى تطور الدراجة‪ ،‬إنها تتبدل لتضيف مفاهيم‬ ‫الفخامة والرفاهية‪ ،‬لكنها تظل تقدم اخلدمة أو الوظيفة التي صممت‬ ‫من أجلها‪ .‬املصمم اجلريء ينقل املجتمع إلى آفاق جديدة‪ ،‬يجعله يستريح‬ ‫إلى التغييرات‪ ،‬ويتقبلها‪ ،‬ويتبناها‪ ،‬ويدعول لها‪.‬‬ ‫‪179‬‬


‫ُ‬ ‫الثقافة اآلسيو ّ َية‬ ‫عاصمة‬ ‫نهر على َسفَر | ُج َواجنْ ُچو‪...‬‬ ‫ِ‬ ‫ٌ‬

‫األهم هو أن التصميم هوية‪ .‬التصميم يس� � ��اعدنا بشكل الحدود له‬ ‫لتعريف ذواتنا‪ ،‬يكفي أن ترتدي نظارة محددة ليكتش� � ��ف اآلخرون‪ ،‬من‬ ‫تصميمها ميولك الشبابية‪ ،‬واأللوان التي حتبها‪ ،‬وصرامتك التي يعبر‬ ‫عنها إطار العدس� � ��تني‪ .‬هويتنا تكمن في اختيار تصميمات حتدد كيف‬ ‫يرانا اآلخرون من خاللها‪.‬‬ ‫وإذا كانت «جاسيجي» تعني أي شيء‪ ،‬فإن «ماسيجي» معناها‪ :‬شيءٌ‬ ‫ما‪ .‬ال أحد يكترث بشيء ليست لديه عالمات‪ .‬أنت تضيف شيئا لتعكس‬ ‫فكرة تقدم الشيء‪ /‬التصميم للمتلقي‪ .‬وهنا يتأكد لنا في بينالي (جواجن‬ ‫چو) أن التصميم أذواق‪ .‬إنها قدرة التصميم على اإلفصاح عنا‪ ،‬وعما نريد‬ ‫أن نكون‪ .‬االختالفات التي تعبر عنها األلوان والرموز والصور لتحكي‬ ‫عنك كل شيء تود إخباره لآلخرين‪.‬‬ ‫التصميم يحدد الشخصية‪ ،‬فهذا جوهره احلقيقي‪ ،‬واألهم أنه يضيف‬ ‫قيمة للفن‪ .‬فالتصميم يقع في املساحة الرمادية بني الفن والتجارة‪ ،‬وهو‬ ‫يعطي قيمته اإلضافية حني ينجح املصمم في عرض قيمة جتارية‪ ،‬حترك‬ ‫املستهلكني لشرائه‪ .‬إن أكياس الهدايا التي نش� � ��تريها لها هدف واحد‬ ‫هو تعبئة شيء بداخلها‪ ،‬لكننا نختار بني هذه األكياس ألكثر من سبب‪،‬‬ ‫وبالتحديد ألكثر من قيمة‪ ،‬وهنا لب التصميم‪ .‬ولن تكون للتصميم فائدة‬ ‫دون أن يحقق هدفه‪ ،‬أو أهدافه بالتحديد‪ ،‬اجلمالية واملنفعية‪.‬‬

‫على مائدة الكيمتشي‬ ‫ذات مس� � ��اء متتد املوائد التقليدية للطعام الكوري الش� � ��عبية‪ .‬موائد‬ ‫تقليدية ألنها جتبرك على اجللوس أرضا‪ ،‬وطعام كوري ش� � ��عبي ألنك‬ ‫ميكن أن تصفه دون أن تكتش� � ��ف كنهه‪ ،‬في معظم األحيان‪ .‬من املمكن‬ ‫أن يتبرع أحد ليش� � ��رح لك ماذا يعني ـ مثال ـ طبق البيبيمباب‪ ،‬فتعرف‬ ‫أنه املكون من األرز املسلوق املضافة إليه تشكيلة من اخلضر‪ ،‬اللحم أو‬ ‫‪180‬‬

‫املأكوالت البحرية‪ ،‬باإلضافة إلى البيض املقلي‪ ،‬كأحد أش� � ��هر األطباق‬ ‫الكورية التقليدية‪ .‬بالطبع إذا زرت كوريا ٍ‬ ‫مرات فستجد عائلة (الكيمتشي)‬ ‫الذي يعد أحد‪‎‎‬أفضل‪‎‎‬خمسة‪‎‎‬أطعمة صحية‪‎‎‬في‏العالم‪‎‎،‬مع‪‎‎‬زيت‪‎‎‬الزيتون‪‎‬‬ ‫‪‎‬والصويا‪‎‎‬والعدس واللنب‪.‬‬ ‫‪‎‬الكيمتشي‪ ،‬وهو أشهر أنواع املخلالت الكورية‪‎،‬يحتوي‪‎‎‬على‪‎‎‬كميات‪‎‎‬كبيرة‪‎‬‬ ‫‪‎‬من‪‎‎‬األلياف‪‎‎‬املفيدة‪‎‎،‬ويعد غنيا‪‎‎‬بفيتامين� � ��ات‪‎»‎‬أ‪ ‎«‎‬و‪‎»‎‬ب»‪‎‎‬و‪‎»‎‬ج‪ ‎«‎‬وبه‪‎‎‬مقادير‪‎‬‬ ‫‪‎‬كبيرة‪‎‎‬من‪‎‎‬بكتيريا‪‎‎‬احلمض‪‎‎‬اللبني‪‎‎‬املفيدة‪‎‎،‬الت � � �ي‪‎‎‬جتعل‪‎‎‬منه‪‎‎‬غذاء‪‎‎‬فعاال‪‎‬‬ ‫‪‎‬أنواعا‪‎‎‬عديدة‪‎‬‬ ‫‪‎‬وواقيا‪‎‎‬من‪‎‎‬اإلصابة‪‎‎‬مبرض‪‎‎‬الس� � ��رطان‪ .‬صحيح أن هناك‪‎‬‬ ‫ً‬ ‫‪‎‬من‪‎‎‬الكيميتشي‪‎‎،‬حسب مكوناته‪‎‎‬املستخدمة‪‎‎‬في‪‎‎‬إعداده‪‎‎،‬ولكن‪ ‎‎‬الكوريني‪‎‬‬ ‫يعنون بكلمة «‪‎‬كيمتشي»‪‎‬امللفوف «الكرنب»‪.‬‬ ‫يحتوي «كيمتشي» على‪‎18 ‎‎‎‬وحدة‪‎‎‬حرارية‪‎‎‬لكل‪‎100 ‎‬جرام‪‎‎،‬لذلك يعد‬ ‫‪‎‬طعاما‪‎‎‬قليل‪‎‎‬السعرات‪‎‎‬احلراريه ويحتوى‪‎‎‬على‏كميات كبيرة‪‎‎‬من‪‎‎‬الكالسيوم‪‎،‬‬ ‫‪‎‬واحلديد‪‎‎،‬والفوس� � ��فور‪‎‎،‬مما يجعله‪‎‎‬فاعال‪‎‎‬في‪‎‎‬وقاي � � �ة‪‎‎‬العظام‪‎‎‬وصحتها‪‎‬‬ ‫‪‎‬ويقي‪‎‎‬من‏فقر الدم‪ ،‬كما يحوي الثوم كمكون‪‎‬رئيس‪‎‬مادة‪‎‎‬أليس� �ي��ن‪‎،‬ولها‪‎‬‬ ‫‪‎‬خاصية عالية‪‎‎‬في‏مكافحة‪‎‎‬البكتيريا‪‎‎‬الضارة‪ ،‬ولعل ذلك ما دعا إلى اعتبار‬ ‫‪‎‬الكيمتشي ‪‎‬السبب الرئيسي‪‎‎،‬في‏عدم‪‎‎‬تأثر‪‎‎‬كوريا‪‎‎‬نسبيا‪‎‎‬وسالمتها‪‎‎‬من‬ ‫«إنفلونزا‪‎‎‬الطيور»‪‎‎‬الذي‪‎‎‬اجتاح‪‎‎‬آسيا‪‎‎‬قبل سنوات‪.‬‬ ‫عادة ما يتناول‪‎‬الكوريون‪‎‎‬الكيمتش � � �ي‪‎‎‬مع‪‎‎‬األرز‪‎.‎‬ومبا‪‎‎‬أن‪‎‎‬األرز‪‎‬ـ هناك ـ‬ ‫‪‎‬يطبخ‪‎‎‬عادة‪‎‎‬دون‪‎‎‬أي‪‎‎‬مقبالت‪‎‎‬أو‪‎‎‬توابل‪‎‎،‬فيتم‪‎‎‬تناوله‪‎‎‬عادة‪‎‎‬إلى‪‎‎‬جانب‪‎‎‬طبق‪‎‬‬ ‫‪‎‬آخر‪‎‎‬جانبي‪‎‎‬مثل‪‎‎‬الكيمتشي‪.‬وهناك أيضا‪‎‬املأكوالت‪‎‎‬البحرية‪‎‎‬املخللة‪‎‎،‬وهي‪‎‬‬ ‫‪‎‬املكون‪‎‎‬غير‪‎‎‬النباتي‪‎‎‬املستخدم‪‎‎‬في‪‎‎‬إعداد‪‎‎‬الكيمتشي‪‎‎،‬فهي‪‎‎‬غنية‪‎‎‬بالبروتني‪‎‬‬ ‫‪‎‬الذي‪‎‎‬يفتقر‪‎‎‬إليه‪‎‎‬األرز‪‎.‬وعند‪‎‎‬تخمير‪‎‎‬الكيمتشي‪‎‎،‬تتج ّزأ‪‎‎‬البروتينات‪‎‎‬املوجودة‪‎‬‬ ‫‪‎‬في‪‎‎‬املأكوالت‪‎‎‬البحرية‪‎‎‬املخللة‪‎‎‬إلى‪‎‎‬أحماض‪‎‎‬أمينية‪‎‎‬وتصبح‪‎‎‬مصادر‪‎‎‬منتجة‪‎‬‬ ‫‪‎‬للكالسيوم‪.‎‬‬ ‫ما لم يحتج إلى شرح كانت وجبة السمك‪ ،‬تلك التي أنضجتها نيران‬ ‫‪181‬‬


‫ُ‬ ‫الثقافة اآلسيو ّ َية‬ ‫عاصمة‬ ‫نهر على َسفَر | ُج َواجنْ ُچو‪...‬‬ ‫ِ‬ ‫ٌ‬

‫الش� � ��واء‪ ،‬ففتحت ذراعيها‪ ،‬وكان هناك طبق به عشرات من األسماك‬ ‫الصغيرة التي ال يزيد طولها عن بضعة س� � ��نتيميترات وتش� � ��به أسماك‬ ‫البوري بعد أن حتولت إلى أقزام‪ ،‬وعرفت أنها نوع من املقبالت‪.‬‬

‫أحد عشر كوك ًبا موسيقيا‬ ‫اعتقدنا بعد تلك الوجبة التي امتدت لساعتني أننا سنتجه إلى الفندق‪،‬‬ ‫ولكن البرنامج كان يضم عرضا موسيقيا (ظننا أنه ألغي بسبب الوقت)‪،‬‬ ‫وبدال من ركوب السيارات‪ ،‬ولدواعي الهضم‪ ،‬قرر املنظمون أن نسير من‬ ‫املطعم إلى دار األوبرا‪ ،‬مشوار ميكن أن يهضم كل ما تناولناه خالل فترة‬ ‫إقامتنا بسبب اعتماد الكوريني على أطعمة قليلة السعرات احلرارية‪.‬‬ ‫وحني وصلنا األوبرا‪ ،‬أخذنا نصعد درجا وراء آخر‪ ،‬حتى وصلنا إلى ساحة‬ ‫املسرح‪ ،‬لكن العرض كان يستحق املغامرة‪ ،‬ألننا نسينا الكيمتشي وأخواته‬ ‫ومائدته وسعراته‪ ،‬وعش� � ��نا ليلة من ألف ليلة وليلة آسيوية مع كونشرتو‬ ‫أوركسترا آسيا للموسيقى التقليدية‪ ،‬والذي أقيم احتفاء بلقاء وزراء ثقافة‬ ‫كوريا ودول جنوب شرق آسيا في مدينة (جواجن چو)‪.‬‬ ‫مدير األوركسترا تشوي ساجن وا يؤمن بقوة املوسيقى التقليدية‪ ،‬وكيف‬ ‫أنها تعزز فهمنا لذواتنا واآلخ� � ��ر‪ ،‬تاريخيا وثقافيا‪ ،‬فضال عن أنها جتتاز‬ ‫حدود اللغات والعادات لنقف م ًعا‪ .‬في العرض فاجأتني الوجبة الدسمة‬ ‫كوكب له أقماره التي تعزف‬ ‫التي قدمها أحد عشر كوك ًبا موس� � ��يقيا‪ ،‬كل‬ ‫ٌ‬ ‫وتغني‪ ،‬بل وترقص أحيانا‪ .‬كانت النوتة العربية تتسلل أحيانا ـ خاصة عند‬ ‫عزف العود ـ ألكتشف الهجرات العربية عبر طريق احلرير املوسيقي‪.‬‬ ‫أين كان ميكن أن أرى (احلاجة ستي نور مايا كورني بونتي آدي) القادمة‬ ‫من س� � ��لطنة بروناي‪ ،‬وهي تغني بينما جتوب املسرح كفراشة مع فريقها‬ ‫املوسيقي الذي يعزف أحدهم على عوده؟ عرفت أن هذه الرقصة اسمها‬ ‫(جيبني وجوجيت)‪ .‬أين كنت سأسمع (سينات نو) الكمبودية‪ ،‬تلك الزهرة‬ ‫‪182‬‬

‫أوحت به لي مالبس الفريق املصاحب‬ ‫اخلضراء في بس� � ��تان أرز أبيض‬ ‫ْ‬ ‫لها؟ كان لكل كوكب مداره وأقماره وموسيقاه وأوتاره‪ .‬كانت تقدم رقصة‬ ‫املنديل األحمر التقليدية الشهيرة‪ .‬ومن كوريا حمل االفتتاح أغنية (بيتجويل‬ ‫آريراجن) التقليدية املجس� � ��دة لروح مدينة (جواجن چ� � ��و) احلامية للثقافة‬ ‫التقليدية‪ ،‬تالها عرض تايالند (حياة األرز)‪ ،‬الذي قسم إلى أربع حركات‬ ‫تبدأ بلقاء الزوجني؛ مطر السماء وثرى األرض‪ ،‬ليولد األرز‪ ،‬يليها منو األرز‬ ‫األخضر‪ ،‬ثم مراسيم احلصاد‪ ،‬وأخي ًرا احلرية‪ ،‬حيث ميكن أن يدخل األرز‬ ‫في صناعات كثيرة بحياتنا‪.‬‬ ‫من فيتنام قطعة من اخليال الثنني يجسدان الشعب الفيتنامي‪ ،‬ويعبران‬ ‫عن صوتني متمايزين للحب‪ ،‬الهادئ والهادر‪ .‬ومن ميامنار اشتق العرض‬ ‫من خمسة أغنيات ش� � ��عبية‪ ،‬لها اإليقاع ذاته واللحن نفسه‪ ،‬مع اختالف‬ ‫الكلمات‪ ،‬وكأنها لعبة تورية بالكلمات‪ ،‬وهي أيضا رو ٌح ش� � ��عبية ميكن أن‬ ‫جندها لدى لهجاتنا العربية احملكية احمللية‪ .‬تبارت فرق الوس والفلبني‬ ‫وسنغافورة وماليزيا في براعة لتكمل مشهد الليلة الساحرة‪ ،‬وكان في فريق‬ ‫جمعية الصحفيني اآلسيويني صديقنا اإلندونيسي إدي سوبرابتو‪ ،‬الذي‬ ‫يدير إحدى القنوات التلفزيونية‪ ،‬فكان يردد األغنية اإلندونيسية‪ .‬مثلما‬ ‫كان هناك آيفان ليم أحد مؤسسي اجلمعية من سنغافورة‪ ،‬وأخذ اجلميع‬ ‫ينشد بعد أن انطلقنا في شوارع سيئول األغنية التي عزفها األوركسترا‬ ‫التقليدي ‪ :‬سنجابورااا!‬ ‫حسبت أننا بدأنا باملؤمتر‪ ،‬نظريا‪ ،‬وانتهينا إلى التطبيق‪ ،‬عمليا‪ .‬كنا نبحث‬ ‫ُ‬ ‫في سبل التواصل الثقافي بني الشعوب اآلسيوية‪ ،‬وها هي مدينة (جواجن‬ ‫چو) تقدم لنا النموذج‪ .‬إنها رس� � ��الة أن ننتقل من مرحلة نثر األفكار إلى‬ ‫منطقة غرس التطبيقات‪ .‬لم تعد مدينة (جواجن چو) مدينة دميقراطية كورية‬ ‫وحسب‪ ،‬بل أصبحت مدينة دميقراطية ثقافية تسمح لألصوات أن تغني‪،‬‬ ‫وللحياة أن تعبر عن نفسها‪ ،‬حياة اجلميع‪ ،‬بكل فهم وحب ومساواة‪.‬‬ ‫‪183‬‬


‫نهر على سفر‬

‫أوزبكسـتان‬ ‫مزارات وبازارات‬


‫نهر على َسفَر | أوزبكسـتان ‪ ...‬مزارات وبازارات‬ ‫ٌ‬

‫من بُخا َرى إلى ْ‬ ‫طشقند‪ ،‬ومن َش ْه َر َسبْذ إلى َس َم ْرقند‪ ،‬تأخذك ال ِّرحلة‬ ‫كتبت التاريخ‪ ،‬فضمها قو ًّيا إلى صدره‪ .‬هي مدن اإلمامة‬ ‫بني مدن‬ ‫ْ‬ ‫واإلمارة‪ ،‬وهي باملثل حواضر الفنون والعمارة‪ ،‬كما أنها أيضا منابت‬ ‫الغزاة ومرابط املقاومني‪ ،‬وفيها كذلك مدارس الش� � ��يوخ ومساجد‬ ‫املؤمنني‪ .‬لكل مدينة هنا أكثر من حكاية؛ واحدة تؤرخ مليالدها‪ ،‬وأخرى‬ ‫تع ِّر ُ‬ ‫ف بش� � ��بابها‪ ،‬وثالثة توثق حلاضرها‪ ،‬ومنها ما يتنبأ باملستقبل‪.‬‬ ‫أنتم اآلن‪ ..‬في أوزبكستان‪.‬‬ ‫لم يكن ما نشاه ُده سوى متثال من البازلت األسود‪ ،‬لكنه‪ ،‬بالرغم‬ ‫من صمته‪ ،‬كان يقول لنا الكثير! في اخلامسة من صباح يوم ‪ 26‬أبريل‬ ‫عام ‪ 1966‬يثور جبل من حتت مدينة طشقند ليزلزل األرض بقوة ‪7‬‬ ‫درجات ونصف الدرجة مبقياس ريختر‪ .‬وبالرغم من أن من رحلوا‬ ‫كانوا ‪ 15‬فقي ًدا وحسب‪ ،‬فإن ‪ 300‬ألف شخص من سكان املدينة فقدوا‬ ‫بيوتهم في حلظات‪ .‬في املشهد الذي نراه تتوقف الساعة عند تلك‬ ‫اللحظة‪ ،‬ويشق األرض شر ٌخ يصل الساعة احلجرية بالتمثال‪.‬‬ ‫في قلب طشقند يقوم هذا التمثال لرب عائلة يحمي زوجه وطفله‪،‬‬ ‫وفي اخللفية تبدو مشاهد القادمني من جمهوريات االحتاد السوفييتي‬ ‫(الس� � ��ابق) ليعاونوا املدينة على النهوض‪ ،‬مرة أخرى‪ .‬لم يكن ذلك‬ ‫الزلزال هو األول‪ ،‬لكن زالزل أخرى تاريخية واجتماعية واقتصادية‬ ‫ُ‬ ‫تعترك احلياة في طش� � ��قند؛ فهل تنجح في جتاوزها؟ سؤال يؤرق‬ ‫املدينة التي حتتفل مبرور ‪ 2200‬عام على تأسيسها!‬ ‫ِّ‬ ‫تخطت الساعة منتصف الليل‪ .‬نصل مطار طشقند‪ ،‬نشك ُل ـ أنا‬ ‫وزميلي املصور ـ العربيني الوحيدين على منت الطائرة القادمة من‬ ‫األراضي الصينية إلى عاصمة أوزبكستان‪ ،‬إحدى جمهوريات االحتاد‬ ‫السوفييتي السابق‪ ،‬والتي استعادت اس� � ��تقاللها عنه ـ رسم ًّيا ـ في‬ ‫األول من يناير ‪.1992‬‬ ‫‪186‬‬

‫مشهدان من مدينة سمرقند‪ ،‬األول لقلب املدينة التاريخي الذي رممته اليونسكو‬ ‫حني االحتفال بسمرقند عاصمة للثقافة اإلسالمية‪ ،‬والثاني إلحدى املعالم‬ ‫التاريخية وقد حتول من مدرسة إلى سوق كبير‪.‬‬

‫‪187‬‬


‫نهر على َسفَر | أوزبكسـتان ‪ ...‬مزارات وبازارات‬ ‫ٌ‬

‫بالرغم من كل الترتيبات املسبقة مع اجلهات املعنية في أوزبكستان‪،‬‬ ‫واالتصاالت مع سفارة أوزبكستان في دولة الكويت‪ ،‬تركنا اجلميع ـ‬ ‫هنا وهناك ـ حتت رحمة إجراءات املطار املطولة واململة واجلديدة‬ ‫حتى على مدمني السفر ومج ِّربيه‪ .‬كان ركاب الطائرة األوزبك أغلبهم‬ ‫من متوسطي احلال الذين وفروا ثمن تذكرة إلى أورومتشي (عاصمة‬ ‫شينج ياجن في شمال غرب الصني)‪ ،‬ليشتروا من هناك بضائع كثيرة‪:‬‬ ‫أجهزة تلفزيون‪ ،‬وأطباقاً القطة للقنوات الفضائية‪ ،‬دمى أطفال ولعباً‬ ‫صينية أخرى رخيصة‪ ،‬أدوات جتهيز املطبخ‪ ،‬ستائر ومفارش وأغطية‪،‬‬ ‫ومالبس‪ ،‬حتى صناديق الفاكهة‪ ،‬ف ِّكر في أي شيء وستجده معهم‪،‬‬ ‫أي شيء‪.‬‬ ‫وكأنهم قادمون من بادية ليس فيها ّ‬ ‫بعد أيام سنكتشف الس َّر؛ فقد اشترى رفاق الطائرة أشياء رخيصة‬ ‫من الصني‪ ،‬تعينهم على احلياة في بلد ترتفع تكاليف معيشته بشكل‬ ‫كبير‪ ،‬وتكاد متثل عملته عائقا في املعامالت املادية‪ ،‬حيث إن اليورو‬ ‫الواحد قيمته أكثر من ألفي سومس ـ عملة أوزبكستان ـ فإذا عرفت أن‬ ‫ورقة البنكنوت من فئة اخلمسمائة سومس أثقل وأكبر من اخلمسمائة‬ ‫يورو‪ ،‬أدركت أنه ال توجد محافظ جلدية تتسع لهذه األوراق املزينة‬ ‫بصور األمير تيمور‪ ،‬وآثار بالده‪ ،‬ولهذا يشد األوزبكيون رزمات البنكنوت‬ ‫م ًعا باألربطة املطاطية‪ ،‬بينما يحش� � ��رونها في جيوبهم وسراويلهم‪.‬‬ ‫اكتشفت في متاهة هذه العملة أن أسلم طريقة لعدِّ ها‪ ،‬عند الدفع‬ ‫ُ‬ ‫واملعامالت األخرى‪ ،‬هي أن أصنع من كل عش� � ��رة آالف م ًعا حزمة‪،‬‬ ‫وأتوقع أن تلجأ أوزبكستان إلى زلزال يقضي بإلغاء أصفار عملتها‬ ‫الستة‪ ،‬ورمبا نحكي عن ذلك في استطالع قادم!‬

‫التي استقلت عن االحتاد السوفييتي‪ ،‬هو زلزال األبجديات‪ .‬فقبل‬ ‫الثورة الروس� � ��ية‪ ،‬وقبل ضم هذه اجلمهوري� � ��ات ـ التي كانت كيانات‬ ‫إسالمية وريثة إلمبراطوريات ال تخضع خلطوط احلدود السياسية‬ ‫التي نراها اليوم ـ كانت أوزبكستان‪ ،‬مثل كثيرات من جيرانها‪ ،‬تكتب‬ ‫لغتها باأللفب� � ��اء العربية‪ ،‬ألنها أصل تراثه� � ��م وميراثهم التاريخيني‪،‬‬ ‫وحضارتهم اإلسالمية‪.‬‬ ‫لم يكن ذلك اخلط العربي مجرد أبجدي� � ��ة تكتب بها النصوص‪،‬‬ ‫قدر كونه هوية ثقافية‪ ،‬ويسعى كثيرون ـ من املسلمني احملافظني أو‬ ‫املتطرفني الوطنيني ـ إلى استعادة ذلك احلرف‪ ،‬بدعم من دول تكتب‬ ‫به‪ ،‬كإيران وباكستان (العرب غائبون عن هذه املعادلة)‪.‬‬ ‫ثم جاءت األلفباء الروسية‪ ،‬أو احلروف السيرليك‪ ،‬التي است ُخدِ مت‬ ‫س� � ��بعني عا ًما‪ ،‬فأصبحت هناك أجيال ال تق� � ��رأ إال بها‪ ،‬ولم تدرس‬ ‫س� � ��واها‪ ،‬ولن تس� � ��تطيع التفكير إال من خاللها! إنها األبجدية التي‬ ‫فرضها االحتاد السوفييتي‪ ،‬وينادي كثيرون ـ من خريجي املؤسسات‬ ‫التعليمية السوفييتية ـ باإلبقاء عليها‪ ،‬الستمرار العالقة مع روسيا‪،‬‬ ‫وعدم فك االرتباط معها علميا واقتصاديا‪.‬‬ ‫أما اليوم‪ ،‬فقد انتصر دعاة تبني احلروف الالتينية ـ التي تستخدم‬ ‫في اللغة التركية اآلن ـ باعتبار أن ذلك احلرف الالتيني هو املقروء‬ ‫عامليا‪ ،‬وهو حرف يعتبره الكثير بوابة الدخول إلى مجتمع علماني‪،‬‬ ‫يرسخه ذوو االنتماء التركي عرقيا وقبليا‪ ،‬املنادين مبجتمع مفتوح‪،‬‬ ‫واحلريصني على دميقراطية ليبرالية‪ ،‬والطامحني في اقتصاد حر‪،‬‬ ‫والعازمني على التوجه إلى الغرب‪.‬‬

‫زلزال األبجديات‬

‫ذاكرة احلضارة اإلسالمية‬

‫زلزال آخر يعصف بطشقند‪ ،‬ومدن أوزبكستان‪ ،‬وكثير من النظم‬ ‫‪188‬‬

‫كان زلزال األبجديات الهاجس الذي يعصف بي وأنا أجتول بني‬ ‫‪189‬‬


‫نهر على َسفَر | أوزبكسـتان ‪ ...‬مزارات وبازارات‬ ‫ٌ‬

‫فج ُّل ما أراه مكتوب باحلروف‬ ‫مخطوطات طشقند في أكثر من مؤسسة‪ُ ،‬‬ ‫العربية‪ ،‬إن لم يكن ُكلّه‪ ،‬فكيف يكون التواصل مع الذاكرة والتاريخ‬ ‫واحلضارة‪ .‬كان ذلك سؤالي األساس في لقائي بالسيد منصوروف‬ ‫علي املسألة وقال‪« :‬األم ُر ليس‬ ‫وزير الثقافة بأوزبكستان‪ ،‬الذي ه َّون َّ‬ ‫صع ًبا‪ ،‬بل إنني أرى فيها ميزة كبرى في معرفة أبجديات ثالث‪ ،‬أما ما‬ ‫جهلناه فعلينا أن نتعلمه»‪ .‬ثم نهض منصوروف إلى مكتبه‪ ،‬وعاد إلي‬ ‫شارحا‪« :‬انظر‪ ،‬أنا أتعلم احلروف‬ ‫بكراسة بها تدريبات بخط يده وقال‬ ‫ً‬ ‫العربية‪ ،‬ها هي صفحة من مخطوط‪ ،‬وها هي احلروف والكلمات‬ ‫التي أرسمها‪ ،‬ألتعلم قراءتها‪ ،‬والنطق بها‪ ،‬وممارسة كتابتها»‪.‬‬ ‫ال شك أن العاملني بالثقافة ليسوا وحدهم املطالبني بتعلم األبجدية‪،‬‬ ‫فعلى امتداد البالد‪ ،‬هناك أكثر من عشرة آالف أثر تاريخي (عدد يأتي‬ ‫في املرتبة الثانية بعد الصني‪ ،‬فقدوا منها خمسة آالف َم ْعلم تاريخي‪،‬‬ ‫على حد قول وزير الثقافة)‪ ،‬عليها نقوش باللغة العربية واحلروف‬ ‫العربية للغات الفرس والترك واألوزبك‪ ،‬تنتظر من يقرؤها‪ ،‬وأال يعبر‬ ‫بها الزائر عبور الكرام‪ ،‬وعدا اآلثار‪ ،‬التي تعد جزءا مهما من ذاكرة‬ ‫احلضارة اإلسالمية‪ ،‬فإن هناك اآلثار املدونة‪ ،‬وهي املخطوطات التي‬ ‫جتعل أوزبكستان في طليعة دول العالم من حيث حجم املخطوطات‬ ‫بها‪.‬‬ ‫هذه املخطوطات تش� � ��كل ـ كما يقول لي السيد رحمانوف‪ ،‬مدير‬ ‫الثقافة ـ وثائق طريق احلرير القدمي‪ ،‬وهو مشروع مستمر بدأ إحياؤه‬ ‫انطالقا من تركمانستان وصوال إلى أوزبكستان مرو ًرا بإيران والهند‬ ‫وباكس� � ��تان‪ ،‬وبدعم من مركز التراث العاملي حلفظ وارشفة تراث‬ ‫اإلنسانية‪ ،‬ومن املقدر لهذا املشروع أن يكتمل اجلزء األكبر منه في‬ ‫العام ‪2015‬م‪.‬‬ ‫كان لقاؤنا مبنصوروف ورحمانوف في مبنى بسيط يحمل مسحة‬ ‫‪190‬‬

‫تاريخية‪ ،‬وقد قادانا فيه إلى مكتبة للمطبوعات النادرة‪ ،‬واملخطوطات‪.‬‬ ‫كانت العناوين ـ املدونة بأكثر من لغة ـ تبعث على الدهشة‪ ،‬لكن األمر‬ ‫الذي كسر فرحتنا بهذه االكتش� � ��افات هو اجلو اخلانق الذي تعيش‬ ‫فيه هذه الكنوز‪ .‬كانت حرارة الصيف في طشقند تتخطى ‪ 35‬درجة‬ ‫مئوية‪ ،‬وهذه احلرارة تتجاوز العتبات لتحيط بنارها تلك املطبوعات‬ ‫اآلسرة في هيئتها واملخطوطات النادرة في قيمتها وتنتظر رعاية أكثر‪.‬‬ ‫وكل ذلك امليراث ال يجد من ير ِّو ُج له‪ ،‬أو يكتب عنه‪ ،‬وال توجد مجلة‬ ‫ثقافية ـ باملعنى الشامل ـ تصدرها وزارة الثقافة سوى ‪Moziydan‬‬ ‫‪ ،SadoK‬أو «صدى التاريخ»‪ ،‬في خمس� �ي��ن صفحة فقط‪ ،‬باللغات‬ ‫كتب‬ ‫اإلجنليزية واألوزبكية والروسية‪ ،‬كما تصدر في بعض املناسبات ٌ‬ ‫تذكارية عن مدينة أو أثر أو حدث‪.‬‬

‫البيروني حي ًا‬ ‫اختلفت صورة األسى إلى إعجاب حينما زرنا معهد االستشراق‬ ‫ألبي الريحان البيروني‪ ،‬والتقانا فيه املسئولون عنه؛ الباحثون تاشوف‬ ‫نورياغدي‪ ،‬وإيلموراداف إسرائيل‪ ،‬وعابدوف بختيار‪ ،‬ورائق بهاديروف‪،‬‬ ‫وباباخان قاسيم خانف (حنيف)‪.‬‬ ‫ثالثون ألف مجلد‪ ،‬في كل منها مخطوط أو أكثر‪ ،‬في خزانات معدة‬ ‫خصيصا للحفاظ على تلك الكنوز املكتوبة‪ ،‬بدرجة حرارة مناسبة‪،‬‬ ‫وتهوية واجبة‪ ،‬وأجهزة المتصاص الرطوبة‪ .‬بدأ املعهد في سنة ‪1945‬‬ ‫طباعة املجلدات املفهرسة‪ ،‬لعناوين املخطوطات وفقا ملوضوعاتها‪،‬‬ ‫فضال عن وجود موجز للمخطوطات باللغة اإلجنليزية مصنفة تبعا‬ ‫حلقب تاريخية بعينها‪ .‬ويصدرون كتا ًبا ـ متواض ًعا ـ كل سنة بعنوان‬ ‫«شرق شنا سليك»‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫نعرف أن البيروني ترك للعلوم اإلنس� � ��انية ‪ 181‬كتا ًبا ـ بني‬ ‫ونحن‬ ‫‪191‬‬


‫نهر على َسفَر | أوزبكسـتان ‪ ...‬مزارات وبازارات‬ ‫ٌ‬

‫الرسائل والكتابات املترجمة واملتفرقات املوسوعية ـ منها ‪ 26‬كتا ًبا‬ ‫عن الهند‪ ،‬ولم يبق من هذه الذخيرة سوى ‪ 42‬كتابًا‪ ،‬بينها ترجمته عن‬ ‫اللغة السنسكريتية ـ التي كان يجيدها ـ ألثر النجوم‪ .‬هذه الشخصية‬ ‫الفذة استحقت أن ينس� � ��ب إليها هذا املعهد الذي جعل من حضور‬ ‫البيروني حيا‪ ،‬مع طائفة من األسماء األخرى لعلماء أوزبكستان تزين‬ ‫أسماؤهم جدار البناء الذي يختفي وسط غابة من األشجار! يساعد‬ ‫هذا املعهد طالبا من كل أنحاء العالم على اإلطالع على مخطوطاته‬ ‫النادرة‪ ،‬التي جتعل من أوزبكستان ـ مع باقي مقتنيات املكتبات واملتاحف‬ ‫في اجلمهورية ـ خزانة املخطوطات للثقافة اإلس� �ل��امية‪ .‬وبجانب‬ ‫معهد االستش� � ��راق ـ التابع ألكادميية العلوم وتأس� � ��س سنة ‪ 1943‬ـ‬ ‫توجد مخطوط� � ��ات حضارتنا في عهدها األزهى ف� � ��ي مكتبة إدارة‬ ‫مسلمي أوزبكستان‪ ،‬ومتحف علي شيرنوائي لألدب‪ ،‬وجامعة طشقند‬ ‫اإلسالمية‪ ،‬ومعهد اإلمام البخاري‪ ،‬واملكتبة الوطنية‪.‬‬

‫قرآن مسجد النغار آتا!‬ ‫ال تقف املخطوطات عند نسخ القرآن الكرمي النادرة‪ ،‬ومنها مصحف‬ ‫عثمان‪ ،‬بل توجد مؤلفات في التاريخ ومصنفات في اآلداب ومدونات في‬ ‫العلوم وتآليف للفنون‪ ،‬وهي مكتوبة جميعها باللغات العربية والفارسية‬ ‫واألوزبكية والطاجيكية واألذرية (أذربيجان) والتترية والتركية واألويجورية‬ ‫(لغة إقليم شينج ياجن شمال غرب الصني)‪ ،‬والبشتو واألوردية وسواها‪،‬‬ ‫وحتمل أسماء علماء وأدباء الشرق‪ :‬أبو بكر الرازي‪ ،‬ابن سينا‪ ،‬الفارابي‪،‬‬ ‫اخلوارزمي‪ ،‬الزمخشري‪ ،‬خواجة أحرار ولي‪ ،‬عبد الرحمن جامي‪ ،‬علي‬ ‫شيرنوائي‪ ،‬الفردوسي‪ ،‬أمير خسرو‪ ،‬وبالطبع البيروني‪ ،‬وأسماء أخرى‬ ‫ال مجال حلصرها‪ .‬بعض هذه املخطوط� � ��ات احملفوظة هنا ال يوجد‬ ‫منها إال نسخة وحيدة في العالم كله!‬ ‫‪192‬‬

‫في إحدى زياراتنا ملدرسة تاريخية في طشقند‪ ،‬حتولت ككثير من‬ ‫مزارات وآثار أوزبكستان إلى بازار مفتوح‪ ،‬التقينا باخلطاط األوزبكي‬ ‫حبيب الله صالح‪ ،‬وكان من دواعي فخره وإجنازه الذي يحفظه له‬ ‫اجلميع أنه قام بعمل نسختني من القرآن الكرمي املعروف باسم «قرآن‬ ‫النغار» وقد حفظت النسخة األولى من هذا القرآن في مسجد النغار‬ ‫آتا‪ ،‬بقرية النغار ناحية قماشي مبحافظة قشقاادراديا‪ ،‬وكان به ـ كما‬ ‫يقال ـ ‪ 160‬ورقة‪ ،‬يرجح بعض العلماء تاريخها إلى القرنني الثالث عشر‬ ‫أو الرابع عشر امليالدي‪ ،‬ولم يتبق منه سوى ‪ 16‬ورقة رأيناها مبكتبة‬ ‫اإلدارة الدينية ملسلمي أوزبكستان‪ ،‬ورأينا ورقة منه في مكتبة معهد‬ ‫أبي الريحان البيروني‪ ،‬ورأينا ورقتني في مكتبة ابن سينا مبحافظة‬ ‫بخارى! أما النسختان اللتان أجنزهما حبيب الله صالح فقد توزعتا‬ ‫بني مسجد النغار آتا‪ ،‬وخزانة جامعة طشقند اإلسالمية‪.‬‬ ‫هذه املخطوطات هي التي ستجعل طشقند ـ بعد كل هزة تاريخية‬ ‫ـ تستعيد عافيتها‪ ،‬ألنها متثل عقلها الذي ال ميوت‪ .‬إنها جتعل من‬ ‫طشقند عنقاء املدن اإلسالمية‪ ،‬التي تبعث من جديد‪ ،‬حاملة أسرارها‬ ‫وأفكارها!‬ ‫وهكذا هي املدينة املتجددة‪ ،‬منذ ‪ 22‬قرنًا‪ ،‬عندما ولدت عند حوض‬ ‫نهر تشيرتشيك كمدينة زراعية‪ ،‬ومستوطنة منت حتى أصبحت على‬ ‫ما عليه اليوم‪ .‬ومنذ كانت في مهدها مجرد مستوطنة لفالحي وراء‬ ‫نهر جيحون‪ ،‬اسمها شاشتيبا‪ ،‬حيث استخدم هؤالء األوائل احلديد‬ ‫والبرونز لصنع أدواتهم‪ ،‬مثلما نس� � ��جوا أقمشتهم‪ .‬ثم هناك أيضا‬ ‫قامت احلصون األولى ملدينة كانت خليفة لشاشتيبا‪ ،‬في تلك الواحة‪،‬‬ ‫عاصمتها كانكا‪ ،‬التي تبعد اليوم ‪ 70‬كيلومترا عن طشقند املعاصرة‪،‬‬ ‫وورد ذكرها في السجالت التاريخية الصينية باسم «يوني»‪ ،‬و«شي»‪.‬‬ ‫ثم أصبحت املدينة‪ ،‬بد ًءا من القرن الثالث للميالد‪ ،‬عاصمة لدولة‬ ‫‪193‬‬


‫نهر على َسفَر | أوزبكسـتان ‪ ...‬مزارات وبازارات‬ ‫ٌ‬

‫تشاتشناب (شعب تشاتش)‪ ،‬وورد ذكرها جغرافيا للمرة األولى‪ ،‬في‬ ‫كتابات امللك ش� � ��ابور األول فوق آثار الزرداشتيني بإيران‪ ،‬عام ‪263‬‬ ‫ميالدية‪ .‬وقد بدأ حتولها لتكون ضمن إمبراطوريات آسيا الوسطى‬ ‫حني ضمها اآلفتاليتيون إلى دولتهم‪ ،‬في القرن اخلامس للميالد‪ ،‬وفي‬ ‫القرن التالي حلت اخلاقانية التركية محل اآلفتاليتيني‪ ،‬وانعكست‬ ‫رواية مؤرخي الصني للتسمية احمللية تشاتش لتكون «جي ـ تشي»‬ ‫أو «ش� � ��ي»‪ ،‬أي «حجر»‪ ،‬لتنال تس� � ��ميتها التركية طاش قند «املدينة‬ ‫احلجرية»‪ ،‬وهو عكس الواقع ملدينة لم تكن أب ًدا حجرية‪ ،‬حتى اليوم‪،‬‬ ‫وهي تبدو لنا من أعلى أبراجها‪ .‬وتشير النقود التي عثر عليها في‬ ‫تنقيبات املدينة‪ ،‬والتي تعود ملمالك املشرق واملغرب من الصني إلى‬ ‫بيزنطة‪ ،‬إلى أن عاصمة تشاتش كانت مركزًا حيويا للتجارة العاملية‪،‬‬ ‫مثلما أصبحت بعد ذلك مم ًرا رئيسيا لطريق احلرير الكبير‪.‬‬ ‫حتوالت طشقند وتقلباتها جعلتها عربية‪ ،‬حني انضمت جدتها شاش‬ ‫إلى اخلالفة في عهد املأمون (‪ 833 - 813‬ميالدية)‪ ،‬وأسمتها املصادر‬ ‫العربية ـ في القرنني التاسع والعاشر ـ بنكات! ويذكر االصطخري‬ ‫أن «معظم ما يستخرج من الزئبق والذهب وغيرها من املعادن يأتي‬ ‫من بالد ما وراء النهر»‪ ،‬وتضم املعادن األخ� � ��رى الفضة والنحاس‬ ‫واحلديد والقصدير‪ .‬ثم جتعلها تركية ـ في احتاد سياس� � ��ي جديد‬ ‫يضمها إلى خاقانية القرخانيني ـ ويرد اسمها التركي‪ ،‬للمرة األولى‪،‬‬ ‫في كتابات أبي الريحان البيروني‪ ،‬ح� �ي��ن انضمت‪ ،‬مثل باقي مدن‬ ‫تركستان‪ ،‬إلى دولة خوارزم شاه‪ ،‬إلى أن استولى عليها التتر املغول‪،‬‬ ‫لتخضع حلكم تش� � ��اغاتاي ـ ابن جنكيزخان ـ حت� � ��ى تنتقل في عهد‬ ‫األمير تيمور ـ الذي أصبح حاك ًما لعموم بالد ما وراء النهر ـ مركزًا‬ ‫للثقافة وبيتا للحضارة‪ .‬ومتر الدهور والعصور فتنمو املدينة‪ ،‬وتشتهر‬ ‫بكثرة أسواقها‪ ،‬وكان أكبرها سوق ريجستان الذي كان موصوال بكل‬ ‫‪194‬‬

‫مقبرة األمير تيمور‪.‬‬

‫املجمع اإلسالمي في طشقند‪.‬‬

‫‪195‬‬


‫نهر على َسفَر | أوزبكسـتان ‪ ...‬مزارات وبازارات‬ ‫ٌ‬

‫شوارعها لضخامته‪.‬‬ ‫يصفها الرحالة األمريكي يوجني سكايلر ـ الذي زارها في ‪1873‬‬ ‫ميالدية ـ بأن ال مدينة جتاري طشقند في تنوعها الثري‪ ،‬بشوارعها‬ ‫امللتوية‪ ،‬كثيرة الصعود والهبوط‪ ،‬التي تفاجئك عند نهاياتها بجدار‬ ‫أو مئذنة شاهقة‪ .‬لكن ذلك كله كان قبل أكثر من ‪ 13‬عق ًدا‪ ،‬فاالحتاد‬ ‫السوفييتي استطاع أن يشكل طش� � ��قند العصرية على منط مدنه‪،‬‬ ‫شوارع متسعة‪ ،‬مبان بواجهات رمادية‪ ،‬حدائق‪ ،‬ومتاثيل‪ ،‬وليل يبدأ‬ ‫مبك ًرا يع ِّب ُر عنه السكون فهل تبقى ـ بعد ‪ 17‬عا ًما من االستقالل ـ‬ ‫على تلك الهيئة؟ أم أنها تستعد لطفرة معمارية جديدة؟‬ ‫األسئلة كثيرة ونحن نغادر طشقند إلى سمرقند؛ أسئلة عن البناء‬ ‫املعماري اجلدي� � ��د الذي تخلى عن األبني� � ��ة ذات الطابق والطابقني‬ ‫ملصلحة عمارة عمالقة‪ ،‬وكأن الذاكرة تناست زلزال أبريل ‪ ،66‬أسئلة‬ ‫عن الغالء الذي قدم نفسه بقوة‪ ،‬في مدينة كوزموبوليتانية‪ ،‬ويجعلنا‬ ‫نس� � ��أل عن مدى احتمال ارتفاع األسعار‪ ،‬إال بالعمل في مهن خارج‬ ‫اإلطار الرسمي‪( ..‬أو الزراعة كما قال لنا سائقنا بختيار)‪ ،‬أسئلة كثيرة‪،‬‬ ‫لم نتوقف عن طرحها إال حني ألهتنا املشاهد اخلارجية اخلضراء‬ ‫والبديعة في الطريق حتى وصلنا إلى عتبات سمرقند‪.‬‬

‫َجنَّاتُ سمرقند‬ ‫في كل ركن من املدينة كان الفن يخاطبنا‪ ،‬بآياته في العمارة‪ ،‬وحتفه‬ ‫وإبدعاته في فنون املنمنمات‪ .‬في الكتاب املعنون «تاريخ األمير تيمور»‬ ‫(سرد الوقائع املهمة في عهد تيمور)‪ ،‬كتب ابن عربشاخ‪« :‬بأمر من‬ ‫تيمور ُشيدت بساتني بهية كثيرة وقصور شاهقة في سمرقند‪ .‬وكان‬ ‫كل ما ُشيد جميلاً بالغ األبهة‪ ،‬وجماله تام الروعة‪ ،‬مثير للعجب‪ ،‬محير‬ ‫للعقول‪ .‬وقد ثبت قواعد البساتني وزينها بفواكه لطيفة ونباتات زينة‪.‬‬ ‫‪196‬‬

‫وأطلق على أحدها اسم «جنة عدن»‪ ،‬والثانية «زينة الدنيا» والثالثة‬ ‫«جنة الفردوس» والرابعة «البس� � ��تان الشمالي»‪ ،‬والتالية «الفردوس‬ ‫األعلى»‪.‬‬ ‫أحد الفنون املهمة التي تدعونا للتأمل في اآليات املعمارية لسمرقند‬ ‫هي الرسومات التي يحاول الفنانون اليوم تقليدها ونقلها من مخطوطات‬ ‫رسوم الشاهنامة و«طاهر وزهرة»‪ .‬يأتي عرض التركيبات املصورة‬ ‫بطريقة فريدة‪ :‬فهي مزخرفة بطريقة تسمى «ظرافشان»‪ ،‬تتم ِّ‬ ‫برش‬ ‫جزيئات ذهبية اللون‪ ،‬حيث يتكرر النسق ويكمل محور اللوحة في قلبها‪.‬‬ ‫وهي تقنية تطورت على مر السنني وجرى استخدامها في األعمال‬ ‫اإلبداعية في مدارس املنمنمات في مدن تبريز ِ‬ ‫وحرات وسمرقند‬ ‫بصفة خاصة وفي أعمال مظفر علي ومحمود مذهب‪ ،‬وتسهل هذه‬ ‫التقنية من توضيح التناقض اللصيق باملوضوع األساسي للوحة‪ .‬وبعد‬ ‫التطور اجلديد في تقنيات الـ«ظرافشان» القدمية وتطويرها‪ ،‬كانت‬ ‫الزخرفة تس� � ��تخد ُم أحيا ًنا في هوامش اللوحات مع سمات رمزية‬ ‫وجتريدية‪ .‬الرسوم املنمنمات ليست على صفحات الكتب وحسب‪،‬‬ ‫بل يرسم الفنانون األوزبك منمنماتهم فوق كل شيء (تقري ًبا)‪.‬‬ ‫في صندوق اسمه «املسرح الشرقي» بريشة بوالتوف‪ ،‬وهو على شكل‬ ‫مستطيل‪ ،‬ويشغل خلفية مجمع راجستان في سمرقند‪ ،‬عرض الفنان‬ ‫أداء أربعة فناني عرائس مينحون احلياة للدمى بقوة موهبتهم‪ .‬يرتبط‬ ‫املؤدون بعرائسهم بخيوط رفيعة‪ ،.‬بينما ينقل الفنان الصور الرمزية‬ ‫لستار املسرح مبهارة‪ ،‬ويس� � ��تخدم ذلك الستار حاجزًا بني التعبيري‬ ‫والال تعبيري‪ ،‬وبني املادي والروحاني‪ ،‬وبني الظاهري واملتس� � ��امي‪،‬‬ ‫والوسيط بني أشكال الواقع العديدة‪ .‬ويُعرض الستار كرمز مقدس‬ ‫يعكس شمول العالم وفي الوقت نفسه يخبئ شيئًا أهم‪ ،‬يشق التعبير‬ ‫عنه مثلما يشق بلوغه‪.‬‬ ‫‪197‬‬


‫نهر على َسفَر | أوزبكسـتان ‪ ...‬مزارات وبازارات‬ ‫ٌ‬

‫من بني النماذج املهمة للرسوم املعاصرة لفن املنمنمات ما قدمه‬ ‫الفنان شاه محمود محمدينوف الذي استعاد طور هذا الفن‪ ،‬الذي‬ ‫بدأ ممارسته في سن الثالثة عشرة في متحف علي شير نوائي للفن‪،‬‬ ‫وحاول التلميذ الصغير اس� � ��تخدام موضوعات من األدب األوزبكي‬ ‫القدمي‪ ،‬خاصة أعمال العالم املوسوعي محمود قشجري صاحب كتاب‬ ‫«ألسنة القوميات التركمانية» (ديواني لوغاتيت تورك) الذي ظهر في‬ ‫القرن احلادي عشر امليالدي‪ .‬ونرى في ذلك العمل نصوص األساطير‬ ‫القدمية وحكايات الزمن الغابر واألغنيات والقصائد امللحمية‪ .‬أراد‬ ‫الفنان الصغير االستمرار في تقدمي سلسلة من املنمنمات متثل ما‬ ‫جرى حتى العصر احلالي‪.‬‬ ‫في العام ‪ 1968‬مت االحتفال بالذكرى السنوية لألديب علي شير‬ ‫نوائي في أوزبكستان‪ ،‬فأعد شاه محمود محمدينوف خمسني رس ًما‬ ‫أول ًّيا بألوان املاء‪ ،‬مرسومة بطريقة حتاكي أسلوب رسم املنمنمات‪،‬‬ ‫حتى أن أستاذه س� � ��ليمانوف أطرى عليها كثي ًرا‪ ،‬وأطلق على الفنان‬ ‫الصغير بهزاد القرن العشرين‪ .‬ودعاه للعمل في املتحف ورتب َ‬ ‫لشغله‬ ‫بأعماله اإلبداعية احلرة ومنحه فرصة التعليم الفني في مدرس� � ��ة‬ ‫بنكوف للفن في طشقند‪.‬‬ ‫يس� � ��تخدم الفنان خمسة أو ستة ألوان باألس� � ��اس (وهي األحمر‬ ‫والذهبي واألبيض واألزرق الداكن واألخضر)‪ ،‬وأحيا ًنا يزداد بريقها‬ ‫مبزجها بألوان كثيفة من نفس الدرجة واخلامة‪ ،‬ومعها يزداد زخرف‬ ‫أعماله الفنية‪ .‬ويستند تلوينه باألساس في كل لوحة على حدة إلى‬ ‫ظل لوني واحد‪ .‬ومن اإلضافة املاهرة للون واإلطار اخلارجي للوحة‪،‬‬ ‫واملوضوع ال� � ��ذي يقدمه في عمله؛ ن� � ��رى أن محمدينوف من أتباع‬ ‫مدرسة األس� � ��اتذة القدماء‪ ،‬ولكنه في الوقت نفس� � ��ه مبتكر ومبدع‬ ‫معاصر‪ .‬وباتباع مبادئ هذه «التقنية» مجموعة من احلكايات الهندية‬ ‫‪198‬‬

‫القدمية هي «كليلة ودمنة»‪.‬‬ ‫تقدم املنمنمات ـ أيض� � ��ا ـ صو ًرا من الواق� � ��ع واحلياة‪ ،‬فال تكتفي‬ ‫بتصوير امللوك‪ ،‬وال تقتصر على وصف اآلداب‪ ،‬ففي منمنمة للفنان‬ ‫شمس الدين باسم «أولوك» نرى مشه ًدا لعيد النيروز ـ عيد االحتفال‬ ‫بالربيع ـ في ألعاب مضحكة وجريئة وشجاعة‪ .‬ونرى سماء الربيع‬ ‫الزرقاء والش� � ��جرة املزهرة وحركات اجلياد وركضها واخلطر العام‬ ‫احملدق‪ ،‬وذلك كله بعي ًدا عن خيمة األمير تيمور‪ ،‬حيث يجلس القائد‬ ‫احلربي العظيم يشاهد احلدث مع خلصائه في اهتمام بالغ‪ ،‬ويغمر‬ ‫املنمنمة مزاج احتفالي مرح‪ ،‬وقد متكن الفنان من بلوغ هذه احلالة‬ ‫املزاجية للوحة باستخدام طيف لوني براق‪ ،‬فكأن سماء الربيع الزرقاء‬ ‫الصافية مغسولة بنور ربيعي‪ ،‬تزينه السحب املجعدة الشكل بينما‬ ‫وجوه املشاهدين تترقب نتيجة املباراة‪.‬‬

‫شَ ْه َر َس ْبذ‪ :‬الزواج على الطريقة التيمورية‬

‫حني تتأمل الطريق إلى شهرسبذ‪ ،‬مس� � ��قط رأس األمير تيمور‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وسنعرف السبب‬ ‫تيمورلنك كما نسميه نحن في أدبياتنا التاريخية‪،‬‬ ‫الحقا‪ ،‬ميكن أن جتعل من الطريق قارئا للحاضر في أوزبكس� � ��تان‪.‬‬ ‫كيف؟‬ ‫أنت قد تظن أنك في أوربا الشرقية‪ ،‬حيث تستوقفك الشرطة كل‬ ‫بضعة كيلومترات‪ ،‬للتفتيش‪ ،‬عن األوراق‪ ،‬ورمبا داخل السيارة‪ .‬لم‬ ‫ينقذنا من موقف ـ رأينا فيه كثيرين ـ يُعطل الرحلة‪ ،‬سوى ورقة سحرية‬ ‫أصدرتها وزارة اإلعالم األوزبكية باسمينا‪ ،‬حملها سائقنا في كل مكان‪،‬‬ ‫تسمح لنا بحمل آالت التصوير‪ .‬شرطة صارمة الوجه‪ ،‬تكفي إشارة‬ ‫من ذراع به عصا حمراء تضيء ليال لتتوقف في صمت‪.‬‬ ‫ثم أنك قد تعتقد مبرورك بقرية عربية‪ ،‬على ش� � ��اطيء النيل‪ ،‬أو‬ ‫‪199‬‬


‫نهر على َسفَر | أوزبكسـتان ‪ ...‬مزارات وبازارات‬ ‫ٌ‬

‫ٍ‬ ‫باسمات وضعن أقفاص الفاكهة‬ ‫وادي الرافدين‪ ،‬حني جتد فالحات‬ ‫على جانب الطريق الزراعية‪ ،‬للبيع‪.‬‬ ‫وقد تسرح لوهلة فتتخيل أنك في كوريا اجلنوبية‪ ،‬وقد حتولت كل‬ ‫سيارات الطريق إلى ماركة واحدة من إنتاجها‪ ،‬حيث يوجد مصنع‬ ‫لها بالبالد! هل هذا يفس� � ��ر وجود الكوريني بكثرة في أوزبكستان؟‬ ‫ولو رأيت ما رأيناه‪ ،‬ألطلقت على الطريق اسم‪ :‬شارع دايو السريع‪،‬‬ ‫وهي سيارات رمادية وسوداء وفضية وزرقاء ولكن ليس فيها سيارة‬ ‫واحدة لونها أحمر!‬ ‫ورمبا تتأمل الس� � ��حنات ذات العيون اخلضراء والشعر األشقر‪،‬‬ ‫واألبدان العمالقة وراء مقود بعض السيارات‪ ،‬أو أمام بعض املتاجر‪،‬‬ ‫فتقول إنك في قلب موسكو‪.‬‬ ‫أما حني تن� � ��زل لتناول الغداء في أحد املطاعم‪ ،‬فقد تش� � ��ك أنك‬ ‫وصلت اس� � ��تنبول‪ ،‬أو إنك في قلب طهران‪ ،‬وبعض أسماء األطعمة‬ ‫هي نفسها هنا وهناك‪ .‬وال أبالغ إن قلت إنك تعيش البداوة ـ أحيانا‬ ‫ـ حني تشاهد قطعانا من األغنام ومعها حاديها!‬ ‫لكنك قد تقول إنك في القاهرة أو بيروت‪ ،‬وأنت تس� � ��م ُع في تلك‬ ‫املطاعم موسيقى شرقية‪ ،‬خالصة‪ ،‬تتردد فيها األصوات من أحمد‬ ‫عدوية إلى إيهاب توفيق‪ ،‬ومن نانسي عجرم إلى أليسا! ولو لم أسمعها‬ ‫قت‪ ،‬بل ويقوم الشباب املوزع بني هذه الثقافات ـ التي‬ ‫بأذني ما َّ‬ ‫صد ُ‬ ‫حتيا على قارعة الطريق مثلما توجد في قلب املدن األوزبكية ـ للرقص‬ ‫على تلك اإليقاعات الشرقية!‬ ‫الشباب ال حتركه املوسيقى وحس� � ��ب‪ ،‬وال تتنازعه اللغات فقط‪،‬‬ ‫وإمنا ـ كذلك ـ يلهمه التاريخ‪ .‬ففي قلب حر قائظ بصباح في صيف‬ ‫أوزبكستان‪ ،‬تتجه مواكب العرسان اجلدد إلى حيث ينتصب متثال‬ ‫لألمير تيمور أمام قصره الغابر (آك سراي)‪ ،‬ليلتقطوا الصور التذكارية‬ ‫‪200‬‬

‫في بداية حياتهم الزوجية‪ ،‬وال ينس� � ��ون أن يضعوا عند أقدام رمز‬ ‫أمتهم أكاليل الورد‪.‬‬

‫تيمور‪ ..‬األمير احملارب‬ ‫كانت شهرسبذ ـ وتقع جنوب سمرقند‪ ،‬ومعناها باللغة الفارسية املدينة‬ ‫اخلضراء ـ تسمى فيما مضى مدينة «كش»‪ ،‬حني ولد بها تيمور في سنة‬ ‫‪ 1336‬ميالدية‪ .‬وقد عاش تيمور صباه في قبيلة «البرالس» األوزبكية‬ ‫حيث نشأ أجداده‪ ،‬فأتقن فنون احلرب‪ ،‬وعندما تُو ِّفي «كازغان» آخر‬ ‫إيلخانات تركستان سنة (‪ 758‬هـ = ‪1357‬م) قام «تغلق تيمور» صاحب‬ ‫«قشغر» ـ في ش� � ��ينج ياجن (راجع مجلة «العربي»‪ ،‬سبتمبر ‪ )2008‬ـ‬ ‫بغزو بالد ما وراء النهر‪ ،‬وجعل ابنه «إيلياس خواجه» قائ ًدا للحملة‪،‬‬ ‫وأرسل معه تيمور وزي ًرا‪ .‬لكن العالقة بني الرجلني ساءت؛ فف َّر تيمور‪،‬‬ ‫وانضم إلى صهره األمير حسني حفيد كازغان آخر إيلخانات تركستان‪،‬‬ ‫واستطاعا جمع جيش حملاربة إيلياس خواجه‪ ،‬لكنهما لم ينجحا في‬ ‫سعيهما‪ ،‬فف َّرا إلى خراس� � ��ان‪ ،‬وانضما إلى خدمة امللك «معز الدين‬ ‫حسني كرت»‪ .‬وملَّا علم األمير تغلق تيمور بوجودهما بعث إلى معز‬ ‫الدين بتسليمهما له‪ ،‬غير أن تيمور وصاحبه هربا إلى قندهار ومنها‬ ‫إلى سيستان‪ ،‬فاحتال واليها وهاجمهما‪ ،‬وفي أثناء الهجوم أصيب‬ ‫تيمور بجراحات شديدة‪ ،‬وتعرضت قدمه اليمنى لضربة أورثتها عاهة‬ ‫فس ِّمي «تيمور لنك» أي تيمور األعرج!‬ ‫جعلته يعرج‪ُ ،‬‬ ‫ثم يقع خالف بني تيمور وصهره‪ ،‬يتفوق فيه األول‪ ،‬ويدخل سمرقند‬ ‫في الثاني عشر من شهر رمضان لسنة ‪ 771‬هجرية (‪ 14‬من أبريل‬ ‫‪1370‬ميالدية)‪ ،‬ويعلن نفسه حاك ًما عليها‪ ،‬ويزعم انحداره من نسل‬ ‫مجلسا‬ ‫جنكيز خان‪ ،‬ويظه ُر رغبته في إعادة مجد دولة املغول‪ ،‬ويك َّون‬ ‫ً‬ ‫للشورى يضم إليه كبار األمراء والعلماء‪.‬‬ ‫‪201‬‬


‫نهر على َسفَر | أوزبكسـتان ‪ ...‬مزارات وبازارات‬ ‫ٌ‬

‫حفل زفاف لعروسني في مدينة شهرسبذ حيث يطيب للعروسني التقاط الصور التذكارية‬ ‫أمام متثال األمير تيمور‪ ،‬حتى عند درجة حرارة تقترب من األربعني نهار الصيف!‬

‫‪202‬‬

‫‪203‬‬


‫نهر على َسفَر | أوزبكسـتان ‪ ...‬مزارات وبازارات‬ ‫ٌ‬

‫قام تيمور بعد ذلك بتنظيم جيش جرار معظمه من األتراك‪ ،‬يفي‬ ‫بتطلعاته التوس� � ��عية‪ ،‬فاجته إلى مدينة خوارزم‪ ،‬وضمها إلى بالده‪،‬‬ ‫بعد أن أصابها اخلراب والتدمير من جراء هجومه املتواصل عليها‪،‬‬ ‫كما سيطر على صحراء القفجاق‪ ،‬والتي متتد بني سيحون وبحيرة‬ ‫خوارزم وبحر اخلزر‪ .‬ثم أرسل ابنه ميرانشاه‪( ،‬كان في الرابعة عشرة‬ ‫من عمره) ليسيطر على إقليم خراسان كله‪ ،‬وأفغانستان‪.‬‬ ‫ثم اجته في سنة ‪ 1385‬ميالدية إلى مازندران‪ ،‬فاستسلمت دون‬ ‫قتال‪ ،‬ثم انطلقت جيوش تيمورلنك تفتح أذربيجان‪ ،‬وتستولي على إقليم‬ ‫فارس‪ ،‬وتُغِ ير على أصفهان التي كانت قد ثارت على نوابه‪ ،‬وبلغ عدد‬ ‫القتلى فيها سبعني أل ًفا‪ .‬وفي سنة ‪1388‬ميالدية يهاجم «توقتمش»‬ ‫ملك بالد القفجاق؛ بالد ما وراء النهر‪ ،‬ويثور أهالي أذربيجان ضد‬ ‫تيمورلنك‪ ،‬ويعلنون والءهم لتوقتمش‪ ،‬فيتوقف تيمورلنك عن التوسع‪،‬‬ ‫ويتجه إلى أذربيجان لقمع الثورة‪ ،‬ويفر توقتمش‪ ،‬فيدخل تيمورلنك‬ ‫خوارزم‪ ،‬ويقال إنه خربها حتى أنه لم يجد فيها جدا ًرا يُستراح حتت‬ ‫ظله‪ ،‬وقد ظلت خرا ًبا خالية ثالث س� � ��نوات من الس� � ��كان حتى أمر‬ ‫تيمورلنك بإعادة تعميرها‪.‬‬ ‫لمَ َّا ك َّرر توقتمش هجومه مرة أخرى على بالد ما وراء النهر في سنة‬ ‫‪1389‬ميالدية‪ ،‬تعقَّبه تيمورلنك حتى أرض املغول وصحراء القفجاق‬ ‫وهزمه‪ ،‬وتخلص منه‪ ،‬وأناب ابنه «ميرانش� � ��اه» في حكم خراسان‪،‬‬ ‫وحفيده «بير محمد» في حكم غزنة وكابل‪.‬‬ ‫بعد ذلك قصد ذلك احملارب التوس� � ��عي إيران في شهر رمضان‬ ‫‪ 794‬هجرية (املوافق لشهر أغسطس ‪1392‬ميالدية)‪ ،‬ساعيا إلخماد‬ ‫الثورات التي ش َّبت بها‪ ،‬وظل هناك خمس سنوات مشغوالً بقمع تلك‬ ‫ُسمى حروبه هذه بـحروب السنني اخلمس‪ ،‬وقد بدأها‬ ‫الثورات‪ .‬وت َّ‬ ‫بإخضاع «جرجان» و«مازندان»‪ ،‬ثم اجته إلى العراق فاستولى على‬ ‫‪204‬‬

‫«واسط» و«البصرة» وس� � ��واهما‪ ،‬ثم واصل سيره ففتح بالد أرمينية‬ ‫والكرج‪ ،‬حتى أنه زحف في نحو مائة ألف جندي واحتل موسكو ملدة‬ ‫عام واحد! وبالرغم من أنه بلغ آنذاك الستني من عمره‪ ،‬فإنه واصل‬ ‫الغزو فاجته إلى الهند متذ ِّر ًعا بأن التغلقيني يتساهلون مع الهندوس‬ ‫وانقض بجيش� � ��ه اجلرار على قوات محمود تغلق‬ ‫في أمر اإلسالم‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫في ديسمبر ‪1397‬ميالدية‪ ،‬واحتل «دلهي» عاصمة دولة «آل تغلق»‪،‬‬ ‫ال بغنائم وفيرة‪ ،‬ومعه سبعون في ً‬ ‫وعاد تيمورلنك إلى سمرقند مح َّم ً‬ ‫ال‬ ‫حتمل األحجار والرخام التي أحضرها من دلهي‪ ،‬ليبني بها مسج ًدا‬ ‫في سمرقند‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ولم ميكث تيمورلنك طويال في سمرقند بعد عودته الظافرة من‬ ‫الهند‪ ،‬واستعد للخروج ومواصلة الغزو والفتح‪ ،‬وانطلق في حملة كبيرة‬ ‫ُسميت بحملة السنوات الس� � ��بع (‪ 809 -802‬هـ ‪1405 -1399 /‬م)‬ ‫ملعاقبة سلطان املماليك «فرج برقوق» ملساعدته أحمد اجلالئري خان‬ ‫بغداد في حربه ضد تيمورلنك‪ ،‬وتأديب السلطان العثماني «بايزيد‬ ‫األول» سلطان الدولة العثمانية الذي كان يحكم شرق آسيا الصغرى‪.‬‬ ‫وبدأ تيمورلنك غزواته باكتس� � ��اح بالد الكرج (القوقاز) ونهبها سنة‬ ‫(‪802‬هـ = ‪1399‬م)‪ ،‬ثم سار إلى «عينتاب» ففتحها‪ ،‬واجته إلى حلب‬ ‫حيث دار قتال دام أربعة أيام سقطت بعدها‪ ،‬وبلغ عدد القتلى فيها‬ ‫عشرين ألفاً واألسرى أكثر من ثالثمائة ألف‪ .‬وفي العام التالي اجته‬ ‫إلى بغداد‪ ،‬فهاجمها ودمر أسوارها‪ ،‬وأحرق بيوتها‪ ،‬حتى سقطت‪.‬‬ ‫ثم واصل نحو آس� � ��يا الصغرى فاقتحم «سيواس» واألناضول‪ ،‬وعاد‬ ‫بعدها إلى سمرقند‪ ،‬ليستعد لغزو الصني في خريف ‪ 1404‬ميالدية‪،‬‬ ‫لكن جيشه عانى قسوة البرد‪ ،‬ولم تتحمل صحته ذلك اجلو القارس‪،‬‬ ‫فأصيب باحلمى التي أودت بحياته في ‪ 18‬من فبراير ‪1405‬م)‪ ،‬بعد‬ ‫أن دانت له البالد من «دلهي» إلى دمشق‪ ،‬ومن بحيرة آرال إلى اخلليج‬ ‫‪205‬‬


‫نهر على َسفَر | أوزبكسـتان ‪ ...‬مزارات وبازارات‬ ‫ٌ‬

‫العربي‪ ،‬وبعد وفاته نقل جثمانه إلى سمرقند حيث دفن هناك في‬ ‫ضريحه املعروف بـ«كور أمير»‪ ،‬أي مقبرة األمير‪.‬‬

‫آك سراي؛ القصر وأياديه البيضاء‬ ‫وصلنا إلى آك س� � ��راي‪ ،‬والترجمة احلرفية له‪ :‬القصر األبيض‪،‬‬ ‫ولكن (آك) ال تعني اللون فحسب‪ ،‬وإمنا تعني أيضا األيادي البيضاء‬ ‫املنعمة‪ ،‬التي متنح وتهب‪.‬‬ ‫بني القصر في «ساعات السعادة» التي تنبأ بها العرافون لألمير‪.‬‬ ‫ويقال إنه بعد غزو تيمور لعاصمة خوارزم (اآلن في تركمانستان)‪،‬‬ ‫أرسل من هناك كثي ًرا من احلرفيني واملهرة من الفنانني ليبنوا في‬ ‫مسقط رأس األمير آيات معمارية‪ ،‬منها هذا القصر الذي بديء فيه‬ ‫ربيع عام ‪ 1380‬ميالدية‪ ،‬واكتمل بن� � ��اؤه في ‪ 1396‬ميالدية‪ ،‬وطبقا‬ ‫لسفير ملك قشتالة فإن زينة القصر استمرت حتى بعد اكتمال بناء‬ ‫القصر بثماني سنوات!‬ ‫كانت آثار القصر تنم عن بذخ وترف ال مثيل لهما في ذلك العصر‪،‬‬ ‫لم نر منها اليوم إال البوابة العمالقة‪ ،‬التي كان يعلوها حمام سباحة!‬ ‫كان تيمور لنك يأمر أن تقام القصور وسط بساتني‪ ،‬ومنها ما ميثل‬ ‫رؤية فنية لالجتماعات واللقاءات التي عقدها بنفس� � ��ه ومن زوايا‬ ‫مختلفة‪ .‬وفي أحدها كان يضحك‪ ،‬وفي أخرى كان عارم الغضب‪.‬‬ ‫كما م ّثل في الرسوم املعارك التي شارك فيها واالجتماعات الرسمية‬ ‫واملفاوضات التي ُعقدت مع األمراء والسادة والعلماء وعلية القوم من‬ ‫رجال الدولة‪ .‬ثم إنه عرض اجتماعات حضرها للسالطني‪ ،‬وممثلي‬ ‫السالطني وسفراء األمصار األجنبية واألماكن الطبيعية واملواضع‬ ‫الس� � ��رية التي يأوي إليها‪ ،‬واملعارك التي وقعت في الهند وكبشاك‬ ‫واإلستيب وفارس‪ ،‬وانتصاراته وركض األعداء املهزومني‪ ،‬ولوحات‬ ‫‪206‬‬

‫ألقربائه وأحفاده وأمرائه وأتباعه من العسكر‪ ،‬واحلفالت وجلسات‬ ‫السمر واخلمر‪ ،‬واحتفاالت السادة وأقداح الشراب ومطربيه املفضلني‬ ‫ومختلف الشعراء وعشيقاته العازبات واملتزوجات‪ ،‬فضال عن أحداث‬ ‫متداخلة ومتصلة وقعت له في مختلف األصقاع‪.‬‬ ‫كانت كل هذه اللوحات ممُ ثلة وكأنها حقيقية ال مبالغة فيها‪ .‬وكان‬ ‫الغرض من هذه اللوحات هو تقدمي األحداث وكأنها حقيقية‪ ،‬ليطالعها‬ ‫من لم يس� � ��بق له رؤيتها قط وكأنه يراها حتدث»‪ .‬ومن بني ماوضع‬ ‫(تيمور بك) حديقتان‪ :‬األولى وهي األبعد تسمى بوجي بولدي‪ ،‬واألخرى‬ ‫وهي األقرب تس� � ��مى بوجي ديلكوش‪ .‬ومن حديقة بوجي ديلكوش‬ ‫إلى بوابات فيروز أعطى األمر بزرع املمشى على اجلانبني بأشجار‬ ‫احلور‪ .‬ومت ً‬ ‫أيضا تشييد املبنى الكبير (أولوج ُكشك) في حديقة بوجي‬ ‫ديلكوش‪ ،‬وجدران ذلك املبنى مزخرفة برسوم متثل معركة تيمور بك‬ ‫في هندوستان (بال ُد الهند)‪.‬‬

‫وأشياء أخرى‬ ‫حادثة القطن‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫على امتداد البصر متتد حقول القطن بني كل مدينتني من املدن‬ ‫ احملافظات الثالث عشرة في أوزبكستان‪ ،‬والتي متثل على علمها‬‫بثالث عشرة جنمة‪ .‬تستدعي صور الذهب األبيض الطالع في البساط‬ ‫األخضر حادثة شهيرة تعود للعام ‪1984‬ميالدية‪.‬‬ ‫آنذاك أرسل مكتب املدعي العام السوفييتي في موسكو محققني‬ ‫إلى أوزبكستان‪ ،‬اعتقلوا كثيرين من املوظفني واإلداريني بتهمة الفساد‬ ‫في زراعة القطن وتصنيعه‪ .‬كانت تلك شرارة لغضب أوزبكي على‬ ‫رأس موسكو‪ ،‬واختيار بريجينيف ألوزبكس� � ��تان دون سواها إلقامة‬ ‫هذا التحقيق‪ ،‬وللمرة األولى تسمح السلطات األوزبكية لصحافتها‬ ‫بتوجيه نقد إلى موسكو لفرضها ثقافة املنتوج الواحد‪ ،‬وهو القطن‪،‬‬ ‫‪207‬‬


‫نهر على َسفَر | أوزبكسـتان ‪ ...‬مزارات وبازارات‬ ‫ٌ‬

‫على البالد‪ ،‬الذي خرب بيئة أوزبكستان‪ ،‬وجعل اقتصادها يعتمد كلية‬ ‫على بيعه لالحتاد السوفييتي‪ ،‬حتى أن األوزبكيني كانوا ‪ -‬مرغمني‬ ‫ يزرعون القطن في كل ش� � ��بر من أراضيهم على حساب كل شيء‬‫عداه! لقد وصل جنون القطن لدى االحت� � ��اد لدرجة حتويل نصف‬ ‫مياه بحر األورال ـ على حدود أوزبكستان الشمالية ـ إلى ري زراعة‬ ‫القطن‪ .‬لذلك رحب اجلميع ـ على اختالف انتماءاتهم ـ باالنفصال‬ ‫عن موسكو يوم جاءت الفرصة إلعالن االستقالل‪.‬‬ ‫لكن ما حدث مع القطن قد كان‪ ،‬وأفرز نتائج س� � ��يئة‪ ،‬ليس فقط‬ ‫بالتأثير الس� � ��لبي على رابع أكبر بحيرات العالم‪ ،‬بل إن حتويل مياه‬ ‫نهري آمو داريا وس� � ��ير داريا ـ اللذين كانا يصبان في بحر األورال ـ‬ ‫إلى ري حقول القطن‪ ،‬فتدفقت مياه الري‪ ،‬حتى وصلت إلى حدود‬ ‫مدينتي بخارى وسمرقند‪ ،‬وهدد‪ ،‬واليزال يهدد أبنيتها التاريخية‪.‬‬ ‫لعل ذلك ما فس� � ��ر انهيار كثير من املآذن‪ ،‬ومي� �ل��ان أخرى (كما في‬ ‫سمرقند‪ ،‬بحيث أنها اآلن تشبه برج بيزا املائل‪ ،‬لكنها دون دعامات‬ ‫متنع الكارثة)‪ .‬كما أن حتويل هذين النهرين عن تلك البحيرة العمالقة‪،‬‬ ‫جعل ما يصل إليها من مواد ملوثا‪ ،‬حتى أن ‪ 30‬ألف كيلومتر مربع‬ ‫من أرضها مزروعة بالكيماويات‪ .‬وقد اكتفت أوزبكس� � ��تان في عام‬ ‫‪ 1991‬بإعالنها أنها لن تبيع القطن إلى روسيا إال بالعملة الصعبة‪،‬‬ ‫وملا رفضت موسكو‪ ،‬واجهت أوزبكستان مشكلة إلى من تبيعه‪ ،‬فوقعت‬ ‫في مارس ‪ 1992‬معاهدة صداقة مع موسكو‪ ،‬مت فيها التوصل إلى‬ ‫تسوية نزاع القطن‪ ،‬ورفع سعره إلى املستوى العاملي‪ ،‬لكن ذلك هدد‬ ‫مصانع القطن في أوزبكستان نفسها‪ ،‬فتوصل البلدان إلى مقايضة‬ ‫(النفط مقابل القطن)‪ ،‬تعطي فيه روسيا البترول ألوزبكستان‪ ،‬مقابل‬ ‫القطن‪ ،‬بالسعر العاملي للمنتوجني! أو مبادلة الذهب األسود بالذهب‬ ‫األبيض‪ ،‬حتت سماء العمالت اخلضراء!‬ ‫‪208‬‬

‫حاولت أوزبكستان وجاراتها ـ بعد االنفصال عن االحتاد السوفييتي ـ‬ ‫وضع إطار ينظم عالقاتها‪ ،‬فشكلت كومنولث دول آسيا الوسطى أواخر‬ ‫عام ‪ 1991‬من أوزبكستان وكازاخستان وقرغيزستان وتركمانستان‪،‬‬ ‫التي خرجت من هذه املجموعة بعد فترة قليلة‪ .‬ثم تغير اس� � ��م تلك‬ ‫الرابطة إلى االحتاد االقتصادي آلسيا الوسطى عام ‪ ،1994‬وأصبح‬ ‫ـ مرة ثالثة ـ التعاون االقتصادي آلس� � ��يا الوسطى عام ‪ 1998‬حينما‬ ‫انضمت إليها طاجيكستان! واستقر االسم على منظمة آسيا الوسطى‬ ‫للتعاون عام ‪ ،2002‬كما انضمت إليها روسيا عام ‪ .2004‬وفي عام‬ ‫‪ 2005‬بدأ احلديث بدمج هذه املجموعة مبنظمة تعاون أوروـ آسيا‬ ‫التي تشكلت في مايو ‪ 2001‬بني روسيا وروسيا البيضاء وكزاخستان‬ ‫وقرغيزستان وطاجيكستان وانضمت إليها أوزبكستان في أغسطس‬ ‫‪ ،2006‬إضافة إلى روابط إقليمية أخرى تربط هذه الدول ببعضها‪،‬‬ ‫منها كومنولث الدول املستقلة (تأسست عام ‪ 1991‬من ‪ 11‬جمهورية‬ ‫سوفياتية سابقة بينها جمهوريات آسيا الوسطى غير أن تركمانستان‬ ‫خرجت منها كعضو عام ‪ 2005‬واكتفت بصفة إشرافية تعاونية)‪.‬‬ ‫وال ننسى أن نضيف «منظمة ش� � ��نجهاي للتعاون»‪ ،‬كأهم منظمة‬ ‫لتأطير العالقات بني دول آس� � ��يا الوسطى وإقليمها القريب وجتمع‬ ‫الصني وروسيا مع دول آسيا الوس� � ��طى‪ ،‬ما عدا تركمانستان‪ .‬كما‬ ‫تشكل قمة الدول التركية (تأسس� � ��ت عام ‪ )1992‬إطا ًرا آخر لوجوه‬ ‫العالقات البينية لدول آسيا الوسطى بجانب املنظمات األخرى التي‬ ‫تضم هذه الدول مثل منظمة التع� � ��اون االقتصادي (إيكو) ومنظمة‬ ‫املؤمتر لدول العالم اإلس� �ل��امي‪ ،‬ومنظمة األمن والتعاون األوربي‪.‬‬ ‫وهي كلها إطارات تكاد تفتقد إلجناز األهداف املعلنة الرامية حلل‬ ‫مشكالت هذه الدول مع جاراتها‪.‬‬ ‫‪209‬‬


‫نهر على َسفَر | أوزبكسـتان ‪ ...‬مزارات وبازارات‬ ‫ٌ‬

‫بخارى؛ اإلمامة واإلمارة‬ ‫لم تكن العم� � ��ارة وحدها‪ ،‬أو املنمنمات وحس� � ��ب هي ما صاحبنا‬ ‫وصادفنا في رحلتنا بني املزارات والبازارات في أوزبكستان‪ ،‬بل كان‬ ‫نصيب وافر‪ .‬وتستدعي حكايات املوسيقى مشارف مدينة‬ ‫للموسيقى‬ ‫ٌ‬ ‫بخارى التي انطلقنا إليها بعد مغادرتنا شهرسبذ‪.‬‬ ‫في خواتيم القرن السادس عشر امليالدي‪ ،‬كانت بخارى قد أصبحت‬ ‫عاصمة إلمارة مستقلة حتمل االسم نفسها‪ ،‬وعاملًا كوزموبوليتانيا‬ ‫شامال‪ ،‬تزدهر أس� � ��واقها بأطياف من التجارة التي تعبرها من كل‬ ‫اجلهات‪ .‬بدأ مقام (الشاش) في بخارى من بالط األمير‪ ،‬كأبرز ما‬ ‫مييز املوسيقى والثقافة الطاجيكية واألوزبكية على حد سواء‪ .‬الصورة‬ ‫تنقلها املنمنمات حيث يجلس العازفون على األرض بقيثاراتهم ثنائية‬ ‫األوتار‪ ،‬الدوتار‪ ،‬واجليدجاك والدويرا‪ ،‬أمام األميرات‪.‬‬ ‫الترجمة احلرفية للشاش مقام‪ ،‬واملقامات الستة‪ ،‬البياتي‪ ،‬الراست‪،‬‬ ‫النوى‪ ،‬الدوكاه‪ ،‬السيكاه‪ ،‬والعراق‪ ،‬وهي األسماء الستة نفسه املعروفة‬ ‫في املوسيقى الشرقية‪ ،‬مع مشتقاتها‪.‬‬ ‫قبيل عزف الش� � ��اش نس� � ��تمع إلى متهيد من أناشيد صوفية ملؤ ٍّد‬ ‫وحيد‪ ،‬يبث صبابته وأشواقه‪ ،‬وأمله وندمه‪ ،‬ويعلو شيئا فشيئا‪ ،‬بعد‬ ‫كل وقفة‪ .‬أفضل من تؤدي الشاش مقام في التقليد الكالسيكي هي‬ ‫املطربة مناجاة يولشيفا‪ ،‬التي تستعيد ـ على أنغام أستاذها شوكت؛‬ ‫الذي يرافقها غال ًبا ـ غزليات كبار شعراء األوزبك الصوفيني‪.‬‬ ‫متتلك يوليشيفا صوتا واسع املدى‪ ،‬قوي اإلدراك‪ ،‬يسير اإلفهام‪،‬‬ ‫وقد بدأت الغناء في طفولتها حيث ولدت سنة ‪ 1960‬بوادي فرغانة‬ ‫(جنوب طشقند)‪ ،‬حتى أن موهبتها دعت كثيرين لنصحها بترك الغناء‬ ‫الكالسيكي واحتراف األوبرا! لكنها أصرت أن تكون صوت ثقافتها‪،‬‬ ‫وش� � ��عبها‪ .‬مما جعلها بعد نحو ربع قرن من الغناء رمزًا للموسيقى‬ ‫‪210‬‬

‫هنا مع نسخة نادرة من مصحف أمير املؤمنني عثمان بن عفان يرفع هذا األوزبكي‬ ‫بدعائه إلى اخلالق األكرم في مكتبة املجمع اإلسالمي بطشقند‪.‬‬

‫التمثال التذكاري الذي يوثق لزلزال مدينة طشقند‪.‬‬

‫‪211‬‬


‫نهر على َسفَر | أوزبكسـتان ‪ ...‬مزارات وبازارات‬ ‫ٌ‬

‫والثقافة األزبكيتني‪ .‬بهجة احلياة وطقوسها هي امللمح الرئيسي في‬ ‫املوسيقى الوسط آسيوية‪ ،‬ولدى األوزبك ما يسمونه سنة توي‪ ،‬وهو‬ ‫احتفال يستمر أربعني يوماً بعد الرزق مبولود‪ ،‬يتم فيها طهوره وإشهار‬ ‫إسالمه‪ ،‬مثلما لديهم أعياد مماثلة لالحتفال بالزواج‪ ،‬وهذه املسمات‬ ‫ال تخفي التراتبية في األسرة املسلمة‪ ،‬حيث ال جتلس النساء بجانب‬ ‫الرجال‪ ،‬وال يتقدم الصغار على الكبار‪.‬‬ ‫لكل مدينة مطربوها وموسيقيوها احملددون لالحتفاالت بالزواج‪،‬‬ ‫ولذلك يحضر اجلمهور حفالت الزفاف ملش� � ��اهدة هؤالء الفنانني‪.‬‬ ‫ومنهم شير علي جوراييف‪ .‬لكن من الطريف أن هناك من مينحون‬ ‫العروس والعريس بركتهم‪ ،‬وهو تقليد جنده لدى األوزبك‪ ،‬ويعرفون‬ ‫في مناطق بخارى وسمرقند باس� � ��م (سوزاندا)‪ ،‬وفي خوارزم باسم‬ ‫(خالبا)‪ ،‬أما في طشقند وفرغانة فهم (أوتني أوي)!‬

‫سيد درويش األوزبك!‬ ‫ليست موس� � ��يقى اليوم في أوزبكس� � ��تان هي ما تقدمه يوليشيفا‬ ‫وحسب‪ ،‬أو هي فقط املوسيقى العابرة للفضائيات واملطاعم ـ من‬ ‫روسيا والشرق العربي وسواهم لكنها أيضا موسيقى الشارع‪ ،‬إذا صح‬ ‫التعبير‪ .‬نقصد إلى ذلك احلديث عن أحد رواد املوسيقى األوزبكية‪،‬‬ ‫وهو حوظ عبد العزيز رسولوف (‪ 1852‬ـ ‪1936‬م)‪ ،‬الذي يعد أيقونة‬ ‫حد سواء‪.‬‬ ‫املوسيقى الشعبية لدى أمتي األوزبك والطاجيك‪ ،‬على ٍّ‬ ‫استقى رسولوف موس� � ��يقاه وإيقاعاته من فناني الشوارع‪ ،‬مغنني‬ ‫وموسيقيني‪ ،‬وكان مما أذهله املوسيقيني املوهوبني الذين كانوا يعزفون‬ ‫املقامات على العود‪ .‬كان رسولوف كثير التجوال في املشرق العربي‪،‬‬ ‫وفي بغداد‪ ،‬أعجبه أحد املوسيقيني فاقد البصر وكان يعزف على‬ ‫الساز‪ .‬وقد تذكر عبد العزيز تلك القطعة املوسيقية وكتبها من أجل‬ ‫‪212‬‬

‫القيثارة ذات الوترين وأسماها «‪.»Gadoiy‬‬ ‫كما استلهم رسولوف قطعة موسيقية أخرى سمعها في مصر قبل‬ ‫نحو ثمانني عا ًما! وفي عامي ‪ 1930‬و‪ 1931‬قام املوسيقار األوزبكي‬ ‫ميرونوف بكتابة هاتني القطعتني في نوتات موسيقية ونشرهما فيما‬ ‫بعد‪ ،‬وقد أصبحتا مادتني للدراسة‪ ،‬تؤديان على القيثارة واآلالت األخرى‬ ‫بواسطة تالميذ عبد العزيز رس� � ��ولوف‪ .‬كما اتخذ دونى ذاكيروف‬ ‫أغنية «‪ »Gadoiy‬لتكون مثاال تعزف به اآلالت املوسيقية األوزبكية‬ ‫التقليدية‪ .‬ولعبد العزيز رسولوف أغنية أخرى مشهورة هي قربان‬ ‫علوم‪ ،‬ألفها بتأثير من املوسيقى اإليرانية واآلذربيجانية‪ ،‬إن كان حبه‬ ‫للموسيقى الشعبية جعل من عروضه مصد ًرا للبهجة‪.‬‬

‫قاموس املسافر‬ ‫بعد أيام من اإلقامة والتنقل بني ربوع أوزبكستان‪ ،‬ستلتقط أذناك‬ ‫مفردات تر ُّدها إلى لغات أصلية تنطقها كالعربية‪ ،‬أو ال تس� � ��تغربها‬ ‫كالتركية‪ ،‬أو على علم ببعض مفرداتها‪ ،‬كالفارسية (التي يتحدث بها‬ ‫زميلي سليمان حيدر‪ ،‬ويجادل بها الباعة‪ ،‬فيصل معهم إلى أسعار‬ ‫مهاودة)! إن مفردة «ستان» تعني الشعب أو البلد‪ ،‬فأوزبكستان معناها‬ ‫شعب األوزبك أو بلده‪ ،‬وما له املعنى نفسه في لغتنا العربية واللغة‬ ‫األوزبكية كلمات‪ :‬األمير‪ ،‬والبازار‪ ،‬واخلان («بلعة خانة»‪ ،‬أو «باالخانة»‬ ‫هي البلكونة‪ ،‬و«الشاي خانة» هو املقهى)‪ ،‬والبيك‪ ،‬والتبة (هضبة)‪،‬‬ ‫واحلاجي (احلاج)‪ ،‬واحلرام‪ ،‬وحضرة‪ ،‬وداب (احملرفة من اآلداب)‪،‬‬ ‫ورباط (مكان اإلقامة)‪ ،‬وشمس‪ ،‬وعربة‪ ،‬وقلعة‪ ،‬وقم (كوم)‪ ،‬وكافر‪،‬‬ ‫ومدرسة‪ ،‬ومفتي‪ ،‬ومقدس‪ ،‬و ُمال‪ ،‬ومؤذن‪ ،‬ونقارة (طبلة)‪ ،‬وم َّداح (راو)‪،‬‬ ‫عدا بعض مفردات الفارسية والتركية مثل نان (خبز)‪ ،‬ونهان (مخفي)‪،‬‬ ‫وعيران (شراب اللنب)‪ ،‬وشيشليك (حلم مشوي على كباب)‪ ،‬وفرجني‬ ‫‪213‬‬


‫نهر على َسفَر | أوزبكسـتان ‪ ...‬مزارات وبازارات‬ ‫ٌ‬

‫(أجنبي)‪ ،‬وقشالق (مضرب خيام‪ ،‬مكان إقامة مؤقت)‪ ،‬وبوظة‪..‬‬ ‫اللغة األوزبكية ـ التي كانت ت ُكتب باحلروف العربية حتى ‪ 1920‬ـ هي‬ ‫حفيدة اللغة التركية‪ ،‬وقد حلت اللغة األوزبكية األدبية اجلديدة‪ ،‬التي‬ ‫جتمع بني لهجات أهل املدن والريف‪ ،‬محل تلك اللغة القدمية في ‪.1923‬‬ ‫دخول املفردات واملصطلحات العربية والفارسية ـ وبالطبع الروسية ـ‬ ‫إلى جانب املفردات التركية هو الذي ط َّور هذه اللغة اجلديدة‪.‬‬ ‫الطريف أننا لدى كل زيارة إلى كل أثر تاريخي كانت لنا مالحظة‪،‬‬ ‫هي أن الالفتات جديدة‪ ،‬بينما اجلدران حتمل أث ًرا لالفتات القدمية‬ ‫التي وضعها الس� � ��وفيات‪ ،‬الذين كان لهم فضل كبير في احلفريات‬ ‫والتنقيبات والترميمات‪ .‬هذا االستبدال في الالفتات كان يعني السيادة‪،‬‬ ‫التي حولت اللغة الرئيسية في تلك الالفتات إلى األوزبكية‪ ،‬وحولت‬ ‫حروفها إلى الالتينية‪.‬‬

‫نور السماء‬ ‫في إحدى املدارس التاريخية مبدينة بخارى توقعنا أن نبتعد ـ ونحن‬ ‫نحضر حفال للموسيقى التقليدية ـ عن فكرة املزار الذي آل إلى بازار؛‬ ‫تلك الفكرة التي رأيناها في كل مسجد وخبرناها بكل مدرسة ولقيناها‬ ‫بكل خانقاه ومررنا بها بكل ضري� � ��ح! بدأ العزف التقليدي والرقص‬ ‫الشعبي باألزياء الفولكلورية‪ ،‬التي تلبسها فتيات من مدن أوزبكستان‪،‬‬ ‫مثلما ترتديها أخريات ال تخفي قسماتهن أصولهن الروسية‪ .‬ثم بدأت‬ ‫أطباق العشاء تنزل مع كل نغمة‪ ،‬ولكن ورقة تسللت مع القائمة أكدت‬ ‫لنا فكرة مزاوجة املزار والبازار‪ ،‬تعلن لنا عن أن الثياب التي ترتديها‬ ‫الراقصات العارضات يوجد مثله� � ��ا للبيع‪ ،‬في احملالت التي حتيط‬ ‫بنا‪ ،‬حيث تتخذ طاولتنا‪ ،‬مع أكثر من خمسني طاولة أخرى‪ ،‬مكانها‬ ‫في بهو املدرسة (أو التي كانت مدرسة)‪ .‬أما فصول الدراسة فقد‬ ‫‪214‬‬

‫حتولت إلى ورش للفنون ومتاجر للبضائع‪ ،‬ومحالت لبيع املنتوجات‬ ‫التقليدية‪ .‬فهناك شطرجن قطعه لألمير تيمور ووزرائه وجنوده وفيالقه‪،‬‬ ‫وهناك قبعات وأوشحة وثياب تقليدية‪ ،‬ويوجد صناديق زينة‪ ،‬وسترى‬ ‫حوامل خشبية لكتاب الله‪ ،‬مع عش� � ��رات أخرى من البضائع‪ .‬وعلى‬ ‫باب (املدرسة) يوجد بنك صغير جتلس فيه فتاتان‪ ،‬واحدة لتبديل‬ ‫الدوالر‪ ،‬وأخرى لتغيير اليورو‪ ،‬إلى رزم أوراق العملة احمللية‪ .‬الغريب‬ ‫إنك ال جتد البنية التحتية األساس� � ��ية التي يحتاج إليها السائح في‬ ‫هذه املزارات التاريخية اخلالدة‪ ،‬لكنك س� � ��تجد طريقة للدفع‪ ،‬إنها‬ ‫ثقافة إحياء البازار مع ـ بل ورمبا قبل ـ املزار‪.‬‬ ‫مي� � ��ا «إن النور يهبط عادة من الس� � ��ماء‪ ،‬أما في‬ ‫إذا كان يقال قد ً‬ ‫بخارى فإنه يصعد إلى الس� � ��ماء»‪ ،‬فرمبا كان م� � ��رد ذلك القول هو‬ ‫كونها مدينة املعرفة‪ ،‬مبا أنشيء فيها من مئات املدارس وما تأسس‬ ‫بها من عشرات املساجد‪ ،‬وما ارتفع في سمائها من منارات ومآذن‪،‬‬ ‫ومن عاش على أرضها من أئمة وأمراء‪ .‬لكنها كانت كذلك في أوج‬ ‫ازدهارها‪ ،‬واحتضانها إلثنيات األرض وأعراقها جمي ًعا‪ ،‬وقبل أن تردم‬ ‫بحيراتها‪ ،‬ويرحل عنها علماء حضارتنا اإلسالمية وفقهاؤها كلهم‪.‬‬ ‫ولن تستعيد بخارى مكانتها‪ ،‬إال إذا استعادت مكانها‪ .‬وحينئذ سيكون‬ ‫لها نورها اخلاص‪ ،‬الذي يصعد مرة أخرى إلى السماء‪.‬‬

‫‪215‬‬


‫نهر على سفر‬

‫شينج يانغ‬ ‫الصني ا ُمل ْس ِلمة!‬ ‫ِّ‬


‫الصني ا ُمل ْس ِلمة!‬ ‫نهر على َسفَر | شينج يانغ ‪ِّ ...‬‬ ‫ٌ‬

‫س������واء كان ش� ً‬ ‫�����يخا «أويغور ًيا» يتجه لصالة الظهر في جامع‬ ‫«عيد كاه»‪ ،‬مبدينة «قشغر»‪ ،‬ش������مال غرب الصني‪ ،‬أو كان شا ًبا‬ ‫«قرغيز ًيا» يبني خيمته بني كفي جبل «موزتاج آتا» الذي غطت‬ ‫الثلوج قمته مبنطقة «ش������ينج يانغ»‪ ،‬أو كان موسيق ًيا «قازاق ًيا»‬ ‫يعزف على قيثارة «الدو نغ بوال»‪ ،‬ذات الوترين‪ ،‬في قلب «بازار‬ ‫األحد»‪ ،‬فإن ما يجم ُع بينهم دين واح ٌد هو اإلسالم‪ ،‬يوحدهم مع‬ ‫أكثر من عشرين مليون آخرين‪ ،‬ميثلون عشر قوميات في أكبر‬ ‫بلدان العالم‪ :‬الصني!‬

‫على خطى اإلسالم‬ ‫الزمان‪ :‬اخلامس والعشرون من أغسطس العام ‪ 651‬امليالدي‪.‬‬ ‫املكان‪ :‬الصني حتت حكم اإلمبراطور تانغ قاو تسوجن‪ ،‬سليل أسرة‬ ‫وحتديدا في مدينة‬ ‫تانغ (التي حكمت بني عامي ‪ 618‬و‪907‬م)‪،‬‬ ‫ً‬ ‫تشانغآن‪ ،‬عاصمة الصني في ذلك الزمان قبل أكثر من ‪ 13‬قر ًنا‪.‬‬ ‫احلدث‪ :‬وصول مبعوث ثالث اخللفاء ال َّراشدين؛ ُعثمان بن عفان‬ ‫للقاء اإلمبراطور للتعريف بأحوال اخلالفة اإلسالمية‪ ،‬وعادات‬ ‫املسلمني‪ .‬إنه احلدث الذي اعتبر ‪ -‬رسم ًّيا ‪ -‬تاريخ دخول اإلسالم‬ ‫سجلت املصادر التاريخية‬ ‫إلى الصني‪ ،‬وخالل ‪ 148‬سنة الحقة‪ّ ،‬‬ ‫أن العرب أوفدوا ‪ 39‬مبعوثا إلى أسرة تانغ امللكية!‬ ‫الزمان‪ :‬صيف العام ‪ ،2008‬واملكان‪ :‬الصني؛ اإلمبراطورية ال‬ ‫وحتديدا في عهد ساللة احلزب‬ ‫تغيب عن منتجاتها الشمس‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫الشيوعي للرئيس ماو‪ ،‬واحلدث‪ :‬وصول بعثة «العربي» إلى أكثر‬ ‫املناطق الصينية قر ًبا إلى ذلك الدين احلنيف في مهده‪ ،‬ولكنها‬ ‫أبعدها في الوقت نفسه جغراف ًيا عن العاصمة بكني على تخوم‬ ‫احلدود الدولية مع كازخس������تان‪ ،‬وأوزبكستان‪ ،‬وباكستان (التي‬ ‫‪218‬‬

‫تصلها بقشغر طريق دولية)‪ ،‬وقيرغيزيا‪.‬‬ ‫الرحلة بدأت في الكويت‪ ،‬ومنها إلى كراتشي (‪ 1949‬كلم)‪ ،‬ثم‬ ‫تساءلت‬ ‫بكني‪ ،‬وصوال إلى أورومجي‪ ،‬وأخي ًرا قشغر (‪ 3861‬كلم)‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫وأنا أحسب مجموع املسافة (‪ 5810‬كلم) كيف كانت قوافل طريق‬ ‫احلرير تصل على ظهور اجلمال‪ .‬نستعي ُد هنا مهد الرحلة مع‬ ‫مسلمني اليزالون يعيشون على الفطرة األولى‪ ،‬بل ويكتبون لسانهم‬ ‫وأبجديتهم بحروف تشبه أبجديتنا العربية‪.‬‬ ‫نحن عل������ى أول الطريق البرية التي تس������ميها املراجع بطريق‬ ‫احلرير‪ ،‬حيثُ نُ ِسجت عالقات الصني بجيرانها ب ًّرا‪ .‬كانت تلك‬ ‫الطريق تبدأ في تشانغآن‪ ،‬ومتر بآسيا الوسطى وأفغانستان وبالد‬ ‫فارس حتى تصل إلى بالد الشام بجزيرة العرب‪ ،‬قبل أن تصل‬ ‫إلى قلب أوربا‪ .‬وقد م َّهد انتشار اإلس���ل��ام في هذه البقاع إلى‬ ‫قدوم كثير من التجار املسلمني يحملون إلى الصني‪ ،‬إلى جانب‬ ‫البضائع‪ ،‬العقيدة اإلسالمية والعادات اخلاصة بها‪ .‬يقال إن أكثر‬ ‫من ‪ 4000‬أسرة من التجار األجانب أقاموا في مدينة تشانغآن‬ ‫في عهد أسرة تانغ‪ ،‬كان معظمهم من بالد فارس وبلدان العرب‪.‬‬ ‫وإلى جانب التبادل التجاري طلب حكام أسرة تانغ ‪ -‬أحيانا ‪-‬‬ ‫مساعدات عسكرية من بالد العرب لقمع االضطرابات الداخلية‪،‬‬ ‫فجاء اجليش العربي إلى الصني عبر الطريق احلريرية أيضا‪،‬‬ ‫ومكث بعض هؤالء اجلنود املسلمني في الصني‪ ،‬فتركوا نسلهم‬ ‫حيث وصلنا‪.‬‬ ‫ينتشر اإلسالم تدريجيا في أنحاء البالد خالل الفترات التاريخية‬ ‫التالية‪ ،‬من أسرة س������ونغ (‪1279-960‬م)‪ ،‬وأسرة يوان (‪-1206‬‬ ‫‪1368‬م) حتى أوائل أس������رة مينغ (‪1644 -1368‬م)‪ .‬وهو تاريخ‬ ‫طويل تعرض املسلمون خالله لتقلبات السياسة وتغيرات املجتمع‬ ‫‪219‬‬


‫الصني ا ُمل ْس ِلمة!‬ ‫نهر على َسفَر | شينج يانغ ‪ِّ ...‬‬ ‫ٌ‬

‫وتبدالت االقتصاد‪ .‬ويتحول املسلمون إلى أقليات متفرقة نتيجة‬ ‫لهذه الصراعات‪ ،‬تشكل مجموعتني‪ ،‬إحداهما تتكون من ست‬ ‫قوميات تتناثر في منطقة ش������ينج يانغ ذات احلكم الذاتي في‬ ‫شمال غرب الصني‪ ،‬واألخرى تتكون من أربع قوميات تعيش في‬ ‫مختلف األماكن داخل الصني‪.‬‬

‫اإلسالم ‪ ...‬وقوميات عشر‬ ‫يرجع تاري������خ قومية األويغور إلى الق������رن الثالث قبل امليالد‪،‬‬ ‫وكلمة أويغور تعني «التضام������ن» أو «االحتاد» باللغة األويغورية‪،‬‬ ‫وهم يتوزعون في منطقة ش������ينج يانغ الويغورية الذاتية احلكم‬ ‫رئيسيا وعددهم نحو ثمانية ماليني نسمة‪.‬‬ ‫في اليوم األول من الوصول إلى قشغر تأخذنا أقدامنا إلى ساحة‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬ ‫نراقب احلياة اليومية التي‬ ‫ساعات‬ ‫نعيش‬ ‫مسجد «عيد كاه» حيث‬ ‫ُ‬ ‫ميضي بها املتنزهون األويغوريون أوقاتهم‪ .‬إنهم يأتون للوقوف‬ ‫أمام عدسات عشرات املصورين املنتشرين في الساحة‪ ،‬يحمل‬ ‫كل منهم كاميرا رقمي������ة‪ ،‬ويحتفظ بديكور التصوير الالزم وفق‬ ‫الطلب‪ ،‬فمنهم من يص ِّور زبائنه فوق اجلمل أو احلصان‪ ،‬ومنهم‬ ‫من يجذب أفراد األسرة بنزهة مصورة في الساحة فوق عربة‬ ‫يجرها اخليل وجتاوره فيها سيدة متبرجة بالزي التقليدي‪ ،‬وآخرون‬ ‫يجتذبون األطفال بعربة جترها عنزة برية! اجلميع متأنق‪ ،‬ليس‬ ‫فقط هنا استعدا ًدا للتصوير‪ ،‬بل في كل مكان‪.‬‬ ‫صباحا في قلب‬ ‫نص ُل موسم الفاكهة‪ ،‬درجة احلرارة تتجاوز‬ ‫ً‬ ‫املدينة الثالثني مئوية‪ ،‬وهي تنضج الثمار التي تش������تهيها بقاع‬ ‫الصني جمي ًعا‪ .‬طماطم بحجم التمر‪ ،‬شما ٌم بطعم السكر‪ ،‬برتقال‬ ‫بلون الشمس‪ ،‬وعنب وخوخ وبرقوق وموز‪ ،‬ومشمش بال حدود‪،‬‬ ‫‪220‬‬

‫إن قشغر سلة فاكهة حت ِّر ُ‬ ‫ك احلواس جميعها‪.‬‬ ‫يحكي لنا دليلنا إنه في أواس������ط القرن العاش������ر‪ ،‬مع اعتناق‬ ‫شاتوك بوراخان ملك مملكة قراخان احمللية اإلسالم  بدأ دخول‬ ‫الدين اجلديد إلى شينج يانغ‪ ،‬وكانت قش������غر (قه شغه ر‪ ،‬كما‬ ‫تُكتب هنا) أولى محطاته هناك‪ ،‬لينتش������ر بعدها في يارتشيانغ‬ ‫وكوتشار‪ ،‬ثم شمال ش������ينج يانغ بعد القرن الرابع عشر‪ ،‬وحتى‬ ‫القرن السادس عشر الذي شهد دخول اإلسالم في شينج يانغ‬ ‫كلها‪ .‬أحدها مس������جد عيد كاه‪ ،‬الذي شيده حاكم قشغر‪ ،‬شيخ‬ ‫اسميرزا‪ ،‬للمرة األولى في ‪1442‬م‪ ،‬حيث كان يصلي على أرواح‬ ‫الراحلني من عائلته‪.‬‬ ‫جتديد املسجد‪ ،‬وتطويره‪ ،‬على مدى أكثر من خمسة قرون‪ ،‬جعله‬ ‫ميتد اليوم ‪ 140‬مت ًرا طوال‪ ،‬من اجلنوب إلى الشمال‪ ،‬و‪ 120‬مت ًرا‬ ‫من الشرق إلى الغرب‪ ،‬ليغطي مساحة ‪ 16800‬متر مربع‪ ،‬وأقسامه‬ ‫النموذجية تتكون من قاعة للصالة‪ ،‬وبرج للبوابة‪ ،‬مع عدة أبنية‬ ‫ملحقة به‪ ،‬لعل أطرفها برجني قصيرين حولهما باحتان كبيرتان‪،‬‬ ‫يس������تخدمهما املؤذنون للدعوة إلى الصالة‪ ،‬مثلما يستخدمهما‬ ‫الوعاظ للدروس الدينية‪ ،‬وعلى جانبي البوابة الضخمة‪ ،‬عمودان‬ ‫ميثالن منارتني متصلتني بزاويتي اجلدار‪ ،‬طول الواحد منهما‬ ‫‪ 18‬مت ًرا‪.‬‬ ‫أصابنا حزن ش������ديد لرؤية الغدران الداخلية في املسجد قد‬ ‫جفت‪ .‬أصبح املسجد مزا ًرا مجانيا ألهل البالد‪ ،‬ولغير أهل املدينة‬ ‫يدخلونه بعشرين يوانًا للفرد‪ ،‬وهي أقل الرسوم بني املزارات األخرى‬ ‫التي مررنا بها ويصل بعضها إلى ‪ 60‬يوا ًنا (ما يعادل ‪ 7‬يورو)‪.‬‬ ‫هناك بعض األواني الفخارية التي تستخدم للشرب‪ ،‬والصنابير‬ ‫التي تصلح للوضوء‪ .‬في األعياد‪ ،‬وفي أيام املهرجانات الشعبية‪،‬‬ ‫‪221‬‬


‫الصني ا ُمل ْس ِلمة!‬ ‫نهر على َسفَر | شينج يانغ ‪ِّ ...‬‬ ‫ٌ‬

‫جبال شينج يانغ امللونة‬

‫متتلئ ساحات املسجد الداخلية‪ ،‬واخلارجية‪ ،‬وهي أضخم بنحو‬ ‫خمس مرات‪ ،‬بنحو ‪ 50‬ألف������ا يأتون وعلى وجه كل منهم مالمح‬ ‫قوميته التي تنصهر في بوتقة اإلسالم‪.‬‬ ‫قبل عدة أعوام تقدم املصمم دان زياو‪ ،‬من معهد منطقة شوجننج‬ ‫للعمارة والهندسة جلائزة امللك فيصل في العمارة‪ ،‬ملصلحة مدينة‬ ‫قشغر‪ ،‬التي فازت باعتبارها مدينة إسالمية منوذجية تهدف إلى‬ ‫جمع السكان فيها بدال من انتشارهم خارجها‪ ،‬فقد ُعرف في‬ ‫املدينة اإلسالمية بناء مساكنها حول املسجد وميادين األسواق‬ ‫بعكس املدينة في األديان األخرى مثل البوذية‪ ،‬ورأى أن ذلك قد‬ ‫ساعد على انتشار اإلسالم في الصني‪.‬‬ ‫تذكرك احملالت املمتدة على جانبي سور املسجد بتلك التي‬ ‫‪222‬‬

‫مررت بها في أس������واق املدن اإلس���ل��امية‪ ،‬في القاهرة ودمشق‬ ‫واسطنبول‪ ،‬وغيرها‪ ،‬فاملسجد كان قلب املدينة‪ ،‬تنقضي الصالة‬ ‫فيه‪ ،‬فيسعى اجلميع إلى الرزق‪ .‬باعة جوالون‪ ،‬ورجال كثيرون‬ ‫يلعبون الورق ليس في الس������احة وحده������ا‪ ،‬ولكن على األرصفة‬ ‫الظليلة بالش������جر‪ .‬أوراق األش������جار امللونة كقوس قزح تعطيك‬ ‫التفاتة سحرية إلى حكايات ألف ليلة وليلة‪ .‬هنا ال يتسم اللهو‬ ‫وحده بالبس������اطة‪ ،‬بل املهن التي تكاد تندر أن جتتمع في مكان‬ ‫ٍ‬ ‫واحد‪ :‬باعة اجللود الطبيعية للحيوانات البرية وأكثرها شهرة‬ ‫الثعالب ثلجية اللون‪ ،‬وباعة األحج������ار التي يبلغ أحجام بعضها‬ ‫املتر‪ ،‬إنهم يتفاءلون باألحجار الطبيعية‪ ،‬ومنهم فنانون يشترونها‬ ‫ليصنعوا منها مقتنيات يصل ثمن بعضها إلى ألف دوالر‪ .‬وهناك‬ ‫‪223‬‬


‫الصني ا ُمل ْس ِلمة!‬ ‫نهر على َسفَر | شينج يانغ ‪ِّ ...‬‬ ‫ٌ‬

‫مهن طريفة كذلك‪ ،‬فال يكاد يخلو شارع من معمل أسنان‪ ،‬يق ّوم‬ ‫عاجا ورمبا ذه ًبا! وهناك‬ ‫األسنان ويبيضها ويزرع بدل التالف ً‬ ‫املنجد‪ ،‬وبائع املسواك‪ ،‬وأصحاب املكتبات التي‬ ‫نداف القطن‪ ،‬أو‬ ‫َّ‬ ‫ِّ‬ ‫حتتشد بكتب باللغة األويغورية‪ ،‬وال تخش فهناك قواميس عربية‬ ‫وإجنليزية قشغرية! وبجوار عربات تبيع أنواع العصير‪ ،‬هناك‬ ‫عربات أخرى تبيع لك البطي������خ‪ ،‬وإذا لم تكن ميزانيتك تتحمل‬ ‫شراء بطيخة كاملة‪ ،‬فلك أن تشتري شريحة (شقة) وفق الطلب‪.‬‬ ‫َس ُّن السكاكني له زاوية‪ ،‬وتركيب حدوات اخليول له ركن‪ ،‬وزيت‬ ‫الشعر أيضا له دكاكينه‪ ،‬أما املطاعم فح ّدث وال حرج‪ ،‬فأنت تعيش‬ ‫في ملتقى الطرق بني قوميات الصني وثقافات اإلسالم وأعراق‬ ‫العالم‪ ،‬ستجد كل شيء‪ ،‬وعليك أن تدقق في صورة األطباق التي‬ ‫تصاحب احلروف غير املفهومة‪ ،‬فرمبا تطلب طبق أرز‪ ،‬وتأتيك‬ ‫سمكة ضخمة فوقها غطاء وهمي من األرز‪ .‬ألم تر ذيلها حتت‬ ‫األرز في الصورة‪ ،‬فتدفع ثمن ما ال تأكله! يتس������م املسلمون من‬ ‫قومية األويغور باحلماسة واحلفاوة بضيوفهم‪ ،‬وهم موهوبون‬ ‫في الغناء والرقص‪ .‬لذلك فإن هناك محالت لبيع اآلالت الوترية‬ ‫واإليقاعية املصنوعة من جلود الثعابني‪ .‬جتد أيضا محالت تبيع‬ ‫األسطوانات األصلية واملنسوخة‪ ،‬للمقامات الشرقية األويغورية التي‬ ‫تتماس مع املوسيقى التركية‪ .‬يقول دليلنا إن اهتمام األويغوريني‬ ‫باملوسيقى تخطى حاجز اإلعجاب‪ ،‬إلى الشغف‪ ،‬حتى أنها تكاد‬ ‫تشغلهم عن العلم والعمل!‬

‫قازاقي وموسيقي‬ ‫من القوميات العشر املنتشرة في منطقة شينج يانغ األويغورية‬ ‫الذاتية احلكم‪ :‬القازاق‪ ،‬وعددهم نحو مليون وربع املليون نسمة‪.‬‬ ‫‪224‬‬

‫خريطة العالم القدمي قبل ألف عام كما ظهرت في ديوان لغات الترك للعالم محمود القشغري‪.‬‬

‫في أواسط القرن اخلامس عشر تش������كلت قومية القازاق بعد‬ ‫تأسيس مملكة قازاق خان‪ .‬وقد وصل اإلسالم حينها إلى مروج‬ ‫قومية القازاق‪ ،‬وانتشر فيها على نطاق واسع بعد القرن الثامن‬ ‫عشر‪ ،‬وأضيفت الشريعة اإلسالمية في «قانون توكه»‪ ،‬املستخدم‬ ‫قاعدة حلكم هذه القومية‪ .‬وفي تاريخ قومية القازاق ظهر علماء‬ ‫وأئمة بارعون في اللغة العربية والعلوم اإلسالمية‪.‬‬ ‫في سوق األحد مبدينة قشغر‪ ،‬وهو يحمل تلك التسمية لكنه‬ ‫يُفتح طوال أيام األسبوع‪ ،‬نرى أحد القازاق يحمل الدو نغ بوال‪،‬‬ ‫إنه يبيع اآلالت املوس������يقية‪ ،‬ويعزف عليه������ا‪ ،‬ببراعة‪ ،‬أليس ابن‬ ‫‪225‬‬


‫الصني ا ُمل ْس ِلمة!‬ ‫نهر على َسفَر | شينج يانغ ‪ِّ ...‬‬ ‫ٌ‬

‫القازاق املوهوبني في الغناء والرقص‪ .‬إن اآللة عبارة عن قيثارة‬ ‫ذات وترين (دو) (نغبوال)‪ .‬ويقول لنا إنه يغني بعض أبيات صالح‬ ‫وسلمى‪ ،‬وهي من املالحم الشعبية عندهم‪ ،‬ومتثل قصة عشق‪،‬‬ ‫كما لدينا قيس وليلى‪ .‬يشتغل هو بالتجارة‪ ،‬ولكن معظم عائلته‬ ‫يعملون بتربية املواشي‪ ،‬والزراعة‪.‬‬ ‫باإلضافة إلى اآلالت الوترية‪ ،‬يزخر السوق في قشغر (البازار)‬ ‫بعديد اآلالت املوسيقية‪ ،‬منها الطبول التي يصنع بعضها من جلود‬ ‫الثعابني‪ ،‬ومنها أيضا البزق‪ .‬ويستخدم القشغريون جدار ثمرة‬ ‫القرع لبعض هذه اآلالت‪ ،‬كما يزخرفونها‪ ،‬ويزينونها وتوضع في‬ ‫البيوت ملونة ومرسومة‪ ،‬والطريف أنهم يشبهون الشخص األخرق‬ ‫بالقرعة‪ ،‬ألن رأسه كبير وفارغ!‬

‫إلى سقف العالم‬ ‫في الصباح الباكر انطلقنا خارجني من قشغر‪ .‬وللتوقيت في‬ ‫املدينة قصة‪ .‬فهم ال يعترفون بتوقيت بكني‪ ،‬وهم يسألونك حني‬ ‫موعدا‪ :‬بتوقيت قشغر أم بتوقيت بكني؟ أال يذكرنا ذلك‬ ‫حتدد‬ ‫ً‬ ‫بالريفيني في مصر حني تغيرت الس������اعة الشتوية والصيفية‪،‬‬ ‫وتسألهم عن الوقت فيقولون‪ :‬حكومة أم أهالي؟ إن احلكومة هنا‬ ‫هي بكني الصني‪ ،‬أما األهالي فهم األويغوريون في قشغر!‬ ‫كان مقصدنا للرحلة سقف العالم‪ ،‬وهو ليس تعبي ًرا مجازيا‬ ‫بل تلك التسمية احلقيقية لقمة أبي اجلبال الثلجية موزتاج آتا‪،‬‬ ‫الذي يبلغ ارتفاعه ‪ 7500‬متر‪ ،‬ويعده اخلبراء األيسر صعو ًدا بني‬ ‫أقرانه مثلما يعتبرونه مرحلة أولية لصعود قمة إفرست‪ ،‬وتنظم‬ ‫رحالت للوصول إلى قمته الثلجية على م������دى ‪ 23‬يو ًما بكلفة‬ ‫ثالثة آالف يورو‪ ،‬شاملة كل شيء‪ ،‬حتى الوجبات الساخنة‪ ،‬مع‬ ‫‪226‬‬

‫قائد محنك! لكننا كنا نبحث عند سفح موزتاج آتا عن قوميات‬ ‫القرغيز‪ ،‬إحدى القوميات اإلسالمية العشر في شينج يانغ‪ ،‬وقد‬ ‫وجدناهم!‬ ‫عاش القرغيز في ش������ينج يانغ منذ القدم‪ ،‬وشاركوا في عهد‬ ‫أسرة تش������ينغ امللكية مع القوميات احمللية األخرى في املعارك‬ ‫التي كان يقودها اجليش احلكومي إلخماد محاوالت االنقسام‬ ‫واالنفصال من بعض املمالك الصغيرة في ش������ينج يانغ‪ .‬يشتغل‬ ‫شباب منهم‬ ‫معظمهم بتربية املواشي إلى جانب الزراعة‪ .‬يتجول‬ ‫ٌ‬ ‫على صهوة اجلياد‪ ،‬وآخرون ف������وق دراجاتهم الهوائية والنارية‪.‬‬ ‫هبطنا إلى حيث يقيمون خيامهم وعشنا ساعات نراقب تقاليدهم‪،‬‬ ‫بد ًءا من بناء مسكنهم اخلاص‪.‬‬ ‫يبدأ بناء اخليمة القرغيزية الدائرية الشكل‪ ،‬التي تشبه قبة‬ ‫مس������جد‪ ،‬على أرض ممهدة‪ ،‬يختارها القرغيزيون بعناية ألنها‬ ‫ستصبح بيتهم لشهور قبل أن ينتقلوا ملكان آخر لدواعي املناخ‪.‬‬ ‫هيكل اخليمة التي تستند إلى عمود في املنتصف عبارة عن خشب‬ ‫يشبه شبكة سياج احلدائق‪ ،‬وعليه يضعون طبقات من السجاد‬ ‫امللون‪ .‬يهم القرغيزي أن يكون بيته من الداخل كثير األلوان بهيج‬ ‫الهيئة‪ .‬يستند إلى عمود اخليمة األوسط الفرن الذي يستخدم‬ ‫الوقود‪ .‬كثير من اخليام بها مصدر للطاقة الشمسية‪ ،‬أو مولد‬ ‫للكهرباء‪ ،‬يعم������ل عليه التلفزيون الذي ال ت������كاد خيمة قرغيزية‬ ‫تخلو منه‪.‬‬ ‫دعانا «ومرزاق» القرغيزي لتناول الشاي في خيمته‪ .‬كان سقف‬ ‫مفتوحا‪ ،‬حني بدأ الثلج يسقط‪ ،‬فقامت زوجته‬ ‫اخليمة الدائري‬ ‫ً‬ ‫«طورغان» بشد بساط بحبل ممتد فأغلقت السقف في حني بقي‬ ‫الباب مصد ًرا للضوء‪ .‬الشاي بحليب املاعز مع اخلبز كانا عالمة‬ ‫‪227‬‬


‫الصني ا ُمل ْس ِلمة!‬ ‫نهر على َسفَر | شينج يانغ ‪ِّ ...‬‬ ‫ٌ‬

‫الترحيب بنا‪ .‬يدعو «ومرزاق» زوجته «طورغان» وابنته «جومليرايا»‬ ‫جراب يضم منتجات مصنوعة يدويا‪.‬‬ ‫لفتح بازار قيرغيزيا‪ ،‬وهو‬ ‫ٌ‬ ‫في حني تعرض «طورغان» ما حاكته يداها من تطريز للسجاد‬ ‫املعلق‪ ،‬واجلراب الصوفي من وبر اجلمل‪ ،‬ويعرض لنا «ومرزاق»‬ ‫نتاج يديه من نحت دقيق على قرن حيوان الياك!‬ ‫توقف املطر الثلجي‪ ،‬فخرجنا إلى السيارة‪ ،‬كانت تصدر عن‬ ‫اخليمة املجاورة أصوات مختلفة؛ ميزنا فيها أصوات سيدات‬ ‫يغنني‪ ،‬وامرأة تصرخ‪ ،‬قيل لنا إن السيدة تلد‪ ،‬وإن القرغيز من‬ ‫عائلتها يأتون للتسرية عنها ومساعدتها في الوالدة‪ .‬لم نر سوى‬ ‫قدور املاء الساخن وهي حتمل إلى غرفة الوالدة!‬

‫أوزبك وطاجيك‬ ‫يقول دليلنا عن «األوزبك» حني نسأله في طريق العودة عن باقي‬ ‫القوميات املسلمة في شينج يانغ إنهم موزعون بني أورومتشي‪،‬‬ ‫وقشغر‪ ،‬ويينينغ‪ ،‬وتاتشنغ‪ ،‬وإنهم قومية بدوية استوطنت الصني‬ ‫في القرن اخلامس عشر‪ ،‬واعتنقت اإلسالم‪ ،‬وتشبه لغتهم اللغة‬ ‫يس������ر عليهم فهم اإلسالم وقبوله‪.‬‬ ‫األوزبكية نط ًقا وكتابة‪ ،‬مما َّ‬ ‫أنشأ األوزبكيون مساجد كبيرة في قاشر وييلي ويارقند وتشتاي‪،‬‬ ‫ويبلغ عددهم نحو خمسة عشر ألف نس������مة‪ ،‬يشتغل معظمهم‬ ‫بالتجارة‪ ،‬وهم في جنوب ش������ينج يانغ ينس������جون احلرير‪ ،‬وفي‬ ‫شمالها ميارسون تربية املواشي‪.‬‬ ‫نتوقف عند أبناء قومية أخرى‪ ،‬يقطنون بيوتا من احلجر‪ ،‬وهم‬ ‫من أبناء قومية الطاجيك‪ ،‬الذين يبلغون نحو ‪ 33‬ألف نس������مة‬ ‫في الصني‪ .‬نعرف أنه في القرن احلادي عشر اعتنق أسالف‬ ‫‪228‬‬

‫الطاجيك مذهب الطائفة اإلس������ماعيلية‪ .‬وهم يشتغلون بتربية‬ ‫املواشي والزراعة‪ ،‬وعندهم مالحم شعرية مثلما تعرف عندهم‬ ‫ملحمة الشعر التاريخية الفارسية القدمية «وانغتشوو»‪ ،‬كما يحلق‬ ‫الصقر‪ ،‬الذي يسكن الهضاب مثلهم‪ ،‬في أعمالهم األدبية‪.‬‬

‫‪ ...‬وتتار‬ ‫حني زرنا نهر الفوجلا‪ ،‬وتعرفنا إلى تتار مدينة قازان‪ ،‬عاصمة‬ ‫جمهورية تتارستان‪ ،‬في عدد سابق من مجلة العربي (أكتوبر ‪،)2007‬‬ ‫تساءلنا عن مهد هؤالء التتار‪ .‬إنهم هم أحفاد قبائل بدوية تركية‬ ‫كانت حتكمها مملكة ترجو خان في شمال الصني في عهد أسرة‬ ‫تانغ‪ .‬وقد هاجرت قومية التتار من احلدود املشتركة بني الصني‬ ‫وروسيا إلى منطقة ش������ينج يانغ‪ ،‬في الفترة ما بني عشرينيات‬ ‫وثالثينيات القرن التاسع عشر‪ ،‬وكان أكثرهم جتا ًرا ورجال دين‪،‬‬ ‫فأنشأوا التعليم اإلسالمي في يينينغ وتاتشنغ وغيرهما‪ .‬ال يتجاوز‬ ‫عدد أبناء قومية التتار ‪ 6000‬نسمة‪ ،‬وميارسون التجارة أو األعمال‬ ‫الثقافية والطبية‪ ،‬داخل مدن شينج يانغ‪ ،‬أما  في املناطق الرعوية‬ ‫فيشتغلون بتربية املواشي‪ ،‬وتربية النحل‪ .‬وميثلون أعلى نسب عدد‬ ‫املتعلمني إذا قورنوا بالقوميات األخرى‪ .‬وجتمع أعمالهم األدبية‬ ‫مزيجا قوامه فنون األويغور والروس واألوزبك‪.‬‬

‫‪ ...‬وقوميات أخرى!‬ ‫أما قومية هوي فهم أسالف املس������لمني من العرب والفرس‪،‬‬ ‫الذين جاءوا الصني في سفارات دبلوماسية أو رحالت جتارية‪،‬‬ ‫في عهد أس������رتي تانغ وس������ونغ (العام ‪ 618‬م – العام ‪1127‬م)‬ ‫‪229‬‬


‫الصني ا ُمل ْس ِلمة!‬ ‫نهر على َسفَر | شينج يانغ ‪ِّ ...‬‬ ‫ٌ‬

‫وحملوا معهم اإلسالم إلى الصني‪ .‬وفي القرن الثالث عشر أتى‬ ‫بعض املسلمني من آسيا الوسطى مع جيش منغوليا إلى الصني‬ ‫واس������توطنوا في أنحاء البالد حرفيني وجتا ًرا وعلماء‪ ،‬وأطلق‬ ‫عليهم «أبناء هويهوي»‪.‬‬ ‫بدأت قومية هوي تستخدم اللغة الصينية (لغة هان) بعد أسرة‬ ‫مينغ (العام ‪1368‬م ‪ -‬العام ‪1644‬م)‪ ،‬ولكن أئمة املساجد مازالوا‬ ‫يستخدمون اللغة العربية في الشؤون الدينية حتى اليوم‪ .‬ميارس‬ ‫أبناء قومية هوي في األرياف الزراعة إضافة إلى التجارة واحلرف‬ ‫اليدوية‪ ،‬ويش������تغل أبناؤها في املدن بتجارة السلع الصغيرة أو‬ ‫التجارة اجلوالة‪ ،‬إضافة إلى  صناعات املأكوالت واملجوهرات‬ ‫واجللود وجتارتها‪ ،‬يبلغ عدد أبن������اء هذه القومية أكثر من ‪8.6‬‬ ‫ماليني نسمة‪ ،‬وبجانب تشينج يانغ‪ ،‬ينتشرون في أنحاء الصني‪،‬‬ ‫خاصة في منطقة نينغشيا الذاتية احلكم لقومية هوي ومقاطعة‬ ‫تشينغهاي ومقاطعة قانسو‪ ،‬ومقاطعة شنشي‪ ،‬ومقاطعة يوننان‬ ‫الواقعة في جنوب غرب������ي الصني‪ ،‬ومقاطع������ات خبي‪ ،‬وخنان‪،‬‬ ‫وش������اندونغ‪ ،‬ومنطقة منغوليا الداخلية الذاتية احلكم‪ .‬وتوجد‬ ‫في الصني منطقة خاصة لقومية هوي ‪ -‬منطقة نينغشيا الذاتية‬ ‫احلكم لقومية هوي ‪ -‬وواليتان ذاتيتا احلكم لقومية هوي‪ ،‬و‪11‬‬ ‫محافظة ذاتية احلكم لقومية هوي!‬ ‫القوميات املسلمة في الصني متتلك لغتها اخلاصة‪ ،‬لكن ذلك‬ ‫يتهدد بخطر تنظيمي متارسه مؤسسات احلكومة الصينية التعليمية‬ ‫بشكل تدريجي‪ .‬فعلى الرغم من أن اللغة العربية هي لغة الدين‬ ‫الذي ينتمي له معظم هذه القوميات‪ ،‬فقد فرضت بعض القواعد‬ ‫القسرية إلغالق املدارس التي تدرس اللغة العربية‪ ،‬وقد حتول‬ ‫بعضها إلى مستشفى زرناه في قلب املدينة القدمية من قشغر‪.‬‬ ‫‪230‬‬

‫يعاقب‬ ‫واألكثر من ذلك هو أن تعليم اللغ������ة العربية يعد جرمية‬ ‫ُ‬ ‫عليها من ميارس������ها‪ .‬واآلن يبدو أن الدور على اللغات القومية‬ ‫مثل األويغورية‪ ،‬فاحلكومة الصينية جعلت تعليم تلك اللغة يبدأ‬ ‫من الصف الثالث‪ ،‬وليس عند دخول املدرسة‪ ،‬كما كان‪ ،‬وبديال‬ ‫فهم يبدأون بتعليم اللغة الصينية‪ .‬ويتوقعون أن األويغورية ستلقى‬ ‫مصير اللغة العربية أيضا بعد سنوات‪ ،‬حيث إن الوظائف التي‬ ‫يعلن عنها تعطي األولوية لدارسي العلوم باللغة الصينية!‬ ‫وكان تعليم اللغة العربية قد اس������تقر في املساجد مع انتشار‬ ‫اإلسالم وزيادة عدد املس������لمني في عهد جيا جينغ ألسرة مينغ‬ ‫(‪1566 – 1522‬م)‪ ،‬على يد السيد خو دنغ تشو (‪1597 – 1522‬م)‬ ‫العالم واملعلّم املسلم من قومية هوي في مقاطعة شانشي‪ ،‬وكان‬ ‫يستقبل الطالب في بيته ويعلمهم مجاناً اللغة العربية والعلوم‬ ‫اإلسالمية‪ ،‬قبل أن ينتقل إلى املسجد‪ .‬فبدأ هذا النوع من التعليم‬ ‫في مقاطعة شانشي وامتد تدريجيا إلى مقاطعات خنان وشاندونغ‬ ‫ويوننان وقانسو وبكني وغيرها‪.‬‬ ‫وبعد ثورة العام ‪ ،1911‬بدأ املسلمون الصينيون بإنشاء مدارس‬ ‫حديثة‪ ،‬تدرس فيها اللغتان الصينية والعربية‪ ،‬تقبل أوالد املسلمني‬ ‫وتدرس املواد الثقافية الصينية والعربية في وقت واحد‪ .‬بعض‬ ‫هذه املدارس ابتدائية‪ ،‬منها املدرسة االبتدائية اإلسالمية األولى‬ ‫من الدرجة الثانية في العاصمة (‪ ،)1908‬ومدرسة سيهجني في‬ ‫شاويانغ (‪ ،)1906‬ومدرسة مويوان في تش������ينج يانغ (‪،)1906‬‬ ‫واملدرسة االبتدائية اإلسالمية للدرجة الثانية في تشيتشيهار؛‬ ‫وبعضها متوسطة منها املدرسة العامة في شمال غربي الصني‬ ‫(كانت املدرسة اإلسالمية العام ‪ ،)1928‬ومدرسة داتشنغ للمعلمني‬ ‫في جينان (انتقلت إلى بكني العام ‪ ،)1925‬واملدرسة اإلسالمية‬ ‫‪231‬‬


‫الصني ا ُمل ْس ِلمة!‬ ‫نهر على َسفَر | شينج يانغ ‪ِّ ...‬‬ ‫ٌ‬

‫للمعلمني في شانغهاي (‪ ،)1928‬ومدرسة مينغده املتوسطة في‬ ‫كومنينغ مبقاطعة يوننان (‪ .)1930‬وواضح أن هذه املدارس واملعاهد‬ ‫العلمية اليوم ‪ -‬باإلضافة إلى انتقال معظمها إلى العاصمة ‪ -‬قد‬ ‫أصبحت متهد لتخريج من ميارسون اللغة العربية خلدمة الدولة‪،‬‬ ‫كما في الس������فارات اخلارجية‪ ،‬ولم تعد‪ ،‬كما نشأت‪ ،‬لغة حوار‬ ‫متارس في احلياة العامة‪.‬‬ ‫هكذا انتقلت اللغة من املساجد إلى املدارس‪ ،‬ومن املدارس إلى‬ ‫اجلامعات‪ ،‬وأنشأت وزارة التعليم في الصني العام ‪« 1982‬جلنة‬ ‫تأليف ومراجعة الكتب املنهجي������ة للغات األجنبية باجلامعات»‪،‬‬ ‫س������ميت الحقا «اللجنة الوطنية لتوجيه أعمال تدريس اللغات‬ ‫األجنبية في اجلامعات»‪ ،‬وتتبعها فرقة اللغة العربية التي أعدت‬ ‫«منهج تعليم اللغة العربية في اجلامعات الصينية» للتنسيق بني‬ ‫األقسام العربية في اجلامعات‪ ،‬كما أنشئ «مجمع اللغة العربية‬ ‫بالصني للتدريس والدراسات» العام ‪ ،1985‬لوضع خطط تنفيذية‬ ‫خاصة بتدريس اللغة العربية ودراس������اتها‪ .‬وقد أنشئ مبوافقة‬ ‫احلكومة الصينية معهد العلوم اإلسالمية في شينج يانغ‪ ،‬وهو‬ ‫ضمن معاهد مماثلة في بكني ولياونينغ وتش������ينغهاي ونينغشيا‬ ‫وقانسو وخنان ويوننان وخبي‪ .‬ويتبع معهد بكني ‪ -‬الذي أنشئ‬ ‫أوال في ‪ - 1955‬اجلمعية اإلسالمية الصينية وحتت رئاسة جلنة‬ ‫الدولة لشؤون القوميات مباشر ًة‪ ،‬ويقبل املعهد الطلبة املسلمني‬ ‫من أنحاء الصني‪ ،‬ومدة الدراسة فيه ‪ 4‬سنوات (معاهد العلوم‬ ‫اإلسالمية في خارج العاصمة تكون مدة الدراسة فيها سنتني‬ ‫أو ثالث سنوات فقط)‪ ،‬ومن مقررات هذه املعاهد الرئيسة اللغة‬ ‫العربية واملواد الدينية‪.‬‬ ‫من القوميات التي لها لغتها قومية ساالر‪ ،‬التي تستوطن محافظة‬ ‫‪232‬‬

‫شيونهوا الذاتية احلكم لقومية ساالر مبقاطعة تشينغهاي‪ ،‬ويبلغ‬ ‫عدد أبنائها نحو ‪ 90‬ألف نسمة‪ ،‬ولها لغتها اخلاصة ‪ -‬لغة ساالر‪،‬‬ ‫ولكنها ليست مكتوبة‪ ،‬لذلك تستخدم لغة هان في الكتابة‪ .‬ويحافظ‬ ‫مسلمو قومية ساالر على كثير من الروايات الشعبية الرائعة‪ ،‬ومتثل‬ ‫أوبرا اإلبل التقليدية تاريخ هجرة أسالف قومية ساالر من آسيا‬ ‫الوسطى إلى شيونهوا‪ ،‬وهي شائعة على نطاق واسع بني أبناء‬ ‫القومية‪ .‬أما قومية دونغشيانغ فتقطن منطقة حتمل اسمها تابعة‬ ‫لوالية لينشيا مبقاطعة قانسو‪ ،‬ويبلغ عدد أبنائها نحو ‪ 370‬ألف‬ ‫نسمة‪ .‬وطوائف مسلمي قومية دونغشيانغ متعددة‪ ،‬ولكل طائفة‬ ‫مسجد خاص‪ ،‬وتتأثر عادات أبناء قومية دونغشيانغ مبذاهب‬ ‫هذه الطوائف‪ .‬وهم اليزالون يحتفظون بأول نسخة مخطوطة من‬ ‫القرآن الكرمي الذي أتى به أسالفهم من آسيا الوسطى‪ .‬وهناك‬ ‫لغة شفهية أيضا لقومية باوآن التي تقطن منطقة جبل جيشي‬ ‫بلينشيا في مقاطعة قانسو‪ ،‬ويبلغ عددهم نحو ‪ 150‬ألف نسمة‪.‬‬ ‫ويوجد في كل قرية تقطنها قومية باوآن مسجد كبير‪.‬‬

‫رعاة عشرة ماليني رأس‬ ‫راع يحمل عصاه ويهش بها على غنمه وهو يصيح فيها حتى‬ ‫ال تتفرق الشياه التي تكتنز بالصوف‪ .‬الصوف الذي يصنع منه‬ ‫كل ش������يء ‪ -‬تقريبا ‪ -‬من الس������ترات إلى القبعات إلى السجاد‬ ‫واألحذية وأغطية املقاعد والوسائد واألغطية والقفازات‪ ،‬وما‬ ‫لم تسعفنا به الذاكرة‪.‬‬ ‫يتقدم القطيع الذي يتجاوز عدده املائة رأس كبش ضخم البد‬ ‫أنه أثبت تفوق������ه بقرنيه في أحد التنافس������ات الكثيرة التي تتم‬ ‫بني الزعامات الغنمية‪ .‬تسير قطعان الغنم  بحوافر منفصلة‪،‬‬ ‫‪233‬‬


‫الصني ا ُمل ْس ِلمة!‬ ‫نهر على َسفَر | شينج يانغ ‪ِّ ...‬‬ ‫ٌ‬

‫مجترة وماضغة‪ ،‬تهتز فوق رؤوس������ها الق������رون املجوفة‪ .‬ويكاد‬ ‫يتجاوز وزن أكبرها ‪ 200‬كيلوج������رام كما يترجم لنا الدليل على‬ ‫لسان الراعي‪.‬‬ ‫قد يصل عمر اخلروف إلى عشرين عاما‪ .‬وتضع النعجة  من‬ ‫واحد إلى ثالثة حمالن بعد فترة حمل تص������ل إلى ‪ 150‬يوما‪،‬‬ ‫ويقف احلمل فور والدته‪ ،‬بل ويعدو ويلهو خالل أيام‪ ،‬حتى يصل‬ ‫عمره أربعة أشهر فيقف راسخا‪ ،‬وهذه الغنم البرية تتمتع بقوة‬ ‫حاستي البصر والشم‪ ،‬وسيلتيها للهرب والفكاك من احليوانات‬ ‫املفترسة‪.‬‬ ‫في القرى حتيك النساء الصوف باإلبرة‪ ،‬حتى في أثناء احلديث‬ ‫أو املشي أو رعاية األطفال‪ ،‬ومراقبة احليوانات‪ .‬وقبيل موسم‬ ‫حصاد احملاصيل أو جمع اخلشب تبدأ النساء حبك سترة جديدة‪،‬‬ ‫زوجا من غط������اء األذن‪ .‬لتوفر الدفء ألفراد‬ ‫أو قبعة أخرى أو ً‬ ‫األسرة في الشتاء البارد القادم‪.‬‬ ‫يرتدي الرجال في شينج يانغ معاطف سوداء ثقيلة مبطنة بجلد‬ ‫الغنم‪ .‬وتبطن قبعاتهم أيضا باجللد‪ ،‬كما يصنعون أغطية من اخلامة‬ ‫ذاتها‪ .‬وال عجب أن يوجد بالصني أكبر رؤوس األغنام في العالم‬ ‫(‪ 130‬مليو ًنا)‪ .‬وفي شينج يانغ وحدها ‪ 10‬ماليني رأس من الغنم‬ ‫املرينو األسترالي األصل‪ ،‬الذي يربى ألجل الصوف‪ ،‬واحلليب‪،‬‬ ‫واألجبان‪ ،‬فضال عن حلم الضأن الذي يقدم كخروف كامل في‬ ‫شينج يانغ‪ ،‬ويؤخذ منه الكباب الذي يسمونه يانغروتشيوان‪ ،‬الذي‬ ‫يشوى مع قطع من الدهن‪.‬‬ ‫ومن التعبيرات الشائعة التي تتخذ الغنم مادة لها قولهم «الغنم‬ ‫األسود في األسرة»‪ ،‬وكأنه شخص غير مرغوب (البطة السوداء‬ ‫في التعبير العربي الدارج)‪ ،‬وذلك ألن صوف الغنم األس������ود ال‬ ‫‪234‬‬

‫ميكن صبغه ومن ثم فإنه أقل قيمة‪ .‬كما يقولون‪« :‬شد الصوف‬ ‫على عينيه»‪ ،‬الرتداء قبعة كبيرة احلجم تنزلق دائما على العيون‪،‬‬ ‫مسببة عدم الرؤية‪ ،‬ويقولون أيضا «مصبوغ بالصوف»‪ ،‬أي إن‬ ‫الصوف اخلام مصبوغ ولي������س املالبس‪ ،‬مما يعني جودة أفضل‬ ‫وقوة أكبر‪ ،‬وأخي ًرا يقولون‪« ،‬مكسو بالصوف»‪ ،‬وهو قول معناه‬ ‫أن تُخدع أو أن تُسرق أغراضك‪.‬‬

‫اسم احلجر وابتسامة احلرير‬ ‫ً‬ ‫رئيسا‪ ،‬ولهم خبرة‬ ‫نشاطا‬ ‫ميارس أبناء قومية األويغور الزراعة‬ ‫ً‬ ‫وفيرة في زراعة القطن وفنون البس������تنة‪ .‬نح ُن في الطريق إلى‬ ‫سوزاق‪ ،‬وهو اسم قرية ندر فيها املاء فاستحقت االسم الذي يعني‬ ‫باللغة األويغورية املاء البعيد‪ .‬يضيفنا صاحب البيت وعائلته‪ ،‬اسمه‬ ‫طاش ومعناه احلجر‪ .‬رغم اسمه كانت ابتسامة طاش ناعمة مثل‬ ‫احلرير‪ .‬عرفنا سر التس������مية‪ ،‬لقد كانت أمه تفقد أبناءها بعد‬ ‫والدتها لهم‪ ،‬لكن مضيفنا عاش‪ ،‬فأسموه طاش‪ ،‬أي إنه الرجل‬ ‫الذي قاوم املوت! لألسماء هنا معانيها‪ ،‬فمنهم من يسمي ابنته‬ ‫مبا يعني (كفاية)‪ ،‬وهو داللة على أن تكون تلك آخر املعاناة التي‬ ‫كان يعانيها سابقا األب‪ .‬االسم نفسه يتكرر في العائلة الواحدة‪،‬‬ ‫أما األجيال اجلديدة فتميل لتس������مية ثنائية‪ ،‬مثل محمد علي‪،‬‬ ‫ومحمد صالح‪ ،‬مثل حفيد املزارع طاش‪.‬‬ ‫هناك قول شهير في قش������غر‪ ،‬إن القروي إذا امتلك ماال بنى‬ ‫بيتًا‪ ،‬أما القرغيزي‪ ،‬فيشتري حصانا‪ .‬عدا األرض التي يزرعها‬ ‫باملشمش‪ ،‬فإن بيت «طاش» بس������تان صغير‪ ،‬وبهو مماثل له في‬ ‫احلجم‪ ،‬وقاعة استقبال كبيرة متتد على جوانب ثالثة منها طاولة‬ ‫أرضية‪ ،‬وضع عليها الرجل أطايب ما عنده‪ ،‬ووقفت زوجته تقدم‬ ‫‪235‬‬


‫الصني ا ُمل ْس ِلمة!‬ ‫نهر على َسفَر | شينج يانغ ‪ِّ ...‬‬ ‫ٌ‬

‫الشاي‪ ،‬بالياسمني‪ ،‬وهو الشراب الذي جتده في كل مكان‪ ،‬يشبه‬ ‫وأنواعا من اخلبز احمللي سانزاه‪،‬‬ ‫الشاي األخضر‪ ،‬طع ًما ولو ًنا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وبلتقوميق‪ ،‬ونان‪ .‬الزخارف احمللية على اجلدران واألسقف اخلشبية‬ ‫تنقل لك روح البهجة‪ ،‬وتعتبر صورة للبساتني التي عبرتها في‬ ‫القرية‪ ،‬بثمارها وأوراقها وغصونها الالهية‪.‬‬ ‫الطريف أن أصحاب البيت ربطوا ساق قطتهم بثقل كيلو جرام‪،‬‬ ‫إن القطة تنظف البيوت من الفئران‪ ،‬وقد قل عددها في القرية‪،‬‬ ‫ووجب عليهم أن يحافظوا على قطتهم!‬

‫جتا ٌر بال حدود‬ ‫عشر قوميات‪ ،‬وعشرون مليون نس������مة‪ ،‬هذان هما الرقمان‬ ‫اللذان يصفان املسلمني بشكل عام‪ ،‬لكن هناك خصوصيات رمبا‬ ‫تصف كل مسلم حني يتعلق األمر باالقتصاد‪ ،‬ألنهم يتفوقون في‬ ‫عدة مجاالت أهمها التجارة‪ ،‬التي ورثوها عن األسالف الذين‬ ‫جابوا القارات والبلدان بحثا عن تسعة أعشار الرزق! وكثي ٌر من‬ ‫التجار ميثلون أسالف هؤالء الذين عركوا احلياة في قوافل طريق‬ ‫احلرير‪ .‬وكانت جتارة الرس������ول الكرمي (صلى الله عليه وسلم)‬ ‫وعمل اخللفاء الراشدين بالتجارة داف ًعا لعشق هذه املهنة املربحة‬ ‫للمسلمني في الصني‪.‬‬ ‫كما يربي املسلمون املواشي‪ ،‬بشكل يتفوقون فيه على غيرهم‬ ‫من رعاة القوميات األخرى‪ ،‬ويولي املزارعون املسلمون في أرياف‬ ‫الصني اهتماما أكبر لتربية املواش������ي مقارنة بسواهم‪ ،‬وأقاموا‬ ‫صناعات تعتمد على تلك الثروة احليوانية من حلوم ومعاجلة‬ ‫اجللود ومنتجات األلبان‪.‬‬ ‫وتقدم األماكن الدينية حول املزارات اإلسالمية فرصة للمسلمني‬ ‫‪236‬‬

‫ً‬ ‫مربحا‪ ،‬هكذا رأينا في‬ ‫نشاطا جتار ًيا‬ ‫ملمارسة السياحة الدينية‬ ‫ً‬ ‫القرى واملدارس واألضرحة‪.‬‬

‫بيت وحصان ودراجة نارية‬ ‫إذا كان الريفي يوفر لبناء بيت‪ ،‬والقرغيزي لش������راء حصان‪،‬‬ ‫فإن املرأة منذ صباها تدخر القتناء دراجة نارية‪ .‬إنهن يعتبرنها‬ ‫جز ًءا مكم ً‬ ‫ال من أسلوب احلياة‪ ،‬يذهنب بها إلى األعمال واألسواق‬ ‫واملدارس‪ ،‬ويبتكرن مهارات في قيادتها‪ ،‬وحماية الوجه والرأس‬ ‫والذراعني‪ ،‬سواء كن مبفردهن‪ ،‬أو صحنب أوالدهن‪.‬‬

‫البيت‬ ‫في تصميم بيت املس������لم‪ ،‬تقع غرفة رب األس������رة في أقصى‬ ‫الغرب حتى إذا قام للصالة خمس م������رات بغرفته موليا وجهه‬ ‫شطر البيت احلرام كان باقي أفراد األسرة خلفه‪ .‬الغرفة التي‬ ‫اتساعا‪،‬‬ ‫استقبلنا فيها صاحب البيت املسلم هي األكبر‪ ،‬واألكثر‬ ‫ً‬ ‫مبرزة مكانة صاحب البيت بني أفراد األسرة وهي أكمل أماكن‬ ‫البيت زخرفة‪ ،‬تتوسط غرف البيت في مكان يغمره نور الشمس‪،‬‬ ‫متتد فيها طاولة طويلة على هيئة مستطيل ينقص ضل ًعا‪ .‬عليها‬ ‫مزهريات ومباخر‪ ،‬نحاسية أو فخارية‪ ،‬وجدران الغرفة المعة‬ ‫ونظيفة حتى لدى الذين يسكنون في البيوت الطينية (ياودونغ)‬ ‫في شينج يانغ‪ .‬يقدم الش������اي الساخن‪ ،‬األخضر عادة‪ ،‬أو شاي‬ ‫الياسمني‪ ،‬قبل تقدمي أطايب الطعام‪ ،‬بعد أن متد ربة البيت طستا‬ ‫من النحاس ذا قاعة خفية وإبريق مياه تغسل بها يدي الضيف‪،‬‬ ‫مثلما تس������تخدم في الوضوء‪ .‬وتوضع القنينة في أحيان كثيرة‬ ‫على موائد املطاعم اإلسالمية ليغسل الزبائن أيديهم قبل تناول‬ ‫‪237‬‬


‫الصني ا ُمل ْس ِلمة!‬ ‫نهر على َسفَر | شينج يانغ ‪ِّ ...‬‬ ‫ٌ‬

‫الطعام‪ ،‬لذلك فهي من العالمات املميزة للمطاعم اإلس���ل��امية‬ ‫في شمال غربي الصني‪.‬‬ ‫ومثل غرفة الف� � ��رن في الريف املصري‪ ،‬حي� � ��ث توجد مصطبة‬ ‫دافئة فوق الفرن للنوم وقت البرد‪ ،‬فإن بيت املسلم الصيني لديه‬ ‫مصطبة مجوفة‪( ،‬كانغ)‪ ،‬متثل سري ًرا‪ ،‬في جوفه مدخنة متصلة‬ ‫مبوقد‪ .‬وإذا كان املن� � ��دوس أو الصندوق معروف� � ��ا في بيوت دول‬ ‫ميا حيث حتتفظ العروس بأش� � ��يائها الثمينة‪،‬‬ ‫اخلليج  العربي قد ً‬ ‫فإن ذلك الصندوق اخلشبي الكبير‪ ،‬ال يخلو منه بيت املسلم في‬ ‫شينج يانغ‪ ،‬يشتريه الشاب عند الزواج إن لم يكن قادرا على شراء‬ ‫مستلزمات عش الزوجية األخرى‪ .‬يبلغ طول هذا الصندوق عموما‬ ‫مت ًرا وعرضه ستني سم‪ ،‬وارتفاعه سبعني سم‪ .‬الصندوق الذي يصنع‬ ‫من ألواح خشبية سميكة وله أربع أرجل يستخدم جلملة واسعة من‬ ‫األغراض‪ :‬لتخزين احلبوب أو حلفظ املالبس وغير ذلك‪ .‬يطلى‬ ‫الصندوق بدهان أحمر فاحت‪ ،‬وترسم عليه أشكال ورسوم تقليدية‬ ‫ذات خصائص إسالمية‪.‬‬ ‫الصندوق‪ ،‬وج� � ��دران الغرف‪ ،‬والس� � ��قوف ومصطبة كانغ تتميز‬ ‫بالزخارف اإلس� �ل��امية التقليدية‪ ،‬التي تدمج مع بعض العبارات‬ ‫باحلروف العربية‪.‬‬ ‫مفتوحا وبعده‬ ‫حني متر على بيوت قشغر القدمية قد جتد الباب‬ ‫ً‬ ‫ستارة زرقاء‪ ،‬وهي عادة قدمية ملس� � ��لمي الصني‪ ،‬يرجع تاريخها‬ ‫ألواسط عهد أسرة تانغ اإلمبراطورية (‪ )907-618‬عندما وقعت‬ ‫اضطرابات اجتماعية في أنحاء البالد‪ ،‬جعلت إمبراطور الصني‬ ‫يطلب دعما عربيا الستعادة النظام في ملكه فجاءه جيش عربي‬ ‫قمع املتمردين وأعاد الهدوء إلى البالد‪ .‬بعد إجناز مهمتهم استقر‬ ‫أفراد اجليش العربي في الصني‪ ،‬وتزوجوا من صينيات‪ .‬وقد أصدر‬ ‫‪238‬‬

‫اإلمبراطور وزوجته مرسوما ُكتب على احلرير األزرق يطلب من‬ ‫جميع املواطنني عدم إزعاج املس� � ��توطنني اجلدد وأفراد أسرهم‪،‬‬ ‫ومن يومها اعتاد املسلمون الصينيون تعليق ستائر زرقاء على أبواب‬ ‫بيوتهم لتمييزها عن بيوت أبناء القوميات األخرى‪ .‬وتفضل الستائر‬ ‫اخلضراء للنوافذ‪ ،‬باعتبار األخضر رمزا للحياة الطيبة في الدنيا‬ ‫والسعادة في اجلنة‪ .‬ولهذا السبب يستخدم اللون األخضر كثيرا‬ ‫في البنايات اإلسالمية‪ ،‬مثل املس� � ��اجد وقباب املباني اإلسالمية‬ ‫املهمة وغيرها‪ .‬وهذا اللون يظهر دائما في بيوت املسلمني أيضا‪،‬‬ ‫مثل إطارات النوافذ ولوحات فن اخلط املعلقة على جدران الغرف‬ ‫الرئيسة وأوجه األثاث‪ .‬وعلى هذا فإن األخضر هو اللون املفضل‬ ‫في ستائر نوافذ بيوتهم‪ ،‬وإن كان القماش الذي تصنع منه الستائر‬ ‫يختلف‪ ،‬من احلرير الغالي إلى األقمشة الرخيصة‪ ،‬فإن األخضر‬ ‫يجمع بينها‪ .‬وقد أضيفت إلى الس� � ��تائر اخلضراء في الس� � ��نوات‬ ‫األخيرة الستائر البيضاء‪ ،‬رمزًا للحداثة من جانب اجليل اجلديد‬ ‫من مسلمي الصني‪.‬‬ ‫ ويعلق املسلمون سجاجيد ذات ألوان زاهية‪ ،‬ومن ال يقدر على ثمنها‬ ‫يزين املصاطب بأشرطة قماش ملونة عليها رسوم ألشكال إسالمية‬ ‫تقليدية مثل الدائرة واملعني واألشكال املتعددة الزوايا‪ ،‬وفي وسط‬ ‫هذه األشكال يوجد عادة رسم لزهرية جميلة فيها نباتات خضراء‬ ‫وثمار يانعة‪ .‬كما تزين البيوت لوحات باللغتني العربية والصينية أو‬ ‫رسوم لألماكن اإلسالمية املقدسة كبيت الله احلرام‪.‬‬

‫مستقبل اإلسالم في شينج يانغ‬ ‫من صور التعليم الديني في منطقة شينج يانغ الكتاتيب الصغيرة‪،‬‬ ‫واملدارس امللحقة ببعض املس������اجد الكبيرة‪ .‬إنها تشبه إلى حد‬ ‫‪239‬‬


‫الصني ا ُمل ْس ِلمة!‬ ‫نهر على َسفَر | شينج يانغ ‪ِّ ...‬‬ ‫ٌ‬

‫كبير التعليم اإلسالمي في دول آسيا الوسطى من حيث الطرق‬ ‫اإلدارية والتعليمية وكذلك مواد التدريس‪.‬‬ ‫بدأ تعليم اإلسالم في البيوت مبواد التدريس متفرقة وغير‬ ‫موحدة‪ ،‬وعملية التدريس غير منتظمة‪ .‬ثم تطور األمر‪ ،‬وانتقل‬ ‫التدريس إلى داخل املسجد‪ ،‬حيث تتسع ساحة التعليم لعدد أكبر‬ ‫من طالب العلم‪ ،‬واألئمة‪ ،‬وأضحت ساحة التعليم الديني جزءا ال‬ ‫يتجزأ من التخطيط املعماري للمسجد‪ ،‬حيث توجد عادة في كل‬ ‫مسجد قاعتان ملحقتان تقع إحداهما في جنوب قاعته الرئيسة‬ ‫واألخرى في شمالها‪ ،‬وهما مخصصتان للتعليم الديني‪.‬‬ ‫خالل القرون الثالثة املاضية كان التعليم في املساجد يتم على‬ ‫مرحلتني؛ األولى مخصصة لألطفال الذين يبدأون دراستهم من‬ ‫تعلم احلروف العربية قراءة وكتابة‪ ،‬حتى ميكنهم تالوة القرآن‬ ‫بالعربية بلغة صحيحة‪ .‬وفضال عن ذلك يدرسون األحكام اإلسالمية‬ ‫األساسية وأداء الصالة باحلركات والتعبيرات السليمة‪ ،‬وقراءة‬ ‫كتابات دينية عامة‪ ،‬وتستغرق هذه املرحلة ثالث أو أربع سنوات‪.‬‬ ‫وعندما يكمل التلميذ دراسته في املسجد يصبح مسلما مخلصا‬ ‫أمينا‪ .‬أما املرحلة الثانية للتعليم في املساجد فتستمر ست أو سبع‬ ‫سنوات‪ ،‬وعلى الطالب أن يبذل جه ًدا شا ًقا في دراسته الطويلة‪،‬‬ ‫وحتت إرشاد األئمة يتعلم نوعني من احملتويات املدرسية‪ :‬املواد‬ ‫األساسية مثل اللغة العربية واللغة الفارسية وعلم الفلسفة وعلم‬ ‫البالغة‪ ،‬وكذلك املواد الدينية التي يبلغ عددها ثالث عشرة مادة‪،‬‬ ‫منها القرآن الكرمي وتفس������يره‪ ،‬واحلديث النبوي‪ ،‬وعلم الكالم‪،‬‬ ‫وعلم السنة‪ ،‬ومذهب الصوفيني وغيرها‪ .‬وبعد أن يُتم دراسته‬ ‫في املس������جد‪ ،‬ويقر األئمة تخرجه يصبح مؤه���ل��ا ليكون إماما‬ ‫يقود األعمال الدينية والتعليمية في املساجد‪ .‬ولكن هذه صورة‬ ‫‪240‬‬

‫من املاضي‪ ،‬بعد أن اجتذبت املعاهد الرس������مية ‪ -‬التي لها حق‬ ‫التأهيل ‪ -‬الراغبني في دراسة التعليم اإلسالمي‪ .‬املستقبل قد‬ ‫يكون غامضا إذا لم تول العناية الكافي������ة لهؤالء‪ ،‬وغيرهم من‬ ‫أبناء املسلمني‪ ،‬فمنطقتهم متلك الكثير‪ ،‬ولكن ال يحصلون في‬ ‫معيشتهم إال على القليل‪.‬‬ ‫في مدينة قشغر تصعد إلى ربوة تشاهد فيها قسمي املدينة‬ ‫القدمي واملعاصر‪ ،‬فتكتشف التناقض وتتنبأ باملستقبل‪ .‬فاملدينة‬ ‫القدمية شقتها طريق عصرية تفضي بك إلى القسم اجلديد‪،‬‬ ‫الذي يشبه عمائر بكني العصرية‪ ،‬حيث يسكن أصحاب الوظائف‬ ‫املرموقة‪ ،‬ومعظمهم من غير أبناء قشغر‪ .‬تلتفت للوراء‪ ،‬فتجد‬ ‫املدينة القدمية وسكانها املسلمني وقد حتولت أرضهم وبيوتهم‬ ‫إلى مجرد مزار للفرجة‪ ،‬بل حتول ه������ؤالء إلى جزء من متحف‬ ‫مفتوح‪ ،‬يعاني صعوبة احلياة‪.‬‬ ‫كانت هناك أربع لوحات صغيرة ملونة قد جتتمع على أبواب‬ ‫البيوت في قشغر القدمية‪ ،‬التي بنيت على هضبة لتحميها من‬ ‫الفيضان‪ .‬تش������ير اللوحة األولى إلى عنوان البيت‪ ،‬والثانية إلى‬ ‫الرقم اخلاص باإلطفاء‪ ،‬والثالثة إلى وصف أصحاب البيت بالود‪،‬‬ ‫ترحيبا بالزوار‪ ،‬أما الرابعة فهي إشارة إلى أن ترميم البيت أو‬ ‫بناءه‪ ،‬مت بدعم من احلكومة! أليست تلك تذكرة للساكن واملار‬ ‫بأن أصحاب البيت أصدقاء للعوز؟‬

‫‪241‬‬


‫نهر على سفر‬

‫كوستاريكا‬

‫قصيدة الفردوس والبركان!‬


‫نهر على َس َفر | كوستاريكا ‪ ...‬قصيدة الفردوس والبركان!‬ ‫ٌ‬

‫َ‬ ‫توقظك طيو ُر الطوقان؛ فتفطر معك السناجب‪،‬‬ ‫أين ميكن أن‬ ‫وترقص أمامك الفراشات العمالقة ذات األجنحة الزرقاء املضيئة؟‬ ‫وأين تلهو ملرآك قردة ضئيلة احلجم‪ ،‬واس������عة القفزات؟ وأين‬ ‫متطر الليل كله فكأنك حتت ش���ل��ال أبدي‪ ،‬ثم يش������رق النهار‬ ‫أبدا؟ وأين ميكن لك‬ ‫بشمس ربيعية ال تكاد توحي بأنها ستغيب ً‬ ‫أن تضع قدما في قارة وأخرى في سواها؟ وأين ميكن أن جتد‬ ‫البركان والفردوس متالزمني؟ إنها كوستاريكا!‬ ‫نشرات األخبار تظهر رماد بركان أيسلندا العمالق مثل‬ ‫كانت‬ ‫ُ‬ ‫حارس أعمى يحمل هراوة يط ِّوح بها في الهواء‪ ،‬بدا الرما ُد مثل‬ ‫«كنج كوجن» أسطوري يخرج من حتت عباءة اجلليد فيجعل الطيور‬ ‫قلت وأنا أتابع األخبار إن رحلة عبور‬ ‫احلديدية تكف عن الطيران‪ُ .‬‬ ‫األطلنطي لن تتم‪ ،‬وأنى لها ذلك والبركان يتم َّر ُد كقاطع طريق لي‪،‬‬ ‫يجب أن مير بأوربا؟ ثم هدأت السحابة الداكنة‪ ،‬وببصيص نور‬ ‫انطلقنا من مطار القاهرة إلى مدريد‪ ،‬وكأن الرحلة إلى وسط‬ ‫األمريكتني يجب أن متر بأرض األسالف التي يسكن أحفادهم‬ ‫اليوم في بلدانها؛ مستعمراتها السابقة‪.‬‬ ‫احمليط األزرق الذي امتد‪ ،‬بني العالم القدمي بخلقه والعالم‬ ‫احلديث باكتشافه‪ ،‬كان يشبه بساطا سرمديا‪ .‬تخفيه عن العيون‬ ‫بني حني وآخر سحابات بيضاء وكأنها ندف قطن تطرز ذلك‬ ‫البساط أو حتاول‪ .‬أين ميكن أن تضع الساعة بعي ًدا عن البصر‬ ‫حتى ال تقتفي آثار العقارب وهي تتخطى مؤش������ر الساعة ‪11‬‬ ‫مرة؟!‬ ‫في مطار العاصمة الكوستاريكية كانت اإلجراءات أبسط مما‬ ‫تصورتها‪ ،‬طبقا لصعوبة إجراءات املغادرة من القاهرة‪ .‬فلم تكن‬ ‫هناك على جواز السفر تأشيرة من سفارة كوستاريكية‪ ،‬فليست‬ ‫‪244‬‬

‫هناك أي سفارة كوستاريكية في أي دولة عربية‪ ،‬كان كل ما لدي‬ ‫هو ذلك اخلطاب الذي أصدرته وزارة اخلارجية بالعاصمة سان‬ ‫خوسيه بناء على طلب جامعة كوستاريكا‪ ،‬التي دعت ضيوفا من‬ ‫‪ 13‬دولة ليحلوا مكرمني ببيت الش������عر الكوستاريكي‪ ،‬لكن تلك‬ ‫الرس������الة املوثقة التي وصلت بالبريد اإللكتروني كانت كافية‬ ‫لعبوري إلى أراضي كوستاريكا بخامت حجمه كطابع بريد‪.‬‬ ‫ما إن خرجت من املطار حتى وجدت الفتة حتمل اسمي بخط‬ ‫عربي مكتوب على عجل‪ ،‬يحمل الالفتة الشاعر نوربرتو ساليناس؛‬ ‫رئيس بيت الشعر‪ ،‬ورئيس مهرجان كوستاريكا العاملي للشعر‪.‬‬ ‫تخفيفا عن تعب السفر الذي كان قد استمر يو ًما كامال وجدته‬ ‫يحمل النس������خة األولى لديواني الصادر باإلسبانية‪ ،‬ضمن ‪18‬‬ ‫ديوانا آخر صدرت هذا العام لشعراء املهرجان من كوستاريكا‬ ‫والعالم‪ ،‬من بينها خمسة لشعراء عرب‪ ،‬هم خلود املعال (اإلمارات‬ ‫العربية املتحدة)‪ ،‬وفخري رطروط (شاعر فلسطيني مقيم في‬ ‫نيكاراجوا)‪ ،‬وطه عدنان (اململكة املغربية)‪ ،‬وطلعت شاهني (مترجم‬ ‫مصري متخصص في األدب املكتوب باإلسبانية)‪ ،‬مع كاتب هذه‬ ‫السطور‪.‬‬ ‫كان املطار عنوانا للعمارة التي ستستقبلني بها العاصمة سان‬ ‫خوسيه‪ :‬البساطة والنظافة‪ .‬لم يكن مبنى عمالقا‪ ،‬ولم تكن هناك‬ ‫طائرات أكثر مما في أي مدينة صغيرة بأي مطار إقليمي‪ .‬لكن‬ ‫الدقة والهدوء كانا مؤشرين على سالسة اإلجراءات‪.‬‬ ‫في الطريق إلى قلب العاصمة سان خوسيه‪ ،‬التي وصلناها‬ ‫بسيارة نوربرتو بعد نصف ساعة‪ ،‬كان مؤشر اللون األخضر ال‬ ‫يهبط أب ًدا‪ ،‬ميأل األفق على امتداد البصر‪ ،‬إنه امللمح األول الذي‬ ‫ال تخطئه العني في هذه البالد‪ ،‬وكأن على الزائر أن يأخذ معه‬ ‫‪245‬‬


‫نهر على َس َفر | كوستاريكا ‪ ...‬قصيدة الفردوس والبركان!‬ ‫ٌ‬

‫رئات إضافية ليتنفس هذا الهواء النقي‪ ،‬إنها الدولة األكثر خضرة‬ ‫في العالم‪ ،‬كما أنها حتتل املرتبة األولى في مؤشر الكوكب السعيد‬ ‫وفق مؤسسة االقتصادات اجلديدة‪ ،‬التي تقوم بحساب كم املوارد‬ ‫الذي تستخدمه الشعوب على كوكب األرض‪ ،‬باإلضافة إلى عمر‬ ‫املواطنني ونسبة سعادتهم في حياتهم نتيجة لذلك‪.‬‬

‫في أرض التيكوس!‬ ‫مساحة البالد الصغيرة (‪ 51‬ألف كيلومتر مربع)‪ ،‬لم متنعها‬ ‫من أن حتظى مبوقع جغرافي استثنائي‪ ،‬فهي تسكن قلب دول‬ ‫أمريكا الوسطى‪ ،‬وحتدي ًدا بني نيكاراجوا في الشمال‪ ،‬وبنما في‬ ‫اجلنوب‪ .‬ال يزيد خط املسافة بني أقصى الشمال واجلنوب على‬ ‫‪ 484‬كيلومت ًرا‪ ،‬لكن تلك املسافة تضيق إذا أخذناها من الشرق‬ ‫حيث شاطئها على البحر الكاريبي إلى الغرب حيث تطل على‬ ‫احمليط الهادي ليكون ‪ 119‬كيلومتراً فقط‪ .‬وعلى الرغم من أنها‬ ‫تقع على مسافة عشر درجات فقط شمال خط االستواء فإن‬ ‫درجات احلرارة فيها تتباين بشكل هائل‪ ،‬بسبب جغرافيا ثرية‪،‬‬ ‫تشكل جباال ومرتفعات وبراكني‪ ،‬فضال عن تباين مستويات الرطوبة‬ ‫فيها وشدة سقوط األمطار‪ .‬في معظم مناطق كوستاريكا هناك‬ ‫موسمان وحسب‪ ،‬هما إنفيرنو‪ ،‬وفيرانو‪ ،‬أي الشتاء والصيف‪،‬‬ ‫وهي ترجمة خادعة! فاملطر حاضر في الفصلني‪ ،‬والرطوبة ماثلة‬ ‫فيهما‪ ،‬والشمس جتدد العهد كل صباح على مدار العام!‬ ‫كان نوربرتو‪ ،‬وكت������ب التاريخ‪ ،‬يعرفونني بكوس������تاريكا للمرة‬ ‫األولى عن كثب‪ :‬بلد له مذاق خاص‪ ،‬وتاريخ أكثر خصوصية‪.‬‬ ‫يفخر أهلوه بأنهم منذ العام ‪ 1949‬أصبحوا أبناء أول قطر في‬ ‫األمريكتني من دون جيش نظامي‪ .‬كثيرون من الـ«تيكوس» كما‬ ‫‪246‬‬

‫بائع مسن يبيع منتجات غذائية معظمها صناعة منزلية‬

‫في كل سوق محلية هناك متجر أو أكثر لبيع األيقونات الدينية‪.‬‬

‫‪247‬‬


‫نهر على َس َفر | كوستاريكا ‪ ...‬قصيدة الفردوس والبركان!‬ ‫ٌ‬

‫يسمي الكوستاريكيون أنفسهم‪ ،‬يتذكرون بكبرياء أنهم حتى أثناء‬ ‫وجود اجليش كان لديهم مدرسون أكثر من اجلنود‪ .‬ولهذا بلغت‬ ‫نسبة التعليم ‪ 93‬في املائة‪ .‬ساعدت احلكومات املتعاقبة‪ ،‬التي‬ ‫استفادت من ميزانية كانت تضيع على اجليش‪ ،‬في تطهير أنابيب‬ ‫مياه الشرب‪ ،‬وتطعيم األطفال‪ ،‬وتطوير اخلدمات الصحية‪ ،‬ليكون‬ ‫الش������عب بني أكثر أبناء أمريكا الالتينية عم ًرا‪ .‬ألكثر من ستة‬ ‫عقود‪ ،‬ورؤساء كوستاريكا يدافعون عن القيم التي أخمدت حربها‬ ‫األهلية‪ :‬إشاعة السالم‪ ،‬وإتاحة االستقرار‪ ،‬وتعميم التعليم‪.‬‬

‫أرض السالم‬ ‫عشية االنتخابات الرئاسية الكوستاريكية للعام ‪ ،1948‬قاد‬ ‫خوسيه فيغيريس فيريرا انتفاضة مسلحة انتهت بحرب أهلية‬ ‫دامت ‪ 44‬يوما‪ ،‬خلفت وراءها مئات القتلى في واحد من أكثر‬ ‫األحداث دموية في تاريخ كوستاريكا في القرن العشرين‪ ،‬وسيطر‬ ‫خوسيه فيغيريس على احلكومة اجلديدة وألغى اجليش‪ ،‬ليتنحى‬ ‫في نوفمبر ‪1949‬ميالدية النظام الذي يسيطر عليه اجليش عن‬ ‫احلكم فتأخذ حكومة مدنية بزمام السلطة‪ ،‬ويتحول فيغيريس إلى‬ ‫بطل وطني‪ ،‬ويصبح رئيسا للبالد في العام ‪ 1953‬بعد فوزه في‬ ‫أول انتخابات دميقراطية جترى في ظل الدستور اجلديد‪.‬‬ ‫وقبل ثالثني عا ًما (ديسمبر ‪ )1980‬تنشئ األمم املتحدة في‬ ‫كوستاريكا جامعة السالم‪ ،‬بهدف توفير مؤسسة راقية للتعليم‬ ‫العالي‪ ،‬لتعزيز روح التفاهم والتسامح والتعايش السلمي بني كل‬ ‫البشر‪ ،‬يدرس بها ‪ 170‬طالبة وطالبا ينتمون إلى ‪ 50‬دولة‪ ،‬لنيل‬ ‫درجة املاجستير في مجال السالم‪ .‬يقع احلرم اجلامعي في قلب‬ ‫محمية لغابة خضراء تسكنها القردة‪ ،‬والغزالن‪ ،‬والزواحف‪ ،‬مع‬ ‫‪248‬‬

‫أكثر من ‪ 300‬نوع من الطيور‪ ،‬ونحو مائة نوع من النباتات‪ .‬ويتم‬ ‫متويل برامج اجلامعة من خالل تبرعات ودعم عدد من احلكومات‬ ‫واملؤسسات واملعاهد التي تؤمن برسالة هذه اجلامعة‪.‬‬ ‫وفي العام ‪ 1987‬يفوز الرئيس الكوستاريكي أوسكار آرياس‬ ‫سانشيز بجائزة نوبل للسالم تكليال جلهوده في إنهاء احلرب‬ ‫األهلية في أميركا الوس������طى‪ ،‬مبعاهدة وقع عليها خمسة من‬ ‫رؤساء أمريكا الوسطى‪.‬‬ ‫خالل إقامتنا في س������ان خوس������يه‪ ،‬كنا نرى الفتات تعلن عن‬ ‫انتخابات رئاسية جديدة‪ ،‬جعلت السيدة لورا شنشيال‪ ،‬االشتراكية‬ ‫احملافظة والنائبة السابقة لرئيس كوستاريكا أوسكار آرياس‪،‬‬ ‫حتقق فوزا ساحقا في االنتخابات لتصبح أول امرأة تتولى الرئاسة‬ ‫في البالد‪ ،‬لتنض������م لعدد من الزعيمات ف������ي أمريكا الالتينية‬ ‫بينهن ميشيل باشيليت رئيسة تشيلي‪ ،‬وكريستينا فرنانديز رئيسة‬ ‫األرجنتني‪.‬‬ ‫أين ذلك املش������هد احلاضر املتوج بالسالم من التاريخ الغابر‬ ‫املكبل باألغالل؟ في العام ‪1719‬ميالدية‪ ،‬وبعد قرنني وأكثر من‬ ‫وصول كرس������توفر كولومبس إليها حني وطأت قدماه في العام‬ ‫‪1502‬ميالدية شاطئ كارياري األطلنطي‪ ،‬وصف أحد احلكام‬ ‫اإلسبان مس������تعمرة كوس������تاريكا بأنها األكثر فقراً‬ ‫وبؤسا على‬ ‫ً‬ ‫مستوى األمريكتني! على عكس ما دار في البيرو واملكسيك من‬ ‫معارك دامية‪ ،‬كانت كوستاريكا أقل مقاومة جليوش االحتالل‬ ‫القادم من أعالي البحار‪ .‬وبالرغم من ذلك أصبح بُعد كوستاريكا‬ ‫اجلغرافي مع صعوبة إنشاء طرق للتجارة‪ ،‬أحد أسباب عزلة‬ ‫الكوستاريكيني النسبية‪ ،‬فضال عن أن رقابة التاج اإلسباني لم‬ ‫تكن قوية‪ ،‬كما تبخر حلم العثور عل������ى الذهب بها‪ ،‬ورمبا هذا‬ ‫‪249‬‬


‫نهر على َس َفر | كوستاريكا ‪ ...‬قصيدة الفردوس والبركان!‬ ‫ٌ‬

‫ما دعا إلى إطالق ذلك احلكم «التجاري» بس������بب عدم قدرة‬ ‫كوستاريكا على املشاركة في حتقيق رخاء املستعمرات‪ ،‬بالرغم‬ ‫من أن اسمها ‪ Costa Rica‬يعني باإلسبانية‪ :‬الشاطئ الثري‬ ‫(باإلجنليزية ‪!)Rich Coast‬‬

‫الكوستاريكيون‬ ‫يبلغ عدد سكان كوستاريكا أكثر بقليل من أربعة ماليني ونصف‬ ‫املليون نسمة‪ ،‬يش ِّكل البيض واملهجنون نسبة غالبة (‪ 94‬في املائة)‬ ‫من عدد السكان‪ ،‬أما السود املتحدرون من منطقة البحر الكاريبي‬ ‫فال يتجاوزون نسبة ‪ 3‬في املائة‪ ،‬فيما تعد نسبة الهنود األمريكيني‬ ‫األصليني ‪ 1‬في املائة‪ ،‬ويعيش معظم هؤالء مبنازل للهنود في‬ ‫كورديليرا دي تاالمانكا أو جواناكاستي‪ ،‬ومثلهم نسبة الصينيني‪،‬‬ ‫وتتركز النسبة الباقية بني ذي األصول اإلفريقية السوداء الذين‬ ‫يقتربون من نسبة ‪ 3‬في املائة‪ ،‬وهم يتحدرون من ساللة مهاجري‬ ‫جامايكا من العمال السود في القرن التاسع عشر‪ ،‬والعبيد الذين‬ ‫أُحضروا خالل جتارة الرقيق عبر األطلنطي‪.‬‬ ‫سكان كوستاريكا البيض هم أسالف اإلسبان األوائل الذين‬ ‫استقروا خالل القرون اخلمسة املاضية‪ ،‬باإلضافة إلى ذوي األصول‬ ‫اإليطالية‪ ،‬واألملانية‪ ،‬واإلجنليزية‪ ،‬والــهولندية‪ ،‬والفرنسية‪،‬واأليرلندية‪،‬‬ ‫والبـــرتغالية‪ ،‬واللــبنانية‪ ،‬والبولندية‪ ،‬وهناك جاليات أمريكية‪،‬‬ ‫وكندية‪ ،‬وأوربية ويهودية‪ .‬وأنا أع ّ ُد النقطة السوداء في تاريخ‬ ‫كوس������تاريكا املعاصر هو تصويتها ملصلحة قيام دولة االحتالل‬ ‫اإلسرائيلي في العام ‪ ،1948‬وهو األمر الذي اعتذر عنه في أكثر‬ ‫من مناسبة‪ ،‬خالل مهرجان كوستاريكا العاملي للشعر‪ ،‬شعراء‬ ‫كثيرون من كوستاريكا‪ ،‬وهم يعلنون أن تلك احلادثة إرث تاريخي‬ ‫‪250‬‬

‫ينوء بكاهلهم‪ ،‬يودون لو غيروه‪ ،‬وأقاموا عالقات طيبة مع العرب‪.‬‬ ‫وأنا أعتقد صعوبة ذلك‪ ،‬فالتزال كوستاريكا تقيم سفارتها لدى‬ ‫الصهاينة في القدس عاصمة فلسطني السليبة‪.‬‬

‫جنان أم سجون؟‬ ‫األمن الذي تنعم به كوس������تاريكا اليوم يس������تقطب الكثير من‬ ‫الالجئني‪ ،‬معظمهم من كولومبيا ونيكاراجوا (ميثلون نحو ‪ 10‬في‬ ‫املائة من إجمالي عدد السكان)‪ ،‬فضال عما استوعبتهم البالد‬ ‫من الفارين من أتــــــون احلروب األهلية والنظم الديكـــــتاتورية‬ ‫للجــــيران خالل سبعينينات وثمانينيات القرن العشرين‪ ،‬وخاصة‬ ‫من تشيلي واألرجنتيـــــن‪ ،‬والسلفادور‪ ،‬وحسب إحصاءات البنك‬ ‫الدولي يقطن البالد حوالي ‪ 441‬ألف مهـــــاجر غير شرعي‪ ،‬بينما‬ ‫يعيش ‪ 127‬ألف كوستاريكي شرعيا خارج بالدهم‪.‬‬ ‫كنت أتص������ور‪ ،‬وأنا أقرأ تلك اإلحصاءات الفردوس������ية‪ ،‬أنني‬ ‫ُ‬ ‫أجتول في يوتوبيا منسية بني األمريكتني‪ ،‬بالد بال جيش‪ ،‬وتكا ُد‬ ‫تكون بال أمية‪ ،‬ومناخ تطيب لك اإلقامة به‪ ،‬وطبيعة لو وزعت‬ ‫على الصحراء العربية لكفتها خضرة‪ ،‬لكن القلق بدأ يساورني‬ ‫وهناك حتذيرات وتوصيات‪« :‬ال متش وأنت حتمل الكاميرا‪ ..‬ضع‬ ‫حقيبتك على صدرك وامسكها بكلتا يديك ‪ ..‬اترك أغراضك‬ ‫املهمة في الفندق ‪ ..‬ال تسر وحي ًدا بعد الغروب ‪ ..‬ال تخرج يدك‬ ‫من نافذة السيارة‪ ..‬احذر ‪ ..‬احرص ‪..‬احترس» ماذا يحدث أيها‬ ‫األصدقاء الكوستاريكيون؟‬ ‫نظرة فاحصة‪ ،‬إلى عمارة البيوت الكوستاريكية تكشف لك‬ ‫ذلك الهاجس اخلفي‪ .‬البيوت في معظمها ‪ -‬وقد انطلقنا في‬ ‫طول البالد وعرضها لنحو أس������بوعني ‪ -‬هي من طابق وحيد‪،‬‬ ‫‪251‬‬


‫نهر على َس َفر | كوستاريكا ‪ ...‬قصيدة الفردوس والبركان!‬ ‫ٌ‬

‫مادته اخلشب‪ ،‬أو احلجر‪ ،‬أو املعدن‪ ،‬املهم أنها أكواخ أو فيالت‬ ‫أو بيوت وحيدة الطابق‪ ،‬كأنها جز ٌر منعزلة‪ .‬ستدهشك بالداخل‬ ‫الستائر املطرزة‪ ،‬واللوحات ذات احلس الشعبي‪ ،‬والصور امللونة‪،‬‬ ‫واملقتنيات لرموز البالد مثل العربة اخلشبية التي يجرها املزارع‬ ‫أو ثوره‪ ،‬والكرسيان اللذين يوضعان في الشرفة أو مدخل البيت‬ ‫للجلوس الحتساء الشراب والكالم‪ ،‬واملزروعات الكثيفة داخل‬ ‫البيت وحوله وأمامه وعلى ش������رفته ونوافذه‪ ،‬ولكن ستدهشك‬ ‫باملثل تلك احلصون الكثيرة التي تدجج نسبة كبيرة من بيوت‬ ‫شاهدناها‪ :‬أبواب معدنية‪ ،‬أسوار حديدية‪ ،‬حتى أن هناك أسال ًكا‬ ‫شائكة تطوق البيوت أحيانا! يكثر ذلك في املدن‪ ،‬ويقل ونحن‬ ‫على الطريق بني مدينة وأخرى‪ ،‬ويندر في املساحات اخلضراء‬ ‫الشاسعة‪ ،‬حيث تكون اجلغرافيا الصعبة بانحداراتها هي اجلدران‬ ‫احلامية‪.‬‬ ‫يعزو الكثيرون قلة اإلحساس باألمان إلى وجود فقراء معوزين‬ ‫ومتشردين في أطراف املدن‪ُ ،‬جلهم من املهاجرين‪ ،‬كما تدل عليهم‬ ‫السحنات‪ ،‬يأتون مبشكالتهم‪ ،‬التي تضج بها بالدهم‪ ،‬وفي ظل‬ ‫ظروف حياة تقتر في إتاحة العمل‪ ،‬وتسرف في معدالت الغالء‪،‬‬ ‫ً‬ ‫مناخا لهؤالء في سلوك إجرامي يسد جوعهم‪ .‬على‬ ‫يكون ذلك‬ ‫أطراف سان خوسيه‪ ،‬وفي حي يطلقون عليه تسمية شعبية بأنه‬ ‫حي املشردين ميكن أن تشاهد هؤالء يبحثون في القمامة عن‬ ‫شيء ما‪ ،‬كما ميكنك في قلب املدينة أن ترى كثي ًرا من الباعة‬ ‫اجلائلني يفرشون مالءات عليها البضائع الصينية التي تغرق‬ ‫األسواق‪ ,‬طم ًعا في حفنة دوالرات‪( .‬العملة في كوستاريكا هي‬ ‫الكولون‪ ،‬والدوالر األمريكي يساوي ‪ 500‬كولون‪ ،‬وميكن أن تتعامل‬ ‫به وباليورو في معظم املتاجر‪ ،‬جن ًبا إلى جنب مع العملة احمللية‬ ‫‪252‬‬

‫في السجن مينح السجناء فرصة للتعبير الفني عن مواهبهم‪ ،‬فظهرت براعة هذا‬ ‫النحات السجني في نحت األسد اخلشبي!‬

‫‪253‬‬


‫نهر على َس َفر | كوستاريكا ‪ ...‬قصيدة الفردوس والبركان!‬ ‫ٌ‬

‫للبالد)‪ .‬حني تقترب الش������رطة يهرب الباعة اجلائلون بعد أن‬ ‫يجمعوا بضاعتهم في صرة قماش������ية‪ ،‬بانتظار خالء الساحة‬ ‫مرة أخرى‪.‬‬

‫داخل سجن حقيقي‬ ‫كنت أقارن في السطور السابقة بني جنان الطبيعة وسجون‬ ‫إذا ُ‬ ‫سكانها‪ ،‬فإن الرحلة امتدت بنا للدخول إلى سجن حقيقي‪ ،‬في‬ ‫مدينة سان كارلوس‪ ،‬شمال العاصمة سان خوسيه‪.‬‬ ‫كان هناك اتفاق بني بيت الشعر وجامعة كوستاريكا مع وزارة‬ ‫العدل الكوستاريكية بأن زائ ًرا سيأتي لقراءة الشعر العربي في‬ ‫مسرح السجن‪ ،‬وأن ترجمة باإلسبانية ستصاحبه‪ ،‬وأن مغنيا‬ ‫إكوادوريا سيعزف للمساجني بصحبة جيتاره‪ ،‬وأن موظفة مبنظمة‬ ‫للعمل اخليري ستوزع بعض امللصقات واملطبوعات اإلرشادية عن‬ ‫مددت ظهر يدي مثلما‬ ‫حماية البيئة على النزالء‪ .‬عند البوابة‬ ‫ُ‬ ‫فعل املترجم أوجستو سيزار والفنان إلباتو توريس للحارس‪ ،‬كان‬ ‫علينا أن نقبل بطباعة ختم السجن على ظهر اليد‪ ،‬حتى نخرج‬ ‫نحن وال يحدث استبدال بنا وراء القضبان!‬ ‫كانت التعليمات تقضي بأال نستخدم الفيديو‪ ،‬وأال نصور وجوه‬ ‫السجناء‪ ،‬فبعضهم ينتظر احلكم‪ .‬عبرنا مدخل السجن‪ ،‬ومررنا‬ ‫شارحا‪« :‬هذه‬ ‫مبجموعة من املشغوالت اخلشبية‪ ،‬قال لي املترجم‬ ‫ً‬ ‫العربات والطيور اخلشبية يصنعها املسجونون كجزء من إعادة‬ ‫تأهليهم‪ ،‬والسجن يعرضها للبيع ملصلحتهم»‪ .‬في الطريق إلى حيث‬ ‫املسرح‪ ،‬أدهشني نحات يحفر على اخلشب أس ًدا‪ ،‬كان املسجون‬ ‫يفجر طاقة احلرية املسلوبة منه في جسد األسد الرابض‪ .‬لم‬ ‫أمتالك من الوقوف أمامه‪ ،‬واستأذنته في التقاط صورة‪ .‬وكان‬ ‫‪254‬‬

‫أردت‪ .‬بعد أن انتهينا من ندوتنا الشعرية والغنائية‪ ،‬وفي‬ ‫لي ما‬ ‫ُ‬ ‫طريق العودة‪ ،‬طلب نزالء لم يحظوا بحضور الندوة من «إلباتو‬ ‫توريس» أن يعزف لهم‪ .‬في حديقة السجن جلس املغني اإلكوادوري‬ ‫يغني وهو يداعب جيتاره‪ ،‬بينما س������يزار يترجم لهم قصيدتي‪:‬‬ ‫«قا َل املسجون احلال ُم‪ /‬للسجان الظالم‪ /‬من يُ ْد َ‬ ‫لست‬ ‫ريك أ ّنَك‬ ‫ّ‬ ‫سجيني؟!‪ /‬هل ِ‬ ‫تفصلُنا‪ /‬إال ذات القضبان»‪.‬‬

‫جوالت الشعراء‬ ‫لم تكن جوالت الشعر في سان كارلوس مقصورة على السجن‪،‬‬ ‫فخالل ثالثة أيام كنا نقيم ثالث أو أرب������ع فعاليات يوميا‪ ،‬في‬ ‫مدارس‪ ،‬ومعاهد‪ ،‬وجامعات‪ ،‬ونواد‪ ،‬ومتنزهات‪ .‬ولم يكن هذا‬ ‫األمر مخطط������ا لي وحدي‪ ،‬فبعد االفتتاح الذي أقيم مبس������رح‬ ‫العاصمة انطلق ضيوف مهرجان كوستاريكا العاملي للشعر إلى‬ ‫مقاطعات البالد املختلفة‪ ،‬فقرأ د‪ .‬طلعت ش������اهني أشعاره في‬ ‫بيريس زيليدون مع الشاعر جوان بيرنال (كوستاريكا) وفخري‬ ‫رطروط (املقيم في نيكاراجوا)‪ ،‬بينما ألقت خلود املعال أشعارها‬ ‫في آالخويال مع شاعرة نيكاراجوا مارتا لينور‪ ،‬وكانت مقاطعة‬ ‫جاكو في استقبال قصائد ديوان طه عدنان (أكره احلب)‪.‬‬ ‫في املدن الكوستاريكية األخرى قرأ الكوري آن دو‪ -‬هن أشعاره‬ ‫مع الكوستاريكية ديانا آفييال في مونتي فيردي‪ ،‬بينما استقبلت‬ ‫مقاطعة ليمون أبيات اإلسبانية آتيانا ألبرتي‪ ،‬ابنة الشاعر اإلسباني‬ ‫الكبير رافائيل ألبرتي‪ ،‬واحتش������د جمهور هيرديا للقاء زوجها‬ ‫الشاعر الكوبي أليكس باوسيدس‪ ،‬وسافرت املكسيكية بيانكا‬ ‫لوس بوليدو إلى بيلني‪ ،‬واحتفت سانتا آنا باإلسبانية بياتريس‬ ‫روسو‪ ،‬واستعرض اإليطالي كالوديو بوتساني بأدائه التمثيلي‬ ‫‪255‬‬


‫نهر على َس َفر | كوستاريكا ‪ ...‬قصيدة الفردوس والبركان!‬ ‫ٌ‬

‫الشعراء في جوالتهم بني املدارس واجلامعات ومسرح املدينة‪.‬‬

‫‪256‬‬

‫‪257‬‬


‫نهر على َس َفر | كوستاريكا ‪ ...‬قصيدة الفردوس والبركان!‬ ‫ٌ‬

‫قصائده في توريالبا‪ ،‬بينما همس ش������اعر بنما هيكتور كوالدو‬ ‫بقصائده في هاتيلييو‪ ،‬أما األميركي جان أوترس������تروم فكان‬ ‫مسرحه الشعري مدينة سان رامون‪ ،‬وكانت خواناكاست مدينة‬ ‫لقصائد آدلي ريفييورو الفنزويلية‪ ،‬فيما بقي ألفريدو تريخوس‬ ‫في عاصمة بالده سان خوسيه‪.‬‬ ‫كان نوربرتو ساليناس‪ ،‬مؤس������س املهرجان ورئيسه‪ ،‬يريد أن‬ ‫تتاح خلمسني ألف كوس������تاريكي الفرصة ليكونوا شهو ًدا على‬ ‫فعاليات مهرجان كوستاريكا العاملي للشعر هذا العام في ندوات‬ ‫الشعر املختلفة‪ ،‬وأال تستحوذ العاصمة على الشعراء والشعر‪.‬‬ ‫يلقي الشعراء ضيوف املهرجان قصائدهم بلغاتهم األم‪ ،‬فيما‬ ‫يقوم مترجمون من كوستاريكا (وأحيانا من إسبانيا واملكسيك)‬ ‫بقراءة القصائد املتضمنة في دواوينهم املنشورة باإلسبانية‪ ،‬والتي‬ ‫ترجمها مترجمون أكفاء ومستعربون (ترجمت ديواني الدكتورة‬ ‫نادية جمال الدين رئيس قس������م اللغة اإلسبانية بكلية األلسن‪،‬‬ ‫جامعة القاهرة)‪ ،‬بينما يقوم الش������عراء الحقا بتوقيع الدواوين‬ ‫التي يش������تريها جمهورهم‪ ،‬حيث بلغ سعر النسخة ألفي كولون‬ ‫(ما يعادل ‪ 4‬دوالرات أمريكية)‪ ،‬مع صور تذكارية‪.‬‬ ‫صدرت دواوين الشعراء باللغة الرسمية الوحيدة للبالد‪ :‬اإلسبانية؛‬ ‫اللغة األم لنحو ‪ 97‬في املائة من سكان البالد‪ .‬الباقون يتحدثون‬ ‫لغات الهنود احلمر واإلجنليزية‪ ،‬كما أن هناك لهجتني رئيستني‬ ‫ملتحدثي الكوستاريكية من السكان األصليني‪ ،‬وهما الكوستاريكية‪،‬‬ ‫والنيكويانية التي تشبه اللهجة النيكويانية السائدة في نيكاراجوا‪.‬‬ ‫اإلسبانية التي يتحدث بها مواطنو كوستاريكا ت ِّ‬ ‫ُرشد استخدام‬ ‫الضمير (‪ )tú‬العائد على صيغة املخاطب‪ ،‬والذي يعتبره أهل‬ ‫كوستاريكا عاميا‪ ،‬فيستخدمون عوضا عنه صيغة اجلمع‪ .‬عدا‬ ‫‪258‬‬

‫عن ذلك االختالف اللغوي‪ ،‬هناك اختالف طريف‪ ،‬ففي حني‬ ‫تتبادل النسوة التحية بقبلتني في إسبانيا‪ ،‬فإن الكوستاريكيات‬ ‫يكتفني بقبلة واحدة!‬

‫املدارس ‪ ...‬مسرح وحديقة ومكتبة!‬ ‫بنسبة املتعلمني التي تصل إلى ‪ 97‬في املائة في كوستاريكا (حسب‬ ‫إحصاء يناير ‪ ،)2009‬وتعد البالد واحدة من أعلى املعدالت في‬ ‫أمريكا الالتينية‪ ،‬والعالم‪ .‬تنتشر املدارس االبتدائية والثانوية في‬ ‫جميع األنحاء‪ ،‬ويضمن الدستور للفرد حقه في التعليم اجلامعي‬ ‫العام‪ ،‬أما التعليم االبتدائي فإلزامي‪ ،‬وفي مرحلتي ما قبل املدرسة‬ ‫تكون مجانية‪ .‬قلة من املدارس في كوستاريكا تتجاوز الدراسة‬ ‫بها الصف الثانى عش������ر‪ ،‬إذ إنه حني يجت������از التالميذ الصف‬ ‫احلادي عشر‪ ،‬يحصلون على دبلومة البكالوريوس الكوستاريكية‬ ‫املعتمدة من قبل وزارة التربية والتعليم الكوستاريكية‪ .‬كما توجد‬ ‫في كوستاريكا جامعات خاصة وعامة‪ ،‬وتعد جامعة كوستاريكا‬ ‫من أفضل املؤسسات التعليمية في وسط األمريكتني قاطبة‪.‬‬ ‫إحدى الفعاليات التي كنا شهو ًدا عليها كانت حفل افتتاح مكتبة‬ ‫بإحدى مدارس سان كارلوس‪ ،‬مبناسبة اليوم العاملي للكتاب‪ .‬بدأ‬ ‫احلفل بتحية الضيوف‪ ،‬ثم عرض الطالب والطالبات مسرحية‬ ‫متعددة املشاهد مس������تمدة من األدب اإلس������باني‪ ،‬عن الثواب‬ ‫والعقاب‪ ،‬في الدنيا واآلخرة‪ ،‬وسط تصفيق الزمالء واألساتذة‪،‬‬ ‫وبعد مشاركتنا الشعرية والغنائية‪ ،‬تقدم القس الفتتاح املكتبة‬ ‫وأداء بعض الصلوات‪ ،‬ورش املاء املقدس‪ .‬وسط دعاء اجلميع‬ ‫بأن تكون املكتبة مساحة جديدة لألدب والفن واحلياة‪ .‬في كل‬ ‫مدرسة زرناها كان هناك مسرح‪ ،‬وحديقة ومكتبة‪ .‬إنها إشارة‬ ‫‪259‬‬


‫نهر على َس َفر | كوستاريكا ‪ ...‬قصيدة الفردوس والبركان!‬ ‫ٌ‬

‫إلى أن التعليم عبر املناهج الدراسية وحدها ليس كافيا‪ ،‬ال بد‬ ‫أن تدعمها الفنون‪ ،‬وأن يكون ذلك كله وسط احتفاء بالطبيعة‬ ‫وحرص عليها‪ ،‬وأنه إذا بدأ احلرص في املدرسة‪ ،‬فسيمتد لباقي‬ ‫أنحاء البالد‪.‬‬

‫بلد صغير ‪ ...‬متنزه كبير‬ ‫املتنزهات العامة ال تخطئها العني أنى تولي البصر في كوستاريكا‪،‬‬ ‫وقد أمضى كوستاريكي اسمه ألفارو أوغالدي أربعني عا ًما يطور‬ ‫املتنزهات القومية في بالده‪ .‬وطبقا له فإن تاريخ كوستاريكا ينقسم‬ ‫إلى حقبتني منفصلتني‪ :‬حقبة ما قبل التزام الشعب احملافظة‬ ‫على التنوع البيولوجي الفريد في البالد لفائدة األجيال القادمة‪،‬‬ ‫واحلقبة التي تلت االلتزام بذلك‪.‬‬ ‫أس������س ألفارو أوغالدي مع زمالئه ومنهم ماريو بوزا نظام‬ ‫املتنزهات في كوستاريكا‪ ،‬وشغل هو نفسه منصب املدير القومي‬ ‫لذلك النظام مرتني‪ ،‬وعمل كشخصية قيادية في منظمات أخرى‬ ‫مهمة للمحافظة على الطبيعة‪ .‬وفي العام ‪ 1999‬أطلقت عليه مجلة‬ ‫تامي لقب «قائد في مجال البيئة» للقرن العشرين‪ .‬كان ألفارو‬ ‫وماريو‪ ،‬وهما عاملا أحياء‪ ،‬يدركان أن حماية التنوع البيولوجي‬ ‫في كوستاريكا هي الهدف‪ ،‬لبلد صغير تبلغ مساحته ثلث الواحد‬ ‫في املائة من الكتلة األرضية للعالم فقط‪ ،‬إال أنه موطن خمسة‬ ‫في املائة من جميع األنواع احلياتية على هذا الكوكب‪ .‬لم يكن‬ ‫هناك من يستخدم تعبير (تـــنوع بيولوجي) آنذاك‪ ،‬ولكن شكل‬ ‫احلياة االستوائية بالبالد كان موضع دراسة طوال عقود‪ ،‬ألساتذة‬ ‫في جامعة كوستاريكا آمنوا بالنظام اإليكولوجي ونظرية التطور‬ ‫واالرتقاء‪ ،‬وكان ذلك ما ألهم العاملني الشابني بضرورة إقناع شعب‬ ‫‪260‬‬

‫البركان العجوز شمال مدينة سان كارلوس‪ ،‬كوستاريكا‪ ،‬حلظة ثورته الليلية‪.‬‬

‫املتنزهات العامة ال تخطئها العني أنى تولي البصر في كوستاريكا‪.‬‬

‫‪261‬‬


‫نهر على َس َفر | كوستاريكا ‪ ...‬قصيدة الفردوس والبركان!‬ ‫ٌ‬

‫كوس������تاريكا مبا ينبغي عمله إلنشاء هذه املتنزهات واحملافظة‬ ‫على ما هو فريد‪.‬‬ ‫كان إنشاء متنزهات ومحميات طبيعية هو املهمة التي تُعنى‬ ‫باملستقبل‪ ،‬ولم تكن السياحة سوى فائدة الحقة لهذا اجلهد‪ ،‬فلم‬ ‫تكن سوى سبب ثانوي في ذلك الوقت‪ .‬تب ّدلت البالد بالكامل خالل‬ ‫سنوات قليلة من بدء إنشاء املتنزهات‪ .‬وال يوجد اليوم مواطن‬ ‫من كوستاريكا يجهل ما ينص عليه نظام احملافظة على الطبيعة‪،‬‬ ‫أو ال يعرف األمور املتعلقة بالثروة الطبيعية للبالد‪ .‬لم يكن في‬ ‫كوستاريكا‪ ،‬قبل عام ‪ ،1970‬أي مناطق طبيعية محمية‪ ،‬وكانت‬ ‫معظم األماكن الطبيعية تتعرض لضغوط من صناعات التعدين‬ ‫وصيد الطيور وقطع األشجار‪ ،‬وعلى وجه اخلصوص في أماكن‬ ‫مثل شبه جزيرة أوسا (‪ ،)Osa Peninsula‬املتنوعة بيولوج ًّيا‪،‬‬ ‫مما لفت انتباه العالم ليأتيها زوارها ملجرد مشاهدة كائناتها‪،‬‬ ‫ولم يعد اقتصادها مرتبطا بالتعدين أو بقطع األشجار للمتاجرة‬ ‫بخشبها‪ ،‬بل أصبح اقتصا ًدا يقوم بالكامل على الطبيعة‪.‬‬ ‫ال تزال كوس������تاريكا تعاني من مشكالت بيئية بسبب البشر‪،‬‬ ‫ففي داخل املتنزهات‪ ،‬هناك مشكلة صيد الطيور‪ ،‬كما أن هناك‬ ‫مشكلة احلرائق الطبيعية‪ ،‬لكن التطور العمراني غير املخطط‬ ‫يؤثر سلبا‪ ،‬مما يؤدي إلى تلوث املياه وانعدام معاجلة مياه شبكات‬ ‫الصرف الصحي‪ ،‬التي قد تضر مبا يجاورها من متنزهات‪ .‬أما‬ ‫اخلطر احلقيقي الذي يحيق بكوستاريكا والعالم فال يزال يربض‬ ‫على مرمى حجر‪ ،‬إنها التأثيرات السلبية للتغير املناخي‪ ،‬وثقب‬ ‫األوزون وتردي حالة احمليط اجل������وي‪ ،‬وتزايد األنواع احلياتية‬ ‫املنقرضة أو املعرضة خلطره‪ ،‬وذوبان القطبني اجلليديني‪ ،‬والثلوج‬ ‫التي تذوب من أعالي اجلبال‪ ،‬وما أكثرها في كوستاريكا‪ ،‬تسبب‬ ‫‪262‬‬

‫الفيضانات بشكل أخذ يتواتر في السنوات القليلة املاضية‪.‬‬

‫زيارة لبركان عجوز‬ ‫شمال مدينة سان كارلوس قادتنا الناشطة االجتماعية فاني‬ ‫فوجلسوجن بسيارتها ذات الدفع الرباعي إلى إحدى القمم اجلبلية‬ ‫لواحد من خمسة براكني التزال نشطة في كوستاريكا‪ ،‬من بني‬ ‫نحو‪ 160‬بركانا كانت موجودة بها‪.‬‬ ‫كانت الشمس قد اختفت ولم تترك للسماء سوى ألوان قوس‬ ‫قزح‪ ،‬واملطر اخلفيف يدق على النوافذ املغلقة‪ .‬كل ربع ساعة‬ ‫أو أكثر تتوقف السيارة‪ ،‬ونهبط ونتطلع للسماء‪ .‬كانت صحبتنا‬ ‫املكونة من فانيا والشاعرين الكوستاريكيني فيفيان وسيزار والفنان‬ ‫إلباتو ترفع األعن������اق نحو قمة داكنة في س������ماء أظلمها املطر‬ ‫وسحبه‪ ،‬تأملتهم وهم يشبهون عبا ًدا وثنيني يتضرعون آللهتهم‬ ‫على جدارية متحفية‪.‬‬ ‫يكرر سيزار كل وقفة جملة واحدة ترجمتها لي فانية‪« :‬سيكون‬ ‫املشهد أفضل بعد ‪ 500‬متر»‪ .‬صرنا نتقدم خمسمائة فأخرى‪،‬‬ ‫ونحن نرصد حركة ما عند فوهة البركان‪ .‬تأملت املكان الذي‬ ‫ميتلئ بفنادق ومطاعم‪ .‬كانت الساحات واحلدائق خالية بسبب‬ ‫جلوء النزالء والزبائن إلى داخ������ل املباني هربا من املطر الذي‬ ‫اشتد‪ .‬املكان يستفيد من قربه من البركان ليقدم العصائر الباردة‬ ‫أمام مشهد احلمم الساخنة‪.‬‬ ‫لم يطل االنتظار طويال‪ .‬بدأ شرر يتسلل مثل برق يوحي بأن‬ ‫سحابة تصعد من قلب البركان‪ ،‬وال تنزل من غيم السماء‪ .‬كان‬ ‫البركان يس������عل‪ ،‬قبل أن تنفجر النيران لتؤجج الليل بضوئها‪،‬‬ ‫وفالشات تصدح وهي حتاول التقاط صور لتثاؤب ذلك الكائن‬ ‫‪263‬‬


‫نهر على َس َفر | كوستاريكا ‪ ...‬قصيدة الفردوس والبركان!‬ ‫ٌ‬

‫كنت قبل الرحلة‪ ،‬قبل أسبوع واحد أمتنى لبركان‬ ‫الهاجع‪ .‬تعجبت‪ُ ،‬‬ ‫أيسلندا أن يخمد‪ ،‬وهنا‪ ،‬نرجو لبركان آرينا في شمال كوستاريكا‬ ‫أن يشتعل‪ .‬ما أقصى اإلنسان في تطرفه بني النقيضني!‬

‫بالد القديسني‬ ‫يعجب الناظر خلريطة كوستاريكا التفصيلية من أسماء املدن‪ ،‬التي‬ ‫تبدأ باسم (سان)‪ ،‬وتعني القديس‪ :‬سان كارلوس‪ ،‬سان رامون‪ ،‬سان‬ ‫جيراردو دي ريفاس‪ ،‬سانت كروز‪ ،‬سان إيزيدورا اجلنرال‪ ،‬سان فيتو‬ ‫‪ ..‬وبالطبع سان خوسيه! تشعر أيضا بأنه في كل سوق محلية هناك‬ ‫متجر أو أكثر لبيع األيقونات الدينية للمسيح عليه السالم‪ ،‬والسيدة‬ ‫العذراء‪ ،‬والصلبان‪ .‬تشعر باهتمام كبير في تشييد الكنائس‪ ،‬التي‬ ‫تتعملق أمام عمارة البيوت‪ ،‬حتس أن الدين ميثل عنص ًرا أساسياً‬ ‫في احلراك االجتماعي‪ ،‬بالرغم مم� � ��ا تبدو عليه مظاهر التحرر‬ ‫الشكلي‪ .‬تذكرت اختيار القس ليفتتح مكتبة مدرسة‪.‬‬ ‫تقول دراسة اس� � ��تقصائية وطنية عن العقيدة‪ ،‬أجرتها جامعة‬ ‫كوستاريكا عام ‪ ،2007‬إن الرومان الكاثوليك ميثلون سبعني ونصف‬ ‫في املائة من الكوس� � ��تاريكيني‪ ،‬كما ميارس الطقوس الكاثوليكية‬ ‫‪ ٪44.9‬من الس� � ��كان ويعتنق ‪ 13.8‬في املائة مذهب اإلجنيليني‬ ‫البروتس� � ��تانت‪ ،‬وبينما ينتمي ‪ 4.3‬في املائة إلى ديانات كالبوذية‬ ‫(أغلبهم صينيون الذين بلغ عددهم ‪ 40‬ألفا) واليهودية‪ ،‬واإلسالم‪،‬‬ ‫والهندوسية‪ ،‬فإن ‪ 11.3‬في املائة قالوا في تلك الدراسة إنهم ال‬ ‫يعتنقون أي ديانة!‬

‫صباح اخلير باألرز والفول!‬ ‫في كل مدينة سوق رئيسة تتركز بها املطاعم واحملال التجارية‪.‬‬ ‫‪264‬‬

‫يأتي اجلميع ليبدأ نهارهم هنا‪ .‬سواء كانوا يقصدونها للتبضع‬ ‫أو الفطور أو لش������راء وردتهم القومية‪ :‬البنفس������ج‪ .‬الكل يطالع‬ ‫الصحف كل صباح‪ .‬الصحف الرياضية هي السائدة‪ .‬صحف‬ ‫رواجا‪ .‬وضعت «مراس������لون بال‬ ‫الفضائح والتابلويد هي األكثر‬ ‫ً‬ ‫حدود» كوستاريكا في املرتبة األولى بأمريكا الالتينية في حرية‬ ‫الصحافة‪ ،‬وفي املرتبة الـ ‪ 21‬على مستوى العالم‪.‬‬ ‫منر مبدخل السوق فتصافح العيون جدارية ضخمة‪ .‬اجلداريات‬ ‫امللونة هي شاهد حاضر في كثير من الشوارع والبيوت‪ ،‬سواء كانت‬ ‫للتجميل‪ ،‬أو اإلعالن‪ ،‬أو التعبير الغاضب‪ .‬نأخذ أماكننا في مطعم‬ ‫ونطلب الئحة الوجبات‪ .‬كلمة السر في املطعم الكوستاريكي هي‬ ‫اجلالو بنتو‪ ،‬خليط األرز مع الفول‪ ،‬فهما حاضران في الوجبات‬ ‫الثالث‪ .‬يأتي األرز عادة مخلوطا باللحم أو الدجاج أو الفول‪ ،‬حني‬ ‫عرفوا في أحد املطاعم احمللية أنني ال آكل حلم اخلنزير الذي‬ ‫خلطوه باألرز‪ ،‬جاءوا لي بأرز‪ ،‬لكنهم خلطوه بالتونة! وكأن على‬ ‫األرز أال يأتي مبفرده‪ .‬أما الفول فهم يصنعون منه حينا عجينة‬ ‫مصنوعا من‬ ‫تشبه الزبدة‪ ،‬تدهن مع اخلبز‪ ،‬الذي ميكن أن يكون‬ ‫ً‬ ‫املاجنو املجففة‪ .‬الفاكهة هنا حتضر بالزيت لتكون طعا ًما شعبيا‪.‬‬ ‫أما األجبان‪ ،‬فبفضل الثروة احليوانية التي ال تخطئها العني في‬ ‫مراعي البالد‪ ،‬فهي أكثر من رائعة‪ .‬وهم يبيعونها طازجة تعلق‬ ‫كالثمار في أبواب املتاجر بالقرى‪.‬‬

‫ال بد من تورتوجويرو!‬ ‫من زار كوستاريكا ولم يزر البحر الكاريبي فكأنه لم يزرها‪.‬‬ ‫صغته على وزن أمثال كالشيهية كثيرة تعج بالكتابات التي‬ ‫مثل ُ‬ ‫نقرأها عن بلدان أمريكا الالتينية‪ .‬كانت وجهتنا األخيرة‪ ،‬انطالقا‬ ‫‪265‬‬


‫نهر على َس َفر | كوستاريكا ‪ ...‬قصيدة الفردوس والبركان!‬ ‫ٌ‬

‫من العاصمة وعودة إليها‪ ،‬هي رحلتنا إلى تورتوجويرو‪ ،‬أو بيت‬ ‫السالحف‪ ،‬كما يعني اسمها‪ .‬في الطريق إلى تورتوجويرو وكنا‬ ‫نعبر وادي كارتاجو‪ ،‬قال لنا دليلنا املبتسم دائما كارلوس‪:‬‬ ‫«في العام ‪ 1559‬ميالدية قررت إسبانيا إحكام قبضتها على‬ ‫كوستاريكا‪ ،‬فأرسلت خوان فاسكيز دي كورونادو ليؤسس عاصمة‬ ‫للمستعمرة في وادي كارتاجو‪ .‬وقد استمرت العاصمة هنا حتى ثار‬ ‫بركان إرازو ليدمر املدينة الصغيرة في العام ‪ 1723‬ميالدية»‪.‬‬ ‫سجلة تترجم عباراتِها ذاتيا‪ .‬يقول جملة‬ ‫كان كارلوس مثل ُم ِّ‬ ‫باللغة اإلس������بانية ويتبعها بأخرى باللغ������ة اإلجنليزية‪ .‬قال لنا‪،‬‬ ‫وهو يطلب من قائد احلافلة أن يتمهل‪« :‬لعله من حسن حظكم‬ ‫أننا نأخذ هذه الطريق غير الرسمية للرحلة بني سان خوسيه‬ ‫ومحمية تورتوجويرو‪ ،‬فالطريق الرسمية عطلتها السيول‪ ،‬ولذلك‬ ‫ستتعرفون عبر هذه الطريق األطول واألكثر وعورة على نكهة‬ ‫البالد احمللية‪ ،‬فترون مدنا ال يراها السياح‪ ،‬واألكثر دهشة أنكم‬ ‫سترون بعد قليل النقطة التي تفصل القارتني‪ ،‬أمريكا الشمالية‬ ‫وأمريكا اجلنوبية‪ ،‬عن بعضهما البعض»‪.‬‬ ‫جهز اجلميع آالت التصوير‪ ،‬قليل������ة هي البلدان التي تفصل‬ ‫قارتني‪ ،‬أو جتمع بينهما‪ .‬هي احلال في سيناء املصرية واسطنبول‬ ‫التركية وها هي مرة أخرى في كارتاجو الكوستاريكية‪ .‬التقطت‬ ‫صورة جلسر قدمي يحدد النقطة الفاصلة‪ ،‬يعبر جدوال صغي ًرا‬ ‫ال تكاد املياه فيه تصل إلى املنتصف‪.‬‬ ‫على مساحة أكثر من ‪ 126‬ألف هكتار تعيش كائنات ونباتات‬ ‫تبلغ ‪ 1500‬نوع‪ ،‬مما يجعل من تورتوجويرو محمية نادرة‪ .‬يستقبلنا‬ ‫رودولفو دادا في منتجعه‪ ،‬وهو يفخر بأنه سليل أسرة فلسطينية‬ ‫جاءت قبل نحو قرن إلى كوس������تاريكا‪ .‬فقدت األسرة بيتها في‬ ‫‪266‬‬

‫جديدا لها في كوستاريكا‪ .‬لم يبق من‬ ‫فلسطني فأقامت وطنا‬ ‫ً‬ ‫الوطن األم س������وى كلمات عربية تعد على األصابع وصور على‬ ‫جدران الذاكرة لعائلة عربية‪ .‬في مساء اخلتام دعوني ألضيء‬ ‫ش������معة على روح ش������اعر عراقي راحل كان يُد ِّرس في جامعة‬ ‫كوس������تاريكا هو أنور الغس������اني الذي توفي هذا العام‪ ،‬بعد أن‬ ‫ساهم في توسعة آفاق املهرجان الش������عري باستضافة العرب‪،‬‬ ‫وكان الشاعر أحمد الشهاوي أول عربي يدعى إليه‪ ،‬جاءت بعده‬ ‫الشاعرة املغربية عائشة البصري‪ ،‬ثم حللنا نحن خمسة عرب‬ ‫م ًعا وكأننا ملكنا املهرجان‪.‬‬ ‫كان الغساني من بني جماعة كركوك األدبية مع فاضل العزاوي وجان‬ ‫دمو واألب يوسف سعيد‪ ،‬التي تشكلت في ستينيات القرن املاضي‪،‬‬ ‫وقد انتقل في العام ‪ 1962‬إلى بغداد قبل أن يسافر في العام ‪1968‬‬ ‫إلى أملانيا فيحصل على الدكتوراه في الصحافة من جامعة اليبزك‬ ‫في ‪ ،1979‬ويقوم بالتدريس في أملانيا واجلزائر‪ ،‬ثم يرحل ليقيم في‬ ‫سان خوسيه أستاذا للصحافة واإلعالم في جامعة كوستاريكا‪.‬‬ ‫على ضوء الشمعتني اللتني أضاءتا روح الغساني الراحل كان الشاعر‬ ‫الكوستاريكي نوربرتو ساليناس يقرأ كلمات محبة وتقدير ووداع‪،‬‬ ‫وكان املغني اإلكوادوري إلباتو توريس يعزف على جيتاره مقطوعة‬ ‫جعل عنوانها «ألف ليلة وليلة» ينشد فيها‪« :‬ها هي «شهرزاد» تفت ُح‬ ‫ك َّل األبواب‪ /‬تري ُد أن يناديه� � ��ا أح ٌد من قصور احلمراء‪ /‬تريد أن‬ ‫ينقذها كما يأخذ املد بيد اجلزر‪ /‬لن تنتهي القصة عند الفجر‪/‬‬ ‫لن تكون هناك نهاية‪ /‬ستكون القصة مثل وشم‪ /‬يدوم وسط حرائق‬ ‫الرقص‪ /‬على أنغام الرومبا‪ /‬بانتظار شروق الشمس»‪ ،‬وكنا جمي ًعا‬ ‫بعد أن امتد بنا الليل نتداول الشعر بكل اللغات في بالد الفردوس‬ ‫والبركان ننتظر شمس قصيدة جديدة‪.‬‬ ‫‪267‬‬


‫نهر على سفر‬

‫يوتوبيا ‪ ...‬وفوبيا‬

‫مانديال النـد‬


‫نهر على َس َفر | يوتوبيا ‪ ...‬وفوبيا مانديال النـد‬ ‫ٌ‬

‫صباحا ذات يوم صيفي كان موع ُدنا مع الطائرة التي‬ ‫في التاسعة‬ ‫ً‬ ‫ستتجه بنا إلى دبي ؛ حلقة الوصل بني مطار الكويت الدولي ومطار‬ ‫جوهانسبرج في جنوب إفريقيا‪ .‬حني انتصف النهار بدأت طائرتنا‬ ‫الثانية رحلتها من اجلزيرة العربية إلى تخ� � ��وم القارة اإلفريقية‪،‬‬ ‫وعلى خالف الغبار الذي تركناه رمزًا للصيف بشطآن مدن اخلليج‬ ‫العربية‪ ،‬كانت الس� � ��واحل اإلفريقية‪ ،‬ونح� � ��ن نحلق فوق األراضي‬ ‫الصومالية وما بعدها وصوالً إلى سواحل كينيا‪ ،‬تُظهر في مرآة‬ ‫السماء الصافية تلك اجلغرافيا البرية للقارة السمراء‪ :‬الصحراء‪.‬‬ ‫اجلبال‪ .‬الهضاب‪ .‬املراعي‪ .‬جن ًبا إلى الودي� � ��ان التي كانت أنها ًرا‬ ‫قبل أن جتففها السنوات‪ .‬بعد منتصف الرحلة ‪ -‬التي استمرت‬ ‫ثماني ساعات وربع الساعة ‪ -‬كان الظالم قد حل‪ ،‬وكأنه يذكرني‬ ‫بلون القارة التي جنتاز سماءها على ارتفاع ‪ 40‬ألف قدم‪ ،‬بدرجة‬ ‫حرارة خارجية وصل� � ��ت إلى ‪ 68‬درجة حتت الصفر‪ ،‬كما تش� � ��ير‬ ‫شاشة املعلومات‪ .‬لكننا مع اقترابنا من مطار جوهانسبرج‪ ،‬كانت‬ ‫ً‬ ‫سألت‬ ‫بساطا النهائ ًيا‪.‬‬ ‫أنوار املدينة تشبه أشجا ًرا من النور‪ ،‬تطرز‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫نفس� � ��ي‪ ،‬هل أضاءت احلرية البالد التي عانت طويال‪ ،‬كما فعلت‬ ‫الكهرباء في الظالم الذي حجب الرؤية في الس� � ��اعات األخيرة؟‬ ‫لم تكن اإلجابة بسهولة السؤال‪ ،‬ألنه كان علي أن أكتشف في أيام‬ ‫قليلة ماذا حل بالبالد التي حتتفل مب� � ��رور ‪ 16‬عا ًما على غروب‬ ‫نظام الفصل العنصري‪.‬‬ ‫كأنني على موعد معه‪ ،‬كان نيلس� � ��ون مانديال في الطائرة التي‬ ‫أقلتنا إلى بالده‪ .‬قضيت بصحبته أكثر من ساعة ونصف الساعة من‬ ‫خالل الفيلم الذي قام ببطولته املمثل مورجان فرميان ويسجل أيام‬ ‫مانديال األولى بعد وصوله إلى سدة احلكم حني فاز بأول انتخابات‬ ‫حرة في جنوب إفريقيا‪ ،‬كأول زعيم أسود يحكم وطنه‪ .‬كان الفيلم‬ ‫‪270‬‬

‫خريطة جنوب إفريقيا‪ ،‬ومتثال عمالق حملررها نيلسون مانديال‪ ،‬في ميدان يحمل‬ ‫اسمه باحلي الراقي في جوهانسبرج‪.‬‬

‫‪271‬‬


‫نهر على َس َفر | يوتوبيا ‪ ...‬وفوبيا مانديال النـد‬ ‫ٌ‬

‫مثل حكاية خيالية‪ ،‬يرصد مثاليات ذلك الرجل االستثنائي‪ .‬استعان‬ ‫مانديال على قسوة ‪ 26‬عا ًما في سجنه بجزيرة روبن آيالند‪ ...‬بالشعر‬ ‫ليكسر احلجر‪ .‬استمد عزميته من اإللهام ليحقق به األحالم‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫متهيد لواقع‬ ‫لكن الفيلم الذي شاهدته في السماء لم يكن سوى‬ ‫وليت البصر والسمع وجدت‬ ‫وصلت‪ ،‬وأنى‬ ‫على األرض‪ .‬ألنني حني‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫كلمات مانديال‪ ،‬وصور مانديال‪ ،‬وآثار مانديال‪ ،‬وتذكارات مانديال‪،‬‬ ‫ومتاثيل مانديال‪ .‬أدركت حينئذ أنني في «مانديال الند»‪ .‬حتى في‬ ‫حمى انشغال البالد باستقبال كأس العالم بعد أسبوعني لم يكن‬ ‫هناك من ينسى دور مانديال بإحضار تلك األيقونة الذهبية إلى‬ ‫مالعب القارة اإلفريقية للمرة األول� � ��ى‪ ،‬ورمبا للمرة األخيرة في‬ ‫حياتنا!‬ ‫في مطار جوهانسبرج الذي يتمطى كدودة عمالقة اجتهنا إلى‬ ‫شاب أسمر طويل‬ ‫أحد مكاتب االس� � ��تعالمات‪ ،‬كان يقف باملكتب‬ ‫ٌ‬ ‫القامة واسع االبتسامة‪ ،‬نسأله عن الفنادق املتاحة‪ ،‬ونحن نقطع‬ ‫حواره مع رجل يكبره سنا أبيض البشرة‪ .‬على عادة ما نتخذ في‬ ‫الس� � ��فر من أماكن لإلقامة تتيح االنتقال في أركان املدن األربعة‬ ‫سألناه عن فندق يكون في قلب املدينة‪ .‬نظر إلينا الرجل األبيض‬ ‫بدهشة وقلق وسمح لنفسه بالتدخل‪« :‬ال أنصحكما بذلك‪ .‬هذا هو‬ ‫اخلطر بعينه»‪ .‬عاود الشاب عرض اختياراته‪ .‬وقال لنا إنه بإمكاننا‬ ‫أن نستأجر فيال في احلي الشمالي باملدينة؛ (عرفنا بعد ذلك أنه‬ ‫أحد أحياء ُسكنى البيض)‪ .‬ومادام أهل البالد أدرى بشعابها‪ ،‬فقد‬ ‫استقررت مع زميلي املصور سليمان حيدر على اختيار ما اقترحه‬ ‫ُ‬ ‫�اب‪ ،‬خاصة بعد أن عرفنا أن صاحب الفيال سيكون سائقنا‬ ‫الش� � � ُ‬ ‫ودليلنا خالل فترة إقامتنا في جوهانسبرج‪ .‬بعد قليل حضر سائق‬ ‫اسمه كينيث‪ ،‬أقلنا إلى الفيال‪ ،‬التي ال تبعد سوى ‪ 15‬دقيقة عن‬ ‫‪272‬‬

‫املطار‪ .‬في الطريق قال لنا كينيث إن الفيال التي سنقطن بها تبعد‬ ‫عن قلب املدينة بنحو ساعة‪ ،‬إن لم يكن هناك زحام!‬

‫في احلي الشمالي‬ ‫املكان الذي قصدناه متسع الشوارع‪ ،‬وعلى جانبي الطرق اجلانبية‬ ‫فيالت ُم َس َّو َرة‪ .‬حني وصلنا غايتنا أدار السائق جهاز التحكم ليفتح‬ ‫بوابة تعبر بها السيارة مدخل الفيال‪ .‬بعد قليل جاء صاحب الفيال‪،‬‬ ‫هيكتور‪ ،‬وهو شاب أسمر بدين‪ .‬بعد حديث استمر إلى منتصف‬ ‫الليل‪ ،‬قسمنا أيام اإلقامة على الرحالت الداخلية في جوهانسبرج‬ ‫وما حولها‪ .‬بدأت أشعر باالطمئنان‪ .‬احلي آمن‪ .‬هادئ‪ .‬زال عني‬ ‫تخوف أثارته كلمات الرجل األبيض ف� � ��ي املطار‪ ،‬وقد أوحى إلي‬ ‫حللت ً‬ ‫أدرت مفتاح التلفزيون‪ ،‬كانت هناك‬ ‫أرضا غير آمنة‪.‬‬ ‫بأنني‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫برنامجا مثي ًرا اس� � ��مه «الدرجة الثالثة»‪ .‬كان‬ ‫مذيعة شقراء تقدم‬ ‫ً‬ ‫املوضوع الذي تدور حوله احللقة يناقش سؤاال وحي ًدا‪« :‬هل انتهى‬ ‫عهد الفصل العنصري؟»‪ ،‬في املادة الفيلمية التي عرضتها شاهدت‬ ‫رجال أبيض يوجه لكمة إلى املصور احتدا ًما وغض ًبا من س� � ��ؤال‬ ‫وجهته إليه املذيعة وهو ال يزال يرتدي قميصا يحمل علم البالد‬ ‫أثناء حكم الفصل العنصري‪ .‬انتهى التسجيل‪ ،‬وأخبرتنا املذيعة أن‬ ‫الثائر العنصري ألقي القبض عليه ونال غرامة كبيرة!‬ ‫أشخاصا مختلفني‪،‬‬ ‫في اإلعالن الذي تلى البرنامج يخاطب املذي ُع‬ ‫ً‬ ‫يدعوهم للتأمني على حياتهم‪ ،‬وهو يقول‪« :‬الشاب سيجد من يرعى‬ ‫والديه حني يغيب لألبد‪ ...‬الرجل سيطمئن ألن مبلغ التأمني سيغطي‬ ‫نفقات تعليم ابنته اللغة الفرنسية حني ال يكون هناك لينفق عليها‪..‬‬ ‫على اجلميع أن يرحلوا ‪ -‬ش� � ��بابا وناضجني ‪ -‬بعد التأمني على‬ ‫حياتهم‪ ،‬ألن ‪ -‬شركة ما ‪ -‬ستجعلهم يرحلون وهم مطمئنون في‬ ‫‪273‬‬


‫نهر على َس َفر | يوتوبيا ‪ ...‬وفوبيا مانديال النـد‬ ‫ٌ‬

‫دنياهم اآلخرة إلى أن مبلغ التأمني ‪ -‬الذي يصل إلى مليون راند ـ‬ ‫سيغطي النفقات التي قد ال يستطيع توفيرها وهو حي»!‬ ‫�ذت جريدة من الطائ� � ��رة‪ ،‬والصحف هنا معظمها‬ ‫كنت قد أخ� � � ُ‬ ‫ُ‬ ‫باإلجنليزية‪ ،‬وقليل منها بغير اللغة االقتصادية للبالد التي تعتمد‬ ‫‪ 11‬لغة رس� � ��مية هي لغات قبائلها‪ .‬كان التحقيق الرئيس يناقش‬ ‫قضية اغتيال أصحاب املزارع من البيض‪ ،‬وفي صفحة تالية خبر‬ ‫عن اعتذار إحدى الصحف لنشرها رسو ًما مسيئة للرسول عليه‬ ‫الصالة والس� �ل��ام‪ ،‬زاعمة بأن أصحاب الديانات األخرى لديهم‬ ‫حس فكاهة فيما يخص أنبياءهم‪ ،‬وأنها لم تقصد اإلساءة ملشاعر‬ ‫املسلمني بالبالد‪.‬‬ ‫�ت النو ُم‪ ،‬بينما نباح كالب‬ ‫كان اللي ُل قد انتصف‪ ،‬ولذلك حاول� � � ُ‬ ‫قلت إن عيون الصباح ستكشف لي‬ ‫حراسة يتردد بني حني وآخر‪ُ .‬‬ ‫حقيقة ما تزعمه وسائل اإلعالم‪ .‬كنت أستغرب ما أقرأ وأشاهد‬ ‫وأسمع‪ ،‬فالبالد ستستقبل جماهير والعبي كأس العالم بعد أيام‪،‬‬ ‫وإن لم تكن يوتوبيا من األمان‪ ،‬فإنها ستكون مستنقعا لفوبيا من‬ ‫اخلوف!‬

‫الطريق إلى «سو وي تو»‬ ‫ولدت جوهانسبرج‪ .‬هنا ينطقونها دجوبرج‪.‬‬ ‫منذ قرن وبضع سنوات‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫لكننا في تدويننا سنلتزم باسمها الرسمي‪ .‬ولدت جوهانسبرج وفي‬ ‫فمها ملعقة من ذهب‪ ،‬ألن بناءها جاء ليخدم املنقبني عن املعدن‬ ‫النفيس (اكتشف الذهب في جنوب إفريقيا سنة ‪1871‬ميالدية)‪.‬‬ ‫اآلن ال يبقى على الطريق التي منر بها من ذكرى للذهب في املدينة‬ ‫سوى تلك العنابر التي تشبه أقفاص تربية الدجاج واألرانب‪« .‬هنا‬ ‫عاش العمال الذين اشتغلوا عمرهم باملناجم‪ ،‬لم تكن تلك املنطقة‬ ‫‪274‬‬

‫تسمح للنساء بالدخول إليها‪ .‬إنها مناطق للرجال وحسب‪ .‬اآلن ال‬ ‫يوجد تنقيب عن الذهب داخل املدينة‪ .‬لكن هناك عمليات تنقيب‬ ‫خارجها»‪ .‬كانت تلك عبارات هكتور وهو يشير إلى مجموعة من‬ ‫املكعبات احلجرية التي تشبه بيوتا بسبب تلك النوافذ الضيقة التي‬ ‫تشبه فتحات في زنازين‪.‬‬ ‫لم تعد جوهانسبرج مدينة واحدة‪ .‬رمبا تكون بدأت مع الذهب‪،‬‬ ‫لكنها اآلن متتد مثل أخطبوط‪ ،‬فلها ذراع في كل اجتاه‪.‬‬ ‫ونحن نغ� � ��ادر احلي كانت هناك مالحظة أدهش� � ��تني‪ .‬الفيالت‬ ‫اجلميلة‪ ،‬سواء تلك املفردة‪ ،‬أو التي تشغل حيزًا في مجمع للفيالت‪،‬‬ ‫تعلو أسوارها األسالك الشائكة‪ .‬األسوار التي حتيط بها ليست‬ ‫سوى أعمدة من حراب‪ .‬األسالك إما دائرية كما تراها في اخلنادق‬ ‫واحلروب‪ ،‬أو هي شرائط غال ًبا ما ترى عليها إشارة أنها موصولة‬ ‫بالكهرباء‪ .‬كان الهدوء واجلمال اللذان يلفان احلي يخفيان في قلبه‬ ‫خوفا غامضا‪ .‬على األرصفة رأيت عالمة أزعم أنني أراها للمرة‬ ‫األولى‪ ،‬دائرة يقطعها خط أحمر تعني ممنوع‪ ،‬أما الرس� � ��م فكان‬ ‫ميثل بائ ًعا على رصيف حتت مظلة‪ .‬غير ٍ‬ ‫بعيد من اإلش� � ��ارة كان‬ ‫هناك باعة مؤقتون‪ ،‬لكن حمى كأس العالم سمحت لهم بأن يبيعوا‬ ‫األعالم والقبعات وصفارات الفوفوزيال وسواها‪ ،‬لكن آخرين لم‬ ‫يكونوا يحملون شي ًئا‪ ،‬سوى بعض اآلالت التي تستخدم في الطالء‬ ‫والنجارة والزراعة‪ ،‬إنهم عمال يسرحون من أجل مهنة وقتية‪.‬‬ ‫قال هكتور‪« :‬في جنوب إفريقيا نحو ‪ 4‬ماليني مهاجر من زميبابوي‬ ‫وحدها‪ .‬أغلبهم عاطلون يأتون بحثا عن أش� � ��غال دنيا‪ .‬انظر‪ ،‬ها‬ ‫هم‪ ،‬رجال ونساء على حد س� � ��واء»‪ .‬على مر األيام سنكتشف أن‬ ‫هناك معضلة في العالقات بني جنوب إفريقي� � ��ا وإفريقيا‪ ،‬حتى‬ ‫أن زيارة السيد زوما رئيس البالد إلى هراري كانت وراء مساءلة‬ ‫‪275‬‬


‫نهر على َس َفر | يوتوبيا ‪ ...‬وفوبيا مانديال النـد‬ ‫ٌ‬

‫له في اجلمعية العامة‪ .‬يعتقد زوما أن عليه دو ًرا لتأمني السالم‬ ‫في زميبابوي ودارفور ومناطق إفريقية أخرى يتوقع أن يؤمن مع‬ ‫مشاركني له في االحتاد اإلفريقي واألمم املتحدة اتفاقات سالم‬ ‫تاريخية‪ .‬كانت قضية استجواب زوما لزيارته إلى زميبابوي تدور‬ ‫بينما اجلماهير في ديربان‪ ،‬أحد موانئ جنوب إفريقيا على احمليط‬ ‫الهندي‪ ،‬حتيي العداء الفائز مباراثون جنوب أفريقيا‪ ،‬وكان عداء‬ ‫من زميبابوي!‬ ‫تعودنا على مشهد املهاجرين البؤساء‪ ،‬عاطلني وأجراء‪ ،‬ونحن‬ ‫نبتعد عن األحياء الراقية‪ ،‬ونقترب من «سو وي تو»‪ .‬إنها مدينة‬ ‫لها لغتها اخلاصة‪ .‬ال يعيش بها سوى السود‪ ،‬وال يقطن معظمهم‬ ‫سوى أكشاك تفتقر للحياة اآلدمية‪ ،‬قوامها غرفة وحيدة أضيق من‬ ‫أن تتسع لعائلة‪ ،‬عليها أن تقضي حاجتها في حمام ملحق بها من‬ ‫اخلارج‪ .‬كان ظهورنا في «سو وي تو» غريبا‪ ،‬على الرغم من أننا‬ ‫لسنا من ذوات البشرة الشقراء‪ ،‬إال أننا وسط منطقة ال يسكنها‬ ‫سوى السود‪ .‬بدت لنا مظاهر احلياة البائسة في املهن البسيطة‬ ‫التي ال تسمن وال تغني من جوع‪.‬‬ ‫قرب طاولتني رأينا فتاتني تبيعان بعض احللي التقليدية واألعمال‬ ‫اليدوية‪ .‬تقدمت منا إحداهما وعرفتنا على نفسها‪« :‬اسمي سامانتا‪.‬‬ ‫أنا رس� � ��امة‪ .‬هذه البطاقات امللونة بريشتي‪ .‬أيضا أنا أطبع على‬ ‫القماش بالطباعة احلريرية»‪ .‬تأملت رس� � ��وم س� � ��امانتا‪ .‬لو أنها‬ ‫ولدت في الطرف اآلخر من املدينة‪ ،‬لو أنها لوالدين موس� � ��رين‪،‬‬ ‫رمبا لكانت فنانة تشكيلية معروفة‪ ،‬تدرس في بريطانيا وتعرض‬ ‫أعمالها في باريس وتقتنى لوحاتها في نيويورك‪ .‬لكن س� � ��امانتا‬ ‫قدرها «سو وي تو»‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫خطوات من سامانتا يوجد شاهد معماري تشبه قمته‬ ‫على بُعد‬ ‫‪276‬‬

‫جز ًءا من مئذنة سامراء امللوية‪ .‬حتت قبة الشاهد األسطواني‪ ،‬التي‬ ‫تصلها بالسماء نافذة تشبه عالمة (‪ )+‬وقف عازف على نايه يقدم‬ ‫أحلانا حزينة‪ .‬درنا حول مائدة أسطوانية حجرية‪ ،‬على طرفها وضع‬ ‫العازف طبقا ليضع زوار املكان بعضا مما يتيسر لهم من النقود‪.‬‬ ‫لم أصدق أن املكان الذي شهد توقيع اتفاق نهاية الفصل العنصري‬ ‫حتول إلى غرفة لعازف بائس‪.‬‬ ‫في مواجهة سوق شعبية جتد فيها كل ما سيذكرك بجنوب إفريقيا‪،‬‬ ‫نصب تذكاري‬ ‫أدغالها وحيواناتها‪ ،‬رسومها ومشغوالتها‪ ،‬كان هناك‬ ‫ٌ‬ ‫أمام س� � ��احة كبيرة يجري فوق حصاها نهر من مياه يعلوه جس ٌر‪.‬‬ ‫كانت الساحة خالية إال من مارة يعدون فوق اجلسر‪ ،‬ومصور يعرض‬ ‫علينا أن يصورنا أمام النصب‪ .‬شكرناه ونحن نشير آللتي التصوير‬ ‫اللتني نحملهما‪ .‬كان امليدان‪ ،‬والنصب‪ ،‬حتية للشهداء من الطالب‬ ‫الذين تظاهروا ضد الفصل العنصري‪ .‬في ذلك اليوم خرج األوالد‬ ‫إلى مدارس� � ��هم دون أن يخبروا آباءهم بعزمهم على التظاهر‪ .‬لم‬ ‫يعد أح ٌد حيا من املظاهرة‪ .‬سالت دماء الصبية‪ ،‬برصاص الشرطة‬ ‫العنصرية‪ .‬ال أدري هل كان خياال أم أنه ظل احلصى في النهر؟‬ ‫كنت أملح لونا أحمر اليزال يسيل حتت اجلسر الصغير‪.‬‬ ‫يضيف هكتور‪ :‬اسم هذا احلي املدينة مختصر السم ساوث ويست‬ ‫تاونشيبس‪ .‬أي إن «سو» ترمز للجنوب‪ ،‬و«وي» للغرب‪ ،‬و«تو» للمدن‬ ‫(تاونس) التي اجتمعت حتت مظلة هذه املدينة السمراء‪.‬‬ ‫مرة أخرى‪ ،‬وليست أخيرة س� � ��يظهر لنا مانديال‪ .‬قال هيكتور‪:‬‬ ‫«ليس كل ما في سو وي تو أسود‪ .‬اآلن سنتجه إلى شارع عاش به‬ ‫اثنان حصال على جائزة نوبل للسالم‪ .‬هذا الشارع في سو وي تو‬ ‫ستجدانه في موسوعة جينيس لألرقام القياسية‪ ،‬وأما املكرمان‬ ‫بجائزة نوبل فهما نيلسون مانديال‪ ،‬والقس ديزموند توتو‪ .‬عبرت‬ ‫‪277‬‬


‫نهر على َس َفر | يوتوبيا ‪ ...‬وفوبيا مانديال النـد‬ ‫ٌ‬

‫السيارة بنا منزل القس توتو‪ .‬اليزال يسكنه‪ ،‬من حني آلخر‪ ،‬لذا‬ ‫ال يصرح ألحد بزيارته بغرض الفرجة‪ .‬قبل أن نعود لبيت نيلسون‬ ‫مانديال مررنا ببيت زوجته الثانية‪ ،‬ويني مانديال‪ ،‬وعرفنا أنها تقضي‬ ‫هذا الصيف بإسبانيا‪ .‬عدنا إلى بيت نيلسون مانديال الذي حتول‬ ‫ٍ‬ ‫تذكارات كثي� � ��رة‪ .‬على جدار الواجهة يخفي‬ ‫مزا ًرا‪ ،‬واليزال يضم‬ ‫اإلسمنت موضع رصاصات أطلقتها الشرطة حني جاءت العتقال‬ ‫ويني مانديال‪ .‬رائحة املكان بالصور الكثيرة ملانديال‪ ،‬وأوالده الذين‬ ‫رحلوا‪ ،‬وابنته التي تزوجت أمي ًرا من سوازيالند‪ ،‬وزوجته‪ ،‬وأمه‪،‬‬ ‫أعادتني حلياة مانديال احلقيقية‪ .‬كنا قد وصلنا إلى الشجرة التي‬ ‫شهدت مولد أبنائه‪ .‬كانت الشجرة قد انحنت مثل كهل آملته السنون‪.‬‬ ‫جلست قليال أتذكر أيام مانديال‪ ،‬قبل أن يعود إلى هذا املنزل إثر‬ ‫ُ‬ ‫إطالق سراحه في ‪ 11‬فبراير ‪1992‬م‪.‬‬ ‫كان نيلسون مانديال يحلم‪ ،‬وكنا نؤمن بحلمه‪ .‬كان زعيما حقيقيا‬ ‫لديه طموح‪ ،‬وكان أملنا أن تصيب ع� � ��دوى طموحه كل الزعماء‪.‬‬ ‫كان يريد إفريقيا جديدة‪ ،‬وكانت تل� � ��ك إرادتنا كلنا‪ .‬كان مانديال‬ ‫يخطط لعالم مختلف ملا بعد احلرب الباردة‪ ،‬والفصل العنصري‪،‬‬ ‫واالستعمار‪ .‬وكان ذلك أهم ما نحلم به‪.‬‬ ‫في متحف آخر هو (‪ )Apartheid Museum‬يسجل سنوات‬ ‫الفصل العنصري كانت عمارة املكان تعيد لنا صورة احلياة القاسية‬ ‫التي عاشها أبناء البالد‪ .‬نعبر البوابة إلى غرفة مليئة بالالفتات‬ ‫احلقيقية التي أعيدت إلى احلياة‪ :‬إنها الالفتات التي كانت تسمح‬ ‫لألوربيني فقط مبمارسة حياة حتظرها على سواهم‪ .‬كثيرة هي‬ ‫البطاقات املُكبرة التي متثل مواطنني جنوب إفريقيني كان عليهم‬ ‫أن يعاقـَبُ� � ��وا إذا عبروا إلى مناطق غير مج� � ��ازة لهم‪ .‬في واجهة‬ ‫املكان الذي س� � ��جنت فيه البطاقات جتلس جلنة حتدد العقوبات‬ ‫‪278‬‬

‫فتاة ترتدي أحد األزياء التقليدية حيث تعمل في قرية الزولو الفولكلورية‪.‬‬

‫‪279‬‬


‫نهر على َس َفر | يوتوبيا ‪ ...‬وفوبيا مانديال النـد‬ ‫ٌ‬

‫ملن يخالف أوامر الشرطة‪.‬‬ ‫وهي تكاد تبكي‪ ،‬وقفت فتاة سمراء تتأمل البطاقات‪ ،‬رمبا تبحث‬ ‫عن أحد أفراد عائلتها وراء التاريخ واألسوار والقيود‪ .‬كانت تلك‬ ‫نقطة في التاريخ البد أن لها جذو ًرا‪.‬‬

‫يوم في حياة الزولو‬ ‫ٌ‬ ‫كان سكان «البالد» من اخلوي خوي‪ ،‬الذين ميزجون في حياتهم‬ ‫لصا‪ .‬كانت‬ ‫بني الرعي والقنص‪ ،‬مع البوشمن‪ ،‬الذين كانوا رعاة خُ ً‬ ‫اجلماعتان قريبت� �ي��ن حتى يكاد التمييز بينهما في علم اإلناس� � ��ة‬ ‫(األنثروبولوجي) يكون صع ًبا‪ .‬لكننا نحكي هنا عن تاريخ ‪ 40‬ألف‬ ‫سنة خلت! سنعبر القرون لنصل إلى بداية التقومي امليالدي فيكون‬ ‫وضوحا حني يسرد علينا العلماء كيف‬ ‫املشهد األنثروبولوجي أكثر‬ ‫ً‬ ‫اتصلت جماعة اخلوي خوي بقبائل البانتو‪ ،‬التي متارس الصيد‬ ‫وجمع الثمار ـ ليمارسوا م ًعا الرعي وليهاجروا جنوبًا من املكان الذي‬ ‫جمعهم م ًعا ‪ -‬بوتسوانا اليوم ‪ -‬إلى رأس الرجاء الصالح‪.‬‬ ‫التعايش بني اجلماعتني على امتداد قرون األلف األولى للميالد‬ ‫أفضى بنا إلى جماعات مستوطنة‪ .‬لم ترع هذه اجلماعات احليوانات‬ ‫في حظائر وحسب‪ ،‬بل بدأت بزراعة الشعير وتعدين أدوات القنص‪،‬‬ ‫وصناعة الفخار‪ .‬وبدأ عص ٌر ظهرت فيه القرى التي جتمع أبناء‬ ‫هذه اجلماعات‪ .‬في القرن امليالدي الثالث ظهر ما عرف باسم كوا‬ ‫زولو ناتال‪ .‬وهذه صورة لنشأة الزولو الذين انتشروا بني املقاطعة‬ ‫الشمالية‪ ،‬وجوتنج‪ ،‬وفري ستيت‪.‬‬ ‫بعد ذلك بقرون ستتجه الهجرات القبلية إلى اجلزء الشرقي من‬ ‫جنوب إفريقيا‪ ،‬لتكون مستعمرات قروية‪ ،‬ولتبتدع في القرن اخلامس‬ ‫عشر ثورتها الصناعية‪ ،‬وليبدأ عصر تصنيع احلديد‪ ،‬والتنقيب عن‬ ‫‪280‬‬

‫الذهب والبحث عن النحاس‪ ،‬وقد كانا على عمق يصل إلى ‪ 25‬مت ًرا‬ ‫في باطن األرض‪ .‬اليوم مييز األنثروبولوجيون بني ثالث قبائل في‬ ‫تلك البقعة من البالد؛ الزولو‪ ،‬والسوازي‪ ،‬والكوسا (تنطق الكاف‬ ‫�ت أن هكتور من قبيلة الزولو‪ ،‬وأن‬ ‫قريبة من حرف اخلاء)‪ .‬عرف� � � ُ‬ ‫زوجته أيضا من الزولو‪ ،‬لكنها ليست من العائلة نفسها‪ ،‬أما ابنتهما‬ ‫فقد كان اسمها سميحة‪ ،‬أو كما ينطقانها سميخة! عرض علينا‬ ‫هكتور أن يضمن برنامجنا زيارة للقرية التي ظل بها حتى تزوج‪،‬‬ ‫وكانت فرصة لنا للتعرف عن كثب على حياة الزولو‪.‬‬ ‫وصلنا القرية فاس� � ��تقبلنا عدد من الراقصني التقليديني‪ ،‬بزي‬ ‫شعبي باذخ األلوان‪ ،‬وأغان فولكلورية عالية الصخب‪ ،‬وأداء حركي‬ ‫استثنائي السرعة‪ .‬الفتاة التي اصطحبتنا إلى داخل قرية تضم‬ ‫ٌ‬ ‫محيط واحد من األدغال‪ ،‬أرشدتنا‬ ‫أربع قبائل أخرى‪ ،‬ويجمع بينها‬ ‫إلى املسرح الذي يقع في مقدمة القرية‪ ،‬حيث عرض فيل ٌم يلخص‬ ‫قصة احلياة واحلضارة في جنوب القارة‪.‬‬ ‫زرنا الزولو‪ ،‬ومنهم صناع احلراب‪ ،‬وزرنا القبائل األخرى التي‬ ‫متارس حياتها‪ ،‬ومنها ملك يتخذ ثالث زوجات الواحدة منهن تبلغ‬ ‫ضعفه حجما أو أكثر‪ ،‬بال مبالغة‪ .‬في نهاية اجلولة قدمتنا الفتاة‬ ‫إلى قائد املجموعة‪ ،‬الذي دعا زعيم القبيلة بالقرية لتوسط مسرح‬ ‫آخر إلى ميينه قارع الطبلة العمالقة‪ ،‬وخلفه ويساره مجموعة من‬ ‫العازفني اآلخرين‪ .‬بدأت احلفلة الراقصة التي اختتمت ‪ -‬حتية‬ ‫لكأس العالم ‪ -‬برقصة الديكسي الشهيرة‪ .‬حني حضر موعد الطعام‪،‬‬ ‫تقدمنا هكتور إلى مائدة حافلة عليها أطباق حلوم التماسيح والنعام‬ ‫والدجاج واألسماك‪ .‬كانت ثمار القرع بني ما طهي من طعام مع‬ ‫ً‬ ‫منتفخا على غير العادة‪ .‬اكتفى سليمان‬ ‫السبانخ‪ .‬أما األرز فكان‬ ‫وفعلت مثله بعد أن أضفت قط ًعا من صدر النعام‪،‬‬ ‫باخلضراوات‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫‪281‬‬


‫نهر على َس َفر | يوتوبيا ‪ ...‬وفوبيا مانديال النـد‬ ‫ٌ‬

‫أما هكتور فلم يدع شي ًئا إال وأصاب منه القليل والكثير‪.‬‬ ‫في طريق العودة إلى جوهانسبرج لم نخرج عن األجواء التقليدية‬ ‫حني عرجنا على سوق السحرة‪ .‬ف ِّك ْر في أي شيء غريب وستجده‪:‬‬ ‫هنا قر ٌد محنط‪ .‬هيكل عظمي لذئب‪ .‬جلد ثعبان‪ .‬ذيل حليوان بري‪.‬‬ ‫رأس ثور منزوع العينني‪ .‬صخور ملونة‪ .‬ربطات أعشاب برية‪ .‬الكثير‬ ‫من املساحيق والعديد من األواني البالستيكية‪ .‬زجاجات حتوي‬ ‫سوائل‪ .‬هنا ستأتي زوجة تشكو من زوجها فتعد لها الساحرة ما‬ ‫يعيده إليها‪ .‬هنا سيأتي رجل ليشتري شي ًئا يجعل قلب رئيسه في‬ ‫العمل يلني له‪ .‬لم نكن نريد شي ًئا سوى التقاط بعض الصور‪.‬‬ ‫على ناصية السوق كان يقف ش� � ��اب ضخم اجلثة جعله هكتور‬ ‫مسؤوال عنا حتى ال تهاجمنا الساحرات وال يتعرض لنا املشعوذون‪.‬‬ ‫نقده ما أراده‪ ،‬ولكننا حني انتهينا طاردتنا نسوة صورنا «محالتهن»‪.‬‬ ‫كن يرغنب في مكافأة إضافية‪ ،‬حني رفض هكتور أخذت املرأة حتدق‬ ‫بنا جمي ًعا واح ًدا تلو اآلخر‪ ،‬وكأنها تقرأ تعاويذ‪ .‬حني كانت تقابلنا‬ ‫مشكلة على الطريق كنا نتذكر لعنة تلك الساحرة ونضحك‪ ،‬ألن‬ ‫هكتور قال لنا إن سحرها لن يسافر معنا‪ ،‬فهو محدود جغراف ًيا‬ ‫بجوهانسبرج وضواحيها‪ .‬كانت تلك حياة يومية آلالف السنني‪ ،‬ولم‬ ‫تستطع احلياة اجلديدة في جنوب إفريقيا أن تغير منها شي ًئا‪.‬‬

‫وقفة تاريخية‬ ‫كان انتشار اإلسالم في الشمال اإلفريقي ودول البلقان قد حول‬ ‫سبل التجار األوربيني إلى جحيم‪ ،‬مما جعل اإلسبان والبرتغاليني‬ ‫يبحثون عن دروب بحرية للوصول إلى الهن� � ��د‪ ،‬بعي ًدا عن موانئ‬ ‫البحر املتوس� � ��ط الذي أصبح في القرن اخلامس عشر ميالدي‬ ‫بحيرة إسالمية‪ .‬ولذلك تركزت آمالهم في رأس الرجاء الصالح‪،‬‬ ‫‪282‬‬

‫النوارس ترحب مبرتادي شواطئ كيب تاون‪ ،‬والفرق الشعبية تعزف لهم‬ ‫في ميناء املدينة‪.‬‬

‫‪283‬‬


‫نهر على َس َفر | يوتوبيا ‪ ...‬وفوبيا مانديال النـد‬ ‫ٌ‬

‫حول ذيل القارة الس� � ��مراء‪ ،‬ليكون مالذهم لتأمني جتارة التوابل‪،‬‬ ‫أهم بضاعة في العصور الوسطى‪ .‬وقد شهد العام ‪1487‬م وصول‬ ‫الغرب األوربي إلى جن� � ��وب القارة اإلفريقية للم� � ��رة األولى‪ .‬كان‬ ‫بارثلميو دياز وصحبه في حملة من ‪ 3‬سفن قد دار حول الرأس‪،‬‬ ‫الذي س� � ��ماه دياز «‪ »Cabo da Boa Esperança‬وترجمتها‬ ‫رأس الرجاء الصالح‪ .‬بعد ذلك بعشر سنوات دار فاسكو دا جاما‬ ‫حول املكان نفسه‪ ،‬قبل أن ينجح في الوصول إلى الهند في العام‬ ‫‪1498‬م‪ .‬هكذا بدأ البرتغاليون بتوجي� � ��ه األنظار نحو ذلك الكنز‬ ‫املالحي‪ ،‬الذي سرعان ما اجتذب إليه مالحني أكثر سطوة‪ ،‬وشهد‬ ‫صراعا بريطان ًيا ‪ -‬هولند ًيا على‬ ‫القرن السادس عش� � ��ر امليالدي‬ ‫ً‬ ‫الرأس الذي صعد على اخلارط� � ��ة املالحية كمحطة نظامية بني‬ ‫احمليطني‪ ،‬األطلنطي والهندي‪ .‬في العام ‪ 1624‬امليالدي حتطمت‬ ‫أمام صخور جبل الكيب املعروفة باسم جبل املائدة سفينة تابعة‬ ‫لشركة الهند الشرقية الهولندية‪ ،‬وقد بنى بحارتها املنعزلون على‬ ‫اجلزيرة التي تقبع قبالة اجلبل قلعة آوتهم ملدة عام‪ ،‬قبل أن تنقذهم‬ ‫قافلة هولندية أخرى‪.‬‬ ‫لم يكن الهولنديون ينوون «احت� �ل��ال» الكيب وما حولها‪ ،‬لكنهم‬ ‫أرادوا تأمني مسار جتارتهم‪ ،‬وهذا ما جعل تأمني التجارة يتحول إلى‬ ‫احتالل رسمي‪ ،‬بعد وصول جان فان ريبيك إلى خليج املائدة (نسبة‬ ‫إلى اجلبل املطل عليه والذي يشبه مائدة نسبة إلى استواء رأسه!)‬ ‫في السادس من أبريل سنة ‪1652‬م‪ .‬تزدهر التجارة‪ ،‬وتتسع مبا يجعل‬ ‫من جان فان ريبيك يسعى للبحث عن عمالة تكفيه‪ ،‬فـ«يستورد»‬ ‫من موزمبيق‪ ،‬وجاوة ‪ -‬في إندونيسيا ‪ -‬ومدغشقر عبي ًدا‪ ،‬وها هم‬ ‫يبنون مستعمرتهم األولى في جزيرة «روبن آيالند»‪.‬‬ ‫و َّدعنا هكتور‪ ،‬وانطلقنا إلى كي� � ��ب تاون‪ .‬بالرغم من قوة الرياح‬ ‫‪284‬‬

‫االستثنائية وصلنا إلى مطار كيب تاون بعد أقل من ساعتني على‬ ‫مغادرتنا جوهانسبرج‪ .‬املضيف اجلوي املرح الذي يرتدي قميص‬ ‫كأس العالم بدال من الزي التقليدي‪ ،‬وسط حمى استقبال جنوب‬ ‫إفريقيا للبطولة األولى في كرة القدم‪ ،‬جعلنا ننسى اهتزاز الطائرة‬ ‫التي حملت إلى أعرق مدن جنوب أفريقيا كل األجناس‪ .‬أوربيات‬ ‫متبرجات‪ ،‬ومسلمات منقبات‪ ،‬أفارقة مهجنني‪ ،‬وصحفيني عربيني‪،‬‬ ‫وسكانا للبالد ولدوا بها‪ ،‬يرثها آباؤهم‪ ،‬لكنهم اليوم محكومون بزمرة‬ ‫مانديال من املجاهدين األحرار‪.‬‬ ‫حتى العام ‪1745‬امليالدي‪ ،‬لم يكن عدد البيض في «البالد» قد‬ ‫جتاوز األلف نسمة‪ .‬كانت شركة الهند الشرقية ‪ -‬الهولندية قد‬ ‫سمحت لبعض املواطنني ببناء مساكن ومزاولة الزراعة‪ ،‬لكن قبضة‬ ‫الشركة خفت بعد أن زاد عددهم‪ ،‬ثم هاجر هؤالء ليتخففوا لألبد‬ ‫من سيطرة شركة الهند الشرقية الهولندية عليهم‪ .‬عبر هؤالء نهر‬ ‫أوليفانت وصوال إلى نهر السمك الكبير‪ .‬مارسوا عزلتهم‪ ،‬وسط‬ ‫لسكناهم‪ .‬وإذا‬ ‫أعمال الزراعة‪ ،‬حول أكواخ الطني التي شيدوها ُ‬ ‫رحل‪،‬‬ ‫كانوا يسمون في املاضي ‪ Trekboers‬ومعناها مزارعون َّ‬ ‫فقد عرفوا الحقا باسم ‪ Boer‬وقد انقطعت بهم السبل ‪ ،‬بسبب‬ ‫عزلتهم‪ ،‬عن التمدن الذي طال األوربيني في القرن الثامن عشر‪،‬‬ ‫بفضل الثورة الفرنسية‪ ،‬وأفكار التحرر‪ ،‬والدميقراطية‪ .‬وشكل هؤالء‬ ‫«البوير» النمط اإلفريقي للحياة‪ ،‬ثقافة ومسل ًكا‪ .‬وهو القرن نفسه‬ ‫الذي شهد اضمحالل القوة الهولندية‪ ،‬ومنو السطوة البريطانية‪،‬‬ ‫التي توجت في العام ‪ 1795‬امليالدي بغزو البريطانيني للكيب‪ ،‬حتى‬ ‫ال يقع رأس الرجاء الصالح بأيدي الفرنس� � ��يني املنتشني بالثورة‪،‬‬ ‫وهناك أسس التاج البريطاني مستعمرة قوامها ‪ 25‬أل ًفا من العبيد‪،‬‬ ‫يحكمهم عشرون ألفا من البيض‪ ،‬ويساعدهم ‪ 15‬ألفا من قبيلة‬ ‫‪285‬‬


‫نهر على َس َفر | يوتوبيا ‪ ...‬وفوبيا مانديال النـد‬ ‫ٌ‬

‫الكوسان‪ ،‬وألف ممن كانوا أرقاء سو ًدا قبل أن ينالوا حريتهم‪.‬‬ ‫أصبحت السطوة في الكيب للبيض وحسب‪ ،‬وبدأ التمييز على‬ ‫أس� � ��اس لون البش� � ��رة يتحقق على أرض الواقع‪ .‬وبالرغم من أن‬ ‫البريطانيني سلموا املستعمرة للهولنديني في العام ‪ 1803‬امليالدي‪،‬‬ ‫إال أنهم‪ ،‬كرد فعل على احلروب النابوليونية‪ ،‬قرروا تأمني الكيب ضد‬ ‫الفرنسيني‪ ،‬فاستعادوا كيب تاون بعد ثالث سنوات إثر هزميتهم‬ ‫للهولنديني‪ .‬ومت تسليم املستعمرة بشكل دائم للبريطانيني في الثالث‬ ‫عشر من أغسطس سنة ‪1814‬ميالدية‪ .‬وما هي إال سنوات وبدأت‬ ‫الهجرات اإلجنليزية تشكل املجتمع اجلديد في كيب تاون بداية‬ ‫من الشرق في العام ‪ 1820‬امليالدي‪ .‬أراد البريطانيون أن يتوسعوا‬ ‫ليكونوا منطقة وسطى بني البوير املزارعني الرعاة والكوسا‪ .‬ثم‬ ‫بدأت احلروب تشكل وجه احلياة بني القادمني والسكان األصليني‪.‬‬ ‫وفي العام ‪1824‬م يبدأ امللك موشوي ش� � ��وي يعلن عن قيام كيان‬ ‫جديد لشعب الباسوتو‪ .‬في ثالثينيات القرن التاسع عشر ينتصر‬ ‫محاربو البوير على الزولو في معركة نهر الدماء‪ .‬تتأسس في العام‬ ‫‪1838‬م جمهورية البوير وبعدها بست سنوات ينتصر البريطانيون‬ ‫على الكوسا إثر مذبحة القطيع الكبرى‪.‬‬ ‫في العام ‪1860‬م يصل الهنود إلى الترانسفال حيث أسس البوير‬ ‫جمهوريتهم‪ .‬بعد ذلك بثماني سنوات يضم االحتالل البريطاني أرض‬ ‫الباسوتو إلى مستعمراتهم (هي اليوم مملكة ليسوتو)‪ .‬في العام‬ ‫‪1869‬م يُكتشف األملاس في كيمبرلي قرب جوهانسبرج‪ .‬وفي العام‬ ‫‪1871‬م يُكتشف الذهب في الترانسفال الشرقية‪ .‬في العام ‪1877‬م‬ ‫يُلحق البريطانيون جمهورية البوير مبستعمراتهم‪ .‬في العام ‪1881‬م‬ ‫ينتصر البوير على البريطانيني وتصبح الترانسفال تُعرف للمرة‬ ‫األولى باسم جمهورية جنوب إفريقيا‪ .‬بني الهنود الذين جاءوا إلى‬ ‫‪286‬‬

‫لم تعد الوجوه التقليدية للقبائل اجلنوب إفريقية إال مجرد مشهد فولكلوري‪ ،‬مثل‬ ‫هذا الراقص واملغني والعازف على شاطئ كيب تاون‬

‫‪287‬‬


‫نهر على َس َفر | يوتوبيا ‪ ...‬وفوبيا مانديال النـد‬ ‫ٌ‬

‫الناتال نتعرف على موهانداس غاندي‪ ،‬الذي سيقود بالده الحقا‬ ‫للثورة البيضاء‪ ،‬ثورة امللح‪ ،‬ضد االحت� �ل��ال البريطاني‪ .‬في العام‬ ‫‪1897‬م يضم االحتالل البريطاني مملكة الزولو إلى مستعمراته‪.‬‬ ‫بني عامي ‪ 1899‬و‪1902‬م تشتعل املعارك بني اإلجنليز والبوير‪.‬‬

‫سيتسوتو وإليزابيث‪ ...‬قصة امرأتني‬ ‫في كيب تاون كانت دليلتنا سيدة شابة اسمها سيتسوتو‪ .‬ولدت‬ ‫سيتسوتو ودرست في حي سو وي تو‪ ،‬الذي ميثل قلب جوهانسبرج‬ ‫النابض‪ ،‬لكنها بعد أن اجتازت سن املراهقة أرادت أن جترب محيطا‬ ‫مختلفا‪ .‬لم تكن األم تريد البنتها الصغيرة سيتسوتو أن تغادر سو‬ ‫وي تو‪ ،‬لكن مع إحلاح سيتسوتو‪ ،‬أرسلتها إلى كيب تاون‪ ،‬فخالها‬ ‫قسيس هناك‪ ،‬سيتولى رعايتها لو احتاجت إلى هذه الرعاية‪ .‬في‬ ‫كيب تاون تتعرف سيتسوتو على زميل لها في اجلامعة‪ ،‬وفي قمة‬ ‫جبل شامبان يتفقان على الزواج‪ .‬بعد التخرج عملت سيتسوتو في‬ ‫جوهانسبرج‪ ،‬ولكن الزواج يجعلها تترك العمل لتأتي إلى كيب تاون‪،‬‬ ‫عملت عامني‪ ،‬وابتسمت احلياة البنة سو وي تو في كيب تاون‪ .‬لكن‬ ‫سيتس� � ��وتو‪ ،‬حني أجنبت ابنتها الوحيدة أولو‪ ،‬لم تستطع أن تعو َد‬ ‫للعمل بعد إجازة الوضع‪ ،‬لقد درست اإلعالم والصحافة في كيب‬ ‫تاون‪ ،‬لكنها ال تستطيع أن تلتحق بعمل دائم‪ .‬حتب احلياة في كيب‬ ‫تاون‪ ،‬لكنها ال تنسى أن لها أ ًّما وشقيقة كبرى في جوهانسبرج‪.‬‬ ‫قالت لي سوتو‪« :‬أري ُد أن أضع ح ًّدا لرغبتي املتأرجحة بني العيش‬ ‫في كيب تاون والعودة إلى جوهانسبرج‪ .‬هنا كل شيء جميل‪ ،‬لكن‬ ‫ال يس� � ��تطيع زوجي وحده أن يغطي نفقات العائلة‪ ،‬وأنا بال عمل‬ ‫دائم‪ ،‬بالرغم من سعيي اليومي بني الشركات التي تعمل في مجال‬ ‫تخصصي‪ .‬أحيانا تكون هناك امرأة كسول بيضاء توكل لي بعض‬ ‫‪288‬‬

‫األشغال التي تعجز عن إجنازها ألقوم بكتابتها‪ ،‬ألنها تكره الكتابة‬ ‫كنت أعم ُل‬ ‫ورمبا لم تدرس بالرغم من أنها تش� � ��غل الوظيفة التي ُ‬ ‫بها قبل أن أجنب أولو»‪.‬‬ ‫العثور على عمل في مجال اإلعالم ليس هينا في ظل منافسة‬ ‫شرسة في مجتمع اليزال يحمل سمت املاضي‪ .‬ال تكاد تشعر في‬ ‫كيب تاون أنك بجنوب إفريقيا‪ .‬ليس هناك من أثر ملانديال إال في‬ ‫جزيرة روبن‪ ،‬وحديقة النباتات‪ ،‬حيث يزين متثال نصفي له حوضا‬ ‫رئيسا للبالد‪.‬‬ ‫للزهور زاره حني كان‬ ‫ً‬ ‫ذهبنا لرؤية عائلة سيتسوتو‪ .‬في البيت شاهدنا ألبومي صور‬ ‫يقدمان حفلني لزفاف سيتسوتو‪ ،‬األول حفل غربي أقامته عائلتها‬ ‫لها في س� � ��و وي تو بجوهانس� � ��برج‪ ،‬أما الثاني فكان مراسم على‬ ‫طريقة الزولو والكوسا أشرفت عليه عائلتها اجلديدة وأقيم في‬ ‫كيب تاون‪ ،‬مبالبس تقليدية‪ ،‬لم تستطع خالله العروس رفع عينيها‬ ‫من على األرض إال لت� � ��أكل طعام اللحم واألرز ال� � ��ذي أعدته لها‬ ‫حماتها‪ ،‬على عكس احلفل الغربي الذي بادلت فيه زوجها كوالن‬ ‫القبالت عالنية!‬ ‫في إحدى اجلوالت قادتنا أقدامنا إلى أحد شواطئ كيب تاون‪ .‬يبيع‬ ‫الصيادون السمك باملزاد‪ ،‬ينادون بأعلى صوت‪ ،‬تكاد أصواتهم متس‬ ‫أجنحة النوارس التي حتلق فوقهم‪ .‬هناك التقيت ليز‪ ،‬أو إليزابيث‪،‬‬ ‫التي ولدت لعائلة من املستعمرين‪ .‬التقيتها في سوق شاطئي تبيع‬ ‫األشغال الفنية‪ .‬قالت لي أعيش في كيب تاون‪ ،‬وأشعر بنفسي هنا‪،‬‬ ‫ولدت في بريتوريا‪ .‬أصمم بعض الصناعات‪ ،‬لكنني‬ ‫بالرغم من أنني‬ ‫ُ‬ ‫أعاني من سرقة الصينيني ألفكاري‪ .‬يأتي أحدهم ومعه كاميرا‪،‬‬ ‫يلتقط صو ًرا‪ ،‬ثم يعود للسوق بعد فترة وقد أغرقه بتقليد للمنتج‬ ‫الذي ابتكرته‪ .‬تناولت ليز قطعة من الفخار املصنوع باليد لبعض‬ ‫‪289‬‬


‫نهر على َس َفر | يوتوبيا ‪ ...‬وفوبيا مانديال النـد‬ ‫ٌ‬

‫األيقونات اجلنوب إفريقية‪ ،‬ثم قارنتها بأخرى مصنوعة من املطاط‪.‬‬ ‫كان التقليد املطاطي بدي ًعا‪ ،‬وقد ال يكلف ُع ْش� � ��ر تكلفة الصناعة‬ ‫قلت لها وأنا أتأمل أشغالها إنني اشتريت بعض‬ ‫اليدوية‪ .‬لدهشتي ُ‬ ‫األكواب التي صممتها من مطار جوهانسبرج‪ .‬قالت إن شقيقها‬ ‫يروج ملصنوعاتها محليا ودوليا‪ .‬فهي ال تذهب إلى دجوبرج ألنها‬ ‫تش� � ��عر بأنها مدينة متعصبة‪ .‬عالية الص� � ��راخ‪ .‬حني عرفت أنني‬ ‫عربي قالت إنها ذهبت مبنتجاتها للمش� � ��اركة في معرض مبدينة‬ ‫دبي‪ ،‬والتقت هناك بسيدة مصرية‪ ،‬علمتها عبارة التزال تذكرها‪:‬‬ ‫«إن شاء الله»‪.‬‬ ‫هبت عاصفة شديدة كادت تطيح ببعض أغراض باعة املشغوالت‬ ‫التقليدية املعروضة قبالة البحر‪ ،‬صرخت ليز في خادمة سوداء‬ ‫أن تنتبه كي ال يتحطم شيء‪ .‬تبادلنا التحية مع ليز وانطلقنا على‬ ‫الرمال البيضاء وأنا أستعيد قصة سيتسوتو التي تبحث عن عمل‬ ‫في وطنها لتبقى بجوار ابنتها وزوجها فال جتد‪ ،‬وقارنتها بقصة‬ ‫ليز التي تتنقل بحرية وكأن بشرتها البيضاء جناحان يعبران بها‬ ‫تساءلت؛ أال تختصر قصة سيتسوتو وليز احلياة‬ ‫اخلرائط بيسر‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫في كيب تاون؟‬

‫جوجوليتو والجنا ‪ ...‬ضحايا وضاحيتان‬ ‫بعد جولتنا في كيب تاون‪ ،‬لم تس� � ��تطع سيتسوتو أن تخفي عنا‬ ‫رغبتها في أن نرى اجلزء اآلخر من كيب تاون‪ .‬أرادت أن نرى جز ًءا‬ ‫عزيزًا عليها‪ .‬هكذا خرجنا من قلب املدينة إلى أطرافها عبرنا بني‬ ‫ضاحيتني هما جوجوليتو‪ ،‬والجنا‪.‬‬ ‫كان اليوم هو األحد‪ ،‬وقد اعتاد املكان الذي يعيش به الس� � ��ود‬ ‫وامللونون استقبال اجلميع ـ من أنحاء كيب تاون ‪ -‬وخاصة يومي‬ ‫‪290‬‬

‫السبت واألحد ‪ -‬لتتحول الضاحية إلى كرنفال شعبي‪ .‬ترتدي الفتيات‬ ‫أفضل ما لديهن‪ .‬هناك طقس جتتمع حول� � ��ه العائلة واألصدقاء‬ ‫حيث يتم شراء اللحم وشواؤه‪ .‬وسط دخان الشواء ميكنك أن ترى‬ ‫وجوها من كل األجناس‪ ،‬واألعمار‪ .‬الكل يرقص‪ ،‬ويغني‪ ،‬ويشرب‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ضجيجا‬ ‫ويأكل‪ ،‬وأصوات األغاني في مسجالت السيارات تصدر‬ ‫ً‬ ‫كبي ًرا‪ .‬قالت سيتسوتو‪« :‬إنهم يحاولون أن ينقلوا أجواء سو وي تو‬ ‫إلى هنا‪ .‬صحيح أنني ال أحب أن آتي بشكل منتظم‪ ،‬لكن احلياة‬ ‫صاخبة هنا في حدها األقصى»‪.‬‬ ‫في أحد بيوت جوجوليتو‪ ،‬ومعظمها من الصاج واخلشب‪ ،‬التقينا‬ ‫بعائلة بسيطة‪ ،‬كان الفتى على عجلة من أمره للخروج‪ ،‬تبعناه فإذا‬ ‫به يتجه إلى كوخ من الصفيح يدير فيه صاحبه عدة ألعاب فيديو‪،‬‬ ‫انهمك الفتى مع صحبه في اللعب‪ ،‬والصراخ أمام الكاميرا‪ .‬على‬ ‫مرمى البصر كانت هناك مقبرة جوجوليت� � ��و‪ ،‬وأعتقد أن احلياة‬ ‫البائسة ألهل احلي ال تبعد كثي ًرا عن حياة القبور‪ .‬وعدتهم احلكومة‬ ‫في إطار كأس العالم بأنهم جمي ًعا س� � ��يحظون ببيوت في ‪،2010‬‬ ‫ولكن كانت األكواخ أكبر من عدد البيوت التي استطاعت احلكومة‬ ‫كأسا أخرى للعالم حتى‬ ‫استكمالها‪ .‬قال رجل يشكو‪« :‬رمبا ننتظر ً‬ ‫نسكن بيوتًا»‪.‬‬ ‫في مفترق الطرق الذي يفصل بني الضاحية والطريق العام عرفنا‬ ‫أن هذا امليدان هو الذي ولدت عنده شرارة املظاهرات في كيب‬ ‫تاون ضد نظام الفصل العنصري‪ ،‬وقبل أن نغادر احلي كان هناك‬ ‫نصب لسبعة من الشباب قتلوا خالل إحدى تلك املظاهرات‪ .‬احلياة‬ ‫في حي الجنا أفضل‪ ،‬فاألكواخ أقل‪ ،‬والبيوت على بؤس� � ��ها أكثر‪.‬‬ ‫لكن اجلرمية تشتعل وتلتهم نارها صبا وفتوة األجيال الصغيرة‪.‬‬ ‫إنهم يبحثون عن عمل فال يجدون‪ ،‬لذا يهربون إلى هنا ويروجون‬ ‫‪291‬‬


‫نهر على َس َفر | يوتوبيا ‪ ...‬وفوبيا مانديال النـد‬ ‫ٌ‬

‫املخدرات‪ ،‬ويسرقون‪ ،‬حتت إمرة شبكات منظمة للجرمية‪ .‬تذكرت‬ ‫بيوت احلي الذي سكناه في جوهانس� � ��برج‪ .‬كانت البيوت هنا ال‬ ‫تكشف عن مثل ذلك اخلوف‪ ،‬لكنني عرفت السبب‪ ،‬فكل البيوت‬ ‫في كيب تاون تتمتع بأنظمة أمنية على مدار الس� � ��اعة‪ .‬شركات‬ ‫احلراسة تؤمن حماية إلكترونية للمنازل‪ .‬كان األمن الذي رأيناه‬ ‫خادعا‪ .‬كان اخلوف مختبئًا خلف دوائر كهربائية مغلقة‪ .‬إنه سجن‬ ‫ً‬ ‫كبير تتحكم به أزرار تدار بالكهرباء وأجهزة التحكم عن بُعد‪ .‬ومرة‬ ‫أخرى رأينا الفوبيا خلف قناع اليوتوبيا‪.‬‬

‫كل الطرق تؤدي إلى روبن آيالند‬ ‫صف طوي ٌل ال ترى نهايته‪ .‬إنهم ركاب العبارة التي تتسع ملائتني‬ ‫وستة ركاب‪ .‬بعد نحو ‪ 20‬دقيقة توسط ثالثتنا أنا وسليمان وسيتسوتو‬ ‫الركاب‪ ،‬وخضعنا معهم لتفتيش دقيق كأننا نصعد إلى منت طائرة‬ ‫تتجه إلى مطار أوربي‪.‬‬ ‫انطلقت العبارة التي حتمل اسم «حريتي» بسرعة بالغة‪ ،‬ال تسبقنا‬ ‫سوى النوارس التي حتلق عند األفق‪ .‬بعد نصف ساعة أبطأت العبارة‬ ‫من حركتها‪ ،‬وتوقف الفيلم الذي تعرضه عن تاريخ اجلزيرة‪ .‬كنا قد‬ ‫وصلنا‪ .‬لدهشتي كان على منت السفينة رج ٌل ملتح بصحبة سيدتني‬ ‫منقبتني‪ ،‬ال شك أن إحداهما زوجته‪ ،‬وقد تكون األخرى ابنته‪ .‬هل‬ ‫يقطع هؤالء املسافة لزيارة اجلزيرة وعالم سجن مانديال؟ تبددت‬ ‫دهشتي حني عرفت أن الثالثة ومعهم شخص آخر‪ ،‬كانت وجهتهم‬ ‫«كرامات»‪ ،‬وهو ضريح يضم رفات أحد األولياء الذين يحظون بزيارة‬ ‫عشرات املسلمني على مدار األسبوع‪ .‬قبة الضريح اخلضراء واملنارتان‬ ‫الضئيلتان اللتان تشبهان عمودين عند زاويتي املدخل جتعل املكان‬ ‫يشبه مسج ًدا‪ ،‬وهو ما دعا الفتاة السمراء املرشدة لضيوف اجلزيرة‬ ‫‪292‬‬

‫فارق شاسع بني السفينة التي حملتنا إلى اجلزيرة الشهيرة‪ ،‬التي سجن بها مانديال‬ ‫ورفاقه‪ ،‬وبني املشهد الذي كان ميثل قدوم املعتقلني إليها‪.‬‬

‫‪293‬‬


‫نهر على َس َفر | يوتوبيا ‪ ...‬وفوبيا مانديال النـد‬ ‫ٌ‬

‫إلى تصحح املعلومة لفرنسي اعتقد أن املكان مسج ٌد‪.‬‬ ‫نوعا من النباتات‪ ،‬وطريق‬ ‫ألف طائر بطريق‪ ،‬ومائة وعش� � ��رون ً‬ ‫واحد‪ ،‬ومدرسة بها أستاذان أحدهما ناظر املدرسة‪ ،‬وبضعة بيوت‬ ‫يسكنها نحو ‪ 200‬شخص‪ ،‬وضريح لولي مسلم‪ ،‬وسجن‪ ،‬ومكتب‬ ‫بريد‪ ،‬ومستشفى‪ ،‬ومتجر وحيد‪ .‬هذه هي معالم ومشاهد جزيرة‬ ‫آيالند‪ .‬لكن حكايات الذين جاءوها هي التي جعلتها إرثا عامليا‪.‬‬ ‫قالت لنا املرش� � ��دة‪« :‬أرجو أال يأخذ أح ٌد ش� � ��ي ًئا من اجلزيرة‪،‬‬ ‫ولو حصاة‪ ،‬فهي تراث عاملي ينبغ� � ��ي احلفاظ عليه كما هو‪ .‬حني‬ ‫وقفنا ببوابة السجن تقدم منا رجل مدور الوجه‪ ،‬يرتدي نظارات‬ ‫وقميصا وسرواال بني اللون‪ ،‬وحذا ًء شديد اللمعان‪ .‬عرفنا‬ ‫طبية‪،‬‬ ‫ً‬ ‫بنفسه‪ .‬كان تاندومات أحد زمالء مانديال في محبسه‪ .‬كنا نقف‬ ‫مع شخص له حكايته اخلاصة‪ ،‬مثلما كان شاهد عيان على أيام‬ ‫مانديال في السجن‪.‬‬ ‫انضممت إلحدى حركات املقاومة في‬ ‫«كنت في التاسعة عشرة حني‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫فهربت‬ ‫عرفت أن درك الفصل العنصري يبحث عني‪،‬‬ ‫سو وي تو‪ .‬وقد‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫من البالد بأوراق مزورة‪ .‬خمس سنوات قضيتها بني ليسوتو وأجنوال‬ ‫وحوكمت لتهم‬ ‫عدت مت اإلبالغ عني‪ ،‬فقبضوا علي‪،‬‬ ‫وزميبابوي‪ ،‬وحني‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ثالث‪ ،‬اخلروج بأوراق مزورة‪ ،‬والعودة للبالد بأوراق مزورة‪ ،‬واالنضمام‬ ‫إلى حركة محظورة‪ .‬كانت فترة ما قبل احملاكمة جحي ًما‪ .‬فعلوا بنا ما‬ ‫أعجز عن سرده‪ .‬واألقسى أنهم أحضروا رفاقنا من الفتيات والنساء‬ ‫وأذاقوهن مر العذاب بألوان ال يسعني اليوم استعادتها‪ .‬وحني حوكمت‬ ‫قضوا علي بالبقاء في روبن آيالند سبع سنوات‪ ،‬وقادوني بسيارة مع‬ ‫آخرين مكبل اليدين من جوهانسبرج إلى كيب تاون (‪ 1393‬كيلو مترا)‪.‬‬ ‫ثم حملتنا القوارب إلى روبن آيالند‪ ،‬حيث مت تس� � ��ليمنا إلى محطة‬ ‫استقبال جردتنا من أسمائنا‪ ،‬وأصبحنا أرقا ًما»‪ ،‬كان تاندومات ميسك‬ ‫‪294‬‬

‫بنموذج ُمكبر إلحدى البطاقات‪ .‬لم يكن فيها للشخص سوى بصمتي‬ ‫إبهامه‪ ،‬واسمه الذي ودعه ورقمه الذي سينادى به‪.‬‬ ‫توقفت كثي ًرا أمام زنزانة مانديال‪ ،‬وكأنني أسمع صوته يتلو القصيدة‬ ‫ُ‬ ‫التي ألهمته احتمال ‪ 26‬سنة في زنزانة يكاد يلمس الواقف بها بيديه‬ ‫طرفي اجلدار‪.‬‬ ‫أعادتنا «احلرية» إلى ش� � ��اطئ كيب تاون‪ ،‬مررنا في طريقنا لقلب‬ ‫املدينة بأحد قصور الرئاسة الذي يس� � ��تقبل الرئيس زوما وزوجاته‬ ‫الثالث‪ .‬بدا أنه أكبر من جزيرة روبن آيالن� � ��د‪ .‬رمبا يحاول اجلميع‬ ‫أن يعوضوا أنفسهم عن مرارة األمس‪ .‬لكن املرارة التزال باقية على‬ ‫األلسن والوجوه‪ .‬تذكرت تاندومات‪ .‬كان ذو األربعة والعشرين ربي ًعا‬ ‫قد حتول بعد سنوات السجن واحلرية إلى مؤرخ‪ .‬يستعي ُد الصور وهو‬ ‫يحدث نفسه أكثر مما يحدثنا‪« :‬هنا كنا ندرس‪ .‬هنا كنا نقضي حاجتنا‪.‬‬ ‫هنا كنت مع الرفاق نكسر األحجار خالل فترة األشغال الشاقة‪ .‬هنا‬ ‫كان احملتجزون في احلبس االنفرادي يعيشون فال يكلمون أح ًدا‪ ،‬وال‬ ‫كنت في دهشة من عودة تاندومات للعمل كمرشد‬ ‫حتى حراسهم»‪ُ .‬‬ ‫ٍ‬ ‫سنوات من حريته‪ .‬رمبا يكون ذلك سال ًما‬ ‫في السجن الذي اقتطع‬ ‫مع النفس‪ .‬همست سيتسوتو بأن تاندومات يجد نفسه محظوظا ألنه‬ ‫أ َّمن لنفسه عمال دائ ًما‪ .‬صحيح أن كثيراً من رفاق الزنازين باألمس‬ ‫انضموا الي� � ��وم إلى احلكومة اجلديدة‪ ،‬مبن فيه� � ��م الرئيس احلالي‪،‬‬ ‫يعقوب زوما‪ ،‬لكن من بني هؤالء أيضا من ال يج ُد عمال‪.‬‬ ‫يقاوم تاندومات فوبيا السجن الذي حرمه سنوات شبابه بيوتوبيا‬ ‫نفسا عميقا ونحن‬ ‫حرية التجول به كهال‪ .‬نتجه إلى احمليط ونأخذ ً‬ ‫ننظر إلى السحاب الذي يبدو كخبز أبيض على صحفة جبل املائدة‬ ‫املستوية‪ .‬وكان هناك س� � ��ؤال اليزال يتردد في الهواء‪ :‬هل انتصرت‬ ‫اليوتوبيا على الفوبيا في مانديال الند؟‬ ‫‪295‬‬


‫نهر على سفر‬

‫َف ُّن ا ُمل َن ْم َن َمات‬

‫األدب والتاريخ واألسطورة‬


‫نهر على َسفَر | َف ُّن ا ُملن َْمن َ​َمات ‪ ...‬األدب والتاريخ واألسطورة‬ ‫ٌ‬

‫مخطوطة فيرجيل احملفوظة في الفاتيكان‪.‬‬

‫منمنمة مبكرة توظف اجلسد البشري مع الكائنات احلية بالطريقة التي كانت ترسم‬ ‫بها اللوحات اجلدارية اجلبسية‪.‬‬

‫في مدرسة للفن أقيمت ملحقة بسوق للعاديات‪ ،‬مبدينة سمرقند‪،‬‬ ‫أجتول عبر البصر آيات الفن املعلقة واملوزع� � ��ة على األركان‪ ،‬حتى‬ ‫أتوقف أمام دكان مفتوح‪ ،‬يجلس في قلبه رجل غاب عما حوله وهو‬ ‫يسكب فيها‬ ‫ينحني بريشته الدقيقة فوق ورقة متوس� � ��طة املساحة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫عصارة الفن‪ ،‬وخالصة األدب‪ ،‬وروح التاريخ‪ ،‬وسحائب األسطورة‪.‬‬ ‫لم ينتبه الفناني احلِ رفي حلضوري إال ح� �ي��ن انتهى من لون‪ ،‬واجته‬ ‫ليغسل الريشة فيختار آخر‪ .‬نظر إلي بصمت‪ ،‬وأشار إلى كرسي أمامه‪،‬‬ ‫ألجلس‪ ،‬وكأنه في خلوة ال يريد أن يفسدها بكالم‪ ،‬وكأنه ينسج قصيدة‬ ‫روحانية ال يصح أن تدخلها مفردة مادية‪ .‬هو األمر نفسه كلما تـأملت‬ ‫هؤالء الفنانني الذين يحيون فن املنمنمات حول العالم‪ .‬إنهم يفتحون‬ ‫لك بوابات التأمل في دقائق اخلطوط التي تتسع لعظائم احلكايات‪،‬‬

‫التاريخي منها واألسطوري‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫تصف اليو َم كلمة (منمنمة)‪ ،‬في اللغة العربية‪ ،‬كل ما هو ُمصغّر‪،‬‬ ‫ويقابلها في اللغة اإلجنليزية ‪ miniature‬التي استمدت مفردتها‬ ‫من كلمة ‪ minium‬الالتينية‪ ،‬وهي «الصورة الدقيقة املزخرفة في‬ ‫ص َغّرة‪،‬‬ ‫املخطوطات»‪ .‬وميكن وصف املنمنمات بأنها «لوحات مصورة ُم َ‬ ‫تضم رسوما وزخرفة ونصوصا‪ ،‬ذات تفاصيل دقيقة»‪.‬‬ ‫هكذا تُع ِّبر املنمنمات‪ ،‬في تقاليد الفن‪ ،‬عن لوحات صغيرة خاصة‪،‬‬ ‫ظهرت بقوة في املخطوطات البيزنطية الدينية‪ ،‬غير أن إنتاج املنمنمات‬ ‫أسلوب اعتمدته فنون رسم أخرى ازدهرت في ثقافات مغايرة‪ ،‬خاصة‬ ‫في آسيا‪ ،‬كما ظهر بالفنون الفارسية والعثمانية والهندية وصممت‬ ‫لتجمع لوحاتها ف� � ��ي ألبوم‪ ،‬يكون مرجعا‪ ،‬أو كتابا‪ ،‬أو موس� � ��وعة‪ ،‬أو‬

‫‪298‬‬

‫‪299‬‬


‫نهر على َسفَر | َف ُّن ا ُملن َْمن َ​َمات ‪ ...‬األدب والتاريخ واألسطورة‬ ‫ٌ‬

‫ملحمة‪ ،‬أو ديوانا‪.‬‬

‫اإللياذة أوال‬ ‫أما أقدم صور املنمنمات التي تشبه املوجودة حاليا‪ ،‬فهي ما ظهر‬ ‫ضمن سلسلة من الرسومات امللونة‪ ،‬كأجزاء من املنمنمات‪ ،‬ملشاهد‬ ‫من ملحمة اإللياذة‪ ،‬تعود للقرن الثالث امليالدي‪ .‬وتتشابه هذه اللوحات‬ ‫في األسلوب واملعاجلة مع الفن التصويري خالل الفترة الكالسيكية‬ ‫الرومانية الالحقة‪ .‬حيث تغلب املشاهد الطبيعية على تلك الرسوم‪ ،‬كما‬ ‫في جداريات العصر الروماني‪ ،‬وكما في مخطوطة فيرجيل احملفوظة‬ ‫بالفاتيكان‪ ،‬ذات القيمة الفنية العالية‪ ،‬واملعروفة باسم ‪Vaticanus‬‬ ‫‪ Vergilius‬التي تعود ألوائل القرن اخلامس امليالدي‪ ،‬وتبلغ أبعادها‬ ‫‪ 15.7 × 11.8‬سنتيمتراً‪.‬‬ ‫وتوفر تلك املنمنمة‪ ،‬وشقيقاتها في املجموعة نفسها‪ ،‬فرصة لدراسة‬ ‫الطريقة واألسلوب املنتميني للرسم الكالسيكي‪ ،‬حيث يتضح لنا أن‬ ‫املنمنمات هي نسخ مباش� � ��ر من سلسلة قدمية‪ ،‬بألوان غير شفافة‪.‬‬ ‫كما أن املُراجع ألسلوب هذه املنمنمات املبكرة ميكنه أن يرى بوضوح‬ ‫توظيف اجلسد البشري‪ ،‬بجانب املشاهد الطبيعية‪ ،‬والكائنات احلية‬ ‫والطبيعة الصامتة‪ ،‬بالطريقة ذاتها التي رسمت بها اللوحات اجلدارية‬ ‫اجلبسية‪.‬‬ ‫بدراسة اللوحات‪ ،‬في هذه املجموعة‪ ،‬نرى أن اخللفيات مت تلوينها‬ ‫بالكامل‪ ،‬لتغطي جميع أجزاء سطح الصفحة‪ ،‬ومن ثم‪ ،‬وعلى اخللفية‬ ‫املصبوغة‪ ،‬مت رسم األشكال املرغوبة وتلوينها‪ .‬وبعد ذلك‪ ،‬وكمرحلة‬ ‫ثالثة‪ ،‬أضيفت تفاصيل أصغر وأكثر دقة‪ ،‬وبطريقة بارزة‪ .‬وللمحافظة‬ ‫على املنظور في الرسم‪ ،‬كانت األشكال املرسومة أعلى اللوحة تبدو‬ ‫أصغر من تلك املوجودة بأسفل الرسم‪.‬‬ ‫‪300‬‬

‫سبعة أطباء في منمنمة تعود للقرن السادس امليالدي ‪ ،‬محفوظة باملدرسة البيزنطية‪.‬‬

‫‪301‬‬


‫نهر على َسفَر | َف ُّن ا ُملن َْمن َ​َمات ‪ ...‬األدب والتاريخ واألسطورة‬ ‫ٌ‬

‫في القرن السادس امليالدي‪ ،‬تظهر مجموعة أخرى من املنمنمات‬ ‫املميزة‪ ،‬وتعرف باسم ‪ Dioscurides Vienna‬ومنها اللوحة التي‬ ‫تصور سبعة أطباء‪ ،‬احملفوظة باملدرس� � ��ة البيزنطية‪ ،‬واملنسوخة من‬ ‫أعمال سابقة‪ ،‬وهي اللوحات التي مهدت لظهور تيار الرسوم الشارحة‬ ‫مبنمنمات املخطوطات البيزنطية الدينية‪.‬‬ ‫شيء ما يجب أن يلحظه ناق ُد الفن‪ ،‬حني يطالع اللوحات التي ظهرت‬ ‫في تلك املخطوطات البيزنطية الدينية‪ ،‬التي نفذت برعاية وهيمنة‬ ‫كنسية؛ هو أن الهواء الطلق في سابقاتها قد غاب‪ ،‬وباتت املخطوطات‬ ‫البيزنطية تتنفس هواء الدير املغلق برتاج التقاليد احملافظة‪ ،‬ولعل هذا‬ ‫ما جعل تلك املنمنمات أسيرة للمزيد من النمطية والتقليدية‪.‬‬ ‫تتسرب األلوان التي تصور البشرة بلونها الفاحت‪ ،‬وتطغى الصبغات‬ ‫البنية والزرقاء الرمادية واحملايدة‪ ،‬وتنضج معاجلة تقنية الرس� � ��م‪.‬‬ ‫وفي حني يخضع ذلك كله للح� � ��س البيزنطي‪ ،‬تظهر على نحو الفت‬ ‫استعارة شرقية‪ ،‬تتمثل في استخدام الصبغات الذهبية في التزيني‬ ‫والزخرفة والعناوين‪.‬‬ ‫وقد انتقل تأثير هذا الفن البيزنطي إلى روح املخطوطات واللوحات‬ ‫واجلداريات اإليطالية في القرون الوسطى‪ .‬وكان ذلك على أوضح‬ ‫ما يكون في فسيفس� � ��اء كنائس رافينا وفينيسيا‪ ،‬كما في فسيفساء‬ ‫«معجزات اخلبز والسمك»‪ ،‬بكنيسة القديس أبولينير اجلديدة‪ ،‬في‬ ‫رافينا بإيطاليا‪ .‬وقد الزم هذا التأثي� � ��ر الفنون األوربية حتى القرن‬ ‫الثاني عشر امليالدي‪.‬‬ ‫في مدارس الزخرفة احمللية بأوربا الغربية‪ ،‬كان التزيني هو الدافع‬ ‫األساس� � ��ي لظهور املنمنمات‪ .‬هكذا بدا األمر في مخطوطات عهد‬ ‫امليروفنيجان ‪ Merovingian‬التي ظهرت في منتصف القرن اخلامس‬ ‫امليالدي‪ ،‬حول جغرافيا فرنسا املعاصرة‪ .‬وقد ظهر مثيل لتلك املنمنمات‬ ‫‪302‬‬

‫شمال إيطاليا‪ ،‬كما برزت االجتاهات نفسها في فنون شبه اجلزيرة‬ ‫األيبيرية‪ ،‬وفنون اجلزر البريطانية؛ حيث ندر اس� � ��تخدام أي متثيل‬ ‫للكائن البشري‪ ،‬كما خرجت املنمنمة من إطار الرسم إلى التشكيل‪،‬‬ ‫كما يتضح في حليات ثالث محفوظة باملتحف الوطني الفرنس� � ��ي‪.‬‬ ‫أما التطور الكبير‪ ،‬في جذور املنمنمات األوربية‪ ،‬فقد جاء مع املدرسة‬ ‫األجنلوسكسونية‪ ،‬وال سيما في كانتربري‪ ،‬ووينشستر‪.‬‬ ‫وقد استمدت تلك املنمنمات ما تتميز به‪ ،‬من رسم حر‪ ،‬من النماذج‬ ‫الكالسيكية الرومانية‪ ،‬كما غاب عنها‪ ،‬إلى حد كبير‪ ،‬التأثر بالعناصر‬ ‫البيزنطية‪ ،‬بينما ظل الفن األجنلوساكسوني اجلنوبي مبعزل عن اخلط‬ ‫العام لتطور املنمنمات الغربية في القرون الوسطى‪.‬‬

‫النموذج البيزنطي‬ ‫حتت إمرة ملوك كارولنجي ظهرت مدرسة فنية متقدمة مستمدة‬ ‫من النماذج الكالسيكية‪ ،‬وخاصة النموذج البيزنطي‪ ،‬وتدين بأصولها‬ ‫للملك شارملان‪ ،‬وقد ظهرت منمنماتها في شكلني؛ ينسخ األول التقاليد‬ ‫البيزنطية‪ ،‬حيث تس� � ��تلهم موضوعاته بشكل عام من صور األناجيل‬ ‫األربعة‪ ،‬أو صور األباطرة أنفسهم‪ ،‬حيث الصبغة الرسمية‪ ،‬والتلوين‬ ‫الباذخ للصفحات‪ ،‬والتذهيب البارز‪ ،‬للرسم املؤسس ضمن عمارة ما‬ ‫ثابتة‪ ،‬وتخلو من املناظر الطبيعية باملعن� � ��ى احلقيقي للكلمة‪ ،‬ترافق‬ ‫بزخرفة إطارية وافرة‪ ،‬وهو الشكل املؤسس للمدرسة الغربية القارية‬ ‫بشكل عام‪ ،‬كما في لوحة التعميد (‪ 19 × 24‬سم)‪ ،‬التي تعود للقرن‬ ‫العاشر امليالدي‪ ،‬احملفوظة باملكتبة البريطانية‪.‬‬ ‫أما الش� � ��كل الثاني‪ ،‬فقد ابتدعت منمنمات حاولت أن تكون ذات‬ ‫رسوم شارحة‪ ،‬بأن تنقل‪ ،‬مثاال‪ ،‬صورا من وقائع اإلجنيل‪ .‬وقد أصبحت‬ ‫تلك املنمنمات اجلديدة أكثر حتررا‪ ،‬وتتصل‪ ،‬إذا أردنا العودة للجذور‪،‬‬ ‫‪303‬‬


‫نهر على َسفَر | َف ُّن ا ُملن َْمن َ​َمات ‪ ...‬األدب والتاريخ واألسطورة‬ ‫ٌ‬

‫برعت املنمنمات في توثيق التفاصيل الدقيقة‪ ،‬ويبني هنا مشهدان من القصور‬ ‫التي يعرف كل قصر فيها بلونه املختلف عن اآلخر‪ ،‬حيث يجتمع صاحب‬

‫‪304‬‬

‫القصر مع األصدقاء‪ ،‬بينما يتناهى للسمع صوت املوسيقى والغناء ممتزجا‬ ‫بصوت خرير املاء‪.‬‬

‫‪305‬‬


‫نهر على َسفَر | َف ُّن ا ُملن َْمن َ​َمات ‪ ...‬األدب والتاريخ واألسطورة‬ ‫ٌ‬

‫باألصول الكالسيكية اليونانية‪ ،‬متييزا لها عن النماذج البيزنطية‪.‬‬ ‫في آسيا‪ ،‬ازدهرت مدرسة رسوم املنمنمات للسالجقة في القرن‬ ‫احلادي عشر‪ ،‬وكان من املعتاد أن يقال إنه في العصور الوسطى لم‬ ‫يكن هناك من فنون املنمنمات غير منمنمات الكتب املرسومة والرسم‬ ‫الشرقي‪ ،‬ولكن الفنان األوزبكي رائد فن املنمنمات جنكيز أحمروف‪،‬‬ ‫اعتقد‪ ،‬وأتباعه بوجود هذا اجلنس الفني في األزمان القدمية‪ .‬بيد‬ ‫أن األحداث التاريخية الكارثية‪ ،‬من معارك محلية دموية‪ ،‬التي قضت‬ ‫على واحات آسيا الوسطى اخلصيبة بعد سقوط أسرة التيموريني‬ ‫في القرن السادس عشر‪ ،‬كانت السبب وراء غياب عينات من رسوم‬ ‫أشخاصا‪.‬‬ ‫املنمنمات املطلية بالورنيش مع رسوم املنمنمات التي متثل‬ ‫ً‬ ‫وبالعودة إلى إمكانات تقاليد املنمنمات الشرقية‪ ،‬وباتباع مبادئ لغة‬ ‫الفن احلديث‪ ،‬فإن الفنانني متكنوا من تقدمي تفسيراتهم اخلاصة‪،‬‬ ‫ورؤاهم بالكامل فيما يتعلق بالكالسيكيات‪ ،‬وأن يعيدوا تفسير الواقع‬ ‫احلاضر بأسلوبهم اخلاص‪.‬‬ ‫ومن املهم أن نشير إلى أن املنمنمات كانت مرآة العصر في توثيق‬ ‫احلياة والعمارة‪ ،‬وهو ما نلحظه ‪ -‬مثاال ‪ -‬في عمارة احلديقة باملنمنمات‬ ‫الفارسية‪ .‬فالفنون الزخرفية الفارسية‪ ،‬وصناعة السجاد اإليراني‪،‬‬ ‫متثل في جوهرها إعادة إنشاء للحديقة التي يتم تصويرها كخلفية‬ ‫مساندة للحدث‪.‬‬ ‫تبدو احلدائق الفارسية متأنقة مبا فيها من زخارف نباتية وتلميحات‬ ‫تقدم ‪ -‬على نحو خاص ‪ -‬إشارة إلى اجلنة‪ ،‬والنعيم في اآلخرة‪ .‬وفي‬ ‫املنمنمات الفارسية تبدو احلديقة باعتبارها حيلة تلهم سواها من‬ ‫أشكال الفن والشعر‪ ،‬والرسم خصوصا‪ .‬احلديقة التي تضم شخوصا‬ ‫يتحاورون حول موضوع القصيدة (على س� � ��بيل املث� � ��ال)‪ ،‬تقدم حينا‬ ‫وصفا للحديقة امللكية‪ ،‬كما اكتشفها العرب لدى فتح املدائن‪ ،‬عاصمة‬ ‫‪306‬‬

‫الساس� � ��انيني‪ ،‬مع قنوات املياه وأنواع النباتات وفصائل احليوانات‪،‬‬ ‫مرصعة باجلواهر ومعقودة بالذهب والفضة‪.‬‬ ‫وقد رسم السجاد الفارس� � ��ي ‪ -‬كذلك ‪ -‬ليجسد بأشكاله تصوير‬ ‫احلدائق التي قدمتها املنمنمات‪ .‬ومع ه� � ��ذا‪ ،‬فليس هناك أي دليل‬ ‫الستمرار هذا التقليد في العصر اإلسالمي حتى وقت الشاه عباس‬ ‫األول‪ .‬واستنس� � ��خت عناصر احلديقة الكائنات ثالثية األبعاد‪ ،‬وكان‬ ‫اخللفاء العباسيون يضعون أشجارا ذهبية في باحات قصور مدينتهم‪،‬‬ ‫ورسمت حدائق األجنحة مثمنة األضالع لها شرفات علوية‪.‬‬ ‫تصور املنمنمات بعض األحداث األكثر أهمية في حياة الشخصيات‬ ‫داخل احلديقة‪ ،‬وتظهر حديقة في لوحة منمنمات فارسية من القرن‬ ‫الرابع عشر امليالدي‪ ،‬ولها فناء مسور من كل اجلهات‪ ،‬بينما يجلس‬ ‫األمير على منصة مرتفعة مفروشة بالسجاد في فناء احلديقة‪ ،‬وغالبا‬ ‫حتت مظلة‪ ،‬فيما تطل بغصونها األشجار املزهرة والنباتات من وراء‬ ‫السياج‪ .‬وال يفوت املنمنمات أيضا تصوير العمال في احلديقة ممن‬ ‫يقومون على شؤون البستنة‪.‬‬ ‫وقد استوحيت احلدائق املغولية من احلدائق التيمورية في خراسان‬ ‫وما وراء النهر‪ ،‬ورمبا يعود ذلك إلى عمليات الترحيل من حدائق املغول‬ ‫لرسامني كثيرين‪ ،‬جاءوا مع أس� � ��اليبهم إلى جغرافيا جديدة‪ ،‬فكتبوا‬ ‫وطنهم في حدائق املنمنمات‪ .‬ولظاهر الدين محمد بابور نفسه رسوم‬ ‫توضيحية كثيرة تعود للقرن السادس عشر امليالدي‪ ،‬تصور نباتاتها‬ ‫خصب األرض‪ ،‬وثراء الزخرفة املعمارية‪.‬‬ ‫وهكذا ستظل املنمنمات؛ التاريخية واملعاصرة‪ ،‬صورة للتاريخ واحلياة‪،‬‬ ‫ومرادفا لألس� � ��اطير والوقائع‪ ،‬ومعادال موضوعيا حلياة املجتمعات‬ ‫وتطورها‪ ،‬وش� � ��اهدا على أعالمها وأبطالها‪ ،‬وطغاتها أيضا‪ ،‬وهو ما‬ ‫حتاول الفصول التالية إضاءته‪.‬‬ ‫‪307‬‬


‫نهر على َسفَر | َف ُّن ا ُملن َْمن َ​َمات ‪ ...‬األدب والتاريخ واألسطورة‬ ‫ٌ‬

‫َحكْ ٌي وشَ ْر ٌح وتوثيقٌ وتشكيل‬

‫الشاهنامة ‪ ...‬ملحمة امللوك‬

‫يختز ُل هذا العنوان؛ َح ْك ٌي َ‬ ‫وش � � � ْر ٌح وتوثي ٌق وتشكيل‪ ،‬دور املنمنمة‬ ‫املرس� � ��ومة على م ِّر العصور‪ .‬فاملنمنمة املصورة واملخطوطة حتكي‬ ‫وتشرح بينما هي توثق وتتشكل‪.‬‬ ‫يبدأ احلكي بكون املنمنمات سج ً‬ ‫ال زاخراً باملالحم‪ ،‬سواء تلك التي‬ ‫ألفها شعراء مجهولون‪ ،‬ورواة منسيون‪ ،‬أو املالحم التي أعاد صياغتها‬ ‫ش� � ��عراء عظام على مر العصور‪ .‬وترتبط املالحم مبيالد ثقافة‪ ،‬أو‬ ‫نشأة أمة‪ ،‬أو خلق العالم برمته‪ ،‬ويقيم أبطالها في برزخ من احلقيقة‬ ‫واخليال‪ ،‬وفضاء من األساطير والوقائع‪.‬‬ ‫اليوم‪ ،‬ونحن ننتذكر أبطال املالحم ال ُكبرى في التاريخ اإلنساني‪،‬‬ ‫نتذاكر دورهم املُلهِ م‪ ،‬وإجنازهم املُل َهم‪ .‬لقد عاشوا‪ ،‬سواء كانوا أبطاال‬ ‫من حلم ودم‪ ،‬أو كائنات أسطورية‪ ،‬ليجسدوا مشاعر احلب واحلقد‪،‬‬ ‫وأحاسيس الفوز واالنكسار‪ ،‬ومراحل ألم املعاناة وأمل االرتقاء‪.‬‬ ‫خففت املالحم املروية على البشر معاناتهم‪ ،‬لذلك انتشرت املرويات‬ ‫بني اجلماعات اإلنسانية برمتها‪ ،‬وإذ تعاني املالحم اليوم ردة قد تقضي‬ ‫عليها‪ ،‬بسبب تنامي تأثير املادة اإلعالمية املتدفقة‪ ،‬التي أزاحت الرواة‬ ‫الشعبيني والشفاهيني‪ ،‬فال نزال نعقد األمل على أمرين إلحياء املالحم؛‬ ‫األول‪ ،‬هو أن تتصدى مؤسسات لدعم هذا الفن الشفاهي‪ ،‬وإدخاله‬ ‫في املنظومة اإلعالمية الرقمية بكل وسائطها‪ ،‬والثاني‪ ،‬هو أن نعيد‬ ‫قراءة املنمنمات احلافظة لف� � ��ن املالحم‪ ،‬في كل العصور‪ ،‬ومبختلف‬ ‫اللغات‪ ،‬وفي كل أنحاء العالم‪.‬‬ ‫نختار في السطور التالية مناذج من مالحم‪ ،‬نقلتها ي ُد الفن إلى‬ ‫صفحات املنمنمات‪ ،‬ولم يقتصر ذلك على عصور نشأتها‪ ،‬بل تواصل‬ ‫توثيقها حتى عصرنا احلالي‪ ،‬على أيدي فنانني استلهموا روح املنمنمة‪،‬‬ ‫وطوروا شكلها‪ ،‬وأعادوا إحياء أدواتها‪.‬‬ ‫‪308‬‬

‫يصف اجلزء األول من ملحمة الشاعر الفارسي الفردوسي (كتاب‬ ‫امللوك)‪ ،‬كيف علَّم جمش� � ��يد؛ ملك إيران‪ ،‬البش� � ��ر صناعة األسلحة‬ ‫للحرب‪ ،‬وغزل النسيج‪ ،‬وبناء املنازل‪ ،‬وتشييد السفن‪ .‬هكذا سيتردد‬ ‫اسم جمشيد في الشعر‪ ،‬وصورته في املنمنمات‪ ،‬وهو يلقي الدروس‪،‬‬ ‫ويدرب أبناء املجتمع‪.‬‬ ‫بعد أكثر من ألف ع� � ��ام على تدوين ملحمة الفردوس� � ��ي‪ ،‬ال يزال‬ ‫اإليرانيون يقرأون قصيدة الفردوسي املطولة‪ ،‬التي عدوها ملحمتهم‬ ‫القومية‪ ،‬الساردة لتاريخهم الوطني‪ .‬تسجل «الشاهنامة» تاريخ إيران‬ ‫القدمي‪ ،‬منذ أول ملك أس� � ��طوري حكم تلك الب� �ل��اد‪ ،‬إلى آخر ملوك‬ ‫اإلمبراطورية الساسانية في القرن السابع امليالدي‪ .‬وعلى الرغم من‬ ‫أن الفردوسي اعترف بأن «ما س� � ��أقوله قد رواه اجلميع من قبلي»‪،‬‬ ‫بقيت رواية الشاعر التي أخذها مما تناقلته األخبار على لسان سابقيه‬ ‫أسلوبا فذا جديدا وخال ًدا‪.‬‬ ‫بل إن هذه امللحمة توثقها املكتبة العربية‪ ،‬طبعة بعد أخرى‪ ،‬حيث‬ ‫صدرت أحدثها عن دار سعاد الصباح للنشر والتوزيع في دولة الكويت‪.‬‬ ‫ويبلغ طول امللحمة ‪ 50‬ألف بيت من الش� � ��عر‪ ،‬وقد ظهرت في القرن‬ ‫العاشر امليالدي‪ .‬كانت تلك حلظة فاصلة في التاريخ اإليراني‪ ،‬فقد‬ ‫سادت اللغة العربية‪ ،‬بعد أن زالت دولة الساسانيني‪ ،‬وأصبح اللسان‬ ‫العربي لغة األدب في إيران‪ ،‬أما اللغة الفارسية الوسطى؛ التي كانت‬ ‫أداة احلضارة الساسانية اآلفلة‪ ،‬فقد كانت ‪ -‬هي األخرى ‪ -‬ستلحق‬ ‫بحضارتها وتزول‪ .‬في تلك اللحظة الفاصلة ظهر الفردوسي في خضم‬ ‫أدب ناشئ مكتوب باللغة الفارسية‪ ،‬لتصبح ملحمته رائعة ذلك األدب‬ ‫اجلديد‪ ،‬والقدمي بلغته ومضمونه‪.‬‬ ‫ال تروي «الشاهنامة» سيرة بطل وحيد‪ ،‬وال تقدم صورة حلياة ملك‬ ‫‪309‬‬


‫نهر على َسفَر | َف ُّن ا ُملن َْمن َ​َمات ‪ ...‬األدب والتاريخ واألسطورة‬ ‫ٌ‬

‫واحد‪ ،‬كما أنها ليست مغامرة طويلة ذات قصة مرتبطة‪ ،‬ولكنها تروي‬ ‫س� � ��يرة ‪ 50‬ملكا‪ ،‬تقدمها معاجلة عبقرية بثالثة مستويات مختلفة‪،‬‬ ‫الصوفي‪ ،‬وامللحمي‪ ،‬والتاريخي‪ ،‬كما تقول الباحثة اإليرانية املتخصصة‬ ‫في الدراسات الصينية الدكتورة نهال جتدد‪ ،‬املسؤولة في «اليونسكو»‬ ‫عن مشروع طريق احلرير‪:‬‬ ‫«يركز الفردوسي بقصيدته على قوة القدر الذي ال يُرد‪ ،‬وهو موضوع‬ ‫ملحمي منوذجي‪ ،‬يتفق متاما مع القدرية املتأصلة في النفس اإليرانية‪.‬‬ ‫وعلى الرغم من هذا فإن أبطال الفردوسي بشر يتعذبون ميضهم الشك‬ ‫وتنال منهم نكبات الزمن‪ ،‬وهم أخلق بالرثاء منهم باإلدانة»‪ .‬ويتغنى اجلزء‬ ‫األول من «الشهنامة» باألساطير‪ ،‬ففي البداية هناك «بشداديان»‪ ،‬أي أول‬ ‫املخلوقات‪ ،‬الذين علموا البشر كيف يلبسون ويشكلون املعادن ويسخرون‬ ‫النار ويروضون احليوانات‪ ،‬وينظمون أنفسهم في مجتمعات‪.‬‬ ‫بعد حكم ‪ 700‬سنة اضطر امللك جمشيد ‪ -‬بدافع الكبرياء ‪ -‬إلى التنازل‬ ‫عن تاجه لكائن شيطاني مستبد هو «زهاق» الذي حكم البالد ألف سنة‪،‬‬ ‫ثم جاء حاكم عادل اسمه «فريدون» فقضى على حكم «زهاق» الفاسد‪،‬‬ ‫وهكذا يتبدى الصراع بني قوى الظالم والنور‪ ،‬موفرا مادة خصبة لفناني‬ ‫املنمنمات‪.‬‬ ‫وفي امللحمة‪ ،‬التي تناقلتها الروايات‪ ،‬مثلما تبادل رسمها املنمنمون‪ ،‬مواقف‬ ‫عصيبة‪ ،‬حتيي بقوة اشعار الفردوسي اخلالدة‪ ،‬التي قال هو نفسه عنها‪:‬‬ ‫«أضنيت نفسي في هذه السنني الثالثني‪ ،‬وبعثت إيران من املوت بفضل‬ ‫اللغة‪ ،‬ال‪ ،‬لن أموت أب ًدا‪ ،‬فإني أعيش‪ ،‬بعد أن غرست بذرة الكالم»‪.‬‬

‫درة املالحم الروسية‬ ‫نحن أمام ثالثة رجال يرتدون الدروع واخلوذات ويحملون السالح‬ ‫وميتطون صهوات جيادهم القوية‪ ،‬يقفون حارسني لألرض الروسية ضد‬ ‫‪310‬‬

‫مشهد من ملحمة الشاهنامة‪ ،‬كتاب امللوك‪ ،‬التي تناقلتها الروايات‪ ،‬مثلما تبادل رسمها‬ ‫املنمنمون‪.‬‬

‫‪311‬‬


‫نهر على َسفَر | َف ُّن ا ُملن َْمن َ​َمات ‪ ...‬األدب والتاريخ واألسطورة‬ ‫ٌ‬

‫أعداء البالد‪ ،‬إنهم إيليا املورومي‪ ،‬ودوبرينا نيكيتيتش وإليوشا بوبوفتش‪،‬‬ ‫أبطال «البيليني»‪ ،‬أو املالحم الروسية‪ ،‬الذين ذاع صيتهم‪ ،‬وغنى الناس‬ ‫في أرياف البالد الروسية‪ ،‬على أنغام السيتار‪ ،‬قصصهم‪.‬‬ ‫وقد ظل هؤالء الش� � ��عراء املغنون حتى أوائل القرن العشرين‪ ،‬في‬ ‫شمال روسيا‪ ،‬بإقليم أرخاجنلسك وحول بحيرة أونيجا‪ .‬كانت األحداث‬ ‫تروى بإيقاع بطيء من ثالثة أو أربعة أزمنة‪ ،‬مبا يضفي على قصص‬ ‫الفرسان هيبة وجالال‪.‬‬ ‫ويعود فضل جمع هذه القصص الغنائية في القرن الثامن عش� � ��ر‬ ‫ التي متثل كنزا تراثيا شعبيا ‪ -‬للباحث اإلجنليزي ريتشارد جيمس‪.‬‬‫وفي القرن التالي ظهر تأثير هذه املجموعات امللحمية الشعبية في‬ ‫أدب ألكسندر بوش� � ��كني وجوجول وموسيقى رمس� � ��كي كورساكوف‬ ‫ومسورجسكي‪ ،‬وفنون فاسنتسوف وفروبل‪ ،‬وسينما أيزنشتني (فيلم‬ ‫ألكسندر نفسكي)‪.‬‬ ‫احتفظ الفرسان بقواهم اخلارقة‪ ،‬وانتقلت شعبيتهم حتى إلى مفردات‬ ‫اللغة الدارجة‪ ،‬وفي كييف تظل شخصية إيليا املورومي األكثر شعبية‪،‬‬ ‫وهو الذي ولد ألبوين من الفالحني‪ ،‬وظل مشلوال ثالثني عاما (‪33‬‬ ‫سنة في رواية أخرى)‪ ،‬حتى زاره ثالثة حجاج‪ ،‬طلبوا منه أن ينهض‬ ‫ليقدم ش� � ��رابا أو طعاما لهم‪ ،‬فلما عبر لهم عن عجزه‪ ،‬وأفصح عن‬ ‫عدم قدرته على حتريك قدميه أو ذراعيه‪ ،‬سألوه للمرة الثالثة فنهض‬ ‫مبعجزة‪ ،‬وأحس بقوة هرقلية في جسده‪ ،‬وأنبأه احلجاج بأنه سيكون‬ ‫مقاتال عظيما‪ ،‬وأنه لن ميوت في ساحة املعركة‪ ،‬وهكذا حولت امللحمة‬ ‫الشعبية إيليا من شخص مقعد إلى بطل ال يقهر‪.‬‬ ‫استخدم إيليا املورومي قوته في استصالح الغابة‪ ،‬كما يفعل الفالحون‬ ‫واحلطابون في قريته‪ ،‬ثم رحل إلى كييف ليدافع عن روسيا املقدسة‪.‬‬ ‫ويشتري حيوانا يركبه‪ ،‬هو جواد قصير أشعث الشعر‪ ،‬لكنه يقفز به في‬ ‫‪312‬‬

‫كل خطوة فرسخا (‪ 1006‬أمتار)‪ ،‬ويتصدى لقاطع الطريق سولوفاي‬ ‫(عندليب باللغة الروسية)‪ ،‬الذي يبني عش� � ��ه فوق سبع من أشجار‬ ‫البلوط مبفترق طريق بقلب الغابة‪ .‬رغم صوت العندليب القاهر فال‬ ‫يخشى إيليا املورومي‪ ،‬ويصوب سهمه ليفقأ عني سولوفاي‪ ،‬ويأسر‬ ‫الطائر ويأخذه إلى قصر أمير كييف‪.‬‬ ‫هناك يصبح إيليا املورومي «آتامان»‪ ،‬أي رئيس� � ��ا للفرس� � ��ان‪ ،‬أو‬ ‫قائداً للبوجاتير األقوياء باللهج� � ��ة الدارجة‪ .‬ويتحدى أعداء الوطن‪،‬‬ ‫ويتصدى للخصوم‪ ،‬وهم التتار الذين يصورهم الشعر والرسم بهيئات‬ ‫كاريكاتورية‪.‬‬ ‫وتبدو إحدى السمات املميزة للمقاتل امللحمي إيليا املورومي أنه خادم‬ ‫أرض روسيا‪ ،‬ولكنه ال يضع نفسه أبدا في خدمة ملك طاغ‪ .‬وهو فالح‬ ‫شجاع‪ ،‬براء من اخليالء‪ ،‬بعيد عن األنانية‪ ،‬يصارح األمير برأيه حني‬ ‫يسيء األخير سلطانه‪ ،‬ومليء بالطيبة‪ ،‬ومحب للمزاح‪ ،‬وهي صفات‬ ‫جعلته بطال قوميا‪ ،‬وجعلت ملحمته يعاد تصويرها منمنمة ومنحوتة‬ ‫وزيتية‪ ،‬وسينمائية أيضا‪.‬‬

‫التاريخ السري للمغول ‪ ...‬ملحمة جنكيز خان‬ ‫تعرف امللحمة القومية للش� � ��عب املغولي بأنها املصدر األساس� � ��ي‬ ‫للتعريف بجنكيز خان وإمبراطوريته‪ ،‬وهي أيضا متزج بني الفولكلور‬ ‫واألساطير‪ ،‬وتنبض بسيرة مجتمع السهوب في القرنني الثاني عشر‬ ‫والثالث عشر امليالديني‪.‬‬ ‫التاريخ السري للمغول (موجنيول ‪ -‬أون ‪ -‬نيوقا طوبقان)‪ ،‬هو االسم‬ ‫املرادف لتلك امللحمة‪ ،‬وهي مجهولة املؤلف‪ ،‬ولكن يتفق العلماء على‬ ‫أنها كتبت في العام ‪ 1240‬ميالدية‪ .‬وقد قس� � ��م التاريخ السري إلى‬ ‫أجزاء ثالثة؛ تتناول في اجلزء األول أسالف جنكيز خان وأنسابهم‪،‬‬ ‫‪313‬‬


‫نهر على َسفَر | َف ُّن ا ُملن َْمن َ​َمات ‪ ...‬األدب والتاريخ واألسطورة‬ ‫ٌ‬

‫وفي الثاني القصص التي ارتبطت بحروب جنكيزخان وحياته‪ ،‬أما‬ ‫اجلزء األخي� � ��ر‪ ،‬وهو األقصر‪ ،‬فقد خصص البن� � ��ه ووريثه أوجوداي‬ ‫(‪ 1241 - 1228‬ميالدية‪.‬‬ ‫البداية اخلرافية بأن األب األول للمغول كان ذئبا‪ ،‬وأن زوجته كانت‬ ‫غزالة‪ ،‬هي مفتتح تلك امللحم� � ��ة‪ ،‬التي متزج اخليال بالواقع‪ .‬وتتردد‬ ‫صورة الذئب في األساطير لدى الشعوب األورو آسيوية‪ ،‬ولكن اخليالي‬ ‫واخلرافي األول‪ ،‬يتحول إل� � ��ى توثيق جدي حني يتعلق األمر بالقبيلة‬ ‫الذهبية‪ ،‬التي تعد قاعدة أنساب الشعب املغولي‪ .‬أما القسم الثاني‬ ‫فهو لب امللحمة‪ ،‬وهو الذي يستغرق ‪ 12‬سنة‪ ،‬ويؤرخ للقبائل املغولية‪،‬‬ ‫التي توحدت على يد جنكيز خان‪.‬‬ ‫قدمت امللحمة جنكيز خان بطال أسطوريا‪ ،‬ومحاربا كبير‪ ،‬ومعادال‬ ‫موضوعيا ألس� � ��اطير البراري‪ ،‬ورجال داهية في إدارة أمور الدولة‪،‬‬ ‫خاصة حني قرر وضع حد للخالف والشقاق بني القبائل املغولية‪:‬‬ ‫«وكانت الس� � ��ماء بنجومها تدور على غير ه� � ��دى‪ ،‬وكان كثير من‬ ‫الناس في نزاع وشقاق‪ ،‬ال يأوون إلى مضاجعهم‪ ،‬بل يوقعون اخلراب‬ ‫بعضهم بالبعض اآلخر‪ .‬وكانت األرض ذات األدمي‪ ،‬تدور إلى األمام‬ ‫وإلى اخللف‪ ،‬وكان الشعب بأجمعه في شقاق»‪.‬‬ ‫وأثبت العلماء أن بعض الروايات التي جاءت في التاريخ السري‬ ‫تعود بأصولها إلى أساطير آسيا الوسطى‪ ،‬مثل حكاية السهام اخلمسة‬ ‫املربوطة في حزمة‪ ،‬التي تذكرنا بقصص فارس� � ��ية قدمية‪ ،‬وكذلك‬ ‫بحكاية عن قبائل الصقالبة‪ ،‬وهي القصة الشهيرة عن السهام التي‬ ‫تنكسر متفرقة‪ ،‬وتس� � ��تعصي على الكسر مجتمعة‪ ،‬ولهذا توصي بها‬ ‫األم التي تقول ألبنائها اخلمسة في امللحمة‪:‬‬ ‫«أنتم يا أبنائي اخلمسة ولدمت من بطن واحدة‪ ،‬فإذا كنتم متفرقني‪،‬‬ ‫مثل السهام اخلمسة التي رأيتموها قبل قليل فرادى‪ ،‬أصبح من السهل‬ ‫‪314‬‬

‫ألي أحد أن يكسركم واحدا واحدا‪ .‬أما إذا كنتم على هدف واحد‪،‬‬ ‫مثل هذه السهام اخلمسة احملزومة في حزمة واحدة‪ ،‬فكيف ألحد‬ ‫أن يكسركم؟!»‪.‬‬ ‫وقد بقيت امللحمة مصدر تأريخ للشعوب املجاورة لفترة ‪ 750‬سنة‪،‬‬ ‫وكانت مرجعا في كتاب جامع التواريخ للمؤلف الفارسي رشيد الدين‬ ‫(‪ 1318 - 1247‬ميالدية)‪ ،‬وكانت كذلك مرجعا لكتاب يوان شيه (تاريخ‬ ‫أسرة يوان)‪ ،‬الذي يضم احلوليات الصينية الشهيرة إلمبراطورية املغول‬ ‫في الصني‪ ،‬من القرن الثالث عشر إلى القرن الرابع عشر‪ .‬كما تتضمن‬ ‫«أكبر نامة»‪ ،‬وهي حوليات اإلمبراطور أكبر وأسالفه للمؤرخ املغولي أبو‬ ‫الفضل (‪ 1602 - 1551‬ميالدية)‪ ،‬نصوصا من ذلك التاريخ السري‪.‬‬ ‫واألهم أن املنمنمات الصينية واملغولية والفارسية والهندية كان لها‬ ‫نصيب في أن تنهل من التاريخ السري‪ ،‬تاريخا وشعر وفنا باملثل‪.‬‬ ‫وإلى جانب املالحم‪ ،‬علينا أن نشير إلى موضوعات تاريخية أخرى‪،‬‬ ‫بعضها مستلهم من القرآن الكرمي‪ ،‬مثل قصة نبينا يوسف عليه السالم‬ ‫مع امرأة العزيز في مصر‪ ،‬فضال عن أشعار أدباء عاصروا مرحلة‬ ‫ازدهار فن املنمنمات‪.‬‬

‫َر ّ َس ُامو ا ُملن َْم َن َمات الفارسية‬

‫نتعرف في العهد الصفوي على رسام املنمنمات علي نقي‪ ،‬الذي‬ ‫اتبع نهج أبيه الشيخ عباسي‪ ،‬املش� � ��هور بلوحاته السبع املؤرخة بني‬ ‫عامي ‪1684‬و ‪ 1685‬ميالدية‪ ،‬ومثل أبيه‪ ،‬وشقيقه محمد نقي‪ ،‬عمل‬ ‫الفنان علي نقي بشكل انتقائي خضع فيه للتأثيرات األسلوبية التي‬ ‫جتمع بني األوربية والهندية‪ ،‬ولم تكن أعماله تقل جودة عن لوحات‬ ‫أبيه‪ ،‬إال أنها كانت أكثر جرأة‪.‬‬ ‫كما يعد عباسي أحد رسامي املنمنمات الصفوية‪ ،‬وترك سبع عشرة‬ ‫‪315‬‬


‫نهر على َسفَر | َف ُّن ا ُملن َْمن َ​َمات ‪ ...‬األدب والتاريخ واألسطورة‬ ‫ٌ‬

‫لوحة رسمت بني عامي ‪ 1650‬و‪ 1683‬ميالدية‪ .‬كان عباسي يرسم على‬ ‫ورقة صغيرة لها شكل املستطيل غير ملونة اخللفية وضعت داخل إطار‬ ‫مزين بالنباتات‪ .‬إن مجموعة األعمال املنسوبة لعباسي‪ ،‬ومساعديه‬ ‫وتالميذه‪ ،‬ميكن أن توصف بأسلوبها املنمق بأنها تقدم شخصياتها‬ ‫بنعومة وسالسة‪ ،‬مثل عمل عباسي املبكر عن العب الكروبات والدف‪،‬‬ ‫واألعمال التي حتمل وجوها ناعمة ومرقطة‪ ،‬ومثلثة الشكل‪ ،‬وهناك‬ ‫عيون حزينة‪ ،‬على األغلب‪ ،‬بينما هناك خلفيات ملشاهد طبيعية (تبدو‬ ‫كأنها مستنسخة من مثيالت إيطالية) وبلدات في األفق نائية‪ .‬وينظر‬ ‫أيضا أسلوبه في حوالي عشرين من اللوحات األخرى التي تعزى له‬ ‫أو مساعديه وأتباعه‪.‬‬ ‫وخالفا ملعاصريه زمان محمد وعلي‪ ،‬لم يكن عباسي ينسخ مباشرة‬ ‫املوضوعات األوربية‪ ،‬ورمبا كان انتقال التأثير األوربي إليه تدريجيا عبر‬ ‫النماذج التركية‪ ،‬وهو ما ظهر باملثل في محاوالته تصوير املوضوعات‬ ‫الهندية قرب نهاية حياته املهنية‪ ،‬والتي تظهر ألفة مع تفاصيل أزياء‬ ‫الهنود وأمناط التصوير الهندي‪ ،‬وتع� � ��د محاولته األكثر جناحا في‬ ‫الطريقة الهندية رسمه امللون لألمير يركب الفيل مع املوكب‪ ،‬ويعود‬ ‫تاريخها إلى عام ‪1675‬ميالدية‪.‬‬ ‫وباستثناء مجموعة من الرسوم التوضيحية في مخطوطة مجهولة‪،‬‬ ‫كان عباسي يشتغل على تقدمي لوحات ألبومات صور احلكام (مثل‬ ‫الشاه عباس الثاني والشاه سليمان)‪ ،‬بينما ظهرت هناك أيضا أعمال‬ ‫موضوعها الفروسية والعذراء والطفولة والشباب والنساء في املناظر‬ ‫الطبيعية أو التنزه واالستماع إلى املوسيقى‪ ،‬وهو ما برع فيه ولداه‬ ‫الفنانان محمد نقي وعلي نقي‪.‬‬ ‫كما يُعد فنان احلقبة املغولية الرس� � ��ام أبو احلسن نادر الزمان‪،‬‬ ‫املولود في العام ‪ 1589‬ميالدية‪ ،‬ببالط األمير س� � ��الم (الذي أصبح‬ ‫‪316‬‬

‫الحقا اإلمبراطور جهاجنير)‪ ،‬خير خلف لوالده الفنان آغا رضا‪ ،‬ابن‬ ‫هرات‪ ،‬فقد عاش وعمل كفنان طيلة حياته‪ .‬درب الوال ُد ابنه ليكون‬ ‫فنان بالط مثله‪ ،‬وأعطاه لقبه هو «نادر الزمان» وعنى به ـ كما ندرك‬ ‫ـ أعجوبة العصر‪ .‬كان الفنان الوالد قد أظهر مهارة كبرى في البالط‬ ‫املغولي‪ ،‬لدى مريد بادشاه‪ ،‬وتشهد بذلك مجموعته في لوحات ألبوم‬ ‫قصر كلستان‪.‬‬ ‫عزز الفنانان‪ ،‬األب واالبن‪ ،‬عبر استخدامهما للون واخلط ‪ ،‬وبشكل‬ ‫ملحوظ‪ ،‬العناصر الفارسية في اللوحة املغولية في تلك الفترة‪ ،‬وأصبح‬ ‫أبو احلسن أفضل رسام بورتريه في عصره‪ ،‬بفضل دراسته لتقنيات‬ ‫الصور والنقوش األوربية ونسخه لكثير منها‪.‬‬ ‫وتشمل موضوعات أبي احلسن صورا رمزية للحكام ومشاهد جلموع‬ ‫اجلمهور العام صورت حاشية احلاكم وكذلك الدراويش‪ ،‬فضال عن‬ ‫لوحات األقرباء واملسؤولني رفيعي املستوى من املغول‪ ،‬واشتهرت لديه‬ ‫صورة يحتفظ بها متحف جيميه ف� � ��ي باريس لإلمبراطور جهاجنير‬ ‫وصورة والده أكبر في يديه‪.‬‬ ‫وميكن أن نشير في احلقبة نفسها للفنان رضا آغا الهروي (‪-1599‬‬ ‫‪1605‬ميالدية)‪ ،‬الذي ارتبط باألمير سليم (اإلمبراطور جهاجنير)‪،‬‬ ‫وقد وقع باسم آغا زاد‪ ،‬وكان مثل أبي احلسن رسا ًما للبالط‪،‬‬ ‫كما يعد حبيب الله الصفجي (‪ 1628-1587‬ميالدية) أحد الفنانني‬ ‫األكثر حتفظا‪ ،‬ونشاطا‪ ،‬في عهد الشاه عباس األول (حكم ‪-1587‬‬ ‫‪ 1628‬ميالدية)‪ .‬وللفنان حبيب الله العديد من اللوحات املوقعة‪ ،‬مبا‬ ‫في ذلك منوذج منمنمات لسرب من الطيور‪ ،‬إضافة إلى نسخة من‬ ‫منطق الطير لفريد الدين العطار (‪ 1483‬ميالدية)‪ ،‬ويحتفظ بها متحف‬ ‫متروبوليتان للفنون في نيويورك‪ ،‬وهناك ‪ -‬باملتحف نفسه ‪ -‬عمل آخر‬ ‫للفنان ميثل مزارعا يحرث بصحبة اثنني من‪ ،‬وله ألبوم «ظفرنامه»‪،‬‬ ‫‪317‬‬


‫نهر على َسفَر | َف ُّن ا ُملن َْمن َ​َمات ‪ ...‬األدب والتاريخ واألسطورة‬ ‫ٌ‬

‫وبه تصوير للجمال مع رجل ملتح يحمل املغزل ولوحة لشاب يحمل‬ ‫بندقية (متحف ستاتليتش اإلسالمي في برلني)‪ ،‬ورسم المرأة شابة‬ ‫جتلس في حقل للكمثرى (مجموعة جورج باسيل روبنسون ‪ ،‬لندن)‪،‬‬ ‫ولوحة لصياد شاب ومنمنمة لسيدة جالسة في رداء برتقالي (وكلتاهما‬ ‫في مكتبة سراي توبكابي مبدينة اسطنبول)‪ ،‬ومنمنمة لقافلة جمال‬ ‫عربية (متحف ميدلهافموزيت في ستوكهولم)‪.‬‬ ‫هذه اللوحات تقد منوذجا لفن الرسام الذي متيز بتقدمي تفاصيل‬ ‫معقدة لألزياء واحللي ـ من الذهب والفضة ـ وصورة للعصر‪ ،‬خاصة‬ ‫حني نقرأ ما بني األلوان‪ ،‬فنرى كيف كان الصياد يتودد إلى صقره‪،‬‬ ‫بألفة‪ ،‬وكيف تنقش خيوط الذهب متوازية على املالبس‪ ،‬وكيف كانت‬ ‫القفازات ثرية‪ ،‬تبدو بهرجتها حني يضربها الضوء‪ ،‬وكيف كانت تبدو‬ ‫خناجر الزي الرسمي والقلنسوات في ذلك العصر‪.‬‬ ‫أما علي بن سلطان ميرزا فهو سيد رسامي العصر الصفوي املبكر‪،‬‬ ‫وقد ولد‪ ،‬على األرجح‪ ،‬بني عامي ‪1500‬و‪1510‬ميالدية‪ ،‬وتوفي حوالي‬ ‫العام ‪ 1575‬ميالدية‪ .‬نال علي بن سلطان تدريبه األساسي كرسام من‬ ‫والده‪ ،‬لكنه تتلمذ أيضا على أيدي فنانني آخرين‪.‬‬ ‫أنتج علي بن سلطان لوحاته حتت رعاية الشاه طهماسب‪ ،‬وتكشف‬ ‫أعماله عن متكنه من التقاليد التفصيلية والتركيبية‪ ،‬ووضوح اجلمع‬ ‫بني املراقبة املضنية للمشهد املرس� � ��وم مع ميل للنظام الكالسيكي‪،‬‬ ‫فضال عن انتباه إلى الفروق الدقيقة في املالبس‪ ،‬واإلمياءات‪ ،‬مبا‬ ‫يجعلها مصدرا مهما للحياة االجتماعية في العهد الصفوي‪ ،‬جنبا إلى‬ ‫جنب مع أعمال العديد من معاصريه مثل مظفر علي والشيخ محمد‬ ‫املدعومني من قبل الش� � ��اه ميرزا​​ابن أخ إبراهيم الذي كان متذوقاً‬ ‫للرسم واخلط ومحتفيا بهما‪.‬‬ ‫وقد أنتج علي ميرزا في الفترة األخيرة من حياته عددا كبيرا من‬ ‫‪318‬‬

‫اللوحات ذات الصفحة الواحدة‪ ،‬واملصممة إلدراجها في ألبومات‪ ،‬تقدم‬ ‫ في معظمها ‪« -‬بورتريهات» لشباب ونساء ومشاهد من البالط‪.‬‬‫كما يجب أال أن نغفل الرسام واملزخرف عبد الله شيرازي‪ ،‬الذي‬ ‫يعد أحد فنارات رسم املنمنمات في القرن السادس عشر‪ ،‬وكان أحد‬ ‫أعضاء محترف رسم املخطوطات لدى أبي الفتح إبراهيم بهرام ملدة‬ ‫عشرين عاما‪ ،‬باعتباره حاكم مش� � ��هد حتى اغتياله في قزوين سنة‬ ‫‪ 1577‬ميالدية‪.‬‬ ‫واحدة من أروع املخطوطات التي أنتجتها ورشة إبراهيم ميرزا​​هي‬ ‫نس� � ��خة من لهفت جامي‪ ،‬بعنوان زليخا ويوسف‪ ،‬ومؤرخة في ‪1565‬‬ ‫ميالدية‪ ،‬وتضمنت الرسوم املعمارية نقشات مذهبة مؤطرة‪.‬‬

‫َم ْد َر ُ‬ ‫سة ُبخَ ا َرى لفنِّ ا ُملن َْمن َ​َم ِات‬

‫ميكن أن نقسم احلديث عن فنِّ املُنَ ْمنَ َم ِ‬ ‫ات في بخارى‪ ،‬بجمهورية‬ ‫أوزبكستان املعاصرة‪ ،‬إلى حقبتني؛ تاريخية قدمية‪ ،‬وتأصيلية معاصرة‪.‬‬ ‫وقد اشتهرت قدميا مدارس بخارى وس� � ��مرقند وطشقند‪ ،‬وال تزال‬ ‫املخطوطات احملفوظة في أرش� � ��يف هذه املدن‪ ،‬أو املنقولة منها إلى‬ ‫متاحف العالم حتكي الكثير‪.‬‬ ‫ومنوذجا للمدارس التاريخية في رسم املنمنمات‪ ،‬جند أن مدرسة‬ ‫بُخارى تعود بنا إلى ب� �ل��اد فارس‪ ،‬فقد نهضت هذه املدرس� � ��ة على‬ ‫أكتاف الفنانني واخلطاطني والنساخني الذين هربوا من هرات‪ ،‬بسبب‬ ‫الغزوات املتكررة على املدينة من قبل ُعبيد الله خان (‪1539 - 1512‬‬ ‫ميالدية)‪ .‬ولذلك من اجللي أن يتضح في منمنمات مدرسة بُخارى‬ ‫ذلك التأثير الفارس� � ��ي‪ ،‬رغم أن هذه الفترة لم تخلف لنا منمنمات‬ ‫تخص نخبتها احلاكمة‪.‬‬ ‫‪319‬‬


‫نهر على َسفَر | َف ُّن ا ُملن َْمن َ​َمات ‪ ...‬األدب والتاريخ واألسطورة‬ ‫ٌ‬

‫ومع أن املنمنمات التي ظهرت أوائل القرن السادس عشر كانت‬ ‫تقلد سابقاتها التي ظهرت منتصف القرن السابق عليها في بالط‬ ‫التيموريني‪ ،‬كما توثقها منمنمات س� � ��مرقند وطشقند‪ ،‬فإنها لم تبق‬ ‫على منمنمات مماثلة‪ .‬باملقابل نعثر على موجتي تأثير حلقتا مبدرسة‬ ‫بخارى في رسم املنمنمات‪ ،‬وكلتاهما جاءت من هرات؛ كانت األولى على‬ ‫النسق التيموري تقدم بالط السلطان حسني (‪ 1506 - 140‬ميالدية)‪،‬‬ ‫ويحتفظ متحف الفن احلر في واشنطن بإحدى هذه املنمنمات‪ ،‬التي‬ ‫تبني العمارة‪ ،‬واملشاهد الطبيعية‪ ،‬واألزياء‪ ،‬وأغطية الرأس بشكل مميز‬ ‫عن رسوم هرات‪ .‬وقد استمر هذا األس� � ��لوب قويا في بخارى حتى‬ ‫منتصف القرن السادس عشر‪ .‬ولعل أهم مخطوطة تعود لهذه الفترة‬ ‫هي نسخة من مؤلف سعدي (جلستان)‪ ،‬وحتتفظ بها مؤسسة ‪M.‬‬ ‫‪ Bodmer‬في جنيف‪ ،‬وقد أمر بنس� � ��خها السلطان علي في هرات‬ ‫(‪ 1500‬ميالدية)‪ ،‬ولكن رس� � ��ومها أضيفت ملن خلف عبيد الله خان‪،‬‬ ‫وهو عبد العزيز سلطان (‪ 1550 - 1539‬ميالدية)‪.‬‬ ‫إن البناء التركيبي للمنمنمات‪ ،‬واألسلوب اخلاص برسومها‪ ،‬يعودان‬ ‫بشكل واضح إلى األصول اخلاصة مبخطوطة «جلستان» التي رسمت‬ ‫للسلطان حسني‪ .‬ومخطوطات بعض هذه السنوات نسخها خطاطون‬ ‫أمثال سلطان علي مشهد‪ ،‬الذي لم يعش أبدا في بخارى‪.‬‬ ‫مجموعة أخرى من مخطوطات بُخارى ميكن أن تعزى إلى رعاية‬ ‫عبد العزيز س� � ��لطان‪ ،‬وهو أحد أعظم املكتبيني ف� � ��ي عهد ما بعد‬ ‫التيموريني‪ ،‬في آسيا الوسطى‪ .‬ويقول مؤرخو الفن إن لوحات تلك الفترة‬ ‫تعود بأسلوبها وتركيبها إلى تأثير مدرسة الفن في عهد الصفويني‪،‬‬ ‫خاصة العام ‪ 1525‬ميالدية‪ ،‬حيث نقلها إلى بخارى شيخ زاده‪ ،‬الذي‬ ‫كان تلميذا لبهزاد‪ .‬وهكذا كان أسلوب بهزاد في هرات‪ ،‬وتأثيره هو‬ ‫وتالميذه‪ ،‬قد أصبحا عتيقا في ب� �ل��اط الصفويني‪ ،‬وقد بزه حينئذ‬ ‫‪320‬‬

‫ال تعد املنمنمات مجرد لوحات فنية‪ ،‬بل هي توثيق تاريخي وأنثروبولوجي للحياة‬ ‫في عصر إنشاء املنمنمة‪ ،‬ليس فقط للمنشآت‪ ،‬واملالبس‪ ،‬ولكن ألسلوب احلياة وأنواع‬ ‫األسلحة ووسائل النقل‪.‬‬

‫‪321‬‬


‫نهر على َسفَر | َف ُّن ا ُملن َْمن َ​َمات ‪ ...‬األدب والتاريخ واألسطورة‬ ‫ٌ‬

‫األسلوب التبريزي‪ ،‬للرسام سلطان محمد‪ ،‬وأتباعه‪.‬‬ ‫ثم سعى شيخ زاده باحثا عن مصدر جديد للرعاية لدى الشهبانيني‪،‬‬ ‫فقام بتس� � ��طيح الفضاء املعماري وزاد من زيناته الزخرفية‪ ،‬وهو ما‬ ‫يتضح في املش� � ��هد اجلامع الذي بديوان حافظ‪ ،‬الذي قدمه للشاه‬ ‫طهماسب شقيق ميرزا​​في حوالي ‪ 1527‬ميالدية‪.‬‬ ‫ومثل الربع األخير من القرن السادس عشر فترة انتقالية في مدرسة‬ ‫بخارى لرسوم املنمنمات‪ ،‬حيث تفكك بش� � ��كل نهائي النمط األساسي‬ ‫للتصميم البخاري‪ ،‬وأضيفت الرسوم التوضيحية للمخطوطات‪ ،‬ولم تبق‬ ‫سوى عالقة ضئيلة ‪ -‬تكاد أحيانا تكون معدومة ‪ -‬مع النص املرافق لها‪،‬‬ ‫ومثاال على ذلك هناك أكثر من ‪ 300‬منمنمة تنسخ شخصيات واحدة‪.‬‬ ‫ونتيجة لغزو صفويي خراسان ألوزبك بخارى (‪ 1586‬ميالدية)‪ ،‬كانت‬ ‫هناك موجة جديدة من التأثيرات الفنية من مشهد وهرات‪ ،‬وظهرت‬ ‫املنمنمات التي رسمها في شبان يرتدون العمائم في خراسان األوزبكية‪،‬‬ ‫مما يجعلنا نفترض أن الفنانني احملليني كان� � ��وا يعملون ملصلحة رعاة‬ ‫أوزبكيني جدد‪.‬‬ ‫ومن املهم أن نشير إلى أن وليام موركروفت‪ ،‬وكان ممثال للحكومة‬ ‫البريطانية في الهند‪ ،‬وقام بدراسة الفنون واحلرف اليدوية في كشمير‬ ‫بني عامي ‪1819‬و‪ 1823‬ميالدية‪ ،‬قد أكد أن جتارة املخطوطات املص َّدرة‬ ‫منشرة بشكل هائل‪ ،‬وكانت املنمنمات الكشمير تنقل إلى آسيا الوسطى‬ ‫خالل فترة السلطنة الدورانية بني عامي ‪ 1752‬و ‪ 1819‬ميالدية‪ ،‬وتشهد‬ ‫مجموعات كشميرية لدى خزائن االحتاد السوفييتي السابق على دقة‬ ‫تقارير موركروفت‪ ،‬وقد أكد هو نفسه ترحيل بعض فناني كشمير إلى‬ ‫مدن آسيا الوسطى خالل أوائل القرن التاسع عشر‪ ،‬وأن هؤالء ظلوا‬ ‫يحافظون على أسلوب العمل الوطني اخلاص بهم‪ ،‬وال يوجد أي دليل على‬ ‫إنتاج الكتب املصورة في بخارى نفسها بعد نهاية القرن السابع عشر‪.‬‬ ‫‪322‬‬

‫وخالل العقود املاضية جرى إحياء لتلك املدرسة البخارية‪ ،‬واليوم‬ ‫يتبوأ فن املنمنمات في أوزبكستان‪ ،‬التي تضم مدن بخارى وسمرقند‬ ‫وطشقند (العاصمة)‪ ،‬مكانة كبيرة‪.‬‬ ‫لاً‬ ‫لقد أخذ فن املنمنمات وقتًا طوي في تطوره‪ ،‬حتى حجز لنفسه‬ ‫مكا ًنا ش � � � َرف ًيا في تاريخ فنون العالم‪ .‬وقدم فنانو وأس� � ��اتذة الفنون‬ ‫الش� � ��عبية األوزبك الكثير من األعمال الفني� � ��ة العظيمة في القرنني‬ ‫العشرين واحلادي والعشرين‪ ،‬والتي ال تعتبر مجرد مثار لإلعجاب‬ ‫لثراء تشكيلها وخيالها اخلصب فحسب‪ ،‬بل ت ُعد ً‬ ‫أيضا دليلاً إلى التاريخ‬ ‫القدمي‪ ،‬وجتسد الشخصية املتنوعة واملتفردة لثقافة الفن لدى الشعب‬ ‫األوزبكي‪ ،‬وهي بحق كنو ٌز فنية عاملية‪.‬بيد أن اإلسهام األهم واألكبر‬ ‫للفن الشعبي األوزبكي للثقافة العاملية على مر العصور ولكل األمم‪،‬‬ ‫هو فن املنمنمات‪.‬‬ ‫ومن املهم التأكيد أن قضية الفن الشعبي في زمن السوفييت كانت‬ ‫متثل عبئًا ثقيلاً وظاهرة آخذة في االنقراض‪ .‬ولهذا فإن أساتذة الصنوف‬ ‫األساسية للفنون الشعبية صائغي احللي واملجوهرات‪ ،‬وصانعي الفخار‬ ‫واخلزف‪ ،‬والرسامني على القماش‪ ،‬والنقاشني على اجللود‪ ،‬ونساجي‬ ‫األبسطة‪ ،‬وحفاري اخلشب‪ ،‬ومركبي اجلص مت الزج بهم إلى املنفى‪،‬‬ ‫وشمل احلظر تداول أعمالهم اإلبداعية‪ .‬تلك األعمال التي لم تدعمها‬ ‫الدولة‪ ،‬ولم يكن ثمة طلب عليها؛ بسبب تدني مستوى معيشة الشعب‬ ‫في ذلك الوقت‪ .‬واملوقف املوصوف في ُمجمله يكاد يتمثل في رسم‬ ‫تصويري صغير‪ ،‬وهو منمنم ٌة من أعمالِ عبقري الشعر األوزبكي علي‬ ‫شير نواعي‪ ،‬حيث ترى األسد مكبال بأصفاد من النقوش الغامضة‬ ‫عليها مكتوب «األسد املكبل يسعى للتحرر»‪ .‬ولهذه الشخصية معان‬ ‫مختلفة وال تعني فقط حرية الفن اإلبداعي ككل‪ ،‬بل ً‬ ‫أيضا فردية كل‬ ‫فنان على حدة‪.‬‬ ‫‪323‬‬


‫نهر على َسفَر | َف ُّن ا ُملن َْمن َ​َمات ‪ ...‬األدب والتاريخ واألسطورة‬ ‫ٌ‬

‫ومن الوثائق املهمة لعهد التيموريني‪ ،‬ال� � ��ذي رعت مبوجبه الدولة‬ ‫أساتذة الفن الشعبي‪ ،‬نتعرف على موضوع مؤرخي الفن‪ .‬إذ جند أستاذ‬ ‫املنمنمات‪ ،‬ومدير الكتابخانة (املكتبة) كمال الدين جعفري تبريزي من‬ ‫ِحرات‪ ،‬يخب� � ��ر األمير غياث الدين بايس� � ��ونكور (‪ )1434 – 1397‬في‬ ‫تقريره بالوفاء بـ»أوامر الدولة» املُصممة ملصلحة الرسوم الفنية للمباني‪،‬‬ ‫وتصميم املنمنمات للكتب‪ ،‬والتصميم الفني واجلرافيكي لدواوين الشعر‪.‬‬ ‫وكذلك فإن األمير بايسونكور (ابن شاه روح) نفسه كان من فناني اخلط‬ ‫املوهوبني‪ .‬وفي متحف القرآن في مشهد نرى مناذج كثيرة من أعمال‬ ‫بايسونكور معروضة في مكان بارز‪.‬‬ ‫وفي تلك الظروف املواتية للفن اإلبداعي نشأ أستاذ املنمنمات العبقري‬ ‫كمال الدين بهزاد (‪ .)1536 – 1455‬ومن اجلدير بالذكر أن الشاعر‬ ‫علي شير نواعي (األمير الكبير في بالط التيموريني في خراسان) كان‬ ‫معلم وراعي بهزاد‪ .‬أما اآلن‪ ،‬وفيما يتعلق بالفن الشعبي (الفولكلور) في‬ ‫أوزبكستان‪ ،‬فأود اإلشارة إلى بعض النقاط الفارقة في عملية ترميم‬ ‫وتأهيل وتنمية الفن الشعبي التقليدي‪.‬‬ ‫وأحد األنواع املنسية من الفن الفولكلوري هو الرسم على املينا والذي‬ ‫استعاده ن‪ .‬حوملاتوف بالرسم على صناديق صغيرة مصنوعة بالطريقة‬ ‫القدمية باس� � ��تخدام تقنية الصائغني‪ .‬وقدم مجموعة من الصناديق‬ ‫برسوم مينا بإطار من الفضة والنيكل بزخرفة شرقية وأحيا ًنا بإضافة‬ ‫قطع من الفيروز واألحجار النفيسة وقالدات العنق‪ .‬وفي العادة فإن‬ ‫شكل الصندوق وطريقة رسمه ميتزجان بأسلوب متجانس‪ .‬يراعي في‬ ‫أعماله كل التفاصيل‪ ،‬والتركيب الكلي لدى إدخاله لعناصر تصويرية‬ ‫ورسم لشخصيات‪ .‬ودائ ًما ما يبقي في ذهنه مجمل التصميم واللوحة‬ ‫ويحافظ على اتساق األسلوب في العمل ككل‪.‬‬ ‫وتقدم سلسلة من صناديقه‪/‬أعماله الفنية التي يستخدم فيها ألوانا‬ ‫‪324‬‬

‫باهتة بسخاء‪ ،‬لسيناريو يدور في محيط من املناظر الطبيعية‪ .‬وهي عامرة‬ ‫بالشعرية وبها نوع من التأمل الفلسفي‪ ،‬ومن هذه األعمال «موسيقى»‬ ‫و«تأمل» و«الطائر»‪ ،‬و«عالم الطبيعة» و«الباقة»‪ ،‬وغيرها‪.‬‬ ‫وقد اس� � ��تخدم التقنية الفنية في رس� � ��م اجلداريات في زخرفة‬ ‫قصر «تركستان» وهو مبنى الس� � ��فارة التركية في طشقند‪ ،‬ومسرح‬ ‫الدراما املوس� � ��يقية في بلدة جوليستان‪ ،‬وترميم مطعم «أوزبكستان»‬ ‫في موسكو‪.‬‬ ‫والنهج الزخرفي‪ ،‬واألسلوب الشعري‪ ،‬واأللق البالغ‪ ،‬واالنسجام في‬ ‫ٍ‬ ‫سمات أصيلة في أعماله الفنية‪ .‬وبغض النظر عن‬ ‫الفن‪ ،‬صارت جمي ًعا‬ ‫مسألة اإلبقاء على تقاليد الرسم القدمية واحلفاظ على بناء الصورة‬ ‫ومتاسك األسلوب وهي من الصفات اللصيقة بالنهضة الفنية املشرقية‪،‬‬ ‫فإن إدراك الفنان لتمثيل الصورة فيما يتصل بالفنانني املعاصرين في‬ ‫أوزبكستان يستوجب تفس� � ��ير احلياة اليومية وعالقات البشر‪ ،‬وهي‬ ‫قدمية في املنطقة منذ قرون‪ ،‬ولها صلة وثيقة باحلاضر‪.‬‬ ‫إن تناولنا لهذه املنمنمات الش� � ��رقية في احلضارة اإلسالمية ال‬ ‫يعني إغفالنا ملدارس فنون املنمنم� � ��ات الصينية والهندية والعثمانية‬ ‫والتأثيرات املتبادلة بينها‪ ،‬لكن لذلك حديثا يطول‪ ،‬ال تتسع له مقالة‬ ‫منمنمة تضيء تاريخ ذلك الفن املغموس في حبر نوستاجليا احلكايات‬ ‫والتاريخ واألدب‪.‬‬

‫* نشر في «العربي»‪ ،‬سبتمبر ‪2014‬‬ ‫** فاز بهذا املوضوع بجائزة الصحافة العربية‪ ،‬من قبل نادي دبي للصحافة‪ ،‬في فرع‬ ‫الثقافة‪ ،‬مايو ‪2015‬‬

‫‪325‬‬


‫أشرف أبو اليزيد‬

‫الـمحتويات‬ ‫بني يدي هذا الكتاب ‪ ...‬د‪ .‬عادل سالم العبد اجلادر‬

‫‪4‬‬

‫هذه الرحالت ‪ ...‬أشرف أبو اليزيد‬

‫‪6‬‬

‫< قرطبة ‪ ...‬القلعة احلرة‪ ،‬نشر في العدد ‪، 555‬مجلة العربي ‪ ،‬فبراير ‪2005‬‬

‫‪10‬‬

‫< برلني وردة بيضاء ‪ ...‬عاصمة م َو َّحدة نشر في العدد ‪ ،546‬مجلة العربي ‪ ،‬مايو ‪2004‬‬

‫‪36‬‬

‫< بيشيلية ‪ ...‬شعوب املتوسط ‪ ...‬فنون العالم‪،‬‬ ‫نشر في العدد ‪ ،553‬مجلة العربي ‪2004 ،‬‬

‫‪58‬‬

‫< تتارستان ‪ ...‬كتاب البهجة واألشجان‪،‬‬ ‫نشر في العدد ‪، 587‬مجلة العربي ‪ ،‬أكتوبر ‪2007‬‬

‫‪76‬‬

‫< بلغار الفوجلا ‪ ...‬على خطى أحمد بن فضالن ‪،‬‬ ‫نشر في العدد ‪ ، 650‬مجلة العربي‪ ,‬يناير ‪2013‬‬

‫‪98‬‬

‫< حتت سماء كوجرات‪ ،‬نشر في العدد ‪، 568‬مجلة العربي ‪ ،‬مارس ‪2006‬‬

‫‪114‬‬

‫< عرش السلطان أكبر‪ ،‬نشر في العدد ‪ ، 676‬مجلة العربي ‪ ،‬مارس ‪،2015‬‬

‫‪144‬‬

‫< جواجن جو ‪...‬عاصمة الثقافة اآلسيوية‪،‬‬ ‫نشر في العدد ‪ ،662‬مجلة العربي ‪ ،‬يناير ‪2014‬‬

‫‪164‬‬

‫< أوزبكستان ‪ ...‬مزارات وبازارات‪ ،‬نشر في العدد ‪ ، 602‬مجلة العربي يناير ‪602‬‬

‫‪182‬‬

‫< شينج يانغ ‪ ...‬الصني املسلمة‪،‬‬ ‫نشر في العدد ‪ ،598‬مجلة العربي ‪ ،‬سبتمبر ‪2008‬‬

‫‪214‬‬

‫< كوستاريكا ‪ ...‬قصيدة الفردوس والبركان‪،‬‬ ‫نشر في العدد ‪ ،622‬مجلة العربي ‪ ،‬سبتمبر‬

‫‪240‬‬

‫< يوتوبيا فوبيا مانديال الند‪ ،‬نشر في العدد ‪،626‬مجلة العربي ‪ ،‬يناير ‪2011‬‬

‫‪266‬‬

‫< فن املنمنمات ‪ ...‬األدب والتاريخ واألسطورة‪،‬‬ ‫نشر في العدد ‪ ، 670‬مجلة العربي ‪ ،‬سبتمبر‪2014‬‬

‫‪294‬‬

‫الصور مبشاركة‬ ‫الفنان ‪ :‬سليمان حيدر (صفحات ‪) 285, 277 ,209 ،193 ،185‬‬ ‫املخرجة‪ :‬فاطمة الزهراء حسن (صفحات ‪) 161 ،159 ،151 ،145 ،144‬‬

‫‪326‬‬

‫< محرر مبجلة «العربي» منذ العام ‪ ،2002‬روائي وش� � ��اعر وصحف� � ��ي من مصر‪ ،‬عضو‬ ‫احتاد كتاب مصر‪ ،‬رئيس حترير «آسيا إن» العربية‪ ،‬ورئيس جمعية الصحفيني اآلسيويني‬ ‫(‪. ) AJA‬‬ ‫< ولد في ‪ 13‬م� � ��ارس ‪1963‬م‪ ،‬درس األدب اإلجنليزي‪ ،‬عم� � ��ل بالترجمة‪ ،‬قبل أن يتفرغ‬ ‫للصحافة الثقافية‪ ،‬فكان سكرتير التحرير واملشرف الفني في كل من مجلة نزوى‪ ،‬سلطنة‬ ‫ُعمان‪ ،‬ومجلة(أدب ونقد في مصر‪ ،‬واحملرر الثقافي لوكالة أنباء رويترز في القاهرة‪.‬‬ ‫< نشر استطالعاته املصورة عن أكثر من ‪ 30‬بلدًا في مجلة العربي‪ ،‬وقدم للمكتبة العربية‬ ‫نحو ‪ 30‬كتابا بني التأليف والترجمة‪ ،‬كما قدم للتلفزيون سلسلة من اللقاءات مع أيقونات‬ ‫الثقافات غير العربية في برنامجه «اآلخر» الذي بثه تلفزيون دولة الكويت‪.‬‬ ‫< شارك في مؤمترات وندوات وفعاليات ثقافية مبصر واملغرب وسورية وتونس والكويت‬ ‫ودولة اإلمارات العربية املتحدة واململكة العربية السعودية واليمن واألردن‪ ،‬وروسيا وأملانيا‬ ‫وأسبانيا وإيطاليا وكوريا اجلنوبية وكوستاريكا‪.‬‬

‫اجلوائز والتكرميات‬ ‫< جائزة مانهي لألدب عام ‪2014‬م في كوريا اجلنوبي� � ��ة (‪Manhae Grand Prize‬‬ ‫‪.)in literature‬‬ ‫< تكرمي املكتب الثقافي لس� � ��فارة جمهورية مصر العربية ف� � ��ي دولة الكويت بدرع جنيب‬ ‫محفوظ لإلبداع عام ‪.2014‬‬ ‫< جائزة الصحافة العربية ‪ ،‬في الثقافة‪ ،‬من نادي دبي للصحافة‪.2015 ،‬‬ ‫< تكرمي مجلة دبي الثقافية مرتني‪ ،‬كإعالمي وشاعر‪ ،‬عامي ‪ 2009‬و‪.2013‬‬ ‫< تكرمي جمهورية تتارستان‪ ،‬روسيا االحتادية‪ ،‬مرتني‪ ،‬بدرع شخصية العام الثقافية لدوره‬ ‫في التعريف بالثقافة التترية (‪ ،)2012‬ودرع احتاد الكتاب ومسرح الطفل للدمى‪ ،‬لترجمته‬ ‫عملني للشاعر عبد الله طوقاي كتبهما لألطفال (‪.)2013‬‬

‫املؤلفات‪ :‬الرواية‬ ‫< شماوس‪ ،‬دار عني للنشر‪ ،‬القاهرة‪.2008 ،‬‬ ‫< حديقة خلفية‪ ،‬مكتبة املشارق للنشر والتوزيع‪ ،‬القاهرة‪.2011 ،‬‬ ‫< ‪ ،31‬مكتبة املشارق للنشر والتوزيع‪ ،‬القاهرة‪.2011 ،‬‬

‫‪327‬‬


‫الشعر‬ ‫< وشوشة البحر‪ ،‬إصدار خاص‪ ،‬القاهرة‪.1989 ،‬‬ ‫< األصداف‪ ،‬إصدار خاص‪ ،‬القاهرة‪.1996 ،‬‬ ‫< ذاكرة الصمت‪ ،‬دار اجلديد‪ ،‬بيروت‪.2000 ،‬‬ ‫< فوق صراط املوت‪ ،‬كاف نون‪ ،‬القاهرة‪.2001 ،‬‬ ‫< ذاكرة الفراشات‪ ،‬مكتبة غريب‪ ،‬القاهرة‪.2005 ،‬‬

‫الدراسات والترجمات‬ ‫< سيرة اللون (دراسات في الفن التش� � ��كيلي املعاصر)‪ ،‬الهيئة املصرية العامة للكتاب‪،‬‬ ‫القاهرة‪.2003 ،‬‬ ‫< مذكرات مسافر‪ ،‬رحلة شيخ األزهر مصطفى عبدالرازق إلى أوربا (حتقيق‪ /‬أدب رحلة)‪،‬‬ ‫سلسلة ارتياد اآلفاق‪ ،‬أبو ظبي‪.2008 ،‬‬ ‫< الشيخ مصطفى عبدالرازق مسافرا (حتقيق‪ /‬أدب رحلة)‪ ،‬دار العني للنشر واألبحاث‪،‬‬ ‫القاهرة‪.2009 ،‬‬ ‫< عبث الشباب (حتقيق جلريدة بيرم التونسي (الشباب))‪ ،‬مكتبة اإلسكندرية‪ ،‬اإلسكندرية‪،‬‬ ‫‪.2008‬‬ ‫< سيرة مسافر‪( ،‬أدب رحلة)‪ ،‬دار هفن للنشر‪ ،‬القاهرة‪.2008 ،‬‬ ‫< أنا والس� � ��وريالية‪ ،‬س� � ��لفادور دالي (ترجمة)‪ ،‬سلس� � ��لة كتاب دبي الثقافية‪ ،‬دبي‪ ،‬يوليو‬ ‫‪2010‬‬ ‫< ألف حياة وحياة ‪ ،‬الشاعر كو أون (شعر مترجم)‪ ،‬سلس� � ��لة كتاب دبي الثقافية‪ ،‬دبي‪،‬‬ ‫‪.2012‬‬ ‫ديس يحلق بعيدًا‪ ،‬الشاعر تشو أو ـ هيون (شعر مترجم)‪ ،‬بيت الغشام للنشر والترجمة‪،‬‬ ‫< قِ ٌ‬ ‫مسقط‪ ،‬سلطنة عمان‪.2013 ،‬‬ ‫< طريق احلرير‪ ،‬موسوعة ثقافية مصورة‪ ،‬مكتبة اإلسكندرية‪.2013 ،‬‬ ‫< نون النسوة ‪ ...‬نهر الفن‪ ،‬سير ذاتية‪ ،‬سلسلة كتاب الهالل‪.2013 ،‬‬ ‫< نهر على سفر‪( ،‬أدب رحلة)‪ ،‬سلسلة كتاب العربي‪ ،‬الكويت‪.2015 ،‬‬

‫أعمال مترجمة للمؤلف‬ ‫< ذاكرة الفراشات‪ ،‬أنطولوجيا شعرية مترجمة إلى اللغة اإلجنليزية‪ ،‬القاهرة‪.2013 ،‬‬ ‫< ذاكرة الفراشات‪ ،‬أنطولوجيا ش� � ��عرية مترجمة إلى اللغة الفارسية‪ ،‬ترجمة‪ :‬د‪.‬نسرين‬ ‫شكيبي ممتاز‪ ،‬دار نشر أفراز‪ ،‬طهران‪.2013 ،‬‬ ‫< أنطولوجيا ش� � ��عرية مترجمة إلى اللغة التركية‪ ،‬ترجمة‪ :‬متني فندقجي‪ ،‬الناشر‪ :‬آرت‬ ‫شوب‪ ،‬اسطنبول‪2012 ،‬‬ ‫< ديوان (شارع في القاهرة)‪( ،‬مختارات ش� � ��عرية)‪ ،‬ترجمة‪ :‬د‪.‬نادية جمال الدين‪ ،‬صدر‬

‫‪328‬‬

‫باللغة اإلسبانية‪ ،‬الناشران‪ :‬بيت الشعر في سان خوسيه وجامعة كوستاريكا‪ ،‬كوستاريكا‪،‬‬ ‫‪2010‬‬ ‫< شماوس‪( ،‬ترجمة كورية)‪ ،‬ترجمة‪ :‬جامعة هانكوك للدراسات األجنبية‪ ،‬صدر عن جمعية‬ ‫كوريا والشرق األوسط‪ ،‬سيئول‪.2008 ،‬‬

‫أدب الطفل‬ ‫< أطفال من وطني العربي (ديوان شعر)‪ ،‬سلس� � ��لة كتاب العربي الصغير‪ ،‬العدد ‪،170‬‬ ‫الكويت‪ ،‬نوفمبر ‪.2006‬‬ ‫< حكاية فنان عمره ‪ 5000‬عام (تاريخ الفن املصري)‪ ،‬املركز القومي لثقافة الطفل‪ ،‬املجلس‬ ‫األعلى للثقافة‪ ،‬القاهرة‪.2006 ،‬‬ ‫< حكايات كورية (قصص شعبية مترجمة)‪ ،‬سلس� � ��لة كتاب العربي الصغير‪ ،‬العدد ‪،188‬‬ ‫الكويت‪ ،‬مايو ‪.2008‬‬ ‫< َر َّحالة العرب (أدب رحلة)‪ ،‬سلسلة كتاب العربي الصغير‪ ،‬العدد ‪ ،196‬الكويت‪ ،‬يناير‬ ‫‪.2009‬‬ ‫< شورالي‪ ،‬حكاية احلطاب وشريرة الغاب (ترجمة مللحمة كتبها شاعر تتارستان عبدالله‬ ‫طوقاي)‪ ،‬سلسلة كتاب العربي الصغير‪ ،‬العدد ‪ ،210‬الكويت‪ ،‬مارس ‪.2010‬‬ ‫< ساعي بريد حتت املاء (قصة ش� � ��عرية)‪ ،‬سلس� � ��لة كتاب العربي الصغير‪ ،‬العدد ‪،218‬‬ ‫الكويت‪ ،‬نوفمبر ‪.2010‬‬ ‫< العنزة واخلروف‪( ،‬ترجمة مللحمة كتبها شاعر تتارستان عبدالله طوقاي)‪ ،‬سلسلة كتاب‬ ‫العربي الصغير‪ ،‬الكويت‪.2013 ،‬‬ ‫< سلسلة «مغامرات ماجد على طريق احلرير» أسبوعيا ملدة ‪ 4‬سنوات‪2015 - 2011 ،‬‬ ‫مبجلة ماجد‪ ،‬اإلمارات‪ ،‬لتعريف القراء العرب بجغرافيا وتاريخ وعادات وتقاليد شعوب‬ ‫هذا الدرب الشهير‪.‬‬ ‫مغامرات سمر املصورة‪ ،‬مجلة «العربي الصغير»‬ ‫قصائد لألطفال‪ ،‬مجلة «العربي الصغير»‪.‬‬

‫املوقع اإللكتروني‬ ‫‪www.ashrafdali.com‬‬ ‫;‬ ‫;‪www.ashrafdali.com/blog‬‬ ‫‪ashrafdali@gmail.com‬‬ ‫;‬ ‫‪ashraf_dali@yahoo.com‬‬ ‫;‬

‫‪329‬‬


‫‪AL ARABI BOOK‬‬

‫أسعار النسخ وقيمة االشتراكات‬ ‫الكــويت ‪ 1‬دينـــــار‬ ‫السعودية ‪ 15‬ريــاال‬ ‫األردن ‪ 1‬دينــــــــار‬ ‫ســـورية ‪ 50‬ليـرة‬ ‫البحرين ‪ 1‬دينـــــار‬ ‫مصــــــر ‪ 5‬جنيــــهات‬ ‫السودان ‪ 200‬جنيه‬ ‫تـــــــونس ‪ 2‬دينــــــــار‬

‫اجلزائـر ‪ 120‬دينـارا‬ ‫اليــــــــمن ‪ 150‬ريـــاال‬ ‫قطــــــــر ‪ 15‬ريــــــــاال‬ ‫سلطنة عمان ‪ 1‬ريـــال‬ ‫لبنـــــــان ‪ 5000‬ليرة‬ ‫اإلمارات ‪ 15‬درهمــــا‬ ‫املغـــرب ‪ 20‬درهمـــــا‬

‫سعر النسخة خارج الوطن العربي ‪ 3‬دوالرات أمريكية‬ ‫االشتــــــراك في الكــــــويت ‪ 5‬دنــانــــــــير‬ ‫في الدول العربية ‪ 8‬دوالرات أمريكــــــية‬ ‫خارج الوطن العربي ‪ 16‬دوال ًرا أمريكيا‪.‬‬

‫االشـ ــتراكـ ــات‬

‫قسم االشتراكات ‪ -‬مجلة العربي ‪ -‬وزارة اإلعالم‬ ‫ص‪ .‬ب‪ 748 :‬الصفاة ‪ -‬الكويت الرمز البريدي ‪13008‬‬ ‫على طالب االشتراك حتويل القيمة‬ ‫مبوجب حوالة مصرفية‬ ‫أو شيك بالدينار الكويتي باسم وزارة اإلعالم‪.‬‬ ‫‪330‬‬

‫مكتب «العربي» الرئيسي في الكويت‬ ‫ص‪ .‬ب ‪ 748‬الصفاة ‪ -‬الكويت ‪ -‬الرمز البريدي‪13008 :‬‬ ‫بنيد القار ‪ -‬قطعة ‪ - 1‬شارع ‪ - 47‬قسيمة ‪3‬‬ ‫هاتف البدالة ‪)00965( 22512081 / 82 / 86‬‬ ‫فاكس‪)00965( 22512044 :‬‬ ‫‪P.O.Box: 748 / Al Safat Kuwait.‬‬

‫‪E.mail: arabimag@arabimag.net‬‬ ‫‪www.alarabimag.net‬‬

‫املراسالت باسم رئيس التحرير‬

‫مراسلو «العرب ــي» في اخل ـ ــارج‬ ‫القاهرة‪ :‬الهرم ‪ 5 -‬شارع ترعة املريوطية ‪ -‬عمارات اخلليج‬ ‫عمارة ‪ 3‬الدور األول ‪ -‬دار عني للدراسات‬ ‫هاتف‪002039812448 :‬‬ ‫بيــروت‪ :‬ص‪ .‬ب ‪ 70827‬أنطلياس ‪ /‬لبنان‬ ‫هاتف‪ - 009613408407 :‬فاكس‪009614408448 :‬‬ ‫دمشق‪ :‬ص‪ .‬ب ‪7699‬‬ ‫هاتف‪ - 00963114417653 :‬فاكس‪00963114449567 :‬‬ ‫الرباط‪ :‬ص‪ .‬ب ‪ 7729‬دار احلديث‬ ‫هاتف‪ - 0021237679972 :‬فاكس‪0021237778438 :‬‬

‫‪331‬‬


‫‪AL ARABI BOOK‬‬

‫إصدارات كتاب العربي‬

‫د‪ .‬أحمد زكي «يناير ‪»1984‬‬ ‫‪ -1‬احلرية ‬ ‫د‪ .‬عبد احلليم منتصر «أبريل ‪»1984‬‬ ‫‪ -2‬العلم في حياة اإلنسان ‬ ‫‪ -3‬املجالت الثقافية والتحديات املعاصر ة مجموعة كتاب «يوليو ‪»1984‬‬ ‫د‪ .‬محمود السمرة «أكتوبر ‪»1984‬‬ ‫‪ -4‬العروبة واإلسالم وأوربا ‬ ‫‪ -5‬العربي ومسيرة ربع قرن مع‪:‬احلياة‪..‬‬ ‫والناس‪ ..‬والوحدة في دول اخلليج العربي مجموعة كتاب «نوفمبر ‪»1984‬‬ ‫‪-6‬‬ ‫‪-7‬‬ ‫‪-8‬‬ ‫‪-9‬‬ ‫‪-10‬‬ ‫‪-11‬‬ ‫‪-12‬‬ ‫‪-13‬‬ ‫‪-14‬‬ ‫‪-15‬‬ ‫‪-16‬‬ ‫‪-17‬‬

‫د‪ .‬فاخر عاقل «يناير ‪»1985‬‬ ‫طبائع البشر ‬ ‫د‪ .‬أحمد كمال أبو املجد «أبريل ‪»1985‬‬ ‫حوار‪ ..‬المواجهة‪ ..‬‬ ‫مجموعة كتاب «يوليو ‪»1985‬‬ ‫آراء ودراسات في الفكر القومي ‬ ‫محمد خليفة التونسي «أكتوبر ‪»1985‬‬ ‫أضواء على لغتنا السمحة ‬ ‫مجموعة كتاب «يناير ‪»1986‬‬ ‫الكويت ربع قرن من االستقالل ‬ ‫نظرات في الواقع االقتصادي املعاص ر د‪ .‬حازم الببالوي «أبريل ‪»1986‬‬ ‫السلوك اإلنساني‪ ..‬احلقيقة واخليال د‪ .‬فخري الدباغ «يوليو ‪»1986‬‬ ‫مجموعة كتاب «أكتوبر ‪»1986‬‬ ‫آراء حول قدمي الشعر وجديده ‬ ‫مجموعة كتاب «يناير ‪»1987‬‬ ‫املسلمون والعصر ‬ ‫د‪ .‬عبد احملسن صالح «أبريل ‪»1987‬‬ ‫من أسرار احلياة والكون ‬ ‫مجموعة كتاب «يوليو ‪»1987‬‬ ‫دراسات حول الطب الوقائ ي‬ ‫د‪ .‬فؤاد زكريا «أكتوبر ‪»1987‬‬ ‫خطاب إلى العقل العرب ي‬

‫‪332‬‬

‫‪ -18‬املسرح العربي بني النقل والتأصيل مجموعة كتاب «يناير ‪»1988‬‬ ‫‪ -19‬الفلسطينيون من االقتالع إلى املقاومة مجموعة كتاب «أبريل ‪»1988‬‬ ‫محمد عبد الله عنان «يوليو ‪»1988‬‬ ‫‪ -20‬أندلسيات ‬ ‫مجموعة كتاب «أكتوبر ‪»1988‬‬ ‫‪ -21‬ماذا في العلم والطب من جديد؟ ‬ ‫د‪ .‬عبد العزيز كامل «يناير ‪»1989‬‬ ‫‪ -22‬اإلسالم والعروبة في عالم متغير ‬ ‫مجموعة كتاب «أبريل ‪»1989‬‬ ‫‪ -23‬الطفل العربي واملستقبل! ‬ ‫مجموعة كتاب «يوليو ‪»1989‬‬ ‫‪ -24‬القصة العربية أجيال وآفاق ‬ ‫د‪ .‬شاكر مصطفى «أكتوبر ‪»1989‬‬ ‫‪ -25‬تاريخنا‪ ...‬وبقايا صور ‬ ‫مجموعة كتاب «يناير ‪»1990‬‬ ‫‪ -26‬اإلنسان والبيئة صراع أو توافق؟ ‬ ‫د‪ .‬زكي جنيب محمود «أبريل ‪»1990‬‬ ‫‪ -27‬نافذة على فلسفة العصر ‬ ‫عبد الرزاق البصير «يوليو ‪»1990‬‬ ‫‪ -28‬نظرات في األدب والنقد ‬ ‫د‪ .‬محمد عمارة «يوليو ‪»1997‬‬ ‫‪ -29‬اإلسالم وضرورة التغيير ‬ ‫‪ -30‬اخلليج العربي وآفاق القرن‬ ‫مجموعة ك ــتاب « أكتوبر ‪»1997‬‬ ‫الواحد والعشرين ‬ ‫مجموعة من الكتاب «يناير‪»1998‬‬ ‫‪ - 31‬القصة العربية‪ .‬‬ ‫محمود املراغي « أبريل ‪» 1998‬‬ ‫‪ - 32‬أرقام تصنع العالم ‬ ‫د‪ .‬شاكر مصطفى « يوليو ‪» 1998‬‬ ‫‪ - 33‬على جناح طائر ‬

‫‪333‬‬


‫‪AL ARABI BOOK‬‬

‫إصدارات كتاب العربي‬

‫مجموعة من الكتاب « أكتوبر ‪»1998‬‬ ‫‪ - 34‬املسلمون من آسيا إلى أوربا ‬ ‫مجموعة من الكتّاب « يناير ‪»1999‬‬ ‫‪ - 35‬إسبانيا‪ ..‬أصوات وأصداء عربية ‬ ‫مجموعة من الكتاب «أبريل ‪»1999‬‬ ‫‪ - 36‬ثورات في الطب والعلوم ‬ ‫محمد مستجاب «يوليو ‪»1999‬‬ ‫‪ - 37‬نبش الغراب في واحة العربي ‬ ‫‪ - 38‬املثقفون والسلطة في عاملنا العربي أحمد بهاء الدين «أكتوبر ‪»1999‬‬ ‫مجموعة من الكتّاب «يناير‪»2000‬‬ ‫‪ - 39‬التعبير باأللوان ‬ ‫مجموعة من الكتاب «أبريل ‪»2000‬‬ ‫‪ - 40‬حضارة احلاسوب واإلنترنت ‬ ‫مجموعة من الكاتبات «يوليو ‪»2000‬‬ ‫‪ - 41‬شهرزاد تبوح بشجونها ‬ ‫نخبة من الشعراء «أكتوبر ‪»2000‬‬ ‫‪ - 42‬قوافي احلب والشجن ‬ ‫د‪ .‬محمد املخزجني «يناير ‪»2001‬‬ ‫‪ - 43‬الطب البديل ‬ ‫سليمان مظهر «أبريل ‪»2001‬‬ ‫‪ - 44‬منمنمات تاريخية ‬ ‫نخبة من الكتّاب «يوليو ‪»2001‬‬ ‫‪ - 45‬اإلسالم والتطرف ‬ ‫د‪ .‬أحمد أبو زيد «أكتوبر ‪»2001‬‬ ‫‪ - 46‬الطريق إلى املعرفة ‬ ‫د‪ .‬نقوال زيادة «يناير ‪»2002‬‬ ‫‪ - 47‬إيقاع على أوتار الزمن ‬ ‫مجموعة من الكتّاب «أبريل ‪»2002‬‬ ‫‪ - 48‬دمار البيئة‪ ...‬دمار اإلنسان ‬ ‫مجموعة من الكتّاب «يوليو ‪»2002‬‬ ‫‪ - 49‬اإلسالم والغرب ‬ ‫مجموعة من الكتّاب «أكتوبر ‪»2002‬‬ ‫‪ -50‬ثقافة الطفل العربي ‬ ‫د‪ .‬سليمان العسكري وآخرون «يناير ‪»2003‬‬ ‫‪ -51‬الثقافة الكويتية أصداء وآفاق ‬

‫‪334‬‬

‫فاروق شوشة «أبريل ‪»2003‬‬ ‫‪ -52‬جمال العربية ‬ ‫نخبة من الكتّاب «يوليو ‪»2003‬‬ ‫‪ -53‬كلمات من طمي الفرات ‬ ‫مجموعة من الكتّاب «أكتوبر ‪»2003‬‬ ‫‪ -54‬مرفأ الذاكرة ‬ ‫نخبة من الكتاب «يناير ‪»2004‬‬ ‫‪ -55‬مستقبل الثورة الرقمية ‬ ‫نخـ ـبـ ــة مــن الك ـت ــاب «إبـ ــريــل ‪»2004‬‬ ‫‪ -56‬فلسطني روح العرب املمزق ‬ ‫د‪.‬محمد جابر األنصاري «يوليو ‪»2004‬‬ ‫‪ -57‬مراجعات في الفكر القومي ‬ ‫نخبة من الكتاب «اكتوبر ‪»2005‬‬ ‫‪ -58‬األندلس صفحات مشرقة ‬ ‫نخبة من الكتاب «يناير ‪»2005‬‬ ‫‪ -59‬الغرب بعيون عربية (اجلزء األول) ‬ ‫نخبة من الكتاب «أبريل ‪»2005‬‬ ‫‪ -60‬الغرب بعيون عربية (اجلزء الثاني) ‬ ‫د‪ .‬أحمد أبوزيد«يوليو ‪»2005‬‬ ‫‪ - 61‬املعرفة وصناعة املستقبل ‬ ‫د‪ .‬جابر عصفور «أكتوبر ‪»2005‬‬ ‫‪ -62‬غواية التراث ‬ ‫محمد مستجاب «يناير ‪»2006‬‬ ‫‪ - 63‬نبش الغراب «املجموعة الثانية» ‬ ‫جار النبي احللو وعلي سيد علي «أبريل ‪»2006‬‬ ‫‪ -64‬دائرة معارف العرب ‬ ‫مجموعة من الكتاب «يوليو ‪»2006‬‬ ‫‪ -65‬حوار املشارقة واملغاربة «اجلزء األول» ‬ ‫مجموعة من الكتاب «أكتوبر ‪»2006‬‬ ‫‪ -66‬حوار املشارقة واملغاربة «اجلزء الثاني» ‬ ‫‪ - 67‬الثقافة العلمية واستشراف املستقبل العرب ي مجموعة من الكتاب «يناير‪»2007‬‬ ‫‪ - 68‬عن الدهشة واأللم ‪ 50‬قصة بأقالم عربي ة مجموعة من الكتّاب «أبريل ‪»2007‬‬ ‫‪ - 69‬املجالت الثقافية مهمة اإلصالح‬ ‫مجموعة من الكتّاب «يوليو ‪»2007‬‬ ‫وسؤال املعرفة (اجلزء ‪ )1‬‬

‫‪335‬‬


‫‪AL ARABI BOOK‬‬

‫إصدارات كتاب العربي‬

‫‪ - 70‬املجالت الثقافية مهمة اإلصالح‬ ‫وسؤال املعرفة (اجلزء ‪ )2‬‬ ‫‪ - 71‬البحث عن آفاق أرحب‬ ‫مختارات من القصة الكويتية ‬ ‫‪« - 72‬العربي» نصف قرن من املعرفة‬ ‫واالستنارة اجلزء االول ‬ ‫‪« - 73‬العربي» نصف قرن من املعرفة‬ ‫واالستنارة اجلزء الثاني ‬ ‫‪ - 74‬نبش الغراب «املجموعة الثالثة» ‬ ‫‪ - 75‬نساء في التاريخ العربي ‬ ‫‪ -76‬قصص على الهواء بأقالم شابة ‬ ‫‪-77‬جتارب في اإلبداع العربي ‬ ‫‪ - 78‬إعادة قراءة التاريخ ‬ ‫‪ - 79‬وجع الذاكرة ‬ ‫‪ - 80‬مستقبليات ‬ ‫‪ - 81‬الثقافة العربية في ظل ‬ ‫وسائط االتصال احلديثة (اجلزء ‪)1‬‬ ‫‪ - 82‬الثقافة العربية ‬ ‫في ظل وسائط االتصال احلديثة (اجلزء ‪ )2‬‬ ‫‪ - 83‬حوارات العربي (اجلزء ‪ )1‬‬

‫مجموعة من الكتّاب «أكتوبر ‪»2007‬‬ ‫إعداد‪ :‬د‪ .‬مرسل العجمي «يناير ‪»2008‬‬ ‫نخبة من الكتّاب «أبريل ‪»2008‬‬ ‫نخبة من الكتّاب «يوليو ‪»2008‬‬ ‫تأليف‪ :‬محمد مستجاب «أكتوبر ‪»2008‬‬ ‫تأليف سنية قراعة «يناير ‪»2009‬‬ ‫مجموعة من الكتاب «أبريل ‪»2009‬‬ ‫نخبة من الكتاب «يوليو ‪»2009‬‬ ‫د‪ .‬قاسم عبده قاسم «أكتوبر ‪»2009‬‬ ‫سعدية مفرح ‪« ..‬يناير ‪»2010‬‬ ‫د‪ .‬أحمد أبو زيد «أبريل ‪»2010‬‬ ‫مجموعة من الباحثني «يوليو ‪»2010‬‬

‫مجموعة من الباحثني «أكتوبر ‪»2010‬‬ ‫مجموعة من الكتاب «يناير ‪»2011‬‬

‫‪336‬‬

‫عبود طلعت عطية «أبريل ‪»2011‬‬ ‫‪ -84‬معرض العربي ‬ ‫مجموعة من الباحثني «يوليو ‪»2011‬‬ ‫‪ - 85‬العرب يتجهون شرقا (اجلزء ‪ )1‬‬ ‫مجموعة من الباحثني «أكتوبر ‪»2011‬‬ ‫‪ - 86‬العرب يتجهون شرقا (اجلزء ‪ )2‬‬ ‫مجموعة من الكتاب «يناير ‪»2012‬‬ ‫‪ - 87‬املسرح العربي ‪ ..‬مسيرة تتجدد ‬ ‫د‪.‬جابر عصفور «أبريل ‪»2102‬‬ ‫‪ -88‬عوالم شعرية معاصرة ‬ ‫أمني الباشا «يوليو ‪»2012‬‬ ‫‪ -89‬شمس الليل ‬ ‫‪ - 90‬الثقافة العربية في املهجر (اجلزء ‪ ) 1‬مجموعة من الباحثني «أكتوبر ‪»2012‬‬ ‫‪ - 91‬الثقافة العربية في املهجر (اجلزء ‪ )2‬مجموعة من الباحثني «يناير ‪»2013‬‬ ‫‪ - 92‬ويسهر اخللق ‪ ..‬سير ومختارات‬ ‫(املجموعة ‪ )1‬سعدية مفرح «ابريل ‪»2013‬‬ ‫من الشعراء العرب ‬ ‫‪ - 93‬قضايا السينما العربي ة‬ ‫‪ - 94‬اجلزيرة واخلليج العربي ‬ ‫‪ - 95‬اجلزيرة واخلليج العربي ‪( -‬اجلزء ‪ )2‬‬ ‫‪ -96‬يوم مثالي ملشاهدة الكاجنارو وقصص أخر ى‬ ‫‪« -97‬الثقافة العربية على طريق احلرير» ‬ ‫‪ - 98‬نافذة على فلسفة العصر (اجلزء الثاني) ‬ ‫‪ - 99‬اإلعالم بأعالم اإلسالم ‬ ‫‪ -100‬‬ ‫‪ -101‬نهر على سفر ‬

‫‪337‬‬

‫( مجموعة من الكتاب) «يوليو ‪»2013‬‬ ‫(مجموعة من الكتاب) «أكتوبر ‪»2013‬‬ ‫(مجموعة من الكتاب) «يناير ‪»2014‬‬ ‫تقدمي‪ :‬شريف صالح «أبريل ‪»2014‬‬ ‫(مجموعة من الكتاب) «يوليو ‪»2014‬‬ ‫أ‪ .‬د‪ .‬زكي جنيب محمود‬ ‫الشيخ محمد أبوزهرة ‪ -‬يناير ‪2015‬‬ ‫مجموعة من الشعراء العرب في ‪ -‬ابريل ‪2015‬‬ ‫أشرف أبو اليزيد ‪ -‬يوليو ‪2015‬‬


‫نه ٌـر على َسـ َـفر‬

‫استطالعات مختارة من مجلة‬

‫بقلم وعدسة‪ :‬أشرف أبو اليزيد‬

‫نهر على سفر‪ /‬أشرف أبواليزيد ‪ -‬ط‪- 1‬‬ ‫الكويت‪ :‬وزارة اإلعالم‪- 2015 ،‬‬ ‫‪336‬ص‪20 ،‬سم ‪( -‬كتاب العربي‪.)101 ،‬‬ ‫‪ - 1‬الرحالت‪ - 2 .‬أدب الرحالت‪ .‬أ ‪ -‬العنوان‬ ‫رقم اإليداع‪2015 /643 :‬‬ ‫ردمك‪978-99906-38-67 - 1 :‬‬

‫تصميم الغالف‪ :‬أشرف أبو اليزيد‬ ‫االخراج الفني‪ :‬حافظ فاروق‬ ‫‪338‬‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.