Siwa, the Holy Oasis

Page 1

‫بقلم‪ :‬أشرف أبو اليزيد‬ ‫عدسـة‪ :‬سليمان حيدر‬

‫‪36‬‬

‫العدد ‪ - 605‬أبريل ‪2009‬‬


‫بعد الوصول إلى القاهرة‪ ،‬واالنتقال إلى اإلسكندرية‪ ،‬واالستعداد للسفر إلى «واحة سيوة» في‬ ‫ونح ْي ُت‬ ‫قلب صحراء مصر الغربية قرب احلدود الليبية عبر مدينة مرسى مطروح‪ُ ،‬‬ ‫تركت الصور‪َّ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫وفكرت أن أستطلع عني القمر الصناعي في طريق الرحلة الذي‬ ‫واستبعدت اخلرائط‪،‬‬ ‫الكتب‪،‬‬ ‫يبلغ نحو ‪ 600‬كيلومتر من اإلسكندرية‪ .‬أخذ ِّ‬ ‫مؤشر اإلنترنت يقربني عبر موقع (جوجل) من‬ ‫ترقد مثل طائر أليف فوق‬ ‫الواحة النائية‪ ،‬والدهشة ترسم املالمح‪ .‬فتلك البقعة داكنة اخلضرة ُ‬ ‫عش من اللون الذهبي اسمه بحر ال ِّرمال العظيم‪ ،‬وهي كذلك تستند بأعجوبة غرب جرف‬ ‫يد عمالقة‪ .‬كان‬ ‫الصحراء ٌ‬ ‫فرغت جو َفها من قلب َّ‬ ‫منخفض القطارة‪ ،‬الذي يشبه حفرة عبثية؛ َّ‬ ‫ُ‬ ‫السؤال األول‪ ،‬كيف وصل إلى تلك البقعة كل صانعي التاريخ القدمي واملعاصر؟ أما السؤال امل ِل ُّح‬ ‫فكان؛ كيف استقامت احلياة الفريدة في ذلك املكان البعيد على م ِّر آالف السنني؟ َّ‬ ‫وظل السؤال‬ ‫إحلاحا‪ :‬ماذا بقي من احليوات التي وقفت فيها «واحة سيوة» شاهدة على كل العصور؟‬ ‫األكثر‬ ‫ً‬

‫القمة العربية االقتصادية األولى في الكويت‬

‫‪37‬‬


‫صورة بالقمر االصطناعي للصحراء الغربية في مصر حيث تقع «واحة سيوة»‪ .‬اخلالف على نشأة هذه الواحات محتدم‬ ‫بني العلماء‪ ،‬حيث ال يوجد ممر يربطها بالبحر‪ .‬ومن ثم فكَّ روا أنها نشأت بفضل حركة ال ِّرياح‪ .‬ولكن مع التأكيد على‬ ‫الرياح‪ ،‬وا َ‬ ‫جلزْم بأن تياراتها هي التي أعطت في «واحة سيوة» شكلها احلالي‪ ،‬فإن احلفريات تؤكد نشأة الواحة من‬ ‫دور ِ ّ‬ ‫قلب البحر املتوسط قبل ‪ 40‬مليون سنة‪ ،‬لتصعد كجزيرة‪ ،‬مع انسحاب البحر إلى حيث يوجد اآلن‪ ،‬بعد أن ترك صخوره‬ ‫وحفرياته لتدعم اجلزيرة املتكونة‪ .‬وقد أصبح سطح الصحراء الغربية ـ كله ـ مثل سطح مستو‪ ،‬مثل سرير عمالق من‬ ‫احلجر الكلسي اجليري‪ .‬ومع عوامل التعرية عبر السنني‪ ،‬وتخلل املطر أجزاء السطح اجليري‪ ،‬بدأ تكوين الكهوف‬ ‫والقنوات التي تعبر حتت سطح الصحراء وقلب الواحات‪.‬‬

‫البحر املتوسط‬ ‫االسكندرية‬

‫القاهرة‬ ‫منخفض القطارة‬ ‫سيوة‬

‫بحر الرمال العـظيم‬

‫‪38‬‬

‫العدد ‪ - 605‬أبريل ‪2009‬‬


‫نعبر الساحل الشمالي املوازي لشاطئ البحر‬ ‫املتوسط بني اإلسكندرية ومرسى مطروح‪ ،‬مبا‬ ‫يضم من عش� � ��رات القرى السياحية‪ ،‬بعضها‬ ‫مكتمل ومتج ِّمل‪ ،‬وأكثرها ف� � ��ي طور األجنة‪ ،‬وكثي ٌر منها‬ ‫ليس س� � ��وى الفتات وسور وصورة مش� � ��روع‪ .‬ثم انحدرنا‬ ‫جنو ًبا إلى طريق تش� � ��به خطا سمي ًكا فوق دفتر ال ِّرمال‪.‬‬ ‫دفتر من ورقة وحيدة عمالقة‪ ،‬ال تدرك أولها من آخرها‪،‬‬ ‫وال تعرف الفارق بني س� � ��طورها إال م� � ��ن اللوحات التي‬ ‫حتدد لك املس� � ��افات املتبدالت‪ .‬حتى اجلغرافيا املبهمة‪،‬‬ ‫اخلادعة‪ ،‬تبدو كبس� � � ٍ‬ ‫�اط دون نقوش‪ ،‬تفك طالسمها‪ ،‬إال‬ ‫حني تبدو نقطة تفتيش أو مركز مرور‪.‬‬ ‫االنتقا ُل م� � ��ن النهر إلى القَفر‪ ،‬م� � ��ن الزراعة إلى‬ ‫ا َ‬ ‫جل ْدب‪ ،‬ه� � ��و انتقال ش� � ��رس املالمح‪ ،‬ح� � ��اد التباين‪،‬‬ ‫لذلك لم يشهد التاريخ املصري هجرة من الوادي إلى‬ ‫الصحراء‪ .‬حتى أن هذه امل� � ��دن اجلديدة‪ ،‬واملنتجعات‬ ‫التي ب� �ل��ا حصر‪ ،‬التي كن� � ��ا نراها عل� � ��ى الطريق من‬ ‫اإلسكندرية إلى مرس� � ��ى مطروح تظل مدنا بال قلب‪.‬‬ ‫كم من قرية سياحية مررنا بها‪ ،‬وكم من مجمع سكني‬ ‫عبرن� � ��ا ب� � ��ه‪ ،‬وكل ه� � ��ذه العمائر اخلرس� � ��انية ال أحد!‬ ‫االنتقال يس� � ��اوي مغادرة أسلوب حياة إلى آخر مغاير‪،‬‬ ‫وهو أم ٌر لم يعتده املصريون آلالف السنني‪ ،‬لذا بقيت‬ ‫الناس إلى الوادي‪،‬‬ ‫الواحات في عزلتها‪ ،‬يخ� � ��رج منها‬ ‫ُ‬ ‫ولك� � ��ن ال يأتيها أبناء ال� � ��وادي‪ ،‬مع اس� � ��تثناءات‪ ،‬ككل‬ ‫قاعدة‪ .‬لذلك لم تكتشف الصحراء إال خالل القرنني‬ ‫العرب مصر لم يدخلوا‬ ‫املاضيني وحس� � ��ب‪ ،‬وحني جاء‬ ‫ُ‬ ‫غمار الصحراء‪ ،‬وإمنا س� � ��اروا عل� � ��ى املدقات (الطرق‬ ‫الترابي� � ��ة) الس� � ��احلية‪ .‬وامتألت القص� � ��ص التاريخية‬ ‫واحلكايات األسطورية مبرويات عن التهام الصحراء‬ ‫للجيوش وكذلك لكونها مآلنة بالوحوش املفترسة!‬ ‫تبدأ اجلغرافيا تفشي س ًّرا بأن التغيير قاد ٌم‪ ،‬حني‬ ‫انكش� � ��فت الرمال عن مئات من األشكال شبه الهرمية‬ ‫التي كونتها عوامل التعرية‪ ،‬كاش� � ��فة عن أجس� � ��ادها؛‬ ‫كأنها بسطات متدرجات مماثالت ملدرج سقارة‪ ،‬ليس‬ ‫له� � ��ا لون واح� � ��د‪ ،‬وبدأ كما لو كانت كت� �ل��ا ضخمة‪ ،‬أو‬ ‫أشباحا لسفن عمالقة تركها‬ ‫أس� � ��طوال من صخور‪ ،‬أو‬ ‫ً‬ ‫ر َّبانُها في العراء ومضى!‬ ‫حني ظهرت الواحة اخلضراء بُعيد ذلك املش� � ��هد‬ ‫الالنهائ� � ��ي ب� � ��دا كأن هذا األس� � ��طول األب� � ��دي يحمي‬ ‫«واحة س� � ��يوة» من جهاتها جمي ًعا‪ ،‬فيكبح بحر ال ِّرمال‬ ‫سيوة الواحة املقدسة‬

‫العظيم م� � ��ن الهجوم عليها‪ ،‬من جه� � ��ة اجلنوب ومينع‬ ‫جسد الواحة من الس� � ��قوط إلى الشرق‪ ،‬حيث يربض‬ ‫منخفض القطارة‪.‬‬ ‫نس� � ��تم ُع‪ ،‬قبل الولوج إل� � ��ى عالم «واحة س� � ��يوة»‪،‬‬ ‫إلى ص� � � ِ‬ ‫الس� � ��فر‬ ‫�وت التاريخ‪ ،‬فيقول هيرودوت‪« :‬بعد َّ‬ ‫إلى قلب الصح� � ��راء‪ ،‬مي ُّر املرءُ بأح� � ��راش متر ُح فيها‬ ‫الوحوش البرية‪ ،‬وخلفها منطقة الرمال الكثيبة‪ ،‬التي‬ ‫متتد من طيبة في مص� � ��ر حتى أعمدة هرقليس‪ .‬في‬ ‫هذه املنطقة بالتحديد‪ ،‬يصادف املرء‪ ،‬بعد مشي على‬ ‫القدمني لعش� � ��رة أيام‪ ،‬آثار مغطاة بأحجار امللح‪ ،‬الذي‬ ‫حت َّول إلى بلورات من الكريستال العمالق‪ ،‬وفوق قمة‬ ‫تلك الروابي‪ ،‬ومن قلب امللح‪ ،‬يتفجر ماء عذب متجدد‪،‬‬ ‫ليصبح عينًا‪ ،‬خلف الغابات البرية»‪.‬‬ ‫هانح� � ��ن عل� � ��ى بُع� � ��د آالف الس� � ��نني من س� � ��طور‬ ‫هي� � ��رودوت‪ ،‬لكن الص� � ��ورة التي وثقها ل� � ��م تَخْ ت َِف‪ ،‬بل‬ ‫أصبحت أكثر غرابة‪ ،‬سنكتش� � ��فها ح� �ي��ن نزور مدينة‬ ‫امللح!‬

‫مدينة من ملح!‬

‫نحن ف� � ��ي قلب ثالث مس� � ��احات؛ بح� � ��ر‪ ،‬وواحة‪،‬‬ ‫ومنخف� � ��ض‪ ،‬وهي حني جتتمع تكون خطرا‪ .‬لكنها هنا‬ ‫متثل جنة منسية‪ .‬فمع هذه املساحات‪ ،‬يطلعنا التاريخ‬ ‫على رحالت أكدت أهمية «واحة سيوة»‪ ،‬أبرزها‪ :‬رحلة‬ ‫امللح‪ ،‬ورحلة احلج ورحلة التجارة!‬ ‫في قلب «واحة س� � ��يوة»‪ ،‬متتد طري ٌق أكثر غرابة‪،‬‬ ‫بطول ‪ 12‬كيلومترا‪ .‬تشق بح ًرا من امللح! فعلى جانبي‬ ‫الطريق اإلس� � ��فلتية تستقر املياه املاحلة‪ .‬هي اآلن في‬ ‫الش� � ��تاء مرآة للس� � ��ماء وما على الشطآن‪ ،‬ولكن ما إن‬ ‫يهل الصيف‪ ،‬حتى تكس� � ��و طبقة م� � ��ن امللح وجه املاء‪.‬‬ ‫ليصب� � ��ح مثل غاللة ن� � ��ور‪ .‬بني حني وآخ� � ��ر يظهر في‬ ‫البح� � ��ر طمي قوامه امللح‪ ،‬الي� � ��زال يأخذه أبناء «واحة‬ ‫سيوة»‪ ،‬ليشيدوا به البيوت التقليدية‪ ،‬جر ًيا على عادة‬ ‫اآلباء قبل مئات السنني‪ .‬ال تزال هناك مدينة واحدة‪،‬‬ ‫ش � � � ِّيدت بكاملها من هذا املل� � ��ح‪ ،‬وهانحن على عتبات‬ ‫الوصول إليها‪.‬‬ ‫م� � ��ن بعيد الح� � ��ت املدينة امللحية‪ ،‬غي� � ��ر املأهولة‪،‬‬ ‫س� � ��ور كبير يحيطها من كل جانب‪ ،‬تآكلت منه أجزاء‪.‬‬ ‫وعلى باب املدينة مسجد من امللح‪ ،‬عرفناه على الرغم‬ ‫من أنه بال مئذنة‪ ،‬لس� � ��بب يس� � ��ير‪ :‬ال ي� � ��زال احملراب‬

‫‪39‬‬


‫قائ ًم� � ��ا‪ ،‬بارزا كأنه نصف عمود أس� � ��طواني خارج من‬ ‫جتولت مع زميلي املص� � ��ور‪ ،‬والدليل‬ ‫جدار املس� � ��جد‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫والسائق‪ .‬اليصاحبنا س� � ��وى الصمت في مدينة نادرة‬ ‫ليس يحرسها أحد‪ .‬مدينة فريدة تستحق أن تضم إلى‬ ‫قائمة تراث اإلنسانية الذي تسجله اليونسكو‪ ،‬من أجل‬ ‫احلفاظ عليه لألجيال القادمة‪ ،‬ال أن ت َ‬ ‫ُترك ملصيرها‪.‬‬

‫ال تمُ ط� � ��ر الدنيا في «واحة س� � ��يوة»‪ ،‬وإال الختفت تلك‬ ‫املدينة‪ ،‬واختفت معها آثار أخرى سنراها الحقا‪ .‬فعلى‬ ‫الرغم من ندرة مطرها فإنه يأتي كالسيل املدمر‪.‬‬ ‫ال تس� � ��تمد ه� � ��ذه املدينة فرادتها م� � ��ن امللح الذي‬ ‫دت منه وحسب‪ ،‬بل ألنها تضم ُربمَّ ا أقدم عاصرة‬ ‫ش ِّي ْ‬ ‫زيت� � ��ون في مص� � ��ر‪ ،‬وهي التي وهبت املدينة اس� � ��مها؛‬

‫جغرافيا الواحة‪ :‬نخيل يرتوي من عيون‬ ‫عذبة وبحيرات ماحلة تبرز منها ما تركه‬ ‫البحر فيها قبل ماليني السنني‪.‬‬

‫‪40‬‬

‫العدد ‪ - 605‬أبريل ‪2009‬‬


‫«الزيتون� � ��ة»‪ .‬يحدد الدليل عم � � � َر املدينة واملعصرة من‬ ‫ج� � ��ذع النخلة التي تعتليها‪ ،‬وق� � ��د تآكلت‪ ،‬مما يثبت أن‬ ‫عمره� � ��ا انته� � ��ى‪ ،‬وإذا عرفنا أن خش� � ��ب النخل يعيش‬ ‫أربعة ق� � ��رون‪ ،‬ألمكننا بالتقريب حتدي� � ��د عمر مدينة‬ ‫«الزيتونة» امللحية!‬ ‫من أين جاء ُك ُّل هذا امللح؟ ما أيس� � ��ر السبب! لقد‬

‫القمة العربية االقتصادية األولى في الكويت‬

‫كانت «واحة س� � ��يوة» مغط� � ��اة بأكمله� � ��ا بالبحر‪ ،‬الذي‬ ‫انحس� � ��ر ليصبح ما علي� � ��ه اآلن البح ُر املتوس� � ��ط‪ .‬لم‬ ‫يعش أح ٌد من تلك األزمان السحيقة ليخبرنا بقصص‬ ‫اختف� � ��اء البحر‪ ،‬لك� � ��ن احلفريات الباقي� � ��ة للحيوانات‬ ‫البحري� � ��ة‪ ،‬والصخور امللحية‪ ،‬وتلك البحيرات املاحلة‪،‬‬ ‫تظل شاه ًدا على حضور البحر‪ ،‬ومرور احمليط‪.‬‬

‫‪41‬‬


‫‪42‬‬

‫العدد ‪ - 605‬أبريل ‪2009‬‬


‫ينتشر ركوب الدراجات بني السياح بدرجة كبيرة‪،‬‬ ‫وفي ظل الشجر توجد مواقف للدراجات التي‬ ‫يستأجرها السائح للتجوال في الواحة بح ّرية‪،‬‬ ‫فوق الطرق الترابية وبني مزارع النخيل‪ .‬فضال عن‬ ‫تنظيم رحالت السفاري بسيارات الدفع الرباعي‪.‬‬

‫في قل� � ��ب كل هذا امللح‪ ،‬كانت هناك غرفة وحيدة‬ ‫حد كبير غ� � ��رف املقابر التي‬ ‫من احلجر‪ ،‬تش� � ��به إلى ٍّ‬ ‫س� � ��نزورها الحقا‪ .‬لع� � ��ل مدينة الزيتونة ش� � ��يدت فوق‬ ‫أطالل ٍ‬ ‫معبد قدمي! يس � � � ِّمي أهالي «واحة سيوة» تلك‬ ‫امل� � ��ادة امللحية املس� � ��تخدمة في البناء باس� � ��م طريف؛‬ ‫«الكرش� � ��يف»! في القرن التاسع عشر‪ ،‬يصف ال َّرحالة‬ ‫مينوتولي «واحة سيوة» فيقول إن أرضها منداة‪ ،‬مبتلة‪،‬‬ ‫كثيرة املس� � ��تنقعات‪ ،‬مغطاة ببحيرات امللح‪ ،‬التي تنمو‬ ‫فوقها جزر صغيرة خصبة مثمرة»‪.‬‬

‫‪ ...‬ومدينة من الطني!‬

‫من الزيتونة سنتجه إلى شالي‪ ،‬في قلب «واحة‬ ‫س� � ��يوة»‪ .‬وكلمة «شالي» باللغة السيوية تعني الوطن‬ ‫(البل� � ��دة‪ ،‬املدينة)‪ .‬ف� � ��ي نهاية القرن الثاني عش� � ��ر‬ ‫امليالدي شيدت قرية شالي لتكون حاجز دفاع أمام‬ ‫القبائل املعادية‪ .‬هناك بنى الس� � ��كان قرية محصنة‬ ‫فوق هضبة عالية ترى املس� � ��احات حول الواحة من‬ ‫كل زاوية‪ ،‬تبوح بيوت ش� � ��الي القدمية بسر العمارة‬ ‫الدفاعية؛ أس� � ��وار عالية‪ ،‬أب� � ��راج مراقبة‪ ،‬وطبقات‬ ‫من املنازل بعضها ف� � ��وق بعض‪ ،‬وكأنه منزل وحيد‪،‬‬ ‫أو قلعة م َّو َّحدة‪ ،‬وكلها من الطني‪ ،‬امل ُ َع َّش� � ��ق واملُط َّعم‬ ‫باحلج� � ��ارة‪ ،‬كما أنه� � ��ا خاوية منذ الع� � ��ام ‪1820‬م‪،‬‬ ‫وفرادته� � ��ا تدعو اليونس� � ��كو مرة أخرى لدراس� � ��تها‬ ‫متهي � � � ًدا لوضعها ضمن التراث اإلنس� � ��اني الواجب‬ ‫حفظ� � ��ه لألجيال القادم� � ��ة‪ .‬فالبي� � ��وت «العصرية»‬ ‫تزح� � ��ف ببطء من� � ��ذ العام ‪ ،1985‬ولكن بشراس� � ��ة‪،‬‬ ‫لتلتهم العمارة الس� � ��يوية التقليدية‪ ،‬ومنوذج ش� � ��الي‬ ‫هو األندر بني العم� � ��ارة الطينية‪ ،‬مثلما يبرز منوذج‬ ‫الزيتونة مثاال للعمارة امللحية‪ .‬فمن يتدخل ليُحافظ‬ ‫على ما بقي من تلك اآلثار؟‬ ‫من أعالي ش� � ��الي‪ ،‬تأتي� � ��ك الصح� � ��راء‪ ،‬وبداية‬ ‫مشاهد بحر الرمال العظيم‪ ،‬ومن قمة شالي تبصر‬ ‫الشوارع احمليطة في «واحة سيوة»‪ .‬ميكنك أيضا أن‬ ‫تتأمل تقسيمات البيوت‪ ،‬وبعضها له حظائر عنزات‬ ‫ودج� � ��اج في مقابل البيوت أو متاخمة لها‪ .‬وكثي ٌر من‬ ‫الن� � ��اس ح � � � َّول الباحة أمام البيت إلى س� � ��وق لعرض‬ ‫بعض املش� � ��غوالت اليدوية‪ ،‬مثل أزياء النسوة‪ ،‬ودمى‬ ‫العرائس واإلبل‪.‬‬ ‫صعوبة تس� � ��لق ش� � ��الي كان أحد أس� � ��اليب الدفاع‬ ‫سيوة الواحة املقدسة‬

‫‪43‬‬


‫عنها‪ ،‬ونواف� � ��ذ البيوت ضيقة‪ ،‬ولها‬ ‫فتح� � ��ات ثالث تش� � ��كل مثلثا‪ .‬حيث‬ ‫توج� � ��د نافذت� � ��ان تعلوهم� � ��ا ثالثة‪،‬‬ ‫تتي� � ��ح للقاطنني مراقب� � ��ة اخلارج‪،‬‬ ‫مع وج� � ��ود نار موقدة بش� � ��كل دائم‬ ‫(ف� � ��ي املاضي)‪ ،‬وحراس‪ ،‬وتس� � ��مح‬ ‫آبار املاء الستة داخل املدينة بعدم‬ ‫احلاجة إلى اخلروج‪.‬‬ ‫كان إنشاء «شالي» نقطة حتول‬ ‫في حياة أبناء سيوة‪ ،‬وانتقالهم من‬ ‫مرحلة العيش في قرى متفرقة لها‬ ‫مركز «أكروبول» إلى العيش داخل‬ ‫أس� � ��وار «واحة س� � ��يوة»‪ .‬وقد حدد‬ ‫بع� � ��ض الباحثني ذل� � ��ك النزوح إلى‬ ‫الداخل زمنيا ب� �ي��ن عامي ‪1100‬م‪،‬‬ ‫و‪1203‬م‪ .‬كانت تلك مبادرة حللول‬ ‫الس� �ل��ام‪ ،‬وتوقف هجم� � ��ات قبائل‬ ‫البدو العابرة للصحراء عن اإلغارة‬ ‫والسلب والنهب‪.‬‬

‫ٌ‬ ‫جبل للموتى‬

‫عل� � ��ى القم� � ��م بنى الس� � ��يويون‬ ‫بيوتهم‪ ،‬لكنهم كذلك ش� � ��يدوا فيها‬ ‫مقاب� � ��ر ملوكه� � ��م‪ .‬ومثلم� � ��ا أقاموا‬ ‫املنازل واح ًدا فوق اآلخر‪ ،‬اختاروا‬ ‫من ذل� � ��ك اجلبل مكانا ليكدس� � ��وا‬ ‫املقابر واحدة فوق األخرى‪ ،‬يحفرون جزءا ويش� � ��يدون‬ ‫جزءا آخر‪.‬‬ ‫ومما يؤس� � ��ف له ه� � ��و ذلك التخري� � ��ب الذي طال‬ ‫معظم املقاب� � ��ر في جبل املوتى‪ ،‬والنهب والس� � ��لب من‬ ‫قب� � ��ل الرحالة الذين جاب� � ��وا الصح� � ��راء املصرية في‬ ‫القرنني الثامن عشر والتاسع عشر‪ ،‬حتى أنهم يحكون‬ ‫في الواحة من (مس� � ��تر هاري) الذي أسس نزال قرب‬ ‫اجلبل‪ ،‬واس� � ��تأجر عماال محلي� �ي��ن للتنقيب عن كنوز‬ ‫املقاب� � ��ر‪ .‬إضاف� � ��ة ملا س� � ��بق‪ ،‬فإن مما أس� � ��اء إلى هذه‬ ‫املقابر‪ ،‬جلوء أهالي ش� � ��الي القدمية لالختباء باملقابر‬ ‫احلصينة بأس� � ��قفها احلجرية خشية قنابل الطائرات‬ ‫في احلربني العامليتني األولى والثانية‪ ،‬ومنهم من جاء‬ ‫هار ًب� � ��ا من الغزو اإليطالي لليبيا‪ ،‬وال تزال فروع بعض‬

‫‪44‬‬

‫العائالت ذوات جذور ليبية‪.‬‬ ‫لم نستطع التصوير داخل املقابر‪ ،‬الصغيرة نسبيا‬ ‫عن تلك املوجودة في وادي امللوك‪ ،‬ومن أش� � ��هر املقابر‬ ‫في جبل موتى تلك املسماة (سي آمون)‪.‬‬

‫واحة وثالثة عيون‬

‫ف� � ��ي «واحة س� � ��يوة» عيون كثيرة‪ ،‬تبل� � ��غ في بعض‬ ‫املص� � ��ادر واملرويات الثالثمائة ع� � ��د ًدا‪ .‬لكن ضمن ما‬ ‫بقي ف� � ��ي الواحة الي� � ��وم ثالثة عيون ش� � ��هيرة؛ األولى‬ ‫ع� �ي��ن كليوباترا‪ ،‬والثانية عني قريش� � ��ات‪ ،‬والثالثة عني‬ ‫أبوشروف‪.‬‬ ‫املتفق بني العيون هو أن حولها مكان يستريح إليه‬ ‫الس� � ��ائح‪ ،‬كمطعم أو مقهى‪ ،‬غير أن الطحالب تختفي‬ ‫العدد ‪ - 605‬أبريل ‪2009‬‬


‫في املدينة امللحية‪ ،‬غير املأهولة‪ ،‬وعلى باب املدينة مسجد‬ ‫من امللح‪ ،‬عرفناه بالرغم من أنه بال مئذنة‪ ،‬لسبب يسير‪:‬‬ ‫قائما‪ ،‬مدينة فريدة تستحق أن تضم إلى‬ ‫ال يزال احملراب ً‬ ‫قائمة تراث اإلنسانية الذي تسجله اليونسكو‪ ،‬من أجل‬ ‫احلفاظ عليه لألجيال القادمة‪ ،‬ألنها تضم ـ ُر مَّبا ـ أقدم‬ ‫عاصرة زيتون في مصر‪ ،‬وهي التي وهبت املدينة اسمها؛‬ ‫«الزيتونة»!‬

‫في العني الثالثة‪ .‬س� � ��ألنا راعيها فق� � ��ال إنه ربى فيها‬ ‫أس� � ��ماك البلطي التي تنظ� � ��ف العني أوال بأول‪ .‬حتوي‬ ‫الع� �ي��ن م� � ��اء كبريتية جعلت عيون األس� � ��ماك بها تبدو‬ ‫جاحظة!‬ ‫وتقع عني أبوشروف ش� � ��رق عني قريشات بنحو‬ ‫‪ 7‬كيلومترات‪ ،‬وهي قرب قرية باالسم نفسه‪ ،‬انتقلت‬ ‫بأكملها إلى مكانها احلالي بعد أن ش� � ��يدت احلكومة‬ ‫وحدة صحية ومدرس� � ��ة ومنازل جدي� � ��دة‪ .‬وقد زرنا‬ ‫أح� � ��د هذه البي� � ��وت التي أكمله� � ��ا صاحبها‪ ،‬وأضاف‬ ‫سياجا من سعف النخيل‪،‬‬ ‫إليها مثل كثير من جيرانه‪،‬‬ ‫ً‬ ‫«حرمة» البيت وس� � ��اكنيه‪.‬‬ ‫كن� � ��وع من احلفاظ عل� � ��ى ُ‬ ‫القري� � ��ة الصغيرة التي ال يتجاوز عدد الس� � ��كان فيها‬ ‫ألف نس� � ��مة‪ ،‬تصلها الكهرباء مبو ِّل ٍد للطاقة يش� � ��تغل‬ ‫سيوة الواحة املقدسة‬

‫من اخلامس� � ��ة عص ًرا حت� � ��ى الثانية‬ ‫صباحا بعد منتصف الليل‪.‬‬ ‫ً‬ ‫قصصا‬ ‫لك� � ��ن للعي� � ��ون املائي� � ��ة‬ ‫ً‬ ‫أخرى في «واحة سيوة»‪.‬‬ ‫فمن أعلى كل قمة في الواحة‪،‬‬ ‫تس� � ��تطي ُع أن تلمح هنا وهناك‪ ،‬في‬ ‫ٍ‬ ‫بيوت كثيرة‪ ،‬عيونا مائية منزلية‪ .‬إن‬ ‫حديث اجليولوجيني يؤكد أن «واحة‬ ‫س� � ��يوة» ترق� � ��د فوق بحر م� � ��ن املياه‬ ‫العذبة‪ ،‬حيث يس� � ��تطيع كل ِ‬ ‫يوي»‬ ‫«س ّ‬ ‫أن يدق ماس� � ��ورة مياه على عمق ‪70‬‬ ‫مت ًرا أو أكثر‪ ،‬فإذا بها تتفجر باملياه‬ ‫العذبة‪ .‬وهك� � ��ذا ميكن أن تنبع عني‬ ‫في كل بيت‪ ،‬وبستان‪.‬‬ ‫قرب خزان مياه ضخم‪ ،‬يش� � ��به‬ ‫�بحا تعوم فيه الطحالب‪ ،‬وعلى‬ ‫مس� � � ً‬ ‫جدار مبن� � ��ى صغير‪ ،‬كان� � ��ت هناك‬ ‫الفتة مزدحمة بالعبارات‪ :‬محافظة‬ ‫مط� � ��روح‪ ،‬مرك� � ��ز س� � ��يوة‪ ،‬الوح� � ��دة‬ ‫احمللي� � ��ة لقري� � ��ة أغورم� � ��ي‪ ،‬برنامج‬ ‫التنمي� � ��ة احمللي� � ��ة رق� � ��م ‪ ،2‬ووزارة‬ ‫التنمي� � ��ة والتعمير‪ ،‬جهاز الس� � ��احل‬ ‫الش� � ��مالي وس� � ��يوة‪ ،‬قط� � ��اع التنمية‬ ‫والتعمير مبطروح‪ ،‬ومنظمة األغذية‬ ‫والزراع� � ��ة لألمم املتحدة‪ :‬مش� � ��روع‬ ‫خف� � ��ض منس� � ��وب املي� � ��اه اجلوفية‬ ‫واس� � ��تغالل مياه الصرف للزراعة!‬ ‫كانت الفتة ال يتجاوز طوله� � ��ا نصف املتر‪ ،‬وعرضها‬ ‫املت� � ��ر‪ ،‬بالرغم من وجود ‪ 38‬كلم� � ��ة بها‪ .‬يقول الدليل‬ ‫شارحا‪:‬‬ ‫ً‬ ‫«حني مت حفر عني لل� � ��ري حتت جبل الدكرور‪،‬‬ ‫فاض� � ��ت مياهها الس� � ��اخنة‪ ،‬بش� � ��كل الف� � ��ت‪ ،‬وفي‬ ‫الوقت نفس� � ��ه‪ ،‬يعلو منس� � ��وب املي� � ��اه املاحلة‪ ،‬مما‬ ‫دعا املسئولني‪ ،‬املش� � ��ار إليهم في الالفتة السابقة‪،‬‬ ‫إل� � ��ى التفكير بس� � ��حب املياه‪ ،‬العذب� � ��ة واملاحلة‪ ،‬من‬ ‫هن� � ��ا وهناك‪ ،‬إلى خزان موح� � ��د‪ ،‬يجمعهما م ًعا‪ ،‬ثم‬ ‫يوزعها للري»‪ .‬حتت املاسورتني‪ ،‬اللتني تضخان ماء‬ ‫بار ًدا وساخنا‪ ،‬وتصبان في حوض مربع أخذ طفل‬ ‫يقفز إلى املاء‪ ،‬ويس� � ��تمتع بحمام ساخن بارد في آن‬ ‫واحد!‬

‫‪45‬‬


‫انسحب البحر قبل ماليني السنني‪ ،‬وغاب عن جغرافيا «واحة سيوة»‪ ،‬لكن آثاره باقية شاهدة على حضوره السرمدي‪ ،‬وفي‬ ‫َ‬ ‫بداية بحر ال ِّرمال العظيم تبدو آثار احلجر الكلسي الذي بقي من قاع البحر‪ .‬ومن آثاره بحيرات امللح التي عبرنا قلبها في‬ ‫طريق أسفلتي طوله ‪ 12‬كيلومتر!‬

‫ه� � ��ذه الوفرة املائية أهلت س� � ��يوة الحتضان أربعة‬ ‫مصانع لتعبئة مياه العيون‪ ،‬أحدها تديره شركة وطنية‬ ‫تتبع القوات املسلحة املصرية‪.‬‬ ‫من بني األخطاء التاريخية الشائعة واملدونة قرب‬ ‫«البعض»‬ ‫ه� � ��ذا معبد الوحي ‪ -‬التس� � ��مية التي أطلقها‬ ‫ُ‬ ‫عل� � ��ى «ع� �ي��ن الش� � ��مس» ‪ -‬إذ توجد الفت� � ��ة بأنها عني‬ ‫كليوبات� � ��را! والذي منح االس� � ��م التاريخ� � ��ي للواحة هو‬ ‫هي� � ��رودوت‪ ،‬الذي قال «إن النيل هب� � ��ة ملصر‪ ،‬والعيون‬ ‫هبة لآلمونيني»‪.‬‬ ‫�ألت الباحث عبد العزي� � ��ز عبد الرحمن‬ ‫وق� � ��د س� � � ُ‬ ‫الدميري‪ ،‬مدير آثار سيوة‪ ،‬ومدير مخزن أحمد فخري‬ ‫املتحفي‪ ،‬عن سر تلك التسمية اخلطأ‪ ،‬فأجابني‪:‬‬ ‫«ومثل هذه التسمية‪ ،‬اسم آخر‪ ،‬هو عني احلمام‪،‬‬ ‫كما ورد في مخطوطات دفاتر امللكية بسيوة ملدة تزيد‬ ‫ع� � ��ن مائتي عام‪ ،‬ألن الع� � ��روس في املاضي كانت تأتي‬ ‫لتغتس� � ��ل مبياهه� � ��ا‪ ،‬ومياهها ذات تدفق ق� � ��وي‪ ،‬ونقاء‬ ‫وصفاء‪ ،‬دافئة ش� � ��تاء‪ ،‬وباردة صيفا‪ ،‬حتى مع اشتداد‬ ‫درج� � ��ة احل� � ��رارة‪ ،‬وتس� � ��ميتها بعني كليوباترا تس� � ��مية‬ ‫س� � ��ياحية ال أكثر وال أق� � ��ل من قبل اله� � ��واة‪ ،‬حيث لم‬ ‫يثب� � ��ت أن كليوباترا أتت للواحة‪ ،‬ورمبا س � � � ِّم َي ْت كذلك‬

‫‪46‬‬

‫مضاه� � ��اة بحمام كليوبات� � ��را الذي يقع غ� � ��رب مدينة‬ ‫مرسى مطروح»‪.‬‬

‫نساء وتقاليد‬

‫ليس� � ��ت العمارة وحدها هي الفري� � ��دة في «واحة‬ ‫سيوة»‪ ،‬بل العادات والتقاليد‪ ،‬املروية واملدونة‪ ،‬الباقية‬ ‫والزائلة‪ ،‬على حد سواء‪ .‬فعزلة «واحة سيوة» في قلب‬ ‫مثل� � ��ث رءوس زواياه عواصم مصر وليبيا والس� � ��ودان‪،‬‬ ‫جعل من ه� � ��ذا النَّأي فضال ف� � ��ي تفردها‪ .‬وهو األمر‬ ‫الذي س� � � َّ�جله أبو املصريات األثري أحمد فخري‪ ،‬بعد‬ ‫سنوات قضاها بني أبناء «واحة سيوة»‪.‬‬ ‫ال تزال النس� � ��وة غير حاسرات وال كاشفات‪ ،‬فما‬ ‫أن تخ� � ��رج الواحدة منهن حتى تغط� � ��ي وجهها متا ًما‪.‬‬ ‫ستعرف أنها متزوجة حني يكون غطاء الرأس والوجه‬ ‫أس� � ��ود! وهي تلب� � ��س امل� �ل��اءة املطرزة بالل� � ��ون األزرق‬ ‫ح� �ي��ن تخرج للمهن التي اصطفاه� � ��ا املجتمع لها‪ ،‬مثل‬ ‫مناسبات الزواج‪ ،‬والعزاء‪.‬‬ ‫اليوم تخرج الفتيات للس� � ��وق في «واحة س� � ��يوة»‪،‬‬ ‫مثلما تخر ُج إلى العمل في بعض احلرف‪ ،‬مثل مصانع‬ ‫التمور‪ ،‬التي زرنا أحدها‪ ،‬وكان أغلب العاملني التسعني‬ ‫العدد ‪ - 605‬أبريل ‪2009‬‬


‫قدما‪ ،‬ويقال إن بها ‪ 300‬عني ماء‪ ،‬وربع مليون شجرة نخيل‪ .‬ومما يروى في‬ ‫تقع «واحة سيوة» أسفل سطح البحر بنحو ‪ً 65‬‬ ‫زرع في «واحة سيوة» أيضا الزيتون والتني‬ ‫وي ُ‬ ‫األساطير عن خصب أراضيها أن شجرة برتقال واحدة أثمرت ‪ 14‬ألف برتقالة! ُ‬ ‫والرمان والعنب والشمام‪ .‬في كل منزل فرصة أن تنبع عني تفيض مياها عذبة!‬ ‫واملشمش ُّ‬

‫فيه م� � ��ن البنات‪ .‬في ي� � ��وم زفافها‪ ،‬ترت� � ��دي العروس‬ ‫ٍ‬ ‫طبقات من الثياب‪ .‬ميثل ال ّرقم سبعة‬ ‫السيوية س� � ��بع‬ ‫فأال حس � � �نًا‪ ،‬وهذه األثواب الس� � ��بعة تس� � ��مح للعروس‬ ‫بأن ترتدي كل يوم من أيام أول أس� � ��بوع لزواجها ثو ًبا‬ ‫مختلفا‪ .‬ويكون الثوب األقرب للجس� � ��د ش� � ��ا ًّفا أبيض‬ ‫اللون‪ ،‬أما الثاني فيكون خفيفا قماشه أحمر‪ ،‬والثالث‬ ‫أسود‪ ،‬وال َّرابع أصفر‪ ،‬واخلامس أزرق‪ ،‬والسادس من‬ ‫احلرير األحمر‪ ،‬واألخير من احلرير األخضر!‬ ‫تس� � ��تعد العروس الحق� � ��ا الرتداء ث� � ��وب الزفاف‬ ‫األسود التقليدي‪ ،‬املطرز بكثافة‪ ،‬بتصميمات هندسية‬ ‫ملونة حول العنق‪ ،‬وكثي� � ��ر من األزرار واألصداف‪ ،‬مع‬ ‫رسم عيون شمسية دقيقة لطرد عيون الشر‪ .‬البعض‬ ‫يرى في تلك األزرار بقايا من صورة أش� � ��عة الشمس‪،‬‬ ‫رم� � ��ز اإلله آتون‪ .‬فيم� � ��ا يصورها اآلخ� � ��رون على أنها‬ ‫مرايا سحرية‪ ،‬ويُ ْعتَق ُد أنها جتلب الطاقة من الشمس‬ ‫لتمنحها ملن يتجمل بها‪.‬‬ ‫ترتدي نساء سيوة قالئد فضية عريضة مزخرفة‬ ‫برسوم الشمس والتمر والنخل واألسماك‪ .‬أما َّ‬ ‫الش ْعر‬ ‫فتزين� � ��ه قطعة من الفضة لها ش� � ��ك ُل اله� �ل��ال‪ ،‬ثقيلة‬ ‫الوزن‪ ،‬يغطيها ش� � ��ال حريري له شرائط ملونة‪ ،‬تتدلى‬ ‫سيوة الواحة املقدسة‬

‫منه أطراف من الصوف املتعدد األلوان‪.‬‬ ‫هذا الزي األس� � ��ود يكون للف� � ��رح‪ ،‬أما زي احلزن‬ ‫الذي يرتدى في مناسبات العزاء فيكون أبيض‪ .‬وحني‬ ‫تخ� � ��رج املرأة وحده� � ��ا أو بصحبة ابنته� � ��ا‪ ،‬ال يبني من‬ ‫الوجوه شيء‪.‬‬ ‫اقتربنا من طفلة ال يتجاوز عم ُرها العامني‪ ،‬ورفعنا‬ ‫عدسة التصوير نحوها‪ ،‬لكنها أسرعت بتغطية وجهها‬ ‫كفت� � ��اة كبيرة أو امرأة ناضجة‪ .‬صبية أخرى تكاد تبلغ‬ ‫أعوامها الثالثة أعلنت رفضها التصوير باإلجنليزية‪.‬‬ ‫وكأنهن ينش� � ��أن على ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫وحيد‪ :‬ال لكش� � ��ف الوجه‪،‬‬ ‫منط‬ ‫ونعم الحترام التقاليد احلازمة‪.‬‬

‫على خطا اإلسكندر األكبر‬

‫كان الفتى اإلسكندر قد ورث أمرين‪ ،‬إمبراطورية‬ ‫أبي� � ��ه‪ ،‬وحلم� � ��ه اخل� � ��اص مبعرفة من قت� � ��ل ذلك األب‬ ‫احملارب فيلي� � ��ب ملك مقدونيا‪ .‬وفي س� � ��نة ‪ 334‬قبل‬ ‫امليالد ترك اإلسكندر (أنتيباتر) خلفه حلكم اليونان‪،‬‬ ‫وانطلق ليكمل مسيرة أبيه الفاحت‪ ،‬على رأس أسطول‬ ‫من ‪ 30‬ألف فارس‪ ،‬وأس� � ��طول بحري من مائة وستني‬ ‫سفينة‪ .‬وقد كانت موقعة إيسوس (في تركيا احلالية)‬

‫‪47‬‬


‫طبقات‬ ‫في يوم زفافها‪ ،‬ترتدي العروس السيوية سبع‬ ‫ٍ‬ ‫من الثياب‪ .‬ميثل ال ّرقم سبعة فأال حسنًا‪ ،‬وهذه األثواب‬ ‫السبعة تسمح للعروس بأن ترتدي كل يوم من أيام أول‬ ‫أسبوع لزواجها ثو ًبا مختلفا‪ .‬ويكون الثوب األقرب للجسد‬ ‫ًّ‬ ‫شافا أبيض اللون‪ ،‬أما الثاني فيكون خفيفا قماشه أحمر‪،‬‬ ‫والرابع أصفر‪ ،‬واخلامس أزرق‪ ،‬والسادس من‬ ‫والثالث أسود‪َّ ،‬‬ ‫احلرير األحمر‪ ،‬واألخير من احلرير األخضر! ويحتفظ‬ ‫متحف البيت السيوي بنماذج من هذه الثياب واحللي‬ ‫وأدوات بيتية انقرض استخدامها‪.‬‬ ‫الصورة لسيدة متزوجة ال يبني منها شيء‬

‫‪48‬‬

‫العدد ‪ - 605‬أبريل ‪2009‬‬


‫تستعد العروس الحقا الرتداء ثوب الزفاف األسود التقليدي‪ ،‬املطرز بكثافة‪ ،‬بتصميمات هندسية ملونة حول العنق‪ ،‬وكثير‬ ‫الش ْعر فتزينه قطعة من الفضة لها ُ‬ ‫من األزرار واألصداف‪ ،‬مع رسم عيون شمسية دقيقة لطرد عيون الشر‪ .‬أما َّ‬ ‫شكل الهالل‪،‬‬ ‫ثقيلة الوزن‪ ،‬يغطيها شال حريري له شرائط ملونة‪ ،‬تتدلى منه أطراف من الصوف املتعدد األلوان‪.‬‬

‫سيوة الواحة املقدسة‬

‫‪49‬‬


‫رسمان من كتاب األثري الكبير أحمد فخري‪ ،‬تضمنهما كتابه الذي نشر توثيقا‬ ‫عاما‪ ،‬وهما ميثالن نقوش جدران‬ ‫لرحالته الكشفية إلى سيوة التي بدأت قبل ‪ً 57‬‬ ‫املقابر الفرعونية في جبل املوتى‪.‬‬

‫‪50‬‬

‫العدد ‪ - 605‬أبريل ‪2009‬‬


‫سنة ‪ 333‬ق‪.‬م‪ ،‬وانتصار اإلسكندر على امللك الفارسي‬ ‫داري� � ��ا‪ ،‬ودانت مدن الفينيقيني بالوالء للقائد اجلديد‪،‬‬ ‫إال مدينة صور (في لبنان) التي حوصرت ‪ 7‬أش� � ��هر‪،‬‬ ‫ومدينة غزة (في فلس� � ��طني) التي كانت آخر محطاته‬ ‫قبل دخول مصر ب ًّرا‪.‬‬ ‫أظه� � ��ر اإلس� � ��كندر املقدون� � ��ي احترام� � ��ه للديانة‬ ‫املصري� � ��ة‪ ،‬بل وأق� � ��ام احتفاال أوليمبي� � ��ا مزج فيه على‬ ‫الطريقة اإلغريقية الرياضة بالدين والفن!‬ ‫ح� �ي��ن كان اإلس� � ��كندر املقدوني ي� � ��درس وهو في‬ ‫الثالثة عش� � ��رة مبدرس� � ��ة أرس� � ��طو‪ ،‬كانت هناك أنباء‬ ‫مثيرة عن كهن� � ��ة آمون‪ ،‬وقدرتهم على قراءة التنبؤات‪.‬‬ ‫وم� � ��ن هنا كان الفتى يبحث ع� � ��ن نبوءة خاصة‪ :‬معرفة‬ ‫من قتل والده‪ ،‬وماذا سيكون مستقبل إمبراطوريته؟‬ ‫ومثلم� � ��ا اجتهنا م� � ��ع الفرع الغربي للنيل ش� � ��ماال‪،‬‬ ‫ف� � ��ي بداية رحلتنا‪ ،‬ت� � ��رك اإلس� � ��كندر املقدوني مدينة‬

‫منف‪ ،‬واجته ش� � ��ماال مبحازاة الني� � ��ل حتى وصل إلى‬ ‫البحر‪ ،‬ومبواجهة جزيرة فاروس قرر تأس� � ��يس مدينة‬ ‫اإلس� � ��كندرية‪ .‬ولم تتوافر كمية كافية من مادة اجلير‬ ‫ال� �ل��ازم لتخطي� � ��ط املدين� � ��ة العمالقة التي س� � ��تصبح‬ ‫عاصمة جديدة‪ ،‬فاس� � ��تخدم املهندس� � ��ون الدقيق (أو‬ ‫القمح) املعد ملئونة اجلنود!‬ ‫ومثلما تركنا اإلس� � ��كندرية إلى مرس� � ��ى مطروح‪،‬‬ ‫اجته اإلس� � ��كندر املقدوني إلى هناك قبل ‪ 2340‬سنة‬ ‫بالتم� � ��ام والكم� � ��ال‪ .‬وقد هب� � ��ت في رحلة اإلس� � ��كندر‬ ‫املقدون� � ��ي جنوبا إل� � ��ى «واحة س� � ��يوة» عاصفة رملية‪،‬‬ ‫وازاها ما لقيناه في منتصف الطريق حيث يتم ترميم‬ ‫الطريق اإلس� � ��فلتية‪ ،‬وتكاد الرؤية تنعدم بسبب الغبار‬ ‫املتطاير من أعمال اإلنشاء‪ .‬وحني نفد ماء اإلسكندر‬ ‫املقدوني أمطرت السماء فمأل اجلنود قربهم املائية‪.‬‬ ‫يقول الباحث محمد حسن «إن اإلسكندر املقدوني لم‬

‫سياح يزورون جبل املوتى‪ ،‬وحتت أقدامهم مقابر منهوبة‪،‬‬ ‫وأخرى محروسة‪ ،‬بنيت املقابر باحلفر في اجلبل الذي‬ ‫يطل على الواحة بأكملها‪.‬‬

‫سيوة الواحة املقدسة‬

‫‪51‬‬


‫حني كان اإلسكندر املقدوني يدرس وهو في سن الثالثة عشرة مبدرسة أرسطو‪ ،‬كانت هناك أنباء مثيرة عن كهنة آمون‪،‬‬ ‫القاطنني في واحة سيوة‪ ،‬وقدرتهم على قراءة التنبؤات‪ .‬ومن هنا كان الفتى يبحث عن نبوءة خاصة‪ :‬معرفة من قتل‬ ‫والده‪ ،‬وماذا سيكون مستقبل إمبراطوريته؟ ترك اإلسكندر املقدوني مدينة منف‪ ،‬واجته شماال مبحازاة النيل حتى وصل‬ ‫إلى البحر‪ ،‬ومبواجهة جزيرة فاروس قرر تأسيس مدينة اإلسكندرية‪ .‬ومثلما تركنا اإلسكندرية إلى مرسى مطروح‪ ،‬اجته‬ ‫متوجا‬ ‫اإلسكندر املقدوني إلى هناك قبل ‪ 2340‬سنة بالتمام والكمال‪ .‬حيث مت تتويجه في معبد الوحي‪ ،‬والصور لإلسكندر‬ ‫ً‬ ‫ولعملتني من زمانه‪ ،‬ولبقايا معبد الوحي أو التنبؤات في سيوة‪ ،‬الذي بني في عصر أمازيس (األسرة السادسة والعشرون)‪،‬‬ ‫وقد بنى األهالي فوق أجزاء منه بيوتهم! وهو يقع شرق سيوة بنحو ‪ 3‬كلم‪ ،‬على صخرة تسمى أجورمي‪.‬‬

‫ِ‬ ‫يأت بجيش وإمنا بفرقة من األدالء قوامها عش� � ��رون‬ ‫فقط»‪ .‬وحني ضللنا الطريق إلى املنتجع الذي نقصده‬ ‫على شفا بحر ال ّرمال قرب جبال التكرور‪ ،‬سألنا أهل‬ ‫سيوة‪ ،‬أما حني ضل اإلسكندر املقدوني الطريق‪ ،‬فإن‬ ‫آمون أرس� � ��ل له وجلمع� � ��ه غرابني داله� � ��م على معبد‬ ‫الوحي‪.‬‬

‫أمام معبد الوحي‬

‫وصلن� � ��ا إلى بوابة معبد الوح� � ��ي‪ ،‬أو مركز املدينة‬ ‫عص� � ��ر عبادة اإلله آمون‪ .‬من فوق الهضبة التي ترتفع‬ ‫ثالثني مت ًرا‪ ،‬حيث أقيم املعبد على هيئة حدوة حصان‪،‬‬ ‫كنا نس� � ��تطيع أن نش� � ��اهد احلزام األخض� � ��ر العريض‬ ‫�ياجا لذلك الرك� � ��ن الديني‪ .‬كانت قرى‬ ‫الذي ميثل س� � � ً‬ ‫واحة آمون املتناثرات‪ ،‬لها مركز واحد هو األكروبول‪،‬‬ ‫معبد الوحي‪ ،‬حيث نق� � ��ف اآلن‪ ،‬وكانت حتيط به‪ ،‬في‬ ‫تراتبي� � ��ة تعكس الطبقات ب� �ي��ن احلاكم واحملكوم‪ ،‬فقد‬

‫‪52‬‬

‫أحيط األكروبول بثالثة أقس� � ��ام‪ ،‬أو أس� � ��وار‪ ،‬يس� � ��كن‬ ‫األول احل� � ��كام‪ ،‬ويعيش في الثاني النس� � ��اء واألطفال‬ ‫واألقارب واحلرس‪ ،‬بينما يؤ ِّمن القسم الثالث اجلنود‬ ‫ومنازل احلرس‪ .‬وعلى مس� � ��افة صغيرة من األكروبول‬ ‫كان هناك معب ٌد ثان آلمون‪ ،‬قرب ما كان يس� � ��مى بعني‬ ‫الشمس‪.‬‬ ‫ومما يدل على اس� � ��تقالل «واحة سيوة» أو «واحة‬ ‫آمون» كما كانت تُسمى‪ ،‬وحصولها على نوع من «احلكم‬ ‫الذاتي قبل أكثر من ‪ 22‬قر ًنا‪ ،‬هو تصوير حاكم س� � ��يوة‬ ‫بصفة ودرجة موازية مع الفرعون أحمس الثاني‪ ،‬في‬ ‫مخالف� � ��ة للقاعدة املتبعة في التصوي� � ��ر املعتاد حلكام‬ ‫األقالي� � ��م في مصر‪ ،‬وباق� � ��ي الواح� � ��ات األخرى‪ ،‬بأن‬ ‫يكون تصوير حاكم اإلقلي� � ��م أو الواحة‪ ،‬مثل الواحات‬ ‫البحرية‪ ،‬خلف الفرعون‪.‬‬ ‫كنا نكا ُد نسمع أغنية املصري القدمي التي ترجمها‬ ‫س� � ��ليم حس� � ��ن‪( :‬يا آمون‪ .‬أنت يا ُمخرج القطعان في‬ ‫العدد ‪ - 605‬أبريل ‪2009‬‬



‫تنتشر في «واحة سيوة» مصانع التمور‪ ،‬ومعظم العاملني التسعني في أحدها من الفتيات‪ ،‬وينتج هذا املصنع نوعني من‬ ‫ويدعى غزالي‪ ،‬وألذها‬ ‫التمور؛ الصعيدي والفريحي‪ .‬ومن أشهر التمور في «واحة سيوة» األبيض واسمه الكواك‪ ،‬واألحمر ُ‬ ‫أيد عاملة أكثر مما يوفرها العرض احمللي‪،‬‬ ‫جميعا وأرقها في اآلن نفسه الثيوه! ناد ًرا ما تسمع عن مكان في مصر يحتاج إلى ٍ‬ ‫ً‬ ‫هذه هي سيوة‪ ،‬واحة بال بطالة‪ ،‬وفي كثير من املهن يعمل قاهريون وسكندريون وسكان من جنوب مصر‪ .‬ومن املهن التي‬ ‫تستخدم منتجات النخيل ما يستخدم في الزينة أو األغراض اليومية‪.‬‬

‫‪54‬‬

‫العدد ‪ - 605‬أبريل ‪2009‬‬


‫ِ‬ ‫ومرشد املُتَألم إلى املرعى‪ .‬وكما يقود ال َّرعي‬ ‫الصباح‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫إل� � ��ى املرعى فأنت كذلك تفعل‪ .‬ي� � ��ا آمون‪ .‬خذ بزمام‬ ‫املُتألم إل� � ��ى الطعام‪ .‬ألن «آم� � ��ون رع» يرعى من يتكل‬ ‫عليه‪ .‬يا «آم� � ��ون رع» إني أحبك وقد مألت قلبي بك‪.‬‬ ‫وستنجيني من أفواه الناس في اليوم الذي يفترون فيه‬ ‫عل� � � َّ�ي الكذب‪ .‬ألن رب احلق يعيش في احلق‪ .‬وإني لن‬ ‫أستس� � ��لم للخوف الذي في قلبي‪ .‬ألن ما قاله «آمون»‬ ‫يعلو ويزدهر)‪.‬‬

‫في مديح العزلة‬

‫في اللحظات التي كان اجلنون يصيب نهر النيل‪،‬‬ ‫بفيض� � ��ان ُم َد ِّمر‪ ،‬لم يك� � ��ن هناك من ملجأ لس� � ��اكني‬ ‫الوادي س� � ��وى اله� � ��روب إلى الواحات‪ .‬انتش� � ��رت تلك‬ ‫الواح� � ��ات صغيرها وكبيرها ف� � ��ي الصحراء املصرية‬ ‫من الش� � ��مال إلى اجلنوب‪ .‬من هنا‪ ،‬ومع الثورات غير‬ ‫املنقطعة للنهر اخلالد‪ ،‬أصب� � ��ح دور الواحات هو بناء‬ ‫املجتمع� � ��ات‪ .‬ومنذ عصور ما قب� � ��ل التاريخ‪ ،‬اجتذبت‬ ‫الواحات هؤالء الهاربني بحياتهم من غضب الطبيعة‪،‬‬ ‫مثلما اس� � ��تقبلت ‪ -‬كذلك ‪ -‬الالجئني إليها حلمايتهم‬ ‫سيوة الواحة املقدسة‬

‫من غضب البش� � ��ر‪ ،‬حني أصبحت الواحات مأمنًا ملن‬ ‫ضاق باإلره� � ��اب الديني والس� � ��لطوي‪ .‬هكذا امتألت‬ ‫الواحات بخب� � ��رات متنوعة‪ ،‬وفره� � ��ا القادمون إليها‪،‬‬ ‫فمنهم الفنانون‪ ،‬واحلرفي� � ��ون‪ ،‬واملعلمون‪ ،‬واملزارعون‪،‬‬ ‫نوعا ما منفى سياس� � ��يا‬ ‫وس� � ��واهم‪ .‬وأصبحت الواحة ً‬ ‫بعي ًدا عن الس� � ��لطة احلاكمة ف� � ��ي وادي النيل‪ ،‬دون أن‬ ‫يعني ذلك أن تكون بال فنون وآداب‪.‬‬ ‫لكن الواحات الت� � ��ي كانت منعزال‪ ،‬أصبحت نقطة‬ ‫منوذجا فري ًدا‬ ‫جذب‪ .‬هذه هي «واحة سيوة» مثاال‪ ،‬تعد‬ ‫ً‬ ‫في أنه� � ��ا البقعة الوحيدة في مص� � ��ر التي حتتاج إلى‬ ‫عمالة‪ ،‬وتختفي فيها البطالة! لذلك ستجد في قطاع‬ ‫كالس� � ��ياحة ومجال كالتعليم كثيرين من الوافدين على‬ ‫الواحة املقيمني فيها‪ .‬حتى أن املس� � ��تثمرين األجانب‬ ‫وج� � ��دوا طريقا ذهبيا في أراض تب� � ��اع الفدادين فيها‬ ‫مبئات اجلنيهات فقط‪.‬‬ ‫الواح� � ��ة الت� � ��ي كانت تغن� � ��ي عزلته� � ��ا‪ ،‬وميتدحها‬ ‫األثريون‪ ،‬بدأت تغير طباعها لتالئم الوافدين اجلدد‪،‬‬ ‫وبدأ التراث يتحول من ع� � ��ادات وتقاليد إلى فلكلور‪.‬‬ ‫صحي� � ��ح أن األمر في أوله‪ ،‬ولكن ال ننس� � ��ى أن عجلة‬

‫‪55‬‬


‫الزمن كفيلة بأن تس� � ��يء إل� � ��ى تلك اخلصوصية مثلما‬ ‫أساءت إلى بقاع سواها‪.‬‬ ‫َروى لن� � ��ا أح� � ��د الس� � ��يويني قصة طريف� � ��ة وقعت‬ ‫وص� � ��ل «واحة س� � ��يوة» بطريق مط� � ��روح احلالي‪،‬‬ ‫قبل ْ‬ ‫ف� � ��ي أوائل ثمانينيات القرن املاض� � ��ي‪ .‬كان ال َّراوي قد‬ ‫جنح في املرحل� � ��ة االبتدائية‪ ،‬ويس� � ��تعد لالنتقال إلى‬ ‫املرحلة اإلعدادية‪ ،‬وأن يترك ارتداء «مريلة» املدرسة‬ ‫«قميص� � ��ا وس� � ��رواال» خاصني‬ ‫االبتدائي� � ��ة‪ ،‬ليرت� � ��دي‬ ‫ً‬ ‫باملرحلة التعليمية التالية‪ ،‬ولكن «واحة سيوة» لم يكن‬ ‫بها من يبيع الزي املدرسي اإلعدادي‪ ،‬وكان أن انطلق‬ ‫مع صحبه‪ ،‬وسائق‪ ،‬إلى مطروح‪ .‬كان الليل يأتي فينام‬ ‫اجلميع في الس� � ��يارة‪ ،‬على رب� � ��وة عالية‪ ،‬وعند الفجر‬ ‫يبدأ التحرك‪ ،‬وقد اكتش� � ��ف السائق أكثر من مرة أنه‬

‫‪56‬‬

‫يخطئ االجت� � ��اه‪ ،‬ويعود مرة أخرى من حيث أتى‪ ،‬مما‬ ‫زي مدرسي‬ ‫جعل ال َّركب يستغرق في رحلة البحث عن ٍّ‬ ‫ثالثة أيام‪.‬‬ ‫لكن الراوي ميتدح تلك العزلة التي منحت «واحة‬ ‫سيوة» خصوصيتها‪ ،‬في العمارة حينا‪ ،‬والتقاليد حينا‪،‬‬ ‫واللسان أو اللغة حينا آخر‪.‬‬ ‫اللغة السيوية حتتا ُج إلى معجم وممارسة لفهمها‪،‬‬ ‫وإذا كانت رحلة التجارة قد جعلت من «واحة س� � ��يوة»‬ ‫مركزًا لعب� � ��ور البربر ولغتهم األمازيغي� � ��ة‪ ،‬في املغرب‬ ‫واجلزائ� � ��ر وليبيا‪ ،‬فإن هناك تأثي� � ��رات أخرى أجنبت‬ ‫م ًع� � ��ا لغة ش� � ��فهية غير مدونة ألهالي «واحة س� � ��يوة»‪.‬‬ ‫تقول أغنية سيوية‪:‬‬ ‫اس يا عيني الجلسياما أتادم توحل تخلض‬ ‫َ« َم ْ‬ ‫العدد ‪ - 605‬أبريل ‪2009‬‬


‫كان ش� � ��ك منح� � ��اق أن� � ��وكان ال طاوع� � ��ه دأقيماط‬ ‫ددي»‬ ‫ومعناها‪:‬‬ ‫لعيني‪ :‬ال ِ‬ ‫تبك يا ما أناس غيرك أحبت‬ ‫« ُقل‬ ‫َّ‬ ‫بعدت‬ ‫قد‬ ‫كنت‬ ‫ما‬ ‫حقا‬ ‫عاشقي‬ ‫حبيبي‪،‬‬ ‫يا‬ ‫أنك‬ ‫فلو‬ ‫َ‬ ‫عني»‪.‬‬ ‫في مكان ما‪ ،‬قد تستمع للسيوي يحدثك بالعامية‬ ‫التي تفهمها‪ ،‬ثم يحدث جاره باللهجة الس� � ��يوية‪ ،‬ومي ُّر‬ ‫أجنبي فيخاطبه بلغته‪ ،‬وهو يتنقل بني اللغات بيس� � ��ر‪،‬‬ ‫جرس� � ��ا عربيا‬ ‫مثل س� � ��حابة تعبر الواحة‪ .‬قد تس� � ��م ُع‬ ‫ً‬ ‫للكلم� � ��ات‪ ،‬لكن ذلك للهجة قائله� � ��ا‪ .‬ومن الطريف أن‬ ‫من َّر ببعض املفردات‪.‬‬ ‫وم� � ��ن قام� � ��وس الس� � ��يوية‪ :‬أمان (م� � ��اء)‪ ،‬آخصوم‬

‫العربة التي يجرها‬ ‫احلمار هي سيارة األجرة‪،‬‬ ‫أو السيارة اخلاصة‪،‬‬ ‫والشعبية في «واحة‬ ‫سيوة»‪ .‬تختلف في‬ ‫األحجام واألشكال‪ ،‬ولكن‬ ‫تبقى مهمتها واحدة‪.‬‬ ‫وهي حتمل ركا ًبا‪ ،‬من‬ ‫أسرة واحدة على األغلب‪،‬‬ ‫ويحرص بعض السياح‬ ‫على التجوال بها‪ .‬واسمها‬ ‫السيوي «كاروسه»!‬

‫سيوة الواحة املقدسة‬

‫‪57‬‬


‫‪58‬‬

‫العدد ‪ - 605‬أبريل ‪2009‬‬


‫الباحث عبد العزيز الدميري املسئول عن مخزن أحمد‬ ‫فخري املتحفي‪ ،‬التابع للمجلس األعلى لآلثار بوزارة‬ ‫الثقافة املصرية‪ ،‬حيث توضع اللقى األثرية حتى يتم‬ ‫عرضها‪ ,‬يقول إن أصل سكان الصحراء الغربية ‪ -‬حيث‬ ‫تقع واحة سيوة ‪ -‬هما عنصران من العناصر التي‬ ‫تهاجم مصر من الغرب‪ ،‬عرفا في األدبيات التاريخية‬ ‫بالتحنو والتمحو‪ ،‬كما جاء في نقش يرجع لعصر‬ ‫امللك العقرب‪ ،‬في عصر ما قبل األسرات‪ .‬وخالل‬ ‫عصر األسرة الثامنة عشرة ذكر اسم التحنو ضمن‬ ‫الشعوب التسعة التي نقشت أسماؤها على قاعدة عرش‬ ‫امللك أمنحتب الثاني‪ ،‬ثم عرفت عدة أسماء للشعوب‬ ‫الساكنة في سيوة وحلوها‪ ،‬منها‪ :‬التحنو‪ ،‬التمحو‪،‬‬ ‫الليبو‪ ،‬الريبو‪ ،‬األمونيوم‪ ،‬املازاكس‪ ،‬لواتة‪ .‬وفي العصور‬ ‫املتأخرة‪ ،‬أشار ابن خلدون إلى قبيلة زناتة‪ ،‬التي تسكن‬ ‫مناطق في شمال إفريقيا وحتكي البربرية‪ ،‬وهي قد‬ ‫تكون قبيلة ظناين احلالية بسيوة‪ ،‬ويذكر مخطوط‬ ‫سيوة أن هناك ‪ 40‬رجال بنوا شالي ‪ -‬سيوة القدمية‬ ‫ وقد قسم هؤالء أنفسهم بعد التناسل والتكاثر إلى‬‫قبائل عدة‪ ،‬ومما يرد لدى هيرودوت‪ :‬يتكلم أهالي‬ ‫واحة آمون بلسان بعضه مصري‪ ،‬والبعض اآلخر‬ ‫أتيوبي! الصورة للباحث‪ ،‬واملخزن املتحفي‪ ،‬وواجهة من‬ ‫معبد آمون بأم عبيدة‪ ،‬الذي يعود تاريخه إلى األسرة‬ ‫الثالثني‪ ،‬وبانيه نختابو الثاني‪ ،‬وجداره الباقي الوحيد‬ ‫يحمل نقوشا لبعض الطقوس الدينية‪.‬‬

‫سيوة الواحة املقدسة‬

‫‪59‬‬


‫متحف البيت‬ ‫السيوي‬

‫ماسورتان ملاء عذب ومياه ماحلة‪،‬‬ ‫في مشروع ري جديد‪ ،‬وفرصة‬ ‫لالستحمام أيض ًا!‬

‫‪60‬‬

‫العدد ‪ - 605‬أبريل ‪2009‬‬


‫أطفال من سيوة يتصفحون هدية ملجلة (العربي الصغير)‪ ،‬أمام بيتهم املسيج باخلوص‪ ،‬وشاب يشرب من (الزير) آنية‬ ‫تصفية املياه‪ ،‬التي تستخدم لترشيح املياه واحلفاظ عليها باردة‪ .‬صورتان للحياة اليومية الهادئة في تلك الواحة النائية‪.‬‬

‫(حلم)‪ ،‬آجنب (بيت)‪ ،‬آخوبي (صبي)‪ ،‬نيتا (هو)‪ ،‬آزمور‬ ‫(زيت� � ��ون)‪ ،‬تيني (متر)‪ ،‬جافالخ (اذهب)‪ ،‬هيد (يأتي)‪،‬‬ ‫ماشي (نعم)‪ ،‬أوال (ال)‪ ،‬فِ ْل (يذهب)‪ ،‬شيخ (أنت)!‬

‫ونختتم بالشنة والرنة!‬

‫فكثي ًرا ما نس� � ��مع متجي ًدا لش� � ��خص أنه له ش� � ��نة‬ ‫ورنة‪ .‬وفي س� � ��يوة ت� � ��درك املعنى‪ ،‬فالش� � ��نة هي غطاء‬ ‫رأس يرتدي� � ��ه ذوو املكانة‪ ،‬والرنة ص� � ��وت عصاه يدق‬ ‫بقوة تعبي ًرا عن سلطته ونفوذه‪.‬‬ ‫يقترب وأنت تكاد تس� � ��مع لكل رجل في‬ ‫كان الليل‬ ‫ُ‬ ‫«واحة سيوة» ش� � ��نة ورنة‪ .‬فمالمح الوجوه حتكي أكثر‬ ‫مما يبوح به التاريخ‪ ،‬ومسامع اللهجة تروي أفضل مما‬ ‫تفس� � ��ره الوثائق‪ .‬وهي تقول إن الواحة كانت أكثر من‬ ‫مج� � ��رد طريق‪ ،‬وأفضل م� � ��ن أن تكون معب ًرا‪ ،‬وأهم من‬ ‫أن تك� � ��ون مقص ًدا فق� � ��ط‪ .‬وإذا كانت في األمس واحة‬ ‫مقدس� � ��ة بفضل ما كان يُر َوى عن كهن� � ��ة آمون‪ ،‬فإنها‬ ‫اليوم أكثر قدس� � ��ية بفضل العم� � ��ل الدءوب الذي يقوم‬ ‫على قدم وساق‪ ،‬ملس� � ��تقبل جديد‪ ،‬تتحول فيه نبوءات‬ ‫األساطير‪ ،‬إلى حقائق احلياة >‬ ‫سيوة الواحة املقدسة‬

‫‪61‬‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.