بقلم :أشرف أبو اليزيد عدسـة :سليمان حيدر
36
العدد - 605أبريل 2009
بعد الوصول إلى القاهرة ،واالنتقال إلى اإلسكندرية ،واالستعداد للسفر إلى «واحة سيوة» في ونح ْي ُت قلب صحراء مصر الغربية قرب احلدود الليبية عبر مدينة مرسى مطروحُ ، تركت الصورَّ ، ُ ُ وفكرت أن أستطلع عني القمر الصناعي في طريق الرحلة الذي واستبعدت اخلرائط، الكتب، يبلغ نحو 600كيلومتر من اإلسكندرية .أخذ ِّ مؤشر اإلنترنت يقربني عبر موقع (جوجل) من ترقد مثل طائر أليف فوق الواحة النائية ،والدهشة ترسم املالمح .فتلك البقعة داكنة اخلضرة ُ عش من اللون الذهبي اسمه بحر ال ِّرمال العظيم ،وهي كذلك تستند بأعجوبة غرب جرف يد عمالقة .كان الصحراء ٌ فرغت جو َفها من قلب َّ منخفض القطارة ،الذي يشبه حفرة عبثية؛ َّ ُ السؤال األول ،كيف وصل إلى تلك البقعة كل صانعي التاريخ القدمي واملعاصر؟ أما السؤال امل ِل ُّح فكان؛ كيف استقامت احلياة الفريدة في ذلك املكان البعيد على م ِّر آالف السنني؟ َّ وظل السؤال إحلاحا :ماذا بقي من احليوات التي وقفت فيها «واحة سيوة» شاهدة على كل العصور؟ األكثر ً
القمة العربية االقتصادية األولى في الكويت
37
صورة بالقمر االصطناعي للصحراء الغربية في مصر حيث تقع «واحة سيوة» .اخلالف على نشأة هذه الواحات محتدم بني العلماء ،حيث ال يوجد ممر يربطها بالبحر .ومن ثم فكَّ روا أنها نشأت بفضل حركة ال ِّرياح .ولكن مع التأكيد على الرياح ،وا َ جلزْم بأن تياراتها هي التي أعطت في «واحة سيوة» شكلها احلالي ،فإن احلفريات تؤكد نشأة الواحة من دور ِ ّ قلب البحر املتوسط قبل 40مليون سنة ،لتصعد كجزيرة ،مع انسحاب البحر إلى حيث يوجد اآلن ،بعد أن ترك صخوره وحفرياته لتدعم اجلزيرة املتكونة .وقد أصبح سطح الصحراء الغربية ـ كله ـ مثل سطح مستو ،مثل سرير عمالق من احلجر الكلسي اجليري .ومع عوامل التعرية عبر السنني ،وتخلل املطر أجزاء السطح اجليري ،بدأ تكوين الكهوف والقنوات التي تعبر حتت سطح الصحراء وقلب الواحات.
البحر املتوسط االسكندرية
القاهرة منخفض القطارة سيوة
بحر الرمال العـظيم
38
العدد - 605أبريل 2009
نعبر الساحل الشمالي املوازي لشاطئ البحر املتوسط بني اإلسكندرية ومرسى مطروح ،مبا يضم من عش� � ��رات القرى السياحية ،بعضها مكتمل ومتج ِّمل ،وأكثرها ف� � ��ي طور األجنة ،وكثي ٌر منها ليس س� � ��وى الفتات وسور وصورة مش� � ��روع .ثم انحدرنا جنو ًبا إلى طريق تش� � ��به خطا سمي ًكا فوق دفتر ال ِّرمال. دفتر من ورقة وحيدة عمالقة ،ال تدرك أولها من آخرها، وال تعرف الفارق بني س� � ��طورها إال م� � ��ن اللوحات التي حتدد لك املس� � ��افات املتبدالت .حتى اجلغرافيا املبهمة، اخلادعة ،تبدو كبس� � � ٍ �اط دون نقوش ،تفك طالسمها ،إال حني تبدو نقطة تفتيش أو مركز مرور. االنتقا ُل م� � ��ن النهر إلى القَفر ،م� � ��ن الزراعة إلى ا َ جل ْدب ،ه� � ��و انتقال ش� � ��رس املالمح ،ح� � ��اد التباين، لذلك لم يشهد التاريخ املصري هجرة من الوادي إلى الصحراء .حتى أن هذه امل� � ��دن اجلديدة ،واملنتجعات التي ب� �ل��ا حصر ،التي كن� � ��ا نراها عل� � ��ى الطريق من اإلسكندرية إلى مرس� � ��ى مطروح تظل مدنا بال قلب. كم من قرية سياحية مررنا بها ،وكم من مجمع سكني عبرن� � ��ا ب� � ��ه ،وكل ه� � ��ذه العمائر اخلرس� � ��انية ال أحد! االنتقال يس� � ��اوي مغادرة أسلوب حياة إلى آخر مغاير، وهو أم ٌر لم يعتده املصريون آلالف السنني ،لذا بقيت الناس إلى الوادي، الواحات في عزلتها ،يخ� � ��رج منها ُ ولك� � ��ن ال يأتيها أبناء ال� � ��وادي ،مع اس� � ��تثناءات ،ككل قاعدة .لذلك لم تكتشف الصحراء إال خالل القرنني العرب مصر لم يدخلوا املاضيني وحس� � ��ب ،وحني جاء ُ غمار الصحراء ،وإمنا س� � ��اروا عل� � ��ى املدقات (الطرق الترابي� � ��ة) الس� � ��احلية .وامتألت القص� � ��ص التاريخية واحلكايات األسطورية مبرويات عن التهام الصحراء للجيوش وكذلك لكونها مآلنة بالوحوش املفترسة! تبدأ اجلغرافيا تفشي س ًّرا بأن التغيير قاد ٌم ،حني انكش� � ��فت الرمال عن مئات من األشكال شبه الهرمية التي كونتها عوامل التعرية ،كاش� � ��فة عن أجس� � ��ادها؛ كأنها بسطات متدرجات مماثالت ملدرج سقارة ،ليس له� � ��ا لون واح� � ��د ،وبدأ كما لو كانت كت� �ل��ا ضخمة ،أو أشباحا لسفن عمالقة تركها أس� � ��طوال من صخور ،أو ً ر َّبانُها في العراء ومضى! حني ظهرت الواحة اخلضراء بُعيد ذلك املش� � ��هد الالنهائ� � ��ي ب� � ��دا كأن هذا األس� � ��طول األب� � ��دي يحمي «واحة س� � ��يوة» من جهاتها جمي ًعا ،فيكبح بحر ال ِّرمال سيوة الواحة املقدسة
العظيم م� � ��ن الهجوم عليها ،من جه� � ��ة اجلنوب ومينع جسد الواحة من الس� � ��قوط إلى الشرق ،حيث يربض منخفض القطارة. نس� � ��تم ُع ،قبل الولوج إل� � ��ى عالم «واحة س� � ��يوة»، إلى ص� � � ِ الس� � ��فر �وت التاريخ ،فيقول هيرودوت« :بعد َّ إلى قلب الصح� � ��راء ،مي ُّر املرءُ بأح� � ��راش متر ُح فيها الوحوش البرية ،وخلفها منطقة الرمال الكثيبة ،التي متتد من طيبة في مص� � ��ر حتى أعمدة هرقليس .في هذه املنطقة بالتحديد ،يصادف املرء ،بعد مشي على القدمني لعش� � ��رة أيام ،آثار مغطاة بأحجار امللح ،الذي حت َّول إلى بلورات من الكريستال العمالق ،وفوق قمة تلك الروابي ،ومن قلب امللح ،يتفجر ماء عذب متجدد، ليصبح عينًا ،خلف الغابات البرية». هانح� � ��ن عل� � ��ى بُع� � ��د آالف الس� � ��نني من س� � ��طور هي� � ��رودوت ،لكن الص� � ��ورة التي وثقها ل� � ��م تَخْ ت َِف ،بل أصبحت أكثر غرابة ،سنكتش� � ��فها ح� �ي��ن نزور مدينة امللح!
مدينة من ملح!
نحن ف� � ��ي قلب ثالث مس� � ��احات؛ بح� � ��ر ،وواحة، ومنخف� � ��ض ،وهي حني جتتمع تكون خطرا .لكنها هنا متثل جنة منسية .فمع هذه املساحات ،يطلعنا التاريخ على رحالت أكدت أهمية «واحة سيوة» ،أبرزها :رحلة امللح ،ورحلة احلج ورحلة التجارة! في قلب «واحة س� � ��يوة» ،متتد طري ٌق أكثر غرابة، بطول 12كيلومترا .تشق بح ًرا من امللح! فعلى جانبي الطريق اإلس� � ��فلتية تستقر املياه املاحلة .هي اآلن في الش� � ��تاء مرآة للس� � ��ماء وما على الشطآن ،ولكن ما إن يهل الصيف ،حتى تكس� � ��و طبقة م� � ��ن امللح وجه املاء. ليصب� � ��ح مثل غاللة ن� � ��ور .بني حني وآخ� � ��ر يظهر في البح� � ��ر طمي قوامه امللح ،الي� � ��زال يأخذه أبناء «واحة سيوة» ،ليشيدوا به البيوت التقليدية ،جر ًيا على عادة اآلباء قبل مئات السنني .ال تزال هناك مدينة واحدة، ش � � � ِّيدت بكاملها من هذا املل� � ��ح ،وهانحن على عتبات الوصول إليها. م� � ��ن بعيد الح� � ��ت املدينة امللحية ،غي� � ��ر املأهولة، س� � ��ور كبير يحيطها من كل جانب ،تآكلت منه أجزاء. وعلى باب املدينة مسجد من امللح ،عرفناه على الرغم من أنه بال مئذنة ،لس� � ��بب يس� � ��ير :ال ي� � ��زال احملراب
39
قائ ًم� � ��ا ،بارزا كأنه نصف عمود أس� � ��طواني خارج من جتولت مع زميلي املص� � ��ور ،والدليل جدار املس� � ��جد. ُ والسائق .اليصاحبنا س� � ��وى الصمت في مدينة نادرة ليس يحرسها أحد .مدينة فريدة تستحق أن تضم إلى قائمة تراث اإلنسانية الذي تسجله اليونسكو ،من أجل احلفاظ عليه لألجيال القادمة ،ال أن ت َ ُترك ملصيرها.
ال تمُ ط� � ��ر الدنيا في «واحة س� � ��يوة» ،وإال الختفت تلك املدينة ،واختفت معها آثار أخرى سنراها الحقا .فعلى الرغم من ندرة مطرها فإنه يأتي كالسيل املدمر. ال تس� � ��تمد ه� � ��ذه املدينة فرادتها م� � ��ن امللح الذي دت منه وحسب ،بل ألنها تضم ُربمَّ ا أقدم عاصرة ش ِّي ْ زيت� � ��ون في مص� � ��ر ،وهي التي وهبت املدينة اس� � ��مها؛
جغرافيا الواحة :نخيل يرتوي من عيون عذبة وبحيرات ماحلة تبرز منها ما تركه البحر فيها قبل ماليني السنني.
40
العدد - 605أبريل 2009
«الزيتون� � ��ة» .يحدد الدليل عم � � � َر املدينة واملعصرة من ج� � ��ذع النخلة التي تعتليها ،وق� � ��د تآكلت ،مما يثبت أن عمره� � ��ا انته� � ��ى ،وإذا عرفنا أن خش� � ��ب النخل يعيش أربعة ق� � ��رون ،ألمكننا بالتقريب حتدي� � ��د عمر مدينة «الزيتونة» امللحية! من أين جاء ُك ُّل هذا امللح؟ ما أيس� � ��ر السبب! لقد
القمة العربية االقتصادية األولى في الكويت
كانت «واحة س� � ��يوة» مغط� � ��اة بأكمله� � ��ا بالبحر ،الذي انحس� � ��ر ليصبح ما علي� � ��ه اآلن البح ُر املتوس� � ��ط .لم يعش أح ٌد من تلك األزمان السحيقة ليخبرنا بقصص اختف� � ��اء البحر ،لك� � ��ن احلفريات الباقي� � ��ة للحيوانات البحري� � ��ة ،والصخور امللحية ،وتلك البحيرات املاحلة، تظل شاه ًدا على حضور البحر ،ومرور احمليط.
41
42
العدد - 605أبريل 2009
ينتشر ركوب الدراجات بني السياح بدرجة كبيرة، وفي ظل الشجر توجد مواقف للدراجات التي يستأجرها السائح للتجوال في الواحة بح ّرية، فوق الطرق الترابية وبني مزارع النخيل .فضال عن تنظيم رحالت السفاري بسيارات الدفع الرباعي.
في قل� � ��ب كل هذا امللح ،كانت هناك غرفة وحيدة حد كبير غ� � ��رف املقابر التي من احلجر ،تش� � ��به إلى ٍّ س� � ��نزورها الحقا .لع� � ��ل مدينة الزيتونة ش� � ��يدت فوق أطالل ٍ معبد قدمي! يس � � � ِّمي أهالي «واحة سيوة» تلك امل� � ��ادة امللحية املس� � ��تخدمة في البناء باس� � ��م طريف؛ «الكرش� � ��يف»! في القرن التاسع عشر ،يصف ال َّرحالة مينوتولي «واحة سيوة» فيقول إن أرضها منداة ،مبتلة، كثيرة املس� � ��تنقعات ،مغطاة ببحيرات امللح ،التي تنمو فوقها جزر صغيرة خصبة مثمرة».
...ومدينة من الطني!
من الزيتونة سنتجه إلى شالي ،في قلب «واحة س� � ��يوة» .وكلمة «شالي» باللغة السيوية تعني الوطن (البل� � ��دة ،املدينة) .ف� � ��ي نهاية القرن الثاني عش� � ��ر امليالدي شيدت قرية شالي لتكون حاجز دفاع أمام القبائل املعادية .هناك بنى الس� � ��كان قرية محصنة فوق هضبة عالية ترى املس� � ��احات حول الواحة من كل زاوية ،تبوح بيوت ش� � ��الي القدمية بسر العمارة الدفاعية؛ أس� � ��وار عالية ،أب� � ��راج مراقبة ،وطبقات من املنازل بعضها ف� � ��وق بعض ،وكأنه منزل وحيد، أو قلعة م َّو َّحدة ،وكلها من الطني ،امل ُ َع َّش� � ��ق واملُط َّعم باحلج� � ��ارة ،كما أنه� � ��ا خاوية منذ الع� � ��ام 1820م، وفرادته� � ��ا تدعو اليونس� � ��كو مرة أخرى لدراس� � ��تها متهي � � � ًدا لوضعها ضمن التراث اإلنس� � ��اني الواجب حفظ� � ��ه لألجيال القادم� � ��ة .فالبي� � ��وت «العصرية» تزح� � ��ف ببطء من� � ��ذ العام ،1985ولكن بشراس� � ��ة، لتلتهم العمارة الس� � ��يوية التقليدية ،ومنوذج ش� � ��الي هو األندر بني العم� � ��ارة الطينية ،مثلما يبرز منوذج الزيتونة مثاال للعمارة امللحية .فمن يتدخل ليُحافظ على ما بقي من تلك اآلثار؟ من أعالي ش� � ��الي ،تأتي� � ��ك الصح� � ��راء ،وبداية مشاهد بحر الرمال العظيم ،ومن قمة شالي تبصر الشوارع احمليطة في «واحة سيوة» .ميكنك أيضا أن تتأمل تقسيمات البيوت ،وبعضها له حظائر عنزات ودج� � ��اج في مقابل البيوت أو متاخمة لها .وكثي ٌر من الن� � ��اس ح � � � َّول الباحة أمام البيت إلى س� � ��وق لعرض بعض املش� � ��غوالت اليدوية ،مثل أزياء النسوة ،ودمى العرائس واإلبل. صعوبة تس� � ��لق ش� � ��الي كان أحد أس� � ��اليب الدفاع سيوة الواحة املقدسة
43
عنها ،ونواف� � ��ذ البيوت ضيقة ،ولها فتح� � ��ات ثالث تش� � ��كل مثلثا .حيث توج� � ��د نافذت� � ��ان تعلوهم� � ��ا ثالثة، تتي� � ��ح للقاطنني مراقب� � ��ة اخلارج، مع وج� � ��ود نار موقدة بش� � ��كل دائم (ف� � ��ي املاضي) ،وحراس ،وتس� � ��مح آبار املاء الستة داخل املدينة بعدم احلاجة إلى اخلروج. كان إنشاء «شالي» نقطة حتول في حياة أبناء سيوة ،وانتقالهم من مرحلة العيش في قرى متفرقة لها مركز «أكروبول» إلى العيش داخل أس� � ��وار «واحة س� � ��يوة» .وقد حدد بع� � ��ض الباحثني ذل� � ��ك النزوح إلى الداخل زمنيا ب� �ي��ن عامي 1100م، و1203م .كانت تلك مبادرة حللول الس� �ل��ام ،وتوقف هجم� � ��ات قبائل البدو العابرة للصحراء عن اإلغارة والسلب والنهب.
ٌ جبل للموتى
عل� � ��ى القم� � ��م بنى الس� � ��يويون بيوتهم ،لكنهم كذلك ش� � ��يدوا فيها مقاب� � ��ر ملوكه� � ��م .ومثلم� � ��ا أقاموا املنازل واح ًدا فوق اآلخر ،اختاروا من ذل� � ��ك اجلبل مكانا ليكدس� � ��وا املقابر واحدة فوق األخرى ،يحفرون جزءا ويش� � ��يدون جزءا آخر. ومما يؤس� � ��ف له ه� � ��و ذلك التخري� � ��ب الذي طال معظم املقاب� � ��ر في جبل املوتى ،والنهب والس� � ��لب من قب� � ��ل الرحالة الذين جاب� � ��وا الصح� � ��راء املصرية في القرنني الثامن عشر والتاسع عشر ،حتى أنهم يحكون في الواحة من (مس� � ��تر هاري) الذي أسس نزال قرب اجلبل ،واس� � ��تأجر عماال محلي� �ي��ن للتنقيب عن كنوز املقاب� � ��ر .إضاف� � ��ة ملا س� � ��بق ،فإن مما أس� � ��اء إلى هذه املقابر ،جلوء أهالي ش� � ��الي القدمية لالختباء باملقابر احلصينة بأس� � ��قفها احلجرية خشية قنابل الطائرات في احلربني العامليتني األولى والثانية ،ومنهم من جاء هار ًب� � ��ا من الغزو اإليطالي لليبيا ،وال تزال فروع بعض
44
العائالت ذوات جذور ليبية. لم نستطع التصوير داخل املقابر ،الصغيرة نسبيا عن تلك املوجودة في وادي امللوك ،ومن أش� � ��هر املقابر في جبل موتى تلك املسماة (سي آمون).
واحة وثالثة عيون
ف� � ��ي «واحة س� � ��يوة» عيون كثيرة ،تبل� � ��غ في بعض املص� � ��ادر واملرويات الثالثمائة ع� � ��د ًدا .لكن ضمن ما بقي ف� � ��ي الواحة الي� � ��وم ثالثة عيون ش� � ��هيرة؛ األولى ع� �ي��ن كليوباترا ،والثانية عني قريش� � ��ات ،والثالثة عني أبوشروف. املتفق بني العيون هو أن حولها مكان يستريح إليه الس� � ��ائح ،كمطعم أو مقهى ،غير أن الطحالب تختفي العدد - 605أبريل 2009
في املدينة امللحية ،غير املأهولة ،وعلى باب املدينة مسجد من امللح ،عرفناه بالرغم من أنه بال مئذنة ،لسبب يسير: قائما ،مدينة فريدة تستحق أن تضم إلى ال يزال احملراب ً قائمة تراث اإلنسانية الذي تسجله اليونسكو ،من أجل احلفاظ عليه لألجيال القادمة ،ألنها تضم ـ ُر مَّبا ـ أقدم عاصرة زيتون في مصر ،وهي التي وهبت املدينة اسمها؛ «الزيتونة»!
في العني الثالثة .س� � ��ألنا راعيها فق� � ��ال إنه ربى فيها أس� � ��ماك البلطي التي تنظ� � ��ف العني أوال بأول .حتوي الع� �ي��ن م� � ��اء كبريتية جعلت عيون األس� � ��ماك بها تبدو جاحظة! وتقع عني أبوشروف ش� � ��رق عني قريشات بنحو 7كيلومترات ،وهي قرب قرية باالسم نفسه ،انتقلت بأكملها إلى مكانها احلالي بعد أن ش� � ��يدت احلكومة وحدة صحية ومدرس� � ��ة ومنازل جدي� � ��دة .وقد زرنا أح� � ��د هذه البي� � ��وت التي أكمله� � ��ا صاحبها ،وأضاف سياجا من سعف النخيل، إليها مثل كثير من جيرانه، ً «حرمة» البيت وس� � ��اكنيه. كن� � ��وع من احلفاظ عل� � ��ى ُ القري� � ��ة الصغيرة التي ال يتجاوز عدد الس� � ��كان فيها ألف نس� � ��مة ،تصلها الكهرباء مبو ِّل ٍد للطاقة يش� � ��تغل سيوة الواحة املقدسة
من اخلامس� � ��ة عص ًرا حت� � ��ى الثانية صباحا بعد منتصف الليل. ً قصصا لك� � ��ن للعي� � ��ون املائي� � ��ة ً أخرى في «واحة سيوة». فمن أعلى كل قمة في الواحة، تس� � ��تطي ُع أن تلمح هنا وهناك ،في ٍ بيوت كثيرة ،عيونا مائية منزلية .إن حديث اجليولوجيني يؤكد أن «واحة س� � ��يوة» ترق� � ��د فوق بحر م� � ��ن املياه العذبة ،حيث يس� � ��تطيع كل ِ يوي» «س ّ أن يدق ماس� � ��ورة مياه على عمق 70 مت ًرا أو أكثر ،فإذا بها تتفجر باملياه العذبة .وهك� � ��ذا ميكن أن تنبع عني في كل بيت ،وبستان. قرب خزان مياه ضخم ،يش� � ��به �بحا تعوم فيه الطحالب ،وعلى مس� � � ً جدار مبن� � ��ى صغير ،كان� � ��ت هناك الفتة مزدحمة بالعبارات :محافظة مط� � ��روح ،مرك� � ��ز س� � ��يوة ،الوح� � ��دة احمللي� � ��ة لقري� � ��ة أغورم� � ��ي ،برنامج التنمي� � ��ة احمللي� � ��ة رق� � ��م ،2ووزارة التنمي� � ��ة والتعمير ،جهاز الس� � ��احل الش� � ��مالي وس� � ��يوة ،قط� � ��اع التنمية والتعمير مبطروح ،ومنظمة األغذية والزراع� � ��ة لألمم املتحدة :مش� � ��روع خف� � ��ض منس� � ��وب املي� � ��اه اجلوفية واس� � ��تغالل مياه الصرف للزراعة! كانت الفتة ال يتجاوز طوله� � ��ا نصف املتر ،وعرضها املت� � ��ر ،بالرغم من وجود 38كلم� � ��ة بها .يقول الدليل شارحا: ً «حني مت حفر عني لل� � ��ري حتت جبل الدكرور، فاض� � ��ت مياهها الس� � ��اخنة ،بش� � ��كل الف� � ��ت ،وفي الوقت نفس� � ��ه ،يعلو منس� � ��وب املي� � ��اه املاحلة ،مما دعا املسئولني ،املش� � ��ار إليهم في الالفتة السابقة، إل� � ��ى التفكير بس� � ��حب املياه ،العذب� � ��ة واملاحلة ،من هن� � ��ا وهناك ،إلى خزان موح� � ��د ،يجمعهما م ًعا ،ثم يوزعها للري» .حتت املاسورتني ،اللتني تضخان ماء بار ًدا وساخنا ،وتصبان في حوض مربع أخذ طفل يقفز إلى املاء ،ويس� � ��تمتع بحمام ساخن بارد في آن واحد!
45
انسحب البحر قبل ماليني السنني ،وغاب عن جغرافيا «واحة سيوة» ،لكن آثاره باقية شاهدة على حضوره السرمدي ،وفي َ بداية بحر ال ِّرمال العظيم تبدو آثار احلجر الكلسي الذي بقي من قاع البحر .ومن آثاره بحيرات امللح التي عبرنا قلبها في طريق أسفلتي طوله 12كيلومتر!
ه� � ��ذه الوفرة املائية أهلت س� � ��يوة الحتضان أربعة مصانع لتعبئة مياه العيون ،أحدها تديره شركة وطنية تتبع القوات املسلحة املصرية. من بني األخطاء التاريخية الشائعة واملدونة قرب «البعض» ه� � ��ذا معبد الوحي -التس� � ��مية التي أطلقها ُ عل� � ��ى «ع� �ي��ن الش� � ��مس» -إذ توجد الفت� � ��ة بأنها عني كليوبات� � ��را! والذي منح االس� � ��م التاريخ� � ��ي للواحة هو هي� � ��رودوت ،الذي قال «إن النيل هب� � ��ة ملصر ،والعيون هبة لآلمونيني». �ألت الباحث عبد العزي� � ��ز عبد الرحمن وق� � ��د س� � � ُ الدميري ،مدير آثار سيوة ،ومدير مخزن أحمد فخري املتحفي ،عن سر تلك التسمية اخلطأ ،فأجابني: «ومثل هذه التسمية ،اسم آخر ،هو عني احلمام، كما ورد في مخطوطات دفاتر امللكية بسيوة ملدة تزيد ع� � ��ن مائتي عام ،ألن الع� � ��روس في املاضي كانت تأتي لتغتس� � ��ل مبياهه� � ��ا ،ومياهها ذات تدفق ق� � ��وي ،ونقاء وصفاء ،دافئة ش� � ��تاء ،وباردة صيفا ،حتى مع اشتداد درج� � ��ة احل� � ��رارة ،وتس� � ��ميتها بعني كليوباترا تس� � ��مية س� � ��ياحية ال أكثر وال أق� � ��ل من قبل اله� � ��واة ،حيث لم يثب� � ��ت أن كليوباترا أتت للواحة ،ورمبا س � � � ِّم َي ْت كذلك
46
مضاه� � ��اة بحمام كليوبات� � ��را الذي يقع غ� � ��رب مدينة مرسى مطروح».
نساء وتقاليد
ليس� � ��ت العمارة وحدها هي الفري� � ��دة في «واحة سيوة» ،بل العادات والتقاليد ،املروية واملدونة ،الباقية والزائلة ،على حد سواء .فعزلة «واحة سيوة» في قلب مثل� � ��ث رءوس زواياه عواصم مصر وليبيا والس� � ��ودان، جعل من ه� � ��ذا النَّأي فضال ف� � ��ي تفردها .وهو األمر الذي س� � � َّ�جله أبو املصريات األثري أحمد فخري ،بعد سنوات قضاها بني أبناء «واحة سيوة». ال تزال النس� � ��وة غير حاسرات وال كاشفات ،فما أن تخ� � ��رج الواحدة منهن حتى تغط� � ��ي وجهها متا ًما. ستعرف أنها متزوجة حني يكون غطاء الرأس والوجه أس� � ��ود! وهي تلب� � ��س امل� �ل��اءة املطرزة بالل� � ��ون األزرق ح� �ي��ن تخرج للمهن التي اصطفاه� � ��ا املجتمع لها ،مثل مناسبات الزواج ،والعزاء. اليوم تخرج الفتيات للس� � ��وق في «واحة س� � ��يوة»، مثلما تخر ُج إلى العمل في بعض احلرف ،مثل مصانع التمور ،التي زرنا أحدها ،وكان أغلب العاملني التسعني العدد - 605أبريل 2009
قدما ،ويقال إن بها 300عني ماء ،وربع مليون شجرة نخيل .ومما يروى في تقع «واحة سيوة» أسفل سطح البحر بنحو ً 65 زرع في «واحة سيوة» أيضا الزيتون والتني وي ُ األساطير عن خصب أراضيها أن شجرة برتقال واحدة أثمرت 14ألف برتقالة! ُ والرمان والعنب والشمام .في كل منزل فرصة أن تنبع عني تفيض مياها عذبة! واملشمش ُّ
فيه م� � ��ن البنات .في ي� � ��وم زفافها ،ترت� � ��دي العروس ٍ طبقات من الثياب .ميثل ال ّرقم سبعة السيوية س� � ��بع فأال حس � � �نًا ،وهذه األثواب الس� � ��بعة تس� � ��مح للعروس بأن ترتدي كل يوم من أيام أول أس� � ��بوع لزواجها ثو ًبا مختلفا .ويكون الثوب األقرب للجس� � ��د ش� � ��ا ًّفا أبيض اللون ،أما الثاني فيكون خفيفا قماشه أحمر ،والثالث أسود ،وال َّرابع أصفر ،واخلامس أزرق ،والسادس من احلرير األحمر ،واألخير من احلرير األخضر! تس� � ��تعد العروس الحق� � ��ا الرتداء ث� � ��وب الزفاف األسود التقليدي ،املطرز بكثافة ،بتصميمات هندسية ملونة حول العنق ،وكثي� � ��ر من األزرار واألصداف ،مع رسم عيون شمسية دقيقة لطرد عيون الشر .البعض يرى في تلك األزرار بقايا من صورة أش� � ��عة الشمس، رم� � ��ز اإلله آتون .فيم� � ��ا يصورها اآلخ� � ��رون على أنها مرايا سحرية ،ويُ ْعتَق ُد أنها جتلب الطاقة من الشمس لتمنحها ملن يتجمل بها. ترتدي نساء سيوة قالئد فضية عريضة مزخرفة برسوم الشمس والتمر والنخل واألسماك .أما َّ الش ْعر فتزين� � ��ه قطعة من الفضة لها ش� � ��ك ُل اله� �ل��ال ،ثقيلة الوزن ،يغطيها ش� � ��ال حريري له شرائط ملونة ،تتدلى سيوة الواحة املقدسة
منه أطراف من الصوف املتعدد األلوان. هذا الزي األس� � ��ود يكون للف� � ��رح ،أما زي احلزن الذي يرتدى في مناسبات العزاء فيكون أبيض .وحني تخ� � ��رج املرأة وحده� � ��ا أو بصحبة ابنته� � ��ا ،ال يبني من الوجوه شيء. اقتربنا من طفلة ال يتجاوز عم ُرها العامني ،ورفعنا عدسة التصوير نحوها ،لكنها أسرعت بتغطية وجهها كفت� � ��اة كبيرة أو امرأة ناضجة .صبية أخرى تكاد تبلغ أعوامها الثالثة أعلنت رفضها التصوير باإلجنليزية. وكأنهن ينش� � ��أن على ٍ ٍ وحيد :ال لكش� � ��ف الوجه، منط ونعم الحترام التقاليد احلازمة.
على خطا اإلسكندر األكبر
كان الفتى اإلسكندر قد ورث أمرين ،إمبراطورية أبي� � ��ه ،وحلم� � ��ه اخل� � ��اص مبعرفة من قت� � ��ل ذلك األب احملارب فيلي� � ��ب ملك مقدونيا .وفي س� � ��نة 334قبل امليالد ترك اإلسكندر (أنتيباتر) خلفه حلكم اليونان، وانطلق ليكمل مسيرة أبيه الفاحت ،على رأس أسطول من 30ألف فارس ،وأس� � ��طول بحري من مائة وستني سفينة .وقد كانت موقعة إيسوس (في تركيا احلالية)
47
طبقات في يوم زفافها ،ترتدي العروس السيوية سبع ٍ من الثياب .ميثل ال ّرقم سبعة فأال حسنًا ،وهذه األثواب السبعة تسمح للعروس بأن ترتدي كل يوم من أيام أول أسبوع لزواجها ثو ًبا مختلفا .ويكون الثوب األقرب للجسد ًّ شافا أبيض اللون ،أما الثاني فيكون خفيفا قماشه أحمر، والرابع أصفر ،واخلامس أزرق ،والسادس من والثالث أسودَّ ، احلرير األحمر ،واألخير من احلرير األخضر! ويحتفظ متحف البيت السيوي بنماذج من هذه الثياب واحللي وأدوات بيتية انقرض استخدامها. الصورة لسيدة متزوجة ال يبني منها شيء
48
العدد - 605أبريل 2009
تستعد العروس الحقا الرتداء ثوب الزفاف األسود التقليدي ،املطرز بكثافة ،بتصميمات هندسية ملونة حول العنق ،وكثير الش ْعر فتزينه قطعة من الفضة لها ُ من األزرار واألصداف ،مع رسم عيون شمسية دقيقة لطرد عيون الشر .أما َّ شكل الهالل، ثقيلة الوزن ،يغطيها شال حريري له شرائط ملونة ،تتدلى منه أطراف من الصوف املتعدد األلوان.
سيوة الواحة املقدسة
49
رسمان من كتاب األثري الكبير أحمد فخري ،تضمنهما كتابه الذي نشر توثيقا عاما ،وهما ميثالن نقوش جدران لرحالته الكشفية إلى سيوة التي بدأت قبل ً 57 املقابر الفرعونية في جبل املوتى.
50
العدد - 605أبريل 2009
سنة 333ق.م ،وانتصار اإلسكندر على امللك الفارسي داري� � ��ا ،ودانت مدن الفينيقيني بالوالء للقائد اجلديد، إال مدينة صور (في لبنان) التي حوصرت 7أش� � ��هر، ومدينة غزة (في فلس� � ��طني) التي كانت آخر محطاته قبل دخول مصر ب ًّرا. أظه� � ��ر اإلس� � ��كندر املقدون� � ��ي احترام� � ��ه للديانة املصري� � ��ة ،بل وأق� � ��ام احتفاال أوليمبي� � ��ا مزج فيه على الطريقة اإلغريقية الرياضة بالدين والفن! ح� �ي��ن كان اإلس� � ��كندر املقدوني ي� � ��درس وهو في الثالثة عش� � ��رة مبدرس� � ��ة أرس� � ��طو ،كانت هناك أنباء مثيرة عن كهن� � ��ة آمون ،وقدرتهم على قراءة التنبؤات. وم� � ��ن هنا كان الفتى يبحث ع� � ��ن نبوءة خاصة :معرفة من قتل والده ،وماذا سيكون مستقبل إمبراطوريته؟ ومثلم� � ��ا اجتهنا م� � ��ع الفرع الغربي للنيل ش� � ��ماال، ف� � ��ي بداية رحلتنا ،ت� � ��رك اإلس� � ��كندر املقدوني مدينة
منف ،واجته ش� � ��ماال مبحازاة الني� � ��ل حتى وصل إلى البحر ،ومبواجهة جزيرة فاروس قرر تأس� � ��يس مدينة اإلس� � ��كندرية .ولم تتوافر كمية كافية من مادة اجلير ال� �ل��ازم لتخطي� � ��ط املدين� � ��ة العمالقة التي س� � ��تصبح عاصمة جديدة ،فاس� � ��تخدم املهندس� � ��ون الدقيق (أو القمح) املعد ملئونة اجلنود! ومثلما تركنا اإلس� � ��كندرية إلى مرس� � ��ى مطروح، اجته اإلس� � ��كندر املقدوني إلى هناك قبل 2340سنة بالتم� � ��ام والكم� � ��ال .وقد هب� � ��ت في رحلة اإلس� � ��كندر املقدون� � ��ي جنوبا إل� � ��ى «واحة س� � ��يوة» عاصفة رملية، وازاها ما لقيناه في منتصف الطريق حيث يتم ترميم الطريق اإلس� � ��فلتية ،وتكاد الرؤية تنعدم بسبب الغبار املتطاير من أعمال اإلنشاء .وحني نفد ماء اإلسكندر املقدوني أمطرت السماء فمأل اجلنود قربهم املائية. يقول الباحث محمد حسن «إن اإلسكندر املقدوني لم
سياح يزورون جبل املوتى ،وحتت أقدامهم مقابر منهوبة، وأخرى محروسة ،بنيت املقابر باحلفر في اجلبل الذي يطل على الواحة بأكملها.
سيوة الواحة املقدسة
51
حني كان اإلسكندر املقدوني يدرس وهو في سن الثالثة عشرة مبدرسة أرسطو ،كانت هناك أنباء مثيرة عن كهنة آمون، القاطنني في واحة سيوة ،وقدرتهم على قراءة التنبؤات .ومن هنا كان الفتى يبحث عن نبوءة خاصة :معرفة من قتل والده ،وماذا سيكون مستقبل إمبراطوريته؟ ترك اإلسكندر املقدوني مدينة منف ،واجته شماال مبحازاة النيل حتى وصل إلى البحر ،ومبواجهة جزيرة فاروس قرر تأسيس مدينة اإلسكندرية .ومثلما تركنا اإلسكندرية إلى مرسى مطروح ،اجته متوجا اإلسكندر املقدوني إلى هناك قبل 2340سنة بالتمام والكمال .حيث مت تتويجه في معبد الوحي ،والصور لإلسكندر ً ولعملتني من زمانه ،ولبقايا معبد الوحي أو التنبؤات في سيوة ،الذي بني في عصر أمازيس (األسرة السادسة والعشرون)، وقد بنى األهالي فوق أجزاء منه بيوتهم! وهو يقع شرق سيوة بنحو 3كلم ،على صخرة تسمى أجورمي.
ِ يأت بجيش وإمنا بفرقة من األدالء قوامها عش� � ��رون فقط» .وحني ضللنا الطريق إلى املنتجع الذي نقصده على شفا بحر ال ّرمال قرب جبال التكرور ،سألنا أهل سيوة ،أما حني ضل اإلسكندر املقدوني الطريق ،فإن آمون أرس� � ��ل له وجلمع� � ��ه غرابني داله� � ��م على معبد الوحي.
أمام معبد الوحي
وصلن� � ��ا إلى بوابة معبد الوح� � ��ي ،أو مركز املدينة عص� � ��ر عبادة اإلله آمون .من فوق الهضبة التي ترتفع ثالثني مت ًرا ،حيث أقيم املعبد على هيئة حدوة حصان، كنا نس� � ��تطيع أن نش� � ��اهد احلزام األخض� � ��ر العريض �ياجا لذلك الرك� � ��ن الديني .كانت قرى الذي ميثل س� � � ً واحة آمون املتناثرات ،لها مركز واحد هو األكروبول، معبد الوحي ،حيث نق� � ��ف اآلن ،وكانت حتيط به ،في تراتبي� � ��ة تعكس الطبقات ب� �ي��ن احلاكم واحملكوم ،فقد
52
أحيط األكروبول بثالثة أقس� � ��ام ،أو أس� � ��وار ،يس� � ��كن األول احل� � ��كام ،ويعيش في الثاني النس� � ��اء واألطفال واألقارب واحلرس ،بينما يؤ ِّمن القسم الثالث اجلنود ومنازل احلرس .وعلى مس� � ��افة صغيرة من األكروبول كان هناك معب ٌد ثان آلمون ،قرب ما كان يس� � ��مى بعني الشمس. ومما يدل على اس� � ��تقالل «واحة سيوة» أو «واحة آمون» كما كانت تُسمى ،وحصولها على نوع من «احلكم الذاتي قبل أكثر من 22قر ًنا ،هو تصوير حاكم س� � ��يوة بصفة ودرجة موازية مع الفرعون أحمس الثاني ،في مخالف� � ��ة للقاعدة املتبعة في التصوي� � ��ر املعتاد حلكام األقالي� � ��م في مصر ،وباق� � ��ي الواح� � ��ات األخرى ،بأن يكون تصوير حاكم اإلقلي� � ��م أو الواحة ،مثل الواحات البحرية ،خلف الفرعون. كنا نكا ُد نسمع أغنية املصري القدمي التي ترجمها س� � ��ليم حس� � ��ن( :يا آمون .أنت يا ُمخرج القطعان في العدد - 605أبريل 2009
تنتشر في «واحة سيوة» مصانع التمور ،ومعظم العاملني التسعني في أحدها من الفتيات ،وينتج هذا املصنع نوعني من ويدعى غزالي ،وألذها التمور؛ الصعيدي والفريحي .ومن أشهر التمور في «واحة سيوة» األبيض واسمه الكواك ،واألحمر ُ أيد عاملة أكثر مما يوفرها العرض احمللي، جميعا وأرقها في اآلن نفسه الثيوه! ناد ًرا ما تسمع عن مكان في مصر يحتاج إلى ٍ ً هذه هي سيوة ،واحة بال بطالة ،وفي كثير من املهن يعمل قاهريون وسكندريون وسكان من جنوب مصر .ومن املهن التي تستخدم منتجات النخيل ما يستخدم في الزينة أو األغراض اليومية.
54
العدد - 605أبريل 2009
ِ ومرشد املُتَألم إلى املرعى .وكما يقود ال َّرعي الصباح. َّ إل� � ��ى املرعى فأنت كذلك تفعل .ي� � ��ا آمون .خذ بزمام املُتألم إل� � ��ى الطعام .ألن «آم� � ��ون رع» يرعى من يتكل عليه .يا «آم� � ��ون رع» إني أحبك وقد مألت قلبي بك. وستنجيني من أفواه الناس في اليوم الذي يفترون فيه عل� � � َّ�ي الكذب .ألن رب احلق يعيش في احلق .وإني لن أستس� � ��لم للخوف الذي في قلبي .ألن ما قاله «آمون» يعلو ويزدهر).
في مديح العزلة
في اللحظات التي كان اجلنون يصيب نهر النيل، بفيض� � ��ان ُم َد ِّمر ،لم يك� � ��ن هناك من ملجأ لس� � ��اكني الوادي س� � ��وى اله� � ��روب إلى الواحات .انتش� � ��رت تلك الواح� � ��ات صغيرها وكبيرها ف� � ��ي الصحراء املصرية من الش� � ��مال إلى اجلنوب .من هنا ،ومع الثورات غير املنقطعة للنهر اخلالد ،أصب� � ��ح دور الواحات هو بناء املجتمع� � ��ات .ومنذ عصور ما قب� � ��ل التاريخ ،اجتذبت الواحات هؤالء الهاربني بحياتهم من غضب الطبيعة، مثلما اس� � ��تقبلت -كذلك -الالجئني إليها حلمايتهم سيوة الواحة املقدسة
من غضب البش� � ��ر ،حني أصبحت الواحات مأمنًا ملن ضاق باإلره� � ��اب الديني والس� � ��لطوي .هكذا امتألت الواحات بخب� � ��رات متنوعة ،وفره� � ��ا القادمون إليها، فمنهم الفنانون ،واحلرفي� � ��ون ،واملعلمون ،واملزارعون، نوعا ما منفى سياس� � ��يا وس� � ��واهم .وأصبحت الواحة ً بعي ًدا عن الس� � ��لطة احلاكمة ف� � ��ي وادي النيل ،دون أن يعني ذلك أن تكون بال فنون وآداب. لكن الواحات الت� � ��ي كانت منعزال ،أصبحت نقطة منوذجا فري ًدا جذب .هذه هي «واحة سيوة» مثاال ،تعد ً في أنه� � ��ا البقعة الوحيدة في مص� � ��ر التي حتتاج إلى عمالة ،وتختفي فيها البطالة! لذلك ستجد في قطاع كالس� � ��ياحة ومجال كالتعليم كثيرين من الوافدين على الواحة املقيمني فيها .حتى أن املس� � ��تثمرين األجانب وج� � ��دوا طريقا ذهبيا في أراض تب� � ��اع الفدادين فيها مبئات اجلنيهات فقط. الواح� � ��ة الت� � ��ي كانت تغن� � ��ي عزلته� � ��ا ،وميتدحها األثريون ،بدأت تغير طباعها لتالئم الوافدين اجلدد، وبدأ التراث يتحول من ع� � ��ادات وتقاليد إلى فلكلور. صحي� � ��ح أن األمر في أوله ،ولكن ال ننس� � ��ى أن عجلة
55
الزمن كفيلة بأن تس� � ��يء إل� � ��ى تلك اخلصوصية مثلما أساءت إلى بقاع سواها. َروى لن� � ��ا أح� � ��د الس� � ��يويني قصة طريف� � ��ة وقعت وص� � ��ل «واحة س� � ��يوة» بطريق مط� � ��روح احلالي، قبل ْ ف� � ��ي أوائل ثمانينيات القرن املاض� � ��ي .كان ال َّراوي قد جنح في املرحل� � ��ة االبتدائية ،ويس� � ��تعد لالنتقال إلى املرحلة اإلعدادية ،وأن يترك ارتداء «مريلة» املدرسة «قميص� � ��ا وس� � ��رواال» خاصني االبتدائي� � ��ة ،ليرت� � ��دي ً باملرحلة التعليمية التالية ،ولكن «واحة سيوة» لم يكن بها من يبيع الزي املدرسي اإلعدادي ،وكان أن انطلق مع صحبه ،وسائق ،إلى مطروح .كان الليل يأتي فينام اجلميع في الس� � ��يارة ،على رب� � ��وة عالية ،وعند الفجر يبدأ التحرك ،وقد اكتش� � ��ف السائق أكثر من مرة أنه
56
يخطئ االجت� � ��اه ،ويعود مرة أخرى من حيث أتى ،مما زي مدرسي جعل ال َّركب يستغرق في رحلة البحث عن ٍّ ثالثة أيام. لكن الراوي ميتدح تلك العزلة التي منحت «واحة سيوة» خصوصيتها ،في العمارة حينا ،والتقاليد حينا، واللسان أو اللغة حينا آخر. اللغة السيوية حتتا ُج إلى معجم وممارسة لفهمها، وإذا كانت رحلة التجارة قد جعلت من «واحة س� � ��يوة» مركزًا لعب� � ��ور البربر ولغتهم األمازيغي� � ��ة ،في املغرب واجلزائ� � ��ر وليبيا ،فإن هناك تأثي� � ��رات أخرى أجنبت م ًع� � ��ا لغة ش� � ��فهية غير مدونة ألهالي «واحة س� � ��يوة». تقول أغنية سيوية: اس يا عيني الجلسياما أتادم توحل تخلض َ« َم ْ العدد - 605أبريل 2009
كان ش� � ��ك منح� � ��اق أن� � ��وكان ال طاوع� � ��ه دأقيماط ددي» ومعناها: لعيني :ال ِ تبك يا ما أناس غيرك أحبت « ُقل َّ بعدت قد كنت ما حقا عاشقي حبيبي، يا أنك فلو َ عني». في مكان ما ،قد تستمع للسيوي يحدثك بالعامية التي تفهمها ،ثم يحدث جاره باللهجة الس� � ��يوية ،ومي ُّر أجنبي فيخاطبه بلغته ،وهو يتنقل بني اللغات بيس� � ��ر، جرس� � ��ا عربيا مثل س� � ��حابة تعبر الواحة .قد تس� � ��م ُع ً للكلم� � ��ات ،لكن ذلك للهجة قائله� � ��ا .ومن الطريف أن من َّر ببعض املفردات. وم� � ��ن قام� � ��وس الس� � ��يوية :أمان (م� � ��اء) ،آخصوم
العربة التي يجرها احلمار هي سيارة األجرة، أو السيارة اخلاصة، والشعبية في «واحة سيوة» .تختلف في األحجام واألشكال ،ولكن تبقى مهمتها واحدة. وهي حتمل ركا ًبا ،من أسرة واحدة على األغلب، ويحرص بعض السياح على التجوال بها .واسمها السيوي «كاروسه»!
سيوة الواحة املقدسة
57
58
العدد - 605أبريل 2009
الباحث عبد العزيز الدميري املسئول عن مخزن أحمد فخري املتحفي ،التابع للمجلس األعلى لآلثار بوزارة الثقافة املصرية ،حيث توضع اللقى األثرية حتى يتم عرضها ,يقول إن أصل سكان الصحراء الغربية -حيث تقع واحة سيوة -هما عنصران من العناصر التي تهاجم مصر من الغرب ،عرفا في األدبيات التاريخية بالتحنو والتمحو ،كما جاء في نقش يرجع لعصر امللك العقرب ،في عصر ما قبل األسرات .وخالل عصر األسرة الثامنة عشرة ذكر اسم التحنو ضمن الشعوب التسعة التي نقشت أسماؤها على قاعدة عرش امللك أمنحتب الثاني ،ثم عرفت عدة أسماء للشعوب الساكنة في سيوة وحلوها ،منها :التحنو ،التمحو، الليبو ،الريبو ،األمونيوم ،املازاكس ،لواتة .وفي العصور املتأخرة ،أشار ابن خلدون إلى قبيلة زناتة ،التي تسكن مناطق في شمال إفريقيا وحتكي البربرية ،وهي قد تكون قبيلة ظناين احلالية بسيوة ،ويذكر مخطوط سيوة أن هناك 40رجال بنوا شالي -سيوة القدمية وقد قسم هؤالء أنفسهم بعد التناسل والتكاثر إلىقبائل عدة ،ومما يرد لدى هيرودوت :يتكلم أهالي واحة آمون بلسان بعضه مصري ،والبعض اآلخر أتيوبي! الصورة للباحث ،واملخزن املتحفي ،وواجهة من معبد آمون بأم عبيدة ،الذي يعود تاريخه إلى األسرة الثالثني ،وبانيه نختابو الثاني ،وجداره الباقي الوحيد يحمل نقوشا لبعض الطقوس الدينية.
سيوة الواحة املقدسة
59
متحف البيت السيوي
ماسورتان ملاء عذب ومياه ماحلة، في مشروع ري جديد ،وفرصة لالستحمام أيض ًا!
60
العدد - 605أبريل 2009
أطفال من سيوة يتصفحون هدية ملجلة (العربي الصغير) ،أمام بيتهم املسيج باخلوص ،وشاب يشرب من (الزير) آنية تصفية املياه ،التي تستخدم لترشيح املياه واحلفاظ عليها باردة .صورتان للحياة اليومية الهادئة في تلك الواحة النائية.
(حلم) ،آجنب (بيت) ،آخوبي (صبي) ،نيتا (هو) ،آزمور (زيت� � ��ون) ،تيني (متر) ،جافالخ (اذهب) ،هيد (يأتي)، ماشي (نعم) ،أوال (ال) ،فِ ْل (يذهب) ،شيخ (أنت)!
ونختتم بالشنة والرنة!
فكثي ًرا ما نس� � ��مع متجي ًدا لش� � ��خص أنه له ش� � ��نة ورنة .وفي س� � ��يوة ت� � ��درك املعنى ،فالش� � ��نة هي غطاء رأس يرتدي� � ��ه ذوو املكانة ،والرنة ص� � ��وت عصاه يدق بقوة تعبي ًرا عن سلطته ونفوذه. يقترب وأنت تكاد تس� � ��مع لكل رجل في كان الليل ُ «واحة سيوة» ش� � ��نة ورنة .فمالمح الوجوه حتكي أكثر مما يبوح به التاريخ ،ومسامع اللهجة تروي أفضل مما تفس� � ��ره الوثائق .وهي تقول إن الواحة كانت أكثر من مج� � ��رد طريق ،وأفضل م� � ��ن أن تكون معب ًرا ،وأهم من أن تك� � ��ون مقص ًدا فق� � ��ط .وإذا كانت في األمس واحة مقدس� � ��ة بفضل ما كان يُر َوى عن كهن� � ��ة آمون ،فإنها اليوم أكثر قدس� � ��ية بفضل العم� � ��ل الدءوب الذي يقوم على قدم وساق ،ملس� � ��تقبل جديد ،تتحول فيه نبوءات األساطير ،إلى حقائق احلياة > سيوة الواحة املقدسة
61