فصل المقال للدكتور سيد القمني

Page 1

‫فصل المقال فيما بين القانون والشريعة من انفصال‬ ‫سيد القمني‬ ‫‪elqemany@yahoo.com‬‬ ‫‪2013 / 5 / 18‬‬

‫في حال البحث في التاريخ السلمي عن أسلوب تطبيق العدل الشرعي زمن النبي‬ ‫والراشدين‪ ،‬بحسبانه الزمن النموذج لتطبيق الشريعة‪ ،‬نكتشف مفاجآت تند عن الحصر‪،‬‬ ‫سنضرب منها هنا مجرد أمثلة سريعة ل تشكل واحاًدا بالمائة من مجموع تلك المفاجآت؛‬ ‫لنضعها أمام من يريدون إقصاء القانون المدني وتبخيسه‪ ،‬بكونه وضع‪،‬اّيا‪ ،‬واستبداله‬ ‫بالشريعة السلمية ضمااًنا للعدل‪ ،‬مع تساؤلت سريعة في إشارات تنبيهية‪ ،‬تترتب‬ ‫بالضرورة على نماذج تطبيق العدل السلمي في زمنه‬

‫القدسي‪.‬‬

‫في رواية حدثت سنة ثمان للهجرة‪ ،‬ل يخلو من ذكرها مصدر إسلمي‪ ،‬سواء كان سيرة أو‬ ‫خا أو حدياًثا‪ ،‬تفصح عن طبيعة الحكام وطريقة تطبيقها لتحقيق العدل السماوي‪ ،‬تقول‬ ‫تاري اً‬ ‫الرواية‪" :‬كان مولد إبراهيم عليه السلم ‪-‬ابن رسول ا من السيدة مارية القبطية‪ -‬في ذي‬ ‫الحجة سنة ثمان للهجرة‪ ،"...‬وروى الواقدي بإسناده قال‪" :‬كان الخصي الذي بعث به‬ ‫المقوقس )اسمه مابور( مع مارية يدخل عليها ويحدثها‪ ،‬فتكلم بعض المنافقين في ذلك‪،‬‬ ‫وقالوا‪ :‬إنه غير مجبوب وإنه يقع عليها‪ .‬فبعث الرسول علي بن أبي طالب أن قُيقرره وينظر‬ ‫فيم قيل فيه‪ ،‬فإذا كان ح‪،‬اّقا قتله‪ ،‬فطلبه علي فوجده فوق نخلة‪ ،‬فلما رأى عل‪،‬اّيا يؤمه أحس‬ ‫بالشر‪ ،‬فألقى إزاره فإذا هو مجبوب ممسوح"‪ ،‬وهو ما يعني أن عل‪،‬اّيا لو وجد له أعضاء‬ ‫تناسلية سليمة لقتله تنفياًذا للمر النبوي‪ ،‬لمجرد الظن‪ ،‬واستجابة لشائعة ومكيدة‪ ،‬ودون‬ ‫أربعة شهود عدول عالمين بالشريعة‪ ،‬ودون التيقن من دخول المرود في المكحلة‪ ،‬القتل‬ ‫هنا بالمر المباشر؛ بسبب شبهة غير مؤكدة‪ .‬فهل مثل هذه العدالة هو ما يعرضه علينا‬ ‫طلب الشريعة‬ ‫قُ‬

‫اليوم؟‪.‬‬

‫ما ل يعلم بقصة إرسال النبي خالد بن الوليد لتحصيل الزكاة من القبيلة‬ ‫ول تجد مسل اً‬


‫المسلمة المعروفة ببني جذيمة‪ ،‬لكن خالاًدا وجدها فرصة ونهزة للنتقام من بني جذيمة‪،‬‬ ‫الذين سبق وعدوا على عمه‪ ،‬الفاكهة بن المغيرة‪ ،‬زمن الجاهلية فقتلوه‪ ،‬ولما وصل خالد‬ ‫مضاربهم سمع وجيوشه صوت الذان بمساجدهم‪ ،‬ودخل عليهم وهم يتهيأون لقامة‬ ‫الفجر‪ ،‬فأمرهم بالستئسار وربطهم مكتفين في حبل طويل‪ ،‬وقدمهم إلى الذبح على‬ ‫التتابع‪ ،‬رغم إقرارهم بالزكاة وجمعهم لها لتأديتها‪ ،‬وتمكن بعضهم من الفرار من المجزرة‬ ‫هاربين إلى النبي يخبرونه ما فعل خالد‪ ،‬فغضب النبي غضاًبا شدياًدا حتى رؤي لوجهه ظلل‪،‬‬ ‫ورفع يديه إلى السماء حتى ظهر بياض إبطيه مناداًيا ربه‪" :‬اللهم إني أبرأ إليك مما صنع‬ ‫خالد"‪ ،‬قالها‬

‫ثلاًثا‪.‬‬

‫هذا ما فعله النبي مع كل الغضب بسبب مجزرة خالد في بني جذيمة‪ ،‬نادى ربه ليشهده‬ ‫أنه بريء مما فعل خالد‪ ،‬فل أمر به ول علم‪ ،‬وأنه برئ من دمهم!! ولم يصدر بشأن خالد‬ ‫أي عقوبة لقتله هذا العدد من المسلمين ثأاًرا لكافر مات في الجاهلية‪ ،‬رغم أن المجزرة‬ ‫قد تمت عن نية قُمبيتة وعن سابق إصرار‬

‫صد‪.‬‬ ‫وتر قُ‬

‫الكارثة أن تجد بعض المتفيقهين يحاول تبرئة خالد بقولهم إن بني جذيمة كانوا مرتدين أو‬ ‫إن بعضهم ارتد‪ ،‬فلم يكفهم ما لحق الجذاميين من إبادة جماعية‪ ،‬بل يتم تكفيرهم لتبرئة‬ ‫مخزي الذي يرد عليه تصرف‬ ‫مدلل في تاريخنا خالد بن الوليد‪ ،‬وهو الموقف ال قُ‬ ‫القائد ال قُ‬ ‫النبي نفسه؛ إذ أمر بدفع الديات لمن بقي من الجذاميين‪ ،‬وما كان للنبي أن يدفع دية لغير‬ ‫جا سنن النسائي‬ ‫مسلم أو لكافر مقتول بيد مسلم )انظر نموذ اً‬ ‫فروق الزمن وأساليبه لنسأل هل سيطبقون علينا هكذا‬

‫‪/8‬‬

‫‪ ،(237‬مرة أخرى ترعبنا‬

‫عدالة؟‪.‬‬

‫وخالد هو النموذج للرعب وارتكاب ما هو جرائم تامة المواصفات ضد النسانية‪ ،‬وإشفااًقا‬ ‫على أجدادي وجداتي البعيدين‪ ،‬أحمد ا أن قائد فتوح مصر لم يكن ابن الوليد‪ ،‬والوليد‬ ‫أبوه الذي عسى في الكفر والتجبر حتى خصص له القرآن آيات تخصه بالغضب اللهي‪،‬‬ ‫مقُدواًدا«‪ ،‬و"الوحيد" كان‬ ‫ت مَلقُه مَمال اً مَم ُدْ‬ ‫عُدْل قُ‬ ‫ج مَ‬ ‫حياًدا مَو مَ‬ ‫ت مَو ديِ‬ ‫خمَلُدْق قُ‬ ‫ن مَ‬ ‫ومصيره في الحطمة‪» :‬مَذُدْرديِني مَومَم ُدْ‬ ‫لقب الوليد المتجبر في الجاهلية‪ ،‬ومن بعده تجبر وليده خالد في السلم على المسلمين‬


‫وغير‬

‫المسلمين‪..‬‬

‫ففي خلفة أبي بكر أرسله الخليفة لجباية الزكاة من بني يربوع‪ ،‬وكانوا من المسلمين‬ ‫خ ‪،‬صّلص‪ ،‬وكان سيدهم‪ ،‬مالك بن نويرة‪ ،‬قد أصبح صحيح السلم وصحاب‪،‬اّيا جليل القدر‪ ،‬وما‬ ‫ال قُ‬ ‫أن وصل ابن الوحيد مضاربهم حتى استأسرهم‪ ،‬وأجرى فيهم السيوف‪ ،‬في مذبحة دموية‬ ‫رهيبة‪ ،‬دونما سبب واضح سوى الهمس الخافت‪ ،‬لكنه الواضح والمتكرر في كتب السير‬ ‫والخبار‪ ،‬أن خالاًدا قد بلغه مبلغ جمال وفتنة زوجة مالك بن نويرة‪ ،‬وما كان له من سبيل‬ ‫إليها وهي زوجة مسلم‪ ،‬فتم تكفير القبيلة كلها‪ ،‬وذبح زوجها مع من ذبحوا؛ لتصح لخالد‬ ‫سبية حرب ينكحها كملك يمين‪ ،‬وتم وضع رأس الصحابي مالك تحت ديِقدر طعام يغلي قُيعد‬ ‫لخالد بعد إشعاله‪ ،‬ليضاجع بعد عشائه السمين أرملته المكلومة في زوجها‬

‫وعشيرتها‪..‬‬

‫وهو مالم يسامحه عليه عمر بن الخطاب أباًدا؛ فذهب يطلب من الخليفة أبي بكر‬

‫عزله‪:‬‬

‫"اعزله إن في سيفه رهاًقا"‪ ،‬وأن يحاكمه‪ ،‬قائل اً لخالد‪" :‬يا عدو ا‪ ،‬عدوت على امرئ مسلم‬ ‫فقتلته‪ ،‬ثم نزوت على امرأته‪ ،‬وا لرجمنك بأحجارك"‪ ،‬لكن الخليفة لم ينفذ لعمر هذا ول‬ ‫سا‬ ‫عا شر اً‬ ‫ذاك‪ ،‬قائل اً‪" :‬وا ل أشيم سياًفا سله ا على المشركين"؛ فخالد كان مقاتل اً شجا اً‬ ‫وسيفه مطلب هام وضروري للجيوش والفتوحات‪ ،‬ول توقع عليه العقوبة؛ فهو ليس من‬ ‫عوام المسلمين‪ ،‬فهو من أصول قبلية عريقة وقوية وكثيرة النفر والنفير وثرية ولها مكانتها‪،‬‬ ‫وقُيعمل لها ألف حساب‪ .‬لكن عماًرا ظل على موقفة؛ فكان أول أمر أصدره عند توليه‬ ‫جا تاريخ بن الثير‬ ‫الخلفة هو عزل خالد بن الوليد )انظر نموذ اً‬

‫‪.(165 / 7‬‬

‫وهو ما يعني أن الشريعة كانت قُتطبق أو ل قُتطبق‪ ،‬وأن العدل كان يعمل أو ل يعمل؛‬ ‫حا‪ ،‬حسب الظروف‪ ،‬وحسب مكانة الجاني والمجني عليه‪ ،‬دون قاعدة‬ ‫فيصبح ظلما صري اً‬ ‫واحدة واضحة تطبق على الجميع‪ ،‬وهو ما يحرص عليه بشدة القانون المدني اليوم‪،‬‬ ‫ض وأدلة‪ ،‬ودفوع‪ ،‬تطبق على الجميع بذات القدر والمعيار‪،‬‬ ‫بنصوص دقيقة‪ ،‬ومراحل تقا ٍ‬ ‫فهل يريدنا قُدعاة الشريعة التخلي عنه والخضوع لمزاج ابن أبي قُقحافة‪ ،‬أو ابن الوليد‪ ،‬أو‬ ‫ابن العياط‪ ،‬أو ابن‬

‫بديع؟‪.‬‬


‫وقبل أن يعزله العادل عمر بن الخطاب‪ ،‬كان خالد قد سجل اسمه في التاريخ كسفاح‬ ‫نموذجي‪ ،‬وجرائمه أكثر من أن قُتحصى‪ ،‬منها ضراًبا للمثل ما ترويه أحداث سنة‬

‫‪12‬‬

‫هجرية‬

‫عن وقائع فتوحاته شمالي الجزيرة‪ ،‬ففي واقعة منها حول القبائل المسيحية في الحيرة‪،‬‬ ‫عا‪ ،‬إل أسرى قبائل كلب‪ ،‬توسط لهم عنده بنو‬ ‫أمر خالد بجمع السرى وأمر بذبحهم جمي اً‬ ‫تميم؛ لنهم كانوا حلفاءهم في الجاهلية‪ ،‬فقتل أسرى وعفى عن أسرى‪ ،‬دونما سبب له‬ ‫علقة بالعدل واستقامته‪ ،‬إنما بالواسطة والمحسوبية‪ ،‬دونما أي ضابط أو رابط‪ ،‬وهل يكفر‬ ‫هنا من يتساءل‪ :‬هل كان فعل خالد طباًقا للشريعة؟ وهل من تم استثناؤهم كان لسبب‬ ‫من الشريعة؟ أم كان الستثناء أو الذبح بالمر المباشر حسب المزاج و"الروقان" من‬ ‫عدمه؟ وإذا كان ما فعله بقتل السرى شريعة‪ ،‬فهل كان يحق لبني تميم إيقاف تطبيق‬ ‫الشريعة على قبائل كلب إعمال اً لحلف يعود لزمن الشرك‪ ،‬وأن قُيقر خالد عهود الشرك‬ ‫ويحترمها زمن عقيدة التوحيد؟! أم أن السبب كان غياب قانون واضح محدد لمعاملة‬ ‫السرى؟ وغيااًبا كامل اً وتا‪،‬اّما لمفهوم الدولة وقوانين العدل؟‬ ‫وهكذا تجد أن مطالعة سريعة لمفهوم العدل وأساليب تطبيقه في الزمن الزهى‬ ‫للشريعة‪ ،‬تكشف أن فرمانات القتل كانت تصدر في التو واللحظة بالمر المباشر‪ ،‬الواجب‬ ‫النفاذ بمجرد النطق به‪ ،‬حسب مكانة المر والمأمور‪ ،‬ومزاج المر في لحظة إصداره للمر‪،‬‬ ‫حا حادثة مقتل الخليفة‬ ‫حا‪ ،‬وهو ما تزيده توضي اً‬ ‫وحسب تكوينه النفسي وحش‪،‬اّيا كان أم سم اً‬ ‫عمر على يد أبي لؤلؤة الفارسي‪ ،‬وكان عباًدا أسياًرا للمغيرة بن شعبة الثقفي‪ ،‬وقبل أن‬ ‫يلفظ روحه "سأل عمر عبد ا بن عباس‪ :‬أعن مل منكم كان هذا؟ فقال الناس‪ :‬معاذ‬ ‫ا ما علمنا ول اطلعنا‪ ..‬قال عمر‪ :‬الحمد لله الذي لم يجعل ميتتي بيد رجل يدعي‬ ‫عبيد ا؛ فانطلق يقتل كل من له أصل‬ ‫جن جنون ابنه قُ‬ ‫السلم" ‪ ،‬ومات بن الخطاب؛ ف قُ‬ ‫فارسي‪ ،‬فذبح صديق أبيه )الهرمذان(‪ ،‬الذي قال في عمر قوله الشهر‪" :‬حكمت فعدلت‬ ‫جفينة‪ ،‬فذبحه؛ لنه سمع من عبد‬ ‫فأمنت فنمت يا عمر"‪ ،‬وعرج على شريف من الحيرة‪ ،‬هو قُ‬ ‫الرحمن بن أبي بكر أنه كان يتناجى مع أبي لؤلؤة‪ ،‬وفي بيت أبي لؤلؤة وجد ابنته ‪-‬وكانت‬ ‫بعد طفلة‪ -‬فشقها‬

‫بالسيف‪.‬‬


‫عبيد ا بن عمر‪ ،‬وطالب المقداد‬ ‫ولما تولى عثمان بن عفان الخلفة أثار الصحابة جرائم قُ‬ ‫وعلي بن أبي طالب بتوقيع القصاص‪ ،‬بينما رفض آخرون‪ ،‬ومنهم عمرو بن العاص‪ ،‬الذي‬ ‫أعطى الخليفة عثمان مبرر عدم توقيع القصاص بقوله‪" :‬ل قُيقتل عمر بالمس ونقتل ابنه‬ ‫اليوم"‪ ،‬فجعلها عثمان دية واحتملها من ماله الخاص‪ ،‬وقال‪ :‬أنا وليه‪ .‬لكن عل‪،‬اّيا ظل على‬ ‫رأيه في وجوب القصاص‪ ،‬ولما تولى الخلفة بعد مقتل عثمان هرب عبيد ا إلى الشام‪،‬‬ ‫وانضم إلى معاوية في حربه لعلي بن أبي طالب‪ ،‬ومات في وقعة‬

‫صفين‪.‬‬

‫فهل سيكون حالنا اليوم مع أصحاب الشريعة هو حال "مابور" و"بني جذيمة" و"بني‬

‫يربوع"‬

‫و"الهرمذان" و"جفينة" و"طفلة أبي لؤلؤة"؟‪ ..‬لن الحاكم في المور كان مزاج أولي المر‪،‬‬ ‫وليس‬ ‫انتهى‪.‬‬

‫العدل‪!!..‬‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.