مجلة الدوحة عدد 94 أغسطس 2015

‫رئيس الهيئة االستشارية‬

‫د‪ .‬حمد بن عبد العزيز الكواري‬ ‫وزير الثقافة والفنون والتراث‬

‫رئيس التحرير‬

‫د‪.‬علي أحمد الكبيسي‬ ‫سكرتير التحرير‬ ‫حـمــد فـرج العـزران‬ ‫هيئة التحرير‬ ‫سـعــيــد خـطـيـبـي‬ ‫محـســن العـتـيـقـي‬ ‫رئيس القسم الفني‬

‫ســلـمـان المـالك‬ ‫اإلخراج والتنفيذ‬

‫عــــ ــاء األلـفـــ ــي‬ ‫رش ــا أبوشوش ــة‬ ‫هـــنـــد المنصوري‬

‫الهيئة االستشارية‬

‫أ‪ .‬مبارك بن ناصر آل خليفة‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬محمد عبد الرحيم كافود‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬محمد غانم الرميحي‬ ‫د‪ .‬عـــلـي فــخــــرو‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬رضوان السيد‬ ‫أ‪ .‬خـالد الخـمـيـسي‬ ‫جميع المشاركات ترسل باسم رئيس‬ ‫التحرير ويفضل أن ترسل عبر البريد‬ ‫االلكتروني للمجلة أو على قرص مدمج في‬ ‫حدود ‪ 1000‬كلمة على العنوان اآلتي‪:‬‬ ‫تليفون ‪)+974( 44022295 :‬‬ ‫تليفون ‪ -‬فاكس ‪)+974( 44022690 :‬‬ ‫ص‪.‬ب‪ - 22404 :.‬الدوحة ‪ -‬قطر‬

‫البريد اإللكتروني‪:‬‬ ‫‪aldoha_magazine@yahoo.com‬‬

‫مكتب القاهرة‪:‬‬ ‫مدير المكتب‪ :‬وحيد الطويلة‬

‫‪ 34‬ش طلعت حرب‪ ،‬الدور الخامس‪،‬‬ ‫شقة ‪ 25‬ميدان التحرير‬ ‫تليفاكس‪5783770 :‬‬ ‫البريد اإللكتروني‪:‬‬ ‫‪aldoha.cairo@gmail.com‬‬ ‫عبر عن‬ ‫المواد المنشورة في المجلة ُت ِّ‬ ‫عبر بالضرورة عن رأي‬ ‫آراء كّتابها وال ُت ِّ‬ ‫برد‬ ‫الوزارة أو المجلة‪ .‬وال تلتزم المجلة ّ‬ ‫أصول ما ال تنشره‪.‬‬

‫اجتثاث منابت الفساد‬ ‫يطب ــع االس ــتعمال اللغ ــوي كلم ــات اللغ ــة بع ــدد م ــن الس ــمات الداللي ــة‬ ‫طيه ــا تصنيفــ ًا يجم ــع الكلم ــات المترابط ــة مع ًن ــى‪ ،‬ف ــي‬ ‫الت ــي تحم ــل ف ــي ِّ‬ ‫اشـــت َّق‬ ‫حقـــل داللـــي واحـــد‪ ،‬ومـــن هـــذه الكلمـــات كلمـــة «الفســـاد» ومـــا‬ ‫ُ‬ ‫ـادة‬ ‫ـ‬ ‫ج‬ ‫ـن‬ ‫ـان مذموم ــة‪ ،‬باعتباره ــا انحرافــ ًا ع ـ‬ ‫منه ــا‪ ،‬الت ــي تش ــير إل ــى مع ـ ٍ‬ ‫ّ‬ ‫المعان ــي القويم ــة المستحس ــنة‪.‬‬ ‫الفســـاد ‪-‬فـــي حقيقتـــه‪ -‬عـــدول عـــن االســـتقامة إلـــى ضّدهـــا‪ ،‬وهـــو‬ ‫ضـــّد الصـــاح‪ ،‬فهـــو‪ ،‬بهـــذا‪ ،‬ســـلوك غيـــر مســـتقيم‪ ،‬وعمـــل غيـــر‬ ‫كل‬ ‫صال ــح‪ ،‬وه ــو معن ــى جام ــع ل ــدالالت كلّه ــا س ــيئة؛ وم ــن هن ــا ح ـذّرت ّ‬ ‫األدي ــان الس ــماوية م ــن أخط ــاره‪ ،‬ونه ــت عن ــه ألن ــه يتع ــارض م ــع مب ــدإ‬ ‫االســـتخالف فـــي األرض الـــذي يبغـــي إصالحهـــا وإعمارهـــا‪ ،‬لمـــا فيـــه‬ ‫ـــن عليهـــا مـــن البشـــر‪.‬‬ ‫خيـــر َم ْ‬ ‫والفســـاد ظاهـــرة قديمـــة‪ ،‬ولكنهـــا أصبحـــت عالميـــة فـــي عصرنـــا‬ ‫المؤديـــة‬ ‫الحاضـــر‪ ،‬ال يســـلم منهـــا مجتمـــع‪ ،‬ومـــع تشـــابه األســـباب‬ ‫ّ‬ ‫خصوصيت ــه بس ــبب‬ ‫ـكل مجتم ــع‬ ‫إليه ــا‪ ،‬ف ــي معظ ــم المجتمع ــات‪ ،‬تبق ــى ل ـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫اختـــاف الثقافـــات والقيـــم‪.‬‬ ‫ـكل‬ ‫وق ــد استش ــرى الفس ــاد ف ــي المجتمع ــات فص ــار أنواعــ ًا شــّتى‪ ،‬ول ـ ٍّ‬ ‫بيئت ــه الحاضن ــة «وال ــذي خب ــث ال يخ ــرج إال نك ــدا»؛ وم ــن هن ــا تع ـ َّـددت‬ ‫وتنوعـــت طـــرق مكافحـــة الفســـاد عبـــر جهـــود‬ ‫محـــاوالت اإلصـــاح‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫ّيـــة‪ ،‬ومنهـــا منظمـــة الشـــفافية الدوليـــة‪ ،‬وهـــي‬ ‫دوليـــة وإقليميـــة ومحلّ‬ ‫وتصـــدر‬ ‫منظمـــة غيـــر حكوميـــة تلتـــزم بكشـــف الفســـاد حـــول العالـــم‪ُ ،‬‬ ‫بمؤش ــر الفس ــاد‪ ،‬عب ــارة ع ــن قائم ــة مقارن ــة لل ــدول‪ ،‬م ــن‬ ‫ـنوي ًا‬ ‫ِّ‬ ‫تقري ــرًا س ـ ّ‬ ‫حي ــث انتش ــار الفس ــاد فيه ــا‪.‬‬ ‫مؤش ــر الفس ــاد (‪ )2014‬أن ال ــدول العربي ــة جميعه ــا فش ــلت‬ ‫وق ــد أظه ــر ِّ‬ ‫الحـــّد األدنـــى لبلـــوغ مرحلـــة الشـــفافية والنزاهـــة‪،‬‬ ‫إلـــى‬ ‫فـــي الوصـــول‬ ‫َ‬ ‫المؤشـــر يقيـــس مســـتوى الشـــفافية‬ ‫وإذا أخذنـــا فـــي الحســـبان أن هـــذا‬ ‫ِّ‬ ‫ف ــي القط ــاع الع ــام فق ــط‪ ،‬أدركن ــا ‪-‬آس ــفين‪ -‬أن هن ــاك قطاع ــات أخ ــرى‬ ‫يعيـــث فيهـــا المفســـدون‪ ،‬وتنعـــدم فيهـــا الشـــفافية والنزاهـــة‪.‬‬ ‫وم ــا كان له ــذا الفس ــاد أن يستش ــري ويصب ــح ثقاف ــة‪ ،‬عن ــد ممارس ــيه‪،‬‬ ‫ويهيئ ــان‬ ‫ل ــوال غي ــاب المس ــاءلة وانع ــدام الش ــفافية الل ــذان يحتضنان ــه‪ّ ،‬‬ ‫ل ــه البيئ ــة الت ــي ينم ــو فيه ــا ب ــا رادع‪.‬‬ ‫يعكـــس الفســـاد انحـــا ًال فـــي منظومـــة األخـــاق لـــدى المفســـدين‬ ‫يترتـــب عليهـــا انتهـــاك مبـــادئ النزاهـــة‬ ‫أو إهمـــا ًال وانعـــدام فطنـــة‬ ‫َّ‬ ‫وأول ســـبل مكافحتـــه نشـــر ثقافـــة النزاهـــة والشـــفافية‪،‬‬ ‫واالســـتقامة‪ّ .‬‬ ‫وزي ــادة الوع ــي بمخاط ــره عب ــر مج ــاالت التعلي ــم واإلع ــام‪ ،‬م ــع تفعي ــل‬ ‫المســـاءلة بـــكل أنواعهـــا‪ ،‬وإيجـــاد وســـائل الـــردع العـــام التـــي تنـــذر‬ ‫ـوة ال ــردع‬ ‫برقاب ــة صارم ــة تكش ــف كل فس ــاد‪ .‬ومت ــى استش ــعر الف ــرد ق ـ ّ‬ ‫كل‬ ‫حاس ــب ‪-‬ال محال ــة‪ -‬ن ـ َّـزة نفس ــه ع ــن ّ‬ ‫وعاقب ــة الفس ــاد‪ ،‬وعل ــم أن ــه ُم َ‬ ‫مطمـــع محظـــور‪ ،‬ومرتـــع وبيـــل‪.‬‬ ‫رئيس التحرير‬

‫مجان ًا مع العدد‪:‬‬

‫صورة الغالف‪:‬‬

‫ثــقــافـيـة شــــهــريــة‬

‫العدد‬

‫‪94‬‬

‫السنة الثامنة ‪ -‬العدد الرابع والتسعون‬ ‫شوال ‪ - 1436‬أغسطس ‪2015‬‬

‫تصدر عن‬

‫وزارة الثقافة والفنون والتراث‬ ‫الـــدوحــــة ‪ -‬قـــــطــــر‬

‫صدر العدد األول في نوفمبر ‪ ،1969‬وفي يناير ‪ 1976‬أخــذت توجهها العربي واستمرت‬ ‫فــي الــصــدور حــتــي يــنــايــر ع ــام ‪ 1986‬لتستأنف الــصــدور مــجــددًا فــي نوفمبر ‪.2007‬‬ ‫توالى على رئاسة تحريرالدوحة إبراهيم أبو ناب‪ ،‬د‪ .‬محمد إبراهيم الشوش و رجاء النقاش‪.‬‬

‫االشتراكات السنوية‬

‫رئيس قسم التوزيع واالشتراكات‬

‫داخل دولة قطر‬

‫عبد اهلل محمد عبداهلل المرزوقي‬

‫األفراد ‬

‫‪ 120‬ريــا ًال‬

‫الدوائر الرســمية‬

‫‪ 240‬ريا ًال‬

‫دول الخليــج العربــي‬

‫‪ 300‬ريال‬

‫باقــي الــدول العربيــة‬

‫‪ 300‬ريال‬ ‫‪75‬يورو‬

‫أمـــــــــيــــركـــــــــا‬

‫‪ 100‬دوالر‬

‫كــــنــــدا وأســتـــرالـــيــــا‬

‫‪150‬دوالرًا‬

‫الموزعون‬

‫‪Songye Community Power‬‬ ‫الكونغو‬ ‫مقتنيات ‪ - Allan Stone :‬نيويورك‬

‫محمود‬ ‫الشدياق‬ ‫نجيبفارس‬ ‫د‪.‬زكي أحمد‬ ‫تأليف‪:‬‬

‫‪10‬‬

‫متابعات‬

‫شــاحذو الســكاكين في حواري باريس! (باريس‪ :‬عبد اهلل كرمون)‬

‫سيرة فكرية في‬ ‫مستقبل الثقافة‬ ‫والتعايش اإلنساني‬

‫انتفاضــة تــاء التأنيــث (نواكشــوط‪ :‬عبــد اهلل ولــد محمــدو)‬

‫فـاكـس ‪)+974( 44022343 :‬‬

‫حص ــار ُيط ـ ّـوق م ــدارس الق ــدس (رام اهلل‪ :‬عب ــداهلل عم ــر )‬

‫البريد اإللكتروني‪:‬‬

‫خارج دولة قطر‬

‫دول االتحاد األوروب ‬ ‫ي‬

‫تليفون ‪)+974( 44022338 :‬‬

‫ّان‬ ‫الشرق الفن‬ ‫أحوال مالطة‬ ‫معرفة‬ ‫الواسطة في‬

‫‪al-marzouqi501@hotmail.com‬‬ ‫‪doha.distribution@yahoo.com‬‬ ‫الموقع اإللكتروني‪:‬‬ ‫‪www.aldohamagazine.com‬‬

‫ترســل قيمة االشتراك بموجب حوالة‬ ‫مصرفيــة أو شــيك بالريــال القطري‬ ‫باسم وزارة الثقافة والفنون والتراث‬ ‫على عنوان المجلة‪.‬‬

‫ورشــات ‪ ..‬من أجل سياســة ثقافية جديدة (الجزائر‪ّ :‬نوارة لحـــرش)‬

‫دلفيــن مينــوي تعــود إلــى جذورها (بيــروت‪ :‬موناليــزا فريحة)‬ ‫نخــب جديــدة فــي المشــهد الثقافــي بالمغــرب (الــدار البيضاء‪:‬عبدالحــق ميفرانــي)‬

‫‪24‬‬

‫ميديا‬

‫السخرية لن تتوقّف ‪( ....‬فائزة مصطفى)‬ ‫مسيرة ّ‬

‫‪4‬‬

‫وكيل التوزيع في دولة قطر‪:‬‬ ‫دار الشرق للطباعة والنشر والتوزيع ‪ -‬الدوحة ‪ -‬ت‪ 44557810 :‬فاكس‪44557819 :‬‬

‫وكالء التوزيع في الخارج‪:‬‬ ‫المملكة العربية السعودية ‪ -‬الشركة الوطنية الموحدة للتوزيع ‪ -‬الرياض‪ -‬ت‪0096614871262 :‬‬ ‫ فاكــس‪ /0096614870809 :‬مملكــة البحريــن ‪ -‬مؤسســة الهــال لتوزيع الصحــف ‪ -‬المنامة ‪-‬‬‫ت‪ - 007317480800 :‬فاكــس‪/007317480819 :‬دولــة اإلمارات العربية المتحدة ‪ -‬المؤسســة‬ ‫العربيــة للصحافــة واإلعــام ‪ -‬أبــو ظبــي ‪ -‬ت‪ - 4477999 :‬فاكس‪ /4475668 :‬ســلطنة ُعمان‬ ‫ مؤسســة ُعمان للصحافة واألنباء والنشــر واإلعالن ‪ -‬مســقط ‪ -‬ت‪ - 009682493356 :‬فاكس‪:‬‬‫‪ /0096824649379‬دولــة الكويــت ‪ -‬شــركةالمجموعة التســويقية للدعايــة واإلعــان ‪ -‬الكويت‬ ‫ ت‪ - 009651838281 :‬فاكــس‪ /0096524839487 :‬الجمهوريــة اللبنانيــة ‪ -‬مؤسســة‬‫نعنــوع الصحفيــة للتوزيــع ‪ -‬بيــروت ‪ -‬ت‪ - 009611666668 :‬فاكــس‪/009611653260 :‬‬ ‫الجمهوريــة اليمنيــة ‪ -‬محــات القائــد التجاريــة ‪ -‬صنعــاء ‪ -‬ت‪- 00967777745744 :‬‬ ‫فاكــس‪ / 009671240883 :‬جمهوريــة مصــر العربيــة ‪ -‬مؤسســة األهــرام ‪ -‬القاهــرة ‪ -‬ت‪:‬‬ ‫‪ - 002027704365‬فاكــس ‪/002027703196‬الجماهيريــة الليبية ‪ -‬دار الفكر الجديد الســتيراد‬ ‫ونشــر وتوزيــع المطبوعات ‪ -‬طرابلــس ‪ -‬ت‪ - 0021821333260 :‬فاكس‪00218213332610 :‬‬ ‫‪ /‬جمهورية السودان ‪ -‬دار الريان للثقافة والنشر والتوزيع ‪ -‬الخرطوم ‪ -‬ت‪0024915494770 :‬‬ ‫ فاكس‪ / 00249183242703 :‬المملكة المغربية ‪ -‬الشــركة العربية اإلفريقية للتوزيع والنشــر‬‫والصحافة‪ ،‬سبريس ‪ -‬الدار البيضاء ‪ -‬ت‪ - 00212522249200 :‬فاكس‪/00212522249214:‬‬ ‫الجمهورية العربية الســورية ‪ -‬مؤسســة الوحدة للصحافة والطباعة والنشــر والتوزيع ‪ -‬دمشق ‪-‬‬ ‫ت‪- 00963112127797 :‬فاكس‪00963112128664:‬‬

‫األسعار‬ ‫دولة قطر‬ ‫مملكة البحرين‬

‫‪ 10‬رياالت‬

‫الجمهورية اللبنانية‬

‫دينار واحد‬

‫الجمهورية العراقية‬

‫اإلمارات العربية المتحدة‬

‫‪ 10‬دراهم‬

‫سلطنة عمان‬

‫‪ 800‬بيسة‬

‫دولة الكويت‬ ‫المملكة العربية السعودية‬ ‫جمهورية مصر العربية‬ ‫الجماهيرية العربية الليبية‬ ‫الجمهورية التونسية‬ ‫الجمهورية الجزائرية‬ ‫المملكة المغربية‬ ‫الجمهورية العربية السورية‬

‫دينار واحد‬ ‫‪ 10‬رياالت‬ ‫‪ 3‬جنيهات‬ ‫‪ 3‬دنانير‬ ‫‪ 2‬دينار‬ ‫‪ 80‬دينارًا‬ ‫‪ 15‬درهم ًا‬ ‫‪ 80‬ليرة‬

‫المملكة األردنية الهاشمية‬ ‫الجمهورية اليمنية‬

‫‪ 3000‬ليرة‬ ‫‪ 3000‬دينار‬ ‫‪ 1.5‬دينار‬ ‫‪ 150‬ريا ًال‬

‫جمهورية السودان‬

‫‪ 1.5‬جنيه‬

‫موريتانيا‬

‫‪ 100‬أوقية‬

‫فلسطين‬ ‫الصومال‬

‫‪ 1‬دينار أردني‬ ‫‪ 1500‬شلن‬

‫بريطانيا‬

‫‪ 4‬جنيهات‬

‫دول االتحاد األوروبي‬

‫‪ 4‬يورو‬

‫الواليات المتحدة األميركية‬

‫‪ 4‬دوالرات‬

‫كندا واستراليا‬

‫‪ 5‬دوالرات‬

‫قضية‬

‫مــواقـع‬ ‫التّواصل‬ ‫ســقــف الـحـرّيّـــة‬ ‫وحــدود المسـؤولية‬

‫‪26‬‬

‫سليم بوفنداسة‬ ‫إميل أمين‬ ‫د‪.‬عاهد العاسمي‬ ‫وجدي األهدل‬ ‫هيثم حسين‬

‫ألـــــــــــــــوان‬ ‫القارة السمراء‬ ‫ملف‬

‫لوك رويتر‬ ‫بنيونس عميروش‬ ‫د‪ .‬محمد بن حمودة‬ ‫فاتح بن عامر‬ ‫أحمد لطف اهلل‬ ‫عزيز أزغاي‬

‫لينا هويّان‬ ‫الحسن‪:‬‬ ‫تجاهَ لْنا ثقافات‬ ‫أكثر ألفة مع‬ ‫واقع الحياة‬

‫‪70‬‬

‫‪104‬‬

‫مقاالت‬ ‫الثقافــة التليفزيونيــة‪( ...‬مــرزوق بشــير بــن مرزوق)‬

‫‪39‬‬

‫هولبيــك‪ ..‬فوكو وصورة اإلســام (احميدة عياشــي)‬

‫‪40‬‬

‫المهمش ( د‪ .‬خالد طحطح)‬ ‫حداثة ما بعد االســتعمار ‪ ..‬في انبعاث دراســات َّ‬

‫‪42‬‬

‫ملف‬

‫الـســـيـاحـــة‬ ‫في ظل اإلرهاب‬

‫المثقــف والخبيــر ‪(........‬عبــد الســام بنعبد العالي)‬

‫‪63‬‬

‫نهايــة الجغرافيــا وعــودة التاريــخ‪( .....‬د‪ .‬حســين الســوداني)‬

‫‪64‬‬

‫دعــوة للعزلــة ‪(......................‬أميــر تاج الســر)‬

‫‪67‬‬

‫عــزاء تافــه‪( .....................‬عبــد الفتــاح كيليطو)‬

‫‪73‬‬

‫لغــز الكاتبــة المجهولــة ‪(.............‬إيزابيلال كاميرا)‬

‫‪78‬‬

‫المثقــف والســوبرمان ‪(.........‬أمجــد ناصر)‬ ‫َّ‬

‫‪85‬‬

‫علم)‬ ‫المبدعــون العــرب فــي كندا ‪..‬أصوات ال تصل (أســامة ّ‬

‫‪102‬‬

‫العربيْين؟!!! (حمد فــرج العزران)‬ ‫الربيــع العربــي‪ ..‬هــل قتــل األدب والثقافــة َّ‬

‫‪160‬‬

‫أدب‬

‫د‪ .‬محمود الذوادي‬ ‫جمال الموساوي‬ ‫بيروت‪ :‬نسرين حمود‬ ‫د‪.‬خالد السلطاني‬ ‫منذر بدر حلوم‬

‫‪44‬‬

‫‪68‬‬

‫تجاهلْنا ثقافات أكثر ألفة مع واقع الحياة (حوار‪ :‬حمزة قناوي )‬ ‫لينا ّ‬ ‫هويان الحسن‪َ :‬‬ ‫الرواية الجزائرية (حميد عبد القادر)‬ ‫في متاهة رشيد بوجدرة وعتمات ّ‬

‫أداجيو إبراهيم ‪(....................................‬د‪ .‬حسين محمود)‬

‫(المكسيك)‬

‫غاليانو‪ ..‬وتحطيم العالم‪( ...........................‬عاصف الخالدي)‬

‫تسعة أيام في‬ ‫بلد التناقضات‬

‫مكي!‪( ................‬صالح حسن رشيد)‬ ‫البوح بما سكت عنه الطاهر ّ‬ ‫«خليفة الفاخري» موسم الحكايات المتجدد ‪(............‬محمد األصفر)‬

‫ترجمات‬

‫‪132‬‬

‫‪74‬‬

‫«حلمي ياووظ » مختارات شعرية ‪(.............‬ترجمة‪ :‬عبد القادر عبد اللي)‬

‫نصوص‬

‫‪90‬‬

‫دراما‬

‫‪138‬‬

‫حبكات سريعة ‪(............................‬عبد الكريم واكريم)‬ ‫دراما غريبة وخادعة‪( ..........................‬نـاهـد صـالح)‬ ‫الدراما اللبنانية تستفيد من نكبة جارتها السورية (رنا نجار)‬

‫سينما‬

‫‪146‬‬

‫ذكريــــات ‪(...........................................‬عــزة كامــل)‬

‫آدالين‪ ..‬حينما يفقد الزمن سطوته ‪(.........‬أحمد ثامر جهاد)‬ ‫«‪ 45‬عاماً» ‪ ..‬نهاية ِع ْشرة ‪( .........‬محمد هاشم عبد السالم)‬

‫‪92‬‬

‫«ناهد»‪ ..‬اختيار ضد العاطفة ‪( ..................‬أمير العمري)‬

‫كتب‬

‫مالك الحزين شاهٌد على الثورة ‪(...............‬إيمان السباعي)‬

‫تعرية «الوطن» من الداخل ‪(........................‬جمال جبران)‬ ‫وقائع رجل اختار الهجرة ‪(..................‬محمود حسني)‬

‫الخِفّية ‪(......‬هيثم حسين)‬ ‫«شهرة الترجمان» أحوال الراوي َ‬ ‫عطارد ‪ ..‬عندما نعيش الجحيم دون أن ندري (محمود حسني)‬

‫جمع األمثـال النـوبيـَّة‪( ......................‬فيصل المـوصـلي)‬ ‫حين ُيفِلس النقد األدبي ‪(........................‬بالل رمضان)‬

‫مسرح‬

‫‪152‬‬

‫مسرحية «بتول» ‪ ..‬من البصرة إلى كل العالم (صفاء ذياب)‬

‫تحقيق‬

‫‪156‬‬

‫الجمعيات الثقافية والفنية في المغرب ‪ ..‬الحاجة إلى المأسسة (الدار البيضاء‪ :‬عبد الهادي روضي)‬

‫صفحات مطوية‬

‫‪158‬‬

‫الشباب ‪( ...........‬شعبان يوسف)‬ ‫طه حسين ومعاركه مع ّ‬

‫«على قدر أهل العزم» للدكتور حمد بن عبدالعزيز الكواري‬

‫سيرة فكرية في مستقبل الثقافة‬ ‫والتعايش اإلنساني‬ ‫محسن العتيقي‬

‫«حيــن تدخــل أي مطــار مــن مطــارات‬ ‫أيـــة‬ ‫العالـــم‪ ،‬أو حيـــن تتجـــول فـــي ّ‬ ‫مدين ــة كب ــرى م ــن الم ــدن العالمي ــة ق ــد‬ ‫ال تنتبـــه إلـــى أن البشـــر أقـــرب إلـــى‬ ‫بعضه ــم البع ــض مم ــا نتص ــور‪ ،‬رغ ــم‬ ‫االختالف ــات الثقافي ــة بينه ــم‪ ،‬وم ــا ق ــد‬ ‫يحملونـــه مـــن نظـــرة غيـــر متناســـبة‬ ‫م ــع ه ــذا الدف ــق اإلنس ــاني‪ .‬فالثاب ــت‪،‬‬ ‫فــي األحــوال جميعـاً‪ ،‬أن البشــر‪ ،‬حتــى‬ ‫ـوة م ــن‬ ‫إذا ل ــم نقب ــل بم ــا ف ــي كلم ــة أخ ـّ‬ ‫عم ــق إنس ــاني يب ــدو للبع ــض مثاليــاً‪،‬‬ ‫األقـــل‪ -‬طائـــرة‬ ‫سيســـتقلّون‪ -‬علـــى‬ ‫ّ‬ ‫واحـــدة‪ ،‬أو يركبـــون قطـــارًا واحـــداً‪،‬‬ ‫أو يزورون حديقة واحدة» (ص‪.)173:‬‬ ‫يمكـــن للقـــارئ‪ ،‬مـــن خـــال هـــذا‬ ‫الـــدال‪ ،‬كمـــا مـــن فقـــرات‬ ‫االقتبـــاس‬ ‫ّ‬ ‫عديـــدة شـــبيهة‪ ،‬الدخـــول إلـــى عالـــم‬ ‫كتــاب «علــى قــدر أهــل العزم»‪ ،‬الســيرة‬ ‫الفكري ــة للدكت ــور حم ــد ب ــن عبدالعزي ــز‬ ‫الكـــواري‪ ،‬وزيـــر الثقافـــة والفنّـــون‬ ‫والتـــراث‪ ،‬الصـــادرة حديثـــ ًا عـــن دار‬ ‫بلومزبـــري ومؤسســـة قطـــر للنشـــر‪،‬‬ ‫موزعــة على تســعة‬ ‫فــي ‪ 270‬صفحــة‪َّ ،‬‬ ‫فصــول مشــتملة ‪-‬فــي مجموعهــا‪ -‬علــى‬ ‫نح ــو س ــبعين مقال ــة ش ــاهدة وموثِّق ــة‬ ‫لرؤيـــة معرفيـــة وتجربـــة ممتـــّدة‬ ‫فـــي دواليـــب وشـــعاب الدبلوماســـية‬ ‫الثقافيـــة‪.‬‬ ‫يفيدنـــا‪ ،‬قبـــل عـــرض الكتـــاب‪،‬‬ ‫‪6‬‬

‫اإلشـــارة إلـــى نقطتيـــن أساســـيتين‪:‬‬ ‫األولــى تبــدو فــي قيمــة الكتــاب األدبيــة‬ ‫يتأســس عليــه‬ ‫الممتعــة والمفيــدة‪ ،‬بمــا‬ ‫َّ‬ ‫النــص مــن تأديــب أســلوبي للمعلومــة‬ ‫وللفكـــرة‪ ،‬وتأصيـــل معرفـــي ينبنـــي‬ ‫والفـــن‪،‬‬ ‫علـــى التاريـــخ‪ ،‬والفلســـفة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫واألدب فـــي نتاجـــه العربـــي ونتاجـــه‬ ‫العالمـــي‪ ،‬والمواثيـــق والمرجعيـــات‬ ‫القانونيـــة الدوليـــة‪ .‬والثانيـــة هـــي‬ ‫الراهنيـــة التـــي تكتســـيها مضاميـــن‬ ‫الكتـــاب باّتخاذهـــا مواقـــف نقديـــة‬ ‫صريحـــة‪ ،‬علـــى ضـــوء مـــا يعيشـــه‬ ‫عالمنـــا المعاصـــر مـــن اختـــاالت‬ ‫والهوي ــات‪.‬‬ ‫عميق ــة ف ــي الفك ــر واألم ــن‬ ‫ّ‬ ‫وعلــى هــذا األســاس تســتقصي فصــول‬ ‫الكتــاب مفهــوم الدبلوماســية الثقافيــة‪،‬‬ ‫تطورهــا‪ ،‬آلياتهــا وأهدافهــا‪،‬‬ ‫أنواعهــا‪ّ ،‬‬ ‫يتص ــل به ــا م ــن مس ــائل وقضاي ــا‬ ‫وم ــا َّ‬ ‫تعنـــى بالتعليـــم والتربيـــة والتـــراث‬ ‫والفضــاء العــام‪ ،‬كمــا بحــوار الثقافــات‬ ‫والتفــاوض متعـ ِّـدد األطــراف‪ ،‬وصــو ًال‬ ‫إلـــى الصناعـــات الثقافيـــة واالقتصـــاد‬ ‫اإلبداعـــي‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬ ‫يتمخـــض عـــن الدبلوماســـية‬ ‫مـــاذا ّ‬ ‫الثقافي ــة ف ــي نظ ــر الدكت ــور حم ــد ب ــن‬ ‫عبدالعزيـــز الكـــواري؟ إن اســـتعارة‬ ‫ـتهل الفصــل‬ ‫المطــار والطائــرة فــي مسـ ّ‬

‫الســـادس (الحـــوار بيـــن الثقافـــات)‬ ‫تفصــح عــن أبعــاد وزوايــا مركزيــة فــي‬ ‫ه ــذا التس ــاؤل؛ حي ــث ِّ‬ ‫«تمث ــل الطائ ــرة‬ ‫مصغ ــر‪ ،‬يكش ــف‬ ‫اس ــتعارة ع ــن عال ــم‬ ‫َّ‬ ‫جوانــب كثيــرة ممــا نعرفــه فــي عالمنــا‬ ‫األكبــر‪ .‬وتاريــخ البشــرية يقــوم شــاهدًا‬ ‫ـتمرة مــن مطار‬ ‫علــى أننــا فــي رحلة مسـ ّ‬ ‫إل ــى آخ ــر‪ ،‬نج ــد فيه ــا أنفس ــنا نعاي ــش‬ ‫التنــوع فــي األديــان واألعــراق واأللوان‬ ‫واألجن ــاس‪ ...‬واألف ــكار كذل ــك»‪ .‬وَلِئ ــن‬ ‫اتضحــت صــورة المطــار هنــا ‪-‬بوصفــه‬ ‫التنـــوع الثقافـــي‪ -‬فـــإن‬ ‫مكثِّفـــ ًا لصـــور‬ ‫ُّ‬ ‫ســامة تدبيــر هــذا الثــراء تشــبه عــودة‬ ‫الطائــرة إلــى المطــار فــي رحلــة آمنــة‪،‬‬

‫إلــى «مطــار المواطنــة مــا بيــن الثقافات‬ ‫بواب ــة الح ــوار‬ ‫الت ــي نص ــل إليه ــا م ــن ّ‬ ‫بيـــن الثقافـــات»‪ .‬ومـــن هنـــا يصبـــح‬ ‫الرهـــان فـــي ســـبيل (نشـــر ثقافـــة‬ ‫السـلْم والالعنــف)‪ ،‬شــرط ًا يتحّقــق فــي‬ ‫ِّ‬ ‫ره ــان إب ــراز االحت ــرام المتب ــادل بي ــن‬ ‫الثقافـــات وتنميتـــه ودعمـــه‪ .‬وإن كان‬ ‫ـا ‪-‬بالض ــرورة‪ -‬ف ــي‬ ‫ه ــذا لي ــس حاص ـ ً‬ ‫اعتقـــاد د‪ .‬الكـــواري؛ مادامـــت تنميـــة‬ ‫الش ــعور اإلنس ــاني العمي ــق باالنتم ــاء‬ ‫عمليــة عســيرة‪ ،‬وفــي حاجــة‬ ‫المشــترك ّ‬ ‫إلــى إثبــات ودعــم‪ ،‬علــى غــرار برنامج‬ ‫اليونســـكو (العقـــد الدولـــي لثقافـــة‬ ‫الســـام والالعنـــف مـــن أجـــل أطفـــال‬ ‫العالـــم) الـــذي يمثِّـــل الرهـــان األكبـــر‪،‬‬ ‫وه ــو «ره ــان حماي ــة الطائ ــرة‪ ،‬ه ــذه‬ ‫ملب ــدة‬ ‫اإلنس ــانية المجنَّح ــة ف ــي س ــماء َّ‬ ‫بالغيـــوم والزوابـــع واالرتـــدادات‪،‬‬ ‫ركابه ــا أيض ـاً‪ ،‬حت ــى يصل ــوا‬ ‫وحماي ــة ّ‬ ‫إل ــى َب ـّـر األم ــان ف ــي رحل ــة مريح ــة»‪.‬‬

‫مـــن توصيـــف راهـــن الواقـــع‬ ‫اإلنس ــاني‪ ،‬إل ــى تطلع ــات الثقاف ــة ف ــي‬ ‫تحقيــق النجــاة مــن كبواتــه االرتداديــة‬ ‫والمختلّـــة‪ ،‬يســـتند د‪ .‬الكـــواري ‪-‬فـــي‬ ‫صياغتـــه لوصفـــة التـــوازن المأمـــول‬ ‫فـــي تدبيـــر الخصوصيـــات الثقافيـــة‪-‬‬ ‫علـــى مفهـــوم التفـــاوض فـــي نطـــاق‬ ‫يتأســس علــى‬ ‫الدبلوماســية الثقافيــة‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫م ــا ف ــي وثائ ــق حق ــوق اإلنس ــان م ــن‬ ‫طابــع كونــي بوصفــه «المهاد األخالقي‬ ‫والقانونــي الــذي يمكــن أن تنبنــي عليه‬ ‫الدبلوماســية الثقافيــة لتمتيــن الموقــف‬ ‫الكون ــي‪ ...‬وبه ــذا تك ــون الدبلوماس ــية‬ ‫الثقافيــة أداة كذلــك‪ ،‬وإن بطريقــة غيــر‬ ‫مباشـــرة‪ ،‬لتعزيـــز حقـــوق اإلنســـان‬ ‫الس ـلْم وتنمي ــة‬ ‫واإلس ــهام ف ــي تحقي ــق ّ‬ ‫الرصي ــد اإلنس ــاني المش ــترك»‪.‬‬ ‫لك ــن‪ ،‬ف ــي ه ــذا الس ــياق‪ ،‬يتس ــاءل‬ ‫د‪ .‬الكـــواري‪« :‬ثمـــة معضلـــة كبـــرى‪:‬‬ ‫كي ــف تصب ــح الخصوصي ــات الثقافي ــة‬

‫عتَمـــد فـــي بنـــاء‬ ‫والتاريخيـــة مـــوارد ُت َ‬ ‫ـور إنس ــاني مش ــترك؟» لع ــل ه ــذا‬ ‫تص ـ ُّ‬ ‫الســـؤال الجوهـــري‪ ،‬بمـــا ينطـــوي‬ ‫عليـــه مـــن مرايـــا منكســـرة وأخـــرى‬ ‫محدب ــة‪ ،‬يضعن ــا ف ــي صل ــب المعان ــاة‬ ‫َّ‬ ‫الهويــات والعولمة‪.‬‬ ‫الثقافيــة فــي راهــن ّ‬ ‫يدعون ــا د‪ .‬الك ــواري ‪-‬تمهي ــدًا للخ ــروج‬ ‫م ــن معمع ــة ه ــذا اإلش ــكال‪ -‬إل ــى ط ــرح‬ ‫نفســـر احتجـــاج‬ ‫ـــم ِّ‬ ‫أســـئلة أخـــرى‪ِ« :‬ب َ‬ ‫مواطن ــي بل ــد م ــا عل ــى ح ــرب تنش ــب‬ ‫نفس ــر عمــل قــوى‬ ‫هنــا أو هنــاك؟ وِبـ َـم ِّ‬ ‫المجتم ــع المدن ــي لمــّد ي ــد المس ــاعدة‪،‬‬ ‫مثـــا‪ ،‬إلـــى‬ ‫عنـــد الكـــوارث الطبيعيـــة‬ ‫ً‬ ‫ـــم‬ ‫ب‬ ‫و‬ ‫أخـــرى؟‬ ‫أنـــاس مـــن مجتمعـــات‬ ‫ِ َ‬ ‫منظمـــات مدنيـــة دوليـــة‬ ‫نـــؤول بعـــث َّ‬ ‫ِّ‬ ‫ض ـّد الفق ــر واألم ــراض‪ ،‬أو الدف ــاع ع ــن‬ ‫حرّيـــة الصحافـــة؟»‪.‬‬ ‫البيئـــة‪ ،‬أو عـــن ّ‬ ‫لتلحيـــم آليـــة تعريـــف ُم ِ‬ ‫ناظـــرة‬ ‫وبتأم ــل م ــا‬ ‫له ــذه المش ــاهد الس ــائرة‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫تطرحـــه مـــن أبعـــاد ودالالت كونيـــة‪،‬‬ ‫يذه ــب د‪ .‬الك ــواري إل ــى اإلق ــرار بـ ــأننا‬ ‫«نتجـــه ‪-‬شـــئنا أم أبينـــا‪ -‬إلـــى نـــوع‬ ‫َّ‬ ‫المواطنـــة العابـــرة للثقافـــات أو‬ ‫مـــن‬ ‫َ‬ ‫المواطنـــة المشـــتركة‬ ‫بالتدقيـــق‪-‬‬‫َ‬ ‫بينه ــا‪ ...‬لق ــد اس ــتدعت القي ــم الكوني ــة‬ ‫ال جديــدًا مــن أشــكال المواطنة التي‬ ‫شــك ً‬ ‫«المواطنــة بيــن الثقافــات»‪ .‬إنها‬ ‫ُسـّـميت‬ ‫َ‬ ‫تتجس ــد ف ــي األنش ــطة الت ــي‬ ‫مواطن ــة‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫وفعـــا‪،‬‬ ‫يضطلـــع بهـــا النـــاس‪ ،‬قـــو ًال‬ ‫ً‬ ‫علــى ســبيل الدفــاع عــن مواطنــي دول‬ ‫أخــرى وثقافــات مختلفــة»‪ .‬إن االنكفــاء‬ ‫ـاء‬ ‫علــى الــذات‪ ،‬يــردف د‪ .‬الكــواري‪ ،‬بنـ ً‬ ‫علـــى التســـاؤالت اآلنفـــة‪ ،‬ومظاهـــر‬ ‫االنغ ــاق عل ــى الهوي ــات ج ـّـراء تس ــلُّط‬ ‫العولمــة‪« :‬ليــس إال تعبيــرًا عــن ثقافــة‬ ‫الخ ــوف‪ ،‬الت ــي ِّ‬ ‫تمث ــل ‪-‬ف ــي المحصل ــة‪-‬‬ ‫رؤيــة جامــدة للثقافــة‪ .‬والحــال أن «مــا‬ ‫نعاين ــه ه ــو ه ــذا االس ــتعداد العف ــوي‬ ‫المواطنـــة مـــا بيـــن‬ ‫لالنخـــراط فـــي‬ ‫َ‬ ‫الثقافي ــة ل ــدى قطاع ــات عريض ــة م ــن‬ ‫الن ــاس ف ــي أنح ــاء المعم ــورة»‪ .‬وه ــو‬ ‫اســتعداد «ال ُبـّد للدبلوماســية الثقافيــة‬ ‫أن تس ــتثمره لمقاوم ــة ظواه ــر العن ــف‬ ‫والكراهيـــة والعنصريـــة والتمييـــز‬ ‫ومناهض ــة الس ــامية واإلس ــاموفوبيا‪،‬‬ ‫الســـلْم بيـــن‬ ‫مـــن أجـــل نشـــر ثقافـــة ِّ‬ ‫‪7‬‬

‫الشـــعوب‪.».‬‬

‫(‪)2‬‬

‫التأمـــل فـــي‬ ‫بصـــدد مزيـــد مـــن‬ ‫ُّ‬ ‫الراه ــن وف ــي مس ــتقبل الثقاف ــة في ــه‪،‬‬ ‫ثم ــة اس ــتعارة أخ ــرى يس ــحضرها د‪.‬‬ ‫الك ــواري‪ ،‬إنه ــا قص ــة س ــفينة ن ــوح‪،‬‬ ‫متنوعــة‬ ‫التــي نجــد لهــا صيغ ـ ًا أخــرى‬ ‫ِّ‬ ‫«صِنعت‬ ‫ـم‬ ‫فــي المــوروث الثقافــي القديـ ُ‬ ‫الســـفينة إلنقـــاذ العادليـــن مـــن المـــاء‬ ‫الــذي أغــرق الحــرث والضــرع والــزرع‪،‬‬ ‫وللحفــاظ علــى بــذرة الحيــاة مــن دمــار‬ ‫الطوف ــان الج ــارف»‪ .‬ولعله ــا اس ــتعارة‬ ‫مرتي ــن‪ :‬فم ــن جه ــة‪،‬‬ ‫تضاع ــف ُّ‬ ‫تأملن ــا َّ‬ ‫رمزيتهـــا توصيفـــ ًا لصـــورة‬ ‫تمثِّـــل‬ ‫ّ‬ ‫الواقــع المعاصــر‪ ،‬ومــن ناحيــة ثانيــة‬ ‫فـــإن إنقـــاذ الســـفينة هـــو مـــا تتطلَّـــع‬ ‫تدخ ــره م ــن تع ـ ُّـدد‬ ‫إلي ــه البش ــرية بم ــا َّ‬ ‫غنــي‪ ،‬وتقـ ُّـدم علمــي حـّـري بــه صناعــة‬ ‫س ــفينة النج ــاة الكوني ــة‪.‬‬ ‫يدعون ــا د‪ .‬الك ــواري ‪-‬م ـّـرة أخ ــرى‪-‬‬ ‫إل ــى تدقي ــق النظ ــر ف ــي «طوف ــان م ــن‬ ‫والتصـــورات والمنجـــزات‬ ‫األفـــكار‬ ‫ُّ‬ ‫العلمي ــة والثقاف ــات يحم ــل مع ــه ‪-‬كم ــا‬ ‫يحم ــل الس ــيل الج ــارف‪ -‬أمش ــاج ًا م ــن‬ ‫المصالـــح المتناقضـــة وخليطـــ ًا مـــن‬ ‫األنانيـــة ونزعـــات الهيمنـــة والقهـــر‬ ‫واإلذالل وحطامـــ ًا مـــن المـــرض‬ ‫والحرمـــان والعنـــف»‪ .‬إنهـــا صـــورة‬ ‫تضعن ــا ف ــي وج ــه الري ــاح والتي ــارات‬ ‫الجارفـــة‪ ،‬تقابلهـــا ‪-‬فـــي اآلن نفســـه‪-‬‬ ‫ص ــور التق ـ ُّـدم الت ــي خطته ــا البش ــرية‪،‬‬ ‫والتــي يجــب تدعيــم ركائزهــا مــا دمنــا‬ ‫متنوعـــة تســـع‬ ‫«فـــي ســـفينة واحـــدة‬ ‫ِّ‬ ‫الجميـــع‪ ،‬وتمثِّـــل قـــوس قـــزح رائعـــ ًا‬ ‫مـــن الثقافـــات واألجنـــاس واألعـــراق‬ ‫والديانـــات‪ ...‬واألحـــام المشـــتركة‪،‬‬ ‫بالخصـــوص»‪.‬‬ ‫ليـــس الوقـــوف عنـــد نقـــد الواقـــع‬ ‫الراهن ــي غاي ـ ًـة ف ــي َح ـّد ذات ــه‪ ،‬أو دّق ـ ًا‬ ‫لناق ــوس الخط ــر‪ ،‬فه ــذا يخ ــوض في ــه‬ ‫الكثيـــر‪ ،‬وإنمـــا للقـــارئ أن يجـــد فـــي‬ ‫الكتــاب مرجعـ ًا فكريـ ًا فــي طــرح حلول‬ ‫ومفاهي ــم متمرك ــزة ح ــول تبي ــان كي ــف‬ ‫أن التح ـّدي المطــروح هــو فــي الثقافــة‬ ‫يبيـــن د‪ .‬الكـــواري‬ ‫باألســـاس‪ ،‬وكمـــا ِّ‬ ‫ف ــإن «اّتج ــاه البوصل ــة ال ــذي َحّددت ــه‬ ‫‪8‬‬

‫الفلســـفات واألديـــان‪ ،‬ومـــا أبدعـــه‬ ‫المثقَّف ــون‪ ،‬عل ــى اخت ــاف روافده ــم‪،‬‬ ‫ـورات‪ ،‬ق ــد َح ـ َّـدد لن ــا المس ــار‬ ‫م ــن تص ـ ُّ‬ ‫ضـــع اإلحداثيـــات»‪ ،‬ويتســـاءل‪:‬‬ ‫وو َ‬ ‫َ‬ ‫«م ــا ال ــذي يمنعن ــا م ــن إنق ــاذ الس ــفينة‬ ‫رغ ــم ُن ـُذر الطوف ــان وهب ــوب الري ــاح؟»‬ ‫فإن ــه يض ــع الره ــان كّل ــه ف ــي الثقاف ــة‬ ‫ـكل عنــده «صنــو المســؤولية‬ ‫التــي تشـ ِّ‬ ‫األخالقيــة واالجتماعيــة في السياســات‬ ‫الداخليـــة‪ ،‬والخارجيـــة‪ ،‬والوطنيـــة‪،‬‬ ‫متأتي ــة م ــن‬ ‫والدولي ــة»‪ .‬وه ــي قناع ــة ِّ‬ ‫انشـــغاله الممتـــّد بالشـــأنين‪ :‬الثقافـــي‬ ‫والدبلوماس ــي‪ ،‬م ــن مواق ــع متقّدم ــة‪،‬‬ ‫اس ــتوى خالله ــا منظ ــوره للثقاف ــة ف ــي‬ ‫شـــموليتها الضامنـــة لمفهـــوم العيـــش‬ ‫ّ‬ ‫المش ــترك‪.‬‬ ‫هك ــذا يضعن ــا الكت ــاب‪ ،‬وه ــو ثم ــرة‬ ‫عق ــود م ــن العم ــل ف ــي قضاي ــا الثقاف ــة‬ ‫والتربيـــة واإلعـــام والدبلوماســـية‪،‬‬ ‫أمـــام التحـــّدي المطـــروح علـــى تدبيـــر‬ ‫الثقافـــة‪ ،‬بوصفهـــا بوصلـــة‪ ،‬وفـــي‬ ‫ســياقات ذلــك يســائل الجميــع‪ ،‬بنبــرة‬ ‫عاليـــة‪ ،‬عـــن «مراجعـــة الـــذات علـــى‬ ‫ـام‬ ‫النطــاق اإلنســاني‪ :‬هــل هــي مــن مهـ ّ‬ ‫ـام‬ ‫األمــم التــي تقــود العالــم؟ أم مــن مهـ ّ‬ ‫النخب ــة الفكري ــة والثقافي ــة؟‪.‬‬ ‫مـــن بيـــن القضايـــا المرتبطـــة‬ ‫الثقافييـــن‪ ،‬مـــن‬ ‫بالتحـــّدي والرهـــان‬ ‫َّ‬ ‫المهـــم التوقُّـــف عنـــد أحـــد اإلنجـــازات‬ ‫ّ‬ ‫الهام ــة ف ــي ه ــذه المس ــيرة‪ ،‬فق ــد كان ــت‬ ‫ّ‬ ‫احتفاليـــة «الدوحـــة عاصمـــة للثقافـــة‬ ‫العربيـــة» ‪-‬كمـــا يحكـــي د‪ .‬الكـــواري‪-‬‬ ‫ـــوم‬ ‫«فرصـــة لـــي‪ ...‬للتفكيـــر فـــي َأْق َ‬ ‫الســـبل‪ ،‬لجعلهـــا صـــورة مـــن صـــور‬ ‫التفكيــر الحديــث فــي قضيــة‪ ،‬كثيــرًا مــا‬ ‫تطـــرح ‪-‬شـــأنها شـــأن قضايـــا عديـــدة‬ ‫حـــادة‪ ،‬كمـــا‬ ‫فـــي الثقافـــة‪ -‬بطريقـــة‬ ‫ّ‬ ‫لـــو كانـــت تفـــرض عليـــك أن تنحـــاز‬ ‫طرفـــي التناقـــض‪ ،‬وأقصـــد‬ ‫إلـــى أحـــد َ‬ ‫ـألة الخصوصيــة الثقافية‪ ،‬والنزعة‬ ‫مسـ ً‬ ‫الكونيـــة»‪ .‬وتمثِّـــل هـــذه التجربـــة‪-‬‬ ‫أيض ـاً‪ -‬محـّـكاً‪ ،‬اختبــر فيــه د‪.‬الكــواري‬ ‫مســألة فــي غايــة التعقيــد الثقافــي‪ ،‬كما‬ ‫ه ــو الش ــأن ف ــي معادل ــة الخصوص ــي‬ ‫التوت ــر بي ــن‬ ‫والكون ــي‪ ،‬لق ــد «أصب ــح‬ ‫ُّ‬ ‫توت ــرًا ال يخل ــو م ــن‬ ‫المحّل ــي والكون ــي ُّ‬

‫حـــّدة أخرجـــت مخـــاوف عديـــدة مـــن‬ ‫قمقمهـــا‪ ،‬وصـــار النـــاس يتســـاءلون‬ ‫عـــن مســـتقبل ثقافتهـــم المحليـــة فـــي‬ ‫خضـــم تدفُّـــق البضائـــع والمنتجـــات‬ ‫ّ‬ ‫والخيـــرات الثقافيـــة مـــن كل حـــدب‬ ‫وصـــوب»‪ ،‬وفيمـــا يتعـــّدى التكهنـــات‬ ‫ع ــن مص ــدر ه ــذا الخ ــوف‪ ،‬نح ــن أم ــام‬ ‫وضـــع عالمـــي للصناعـــات الثقافيـــة‬ ‫تجعـــل التحـــّدي علـــى النحـــو اآلتـــي‪:‬‬ ‫«المزيــد مــن الحــرص علــى تفعيــل دور‬ ‫ال ــدول ف ــي حماي ــة ثقافته ــا‪ ،‬واإللح ــاح‬ ‫المنظمـــات الدوليـــة‪ ،‬مثـــل‬ ‫علـــى دور‬ ‫َّ‬ ‫اليونســكو ومنظمــة التجــارة العالمية‪،‬‬ ‫التنـــوع الثقافـــي»‪ ،‬لكـــن‬ ‫فـــي حمايـــة‬ ‫ُّ‬ ‫رغـــم هـــذا العالـــم المشـــبع باإلعـــام‬ ‫واالّتص ــاالت والتقني ــات‪ ،‬ف ــإن الواق ــع‬ ‫ّ‬ ‫يؤك ــد ‪-‬تمام ـاً‪ -‬ف ــي نظ ــر الك ــواري «أن‬ ‫عمليـــات التحديـــث المتواصـــل بنشـــر‬ ‫القيـــم الثقافيـــة الغربيـــة لـــم تتمكـــن‬ ‫مــن إلغــاء الخصوصيــات الثقافيــة هنــا‬ ‫ـرد هــذا التأكيــد نابــع مــن‬ ‫وهنــاك»‪ .‬ومـ ّ‬ ‫مظاه ــر كثي ــرة داّل ــة عل ــى اس ــتيعاب‬ ‫الخاص ــة بالمنت ــوج الثقاف ــي‬ ‫الثقاف ــات‬ ‫ّ‬ ‫وإدراجهــا فــي بيئتهــا وســياقها‪ ،‬لكــون‬ ‫المـــواد الثقافيـــة «ترفـــض التنميـــط‪،‬‬ ‫وتصنـــع ‪-‬بالضـــرورة‪ -‬االختـــاف‬ ‫والغيري ــة‪ ،‬فللثقاف ــات المس ــتندة إل ــى‬ ‫تقاليـــد صلبـــة مرونـــة وقـــدرة علـــى‬ ‫التكيـــف بمـــا يجعلهـــا فـــي صيـــرورة‬ ‫ّ‬ ‫ـتمرة وبنــاء متواصــل‪ ،‬فــا تكتمــل‬ ‫مسـ ّ‬ ‫ـــبه لنـــا»‪.‬‬ ‫أبـــداً‪ ،‬وإن ُش ِّ‬ ‫به ــذا المعن ــى تنجل ــي ف ــي أذهانن ــا‬ ‫مفارقـــة الخصوصـــي والكونـــي‪ ،‬أو‬ ‫تتجســـر‪ .‬إن كثيـــرًا ممـــا‬ ‫باألحـــرى‪-‬‬‫َّ‬ ‫طـــرح فـــي مناقشـــة هـــذه الثنائيـــة‬ ‫ُي َ‬ ‫المضـــادة يبـــدو للدكتـــور الكـــواري‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫«طرحـــ ًا مغلوطـــ ًا ال يوافـــق حقائـــق‬ ‫األمـــور»‪ ،‬فالواقـــع المعيـــش يثبـــت‪،‬‬ ‫فـــي مـــا يـــراه‪ ،‬نـــزوع البشـــرية إلـــى‬ ‫ترســـيخ اختالفهـــا المخصـــب‪ .‬بهـــذا‬ ‫نعايــن تقويضــه للزعــم المتــداول بكون‬ ‫نزاع ــة‬ ‫الحداث ــة‪ ،‬بأصوله ــا الغربي ــة‪ّ ،‬‬ ‫إلــى إدخــال الجميــع فــي جلبــاب واحد‪،‬‬ ‫ســـيما أن أكثـــر مـــا يميـــز الحداثـــة‪،‬‬ ‫ال ّ‬ ‫تبري ــرًا له ــذا التقوي ــض‪ ،‬ه ــو االنفت ــاح‬ ‫والرغبـــة عـــن التنميـــط‪ .‬إضافـــة‬

‫ـــا صـــور التفاعـــل الثقافـــي‬ ‫متأم ً‬ ‫ِّ‬ ‫بي ــن مختل ــف مناح ــي الحي ــاة‪ ،‬كون ــه‬ ‫مظه ــرًا م ــن مظاه ــر التنمي ــة الش ــاملة‬ ‫التــي تدمــج االجتماعــي‪ ،‬واالقتصادي‪،‬‬ ‫والثقافـــي‪ ،‬ينتقـــل د‪ .‬الكـــواري إلـــى‬ ‫وضـــع االعتبـــار الحقيقـــي للثقافـــة‬ ‫ضمـــن التنميـــة الشـــاملة‪ ،‬بحيـــث ال‬ ‫يتوقــف هــذا االعتبــار عنــد حــدود دعــم‬ ‫َّ‬ ‫اإلنتــاج الثقافــي واإلبــداع الفّنــي‪ ،‬وإنما‬ ‫يتجــاوز ذلك‪ ،‬نحو أن يكون اإلنســان‪،‬‬ ‫قيِمـــه ورمـــوزه‪ ،‬فـــي قلـــب التنميـــة‬ ‫ِب َ‬ ‫الش ــاملة‪ ،‬فه ــو‪« :‬مبتدؤه ــا‪ ،‬وخبره ــا‪،‬‬ ‫ومحركهــا‪ ،‬وغايــة الغايــات»‪.‬‬ ‫وأداتهــا‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫ني ــة ه ــذا المقص ــد ‪-‬م ــن منطل ــق‬ ‫وف ــي ّ‬ ‫مكونــ ًا أساس ــي ًا‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫الثقاف‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫البع‬ ‫اّتخ ــاذ‬ ‫ِّ‬ ‫فــي كل تنميــة شــاملة‪ -‬تطويــر مفهــوم‬ ‫العامــة كمطلــب مــن جملــة مــا‬ ‫الرفاهيــة‬ ‫ّ‬ ‫يقــوم عليــه «تطويــر القــدرات اإلبداعية‬ ‫للفـــرد والتمتـــع بالخدمـــات الثقافيـــة‬ ‫وإتاحـــة الفرصـــة للهويـــة الجماعيـــة‬ ‫ك ــي تكش ــف ع ــن مكنونه ــا‪ ،‬وللهوي ــة‬ ‫ـكل‪ ،‬وتتعام ــل م ــع‬ ‫الفردي ــة ك ــي تتش ـ َّ‬ ‫ـا نقديـ ًا عقالني ًا‬ ‫محيطهــا البشــري تعامـ ً‬ ‫متفتحـاً‪ .‬وكل هــذا يتجــه نحو‬ ‫تواصليـ ًا ِّ‬ ‫غاي ــة أس ــمى ه ــي تغيي ــر الس ــلوكيات‬ ‫الفرديـــة والجماعيـــة‪ ،‬حتـــى يكـــون‬ ‫بديـــا مـــن‬ ‫األنـــس والتآلـــف واألمـــل‬ ‫ً‬ ‫الوحش ــة والضي ــاع والي ــأس»‪.‬‬ ‫إلـــى أن هـــذه القناعـــة تنطـــوي علـــى‬ ‫خاص ــة وميداني ــة ف ــي معاين ــة‬ ‫تجرب ــة ّ‬ ‫الثقافــة داخــل القطــر‪ ،‬وفــي الجغرافيــا‬ ‫العربيـــة‪ ،‬كمـــا فـــي مـــدن وعواصـــم‬ ‫ثقافي ــة كب ــرى‪ ،‬وه ــي معاين ــة بمثاب ــة‬ ‫أرضيــة فــي نقــاش مســألة الخصوصي‬ ‫والكونـــي‪ ،‬ينطلـــق منهـــا د‪ .‬الكـــواري‬ ‫علــى نحــو يــرى فيــه أن كل ثقافــة ُتِدرج‬ ‫ـاص بها‪ -‬المنتــج الثقافي‬ ‫بأســلوب خـ ّ‬‫الم َع ْولـــم‪ ،‬فـــي ســـياقها الخصوصـــي‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫بحي ــث يك ــون ه ــذا اإلدراج ف ــي ص ــورة‬ ‫تعايــش الحديــث والقديــم علــى أســاس‬ ‫التجــاور‪ ،‬أو بالتمــازج َحـّد االنصهــار‪،‬‬ ‫كم ــا بإع ــادة تش ــكيل الحدي ــث للقدي ــم‬ ‫وإخراجــه علــى صورة جديــدة‪ ،‬وأيض ًا‬ ‫ب ــإدراج الحدي ــث ف ــي القدي ــم‪.‬‬ ‫بهــذه المعاينــة‪ ،‬نفهــم تجــذُّر الثقافــة‬

‫ّيـــة»‬ ‫عنـــد د‪ .‬الكـــواري‪ ،‬إنهـــا «محلّ‬ ‫بالضـــرورة وبالطبـــع‪ ،‬ال تـــزول‬ ‫إال بـــزوال المجتمـــع الـــذي أنتجهـــا‪.‬‬ ‫وبتجذُّرهـــا تكـــون مناعـــة فـــي وجـــه‬ ‫جبــروت آلــة التوزيــع العالمــي للمنتــج‬ ‫الثقافـــي المصنـــوع»‪ .‬غيـــر أن هـــذه‬ ‫ّيـــة ‪-‬فـــي اآلن نفســـه‪-‬‬ ‫الثقافـــات المحلّ‬ ‫ـوالت التاريــخ‬ ‫ـ‬ ‫تح‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫ع‬ ‫«ليســت بمعــزل‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وعوامــل الزمــن‪ ،‬وال يمكنهــا أن تكــون‬ ‫جامــدة‪ ،‬بــل عليهــا ‪-‬كــي تبقى وتســتمر‬ ‫وتث ــري وتزك ــو وت ــورف دوحته ــا‪ -‬أن‬ ‫ـوالت دون أن تفقــد‬ ‫تســتوعب تلــك التحـّ‬ ‫تختـــص بـــه مـــن‬ ‫فرادتهـــا بفضـــل مـــا‬ ‫ّ‬ ‫ســـلوكيات وعقائـــد دينيـــة ومميـــزات‬ ‫ف ــي الطع ــام والفن ــون والله ــو والج ــد‬ ‫والطقـــوس‪»...‬؛ مـــن هنـــا يأتـــي‬ ‫االهتمـــام الطـــردي بآفـــاق الثقافـــة‪.‬‬

‫(‪)3‬‬ ‫يخصـــص‬ ‫ولتمجيـــد دور الثقافـــة‪ّ ،‬‬ ‫د‪.‬الكـــواري‪ ،‬فـــي تأصيـــل ذلـــك‪،‬‬ ‫فصـــا مـــن ســـيرته الفكريـــة بعنـــوان‬ ‫ً‬ ‫«االستكشاف الجمالي للعالم»‪ ،‬يناقش‬ ‫فيــه اآلداب والفّنــون ومفعولهــا فــي َمـّد‬ ‫جســور التواصل بين الشــعوب‪« :‬حيث‬ ‫تترابــط الصــات بيــن األدب والحيــاة‪،‬‬ ‫ليب ــدو األدب ض ــرورة ال غن ــى عنه ــا‪،‬‬ ‫وليـــس بذخـــ ًا جماليـــ ًا ال طائـــل مـــن‬ ‫ورائ ــه»‪ُ .‬يخ ـِـرج ه ــذا الفص ــل المفاهي ــم‬ ‫ويذك ــر بأصوله ــا عن ــد‬ ‫م ــن برودته ــا‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫كب ــار األدب ــاء الحائزي ــن عل ــى جائ ــزة‬ ‫نوب ــل ل ــأدب‪ ،‬عل ــى وج ــه االس ــتدالل‬ ‫والتحليــل وتبيــان مــا لــأدب «مــن قدرة‬ ‫علــى تجــاوز اإليديولوجيــات والحــدود‬ ‫القوميــة والفــوارق العرقيــة واللغوية‪،‬‬ ‫‪9‬‬

‫وإبــراز الصــات بيــن األدب والحقيقــة‬ ‫والحرّيــة فــي المقام األساســي‪.‬‬ ‫والفكــر‬ ‫ّ‬ ‫مـــن بـــاب التركيـــز علـــى قضيـــة‬ ‫يتوقــف‬ ‫بعينهــا فــي هــذه المحاضــرات‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫د‪ .‬الكـــواري عنـــد تحليـــل لمحاضـــرة‬ ‫زميلـــه فـــي الدبلوماســـية الشـــاعر‬ ‫المكســيكي أكتافيــو بــاز‪ ،‬الــذي تنــاول‬ ‫ف ــي محاضرت ــه‪ ،‬عق ــب تس ــلُّمه جائ ــزة‬ ‫نوب ــل ل ــأدب‪ ،‬وعل ــى نح ــو مأس ــاوي‬ ‫(كمـــا يصـــف د‪ .‬الكـــواري) مســـارات‬ ‫العالقـــات الثقافيـــة بيـــن الشـــعوب‪،‬‬ ‫والبحـــث عـــن زمـــن الحداثـــة‪.‬‬ ‫يســـتدل د‪ .‬الكـــواري بعبـــارة بـــاز‬ ‫القائلـــة‪« :‬يوجـــد جســـر مـــا بيـــن‬ ‫التقاليـــد والحداثـــة‪ .‬وعندمـــا يجـــري‬ ‫فصـــل إحداهمـــا عـــن األخـــرى تركـــد‬ ‫وتتبخــر الحداثــة‪ .‬أمــا عندمــا‬ ‫التقاليــد‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫ـث الحيــاة فــي‬ ‫يلتقيــان فــإن الحداثــة تبـ ّ‬ ‫تـــرد عليهـــا التقاليـــد‬ ‫التقاليـــد‪ ،‬بينمـــا ّ‬ ‫بالعمــق والرصانــة»‪ .‬وبدون تحفُّظ‪ ،‬ال‬ ‫يخفــي د‪ .‬الكــواري اّتفاقــه مــع مــا ذهــب‬ ‫«طِردن ــا‬ ‫إلي ــه ب ــاز م ــن الش ــعور بأنن ــا ُ‬ ‫مـــن الحاضـــر» فـــي زمـــن نيويـــورك‬ ‫وباري ــس ولن ــدن‪ .‬كم ــا ال يخف ــي ك ــون‬ ‫صياغــة العالقــات الثقافيــة بيننــا نحــن‬ ‫الع ــرب‪ -‬وبي ــن التقالي ــد األوروبي ــة‪،‬‬‫مبنيــة علــى االنفعــال‪،‬‬ ‫«كثيــرًا مــا تبــدو ّ‬ ‫ـمة‬ ‫حت ــى ب ــدا الوع ــي به ــذا االنفع ــال س ـ ً‬ ‫م ــن س ــمات تاريخن ــا الروح ــي»‪ .‬غي ــر‬ ‫أن ــه ‪ -‬بق ــدر م ــا َس ـ َّـبب ه ــذا اإلحس ــاس‬ ‫باالنفعــال التوّتـ َـر والمراجعــة الدائمــة‪،‬‬ ‫تحول ــه‬ ‫ف ــي نظ ــر د‪ .‬الك ــواري‪ ،‬وبق ــدر ُّ‬ ‫إلـــى إدانـــة ســـرعان مـــا تنقلـــب إلـــى‬ ‫محف ــزًا لمعرف ــة‬ ‫وع ــي‪َ ،‬ف ُس ــلوك‪ ،‬كان ِّ‬ ‫العالـــم الخارجـــي واكتشـــاف الـــذات‬ ‫فعليــاً؛ لذل ــك كان عل ــى المكس ــيكيين‪،‬‬ ‫كمــا علــى العرب‪ ،‬الشــروع فــي مغامرة‬ ‫البح ــث ع ــن الزم ــن‪ ،‬زم ــن الحداث ــة!‪.‬‬ ‫ويخلـــص د‪ .‬الكـــواري مـــن هـــذا‬ ‫التحليـــل ‪-‬مســـتندًا علـــى محاضـــرة‬ ‫أكتافيــو بــاز‪ -‬إلــى كــون «جــدل ثنائيــة‬ ‫بالشـــعر‬ ‫يتصـــل‬ ‫َّ‬ ‫التقليـــد والحداثـــة َّ‬ ‫يتصـــل بمختلـــف‬ ‫واألدب‪ ،‬بقـــدر مـــا َّ‬ ‫مناحـــي الحيـــاة‪ ،‬وأنـــه جـــدل يشـــكل‬ ‫«عي ــن اإلش ــكالية الت ــي عاش ــتها‪ ،‬من ــذ‬ ‫أكثــر مــن قــرن‪ ،‬ثقافتنــا العربيــة‪ ،‬ومــا‬ ‫‪10‬‬

‫ـاد‪ ،‬ه ــذا‬ ‫ت ــزال تخ ــوض‪ ،‬عل ــى نح ــو ح ـ ّ‬ ‫التناقـــض المزعـــوم»‪.‬‬ ‫م ــن يمتل ــك الحقيق ــة النهائي ــة ف ــي‬ ‫ـرر مــا يصلــح‬ ‫عالــم متعـ ِّـدد متنـ ِّ‬ ‫ـوع ليقـ ِّ‬ ‫للنـــاس ومـــا ال يصلـــح؟ ومـــن فـــي‬ ‫يميـــز «األفـــكار القاتلـــة»‬ ‫مقـــدوره أن ِّ‬ ‫م ــن «األف ــكار المبدع ــة»‪ ،‬والح ــال أنه ــا‬ ‫تحت ــاج إل ــى ح ــوار وتف ــاوض ونظ ــر‬ ‫ـــن يمنـــح الرقيـــب‬ ‫وتدقيـــق؟ ثـــم‪َ ،‬م ْ‬ ‫ســلطته غيـُـر صفِتــه التــي يســتمّدها من‬ ‫جهــاز الدولــة؟ ومن يضمــن ّأل ينحرف‪-‬‬ ‫إذا َســلَّمنا‪ ،‬بوجاهــة فعــل الرقابــة على‬ ‫مهمت ــه األصلي ــة‪ ،‬ليصن ــع‬ ‫األفكار‪-‬ع ــن ّ‬ ‫لنفســه‪ -‬شــأن جميــع البيروقراطييــن‪-‬‬ ‫حـــدودًا جديـــدة أضيـــق‪ ،‬وحواجـــز‬ ‫مانع ــة أكب ــر وأق ــوى؟‬ ‫أســئلة مــن ضمن أخــرى يطرحها د‪.‬‬ ‫ـون‬ ‫الم َعْن ـ َ‬ ‫الك ــواري ف ــي الفص ــل الثال ــث ُ‬ ‫بـ«مــن (المجلــس) إلى الميديا الجديدة»‪.‬‬ ‫يحلـــل د‪ .‬الكـــواري هـــذا االلتبـــاس‬ ‫النســـبي الناجـــم عـــن حـــدود التعبيـــر‬ ‫وأخالقياتـــه‪ ،‬انطالقـــ ًا ممـــا حقّقتـــه‬ ‫الحداثـــة وتقنيـــات التواصـــل مـــن‬ ‫تق ـ ُّـدم هائ ــل أوج ــد حقائ ــق جدي ــدة ف ــي‬ ‫التواصــات االجتماعيــة‪« ،‬فلــم يعد من‬ ‫الممكــن الفصــل بيــن المواطنيــن وغيــر‬ ‫المواطنيــن واألصيليــن والغربــاء‪ .‬إننــا‬ ‫نشــهد عصــرًا وصفــه نيكــوال بــورداس‬ ‫فــي كتابــه «الفكــرة القاتلــة»‪ ،‬بـ(مــا بعد‬ ‫مؤشـــر علـــى‬ ‫المجتمـــع)»‪ .‬وبمـــا أنـــه‬ ‫ِّ‬ ‫تحطــم الحواجــز‪ ،‬ولــو افتراضيـاً‪ ،‬فقــد‬ ‫ُّ‬ ‫أفضــى إلــى توســيع الحــدود والتخــوم‬ ‫حتــى أصبــح الفــرد «يعيــش اليــوم فــي‬ ‫أكثــر مــن عالــم‪ ،‬وفــي أكثــر مــن مجتمــع‬ ‫فــي آن واحــد»‪ .‬فــإن الفيصــل فــي عالــم‬ ‫عل ــى ه ــذا النح ــو يخض ــع ‪-‬ف ــي نظ ــر‬ ‫د‪ .‬الكــواري‪ -‬إلــى االحتــكام ألخالقيــات‬ ‫حرّي ــة‬ ‫الح ــوار والمعايي ــر الدولي ــة ف ــي ّ‬ ‫التفكي ــر والتعبي ــر‪.‬‬ ‫وأمـــام هـــذا الواقـــع اإلعالمـــي‬ ‫المســـتحدث الـــذي أفـــرز ‪-‬بالنتيجـــة‪-‬‬ ‫إشــكالية الرقابــة‪ ،‬فــإن «أقــوى رقابة‪،‬‬ ‫بمعناهــا اإليجاب ــي‪ ،‬إنمــا هــي الرقابــة‬ ‫التـــي تقـــوم علـــى التعديـــل الذاتـــي‬ ‫وااللتـــزام النابـــع مـــن الفـــرد بالقيـــم‬ ‫اإلنســـانية والكونيـــة‪ .‬أمـــا اإلخـــاالت‬

‫واالنحرافـــات واألفـــكار القاتلـــة‪،‬‬ ‫واج ــه بتحصي ــن‬ ‫بالمعن ــى الحرف ــي‪ُ ،‬‬ ‫فت َ‬ ‫األف ــراد أخالقيــ ًا وثقافيــاً‪ ،‬أو بالح ــوار‬ ‫ليواجـــه الفكـــر‬ ‫المعمـــق‬ ‫العمومـــي‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫والـــرأي بالـــرأي»‪.‬‬ ‫بالفكـــر‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫تأمل‬ ‫مــن جهــة أخرى‪-‬ونحــن بصــدد ُّ‬ ‫الحرّيـــة الرقميـــة‪ ،‬والتفاعليـــة‬ ‫هـــذه ّ‬ ‫المعممــة التــي قوامهــا النــوع الجديــد من‬ ‫ّ‬ ‫أجهــزة االعــام (الميديــا الجديــدة)‪ -‬فإن‬ ‫وص ــف د‪ .‬الك ــواري‪-‬‬ ‫م ــا ح ــدث ‪-‬كم ــا ُي ِّ‬ ‫ـم وســـيط‬ ‫ـ‬ ‫أهـ‬ ‫ــع‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫«هـــو قطـــع جـــذري‬ ‫ّ‬ ‫للمعلومــة‪ ،‬وهــو الصحافــي»‪ ،‬انتهــى‪،‬‬ ‫مـــن جهـــة‪ ،‬إلـــى تحويـــل أي مواطـــن‬ ‫مشـــترك فـــي الشـــبكة إلـــى صحافـــي‬ ‫ـوة‪ .‬وإل ــى كس ــر احت ــكار النخب ــة‬ ‫بالق ـ ّ‬ ‫المثقّف ــة واإلعالمي ــة الح ــق ف ــي إب ــداء‬ ‫ال ــرأي‪ ،‬م ــن جه ــة ثاني ــة‪.‬‬ ‫التحـــول‪ ،‬الـــذي‬ ‫إن ســـحر هـــذا‬ ‫ّ‬ ‫يســـتحضر فـــي ســـياق تحليلـــه مـــا‬ ‫يتـــردد مـــن قطائـــع ثقافيـــة يخلِّفهـــا‬ ‫ّ‬ ‫العالـــم الرقمـــي المفتـــوح‪ ،‬يـــراه د‪.‬‬ ‫ـوالت‬ ‫الك ــواري غي ــر منفص ــل ع ــن تح ـ ّ‬ ‫جذريــة داخــل المجتمعــات والثقافــات‪،‬‬ ‫«إنـــه جـــزء مـــن أزمـــة الديمقراطيـــة‬ ‫نفسها»‪ ،‬بتعبير آخر إن «تكنولوجيات‬ ‫المعلوم ــات واالتص ــال قلب ــت العالق ــة‬ ‫ونشـــطت‬ ‫بيـــن النخبـــة والجمهـــور‪ّ ،‬‬ ‫الق ــدرات التأويلي ــة لألف ــراد‪ ،‬وبالق ــدر‬ ‫المثق ــف الت ــي‬ ‫نفس ــه ته ــاوت ص ــورة‬ ‫َّ‬ ‫ســادت في الســتينات والســبعينات‪ ،‬إذ‬ ‫لــم يعــد يحتكــر النقــد أو إنتــاج الــرأي‪،‬‬ ‫ولــم يعــد لــه امتيــاز اإلدراك الصحيــح‬ ‫المزيــف» الــذي‬ ‫للواقــع‪ ،‬وفهــم «الوعــي‬ ‫َّ‬ ‫تغـــرق فيـــه الجماهيـــر‪.‬‬ ‫نفه ــم‪ ،‬م ــن ه ــذا الس ــياق‪ ،‬انتص ــار‬ ‫الميديـــا الجديـــدة وإعـــام المواطـــن‪،‬‬ ‫تفـــوق ســـاهمت العولمـــة فـــي‬ ‫وهـــو‬ ‫ُّ‬ ‫تس ــريعه‪ ،‬مثلم ــا قلب ــت العالق ــات بي ــن‬ ‫التواصــل والثقافــة‪ .‬فأين التحـّدي أمام‬ ‫مفت ــرق الط ــرق ه ــذا؟ ونفه ــم ‪-‬أيض ـاً‪،-‬‬ ‫كـــون القـــرن الواحـــد والعشـــرين هـــو‬ ‫قــرن التعايــش فــي قريــة كونيــة‪ ،‬بــات‬ ‫األفـــراد فيهـــا علـــى درايـــة بمجريـــات‬ ‫األمـــور أكثـــر مـــن أي وقـــت‪ ،‬والحـــال‬ ‫أن التواص ــل والتقاس ــم م ــع اآلخري ــن‬ ‫ل ــم يع ــد مطلب ـ ًا صعب ـاً‪ ،‬بق ــدر م ــا ه ــي‬

‫ضــرورة تدبيــر الخالفــات المهـ ِّـددة لهــذا‬ ‫المكتســب‪ .‬مــن هنــا‪ ،‬نعقــد الرهــان‪ ،‬مع‬ ‫د‪ .‬الكـــواري‪ ،‬علـــى أفضـــال الثقافـــة‬ ‫لتنظيــم التعايــش بيــن اآلراء المختلفــة‬ ‫وتحقيـــق واجـــب احتـــرام الهويـــات‬ ‫فـــي اإلطـــار المكتســـب مـــن تقنيـــات‬ ‫التواصـــل؛ فربـــط هـــذه التحديـــات‬ ‫بالمي ــدان الثقاف ــي إنم ــا ه ــو «الفض ــاء‬ ‫الــذي يشـ ِّـيد جســور التالقــي والحــوار‪،‬‬ ‫هويـــات وخصوصيـــات‬ ‫وتبـــرز فيـــه ّ‬ ‫ـوع تعبيراتها وأشــكال‬ ‫الشــعوب فــي تنـ ُّ‬ ‫فنونهـــا‪ ،‬كمـــا يبـــرز القيـــم اإلنســـانية‬ ‫الكبــرى باعتبارهــا جوهــر التعبيــر عــن‬ ‫عالقــة كيــان الفــرد والجماعــة بالوجود‬ ‫والمصي ــر»‪.‬‬ ‫(‪)4‬‬ ‫«‪ ...‬كان البـــّد مـــن تغييـــر اتجـــاه‬ ‫البوصلـــة»‪ .‬تســـتند هـــذه الجملـــة‬ ‫المفصليـــة التـــي نقرؤهـــا فـــي مقالـــة‬ ‫ضمــن الفصــل الرابع (في الدبلوماســية‬ ‫الثقافي ــة)‪ ،‬والمقال ــة بعن ــوان «الثقاف ــة‬ ‫وقـــوس قـــزح»‪ ،‬علـــى خبـــرة طويلـــة‬ ‫داخــل أروقــة الدبلوماســية الثقافية في‬ ‫مراكــز عالميــة‪ ،‬وفــي غمارها يفضي د‪.‬‬ ‫ـل عــن إحســاس عام‬ ‫الكــواري‪« :‬لــم أتخـّ‬ ‫أتبينـــه ‪-‬شـــيئ ًا‬ ‫كان يغمرنـــي‪ ،‬وكنـــت ّ‬ ‫فشــيئاً‪ -‬داخــل المجتمــع الدبلوماســي‪:‬‬ ‫مـــا المشـــترك الـــذي يمكـــن أن نبنـــي‬ ‫نقلــص مســافة االختــاف‬ ‫عليــه؟ كيــف ِّ‬ ‫ف ــي األه ــداف والمصال ــح السياس ــية‪،‬‬ ‫ونوســـع فضـــاء االئتـــاف؟ كان هـــذا‬ ‫ِّ‬ ‫رهانــي بيــن المحّلــي والكونــي‪ ،‬وبيــن‬ ‫المصلحـــي واإلنســـاني‪ :‬كيـــف نكـــون‬ ‫هن ــا وهن ــاك ف ــي آن واح ــد؟»‪.‬‬ ‫ـن معّقــد‪،‬‬ ‫يتطـّـرق هــذا الفصــل إلــى فـّ‬ ‫هو الدبلوماسية الثقافية والدبلوماسية‬ ‫متع ـّددة األطــراف بوصفهــا مجــا ًال فــي‬ ‫بنـــاء العالقـــات وااللتقـــاء والتفاهـــم‬ ‫المشــترك‪ ،‬ومــا يتفــرع عــن هــذا المجال‬ ‫مـــن مفاهيـــم وتعريفـــات وغايـــات‪،‬‬ ‫بمحطـــات ولحظـــات معيشـــة‬ ‫مـــرورًا‬ ‫ّ‬ ‫َأْمَلتهـــا الظـــروف السياســـية‪ ،‬فـــكان‬ ‫خضمهـــا‪ -‬مـــن النظـــر‬ ‫ال منـــاص ‪-‬فـــي‬ ‫ّ‬ ‫إلــى الجــزء المملــوء مــن الــكأس‪ .‬كانــت‬ ‫أمت ــع الف ــرص‪ ،‬بتعبي ــر د‪ .‬الك ــواري‪،‬‬

‫خاصـــة فـــي الفتـــرة التـــي كان فيهـــا‬ ‫ّ‬ ‫ِّـــا دائمـــ ًا لدولـــة قطـــر فـــي األمـــم‬ ‫ممث ً‬ ‫المتحــدة (‪ ،)1990 - 1984‬وقبلهــا فــي‬ ‫منظمــة اليونســكو‪ ،‬ويأتــي ســرد هــذه‬ ‫التجــارب‪ ،‬بالنســبة لرجــل دولــة‪ ،‬مــن‬ ‫منطل ــق المس ــؤولية الت ــي تق ــوم عل ــى‬ ‫اّتخــاذ قــرارات جماعيــة «أشــبه بخلطــة‬ ‫والتجمعات‬ ‫عجيبــة مــن مصالــح الــدول‬ ‫ّ‬ ‫اإلقليميــة‪ ،‬ومــن العالقــات الشــخصية‪،‬‬ ‫والميـــول المتقاربـــة‪ ،‬والتفكيـــر‬ ‫العقالنـــي‪ ،‬والبحـــث عـــن المصلحـــة‬ ‫المشــتركة»‪ ،‬إنهــا مصلحــة‪ ،‬وجــد فيهــا‬ ‫د‪ .‬الكـــواري ‪-‬اســـتنادًا إلـــى منظمـــة‬ ‫األم ــم المتح ــدة‪ ،‬ومنظم ــة اليونس ــكو‪-‬‬ ‫عنوانــ ًا ف ــي األجن ــدة الجدي ــدة لتغيي ــر‬ ‫العالـــم‪ ،‬بعـــد الـــدرس المريـــر‪ ،‬غـــداة‬ ‫الحـــرب العالميـــة الثانيـــة‪ ،‬وغايـــة‬ ‫ه ــذا التغيي ــر كان ــت‪« ،‬صياغ ــة فص ــول‬ ‫التاريـــخ علـــى جملـــة مـــن المبـــادئ‬ ‫المعبـــرة عـــن‬ ‫والمثـــل واألخالقيـــات‬ ‫ِّ‬ ‫الجوهـــري مـــن أحـــام الشـــعوب»‪،‬‬ ‫وال تـــزال كذلـــك‪ .‬كان هـــذا هـــو هـــدف‬ ‫اليونس ــكو ( بوصفه ــا منت ــدى للح ــوار‬ ‫فـــي مســـتقبل البشـــرية) حيـــن رفعـــت‬ ‫إع ــان «الخ ــروج م ــن بوتق ــة الثقاف ــات‬ ‫ّي ــة والقومي ــة إل ــى أف ــق أوس ــع‬ ‫المحلّ‬ ‫هــو الثقافــة العالميــة‪ .‬ومــا كان لهــا أن‬ ‫ـول‪ -‬تدريجيــاً‪-‬‬ ‫تك ــون كذل ــك إال بالتح ـ ّ‬ ‫يفك ــر ف ــي م ــا ل ــه‬ ‫إل ــى عق ــل جماع ــي ِّ‬ ‫صل ــة باإلنس ــاني المش ــترك والكون ــي‬ ‫يقر د‪.‬‬ ‫الجامــع»‪ ،‬غيــر أن هــذا التحـّ‬ ‫ـول‪ّ ،‬‬ ‫الكــواري‪ ،‬لــم يكــن «بديهـ ًا وال موضوع‬ ‫إجمـــاع»‪ ،‬فـــكان مســـلك الدبلوماســـية‬ ‫متعـــددة األطـــراف داخـــل اليونســـكو‬ ‫ِّ‬ ‫ه ــو الخي ــار «لبن ــاء مس ــتقبل مش ــترك‬ ‫يق ــوم في ــه العل ــم والتربي ــة والثقاف ــة‬ ‫المحـــرك الفاعـــل والقاعـــدة‬ ‫بـــدور‬ ‫ِّ‬ ‫الصلب ــة للتغيي ــر تماش ــي ًا م ــع برام ــج‬ ‫ـجل د‪.‬‬ ‫األم ــم المتح ــدة للتنمي ــة»‪ .‬ويس ـ ِّ‬ ‫الكــواري‪ ،‬أنــه ‪-‬بســبب مشــاكل التمويل‬ ‫التصـــورات فـــي مفهـــوم‬ ‫وتضـــارب‬ ‫ُّ‬ ‫التنميـــة‪ -‬كانـــت هنـــاك إخفاقـــات‪،‬‬ ‫التصـــور الجديـــد الـــذي تبنَّتـــه‬ ‫بيـــد أن‬ ‫ُّ‬ ‫اليونســـكو‪ ،‬مثلمـــا َم َّكـــن مـــن ولـــوج‬ ‫مالييــن األطفــال إلــى المــدارس‪ ،‬فإنــه‪،‬‬ ‫وبالنتيج ــة‪ ،‬يبره ــن «عل ــى م ــا يمك ــن‬

‫أن تبلغـــه الدبلوماســـية الثقافيـــة‪،‬‬ ‫مـــن خـــال التفكيـــر والممارســـة مـــن‬ ‫وضــع أســس منظومــة كونيــة للتعليــم‬ ‫والتربيــة‪ ،‬تســتند إلــى نمــاذج ناجحــة‬ ‫وتصـــورات عميقـــة تربـــط‬ ‫وناجعـــة‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫بيــن المبــادئ الكونيــة والخصوصيــات‬ ‫ّيـــة»‪.‬‬ ‫المحلّ‬ ‫وعلـــى صعيـــد آخـــر‪ ،‬يشـــير د‪.‬‬ ‫الكـــواري‪ ،‬إلـــى أن النمـــط التقليـــدي‬ ‫المدعمـــة مـــن‬ ‫للدبلوماســـية الثقافيـــة‬ ‫َّ‬ ‫طـــرف الحكومـــات بـــات فـــي حاجـــة‬ ‫إلـــى المراجعـــة؛ لمـــا تثيـــره هـــذه‬ ‫الدبلوماســـية مـــن تســـاؤل حـــول‬ ‫مشـــروعيتها وحيادهـــا‪ ،‬فـــي الوقـــت‬ ‫الـــذي تمتلـــك فيـــه الشـــعوب مجتمعـــ ًا‬ ‫مدنيـــ ًا واعيـــ ًا ومتطلِّعـــ ًا إلـــى اّتصـــال‬ ‫ـي علــى االحتــرام المتبــادل‪.‬‬ ‫ثقافــي مبنـ ّ‬ ‫مــن هنــا‪ ،‬يأتــي تأكيــد د‪ .‬الكــواري على‬ ‫أن أي ــة دول ــة «ال يس ــعها‪ ،‬ف ــي مج ــال‬ ‫الدبلوماســـية الثقافيـــة (علـــى عكـــس‬ ‫المجــاالت األخــرى) أن تقـ ِّـدم شــيئ ًا دون‬ ‫دعــم قــوي مــن الفاعليــن الثقافييــن غير‬ ‫الحكومييـــن»‪.‬‬ ‫فـــي ختـــام هـــذا العـــرض الـــذي ال‬ ‫ـل مضامين ــه‪،‬‬ ‫يس ــتوفي الكت ــاب ف ــي ج ـ ّ‬ ‫ال شـ ّ‬ ‫ـك أن اإلعــام الجديــد‪ ،‬الــذي يفتــح‬ ‫الحرّي ــة عل ــى أب ــواب ارتدادي ــة‬ ‫آف ــاق ّ‬ ‫فـــي بعـــض األحيـــان‪ ،‬وعمليـــات‬ ‫التواصــل‪ ،‬يمّثــان ‪-‬معـاً‪ -‬إحــدى أعقــد‬ ‫القضاي ــا ف ــي عالمن ــا المعاص ــر‪ :‬إنه ــا‬ ‫السـلْم والحــرب‪ .‬ولعــل الــدرس‬ ‫مســألة ِّ‬ ‫م ــن ه ــذه الس ــيرة الفكري ــة ه ــو ط ــرح‬ ‫كصمــام أمان وبوتقة لـ«آغورا»‬ ‫الثقافــة ّ‬ ‫جديــدة‪ ،‬يلتقــي فيهــا المجتمــع المدنــي‬ ‫تعززها‬ ‫بالمؤسســات‪ ،‬في إطار شراكة ِّ‬ ‫َّ‬ ‫الدبلوماس ــية الثقافي ــة‪ ،‬بم ــا له ــا ‪-‬ف ــي‬ ‫قناعـــة د‪ .‬الكـــواري‪ -‬مـــن «دور فاعـــل‬ ‫فـــي التقريـــب بيـــن الشـــعوب ودعـــم‬ ‫الحــوار الثقافــي‪ ،‬إذا ُبِنَيــت على احترام‬ ‫ـوع والتع ـ ُّـدد واالس ــتعداد للتح ــاور‬ ‫التن ـ ُّ‬ ‫والتفاع ــل الثقافيي ــن‪ ،‬وااللت ــزام بقي ــم‬ ‫والتمس ــك‬ ‫الحرّي ــة وحق ــوق اإلنس ــان‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫الحرّيـــة‬ ‫بقيـــم‬ ‫بمقتضيـــات االلتـــزام‬ ‫ّ‬ ‫وحقـــوق اإلنســـان‪ ،‬وبمقتضيـــات‬ ‫االلت ــزام األخالق ــي واالجتماع ــي‪ ،‬م ــن‬ ‫خ ــال الثقاف ــة»‪.‬‬ ‫‪11‬‬

‫متابعات‬

‫شاحذو السكاكين في حواري باريس!‬

‫باريس‪ :‬عبد اهلل كرمون‬ ‫ليِتيـــم كان قـــد‬ ‫قـــال أحـــد الرهبـــان َ‬ ‫ـــب وصـــار‬ ‫ش‬ ‫ربـــاه‪ ،‬والحـــظ عندمـــا‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫يافعـ ًا أنــه ال يصلــح إلتقــان أيــة حرفــة‪:‬‬ ‫«س ــوف تصي ــر ش ــاحذ س ــكاكين!»‪.‬‬ ‫َقــِد َم الكثي ــرون‪ ،‬بع ــد ه ــذا اليتي ــم‪،‬‬ ‫إلـــى المدينـــة األخطبوطيـــة باريـــس‪،‬‬ ‫الق ــدر نفس ــه بي ــن جوانحه ــم‪:‬‬ ‫حاملي ــن َ‬ ‫ـن الس ــكاكين‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫مهن‬ ‫ُمزاول ــة‬ ‫َ ّ‬ ‫إن البـــوادر التاريخيـــة األولـــى‬ ‫لظه ــور ه ــذه المهن ــة تع ــود إل ــى س ــنة‬ ‫‪ 1300‬الميالدي ــة‪ ،‬م ــا ي ــدل عل ــى ِقدمه ــا‬ ‫وعراقته ــا‪ ،‬كم ــا أنه ــا توج ــد ف ــي ب ــاد‬ ‫أخ ــرى م ــن المعم ــورة‪ ،‬م ــع اختالف ــات‬ ‫تفرضهـــا كل بيئـــة وكل محيـــط‪.‬‬ ‫فـــأن تصـــادف شـــاحذ ســـكاكين‪،‬‬ ‫رم ــم األوان ــي‬ ‫أو ُم ِّ‬ ‫نظ ــف مداخ ــن‪ ،‬أو ُم ِّ‬ ‫المنزليـــة كان أمـــرًا عاديـــ ًا جـــدًا فـــي‬ ‫زاول حينها‬ ‫الماضــي‪ ،‬إذ كانت الحرف ُت َ‬ ‫ف ــي مم ــرات الح ــواري‪ ،‬ف ــي الس ــاحات‬ ‫العامــة وعلــى ضفــاف الســين‪ .‬ذلــك أن‬ ‫الباريس ــيين كان ــوا يرب ــون‪ ،‬إل ــى وق ــت‬ ‫قريــب‪ ،‬الدجــاج واألرانــب والماعــز فــي‬ ‫بيوتهــم‪ ،‬حتــى ُشـّـرعت القوانيــن التــي‬ ‫منعـــت ذلـــك‪ ،‬كمـــا منعـــت الســـاعات‬ ‫الحائطي ــة الت ــي تص ــدر جرســ ًا قويــاً‪،‬‬ ‫مثلمــا نشــهد علــى أن المداخــن ممنوعــة‬ ‫ف ــي أيامن ــا ه ــذه‪.‬‬ ‫تطلعنـــا الكتـــب التاريخيـــة التـــي‬ ‫تناولــت باريــس‪ ،‬والروايــات التــي أتــت‬ ‫عل ــى وص ــف جوان ــب م ــن فضاءاته ــا‪،‬‬ ‫بأنه ــا كان ــت غارق ــة ف ــي الوح ــل وف ــي‬ ‫بــؤس بـ ٍ‬ ‫ـاد للعيــان حتــى أبــواب القــرن‬ ‫‪12‬‬

‫التاســـع عشـــر‪ ،‬وأنهـــا كانـــت تعـــج‬ ‫بأنــواع متباينــة من الصناعــات البدائية‬ ‫والمه ــن الش ــعبية‪ ،‬وذل ــك حت ــى قب ــل‬ ‫تحويـــل الســـوق الهائلـــة التـــي كانـــت‬ ‫بش ــاتليه إل ــى الضاحي ــة‪.‬‬ ‫لكــن مدينــة باريــس‪ ،‬هــي مــن أكثــر‬ ‫الم ــدن تب ــدالً‪ .‬ف ــا ي ــكاد ملمحه ــا ي ــدوم‬ ‫ـول عبــر الســنين‪.‬‬ ‫علــى حــال‪ ،‬بــل يتحـّ‬ ‫فم ــا يبق ــى فيه ــا عل ــى حال ــه‪ ،‬مقاومــ ًا‬ ‫ـل اهتمــام‪.‬‬ ‫أجـ َّ‬ ‫عاديــات األيــام‪ ،‬يســتحق َ‬ ‫فالمهـــن العتيقـــة اندثـــرت تمامـــاً‪،‬‬ ‫التقـــدم التقنـــي‪،‬‬ ‫وذلـــك جـــراء زحـــف‬ ‫ُّ‬ ‫وتغي ــر األزمن ــة‪ .‬وال ي ــكاد يأب ــه بذل ــك‬ ‫ســـوى الذيـــن يدرســـون الصيـــرورة‬ ‫االجتماعيـــة والبشـــرية للمدينـــة‪ ،‬أو‬ ‫بعـــض أهـــل النوســـتالجيا‪ ،‬الذيـــن‬ ‫يســـتبد بهـــم‪ ،‬مـــن حيـــن إلـــى آخـــر‪،‬‬ ‫الشــغف والحنيــن إلى الماضــي‪ .‬ولكن‪،‬‬ ‫أليســت باريــس مــن أجمــل مــدن الدنيــا‪،‬‬ ‫وأكثره ــا س ــحراً! إذا كان الح ــال عل ــى‬ ‫ذلــك‪ ،‬فمــا الحاجــة فيهــا‪ -‬إذاً‪ -‬إلــى غبار‬ ‫الماضـــي؟‬ ‫يبدو أن شــاحذي الســكاكين وغيرها‬ ‫مـــن األدوات الحـــادة‪ ،‬معروفـــون‬ ‫بخروجهــم مــن قراهــم وحملهــم العصــا‬ ‫علــى الغارب‪ ،‬يجوبــون القرى والمدن‪،‬‬ ‫فتـــارة يهبطـــون الوديـــان‪ ،‬وتـــارة‬ ‫أخ ــرى يصع ــدون إل ــى المرتفع ــات م ــن‬ ‫ال‬ ‫األرض‪ ،‬حينم ــا ال تك ــون دومــ ًا س ــه ً‬ ‫هينـــاً‪ .‬فيصلـــون إلـــى المـــدن الدانيـــة‬ ‫وإل ــى الدس ــاكر النائي ــة‪ .‬فبه ــذا الش ــكل‬ ‫وص ــل الكثي ــرون‪ -‬إذاً‪ -‬إل ــى باري ــس‪،‬‬ ‫بينمــا ذهــب آخــرون وحلوًا بسويســرا‪،‬‬ ‫وبب ــاد الجرم ــان‪.‬‬

‫كثي ــرًا م ــا يضط ــرون إل ــى ممارس ــة‬ ‫يقـــل‬ ‫مهـــن جانبيـــة أخـــرى‪ ،‬عندمـــا‬ ‫ّ‬ ‫الطلـــب علـــى خدماتهـــم األساســـية‪ .‬إذ‬ ‫إن شــظف العيــش هــو ممــا ال ينكــرون‬ ‫وال يهابـــون‪.‬‬ ‫لبـــث الذيـــن اســـتقروا منهـــم‬ ‫فـــي باريـــس‪ ،‬يمارســـون مهنتهـــم‪،‬‬ ‫واس ــتبدلوا قط ــع المس ــافات الطويل ــة‬ ‫ف ــي أصق ــاع بعي ــدة‪ ،‬ب ــذرع كل واح ــد‬ ‫منهـــم لدوائـــر باريســـية ُمحـــّددة‪ ،‬لمـــا‬ ‫كان ذلـــك بالقســـطاس بيـــن أهـــل‬ ‫الحـــرف الكثيريـــن فـــي أول عهودهـــا‪،‬‬ ‫حي ــث كان ــت‪ ،‬م ــع كل ذل ــك‪ ،‬منظم ــة‪،‬‬ ‫وخاضعـــة للمراقبـــة‪ ،‬مـــع تعاونيـــة‬ ‫صنّـــاع الســـكاكين أنفســـهم‪.‬‬ ‫ُ‬

‫الجيل األخير‬ ‫الحديـــث عـــن شـــاحذي الســـكاكين‬ ‫اليــوم فــي باريــس قــد ُيثيــر اســتغراباً‪.‬‬ ‫ومـــن هـــذا المنطلـــق ارتأينـــا أن نثيـــر‬ ‫هـــذا الموضـــوع‪ ،‬إذ مـــا يـــزال فـــي‬ ‫المدين ــة بع ــض م ــن أهل ــه‪ ،‬فهن ــاك م ــن‬ ‫ُيقــّدر الباقي ــن منه ــم بس ــتة أش ــخاص‪،‬‬ ‫ويبــدو أنهــم ِقّلــة بالمقارنــة مع مســاحة‬ ‫باريــس الشاســعة‪ ،‬كمــا أن المتتبعيــن‬ ‫يرجح ــون ك ــون أعم ــار الباقي ــن منه ــم‬ ‫ق ــد تج ــاوزت الخمس ــين‪ ،‬م ــا ق ــد يجع ــل‬ ‫المهنــة فــي صيغتهــا القديمــة فــي قــاب‬ ‫قوس ــين م ــن ال ــزوال‪.‬‬ ‫التقينــا مــع أحــد شــاحذي الســكاكين‬ ‫الباريســيين فــي الدائــرة الخامســة‪ ،‬منــذ‬ ‫س ــنوات خل ــت‪ ،‬وكان لن ــا مع ــه حدي ــث‬ ‫عـــن المهنـــة وعـــن تاريـــخ مزاولتـــه‬

‫إياهـــا‪ ،‬فأفادنـــا كونـــه قـــد ورثهـــا أبـــ ًا‬ ‫عــن جــد‪ ،‬وكنــت قــد التقطــت لــه صــورًا‬ ‫بإذن ــه‪ .‬وق ــد صادفت ــه م ــرة أخ ــرى ف ــي‬ ‫الدائـــرة الســـابعة مـــن فتـــرة قريبـــة‪.‬‬ ‫عمـــا‬ ‫لـــم تتغيـــر هيأتـــه‪ ،‬وال حركاتـــه ّ‬ ‫كان ــت علي ــه م ــن قب ــل‪ .‬حت ــى أن ــه ب ــدا‬ ‫لن ــا متش ــبث ًا أكث ــر م ــن أي وق ــت مض ــى‬ ‫بعربت ــه وترك ــة األج ــداد‪ ،‬كوع ــد دائ ــم‬ ‫ال ُينق ــض ّإل بالم ــوت‪.‬‬ ‫لــن يــدع هــؤالء حرفتهم تضيــع أبداً‪،‬‬ ‫ب ــل س ــيصرخون ف ــي ش ــوارع المدين ــة‬ ‫المتحض ــرة‪ :‬م ــن سيش ــحذ س ــكيناً؟ م ــن‬ ‫ّ‬ ‫سيش ــحذ مقصــاً؟ م ــن سيش ــحذ حدي ــدة‬ ‫أخــرى؟‬ ‫فقـــدوم شـــاحذ الســـكاكين ُيعـــرف‬ ‫بجرســـه الخـــاص‪ ،‬ثـــم بمـــرآه‪ ،‬وهـــو‬ ‫توغـــا فـــي األزقـــة‪ ،‬إذ‬ ‫يدفـــع آلتـــه ُم‬ ‫ً‬ ‫يتنق ــل عل ــى األق ــدام إذاً‪ ،‬ويدف ــع قدام ــه‬ ‫عربـــة ذات عجلتيـــن كبيرتيـــن‪ ،‬ينقـــل‬ ‫بواســـطتها حجـــر ِم َســـن هائـــل‪ ،‬أو‬ ‫وت َعـــّد مـــن أهـــم‬ ‫حجريـــن صغيريـــن‪ُ ،‬‬ ‫أدواتــه علــى اإلطــاق‪ ،‬ثــم لديــه أيضـ ًا‬ ‫ـل نصــل‬ ‫لبـ ِّ‬ ‫آنيــة مملــوءة مـ ً‬ ‫ـاء‪ ،‬يصلــح َ‬ ‫الس ــكاكين قب ــل ش ــحذها وف ــي أثنائ ــه‪.‬‬ ‫كم ــا أن العرب ــة تتواف ــر عل ــى دواس ــة‬ ‫حـــرك بهـــا الرجـــل حجـــر االســـتدقاق‬ ‫ُي ِّ‬ ‫أثنـــاء انهماكـــه فـــي البـــري‪.‬‬ ‫وقـــد ال يعـــدم الشـــاحذ مطرقـــة‬

‫وســندان ًا صغيريــن‪ ،‬قــد يحتــاج إليهمــا‬ ‫قـــوم بعـــض اعوجـــاج ٍ‬ ‫بـــاد فـــي‬ ‫كـــي ُي ِّ‬ ‫نصــل الســكاكين أو آالت أخــرى ُتعرض‬ ‫علي ــه‪.‬‬ ‫أمــا الجــرس الــذي يكــون فــي حجــم‬ ‫ال بــأس بــه فهــو عالمتــه المميــزة‪ .‬وهــو‬ ‫أول مــا ُيســمع قبــل أن يظهــر فــي قلــب‬ ‫الحــي الــذي يقصــده‪.‬‬

‫ظروف معادية للحرفة‬ ‫كان شــاحذ الســكاكين‪ ،‬في الســابق‪،‬‬ ‫مـــن الوجـــوه المألوفـــة فـــي باريـــس‪،‬‬ ‫ـــوزع الحليـــب وبائـــع الفحـــم‬ ‫وم ّ‬ ‫هـــو ُ‬ ‫وغيره ــم‪ .‬أم ــا الي ــوم فق ــد ص ــار وجه ـ ًا‬ ‫نشــازًا فــي نســيج المدينــة التــي اختفــت‬ ‫فيه ــا عناص ــر األلف ــة‪ ،‬واالنتب ــاه إل ــى‬ ‫الح ــرف الصغي ــرة‪.‬‬ ‫تطـــورت صناعـــة الســـكاكين وكل‬ ‫ّ‬ ‫ذي حـــٍد ونصـــل‪ ،‬ولـــم يعـــد النـــاس‬ ‫يأبهــون باســتعمال ســكين عريقــة ومن‬ ‫ط ــراز ممت ــاز‪ .‬ألنه ــا تس ــتدعي الش ــحذ‬ ‫واالس ــتدقاق م ــن حي ــن إل ــى آخ ــر‪ .‬وال‬ ‫يضطلـــع بهـــذا الشـــأن ســـوى ِحَرفـــي‬ ‫ع ــارف بأص ــول ه ــذا الف ــن‪.‬‬ ‫ـط الحيــاة المتغيــر‪ -‬الــذي‬ ‫وجعــل نمـ ُ‬ ‫َ‬ ‫فرضت ــه ظ ــروف العم ــل‪ -‬الطه ــي ف ــي‬ ‫َ‬ ‫خانــة االهتمامــات الثانويــة فــي منــازل‬

‫الغالبي ــة الس ــاحقة م ــن الن ــاس‪ ،‬مثلم ــا‬ ‫أضحــى المطبــخ بأوانيــه فاقــدًا لمكانته‬ ‫األساســـية‪ ،‬وذلـــك بتوافـــر األكالت‬ ‫الســـريعة والخفيفـــة فـــي كل أرجـــاء‬ ‫المدين ــة‪.‬‬ ‫وبالرغـــم مـــن كل هـــذا فـــإن هـــؤالء‬ ‫الحرفيي ــن م ــا يزال ــون يحمل ــون مش ــعل‬ ‫أجداده ــم‪ :‬أل ــم يفتح ــوا عيونه ــم عل ــى‬ ‫المجلخــة الدائريــة وهــي تــدور وتبري‪،‬‬ ‫ف ــي كل دورة‪ ،‬أنص ــال الس ــكاكين؟ أل ــم‬ ‫تطــرق آذانهــم رنــات جــرس آبائهم قبل‬ ‫يتعرف ــوا إل ــى ص ــوت آخ ــر دونه ــا؟‬ ‫أن ّ‬ ‫ثــم‪ ،‬ألــم يكبــروا بدورهــم ويشـّـبوا مــن‬ ‫ري ــع عم ــل آبائه ــم ه ــذا؟‬ ‫ـتمر الباقــون منهــم‪ ،‬ال محالــة‪،‬‬ ‫سيسـ ّ‬ ‫ف ــي مزاول ــة حرفته ــم الت ــي ورثوه ــا‪،‬‬ ‫والتــي ال يتقنــون مهنــة أخــرى غيرهــا‪.‬‬ ‫بالرغـــم مـــن أن كل العوامـــل معاديـــة‬ ‫الس ــتمرارهم عل ــى قي ــد الوج ــود‪.‬‬ ‫وعندم ــا س ــينقرضون تمامــ ًا وإل ــى‬ ‫األبــد‪ ،‬ســوف نعــود حينهــا إلــى تاريــخ‬ ‫الفــن‪ ،‬كــي نتمّلــى أجمــل اللوحــات التي‬ ‫صص ــت له ــم وآلالته ــم عب ــر الق ــرون‪،‬‬ ‫ُخ ّ‬ ‫أو لنتوقّـــف فـــي ركـــن بأحـــد أحيـــاء‬ ‫الدائـــرة الباريســـية الرابعـــة ونرفـــع‬ ‫مبنيْي ــن‪ ،‬حي ــث‬ ‫أعينن ــا إل ــى‬ ‫َ‬ ‫ـي َ‬ ‫واجهت ـ ْ‬ ‫يتربــع تمثــاالن ُأهديــا إليهــم كمجــد أول‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫‪13‬‬

‫انتفاضة تاء التأنيث‬

‫نواكشوط‪ :‬عبد اهلل ولد محمدو‬ ‫تزاحـم المـرأة الموريتانيـة الرجل في‬ ‫اآلداب والفنـون واإلعلام كمـا تنافسـه‬ ‫فـي مراكـز صنـع القـرار‪ ،‬مفصحـة عـن‬ ‫تصوراتهـا الفكريـة لقضايا بنات جنسـها‬ ‫ّ‬ ‫كاتبـة بيراعتهـا عـن رؤاهـا‪،‬‬ ‫أو أمتهـا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫سـجل‬ ‫ً‬ ‫راسـمة بريشـتها أحالمهـا‪ ،‬وهـي ُت ّ‬ ‫بامتعـاض‪ ،‬علـى لسـان الدكتـورة تربـة‬ ‫بنـت عمـار‪ ،‬ميراثـ ًا من الغبـن والتهميش‬ ‫ور َسـا علـى إبداعهـا عبـر‬ ‫الّتاريخييـن ُم ِ‬ ‫سـاعية إلـى تجـاوز واقـع يرمـق‬ ‫عقـود‪،‬‬ ‫ً‬ ‫كبرياءهـا بعيـون االزدراء‪.‬‬

‫البحث عن وجود‬ ‫ترنو المرأة الشاعرة ورائدة القصيدة‬ ‫النسـائية الحداثيـة مباركـة بنـت البـراء‬ ‫الرفيـع بإصـرار لفـرض‬ ‫إلـى المرتقـى ّ‬ ‫«األنـا» علـى «زمن بليـد»‪ ،‬رافض لوجود‬ ‫التواقـة إلى السـمو فـي عالم‬ ‫هـذه المـرأة ّ‬ ‫ال ُيصغـي كثيـرًا إلـى صـوت األنثـى‪،‬‬ ‫إنـه البحـث عـن وجـود متصـدر لمسـيرة‬ ‫التاريـخ‪ ،‬تكـون الشـاعرة فيـه «نقطـة‬ ‫البـدء»‪ ،‬ليـس بمنّـة رجـل يمنحهـا نسـبة‬ ‫تفضيلية‪ ،‬بل بارتقائها مكان ًا علي ًا تنتزعه‬ ‫بمقارعـة كوابـح شـموخها‪ ،‬فهي ُمشـهرة‬ ‫رمحهـا فـي نحر كل العوائق‪ ،‬صامدة في‬ ‫كفاحهـا حتى تتحقّـق مطامحها‪ ،‬وتقول‪:‬‬ ‫«سأرفع طاقتي للخلود‪...‬‬

‫وأشرع رمحي بقلب الوجود‬ ‫فيفهم هذا الزمان البليد‬

‫بأني هنا‬ ‫‪14‬‬

‫علم للصمود‬

‫بأني نقطة بدء»‪.‬‬ ‫إن هـذه الشـاعرة تتغنّـى بالعشـق‪،‬‬ ‫لكنـه عشـق مـن نوع خاص‪ ،‬لـه ميثاقه‪،‬‬ ‫عشـق الذات الشـاعرة‪ ،‬وهي بهذا العشق‬ ‫ال يهز عروش القيم الغزلية‬ ‫تأتي أمرًا جل ً‬ ‫تسـكن مـن‬ ‫الشـعرية السـائدة؛ لـذا نراهـا ّ‬ ‫المتكررة «ال تحزني»‪،‬‬ ‫روعها بهذه الجملة‬ ‫ّ‬ ‫طالبـة مـن ذاتهـا البحـث عـن خلاص‬ ‫لجسـدها المنبوذ الـذي هو رمز كبريائها‪:‬‬ ‫«قال لي الوتر‪:‬‬

‫للعشق دستو ٌر فيا شاعرتي ال تحزني‬

‫تأبـى قيـود الهوان»‪.‬‬ ‫مهومة مبحرة‬ ‫إن الشاعرة بنت البراء ِّ‬ ‫فـي تيـه مـن الضيـاع بحثـ ًا عـن وجـود‪،‬‬ ‫شـطرها اآلخر؛‬ ‫ورفيقهـا في هذه الرحلة‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫أو الشـاعر‪ ،‬تعانـي النّفـي فـي عالـم‬ ‫رجولـي‪ ،‬لكـن سلاحها هـذه المـرة ليـس‬ ‫ّ‬ ‫الصّداح‬ ‫الرمـح‪ ،‬وإنما هـو مقول الصوت ّ‬ ‫وريشـة اإلبـداع‪:‬‬ ‫«ضائع ٌة ووتري مثلي‬

‫ونحن العاشقان‬ ‫ضائع ٌة‬ ‫منفي ٌة‬ ‫ّ‬

‫ال تحزني وحاولي أن تنقذي جسدك‬

‫لكن لي روحين‬ ‫ّ‬

‫ال تحزني شاعرتي»‪.‬‬

‫يا مدينتي‬

‫المنبوذ‬

‫إن العشـق الرجولـي توشـيح لجسـد‬ ‫المـرأة بآللـي الثنـاء‪ ،‬بينمـا تنعكـس‬ ‫اآليـة هنـا‪ ،‬فتصبـح المرأة الشـاعرة هي‬ ‫مصـدر التوشـيح‪ ،‬تخلـع مـن عليائهـا أو‬ ‫«أنجمهـا» وشـاح ًا علـى صـدور الرجـال‪،‬‬ ‫حيث مكمن العشـق‪ ،‬وتضع وسـام ًا على‬ ‫التحكم‪ ،‬إنها تمنحهم من‬ ‫رقابهـم؛ مصـدر‬ ‫ُّ‬ ‫سـموها مـا بـه يزدانـون ويرتقـون‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫الصدور‬ ‫على‬ ‫ا‬ ‫أنجم‬ ‫ي‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫للرجال‬ ‫«وضعت‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أتحفتهم أوسمة على الرقاب»‪.‬‬ ‫وتقاسم الشاعرة الراحلة خديجة بنت‬ ‫عبـد الحـي بنـت البراء هذا الشـعور بزهو‬ ‫األنـا وشـموخه الـذي يتسـامى كباسـقة‬ ‫النخـل رافضـ ًا كل هوان‪:‬‬ ‫«نخلة هــا هـنا أنــا أخـواتي‪/‬كبريائي‬

‫لي قلبين‬ ‫لي ريشة‬

‫ولي لسان»‪.‬‬

‫هموم أمة‬ ‫تعالـج الشـاعرة حـواء بنـت ميلـود‬ ‫قضايا أمتنا الخانعة المستسلمة بطريقتها‬ ‫الخاصـة فـي قصيدتهـا «عفـوًا سـيدتي»‪،‬‬ ‫وهـي تعلـن التخلّـي عـن صفتهـا كامـرأة‬ ‫لتتحـول إلـى رجـل سلام‬ ‫شـامخة أبيـة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫خانع وديع بعد أن تخلّى هذا الرجل عن‬ ‫«معتصِمّيِتـه» إزاء صرخات المظلومين‪،‬‬ ‫َ‬ ‫التحـول إلـى الرجوليـة فـي‬ ‫وهـي بهـذا‬ ‫ّ‬ ‫لحظـة اليـأس والضعـف ُتعيد بأسـلوبها‬ ‫الخاص فكرة شـموخ المرأة واسـتعالئها‬ ‫علـى الرجـل لـدى الشـاعرة بنـت البـراء‪،‬‬

‫فلـم تعـد بنـت ميلود تلك المـرأة العظيمة‬ ‫هوان الرجل‬ ‫نة‬ ‫هي ً‬ ‫الشامخة‪ ،‬بل أصبحت ِّ‬ ‫َ‬ ‫خنوعه‪:‬‬ ‫خانعـة‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫«عفو ًا سيدتي !‬ ‫سيدتي‪...‬‬

‫أرجوك ال تصرخي ‪...‬‬

‫أرجوك ال تستنجدي‪...‬‬

‫كم من م ّرة قلت لك إنني لست المعتصم‬ ‫!‬

‫وأن صراخك ال يُثير فى نفسي أية حمية‬ ‫‪...‬‬

‫أنا يا سيدتي أصبحت «رجل سالم»‪...‬‬ ‫سيدتي‪..‬‬

‫لقد نفّ ذت جميع بنود االتفاقية‪..!.‬‬ ‫م ّزقت دفاتري وأوراقي ‪...‬‬

‫واستوردت نوع ًا جديد ًا من األقالم‬

‫ال يعرف الكتابة إ ّلا عن «السالم»!‬ ‫يا سيدتي‬

‫فأنا لم أعد «أنا»‪..‬‬ ‫بل أصبحت رج ً‬ ‫ال يبحث عن السالم»‪.‬‬

‫وفـي قصيـدة الشـاعرة بنـت البـراء‬ ‫«مواطنـون مـن العالـم الثالـث» تأبيـن‬

‫تتحول فيها من صيغة‬ ‫ألحالم أمة‪ ،‬حيث ّ‬ ‫ضائعة‬ ‫«ضائعـة ووتري مثلـي‪،‬‬ ‫اإلفـراد‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫منفي ٌـة» إلـى صيغـة الجمـع «مواطنـون‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ُمْمَتهنـون‪ ،‬محنّطـون» والضمير الجمعي‬ ‫«كلُّنـا لكننـا ‪ »...‬فالجميـع يعيـش خـارج‬ ‫األطـر الطبيعيـة‪ ،‬مغتربـون فـي وطنهـم‬ ‫سـاكنون مخـدرون فـي زمـن متحـرك‪،‬‬ ‫تطحنهـم المصائـب ويدفعـون ثمـن‬ ‫تضحيتهـم‪:‬‬ ‫وطن‬ ‫«مواطنون ك ُّلنا لكننا بال‬ ‫ْ‬ ‫مهن‬ ‫مُ ْم َتهنون كلنا لكننا بال‬ ‫ْ‬

‫الزمن‬ ‫مح ّنطون غارقون في توابيت‬ ‫ْ‬ ‫ت مِ َح ْن‬ ‫وكلما م ّر ْ‬

‫الثمن»‪.‬‬ ‫كانت دماؤنا‬ ‫ْ‬ ‫فتصور‪،‬‬ ‫أمـا الشـاعرة بنت عبـد الحي‬ ‫ّ‬ ‫بمـرارة‪ ،‬حـال أمـة لبسـت جلبابـ ًا مـن‬ ‫الشـؤم‪ ،‬واتخذت مـن الخطابات الجوفاء‬ ‫ُجَرعـ ًا مهدئـة؛ لكـي تبقـى الهيـة عـن‬ ‫همومهـا‪:‬‬ ‫«ال در يُرجى في وهاد أتـرعــت‬

‫من نقع طير الشؤم تهوي كالظلل‬

‫ما في الخطابات الطويلة سلوة‬

‫خسئت خطابات الحديث المرتجل‬

‫جـرع مهـدئـة تـزيـد عـنـاءنـا‬

‫مهـمـا بقـيـنـا وحـدنـا حـول الطلـل‬

‫لتظل من خلف الستائر زمرة‬

‫في الكهف ال يدرون ماذا قد حصل»‪.‬‬ ‫وتلـوذ الشـواعر الموريتانيـات فـي‬ ‫معالجـة همـوم أمتهـن أو قضايـا المـرأة‬ ‫بـإرادة قويـة‪ ،‬ال ينـال منهـا السـاخرون‬ ‫مـن أحالمهـا‪ ،‬فلهـا رصيـد مـن الصبـر ال‬ ‫تصـل إلـى كنهـه أو تـدرك مـداه األقمـار‬ ‫الكاشـفة‪ ،‬تقـول بنـت البـراء‪:‬‬ ‫الحبل لم َّ‬ ‫َ‬ ‫يفل في َع ُض ِدنا‬ ‫«إذا شددنا‬

‫الكالم‬ ‫أفانين‬ ‫داعي ٌة مه ّرج وال‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫يقارب ذه َننا تم ّر ٌد وال اعتصام‬ ‫ولم‬ ‫ْ‬ ‫الجميع‬ ‫ن َِع ُمنا محسود ٌة من‬ ‫ْ‬ ‫فهم س ِ ّرها‬ ‫لم يستطيعوا‬ ‫َ‬ ‫اآلن َ‬

‫مخازن الصبرِ وال‬ ‫لم تكتشف أقمارُهم‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫والكالم»‪.‬‬ ‫الوعود‬ ‫مصانع‬ ‫ْ‬ ‫َ‬

‫لقـد عالجـت الموريتانيـة قضايـا األمة‬ ‫بقلـب مشـفق مثقـل بالجـراح‪ ،‬لكنهـا‪ ،‬في‬ ‫عالجهـا قضايـا المـرأة‪ ،‬لـم تخلـص مـن‬ ‫عقـدة الشـعور بهيمنـة الرجـل‪ ،‬فوجهـت‬ ‫إليـه سـهام نقـد الذع بخطـاب منتفـض‬ ‫موتـور فيـه قدر كبير من االسـتعالء على‬ ‫رجولته‪.‬‬ ‫‪15‬‬

‫حصار يُط ّوق مدارس القدس‬

‫رام اهلل‪ :‬عبداهلل عمر‬ ‫طالمـــا كانـــت القـــدس بـــؤرة صـــراع‬ ‫عرب ــي‪ -‬إس ــرائيلي‪ ،‬عل ــى م ــدى عق ــود‬ ‫ـوان‬ ‫طويلــة‪ ،‬وطــوال هــذه الفتــرة لــم تتـ َ‬ ‫الدولـــة المحتلـــة عـــن طمـــس كل معلـــم‬ ‫فلســطيني‪ ،‬وتضييــق ُســبل العيش على‬ ‫المقّدس ــة‪.‬‬ ‫س ــكان المدين ــة ُ‬ ‫المؤسســـات‬ ‫محـــاوالت‬ ‫وامتـــدت‬ ‫ّ‬ ‫اإلسرائيلية‪ ،‬سواء الرسمية أم األهلية‪،‬‬ ‫إلــى الســيطرة علــى قطــاع التعليــم كونه‬ ‫مــن أهــم القطاعــات الحيويــة التــي تؤثــر‬ ‫عل ــى ثقاف ــة المجتم ــع وطريق ــة تفكي ــره‬ ‫عبــر التالعــب فــي تنشــئة الجيــل الجديــد‬ ‫علــى أفكار ومعتقدات تناســب سياســتها‬ ‫االحتالليــة علــى األرض‪.‬‬ ‫التوجهـــات الخطيـــرة بدأتهـــا‬ ‫هـــذه‬ ‫ّ‬ ‫إســرائيل عبــر عــدد كبيــر مــن السياســات‬ ‫واإلج ــراءات الت ــي اتخذته ــا الحكوم ــات‬ ‫المتعاقبـــة منـــذ احتـــال القـــدس عـــام‬ ‫‪ 1967‬وحت ــى ه ــذا الي ــوم‪ ،‬ف ــي س ــبيل‬ ‫تغييــر المناهــج التعليميــة األردنية التي‬ ‫كان ــت تعتم ــد عليه ــا آلي ــة التعلي ــم ف ــي‬ ‫المدين ــة من ــذ الش ــهر األول الحتالله ــا‪.‬‬ ‫وبع ــد ه ــذا الق ــرار ج ــاء م ــا ه ــو أه ــم‬ ‫‪16‬‬

‫من ــه بف ــرض مناه ــج تعليمي ــة تطبقه ــا‬ ‫فـــي المـــدارس العربيـــة فـــي األراضـــي‬ ‫المحتلـــة عـــام ‪ ،1948‬ومـــع تعاقـــب‬ ‫ـأل جهــدًا إلدخــال المناهــج‬ ‫الســنوات لــم تـ ُ‬ ‫اإلســـرائيلية إلـــى السياســـة التعليميـــة‬ ‫تدريجيـــاً‪ ،‬فاســـتبدلت كلمـــة إســـرائيل‬ ‫بفلس ــطين‪ ،‬وكلم ــة الق ــدس بأورش ــليم‪،‬‬ ‫وتزويــر حقائــق التاريــخ والجغرافيا من‬ ‫خ ــال وص ــف التاري ــخ اإلس ــامي بأن ــه‬ ‫تاري ــخ فت ــن وح ــروب‪.‬‬ ‫وح ــول ه ــذا يوض ــح الدكت ــور كم ــال‬ ‫الشـــاعر أن إســـرائيل‪ ،‬وبعـــد احتاللهـــا‬ ‫المدينــة بعاميــن فقــط‪ ،‬أصــدرت قانون ـ ًا‬ ‫أطلقـــت عليـــه اســـم «قانـــون اإلشـــراف‬ ‫علـــى المـــدارس»‪ ،‬والـــذي أدى إلـــى‬ ‫اإلش ــراف الكام ــل عل ــى جمي ــع الم ــدارس‬ ‫بم ــا فيه ــا الم ــدارس الخاص ــة بالطوائ ــف‬ ‫الدينيـــة إضافـــة للمـــدارس األهليـــة‬ ‫الخاصـــة‪.‬‬ ‫ـاء عل ــى ه ــذا القان ــون س ــيطرت‬ ‫وبن ـ ً‬ ‫إســـرائيل علـــى تراخيـــص المـــدارس‬ ‫الجديـــدة‪ ،‬ومصـــادر تمويـــل هـــذه‬ ‫المؤسســـات التعليميـــة‪ ،‬مـــع التدخـــل‬ ‫فـــي المناهـــج التعليميـــة‪ ،‬وخصوصـــا‬ ‫المـــواد الدينيـــة‪ ،‬فعمـــدت إلـــى تغييـــب‬

‫الســـور القرآنيـــة المتحّدثـــة عـــن بنـــي‬ ‫إســرائيل ومنــع تدريســها بشــكل قطعــي‬ ‫ف ــي ه ــذه الم ــدارس‪ ،‬وامتــّد األم ــر إل ــى‬ ‫مـــواد التاريـــخ والجغرافيـــا أيضـــاً‪.‬‬ ‫ويؤكــد المتحّدث نفســه أن المحاوالت‬ ‫اإلس ــرائيلية ل ــم تتوق ــف إل ــى هن ــا‪ ،‬ب ــل‬ ‫طالـــت فـــرض تدريـــس بعـــض األفـــكار‬ ‫التوراتيــة‪ ،‬ضمــن مــواد األدب‪ ،‬واعتمــاد‬ ‫قصــص إســرائيلية‪ ،‬ناهيــك عــن تدريس‬ ‫اللغــة العبريــة بشــكل أساســي وفرضهــا‬ ‫عل ــى كل الم ــدارس لتصب ــح ه ــي اللغ ــة‬ ‫األم‪.‬‬ ‫وج ــدت إس ــرائيل ثغ ــرة أخ ــرى تنف ــذ‬ ‫إلــى المنهــج الفلســطيني‪ ،‬وهــو ادعاؤها‬ ‫أن المنهـــج الفلســـطيني يعانـــي مـــن‬ ‫ضعــف المســتوى‪ ،‬وأن تدخلهــا هذا مبرر‬ ‫فــي ســبيل تنقيحــه وتعزيــزه بمــا يواكب‬ ‫ـور العلمــي والمعلوماتــي‪ ،‬ومن هنا‬ ‫التطـّ‬ ‫بــدأت ببــث المغالطــات‪.‬‬ ‫فيمـــا يشـــير وكيـــل وزارة التربيـــة‬ ‫والتعليـــم الفلســـطينية ناجـــي اللـــوح‬ ‫إلـــى أن الحكومـــات الفلســـطينية‪ ،‬منـــذ‬ ‫اتفاقي ــة أوس ــلو وحت ــى الي ــوم‪ ،‬وقف ــت‬ ‫عاج ــزة عـــن تغييـــر ه ــذا الواقـــع‪ ،‬وكل‬ ‫مـــا يـــدور الحديـــث عنـــه هـــو مقاومـــة‬

‫التوجهـــات اإلســـرائيلية فقـــط‪،‬‬ ‫هـــذه‬ ‫ّ‬ ‫وأن ه ــذه المقاوم ــة ل ــم تع ــد كافي ــة ف ــي‬ ‫ـل مــا تعانيــه المدينــة مــن واقــع أمنــي‬ ‫ِظـّ‬ ‫وسياســي شـّددت فيــه إســرائيل الخنــاق‬ ‫عل ــى كل مناح ــي حي ــاة الس ــكان في ــه‪.‬‬ ‫ويعتـــرف اللـــوح بـــأن هنـــاك‬ ‫مســؤولية حقيقيــة للســلطة تجاه القدس‬ ‫بوج ــه خ ــاص‪ ،‬وأن عليه ــا التفكي ــر ف ــي‬ ‫افتتــاح مــدارس جديــدة تناســب الزيــادة‬ ‫الطبيعيـــة فـــي أعـــداد الســـكان‪ ،‬كـــي ال‬ ‫يضطـــر البعـــض إلـــى إرســـال أبنائهـــم‬ ‫إلـــى مـــدارس إســـرائيلية‪ .‬مؤكـــدًا أن‬ ‫من ــع افتت ــاح ه ــذه الم ــدارس أدى‪ -‬وف ــق‬ ‫دراســات موثقــة لمؤسســات دولية‪ -‬إلى‬ ‫زي ــادة أع ــداد التس ـ ُّـرب الدراس ــي‪ ،‬مم ــا‬ ‫نتــج عنــه ارتفــاع نســبة األميــة والعنــف‬ ‫داخ ــل المجتم ــع‪.‬‬ ‫أمـــا عـــن دور الـــوزارة فيقـــول إن‬ ‫الـــوزارة تعمـــل كل مـــا فـــي وســـعها‬ ‫فعلــه‪ ،‬مــن خــال وضعهــا ضمــن الخطــة‬ ‫االســـتراتيجية للـــوزارة‪ ،‬مـــن خـــال‬ ‫برامـــج تربويـــة وإرشـــادية للحـــّد مـــن‬ ‫العن ــف‪ ،‬وتجهي ــز الم ــدارس بمتطلب ــات‬ ‫التكنولوجي ــا وتوظيفه ــا ف ــي التعلي ــم‪،‬‬ ‫وتدريــب المعلميــن وفــق معايير وطنية‪،‬‬

‫وبرامـــج اإلرشـــاد النفســـي والمهنـــي‪،‬‬ ‫وتطويـــر المنهـــج الفلســـطيني‪.‬‬ ‫لكنـــه عـــاد ليشـــير إلـــى أن هنـــاك‬ ‫قضايـــا البـــد فيهـــا مـــن تدخـــل دولـــي‬ ‫إلعادته ــا إل ــى نصابه ــا‪ ،‬للس ــماح ببن ــاء‬ ‫مـــدارس بالقـــدس‪ ،‬وتحســـين ظـــروف‬ ‫التعليـــم‪ ،‬وعـــدم المســـاس بالمنهـــج‬ ‫الفلســـطيني‪ ،‬وأن بعضهـــا اآلخـــر‬ ‫يعتمـــد علـــى الحالـــة السياســـية وفـــق‬ ‫االتفاقيـــات التـــي يمكـــن الوصـــول لهـــا‬ ‫ال بيـــن الطرفيـــن‪ .‬ويضيـــف‪ :‬ال‬ ‫مســـتقب ً‬ ‫يختل ــف اثن ــان عل ــى توجه ــات إس ــرائيل‬ ‫الرامي ــة إل ــى إف ــراغ مدين ــة الق ــدس م ــن‬ ‫ســكانها بالدرجــة األولــى‪ ،‬وإلــى تزييــف‬ ‫وعيهــم بالدرجــة الثانيــة‪ ،‬وإلى إضعاف‬ ‫صورته ــم وثقافته ــم بالدرج ــة الثالث ــة‪،‬‬ ‫وكل هـــذه المحـــاوالت تبـــدأ بالتالعـــب‬ ‫بس ــلك التعلي ــم‪ ،‬والنظ ــام المتب ــع‪ ،‬م ــن‬ ‫مـــدارس إلـــى وظائـــف وصـــو ًال إلـــى‬ ‫مناهـــج‪ ،‬وتصـــل إلـــى مبتغاهـــا كلمـــا‬ ‫نجح ــت ف ــي إغ ــاق مدرس ــة قديم ــة‪ ،‬أو‬ ‫تحويــل أعــداد مــن الطــاب إلــى الدراســة‬ ‫فــي مدارســها المختلطــة والمنتشــرة فــي‬ ‫األحي ــاء العربي ــة ف ــي الق ــدس الش ــرقية‬ ‫المحتلّـــة‪ .‬فهـــي تســـعى مـــن خـــال‬

‫ضغوطاتهــا إلــى إفراغ المــدارس العربية‬ ‫م ــن طالبه ــا‪ ،‬وإجب ــار األهال ــي إلرس ــال‬ ‫أبنائهـــم إلـــى مـــدارس تســـيطر هـــي‬ ‫بالكامــل علــى مناهجهــا التعليميــة‪ ،‬التــي‬ ‫حرف ــت فيه ــا كت ــب التاري ــخ والجغرافي ــا‬ ‫ّ‬ ‫واألدب وحتـــى الديـــن‪.‬‬ ‫مــن جهتــه‪ ،‬يوضــح الخبيــر التربــوي‬ ‫خال ــد يون ــس أب ــرز م ــا يعي ــق التعلي ــم‬ ‫ـا‪« :‬هنــاك‬ ‫داخــل المدينــة بالتفصيــل قائـ ً‬ ‫مش ــاكل وصعوب ــات ِعــّدة يعان ــي منه ــا‬ ‫قطـــاع التعليـــم فـــي القـــدس المحتلّـــة‪،‬‬ ‫فمن ــع إنش ــاء م ــدارس جدي ــدة أدى إل ــى‬ ‫اكتظـــاظ شـــديد فـــي أعـــداد الطـــاب‬ ‫داخـــل الفصـــول الدراســـية‪ ،‬وتقصيـــر‬ ‫ـص‬ ‫وزارة التربيــة والتعليــم أدى إلــى نقـ ٍ‬ ‫حـ ٍ‬ ‫ـاد وكبي ــر ف ــي المختب ــرات‪ ،‬وضع ــف‬ ‫التجهي ــزات الرياضي ــة أيضــاً‪ ،‬م ــا ع ــدا‬ ‫النق ــص الواض ــح ف ــي أع ــداد المعلمي ــن‪.‬‬ ‫ـل الحص ــار‬ ‫وه ــذه التحّدّي ــات ف ــي ِظ ـ ّ‬ ‫االقتصـــادي اإلســـرائيلي علـــى مدينـــة‬ ‫القـــدس أدت إلـــى عجـــز مـــادي لســـكان‬ ‫المدين ــة كان صعبــ ًا إيج ــاد بدي ــل عب ــر‬ ‫المـــدارس الخاصـــة التـــي تســـلّل إليهـــا‬ ‫بعــض مــن المناهــج اإلســرائيلية بعدمــا‬ ‫أحكمــت ســيطرتها علــى هــذه المــدارس‪،‬‬ ‫ممــا أدى إلــى نتائــج كارثية علــى الواقع‬ ‫التعليم ــي‪.‬‬ ‫توجـــه‬ ‫ومـــع زيـــادة هـــذه األعبـــاء ّ‬ ‫العدي ــد م ــن ط ــاب المدين ــة للبح ــث ع ــن‬ ‫ف ــرص تعلي ــم مجاني ــة ف ــي م ــدن وق ــرى‬ ‫الضف ــة الغربي ــة‪ ،‬وهن ــا تتجّل ــى معان ــاة‬ ‫جديــدة لهــؤالء بالهجــرة القســرية لمنعهم‬ ‫مــن العــودة لإلقامــة فــي القــدس بحجــة‬ ‫قانـــون إســـرائيلي يقضـــي إلـــى منـــع‬ ‫س ــكان المدين ــة م ــن الع ــودة إليه ــا ف ــي‬ ‫ح ــال أقام ــوا عامــ ًا خ ــارج المدين ــة‪.‬‬ ‫ويعـــّد مـــا تقترفـــه إســـرائيل هنـــا‬ ‫ُ‬ ‫جريم ــة كب ــرى وانته ــاك ًا صارخ ـ ًا لكاف ــة‬ ‫القوانيــن الدوليــة‪ ،‬التــي تديــن االحتــال‬ ‫بشــكل أساســي وكل مــا يترتــب عليــه من‬ ‫إج ــراءات ف ــي ح ــق الس ــكان األصليي ــن‪،‬‬ ‫غيـــر أن إســـرائيل تضـــرب بهـــذا كلـــه‬ ‫عـــرض الحائـــط وتواصـــل إجراءاتهـــا‬ ‫التعســـفية والقمعيـــة واإلجراميـــة فـــي‬ ‫ومؤسس ــاته‪.‬‬ ‫ح ــق التعلي ــم‬ ‫ّ‬ ‫‪17‬‬

‫ورشات‬ ‫من أجل سياسة ثقافية جديدة‬

‫نوارة لحـرش‬ ‫الجزائر‪ّ :‬‬ ‫انطلقت‪ ،‬مؤخراً‪«،‬الجلسات الثقافية‬ ‫فــي الجزائــر»‪ ،‬وهــي بمثابــة ورشــات‪،‬‬ ‫فتحه ــا ناش ــطون وفاعل ــون ثقافي ــون‪،‬‬ ‫مـــن داخـــل «مجموعـــة العمـــل حـــول‬ ‫الثقافي ــة بالجزائ ــر»‪ ،‬والت ــي‬ ‫السياس ــة‬ ‫ّ‬ ‫تأسســـت عـــام ‪ ،2011‬بمبـــادرة مـــن‬ ‫مثقفيــن وإعالمييــن وباحثين‪ ،‬يؤمنون‬ ‫ـتقل‪ ،‬وبالمبادرات‬ ‫بالفعــل الثقافي المسـ ّ‬ ‫الحـــرة‪ .‬المجموعـــة‪ ،‬ومنـــذ‬ ‫الثقافيـــة‬ ‫ّ‬ ‫انطالقتهـــا‪ ،‬تشـــتغل بمســـعى جـــدي‬ ‫لحركية طموحة‬ ‫يتطّلــع إلــى التأســيس‬ ‫ّ‬ ‫ت ــدرس بعم ــق واق ــع القط ــاع الثقاف ــي‬ ‫ف ــي البل ــد‪.‬‬ ‫فبعـــد عقـــد خمســـة لقـــاءات حـــول‬ ‫الثقافية سنة ‪ ،2012‬وإنجاز‬ ‫السياســة‬ ‫ّ‬ ‫الثقافيــة للجزائر في‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫السياس‬ ‫مشــروع‬ ‫ّ‬ ‫سنة ‪ ،2013‬وتنظيم مجموعة ورشات‬ ‫لتعزيـــز قـــدرات الفاعليـــن الثقافييـــن‬ ‫المس ــتقلين عل ــى مس ــتوى الوط ــن ف ــي‬ ‫‪ ،2014‬هــا هــي «مجموعــة العمــل حــول‬ ‫الثقافيـــة بالجزائـــر» تطلـــق‬ ‫السياســـة‬ ‫ّ‬ ‫لســـنة ‪« 2015‬الجلســـات الثقافيـــة»‪،‬‬ ‫ويمثــل هــذا المشــروع المرحلة األســاس‬ ‫ف ــي مس ــعى تعزي ــز الجزائ ــر بسياس ــة‬ ‫ثقافي ــة ناجع ــة‪.‬‬ ‫هذه المبادرة الخاصة‪ ،‬التي تســعى‬ ‫إل ــى إح ــداث وتفعي ــل سياس ــة ثقافي ــة‬ ‫مس ــتقبلية‪ ،‬سيس ــمح «التقري ــر» ال ــذي‬ ‫س ـ ُـيرفع عنه ــا‪ ،‬بوض ــع الي ــد عل ــى م ــا‬ ‫يتوجــب مباشــرته مــن إصالحــات علــى‬ ‫ّ‬ ‫‪18‬‬

‫ـيعزز‬ ‫القطــاع الثقافــي مــن جهــة‪ ،‬كما سـ ّ‬ ‫مـــن جهـــة أخـــرى ويدعـــم مشـــروع‬ ‫الثقافيـــة الـــذي أنجزتـــه‬ ‫السياســـة‬ ‫ّ‬ ‫«مجموعـــة العمـــل حـــول السياســـة‬ ‫الثقافيـــة بالجزائـــر»‪ ،‬والتـــي تســـعى‬ ‫ّ‬ ‫إلــى التحســيس بأهمية القطــاع الثقافي‬ ‫ـتقل وأخط ــار الثقاف ــة الرس ــمية‪.‬‬ ‫المس ـ ّ‬ ‫أطلقـــت مجموعـــة العمـــل‪ ،‬ورغـــم‬ ‫التحّدّي ــات الت ــي تق ــف أمامه ــا‪ ،‬دع ــوات‬ ‫لتنظيـــم جلســـات ثقافيـــة عبـــر ربـــوع‬ ‫الوطـــن لوضـــع جـــرد دقيـــق للقطـــاع‬ ‫الثقافـــي فـــي البـــاد‪ ،‬وقـــد القـــت‬ ‫الفك ــرة استحس ــان ًا م ــن ِقب ــل الفاعلي ــن‬ ‫ف ــي المجتم ــع المدن ــي والثقاف ــي‪ ،‬كم ــا‬ ‫تلقــت المجموعــة ذاتهــا عــدة اقتراحــات‬ ‫م ــن ِقب ــل جمعي ــات وأف ــراد‪ ،‬م ــن م ــدن‬ ‫مختلف ــة‪ ،‬للمس ــاهمة ف ــي تنظي ــم ه ــذه‬ ‫الجلس ــات الت ــي م ــن ش ــأنها أن تض ــع‬ ‫النق ــاط عل ــى الح ــروف ف ــي الكثي ــر م ــن‬ ‫التجــاوزات التــي طالت القطــاع الثقافي‬ ‫والوقــوف علــى حقيقــة وكيفيــة تســيير‬ ‫ه ــذا القط ــاع‪.‬‬ ‫مجلـــة «الدوحـــة» اقتربـــت مـــن‬ ‫أصحـــاب المبـــادرة‪ ،‬وســـألتهم عـــن‬ ‫أهـــداف مشـــروع ورشـــات السياســـة‬ ‫الثقافيـــة فـــي الجزائـــر‪ ،‬وعـــن اآلفـــاق‬ ‫ّ‬ ‫والتطلع ــات واالس ــتراتيجية المنتهج ــة‬ ‫فــي هــذا المســعى‪ .‬وعــن أهــم التوقعــات‬ ‫ح ــول نتائجه ــا‪ ،‬وه ــل س ــتتحقّق عل ــى‬ ‫أرض الواقـــع‪ ،‬وتصبـــح ملموســـة‬ ‫ـــل السياســـة‬ ‫ومبشـــرة باألمـــل فـــي ِظ ّ‬ ‫ُ‬ ‫الثقافيـــة الرســـمية؟ أم ســـتظل مجـــرد‬

‫ورش ــات مفتوح ــة عل ــى أح ــام بعي ــدة‬ ‫المنـــال؟‬

‫المركزية الثّقافة‬ ‫فـــي هـــذا الشـــأن‪ ،‬يقـــول النّاشـــط‬ ‫الثقافـــي‪ ،‬وعــضــــو‪ ‬مجـمـــوعـــــــــــة‬ ‫العمل‪ ‬حــول السياســة الثقافيــة‪ ، ‬عزيــز‬ ‫حمــدي‪« :‬مشــروع جلســات الثقافــة فــي‬ ‫الجزائ ــر ه ــو ن ــداء اس ــتغاثة لمجموع ــة‬ ‫تعم ــل ح ــول مش ــروع سياس ــة ثقافي ــة‬ ‫فــي الجزائــر وتتطلع إلرســاء قواعدها‪،‬‬ ‫المشـــروع يتمثـــل فـــي مجموعـــة مـــن‬ ‫اللقـــاءات مـــع أخصائييـــن وخبـــراء‬ ‫فنانيــن وممثليــن مــن المجتمــع المدنــي‬ ‫لدراســـة الوضعيـــة الحاليـــة لســـتة‬ ‫مجـــاالت ثقافيـــة‪ ،‬هـــي‪ :‬المســـرح‪،‬‬ ‫التراث‪ ،‬الموســيقى‪ِ ،‬‬ ‫الكتاب‪ ،‬السينما‪،‬‬ ‫والفنـــون الجميلـــة‪ .‬وتكـــون بذلـــك‬ ‫فرص ــة لض ـ ّـم ش ــمل العائل ــة الثقافي ــة‬ ‫وفت ــح المج ــال للجمي ــع للتعبي ــر ع ــن‬ ‫أي نقــص مســجل أو لتقديــم مقترحــات‬ ‫حل ــول‪ ،‬والت ــي س ـ ُـتنقل‪ ،‬ع ــن طري ــق‬ ‫تقريــر‪ ،‬شــامل‪ ،‬للــوزارة الوصيــة وكل‬ ‫مهت ــم بالش ــأن الثقاف ــي»‪.‬‬ ‫المتحـّدث نفســه‪ ،‬أضــاف‪ ،‬موضحـ ًا‬ ‫أن اآلف ــاق الم ــراد بلوغه ــا‪ ،‬م ــن خ ــال‬ ‫ه ــذه الورش ــات‪« :‬ه ــي إع ــادة الثقاف ــة‬ ‫إلــى حيويتهــا التــي تعــرف ركــودًا فــي‬ ‫كل النواحــي مــن السياســة إلــى أبســط‬ ‫التعابيــر الفنيــة‪ ،‬ولهــذا ســعت مجموعة‬ ‫العمـــل إلـــى إشـــراك كل الممثليـــن‬ ‫الثقافيي ــن ف ــي المش ــروع ول ــم تتوق ــف‬

‫عائشة بلعابيد‬

‫وجهــت الدعــوة لــكل‬ ‫عنــد هــذا القــدر بــل ّ‬ ‫الفاعليــن فــي المجتمــع‪ ،‬ألن هــذا األخير‬ ‫هــو المســتفيد األول مــن الثقافــة بصفته‬ ‫مســـتهلك ًا لهـــا‪ ،‬وســـتنتهج المجموعـــة‬ ‫خطـــة لتحقيـــق الالمركزيـــة فـــي هـــذا‬ ‫المش ــروع والوص ــول إل ــى أبع ــد نقط ــة‬ ‫ممكن ــة حس ــب تقالي ــد كل منطق ــة»‪.‬‬ ‫حمـــدي‪ ،‬الـــذي قـــال إن مشـــروع‬ ‫الخارطة الثقافية الذي ســيرفق مشروع‬ ‫الجلســات الثقافيــة ُيعـّد األول مــن نوعه‬ ‫في الجزائر‪ .‬أضاف مســتطرداً‪« :‬نتوقع‬ ‫تحقي ــق بع ــض النتائ ــج المهم ــة‪ ،‬لس ــنا‬ ‫نح ــن م ــن يض ــيء ه ــذا الواق ــع المظل ــم‬ ‫ولكــن المؤكــد أننــا سنســاهم فــي وضع‬ ‫هــذه الشــرارة التــي ستشــعل المشــعل‪،‬‬ ‫ال ــذي س ــيتناوب عل ــى حمل ــه الجمي ــع‪،‬‬ ‫وأود أن ألمــح إلــى شــيء هــو أن هــذه‬ ‫النتائـــج لـــن تكـــون فوريـــة بـــل قـــد‬ ‫تســـتغرق ســـنوات‪ ،‬فتبنّـــي سياســـة‬ ‫ثقافيـــة مهـــم‪ ،‬وتحضيـــر المجتمـــع‬ ‫ّ‬ ‫الحتضانه ــا مه ــم كذل ــك»‪.‬‬ ‫وفــي معــرض حديثــه عــن العراقيــل‬ ‫وضــح حمدي‬ ‫التــي تواجــه المجموعــة‪ّ ،‬‬ ‫«ربمــا أغلــب العراقيــل تكمــن فــي‬ ‫قائـ ً‬ ‫ـا‪ّ :‬‬ ‫الجهـــات الرســـمية التـــي تتهـــرب مـــن‬ ‫المب ــادرات المس ــتقلة‪ ،‬فم ــن المس ــتحيل‬ ‫أن تك ــون الثقاف ــة حك ــرًا عل ــى ش ــخص‬ ‫أو مؤسس ــة‪ ،‬ث ــم أن بع ــض القواني ــن‬ ‫ال تعيــق عمــل المجموعــة فحســب‪ ،‬بــل‬ ‫تعيــق النشــاط الثقافــي كلــه‪ ،‬فقوانيــن‬ ‫الجمعيـــات والســـينما والكتـــاب يجـــب‬ ‫مراجعتهــا‪ ،‬ومــن بيــن النقــاط المســجلة‬

‫مرزاق حمداش‬

‫عزيز حمدي‬

‫أيضـــ ًا اإلعـــام الثقافـــي العاجـــز عـــن‬ ‫إث ــارة التغيي ــر عك ــس السياس ــي»‪.‬‬

‫خارطة رقمية للقطاع‬ ‫أمـــا الــنّــاشــــــــط الثـقــافــــــــــي‪،‬‬ ‫مؤسس‪ ‬مجـــمــوعـــــة العــمـل‪ ‬حــــــول‬ ‫السياســـة الثقافيـــة‪ ،‬الدكتـــور عمـــار‬ ‫كســاب‪ ،‬فيقــول مــن جهتــه‪« :‬الجلســات‬ ‫الثقافي ــة ف ــي الجزائ ــر ه ــي عب ــارة ع ــن‬ ‫موضوعاتيــة‪ ،‬تشــمل‬ ‫مجموعــة نــدوات‬ ‫ّ‬ ‫الفني ــة‪ ،‬والت ــي‬ ‫مختل ــف‬ ‫ّ‬ ‫التخصص ــات ّ‬ ‫ستســمح برصــد حــال القطــاع الثقافــي‬ ‫بالجزائـــر بدقـــة‪ ،‬ســـيكون الفاعلـــون‬ ‫الثقافي ــون ومحترف ــو الثقاف ــة ف ــي قل ــب‬ ‫ســـجل آراؤهـــم‬ ‫هاتـــه الجلســـات‪ُ ،‬‬ ‫لت َّ‬ ‫وتطلّعاتهــم واقتراحاتهــم بأمانــة قصــد‬

‫عمار كساب‬

‫كتابــة تقريــر شــامل حول واقــع الفنون‬ ‫يغط ــي‬ ‫والثقاف ــة ف ــي الجزائ ــر‪ ،‬بش ــكل ّ‬ ‫الفني ــة‪ ،‬وسيس ــمح‬ ‫كل االختصاص ــات ّ‬ ‫هـــذا التقريـــر بوضـــع اليـــد علـــى مـــا‬ ‫يتوجـــب مباشـــرته مـــن إصالحـــات‬ ‫ّ‬ ‫عل ــى القط ــاع الثقاف ــي م ــن جه ــة‪ ،‬كم ــا‬ ‫ســـيعزز‪ ،‬مـــن جهـــة أخـــرى‪ ،‬ويدعـــم‬ ‫ّ‬ ‫الثقافيـــة للجزائـــر‬ ‫السياســـة‬ ‫مشـــروع‬ ‫ّ‬ ‫ال ــذي أش ــرفت علي ــه مجموع ــة العم ــل‬ ‫الثقافيـــة بالجزائـــر»‪.‬‬ ‫حـــول السياســـة‬ ‫ّ‬ ‫عمـــار كســـاب‪ ،‬وهـــو يتحـــّدث عـــن‬ ‫المجموعـــة فـــي هـــذا المســـعى‪ ،‬قـــال‪:‬‬ ‫المنتهجـــة هـــي جعـــل‬ ‫«االســـتراتيجية‬ ‫َ‬ ‫االلتفـــاف حـــول هـــذه المبـــادرة علـــى‬ ‫أكب ــر ق ــدر ممك ــن‪ ،‬التف ــاف م ــن ط ــرف‬ ‫والكتــاب والمبدعيــن بصــورة‬ ‫الفنانيــن ُ‬ ‫عامــة‪ ،‬ونســتعمل فــي ذلــك كل وســائل‬ ‫االتصـــال المتاحـــة‪ .‬أمـــا عـــن اآلفـــاق‬ ‫والتطلعـــات فأهمهـــا تزويـــد القطـــاع‬ ‫الثقاف ــي ف ــي الجزائ ــر بمعال ــم س ــليمة‪،‬‬ ‫مبنيــة علــى معلومــات دقيقــة عــن واقع‬ ‫الســاحة الثقافيــة ومتطلبــات العامليــن‬ ‫الثقافيي ــن فيه ــا‪ .‬كم ــا س ــنزود القط ــاع‬ ‫الثقافــي كذلــك بخارطــة رقميــة تســمح‬ ‫بمعرفـــة كل مـــا يجـــري ثقافيـــ ًا وفنيـــ ًا‬ ‫ف ــي الجزائ ــر وكل م ــا ه ــو موج ــود م ــن‬ ‫هيــاكل ثقافيــة وجمعيــات فنيــة وتــراث‬ ‫م ــادي‪ ،‬نس ــعى كذل ــك إل ــى التحس ــيس‬ ‫المســـتقل‬ ‫بأهميـــة القطـــاع الثقافـــي‬ ‫ّ‬ ‫وأخط ــار الثقاف ــة الرس ــمية»‪.‬‬ ‫كســـاب‪ ،‬الخبيـــر فـــي السياســـات‬ ‫الثقافي ــة‪ ،‬أض ــاف ف ــي الس ــياق ذات ــه‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫‪19‬‬

‫«األكيد ســتكون هناك نتائج ملموســة‪.‬‬ ‫كانــت الجزائــر قــد صادقــت علــى اتفاقية‬ ‫اليونســـكو لحمايـــة وتعزيـــز أنـــواع‬ ‫التعبيـــر الثقافـــي منـــذ ثالثـــة أشـــهر‪،‬‬ ‫ولـــم يكـــن ذلـــك ليحـــدث لـــوال عمـــل‬ ‫المجموعـــة منـــذ ســـنوات للتحســـيس‬ ‫بأهميــة المصادقــة علــى هــذه االتفاقية‪.‬‬ ‫كذلــك بــدأت وزارة الثقافــة التفكيــر فــي‬ ‫فتــح المجــال للجمعيــات الثقافية للعمل‬ ‫أكثــر فــي القطاع وتســهيل االســتثمارات‬ ‫في ــه م ــن ط ــرف الخ ــواص‪ ،‬وكل ه ــذه‬ ‫األف ــكار دافعن ــا عنه ــا ف ــي وق ــت كان ــت‬ ‫الدول ــة تحتك ــر بص ــورة مطلق ــة الفع ــل‬ ‫الثقاف ــي»‪.‬‬ ‫الدكت ــور كس ــاب‪ ،‬ي ــرى أن العراقي ــل‬ ‫التــي تواجههــم ال تــكاد تذكــر‪ ،‬إذ يختتــم‬ ‫تصريحــه بالقــول‪« :‬ال تواجهنــا عراقيــل‬ ‫كثي ــرة‪ ،‬ألنن ــا نعم ــل بص ــورة مس ــتقلة‬ ‫عـــن المؤسســـة الرســـمية‪ .‬مـــع ذلـــك‬ ‫أردن ــا أن نق ـّدم مش ــروعنا انطالق ـ ًا م ــن‬ ‫قاع ــات تابع ــة ل ــوزارة الثقاف ــة (قاع ــة‬ ‫فرانــس فانــون برياض الفتــح) ألن هذه‬ ‫الفضــاءات ملــك لــكل الجزائرييــن‪ .‬ومع‬ ‫أننــا نقــوم بحجــز القاعــة ونتفــق علــى‬ ‫مبل ــغ الك ــراء‪ ،‬إال أن مس ــؤولي القاع ــة‬ ‫يســارعون فــي آخــر لحظــة إلــى إلغــاء‬ ‫‪20‬‬

‫الحجــز‪ .‬عراقيــل كهــذه تواجهنــا ولكنهــا‬ ‫ال تضعـــف قناعاتنـــا مـــن أجـــل بنـــاء‬ ‫قط ــاع ثقاف ــي ق ــوي يلم ــع ف ــي س ــماء‬ ‫المنطق ــة»‪.‬‬ ‫مــن جهتــه‪ ،‬يقــول الناشــط الثقافــي‪،‬‬ ‫هش‬ ‫مــرزاق حمــداش‪« :‬الواقــع الثقافــي ّ‬ ‫ومهــزوز‪ ،‬ويرجــع هــذا لغيــاب سياســة‬ ‫ثقافي ــة واضح ــة المعال ــم‪ ،‬وه ــذا األم ــر‬ ‫ليــس وليــد الصدفــة وإنمــا هــو مقصــود‬ ‫مـــن ِقبـــل المؤسســـة الرســـمية ألنهـــا‬ ‫تحـــاول بـــكل الوســـائل والطـــرق أن‬ ‫تجعـــل المثقـــف رهينـــة لديهـــا وتســـد‬ ‫أمام ــه كل األب ــواب والمناف ــذ الت ــي م ــن‬ ‫شــأنها أن تجعــل منــه ُمتحـّـررًا يخــوض‬ ‫فـــي القضايـــا المهمـــة للبـــاد وينقـــد‬ ‫الواق ــع المع ــاش»‪.‬‬ ‫حمـــداش‪ ،‬المعـــروف بنضالـــه‬ ‫الثقافــي‪ ،‬أضــاف‪« :‬إن مجموعــة العمــل‬ ‫حـــول مشـــروع السياســـة الثقافيـــة‬ ‫تنش ــط من ــذ س ــنوات م ــن أج ــل إثب ــات‬ ‫أحقيــة القطــاع فــي نــص قانونــي يكون‬ ‫ُمصادقـــ ًا عليـــه مـــن طـــرف الحكومـــة‬ ‫يعطــي تعريفـ ًا دقيقـ ًا للثقافــة الوطنيــة‬ ‫ويحـــّدد أهـــداف ِ‬ ‫الحـــراك الثقافـــي‬ ‫ُ‬ ‫والوســـائل المتاحـــة لتحقيـــق هـــذه‬ ‫األهـــداف وهـــذا هـــو المتعـــارف عليـــه‬

‫وف ــق الهيئ ــات الدولي ــة‪ ،‬كم ــا تح ــاول‬ ‫المجموعـــة ترســـيخ مفهـــوم الثقافـــة‬ ‫بمـــا يخـــدم أفـــراد المجتمـــع ويحتـــرم‬ ‫المبدعي ــن واليغف ــل حقوقه ــم‪ .‬لألس ــف‬ ‫هــذا المفهــوم غائــب تمام ـ ًا عــن الثقافــة‬ ‫الجزائريـــة ألنهـــا ال تخضـــع لنـــص‬ ‫رســمي ُيح ـّدد األهــداف التــي ُتقــام مــن‬ ‫أجله ــا التظاه ــرات والملتقي ــات وإنم ــا‬ ‫تبقيه ــا دوم ـ ًا حبيس ــة المناس ــبات مم ــا‬ ‫يجردهـــا مـــن الفاعليـــة والتأثيـــر فـــي‬ ‫المجتمـــع»‪.‬‬

‫التح ّرر من ال ّتبعية‬ ‫المجموعـــة‪ ،‬حســـب حمـــداش‪،‬‬ ‫تتطل ــع‪ ،‬دائمــاً‪ ،‬إل ــى تحري ــر القط ــاع‬ ‫الثقافــي مــن التبعية الرســمية والرعاية‬ ‫التـــي تجعلـــه دومـــ ًا فـــي حيـــز ضيـــق‬ ‫«اليخــدم المجتمــع المدنــي وإنمــا يخــدم‬ ‫فقـــط بعـــض الذيـــن ُينســـبون للقطـــاع‬ ‫الثقافـــي زورًا مـــن خـــال اســـتغالل‬ ‫عطـــى كدعـــم‬ ‫الميزانيـــات‪ ،‬التـــي ُت َ‬ ‫لتســيير التظاهــرات والملتقيــات‪ ،‬وهــذا‬ ‫مـــا يســـتوجب وضـــع معاييـــر رادعـــة‬ ‫للتدقي ــق ف ــي الم ــال الع ــام‪ ،‬وه ــو م ــا‬ ‫تمتنـــع عنـــه المؤسســـة المســـؤولة‬

‫ويمتن ــع عن ــه بع ــض المثقفي ــن الذي ــن‬ ‫ألفـــوا االنغمـــاس فـــي الريـــع»‪.‬‬ ‫ويس ــتدرك حم ــداش‪« :‬الننك ــر عل ــى‬ ‫المثق ــف حق ــه المش ــروع ف ــي تقاض ــي‬ ‫مســتحقاته المادية مقابل خدماته ولكن‬ ‫التمييع الحاصل في الوســط الثقافي ال‬ ‫بشــر بالخيــر‪ ،‬ويجعــل المجموعــة فــي‬ ‫ُي ِّ‬ ‫المؤسســة المســؤولة‬ ‫صــراع ليــس مــع‬ ‫ّ‬ ‫فقـــط‪ ،‬بـــل مـــع هـــؤالء األشـــخاص‬ ‫االنتهازييـــن الذيـــن ُيعطلـــون عجلـــة‬ ‫ـور الحض ــاري»‪.‬‬ ‫التقــّدم والتط ـ ّ‬ ‫حمـــداش انتقـــد‪ ،‬سياســـة وزارة‬ ‫الثقافـــة للقطـــاع‪ ،‬إذا قـــال بصريـــح‬ ‫العبــارة‪« :‬القطــاع الثقافــي فــي الجزائــر‬ ‫يعانــي مــن هيمنــة فاضحــة‪ ،‬فكلمــا ُعّي َن‬ ‫وزيــر ثقافــة جديــد نجــده ُيديــر القطــاع‬ ‫بأفــكاره الخاصــة دون الرجــوع للمثقف‬ ‫الــذي هــو أدرى بمــا يــدور فــي القطــاع»‪.‬‬ ‫المتحــّدث نفس ــه ال ُينك ــر أن هن ــاك‬ ‫الكثيـــر مـــن العراقيـــل التـــي تواجـــه‬ ‫أصدقـــاءه فـــي المجموعـــة‪« :‬تعانـــي‬ ‫مجموعـــة العمـــل حـــول مشـــروع‬ ‫السياســة الثقافيــة مــن بعــض العقبــات‬ ‫الت ــي يتوه ــم أصحابه ــا أنه ــا س ــتنقص‬ ‫مــن عزيمتهــم أو تجعلهــم يحيــدون عــن‬ ‫موقفه ــم‪ ،‬فت ــارة يمنع ــون عنه ــم حج ــز‬ ‫قاعـــة إللقـــاء محاضراتهـــم‪ ،‬وتـــارة‬ ‫يلفق ــون له ــم إش ــاعات بأنه ــم يري ــدون‬ ‫زعزع ــة القط ــاع الثقاف ــي والتش ــويش‬ ‫علــى عمــل القائميــن عليــه‪ ،‬وغيرهــا من‬ ‫األلف ــاظ الت ــي ألفناه ــا حت ــى أصبح ــت‬ ‫ماركــة مســجلة باســم المســؤولين عــن‬ ‫القطـــاع»‪.‬‬ ‫ويـــرى حـمــــداش‪ ،‬فـــي األخيـــر‪،‬‬ ‫أن المثقـــف الحقيقـــي‪ ،‬فـــي الجزائـــر‪،‬‬ ‫ينتظـــر الكثيـــر مـــن هـــذه المجموعـــة‬ ‫التـــي تناضـــل مـــن أجـــل بنـــاء صـــرح‬ ‫واضـــح المعالـــم للثقافـــة الجزائريـــة‬ ‫يتش ــارك في ــه الجمي ــع ويع ــود بالنف ــع‬ ‫والفائـــدة علـــى المجتمـــع المدنـــي‪،‬‬ ‫فالمجموعــة تضــم خيــرة أبنــاء الوطــن‬ ‫مــن أســاتذة ودكاتــرة وخبــراء‪ ،‬وتفتــح‬ ‫المجـــال للجميـــع لمشـــاركتها باألفـــكار‬ ‫البن ــاءة ومناقش ــة المواضي ــع الج ــادة‬ ‫الت ــي م ــن ش ــأنها أن ترف ــع الغب ــن ع ــن‬ ‫القطـــاع الثقافـــي‪.‬‬

‫وتذه ــب الباحث ــة الجامعي ــة عائش ــة‬ ‫بلعابيـــد‪ ،‬التـــي اســـتمرت متابعتهـــا‬ ‫لعمــل مجموعــة السياســة الثقافيــة فــي‬ ‫الجزائــر مـّدة ‪ 3‬ســنوات تقريبـاً‪( ،‬فتــرة‬ ‫عرفــت فيهــا الجزائــر والمنطقــة العربيــة‬ ‫ـوالت سياســية ألقــت بظاللهــا علــى‬ ‫تحـّ‬ ‫باقــي المجــاالت)‪ .‬إلــى القــول إن‪« :‬ريح‬ ‫الحرّي ــة الت ــي هب ــت خفيف ـ ًا ث ــم اش ــتدت‬ ‫ّ‬ ‫أدت‬ ‫حتــى عصفــت فــي بعــض األقطــار ّ‬ ‫إلـــى تشـــكيل كيانـــات كثيـــرة مطالبـــة‬ ‫بالحرّيــات والحقــوق‪ ،‬مــن ضمنهــا هــذه‬ ‫ّ‬ ‫المجموع ــات الت ــي تعم ــل عل ــى تحري ــر‬ ‫القطــاع الثقافــي وتمكيــن المثقفيــن مــن‬ ‫الفع ــل الثقاف ــي المس ــتقل دون ضغ ــط‬ ‫سياســي أو أيديولوجــي أو مالــي»‪.‬‬ ‫وبالنســـبة لمجموعـــة السياســـة‬ ‫الثقافيــة فــي الجزائــر‪ ،‬تقــول بلعابيــد‪،‬‬ ‫إن وجودهــا كتكتــل يواجــه العديــد مــن‬ ‫التحّدّي ــات ألن أهداف ــه ال ترض ــي دائم ـ ًا‬ ‫السياســة الثقافيــة المتبعــة فــي الجزائر‬ ‫والت ــي تق ــوم أساســ ًا عل ــى التخطي ــط‬ ‫المركـــزي والتنشـــيط الفلكلـــوري‬ ‫واالكتفـــاء ببعـــض الواليـــات الكبـــرى‬ ‫كواجهــة دون عمــل حقيقــي تســتفيد منه‬ ‫كل المناطـــق فـــي البـــاد‪.‬‬ ‫وفـــي الســـياق‪ ،‬تواصـــل بلعابيـــد‪:‬‬ ‫«وجـــود هـــذه المجموعـــة فـــي نظـــري‬ ‫ضـــروري ليـــس فقـــط لألهـــداف التـــي‬ ‫ســـطرها فريـــق العمـــل ويســـعى إلـــى‬ ‫ّ‬ ‫تحقيقهـــا‪ ،‬بـــل ألنّهـــا تمثـــل المـــرآة‬

‫الوحيـــدة العاكســـة والقـــادرة علـــى‬ ‫القيـــام بالرقابـــة علـــى مـــا تقّدمـــه‬ ‫األجه ــزة الثقافي ــة ف ــي الجزائ ــر ابت ــداء‬ ‫مـــن وزارة الثقافـــة وهياكلهـــا‪ ،‬ومـــن‬ ‫جه ــة أخ ــرى ه ــي حلق ــة وص ــل مهم ــة‬ ‫ألن المواطـــن يحتـــاج إلـــى مـــن يـــزرع‬ ‫الوع ــي وينبه ــه إل ــى ض ــرورة الثقاف ــة‬ ‫ف ــي حي ــاة الن ــاس وه ــذا ال ــدور ال ــذي‬ ‫شـــرعت فـــي القيـــام بـــه مؤخـــرًا مـــن‬ ‫خـــال (الجلســـات الثقافيـــة)»‪.‬‬ ‫وتستخـلص بلعابيد‪« :‬ما يمكنني أن‬ ‫أقّدمــه كمالحظــة نقديــة يتعّلــق بجزئيــة‬ ‫مهمــة فــي نظــري تتعّلــق بإلغــاء وزارة‬ ‫الثقاف ــة أو تهمي ــش دوره ــا‪ ،‬أعتق ــد أن‬ ‫المس ــتهلك الجزائ ــري ل ــم يتع ــود بع ــد‬ ‫عل ــى وج ــود نش ــاط ثقاف ــي يدف ــع في ــه‬ ‫مقابـــا ليســـتمتع بمشـــاهدة مســـرحية‬ ‫ً‬ ‫أو زيـــارة متحـــف أو معـــرض فنـــي‪،‬‬ ‫إذ‪ -‬ولســنوات طويلــة‪ -‬عملــت الــوزارة‬ ‫عل ــى اتب ــاع سياس ــة مجاني ــة المنت ــوج‬ ‫الثقاف ــي‪ .‬وم ــن َث ـّـم أعتق ــد أن األولوي ــة‬ ‫ليســت إلغــاء وزارة الثقافــة ألن دورهــا‬ ‫ض ــروري ف ــي الصيان ــة واإلنت ــاج (بم ــا‬ ‫تتحك ــم في ــه إل ــى ح ــد م ــا) بق ــدر‬ ‫أنه ــا‬ ‫ّ‬ ‫مــا هــو التقــرب مــن الــوزارة وتغييرهــا‬ ‫مـــن الداخـــل‪ ،‬تغييـــر يجـــب أن يكـــون‬ ‫مصحوبـــ ًا بتوعيـــة المجتمـــع علـــى‬ ‫ضـــرورة نســـيان مجانيـــة المنتـــوج‬ ‫الثقاف ــي (الثقاف ــة صناع ــة والصناع ــة‬ ‫ليس ــت مجاني ــة)»‪.‬‬ ‫‪21‬‬

‫دلفين مينوي تعود إلى جذورها‬ ‫بيروت‪ :‬موناليزا فريحة‬ ‫فــي محطــة قصيــرة فــي بيــروت‪ ،‬فــي‬ ‫ـت الكاتبــة‬ ‫َّعـ ْ‬ ‫طريقهــا إلــى إســطنبول‪َ ،‬وق َ‬ ‫والصحافيــة اإليرانيــة‪ -‬الفرنســية دلفيــن‬ ‫مينـــوي كتابهـــا الجديـــد (دار ســـوي‪-‬‬ ‫باريــس) «أكتــب لكــم عــن طهــران»‪ ،‬الــذي‬ ‫ه ــو عب ــارة ع ــن جول ــة ف ــي قل ــب إي ــران‬ ‫تكشــف بجــرأة وموضوعيــة تناقضاتهــا‬ ‫وأس ــرارها‪ .‬أم ــا زيارته ــا إل ــى بي ــروت‬ ‫فكان ــت برعاي ــة مؤسس ــة «ب ــان كل ــوب»‬ ‫العالمي ــة‪ ،‬ف ــرع لبن ــان‪.‬‬ ‫دلفي ــن مين ــوي الت ــي التقته ــا مجل ــة‬ ‫«الدوحــة» فــي العاصمــة اللبنانيــة تبــدو‬ ‫كاتبــة وصحافيــة جريئــة خاضــت غمــار‬ ‫قضايـــا شـــائكة فـــي المنطقـــة الشـــرق‬ ‫أوســـطية األشـــّد اشـــتعا ًال وتوتـــراً‪،‬‬ ‫وتمكنـــت مـــن كتابـــة ريبورتاجـــات‬ ‫ّ‬ ‫مهم ــة‪ ،‬ووضع ــت كتبــ ًا كان له ــا وقعه ــا‬ ‫فــي فرنســا وفــي العالــم عبــر ترجماتهــا‪.‬‬ ‫وال ســيما كتابهــا «أنــا‪ ،‬نجــود‪ ،‬المطلَّقــة‬ ‫وهـــي فـــي العاشـــرة»‪ ،‬الـــذي يتنـــاول‬ ‫مأســـاة الطفلـــة اليمنيـــة التـــي طلقـــت‬ ‫زوجهـــا فـــي العاشـــرة بعدمـــا ُأجبـــرت‬ ‫ـــم هـــذا‬ ‫علـــى الـــزواج منـــه‪ ،‬وقـــد ُتْر ِج َ‬ ‫الكت ــاب إل ــى حوال ــي ثالثي ــن لغ ــة‪ ،‬م ــن‬ ‫ضمنهـــا العربيـــة‪.‬‬ ‫ل ــم تش ــأ دلفي ــن ف ــي كتابه ــا األخي ــر‬ ‫ّإل أن تتحــّدث ع ــن إي ــران «كم ــا ه ــي»‪.‬‬ ‫رفض ــت تأطي ــر ه ــذا البل ــد ال ــذي أمض ــت‬ ‫فيـــه ســـنوات ســـاعية وراء جذورهـــا‬ ‫العائليـــة‪ ،‬فـــي فكرتيـــن متناقضتيـــن‬ ‫ومتطرفتيـــن‪.‬‬ ‫المراســـلة الخاصـــة لجريـــدة «لـــو‬ ‫فيغــارو» فــي الشــرق األوســط‪ ،‬تحّدثــت‬ ‫بشــغف عن إيران‪ ،‬بحســناتها وســيئاتها‬ ‫المتطرف ــة الت ــي‬ ‫بعي ــدًا م ــن الكليش ــيهات‬ ‫ّ‬ ‫ـروج له ــا صحافي ــون يمض ــون بضع ــة‬ ‫ُي ـ ّ‬ ‫أيــام فــي إيــران‪ .‬هــؤالء فــي رأيهــا يــرون‬ ‫‪22‬‬

‫إيــران مجــرد «نســاء بشــادورات ســود‪،‬‬ ‫حرّي ــات‪ ،‬وإس ــام ُمتشــّدد»‪.‬‬ ‫وبل ــد ب ــا ّ‬ ‫ترف ــض مين ــوي أيضــ ًا الفك ــرة النقي ــض‬ ‫أيضـــ ًا التـــي توردهـــا بعـــض الصحـــف‬ ‫الفرنكوفونيـــة مركـــزة علـــى شـــبان‬ ‫يذهبـــون للتزلـــج ويشـــربون الكحـــول‬ ‫ويســـهرون فـــي الحانـــات ويدمنـــون‬ ‫المخـــدرات فـــي الســـهرات ويعيشـــون‬ ‫علـــى الطريقـــة الغربيـــة‪ .‬فـــي منظـــور‬ ‫مينـــوي إيـــران الحقيقيـــة تكمـــن بيـــن‬ ‫هاتيـــن النظريتيـــن المتطرفتيـــن‪ .‬لكـــن‬ ‫مينـــوي التـــي عاشـــت عشـــر ســـنوات‬ ‫فـــي إيـــران‪ ،‬تبـــدو متفائلـــة بالمجتمـــع‬ ‫المدن ــي الحي ــوي والناش ــط ج ــداً‪ ،‬عل ــى‬ ‫رغــم كل هــذه القيــود‪ .‬تقــول لـ«الدوحة»‪:‬‬ ‫«فــي الجامعــات تعبئة سياســية ناشــطة‬ ‫ونقاشــات واســعة حــول الديموقراطية‪،‬‬ ‫وم ــا إذا كان ــت الديموقراطي ــة تتع ــارض‬ ‫واإلســام‪ .‬وفــي غيــاب أحزاب سياســية‬ ‫معارضــة حقيقيــة‪ ،‬باســتثناء تلــك التي‬ ‫تحظـــى برضـــى الســـلطات‪ ،‬تضطلـــع‬ ‫الصحـــف بـــدور المعارضـــة الحقيقيـــة‬ ‫والس ــلطة الرابع ــة»‪.‬‬ ‫تب ــدأ دلفي ــن كتابه ــا س ــاردة حكايته ــا‬ ‫مـــع صـــورة جّدهـــا اإليرانـــي‪ ،‬بابـــاي‪،‬‬ ‫ـل ُيمّثــل لغــزًا فــي حياتهــا علــى‬ ‫الــذي ظـ ّ‬ ‫رغــم قربهــا الشــديد منــه‪ .‬فالجـّد اإليرانــي‬ ‫أدى دورًا أساس ــي ًا ف ــي حي ــاة حفيدت ــه‬ ‫الفرنســية الصغيــرة‪ .‬فهــو الــذي أعطاهــا‬ ‫ال ــدروس األول ــى ف ــي اللغ ــة الفارس ــية‪،‬‬ ‫ثـــم جعلهـــا تحفـــظ غيبـــ ًا أبيـــات كبـــار‬ ‫ش ــعراء الف ــرس‪ ،‬مث ــل حاف ــظ وس ــعدي‬ ‫والخي ــام وس ــواهم‪ ،‬م ــن دون أن يعل ــم‬ ‫أنّـــه كان يرســـم بدروســـه هـــذه مســـار‬ ‫دلفي ــن ومس ــتقبلها‪ ،‬الس ــيما ف ــي عال ــم‬ ‫الكتاب ــة‪.‬‬ ‫وبعيــن الصحافيــة وهاجــس الكاتبــة‬ ‫ســعت مينــوي إلــى الغــوص فــي البحــث‬ ‫عــن شــخصية هــذا الجــد‪ ،‬هذه الشــخصية‬

‫الغني ــة ف ــي تعقيداته ــا‪ ،‬فوج ــدت نفس ــها‬ ‫خـــال هـــذا البحـــث كأنهـــا تبحـــث عـــن‬ ‫ص ــورة إي ــران نفس ــها‪ .‬وحي ــال نه ــوض‬ ‫الحني ــن إل ــى إي ــران جده ــا ف ــي ذهنه ــا‪،‬‬ ‫راح ــت دلفي ــن مين ــوي تكت ــب م ــا يش ــبه‬ ‫المذك ــرات والمش ــاهدات واالنطباع ــات‪،‬‬ ‫وســـكبتها كله ــا ف ــي ن ــص يق ــارب أدب‬ ‫آن واحــد‪.‬‬ ‫الرحلــة والســيرة الذاتيــة فــي ٍ‬ ‫وشــاءت أن تعتمــد تقنيــة أدب الرســالة‬ ‫فأدرجـــت النصـــوص كلهـــا فـــي شـــكل‬ ‫تتوجــه بهــا إلــى جّدهــا اإليرانــي‪،‬‬ ‫رســالة ّ‬ ‫الملهــم والمعّلــم األول‪ ،‬وراحــت تخاطبــه‬ ‫ُ‬ ‫والتحـــوالت‬ ‫راويـــة لـــه أحـــوال إيـــران‬ ‫ّ‬ ‫التـــي طـــرأت عليهـــا‪ .‬إنهـــا تســـرد لـــه‬ ‫إيــران مــا بعــد ‪ 1997‬الســنة التــي زارت‬ ‫فيه ــا إي ــران لتقي ــم فيه ــا عش ــر س ــنوات‪،‬‬ ‫أي حتـــى ‪..2007‬‬ ‫ـل العن ــوان بح ــد ذات ــه «أكت ــب لك ــم‬ ‫َلع ـ ّ‬ ‫ـدل عل ــى الغاي ــة الت ــي‬ ‫ع ــن طه ــران»‪ ،‬ي ـ ّ‬ ‫ـن الق ــارئ ق ــد‬ ‫س ــعت إليه ــا الكاتب ــة‪ .‬لك ـ ّ‬ ‫أي طه ــران تكت ــب مين ــوي؟‬ ‫يس ــأل‪ :‬ع ــن ّ‬ ‫ه ــل تكت ــب ع ــن العاصم ــة الت ــي تربطه ــا‬ ‫بهــا عالقــة حنيــن‪ ،‬أم عــن العاصمة التي‬ ‫عملــت فيهــا بصفتها صحافية ومراســلة‪،‬‬ ‫أم عــن المدينــة الســاحرة التــي لــم تكــن‬ ‫تتصورهـــا بهـــذا الجمـــال وهـــذه الفتنـــة‬ ‫ّ‬ ‫والت ــي ال تخل ــو م ــن التناقض ــات؟‬ ‫هكـــذا عمـــدت مينـــوي‪ ،‬مـــن خـــال‬ ‫لغ ــة س ــردية وموضوعي ــة‪ ،‬إل ــى نق ــل‬ ‫تفاصيـــل مدينـــة تقـــوم علـــى نظـــام‬ ‫الثنائيــات المتقابلــة‪ُ .‬تدخــل القــارئ فــي‬ ‫صميــم عالـٍـم جــاذب فــي غموضــه‪ ،‬حتى‬ ‫لتغ ــدو ش ــهادتها نوع ـ ًا م ــن الكش ــف ع ــن‬ ‫الوج ــه اآلخ ــر للمدين ــة‪ ،‬وجهه ــا الخف ــي‬ ‫والمجهـــول‪ :‬االحتفـــاالت الممنوعـــة‬ ‫والســـهرات الخاصـــة التـــي دخلتهـــا‪،‬‬ ‫العالق ــات والصداق ــات‪ .‬حاول ــت دلفي ــن‬ ‫وجهـــي المدينـــة‬ ‫فـــي كتابهـــا أن تظهـــر َ‬ ‫المتأرجحـــة بيـــن القمـــع واالرتقـــاء‪.‬‬

‫هــذان الوجهــان اللــذان يصنعــان مزاياهــا‬ ‫الفريــدة‪ :‬مدينــة التناقضات التي تتقاطع‬ ‫فيهـــا نســـوة التشـــادورات المحافظـــات‬ ‫المتعـــّددة‬ ‫والخاضعـــات للســـلطات ُ‬ ‫والنس ــوة المثقف ــات المعجب ــات بالنم ــط‬ ‫والمتحـــررات‪ ،‬ولـــو بالســـر‪،‬‬ ‫الغربـــي‬ ‫ّ‬ ‫واللوات ــي يق ــرأن رواي ــة «لوليت ــا» ف ــي‬ ‫لقــاءات مغلقــة‪ ،‬كمــا تشــير الكاتبــة اذار‬ ‫نفيســي فــي روايتهــا الشــهيرة «أن تقــرأ‬ ‫لوليت ــا ف ــي طه ــران»‪.‬‬ ‫أس ــأل مين ــوي لم ــاذا اخت ــارت الس ــفر‬ ‫إلـــى إيـــران عـــام ‪ ،1997‬وهـــو عـــام‬ ‫ش ــهد أحداثــ ًا كبي ــرة‪ ،‬تق ــول‪« :‬كن ــت ق ــد‬ ‫نلـــت للتـــو شـــهادتي فـــي الصحافـــة‪،‬‬ ‫وأصبحـــت جاهـــزة لخـــوض السياســـة‬ ‫اإليرانيـــة‪ ،‬وقـــد دفعنـــي إلـــى الســـفر‬

‫المن ــاخ السياس ــي ال ــذي أعق ــب انتخ ــاب‬ ‫للجمهوريــة‪ ،‬وهــو‬ ‫محمــد خاتمــي رئيسـ ًا‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫كان بمثابــة بدايــة حقيقيــة لحقبــة جديدة‬ ‫فــي تاريــخ إيــران‪ .‬وهــي حقبــة االنفتــاح‬ ‫عل ــى الغ ــرب بع ــد فت ــرة انغ ــاق إي ــران‬ ‫علـــى نفســـها منـــذ أن حصلـــت الثـــورة‬ ‫ع ــام ‪ .1979‬وق ــد حم ــل مج ــيء خاتم ــي‬ ‫آمــا ًال كبيــرة للشــعب اإليرانــي الــذي كان‬ ‫ينتظ ــر مث ــل ه ــذه اللحظ ــة التاريخي ــة‪،‬‬ ‫ـن اآلم ــال راح ــت تتض ــاءل»‪.‬‬ ‫لك ـ ّ‬ ‫وتضيـــف مينـــوي عـــن هـــذا الخيـــار‬ ‫بالعـــودة إلـــى بالدهـــا األم فـــي تلـــك‬ ‫اآلونـــة قائلـــة‪« :‬حمـــل ســـفري إلـــى‬ ‫أو ًال ألكتشـــف‬ ‫إيـــران أهدافـــ ًا بـــارزة‪ّ :‬‬ ‫فـــي والتـــي‬ ‫الـــذات اإليرانيـــة الكامنـــة ّ‬ ‫ورثته ــا ع ــن أب ــي‪ ،‬وثانيــ ًا ألع ــود إل ــى‬

‫وأتمك ــن م ــن‬ ‫ج ــذوري الضارب ــة هن ــاك‬ ‫ّ‬ ‫المصالحـــة‪ ..‬جـــزء منـــي أجهلـــه وهـــو‬ ‫ال ــذي ورثت ــه ع ــن أج ــدادي اإليرانيي ــن‪.‬‬ ‫وثالثـ ًا ألتمكــن مــن الكتابــة الحقيقيــة عن‬ ‫إي ــران م ــن قل ــب الب ــاد وأرس ــم ص ــورة‬ ‫للقـــراء الفرنســـيين‬ ‫واقعيـــة أقّدمهـــا‬ ‫ّ‬ ‫والغربيي ــن الذي ــن ال ي ــرون ف ــي إي ــران‬ ‫والتعصـــب وســـوء‬ ‫ســـوى اإلرهـــاب‬ ‫ُّ‬ ‫معاملـــة المـــرأة والشـــادور واإلســـام‬ ‫المتطـّـرف‪ ،‬وإيــران ال يمكــن حصرهــا في‬ ‫ه ــذه المواصف ــات فق ــط‪ .‬هن ــاك ش ــعب‬ ‫ـور والحداثة‬ ‫إيرانــي حقيقــي يحلــم بالتطـّ‬ ‫ـي‬ ‫واالنفت ــاح‪ .‬أؤك ــد أن المجتم ــع اإليران ـ ّ‬ ‫يضــج بالحيــاة‪ .‬ورحــت‪ ،‬فــي مقاالتــي‪،‬‬ ‫كم ــا ف ــي كتاب ــي‪ ،‬أنق ــل قص ــص طه ــران‬ ‫التـــي يجهلهـــا اآلخـــرون تمامـــاً»‪.‬‬ ‫ولكـــن‪ ،‬مـــن المالحـــظ أن الشـــعب‬ ‫اإليران ــي ل ــم يتأث ــر بالث ــورات المندلع ــة‬ ‫حولــه فــي العالــم العربــي‪ .‬مــا سـّـر عــدم‬ ‫ـمة‪:‬‬ ‫التفاع ــل ه ــذا؟ أس ــألها فتجي ــب مبتس ـ ً‬ ‫«كان الش ــعب اإليران ــي واعيــ ًا ج ــدًا بم ــا‬ ‫يحص ــل ف ــي العال ــم العرب ــي‪ ،‬وكثي ــرون‬ ‫مــن السياســيين والصحافييــن الذيــن هــم‬ ‫رحبــوا‬ ‫علــى خــاف مضمــر مــع الســلطة ّ‬ ‫بمثـــل هـــذه الثـــورات‪ ،‬وربمـــا أخذوهـــا‬ ‫مثــاالً‪ .‬لكنهــم حــذرون جــداً‪ ،‬وال يريــدون‬ ‫أن يحصــل خــراب فــي إيــران كمــا يحصــل‬ ‫فـــي العالـــم العربـــي الملتهـــب‪ .‬لعلّهـــم‬ ‫ينتظـــرون رحيـــل خامينئـــي ليمضـــوا‬ ‫فـــي ثـــورة إصالحيـــة هادئـــة لكنهـــا‬ ‫صلب ــة‪ .‬ال أخفي ــك أن م ــن ي ــزور إي ــران‬ ‫ويحت ــك بالنخ ــب السياس ــية والثقافي ــة‬ ‫يش ــعر أن ش ــيئ ًا م ــا تس ــتعد ل ــه إي ــران‬ ‫أو الشـــعب اإليرانـــي‪ .‬ويشـــعر الزائـــر‬ ‫أيض ـ ًا ب ــأن هن ــاك غليان ـ ًا ف ــي المجتم ــع‬ ‫ولــدى األجيــال الجديــدة‪ .‬الفســاد واضــح‬ ‫والســـلطة ســـاهرة وقاســـية‪ .‬ومـــن‬ ‫المالحـــظ أيضـــ ًا أن اإليرانييـــن اليـــوم‬ ‫ـن‬ ‫متمرس ــين رغمــ ًا عنه ــم ف ــي ف ـ ّ‬ ‫بات ــوا ّ‬ ‫الكـــذب االجتماعـــي‪ ،‬فهـــم ال يجـــرؤون‬ ‫بحرّيــة خوف ـ ًا مــن التهــم‬ ‫علــى التصـّـرف ّ‬ ‫والوش ــايات والقم ــع»‪.‬‬ ‫‪23‬‬

‫نخب جديدة في المشهد الثقافي المغربي‬

‫الدار البيضاء‪:‬عبدالحق ميفراني‬ ‫توجـــت جائـــزة كتـــارا‪ ،‬هـــذا‬ ‫عندمـــا َّ‬ ‫ال مـــن الروائييـــن المغربييـــن‬ ‫العـــام‪ ،‬ك ً‬ ‫عبدالجلي ــل التهام ــي الوزان ــي‪ ،‬وزكري ــا‬ ‫أب ــو ماري ــا‪ ،‬ف ــي صن ــف الرواي ــات غي ــر‬ ‫المنشـــورة‪ ،‬أعـــاد الوســـط الثقافـــي‬ ‫المغربي اكتشــاف اســمين غيــر متداولين‬ ‫فـــي اإلعـــام الثقافـــي‪ .‬خصوصـــ ًا أن‬ ‫الروائـــي الثانـــي زكريـــا أبـــو ماريـــا‬ ‫ـــو َج بجائـــزة الطيـــب‬ ‫ســـبق لـــه أن ُت ّ‬ ‫صالــح الســودانية فــي صنــف المســرح‪،‬‬ ‫وبحك ــم انتمائ ــه لم ــا ُيع ــرف بـ«المغ ــرب‬ ‫ـل االس ــم غي ــر مك ـ َّـرس‬ ‫الهام ــش» فق ــد َظ ـ ّ‬ ‫ف ــي المش ــهد الثقاف ــي‪ .‬وس ــبق لروائ ــي‬ ‫آخــر هــو عبدالرحيــم لحبيبــي أن وصلت‬ ‫روايتــه «تغريبــة العبــدي» إلــى الالئحــة‬ ‫القصيـــرة للبوكـــر الســـنة الماضيـــة‪،‬‬ ‫وفج ــأة اس ــتيقظ الوس ــط نفس ــه ال ــذي‬ ‫اعتـــاد تكريـــس أســـماء بعينهـــا يســـأل‬ ‫عــن صاحــب الروايــة‪ ،‬بــل لقــد اســتطاع‬ ‫بعـــض اإلعالمييـــن أن يعيـــدوا تكـــرار‬ ‫العتـــاب نفســـه علـــى المبـــدع‪ ،‬وكأنـــه‬ ‫المســـؤول المباشـــر عـــن عـــدم معرفـــة‬ ‫المشـــهد الثقافـــي بإنتاجـــه!‬ ‫ـــر‬ ‫وفـــي تصريـــح الفـــت حينهـــا‪َ ،‬عّب َ‬ ‫الروائــي لحبيبــي عــن إحساســه بثقافــة‬ ‫االعتـــراف المتأخـــر‪ ،‬غيـــر أنـــه يعـــّد‬ ‫الكتابـــة‪ ،‬دائمـــاً‪ ،‬جـــزءًا مـــن تكريـــس‬ ‫لوج ــوده الخ ــاص‪ ،‬وإلثب ــات حض ــوره‬ ‫بقــوة‪ .‬هــو يعــي انتماءه إلــى «الهامش»‪،‬‬ ‫وهــو هنــا يتقاطــع مــع رأي المبــدع اآلخر‬ ‫زكريــا أبــو ماريــا‪ ،‬لكنهمــا معـ ًا ينتصران‬ ‫‪24‬‬

‫لقيــم الكتابــة ويجعالنهــا طرفـ ًا أساســي ًا‬ ‫فـــي هـــذه المعادلـــة لتكريـــس هويـــة‪،‬‬ ‫ليـــس فقـــط «اســـميهما»‪ ،‬بـــل كتابـــة‬ ‫جديـــدة رهينـــة بشـــروطها التاريخيـــة‬ ‫وبنائه ــا الخ ــاص‪ .‬ل ــم يع ــد محم ــد ب ــرادة‬ ‫وســـعيد يقطيـــن وعبدالفتـــاح كيليطـــو‬ ‫وعبــداهلل العــروي هــي األســماء الرنانــة‪،‬‬ ‫والتـــي تهيمـــن‪ ،‬بشـــكل الفـــت‪ ،‬علـــى‬ ‫المش ــهد الثقاف ــي‪ ،‬ب ــل انضاف ــت أس ــماء‬ ‫جدي ــدة ليس ــت ولي ــدة إلط ــارات وطني ــة‬ ‫معروفــة‪ ،‬ولــم تكــن‪ ،‬أبــداً‪ ،‬منخرطــة في‬ ‫أي اســـتراتيجية خاصـــة وال منخرطـــة‬ ‫ف ــي أي معرك ــة إعالمي ــة‪.‬‬ ‫إن ه ــذا التكري ــس العرب ــي والدول ــي‬ ‫أيضــ ًا أع ــاد تذكي ــر الحق ــل الثقاف ــي ف ــي‬ ‫المغ ــرب باختالالت ــه المعت ــادة‪ ،‬والت ــي‬ ‫كانــت موضــوع نقاشــات ســابقة‪ ،‬وفــي‬ ‫الوقـــت نفســـه كشـــفت عـــن «فاعليـــن»‬ ‫ج ــدد ج ــاؤوا م ــن س ــياقات مختلف ــة‪ ،‬ل ــم‬ ‫ينتظ ــروا أن تكرس ــهم أجن ــدة سياس ــية‬ ‫وال ح ــزب سياس ــي‪ ،‬وال مؤسس ــات وال‬ ‫أس ــماء مكرس ــة‪ .‬أس ــماء وفاعل ــون ج ــدد‬ ‫ينتم ــون إل ــى مختل ــف أجن ــاس التعبي ــر‬ ‫اإلنســـاني‪ ،‬كل فـــي مجـــال اجتهـــاده‪.‬‬ ‫وس ــاهمت مختل ــف المواق ــع االجتماعي ــة‬ ‫وفضـــاء التـــداول الرقمـــي فـــي تقديـــم‬ ‫أســـماء جديـــدة‪ ،‬بـــل والتعريـــف بهـــا‪،‬‬ ‫ـــل اإلعـــام مرتبطـــ ًا باألســـماء‬ ‫بينمـــا َظ ّ‬ ‫المكرســـة‪.‬‬ ‫الكثيــر مــن هــذه األســماء الجديــدة فــي‬ ‫مج ــاالت (الرواي ــة‪ ،‬الش ــعر‪ ،‬الترجم ــة‪،‬‬ ‫المســـرح‪ ،‬الســـينما‪ )...‬وجـــدت نفســـها‬ ‫ضيفـــ ًا جديـــدًا علـــى الوســـط الثقافـــي‪،‬‬

‫وأصبحـــت بعـــض اإلطـــارات الثقافيـــة‬ ‫المعروفـــة هـــي مـــن تطلـــب منهـــا‬ ‫االنخــراط‪ ،‬رغــم أن البعــض منهــا ال يجــد‬ ‫نفســه معنيـ ًا بالدخــول فــي تجاذبــات لــم‬ ‫ـل‬ ‫يكــن طرفـ ًا فيهــا يومـ ًا مــا‪ .‬ومــن َثـّـم يظـّ‬ ‫صــوت المبــدع والكاتــب اليــوم «زئبقيـاً»‬ ‫و«نســبياً»‪ ،‬ال يمكــن أن يخضــع ألجنــدة‬ ‫تغيــر‬ ‫خاصــة كمــا كان فــي الســابق‪ ،‬كمــا ّ‬ ‫العدي ــد م ــن القي ــم والت ــي ظّل ــت تحك ــم‬ ‫الوســط الثقافــي‪ .‬وانضــاف تغيــر تــداول‬ ‫ـل الوســائط‬ ‫الفعــل الثقافــي اليــوم فــي ظـّ‬ ‫الجديـــدة والتغيـــرات المجتمعيـــة‪ ،‬مـــن‬ ‫التفكيــر فــي خلق ترســانة جديــدة لتداول‬ ‫المعرفـــة اليـــوم بيـــن أجيـــال تعانـــي‬ ‫أساسـ ًا مــن انحســار المقروئيــة‪ ،‬وقــدرة‬ ‫ال محــدودة علــى التفاعــل اإليجابــي مــع‬ ‫الوس ــائط التكنولوجي ــة الحديث ــة‪.‬‬ ‫إطـــار آخـــر جديـــد فـــي المغـــرب‪،‬‬ ‫كش ــبكة الق ــراءة ف ــي المغ ــرب‪ ،‬اس ــتطاع‬ ‫يتحـــول لفاعـــل جديـــد داخـــل‬ ‫اليـــوم أن‬ ‫ّ‬ ‫الوس ــط الثقاف ــي‪ ،‬بق ــدر م ــا انخ ــرط ف ــي‬ ‫اإلش ــكاالت المرتبط ــة بالنش ــر والق ــراءة‬ ‫ينظ ــم‬ ‫والكت ــاب ف ــي الب ــاد‪ ،‬وأضح ــى ّ‬ ‫نـــدوات وطنيـــة ويدافـــع فـــي اتجـــاه‬ ‫خلــق ترســانة قوانيــن قــادرة علــى حــل‬ ‫جـــزء مـــن إشـــكاالت الوضـــع القرائـــي‬ ‫وانحســـاره فـــي المغـــرب‪.‬‬ ‫إذاً‪ ،‬م ــا يمثل ــه إط ــار كالش ــبكة‪ ،‬وم ــا‬ ‫تمثل ــه ه ــذه الوج ــوه األدبي ــة الجدي ــدة‪،‬‬ ‫تحـــول تدريجـــي فـــي الوســـط‬ ‫هـــو‬ ‫ُّ‬ ‫ـول‪ ،‬رغ ــم‬ ‫ـ‬ ‫تح‬ ‫ـو‬ ‫ـ‬ ‫وه‬ ‫ـي‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫المغرب‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫الثقاف‬ ‫ُّ‬ ‫أنـــه طبيعـــي أيضـــ ًا وينســـاق لطبيعـــة‬ ‫مـــا شـــهده المغـــرب الثقافـــي الســـنوات‬

‫األخيـــرة‪ ،‬إال أن جـــزءًا مـــن انتكاســـات‬ ‫المشـــهد واختـــاالت الوســـط وتراجـــع‬ ‫دور ووظيفــة بعــض اإلطــارات التقليدية‬ ‫الثقافي ــة وأف ــول دور المثق ــف والكات ــب‬ ‫المغربــي‪ ،‬جــزء مهــم مــن هــذه المعطيات‬ ‫الت ــي س ــاهمت بش ــكل ق ــوي ف ــي ظه ــور‬ ‫تركيبـــة وفئـــة جديـــدة أمســـت اليـــوم‬ ‫تقتـــرح َنَفســـ ًا جديـــدًا للوســـط الثقافـــي‬ ‫ف ــي المغ ــرب‪.‬‬ ‫فتكفي اإلشــارة مثالً‪ ،‬إلى أن المســرح‬ ‫المغربــي‪ ،‬الســنوات األخيــرة‪ ،‬بــدأ يشــهد‬ ‫ـوالت هيكلي ــة بفع ــل ظه ــور ك ــوادر‬ ‫تح ـ ّ‬ ‫شــابة بتوجهــات جماليــة جديــدة أعطــت‬ ‫َنَفســـ ًا مختلفـــ ًا للمســـرح‪ .‬فـــي المجـــال‬

‫الس ــينمائي أمس ــى العدي ــد م ــن الوج ــوه‬ ‫الشـــابة اليـــوم‪ ،‬والتـــي ســـبق لهـــا أن‬ ‫وكرس ــت اس ــمها‬ ‫قّدم ــت أفالم ـ ًا قصي ــرة‪ّ ،‬‬ ‫وتجربتهـــا فـــي المجـــال‪ ،‬انتقلـــت إلـــى‬ ‫المجـــال الســـينمائي وإلـــى إنتـــاج أول‬ ‫أفالمهـــا الروائيـــة الطويلـــة‪( .‬رابـــور)‬ ‫حركــة عشــرين فبراير معــاد الحاقد‪ ،‬ظهر‬ ‫وق َّعـَـد اســمه وحضوره‬ ‫فــي ســياق جديــد َ‬ ‫ـان «ثوري ــة» علمــ ًا‬ ‫بم ــا اقترح ــه م ــن أغ ـ ٍ‬ ‫ب ــأن اس ــمه ل ــم يك ــن معروفــ ًا م ــن قب ــل‪.‬‬ ‫مجموعـــة مـــن الشـــعراء والشـــاعرات‬ ‫والذي ــن ج ــاؤوا م ــن فض ــاءات التواص ــل‬ ‫االجتماع ــي‪ ،‬وأصبح ــوا يش ــاركون ف ــي‬ ‫مهرجان ــات وملتقي ــات ش ــعرية عربي ــة‪.‬‬

‫هـــذه الجســـور مـــن التعـــارف الجديـــدة‬ ‫والتواص ــل الس ــريع بي ــن المبدعي ــن ف ــي‬ ‫مختلــف أقطــار العالــم العربــي‪ ،‬أصبــح‬ ‫يقـــّدم لنـــا مجموعـــة مـــن القصاصيـــن‬ ‫والروائيي ــن ج ــاؤوا م ــن ه ــذا الوس ــيط‬ ‫ورســخوا أســماءهم وســط‬ ‫اإللكترونــي‪ّ ،‬‬ ‫المشــهد خــارج وصايــة وتقاليــد الوســط‬ ‫الثقافــي فــي المغــرب‪ .‬بــل حتــى الوســط‬ ‫الس ــمة‪.‬‬ ‫اإلعالم ــي ل ــم يس ــلم م ــن ه ــذه ّ‬ ‫ـول‬ ‫إل ــى أي ح ــد يس ــتطيع ه ــذا التح ـ ُّ‬ ‫أن يفي ــد الوس ــط الثقاف ــي ف ــي المغ ــرب؟‬ ‫هـــل أضـــاف علـــى مســـتوى الرؤيـــة‬ ‫واس ــتراتيجيات الكتاب ــة ش ــيئ ًا مختلفــ ًا‬ ‫وأفقـــ ًا مغايـــرًا للمشـــهد األدبـــي فـــي‬ ‫المغ ــرب؟ ه ــل خلخ ــل طبيع ــة منظوم ــة‬ ‫مكرســة‬ ‫الوســط الثقافي وهيمنة أســماء َّ‬ ‫بعينهــا؟ قــد يتناســل العديد من األســئلة‪،‬‬ ‫لك ــن األجوب ــة ال يمك ــن تلمس ــها حاليــاً‪،‬‬ ‫بـــل هـــي نتيجـــة طبيعيـــة لمـــا يحـــدث‬ ‫الي ــوم‪.‬‬ ‫التحـــوالت التـــي‬ ‫جـــزء مـــن طبيعـــة‬ ‫ّ‬ ‫يش ــهدها الوس ــط الثقاف ــي ف ــي المغ ــرب‬ ‫والنســيج األدبــي اليــوم‪ ،‬هو خلخلة لغة‬ ‫«المرك ــز والهام ــش»‪ ،‬وأصب ــح الهام ــش‬ ‫اليـــوم منبعـــ ًا للعديـــد مـــن اإلشـــراقات‬ ‫الثقافيـــة والعديـــد مـــن األصـــوات‬ ‫اإلبداعيــة والتــي أمســت اليــوم فــي مقدمة‬ ‫المش ــهد‪ .‬المنج ــز اإلبداع ــي نفس ــه خ ــرج‬ ‫مـــن ســـياق تلـــك النظـــرة التـــي ظلّـــت‬ ‫تحكم ــه‪ ،‬وم ــن المواضي ــع الت ــي ظّل ــت‬ ‫مهيمن ــة علي ــه نفس ــها‪ ،‬واغتن ــى المنج ــز‬ ‫كل ــه بط ــرق كتاب ــة جدي ــدة‪ ،‬وأصبح ــت‬ ‫معال ــم الس ــرود مفتوح ــة عل ــى تواري ــخ‬ ‫مجهولــة‪ ،‬واتســعت القصائــد نحــو صيغ‬ ‫وقوال ــب كتاب ــة جدي ــدة تج ــاوزت تل ــك‬ ‫الـــرؤى التقليديـــة‪ ،‬وأصبحـــت الـــذات‬ ‫حاضـــرة بقـــوة‪ ،‬والتباســـات اليومـــي‬ ‫شـــعارًا أساســـياً‪ .‬األكيـــد أن هامـــش‬ ‫الحري ــة اتس ــع أكث ــر‪ ،‬وأصب ــح المب ــدع‬ ‫ـا الختــراق أقاصــي وتابوهــات‬ ‫أكثــر ميـ ً‬ ‫لـــم يســـبق أن وطـــئ بقلمـــه ومتخيلـــه‬ ‫أفقه ــا‪.‬‬ ‫‪25‬‬

‫ميديا‬

‫السخرية لن تتو ّقف‬ ‫مسيرة ّ‬ ‫فائزة مصطفى‬

‫ل ــم تك ــد تمض ــي دقائ ــق عل ــى نش ــر‬ ‫خب ــر توقي ــف البرنام ــج الش ــهير «ل ــي‬ ‫غينيـــول دو النفـــو» (دمـــى األخبـــار)‪،‬‬ ‫حتــى أثــارت وســائل اإلعالم الفرنســية‬ ‫ضجــة‬ ‫وشــبكات التواصــل االجتماعــي ّ‬ ‫عارمــة‪ ،‬وطالــب سياســيون من اليســار‬ ‫واليميـــن‪ ،‬فـــي مقدمتهـــم الرئيـــس‬ ‫الفرنســـي فرانســـوا هوالنـــد‪ ،‬بعـــودة‬ ‫أه ــم برنام ــج س ــاخر ف ــي فرنس ــا وف ــي‬ ‫العالـــم‪ ،‬األمـــر الـــذي دفـــع برئيـــس‬ ‫مجلـــس إدارة قنـــاة «كنـــال بلـــوس»‬ ‫فانســون بلــوري إلــى التراجــع‪ ،‬ووعــد‬ ‫باســـتمرار السلســـلة «خـــال الموســـم‬ ‫القـــادم‪ ،‬لتواصـــل توثيـــق أكثـــر مـــن‬ ‫حرّي ــة التعبي ــر‪.‬‬ ‫رب ــع ق ــرن م ــن ّ‬ ‫ربم ــا ه ــو تصري ــح عاب ــر أف ــاد ب ــه‬ ‫رجـــل األعمـــال ومالـــك قنـــاة كنـــال‬ ‫بلـــوس المشـــفرة لجريـــدة ســـاخرة‪،‬‬ ‫كشــف فيــه عــن احتمــال توقيــف برنامج‬ ‫«لــي غينيــول دو النفــو»‪ ،‬واعتبــر أنــه‬ ‫ال ُيقـّدم شــيئ ًا إيجابيـ ًا مقارنــة بتكلفتــه‬ ‫ـل األزمــة االقتصاديــة‪،‬‬ ‫الباهظــة فــي ِظـّ‬ ‫لتبـــدأ غـــداة ذلـــك عاصفـــة إعالميـــة‬ ‫وشـــعبية عارمـــة‪ ،‬حيـــث وقّـــع أكثـــر‬ ‫م ــن ‪ 25‬أل ــف ش ــخص عريض ــة تندي ــد‪،‬‬ ‫واســـتبدل السياســـيون والمشـــاهير‬ ‫بروفايالته ــم ف ــي التويت ــر والفيس ــبوك‬ ‫بصـــور الدمـــى الكاريكاتوريـــة التـــي‬ ‫يســـتخدمها البرنامـــج للتعبيـــر عـــن‬ ‫‪26‬‬

‫شــخصياتهم‪ ،‬وحتى الرئيس الفرنســي‬ ‫الــذي طالمــا صــوره البرنامج كشــخص‬ ‫عف ــوي وغي ــر ناض ــج سياس ــياً‪ ،‬أثن ــى‬ ‫علــى البرنامــج الكاريكاتــوري واعتبره‬ ‫م ــن أه ــم البرام ــج الت ــي دخل ــت تاري ــخ‬ ‫التليفزيــون فــي البــاد‪ ،‬بــل واســتغرب‬ ‫الكثيـــر مـــن اإلعالمييـــن والعامـــة مـــن‬ ‫الن ــاس دف ــاع ه ــؤالء السياس ــيين ع ــن‬ ‫عرضتهـــم إلـــى‬ ‫أكثـــر البرامـــج التـــي ّ‬ ‫الســـخرية وفضحـــت ممارســـاتهم‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫حيــث يقــول باتريــك ايفــرو أســتاذ فــي‬ ‫تاريـــخ وســـائل اإلعـــام فـــي جامعـــة‬ ‫الســـربون الفرنســـية‪« :‬مـــن المفاجـــئ‬ ‫أن يداف ــع ه ــؤالء ع ــن ل ــي غيني ــول دو‬ ‫النفــو‪ ،‬فعــادة ال يحــب رجــال السياســة‬ ‫الكاريكات ــور‪ ،‬ولك ــن ف ــي الوق ــت ذات ــه‬ ‫حرّيــة التعبير‬ ‫يحتاجــون هــم أيضـ ًا إلى ّ‬ ‫واالنتقـــاد»‪ ،‬ويـــرى ايفـــرو أن الفـــن‬ ‫يجس ــد مي ــراث الديموقراطي ــة‬ ‫الس ــاخر ّ‬ ‫الحرّيـــات فـــي فرنســـا‪ ،‬ويمنـــع‬ ‫وإرث ّ‬ ‫القـــادة والمســـؤولون مـــن أن يأخـــذوا‬ ‫حجمــ ًا أكب ــر م ــن المس ــؤولية المتاح ــة‬ ‫له ــم‪.‬‬

‫شر البلية ما يضحك‬ ‫ول ــم ته ــدأ العاصف ــة إال بع ــد تغيي ــر‬ ‫طاقــم إدارة قنــاة كنال بلوس الفرنســية‬

‫الخاصـــة‪ ،‬وإلغـــاء بعـــض برامجهـــا‬ ‫الشـــهيرة فـــي مقدمتهـــا‪« :‬لوغـــرون‬ ‫جورن ــال»‪ ،‬ال ــذي يذي ــع ضم ــن فقرات ــه‬ ‫«لــي غينيــول دو النفــو»‪ ،‬وهــذا بســبب‬ ‫تكلفت ــه المالي ــة الضخم ــة الت ــي تف ــوق‬ ‫‪ 250‬ألـــف يـــورو شـــهرياً‪ ،‬ولتراجـــع‬ ‫ـــل المنافســـة‬ ‫نســـبة مشـــاهدته فـــي ِظ ّ‬ ‫الشـــديدة لألعمـــال التليفزيونيـــة‬ ‫الموازيـــة‪ ،‬فيمـــا يتـــم البحـــث حاليـــ ًا‬ ‫عـــن بديـــل لـــه ربمـــا ســـيكون علـــى‬ ‫شـــاكلة «التـــوك شـــو» تعـــود مـــن‬ ‫خاللــه «الدمــى الكاريكاتوريــة» بدءًا من‬ ‫الخريــف القــادم‪ ،‬ويعــود معــه أكثــر مــن‬ ‫‪ 300‬موظ ــف م ــن الفناني ــن والتقنيي ــن‬ ‫والمخرجيـــن والمؤلفيـــن للعمـــل‪.‬‬ ‫الس ــخرية واالس ــتهزاء‬ ‫ورغ ــم لهج ــة ّ‬ ‫الت ــي يعتمده ــا أش ــهر برنام ــج إعالم ــي‬ ‫فرنس ــي من ــذ انطالق ــه ع ــام ‪ّ ،1988‬إل‬ ‫يتعـــرض قـــط إلـــى مشـــاكل‬ ‫أنـــه لـــم‬ ‫ّ‬ ‫أو مضايقـــات مـــن ِقَب ِ‬ ‫ـــل السياســـيين‬ ‫ـجل‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫ت‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫ول‬ ‫ـم‪،‬‬ ‫النافذيــن أو قــادة العالـ‬ ‫ُ ّ‬ ‫ضـــده أي قضيـــة قـــذف أو مســـاس‬ ‫بهيئــة أو أشــخاص‪ ،‬حيــث يعتمــد «لــي‬ ‫بطــن‬ ‫الم َّ‬ ‫غينيــول دو النفــو» علــى النقــد ُ‬ ‫والهــادف لجميــع القضايــا المتســعصية‬ ‫والطابوهـــات‪ ،‬ويســـتعين بأســـلوب‬ ‫موضوعـــي فـــي انتقـــاد السياســـيين‬ ‫مــن أقصــى اليســار إلــى أقصــى اليميــن‬ ‫الفرنس ــيين‪ ،‬وال ي ــكل ف ــي الدف ــاع ع ــن‬

‫هفواتهـــم ّإل أنـــه تخلّـــى عـــن الدمـــى‬ ‫وعوضهـــا بتقنيـــة رســـم المتحـــرك‪.‬‬ ‫ّ‬

‫بعيد ًا عن السياسة‬

‫جميــع اآلراء والتوجهــات مــن النقيــض‬ ‫إل ــى النقي ــض‪ ،‬وكثي ــرًا م ــا داف ــع ع ــن‬ ‫المهاجريـــن والجاليـــات العربيـــة‬ ‫ـــل تصاعـــد ظاهـــرة‬ ‫والمســـلمة فـــي ِظ ّ‬ ‫اإلســـاموفوبيا فـــي البلـــد‪.‬‬

‫دمى القراقوز العربية‬ ‫لـــم ينتشـــر صيـــت برنامـــج «لـــي‬ ‫غينيــول دو النفــو» فــي العالم فحســب‪،‬‬ ‫بــل استنســخته قنــوات تليفزيونيــة فــي‬ ‫دول أوروبيـــة عديـــدة‪ ،‬ومـــع بدايـــة‬ ‫أح ــداث الربي ــع العرب ــي س ــنة ‪،2011‬‬ ‫اس ــتوردت الفضائي ــات العربي ــة ه ــذه‬ ‫التجربــة التــي تحاكي نشــرات األخبار‪،‬‬ ‫حيــث اشــترت قنــاة «نســمة» المغاربيــة‬ ‫بتونـــس حقـــوق البرنامـــج وأطلقـــت‬ ‫عليـــه لـــي اســـم «غينيـــول المغـــرب»‪،‬‬ ‫وحافظــت علــى نفــس اللهجــة الســاخرة‬ ‫التـــي ال تخلـــو مـــن الطرافـــة والمتعـــة‬ ‫والخيـــال‪ ،‬وطالـــت مســـؤولين فـــي‬ ‫ـتثن منهــم حتــى الرئيــس‬ ‫تونــس لــم تسـ ِ‬ ‫وأعض ــاء الحكوم ــة‪ ،‬ب ــل وامت ــدت ف ــي‬ ‫تناولهــا إلــى أكثــر مــن ثمانين شــخصية‬

‫والفـــن‬ ‫عربيـــة مـــن عالـــم السياســـة‬ ‫ّ‬ ‫والرياضـــة‪ ،‬حيـــث ُتقـــّدم كل حلقـــة‬ ‫قــراءة فــي الواقــع السياســي التونســي‬ ‫والمغارب ــي والعرب ــي‪.‬‬ ‫وكانــت هنــاك قنوات لبنانية ســباقة‬ ‫لشــراء حقــوق برنامــج «لــي غينيــول»‬ ‫الفرنســـي‪ ،‬حيـــث تبـــث فضائيـــة أل‪.‬‬ ‫بــي‪ .‬ســي برنامجـ ًا أطلقــت عليــه «دمــى‬ ‫قراطيــة»‪ ،‬هــو اآلخر يجســد شــخصيات‬ ‫سياســية مــن مختلف التيــارات الحزبية‬ ‫وصراعاته ــم ف ــي ه ــذا البل ــد الرائ ــد ف ــي‬ ‫حرّيــة الصحافة‪ .‬كمــا أنه يحاكي‬ ‫مجــال ّ‬ ‫ـورات األمنيــة فــي المنطقــة ويعيــد‬ ‫التطـّ‬ ‫تقدي ــم األخب ــار بطريق ــة «اسكتش ــات»‬ ‫هزليــة‪.‬‬ ‫وتذكـــر تجربـــة الجزائـــر أيضـــاً‪،‬‬ ‫حيــث ظهــر فــي األيــام القليلــة الماضيــة‬ ‫برنامـــج يســـمى «جـــي تـــي فـــو» أو‬ ‫نشـــرة األخبـــار المجنونـــة يبـــث علـــى‬ ‫قنــاة الشــروق‪ ،‬وإن حافــظ علــى نفــس‬ ‫الصيغــة وأســلوب البرنانــج الفرنســي‬ ‫الشــهير‪ ،‬مثل‪ :‬إعادة تقديم المســتجدات‬ ‫األخباريـــة بطريقـــة هزليـــة ومســـاءلة‬ ‫رج ــال السياس ــة واألعم ــال واصطي ــاد‬

‫وفـــي المقابـــل‪ ،‬حافظـــت التجربـــة‬ ‫المصريـــة فـــي هـــذا المجـــال علـــى‬ ‫اســتخدام الدمــى فقــط‪ ،‬دون أن تحاكــي‬ ‫نشـــرة األخبـــار وتقليـــد شـــخصيات‬ ‫ـــم خلـــق شـــخصية‬ ‫سياســـية‪ ،‬بـــل َت ّ‬ ‫خياليـــة جديـــدة تتمثـــل فـــي «أبلـــه‬ ‫فاهيتــا»‪ ،‬وعلــى طريقــة برامــج «التوك‬ ‫شــو»‪ ،‬تنقــد علــى طريقــة ربــات البيوت‬ ‫تداعي ــات الواق ــع االجتماع ــي المص ــري‬ ‫وتغيراتـــه المتســـارعة‪ ،‬وتســـتضيف‬ ‫عــددًا مــن الفنانيــن إلــى جانــب مشــاركة‬ ‫طفليهــا الدميتين «كركــورة» و«بودي»‪،‬‬ ‫ومنــذ ظهورهــا فــي برنامــج «البرنامج»‬ ‫الســاخر لإلعالمــي المثيــر للجــدل باســم‬ ‫يوس ــف أصب ــح برنام ــج «أبل ــه فاهيت ــا‬ ‫ف ــي الدوبلك ــس» عل ــى قن ــاة س ــي ب ــي‬ ‫س ــي أش ــهر م ــن عل ــم‪ ،‬وأصبح ــت ه ــذه‬ ‫الشـــخصية الكرتونيـــة مطـــاردة فـــي‬ ‫كل مـــكان لمعرفـــة صاحـــب صوتهـــا‬ ‫المس ــتعار‪ ،‬حت ــى لج ــأت القن ــاة آن ــذاك‬ ‫لفـــرض الســـرية علـــى فريـــق العمـــل‪.‬‬ ‫ليقـــرر الفريـــق إنشـــاء قنـــاة خاصـــة‬ ‫ّ‬ ‫تضمنـــت‬ ‫علـــى موقـــع «يوتيـــوب»‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫فيديوهـــات تســـخر فيهـــا الشـــخصية‬ ‫الكارتونيــة مــن المشــاهير مــن الفنانيــن‬ ‫تـــروي فيهـــا‬ ‫واإلعالمييـــن‪ ،‬وأخـــرى َ‬ ‫تفاصيـــل يومياتهـــا‪ ..‬وفـــي غضـــون‬ ‫أيـــام قليلـــة تعـــّدت ســـقف المليـــون‬ ‫معجـــب علـــى صفحتهـــا الرســـمية‬ ‫علـــى مواقـــع التواصـــل االجتماعـــي‪،‬‬ ‫ب ــل وش ــاركت ف ــي ومض ــات إش ــهارية‬ ‫وشــاركت فــي فيديــو كليــب إلــى جانــب‬ ‫والمـــوزع الموســـيقي حســـن‬ ‫الملحـــن‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الشـــافعي فـــي أغنيـــة بعنـــوان‪« : ‬مـــا‬ ‫يس ــتاهلوش»‪ ،‬حّق ــق ه ــو اآلخ ــر أكب ــر‬ ‫نس ــبة مش ــاهدة قارب ــت عش ــرة ماليي ــن‬ ‫متابـــع‪ .‬وتبقـــى لغـــة «أبلـــه فاهيتـــا»‬ ‫بعيــدة عــن المواضيــع السياســية‪ ،‬فهي‬ ‫ت ــدرك جي ــدًا الخط ــوط الحم ــراء‪ .‬الت ــي‬ ‫ال يجــب تخطيهــا فــي المشــهد اإلعالمــي‬ ‫المصـــري‪.‬‬ ‫‪27‬‬

‫قضية‬

‫مواقـع التّواصل‬ ‫سقف الحرّيّة وحـدود المسؤولية‬

‫ّواص ــل االجتماع ــي ص ــارت ج ــزءًا‬ ‫مواق ــع الت ُ‬ ‫ثابتــ ًا م ــن يومياتن ــا‪ ،‬ينطل ــق منه ــا المواط ــن‬ ‫العرب ــي ّ‬ ‫لالط ــاع عل ــى األخب ــار‪ ،‬وللدردش ــة‬ ‫تحول ــت‬ ‫والتس ــلية وألغ ــراض أخ ــرى‪ ،‬هك ــذا َّ‬ ‫ه ــذه المواق ــع‪ ،‬ف ــي ظ ــرف بض ــع س ــنوات‪،‬‬ ‫إلـــى مـــا يشـــبه الخبـــز اليومـــي‪ ،‬الـــذي ال‬ ‫ُيمكـــن االســـتغناء عنـــه‪ ،‬صـــارت واقعـــ ًا‬ ‫وليـــس‪ ،‬فقـــط‪ ،‬فضـــاء افتراضيـــاً‪ ،‬نتعامـــل‬ ‫معهـــا بجدّيـــة عاليـــة‪ ،‬ونتخنـــدق فيهـــا‪-‬‬ ‫أحيانــ ًا ‪-‬هروبــ ًا م ــن الحي ــاة الفعلي ــة‪ ،‬لك ــن‬ ‫الحرّي ــات ف ــي ه ــذه المواق ــع‬ ‫م ــا ه ــو س ــقف ّ‬ ‫التواصليـــة المفتوحـــة علـــى الجميـــع؟ ومـــا‬ ‫هـــي حـــدود المســـؤولية فيهـــا؟‬ ‫هـــذا مـــا ســـنحاول مناقشـــته فـــي قضيـــة‬ ‫«الدوحـــة» هـــذا ّ‬ ‫الشـــهر‪.‬‬

‫مخاطر حياة معلنة‬ ‫سليم بوفنداسة‬ ‫منحــت وســائل التواصــل االجتماعــي‬ ‫الشــعوب العربيــة فرصــة للهــروب إلــى‬ ‫ّ‬ ‫حي ــاة بديل ــة‪ ،‬تم ــارس فيه ــا م ــا َع ـ َّـز ْت‬ ‫ـــل الديكتاتوريـــات‬ ‫ممارســـته فـــي ِظ ّ‬ ‫واألصوليـــات واإلكراهـــات التـــي‬ ‫تفرضهـــا التقاليـــد االجتماعيـــة علـــى‬ ‫أن هـــذا الهـــروب‪ -‬رغـــم‬ ‫األفـــراد‪ ،‬غيـــر ّ‬ ‫إيجابيات ــه الكثي ــرة‪ -‬ب ــدأ يف ــرز أمراضــ ًا‬ ‫جديـــدة‪ ،‬وبـــدأ يفصـــح عـــن أعـــراض‬ ‫األزمـــات العربيـــة المختلفـــة‪ ،‬التـــي‬ ‫انتقلــت مــن الحيــاة نفســها إلــى الفضــاء‬ ‫األزرق‪.‬‬ ‫اكتشــف النــاس‪ ،‬فجــأة‪ ،‬أن بإمكانهــم‬ ‫لعـــب أدوار بطولـــة فـــي عالـــم جديـــد‪:‬‬ ‫بإمكانهـــم تقديـــم اآلراء فـــي السياســـة‬ ‫والثقافـــة واالجتمـــاع ‪ ،‬بإمكانهـــم أن‬ ‫يتحولـــوا إلـــى فقهـــاء فـــي تكتيـــكات‬ ‫ّ‬ ‫يحبـــوا أجانـــب أو‬ ‫كـــرة القـــدم‪ ،‬وأن ّ‬ ‫ص ُعـــب‬ ‫أجنبيـــات‪ ،‬وأن ّ‬ ‫ّ‬ ‫يحصلـــوا مـــا َ‬ ‫تحصيلـــه مـــن متـــع فـــي واقـــع يضـــع‬ ‫األشـــواك واألســـوار بيـــن األفـــراد‪.‬‬ ‫وفضـــل كثيـــرون أن يضربـــوا‬ ‫ّ‬ ‫خيمهـــم علـــى الشـــبكة‪ ،‬ويعيشـــوا‬ ‫هنـــاك‪ ،‬حيـــث ُيالحـــظ أنّهـــم يقومـــون‬ ‫بنق ــل وقائ ــع حياته ــم‪ :‬م ــا ظه ــر منه ــا‪،‬‬ ‫ومـــا كان ُيفتـــرض أن يبطـــن‪ ،‬إلـــى‬ ‫صفحاته ــم‪ ،‬فيع ــرف الن ــاس م ــاذا أكل ــوا‬ ‫ومـــاذا شـــربوا‪ ،‬ومتـــى نامـــوا ومتـــى‬ ‫اس ــتيقظوا‪ ،‬ومواعي ــد عطله ــم وأس ــماء‬ ‫أقاربهـــم وأصحابهـــم‪ ،‬وخصوماتهـــم‬ ‫الزوجيـــة وإخفاقاتهـــم فـــي الحـــب؛ أي‬ ‫ّ‬ ‫أنّهـــم ُيمســـرحون حياتهـــم الخاصـــة‬ ‫الركـــح الكونـــي‬ ‫ويقّدمونهـــا علـــى هـــذا ّ‬ ‫ُ‬ ‫ـاة واس ــتعراض ًا وش ــكوى وطلبــ ًا‬ ‫مباه ـ ً‬ ‫للنصيح ــة وتم ـّـردًا وغضب ـاً‪ ،‬وب ــات م ــن‬ ‫المختـــص أو حتـــى علـــى‬ ‫الســـهل علـــى‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫المالحـــظ الفطـــن أن يرصـــد المعيـــش‬ ‫ـي لألف ــراد وطباعه ــم‪ ،‬م ــن خ ــال‬ ‫النفس ـ ّ‬ ‫الطريقـــة التـــي يقّدمـــون بهـــا أنفســـهم‬ ‫‪30‬‬

‫علـــى هـــذا المســـرح‪ ،‬أمـــا الـــّدارس‬ ‫وعينـــات توفّـــر‬ ‫فســـيجد مـــادة ثمينـــة ّ‬ ‫عليـــه الوقـــت والجهـــد‪.‬‬ ‫يج ــري كل م ــا س ــبق باندف ــاع آل ــي‪،‬‬ ‫كأن الفـــرد ســـلّم‬ ‫أي بـــدون تفكيـــر‪ّ ،‬‬ ‫نفســـه إلـــى مكائـــد آلتـــه الصغيـــرة‬ ‫وإغواءاتهـــا‪ ،‬وانقـــاد لمـــا تقترحـــه‬ ‫المتهـــور الـــذي‬ ‫عليـــه بثقـــة المكتشـــف‬ ‫ّ‬ ‫أعفـــى نفســـه مـــن مشـــاق التوقّـــع أو‬ ‫التوج ــس‪ ،‬فاس ــتدعى أبطال ــه األثيري ــن‬ ‫ّ‬ ‫يتقمصهــم ابتغــاء بطولــة كثيــرًا مــا‬ ‫كــي ّ‬ ‫ضّن ــت بنفس ــها ع ــن العام ــة‪ ،‬وانح ــازت‬ ‫لممثليـــن ومطربيـــن ورياضييـــن‬ ‫وساســـة احتلّـــوا الشاشـــات وشـــغلوا‬ ‫النـــاس‪ ،‬وليـــس اإلســـراف فـــي نشـــر‬ ‫الوضعيـــات‬ ‫الصـــور فـــي مختلـــف‬ ‫ّ‬ ‫ســـوى محـــاكاة للنمـــاذج الســـينمائية‬ ‫والتليفزيونيـــة الكامنـــة فـــي خيـــال‬ ‫التـــواق إلـــى ظهـــور‬ ‫طالـــب البطولـــة‬ ‫ّ‬ ‫أهميتـــه المهـــدورة‪.‬‬ ‫يبـــرز ّ‬ ‫ـادي»‪ ،‬هن ــا‪ ،‬أّن ــه خ ــرج‬ ‫ـ‬ ‫«الع‬ ‫وي ــرى‬ ‫ُّ‬ ‫م ــن ظ ــام نفس ــه إل ــى الض ــوء فيش ــرع‬ ‫ف ــي التأري ــخ لذات ــه كعض ــو ل ــه ش ــأن‪،‬‬ ‫بـــل وســـيكلّف نفســـه عنـــاء اإلفتـــاء‬ ‫فـــي القضايـــا العامـــة وقـــد صـــار لـــه‪،‬‬ ‫أخيـــراً‪ ،‬منبـــره‪.‬‬ ‫العـــادي بهـــذا‬ ‫المواطـــن‬ ‫وال ينفـــرد‬ ‫ّ‬ ‫الســـلوك‪ ،‬بـــل نجـــد بيـــن الكّتـــاب‬ ‫والمثقفيــن واإلعالمييــن مــن ينخــرط فــي‬ ‫ه ــذه اللّعب ــة‪ ،‬أخ ــذًا بالوس ــائل الجدي ــدة‬ ‫الضامنــة لالنتشــار أو لترويــج أعمالــه‪،‬‬ ‫و(األخطـــر) إلعـــان «أمراضـــه»‪ ،‬وقـــد‬ ‫امتلـــك وســـيلة لالنتقـــام مـــن وســـائل‬ ‫النّشـــر التقليديـــة ومـــا كانـــت تفرضـــه‬ ‫مـــن قواعـــد صارمـــة‪ ،‬ورقابـــة‪ ،‬ولـــم‬ ‫يع ــد ف ــي حاج ــة إل ــى مق ــال أو مقابل ــة‬ ‫صحافيـــة كـــي يدلـــي برأيـــه‪ ،‬بـــل إنّـــه‬ ‫ّ‬ ‫يجـــود بآرائـــه فـــي كل حيـــن وفـــي كل‬ ‫شـــأن‪.‬‬

‫وربمـــا كان الخـــوف مـــن فقـــدان‬ ‫ّ‬ ‫«المكانـــة» أمـــام الطوفـــان الـــذي أتـــاح‬ ‫انســـياق‬ ‫حـــظ الـــكالم‪ ،‬وراء‬ ‫للجميـــع‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫المثقّـــف‪ ،‬أيضـــاً‪ ،‬ونقلـــه حياتـــه‬ ‫ومقوالتـــه إلـــى الشـــبكة االجتماعيـــة‬ ‫متخليـــ ًا عـــن الرزانـــة والتمحيـــص‬ ‫ّ‬ ‫لـــكل مـــا يمليـــه االنفعـــال‬ ‫ومستســـلم ًا ّ‬ ‫البـــث‬ ‫ممتثـــا لغوايـــة‬ ‫الظرفـــي‪ ،‬أي‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ومعبـــرًا‬ ‫المباشـــر للحيـــاة ومســـرحتها‬ ‫ّ‬ ‫ع ــن المواق ــف بس ــرعة وب ــدون انتظ ــار؛‬ ‫مـــا وضـــع مثقفيـــن فـــي مواقـــع‬ ‫مأســـاوية‪،‬‬ ‫كاريكاتوريـــة إن لـــم نقـــل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫فتجـــد كاتبـــ ًا ال يبيـــع عشـــرات النســـخ‬ ‫مـــن كتبـــه يخاطـــب الجماهيـــر مـــن‬ ‫موق ــع األلي ــف المأل ــوف المع ــروف ف ــي‬ ‫كل حـــارة وبيـــت‪ ،‬وكأنّـــه ميســـي أو‬ ‫رونال ــدو‪ ،‬أو م ــن موق ــع الزعي ــم المله ــم‬ ‫المرشـــد‪ ،‬ناســـي ًا أن هـــذه الجماهيـــر ال‬ ‫تقــرأ الكتــب وال تعــرف الكّتــاب‪ ،‬ويبــدو‬ ‫الكاتـــب المســـكين المنتفـــخ علـــى النـــت‬ ‫ـا‬ ‫ف ــي حاج ــة إل ــى رعاي ــة صحي ــة‪ ،‬فض ـ ً‬ ‫سيرس ــخ ص ــورة مش ــؤومة‬ ‫ع ــن كون ــه‬ ‫ّ‬ ‫والعامـــة بالمثقفيـــن‬ ‫اســـة‬ ‫الس‬ ‫ّ‬ ‫يلصقهـــا ّ‬ ‫والكّتــاب‪ :‬صفــة المغّفــل الــذي ال يعــرف‬ ‫يتخيلـــه‪.‬‬ ‫عـــن الحيـــاة ســـوى مـــا ّ‬ ‫وق ــد فاج ــأت ث ــورات الربي ــع العرب ــي‬ ‫الكثيـــر مـــن المثقّفيـــن‪ ،‬وجعلتهـــم‬ ‫يتخلّـــون عـــن تحفّظاتهـــم ويلتحقـــون‬ ‫بالجماهيـــر علـــى شـــبكات التواصـــل‪،‬‬ ‫وتحـــول بعضهـــم إلـــى نشـــطاء‬ ‫ّ‬ ‫يبش ــرون بالعه ــد الجدي ــد ال ــذي س ــوف‬ ‫ّ‬ ‫ـل وقــوده الكلمــات‪.‬‬ ‫يتحّقــق بنضــال‪ ،‬أقـ ّ‬ ‫فـــإن المثقّـــف ســـيكون‪ ،‬فـــي‬ ‫ّ‬ ‫وبالطبـــع ّ‬ ‫هـــذه الحـــال‪ ،‬علـــى األرض نفســـها‬ ‫تـــردد‬ ‫يـــردد مـــا ّ‬ ‫مـــع الغوغـــاء‪ ،‬وقـــد ّ‬ ‫ويتبنـــى مـــا تتبنـــاه؛ أي يركـــض فـــي‬ ‫الســـيل دون أن يمنـــح نفســـه‬ ‫مجـــرى ّ‬ ‫للتأمـــل أو للتحليـــل‪ .‬وكذلـــك‬ ‫فرصـــة ّ‬ ‫صحافي ــون‪ :‬عم ــدوا إل ــى الّتغري ــد‬ ‫فع ــل‬ ‫ّ‬

‫االجتماعيـــة‬ ‫الشـــبكات‬ ‫ووجـــدوا فـــي ّ‬ ‫ّ‬ ‫«حرّيـــة» نشـــر مـــا يريـــدون مشـــفوع ًا‬ ‫ّ‬ ‫بـــاآلراء والتعليقـــات‪ ،‬وحتـــى وإن كان‬ ‫غربييــن‬ ‫ذلــك تقليــدًا لســلوك صحافييــن ّ‬ ‫غربيـــة‪ ،‬فـــإن األمـــر‬ ‫وحتـــى صحـــف ّ‬ ‫الغربـــي بنـــى‬ ‫الصحافـــي‬ ‫ألن‬ ‫يختلـــف؛ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يغـــرد ولـــم يلجـــأ‬ ‫أن‬ ‫قبـــل‬ ‫مصداقيتـــه‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫إلـــى التغريـــد بحثـــ ًا عـــن المصداقيـــة‪،‬‬ ‫متشـــبع‬ ‫وهـــو‪ -‬قبـــل التغريـــد وبعـــده‪-‬‬ ‫ّ‬ ‫الحرّي ــة المتواّف ــرة ف ــي‬ ‫بالمهني ــة ّ‬ ‫وقي ــم ّ‬ ‫الحيـــاة وليـــس فـــي االفتـــراض‪.‬‬ ‫س ــلوكيات «س ــكان الش ــبكات» ب ــدأت‬ ‫تثيـــر انتبـــاه الباحثيـــن والدارســـين‪،‬‬ ‫فـــإذا كان الكثيـــر مـــن المثقفيـــن‬ ‫اليســـاريين علـــى وجـــه الخصـــوص‪،‬‬ ‫فـــي فرنســـا‪ ،‬مـــن أصدقـــاء بورديـــو‬ ‫وتالمذتـــه‪ -‬قـــد ظلّـــوا يحـــذّرون مـــن‬ ‫خطـــر انفجـــار الميديـــا علـــى اإلنســـان‬ ‫المعاصـــر الـــذي يجـــري تنميطـــه‬ ‫وبرمجتـــه لصالـــح قـــوى مهيمنـــة‬ ‫تحـــول‬ ‫سياســـي ًا واقتصاديـــاً‪ ،‬فـــإن‬ ‫ّ‬ ‫ه ــذا اإلنس ــان إل ــى فاع ــل افتراض ــي ب ــدأ‬ ‫يثيـــر المخـــاوف علـــى الثقافـــة والفكـــر‬ ‫القيـــم المعرفيـــة‬ ‫بســـبب مـــا يتهـــّدد ّ‬ ‫ج ـّـراء وجوده ــا ف ــي الســلّة نفس ــها م ــع‬ ‫تعبـــر‬ ‫الهذيانـــات الشـــعبية‪ ،‬مخـــاوف ّ‬ ‫عنهـــا أحســـن تعبيـــر الصرخـــة التـــي‬ ‫أطلقه ــا أمبرت ــو إيك ــو مؤخ ــرًا مس ــتهجن ًا‬

‫حرّيـــة الـــكالم للحمقـــى» الذيـــن‬ ‫«منـــح ّ‬ ‫أت ــاح له ــم الفيس ــبوك أو تويت ــر تبلي ــغ‬ ‫حماقاته ــم عل ــى أوس ــع نط ــاق‪ ،‬وق ــال‬ ‫الكاتـــب اإليطالـــي الكبيـــر إن الذيـــن‬ ‫ويتـــم‬ ‫كانـــوا يصرخـــون فـــي الحانـــات‬ ‫ّ‬ ‫إســـكاتهم‪ ،‬صـــاروا يصرخـــون علـــى‬ ‫شـــبكات التواصـــل‪ ،‬منبهـــ ًا إلـــى أن‬ ‫«كالم رج ــل الش ــارع أصب ــح ف ــي منزل ــة‬ ‫كالم الحائـــز علـــى جائـــزة نوبـــل»‪.‬‬ ‫فـــي العالـــم العربـــي يبـــدو األمـــر‬ ‫ـتتحول‬ ‫أخطــر‪ ،‬ألن شــبكات التواصل سـ ّ‬ ‫حرّيــة غيــر موجودة‬ ‫إلــى وجهــة لطالبــي ّ‬ ‫فـــي الواقـــع‪ ،‬يســـتخدمها الســـابحون‬ ‫كتعويـــض عـــن مفقـــود‪ ،‬فيصبحـــون‬ ‫فـــي قلـــب اضطـــراب ســـيكولوجي‪ ،‬ألن‬ ‫اإلف ــراط ف ــي التعوي ــض س ــيجعل الف ــرد‬ ‫فـــي وضعيـــة باتولوجيـــة تصـــل إلـــى‬ ‫حـــد «إنـــكار الواقـــع» الـــذي هـــو آليـــة‬ ‫دفاعيـــة تحيـــل إلـــى الشـــيزوفرينيا‪.‬‬ ‫م ــن جه ــة أخ ــرى‪ ،‬لوح ــظ اس ــتخدام‬ ‫هـــذه الوســـائل فـــي إثـــارة العنصريـــة‬ ‫والتمييـــز فـــي االضطرابـــات التـــي‬ ‫يعرفه ــا العال ــم العرب ــي‪ ،‬حي ــث تس ــود‬ ‫حـــروب مذهبيـــة وطائفيـــة وإثنيـــة‪،‬‬ ‫إلـــى جانـــب اســـتغاللها مـــن قبـــل‬ ‫متطرفيــن فــي الدعايــة‪ ،‬بــل وحتــى فــي‬ ‫ّ‬ ‫تجني ــد مقاتلي ــن ف ــي جماع ــات مســلّحة‬ ‫فـــي مجتمعـــات تختفـــي فيهـــا البنـــى‬

‫العشـــائرية تحـــت القشـــرة المدنيـــة‪.‬‬ ‫بعمليـــة‬ ‫واألمـــر‪ ،‬هنـــا‪ ،‬ال يتعلّـــق‬ ‫ّ‬ ‫تســـفيه لـــدور شـــبكات التواصـــل‬ ‫االجتماع ــي‪ ،‬الت ــي تبق ــى ف ــي النهاي ــة‪،‬‬ ‫مكســـب ًا ووســـيلة مـــن وســـائل إشـــاعة‬ ‫الحرّيـــة وبنـــاء الديموقراطيـــة فـــي‬ ‫ّ‬ ‫بل ــدان تفتق ــر إل ــى قن ــوات الح ــوار بي ــن‬ ‫مكون ــات المجتم ــع بفع ــل الغل ــق ال ــذي‬ ‫ّ‬ ‫تمارس ــه أنظم ــة الزال ــت تعي ــش خ ــارج‬ ‫التاري ــخ‪ ،‬ولك ــن بانتب ــاه إل ــى األم ــراض‬ ‫الجدي ــدة الت ــي تنتق ــل م ــن ه ــذه الحي ــاة‬ ‫المغلقــة إلــى فضــاء مفتــوح عــن آخــره‪.‬‬ ‫وألن هـــذه الوســـائط تبقـــى مجـــرد‬ ‫عطــى لهــا مــن أبعــاد‬ ‫وســائط‪ ،‬رغــم مــا ُي َ‬ ‫ســـحرية‪ ،‬فهـــي بطبيعتهـــا‪ ،‬وبالقـــدر‬ ‫الـــذي يمكـــن االســـتفادة منهـــا فـــي‬ ‫التنميــة وبنــاء اإلنســان العربــي‪ ،‬يمكــن‬ ‫اســـتخدامها فـــي االتجـــاه المعاكـــس‪،‬‬ ‫ويبقــى مســتوى األداء مرتبطـ ًا بالتنميــة‬ ‫الحرّيــة‬ ‫ـدرب الشــاق علــى ّ‬ ‫البشــرية والتـ ّ‬ ‫غي ــر القاتل ــة الت ــي تق ــوم عل ــى احت ــرام‬ ‫اآلخ ــر المختل ــف واحت ــرام رأي ــه وحّق ــه‬ ‫ف ــي الوج ــود وحّق ــه ف ــي إب ــداء ال ــرأي‪.‬‬ ‫ومـــن الســـذاجة أن ننتظـــر حضـــورًا‬ ‫إيجابيـــ ًا لإلنســـان العربـــي فـــي‬ ‫«االفت ــراض»‪ ،‬اآلن‪ ،‬وه ــو منس ــحب م ــن‬ ‫الواقـــع‪.‬‬ ‫‪31‬‬

‫بين الحرّيّات وأمن البشر‬ ‫إميل أمني‬ ‫مـــن بيـــن أفضـــل التعبيـــرات التـــي‬ ‫يمكـــن للمـــرء أن يشـــير إليهـــا إذا أراد‬ ‫الحرّيـــة‪ ،‬القـــول إنهـــا‪« :‬مقـــدرة‬ ‫تعريـــف ّ‬ ‫اإلنســـان علـــى اختيـــار قيـــوده بنفســـه»؛‬ ‫حرّيتـــه يرتبـــط‬ ‫وعليـــه فـــإن فضـــاء ّ‬ ‫ارتباطــ ًا مط ــردًا بقي ــود المس ــؤولية الت ــي‬ ‫الحرّيـــة‪ ،‬وقـــد يبـــدو للعـــوام أن‬ ‫تولدهـــا ّ‬ ‫األمـــر يســـير‪ ،‬لكنـــه فـــي حقيقـــة الحـــال‬ ‫عس ــير ج ــداً‪ ،‬ذل ــك أن ــه م ــن يض ــع ح ــدود‬ ‫الحرّيـــة؟ ومـــن يرســـم قيـــود المســـؤولية‬ ‫ّ‬ ‫األدبي ــة والمادي ــة معــاً؟ ث ــم خ ــذ إلي ــك م ــا‬ ‫يلـــي‪ ،‬إذا كان شـــأن التعريـــف الســـابق‬ ‫قـــد يصـــح فـــي حالـــة األفـــراد والكيانـــات‬ ‫البشـــرية؟ فهـــل ينصـــرف التعريـــف علـــى‬ ‫القضايـــا التكنولوجيـــة الحديثـــة التـــي‬ ‫المقّدم ــة‬ ‫أفرزته ــا وس ــائل العولم ــة‪ ،‬وف ــي ُ‬ ‫منهـــا أدوات االتصـــال بيـــن البشـــر؟‬ ‫الشــاهد أنــه إذا كان اختــراع الهاتــف قــد‬ ‫ُعـ َّـد مدرســة جديــدة فــي عالــم االتصــاالت‪،‬‬ ‫فـــإن وســـائط التواصـــل االجتماعـــي‬ ‫باتـــت ُتمثّـــل جامعـــة فـــي هـــذا الســـياق‪.‬‬ ‫غيـــر أن تبعـــات واســـتحقاقات هـــذه‬ ‫الجامعـــة ربمـــا أدت إلـــى اضطـــراب فـــي‬ ‫المش ــهد االجتماع ــي المحل ــي‪ ،‬واإلقليم ــي‪،‬‬ ‫والعالمـــي‪ ،‬ذلـــك أنهـــا‪ -‬وعـــن حـــق‪-‬‬ ‫أســـقطت الســـدود وتجـــاوزت الحـــدود‪،‬‬ ‫وبــدا وكأن الفضــاء الســيبراني عالــم قائــم‬ ‫بذاتـــه‪.‬‬ ‫هــل يمكــن إجــراء مقاربــة حقيقيــة بيــن‬ ‫أدوات التواص ــل االجتماع ــي ف ــي الماض ــي‬ ‫القريــب وحالهــا اآلن؟‬ ‫الشــاهد أنــه عندمــا َتـّـم اختــراع الهاتــف‬ ‫قبـــل مئـــة عـــام‪ ،‬ظهـــر فـــي األوســـاط‬ ‫االجتماعيـــة نـــوع مـــن القلـــق‪ ،‬بوصفهـــا‬ ‫أدوات تـــؤدي إلـــى تجـــاوزات أخالقيـــة‪،‬‬ ‫وتســاعد علــى تدميــر العالقــات اإلنســانية‪،‬‬ ‫‪32‬‬

‫فعلى ســبيل المثــال‪ :‬تحّدثنا البروفيســورة‬ ‫«ميغـــان مورينـــون» أخصائيـــة طـــب‬ ‫المراهقـــة فـــي جامعـــة ويســـكونون‬ ‫ماديســـون فـــي الواليـــات المتحـــدة‬ ‫األميركيـــة فتقـــول‪« :‬كان اختـــراع الهاتـــف‬ ‫كفيـــا بتقويـــض مجتمعنـــا‪ ،‬فالرجـــال‬ ‫ً‬ ‫كانـــوا ســـيتصلون بالنســـاء ويمطروهـــن‬ ‫بواب ــل م ــن التعليق ــات‪ ،‬وس ــتكون النس ــاء‬ ‫ضعيف ــات‪ ،‬ول ــم نك ــن لنحظ ــى بمحادث ــة‬ ‫محترمـــة متحضـــرة» ‪ ....‬هـــل يتســـق‬ ‫الماض ــي عل ــى صورت ــه المتواضع ــة م ــع‬ ‫الحاضـــر بفوراتـــه وثوراتـــه فـــي عالـــم‬ ‫االتصـــاالت االجتماعيـــة؟‬ ‫بالقطـــع نحـــن أمـــام مشـــهد مغايـــر‬ ‫تمامـاً‪ ،‬ذلــك أنــه إذا كان العالــم قــد أضحــى‬ ‫قري ــة كوني ــة صغي ــرة‪ -‬عل ــى َحــّد تعبي ــر‬ ‫عال ــم االجتم ــاع الكن ــدي الش ــهير «مارش ــال‬ ‫ماكلوهـــان»‪ -‬فـــإن وســـائط االتصـــال‬ ‫عـــززت‬ ‫االجتماعـــي هـــي األداة التـــي ّ‬ ‫عـــل‬ ‫هـــذا الطـــرح الفكـــري الصائـــب‪ ،‬وَل ّ‬ ‫الذيـــن يســـتخدمون المواقـــع االجتماعيـــة‬ ‫الش ــهيرة عل ــى الش ــبكة العنكبوتي ــة مث ــل‬ ‫«الفيســبوك»‪ ،‬و«تويتــر» يعلمــون إلــى أي‬ ‫حــّد ومــّد‪ ،‬ق ــد ُقــّد َر له ــا أن تنش ــئ عالمــ ًا‬ ‫افتراضيـــ ًا لـــه معاييـــره ومحاذيـــره فـــي‬ ‫الوقـــت ذاتـــه‪.‬‬ ‫لقـــد أتاحـــت وســـائط االتصـــال‬ ‫المـــرة األولـــى‬ ‫االجتماعـــي‪ ،‬وربمـــا هـــي ّ‬ ‫فـــي تاريـــخ البشـــرية‪ ،‬درجـــة غيـــر‬ ‫مســـبوقة مـــن ســـرعة التالقـــي‪ :‬صوتـــ ًا‬ ‫وصـــورة‪ ،‬كتابـــة ومحادثـــة‪ ،‬تعليمـــ ًا‬ ‫وتعلّم ـاً‪ ،‬ومش ــاركة ف ــي األخب ــار بص ــورة‬ ‫محدثـــة دائمـــاً‪ ،‬وهـــي طفـــرة لـــم‬ ‫آنيـــة َّ‬ ‫تعرفهـــا الحضـــارة الرومانيـــة فـــي َأ ْو ِج‬ ‫عظمتهـــا مـــا أفـــرز بنـــاء قاعـــدة معرفيـــة‬ ‫ومعلوماتي ــة ه ــي األكث ــر ث ــراء وغن ــى ف ــى‬

‫تاريـــخ اإلنســـانية‪ ،‬وال شـــك‪.‬‬ ‫فـــي هـــذا اإلطـــار الجديـــد للتقـــارب‬ ‫اإلنســـاني‪ ،‬كان البـــد لوجـــه العملـــة‬ ‫اآلخـــر أن يظهـــر‪ ،‬ومعـــه بـــدأ الســـؤال‬ ‫يطـــرح ذاتـــه‪« :‬هـــل هـــذا العالـــم ُمتحلّـــل‬ ‫مـــن القيـــود؟ بمعنـــى آخـــر‪ :‬هـــل مـــن‬ ‫لحرّي ــة وس ــائل االتص ــال ه ــذه‪ ،‬أم‬ ‫ح ــدود ّ‬ ‫أنهـــا تمثـــل وحشـــ ًا معرفيـــ ًا ومعلوماتيـــ ًا‬ ‫ـروض لــه‪ ،‬وال راد‬ ‫واتصاالتي ـ ًا كاســرًا ال ُمـ ّ‬ ‫لهجمات ــه وتبعات ــه الس ــلبية ف ــي الح ــال أو‬ ‫االســـتقبال؟‬ ‫المقطــوع بــه أن هنــاك اتهامــات كثيــرة‬ ‫ُو ّجهـــت لتلـــك الوســـائط فـــي األعـــوام‬ ‫األربعـــة المنصرفـــة‪ ،‬وبنـــوع خـــاص‬ ‫فـــي عالمنـــا العربـــي‪ ،‬ومحيطنـــا الشـــرق‬ ‫أوســطي‪ ،‬الــذي شــهد نوعـ ًا مــن الثــورات‪،‬‬ ‫لعب ــت فيه ــا أدوات التواص ــل دورًا ُمتقّدمــ ًا‬ ‫جـــدًا فـــي حشـــد الشـــباب الثائـــر‪ ،‬وكان‬ ‫ـــر َح وال يـــزال‪ :‬هـــل‬ ‫التســـاؤل الـــذي ُط ِ‬ ‫ٍ‬ ‫أيـــاد خارجيـــة اســـتغلّت‬ ‫كانـــت هنـــاك‬ ‫ه ــذه اآللي ــات الحديث ــة لترتي ــب الصف ــوف‪،‬‬ ‫وحش ــد اآلالف ب ــل الماليي ــن ف ــي الميادي ــن‬ ‫المنتفضـــة عبـــر تلـــك الوســـائط؟‪.‬‬ ‫المؤك ــد أنن ــا لس ــنا بص ــدد البح ــث ع ــن‬ ‫جـــواب ُمحـــّدد للســـؤال المتقـــّدم‪ ،‬لكـــن‬ ‫ممـــا الشـــك فيـــه أن الســـؤال صـــادق‬ ‫بالفعـــل فـــي جزئيـــة المقـــدرة التـــي‬ ‫تجّل ــت به ــذه الس ــرعة والدق ــة ف ــي األداء‪،‬‬ ‫فـــكان الفيســـبوك‪ ،‬والرســـائل الهاتفيـــة‪،‬‬ ‫وتويتـــر‪ ،‬أســـلحة «الربيـــع العربـــي»‪،‬‬ ‫غيـــرت مـــن شـــكل المنطقـــة‪ ،‬مهمـــا‬ ‫التـــي ّ‬ ‫يكـــن مـــن نتائـــج التغييـــر‪ :‬ســـلب ًا أو‬ ‫إيجابـــاً‪ ،‬وقـــد بـــدت كالريـــح الهـــادرة‪،‬‬ ‫حي ــث ال يع ــرف أح ــد م ــن أي ــن ته ــب‪ ،‬وال‬ ‫إلـــى أيـــن تمضـــي!‪.‬‬ ‫والثابـــت أن الســـؤال عـــن البدايـــة‬

‫للحرّيـــات عبـــر تلـــك المواقـــع‬ ‫والنهايـــة ّ‬ ‫والمواضـــع قـــد أضحـــى كذلـــك قضيـــة‬ ‫أمـــن قومـــي فـــي العـــام الماضـــي الـــذي‬ ‫ش ــهد نش ــوء وارتق ــاء م ــا ع ــرف بـ«الدول ــة‬ ‫اإلســـامية فـــي العـــراق وبـــاد الشـــام»‪،‬‬ ‫فقـــد أدت تلـــك اآلليـــات إلـــى تواصـــل‬ ‫األفـــكار «الداعشـــية» مـــع البشـــر حـــول‬ ‫العال ــم‪ ،‬األم ــر ال ــذي دع ــا منس ــق االتح ــاد‬ ‫األوروبـــي لمكافحـــة اإلرهـــاب «جيـــل‬ ‫دوكيرشـــوف» ألن يحـــذّر مـــن التهديـــد‬ ‫تشـــكله مواقـــع التواصـــل‬ ‫الـــذي باتـــت‬ ‫ّ‬ ‫االجتماعـــي بوصفهـــا وســـيلة فـــي يـــد‬ ‫تنظيــم داعــش لتجنيــد الشــباب لالنضمــام‬ ‫إليـــه‪.‬‬ ‫وَلع ـ ّـل رئي ــس وزراء فرنس ــا «مانوي ــل‬ ‫فال ــس» ق ــد أش ــار‪ ،‬ب ــدوره مؤخ ــراً‪ ،‬إل ــى‬ ‫خطـــورة الوضـــع‪ ،‬إذ أشـــار‪ ،‬إلـــى أنـــه‬ ‫بنهايـــة العـــام ‪ 2015‬ســـيكون هنـــاك‬ ‫قراب ــة عش ــرة آالف أوروب ــي ق ــد انضم ــوا‬ ‫إلـــى داعـــش‪.‬‬ ‫أمـــا مـــا لـــم يقلـــه «فالـــس» فهـــو أن‬ ‫غالبي ــة ه ــؤالء ق ــد وج ــدوا طريقه ــم إل ــى‬ ‫ســـورية والعـــراق وليبيـــا وغيرهـــا مـــن‬ ‫البقـــاع واألصقـــاع حـــول العالـــم عبـــر‬

‫التالقـــي الفكـــري المطلـــق‪ ،‬وليـــس‬ ‫النس ــبي‪ ،‬ف ــي فض ــاءات وس ــائل االتص ــال‬ ‫حيـــث ال نواميـــس إلهيـــة وال شـــرائع‬ ‫وضعيـــة تحـــّدد طـــرق وآليـــات االلتقـــاء‬ ‫وتوجهاتـــه‪ :‬الســـلمية‪ ،‬والعنيفـــة‬ ‫ومآلـــه‬ ‫ّ‬ ‫عل ــى َح ـ ٍّـد س ــواء ه ــل يعن ــي ه ــذا أن ــه ق ــد‬ ‫حــان الوقــت إلعــان الحــرب علــى «تويتــر‬ ‫وفيســـبوك» علـــى ســـبيل المثـــال؟‬ ‫فــي حقيقــة الحــال يتبــدى لنــا أن هنــاك‬ ‫ضغوط ــات متزاي ــدة ف ــي اآلون ــة األخي ــرة‬ ‫مــن جانــب الســلطات األوروبيــة للح ـّد مــن‬ ‫اســتخدام المتطرفيــن لهــا كمنصــة رئيســية‬ ‫للتجني ــد وجم ــع التبرع ــات‪ ،‬وتتلق ــى ه ــذه‬ ‫المواق ــع تحذي ــرات قضائي ــة م ــن مواجه ــة‬ ‫رقاب ــة حكومي ــة أكث ــر صرام ــة إذا فش ــلت‬ ‫فـــي تطبيـــق معاييـــر تحديـــد النشـــاطات‬ ‫اإلرهابيـــة وإزالتهـــا مـــن شـــبكاتها‪ .‬وقـــد‬ ‫تمكنـــت وحـــدة مكافحـــة اإلرهـــاب عبـــر‬ ‫ّ‬ ‫اإلنترنـــت فـــي بريطانيـــا‪ ،‬فـــي الســـنوات‬ ‫الخمــس الماضيــة‪ ،‬مــن إزالــة تســعة آالف‬ ‫صفحـــة ومشـــاركة مـــن تويتـــر مرتبطـــة‬ ‫بنشـــاطات إرهابيـــة‪ ،‬بحســـب مصـــادر‬ ‫بريطاني ــة‪.‬‬ ‫المتقـــّدم‬ ‫يطـــرح المنظـــور الرؤيـــوي ُ‬

‫عالمـــة اســـتفهام‪« :‬هـــل ســـنجد عمـــا‬ ‫حرّيـــة اإلنترنـــت بـــكل وســـائله‬ ‫قريـــب ّ‬ ‫ووســـائطه مقموعـــة مـــن قبـــل األنظمـــة‬ ‫الحكومي ــة؟ بمعن ــى‪ :‬ه ــل ه ــذه الحكوم ــات‬ ‫حرّيــات العالــم‬ ‫هــي التــي ســتحّدد بدايــات ّ‬ ‫االفتراضـــي هـــذا ونهاياتـــه؟»‪.‬‬ ‫الس ــؤال ج ــد خطي ــر م ــن جهتي ــن‪ :‬أو ًال‬ ‫مــن كونــه يمكــن أن يتعــارض مــع حقــوق‬ ‫وحرّيـــة الـــرأي‪،‬‬ ‫اإلنســـان فـــي المعرفـــة ّ‬ ‫وثانيـــ ًا ألن المشـــهد علـــى هـــذا النحـــو‬ ‫يجعـــل الحلـــول األمنيـــة والســـلطوية‬ ‫هـــي الحلـــول األعلـــى صوتـــاً‪ ،‬ودائمـــ ًا‬ ‫تكـــون هـــي األيســـر واألســـهل فـــي التـــو‬ ‫المدَيْي ــن‪ :‬المتوس ــط‪،‬‬ ‫واللحظ ــة‪ ،‬لك ــن ف ــي َ‬ ‫والبعيـــد عـــادة مـــا تخفـــق فـــي إيجـــاد‬ ‫حلـــول أليـــة مشـــكلة حقيقيـــة‪.‬‬ ‫وم ــا بي ــن األمري ــن‪ ،‬نج ــد فريقــ ًا ثالثــ ًا‬ ‫يتحـــّدث بعقالنيـــة مـــا عـــن الطريـــق‬ ‫الثالـــث‪ ،‬بمعنـــى‪ :‬كيـــف تـــم التوفيـــق‬ ‫الحرّيـــات وأمـــن البشـــر؟ أو هـــل‬ ‫بيـــن ّ‬ ‫مـــن دســـتور أدبـــي أخالقـــي يمكـــن أن‬ ‫ـا لوس ــائط التواص ــل‬ ‫يك ــون مرش ــدًا ودلي ـ ً‬ ‫االجتماعـــي‪ ،‬تســـتطيع مـــن خاللـــه‬ ‫الشـــركات والمؤسســـات واألفـــراد إعمـــال‬ ‫‪33‬‬

‫المراقب ــة الذاتي ــة دون ش ــريك أو رقي ــب أو‬ ‫طـــرف ثالـــث؟‬ ‫المتقــّدم يعك ــس حال ــة القل ــق‬ ‫الس ــؤال ُ‬ ‫العالمـــي مـــن مشـــكالت الممارســـات‬ ‫التجاوزيـــة والعدائيـــة علـــى اإلنترنـــت‬ ‫ومـــا يمكـــن لهـــا أن تولِّـــده عمـــا‪ ،‬قريـــب؛‬ ‫لـــذا فاإلجابـــة فـــي حاجـــة إلـــى رؤيـــة‬ ‫مجتمعيـــة ال فرديـــة‪ ،‬رؤيـــة ُيقـــّدم مـــن‬ ‫خاللهـــا رجـــال علـــم االجتمـــاع وصفـــة‬ ‫عصرانيـــة‪ ،‬شـــريطة أن تتوافـــر النوايـــا‬ ‫الحقيقيـــة لبلـــورة القضيـــة بصـــورة‬ ‫سيســيولوجية‪ ،‬تتســق وأبعــاد المشــكلة‪،‬‬ ‫ال أن نســـتمع فقـــط إلـــى أولئـــك الذيـــن‬ ‫اخترعـــوا اإلنترنـــت وجعلـــوا منـــه أداة‬ ‫لحــروب العقــول‪ ،‬أحــدث أجيــال الحــروب‬ ‫القائمـــة والقادمـــة معـــاً‪.‬‬ ‫بدورنـــا هنـــا نطـــرح طرحـــ ًا جديـــداً‪:‬‬ ‫«هـــل النامـــوس الطبيعـــي واألخالقـــي‬ ‫كفيـــل» بترســـيم حـــدود بدايـــات عالـــم‬ ‫اإلنترنـــت ونهاياتـــه؟ القانـــون المنظـــم‬ ‫للفك ــر أو الط ــرح الس ــابق ه ــو «م ــا ال تري ــد‬ ‫أن يفعـــل النـــاس بكـــم‪ ،‬ال تفعلـــوا أنتـــم‬ ‫مثل ــه به ــم»‪ ،‬أو «أحب ــب ألخي ــك م ــا تح ــب‬ ‫لنفســـك»‪.‬‬ ‫غيـــر أنـــه فـــي عالـــم القـــرن الحـــادي‬ ‫والعشـــرين‪ ،‬حيـــث الحـــروب الطاحنـــة‬ ‫واالس ــتعمار بآلي ــات مغاي ــرة عم ــا رأين ــاه‬ ‫فـــي القـــرون الســـابقة‪ ،‬قـــد يصبـــح مـــن‬ ‫الســـذاجة بمـــكان االقتنـــاع بـــأن أحـــدًا‬ ‫ُيعي ــر س ــمع ًا له ــذه المنظوم ــات األخالقي ــة‬ ‫الطهرانيـــة أو اليوتوبيـــة‪.‬‬ ‫ه ــل يحت ــاج األم ــر إل ــى تش ــريع دول ــي‬ ‫حرّيـــة‬ ‫جديـــد‪ ،‬يعـــادل إعـــان شـــرعة ّ‬ ‫الـــرأي فـــي إعـــان حقـــوق اإلنســـان؟‬ ‫المعـــروف أن اإلعـــان العالمـــي عـــن‬ ‫يميــز بيــن نوعين‬ ‫حقــوق اإلنســان (‪ّ )1948‬‬ ‫الحرّي ــة الس ــلبية وتعن ــي أن‬ ‫الحرّي ــة‪ّ :‬‬ ‫م ــن ّ‬ ‫يكــون اإلنســان حـّـرًا مــن وصايــة اآلخريــن‬ ‫ف ــي كل أفعال ــه وقرارات ــه‪.‬‬ ‫والحرّيـــة اإليجابيـــة‪ :‬أي أن يكـــون‬ ‫ّ‬ ‫اإلنس ــان ح ـ ّـرًا م ــن كل العوام ــل المعرقل ــة‬ ‫لحرّيت ــه كالج ــوع والم ــرض وع ــدم األم ــان‬ ‫ّ‬ ‫والفاقـــة واالحتيـــاج‪.‬‬ ‫والش ــاهد م ــن جدي ــد أن ــه أم ــام إف ــرازات‬ ‫وســـائط التواصـــل االجتماعـــي المثيـــرة‬ ‫والمخيفـــة‪ ،‬كثيـــرًا مـــا تتداخـــل األنمـــاط‬ ‫‪34‬‬

‫للحرّي ــة‪ ،‬وعوض ـ ًا ع ــن المقارب ــة‬ ‫الس ــابقة ّ‬ ‫الحرّي ــات وأنواعه ــا الختي ــار األنف ــع‬ ‫بي ــن ّ‬ ‫واألرف ــع لإلنس ــان‪ ،‬تبق ــى المفاضل ــة بي ــن‬ ‫الحرّي ــة‪ ،‬واألم ــن‪ ،‬وهن ــا تكم ــن اإلش ــكالية‬ ‫ّ‬ ‫الحقيقيــة لوســائل التواصــل االجتماعــي‪،‬‬ ‫وبخاصـــة مـــع تهديـــدات «اإلرهـــاب‬ ‫اإللكترونـــي» الـــذي ال يحـــّده حـــّد‪ ،‬وال‬ ‫يسـ ـّده سـ ـّد‪.‬‬ ‫الحرّيـــات‬ ‫فـــرض‬ ‫أن‬ ‫التجربـــة‬ ‫تبيـــن‬ ‫ّ‬ ‫أو وض ــع عالم ــات للبداي ــة وللنهاي ــة م ــن‬ ‫ِقَب ِ‬ ‫ـــل الجهـــات األمنيـــة واالســـتخباراتية‬ ‫ه ــو ح ــل عقي ــم‪ ،‬ذل ــك أن ــه بمج ــرد إغ ــاق‬ ‫ـا ع ــن‬ ‫تل ــك المواق ــع أو المدون ــات‪ ،‬فض ـ ً‬ ‫صعوبــة إغــاق جميــع المواقــع التكفيريــة‬ ‫تقنيـاً‪ ،‬كثيــرًا مــا يلجــأ القائمــون علــى تلــك‬ ‫المواقــع إلــى نقــل جميــع المشــاركين فيهــا‬ ‫ومعلوماته ــا ومواده ــا إل ــى مواق ــع أخ ــرى‬ ‫جدي ــدة تظه ــر عل ــى اإلنترن ــت‪ ،‬م ــا يعن ــي‬ ‫للحرّيـــة علـــى‬ ‫اســـتحالة وضـــع حـــدود ّ‬ ‫ـح أن نس ــميها‬ ‫الش ــبكة العنكبوتي ــة‪ ،‬ويص ـ ّ‬ ‫المتحرك ــة غي ــر الثابت ــة»‪.‬‬ ‫«الح ــدود‬ ‫ّ‬ ‫يتوجب قوله في الختام؟‬ ‫الذي‬ ‫ما‬ ‫ّ‬ ‫باختص ــار غي ــر مخ ــل يمك ــن اإلش ــارة‬ ‫إلـــى أنـــه إذا كانـــت وظيفـــة الدولـــة هـــي‬ ‫ـــم‬ ‫ضمـــان حقـــوق المواطنيـــن‪ ،‬ومـــن َث ّ‬ ‫من ــع إعم ــال العنصري ــة والتميي ــز‪ ،‬وقط ــع‬ ‫الطريـــق علـــى العنـــف‪ ،‬وتقليـــل فـــرص‬ ‫اإلره ــاب العالم ــي‪ ،‬ف ــإن المجتم ــع الدول ــي‬ ‫المصــّدرة آللي ــات ه ــذه‬ ‫المتقّدم ــة ُ‬ ‫وال ــدول ُ‬ ‫حرّيــة‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫حماي‬ ‫ـك‬ ‫ـ‬ ‫كذل‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫به‬ ‫ـوط‬ ‫ـ‬ ‫من‬ ‫الوســائط‬ ‫ّ‬ ‫التعبيـــر عـــن الـــرأي فـــي كافـــة مناحـــي‬

‫الحي ــاة‪ ،‬دون أن ي ــؤدي ذل ــك إل ــى أعم ــال‬ ‫عنـــف أو حـــروب أو إرهـــاب‪.‬‬ ‫حولـــت هـــذه الوســـائط كل‬ ‫لقـــد ّ‬ ‫مســـتخدم لهـــا إلـــى كاتـــب أو صحافـــي‬ ‫ـــروج األخبـــار‪ ،‬ويهـــدف مـــن ترويجـــه‬ ‫ُي ّ‬ ‫ه ــذا إل ــى تحقي ــق م ــدرك أو إنج ــاز عقل ــي‬ ‫أو مـــادي بعينـــه‪ ،‬وهنـــا فـــإن القانـــون‬ ‫األخالقـــي الطبيعـــي‪ ،‬يلزمـــه االلتـــزام‬ ‫الحرّي ــة الحقيقي ــة‪ ،‬والت ــي تتمث ــل‬ ‫بح ــدود ّ‬ ‫ف ــي الحقيق ــة‪ ،‬وال ش ــيء غي ــر الحقيق ــة‪:‬‬ ‫الحقيق ــة الكامل ــة‪ ،‬وه ــو م ــا يعن ــي ع ــدم‬ ‫اس ــتخدام وظيفت ــه لكتاب ــة أف ــكار مس ــيئة‪،‬‬ ‫أو نقـــل األكاذيـــب لتحقيـــق أهـــداف‬ ‫شـــخصية‪ ،‬وأول جريمـــة قـــد يرتكبهـــا‬ ‫مس ــتخدم وس ــائط االتص ــال االجتماع ــي‪،‬‬ ‫حرّيتـــه الحقيقيـــة‪ ،‬هـــي‬ ‫وتهـــدم حـــدود ّ‬ ‫التحرّيـــض علـــى‬ ‫اســـتخدام قلمـــه فـــي‬ ‫ّ‬ ‫آفَتـــي الكراهيـــة والعنصريـــة اللتيـــن‬ ‫َ‬ ‫تجـــران علـــى العالـــم الويـــات المريـــرة‪.‬‬ ‫للحرّيـــة هـــي‬ ‫إن كل عمليـــة اغتيـــال ّ‬ ‫واقعـــة فشـــل لثقافـــة مـــا فـــي احتضـــان‬ ‫الحرّيـــة التـــي بحـــوزة أبنائهـــا‪...‬‬ ‫كميـــة ّ‬ ‫فه ــل حاض ــر ومس ــتقبل وس ــائط االتص ــال‬ ‫االجتماع ــي الي ــوم دلي ــل عل ــى حال ــة فش ــل‬ ‫ثقافـــي عالمـــي‪ ،‬تعيشـــها البشـــرية فـــي‬ ‫فت ــرة انتقالي ــة حرج ــة بي ــن نظ ــام عالم ــي‬ ‫قدي ــم وآخ ــر جدي ــد‪ ،‬ل ــم ُيق ـّدر ل ــه أن ي ــدوم‬ ‫ألكث ــر م ــن عقدي ــن‪ ،‬وف ــي انتظ ــار مالم ــح‬ ‫نظــام آخــر يمـّـر‪ ،‬اآلن‪ ،‬بأوقــات المخــاض‬ ‫العصيبـــة؟‪.‬‬

‫فواصل بين الواقعي واالفتراضي‬ ‫د‪.‬عاهد العاسمي‬ ‫تعـــّددت‪ ،‬فـــي الســـنوات الماضيـــة‪،‬‬ ‫شبـــــكات الـــــتــــــواصل االجـتـمـــــــاعي‬ ‫واس ــتأثرت باهتم ــام جمه ــور واس ــع م ــن‬ ‫المتلقيـــن‪ ،‬ولعبـــت األحـــداث السياســـية‬ ‫والطبيعي ــة ف ــي العال ــم دورًا ب ــارزًا ف ــي‬ ‫التعري ــف به ــذه الش ــبكات‪ ،‬كم ــا س ــاهمت‬ ‫فــي إيصــال األخبــار الســريعة والرســائل‬ ‫النصيـــة ومقاطـــع الفيديـــو عـــن تلـــك‬ ‫األحـــداث‪ ،‬األمـــر الـــذي ســـاعد فـــي‬ ‫شـــهرتها‪.‬‬ ‫تقـــوم فـكـــرة‪ ‬شبــــكات التـواصـــــل‬ ‫االجـتـمـــاعي‪ ‬عـلــــى بـنـــــــاء وتفـعــــيل‬ ‫الحيــة علــى اإلنترنــت؛ حيــث‬ ‫المجتمعــات ّ‬ ‫يتش ــارك الن ــاس اهتماماته ــم وأنش ــطتهم‬ ‫مـــن خـــال برمجيـــات تحقـــق صفـــة‬ ‫االجتماعيـــة‪ ،‬وهـــي تحقّـــق اتصـــاالت‬ ‫تفاعليـــة باتجاهيـــن‪.‬‬ ‫و«مواقـــع الــتـواصــــــل االجتماعـــي»‬ ‫مصطلـــح ُيطلـــق علـــى مجموعـــة مـــن‬

‫المواقـــع علـــى شـــبكة اإلنترنـــت‪ ،‬وقـــد‬ ‫ظه ــرت ه ــذه المواق ــع م ــع الجي ــل الثان ــي‬ ‫للوي ــب؛ لتس ــاعد األف ــراد عل ــى التواص ــل‬ ‫والتفاع ــل ف ــي بيئ ــة مجتم ــع افتراض ــي‬ ‫يجمعهـــم حســـب مجموعـــات اهتمـــام أو‬ ‫انتم ــاء أو مش ــاركة ف ــي قضي ــة بعينه ــا‪ .‬‬ ‫والشـــبكات االجتماعيـــة هـــي مواقـــع‬ ‫تعطـــي المســـتخدمين مجموعـــة مـــن‬ ‫الخدمـــات علـــى أســـاس تكنولوجيـــات‬ ‫تســـمح لألفـــراد ببنـــاء محتـــوى‬ ‫خـــاص بصفحـــة شـــخصية‪ ،‬ونظـــام‬ ‫المتعـــّددة‬ ‫مـــن العالقـــات االجتماعيـــة ُ‬ ‫ومشـــاركة اآلخريـــن والتواصـــل معهـــم‬ ‫دون قيـــود جغرافيـــة أو مكانيـــة أو‬ ‫زمني ــة‪ ..‬إذاً‪ ،‬ه ــي عب ــارة ع ــن تطبيق ــات‬ ‫تكنولوجيـــة إلكترونيـــة قائمـــة علـــى‬ ‫أنظمــة لتحقيــق التواصــل والتفاعــل بيــن‬ ‫مختلــف األفــراد المنتشــرين حــول العالــم‬ ‫بالمراســـات المكتوبـــة‪ ،‬والمســـموعة‪،‬‬

‫والمرئيــة‪ ،‬مــع تحقيــق االتصــال الفــوري‬ ‫بمــا يحقــق أكبــر فائــدة لتجميــع الشــعوب‬ ‫فـــي موقـــع للتواصـــل عـــن بعـــد‪.‬‬ ‫ونســـتطيع القـــول إن مواقـــع‬ ‫التواصـــل االجتماعـــي لهـــا أهميـــة‬ ‫كبي ــرة ف ــي إتاح ــة المج ــال واس ــع ًا أم ــام‬ ‫اإلنســـان للتعبيـــر عـــن نفســـه وعـــن‬ ‫آرائـــه الشـــخصية ومشـــاركة مشـــاعره‬ ‫وأفـــكاره مـــع اآلخريـــن‪ ،‬خاصـــة أن‬ ‫هنـــاك حقيقـــة علميـــة هـــي أن اإلنســـان‬ ‫اجتماعـــي بطبعـــه وبفطرتـــه يتواصـــل‬ ‫م ــع اآلخري ــن‪ ،‬وال يمك ــن ل ــه أن يعي ــش‬ ‫فـــي ُعزلـــة عـــن أخيـــه اإلنســـان‪ .‬وقـــد‬ ‫أثبـــت كثيـــر مـــن الدراســـات والبحـــوث‬ ‫العلمي ــة أن اإلنس ــان ال يس ــتطيع إش ــباع‬ ‫جمي ــع حاجات ــه البيولوجي ــة والنفس ــية‬ ‫دون التواص ــل م ــع اآلخري ــن‪ ،‬فحاجات ــه‬ ‫هـــذه تفـــرض عليـــه العيـــش مـــع‬ ‫اآلخريـــن إلشـــباع هـــذه الحاجـــات‪ .‬أمـــا‬ ‫‪35‬‬

‫االحتياجـــات االجتماعيـــة فـــا يمكـــن أن‬ ‫تقــوم أساس ـ ًا دون تواصــل إنســاني مــع‬ ‫المحي ــط االجتماع ــي‪ ،‬ولذل ــك فاإلنس ــان‬ ‫كائـــن اجتماعـــي بطبيعتـــه ال يمكـــن أن‬ ‫يعيـــش بمفـــرده‪ .‬وممـــا ال شـــك فيـــه أن‬ ‫مواقــع التواصــل أصبحــت همــزة وجســرًا‬ ‫ـا بي ــن الش ــعوب وبي ــن ال ــدول‪:‬‬ ‫متواص ـ ً‬ ‫البعيـــد أصبـــح قريبـــاً‪.‬‬ ‫ويـــرى بعـــض اإلعالمييـــن أن أدوات‬ ‫التواصـــل االجتماعـــي أصبحـــت مصـــدرًا‬ ‫للمعلوم ــات بالنس ــبة لإلع ــام الرس ــمي‬ ‫أو التقليـــدي نظـــرًا لســـرعة نقـــل هـــذه‬ ‫المعلوم ــات وإثارته ــا‪ ،‬ف ــي حي ــن أش ــار‬ ‫البعـــض اآلخـــر إلـــى ضـــرورة وجـــود‬ ‫«اســـتراتيجية وطنيـــة للمحتـــوى‬ ‫اإللكترونـــي» تمامـــ ًا كمـــا هـــو الحـــال‬ ‫مـــع اســـتراتيجية التنميـــة والتعليـــم‬ ‫والصح ــة وغيره ــا م ــن المج ــاالت‪ ،‬حي ــث‬ ‫أصبح ــت وس ــائل التواص ــل االجتماع ــي‬ ‫أح ــد أه ــم المح ــاور األساس ــية للتعبي ــر‬ ‫الحرّيـــة الفكريـــة‪ ،‬ورأى البعـــض‬ ‫عـــن ّ‬ ‫ضـــرورة الدخـــول فـــي هـــذا االتجـــاه‬ ‫اإلعالم ــي الجدي ــد وع ــدم وض ــع حواج ــز‬ ‫أمامـــه‪ ،‬وأن العالـــم يعيـــش حتميـــات‬ ‫الحرّي ــة الت ــي اس ــتطاعت إس ــقاط أنظم ــة‬ ‫ّ‬ ‫اســـتبدادية عتيـــة‪ ،‬وأن الشـــباب هـــم‬ ‫الذي ــن «تس ـّـيدوا» المش ــهد اإلعالم ــي عب ــر‬ ‫أدوات التواص ــل االجتماع ــي‪ ،‬فق ــد لعب ــت‬ ‫شـــبكات التواصـــل االجتماعـــي دورًا‬ ‫التحـــركات الشـــعبية فـــي‬ ‫رياديـــ ًا فـــي‬ ‫ّ‬ ‫البلــدان العربيــة‪ ،‬وإن أبطالهــا هــم أنــاس‬ ‫عاديــون مــن جيــل الشــباب‪ ،‬المحروميــن‬ ‫الحرّيــة‬ ‫مــن أبســط الحقــوق المدنيــة فــي ّ‬ ‫والعمـــل وإبـــداء الـــرأي والتجمهـــر‬ ‫والتظاهـــر‪ ،‬هـــذا الجيـــل مـــن الشـــباب‬ ‫اخت ــار أن يق ــف بوج ــه الح ــكام الطغ ــاة‬ ‫ويطالبهـــم بحقوقـــه المشـــروعة عـــن‬ ‫طريـــق مواقـــع التواصـــل االجتماعـــي‪.‬‬ ‫والتــي تعتبــر متنفسـ ًا ومــاذًا للبعــد عــن‬ ‫القه ــر والظل ــم المجتمع ــي ال ــذي يعان ــي‬ ‫منـــه األفـــراد فـــي بعـــض المجتمعـــات‪،‬‬ ‫خاصـــة فئـــة الشـــباب‪ ،‬للتعبيـــر عـــن‬ ‫بحرّيــة تامــة‪ ،‬وخيــر دليــل علــى‬ ‫آرائهــم ّ‬ ‫ذلـــك مـــا حـــدث فـــي ‪ 25‬ينايـــر ‪2011‬‬ ‫وان ــدالع ش ــرارة الث ــورة ف ــي مص ــر م ــن‬ ‫‪36‬‬

‫خـــال مواقـــع التواصـــل‪ ،‬ثـــم تبعهـــا‬ ‫ظهـــور الصفحـــات المواجهـــة لفســـاد‬ ‫الدولـــة‪.‬‬ ‫وتحول ــت ه ــذه الظاه ــرة ال ــى مص ــدر‬ ‫ّ‬ ‫قلـــق لبعـــض األنظمـــة الحاكمـــة فـــي‬ ‫ال ــدول العربي ــة‪ ،‬وه ــو م ــا ح ــدا به ــا إل ــى‬ ‫اتخــاذ إجــراءات للحـّد مــن اســتخدام تلــك‬ ‫الحرّيـــة‬ ‫الوســـائل وتضييـــق مســـاحة ّ‬ ‫أمـــام مســـتخدميها‪.‬‬ ‫اســـتغل ناشـــطون مواقـــع‬ ‫لقـــد‬ ‫ّ‬ ‫التواصـــل االجتماعـــي للتعبيـــر عـــن‬ ‫التطـــورات فـــي مختلـــف‬ ‫الـــرأي حـــول‬ ‫ّ‬ ‫المجـــاالت السياســـية واالجتماعيـــة‪،‬‬ ‫بحرّيـــة كاملـــة‪ ،‬وســـمحت للشـــباب‬ ‫ّ‬ ‫بالش ــعور بأهمي ــة التعبي ــر ع ــن آرائه ــم‪،‬‬ ‫والمشـــاركة الفعليـــة فـــي المجتمـــع‪.‬‬ ‫يعرضهـــم‪ -‬أحيانـــاً‪-‬‬ ‫لكـــن هـــذا األمـــر ّ‬ ‫لتحـــرش المتضرريـــن مـــن هـــذه‬ ‫ُّ‬ ‫الحرّي ــة‪ ،‬وأحيان ــا يص ــل األم ــر إل ــى ح ــد‬ ‫ّ‬ ‫األذى الجســـدي‪ ،‬خاصـــة أن الشـــباب‬ ‫المتداخليـــن عبـــر وســـائل التواصـــل‬ ‫االجتماعـــي ال ُيمكـــن أن نطلـــق علـــى‬ ‫أحده ــم صف ــة «اإلعالم ــي»‪ ،‬ألن البع ــض‬ ‫يفتقـــد ألساســـيات المهنـــة اإلعالميـــة‪،‬‬ ‫عيـــن أو تصويـــره‬ ‫أثنـــاء نقلـــه لخبـــر ُم ّ‬ ‫لمقطـــع مـــا‪ ،‬بحيـــث يتجـــاوز المحاذيـــر‬ ‫األمنيــة التــي ربمــا تضـّـر باألمــن الوطنــي‬ ‫أو بأم ــن ب ــاده‪ ،‬إضاف ــة إل ــى أن ــه ف ــي‬ ‫بع ــض األحي ــان يك ــون هن ــاك ن ــوع م ــن‬ ‫التســـرع والشـــعور بالمشـــاركة الفعالـــة‬ ‫ّ‬ ‫قـــد تدفـــع بعـــض الشـــباب عبـــر تلـــك‬ ‫حرّيــات اآلخريــن‬ ‫الوســائل إلــى اختــراق ّ‬ ‫وكرامته ــم‪ ،‬لربم ــا بقص ــد أو ب ــدون قص ــد‬ ‫ـــل غيـــاب األمـــن اإللكترونـــي‪.‬‬ ‫فـــي ِظ ّ‬ ‫كم ــا نج ــد تداخ ــل الخط ــوط الفاصل ــة‬ ‫حرّي ــة التعبي ــر وح ــق الخصوصي ــة‬ ‫بي ــن ّ‬ ‫فـــي وســـائل اإلعـــام عامـــة‪ ،‬ولكـــن‬ ‫انتش ــار وس ــائل التواص ــل االجتماع ــي‪،‬‬ ‫فتـــح البـــاب للعديـــد مـــن التأويـــات‬ ‫بخصـــوص مـــا يتـــم نشـــره‪ ،‬وذلـــك‬ ‫فـــي غيـــاب التشـــريعات القانونيـــة‬ ‫وت َج ـ ّـرم التهدي ــدات‬ ‫الت ــي تنظ ــم عمله ــا‪ُ ،‬‬ ‫واختـــراق خصوصيـــة األفـــراد عبرهـــا‪،‬‬ ‫وه ــذا لي ــس عل ــى مس ــتوى المجتمع ــات‬ ‫العربيـــة فقـــط وإنمـــا علـــى مســـتوى‬

‫المجتمعـــات الغربيـــة والعالـــم أجمـــع‪.‬‬ ‫ومـــع ظهـــور مواقـــع التواصـــل‬ ‫االجتماع ــي أصبح ــت الح ــدود الجغرافي ــة‬ ‫والسياســـية بـــا معنـــى‪ ،‬وأصبحـــت‬ ‫«حرّيـــة التعبيـــر» ُتســـَتغل مـــن‬ ‫عبـــارة ّ‬ ‫قبــل تلــك المواقــع للوصــول إلــى الحيــاة‬ ‫الخاص ــة باألف ــراد‪ ،‬والعب ــث ببياناته ــم‪،‬‬ ‫والتشـــهير بهـــم‪.‬‬ ‫بحرّيـــة‬ ‫التـــذرع‬ ‫يجـــوز‬ ‫وطبعـــ ًا ال‬ ‫ّ‬ ‫التعبيـــر‪ ،‬واســـتغاللها مـــن طـــرف‬ ‫المواقـــع والمســـتخدمين للمســـاس‬ ‫بالحيـــاة الخاصـــة لألفـــراد‪ ،‬والعبـــث‬ ‫ببياناتهـــم الشـــخصية‪ ،‬وإعطـــاء الحـــق‬ ‫فـــي التســـلل أو االختـــراق لمواقـــع‬ ‫اآلخريـــن‪ ،‬أو نشـــر أفـــكار وأخبـــار‬ ‫تثيـــر جـــد ًال وحـــا ًال مـــن التشـــويش فـــي‬ ‫المجتمــع أو بيــن المواطنيــن‪ ،‬والتــي قــد‬ ‫تــؤدي إلــى المســاس باألمــن العــام للبلــد‬ ‫حرّي ــة التعبي ــر‪ ،‬فه ــل‬ ‫وه ــذا كل ــه بحج ــة ّ‬ ‫اس ــتعمال مواق ــع التواص ــل االجتماع ــي‬ ‫بحرّي ــة دون ضواب ــط أخالقي ــة أو‬ ‫مت ــاح ّ‬ ‫قانوينـــة؟‪..‬‬ ‫حرّي ــة‬ ‫وم ــن َث ـ ّـم أس ــتطيع الق ــول إن ّ‬ ‫التعبيـــر ضمـــن مواقـــع التواصـــل‬ ‫االجتماعـــي ال بـــد أن تتســـم بضوابـــط‬ ‫أخالقيـــة‪ ،‬ويجـــب علـــى المســـتخدمين‬ ‫والناشـــطين أن يكونـــوا حريصيـــن كل‬ ‫الحـــرص علـــى نشـــر المعلومـــة بشـــكل‬ ‫موضوع ــي بعي ــدًا ع ــن مج ــال اإلش ــاعات‬ ‫وفبركـــة األخبـــار‪ ،‬وضـــرورة احتـــرام‬ ‫أخالقيـــات النشـــر عنـــد طـــرح أفـــكار‬ ‫حرّي ــة اآلخري ــن‬ ‫معين ــة والحف ــاظ عل ــى ّ‬ ‫حرّيــة‬ ‫قبــل أن يقــوم المســتخدم بممارســة ّ‬ ‫التعبيــر عــن مواقفــه وآرائــه الشــخصية‪،‬‬ ‫وال بــد مــن وجــود برنامــج للرقابــة علــى‬ ‫الش ــبكات االجتماعي ــة تق ــوم ب ــه جه ــات‬ ‫مس ــتقلّة ف ــي كل بل ــد‪ ،‬وض ــرورة القي ــام‬ ‫بحمـــات التوعيـــة للمســـتخدمين علـــى‬ ‫شـــبكات التواصـــل االجتماعـــي‪ ،‬بحيـــث‬ ‫لحرّي ــة‬ ‫يت ــم ط ــرح أفكاره ــم وممارس ــتهم ّ‬ ‫التعبيــر دون اإلســاءة لآلخريــن وبنفــس‬ ‫الوق ــت وج ــود ضواب ــط قانوني ــة تحم ــي‬ ‫المســـتخدمين مـــن بطـــش حكامهـــا‪،‬‬ ‫خاصـــة فـــي بعـــض الـــدول العربيـــة‪.‬‬

‫جائع لم يتكلّم منذ يومين‬ ‫وجدي األهدل‬

‫الحظـــت أن مواقـــع التواصـــل‬ ‫االجتماعـــي‪ ،‬وهـــي االختـــراع األكثـــر‬ ‫حداث ــة ف ــي وقتن ــا الراه ــن‪ ،‬ل ــم تنج ــح‬ ‫فـــي تغييـــر ســـلوك الفـــرد‪ .‬كمـــا أنهـــا‬ ‫أخفق ــت ‪ -‬وه ــذا الش ــيء األكث ــر غراب ــة‪-‬‬ ‫ف ــي الح ـّد م ــن مش ــاعر الوح ــدة والعزل ــة‬ ‫التـــي يشـــعر بهـــا الرجـــل والمـــرأة فـــي‬ ‫آالف المـــدن المتناثـــرة علـــى ســـطح‬ ‫األرض‪.‬‬ ‫يتفاخـــر أحدهـــم بـــأن لديـــه خمســـة‬ ‫آالف صديـــق فـــي موقـــع فيســـبوك‪،‬‬ ‫بينم ــا ه ــو‪ ،‬ف ــي الواق ــع‪ ،‬عل ــى األرض‬ ‫الصلبـــة‪ ،‬ال يمتلـــك صديقـــ ًا واحـــدًا‬ ‫موثوقـــاً‪ ،‬يمكـــن أن ُيفضـــي إليـــه‬ ‫بأســـراره‪ ،‬ويأتمنـــه علـــى روحـــه‪.‬‬ ‫قلـــت إن العـــدو‬ ‫ال أقـــول جديـــدًا إذا‬ ‫ُ‬ ‫رقـــم واحـــد للبشـــرية‪ ،‬فـــي زماننـــا‪،‬‬

‫ليـــس المـــرض وال الفقـــر وال الجهـــل‪،‬‬ ‫وإنم ــا الش ــعور القات ــل بالوح ــدة‪ .‬ربم ــا‬ ‫يعيـــش اإلنســـان فـــي مدينـــة تعدادهـــا‬ ‫ك ــذا ملي ــون نس ــمة‪ ،‬وق ــد يك ــون ُمحاط ـ ًا‬ ‫بأشـــخاص رائعيـــن ودوديـــن فـــي‬ ‫الصبـــاح وفـــي المســـاء‪ ،‬ولكـــن روحـــه‬ ‫يتفـــرج عليهـــا‬ ‫محبوســـة فـــي قفـــص‬ ‫ّ‬ ‫اآلخـــرون‪ ،‬وال يمكنهـــم فعـــل شـــيء‬ ‫إلطـــاق ســـراحها‪ ،‬وهـــو نـــاء ُيعذبـــه‬

‫شـــعوره بالغربـــة‪ ،‬ولـــو كان جالســـ ًا‬ ‫فـــي وســـطهم‪.‬‬ ‫هـــذا اإلحســـاس الـــذي انبثـــق مـــن‬ ‫طـــور الحضـــارة والتقـــّدم والحيـــاة‬ ‫العصريـــة‪ ،‬هـــو الســـبب فـــي النجـــاح‬ ‫المذه ــل لمواق ــع التواص ــل االجتماع ــي‪،‬‬ ‫وشـــغف النـــاس بهـــا‪.‬‬ ‫هنـــاك جـــوع إلـــى الـــكالم يجتـــاح‬ ‫العالـــم‪ ،‬وفضيلـــة الصمـــت تـــكاد‬ ‫تنق ــرض‪ .‬وإذا حس ــبنا مع ــدل اس ــتهالك‬ ‫اإلنســـان مـــن الكلمـــات التـــي تصـــدر‬ ‫عنـــه فـــي اليـــوم الواحـــد‪ ،‬عبـــر‬ ‫الهاتـــف والواتـــس آب والرســـائل‬ ‫النصيـــة وتويتـــر وفيســـبوك والبريـــد‬ ‫اإللكترون ــي‪ ،‬فس ــنجد أن ــه األكث ــر ثرث ــرة‬ ‫منـــذ بـــدء الخليقـــة‪.‬‬ ‫يســـتميت اإلنســـان المعاصـــر فـــي‬ ‫ُ‬ ‫التعبيـــر عـــن نفســـه‪ ،‬ولكـــن المفاجـــأة‬ ‫أن ــه ه ــو ذات ــه بحاج ــة ماس ــة إل ــى م ــن‬ ‫التعـــرف إلـــى نفســـه!‬ ‫ُيســـاعده فـــي‬ ‫ُّ‬ ‫الجميــع ُيفكــرون هكــذا‪ :‬ســأكون فــي‬ ‫الفيســـبوك ألرســـم صورتـــي المثاليـــة‬ ‫‪37‬‬

‫فـــي أذهـــان اآلخريـــن‪ .‬وهـــذا يتطلّـــب‬ ‫نوعـــ ًا مـــن العمـــل اليومـــي الـــدؤوب‬ ‫والنشـــط لتلميـــع هـــذه الصـــورة‪،‬‬ ‫وإضافـــة المزيـــد مـــن اللمســـات‪ ..‬عمـــل‬ ‫شـــاق وال نهائـــي ألـــزم بـــه اإلنســـان‬ ‫نفســـه‪ ،‬وال يتقاضـــى عليـــه أي‬ ‫ـــزوا‬ ‫أجـــر‪ ،‬ولـــو ســـمع بـــه األولـــون َلَه ّ‬ ‫رؤوســـهم أســـفاً‪.‬‬ ‫لكـــن‪ ،‬كمـــا أســـلفت‪ ،‬فـــإن هـــذا‬ ‫النش ــاط ص ــار بالتدري ــج ض ــرورة ول ــم‬ ‫يع ــد ترف ـاً‪ ..‬وم ــن يتخّل ــف عن ــه فس ــوف‬ ‫ُيعـــّد بدائيـــاً‪.‬‬ ‫ال يحتـــاج فتـــح حســـاب لمســـتخدم‬ ‫جدي ــد ف ــي موق ــع فيس ــبوك إل ــى إج ــراء‬ ‫اختبـــار للتأكـــد مـــن ســـامة قـــواه‬ ‫العقليـــة والنفســـية‪ ،‬ولـــو كان مثـــل‬ ‫هـــذا االختبـــار مطروحـــاً‪ ،‬لمـــا تمكـــن‬ ‫أح ــد م ــن اجتي ــازه‪ ،‬وال حت ــى مؤس ــس‬ ‫الموقـــع «مـــارك زوكربيـــرغ» نفســـه‪.‬‬ ‫أي شـــخص يشـــعر بجـــوع للـــكالم‪،‬‬ ‫هـــو واقـــع تحـــت واحـــد أو أكثـــر مـــن‬ ‫العلـــل النفســـية‪ ،‬وكلمـــا اشـــتدت هـــذه‬ ‫دل ذلــك علــى اشــتداد مرضــه‬ ‫الحاجــة‪ّ ،‬‬ ‫النفســي‪ ..‬هكــذا يبــدو موقــع الفيســبوك‬ ‫عيـــادة نفســـية يتمـــّدد فيهـــا المرضـــى‬ ‫األســـرة للبـــوح بمكنونـــات‬ ‫علـــى‬ ‫َّ‬ ‫نفوس ــهم‪ ،‬أكث ــر من ــه موقعــ ًا للتواص ــل‬ ‫مـــع اآلخريـــن حقـــاً‪.‬‬ ‫ومـــع ذلـــك‪ ،‬شـــكرًا لـ«مـــارك‬ ‫زوكربيـــرغ» ألنـــه وفّـــر لنـــا عيـــادة‬ ‫نفســـية مجانيـــة ُنعالـــج فيهـــا أمـــراض‬ ‫ـأت‬ ‫عصرن ــا‪ ،‬وه ــذا عم ــل عبق ــري ل ــم يت ـ َ‬ ‫ألحـــد مـــن قبلـــه‪.‬‬ ‫المـــرض النفســـي ليـــس عيبـــ ًا بـــل‬ ‫الزم ــة‪ ،‬ألن اإلنس ــان م ــا إن يض ــع قدم ــه‬ ‫فـــي المدينـــة حتـــى ُيصـــاب بالعـــدوى‪،‬‬ ‫وتتغلغ ــل فيروس ــات الم ــرض النفس ــي‬ ‫ف ــي أخف ــى زواي ــا روح ــه‪.‬‬ ‫توفـــر لنـــا خاصيـــة «الحظـــر»‬ ‫الخـــاص مـــن هذيـــان النرجســـي‬ ‫والفصام ــي‪ ،‬وه ــراء المصابي ــن بعق ــدة‬ ‫النق ــص وجن ــون العظم ــة وغيره ــا م ــن‬ ‫اآلفـــات النفســـية والعصبيـــة‪ ،‬ولكـــن‬ ‫كامـــا‪ ،‬ألنـــه ُيشـــبه‬ ‫هـــذا الحـــل ليـــس‬ ‫ً‬ ‫ارت ــداء القف ــازات بع ــد ح ــدوث التل ــوث‪.‬‬ ‫كلم ــة ُمتهافت ــة ال ُيلق ــي له ــا أحده ــم‬ ‫‪38‬‬

‫ب ــاالً‪ ،‬ق ــد تس ــبب دم ــارًا نفس ــي ًا أو عطب ـ ًا‬ ‫فـــي الجهـــاز العصبـــي‪ ،‬نحتـــاج إلـــى‬ ‫س ــنوات لنب ــرأ من ــه‪ ،‬وأحيانــ ًا ق ــد ينف ــد‬ ‫لمـــا‬ ‫الوقـــت مـــن بيـــن أيدينـــا ونحـــن ّ‬ ‫نتمك ــن بع ــد م ــن النه ــوض م ــرة أخ ــرى‬ ‫مـــن تلـــك الضربـــة‪.‬‬ ‫وتعانـــي المـــرأة ضغطـــ ًا أكثـــر مـــن‬ ‫الرجــل‪ ،‬وأشــكا ًال مــن المضايقــات تكفــي‬ ‫النقـــراض هـــذا الجنـــس مـــن بيئتنـــا‪،‬‬ ‫وغالبــ ًا ال تك ــون ه ــذه المضايق ــات ف ــي‬ ‫ش ــكل إس ــاءات‪ ،‬وإنم ــا ف ــي التعبي ــرات‬ ‫المؤلّه ــة الت ــي ق ــد‬ ‫المفخم ــة ُ‬ ‫واألوص ــاف ُ‬ ‫ـل ض ــررًا ع ــن ش ــتيمة‬ ‫تت ــرك أث ــرًا ال يق ـ ّ‬ ‫صريح ــة‪.‬‬ ‫يلعـــب الكبـــت الجنســـي الـــذي‬ ‫ُيغلّـــف العالـــم العربـــي بغاللـــة مـــن‬ ‫الضبـــاب الكثيـــف دورًا محوريـــ ًا فـــي‬ ‫التحكـــم‬ ‫فقـــدان البعـــض لقدرتهـــم علـــى‬ ‫ّ‬ ‫ـــم الحكـــم علـــى‬ ‫بأعصابهـــم‪ ،‬ومـــن َث ّ‬ ‫األمـــور واألشـــخاص بطريقـــة تخلـــو‬ ‫مـــن العقالنيـــة‪ .‬ونجـــد أمثـــال هـــؤالء‬ ‫الديكـــة التـــي تشـــتهي‬ ‫ُيشـــبهون‬ ‫َ‬ ‫الصـــراع‪ ،‬فهـــم ينقـــرون هـــذا وذاك‬ ‫بمنشـــوراتهم للتباهـــي بذكورتهـــم‪،‬‬ ‫واســـتجالب انتبـــاه اإلنـــاث‪.‬‬ ‫بمثـــل هـــذه النفســـيات لـــم يعـــد‬ ‫الفيســـبوك موقعـــ ًا للصداقـــة‪ ،‬بـــل‬ ‫موقعـــ ًا لجندلـــة األصدقـــاء‪ ،‬ومبـــارزة‬ ‫غيـــر األوفيـــاء‪ ،‬وفـــرض الهيمنـــة كمـــا‬ ‫ق ــال فرع ــون ع ــن نفس ــه‪« :‬م ــا ُأريك ــم إال‬ ‫مـــا أرى»‪.‬‬ ‫وهـــذا الفرعـــون الصغيـــر إذا خـــرج‬ ‫عـــن حـــدود اللياقـــة واألدب‪ ،‬وتعـــّدى‬ ‫عل ــى ح ــق اآلخري ــن ف ــي االخت ــاف‪ ،‬ق ــد‬ ‫يلق ــى الكثي ــر م ــن تس ــجيل «اإلعج ــاب»‬ ‫فيظ ــن أن ه ــذا االنح ــراف الس ــلوكي ه ــو‬ ‫عي ــن الص ــواب‪.‬‬ ‫لكـــن‪ ،‬بعيـــدًا عـــن هـــذه النظـــرة‬ ‫الســوداوية‪ ،‬وتغاضي ـ ًا عــن األذى الــذي‬ ‫ُينفـــث‪ ،‬يمكننـــا أن نأمـــل فـــي تحســـن‬ ‫تدريجـــي للمنظومـــة األخالقيـــة فـــي‬ ‫العالـــم االفتراضـــي‪ ،‬إذا نحـــن ســـاهمنا‬ ‫جماعيـــ ًا فـــي االلتـــزام بقواعـــد معينـــة‬ ‫للمنش ــورات‪ ،‬وتقس ــيمها إل ــى نوعي ــن‪:‬‬ ‫منشـــورات بيضـــاء‪ ،‬وأخـــرى ســـوداء‪.‬‬ ‫والمنشـــورات البيضـــاء هـــي التـــي‬

‫تحت ــرم ال ــرأي وال ــرأي اآلخ ــر‪ ،‬وتلت ــزم‬ ‫بـــآداب الحـــوار والحديـــث‪ .‬وأمـــا‬ ‫المنشـــورات الســـوداء فهـــي التـــي قـــد‬ ‫تحتـــوي علـــى ضغينـــة شـــخصية‪،‬‬ ‫أو تهييـــج سياســـي أو مناطقـــي أو‬ ‫طائفـــي‪ ،‬وكذلـــك التحريـــض علـــى‬ ‫العنـــف الدينـــي‪ ،‬وتلـــك الدعـــوات إلـــى‬ ‫حرّيـــة القـــول والحجـــر علـــى‬ ‫تقييـــد ّ‬ ‫التفكيـــر‪.‬‬ ‫والهـــدف هـــو الضغـــط الجماعـــي‬ ‫عل ــى صاح ــب المنش ــور غي ــر المناس ــب‬ ‫ليســـحب منشـــوره‪ ،‬أو ُيعـــّدل فيـــه‬ ‫ويمحـــو مـــا هـــو مســـيء‪ ..‬وشـــيئ ًا‬ ‫فشـــيئ ًا يمكـــن لهـــذا العمـــل الجماعـــي‬ ‫وســـع مـــن‬ ‫وي ّ‬ ‫أن يؤتـــي ثمـــاره‪ُ ،‬‬ ‫دائـــرة المنشـــورات البيضـــاء‪ ،‬ويجلـــب‬ ‫تعديـــا ســـلوكي ًا إيجابيـــ ًا فـــي طبـــاع‬ ‫ً‬ ‫الن ــاس وأخالقه ــم‪ ،‬وضب ــط أمزجته ــم‪،‬‬ ‫والتنفيـــر مـــن الغلـــو فـــي الـــرأي‬ ‫والشـــطط فـــي الخصومـــة‪.‬‬ ‫يبـــدو هـــذا تبســـيط ًا ال يتفـــق مـــع‬ ‫التنـــوع الهائـــل فـــي اآلراء‪ ،‬ولكننـــا‬ ‫ّ‬ ‫بحاجـــة عاجلـــة لممارســـته‪ .‬وقـــد‬ ‫ـــن؟»‪.‬‬ ‫قيـــم َم ْ‬ ‫«م ْ‬ ‫ـــن ُي ّ‬ ‫تواجهنـــا مشـــكلة‪َ :‬‬ ‫واألس ــوأ ح ــدوث االنحي ــاز إل ــى ص ــف‬ ‫جـــرم‬ ‫وي ّ‬ ‫مـــن ُيصـــادر ّ‬ ‫حرّيـــة الفكـــر‪ُ ،‬‬ ‫ولعـــل مـــن ُيفصـــح‬ ‫الـــرأي المختلـــف‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫عـــن وجهـــة نظـــر متقّدمـــة علـــى رؤيـــة‬ ‫معاصريـــه‪ ،‬قـــد يجـــد نفســـه الشـــاة‬ ‫الســـوداء المطـــرودة مـــن القطيـــع!‬ ‫آمُن ــوْا‬ ‫«ي ــا َأ ُّيَه ــا َّالِذي ـ َ‬ ‫ق ــال تعال ــى‪َ :‬‬ ‫ـن َ‬ ‫َّـــة َو َال َت َّتِب ُعـــوْا‬ ‫ْم َكاف ً‬ ‫الســـلِ‬ ‫ْاد ُخُلـــوْا ِفـــي ِّ‬ ‫ـــو ِ‬ ‫ـــد ٌّو‬ ‫ات َّ‬ ‫ـــي َط ِ‬ ‫الش ْ‬ ‫َّـــه َلُك ْ‬ ‫ان ِإن ُ‬ ‫ـــم َع ُ‬ ‫ُخ ُط َ‬ ‫ـن»‪( .‬س ــورة البق ــرة ‪ -‬اآلي ــة ‪.)208‬‬ ‫ُّمِبي ـ ٌ‬ ‫وإذا نحـــن اتخذنـــا مـــن هـــذه اآليـــة‬ ‫دس ــتورًا أخالقي ـاً‪ ،‬فإنن ــا نق ــول‪ -‬بيقي ــن‬ ‫تـــام‪ -‬إن أي شـــخص يدعـــو للســـلم‬ ‫رحـــب بـــه‬ ‫االجتماعـــي هـــو إنســـان ُم َّ‬ ‫وأه ــل لصداقتن ــا‪ ،‬وأم ــا م ــن دع ــا إل ــى‬ ‫عصبيـــة حزبيـــة أو دينيـــة أو طائفيـــة‬ ‫أو عنصريـــة فهـــو الشـــيطان ‪ -‬وإن‬ ‫ادع ــى نقي ــض ذل ــك ‪ -‬ال ــذي حذرن ــا اهلل‬ ‫مـــن اتبـــاع خطواتـــه‪.‬‬

‫مختبرات الحرّيّة والمسؤوليّة‬ ‫هيثم حسني‬ ‫ـي‬ ‫َلعـّـل الواقــع الــذي يعيــش فيــه العربـ ّ‬ ‫يف ــرض علي ــه نوعــ ًا م ــن التعاط ــي م ــع‬ ‫التكنولوجيـــا بشـــكل عـــام‪ ،‬ووســـائل‬ ‫خـــاص‪،‬‬ ‫الّتواصـــل االجتماعـــي بشـــكل‬ ‫ّ‬ ‫إن تعاطيـــه‪ ،‬أو اســـتخدامه‬ ‫بحيـــث ّ‬ ‫لهـــا‪ ،‬ينطلـــق‪ ،‬فـــي جوانـــب منـــه‪ ،‬مـــن‬ ‫واق ــع الكب ــت والقم ــع والضغ ــط والقه ــر‬ ‫والعن ــف‪ ،‬ليتجّل ــى ف ــي كلم ــات وص ــور‬ ‫ومنشـــورات وتعليقـــات وتحذيـــرات‬ ‫وتلفيقـــات وعـــداوات ُمتجـــّددة‪ ،‬تكـــون‬ ‫متأصلـــة فـــي‬ ‫اســـتمرارًا لعـــداوات‬ ‫ّ‬ ‫النفـــوس‪ ،‬وأخـــرى ُمســـتجّدة تفرضهـــا‬ ‫حـــاالت انقطـــاع التواصـــل‪ ،‬برغـــم مـــا‬ ‫مفتـــرض‪،‬‬ ‫يبـــدو مـــن أنّـــه تواصـــل‬ ‫َ‬ ‫لحظـــي‪ ،‬ومباشـــر‪ ،‬أكثـــر مـــن الســـابق‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫حرّيـــة الـــرأي‬ ‫أن‬ ‫ومتـــداول‬ ‫معلـــوم‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫والتعبيـــر مقّدســـة‪ .‬لكـــن‪ ،‬هـــل تقديـــس‬ ‫الحرّي ــة يك ــون ف ــي س ــياق التعــّدي‬ ‫تل ــك ّ‬ ‫عل ــى األخ‪ ،‬أو اآلخ ــر‪ ،‬ف ــي الوق ــت ال ــذي‬ ‫مظلومي ــة م ــا‪ ،‬س ــواء‬ ‫يزع ــم الم ــرء في ــه‬ ‫ّ‬ ‫اقتصاديــة؟ هــل‬ ‫أم‬ ‫ـية‬ ‫ـ‬ ‫سياس‬ ‫اجتماعيــة أم‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الحرّيــة والتنكيــل بهــا‬ ‫يتـّـم تدنيــس فكــرة ّ‬ ‫مـــن خـــال ممارســـات شـــائنة باســـمها؟‬ ‫هـــل تكـــون قناعـــ ًا إلخفـــاء النواقـــص‬ ‫والعيـــوب بـــد ًال مـــن ترميـــم الجـــراح‬ ‫والبحـــث عـــن دروب لتفعيـــل التواصـــل‬ ‫وتمكينـــه؟‬ ‫إن األنظمـــة‬ ‫هـــل يمكـــن القـــول ّ‬ ‫العربيـــة لتكـــون‬ ‫فخخـــت المجتمعـــات‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫علـــى أهبـــة التعـــارك‪ ،‬ومتســـلّحة‬ ‫بعــّدة إس ــاءة الفه ــم‪ ،‬تل ــك الت ــي تك ــون‬ ‫عتبـــة ِ‬ ‫العـــراك الـــذي مـــن شـــأنه زيـــادة‬

‫تفتيته ــا‪ ،‬وإبقائه ــا بعي ــدة ع ــن االلتئ ــام‬ ‫أن إدامـــة االســـتعداء‬ ‫والتصافـــي؟ ذلـــك ّ‬ ‫يحفـــظ األلغـــام الموقوتـــة فـــي مواقعهـــا‬ ‫المزروع ــة به ــا‪ ،‬لتكم ــل دوره ــا ف ــي من ــع‬ ‫االجتماعـــي وحجبـــه‪ ،‬حتـــى‬ ‫التواصـــل‬ ‫ّ‬ ‫مســـمى‬ ‫إن كان الغطـــاء لتنفيـــذ ذلـــك‬ ‫ّ‬ ‫االجتماعـــي»‪.‬‬ ‫بـ«وســـائل التواصـــل‬ ‫ّ‬ ‫وس ــائل التواص ــل ه ــي أف ــكار الم ــرء‬ ‫وتخيالت ــه وأحالم ــه وأوهام ــه‬ ‫وتمثّالت ــه‬ ‫ّ‬ ‫يتمكـــن مـــن‬ ‫كمـــا تتـــراءى لـــه‪ ،‬وكمـــا ّ‬ ‫مـــادة للعـــرض والنشـــر‪،‬‬ ‫تحويلهـــا إلـــى ّ‬ ‫ونقطـــة انطـــاق للتعبيـــر عـــن نفســـه‪،‬‬ ‫التخبـــط وســـوء الفهـــم‪،‬‬ ‫فـــي بحـــر مـــن‬ ‫ّ‬ ‫إن الســـؤال الـــذي يقابـــل بـــه‬ ‫بحيـــث ّ‬ ‫تفكـــر؟»‬ ‫«بمـــاذا‬ ‫مســـتخدمه‪:‬‬ ‫الفيســـبوك‬ ‫ّ‬ ‫فخ ـاً‪ ،‬أو اس ــتدراج ًا للمس ــتخدم‬ ‫ق ــد يك ــون ّ‬ ‫‪39‬‬

‫ال ــذي يج ــد نفس ــه يجي ــب ع ــن الس ــؤال‪،‬‬ ‫يفك ــر ب ــه‪ ،‬وينش ــره‪.‬‬ ‫ويم ــأ الف ــراغ بم ــا ّ‬

‫تراكمات الكبت‬ ‫أن س ــنوات القم ــع المدي ــدة‪،‬‬ ‫ال يخف ــى ّ‬ ‫وك ـ ّـم األف ــواه‪ ،‬خلق ــت تراكمــ ًا مدي ــدًا م ــن‬ ‫الكبـــت واالحتقـــان لـــدى النـــاس فـــي‬ ‫العربـــي‪ ،‬بحيـــث كانـــت الرقابـــة‬ ‫العالـــم‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ ومـــا تـــزال ‪ -‬علـــى المـــرء‪ ،‬فـــي حلّـــه‬‫وترحال ــه‪ ،‬ش ــديدة‪ ،‬تص ــل أحيانــ ًا إل ــى‬ ‫محاصرتـــه فـــي تفكيـــره‪ ،‬ولـــم يكـــن‬ ‫عمـــا يعتـــرك‬ ‫ليســـمح لـــه بالتصريـــح ّ‬ ‫تفك ــر؟»‬ ‫ف ــي داخل ــه‪ ،‬وكان س ــؤال «بم ــاذا ّ‬ ‫يفكـــر بمـــا‬ ‫بمثابـــة اّتهـــام‬ ‫ضمنـــي أنّـــه ّ‬ ‫ّ‬ ‫يناه ــض الس ــلطة هن ــا أو هن ــاك‪ ،‬أي ت ـّـم‬ ‫مبط ــن‪،‬‬ ‫تصوي ــر حال ــة التفكي ــر كاّته ــام ّ‬ ‫فـــي ســـياق مكيـــدة تعطيـــل التفكيـــر‬ ‫لدي ــه‪ ،‬وجعل ــه منق ــادًا لم ــا ُيمَل ــى علي ــه‪،‬‬ ‫وعم ــل م ــا ُيس ــاق إلي ــه م ــن دون مناقش ــة‬ ‫أو اعتـــراض‪.‬‬ ‫العربـــي الملتبســـة‬ ‫ال تثيـــر عالقـــة‬ ‫ّ‬ ‫االجتماعـــي ّأيـــة‬ ‫التواصـــل‬ ‫مـــع وســـائل‬ ‫ّ‬ ‫تعمقنـــا فـــي تحليـــل بنيـــات‬ ‫غرابـــة‪ ،‬إذا ّ‬ ‫أن فســحة التعبيــر‬ ‫ـي‪ ،‬ذلــك ّ‬ ‫الواقــع العربـ ّ‬ ‫الواقعيـــة المتاحـــة لـــه تـــكاد تكـــون‬ ‫ّ‬ ‫معدومـــة‪ ،‬وجـــاءت وســـائل التواصـــل‬ ‫لتفس ــح ل ــه مج ــا ًال للتصري ــح والتعبي ــر‪،‬‬ ‫م ــا أش ــعره بأّن ــه امتل ــك زم ــام أم ــره م ــن‬ ‫حي ــث ط ــرح أف ــكاره وآرائ ــه عل ــى الم ــأ‪،‬‬ ‫م ــن دون ّأي ــة رقاب ــة‪ ،‬ف ــي الوق ــت ال ــذي‬ ‫تكـــون هنـــاك مســـؤولية كبـــرى تقـــع‬ ‫عل ــى عاتق ــه‪ ،‬تتجّل ــى ف ــي دخول ــه عالم ـ ًا‬ ‫مختلف ـاً‪ ،‬يتعام ــل مع ــه بعادات ــه الس ــابقة‬ ‫ف ــي ِ‬ ‫الص ــدام والمواجه ــة‪ ،‬بحي ــث يح ـ ّـول‬ ‫ـي‪ ،‬يتجّل ــى‬ ‫ـ‬ ‫لفظ‬ ‫ـارك‬ ‫ـ‬ ‫تع‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫إل‬ ‫ـل‬ ‫ـ‬ ‫التواص‬ ‫ّ‬ ‫عبثيـــة مـــن انتقـــاص اآلخـــر‬ ‫بصيـــغ ّ‬ ‫والنيـــل منـــه‪.‬‬ ‫مغـــردون»‪،‬‬ ‫«كلّنـــا ّ‬ ‫مدونـــون»‪« ،‬كلّنـــا ّ‬ ‫وغيـــر ذلـــك مـــن التوصيفـــات التـــي‬ ‫تطـــرب مســـتخدم وســـائل التواصـــل‬ ‫االجتماعـــي وتوهمـــه أنّـــه خـــرج مـــن‬ ‫ّ‬ ‫وحط ــم قي ــوده ودخ ــل مرحل ــة‬ ‫عباءات ــه ّ‬ ‫التجبـــر‬ ‫القـــوة والتأثيـــر‪ ،‬بحيـــث يبـــدأ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫عل ــى مخالفي ــه بال ــرأي‪ ،‬ويحض ــر العن ــف‬ ‫ـي كص ــورة للعن ــف ال ــذي يختزن ــه‬ ‫اللفظ ـ ّ‬ ‫واقعيـــاً‪ ،‬ويكـــون مســـتعّدًا لتصديـــره‪،‬‬ ‫وتوســـيع دوائـــره‪.‬‬ ‫مـــا يلفـــت االنتبـــاه فـــي وســـائل‬ ‫‪40‬‬

‫ـباتي‬ ‫التواص ــل ه ــو س ــيادة م ــزاج مناس ـ ّ‬ ‫كأن المـــرء فـــي‬ ‫بيـــن اليـــوم واآلخـــر‪ّ ،‬‬ ‫لعبـــة‪ ،‬أو متاهـــة األوانـــي المســـتطرقة‪،‬‬ ‫إذ تتصـــادى األفـــكار وترتحـــل وتعـــاود‬ ‫الظهـــور بصيغـــة أو أخـــرى‪ ،‬ويتعاظـــم‬ ‫الضجيــج المنفلــت مــن عقالــه‪ ،‬وقــد يبنــى‬ ‫ِع ــراك مفت ــرض عل ــى منش ــور ملّف ــق‪ ،‬أو‬ ‫تدليــس علــى أحدهــم‪ ،‬فيغــدو ذلــك أشــبه‬ ‫دملـــة ملتهبـــة‪،‬‬ ‫مـــا يكـــون بإبـــرة تفقـــأ ّ‬ ‫التهج ــم قب ــل التحّق ــق م ــن األم ــر‬ ‫ويح ـ ّـل ّ‬ ‫والتـــروي‪.‬‬ ‫ـــل‬ ‫ه‬ ‫والتم‬ ‫ـــر‬ ‫التدب‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫محـــل ّ‬ ‫التعط ــش للتعبي ــر ع ــن ال ــذات‪ ،‬وع ــن‬ ‫ّ‬ ‫األفـــكار التـــي تجـــول فـــي بـــال المـــرء‪،‬‬ ‫يقـــوده للبحـــث عـــن ســـبل تأكيـــد ذاتـــه‬ ‫وإثباتهــا‪ ،‬وإن كان ذلــك عبــر خلــق حالــة‬ ‫إن‬ ‫مـــن التباعـــد بـــد ًال مـــن التواصـــل‪ ،‬إذ ّ‬ ‫األمــر ال يتوّقــف علــى مجـّـرد التعبيــر عــن‬ ‫ال ــرأي‪ ،‬واالكتف ــاء بالتح ــاور والتناق ــش‪،‬‬ ‫بـــل يتعـــّدى ذلـــك إلـــى تحصيـــن الـــرأي‬ ‫بإنش ــاء تكّت ــات مفترض ــة‪ ،‬أو واقعي ــة‪،‬‬ ‫لمحاربـــة اآلراء المختلفـــة‪ ،‬أو التشـــهير‬ ‫دوامـــة‬ ‫بالمختلفيـــن‪ ،‬وكأنّنـــا بتنـــا فـــي ّ‬ ‫م ــن التح ــارب ال ــذي يك ــون أح ــد تجلّي ــات‬ ‫للتفجــر‬ ‫والمرشــحة‬ ‫الحــروب المســتعرة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫بي ــن الوق ــت واآلخ ــر‪.‬‬

‫انقسام واقعي وآخر افتراضي‬ ‫يتنام ــى ش ــعور االس ــتياء م ــن س ــوء‬ ‫ـي‬ ‫اس ــتخدام وس ــائل التواص ــل االجتماع ـ ّ‬ ‫الغربـــي‪ ،‬كمـــا فـــي العالـــم‬ ‫فـــي العالـــم‬ ‫ّ‬ ‫تلمـــس جانـــب مـــن‬ ‫ويمكـــن‬ ‫العربـــي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫لإليطالـــي أمبرتـــو‬ ‫مثيـــر‬ ‫رأي‬ ‫فـــي‬ ‫ذلـــك‬ ‫ّ‬ ‫وجـــه انتقـــادات قاســـية‬ ‫إيكـــو الـــذي ّ‬ ‫لشـــبكات التواصـــل االجتماعـــي واصفـــ ًا‬ ‫ّإياه ــا بأنّه ــا «تمن ــح ح ــق ال ــكالم لفيال ــق‬ ‫مم ــن كان ــوا يتكلّم ــون ف ــي‬ ‫م ــن الحمق ــى‪ّ ،‬‬ ‫البـــارات فقـــط بعـــد تنـــاول كأس مـــن‬ ‫يتســـببوا بـــأي ضـــرر‬ ‫النبيـــذ‪ ،‬دون أن‬ ‫ّ‬ ‫للمجتمـــع‪ ،‬وكان يتـــم إســـكاتهم فـــوراً‪.‬‬ ‫الحـــق بالـــكالم مثلهـــم‬ ‫أمـــا اآلن فلهـــم‬ ‫ّ‬ ‫مثــل مــن يحمــل جائــزة نوبــل‪ .‬إّنــه غــزو‬ ‫البلهـــاء»‪.‬‬ ‫نســـبي ًا مـــع إيكـــو‬ ‫االختـــاف‬ ‫يمكـــن‬ ‫ّ‬ ‫ف ــي توصيف ــه ال ــذي يّتس ــم بتعمي ــم غي ــر‬ ‫مرغ ــوب‪ ،‬إذ إّن ــه يس ــتحيل من ــع الن ــاس‬ ‫م ــن إب ــداء آرائه ــم‪ ،‬ب ــل تحض ــر ض ــرورة‬ ‫بالمســـؤولية تجـــاه آرائهـــم‬ ‫تحلّيهـــم‬ ‫ّ‬ ‫ومواقفهــم‪ ،‬وعــدم تحويــل جــدران العالــم‬

‫االفتراضـــي إلـــى ألـــواح للمجانيـــن‪،‬‬ ‫يثرثـــرون ويهـــذون فيهـــا كيفمـــا‬ ‫ـؤولية‪ ،‬وه ــي‬ ‫يش ــاؤون‪ّ ،‬‬ ‫ألن الكلم ــة مس ـ ّ‬ ‫بطاق ــة تعري ــف الم ــرء بنفس ــه ومحيط ــه‬ ‫الواقعـــي والمفتـــرض معـــاً‪.‬‬ ‫فـــي عالمـــه‬ ‫ّ‬ ‫الحرّي ــة ونهايته ــا ه ــي‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫بداي‬ ‫خط ــوط‬ ‫ّ‬ ‫خطـــوط النـــار فـــي جانـــب‪ ،‬وخطـــوط‬ ‫االلتحـــام والتعـــارك مـــن جانـــب آخـــر‪،‬‬ ‫وفـــي جـــزء صغيـــر تكمـــن مســـاحة‬ ‫تضيـــق يومـــ ًا بيـــوم‪ ،‬تكـــون موقوفـــة‬ ‫للتعـــارف والتســـامح والتصافـــي‪.‬‬ ‫المغـــرد أو‬ ‫المـــدون أو‬ ‫حرّيـــة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫تظـــل ّ‬ ‫الناش ــط ف ــي دائ ــرة م ــن المس ــؤولية‪ ،‬إذ‬ ‫ـؤولية كنقطــة بدايــة‬ ‫لــو تخّلــت عــن المسـ ّ‬ ‫ونهايــة فإنّهــا ســتنغمس فــي مســتنقعات‬ ‫مـــن الفوضـــى التـــي ســـتترّتب عليهـــا‬ ‫نتائـــج وخيمـــة‪ ،‬وال يختلـــف اثنـــان‬ ‫أن الفوضـــى التـــي تجتـــاح عـــددًا‬ ‫علـــى ّ‬ ‫م ــن ال ــدول العربي ــة ال تحت ــاج إل ــى مزي ــد‬ ‫مـــن التأجيـــج أو النفـــخ أو التوســـيع‪.‬‬ ‫ـأي امــرئ أن يســأل نفســه قبــل‬ ‫ـري بـ ّ‬ ‫وحـ ّ‬ ‫ويتمع ــن في ــه‪ ،‬ك ــي‬ ‫ـه‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫ب‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫يفك‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫نش ــر‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ال يكـــون مســـاهم ًا فـــي زيـــادة الشـــروخ‬ ‫الموجـــودة وتعميقهـــا‪.‬‬ ‫االنقســـام فـــي العالـــم االفتراضـــي‬ ‫الواقعـــي‪ ،‬تكّتـــات‬ ‫يعكـــس االنقســـام‬ ‫ّ‬ ‫متأهبـــة لالنقضـــاض بعضهـــا علـــى‬ ‫ّ‬ ‫تتربـــص‬ ‫اآلخـــر‪ ،‬جيـــوش إلكترونيـــة ّ‬ ‫بمخالفيهـــا‪ ،‬حمـــات تخويـــن وتشـــهير‬ ‫تحضـــر بيـــن المنقســـمين المتحاربيـــن‪،‬‬ ‫مؤجلـــة فـــي‬ ‫وتكـــون الكلمـــة رصاصـــة ّ‬ ‫بحـــر األحقـــاد والضغائـــن‪.‬‬ ‫أن هنـــاك‪ ،‬فـــي القيعـــان‬ ‫ال يخفـــى ّ‬ ‫للتفجـــر‪،‬‬ ‫مرشـــحة‬ ‫واألعمـــاق‪ ،‬بـــؤرًا ّ‬ ‫ّ‬ ‫وجمــرًا كامنـ ًا تحــت رمــاد الضغائــن التــي‬ ‫يمكـــن اســـتخراجها مـــن نقـــاط الخـــاف‬ ‫واالخت ــاف التاريخي ــة‪ ،‬داخ ــل المجتم ــع‬ ‫نفســـه وضمـــن أفـــراده‪ ،‬ومـــع الجـــوار‬ ‫ومجتمعات ــه‪ ،‬يمك ــن لوس ــائل التواص ــل‬ ‫ال للنف ــخ فيه ــا وتحويله ــا‬ ‫أن تك ــون س ــب ً‬ ‫وواقعيــة‬ ‫لفظيــة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫إلــى شــرارات لمعــارك ّ‬ ‫قائم ــة‪ ،‬أو قادم ــة‪ ،‬كم ــا يمك ــن أن تش ـّـكل‬ ‫جســـورًا للتواصـــل وتبديـــد ســـوء‬ ‫ـي ف ــي عالم ــه‬ ‫الفه ــم‪ .‬وهن ــا يظ ـ ّـل العرب ـ ّ‬ ‫ـي أم ــام‬ ‫ـ‬ ‫االفتراض‬ ‫ـي وف ــي عالم ــه‬ ‫ّ‬ ‫الواقع ـ ّ‬ ‫والحرّيـــة‬ ‫ة‬ ‫والمســـؤولي‬ ‫اإلرادة‬ ‫امتحـــان‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـأي معس ــكر س ــيختار؟ وم ــن‬ ‫والوج ــود‪ ،‬ف ـ ّ‬ ‫أي بئـــر ســـيمتح؟!‬ ‫ّ‬

‫تأمالت‬

‫مرزوق بشير بن مرزوق‬

‫الثقافة التليفزيونية‬ ‫فـــي جميـــع الـــدول العربيـــة‪ -‬وبـــدون اســـتثناء‪ -‬هنـــاك‬ ‫وزارة للتربيـــة والتعليـــم‪ ،‬مـــن أهـــم مســـؤولياتها تعليـــم‬ ‫األجيـــال وإعدادهـــا لبنـــاء المجتمـــع فـــي كافـــة مجاالتـــه‬ ‫ونواحيـــه‪.‬‬ ‫يقضـــي الطلبـــة مـــا يعـــادل ســـت ســـاعات فـــي فصولهـــم‬ ‫الدراســـية‪ ،‬وتســـعة أشـــهر مـــن العـــام‪ ،‬وعلـــى مـــدى اثنـــي‬ ‫عشـــر عامـــاً‪ ،‬يتـــم تجهيزهـــم بـــاألدوات العلميـــة التـــي‬ ‫يفتـــرض أن يواجهـــوا بهـــا معضـــات الحيـــاة‪ ،‬ويجـــدوا‬ ‫ـا م ــن إنج ــازات‬ ‫له ــا الحل ــول‪ ،‬أو تطوي ــر م ــا ه ــو قائ ــم فع ـ ً‬ ‫علميـــة إنســـانية‪ .‬لكـــن ومـــن جانـــب آخـــر‪ ،‬يقضـــي الفـــرد‪-‬‬ ‫ســـواء أكان تلميـــذًا أم فـــردًا عاديـــ ًا فـــي المجتمـــع‪ -‬ضعـــف‬ ‫تلـــك الســـاعات واأليـــام والســـنوات فـــي متابعـــة وســـائل‬ ‫اإلعـــام الجماهيريـــة‪ ،‬وخصوصـــ ًا مشـــاهدة برامـــج‬ ‫المتنوعـــة‪ .‬ولقـــد أصبـــح التليفزيـــون المصـــدر‬ ‫التليفزيـــون‬ ‫ّ‬ ‫األول فـــي تلقّـــي الفـــرد لمعلوماتـــه‪ ،‬والمصـــدر األول‬ ‫للتنشـــئة االجتماعيـــة‪ ،‬متجـــاوزًا بذلـــك المدرســـة والكتـــاب‬ ‫والمص ــادر التعليمي ــة التثقيفي ــة ف ــي المجتم ــع‪ .‬كم ــا أصب ــح‬ ‫التليفزي ــون المص ــدر األساس ــي ف ــي تعزي ــز القي ــم ف ــي داخ ــل‬ ‫الف ــرد‪ ،‬وم ــن َث ـ ّـم ف ــي داخ ــل المجتم ــع‪ ،‬وربم ــا يتج ــاوز ف ــي‬ ‫ذلـــك تعزيـــز القيـــم الصـــادرة مـــن األســـرة‪ ،‬أو المجتمـــع‬ ‫المحي ــط بالف ــرد‪ ،‬أو حت ــى م ــن المؤسس ــات الديني ــة ذاته ــا‪.‬‬ ‫ه ــذا التأثي ــر ال ــذي يحدث ــه التليفزي ــون ف ــي نم ــط الحي ــاة‬ ‫االجتماعي ــة ف ــي مجتمعن ــا العرب ــي وف ــي مجتمعن ــا المحل ــي‪،‬‬ ‫لـــم يأخـــذه الكثيـــرون فـــي االعتبـــار‪ ،‬فهنـــاك تجاهـــل‪،‬‬ ‫لدرجـــة العنـــاد‪ ،‬وعـــدم اعتـــراف علمـــي وأكاديمـــي وبحثـــي‬ ‫يتشـــكل فـــي مجتمعنـــا‪،‬‬ ‫بـــأن هنـــاك مصـــدرًا ثقافيـــ ًا مهمـــ ًا‬ ‫ّ‬ ‫يســـمى «الثقافـــة التليفزيونيـــة» أو ثقافـــة خطـــاب‬ ‫وهـــو مـــا‬ ‫ّ‬ ‫المشـــهد التليفزيونـــي‪ .‬هـــذا المصـــدر الثقافـــي ينافـــس‪ ،‬أو‪-‬‬ ‫ربم ــا‪ -‬يتج ــاوز المص ــادر الثقافي ــة األخ ــرى‪ ،‬مث ــل الكت ــاب‪،‬‬ ‫والصحيفـــة وغيرهمـــا مـــن المصـــادر التقليديـــة‪ ،‬ولقـــد‬

‫روادهـــا ونجومهـــا‪ ،‬لهـــم‬ ‫أصبـــح للثقافـــة التليفزيونيـــة ّ‬ ‫جاذبي ــة خاص ــة يتفوق ــون به ــا عل ــى جاذبي ــة كب ــار الكّت ــاب‬ ‫والمؤلفيـــن‪ ،‬ولهـــم تأثيرهـــم المباشـــر علـــى متلقيهـــم‪.‬‬ ‫تمكنـــت حلقـــة واحـــدة‬ ‫فـــي شـــهر رمضـــان‪ ،‬لهـــذا العـــام‪ّ ،‬‬ ‫ضمـــن مسلســـل تليفزيونـــي مـــن لفـــت أنظـــار المشـــاهدين‬ ‫إلـــى مـــا تقـــوم بـــه المنظمـــة اإلرهابيـــة (داعـــش)‪ ،‬وربمـــا‬ ‫تعرضـــت إلـــى جـــزء مـــن‬ ‫مـــا أحدثتـــه تلـــك الحلقـــة التـــي ّ‬ ‫أفع ــال تل ــك المنظم ــة‪ ،‬بش ــكل س ــاخر‪ ،‬م ــن تقري ــب الص ــورة‬ ‫النمطيـــة حولهـــا أو بنـــاء صـــورة مغايـــرة عنهـــا‪ ،‬علـــى‬ ‫ـــم تناولـــه فـــي تلـــك الحلقـــة ال يرقـــى‬ ‫الرغـــم مـــن أن مـــا َت َّ‬ ‫علميـــ ًا وتحليليـــ ًا إلـــى مـــا أوردتـــه الكتـــب والمطبوعـــات‬ ‫المختلفـــة عـــن تلـــك المنظمـــة‪.‬‬ ‫لق ــد س ـّـمى الكات ــب المع ــروف الدكت ــور عب ــداهلل الغذام ــي‪،‬‬ ‫فـــي كتابـــه‪ ،‬هـــذه الثقافـــة الجديـــدة بـ«الثقافـــة البصريـــة»‬ ‫تغي ــرت معه ــا مقايي ــس الثقاف ــة كله ــا‪،‬‬ ‫وه ــي مرحل ــة بش ــرية ّ‬ ‫وتأويـــا‪ ...‬والحـــق أن الصـــورة‬ ‫إرســـا ًال واســـتقبا ًال وفهمـــ ًا‬ ‫ً‬ ‫فعـــا‪،‬‬ ‫و(الـــكالم هنـــا للدكتـــور الغذامـــي) تعتـــدي علينـــا‬ ‫ً‬ ‫فهـــي تقحـــم إحساســـنا الوجدانـــي‪ ،‬وتتدخـــل فـــي تكويننـــا‬ ‫الفعلـــي‪ ،‬وتتحكـــم فـــي قراراتنـــا االقتصاديـــة‪ ...‬إلـــخ‪.‬‬ ‫ه ــذه الثقاف ــة الجدي ــدة ف ــي حاج ــة إل ــى اعت ــراف أكاديم ــي‬ ‫وعلم ــي به ــا‪ ،‬لتك ــون ج ــزءًا م ــن المناه ــج الدراس ــية‪ ،‬وج ــزءًا‬ ‫م ــن البح ــوث والدراس ــات األكاديمي ــة‪ ،‬كم ــا أن ه ــذا الجه ــاز‬ ‫المس ـّـمى بالتليفزي ــون ف ــي حاج ــة إل ــى تس ــليمه إل ــى قي ــادات‬ ‫ُ‬ ‫مهني ــة وعلمي ــة‪ ،‬ووض ــع معايي ــر عالي ــة الج ــودة ف ــي قب ــول‬ ‫م ــن يدي ــرون كاف ــة جوانب ــه اإلنتاجي ــة الفني ــة والبرامجي ــة‪،‬‬ ‫وأن ترقـــى تلـــك المعاييـــر إلـــى تلـــك الطبقـــة فـــي قبـــول‬ ‫األســـاتذة فـــي جامعاتنـــا‪ ،‬والمهندســـين فـــي مؤسســـاتنا‬ ‫المهنيـــة‪ ،‬واألطبـــاء فـــي مستشـــفياتنا‪ ،‬ألن هـــذا الجهـــاز‬ ‫ف ــي النهاي ــة ه ــو م ــن ُيش ـ ّـكل عاداتن ــا ومســـيرتنا وقراراتن ــا‬ ‫اليوميـــة‪.‬‬ ‫‪41‬‬

‫هولبيك‪ ،‬فوكو وصورة اإلسالم‬ ‫احميدة عيايش‬ ‫منــذ أيــام‪ ،‬جمعنــي لقــاء بباحثــة‬ ‫بولونيــة مقيمــة فــي فرنســا‪ ،‬وكانــت‬ ‫أطروحتهــا حــول األوروبييــن عمومــاً‪،‬‬ ‫والفرنســيين خصوص ـاً‪ ،‬الذيــن التحقــوا‬ ‫بتنظيــم الّدولــة اإلســامية‪ ،‬ولقــد فهمــت‬ ‫منهــا أن معظــم هــؤالء ينتمــون إلــى‬ ‫عائــات مــن الطبقــة الوســطى‪ ،‬وذوو‬ ‫مســتويات تعليميــة عليــا‪ ،‬ومعظمهــم‬ ‫اعتنــق اإلســام وهــو فــي أوروبــا‬ ‫وليــس علــى أرض بلــدان عربيــة أو‬ ‫إســامية‪ ،‬وفهمــت منهــا كذلــك أن‬ ‫معظــم هــؤالء المنخرطيــن فــي النشــاط‬ ‫اإلســامي كانــت مشــاكلهم ذات طابــع‬ ‫وجــودي وهــم فــي حالــة غضــب ضــد‬ ‫أنفســهم‪ ،‬وضــد الثّقافــة التــي رضعوهــا‬ ‫منــذ نعومــة أظافــر أصابعهــم‪ ،‬حيــث لــم‬ ‫يجنــوا منهــا ســوى اإلحســاس المهــول‬ ‫بالضيــاع والشــعور بالخــواء العاطفــي‬ ‫والر وحــي‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫مثــل هــذا البروفايــل‪ ،‬هــو ذاتــه الــذي‬ ‫يرســمه لنــا الكاتــب الفرنســي ميشــال‬ ‫هولبيــك (‪ 58‬ســنة)‪ ،‬فــي روايتــه‬ ‫األخيــرة «خضــوع» التــي أســالت‬ ‫الكثيــر مــن الحبــر‪ ،‬وأثــارت الكثيــر‬ ‫مــن الســجاالت فــي الميديــا الفرنســية‪،‬‬ ‫واألوروبيــة بشــكل خــاص‪ ،‬وأيضــ ًا‬ ‫شــيئ ًا مــن اإلثــارة فــي أوســاط النخبــة‬ ‫العربيــة واإلســامية‪.‬‬ ‫ترســخت وســادت‬ ‫هنــاك صــورة‬ ‫ّ‬ ‫فــي أوســاط المثقفيــن مــن المســلمين‬ ‫والعــرب‪ ،‬عــن صاحــب روايــة‬ ‫ٍ‬ ‫معــاد للعــرب‬ ‫«خضــوع» أنــه‬ ‫وإســاموفوبي‪ ،‬ولهــذا فهــم كانــوا‬ ‫ينتظــرون أن تكــون روايتــه‪ ،‬قبيــل‬ ‫‪42‬‬

‫صدورهــا‪ ،‬هجومــ ًا شرســ ًا علــى‬ ‫دينهــم‪ ،‬وتأجيجــ ًا للكراهيــة ضدهــم‪،‬‬ ‫خاصــة أنهــم أصبحــوا خــال ســنوات‬ ‫انعكاســات األزمــة االقتصاديــة علــى‬ ‫المجتمــع الفرنســي‪ ،‬الهــدف المفضــل‬ ‫للسياســيين الباحثيــن بــأي ثمــن عــن‬ ‫أكبــاش فــداء‪ ،‬لكــن مــا حــدث هــو‬ ‫العكــس‪ ،‬فهولبيــك بــدل مواصلــة‬ ‫اســتفزازهم لهــم ولدينهــم‪ ،‬راح يســتفز‬ ‫المخيــال الفرنســي ليــس بإســام‬ ‫تطــرف وعدوانــي‪ ،‬بــل بإســام‬ ‫ُم ّ‬ ‫معتــدل‪ ،‬إســام ينتقــد الفرنســيين‬ ‫أنفســهم وطبقتهــم السياســية مــن‬ ‫تطــرف الممثَّــل بزعيمــة‬ ‫الم ّ‬ ‫اليميــن ُ‬ ‫الجبهــة الوطنيــة التــي كانــت قــاب‬ ‫قوســين مــن الوصــول إلــى قصــر‬ ‫اإليليزيــه‪ ،‬لــوال تحالــف اليمين واليســار‬ ‫مــع محمــد بــن عبــاس‪ ،‬رئيــس حــزب‬ ‫«األخــوة اإلســامية» وممثــل الوســطية‬ ‫اإلســامية الــذي ســيقّدم حلــو ًال وعالج ـ ًا‬ ‫لفرنســا المريضــة بماضيهــا وفلســفتها‬ ‫فــي الحيــاة وبانحطاطهــا األخالقــي‬ ‫واالجتماعــي والسياســي‪.‬‬ ‫يدعــى بطل«خضــوع» فرونســوا‪،‬‬ ‫يقضــي ســنوات فــي التحضيــر‬ ‫ألطروحــة الدكتــوراه حــول المفكــر‬ ‫والناقــد الفنــي هيومانــس (‪1848‬‬ ‫ ‪ )1907‬ليصبــح أســتاذًا فــي‬‫الســوربون‪ ،‬تتميــز حياتــه بالتفاهــة‬ ‫وبالمــزاج المتقلّــب والكآبــة والنضــوب‬ ‫العاطفــي والعبثيــة الجنســية المتســمة‬ ‫بالبــادة‪ ..‬حيــاة بــدون معنــى تنحــدر‬ ‫نحــو مســتوى ال َحــّد لــه مــن البــؤس‬ ‫والركاكــة‪ ،‬وفــي لحظــة انســداد‬

‫المترشــح‬ ‫يتمكــن‬ ‫سياســي حقيقــي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫للرئاســة محمــد بــن عبــاس‪ ،‬باســم‬ ‫حــزب «األخــوة اإلســامية» مــن‬ ‫إنقــاذ فرنســا الجمهوريــة مــن اليميــن‬ ‫تطــرف‪ ..‬يجلــب لهــا الســعادة‬ ‫الم ّ‬ ‫ُ‬ ‫الروحيــة بعــد الشــقاء المــادي‪ ،‬والرخــاء‬ ‫بعــد األزمــة‪ ،‬والطمأنينــة بعــد الخــوف‪،‬‬ ‫التفــكك‪ ،‬والخــاص‬ ‫واالنســجام بعــد‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫والشــك‪،‬‬ ‫الروحــي بعــد عــذاب الوحــدة‬ ‫فتعــرف فرنســا حيــاة أخــرى‪ ،‬حيــث‬ ‫تصبــح شــريعة اإلســام المعتــدل هــي‬ ‫ــل المجتمــع‬ ‫الســيدة‪ ،‬فتختفــي‪ ،‬فــي ِظ ّ‬ ‫الجديــد‪ ،‬مظاهــر االختــاط الجنســي‪،‬‬ ‫ويتولــى اإلســاميون قطــاع التربيــة‬ ‫والتعليــم‪ ،‬وهــذا مــن أجــل تطبيــق‬ ‫اســتراتيجيتهم فــي إعــادة تأهيــل‬ ‫المجتمــع الــذي كان فــي ضاللــة‪..‬‬ ‫وينتهــي بطــل «خنوع»إلــى اعتنــاق‬ ‫اإلســام‪..‬‬ ‫طبعــاً‪ ،‬العالــم الــذي يقّدمــه لنــا‬ ‫الروائــي‪ ،‬هــو عالــم أســود ملــيء‬ ‫بالســخرية الصامتة المتدثــرة بالخضوع‬ ‫ال ومضمونــاً‪ ،‬ومتوســلة هجائيــة‬ ‫شــك ً‬ ‫ضمنيــة ذات طابــع مازوشــي‪ ...‬ويبيــن‬ ‫لنــا هولبيــك وهــو يرســم لنــا بروفايــل‬ ‫الرئيــس الــذي ســيخلف هوالنــد‬ ‫فــي ‪ 2020‬أنــه غيــر ُم ٍ‬ ‫عــاد للســامية‬ ‫وفــي عالقــة حســنة مــع المؤسســات‬ ‫اليهوديــة‪ ..‬أي أنــه ُيقــّدم لنــا هــذا‬ ‫اإلســام الــذي يتمنــاه الغــرب للمســلمين‬ ‫أو لقادتهــم الممتثليــن للنصيحــة‬ ‫األوروبيــة‪ ،‬هــذا اإلســام المتشــبه‬ ‫بصورتهــم‪ ،‬بنظرتهــم‪ ،‬بإســقاطاتهم‪،‬‬ ‫وذلــك بالرغــم مــن تلــك البهرجــة‬

‫ميشال فوكو‬

‫النمطيــة المعششــة فــي المخيــال‬ ‫الغربــي عــن ذلــك القالــب االســتهالكي‬ ‫الميديائــي لإلســام‪..‬‬ ‫لقــد قامــت «خضــوع» علــى جنــس أدبــي‬ ‫هــو المــزج الهجيــن بيــن الحقيقــي وغيــر‬ ‫الحقيقــي‪ ،‬بيــن السياســي والخيالــي‪،‬‬ ‫بيــن حــب المســلمين وكراهيتهــم فــي‬ ‫اآلن نفســه‪ ،‬وبيــن الرغبــة فــي البقــاء‬ ‫علــى قيــد الحيــاة واالندفــاع الجامــح‬ ‫نحــو االنتحــار‪ ،‬لكنهــا أيضــ ًا جــاءت‬ ‫لنكتشــف خــال قولهــا األدبــي الكئيــب‬ ‫لحظتيــن فرنســيتين تجــاه اإلســام‪.‬‬ ‫اللحظــة الفرنســية األولــى‪ ،‬حدثــت‬ ‫ــر عنهــا الفيلســوف‬ ‫فــي ‪َ ،1979‬‬ ‫وعّب َ‬ ‫ميشــال فوكــو (‪ )1984 - 1926‬وذلــك‬ ‫مــن خــال الصــورة التــي قّدمهــا عــن‬ ‫ــم دوره كفاعــل‬ ‫اإلســام‪ ،‬ومــن َث ّ‬ ‫اجتماعــي وسياســي‪ ،‬وكمشــروع ثقافي‬ ‫ودنيــوي‪..‬‬ ‫لــم يتخيــل ميشــال فوكــو أن مســلم ًا‬ ‫معتــدالً‪ ،‬يصــل إلــى الســلطة فــي لحظــة‬ ‫حرجــة مــن حيــاة الفرنســيين‪ ،‬ليطــرح‬ ‫مســألة اإلســام كانشــغال سياســي‬ ‫وفلســفي‪ ،‬بــل كان اإلســام يطــرح‬ ‫نفســه بوصفــه ســؤا ًال غيــر مســبوق‬ ‫كفعــل سياســي وثــوري‪ ،‬وكانــت‬ ‫األحــداث التــي اندلعــت فتائلهــا كافيــة‬ ‫لتجـّـر هــذا الفيلســوف كــي يعيــد صياغة‬

‫تلــك العالقــة التــي كانــت ســائدة فــي‬ ‫أوروبــا مثــل اليقيــن‪ ،‬الــذي ال يتســرب‬ ‫إليــه الشــك بيــن الديــن والسياســة‪،‬‬ ‫والديــن والثــورة‪ ،‬والديــن والدولــة‪،‬‬ ‫وهــذا مــا جعــل ميشــال فوكــو يفتــح‬ ‫طريقــ ًا آخــر فــي التفكيــر وفــي مقاربــة‬ ‫الديــن‪ ،‬الــذي كان عنصــرًا محــرك ًا فــي‬ ‫لعبــة التغييــر أيــام الثــورة اإليرانيــة‬ ‫غيــر المســبوقة‪ ،‬ولقــد طــرح تلــك‬ ‫الفكــرة التــي ســماها ﺒ«الروحانيــة‬ ‫السياســية»‪ ،‬ولــم تكــن نظرتــه مســتمدة‬ ‫مــن القــراءة أوالمالحظــة البعيــدة عــن‬ ‫الميــدان‪ ،‬فلقــد انتقــل فوكــو إلــى إيــران‪،‬‬ ‫واقتــرب مــن الثــورة كمحقــق صحافــي‬ ‫ذهــب حيــث «تولــد وتمــوت تلــك‬ ‫األحــداث التــي هــي األفــكار»‪ ،‬وكان ذلك‬ ‫يتشــكل مــن فريــق مــن‬ ‫ضمــن مشــروع‬ ‫ّ‬ ‫المثقفيــن ينزلــون إلــى الميــدان تدعمــه‬ ‫اليوميــة اإليطاليــة الكبيــرة «أخبــار‬ ‫المســاء» أو «‪.»Corriere della Sera‬‬ ‫وكانــت النظــرة التــي شـّـكلها فوكــو مــن‬ ‫خــال مجمــوع كتاباتــه الصحافيــة التــي‬ ‫أنجزهــا عــن الثــورة اإليرانيــة ضــد‬ ‫نظــام الشــاه تشــير إلــى أن «اإلســام‬ ‫ليــس مجــرد ديــن فحســب‪ ،‬بــل نمــط‬ ‫حيــاة وانتمــاء لتاريــخ معيــن وحضــارة‬ ‫يشــكل فتائــل‬ ‫عينــة‪ ،‬يخشــى أن‬ ‫ّ‬ ‫ُم ّ‬ ‫انفجــار هائــل ُيقــاس بمئــات المالييــن‬

‫مــن البشــر»‪ ،‬وكذلــك يســتخلص فوكــو‬ ‫«أن مشــكلة اإلســام‪ ،‬بوصفــه قــوة‬ ‫سياســية‪ ،‬هــي مشــكلة جوهريــة‬ ‫بالنســبة إلــى عصرنــا وفــي قــادم‬ ‫الســنوات‪ ،‬ويعـّد الشــرط األول لالقتراب‬ ‫منــه‪ ،‬بالقليــل مــن الــذكاء‪ ،‬هــو ّأل نبــدأ‬ ‫بالكراهيــة تجاهــه»‪.‬‬ ‫عبــر فوكــو عــن اللحظــة‬ ‫هكــذا ُي ّ‬ ‫الفرنســية األولــى مــن اإلســام‪ ،‬التــي‬ ‫تتمثــل فــي عــدم البــدء بالكراهيــة‬ ‫تجاهــه‪ ،‬أمــا اللحظــة الثانيــة‬ ‫ــر عنهــا ميشــال هولبيــك‬ ‫والتــي َعّب َ‬ ‫في«خضــوع» فإنهــا تكشــف لنــا‪ ،‬حتــى‬ ‫وإن اتــكأت علــى الرؤيــة الموظفــة‬ ‫لصــورة اإلســام المعتــدل الــذي‬ ‫ســيحكم فرنســا فــي ‪ ،2020‬عــن مــدى‬ ‫ـب فــي‬ ‫نزوعهــا إلــى إنشــاء خطــاب يصـ ّ‬ ‫صناعــة خــوف مولِّــد للكراهيــة تجــاه‬ ‫اآلخــر‪ ،‬عنينــا بــه اإلســام والمســلمين‪،‬‬ ‫وذلــك ليــس فقــط فــي مجالهــم العربــي‬ ‫اإلســامي‪ ،‬بــل أيضــ ًا كقــوة بشــرية‬ ‫وثقافيــة داخــل المجتمــع األوروبــي‬ ‫عمومــاً‪ ،‬والفرنســي علــى وجــه‬ ‫الخصــوص كونهــم جــزءًا ال يتجــزأ مــن‬ ‫معادلــة هــذه المجتمعــات علــى صعيــد‬ ‫التنــوع الثقافــي‪ ،‬وكذلــك علــى صعيــد‬ ‫ّ‬ ‫السياســي‪.‬‬ ‫القــرار‬ ‫صناعــة‬ ‫ّ‬ ‫‪43‬‬

‫حداثة ما بعد االستعمار‬ ‫المهمش‬ ‫في انبعاث دراسات‬ ‫َّ‬

‫د‪ .‬خالد طحطح‬

‫التابـــع أو‬ ‫اقتصـــر‪ ،‬فـــي البدايـــة‪ ،‬اســـتعمال مصطلـــح َّ‬ ‫هم ــش «‪ »subaltern‬عل ــى المعن ــى الجغراف ــي للكلم ــة؛‬ ‫الم َّ‬ ‫ُ‬ ‫تتمي ــز بفقره ــا‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫الت‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫الضواح‬ ‫ـق‬ ‫ـ‬ ‫مناط‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫بهم‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫قص‬ ‫ي‬ ‫كان‬ ‫إذ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫الع ــام‪ ،‬لك ــن‪ ،‬س ــرعان م ــا َو َس ـ َـم البع ــض‪ ،‬بالمصطلحي ــن‪،‬‬ ‫الش ــعوب ذات الثقاف ــات البس ــيطة‪ ،‬وكال المعنيي ــن يحم ــان‬ ‫داللـــة التعبيـــر عـــن فئـــات ظلّـــت خـــارج منظـــور التاريـــخ‬ ‫الرس ــمي‪.‬‬ ‫التطـــور‬ ‫مـــن‬ ‫ا‬ ‫عمليـــ‬ ‫ابـــع‬ ‫الت‬ ‫دراســـة‬ ‫مدرســـة‬ ‫تبلـــورت‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫الـــذي شـــهدته الكتابـــة التاريخيـــة منـــذ القـــرن التاســـع‬ ‫عشـــر‪ ،‬مـــرورًا بأبـــرز التيـــارات التاريخيـــة المعاصـــرة‪،‬‬ ‫مثــل المدرســة الماركســية اإلنجليزيــة‪ ،‬ومدرســة الحوليــات‬ ‫المصغ ــر اإليطال ــي‪ ،‬وتاري ــخ الحي ــاة‬ ‫الفرنس ــية‪ ،‬والتاري ــخ‬ ‫َّ‬ ‫اليوميـــة األلمانـــي‪ ،‬ثـــم مـــا لبثـــت أن انتقلـــت دراســـات‬ ‫المهمــش إلــى علــوم إنســانية أخــرى خاصــة فــي الدراســات‬ ‫َّ‬ ‫األنثروبولوجيـــة‪ ،‬واألدبيـــة‪ ،‬والسوســـيولوجية‪.‬‬ ‫المَه َّم ِشـــين منظـــورًا مختلفـــ ًا‬ ‫ُتَق ِّ‬ ‫ـــد ُم لنـــا مقاربـــة تاريـــخ ُ‬ ‫للتاريــخ‪ ،‬غرضهــا فهــم حيــاة النــاس العادييــن الذين عاشــوا‬ ‫ف ــي الماض ــي‪ ،‬وذل ــك م ــن خ ــال نق ــل تجربته ــم الخاص ــة؛‬ ‫ركـــزت علـــى‬ ‫فعلـــى نقيـــض المدرســـة الوضعانيـــة‪ ،‬التـــي َّ‬ ‫األحـــداث وتاريـــخ العظمـــاء‪ ،‬بـــرز التاريـــخ االجتماعـــي‬ ‫المرتبط بمدرســة الحوليات الفرنســية‪ ،‬والذي اهتم بدراســة‬ ‫ظل ــت عل ــى هام ــش الس ــلطة‪.‬‬ ‫الكت ــل الت ــي َّ‬ ‫ُ‬ ‫نقلــت الحوليــات اهتمامهــا مــن دراســة األحداث السياســية‬ ‫والعســكرية إلــى دراســة البنيــات االقتصاديــة واالجتماعيــة‪،‬‬ ‫ُمتجـــاوزة‪ ،‬بذلـــك‪« ،‬التاريـــخ البيوغرافـــي»‪ ،‬و«التاريـــخ‬ ‫الوقائعـــي»‪ ،‬لصالـــح «تاريـــخ األمـــد الطويـــل»‪ ،‬و«تاريـــخ‬ ‫‪44‬‬

‫الهامش ــيين»‪ ،‬و«تاري ــخ الجس ــد»‪،‬و«تاريخ الذهني ــات»‪.‬‬ ‫وفـــي مجـــال كتابـــة الســـير‪ ،‬ومـــن خـــال الدخـــول فـــي‬ ‫متاهـــات التاريـــخ الصامـــت‪ ،‬وتاريـــخ الرجـــال العادييـــن‪،‬‬ ‫انتقلنــا مــن بيوغرافيــات األفــراد العظمــاء إلــى الغــوص فــي‬ ‫ســير األشــخاص الذيــن ليســوا مــن المشــاهير‪ ،‬بــل وأحيان ـ ًا‬ ‫هـــم مـــن المغموريـــن تمامـــاً؛ مـــا يعنـــي إعطـــاء األولويـــة‬ ‫للبح ــث ف ــي الهوام ــش‪ ،‬وف ــي المواضي ــع المس ــكوت عنه ــا؛‬ ‫فعب ــر التركي ــز عل ــى س ــير الفئ ــات واألماك ــن المهمش ــة ب ــرز‬ ‫ال ــى الوج ــود ش ــيء اس ــمه «التاري ــخ المنس ــي»‪.‬‬ ‫شــهدنا مــع جيــل «التاريــخ الجديد» توظيــف أدوات تحليل‬ ‫علمــاء األنثروبولوجيــا‪ ،‬وخيــر مثــال علــى االنصهــار الجيــد‬ ‫بيــن التاريخــي واألنثروبولوجــي‪ ،‬كتــاب «ناتــان ووشــتل»‪،‬‬ ‫«نظ ــرة المهزومي ــن‪ ،‬هن ــود البي ــرو إزاء الغ ــزو اإلس ــباني»‪،‬‬ ‫الص ــادر ع ــام ‪ ،1971‬ال ــذي أع ــاد االعتب ــار لذاك ــرة الش ــعوب‬ ‫ض صوتهـــا لإلقصـــاء فـــي الكتابـــة التاريخيـــة‪.‬‬ ‫التـــي‬ ‫تعـــر َ‬ ‫َّ‬ ‫إن مقارب ــة ه ــذا الم ــؤرخ س ــاهمت بش ــكل أفض ــل ف ــي فهمن ــا‬ ‫لتاري ــخ ش ــعب اإلن ــكا وفت ــرة الغ ــزو اإلس ــباني م ــن وجه ــة‬ ‫مغيبـ ًا‬ ‫نظرهــم‪ ،‬ومــن المعلــوم أن تاريــخ الهنــود الحمــر بقــي ّ‬ ‫ف ــي كتاب ــات المؤرخي ــن األميركيي ــن طيل ــة الق ــرن التاس ــع‬ ‫عشــر؛ فقــد ركــز هــؤالء علــى حقبــة مــا بعــد اكتشــاف القــارة‬ ‫ـل‪ ،‬بذل ــك‪ ،‬تاري ــخ المحليي ــن مجه ــوالً‪ ،‬ول ــم‬ ‫األميركي ــة‪ ،‬فظ ـ ّ‬ ‫تبــدأ عمليــة إعــادة كتابتــه ّإل مــع ثالثينيات القرن العشــرين‪.‬‬ ‫همــش‬ ‫اّتســعت بعــد هــذه الدراســة وغيرهــا دالالت كلمــة ُم َّ‬ ‫فـــي دراســـات المؤرخيـــن الماركســـيين البريطانييـــن‪ ،‬مـــع‬ ‫وظ ــف المفه ــوم‬ ‫ازده ــار أبح ــاث التاري ــخ م ــن أس ــفل‪ ،‬وق ــد َّ‬ ‫تالمذته ــم م ــن مؤرخ ــي المدرس ــة الهندي ــة الجدي ــدة‪ ،‬وعل ــى‬

‫رأس ــهم راناجي ــت جوه ــا قائ ــد مجموع ــة «دراس ــات التاب ــع‪،‬‬ ‫‪.»Subaltern Studies‬‬ ‫ونش ــير إل ــى أن ــه ص ــدر ع ــن دار (مش ــروع كلم ــة) س ــنة‬ ‫‪ ،2011‬كتــاب مترجــم إلــى اللغــة العربيــة بعنــوان «مواطــن‬ ‫التابـــع»‪ ،‬وهـــو‬ ‫الحداثـــة‪ :‬مقـــاالت فـــي صحـــوة دراســـات َّ‬ ‫كتــاب ينطلــق مــن تســاؤل جوهــري ســعى المؤلــف ديبيــش‬ ‫شــاكرابراتي‪ ،‬أســتاذ التاريــخ واللغــات والحضــارات لشــرق‬ ‫آس ــيا ف ــي جامع ــة ش ــيكاكو‪ ،‬إل ــى تحليل ــه وف ــق منظ ــور‬ ‫جديـــد‪ ،‬إنـــه ســـؤال إشـــكالي يجعـــل مـــن طـــرق توطيـــن‬ ‫الحداثــة فــي الهنــد أنموذج ـ ًا لدراســته؛ إذ كيــف يمكــن‪ ،‬فــي‬ ‫بلــد ُمتعـّدد اللغــات والثقافــات واألديــان‪ ،‬تحقيــق حداثــة مــا‬ ‫تتخط ــى أخط ــاء حداث ــة م ــا بع ــد التنوي ــر‬ ‫بع ــد اس ــتعمارية‬ ‫َّ‬ ‫األوروب ــي؟‬ ‫يقت ــرح المؤل ــف حداث ــة مغاي ــرة‪ ،‬حداث ــة بديل ــة تحت ــرم‬ ‫التقاليــد المحليــة‪ ،‬وتنفتــح علــى الرؤيــة الكونيــة‪ ،‬دون أن‬ ‫تقــع أســيرة التنويــر األوروبــي‪ ،‬تلــك التي يسـّـميها بـ«حداثة‬ ‫م ــا بع ــد االس ــتعمار»‪ ،‬وه ــي رؤي ــة تتف ــق‪ ،‬ف ــي مضمونه ــا‪،‬‬ ‫التابــع»؛‬ ‫«رواد دراســات َّ‬ ‫مــع جوهــر أطروحــات مــن ُي َسـّـمون ّ‬ ‫فالحداثــة كمــا قّدمهــا الكاتــب شــاكرابراتي‪ ،‬الــذي ُولد وترعرع‬ ‫ـت ســيرورة متجانســة‪ ،‬فهناك‪-‬فــي نظــره‪-‬‬ ‫فــي الهنــد‪ ،‬ليسـ ْ‬ ‫قـــدم مالمـــح‬ ‫وقـــد‬ ‫الحداثـــة‪.‬‬ ‫داخـــل‬ ‫«للبدائـــل»‬ ‫دوماً‪،‬مجـــال‬ ‫َّ‬ ‫مـــن رؤيتـــه هـــذه فـــي مؤلفاتـــه الســـابقة‪ ،‬وبالخصـــوص‬ ‫ف ــي كتابي ــه‪« :‬تريي ــف أوروب ــا‪ :‬الفك ــر م ــا بع ــد االس ــتعماري‬ ‫واالخت ــاف التاريخ ــي» و«إع ــادة التفكي ــر بتاري ــخ الطبق ــة‬ ‫العامل ــة‪ :‬البنغ ــال ‪.»1994 - 1890‬‬ ‫فعلــى ضــوء مفاهيــم الحداثــة والتقـ ُّـدم األوروبييــن‪،‬‬ ‫التابــع‬ ‫المهمش‬ ‫وبالنظــر إلــى التفــاوت الصــارخ بين َّ‬ ‫َّ‬ ‫المنغلــق فــي رؤيتــه التقليديــة‪ ،‬وبيــن المثقــف‬

‫النخب ــوي ال ــذي يتبن ــى رؤي ــة التنوي ــر المتعال ــي‪ ،‬انطلق ــت‬ ‫التابــع مــن مدخــل مختلف إلعــادة النظر‬ ‫مجموعــات دراســات َّ‬ ‫فــي تاريــخ بلدهــم‪.‬‬ ‫التاب ــع ف ــي الهن ــد عل ــى ض ــرورة‬ ‫وك ـ َـدت دراس ــات َّ‬ ‫لق ــد ّ‬ ‫إعــادة النظــر فــي الحقبــة المرتبطــة باالســتعمار البريطاني‪،‬‬ ‫المؤرخيــن واألنثروبولوجييــن‬ ‫وتضــم المجموعــة نخبــة مــن‬ ‫ّ‬ ‫المؤرخيـــن‬ ‫الذيـــن انتقـــدوا التاريـــخ المكتـــوب مـــن قبـــل‬ ‫ّ‬ ‫المتأثّريــن بالسياســات الكولونياليــة‪ ،‬واقترحــوا مراجعتــه‬ ‫عل ــى ض ــوء مفاهي ــم مغاي ــرة مّتصل ــة بالتاري ــخ الش ــفاهي‬ ‫ال ــذي اس ــتبعدته االتجاه ــات النخبوي ــة‪ ،‬الت ــي مثله ــا آن ــذاك‬ ‫تيــاران اثنــان همــا‪ :‬مدرســة كامبريــدج‪ ،‬ومدرســة المؤرخيــن‬ ‫القوميي ــن‪.‬‬ ‫التابــع الهنديــة‪-‬‬ ‫تمــت إعــادة االعتبــار‪ -‬مــع دراســات َّ‬ ‫لقــد ّ‬ ‫المهمش ــة؛ فق ــد َت ـ ّـم االعت ــراف به ــا‪ ،‬وُأتيح ــت‬ ‫ـات‬ ‫ـ‬ ‫للمجموع‬ ‫َّ‬ ‫لهـــا ُفـــرص إســـماع صوتهـــا‪ .‬وهـــذا مـــا ولَّـــد سلســـلة مـــن‬ ‫الكتابـــات خضـــع فيهـــا التاريـــخ نفســـه‪ ،‬بوصفـــه معرفـــة‬ ‫أوروبيــة‪ ،‬للتمحيــص والنقــد‪ ،‬وقــد أســهم فــي هــذا المشــروع‬ ‫كل مــن األكاديمــي بجامعــة هارفــرد «هومــي بابــا»‪ ،‬والناقــدة‬ ‫األدبي ــة الهندي ــة األص ــل «غايت ــري س ــبيفاك» م ــن جامع ــة‬ ‫فكــر الفلســطيني‬ ‫الم ِّ‬ ‫كولومبيــا‪ ،‬ومعهــا مــن الجامعــة نفســها ُ‬ ‫إدوارد ســعيد؛ فهــؤالء‪ -‬ومعهــم ُثلّة مــن المؤرخين الهنديين‪-‬‬ ‫التابــع مشــروع ًا يتحــاور مع الدراســات‬ ‫جعلــوا مــن دراســات َّ‬ ‫مـــا بعـــد االســـتعمارية‪ ،‬وبذلك اقتحمـــت‬ ‫مناه ــج ه ــذه الدراس ــات مج ــاالت أخ ــرى‬ ‫فــي عــدد مــن بلــدان العالــم الثالــث‪ ،‬فــي‬ ‫إفريقي ــا وآس ــيا وأمي ــركا الالتيني ــة‪.‬‬

‫‪45‬‬

46

‫ملف‬

‫الـســـيـاحـــة‬ ‫في ظل اإلرهاب‬

‫ومتطـــورة‪،‬‬ ‫أشـــكال الســـياحة عديـــدة‬ ‫ّ‬ ‫ففـــي حيـــن يتنافـــس العـــرب علـــى‬ ‫المتبقيـــة مـــن الســـياحة‬ ‫النســـب الضئيلـــة ُ‬ ‫طـــورت هـــذه األخيـــرة مفهـــوم‬ ‫العالميـــة‪ّ ،‬‬ ‫الســـياحة حتـــى صرنـــا نســـمع بســـياحة‬ ‫تح ــت الطل ــب‪ ،‬وس ــياحة بيئي ــة‪ ،‬وس ــياحة‬ ‫طبيـــة‪ ،‬إلـــى غيـــر ذلـــك‪ ،‬بـــل وســـياحة‬ ‫الفضـــاء! وتحـــت أعمـــاق البحـــار!‬ ‫أوضاعنـــا العربيـــة‪ ،‬فـــي العقـــد األخيـــر‪،‬‬ ‫عرف ــت ِه ـّـزات أمني ــة‪ ،‬واخت ــاالت بنيوي ــة‬ ‫انعكســـت علـــى االســـتثمار بشـــكل عـــام‪،‬‬ ‫وعلـــى القطـــاع الســـياحي علـــى وجـــه‬ ‫الخصـــوص‪.‬‬ ‫العال ــم م ــن زي ــارة أماك ــن غي ــر آمن ــة‪ ،‬كم ــا‬ ‫ـجع الذه ــاب إل ــى م ــدن وبل ــدان غي ــر‬ ‫ال ُيش ـ ّ‬ ‫مهي ــأة الس ــتقباله بش ــكل الئ ــق‪.‬‬ ‫تطـــرح هـــذه المقـــاالت مالحظـــات حـــول‬ ‫الســـياحية فـــي بالدنـــا العربيـــة‬ ‫المســـألة ّ‬ ‫وســـبل تحريـــك مؤشـــراتها واســـتثمار‬ ‫ُ‬ ‫مدخراتهـــا الثقافيـــة والعمرانيـــة‪...‬‬

‫‪47‬‬

‫السياحة الثقافية‬ ‫مجال التعريف بالقيم اإلسالمية‬ ‫د‪ .‬محمود الذوادي*‬

‫أضــواء علــى ظاهــرة‬ ‫ُنلقــي فــي هــذا المقــال‬ ‫ً‬ ‫الســياحة الثقافيــة فــي المجتمعــات العربيــة مــن‬ ‫خــال رؤيــة العلــوم االجتماعيــة لهــا‪ .‬منهجيــاً‪،‬‬ ‫نحتــاج إلــى تعريــف الثقافــة فــي المقــام األول‪.‬‬ ‫ونظــرًا لوجــود عــدد كبيــر مــن التعريفــات للثقافــة‬ ‫فــي علــوم اإلنســان والمجتمــع‪ ،‬فإننــا ســنقتصر‬ ‫علــى ذكــر أشــهرها‪ ،‬مــن ناحيــة‪ ،‬والتركيــز علــى‬ ‫مفهومنــا الخــاص للثقافــة‪ ،‬والــذي نســميه البعــد‬ ‫الثالــث لإلنســان‪ ،‬مــن ناحيــة ثانيــة‪.‬‬

‫فقدان اللغة في أشهر تعريف للثقافة‬ ‫هويــة اإلنســان‪،‬‬ ‫رغــم مركزيــة َمَل َكــة اللغــة فــي ّ‬ ‫ــم فــي بــروز منظومــة الرمــوز الثقافيــة‬ ‫ومــن َث ّ‬ ‫فــي المجتمعــات البشــرية‪ ،‬فــإن أشــهر تعريــف‬ ‫لمفهــوم الثقافــة فــي العلــوم االجتماعيــة الغربيــة‬ ‫المعاصــرة ال يذكــر اللغــة كعنصــر مركــزي‬ ‫عــرف عالــم‬ ‫فــي صلــب منظومــة الثقافــة‪ .‬فقــد ّ‬ ‫األنثربولوجيــا البريطانــي إدوارد برنــارد تيلــور‬ ‫(‪) 1871‬الثقافــة (‪ )Culture‬بأنهــا «ذلــك الــكل‬ ‫والفــن‬ ‫يتضمــن المعرفــة والعقيــدة‬ ‫المعقــد الــذي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫واألخــاق والتــراث وأي مقــدرات وعــادات‬ ‫يكتســبها اإلنســان كعضــو فــي المجتمــع»‪ .‬ال يشــير‬ ‫هــذا التعريــف الكالســيكي إلــى اللغــة وال يعطيهــا‬ ‫الصــدارة فــي مكونــات منظومــة الثقافــة‪ ،‬والحــال‬ ‫أن اللغــة هــي منشــئة ظاهــرة الثقافــة نفســها‬ ‫بين‪ .‬أي أن هنــاك عالقــة عضويــة جــدًا‬ ‫كمــا ُ‬ ‫ســن ّ‬ ‫ــم‪ ،‬يجــوز‬ ‫ث‬ ‫ومــن‬ ‫ثقافتهــا‪.‬‬ ‫ومنظومــة‬ ‫اللغــة‬ ‫بيــن‬ ‫َّ‬ ‫الحديــث عــن قصــور تعريــف تيلــور لمفهــوم‬ ‫‪48‬‬

‫الثقافــة بســبب أنــه ال يذكــر‪ -‬بــكل وضــوح‪-‬‬ ‫صــدارة اللغــة فــي تعريفــه للثقافــة البشــرية‪.‬‬

‫ظروف ميالد البعد الثالث لإلنسان‬ ‫بعــد العــودة‪ ،‬فــي أواخــر الثمانينيــات (‪،)1988‬‬ ‫إلــى أرض الوطــن‪ ،‬تونــس‪ ،‬عقــب الدراســة‬ ‫والتدريــس فــي أميــركا الشــمالية وغيرهــا مــن‬ ‫بــدأت مســيرتنا‬ ‫البلــدان فــي آســيا وإفريقيــا‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫البحثيــة الفكريــة الجّديــة فــي محاولــة فهــم طبيعــة‬ ‫اإلنســان وحركيــة المجتمعــات البشــرية مــن‬ ‫فتبنيــت فــي خطــة‬ ‫منظــور العلــوم االجتماعيــة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫تفكيــري فــي هــذا الموضــوع الخطــوات التاليــة‪:‬‬ ‫هاجــس فضولــي المعرفــي بعــض‬ ‫علــي‬ ‫‪-1‬‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫طــرح ّ‬ ‫األســئلة البحثيــة والفكريــة حــول إمكانيــة إرســاء‬ ‫علمــي‬ ‫إطــار فكــري منبثــق مــن تخصصــي فــي َ‬ ‫االجتمــاع والنفــس‪ ،‬لفهــم وتفســير ســلوكيات‬ ‫النــاس وحركيــة المجتمعــات والحضــارات‬ ‫ـت لنفســي بكثيــر مــن الثقــة ردًا علــى‬ ‫البشــرية‪ .‬فقلـ ُ‬ ‫ذلــك الطــرح‪ :‬هــذا األمــر ليــس بالمســتحيل‪.‬‬ ‫المنهجــي‬ ‫ألقيــت علــى نفســي الســؤال‬ ‫‪ -2‬ثــم‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ـي الشــروع فــي ســبر ألغــاز‬ ‫ـ‬ ‫عل‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ينبغ‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫أي‬ ‫اآلتــي‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫الموضــوع ؟ فــكان الــرد علــى ذلــك االستفســار‬ ‫علــي البــدء‪ -‬أوالً‪ -‬بتحديــد‬ ‫فــي العبــارات اآلتيــة‪ّ :‬‬ ‫المواصفــات الخاصــة التــي يتميــز بهــا الجنــس‬ ‫البشــري عــن غيــره مــن األجنــاس األخــرى‪ .‬ألنــي‬ ‫رأيــت أن العثــور علــى تلــك المواصفــات يضــع‬ ‫ُ‬ ‫مســيرة بحثــي فــي المربــع األول الصحيــح كــون‬ ‫تلــك المواصفــات المميــزة للبشــر ترشــحها بقــوة‬

‫مسجد عقبه بمدينة القيروان ‪ -‬تونس‬

‫لكــي تكــون عوامــل حاســمة لصيقــة ومباشــرة‬ ‫للتمكيــن مــن الفهــم والتفســير لســلوكيات األفــراد‬ ‫وحركيــة الجماعــات والمجتمعــات اإلنســانية‪.‬‬ ‫وجــدت أن مــا أســميه البعــد الثالــث فــي‬ ‫‪-3‬‬ ‫ُ‬ ‫اإلنســان (اللغــة‪ ،‬والمعرفة‪/‬العلــم‪ ،‬والفكــر‬ ‫والديانــات‪ ،‬والقوانيــن‪ ،‬والقيــم‪ ،‬واألعــراف‬ ‫الثقافيــة‪ )...‬هــي تلــك المواصفــات التــي يتميــز‬ ‫بهــا اإلنســان عــن بقيــة الكائنــات‪ .‬جــاء ميــاد‬ ‫مفهــوم البعــد الثالــث لإلنســان عنــدي كحصيلــة‬ ‫تتكــون مــن ثالثــة‬ ‫هويــة اإلنســان‬ ‫ّ‬ ‫العتبــار أن ّ‬ ‫معالــم هي‪:‬الجســد‪ ،‬والــروح‪ ،‬والبعــد الثالــث أو‬ ‫منظومــة الرمــوز الثقافيــة أو الثقافــة بالمعنــى‬ ‫التعمــق‬ ‫تبيــن لــي أن‬ ‫المتــداول بيــن عامــة النــاس‪ّ .‬‬ ‫ُّ‬ ‫فــي دراســة البعــد الثالث‪/‬منظومــة الثقافــة هــو‬ ‫مربــط الفــرس للفهــم وللتفســير فــي دنيــا اإلنســان‬ ‫والمجتمــع البشــري‪ .‬ونتيجــة لذلــك أصبحــت‬ ‫ا أو كثيــرًا بمقولــة‬ ‫معظــم كتاباتــي تتأثــر قليــ ً‬ ‫نظريتــي القائلــة إن اإلنســان هــو الكائــن ذو‬ ‫البعــد الثالــث‪ ،‬وفــي طليعتهــا كتابــاي باللغتيــن‬ ‫العربيــة واإلنجليزيــة الصــادران أخيــرًا حــول‬ ‫علـ�م االجتمـ�اع الثقافـ�ي (الـ�ذواد ي ‪Dha� ،2010‬‬ ‫‪ )ouadi 2013‬فــي تونــس والواليــات المتحــدة‬ ‫األميركيــة‪.‬‬

‫‪ -4‬وعنــد تســاؤلي عــن عنصــر فــي البعــد الثالــث‬ ‫يكــون لــه الــدور األول والحاســم فــي ميــاد‬ ‫بقيــة العناصــر الثقافيــة‪ ،‬اتضــح لــي أن اللغــة‬ ‫البشــرية هــي العامــل القــوي الحاســم والفريــد‬ ‫الــذي أدى إلــى ميــاد بقيــة عناصــر منظومــة‬ ‫وتجســدها عنــد‬ ‫الرمــوز الثقافيــة للبعــد الثالــث‬ ‫ّ‬ ‫وصفــت اللغــة بأنهــا أم‬ ‫الجنــس البشــري‪ .‬لــذا‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫الرمــوز الثقافيــة جميع ـ ًا فــي البعــد الثالــث‪ ،‬األمــر‬ ‫الــذي ُيعطــي مشــروعية لتســمية اإلنســان‪ :‬الكائــن‬ ‫ذا البعــد الثالــث اللغــوي الثقافــي بالطبــع‪ .‬أي‬ ‫أنــه ليــس بالكائــن الناطــق فحســب‪ ،‬كمــا وصفــه‬ ‫الفالســفة والمفكــرون القدمــاء‪ ،‬بــل هــو أيضــ ًا‬ ‫فــي الوقــت نفســه كائــن يلبــس دائمــ ًا كســوة‬ ‫البعــد الثالــث للرمــوز الثقافيــة‪ .‬ومــن َثــم‪ ،‬يجــوز‬ ‫تلخيــص دور اللغــة المتميــز فــي والدة البعــد‬ ‫الثالــث لإلنســان فــي اآلتــي‪ :‬أســتعمل لغــة؛ إذًا‬ ‫أنــا إنســان‪.‬أي أن بنــي البشــر يكســبون هويتهــم‬ ‫شــكليها‪:‬‬ ‫اإلنســانية بواســطة هبــة اللغــة فــي‬ ‫ْ‬ ‫المنطــوق‪ ،‬والمكتــوب‪.‬‬

‫معنى السياحة الثقافية‬ ‫اســتنادًا إلــى معطيــات اإلطــار الفكــري للبعــد‬ ‫‪49‬‬

‫الثالــث لإلنســان‪ ،‬فــإن مدلــول مصطلــح الســياحة‬ ‫الثقافيــة يفيــد إعطــاء عناصــر البعــد الثالــث‬ ‫لإلنســان‪ ،‬فــي المجتمــع‪ ،‬أهميــة خاصــة يتعـ ّـرف‬ ‫إليــه الســياح مــن داخــل البلــد ومــن خارجــه‪.‬‬ ‫وبالتحديــد‪ ،‬تعنــي الســياحة الثقافيــة وفقــ ًا‬ ‫لمنظورنــا دعــوة معشــر ســياح أهــل الوطــن‬ ‫ونظرائهــم األجانــب للتعــرف بالتــراث الثقافــي‬ ‫للبعــد الثالــث لإلنســان فــي البلــد المعيــن والتمتــع‬ ‫بــه‪ .‬وبعبــارة أخــرى‪ :‬الســياحة الثقافيــة تركــز‪،‬‬ ‫فــي المقــام األول‪ ،‬علــى الجوانــب غيــر الماديــة‪/‬‬ ‫الثقافيــة والروحيــة للمجتمــع‪ .‬وجديــر بالذكــر‬ ‫فــي هــذا الصــدد اإلشــارة إلــى أن كلمــة الثقافــة‬ ‫تســتعمل أحيانــ ًا كمرادفــة لكلمــة حضــارة فــي‬ ‫العلــوم االجتماعيــة‪ .‬أي أن كلمــة ثقافــة ‪culture‬‬ ‫تســاوي كلمــة حضــارة ‪ .civilization‬ومــن جهــة‬ ‫ثانيــة‪ ،‬يتبنــى بعــض العلمــاء موقفــ ًا يميــز بيــن‬ ‫الثقافــة والحضــارة‪ .‬فالثقافــة تعنــي عنــد هــؤالء‬ ‫الجوانــب غيــر الماديــة فــي المجتمــع‪ ،‬أي معالــم‬ ‫البعــد الثالــث لإلنســان (اللغــة والمعرفة‪/‬العلــم‬ ‫والفكــر والديانــات والقوانيــن والقيــم واألعــراف‬ ‫الثقافيــة‪ .)...‬وأمــا كلمــة الحضــارة فتشــير عندهــم‬ ‫إلــى المعالــم الماديــة فــي المجتمــع مــن العمــارات‬ ‫والصناعــات المتمثلــة فــي أشــياء ماديــة‪،‬‬ ‫كالســيارات واألثــاث المســتعمل فــي المنــازل‪،‬‬ ‫واألســرة والتليفزيونــات وغيرهــا‬ ‫مثــل الكراســي‬ ‫ّ‬ ‫مــن الصناعــات‪ .‬واعتمــادًا علــى هــذا الفــرق بيــن‬ ‫الثقافــة والحضــارة‪ ،‬فــإن المقــال يولــي اهتمامــ ًا‬ ‫توجهــات‬ ‫رئيســي ًا بالجوانــب الثقافيــة فــي سياســة ّ‬ ‫الســياحة الثقافيــة فــي المجتمعــات العربيــة‪.‬‬

‫ثقافة المجتمعات العربية‬ ‫يــرى المختصــون فــي العلــوم االجتماعيــة الحديثــة‬ ‫عاملــي اللغــة والديــن همــا أكثــر العوامــل‬ ‫أن‬ ‫ْ‬ ‫المحــّددة للهويــة الثقافيــة‪.‬‬ ‫الثقافيــة‬ ‫ُ‬ ‫فالهويــة الجماعيــة الثقافيــة للمجتمعــات العربيــة‬ ‫هــي هويــة عربيــة إســامية‪ ،‬ومســيحية‪،‬‬ ‫ويهوديــة‪ ،‬بمعنــى أن اللغــة العربيــة وديانــات‬ ‫اإلســام والمســيحية واليهوديــة هــي العناصــر‬ ‫الثقافيــة البــارزة فــي المجتمعــات العربيــة‪ .‬علم ـ ًا‬ ‫بــأن الديــن اإلســامي هــو ديــن أغلبيــة ســكان‬ ‫الوطــن العربــي‪ .‬ويعنــي هــذا أن اللغــة العربيــة‬ ‫والديــن اإلســامي همــا قطبــا منظومــة الهويــة‪.‬‬ ‫ومــن ثــم‪ ،‬فالثقافــة الدينيــة األم فــي أغلبيــة‬ ‫المجتمعــات العربيــة هــي ثقافــة إســامية‪ .‬وأمــا‬ ‫الثقافــة المســيحية واليهوديــة فهمــا ثقافتــا األقليــة‬ ‫فــي المشــرق والمغــرب العربييــن‪ .‬وعليــه‪ ،‬فإنــه‬ ‫‪50‬‬

‫لوائــح وسياســات‬ ‫مــن الضــروري أن تولــي‬ ‫ُ‬ ‫الســياحة الثقافيــة‪ ،‬فــي معظــم المجتمعــات‬ ‫العربيــة أهميــة خاصــة إلــى معالــم تــراث الثقافــة‬ ‫اإلســامية فــي البعــد الثالــث لإلنســان فــي العالــم‬ ‫العربــي‪ .‬وهــو مــا تميــل إلــى تهميشــه بعــض‬ ‫المجتمعــات العربيــة‪ ،‬كمــا ســنرى‪.‬‬ ‫فاللغــة العربيــة والديــن اإلســامي يمثــان أبــرز‬ ‫عنصريــن ثقافييــن فــي معظــم التــراث الثقافــي‬ ‫المكونــان‬ ‫فــي المجتمعــات العربيــة‪ ،‬ألنهمــا‬ ‫ّ‬ ‫الرئيســيان لمنظومــة الهويــة العربيــة اإلســامية‬ ‫الثقافيــة ألغلبيــة تلــك الشــعوب‪ .‬ويتمثــل‬ ‫معلميــن‬ ‫التعامــل الســليم مــع التــراث الثقافــي فــي‬ ‫ْ‬ ‫رئيســيين‪ :‬المحافظــة علــى رصيــد التــراث فــي‬ ‫شــكله المــادي والمعنــوي‪ ،‬مــن جهــة‪ ،‬وحضــور‬ ‫روابــط نفســية قويــة لــدى المواطنيــن لصالــح‬ ‫ذلــك التــراث‪ ،‬مــن جهــة أخــرى‪ .‬وبعبــارة أخــرى‪:‬‬ ‫إن صيانــة معالــم التــراث وبقاءهــا نابضــة فــي‬ ‫حيــاة الشــعوب ال يأتيــان مــن مجــرد اســتمرار‬ ‫وجودهمــا المــادي فحســب‪ ،‬بــل يأتيــان ‪-‬فــي‬ ‫المقــام األول‪ -‬مــن العالقــات النفســية المتعاطفــة‬ ‫مــع معالــم التــراث‪.‬‬

‫السياحة التونسية والتراث اإلسالمي‬ ‫يؤكــد المفكــر التونســي هشــام جعيــط أن هويــة‬ ‫الشــعب التونســي هــي هويــة عربيــة إســامية‬ ‫بامتيــاز‪« :‬ال ينبغــي خــداع النفــس بالنســبة‬ ‫إلمكانيــة اســتمرار الحضــارة الفينيقيــة والثقافــة‬ ‫الالتينيــة واآلثــار اليونانيــة علــى األرض‬ ‫التونســية‪ .‬فاإلســام اســتطاع القضــاء نهائيــ ًا‬ ‫علــى الــكل‪ .‬فإفريقية‪/‬تونــس القــرن الثامــن‬ ‫كانــت كمــا هــي اليــوم‪ :‬أي بلــد مســلم عربــي»‪..‬‬ ‫لكــن يــردد خطــاب كثيــر مــن النخــب التونســية‬ ‫مقولــة أن تاريــخ تونــس هــو تاريــخ ‪3000‬‬ ‫ســنة‪ .‬يشــير ذلــك‪ -‬ضمنيــاً‪ -‬إلــى عــدم إعطــاء‬ ‫األهميــة األولــى إلــى التــراث العربــي اإلســامي‬ ‫فــي هويــة الشــعب التونســي‪ .‬فجــاء التركيــز علــى‬ ‫التــراث القرطاجنــي‪ ،‬والفينيقــي‪ ،‬والرومانــي‬ ‫ومعالمــه المعماريــة الــذي يعطيــه قطــاع الســياحة‬ ‫التونســية أولويــة ُيقــاد إليهــا الســياح األجانــب‬ ‫فــي زياراتهــم إلــى البــاد التونســية‪ .‬ويعــود هــذا‬ ‫إلــى أن أصحــاب القــرار السياســي فــي تونــس‬ ‫بعــد االســتقالل ‪ 1956‬ذوي التوجــه الثقافــي‬ ‫الغربــي أولــوا المحافظــة علــى التــراث المعمــاري‬ ‫لمــا قبــل الفتــح العربــي اإلســامي عنايــة أكبــر‪،‬‬ ‫تقربــ ًا للغــرب‪.‬‬

‫جامع القيروان ‪ -‬تونس‬

‫تأصيل السياحة الثقافية‬ ‫إن الســياحة الثقافيــة فــي الوطــن العربــي يمكــن‬ ‫تعــرف الســياح‬ ‫أن تشــمل عــدة أنشــطة ثقافيــة ّ‬ ‫األجانــب ببعــض معالــم األصالــة فــي منظومــة‬ ‫الثقافــة العربيــة اإلســامية‪ .‬وكأمثلــة نذكــر‬ ‫ثالثــة‪:‬‬ ‫‪ -1‬حفــز الســياح علــى تعلّــم شــيء مــن اللغــة‬ ‫العربيــة بتقديــم دروس مجانيــة لهــم مــن طــرف‬ ‫وزارات الســياحة العربيــة‪ ،‬صحبــة معــارض‬ ‫للخــط العربــي الــذي يلقــى إعجابـ ًا لــدى الغربيين‪.‬‬ ‫ـن ترتيــل أو تجويــد القــرآن الكريــم مجــال‬ ‫‪ -2‬إن فـ ّ‬ ‫آخــر جديــر بتعريــف الســياح بــه عبــر األصــوات‬ ‫والمجوديــن‪.‬‬ ‫الجميلــة المختلفــة مــن المرّتليــن‬ ‫ّ‬ ‫هنــاك روايــات عديــدة تفيــد أن دخــول غيــر‬ ‫تــم بعــد ســماعهم‬ ‫المســلمين إلــى اإلســام ّ‬ ‫المجوديــن‪.‬‬ ‫ألصــوات‬ ‫ّ‬ ‫‪ -3‬فــي زمــن اقتــران اإلرهــاب باإلســام ينبغــي‬ ‫علــى المجتمعــات العربيــة تبّنــي سياســات ثقافيــة‬ ‫تعــرف الســياح بوجــه اإلســام الحقيقــي الــذي‬ ‫ّ‬ ‫بغــض‬ ‫ينــادي بالمســاواة الكاملــة بيــن النــاس‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫النظــر عــن ألوانهــم ولغاتهــم وســاالتهم العرقيــة‪.‬‬ ‫ـاس‬ ‫«يــا َأ ُّيَهــا َّ‬ ‫وهــو مــا تلخصــه اآليــة القرآنيــة‪َ :‬‬ ‫النـ ُ‬ ‫اكـ ْـم ُشـ ُـعوب ًا‬ ‫اكــم ِّمــن َذ َكـ ٍـر َوُأنَثــى َو َج َعْلَن ُ‬ ‫ِإ َّنــا َخَلْقَن ُ‬ ‫ِ‬ ‫َوَقَباِئ َ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ــم»‪.‬‬ ‫اك‬ ‫ق‬ ‫ت‬ ‫أ‬ ‫هلل‬ ‫ا‬ ‫نــد‬ ‫ع‬ ‫ــم‬ ‫ك‬ ‫م‬ ‫ر‬ ‫ك‬ ‫أ‬ ‫ن‬ ‫إ‬ ‫ــوا‬ ‫ف‬ ‫ار‬ ‫ع‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ ْ‬ ‫َ​َُ ْ‬ ‫َ‬ ‫ــل لَت َ َ‬

‫وصية ابن خلدون‬ ‫التعــرف‬ ‫وتماشـيـــــ ًا مــع حفــز الســياح علــى‬ ‫ّ‬ ‫بثقافتنــا‪ ،‬يدعــو ابــن خلــدون إلــى االعتــزاز‬

‫بالتــراث الثقافــي الفكــري اإلســامي‪ .‬فهــو ينــادي‬ ‫بصــوت ٍ‬ ‫عــال إلــى ضــرورة محافظــة المســلمين‬ ‫علــى حصانتهــم فــي مربــط فــرس تــراث الثقافــة‬ ‫اإلســامية‪ .‬يتحــّدث ابــن خلــدون عــن الفلســفة‬ ‫اليونانيــة التــي كانــت ذات أثــر كبيــر علــى‬ ‫فكــر الكثيــر مــن فالســفة المســلمين ومفكريهــم‬ ‫فيقول‪«:‬فليكــن الناظــر فيهــا متحــرزًا جهــده مــن‬ ‫معاطبهــا‪ ،‬وليكــن مــن ينظــر فيهــا بعــد االمتــاء‬ ‫مــن الشــرعيات واالطــاع علــى التفســير والفقــه‪،‬‬ ‫وال ُيِكبَّــن أحــد عليهــا وهــو خلــو مــن علــوم المّلــة‬ ‫ــل أن يســلم لذلــك مــن معاطبهــا‪ .»...‬وال يــكاد‬ ‫فق َّ‬ ‫َ‬ ‫يوجــد شــك أن ابــن خلــدون ســيقف اليــوم إلــى‬ ‫جانــب النخــب العربيــة اإلســامية التــي تدافــع‬ ‫ــي تــراث الهويــة العربيــة‬ ‫عــن تأصيــل‬ ‫َ‬ ‫قطب ْ‬ ‫اإلســامية فــي اللغــة والفكــر والعقيــدة‪ ،‬ألنــه قــد‬ ‫ح ـذّر مــن معاطــب االســتالب الفكــري للفيلســوف‪،‬‬ ‫والمثقــف‪ ،‬والمفكــر المســلمين‪.‬‬

‫السياحة‬ ‫الثقافية‬ ‫في الوطن‬ ‫العربي يمكن‬ ‫أن تشمل عدة‬ ‫أنشطة ثقافية‬ ‫عرّف السياح‬ ‫تُ َ‬ ‫األجانب‬ ‫ببعض معالم‬ ‫األصالة في‬ ‫منظومة‬ ‫الثقافة‬ ‫العربية‬ ‫اإلسالمية‬

‫* عالــم االجتمــاع ‪ -‬تونس‬ ‫المراجع‬ ‫ بــن حتيــرة‪ ،‬صوفيــة (‪ )2008‬الجســد والمجتمــع‪ :‬دراســة‬‫والتصــورات حــول‬ ‫انثروبولوجيــة لبعــض االعتقــادات‬ ‫ّ‬ ‫الجســد‪ ،‬بيــروت‪ ،‬االنتشــار العربــي‪.‬‬ ‫ محمــود الــذوادي (‪ )2010‬المقدمــة فــي علــم االجتمــاع‬‫الثقافــي برؤيــة عربيــة إســامية‪ ،‬بيــروت‪ ،‬المؤسســة‬ ‫الجامعيــة للدراســات والنشــر‪.‬‬ ‫‪Dhaouadi, M (2013) Cultural Sociology within‬‬‫‪Innovative Treatise: Islamic Insights on‬‬ ‫‪Human Symbols, Lanham, USA, University‬‬ ‫‪.Press of America‬‬ ‫‪51‬‬

‫سياحة‬ ‫ّ‬ ‫الم َح ِّل ّيين‬ ‫السكان َ‬ ‫جامل املوساوي‬

‫شــكل الســياحة واحــدًا مــن أكثــر القطاعــات‬ ‫ُت ّ‬ ‫االقتصاديــة أهميــة‪ ،‬إلــى جانــب الفالحــة‪،‬‬ ‫فــي عــدد مــن البلــدان العربيــة‪ ،‬باإلضافــة إلــى‬ ‫الصناعــات االســتخراجية الموجهــة للتصديــر‬ ‫المعتمــدة علــى النفــط أساســ ًا فــي عــدد آخــر‪.‬‬ ‫لهــذا اعتمــدت دول مثــل المغــرب وتونــس‬ ‫ومصــر‪ ،‬علــى ســبيل المثــال‪ ،‬اســتراتيجيات‬ ‫ُمتعــّددة الســنوات لتنميــة قطــاع الســياحة بغيــة‬ ‫اســتقطاب مزيــد مــن الوافديــن األجانــب‪ .‬وذلــك‬ ‫مــن خــال توفيــر بنيــات االســتقبال وتنويــع‬ ‫العــرض وتعزيــز ذلــك بحمــات للترويــج‬ ‫والتســويق‪ .‬تهدف هــذه االســتراتيجيات‪ -‬بشــكل‬ ‫خــاص‪ -‬إلــى الرفــع مــن مســاهمة الســياحة فــي‬ ‫الناتــج الداخلــي اإلجمالــي التــي تصــل فــي بعــض‬ ‫البلــدان إلــى أكثــر مــن ‪ 8‬فــي المئــة‪ ،‬حســب تقاريــر‬ ‫مختلفــة لمنظمــة الســياحة العالميــة صــدرت‬ ‫خــال الســنوات الخمــس األخيــرة‪.‬‬ ‫متغيــرات كثيــرة جعلــت الســياحة تشــهد فتــرات‬ ‫مــن الشـ ّ‬ ‫ـك ومــن عــدم االســتقرار‪ ،‬فــي مــا يتعّلــق‬ ‫بالوافديــن األجانــب علــى بلــدان المنطقــة‪ .‬ومــا‬ ‫مــن شــك فــي أن األحــداث التــي ميــزت الـــ‪15‬‬ ‫عامــ ًا األخيــرة‪ ،‬منــذ أحــداث الحــادي عشــر مــن‬ ‫ســبتمبر‪/‬أيلول ‪ 2001‬علــى الخصــوص‪ ،‬مــرورًا‬ ‫بمــا يمكــن تســميته‪ ،‬تجــاوزاً‪ ،‬اآلثــار الجانبيــة‬ ‫لحــرب الخليــج‪ ،‬وصــو ًال إلــى أحــداث مــا ُيســمى‬ ‫الربيــع العربــي‪ ،‬وحالــة عــدم االســتقرار التــي‬ ‫تلتهــا‪ ،‬واألزمــة االقتصاديــة العالميــة الراهنــة‪ ،‬قــد‬ ‫انخفــاض‬ ‫أثــرت ســلب ًا علــى القطــاع‪ ،‬وأدت إلــى‬ ‫ٍ‬ ‫فــي عــدد الســياح وفــي العائــدات معــاً‪.‬‬ ‫‪52‬‬

‫السياحة الداخلية‬ ‫لمواجهة أزمات السياحة الوافدة‬ ‫يمكــن تعريــف الســياحة الداخليــة‪ ،‬كمــا تقدمــه‬ ‫المنظمــة العالميــة للســياحة‪ ‬وغيرها‪ ،‬بأنهــا‬ ‫انتقــال داخــل حــدود بلــد مــا للمواطنيــن واألجانــب‬ ‫المقيميــن‪ ،‬بقصــد االســتجمام والترفيــه وغيــر‬ ‫ذلــك‪ ،‬بعيــدًا عــن مــكان إقامتهــم الرئيســية‪،‬‬ ‫وخــارج بيئتهــم االقتصاديــة االعتياديــة التــي‬ ‫يزاولــون فيهــا أنشــطتهم اليوميــة‪.‬‬ ‫ويمكــن توســيع هــذا التعريــف‪ ،‬كمــا تشــير إلــى‬ ‫ذلــك بعــض الدراســات(‪ ،)1‬ليشــمل العمــال‬ ‫المهاجريــن خــارج بلدانهــم والذيــن يعــودون‬ ‫خــال فتــرات عطلهــم الســنوية لقضــاء أوقــات‬ ‫مــع أســرهم‪ ،‬مســاهمين بذلــك فــي تنشــيط‬ ‫الحركــة االقتصاديــة‪ ،‬وفــي تنميــة مداخيــل القطــاع‬ ‫الســياحي‪.‬‬ ‫وحيــث إنــه مــن غيــر المؤكــد‪ ،‬فــي المــدى‬ ‫المنظــور‪ ،‬أن تســتقر األوضــاع السياســية‬ ‫واالجتماعيــة فــي المنطقــة‪ ،‬فــإن اســتمرار التركيــز‬ ‫علــى الســياح الوافديــن مــن الــدول األجنبيــة‬ ‫ســيؤدي‪ -‬ال محالــة‪ -‬إلــى المزيــد مــن التراجــع فــي‬ ‫القطــاع وإلــى خســارة نقــط مهمــة مــن مســاهمته‬ ‫فــي النمــو االقتصــادي وفــي إســناد المبــادرات‬ ‫الراميــة إلــى تحقيــق التنميــة الشــاملة‪.‬‬

‫مؤهالت وأرقام‬ ‫ِّ‬ ‫وضــع ُمعقّــد بهــذا الشــكل؛ أي تحقيــق معادلــة‬

‫طيور النورس على كورنيش دبي‬

‫اإلبقــاء علــى الســياحة كقطــاع اقتصــادي أساســي‬ ‫فــي ســياق يتســم بغمــوض نســبي وغيــر ُمســتقر‬ ‫سياســي ًا واجتماعيــاً‪ ،‬يفتــرض توجيــه االهتمــام‬ ‫أكثــر إلــى تنميــة الســياحة الداخليــة بوصفهــا‬ ‫ــد مــا بالمقارنــة مــع‬ ‫ســوق ًا مضمونــة إلــى َح ٍّ‬ ‫األســواق الغربيــة أو أســواق الشــرق األقصــى‪.‬‬ ‫وتمتلــك البلــدان العربيــة كل المقومــات التــي‬ ‫تســمح بتنشــيط هــذا النــوع مــن الســياحة‪،‬‬ ‫ســواء أتعلّــق األمــر بالرســاميل الالزمــة للقيــام‬ ‫باســتثمارات(‪ )2‬هائلــة فــي البنيــات التحتيــة‬ ‫الســياحية‪ ،‬أم تعلّــق بالمقومــات الطبيعيــة التــي‬ ‫ـوع‪ ،‬أم بالمقومــات المرتبطــة‬ ‫تتميــز بالتعـّدد والتنـّ‬ ‫المتنــوع أيضــاً‪ ،‬خاصــة أن‬ ‫بــاإلرث الحضــاري‬ ‫ّ‬ ‫بلــدان المنطقــة‪ -‬بــدون اســتثناء‪ -‬شــهدت علــى‬ ‫ــر التاريــخ تعاقــب أمــم شــتى حكمتهــا وخلفــت‬ ‫َم ّ‬ ‫بصمــات تــدل عليهــا‪ ،‬وهــو مــا مكنهــا مــن ثــراء‬ ‫ثقافــي وعمرانــي وحضــاري‪ ،‬لكنــه يســتقطب‬ ‫الوافديــن األجانــب أكثــر ممــا يجتــذب الســياح‬ ‫المحلييــن‪.‬‬ ‫تشــكل‪ ،‬فــي‬ ‫وإذا كانــت الســياحة عمومــ ًا‬ ‫ّ‬ ‫بعــض البلــدان العربيــة مثــل المغــرب وتونــس‬ ‫واألردن‪ ،...‬واحــدًا مــن القطاعــات األساســية مــن‬ ‫ناحيــة المــوارد الســنوية(‪ ،)3‬فالســياحة الداخليــة‬ ‫تختــزن فــي ثناياهــا إيجابيــات عديــدة تســاهم‪،‬‬ ‫بدورهــا‪ ،‬فــي الديناميــة االقتصاديــة وفــي الســعي‬ ‫نحــو تحقيــق التنميــة‪.‬‬ ‫بعــض مــن تلــك اإليجابيــات‪،‬‬ ‫وقبــل اســتعراض‬ ‫ٍ‬ ‫مــن المهــم إيــراد بعــض األرقــام المســتقاة مــن‬ ‫مصــادر مختلفــة بشــأن هــذا النــوع مــن الســياحة‪.‬‬

‫فهــي تمثــل‪ ،‬فــي الجزائــر‪ ،‬مــا يزيــد علــى ‪ 97‬فــي‬ ‫المئــة مــن مجمــوع النشــاط الســياحي‪ ،‬أي أن‬ ‫المســاهمين األساســيين فــي تنشــيط القطــاع هــم‬ ‫مــن الســكان المحلييــن حســب تقريــر المنظمــة‬ ‫العالميــة للســياحة برســم ســنة ‪ .2013‬أمــا فــي‬ ‫المغــرب فقــد بلغــت نســبة ليالــي المبيــت للســياح‬ ‫المحلييــن مــن مجمــوع الليالــي المتحققــة‪ ،‬منــذ‬ ‫إطــاق «رؤيــة ‪ »2020‬للنهــوض بالســياحة‪،‬‬ ‫فــي أواخــر ســنة ‪ ،2010‬مــا قــدره ‪ 28‬فــي المئــة‬ ‫‪،‬حســب مــا أدلــى بــه وزيــر الســياحة المغربــي‬ ‫الســنة الماضيــة‪ .‬وفــي الســياق نفســه كشــفت‬ ‫المقدمــة فــي معــرض الســفر العربــي‬ ‫األرقــام‬ ‫َّ‬ ‫المنعقــد قبــل أشــهر بدبــي فــي اإلمــارات العربيــة‬ ‫المتحــدة أن إيــرادات المملكــة العربيــة الســعودية‬ ‫مــن الســياحة الداخليــة تعــّدت ‪ 18‬مليــار دوالر‪.‬‬ ‫هــذه األرقــام تبيــن األهميــة االقتصاديــة لحركــة‬ ‫الســكان المحلييــن فــي تنشــيط القطــاع الســياحي‪،‬‬ ‫وفــي ضــخ الديناميــة والحيويــة فــي الــدورة‬ ‫االقتصاديــة وفــي إنعــاش الناتــج الداخلــي‬ ‫اإلجمالــي‪ ،‬وفــي تحقيــق أهــداف حيويــة مــن‬ ‫بينهــا‪:‬‬

‫األحداث‬ ‫التي ميزت‬ ‫الـ ‪ 15‬عام ًا‬ ‫األخيرة جعلت‬ ‫السياحة تشهد‬ ‫فترات من‬ ‫الشك ومن‬ ‫عدم االستقرار‬

‫‪ - 1‬خلق فرص العمل‪:‬‬

‫حيــث يــؤدي الطلــب علــى الســياحة الداخليــة‬ ‫تلقائيــ ًا إلــى تحفيــز االســتثمار فــي مجــال توفيــر‬ ‫بنيــات االســتقبال خاصــة الفنــادق والمنتجعــات‬ ‫والمطاعــم والموانــئ الترفيهيــة‪ ..‬وفــي البنيــات‬ ‫التحتيــة األساســية كالطــرق والســكك الحديديــة‬ ‫والمطــارات وغيرهــا‪ .‬وهــو مــا يعنــي تجميعــ ًا‬ ‫للعوامــل المســاعدة علــى تحقيــق التنميــة‬ ‫‪53‬‬

‫خان الخليلي بالقاهرة من أكثر األماكن جذب ًا للسياحة الداخلية‬

‫االقتصاديــة مــع مــا لهــا مــن انعكاســات علــى‬ ‫األوضــاع االجتماعيــة لفئــات واســعة مــن خــال‬ ‫خلــق فــرص عمــل كثيــرة وتوفيــر مــوارد للعديــد‬ ‫ا‬ ‫مــن األســر‪ .‬بهــذا تكــون الســياحة الداخليــة مدخ ـ ً‬ ‫مــن مداخــل تحقيــق الهــدف األول ضمــن أهــداف‬ ‫األلفيــة للتنميــة‪ ،‬أي تقليــص نســبة الفقــر‪،‬‬ ‫خاصــة فــي المناطــق الهشــة القرويــة والنائيــة ‪،‬‬ ‫التــي تتوافــر ‪-‬فــي الغالــب‪ -‬علــى مقومــات مهمــة‬ ‫فــي مجــال الســياحة الجبليــة وســياحة االســتغوار‬ ‫والمغامــرات‪.‬‬

‫‪ - 2‬احلفاظ على االحتياطي من النقد األجنبي‪:‬‬

‫يؤثــر تراجــع الســياحة المرتبطــة بالوافديــن‬ ‫األجانــب‪ ،‬بســبب العوامــل المشــار إليهــا ســابقاً‪،‬‬ ‫علــى المــوارد التــي يتــم اســتخالصها لفائــدة‬ ‫ميــزان المدفوعــات مــن العملــة الصعبــة‪ .‬وهــو‬ ‫مــا يتســبب فــي أعبــاء اقتصاديــة كبيــرة للبلــدان‬ ‫العربيــة غيــر النفطيــة باألســاس‪ ،‬التــي تعتمــد‬ ‫فــي تكويــن احتياطهــا علــى تحويــات أبنــاء‬ ‫جالياتهــا فــي المهجــر‪ ،‬وعلــى الســياحة‪.‬‬ ‫وكمــا تســاهم الســياحة الداخليــة فــي تغطيــة‬ ‫تراجــع النشــاط الســياحي نتيجــة تراجــع تدفــق‬ ‫األجانــب‪ ،‬فهــي‪ -‬بــكل تأكيــد‪ -‬تســاهم فــي اســتقرار‬ ‫االحتياطــي الوطنــي والحــّد مــن تســربه بعــدم‬ ‫الضغــط عليــه لتغطيــة تكاليــف الســفر واإلقامــة‬ ‫فــي الخــارج‪ّ ،‬إل أن تحقيــق هــذا المســعى يتطلــب‬ ‫‪54‬‬

‫جهــودًا مــن الدولــة ومــن باقــي الفاعليــن فــي هــذا‬ ‫المجــال‪.‬‬

‫‪ - 3‬تثمني الرصيد احلضاري والطبيعي‪:‬‬

‫تتوافــر البلــدان العربيــة علــى رصيــد حضــاري‬ ‫ويشــكل‪-‬‬ ‫والتنــوع‪،‬‬ ‫وطبيعــي غايــة فــي الغنــى‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫فــي الغالــب‪ -‬عامــل اســتقطاب مهمــ ًا لألجانــب‪،‬‬ ‫ولكنــه يظــل مجهــو ًال لــدى مواطنــي هــذه البلــدان‪.‬‬ ‫وتمثــل الســياحة الداخليــة فرصــة لتثميــن هــذا‬ ‫الرصيــد‪ ،‬والتفكيــر أكثــر فــي تطويــر الســياحة‬ ‫تشــكل‬ ‫الثقافيــة والبيئيــة التــي يمكنهــا أن‬ ‫ّ‬ ‫ا لتحفيــز الحركــة‬ ‫مصــدرًا مهمــ ًا للدخــل‪ ،‬وعامــ ً‬ ‫االقتصاديــة فــي المناطــق المعنيــة‪.‬‬ ‫وقــد انتبــه العديــد مــن بلــدان العالــم العربــي لهــذا‬ ‫األمــر‪ ،‬كــون الحفــاظ علــى اإلرث الثقافــي وعلــى‬ ‫الرصيــد البيئــي هــو حفــاظ علــى حــق األجيــال‬ ‫القادمــة فــي الثــروات الحاليــة‪ ،‬أي علــى أحــد‬ ‫المبــادئ األساســية لمفهــوم التنميــة المســتدامة‪،‬‬ ‫فضمَنتــه فــي اســتراتيجياتها لتطويــر هــذا القطاع‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫كمــا هــو الشــأن فــي المغــرب والســعودية ومصــر‪،‬‬ ‫علــى ســبيل المثــال‪.‬‬

‫وتحدياتها‬ ‫معوقات السياحة الداخلية‬ ‫ّ‬ ‫بالرغــم مــن السياســات التــي تــم تبنيهــا فــي‬ ‫عــدد مــن البلــدان العربيــة للنهــوض بالقطــاع‬ ‫الســياحي‪ ،‬بمــا فــي ذلــك الســياحة الداخليــة‪ ،‬فــإن‬

‫هــذه األخيــرة تجــد نفســها فــي مواجهــة عدي ـٍد مــن‬ ‫اإلكراهــات والمعوقــات‪ ،‬يحتــاج تخطيهــا إلــى بــذل‬ ‫جهــود أكبــر وإلــى تعبئــة الفاعليــن المحلييــن‪:‬‬ ‫مســتثمرين ومســتهلكين للخدمــات الســياحية‪،‬‬ ‫وتحفيزهــم(‪.)4‬‬

‫‪ - 1‬الوجهات السياحية الدولية املنافسة‬

‫التحكــم فــي السياســات‬ ‫فــي ســياق معولــم يبــدو‬ ‫ّ‬ ‫الداخليــة للــدول وتحقيــق األهــداف المرتبطــة بهــا‬ ‫تدفــق المعلومــات‪،‬‬ ‫تحديـ ًا فــي َحـّد ذاتــه‪ .‬فقــد بــات ُّ‬ ‫الموجــه لتصرفــات‬ ‫بوتيــرة غيــر مســبوقة‪ ،‬هــو‬ ‫ّ‬ ‫النــاس وألذواقهــم ورغباتهــم واختياراتهــم فــي‬ ‫تلبيــة حاجياتهــم‪ ،‬بمــا فــي ذلــك أماكــن قضــاء‬ ‫إجازاتهــم‪ .‬وتبــدو بعــض الوجهــات الســياحية‬ ‫الدوليــة‪ ،‬القريبــة‪ -‬فــي الغالــب‪ -‬مثــل تركيــا‬ ‫وإســبانيا‪ ،‬أكثــر اجتذابــ ًا للســياح مــن جنســيات‬ ‫ـور‬ ‫عربيــة‪ .‬يســاهم فــي تغذيــة هــذه المنافســة تطـ ُّ‬ ‫تقنيــات التســويق واعتمادهــا علــى الوســائط‬ ‫اإلعالميــة الجديــدة الواســعة االســتهداف‪.‬‬

‫‪ - 2‬التركيز على األسواق األجنبية‪:‬‬

‫تــروج‬ ‫مــا ســبق ال يعنــي أن البلــدان العربيــة ال ّ‬ ‫لســياحتها‪ ،‬فهــي تنفــق مــن أجــل ذلــك ميزانيــات‬ ‫ضخمــة‪ ،‬لكــن جهودهــا‪ ،‬العتبــارات تتعلّــق‬ ‫بتنميــة أرصدتهــا مــن العملــة الصعبــة وبتحســين‬ ‫ــل األحــداث التــي تعرفهــا‬ ‫صورتهــا فــي ِظ ّ‬ ‫المنطقــة‪ ،‬موجهــة أكثــر لألســواق الســياحية‬ ‫األجنبيــة‪.‬‬ ‫تطــور الســياحة الداخليــة‬ ‫التوجــه يعيــق‬ ‫إن هــذا‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫فــي البلــدان العربيــة‪ ،‬ويحــّد مــن مســاهمتها‬ ‫بفعاليــة أكثــر فــي النمــو االقتصــادي‪ ،‬ويدفــع‬ ‫الســياح العــرب الختيــار وجهــات أجنبيــة‪ ،‬خاصــة‬ ‫أقــل فــي‬ ‫أن تكاليــف اإلقامــة والخدمــات تبــدو ّ‬ ‫الكثيــر مــن األحيــان‪.‬‬

‫‪ - 3‬ضعف مداخيل األسر‪:‬‬

‫تعيــش نســبة كبيــرة مــن الســكان فــي البلــدان‬ ‫العربيــة تحــت خــط الفقــر فــي حــدود ‪ 7.4‬فــي‬ ‫المئــة(‪ ،)5‬أي الذيــن يعيشــون بأقــل مــن ‪1.25‬‬ ‫دوالر فــي اليــوم‪ ،‬تضــاف إلــى ذلــك نســبة أكبــر‬ ‫مــن ذوي الدخــل الضعيــف‪ ،‬فــوق هــذه العتبــة‪،‬‬ ‫أو الدخــل المتوســط المرهقيــن بأعبــاء المتطلبــات‬ ‫اليوميــة‪ .‬هــؤالء‪ ،‬الذيــن تغيــب لديهــم‪ -‬فــي‬ ‫الغالــب‪ -‬ثقافــة العطلــة واالســتجمام‪ ،‬لــن يكــون‬ ‫بإمكانهــم تنشــيط الســياحة الداخليــة‪ ،‬فتبــرز‬ ‫بنــاء علــى ذلــك الحاجــة إلــى رؤيــة قائمــة علــى‬ ‫مرتكزيــن أساســيين مرتبــط كل منهمــا باآلخــر‬ ‫أشــد االرتبــاط‪ ،‬أولهمــا توفيــر فــرص تنميــة دخــل‬ ‫هــذه الفئــات‪ ،‬وثانيهمــا التفكيــر فــي عــروض‬

‫ســياحية تناســب وضعيتهــم‪.‬‬

‫‪ - 4‬عدم تثمني الرصيد احلضاري والطبيعي‬

‫قــد يكــون هــذا انطباعــ ًا خاصــاً‪ ،‬غيــر مؤســس‬ ‫علــى معطيــات موضوعيــة‪ ،‬لكــن المالحــظ‬ ‫أن هنــاك ضعفــ ًا فــي الوعــي العــام باألهميــة‬ ‫االقتصاديــة للمعالــم الحضاريــة وللمؤهــات‬ ‫الطبيعيــة التــي تتوافــر عليهــا البلــدان العربيــة‪.‬‬ ‫وقــد يعكــس ذلــك‪ ،‬بشــكل غيــر مباشــر‪ ،‬النقــص‬ ‫فــي عــدد المتاحــف‪ ،‬وضعــف االهتمــام بالمجــال‬ ‫البيئــي وعــدم القــدرة علــى إبــداع األفــكار‪،‬‬ ‫األقــل‪ ،‬للنهــوض بالــدور‬ ‫أو اقتباســها علــى‬ ‫ّ‬ ‫االقتصــادي الممكــن لهــذا الرصيــد‪ .‬ولهــذا ارتبــاط‬ ‫بعوامــل أخــرى مــن بينهــا التعليــم واإلعــام‪.‬‬ ‫وختامــ ًا يمكــن القــول إن بلــدان العالــم العربــي‬ ‫تتوافــر علــى كل الظــروف المســاعدة إلعطــاء‬ ‫مفهــوم الســياحة الداخليــة بعــدًا إقليميــاً‪ ،‬ســواء‬ ‫مــن ناحيــة األمــوال التــي يمكــن اســتثمارها فــي‬ ‫المجــاالت المرتبطــة بالســياحة أم مــن ناحيــة‬ ‫ســوق االســتهالك‪ ،‬وذلــك فــي إطــار التكامــل‬ ‫االقتصــادي الــذي بقــي مجــرد فكــرة فــي عالــم‬ ‫يتجــه أكثــر فأكثــر نحــو بنــاء تكتــات اقتصاديــة‪.‬‬ ‫ألجــل ذلــك تحتــاج هــذه البلــدان إلــى إرادة وإلــى‬ ‫رؤيــة مشــتركة فــي المجــال الســياحي لتجــاوز‬ ‫حــاالت المــّد والجــزر التــي تميــز األســواق‬ ‫الغربيــة واألســواق اآلســيوية‪ ،‬والتــي تؤثــر علــى‬ ‫مردوديــة القطــاع وعلــى الحركــة االقتصاديــة‬ ‫بشــكل عــام وتنطــوي علــى آثــار ســيئة أكيــدة‬ ‫علــى اســتراتيجيات التنميــة فــي المنطقــة‪.‬‬

‫المرهقون‬ ‫بأعباء‬ ‫المتطلبات‬ ‫اليومية‪..‬‬ ‫هؤالء‪ ،‬الذين‬ ‫تغيب لديهم‬ ‫في الغالب‬ ‫ثقافة العطلة‬ ‫واالستجمام‪،‬‬ ‫لن يكون‬ ‫بإمكانهم‬ ‫تنشيط‬ ‫السياحة‬ ‫الداخلية‬

‫هوامش‪:‬‬ ‫‪ )1‬ينظــر‪ -‬علــى ســبيل المثــال‪ -‬البحــث الــذي َأعــّده‪ ،‬باللغــة‬ ‫الفرنســية‪ ،‬محمــد بريــان‪ ،‬لنيــل شــهادة الدكتــوراه ســنة ‪1989‬‬ ‫تحــت عنــوان «الســياحة الوطنيــة والهجــرة الترفيهيــة بالمغــرب»‪.‬‬ ‫‪ )2‬تشــير أرقــام نســبت إلــى المنظمــة العربيــة للســياحة إلــى أن‬ ‫االســتثمارات العربيــة فــي القطــاع الســياحي بلغــت ســنة ‪2013‬‬ ‫نحــو ‪ 55‬مليــار دوالر‪.‬‬ ‫‪ )3‬يمكــن االطــاع علــى تطـّـور اإليــرادات الســنوية مــن الســياحة‪،‬‬

‫فــي الفتــرة بيــن ‪ 2010‬و ‪ ،2013‬علــى موقــع البنــك الدولــي‪.‬‬

‫‪ )4‬فــي ســنة ‪ 2012‬أطلــق المغــرب‪ ،‬فــي إطــار شــراكة بيــن‬ ‫مختلــف المتدخليــن العمومييــن والخــواص‪ ،‬برنامــج «كنــوز‬ ‫بــادي» لتنميــة الســياحة الداخليــة‪ ،‬لــم تتوافــر معطيــات‬ ‫بخصــوص حصيلتــه بعــد مــرور ثــاث ســنوات‪.‬‬ ‫الموحــد لســنة ‪ ،2014‬ينظــر‬ ‫‪ )5‬التقريــر االقتصــادي العربــي‬ ‫َّ‬ ‫الفصــل الثانــي المتعّلــق بـ«التطــورات االقتصاديــة واالجتماعية»‪،‬‬ ‫وتعــود األرقــام المقّدمــة فــي هــذه الوثيقــة إلــى العــام ‪.2012‬‬

‫‪55‬‬

‫العمارة بصفتها‬ ‫«موقع ًا» سياحي ًا‬ ‫د‪.‬خالد السلطاين*‬ ‫يتمظهــر وجــود العمــارة و«كينونتهــا»‪ ،‬وفــق‬ ‫مســتويات عديــدة ومختلفــة‪ .‬فهــي بحضورهــا‬ ‫تبلــغ «رســائل»‬ ‫المــادي الملمــوس‪ ،‬يمكــن لهــا أن‬ ‫ّ‬ ‫متنوعــة إلــى المتلقــي‪ .‬فهــي «وظيفيــة»‬ ‫ّ‬ ‫و«تعبيريــة» و«عضويــة» مــن حيــث طبيعــة‬ ‫األشــغال‪ ،‬و«جميلــة» أو «بشــعة» مــن ناحيــة‬ ‫و«كالســيكية»‪،‬‬ ‫اإلســتطيقية‪،‬‬ ‫التقييمــات‬ ‫و«حداثيــة» و«مــا بعــد حداثيــة»‪ ،‬وفقــ ًا للتعاقــب‬ ‫األســلوبي‪ .‬كمــا أن وجودهــا فــي المــكان‪ ،‬يجعلهــا‬ ‫أداة للمعرفــة وللثقافــة و‪« ..‬للســياحة» أيضــاً‪.‬‬ ‫وهــي بهــذا التنويــع الماثــل‪ ،‬تعيــد صدقيــة‬ ‫أطروحــة الفالســفة القائلــة بـ«الطبيعــة الثانيــة‬ ‫لألشــياء»! بمعنــى أن أي شــيء يمكــن أن يخفــي‬ ‫الجوانــي‪ ،‬إضافــة إلــى طبيعتــه‬ ‫فــي وجــوده‬ ‫ّ‬ ‫األساســية واألصليــة‪ ،‬التــي بهــا تتجســد شــرعية‬ ‫كينونتــه‪ ،‬طبائــع أخــرى‪ ،‬يمكــن لهــا أن تكــون‪-‬‬ ‫وبالتــوازي‪ -‬جــزءًا مــن تلــك الطبيعــة‪.‬‬ ‫وإذا اقتصرنــا علــى مفهــوم العمــارة بصفتهــا‬ ‫«موقعــاً» ســياحياً‪ ،‬وهــو موضــوع حديثنــا هــذا‪،‬‬ ‫فســنجد «تناقضـاً» معرفيـ ًا فــي العنــوان المصطفــى‪.‬‬ ‫صحيــح أن للعمــارة «طبائــع ثانيــة» عديــدة‬ ‫بصفتهــا أداة للســياحة الثقافيــة‪ ،‬التــي هــي إحــدى‬ ‫تنويعــات «الســياحات» المعاصــرة‪ ،‬التــي يتبناهــا‬ ‫ذلــك المفهــوم‪ ،‬لكــن االلتــزام بالمصطلحــات‪،‬‬ ‫واالنصيــاع لتحديــدات رموزهــا‪ ،‬ال يتفقــان مــع‬ ‫ســياق تــرادف الكلمــات فــي العنــوان‪ .‬بمعنــى‬ ‫آخــر‪ :‬قــد تكــون «العمــارة» موقع ـ ًا جاذب ـ ًا وجذاب ـاً‪،‬‬ ‫وحتــى‪ ..‬ســياحياً‪ ،‬انطالقــ ًا مــن «طبيعتهــا‬ ‫الثانيــة»‪ ،‬لكنهــا‪ ،‬ووفــق اشــتراطات أخــرى‪ ،‬ال‬ ‫يمكــن أن تكــون كذلــك! فمفهــوم «الســياحة» الــذي‬ ‫حّددتــه (منظمــة الســياحة العالميــة) التابعــة‬ ‫لهيئــة األمــم المتحــدة‪ ،‬يشــير إلــى أن الســياحة‬ ‫‪56‬‬

‫التطبــب أو‬ ‫«نشــاط الســفر‪ ،‬بهــدف الترفيــه أو‬ ‫ُّ‬ ‫االكتشــاف‪ ،‬وتوفيــر الخدمــات المتعلّقــة بهــذا‬ ‫عــرف المنظمــة نفســها‪ :‬الســائح‬ ‫النشــاط»‪ ،‬كمــا ُت ّ‬ ‫بأنــه «‪..‬ذلــك الشــخص الــذي يقــوم باالنتقــال‬ ‫لغــرض الســياحة لمســافة ثمانيــن كيلــو متــرًا علــى‬ ‫األقــل مــن منزلــه»‪ .‬فــي هــذا التحديــد‪ ،‬ال يمكــن‬ ‫ّ‬ ‫أن تكــون «العمــارة»‪ ،‬أيــة عمــارة‪ :‬مميــزة أم غيــر‬ ‫ــكنة جميــع المــدن‬ ‫مميــزة‪« ،‬موقعــاً» ســياحي ًا ِل َس َ‬ ‫وضواحيهــا‪ ،‬التــي تنهــض بهــا تلــك النمــاذج‬ ‫المعماريــة‪ ،‬ذلــك ألن شــرط التحديــد‪ ،‬يفتــرض‬ ‫حضــور «الســفر»‪ ،‬وقرينــة وجــود «المســافة»‪،‬‬ ‫ـل عــن ثمانيــن كيلومتــراً‪ ،‬وهمــا أمــران ال‬ ‫التــي ال تقـ ّ‬ ‫يمكــن الوفــاء بهمــا ِل َسـ َـكنة تلــك المــدن وضواحيهــا‪،‬‬ ‫ألنهمــا يقيمــان بتلــك المــدن والضواحــي‪ .‬لكــن‬ ‫ذلــك‪ ،‬بالطبــع‪ ،‬لــم يكــن عائقــ ًا فــي اســتمرار‬ ‫تبنّــي وجــود العمــارة‪ ،‬كحــدث ثقافــي بامتيــاز‪،‬‬ ‫يرتقــي ألن يكــون حدثــ ًا ســياحياً‪ ..‬أيضــاً‪،‬‬ ‫بمراعــاة مفهــوم «الســياحة»‪ ،‬والتقيــد بمصطلــح‬ ‫«الســائح»! فالعمــارة المميــزة‪ ،‬والفريــدة‪ ،‬العمــارة‬ ‫«األيقونيــة» والمشــهدية‪ ،‬مــا انفكــت تثيــر اهتمــام‬ ‫ــكنة المــدن التــي تقــع فيهــا تلــك العمــارة لجهــة‬ ‫َس َ‬ ‫قيمتهــا الثقافيــة والحضريــة‪ ،‬وبوصفهــا مفخــرة‬ ‫لهــم وموضــع اعتزازهــم بمدينتهــم وبمعالمهــا‬ ‫وأحداثهــا‪ .‬وبالنســبة إلــى اآلخريــن‪ ،‬و«الســياح»‬ ‫ضمنهــم‪ ،‬يمكــن أن تكــون تلــك العمــارة مثــار‬ ‫فضولهــم وعنايتهــم ومــادة لحــب اســتطالعهم‪،‬‬ ‫لناحيــة فــرادة التصميــم وحســن العمــارة وأهميتهــا‬ ‫المكانيــة‪ .‬أي أن ثمــة «طباقــاً» ‪Counterpoint‬‬ ‫مفاهيميــاً‪ ،‬يندمــج فــي «كيــان» تلــك الكلمــة‪،‬‬ ‫بمقــدوره أن يــرد االعتبــار للعمــارة‪ ...‬بوصفهــا‬ ‫موقعــ ًا ســياحياً‪.‬‬ ‫لقــد ذكرنــا‪ ،‬للتــو‪ ،‬أن «الســياحات» التــي يشــير‬

‫متحف غوغنهايم‪ ،‬المعمار‪ :‬فرنك غيري‪ ،)1997( ،‬بيلباو‪ -‬إسبانيا‬ ‫متحف غوغنهايم‪ ،‬المعمار‪:‬‬ ‫فرنك غيري‪،)1997( ،‬‬ ‫بيلباو‪ -‬إسبانيا‪ ،‬تفصيل‪.‬‬

‫امبايــر ســتيت بيلدينــغ‪ ،‬المعمــار‪ :‬شــربو‪ ،‬المــب وهارمــن‪- 1929( ،‬‬ ‫‪ ،)1931‬نيويــورك‪ -‬الواليــات المتحــدة‪ ،‬أثنــاء أعمــال التشــييد‪.‬‬

‫ومتنوعــة‪.‬‬ ‫إليهــا (مصطلــح الســياحة)‪ ،‬كثيــرة‬ ‫ّ‬ ‫منهــا الســياحة الترفيهيــة‪ ،‬والســياحة الدينيــة‪،‬‬ ‫والســياحة الشــاطئية‪ ،‬والســياحة البيئيــة‪،‬‬ ‫والســياحة الرياضيــة‪ ،‬وثمــة ســياحة للمغامــرات‪،‬‬ ‫مثلمــا هنــاك ســياحة للتأمــل‪ .‬وطبعــ ًا هنــاك‬ ‫الســياحة الثقافيــة‪ ،‬التــي يكــون الباعــث األساســي‬ ‫لهــا (الثقافــة) بــكل تجلياتهــا‪ .‬وهــي معنيــة بزيــارة‬ ‫المواقــع األثريــة والمعالــم التاريخيــة وغيــر‬ ‫التاريخيــة‪ ،‬واالطــاع علــى المتاحــف‪ ،‬والتعــرف‬ ‫إلــى الصناعــات والمشــغوالت التقليديــة‪ ،‬أو أي‬

‫شــكل مــن أشــكال التعبيــر الفنــي‪ .‬كمــا يشــمل هــذا‬ ‫النــوع مــن الســياحة‪ ،‬حضــور وزيــارة الفعاليــات‬ ‫الثقافيــة مثــل المعــارض أو المهرجانات الموســيقية‬ ‫أو المســرحية والغنائيــة وغيرهــا مــن الفعاليــات‬ ‫التــي تدخــل فيمــا يعــرف بالنشــاط الثقافــي‪ .‬وبحكم‬ ‫اقتــران هــذه الســياحة بالثقافــة بمنتجهــا اإلبداعــي‪،‬‬ ‫المتكــرر‪ ،‬أو‬ ‫«المقــوم الســياحي غيــر‬ ‫تظــل‬ ‫فإنهــا‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫المتشــابه أو القابــل للمنافســة»‪ .‬وهنــا تحديــداً‪ ،‬فــي‬ ‫مجــال الســياحة الثقافيــة‪ ،‬يمكــن للعمــارة أن تكــون‬ ‫أداة مهمــة وأساســية فــي تفعيــل هــذا النــوع مــن‬

‫‪57‬‬

‫محطــة إطفــاء الحريــق‪ ،‬المعمــار‪ :‬زهــاء حديــد‬ ‫(‪ ،)1993 - 1991‬فايــل آم رايــن ‪ -‬ألمانيــا‪.‬‬

‫ال تقتصر شهرة‬ ‫عمارة المباني‬ ‫سياحي ًا‪ ،‬على‬ ‫تلك المشيدة‬ ‫سابق ًا لوحدها‪.‬‬ ‫ثمة عمائر‬ ‫لمبان حداثية‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫يمكن لها أن‬ ‫تنافس سياحي ًا‬ ‫مواقع المباني‬ ‫القديمة‬

‫‪58‬‬

‫الفعاليــة الســياحية وتنشــيطها‪.‬‬ ‫فالمنجــز المعمــاري والعمرانــي‪ ،‬بمــا ينطويــان‬ ‫عليــه مــن خصائــص مثيــرة لالهتمــام‪ ،‬أو نــادرة‬ ‫فــي مجالهــا‪ ،‬أو المقترنــة بأحــداث معينــة موحيــة‬ ‫بــدالالت رمزيــة‪ ،‬أو مصممــة مــن قبــل معمارييــن‬ ‫لهــم مقاربتهــم وإنجازاتهــم المميــزة‪ ،‬يمكــن أن‬ ‫يكــون كل ذلــك وقائــع «لمواقــع» ســياحية جاذبــة‬ ‫للكثيــر مــن المهتميــن وغيرهــم‪ ،‬ممــن يــودون‬ ‫زيــادة معارفهــم وثقافاتهــم عــن المنجــز المعمــاري‬ ‫مصممــة حديثـاً‪ ،‬أو‬ ‫ـان معينــة‪،‬‬ ‫والعمرانــي‪ .‬ثمــة مبـ ٍ‬ ‫َّ‬ ‫ذات طابــع تاريخــي ال يــزال حضورهــا المكانــي‪،‬‬ ‫بمثابــة مواقــع أثيــرة فــي المــدن التــي ُشـّـيدت بهــا‪.‬‬ ‫كمــا أن الخطــط العمرانيــة المهتمــة فــي تأشــير‬ ‫عبــر والفريــد‪،‬‬ ‫الم ّ‬ ‫المســالك والمســارات ذات الطابــع ُ‬ ‫والمهمــة تاريخيــاً‪ ،‬هــي األخــرى تســترعي انتبــاه‬ ‫كثــر مــن الســياح‪ .‬فالكثيــر منهــم معنــي بإعــادة‬ ‫تقاليــد تلــك المســارات‪ ،‬ولكــن بمنتــج جديــد يليــق‬ ‫باشــتراطات الســياحة المعاصــرة وبخدمــات‬ ‫يفتــرض الســائح وجودهــا فــي تلــك األمكنــة‪ ،‬التــي‬ ‫تســهم فــي تحقيــق رغباتــه الســياحية‪ ،‬والقيــام‬ ‫بتحقيــق جوالتــه الجماعيــة والفرديــة بنــوع مــن‬ ‫المتعــة‪.‬‬ ‫تســترعي العمــارة اهتمــام كثيــر مــن المشــاهدين‪،‬‬ ‫ويــزداد ذلــك االهتمــام عندمــا تكــون تلــك العمــارة‬

‫منطويــة علــى خصائــص معينــة ذات قيــم مثيــرة‪.‬‬ ‫وهــذه اإلثــارة قــد تكــون ببواعــث مختلفــة‪ ،‬إذ قــد‬ ‫تكــون بســبب شــهرة معمارهــا‪ ،‬أو بدافــع أهميــة‬ ‫مقاربتهــا التصميميــة‪ ،‬أو بقصــد مــا تنطــوي عليــه‬ ‫مــن ســمات تصميميــة ُمح ـّددة‪ ،‬أو بســبب اســتخدام‬ ‫مــواد بنائيــة أو أســاليب إنشــائية غيــر عاديــة‪.‬‬ ‫كمــا أن باعــث تلــك الشــهرة يمكــن أن يكــون أيضــ ًا‬ ‫لقيمــة العمــارة تاريخي ـاً‪ ،‬أو لمكانتهــا الحضريــة أو‬ ‫لخصوصيــة موقعهــا المكانــي‪ .‬وتــزداد‪ ،‬بالطبــع‪،‬‬ ‫عنايــة المشــاهدين‪ ،‬و(الســياح ضمنهــم)‪ ،‬بتلــك‬ ‫العمائــر‪ ،‬فيمــا إذا انطــوت إحداهــا علــى أكثــر مــن‬ ‫ســمة‪ ،‬التــي تجعــل مــن تلــك العمــارة‪ ،‬مثيــرة‬ ‫لالهتمــام وتحظــى برعايــة شــعبية عاليــة‪،‬‬ ‫ويكــون موقعهــا فــي هــذه الحالــة‪ ،‬موقع ـ ًا ســياحي ًا‬ ‫ــم مــزارًا للكثيــر مــن الســياح‪.‬‬ ‫بامتيــاز‪ ،‬ومــن َث ّ‬ ‫فعلــى ســبيل المثــال‪ ،‬قــد ال تكــون نوعيــة عمــارة‬ ‫مبنــى «امبايــر ســتيت بيلدينــغ‪Empire State ،‬‬ ‫‪ Building‬الشــهير‪ ،‬الواقــع فــي الجــادة الخامســة‬ ‫بنيويــورك‪ ،‬ذات أهميــة معماريــة كبيــرة‪ ،‬فلغــة‬ ‫المبنــى التصميميــة‪ ،‬وفــق رأي كثــر مــن النقــاد‪،‬‬ ‫متواضعــة‪ ،‬كمــا أنهــا ليســت األفضــل فــي نمــاذج‬ ‫مقاربتــه المعماريــة التــي تعــرف بـــ«األرت ديكــو»‪.‬‬ ‫لكــن ارتفاعــه العالــي ُعــّد‪ ،‬وقتهــا‪ ،‬ارتفاعــ ًا‬ ‫«أســطورياً»‪ ،‬وصــل إلــى ‪ 443‬متــرًا (ضمنهــا‬ ‫وظــل‬ ‫ســارية التلفــاز)‪ ،‬متكونــ ًا مــن ‪ 102‬طابــق‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫محتفظــ ًا بلقــب «أعلــى مبنــى فــي العالــم» لمــدة‬ ‫قصــر مــدة تنفيــذه‪،‬‬ ‫اســتمرت أربعيــن ســنة‪ .‬كمــا أن َ‬ ‫فقــط (مــن ‪ 17‬مــارس‪/‬‬ ‫التــي اســتمرت ســنتين‬ ‫َ‬ ‫آذار ‪ ،1929‬إلــى ‪ 18‬إبريل‪/‬نيســان ‪،)1931‬‬ ‫وذلــك باســتخدام ألــواح وعناصــر ذات أبعــاد‬ ‫مقيســة‪ ،‬كانــت مــن ضمــن أســباب شــهرته وصيتــه‬ ‫ّ‬ ‫الواســعين‪ ،‬بحيــث يــزوره حوالــي ‪ 3.8‬مليــون‬ ‫زائــر ســنوباً‪ .‬وال تقــل ســمعة ومكانتــه مبنــى‬ ‫آخــر وهــو «بــرج إيفــل» بباريــس‪ ،‬عــن نظائــره‬ ‫مــن المبانــي المشــهورة ســياحياً‪ .‬وفــد أنشــئ‬ ‫البــرج بمناســبة تنظيــم معــرض باريــس الدولــي‬ ‫ســنة ‪ ،1889‬التــي صادفــت‪ ،‬فــي حينهــا‪ ،‬مــرور‬ ‫مئــة عــام علــى الثــورة الفرنســية‪ .‬وقــد وصــل‬ ‫وعــّد‪ ،‬لذلــك‪ ،‬مــن‬ ‫ارتفاعــه إلــى نحــو ‪ 300‬متــر‪ُ ،‬‬ ‫وظــل محافظــ ًا علــى‬ ‫أعلــى مبانــي العالــم وقتهــا‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ســجله القياســي العالــي إلــى حيــن بنــاء «كرايســلر‬ ‫بيلدينــغ» فــي نيويــورك ســنة ‪ .1930‬ويســتقطب‬ ‫البــرج المعدنــي كثيــرًا مــن الســياح‪ ،‬بلــغ عددهــم‬ ‫وفقـ ًا إلحصــاءات موثقــة‪ ،‬مــن فتــرة إنشــائه وحتــى‬ ‫الوقــت الحاضــر‪ ،‬حوالــي ‪ 250‬مليــون زائــر‪ ،‬وفــي‬ ‫عــام ‪ 2012‬وحــده بلــغ عــدد الســياح الذيــن زاروا‬

‫ويعـّد البــرج مــن‬ ‫البــرج حوالــي ‪ 6.180.000‬زائــر‪ُ ،‬‬ ‫أكثــر المبانــي التــي تتــم زيارتهــا بتذاكــر فــي العالم‪.‬‬ ‫ال تقتصــر شــهرة عمــارة المبانــي ســياحياً‪،‬‬ ‫لمبــان‬ ‫علــى تلــك المشــيدة ســابقاً‪ ،‬ثمــة عمائــر‬ ‫ٍ‬ ‫حداثيــة‪ ،‬وحتى‪«..‬مــا بعــد حداثيــة»‪ ،‬يمكــن لهــا‬ ‫أن تنافــس ســياحي ًا مواقــع المبانــي القديمــة‪.‬‬ ‫ولعــل عمــارة «متحــف غوغنهايــم» فــي بيلبــاو‬ ‫ّ‬ ‫بإقليــم الباســك فــي إســبانيا‪ ،‬الــذي افتتــح مبنــاه‬ ‫فــي ‪ 18‬أكتوبــر ‪ ،1997‬لمصممــه «فرنــك غيــري»‬ ‫‪ ،Frank Gehry‬يمكــن أن يكــون مثــا ًال للمبانــي‬ ‫التــي تــزار لجهــة التعــرف علــى عمارتهــا لذاتهــا‬ ‫أكثــر بكثيــر مــن رؤيــة كنوزهــا الفنيــة التــي‬ ‫تحتويهــا قاعــات المتحــف! فاللغــة المعماريــة التــي‬ ‫اصطفاهــا «غيــري» تعتمــد بمرجعيتهــا التصميميــة‬ ‫علــى المقاربــة «التفكيكيــة»‪ ،‬وهــي مقاربــة مــا بعــد‬ ‫حداثيــة ظهــرت فــي الخطــاب المعمــاري العالمي في‬ ‫التســعينيات‪ .‬وفــي عمــارة هــذا المبنــى المدهشــة‬ ‫غيــر المعمــار قيــم الذائقــة‬ ‫وغيــر المســبوقة‪ُ ،‬ي ّ‬ ‫الجماليــة المعتــادة‪ ،‬ويســتعيض عنهــا بأخــرى‪،‬‬ ‫لــم تكــن معروفــة‪ ،‬أو حتــى مقبولــة مــن ِقَبـ ِ‬ ‫ـل كثــر‪،‬‬ ‫لكنــه اســتطاع أن يخلــق لنــا عمــارة‪ُ ،‬ع ـّدت بمثابــة‬ ‫لحظــة مهمــة فــي الثقافــة المعماريــة‪ .‬وقــد بلــغ عــدد‬ ‫زوار المتحــف رقمــ ًا قياســياً‪ ،‬إذ بلــغ ‪1.011.363‬‬ ‫زائــرًا فــي عــام ‪ ،2014‬معظمهــم مــن األجانــب‬ ‫(حوالــي ‪ % 64‬مــن عــدد زواره)‪ ،‬بزيــادة اكثــر مــن‬ ‫‪ % 8.6‬علــى عــدد زوار المتحــف لســنة ‪ .2013‬وكل‬ ‫ذلــك حصــل بفضــل تلــك العمــارة المذهلــة والمثيــرة‬ ‫مشــهدياً‪.‬‬ ‫وتثيــر مواقــع عمــارة «زهــاء حديــد» المعمــارة‬ ‫العالميــة ذات األصــول العراقيــة‪ ،‬اهتمامــ ًا كبيــرًا‬ ‫لــدى كثــر مــن النــاس‪ ،‬الذيــن يتطلعــون لزيــارة‬ ‫تلــك المواقــع ورؤيــة تلــك العمــارة غيــر العاديــة‬ ‫موقعيــاً‪ ،‬رغــم أن وظيفــة تلــك العمــارة أحيانــاً‪،‬‬ ‫قــد ال تهــم ســياح ًا كثيريــن‪ ،‬لكنهــم حريصــون علــى‬ ‫التمتــع بزيــارة تلــك العمــارة الفريــدة ومشــاهدتها‪.‬‬ ‫فعلــى ســبيل المثــال‪ُ ،‬اعتبــر المبنــى المتواضــع‬ ‫شــيد عــام ‪ ،1993‬فــي «فايــل آم‬ ‫والم ّ‬ ‫وظيفيــاً‪ُ ،‬‬ ‫رايــن‪ »Weil am Rhein ،‬بألمانيــا‪ ،‬والخــاص‬ ‫بمحطــة «إطفــاء الحريــق» مــزارًا ســياحياً‪،‬‬ ‫وموقعــ ًا أثيــراً‪ ،‬فقــط لكــون المبنــى مصممــ ًا مــن‬ ‫قبــل المعمــارة زهــاء‪ ،‬عمارتــه التــي ال نظيــر لهــا‪،‬‬ ‫تســتهوي أنظــار ســياح كثيريــن‪ ،‬يرغبــون التمتــع‬ ‫لرؤيــة موقــع العمــارة المثيــرة‪ ،‬بزيــارة تلــك‬ ‫المدينــة الصغيــرة الواقعــة فــي أقصــى الجنــوب‬ ‫الغربــي للبــاد‪.‬‬ ‫فــي الغالــب‪ ،‬تمثــل مواقــع العمــارة القديمــة‪ ،‬فــي‬

‫منطقتنــا بالشــرق األوســط‪ ،‬أمكنــة جــذب ســياحي‪،‬‬ ‫مــن قبــل ســياح محلييــن وأجانــب‪ .‬فمنطقتنــا الغنية‬ ‫المتنوعــة والفــذة‪،‬‬ ‫بآثارهــا ونماذجهــا المعماريــة‬ ‫ّ‬ ‫اســتقطبت الحركــة الســياحية العالميــة وحظيــت‬ ‫باهتمامهــا‪.‬‬ ‫وتعــّد منطقــة أهرامــات الجيــزة بالقــرب مــن‬ ‫ُ‬ ‫القاهــرة فــي مصــر‪ ،‬مــن المواقــع الســياحية‬ ‫المعروفــة والشــهيرة عالميــاً‪ .‬وفيهــا تحضــر‬ ‫العمــارة‪ :‬عمــارة األهرامــات كأحــد العناصــر‬ ‫وتعــّد عمــارة‬ ‫األساســية فــي هــذا الموقــع‪ُ .‬‬ ‫هــرم خوفــو المبنــي مــا بيــن (ســنة ‪ 2560‬ق‪.‬م‬ ‫‪ -2540‬ق‪ .‬م)‪ ،‬مــن أكثــر العمائــر المثيــرة للجــدل‬ ‫والنقــاش‪ ،‬لجهــة أســلوب وطريقــة بنــاء الهــرم‬ ‫وأبعــاده الضخمــة‪ ،‬الــذي ُعــّد مــن عجائــب الدنيــا‬ ‫الســبع‪ .‬فأبعــاده القياســية التــي وصــل ارتفاعــه‬ ‫بنحــو ‪ 146.5‬متــر (يصــل ارتفاعــه بالوقــت‬ ‫الحاضــر إلــى ‪ 138.8‬م بســبب التــآكل)‪ ،‬فــي حيــن‬ ‫وصــل طــول ضلــع القاعــدة المربعــة لــه ‪230.4‬‬ ‫متــر‪ .‬وقــد ُق ـّد َر وزن كتلــة الهــرم بـــنحو ‪ 5.9‬مليــون‬ ‫طــن‪ ،‬ممــا أثــار حولــه كثيــرًا مــن الرويــات‪ ،‬وحتــى‬ ‫األســاطير‪ ،‬عــن كيفيــة بنائــه وطــرق تنفيــذه‪ .‬وقــد‬ ‫ــل الهــرم األكبــر‪ ،‬أعلــى مبنــى فــي العالــم طيلــة‬ ‫َظ ّ‬ ‫‪ 3.800‬ســنة! ولــكل تلــك الخصائــص التــي تتســم‬ ‫بهــا منطقــة األهرامــات‪ ،‬فإنهــا ُتع ـّد موقع ـ ًا ســياحي ًا‬ ‫جاذبــ ًا ومثيــراً‪ ،‬يــزوره عــدد كبيــر مــن الســياح‬ ‫المحلييــن واألجانــب ســنوياً‪.‬‬ ‫تنوعــت المواقــع الســياحية فــي منطقتنــا‪،‬‬ ‫لقــد ّ‬ ‫فــرد إلــى العمــارة‪،‬‬ ‫فــي الوقــت الحاضــر‪ ،‬وُأ ِ‬ ‫دور مهــم وأساســي فــي الترويــج الســياحي‪.‬‬ ‫وفــي هــذا المجــال ُتعــّد المبانــي المعاصــرة‪،‬‬ ‫ُمتعــّددة الوظائــف‪ ،‬والمشــيدة حديثــاً‪ ،‬جــزءًا مــن‬ ‫الســياحة الثقافيــة المرتبطــة بالمعمــار‪ .‬وربمــا‬ ‫كان «بــرج خليفــة» فــي دبــي‪ ،‬والمصمــم مــن ِقَب ِ‬ ‫ــل‬ ‫مكتــب «ســوم» ‪ ،SOM‬الــذي َبــدَأ تشــييده فــي‪21‬‬ ‫ســبتمبر‪/‬أيلول ‪ ،2004‬وتــم افتتاحــه‪ ،‬رســمياً‪،‬‬ ‫فــي ‪ 4‬يناير‪/‬كانــون الثانــي ‪ ،2010‬وهــو البــرج‬ ‫األعلــى فــي العالــم اليــوم‪ ،‬إذ يبلــغ ارتفاعــه ‪828‬‬ ‫متــرًا ويضــم ‪ 180‬طابقــاً‪ ،‬كمــا ُي َعــّد‪ ،‬بخصائصــه‬ ‫المتنوعــة‪ ،‬معلمــ ًا‬ ‫المميــزة ذات األرقــام القياســية‬ ‫ّ‬ ‫حضاريــ ًا لمدينــة دبــي فــي اإلمــارات‪ ،‬وهــو‪،‬‬ ‫أيضـاً‪ ،‬وبســبب فــرادة عمارتــه المميــزة‪« ،‬أيقونــة»‬ ‫وتتوســع‪،‬‬ ‫بصريــة للمدينــة التــي تتجــّدد دومــ ًا‬ ‫ّ‬ ‫جاذبــة نحوهــا أنظــار‬ ‫و«كموقــع» ســياحي فيهــا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫الســياح العديديــن مــن مختلــف أنحــاء العالــم‪.‬‬

‫بحكم اقتران‬ ‫هذه السياحة‬ ‫مع الثقافة‬ ‫والعمارة‬ ‫ّ‬ ‫تظل‬ ‫فإنها‬ ‫تعتبر المق ّوم‬ ‫السياحي‬ ‫غير المتكرّر‪،‬‬ ‫أو المتشابه‬ ‫أو القابل‬ ‫للمنافسة‬

‫‪59‬‬

‫ب‬ ‫سياحة حرب ُ‬ ‫وح ّ‬ ‫منذر بدر حلوم‬

‫فيمــا انكفــأ الســياح الغربيــون عــن الســياحة إلــى‬ ‫مصــر مــع انــدالع الميــدان الــذي أطــاح بمبــارك‪،‬‬ ‫ـردد إلــى‬ ‫وقـ ّ‬ ‫ـل معهــم عــدد الــروس الذيــن َأِلُفــوا التـ ّ‬ ‫منتجعــات الغردقــة وشــرم الشــيخ وغيرهمــا‪،‬‬ ‫اســتغل بعــض الحماســيين فرصــة الميــدان‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وحاولــوا تنظيــم ســياحة إليــه‪ ،‬وراحــت الصحــف‬ ‫الروســية تتباهــى بجــرأة مواطنيهــا وحــب‬ ‫المغامــرة لديهــم‪ ،‬ذلــك قبــل أن يصبــح الميــدان‬ ‫مميتــاً‪.‬‬ ‫وعلــى الرغــم مــن تدهــور الســياحة باالتجاهيــن‪،‬‬ ‫العربيــة إلــى أوروبــا واألوروبيــة إلــى بــاد‬ ‫العــرب‪ ،‬نتيجــة صعوبــة حصــول العربــي علــى‬ ‫ظــل لجــوء أعــداد كبيــرة مــن بلــدان‬ ‫تأشــيرة فــي ّ‬ ‫الربيــع العربــي إلــى العالــم والبلــدان األوروبيــة‬ ‫بالدرجــة األولــى‪ ،‬وتراجــع مجــيء الســياح‬ ‫مــن أوروبــا إلــى الــدول التــي شــملها (الربيــع)‬ ‫خوفــ ًا مــن إرهــاب علــى األرجــح لــن يكــون‬ ‫آخــره عمليــة سوســة المجرمــة فــي تونــس بعــد‬ ‫عمليــة بــاردو‪ ،‬وهمــا عمليتــان اســتهدفتا قطــاع‬ ‫الســياحة بالــذات‪ ،‬فثمــة فــارق بيــن بلــد عربــي‬ ‫وآخــر‪ .‬فمــا زال الخليجيــون ينعمــون بالحــظ‬ ‫األوفــر للحركــة وبتســهيالت أكبــر للحصــول علــى‬ ‫تأشــيرات‪ ،‬طمعــ ًا مــن الــدول مانحــة التأشــيرات‬ ‫بالمــال ولتضــاؤل احتمــاالت بقائهــم هنــاك‬ ‫وطلــب اللجــوء‪ ،‬ومــا زالــت بلدانهــم األكثــر أمنــ ًا‬ ‫وصالحيــة الســتقبال الســياح‪ ،‬فيمــا ازدادت‬ ‫الســياحة العربيــة البينيــة تعقيــداً‪ ،‬وتراجعــت‬ ‫علــى خلفيــة موجــات اللجــوء مــن البلــدان التــي‬ ‫أتــت عليهــا نيــران الربيــع إلــى تلــك التــي تنتظــر‬ ‫‪60‬‬

‫دورهــا‪.‬‬ ‫بعــد عمليــة سوســة اإلرهابيــة‪ُ ،‬ألغــي قســم‬ ‫َ‬ ‫كبيــر مــن الحجــوزات األوروبيــة‪ ،‬وفعــل ذلــك‪-‬‬ ‫خاصــة‪ -‬البريطانيــون واأللمــان‪ ،‬وبدرجــة‬ ‫أقــل الــروس‪ ،‬علــى َحــّد تعبيــر مجيــد قــاوي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫رئيــس مكتــب الســياحة التونســي فــي موســكو‪.‬‬ ‫ا بمنتجعــات يحرســها‬ ‫فهــل يكــون الحــل فعــ ً‬ ‫مســلحون‪ ،‬فــإذا بهــا أقــرب إلــى معســكرات؟‬ ‫ثمــة إجــراءات جديــدة‪ ،‬مــن بينهــا إعــادة تأهيــل‬ ‫الشــرطة الســياحية وتســليحها‪ ،‬وتشــديد الرقابــة‬ ‫األمنيــة‪ ..‬لكــن الســاح عــدو الســياحة! فمــع‬ ‫محدوديــة ســياحة األعمــال وســياحة المؤتمــرات‪،‬‬ ‫والســياحة العلميــة والعالجيــة الطبيــة‪ ،‬يدفــع‬ ‫النــاس المــال مــن أجــل أن يســتجموا ويســتعيدوا‬ ‫ويحســنوا أمزجتهــم‪.‬‬ ‫قواهــم‬ ‫ّ‬ ‫وهكــذا‪ ،‬فوفقــ ًا لمعطيــات وكالــة الســياحة‬ ‫الفيدراليــة «روســتوريزم» المســتقاة مــن إدارة‬ ‫منافــذ الحــدود الروســية فــإن عــدد الســياح الروس‬ ‫المغادريــن إلــى خــارج البــاد‪ ،‬ســنة ‪2014‬‬ ‫انخفــض بنســبة ‪ 4‬بالمئــة قياســ ًا بعــام ‪،2013‬‬ ‫وبلــغ ‪ 17.6‬مليــون ســائح روســي‪ .‬وفــي الوقــت‬ ‫نفســه انخفضــت نســبة الســياح األجانــب القادميــن‬ ‫إلــى روســيا بنســبة ‪ 3‬بالمئــة قياســ ًا بســنة‬ ‫‪ ،2013‬وبلــغ عددهــم ‪ 2.6‬مليــون ســائح‪ .‬علمــ ًا‬ ‫بــأن وجهــة الســياح الــروس لــم تتغيــرـ فبقيــت‬ ‫الــدول الثــاث المفضلــة لــدى الــروس‪ :‬تركيــا علــى‬ ‫رأس القائمــة‪ ،‬وقصدهــا حوالــي (‪ )3.3‬مليــون‬ ‫ســائح روســي ســنة ‪ ،2014‬بزيــادة بلغــت ‪6,5‬‬ ‫بالمئــة عــن الســنة التــي ســبقتها؛ ثــم مصــر (‪)2.6‬‬

‫معبد حتشبسوت بمدينة األقصر‬

‫مليــون ســائح بتراجــع فــاق ‪ 34.4‬بالمئــة عــن‬ ‫ســنة ‪ ،2013‬تليهــا اليونــان فــي المرتبــة الثالثــة‪،‬‬ ‫بعــدد ســياح فــاق المليــون بقليــل‪ ،‬وبتراجــع فــي‬ ‫حــدود ‪ 13.6‬بالمئــة عــن الســنة الســابقة لهــا‪.‬‬ ‫يخــص الســياحة الروســية إلــى البلــدان‬ ‫وفيمــا‬ ‫ّ‬ ‫العربيــة فقــد اســتمر التراجــع وفــق مؤشــرات‬ ‫الربــع األول مــن العــام الجــاري قياســ ًا بالربــع‬ ‫األول مــن ســنة ‪ .2014‬فقــد قصــد منتجعــات‬ ‫مصــر‪ ،‬فــي هــذه الفتــرة‪ )402.625( ،‬ألــف ســائح‬ ‫مقارنــة بـــ ‪ 542.065‬ألــف ســائح فــي الربــع‬ ‫األول مــن العــام الفائــت‪ ،‬أي بتراجــع يبلــغ ‪26‬‬ ‫بالمئــة‪ ،‬كمــا أن الذيــن قصــدوا اإلمــارات العربيــة‬ ‫ــل إلــى النصــف‪،‬‬ ‫المتحــدة مــن الســياح الــروس َق ّ‬ ‫مــن (‪ )215,652‬إلــى (‪ ،)107.659‬وهنــا يمكــن‬ ‫مالحظــة دور العامــل االقتصــادي الداخلــي‬ ‫الروســي‪ .‬ففــي حيــن يبــدو‪ ،‬للوهلــة األولــى وكأن‬ ‫تراجــع الســياحة الروســية إلــى مصــر يعــود إلــى‬ ‫المســتقرة‬ ‫أســباب أمنيــة‪ ،‬يأتــي مثــال اإلمــارات‬ ‫ّ‬ ‫أمني ـ ًا ليشــير إلــى غيــر ذلــك‪ّ .‬إل أن اللوحــة تبــدو‬ ‫علــى شــاكلة أخــرى‪ ،‬حيــن نســتعرض التراجــع‬ ‫الحــاد فــي الســياحة الروســية إلــى تونــس والــذي‬ ‫بلــغ ‪ 95‬بالمئــة‪ .‬فقــد تراجــع إقبــال الــروس علــى‬ ‫منتجعــات تونــس مــن (‪ )2102‬ســائح إلــى (‪)104‬‬ ‫ســياح فــي هــذه الفتــرة‪ .‬ويشــار هنــا إلــى أن‬ ‫نســبة التراجــع اإلجماليــة فــي الســياحة الروســية‬ ‫إلــى هــذه الترويــكا العربيــة بلغــت ‪ 40‬بالمئــة‪،‬‬ ‫وهــو رقــم كبيــر يتــرك آثــاره الســلبية علــى هــذا‬ ‫القطــاع‪ ،‬خاصــة إذا علمنــا أن الســائحين الــروس‬ ‫يشــغلون مرتبــة ُمتقّدمــة بيــن نظرائهــم فــي‬ ‫التســوق مــن البلــدان التــي يقصدونهــا‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫وبحــال مؤســفة تبــدو الســياحة العربيــة إلــى‬ ‫روســيا االتحاديــة‪ ،‬فلــم يشــغل أي بلــد عربــي‪،‬‬ ‫الســنة الفائتــة‪ ،‬مرتبــة بيــن الــدول الخمســين‬ ‫األولــى التــي يقصــد مواطنوهــا روســيا‪ ،‬الهائلــة‬ ‫التنــوع والغنيــة بمعالمهــا‬ ‫المســاحة والشــديدة‬ ‫ُّ‬ ‫وإرثهــا الثقافــي وأماكــن االســتجمام والصيــد‬ ‫فيهــا‪ .‬علــى أن مصــر‪ ،‬فــي الربــع األول مــن‬ ‫التحســن‬ ‫العــام الجــاري‪ ،‬وربمــا علــى خلفيــة‬ ‫ُّ‬ ‫الملحــوظ فــي عالقاتهــا االقتصاديــة والعســكرية‬ ‫مــع موســكو فــي عهــد السيســي‪ ،‬احتلــت المرتبــة‬ ‫‪ 44‬فــي عــدد الســياح القاصديــن روســيا‪ ،‬وبلــغ‬ ‫تعدادهــم (‪ )899‬شــخصاً‪.‬‬ ‫وبالعــودة إلــى ثــورات الربيــع العربــي واألوضاع‬ ‫التــي تزامنــت معهــا وأعقبتهــا وانعكاســاتها‬ ‫األمنيــة التــي تتــرك أثرهــا علــى الســياحة بالدرجة‬ ‫األولــى‪ ،‬يالحــظ تراجــع فــي إقبــال الســياح‬

‫الــروس إلــى مصــر فــي الربــع األول مــن عــام‬ ‫‪ 2011‬مقارنــة بالربــع األول مــن ‪ 2010‬بحــدود‬ ‫‪ 65‬بالمئــة‪ .‬إذ تراجــع عــدد الســياح الــروس‬ ‫مــن ‪ 576.853‬إلــى (‪ )201.608‬ســياح‪ ،‬فيمــا‬ ‫زاد فــي الفتــرة نفســها إقبــال الســياح الــروس‬ ‫إلــى اإلمــارات العربيــة المتحــدة‪ ،‬مــن (‪)81.516‬‬ ‫إلــى (‪ ،)112.053‬أي بنســبة ‪ 37‬بالمئــة‪ ،‬كمــا‬ ‫أقــل بـــ ‪37‬‬ ‫زار تونــس عــدد مــن الســياح الــروس ّ‬ ‫بالمئــة‪ ،‬فقــد تراجــع عددهــم مــن (‪ )1604‬إلــى‬ ‫(‪ )1004‬ســياح‪ .‬فيمــا تشــير مؤشــرات ســنة‬ ‫‪ 2011‬اإلجماليــة‪ ،‬مقارنــة بمؤشــرات ‪،2010‬‬ ‫إلــى تراجــع ســفر الــروس إلــى مصــر بنســبة‬ ‫‪ 34‬بالمئــة‪ ،‬وإلــى تونــس بنســبة ‪ 19‬بالمئــة‪،‬‬ ‫مقابــل زيــادة فــي االســتجمام فــي دولــة اإلمــارات‬ ‫عــل مــن‬ ‫العربيــة المتحــدة بنســبة ‪ 38‬بالمئــة‪ .‬وَل ّ‬ ‫المفيــد أن نذكــر هنــا أن الخارجيــة الروســية كانــت‬ ‫قــد أوصــت مواطنيهــا‪ ،‬ســنة ‪ ،2011‬بعــدم زيــارة‬ ‫روجــت بعــض وســائل اإلعــام‬ ‫مصــر‪ ،‬فيمــا ّ‬ ‫ــرة‪ -‬صــور‬ ‫لســياحة الميــدان‪ ،‬ونقلــت‪ -‬غيــر َم ّ‬ ‫ســياح روس مــن هنــاك‪.‬‬ ‫ومــن الواضــح أن ميــزان الســياحة مــع البلــدان‬ ‫العربيــة يميــل لمصلحــة العــرب‪ ،‬ذلــك أن عــدد‬ ‫الــروس الذيــن يمضــون فتــرات اســتجمام فــي‬ ‫مصــر واإلمــارات والمغــرب وتونــس ال يقــارن‬ ‫بعــدد العــرب الذيــن يــزورون روســيا ســائحين‪.‬‬ ‫وفيمــا ال يبــدو أن حــال بلــدان الربيــع العربــي‬ ‫تحســن مــن وجهــة نظــر ســياحية‪ ،‬فــإن حال‬ ‫نحــو ُّ‬ ‫روســيا االقتصاديــة ال تبشــر بمواســم ســياحية‬ ‫طيبــة إلــى بــاد العــرب فــي القريــب‪.‬‬

‫في حين‬ ‫يبدو‪ -‬للوهلة‬ ‫األولى‪ -‬وكأن‬ ‫تراجع السياحة‬ ‫الروسية إلى‬ ‫مصر يعود‬ ‫إلى أسباب‬ ‫أمنية‪ ،‬يأتي‬ ‫مثال اإلمارات‬ ‫المستقرّة‬ ‫أمني ًا ليشير‬ ‫إلى غير ذلك‬

‫‪61‬‬

‫صيف لبنان االستثنائي‬ ‫بريوت‪ :‬نرسين حمود‬

‫عــل نصيحــة أي ســائح يضــع لبنــان علــى‬ ‫َل ّ‬ ‫صفحــات «أجندتــه» الصيفيــة هــي أن ُيديــر ظهــره‬ ‫لنشــرات األخبــار المتلفــزة‪ ،‬وأن يقاطــع المواقــع‬ ‫ال مــن‬ ‫السياســية اإللكترونيــة‪ ،‬وأن يثــق أن ك ً‬ ‫التهويــل والتضخيــم والضجيــج المرافــق للحيــاة‬ ‫السياســية المهترئــة يســقط عنــد أعتــاب الصيــف‪.‬‬ ‫الســرة الــذي يربــط‬ ‫كمــا عليــه أن يوقــن أن حبــل‬ ‫ّ‬ ‫اللبنانييــن باألزمــات بأنواعهــا السياســية واألمنية‬ ‫واالجتماعيــة‪ ،‬منــذ نشــوء كيانهــم‪ ،‬لطالمــا أســهم‬ ‫فــي جعلهــم يخلقــون «حيــوات بديلــة» أو «عوالــم‬ ‫موازيــة» تغالــي فــي الفــرح‪ ،‬وتعانــق الشــمس‬ ‫عناقــ ًا حــاراً‪ ،‬وتصــل الليــل‪ ،‬بالنهــار وتلثــم كــف‬ ‫الحيــاة!‬ ‫مــا تقــّدم ليــس بمبالغــة أو دفــن للــرأس فــي‬ ‫الرمــال تالفيــ ًا لمالحظــة اللهــب المتصاعــد مــن‬ ‫جــوار الجغرافيــا اللبنانيــة أو بتعطيــل طوعــي‬ ‫يهــز‬ ‫للشــعور عــن ارتــداد «زلــزال» اإلرهــاب الــذي ّ‬ ‫بــاد العــرب ويدفعهــم إلــى الرقــص‪ -‬مكرهيــن‪-‬‬ ‫علــى الجمــر‪ ،‬إنمــا هــو مالحظــة ناتجــة عــن‬ ‫جــوالت ميدانيــة علــى ليــل بيــروت‪ ،‬ومجــاورة‬ ‫بعــض شــواطئ الســاحل فــي عطــات نهايــة‬ ‫األســبوع‪ ،‬والقــراءات لبرامــج المهرجانــات التــي‬ ‫تتجــاوز المئــة فــي بيــروت والمناطــق‪...‬‬ ‫ُيفيــد تقريــر «إرنســت انــد يونــغ» عــن أداء الفنــادق‬ ‫مــن فئتــي األربــع والخمــس نجــوم فــي منطقــة‬ ‫الشــرق األوســط‪ ،‬أن معــّدل إشــغال الفنــادق فــي‬ ‫بيــروت بقــي مســتقرًا علــى أســاس ســنوي علــى‬ ‫‪ % 61‬فــي مايو‪/‬أيــار مــن العــام الجــاري‪ ،‬مــع‬ ‫ارتفــاع متوســط تعرفــة الغرفــة إلــى ‪ 180‬دوالرًا‬ ‫أميركي ـ ًا فــي الشــهر الخامــس مــن العــام أي بنســبة‬ ‫‪ ،% 7.8‬وزيــادة اإليــرادات المحققــة عــن كل‬ ‫غرفــة متوافــرة هــي ‪ 111‬دوالرًا أميركيـ ًا أي بنســبة‬ ‫‪ % 8.3‬ســنوياً‪.‬‬ ‫‪62‬‬

‫بــدوره‪ ،‬يتوقّــع تقريــر «ماســتركارد» للمــدن‬ ‫العالميــة الســياحية أن تحتــل بيــروت المرتبــة‬ ‫الســابعة بيــن ‪ 21‬مدينــة فــي الشــرق األوســط‬ ‫وإفريقيــا لجهــة إجمالــي إنفــاق الســائحين‬ ‫الدولييــن هــذا العــام‪ ،‬بمع ـّدل ‪ 1130‬دوالرًا أميركي ـ ًا‬ ‫للســائح‪ ،‬بارتفــاع ‪ ،% 62.5‬بالمقارنــة بالســنة‬ ‫الفائتــة‪ .‬كمــا يذكــر التقريــر أن عــدد الســائحين فــي‬ ‫ـجل ‪ 1.15‬مليــون ســائح‪ ،‬مــع نهايــة‬ ‫بيــروت سيسـ ّ‬ ‫العــام الجــاري‪.‬‬ ‫يصــرح مصــدر لـ«الدوحــة»‬ ‫فــي وزارة الســياحة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫بــأن التدابيــر متخــذة إلنجــاح موســم الصيــف‪،‬‬ ‫ـل‬ ‫وأن التقديــرات واعــدة فــي هــذا المجــال‪ ،‬فــي ِظـ ّ‬ ‫ا‬ ‫اتســاق الخطتيــن‪ :‬الحكوميــة‪ ،‬واألمنيــة‪ ،‬ناقــ ً‬ ‫تطميــن وزيــر الســياحة ميشــال فرعــون للســائحين‬ ‫مــن العــرب واألجانــب وتأكيــده أن الوضــع األمنــي‬ ‫ُمســتتب‪.‬‬ ‫تتضمــن خطــة الــوزارة لهــذا الصيــف ِعــّدة بنــود‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫أبرزهــا‪ :‬تســويق مشــروع «أنــا» لجــذب اللبنانييــن‬ ‫المقيميــن فــي دول االغتــراب للســياحة بلبنــان‬ ‫والربــط بيــن «الدياســبورا» اللبنانيــة والوطــن‬ ‫األم‪ ،‬وتنميــة الســياحة الريفيــة مــن خــال تعزيــز‬ ‫مفهــوم بيــوت الضيافــة‪ ،‬ودعــم المهرجانــات‬ ‫بفرعيهــا‪ :‬المناطقــي‪ ،‬والدولــي‪.‬‬ ‫تــرددًا إلــى‬ ‫الســؤال عــن الجنســيات األكثــر‬ ‫ّ‬ ‫الربــوع اللبنانيــة‪ ،‬أخيــراً‪ ،‬يبــرز الئحــة مؤلفــة‪،‬‬ ‫تباعــاً‪ ،‬مــن‪ :‬العراقيــة‪ ،‬والمصريــة‪ ،‬واألردنيــة‪،‬‬ ‫أمــا فــي الجانــب الغربــي‬ ‫والســعودية‪ ،‬والكويتيــة‪ّ .‬‬ ‫فيفيدنــا مصدرنــا أنّــه يصعــب اإلحصــاء‪ ،‬نظــرًا‬ ‫إلــى أن بعضــ ًا مــن اللبنانييــن الذيــن يعيشــون‬ ‫فــي الخــارج يدخلــون البلــد بجوازاتهــم األخــرى‬ ‫(الفرنســية والكنديــة واألميركيــة‪ ،)...‬وهــؤالء‬ ‫يقــر األخيــر بــأن حركــة‬ ‫ليســوا بقليليــن‪ .‬وإذ ّ‬ ‫االســتثمارات السيـاحـــــية مــتـراجـعـــة لغــــياب‬

‫الثقــة نظــرًا إلــى الوضــع الحالــي (التأخــر فــي‬ ‫انتخــاب رئيــس للجمهوريــة‪ ،‬مترتبــات الحــرب‬ ‫فــي ســورية‪ ،)...‬تقضــي الموضوعيــة عــدم القفــز‬ ‫فــوق إشــارة بعــض النقابييــن المولجيــن أمــر‬ ‫المصالــح المرتبطــة بالخدمــات الســياحية إلــى أن‬ ‫التقاريــر الدوليــة والمحليــة اإليجابيــة المتصلــة‬ ‫تركــز علــى العاصمــة وفنادقهــا‬ ‫بالســياحة بلبنــان ّ‬ ‫الفارهــة‪ ،‬وال تلتفــت إلــى أحــوال المناطــق‬ ‫التحســن‬ ‫والفنــادق المتوســطة والصغيــرة‪ .‬كمــا أن‬ ‫ّ‬ ‫الطفيــف فــي النصــف األول مــن العــام الحالــي‬ ‫يعــوض الخســائر‬ ‫فــي حركــة مطــار بيــروت ال‬ ‫ّ‬ ‫المتراكمــة فــي الســنوات الفائتــة‪ ،‬بعــد أن قاطــع‬ ‫الســائحون الخليجيــون لبنــان‪ ،‬مــع صعوبــة‬ ‫التكهنــات المســتقبلية‪ ،‬نظــرًا إلــى أن تاريــخ كتابــة‬ ‫هــذه الســطور يتزامــن مــع شــهر رمضــان‪ ،‬حيــث‬ ‫يفضــل العــرب قضــاء هــذه الفتــرة فــي بالدهــم‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ال يســتقيم الحديــث عــن صيــف لبنــان‪ ،‬بــدون‬ ‫اإلطاللــة علــى المهرجانــات التــي انطلــق بعضهــا‪،‬‬ ‫كل صنــوف الموســيقى (شــرقي‬ ‫مــع مالحظــة أن ّ‬ ‫و«بــوب» و«ســول» و«ار انــد بــي» و«جــاز»‬ ‫و«أوبــــــرا» و«فــــانك» و«ديســكو»‪ )...‬متوافــرة‬ ‫فيهــا‪ ،‬بــدون إغفــال بعــض المواعيــد المتصلــة‬

‫بالمســرح أو الرقــص‪ .‬فــي هــذا الســياق‪ ،‬تجــدر‬ ‫أن‬ ‫كــم المهرجانــات‪ ،‬ولــو ّ‬ ‫مالحظــة الوفــرة فــي ّ‬ ‫ال مــن النــوع والصفــة الدوليــة ال يعــوز الرئيســة‬ ‫كً‬ ‫بينهــا (بعلبــك‪ ،‬وبيــت الديــن‪ ،‬وبيبلــوس‪.)...‬‬ ‫بــأن مــا تقــّدم ال يحــول دون أن يســأل‬ ‫علمــ ًا ّ‬ ‫عمــا تعنيــه «الدوليــة»‬ ‫الباحــث فــي بعــض األحيــان ّ‬ ‫الملصقــة‪ ،‬خبــط عشــواء‪ ،‬بمهرجانــات مناطقيــة‬ ‫تســتضيف مشــاهير غربييــن أفــل نجمهــم أو‬ ‫موســيقية‬ ‫ممــن هــم فــي طــور االعتــزال‪ ،‬أو فرقــ ًا‬ ‫ً‬ ‫غائبــة عــن مهرجانــات عالميــة مرموقــة‪ .‬علــى كل‬ ‫حــال‪ ،‬تبــدو المالحظــة ســالفة الذكــر ثانويــة‪،‬‬ ‫حيــن نعــرف أن مــن بيــن العــروض األبــرز التــي‬ ‫يســتضيفها لبنــان واحــد بعنــوان «إلــك يــا بعلبــك»‬ ‫يجمــع العشــرات مــن الفنانيــن اللبنانييــن ذائعــي‬ ‫الصيــت فــي مجــاالت الشــعر والموســيقى والغنــاء‬ ‫والمســرح والرقــص علــى أدراج «معبــد باخــوس»‪.‬‬ ‫لمهرجــان بعلبــك إرث عريــق‪ ،‬إذ تعــود إليــه‬ ‫أســبقية نشــر الفلكلــور اللبنانــي‪ ،‬زمــن األخويــن‬ ‫رحبانــي الراحليــن‪ ،‬بصــوت الســيدة فيــروز‪ ،‬كمــا‬ ‫أنّــه يحتفــل فــي العــام المقبــل بالذكــرى الســتين‬ ‫لتأسيســه (انطلــق فــي ‪ 1956‬فــي عهــد الرئيــس‬ ‫الراحــل كميــل شــمعون)‪ُ .‬قبيــل تكريــم «مهرجانــات‬ ‫‪63‬‬

‫بعلبــك» فــي «اكــس أون بروفانــس» الفرنســية‬ ‫أخيــراً‪ ،‬قابلــت «الدوحــة» رئيســة «مهرجانــات‬ ‫بعلبــك الدوليــة» نايلــة دي فريــج‪ ،‬التــي أســهبت‬ ‫فــي الشــرح عــن أهميــة االفتتــاح المتمثــل فــي «إلــك‬ ‫يــا بعلبــك» والجامــع فنانيــن مرموقيــن لبنانييــن‬ ‫أو مــن أصــول لبنانيــة‪ُ ،‬متحّدثــة عــن إمكانيــة‬ ‫نشــر هــذا العــرض فــي العالــم وتطعيمــه بفنانيــن‬ ‫محلييــن مــن الــدول التــي ســيجول فيهــا مســتقبالً‪،‬‬ ‫فــي صــورة ناصعــة عــن حــوار الثقافــات‪.‬‬ ‫ســؤال دي فريــج عــن تصحيــح المعتقــد الخاطــئ‬ ‫الرابــط بيــن موقــع المهرجــان واألحــداث األمنيــة‬ ‫فــي الجــرود‪ ،‬وعــن توافــر خطــط بديلــة فــي‬ ‫تــم منــذ ســنتين (‪،)2013‬‬ ‫حــال التوتــر‪ ،‬كمــا ّ‬ ‫حيــث كانــت نقلــت فعاليــات المهرجــان إلــى «خــان‬ ‫الحريــر» فــي منطقــة ســد البوشــرية (شــرق‬ ‫قائلــة‪« :‬إن الغالبيــة‪،‬‬ ‫بيــروت)‪ ،‬تجيــب عنهمــا‬ ‫ً‬ ‫حتــى مــن اللبنانييــن‪ ،‬تجهــل التضاريــس‬ ‫مضيفــة أن «بعلبــك تبعــد ‪40‬‬ ‫الجغرافيــة»‪،‬‬ ‫ً‬ ‫تــردد‬ ‫كيلومتــرًا عــن منطقــة رأس بعلبــك التــي ّ‬ ‫اســمها مــن قبــل عنــد الحديــث عــن توتــرات‬ ‫آمــن‪ ،‬اليــوم»‪ .‬هــي‬ ‫الوضــع‬ ‫أمنيــة‪ ،‬ولــو أن‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫تؤكــد أنّهــا تلقّــت التطميــن الــازم مــن جهــات‬ ‫أمنيــة ِعــّدة حتــى يــدور المهرجــان فــي «بيتــه»‪،‬‬ ‫آملــة أن تطــول قوافــل اللبنانييــن والســائحين‪،‬‬ ‫هــذا العــام‪ ،‬إلــى بعلبــك (تبعــد ‪ 86‬كيلومتــرًا عــن‬ ‫بيــروت)‪ ،‬حيــث يمكــن زيــارة بعــض المناطــق‬ ‫الســياحية المجــاورة لهــا قبــل موعــد المهرجــان‬ ‫(عنجــر‪ ،‬وزحلــة‪ ،‬وراس العيــن‪ ،)...‬مــع عــدم‬ ‫تفويــت مشــهد غــروب الشــمس األخــاذ فــي «مدينــة‬ ‫الشــمس»‪.‬‬ ‫مــن جهــة ثانيــة‪ ،‬تبــدو لجنــة المهرجــان العريــق‬ ‫والدولــي عــن حــق مدركــة رســالتها الثقافيــة‬ ‫ظــل األحــداث‬ ‫وأهميــة «المقاومــة الثقافيــة» فــي ّ‬ ‫المتوتــرة‪ ،‬إذ يتجلّــى األمــر‪ ،‬بوضــوح‪ ،‬مــن‬ ‫المنوعــة التــي تضربهــا للبنانييــن‬ ‫خــال المواعيــد ّ‬ ‫والســائحين (مــن ‪ 31‬يوليو‪/‬تمــوز إلــى ‪30‬‬ ‫أغســطس‪/‬آب)‪ ،‬مــع بعــد عــن الحفــات ذات‬ ‫الطابــع التجــاري‪ ،‬والحــرص علــى االتصــال‬ ‫بالموســيقى الكالســيكية وغيرهــا مــن المواعيــد‬ ‫ا عــن معرفــة وثيقــة بأهــواء‬ ‫النخبويــة‪ ،‬فضــ ً‬ ‫يهمــه مــن بينهــم إحيــاء‬ ‫ومــن‬ ‫الغربييــن‬ ‫الفنانيــن‬ ‫ّ‬ ‫الحفــات فــي الشــرق األوســط‪.‬‬ ‫لناحيــة المناطــق الســياحية الشــهيرة‪ ،‬كانــت‬ ‫جبيــل ُأعلنــت «عاصمــة الســياحة العربيــة لعــام‬ ‫‪ »2016‬مــن ِقَب ِ‬ ‫ــل «المنظمــة العربيــة للســياحة»‬ ‫أخيــراً‪ ،‬مــع اإلشــارة إلــى أن البرنامــج الخــاص‬ ‫‪64‬‬

‫عرض‪ -‬بحســب وزيــر الســياحة‪-‬‬ ‫بهــذا اإلعــان َسـ ُـي َ‬ ‫فــي أكتوبــر (تشــرين األول) المقبــل‪ .‬لكــن‪ ،‬ال يمكــن‬ ‫إغفــال كثافــة النشــاطات حاليــ ًا فــي هــذه البقعــة‬ ‫الجغرافيــة الواقعــة شــمالي بيــروت والقريبــة مــن‬ ‫العاصمــة (تنــأى ‪ 39‬كيلومتــرًا عــن بيــروت)‪.‬‬ ‫ُتق ـّدم المدينــة‪ ،‬التــي تملــك بنيــة تحتيــة ســياحية‬ ‫راســخة لزائرهــا‪ ،‬مهمــا اختلفــت مشــاربه‬ ‫والميزانيــة التــي يرصدهــا لهــدف الســياحة‪،‬‬ ‫التاريــخ مــن خــال بعــض المواقــع (القلعــة‬ ‫والمرفــأ والســوق القديمــة وبعــض الكنائــس‪،)...‬‬ ‫والفنــادق والمطاعــم والمســابح وحيــاة الليــل‬ ‫الصاخبــة‪ ،‬مــع إمكانيــة االتصــال الســهل بجبــال‬ ‫لبنــان‪.‬‬ ‫فــي بــاب المهرجانــات‪ ،‬تقتــرح المدينــة علــى‬ ‫زائرهــا المــرور بليالــي مهرجانهــا (مــن ‪13‬‬ ‫يوليو‪/‬تمــوز إلــى ‪ 18‬أغســطس‪/‬آب)‪ ،‬الــذي‬ ‫يتصــف بخصوصيــات ِع ـّدة‪ ،‬مــن بينهــا اســتقطابه‬ ‫الفئــات الشــابة خصوصــاً‪ ،‬ومضاهاتــه بعــض‬ ‫المهرجانــات العالميــة أهميــة‪ ،‬نظــرًا إلــى برمجتــه‬ ‫الغربيــة الغالبــة‪ .‬فــي هــذا اإلطــار‪ ،‬تقــول رئيســة‬ ‫«مهرجانــات بيبلــوس الدوليــة» لطيفــة اللقيــس‬ ‫فــي حديــث إلــى «الدوحــة» إن لجنــة المهرجانــات‬ ‫تنســق مــع وكاالت الســياحة والســفر لتشــمل‬ ‫نشــاطات الســائحين فــي جبيــل المشــاركة فــي‬ ‫بعــض حفــات المهرجــان‪ ،‬موضحــة أن مؤشــرات‬ ‫الســياحة للصيــف الجــاري جيــدة نوعــ ًا مــا حتــى‬ ‫الســاعة‪ ،‬بــدون أن يعنــي األمــر أنّهــا تصاعديــة‬ ‫كــم‬ ‫نتيجــة الوضــع السياســي المتوتــر‪ ،‬كمــا أن ّ‬ ‫المهرجانــات الوافــر يشــتت النــاس!‬ ‫لــكل موعــد فــي هــذا المهرجــان ذائقــة‪،‬‬ ‫معلــوم أن ّ‬ ‫ّإل أنّــه‪ -‬بحســب اللقيــس‪ -‬مــن المالحــظ أن‬ ‫الشــباب الخليجييــن (إلــى جانــب اللبنانييــن‬ ‫واألوروبييــن) يقبلــون كل ســنة إلــى جــوار بحــر‬ ‫ا مــع الفنانيــن‬ ‫جبيــل للمشــاركة تصفيقــ ًا وتفاعــ ً‬ ‫العالمييــن المدعويــن‪ ،‬متمنيــة مــن اإلعــام البعــد‬ ‫عــن تعظيــم أخبــار الساســة والحــوادث‪.‬‬ ‫لــدى تكــرار الســؤال عــن مــدى ســهولة أم صعوبــة‬ ‫اســتقطاب الفنانيــن األجانــب إلحيــاء الحفــات‬ ‫فــي لبنــان‪ ،‬تجيــب اللقيــس ضاحكـ ًـة أن «البعــض‬ ‫منهــم يضــع شــروط ًا بالجملــة قبــل مجيئــه‬ ‫دهــش‬ ‫ويطلــب التنقــل بســيارة ُمصفّحــة‪ّ ،‬إل أّنــه ُي َ‬ ‫حيــن يعايــن أرض الواقــع‪ ،‬فيتخلّــى عــن حــذره‬ ‫المفــرط‪ ،‬ويتيقــن مــن التضخيــم اإلعالمــي ألخبــار‬ ‫الشــرق األوســط!»‪.‬‬

‫فاصلة‬

‫عبد السالم بنعبد العالي‬

‫المثقف والخبير‬ ‫صـــر‬ ‫مقابـــل ســـياق النّشـــأة الفرنســـي لـ«المثقـــف»‪ُ ،‬ي ّ‬ ‫البعـــض علـــى تأكيـــد المولـــد األميركـــي لـ«الخبيـــر»‪ ،‬فهـــذا‬ ‫«المفه ــوم» م ــن صن ــع أميرك ــي (‪ )made in USA‬عل ــى حــّد‬ ‫ق ــول أح ــد الّدارس ــين الفرنس ــيين ال ــذي يش ــير إل ــى اس ــتغالقه‬ ‫و«طابعـــه الغامـــض»‪ ،‬ومـــن ثمـــة صعوبـــة نقلـــه إلـــى‬ ‫الفرنس ــية‪ .‬ل ــذا ف ــإن ه ــذه اللغ ــة تس ــتعمل ترجم ـ ًـة لـــ«‪Think‬‬ ‫‪ »tank‬عب ــارات ُمتعــّددة يمك ــن أن ننق ــل بعضه ــا إل ــى اللغ ــة‬ ‫العربي ــة بـــ ‪ :‬خ ـّـزان األف ــكار‪ ،‬فض ــاء الفك ــر‪ ،‬مختب ــر الفك ــر‪...‬‬ ‫يـــرى البعـــض ضـــرورة أخـــذ البعـــد العســـكري للعبـــارة‬ ‫اإلنجليزي ــة بعي ــن االعتب ــار‪ ،‬ب ــل ربطه ــا بالوج ــه العس ــكري‬ ‫للمول ــد الدريفوس ــي للمفه ــوم الفرنس ــي‪ّ ،‬إل أن ه ــذا ال يب ــدو‬ ‫ـص تحدي ــد المعن ــى الـــذي ســـيعطيه‬ ‫لنـــا ذا أهميـــة فيم ــا يخ ـ ّ‬ ‫إي ــاه الت ــداول العرب ــي‪ .‬فلنكت ـ ِ‬ ‫ـف إذًا بالق ــول إن األم ــر يتعّل ــق‬ ‫بـ«علب ــة أف ــكار» قياســ ًا عل ــى «علب ــة أدوات» الصان ــع ‪Boite‬‬ ‫‪.à outils‬‬ ‫هـــذا التقابـــل فـــي مولـــد المفهوميـــن ونشـــأتهما ســـيظل‬ ‫يطبعهم ــا ف ــي أثن ــاء تداولهم ــا عندن ــا نح ــن الع ــرب‪ ،‬بحي ــث‬ ‫ـل‪،‬‬ ‫إنن ــا س ــنظل نتش ــبث بالفص ــل بينهم ــا‪ ،‬فكريــ ًا عل ــى األق ـ ّ‬ ‫األول ويقـــوم‬ ‫فـــا نـــرى فـــي الثانـــي إال‬ ‫ً‬ ‫بديـــا يغنينـــا عـــن ّ‬ ‫مقامـــه‪ ،‬ذلـــك البديـــل القابـــل وحـــده لـ«مـــلء الفـــراغ» الـــذي‬ ‫خلّفـــه «مـــوت» المثقـــف‪.‬‬ ‫نتبيـــن أن الـــ «ثينـــك تانـــك»‬ ‫مـــا‬ ‫غيـــر أننـــا ســـرعان‬ ‫ّ‬ ‫تحـــول بينـــه وبيـــن أن يـــؤدي‬ ‫يتمتـــع بخصوصيـــة قـــد ُ‬ ‫تلـــك الوظيفـــة‪ .‬فهـــو ال يحيـــل إلـــى أفـــراد مثلمـــا هـــو‬ ‫الش ــأن بالنس ــبة للمثقفي ــن‪ ،‬وإنم ــا إل ــى مؤسس ــات‪ .‬الخبي ــر‬ ‫مرتبـــط بمؤسســـات خاصـــة مســـتقلة هـــي عبـــارة عـــن‬ ‫«ن ـ ٍ‬ ‫ـواد للفك ــر» تض ـ ّـم رؤس ــاء مق ــاوالت وجامعيي ــن ورج ــال‬ ‫بحـــث «يفكـــرون جميعهـــم فـــي نقطـــة بعينهـــا مـــن أجـــل‬ ‫ـا ذو‬ ‫ه ــدف ُمحــّدد»‪ .‬الخبير‪،‬عل ــى عك ــس المثق ــف‪ ،‬ه ــو أص ـ ً‬ ‫هوي ــة مؤسس ــاتية‪ ،‬وم ــن َث ـ ّـم ف ــإن ظه ــوره مرتب ــط أساســ ًا‬ ‫بالشـــروط الموضوعيـــة التـــي تحـــّدد نشـــأة المؤسســـات‬ ‫مهامه ــا‪ .‬الخبي ــر ال يك ــون كذل ــك‬ ‫وترع ــى ازدهاره ــا وتحــّدد ّ‬ ‫مؤسســـة يلتـــزم بأهدافهـــا فـــي مـــا ُينتـــج مـــن‬ ‫ّإل داخـــل ّ‬ ‫«أف ــكار» مقاب ــل م ــا يجلب ــه منتوج ــه م ــن مكاف ــآت‪ .‬م ــا أبعدن ــا‬

‫ع ــن الحواف ــز األخالقي ــة والدواف ــع «النّضالي ــة» الت ــي كان ــت‬ ‫تحـــرك المثقـــف‪ .‬ال شـــيء مـــن هـــذا فـــي عالـــم تحكمـــه قيـــم‬ ‫ّ‬ ‫المصلحـــة ونجاعـــة الفعاليـــة‪ .‬فبينمـــا كان المثقـــف يســـتمّد‬ ‫قيمت ــه م ــن الــّدور ال ــذي يلعب ــه‪ ،‬والقي ــم الت ــي يداف ــع عنه ــا‪،‬‬ ‫و«االلتـــزام» الـــذي يحفـــزه‪ ،‬فـــإن الخبيـــر منتـــج أفـــكار‬ ‫تس ــتهدف المردودي ــة اآلني ــة والمنفع ــة المباش ــرة‪ .‬فاألم ــر ال‬ ‫يتعّل ــق هن ــا برس ــم آف ــاق وتحقي ــق مطام ــح‪ ،‬وعل ــى الفك ــر‬ ‫أن يتوصـــل إلـــى نتائـــج ملموســـة مثـــل مشـــاريع القوانيـــن‬ ‫علـــى ســـبيل المثـــال‪.‬‬ ‫مـــن شـــأن كل هـــذا أن يدفـــع إلـــى اليـــأس مـــن تعليـــق‬ ‫اآلمـــال علـــى الخبيـــر كـــي يشـــغل مكانـــة المثقـــف‪ .‬وعلـــى‬ ‫رغـــم ذلـــك‪ ،‬فأمـــام العجـــز الـــذي أصبـــح يعتـــرض الفعـــل‬ ‫الثقافـــي فـــي شـــكله المتـــوارث عـــن «تحويـــل الواقـــع»‪،‬‬ ‫األقـــل‪ ،‬ال يـــرى البعـــض مندوحـــة‬ ‫أو التأثيـــر فيـــه علـــى‬ ‫ّ‬ ‫يعـــوض المثقـــف فـــي غيـــاب البديـــل‬ ‫مـــن اللجـــوء إلـــى مـــن ّ‬ ‫لعـــل ذلـــك هـــو مـــا أخـــذ يســـمح بنشـــأة مـــا‬ ‫المطـــروح‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫نمـــو لظاهـــرة ال تخلـــو مـــن غرابـــة‬ ‫نلحظـــه عندنـــا مـــن‬ ‫ّ‬ ‫تتجلّـــى فـــي ظهـــور مثقفيـــن مـــن نـــوع جديـــد‪ ،‬مثقفيـــن‬ ‫يســـكنهم خبـــراء‪ ،‬مثقفيـــن «تقنييـــن»‪ ،‬ال هـــم ينتمـــون‬ ‫فعليـــ ًا إلـــى «مختبـــرات األفـــكار»‪ ،‬وال إلـــى األنتلجنســـيا‬ ‫الطوعـــي عـــن قيـــم بعينهـــا والتـــي‬ ‫التـــي تمتهـــن الّدفـــاع ّ‬ ‫تكون«يس ــارية بالطب ــع»‪ .‬إنه ــم مثقف ــون م ــن طين ــة أخ ــرى‪،‬‬ ‫تحركهـــم الظرفيـــات‬ ‫عبـــارة عـــن «رصيـــد مـــن المهـــارات»‪ّ ،‬‬ ‫ويصنعهـــم اإلعـــام‪ ،‬أو يصنـــع أســـماءهم علـــى األصـــح‪.‬‬ ‫صحيـــح أنهـــم يظلّـــون يســـتهدفون المردوديـــة المباشـــرة‪،‬‬ ‫يحركهـــم هـــو منطـــق‬ ‫أن مـــا‬ ‫ّ‬ ‫وصحيـــح‪ -‬أيضـــاً‪ّ -‬‬ ‫يظـــل ّ‬ ‫المصلح ــة‪ ،‬وه ــم ف ــي ذل ــك أش ــباه خب ــراء‪ّ ،‬إل أن المصلح ــة‬ ‫ـــرون وراءهـــا ليســـت مصالـــح مؤسســـات كبـــرى‬ ‫التـــي َي ْج ُ‬ ‫تســـتفيد مـــن خبراتهـــم و«تســـتثمرها»‪ ،‬وإنمـــا مصلحتهـــم‬ ‫ُهـــم بمـــا هـــم أفـــراد يتوافّـــرون علـــى معـــارف‪ ،‬ويتقنـــون‬ ‫مهـــارات‪ ،‬بمـــا فيهـــا مهـــارة التأقلـــم مـــع تقلّـــب األحـــوال‪،‬‬ ‫والتكيـــف مـــع تبـــّدل األزمنـــة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫‪65‬‬

‫قدمــة لنهضــة علــوم اللســان واإلنســان‪ ،‬وهــي النهضــة‬ ‫كان احتــكاك األوروبييــن مــع غيرهــم مــن الشــعوب ُم ِّ‬ ‫ـور فــي العلــوم اإلنســانية خــال القرنيــن التاســع عشــر والعشــرين‪.‬‬ ‫ـن لهــا بمــا حصــل مــن تطـ ُّ‬ ‫التــي َنِديـ ُ‬

‫نهاية الجغرافيا وعودة التاريخ‬ ‫د‪ .‬حسني السوداين*‬

‫كل حــدث‬ ‫ُتثــار المســألة اللغويــة فــي ّ‬ ‫بشــري‪ ،‬فتختــزل كل األبعــاد‬ ‫تواصــل‬ ‫ّ‬ ‫يتعــرف إلــى‬ ‫إذ‬ ‫لإلنســان‬ ‫الرمزيــة‬ ‫ّ‬ ‫إنســان آخــر‪ .‬والــذي يراجــع التاريــخ‬ ‫اإلنســاني يجــد‪ ،‬فــي المنعرجــات‬ ‫الكبــرى مــن تاريــخ اإلنســان‪ ،‬حضــورًا‬ ‫مشــكلة للوعــي باآلخــر‬ ‫للغــة بوصفهــا‬ ‫ّ‬ ‫لــكل مــا ينعقــد بيــن أطــراف‬ ‫وحاضنــة ّ‬ ‫التواصــل‪ ،‬نفســي ًا واجتماعيــ ًا وفكريــ ًا‬ ‫وحضاريــاً‪ .‬وإذا أخذنــا اللغــة بمفهــوم‬ ‫عرفناهــا بكونهــا منظومــة‬ ‫َّ‬ ‫موســع ّ‬ ‫مــن الرمــوز التــي ُتنشــئها المواضعــة‬ ‫لتأديــة معنــى‪ ،‬فــإن تبنّينــا هــذا‬ ‫التعريــف لــم تنحصــر دائــرة المعنــى‬ ‫‪66‬‬

‫فيمــا نريــد إبالغــه‪ ،‬وإنمــا يغــدو‬ ‫ـربنا‬ ‫عالمنــا ُّ‬ ‫ملبســنا ومأكُلنــا ومشـ ُ‬ ‫ُ‬ ‫كلــه‪ُ :‬‬ ‫وكيفياتنــا فــي أداء التحيــة جميعــاً‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫أنظمــة دالّــة‪ .‬والســائح الــذي يدخــل‬ ‫ً‬ ‫معينــ ًا إنمــا يدخلــه‬ ‫فضــاء اجتماعيــ ًا ّ‬ ‫ً‬ ‫التواصلــي‪:‬‬ ‫بمقتضيــات ذلــك القانــون‬ ‫ّ‬ ‫دال بــكل‬ ‫فهــو فــي عيــن مــن يِفـ ُـد عليهــم ٌّ‬ ‫مســتدل‬ ‫مــا اقترنــت بــه ِوفادتــه‪ ،‬وهــو‬ ‫ّ‬ ‫بمالمــح الفضــاء الجديــد علــى أهــل ذلــك‬ ‫المــكان‪.‬‬ ‫يجســد هــذا النامــوس‬ ‫مــا‬ ‫طريــف‬ ‫ومــن‬ ‫ّ‬ ‫التواصلــي مــا اقتــرن بــه اكتشــاف‬ ‫ّ‬ ‫«كريســتوفر كولومبــوس»‪1451( ،‬‬ ‫‪ )1506 -‬ألميــركا‪ ،‬ســنة ‪ ،1492‬مــن‬

‫مواقــف حــاول تزفيتــان تــودوروف‪،‬‬ ‫رصدهــا فــي كتابــه «اكتشــاف أميــركا‪:‬‬ ‫ْ‬ ‫مشــكلة اآلخــر»‪ .‬فمــن خــال المواقــف‬ ‫التــي يعرضهــا تــودوروف تتضــح فــي‬ ‫ـي‬ ‫شــخص كولومبــوس صــورة األوروبـ ّ‬ ‫أن كل‬ ‫الــذي يتكلّــم لغــة واحــدة فيظــن ّ‬ ‫متكلّــم يــرى العالــم واألشــياء علــى‬ ‫نحــوه هــو‪ .‬وهــي وضعيــة تكشــف‬ ‫تنســيب‬ ‫أهميــة التعــّدد اللغــوي فــي ْ‬ ‫رؤيتنــا وتقييمنــا لألشــياء‪ .‬فقــد بــدت‬ ‫المعضلــة األساســية لكريســتوفر‬ ‫كولومبــوس إزاء العالــم الجديــد‬ ‫ِ‬ ‫مشــكلة لغويــة تواصليــة‬ ‫وســكانه‬ ‫ً‬ ‫باألســاس( ‪.)1‬‬

‫لذلــك يقــّدر المؤرخــون للعلــم اللســاني‬ ‫بــأن إرهاصــات نشــأة علــم‬ ‫الحديــث ّ‬ ‫اللســانيات إنمــا بــدأت فــي إطــار هــذا‬ ‫التثاقــف الــذي فرضتــه االكتشــافات‬ ‫الجغرافيــة الكبــرى‪ .‬فالــذي يراجــع‬ ‫تاريــخ الدراســات اللســانية يجــد‬ ‫أن البعثــات العســكرية والجغرافيــة‬ ‫ّ‬ ‫همــ ًا حمــل‬ ‫والعلميــة قــد مثلــت إطــارًا ُم ّ‬ ‫األوروبييــن علــى مقارنــة ثقافتهــم‬ ‫بثقافــات الشــعوب التــي اطلعــوا‬ ‫عليهــا‪ ،‬فــكان لذلــك أثــران علميــان‬ ‫مهمــان‪ ،‬أولهمــا نشــأة األنثروبولوجيــا‬ ‫ّ‬ ‫بوصفــه علمــ ًا يــدرس اإلنســان مــن‬ ‫حيــث هــو كائــن اجتماعــي‪ ،‬فتأســس‬ ‫ـي فــي القــرن التاســع عشــر‬ ‫اتجــاه بحثـ ّ‬ ‫ينشــغل بدراســة الشــعوب‪ ،‬ال ســيما‬ ‫مــا كان منهــا بعيــدًا عــن أوروبــا مركــز‬ ‫الحضــارة الحديثــة‪ .‬وتزامــن ذلــك‬ ‫مــع شــغف شــديد لــدى األوروبييــن‬ ‫كل جديــد والتطلُّــع إلــى كل‬ ‫باكتشــاف ّ‬ ‫واختصــر ذلــك‬ ‫غريــب قــادم مــن بعيــد‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫كل وافــد غريــب‬ ‫تضفــى علــى ّ‬ ‫فــي هالــة َ‬ ‫ماديــ ًا كان أو معنويــاً‪ ،‬فيوصــف علــى‬ ‫ســبيل الدهشــة بأنــه «‪.»exotic‬‬ ‫أمــا األثــر الثانــي فيتمثــل فــي عمليــات‬ ‫عفويــة‬ ‫مقارنــة كانــت بداياتهــا‬ ‫ّ‬ ‫وبســيطة انطالقــ ًا مــن مالحظــات‬ ‫تطــورت‬ ‫ثــم‬ ‫ّ‬ ‫مستكشــفين أوروبييــن‪ّ ،‬‬ ‫فكانــت هــذه المقارنــات أرضيــة‬ ‫للدراســات التاريخيــة المقارنــة فــي‬ ‫القــرن التاســع عشــر الســيما بعــد أن‬ ‫نشــر «فرانــز بــوب»‪)1791 - 1867( ،‬‬ ‫باكــورة بحوثــه ســنة ‪ 1816‬بعنــوان‬ ‫«عــن نظــام التصريــف فــي اللغــة‬ ‫مقارنــ ًا بنظيــره فــي كل‬ ‫ّ‬ ‫السنســكريتية َ‬ ‫مــن اليونانيــة والالتينيــة والفارســية‬ ‫والجرمانيــة»‪ .‬فمــن البدايــات األولــى‬ ‫للمنهــج التاريخــي المقــارن مــا قــام‬ ‫بــه األب الفرنســي كــوردو‪- 1691(،‬‬ ‫‪ )1779‬حيــن أعلــن ســنة ‪ 1767‬عــن‬ ‫السنســكريتية واليونانيــة‬ ‫العالقــة بيــن ّ‬ ‫والالتينيــة ثــم نشــر ذلــك فــي بحــث‬ ‫بيــل وفاتــه‪ .‬وبالتزامــن‬ ‫أظهــره للنــاس ُق ْ‬ ‫مــع ذلــك أبــدى الســير «وليــام جونــز»‪،‬‬ ‫(‪ )1794 - 1746‬القاضــي فــي المحكمــة‬ ‫العليــا بالبنغــال إشــارة لغويــة دقيقــة‪،‬‬

‫مــا إن ذكرهــا فــي تقريــر لــه ســنة‬ ‫‪ 1786‬حتــى أذكــت روح البحــث العلمــي‬ ‫المقــارن فــي لغــات الشــعوب فــي‬ ‫مطلــع القــرن التاســع عشــر‪ ،‬ومفــاد‬ ‫السنســكريتية‬ ‫مالحظــة وليــام جونــز ّ‬ ‫أن ّ‬ ‫ّتينيــة بينهــا أوجــه‬ ‫واليونانيــة والال ّ‬ ‫ّ‬ ‫ــرد إلــى‬ ‫ت‬ ‫أن‬ ‫يمكــن‬ ‫ال‬ ‫ــة‬ ‫قوي‬ ‫ُ ّ‬ ‫قرابــة ّ‬ ‫الصدفــة‪.‬‬ ‫محــض ّ‬ ‫علــى هــذا النحــو كان احتــكاك‬ ‫األوروبييــن بغيرهــم مــن الشــعوب‬ ‫ُمقّدمــة لنهضــة علــوم اللســان‬ ‫يــن‬ ‫واإلنســان‪ ،‬وهــي النهضــة التــي َنِد ُ‬ ‫تطــور فــي العلــوم‬ ‫لهــا بمــا حصــل مــن ّ‬ ‫اإلنســانية خــال القرنيــن التاســع عشــر‬ ‫و ا لعشــر ين ‪.‬‬ ‫ورغــم هــذه الحصيلــة العلميــة المهمــة‬ ‫فــإن أهــداف تلــك الســياحة األوروبيــة‬ ‫فــي العالــم لــم تكــن مــن جنــس أهدافهــا‬ ‫المرســومة ســلفاً‪ ،‬فقــد كانــت الغايــات‬ ‫تجاريــة اســتعمارية باألســاس‪،‬‬ ‫فتحققــت النتائــج بمــا يشــبه الصدفــة‬ ‫علــى نحــو مــا فعــل كريســتوفر‬ ‫كولومبــوس حيــن اكتشــف أميــركا وهــو‬ ‫يبحــث عــن طريــق إلــى الهنــد‪.‬‬ ‫وإذا كان األمــر علــى ذلــك النحــو‬ ‫فــي وضعيــات حضاريــة لــم تكــن‬ ‫مكونــا ضمــن سياســة‬ ‫اللغــة فيهــا ّ‬ ‫فــإن األمــر يختلــف حيــن‬ ‫ُمحــّددة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ـألة اللغويـ َـة أطـ ٌـر علميـ ٌـة‬ ‫ـ‬ ‫المس‬ ‫تحتضــن‬ ‫َ‬ ‫واســتراتيجية علــى درجــة عاليــة مــن‬ ‫الدقــة‪ .‬فاالكتشــافات األنثروبولوجيــة‬ ‫الكبــرى خــال القــرن العشــرين قــد‬ ‫تمــت فيمــا يمكــن أن نعــّده ســياحة‬ ‫ّ‬ ‫أن‬ ‫علميــة فتحــت أعيــن الدارســين علــى ّ‬ ‫اإلنســان واللســان همــا طرفــا المعادلــة‬ ‫فــي الحضــارة اإلنســانية‪ .‬فــكان اإلنجــاز‬ ‫المنعــرج فــي هــذا المضمــار حيــن كشــف‬ ‫«كلــود ليفــي ســتروس» (‪- 1908‬‬ ‫أن أنظمــة القرابــة هــي أنظمــة‬ ‫‪ّ )2009‬‬ ‫تحاكــي مؤسســة اللغــة فيمــا تحتكــم‬ ‫إليــه مــن عالقــات وقيــم‪ ،‬ففــي الســياق‬ ‫االجتماعــي يحتكــم النــاس إلــى قوانيــن‬ ‫تقــل عــن قوانيــن اللغــة‬ ‫صارمــة ال‬ ‫ّ‬ ‫صرامــة وإلزامــاً‪ ،‬فتضبــط ســلوكهم‬ ‫ويمتثلــون لهــا فــي أقــوى عالقاتهــم‬ ‫كالمصاهــرة والــزواج والميــراث‪ .‬وقــد‬

‫أتيــح لكلــود ليفــي ســتروس البحــث‬ ‫فــي ذلــك ميدانيــ ًا مــن خــال رحلتيــن‬ ‫إلــى البرازيــل عامــي ‪ 1935‬و‪1938‬‬ ‫إذ اطلــع بفضلهمــا علــى أحــوال الهنــود‬ ‫الحمــر فــي ضواحــي ســاو باولــو‬ ‫وفــي أريافهــا البعيــدة‪ .‬فكانــت تلــك‬ ‫الســياحة العلميــة مفتاحــ ًا لتأســيس‬ ‫األنثروبولوجيــا البنيويــة انطالقــ ًا‬ ‫مــن اســتثمار اللســانيات البنيويــة‬ ‫فــي األنثروبولوجيــا‪ ،‬وكان المنتــوج‬ ‫األول بحثــ ًا صــدر ســنة ‪ 1945‬بعنــوان‬ ‫ّ‬ ‫ّســانيات‬ ‫البنيــوي فــي الل‬ ‫«الّتحليــل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ــور ليكــون‬ ‫واألنثروبولوجيــا»‪ ،‬ثــم ُط ّ‬ ‫كتابـ ًا ضخمـ ًا صــدر ســنة ‪1958‬بعنــوان‬ ‫«األنثروبولوجيــا البنيويــة»‪.‬‬ ‫علــى هــذا النحــو تنامــى خــال‬ ‫ٌ‬ ‫إدراك لمركزيــة‬ ‫الماضيْيــن‬ ‫القرنيــن‬ ‫َ‬ ‫اللغــة فــي علــوم اإلنســان‪ ،‬وبلــغ هــذا‬ ‫بتطــور علــوم اإلدراك‬ ‫ــه‬ ‫ّ‬ ‫الوعــي ْ‬ ‫أو َج ُ‬ ‫(‪ .)cognitive sciences‬فأصبــح‬ ‫الدارســون يتعاملــون مــع األلســنة‬ ‫بوصفهــا ثــروات علميــة حقيقيــة‪.‬‬ ‫وبذلــك لــم يعــد المجــال متعلّقــ ًا‬ ‫بالمفاضلــة بيــن اللغــات واســتنقاص‬ ‫مــا لــم يكــن لــه رصيــد مــن مقومــات‬ ‫إن األمــر مبني‪،‬‬ ‫الحضــارة الحديثــة‪ ،‬بــل ّ‬ ‫فــي تقديــر العلمــاء المتخصصيــن‪،‬‬ ‫أن اكتشــاف‬ ‫علــى معادلــة أخــرى هــي ّ‬ ‫تلــك األلســنة األقــرب إلــى البــداوة ُيع ـّد‬ ‫شــجع‬ ‫ثــروة حقيقيــة‪ ،‬وهــذا األمــر‬ ‫ّ‬ ‫جمهــور الباحثيــن إلــى نــوع جديــد مــن‬ ‫الســياحة االستكشــافية يهــدف إلــى‬ ‫للمكتشــفات اللغويــة‬ ‫االســتثمار العلمــي‬ ‫َ‬ ‫الجديــدة‪ .‬فمــن ذلــك صيحــة الفــزع‬ ‫التــي ُأعلنــت مــن خــال ملــف جعلتــه‬ ‫مجلــة «ناشــيونال جيوغرافيــك» للغــات‬ ‫المهــددة باالندثــار‪ ،‬وذلــك فــي عــدد‬ ‫يوليو‪/‬تمــوز ‪ ،2012‬فقــد أشــار «روس‬ ‫ريمــر»‪ ،‬مــن خــال أمثلــة عايشــها إلــى‬ ‫مــا يتهــّدد العديــد مــن لغــات الشــعوب‬ ‫المغمــورة مــن خطــر االندثــار‪ .‬وإزاء‬ ‫الخصوصيــات البنائيــة لهــذه اللغــات‬ ‫فــإن اندثارهــا يحرمنــا مــن القنــاة‬ ‫ّ‬ ‫التــي نتطلــع بهــا إلــى ذاكــرة الشــعوب‬ ‫ويتلــف األداة‬ ‫الناطقــة بتلــك اللغــات ُ‬ ‫التــي بهــا يمكــن أن نعــرف وجهــة نظـ ٍـر‬ ‫‪67‬‬

‫مجموعة من الهنود الحمر في ساو باولو‬

‫للعالــم واألشــياء تختلــف بالضــرورة‬ ‫عــن كيفيتنــا فــي رؤيــة األشــياء(‪.)2‬‬ ‫الباحــث فــي أمــر اللغــات‬ ‫واليــوم تثيــر‬ ‫َ‬ ‫معلومــة تواتــرت حتــى غــدت مســلّمة‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫أن ثمــة لغــة تمــوت كل أربعــة‬ ‫وهــي ّ‬ ‫عشــر يومــاً‪ .‬وعلــى هــذه المعلومــة‬ ‫الفرنســي‬ ‫األساســية بنــى التونســي‬ ‫ّ‬ ‫كلــود حجــاج كتابــه الصــادر ســنة‬ ‫‪ ،2002‬بعنــوان فــي صيغــة صيحــة‬ ‫فــزع «أوقفــوا مــوت اللغــات(‪،»)3‬‬ ‫«‪.»Halte à la mort des langues‬‬ ‫ولئــن ارتبــط المنعــرج التاريخــي بيــن‬ ‫القرنيــن العشــرين والحــادي والعشــرين‬ ‫فــإن مــا فرضتــه‬ ‫بفكــرة العولمــة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وســائل االتصــال فــي الســياق العالمــي‬ ‫الجديــد قــد جعــل للهويــة اللغويــة‪ ،‬بــكل‬ ‫اعتباريــة‪،‬‬ ‫أولويــة‬ ‫مــا ترتبــط بــه‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وذلــك فيمــا أصبــح يختصــره البعــض‬ ‫فــي أنهــا نهايــة الجغرافيــا وعــودة‬ ‫التاريــخ‪.‬‬ ‫وفــي واقــع العولمــة كفّــت اللغــات‬ ‫ٍ‬ ‫تواصــل‬ ‫مجــرد أدوات‬ ‫تكــون‬ ‫عــن أن ُ‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫هويــة ينبغــي تحصينهــا‪.‬‬ ‫ومكونــات‬ ‫فالمنظومــة الجديــدة فرضــت حــّدًا مــن‬ ‫التبــادل والتفاعــل ال مهــرب منــه‪ .‬وهــو‬ ‫مــا اختزلــه «جــون لــوي كالفــاي»‪،‬‬ ‫فــي عنــوان كتابــه «ســوق اللغــات‪:‬‬ ‫التأثيــرات اللغويــة للعولمــة»(‪.)4‬‬ ‫وقــد تجلّــى هــذا الوضــع اللغــوي‬ ‫الكونــي فــي سياســة المنتظــم األممــي‬ ‫بارتبــاط نهايــة األلفيــة الثانيــة ومطلــع‬ ‫األلفيــة الثالثــة باتجــاه مهــم فــي‬ ‫سياســة األمــم المتحــدة هــو االهتمــام‬ ‫بالهويــات اللغويــة‪ .‬وقــد تجلّــى ذلــك‬ ‫ّ‬ ‫فــي شــكل صيحــة فــزع إزاء المــوت‬ ‫الــذي ُيهـّدد كثيــرًا مــن األلســنة البشــرية‪.‬‬ ‫وتزامــن ذلــك مــع اهتمــام أكاديمــي‬ ‫بهــذه الظاهــرة فــي األوســاط العلميــة‪.‬‬ ‫فقــد جعلــت منظمــة اليونســكو عــدد‬ ‫مجلتهــا إلبريل‪/‬نيســان مــن ســنة‬ ‫‪ ،2000‬بعنــوان صــادم هــو «حــرب‬ ‫اللغــات وســلْمها»‪ ،‬وأصـــدر «ســتيفن‬ ‫وورك»‪ ،‬ســنة ‪« 2002‬أطلــس اللغــات‬ ‫المه ـّددة باالندثــار فــي العالــم»(‪ .)5‬وفي‬ ‫الســنة نفســها اتجــه لســانيون عديــدون‬ ‫إلــى االهتمــام بقضيــة مــوت اللغــات‪.‬‬ ‫‪68‬‬

‫فشــكل هــؤالء الباحثــون تيــارًا نشــأ‬ ‫ّ‬ ‫بشــكل متزامــن‪ ،‬فمنهــم فــي الفضــاء‬ ‫الفرنكفونــي كلــود حجــاج وجــون‬ ‫لــوي كالفــاي‪ ،‬ومنهــم فــي الســياق‬ ‫األنغلوفونــي «دانيــال ناتــل» و«ســوزان‬ ‫رومــان(‪ )6‬وإزاء واقــع الصــراع اللغــوي‬ ‫الكونــي أصبــح الســؤال عــن مســتقبل‬ ‫ملحــ ًا مــن‬ ‫لســان ّ‬ ‫معيــن هاجســ ًا علميــ ًا ّ‬ ‫تقنــي‪ ،‬وواجبــ ًا قوميــ ًا‬ ‫منظــور لســاني‬ ‫ّ‬ ‫ثقافــي‪.‬‬ ‫حضــاري‬ ‫منظــور‬ ‫حارقــ ًا مــن‬ ‫ّ‬ ‫وبذلــك نشــأ مفهــوم جديــد شــغل تيــارًا‬ ‫ا هــو مفهــوم «الحــروب‬ ‫بحثيــ ًا كامــ ً‬ ‫ٍ‬ ‫كتابــات‬ ‫موضــوع‬ ‫فشــكل‬ ‫اللغويــة»‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ـدرس مركزيــة القضيـِـة‬ ‫ـ‬ ‫ي‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫عديــدة منه‬ ‫ُ‬ ‫اللغويــة فــي الحــروب كمــا فــي بعــض‬ ‫كتابــات «تزفيتــان تــودوروف»(‪. )7‬‬ ‫ومنهــا مــا يقتفــي أوجــه الصــراع بيــن‬ ‫األلســنة البشــرية كمــا فــي كتابــات‬ ‫«روبــان تولماتــش اليكــوف»(‪)8‬‬ ‫إن التقديــر‬ ‫و«هنــري هيتشــنغز» (‪ّ )9‬‬ ‫المنصــف للرابطــة اللغويــة فــي النســيج‬ ‫أن األطــر‬ ‫اإلنســاني يجعلنــا نــرى ّ‬ ‫الجمعياتيــة المدافعــة عــن األلســنة‬ ‫ينظــم نشــَاطها‬ ‫المحلّيــة يمكــن أن ّ‬ ‫وأجــل أثــراً‪ ،‬وذلــك‬ ‫إطــار أوســع مــدى‬ ‫ُّ‬ ‫ٌ‬ ‫حيــن يبنــى النظــر فــي العالقــة بيــن‬ ‫التنــوع‬ ‫اللغــات علــى أســاس مــن‬ ‫ّ‬ ‫المتكامــل ال علــى خلفيــة مــن التنــازع‬ ‫والصــراع‪ ،‬وهــو مــا يمكــن أن يكــون‬ ‫انطالقــ ًا مــن تأســيس منتــدى عالمــي‬ ‫للغــات والتواصــل‪ ،‬وســيكون مــن‬ ‫ــف‬ ‫مهــام هــذا المنتــدى العالمــي أن ِّ‬ ‫يوظ َ‬

‫التع ـّد َد اللغــوي فــي خدمــة الســام بيــن‬ ‫اإلنســان واإلنســان‪.‬‬ ‫هوامش‪:‬‬ ‫‪1- Tzvetan Todorov, La Conquête de‬‬ ‫‪l’Amérique, La Question de l’autre,‬‬ ‫‪éditions du Seuil, 1982.‬‬ ‫‪2- Russ Rymer, Vanishing‬‬ ‫‪Languages, in National Geographic,‬‬ ‫‪July 2015.‬‬ ‫‪3- Claude Hagège, Halte à la mort des‬‬ ‫‪langues, Ed. Odile Jacob, 2002.‬‬ ‫‪4- Louis-Jean Calvet , Le Marché‬‬ ‫‪aux langues : Les Effets linguistiques‬‬ ‫‪de la mondialisation. Ed. Plon, 2002.‬‬ ‫‪5- Stephen A. Wurm, Atlas Of The‬‬ ‫‪World’s Languages In Danger Of‬‬ ‫‪Disappearing, ED. UNESCO, 2002.‬‬ ‫‪6- Daniel Nettle and Suzanne‬‬ ‫‪Romaine, Vanishing Voices : The‬‬ ‫‪Extinction of the World’s Languages,‬‬ ‫‪Oxford University Press, USA, 2000.‬‬ ‫‪7- Tzvetan Todorov, La Conquête de‬‬ ‫‪l’Amérique , La Question de l’autre,‬‬ ‫‪éditions du Seuil, 1982.‬‬ ‫‪8- Robin Tolmach Lakoff, The‬‬ ‫‪Language War, University of‬‬ ‫‪California Press, 2001.‬‬ ‫‪9- Henry Hitchings, The Language‬‬ ‫‪Wars: A History of Proper English,‬‬ ‫‪Picador, 2012‬‬ ‫*أســتاذ باحــث‪ .‬المركــز العربــي لألبحــاث‬ ‫ودراســة السياســات‪.‬‬

‫أمير تاج السر‬

‫دعوة إلى العزلة‬

‫كن ــت ش ــاهدت ف ــي إح ــدى القن ــوات التليفزيوني ــة‪ ،‬ح ــوارًا‬ ‫قصي ــرًا م ــع الممثل ــة البريطاني ــة «كي ــت وينس ــلت»‪ ،‬الت ــي أدت‬ ‫دور «روز» فــي الفيلــم العظيــم‪« :‬تايتانيــك»‪ ،‬أحــد أفضــل األفــام‬ ‫الت ــي ُأنتج ــت حت ــى اآلن‪ .‬تق ــول ف ــي الح ــوار حي ــن ُس ـِئَل ْت ع ــن‬ ‫س ــبب هدوئه ــا الش ــديد‪ ،‬وه ــي نجم ــة له ــا ماليي ــن المعجبي ــن‪،‬‬ ‫بأنهــا ال تســمح لألشــياء التــي ال تريدهــا أن تضجرهــا‪ ،‬ولذلــك‬ ‫فهـــي ال تشـــاهد أي فيلـــم لهـــا بعـــد االنتهـــاء مـــن تمثيلـــه‪ ،‬وال‬ ‫تش ــاهد حواراته ــا التليفزيوني ــة‪ ،‬أو تق ــرأ تل ــك المكتوب ــة ف ــي‬ ‫الصحــف والمجــات‪ ،‬وال تملــك حســابات فــي وســائل التواصــل‬ ‫االجتماع ــي‪ ،‬يمك ــن أن تأخ ــذ منه ــا بع ــض الوق ــت‪ ،‬وه ــي ف ــي‬ ‫األص ــل فنان ــة‪ ،‬وليس ــت ش ــخص ًا آخ ــر‪.‬‬ ‫مـــا ذكرتـــه النجمـــة البريطانيـــة‪ِ ،‬إ ْن كان صحيحـــاً‪ ،‬فقـــد‬ ‫تخلَّصـــت‪ -‬بالفعـــل‪ -‬مـــن كل الشـــوائب الضـــارة التـــي تفتـــك‬ ‫بالعمليـــة اإلبداعيـــة‪ ،‬واألعصـــاب‪ ،‬أيضـــاً‪ ،‬فـــي هـــذا الزمـــان‪.‬‬ ‫فالدخـــول فـــي التكنولوجيـــا بجميـــع تفرعاتهـــا مـــن إنترنـــت‬ ‫وهواتـــف محمولـــة‪ ،‬وقنـــوات تليفزيونيـــة فضائيـــة‪ ،‬يجعـــل‬ ‫م ــن المس ــتحيل ألي مب ــدع أن ُيم ــارس إبداع ــه متخفيــ ًا وهادئــ ًا‬ ‫تطف ــل غي ــر ض ــروري‪ .‬س ــاعات طويل ــة يت ــم‬ ‫وبعي ــدًا ع ــن أي ُّ‬ ‫إنفاقه ــا ف ــي تل ــك األج ــواء المش ــحونة بالجاذبي ــة‪ ،‬يضي ــع فيه ــا‬ ‫إبــداع‪ ،‬كان مــن الممكــن أن يحــدث‪ ،‬مــن تويتــر إلــى فيســبوك‪،‬‬ ‫إلــى أنســتجرام‪ ،‬ثــم إلــى الواتــس آب‪ ،‬فــي الهواتــف المحمولــة‪،‬‬ ‫الناق ــل غي ــر الواع ــي ل ــكل ش ــيء كم ــا أس ــميه‪ ،‬وال ــذي يمك ــن أن‬ ‫يظ ـ ّـل نحل ــة طنان ــة ط ــوال الي ــوم‪ ،‬م ــع اخت ــاف التوقي ــت ف ــي‬ ‫دول العالــم‪ ،‬ليأتيــك بمــا تريــده‪ ،‬ومــا ال تريــده‪ ،‬ومــا يمكــن أن‬ ‫يقتلــك أيضـاً‪ ،‬وتجــد نفســك فــي مجموعــات تتحـّدث عــن أفضــل‬

‫هــدف ُأحـِـر َز فــي مرمــى برشــلونة‪ ،‬وأنــت ال تعــرف شــيئ ًا عــن‬ ‫برش ــلونة‪ ،‬ع ــن الت ــواء س ــاق ممثل ــة ف ــي مس ــرح م ــا ف ــي بل ــد‬ ‫مــا‪ ،‬وال تكــون محبـ ًا حتــى للتمثيــل‪ ،‬وهكــذا‪ ،‬ممــا يجعــل حتــى‬ ‫ـس برغب ــة ش ــديدة‪،‬‬ ‫الش ــخص الع ــادي‪ُ ،‬مش ـ ّـوش الذه ــن‪ ،‬ويح ـ ّ‬ ‫ف ــي أن يع ــود إنس ــان ًا م ــرة أخ ــرى بع ــد تل ــك التح ـ ّـورات غي ــر‬ ‫اإلنس ــانية‪.‬‬ ‫إذاً‪ ،‬أين وقت اإلبداع؟‬ ‫أيــن الوقــت الــذي يمكــن أن تنكتــب فيــه صفحــات مشــرقة فــي‬ ‫روايــة‪ ،‬أو أبيــات رقراقــة فــي قصيــدة؟ بــل‪ ،‬وأيــن الوقــت الــذي‬ ‫يمك ــن أن ينف ــرد في ــه المب ــدع بأف ــكاره الخاص ــة لينتق ــي منه ــا‬ ‫يوظف ــه ف ــي عم ــل جدي ــد؟‬ ‫فريق ـاً‪ّ ،‬‬ ‫بعـــض المبدعيـــن يقولـــون إن مواكبـــة التكنولوجيـــا‪ ،‬بـــكل‬ ‫مآســـيها‪ ،‬شـــيء ضـــروري‪ ،‬ووجـــود المبـــدع علـــى صفحـــات‬ ‫ـا‪،‬‬ ‫التواصــل مهــم‪ ،‬حيــث يمكنــه أن يحــاور النــاس فيفيدهــم قليـ ً‬ ‫ويســتفيد منهــم أكثــر‪ ،‬وهنــاك أعمــال روائيــة‪ ،‬قامــت كلهــا علــى‬ ‫فكــرة وجــود مبدعيــن ملتصقيــن بصفحــات التواصــل‪ ،‬ويتلقــون‬ ‫األف ــكار‪ ،‬الت ــي يحولونه ــا إل ــى أعم ــال أدبي ــة‪ .‬أيضــ ًا الدعاي ــة‬ ‫للنصــوص‪ ،‬حيــث يمكــن لــكل مبــدع أن يعلــن عــن كتابــه فــي زمن‬ ‫تعـّددت فيــه النصــوص بشــكل مزلــزل‪ ،‬وأصبــح مــن الصعوبــة‬ ‫أن تع ــرف م ــا ه ــو الجي ــد منه ــا‪ ،‬وم ــا ه ــو ال ــرديء‪.‬‬ ‫فض ــل أن يك ــون الوج ــود‬ ‫ش ــخصياً‪ُ ،‬أق ـّـر به ــذا الط ــرح‪ ،‬لك ــن ُأ ّ‬ ‫االفتراض ــي ف ــي أماك ــن االفت ــراض مح ــدودًا للغاي ــة‪ ،‬بحي ــث ال‬ ‫يؤث ــر عل ــى المس ــألة اإلبداعي ــة‪.‬‬ ‫أخي ــراً‪ ،‬س ــواء أكان ــت «كي ــت وينس ــلت» صادق ــة أم ال‪ ،‬فق ــد‬ ‫ـاور حولهــا‪.‬‬ ‫ذكــرت أشــياء ّ‬ ‫مهمــة‪ ،‬ال بـّد مــن االلتفــات إليهــا والتحـ ُ‬ ‫‪69‬‬

‫‪81‬‬

‫غاليانو وتحطيم العالم‬ ‫ربمــا‪ ،‬يمكــن القــول إن إدواردو غاليانو (‪- 1940‬‬ ‫ّ‬ ‫‪ )2015‬كان أحــد المقربين من قلــب هذا العالم؛ فقد‬ ‫قضى الكاتب األوروغواياني ســنينه التي جاوزت‬ ‫ِ‬ ‫يكتف أبداً‪ ،‬لم‬ ‫الســبعين في قراءة هذا العالم‪ ،‬ولم‬ ‫تكِفِه الرؤى الكثيرة وزوايا النظر‪ ،‬ولم يكِفِه الفهم‬ ‫الجاهز‪ ،‬وكذلك النظرية‪ ،‬لم يلتزم بشيء مفروض‬ ‫ليحطم األشياء التي لقيها في‬ ‫أو موجود‪ ،‬بل ذهب‬ ‫ِّ‬ ‫الفن‬ ‫يخدم‬ ‫بما‬ ‫تركيبهــا‬ ‫ويعيد‬ ‫حياته إلى شــظايا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫واألرض واإلنسان‪.‬‬

‫أدب‬ ‫ترجمات‬

‫مختارات شعرية لحلمي ياووظ‬

‫ُوِلــد حلمــي يــاووظ في إســطنبول عــام ‪،1936‬‬ ‫ّية الحقــوق‪ ،‬ولم يكمل‬ ‫وبعــد الثانوية التحق بكلّ‬ ‫دراســته فيها‪ ،‬وغادر إلى إنجلترا‪ ،‬ودرس هناك‬ ‫الفلســفة إلى جانب عمله في القســم التركي لهيئة‬ ‫اإلذاعة البريطانية‬

‫مقاالت‬ ‫عزاء تافه‬

‫عبد الفتاح كيليطو‬

‫‪70‬‬

‫‪67‬‬

‫كتب‬

‫‪121‬‬ ‫تعرية «الوطن»‬ ‫من الداخل‬

‫مالك الحزين‬ ‫شاهد على الثورة‬ ‫ٌ‬

‫أدب‬

‫رشيد بوجدرة‬ ‫وعتمات ال ّرواية الجزائرية‬ ‫أول كاتــب جزائــري‬ ‫كان بوجــدرة ّ‬ ‫يتجــرأ على تنــاول موضوع الجســد‬ ‫ّ‬ ‫أول مــن أعطى للفرد‬ ‫روائيــاً‪ ،‬وهــو ّ‬ ‫مكانــة فــي النّــص الروائــي‪ ،‬حيــث‬ ‫تطرقت رواية «التطليق» لسيرة شاب‬ ‫ّ‬ ‫يتعرض للقهر في مجتمع بطريركي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ويصــف‪ ،‬عبــر بوحــه‪ ،‬مــدى كرهــه‬ ‫لوالده البرجوازي المتسلِّط‪.‬‬ ‫لقــد كان بوجــدرة األقــرب إلــى تيــار‬ ‫الرواية الجديدة‪ ،‬كما ظهر في فرنســا‬ ‫مع كلود سيمون‪ ،‬وصاحب جرأة في‬ ‫تناول المستور‪ ،‬واالعتراف بتفاصيل‬ ‫الحيــاة الحميمــة ألبطالــه‪ ،‬مثلما هو‬ ‫الحــال فــي روايته الثانيــة «الرعن»‪،‬‬ ‫ثــم في رواية «المرث» التي ُمِنعت من‬ ‫النشر في مصر سنة ‪.2012‬‬

‫‪74‬‬

‫نصوص‬

‫ذكريات‬ ‫لينا هويّان الحسن‬

‫حوار‬

‫‪............‬عزة كامل‬

‫‪86‬‬

‫‪64‬‬

‫تجاه ْلنا ثقافات أكثر ألفة مع واقع الحياة‬ ‫َ‬ ‫ال تتوقّف الروائية السورية لينا هويّان الحسن عن مناوشة التاريخ واألسطورة في‬ ‫رواياتها‪ ،‬واستطاعت‪ ،‬منذ روايتها األولى «معشوقة الشمس»‪ ،‬الصادرة عام ‪،1998‬‬ ‫المتوجهة إلى عوالم البادية والصحراء‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫أن تلفت االنتباه إلى خصوصيّتها السردية‬ ‫والقبائل البعيدة وآثارها الدارسة‪ ،‬قبل أن تواصل أعمالُها الحفر في المسار نفسه‪،‬‬ ‫محاولة ترسيخ حمولة معرفية‬ ‫ً‬ ‫وهي تتنقّل من عمل إلى آخر في حواضر التاريخ‪،‬‬ ‫في هذا الحقل شديد الخصوصية‪ ،‬الذي ال يقترب منه الروائيون كثيراً‪.‬‬

‫‪71‬‬

‫حوار‬

‫هويان الحســن عن مناوشــة التاريخ‬ ‫ال تتوقّــف الروائيــة الســورية لينــا ّ‬ ‫واألســطورة في رواياتها‪ ،‬واســتطاعت‪ ،‬منــذ روايتها األولى «معشــوقة‬

‫خصوصيتها السردية‬ ‫الشمس»‪ ،‬الصادرة عام ‪ ،1998‬أن تلفت االنتباه إلى‬ ‫ّ‬ ‫المتوجهــة إلــى عوالــم الباديــة والصحــراء‪ ،‬والقبائــل البعيــدة وآثارها‬ ‫ِّ‬ ‫الدارسة‪ ،‬قبل أن تواصل أعماُلها الحفر في المسار نفسه‪ ،‬وهي تتنقّل من‬

‫محاولة ترســيخ حمولة معرفية في‬ ‫عمــل إلــى آخر في حواضر التاريخ‪،‬‬ ‫ً‬ ‫هذا الحقل شديد الخصوصية‪ ،‬الذي ال يقترب منه الروائيون كثيراً‪.‬‬

‫أنهت لينا روايتها العاشــرة «ســلطانات الرمل»‪ ،‬وقبلها العديد من األعمال‬

‫حوار‪ :‬حمزة قناوي *‬

‫المتمســكة بخصوصية الحياة الســورية‪ ،‬انفتاحــ ًا على المحيط‬ ‫األخرى‪،‬‬ ‫ِّ‬

‫تفكر في‬ ‫العربــي كلّه‪ ،‬ومــن بينها «رجال وقبائل» و«نازك خانــم» اللتان ِّ‬ ‫تلق مختلفة‪ ،‬و «بنات نعش»‪.‬‬ ‫تحويلهما إلى عملين دراميين‪ ،‬بشروط ٍّ‬

‫مؤخــراً‪ ،‬وصلت روايتها «ألماس ونســاء» إلى القائمــة القصيرة للجائزة‬ ‫َّ‬

‫ســجل‬ ‫العالميــة للروايــة العربية (البوكر)‪ ،2015 ،‬في إضافة جديدة إلى‬ ‫ّ‬ ‫حافل بالتكريمات والجوائز‪.‬‬ ‫فــي هذا الحــوار التقينا صاحبة «التفاحة الســوداء» فــي تقاطعات فكرية‬ ‫والهوية والبادية وتقاطع التاريخ مع األسطورة‪.‬‬ ‫ُحّرة حول األدب‬ ‫ّ‬

‫بعث مواز ٍ لحياة اإلنسان‬ ‫ٌ‬ ‫المُ خيّلة‬

‫لينا هويّان الحسن‬

‫تجاه ْلنا ثقافات أكرث ألفة مع واقع الحياة‬ ‫َ‬ ‫رتكز‬ ‫ُت ِّ‬ ‫الم َ‬ ‫شــكل «الباديــة» والصحــراء ُ‬ ‫تكررت‬ ‫ّ‬ ‫األهــم والنواة الصلبــة ألعمالك‪ّ ،‬‬ ‫محطاتــك الروائية األبرز‬ ‫هــذه الثيمة في ّ‬ ‫«معشــوقة الشــمس»‪« ،‬مرآة الصحراء»‪،‬‬ ‫«بنــات نعــش»‪« ،‬ســلطانات الرمــل»‪..‬‬ ‫ِ‬ ‫تربطــك‬ ‫وغيرهــا‪ .‬مــا الوشــيجة التــي‬ ‫إنساني ًا ومعرفي ًا بهذا المحيط تحديداً؟‬ ‫ إنهــا تلك الحمولــة الكبيرة من الذاكرة‬‫‪72‬‬

‫والتاريخ واألسطورة التي ِ‬ ‫أحمُلها بحكم‬ ‫انتمائي القبلي إلى عشــائر بادية الشام‬ ‫ثمة ذاكــرة صحراوية‬ ‫الســورية‪ ،‬حيــث ّ‬ ‫حظيــت بهــا بســبب عالقتــي الوطيــدة‬ ‫بمســقط رأســي‪ ،‬رغم أني عشــت معظم‬ ‫حياتي في دمشــق قبل أن أنتقل‪ -‬حالياً‪-‬‬ ‫إلى بيروت بســبب الظروف السائدة في‬ ‫أخذت عّدة نصوص كتبتها‬ ‫ســوريا‪ .‬لهذا‬ ‫ْ‬ ‫ينســجم مــع حقيقة أني‬ ‫خاصــ ًا‬ ‫ِ‬ ‫طابعــ ًا ّ‬

‫كرست قلمي للدفاع عن الوجود والذاكرة‬ ‫َّ‬ ‫والثقافــة في البادية‪ .‬ألم يقل ألبير كامو‬ ‫أي إنســان هو قبل‬ ‫ذات يــوم‪« :‬إن تفكير ّ‬ ‫كل شــيء حنينــه»؟‪ .‬يالزمنــي حنينــي‬ ‫كلما أردت كتابة رواية جديدة‪ ،‬على رغم‬ ‫ّ‬ ‫روايتــي األخيرتين لمدينة‬ ‫ســت‬ ‫كر‬ ‫أنني‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫دمشــق‪ ،‬رواية «نازك خانم»‪ ،‬وراويتي‬ ‫مؤخرًا‬ ‫األخيرة «ألماس ونساء» الصادرة َّ‬ ‫عــن دار «اآلداب»‪ ،‬فدمشــق مدينة جذّابة‬

‫تمتلــك تاريخــ ًا من األســرار‬ ‫ومغويــة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫عادة‪.‬‬ ‫النسائية التي يهواها األدب‬ ‫ً‬ ‫ِ‬ ‫قلــت‪ ،‬مــن قبــل‪ ،‬إن الكتابــة يجب أن‬ ‫تفضــي‪ -‬بالضــرورة‪ -‬إلــى «الدهشــة‬ ‫واإلمتــاع»‪ ،‬ولكنــي أالحــظ أن هنــاك‬ ‫قيمــة ثالثــة مضافة تحرصيــن عليها في‬ ‫أعمالــك الروائية‪ ،‬وهي تقديم «المعرفة»‬ ‫و«التاريــخ»‪ ..‬إلى أي مدى من الممكن ّأل‬ ‫تتالقى هذه المسارات عند االشتغال على‬ ‫عمل روائي؟‬ ‫الحس‬ ‫ األدبــاء كالقطــط‪ ،‬أي يمتلكون‬‫ّ‬ ‫المرهــف الــذي يســمح لهــم باستشــعار‬ ‫الهــزات األرضيــة قبــل البشــر‪ .‬الروائي‬ ‫ّ‬ ‫الــذي ال يؤمــن بــأن الجنــون التقنــي‬ ‫الــذي يطيــح بكل مــا حولنا مــن عادات‬ ‫التنبه‬ ‫يتم‬ ‫اجتماعية تآلفية ُي َ‬ ‫ُّ‬ ‫ــرض أن ّ‬ ‫فت َ‬ ‫لــه‪ .‬لقــد تجاهلنــا ثقافات أكثــر ألفة مع‬ ‫شــكل توازن ًا‬ ‫واقــع الحيــاة‪ ،‬بــل هــي ُت ِّ‬ ‫اســتثمرت كل‬ ‫رائعــ ًا مــع الكــون‪ ،‬لهــذا‬ ‫ُ‬ ‫لدي‪ ،‬ســواء في‬ ‫األســطوريات المتاحــة َّ‬

‫رواياتــي عــن البدو أو فــي رواياتي عن‬ ‫دمشق‪ .‬يمكن للروائي أن يمتلك ناصية‬ ‫نصه‪ ،‬بحيث يتقن خلطته الروائية التي‬ ‫ّ‬ ‫تجمع اإلمتــاع مع الدهشــة والمعلومة‪،‬‬ ‫أي‬ ‫فالمعلومــة هــي قــوام الدهشــة فــي ّ‬ ‫نص‪ .‬لكن‪ ،‬يبقى الدور األقوى لألسلوب‬ ‫ّ‬ ‫الذي يمكن أن يستخدمه القارئ‪ ،‬وهنا قد‬ ‫يوفَّق الروائي أو ال يوفَّق‪ ،‬تبع ًا لمقدرته‬ ‫وتجربته‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫اعتمدت في كتابك «رجال وقبائل» على‬ ‫«الوثيقة» واســتقصاء وقائع الماضي‪..‬‬ ‫ِ‬ ‫مرة أخرى في «ألماس‬ ‫لجأت إلى التاريخ ً‬ ‫مهــام الروائي‬ ‫ونســاء»‪ .‬هل ترين أن من‬ ‫ّ‬ ‫إعادة كتابة التاريخ وفق قراءة معطياته‬ ‫بشــكل مختلف؟ هل تخلقين عالم ًا موازي ًا‬ ‫للتاريخ الكالسيكي في أعمالك؟‬ ‫ األدب خلــق باألســاس؛ منــذ البدايات‬‫األولــى للتاريــخ كان األدب الوســيلة‬ ‫المفضلــة لتدوين التاريخ‪ ،‬كـــ «اإللياذا»‬ ‫َّ‬ ‫و«األوديســا» و«جلجامــش»‪ .‬زمــن‬

‫المالحــم لم يكــن إال تاريخ ًا مكتوب ًا بلغة‬ ‫الشــعر الروائي‪ ،‬أيض ًا ال ننســى «سيرة‬ ‫بني هالل» أو «الزير ســالم» أو «الظاهر‬ ‫بيبــرس»‪ . .‬األمثلــة كثيــرة علــى ذلك‪،‬‬ ‫ثــم إني أجعل أبطالي‪ ،‬أي الشــخصيات‬ ‫الخياليــة‪ ،‬فــي المقــام األول‪ ،‬بينمــا‬ ‫الشخصيات التاريخية تنحصر في المقام‬ ‫أتقيــد بحقائق التاريخ‪.‬‬ ‫الثالث‪ ،‬حتى ال َّ‬ ‫الروايــة تنفــر من فكــرة كتابــة التاريخ‬ ‫بالمؤرخين‪،‬‬ ‫خاص‬ ‫بحذافيره‪ ،‬هذا شأن ّ‬ ‫ِّ‬ ‫والروائــي ال يجعــل التاريخ نصب عينه‬ ‫قبل فكرة الرواية‪.‬‬ ‫قدمــت‬ ‫ونســاء»‬ ‫«ألمــاس‬ ‫وفــي روايتــي‬ ‫َّ‬ ‫رؤيــة كوزموبوليتانيــة‪ ،‬تقــوم علــى‬ ‫فكرتــي التســامح بيــن شــعوب العالم‪،‬‬ ‫َ‬ ‫وحوار األديان‪.‬‬ ‫تستعّدين لتحويل روايتيك الشهيرتين‬ ‫«نــازك خانــم» و«ســلطانات الرمل» إلى‬ ‫ّان‬ ‫عمليــن درامييــن‪ ..‬األدب والدرامــا فن ِ‬ ‫مختلفان في آليات اإلنتاج والتلقّي‪ ،‬وفي‬ ‫أدوات صناعتهما بين اللغة والمشهد‪ .‬أال‬ ‫‪73‬‬

‫لعل ما حاولته في هذا الشأن‬ ‫الجغرافيا‪ّ .‬‬ ‫مندمجــة بالمتــن الروائــي‬ ‫محاولــة‬ ‫كان‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫لتوضيــح بعــض المعالــم الجغرافيــة‬ ‫التي عبث بهــا التاريخ‪ ،‬ففي كل أعمالي‬ ‫البدويــة تحضر «ديرة الشــمبل» و«قصر‬ ‫ابــن وردان» و«األندريــن» كأمكنــة ال‬ ‫ّ‬ ‫تنفــك تعــاود الحضــور فــي نصوصي‬ ‫يوطــن الحنين‪،‬‬ ‫الصحراويــة‪ .‬فالمــكان ّ‬ ‫ويغذّيــه‪ ،‬ويرويــه‪ .‬تكفينــي صــورة‬ ‫باألبيض واألســود لقصر «ابــن وردان»‬ ‫األثــري لتشــعل حنينــي إلــى أمكنتــي‬ ‫المفضلة‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫محطاتها‬ ‫أســئلة مشــروعك الروائي‪ّ ،‬‬ ‫األهــم‪ ،‬غاياتهــا‪ ..‬ما الــذي تطمحين إلى‬ ‫ّ‬ ‫إضافتــه إلــى العالــم من خــال إنتاجك‬ ‫األدبي القائم على مراكمة المعرفة‪ ،‬وعلى‬ ‫محاورة اإلنسان والمكان؟‬ ‫تخشــين ّأل ُيحقِّقا مكانتهما المســتحقّة‪،‬‬ ‫مــن خــال اختــاف معالجــة المضامين‬ ‫بــأدوات مغايــرة‪ ،‬كمــا حــدث لكثير من‬ ‫ِ‬ ‫أخفقت عند تحويلها‬ ‫األعمال األدبية التي‬ ‫درامياً؟‬

‫نحن ‪ -‬البشر‪ -‬نصبح أغنى وأكبر وأكثر‬ ‫فالمخيلــة جديــرة‬ ‫مقــ ًا عندمــا نحُلــم‪،‬‬ ‫ُع َ‬ ‫ِّ‬ ‫كثافة وأكثر تماســكاً‪،‬‬ ‫بإنتاج حياة أكثر‬ ‫ً‬ ‫وهــذا هــو دور القصــص؛ أي أن تمنــح‬ ‫القــارئ مــا ال يملكــه‪ ،‬ومــا ال يمكــن أن‬ ‫استمر‬ ‫يعيشه‪ ،‬واألســطورة هي حكاية‬ ‫ّ‬ ‫حضورهــا فــي الذاكــرة الشــعبية رغــم‬ ‫مرور آالف الســنين‪ .‬باختصار‪ ،‬ال ّ‬ ‫شــك‬ ‫أتعمد إحياء الموروث الشــعبي‬ ‫في أنني َّ‬ ‫الســحري الــذي يتالشــى كل يــوم أمــام‬ ‫تكرس‬ ‫زمن جديــد َّ‬ ‫مدجج بالتقنيــة التي ِّ‬ ‫وتعــزز عزلته‪.‬‬ ‫وحــدة الكائــن البشــري‬ ‫ِّ‬ ‫أتوخى أن يتاح‬ ‫نص ًا جديــدًا ّ‬ ‫كلّمــا كتبــت َّ‬ ‫للقــارئ أكبــر قدر ممكن من االســتمتاع‪،‬‬ ‫وفــي الوقت نفســه تمرير مــا أنتقيه من‬ ‫جماليــات المــوروث والماضــي‪ ،‬ليكون‬ ‫ذخــرًا حقيقي ًا لمواجهة مســتقبل بشــري‬ ‫بحق الروح اإلنسانية‪.‬‬ ‫مجحف ّ‬

‫تزاوجيــن بيــن األســطورة والواقــع‬ ‫في روايتك «بنــات نعش»‪ ،‬إلى أي مدى‬ ‫تســتطيعين خلق التــوازن بيــن الذاكرة‬ ‫الشــخصية واســتقراء الوقائــع؟ وهــل‬ ‫تحاولين‪ ،‬من خالل هذا النهج اإلبداعي‪،‬‬ ‫هوية ما؟‬ ‫تأصيل ّ‬

‫يقولــون إن «الجغرافيــا تصنــع‬ ‫أي مدى تحاول أعمالك أن‬ ‫التاريخ»‪ ،‬إلى ّ‬ ‫ترصد تجلّي هذه المقولة ؟‬

‫ربمــا ألنني‬ ‫ الخــوف قائم ومشــروع‪ّ ،‬‬‫أعتنق الحكمة القائلة «إننا عندما نخاف‪،‬‬ ‫نفشــل»! سأقدم على هذا المشروع‪ ،‬ألنه‬ ‫للنــص الروائي‪،‬‬ ‫يكفل انتشــارًا أوســع‬ ‫ّ‬ ‫فالعرب هم أكثر شعوب األرض التصاق ًا‬ ‫بالشاشة الصغيرة‪ ،‬بينما القراءة ليست‬ ‫عــادة رائجة بين شــرائح كبيرة‪ ،‬وهي‬ ‫تقتصر على ُن َخب قليلة من الناس‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫شــك‪ ،‬األدب يتحالــف مــع‬ ‫مــن دون‬ ‫يفضــل أن تبقــى‬ ‫الخيــال‪ ،‬وكل روائــي ّ‬ ‫المخيلــة‬ ‫رهــن‬ ‫شــخوصه الروائيــة‬ ‫َّ‬ ‫بكل قارئ‪.‬‬ ‫الخاصة ّ‬ ‫ّ‬

‫‪74‬‬

‫ أنامل التاريخ لم ّ‬‫تكف يوم ًا عن تسوية‬ ‫مالمح الجغرافيا‪ ،‬ال براءة للتاريخ إزاء‬

‫ درســت الفلســفة فــي جامعة دمشــق‪،‬‬‫وَأ ُعــّد نفســي تلميذة ســارتر الــذي يرى‬ ‫الكلمــات أفعــاالً‪ ،‬ويؤمــن بــأن األدب‬ ‫يغيــر الحيــاة‪ .‬ومــا تيقّنت منــه‪ ،‬خالل‬ ‫ِّ‬ ‫رحلتي مع الكلمــات‪ ،‬أن الكاتب ال يمكن‬ ‫أن يكــون كذلك عبــر المصادفــة؛ األدب‬ ‫جهــد ومثابرة وشــغف وهــوس‪ ،‬األدب‬ ‫يتطلَّــب‪ -‬أيضــاً‪ -‬تنظيم ًا دقيقــ ًا للوقت‪،‬‬ ‫وللحياة نفسها‪ .‬األدب َمَنحني الطمأنينة‬ ‫ألســتمر فــي الحيــاة‪ ،‬بوصفي‬ ‫الكافيــة‬ ‫ّ‬ ‫الخاص‪.‬‬ ‫الروائي‬ ‫مشــروعها‬ ‫لديها‬ ‫كاتبة‬ ‫ّ‬ ‫أؤمن بأن األدب رســالة ومسؤولية‪ ،‬في‬ ‫أي مكان يمكن أن يوجد فيه‪.‬‬ ‫فــي روايتي «ســلطانات الرمــل» أعرف‬ ‫قويــ ًا علــى عالــم‬ ‫أنــي ســلَّطت ضــوءًا ّ‬ ‫ومتجاهل ومغبون وساحر‪ .‬وفي‬ ‫منسي‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫وجهت رســالة‬ ‫روايتــي «نــازك خانــم» َّ‬ ‫«مفخخــة» إلــى كل النســاء الشــرقيات‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫ولعل روايتي األخيرة «ألماس ونســاء»‬ ‫ّ‬ ‫أهم ما أردت قوله حول التســامح‬ ‫حملت ّ‬ ‫الدينــي والعرقــي‪ ،‬وحــول النســاء‬ ‫المخبــَأة وراء‬ ‫وقدراتهــن الحقيقيــة‬ ‫َّ‬ ‫هشاشتهن الظاهرة‪.‬‬ ‫* شاعر وكاتب مصري مقيم في الخارج‬

‫َم َجاز‬

‫عبد الفتاح كيليطو‬

‫عزاء تافه‬ ‫خالل «مائدة مستديرة» في باريس‪ ،‬سمعت كاتبة لبنانية‬ ‫تشكو من قلّة اهتمام الفرنسيين باألدب العربي‪ .‬نحن نقرأ ما‬ ‫يكتبون‪ ،‬نعرف أدبهم‪ ،‬بينما هم يهملوننا‪ ،‬قالت ساخطة من‬ ‫حب غير متبادل‪،‬‬ ‫هذا التفاوت الصارخ‪ .‬إنها في العمق حكاية ّ‬ ‫قصة غيظ غرامي‪ :‬العرب مفتتنون بالفرنسيين‪ ،‬لكن هؤالء‬ ‫ّ‬ ‫عطون لكن‪ ،‬بال مقابل‪ .‬وبحنق غير‬ ‫ال يأبهون بهم‪ ،‬العرب ُي ُ‬ ‫أشَهَدت الكاتبة الجمهور على نكران الفرنسيين للجميل‪.‬‬ ‫مكتوم ْ‬ ‫ِخلت نفسي‪ ،‬حينئذ‪ ،‬في مسرحية لر ِ‬ ‫اسين‪« :‬عملت كل شيء من‬ ‫َ‬ ‫أجلك‪ ،‬لكنك ترفضني‪ ،‬وتشيح بوجهك عني»‪.‬‬ ‫يتمرد األدي ــب العربي على هــذا الــوضــع فيّدعي أنه‬ ‫قــد ّ‬ ‫متفوق(معرفياً) على قرينه األوروبي‪ .‬أليست له‪ ،‬في الغالب‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫لغة «زائدة»‪ ،‬أدب إضافي؟ وقد يتساءل‪ :‬أليست لي ميزة معرفة‬ ‫لمجرد أنه‬ ‫اآلخر‪ ،‬بينما اآلخر ال يعرفني؟ أال يعاني من نقص‪ّ ،‬‬ ‫ال يعلم شيئ ًا عني؟‪ ،‬لكنه عزاء تافه‪.‬‬ ‫براندي‪،‬‬ ‫في سياق مماثل‪ ،‬أقام كاتب بولوني‪ ،‬كازيميرس ْ‬ ‫موازنة بين الطالب الفرنسي والطالب البولوني‪« :‬للطالب‬ ‫الفرنسي نواقص في الثقافة العالمية أكثر من الطالب البولوني‪،‬‬ ‫ال أو‬ ‫الخاصة‬ ‫إال أن ذلك يجوز له‪ ،‬ألن ثقافته‬ ‫تتضمن‪ -‬إن قلي ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫التطور العالمي‪.».‬‬ ‫كثيراً‪ -‬كل إمكانيات وكل مراحل‬ ‫ّ‬ ‫االختالل في العالقة يولِّد رغبة جامحة في اعتراف اآلخر‬ ‫بــي؛ ما يمكن تفسيره كطموح في تجاوز اإلطــار القومي‬ ‫واالندماج في اإلطار العالمي‪ ،‬أو‪ -‬كما يقول ميالن كونديرا‬ ‫«الستار»‪« -‬العزم على االنتقال من السياق الصغير‬ ‫في كتابه ِّ‬ ‫إلى السياق الكبير»‪ُ .‬كّتاب أميركا الجنوبية ينعمون برفاهية‬ ‫السياق الكبير‪ ،‬بينما الكّتاب العرب يراوحون‪ ،‬في الغالب‪ ،‬في‬ ‫السياق الصغير‪ .‬كان هذا‪ ،‬إجماالً‪ ،‬إحساس الكاتبة اللبنانية‬ ‫اآلنفة الذكر‪.‬‬ ‫إذا كان الفرنسيون ال يبالون بنا‪ ،‬وإذا كانت لهم غراميات‬ ‫طيب‪ ،‬سوف نمنحهم‪ ،‬مع ذلك‪ ،‬فرصة لالعتراف‬ ‫أخــرى‪ّ ..‬‬ ‫سنقدم لهم أدبنا‬ ‫يقرؤونا‪،‬‬ ‫أن‬ ‫على‬ ‫ما‪-‬‬ ‫بمعنى‬ ‫سنرغمهم‪-‬‬ ‫بنا‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫بلغتهم‪ :‬إما مباشرة بالكتابة بها‪ ،‬أو بأن نقوم نحن بترجمته‪.‬‬ ‫مسوغ لتجاهلنا‪.‬‬ ‫وهكذا لن يكون لهم عذر أو ِّ‬ ‫إضاءة‬ ‫قدمت دراســة جامعية قريبة عهد‬ ‫ً‬ ‫وفي هذا الصدد َّ‬ ‫مفيدة لهذا الجانب (فاتحة الطايب‪« ،‬الترجمة في زمن اآلخر»‪،‬‬ ‫يتكون متن الدراسة‬ ‫القاهـرة‪ ،‬المركز القومي للترجمة‪ّ .)2010 ،‬‬ ‫من روايات مغربية قليلة في الواقع‪ ،‬ال تتعّدى العشر‪ ،‬مكتوبة‬

‫تسجل الباحثة االهتمام‬ ‫بالعربية ومترجمة إلى الفرنسية‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫وتؤكد‬ ‫لدور النشر الفرنسية باإلبداع السردي المغربي‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫الضعيف ُ‬ ‫عادة‪ -‬بالتعريف‬ ‫أن المؤلِّف نفسه‪ ،‬أو وسيط ًا مغربياً‪ ،‬يقوم‪-‬‬ ‫ً‬ ‫به‪ .‬وعالوة على ذلك‪ ،‬فإن أغلب الترجمات من إنجاز مغاربة‪:‬‬ ‫«الخبز الحافي» لمحمد شكري‪ ،‬ترجمه الطاهر بنجلون‪« ،‬لعبة‬ ‫النسيان» لمحمد برادة‪ ،‬نقلها عبد اللطيف غويرغات (باالشتراك‬ ‫يخانو)‪ ...‬وال يقتصر األمر على الترجمات‬ ‫مع إيف ُغونزاليس ِك ُ‬ ‫بالفرنسية‪ ،‬بل يتعداه إلى اإلسبانية‪ ،‬يقوم بها‪ ،‬في الغالب‪،‬‬ ‫مغاربة‪ .‬لمن؟ للفرنسيين؟ لإلسبانيين؟ ال‪ ،‬للمغاربة‪.‬‬ ‫تطرقت الــدراســة إلــى مسألة النشر‬ ‫وللتدليل على هــذا‪ّ ،‬‬ ‫المشترك الذي يتيح اقتناء المؤلَّفات بثمن معتدل‪ .‬حين يعاد‪،‬‬ ‫في الرباط أو في الدار البيضاء‪ ،‬نشر كتاب مغربي ظهر في‬ ‫المستهد َف هو‪ -‬أساساً‪ -‬القارئ الفرانكفوني‬ ‫فرنسا‪ ،‬فإن القارئ‬ ‫َ‬ ‫المغربي‪ .‬وهكذا فــإن مغاربة يترجمون مؤلَّفات مكتوبة‬ ‫بالعربية‪ ،‬وينشرونها لمغاربة‪ :‬بضاعتنا ُرّدت إلينا! يكتب‬ ‫ويتوجهون إلى القراء‪ ،‬إلى مواطنيهم‪،‬‬ ‫مؤلِّفون بالعربية‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫بواسطة لغة أجنبية‪ ،‬لغة تمنحهم شرعية‪ ،‬بل أكثر من ذلك‪:‬‬ ‫تهبهم‪ -‬بمعنى ما‪ -‬الوجود‪ .‬إنها تقود اللعبة إلى النهاية‪ ،‬لعبة‬ ‫مرايا‪ ،‬تأكيد الذات عبر اللغة األجنبية‪.‬‬ ‫جل البلدان العربية‪ .‬صحيح أنها ظاهرة‬ ‫يمكن مالحظة هذا في ّ‬ ‫ال تقتصر على العالم العربي؛ فبورخيس‪ -‬على سبيل المثال‪-‬‬ ‫رجم‬ ‫صار معروف ًا في العالم أجمع‪ ،‬وحتى في بلده‪ ،‬منذ أن ُت ِ‬ ‫إلى الفرنسية‪ ،‬لكنها‪ -‬حسب الظاهر‪ -‬حديثة النشأة في العالم‬ ‫وربما تفاقمت منذ َمْنح جائزة نوبل لنجيب محفوظ‬ ‫العربي‪ّ ،‬‬ ‫سنة ‪ ،1988‬تاريخ بداية االهتمام األوروبي باإلنتاج األدبي‬ ‫العربي‪ .‬منذ ذلك الحين استحوذت رغبة الترجمة على العديد‬ ‫أهمّية‬ ‫من الكّتاب العرب‪ ،‬رغبة لم تكن‪ ،‬فيما قبل‪ ،‬مسألة ذات ّ‬ ‫قصوى‪ ،‬لم تكن‪ -‬على األرجح‪ -‬الشغل الشاغل لطه حسين‪،‬‬ ‫وتوفيق الحكيم‪ ،‬ويحيى حقي‪ ،‬وال حتى نجيب محفوظ؛ ذلك‬ ‫قراء‪ ،‬وكانوا معترف ًا بهم في لغتهم‪ ،‬ولم يكن‬ ‫أنه كان لهؤالء ّ‬ ‫لهم كبير مباالة بترحيل كتاباتهم إلى لغة أجنبية‪.‬‬ ‫ال حظ كافكا‪ ،‬في «يومياته»‪ ،‬أن ُأ َّمة صغيرة ُتِكّن احترام ًا‬ ‫لكّتابها‪ ،‬تعّدهم موضوع فخر «أمام العالم العدائي الذي‬ ‫كبيرًا ُ‬ ‫يحيط بها»‪ .‬فيما مضى كان العرب ُي ِجلّون ُكّتابهم‪ ،‬ويفخرون‬ ‫بهم‪ .‬باألمس القريب كان لديهم الشعور ذاته‪ .‬هل هذا هو حالهم‬ ‫اليوم؟‬ ‫‪75‬‬

‫ترجمات‬

‫األعمال الفنية‪ :‬فؤاد الفتيح‪ -‬اليمن‬

‫حلمي ياووظ‬

‫مختارات شعرية‬ ‫ترجمة‪ :‬عبد القادر عبد اليل‬ ‫ُوِلــد حلمــي ياووظ في أســطنبول عام ‪ ،1936‬وبعــد الثانوية‬ ‫ّيــة الحقــوق ولــم يكمل دراســته فيها‪ ،‬وغــادر إلى‬ ‫التحــق بكلّ‬ ‫إنجلتــرا‪ ،‬ودرس هنــاك الفلســفة إلــى جانب عمله في القســم‬ ‫التركــي لهيئــة اإلذاعــة البريطانيــة‪ .‬عمــل في تحريــر عدد من‬ ‫الموســوعات بعــد عودتــه إلــى تركيــا‪ ،‬وكتــب فــي العديد من‬ ‫الصحــف التركية نقــدًا أدبيــ ًا ونصوص ًا تجريبية باســم «علي‬ ‫حكمت»‪ ،‬عمل عضوًا في هيئة تدريســية في عدد من الجامعات‬ ‫التركيــة‪ ،‬منهــا جامعــة المعمــار ســنان‪ ،‬وجامعة إســطنبول‬ ‫التقنيــة‪ ،‬وجامعــة البوســفور‪ ،‬وجامعــة إيبــك‪ ،‬نشــر أولــى‬ ‫‪76‬‬

‫قصائــده وهــو فــي المرحلــة الثانويــة من دراســته فــي مجلّة‬ ‫«دونم» التي كان يديرها أســتاذه لمادة األدب‪ ،‬الشاعر التركي‬ ‫ْور شعره بتأثير شعراء‬ ‫الكبير بهجت نجاتي غيل‪ .‬فيما بعد تبل َ‬ ‫تيــار الحداثة الثانية‪َ ،‬لقَ​َّبــه الباحث األدبي الكبير طلعت هلمان‬ ‫ّ‬ ‫بـ«الشــاعر األعظــم»‪ .‬حصــل على جوائــز أدبية عديــدة منها «‬ ‫جائــزة يديتبة»‪« ،‬جائزة ســدات ســماوي األدبيــة»‪ ،‬و«جائزة‬ ‫التحاد الكّتاب األتراك‪.‬‬ ‫الفكر» التابعة ِّ‬ ‫أصدر عشــرين مجموعة شعرية تقريباً‪ ،‬ولديه أكثر من ثالثين‬ ‫كتاب ًا في مجاالت‪ :‬الفلسفة‪ ،‬والنقد األدبي‪ ،‬والخواطر‪.‬‬

‫طفولة حلمي‬ ‫األيمان‬ ‫يقول حلمي‪ :‬إن‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫بالس ُبل‪.‬‬ ‫تذكرني ُ‬

‫التابوت كتاب جلده سميك‬

‫هل كانت طفولتك تابوت ًا َج ْوزي ًا‬ ‫ُألقِي بهدوء إلى البحر؟‬

‫يقول حلمي‪ :‬أنا‬ ‫ُ‬ ‫استأجرت أحزان ًا رخيصة‬

‫ٍ‬ ‫حاف‬ ‫من بائع دمى‬

‫القبعات الزرقاء‬ ‫السماء آالف ّ‬

‫قبعتك‪ -‬أيض ًا‪ -‬زرقاء‬ ‫هل كانت ّ‬ ‫في تلك األيام؟‬

‫يقول حلمي‪ :‬كانت أمّي‬ ‫مصباح ًا يُدعى زهرة‪،‬‬

‫في أيّام التعتيم‪.‬‬

‫هل كنت تفهم البحر‪ -‬أيض ًا‪-‬‬

‫قبل أن تدخل الفراش؟‬

‫بدر الدين‬ ‫ُّ‬ ‫يحل المساء‬ ‫بمبالغة‬

‫الخريف‪ّ ،‬‬ ‫يلف «لفّ ات الركبة» النفطية اللون‪ ،‬ويأتي‬

‫عند تساقط أوراق األزمة‬ ‫أتيت أيّها الساحر المنبئ‬

‫أشد أيّامك قيظ ًا‬ ‫في ّ‬

‫متلفع ًا بخام أبيض لفّ ٍ‬ ‫ِّ‬ ‫ات لفّ ات‬

‫مرتدي ًا ابتسامة شاحبة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫تفضل‪ ،‬اجلس يا شيخي‬

‫التبانة الدافئ‬ ‫َّ‬ ‫تمد ْد على مقعد درب ّ‬

‫التفت بوجهك الطويل الجميل والوقور‬ ‫ْ‬

‫ِ‬ ‫احك لنا عن نار القمح‬

‫ود ْخ ِل العينين‬ ‫َ‬

‫وواردات الحزن‪.‬‬

‫دون أن تلمس يدك أيدينا‬ ‫كأنك حيث تموت‬

‫تضرب جذر «زهر الصفّ ير»‬ ‫كالحب الهادئ‬ ‫ّ‬

‫وصديق النسور والسهول‪.‬‬ ‫ال تسأل متى‪ ،‬عند تح ّول‬

‫خمول الورقة إلى قيامة الوردة‪،‬‬ ‫وقيامة الوردة إلى تم ُّرد الشجرة‬

‫فهذا هو الوقت‪.‬‬

‫ّ‬ ‫يحل المساء‬ ‫بمبالغة‬

‫ّ‬ ‫يلــف «لفّ ــات الركبــة» النفطيــة اللون‪،‬‬ ‫الخريــف‪،‬‬

‫ويأتي‪.‬‬

‫الس َفر والوردة‬ ‫َّ‬ ‫أين صبر المساء األصفر‪ ،‬والزعفران‪،‬‬

‫والصوت األصفر؟ كأن السمع َسفَ ُر ورد ٍة‬ ‫من الحديقة إليك‪.‬‬

‫ِ‬ ‫لتأت ولتعرف‪ ،‬والمطر الذي أمطرته‬ ‫‪77‬‬

‫تأخذه وتذهب‪ ..‬إلى صيف أنضج‪...‬‬ ‫لم يبقَ‬ ‫مكان في حديقتي‪ ،‬امتألت كلها‬ ‫ٌ‬

‫إنها مليئة باألصياف العجائز‪ ...‬وهناك‪،‬‬

‫ومتوجس‬ ‫وسط الصحراء‪ ،‬أنت مستوحش‪،‬‬ ‫ِّ‬

‫كأنني أسمع أشياء غريبة‪ ...‬أصوات‪ ،‬أشياء!‬

‫كأ ّنها تشبه بتلك الوردة‪ ،‬آخر ما رأى الموت!‬ ‫ّ‬ ‫ولعل هذا يعني‬ ‫أنا مع حديقتي من جديد‪،‬‬

‫أنني مع نفسي! السفر بشرة إذا كانت الطرق بدن ًا‪...‬‬

‫موىت الرشق‬ ‫الموت في الشرق عشيرة‬ ‫ضو ٌء قمره أخشن من الوردة‬

‫الجمال‬ ‫وبحيراته مسروقةمن َ‬

‫وضيقة على الحجل‬ ‫ِّ‬

‫النظرة المسترقة للسهل‬

‫بأشجاره المصفوفة كالخرطوش‬ ‫كأن طيور ًا منقوشة على كتفها‬ ‫تكمن لأللم‪.‬‬

‫الموت في الشرق عشيرة‪.‬‬

‫أيلول‬ ‫أيلول! منذ طفولتي وأنا أنتظرك‬ ‫مع تناقص الصيف‬ ‫كما ُت ْن َتزع فجأة‬ ‫من الكلمات‪،‬‬

‫وتمأل داخلي‬

‫الحدائق والرماد‪ ...‬أيلول!‬

‫وهو متم ِ ّرد‪ ،‬مراثيه ال تتوقّ ف‬

‫أيلول! فصل رهيف‬

‫من تهجره حبيبته‬

‫ينتشر في قلبي‬

‫ممتدة على م َّد البصر‬ ‫كراكيه‬ ‫ّ‬

‫خنجر الخريف الزجاجي‬

‫يعاني الغربة أضعاف ًا مع الربيع األول‬

‫وفجأة تسترون أنفسكم‬

‫للسيد‬ ‫يباع األمل‬ ‫ِّ‬

‫ويمأل داخلي‬

‫ما هذه النهاية؟‬

‫تحسر عليه‬ ‫بيع المال ُ‬ ‫الم َّ‬

‫وما يُشترى‬

‫ودندنة األمّهات من ملح وسهول‬

‫تنطلق كصرخة من (ملزمة) حديد إلى أخرى‬ ‫يتفسخ‪.‬‬ ‫والريح ما يُقلِع‪ ،‬وما‬ ‫َّ‬

‫األغنية الشعبية واسعة على قاطع الطريق‬ ‫‪78‬‬

‫بستارة الليل والنهار‬

‫الغربول والخالء‪ ...‬أيلول!‬ ‫أيلول! لقد نسيتكم‬

‫يحم ُّر الجبل‪ ،‬ويصف ّر الطريق‬

‫وأنا أنظر إلى العائدين‬ ‫بذاكرتي التي ال ترحم‬ ‫وضحكاتكم المتف ِ ّتتة‬

‫وتمأل داخلي‬

‫المرايا والورد‪ ...‬أيلول!‬

‫الوحدة تاريخ‬ ‫الوحدة تاريخ‪ ،‬وكالنا‬

‫نقف في غرفتين كأننا ألبسة‬

‫يسحب الحبل بأغلظ األنفاس‬

‫من يعلم لمن نبقى؟‬ ‫الوحدة تاريخ‪ ،‬هل أنت‬

‫كركي بيضاء سحبت ماضيها وذهبت‬ ‫إما قبلي أو بعدي بكثير ؟‬

‫وصوتك شبيه الوردة في أغنية شعبية‪.‬‬ ‫الوحدة تاريخ‪ ،‬ومعها‬

‫تسميهما السماء‬ ‫ما بين طائرين‬ ‫ّ‬

‫ما أكثر ما يأتي بعد أول ضحكات مكتوبة!‬ ‫جمد الوردة فجأة في نظراتك‪.‬‬ ‫َت ُ‬

‫الطرق والزمان‬

‫أنت وحد ٌة ُهرعت ذاهبة‬ ‫َ‬

‫على أمل اللقاء في مكان‪ ،‬وممكن أيض ًا‪...‬‬ ‫سيلتقون بالتأ كيد‪ ،‬هناك‪ ،‬في ذلك المكان‪...‬‬ ‫ويُحتفل بمراسم حزن‬

‫يُع َثر على أشياء‪ ،‬و ُت َخ َّبأ‬

‫المخبئ هو زمن أم طريق‬ ‫هل‬ ‫ِّ‬

‫يُصفّ ى من الحدائق واألشعار؟‬

‫من يعلم األمس وقلبنا الناضج‬

‫أما الطرق فهي منبوذة أ كثر‬ ‫الطرق الصاعدة والنازلة‪...‬‬

‫القماش الذي لففتك به هو الزمان‬ ‫انتظرت لكي تغطّ ي ببطء‪...‬‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫فضعت في درج الكالم‪.‬‬ ‫كنت أرجوان ًا‪،‬‬ ‫***‬

‫‪79‬‬

‫إيزابيلال كاميرا‬

‫لغز الكاتبة المجهولة‬

‫ـب الق ــراءة‪،‬‬ ‫محب ــي الجوائ ــز األدبي ــة‪ ،‬ولكنن ــي أح ـ ّ‬ ‫لس ــت م ــن ّ‬ ‫أيــ ًا كان ــت‪،‬‬ ‫ـة‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫األدبي‬ ‫ـات‬ ‫ـ‬ ‫الدراس‬ ‫أو‬ ‫ـات‬ ‫ـ‬ ‫الرواي‬ ‫س ــواء ق ــراءة‬ ‫ّ‬ ‫التحمـــس للمنافســـة التـــي يطلقهـــا‬ ‫علـــي‬ ‫لكـــن‪ ،‬يتعـــذّر‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـل‪ ،‬ال تمض ــي‬ ‫الناش ــرون ألغ ــراض تجاري ــة بحت ــة‪ .‬عل ــى األق ـ ّ‬ ‫األم ــور عندن ــا عل ــى ه ــذا النح ــو‪.‬‬ ‫أظـــل غيـــر مباليـــة‬ ‫ولكـــن‪ ،‬هـــذا العـــام‪ ،‬لـــن أســـتطيع أن‬ ‫ّ‬ ‫باألحـــداث التـــي وقعـــت فـــي الجائـــزة األدبيـــة المرموقـــة‬ ‫تعـــّد‬ ‫«ســـتريجا»‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫أهـــم جائـــزة أدبيـــة إيطاليـــة‪ ،‬والتـــي َ‬ ‫حـــدث العـــام الثقافـــي األبـــرز‪ ،‬والتـــي‪ ،‬بفضلهـــا‪ ،‬تشـــهد‬ ‫مبيعـــات الفائـــز المحظـــوظ طفـــرة مذهلـــة‪ .‬وفـــي الواقـــع‪،‬‬ ‫معينـــة‪ ،‬ال يمكـــن إال أن‬ ‫ســـيكون فـــي هـــذا العـــام ّ‬ ‫خاصيـــة َّ‬ ‫تثي ــر بع ــض الفض ــول‪ .‬فف ــي مجموع ــة التصفي ــات النهائي ــة‬ ‫تتكـــون مـــن خمســـة أعمـــال توجـــد كاتبـــة (أو ربمـــا‬ ‫التـــي‬ ‫ّ‬ ‫هويت ــه‪ ،‬ربم ــا‬ ‫هويته ــا‪ّ /‬‬ ‫كات ــب‪ ،‬م ــن ي ــدري؟) ال أح ــد يع ــرف ّ‬ ‫باســـتثناء «دار النشـــر» التـــي تنشـــر روايتهـــا‪ /‬روايتـــه‪،‬‬ ‫الســـر‪.‬‬ ‫والتـــي لـــن تكشـــف ‪-‬طبعـــاً‪ -‬هـــذا‬ ‫ّ‬ ‫إنهـــا «إيلينـــا فيرانتـــي»‪ ،‬مؤلِّفـــة لعـــّدة أعمـــال‪ ،‬كانـــت مـــن‬ ‫(تحولـــت إلـــى‬ ‫«الحـــب‬ ‫األفضـــل مبيعـــاً‪ ،‬مثـــل‬ ‫ّ‬ ‫المتحـــرش» ّ‬ ‫ِّ‬ ‫فيلـــم جميـــل يحمـــل االســـم نفســـه‪ ،‬مـــن إخـــراج ماريـــو‬ ‫مورتون ــي)‪ ،‬و«أي ــام الهج ــر»‪ ،‬و«الصديق ــة الرائع ــة» (ب ــدأت‬ ‫األخيـــرة سلســـلة‪ ،‬وانتهـــت بروايـــة «حكايـــة الطفلـــة‬ ‫المفق ــودة»‪ ،‬الت ــي دخل ــت الس ــباق عل ــى جائ ــزة «س ــتريجا»)‪.‬‬ ‫ومـــع ذلـــك‪ ،‬فـــإن «إيلينـــا فيرانتـــي»‪ ،‬غيـــر موجـــودة فـــي‬ ‫الحقيقـــة‪ :‬إنـــه اســـم مســـتعار‪ ،‬فمنـــذ عـــام ‪ ،1992‬عندمـــا‬ ‫ألول مـــرة‪ُ ،‬أطِلـــق العنـــان‬ ‫ظهـــرت علـــى ســـاحة النشـــر‪ّ ،‬‬ ‫‪80‬‬

‫هويـــة لهـــذه األديبـــة‬ ‫للتخمينـــات المتفاوتـــة لكـــي تمنـــح ّ‬ ‫الت ــي صادف ــت تقدي ــرًا كبي ــراً‪ ،‬لي ــس‪ ،‬فق ــط‪ ،‬ف ــي إيطالي ــا‪،‬‬ ‫رجـــم رواياتهـــا‬ ‫ولكـــن‪ ،‬أيضـــاً‪ ،‬فـــي الخـــارج‪ ،‬حيـــث ُتَت َ‬ ‫مثـــا‪ -‬أدرجـــت مجلّـــة‬ ‫بانتظـــام‪ .‬ففـــي الواليـــات المتحـــدة‪-‬‬ ‫ً‬ ‫مفك ــر األكث ــر‬ ‫«فوري ــن بوليس ــي» اس ــمها ضم ــن قائم ــة المئ ــة ِّ‬ ‫تأثيـــرًا فـــي العالـــم‪ ،‬عـــام ‪ .2014‬ولكـــن‪ ،‬مـــن هـــي «إيلينـــا‬ ‫فيرانتـــي»؟‬ ‫ـــرت تخمينـــات وافتراضـــات وصلـــت إلـــى َحـــّد اليـــأس‪،‬‬ ‫َس َ‬ ‫رجـــا‪ ،‬وربمـــا كانـــت هـــي الناشـــران فـــي الـــدار‬ ‫فقـــد تكـــون‬ ‫ً‬ ‫الت ــي تنش ــر له ــا‪ ،‬وه ــي (‪ )I/O‬وصاحباه ــا هم ــا «س ــاندرو‪،‬‬ ‫مجـــرد مصادفـــة؟ مـــن الســـهل‬ ‫وســـاندرا فيـــري»‪ ،‬فهـــل هـــي‬ ‫ّ‬ ‫الناشـــرْين مـــن «فيـــري» إلـــى‬ ‫طبعـــاً‪ -‬تحويـــل لقـــب عائلـــة‬‫َ‬ ‫«فيرانتـــي»‪.‬‬ ‫كاتـــب نابولـــي الشـــهير‬ ‫وربمـــا يكـــون صاحـــب االســـم‬ ‫َ‬ ‫«دومينيك ــو س ــتارنوني» ال ــذي م ــا فت ــئ يداف ــع ع ــن نفس ــه‬ ‫مؤخ ــراً‪ -‬عندم ــا‬ ‫ف ــي مواجه ــة الصحافيي ــن‪ ،‬وه ــو م ــا ح ــدث‪َّ -‬‬ ‫نش ــر روايت ــه الجدي ــدة «أربط ــة الح ــذاء»‪ .‬وأم ــام الصحاف ــي‬ ‫الـــذي أجـــرى مقابلـــة معـــه فـــي صحيفـــة «ال ريبوبليـــكا»‪،‬‬ ‫وب ــد ًال م ــن أن يتحــّدث ع ــن كتاب ــه‪ ،‬كان علي ــه أن يداف ــع ع ــن‬ ‫نفس ــه‪ ،‬أم ــام ّادع ــاءات الصحاف ــي‪ ،‬ب ــأن أس ــلوبه قري ــب م ــن‬ ‫أســـلوب الكاتبـــة المجهولـــة‪.‬‬ ‫إن لـــم يكـــن هـــي‪ ،‬فهـــل يمكـــن أن تكـــون زوجتـــه؟ كان هـــذا‬ ‫افتـــراض آخـــر‪.‬‬ ‫رجـــا متخفّيـــ ًا يثيـــر‬ ‫المؤكـــدة أن افتـــراض كونهـــا‬ ‫الحقيقـــة‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫نفكـــر فـــي أنهـــا امـــرأة؟‬ ‫بعـــض االنزعـــاج لدينـــا‪ ،‬فلمـــاذا ال ِّ‬

‫العمل الفني ‪ :‬بابلو بيكاسو‪ -‬إسبانيا‬

‫هـــل الرجـــل هـــو‪ ،‬فقـــط‪ ،‬الـــذي يمكـــن أن يكـــون كاتبـــ ًا‬ ‫جيـــد؟ ومـــع‬ ‫عظيمـــاً؟ أال تســـتطيع المـــرأة أن تكتـــب بشـــكل ّ‬ ‫ذل ــك‪ ،‬فم ــن خ ــال القلي ــل ال ــذي نعرف ــه ع ــن الكاتب ــة‪ ،‬يب ــدو‬ ‫اختي ــار االس ــم المس ــتعار تكريمــ ًا لروائي ــة إيطالي ــة عظيم ــة‬ ‫هـــي «إلســـا مورانتـــي»‪ ،‬التـــي يتوافـــق اســـمها فـــي َجْرســـه‬ ‫وإيقاعـــه مـــع اســـم «إلينـــا فيرانتـــي»‪ ،‬وأيضـــ ًا ألنـــه يبـــدو‬ ‫أنه ــا تس ــتلهمها جزئيــاً‪ ،‬ب ــل وينظ ــر إليه ــا العدي ــد م ــن النّق ــاد‬ ‫األول‪.‬‬ ‫علـــى أنهـــا َمَثلهـــا األعلـــى‪ ،‬ومعلِّمهـــا ّ‬ ‫وم ــن الكّت ــاب اآلخري ــن الذي ــن ُيش ـ َـتبه بأنه ــم يختبئ ــون وراء‬ ‫ه ــذا االس ــم الكات ــب الكبي ــر «جوفري ــدو فوف ــي»‪ ،‬وه ــو ناق ــد‬ ‫لمجـــات‬ ‫ومؤســـس‬ ‫أدبـــي شـــهير‪ ،‬يعمـــل فـــي الســـينما‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ِّ‬ ‫و«خـــط‬ ‫«كراســـات بياتشـــنتيني»‬ ‫ّ‬ ‫ثقافيـــة ّ‬ ‫هامـــة‪ ،‬مثـــل ّ‬ ‫ـــم التفكيـــر فـــي هـــذه الشـــخصية؟‬ ‫ت‬ ‫لمـــاذا‬ ‫ولكـــن‪،‬‬ ‫الظـــل» ‪.‬‬ ‫َ َّ‬ ‫هـــل يمكـــن أن يكـــون الســـبب هـــو أن «جوفريـــدو فوفـــي»‬ ‫مغـــرم بالجنـــوب اإليطالـــي‪ ،‬ويعـــرف نابولـــي (المدينـــة‬ ‫ربم ــا‪ ،‬ألن ــه ‪-‬مث ــل‬ ‫المفترض ــة للكاتب ــة)‪ ،‬خي ــر المعرف ــة؟ أو‪َّ ،‬‬ ‫يركـــز علـــى البســـطاء مـــن النـــاس الذيـــن يمـــأون‬ ‫الكاتبـــة‪ِّ -‬‬ ‫أي ح ــال ف ــإن ش ــخصية‬ ‫األزق ــة القديم ــة ف ــي نابول ــي؟ عل ــى ّ‬ ‫المتجهمـــة‪ ،‬االنطوائيـــة‪ ،‬ال‬ ‫«جوفريـــدو فوفـــي» العبـــوس‬ ‫ِّ‬ ‫تشـــجع الصحافييـــن علـــى اســـتجوابه مـــن أجـــل حملـــه‬ ‫ِّ‬ ‫ســـر هـــذه الكاتبـــة‬ ‫علـــى أن يخـــون العهـــد‪ ،‬ويكشـــف عـــن ّ‬ ‫الغامضـــة‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫بحســـب ويكيبيديـــا‪ ،‬فـــإن «إيلينـــا فيرانتـــي» ُولـــدت فـــي‬ ‫ـت ه ــذا التاري ــخ؟ ف ــإذا كان‬ ‫نابول ــي‪ ،‬ع ــام ‪ ،1943‬فكي ــف َ‬ ‫عرف ـ ْ‬ ‫(رجـــا‬ ‫مـــن غيـــر المعـــروف مـــن يختبـــئ خلـــف هـــذا االســـم‬ ‫ً‬

‫يتقـــدم الســـتالم جائـــزة‬ ‫كان أم امـــرأة)‪ ،‬فمـــن الـــذي ســـوف‬ ‫َّ‬ ‫ـــدر لـــه أن يفـــوز بهـــا؟ أهـــي دار النشـــر؟‬ ‫«ســـتريجا» إذا ُق ِّ‬ ‫الســـر؟ أبعـــد مـــوت‬ ‫ولكـــن‪ ،‬متـــى يـــزاح الســـتار عـــن هـــذا‬ ‫ّ‬ ‫المؤلِّفـــة؟‬ ‫ربمـــا كان هـــذا مفهومـــ ًا مـــن البدايـــة‪،‬‬ ‫ـــم كل هـــذا؟ َّ‬ ‫ولكـــن‪ِ ،‬ل َ‬ ‫ولكـــن‪ ،‬حتـــى اليـــوم‪ ،‬وبعـــد مـــرور ســـنوات عديـــدة؟؟‪.‬‬ ‫ف ــي العال ــم العرب ــي‪ ،‬كان ــت هن ــاك ح ــاالت كثي ــرة لمؤلِّفي ــن‬ ‫كتبـــوا‪ ،‬فـــي البدايـــة‪ ،‬بأســـماء مســـتعارة‪ ،‬مثـــل محمـــد‬ ‫وق ــع رواي ــة «زين ــب»‪ ،‬عندم ــا نش ــرها‬ ‫حس ــين هي ــكل ال ــذي َّ‬ ‫ألول مـــرة‪ ،‬عـــام ‪ 1914‬باســـم مســـتعار هـــو «مصـــري‬ ‫َّ‬ ‫ف ـّـاح»‪ .‬ولك ــن‪ ،‬س ــرعان م ــا عرفن ــا اس ــم الكات ــب الحقيق ــي‪،‬‬ ‫ســـيما الكاتبـــات‬ ‫ومثلـــه كثيـــر مـــن المؤلِّفيـــن اآلخريـــن‪ ،‬ال ّ‬ ‫العربيـــات فـــي الماضـــي الالتـــي لجـــأن كثيـــرًا إلـــى أســـماء‬ ‫الحرّيـــة‪ .‬ولكـــن ‪-‬علـــى‬ ‫مســـتعارة للكتابـــة بقـــدر أكبـــر مـــن ّ‬ ‫َحــّد معرفت ــي‪ -‬ت ـ ّـم الكش ــف ع ــن األس ــماء الحقيقي ــة للجمي ــع‬ ‫فيم ــا بع ــد‪ .‬الحال ــة األخي ــرة كان ــت للكات ــب الجزائ ــري محم ــد‬ ‫ـــرف‪ ،‬منـــذ سنوات‪،‬باســـم أنثـــوي‬ ‫مولســـهول ‪ ،‬الـــذي ُع ِ‬ ‫مســـتعار هـــو «ياســـمينة خضـــراء»‪.‬‬ ‫أمـــا بالنســـبة لكاتبتنـــا «إيلينـــا فيرانتـــي»‪ ،‬فهـــي منـــذ أن‬ ‫نشـــرت روايتهـــا األولـــى‪ ،‬عـــام ‪ ،1992‬لـــم نفعـــل شـــيئ ًا‬ ‫هويتهـــا‪.‬‬ ‫ســـوى وضـــع افتراضـــات حـــول ّ‬ ‫علـــى أي حـــال‪ ،‬إنـــه لباعـــث علـــى الســـرور أن نـــرى كتبهـــا‬ ‫رجـــم‪ ،‬وتلفـــت االنتبـــاه إلـــى األدب اإليطالـــي‪،‬‬ ‫ُتَقـــرأ‪ُ ،‬‬ ‫وتَت َ‬ ‫حتـــى فـــي الخـــارج‪ .‬هـــي ‪-‬إذاً‪ -‬كاتبـــة عظيمـــة‪ ،‬ال تعنيهـــا‬ ‫النجوميـــة أو المجـــد‪ ،‬وهـــذا أمـــر نـــادر جـــّدًا فـــي عصرنـــا‪.‬‬ ‫‪81‬‬

‫يف متاهة رشيد بوجدرة‬

‫الرواية الجزائرية‬ ‫وعتمات ّ‬ ‫حميد عبد القادر‬

‫خضــم النّضال ضّد االســتعمار‬ ‫الروايــة الجزائريــة فــي‬ ‫ّ‬ ‫ولــدت ّ‬ ‫الفرنســي‪ ،‬فاصطبغت بطبيعة المرحلة الثورية‪ ،‬في ســياقات‬ ‫أيديولوجيــة وطنية‪ ،‬وجاءت على شــكل روايــة نضالية‪ ،‬كما‬ ‫يبــدو في أعمال‪ :‬آســيا جبــار (‪ ،)2015 - 1936‬مولود فرعون‬ ‫(‪ ،)1962 - 1913‬محمــد ديــب(‪ ،)2003 - 1920‬مالــك حــداد‬ ‫(‪ ،)1978 - 1927‬مولــود معمــري (‪ ،)1989 - 1917‬وكاتــب‬ ‫ياسين (‪.)1989 - 1929‬‬ ‫ال ثوري ًا يســعى للفكاك‬ ‫لقــد أوجد هــؤالء رواية نضاليــة‪ ،‬وبط ً‬ ‫وظل األمر كذلك إلى غاية االستقالل‬ ‫من الهيمنة االســتعمارية‪ّ ،‬‬ ‫(‪ .)1962‬وميزة هذه الرواية أنها اعتنت بوصف هموم الجماعة‬ ‫ونضــال الجماهيــر ضــّد الهيمنــة االســتعمارية‪ ،‬ولــم تلتفــت‬ ‫إلــى الفــرد في عمق همومــه ومأســاته وأوجاعــه إال بعد فترة‬ ‫الســتينيات‪ ،‬التي عرفت ظهور اســم‬ ‫َّ‬ ‫متأخــرة‪ ،‬هي فترة نهاية ّ‬ ‫الروائي رشــيد بوجدرة وروايته الشــهيرة «الّتطليق» (‪،)1969‬‬ ‫الم َحّرمة‪:‬‬ ‫التي أسســت ألدب ُمغاير ومختلف‪ ،‬قام على الثالثية ُ‬ ‫والسياسة‪ ،‬والجنس‪.‬‬ ‫الّدين‪ّ ،‬‬

‫نبوءة الثّورة‬ ‫الرواية الجزائرية لكتابة أدبية تســتثني الفرد من‬ ‫أســس ّ‬ ‫َّ‬ ‫رواد ّ‬ ‫مجمــل اهتماماتهــم‪ ،‬فقّدمــوا نصوصــ ًا تعكس طبيعــة مجتمع‬ ‫ُمنغلــق‪ ،‬محافــظ على قيمه مــن الذوبان في ثقافــة اآلخر‪ ،‬عبر‬ ‫الترويج لثقافة تّتسم بالحذر‪ ،‬تقوم على الشعور بضرورة كبح‬ ‫وتنبأت بقيام‬ ‫جماح الرغبة الجنســية‪ ،‬وعدم االنسياق ورائها‪ّ ،‬‬ ‫الثّورة‪ ،‬كما نجد ذلك في «ثالثية الجزائر» لمحمد ديب‪.‬‬ ‫للتصــور الكولونيالي الذي‬ ‫مضــادة‬ ‫الكّتاب نظــرة‬ ‫ّ‬ ‫قــّدم هــؤالء ُ‬ ‫ّ‬ ‫راح يحتفي بجســد المرأة في مجتمع األنديجان (األهالي) بشكل‬ ‫الشــمس‪ ،‬ليخلق لــذّة لدى‬ ‫«إيروتيكــي»‪ ،‬وهــو يقــف بمحــاذاة ّ‬ ‫الغــزاة األوروبييــن القادميــن على صهــوة جيادهــم‪ ،‬ويحثّهم‬ ‫علــى المجيء إلى جنائن روما المشــتهاة في الضفــة الجنوبية‬ ‫للمتوســط‪ .‬علمــ ًا أن الفئــات التــي اعتمــدت عليهــا الســلطات‬ ‫ّ‬ ‫االســتعمارية الفرنســية لتعمير الجزائر‪ ،‬فــي النّصف األول من‬ ‫منحطة اجتماعياً‪ ،‬كانت‬ ‫القرن الّتاســع عشــر‪ ،‬تمثّلت في فئات‬ ‫ّ‬ ‫تعاني من الحرمان‪ ،‬بما في ذلك الحرمان الجنسي‪ .‬وكان يجب‬ ‫فرنســيين من‬ ‫انتظار حكم نابليون الثالث لكي تســتقبل الجزائر‬ ‫ّ‬ ‫يســمى (المملكة العربية)‬ ‫فئــات اجتماعية رفيعة‪ ،‬ضمن ما كان ّ‬ ‫التي حاربها المستوطنون (األقدام السوداء)‪ ،‬ألنها تعطي بعض‬ ‫الحقوق لألهالي‪.‬‬ ‫‪82‬‬

‫حث‬ ‫قامــت المنظومة االســتعمارية على فعــل اإلغراء‪ ،‬من أجل ّ‬ ‫«األقــدام الســوداء» علــى االســتيطان فــي الجزائــر‪ ،‬واّتخذ هذا‬ ‫أراض‬ ‫اإلغــراء أشــكا ًال مختلفة‪ ،‬فمنها اإلغراء المــادي عبر منح ٍ‬ ‫ملكية‪ ،‬ومنها‬ ‫انتِزعت‬ ‫شاســعة ُ‬ ‫بالقــوة من األهالي على شــكل ّ‬ ‫ّ‬ ‫الرســامون الذيــن رافقوا‬ ‫بها‬ ‫قام‬ ‫دور‬ ‫وهــو‬ ‫الجنســي‪،‬‬ ‫اإلغــراء‬ ‫ّ‬ ‫الحملة العســكرية من أمثــال «دوالكروا» و«أوجيــن فرومنتان»‬ ‫وصو ًال إلى «هوراس فيرنيه» الذي قال فيه الشــاعر بودلير إنه‬ ‫«الجنــدي المســتميت في التصويــر»‪ ،‬وقد قام كل هؤالء برســم‬ ‫لحظات «ايكزوتيكية» وصفها «شارل بودلير» بـ«لحظات الترف‬ ‫والهدوء والشهوانية»‪.‬‬ ‫وبالتركيز على «دوالكروا»‪ ،‬فقد رســم لوحة «نساء الجزائر في‬ ‫بيوتهن» ســنة ‪ ،1834‬وجاءت على شــكل «رسم لشرق مؤنَّث»‬ ‫يثير الرغبة الجنســية لدى المتلقّي األوروبي‪ ،‬ويحثّه على غزو‬ ‫الشرقيْين معاً‪.‬‬ ‫األرض والجسد‬ ‫َّ‬

‫اإلنسان الجديد‬ ‫هكــذا‪ ،‬جــاءت الروايــة الجزائرية فــي مرحلة النضــال الوطني‬ ‫رواية‬ ‫ضّد االســتعمار‪ ،‬على شــكل رواية «المجهــود الوطني»‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ُمحاربــة ونضالية‪ ،‬قريبة من البطل النّقي في لحظة إبراز ذاته‬ ‫فتــم تغييب الجنس بشــكل الفت‬ ‫مــن أجل محاربة االســتعمار‪َّ ،‬‬ ‫وبخاصة العالقة مع االستعمار‪ ،‬وهو الموضوع الذي‬ ‫لالنتباه‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ســكن الرواية الجزائرية‪ ،‬حتى بعد االستقالل‪ ،‬فقد برزت تيمة‬ ‫الجنــس من زاوية محاولــة فرض الذات المقهــورة‪ ،‬حيث يلجأ‬ ‫«عاشــور» في روايــة «االختبار األخير» للروائي محمد شــايب‪،‬‬ ‫إلــى الغوايــة من أجل إبــراز ذاته أمام الفرنســية «ماري» خالل‬ ‫السنوات الحاسمة ما قبل حرب التحرير‪.‬‬ ‫تحول اهتمــام الرواية الجزائريــة إلى موضوع‬ ‫بعد االســتقالل ّ‬ ‫َّل في البحث عن «اإلنسان الجديد» الذي يبني المجتمع‬ ‫مغاير تمث َ‬ ‫االشــتراكي‪ ،‬لكنهــا ســرعان ما التفتــت إلى موضــوع مناهضة‬ ‫الطبقــة السياســية التــي اســتولت علــى الســلطة بطريقة غير‬ ‫باألخــص عقب‬ ‫شــرعية‪ ،‬وإبــراز «نواقــص حــرب التحريــر»‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫االنقــاب العســكري الــذي قــاده العقيــد هــواري بومديــن ضد‬ ‫الرئيــس المدنــي أحمد بن بلّة يــوم ‪ 19‬يونيو‪/‬حزيران ‪،1965‬‬ ‫ّ‬ ‫أول‬ ‫فجــاءت روايــة «التطليق» لرشــيد بوجــدرة (‪ّ )....- 1941‬‬ ‫المحرم‪:‬‬ ‫روايــة جزائريــة تعاطــت‪ -‬بجرأة فائقــة‪ -‬مع الثالثــي‬ ‫ّ‬ ‫والسياسة‪.‬‬ ‫الدين‪ ،‬والجنس ّ‬ ‫يتجرأ على تناول موضوع‬ ‫جزائري‬ ‫كاتب‬ ‫ل‬ ‫أو‬ ‫لقد كان بوجدرة ّ‬ ‫ّ‬

‫أول مــن أعطى للفــرد مكانة فــي النّص‬ ‫الجســد روائيــاً‪ .‬وهــو ّ‬ ‫يتعرض‬ ‫تطرقت رواية «التطليق» لســيرة شاب ّ‬ ‫الروائي‪ ،‬حيث ّ‬ ‫للقهــر فــي مجتمع بطريركي‪ ،‬ويصف‪ ،‬عبــر بوحه‪ ،‬مدى كرهه‬ ‫لوالده البرجوازي المتسلِّط‪.‬‬ ‫لقــد كان بوجدرة األقرب إلى تيار الرواية الجديدة‪ ،‬كما ظهر في‬ ‫فرنســا مع كلود ســيمون‪ ،‬وصاحب جرأة في تناول المستور‪،‬‬ ‫واالعتــراف بتفاصيل الحيــاة الحميمة ألبطاله‪ ،‬مثلما هو الحال‬ ‫فــي روايته الثانيــة «الرعن»‪ ،‬ثم في رواية «المرث» التي ُمِنعت‬ ‫من النشر في مصر سنة ‪.2012‬‬ ‫نصه‬ ‫في‬ ‫المجتمع‬ ‫إظهار‬ ‫ــل‬ ‫فض‬ ‫وبهــذا المنحى يكون بوجدرة قد‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫(رتوشــات) أخالقية‪ ،‬فكشــف المناطق‬ ‫الروائــي كمــا هو‪ ،‬بــا ُ‬ ‫المحرمــة‪ ،‬وأظهر المســكوت عنه‪ ،‬فجاء أدبه على شــكل «أدب‬ ‫َّ‬ ‫اعتــراف» ينهــل مــن الثقافتين‪:‬الثقافــة العربيــة اإلســامية‪،‬‬ ‫نفسه أن «ألف‬ ‫والثقافة الغربية على َحّد سواء‪ ،‬إذ يرى ّ‬ ‫الروائي ُ‬ ‫نص ًا أدبي ًا حداثياً‪ ،‬وإيروتيكياً‪.‬‬ ‫ليلة وليلة» ّ‬

‫العربية تكسر النمطية‬ ‫نــص «ألف ليلة وليلة» ُي َعــّد مرجعية بوجدرة األدبية‪ ،‬حتى‬ ‫إن ّ‬ ‫صرح‬ ‫حينما‬ ‫ا‬ ‫ر‬ ‫مؤخ‬ ‫‪)....‬‬‫الزاوي(‪1956‬‬ ‫أمين‬ ‫الروائي‬ ‫انتقد‬ ‫أنه‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫(الزاوي) أنه لجأ إلى الكتابة باللغة الفرنسية ألن اللغة العربية‬ ‫الحرّيــة التي يجدها‬ ‫الم َح َّرمــات وفق تلك ّ‬ ‫ال تســمح له بتنــاول ُ‬ ‫حينمــا يكتب باللغة الفرنســية‪ .‬وبحســب بوجــدرة‪ ،‬الذي تلقى‬ ‫تكوين ًا فلســفي ًا في ثانوية الصادقية في تونس‪ ،‬ثم في جامعة‬ ‫«السوربون» في باريس‪ ،‬فإن اللغة العربية لغة شبقية‪ ،‬قادرة‬ ‫على كســر النمطية الســائدة في المجتمعــات العربية‪ ،‬أكثر مما‬ ‫هي عليه اللغة الفرنسية‪.‬‬ ‫تعرض رشيد بوجدرة لسيل من االنتقادات من ِقَبل أنصار‬ ‫ورغم ُّ‬ ‫التيار اإلســامي‪ ،‬وذلك منذ سبعينيات القرن العشرين‪ ،‬إال أنه‬ ‫ّ‬ ‫متمسك ًا بتيماته كموضوع محوري‪ ،‬فجاءت روايته األخيرة‬ ‫ظل‬ ‫ّ‬ ‫ِّ‬ ‫الم َح َّرم لديه‪ ،‬وذلك عبر‬ ‫الثالثي‬ ‫مكانة‬ ‫د‬ ‫لتؤك‬ ‫‪)2014(،‬‬ ‫«ربيــع»‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬

‫تناولــه لموضــوع عالقة بيــن عربيــة تدعى «ثلج» وإســبانية‬ ‫تدعــى «نييــف»‪َ ،‬قِد َمت هــذه األخيرة للعمل فــي الجزائر بعد أن‬ ‫مست األزمة المالية بلدها‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫يتمكن الروائيون الجزائريون الذين يكتبون باللغة الفرنسية‪،‬‬ ‫لم ّ‬ ‫والذين جاؤوا بعد رشيد بوجدرة‪ ،‬أو ممن هم من جيله تقريباً‪،‬‬ ‫علــى غــرار مــراد بوربــون (‪ ،)1938‬ونبيــل فــارس(‪،)1940‬‬ ‫مــن تنــاول التيمــة ذاتها بتلك الجــرأة التي وردت فــي روايَتي‬ ‫المعربين هم األقرب إلى‬ ‫«التطليق» و«الرعن»‪ .‬وكان الروائيون‬ ‫ّ‬ ‫بوجــدرة من حيث هذه الجرأة‪ ،‬إذ تنــاول الطاهر وطار (‪1936‬‬ ‫وباألخص في‬ ‫– ‪ )2010‬الموضــوع ذاتــه فــي عدد من أعمالــه‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫روايــة «عرس بغل»‪ ،‬وفي في قصة بعنــوان «رمانة»‪ ،‬كما لجأ‬ ‫عبد الحميد بن هدوقة (‪ )1996 - 1925‬إلى التيمة «بان الصبح»‬ ‫إلبــراز الســلوك الخطأ والخيار غير الســليم الــذي تّتخذه بطلة‬ ‫الروايــة «دليلــة» التي قدمت مــن الريف إلى المدينة للدراســة‪،‬‬ ‫التحــرر من القيــود االجتماعيــة البالية‪،‬‬ ‫فتكتشــف الرغبة فــي‬ ‫ُّ‬ ‫كمــا لجأ جياللي خالص (‪ ،)1952‬في روايته الشــهيرة «رائحة‬ ‫الكلب»‪ ،‬إلى الموضوع نفسه‪ .‬وعاد خالص إلى الموضوع ذاته‬ ‫«الحب في المناطق‬ ‫في رواية الحقة ظهرت سنة ‪ 2000‬بعنوان‬ ‫ّ‬ ‫الم َح َّرمــة»‪ ،‬والتــي ُت َعّد من بين كتابات العشــرية الســوداء في‬ ‫ُ‬ ‫الجزائر‪.‬‬ ‫أمــا الجيل الذي جاء بعــد بوجدرة‪ ،‬من الروائيين المفرنســين‪،‬‬ ‫علــى غــرار الطاهر جاووت (‪ ،)1993 - 1954‬ورشــيد ميموني‬ ‫(‪ ،)1995 - 1945‬فقــد تناولــوا الموضــوع بشــكل محتشــم‪ ،‬إذ‬ ‫«المجــرد من الــذات» لجــاووت‪ .‬أما في‬ ‫نلمــس ذلك فــي رواية‬ ‫ّ‬ ‫وباألخــص روايتــه الشــهيرة «طومبيــزا»‪-‬‬ ‫روايــات ميمونــي‪-‬‬ ‫ّ‬ ‫فتظهر الفحولة كوســيلة للسيطرة‪ ،‬يلجأ إليها «طومبيزا»‪ ،‬رمز‬ ‫السلطة الجائرة‪.‬‬ ‫وظــل األمــر على هــذا الحال‪ ،‬حيــث تناولت الروايــة الجزائرية‬ ‫ّ‬ ‫نهائياً‪ ،‬فــي روايات‬ ‫اختفــت‪،‬‬ ‫أن‬ ‫إلــى‬ ‫محتشــم‪،‬‬ ‫بشــكل‬ ‫التيمــة‬ ‫ّ‬ ‫مهمة‬ ‫التســعينيات‪ ،‬حيث ألقــى الروائي الجزائري علــى عاتقه ّ‬ ‫طــرف‪ ،‬ولــم يكــن زمــن اإلرهــاب يســمح‬ ‫فضــح تجــاوزات الّت ُّ‬ ‫تعبر عن ذات‬ ‫أصبحت‬ ‫الرواية‬ ‫أن‬ ‫رغم‬ ‫بااللتفات إلى المســألة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫شــك َل‬ ‫الفــرد‪ ،‬وحميمياته‪ ،‬وأحالمه‪ ،‬لكن أمين الزاوي (‪َّ )1956‬‬ ‫االســتثناء منــذ روايته «حارة النســاء» التــي تناولت موضوع‬ ‫المتميز‬ ‫تفكيــك تاريخ النســاء فــي العالم العربــي اإلســامي‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫بالقهر والمقاومة‪.‬‬ ‫واســتمر ظهــور الموضــوع ذاتــه في أعمــال الــزاوي الالحقة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫باألخص في رواية «وليمة األكاذيب» (‪ ،)2007‬تمام ًا مثلما ظهر‬ ‫ّ‬ ‫في أعمال أحالم مســتغانمي‪ ،‬وفي رواية فضيلة الفاروق «تاء‬ ‫الخجل»‪.‬‬ ‫يقابل بالرفض‬ ‫بيد أن الروائي الذي يلجأ إلى هذه التيمة اليزال َ‬ ‫من ِقَبل َمن أطلق عليهم الروائي واســيني األعرج اسم «حراس‬ ‫النوايــا» فــي روايتــه «فاجعة الليلة الســابعة بعــد األلف» التي‬ ‫اســتعادت أجــواء «ألف ليلــة وليلة»‪ .‬ورغم هــذا الرفض حملت‬ ‫روايات الجيل الجديد إشــارات لألمر‪ ،‬ليــس من زاوية اإلثارة‪،‬‬ ‫األبوية‪.‬‬ ‫بل من زاوية امتالك الجسد والّتحرر من‬ ‫ّ‬ ‫‪83‬‬

‫أداجيو إبراهيم‬ ‫د‪ .‬حسني محمود‬

‫حاول إبراهيم كتابة هذه الرواية «أداجيو» عام ‪ ،2002‬ولكنه‬ ‫وجد دموعه تنهمر حتى وصلت إلى األرض‪ّ ،‬‬ ‫فكف عن كتابتها‬ ‫ــزق األوراق التــي كتبها‪ ،‬ولكنــه عاد إلــى الرواية وكتبها‬ ‫وم َّ‬ ‫َ‬ ‫بيــن دموعه‪ ،‬وقال للجمهور الحاضر‪ ،‬فــي ندوة لتقديمها في‬ ‫القاهــرة‪ ،‬إنه مهمــا كثرت الدموع في عيونهــم وهم يقرؤونها‬ ‫فإنهــا لن تزيد على الدموع التي ذرفهــا وهو يكتبها‪ .‬الرواية‪-‬‬ ‫تلح عليه حتى كتبها وأخرجها إلى النور‪ ،‬متخلّص ًا‬ ‫إذاً‪ -‬كانت ّ‬ ‫من ثقلها على نفسه وروحه‪ ،‬ففاز عنها بجائزة عربية كبيرة‪،‬‬ ‫وفــاز القارئ بقطعــة نثرية بديعة ممتعــة‪ ،‬لكنها تظل رواية‬ ‫دامعة في كتابتها وفي قراءتها‪.‬‬ ‫فما الذي جعل الروائي المصري إبراهيم عبد المجيد يفشل في‬ ‫المــرة األولــى في مغالبــة الدموع؟ وما الــذي جعله ينجح في‬ ‫المرة الثانية؟ أغلب الظن أنه لم يرد أن يكتبها‪ ،‬ألن الدموع لم‬ ‫تنقطع في الحالتين‪.‬‬ ‫الروايــة تحكــي تفاصيــل مغامــرة رجــل األعمــال ســامر مع‬ ‫زوجتــه وحبيبته ريم‪ ،‬وهي فاقــدة الوعي في األيام األخيرة‬ ‫لمرضها بالســرطان‪ ،‬فقد حملها بعيدًا عن العيون لكي تقضي‬ ‫أيامهــا األخيــرة معه هو وحــده‪ .‬وكان من الممكــن أن تمضي‬ ‫ّ‬ ‫تتحول إلى «لحن‬ ‫لكــي‬ ‫نهايتها‬ ‫حتى‬ ‫النحو‬ ‫هــذا‬ ‫على‬ ‫الراويــة‬ ‫ّ‬ ‫الوفاء» الباكي الشــجي‪ ،‬لوال دخول عناصر ســردية أخرى‪،‬‬ ‫مثل الســائق الذي تعــرف إليه وصادقــه‪ ،‬وماثله في ظروف‬ ‫معاناته من فقد زوجته وحبيبته‪ ،‬هو األخر‪ ،‬بالمرض نفسه‪،‬‬ ‫يتحــول إلى ظاهــرة عامة‪:‬‬ ‫متكــررًا يكاد‬ ‫ليصنعــا معــ ًا نمطــ ًا‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الموت بالسرطان‪ ،‬أو الموت السرطاني‪.‬‬ ‫كذلك هو الحال مع دخول عنصر آخر على شخوص الرواية‪،‬‬ ‫أقل اكتماالً‪ ،‬والتي‬ ‫وهي غادة زميلة ريم التي تماثلها‪ ،‬ولكنها ّ‬ ‫تحاصــر ســامر بوجودها حتــى يقيــم معها عالقة «ســافلة»‬ ‫المحب من لحــن الوفاء إلى‬ ‫تحــول المغامــرة األخيرة للــزوج‬ ‫ّ‬ ‫ِّ‬ ‫لحن الوفاء والخيانة‪.‬‬ ‫وربما كان هذا هو الســبب فــي أن إبراهيم عبد المحيد قد نجح‬ ‫تلــح عليه وتثقــل على روحه‪،‬‬ ‫فــي كتابــة القصة التي كانت ّ‬ ‫فربمــا لو أنه كتبها‪ ،‬في المحاولــة األولى عام ‪ ،2002‬لكانت‬ ‫حــب علــى شــاكلة القصــص العاطفيــة الناجحــة التي‬ ‫قصــة ّ‬ ‫عرفهــا اإلنتــاج العاطفــي الوفيــر فــي رواية القرن العشــرين‬ ‫تلونت بحسب ذائقة المستهلك‪ :‬فاألسود‬ ‫االستهالكية‪ ،‬والتي ّ‬ ‫للرعــب‪ ،‬واألصفــر للروايــة البوليســية‪ ،‬والــوردي لروايات‬ ‫الحــب العاطفيــة‪ .‬ليس هذا ما كان يبحث عنــه الكاتب‪ ،‬ولكنه‬ ‫ّ‬ ‫‪84‬‬

‫وجد ما يبحث عنه‪ ،‬فقط‪ ،‬في هذه األيام‪.‬‬ ‫مــا هــذه األيــام؟ العقــد األول ونصف العقــد الثاني مــن القرن‬ ‫الحــادي والعشــرين‪ .‬ومــاذا فــي هــذه األيــام؟ ومــا عالقتهــا‬ ‫باالنهيار؟ ما عالقتها بالفقد؟ ما عالقتها بالموت السرطاني؟ ما‬ ‫عالقتهــا بانهيار الفنون «العليا» التي تمثّلها ريم؟ وما عالقتها‬ ‫ويتذكرها السائق؟ وما عالقتها‬ ‫بالفنون الشعبية التي يذاكرها‬ ‫ّ‬ ‫الفن المقلِّد لألصل‪ ،‬التي تمثِّلها ريم؟‬ ‫بالخيانة التي يمثِّلها ّ‬ ‫ســمى الكاتب روايته باســم كونشرتو شهير هو «أدادجو‬ ‫لقد ّ‬ ‫ألبينونــي» (أدادجو هــو النطق الصحيح للكلمة‪ ،‬أما الشــكل‬ ‫الذي جاء في العنوان فهو شــكل خطأ شــائع)‪ ،‬أما ألبينوني‬ ‫فهــو موســيقي إيطالــي مــن النصــف األول من القــرن الثامن‬ ‫عشــر‪ ،‬مولود في البندقية‪ ،‬وقد ألَّفها وتركها‪ ،‬فضاعت‪ ،‬حتى‬ ‫جاء موســيقي إيطالي آخر في بداية الخمســينيات من القرن‬ ‫العشــرين هو ريمو جازوتو‪ ،‬فأعادها إلى الحياة معتمدًا على‬ ‫الخاصة بها‪ ،‬عثر عليها‬ ‫بعض شــذرات من النوتة الموسيقية‬ ‫ّ‬ ‫فــي مكتبة الدولة في مدينة درســدن األلمانية‪ ،‬وهي المكتبة‬ ‫الوحيدة التــي تحتوي على النوتات الموســيقية أللبينوني‪،‬‬ ‫وكانــت المدينــة خارجــة قبلهــا‪ ،‬بأقــل مــن عقد‪ ،‬مــن الحرب‬ ‫العالمية الثانية التي ساوتها بالتراب‪.‬‬ ‫نشــر جازوتــو الكونشــرتو‪ ،‬ونجح نجاحــ ًا كبيــراً‪ ،‬ودخلت‬ ‫موسيقاه في العديد من األعمال الفنية والموسيقى التصويرية‬ ‫لألفالم الســينمائية‪ .‬ولكن‪ ،‬بعد أن مات جازوتو عام ‪،1998‬‬ ‫أية شــذرة من شــذرات النوتة الرئيســية‬ ‫لــم يعثــر أحــد على ّ‬ ‫أللبينوني‪ ،‬ال في بيته وال في مكتبة الدولة األلمانية‪ ،‬وســاد‬ ‫االعتقاد‪ ،‬منذئذ بأنه كونشرتو ألَ​َّفه جازوتو أو‪ -‬على األقل‪ -‬ال‬ ‫يمكن حتى اآلن إال نسبته إليه‪.‬‬ ‫ومــا بيــن القــرن الثامــن عشــر‪ ،‬عندمــا ألَّــف البينونــي هــذا‬ ‫الكونشــرتو‪ ،‬والعقــد الثاني مــن القرن الحادي والعشــرين‪،‬‬ ‫النص الموســيقي‬ ‫عندمــا أعــاد إبراهيــم عبــد المجيــد إنتــاج ّ‬ ‫أللبينوني من نسخة جازوتو‪ ،‬اّتصال َدّل عليه النجاح الكبير‬ ‫للكونشــرتو‪ .‬هذا هو االّتصــال الســيميوطيقي أو‪ -‬باألحرى‪-‬‬ ‫«البينســيموطيقي»‪ ،‬أي ما يكون بين نظــم عالمات مختلفة‪،‬‬ ‫نصاً) إلى‬ ‫يســمح بترجمة عمل فني من الموســيقى (بوصفــه ّ‬ ‫النثر الفني‪ ،‬ولكنها ترجمة غير حرفية‪ ،‬وإنما تخضع لعاملي‬ ‫الزمــن والثقافــة‪ ،‬كمــا تســمح إلبراهيــم عبد المجيــد بترجمة‬ ‫الواقع الداللي إلى رؤية سياسية وتحميل هذه الرواية سمات‬ ‫بغض النظر عن الثوب العاطفي الشكلي الخارجي‪.‬‬ ‫عصرها‪ّ ،‬‬

‫(مدن فــي الســاحل الســكندري)‬ ‫في القرن الثامن عشــر نشأت في‬ ‫تصــل بهذه الظاهــرة إلى أقصى‬ ‫إيطاليــا مدرســة فنيــة معماريــة‬ ‫مســتوى لها حتى تعجــز أمامها‬ ‫أدبيــة حملــت اســم «البــاروك»‪،‬‬ ‫وتؤدي‬ ‫بل‬ ‫المقاومة‪،‬‬ ‫وسائل‬ ‫كل‬ ‫نجحت فيها أعمال مثل كونشرتو‬ ‫ّ‬ ‫ربة بيت راحت تردم‬ ‫«أدادجو» أللبينوني‪ ،‬وفي العقود‬ ‫إلى جنــون ّ‬ ‫المياه الطافحــة في منزلها حتى‬ ‫األخيــرة مــن القــرن العشــرين‬ ‫ألغــت الطابق األول كلّه‪ ،‬فدخلت‬ ‫والعقود األولى من القرن الحادي‬ ‫في حالة هلوسة تراءى لها فيها‬ ‫والعشــرين‪ ،‬وفي إطار اّتجاهات‬ ‫أن مذيــع التليفزيــون يخرج من‬ ‫مــا بعــد الحداثــة‪ ،‬نجــح اّتجــاه‬ ‫برنامجه لكي يغازلها ويراودها‬ ‫«البــاروك الجديــد»‪ ،‬وعاد اســم‬ ‫عــن نفســها‪ ،‬وينتهي بهــا األمر‬ ‫ألبينونــي إلى الظهــور من جديد‪.‬‬ ‫إلــى مستشــفى المجانيــن‪.‬‬ ‫وكالعادة فإن االّتجاهات الجديدة‬ ‫المبالغة تعني وصول األوضاع‬ ‫التــي تعيــد اّتجاهــات قديمــة ال‬ ‫واالجتماعيــة‬ ‫السياســية‬ ‫تقلّدهــا‪ ،‬بــل تنقدهــا وتحلِّلهــا‬ ‫واالقتصاديــة إلى حدود ال يمكن‬ ‫وتستخلص القواعد الناقدة منها‪،‬‬ ‫إبراهيم عبدالمجيد‬ ‫تخيلهــا‪ ،‬وهو األمــر الذي أدركه‬ ‫تطبقها علــى االّتجــاه القديم‬ ‫ّ‬ ‫ثــم ّ‬ ‫وتماس‬ ‫األخير‪،‬‬ ‫العقد‬ ‫في‬ ‫الكاتب‬ ‫الكالســيكية‬ ‫فعلت‬ ‫هكــذا‬ ‫نفســه‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫مع باروك ألبينوني‪ ،‬والـ«نيو باروك» الذي رافق عالم القرن‬ ‫الحديثــة التي اســتعادت التــراث اإلغريقي الالتينــي‪ ،‬وعّدته‬ ‫العشــرين الذي ســيطر عليه الفكر االشتراكي‪ ،‬وانهار بانهيار‬ ‫الفــن الراقي‪ ،‬ولكنهــا‪ -‬بد ًال مــن تقليده‪ -‬اســتقت‬ ‫مثــا ًال علــى ّ‬ ‫حائط برلين‪.‬‬ ‫الفــن راقياً‪ ،‬من خالل التحليل النقدي‬ ‫هذا‬ ‫جعلت‬ ‫القواعــد التي‬ ‫ّ‬ ‫ومــن المعاني األخرى للبــاروك معناها في اللغة البرتغالية‪،‬‬ ‫الفن التراثي‬ ‫طبقت هذه القواعد على ّ‬ ‫الواعي لهذه األعمال‪ ،‬ثم ّ‬ ‫وتعني «اللؤلؤة غير منتظمة الشكل»‪ ،‬وهذا الخلل في االنتظام‬ ‫المســتعاد‪ ،‬فوجدت نقاط الضعف فيها وتحاشتها في األعمال‬ ‫تجــده أيضــ ًا فــي الرواية‪ ،‬فهنــاك تكســير وتشــويه للقواعد‬ ‫الكالســيكية الحديثة‪ ،‬وهــذا المنهج هو (البردايــم) الذي فتح‬ ‫تتمرد على‬ ‫الطريق أمام نهضة العصر الحديث‪.‬‬ ‫تمرد ّ‬ ‫عام‪ ،‬حتى أن الشخصية ّ‬ ‫المســتقرة‪ ،‬وهناك ّ‬ ‫ّ‬ ‫نفسها‪ ،‬وتفعل عكس ما كانت تريد أن تفعل؛ فسامر كان يريد‬ ‫«الباروك»‪ -‬أيضاً‪ -‬كان الفلسفة التي تستخدم لغة الكالسيكية‬ ‫أن ينفــرد بصحبــة حبيبته في األيــام األخيرة لهــا‪ ،‬ولكنه ال‬ ‫تم تقزيمه في عصر النهضة‪ ،‬وخصوص ًا‬ ‫الحديثة لكي ِّ‬ ‫تعظم ما َّ‬ ‫يفعل‪ ،‬ويرضى باالســتجابة إلى شــهواته‪ ،‬وينســى وجهته‬ ‫في قضية مركزية اإلنســان في مقابل مركزية الســماء‪ ،‬ورغم‬ ‫األصلية‪ ،‬وهو السلوك نفسه الذي سلكه الكثير من الثوريين‬ ‫الفن من الســماء إلى األرض‬ ‫أن هــذا الكالســيكية التي أعادت ّ‬ ‫الذين زاغوا بشــهواتهم عن ثورتهم‪ ،‬على النحو الذي نراه في‬ ‫عبر النزعة اإلنســانية‪ ،‬إال أن الباروك والكالسيكية تعايشا‪:‬‬ ‫المجرية‪،‬‬ ‫ثــورات الربيع العربي‪ ،‬وفــي ثورات أخرى‪ ،‬مثــل‬ ‫األولى وهي تستعيد قوة اهلل‪ ،‬والثانية وهي تمّد األولى بلغة‬ ‫ّ‬ ‫والفرنســية‪ ،‬فمــن الســهل‪ ،‬عندما تثور الشــهوة والرغبة‪ ،‬أن‬ ‫مستهجن ًا‬ ‫األول لـ«الباروك» كان‬ ‫ّ‬ ‫نبيلة راقية‪ .‬ورغم أن الظهور ّ‬ ‫َ‬ ‫تفقد بوصلة التوجيه‪.‬‬ ‫إال أن الســنوات التالية حملــت احترام ًا وتقديــرًا لهذا االّتجاه‪.‬‬ ‫وســط الـ«نيــو بــاروك» الــذي نعيــش فيــه‪ ،‬الــذي ينتصــر‬ ‫أما كلمة الباروك نفسها فهي مأخوذة من المنطق التسلسلي‪،‬‬ ‫للضحالــة‪ ،‬وللتقليد‪ ،‬وللمؤقَّت‪ ،‬ولغير الراســخ‪ ،‬ولالنهيار‪،‬‬ ‫ويســمى أيض ًا «القياس» عند أرسطو الذي يستخدم عباراتين‬ ‫ّ‬ ‫ويحتفــي باالختــاف‪ ،‬والتقليــد‪ ،‬والمصادفــة‪ ،‬والمبالغــة‪،‬‬ ‫صحتهمــا أنتجتا عبــارة ثالثة صحيحة‬ ‫ثبتــت‬ ‫إذا‬ ‫قصيرتيــن‬ ‫ّ‬ ‫فــي العصر الــذي تصرع فيه الخصوصية علــى أعتاب مواقع‬ ‫هــي أيض ًا مثل‪« :‬كل البشــر فانــون» و«كل اليونانيين بشــر»‬ ‫يتحول‬ ‫التواصــل االجتماعي‪ ،‬واالنحالل الفني والخلقي الذي‬ ‫إذاً‪« :‬كل اليوناييين فانون»‪ .‬وبهذا التفســير يكون «الباروك»‬ ‫َّ‬ ‫يغذي‪،‬‬ ‫فن يغنّيــه الناس فــي الميكروباصــات‪ ،‬والــذي‬ ‫قد اســتخدم المنطق األرسطي الكالســيكي كي ينفي به فكرة‬ ‫إلــى ّ‬ ‫ّ‬ ‫بالوقاحــة‪ ،‬مذيعيــن‪ ،‬لــو كانوا قــد نطقوا بجملــة واحدة مما‬ ‫كالسيكية كبرى‪ ،‬وهو ما يفعله إبراهيم عبد المجيد في بنائه‬ ‫يقولــون في عصور ســابقة لقضوا حياتهم في الســجن‪ ،‬بما‬ ‫الذي اســتوحاه‪ ،‬ربما في الالوعي‪ ،‬من كونشرتو ألبينوني‪،‬‬ ‫يشكله ما يقولون من جرائم تعاقب عليها القوانين‪.‬‬ ‫الفن الكالســيكي الراقي النبيل‪ ،‬وهو في‬ ‫ِّ‬ ‫وأراد به أن ينقد هذا ّ‬ ‫فــي هــذا العصــر الــذي ينهار فيــه األمل فــي كل شــيء‪ ،‬نرى‬ ‫بقوة‪ ،‬ولكنــه وجود لجثّة ال‬ ‫موجود‬ ‫ــت‪،‬‬ ‫مي‬ ‫الوقــت نفســه ّ‬ ‫ّ‬ ‫فن ّ‬ ‫النــص الموســيقي الباروكــي‬ ‫ل‬ ‫يحــو‬ ‫المجيــد‬ ‫عبــد‬ ‫إبراهيــم‬ ‫للغيبوبة‪.‬‬ ‫وجود‬ ‫حياة فيها‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ِّ‬ ‫نص روائي «نيو باروكي»‪ ،‬ال تنجح فيه نور‪،‬‬ ‫ولكن كلمة «باروك» لها معنى «الشــذوذ» عن الوضع العادي‬ ‫أللبينوني إلى ّ‬ ‫ابنة ريم (ابنة اليوتوبيا) في مواجهة الدستوبيا‪ ،‬أي في منع‬ ‫أو المبالغة في االستعراض أيضاً‪ ،‬على النحو الذي انتشر به‬ ‫االنهيــار الجنائزي األخيــر للمكان الذي عشــنا فيه أخر صور‬ ‫المصطلح في الفرنســية‪ ،‬وهذا أيض ًا نجده في رواية إبراهيم‬ ‫الحيــة‪ ،‬والموت‬ ‫عبــد المجيد‪ ،‬حيــث االحتفــاء بالمبالغة‪ ،‬وفــي األوضاع غير‬ ‫ّ‬ ‫الميــت‪ ،‬وأخر صــور الخيانة ّ‬ ‫الفــن الســامي ّ‬ ‫المجاني‪.‬‬ ‫العادية‪ ،‬لكل شــيء‪ ،‬فالمياه التي تغرق العجمي والهانوفيل‬ ‫السرطاني ّ‬ ‫‪85‬‬

‫غاليانو‪ ..‬وتحطيم العالم‬ ‫عاصف الخالدي‬

‫ربما يمكن القول إن إدواردو غاليانو (‪ )2015 - 1940‬كان أحد‬ ‫المقربيــن من قلب هذا العالم؛ فقد قضى الكاتب األوروغواياني‬ ‫سنينه التي جاوزت السبعين في قراءة هذا العالم‪ ،‬ولم ِ‬ ‫يكتف‬ ‫أبــداً‪ ،‬لــم تكِفِه الــرؤى الكثيرة وزوايا النظر‪ ،‬ولــم يكِفِه الفهم‬ ‫الجاهز وكذلك النظرية‪ ،‬لم يلتزم بشيء مفروض أو موجود‪،‬‬ ‫ليحطم األشــياء التــي لقيها في حياته إلى شــظايا‪،‬‬ ‫بــل ذهب‬ ‫ِّ‬ ‫الفن واألرض واإلنسان‪.‬‬ ‫يخدم‬ ‫بما‬ ‫تركيبها‬ ‫ويعيد‬ ‫ّ‬ ‫اعتمــد غاليانو‪ ،‬في أعماله‪ ،‬على فكــرة محفِّزة ظلت تصاحبه‬ ‫حتى موته‪ ،‬إذ كان يلتفت إلى الزمن‪ ،‬الذي صار يندفع مسرع ًا‬ ‫والفن‬ ‫تطورات العلم‬ ‫ّ‬ ‫تطور هذا العالم بشكل أسرع‪ ،‬فرغم ّ‬ ‫كلّما َّ‬ ‫وغيرهمــا إال أن الجغرافيــا التي عاش غاليانــو فيها أتاحت له‬ ‫تســببت به ثورة الصناعة والميديا‬ ‫رؤية التناقض الكبير الذي‬ ‫َّ‬ ‫فــي عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية‪ .‬فبينما العالم يســوق‬ ‫لتقدمــه‪ ،‬يتمتــرس الفقــر والقمع في فضاء أميــركا الجنوبية‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫بفعــل ســلطوي يعتمد علــى اإلقصاء والنســيان؛ لذا ســرعان‬ ‫تكشــفت كتابــات غاليانــو عن أســلوب يعمد إلــى محاربة‬ ‫مــا ّ‬ ‫ــده غاليانــو المشــارك الدائــم فــي أعمــال‬ ‫ع‬ ‫الــذي‬ ‫النســيان‪،‬‬ ‫َ َّ‬ ‫التهميش والقمع في بالده وفي بالد أخرى‪ ،‬ففي األعمال التي‬ ‫اســتلهم فيها تراث بــاده المحكي وقصص النــاس والطبيعة‬ ‫متجولة»‪ ،‬وقد اســتطاع غاليانو‬ ‫المحيطــة أنتج كتاب «كلمات‬ ‫ِّ‬ ‫فيــه اســتحضار خزعبالت أميركا الجنوبيــة وحكايا عجائزها‬ ‫وأســاطير الطبيعــة‪ ،‬فــي مواجهــة روايــات روتينيــة يومية‬ ‫مدينية وسلطوية‪.‬‬ ‫القصة‬ ‫األصلية‪،‬‬ ‫ة‬ ‫القص‬ ‫بتمجيد‬ ‫الكتاب‪،‬‬ ‫هذا‬ ‫قــام غاليانو‪ ،‬في‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫والقصة التــي يجب أن ُتــروى ألنها األجدر‪،‬‬ ‫التــي لــن تضيع‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫يتأذى أحد‪،‬‬ ‫العصيــة على النســيان‪ ،‬والتي‪ ،‬في نهايتهــا‪ ،‬لن ّ‬ ‫ّ‬ ‫ليواجــه‪ ،‬بهــذا النمــط‪ ،‬قصصــ ًا أخــرى ُو ِجــدت لتحفِّــز علــى‬ ‫متجولة»‪:‬‬ ‫النسيان‪ .‬يقول غاليانو في كتابه «كلمات‬ ‫ِّ‬ ‫«ال ينسج رواة القصص قصصهم أو يغنّونها إال حين تتساقط‬ ‫الثلــوج‪ ،‬هكذا ُتنجــز القصص‪ ،‬وهنود أميــركا كلّها حريصون‬ ‫جــّدًا على القصص‪ ،‬يقولون‪« :‬حين تــروى القصص‪ ،‬ال تنتبه‬ ‫نموها‪ ،‬بينما تنسى الطيور أن تطعم صغارها‪.».‬‬ ‫النباتات إلى ّ‬ ‫هذه‪ -‬إذاً‪ -‬كلمات الطبيعة‪ ،‬وما انبثق عنها من بشر وكائنات‪،‬‬ ‫‪86‬‬

‫وصدقيتها‬ ‫مؤكــدة جمالها‬ ‫هــذه القصص التي‬ ‫تتكــرر إلى األبد ِّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫لتنســى‪ ،‬قصــص الســلطة التي‬ ‫علــى قصــص أخــرى ُو ِجدت ُ‬ ‫لتؤمم النــاس وتتاجر‬ ‫الحكومــة‪،‬‬ ‫أمنــت الصناديــق ومجلــس‬ ‫ِّ‬ ‫بغض النظر عمــا يكلِّفها هذا من تكريــس للفقر واإلبادة‬ ‫بهــم‪ّ ،‬‬ ‫والتهميش مما عاشته أميركا الجنوبية في تلك الفترة‪ ،‬بتأثير‬ ‫مــن الــدول العظمى ومــن حكوماتها كتابع‪ .‬لكــن هذا لم يجعل‬ ‫غاليانــو يقتــرب مــن السياســي‪ ،‬بقدر مــا اقترب مــن الكوني‬ ‫الحــرة والعميقة على‬ ‫واإلنســاني‪ ،‬وال يمكن تصنيــف أعماله‬ ‫ّ‬ ‫أنها أعمال ملتزمة بالمفهوم السطحي للسياسة‪ .‬إنها تنغرس‪-‬‬ ‫بعمق‪ -‬في قلب الجمال‪ .‬يقول غاليانو في مقدمة كتابه «ذاكرة‬ ‫يدرســوننا التاريخ كي نقبله‪ ،‬ال‬ ‫النار»‪« :‬نحن بائســون‪ ،‬فهم ِّ‬ ‫كــي نصنعه‪ .‬فقــد ُج ِّردت أميركا الالتينية فــي الفترة الماضية‬ ‫وت َّم حشوها بالنسيان‪ ،‬سنوات‬ ‫من ذهبها‪ ،‬فضتها ‪ ،‬ونتراتها‪َ ،‬‬ ‫نهب‪ ،‬حتى أصابها مرض النسيان‪.‬‬ ‫طويلة وذاكرتها ُت َ‬ ‫يحطــم المفــروض‪،‬‬ ‫هــذا هــو مشــروع إدواردو غاليانــو‪ :‬أن ِّ‬ ‫ــد َّرس‪ ،‬والجاهــز‪ ،‬أن يجعل عصا الشــرطي تنقلب عليه‪،‬‬ ‫والم َ‬ ‫ُ‬ ‫وأن يجعــل الفــأس تتوقَّــف لتعتذر مــن شــجرة‪ ،‬وأن يجلس‬ ‫ليستمع إلى صلوات هندي أحمر من بالده‪ ،‬يتحّدث بلغة غير‬ ‫يدرســونها في الكتب‪ ،‬مشــروع غاليانو في مواجهة‬ ‫تلك التي ِّ‬ ‫يكرســان ليحفِّزا على النســيان‪ ،‬جعله‬ ‫الزمن والتاريخ اللذين َّ‬ ‫القصة الســهلة التــي نعرفها عــن العالم‪،‬‬ ‫يلجــأ إلــى تحطيــم ّ‬ ‫وإعــادة إنتاجهــا من جديد‪ ،‬هــذه مهنة جميلة وشــاقّة‪ ،‬جعلت‬ ‫أهم كّتاب القرن العشرين‪.‬‬ ‫منه كاتب ًا من ّ‬ ‫لغاليانو أعمال عّدة‪ُ ،‬ترجم بعضها إلى العربية‪« :‬أفواه الزمن‪،‬‬ ‫ذاكــرة النار‪ ،‬ســفر التكوين‪ ،‬مرايا‪ ،‬كتــاب المعانقات‪ ،‬وكتب‬ ‫أخرى»‪.‬‬ ‫يقــول غاليانو‪ :‬مــا يأتي يذهــب‪ ،‬وما يذهب‪ -‬حتماً‪ -‬ســيأتي‪.‬‬ ‫الموت‪ -‬إذاً‪ -‬لم ُيقِلق غاليانو بقدر ما أقلقته الذاكرة‪.‬‬ ‫توفِّي إدواردو غاليانو في الثالث عشــر مــن إبريل لهذا العام‪،‬‬ ‫يتجول في شــوارع مونتيفيدو‪ ،‬بشــكل أو بآخر‪،‬‬ ‫لكنه لم يزل‬ ‫ّ‬ ‫متفرجــ ًا علــى هذه الدنيا‪ ،‬وعلــى كتبه المعروضــة في زاوية‬ ‫ِّ‬ ‫زقــاق ما؛ لــذا يجدر القول إنني أكتب عنــه‪ ،‬وهو لم يزل على‬ ‫قيد الحياة‪.‬‬

‫استدراك‬

‫أمجد ناصر‬

‫َّ‬ ‫المثقف والسوبرمان‬ ‫ ‪-1‬‬‫عندمـــا أفكـــر برأيـــي فـــي دور المثقَّـــف فـــي المجتمـــع‬ ‫أالحـــظ‪ ،‬لألســـف‪ ،‬أنـــه لـــم يطـــرأ عليـــه تغييـــر كبيـــر مـــذ‬ ‫بـــدأت العمـــل فـــي الحقـــل الثقافـــي‪ ،‬منتصـــف ســـبعينيات‬ ‫لكـــن هـــذا‪ ،‬علـــى مـــا آمـــل‪،‬‬ ‫القـــرن الماضـــي‪ ،‬حتـــى اآلن‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫تحجـــر فكـــري‪ ،‬دوغمـــا‪ ،‬كمـــا كنـــا نصنِّـــف‬ ‫ليـــس ثمـــرة ُّ‬ ‫يتغي ــر كثي ــرًا م ــذ ذاك‪.‬‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫ـذي‬ ‫ـ‬ ‫ال‬ ‫ـع‬ ‫ـ‬ ‫الواق‬ ‫ـه‬ ‫الس ــتالينيين‪ .‬إن ـ‬ ‫َّ‬ ‫أن‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫ب‬ ‫(وال‬ ‫ـع‬ ‫ـ‬ ‫بالواق‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫صل‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫له‬ ‫ـف‬ ‫ـ‬ ‫والمواق‬ ‫ـكار‬ ‫ف ــإذا كان ــت األف ـ‬ ‫َّ َّ‬ ‫تغي ــر‬ ‫له ــا ه ــذه الصل ــة)‪ ،‬فه ــذا يعن ــي أن ــه ل ــن يط ــرأ عليه ــا ُّ‬ ‫يتغيـــر الواقـــع‪.‬‬ ‫جـــذري مـــا لـــم‬ ‫َّ‬ ‫تغيـــر‪ ،‬لكـــن‬ ‫بلـــى‪،‬‬ ‫لألســـف!‬ ‫العربـــي‬ ‫الواقـــع‬ ‫يتغيـــر‬ ‫لـــم‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫نحـــو األســـوأ‪ ،‬مـــا يفتـــرض اســـتمرار دور المثقَّـــف العربـــي‬ ‫بوصف ــه‪ -‬ف ــي أضع ــف اإليم ــان‪ -‬ج ــزءًا م ــن المجتم ــع‪ ،‬م ــن‬ ‫لكـــن المواقـــف يعتريهـــا‪،‬‬ ‫دون أن نتحـــّدث عـــن الطليعـــة‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫مثـــل البشـــر‪ ،‬الوهـــن‪ .‬هكـــذا‪ ،‬صـــار موقفـــي حيـــال دور‬ ‫أقـــل تفـــاؤ ًال ممـــا كان عليـــه‪،‬‬ ‫المثقَّـــف فـــي عمليـــة التغييـــر ّ‬ ‫لنقـــل‪ :‬أكثـــر حـــذرًا فـــي إطـــاق األحـــكام‪ .‬الشـــيء المؤكـــد‪-‬‬ ‫مهمـــة‪ ،‬ومـــن دونهـــا ليســـت‬ ‫بالنســـبة لـــي‪ -‬أن الكلمـــات ّ‬ ‫هنـــاك أفعـــال صحيحـــة‪ ،‬بيـــد أن األفعـــال فـــي عالمنـــا‬ ‫العرب ــي‪ ،‬الي ــوم‪ ،‬تب ــدو مج ـ َّـردة م ــن الكلم ــات‪ ،‬س ــواء أفع ــال‬ ‫التطـــرف الدينـــي المخيفـــة التـــي تقـــوم بهـــا فئـــة صغيـــرة‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫ولكنه ــا عالي ــة الص ــوت‪ ،‬وتمتل ــك ق ــدرة رهيب ــة عل ــى الم ــوت‬ ‫والدمـــار‪ ،‬أم أفعـــال األنظمـــة العربيـــة التـــي عـــادت إلـــى‬ ‫اس ــتبدادها‪ ،‬بعدم ــا ت ـ ّـم إفش ــال ث ــورة الش ــباب العرب ــي ف ــي‬ ‫إحـــداث تغييـــر عميـــق فـــي بنـــى بالدهـــا‪.‬‬ ‫نحـــن نـــكاد نعيـــش‪ ،‬اآلن‪ ،‬فـــي مجتعمـــات بـــا كلمـــات‪.‬‬ ‫هنـــاك ســـاح وأحزمـــة ناســـفة وطيـــران أحـــاف وعـــودة‬ ‫إلـــى األنظمـــة العســـكرية‪ ،‬وقوانيـــن الطـــوارىء؛ كونهـــا‬ ‫األقـــدر علـــى حمايـــة األوطـــان مـــن التفتـــت والتطـــرف‪.‬‬ ‫طبعـــاً‪ ،‬هـــذا غيـــر صحيـــح؛ فالعســـكر لـــم يفعلـــوا‪ ،‬فـــي‬ ‫الحرّيـــات وقمـــع‬ ‫الماضـــي وفـــي الحاضـــر‪ ،‬ســـوى تكميـــم ّ‬ ‫الحرّي ــة‪ .‬ف ــي وض ــع كه ــذا أظ ــن أنن ــا‬ ‫تطلُّع ــات ش ــعوبهم إل ــى ّ‬ ‫المثق ــف‬ ‫ـن ه ــذا ال يعن ــي أن‬ ‫َّ‬ ‫نفتق ــد دور صان ــع الكلم ــات‪ ،‬لك ـ َّ‬ ‫كل‪ ،‬ولي ــس (س ــوبرمان) أيضــاً‪ .‬عملي ــة‬ ‫رس ــول‪ ،‬أو م ــاك‪ّ .‬‬ ‫طويـــا‪ ،‬خصوصـــ ًا علـــى الصعيديـــن‬ ‫التغييـــر تأخـــذ وقتـــ ًا‬ ‫ً‬

‫ـام‪ ،‬يمك ــن للتغيي ــر‬ ‫االجتماع ــي والثقاف ــي‪ .‬ه ــذه أصع ــب المه ـ ّ‬ ‫هـــدم نظـــام‪،‬‬ ‫ي‬ ‫عســـكري‪،‬‬ ‫السياســـي أن يحـــدث بانقـــاب‬ ‫ُ َ‬ ‫يتغي ــر المجتم ــع بالطريق ــة‬ ‫ويأت ــي نظ ــام آخ ــر‪ ،‬ولك ــن‪ ،‬ه ــل‬ ‫َّ‬ ‫كل‪ ،‬بالطبـــع‪ .‬لذلـــك علينـــا أن نواصـــل عملنـــا‬ ‫نفســـها؟ ّ‬ ‫وإيمانن ــا‪ ،‬نح ــن‪ -‬المثقفي ــن الع ــرب‪ -‬س ــواء أكن ــا ف ــي داخ ــل‬ ‫أوطاننـــا أم كنـــا فـــي المهجـــر‪ ،‬أو فـــي المنفـــى‪ ،‬بضـــرورة‬ ‫تدخلنـــا فـــي حيـــاة مجتمعاتنـــا‪ّ ،‬‬ ‫وأل َنْقصـــر دورنـــا علـــى‬ ‫ُّ‬ ‫الجوان ــب التقني ــة م ــن العملي ــة الثقافي ــة‪ ،‬كم ــا يق ــول إدوارد‬ ‫ســـعيد‪.‬‬ ‫‪-2‬‬‫غي ــر ف ــي الواق ــع األدب ــي‬ ‫ال ب ـ َّـد أن «الربي ــع العرب ــي» ق ــد ُّ‬ ‫فعـــا! لقـــد‬ ‫غيـــر‬ ‫ً‬ ‫العربـــي‪ .‬ولكـــن‪ ،‬يصعـــب القـــول‪ :‬مـــاذا َّ‬ ‫نهتـــم بهـــا‪ ،‬أو‬ ‫أعـــاد نبـــش نصـــوص شـــعرية لـــم نكـــن‬ ‫ّ‬ ‫نســـميها تحريضيـــة ومباشـــرة‪ .‬هـــذه كان لهـــا الصـــدارة‬ ‫ّ‬ ‫يســـمي‬ ‫الـــذي‬ ‫الشـــعر‬ ‫العربيـــة‪.‬‬ ‫االنتفاضـــات‬ ‫شـــعارات‬ ‫فـــي‬ ‫ّ‬ ‫مقدمـــة التظاهـــرات‪،‬‬ ‫فـــي‬ ‫كان‬ ‫ا‬ ‫سياســـي‬ ‫ا‬ ‫شـــعر‬ ‫نفســـه‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ِّ‬ ‫وفـــي ثقافـــة وتعبيـــرات المياديـــن‪ ،‬وحركـــة الجمـــوع فـــي‬ ‫ســـمع‬ ‫أغـــان‪ ،‬كنّـــا‬ ‫الشـــارع‪ ،‬كذلـــك عـــادت‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫نظـــن أنهـــا لـــن ُت َ‬ ‫ثانيـــة‪ ،‬إلـــى الراديـــو والتليفزيـــون ووســـائل التواصـــل‬ ‫االجتماع ــي‪ .‬هـــذه أم ــور حدثـــت‪ ،‬وســـاعد علـــى حضورهـــا‪،‬‬ ‫بالنح ــو ال ــذي تم ــت في ــه‪ ،‬ث ــورة االّتص ــاالت‪ ،‬وف ــي مقّدمته ــا‬ ‫وســـائل التواصـــل االجتماعـــي‪ ،‬وبـــروز ظاهـــرة الصحافـــي‬ ‫مهم ــة ج ــدًا ف ــي كش ــف قم ــع الس ــلطة‪،‬‬ ‫المواط ــن الت ــي كان ــت ّ‬ ‫بـــل جرائمهـــا كمـــا هـــو عليـــه الحـــال فـــي ســـورية‪ .‬كل هـــذا‬ ‫حقيقـــة؟ وهـــل‬ ‫تغيـــر النـــص الشـــعري‬ ‫ً‬ ‫حـــدث‪ .‬ولكـــن‪ ،‬هـــل َّ‬ ‫تركـــت هـــذه األحـــداث الكبـــرى أثـــرًا مباشـــرًا علـــى الروايـــة‬ ‫والقصـــة والصحافـــة عمومـــاً؟ هـــذا أمـــر ال يـــزال فـــي طـــور‬ ‫التكه ــن بالمصي ــر ال ــذي س ــتكون علي ــه‬ ‫التفاع ــل؛ م ــا يجع ــل‬ ‫ُّ‬ ‫الكتابـــة اإلبداعيـــة العربيـــة صعبـــاً‪ ،‬خصوصـــ ًا مـــع بـــروز‬ ‫يتخ ــذ م ــن وس ــائل التواص ــل االجتماع ــي‬ ‫جي ــل كتاب ــي جدي ــد َّ‬ ‫منبـــرًا لـــه؛ مـــا يجعلـــه شـــبحي ًا بالنســـبة لمـــن يعـــّدون‬ ‫الصحـــف والكتـــب والمنشـــورات المطبوعـــة مقياســـ ًا لمـــا‬ ‫ه ــي علي ــه أح ــوال الثقاف ــة ف ــي العال ــم العرب ــي‪ .‬لي ــس األم ــر‬ ‫متعلِّقــ ًا بالتكنولوجي ــا فق ــط‪ ،‬ب ــل بم ــا يج ــيء‪ ،‬ف ــي ركابه ــا‪،‬‬ ‫مـــن اللغـــة والمعانـــي‪.‬‬ ‫‪87‬‬

‫البوح بما سكت عنه الطاهر ّ‬ ‫مك!‬ ‫صالح حسن رشيد‬

‫يم ُ‬ ‫مت ناظري‬ ‫«إلى (الطاهر‬ ‫ِّ‬ ‫المكي) َّ‬

‫ألمأل أعطـافي بكعبـ ِة علمهِ!‬

‫فتى ناهز‬ ‫التسعين هِ َّمـ َة طائـرٍ‬ ‫َ‬ ‫ً‬

‫الع ْر ِب غَ يث ًا لقومهِ!‬ ‫ُ‬ ‫يجوب فضا َء ُ‬

‫رائـع رأيــ ِه‬ ‫األسقام‬ ‫فقد أصلح‬ ‫ُ‬ ‫َ‬

‫ناصع فهمهِ!‬ ‫أخصب الجردا َء‬ ‫وقد‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫السبيل لبـحرهِ؟‬ ‫فهل يا ُترى‪ :‬كيف‬

‫ِ‬ ‫ببعض ُط ُعومهِ؟!»‬ ‫وهل يا ُترى نحظى‬ ‫(شعر‪ :‬صالح حسن رشيد)‬

‫ذات صبــاح؛ فوجئــت بأحــد الزمــاء يســتوقفني فــي بهو دار‬ ‫العلــوم وهو يصيح‪ ،‬والناس من حولــه بالمئين‪« ،‬لقد ظلمني‬ ‫رئيــس القســم‪ ،‬وحرمني من التســجيل للماجســتير»! ثم ازداد‬ ‫توّتــره وصخبــه‪ ،‬فخاطبني قائالً‪« :‬على العلم الســام‪ ،‬وعلى‬ ‫ٍ‬ ‫بلوعــة بالغة‪ :‬هل في دار العلوم‬ ‫التواضع الرغام»! ثم تســاءل‬ ‫واألبوة الحانية بين األساتذة؟!‬ ‫أنموذج للتواضع‬ ‫اليوم‬ ‫ّ‬ ‫ٌ‬ ‫ــت علــى كتفــه‪ ،‬وقلت لــه‪« :‬حنانيك ‪ ..‬حنانيــك‪ ،‬خفِّف من‬ ‫فرب ُّ‬ ‫َّ‬ ‫مكي‪ ،‬وأن تعرفه عن‬ ‫غلوائك وشــططك! يكفي أن ترى الطاهر ّ‬ ‫بحق‪ -‬التواضع ماشــي ًا علــى األرض‪ ،‬وهو العلم‬ ‫قــرب‪ ،‬فهــو‪ٍّ -‬‬ ‫ا وتطبيقاً‪ ،‬واألخالق‬ ‫عمــ‬ ‫والزهد‬ ‫الناس‪،‬‬ ‫بيــن‬ ‫ناشــرًا أجنحته‬ ‫ً‬ ‫ِشَيم ًا وسكينة»!‬ ‫مكي ليس فــي حاجة إلى الكتابة عنــه أو الحديث عن‬ ‫فالطاهــر ّ‬ ‫وأســتاذيته‬ ‫الرحيبة‬ ‫وأخالقه‬ ‫المديدة‬ ‫تــه‬ ‫وعبقري‬ ‫الغزير‬ ‫علمــه‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ألجيــال وأجيــال وأجيــال؛ فقــد امتــأت جامعــات مصــر‪ ،‬بــل‬ ‫جامعــات العرب‪ ،‬بمداد علمــه ورواء فنّه وبصمة أدبه‪ ،‬وبنقده‬ ‫ونْبله وشهامته‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫المتخصصيــن عنه الكثير‬ ‫المتخصصــون وغير‬ ‫أجــل‪ ،‬فقد كتــب‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫أية‬ ‫خفي ًا فــي حياة الطاهر ّ‬ ‫مكي لم ينل ّ‬ ‫والكثيــر‪ ،‬غير أن جانب ًا ّ‬ ‫عنايــة مــن جموع الدارســين‪ ،‬وهو آيــة اآليات علــى إخالصه‬ ‫المقدسة؛ هذا الجانب الح لي حين‬ ‫وتبتله في محاريبها‬ ‫للكلمة‪ُّ ،‬‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫شــرعت في انتــواء الكتابة عنه‪ ،‬فاهتبلت مَنح الســماء الحانية‬ ‫‪88‬‬

‫وعطاياها الغالية‪.‬‬ ‫ضت‬ ‫ر‬ ‫ف‬ ‫التي‬ ‫ي‬ ‫مك‬ ‫الطاهر‬ ‫معارك‬ ‫هو‬ ‫المعروف‬ ‫هــذا الجانب غير‬ ‫ّ‬ ‫ُِ ْ‬ ‫الحــق‪ ،‬وحرمة األدب! فال‬ ‫عليــه فرضاً‪ ،‬فدخلها دفاع ًا عن راية‬ ‫ّ‬ ‫مكي آثر اعتــزال صخب الحيــاة ورتابتها منذ‬ ‫جــرم أن الطاهــر ّ‬ ‫ويدرك‪ ،‬معتكف ًا فــي محرابه يتلو آيات‬ ‫يعي‬ ‫وعــى وأدرك أنــه‬ ‫ُ‬ ‫ســور اإلجادة‪ ،‬وينشــد روائــع الخيال‪ ،‬ويبتكر‬ ‫اإلبداع‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫ويرتل َ‬ ‫ويَق ِّرب الشــرق من الغرب‪،‬‬ ‫النبوغ‪،‬‬ ‫أســفار‬ ‫وينجز‬ ‫الخلود‪،‬‬ ‫آي‬ ‫ُ‬ ‫والغرب من الشرق!‬ ‫* * *‬ ‫مكي أن كتاب«نماذج بشرية» للدكتور محمد‬ ‫أجل؛ َعرف الطاهر ّ‬ ‫مأخوذ مــن كتاب «النماذج العالمية في األدب الفرنســي‬ ‫منــدور‬ ‫ٌ‬ ‫والعالمي» للفرنســي جــان كالفيه‪« ،‬حذو القــذة بالقذة‪ ،‬وحذو‬ ‫ــرها في‬ ‫النعــل بالنعــل»‪ ،‬كمــا يقول أهــل اللغــة واألدب! «فَأ ّس َّ‬ ‫ســيدنا يوسف‪ -‬عليه السالم‪-‬‬ ‫نفســه‪ ،‬ولم ُيبِدها» كما هو شأن ّ‬ ‫مع إخوته الذين نزغ الشيطان بينهم؛ فآذوه وآذوه!‬ ‫مكي ال يثير غبارًا حول واقعة مندور‪،‬‬ ‫فمضــت األيام‪ ،‬والطاهر ّ‬ ‫وال ُيشــنِّع عليــه‪ ،‬غير أن تلميــذًا عراقي ًا من تالمذتــه كتب مقا ًال‬ ‫في صحيفة عراقية عن ســرقة مندور؛ مستشــهدًا بآراء أستاذه‬ ‫مكي‪ ،‬ولم يشــأ أن ينشرها‪ ،‬أو يذيعها بين الخلق‪ ،‬غير‬ ‫الطاهر ّ‬ ‫أن دخول زوج الدكتور مندور‪ ،‬الشاعرة ملك عبد العزيز‪ ،‬سجال‬ ‫ــم‬ ‫باس ِ‬ ‫المعركــة‪ ،‬وإهالتها التراب على الكاتب العراقي‪َّ ،‬‬ ‫وزجها ْ‬ ‫راغب‪ ،‬وال‬ ‫يتدخــل غير ٍ‬ ‫الطاهــر ّ‬ ‫مكي في أتــون المعركة‪ ،‬جعله َّ‬ ‫الحق والحقيقة‪،‬‬ ‫حابب‪ ،‬متخلي ًا عن صمته وصومه‪ ،‬مدافع ًا عن ّ‬ ‫ٍ‬ ‫تامــة‪ ،‬وأزال اللثام عنها‪،‬‬ ‫برمتها‬ ‫بموضوعية ّ‬ ‫فعــرض القضيــة ّ‬ ‫بعلــم ودرايــة وعدالــة ونزاهة‪ -‬عــن أخطــاء مندور‪،‬‬ ‫فكشــف‪-‬‬ ‫ٍ‬ ‫وســرقاته‪ ،‬فأخرس كل صوت‪ ،‬وأدخل اليرابيع في جحورها‪،‬‬ ‫زهده وتقواه عدم االســتطالة به على‬ ‫وأخرج للناس علماً‪ ،‬آثر ُ‬ ‫خلق اهلل!‬ ‫* * *‬ ‫ألــح الدكتور الراحل طه وادي على العالّمة‬ ‫قبــل َعقد من الزمان َّ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ضاف يضعه في مفتتح الكتاب‬ ‫بمقال‬ ‫يختصه‬ ‫مكــي أن‬ ‫الطاهر ّ‬ ‫ّ‬ ‫مكي ال يحمله‬ ‫التــذكاري المزمع إصداره عنه‪ ،‬لكن نمط الطاهر ّ‬ ‫شهوة للكتابة‪ ،‬أو كي ُي ِ‬ ‫جامل أصدقاءه‬ ‫على أن يكتب ألن عنده‬ ‫ً‬ ‫وزمالءه على حســاب األدب والنقــد واللغة والفن‪ ،‬أو أن يكتب‬ ‫ودب‪ ،‬كما نرى‪ ،‬ونســمع‪ ،‬ونقــرأ‪ ،‬أو ألنه ال يجد‬ ‫لــكل َمــن َّ‬ ‫هب َّ‬ ‫له منبرًا يجد فيه نفســه كغيره من أهل اإلســهال واالستســهال!‬ ‫المجلت‬ ‫مكي يصرف نفســه تلقائيــ ًا عن مطاردات‬ ‫ّ‬ ‫ال‪ ،‬فالطاهر ّ‬

‫والصحــف اســتكتاب ًا لقلمه الشــريف؛ فهو يجد لذّتــه الكبرى في‬ ‫مناجــاة التــراث‪ ،‬وفي اســتنطاق المعاصــرة‪ ،‬وفي َعقــد قران‬ ‫العاطفة العربية بالعقل الغربي‪ ،‬في إطار األدب المقارن!‬ ‫وبين المطاردات واإللحاحات والمناشدات من طه وادي العارف‬ ‫مكي في ميدان الفكر واألدب والكلمة‪ ،‬وبين عدم‬ ‫بمكانــة الطاهر ّ‬ ‫الميتة‪ ،‬يعتذر‬ ‫تقبــل الطاهر ّ‬ ‫مكــي للكتابة العدمية البالســتيكية ِّ‬ ‫ُّ‬ ‫مكي‬ ‫أن‬ ‫غيــر‬ ‫‪،‬‬ ‫جم‬ ‫بــأدب‬ ‫للرجــل‬ ‫ــي‬ ‫مك‬ ‫حب طــه وادي للطاهــر ّ‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وأســلوبه‪ ،‬ورجاءه أن يمنحه مقــال الخلود جعاله ينتحل مقا ًال‬ ‫مكي!‪.‬‬ ‫عن أدب طه وادي‪ ،‬ويمهره‪ -‬في النهاية‪ -‬بتوقيع الطاهر ّ‬ ‫مكي بالموضوع‪ ،‬وقرأ المقــال‪ ،‬غضب غضب ًا‬ ‫لمــا عرف الطاهــر ّ‬ ‫ّ‬ ‫شــديداً‪ ،‬غير أن رحيل طه وادي بعد هذه الواقعة المخجلة شفع‬ ‫مكي‪ ،‬فكظــم غيظه‪ ،‬ومنع نفســه من االنتصار‬ ‫لــه لــدى الطاهر ّ‬ ‫على رجل بين يدي مواله‪ ،‬فصمت راضياً؛ احترام ًا لجالل الموت‬ ‫وهيبته!‪.‬‬ ‫* * *‬ ‫قبل أكثر من َعقدين كان الراحل سمير سرحان يجمع بين رئاسة‬ ‫العامــة للكتاب‪،‬‬ ‫دار الكتــب المصرية ورئاســة الهيئــة المصرية ّ‬ ‫مكــي أن في هــذا إهــدارًا للكفــاءات والمواهب‪،‬‬ ‫فارتــأى الطاهــر ّ‬ ‫وتكثيفــ ًا للمركزيــة‪ ،‬ومنعــ ًا لظهــور أجيــال جديــدة مــن األدباء‬ ‫طالب فيه بضرورة‬ ‫ناري ًا في مجلّة «الهالل»‬ ‫والنقّاد‪ ،‬فكتب مقا ًال ّ‬ ‫َ‬ ‫التــام بيــن رئاســَت ْي دار الكتــب‪ ،‬وهيئة الكتــاب! وألن‬ ‫الفصــل‬ ‫ّ‬ ‫الحل‬ ‫مكي صاحب مكانة أدبية كبيرة لدى المثقّفين وأهل ّ‬ ‫الطاهر ّ‬ ‫وقع شــديٌد على المســؤولين‪ ،‬فأصدروا‬ ‫والعقد‪ ،‬فقد كان لمقاله ٌ‬ ‫أمــرًا بالفصل بيــن الهيئتين‪ ،‬وعدم الجمع بيــن المنصبين‪ .‬ومن‬ ‫مكي‪ ،‬بل إنه‪ -‬كما قال لي‬ ‫يومها‪ ،‬وســمير سرحان يكره الطاهر ّ‬ ‫مكي‪ -‬أصــدر قرارًا بعدم طبع أي عمل له‪ ،‬أو ترشــيحه‬ ‫الطاهــر ّ‬ ‫أليــة جائزة من جوائز الدولــة؛ عقاب ًا له على فعلته التي فعلها‪،‬‬ ‫وهو‪ ،‬يومئٍذ‪ ،‬من الشرفاء العدول المحاربين للظلم وللظالمين!‬ ‫* * *‬ ‫ّية بنات عين‬ ‫ل‬ ‫ك‬ ‫في‬ ‫دكتوراه‬ ‫قبل عّدة ســنوات نوقشــت رســالة‬ ‫ّ‬ ‫مكــي فــي األدب المقــارن»‪ .‬آثر‬ ‫شــمس بعنوان«منهــج الطاهــر ّ‬ ‫ترك المجال‬ ‫الطاهر ّ‬ ‫مكي وقتها‪ -‬كديدنه الطبيعي المعروف عنه‪َ -‬‬

‫حرية‪ ،‬ســواء‬ ‫مفتوحــ ًا أمام المناقشــين للتعبير عن فكرهم بكل ّ‬ ‫بنقــده أو بمدحه‪ ،‬فآثر عدم الحضور طلب ًا للنزاهة العلمية بعدم‬ ‫إرهاب لجنة المناقشة بحضوره الطاغي‪ ،‬وعلمه الفذ‪ ،‬ومؤلّفاته‬ ‫بت؛ فأثناء المناقشــة كان أحد المناقشــين ال‬ ‫وغر ْ‬ ‫شــرقت‪َّ ،‬‬ ‫التــي َّ‬ ‫صراحة‪ ،‬فأين مؤلّفاته‬ ‫مكي‬ ‫ً‬ ‫يقــوى على المجاهرة بنقد الطاهــر ّ‬ ‫مكــي العميقة العريقــة في األدب‬ ‫الهزيلــة مــن مؤلّفــات الطاهــر ّ‬ ‫المقــارن‪ ،‬وغيرها مــن مناحي العلــم واألدب والنقــد والتحقيق‬ ‫وتخرصاته الممجوجة‪،‬‬ ‫والترجمة؟! وأمام تلميحاته الكســيحة‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫رفعت يدي بالســؤال‪ ،‬فلم‬ ‫وأوهامــه العليلة‪ ،‬وأراجيفه النحيلة‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬ ‫شــاف على‬ ‫رد‬ ‫بكتابة‬ ‫الفور‪،‬‬ ‫فقمت‪ ،‬علــى‬ ‫ّ‬ ‫يســمحوا لي بذلــك‪ُ ،‬‬ ‫س‪،‬‬ ‫فخر‬ ‫رأيي‪،‬‬ ‫إلى‬ ‫يشــير‬ ‫أن‬ ‫فانتظرت‬ ‫وقدمته إليه‪،‬‬ ‫هذا الرجل َّ‬ ‫ِ َ‬ ‫ِ‬ ‫فأدركت‪ ،‬ســاعتها‪ ،‬مقولة ملكــة النمل؛ لصغار‬ ‫وصم!‬ ‫وعمــي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫(اد ُخُلوا َم َس ِ‬ ‫ود ُه)!‬ ‫النمل والنِّمال‪ْ :‬‬ ‫اكَنُكْم ال َي ْح ِطَمنُ‬ ‫َّكْم ُسَلْيَم ُ‬ ‫ان َو ُجُن ُ‬ ‫* * *‬ ‫هنــاك ثلّــة من أســاتذة دار العلوم وشــعرائها ظنــوا أن معرفة‬ ‫العــروض والقوافــي تقتضي‪ ،‬بــل تفرض عليهــم فرضاً‪ ،‬قرض‬ ‫َ‬ ‫أفضلية لكتابة‬ ‫الشــعر؛ فكأن معرفــة النحو والعروض تمنحهــم‬ ‫ً‬ ‫الشــعر على غيرهم من أصحاب المهن األخرى! فكان ما كان مما‬ ‫تظنن ِشعراً‪ ،‬واسأل عن الشرر‪.‬‬ ‫لست أذكره‪ ،‬فال‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫مكي عن هذا الشعر السلحفائي المملوء بحامض‬ ‫ازور الطاهر ّ‬ ‫ّ‬ ‫فلما َّ‬ ‫الفكــر‪ ،‬وفلــزات العدم‪ ،‬وبروتينات الكســاح‪ ،‬والهــزال‪ ،‬وأرجل‬ ‫الفئــران‪ ،‬والجرذان‪ ،‬والبعران‪ ،‬والجعران‪ ،‬والحوالن‪ ،‬وترفَّع‪-‬‬ ‫كعهده دائماً‪ -‬عن أن يمنحهم شهادة الحياة التي ال يستحقونها‪،‬‬ ‫شــنُّوا عليه حرب الصغار واألشــرار؛ فمقالــة واحدة من الطاهر‬ ‫مكي ُتعطيهم شــهادة الميالد بأنهم شــعراء شــعراء؛ فمن َث َّم لم‬ ‫ّ‬ ‫يتركــوا مكانــ ًا له فيه ريادة َّ‬ ‫إال واغتابوه‪ ،‬ورموه بشــتائم الفأر‬ ‫مكي ال يلتفت إليهــم أبداً‪ ،‬بل ال‬ ‫لألســد‪،‬‬ ‫والهــر للفيل‪ ،‬والطاهــر ّ‬ ‫ّ‬ ‫يراهم على اإلطالق!‬ ‫مرة‪ ،‬في تفاهات البعض من هؤالء الصغار‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ولما فاتحته‪ ،‬ذات ّ‬ ‫هز رأســه ٍ‬ ‫«من يركــن إلى أقوال الناس ال ينتج‬ ‫ً‪:‬‬ ‫ال‬ ‫قائ‬ ‫تامة‬ ‫َّ‬ ‫بثقة ّ‬ ‫َ‬ ‫ربــك‪،‬‬ ‫رضــي‬ ‫ت‬ ‫أن‬ ‫الناس‪.‬يكفــي‬ ‫أذى‬ ‫عنــك‬ ‫ودع‬ ‫فاعمــل‪،‬‬ ‫ً!‬ ‫ا‬ ‫أبــد‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫وتؤدي عملك‪.».‬‬ ‫ّ‬ ‫‪89‬‬

‫خليفة الفاخري‬

‫املتجدد‬ ‫موسم الحكايات‬ ‫ِّ‬ ‫محمد األصفر‬

‫مرت ســريع ًا على رحيــل األديب الليبي‬ ‫أربعة عشــر عامــاً‪ّ ،‬‬ ‫خليفة الفاخري‪ ،‬المولود في بنغازي (‪ ،)1942‬وسط أهوال‬ ‫الحــرب العالميــة الثانية‪.‬حيث ُي َعّد من ُكّتــاب ما بعد الحرب‬ ‫الكّتاب الليبيين المقلّين في كتاباتهم؛‬ ‫الكونيــة الثانية‪ ،‬ومن ُ‬ ‫فطوال مشــواره األدبي‪ ،‬لــم ُيصدر إال ثالثــة كتب فقط هي‪:‬‬ ‫«موســم الحكايــات»‪« ،‬غربة النهر»‪« ،‬بيــع الريح للمراكب»‪.‬‬ ‫وكل هــذه الكتب لقيت نجاح ًا كبيــراً‪ ،‬لقيمتها الفنية العالية‪،‬‬ ‫وللمواضيع التي احتوتها‪ ،‬من قصص‪ ،‬وحكايات‪ ،‬ومقاالت‬ ‫أدبيــة تالمس اليومي‪ ،‬وتستشــرف المســتقبل بموضوعية‬ ‫وعمق‪.‬‬ ‫مازلت أذكر‪ ،‬عندما مرض فجأة‪ ،‬ودخل مستشفى بوردوشمو‬ ‫وســط بنغــازي‪ُ :‬كّتاب كثيــرون ومعجبــون بكتاباته وقفوا‬ ‫‪90‬‬

‫أمام المستشــفى مستفســرين عن حالته‪ ،‬باقــات ورد كثيرة‬ ‫يمســكون بها‪ ،‬انتظارًا لإلذن بالدخول‪ ،‬إن خرج من العناية‬ ‫تحبه‪.‬‬ ‫الفائقة‪ .‬لقد كانت بنغازي كلّها ّ‬ ‫مرة واحدة عام ‪ ،2001‬ولم أكن‪ ،‬آنذاك‪ ،‬أعرفه من‬ ‫التقيتــه ّ‬ ‫قبل‪.‬‬ ‫يقول الناقد منصور بوشــناف عن تجربة الفاخري‪« :‬هو أحد‬ ‫شــكل‪ ،‬وزميله الصادق‬ ‫مطــوري النثــر الليبي الحديث‪ ،‬وقد َّ‬ ‫ِّ‬ ‫النيهــوم‪ ،‬طليعــة أدب جديــد فــي مدينة بنغــازي وفي ليبيا‬ ‫كلهــا‪ ،‬واســتطاعا‪ -‬حّقاً‪ -‬خلق تيار أدبي أكثــر انفتاح ًا على‬ ‫أدب العالم»‪.‬‬ ‫وعن طبيعة نصوصه ومواضيعها‪ ،‬يضيف بوشناف قائالً‪:‬‬ ‫«ظل الفاخري لصيقاً‪ ،‬في أدبه‪ ،‬بالمواطن البسيط وهمومه‪،‬‬

‫وأعطى لتلك المعاناة أبعادًا إنســانية عميقة‪ ،‬جعلته جزءًا‬ ‫من ملحمة معاناة اإلنسان وصراعه من أجل وجود أفضل»‪.‬‬ ‫ــدم الفاخري لألدب الليبــي تجربة جديدة في «فن الحكاية»‬ ‫َق َّ‬ ‫متكئــ ًا علــى ميــراث هائل مــن حكايــات الجــّدات الليبيات‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫واســتطاع‪ -‬عبــر نثــره البديــع‪ -‬أن يجعــل تلــك الحكايات‬ ‫ولكل‬ ‫كل وقت‪ّ ،‬‬ ‫تفيض باأللفة والحميمية‪ ،‬لتظل طازجة في ّ‬ ‫قارئ»‪.‬‬ ‫الكتــاب الذي قــد ال يخلو منه أي بيت‪ ،‬فــي ليبيا‪ ،‬هو كتاب‬ ‫خليفة الفاخري «موســم الحكايــات» (‪ )1974‬حيث يوصف‬ ‫بـ(الكتاب الشــامل) الحتوائه على الحكاية والقصة‪ ،‬وأيض ًا‬ ‫ويشــبهه بعض النقّاد الليبيين‬ ‫النقــد واليوميات والترجمة‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫بكتب الجاحظ وكتب غيره من أدباء العرب القدامى‪.‬‬ ‫تبدو للقارئ تجربة الفاخري‪ ،‬من خالل كتبه الثالثة والكتاب‬ ‫الرابــع الذي صدر بعــد وفاته‪ ،‬واحتوى بعض قصصه التي‬ ‫نشــرها على قسم كبير من سيرته الذاتية‪ ،‬أو سيرة المدينة‬ ‫التــي نهضــت من دمار الحــرب‪ ،‬لتتحول إلــى دولة تنمو ثم‬ ‫تتالشــى تدريجياً‪ .‬يقول الكاتب حسين مخلوف‪ ،‬في تقديمه‬ ‫مجلة «الثقافــة العربية» ‪« :‬كان‬ ‫لحــوار له مع الفاخــري في‬ ‫ً‬ ‫أول من عاش لوالديه من بين أشــقاء سابقين؛ إذ مات قبله‬ ‫ّ‬ ‫شــقي ًا إلى َحــّد النــزق‪ ،‬كانت أمي‬ ‫كنت‬ ‫ّ‬ ‫ثالثــة إخــوة‪ .‬ولمــا ُ‬ ‫تتحسر‪ -‬أحياناً‪ -‬على أنني لم ألحق بإخوتي الثالثة!»‪ ،‬قال‬ ‫ّ‬ ‫الفاخري عن نفسه‬ ‫انخــرط في حفظ القرآن الكريم على يد فقيه من مراكش في‬ ‫جامع الحدادة‪ ،‬الكائن مقابل مكتبة (بوقعيقيص) التي‪ ،‬كلّما‬ ‫الملونة الجميلة‪ .‬لم‬ ‫غادر الخلوة استوقفته كتبها بعناوينها ّ‬ ‫يكــن في وســعه أن يشــتري أي كتاب‪ ،‬وقــد أدرك صاحب‬ ‫المكتبــة ذلــك فدلَّــه علــى المركــز الثقافــي المصــري‪ ،‬وبدأ‬ ‫فن‬ ‫نبهت الفاخري إلى ّ‬ ‫يســتعير منه الكتب‪ ..‬عناوين الكتــب َّ‬ ‫الخط العربي‪ُ ،‬أ ِخَذ به وشــرع في محاوالت دائبة ألن يكون‬ ‫ّ‬ ‫يخط‪،‬‬ ‫ال إلى أن أصبح الوحيد فــي الجامع الذي ّ‬ ‫ّ‬ ‫خطــه جمي ً‬ ‫منح للطلبة‪.‬‬ ‫ت‬ ‫شهادة‬ ‫بمثابة‬ ‫كانت‬ ‫التي‬ ‫(الختمة)‬ ‫ويرسم‬ ‫ُ َ‬ ‫وعن تحصيله العلمي‪ ،‬فقد درس الفاخري اللغة اإلنجليزية‬ ‫في المركز الثقافي البريطاني‪ ،‬في بنغازي‪ ،‬خمس سنوات‪،‬‬ ‫انتقل بعدها (ســنة ‪ )1970‬إلى إنجلترا الســتكمال دراســته‬ ‫على نفقته الخاصة‪ .‬إذ درس اللغة واألدب اإلنجليزيين كما‬ ‫خاصة‬ ‫مهم‪ ،‬هــو أدب المراســات‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫تميــز فــي جانب أدبــي ّ‬ ‫المتبادلة مع الصادق النيهوم‪ ،‬حيث كان الفاخري‬ ‫رســائله‬ ‫َ‬ ‫في بنغازي‪ ،‬وكان النيهوم في أوروبا‪ ،‬والتي جمعها الكاتب‬ ‫المقربين‬ ‫محمــد عقيلة العمامي‪ ،‬وهو من أصدقــاء الفاخري‬ ‫َّ‬ ‫لمــّدة ثالثيــن ســنة تقريبــاً‪ ،‬وأصدرهــا في كتــاب بعنوان‬ ‫«قطعان الكلمات المضيئة»‪ ،‬نقتطف منه هذه السطور‪:‬يكتب‬ ‫«أردت أن أجعل‬ ‫الصــادق النيهــوم إلــى خليفــة الفاخــري‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫كلماتــي تضيء‪ ،‬وقد أعطيتها مهلــة كاملة‪ ،‬ألنني ظننت أن‬ ‫الحروف مثل ثمار الشــماري‪ ،‬تحتاج إلى وقت لكي تنضج‪،‬‬ ‫مرة‪ -‬أن الكلمات تتغذّى على التجارب هرعت‬ ‫وعندما قرأت‪ّ -‬‬

‫كالمجنون أجوب األرض واألحداث‪ ،‬وأبحث عن التجارب»‪،‬‬ ‫فرد خليفة الفاخــري بالقول‪« :‬الجري خلف قطعان الكلمات‬ ‫ّ‬ ‫شــاق وطويل ودائب‪ ،‬إنه عذاب مّتصــل‪ ،‬يحفر قلبك طوال‬ ‫ّ‬ ‫الوقت‪ ،‬ويدعك تتعامل مع النار‪ ،‬مثل أحد الحواة‪ .‬من دون‬ ‫أن تلتقط أنفاسك‪ ،‬أو تنعم بلحظة رضاء مدى العمر»‪.‬‬ ‫ورغــم أن لغــة الفاخــري والنيهــوم متقاربتان جــداً‪ ،‬ولهما‬ ‫جرس وإيقاع واحد‪ ،‬وأيض ًا ثمة تشــابه في المواضيع التي‬ ‫تهكميــة‪ ،‬إال أن االختالف‬ ‫يتطرقــون إليها بطريقة ســاخرة ُّ‬ ‫ّ‬ ‫نلمســه بينهمــا واضحاً‪ ،‬في طريقة التنــاول ألي موضوع‪،‬‬ ‫حيــث يغلب على النيهــوم‪ -‬دائماً‪ -‬الجانــب النقدي والجدلي‬ ‫ِ‬ ‫والمكــون لإلربــاك لــدى القــارئ‪ ،‬بينما‬ ‫المشــعل للحرائــق‬ ‫ّ‬ ‫يجنــح الفاخــري إلى البســاطة والعمق معتمــدًا على لغته‪،‬‬ ‫ويوظفها بطريقة محكمة‪ ،‬ال َت َش ُّتت‬ ‫التي ينحتها بشكل جيد‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫في ما تذهب إليه من دالالت‪.‬‬ ‫والخطاط حســام الثني عــن تجربة الفاخري‪،‬‬ ‫يقول الكاتب‬ ‫ّ‬ ‫خاصــة مــن ناحية اللغــة‪ ،‬حيث يجمعــه بالفاخــري كتابة‬ ‫ّ‬ ‫فــن الخط‪« :‬قلق الفاخــري الفني‪ ،‬ونزوعه‬ ‫ا‬ ‫وأيض‬ ‫ــة‪،‬‬ ‫القص‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫المضــاد لتأصيــل الجنــس األدبي‪ ،‬قــاداه إلــى كتابة النص‬ ‫التخييلي الســردي المفتوح على فضاء ُلغوي شعري‪ .‬ليس‬ ‫من حيث الشــدة والكثافة والحركة والميل إلى الرمز ورفض‬ ‫الواقعيــة التقليدية فحســب‪ ،‬بل‪ -‬أيضاً‪ -‬مــن حيث الوظيفة‬ ‫توظــف الداللة اإليحائية للكلمات‪..‬‬ ‫اللغوية االنفعالية التي ِّ‬ ‫المهمين الذين انتحوا هذا المسلك‬ ‫وهو في نظري أحد الرواد ّ‬ ‫مبكراً‪ ،‬في الســرد العربي الحديث‪ ،‬في وقت اعتمد فيه أغلب‬ ‫ِّ‬ ‫قصاصي جيل الستينيات على المرجعية‪ ،‬بوصفها الوظيفة‬ ‫ّ‬ ‫اللغوية للســرد والحوار والوصف‪ ،‬وعلى الداللة المباشرة‬ ‫ضميري الغائب والمتكلِّم‪ ،‬والزمن‬ ‫لمطابقة الكلمات‪ ،‬وعلى‬ ‫َ‬ ‫الماضي للحكي»‪.‬‬ ‫ويتحــّدث الثنــي‪ -‬أيضاً‪ -‬عــن الجانب الفكــري في نصوص‬ ‫الفاخري فيقول‪« :‬أما بشأن السياق الفكري فالملمح الظاهر‪،‬‬ ‫الملحة في االستشــراف‬ ‫فــي تجربة الفاخــري‪ ،‬هو الرغبــة‬ ‫ّ‬ ‫خفيــة في نقــد الثوابت‪،‬‬ ‫والتب ّ‬ ‫صــر المســتقبلي‪ ،‬مــع رغبــة ّ‬ ‫َ‬ ‫والمطالبــة بإعادة قراءة التراث اإلســامي بحيــاد‪ .‬كل هذا‬ ‫ال شــاق ًا يســتنزف وقتاً‪،‬‬ ‫جعل فعل الكتابة عند الفاخري عم ً‬ ‫تأملية عالية واشــتغا ًال لغويــ ًا مرهق ًا على‬ ‫ويقتضــي طاقة ُّ‬ ‫النسج واختيار الصيغة األكثر دقّة ودهشة من بين التباديل‬ ‫َ‬ ‫َّر سلب ًا على‬ ‫الالنهائية لكل عبارة»‪ ،‬ويضيف‪« :‬هذا المذهب أث َ‬ ‫الكمّية‪ ،‬لكنه‪ -‬في المقابل‪ -‬أعطى دفعة‬ ‫إنتاجه مــن الناحية ّ‬ ‫إيجابية عالية من حيث النوع وجودة اللغة»‪.‬‬ ‫المشــع‬ ‫الكاتب‬ ‫أربعة عشــر عام ًا َمّرت‪ ،‬ومازال الفاخري هو‬ ‫ّ‬ ‫القــراء الذيــن يعشــقون األمكنــة‪،‬‬ ‫والمقــروء‪ّ ،‬‬ ‫خاصــة مــن ّ‬ ‫ففــي كتاباته تتجلّى بنغازي الســتينيات‪ ،‬والســبعينيات‪،‬‬ ‫والثمانينيــات أيضــاً‪ ،‬لقــد كان يكتــب الحيــاة كما يعيشــها‬ ‫الناس‪.‬‬ ‫‪91‬‬

‫نصوص‬

‫ذكريــات‬ ‫عزة كامل‬

‫الصيف‬ ‫جلست في حجرتي استمع إلى غناء أم كلثوم‪ ،‬ونسائم ّ‬ ‫الحارة تلسع وجهي‪ ،‬دمعت عيناي‪ ،‬وأخذني الحنين ألمسيات‬ ‫مر عليها زمن‪ ،‬تخلِّف لي ذكرى عذبة‪ ،‬مفعمة بأجواء‬ ‫صيفيــة ّ‬ ‫غســق لطيف‪ ،‬تقطعها مداعبات األصدقاء وهمســات نشــوتهم‬ ‫ــكر خفيــف َخــِدر‪ ،‬وتنميلة قبالت‬ ‫باللّحــن والكلمات‪ ،‬ومن ُس ْ‬ ‫بريئة تطبع مذاقها على شفاه رطبة‪.‬‬ ‫كم تمنّيت أن اســترجع ما أخذتــه األيام حتى لو كانت لحظات‬ ‫عابرة وخاطفة! كم تمنّيت‪ -‬أيضاً‪ -‬أن أبعد عني ذكريات تثقل‬ ‫صدري‪ ،‬وتشعرني بالغربة والعزلة والوحشة‪ ،‬وتثير مشاعر‬ ‫والحب الضائع‪.‬‬ ‫الصمت والحزن واألشواق‬ ‫ّ‬ ‫كنــا نجلــس‪ ،‬في مســاء ليلة مــن ليالــي رمضان‪ ،‬أنــا وأخي‬ ‫أمي‪ ،‬نقرأ مقاطع من رواية ﻟ«ماركيز»‪ .‬أخي‬ ‫األصغر‪ ،‬في بيت ّ‬ ‫والفن‪ ،‬سمعنا طرق ًا خجو ًال على الباب‪ ،‬اندهشنا‬ ‫مولع باألدب‬ ‫ّ‬ ‫ألن الطارق لم يســتخدم‪ ،‬دخــل علينا ثالثة من أصدقاء أخي‪،‬‬ ‫أحسست بأن حدث ًا قد وقع‪ ،‬وثب قلبي من صدري‪ ،‬همسوا في‬ ‫أذن أخي‪ ،‬أخي صرخ وجرى‪ ،‬جريت خلفه بسرعة‪.‬‬ ‫كشــف الليل الحالك عن أنيابه‪ ،‬انطفأت قناديلنا ومحت جميع‬ ‫صعدت ســالم المنزل المقابل لمنزلنا إلى أن وصلت‬ ‫النجوم‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫إلى شــقة أحد أصدقاء أخي‪ ،‬دخلت إلى الحجرة‪ ،‬وجدت أخي‬ ‫مســجى على الســرير‪ ،‬كان الضــوء المنبعث من مصباح‬ ‫اآلخر‬ ‫ّ‬ ‫الردهــة الخارجيــة ينســكب علــى وجهــه الوســيم ذي األنــف‬ ‫المســتقيم‪ ،‬تعلو وجهه ابتســامه هادئة‪ ،‬وجه اكتسته مسحة‬ ‫من جمال‪ ،‬كان وديع ًا كطفل في حضرة الموت‪ ،‬لم أصرخ‪ ،‬لم‬ ‫ِ‬ ‫أبك‪ ،‬كنت أرتجف‪ ،‬انحنيت عليه أفتش في جسده عن شيء ما‬ ‫تسبب في رقاده بال حراك إلى األبد‪ ،‬أخذته في حضني‪،‬‬ ‫يكون َّ‬ ‫أمســكت بيده‪ ،‬وضعتها علــى بطني المنتفخة التي كانت تنوء‬ ‫بحمل‪ ،‬كنت أريده أن يشعر بنبض طفلتي التي لم تولد بعد‪.‬‬ ‫يهــز الجبل‪،‬‬ ‫انتبهــت إلى صــراخ أخى األصغــر‪ ،‬كان صراخ ًا ّ‬ ‫وأية‬ ‫تحــول إلى عويــل ونحيب‪ّ ،‬‬ ‫أي صراخ ينبغــي أن أطلق؟ ّ‬ ‫َّ‬ ‫وأية عدالة يجــب أن أتبع؟ عدالة‬ ‫قهــا؟‬ ‫أصد‬ ‫أن‬ ‫ينبغــي‬ ‫أكذوبــة‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬ ‫الموت؟ يالها من عدالة!‬ ‫‪92‬‬

‫ويئــن‪ ،‬عذاب‬ ‫عينــي‪ ،‬وقلبــي يحتــرق‬ ‫الظــام يتدحــرج فــي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫إلي أن كل شــيء يجري‬ ‫حقيقــي مريــر‪ ،‬منذ تلك اللّحظة ّ‬ ‫خيل ّ‬ ‫يبق في عالمي إال السكون العميق المظلم‪،‬‬ ‫في عالم أخر‪ ،‬ولم َ‬ ‫أمي على‬ ‫الذى جعلني أتجرجر في األزقة الملتوية‪ ،‬استيقظت ّ‬ ‫أمهاتهن‪ ،‬وســأَل ْت‪ :‬على‬ ‫صــوت رفاق وأصدقــاء أخي وعويل ّ‬ ‫من هذا الصراخ؟‬ ‫أمــي بعد ســماع الخبر‪،‬‬ ‫قالــت إحداهــن‪ :‬على ابنك!! ســقطت ّ‬ ‫مرة‬ ‫اســتعادته‬ ‫على‬ ‫ر‬ ‫م‬ ‫ّ‬ ‫غابت عن الوعي‪ ،‬الأعلم كم من الوقت َ ّ‬ ‫أمي‪.‬‬ ‫أقو على النّظر في عيني ّ‬ ‫أخرى‪ ،‬لم َ‬ ‫عمتي‪ ،‬جلســت فــي الصالة‪ ،‬صوتها خال مــن اللوعة‪،‬‬ ‫جــاءت ّ‬ ‫ورددت‬ ‫عمتي َعّدودة‪َّ ،‬‬ ‫ولكنه يحتشد بمرارة موجعة‪ ،‬ارتجلت ّ‬ ‫بقوة‪:‬‬ ‫النساء خلفها ّ‬ ‫ضّيْه‬ ‫انطفا‬ ‫منور‪..‬‬ ‫َ‬ ‫قنديل ِّ‬ ‫زيْه‬ ‫سوق البحيرة َملَ‬ ‫ْتقاش ّ‬ ‫نوره‬ ‫وانطفا‬ ‫منور‪..‬‬ ‫ْ‬ ‫قنديل ِّ‬ ‫غيره‬ ‫سوق البحيرة َمْلَتقيت‬ ‫ْ‬ ‫تبل الظهر‬ ‫يا ْم َغ ّسَلْه‪ ،‬قبل أن ّ‬ ‫َم ِّيل عليه وقول له‪ :‬الغياب كم شهر؟‬ ‫تبل إيديه‬ ‫يا ْم َغ ّسَلْه قبل أن ّ‬ ‫َم ِّي ْل عليه وقول له‪ :‬الغياب كدا ليه؟‪.‬‬ ‫ويشيعه بحرقة الدعوات والبكاء‪،‬‬ ‫يودعه‬ ‫خرج عالم أخي كلّه ّ‬ ‫ّ‬ ‫كان النعش ملفوف ًا بســاتان أبيض‪ ،‬ألنه لم «يدخل دنيا بعد»‪،‬‬ ‫كان مــازال عريســاً‪ّ ،‬‬ ‫تحولوا إلى‬ ‫يــزف إلى المــوت‪ ،‬إخوتــي ّ‬ ‫تماثيــل من الخشــب فــوق مقاعد خشــبية‪ ،‬لم يكــن رحيله إال‬ ‫أمي أن يدفن‬ ‫صممت ّ‬ ‫رحيلهم‪َ ،‬ل َطشــهم الموت وسكن داخلهم‪َّ ،‬‬ ‫دفــن بجانبه‪ .‬ظلت صورة‬ ‫جســد أخي في مقابر عائلتها لكي ُت َ‬ ‫أمــي‪ ،‬بعــد وفاة أخي‪ ،‬صورة وحيدة مليئة باألســى‪ ،‬أدركت‬ ‫ّ‬ ‫أمي التي أعرفها‪ ،‬اكتســى وجههــا كآبة ووجوماً‪،‬‬ ‫ليســت‬ ‫أنها‬ ‫ّ‬ ‫تتنقــل في البيت تائهة‪ ،‬تبحث عن ابنهــا المفقود الذى يناديها‬ ‫عبر سكون الليل‪ ،‬تبكي بال دموع‪ ،‬أصابها الذهول‪ ،‬وازدادت‬ ‫ــرق بريق‬ ‫صحتهــا ســوءًا يوم ًا بعد يــوم‪ ،‬التزمت الصمت‪ُ ،‬س ِ‬ ‫ّ‬

‫العمل الفني‪Nicholas wetyk :‬‬

‫أمي‪ ،‬وجعل روحها تخبو‪.‬‬ ‫عينيها‪ ،‬شيء مات في ّ‬ ‫لألحبــة الذيــن رحلوا‪،‬‬ ‫ومؤجــج‬ ‫يظــل هنــاك حنيــن حــارق‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫المتصل في‬ ‫التســتطيع يداي العاريتان أن تحجزا رجفات األلم َّ‬ ‫حشــاي وكبدي‪ ،‬صرختي‪ ،‬في الليل‪ ،‬أســمعها أنا وحدي‪ ،‬ما‬ ‫زلت أســمعها‪ ،‬أتعثَّر‪ ،‬وأقع‪ ،‬وأشــعر بالعار من كل ما تلمسه‬ ‫يــداي‪ ،‬أريد أن أهرب بعيدًا وأنهي هذا الشــعور الموجع باأللم‬ ‫وتحملته بصمت‪،‬‬ ‫الممــض الذي الينقضــي‪ ،‬هّدني موت أخــي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ومزقتها‪ ،‬ســنوات لم ِ‬ ‫يأت في الحلم‪..‬‬ ‫كتبت له رســائل كثيرة ّ‬ ‫غاب عنى في الحياة وفي الحلم‪.‬‬ ‫يتجســد المــكان‪ ،‬ويتداخل الزمــن‪ ،‬وتتوالى الصــور‪ ،‬وتبقى‬ ‫َّ‬ ‫مــرارة الخــذالن‪ ،‬وقلبــي مــا زال يحمل حــرارة األلــم المدفون‬ ‫وحزن العالم‪ ،‬تراكضت الصور في رأسي‪ ،‬شعرت بالغموض‪،‬‬ ‫كانت مشاعر مضطربة متداخلة‪ ،‬شعرت بالحصار وبانقباض‬ ‫صدري‪ ،‬وأحسست أن روحي محبوسة في بئر عميق‪.‬‬

‫المكبلين‬ ‫أحــاول أن ُأقنــع نفســي أن الزمن رفيــق بالمعذَّبيــن‬ ‫َّ‬ ‫وأتخيل‬ ‫باألصفــاد الداخليــة‪ ،‬أحــاول أن أبتكــر لحظة فــرح‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫أزهارًا مورقة‪ ،‬وانتصارات جديدة‪ ،‬وشمس ًا وكواكب أخرى‪.‬‬ ‫قدرة على الصفاء؟ ألم أبحث‪ -‬غريزياً‪ -‬عن‬ ‫ألــم يمنحني الموت ً‬ ‫والحــواس وفي أي شــيء أنتمي‬ ‫األمكنة‬ ‫مظاهــر الحيــاة فــي‬ ‫ّ‬ ‫إليــه؟ دفعني الحرمان إلى البحــث عن الماء ألروي به العطش‬ ‫محطــات وعالمات أدخل وأخــرج منها‪ ،‬ومرايا‬ ‫األبــدي‪ ،‬وعن ّ‬ ‫أكشف من خاللها عوالم لم توَلج بعد‪.‬‬ ‫أنظــر إلى صورة أخي التــي أحتفظ بها في حقيبتي الصغيرة‬ ‫كل‬ ‫الحب هو لهب القنديل القادر على إنارة ّ‬ ‫فتزداد قناعتي بأن ّ‬ ‫ســراديب الماضي‪ ،‬وإطالق عصافير تغنّــي بعذوبة وصفاء‪.‬‬ ‫ثمة شيء على شرفتي المفتوحة اليدركه الحزن‪ ،‬طائر سنونو‬ ‫ّ‬ ‫المحملتين بالشــوق‪ ،‬يستعّد لحمل رسائلي‪ ،‬من‬ ‫جناحيه‬ ‫يفرد‬ ‫َّ‬ ‫خزانة قلبي المواربة‪ ،‬إلى أخي الذي أفتقده كثيراً‪.‬‬ ‫‪93‬‬

‫كتب‬

‫شاهد عىل الثورة‬ ‫مالك الحزين‬ ‫ٌ‬ ‫إميان السباعي‬

‫ســبب يجعــل «انطباعــات‬ ‫أكثــر مــن‬ ‫ٍ‬ ‫صغيــرة حــول حــادث كبيــر» للكاتــب‬ ‫والروائــي المصــري الراحــل إبراهيــم‬ ‫أصالن (الهيئة المصرية العامة للكتاب‪،‬‬ ‫عــام ‪ )2015‬حدث ـ ًا كبيــراً‪،‬ال ألنــه يحمــل‬ ‫اســم ًا لــه تلــك المكانــة والخصوصيــة‬ ‫فــي حياتنــا األدبيــة والثقافيــة‪ ،‬بــل‬ ‫ألننــا وســط (بحيــرة الحيــرة) تلــك‪.‬‬ ‫وبعــد أربــع ســنوات مـّـرت علــى الحــدث‬ ‫الكبيــر‪ :‬ثــورة ‪ 25‬ينايــر الشــعبية فــي‬ ‫ربمــا‪ -‬حكايــات «بحيرة‬‫مصر سـ ّ‬ ‫ـنتذكر ّ‬ ‫المساء» لمبدعها إبراهيم أصالن‪ ،‬سُتبعث‬ ‫من جديد‪ -‬شخصياته الروائية البسيطة‬‫العميقــة‪ ،‬ونشــعر أننا الشــيخ حســني‪،‬‬ ‫فــي «مالــك الحزيــن»‪ ،‬األعمــى الــذي ال‬ ‫يتصالــح مع العمــى‪ ،‬ويصحــب عمياناً‪،‬‬ ‫يرى ‪-‬بحيلته‪ -‬أفضل منهم‪ .‬سنعود إلى‬ ‫أحداث يناير أخرى‪ ،‬حيث بشارة بعيدة‬ ‫ٍ‬ ‫ونتذكر‬ ‫انتفاضة شعبية عام ‪،1977‬‬ ‫لهبِة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يوســف النجــار‪ ،‬الضائع‪ ،‬الذي يشــبهنا‬ ‫يتجول وسط النار واالنفجارات‬ ‫كثيراً‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫والحشــود الغاضبــة‪ ،‬هــو الثائــر‪ ،‬وهــو‬ ‫الكاتب الذي ال يجد ما يكتبه‪ ،‬ألنه عاجز‬ ‫عن أي فعل ُيشعره بقيمته اإلنسانية في‬ ‫وطنه‪ ،‬فيقف ويتحّدث إلى نفسه‪ :‬لماذا‬ ‫ال تكتــب؟ ألنك لــم تعــد أنــت‪ ،‬وألن النهر‬ ‫ليتفرج‬ ‫أوالً‪-‬‬‫لم يعد هو النهــر؟ ســيقف ّ‬ ‫َّ‬ ‫يتورط فيه حتى ُيصاب‬ ‫على الميدان‪ ،‬ثم ّ‬ ‫ويدمــى‪ .‬الميــدان‪ ..‬تلك المفــردة التي ما‬ ‫ُ‬ ‫نجرب‬ ‫إن ذكرناها حتى انتشينا بفرح لم ّ‬ ‫مثيلــه‪ ،‬وبحــزن لم نختبــر مثل قســوته!‬ ‫صممــه‬ ‫يطالعنــا الكتــاب‪ ،‬بغــاف َّ‬ ‫حيــة لميدان‬ ‫عمــرو الكفــراوي‪ ،‬بصــورة ّ‬ ‫التحريــر؛ صــورة لصــاة فــي الميــدان‬ ‫تستدعي إلى األذهان سياج ًا مصري ًا من‬ ‫يؤمنون‬ ‫مسيحيين ومســلمين‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫مصريين ّ‬ ‫‪94‬‬

‫الصــاة والميــدان‪ ،‬فــي ملحمة إنســانية‬ ‫استمرت ثمانية عشر يوماً‪ ،‬لكن‪ ،‬تظهر‬ ‫ّ‬ ‫مكبــرة لشــخص‬ ‫صــورة‬ ‫المقدمــة‬ ‫فــي‬ ‫َّ‬ ‫بمالمــح مطموســة ال نســتبينه‪ ..‬تبــدو‬ ‫الصورة غير واضحة مغلَّفة بضبابية‪،‬‬ ‫ـس عيــن الرائــي وعقلــه‪،‬‬ ‫فــي رمزيــة تمـ ّ‬ ‫وتق ـّدم لــه مفتاح ـ ًا داللي ـ ًا قبــل الدخــول‬ ‫إلــى عالــم الكتــاب‪.‬‬ ‫لجــأ إبراهيــم أصــان إلــى كتابــة‬ ‫ال‬ ‫«نصــوص» هــذا الكتاب كي يقــف طوي ً‬ ‫أمــام الحــدث الكبيــر‪ ،‬فتلــك وســيلته‬ ‫للتعــرف بــه أكثــر‪ .‬والنصــوص التــي‬ ‫ّ‬ ‫أراد لهــا كاتبهــا أن تظــل مســتعصية‬ ‫علــى التصنيــف ‪-‬وإن كانــت تــروي‬ ‫ـرت على ثــورة يناير‬ ‫أحداثـ ًا حقيقية‪َ ،‬مـ َّ‬ ‫أو علــى كاتبهــا مشــارك ًا وشــاهدًا علــى‬ ‫تلــك األحــداث‪ -‬ال تخلــو مــن حديــث عــن‬ ‫الكتابة وعــن القصة القصيــرة‪ ،‬ال تخلو‬ ‫من حكايات ومشاهد أقرب‪ ،‬في أدبيتها‪،‬‬ ‫إلــى الحكايــات والقصــص التــي يرويها‬ ‫إبراهيــم أصــان‪.‬‬ ‫تذكرنا‬ ‫يبدأ الكتاب بفاتحة ضرورية ِّ‬ ‫بالشــرارة األولــى للثــورة‪« :‬كان محمــد‬ ‫يجــر عربتــه الصغيــرة‬ ‫البوعزيــزي‬ ‫ّ‬ ‫ويســترزق منهــا‪ ،‬ثــم إن رجــال األمــن‬

‫صادروهــا‪ ،‬والشــرطية صفعتــه علــى‬ ‫وجهه أمام الناس‪ ،‬ومحمد ذهب يشتكي‪،‬‬ ‫ولم يســتجب أحــد‪ ،‬حينئذ‪ ،‬أغرق نفســه‬ ‫بنزيناً‪ ،‬وأشــعل النار في جســده»‪.‬‬ ‫لــم تكــن تلــك الحكايــة‪ ،‬التــي بــدأت‬ ‫وانتهــت بكلمـ ٍ‬ ‫ـات قليلــة وحبكــة بســيطة‬ ‫ومباشرة‪ ،‬هي حكاية الثورة في تونس‬ ‫وحدهــا‪ ،‬وفي مصــر وحدها‪ ،‬بــل في كل‬ ‫األقطــار العربيــة التــي شــهدت ربيعــ ًا‬ ‫أوج َعنــا ذبولــه! ثــم إن أصــان يطــوف‬ ‫َ‬ ‫على مــدار الكتاب تطواف ًا جميـاً‪ ،‬مرورًا‬ ‫بأجيــال مــن الكّتــاب والفنّانيــن الذيــن‬ ‫شــاركوه حلــم الثــورة‪ ،‬ليــس فــي مصر‬ ‫وحدها أو في وطننا العربي وحده‪ ،‬بل‬ ‫في العالم كلــه‪ ،‬فيذكر «يوســا» والكاتب‬ ‫الفرنســي جــان جينيــه الــذي أفــرد لــه ما‬ ‫نصــ ًا كامــاً‪ ،‬ذكــر فيــه كلماتــه‪:‬‬ ‫يشــبه ّ‬ ‫حرض حناجرنا‬ ‫«والفعل يكون جمي ً‬ ‫ال إذا ّ‬ ‫علــى الغنــاء»‪ ،‬لــذا يتحــدث أصــان عــن‬ ‫شــرارة الثــورة المصريــة وطليعتها فلم‬ ‫يتشّدق بأفكار مثل‪« :‬إنها ثورة بال قائد‪،‬‬ ‫نبتت من الفراغ»‪ ،‬وعلى َحّد قوله «الذين‬ ‫صنعــوا هــذه الثــورة مــن الشــباب هــم‬ ‫طالئــع طبقــة وســطى مصريــة جديدة‪،‬‬ ‫بعدمــا انتهــى أمــر القديمــة ألســباب ال‬ ‫ـأن‬ ‫تخفــى علــى أحــد وهــم ّ‬ ‫مؤهلــون ‪-‬شـ َ‬ ‫كل طبقة وسطى مستنيرة‪ -‬لقيادة الوطن‬ ‫ـاع الثورة‬ ‫والترّقــي بــه»‪ .‬هكذا حـ َّـد َد صّنـ َ‬ ‫الحقيقييــن‪ ،‬ووضــع يــده علــى أســباب‬ ‫تجاوب الجماهير العريضــة معهم‪ ،‬فيما‬ ‫تحرض‬ ‫أسماه (النغمة الصحيحة) التي ّ‬ ‫على الغناء‪،‬على حد تعبير جينيه‪« :‬وهم‬ ‫لــم يقــودوا النــاس‪ ،‬فقــط ألنهــم عثــروا‬ ‫علــى أدوات اّتصال جديــدة‪ ،‬ولكن ألنهم‬ ‫(وهو الجوهري في كل مــا جرى) عثروا‬ ‫علــى النغمــة الصحيحــة التــي تجاوبــت‬

‫وتحركت بها»‪.‬‬ ‫معها الماليين‬ ‫ّ‬ ‫ال نعرف إن كان إبراهيم أصالن يعرف‬ ‫مرات عديدة أم ال!‬ ‫وزاره ّ‬ ‫«عبد الفتــاح»‪َ ،‬‬ ‫وال أعرف إن كان لعبد الفتاح هذا وجود‬ ‫بواقع أليف!‬ ‫خيال أشبه‬ ‫حقيقي‪ ،‬أم هو‬ ‫ٌ‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫ـن عبد الفتــاح هــذا موجــود ‪-‬بالتأكيد‪-‬‬ ‫لكـّ‬ ‫في مدن مصر وقراها وشوارعها وبيوتها‬ ‫المغلقة على األسرار‪ ،‬وعبد الفتاح إحدى‬ ‫شــخصيات الكتاب التــي أراد لهــا كاتبها‬ ‫الحق إلى أصحابه الحقيقيين‪،‬‬ ‫أن تعيد ّ‬ ‫عجوز جاوز الثمانين يحزنه «أن الجميع‬ ‫نســي رجــل الشــارع الصغيــر الــذي هــو‬ ‫جســد هــذه الثــورة‪ ،‬وأن جهــود القــوة‬ ‫الخفية نجحت في دفع المواطن الصغير‬ ‫ّ‬ ‫العادي إلى السخط على الثورة؛ اعتقادًا‬

‫ـردي‬ ‫منــه أن الثــورة هــي ســبب هــذا التـ ّ‬ ‫الذي يعيشه‪ ،‬مع أن الثورة ليس بيدها‬ ‫قــرار‪ ،‬وال َت ْحُكم‪.».‬‬ ‫بين أروقة لجان االنتخابات واستفتاء‬ ‫مارس على مواد الدستور وتشرذم قوى‬ ‫الثــورة الحقيقيــة فــي ائتالفــات بلغــت‬ ‫على َحّد تعبيره الساخر‪ -‬مئة وخمسين‬‫ائتالف ًا ال غير‪،‬وبين حــرب غير مفهومة‬ ‫وتخوين لقوى الثــورة كـ«حركة كفاية»‬ ‫و«شــباب ‪ 6‬إبريــل»‪ ،‬جــاء علــى لســان‬ ‫اللــواء الروينــي‪ ،‬أحــد قيــادات المجلس‬ ‫مرشــحين بــا برامــج‬ ‫العســكري‪ ،‬بيــن َّ‬ ‫حقيقية‪ ،‬وآخرين استغلّوا حاجة الشعب‬ ‫وفاقَته‪ ،‬خرجت الثورة عن المسار الذي‬ ‫َ‬ ‫كان مقّدرًا لها‪ .‬حديث ذو شجون يوجعنا‪،‬‬

‫إبراهيم أصالن‬

‫السم‬ ‫يدس ّ‬ ‫بسخريته السوداء‪ ،‬من إعالم ّ‬ ‫بترحــم علــى أيــام مبــارك‪ ،‬ثــم إن َمــن‬ ‫ُّ‬ ‫جــاؤوا باســم ميــدان التحريــر ليجهضوا‬ ‫الثــورة ال يســاندونها‪ ،‬لكن تلــك الثورة‬ ‫ِ‬ ‫المحتشــد‬ ‫ـل ذلــك الحــدث االســتثناء‬ ‫تظـ ّ‬ ‫بالمشــاهدات اإلنســانية‪ ،‬والتــي تجعــل‬ ‫ـب مــن غفوتــي خائف ـ ًا‬ ‫ـر‪« :‬أهـ ّ‬ ‫الكاتــب يقـ ُّ‬ ‫مــن أن يكــون مــا شــاهدت حلمـاً»؛ لذلك‬ ‫ـب إبراهيــم أصــان‬ ‫ورغــم مرضــه‪ -‬يهـ ّ‬‫إلــى ميــدان التحريــر بمســاعدة آخريــن؛‬ ‫فــا يليــق أن يــدع لحظــة عمــره وعمــر‬ ‫تمــر دون أن يــرى‬ ‫مصــر (االســتثناء) ّ‬ ‫مبــارك وزمرتــه (العادلــي بالتحديــد)‪،‬‬ ‫فــي القفــص‪ ،‬بنظرتــه الوقحــة «وكأنــه‬ ‫كان واثق ًا من براءة قادمة لم يعاصرها‬ ‫إبراهيــم أصــان‪ ،‬لكنــه قرأهــا ببصيــرة‬ ‫كاتب وإنســان» !‬ ‫ـص شــفيف‪ ،‬يتح ـّدث إبراهيــم‬ ‫فــي نـ ٍّ‬ ‫أصالن عن ميــدان التحريــر الذي أصبح‬ ‫هو الشاهد والموئل والمالذ‪ ،‬وعن مكانته‬ ‫ال‬ ‫وربما يعقد تمثي ً‬ ‫في قلوب المصريين‪ّ ،‬‬ ‫لصورتــه في نصــب الشــهيد علــى مقربة‬ ‫من حوائط الكرمليــن‪ ،‬التي ُنِقش‪ ،‬على‬ ‫جــدار يمثِّــل خلفيــة مشــهدها‪ ،‬كلمــات‪:‬‬ ‫اســمك مجهول‪ ،‬ومأثرتــك خالدة‪.‬‬ ‫الســياح‪،‬‬ ‫وهنــاك يتوافــد آالف‬ ‫ّ‬ ‫وتقــام احتفــاالت الزفــاف‪ ،‬حيــث يذهــب‬ ‫ُ‬ ‫العروسان ليضعا وردة قبل الذهاب إلى‬ ‫ـول ميدان‬ ‫منزلهمــا‪،‬أراد أصــان أن يتحـ ّ‬ ‫التحريــر إلــى مــكان يضــع فيــه شــعب‬ ‫مصــر توقيعــه‪ ،‬ويعقــد أعراســه‪ ،‬ليــس‬ ‫ميــدان التحريــر وحــده‪ ،‬بــل كل مياديــن‬ ‫الثورة‪،‬لــم تقــرأ شــهيدة الــورد شــيماء‬ ‫وصيــة إبراهيم أصــان‪ ،‬لكنها‬ ‫الصبــاغ‬ ‫ّ‬ ‫نفّذتها‪ ،‬وذهبت لتتــرك توقيع ًا ووردة‪،‬‬ ‫وكان مــن نصيبهــا رصاصــة!‪.‬‬ ‫‪95‬‬

‫تعرية «الوطن» من الداخل‬ ‫جامل جربان‬ ‫افتتح الكاتب اليمني أحمد زين مشواره‬ ‫سماها «أسالك‬ ‫السردي بمجموعة قصصية ّ‬ ‫ّ‬ ‫تصطخب» (‪ ،)1997‬لــم يكتب غيرها على‬ ‫تعمد فيها اســتخدام‬ ‫المســتوى القصصي‪ّ ،‬‬ ‫لغــة غيــر مألوفــة‪ ،‬قــام باســتخراجها أو‬ ‫إعــادة تركيبهــا مــن داخــل قامــوس لغوي‬ ‫شــخصي‪ ،‬اجتهد ‪-‬وبصبــر‪ -‬في تشــكيله‪.‬‬ ‫خاصة بــه‪ ،‬لكنها لغة‬ ‫كأنمــا يفعل عبــارة ّ‬ ‫تســير وفــق مــا ُأطلــق عليــه «الحساســية‬ ‫الجديدة»‪.‬‬ ‫بعدهــا ســيأخذ هــذا الروائــي اليمنــي‬ ‫المقيــم فــي الريــاض اســتراحة إلــى غايــة‬ ‫‪ ،2004‬ليظهر للقارئ العربي ﺒ«تصحيح‬ ‫وضع»‪ ،‬أعقبها ﺒ«قهوة أميركية» و«حرب‬ ‫تحــت الجلــد»‪ .‬ثالثــة أعمــال كان لهــا أن‬ ‫كرساً‪ ،‬ويعتمد على صيغة‬ ‫تجعله روائي ًا ُم َّ‬ ‫اشتغال ســردية قوامها أفكار منزوعة من‬ ‫األرض األصليــة ومرتبطة بها‪.‬‬ ‫وهــو‪ ،‬هنــا‪ ،‬اليذهــب لجلــب حكاياتــه‬ ‫ــير ذاتيــة ليقــوم بإعــادة‬ ‫مــن صلــب ِس َ‬ ‫تركيبهــا وتشــكيلها علــى هيئــة روايــات‪،‬‬ ‫بحســب حالة كتابية صارت شــائعة على‬ ‫الصعيد المحلي اليمني‪ ،‬حيث تبدو السير‬ ‫ال ُيغري بعض‬ ‫الذاتية الشخصية ميدان ًا سه ً‬ ‫الكّتاب باللجوء إليه وتأسيس مشاريعهم‬ ‫ُ‬ ‫الروائية‪ ،‬بل ‪-‬على العكس من هذا‪ -‬يذهب‬ ‫صاحب «تصحيح وضع» لجلب فكرته من‬ ‫خــارج ذاته ومــن التاريــخ اليمنــي القريب‬ ‫أو األكثــر ُبعــداً‪ ،‬ويضعهــا داخــل مشــغله‬ ‫الســردي بهــدف إعــادة تركيبــه (إن جــاز‬ ‫التعبيــر) والتركيــز علــى نقطــة مفصليــة‬ ‫فــي بنيتــه العامة‪.‬‬ ‫على هــذا نرى زيــن‪ ،‬في عملــه الصادر‬ ‫حديثــ ًا «ســتيمر بوينــت» (دار التنويــر‪-‬‬ ‫بيــروت‪ ،)2015 ،‬وهــو يذهــب إلــى نقطة‬ ‫الخــاص اليمنــي مــن فتــرة االســتعمار‬ ‫‪96‬‬

‫البريطانــي لمدينــة عــدن الجنوبيــة‪ ،‬فــي‬ ‫العام ‪ ،1967‬وعلى وجه التحديد في يوم‬ ‫الثامــن والعشــرين مــن نوفمبــر فيــه‪ .‬هــو‬ ‫تحديد لن يمنع من الذهاب ‪-‬الحقاً‪ -‬إلى ما‬ ‫بعــد هــذا التاريــخ أو العودةإلى مــا قبله‪،‬‬ ‫في عملية استرجاع لفترة االربعينيات أو‬ ‫مــا واكبهــا مــن حــرب عالميــة ثانيــة كانت‬ ‫فــي ذلــك الوقت‪.‬‬ ‫نســتقر علــى هــذا‬ ‫ســنرى ‪-‬ونحــن‬ ‫ّ‬ ‫التموضــع الزمنــي‪ -‬اشــتغال أحمــد زيــن‬ ‫أولهمــا مكانــي‪ ،‬حيــث‬ ‫علــى مســتويين‪ّ :‬‬ ‫يبــرز لنــا بورتريهـ ًا باهــرًا عن حالــة عدن‬ ‫المدينــة خــال تلــك الفتــرة‪ ،‬وثانيهمــا‬ ‫األحــوال النفســية لشــخصيات «ســتيمر‬ ‫بوينــت»‪ ،‬وهــي تســتعّد إلعــادة ترتيــب‬ ‫بناء على لحظة‬ ‫حياتها العاطفية والمادية ً‬ ‫المسـ ِ‬ ‫ـتعمر‪،‬‬ ‫اقتراب نهاية المرحلة بذهاب ُ‬ ‫وخشــية بعــض النــاس مــن وضــع نقطــة‬ ‫علــى نهايــة ســطر حالــة االزدهــار التــي‬ ‫كانت تحيط بالساكنين هناك‪ .‬خصوصاً‪،‬‬ ‫الهنود والمجوس والصوماليين واليهود‬ ‫والبريطانييــن وغيرهــم ممــن أدركــوا أن‬ ‫لحظة الرحيل قــد حلّت وصــارت واجبة‪،‬‬ ‫التجار مــن انتقام أهل‬ ‫إضافــة إلى خــوف ّ‬ ‫المحلييــن منهــم‪.‬‬ ‫المقاومــة‬ ‫ّ‬

‫علــى المســتوى المكاني تبدو «ســتيمر‬ ‫بوينت» (وهي التسمية البريطانية لمنطقة‬ ‫ـي» العدنيــة الشــهيرة علــى مينــاء‬ ‫«التواهـ ّ‬ ‫المدينــة)‪ ،‬المنطقــة التــي ســيعتمد الســرد‬ ‫عليها‪ ،‬وسـُـت َعّد الجغرافيا الرئيســية آللية‬ ‫عامة‪ ،‬طوال السرد نفسه‪.‬‬ ‫الحكي‪ ،‬بصفة ّ‬ ‫وصــف المــكان هنــا بإظهــار حالــة‬ ‫االزدهــار التــي كانــت تلّــف مدينــة عــدن‬ ‫خالل تلــك الفترة وهو ما ســوف ينعكس‬ ‫بالضرورة‪ -‬على نفســيات بعض األفراد‬‫عمرين وظهورهــم علــى حالــة مــن‬ ‫المس ـَت َ‬ ‫ُ‬ ‫يخــص القــادم‬ ‫فيمــا‬ ‫والخــوف‬ ‫الهلــع‬ ‫ّ‬ ‫والمســتقبل الظاهــر‪ ،‬دونمــا حمايــة مــن‬ ‫المسـ ِ‬ ‫ـتعمر الذي اقترب موعــد رحيله‪.‬‬ ‫ِقبل ُ‬ ‫تبــدو حالة «ســمير»‪ ،‬هنــا‪ ،‬مثــا ًال على‬ ‫ـي‪ ،‬وهــو يــرى احتمــال‬ ‫قلــق الفــرد المحلـ ّ‬ ‫تالشــي حالــة االزدهــار تلــك واندثارهــا‬ ‫بعد مغادرة راعيها األول‪ ،‬أو السبب الذي‬ ‫كان وراء حالــة «التحديــث» التــي صــارت‬ ‫«جربــت أن أكرههــم‬ ‫ُمحقَّقــة علــى األرض‪ّ :‬‬ ‫ـب طريقتهــم‬ ‫(البريطانييــن)‪ ،‬لــم أقــدر‪ .‬أحـ ّ‬ ‫كل‬ ‫فــي الحيــاة‪ .‬وأعثــر علــى نفســي‪ ،‬فــي ّ‬ ‫مـّـرة‪ ،‬أكثــر شــغف ًا بمــا صنعــوه فــي هــذه‬ ‫المدينــة»‪.‬‬ ‫تبدو حالة الوصف المكاني هنا وكأنها‬ ‫تذهب على نحو تضامني مع حالة سمير‪،‬‬ ‫وهو الوصف الذي يبدو كاتبه فيه ُمجيداً‪،‬‬ ‫وهو يعكس ‪-‬بقوة‪ -‬تلــك الحالة الالمعة‬ ‫التي كانت تبدو عليها المدينة‪ .‬كأن المكان‬ ‫يســترد موضــع البطولــة فــي هــذه الحالة‬ ‫وعلى مقربة من التاريخ الزاهي نفسه‪.‬‬ ‫لكــن‪ ،‬لــن يذهــب كل هــذا بــا تعقيــب‪،‬‬ ‫وهــو يأتــي بالتــوازي مــع حالــة االفتنــان‬ ‫تلك‪ ،‬وعن طريق ألســنة معارضين لتلك‬ ‫المنشــدة ﻟ«معجــزات البريطانيين»‬ ‫النبرة ُ‬ ‫ـي األوربــي‬ ‫التــي صنعوهــا فــي ذلــك الحـ ّ‬

‫وقائع رجل اختار الهجرة‬ ‫محمود حسني‬

‫«ســتيمر بوينــت»‪ .‬مــن هنــا نلمــس حالــة‬ ‫المرحبين باقتراب موعد االستقالل‪ ،‬على‬ ‫ِّ‬ ‫المرميــة فــي‬ ‫الرغــم مــن النظــرة الســلبية‬ ‫ّ‬ ‫حقّهم‪ ،‬وهم يظهرون في حالة استعجال‬ ‫وتأهــب للذهــاب إلــى ذلــك «االســتقالل»‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫جيــد‪ -‬لمواجهة‬ ‫ـو‬ ‫ـ‬ ‫نح‬ ‫على‬‫ـتعدوا‬ ‫ـ‬ ‫يس‬ ‫ولم‬ ‫ّ‬ ‫القادم الصعب‪ ،‬ودون مشاريع أو مناهج‬ ‫عمل واضحــة وال رؤيــة أو تخطيــط‪ ،‬مما‬ ‫يعمل على إعانتهم على إدارة أمر الحياة‪،‬‬ ‫مستقل ودون مساعدة خارجية‪.‬‬ ‫على نحو‬ ‫ّ‬ ‫بحّد ذاتــه‪ ،‬في‬ ‫كأن االســتقالل هنــا هــدف َ‬ ‫حيــن ال تعنيهــم الخطــوات التالية له‪.‬‬ ‫مجانيـاً‪ ،‬هنــا‪ ،‬قــول أحدهم‪،‬‬ ‫وســيبدو ّ‬ ‫كما لو أنه تلميح لفرضية انحياز الراوي‪،‬‬ ‫تعمــد الذهــاب مســاندًا لفكــرة بقــاء‬ ‫وقــد ّ‬ ‫المسـ ِ‬ ‫ـتعمر وواقفـ ًا بجــوار الــرأي المســاند‬ ‫ُ‬ ‫لها‪ .‬فنحن ‪-‬في حقيقة األمر‪ -‬نرى الراوي‬ ‫وهو يقوم بوضع تلك األفكار ال غير‪ ،‬ولم‬ ‫مؤيــدة‬ ‫يعمــد إلــى ممارســة عمليــة تنظيــر ِّ‬ ‫لهــا‪ ،‬أو العكــس‪ .‬ال يمكــن ‪-‬والحــال هذه‪-‬‬ ‫إغفــال تركــه بــاب الحكايــة مفتوحـ ًا علــى‬ ‫اّتســاعه‪ ،‬وبــا نهايــات محـ َّـددة‪ ،‬إضافــة‬ ‫استمرت طوال‬ ‫إلى جملة النقاشــات التي‬ ‫َّ‬ ‫العمــل‪ ،‬وهــي تبحــث فــي تلــك األســئلة‬ ‫ـداورة وتقليب ـاً‪ ،‬علــى‬ ‫ـودة ومـ‬ ‫ً‬ ‫ذهاب ـ ًا وعـ ً‬ ‫ألسنة مختلف الشــخصيات‪ ،‬وهي تسعى‬ ‫إلــى حصولهــا علــى إجابــات نهائيــة‪ ،‬لــن‬ ‫يتــم اإلفصــاح عنهــا بشــكل واضــح فــي‬ ‫نهايــة األمــر‪.‬‬ ‫هي نقطــة لصالــح أحمد زيــن‪ ،‬إضافة‬ ‫إلى توقيــت صدور «ســتيمر بوينت» الذي‬ ‫يأتــي فــي هــذا الزمــن الصعــب الــذي تمـّـر‬ ‫بــه عــدن‪ ،‬واليمــن بشــكل عــام‪ ،‬ليتح ـّدث‬ ‫بضميــر الكاتب الــذي يبدو معلّقـ ًا بوطنه‪،‬‬ ‫على الرغم من إقامته على مســافة مكانية‬ ‫بعيــدة عنه‪.‬‬

‫تحيلنا رواية «الرجل الخراب» للكاتب الســوداني عبد العزيز بركة ســاكن (مؤسسة‬ ‫هنــداوي ‪ )2015 -‬علــى قصيــدة «األرض الخــراب» للشــاعر األميركــي ت‪ .‬س‪ .‬إليــوت‪،‬‬ ‫التــي لــم يكــن اســتلهام بركــة ســاكن لهــا‪ -‬فقــط‪ -‬علــى مســتوى اختيــار عنــوان العمل‪،‬‬ ‫مفرغــة مــن الهويــة والمضمــون‪ ،‬تعيــش عالم ـ ًا‬ ‫ولكــن فــي محاولتــه لخلــق شــخصية ّ‬ ‫بالرهاب‪.‬‬ ‫ـر‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫األم‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫نهاي‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـا‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫تصيبه‬ ‫متراكمة‬ ‫عدميـاً‪ ،‬وتعانــي مــن مشــاعر متناقضــة‬ ‫ُّ‬ ‫هــذا مــا كان عليــه «حســن درويــش»‪ ،‬الــذي مّثــل أنمــوذج «الرجــل الخــراب»‪ .‬حســن‬ ‫ال روائي ًا كالســيكي ًا كما فــي أعمال ديكنز أو هوجــو‪ ،‬بل تظهر‬ ‫درويش‪ ،‬هنــا‪ ،‬ليس بط ً‬ ‫شــخصيته خاليــة من أيــة بطولــة حقيقيــة بالمعنــى الكالســيكي؛ فهــو رجل يهــرب من‬ ‫مصــر بعــد أن يمـّـر بتجربــة اعتقــال مــن ِقَبــل الشــرطة النتمائــه‪ ،‬فــي الســنوات األولــى‬ ‫مــن الجامعــة‪ ،‬إلــى إحــدى الجماعات اإلســامية‪.‬‬ ‫تتبع مســار رحلته إلــى أوروبا‪ ،‬أن‬ ‫ـال‬ ‫يهرب درويش إلــى فيينا‪ ،‬ويمكننــا‪ ،‬من خـ‬ ‫ّ‬ ‫نلتقط تفاصيل الحياة التي عاشــها‪ ،‬وأن نكــون في مواجهة واقع يومــي بائس متمثّل‬ ‫فــي إشــكالية الهجــرة غيــر الشــرعية لألفارقــة‪،‬و أوروبــا بــكل مــا تحملــه مــن مخاطــر‬ ‫ا إياها علــى اســتمرار اإلهانة‪.‬‬ ‫مفضـ ً‬ ‫وواقــع يجعــل الكثير يواجــه احتماليــة المــوت ِّ‬ ‫ّي ًا فــي المجتمع الغربي‪،‬‬ ‫ل‬ ‫ك‬ ‫ـج‬ ‫ـ‬ ‫ليندم‬ ‫يحاول درويش االنســاخ (ظاهريـاً) عن ثقافته‬ ‫ّ‬ ‫حتى أنــه َغ َّيَر اســمه من حســن درويش إلى شــولز هاينــرش‪ .‬حاول قطــع عالقته بكل‬ ‫ـتقرت أوضاعه فــي أوروبا‪ ،‬ال‬ ‫من هو مســلم أو عربــي منــذ أن اسـ ّ‬ ‫يريــد أن ينظر إليــه الناس علــى أنه مختلــف عنهم في القيــم التي‬ ‫يحملهــا‪ ،‬ال يريــد المجازفــة باغتــراب آخر‪ ،‬يحــاول محــو تاريخه‬ ‫بعمليــة واعيــة للغايــة؛ لهــذا نجــد الــراوي يدعــوه «درويــش» في‬ ‫ـتقر فــي النمســا‪ ،‬وكأنه يشــير إلى‬ ‫الكثير مــن المواقــع بعد أن يسـ ّ‬ ‫أن عمليــة المحــو الواعية هاتــه لم تنجــح بعد‪.‬‬ ‫لم يكن حســن درويــش نبــت شــيطاني‪ ،‬فطفولته التــي عاش‬ ‫ألم مصرية‪ ،‬يعيش‬ ‫فيها حالة االختــاف والتمييز ألنه ســوداني ّ‬ ‫مع والدته في مصر بعــد موت والــده‪ ،‬جعلته يجد نفســه أجنبياً‪.‬‬ ‫وبتراكــم المواقــف‪ ،‬التــي واجههــا وجدنــا أنفســنا أمــام شــخصية‬ ‫مسلوبة اإلرادة‪ ،‬ثقافته بسيطة تقترب من حدود معرفة عناوين‬ ‫الكتب الشــهيرة ليس أكثر‪ ،‬حتى عندما ســافر إلى أوروبا أصبح‬ ‫تابع ـ ًا لزوجتــه‪ ،‬ويخــاف منهــا‪ ،‬رغــم أنــه المالــك للبيــت ولمجمــل‬ ‫الثــروة التي يعيشــان منها‪.‬‬ ‫قمــة الذروة‬ ‫يضعنا بركة ســاكن‪ ،‬مــن بدايــة الرواية‪ ،‬أمام مشــهد حيوي يقتــرب من ّ‬ ‫عندمــا تخبــره زوجتــه نــورا بــأن ابنتــه ميمــي‪ ،‬التــي تجــاوزت الثمانيــة عشــرة بأيــام‬ ‫قليلــة‪ ،‬وجــدت صديقـ ًا ســتأتي بــه إلــى البيــت‪ ،‬تظهــر علــى وجهــه ابتســامة عريضــة‪،‬‬ ‫لكنــه‪ ،‬فــي الواقــع‪ ،‬يغضــب حائــراً‪ :‬كيــف ســيقبل بهــذا األمــر؟‪« :‬ولــم تظهــر شــخصيته‬ ‫اإلســامية العربية إال حينمــا أصبح عليــه أن يدفع الثمن مــن لحمه ودمــه‪ ،‬والمقصود‬ ‫هنــا ابنتــه‪ ،‬فــكل مــا هــو بعيــد عــن الشــرف يمكــن التعايــش معــه‪ .».‬هــذه الشــخصية‬ ‫ـتودي بنفســها إلى الهــاك‪ ،‬وهو مــا يحيلنا‬ ‫المتناقضة‪ ،‬مســلوبة القــرار‪ ،‬هــي التي سـ ّ‬ ‫إلــى المشــهد األخيــر‪ ،‬حيــث قـّـرر درويــش قتــل «تونــي» صديــق ابنته‪.‬‬ ‫تحبه‬ ‫لــم يســتطع درويــش أن يندمــج مــع المجتمــع األوروبــي‪ ،‬وزوجتــه نــورا لــم ّ‬ ‫دمــر حياتها‬ ‫َقـ ّ‬ ‫ـط‪ ،‬وإنمــا كان زواجهــا منه مجـّـرد مصالــح ّ‬ ‫ماديــة‪ ،‬تعتــرف أن درويــش ّ‬ ‫بالفعــل‪ ،‬وسـّـبب عقــدًا نفســية ال حصــر لهــا البنتــه‪ ،‬وصنــع منهــا مخلوق ًا بائسـاً‪.‬‬ ‫في هذا العمــل الروائي تتشــابك شــعرية اللغة ‪،‬عند بركة ســاكن‪ ،‬مــع التجريب في‬ ‫البنــاء الروائي‪ .‬حالــة الفصل بيــن الكاتب والــراوي تأتي مع االســتناد إلى شــخصيات‬ ‫العمل التــي تحكي‪ ،‬بلســانها‪ ،‬جزءًا مــن األحداث‪.‬‬ ‫‪97‬‬

‫«شهرة الترجمان»‬

‫أحوال الراوي َ‬ ‫الخ ِف ّية‬ ‫هيثم حسني‬

‫اللبنانــي‬ ‫يقتفــي‬ ‫ّ‬ ‫شــربل داغــر‪ ،‬فــي روايتــه‬ ‫«شــهوة الترجمــان»‪ ،‬أثــر‬ ‫الفرنســي أنطــوان غــاالن‬ ‫ّ‬ ‫(‪ )1715 - 1646‬فــي‬ ‫يومياتــه وترجمتــه لـ«ألف‬ ‫ّ‬ ‫ليلــة وليلــة»‪ ،‬وينبــش‬ ‫فــي خفايــا تلــك الترجمــة‬ ‫ومالبســاتها‪ ،‬عبــر بطلــه‬ ‫الــذي يكــون ضليعــ ًا فــي‬ ‫ومتخصص ـ ًا فــي‬ ‫اللغــات‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫فيتقصــى‬ ‫الترجمــة‪،‬‬ ‫علــم‬ ‫ّ‬ ‫ويفــكك عالقتــه باللغــة‬ ‫حيــاة غــاالن‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫العربيــة‪ ،‬ومــدى األمانــة فــي ترجمتــه‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ومــا إن كانــت تلــك الترجمــة تقتــرب مــن‬ ‫التأليــف‪ ،‬فــي بعــض المواضــع‪ ،‬أو مــن‬ ‫النقــل بتصـ ُّـرف‪ ،‬كمــا يثبــت فــي مواضــع‬ ‫أخــرى‪.‬‬ ‫ـتهل داغــر‪ -‬وهــو صاحــب عشــرات‬ ‫يسـ ّ‬ ‫المؤلَّفات في البحث والترجمة والتأليف‪-‬‬ ‫فن الترجمة‪ :‬األولى‬ ‫روايته بمقولتين عن ّ‬ ‫للجاحظ‪ ،‬من كتابه «الحيوان»‪ ،‬والثانية‬ ‫لألرجنتينــي ألبرتو مانغويــل‪ ،‬من كتابه‬ ‫يقســم روايتــه إلى‬ ‫«تاريــخ القــراءة»‪ .‬ثـّـم ّ‬ ‫ســبعة فصــول‪ ،‬هــي علــى التوالــي‪ :‬قتيل‬ ‫فــي غابــة األرز‪ ،‬عــراك فــي جســد واحــد‪،‬‬ ‫ليالــي األنــس فــي فيينــا‪ ،‬الترجمــان قيــد‬ ‫االمتحــان‪ ،‬أكــواز صنوبــر للبروفســور‪،‬‬ ‫شــهرزاد تنهي ليلتها األخيرة‪« ،‬سكايب»‬ ‫بيــن فيــرا وأليس‪.‬‬ ‫يختار الزمن بين عامي ‪،2014 - 2013‬‬ ‫العربي من فرنســا‪،‬‬ ‫يرصد أحوال العالــم‬ ‫ّ‬ ‫ـي الــذي يرحل‬ ‫ـ‬ ‫األكاديم‬ ‫مــن منظــور بطلــه‬ ‫ّ‬ ‫بحثيــة‪،‬‬ ‫إلــى ستراســبورغ فــي منحــة ّ‬ ‫ليتعرف هناك‪ ،‬أكثر‪ ،‬إلى ماضي أجداده‬ ‫ّ‬ ‫‪98‬‬

‫وبلده وثقافته‪.‬‬ ‫الشاب‪،‬‬ ‫األكاديمي‬ ‫الباحث‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الــذي يفتــرض بــه أّنــه يترك‬ ‫بــكل تجاذباتهــا‬ ‫بيــروت‬ ‫ّ‬ ‫وجمالياتها خلفه‪،‬‬ ‫طاتها‬ ‫وتخب‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫تــراه يســعى إلــى اكتشــاف‬ ‫ّ‬ ‫وفــك شــيفراته‪،‬‬ ‫الماضــي‬ ‫فــي الوقــت الــذي ينشــد فيــه‬ ‫البحث عن مستقبله في مدينة‬ ‫ستراسبورغ‪ ،‬وهو الذي فاز‬ ‫جامعيــة‪ ،‬يقــوم فيها‬ ‫بمنحــة‬ ‫ّ‬ ‫بالتدريــس بضــع ســاعات أســبوعياً‪،‬‬ ‫باإلضافــة إلــى إجــراء بحــث فــي قضايــا‬ ‫الترجمــة وشــؤونها‪.‬‬ ‫إن الجامعة َقِبَلْته في عدادها إثر‬ ‫يقول ّ‬ ‫ـاب‬ ‫تقدم إليها أكثر من دكتور شـ ّ‬ ‫مســابقة َ‬ ‫مــن المتعامليــن مــع «المكتــب اإلقليمــي»‬ ‫وقضــت باقتــراح بحــث‬ ‫للفرنكوفونيــة‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫يتم اســتكماله في فرنســا‪ ،‬خصوص ًا في‬ ‫ّ‬ ‫ا عــن ثالث ســاعات‬ ‫ستراســبورغ‪ ،‬فضـ ً‬ ‫تدريــس أســبوعية وبعــض المتابعــات‬ ‫البحثيــة لعــدد مــن الطلبــة‪ .‬ولقــد اقتــرح‬ ‫علــى «دائــرة الدراســات الشــرقية» القيام‬ ‫ببحــث يتنــاول سياســة الترجمــة لــدى‬ ‫المترجم الفرنسي أنطوان غاالن‪ ،‬المترجم‬ ‫األوروبــي األول لـ«ألف ليلــة وليلة»‪.‬‬ ‫اللبنانــي مكتــب‬ ‫خصــص للباحــث‬ ‫ُي ّ‬ ‫ّ‬ ‫مؤخــراً‪ ،‬في‬ ‫بروفيســور فرنســي راحــل‪ّ ،‬‬ ‫الجامعــة‪ُ ،‬يعَثــر‪ ،‬بيــن أوراقــه‪ ،‬علــى‬ ‫ـط يــده‪ ،‬تفيــد بإقدامــه على‬ ‫بخـ ّ‬ ‫اعترافــات َ‬ ‫قتــل أحدهــم ليلــة الســابع من نيســان في‬ ‫تعمد‪،‬‬ ‫العام ‪ ،1961‬دون سابق إصرار أو ُّ‬ ‫على مبعدة بعض األمتار من أحد المداخل‬ ‫المؤدية إلى غابة األرز في شمال لبنان‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫ويعترف أّنــه يكتب ذلــك إثــر عودته إلى‬

‫باريــس‪ ،‬فــي العاشــر مــن الشــهر نفســه‪،‬‬ ‫ومن الســنة عينهــا‪ ،‬طالبـ ًا إجــراء تحقيق‬ ‫عادل فــي الحادثة المشــؤومة‪ ،‬والحادثة‬ ‫ـاب إلى أرشــيف أسرته‬ ‫تقود الباحث الشـ ّ‬ ‫وبلده‪.‬‬ ‫ُيجري الكاتب‪ ،‬في روايته التي تقترب‬ ‫ا بين مقاطــع من عمله‬ ‫مــن البحث‪ ،‬تداخـ ً‬ ‫ومقاطــع مــن روايــة «التربيــة العاطفية»‬ ‫لغوســتاف فلوبير‪ .‬يعيد ترجمة بعضها‪،‬‬ ‫ويجــري إســقاط ًا واقعيــ ًا علــى حياتــه‬ ‫ُ‬ ‫والمنعطفــات التــي مـّـرت بهــا‪ .‬يقــول إّنــه‬ ‫قام بـ«الدخول» إلى عالم غاالن‪ ،‬من خالل‬ ‫أوراقــه‪ ،‬ومــا ُكتــب عنــه‪ ،‬وإنــه خاصــم‬ ‫غــاالن‪ ،‬وصالحــه فــي أكثــر مــن لحظــة‪،‬‬ ‫فــي أكثر مــن مقطــع‪ ،‬مثلمــا حصــل له مع‬ ‫بعض شــخصياته ‪.‬‬ ‫تصــرف غــاالن‬ ‫إلــى‬ ‫ينــوه الباحــث‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫باألصــل‪ ،‬ويشــير إلــى «التنبيــه»‪ ،‬الــذي‬ ‫األول لترجمتــه‪ ،‬وهــو‬ ‫يتصــّدر المجلَّــد ّ‬ ‫صراحة‪ -‬أنه لجــأ إلى تعديالت‬ ‫اعترافه‪-‬‬ ‫ً‬ ‫لما‬ ‫في ما ترجم‪« :‬ما ابتعدنا عن النص إال ّ‬ ‫التقيد‬ ‫اقتضــت ذلــك اللياقـ ُـة‪ ،‬بلــزوم عــدم ُّ‬ ‫إن المترجــم يتفاخــر بأن األشــخاص‬ ‫بــه‪ّ .‬‬ ‫الذيــن يعرفــون العــرب‪ ،‬والذيــن يرغبون‬ ‫في مقارنة األصل بالنســخة (المترجمة)‪،‬‬ ‫ـيقرون بأنه َعِمـ َـل‪ -‬بحــذر ولباقة‪ -‬على‬ ‫سـ ّ‬ ‫إظهــار العــرب للفرنســيين‪ ،‬أي مــا تطلبه‬ ‫لطائــف لغتنــا وزماننــا»‪.‬‬ ‫أن غاالن كان مدرك ًا واعي ًا‬ ‫كما يشير إلى ّ‬ ‫لما يقوم به‪ ،‬لما يحتاجــه ويقتضيه‪ ،‬من‬ ‫جهَتْيــه‪ :‬جهــة العربيــة‪ ،‬وجهة الفرنســية‬ ‫والفرنســيين‪ .‬ومــا يدركــه‪ ،‬هــو مــا يبنيه‬ ‫مثل خيــار‪ ،‬مثــل سياســة له فــي عمله‪.‬‬ ‫إنه يراقب المشهد الواصل من جهَتْيه‪،‬‬ ‫وهو فــي ذلــك صاحب قــرار‪ ،‬يحســن فيه‬

‫النقــل‪ ،‬ويحســن‪ -‬خصوصــاً‪ -‬إيصــال‬ ‫الحمولــة بحســب مقتضيــات الفرنســية‪،‬‬ ‫والفرنسيين‪ ،‬واللياقات‪ ،‬والزمن الفرنسي‬ ‫نفســه‪.‬‬ ‫يتساءل داغر على لســان بطله‪« :‬أهي‬ ‫واجبات مهنيــة للترجمان الزمــة لمهنته‪،‬‬ ‫أم هي خيارات يطلبها الترجمان بوصفها‬ ‫مــا يناســب األصــل‪ ،‬بــل ســياق االتصــال‬ ‫نفســه؟ وهــو‪ -‬إذ يكــون كذلك‪ -‬يكــون في‬ ‫المؤلــف العــارف بعــادات الكتابــة‬ ‫موقــع‬ ‫ِّ‬ ‫وســياقاتها وشــروطها‪ ،‬مــن جهــة اللغــة‬ ‫والذوق وحسن االستقبال‪ ،‬أليس كذلك؟»‪.‬‬ ‫يتســاءل الــراوي عــن حكايــات «ألــف‬ ‫وأن مــن يشــغله فيهــا هــو‬ ‫ليلــة وليلــة»‪ّ ،‬‬ ‫مترجمهــا‪ ،‬ومؤلِّفهــا‪ ،‬وليــس مــا تقولــه‬ ‫إن شــهرزاد ال‬ ‫الحكايــات نفســها‪ .‬يقــول ّ‬ ‫تفيدنا عــن مصادر حكاياتهــا‪ ،‬كما لو أنها‬ ‫لســان جماعــي وذاكــرة عموميــة‪ ،‬بل هي‬ ‫يتصيدهــا أي حكواتــي لرواية ما‬ ‫«حيلة»‬ ‫ّ‬ ‫يشــاء‪ ،‬علــى العكــس منــه‪ ،‬إذ إنــه َنَقــل‬

‫ويؤكد أن شهرزاد‬ ‫حكاياته وشارك فيها‪ّ ،‬‬ ‫اإللكترونية ســقطت‪ ،‬هي األخــرى‪ ،‬وأنّه‬ ‫كان يظنّها ســتفعل مثــل شــهرزاد‪ ،‬ولكن‬ ‫بطريقة مغايرة‪ ،‬جديدة‪.‬‬ ‫يكشــف صاحــب «بــدل عــن ضائــع»‬ ‫انعطافــة بطلــه وميلــه مــن الترجمــة إلــى‬ ‫الكتابة‪ ،‬يســتقصي عن األزمنــة واألمكنة‬ ‫ثم ينقلها مترجم ًا أحوالها‬ ‫والشخصيات‪ّ ،‬‬ ‫أن المترجــم كتــوم‪ ،‬فيما‬ ‫كتابـ ًـة‪ ،‬ويعتقــد ّ‬ ‫عبــر‪ ،‬حتى فــي صورة‬ ‫الــراوي يــروي‪ُ ،‬ي ِّ‬ ‫وأن‬ ‫عبــر‬ ‫بمجــرد أن يقــول‪ّ ،‬‬ ‫صامتــة‪ُ ،‬ي ِّ‬ ‫َّ‬ ‫الترجمــان مشــكوك فــي أمــره دومــاً‪،‬‬ ‫دائمـ ًا تحــت المراقبــة‪ .‬يحتــاج إلــى إثبات‬ ‫كل لفــظ‪ ،‬وبيــن‬ ‫أمانتــه وجدارتــه فــي ّ‬ ‫لفــظ وآخــر تــراه‪ ،‬وحــده‪ ،‬تحــت دائــرة‬ ‫التشــكيك أو العجــز‪ ،‬وتــراه ينقــل رأيــ ًا‬ ‫يحدثــه عــن ضــرورة تربية‬ ‫لصديــق لــه‪ِّ ،‬‬ ‫أن‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫يؤك‬ ‫ـون‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫بالفن‬ ‫ـه‬ ‫اإلنســان وتثقيفـ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الترجمــة تفتــح شــهواتنا ومداركنــا علــى‬ ‫ال وحســب‪،‬‬ ‫كل ما يحيط باللغة‪ ،‬ليس نق ً‬

‫وإنّما تأليف ًا لها أيضاً‪.‬‬ ‫يؤكــد أنّــه خــرج مــن الترجمــة إلــى‬ ‫ّ‬ ‫الكتابة‪ ،‬بدليــل أنّه أعاد كتابة ما ســمع‪،‬‬ ‫وما كتبه غيره‪ .‬وجد نفسه يسبح في ماء‬ ‫اللغــة التــي كان ينهل منهــا‪ .‬يصفهــا بماء‬ ‫والدتــه الجديــدة‪ ،‬مــاء والدتــه الغامضة‪.‬‬ ‫أن الكتابة تستعيد‬ ‫ّ‬ ‫ويؤكد لنفسه ولقارئه ّ‬ ‫تبدد‪ ،‬بــل تجعلها‬ ‫ما كان قــد ضاع‪ ،‬ما قــد َّ‬ ‫ـب حتــى المــوت نفســه‪ ،‬إذ يتيــح لهــا‬ ‫تحـ ّ‬ ‫األيــام علــى جمعه‪.‬‬ ‫أن تجمــع ما لــم تقـ َـو ّ‬ ‫«وصية هابيــل» في‬ ‫ـاص صاحــب‬ ‫يتنـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـي عبــد الفّتاح‬ ‫روايتــه مــع الكاتــب المغربـ ّ‬ ‫كيليطو فــي روايته «أنبئونــي بالرؤيا»‪،‬‬ ‫السـّـيما في االشــتغال على مســألة اقتفاء‬ ‫أثر «ألــف ليلة وليلــة»‪ ،‬وترجمــة أنطوان‬ ‫أن بطليهمــا‬ ‫غــاالن‪ -‬بالتحديــد‪ -‬لهــا‪ ،‬كمــا ّ‬ ‫أكاديميــان ينبشــان فــي خبايــا‬ ‫باحثــان‬ ‫ّ‬ ‫التــراث والفنــون‪ ،‬وفــي عالقــة الترجمــة‬ ‫واألدب والتاريــخ والحقائــق الروائيــة‬ ‫والبحثيــة والتاريخيــة‪ ،‬بعضهــا مــع‬ ‫البعــض اآلخــر‪ ،‬وكيــف تـّـم التعاطــي مع‬ ‫عمــل غــاالن مــن دون مســاءلة واجبــة أو‬ ‫مقاربــة مفترضــة‪.‬‬ ‫«شهوة الترجمان» عبارة عن شهوات‬ ‫متناثرة‪ ،‬متناســلة‪ ،‬متسلسلة‪ ،‬تدور في‬ ‫حلقــة مــن البحــث عــن إرواء الفضــول‪،‬‬ ‫واالســتلذاذ بالمعلومــة‪ ،‬كمــا بالمتعــة‬ ‫الحســية‪ ،‬هــي جســور للعبــور بيــن‬ ‫ـري‪ ،‬إكمــال‬ ‫الروحــي‪ ،‬والجســدي‪ ،‬والفكـ ّ‬ ‫لبلورة الشخصية وإنضاجها على معارف‬ ‫وأسرار الداخل والخارج‪ ،‬الذات واآلخر‪،‬‬ ‫ّياتها‪ ،‬الكلمة‬ ‫اللغة وأفانينها‪ ،‬الكتابة وتجلّ‬ ‫وأصدائهــا‪ ،‬الصــورة وآثارهــا‪ ،‬الصــوت‬ ‫والهوية‬ ‫وتشعباته‪،‬‬ ‫وتردداته‪ ،‬التاريخ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وتداخالتهــا وصراعاتها‪.‬‬ ‫‪99‬‬

‫عطارد ‪ ..‬عندما نعيش الجحيم دون أن ندري‬ ‫محمود حسني‬ ‫«عطــارد»‬ ‫روايــة‬ ‫للكاتــب محمــد ربيــع‬ ‫(دار التنويــر‪،)2015 -‬‬ ‫هــي العمــل الثالــث لــه‬ ‫بعــد روايــة «كوكــب‬ ‫عنبــر»‪ ،2010،‬الفائــزة‬ ‫ســاويرس‬ ‫بجائــزة‬ ‫للشــباب‪ ،‬وروايــة «عــام‬ ‫التنيــن»‪.2012 ،‬‬ ‫«عطارد» عمــل ينتمي‬ ‫إلــى أدب الفانتازيــا‬ ‫السياســية‪ ،‬يتنــاول حيــاة المجتمــع‬ ‫المصــري عــام ‪ ،2025‬وقد وقعــت البالد‬ ‫فقرر‬ ‫تحت‬ ‫ّ‬ ‫محتل غامض ليــس له وطن‪َّ ،‬‬ ‫أن يجمع كل المنتمين إليــه‪ ،‬يغزو مصر‬ ‫لالستقرار فيها‪ .‬الغريب الذي يبرزه ربيع‬ ‫هو عدم وجود أي نوع من المقاومة عند‬ ‫ـدو‪ ،‬بــل‪ ،‬علــى‬ ‫المصرييــن نحــو هــذا العـ ّ‬ ‫تســتقر‬ ‫العكــس‪ ،‬يتعاونــون معــه لكــي‬ ‫ّ‬ ‫األوضاع‪ ،‬ويعود إيقاع الحياة كما كان‪.‬‬ ‫ـط‬ ‫ولكــن‪ ،‬ليــس هــذا‪ -‬فقــط‪ -‬هــو الخـ ّ‬ ‫الزمنــي الوحيــد الــذي تســير فيــه أحداث‬ ‫العمــل‪ ،‬فبجانب األحــداث التي تــدور في‬ ‫ـط زمنــي يــدور في‬ ‫المســتقبل‪ ،‬هنــاك خـ ّ‬ ‫األيــام األولــى لثــورة ينايــر ‪ ،2011‬مــن‬ ‫زاويــة لهــا خصوصيــة شــديدة للغايــة‪:‬‬ ‫تــدور األحــداث فيــه حــول طفلــة تدعــى‬ ‫زهــرة‪ ،‬يحتضنهــا أســتاذ فــي مدرســتها‬ ‫يدعــى إنســال‪ ،‬بعــد أن فقــدت أباهــا أيام‬ ‫الثورة‪ ،‬ثم تصاب البنت بمرض غريب‪،‬‬ ‫ولكنهــا ليســت الحالــة األولــى مــن هــذا‬ ‫عمتها التي ستأتي‬ ‫المرض‪ ،‬فسيّتضح أن ّ‬ ‫لتأخذها من عند إنســال‪ -‬مصابــة‪ -‬أيض ًا‬ ‫بالمــرض نفســه‪.‬‬ ‫الخطين يتناقل ربيع‪،‬‬ ‫وما بين هذين ّ‬ ‫‪100‬‬

‫فــي بنــاء روائــي متماســك‪،‬‬ ‫وِبُلغة ناضجة للغاية‪ ،‬فيظهر‬ ‫لنــا كيــف يمكــن أن يعيــش‬ ‫الناس جحيم ًا دون أن يكونوا‬ ‫مدركين لذلك‪ .‬يصف لنا على‬ ‫لســان أحمــد عطــارد‪ ،‬ضابــط‬ ‫ينضم إلى‬ ‫الشرطة الذي سوف‬ ‫ّ‬ ‫المحتل‪ ،‬ما‬ ‫المقاومة ضّد هــذا‬ ‫ّ‬ ‫ســيقع فــي إحــدى المـّـرات من‬ ‫قصــف مدفعــي علــى القاهــرة‬ ‫الغربيــة‪« :‬وســمعت صــوت‬ ‫وهبــات الغبــار الناعــم وشــهقات‬ ‫الهــدم ًّ‬ ‫القتلــى‪ ،‬واألرواح ُتنــزع مــن األجســاد‪،‬‬ ‫ـزق اآلخــر‪ ،‬وبكاء‬ ‫وال أعلم مــن فيهما يمـ ِّ‬ ‫النســاء وأكفّهن تلطم وجوههــن‪ ،‬والنار‬ ‫تــأكل أوالدهــن‪ ،‬والســيارات تســرع ثــم‬ ‫تتوقّف‪ ،‬والسائقون يركضون بال وعي‬ ‫يحركون األنقاض‬ ‫نحو البيوت‬ ‫ّ‬ ‫المحطمة‪ِّ ،‬‬ ‫َفِزعين‪ ،‬واآلالف تحت األنقاض يطلبون‬ ‫المــاء أو المــوت‪ ،‬واألطبــاء يصرخــون‬ ‫والصْبيــة‬ ‫طالبيــن أشــياء ال أفهمهــا‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫علــى الموتوســيكالت يرفعون األجســاد‬ ‫النازحــة‪ ،‬ويســرعون‪ ،‬بوجــوه جامدة‪،‬‬ ‫وعمــال صعايــدة‬ ‫باحثيــن عــن مســعف‪ّ ،‬‬ ‫يصرخــون‪ ،‬ينــادون أصحابهــم وهــم‬ ‫يزيلــون األنقــاض بأيديهــم العاريــة‪،‬‬ ‫يدخنها‬ ‫ورجل شارع يشعل سيجارة‪ ،‬ثم ّ‬ ‫بهدوء واســتمتاع‪ ،‬وجســده تحت أطنان‬ ‫المحطمة والطوب والخشب‪،‬‬ ‫الخرسانة‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ــم ال أســتمتع‬ ‫ال أمــل لــه‪ ،‬وقــد قــال‪« :‬ل َ‬ ‫قبل المــوت؟»‪ ،‬وامــرأة قالت‪« :‬أخيــراً!»‪.‬‬ ‫وهــي مستســلمة لســقوط حـّـر بســرعة‪.‬‬ ‫وأرضيتهــا‪ ،‬كلّهم‬ ‫بــاب الغرفــة وســقفها‬ ‫ّ‬ ‫هوى‪ ،‬وأحدهم نادى من مئذنة الجامع‪،‬‬ ‫ولم يفهمــه أحــد‪ ،‬ولكنهم تركــوه يهذي‪،‬‬

‫والــكالب تعــوي وال تفهــم‪ ،‬وتنبــح وال‬ ‫تفهــم‪ ،‬وتجــري وال تفهــم‪ ،‬وال أفهــم‪.».‬‬ ‫تظهــر قــدرة صاحــب «كوكــب عنبــر»‬ ‫على الوصــف المشــهدي بشــكل ملحمي‪،‬‬ ‫ليترك‪ ،‬في القارئ‪ ،‬صــورة من الصعب‬ ‫محوهــا‪ .‬حيــث «عطــارد» فــي النهاية هو‬ ‫بشــر‪ ،‬ولكــن إدراكه لــكل هــذه التفاصيل‬ ‫تؤكــد‬ ‫أضفــى عليــه قــدرة فــوق بشــرية‪ِّ .‬‬ ‫هذه الالمباشرة حتمية كون عالم رواية‬ ‫«عطارد» هو جحيمي بامتياز‪ .‬هذه ليست‬ ‫فقط كل صــور الجحيم‪ ،‬فعطارد ســوف‬ ‫شابة لتخبره‪،‬‬ ‫يقابل زهرة بعد أن تصبح ّ‬ ‫بإيحاء غامــض‪ ،‬أنهم فــي الجحيم‪ ،‬وأن‬ ‫عليــه أن يقتــل النــاس كــي يذهــب بهــم‬ ‫إلــى الجنّة‪.‬‬ ‫يتلّقــى الضابــط مــا يمكــن أن تسـّـميه‬ ‫المقدســة‬ ‫مهمته‬ ‫َّ‬ ‫«وحيـ ًا إنســانياً»‪ ،‬ليبــدأ ّ‬ ‫كل مــن يقابلهــم؛ يفعــل ذلك مع‬ ‫في قتــل ّ‬ ‫الرجال والنساء‪ ،‬الشيوخ واألطفال‪ ،‬دون‬ ‫تفرقــة‪ .‬ال يجــد مقاومــة‪ ،‬وال يتص ـّدى له‬ ‫أحد‪ ،‬وكأن الناس يريــدون أن يتخلّصوا‬ ‫مــن هــذا الجحيــم الــذي يعيشــونه‪ ،‬حتى‬ ‫وإن لم يكونــوا يدركــون حقيقته‪.‬‬ ‫هــذا العمــل االستشــرافي الكابوســي‪،‬‬ ‫ليــس مــن الســهل كتابتــه بــكل مــا فيــه‬ ‫مــن ألــم ومشــاهد مفزعــة‪ .‬هــذه الدرجات‬ ‫المتصاعدة من الوحشــية والقتل بامتداد‬ ‫صفحــات العمــل تجعلنــا نتســاءل‪ :‬إن‬ ‫كان األمــر مؤلمـ ًا بهــذا الشــكل علــى نفس‬ ‫تحمل‬ ‫القــارئ‪ ،‬فكيــف َّ‬ ‫تمكــن الكاتــب مــن ُّ‬ ‫كتابــة العمــل والتعامــل مــع تفاصيلــه‪،‬‬ ‫ـودة إلــى إخرى حتى‬ ‫بل تنقيحه من ُم َسـ َّ‬ ‫وصــل إلــى المخطــوط النهائــي؟!‬

‫النـوبيـة‬ ‫جمع األمثـال‬ ‫َّ‬ ‫فيصل املـوصـيل‬

‫عندمــا كنــت فــي أســوان الشــهر‬ ‫الماضي‪ ،‬أهداني صديقي الباحث الدؤوب‬ ‫القيــم الصادر في‬ ‫حبـــوب» كتابه ّ‬ ‫«ماهر ّ‬ ‫ديســمبر‪/‬كانون األول الماضي بعنوان‬ ‫«معجم األمثال النوبيــة» (الجزء األول)‪.‬‬ ‫يبــدأ الكتــاب الــذي يقــع فــي (‪304‬‬ ‫صفحة)باإلهــداء لوالدته وأفراد األســرة‬ ‫واألبناء واألصدقــاء‪ ،‬ثم تأتــي بعد ذلك‬ ‫توجه‬ ‫كلمــة الشــكر فــي صفحتيــن‪ ،‬وقــد ّ‬ ‫جمع منهم‬ ‫الكاتب باالمتنــان إلى ّ‬ ‫كل مــن َ‬ ‫عددًا من األمثال التــي أتت بين دفّتي هذا‬ ‫الكتــاب‪ ،‬وتقـ َّـدم فيــه بالشــكر واالمتنــان‬ ‫وقدموا له‬ ‫ّ‬ ‫لكل الذين عاونوه وســاندوه َّ‬ ‫بعــض الكتــب والمراجــع‪ ،‬وبعدهــا تأتي‬ ‫مقّدمــة الكتــاب التــي كتبها الشــاعر عالء‬ ‫مؤســس مجّلــة «أمكنــة»‪ ،‬تليهــا‬ ‫خالــد‪ِّ ،‬‬ ‫مقّدمــة أخــرى للروائــي النوبــي يحيــى‬ ‫يوضــح فيــه‬ ‫مختــار‪ ،‬ثــم اســتهالل‬ ‫ِّ‬ ‫الباحــث متــى بــدأ بجمــع هــذه األمثــال‪،‬‬ ‫والمراجــع التــي رجــع إليهــا‪ ،‬ثــم يقول‪:‬‬ ‫ـون من جزأيــن مكتوب‬ ‫«هــذا الكتاب المكـ َّ‬ ‫بطريقة الدكتور خليــل كبارة‪ ،‬التي كان‬ ‫يتم تدريس اللغــة النوبية بهــا في مركز‬ ‫ّ‬ ‫الدراســات النوبيــة والجمعيــات النوبية‬ ‫وبـ«فونت» (‪ ،)Sophia Nubian‬مّتبع ًا‬ ‫نصيحــة الباحــث األلمانــي فــي اللغــة‬ ‫النوبية «ماركوس جيجــر» بعد أن كانت‬ ‫مكتوبة بـ«فونــت» الكمبيوتر (‪Nubian‬‬ ‫‪ )New 1‬مــع تعديل واجتهاد شــخصي‪،‬‬ ‫فقــد رأيــت أن أكتــب األمثــال كمــا ُتنطــق‬ ‫أي فواصــل أو تقســيم‬ ‫بالضبــط‪ ،‬ودون ّ‬ ‫للكلمــة؛ لــذا قمــت بحــذف الشــرطة أو‬ ‫«الــداش» (‪ ،)-‬وهــي الفاصــل بيــن جــزع‬ ‫الكلمة واإلضافات القواعدية (لواحق أو‬ ‫وكررت ذلك في‬ ‫نهايات أو واســطات)‪َّ ،‬‬

‫كتابة منطوق المثـل باألحرف الالتينية‬ ‫َ‬ ‫مســتخدم ًا األقــرب إلــى النطــق‪ ،‬وليــس‬ ‫القياسي‪.».‬‬ ‫أهمّيــة هــذا الكتــاب مــن أنــه‬ ‫وترجــع ّ‬ ‫تتبــع األمثال‬ ‫تبّنــى منظــورًا محـ َّـددًا هــو ّ‬ ‫التي تدور فــي منطقــة النوبــة وتقديمها‬ ‫بأكثــر مــن لغــة (النوبيــة‪ ،‬العربيــة‪،‬‬ ‫الالتينيــة)‪ ،‬بمــا يكشــف‪ ،‬فــي معظــم‬ ‫الوقــت‪ ،‬الفــوارق بيــن هــذه اللغــات‪،‬‬ ‫فالكتــاب يقـ ِّـدم مــادة شــائقة مــن خــال‬ ‫األمثــال والتعليقــات المباشــرة عليهــا‪.‬‬ ‫ويـعّد موضوع البحث‪/‬الكتاب‪ ،‬الذي‬ ‫ُ‬ ‫قّدمه لنا ماهر حبـّوب‪ ،‬من الكتب الفريدة‬ ‫فــي مجــال اللغــة‪ ،‬وإضافــة جديــدة إلــى‬ ‫المكتبــة العربيــة‪ ،‬والنوبيــة علــى وجه‬ ‫الخصوص‪ .‬وقد ســبقه إلى هــذا االّتجاه‬ ‫الدكتــور خليــل كبــارة‪ ،‬ومحمــد متولــي‬ ‫أهمّية هذا الكتاب‪ -‬أيضاً‪-‬‬ ‫بدر‪ .‬كما تأتي ّ‬ ‫ـط‬ ‫بالخـ ّ‬ ‫وألول مـّـرة‪َ -‬‬ ‫مــن أنــه مكتــوب‪ّ -‬‬ ‫ـادة ثرية للباحثين‬ ‫النوبي؛ مما يتيح مـ ّ‬ ‫فــي اللغــات المقارنــة واألنثروبولوجيا‬ ‫والفولكلــور‪ ،‬ويســاعدهم فــي إجــراء‬ ‫عمليــة المقارنــة مــن ناحيــة‪ ،‬والتعـّـرف‬

‫الهوية الثقافية المصرية‬ ‫إلى خصوصية ّ‬ ‫المتع ـّددة من ناحيــة أخرى‪ .‬ونســتطيع‬ ‫نؤكــد أن غالبيــة األمثال التــي وردت‬ ‫أن ّ‬ ‫فــي الكتــاب لهــا طابعهــا النوبــي‪ ،‬وإن‬ ‫لــم تكــن خرجــت مــن البيئــة نفســها‪ ،‬فقد‬ ‫دخلــت عليهــا‪ ،‬بمــرور الزمــن‪ ،‬بعــض‬ ‫األلفــاظ العربيــة‪.‬‬ ‫ماهــر حبـّــوب الحاصــل علــى‬ ‫بكالوريــوس الخدمــة االجتماعيــة مــن‬ ‫جامعة جنوب الوادي في أسوان‪ ،‬وعلى‬ ‫دبلوم ْي إدارة المنظمات غير الحكومية‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ّيــة االقتصــاد والعلــوم‬ ‫ل‬ ‫ك‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫البيئ‬ ‫وإدارة‬ ‫ّ‬ ‫جل‬ ‫السياســية‪ ،‬جامعة القاهرة‪ ،‬وضع ّ‬ ‫المتعمق‪ ،‬ووضع‬ ‫همه ووقته لهذا البحث‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬ ‫نصب عينيه قيمة تراث أجداده ومكانته‪،‬‬ ‫المتأمل في‬ ‫وارتبط بــه ارتبــاط الباحــث‬ ‫ِّ‬ ‫مكونات هذا التراث‪ ،‬فاكتشف‪ -‬وهو يقرأ‬ ‫ِّ‬ ‫يغض الطرف‬ ‫تراث ماضيه‪ -‬أنه يجب أال ّ‬ ‫عــن هــذا اإلرث الغنــي والملــيء بالبعــد‬ ‫كرس‬ ‫الفلسفي‪ ،‬والمتدفّق بالحكمة‪ ،‬كما ّ‬ ‫وقته للعمل الميداني والمكتبي لسنوات‬ ‫ليخـ ِـرج لنــا هذا‬ ‫عديــدة (‪ُ )2009 - 1995‬‬ ‫ويعـّد الكتــاب‪ ،‬الــذي‬ ‫العمــل إلــى النــور‪ُ .‬‬ ‫دراسة‬ ‫يضم حوالي (‪ )500‬مثـل شعبي‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫عميقــة تحتــوي علــى تحليــل مقــارن‪،‬‬ ‫يهتم‬ ‫ومرجع ًا ّ‬ ‫هام ـ ًا للباحثيــن‪ ،‬فالكتاب ّ‬ ‫بأهمّيــة التــراث الثقافــي‬ ‫بتنميــة الوعــي ّ‬ ‫المصري‪ /‬النوبي‪ ،‬والحفاظ عليه لتأكيد‬ ‫الهويــة الذاتيــة وتقويــة االنتمــاء‪ ،‬كمــا‬ ‫يضيــف إلــى المكتبــة المصرية رافــدًا من‬ ‫ثقافة الوطــن‪َ ،‬تّم أغفاله لفتــرة طويلة‪.‬‬ ‫‪101‬‬

‫حني ُي ِ‬ ‫فلس النقد األديب‬ ‫بالل رمضان‬

‫مؤخــراً‪ ،‬الترجمــة العربية‬ ‫صــدرت‪َّ ،‬‬ ‫لكتاب بعنوان «من قتل روجير أكرويد؟»‬ ‫للناقــد الفرنســي بييــر بيــار‪ ،‬المحلِّــل‬ ‫النفســي‪ ،‬وأســتاذ األدب فــي جامعــة‬ ‫باريــس‪.‬‬ ‫الكتاب صــدر عــن دار رؤية للنشــر‪،‬‬ ‫فــي القاهــرة‪ ،‬بتوقيــع المترجــم حســن‬ ‫المودن‪ ،‬وهو عبارة عن دراسة نقدية‪،‬‬ ‫حــول روايــة أجاثــا كريســتي الشــهيرة‬ ‫النقــد‬ ‫«مقتــل روجيــر أكرويــد»‪ُ ،‬تســائل َ‬ ‫«البوليســي» التقليــدي فــي أسســه‬ ‫ومنطلقاتــه‪ ،‬ويدعونــا مؤلِّفــه إلــى‬ ‫اكتشــافات جديدة‪ ،‬ال فــي ُســبل القراءة‬ ‫والتأويــل فحســب‪ ،‬بل فــي الســبل التي‬ ‫تقود إلى إعادة البنــاء وإعادة الكتابة‪.‬‬ ‫ينطلــق الباحث مــن االعتــراف بكون‬ ‫الروايــة البوليســية‪ ،‬اليوم‪ ،‬قــد أصبح‬ ‫مستقل‪ ،‬بوصفها جنس ًا أدبي ًا‬ ‫لها وجود‬ ‫ّ‬ ‫ال وموضوع ـاً‪ ،‬كمــا‬ ‫يميــزه شــك ً‬ ‫لــه مــا ِّ‬ ‫تبين ذلــك العديد من الدراســات األدبية‬ ‫ّ‬ ‫النظريــة‪ ،‬والتطبيقيــة‪( :‬بورخيــس‪،‬‬ ‫كايوا‪ ،‬ولســون‪ ،‬تــودوروف‪ ،‬بيار‪)..،‬‬ ‫وقبــل ذلــك‪ -‬أيض ـاً‪ -‬مــن المعــروف أن‬ ‫تبلــور هذا الجنــس األدبي َت َّم فــي القرن‬ ‫ـورات التــي‬ ‫التاســع عشــر بفضــل التطـ ّ‬ ‫عرفتهــا المدينــة األوروبيــة ومعارفهــا‬ ‫وفنونهــا وتقنياتهــا ومناهجهــا‪ ،‬فــي‬ ‫التحقيــق والبحــث عــن الحقيقــة؛ ممــا‬ ‫جعــل الدارســين‪ -‬الحقـاً‪ -‬يعملــون على‬ ‫تصنيفه إلى أنــواع وأشــكال‪ .‬لكن بيير‬ ‫ينبهنــا إلــى أنــه غالب ـ ًا مــا يختــزل‬ ‫بيــار ّ‬ ‫ال فني ًا يطرح لغزًا‬ ‫تعريفه في كونه شك ً‬ ‫ـل‪ ،‬ويتأّلــف‬ ‫جرمي ـ ًا واحــدًا أو أكثــر للحـ ّ‬ ‫مــن مجموعــة عناصــر أســاس‪ :‬جريمــة‬ ‫ضحيــة‪،‬‬ ‫مســتعصية علــى التفســير‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫‪102‬‬

‫محقّق‪ ،‬استدالل افتراضي استنباطي‪،‬‬ ‫حل نهائــي‪ ..‬إلخ‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وإذا كان صحيح ـ ًا أن هذا الجنس قد‬ ‫طاله التهميش النقــدي واألكاديمي مّدة‬ ‫طويلة‪ ،‬حتى في دياره الغربية‪ ،‬بالرغم‬ ‫وشعبيته الواسعين‪ ،‬فإن‬ ‫من انتشاره‬ ‫ّ‬ ‫األصــح أنــه نــال اهتمام ـ ًا الفت ـاً‪ ،‬نهاية‬ ‫القرن العشرين وبداية األلفية الجديدة‪،‬‬ ‫ـص فــي النقــد‪ ،‬والفلســفة‪،‬‬ ‫وعلــى األخـ ّ‬ ‫والتحليل النفسي‪.‬‬ ‫لكــن‪ ،‬وفــي مقابــل ذلــك‪ ،‬إذا‬ ‫استحضرنا األدب الروائي العربي فإن‬ ‫الالفــت للنظــر هــو قّلــة االنتــاج فــي هذا‬ ‫الجنس من الرواية في البالد العربية‪،‬‬ ‫فكّتــاب الروايــة البوليســية قّلــة قليلــة‬ ‫ُ‬ ‫فــي بالدنــا‪ ،‬ونقّادهــا أقــل بكثيــر‪ ،‬إال‬ ‫أنــه‪ ،‬فــي الســنوات القليلــة األخيــرة‪،‬‬ ‫ظهرت مقــاالت وكتابــات نقدية تطرح‪،‬‬ ‫بإلحــاح‪ ،‬أســئلة مثــل‪ :‬لمــاذا لــم تظهــر‬ ‫الرواية البوليسية‪ ،‬في البلدان العربية‪،‬‬ ‫ـوة والنوعيــة اللتيــن ظهــرت بهمــا‬ ‫بالقـ ّ‬ ‫في أكثــر مــن منطقــة فــي العالــم‪ ،‬ومنذ‬ ‫مــدة بعيــدة فــي بعــض مناطقــه؟ مــاذا‬

‫عــن نقــد الروايــة البوليســية فــي النقــد‬ ‫ـي المعاصــر؟ لمــاذا طــال اإلهمــال‬ ‫العربـ َّ‬ ‫الكتابات النقدية «البوليســية»‪ ،‬بالرغم‬ ‫ـوالت في‬ ‫مما حقّقتــه مــن تراكمات وتحـ ُّ‬ ‫وتغيــر النظــرة إلــى‬ ‫المنهــج والرؤيــة‬ ‫ُّ‬ ‫الروايــة البوليســية؟‬ ‫األهمية التي يضيفها هذا الكتاب‪،‬‬ ‫إن ّ‬ ‫بنقله إلى اللغة العربية‪ ،‬ال تتوقَّف عند‬ ‫ما يمثِّله مــن قــراءة للرواية البوليســية‬ ‫مــن منظــور نفســاني جديد فحســب‪ ،‬بل‬ ‫تعــود إلــى كونــه ال يكتفــي بالتحليــل‬ ‫والتفكيــك والنقــد والتقويــم‪ ،‬بــل إنــه‬ ‫يتع ـّدى ذلــك إلــى إعــادة كتابــة روايــة‬ ‫بوليسية من زاوية نظر جديدة مغايرة‬ ‫للتــي ُكتبــت مــن خاللهــا فــي األصــل‪،‬‬ ‫ثــان‬ ‫فكأنمــا الناقــد‬ ‫يتحــول إلــى كاتــب ٍ‬ ‫َّ‬ ‫لهــذه الروايــة‪.‬‬ ‫وإذا مــا عدنــا إلــى الناقــد الفرنســي‬ ‫بيير بيار (‪ ،)1954‬ونظرنــا إلى العديد‬ ‫َّفه من الدراســات‪ ،‬ســنجد أنه منذ‬ ‫مما ألَ‬ ‫العــام (‪ )1978‬وحتى (‪ )2014‬يســأل ‪-‬‬ ‫دائماً‪ -‬عن الروابط بين األدب والتحليل‬ ‫يوظــف الســخرية‬ ‫النفســي‪ ،‬كمــا أنــه ِّ‬ ‫متجدد‪،‬‬ ‫والمفارقة لصالح تحليل أدبي‬ ‫ِّ‬ ‫ففــي كل عمــل يأتــي المؤلِّــف بشــيء‬ ‫مثيــر وغيــر منتظــر‪ ،‬فيفاجــئ القــارئ‬ ‫باكتشــافاته ومراجعاتــه وتحقيقاتــه‬ ‫وتعديالتــه وتنقيحاتــه ومســاءالته‬ ‫والم َســلَّمات‪.‬‬ ‫لألحــكام ُ‬ ‫ـص فــي التحليــل‬ ‫إن بييــر بيــار مختـ ّ‬ ‫يفســر لمــاذا‬ ‫النفســي واألدب‪ ،‬وهــذا مــا ِّ‬ ‫يجمــع أســلوبه بيــن الجــّد واللعــب‪،‬‬ ‫وكيف يقلــب العبارات‪ ،‬ال مــن أجل بناء‬ ‫يدعي الكمــال‪ ،‬ويطمح إلى‬ ‫منهج جديد َّ‬ ‫الهيمنــة‪ ،‬بل من أجــل فتح آفــاق جديدة‬

‫للتفكيــر فــي األدب بســخرية الذعــة‪،‬‬ ‫تؤمــن كثيــرًا باألســس الصلبــة التــي‬ ‫يقــوم عليهــا النقــد أو النظريــة‪.‬‬ ‫وفي إطــار هــذا األســلوب الجديد في‬ ‫التحليــل والتفكيــر‪ ،‬ينــدرج كتابــه الذي‬ ‫أصدره فــي عــام (‪ )2004‬تحــت عنوان‬ ‫«هل يمكن تطبيــق األدب علــى التحليل‬ ‫النفســي؟»‪ ،‬ويقتــرح فيــه‪ -‬وبغيــر قليل‬ ‫مــن الســخرية‪ -‬نظريــة جديــدة‪ ،‬هــي‬ ‫تطبيــق األدب علــى التحليــل النفســي‪.‬‬ ‫فــإذا كان المألوف هــو تطبيــق التحليل‬ ‫النفســي علــى األدب‪ ،‬فــإن بييــر بيــار‬ ‫يدعونا إلى قلب األدوار‪ ،‬وذلك ألن أحد‬ ‫أهم األســباب التي تدعوه إلــى مراجعة‬ ‫ّ‬ ‫العالقــة بيــن االثنيــن‪ ،‬هــو أنه يــرى أن‬ ‫النقــد األدبــي أصابــه اإلفالس؛لذلك إذا‬ ‫ـم االعتمــاد علــى منهــج قلــب األشــياء‬ ‫َتـ َّ‬ ‫يكــون بإمــكان األدب أن يقــول أشــياء‬ ‫عديــدة للتحليــل النفســي‪.‬‬ ‫يعيــد بييــر بيــار البحــث والتحقيق‪،‬‬ ‫غير مقتنع بأن الكاتبة َت ْعَلم كل شيء‪،‬‬ ‫وواضع ًا يــده على تناقضــات المحكي‪،‬‬ ‫والشــخصيات‪ ،‬وكاشــف ًا مــا أصــاب‬ ‫المحقِّــق والقــارئ‪ -‬أيضــاً‪ -‬مــن عمــى‬ ‫أمــام أمــور وقرائــن واضحــة وبديهية‪،‬‬ ‫ال فــي النهايــة مــا إذا لــم تكــن‬ ‫ومتســائ ً‬ ‫الـ«أنا» هــي الـ«آخر»‪.‬‬ ‫وهكــذا‪ ،‬وتبع ًا للتحقيــق الذي أجراه‬ ‫بيير بيار‪ ،‬واستنادًا إلى حجج واضحة‬ ‫فــي النــص‪ ،‬فــإن القاتــل الحقيقــي هــو‬ ‫كارولين شبارد‪ ،‬شقيقة الدكتور شبارد‬ ‫المحقــق هركيــول بــوارو؛‬ ‫اتهمــه‬ ‫ِّ‬ ‫الــذي َّ‬ ‫ـة بأخيهــا‪ -‬العنصر األقوى‬ ‫فهي‪ -‬مقارنـ ً‬ ‫األم‬ ‫دور‬ ‫ـب‬ ‫ـ‬ ‫تلع‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫أنه‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫كم‬ ‫ـة‪،‬‬ ‫فــي العائلـ‬ ‫ّ‬ ‫بالنســبة إلــى أخيهــا‪ ،‬ومســتعّدة للقتل‬

‫مــن أجــل حمايتــه‪ ،‬ثــم إن شــخصيتها‬ ‫أقــرب إلــي شــخصية القاتــل‪ ...‬ولهــذا‬ ‫فإن الحقيقة الوحيدة‪ ،‬في رواية أجاثا‬ ‫كريســتي‪ ،‬هــي مقتــل روجيــر أكرويــد‪،‬‬ ‫البقية موضع تأويل‪ ،‬والتأويل‬ ‫وتبقى ّ‬ ‫الذي تبنّاه المحقِّق بــوارو ليس خاطئ ًا‬ ‫فحســب‪ ،‬بل هو جريمة قتــل؛ ذلك ألنه‬ ‫التأويــل الذي دفــع الدكتور شــبارد إلى‬ ‫االنتحار‪ .‬وفــي نظــر بيير بيار‪ ،‬ليســت‬ ‫هذه هــي المــرة األولى التــي يقتــل فيها‬ ‫هركيول بوارو‪ ،‬ففي رواية «الســتارة»‬ ‫ال ببــرودة دم بعــد أن عرف أنه‬ ‫قتل رج ً‬ ‫المجــرم‪ ،‬لكــن الجديد فــي روايــة «مقتل‬ ‫روجيــر أكرويد» هــو أن تأويــل المحقِّق‬ ‫بــوارو لــم يكــن محكم ـ ًا وصارم ـاً‪ ،‬كمــا‬ ‫ّيدعــي‪ ،‬بــل إنــه كان نوعـ ًا مــن الهذيــان‬ ‫العنيف الذي أجبر الدكتور شبارد على‬ ‫االنتحار‪.‬‬ ‫أهمّيــة كتــاب بييــر بيــار «مــن قتــل‬ ‫ّ‬ ‫روجيــر أكرويــد؟» ال تعــود إلــى كونــه‬ ‫يكشف االسم الحقيقي للقاتل في رواية‬ ‫أجاثا كريستي «مقتل روجير أكرويد»‪،‬‬ ‫بــل ألنــه‪ ،‬مــن خــال ذلــك‪ ،‬يدعــو إلــى‬ ‫ـؤول‬ ‫التفكيــر‪ ،‬مــن جديــد‪ ،‬فــي عمــل المـ ِّ‬ ‫أو القــارئ‪ ،‬وطريقــة اشــتغاله‪ ،‬الفتــ ًا‬ ‫مهــم‪ :‬هو« التأويل‬ ‫إلى موضوع نظري ّ‬ ‫بوصفــه هذيانـاً»‪.‬‬ ‫وال يكتفــي الباحــث بالوصــول‬ ‫إلــى هــذه النقطــة فحســب‪ ،‬بــل يطــرح‬ ‫ســؤا ًال مفــاده‪ :‬هــل الحقيقــة التــي‬ ‫المحقــق الجديــد‪ ،‬بيير‬ ‫انتهى إليهــا هــذا‬ ‫ِّ‬ ‫بيــار‪ ،‬هــي الحقيقــة‪ ،‬الحقيقــة كلّهــا؟‪،‬‬ ‫التصور الفرويدي‬ ‫ويجيب‪،‬باإلشارة إلى‬ ‫ّ‬ ‫أقــل مــن‬ ‫الــذي يقــول إن الهذيــان هــو ّ‬ ‫الجنــون‪ ،‬أو إنــه نقيضــه وض ـّده‪ ،‬فهو‬

‫محاولــة فــي تنظيــم الجنــون‪ ،‬وبهــذا‬ ‫ويتأســس‬ ‫المعنــى‪ ،‬فمــا مــن هذيــان إال‬ ‫َّ‬ ‫علــى صــوغ نظــري مــا‪ ،‬كمــا أنــه مــا‬ ‫مــن عمــل نظــري إال وينتظــم بجــزء من‬ ‫الهذيــان‪.‬‬ ‫وإذا كان األمــر كذلــك‪ ،‬تبعــ ًا لهــذا‬ ‫ـور‪ ،‬نســأل بييــر بيــار‪ :‬أليــس في‬ ‫التصـ ُّ‬ ‫بحثــه‪ ،‬وفــي تحقيقــه المصــاغ صوغ ـ ًا‬ ‫ـزء مــن الهذيــان الذي‬ ‫نظريـ ًا محكمـاً‪ ،‬جـ ٌ‬ ‫اتهــم به بــوارو فــي تأويلــه؟ ولكن‪ ،‬مع‬ ‫َّ‬ ‫ذلــك‪ ،‬يبقــي بييــر بيــار هــو ذلــك الناقد‬ ‫الــذي يجمــع بيــن التخييــل والتنظيــر‬ ‫بطريقــة مدهشــة‪ ،‬ويــزاوج بيــن الشـ ّ‬ ‫ـك‬ ‫واإلصغاء الحكيم للكلمة‪ ،‬كلمة اآلخر‪،‬‬ ‫مرة‪ -‬إلى عدم التسليم‬ ‫ويدعونا‪ -‬في كل ّ‬ ‫بســهولة‪ ،‬وعــدم االقتنــاع بالحقائــق‬ ‫قــدم إلينــا‪ ،‬وأن نتعلَّــم البحــث‬ ‫التــي ُت َّ‬ ‫عــن الحقيقــة بــأدوات مغايــرة‪.‬‬ ‫‪103‬‬

‫شارع‪ ‬سباركس‪ ،‬أوتاوا‬

‫املبدعون العرب يف كندا‬ ‫أصوات ال تصل‬ ‫علم‬ ‫أسامة ّ‬ ‫تنــازل بطيب‬ ‫ومربك‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫الهجــرة إلى الغــرب قرار حياتــي ُمعقّد ُ‬ ‫خاطــر عــن مــودة األهــل واألصدقــاء‪ .‬تحــٍد مجحــف لقــدرات‬ ‫الشــخص علــى اختبار قدرة جذوره علــى النمو في أرض قد ال‬ ‫تحبــه‪ ،‬أو تحتفي به‪ .‬تأقلــم مجتمعي صارم يجب أن يفرضه‬ ‫وربما‬ ‫المهاجر على نفســه ليتعلّم لغة جديــدة‪ ،‬وتقاليد جديدة ّ‬ ‫أحالمــ ًا لــم تخطر فــي باله‪ .‬ورغــم أن األرض الجديــدة‪ ،‬قد ال‬ ‫تؤمن بتاريخك الشــخصي الذي ربما أمضيت نصف عمرك في‬ ‫تشكيله بصبر وفرح‪ّ ،‬إل أن هناك دائم ًا ترف البدايات الجديدة‪.‬‬ ‫وإذا كان هــذا هــو حــال المهاجــر االعتيــادي إلى بــاد ال تقبل‬ ‫ّإل بخالصــة صفــوة المجتمعــات العربية‪ ،‬فللمثقــف العربي‬ ‫‪104‬‬

‫إشــكاليته الخاصــة في مشــروع الهجرة‪ ،‬إشــكالية أساســها‬ ‫قدرتــه علــى التنقُّل بيــن ثقافتيــن‪ ،‬ال يؤمن بســيادة إحداهما‬ ‫شــكلت وجدانــه‪ .‬وثقافة‬ ‫علــى األخــرى‪ :‬ثقافة عربيــة عريقة ّ‬ ‫غربيــة مقروءة وســمعية تحاور مثقفيها عبــر الورق أو أفالم‬ ‫هوليــوود‪ ،‬لتبقى مغامــرة الهجرة إلى بلد أسســه المهاجرون‬ ‫بجــدارة ككندا‪ ،‬مغامرة شــائقة وشــاقة للمثقــف العربي الذي‬ ‫الحرّية الضنين الــذي يفرضه عليه مجتمعه‬ ‫ضــاق به هامــش ّ‬ ‫وغالبية أنظمة بالده السياسية‪.‬‬ ‫وللوهلــة األولــى‪ ،‬يبــدو‪ -‬تاريخيــاً‪ -‬التراث الثقافــي لهجرات‬ ‫عالمي الدهشــة والحنين‪:‬‬ ‫العرب األوائل للغرب انحســارًا بين َ‬

‫براقة‪ ،‬نظيفة ومنظمــة‪ ،‬ال تخلو إبداعات‬ ‫دهشــة من حضــارة ّ‬ ‫أصحابهــا مــن نقمــة علــى الواقــع العربــي المعاصــر حينها‬ ‫رواد الثقافة‬ ‫ســجلتها كتابــات ّ‬ ‫ومحــاوالت إصالحــه‪ ،‬دهشــة ّ‬ ‫العربيــة‪ ،‬كرفاعــة الطهطاوي وبيرم التونســي وطه حســين‬ ‫سجلته بمكاشفة‬ ‫وتوفيق الحكيم‪ .‬وحنين ُمجحف إلى األوطان ّ‬ ‫واضحــة كتابــات جماعــة الرابطــة القلميــة فــي نيويــورك‪،‬‬ ‫ككتابــات جبران وميخائيل نعيمة ونســيب عريضة‪ ،‬في عصر‬ ‫كانت زيارة البلد األم حلم ًا ال يحققه ّإل ركوب البحر بمخاطره‪،‬‬ ‫وتبــادل األخبــار العائليــة التــي ال تحملها إال خطابــات مليئة‬ ‫باألشواق واألخبار القديمة‪.‬‬ ‫وألن العالم كله يعاني من مرض تســارع األحداث مستفيدًا من‬ ‫مــارد التكنولوجيا الحديثــة‪ ،‬فلقد أصبحت هجــرة العرب إلى‬ ‫كندا‪ ،‬وإلى الغرب عامة‪ ،‬ظاهرة تستحق المتابعة‪ ،‬كمجموعة‬ ‫عرقية ال يمكن التغاضي عن دورها المهم في التاريخ البشري‪.‬‬ ‫فكندا تســتقبل كل عــام آالف المهاجرين العرب ليصنعوا عالم ًا‬ ‫موازيــ ًا لبالدهــم علــى هامــش حياتهــم الجديدة‪ .‬وبعيــدًا عن‬ ‫الضجيــج االعتيــادي لثــورات وحــروب وأحــام متحققــة أو‬ ‫مغدورة في أرض األجداد‪ ،‬بدأت جذور ثقافة عربية وليدة النمو‬ ‫شــتاء‪ ،‬وباألمطار‬ ‫فــي تلك البالد التــي ال تعترف إال بالثلوج‬ ‫ً‬ ‫ليتكون‪ -‬ببطء‪ -‬منتــج ثقافي مغاير وغير نمطي‬ ‫صيفــاً‪ .‬ربما‬ ‫ّ‬ ‫ال تهتــم بــه الدوائر الثقافية والعربية ّإل على اســتحياء‪ ،‬ربما‬ ‫لجســامة األحــداث في أرض الوطن‪ ،‬أو لتكاســل من وســائل‬ ‫إعالم لم تكن معركتها أبدًا ثقافة المواطن العربي‪.‬‬ ‫أم االختراع» فلم يكن أمام المثقفين العرب‬ ‫وعم ً‬ ‫ال بمبدأ «الحاجة ّ‬ ‫إال تكويــن عالمهم الخاص‪ ،‬مســتحضرين عوالم تراثهم الغني‬ ‫إلــى كنــدا‪ ،‬ليعــاودوا البحث من جديــد في جــذور ثقافتهم عن‬ ‫ربما‪ -‬ألنفســهم‬ ‫تعريف وهوية خاصة يقدمونها ألبنائهم‪ ،‬أو‪ّ -‬‬ ‫كعالمــة على الوجــود والتميز‪ .‬لذلك لن يكــون غريب ًا للمتابع‬ ‫عــن قرب ذلــك الزخــم الباحث عــن الهوية في اختيار أســماء‬ ‫المجموعــات الثقافيــة فــي كندا‪ ،‬أســماء كجمعيــة جلجامش‪،‬‬ ‫الصالون األندلســي‪ ،‬أقالم عربية فــي مونتريال‪ ،‬والمجموعة‬ ‫الثقافيــة العربية الكندية‪ .‬جمعيات نشــطة في مجاالت ثقافية‬ ‫بتنــوع طيــف الثقافــة العربيــة‪ .‬بين اهتمــام خاص‬ ‫مختلفــة‬ ‫ّ‬ ‫بتاريــخ اإلنســان العربــي وتراثه الفكري قبل دخول اإلســام‬ ‫وبعــده‪ ،‬وبين إبــداع العرب الكندييــن والمهاجرين في الكتابة‬ ‫ومحاولة فك شفرة وجدهم في عالمهم‪ ،‬ليصبح العالم العربي‬ ‫ومفكــروه‪ ،‬على بعدهم الجغرافي‪ ،‬في متناول الحضور‪ ،‬لتتم‬ ‫دعــوة كل عــام الكثيــر من األســماء المهمــة في مجــال الثقافة‬ ‫العربيــة‪ ،‬كل عــام‪ .‬تحضرني منها زيــارات العام الماضي في‬ ‫مدينــة واحــدة كمونتريــال‪ ،‬بعض أســماء كالشــاعر العراقي‬ ‫ســعدي يوسف‪ ،‬الروائي المصري صنع اهلل إبراهيم‪ ،‬الروائي‬ ‫الفلســطيني إبراهيم نصر اهلل‪ ،‬الشاعر المصري زين العابدين‬ ‫فــؤاد‪ ،‬ليصنــع ذلــك ِحــراك ًا ثقافيــاً‪ ،‬لم يكــن بعيــدًا عن عين‬ ‫الحكومــة الكندية التي تحتفي دائم ًا بالتعّددية كأســاس وحيد‬ ‫لتعايش شعب‪ ،‬أصوله من جهات العالم األربع‪.‬‬

‫ربمــا مــن المفيد‪ ،‬إليضــاح النتــاج المختلف للمبدعيــن العرب‬ ‫ّ‬ ‫فــي كندا‪ ،‬تســليط الضوء على بعض هذا اإلبــداع على كثرته‪،‬‬ ‫ألســماء لمعت في سماء الثقافة العربية كإيمان مرسال‪ ،‬ومي‬ ‫التلمســاني‪ ،‬أو أســماء لم تعرفها دوائر الشــهرة عربياً‪ ،‬على‬ ‫أهميــة إبداعهــم الذي يثري تجربة اإلنســان العربــي الثقافية‪،‬‬ ‫فشــريف رفعــت المهاجــر إلى كندا فــي أوائل الســبعينيات من‬ ‫القــرن المنصرم يقــّدم للقــارئ العربي خالصــة حياتية مهمة‬ ‫فــي مجموعتــه القصصية «أشــجان من المهجر» عــن تفاصيل‬ ‫حياة المهاجر العربي إلى مونتريال قبل بداية األلفية الجديدة‪.‬‬ ‫وأنيــس بــن عمــار بروايتــه «الغائــب» يدخــل عوالــم الهجرة‬ ‫غيــر الشــرعية بخبــرة َم ْن عايــش مــرارة المغامرة واســتمع‬ ‫إلــى العشــرات من ضحاياهــا‪ .‬وألن األوطــان ال تبتعــد كثيرًا‬ ‫عــن القلب يفتح الطبيــب خالد ذهني‪ ،‬المقيــم بين عالمي طب‬ ‫النســاء في كندا ومصر‪ ،‬جرح‪ّ ،‬‬ ‫ملف العناية الطبية الشــائك‪،‬‬ ‫فــي عالمنــا العربي في روايته «ســيزيرين»‪ .‬رواية بديعة َقّد َم‬ ‫لهــا األديب المصري محمــد المخزنجي‪ ،‬ليكمــل الصورة إنتاج‬ ‫ســينمائي عربــي يحــاول أن ُيقــّدم همــوم العــرب للكندييــن‪.‬‬ ‫فتجربــة المخرج مجدي العمــري وفيلمه الناطــق باإلنجليزية‬ ‫«طريق مســدود» رســالة واضحة على قدرة العرب في الدفاع‬ ‫ض رســمي ًا بكنــدا وتحّدثت عنه‬ ‫عــن قضاياهم‪ .‬الفيلم الذي ُعِر َ‬ ‫«الجارديان» اللندنية يربط في رسالة سينمائية ممتعة مأساة‬ ‫فلســطين بقضية الهنود الحمر التي ال تكف وسائل اإلعالم عن‬ ‫التحــّدث عنها‪ .‬تجربة أخرى للمخرج الشــاب نديم محمد فتيح‬ ‫وفيلمه الناطق باإلنجليزية أيض ًا «حكاية ثورتين» عن الثورة‬ ‫المصريــة والثــورة البرازيليــة ضــد نفقــات كأس العالم لكرة‬ ‫تنوع ذلك اإلبداع المغاير لمجموعة من‬ ‫القدم‪ ،‬دليل مبهج على ّ‬ ‫العرب الذين لم يســمع عنهم الكثيرون‪ .‬لتصبح تجربة امتالك‬ ‫دار نشــر تنشر باللغة الفرنسية ليســت مستحيلة‪ ،‬بعد أن قام‬ ‫تولت‬ ‫كاتب عربي طليعي وهو صالح بدياري بإنشاء دار نشر ّ‬ ‫نشر العديد من الكتب لكّتاب عرب يكتبون بالفرنسية‪.‬‬ ‫بالتأكيد‪ ،‬يطرح ذلك الزخم تساؤ ًال عن انعكاسات هذا ِ‬ ‫الحراك‬ ‫فــي هذا المــكان النائي من العالــم على ثقافتنــا العربية‪ ،‬فهل‬ ‫يســتطيع بعض العشــرات من المهاجرين العــرب التأثير على‬ ‫ثقافة ماليين‪ ،‬بين حركة نشــر محمومة ومشكوك في أهميتها‬ ‫ثقافيــ ًا لمئات الكتب كل عام‪ ،‬وصراع إعالمي لجذب المشــاهد‬ ‫العربي في دوامات طائفية واستهالكية ال تنتهي؟‪ .‬تبدو اإلجابة‬ ‫حيرة‪ ،‬لكن المتابعة الســريعة لنتــاج العرب المعاصرين في‬ ‫ُم ّ‬ ‫المعتــاد‪ .‬فباإلضافــة إلى تقديم‬ ‫كنــدا ُتقــّدم رؤية مغايــرة عن ُ‬ ‫وجهة نظر عربية للغرب في بالده وبطريقة تفكيره‪ .‬مما يفيد‬ ‫والتشــدد االعتيادية‪ ،‬يلعب‬ ‫العــرب في إماطــة لعنة اإلرهــاب‬ ‫ُّ‬ ‫اإلبداع المهجري دورًا في مكاشفة الشعوب العربية عن أوهام‬ ‫َتّم تسويقها له عبر آلة اإلعالم الغربي‪ .‬لتنتهي فترات الدهشة‬ ‫والحنيــن التــي عاناها اإلبداع العربي ســابقاً‪ ،‬إلى عوالم أكثر‬ ‫ارتباطــ ًا بالمعاصرة‪ ،‬وكاشــفة لمجتمعات ال ّ‬ ‫تكــف عن تقديم‬ ‫براقة‪.‬‬ ‫نفسها في صورة‬ ‫ّ‬ ‫نمطية ّ‬ ‫‪105‬‬

106

‫ألوان‬

‫القارة السمراء‬ ‫الفن اإلفريقي المعاصر‪،‬‬ ‫َم ْن يقصد الدخول إلى عوالِم ّ‬ ‫َكَم ْن يختار الدخول إلى بيت عبر النافذة؛ فِقّلة االهتمام‬

‫بإفريقيا جنوب الصحراء‪ ،‬تطال جميع النواحي‪ ..‬في‬ ‫هذا الملف الخاص عن فنّها المعاصر‪ ،‬ندعو القارئ إلى‬ ‫ولوج هذا الباب المسدود‪ -‬غالباً‪ -‬في تعاطينا نحن‬ ‫العرب مع الثقافة اإلفريقية‪ ،‬التي يسبقنا االنكباب‬ ‫الغربي عليها في اكتشاف أدغالها العميقة وال يزال ُيعّبد‬ ‫طرقاتها بالدراسة والتحليل النقدي‪.‬‬

‫العمل الفني‪ - Ephrem Kouakou :‬ساحل العاج‬

‫فن إفريقيا المعاصر‬ ‫اشتغال اآللة النقدية الغربية مع ّ‬ ‫ترسبات‬ ‫المتسّللة من‬ ‫ُّ‬ ‫يشوبه الكثير من االختالالت ُ‬

‫الذاكرة االستعمارية‪ ،‬بالشكل الذي يجعل العمل الفني‬

‫تكسرت هذه‬ ‫اإلفريقي مرآة استيهامية وفرجوية‪ ..‬هل ّ‬ ‫المرآة إلى قطع قابلة إلعادة التركيب لتعكس ألوان‬ ‫تعدد تعبيراتها وطموحها كسائر‬ ‫القارة السمراء في ُّ‬ ‫القارات؟‪ ..‬هذا ما تطرحه مقاالت الملف‪.‬‬

‫‪107‬‬

‫«فن إفريقي معارص»؟‬ ‫هل يوجد ّ‬ ‫لوك رويرت‬ ‫ترجمة‪ :‬محمد مروان‬ ‫ـن اإلفريقــي‬ ‫ّ‬ ‫نظمــت النســخة الثامنــة للفـّ‬ ‫المعاصـــر «داك آر»‪ ،‬والتـــي ُتعقـــد مـــرة‬ ‫كل س ــنتين‪ ،‬خ ــال الفت ــرة الممت ــدة م ــن‬ ‫‪ 9‬مايو‪/‬أيـــار إلـــى ‪ 9‬يونيو‪/‬حزيـــران‬ ‫‪ 2008‬ف ــي العاصم ــة الس ــينغالية داكار‪.‬‬ ‫ومنــذ تأسيســها ســنة ‪ ،1994‬لــم تتوقــف‬ ‫تظاهرة «داك آر» عن االمتداد والتوســع‪،‬‬ ‫وأصبح ــت أح ــد أكب ــر األح ــداث الثقافي ــة‬ ‫وأهمهـــا فـــي إفريقيـــا‪ .‬إنهـــا اآلن أضخـــم‬ ‫للفـــن التشـــكيلي‬ ‫خصصـــة‬ ‫ّ‬ ‫تظاهـــرة ُم ّ‬ ‫اإلفريقــي المعاصــر‪ ،‬فهــي فضــاء حقيقــي‬ ‫اللتقــاء المشــاريع الفنيــة التــي تســاهم في‬ ‫التعريـــف بالفنانيـــن األفارقـــة واالرتقـــاء‬ ‫به ــم عل ــى الصعي ــد العالم ــي‪ ،‬مثله ــا ف ــي‬ ‫ذلــك مثــل تظاهــرة «دوكيومنتــا كاســيل»‬ ‫(ألمانيــا) أو تظاهــرة «هافانا» (كوبا) التي‬ ‫ُتعق ــد‪ ،‬ه ــي األخ ــرى‪ ،‬م ــرة كل س ــنتين‪.‬‬ ‫لـ«الفن اإلفريقي»؟‬ ‫أي تعريف‬ ‫ّ‬ ‫فـــي كل نســـخة مـــن تظاهـــرة «داك‬ ‫ـن‬ ‫هوي ــة الف ـ ّ‬ ‫آر» تط ــرح للنق ــاش مس ــألة ّ‬ ‫«اإلفريق ــي» و«الفناني ــن األفارق ــة»‪ .‬مت ــى‬ ‫ـن «إفريق ــي» بالفع ــل؟ م ــا‬ ‫نتحــّدث ع ــن ف ـ ّ‬ ‫عمـــا أو إبداعـــ ًا مـــا‬ ‫الـــذي يجعلنـــا نعـــّد‬ ‫ً‬ ‫ـن «اإلفريق ــي»‬ ‫«إفريقيــاً»؟ ه ــل يتحــّدد الف ـ ّ‬ ‫ـن «غيــر اإلفريقــي»؟ وهــل‬ ‫بتقابلــه مــع الفـ ّ‬ ‫بالفـــن «اإلفريقـــي» كنـــوع‬ ‫يتعلّـــق األمـــر‬ ‫ّ‬ ‫خـــاص قائـــم بالـــذات أم كفئـــة جزئيـــة‬ ‫ـن؟ ه ــل هن ــاك معايي ــر‬ ‫وفرعي ــة م ــن الف ـ ّ‬ ‫ـن‬ ‫ّ‬ ‫تمك ــن م ــن معالج ــة مس ــألة هوي ــة الف ـ ّ‬ ‫وتســـمح بتحديـــده وتصنيفـــه؟‬ ‫إن تحلي ــل بع ــض المعايي ــر ‪-‬المنتق ــاة‬ ‫بطريقــة ذاتيــة طبعاً‪ -‬ســيمكننا مــن تبيان‬ ‫ـن‬ ‫م ــدى رضان ــا واقتناعن ــا بتصني ــف الف ـ ّ‬ ‫إل ــى «إفريق ــي» و«غي ــر إفريق ــي»‪.‬‬ ‫‪108‬‬

‫لنتن ــاول بال ــدرس ع ــددًا م ــن المفاهي ــم‬ ‫المترابطـــة والمتواتـــرة فـــي كل تفكيـــر‬ ‫ـن الــذي‬ ‫بصــدد مــا يمكــن أن يكونــه هــذا الفـّ‬ ‫يريـــد أن يكـــون «إفريقيـــاً» أو مـــا نعـــّده‬ ‫نح ــن كذل ــك‪:‬‬ ‫أصـــل العمـــل الفنـــي‪ :‬ســـيكون مـــن‬ ‫«الفـــن‬ ‫المنطقـــي جـــدًا لعمـــل يمثـــل‬ ‫ّ‬ ‫اإلفريقــي» أن تكــون أصولــه مــن إفريقيــا‪،‬‬ ‫لكــن‪ ،‬عــن أيــة أصــول نتحـّدث؟ هــل يجــب‬ ‫أن يكـــون الفنـــان مـــن أصـــل إفريقـــي؟‬ ‫وهـــل يجـــب أن يكـــون عملـــه قـــد انبثـــق‬ ‫وتـــم تمثّلـــه وإبداعـــه فـــي إفريقيـــا‪ ،‬أم‬ ‫ّ‬ ‫ويعب ــر عم ــا‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫إفريقي‬ ‫ـل‬ ‫ـ‬ ‫يمث‬ ‫أن‬ ‫ـب‬ ‫ـ‬ ‫يج‬ ‫ه ــل‬ ‫ّ‬ ‫ه ــو إفريق ــي؟ م ــن س ــيلعب دور القاض ــي‬ ‫المقـــرر‪ ،‬بضميـــر ومســـؤولية‪ ،‬بصـــدد‬ ‫ّ‬ ‫م ــا ه ــو إفريق ــي وم ــا لي ــس كذل ــك؟ ه ــذا‬ ‫التس ــاؤل س ــيرافق مس ــيرتنا ف ــي مختل ــف‬ ‫مراحلهــا‪ ،‬ألنــه من المشــروع أن نتســاءل‪،‬‬ ‫مــاذا نفهــم مــن صفــة «إفريقــي» أو حتــى‬ ‫م ــن كلم ــة «إفريقي ــا»؟ ه ــل نتحــّدث ع ــن‬ ‫الق ــارة اإلفريقي ــة؟ وع ــن أي ــة ق ــارة؟ فق ــد‬ ‫أوض ــح الناق ــد الفن ــي س ــيلفان س ــانكالي‬ ‫ـن المعاص ــر‬ ‫ف ــي مقال ــه «نظ ــرة عل ــى الف ـ ّ‬ ‫فـــي الســـينغال»(‪ )1‬أنـــه يجـــب األخـــذ‬ ‫بعيـــن االعتبـــار التمييـــز بيـــن إفريقيـــا‬ ‫السياســـية وإفريقيـــا الجغرافيـــة‪ ،‬فـــي‬ ‫إشـــارة إلـــى جزيـــرة الريونيـــون التـــي‬ ‫تنتمـــي جغرافيـــ ًا إلـــى إفريقيـــا‪ ،‬لكنهـــا‪،‬‬ ‫سياس ــياً‪ ،‬إقلي ــم فرنس ــي م ــن أقالي ــم م ــا‬ ‫ـــم هـــي‬ ‫وراء البحـــر الفرنســـية‪ ،‬ومـــن َث ّ‬ ‫أوروبي ــة؛ إن مث ــل ه ــذه المفارق ــات تظ ـ ّـل‬ ‫ـن اإلفريق ــي»‪،‬‬ ‫حاض ــرة ضمنيــ ًا ف ــي «الف ـ ّ‬ ‫كم ــا س ــنرى الحقــ ًا ف ــي ه ــذا المق ــال‪.‬‬ ‫جنســية‪/‬مواطنة الفنانيــن‪ :‬هــل يجــب‬

‫أن يكــون الفنــان مــن أصــل إفريقــي‪ ،‬مــن‬ ‫دول ــة إفريقي ــة‪ ،‬لك ــي يك ــون عمل ــه «فنــ ًا‬ ‫إفريقيـاً»؟ هــل يكفــي انتمــاء المواطنــة إلى‬ ‫دولـــة إفريقيـــة كـــي ُي َعـــّد الفنـــان مبدعـــ ًا‬ ‫ـن اإلفريقــي»؟ هــل االنتماءإلــى تيــار‬ ‫لـ«الفـ ّ‬ ‫أو أس ــرة فني ــة ينحص ــر ويتوّق ــف عل ــى‬ ‫وثيقـــة رســـمية كيفمـــا كان نوعهـــا؟ أال‬ ‫نج ــازف‪ ،‬به ــذه الطريق ــة‪ ،‬ونخل ــق فئ ــة‬ ‫مــن «غيــر المتوافريــن علــى وثائــق» ضمن‬ ‫ـن اإلفريق ــي» ؟ ف ــي أي ــة خان ــة‬ ‫مج ــال «الف ـ ّ‬ ‫س ــيكون فنان ــو الش ــتات اإلفريق ــي‪ ،‬وه ــم‬ ‫ف ــي الغال ــب أفارق ــة م ــن الجي ــل الثان ــي‪،‬‬ ‫و«غي ــر أفارق ــة» م ــن جه ــة المواطن ــة أو‬ ‫الجنس ــية؟ ه ــذا دون أن ننس ــى الفناني ــن‬ ‫مـــن أصـــول قاريـــة أخـــرى‪ ،‬والذيـــن‬ ‫«الفـــن‬ ‫يطمحـــون إلـــى االنتمـــاء ألســـرة‬ ‫ّ‬ ‫اإلفريق ــي»‪ .‬ه ــل يمك ــن النتم ــاء المواطن ــة‬ ‫بديـــا لالنتمـــاء‬ ‫أو الجنســـية أن يكـــون‬ ‫ً‬ ‫الثقاف ــي أو االجتماع ــي؟‬ ‫االنتم ــاء إل ــى ع ــرق أو إل ــى مجموع ــة‬ ‫إثنيــة‪ :‬تطــرح أســئلة مشــابهة أيضـ ًا حيــن‬ ‫نحــاول اعتمــاد معيــار االنتمــاء إلــى عــرق‬ ‫أو إل ــى إثني ــة‪ .‬إن مصطلح ــات «الع ــرق»‬ ‫الفن‬ ‫و«اإلثنيــة» تحضــر وبقــوة فــي مجــال ّ‬ ‫«الفـــن اإلفريقـــي»‬ ‫عمومـــاً‪ ،‬وفـــي مجـــال‬ ‫ّ‬ ‫بشكل خاص‪ّ ،‬إل أن التاريخ كشف لنا أن‬ ‫أيــة محاولــة لتصنيــف األشــخاص وتمييز‬ ‫المجتمعـــات علـــى هـــذا األســـاس وبهـــذه‬ ‫الطريقـــة‪ ،‬يـــؤدي حتمـــ ًا إلـــى المآســـي‬ ‫الكبـــرى لوعينـــا (الشـــقي) بإنســـانيتنا‬ ‫(روانــدا‪ ،‬بورونــدي‪ ،‬الكونغــو‪ ،‬ناميبيــا‪،‬‬ ‫جنـــوب إفريقيـــا‪ ،‬وطبعـــاً‪ ،‬أرمينيـــا‪،‬‬ ‫ألمانيـــا ودول البلقـــان‪ .)...‬إنـــه معيـــار‬ ‫ُيقص ــي ذات ــه بذات ــه‪.‬‬

‫جون ميشيل باسكيات‬ ‫االنتم ــاء إل ــى ثقاف ــة أو إل ــى مجتم ــع‬ ‫«إفريقـــي»‪ :‬أوضحنـــا للتـــو‪ ،‬أن معيـــار‬ ‫االنتمـــاء إلـــى إفريقيـــا جغرافيـــ ًا أو‬ ‫سياســياً‪ ،‬ال يمنحنــا أي تق ـّدم فــي بحثنــا‬ ‫ـن‬ ‫عــن توافــق أو إجمــاع حــول تحديــد «الفـّ‬ ‫اإلفريقــي»‪ .‬فهــل يمكــن أن نتفــادى أنــواع‬ ‫س ــوء الفه ــم الت ــي أدى إليه ــا‪ ،‬باعتمادن ــا‬ ‫معي ــار االنتم ــاء إل ــى ثقاف ــة «إفريقي ــة» أو‬ ‫إلــى مجتمــع «إفريقــي»؟ الفنــان الــذي تلقّى‬ ‫تربيتـــه الفنيـــة والمدنيـــة خـــارج قـــارة‬ ‫أج ــداده‪ ،‬إل ــى جان ــب رفاق ــه األجان ــب م ــن‬ ‫بروت ــون ودنماركيي ــن وبرازيليي ــن‪ ،‬ه ــل‬ ‫ال زال يبــدع فنـ ًا «إفريقيـاً»‪ ،‬أم أنــه ينتــج‬ ‫حتمـــ ًا «فنـــ ًا غربيـــاً»؟ هـــل االنتمـــاء إلـــى‬ ‫ثقافــة أو مجتمــع «إفريقيين» انتماء إرادي‬ ‫ومفتــوح‪ ،‬بــدون قيــد أو تمييــز قائــم علــى‬ ‫األصل والجنســية او العرق‪ ،‬وبوثائق أو‬ ‫ـن إفريقــي»؟‬ ‫بدونهــا‪ ،‬هــل يتيــح إبــداع «فـ ّ‬ ‫ـن اإلفريق ــي‬ ‫مكان‪/‬فض ــاء اإلب ــداع‪ :‬الف ـ ّ‬ ‫هــو ذاك الــذي يصمــم وينجــز فــي إفريقيا‪.‬‬

‫فكــرة واســعة االنتشــار بــكل تأكيــد‪ ،‬لكنها‬ ‫مبســـطة نوعـــ ًا مـــا‪ ،‬إن لـــم نقـــل إنهـــا‬ ‫فك ــرة تبس ــيطية‪ .‬وبالفع ــل‪ ،‬ف ــإذا وج ــد‬ ‫ـن إفريق ــي»‪ ،‬فإن ــه يع ــاش كتجرب ــة‪،‬‬ ‫«ف ـ ّ‬ ‫ويتــم التفكيــر فيــه وإنجــازه فــي إفريقيــا‬ ‫كمــا فــي أي مــكان آخــر‪ .‬مــن منــا مــا زال‬ ‫يعتق ــد ف ــي كفاي ــة معي ــار جغراف ــي‪ ،‬ف ــي‬ ‫ـــل عالـــم معولـــم يختـــرق كل الحـــدود‬ ‫ِظ ّ‬ ‫واآلفـــاق؟ كيـــف ســـننظر إلـــى إبداعـــات‬ ‫فنانـــي الشـــتات الغنيـــة بفعـــل االلتقـــاء‬ ‫والتالق ــح م ــع ثقاف ــات وتج ــارب أخ ــرى‬ ‫ملهمــة؟ أيــن ســنموضع األعمــال المنجــزة‬ ‫ـار إقامتهــم‪،‬‬ ‫مــن طــرف فنانيــن خــارج مقـ ّ‬ ‫ف ــي أثن ــاء زياراته ــم أو إقام ــة معارضه ــم‬ ‫أو مجــرد ســفرهم خارج القــارة اإلفريقية؟‬ ‫كيــف ســنتعامل مــع ســيرورة إبــداع عمــل‬ ‫فن ــي م ــا‪ ،‬ب ــدءًا م ــن مالحظ ــة‪ ،‬إحس ــاس‪،‬‬ ‫نظ ــرة‪ ،‬وص ــو ًال إل ــى تأم ــل ه ــذه الفك ــرة‬ ‫والنظـــرة والرغبـــة فـــي شـــكل مـــادة‬ ‫ُمحـّددة؟ ّأل يبــدأ اإلبــداع فــي أثناء األســفار‬

‫الثقافي ــة والرح ــات الوجداني ــة المتخيل ــة‬ ‫فــي الغالــب؟ هــل هنــاك جغرافيــة للفكــر؟‬ ‫للخي ــال؟ لألح ــام وال ــرؤى؟‬ ‫الموضـــوع أو الرســـالة‪ :‬كيـــف نحـــّدد‬ ‫ـا‪،‬‬ ‫موض ــوع عم ــل فن ــي م ــا‪ ،‬لوح ــة مث ـ ً‬ ‫أو منحوت ــة‪ ،‬أو عم ــل كوريغراف ــي؟ ه ــل‬ ‫ســـنحّدده بالنظـــر إلـــى عنوانـــه؟ كيـــف‬ ‫نحـــّدد موضـــوع اإلبداعـــات التجريديـــة‬ ‫الخالصـــة؟ مـــن يحـــّدد الموضـــوع أو‬ ‫الرس ــالة؟ ه ــل ه ــو المبت ــدئ ف ــي مج ــال‬ ‫الفــن‪ ،‬أم صاحــب العمــل‪ ،‬أم المالحظ‪ ،‬أم‬ ‫الهــاوي‪ ،‬أم الزائــر؟ ولنفترض أن العنوان‬ ‫ـن «إفريقــي» أم‬ ‫تبيــن هــل الفـّ‬ ‫يســعفنا فــي ُّ‬ ‫ال‪ ،‬كي ــف س ــنفهم الموض ــوع» اإلفريق ــي»‬ ‫مقاب ــل الموض ــوع «غي ــر اإلفريق ــي»؟ م ــن‬ ‫البديه ــي أن ــه ال يمكنن ــا أن نقتص ــر عل ــى‬ ‫«إفريقيـــا» كمـــا نشـــأت فـــي المخيـــال‬ ‫المنمــط‪ ،‬األبــوي فــي الغالــب‪ ،‬بــل وحتــى‬ ‫َّ‬ ‫النيوليبرال ــي‪ ،‬الص ــادر ع ــن اس ــتيهامات‬ ‫ح ــول الق ــارة الس ــوداء‪.‬‬ ‫‪109‬‬

‫كريس أوفيلي‬ ‫ـن بناء علــى الثيمات أو‬ ‫إن تصنيــف الفـّ‬ ‫«الموضوعــات» هــو اختــزال مبالغ فيه‪.‬‬ ‫نفـــس األمـــر ُيقـــال عـــن الرســـالة أو‬ ‫الرس ــائل الموجه ــة م ــن ط ــرف عم ــل فن ــي‬ ‫م ــا‪ .‬ماه ــي ه ــذه الرس ــالة؟ ه ــل ه ــي تل ــك‬ ‫الموجهـــة مـــن طـــرف المبـــدع‪ ،‬أم تلـــك‬ ‫التـــي يقرؤهـــا المالحظ‪/‬المتلقـــي؟ هـــل‬ ‫نتحـــدث عـــن رســـالة إيجابيـــة فاعلـــة‪،‬‬ ‫أم ع ــن رس ــالة س ــلبية ومنفعل ــة؟ كي ــف‬ ‫نجعــل الرســائل اإلفريقيــة غيــر خاضعــة‬ ‫لتأثي ــرات أو توجيه ــات «ال ــدول الراعي ــة‬ ‫أو المؤسســـاتية»؟ بالنســـبة للعديـــد‬ ‫مـــن «المعجبين‪/‬الفضولييـــن» (خاصـــة‬ ‫الغربييـــن منهـــم)‪ ،‬يجـــب أن تنحصـــر‬ ‫الرس ــائل النموذجي ــة ف ــي الموضوع ــات‬ ‫النمطيــة التــي تهــم القــارة اإلفريفيــة‪ ،‬مــن‬ ‫قبي ــل‪ :‬محارب ــة في ــروس الس ــيدا‪ ،‬أطف ــال‬ ‫الشــوارع‪ ،‬المجاعــة‪ ،‬الكــوارث الطبيعية‪،‬‬ ‫الح ــروب األهلي ــة‪ ...‬إل ــخ‪ ،‬ف ــي حي ــن إن‬ ‫موضوع ــات الحداث ــة‪ ،‬اإلب ــداع‪ ،‬التجدي ــد‪،‬‬ ‫عبـــر‬ ‫التفـــاؤل‪ ،‬النمـــو والتقـــّدم‪ ،‬ال ُت ّ‬ ‫ع ــن الرس ــائل المنتظ ــرة‪ ،‬ول ــن تك ــون‪،‬‬ ‫بالتعريـــف‪ ،‬رســـائل أو موضوعـــات‬ ‫لـ«الفن اإلفريقي»‬ ‫«إفريقيــة»‪ ،‬بحيــث يمكن‬ ‫ّ‬ ‫مقاربتهـــا‪.‬‬ ‫للفـــن‬ ‫الجمهـــور المســـتهدف‪ :‬هـــل‬ ‫ّ‬ ‫جمهـــور واحـــد‪ ،‬أم أنـــواع ُمتعـــّددة مـــن‬ ‫«الفـــن‬ ‫يتوجـــه‬ ‫ّ‬ ‫الجمهـــور؟ هـــل يجـــب أن ّ‬ ‫اإلفريقـــي» لجمهـــور خـــاص أم لســـائر‬ ‫أن ــواع الجمه ــور؟ إذا نح ــن اعتمدن ــا عل ــى‬ ‫معي ــار الجمه ــور المس ــتهدف‪ ،‬أال نج ــازف‬ ‫‪110‬‬

‫بخندق ــة ه ــذا الجمه ــور وه ــذا الن ــوع م ــن‬ ‫الفـــن‪ ،‬حارميـــن جمهـــورًا «جديـــداً» مـــن‬ ‫فرص ــة االحت ــكاك به ــذا الش ــكل التعبي ــري‬ ‫الفنــي الخــاص؟ رغــم اعتقادنــا وتحديدنــا‬ ‫ـن يخبــئ لنــا‬ ‫لجمهــور مســتهدف‪ ،‬فــإن الفـ ّ‬ ‫مفاجــآت جـّد ســارة؛ يكفــي أن نشــير إلــى‬ ‫ـزوار‬ ‫أن م ــا يف ــوق الثالث ــة ماليي ــن م ــن ال ـ ّ‬ ‫شـــاهدوا معـــرض النحـــات الســـينغالي‬ ‫عثمــان ســو علــى جســر الفنــون بباريــس‬ ‫ف ــي ربي ــع ‪.1999‬‬ ‫المــادة‪ :‬هــل توجــد مــواد أكثــر إفريقيــة‬ ‫مـــن غيرهـــا؟ ســـيجيب «غيـــر اإلفريقـــي»‬ ‫ـن اإلفريقــي»‬ ‫ـردد بالقــول‪ :‬إن «الفـّ‬ ‫بــدون تـ ُّ‬ ‫فـــن قائـــم علـــى اســـتعادة المـــواد‬ ‫هـــو ّ‬ ‫وإعــادة اســتعمالها مــن جديــد‪ ،‬مثــل جمــع‬ ‫األخشــاب مــن الســواحل‪ ،‬أو قطــع معدنية‬ ‫م ــن س ــيارات قديم ــة أو متالش ــية‪ ،‬دون‬ ‫نســيان الطيــن والرمــل والنقــود الصدفية‪،‬‬ ‫بــل وحتــى فضــات الفيلــة‪ ،‬كمــا هــو األمر‬ ‫عنــد الرســام كريــس أوفيلــي‪ .‬هــذا الرأي ال‬ ‫يخلــو مــن اختــزال فــي نظرنــا المتواضــع‪.‬‬ ‫فنحــن‪ -‬عــادة‪ -‬نربــط هــذه المــواد ضمنيـ ًا‬ ‫بتخيالتنــا‪ ،‬وأحالمنــا‪ ،‬واســتيهاماتنا عن‬ ‫إفريقيــا‪ .‬قــد نقبــل‪ ،‬إلــى حــد مــا‪ ،‬بوجــود‬ ‫م ــواد معين ــة ف ــي أغل ــب األعم ــال الفني ــة‬ ‫اإلفريقيـــة‪ ،‬لكـــن أال نجـــد هـــذه المـــواد‬ ‫نفســـها مســـتعملة وبالطريقـــة نفســـها‬ ‫ف ــي أعم ــال تنتم ــي إل ــى أن ــواع وتي ــارات‬ ‫أخ ــرى م ــن الف ــن؟‬ ‫بعض الفنانين «األفارقة»‬ ‫«الفـــن اإلفريقـــي» هـــو‬ ‫إن تحديـــد‬ ‫ّ‬

‫محاولـــة شـــبه مســـتحيلة‪ ،‬تمامـــ ًا كمـــا‬ ‫ه ــو األم ــر بالنس ــبة للبح ــث ع ــن فناني ــن‬ ‫«الفـــن اإلفربقـــي»‪ .‬لنـــدرس‬ ‫ينتجـــون‬ ‫ّ‬ ‫باختصــار‪ -‬هــذه «اإلفريقية» المفترضة‪/‬‬‫المحتمل ــة ل ــدى بع ــض الفناني ــن‪ ،‬أمث ــال‪:‬‬ ‫جـــان‪ -‬ميشـــيل باســـكيات‪ ،‬كريـــس‬ ‫أوفيل ــي‪ ،‬عثم ــان س ــو‪ ،‬وات ــارا وات ــس‪،‬‬ ‫وليـــام ‪ ،‬أو حتـــى بابلـــو بيكاســـو‪.‬‬ ‫جــان‪ -‬ميشــيل باســكيات‪ ،‬مــن مواليــد‬ ‫ســـنة ‪ 1960‬فـــي الواليـــات المتحـــدة‬ ‫األميركي ــة (توف ــي س ــنة ‪ ،)1988‬م ــن أم‬ ‫بويرتوريكاني ــة‪ ،‬وأب هايت ــي‪ ،‬أصب ــح‪،‬‬ ‫خـــال حياتـــه القصيـــرة وفـــي ظـــرف‬ ‫وجيـــز‪ ،‬ذا شـــهرة إعالميـــة واســـعة‪،‬‬ ‫وبـــرز نجمـــ ًا علـــى الســـاحة الفنيـــة‬ ‫الطليعيـــة‪ .‬كان يحـــس أنـــه قريـــب مـــن‬ ‫إفريقيـــا ومـــن الفنانيـــن األفارقـــة‪ ،‬رغـــم‬ ‫انع ــدام أي ــة رابط ــة تربط ــه به ــذه الق ــارة‬ ‫وبـ«الفـــن اإلفريقـــي»‪ .‬ال يمكـــن أن ُي َعـــّد‬ ‫ّ‬ ‫ـن الش ــتات‬ ‫فن ــه‪ -‬مبدئيــاً‪ -‬كج ــزءًا م ــن ف ـ ّ‬ ‫اإلفريقـــي رغـــم أصولـــه الهايتيـــة‪ ،‬أو‬ ‫«الفـــن اإلفريقـــي» عمومـــاً‪.‬‬ ‫كجـــزءًا مـــن‬ ‫ّ‬ ‫َحـّـل أول مــرة بإفريقيــا في أغســطس‪/‬آب‬ ‫نظمــه‬ ‫مــن ســنة ‪ 1986‬فــي إطــار معــرض َّ‬ ‫المركـــز الثقافـــي الفرنســـي بأبيدجـــان‪.‬‬ ‫أدرك باس ــكيات‪ ،‬م ــن خ ــال لقائ ــه األول‬ ‫بالفنانيـــن اإليفوارييـــن‪ ،‬أن فكرتـــه عـــن‬ ‫المش ــهد الفن ــي اإلفريق ــي ُمش ـ ّـوهة بفع ــل‬ ‫مرجعياتــه الغربيــة‪ .‬لقــاؤه‪ ،‬فــي باريــس‬ ‫ســنة ‪ ،1988‬مــع الفنان اإليفــواري واتارا‬ ‫ســمح لــه باكتشــاف الثقافــة اإلفريقيــة عن‬

‫ق ــرب وبدق ــة وتفصي ــل أكب ــر‪ .‬كم ــا برم ــج‬ ‫الصديقـــان رحلـــة إلـــى ســـاحل العـــاج‬ ‫تتخلله ــا حص ــص أو جلس ــات روحي ــة‪/‬‬ ‫دينيـــة كمحاولـــة لعـــاج باســـكيات مـــن‬ ‫حـــاالت اإلدمـــان التـــي كان يعانيهـــا‪ّ ،‬إل‬ ‫أن هـــذه الرحلـــة التـــي كانـــت مبرمجـــة‬ ‫فـــي ‪ 18‬أغســـطس‪/‬آب ‪ 1988‬لـــم تتـــم‪،‬‬ ‫ألن باس ــكيات توف ــي قب ــل الموع ــد بس ــتة‬ ‫أي ــام‪ ،‬أي ف ــي ‪ 12‬أغس ــطس‪/‬آب ‪.1988‬‬ ‫أصـــر علـــى إحيـــاء الزيـــارة‬ ‫واتـــارا‬ ‫ّ‬ ‫المجهضـــة‪ ،‬ولكـــن كتأبيـــن للراحـــل‪.‬‬ ‫«الفـــن‬ ‫هـــل كان باســـكيات أحـــد رمـــوز‬ ‫ّ‬ ‫اإلفريقـــي»؟‬ ‫كريـــس أوفيلـــي‪ :‬فنـــان بريطانـــي‬ ‫م ــن أص ــل نيجي ــري‪ ،‬حق ــق مج ــدًا فنيــ ًا‬ ‫كبي ــرًا س ــنة ‪ 1999‬حي ــن ع ــرض أعمال ــه‬ ‫بالمتحــف الفنــي في بروكليــن بنيويورك‪.‬‬ ‫ولم ــا جم ــع ف ــي إح ــدى لوحات ــه الفني ــة‬ ‫المعنونـــة بـ«القديســـة مريـــم العـــذراء»‬ ‫بيــن شــخصية العــذراء والمــادة (الفنيــة)‬ ‫المختــارة (فضــات الفيلــة)‪ ،‬صــدرت فــي‬ ‫حقـــه فتـــوى سوســـيو‪-‬فنية مـــن طـــرف‬ ‫عــدد كبيــر مــن الــزوار‪ ،‬ومــن غيرهــم‪ .‬قــام‬ ‫أوفيلــي بــأول رحلــة إلــى القــارة اإلفريقية‬ ‫توجــه إلــى‬ ‫فــي إطــار منحــة فنيــة‪ ،‬حيــث ّ‬ ‫زيمبابـــوي‪ ،‬وكان عمـــره آنـــذاك أربعـــ ًا‬ ‫وعش ــرين س ــنة‪ .‬من ــذ ذل ــك اللق ــاء األول‬ ‫بق ــارة أس ــافه تع ـ ّـود أوفيل ــي اس ــتعمال‬ ‫فض ــات الِفَيل ــة ف ــي لوحات ــه‪ ،‬وه ــو م ــا‬ ‫يس ــمح ل ــه‪ ،‬عل ــى َحــّد تعبي ــره‪ ،‬بإقح ــام‬ ‫إفريقيــا فــي أعمالــه الفنيــة‪ .‬أوفيلــي الفائز‬ ‫بجائــزة تورنــر الكبــرى ســنة ‪ ،1998‬هــل‬ ‫ـن اإلفريق ــي»َ؟‬ ‫يمك ــن أن ُي َع ـّد مبدع ـ ًا لـ«الف ـ ّ‬ ‫النح ــات عثم ــان س ــو‪ :‬ت ــم «اكتش ــافه»‬ ‫مــن طــرف أزيــد مــن ثالثــة مالييــن زائــر‪،‬‬ ‫بمناســبة معرضــه الــذي ُأقيــم علــى جســر‬ ‫الفنــون بباريــس‪ ،‬فــي ربيــع ‪ .1999‬منــذ‬ ‫هـــذا المعـــرض الضخـــم الـــذي عرضـــت‬ ‫فيــه خمــس وســبعون منحوتــة عمالقــة‪،‬‬ ‫أصبــح عثمــان ســو معروفـ ًا ومعترفـ ًا بــه‬ ‫فـــي أوربـــا واحـــدًا مـــن أفضـــل الســـفراء‬ ‫الممثليـــن للمشـــهد الفنـــي اإلفريقـــي‪ّ ،‬إل‬ ‫أن العمـــل الـــذي بـــه حظـــي باعتـــراف‬ ‫الجمهـــور العريـــض والشـــهرة الكبيـــرة‬ ‫هــو المعنــون بـ«ليتــل بيــغ هــورن» والــذي‬ ‫يحيــل علــى الحــرب الشرســة بيــن قبيلتــي‬

‫وليام كينتريدج‬ ‫الس ــيوكس والش ــايين‪ ،‬وعل ــى س ــيتينغ‬ ‫بـــول‪ ،‬وكرايـــزي هـــورس‪ .‬أال يتعلّـــق‬ ‫ـن إفريقــي»؟ يمكــن‬ ‫األمــر‪ ،‬رغــم ذلــك‪ ،‬بـ«فـّ‬ ‫أن نحصــل علــى جــواب مــن موقــع الفنــان‬ ‫علــى اإلنترنــت‪ « :‬هــل عثمــان ســو (فنــان)‬ ‫غربـــي؟ بـــكل تأكيـــد‪ ،‬مـــا دام قـــد درس‬ ‫ف ــي المدرس ــة الفرنس ــية ب ــداكار‪ ،‬وع ــاش‬ ‫حوال ــي عش ــرين عامــ ًا ف ــي باري ــس (‪)...‬‬ ‫لك ــن‪ ،‬ه ــل ه ــو إفريق ــي؟ نع ــم‪ ،‬بالفط ــرة‬ ‫والغري ــزة»‪.‬‬ ‫الرســـام واتـــارا‪ :‬إيفـــواري األصـــل‪،‬‬ ‫أميركــي الجنســية‪ ،‬هــو مرجــع فــي العالــم‬ ‫الفن ــي‪ ،‬وأعمال ــه ُتش ـ ّـكل ج ــزءًا أساس ــي ًا‬ ‫مـــن أهـــم المجموعـــات الفنيـــة الكبـــرى‬ ‫ف ــي العال ــم‪ .‬وات ــارا وات ــس‪ ،‬كم ــا ُيس ــمى‬ ‫منـــذ اســـتقراره فـــي الواليـــات المتحـــدة‬ ‫األميركيــة‪ ،‬شــارك فــي تظاهــرة الشــباب‬ ‫المبدعيـــن األميركييـــن بمتحـــف بريثنـــي‬ ‫بنيويــورك ســنة ‪ ،2002‬وهــي التظاهــرة‬ ‫التــي تقــام َمـّـرة كل ســنتين والمخصصــة‪-‬‬ ‫تحديــداً‪ -‬للفنانيــن األميركييــن‪ .‬هــل يكــون‬ ‫لـ«الفن‬ ‫بذلــك قــد أقصــى ذاته بذاتــه كمبــدع‬ ‫ّ‬ ‫اإلفريقــي»؟ عــن هــذه المفارقــة‪ ،‬يقــول هــو‬ ‫نفس ــه‪« :‬إن رؤيت ــي ال تنحص ــر ف ــي بل ــد‬ ‫م ــا أو ف ــي ق ــارة معين ــة؛ إنه ــا تتج ــاوز‬ ‫الجغرافيــا‪ ،‬أو كل مــا يمكــن رؤيتــه علــى‬ ‫الخريطـــة‪ .‬ورغـــم أنـــي أحّددهـــا حتـــى‬ ‫تكـــون مفهومـــة بطريقـــة أفضـــل‪ ،‬فإنهـــا‬ ‫أوســع مــن ذلــك بكثيــر‪ .‬إنهــا رؤيــة تحيــل‬ ‫عل ــى الكوس ــموس‪/‬الكون»‪ .‬ه ــل وات ــارا‪-‬‬ ‫إذاً‪« -‬فنــان إفريقــي»‪ ،‬أم «فنــان أميركــي»‪،‬‬ ‫أم االثن ــان مع ـاً؟‬

‫ولي ــام كينتري ــدج‪ :‬ه ــو أح ــد الفناني ــن‬ ‫الجنوب‪-‬إفريقييـــن األكثـــر شـــهرة فـــي‬ ‫العالـــم‪ ،‬تعـــرض أعمالـــه فـــي أبـــرز‬ ‫التظاهرات الفنية المقامة مرة كل ســنتين‬ ‫مثل‪:‬هافانــا‪ ،‬داكار‪ ،‬كاســيل وأيضـ ًا مومــا‬ ‫بنيويــورك‪ .‬ميــزة كينتريــدج األساســية‪،‬‬ ‫اســتخدامه للفحــم فــي رســوماته‪ ،‬كمــا في‬ ‫المتحرك ــة‪ .‬ورغ ــم‬ ‫إنت ــاج أف ــام للرس ــوم‬ ‫ّ‬ ‫أنـــه جنـــوب‪ -‬إفريقـــي المولـــد‪ ،‬حيـــث‬ ‫ُوِلــد ســنة ‪ 1955‬بمدينــة جوهانســبورغ‪،‬‬ ‫ف ــي كن ــف أس ــرة ميس ــورة أغلبه ــا قض ــاة‬ ‫بيـــض غربيـــو الثقافـــة‪ ،‬فهـــو ال يعتبـــر‬ ‫ـدي وع ــي‬ ‫نفس ــه ممث ــا لبل ــده‪ .‬يق ــول‪« :‬ل ـ ّ‬ ‫لهويتــي‪ :‬فأنــا شــخص‬ ‫بالطابــع المــزدوج ّ‬ ‫ل ــه ج ــذور ف ــي أوروب ــا الش ــرقية‪ ،‬ولك ــن‬ ‫لــه‪ ،‬أيضـاً‪ ،‬قــرن مــن التاريــخ فــي جنــوب‬ ‫إفريقيــا‪ .‬وعلــى غــرار الجيــل الــذي أنتمــي‬ ‫إليــه مــن البيــض‪ ،‬فأنــا لــم أتعّلــم أيــة لغــة‬ ‫إفريقيـــة‪ ،‬علمـــا بأننـــي ال أفهـــم اللغـــات‬ ‫العاميـــة التـــي يتكلمهـــا أربعـــة أخمـــاس‬ ‫الشـــعب»‪ .‬هـــل وليـــام كينتريـــدج فنـــان‬ ‫ـن اإلفريق ــي»؟‬ ‫إفريق ــي‪ ،‬ال يب ــدع «الف ـ ّ‬ ‫كان بابلـــو بيكاســـو‪ ،‬فـــي مختلـــف‬ ‫مراحلــه وأطــواره اإلبداعيــة‪ ،‬يبحــث عــن‬ ‫مص ــادر لإلله ــام؛ وف ــي إحداه ــا س ــيكون‬ ‫لقـــاؤه بالثقافـــة اإلفريقيـــة حاســـم ًا‬ ‫ومصيرياً‪ .‬كان ذلك خالل معرض لألقنعة‬ ‫بمتحــف تروكاديــرو فــي باريــس‪ ،‬والــذي‬ ‫شـــكل «صدمـــة» للفنـــان ومصـــدر تأثيـــر‬ ‫ّ‬ ‫خـــاص علـــى اإلبـــداع الفنـــي المعاصـــر‪.‬‬ ‫إن القــوة والتعبيريــة الخاصــة والتجريــد‬ ‫ف ــي أش ــكال ه ــذه األقنع ــة وغيره ــا م ــن‬ ‫‪111‬‬

‫واتارا واتس‬

‫المعروضـــات ذات الطابـــع الطقوســـي‬ ‫اإلفريقــي‪ ،‬فتحــت له أفق ًا جديدًا لممارســته‬ ‫الفني ــة‪ .‬وق ــد نت ــج ع ــن ه ــذا اللق ــاء رس ــم‬ ‫لوح ــة «آنس ــات أفيني ــون» كواح ــدة م ــن‬ ‫اللوحـــات المؤسســـة لتيـــار التكعيبيـــة‪.‬‬ ‫إن األوجـــه المشـــوهة والممشـــوقة‪،‬‬ ‫واألجســـام ذات الخصائـــص الشـــكلية‬ ‫المتمي ــزة‪ ،‬والغراب ــة واألس ــرار المحيط ــة‬ ‫باألصن ــام والتمائ ــم‪ ،‬كل ه ــذه العناص ــر‬ ‫التـــي اكتشـــفها الفنـــان فـــي مجموعـــات‬ ‫ـن «البدائي‪/‬الفطــري»‪ ،‬كان لهــا تأثيــر‬ ‫الفـ ّ‬ ‫علــى تطـّـوره الفنــي‪ .‬وعليــه‪ ،‬فــإذا نحــن‬ ‫ـن يك ــون «إفريقيــاً» بالنظ ــر‬ ‫رأين ــا أن الف ـ ّ‬ ‫إلــى جــذور ومصــادر إلهامــه‪ ،‬فإننا ســنعّد‬ ‫ـن اإلفريق ــي»‪ .‬كم ــا‬ ‫بيكاس ــو مبدعــ ًا لـ«الف ـ ّ‬ ‫أن تصنيـــف لوحـــة «آنســـات أفينيـــون»‬ ‫«الفـــن اإلفريقـــي» ســـيكون‬ ‫مـــن روائـــع‬ ‫ّ‬ ‫مستســاغ ًا منطقيـاً‪ ،‬رغــم صعوبــة الدفــاع‬ ‫ع ــن ذل ــك م ــن الناحي ــة الفني ــة‪ ،‬م ــا دام‬ ‫مصـــدر إلهـــام هـــذه اللوحـــة «إفريقيـــا»‪.‬‬ ‫إن عالق ــة بيكاس ــو بالثقاف ــة اإلفريقي ــة‪،‬‬ ‫ـزر الق ــارة ق ــط‪ ،‬س ــيتم‬ ‫وه ــو ال ــذي ل ــم ي ـ ْ‬ ‫عرضه ــا والكش ــف عنه ــا خ ــال مع ــرض‬ ‫(بيكاس ــو وإفريقي ــا) س ــنة ‪ 2006‬ف ــي كل‬ ‫من جوهانسبورغ‪ ،‬وكاب (تاون) بجنوب‬ ‫إفريقيــا‪ .‬مــا يفــوق الثمانيــن مــن لوحــات‬ ‫ورس ــومات ومنحوت ــات الفن ــان أثبت ــت‪،‬‬ ‫بوضـــوح‪ ،‬هـــذا التأثيـــر الـــذي مارســـه‬ ‫«الفـــن اإلفريقـــي» علـــى إبداعيتـــه‪ .‬هـــذا‬ ‫ّ‬ ‫المع ــرض َش ـّـك َل ع ــودة فني ــة له ــذا اله ــرم‬ ‫‪112‬‬

‫الفنــي‪ ،‬بعــد ثالثيــن عامـ ًا مــن تكريمــه مــن‬ ‫طــرف الرئيــس‪ -‬الشــاعر ليوبولــد ســيدار‬ ‫ســـنغور‪ ،‬صديـــق الفنـــان‪ ،‬ســـنة ‪1972‬‬ ‫بــداكار‪ .‬هــل يكــون بيكاســو أحــد عباقــرة‬ ‫ـن اإلفريق ــي»؟‬ ‫«الف ـ ّ‬ ‫«الفـــن اإلفريقـــي» غيـــر‬ ‫كان‬ ‫لـــو‬ ‫مـــاذا‬ ‫ّ‬ ‫موجـــود؟‬ ‫لـــكل منـــا معاييـــره الخاصـــة لكـــي‬ ‫يحــّدد‪ ،‬بطريق ــة ذاتي ــة وش ــخصية‪ ،‬م ــا‬ ‫يعتبـــره «فنـــ ًا إفريقيـــاً»‪ .‬ومـــن الســـهل‬ ‫ج ــدًا تمطي ــط ومراجع ــة أو تغيي ــر الئح ــة‬ ‫المعايي ــر‪ ،‬بحي ــث إن مفاهي ــم العفوي ــة‪،‬‬ ‫اإلله ــام‪ ،‬المقارب ــة‪ ،‬األش ــكال أو األل ــوان‬ ‫تعتبــر هــي األخــرى معاييــر للحديــث عــن‬ ‫«الفـــن اإلفريقـــي»‪ .‬ينشـــأ كل عمـــل فنـــي‬ ‫ّ‬ ‫عــن عفويــة وإلهــام مبدعــه‪ ،‬وكذلــك عــن‬ ‫قـــراءة المالحظ‪/‬المتلقـــي‪ .‬إن المعيـــش‬ ‫وتصـــور العالـــم والعالـــم الشـــخصي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫والحالـــة النفســـية أو المـــزاج اللحظـــي‪،‬‬ ‫هــي أيضـ ًا عناصــر تتدخــل أثنــاء القــراءة‬ ‫أو المالحظـــة أو استحســـان عمـــل فنـــي‬ ‫مــا‪ ،‬ســواء كان «إفريقيـاً» أو لوكســمبوري ًا‬ ‫(نس ــبة إل ــى اللوكس ــمبورغ)‪.‬‬ ‫ـن اإلفريق ــي» موج ــود ف ــي كل‬ ‫إن «الف ـ ّ‬ ‫م ــكان‪ ،‬وانتم ــاؤه أكث ــر عمقــ ًا وإحساســ ًا‬ ‫وعاطف ــة م ــن مج ــرد االنتم ــاء الجغراف ــي‬ ‫«الفـــن اإلفريقـــي»‬ ‫أو القومـــي‪ .‬يوجـــد‬ ‫ّ‬ ‫كإرادة منفتحـــة للفنـــان ولجمهـــوره‪،‬‬ ‫وكفئ ــة منفتح ــة ومرن ــة‪ ،‬وأيض ـ ًا كطبق ــة‬ ‫وجــزء ال يتجــزأ مــن عائلــة الفــن؛ ورغــم‬

‫أن انتمــاءه فــردي‪ ،‬إال أنــه يســتجيب فــي‬ ‫الوق ــت نفس ــه لق ــرار وإرادة مبدع ــه‪ ،‬كم ــا‬ ‫ـا فني ـ ًا مــا‪،‬‬ ‫للمحبيــن والمعجبيــن‪ .‬إن عمـ ً‬ ‫يمكــن إن ينتمــي إلــى أســر فنيــة ُمتعـّددة‪،‬‬ ‫ـن‬ ‫ـن التجري ــدي‪ ،‬الف ـ ّ‬ ‫ـن الفط ــري‪ ،‬الف ـ ّ‬ ‫كالف ـ ّ‬ ‫ـن اإلفريق ــي»‪ .‬وتظاه ــرة‬ ‫المعاص ــر و«الف ـ ّ‬ ‫داكار أكـــدت الوجـــود الحـــي والواقعـــي‬ ‫ـن اإلفريق ــي» كفئ ــة منفتح ــة‪.‬‬ ‫لـ«الف ـ ّ‬ ‫ـن اإلفريق ــي» غي ــر موج ــود‬ ‫ـ‬ ‫«الف‬ ‫ـن‬ ‫لك ـ‬ ‫ّ‬ ‫كن ــوع خ ــاص‪ ،‬فهن ــاك م ــن يصنف ــه ف ــي‬ ‫أس ــفل درج ــات الف ــن‪ ،‬وال ي ــرى في ــه ّإل‬ ‫غرابتـــه‪ ،‬معتبـــرًا إيـــاه موضـــوع مـــرح‬ ‫واســتمتاع أو اندهــاش ال غيــر‪ ،‬كمــا هــي‬ ‫النظـــرة «األبويـــة» والنيوليبراليـــة‪ّ .‬إل‬ ‫ـن س ــرعان م ــا يفاج ــئ دع ــاة‬ ‫أن ه ــذا الف ـ ّ‬ ‫ـن وأحب ــاره الذي ــن ي ــرون أن‬ ‫ورع ــاة الف ـ ّ‬ ‫ـن «غيــر اإلفريقــي»‪.‬‬ ‫ـن الحقيقــي هــو الفـّ‬ ‫الفـّ‬ ‫الفـــن‬ ‫فـــي هـــذا الســـياق حـــّدد أســـتاذ‬ ‫ّ‬ ‫ـن اإلفريقــي» أولــو‬ ‫والمتخصــص فــي «الفـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫أوغيل ــب بع ــض التش ــابهات ف ــي العالق ــة‬ ‫ـن اإلفريقــي» و«الفــن» مــن جهــة‪،‬‬ ‫بيــن «الفـّ‬ ‫وبي ــن الس ــينما البورنوغرافي ــة والس ــينما‬ ‫ـن‬ ‫م ــن جه ــة أخ ــرى(‪ .)2‬ينظ ــر إل ــى «الف ـ ّ‬ ‫اإلفريق ــي» والبورنوغرافي ــا‪ ،‬م ــن ط ــرف‬ ‫الغربييـــن خاصـــة‪ ،‬كمواضيـــع للمـــرح‬ ‫واالســتمتاع والترفيــه‪ ،‬أو للتزييــن الــذي‬ ‫ال يخلـــو مـــن إعجـــاب إثنـــي‪ ،‬لكـــن دون‬ ‫أن ينظـــر إليـــه علـــى أنـــه فـــي مســـتوى‬ ‫ـن األوروبــي» نفســه‪ .‬إن الــرأي العــام‬ ‫«الفـّ‬ ‫والغالبيـــة العظمـــى مـــن المتخصصيـــن‬ ‫ينظـــرون إلـــى الفنـــان اإلفريقـــي نفـــس‬ ‫النظـــرة التـــي ينظـــر بهـــا إلـــى الممثـــل‬ ‫البورنوغرافـــي مقارنـــة مـــع غيـــره مـــن‬ ‫ـن اإلفريق ــي» موج ــود‪،‬‬ ‫الممثلي ــن‪ .‬إن «الف ـ ّ‬ ‫لكــن ليــس بوصفــه غيتوهـ ًا فنيـاً‪ .‬وزمــن‬ ‫ول ــي إل ــى‬ ‫األبارتاي ــد الثقاف ــي يج ــب أن ُي ِّ‬ ‫غي ــر رجع ــة‪ ،‬س ــواء ف ــي الوع ــي أم ف ــي‬ ‫الممارســـة‪.‬‬ ‫‪1- Sylvain Sankalé , « Regard sur l’art‬‬ ‫‪contemporain au Sénégal »,in Sénégal‬‬ ‫‪Contemporain ,Musée Dropper, Avril‬‬ ‫‪2006, Paris.‬‬ ‫‪2- Olu Oguible. « Art ,Identity,‬‬ ‫‪Boundories :Postmodernism and Con‬‬‫‪temporary African Art» in Reading the‬‬ ‫‪contemporary, Art from Theory to the‬‬ ‫‪Market place.‬‬

‫الفن اإلفريقي‬ ‫ّ‬

‫بنيونس عمريوش‬

‫الفن اإلفريقي من أهم أنماط التعبير اإلنساني وأعرقها (غرب ووسط‬ ‫ُيعّد ّ‬ ‫إفريقيا من المحيط األطلســي إلى منطقة البحيرات‪ ،‬ومن جنوب الصحراء‬ ‫إلى روديســيا وأنغوال)‪ ،‬لكونــه ال يمس «الجمال»‪ ،‬في َحــّد ذاته‪ ،‬بمعزل‬ ‫الهويات ذات الصلة‬ ‫عــن المعتقد‪ ،‬بل ّ‬ ‫يظل ّ‬ ‫الفن اإلفريقي انعكاســ ًا لصور ّ‬ ‫بقــوى الطبيعة ومواجهة قوى الشــر‪ ،‬وكذا بممارســات العيــش المتمثلة‬ ‫ِ‬ ‫ــرف والصيــد والقنص وغيرها من األنشــطة اإلنســانية المرتبطة‬ ‫فــي الح َ‬ ‫بجوهر الطبيعة‪ .‬ولذلك‪ ،‬تتضاعف قيمته ضمن أصناف الفنون «التراثية»‬ ‫ّية التي تتداخــل فيها األبعاد‬ ‫المتماهيــة‪ ،‬بشــكل جذري‪ ،‬مع الثقافــة المحلّ‬ ‫الدينيــة والسياســية واالقتصادية والمجتمعية عمومــ ًا في (أنغوال‪ ،‬غرب‬ ‫الســودان‪ ،‬غينيا‪ ،‬نيجيريا‪ ،‬البينين‪ ،‬الســينغال‪ ،‬الكاميــرون‪ ،‬الغابون‪،‬‬ ‫للفن اإلفريقي «التراثي»‪ ،‬من‬ ‫الكونغو كينشاســا‪ .)...‬مما يجعل أية قراءة ّ‬ ‫حيــث الشــكل والمضمون‪ ،‬موازيــ ًا لمقاربة ميثولوجية تســتحضر مدارك‬ ‫والهويات إضافة إلى مبادئ علوم اآلثار‪.‬‬ ‫المعتقدات والشعائر‬ ‫ّ‬ ‫‪113‬‬

‫الفـــن اإلفريقـــي فـــي‬ ‫ـــزل قـــوة‬ ‫ّ‬ ‫ُت َ‬ ‫خت َ‬ ‫النحــت باألســاس‪ ،‬وضمنــه األقنعة التي‬ ‫تنح ــدر إل ــى حوال ــي خمس ــة ق ــرون قب ــل‬ ‫التاريــخ‪ ،‬بوصفهــا وســائل تجمــع بيــن‬ ‫الوظيفــة الرمزية والســحرية الرامية إلى‬ ‫حماي ــة القبيل ــة‪ ،‬والوظيف ــة التعبيري ــة‬ ‫المتوغلـــة فـــي الطقـــوس والتقاليـــد‬ ‫ـــد ضـــرورة بشـــرية‬ ‫الشـــعبية التـــي ُت َع ُّ‬ ‫تتأرجــح بيــن عالمي األحيــاء واألموات‪،‬‬ ‫ـور وتتفاعل بحســب الســياق‬ ‫تنمــو وتتطـّ‬ ‫والوضـــع والحاجـــة‪ .‬مـــن ثمـــة‪ ،‬وجـــد‬ ‫«ع ْظمـــي» يحاكـــي‬ ‫القنـــاع‪ ،‬كغـــاف َ‬ ‫الوج ــه (إنس ــان أو حي ــوان) ف ــي ش ــكله‬ ‫البنيــوي والعــام‪ ،‬ممــا يتيــح إفراغــه مــن‬ ‫كالعْيَنْين واألســنان‪،‬‬ ‫الجزئيــات «الحية» َ‬ ‫ويضفــي عليــه طابعـ ًا رمزيـ ًا ينــزاح عــن‬ ‫النقــل التشــخيصي الصــرف‪ ،‬بينمــا يتخذ‬ ‫القنــاع كيانــه مــن مــواد الطبيعــة‪ :‬جلــود‬ ‫الحيوانـــات‪ ،‬أوراق الشـــجر‪ ،‬الـــورق‪،‬‬ ‫الخشـــب‪ ،‬الحجـــر‪ ،‬العـــاج‪ ،‬البرونـــز‬ ‫والخامــات اللونيــة المحليــة‪ .‬كأن القنــاع‬ ‫اإلفريقـــي ينتصـــر لـ«الجمـــال» الكلـــي‬ ‫فـــي مقابـــل «الجمـــال الجزئـــي»‪ ،‬لذلـــك‬ ‫ترتســم «الوجــوه» فــي الثقافــة البصريــة‬ ‫ـوع عبرهــا‬ ‫اإلفريقيــة عبــر تجســيدية تتنـّ‬ ‫األنم ــاط واألس ــاليب بحس ــب التجمع ــات‬ ‫تتأســـَلب إلـــى حـــد‬ ‫واإلثنيـــات‪ ،‬فيمـــا ْ‬ ‫التجريدي ــة الهندس ــية كم ــا ل ــدى قبائ ــل‬ ‫«بامبــارا» و«بوبــو» فــي الغــرب اإلفريقي‬ ‫باعتمــاد تماثــل أشــكال هندســية بســيطة‬ ‫كالمربــع والمثلــث‪ .‬وكل مــادة تثبــت على‬ ‫القنــاع‪ -‬يوضــح غــازي انعيــم (‪-)2007‬‬ ‫له ــا دالالته ــا الرمزي ــة س ــواء م ــن حي ــث‬ ‫قيمته ــا المعنوي ــة ف ــي الق ــدرة اإليحائي ــة‬ ‫أم مــن حيــث موقعهــا‪ ،‬مضيفـ ًا أن مرتــدي‬ ‫القنـــاع «يشـــعر بـــأن إنســـانيته ليســـت‬ ‫بأكثـــر مـــن مظهـــر مـــن مظاهـــر الـــروح‬ ‫الكونيـــة التـــي تتغلغـــل عميقـــ ًا فـــي كل‬ ‫الكائنــات الحيــة وفــي كل األشــياء التــي‬ ‫تفرزهـــا الطبيعـــة (‪ )...‬وباســـتحضار‬ ‫الحيوانـــات وظواهـــر الطبيعـــة عبـــر‬ ‫القنــاع الــذي يرتديــه يؤكــد حضــوره فــي‬ ‫العالــم الشــامل‪ ،‬ال كمركــز لــه بــل كجــزء‬ ‫ال يمك ــن أن يك ــون العال ــم م ــن دون ــه»‪.‬‬ ‫ـول النِّس ــب ‪Proportions‬‬ ‫يبق ــى تح ـ ُّ‬ ‫مقارنــة بالجماليــة اإلغريقيــة‪ ،‬مــن بيــن‬ ‫‪114‬‬

‫كازادي سيكاسو‬

‫أهـــم مميـــزات النحـــت اإلفريقـــي الـــذي‬ ‫ـــب ُه الخاصـــة بالتركيـــز علـــى‬ ‫أقـــام ِن َس َ‬ ‫الرئيســـة والكامنـــة‬ ‫تمفصـــات الجســـد‬ ‫َ‬ ‫ف ــي ال ــرأس والج ــذع والرجلي ــن بمعي ــار‬ ‫التســـاوي عمومـــاً‪ .‬علمـــ ًا بـــأن القطعـــة‬ ‫ـص حاك ــم القبيل ــة‪،‬‬ ‫النحتي ــة‪ ،‬وبترخي ـ ِ‬ ‫ُتصـــاغ مـــن لـــدن الفنـــان الـــذي يحظـــى‬ ‫ـول‬ ‫بمرتب ــة اجتماعي ــة راقي ــة‪ ،‬مم ــا يخ ـ ّ‬ ‫لـــه تحويـــر النمـــوذج التقليـــدي طبقـــ ًا‬ ‫لتالقـــح الثقافـــات المجـــاورة‪ ،‬دون‬ ‫المســـاس بجوهـــره التقليـــدي الـــذي‬ ‫يس ــتجيب لمقوم ــات الع ــرض وطبيعت ــه‬ ‫الشــعائرية علــى وجــه الخصــوص‪ ،‬فيما‬ ‫تتضاع ــف قيم ــة التمث ــال ف ــي الملحق ــات‬ ‫الماديـــة كالشـــعر والعظـــام والريـــش‬ ‫والـــدم‪ ،‬إضافـــة إلـــى أشـــياء دخيلـــة‬ ‫لو ْخز األرواح‬ ‫ـتعمل َ‬ ‫كالدبابيــس التــي ُتسـ َ‬ ‫الســـاكنة‪ ،‬بينمـــا ترتبـــط قيمـــة الصنـــم‬ ‫باألبعــاد العقائديــة واألســطورية‪ ،‬بقــدر‬ ‫صنعــت منهــا‪،‬‬ ‫مــا ترتبــط بالمــادة التــي ُ‬ ‫كالحديـــد والبرونـــز والطيـــن والعـــاج‬ ‫والصخــر‪ ،‬وضمنهــا يحتــل الخشــب مركز‬ ‫الصدارة لكونه مشــتق ًا من روح الشــجرة‬ ‫وســلطان دائريتهــا (جــذوع أســطوانية)‪.‬‬ ‫ـن‬ ‫مــن ثمــة‪ ،‬يمكــن أن نخلــص إلــى أن الفـّ‬ ‫اإلفريق ــي يت ــوق إل ــى التماه ــي المطل ــق‬

‫مـــع األرواح ومـــع الطبيعـــة وقواهـــا‬ ‫الخارقـــة لتحقيـــق التـــوازن النفســـي‪،‬‬ ‫و«تحقـــق هـــذا االنســـجام عـــن طريـــق‬ ‫ـن فيهــا‬ ‫الشــعائر المناســبة التــي كان للفـ ّ‬ ‫مهم ــة فعال ــة‪ ،‬لي ــس م ــن خ ــال إضف ــاء‬ ‫صفــة الواقــع علــى الــروح‪ ،‬بــل من خالل‬ ‫إعــادة انســجامها مــن أجــل اإلســهام فــي‬ ‫فعاليتهـــا وقوتهـــا‪ .‬وبالنســـبة للعمـــل‬ ‫الفنـــي‪ ،‬فـــإن االنســـجام هـــو اإلعـــادة‬ ‫المتســاوية لألجــزاء»‪ ،‬كمــا يقول حســين‬ ‫ـن اإلفريقي‬ ‫هــداوي (‪ )1982‬الــذي يعـّد الفـّ‬ ‫ـن‬ ‫تجس ــيدًا ل ــروح الطبيع ــة بخ ــاف الف ـ ّ‬ ‫اإلغريق ــي بوصف ــه مح ــاكاة للطبيع ــة‪.‬‬ ‫ـن اإلفريقــي مــن تاريــخ‬ ‫مــا موقــع الفـ ّ‬ ‫الفـــن‪ ،‬ال ســـيما أن مهندســـي اإلبداعيـــة‬ ‫ّ‬ ‫الغربيــة‪ ،‬ظلــوا يصنفونــه ضمــن خانــة‬ ‫التحـــف اإلثنوغرافيـــة؟ باتـــت نظرتهـــم‬ ‫كذلـــك‪ ،‬رغـــم حـــدوث تبـــادالت بيـــن‬ ‫األفارقـــة واألوروبييـــن‪ ،‬إلـــى حـــدود‬ ‫القــرن التاســع عشــر‪ ،‬حيــث نتجــت عــن‬ ‫الحركيــة االســتعمارية‪ ،‬عملية اســتحواذ‬ ‫ألجـــود القطـــع الفنيـــة اإلفريقيـــة التـــي‬ ‫جلبـــت أنظـــار المهتميـــن والسماســـرة‬ ‫والمتحفيي ــن‪ ،‬مم ــا دف ــع فنان ــي الق ــارة‬ ‫الشــقراء إلــى االعتــراف بقيمهــا الجماليــة‬ ‫أخيـــراً‪ ،‬بعـــد أن اســـتنفدت أســـاليبهم‬

‫جيرار كينوم‬

‫المتأنق ــة والحديث ــة‪ .‬وس ــرعان م ــا َت ـ ّـم‬ ‫االســـتناد إلـــى تبســـيطية واختزاليـــة‬ ‫ـن اإلفريقــي لتوليــف أســس التكعيبية‬ ‫الفـّ‬ ‫‪ Cubisme‬مـــن لـــدن بـــراك وبيكاســـو‬ ‫وآخريـــن‪ ،‬إذ أدركـــوا البعـــد التعبيـــري‬ ‫فـــي عمليـــة هـــدم وتكســـير «النمـــوذج»‬ ‫‪ ،Model‬وإع ــادة بنائ ــه باعتم ــاد مب ــدأ‬ ‫التنضيـــد ‪ Superposition‬واألشـــكال‬ ‫الهندس ــية البس ــيطة‪ ،‬متجاوزي ــن بذل ــك‬ ‫قواعـــد المنظـــور ‪ Perspective‬مـــن‬ ‫خــال مســتويات األشــكال التــي صــارت‬ ‫تمثــل لديهــم جوهــر الجماليــة فــي اتجــاه‬ ‫التجري ــد ‪ ،Abstraction‬عل ــى نقي ــض‬ ‫االنطباعي ــة الت ــي اهتم ــت بالل ــون‪ .‬وإذا‬ ‫كان ــت ه ــذه األخي ــرة ق ــد مج ــدت أل ــوان‬

‫زخرفة إفريقية‬

‫الطْيــف الصافيــة (األساســية والثانويــة)‬ ‫َّ‬ ‫فـــي ارتباطهـــا بالنـــور الشمســـي‪ ،‬فـــإن‬ ‫للونيـــن‬ ‫التكعيبيـــة ردت االعتبـــار‬ ‫ْ‬ ‫المحاِيَدْيـــن‪ ،‬األبيـــض واألســـود الـــذي‬ ‫يرس ــم إحاط ــة الش ــكل ‪ ،Forme‬وك ــذا‬ ‫األلـــوان الرماديـــة ‪Les gris colorés‬‬ ‫(البن ــي واألوك ــر)‪ ،‬م ــا يش ــي باس ــتثمار‬ ‫ُ‬ ‫فـــن القـــارة الســـمراء المقرونـــة‬ ‫ألـــوان ّ‬ ‫بتربـــة الطبيعـــة وأرواحهـــا‪ ،‬فيمـــا‬ ‫تـــم تســـجيل نـــزوع التكعيبيـــة نحـــو‬ ‫الطوطميـــات فـــي تعبيراتهـــا النحتيـــة‪.‬‬ ‫عـــل هـــذا «التنـــاص» الجلـــي بيـــن‬ ‫وَل ّ‬ ‫ـن «التراث ــي»‪ ،‬ه ــو‬ ‫ـن «العاِل ــم» والف ـ ّ‬ ‫الف ـ ّ‬ ‫مـــا ســـيقلب موازيـــن الفنـــون الحديثـــة‬ ‫والمعاصـــرة‪ ،‬ويدفـــع الدارســـين إلـــى‬

‫إعـــادة النظـــر فـــي مفاهيـــم مـــن قبيـــل‬ ‫ـن «البدائــي»‪« ،‬الســاذج»‪« ،‬الفطري»‪،‬‬ ‫الفـّ‬ ‫«الخـــام»‪« ،‬الفولكلـــوري»‪ ،...‬واألخـــذ‬ ‫بتفعيــل األحــكام المعياريــة بالنظــر إلــى‬ ‫عمـــا ‪Oeuvre‬‬ ‫القطعـــة الفنيـــة كونهـــا‬ ‫ً‬ ‫ال ف ــي َحــّد ذات ــه‪.‬‬ ‫مس ــتق ً‬ ‫بعــد اســتقالل الــدول اإلفريقية‪ ،‬عملت‬ ‫نخبهـــا علـــى تجميـــع قواهـــا الفكريـــة‬ ‫واإلبداعيـــة لتثبيـــت الهويـــة اإلفريقيـــة‬ ‫المعيـــش‪ ،‬فتـــم‬ ‫وتراثهـــا النابـــع مـــن َ‬ ‫االعت ــزاز الواع ــي بـ«الزنوج ــة» كمفه ــوم‬ ‫تأصيلــي يؤكــد علــى أن المبــدع والفنــان‬ ‫اإلفريقــي ليــس فنانـ ًا فطريـ ًا بقــدر مــا هو‬ ‫فنــان بالفطــرة‪ .‬فــي هــذا المنحى ســيعمل‬ ‫الش ــاعر ليوبول ــد س ــيدار س ــنغور عل ــى‬ ‫دعــم «مدرســة الســينغال» لتنميــة اإلبداع‬ ‫التشــكيلي‪ .‬وتماشــي ًا مــع هــذه األخيــرة‪،‬‬ ‫ســتلعب «مدرســة داكار» دورًا مهم ـ ًا فــي‬ ‫تطويـــر وانفتـــاح اإلبداعيـــة اإلفريقيـــة‬ ‫واالحتف ــاء بالذاك ــرة الجماعي ــة‪ ،‬إل ــى أن‬ ‫ـن‬ ‫أمســت داكار مــن بيــن أهــم عواصــم الفـّ‬ ‫ـن اإلفريقــي مــن‬ ‫المعاصــر الــذي بــات الفـ ّ‬ ‫بيــن مراجعــه األساســية‪ ،‬بــل مــن أوثــق‬ ‫اآلفــاق التــي مــا زال يتيحهــا الستكشــاف‬ ‫األســاليب واألنمــاط التعبيريــة الجديــدة‪.‬‬ ‫الفـــن المعاصـــر اليـــوم يعـــّد‬ ‫وإذا كان‬ ‫ّ‬ ‫اللوحــة مــن األســناد التقليدية‪ ،‬وأضحى‬ ‫يعتمـــد أشـــكا ًال مبتكـــرة فـــي العـــرض‪،‬‬ ‫كاألداءات المشـــهدية أو المنجـــزات‬ ‫‪ ،Performances‬فـــإن التشـــكيل‬ ‫اإلفريقـــي‪ ،‬لطالمـــا التحـــم باإليقاعـــات‬ ‫والموس ــيقى والرق ــص ضم ــن مش ـ َـهدية‬ ‫متناس ــقة ُت َش ـ ِّـكل العم ــل الفن ــي كوح ــدة‬ ‫‪115‬‬

‫تمثال بامبارا‬

‫بصري ــة متكامل ــة‪.‬‬ ‫عل ــى م ــدار الق ــرن العش ــرين‪ ،‬تمك ــن‬ ‫ـن اإلفريق ــي م ــن التوغ ــل عميقــ ًا ف ــي‬ ‫الف ـ ّ‬ ‫الحداثـــة العالميـــة‪ ،‬كونـــه مـــن أقـــوى‬ ‫الجماليــات البصريــة المحكومــة بالذائقــة‬ ‫اإلنســـانية المنـــذورة لقوانيـــن الشـــكل‬ ‫واللــون والحجــم ولالنزياحــات النفســية‬ ‫والش ــعورية واألس ــئلة الوجودي ــة‪ .‬ف ــي‬ ‫زمننـــا المعاصـــر‪ ،‬وكمـــا هـــو الشـــأن‬ ‫اإلفريقيي ــن‪،‬‬ ‫بالنس ــبة ل ــأدب والس ــينما‬ ‫ْ‬ ‫والموســيقى التــي ارتقــت معهــا إيقاعــات‬ ‫القـــارة الســـمراء (الـــروك‪ ،‬الجـــاز‪،‬‬ ‫البلـــوز‪ ،)...‬بـــرزت طاقـــات تشـــكيلية‬ ‫إفريقيــة مواكبــة للحساســية المعاصــرة‬ ‫بمعارفهــا وأدبياتهــا‪ ،‬دون االنســاخ مــن‬ ‫جلدهـــا (كينفـــاك‪ ،‬تشيبيتشـــو‪ ،‬جويـــل‬ ‫لينــدو‪ ،‬إيرفــي يامغيم‪،‬‬ ‫ْمبــادو‪ ،‬ســاليفو ْ‬ ‫كازادي سيكاســـو‪.)...‬‬ ‫باي َس ــمبي دول ــو (مال ــي)‬ ‫أمهيك ــر ْ‬ ‫م ــع َ‬ ‫يقــوم النحــت (خشــب بأحجــام عضويــة‬ ‫طبيعيـــة) علـــى استكشـــاف الـــذات‬ ‫والطبيع ــة والعائل ــة والثقاف ــة المحلي ــة‪.‬‬ ‫مــع هنــري ْكويــدي (الكاميــرون) يتحقــق‬ ‫الحلــم باألشــياء الملونــة‪ ،‬عبــر كوالجات‬ ‫ومْد َم َجـــة داخـــل‬ ‫وتصاويـــر ُم َح َّ‬ ‫ـــورة ُ‬ ‫رســوم وألــوان طفوليــة مفعمــة بالتعبير‬ ‫ـول غرفتــه إلــى علبــة مشــاعر‪.‬‬ ‫الــذي ُيحـ ِّ‬ ‫تاتســـينكو علـــى‬ ‫فيمـــا يعمـــل غابرييـــل ْ‬ ‫تجمي ــع أش ــكاله المنحوت ــة ف ــي الفض ــاء‬ ‫العموم ــي إلش ــراك الجمه ــور ف ــي الفع ــل‬ ‫‪116‬‬

‫نحت من الفن اإلفريقي‬

‫اإلبداعــي‪ .‬ومــن خالل تركيباتــه‪ ،‬يمنحنا‬ ‫كافيــن يونــغ (إفريقيا الجنوبية) ‪Gavin‬‬ ‫‪ Young‬نظ ــرة طريف ــة لحال ــة األمكن ــة‬ ‫والوضعيــة النفســية لبلــده الــذي يعيــش‬ ‫تحوالتـــه‪ .‬أمـــا تشـــيف بنيـــن‬ ‫أقصـــى ّ‬ ‫(البنيـــن‪ -‬كوتونـــو) الوفـــي لـ«مدرســـة‬ ‫فيشـــكل قماشـــاته مـــن التـــراب‬ ‫داكار»‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫وقصاصـــات الجرائـــد ومـــن العالمـــات‬ ‫والرمــوز التقليديــة اإلفريقيــة‪ ،‬لـ«تأليــف‬ ‫س ــرد يعك ــس حكاي ــة»‪ ،‬وق ــد س ــبق أن‬ ‫عــرض «حكايــة» بعنوانــة «نقــد ذاتــي»‪.‬‬ ‫وحـــول «المعانـــاة»‪ ،‬يشـــتغل جيـــرار‬ ‫كينـــوم (البنيـــن) انطالقـــ ًا مـــن أشـــياء‬ ‫الدمـــى المهملـــة‬ ‫مســـترجعة وخاصـــة ُّ‬ ‫التـــي ُي َغذّيهـــا بحيـــاة ثانويـــة‪ .‬بينمـــا‬ ‫تقت ــرب أجس ــاد ْن ــداري ل ــو (الس ــينغال)‬ ‫‪ Ndary Lo‬النحيفـــة مـــن السويســـري‬

‫ألبرتــو جياكوميتــي‪ ،‬غيــر أن منحوتاتــه‬ ‫الســـلِ‬ ‫ْكية‪ /‬الحديديـــة تعكـــس َخ ِّطيـــة‬ ‫َّ‬ ‫الجس ــم اإلفريق ــي بوض ــوح م ــن خ ــال‬ ‫حركــة العنــق وانحنــاء الــرأس‪ ،‬انطالقـ ًا‬ ‫مــن ســؤال األصــل‪ ،‬كأنــه يقيــم مغايــرة‬ ‫تعبيريــة بيــن اإلنســان اإلفريقي ونظيره‬ ‫الغربــي ضمــن المفارقــات الشــكلية التــي‬ ‫تحــّدد‪ ،‬بدوره ــا تباين ــات العال ــم‪.‬‬ ‫هـــي‪ ،‬إذاً‪ ،‬أمثلـــة مـــن األســـئلة‬ ‫والمنجـــزات البصريـــة اإلفريقيـــة‬ ‫المعاص ــرة‪ ،‬الت ــي تؤك ــد‪ -‬بج ــاء‪ -‬م ــدى‬ ‫وعــي فنــان القــارة الســمراء بقيمــة تراثــه‬ ‫وحضارتــه التــي تمنحــه إشــباع ًا ذاتيـاً‪،‬‬ ‫ُيَم ِّكُن ــه م ــن االنفت ــاح عل ــى اآلخ ــر‪ ،‬وم ــن‬ ‫ثمــة‪ ،‬االنخــراط الســلس في صنع ســحر‬ ‫ـن الكون ــي ال ــذي ذاب ــت في ــه معال ــم‬ ‫الف ـ ّ‬ ‫الحـــدود الجغرافيـــة‪.‬‬

‫رهان املثاقفة‬ ‫د‪ .‬محمد بن حمودة*‬ ‫بعــد اســتقالل إفريقيــا في الســتينيات‬ ‫ظهـــر عـــدد مـــن األدبـــاء والشـــعراء‬ ‫والروائييـــن والسياســـيين والمفكريـــن‬ ‫الذيـــن يســـتخدمون لغاتهـــم الوطنيـــة‬ ‫ف ــي التعبي ــر ع ــن موضوع ــات إفريقي ــة‬ ‫خالصـــة يســـتوحونها مـــن الحيـــاة‬ ‫اإلفريقي ــة ذاته ــا وم ــن الت ــراث اإلفريق ــي‬ ‫األصيــل‪ .‬هكــذا ارتبــط رفــض االســتعمار‬ ‫برفـــض ومقاومـــة االنســـاخ الثقافـــي‬ ‫ـور الحض ــاري‪ .‬وق ــد اش ــتهر‬ ‫بتعّل ــة التط ـ ّ‬ ‫أمـــر هـــذا الحـــراك عندمـــا انتقلـــت إلـــى‬ ‫إفريقيــا كلمــة «الزنوجيــة» التــي صاغهــا‬ ‫الشــاعر المارتنيكي إيميه سيزير ‪Aimé‬‬ ‫‪ Césaire‬ووجـــدت اســـتجابة ســـريعة‬ ‫لــدى عــدد مــن الشــعراء واألدبــاء األفارقة‬ ‫قيــض لبعضهــم أن يتولّى مناصب‬ ‫الذيــن ّ‬ ‫سياســـية مرموقـــة‪ ،‬أو أن يصبـــح مـــن‬ ‫الزعم ــاء السياس ــيين المش ــهورين‪ ،‬مث ــل‬ ‫الش ــاعر ليوبول ــد س ــنغور ال ــذي أصب ــح‬ ‫رئيسـ ًا لجمهورية الســينغال‪ ،‬والذي وفّر‬ ‫الدعـــم الضـــروري لمؤسســـي «مدرســـة‬ ‫الســينغال» لكــي تنهــض‪ ،‬بدورهــا‪ ،‬فــي‬ ‫ويعــّد الرس ــام‬ ‫تطوي ــر اإلب ــداع الفن ــي‪ُ .‬‬ ‫(إيبانديــاي) خيــر مــن توافــر علــى نبــرة‬ ‫ردد «أن ــا إفريق ــي‬ ‫(س ــنغورية) ولطالم ــا ّ‬ ‫ورس ــام ولس ــت رس ــام ًا وإفريقيــاً‪ ،‬ألن‬ ‫الرســم اإلفريقــي يعنــي الرســم الســاذج‬ ‫والفولكلور‪ .‬وهذه المدرسة الفولكلورية‬ ‫كان وراء ظهورها األوروبيون‪ .‬فالزنجي‬ ‫ف ــي رأي ه ــؤالء فن ــان بالفط ــرة ولي ــس‬ ‫م ــن ش ــأنهم أن يحــّددوا م ــدى مس ــاهمة‬ ‫الزنجــي فــي الفــن»‪ .‬بل ال يمكــن أن يكون‬ ‫ـن هــو‬ ‫أن الفـّ‬ ‫وراءهــا ّإل األوروبيــون بمــا ّ‬ ‫وجهــة نظــر غربية قوامهــا تحويل المواد‬ ‫الثقافي ــة إل ــى منت ــوج إبداع ــي يخض ــع‬ ‫لمقيـــاس القطعـــة المفـــردة ‪La pièce‬‬

‫ـرص الغــرب إلى اليوم‬ ‫‪ .unique‬ومــا ِحـ ُ‬ ‫عل ــى تأطي ــر الم ــواد الثقافي ــة اإلفريقي ــة‬ ‫تح ــت ملصق ــات التس ــمية (ف ــن بدائ ــي)‬ ‫ّإل ألنـــه يعـــول علـــى أن يكـــون ذلـــك‬ ‫كافيـ ًا الســتدراج الذائقــة اإلفريقيــة نحــو‬ ‫استنســاخ النقلــة التاريخيــة والحضارية‬ ‫التــي أنجزهــا عصــر النهضــة‪ .‬وعلــى مــا‬ ‫يذك ــر ديفي ــد إنجلي ــز‪ ،‬فإن ــه «ف ــي عال ــم‬ ‫العصـــور الوســـطى‪ ،‬لـــم تكـــن هنـــاك‬ ‫مؤسســة مســتقلّة تدعــى (الفــن)‪ ،‬وإنمــا‬ ‫كان مجــال اإلنتــاج الثقافــي مرتبطـ ًا مــع‬ ‫بقيـــة المجـــاالت الثقافيـــة‪ ،‬خصوصـــ ًا‬ ‫الديني ــة»‪( .‬ديفي ــد إنجلي ــز‪ ،‬التفكي ــر ف ــي‬ ‫ـن (سوســيولوجيا) ومــن نافــل القول‬ ‫الفـّ‬ ‫تتحـــول إلـــى فـــن‬ ‫لـــم‬ ‫القطـــع‬ ‫تلـــك‬ ‫أن‬ ‫ّ‬ ‫ّإل بع ــد انفصاله ــا ع ــن عال ــم الن ــاس‬ ‫ودخوله ــا ف ــي عالق ــة تباع ــد‪ ،‬عل ــى‬ ‫أساســها يمكــن لهــا أن تنخــرط فــي‬ ‫ومؤسس ــاته‪.‬‬ ‫(عال ــم الف ــن)‬ ‫ّ‬ ‫ف ــي ض ــوء ه ــذه اإليضاح ــات‬ ‫االعتباريـــة العامـــة يتبيـــن أن‬ ‫تمســـك المجتمعـــات اإلفريقيـــة‬ ‫بالمقاربــة الثقافيــة واالشــتباه‬ ‫فـــي المقاربـــات الصوريـــة‬ ‫بأصنافهـــا إنمـــا هـــو رفـــض‬ ‫عف ــوي لم ــا يفترض ــه تأس ــيس‬ ‫الفـــن علـــى قيمـــة (القطعـــة‬ ‫ّ‬ ‫المفــردة) مــن فصــل لالجتماعــي‬ ‫ع ــن الثقاف ــي‪ ،‬ولم ــا يقيم ــه م ــن‬ ‫تعـــارض بيـــن عمليـــة الدمـــج‬ ‫الفكــري وعمليــة الدمــج الثقافــي‪،‬‬ ‫وم ــن ث ــم تحوي ــل العالق ــة األفقي ــة‬ ‫بيـــن مختلـــف شـــرائح المجتمـــع‬ ‫إلـــى عالقـــة عموديـــة بيـــن أفـــراد‬ ‫متوحديـــن توحـــد القطـــع المفـــردة‪.‬‬ ‫وم ــن ه ــذا المنطل ــق يمك ــن الج ــزم بأن ــه‬

‫انتقل ــت إل ــى إفريقي ــا كلم ــة (الزنوجي ــة)‬ ‫التــي صاغهــا الشــاعر المارتنيكــي إيميــه‬ ‫ســيزير لمقاومــة االســتعمار‪ ،‬ولكــن مــن‬ ‫خــال رفــض االنســاخ الثقافــي‪ .‬وليــس‬ ‫عبثـــ ًا أن تتمحـــور فكـــرة (الزنوجيـــة)‬ ‫حــول رفــض بالغــة القطعة المفــردة وما‬ ‫تس ــتتبعه م ــن إع ــاء لمنزل ــة األغ ــراض‬ ‫ولفاعليــة إنتاجهــا وإلغــراء امتالكها؛ بل‬ ‫ارتبطـــت بالدفـــاع‬ ‫عــن (حــس‬

‫‪117‬‬

‫األرض) و مـــا يســـتتبعه مـــن احتفـــاء‬ ‫بهنــاءات الحضــور الحســي فــي العالــم‪،‬‬ ‫وم ــن تمجي ــد لقي ــم الحي ــاة والتضام ــن‪.‬‬ ‫ألي ــس ه ــو القائ ــل‪:‬‬ ‫«إن زنوجتــي ليســت برج ـاً‪ ،‬وال هــي‬ ‫ّ‬ ‫كاتدرائيــة ترتفــع‬ ‫نحو السماء‬ ‫إنم ــا ه ــي تغ ــوص عميقــ ًا ف ــي لح ــم‬ ‫األرض األحمـــر القانـــي»‪.‬‬ ‫ولعلّـــه لهـــذا الســـبب كان التصويـــر‬ ‫المعاصـــر يـــرد االعتبـــار للســـاذج‬ ‫وللفطـــري‪ ،‬وهـــو مـــا جعلـــه يســـمح‬ ‫للثقافـــات بـــأن تدخـــل العصـــر وتغنـــم‬ ‫الراهنيــة دون أن تغتــرب فــي الحضــارة‬ ‫الســـائدة‪( .‬وحـــس األرض) المنـــوه بـــه‬ ‫ه ــو تحدي ــدًا م ــا يرب ــط بي ــن (الزنوجي ــة)‬ ‫و«مدرســـة داكار»‪ ،‬وهـــو كذلـــك مـــا‬ ‫باع ــد‪ ،‬ف ــي المقاب ــل‪ ،‬بي ــن «الزنوجي ــة»‬ ‫«ومدرســـة تونـــس»‪ .‬األخيـــرة رفعـــت‬ ‫ـن ولــواء «الجــرأة فــي المعالجــة‬ ‫لــواء الفـّ‬ ‫الفنيـــة» إلـــى غيـــر ذلـــك مـــن مقـــوالت‬ ‫الكالســيكية الفنيــة المؤسســة لجداراتهــا‬ ‫عل ــى رف ــض م ــا ه ــو تقلي ــدي‪ .‬وبحك ــم‬ ‫التمس ــك بصالحي ــة المقارب ــة الصوري ــة‬ ‫فقـــد حافظـــت مدرســـة تونـــس علـــى‬ ‫مســافة تفصلهــا عــن الشــعر والشــعرية‪،‬‬ ‫وبذلـــك حافظـــت كذلـــك علـــى مســـافة‬

‫تفصلهــا عــن القــرن العشــرين الــذي هــو‬ ‫ق ــرن الش ــعر‪ .‬ألي ــس الش ــعر ف ــي الق ــرن‬ ‫العشــرين هــو ذلــك النــوع األدبــي األكثــر‬ ‫ذيوعـ ًا وانتشــاراً‪ ،‬كمــا كانــت القصــة فــي‬ ‫القــرن التاســع عشــر‪ ،‬وكما كان المســرح‬ ‫ف ــي الق ــرن الس ــابع عش ــر؟‬ ‫فـــي المقابـــل‪ ،‬وجـــدت «مدرســـة‬ ‫داكار» ل ــدى الش ــعر منواله ــا اإلبداع ــي‪،‬‬ ‫ألن س ــنغور رب ــط الزنوجي ــة بالش ــعرية‬ ‫بشـــكل عـــام «أي بالشـــعر وقـــد صـــار‬ ‫ُمعممـــاً» وعلـــى هـــذا األســـاس نفصـــل‬ ‫بيـــن تصوراتـــه السياســـية وسياســـته‬ ‫الثقافي ــة‪ .‬وعن ــد ه ــذا الحــّد يصب ــح م ــن‬ ‫المه ــم أن نع ــرف م ــا ال ــذي يجع ــل م ــن‬ ‫تعبيـــرة مـــا (شـــاعرية)؟ ولمـــاذا وجـــب‬ ‫علين ــا أن نتكل ــم ع ــن الش ــعرية‪ ،‬وع ــن‬ ‫الشـــعر الشـــفهي تحديـــد؟‬ ‫مـــرة أخـــرى يأخذنـــا الجـــواب عـــن‬ ‫الســـؤال إلـــى الموقـــف مـــن مســـألة‬ ‫«القطع ــة المف ــردة» والرهان ــات الحاف ــة‬ ‫به ــا‪ .‬ومعل ــوم أن ــه‪ ،‬بق ــدر م ــا يتطاب ــق‬ ‫الفكـــر الكتابـــي مـــع بالغـــة المتوحـــد‬ ‫تميــل الشــعرية إلحيــاء العالقــة الثقافيــة‬ ‫القائم ــة عل ــى التضام ــن‪ .‬فحت ــى تك ــون‬ ‫هنــاك شــعرية يجــب أن يحتــرم الصــوت‬ ‫بنـــاء معينـــاً‪ ،‬وأن‬ ‫والتعبيـــرة الحســـية‬ ‫ً‬

‫نداري لو ‪ -‬السنغال‬ ‫‪118‬‬

‫يتـــم التوجـــه إلـــى الضميـــر الثقافـــي‪،‬‬ ‫إلــى الذاكــرة الجماعيــة‪ .‬وضمــن الســياق‬ ‫المفتــوح علــى الجماعــة فــإن الشــعرية ال‬ ‫تخضــع لألســاليب النحويــة كمــا يحــدث‬ ‫ف ــي الش ــعر المكت ــوب‪ ،‬ب ــل ه ــو يعتم ــد‬ ‫أساســ ًا عل ــى األث ــر الدرام ــي للخط ــاب‪،‬‬ ‫فالشــاعر المــؤدي يســتخدم كل جــزء مــن‬ ‫جســـده للتأثيـــر علـــى جســـد الجماعـــة‪،‬‬ ‫ولهـــذا‪ ،‬فحتـــى الكلمـــات المكتوبـــة‪،‬‬ ‫يحـــاول الصـــوت أن يخترقهـــا‪ ،‬وأن‬ ‫يبرهــن علــى مقدرتــه الفائقة فــي التعبير‬ ‫والتأدي ــة‪ .‬ن ــرى مث ــال ذل ــك ف ــي الش ــعر‬ ‫اإلفريق ــي المكت ــوب باللغ ــة الفرنس ــية‪.‬‬ ‫هكــذا ُيســمعنا ليوبولــد ســيدار ســنغور‪،‬‬ ‫وســـط أشـــعاره المكتوبـــة‪ ،‬صـــوت‬ ‫الطب ــول وترنيم ــات أج ــداد الس ــنغاليين‪.‬‬ ‫ويج ــب أن نؤك ــد أن الكتاب ــة ل ــم تض ــع‬ ‫ح ــدًا للش ــعر الش ــفهي‪ ،‬كم ــا أن القصائ ــد‬ ‫الشــفهية قــد تأثــرت‪ -‬بالفعــل‪ -‬بأســاليب‬ ‫الكتابـــة‪ ،‬لذلـــك فـــإن التداخـــات هنـــا‬ ‫ـا‪ .‬وطلبـ ًا لهــذا التداخــل علــى‬ ‫ُمتعـّددة فعـ ً‬ ‫مس ــتوى الس ــجالت التش ــكيلية وغيره ــا‬ ‫اســـتقدم ســـنغور أندريـــه لـــود الـــذي‬ ‫كان ل ــه دور مباي ــن تمامــ ًا لل ــدور ال ــذي‬ ‫اضطل ــع ب ــه بوش ــارل ضم ــن (مدرس ــة‬ ‫تون ــس)‪ ،‬فق ــد كان أندري ــه ل ــود قصوي ـ ًا‬ ‫فــي رفضــه للصوريــة‪ ،‬ويعتمــد اعتمــادًا‬ ‫مطلقـــ ًا علـــى الحـــدس وعلـــى العفويـــة‬ ‫وعلــى المصادفــات الموضوعيــة‪ .‬ثــم إن‬ ‫ســنغور كان يعــرف‪ -‬شــخصياً‪ -‬شــاغال‬ ‫ونظـــم لثالثتهـــم‬ ‫وبيكاســـو وســـوالج‪ّ ،‬‬ ‫مع ــارض ف ــي داكار‪ .‬اإلش ــكال بالنس ــبة‬ ‫لس ــنغور ه ــو أن ــه تعام ــل م ــع الظاه ــرة‬ ‫«الهاويــة»‪ ،‬أو «العفويــة»‪ ،‬بـ«المفــرق»‪،‬‬ ‫لــو جــاز التعبيــر‪ ،‬فــي مــا يجــب درســها‬ ‫بـ«الجملـــة»‪ ،‬كمـــا يجـــزم بذلـــك شـــربل‬ ‫داغـــر‪ .‬فلـــو تعّهـــد ســـنغور بمثـــل هـــذه‬ ‫المراجع ــة الش ــاملة لم ــا أراد للس ــينغال‬ ‫أن يكــون إلفريقيــا علــى شــاكلة اليونــان‬ ‫بالنس ــبة ألوروب ــا‪.‬‬ ‫حقــ ًا تمي ــزت داكار وحظي ــت بمنزل ــة‬ ‫ـن المعاصــر‪ ،‬ولكــن‪،‬‬ ‫محترمــة ضمــن الفـّ‬ ‫بوصفه ــا أح ــد تعبيرات ــه العالمي ــة‪.‬‬ ‫أفض ــل نجاحــ ًا آخ ــر‬ ‫وم ــن ناحيت ــي ّ‬ ‫ـو الكع ــب العالم ــي نفس ــه‪،‬‬ ‫لي ــس ل ــه عل ـ ّ‬ ‫ولكـــن حضـــوره فـــي ســـياقه المحلـــي‬ ‫ـت‬ ‫ق ــادر عل ــى ب ــذل أه ــم ال ــدروس‪ ،‬عَنْي ـ ُ‬

‫بالحدي ــث (مدرس ــة الخرط ــوم)‪ .‬وخ ــال‬ ‫النـــدوة الموازيـــة لمهرجـــان المحـــرس‬ ‫لس ــنة ‪ 2001‬تح ــت عن ــوان‪ :‬ه ــل ع ــرف‬ ‫التصويـــر العربـــي حركـــة طالئعيـــة؟‬ ‫تح ــدث إبراهي ــم الصلح ــي ع ــن مدرس ــة‬ ‫الخرط ــوم فق ــال‪« :‬منش ــأ ه ــذه المدرس ــة‬ ‫جــاء نتيجــة لمواجهــة خاصــة مــع واقــع‬ ‫محل ــي بح ــت»‪ .‬ويذك ــر كي ــف أن ــه بع ــد‬ ‫فراغــه مــن الدراســة فــي لنــدن وعودتــه‬ ‫إلـــى بلـــده عـــزم علـــى إقامـــة معـــرض‬ ‫يلـــق‬ ‫اســـتعادي‪ .‬ولكـــن المعـــرض لـــم َ‬ ‫تجاوبـ ًا مــن النــاس‪ ،‬فأعـ َّـد معرضــا آخــر‬ ‫خــال الســنة التالية ولكــن النتيجة كانت‬ ‫واحــدة‪ ،‬وهــو ما صدمــه ودعاه لمراجعة‬ ‫نفس ــه‪ .‬ويواص ــل س ــرد القص ــة فيق ــول‪:‬‬ ‫«وقــد انقطــع حبــل إنتاجــي قرابــة عامين‬ ‫طفــت خاللهمــا بربــوع وأنحــاء الســودان‬ ‫المختلفـــة‪ ،‬برفقـــة رحـــات طـــاب‬ ‫المدرســـة‪ ،‬وبمفـــردي أحيانـــ ًا لمعاينـــة‬ ‫واســـتقصاء مـــا يشـــتمل عليـــه البيـــت‬ ‫الســـوداني مـــن أعمـــال فنيـــة‪ .‬وحينهـــا‬ ‫تفتح ــت عين ــاي‪ ،‬وق ــد هالن ــي ِعظ ــم م ــا‬ ‫كنــت أراه منــذ الصغــر فــي كل مــكان مــن‬ ‫حولــي‪ ،‬ولجهلــي لــم أســتوعب قيمتــه أو‬ ‫أدرك س ــر مص ــدره ومعن ــاه‪ .‬وم ــا كن ــت‬ ‫ألعلــم‪ ،‬لــوال البحــث‪ ،‬ومبعثه صدمة‪ ،‬أن‬ ‫ـا جماليـ ًا وحضاريـ ًا بحوزتنــا ال يقل‬ ‫بديـ ً‬ ‫عمــا نتمثلــه خــارج دائــرة‬ ‫قيمــة ومعنــى ّ‬ ‫الوطــن»‪ .‬صدمــة القطيعــة التــي تفصلــه‬ ‫عــن جماعتــه المحليــة فتحــت عينيــه على‬ ‫واقعـــة أنـــه «منـــذ أن انتشـــر اإلســـام‬ ‫بربـــوع شـــمال الســـودان‪ ،‬وتوقـــف مـــّد‬ ‫الفـــن التصويـــري‪ ،‬ازدهـــر فـــي بيئتنـــا‬ ‫ّ‬ ‫ش ــبه الرعوي ــة ف ــن آخ ــر تطبيق ــي‪ ،‬في ــه‬ ‫كثيـــر مـــن تجريـــد وتبســـيط ألشـــكال‬ ‫المرئيــات‪ ،‬وبحيــث تــوارى رســم ذوات‬ ‫األرواح وراء حجــاب وقنــاع من زخرف‪،‬‬ ‫متشــح ًا بأصبــاغ يغلــب فــي أكثرهــا لــون‬ ‫الــدم‪ ،‬وقــد شــمل أثاثــات الــدور‪ ،‬وأوانــي‬ ‫وأغطيـــة األطعمـــة والمـــأكل‪ ،‬وحلـــي‬ ‫الم ــرأة‪ ،‬وطناف ــس لطق ــوس األف ــراح‪ ،‬ال‬ ‫زال ــت تمارس ــها ع ــادات وتقالي ــد‪ ،‬ظل ــت‬ ‫تتوارثهــا‪ ،‬منــذ قديــم الزمــن‪ ،‬األجيــال»‪.‬‬ ‫وفعـــا‪ ،‬يالحـــظ الفنـــان الصلحـــي أن‬ ‫ً‬ ‫ِ‬ ‫الحَرفــي الصانــع وجــد عنــد ذلــك التــراث‬ ‫المحلـــي «فرصتـــه بتواصـــل مهنتـــه‪،‬‬

‫وانجا كيماني‬

‫لحفـــظ تـــراث شـــعبي يكمـــن فيـــه ســـر‬ ‫الصنع ــة والعم ــل عل ــى اإلب ــداع»‪ .‬وم ــن‬ ‫ناحيت ــه‪ ،‬يج ــزم إبراهي ــم الصلح ــي أن ــه‬ ‫«مـــن هـــذا المنطلـــق المحلـــي البحـــت‪،‬‬ ‫وهدفــ ًا من ــا لس ــد تل ــك الفج ــوة القائم ــة‬ ‫ترســبت‬ ‫بيــن الفنــان وجمهــوره‪ ،‬والتــي ّ‬ ‫نتيجـــة لتراكـــم عـــدة عوامـــل تاريخيـــة‬ ‫واجتماعي ــة وثقافي ــة‪ ،‬ب ــدأت تجرب ــة م ــا‬ ‫ـــمي (مدرســـة الخرطـــوم)‪ ،‬بإخض ــاع‬ ‫ُس ّ‬ ‫العام ــل المش ــترك‪ ،‬وه ــو الرم ــز المج ــرد‬ ‫للح ــرف العرب ــي‪ ،‬ذي الي ــد الس ــودانية‪،‬‬ ‫إلـــى دراســـة شـــبه معمليـــة‪ :‬وذلـــك‬ ‫فـــي محاولـــة للكشـــف عـــن مكوناتـــه‬ ‫األساســـية‪ ،‬تفجيـــرًا لطاقـــات كامنـــة‪،‬‬ ‫وتطويعـــ ًا لهـــا فـــي مجـــال التصويـــر‬ ‫والعمــل التشــكيلي»‪ .‬هكــذا‪ ،‬قــام إبراهيــم‬ ‫الصلح ــي بتذوي ــب الفاعلي ــة التش ــكيلية‬ ‫ف ــي ثناي ــا الممارس ــة الثقافي ــة الخاص ــة‬ ‫بجماعت ــه المحلي ــة‪.‬‬ ‫فـــي ضـــوء هـــذه المقدمـــات‪ ،‬يمكـــن‬ ‫الحديــث عــن ضــرورة بنــاء عالقــة بيننــا‬ ‫وبي ــن الغ ــرب عل ــى أس ــاس انخراطه ــا‬ ‫فـــي مـــا يمكـــن تســـميته بـ(المثاقفـــة‬

‫بالمقلــوب)؛ فعلــى رأي شــربل داغــر «ال‬ ‫يكف ــي إظه ــار الجان ــب العنف ــي فق ــط م ــن‬ ‫ثقاف ــة االستش ــراق‪ ،‬ب ــل ينبغ ــي أن يت ـّـم‬ ‫أيضـ ًا إظهــار هــذه العالقــة التــي أقامتهــا‬ ‫مــع موضوعهــا‪ ،‬مــع ثقافــة األصــل‪ ،‬أو‬ ‫المركب‬ ‫المنشــأ باألحــرى‪ ،‬أي هــذا البنــاء ّ‬ ‫لـ(المثاقفــة بالمقلوب)»‪ .‬شــخصياً‪ ،‬أربط‬ ‫(المثاقفـــة بالمقلـــوب) بجملـــة المطالـــب‬ ‫التـــي أشـــار إليهـــا بانوفســـكي عندمـــا‬ ‫تحـّدث علــى دأب الحداثــة علــى اســتبدال‬ ‫العالقــة المباشــرة بيــن الــروح والطبيعة‬ ‫بالعالقـــة بعالـــم العيـــن‪ ،‬والـــذي هـــو‪-‬‬ ‫ـن الكالســيكي‪.‬‬ ‫أساسـاً‪ -‬عالــم تاريــخ الفـّ‬ ‫ّأل يجــد المبــدع نفســه اليوم‪ -‬ســواء أكان‬ ‫إفريقي ـ ًا أم كان غي ــره‪ -‬مس ــوق ًا لمعاين ــة‬ ‫الوضــع اآلتــي‪« :‬نتوافــر علــى األغــراض‬ ‫واألشــياء لكــن‪ ،‬نفتقــد المشــاريع»؟ ‪On‬‬ ‫‪.L’objet, mais pas le Projet‬‬ ‫* باحث في الجماليات‪ /‬مدير المعهد العالي‬ ‫للفنون والحرف‪ ،‬صفاقص‪ ،‬تونس‬ ‫‪119‬‬

‫الفن اإلفريقي‬ ‫تلقّ ي ّ‬

‫من الرؤية االستيهامية إىل االعتراف الكوني‬ ‫د‪ .‬محمد الشيكر*‬

‫يـــرى المفكـــر الكونغولـــي «فاالنتـــان‬ ‫ييــف موديمبــي‪ »V.y.Maudimbè ،‬أن‬ ‫صــورة الســواد األعظــم مــن األوروبييــن‬ ‫ومـــن غيـــر األوروبييـــن عـــن إفريقيـــا‪،‬‬ ‫تصورهـــم لعالمهـــا الذهنـــي‬ ‫ونمـــط‬ ‫ّ‬ ‫واإلثنولوجـــي ولمنجزهـــا الجمالـــي‬ ‫ال ينفصـــل عمـــا يدعـــوه بـ«المكتبـــة‬ ‫الكولونياليـــة»‪ ،‬ويقصـــد بهـــذا التعبيـــر‬ ‫البورخيســـي مجمـــوع التمثـــات التـــي‬ ‫صاغهــا األنثروبولوجيــون والجغرافيون‬ ‫والمستكش ــفون الغربي ــون ع ــن إفريقي ــا‪،‬‬ ‫وشـــكلت قاعـــدة أيديولوجيـــة لبســـط‬ ‫ّ‬ ‫هيمنتهـــم عليهـــا‪ ،‬واســـتيالئهم علـــى‬ ‫مقدراتهـــا وثرواتهـــا‪ .‬كمـــا يفيـــد‬ ‫بذلـــك أن إفريقيـــا‪ ،‬بغورهـــا الثقافـــي‬ ‫واألنثربولوجـــي واإلســـتتيقي‪ ،‬كانـــت‬ ‫بمثابـــة «ابتـــكار»(‪ )1‬مـــن «صنيعـــة»‬ ‫المخي ــال األمبريال ــي الغرب ــي‪ .‬ويلخ ــص‬ ‫موديمب ــي ه ــذا المتخي ــل األوروب ــي ع ــن‬ ‫إفريقيـــا فـــي تصوريـــن متقابليـــن‪:‬‬ ‫ـ تصــور هوبــزي (نســبة إلــى طوماس‬ ‫هوبـــز) يـــرى أن إفريقيـــا تمثـــل معـــاد ًال‬ ‫موضوعيـ ًا لعالــم ذهنــي مــا قبــل أوروبي‬ ‫يفتق ــر إل ــى فلس ــفة للكينون ــة والزم ــن‪،‬‬ ‫وإلــى ُّ‬ ‫تمثــل للفــن واآلداب‪ ،‬عالــم يشــكل‬ ‫فــي ماهيتــه مثــا ًال لحالــة الطبيعــة التــي‬ ‫‪120‬‬

‫يس ــود فيه ــا ح ــق الق ــوة‪ ،‬ويري ــن عليه ــا‬ ‫نامــوس الحــرب الدائبــة الدائمــة‪.‬‬ ‫ـ تص ــور روس ــوي (نس ــبة إل ــى ج ــان‬ ‫جـــاك روســـو) يجعـــل مـــن إفريقيـــا‬ ‫الخ ِّيـــرة ومثـــا ًال‬ ‫أنموذجـــ ًا للطبيعـــة َ‬ ‫للحريـــة الخالقـــة والســـام الدائـــم‪.‬‬ ‫التصوريـــن‬ ‫وال جـــرم أن هذيـــن‬ ‫ّ‬ ‫المثاليي ــن والمصطنعي ــن ع ــن إفريقي ــا ال‬ ‫ينفصــان عــن التمثــل الغربــي المشــترك‬ ‫الفـــن اإلفريقـــي بوصفـــه تجربـــة‬ ‫عـــن‬ ‫ّ‬ ‫هنري كويدي‬

‫أنطولوجيـــة لصيقـــة بحالـــة الطبيعـــة‪،‬‬ ‫فــي بدائيتهــا وتوثبها الغريزي وســورتها‬ ‫المتدفقـــة وأوارهـــا الفطـــري المهتـــاج‪.‬‬ ‫عـــل المدهـــش فـــي هـــذا المقـــام أن‬ ‫وَل ّ‬ ‫نظـــر النســـقي‬ ‫وهـــو‬ ‫نفســـه‪،‬‬ ‫هيجـــل‬ ‫الم ِّ‬ ‫ُ‬ ‫لإلســتتيقا‪ ،‬لم يمنــح‪ .‬في معرض حديثه‬ ‫ـن كنمــط مــن أنمــاط تجّلــي الــروح‬ ‫عــن الفـّ‬ ‫المطلــق‪ ،‬وتجــاوز التناقــض الجدلــي بين‬ ‫الم ــادة والص ــورة والحس ــي والروح ــي‪،‬‬ ‫أي محـــل مخصـــوص وأي موطـــئ قـــدم‬ ‫للفـــن اإلفريقـــي فـــي هـــذه الصيـــرورة‬ ‫الخلقــة‪ ،‬ولــم يربطــه باألشــكال‬ ‫الجدليــة ّ‬ ‫الثالثــة لتمظهــر مثــال الجمــال فــي تاريــخ‬ ‫الفـــن الرمـــزي‪،‬‬ ‫الفـــن الكونـــي؛ نقصـــد‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫والكالس ــيكي‪ ،‬والرومانس ــي‪ .‬فف ــي ه ــذه‬ ‫األش ــكال الفني ــة الثالث ــة يرن ــو الخي ــال‬ ‫التحـــرر‪ ،‬بصـــورة‬ ‫اإلســـتتيقي إلـــى‬ ‫ُّ‬ ‫متدرجــة‪ ،‬مــن أحابيــل الطبيعــة والفــكاك‬ ‫مــن إســار الحــدوس الحســية المباشــرة‪،‬‬ ‫والمضــي نحــو تدشــين تعبيــرات جماليــة‬ ‫تجســد الــروح المطلــق من جهــة‪ ،‬وتقبض‬ ‫علــى لحظــة التطابــق المثلــى بين الشــكل‬ ‫والمحتــوى مــن جهــة ثانيــة‪ ،‬وتمثــل مــن‬ ‫جهــة ثالثــة لحظــة بنــاء وعــي إســتتيقي‬ ‫ذات ــي مس ــتقل‪ .‬ال مح ــل‪ -‬حس ــب هيج ــل‪-‬‬ ‫للمنجــز البصــري اإلفريقــي فــي منظومــة‬

‫الفـــن الكونـــي‪ ،‬وال وجـــود لواشـــجة‬ ‫ّ‬ ‫إســـتتيقية تصلـــه بتعبيراتهـــا الرمزيـــة‬ ‫والكالســـيكية والرومانســـية‪ .‬يقـــول‬ ‫هيج ــل «إن أس ــوأ فك ــرة تخط ــر ف ــي فك ــر‬ ‫اإلنس ــان له ــي أروع وأس ــمى م ــن أعظ ــم‬ ‫منتجـــات الطبيعـــة وذلـــك‪ ،‬بالضبـــط‪،‬‬ ‫ألنهـــا فكـــرة تنبثـــق مـــن الـــروح‪ ،‬وألن‬ ‫الروحـــي أســـمى مـــن الطبيعـــي»(‪.)2‬‬ ‫وتعبي ــرات اإلنس ــان‪ -‬حس ــب هيج ــل‪ -‬ال‬ ‫تتســنم معــارج الجمــال وال تــدرك مراقــي‬ ‫التعبيــر الفنــي الحــق إال حيــن تعكف على‬ ‫اإلصغــاء لوجيــب الــروح واإلفصــاح عــن‬ ‫تجليات ــه‪ُ ،‬متح ـ ّـررة م ــن كل مح ــاكاة أو‬ ‫مماهــاة مــع الطبيعــة‪ .‬وإفريقيــا الســمراء‬ ‫عج ــزت‪ -‬حس ــب فيلس ــوف الديالكتي ــك‪-‬‬ ‫عـــن تدشـــين أثـــر ملمـــوس يرقـــى إلـــى‬ ‫ذروة اإلبـــداع الفنـــي الكونـــي‪ ،‬ألنهـــا‬ ‫ـوره «منكفئــة على نفســها‪،‬‬ ‫ظّلــت فــي تصـّ‬ ‫ضالعــة فــي هــذه الخاصيــة التــي تتمثــل‬ ‫ف ــي التمرك ــز ح ــول ال ــذات»(‪ ،)3‬بحي ــث‬ ‫ال تــكاد تطالعنــا فــي جنــوب الصحــراء‪،‬‬ ‫ف ــي نظ ــره‪ ،‬غي ــر «حال ــة م ــن البربري ــة‬ ‫والتوح ــش تمن ــع إفريقي ــا م ــن أن تك ــون‬ ‫جــزءًا ال يتجــزأ مــن الحضــارة»‪ ،‬بل توغل‬ ‫بهــا فــي الدياجيــر المطبقــة‪ ،‬حيــث ينتفــي‬ ‫التاريــخ‪ ،‬وتنمحــي الــذات وتغيــب الدولة‬

‫بتنظيماتهــا ومؤسســاتها‪ ،‬وحيــث تنعــدم‬ ‫كل صـــور التعاقـــد االجتماعـــي المدنـــي‬ ‫والمواثي ــق الجمالي ــة والمعياري ــة‪ .‬وألن‬ ‫اإلنس ــان اإلفريق ــي ل ــم يس ــتطع‪ -‬حس ــب‬ ‫هيجــل‪ -‬أن يدشــن وعي ـ ًا ذاتي ـ ًا مســتقالً‪،‬‬ ‫يتحـــرر مـــن وجـــوده الطبيعـــي‬ ‫وأن‬ ‫ّ‬ ‫الخــام‪ ،‬المتوثــب والمباشــر‪ ،‬وأن يتاخــم‬ ‫ـل مشــدودًا إلــى‬ ‫حــدود الــروح‪ ،‬وألنــه َظـّ‬ ‫«عالــم البراديســوس بمــا هــو مثــال لعالم‬ ‫األه ــواء البدائ ــي والفيتيش ــي‪ ،‬فإن ــه ل ــم‬ ‫قيــض لــه أن يرقــى إلــى «مملكــة الجمــال‬ ‫ُي ِّ‬ ‫الفنـــي» بمالمحهـــا الكونيـــة ومعانيهـــا‬ ‫اإلنس ــانية الس ــامية‪.‬‬ ‫ال يخفـــى علـــى القـــارئ مـــا يطفـــح‬ ‫ب ــه ه ــذا الخط ــاب م ــن نزع ــة إثنولوجي ــة‬ ‫مركزي ــة تبخ ــس الش ــعوب غي ــر الغربي ــة‬ ‫حصته ــا ف ــي رف ــد الحض ــارة اإلنس ــانية‪،‬‬ ‫واإلس ــهام عل ــى نح ــو خ ــاق ف ــي إغن ــاء‬ ‫نظمه ــا المعرفي ــة وس ــجالتها الجمالي ــة‪،‬‬ ‫بــل إن هيجــل ال يتوجــس فــي الجــزم بــأن‬ ‫«أوروبــا تمثــل بلــدًا للوحــدة الروحيــة»‪،‬‬ ‫وأنموذجـ ًا لالنتقــال مــن التوفــز الغريــزي‬ ‫الحرّيــة العقالنية‪ ،‬ومثــا ًال للعروج‬ ‫شــطر ّ‬ ‫مـــن الفـــردي نحـــو الكونـــي‪ ،‬ومـــن‬ ‫الطبيع ــي ش ــطر الروح ــي‪.‬‬ ‫ضـــد هـــذه الرؤيـــة االســـتئصالية‬

‫الهيجلي ــة لل ــروح اإلس ــتتيقية اإلفريقي ــة‬ ‫ظهـــر مـــع نهايـــة القـــرن ‪ 19‬وإطاللـــة‬ ‫الق ــرن العش ــرين اهتم ــام أوروب ــي زائ ــد‬ ‫بلـــغ حـــد االفتتـــان بالمنجـــز البصـــري‬ ‫اإلفريق ــي الزنوج ــي‪ ،‬وانتق ــل كثي ــر م ــن‬ ‫الفنانيـــن الغربييـــن المعاصريـــن مـــن‬ ‫االحتف ــاء بفن ــون إفريقي ــا إل ــى االنج ــذاب‬ ‫إليهـــا واســـتبطان جانـــب مـــن لغتهـــا‬ ‫اإليقونوغرافي ــة وبالغاته ــا الكروماتي ــة‬ ‫فــي آثارهــم الفنيــة‪ .‬ويتبــدى هــذا التأثــر‬ ‫ـاع غي ــر يس ــير م ــن‬ ‫الفن ــي جليــ ًا ف ــي ُجَم ـ ٍ‬ ‫األعمـــال التشـــكيلية التـــي يحبـــل بهـــا‬ ‫الريبرتـــوار البصـــري الغربـــي‪ ،‬ويمكـــن‬ ‫أن نومـــئ هنـــا‪ -‬علـــى ســـبيل المثـــال ال‬ ‫الحص ــر‪ -‬إل ــى لوح ــة «بورتري ــه الس ــيدة‬ ‫ماتيـــس» لهنـــري ماتيـــس ‪H.Matisse‬‬ ‫و«شـــابة بعينيـــن زرقاويـــن» ألميديـــو‬ ‫موديغليانــي ‪ A.Modigliani‬و«أوانس‬ ‫أفيني ــون» لبابل ــو بيكاس ــو ‪P.Picasso‬‬ ‫و«العـــاري الضخـــم» لجـــورج بـــراك‬ ‫‪ G.Braque‬و«األقنع ــة» ألن ــدري دي ــران‬ ‫‪ ،A.Derain‬وســـواها مـــن أعمـــال‬ ‫هــؤالء األســاطين وغيرهــم مــن الفنانيــن‬ ‫الغربييــن الكبــار علــى اختــاف تجاربهــم‬ ‫ومشــاربهم الفنيــة التعبيريــة والتكعيبية‬ ‫والســـريالية ومـــا إليهـــا‪.‬‬ ‫‪121‬‬

‫دولو‬

‫لك ــن‪ ،‬ه ــل م ــا اس ــتعاره األوروبي ــون‬ ‫مـــن الثقافـــة البصريـــة اإلفريقيـــة‪ ،‬مـــن‬ ‫ريبرتـــوار األقنعـــة والمنحوتـــات ومـــن‬ ‫ِ‬ ‫والوش ــي والتواري ــق‬ ‫موتيف ــات النق ــش‬ ‫والتطريـــزات‪ ،‬يمثـــل‪ -‬بحـــق‪ -‬نواتهـــا‬ ‫الهوياتي ــة الصلب ــة‪ ،‬ويترج ــم‪ -‬ف ــي اآلن‬ ‫ّ‬ ‫ذات ــه‪ -‬خصوصي ــة مش ــروعها الجمال ــي‬ ‫الحداثـــي؟‬ ‫أليـــس ديـــدن الغـــرب الثقافـــي هـــو‬ ‫المقارب ــة التراتبي ــة والفارقي ــة لألنس ــاق‬ ‫الثقافيــة األخــرى‪ ،‬والنزوع إلــى اختزالها‬ ‫فــي مقومــات مــا قبــل حداثيــة‪ ،‬غرائبيــة‪،‬‬ ‫فطري ــة واس ــتيهامية؟‪.‬‬ ‫الحـــق‪ ،‬أن أغلـــب مـــا انجـــذب إليـــه‬ ‫األوروبيـــون مـــن فنـــون إفريقيـــا‪ ،‬كان‬ ‫عبـــر‪ ،‬فـــي العمـــق‪ ،‬عـــن ردة فعـــل‬ ‫ُي ّ‬ ‫الغ ــرب الثقاف ــي نفس ــه ض ــد الحض ــارة‬ ‫المادي ــة بمرجعياته ــا العلمي ــة الوضعي ــة‬ ‫ومصادراتهـــا العقالنيـــة األداتيـــة‪.‬‬ ‫لهـــذا تبـــاّرت نظـــرة الغـــرب علـــى مـــا‬ ‫هـــو طفولـــي وفيتيشـــي وطقوســـي‬ ‫وميثولوجـــي فـــي المنجـــز البصـــري‬ ‫الفـــن‬ ‫اإلفريقـــي‪ ،‬ومـــا لبـــث أن أصبـــح‬ ‫ّ‬ ‫اإلفريق ــي ف ــي المخي ــال الغرب ــي‪ ،‬رديفــ ًا‬ ‫لعالـــم الميثـــوس والخرافـــة والطفولـــة‬ ‫والس ــحر‪ ،‬وعنوان ـ ًا عل ــى انمح ــاء ال ــذات‬ ‫الجماليــة إزاء طقــوس العشــيرة ووعيهــا‬ ‫‪122‬‬

‫اإلثنـــي الفـــارق‪ .‬وأصبـــح ينظـــر «إلـــى‬ ‫جميـــع النـــاس‪ ،‬فـــي إفريقيـــا‪ ،‬كمـــا لـــو‬ ‫كانـــوا ســـحرة»(‪ )4‬علـــى حـــد تعبيـــر‬ ‫هيـــرودوت‪ ،‬وإلـــى منتجاتهـــم الفنيـــة‬ ‫كم ــا ل ــو كان ــت قرابي ــن للمق ـّدس وتمائ ــم‬ ‫وطق ــوس عب ــور ش ــطر العال ــم اآلخ ــر‪،‬‬ ‫وتعوي ــذة ض ــد النافثي ــن والنافث ــات ف ــي‬ ‫العقـــد‪.‬‬ ‫ومـــا زالـــت هـــذه األحـــكام الجماليـــة‬ ‫القبليــة مكرســة إلــى اليــوم‪ ،‬فحين يطرح‬ ‫ســؤال مــن قبيــل‪ :‬مــا هــو الوجــه المائــز‬

‫للمنجــز البصــري اإلفريقــي المعاصــر؟ فال‬ ‫توظـــف «شـــبكة القـــراءة التـــي يقـــارب‬ ‫ـن األوروب ــي واألميرك ــي‬ ‫م ــن خالله ــا الف ـ ّ‬ ‫نفســـها‪ ،‬بـــل يجـــري حصـــر ذلـــك‬ ‫المنج ــز داخ ــل دائ ــرة م ــن التوصيف ــات‬ ‫والمفاهيـــم الخاصـــة»(‪ ،)5‬كمـــا تجـــري‬ ‫القبلي ــات المس ــبقة‪ ،‬المجت ـ َّـرة‬ ‫اس ــتعادة‬ ‫ّ‬ ‫والمكـــرورة نفســـها‪ ،‬وذلـــك مـــن قبيـــل‬ ‫اعتب ــار أن جاذبي ــة الفن ــون اإلفريقي ــة ال‬ ‫ترجــع إلــى فرادة في مناحيها األســلوبية‬ ‫أو جـــدة فـــي رؤاهـــا اإلســـتتيقية‪ ،‬إنمـــا‬ ‫تتبـــدى‪ ،‬علـــى نحـــو مخصـــوص‪ ،‬فـــي‬ ‫مالمحهـــا األنثربومورفيـــة‪ ،‬وذاكرتهـــا‬ ‫اإلثني ــة وتعبيراته ــا الفيتيش ــية؛ أي ف ــي‬ ‫غرابتهـــا عـــن النســـق األكســـيولوجي‬ ‫والمعيـــاري الغربـــي القائـــم‪ .‬وفـــي‬ ‫االتج ــاه نفس ــه أرج ــع لفي ــف م ــن النق ــاد‬ ‫الجمالييـــن عناصـــر اإلثـــارة والفتنـــة‬ ‫الفـــن اإلفريقـــي المعاصـــر إلـــى‬ ‫فـــي‬ ‫ّ‬ ‫خصوصياتــه الكروماتيــة‪ ،‬وإلــى معجمه‬ ‫اإليقونوغراف ــي ال ــذي يتك ــئ عل ــى س ــنن‬ ‫إشـــارية ميثولوجيـــة‪ ،‬ويمتـــح عالمـــه‬ ‫الرمــزي مــن كوســموغونيات بدائيــة‪ ،‬بل‬ ‫ـن لــم يعــد فــي نهايــة التحليــل‬ ‫إن هــذا الفـ ّ‬ ‫«غيــر وســاطة للديــن» أو محــض وســيلة‬ ‫إثني ــة للتعبي ــر ع ــن المق ــدس‪ .‬كم ــا َع ـ َّـد‬ ‫الفـــن محـــض ممارســـة فيتيشـــية‬ ‫ذلـــك‬ ‫ّ‬

‫كافين يونغ‬

‫ال وج ــود فيه ــا لفيص ــل جمال ــي واض ــح‬ ‫بي ــن الصنع ــة والف ــن‪ ،‬وبي ــن الطقوس ــي‬ ‫واإلبداعــي‪ ،‬وال محــل فيهــا لذاتية الفنان‪،‬‬ ‫بم ــا ه ــو كوجيط ــو خ ــاق‪.‬‬ ‫إن مـــا تغفلـــه مثـــل هـــذه التمثـــات‬ ‫يتعي ــن تقويضه ــا‪ ،‬ه ــو‬ ‫الوثوقي ــة الت ــي ّ‬ ‫ـن اإلفريقــي قــد خــرج‪ ،‬منــذ عقــود‬ ‫أن الفـ ّ‬ ‫خلــت مــن شــرنقة اإلثنــي والميثولوجــي‬ ‫والفيتيشـــي وعانـــق مشـــروع الحداثـــة‬ ‫الجماليــة‪ ،‬وفرضــت عليــه ريــاح العولمــة‬ ‫أن يغــدو أكثــر معاصــرة وأن ينتظــم فــي‬ ‫تيــار الكونيــة‪ .‬بحيــث لــم يعد من الســائغ‬ ‫الفـــن الزنجـــي‬ ‫االســـتمرار فـــي ربـــط‬ ‫ّ‬ ‫بس ــجل المنحوت ــات واألقنع ــة والتماثي ــل‬ ‫والمشــغوالت اليدويــة الغفــل مــن األصــل‬ ‫والجينيالوجيــا‪ ،‬مثــل منحوتــة جانــوس‬ ‫تومــا (ليبريــا) وجانــوس يــاكا (الكونغو)‬ ‫وملعقـــة دان (ســـاحل العـــاج) وقنـــاع‬ ‫بامبــارا (مالــي) وتميمــة جانــوي والطائر‬ ‫وتمث ــال إيغب ــو (نيجري ــا)‪)6(.‬‬ ‫لقــد فــرض المنجــز البصــري اإلفريقــي‬ ‫نفس ــه‪ ،‬الي ــوم‪ ،‬كمنج ــز جمال ــي حداث ــي‬ ‫وجع ــل إفريقي ــا تنخ ــرط ف ــي «الحض ــارة‬ ‫الكونيـــة» منـــذ مـــا ينيـــف علـــى خمســـة‬ ‫عقــود‪ .‬ويمكــن أن نع ـّد مهرجــان الفنــون‬ ‫الزنجي ــة ب ــداكار‪ ،‬س ــنة ‪ ،1966‬بمثاب ــة‬ ‫الفـــن‬ ‫طقـــس حقيقـــي لميـــاد وتعميـــد‬ ‫ّ‬

‫ـداء م ــن ه ــذه‬ ‫اإلفريق ــي المعاص ــر‪ .‬فابت ـ ً‬ ‫اللحظـــة المفصليـــة أصبـــح لإلنتـــاج‬ ‫البص ــري اإلفريق ــي موع ــد م ــع التاري ــخ‬ ‫يرتـــد إلـــى دائـــرة‬ ‫الكونـــي بعـــد أن كان‬ ‫ُّ‬ ‫إثنيـــة وعشـــائرية شـــديدة االنغـــاق‪،‬‬ ‫وغــدا جــزءًا مــن الحداثــة الجماليــة التــي‬ ‫تنتفـــض علـــى البراديغـــم األكاديمـــي‬ ‫وتفـــكك عالقتـــه الميميـــة والتمثيليـــة‬ ‫بالواقـــع‪ ،‬وتحتفـــي باللـــون بجميـــع‬ ‫شــعرياته الكروماتية‪ ،‬وتحتفل بالتجريد‬ ‫بس ــائر بالغات ــه التعبيري ــة والهندس ــية‬ ‫والغنائيــة والمينيماليــة‪ ،‬ومــن الفنانيــن‬ ‫األفارق ــة المعاصري ــن م ــن مض ــى بعي ــدًا‬ ‫ف ــي تفكي ــك الثواب ــت األكاديمي ــة للف ــن‪،‬‬ ‫ونقـــد النظـــام األكســـيولوجي القائـــم‬ ‫مثــل عبــد الــاي كونتــاي فــي إرســاءاته‬ ‫الجريئة كـ«دفاع» و«تهديد» ســنة ‪،1995‬‬ ‫«طور‬ ‫والعاجــي أوطــارا ‪ Outtara‬الــذي ّ‬ ‫لغـــة بصريـــة مائـــزة تســـتدعي نظامـــ ًا‬ ‫فكريــ ًا مخصوصــ ًا ذا صل ــة بمنظوم ــات‬ ‫متأبي ــة عل ــى الغربيي ــن»(‪ )7‬واألخوي ــن‬ ‫داكبوغــان ‪ Dakpogan‬فــي تركيباتهمــا‬ ‫المثي ــرة عل ــى من ــوال الراي ــدي ماي ــد عن ــد‬ ‫مارس ــيل دوش ــامب‪.‬‬ ‫م ــع ه ــؤالء وم ــع س ــواهم م ــن فنان ــي‬ ‫إفريقي ــا الس ــمراء يس ــتوي عال ــم بص ــري‬ ‫مخصــوص‪ ،‬بقــدر مــا يتعولــم وينخــرط‬

‫ف ــي فتوح ــات الحداث ــة الجمالي ــة يعان ــق‬ ‫الهوي ــة اإلفريقي ــة‪ ،‬لي ــس‬ ‫ف ــي اآلن ذات ــه‬ ‫ّ‬ ‫ف ــي تجانس ــها ووحدته ــا وانغالقه ــا‪ ،‬ب ــل‬ ‫فــي مالمحها الخالســية وفــي صيروراتها‬ ‫الدينامي ــة وأبعاده ــا البوليفوني ــة‪ ،‬مم ــا‬ ‫الفـــن اإلفريقـــي ميســـم ًا‬ ‫يخلـــع علـــى‬ ‫ّ‬ ‫إنســـاني ًا أبعـــد غـــورًا وأشـــد فتنـــة‬ ‫وجاذبي ــة‪.‬‬ ‫الهوامش‪:‬‬ ‫‪V.y. Mudimbé, The Invention of Af� 1-‬‬‫‪rica : Gnosis, philosophy and the or‬‬‫‪der of knowledge, Indiana University‬‬ ‫‪.Press, 1988‬‬ ‫‪G.W.F.Hegel, Esthétique, trad fr, 2‬‬‫‪.ed. Aubier, Montaigne, 1944, T,I, p 8‬‬ ‫‪G.W.F.Hegel, la Raison dans 3‬‬‫‪l’Histoire, trad.fr, éd, 10/18, Plon,‬‬ ‫‪.1965, p 245‬‬ ‫‪.Cité par Hegel, opcit, p 253 4‬‬‫‪Joëlle Busca, Perspectives sur l’art 5‬‬‫‪contemporain Africain, l’Harmattan,‬‬ ‫‪.2000, p 5‬‬ ‫‪E.Pienat, comprendre l’Art africain, 6‬‬‫‪.éd chêne, 2008 ; p 19‬‬ ‫‪.Joëlle Busca ,Op.cit, p 93 7‬‬‫* أستاذ باحث في الجماليات‬ ‫‪123‬‬

‫يف موضع النّديّة مع الغرب‬ ‫فاتح بن عامر‬

‫جاذبيــة الفنــون‬ ‫ُتعـّد فكــرة النّظــر فــي‬ ‫ّ‬ ‫اإلفريقيـــة‪ ،‬إذا مـــا قبلنـــا باالصطـــاح‬ ‫ّ‬ ‫ّقافيـــة أو‬ ‫حيـــز المعالجـــة الث ّ‬ ‫فـــي ّ‬ ‫والجماليـــة الحديثـــة‬ ‫السوســـيوثقافية‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫إيجابيــة قــادرة على‬ ‫والمعاصــرة‪ ،‬فكــرة‬ ‫ّ‬ ‫االنبهاريـــة ذات األصـــول‬ ‫رفـــع النّظـــرة‬ ‫ّ‬ ‫االستشـــراقية أو الولـــه بالغرائبـــي‬ ‫ّ‬ ‫والعجائبـــي‪ ،‬الّـــذي مضـــى فيـــه العالـــم‬ ‫الغربـــي فـــي تعاملـــه مـــع المنتجـــات‬ ‫المتوســـط ومـــن‬ ‫القادمـــة مـــن جنـــوب‬ ‫ّ‬ ‫الصح ــراوي وم ــن عم ــق‬ ‫الس ــاحل ّ‬ ‫عم ــق ّ‬ ‫إفريقيـــا وآســـيا‪ .‬فالمســـألة تنـــدرج‪-‬‬ ‫رد االعتب ــار له ــذه‬ ‫حس ــب اعتقادن ــا‪ -‬ف ــي ّ‬ ‫الثّقافــات القادمــة مــن خــارج الحداثــة وما‬ ‫أســقطته علــى اآلخــر مــن رؤى ُمتداخلــة‬ ‫الموضوعيــة األصيلة‬ ‫بيــن اإليجابــي ذي‬ ‫ّ‬ ‫ـــوفينية المتســـلّطة‪.‬‬ ‫الش‬ ‫والســـلبي ذي ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ومهم ــا يك ــن م ــن تقيي ــم لمؤّث ــرات ه ــذه‬ ‫الغربي ــة ف ــي َأ ْو ِج‬ ‫الفن ــون عل ــى الفن ــون‬ ‫ّ‬ ‫صراعاته ــا الّدافع ــة إل ــى ابت ــداع أس ــاليب‬ ‫مهمـــة للغايـــة‪،‬‬ ‫حداثيـــة وبعـــد‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫حداثيـــة ّ‬ ‫اإلفريقية‬ ‫ـون‬ ‫ـ‬ ‫الفن‬ ‫ـأن‬ ‫ـ‬ ‫ب‬ ‫اإلقرار‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫علين‬ ‫فإّنــه‬ ‫ّ‬ ‫رمزي ــة‬ ‫ـبيهية تش ـ‬ ‫ـخيصية وم ــن ّ‬ ‫ّ‬ ‫م ــن تش ـ ّ‬ ‫ـا إل ــى تغيي ــر وج ــه‬ ‫تجريدي ــة كان ــت دلي ـ ً‬ ‫ّ‬ ‫الغربيــة وإلــى دفــع‬ ‫اللّوحــة والمنحوتــة‬ ‫ّ‬ ‫ـورات المعاصــرة مــن فنــون البودي‬ ‫الّتصـّ‬ ‫أرت والّتنصيـــب والبرفورمونـــس إلـــى‬ ‫اكتشـــافات جديـــدة وأوجـــه مـــن الجـــّدة‬ ‫علــى نحــو غيــر مســبوق‪ .‬كمــا علينــا أن‬ ‫اإلفريقيــة المعاصــرة‬ ‫أن الفنــون‬ ‫ّ‬ ‫نوضــح ّ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫مهمــ ًا م ــن رواف ــد الح ــراك‬ ‫أضح ــت راف ــدًا ّ‬ ‫الفّن ــي العالم ــي المعاص ــر انطالقــ ًا م ــن‬ ‫المحليـــة ومـــن قـــدرات‬ ‫خصوصياتـــه‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الفنّاني ــن األفارق ــة عل ــى إح ــداث الف ــارق‬ ‫النّوعــي فــي الّتشــكيل المعاصــر اعتمــادًا‬ ‫علــى المــوروث والبيئــة المحلّييــن‪ ،‬حتى‬ ‫‪124‬‬

‫أن المحّلــي طريــق نحو‬ ‫صــار داللــة علــى ّ‬ ‫العالم ــي‪.‬‬

‫األصول يف ال ّرواج‬ ‫ـن اإلفريقــي‬ ‫تتواتــر الحكايــات عــن الفـّ‬ ‫األوروبيـــة‬ ‫وعـــن تأثيـــره فـــي الفنـــون‬ ‫ّ‬ ‫الحديث ــة والمعاص ــرة‪ ،‬بمث ــل م ــا تتوات ــر‬ ‫روايـــات وتفاســـير أخـــرى عـــن تأثيـــر‬ ‫ـامية ف ــي الفن ــون‬ ‫الفن ــون‬ ‫العربي ــة اإلس ـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫والعالمي ــة‪ .‬لك ــن‪ ،‬بي ــن الواق ــع‬ ‫الغربي ــة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫جاذبيــة الفنــون‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫حقيق‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫وبي‬ ‫ـال‪،‬‬ ‫والخيـ‬ ‫ّ‬ ‫اإلثنوغرافيــة‬ ‫وأهميــة أبعادهــا‬ ‫اإلفريقيــة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّقافيـــة وارتباطهـــا بنمـــط العيـــش‬ ‫والث ّ‬ ‫اإلفريقــي فــي عمــق نقائــه وابتعــاده عــن‬ ‫الغربي ــة ذات المنح ــى‬ ‫مؤّث ــرات الحداث ــة‬ ‫ّ‬ ‫يوظــف جميــع طاقــات‬ ‫ـذي‬ ‫االســتهالكي اّلـ‬ ‫ّ‬ ‫ـل هيمنــة العالــم‬ ‫ّ‬ ‫الشــعوب لفائدتــه فــي ِظـّ‬ ‫الحضاري ــة‬ ‫ـاط‬ ‫ـ‬ ‫لألنم‬ ‫ـده‬ ‫ـ‬ ‫وتوحي‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫الغرب‬ ‫ّ‬ ‫إن الفنـــون‬ ‫ّقافيـــة‪ ،‬بـــون شاســـع‪ّ .‬‬ ‫والث ّ‬ ‫ّي ــة الّت ــي‬ ‫ن‬ ‫الف‬ ‫ـطة‬ ‫ـ‬ ‫األنش‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫كباق‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫اإلفريقي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أطلــق عليهــا مصطلــح فنــون مــن طــرف‬ ‫والمؤرخين الغربيين‪،‬‬ ‫األنثروبولوجيين‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫رغـــم مـــا تختلـــف بـــه فـــي عمقهـــا عـــن‬ ‫وبخاصـــة‬ ‫المفهـــوم الغربـــي للفنـــون‬ ‫ّ‬ ‫كل م ــا‬ ‫ـكيلية‪ ،‬تختل ــف ع ــن ّ‬ ‫الفن ــون الّتش ـ ّ‬ ‫الفن على‬ ‫يمكــن أن ينضــوي تحــت طائلــة ّ‬ ‫أس ــاس أّن ــه رؤي ــة مخصوص ــة للعال ــم‪.‬‬ ‫وعلــى هــذا األســاس ال يمكــن أن نتعامــل‬ ‫ـيوبوجي ًا مــع المنتجــات‬ ‫فكريـ ًا وال سوسـ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫اإلفريقيــة مــن المصّنــف فنونـ ًا بالمنظــور‬ ‫ّ‬ ‫الس ــوق الفنّي ــة‬ ‫ـي اّل ــذي نح ــت ف ــي ّ‬ ‫الغرب ـ ّ‬ ‫غربي ــة‬ ‫الل‬ ‫ـون‬ ‫ـ‬ ‫الفن‬ ‫ـاح‬ ‫ـ‬ ‫اصط‬ ‫ـرة‬ ‫ـ‬ ‫المعاص‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫والّتــي أصبحــت مجــا ًال كبيــرًا للمعامــات‬ ‫الرم ــزي‬ ‫ّ‬ ‫المالي ــة ف ــي تج ــارة الرأس ــمال ّ‬ ‫نتفح ــص أعم ــال‬ ‫ف ــي العال ــم‪ .‬وقب ــل أن ّ‬

‫عبيرييـــن األلمـــان فـــي تعاملهـــم مـــع‬ ‫الّت‬ ‫ّ‬ ‫بيكاســـو‬ ‫وتعامـــل‬ ‫ـــة‬ ‫اإلفريقي‬ ‫األقنعـــة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫اإلفريقيـــة‬ ‫مـــع ذات األقنعـــة أو القطـــع‬ ‫ّ‬ ‫وبقي ــة‬ ‫المنحوت ــة عل ــى الخش ــب ّ‬ ‫خاص ــة ّ‬ ‫الطبيعيـــة المتعـــارف عليهـــا‪،‬‬ ‫المـــواد‬ ‫ّ‬ ‫علينــا أن ننظــر إلــى واقعهــا فــي أطرهــا‬ ‫تـــم‬ ‫ّقافيـــة‬ ‫ّ‬ ‫الث ّ‬ ‫والسوســـيولوجية الّتـــي ّ‬ ‫إنتاجهـــا فيهـــا‪ .‬واقـــع أطلـــق عليـــه‬ ‫الغـــرب النّمـــط البدائـــي أو‪ -‬باألحـــرى‪-‬‬ ‫والس ــاذج وغيره ــا م ــن مناظي ــر‬ ‫الخ ــام ّ‬ ‫وني ــة‪.‬‬ ‫االس ــتنقاص والرؤي ــة الّد ّ‬ ‫لقــد اســتبق األفارقــة األوروبييــن فــي‬ ‫تن ــاول العالم ــات المج ـ ّـردة المخطوط ــة‬ ‫والمرســومة والموشــومة علــى المحامــل‬ ‫اإلفريقيــة‪،‬‬ ‫العديــدة المتوافــرة فــي البيئــة‬ ‫ّ‬ ‫وليـــس مـــن الغريـــب أن تكـــون الثّقافـــة‬ ‫األمازيغيـــة مـــن الثّقافـــات القليلـــة فـــي‬ ‫ّ‬ ‫العال ــم الّت ــي خلق ــت إلرثه ــا الّتصوي ــري‬ ‫جريديــة‬ ‫الرمــوز واألشــكال الّت‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫مدونــة مــن ّ‬ ‫الرائع ــة الّت ــي أضح ــت بمثاب ــة الحص ــن‬ ‫ّ‬ ‫المتيـــن لتعبيـــرة عديـــد مـــن الفنّانيـــن‬ ‫المعاصريــن فــي العالــم العربــي مــن بالد‬ ‫الش ــرقاوي‪،‬‬ ‫المغ ــرب‪ ،‬عل ــى غ ــرار أحم ــد ّ‬ ‫ومحمــد خـّدة‪ ،‬وفريــد بلكاهيــة‪ .‬وهــو مــا‬ ‫ـكيلية‬ ‫ينســحب علــى عديد الّتعبيرات الّتشـ ّ‬ ‫لفنّانيـــن ســـودانيين أو مصرييـــن مـــن‬ ‫جن ــوب مص ــر‪ ،‬أولئ ــك الّذي ــن اس ــتثمروا‬ ‫ـرية الطويل ــة والمنمذج ــة‬ ‫الهيئ ــات البش ـ ّ‬ ‫والمؤســـلبة وفـــق مـــا توافـــر لهـــم فـــي‬ ‫إرثه ــم اإلفريق ــي‪ ،‬متقاطعي ــن ف ــي ذل ــك‬ ‫األلماني ــة‪ ،‬أمث ــال‬ ‫عبيري ــة‬ ‫ّ‬ ‫م ــع فنّان ــي الّت ّ‬ ‫كيرشــنر أحــد أبــرز فنّانــي جماعة الجســر‬ ‫الموازي ــة لجماع ــة الف ــارس األزرق ف ــي‬ ‫بدايــات القــرن العشــرين‪ ،‬والمتزامنــة مع‬ ‫تعبيــرات هنــري ماتيــس‪ ،‬وبيكاســو فــي‬ ‫باري ــس‪.‬‬

‫تنصيب ليونكا شونيبار‬

‫عمــت موجــة التأثّر بســحر الّتعبير‬ ‫لقــد ّ‬ ‫الســوداء‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫إفريقي‬ ‫ـس‬ ‫ـ‬ ‫(لي‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫اإلفريق‬ ‫الفّنــي‬ ‫ّ‬ ‫فقــط)‪ ،‬بحضــارة الفراعنــة وثقافــة البربر‬ ‫الســاحل‬ ‫وعروبــة شــمال إفريقيــا وبلــدان ّ‬ ‫الجنوب ــي‪ ،‬كموريتاني ــا وس ــاحل الع ــاج‬ ‫ومالــي والســينغال وغيرهــا مــن البلــدان‬ ‫المســتعمرة مــن طــرف الغــرب‪ ،‬إلــى حـّد‬ ‫الفنيـــة‬ ‫أصبحـــت فيـــه هـــذه الّتعبيـــرات ّ‬ ‫جماليـــة‬ ‫نمـــاذج ومنطلقـــات ألســـاليب‬ ‫ّ‬ ‫تدخ ــل تحوي ــرات عل ــى تمّث ــل النّم ــوذج‬ ‫البشــري مــن صــور وهيئــات‪ .‬والنّمــاذج‬ ‫ف ــي ذل ــك كثي ــرة كأعم ــال موديغليان ــي‬ ‫أو ســـابقه فـــان غـــوخ وغيرهمـــا مـــن‬ ‫الفنّانيــن الّذيــن وجــدوا ضالّتهــم فــي هــذا‬ ‫بالســـاذج‬ ‫البعـــد المنعـــوت بالبدائـــي أو ّ‬ ‫بالعفوي ــة ألنّه ــم أرادوا‬ ‫ـص‪-‬‬ ‫أو‪ -‬باألخ ـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫االحتمــاء مــن ســلطة النّمــوذج االنطباعي‬ ‫اّلــذي بــدأ يفقــد بريقه مع منعطــف بدايات‬ ‫الق ــرن العش ــرين وم ــن تكري ــس الحداث ــة‬ ‫للهيمنــة علــى الذّاتــي والفــردي‪ .‬وألهمــت‬ ‫األوروبييــن‬ ‫هــذه الفنــون عديــد الفنّانيــن‬ ‫ّ‬ ‫واألميركييـــن‪ -‬الحقـــاً‪ -‬أســـس تعبيـــر‬ ‫تشــكيلي ُمتحـّـرر مــن النّمــوذج األكاديمــي‬ ‫ـاتي ًا والمنصــوص عليــه‬ ‫مؤسسـ ّ‬ ‫المكـّـرس ّ‬ ‫واألميركيـــة‬ ‫األوروبيـــة‬ ‫الســـوق‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫فـــي ّ‬ ‫الجدي ــدة‪ .‬لذل ــك يمك ــن أن نس ـّـميها فتن ــة‬ ‫اآلخـــر فـــي عيـــون الغـــرب‪ ،‬ويمكـــن أن‬

‫الفني ــة‬ ‫ـو ع ــدد جامع ــي القط ــع ّ‬ ‫نفس ــر نم ـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫والمتحفيي ــن والّتج ــار ف ــي الفن ــون ذات‬ ‫اإلفريقي ــة بالمضاربي ــن الج ــدد‬ ‫األص ــول‬ ‫ّ‬ ‫فــي مجــال الّتجــارة فــي المنتــوج الرمــزي‬ ‫للش ــعوب‪.‬‬ ‫ّ‬

‫المح ّل ّية عنوان ال ّتم ّيز‬ ‫اإلفريقيـــة‬ ‫تتميـــز منتجـــات الفنـــون‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫جماليـــة تتجـــاوز ســـقف المعتـــاد‬ ‫بقيـــم‬ ‫ّ‬ ‫الغربيـــة‬ ‫األحيـــزة‬ ‫ضمـــن‬ ‫والمتـــداول‬ ‫ّ‬ ‫والحداثيـــة للفنـــون‪ ،‬فهـــي ال تنضبـــط‬ ‫ّ‬ ‫الكالسيكية‬ ‫ألساليبه‬ ‫وال‬ ‫الغرب‬ ‫ة‬ ‫بمعياري‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وال تع ــرف للمنظ ــور وقواع ــده س ــبيالً‪،‬‬ ‫بمــا أنّهــا كانــت نتيجــة لتفاعــل الحياتــي‬ ‫والطقوســـي وبالعـــادات‬ ‫بالمقـــّدس‬ ‫ّ‬ ‫الشــعوب فــي بســاطة‬ ‫والمعتقــدات لهــذه ّ‬ ‫وقويـــة المغـــزى‪ ،‬كمـــا‬ ‫عميقـــة المعنـــى‬ ‫ّ‬ ‫تتمي ــز بحض ــور كثي ــف لعدي ــد الخام ــات‬ ‫ّ‬ ‫الماديـــة‬ ‫جماليتهـــا‬ ‫المحليـــة الّتـــي لهـــا‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّري ــة باألل ــوان والغرافيزم ــات المثي ــرة‬ ‫الث ّ‬ ‫للعي ــن والّت ــي تح ـّـرك ف ــي النّاظ ــر إليه ــا‬ ‫بصريــة ممتعة‪.‬‬ ‫جماليــة ولـذّة‬ ‫أحاســيس‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وه ــذا م ــا يتواف ــق‪ -‬وبش ــكل كبي ــر‪ -‬م ــع‬ ‫الطالئعيـــة فـــي مســـتوى‬ ‫وجهـــات‬ ‫ّ‬ ‫الّت ّ‬ ‫الّتجريـــد الّتشـــكيلي الّـــذي يعتمـــد علـــى‬ ‫ـــكالنية لآلثـــار‪ -‬قاطعـــ ًا‬ ‫الش‬ ‫القـــراءة ّ‬ ‫ّ‬ ‫وبصف ــة كلّي ــة‪ -‬م ــع المعن ــى أو الّتاري ــخ‬

‫الفكري ــة لألث ــر ولمنتج ــه‪.‬‬ ‫المرجعي ــة‬ ‫أو‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وليــس بغريــب أن تتوافــق ل ـذّة اإلبصــار‬ ‫اإلفريقيــة‪،‬‬ ‫الغربيــة مــع عديــد المنتجــات‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫طورات الحاصلة‬ ‫ت‬ ‫ال‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫إل‬ ‫مردود‬ ‫ـك‬ ‫ـ‬ ‫ألن ذل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫اإلنشـــائية‬ ‫فـــي مســـتوى المقاربـــات‬ ‫ّ‬ ‫الفني ــة‬ ‫ـال‬ ‫ـ‬ ‫األعم‬ ‫الحديث ــة‪ ،‬الّت ــي تتن ــاول‬ ‫ّ‬ ‫أهمهــا القراءة‬ ‫مــن مناظيــر مختلفــة‪َ ،‬لعـّ‬ ‫ـل ّ‬ ‫الخارجيـــة لألثـــار المنتجـــة لخطـــاب‬ ‫ّ‬ ‫إنشـــائية‬ ‫نقـــدي وجمالـــي موكـــول إلـــى‬ ‫ّ‬ ‫المـــادة‪ .‬وقـــد اســـتطاعت المنتوجـــات‬ ‫ّ‬ ‫اإلفريقيــة أن تفــرض حضورهــا‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫اليدوي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الغربي ــة وعل ــى مس ــتوى‬ ‫عل ــى الذّائق ــة‬ ‫ّ‬ ‫الفنيــة مــن خــال هــذه المقاربات‬ ‫الســوق ّ‬ ‫ّ‬ ‫الحديثـــة ومـــن خـــال قدرتهـــا علـــى أن‬ ‫ومنعطيـــة للرؤيـــة‬ ‫أو ًال‬ ‫ّ‬ ‫تكـــون محلّيـــة ّ‬ ‫ـتثنائية ثالث ـاً‪ ،‬وهــو مــا وّفــر‬ ‫ثاني ـ ًا واسـ‬ ‫ّ‬ ‫ـوة حضورهــا‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫بق‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫إليه‬ ‫ـذب‬ ‫ـ‬ ‫الج‬ ‫أهليــة‬ ‫ّ‬ ‫لهــا ّ‬ ‫هــذه هــي المســألة الّتــي رفعــت مــن قيمــة‬ ‫اليدويـــة‪ ،‬مـــن مشـــغوالت‬ ‫المنتجـــات‬ ‫ّ‬ ‫حرفي ــة يت ـ ّـم تداوله ــا ضم ــن نس ــق م ــن‬ ‫ّ‬ ‫الّتعاطـــي الحياتـــي البســـيط المـــردود‬ ‫إل ــى الفط ــرة وإل ــى البداه ــة والمرتبط ــة‬ ‫بالطقـــوس وممارســـة الحيـــاة‪ .‬بهـــذه‬ ‫ّ‬ ‫النّظــرة‪ ،‬مــن الخارج طــوراً‪ ،‬ومن الّداخل‬ ‫قنيــة‬ ‫المـ ّ‬ ‫ـادي طــورًا آخــر ومــن األبعــاد الّت ّ‬ ‫ـ‬ ‫اإلنس‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫القيم‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫وم‬ ‫ا‬ ‫ـ‬ ‫ـ‬ ‫حين‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫اليدوي‬ ‫ـانية‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫والحضاري ــة لثقاف ــة يعّده ــا عب ــد الكبي ــر‬ ‫ّ‬ ‫‪125‬‬

‫الخطيبــي ثقافــة اإليقــاع أحيانـاً‪ ،‬تنبثــق‬ ‫اإلفريقيــة‪ .‬وتتضافــر فــي‬ ‫جاذبيــة القطــع‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ه ــذا المس ــتوى عدي ــد العوام ــل الّت ــي م ــن‬ ‫جاريــة‬ ‫ـور نســق المبــادالت الّت ّ‬ ‫أهمهــا تطـّ‬ ‫ّ‬ ‫منــذ انتصــاب االســتعمار وانبهــار الغــرب‬ ‫بالبعــد الحرفــي لهــذه المنتجــات والفنــون‬ ‫وســـطوة اآللـــة علـــى حيـــاة الغـــرب‬ ‫بحداثتهـــم وتقّدمهـــم ونـــزوع الفنّانيـــن‬ ‫والقائميـــن علـــى الوســـط الفنّـــي إلـــى‬ ‫فنيــة‪.‬‬ ‫تصنيــف المنتجــات‬ ‫الحرفيــة قطعـ ًا ّ‬ ‫ّ‬

‫وعي ومقاومة‬ ‫اإلفريقية‪ ،‬المتداولة‬ ‫أن الفنــون‬ ‫نعتقــد ّ‬ ‫ّ‬ ‫متوســط القــرن الّتاســع عشــر‪ ،‬هــي‬ ‫منــذ‬ ‫ّ‬ ‫الّتـــي وهبـــت الفنـــون المعاصـــرة فـــي‬ ‫إفريقيـــا دفعهـــا نحـــو البنـــاء الحقيقـــي‬ ‫لتعبي ــرة خالص ــة لش ــعوب تت ــوق إل ــى‬ ‫ّقافيــة واالقتصاديــة‪ ،‬وترغــب‬ ‫حريتهــا الث ّ‬ ‫ّ‬ ‫ف ــي نح ــت هويّته ــا الّت ــي ت ـ ّـم اس ــتنزافها‬ ‫وســـلعي ًا وهـــو مـــا‬ ‫جماليـــ ًا‬ ‫وتوظيفهـــا‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫س ــعت إلي ــه فئ ــة غي ــر قليل ــة الع ــدد ف ــي‬ ‫بلـــدان المغـــرب العربـــي وفـــي مصـــر‬ ‫الســـاحل اإلفريقـــي‪،‬‬ ‫والســـودان وبـــاد ّ‬ ‫ّ‬ ‫وليـــس مـــن الغريـــب فـــي شـــيء أن‬ ‫الســعي إلــى‬ ‫تتســابق لنــدن وباريــس فــي ّ‬ ‫اإلفريقيــة المعاصرة‪،‬‬ ‫اســتقطاب الفنــون‬ ‫ّ‬ ‫الســـمراء منهـــا‪ ،‬وألجـــل نســـج‬ ‫ّ‬ ‫خاصـــة ّ‬ ‫عالق ــات م ــع رج ــال االقتص ــاد المحليي ــن‬ ‫قصـــد دفـــع االســـتثمار فـــي الميـــدان‬ ‫الفّن ــي نأخ ــذ مث ــا ًال عل ــى ذل ــك مع ــرض‬ ‫«لنعـــرف إفريقيـــا أكثـــر» الّـــذي تشـــرف‬ ‫األميركي ــة «فيكتوري ــا م ــان» عل ــى‬ ‫علي ــه‬ ‫ّ‬ ‫ِغ ــرار مع ــرض «س ــحرة األرض» المق ــام‬ ‫فـــي باريـــس‪ ،‬أو مـــا يقـــوم بـــه رواق‬ ‫ينظـــم أربعـــة‬ ‫«خـــارج إفريقيـــا» الّـــذي ّ‬ ‫مع ــارض س ــنوي ًا ف ــي أوروب ــا لفنّاني ــن‬ ‫بالطابـــع اإلفريقـــي‬ ‫يتميـــزون ّ‬ ‫أفارقـــة ّ‬ ‫وبالطرافـــة والجـــّدة مثـــل «صامبـــو‬ ‫ّ‬ ‫بــوالي» مــن «بوركينــا فاســو» أو مواطنه‬ ‫ّح ــات «ب ــوكار بونكونق ــون» والفّن ــان‬ ‫الن ّ‬ ‫ـن‬ ‫مؤس ــس مجّل ــة «الف ـ ّ‬ ‫«أك ــوي أن ــزازور» ّ‬ ‫تحمــل عديد‬ ‫ـذي‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫وا‬ ‫اإلفريقــي المعاصــر»‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـؤوليات فــي مجــال الفنــون كرئاســة‬ ‫المسـ ّ‬ ‫األلمانيــة‬ ‫ـال»‬ ‫ـ‬ ‫«كاس‬ ‫ـة‬ ‫ـ‬ ‫بمدين‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫الدوكيمونت‬ ‫ّ‬ ‫ـــح‬ ‫ور ِّش َ‬ ‫بيـــن ســـنتي ‪ 1998‬و‪ُ ،2002‬‬ ‫لرئاســـة بينالـــي باريـــس‪ .‬وال يختلـــف‬ ‫‪126‬‬

‫تنافذ مع اآلخر لمار سيبوند الحلم بقيادة أوركسترا‬

‫اإلفريقي ــة ع ــن‬ ‫ه ــذا الفاع ــل ف ــي الفن ــون‬ ‫ّ‬ ‫«ســيمون نجمــي» الكاميرونــي اّلــذي وّفــر‬ ‫اإلفريقي ــة مج ــاالت عدي ــدة م ــن‬ ‫للفن ــون‬ ‫ّ‬ ‫أوروبـــا‪ ،‬أســـماء عديـــدة‬ ‫االنتشـــار فـــي‬ ‫ّ‬ ‫مــن بينهــا منيــر الفاطمــي المغربــي اّلــذي‬ ‫حي ــرت أعمال ــه المس ــتقاة م ــن األوض ــاع‬ ‫ّ‬ ‫والعالمية‬ ‫واإلفريقية‬ ‫العربيــة‬ ‫السياسـّـية‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أن‬ ‫فك ــر النّق ــاد بي ــن ق ــادح وم ــادح‪ .‬غي ــر ّ‬ ‫هـــذه الفنـــون المعاصـــرة قـــد وجـــدت‬ ‫طريقهــا إلــى االنتشــار بمعطيــات انتشــار‬ ‫الفني ــة‬ ‫س ــابقاتها نفس ــه م ــن الّتعبي ــرات ّ‬ ‫وخاصـــة اّتكاءهـــا علـــى‬ ‫قليديـــة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الّت ّ‬ ‫معطـــى الحياتـــي واليومـــي والمحلّـــي‬ ‫ـكيلية المعاص ــرة‪.‬‬ ‫ف ــي صياغاته ــا الّتش ـ ّ‬ ‫وه ــو أم ــر مه ــم للغاي ــة ف ــي م ــا نعتق ــد‬ ‫م ــن تفس ــير لظاه ــرة اإلقب ــال عليه ــا م ــن‬ ‫ط ــرف الغربيي ــن أنفس ــهم‪.‬‬ ‫حملـــت الفنـــون المعاصـــرة صـــورة‬ ‫الحياة في إفريقيا ومشــاغلها ومشــاكلها‪،‬‬ ‫ـحرية‬ ‫وعكســت أبعــادًا مــن‬ ‫السـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫الواقعيــة ّ‬ ‫الموصومــة بالّتخييــل‪ ،‬رغــم أنّهــا ال تمثّل‬ ‫ب ــل تقــّدم األش ــياء عل ــى م ــا ه ــي علي ــه‬ ‫بتأطيـــر تشـــكيلي أو‪ -‬لنقـــل‪ -‬بصـــري‬ ‫محتـــرم وذكـــي‪ .‬وقـــد توافـــرت أعمـــال‬ ‫الجنــوب إفريقــي األبيــض «بــرات بايلــي‬ ‫قضي ــة المي ــز‬ ‫ه ــوس» اّل ــذي تعام ــل م ــع ّ‬ ‫العنص ــري بب ــاده‪ ،‬ضم ــن سلس ــلة م ــن‬ ‫جس ــمها عدي ــد‬ ‫الع ــروض القياس ـّـية الّت ــي ّ‬ ‫الســود‪ ،‬منــذ ســنة ‪ 2010‬علــى عديــد‬ ‫مــن ّ‬ ‫ـكاليات المثيــرة للــرأي العــام الّدولي‬ ‫اإلشـ ّ‬ ‫والحقوقـــي‪ ،‬ألنهـــا تطـــرح واقـــع الميـــز‬ ‫العنص ــري برؤي ــة رج ــل أبي ــض‪ .‬توّل ــت‬

‫اإلفريقي ــة المعاص ــرة‬ ‫البصري ــة‬ ‫الفن ــون‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الســمراء‬ ‫ـارة ّ‬ ‫دور الّتعبيــر عــن قضايــا القـ ّ‬ ‫وعــن أســرارها دون أن تســقط فــي عديــد‬ ‫بعيـــة أو االنصيـــاع إلـــى‬ ‫مـــن فخـــاخ الّت ّ‬ ‫األنمــوذج الغربــي الموحـّد وصــارت هــي‬ ‫العالميــة بالجديد‬ ‫ممولــة للفنــون‬ ‫ّ‬ ‫األخــرى ّ‬ ‫مــن الّتعبيــرات والّتقنيــات والمقاربــات‪،‬‬ ‫حّتــى وإن شــابت بعــض نماذجهــا صيــغ‬ ‫االســـتجابة إلـــى طلـــب االســـتزادة مـــن‬ ‫صــورة الغريــب والعجيــب عــن اإلفريقــي‬ ‫وغيـــره مـــن الجنســـيات األخـــرى لـــدى‬ ‫الغ ــرب‪ .‬وتبق ــى ه ــذه الفن ــون أنموذجــ ًا‬ ‫للوعـــي المقـــاوم لســـيطرة الغـــرب‬ ‫ولتوجهـــات العولمـــة ألنّهـــا تحمـــل فـــي‬ ‫ّ‬ ‫طياتهــا روح الّتفـّـرد وصــدق التعاطــي‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ال بـّد أن نشــير فــي آخــر تناولنــا هــذا‬ ‫األهميــة الكبــرى الّتي وجدهــا بينالي‬ ‫إلــى‬ ‫ّ‬ ‫داكار للفن ــون المعاص ــرة أنموذجــ ًا ع ــن‬ ‫اإلفريقيـــة الكثيـــرة‬ ‫المؤسســـات الفنّيـــة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫العــدد‪ ،‬وقــد أصبــح هــذا البينالــي وجهــة‬ ‫للفنّانيــن العالمييــن إلــى أن صــار عالمــة‬ ‫فارقـــة فـــي الفنـــون المعاصـــرة والـــذي‬ ‫المهم ــة ل ــدى‬ ‫ّ‬ ‫أك ــد عل ــى الق ــدرات الفنّي ــة ّ‬ ‫أهلهــا كــي‬ ‫ة‬ ‫ـار‬ ‫ـ‬ ‫الق‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫مواطن‬ ‫الســمراء‪ ،‬مــا ّ‬ ‫ّ ّ‬ ‫ّدي ــة م ــع الغ ــرب‪.‬‬ ‫تك ــون ف ــي موض ــع الن ّ‬ ‫وه ــذا م ــا جع ــل عدي ــد األفارق ــة يتألّق ــون‬ ‫ولي ــة‪ ،‬ويتب ــوأون أه ــم‬ ‫ف ــي المحاف ــل الّد ّ‬ ‫المراتـــب وأعالهـــا فـــي إدارة شـــؤون‬ ‫الفنـــون المعاصـــرة بمـــا فـــي ذلـــك‬ ‫أوروب ــا وأمي ــركا‪.‬‬ ‫مهرجان ــات‬ ‫ّ‬

‫الفن اإلفريقي‬ ‫مناجم ّ‬ ‫أحمد لطف الله‬

‫الفنان النيجيري أولي أمودا وعمله الفني‬ ‫الموسوم بـ«عباد الشمس»‬

‫ـن‬ ‫م ــن بي ــن األم ــور المدهش ــة ف ــي الف ـ ّ‬ ‫اإلفريقـــي‪ ،‬تلـــك القـــدرة الخارقـــة التـــي‬ ‫امتلكهــا الفنــان فــي ترجمــة الملحــوظ إلــى‬ ‫عب ــر بصمته ــا البلي ــغ‬ ‫أش ــكال صامت ــة‪ُ ،‬ت ِّ‬ ‫ع ــن واق ــع القبائ ــل والتجمع ــات البش ــرية‬ ‫فـــي مناطـــق جنـــوب الصحـــراء‪ ،‬وألن‬ ‫ـن ه ــو المالحظ ــة‪،‬‬ ‫منب ــع الفك ــرة ف ــي الف ـ ّ‬ ‫مالحظـــة كل مـــا هـــو مثيـــر فـــي الواقـــع‬ ‫أو ف ــي الش ــعور‪ ،‬ف ــإن الفن ــان اإلفريق ــي‬ ‫الــذي ينتمــي لقبائــل مجبولــة علــى الصيــد‬ ‫اســتطاع أن يخلــق ثقافــة فنيــة أســطورية‬ ‫ترتكـــز علـــى فعـــل اصطيـــاد اإلنســـان‬ ‫للصـــورة‪ ،‬حيـــث اشـــتغلت أســـطورة‬ ‫الفـــن اإلفريقـــي علـــى عكـــس أســـطورة‬ ‫ّ‬ ‫تصيـــدت‬ ‫والتـــي‬ ‫اإلغريقيـــة‪،‬‬ ‫نرســـيس‬ ‫َّ‬ ‫فيهــا الصــورة اإلنســان‪ .‬ففــي داخــل الفنان‬ ‫اإلفريقــي هنــاك دائمـاً‪ ،‬تــوق جامــح إلــى‬ ‫تجســيد أشــكال تتميــز باألصالــة والمنحى‬ ‫الس ــحري‪.‬‬ ‫ارتبطــت المنحوتــات اإلفريقيــة القديمة‬ ‫بمختلــف نواحــي التفكيــر والعمــل اللذيــن‬ ‫عرفتهمـــا الحيـــاة اليوميـــة للتجمعـــات‬ ‫القبليـــة‪ ،‬ســـواء فـــي إفريقيـــا الغربيـــة‬ ‫(مالــي والغابون وبوركينافاســو والزائير‬ ‫وغانــا وســاحل العــاج‪ ،‬وغيرهــا)‪ ،‬أم فــي‬ ‫إفريقيـــا الجنوبيـــة أم إفريقيـــا الشـــرقية‬ ‫الشرقية (زيمبابوي وموزمبيق وتنزانيا‪،‬‬ ‫وغيرهـــا)‪ ،‬فقـــد مثلـــت المنحوتـــات‬ ‫(المصنوع ــة‪ -‬ف ــي الغال ــب‪ -‬م ــن الحج ــارة‬ ‫أو الخش ــب أو الحدي ــد) مختل ــف األنش ــطة‬ ‫اإلنســانية كالزراعة‪ ،‬وســحق الحبوب في‬ ‫الهــاون‪ ،‬أو بعــض اإليمــاءات الطقوســية‬ ‫أو وضعيــات الجلــوس الهــادئ ولحظــات‬ ‫التأمــل‪ ،‬أو جــاءت تجســيدًا لبعــض األفكار‬ ‫‪127‬‬

‫رأس امرأة ‪،‬‬ ‫منحوتة من‬ ‫البرونز‪ ،‬بيكاسو‬

‫العليــا كفكــرة الوحــي أو اإللهــام‪ ،‬وفكــرة‬ ‫الخطيئــة اإلنســانية‪ ،‬إلــى غيــر ذلــك ممــا‬ ‫كان يس ــتقر ف ــي الش ــعور اإلنس ــاني م ــن‬ ‫ال ــرؤى واألح ــام‪.‬‬ ‫غيـــر أن أمـــر تـــذوق العمـــل الفنـــي‬ ‫اإلفريقـــي مرهـــون دائمـــ ًا باستشـــعار‬ ‫ـن‪ ،‬فــإذا‬ ‫الطقــوس والشــعائر المرافقــة للفـ ّ‬ ‫ـن اإلفريقــي قــد ولــد مــن التلقائيــة‪،‬‬ ‫كان الفـّ‬ ‫أو كم ــا يؤك ــد العدي ــد م ــن الباحثي ــن‪ ،‬م ــن‬ ‫دوافـــع نفســـية ‪ Impulsions‬ال تمكـــن‬ ‫مقاومتهــا‪ ،‬فإن االحتكاك الدائم والمباشــر‬ ‫لإلنس ــان باألدغ ــال‪ ،‬خل ــق لدي ــه هاج ــس‬ ‫الرهبــة مــن القــوى الخفيــة للطبيعة‪ ،‬ومن‬ ‫ثـــم كان ملجـــؤه إلـــى الســـحر لمحاربـــة‬ ‫تلــك القــوى الجبــارة أمــرا طبيعيـاً‪ ،‬هكــذا‬ ‫أضحــت قبائــل الرعــاة فــي إفريقيــا تتحوم‬ ‫ح ــول الُن ُص ــب الفني ــة‪ ،‬وتحتف ــل بص ــورة‬ ‫طقوســـية غاصـــة بتجليـــات الســـحر‪،‬‬ ‫عب ــر الرقص ــات واألناش ــيد‪ ،‬وهك ــذا ُع ـ َّـدت‬ ‫تلــك المنحوتــات الفنيــة التجســيد المــادي‬ ‫للســحر‪ ،‬ورمــزًا لالنتصــار علــى الطبيعــة‪.‬‬ ‫إن المنحوتـــة اإلفريقيـــة تخضـــع‬ ‫للشــعائر المجتمعيــة‪ ،‬فهــي تنبــع من روح‬ ‫الجماعــة التــي تتفاعــل داخلهــا المتطلبــات‬ ‫الحياتي ــة م ــن أكل ولب ــاس وغيره ــا م ــع‬ ‫الحاجيــات الثقافيــة والحاجيات الروحية‪.‬‬ ‫ولذلــك فــإن مصــدر ذلــك الصنــم هــو‪ ،‬كمــا‬ ‫يعبــر ريجيــس دوبــري فــي كتابــه «حيــاة‬ ‫ِّ‬ ‫الصورة وموتها»‪ ،‬هو الضغط االجتماعي‬ ‫الــذي يتخــذ شــكل الرغبــة الالواعيــة‪ .‬ومــن‬ ‫هن ــا نفه ــم ذل ــك الث ــراء الفن ــي ال ــذي يمي ــز‬ ‫تحـــف إفريقيـــا‪ ،‬فالقنـــاع فـــي المعتقـــد‬ ‫الجمالـــي اإلفريقـــي ليـــس فقـــط غطـــاء‬ ‫الوج ــه كم ــا يعتق ــد الكثي ــرون‪ ،‬ب ــل ه ــو‬ ‫‪128‬‬

‫سيراليون‪ ،‬وعاء الملح‪ ،‬القرن السادس عشر‪ ،‬منحوتة من العاج‪ ،‬متحف األجناس البشرية‪ ،‬لندن‬

‫البذلــة التنكريــة ومجمــل الحلي واألســاور‬ ‫والعقــود‪ ،‬ثــم الموســيقى والرقــص الــذي‬ ‫تؤديـــه الطائفـــة التـــي تتـــراوح بيـــن‬ ‫المقــدس والمدنــس‪ .‬وقــد جــاء فــي «كتــاب‬ ‫الرمــوز» الــذي أعــده آمــي رونبيــرغ ‪Ami‬‬ ‫‪ Ronnberg‬ب ــأن القن ــاع س ــاعد اإلنس ــان‬ ‫علــى التعبيــر عــن عشــقه لآللهــة‪ ،‬وعلــى‬ ‫االستشـــفاء‪ ،‬وعلـــى تلقيـــن المبـــادئ‪،‬‬ ‫والحف ــاظ عل ــى قي ــادة المجموع ــة وعل ــى‬ ‫التقاليــد الجماعيــة‪ ،‬لكــن فــي الوقت نفســه‬ ‫فالقنــاع يعيــن على الهــروب واالنفالت من‬ ‫الســلط ‪ ،‬التــي تمتــد مــن ســلطة قائــد‬ ‫تلــك ُّ‬ ‫الجماعــة إلــى ســلطة المســتعمر الــذي نهب‬ ‫خي ــرات الش ــعوب اإلفريقي ــة‪.‬‬ ‫يؤكــد الباحــث الفرنســي وأســتاذ تاريخ‬

‫ـن لوريك زيربينــي ‪Laurick Zerbini‬‬ ‫الفـّ‬ ‫فــي كتابــه «أبجديــة الفنــون اإلفريقية» على‬ ‫أن الق ــرن التاس ــع عش ــر ل ــم يك ــن منصفــ ًا‬ ‫ف ــي ح ــق إفريقي ــا الس ــوداء‪ ،‬فق ــد تمي ــزت‬ ‫أبحــاث العلمــاء الغربييــن بإجحــاف كبيــر‬ ‫فـــي حـــق اإلنســـان اإلفريقـــي الـــذي اتهـــم‬ ‫بالبـــادة‪ ،‬وذلـــك مـــن أجـــل الرفـــع مـــن‬ ‫مركزيـــة األنمـــوذج األوروبـــي لإلنســـان‬ ‫األبيــض‪ ،‬ففــي مــادة «الزنجــي ‪»Le nègre‬‬ ‫ـح بييــر الروس ‪ Pierre Larousse‬عام‬ ‫ألـ َّ‬ ‫(‪ )1875 - 1817‬علـــى الضعـــف الثقافـــي‬ ‫و«البهيميــة» لشــخصية اإلنســان اإلفريقــي‬ ‫األس ــود‪ ،‬مالحظــ ًا أن دم ــاغ ه ــذا اإلنس ــان‬ ‫يتط ـ ّـور عل ــى ش ــاكلة تط ـ ّـور دم ــاغ الق ــرد‬ ‫نفس ــه‪.‬‬

‫وق ــد صاحب ــت ه ــذه النظ ــرة الغربي ــة‬ ‫االزدرائيــة لعالــم جنــوب الصحــراء‪ ،‬رغبة‬ ‫قوي ــة ف ــي معرف ــة ثقاف ــات ش ــعوب ه ــذا‬ ‫العالــم‪ ،‬وفهــم ســلوكياتها وعاداتهــا‪ ،‬وقــد‬ ‫ش ـّـكلت فن ــون ه ــذه المجتمع ــات المص ــدر‬ ‫الوحيــد لتحصيــل تلــك المعرفــة‪ ،‬ومــن ثــم‬ ‫اكتس ــبت القط ــع الفنّي ــة اإلفريقي ــة قيمته ــا‬ ‫عـــل هـــذا مـــا جعـــل أوروبـــا‬ ‫العاليـــة‪ ،‬وَل ّ‬ ‫تفك ــر جدي ـ ًا م ــع منتص ــف الق ــرن التاس ــع‬ ‫عشــر فــي إنشــاء متاحــف إثنولوجية تضم‬ ‫المجموعـــات الفنيـــة المســـماة «بدائيـــة»‬ ‫لتلــك الشــعوب التــي كانــت تعّدها شــعوب ًا‬ ‫«متوحش ــة»‪.‬‬ ‫الفـــن هـــو االنفتـــاح‬ ‫أصـــل‬ ‫وبمـــا أن‬ ‫ّ‬ ‫علـــى الوجـــود‪ ،‬حتـــى ينتشـــر اإلشـــعاع‬ ‫الجمالـــي علـــى كل بقـــاع األرض‪ ،‬فقـــد‬ ‫الفـــن لهـــذه‬ ‫كان مـــن البديهـــي تخطـــي‬ ‫ّ‬ ‫النظ ــرة الدوني ــة إلفريقي ــا أو يعم ــل عل ــى‬ ‫قبرهـــا مؤثـــرًا اســـتعارة جوهـــر اإلبـــداع‬ ‫اإلنســاني الحضــاري طالمــا أن الحضــارة‬ ‫فعــل ُوجــد مــع اإلنســان منــذ البــدء‪ .‬ولقــد‬ ‫جســـد الفنانـــون الرومانســـيون الخيـــال‬ ‫َّ‬ ‫االستش ــراقي ف ــي أعماله ــم‪ ،‬حي ــث تف ــوح‬ ‫والحمامـــات‬ ‫روائـــح حيـــاة القصـــور‬ ‫ّ‬ ‫المشــرقية‪ ،‬وينبعــث نقــع الفروســية فــي‬ ‫لوح ــات دوالك ــروا‪ ،‬وجيريك ــو‪ ،‬وغوي ــا‪،‬‬ ‫وتيرنــر‪ ،‬وغيرهــم‪ ،‬وعلــى غرارهــم انتبــه‬ ‫التكعيبيــون والســرياليون للفــن اإلفريقــي‬ ‫عـــل تأمـــل منحوتـــة «رأس المـــرأة»‬ ‫وَل ّ‬ ‫لبيكاســو يكفي لفهم اســتيعابه الســتعارة‬ ‫ـن ف ــي‬ ‫ـن اإلفريق ــي‪ .‬وق ــد لق ــي ه ــذا الف ـ ّ‬ ‫الف ـ ّ‬ ‫عقـــود متأخـــرة اهتمامـــ ًا واضحـــ ًا مـــن‬ ‫ـل‬ ‫طــرف العديــد مــن الفنانيــن العــرب‪ ،‬وَلعـّ‬ ‫الحــس باالنتمــاء القــاري المشــترك للفنان‬ ‫المغرب ــي كان أس ــاس اس ــتلهامه لرم ــوز‬ ‫ـن‪ ،‬نعثــر علــى ذلــك‪ -‬خصوص ـاً‪-‬‬ ‫هــذا الفـ ّ‬ ‫فــي أعمــال فريــد بلكاهية‪ ،‬وفــي التقابالت‬ ‫اللونيــة فــي أعمــال محمد شــبعة األخيرة‪،‬‬ ‫وفــي هيئــة األجســاد المقتحمــة للصحــراء‬ ‫فــي أعمــال محمــد القاســمي‪ ،‬الــذي كان كما‬ ‫يقــول الشــاعر محمــد بنيــس‪« :‬يتجــه نحــو‬ ‫الجنـــوب‪ ،‬مـــن صحـــراء إلـــى صحـــراء‪،‬‬ ‫ف ــي إفريقي ــا‪ .‬ف ــي التوج ــه نح ــو الجن ــوب‬ ‫ـل منفتحـاً‪.‬‬ ‫رغبــة لمــس المنفتــح الــذي يظـّ‬ ‫عتم ــة أو ال نهاي ــة‪ .‬والصح ــراء اإلفريقي ــة‬ ‫مـــكان عـــود إلـــى البدئـــي‪ ،‬فـــي الوعـــي‬

‫سيكير كمبير ‪ ،‬أقنعة ‪ ،‬القرن العشرون‪ ،‬خشب ‪ ،‬متحف التاريخ الطبيعي‪ ،‬ليون‬

‫الجمال ــي العرب ــي المتجس ــدن ف ــي العص ــر‬ ‫الجاهل ــي» (كاتال ــوغ محم ــد القاس ــمي أو‬ ‫معادل ــة المعن ــى)‪.‬‬ ‫ـن اإلفريق ــي ف ــي‬ ‫ول ــم يك ــن تأثي ــر الف ـ ّ‬ ‫الفن ــون العالمي ــة عل ــى مس ــتوى اإلب ــداع‬ ‫فق ــط‪ ،‬ب ــل عل ــى مس ــتوى ت ــداول العم ــل‬ ‫ـن‬ ‫الفّن ــي أيضــاً‪ ،‬حي ــث يعلمن ــا درس الف ـ ّ‬ ‫الفـــن يخلـــق‬ ‫اإلفريقـــي أن العيـــش مـــع‬ ‫ّ‬ ‫أنواعـ ًا مــن االســتجابات المتفاوتــة‪ ،‬وهي‬ ‫اســتجابات تخــص ملكــة الــذوق‪ ،‬وترعــى‬ ‫نمـــو الخبـــرة الجماليـــة‪ ،‬ولذلـــك حـــاول‬ ‫فنانـــو العصـــر الحديـــث إدخـــال العمـــل‬ ‫الفّنــي (اللوحــة والمنحوتــة) إلــى البيــوت‬ ‫والش ــوارع والمصان ــع والمؤسس ــات‪.‬‬ ‫ـل العدي ــد م ــن فنان ــي إفريقي ــا‬ ‫ولق ــد َظ ـ ّ‬ ‫إلـــى عهـــود متأخـــرة أوفيـــاء لألصـــل‪،‬‬ ‫ـورا لألش ــكال التقليدي ــة‪ ،‬وم ــن بي ــن‬ ‫مط ـ ِّ‬ ‫هـــؤالء الفنّـــان ســـيكير كامبيـــر ‪Sikir‬‬ ‫‪ )Kambire 1963 - 1896‬وهـــو مـــن‬ ‫أب ــرز فنان ــي بوركينافاس ــو‪ ،‬وال ــذي ب ــدأ‬ ‫النح ــت ف ــي س ــن مبك ــرة‪ ،‬واس ــتطاع أن‬ ‫يخلــق أســلوبه المتميــز في نحــت األقنعة‪،‬‬ ‫وفــق مورفولوجيــة للوجــه محـّددة بدقــة‪.‬‬ ‫إيمانـ ًا منــه بــأن التقنيــة هــي أصــل العمــل‬ ‫الفنـــي‪ ،‬وأن ليـــس اعتباطـــ ًا أن يطلـــق‬ ‫اليون ــان كلم ــة التقن ــي عل ــى الصناع ــة‪،‬‬ ‫ـن معــاً‪ ،‬ولذل ــك اعتن ــى بم ــا يدع ــوه‬ ‫والف ـ ّ‬ ‫هايدغــر بنية الشــيء التحتيــة‪ ،‬والتي هي‬ ‫الحقيقــة األولــى فــي العمــل الفنــي‪ ،‬والتــي‬

‫تتأس ــس عليه ــا البني ــة الفوقي ــة للعم ــل‪،‬‬ ‫والت ــي تتضم ــن م ــا ه ــو فن ــي‪.‬‬ ‫واآلن‪ ،‬وق ــد م ــرت حق ــب تل ــو أخ ــرى‬ ‫علـــى عهـــود الماضـــي الفنـــي اإلفريقـــي‬ ‫الس ــاحر‪ ،‬نج ــد‪ ،‬م ــن الفناني ــن األفارق ــة‪،‬‬ ‫م ــن أق ــام قطيع ــة م ــع التقليدي ــة الفني ــة‬ ‫معتنقـ ًا روح الثقافــة الجديــدة‪ ،‬واالنخراط‬ ‫فــي موجــة مــا بعــد الحداثــة الفنيــة‪ ،‬وقــد‬ ‫َقــّد َم بينال ــي داكار اإلفريق ــي ف ــي دورت ــه‬ ‫الحاديـــة عشـــرة (‪)DAK’ART 2014‬‬ ‫تش ــكيلة م ــن ه ــؤالء الفناني ــن‪ ،‬تراوح ــت‬ ‫أعمالهــم بيــن النحــت والتصويــر وأشــكال‬ ‫البيرفورمونـــس‪ ،‬وغيرهـــا مـــن أنـــواع‬ ‫التعبيــر الفنــي‪ .‬ومــن بيــن هــؤالء الفنــان‬ ‫النيجيـــري أولـــي أمـــودا ‪،Olu Amoda‬‬ ‫الــذي تتجســد لديــه فكــرة الشــكل كمعطــى‬ ‫بالســتيكي ذي أهميــة خاصــة‪ ،‬وقــد نــال‬ ‫الجائ ــزة الكب ــرى للبينال ــي مناصف ـ ًـة م ــع‬ ‫الفن ــان الجزائ ــري إدري ــس وضاح ــي‪.‬‬ ‫إذا كان االقتصـــاد العالمـــي قـــد انتبـــه‬ ‫متأخــرًا لمناجــم الثــراء اإلفريقيــة‪ ،‬خاصــة‬ ‫فيمــا يتعّلــق بالثروة البشــرية‪ ،‬فإن الفن‪،‬‬ ‫وعل ــى نط ــاق ش ــامل‪ ،‬ق ــد اهت ــدى مبك ــرًا‬ ‫إلـــى أن مـــا َعـــّده البعـــض أشـــكا ًال فنيـــة‬ ‫إفريقي ــة «بدائي ــة»‪ ،‬ه ــي‪ -‬ف ــي جوهره ــا‪-‬‬ ‫نم ــاذج خارق ــة للتمث ــل الفن ــي الحس ــي‪،‬‬ ‫ُت َعـــّد ثـــروة حقيقيـــة لشـــعوب خلّـــدت‪،‬‬ ‫ـن‪ ،‬تاريخه ــا المجي ــد ف ــي‬ ‫عب ــر أش ــكال الف ـ ّ‬ ‫صم ــت كئي ــب‪.‬‬ ‫‪129‬‬

‫األقنعة اإلفريقية‬ ‫إبراهيم الحَ يْسن‬ ‫ينتش ــر القن ــاع اإلفريق ــي عل ــى نح ــو‬ ‫واســـع فـــي أقصـــى شـــمال وغـــرب‬ ‫وجنـــوب وشـــرق القـــارة الســـمراء‪،‬‬ ‫ولــكل بلــد إفريقــي أقنعتــه الخاصــة التي‬ ‫تمتــح كثيــرًا مــن تراثــه‪ ،‬وتحمــل معانــي‬ ‫وتجس ــد العدي ــد م ــن‬ ‫إنس ــانية وثقافي ــة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫المتنوعـــة‪ .‬وتختلـــف أنـــواع‬ ‫طقوســـه‬ ‫ّ‬ ‫وأحجـــام األقنعـــة باختـــاف الوظائـــف‬ ‫الت ــي تق ــوم به ــا‪ ،‬فه ــي ق ــد تظه ــر ف ــي‬ ‫ركب ــة‪،‬‬ ‫وم ّ‬ ‫ش ــكل وج ــوه آدمي ــة ُمتف ـّـردة ُ‬ ‫أو ف ــي هيئ ــة رؤوس حيواني ــة مخيف ــة‬ ‫ومرعبـــة‪.‬‬ ‫ُيصنـــع القنـــاع اإلفريقـــي مـــن‬ ‫تنوع ــة‪ ،‬ف ــي‬ ‫مجموع ــة م ــواد وأس ــندة ُم ّ‬ ‫مقدمتهـــا الخشـــب والجلـــود (المدبوغـــة‬ ‫وغيـــر المدبوغـــة) ورؤوس الحيوانـــات‬ ‫‪130‬‬

‫واألعش ــاب واأللي ــاف وأوراق األش ــجار‬ ‫فضـــا عـــن العـــاج‬ ‫والقـــش والريـــش‪..‬‬ ‫ً‬ ‫والقواقـــع والمحاريـــات والعظـــام‬ ‫والمعـــادن واألحجـــار الكريمـــة وجلـــود‬ ‫الوع ــول الالمع ــة‪ ،‬كم ــا ه ــو الح ــال عن ــد‬ ‫قبائ ــل اإليك ــوي ف ــي نيجيري ــا‪ ،‬وأيضــ ًا‬ ‫مــن لحــاء األشــجار المطروقــة والزجاج‪،‬‬ ‫وغيـــر ذلـــك كثيـــر‪.‬‬ ‫فك ــر الفرنس ــي‬ ‫والم ّ‬ ‫يعت ــرف الروائ ــي ُ‬ ‫أندريــه مالــرو‪« :A. Malraux ،‬عندمــا‬ ‫يشــاهد أحــد منــا قناعـ ًا إفريقيـ ًا مصنوعـ ًا‬ ‫مـــن الخشـــب (أو غيـــره)‪ ،‬يلمـــس فيـــه‬ ‫ـــل نظيرهـــا ممزوجـــة‬ ‫براعـــة يدويـــة َق ّ‬ ‫بروحانيـــة تعبيريـــة تســـيطر علـــى‬ ‫مالمحـــه‪ ..‬وهـــذا مـــا منـــح فـــن النحـــت‬ ‫اإلفريق ــي مس ــحة خاص ــة م ــن الروع ــة‬

‫واإلتقـــان»‪.‬‬ ‫يكــون الهــدف مــن وراء صناعة القناع‬ ‫اإلفريقـــي وارتدائـــه‪ ،‬إيقـــاظ مجموعـــة‬ ‫مـــن العواطـــف والمشـــاعر المفتـــرض‬ ‫توافرهـــا فـــي العشـــيرة أو القبيلـــة‪،‬‬ ‫كالش ــجاعة والق ــوة والغ ــرور‪ ،‬كم ــا ق ــد‬ ‫يك ــون التحصي ــن بواس ــطته هدفــ ًا ض ــد‬ ‫القــوى الخفيــة واألرواح الشــريرة‪ ،‬حيث‬ ‫ُي َّتخــذ القنــاع وســيلة لالحتمــاء والعــاج‬ ‫والم ــداواة وتحقي ــق الت ــوازن النفس ــي‪..‬‬ ‫ه ــذا باإلضاف ــة إل ــى اس ــتعماله للحف ــاظ‬ ‫عل ــى المغروس ــات‪..‬‬ ‫وهـــذه األقنعـــة نوعـــان‪ :‬أقنعـــة‬ ‫الرقــص التــي تســتعمل خالل المناســبات‬ ‫الديني ــة والطق ــوس الس ــحرية واألعي ــاد‬ ‫الشــعبية‪ ،‬وأقنعــة الوجــه التي تســتعمل‬

‫ف ــي الع ــروض الدرامي ــة وتقم ــص أدوار‬ ‫تحيــل علــى عالــم الشــياطين والعفاريــت‬ ‫ـا عن‬ ‫والجنــون واألرواح الشــريرة‪ ،‬فضـ ً‬ ‫طقـــوس الســـحر والتطبيـــب والتطهيـــر‬ ‫والخصوبـــة ومراســـم المـــوت والفـــن‪..‬‬ ‫وغي ــر ذل ــك‪.‬‬ ‫ُتســتعمل األقنعــة فــي إفريقيــا لتعزيــز‬ ‫مشـــاعر الرجولـــة واالحتفـــال ببعـــض‬ ‫الظواهــر الطبيعيــة‪ ،‬كزفــاف القمــر إلــى‬ ‫الش ــمس أو تســـتعمل كرقي ــة لالحتم ــاء‬ ‫مـــن أضـــرار الشـــر والحســـد ومطـــاردة‬ ‫فضـــا‬ ‫النحـــس وســـوء الطالـــع‪..‬‬ ‫ً‬ ‫عـــن االحتفـــال بانتقـــال األطفـــال مـــن‬ ‫مرحل ــة الطفول ــة إل ــى مرحل ــة المراهق ــة‬ ‫وانخراطه ــم ضم ــن جماع ــة الراش ــدين‪،‬‬ ‫كمـــا قـــد تســـتعمل األقنعـــة لالســـتجابة‬ ‫لنــوازع داخليــة مــا وتفريــغ المكبوتــات‬ ‫وتصريـــف االنفعـــاالت وتجســـيد أفـــكار‬ ‫بدائيـــة لمجتمـــع بدائـــي تنمـــو فيـــه‬ ‫المعرف ــة بوتائ ــر م ــن الخب ــرة المتوارث ــة‬ ‫والمتناقلـــة‪ .‬فاألقنعـــة «تلعـــب دورًا‬ ‫مهمــ ًا وأساس ــي ًا ف ــي الطق ــوس الديني ــة‬ ‫والســحرية‪ .‬إنهــا‪ -‬بصــورة عامة‪ -‬وجوه‬ ‫مصنوعــة فنيـ ًا مــن مــواد مختلفــة تلبــس‬ ‫ِّ‬ ‫وتمثــل األجــداد‬ ‫علــى الوجــه أو الــرأس‪،‬‬ ‫واألرواح والش ــياطين وطوط ــم القبيل ــة‬ ‫وغيرهـــا»(‪..)1‬‬ ‫وكمـــا ألنـــواع األخشـــاب وجـــذور‬ ‫الشـــجيرات الصغيـــرة والقـــش التـــي‬ ‫تصنــع منهــا األقنعــة البعيــدة فــي الرموز‬ ‫التــي تشــير إلــى نســب القبيلــة أو نســب‬ ‫الراق ــص أو قدس ــية الش ــجرة‪ ،‬ف ــإن ل ــكل‬ ‫مــادة تثبــت علــى القنــاع داللتهــا الرمزيــة‬ ‫م ــن حي ــث قيمته ــا المعنوي ــة ف ــي الق ــدرة‬ ‫اإليحائيـــة ومـــن حيـــث موقعهـــا مـــن‬ ‫القن ــاع‪ ،‬كاألحج ــار بأنواعه ــا أو عظ ــام‬ ‫الحيوانـــات أو الخـــرز الملـــون‪ ،‬وذلـــك‬ ‫باإلضاف ــة إل ــى أهميته ــا التزييني ــة ذات‬ ‫الطابـــع التوظيفـــي فـــي ســـلّم القيـــم‬ ‫االجتماعيـــة(‪.)2‬‬ ‫ينـــدرج القنـــاع اإلفريقـــي‪ ،‬بمداليلـــه‬ ‫ـن‬ ‫ومفاهيم ــه الكثي ــرة‪ ،‬ضم ــن خان ــة الف ـ ّ‬ ‫الخ ــام ‪ brut Art‬القائ ــم عل ــى الفط ــرة‬ ‫والبســاطة‪ ،‬كمــا ينطــوي علــى مجموعــة‬ ‫م ــن الطق ــوس والحكاي ــات واألس ــاطير‬ ‫الش ــعبية الت ــي ترس ــم تاري ــخ إفريقي ــا‬

‫والتنـــوع‬ ‫العريـــق والحافـــل بالتعـــّدد‬ ‫ُّ‬ ‫شـــكل‬ ‫ي‬ ‫ذلـــك‪،‬‬ ‫الثقافـــي‪ .‬وإضافـــة إلـــى‬ ‫ُ ّ‬ ‫القن ــاع اإلفريق ــي رم ــزًا خال ــدًا للطق ــوس‬ ‫والمعتقـــدات الروحانيـــة ومظهـــرًا مـــن‬ ‫مظاه ــر االحتف ــال الش ــعبي الجماع ــي‪.‬‬ ‫تتفــاوت األقنعــة اإلفريقيــة علــى مدى‬ ‫المعانــي والرمــوز التــي تنطــوي عليهــا‪،‬‬ ‫ويبــدأ االحتفــال بهــا انطالقـ ًا مــن نوعيــة‬ ‫المــواد التــي تصنــع منهــا‪ ،‬خاصــة مــادة‬ ‫الخشــب‪ ،‬إذ يســود اإليمــان لــدى الكثيــر‬ ‫مــن القبائــل اإلفريقيــة بفعاليــة الشــجرة‬ ‫التـــي يقطـــع منهـــا (مصـــدر الحيـــاة)‪..‬‬ ‫ويرافــق هــذا االحتفال استشــارة المرشــد‬ ‫الروحـــي وإقامـــة طقـــوس خاصـــة‬ ‫ُّ‬ ‫لتطهي ــر ال ــذات وتقدي ــم القرابي ــن تقربــ ًا‬ ‫إل ــى روح الش ــجرة‪.‬‬ ‫ففـــي إفريقيـــا الشـــرقية‪ ،‬تســـتعمل‬ ‫األقنعـــة احتفـــا ًال بانتقـــال األطفـــال‬ ‫إلـــى مرحلـــة البلـــوغ (أنمـــوذج قبيلـــة‬ ‫الماكونـــدي)‪ .‬أمـــا بإفريقيـــا الوســـطى‬ ‫والكونغ ــو‪ ،‬فتس ــتعمل لغاي ــات زراعي ــة‬ ‫وتجاريــة بحتــة‪ ،‬حيــث تعكــس اهتمــام‬ ‫القبائـــل بهذيـــن القطاعيـــن الحيوييـــن‪،‬‬ ‫كمــا هــو شــائع لــدى قبائــل البينالولــوا‬ ‫والبونجــوي‪ .‬فهــذه األقنعــة‪ ،‬تظهــر على‬ ‫نط ــاق واس ــع م ــن التلوي ــن والزخرف ــة‬ ‫خصوصــ ًا ف ــي انس ــجامها م ــع أجس ــاد‬ ‫الراقصيـــن المزينـــة بالطيـــن والرمـــاد‬ ‫فضـــا‬ ‫والصلصـــال والفحـــم النباتـــي‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ع ــن الحل ــي والقم ــاش وألي ــاف الرافي ــا‪.‬‬ ‫وعل ــى امت ــداد الق ــارة اإلفريقي ــة م ــن‬ ‫ش ــرقها إل ــى غربه ــا إل ــى جنوبه ــا إل ــى‬ ‫ـل ف ــن‬ ‫ح ــوض الكونغ ــو وأطراف ــه‪ ،‬يظ ـ ّ‬ ‫صناعـــة القنـــاع‪ ،‬بالنســـبة لمواطنـــي‬ ‫تلـــك المناطـــق‪ ،‬مـــن أكثـــر الفنـــون‬ ‫المتداولـــة إثـــارة لإلعجـــاب‪ ،‬وذلـــك‬ ‫لبراعته ــم الفائق ــة ف ــي صنعه ــا وغ ــزارة‬ ‫مداليلهـــا(‪.)3‬‬ ‫القنــاع اإلفريقــي حقــل أنثروبولوجي‬ ‫وإثنوغرافــي خصيــب يرســم خصائــص‬ ‫المجتمعــات التــي تبدعه‪ ،‬ونتــاج إبداعي‬ ‫إنس ــاني يق ــوم عل ــى االرتب ــاط الروح ــي‬ ‫بالمقــّدس واالعت ــراف الرم ــزي بالجس ــد‬ ‫الموســـوم بطقـــوس احتفاليـــة يمتـــزج‬ ‫فيه ــا الس ــحري والغرائب ــي والجمال ــي‪.‬‬ ‫ولذلـــك‪ ،‬فمـــن الخطـــأ أن نعـــّده إبداعـــ ًا‬

‫س ــاذج ًا وتلقائيــ ًا يق ــوم عل ــى الغراب ــة‬ ‫والتخل ــف بمعناهم ــا الس ــلبي‪ ،‬فه ــو ف ــن‬ ‫بســـيط‪ ،‬غيـــر معقـــد‪ ،‬يعكـــس الحـــس‬ ‫الجمالــي والتعبيــري الصادق والحصيف‬ ‫عــن المشــاعر وخلجــات النفــس البشــرية‬ ‫ل ــدى اإلنس ــان اإلفريق ــي‪ .‬وفض ــل القن ــاع‬ ‫اإلفريقـــي (أو النحـــت الزنجـــي عمومـــاً)‬ ‫ـور الكثي ــر م ــن الفن ــون الحديث ــة‬ ‫ف ــي تط ـ ُّ‬ ‫ال ينك ــره أح ــد‪ ،‬وذل ــك باعت ــراف كب ــار‬ ‫المبدعيــن‪ ،‬أبرزهــم بيكاســو‪ ،‬وســيزان‪:‬‬ ‫األول ف ــي اس ــتعماله للتس ــطيح اللون ــي‬ ‫زمـــن المرحلـــة الممهـــدة للتصويـــر‬ ‫االنطباعـــي‪ ،‬والثانـــي فـــي اكتشـــافه‬ ‫ألســـلوب التشـــريح الشـــكلي فـــي‬ ‫عب ــر العدي ــد‬ ‫الرس ــم التكعيب ــي‪ ،‬بحي ــث َّ‬ ‫مـــن اللوحـــات عـــن اهتمـــام بيكاســـو‬ ‫بالنحـــت الزنجـــي‪ ،‬أبرزهـــا لوحـــة‬ ‫«آنســـات أفينيـــون» (‪Demoiselles‬‬ ‫‪ )d’Avignon (4‬التـــي رســـمها عـــام‬ ‫‪ ..1907‬وبعـــد ذلـــك بســـنوات أصبـــح‬ ‫ـن اإلفريق ــي فنــ ًا رس ــمي ًا ف ــي س ــوق‬ ‫الف ـ ّ‬ ‫باريـــس للفنـــون الجميلـــة‪ ،‬خصوصـــ ًا‬ ‫عقـــب المعـــرض الـــذي ُأقيـــم فـــي قاعـــة‬ ‫«ب ــول غلي ــوم»‪ ،‬أض ــف إل ــى ذل ــك تأث ــر‬ ‫الرســام اإلنجليزي فرانســيس بيكون ‪F.‬‬ ‫‪ Bacon‬باألقنع ــة اإلفريقي ــة م ــن خ ــال‬ ‫وجوهــه الكاريكاتوريــة الممزقــة تمزيقاً‪،‬‬ ‫والنحــات برانكوزي ‪ Brancusi‬بقطعه‬ ‫الحجريــة ذات الكتــل والبنيــات المصاغــة‬ ‫عل ــى طريق ــة النح ــت الزنج ــي‪.‬‬ ‫هوامش وإحاالت‪:‬‬

‫‪ - 1‬إبراهيـــم الحيـــدري‪ ،‬إثنولوجيـــا الفنـــون‬ ‫التقليديـــة‪ /‬دار الحـــوار للنشـــر والتوزيـــع‪-‬‬ ‫الالذقي ــة‪ /‬س ــورية‪ -‬الطبع ــة األول ــى (ص‪.)72 .‬‬ ‫‪ - 2‬بلنــد الحيــدري‪ ،‬زمــن لــكل األزمنــة‪ /‬نظــرات‬ ‫وآراء ف ــي الف ــن‪ ،‬المؤسس ــة العربي ــة للدراس ــات‬ ‫والنشــر‪ -‬الطبعــة األولــى ‪( 1981‬ص‪.)80 .‬‬ ‫‪ - 3‬زمــن لــكل األزمنــة‪ /‬نظــرات وآراء فــي الفــن‪/‬‬ ‫م‪ .‬م‪( .‬ص‪.)77 .‬‬ ‫‪ - 4‬لـــم تظهـــر لوحـــة «آنســـات أفينيـــون» إلـــى‬ ‫الوج ــود س ــوى ف ــي صي ــف ‪ ،1937‬بع ــد م ــرور‬ ‫ثالثيـــن ســـنة علـــى إنجازهـــا‪ ،‬ولـــم يشـــاهدها‬ ‫قب ــل ظهوره ــا س ــوى بع ــض األصدق ــاء المقربي ــن‬ ‫للفنــان بيكاســو‪ ،‬أبرزهــم جــورج بــراك المنشــق‬ ‫عــن الحركــة الوحشــية‪ ،‬وأندريــه بريتــون عـّـراب‬ ‫المدرس ــة الس ــريالية‪.‬‬ ‫‪131‬‬

‫آنسات أفينيون «اإلفريقيات«‬ ‫عزيز أزغاي*‬

‫ـن اإلفريقــي‪ -‬هكــذا‪ ،‬فــي‬ ‫عالقتــي بالفـ ّ‬ ‫عموميتــه‪ -‬ترتبــط‪ ،‬فــي جزء كبيــر منها‪،‬‬ ‫بوجدانـــي‪ ،‬بأحاسيســـي‪ ،‬بمشـــاعري‬ ‫الخاصــة‪ ،‬وبتلــك الذاكــرة البعيــدة التــي‬ ‫تعــود إلــى مرحلــة الطفولــة‪ ،‬حينمــا كنت‬ ‫أتلقـــى األصـــوات والمشـــاهد واأللـــوان‬ ‫والحكايــات مــن خالل حواســي البدائية‪،‬‬ ‫الت ــي ل ــم تص ــغ ميوالته ــا ونضجه ــا بع ــد‬ ‫آلــة الثقافــة والفكــر والمعرفــة وقوانيــن‬ ‫اإلب ــداع‪.‬‬ ‫أول تلـــك اللقـــاءات الباكـــرة كانـــت‬ ‫موســيقية بالدرجــة األولــى‪ ،‬حيــن كانــت‬ ‫بع ــض ف ــرق «كن ــاوة» الموس ــيقية‪ ،‬ذات‬ ‫األصـــول اإلفريقيـــة‪ ،‬الغريبـــة الملبـــس‬ ‫واإليقاعــات واألصــوات الحــارة القريبــة‬ ‫م ــن الهمهم ــات المتألم ــة‪ ،‬تج ــوب أزقتن ــا‬ ‫وحوارينـــا وأســـواقنا الشـــعبية‪ ،‬طلبـــ ًا‬ ‫للـــرزق‪ ،‬وهـــي تعـــزف علـــى آالت ‪-‬‬ ‫مث ــل الطب ــل و«القراق ــب» و«الهجه ــوج أو‬ ‫الســنتير»‪ -‬تنبعــث منهــا موســيقى يمتزج‬ ‫حزنه ــا الواض ــح بضوضائه ــا المحبب ــة‪.‬‬ ‫حال ــة م ــن الرهب ــة والغم ــوض كان ــت‬ ‫تتملكنـــي وأنـــا أتأمـــل مالبـــس أولئـــك‬ ‫المتعـــّددة‬ ‫العازفيـــن المغاربـــة الســـود‪ُ ،‬‬ ‫األلـــوان‪ ،‬المزينـــة باألصـــداف البحريـــة‬ ‫والخطـــوط والرســـومات الهندســـية‬ ‫الغريبـــة‪ .‬الرهبـــة نفســـها والغمـــوض‬ ‫نفســه كنــت أحســهما كذلــك وأنــا أنصــت‬ ‫إلـــى إيقاعـــات موســـيقاهم الســـحرية‪،‬‬ ‫التـــي تمتـــزج فيهـــا نغمـــات الموســـيقى‬ ‫بتل ــك األص ــوات الح ــارة وه ــي تتغن ــى‬ ‫بأســـماء بعـــض األوليـــاء الصالحيـــن‪،‬‬ ‫وببعــض «ملــوك الجــن» الذيــن اشــتهروا‬ ‫‪132‬‬

‫بألق ــاب معلوم ــة ف ــي ثقاف ــة ه ــذا الن ــوع‬ ‫الموســـيقي الروحانـــي بامتيـــاز‪.‬‬ ‫هذا التمثل األول الســاذج لفن «كناوة»‬ ‫س ــرعان م ــا س ــيتعمق ف ــي وعي ــي م ــع‬ ‫م ــرور الس ــنوات؛ وع ــي أض ــاءت بع ــض‬ ‫جوانبـــه محكيـــات التاريـــخ‪ ،‬المرتبـــط‬ ‫بتج ــارة العبي ــد الت ــي كان ــت تنش ــط ف ــي‬ ‫مراحــل معينــة مــن التاريــخ؛ وفــي بقــاع‬ ‫تفرقــة مــن جغرافيــات العالــم األبيــض‪.‬‬ ‫ُم ّ‬ ‫لذلـــك‪ ،‬لـــم يكـــن ليترســـخ فـــي ذهنـــي‬ ‫ه ــذا الل ــون الموس ــيقي دون اس ــتحضار‬ ‫لتل ــك اللمس ــة التراجيدي ــة الت ــي يح ــاول‬ ‫إســباغها علــى إيقاعاتــه‪ ،‬وعلــى كلماتــه‬ ‫التــي تتغنــى بذلــك األصل البعيــد‪ ،‬أرض‬ ‫المي ــاد‪ ،‬بم ــا تحمل ــه م ــن تذك ــر يوظ ــف‬ ‫تفاصي ــل بع ــض الخراف ــات المجروح ــة‪.‬‬ ‫كانــت تلــك‪ ،‬إذاً‪ ،‬بعض منطلقات ذلك‬ ‫الفهــم الناضــج والوعــي القاســي‪ ،‬اللذين‬ ‫تحصلــت عليهمــا بالبحــث والقــراءة‪ ،‬ممــا‬ ‫قادنــي إلــى الوقــوف علــى حقيقــة تجــذُّر‬ ‫الش ــعوب اإلفريقي ــة ف ــي ترب ــة حض ــارة‬ ‫هــي أصــل العالــم وأمــه‪ .‬حضــارة كانــت‬ ‫ وم ــا ت ــزال ‪ -‬له ــا تقاليده ــا الموس ــيقية‬‫واإلبداعيــة والفنيــة والجماليــة العريقــة‪،‬‬ ‫كم ــا له ــا لغاته ــا وأس ــاطيرها ومتخيله ــا‬ ‫الخــاص بهــا‪ ،‬وكلهــا مقومــات حضاريــة‬ ‫ظلّـــت‪ ،‬لقـــرون طويلـــة‪ُ ،‬تصنَّـــف فـــي‬ ‫خانـــة مهمـــات الوعـــي أو اإلحاطـــة‬ ‫«الناضجيــن» و«المتقدميــن»‪ ،‬ســواء لدى‬ ‫العــرب والمســلمين أم فــي تقديــر الغــرب‬ ‫األوروب ــي بالدرج ــة األول ــى‪.‬‬ ‫ه ــذه الوضعي ــة الت ــي اتس ــمت بغي ــر‬ ‫قليــل مــن التهميــش والالمبــاالة‪ ،‬اللذيــن‬

‫كان يقابلهم ــا اس ــتنزاف لخي ــرات الرج ــل‬ ‫األس ــود الطبيعي ــة والبش ــرية‪ ،‬س ــرعان‬ ‫ـن وبالتصويــر‬ ‫مــا ســتتخذ‪ -‬ارتباطـ ًا بالفـّ‬ ‫تحديــداً‪ -‬منحــى آخــر‪ ،‬مــع نهايــة القــرن‬ ‫التاســع عشــر وبدايــة القــرن العشــرين‪،‬‬ ‫الفـــن الغربـــي‪ -‬األوروبـــي‬ ‫حيـــن وجـــد‬ ‫ّ‬ ‫نفســـه‪ -‬وجهـــ ًا لوجـــه‪ -‬أمـــام حاجـــز‬ ‫انحســار ملكــة الخلــق واإلبــداع الفنييــن‪،‬‬ ‫نتيج ــة اس ــتنفاد موضوعات ــه األثي ــرة‪،‬‬ ‫التـــي بنـــى عليهـــا مجـــده التصويـــري‬ ‫الجمالــي‪ ،‬لقرون طويلة‪ .‬إذ كانت البداية‬ ‫ف ــي مطل ــع الق ــرن العش ــرين‪ ،‬م ــع تل ــك‬ ‫العــودة التاريخيــة الجريئــة التــي دشــنها‬ ‫رواد المدرســة الوحشــية‪ ،‬أمثال موريس‬ ‫ّ‬ ‫دو فالمانـــك‪Vlaminck Maurice -‬‬ ‫‪ de‬وأندري ــه دي ــران ‪Derain André -‬‬ ‫وهنــري ماتيــس ‪ ،Henri Matisse‬ممن‬ ‫ـن اإلفريق ــي وف ــن منطق ــة‬ ‫«اكتش ــفوا» الف ـ ّ‬ ‫األوقيانـــوس‪ ،‬وقدموهمـــا علـــى أســـس‬ ‫جمالي ــة ألول م ــرة‪.‬‬ ‫ّإل أن االســتفادة الكبــرى والمفصليــة‬ ‫ـن اإلفريقــي ‪ -‬تحديــدًا ‪ -‬كانــت مــع‬ ‫مــن الفـّ‬ ‫رواد المدرســة التكعيبية‪ -‬خاصة‬ ‫بعــض ّ‬ ‫جـــورج بـــراك ‪،Georges Braque -‬‬ ‫وبابلـــو بيكاســـو ‪، Pablo Picasso-‬‬ ‫الشـــخصيتان المركزيتـــان داخـــل هـــذه‬ ‫الحرك ــة الفني ــة ‪ -‬الذي ــن قام ــوا بإع ــادة‬ ‫توظيف ــه‪ ،‬عب ــر دمج ــه م ــع ف ــن النح ــت‬ ‫الفطـــري اإليبيـــري‪ ،‬مـــن أجـــل بنـــاء‬ ‫تصوراتهـــم الجماليـــة الجديـــدة‪ ،‬التـــي‬ ‫راهنــت علــى تجــاوز ســمتين مركزيتيــن‬ ‫مــن ســمات الرســم األوروبــي منــذ عصــر‬ ‫النهض ــة وهم ــا‪ :‬النم ــط التقلي ــدي لش ــكل‬

‫اإلنســـان وتعبيراتـــه الجســـدية‪ ،‬عبـــر‬ ‫اخت ــزال الهي ــكل البش ــري والتخّل ــي ع ــن‬ ‫خواصــه التشــريحية االعتياديــة‪ .‬وأيض ًا‬ ‫عنصـــر اإليهـــام الفضائـــي للمنظـــور‪،‬‬ ‫المبنــي علــى نقطــة التالشــي‪ ،‬مــن خــال‬ ‫إيجــاد نظــام جديــد يؤشــر علــى العالقات‬ ‫ذات األبعــاد الثالثيــة دون االعتمــاد علــى‬ ‫ـل ه ــذه‬ ‫تقلي ــد اإليه ــام الكالس ــيكي‪ .‬ولع ـ ّ‬ ‫التوليفــة الفنيــة الجديــدة هــي مــا شـّـكلت‬ ‫الركيــزة المحوريــة التــي تأسســت عليهــا‬ ‫ـن خــال القــرن العشــرين ليس‬ ‫حداثــة الفـّ‬ ‫داخــل أوروبــا وحســب‪ ،‬ولكــن فــي العالم‬ ‫أجم ــع‪.‬‬ ‫لذلـــك‪ ،‬وعلـــى الرغـــم مـــن ذهـــاب‬ ‫بعــض الدارســين الغربييــن إلــى أن هــذه‬ ‫ـن اإلفريق ــي‪ ،‬ل ــم‬ ‫الفن ــون‪ ،‬وخاص ــة الف ـ ّ‬ ‫تحــز أهميتهــا وشــرطها الجمالييــن‪ ،‬لكــي‬ ‫تصبــح أســلوب ًا فني ـ ًا معترف ـ ًا بــه وقائــم‬ ‫الــذات‪ّ ،‬إل مــع المدرســة التكعيبية ‪ -‬ومع‬ ‫بيكاســو تحديــداً‪ -‬فــإن هــذا الــرأي يضمــر‬ ‫غيــر قليــل مــن التجّنــي وســوء التقديــر‪،‬‬ ‫وه ــو إل ــى ذل ــك مجان ــب للص ــواب‪.‬‬ ‫فالمقومـــات الفلســـفية والجماليـــة‬ ‫الفـــن اإلفريقـــي‬ ‫التـــي صنعـــت تاريـــخ‬ ‫ّ‬ ‫ـا‪ُ ،‬تع ــد حصيل ــة مس ــار م ــن الخل ــق‬ ‫مث ـ ً‬ ‫واإلبـــداع‪ ،‬كمـــا أنهـــا تلخـــص‪ ،‬وتجســـد‬ ‫سلســـلة مـــن االجتهـــادات التـــي كانـــت‬ ‫تســتثمر فــي تنويــع الحوامل والســندات‪،‬‬ ‫وتمعــن التجريــب فــي األشــكال الطريفــة‬ ‫والموضوعـــات األصيلـــة‪ ،‬مـــن خـــال‬ ‫اســـتنادها إلـــى فهـــم وتفكيـــر تمتـــزج‬ ‫فيهمـــا الجوانـــب الغيبيـــة ‪ -‬الســـحرية‬ ‫واألســـطورية بالجوانـــب التاريخيـــة‪،‬‬ ‫كمـــا أنهـــا تعكـــس بعـــض المظاهـــر‬ ‫والممارس ــات االجتماعي ــة اليومي ــة ف ــي‬ ‫عالقتهـــا بعـــدد مـــن العـــادات والتقاليـــد‬ ‫واألح ــام الت ــي تجس ــد معان ــاة اإلنس ــان‬ ‫اإلفريقـــي الفرديـــة والجماعيـــة‪.‬‬ ‫هـــذا المســـار الموغـــل فـــي القـــدم‪،‬‬ ‫ه ــو م ــا يحي ــل‪ -‬ف ــي نهاي ــة األم ــر‪ -‬عل ــى‬ ‫تاري ــخ الق ــارة اإلفريقي ــة الت ــي ل ــم تب ــدع‬ ‫م ــا أبدعت ــه‪ ،‬م ــن أعم ــال فني ــة تش ــكيلية‬ ‫ومـــن حكايـــات‪ ،‬ومـــن موســـيقي‬ ‫وأهازيــج‪ ،‬دون اســتحضار لمــا يعضدها‬ ‫مــن خصوصيــات فنيــة؛ لهــا مرجعياتهــا‬ ‫وخلفياتها وأصولها المعرفية والجمالية‬

‫مقطع من لوحة لبيكاسو‬

‫ف ــي تاري ــخ وف ــي ثقاف ــة وف ــي متخي ــل‬ ‫شــعوب القــارة اإلفريقيــة‪ ،‬هــذه الثقافــة‬ ‫التــي لــم تكــن قــد تلوثــت بعــد بما كرســته‬ ‫الحضـــارة الغربيـــة مـــن قوانيـــن ومـــن‬ ‫أفـــكار وأســـاليب فـــي الحيـــاة كمـــا فـــي‬ ‫ـن واإلب ــداع‪.‬‬ ‫الف ـ ّ‬ ‫مـــن هنـــا ضـــرورة التأكيـــد علـــى‬ ‫أصالـــة هـــذا الفـــن‪ ،‬علـــى خصوصيـــة‬ ‫منطلقاتـــه وأسســـه الجماليـــة‪ ،‬وعلـــى‬ ‫نضج ــه االس ــتطيقي‪ ،‬ال ــذي تحّق ــق عب ــر‬ ‫سلســلة مــن النقــات الجبــارة والقطائــع‬ ‫تماســـه مـــع‬ ‫الحاســـمة‪ ،‬التـــي فرضهـــا ّ‬ ‫اآلخ ــر‪ :‬المس ــتعمر الغري ــب والواف ــد‪ ،‬إن‬ ‫التحــول مــن تلــك اللمســة الفطرية األولى‬ ‫المتنوعــة الناضجة‪ ،‬أو في‬ ‫إلــى إبداالتها‬ ‫ّ‬ ‫إعطــاء مفــردات وعناصــر اللون والشــكل‬ ‫والعالمــة المحليــة بعــدًا جمالي ـ ًا كوني ـاً‪،‬‬ ‫أغنــى رصيــد هــذه التجربــة وفتــح أمامها‬ ‫آفاقــ ًا أخ ــرى جدي ــدة‪.‬‬ ‫لقـــد انتهـــى الزمـــن الـــذي ُيعـــّد فيـــه‬ ‫ال‬ ‫الفـــن اإلفريقـــي‪ -‬ســـواءًا كان تشـــكي ً‬ ‫ّ‬ ‫أم موســـيقى أم رقصـــ ًا أم حكايـــات ‪-‬‬ ‫مجــرد حالــة وجدانيــة تعكــس نوعـ ًا مــن‬ ‫التفكي ــر العجائب ــي‪ -‬الغرائب ــي الغيب ــي‪،‬‬ ‫الـــذي يميـــل إلـــى اإلثـــارة المجانيـــة‬ ‫وإل ــى التعبي ــر الس ــاذج‪ ،‬أكث ــر م ــن ميل ــه‬ ‫الناض ــج والصري ــح إل ــى التعبي ــر ع ــن‬ ‫مكنون ــات ال ــذات‪ :‬الفردي ــة والجماعي ــة‪،‬‬ ‫وعـــن خوالجهـــا ومعاناتهـــا ومآســـيها‬ ‫التاريخيــة‪ .‬فلطالما كان اإلنســان الغربي‬

‫الفن عبر‬ ‫يبنــي آراءه‬ ‫وتصوراتــه عن هذا ّ‬ ‫ّ‬ ‫إســقاط حمولــة ذاتــه المعتــدة بتاريخهــا‬ ‫والمكتفية بدسامتها الحضارية‪،‬واتخاذها‬ ‫أداة قيـــاس لتقييـــم كل مـــا ينتجـــه هـــذا‬ ‫اآلخ ــر‪ :‬البدائ ــي‪ ،‬المتوح ــش‪ ،‬الغام ــض‬ ‫والمتخّل ــف‪ ،‬أو كل م ــن يتموق ــع خ ــارج‬ ‫جغرافيــة العالــم المتحضــر‪ ،‬عالــم الرجــل‬ ‫األبيــض‪ .‬ولنــا فــي مــا أبدعته الموســيقى‬ ‫الغربيــة الحديثــة والمعاصــرة‪ ،‬من خالل‬ ‫تلـــك التوليفـــة العجيبـــة التـــي مزجـــت‬ ‫اإليقاعــات الموســيقية اإلفريقية‪ ،‬خاصة‬ ‫موس ــيقى كن ــاوة وبع ــض الموس ــيقات‬ ‫المحليـــة‪ ،‬بأنـــواع موســـيقية شـــهيرة‪،‬‬ ‫مثــل موســيقى الــروك والبلــوز والجــاز‪،‬‬ ‫علــى ســبيل المثــال ال الحصــر‪ ،‬مــا يؤكــد‬ ‫ـور‪ ،‬الــذي يؤكــد أهميــة ونضــج‬ ‫هــذا التصـّ‬ ‫وغن ــى الثقاف ــة الموس ــيقية اإلفريقي ــة‪.‬‬ ‫الش ــيء نفس ــه يس ــري‪ ،‬كم ــا س ــبقت‬ ‫اإلشـــارة إلـــى ذلـــك مـــن قبـــل‪ ،‬علـــى‬ ‫ـن التش ــكيلي اإلفريق ــي‪ ،‬خاص ــة ف ــي‬ ‫الف ـ ّ‬ ‫مجالـــي النحـــت والتصويـــر الصباغـــي‪.‬‬ ‫حيــث يبقــى األنمــوذج األكثــر بــروزاً‪ ،‬فــي‬ ‫ه ــذا اإلط ــار‪ ،‬لوح ــة «آنس ــات أفيني ــون»‬ ‫(‪ ،)1907‬الشــهيرة لبابلو بيكاســو‪ ،‬التي‬ ‫اســتعانت ‪ -‬مــن بيــن مــا اســتعانت بــه‪-‬‬ ‫بفلســـفة القنـــاع اإلفريقـــي وبجماليتـــه‪،‬‬ ‫ـن وتأكيــدًا‬ ‫وهــو مــا نعـّده تكريمـ ًا لهــذا الفـّ‬ ‫عل ــى أصالت ــه وفرادت ــه الجمالي ــة‪.‬‬ ‫* شاعر و فنان وباحث تشكيلي‬ ‫‪133‬‬

‫رحلة‬

‫تسعة أيام في‬

‫بلد التناقضات‬ ‫كلّمـــا بـــرز وجـــه المكســـيك علـــى الخريطـــة‪ ،‬أشـــحت بوجهـــي‪،‬‬ ‫وســـارعت بالبحـــث عـــن دولـــة أخـــرى!‬ ‫ـت المكس ــيك به ــذا الجف ــاء والص ــدود اعتق ــادًا من ــي ب ــأن ه ــذه‬ ‫عامل ـ ُ‬ ‫َ‬

‫عبدالكريم الشطي‬

‫الدولــة «متأمركــة ثقافيـاً» نتيجــة مســكنها الجغرافــي المتاخــم ألميــركا‪،‬‬ ‫ونتيجــة المسلســل االســتعماري األشــقر الطويــل‪ ،‬بــدءًا بالمســتعمرات‬ ‫ـاء بحكــم «المســتوزوز» (وهــم أبنــاء اإلســبان الذيــن‬ ‫اإلســبانية‪ ،‬وانتهـ ً‬

‫ألمهــات مــن السـّـكان األصلييــن) بعد طرد اإلســبان‬ ‫ُولــدوا فــي المكســيك ّ‬

‫واســتقالل المكســيك‪ ،‬لــذا وقــر فــي قلبــي أن هــذا البلــد ممســوح ثقافيـ ًا‬ ‫واجتماعيـاً‪ ،‬وال جــدوى مــن زيارتــه‪.‬‬

‫‪134‬‬

‫إال أن الحقائ ــق كان ــت تّتهمن ــي‪ ،‬ف ــكل‬ ‫ش ــيء ع ــن تاري ــخ أمي ــركا الش ــمالية و‬ ‫أميـــركا الجنوبيـــة‪ ،‬يقودنـــي‪ -‬بشـــكل‬ ‫أو بآخـــر‪ -‬إلـــى المكســـيك‪ :‬الحضـــارات‬ ‫األميركي ــة القديم ــة (األزت ــك‪ ،‬والماي ــا)‪،‬‬ ‫التحررية‪،‬‬ ‫االســتعمار األشــقر‪ ،‬الثــورات‬ ‫ُّ‬ ‫االقتصـــاد الجديـــد‪ ،‬الكاثولوكيـــة‬ ‫األميركيــة‪ ،‬الفنــون‪ ،‬الروايــات‪ ...‬فأّنــى‬ ‫وجه ــت وجه ــي كان ــت المس ــكيك قبالت ــي‬ ‫ّ‬ ‫تبتســم فــي وجــه جفائــي‪ ،‬وتدفــع بالّتــي‬ ‫هـــي أحســـن! وجدتنـــي منجذبـــ ًا إليهـــا‬ ‫بحني ــن داخل ــي غري ــب‪ ،‬ألحج ــز تذك ــرة‬ ‫إلـــى مـــكان ال أكاد أعرفـــه‪.‬‬ ‫هــل ســتكون المكســيك أميركيـ ًـة كمــا‬ ‫أؤمــن؟‬

‫***‬

‫ودون س ــابق إن ــذار‪ ،‬وجدتن ــي ف ــي‬ ‫مطـــار كانكـــون الدولـــي‪ ،‬كان المطـــار‬ ‫ومنظمـــ ًا بطريقـــة أميركيـــة‬ ‫كبيـــرًا‬ ‫َّ‬ ‫مذهلــة‪ ،‬هــذا المطــار يســتقبل ‪ 17‬مليــون‬ ‫راكـــب ســـنوياً‪ ،‬بينهـــم أكثـــر مـــن ‪4‬‬ ‫ماليي ــن س ــائح‪ .‬اس ــتأجرت س ــيارتي‪،‬‬ ‫وخرج ــت أج ــول ف ــي المدين ــة صباحــاً‪.‬‬ ‫تنقســـم كنكـــون إلـــى‪ :‬جـــزء بحـــري‬ ‫فندق ــي ضخ ــم‪ ،‬ومرك ــز مدين ــة صغي ــر‬ ‫يش ــبه الم ــدن الالتيني ــة البس ــيطة الت ــي‬ ‫بالمجمع ــات‬ ‫نعرفه ــا‪ ،‬غي ــر أن ــه مح ــاط‬ ‫َّ‬ ‫األميركيــة الضخمــة‪ .‬الفنــادق في الجانب‬ ‫البحــري ضخمــة بحيــث يشـ ِّـكل كل فنــدق‬ ‫حيــاة متكاملــة فــي داخلــه‪ ،‬وتقـ ِّـدم هــذه‬ ‫الفن ــادق م ــا يس ـّـمى «‪،»All Inclusive‬‬ ‫وهـــو نظـــام (بوفيـــه) مفتـــوح طـــوال‬ ‫الي ــوم‪ ،‬مم ــا يجع ــل األجان ــب ف ــي غن ــى‬ ‫عـــن اكتشـــاف الحقيقـــة خـــارج أســـوار‬ ‫فندقهــم‪ ،‬فهــم بيــن الملــح والكلــور طــوال‬ ‫الي ــوم‪.‬‬ ‫منطق ــة كنك ــون عب ــارة ع ــن كعكع ــة‬ ‫قســـمتها المكســـيك بيـــن الشـــركات‬ ‫ّ‬

‫منطقة المنتجعات في كنكون‬

‫مطار كنكون‬

‫األميركي ــة واأللماني ــة ف ــي الس ــبعينات‪،‬‬ ‫لتحويله ــا إل ــى منتجع ــات بحري ــة‪ ،‬وق ــد‬ ‫ّييـــن‬ ‫وعـــدت الحكومـــة‬ ‫ّ‬ ‫الســـكان المحلّ‬ ‫(الذيـــن ينتمـــون إلـــى قبائـــل المايـــا‬ ‫العريقــة) بتحســين مســتواهم المعيشــي‬ ‫بعــد نشــر االســتثمارات على شــواطئهم‪،‬‬ ‫ـــم إخـــاء المنطقـــة وإعـــادة‬ ‫وعليـــه َت ّ‬ ‫تركيبته ــا الس ــكانية‪ ،‬وف ــي ع ــام ‪2005‬‬ ‫ـــر أغلـــب‬ ‫أصيبـــت المنطقـــة بزلـــزال َد َّم َ‬ ‫وتـّـم إعــادة بنائهــا مــن جديــد‪.‬‬ ‫الفنــادق‪َ ،‬‬ ‫فرضيتــي عــن أمركــة‬ ‫ـت‬ ‫ـ‬ ‫ّق‬ ‫ق‬ ‫ح‬ ‫كنكــون‬ ‫ّ‬ ‫تعـــج بالســـياح‪،‬‬ ‫فهـــي‬ ‫المكســـيك‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫ـص بهم طــوال العام‪،‬‬ ‫والفنــادق تــكاد تغـ ُّ‬ ‫وهــو مــا يضايقنــي‪ ،‬فمثلــي يســافر مــن‬ ‫أج ــل الن ــاس واالكتش ــاف‪ ،‬ال م ــن أج ــل‬ ‫أفضـــل أن‬ ‫االســـترخاء‬ ‫والتمـــدد‪ ،‬فأنـــا ِّ‬ ‫ُّ‬ ‫«أس ــوح» ف ــي األرض عل ــى أن «أس ــيح»‬ ‫م ــن الش ــمس‪ ،‬ل ــم أحتم ــل كنك ــون الت ــي‬ ‫ـص بالسـّـياح‪ ،‬لــذا ســارعت بالخــروج‬ ‫تغـ ّ‬ ‫مــن الفنــدق‪ ،‬لكــن‪ ،‬بقيــت أمنيــة كنكونية‬ ‫أود تحقيقهــا‪ ،‬وهــي زيــارة‬ ‫فــي داخلــي ّ‬ ‫متح ــف «موس ــا ‪ ،»MUSA‬وه ــو حال ــة‬ ‫نــادرة بيــن متاحــف العالــم‪ ،‬إذ ال يمكنــك‬ ‫زيارت ــه دون بدل ــة غط ــس وأوكس ــجين!‬ ‫ألن المتحـــف فـــي قـــاع البحـــر‪ ،‬وهـــو‬

‫عبــارة عــن قطــع ومنحوتــات وســيارات‬ ‫كالســـيكية‪ُ ،‬و ِ‬ ‫ضعـــت فـــي خليـــج‬ ‫ِ‬ ‫الغطاس ــين‬ ‫وت ــزار م ــن قَب ــل ّ‬ ‫المكس ــيك‪ُ ،‬‬ ‫تحـــت المـــاء‪ .‬وألن درجـــة كريســـتالية‬ ‫المـــاء عاليـــة جـــداً‪ ،‬والبيئـــة البحريـــة‬ ‫رباني ــة غريب ــة‪ ،‬ف ــإن‬ ‫ملون ــة بأطي ــاف ّ‬ ‫َّ‬ ‫المتحــف‪ -‬فــي َح ـّد ذاتــه‪ -‬تجربــة فريــدة‬ ‫ال يمك ــن أن تتك ـ َّـرر؛ ل ــذا زرت المتح ــف‪،‬‬ ‫الخاصـــة‪ ،‬وهجـــرت‬ ‫وعشـــت تجربتـــي‬ ‫ّ‬ ‫بعده ــا كنك ــون‪.‬‬ ‫قصـــدت مركـــز المدينـــة‪ ،‬وكنـــت قـــد‬ ‫قـــرأت عـــن مطعـــم «تاكـــو» شـــعبي‬ ‫توجهــت إليــه ألجــرب «التاكــو»‬ ‫مشــهور‪ّ ،‬‬ ‫ألول م ـّـرة ف ــي حيات ــي‪ ،‬وه ــم‬ ‫الحقيق ــي ّ‬ ‫صغيـــرة لذيـــذة تنتهـــي فـــي‬ ‫يقدمونهـــا‬ ‫ً‬ ‫ِّ‬ ‫قضمتي ــن‪ ،‬طلب ــت واح ــدة تل ــو األخ ــرى‬ ‫الســـكان‬ ‫وأنـــا أســـأل مـــن حولـــي مـــن‬ ‫ّ‬ ‫ّييـــن عـــن ألـــّذ خلطـــات التاكـــو‪،‬‬ ‫المحلّ‬ ‫ومــاذا يجــب أن أضيــف إليهــا‪ ،‬و«تاكــو»‬ ‫رواد‬ ‫بع ــد «تاك ــو» س ــقطت الكلف ــة م ــع ّ‬ ‫المطع ــم‪ ،‬فقل ــت له ــم إنه ــم محظوظ ــون‬ ‫بحج ــم االس ــتثمارات الت ــي تدفَّق ــت عل ــى‬ ‫بـــردة فعلهـــم‬ ‫شـــواطئهم‪ ،‬وفوجئـــت‬ ‫ّ‬ ‫الســـاخطة الناقمـــة‪ ،‬إذ إنهـــم لـــم يـــروا‬ ‫الخي ــر م ــن ه ــذه الفن ــادق‪ ،‬فأقص ــى م ــا‬ ‫‪135‬‬

‫كاتدرائية في مدينة «بلد الوليد »‬

‫فســمعها المكســيكيون‪ ،‬ولــم يعرفــوا لهــا‬ ‫نطقاً‪ ،‬واختصروها بالـ«جرينجوز»‪ .‬وال‬ ‫ـب األمي ــركان أن تطل ــق عليه ــم ه ــذه‬ ‫يح ـ ّ‬ ‫الكلمــة‪.‬‬ ‫نظريتـــي‪ :‬المكســـيك‬ ‫ـــدت‬ ‫أك‬ ‫كنكـــون‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫مجـــرد وجـــه أميركـــي آخـــر!‪.‬‬ ‫هـــي‬ ‫ّ‬ ‫اآلن وقــد تركــت كنكــون ورائــي‪ ،‬أيــن‬ ‫يمكــن أن أذهــب؟‬

‫***‬

‫أسواق شعبية في «بلد الوليد »‬

‫يحصلــون عليــه أن يعملــوا فــي البنــاء أو‬ ‫نظافــة الفنــادق!‪ ،‬وال زالوا يعيشــون في‬ ‫قــرى بعيــدة عــن المنتجعــات فــي حالــة‬ ‫أي‬ ‫يرث ــى له ــا‪ ،‬والحكوم ــة ال تقــّدم له ــم ّ‬ ‫ذك ــر‪ .‬حت ــى أنه ــم‪ ،‬ف ــي بع ــض‬ ‫ش ــيء ُي َ‬ ‫األحيــاء‪ ،‬اضطـّـروا إلى أن يتشــاركوا في‬ ‫خاص ــة لتعلي ــم األطف ــال‪،‬‬ ‫بن ــاء مدرس ــة ّ‬ ‫البن ــاء عليه ــم والمدرس ــون م ــن الدول ــة‪.‬‬ ‫يكتف ــون بالم ــرور ف ــي الفن ــادق الكبي ــرة‬ ‫ليـــروا كيـــف يســـتمتع الجرينجـــوز‬ ‫‪136‬‬

‫‪( Gringos‬األميـــركان) بالفنـــادق‬ ‫الضخمـــة والشـــواطئ األرتكوازيـــة‪.‬‬ ‫الجرينجوز‪ ،‬كلمة واســعة االستخدام‬ ‫فــي كل المكســيك‪ ،‬وأحيانـ ًا تســمعها فــي‬ ‫أمي ــركا الوس ــطى (س ــمعتها كثي ــرًا ف ــي‬ ‫كوســتا ريــكا)‪ ،‬وتطلــق علــى األميــركان‬ ‫تهكــم أو تبـ ُّـرم‪ ،‬ويقــال إن أصلهــا‬ ‫بنغمــة ُّ‬ ‫يعــود إلــى الحــرب األميركيــة المكســيكية‬ ‫حيـــث كان األميـــركان يغنّـــون أغنيـــة‬ ‫إيرلندية‪،Gross the Green Grace :‬‬

‫وجـــدت نفســـي فـــي الشـــام‪ ،‬بيـــوت‬ ‫عربيـــة يزيـــد عمرهـــا علـــى أربعمئـــة‬ ‫ســـنة‪َ ،‬ب ْحـــرات تتغنّـــى بمقامـــات مـــن‬ ‫الخري ــر‪ ،‬ونخي ــات باس ــقات له ــا طل ــع‬ ‫نضيـــد‪ ،‬كيـــف يمكـــن للشـــام أن ُتـــزرع‬ ‫فـــي قلـــب المكســـيك؟ بـــل حتـــى اســـم‬ ‫المدينـــة كان عربيـــاً‪ ،‬كان اســـمها «بلـــد‬ ‫الوليـــد‪ .»Valladolid -‬هـــذه المدينـــة‬ ‫يفصله ــا ع ــن كانك ــون م ــا يس ـّـمى «ماي ــا‬ ‫ريفيي ــرا»‪ ،‬وه ــي أح ــراش كثيف ــة تمتــّد‬ ‫مئ ــات الكيلومت ــرات‪ ،‬تمتل ــئ بالغرائ ــب‬ ‫مــن المــدن والنــاس واألســاطير‪ .‬ســكنتها‬ ‫قبائـــل المايـــا‪ ،‬ودفنـــت فيهـــا أســـرارها‬ ‫وطقوســها‪ .‬وبلــد الوليــد هــي أول مدينــة‬ ‫بناهـــا اإلســـبان عنـــد وصولهـــم إلـــى‬ ‫المكســـيك‪ ،‬أي بعـــد ســـقوط األندلـــس‬ ‫مباشـــرة‪ ،‬لـــذا فإنهـــم نقلـــوا األندلـــس‬ ‫ـاميتها وعروبتهــا‪ ،‬إلــى هــذه‬ ‫كاملــة‪ ،‬بشـ ّ‬ ‫األرض‪ .‬ممـــا يجعـــل الســـائح العربـــي‬ ‫مش ــدوه ًا وه ــو ي ــرى تراث ــه أمام ــه ف ــي‬ ‫المكس ــيك‪ ،‬وإن كان تراث ــه هن ــا يس ـّـمى‬ ‫باســـم إســـباني هـــو «الكولونـــي»‪.‬‬ ‫ليـــا‪ ،‬ألجـــد‬ ‫وصلـــت بلـــد الوليـــد‬ ‫ً‬ ‫ســـهرانة تنتظرنـــي‪ ،‬عشـــرات‬ ‫المدينـــة‬ ‫ً‬ ‫مـــن الشـــباب يلفّـــون شـــوارع المدينـــة‬ ‫منصــة خشــبية‬ ‫يغّنــون أغانــي جماعيــة‪ّ .‬‬ ‫في الســاحة الرئيســية‪ ،‬وأمامها عشــرات‬ ‫الكراس ــي تمتل ــئ بالعجائ ــز‪ ،‬يس ــتمعون‬ ‫محليي ــن يقّدم ــون وص ــات‬ ‫إل ــى مغنّي ــن ّ‬ ‫غنائي ــة مختلف ــة‪ .‬عش ــرات م ــن عرب ــات‬ ‫المتجوليـــن‪ ،‬اشـــتريت لنفســـي‬ ‫الباعـــة‬ ‫ّ‬ ‫بوظ ــة مانج ــا م ــن البائ ــع‪ ،‬ليض ــع ل ــي‬ ‫فلفـــا أحمـــر مطحونـــ ًا وبعـــض‬ ‫عليهـــا‬ ‫ً‬ ‫البهـــارات المكســـيكية!‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ـس بأن ــي‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫ح‬ ‫أ‬ ‫ـة‪،‬‬ ‫ـس بالراح ـ‬ ‫ُّ‬ ‫اآلن ُأ ِح ـ ُّ‬ ‫فعـــا‪ ،‬فـــي أميـــركا الالتينيـــة‪ ،‬التـــي‬ ‫ً‬ ‫أعرفهــا منــذ خمــس عشــرة ســنة‪ .‬بــدأت‬

‫عملي ــة التس ـ ُّـكع بي ــن البي ــوت والتح ـ ُّـدث‬ ‫م ــع الن ــاس‪ ،‬وج ــدت ام ــرأة تق ــف أم ــام‬ ‫معتـــق‪ ،‬طلبـــت منهـــا الدخـــول‪،‬‬ ‫منـــزل َّ‬ ‫رحبــت بــي وأدخلتنــي بيتـ ًا يزيــد عمــره‬ ‫َّ‬ ‫عل ــى ثالثمئ ــة س ــنة‪ ،‬بصال ــون طوي ــل‬ ‫مملــوء بأثريــات لهــا لــون جذوع الشــجر‪،‬‬ ‫مدعــم بأخشــاب‪،‬‬ ‫ـوس َّ‬ ‫ســقف مرتفــع مقـ َّ‬ ‫وعجــوز تجلــس فــي آخــر الصالــون على‬ ‫ٍ‬ ‫كنبـــة خمســـينية مزخرفـــة‪ ،‬اســـتفززت‬ ‫ـا ع ــن‬ ‫ـوز‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫العج‬ ‫ـرة‬ ‫ذاك ـ‬ ‫فحدثتن ــي طوي ـ ً‬ ‫َّ‬ ‫والحـــب والكنيســـة‬ ‫المدينـــة والســـاحة‬ ‫ّ‬ ‫والطبـــخ والتربيـــة وغرناطـــة‪ ،‬نعـــم‪..‬‬ ‫غرناط ــة‪ ،‬حي ــث يع ــود أصله ــا‪ .‬س ــألتها‬ ‫إن كانــت لهــا أصــول عربيــة‪ ،‬بحثــت فــي‬ ‫ملّف ــات ذاكرته ــا‪ ،‬وقال ــت‪:‬‬ ‫أمــي مــن أصــول عربيــة قطعـاً‪ ،‬اســم ًا‬ ‫ّ‬ ‫ال ودالالً‪ .‬أمــا والــدي فمشـ ٌ‬ ‫ـكوك فــي‬ ‫وشــك ً‬ ‫عروبتــه‪ ،‬ألن لــه َجـّدًا غائــرًا يحمــل اســم ًا‬ ‫عربي ًا ‪.‬‬ ‫ـح إحصائي‬ ‫ـ‬ ‫مس‬ ‫بعمل‬ ‫أقوم‬ ‫ـي‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫كعادت‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫كل مدينــة‪ ،‬فأســأل عشــرة أشــخاص‬ ‫فــي ّ‬ ‫يشـــترط فيهـــم الســـمنة والشـــحم‪ ،‬عـــن‬ ‫المفضـــل‪ ،‬فدلّونـــي علـــى‬ ‫مطعمهـــم‬ ‫َّ‬ ‫جربـــت‬ ‫لذيـــذ‪،‬‬ ‫أكلـــه‬ ‫ّـــي‪،‬‬ ‫ل‬ ‫مح‬ ‫مطعـــم‬ ‫َّ‬ ‫لديهــم شــوربة بيــض النمــل «أســكمالتو»‬ ‫(يســمونه أحيان ـ ًا ‪-‬الكافيــار المكســيكي‪،‬‬ ‫وهــو طعــام فاخــر) وتاكــو البطاطــا فــي‬ ‫ـق‪.‬‬ ‫القصدي ــر‪ ،‬كان لذي ــذًا بح ـ ّ‬

‫***‬

‫منــذ زمــن بعيــد وأنــا أحلــم بشــيئين‪:‬‬ ‫الســينوتي‪ ،‬وتشيتشــين إيتــزا ‪Cenote‬‬ ‫‪ ،& Chichin Itza‬وق ــد حقّق ــت هذي ــن‬ ‫الحلميـــن فـــي يـــوم واحـــد‪ :‬الســـينوتي‬ ‫هـــي كهـــوف طبيعيـــة مائيـــة تصلـــح‬ ‫تفجـــرت فيهـــا اآلبـــار أو‬ ‫للســـباحة‪ّ ،‬‬ ‫فتحولــت إلــى‬ ‫تجمعــت فيهــا ميــاه عذبــة‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫مســابح طبيعيــة عمرهــا آالف الســنين‪،‬‬ ‫وفــي الـ«مايــا ريفييــرا» توجــد مثــل هــذه‬ ‫الكهـــوف‪ ،‬فاختـــرت أحدهـــا‪ ،‬وانطلقـــت‬ ‫للس ــباحة في ــه‪ .‬الكه ــف كان كبي ــرًا م ــن‬ ‫الداخـــل‪ ،‬دائـــري الشـــكل‪ ،‬قطـــره يزيـــد‬ ‫عل ــى الثالثي ــن مت ــراً‪ ،‬ف ــي أع ــاه فتح ــة‬ ‫ثريــا تتدّلــى منهــا جــذور األشــجار‬ ‫كأنهــا ّ‬ ‫ـك منهــا الشــمس‪ ،‬ومــاؤه أزرق‬ ‫ضـ َ‬ ‫وتْقِر ُ‬ ‫َ‬ ‫فاتــح عــذب بــارد‪ ،‬شــعور الســباحة فيــه‬ ‫ـب عل ــى حواس ــي وإحساس ــي‪.‬‬ ‫غري ـ ٌ‬

‫كهوف السينوتي‬

‫شوارع مدينة «واهاكا»‬

‫أمـــا تشيتشـــين إيتـــزا‪ ،‬فهـــي أحـــدى‬ ‫أشــهر األهرامــات التــي تقــع فــي مناطــق‬ ‫المايـــا‪ ،‬بناهـــا أحـــد ملـــوك اإلزتـــك‬ ‫األســـطوريين‪ ،‬يقـــال إن هـــذا الملـــك‬ ‫تــرك مضــارب اإلزتــك ألســباب غريبــة‪،‬‬ ‫وهاجــر إلــى وســط قبائــل المايــا‪ ،‬ونقــل‬ ‫إليهـــم فنـــون األزتـــك‪ ،‬ومنهـــا هندســـة‬ ‫بنــاء األهرامــات‪ ،‬ثــم اختفــى هــذا الملــك‬ ‫ف ــي البح ــر‪ ،‬وال يع ــرف أح ــد مصي ــره‪،‬‬ ‫طويـــا‪ ،‬لـــذا‬ ‫أبيـــض ملتحيـــ ًا‬ ‫وقـــد كان‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫حينمـــا وصـــل المســـتعمرون اإلســـبان‬ ‫شـــائعة بيـــن‬ ‫إلـــى المكســـيك‪ ،‬ســـرت‬ ‫ٌ‬ ‫الن ــاس؛ أن ملكه ــم األس ــطوري ق ــد ع ــاد‬ ‫إليه ــم م ــن جدي ــد‪.‬‬

‫***‬

‫اآلن‪ ،‬ننتقـــل إلـــى عالـــم آخـــر مـــن‬ ‫عوال ــم المكس ــيك‪« :‬واه ــاكا ‪.»Oaxaca‬‬ ‫وه ــي مدين ــة تراثي ــة ف ــي جن ــوب البل ــد‪،‬‬ ‫مطوق ــة بجب ــال‪ ،‬وقريب ــة م ــن المحي ــط‬ ‫َّ‬ ‫الهـــادي‪ .‬حمتهـــا الجبـــال مـــن اإلســـبان‬ ‫ألكث ــر م ــن مئت ــي س ــنة‪ ،‬ل ــذا احتفظ ــت‬

‫بنكهتهــا األصليــة وبتوابلهــا الحضاريــة‪.‬‬ ‫حيـــن وصولـــي إلـــى ســـاحتها‬ ‫الرئيســـية‪ ،‬لفـــت انتباهـــي كلمـــات‬ ‫يطلقهـــا األطفـــال‪ ،‬لـــم أســـتطع لهـــا‬ ‫تبي ــن‬ ‫فهمــاً‪ ،‬وحي ــن س ــألت َم ـ ْ‬ ‫ـن حول ــي َّ‬ ‫يتحدث ــون بلغ ــة الزباتي ــس‪ ،‬ث ــم‬ ‫بأنه ــم‬ ‫َّ‬ ‫تبي ــن ل ــي ب ــأن واه ــاكا محاط ــة بخم ــس‬ ‫َّ‬ ‫عش ــرة قبيل ــة مكس ــيكية تعي ــش حوله ــا‬ ‫أو فيهـــا‪ ،‬ولديهـــم لغاتهـــم وتراثهـــم‬ ‫الخـــاص؛ ممـــا جعـــل واهـــاكا‬ ‫وأكلهـــم‬ ‫ّ‬ ‫غنيـــة بتـــراث فريـــد مـــن نوعـــه لـــم‬ ‫تدنِّســـه خيـــول اإلســـبان‪ .‬ومـــن أشـــهر‬ ‫قبائلهـــم الزباتيكـــوز‪ ،‬والمكســـتيكوز‪.‬‬ ‫وه ــذه القبائ ــل له ــا مالبس ــها وأطعمته ــا‬ ‫ـاص‪،‬‬ ‫ومشــاريبها وأســلوب حياتهــا الخـ ّ‬ ‫وقـــد اندمـــج بعضهـــم فـــي الحيـــاة‬ ‫المدنيـــة الحديثـــة‪ ،‬وال زال بعضهـــم‬ ‫يفض ــل االحتف ــاظ بخلطت ــه التاريخي ــة‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫م ــن الطري ــف أن حاك ــم المدين ــة الس ــابق‬ ‫قص ــاب‪،‬‬ ‫كان لبناني ـاً‪ ،‬واس ــمه جوس ــيه ّ‬ ‫يشـــكل المهاجـــرون العـــرب‬ ‫وعمومـــاً‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫‪137‬‬

‫نخبـــة محترمـــة فـــي المكســـيك مثـــل‬ ‫ســـلمى حايـــك‪ ،‬وكابولينـــا‪..‬‬ ‫دلَّتن ــي قدم ــاي إل ــى س ــوق مس ــقوف‬ ‫ـق‬ ‫قديــم اســمه «‪ 20‬نوفمبــر»‪ ،‬سـ ٌ‬ ‫ـوق ُم َع َّتـ ٌ‬ ‫تجب ــى إلي ــه ثم ــرات كل م ــا حول ــه م ــن‬ ‫قبائـــل وشـــعوب‪ .‬هنـــاك‪ ،‬عليـــك أن‬ ‫تتنـــازل عـــن عاداتـــك ونكهاتـــك‪ ،‬وأن‬ ‫تغامـــر فـــي تجربـــة أشـــياء ال تعرفهـــا‪:‬‬ ‫جــراد بالفلفــل‪ ،‬آيــس كريــم بالبهــارات‪،‬‬ ‫المدم ــس‪ ،‬عصي ــر‬ ‫بيت ــزا بطبق ــة الف ــول ّ‬ ‫ب ــذور ال ــكاكاو بال ــذرة‪ ،‬ش ــرائح رقيق ــة‬ ‫مؤخـــرة البقـــر‪ ،‬تورتيـــا البطاطـــا‬ ‫مـــن ِّ‬ ‫المتفج ــرة! ال ــكل ُي ِ‬ ‫جم ــع عل ــى ض ــرورة‬ ‫ِّ‬ ‫ـون‬ ‫ـذوق «المول ــي»‪ ،‬وه ــي مرق ــة تتك ـ َّ‬ ‫ت ـ ُّ‬ ‫متدرجة‬ ‫مــن ‪ 36‬خليطـ ًا طبيعيـاً‪ ،‬وتأتــي ِّ‬ ‫وتَقـ َّـدم مع الــرز والدجاج‬ ‫بســبعة ألــوان‪ُ ،‬‬ ‫أو اللحــم‪ .‬حينمــا ذقتهــا بــدا لــي طعمهــا‬ ‫أق ــرب إل ــى «م ــرق الش ــبزي» المخل ــوط‬ ‫م ــع التم ــر الهن ــدي‪.‬‬ ‫فـــي صبـــاح اليـــوم التالـــي‪ ،‬قـــررت‬ ‫أن أصعـــد أحـــد الجبـــال وصـــو ًال إلـــى‬ ‫يســـمى (الميـــاه المغليـــة)‪ ،‬وجـــدت‬ ‫مـــا‬ ‫ّ‬ ‫ُم ِســـّن ًا يعـــرف الطريـــق‪ ،‬أخذنـــي فـــي‬ ‫ـتمرت أرب ــع س ــاعات‬ ‫رحل ــة صع ــود اس ـ َّ‬ ‫عجـــاف‪ ،‬كان فـــي آخرهـــا جـــزء مـــن‬ ‫الف ــردوس األرض ــي المجه ــول‪ :‬بحي ــرة‬ ‫عذب ــة ف ــوق حاّف ــة جب ــل يزي ــد ارتفاع ــه‬ ‫ـي مت ــر‪ ،‬وأح ــواض جاك ــوزي‬ ‫عل ــى َ‬ ‫ألف ـ ْ‬ ‫ـك‬ ‫طبيعي ــة‪ ،‬تغم ــس جس ــدك فيه ــا‪ ،‬يظّل ـ َ‬ ‫جنـــاح نســـر‪ ،‬وتحتـــك ٍ‬ ‫واد ســـحيق!‬ ‫ُ‬ ‫مذهـــل‪ ،‬ومعـــادالت‬ ‫عالـــم‬ ‫واهـــاكا‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ثريـــة‪،‬‬ ‫غريبـــة بالنســـبة لنـــا‪ ،‬لكنهـــا ّ‬ ‫وتســـتحق التجربـــة‪.‬‬ ‫ّ‬

‫***‬

‫فـــي بدايـــة القـــرن الخامـــس عشـــر‪،‬‬ ‫قمــة الجبــال‬ ‫ـول اإلسـ ِ‬ ‫ـت خيـ ُ‬ ‫وقفـ ْ‬ ‫ـبان علــى ّ‬ ‫المطّل ــة عل ــى منطق ــة ال ــوادي الخصي ــب‬ ‫(مكســـيكو العاصمـــة اليـــوم)‪َ ،‬حَبـــس‬ ‫أن‬ ‫الفرســان أنفاســهم‪َ ،‬فَلـ ْـم يســبق لهــم ْ‬ ‫شــاهدوا‪ -‬مــن قبــل‪ -‬مدينـ ًـة بهــذا الســحر‬ ‫والجمـــال والضخامـــة‪ .‬مدينـــة قبائـــل‬ ‫المشــيكا والتــي يحكمهــا اإلزتــك‪ ،‬كانــت‬ ‫عبــارة عــن جــزر كبيــرة داخــل بحيــرات‬ ‫وأنهــار‪ ،‬مّتصــل بعضهــا باآلخــر بجســور‬ ‫وقن ــوات لنق ــل الن ــاس والمي ــاه العذب ــة‪،‬‬ ‫‪138‬‬

‫تحي ــط به ــا مئ ــات الق ــوارب والمجادي ــف‬ ‫التـــي تنقـــل النـــاس والبضائـــع‪ .‬كانـــت‬ ‫الجـــزر تشـــبه فينيســـيا إال أنهـــا أكبـــر‬ ‫بكثي ــر‪ ،‬فع ــدد س ـّـكان فينيس ــيا ‪ -‬وه ــي‬ ‫أكبــر مــدن أوروبــا آنــذاك ‪ -‬لــم يتجــاوز‬ ‫المئــة والســبعين ألــف نســمة‪ ،‬بينمــا كان‬ ‫يعي ــش ف ــي مدين ــة مكس ــيكو أكث ــر م ــن‬ ‫ســـكان‬ ‫ربـــع مليـــون إنســـان (ضعـــف ّ‬ ‫رومــا أو لنــدن فــي ذلــك الوقــت)‪ .‬انبهــر‬ ‫تتوســـط‬ ‫اإلســـبان باألهرامـــات التـــي‬ ‫ّ‬ ‫الجزيـــرة‪ ،‬وباأللـــوان الفاقعـــة التـــي‬ ‫عمـــال‬ ‫ُطِلَيـــت بهـــا البيـــوت‪ ،‬وبعـــدد ّ‬ ‫النظافــة الذيــن يجوبون القنــوات المائية‬ ‫لتنظي ــف المدين ــة عل ــى م ــدار الي ــوم‪.‬‬ ‫الي ــوم‪ُ ،‬أك ـّـر ُر الدهش ــة ذاته ــا‪ ،‬وأن ــا‬ ‫أزور مكس ــيكو العاصم ــة‪ ،‬فه ــي مدين ــة‬ ‫كوزموبوليتـــان مـــن الدرجـــة األولـــى‪،‬‬ ‫صـــدق‪،‬‬ ‫وهـــي ضخمـــة بشـــكل ال ُي َّ‬ ‫تســكنها عشــرون مليون نفس(نيويورك‬ ‫يس ــكنها ‪ 8‬ماليي ــن فق ــط‪ ،‬وموس ــكو ‪12‬‬ ‫ملي ــون فق ــط)‪ .‬مم ــا يعن ــي ازدحام ـ ًا ف ــي‬ ‫الســـلوك والنفـــوس‪ ،‬إال أن أريحيـــة‬ ‫النـــاس وانبســـاطهم (عـــدا ســـائقي‬ ‫التاكســـي) كانـــت مفاجـــأة بالنســـبة‬ ‫لـــي؛ إذ إن االبتســـامات كانـــت ملقـــاة‬ ‫عل ــى قارع ــة الط ــرق‪ ،‬والبشاش ــة كان ــت‬ ‫ـودد إل ــى الغرب ــاء‬ ‫تس ــبق الس ــام‪ ،‬والت ـ ُّ‬ ‫والحديـــث معهـــم كان ســـليقة وطبعـــاً‪،‬‬ ‫إال أن المدين ــة كان ــت تعان ــي م ــن ث ــاث‬ ‫مش ــاكل أساس ــية‪ :‬األول ــى ه ــي األم ــن؛‬ ‫حي ــث تكث ــر الجرائ ــم‪ ،‬لك ــن‪ ،‬قب ــل س ــبع‬ ‫ســـنوات‪ ،‬بـــدأت الدولـــة فـــي إحـــكام‬ ‫قبضتهـــا األمنيـــة‪ ،‬وهـــي اليـــوم آمنـــة‬ ‫تمشـــيت فـــي شـــوارعها‬ ‫نســـبياً‪ ،‬وقـــد َّ‬ ‫ـا‬ ‫عــّدة م ـّـرات‪ ،‬وبع ــد الثاني ــة عش ــر لي ـ ً‬ ‫كان ــت آمن ــة تمامــاً‪ ،‬والتحذي ــر‪ ،‬فق ــط‪،‬‬ ‫مــن زيــارة بعــض األحيــاء علــى أطــراف‬ ‫ليـــا‪.‬‬ ‫متأخـــرة‬ ‫المدينـــة فـــي أوقـــات‬ ‫ً‬ ‫ِّ‬ ‫التلوث‪ ،‬وســببه‬ ‫والمشــكلة الثانيــة هــي ُّ‬ ‫الصناعــات الضخمة (الســيارات والقطن)‬ ‫ـل ج ــزء كبي ــر‬ ‫ـم َح ـ ّ‬ ‫ف ــي المدين ــة‪ ،‬وق ــد َت ـ َّ‬ ‫مــن المشــكلة بنقــل أغلــب المصانــع إلــى‬ ‫خف ــف م ــن حــّدة‬ ‫خ ــارج المدين ــة‪ ،‬مم ــا َّ‬ ‫تلوثهـــا‪ .‬أمـــا المشـــكلة الثالثـــة فهـــي‬ ‫ُّ‬ ‫الزحمــة؛ فمــا الــذي تتوقّعــه مــن تكـ ُّـدس‬ ‫عشـــرين مليـــون شـــخص فـــي مدينـــة‬

‫تخطــط‬ ‫ـل األمثــل أن ِّ‬ ‫الحـّ‬ ‫واحــدة؟ لــذا فــإن َ‬ ‫جيــد‪ ،‬بحيــث ال تنتقــل مــن‬ ‫ليومــك بشــكل ّ‬ ‫الجن ــوب إل ــى الش ــمال ف ــي ي ــوم واح ــد‪،‬‬ ‫وقــد اســتخدمت المتــرو عـّدة مــرات‪ ،‬كان‬ ‫مزدحمــاً‪ ،‬لكن ــه ل ــم يك ــن س ـّـيئاً‪.‬‬ ‫ـول بيــن ناطحــات الســحاب‪ ،‬فــي‬ ‫التجـ ُّ‬ ‫ش ــوارع ممل ــوءة بعرب ــات التاك ــو‪ ،‬ه ــو‬ ‫الوص ــف الصح ــي لمدين ــة التناقض ــات‪،‬‬ ‫مدينـــة يتجـــاور فيهـــا أثـــرى أثريـــاء‬ ‫العالـــم (منعـــم كارلـــوس‪ 74 :‬مليـــار‬ ‫مبنيـــة‬ ‫دوالر) بأحيـــاء جبليـــة كاملـــة ّ‬ ‫مـــن الطيـــن والصفائـــح‪ .‬الغريـــب أن‬ ‫وص ــف ه ــذه البل ــد بـ(بل ــد التناقض ــات)‬ ‫جـــاء فـــي القـــرن التاســـع عشـــر مـــن‬ ‫ِقَب ــل الب ــارون إلكس ــندر هامبل ــوت‪ ،‬أح ــد‬ ‫ـارة ف ــي‬ ‫أه ـّـم الذي ــن كتب ــوا ع ــن ه ــذه الق ـ ّ‬ ‫تل ــك الحقب ــة‪ ،‬فق ــد تح ـ َّـدث ع ــن الف ــرق‬ ‫الكبيــر بيــن النخبــة اإلســبانية والسـّـكان‬ ‫األصلييــن‪ ،‬مــن حيــث الثــروة والنفــوذ‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ـرددون عبارت ــه‪ :‬بل ــد‬ ‫ـ‬ ‫ي‬ ‫ـاس‬ ‫ـ‬ ‫الن‬ ‫ـزال‬ ‫وال ي ـ‬ ‫ِّ‬ ‫التناقضـــات‪.‬‬ ‫الفقر ال يمنعهم من األكل أو الفرح!‬ ‫وهن ــا أكب ــر مع ـّدل نس ــبة ُس ــمنة ف ــي‬ ‫العالــم‪ ،‬والســبب هو التاكــو والكوكاكوال‬ ‫(المســـكيكي أكبـــر مســـتهلك للـــذرة‬ ‫وللكوكاك ــوال ف ــي العال ــم!)‪ .‬ويس ــتهلك‬ ‫المكســيكي الذرة بـ‪ 23‬ضعف ًا الســتهالكه‬ ‫للـــرز‪ ،‬هـــم يصنعـــون كل شـــيء مـــن‬ ‫الـــذرة‪ :‬الحســـاء‪ ،‬الخبـــز‪ ،‬المشـــروبات‬ ‫البـــاردة‪ ،‬المشـــروبات الكحوليـــة‪،‬‬ ‫السـَلطات‪...‬فهناك ‪ 700‬طبق ومشــروب‬ ‫مكس ــيكي تدخ ــل فيه ــا ال ــذرة! وبالرغ ــم‬ ‫ـوع األطبــاق المكســيكية جغرافياً‪،‬‬ ‫مــن تنـ ُّ‬ ‫تتف ــق جميع ـ ًا عل ــى ال ــذرة‪ ،‬وإن‬ ‫إال أنه ــا َّ‬ ‫كانــت ألوانهــا تختلــف بحســب المنطقــة‪:‬‬ ‫بيضـــاء‪ ،‬وصـفــــــراء‪ ،‬وبنـفـسـجــــية‪،‬‬ ‫وحمــراء‪ ،‬وســوداء‪ ،‬إال أن أغلــب عجينــة‬ ‫التورتيــا ُتصنــع من خلط الــذرة الصفراء‬ ‫بالبيضــاء‪ .‬وحينمــا وصــل المســتعمرون‬ ‫اإلســبان إلــى المكســيك‪ ،‬اســتغربوا مــن‬ ‫اس ــتخدامهم لل ــذرة ف ــي األكل‪ ،‬إذ كان ــت‬ ‫ال ــذرة ف ــي أوروب ــا ال ت ــؤكل‪ ،‬وتس ــتخدم‬ ‫للس ــماد فق ــط؛ ل ــذا فق ــد َّ‬ ‫أث ــرت المكس ــيك‬ ‫علـــى العالـــم كلِّـــه فـــي مفهـــوم الـــذرة‪،‬‬ ‫وخصوصـــ ًا أميـــركا‪ ،‬حيـــث أصبحـــت‬ ‫ال ــذرة ه ــي المنت ــج األكث ــر زراع ـ ًـة ف ــي‬

‫أكبـــر مـــدن ذلـــك الزمـــان‪ .‬وبمقارنتهـــا‬ ‫بـ«تشيتشــن إيتــزا»‪ ،‬فإنهــا أكبــر وأجمــل‬ ‫بكثيــر‪ ،‬لــذا فهــي ُت َعـّد أكثــر موقــع أثــري‬ ‫ُي ــزار ف ــي المكس ــيك‪.‬‬

‫***‬

‫تصوير‪ :‬حمود الجالممة‬

‫أمي ــركا‪ ،‬وه ــي قاع ــدة اله ــرم الغذائ ــي‪،‬‬ ‫ـتخدم علفـ ًا حيوانيـاً‪ ،‬وســمادًا‬ ‫حيــث ُتسـ َ‬ ‫ـذاء بش ــرياً‪ ،‬وبذل ــك تك ــون‬ ‫نباتيــاً‪ ،‬وغ ـ ً‬ ‫المكس ــيك ه ــي م ــن َّ‬ ‫أث ــرت ف ــي أمي ــركا‪،‬‬ ‫ال العك ــس‪.‬‬ ‫بالرغ ــم م ــن زراع ــة ال ــذرة ف ــي كاف ــة‬ ‫أنحــاء المكســيك‪ ،‬إال إنهــا لــم تعــد تكفــي‬ ‫االســـتهالك اليومـــي لألفـــراد‪ ،‬وهنـــاك‬ ‫ضغط من الشــركات األميركية الســتيراد‬ ‫الـــذرة مـــن أميـــركا‪ ،‬إال أن المكســـيك‬ ‫ترفـــض ذلـــك لمـــا تعلمـــه مـــن عمليـــة‬ ‫تهجيــن لجينــات الــذرة فــي أميــركا‪ ،‬لــذا‬ ‫فضل ــوا اس ــتيراد ال ــذرة م ــن جواتيم ــاال‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫الحظـــت أن المكســـيكيين فخـــورون‬ ‫ُ‬ ‫بأكلهــم كثيــراً‪ ،‬ويتضايقــون من النســخة‬ ‫ـوهة من األكل األميركي المكسيكي‪،‬‬ ‫المشـ َّ‬ ‫والتــي تسـّـمى «تكس مكــس ‪»Tex-Mex‬‬ ‫(تكـــس= اختصـــار لتكســـاس)‪ ،‬والتـــي‬ ‫تحمــل شــكل األكل المكســيكي‪ ،‬وال تحمل‬ ‫المكونـــات‬ ‫مضمونـــه‪ ،‬بســـبب اختـــاف‬ ‫ِّ‬ ‫المكســـيكية عـــن األميركيـــة؛ ممـــا دعـــا‬ ‫حكومـــة المكســـيك فـــي (‪ )2007‬إلـــى‬ ‫طباخي ــن مكس ــيكيين إل ــى أكب ــر‬ ‫إرس ــال ّ‬ ‫خمســين مطعمـ ًا أميركيـ ًا يقـ ِّـدم الـ(تكــس‬ ‫مكـــس)‪ ،‬لكـــي يشـــرحوا لهـــم حقيقـــة‬ ‫األكل المكس ــيكي‪ .‬وبشـــكل عـــام يرتك ــز‬ ‫مكونـــات‬ ‫المطبـــخ المكســـيكي علـــى ‪ِّ 3‬‬ ‫رئيســـية‪ :‬الـــذرة‪ ،‬الفـــول‪ ،‬والفلفـــل‪.‬‬ ‫(هنــاك محافظــة كاملة اســمها تباســكو)‪.‬‬

‫***‬

‫من ــذ مئ ــة س ــنة تقريبــاً‪ ،‬كان بع ــض‬ ‫عمــال الســكك الحديديــة يحفــرون شــمال‬ ‫ّ‬ ‫مدينـــة مكســـيكو ســـيتي‪ ،‬ليصطدمـــوا‬ ‫بمبن ــى صخ ــري صل ــد‪ ،‬أرس ــل طاغي ــة‬ ‫المكســـيك‪ ،‬فـــي وقتهـــا «بورفوريـــو»‬ ‫مهتمــ ًا بالتاري ــخ)‪ ،‬فرق ـ ًـة علمي ـ ًـة‬ ‫(وكان ّ‬ ‫للتنقيـــب‪ ،‬ليكتشـــفوا أنهـــم يقفـــون‬ ‫عل ــى مدين ــة ضخم ــة مطم ــورة بالت ــراب‬ ‫ومتنقّبــة بأشــجار ضخمــة عمرهــا مئــات‬ ‫الســنين‪ .‬اضطـّـروا إلــى حفــر ألكثــر مــن‬ ‫ســـبعين متـــراً‪ ،‬ليكشـــفوا عـــن وجـــه‬ ‫ألول‬ ‫ويظِه ــروا لن ــا‪ّ -‬‬ ‫المدين ــة الحقيق ــي‪ُ ،‬‬ ‫مـــرة فـــي التاريـــخ‪« -‬تيتوهـــواكان» أي‬ ‫ّ‬ ‫(مدين ــة اآلله ــة)‪ .‬وس ـّـميت به ــذا االس ــم‪،‬‬ ‫ألنه ــم وج ــدوا ف ــي كت ــب قبائ ــل اإلزت ــك‬ ‫مـــروا بهـــذه المدينـــة منـــذ مئـــات‬ ‫أنهـــم ّ‬ ‫الســـنين‪ ،‬وكانـــت عظيمـــة البنـــاء‪،‬‬ ‫فتوص ــل األزت ــك‬ ‫مهج ــورة م ــن البش ــر‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫ فــي وقتهــا‪ -‬إلــى أن هــذا البنــاء ال يمكــن‬‫أن يقــوم بــه بشــري‪ ،‬لــذا سـّـموها (مدينــة‬ ‫اآللهــة)‪ ،‬وهــي عبــارة عن مدينــة كبيرة‪،‬‬ ‫فيهـــا هرمـــان كبيـــران‪ :‬هـــرم الشـــمس‪،‬‬ ‫وه ــرم القم ــر‪ ،‬يع ــود بناؤه ــا إل ــى مئ ــة‬ ‫ســـنة قبـــل ميـــاد المســـيح‪ ،‬مســـاحتها‬ ‫تزيــد علــى الثمانيــن كيلــو متــرًا مربع ـاً‪،‬‬ ‫محي ــرة ج ــداً‪ ،‬ال ُيع ـ َـرف‪-‬‬ ‫وه ــي مدين ــة ِّ‬ ‫ـن ســكنها‪ ،‬ولمــاذا‬ ‫ـ‬ ‫وم‬ ‫ـا‪،‬‬ ‫ـن بناهـ َ ْ‬ ‫قطعـاً‪َ -‬مـ ْ‬ ‫هجره ــا أبناؤه ــا‪ .‬تش ــير الدراس ــات إل ــى‬ ‫أنهــا كانــت تســتوعب قرابــة مئة وخمســة‬ ‫وعشــرين ألــف نســمة‪ ،‬ممــا يجعلهــا مــن‬

‫اســـتمرت جولتـــي فـــي المكســـيك‬ ‫َّ‬ ‫تســـعة أيـــام‪ ،‬زرت فيهـــا ثـــاث‬ ‫محافظـــات‪ ،‬وكان ذلـــك غيضـــ ًا مـــن‬ ‫ومتمدد باســتمرار‪،‬‬ ‫فيــض‪ ،‬فالبلــد ضخم‬ ‫ِّ‬ ‫ـتحق‬ ‫وهن ــاك مئ ــات األماك ــن الت ــي تس ـ ّ‬ ‫تعرف ــت ف ــي‬ ‫ُّ‬ ‫التوق ــف عنده ــا وزياراته ــا‪َّ .‬‬ ‫رحلت ــي إل ــى ع ــدد م ــن األش ــخاص م ــن‬ ‫ـار مختلف ــة‪ ،‬وزرت بقاعــ ًا غريب ــة‪،‬‬ ‫أعم ـ ٍ‬ ‫جعلتنــي أعيــد النظــر فــي عقيدتــي تجــاه‬ ‫وأرتب‪ ،‬اآلن‪ ،‬لرحلة أشــمل‪،‬‬ ‫المكســيك‪ِّ ،‬‬ ‫تض ـ ّـم بقاعــ ًا جدي ــدة‪ .‬وف ــي تقدي ــري إن‬ ‫المكســـيك تحتـــاج إلـــى ســـّتة أســـابيع‬ ‫لزيــارة بقاعهــا األساســية‪ ،‬وإلــى ثالثــة‬ ‫ش ــهور للرحل ــة فيه ــا كامل ــة‪.‬‬ ‫البشـــر هنـــا ودودون وقابلـــون‬ ‫صـــدق‪ .‬وجـــدت‬ ‫للصداقـــة بشـــكل ال ُي َّ‬ ‫التعـــرف إلـــى‬ ‫ســـهولة كبيـــرة فـــي‬ ‫ُّ‬ ‫النـــاس واالنخـــراط بينهـــم‪ ،‬وهـــو مـــا‬ ‫ذكرنــي‪ -‬كثيــراً‪ -‬بتجربتــي فــي فنزويــا‬ ‫َّ‬ ‫وكولومبيــا؛ وهــذا الشــيء يسـ ِّـهل عليــك‬ ‫دراســـة البلـــد والغـــوص فـــي نســـيجها‬ ‫االجتماعـــي‪.‬‬

‫***‬

‫خالصــة القــول هــي بطــان عقيدتــي‬ ‫فـــي َ َ‬ ‫ـــرك» المكســـيك؛ فالثقافـــات‬ ‫«تأْم ُ‬ ‫وقوي ــة فيه ــا‪،‬‬ ‫ـخة‬ ‫ـ‬ ‫راس‬ ‫ـزال‬ ‫ـ‬ ‫ت‬ ‫ال‬ ‫القديم ــة‬ ‫ّ‬ ‫وبخــاف كانكــون ومكســيكو العاصمــة‪،‬‬ ‫ف ــإن باق ــي البل ــد (الت ــي تبل ــغ مس ــاحتها‬ ‫مرب ــع) ال ت ــزال بعي ــدة كل‬ ‫مليون ــي مت ــر ّ‬ ‫البع ــد ع ــن الثقاف ــة األميركي ــة‪ .‬المفاج ــئ‬ ‫أن المكســيك قــد غــزت الواليــات المتحــدة‬ ‫فـــي الكثيـــر مـــن مناحيهـــا االجتماعيـــة‬ ‫والثقافيـــة‪ .‬يبـــدو أن االســـتعمار‬ ‫والجـــوار األميركـــي قـــد أضافـــا إلـــى‬ ‫المكســيك خلطــات جديــدة‪ ،‬وطـ َّـرزا فيهــا‬ ‫مميـــزة عـــن باقـــي العالـــم‪،‬‬ ‫فسيفيســـاء ّ‬ ‫المعتـــق؛‬ ‫دون أن َيســـُلباها جوهرهـــا‬ ‫َّ‬ ‫ل ــذا أس ــتغفر المكس ــيك م ــن ظلم ــي له ــا‬ ‫ط ــوال ه ــذه الس ــنوات‪ ،‬ف ــاألرض تعب ــق‬ ‫والتطور‬ ‫بالتــراث والتاريــخ واألســاطير‬ ‫ّ‬ ‫والشواطئ‪...‬والبشـــر الممتعيـــن‪.‬‬ ‫‪139‬‬

‫دراما‬

‫مسلسل «وعدي» إخراج ياسين فنان‬

‫حبكات سريعة‬ ‫عبد الكريم واكريم‬ ‫ـــل هـــال شـــهر رمضـــان مـــن‬ ‫كلمـــا َأ َه َّ‬ ‫تجـــدد النقـــاش فـــي شـــبكات‬ ‫كل عـــام‬ ‫َّ‬ ‫االجتماعي‪،‬ودِّبجـــت المقـــاالت‬ ‫التواصـــل‬ ‫ُ‬ ‫فـــي الصحـــف حـــول مســـتوى الدرامـــا‬ ‫التلفزيـــة المغربيـــة‪ ،‬خصوصـــ ًا منهـــا‬ ‫الكوميديـــة التـــي ُتعـــرض فـــي ســـاعة‬ ‫اإلفطـــار‪ .‬فباســـتثناءات قليلـــة نالـــت‬ ‫اإلجمــاع فــي الســنوات الماضيــة كسلســلة‬ ‫تمي ــز حس ــن الف ــذ‬ ‫الم ّ‬ ‫«الكوب ــل» للكومي ــدي ُ‬ ‫‪،‬التـــي اعتمـــد فيهـــا‪ ،‬متنـــاو ًال قضايـــا‬ ‫مجتمعي ــة‪ ،‬عل ــى كوميدي ــا الموق ــف‪ ،‬ف ــإن‬ ‫تـــرق‬ ‫األعمـــال الكوميديـــة األخـــرى لـــم‬ ‫َ‬ ‫لتطلعـــات المتتبعيـــن والجمهـــور‪.‬‬ ‫لكـــن‪ ،‬بالمقابـــل‪ ،‬كانـــت (ومازالـــت )‬ ‫بع ــض األعم ــال الدرامي ــة م ــن مسلس ــات‬ ‫وأفـــام تليفزيونيـــة تنـــال رضـــى كل‬ ‫فئـــات المشـــاهدين‪ ،‬خصوصـــ ًا أن‬ ‫مســـتواها شـــهد تحســـن ًا تقنيـــ ًا وفنيـــ ًا‬ ‫ملحوظيـــن‪ ،‬ألنهـــا اســـتقطبت مخرجيـــن‬ ‫لديه ــم رصي ــد ال يس ــتهان ب ــه س ــينمائي ًا‬ ‫وتليفزيونيـــاً‪ ،‬وتقنييـــن اشـــتغل كثيـــر‬ ‫ص ـ ِّـورت ف ــي‬ ‫منه ــم ف ــي أعم ــال أجنبي ــة ُ‬ ‫المغـــرب ‪،‬وممثليـــن خليطـــا مـــن ِعـــّدة‬ ‫أجيـــال‪.‬‬ ‫إذا قارنَّـــا الدرامـــا التليفزيونيـــة‬ ‫المغربيـــة الحاليـــة بمـــا كانـــت عليـــه‬ ‫(كمـــ ًا وكيفـــاً) ومـــا‬ ‫منـــذ بضـــع ســـنوات ّ‬ ‫‪140‬‬

‫ـيتبين لن ــا أنه ــا‬ ‫أصبح ــت علي ــه اآلن‪ ،‬فس ـ َّ‬ ‫عرف ــت تط ـ ّـورًا ملحوظــاً‪ ،‬لك ــن متطلب ــات‬ ‫المشـــاهد المغربـــي المتتبـــع لألعمـــال‬ ‫التليفزيونيـــة شـــهــــــدت ‪ -‬بدورهـــا‪-‬‬ ‫تط ـ ّـوراً‪ ،‬إذ أصب ــح‪ ،‬م ــع م ــرور الس ــنين‬ ‫أكثــر تطلُّب ـاً‪ ،‬وهــو يضطــر لمقارنــة هــذه‬ ‫الدرامـــا بنظيراتهـــا العربيـــة‪ ،‬خصوصـــ ًا‬ ‫الســـورية والمصريـــة‪ ،‬إضافـــة للدرامـــا‬ ‫التركي ــة الت ــي غ ــزت القن ــوات الفضائي ــة‬ ‫ف ــي الس ــنوات الماضي ــة‪ ،‬والت ــي أصب ــح‬ ‫المشـــاهد المغربـــي ُيقبـــل عليهـــا بكثـــرة‬ ‫ُ‬ ‫طيلـــة أيـــام الســـنة‪.‬‬ ‫م ــن بي ــن األعم ــال الدرامي ــة التلفزي ــة‬ ‫التــي احتــرم فيهــا أصحابهــا الحـّد األدنــى‬ ‫م ــن الش ــروط الت ــي يج ــب توافره ــا ف ــي‬ ‫عم ــل درام ــي ناج ــح‪ ،‬مسلس ــا «وع ــدي»‬ ‫للمخـــرج ياســـين فنـــان‪ ،‬و«حـــبــــال‬ ‫الـريــــح» للمخـــرج والممثـــل إدريـــس‬ ‫الــروخ‪ ،‬إضافــة لبعــض األفــام التلفزيــة‬ ‫المعروضــة خــال شــهر رمضــان‪ ،‬والتــي‬ ‫قـــام بإخراجهـــا مخرجـــون ســـينمائيون‬ ‫تمرســـون‪.‬‬ ‫ُم ّ‬ ‫المسلســـل األول درامـــا اجتماعيـــة‬ ‫تتب ــع فيه ــا مخرجه ــا مس ــار ش ــابة يت ــم‬ ‫َّ‬ ‫اختطافهـــا‪ ،‬وهـــي صغيـــرة الســـن‪،‬‬ ‫مـــن طـــرف عصابـــة تســـتغل األطفـــال‪،‬‬ ‫لتهـــرب بعـــد ذلـــك وتلجـــأ إلـــى امـــرأة‬

‫ســـيظل عضـــو‬ ‫غنيـــة ســـتربيها‪ ،‬لكـــن‬ ‫ّ‬ ‫مـــن العصابـــة وزوجتـــه يّدعيـــان أنهمـــا‬ ‫والداهـــا‪ ،‬لتصبـــح بالنســـبة إليهمـــا‬ ‫مــوردًا مالي ـ ًا مهم ـاً‪ ،‬فيمــا يســتمر والداهــا‬ ‫الحقيقيـــان فـــي البحـــث عنهـــا‪ ،‬وخـــال‬ ‫ذل ــك تعي ــش ه ــي تجرب ــة ح ــب فاش ــلة‪.‬‬ ‫رغـــم أن قصـــة المسلســـل تقليديـــة‬ ‫وكالس ــيكية ف ــي بنائه ــا الع ــام‪ ،‬وس ــبق‬ ‫لن ــا أن ش ــاهدنا مثيالته ــا ف ــي العدي ــد م ــن‬ ‫األفـــام الســـينمائية علـــى الخصـــوص‪،‬‬ ‫فــإن الجديــد فيــه هــو األســلوب اإلخراجــي‬ ‫لياســـين فنـــان الـــذي اســـتطاع‪ ،‬خـــال‬ ‫الســـنوات القليلـــة الماضيـــة‪ ،‬أن يكســـب‬ ‫ثقـــة جمهـــور الدرامـــا الرمضانيـــة فـــي‬ ‫المغـــرب بإخراجـــه لمسلســـات ناجحـــة‬ ‫جماهيريـــ ًا ومحترمـــة فنيـــاً‪ ،‬حققـــت‬ ‫نس ــبة مش ــاهدة مرتفع ــة‪ ،‬أهمه ــا مسلس ــل‬ ‫«بن ــات الل ــة منان ــة» ف ــي جزأي ــه اللذي ــن‬ ‫ُعرض ــا تباعــ ًا خ ــال ش ــهر رمض ــان م ــن‬ ‫الســـنتين الماضيتيـــن‪.‬‬ ‫يتميـــز أســـلوب ياســـين فنـــان‬ ‫تتتبـــع‬ ‫الحرّيـــة للكاميـــرا لكـــي َّ‬ ‫بإعطـــاء ّ‬ ‫حـــركات الممثليـــن‪ ،‬بحيـــث ال يظلـــون‬ ‫يكبـــل‬ ‫محجوزيـــن فـــي فضـــاء ضيـــق ِّ‬ ‫طاقاته ــم التمثيلي ــة‪ ،‬األم ــر ال ــذي يجع ــل‬ ‫أغلـــب الممثليـــن الذيـــن يشـــتغلون معـــه‬ ‫تميـــز عمـــا ظهـــروا‬ ‫يظهـــرون بشـــكل ُم ّ‬

‫بـــه فـــي أعمـــال أخـــرى‪ ،‬كونـــه يحســـن‬ ‫إدارتهـــم وتوجيههـــم أيضـــاً‪.‬‬ ‫وأهـــم مـــا ُيمكـــن مالحظتـــه فـــي‬ ‫التطـــور الجيـــد‬ ‫هـــذا المسلســـل هـــو‬ ‫ّ‬ ‫للشـــخصيات‪ ،‬رغـــم عـــدم الغـــوص‬ ‫العميـــق فـــي بواعثهـــا النفســـية لكـــي‬ ‫ُتصب ــح أكث ــر أهمي ــة وعمقــاً‪ .‬لك ــن األداء‬ ‫الجيـــد للممثليـــن اســـتطاع التغطيـــة‬ ‫والتعويـــض‪ ،‬نوعـــ ًا مـــا‪ ،‬علـــى هـــذا‬ ‫الجانـــب‪.‬‬ ‫أم ــا المسلس ــل الثان ــي «حب ــال الري ــح»‬ ‫فهـــو فانتازيـــا تاريخيـــة بشـــخوص‬ ‫ـــم تجســـيدها فـــي‬ ‫وأحـــداث خياليـــة َت ّ‬ ‫فتـــرة متخيلـــة وغيـــر ُمحـــّددة زمنيـــ ًا‬ ‫ومكانيـــاً‪.‬‬ ‫وممـــا أضفـــى نوعـــ ًا مـــن الغرائبيـــة‬ ‫علـــى هـــذا المسلســـل‪ -‬إضافـــة ألحداثـــه‬ ‫تخيلـــة علـــى منـــوال الحكايـــات‬ ‫الم ّ‬ ‫ُ‬ ‫الشـــعبية الشـــفوية األســـطورية‬ ‫وحكايـــات ألـــف ليلـــة وليلـــة‪ -‬أســـماء‬ ‫شـــخصياته الغريبـــة كـ«تـــاج النخلـــة»‪،‬‬ ‫«عـــود الريحـــان»‪« ،‬حافـــر الغـــزال»‪،‬‬ ‫«نـــور النـــار»‪« ،‬جنـــاح الســـيف»‪...‬‬ ‫وق ــد كان م ــن بي ــن نق ــاط الق ــوة ف ــي‬ ‫المسلســـل‪ -‬إضافـــة إلـــى األداء الجيـــد‬ ‫للممثليـــن‪ -‬ذلـــك التـــوازن اإليقاعـــي‬ ‫الـــذي اعتمـــده المخـــرج فـــي االنتقـــال‬ ‫بيـــن المشـــاهد الداخليـــة والمشـــاهد‬ ‫الخارجيـــة‪ ،‬األمـــر الـــذي جعـــل العمـــل‬ ‫ال يســـقط فـــي الرتابـــة والملـــل اللذيـــن‬ ‫نجدهمـــا فـــي بعـــض األعمـــال الدراميـــة‬ ‫التاريخيـــة العربيـــة‪ ،‬والتـــي ُيوظـــف‬ ‫مخرجوهـــا المشـــاهد الداخليـــة بشـــكل‬ ‫كبيـــر‪ .‬إلـــى جانـــب أن االختيـــار الجيـــد‬ ‫والدقي ــق لمواق ــع التصوي ــر‪ ،‬األم ــر ال ــذي‬ ‫أضفـــى رونقـــ ًا علـــى السلســـلة‪ ،‬كان‬ ‫نابع ـ ًا باألس ــاس م ــن جمالي ــة التصوي ــر‪،‬‬ ‫الــذي اضطلــع بــه مديــر تصويــر إيطالــي‬ ‫محتـــرف‪ .‬لكـــن يبـــدو أن الســـرعة فـــي‬ ‫إنجـــاز العمـــل‪ ،‬بغـــرض عرضـــه خـــال‬ ‫رمض ــان‪ ،‬جع ــل صانعي ــه يس ــقطون ف ــي‬ ‫أخط ــاء بخص ــوص «الراك ــور» وتسلس ــل‬ ‫األحـــداث‪ ،‬بحيـــث يمكـــن للمتتبـــع‬ ‫تمع ــن أن يالح ــظ بع ــض الهف ــوات ف ــي‬ ‫الم ّ‬ ‫ُ‬ ‫هـــذا الجانـــب‪.‬‬ ‫ويبقــى أهـ ُّـم مــا فــي الدرامــا المغربيــة‬ ‫التلفزي ــة له ــذا الع ــام ه ــو األداء المتمك ــن‬ ‫للعديـــد مـــن الممثليـــن المغاربـــة مـــن‬

‫من مسلسل «حبال الريح» إخراج إدريس الروخ‬

‫جميـــع األجيـــال‪ ،‬األمـــر الـــذي جعلنـــا‬ ‫شـــبابا‪،‬‬ ‫كمشـــاهدين‪ -‬نكتشـــف ممثليـــن‬‫ً‬ ‫ونعيـــد اكتشـــاف آخريـــن محترفيـــن أو‬ ‫الـــرواد فـــي أدوار أضافـــوا‬ ‫مـــن جيـــل‬ ‫ّ‬ ‫وتمرســـهم‪ .‬فحتـــى‬ ‫خبرتهـــم‬ ‫إليهـــا مـــن‬ ‫ُّ‬ ‫بعـــض األدوار التـــي لـــم ُتكتـــب بعنايـــة‬ ‫فائقــة ولــم ُيبــذل فيهــا مجهــود مــن حيــث‬ ‫تطـــور الشـــخصية وبنـــاء‬ ‫العمـــل علـــى‬ ‫ّ‬ ‫بعدهـــا النفســـي‪ ،‬اســـتطاع هـــؤالء أن‬ ‫ُيضف ــوا عليه ــا تل ــك ال ــروح الت ــي نجده ــا‬ ‫عنـــد كبـــار الممثليـــن والتـــي تجعلهـــم‬ ‫يصنعـــون مـــن دور عـــادي شـــخصية‬ ‫ق ــد ال ُتنس ــى بس ــهولة‪ .‬وهن ــا يمك ــن لن ــا‬ ‫ذكـــر طـــارق بخـــاري‪ ،‬والســـعدية لديـــب‬ ‫ف ــي مسلس ــل «وع ــدي»‪ ،‬ومحم ــد خي ــي‪،‬‬ ‫وجميلـــة الهونـــي فـــي مسلســـل «جنـــاح‬ ‫الريـــح»‪ ،‬ومحمـــد الشـــوبي فـــي ِبضـــع‬ ‫أدوار بأفـــام تلفزيـــة‪ ،‬إضافـــة إلـــى‬ ‫ممثليـــن آخريـــن‪.‬‬ ‫وممـــا ُيلفـــت انتبـــاه المتتبـــع للدرامـــا‬ ‫الرمضانيـــة فـــي المغـــرب‪ ،‬ذلـــك‬ ‫الحضـــور‪ ،‬بكثـــرة‪ ،‬للممثليـــن أنفســـهم‬ ‫فـــي العديـــد مـــن األعمـــال‪ ،‬إذ اليمكـــن‬ ‫لعيـــن المهتـــم أن تخطـــئ الحضـــور‬ ‫الطاغـــي والواضـــح للممثلـــة دنيـــا‬ ‫بوطـــازوت‪ -‬علـــى ســـبيل المثـــال‪ -‬فـــي‬ ‫العدي ــد م ــن األعم ــال الكوميدي ــة ‪ ،‬ب ــل إن‬ ‫حضوره ــا يتج ــاوز ذل ــك إل ــى اإلعالن ــات‬ ‫التلفزيــة‪ ،‬األمــر الــذي قــد يكــون فــي غيــر‬ ‫صالـــح موهبتهـــا التمثيليـــة‪ ،‬خصوصـــا‬ ‫أنهـــا ُتعيـــد االشـــتغال علـــى الشـــخصية‬ ‫نفســـها مـــع تنويعـــات بســـيطة عليهـــا‬ ‫فقـــط‪ .‬نفـــس األمـــر يمكـــن أن ينـــدرج‬ ‫عل ــى الكومي ــدي عب ــداهلل توكون ــة الملق ــب‬

‫صصـــت دورة كاملـــة‬ ‫بـ«فركـــوس» إذ ُخ ِّ‬ ‫ألفالمـــه القنـــاة العموميـــة الثانيـــة مـــع‬ ‫حضـــوره فـــي مسلســـات تلفزيـــة‪.‬‬ ‫مـــن بيـــن أهـــم المالحظـــات التـــي‬ ‫يمكـــن لنـــا أن نســـجلها علـــى الدرامـــا‬ ‫الرمضانيـــة المغربيـــة عمومـــ ًا مـــع‬ ‫بعـــض االســـتثناءات‪ ،‬غيـــاب نـــص‬ ‫ق ــوي‪ ،‬محب ــوك ومكت ــوب بش ــكل جي ــد‪.‬‬ ‫شـــكل الســـيناريو نقطـــة ضعـــف‬ ‫إذ ُي ّ‬ ‫كبـــرى وأساســـية فـــي المـــادة الدراميـــة‬ ‫الرمضاني ــة له ــذه الس ــنة‪ ،‬بحي ــث يضط ــر‬ ‫المخرجـــون وفـــي محاولـــة لتعويـــض‬ ‫هــذا النقــص اللعــب علــى الجانــب التقنــي‬ ‫ومحاولــة اإلبهــار بالصــورة‪ ،‬األمــر الــذي‬ ‫تمكنه ــم م ــن‬ ‫نج ــح في ــه بعضه ــم بحك ــم ّ‬ ‫الحرف ــة الس ــينمائية‪ ،‬لك ــن يبق ــى جان ــب‬ ‫الكتابـــة مطروحـــ ًا بقـــوة رغـــم الجهـــد‬ ‫المب ــذول م ــن ط ــرف ه ــؤالء المخرجي ــن‪،‬‬ ‫ُيســـاندهم فـــي ذلـــك الممثلـــون بأدائهـــم‬ ‫للتغطيـــة عليـــه‪.‬‬ ‫تطـــور‬ ‫وتجـــدر اإلشـــارة إلـــى أن‬ ‫ّ‬ ‫الدرامـــا التليفزيونيـــة المغربيـــة رهيـــن‬ ‫نجزيهـــا عـــن تلـــك النظـــرة‬ ‫بتخلّـــي ُم ِ‬ ‫الدونيـــة التـــي ُيكنُّهـــا بعضهـــم للعمـــل‬ ‫الدرامـــي التلفـــزي‪ ،‬بحيـــث تراهـــم‬ ‫يشـــتغلون بمعاييـــر مختلفـــة حينمـــا‬ ‫يتعلّـــق األمـــر بهـــذا األخيـــر‪ ،‬عكـــس‬ ‫عمـــا‬ ‫مـــا يفعلونـــه حينمـــا ُينجـــزون‬ ‫ً‬ ‫ســـينمائياً‪ ،‬وكأنهـــم يخافـــون مـــن عـــدم‬ ‫قـــدرة جمهـــور التلفـــزة علـــى مســـايرة‬ ‫أعمالهـــم لـــو أنهـــم اشـــتغلوا بمســـتوى‬ ‫فنـــي أعلـــى وأرقـــى‪.‬‬ ‫‪141‬‬

‫دراما غريبة وخادعة‬

‫نـاهـد صـالح‬

‫المتأمـــل فـــي درامـــا رمضـــان هـــذا‬ ‫ِّ‬ ‫العـــام يجـــد مـــن بينهـــا مـــا يقتـــرب‬ ‫لخـــص ذلـــك‬ ‫مـــن فكـــرة الخـــداع كمـــا ُي ِّ‬ ‫د‪.‬أحمـــد خالـــد توفيـــق بقـــول‪« :‬دعنـــي‬ ‫أخدع ــك ‪ ..‬دعن ــي أنخ ــدع»‪ ،‬حي ــث يقب ــل‬ ‫المشـــاهد أن ينخـــدع ويعيـــش حالـــة‬ ‫اإليهـــام كـــي تـــدور عجلـــة الخيـــال‪.‬‬ ‫وقـــد وصلـــت حالـــة اإليهـــام هـــذه إلـــى‬ ‫َأ ْو ِجهـــا مـــع «العهـــد‪ ،‬الـــكالم المبـــاح»‪،‬‬ ‫فالجـــو الغرائبـــي واألســـطوري الـــذي‬ ‫قّدمـــه المؤلـــف محمـــد أميـــن راضـــي‪،‬‬ ‫اســـتولد الكثيـــر مـــن التأويـــات حـــول‬ ‫مقص ــده م ــن ه ــذه الحال ــة الت ــي يختل ــط‬ ‫فيه ــا نس ــق (الحدوت ــة) القديم ــة األق ــرب‬ ‫إلـــى «ألـــف ليلـــة وليلـــة» مـــع الواقـــع‬ ‫ـــم تفســـيره علـــى أنـــه‬ ‫المعاصـــر‪ ،‬مـــا َت ّ‬ ‫حيلـــة المؤلـــف لصنـــع إســـقاطاته‬ ‫علـــى الوضـــع السياســـي الراهـــن وهـــذا‬ ‫أمـــر يســـتدعي الجـــدل‪ .‬لكـــن اســـتخدام‬ ‫الخيـــال المفـــرط فـــي تشـــكيل األجـــواء‬ ‫الميتافيزيقي ــة وعال ــم م ــا وراء الطبيع ــة‬ ‫مـــع اللوحـــات الفنيـــة التـــي صنعهـــا‬ ‫المخـــرج خالـــد مرعـــي وموســـيقى‬ ‫هشـــام نزيـــه المصاحبـــة‪ ،‬زادت مـــن‬ ‫صخـــب الجـــدل وربمـــا وجّهتـــه فـــي‬ ‫اتجـــاه آخـــر يبعـــد عـــن االتهـــام الـــذي‬ ‫صادف ــه المسلس ــل ف ــي بدايت ــه وه ــو أن ــه‬ ‫ـتل ع ــن درام ــا الفانتازي ــا التاريخي ــة‬ ‫ُمس ـ ّ‬ ‫األميركيــة ‪« Game of Thrones‬صــراع‬ ‫العــروش» المأخــوذ عــن روايــات الكاتــب‬ ‫‪142‬‬

‫األميرك ــي ج ــورج آر‪ .‬آر مارت ــن‪ ،‬وال ــذي‬ ‫بـــدأ عرضـــه عـــام ‪ .2011‬وعلـــى أي‬ ‫ـل حال ــة فني ــة‬ ‫ح ــال ف ــإن المسلس ــل يظ ـ ّ‬ ‫تســـتحق التأمـــل والجـــدال‪.‬‬ ‫وبصـــرف النظـــر عـــن أن حالـــة‬ ‫اإليهـــام هـــذه كانـــت تنكســـر علـــى‬ ‫حـــدود الفواصـــل اإلعالنيـــة التـــي‬ ‫الم ِ‬ ‫شـــاهد مـــن األجـــواء المخمليـــة‬ ‫تنقـــل ُ‬ ‫داخـــل القصـــور والبيـــوت الفخمـــة إلـــى‬ ‫التبرعـــات مـــن أجـــل مجتمعـــات الفقـــر‬ ‫وأمـــراض القلـــب والســـرطان وفيـــروس‬ ‫ســـي‪ ،‬فـــإن معادلـــة الخـــداع تبـــدو‬ ‫عادل ــة للجمي ــع‪ :‬فناني ــن يبن ــون مجده ــم‬ ‫ـاهدة‪ ،‬ومنتجي ــن‬ ‫المش ـ َ‬ ‫حس ــب «ترافي ــك» ُ‬ ‫ومش ـ ِ‬ ‫ـاهد‬ ‫ـوال‪،‬‬ ‫ـ‬ ‫األم‬ ‫ـن‬ ‫يجن ــون المزي ــد م ـ‬ ‫ُ‬ ‫ـــل هـــذه‬ ‫اًيريـــد أن ُيصـــِّدق‪ .‬وفـــي ِظ ّ‬ ‫المعادلـــة واصلـــت الدرامـــا الرمضانيـــة‬ ‫المصري ــة حضوره ــا ه ــذا الع ــام وس ــط‬ ‫ال وموضوعـــاً‪،‬‬ ‫أجـــواء غرائبيـــة شـــك ً‬ ‫تكـــرس صـــورًا‬ ‫وفـــي أحـــوال أخـــرى‬ ‫ّ‬ ‫متنوع ــة للكآب ــة والميلودرام ــا ف ــي أكث ــر‬ ‫ّ‬ ‫أحواله ــا مبالغ ــة ومزاي ــدة عل ــى المعن ــى‬ ‫ذاتـــه‪ ،‬مـــا يهـــدم حتـــى كالســـيكية‬ ‫ـــع األضـــداد‬ ‫الفكـــرة تحـــت شـــراع َجَم َ‬ ‫وغـــاب عـــن ِظلّـــه النجـــوم التقليديـــون‬ ‫كـــ‪( :‬يحي ــى الفخران ــي‪ ،‬ن ــور الش ــريف‪،‬‬ ‫يس ــرا‪ ،‬وليل ــى عل ــوي) وحض ــر بخي ــال‬ ‫باه ــت أحم ــد الس ــقا ف ــي مسلس ــل «ذه ــاب‬ ‫وعــودة» تأليــف عصــام يوســف وإخــراج‬ ‫أحمـــد شـــفيق‪ ،‬وكريـــم عبدالعزيـــز فـــي‬

‫«وش تانـــي» تأليـــف وليـــد يوســـف‬ ‫وإخـــراج وائـــل عبـــداهلل‪ ،‬ومصطفـــى‬ ‫ش ــعبان ف ــي «موالن ــا العاش ــق» تألي ــف‬ ‫أحمـــد عبدالفتـــاح وإخـــراج عثمـــان أبـــو‬ ‫لب ــن‪ ،‬وخال ــد الص ــاوي ف ــي «الصعل ــوك»‬ ‫تأليـــف محمـــد الحنـــاوي وإخـــراج‬ ‫عبدالعزيـــز حشـــاد‪ ،‬بينمـــا بـــرز أكشـــن‬ ‫ط ــارق لطف ــي ف ــي «بع ــد البداي ــة» تألي ــف‬ ‫عمـــرو ســـمير عاطـــف وإخـــراج علـــي‬ ‫إدريـــس‪ ،‬وبوليســـية حســـن الـــرداد‬ ‫ف ــي «ح ــق مي ــت» تألي ــف باه ــر دوي ــدار‬ ‫وإخــراج فاضــل الجارحــي‪ ،‬فيمــا رســمت‬ ‫المطرب ــة ش ــيرين لنفس ــها مس ــارًا جدي ــدًا‬ ‫فـــي «طريقـــي» تأليـــف تامـــر حبيـــب‬ ‫وإخ ــراج محم ــد ش ــاكر‪ ،‬وظه ــر مسلس ــل‬ ‫«بي ــن الس ــرايات» تألي ــف أحم ــد عب ــداهلل‬ ‫وإخـــراج ســـامح عبدالعزيـــز‪ ،‬كمسلســـل‬ ‫كالس ــيكي متماس ــك ومصن ــوع بحرفي ــة‪.‬‬ ‫كتاب ــة الدرام ــا التليفزيوني ــة أصبح ــت‬ ‫ملمحـــ ًا بـــارزًا فـــي الســـنوات األخيـــرة‪،‬‬ ‫وصـــارت هنـــاك مسلســـات تنســـب‬ ‫لمؤلفيهـــا‪ ،‬وهـــذا أمـــر كان فـــي الســـابق‬ ‫ـص القليليــن‪ ،‬كالراحــل أســامة أنــور‬ ‫يخـ ّ‬ ‫عكاشـــة‪ .‬وإن غابـــت فـــي هـــذا الموســـم‬ ‫أس ــماء مث ــل الكات ــب عبدالرحي ــم كم ــال‪،‬‬ ‫ال ــذي صن ــع نقل ــة نوعي ــة ف ــي الكتاب ــة‬ ‫عـــن مجتمـــع الصعيـــد‪ ،‬فمـــن الســـينما‬ ‫إلـــى التليفزيـــون ظهـــر السيناريســـت‬ ‫ناصـــر عبدالرحمـــن علـــى الشاشـــة‬ ‫الرمضاني ــة‪ ،‬للم ــرة الثاني ــة‪ ،‬م ــن خ ــال‬

‫من مسلسل «حارة اليهود»‬

‫مسلســـل «أرض النعـــام» إخـــراج غـــادة‬ ‫ســـليم‪ ،‬وكان «عبدالرحمـــن» َقـــّد َم فـــي‬ ‫العـــام الماضـــي «جبـــل الحـــال» مـــع‬ ‫النج ــم محم ــود عبدالعزي ــز‪ ،‬ليع ــود ف ــي‬ ‫«أرض النع ــام» بط ــرح آخ ــر يس ــير عل ــى‬ ‫نه ــج إنس ــاني ُمغاي ــر يكش ــف مس ــاحات‬ ‫عميق ــة ف ــي النف ــس البش ــرية م ــن خ ــال‬ ‫ثـــاث حكايـــات متوازيـــة‪.‬‬ ‫مسلســـل «حـــارة اليهـــود» الـــذي‬ ‫أراد أن يرجـــع بآلـــة الزمـــن إلـــى‬ ‫مصـــر فـــي نهايـــة األربعينيـــات علـــى‬ ‫جنـــاح الـ«نوســـتالجيا» إلـــى المجتمـــع‬ ‫المتســـامح‪ ،‬اصطادتـــه مجموعـــة مـــن‬ ‫األخط ــاء التاريخي ــة المتعلّق ــة بالمرحل ــة‬ ‫التـــي تـــدور فيهـــا أحداثـــه مـــن العـــام‬ ‫‪ ،1948‬مـــرورًا بثـــورة يوليـــو‪ ،‬وحتـــى‬ ‫الع ــدوان الثالث ــي عل ــى مص ــر ف ــي الع ــام‬ ‫‪ ،1956‬ممـــا زاد مـــن الضجـــة حولـــه‪،‬‬ ‫تطـــرق لموضـــوع‬ ‫خصوصـــ ًا أنـــه‬ ‫ّ‬ ‫اس ــتثنائي يع ــود بن ــا مؤلف ــه د‪ .‬مدح ــت‬ ‫العـــدل إلـــى الماضـــي ويفتـــح أبوابـــ ًا‬ ‫مجهولـــة فـــي الزمـــن المكســـور علـــى‬ ‫التجهيـــل أو النســـيان‪ .‬لكـــن األخطـــاء‬ ‫التاريخيـــة فـــي المسلســـل أمـــر يثيـــر‬ ‫الدهشـــة‪ ،‬خاصـــة أن هـــذه األخطـــاء‬ ‫جليـــة‪ ،‬ســـواء فـــي مـــا يخـــص مالءمـــة‬ ‫ّ‬ ‫األزيـــاء والديكـــور والفضـــاء الســـكني‬ ‫أم مـــا يتعلّـــق بالفتـــرة الزمنيـــة‪ ،‬حيـــث‬ ‫طالعتنـــا‪ ،‬منـــذ الحلقـــة األولـــى‪ ،‬غـــارة‬ ‫جويـــة علـــى مصـــر فـــي العـــام ‪1948‬‬

‫من مسلسل «مولد وصاحبه غايب»‬

‫فيمـــا أن الحـــرب العالميـــة الثانيـــة‬ ‫ـج‬ ‫انته ــت ف ــي الع ــام ‪ .1945‬كم ــا ل ــم ين ـ ُ‬ ‫مدحــت العــدل مــن خطــأ أن تظهــر إحــدى‬ ‫بطالت ــه لتغن ــي أغني ــة ليل ــى م ــراد «ي ــا‬ ‫مســـافر وناســـي هـــواك» التـــي غنتهـــا‬ ‫ف ــي فيل ــم «ش ــاطئ الغ ــرام» ف ــي الع ــام‬ ‫‪ 1950‬بينم ــا أح ــداث ه ــذه الحلق ــة ت ــدور‬ ‫ف ــي الع ــام ‪ ،1948‬أم ــا م ــا أث ــار العج ــب‬ ‫أكث ــر فه ــو أن ن ــرى أنموذج ـ ًا للش ــخصية‬ ‫الفلســـطينية فـــي الحلقـــات األولـــى‬ ‫تظهـــر علـــى صـــورة الخائـــن الموالـــي‬ ‫للصهاين ــة‪ ،‬وه ــي الص ــورة الت ــي ناض ــل‬

‫ـا‬ ‫ـا إلنكارهــا‪ ،‬فضـ ً‬ ‫الكثيــرون عمــرًا طويـ ً‬ ‫عــن مشــاهد مهمــة‪ ،‬مثــل حــرب فلســطين‬ ‫‪ 1948‬وبن ــاء المس ــتعمرات الت ــي ج ــاءت‬ ‫باهتـــة وضعيفـــة كأن مجموعـــة مـــن‬ ‫البشـــر خرجـــوا فـــي رحـــات تخييـــم‪.‬‬ ‫وف ــي ص ــورة معلن ــة ومقص ــودة َت ـ ّـم‬ ‫استنس ــاخ فيل ــم س ــينمائي مع ــروف إل ــى‬ ‫مسلســـل تليفزيونـــي بعنـــوان «مولـــد‬ ‫وصاحبـــه غايـــب» تأليـــف مصطفـــى‬ ‫محـــرم وإخـــراج شـــيرين عـــادل‪.‬‬ ‫المسلس ــل نس ــخة ع ــن فيل ــم «تم ــر حن ــة»‬ ‫الـــذي قامـــت ببطولتـــه االســـتعراضية‬ ‫‪143‬‬

‫من مسلسل «أستاذ ورئيس قسم»‬

‫من مسلسل «العهد»‬

‫نعيمـــة عاكـــف مـــع رشـــدي أباظـــة‬ ‫وأحمـــد رمـــزي‪ .‬فـــي النســـخة حلّـــت‬ ‫هيفـــاء وهبـــي محـــل نعيمـــة عاكـــف‪،‬‬ ‫ـــل باســـم الســـمرة محـــل رشـــدي‬ ‫كمـــا َح ّ‬ ‫أباظـــة‪ ،‬وحســـن الـــرداد محـــل أحمـــد‬ ‫رمـــزي وفيفـــي عبـــده بـــد ًال مـــن فايـــزة‬ ‫أحمـــد والمغنيـــة أمينـــة تلعـــب دور‬ ‫زين ــات صدق ــي‪ .‬ق ــد ال تك ــون المقارن ــات‬ ‫فـــي محلهـــا ‪،‬الســـيما مـــع التفاصيـــل‬ ‫الت ــي ُأدخل ــت عل ــى الن ــص التليفزيون ــي‬ ‫لتســـتدعي اإلطالـــة الزمنيـــة كســـمة‬ ‫تخـــص الدرامـــا التليفزيونيـــة‪ ،‬وربمـــا‬ ‫ّ‬ ‫لتبع ــد فك ــرة التش ــبيه بالفيل ــم القديم ــة‪،‬‬ ‫يخـــص‬ ‫لكـــن‪ ،‬يبقـــى الهيـــكل الرئيســـي‬ ‫ّ‬ ‫«تم ــر حن ــة» والتفاصي ــل تلتئ ــم لتصن ــع‬ ‫«مول ــد وصاحب ــه غاي ــب»‪ .‬وإذا ل ــم تك ــن‬ ‫‪144‬‬

‫هيف ــاء وهب ــي ق ــد حصل ــت عل ــى مس ــاحة‬ ‫كبيـــرة فـــي «مولـــد وصاحبـــه غايـــب»‪،‬‬ ‫فإنهـــا حاولـــت أن تخطـــف حضـــورًا‬ ‫أكث ــر ف ــي مسلس ــل «مري ــم» تألي ــف أيم ــن‬ ‫ســـامة وإخـــراج محمـــد علـــي‪ ،‬والـــذي‬ ‫لعب ــت في ــه دور ش ــقيقتين ت ــوأم (مري ــم‬ ‫وملـــك) جســـدتهما هيفـــاء بمـــا فيهمـــا‬ ‫مـــن تناقضـــات صارخـــة؛ فإحداهمـــا‬ ‫س ــيدة أعم ــال قوي ــة ومس ــتقلّة واألخ ــرى‬ ‫ُمدلَّل ــة تجل ــب المش ــاكل والك ــوارث‪ ،‬عب ــر‬ ‫أح ــداث ت ــدور ف ــي عال ــم رج ــال األعم ــال‬ ‫والصفقـــات الكبـــرى‪.‬‬ ‫حضـــور الـــدور المـــزدوج كان الفتـــ ًا‬ ‫فـــي أكثـــر مـــن مسلســـل‪ ،‬فيوســـف‬ ‫الش ــريف َج ّس ـ َـد ه ــو اآلخ ــر ش ــخصيتين‬ ‫لتـــوأم متناقـــض فـــي مسلســـل «لعبـــة‬

‫إبليـــس» تأليـــف إنجـــي عـــاء‪ ،‬عمـــرو‬ ‫ســـمير عاطـــف‪ ،‬وإخـــراج شـــريف‬ ‫إســـماعيل بأســـلوبه التشـــويقي الـــذي‬ ‫لـــم يبعـــد كثيـــرًا عـــن درامـــا الغمـــوض‬ ‫واإلثـــارة التـــي ســـادت بدورهـــا فـــي‬ ‫مسلســـات هـــذا العـــام‪ ،‬كمـــا بـــدت‬ ‫واضحـــة فـــي «حالـــة عشـــق» تأليـــف‬ ‫محم ــد ص ــاح الع ــزب وإخ ــراج إبراهي ــم‬ ‫فخـــر‪ ،‬والـــذي واصلـــت فيـــه مـــي عـــز‬ ‫الدي ــن حضوره ــا الرمضان ــي ب ــأداء دور‬ ‫تـــوأم مثيـــر ومربـــك (ملـــك وعشـــق)‪،‬‬ ‫فـــي مسلســـل‪ ،‬رغـــم اســـتدعائه لروايـــة‬ ‫«بئــر الحرمــان» إلحســان عبــد القــدوس‪،‬‬ ‫ّإل أنــه كان يســير مــن حلقــة إلــى أخــرى‬ ‫ف ــي عوال ــم متباين ــة بي ــن الث ــراء والفق ــر‬ ‫والنمطيـــة‪.‬‬ ‫وبمـــا أنـــه صـــار للكوميديـــا علـــى‬ ‫ـواز‪ ،‬ف ــإن‬ ‫الشاش ــة الرمضاني ــة ملم ــح م ـ ٍ‬ ‫مسلســل مثــل «الكبيــر أوي» إخــراج أحمــد‬ ‫الجن ــدي تص ـ َّـدر مع ــدالت المش ــاهدة وإن‬ ‫هجـــر أحمـــد مكـــي الكثيـــر مـــن رفاقـــه‪،‬‬ ‫وف ــي مقدمته ــم دني ــا س ــمير غان ــم‪ ،‬الت ــي‬ ‫ظهـــرت فـــي مسلســـل «لهفـــة» إخـــراج‬ ‫معتـــز التونـــي‪ ،‬بأشـــكال متباينـــة‬ ‫اســـتعرضت إمكانياتهـــا التمثيليـــة فـــي‬ ‫موضـــوع خفيـــف‪ ،‬بينمـــا جـــاء حضـــور‬ ‫مختلـــف للثنائـــي فيفـــي عبـــده وســـمية‬ ‫الخش ــاب ف ــي «ي ــا ان ــا ي ــا انت ــي» إخ ــراج‬ ‫ويظـــل الحضـــور األبـــرز‬ ‫ياســـر زايـــد‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫لعــادل إمــام فــي «أســتاذ ورئيــس قســم»‬ ‫تأليــف يوســف معاطــي ووائــل إحســان‪،‬‬ ‫المسلســـل الـــذي هـــزم فيـــه الخيـــال‬ ‫الواقـــع وتجـــاوز الوهـــم واإليهـــام وكل‬ ‫مشـــتقاتهما‪ ،‬فالزعيـــم الـــذي لـــم ينـــزل‬ ‫ميـــدان الثـــورة المصريـــة فـــي الواقـــع‬ ‫نزلـــه فـــي المسلســـل‪ ،‬وصـــار أحـــد‬ ‫زعمائه ــا وأح ــد وزراء الث ــورة الطيبي ــن‬ ‫فـــي صـــورة َع َّدهـــا المتتبعـــون أقـــرب‬ ‫إل ــى (المس ــخرة) منه ــا إل ــى الكوميدي ــا‪،‬‬ ‫طال ــت أس ــاتذة الجامع ــة ورم ــوز اليس ــار‬ ‫المصـــري‪ ،‬وقامـــت بتســـطيح القضايـــا‬ ‫المهمـــة بصـــورة مســـتفزة تجلـــب‬ ‫الملـــل‪ ،‬كمـــا تســـتدعي وجـــع الليالـــي‬ ‫فـــي محـــاوالت فاشـــلة لقطـــع الشـــعرة‬ ‫الفاصلـــة بيـــن الوهـــم والحقيقـــة‪.‬‬

‫الدراما اللبنانية‬ ‫تستفيد من نكبة جارتها السورية‬ ‫رنا نجار‬ ‫فـــي لبنـــان جـــار «الرضـــا»‪ ،‬خلطـــت‬ ‫األزمـــة الســـورية األوراق فـــي اإلنتـــاج‬ ‫الثقافـــي كمـــا فـــي السياســـة‪ .‬وعلـــى‬ ‫نقيـــض الفوضـــى والتوتـــرات األمنيـــة‬ ‫واالقتصاديـــة والتهجيـــر والفقـــر‬ ‫واالنقســـامات التـــي تحدثهـــا السياســـة‪،‬‬ ‫يأتـــي اإلنتـــاج الثقافـــي اللبنانـــي‪-‬‬ ‫الســـوري المشـــترك (مســـرح‪ ،‬تشـــكيل‪،‬‬ ‫ســـينما‪ ،‬درامـــا‪ ،‬برامـــج تليفزيونيـــة‪،‬‬ ‫موســـيقى) بعـــد الثـــورة‪ ،‬إيجابيـــاً‪.‬‬ ‫ومم ــا ال ش ـ ّ‬ ‫ـك في ــه‪ ،‬أن الدرام ــا اللبناني ــة‬ ‫الت ــي تعان ــي أزم ــات تش ــرذم ِعــّدة‪ ،‬من ــذ‬ ‫ســـنين طـــوال‪ ،‬هـــي األكثـــر اســـتفادة‬ ‫م ــن «نكب ــة» الدرام ــا الس ــورية المتأث ــرة‬ ‫باألزمـــة السياســـية واألمنيـــة منـــذ ‪4‬‬ ‫ســـنوات‪ .‬وقبـــل الدخـــول فـــي تشـــريح‬ ‫الدرامـــا اللبنانيـــة‪ ،‬ال بـــّد مـــن اإلشـــارة‬ ‫إلـــى أن نـــزوح ممثليـــن ومخرجيـــن‬ ‫وعاملي ــن ف ــي الحق ــل الدرام ــي الس ــوري‬ ‫َ‬ ‫ـــروا فـــي هـــذا القطـــاع‬ ‫إلـــى بيـــروت‪ ،‬أْث ُ‬ ‫الـــذي كاد يمـــوت قبـــل ارتفـــاع أســـهمه‬ ‫مـــع مسلســـل «روبـــي» اللبنانـــي‪-‬‬ ‫الســـوري‪ -‬المصـــري المشـــترك قبـــل ‪3‬‬ ‫س ــنوات‪ .‬وه ــذا الث ــراء‪ ،‬وإن كان تأثي ــره‬ ‫مح ــدوداً‪ ،‬اس ــتطاع انتش ــال المسلس ــات‬ ‫وردهـــا إلـــى حلبـــة المنافســـة‬ ‫اللبنانيـــة ّ‬ ‫م ــع «ل ــو» و«األخ ــوة» و«لعب ــة الم ــوت»‬ ‫و«روبـــي»‪ ،‬وغيرهـــا‪.‬‬ ‫هـــذه الســـنة‪ ،‬كان التأثيـــر مضاعفـــ ًا‬ ‫م ــع أعم ــال مش ــتركة تحص ــد جماهيري ــة‬ ‫عاليـــة مثـــل «تشـــيللو» و«‪ 24‬قيـــراط»‬ ‫و«العـــراب» بنســـختيه‪ ،‬و«بنـــت‬ ‫الشـــهبندر» و«درب الياســـمين» و«عيـــن‬ ‫الجــوزة»‪ .‬وبهــذه الحالــة‪ ،‬بــات مــن غيــر‬ ‫المنطقـــي ُتصنيـــف غالبيـــة المسلســـات‬ ‫تصـــور فـــي لبنـــان‪ ،‬علـــى أنهـــا‬ ‫التـــي‬ ‫َّ‬

‫لبنانيـــة محـــض أو ســـورية محـــض‪.‬‬ ‫فمسلســـل «غـــدًا نلتقـــي» لرامـــي حنـــا‬ ‫يتربـــع هـــذا العـــام علـــى عـــرش‬ ‫الـــذي ّ‬ ‫المسلســـات العربيـــة األكثـــر صدقـــ ًا‬ ‫صـــور‬ ‫وتجســـيدًا للتغريبـــة الســـورية‪ُ ،‬ي َّ‬ ‫فـــي بيـــروت مـــع فريـــق عمـــل لبنانـــي‪-‬‬ ‫ســـوري مشـــترك‪ ،‬وإن كان الممثلـــون‬ ‫كلهـــم ســـوريون‪ .‬مـــن هنـــا‪ ،‬تأتـــي‬ ‫«وحـــدة المســـار والمصيـــر» متالحمـــة‬ ‫بيـــن البلديـــن علـــى الصعيـــد الدرامـــي‪،‬‬ ‫ولصالـــح لبنـــان‪ ،‬ربمـــا‪ ،‬مـــن حيـــث‬ ‫تحريـــك ســـوق الدرامـــا وإيجـــاد فـــرص‬ ‫عمـــل أكبـــر للتقنييـــن والمصوريـــن‬ ‫والمديريـــن الفنييـــن‪ ،‬هـــذا مـــا عـــدا‬ ‫اســـتفادة الممثليـــن اللبنانييـــن مـــن‬ ‫خبـــرة الســـوريين الذيـــن لمـــع نجـــم‬ ‫مسلســـاتهم عاليـــاً‪.‬‬

‫ليس للدراما جنسية‬ ‫إذاً‪ ،‬لـــم تعـــد «جنســـية» المسلســـل‬ ‫واضحـــة أو مهمـــة‪ ،‬إذ تشـــترك فـــي‬ ‫طبختـــه أيـــادي البلديـــن المتجاوريـــن‬ ‫فـــي الجغرافيـــا والثقافـــة والعـــادات‬ ‫والتقالي ــد‪ .‬وب ــات اللبنان ــي ف ــي الدرام ــا‬ ‫يشـــكل عـــكازًا مهمـــة لجـــاره وزميلـــه‬ ‫ّ‬ ‫الس ــوري‪ ،‬والعك ــس بالعك ــس‪ .‬في ــا لي ــت‬ ‫ه ــذا التع ــاون المثم ــر يظه ــر ف ــي ش ــتى‬ ‫المجـــاالت‪ ،‬وخصوصـــ ًا اإلنســـانية‬ ‫واالجتماعيـــة‪ ،‬حيـــث يعيـــش مالييـــن‬ ‫النازحيـــن الســـوريين فـــي مخيمـــات‬ ‫تفتقـــر إلـــى الحـــّد األدنـــى مـــن حقـــوق‬ ‫اإلنســـان! ولكـــن هـــذا الموضـــوع‬ ‫ليـــس للبحـــث علـــى هـــذه الصفحـــات‪،‬‬ ‫تشـــعب‪ ،‬وتدخـــل فيـــه‬ ‫خصوصـــ ًا أنـــه ُم ّ‬

‫دول وأمـــم كثيـــرة‪.‬‬ ‫ولك ــن‪ ،‬تبق ــى مالحظ ــة هن ــا‪ ،‬أن ه ــذا‬ ‫التعــاون المشــترك الموقــت‪ ،‬لم يضـ ِ‬ ‫ـاه أو‬ ‫يناف ــس األعم ــال الس ــورية البحت ــة الت ــي‬ ‫وصل ــت إل ــى العالمي ــة‪ ،‬ف ــي س ــنوات م ــا‬ ‫تمي ــزت‬ ‫قب ــل الث ــورة‪ .‬فتل ــك الدمش ــقية‪ّ ،‬‬ ‫بالهارمونــي والتماســك والنــص المحكــم‬ ‫والســـيناريو الدقيـــق واألداء التمثيلـــي‬ ‫البديـــع واإلخـــراج القـــادر علـــى جـــذب‬ ‫المش ــاهد ول ــو بمش ــاهد بس ــيطة كم ــا ف ــي‬ ‫ُ‬ ‫مسلس ــل «الفص ــول األربع ــة» أو «س ــيرة‬ ‫آل الجاللــة» أو «الــوالدة مــن الخاصــرة»‬ ‫أو «بقع ــة ض ــوء»‪ ،‬عل ــى س ــبيل المث ــال‪.‬‬ ‫وهـــذه األعمـــال اللبنانيـــة‪ -‬الســـورية‬ ‫المشـــتركة‪ ،‬لـــم تصـــل بعـــد إلـــى مـــا‬ ‫وصلــت اليــه الســورية البحتــة مــن مهنيــة‬ ‫وجماهيريـــة فـــي الســـنوات العشـــرين‬ ‫ـــم فهـــي ال تؤســـس‬ ‫الســـابقة‪ ،‬ومـــن َث ّ‬ ‫لســـوق دراميـــة لبنانيـــة بمـــا للكلمـــة‬ ‫مـــن معنـــى‪ .‬ولكـــن‪ ،‬يمكـــن لشـــركات‬ ‫اإلنت ــاج اللبناني ــة وصّن ــاع ه ــذا القط ــاع‪،‬‬ ‫اس ــتثمار ه ــذا النج ــاح «الموق ــت» أو ه ــذه‬ ‫الســـحابة اإليجابيـــة‪ ،‬لالنتقـــال إلـــى‬ ‫مرحلــة النجوميــة وتصديــر هــذه الدرامــا‬ ‫لتكـــون جـــزءًا مـــن االقتصـــاد اللبنانـــي‪.‬‬ ‫وال ننســى‪ ،‬هنــا‪ ،‬أن القطــاع الدرامــي‬ ‫الس ــوري كان مدعومــ ًا م ــن الدول ــة وكان‬ ‫يشـــكل جـــزءًا مـــن االقتصـــاد الســـوري‬ ‫ّ‬ ‫ف ــي مرحل ــة م ــا‪ .‬أم ــا ف ــي لبن ــان‪ ،‬فه ــو‬ ‫ال يـــزال فقيـــرًا وغيـــر مدعـــوم‪ ،‬ويعتمـــد‬ ‫علـــى المبـــادرات الفرديـــة وعلـــى‬ ‫شـــركات إنتـــاج‪ ،‬معظمهـــا يتوخـــى‬ ‫الربـــح الســـريع‪ .‬وقـــد زاد الطيـــن بلّـــة‪،‬‬ ‫تحجيـــم دور تليفزيـــون لبنـــان‪ ،‬وهـــي‬ ‫القن ــاة الرس ــمية الناطق ــة باس ــم الدول ــة‬ ‫والت ــي يق ــع عل ــى عاتقه ــا إنت ــاج أعم ــال‬ ‫‪145‬‬

‫من مسلسل «بنت الشهبندر»‬

‫دراميـــة محليـــة كمـــا كان يحصـــل قبـــل‬ ‫الحـــرب األهليـــة‪ .‬هـــذا عـــدا غيـــاب‬ ‫وزارتـــي الثقافـــة واإلعـــام اللبنانيتيـــن‬ ‫ع ــن دع ــم الدرام ــا التليفزيوني ــة ووض ــع‬ ‫اســـتراتيجيات لالرتقـــاء بهـــا‪ .‬ناهيـــك‬ ‫عـــن ضعـــف دور نقابـــة الممثليـــن‬ ‫والفناني ــن اللبنانيي ــن الت ــي تحت ــاج ه ــي‬ ‫نفســها إلــى دعــم مــادي وآخــر معنــوي‪،‬‬ ‫إذ يم ــوت معظ ــم الممثلي ــن والمخرجي ــن‬ ‫والكّتـــاب علـــى أبـــواب المستشـــفيات‪،‬‬ ‫وال أحـــد يـــرأف بتاريخهـــم الفنـــي أو‬ ‫بم ــا قدم ــوه للوط ــن والذاك ــرة الجماعي ــة‬ ‫اللبنانيـــة!!!‬

‫تجريب‪ ..‬ممارسة‪ ..‬تطوير‬ ‫علــى رغــم كل شــيء‪ ،‬ال تــزال الدرامــا‬ ‫اللبنانيـــة تتنفـــس الصعـــداء‪ .‬وال تـــزال‬ ‫تجــذب المشــاهدين‪ .‬فالنــاس فــي أي بلــد‬ ‫كان‪ ،‬يحبــون الحكايــة ويحبــون متابعــة‬ ‫المسلســات‪ .‬وينتظــرون منهــا أن تحّقــق‬ ‫ش ــيئ ًا م ــا‪ :‬المتع ــة‪ ،‬التس ــلية‪ ،‬التماه ــي‬ ‫مـــع البطـــل أو البطلـــة‪ ،‬اســـتعادة‬ ‫الذكريـــات‪ ،‬اســـتعادة حـــب مفقـــود‪...‬‬ ‫ينتظــر النــاس متابعــة األحــداث ليعرفــوا‬ ‫مـــاذا ســـيحصل فـــي نهايـــة القصـــة؛‬ ‫وه ــو م ــا ب ــدأت الدرام ــا اللبناني ــة تلتف ــت‬ ‫إليـــه لتجـــذب المزيـــد مـــن جماهيرهـــا‪،‬‬ ‫مـــع العلـــم أنهـــا عانـــت (وال تـــزال) مـــن‬ ‫نـــص واقعـــي ينقـــل يوميـــات الشـــعب‬ ‫اللبنانـــي وروح الشـــارع وتناقضاتـــه‪.‬‬ ‫فه ــذه الس ــنة‪ ،‬دخل ــت حلب ــة المنافس ــة‪،‬‬ ‫ليـــس فقـــط باألعمـــال المشـــتركة مـــع‬ ‫الســـورية‪ ،‬بـــل بأعمـــال مثـــل «بيـــروت‬ ‫واو» و«أحمــد وكريســتينا» و«قلبــي دق»‪.‬‬ ‫وهـــذه نقطـــة إيجابيـــة‪ ،‬إذ إن مجـــرد‬ ‫إنت ــاج مزي ــد م ــن األعم ــال يعط ــي دفع ــة‬ ‫إلــى األمــام‪ ،‬حيــث التجريــب والممارســة‬ ‫يقـــودان إلـــى التطويـــر‪ .‬وعلـــى رغـــم‬ ‫افتقـــار الدرامـــا اللبنانيـــة إلـــى أفـــكار‬ ‫‪146‬‬

‫من مسلسل «الفصول األربعة»‬

‫مبتك ــرة أكث ــر واقعي ــة‪ ،‬وإل ــى نص ــوص‬ ‫ذكيـــة تلمـــس مشـــاعر كل إنســـان علـــى‬ ‫هـــذه األرض‪ ،‬وتحكـــي لغـــة اللبنانـــي‬ ‫كإنســـان قبـــل كل شـــيء‪ ،‬وإلـــى ثـــراء‬ ‫فـــي تفاصيـــل الســـيناريوهات التـــي‬ ‫تميـــل فـــي غالبيتهـــا إلـــى المثاليـــات‬ ‫والمبالغ ــة ف ــي الكم ــال والث ــراء والجم ــال‬ ‫ال ــذي ال مثي ــل ل ــه واألناق ــة المفرط ــة‪ ،‬ال‬ ‫ت ــزال تس ــتطيع اس ــتعادة ماض ــي «أل ــو‬ ‫حياتـــي» و«المعلمـــة واألســـتاذ» و«أبـــو‬ ‫ملحـــم» و«الدنيـــا هيـــك» و«الكابتـــن‬ ‫تغيـــر‪ ،‬ولـــم‬ ‫بـــوب»‪ ...‬إال أن الزمـــن ّ‬ ‫تع ــد ذائق ــة المش ــاهد واح ــدة‪ .‬وب ــات كل‬ ‫ش ــخص بمثاب ــة ناق ــد بح ـّد ذات ــه‪ ،‬يمكن ــه‬ ‫محاكمـــة أي عمـــل علـــى «فيســـبوك»‬ ‫و«تويتـــر»‪ ،‬ومقارنتـــه مـــع مسلســـات‬ ‫عالميــة‪ .‬ومــن َثـّـم‪ ،‬ال يمكــن التعامــل بعــد‬ ‫ـق ســلبي‬ ‫اليــوم‪ ،‬مــع المشــاهد كأنــه متلـ ٍ‬ ‫يعي ــش ف ــي بيت ــه مع ــزو ًال ع ــن مجتمع ــه‬ ‫وع ــن العال ــم‪ .‬ل ــذا ب ــات م ــن الض ــروري‬ ‫أن يلتف ــت كّت ــاب الس ــيناريو والنص ــوص‬ ‫الحي ــة الت ــي تنب ــع‬ ‫الدرامي ــة‪ ،‬إل ــى اللغ ــة ّ‬ ‫مـــن الواقـــع ال مـــن األبـــراج الثقافيـــة‬ ‫النخبويـــة‪ .‬وبـــات عليهـــم االلتفـــات‬ ‫إل ــى تيم ــات ومواضي ــع تحاك ــي هم ــوم‬ ‫النـــاس ومشـــاغلهم ويومياتهـــم‪ .‬بـــات‬ ‫عليه ــم اتخ ــاذ موق ــف ح ــاد ض ــد الفس ــاد‬ ‫وانقطـــاع الكهربـــاء والغـــاء المعيشـــي‬ ‫والفقـــر والتهجيـــر والقتـــل والعنـــف‬ ‫األس ــري والعنصري ــة وتحقي ــر عام ــات‬ ‫المن ــازل األجنبي ــات واالنقس ــام الطائف ــي‬ ‫والطبقـــي‪ ،‬وضـــد السياســـيين‪ .‬لـــم‬ ‫صّن ــاع الدرام ــا ومس ــايرة‬ ‫تع ــد مراوغ ــة ُ‬ ‫األقطـــاب السياســـية‪ ،‬مســـموحة فـــي‬ ‫ـل الثــورات وكشــف المســتور‪ .‬لــم يعــد‬ ‫ِظـّ‬ ‫مقبـــو ًال أن تكـــون أســـماء الشـــخصيات‬ ‫ب ــا هوي ــة وال طائف ــة وال ل ــون‪ ،‬كأن كل‬ ‫اللبنانيي ــن علماني ــون وال يوج ــد بينه ــم‬ ‫علــي ومحمــد وحســين وجــورج وجويــل‬ ‫وحنـــا‪ .‬لـــم يعـــد مقبـــو ًال أن تتجاهـــل‬ ‫الدرام ــا اللبناني ــة الت ــي اس ــتعادت الي ــوم‬

‫أنفاســـها‪ ،‬مـــا يـــدور حولهـــا وتختـــرع‬ ‫مجتمعـــ ًا وهميـــ ًا أو افتراضيـــ ًا بعيـــدًا‬ ‫المتحرك ــة‬ ‫ع ــن الواق ــع وأبطال ــه كالدم ــى‬ ‫ّ‬ ‫الفائقـــة الجمـــال والرقـــة والبـــراءة‪.‬‬ ‫مـــر لبنـــان بويـــات وحـــروب‬ ‫لقـــد ّ‬ ‫وه ِّجـــر مواطنـــوه‬ ‫ق‪،‬‬ ‫والمفـــر‬ ‫بالجملـــة‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ـا واح ــدًا‬ ‫مسلس ـ ً‬ ‫ُ‬ ‫وش ـّـردوا‪ .‬لكنن ــا ل ــم ن ـ َـر َ‬ ‫يتنـــاول هـــذه اليوميـــات اإلنســـانية‬ ‫َ‬ ‫وقصـــص التهجيـــر والخطـــف علـــى‬ ‫الهويـــة والمجـــازر الجماعيـــة‪ ،‬بإبـــداع‬ ‫وموضوعيـــة وإحســـاس إنســـاني‬ ‫ـا ف ــي «التغريب ــة‬ ‫مره ــف‪ ،‬كم ــا رأين ــا مث ـ ً‬ ‫الفلســـطينية» (وهـــو مسلســـل ســـوري)‬ ‫أو فـــي «غـــدًا نلتقـــي» الـــذي يتنـــاول‬ ‫التغريبـــة الســـورية‪ .‬لقـــد أنتجـــت قنـــاة‬ ‫«المن ــار» التابع ــة لح ــزب اهلل‪ ،‬أكث ــر م ــن‬ ‫مسلســـل يتنـــاول المقاومـــة واالحتـــال‬ ‫اإلســـرائيلي للجنـــوب اللبنانـــي مثـــل‬ ‫«الغالبـــون»‪ ،‬وهـــذه الســـنة تعـــرض‬ ‫«درب الياس ــمين»‪ .‬لكنه ــا كله ــا ل ــم ت ـ ِ‬ ‫ـأت‬ ‫علـــى قـــدر المأســـاة والتفاصيـــل التـــي‬ ‫عاشـــها الجنوبيـــون‪ ،‬ثـــم إن شـــركات‬ ‫اإلنتــاج التابعــة لحــزب اهلل قـّـررت حصــر‬ ‫الس ــيناريوهات بعملياته ــا االستش ــهادية‬ ‫والعســـكرية فقـــط‪ ،‬وتســـليط الضـــوء‬ ‫عل ــى «إنجازاته ــا اإللهي ــة»‪ .‬طرح ــت ه ــذه‬ ‫ـــؤرخ‬ ‫المسلســـات نفســـها علـــى أنهـــا ُت ّ‬ ‫تهمـــش فئـــات‬ ‫لمرحلـــة مـــا‪ ،‬وإذ بهـــا ّ‬ ‫وأحزابــ ًا وجماع ــات كان له ــا دور كبي ــر‬ ‫ف ــي مقاوم ــة الع ــدو كالحرك ــة الوطني ــة‪.‬‬ ‫وفـــي األعمـــال التاريخيـــة ال يجـــوز‬ ‫«التذاك ــي»‪ .‬عل ــى أي ح ــال‪ ،‬م ـ ّـرت ه ــذه‬ ‫المسلســـات كغيرهـــا‪ ،‬ولـــم تحفـــر فـــي‬ ‫ذاكـــرة اللبنانييـــن عامـــة‪.‬‬

‫فخّ االقتباس‬ ‫صنّـــاع الدرامـــا‬ ‫كمـــا هـــرب معظـــم ُ‬ ‫الســـورية‪ ،‬فـــي مرحلـــة مـــن المراحـــل‪،‬‬

‫من مسلسل «‪ 24‬قيراط»‬

‫مـــن انتقـــاد الواقـــع ومحاكمـــة النظـــام‬ ‫واتخـــاذ موقـــف واضـــح ضـــد الفســـاد‬ ‫والقمـــع والظلـــم‪ ،‬إلـــى المسلســـات‬ ‫صنّـــاع الدرامـــا‬ ‫التاريخيـــة‪ ،‬يهـــرب ُ‬ ‫اللبنانيـــة إلـــى االقتبـــاس والتســـطيح‬ ‫وقصـــص الحـــب والخيانـــة المبالـــغ‬ ‫به ــا‪ .‬وه ــو ه ــروب‪ ،‬أيضــاً‪ ،‬م ــن البح ــث‬ ‫والتوثيـــق واالســـتقصاء‪ ،‬لكتابـــة‬ ‫قصـــص آنيـــة‪.‬‬ ‫‪ 90‬فـــي المئـــة مـــن المسلســـات‬ ‫اللبنانيـــة التـــي تعـــرض هـــذه الســـنة‬ ‫فـــي شـــهر رمضـــان علـــى الشاشـــات‪،‬‬ ‫تتنـــاول الخيانـــات الزوجيـــة والطمـــع‬ ‫والجشـــع والمافيـــا بشـــكل أو بآخـــر‪.‬‬ ‫وهـــي‪ ،‬فـــي معظمهـــا أيضـــاً‪ ،‬مقتبســـة‬ ‫عـــن أفـــام أو مسلســـات أجنبيـــة وإن‬ ‫ل ــم يعت ــرف كاتبه ــا بذل ــك‪ .‬والح ــال هن ــا‬ ‫مـــع «تشـــيللو« (عـــن فيلـــم ‪Indecent‬‬ ‫‪ Proposal‬للمخ ــرج البريطان ــي أدري ــان‬ ‫ليـــن)‪ ،‬و«العـــراب» و«العـــراب ‪ -‬نـــادي‬ ‫الشـــرق» (عـــن فيلـــم ‪The Godfather‬‬ ‫للمخـــرج األميركـــي فرانســـيس فـــورد‬ ‫كوبـــوال)‪ ،‬و «‪ 24‬قيـــراط» الـــذي يشـــبه‬ ‫ف ــي قصت ــه‪ -‬إل ــى حــّد كبي ــر‪ -‬المسلس ــل‬ ‫المصـــري «الرجـــل اآلخـــر» (‪)1999‬‬ ‫للكات ــب مج ــدي صاب ــر والمخ ــرج مج ــدي‬ ‫أب ــو عمي ــرة‪ .‬وق ــد س ــبقتها ف ــي الس ــنوات‬ ‫الماضيـــة‪ ،‬أعمـــال مقتبســـة مثـــل‬ ‫«روبـــي» و«لعبـــة المـــوت» و«ســـنعود‬ ‫بعـــد قليـــل»‪ ،‬وغيرهـــا‪ .‬وهـــذه العمليـــة‬ ‫المتكـــررة وإن كانـــت تجـــذب كل ســـنة‬ ‫ّ‬ ‫مزيـــدًا مـــن المشـــاهدين‪ ،‬تؤكـــد‪ ،‬ليـــس‬ ‫فق ــط‪ ،‬اله ــروب م ــن اتخ ــاذ موق ــف‪ ،‬ب ــل‬ ‫االستســـهال واالعتمـــاد علـــى األجنبـــي‬ ‫فـــي كل شـــيء‪.‬‬

‫ممثالت أم عارضات أزياء؟‬ ‫علـــى األرجـــح‪ ،‬أن ســـلّم الدرامـــا‬ ‫اللبنانيـــة بـــات ينحـــدر‪ ،‬ليـــس فقـــط‬

‫من مسلسل «تشيللو»‬

‫من مسلسل «عين الجوزة»‬

‫عندمـــا غـــاب الدعـــم‪ ،‬واســـتقال‬ ‫تليفزيـــون الدولـــة مـــن دوره‪ ،‬بـــل‬ ‫عندم ــا ب ــدأت تصن ــع المسلس ــات عل ــى‬ ‫مقـــاس عارضـــات األزيـــاء وملـــكات‬ ‫الجمـــال‪ .‬ومنـــذ ذلـــك الحيـــن‪ ،‬صـــارت‬ ‫النصـــوص تكتـــب ألصحـــاب األجســـاد‬ ‫الممشــوقة والوجــوه المرســومة بريشــة‬ ‫أطب ــاء التجمي ــل والبوتوك ــس والتات ــو‪،‬‬ ‫لتناســـب مســـتواهن الفنـــي‪ ،‬ولتجـــذب‬ ‫مزيـــدًا مـــن المعلنيـــن‪ ،‬علـــى أســـاس‬ ‫أن الجمهـــور «عايـــز كـــده»‪ .‬وباتـــت‬ ‫المسلس ــات اللبناني ــة تش ــتهر بالبطل ــة‬ ‫الواح ــدة المطلق ــة‪ .‬ف ــا يج ــوز لجميل ــة‪،‬‬ ‫منحـــوت جســـدها كاللعبـــة‪ ،‬وشـــفتاها‬ ‫أكبــر مــن وجههــا‪ ،‬ووجنتاهــا منتفختــان‬ ‫كالبالون ــات‪ ،‬أن تنافس ــن ممثل ــة قدي ــرة‬ ‫مثـــل عايـــدة صبـــرا أو جوليـــا قصـــار‬ ‫أو كارمـــن لبـــس أو كارول عبـــود أو‬ ‫غيرهـــن‪ .‬لـــذا احتلـــت الســـاحة ناديـــن‬ ‫ّ‬ ‫الراس ــي وس ــيرين عب ــد الن ــور ونادي ــن‬ ‫مم ــن‬ ‫نس ــيم نجي ــم وغيره ــن كثي ــرات‪ّ ،‬‬ ‫اّتخـــذن مـــن المسلســـات الضخمـــة‬ ‫حقـــل تجـــارب وتراكـــم لخبراتهـــن‬ ‫الت ــي ال ت ــزال تخض ــع لمعايي ــر الش ــكل‬ ‫علـــى حســـاب المضمـــون‪ .‬لـــذا تفتقـــد‬ ‫مسلســـاتنا اللبنانيـــة‪ ،‬حتـــى اليـــوم‪،‬‬

‫نجمـــات حقيقيـــات يطبخـــن ويغســـلن‬ ‫ويحـــزن ويبكيـــن‪ ،‬ويظهـــرن بثيـــاب‬ ‫ّ‬ ‫رث ــة أو بوج ــوه م ــن غي ــر ماكي ــاج باه ــر‬ ‫وســـاهر‪ .‬وقـــد تكـــون ســـيرين عبـــد‬ ‫النـــور وناديـــن نجيـــم األفضـــل بيـــن‬ ‫النجمـــات المتمرنـــات حتـــى اليـــوم‪ ،‬إذ‬ ‫اســـتطاعتا تطويـــر أدائهـــن ســـنة بعـــد‬ ‫ســنة‪ .‬لكنهمــا ال تــزاالن تحــت التمريــن‪،‬‬ ‫صّن ــاع الدرام ــا البح ــث‬ ‫وم ــن َث ـ ّـم عل ــى ُ‬ ‫عـــن ممثـــات قديـــرات ال عـــن جميـــات‬ ‫البوتوكـــس‪ .‬وعلـــى العمـــوم‪ ،‬يدخـــل‬ ‫غالبي ــة الممثلي ــن اللبنانيي ــن ف ــي أدوار‬ ‫ينجح ــون فيه ــا‪ ،‬ولكنه ــم يعج ــزون ع ــن‬ ‫الخ ــروج م ــن كنفه ــا البت ــكار ش ــخصيات‬ ‫خزنـــة فـــي‬ ‫جديـــدة وطاقـــات تمثيليـــة ُم َّ‬ ‫داخلهـــم‪ .‬هـــؤالء مثـــل ديامـــان أبـــو‬ ‫عب ــود ف ــي «بن ــت الش ــهبندر»‪ ،‬وس ــيرين‬ ‫عبـــد النـــور وباســـم مغنيـــة فـــي «‪24‬‬ ‫قيـــراط»‪ ،‬وناديـــن نجيـــم ويوســـف‬ ‫الخــال فــي «تشــيللو»‪ ،‬ويوغــو شــلهوب‬ ‫دق»‪،‬‬ ‫وكاريـــن رزق اهلل فـــي «قلبـــي ّ‬ ‫لديه ــم الموهب ــة ولكنه ــم يحتاج ــون إل ــى‬ ‫مزيـــد مـــن البحـــث والجهـــد والتحضيـــر‬ ‫عمـــا‬ ‫ألدوارهـــم كمـــن يرســـم وينحـــت‬ ‫ً‬ ‫فني ـ ًا أو كمحق ــق يس ــتقصي ع ــن حقيق ــة‬ ‫مفقـــودة‪.‬‬ ‫‪147‬‬

‫سينما‬

‫آدالين‪..‬‬ ‫حينما يفقد الزمن سطوته‬ ‫أحمد ثامر جهاد‬

‫مـاذا لـو توقّف عمر اإلنسـان عند مرحلة‬ ‫زمنيـة ُمحّددة‪ ،‬وبـدت حيوات اآلخرين من‬ ‫حوله سـائرة في نواميسها المعتادة؟ كيف‬ ‫سـتكون أحاسـيس المـرء‪ ،‬إذا مـا أيقـن أنه‬ ‫على عتبة الخلود‪ ،‬وأن ال مستقبل ينتظره‪،‬‬ ‫عصيـ ًا على العودة مثل‬ ‫فيمـا الماضـي بات ّ‬ ‫طيـف بعيـد؟ هـل سـتبدو الحيـاة حينها كما‬ ‫مؤبـدة فـي حاضـر مديـد؟ يمكننـا‬ ‫لـو أنهـا َّ‬ ‫القـول إن موضوعـة فيلـم (‪The Age of‬‬ ‫‪ )Adaline‬للمخـرج «لـي توالنـد كريجـر»‬ ‫ليسـت جديـدة‪ ،‬فقـد سـبق تناولهـا فـي‬ ‫أفلام ِعـّدة‪ ،‬وِإ ْن بمعالجـات مختلفـة‪ ،‬منـذ‬ ‫فيلـم «آلـة الزمـن» عـن روايـة الكاتـب «أي‪.‬‬ ‫ج‪ .‬ويلـز» وحتـى فيلـم «حالـة بنجاميـن‬ ‫الغريبـة»‪ ،‬مـرورًا بسلسـلة أفلام «العـودة‬ ‫إلـى المسـتقبل»‪.‬‬ ‫إذا كان ممكن ًا لنا أمام الشاشة أن نغفل‪،‬‬ ‫للحظـات‪ ،‬عن قوانيـن الفيزياء والطبيعة‪،‬‬ ‫ال في إطالق أحكامنا القطعية‪،‬‬ ‫ونتريث قلي ً‬ ‫ّ‬ ‫سيستدعي هذا الفيلم استقبا ًال هادئاً‪ ،‬يقبله‬ ‫على ِعّلته‪ ،‬بوصفه اسـتراحة رومانسـية‬ ‫تنـأى بنـا‪ ،‬إلـى حيـن‪ ،‬عـن ضجيـج أفلام‬ ‫العنـف الهوليووديـة التـي بلّدت أحاسـيس‬ ‫وشوشت ذائقتهم‪.‬‬ ‫المشاهدين‪ّ ،‬‬ ‫فـي الغضـون سـنرى أن ثمـة مسـارين‬ ‫تقليدييـن طرحتهمـا السـينما عبـر تاريخهـا‬ ‫الطويـل‪ ،‬فـي التعامـل مـع نسـبية الزمان‪،‬‬ ‫وكـذا األفـكار والطموحـات المرهونـة بـه‪.‬‬ ‫وعبـر تبسـيطات غيـر علمية قـد نختار‪ :‬إما‬ ‫العـودة إلـى الماضي وتغيير مسـار أحداث‬ ‫مأسـاوية كان يجـب أال تقـع‪ ،‬والتدخـل في‬ ‫إعـادة صياغتهـا لمنـع أمر خطير سـيحدث‬ ‫مسـتقبالً‪ ،‬وإمـا اإلبحـار نحـو مسـتقبل‬ ‫‪148‬‬

‫مجهـول بهـدف استشـراف خبايـاه‪ .‬فـي‬ ‫الحالتيـن يحتـاج الفيلـم إلـى كتابـة جيـدة‬ ‫وطموحـة تطـرح مسـوغات مقنعـة للقيـام‬ ‫بالرحلـة المنشـودة عبـر الزمـن‪ .‬لكـن األمر‬ ‫الطريف في فيلم (‪)The Age of Adaline‬‬ ‫الذي كتبه «جى ميلز جودلوي» و«سلفادور‬ ‫باسـكويتز»‪ ‬ابتعاده عـن كال المسـارين‪،‬‬ ‫وعـدم انشـغاله كثيـرًا باألسـباب التـي‬ ‫حّتمـت توقّـف عمـر «آداليـن» المولـودة‬ ‫أوائـل القـرن العشـرين‪ ،‬كمـا لـم يتوسـل‬ ‫الفيلـم المؤثـرات الخاصـة إلقنـاع المشـاهد‬ ‫بصدقية حكايته‪ ،‬قدر انشغاله بتمرير قصة‬ ‫رومانسية تنحاز إلى العواطف اإلنسانية‪،‬‬ ‫إذا مـا ُأعيـد طـرح التسـاؤل المشـروع حول‬ ‫الرغبـة فـي الخلود‪،‬الشـباب الدائـم مقابـل‬ ‫حيـاة تمضـي فـي خطهـا المعهـود صـوب‬ ‫نهايتهـا المحتومـة‪.‬‬ ‫عقـب انقضـاء أشـهر علـى وفـاة زوجهـا‬

‫تتعـرض آداليـن بومـان‪29( ،‬‬ ‫كالرينـس‬ ‫ّ‬ ‫عامـاً)‪ ،‬لحـادث سـير يـؤدي إلـى غـرق‬ ‫سـيارتها فـي شـاطئ مجـاور‪ ،‬كاد قلبهـا‬ ‫يتوقّـف عـن الخفقـان‪ ،‬لـوال صاعقـة بـرق‬ ‫تالمس جسدها‪ ،‬في مصادفة كونية ثقيلة‪،‬‬ ‫عصيـة علـى‬ ‫تعيدهـا إلـى الحيـاة وتجعلهـا ّ‬ ‫المـوت‪ .‬كانـت تلـك االنعطافـة الدراميـة‬ ‫سـتغير مسـار األحداث‬ ‫األولـى للفيلـم التي‬ ‫ّ‬ ‫بعـد أن نالـت آداليـن (الممثلة بليك اليفلي)‬ ‫شـباب ًا دائمـ ًا يحلم بـه الكثيرون‪ّ ،‬إل أن هذا‬ ‫الخلود‪ ،‬كما سـنرى‪ ،‬لن يجعلها ‪-‬من دون‬ ‫حـب حقيقـي‪ -‬إنسـانة سـعيدة‪.‬‬ ‫يشـي سـيناريو الفيلـم بحـس أدبـي‬ ‫ملحـوظ‪ ،‬ليـس‪ ،‬فقـط‪ ،‬ألنـه مقتبـس عـن‬ ‫نـص قصصـي جعلـه منحـازاً‪ ،‬إلـى َح ٍّـد ما‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫السـتعارات شـعرية فـي رسـم األحـداث‬ ‫والشـخصيات‪ ،‬بـل ألنـه حـاول خـارج‬ ‫الصرامـة الشـكلية للصـورة (كحـدث) أن‬ ‫ويحلّـل مغـزى المشـهد وفعـل‬ ‫ُي ّ‬ ‫لخـص ُ‬ ‫يعول‪ ،‬منذ بدايته‪ ،‬على‬ ‫فنراه‬ ‫الشـخصية‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫التأثيـر الحسـي المفتـرض لصـوت الـراوي‬ ‫العليم الذي يسرد الحكاية من خارج الكادر‪،‬‬ ‫وهي حيلة أدبية من شأنها إضعاف البناء‬ ‫سـمع صـوت الـراوي من‬ ‫الدرامـي للفيلـم‪ُ .‬ي َ‬ ‫حين إلى آخر‪ ،‬موضح ًا أو ُمعلّق ًا أو ساردًا‬ ‫ألهـم محطـات الحـدث‪.‬‬ ‫فـي مسـتهل الفيلـم ثمـة لقطـة بعيـدة‬ ‫علـو‪ ،‬كوكـب األرض‪ ،‬عالـم‬ ‫ترصـد‪ ،‬مـن ّ‬ ‫آسـر تمتـزج فيـه ألـوان اليابسـة بزرقـة‬ ‫البحار الشاسعة‪ ،‬مثل أحجية كونية يمكن‬ ‫سيفكر أحدهم‬ ‫أن تخفي ما ال يمكن توقُّعه‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫أن إرادة مطلقـة وضعـت حيـاة آدالين أمام‬ ‫اختبار مصيري‪ .‬ليس ثمة شيء مؤكد حتى‬

‫مشهد من الفيلم‬

‫اللحظـة‪ .‬آداليـن تتصـل بأحـد األشـخاص‬ ‫لتبديـل بطاقتها الشـخصية‪ ،‬تمهيـدًا لتغيير‬ ‫محل إقامتها‪ ،‬وهو ما درجت عليه‪ ،‬خشية‬ ‫عصيـة‬ ‫اكتشـاف سـرها‪ ،‬بعـد أن أصبحـت ّ‬ ‫علـى التغييـر والنمـو‪ ،‬وأنهـا لـن تتقـّدم‬ ‫بالسـن يومـ ًا آخـر‪ .‬تـزداد مخاوفهـا مـن‬ ‫النـاس بسـبب هـذا الوضع المربـك‪ ،‬وتبدو‬ ‫مكان إلى آخر‪ ،‬األمر‬ ‫مضطـرة لالنتقـال من ٍ‬ ‫الذي أكسـبها ثقافة واسـعة وخبرة حياتية‬ ‫استثنائية‪.‬‬ ‫فـي لحظـة مـا يصـدق حـدس آداليـن‪،‬‬ ‫تتعـرض لالقتيـاد مـن ِقَب ِـل عناصـر‬ ‫حينمـا ّ‬ ‫الشـرطة الفيدراليـة للتأكـد مـن هويتهـا‪.‬‬ ‫وتتعرف‪،‬‬ ‫تنجـح فـي اإلفلات من قبضتهـم‬ ‫ّ‬ ‫فـي الغضـون‪ ،‬إلى شـاب وسـيم يجهد بكل‬ ‫السـبل إلسـعادها‪ .‬وبعـد تمنُّـع اسـتغرق‬ ‫طويلا علـى الشاشـة‪ ،‬ينجح الشـاب‬ ‫وقتـ ًا‬ ‫ً‬ ‫أليـس (الممثـل مكيـل هاوسـمان) في كسـب‬ ‫ثقـة آداليـن‪ ،‬فيدعوهـا الحقـ ًا إلـى زيـارة‬ ‫عائلتـه والتعـرف إليهـم‪ .‬المفارقـة أن األب‬ ‫الكهـل «الممثـل هاريسـون فـورد» يصـدم‬ ‫بحقيقـة أن عشـيقة ابنـه هـي ذاتهـا الفتـاة‬ ‫التـي أحبهـا قبـل نحـو أربعيـن عامـاً‪ .‬إذا‬ ‫اعتبرنا تلك الواقعة هي االنعطافة الدرامية‬ ‫الثانيـة للفيلـم‪ ،‬فلا منـاص مـن القـول إنها‬ ‫حيلـة دراميـة غيـر موفقة‪ ،‬جعلـت اإلخراج‬ ‫متواضعـاً‪ ،‬وإن كانـت أسـهمت فـي تصعيـد‬ ‫منحـى األحـداث نحو نهايتها‪ .‬تهرب آدالين‬ ‫وتتعرض في طريق‬ ‫من هذا المأزق المعقّد‪،‬‬ ‫ّ‬

‫عودتهـا إلـى حـادث سـير مميـت آخـر‪ ،‬إذ‬ ‫تحـدث المعجـزة ثانيـة (انعطافـة أخيرة)‪،‬‬ ‫وتستعيد آدالين حياتها الطبيعية‪ ،‬من دون‬ ‫خلـود هـذه المرة‪.‬‬

‫حنين إىل الماضي‬ ‫ربمـا يـرى البعـض فـي شـخصية‬ ‫ّـل‪،‬‬ ‫آداليـن انحيـازًا لزمـن جميـل مضـى‪ ،‬مث َ‬ ‫لمعظـم األميركييـن‪ ،‬عصرهـم الذهبـي‪ ،‬في‬ ‫خمسـينيات القـرن المنصـرم تحديـداً‪ .‬فلـم‬ ‫تظهـر آداليـن طـوال أحـداث الفيلـم مرتدية‬ ‫مالبس عصرية‪ ،‬وإنما بقيت محافظة على‬ ‫أناقتها الكالسـيكية‪ .‬كما ليس اعتباطي ًا أن‬ ‫تنقِّب آدالين‪ ،‬وقد بلغ عمرها ‪ 107‬سنوات‬ ‫في أرشيف الماضي‪ ،‬تعاين شريط حياتها‬ ‫واآلخريـن‪ ،‬تقلّب وثائق مصورة باألبيض‬ ‫تعـزز لديهـا حـس الحنيـن إلـى‬ ‫واألسـود ّ‬ ‫سـيما أن‬ ‫بالوحـدة‪،‬ال‬ ‫والشـعور‬ ‫الماضـي‬ ‫ّ‬ ‫الزمن نسيها على ما يبدو‪ ،‬وأن من أحبتهم‬ ‫يومـ ًا مـا رحلـوا اآلن‪ ،‬فـي حيـن بقيـت هـي‬ ‫مؤبـدة فـي ثبـات ُمقلق‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫في كل األحوال‪ ،‬ليست آدالين مسرورة‬ ‫بخلودهـا‪ ،‬فمئـة عـام مـن الجمـال سـتكون‬ ‫ُمملّة لشخص ُمتعقّل‪ ،‬وإن تكيفت الشخصية‬ ‫بشـكل أو بآخـر‪ ،‬مـع واقع ثباتهـا العمري‪.‬‬ ‫لكـن‪ ،‬لـو افترضنـا أن آدالين كان لها الحق‬ ‫في اختيار مرحلة عمرية من سيرة حياتها‪،‬‬ ‫فليـس مسـتبعدًا تفضيلهـا عيـش طفولتهـا‬

‫ثانية‪ .‬كما لن نكون متيقنين من أن آدالين‬ ‫ستسر بحياة شاذة تعوزها العاطفة بشكل‬ ‫أعقـد مـن مجـرد اسـتمتاعها بالجلـوس مـع‬ ‫ابنتهـا العجـوز فـي مفارقـة غريبـة‪ .‬رغـم‬ ‫ذلـك‪ ،‬وبالنظـر لفكرتـه التي سـبق تناولها‬ ‫بـرؤى مختلفـة‪ ،‬حقّـق فيلـم آداليـن الـذي‬ ‫بلغـت كلفـة إنتاجـه نحـو ‪ 25‬مليـون دوالر‬ ‫نجاحـ ًا تجاري ًا ُيحسـب لصالحه‪.‬‬

‫حلم ضد الحقيقة‬

‫حكايـة آداليـن‪ ،‬عبـر صـوت سـاردها‬ ‫العليـم‪ ،‬ترتكـز علـى مـا يمكـن تسـميته‬ ‫فرضيـة االرتحـال السـردي‪ ،‬االتـكاء علـى‬ ‫حـدث خـارق ينقـل األحـداث إلـى نطـاق‬ ‫غير مسـبوق‪ .‬هذا االرتحال سـيحكم بدوره‬ ‫ويوسـع َمَدياتهـا جماليـاً‪،‬‬ ‫مسـارات القصـة‬ ‫ّ‬ ‫وإن اقتضـى ذلـك االلتفـاف علـى منطـق‬ ‫السـبب والنتيجـة المنتجيـن للمعنـى‪ .‬أي‬ ‫أننا‪ -‬كمشـاهدين‪ -‬إذا ما سـلّمنا منذ البداية‬ ‫تعرضـت‬ ‫بفرضيـة الحـدث الخـارق الـذي ّ‬ ‫لـه الشـخصية لـن يكـون بوسـعنا‪ ،‬بعدئذ‪،‬‬ ‫اجتـراح حكـم مـا خـارج فرضيـة السـرد‬ ‫الفيلمـي التـي تسـتخدم منطقها الخاص في‬ ‫إزاحـة الغمـوض وااللتباس عن تناقضاتها‬ ‫الفرعيـة‪.‬‬ ‫وعلـى الـدوام يمثـل هـذا النـوع مـن‬ ‫القصـص تحديـ ًا ممكنـ ًا لظالمنـا الدنيـوي‪،‬‬ ‫ولحتمية مصائرنا ككائنات فانية منقوصة‬ ‫اإلرادة‪.‬‬ ‫‪149‬‬

‫مشهد من الفيلم‬ ‫هاشم عبد السالم‬ ‫محمد‬

‫«‪ 45‬عام ًا»‬

‫نهاية ِع ْشرة‬ ‫محمد هاشم عبد السالم‬ ‫فيلـم «‪ 45‬عامـاً»‪ ،‬هـو ثالـث األفلام‬ ‫الروائيـة للمخـرج البريطانـي المتميـز‬ ‫«أندرو هاي»‪ ،‬وبطولة الممثلة شارلوت‬ ‫رامبلينـج (‪ 68‬عامـاً) فـي دور «كيـت»‪،‬‬ ‫والممثـل المتألـق «تـوم كورتينـاي» (‪77‬‬ ‫أديـا‬ ‫عامـاً) فـي دور «جيـف»‪ ،‬وكالهمـا َّ‬ ‫مبـاراة تمثيليـة جـّد راقية‪ ،‬تعطي درسـ ًا‬ ‫في كيفية تفهم الممثل لدوره ومعايشـته‬ ‫لـه َحّد التشـبع‪ ،‬وكيـف أنه باإلمكان أداء‬ ‫أقوى وأصعب وأقسـى المواقف الدرامية‬ ‫والحزينـة واالنفعاليـة فقـط عـن طريـق‬ ‫التغييـر فـي نبـرات الصـوت وتعبيـرات‬ ‫الوجـه وحـركات الجسـد‪ ،‬بعيـدًا عـن أي‬ ‫تشنُّج أو صراخ أو ميلودرامية مفتعلة‪،‬‬ ‫وهذا األداء وصل إلى ذروته مع المشـهد‬ ‫الختامـي المبهـر للفيلـم‪ .‬ولذلـك لـم يكـن‬ ‫غريباً‪ -‬إطالق ًا ‪ -‬فوز شارلوت رامبلينج‪،‬‬ ‫‪150‬‬

‫وتـوم كوتينـاي بالـدب الفضـي ألحسـن‬ ‫ممثـل وممثلـة فـي الـدورة الفائتـة مـن‬ ‫مهرجـان برلين‪.‬‬ ‫علـى امتـداد خمسـة أيـام تسـبق‬ ‫احتفالهمـا بعيـد زواجهمـا الخامـس‬ ‫واألربعيـن‪ ،‬يرصـد لنـا أنـدرو هـاي فـي‬ ‫«‪ 45‬عامـاً»‪ ،‬وعلـى نحـو مكثـف‪ ،‬حيـاة‬ ‫زوجيـن تنقلـب رأسـ ًا علـى عقـب بعـد‬ ‫وصـول رسـالة إلى الـزوج‪ ،‬الذي يقول‪-‬‬ ‫قبل وصول الرسالة‪ُ ،‬متحّدث ًا إلى زوجته‬ ‫عـن كتـاب قرأه عـن التغيـرات المناخية‪-‬‬ ‫إنـه عندمـا يـذوب النهر الجليـدي‪ُ ،‬يحِدث‬ ‫فوضـى عارمـة مـن الميـاه التـي تندفـع‬ ‫وتتجمع وتتراكم هنا وهناك فيما يشـبه‬ ‫دمـر الصخـور وكل ما‬ ‫التسـونامي الـذي ُي ِّ‬ ‫فـي طريقـه‪ .‬تلـك الرسـالة التـي وصلـت‬ ‫إلـى الـزوج‪ ،‬والتـي كان مـن الممكـن أن‬

‫تمـر مـرور الكـرام‪ ،‬اتخذهـا المخـرج تكئة‬ ‫ليطلق منها تسونامي قادم ًا من الماضي‬ ‫بـكل قـوة واندفـاع ليلقي بآثـاره المدمرة‬ ‫علـى زواج جيـف وكيـت‪ .‬هـل كان هـذا‬ ‫التسـونامي متجمدًا طيلة تلك السنوات‪،‬‬ ‫فـي انتظـار أن ينطلق لسـبب أو آخر‪ ،‬أم‬ ‫أن زواجهمـا نفسـه هـو الـذي كان متجمدًا‬ ‫وسـرعان مـا ذاب؟‬ ‫من بين ما تطرحه قصة الفيلم‪ ،‬مسألة‬ ‫الـزواج والعالقـة الزوجيـة أو المؤسسـة‬ ‫الزوجية بصفة عامة‪ .‬وهل من الممكن أن‬ ‫ينهـار مـا نطلق عليه ِ‬ ‫«الع ْشـرة» أو الحب‬ ‫والتعـود بيـن زوجيـن اسـتمرت‬ ‫والتفهـم‬ ‫ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫العالقـة بينهمـا ألكثـر مـن أربعـة عقـود؟‬ ‫ولتعميـق مثـل هـذه األسـئلة المطروحـة‬ ‫ضمنيـ ًا فـي ثنايـا الفيلـم‪ ،‬لجـأ المخـرج‬ ‫عن عمد‪ ،‬دون شـك‪ ،‬لجعل الزوجين بال‬

‫أطفال أو حتى أقرباء حميمين أو جيران‬ ‫مالصقيـن‪ ،‬هـم لديهـم أصدقـاء عمـل أو‬ ‫رفاق عابرون وكلب‪ .‬وهذا يعني أن هذين‬ ‫الزوجين‪ ،‬اللذين يتناول الفيلم عدة أيام‬ ‫مـن حياتهمـا‪ ،‬شـديدا االلتصـاق جدًا على‬ ‫امتـداد حياتهمـا‪ .‬إلـى جانب هـذا‪ ،‬أضاف‬ ‫التقـدم البالـغ في السـن‪.‬‬ ‫المخـرج‪ ،‬عامـل‬ ‫ُّ‬ ‫فلو كان كيت وأندرو في شبابهما الختلف‬ ‫األمـر كثيـراً‪ ،‬وبـدت قصـة الفيلـم عادية‪،‬‬ ‫وفقـدت قوتهـا إلى َح ٍّـد بعيد‪.‬‬ ‫مثـل هـذه التفاصيـل الشـديدة الصغـر‬ ‫وتعمـد المخـرج‪،‬‬ ‫التـي حفـل بهـا الفيلـم‬ ‫ّ‬ ‫بوصفه كاتب ًا لسـيناريو الفيلم‪ ،‬بثها في‬ ‫ثنايا الحبكة‪ ،‬واالعتناء بها ألقصى درجة‬ ‫عند اقتباسه للقصة القصيرة التي تحمل‬ ‫عنـوان «فـي بلـد آخـر»‪ ،‬للكاتـب واألديب‬ ‫البريطاني المخضرم ديفيد كونستانتين‪،‬‬ ‫مـن مجموعتـه «تحـت السـد» (‪،)2005‬‬ ‫شـكلت فـي النهايـة الكيـان‬ ‫هـي التـي َّ‬ ‫القـوي لبنيـان الفيلـم الشـديد التماسـك‬ ‫والتكثيـف‪ ،‬والـذي امتـد لسـاعة ونصـف‬ ‫الساعة تقريباً‪ ،‬وجعلتنا كذلك منغمسين‬ ‫ألقصـى درجـة ومتفاعليـن مـع معانـاة‬ ‫بطلـي الفيلـم‪ ،‬واألدهـى أننـا متفهمـون‬ ‫تمامـ ًا لموقـف كل منهمـا‪.‬‬ ‫جيـف لـم يخـن كيت ‪ ،‬لم يكذب عليها‪،‬‬ ‫ألنهـا كانـت علـى علـم بعالقتـه السـابقة‬ ‫بكاتيا وبمالبسات وفاتها‪ .‬كانت كاتيا قد‬ ‫توفيت قبل خمسين عام ًا في أثناء إجازة‬ ‫رومانسية لهما‪ ،‬كاتيا وجيف‪ ،‬في جبال‬ ‫األلـب للتزحلـق على الجليـد‪ ،‬وهناك في‬ ‫أحـد األنهـار الجليدية طمـرت الجثة‪ ،‬ولم‬ ‫يعثر لها على أثر‪ ،‬إلى أن ُاكتشفت مؤخرًا‬ ‫بعـد ذوبـان مفاجـئ للجليـد‪ ،‬األمـر الـذي‬ ‫اسـتدعى إخبـار جيـف حبيبهـا ورفيقهـا‬ ‫السـابق‪ ،‬والـذي نجـا وقتهـا مـن المصيـر‬ ‫نفسـه الـذي القتـه كاتيـا‪ .‬وكان جيـف‬ ‫ّـع علـى وثيقـة وفـاة كاتيـا آنـذاك‬ ‫قـد َوق َ‬ ‫بوصفـه أقـرب النـاس إليهـا‪ ،‬وهـو األمـر‬ ‫الذي جعل السـلطات السويسـرية ترسـل‬ ‫للتعـرف إلى‬ ‫لـه تلـك الرسـالة كـي يأتـي‬ ‫ُّ‬ ‫الجثـة واإلشـراف علـى دفنهـا‪ ،‬إن أراد‪.‬‬ ‫وعلـى طريقـة مـا تتعامـل معـه‬ ‫هينـاً‪،‬‬ ‫باسـتخفاف واسـتهتار‪ ،‬ونعـّده ّ‬ ‫دمـراً‪،‬‬ ‫ينقلـب فـي أحيـان كثيـرة وحشـ ًا ُم ِّ‬ ‫تعاملت كيت وحتى جيف نفسه‪ ،‬في أول‬

‫األمر‪ ،‬مع الرسالة ومع ما حدث على أنه‬ ‫ـن مـع تلك المرأة وسـط‬ ‫ٍ‬ ‫ودِف َ‬ ‫مـاض مـات ُ‬ ‫وفكـرت كيـت‬ ‫الجليـد قبـل خمسـة عقـود‪ّ .‬‬ ‫كثيـرًا أنـه ليـس مـن المعقـول وال يصـح‬ ‫أن تغـار مـن امـرأة لـم تعرفهـا قـط‪ ،‬ولـن‬ ‫تقابلهـا أبـداً‪ ،‬امـرأة ماتـت ودفنـت‪ .‬لكن‪،‬‬ ‫تدريجياً‪ ،‬ومع تيقُّظ األنثى وإعمال كامل‬ ‫حواسها وقرون استشعارها‪ ،‬سرعان ما‬ ‫تتطور األمور وتتخذ منحى خطيرًا تتزايد‬ ‫ّ‬ ‫وتيرته تدريجي ًا مع توالي الساعات التي‬ ‫تسبق االحتفال؛ إذ تتبين كيف أن اسمها‬ ‫يتمـاس مـع اسـم كاتيـا‪ ،‬وكذلـك رائحـة‬ ‫العطـر الـذي يحـب زوجهـا أن تضعـه‪،‬‬ ‫ولون شعرها‪ ،‬وطبيعة الموسيقى التي‬ ‫يسـتمعان إليهـا‪ ،‬ونوعيـة األغانـي التـي‬ ‫يفضالنهـا‪ ..‬إلـى آخـره مـن التفصيالت‪،‬‬ ‫التي كانت تظن أنها تخصها هي وجيف‪،‬‬ ‫واتضـح أنهـا تخـص جيـف وكاتيا‪.‬‬ ‫وعلـى النحـو الـذي يضـرب بـه‬ ‫تسـونامي ويزلـزل كيـان كيـت‪ ،‬كذلـك‬ ‫يفعـل فـي جيـف‪ ،‬الـذي يأخـذ بالتدخيـن‬ ‫ثانيـة ويتوتـر ويميـل للعزلـة‪ ،‬ويذهـب‬ ‫لشـركة سـياحة ليستفسـر عن الرحالت‪،‬‬ ‫(فّكَر) في السفر بالفعل‪ ،‬ومن‬ ‫أي ُي ّ‬ ‫فكر أو َ‬ ‫ناحيـة أخـرى يعتـرف لزوجتـه أن كاتيـا‬ ‫كانـت خطيبتـه وليسـت مجـرد حبيبتـه‪،‬‬ ‫وأنـه اعتقـد أن أمـر الخطبـة مـن عدمـه‬ ‫لـن يؤثـر علـى عالقتهمـا‪ .‬أيضـ ًا يحـاول‬ ‫التنفيـث عن حالتـه‪ ،‬أو‪ -‬ربما‪ -‬التواصل‬ ‫مـع كيـت جنسـي ًا كي يسـتعيدها إليه‪ ،‬أو‬ ‫ربمـا يسـتعيد ماضيـه مـع كاتيـا‪ ،‬لكنـه‬ ‫يفشـل‪ .‬بدورهـا‪ ،‬وبعدمـا انتبهـت إلـى‬

‫كل هـذا‪ ،‬وفـي غمـرة تجهيزهـا لترتيبـات‬ ‫الحفـل بمنتهـى الدقة‪ ،‬تخطو كيت خطوة‬ ‫جسورة نحو الماضي‪ ،‬إذ تفتح السندرة‬ ‫وتطلـع علـى ألبومـات وصـور زوجهـا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫لتتعـرف‪ -‬للمـرة األولـى‪ -‬إلـى صـورة‬ ‫كاتيـا‪ ،‬وتصـدم بأنها أيضـ ًا كانت حامالً‪.‬‬ ‫ثمـة أسـئلة كثيـرة وعميقـة‪ ،‬يمكن أن‬ ‫تمتـد بنـا إلـى ما ال نهايـة‪ ،‬يطرحها علينا‬ ‫فيلـم «‪ 45‬عامـاً»‪ ،‬ومـن بينهـا‪ ،‬التعايش‬ ‫والصـدق مـع اآلخـر فـي هـذا التعايـش‪،‬‬ ‫أيضـاً‪ ،‬الماضـي‪ ،‬ذلـك الغـول المرعـب‪،‬‬ ‫وأشـباحه الكارثيـة التـي قـد تطـل بيـن‬ ‫الحيـن واآلخـر أو تنبعـث لتـؤدي إلـى‬ ‫تبعـات تقلـب كل شـيء رأسـ ًا على عقب‪.‬‬ ‫وهـل مـن الممكن أن نعيـد تقييم الحاضر‬ ‫ونتخـذ قـرارًا بشـأنه بناء علـى الماضي؟‬ ‫كذلك عن الحب األول في حياة اإلنسان‪،‬‬ ‫هل ُينسى‪ ،‬يموت‪ ،‬تخبو جذوته على َمّر‬ ‫السنين؟ وهل يقوى المرء على االستمرار‬ ‫فـي الحيـاة والمواصلـة مـع شـريك آخر‬ ‫كأن الماضـي لـم يكـن؟ هل مـن الممكن أن‬ ‫يكتشـف المـرء بعـد سـنوات طويلـة‪ ،‬أنه‬ ‫لـم يبـرأ بعـد مـن حبـه األول‪ ،‬حتـى وإن‬ ‫لـم يكـن الطـرف اآلخـر على قيـد الحياة؟‬ ‫بعـد أن يصـل المرء إلـى أرذل العمر‪،‬‬ ‫َأ َ‬ ‫مـن الممكـن أن يكتشـف‪ ،‬فجـأة‪ ،‬أنـه‬ ‫ال يعـرف الكثيـر عـن نفسـه التـي بيـن‬ ‫جوانحـه؟ وإن تسـنى لـه هـذا‪ ،‬فهل يمكن‬ ‫أن يكـون علـى يقين من معرفته باآلخر‪،‬‬ ‫حتى لو كان اآلخر هو محبوبه أو شريك‬ ‫حياته على امتداد عقود طويلة؟ واألدهى‬ ‫مـن هـذا‪ ،‬بعـد ذلـك االكتشـاف‪ ،‬هـل مـن‬ ‫قـر المـرء أنـه كان علـى‬ ‫الممكـن أن ُي ّ‬ ‫خطـأ فـي معرفتـه باآلخـر وفـي حبـه له؟‬ ‫وعندئـذ‪ ،‬هـل يعترف لنفسـه ولآلخر أنه‬ ‫قـد ُخـِد َع أو مـارس هو الخداع‪ ،‬ويجسـر‪،‬‬ ‫فـي‪ -‬النهايـة‪ ،‬وبعـد كل هـذا العمـر‪ -‬على‬ ‫اتخاذ قرار حاسم يصلح به األمر ويضع‬ ‫َحـّدًا لـكل هـذا؟ هـل بعـد كل هذه السـنوات‬ ‫يمكن لإلنسان أن يراجع نفسه ويكتشف‬ ‫ويرفض زيف المشاعر واالستمرار فيها‪،‬‬ ‫حتـى لـو كان هـذا معنـاه تقويـض كل‬ ‫شـيء؟ أسـئلة كهـذه بـدت لنـا إجاباتهـا‬ ‫الحاسـمة مـن جانـب كيـت وجيـف‪ ،‬فـي‬ ‫المشـهد الختامـي البديـع بالفيلـم لحظـة‬ ‫انعقـاد الحفـل‪ ،‬لكـن‪ ،‬كل علـى طريقتـه‪.‬‬ ‫‪151‬‬

‫مشهد من الفيلم‬

‫«ناهد»‪..‬‬ ‫اختيار ضد العاطفة‬ ‫أمري العمري‬ ‫كثيـر مـن التعليقـات دارت مؤخـرًا‬ ‫حـول الفيلم اإليراني الجديد «ناهد»‪ ،‬بعد‬ ‫عرضـه فـي قسـم «نظـرة مـا» بمهرجـان‬ ‫وتركزت هذه التعليقات‬ ‫كان السينمائي‪ّ ،‬‬ ‫حـول مـدى تشـابهه مـع الفيلـم اإليرانـي‬ ‫الشهير «انفصال» (‪ )2011‬للمخرج أصغر‬ ‫شـق طريقـه بنجـاح‬ ‫فرهـادي‪ ،‬الـذي‬ ‫ّ‬ ‫كبيـر وصـو ًال إلـى حصولـه علـى جائـزة‬ ‫األوسكار ألحسن فيلم أجنبي‪ .‬والحقيقة‬ ‫أن «ناهد‪ ،»Nahid ،‬أول أفالم المخرجة‬ ‫والكاتبـة إيـدا باناهنـده‪ ،‬يمكـن مقاربتـه‬ ‫مـع كثيـر مـن األفالم اإليرانيـة التي تدور‬ ‫‪152‬‬

‫عـادة حـول الموضـوع االجتماعـي مـع‬ ‫بعض اإلسقاطات المحسوبة جيداً‪ ،‬على‬ ‫الواقـع السياسـي القائـم‪ ،‬الـذي يفـرض‬ ‫علـى المـرأة بوجـه خـاص‪ ،‬الكثيـر مـن‬ ‫القيـود المشـّددة‪.‬‬ ‫ينتمـي فيلـم «ناهـد»‪ -‬إذاً‪ -‬إلـى تيـار‬ ‫الواقعيـة النقديـة الحديثـة فـي السـينما‬ ‫اإليرانيـة‪ ،‬التـي تتجـاوز شـكالنية‬ ‫كياروسـتامي‪ ،‬فهـو يشـق طريقـ ًا أكثـر‬ ‫انسـجام ًا مـع ذهنيـة المشـاهد داخـل‬ ‫إيـران وخارجهـا‪ ،‬دون أن يبتعـد عـن‬ ‫التأثير الراسـخ للواقعيـة اإليطالية على‬

‫السـينمائيين اإليرانييـن‪ .‬فالفيلـم يميـل‬ ‫إلـى تنـاول المألـوف‪ ،‬اليومـي‪ ،‬العادي‪،‬‬ ‫فـي مسـار حركـة البشـر فـي المجتمـع‪،‬‬ ‫ومـا تواجهـه المـرأة‪ -‬بوجـه خـاص‪ -‬مـن‬ ‫حريتها في الحركة واالختيار‬ ‫قيـود علـى ّ‬ ‫والعيـش‪ ،‬سـواء مـا يتعلّـق بالتقاليـد‬ ‫التـي ترتبـط بالعائلـة‪ ،‬أو بسـبب مـا هـو‬ ‫مفروض من قوانين وتشريعات صارمة‪.‬‬ ‫تستخدم المخرجة‪ -‬المؤلفة‪ ،‬تفاصيل‬ ‫الموضوع الذي يتم الكشف عنها تدريجياً‪،‬‬ ‫وبدرجـة عاليـة مـن المهـارة الحرفيـة في‬ ‫كتابـة النـص‪ ،‬مـع القـدرة علـى تطويـر‬

‫الحدث ودفعه إلى األمام‪ ،‬للتعبير‪ ،‬بشكل‬ ‫مجازي‪ ،‬عن واقع الكبت والقهر والصمت‬ ‫المفـروض‪ ،‬والكشـف‪ -‬خلال ذلـك‪ -‬عـن‬ ‫بعض السلبيات واالنحرافات االجتماعية‬ ‫«المحرمـات» فـي‬ ‫التـي كانـت مـن ضمـن‬ ‫َّ‬ ‫السينما اإليرانية منذ وصول «آيات اهلل»‬ ‫إلى السلطة‪.‬‬ ‫بطلـة الفيلـم امـرأة شـابة‪ ،‬مليئـة‬ ‫تتحـرك مـن أول‬ ‫بالحيويـة والحركـة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الفيلـم إلـى آخـره وكأنهـا تعانـي مـن‬ ‫«عصاب» بفعل الضغوط الواقعة عليها‪،‬‬ ‫فهي مطلَّقة‪ ،‬انفصلت عن زوجها «أحمد»‪،‬‬ ‫بسـبب إدمانـه المخـدرات والقمـار‪ ،‬ومـن‬ ‫َث ّـم انغماسـه فـي أعمـال منافيـة للقانـون‬ ‫وسـط عصابـات مافيـا المخـدرات فـي‬ ‫العالـم السـفلي‪ .‬هنـا تكشـف المخرجـة‬ ‫الوجـه اآلخـر الـذي ترغـب السـلطات‬ ‫عادة‪ -‬في إبقائه مخفياً‪ ،‬فنحن‬ ‫اإليرانية‪-‬‬ ‫ً‬ ‫نشـاهد الكثيـر مـن التفاصيـل التي تشـبه‬ ‫مـا نشـاهده‪ -‬عادة‪ -‬في أفلام العصابات‬ ‫األميركيـة‪ ،‬بمـا تحتويه من عنف ودماء‪.‬‬ ‫أنجبـت ناهـد مـن زوجها السـابق ولدًا‬ ‫هـو «أميـر رضـا»‪ ،‬الـذي يشـبه والده في‬ ‫ميلـه إلـى العنـاد والشـغب والمراوغـة‪،‬‬ ‫وقـد تـم ترتيـب الطلاق بين ناهـد وأحمد‬ ‫علـى أن تحتفـظ هـي بالطفـل الـذي يبلـغ‬ ‫الثامنـة مـن عمـره‪ ،‬شـريطة ّأل تتـزوج‪،‬‬ ‫فـإذا تزوجـت يسـقط االتفـاق‪ ،‬ويعـود‬ ‫الطفـل إلـى والـده‪ .‬ولكن ناهـد وقعت في‬ ‫حـب «مسـعود» صاحـب الفنـدق‪ ،‬الثـري‬ ‫الذي يرغب في الزواج منها‪ ،‬لكنها تخشى‬ ‫ضياع حضانتها لولدها‪ ،‬فيتوصل االثنان‬ ‫إلـى االتفـاق علـى الـزواج المؤقـت (أو ما‬ ‫يعـرف بـزواج المتعـة) لمدة شـهر واحد‪،‬‬ ‫بعـده يمكنهمـا أن يقررا مـا يريدان فعله‪،‬‬ ‫حسـبما تقتضـي الظـروف؛ وبهـذا يكـون‬ ‫هـذا الفيلـم اإليرانـي األول الـذي يتناول‪،‬‬ ‫بوضـوح‪ ،‬موضـوع «زواج المتعـة»‪،‬‬ ‫الـذي ترفضـه العائلات في إيـران وتعّده‬ ‫«فضيحة» اجتماعية‪ ،‬كما نرى في الفيلم‬ ‫بالفعـل‪ ،‬بينمـا تقننـه السـلطات الدينيـة‬ ‫اإليرانيـة كحـل لمشـكلة حظـر العالقـات‬ ‫الجنسـية خـارج نطـاق الـزواج‪ ،‬وتعـذر‬ ‫الـزواج فـي الكثيـر مـن األحيان!‬ ‫ناهد موظفة في مكتب للترجمة‪ ،‬لكنها‬ ‫تتغيـب كثيـرًا عـن العمـل لرعايـة طفلها‪،‬‬ ‫ّ‬

‫وهـي تعانـي من تراكـم الديون‪ ،‬تقترض‬ ‫تتردد إلى منزل‬ ‫من صديقاتها وشقيقتها‪ّ ،‬‬ ‫والدتهـا التـي ترقـد علـى فـراش المرض‪،‬‬ ‫تتهـرب مـن صاحـب المنزل الجشـع الذي‬ ‫ّ‬ ‫يطاردهـا بسـبب تأخرهـا في دفـع القيمة‬ ‫تتورط في شـراء‬ ‫اإليجارية‪ ،‬لكنها أيض ًا ّ‬ ‫أريكـة حمـراء تبـدو غريبـة تمامـ ًا علـى‬ ‫األثـاث الموجـود فـي المنـزل‪ ،‬كأنها تريد‬ ‫أن تشـعر بلمسـة تفـاؤل ومـرح غائبـة‪،‬‬ ‫تكذب وتخفي حقيقة مشاكلها عن مسعود‬ ‫الـذي يبـدو مسـتعدًا للوقـوف بجانبهـا‪،‬‬ ‫لكنهـا ال تريـد أن تعتمـد علـى أحـد‪ .‬تتعقد‬ ‫حياتهـا أكثـر بعـد أن يصـل خبـر عالقتهـا‬ ‫بمسـعود إلـى زوجهـا السـابق أحمد الذي‬ ‫يريدهـا أن تعـود إليـه بـأي ثمـن‪ ،‬مكـررًا‬ ‫تعهـده بالكـف عـن اإلدمـان‪ ،‬وهـو يبـدو‬ ‫تمردها عليه وخروجها‬ ‫حانق ًا على فكرة ُّ‬ ‫عـن طاعتـه‪ ،‬يريدهـا متاعـ ًا خالصـ ًا لـه‪،‬‬ ‫تحـرر إرادتهـا كمـا يرفـض حقهـا‬ ‫يرفـض ُّ‬ ‫فـي اختيـار رجـل آخـر تتزوجـه وتعيش‬ ‫معـه‪ ..‬لذلـك هـو يحتجز ابنهمـا في منزل‬ ‫أسـرته الـذي يقيـم فيـه‪ ،‬ويذهـب ليهـّدد‬ ‫مسـعود بالويـل والثبـور إن لـم يتركهـا‬ ‫لـه‪ ،‬وبعـد أن ينتهـي شـهر زواج المتعة‪،‬‬ ‫تضطـر ناهـد لمغـادرة المسـكن بعـد أن‬ ‫يطردهـا منـه صاحـب المنـزل‪ ،‬واإلقامـة‬ ‫في منزل والدتها‪ ،‬وتموت األم بعد قليل‪،‬‬ ‫وتنتهـي القضيـة التـي رفعتهـا ناهـد ضد‬ ‫أحمـد للحصـول علـى حق رعايـة طفلها‪،‬‬ ‫مسـجل لـدى السـلطات‬ ‫طالمـا أن أحمـد‬ ‫ّ‬ ‫كرجـل مثيـر للمتاعـب‪ ،‬ال يمكنه ‪-‬من َث َّم‪-‬‬ ‫رعايـة ولـده بسـبب إدمانـه وعنفـه‪ ،‬لكن‬ ‫تقرر ترك األمر إلى الطفل نفسه‬ ‫المحكمة ّ‬ ‫لكـي يختـار مـع مـن يعيـش (فـي تشـابه‬ ‫وإن‬ ‫مؤكـد هنـا مـع نهاية فيلـم «انفصال» ْ‬ ‫فـي سـياق مختلـف)‪ .‬فهـل سـتعود ناهـد‬ ‫إلى مسعود؟ وهل سيعود أمير إلى ناهد؟‬ ‫الفيلـم‪ ،‬كعمـل أول‪ ،‬شـديد اإلتقان من‬ ‫جوانـب عديـدة‪ :‬اختيـار أماكـن األحـداث‬ ‫فـي بلـدة تقـع علـى بحـر قزويـن فـي‬ ‫شـمال إيـران‪ ،‬إدارة الممثليـن وعلـى‬ ‫رأسـهم الممثلـة الموهوبـة سـارة بايـات‬ ‫التـي سـبق أن تألقـت فـي دور صغيـر‬ ‫هـو دور الخادمـة فـي فيلـم «انفصـال»‪،‬‬ ‫ولكنهـا هنـا حاضـرة فـي معظـم مشـاهد‬ ‫الفيلـم‪ ،‬تتحـرك مـن الداخـل إلـى الخارج‬

‫وبالعكـس‪ ،‬ثـم تعود لرعاية ابنة زوجها‬ ‫المؤقت مسعود‪ ،‬ثم الصطحاب ابنها بعد‬ ‫نهايـة اليـوم الدراسـي‪ ،‬يتشـاجر الطفـل‬ ‫معهـا رافضـ ًا وصايتهـا عليـه‪ ،‬تبـدو‬ ‫حينـ ًا ضحيـة واقـع اجتماعـي يعانـي‬ ‫مـن االزدواجيـة والنفـاق‪ ،‬وتبـدو حينـ ًا‬ ‫آخـر‪ ،‬وكأنهـا تتعمـد نسـف كل الجسـور‬ ‫التـي يحـاول «مسـعود» مّدهـا معهـا‪ .‬هي‬ ‫نافـذة الصبـر‪ ،‬محاصـرة‪ ،‬تختنـق‪ ،‬تريد‬ ‫أن تواجه‪ ،‬لكنها عاجزة عن المضي قدم ًا‬ ‫فـي طريـق العنـاد الفـردي أمـام تراكمات‬ ‫تاريخيـة بائـدة‪.‬‬ ‫الشـخصيات األخـرى فـي الفيلـم‬ ‫شـخصيات مركبـة‪ ،‬فشـخصية الـزوج‬ ‫السـابق «أحمـد» يمكـن تفهـم كيـف أنـه‬ ‫يريـد اسـتعادتها إليه‪ ،‬وكأنـه اعتاد على‬ ‫وجودها في حياته‪ ،‬كأم أكثر منها زوجة‪،‬‬ ‫لكنه من ناحية أخرى‪ ،‬يمضي في طريق‬ ‫تدمير الذات وكأنه ينتقم منها عن طريق‬ ‫تدمير نفسه‪ .‬ويرغب مسعود الطيب القلب‬ ‫فـي مسـاعدتها والوقـوف معهـا‪ ،‬لكنـه ال‬ ‫يسـتطيع أن يفهـم رغبتهـا فـي أن تعيش‬ ‫بمفردهـا حتـى بعـد زواجهـا منـه خشـية‬ ‫مـن «الفضيحـة» رغـم مشـروعية زواج‬ ‫المتعـة المؤقـت!‬ ‫فـي الفيلـم الكثيـر مـن المشـاهد التـي‬ ‫صـورة مـن‬ ‫تـدور عنـد شـاطئ البحـر‪ُ ،‬م ّ‬ ‫خلال كاميـرات المراقبـة المنتشـرة فـي‬ ‫المنطقـة‪ ،‬وربمـا تكـون تلـك اللقطـات‬ ‫المصـورة مـن بعيـد للقـاءات‬ ‫العامـة‬ ‫ّ‬ ‫مسـعود وناهـد‪ ،‬هي الوحيـدة من نوعها‬ ‫فـي الفيلـم‪ ،‬ورغـم أننـا ال نسـتمع إلـى‬ ‫مـا يـدور بينهمـا مـن حـوارات‪ّ ،‬إل أننـا‬ ‫نكتشـف تفاصيـل العالقـة التـي تربـط‬ ‫بينهمـا‪ ،‬خصوصـ ًا المشـهد األخيـر عندما‬ ‫تذهب ناهد للبحث عن مسعود في البقعة‬ ‫نفسـها التـي اعتـادا أن يتقابلا فيهـا‪.‬‬ ‫بعيـدًا عـن مشـاهد الشـاطئ العامـة‪،‬‬ ‫تحصـر الكاميـرا ناهـد معظـم الوقـت فـي‬ ‫لقطـات متوسـطة تكثـف حالـة االختناق‬ ‫التـي تعانـي منهـا فـي واقعهـا اليومـي‬ ‫الصعب‪ ،‬ومن ناحية أخرى‪ ،‬يبدو الفيلم‬ ‫صور في زمن واحد ُمتصل‪ ،‬وهو‬ ‫وكأنه ُم ّ‬ ‫إحسـاس يصل إلينا بفضل التحكم الجيد‬ ‫فـي اإليقـاع العـام للفيلم‪.‬‬ ‫‪153‬‬

‫مسرح‬

‫مسرحية «بتول»‬ ‫من البصرة إلى كل العالم‬ ‫صفاء ذياب‬

‫مشهد من مسرحية «بتول»‬

‫لم يتوقّف المسـرح العراقي عند تقنية‬ ‫معينـة‪ ،‬فمـع كل مرحلـة يبتكـر الفنانـون‬ ‫العراقيون آليات سـردية جديدة يمكن أن‬ ‫تضيـف‪ ،‬إلـى العـرض المسـرحي‪ ،‬أبعادًا‬ ‫فضلا عـن السـينوغرافيا التـي‬ ‫ُمغايـرة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫مـن شـأنها أن تكـون نصـ ًا موازيـ ًا لنـص‬ ‫الخشبة‪.‬‬ ‫منـذ أعمالـه األولـى‪ ،‬حـاول المخـرج‬ ‫الشاب مصطفى ستار الركابي أن يشتغل‬ ‫علـى ثالثـة عـروض فـي مسـرحياته‪ .‬في‬ ‫‪154‬‬

‫عمله الذي شـارك به في مهرجان مسـرح‬ ‫الشـباب فـي مدينـة البصـرة «تحوير»‪.‬‬ ‫كانـت الكاميـرا حاضـرة علـى خشـبة‬ ‫المسـرح‪ ،‬وهـو مـا دفـع المتلقـي للبحـث‬ ‫آن واحد‪ :‬عرض‬ ‫عن الرابط بعرضين في ٍ‬ ‫الممثليـن وعـرض الداتـا شـو (‪Data‬‬ ‫‪ ،)Show‬فقـّدم زوايـا أراد إظهارهـا‪ ،‬لـم‬ ‫يكن المتلقي لينتبه إليها من دون العرض‬ ‫المـوازي‪ ،‬فـي حيـن أراد فـي عمله الجديد‬ ‫ض مؤخـرًا فـي مدينـة‬ ‫«بتـول»‪ ،‬الـذي ُع ِـر َ‬

‫البصـرة‪ ،‬أن ُيقـّدم ثلاث تقنيـات علـى‬ ‫الخشبة‪ :‬األولى أداء الممثلين‪ ،‬واإلضاءة‬ ‫فضلا عن نص‬ ‫والموسـيقى المصاحبـة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫الحوار الذي كان احتجاج ًا في كل مفاصله‪،‬‬ ‫والثانية تقنية الداتا شو‪ ،‬والتي ابتكر من‬ ‫خاللها؛ هذه المرة‪ ،‬عرض ًا ثالثي األبعاد‪،‬‬ ‫إذ وضع كاميرتين في زاويتي المسـرح‪،‬‬ ‫تبـرز كل واحـدة منهمـا جانبـ ًا مـن جوانب‬ ‫ال عن واجهة المسـرح التي‬ ‫الممثلين‪ ،‬فض ً‬ ‫يطـل عليهـا المتلقـي‪ ،‬أمـا الثالثـة فكانـت‬

‫عبـارة عـن خمـس شاشـات تليفزيـون‪،‬‬ ‫شاشـة واحـدة كبيـرة‪ ،‬واألربـع الباقيات‬ ‫متوسـطة الحجم‪ .‬الكبيرة تعرض صورًا‬ ‫ومشاهد تليفزيونية عالمية‪ ،‬تقترب كثيرًا‬ ‫من فكرة العمل المسرحي‪ ،‬وهي الوحيدة‬ ‫التـي كانـت تقـّدم الصـورة كمـا هـي‪،‬‬ ‫بوضوحهـا وألوانهـا الطبيعية‪ ،‬في حين‬ ‫كانت الشاشات األربع المتوسطة الحجم‬ ‫تقّدم العرض نفسه‪ ،‬لكن بألوان مختلفة‪،‬‬ ‫أحمـر‪ ،‬وأصفـر‪ ،‬وأخضر‪ ،‬وأزرق‪.‬‬ ‫«بتـول» امـرأة مـن مناطـق دخلهـا‬ ‫اإلرهـاب‪ ،‬كانـت مرعوبـة من تمكن بعض‬ ‫الرجـال مـن اقتحـام بيتهـا‪ ،‬غيـر أنهـا‪،‬‬ ‫تدعـو اهلل لكـي ينقذهـا‪ .‬وبالفعل‪ ،‬تتحقق‬ ‫ويحولها اهلل إلى رجل بلحية كثة‬ ‫المعجزة‬ ‫ّ‬ ‫يصـدم علـى إثرهـا زوجها‪ ،‬وتبـدأ أحداث‬ ‫المسـرحية‪.‬‬ ‫المسـرحية مـن تأليـف علي عبـد النبي‬ ‫الزيدي‪ ،‬وتمثيل كل من‪ :‬علي عادل بدور‬ ‫(الـزوج)‪ ،‬سـتار الحربـي (بتـول الرجل)‪،‬‬ ‫وسـجى ياسـر فـي دور (بتـول األنثـى)‪.‬‬ ‫تتحّدث المسرحية عن تناقضات وأزمات‬ ‫يوم‬ ‫يمر بها وطن استبيحت أراضيه بين ٍ‬ ‫ّ‬ ‫وليلـة‪ ،‬وفـي هـذا السـياق يؤكـد الزيـدي‬ ‫لـ«الدوحـة» أن العـراق يعيـش جملـة مـن‬ ‫التناقضـات الكبيـرة‪ ،‬معتقـدًا أن الجمهور‬ ‫العراقي‪ ،‬اآلن‪ ،‬يحتاج إلى مناخ «مسـتفز‬ ‫للمتلقـي»‪ ،‬ويوضـح الزيـدي ذلك بقوله‪:‬‬ ‫«أعتقـد أن موضوعـة «بتـول» مسـتفزة‬ ‫لآلخـر‪ ،‬للعراقـي أو العربـي أو العالمـي‪.‬‬ ‫هـذا االنقلاب الكبيـر فـي بنية هـذا الوطن‬ ‫تحـول مـن شـيء إلـى شـيء آخـر‪،‬‬ ‫الـذي ّ‬ ‫علـى مسـتوى األفكار والعالقات وأشـياء‬ ‫تحـول بتـول‪ ،‬فـي‬ ‫كثيـرة‪ ،‬لذلـك أرى أن ُّ‬ ‫العمـل‪ ،‬مـن فتـاة إلـى رجـل ليـس تحـو ًال‬ ‫التحول‬ ‫بيولوجيـاً‪ ،‬بـل فكريـاً‪ ،‬ومـع هـذا‬ ‫ّ‬ ‫الفكـري نجـد أن الواقـع السياسـي نائـم‪،‬‬ ‫وال يعلـم مـاذا حـدث داخـل الوطن»‪.‬‬ ‫محـاو ًال قـراءة الواقـع بطريقتـه‬ ‫الخاصـة‪ ،‬كانـت الفنتازيـا هـي التقنيـة‬ ‫السـردية الواضحـة لـدى الزيـدي فـي‬ ‫أغلـب أعمالـه‪ ،‬مبتكـرًا مـن خاللهـا ملاذه‬ ‫اآلمـن‪ ،‬خاصـة في النصـوص التي كتبها‬ ‫بعـد العـام ‪ ،2009‬ويعلل الزيدي اتجاهه‬ ‫هـذا بـأن اختيـاره متعلّـق بالمتلقـي الـذي‬ ‫شاهد ويشاهد كل شيء‪ ،‬وعاش ويعيش‬ ‫الحيـاة المؤلمـة والكارثيـة‪ ،‬بمـا يجعـل‬

‫السـؤال عـن أسـاليب التوجـه إلـى هـذا‬ ‫المتلقـي ومناقشـته رهينـة فـي المحصلة‬ ‫المعتادة بقضاياه واألحداث التي يعيشها‬ ‫فـي كل لحظـة‪ ..‬لكن‪ ،‬هل من الضروري‪،‬‬ ‫فـي العمـل الفنـي‪ ،‬نقـل الواقـع كمـا هـو‪،‬‬ ‫ووضعه على الورقة أو على الخشبة؟ هذا‬ ‫هو السؤال المهم الذي ينطلق منه الزيدي‪:‬‬ ‫«أعتقد أني وجدت مالذي في جعل الواقع‬ ‫غريبـ ًا إلـى َح ٍّـد كبيـر‪ ،‬وفـي الوقت نفسـه‬ ‫تجـد أن هـذه الغرابـة هـي واقـع يومـي‪،‬‬ ‫ال‬ ‫وكأننـا نشـاهد عرضـ ًا واقعي ًا اتخذ شـك ً‬ ‫غرائبي ًا ينطلق من هذه األساسـيات التي‬ ‫لمتلق عراقي عاش الضيم‬ ‫أراها مناسـبة‬ ‫ٍّ‬ ‫والحزن والحروب والديكتاتوريات‪ ،‬وهنا‬ ‫تكمـن صعوبـة المؤلـف العراقـي‪ ،‬وكيـف‬ ‫له أن يخاطب المواطن اآلن‪ ،‬ويؤثر فيه‪،‬‬ ‫ويجعلـه متوثبـ ًا ومسـتفزًا كثيراً»‪.‬‬ ‫ومثلمـا حـاول الزيـدي أن يكتـب‬ ‫نصـ ًا يقـّدم فيـه آخـر مـا آلـت إليـه المـرأة‬ ‫العراقيـة‪ ،‬سـعى المخرج مصطفى سـتار‬ ‫الركابـي إلـى إعادة قراءة النص وتقديمه‬ ‫كعمل حي على خشـبة المسـرح‪ .‬الركابي‬ ‫يشـير لـ«الدوحة» إلى أن نص المسـرحية‬ ‫ـب بالتفاهـم مـع الزيـدي‪ ،‬ثـم حـاول‬ ‫ُكِت َ‬ ‫فريـق العمـل القفـز بنمـط التلقـي إلـى‬ ‫بعـد آخـر‪ ،‬يعتمـد علـى تأثيـرات التقنيـة‬ ‫وجاذبيتهـا وسـلطتها علـى الجمهـور‪،‬‬ ‫خاصـة (يوضـح الركابـي) مـع طبيعـة‬ ‫النـص الـذي كان يجـب أن يقسـم إلـى‬

‫شـكلين‪ :‬األول سـينما مباشـرة‪ ،‬حيـث‬ ‫تنطلـق اللقطـة اآلنيـة ليتلقاهـا المشـاهد‬ ‫تحول الشخصية في العرض‬ ‫مباشرة‪ ،‬ثم ُّ‬ ‫إلـى شـخصية أخـرى‪ .‬ويعلـل الركابـي‪:‬‬ ‫«سـابق ًا كنـا نعالـج وجـود شـخصيتين‬ ‫علـى المسـرح بتشـخيص واحـد‪ ،‬لكننـا‬ ‫تمكنا من شطر الشخصية‪ ،‬بجعل واحدة‬ ‫من خالل التقنية‪ ،‬وأخرى موجودة على‬ ‫المسرح‪ .‬واالثنتان مارستا سلطة مختلفة‬ ‫على المتلقي‪ ،‬وكشفتا أن بإمكان التقنية‬ ‫التأثيـر علـى المتلقـي وكسـر المألـوف‬ ‫الـذي أصبـح غيـر محبـب للمتلقـي»‪ .‬لكـن‬ ‫بعضـ ًا مـن جمهـور المسـرحية علّـق علـى‬ ‫اسـتخدام (الداتـا شـو) وشاشـات عـرض‬ ‫جانبيـة‪ ،‬بكونهـا تسـببت فـي تشـتت‬ ‫وضـح المخرج‬ ‫تلقيهـم للعمـل‪ ،‬فـي حيـن ّ‬ ‫الركابي؛ أن التقنية السينمائية مستخدمة‬ ‫منـذ زمـن بعيد‪ ،‬لكنه أيضـ ًا أدخل التقنية‬ ‫التليفزيونيـة ولقطتها الخاصة ودمجهما‬ ‫فضلا عن المشـهد المسـرحي‬ ‫مـع بعـض‪،‬‬ ‫ً‬ ‫نفسه ‪.‬‬ ‫إذاً‪ ،‬هـذا العمـل‪ -‬كمـا وصفـه مخرجه‪-‬‬ ‫ينتمـي لمسـرح مـا بعـد الدرامـا‪ ،‬ويعتمـد‬ ‫علـى تداخل الفنون فيما بينها‪ ،‬والركابي‬ ‫نفسـه يعتـرف ويوضـح‪« :‬نعـم هنـاك‬ ‫تشـتت‪ ..‬لكـن المهـم أن يصـل الخطـاب‬ ‫للمتلقـي‪ ،‬سـواء أذهـب إلـى المسـرح أم‬ ‫ذهب إلى السينما‪ ،‬ويستقبله من وجهات‬ ‫نظـر مختلفـة‪ ..‬حاولـت أن أعطـي ثالثـة‬ ‫خطابـات فـي اللحظـة ذاتهـا‪ ،‬لكـن هـذه‬ ‫الخطابـات تـؤدي إلـى النتيجـة نفسـها»‪.‬‬ ‫ومتنوعـة‬ ‫أزيـاء المسـرحية عربيـة‬ ‫ّ‬ ‫تخرج أزمة العراق من محلّيته‪ .‬فهل يربح‬ ‫المسرح العراقي رهان تكسير جدار العزلة‬ ‫والنسـيان عبـر توسـيع الفكـرة المحليـة‬ ‫الضيقـة إلـى فكـرة إقليميـة وعالمية؟‪.‬‬ ‫هكـذا يضـع المخـرج كاميرتيـن فـي‬ ‫زاويتي المسرح‪ ،‬تعكس كل واحدة منهما‬ ‫تصـورًا مختلفـ ًا عـن الثانيـة‪ ،‬وتتضاعـف‬ ‫المشـاهد وتنمـو ‪-‬إيحائيـاً‪ -‬مـن خلال‬ ‫شاشـات التليفزيـون الخمـس‪ .‬فـي نظـر‬ ‫توخـى جمـع مشـاهد من كل‬ ‫الركابـي أنـه ّ‬ ‫العالـم لتـؤدي إلـى خطاب واحـد‪« :‬هناك‬ ‫اغتصـاب موجـود فـي كل العالم‪ ،‬النظرة‬ ‫المحليـة بائسـة‪ ،‬لهـذا لـم أشـأ أن أبكـي‬ ‫حياتنـا كمـا بكيناهـا منـذ العـام ‪1958‬‬ ‫وحتـى اليـوم»‪.‬‬ ‫‪155‬‬

‫موسيقى‬

‫ما هي شــروط إمكان التعبير الموســيقي؟ هذا الســؤال الذي يشغل‬ ‫مكانة أساسية في االستتيقا الفلسفية‪ ،‬يستهدف‪ ،‬بالدرجة األولى‪،‬‬ ‫ماهيــة الموســيقى‪ ،‬حين تكون قــد حققت غايتها وتجــاوزت مجموع القواعد‬ ‫والبنيات التي تحّددها نظرية الموســيقى‪ ،‬وبشــكل خاص نظرية التناغم أو‬

‫الرواد‪ ،‬أصبح‬ ‫االنســجام‪ .‬والواقع أنه بعد «ليســت» و«فاغنر»‪ ،‬وغيرهما من ّ‬ ‫الملح والمستعجل فهم منابع ومصادر التعبير الموسيقي من الداخل‪ ،‬بدل‬ ‫من ّ‬ ‫ولعل بعض كتابات‬ ‫أن يكــون‪ ،‬فقط‪ ،‬موضوعــ ًا للحكم الذوقي أو الجمالــي‪ّ .‬‬ ‫فرنسيس وولف‬

‫شــوبنهاور ونيتشــه مثلت نقطــة ارتكاز لمحاولــة كهذه‪ ،‬بعيدًا عن فلســفات‬ ‫الموســيقى التقليدية‪ ،‬مــن أفالطون إلى هيغل‪ .‬لكن هــل الزالت هناك حاجة‬ ‫للتساؤل = ما الموسيقى؟ = أم األهم من ذلك التساؤل‪ :‬لماذا الموسيقى؟ يبدو‬ ‫أن فرنســيس وولف‪ ،‬حين وضع هذا الســؤال األخير عنوان ًا لكتابه‪ ،‬يدعونا‪-‬‬ ‫صراحــة‪ -‬إلــى الوقوف على مفعــوالت الموســيقى علينا‪ ،‬جســدي ًا وذهنياً‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وليس‪ ،‬فقط‪ ،‬االهتمام بالبحث في ماهيتها وجوهرها‪.‬‬

‫لماذا الموسيقى؟‬ ‫فرنسيس وولف‬ ‫تقديم وترجمة‪ :‬محمد مروان‬

‫لتصور هذا‬ ‫الموجهة‬ ‫§ ما الفكرة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫الكتاب؟‬

‫ نشـأت فكـرة هـذا الكتـاب عـن كتـاب‬‫آخر كنت قد كتبته سنة ‪ 1997‬والمعنون‬ ‫بـ«قـول العالـم»‪ .‬فـي هـذا الكتـاب عـن‬ ‫ميـزت بيـن‬ ‫الميتافيزيقـا وفلسـفة اللغـة‪ّ ،‬‬ ‫ثالثة عوالم بالمعنى الميتافيزيقي‪ :‬عالم‬ ‫ندركـه مـن خلال الكلمـات ونسـميه عالم‬ ‫‪156‬‬

‫األشـياء‪ ،‬وعالم ندركه بواسـطة األفعال‬ ‫ونسـميه عالم األحداث والوقائع‪ ،‬وعالم‬ ‫ّ‬

‫األشـخاص الـذي ندركـه عبـر الضمائـر‬ ‫واألسماء‪ .‬وحين عرضت هذا التمييز في‬ ‫محفل أكاديمي ُسـِئلت هذا السـؤال‪ :‬عالم‬ ‫األشياء نعرف ما هو‪ ،‬لكن ماذا عن عالم‬

‫يتشـكل مـن أحـداث ووقائع فقـط؟‪ .‬وكان‬ ‫ّ‬

‫أن أجبـت بعفويـة‪ :‬إنـه عالم الموسـيقى‪.‬‬

‫ميز بين‬ ‫بنـاء علـى هذا الجـواب أصبحت ُأ ِّ‬ ‫ثالثة عوالم للتمثُّل عند اإلنسان‪ :‬تمثّالت‬ ‫األشـياء التـي نسـميها صـوراً‪ ،‬وتمثّلات‬ ‫األحـداث المترابطـة بشـكل مـا بواسـطة‬ ‫تمثلات األشـخاص‬ ‫الموسـيقى‪ ،‬ثـم‬ ‫ّ‬ ‫الفاعلين‪ ،‬وهي عالم الروايات والحكايات‬ ‫وغيرهـا مـن النصـوص السـردية‪ .‬هـذه‬ ‫الفكـرة هـي موضـوع الفصـل الرابـع مـن‬ ‫أعم‪،‬‬ ‫كتابـي‪ ،‬حيـث تسـاءلت‪ ،‬من زاويـة ّ‬ ‫مرويات؟‬ ‫لمـاذا هنـاك صور؟ لماذا هنـاك‬ ‫ّ‬ ‫لمـاذا هنـاك موسـيقى؟‪ .‬مـن هنـا بـدأت‬ ‫الفكرة األولية لهذا الكتاب‪ ،‬لكن تأسيسها‬ ‫وبناءهـا علـى تحليالت موسـيقية تطلَّبا‬ ‫مني العمل المتواصل طيلة خمسـة عشـر‬ ‫عام ًا ‪.‬‬

‫§ َق ِّدْم لنا ‪ -‬لو سمحت ‪ -‬نظرة‬ ‫موجزة عن هذا الكتاب‪ ،‬وعن القضايا‬ ‫التي أشرنا إليها‪.‬‬

‫ إذا انطلقنا من التقسيم العام للكتاب‪،‬‬‫يمكننـا تلخيصه بسـهولة‪ :‬فالقسـم األول‬ ‫خصصته للسؤال الخاطئ والساذج‪« :‬ما‬ ‫الموسـيقى؟»‪ ،‬لكـن هـذا التحديـد النظـري‬ ‫يظـل ناقصـاً‪ ،‬لذلـك انتقلـت‬ ‫الخالـص‬ ‫ّ‬ ‫أسـميه «مفعول‬ ‫الـذي‬ ‫الثانـي‬ ‫القسـم‬ ‫إلـى‬ ‫ّ‬ ‫الموسـيقى»‪ ،‬مفعولهـا علـى اإلنسـان‬ ‫جسـدي ًا وذهنيـاً‪ .‬ثـم عالجـت‪ ،‬بعـد ذلـك‪،‬‬ ‫سـؤا ًال تقليديـ ًا آخـر يتعلّـق بالعالقـة‬ ‫السـيمانتيكية أو الداللية بين الموسـيقى‬ ‫والعالـم‪ :‬هـل الموسـيقى الخالصـة‪،‬‬ ‫المعتمـدة فقـط علـى اآلالت ومـن دون أي‬ ‫برنامـج تقول شـيئ ًا مـا‪ ،‬أم أنها صورية‬ ‫ومجردة بشكل خالص؟‪ ،‬هذا هو موضوع‬ ‫القسـم الثالـث‪ .‬ويبقـى القسـم الرابـع فـي‬ ‫العمق هو‪ :‬لماذا الموسيقى؟‪ .‬كما حاولت‬ ‫(علـى المسـتوى المنهجـي) إقامـة نظـام‬ ‫استنتاجي أو استنباطي‪ ،‬حيث تتوقف كل‬ ‫النتائـج علـى التحديـدات التي قّدمتها عن‬ ‫الموسـيقى في القسـم األول‪ ،‬فقد انطلقت‬ ‫العامي والمبتذل الذي تلقّيته‬ ‫من التعريف ّ‬ ‫عندما كنت طفالً‪ ،‬والقائل بأن «الموسيقى‬ ‫هـي فـن األصـوات»‪ .‬كنـت آنـذاك منبهـرًا‬ ‫بهـذا التعريـف الـذي يقـول كل شـيء فـي‬ ‫ثلاث كلمـات‪ .‬وكنتيجـة لذلـك تسـاءلت‬ ‫لمـدة طويلـة‪ :‬مـا الفـن؟‪ .‬طبعـاً‪ ،‬لـم يكـن‬ ‫ذلـك هـو التسـاؤل المناسـب والصحيح‪،‬‬

‫فيما بينها‪ ،‬وهو نسبي‪ ،‬يختلف باختالف‬ ‫البيئـات الموسـيقية‪ .‬توجـد الموسـيقى‬ ‫عندما تنتج األصوات بواسطة األصوات‬ ‫نفسـها ال بواسـطة األحـداث الخارجيـة‪.‬‬ ‫بعبـارة أخـرى‪ :‬توجـد الموسـيقى عندمـا‬ ‫يكـون الصائـت مكتفيـ ًا بذاته‪.‬‬ ‫§ هذا يطرح في رأيي سؤا ً‬ ‫ال هو‪:‬‬ ‫هل يمكن اعتبار تغريد عصفور‪ -‬مثالً‪-‬‬ ‫موسيقى‪ ،‬مثله في ذلك مثل إحدى‬ ‫رباعيات أنطون فيبرن؟‬

‫فرنسيس وولف‬

‫وإنمـا هـو السـؤال‪ :‬مـا الصـوت؟‪ .‬من هنا‬ ‫أعـرف الصوت على أنه‬ ‫بالـذات أصبحـت ّ‬ ‫عالمـة دالّـة علـى حدث‪ .‬ولذلك فالسـؤال‬ ‫تتحول متوالية من‬ ‫الذي ُيطرح هو‪ :‬متى‬ ‫ّ‬ ‫األصـوات إلـى موسـيقى؟‪ .‬يبـدو الجواب‬ ‫ال فـي بدايـة األمـر‪ ،‬حيـث إنـه ال بـد‬ ‫سـه ً‬ ‫مـن توافـر شـرطين‪ :‬األول هـو أن تنتمـي‬ ‫أسميه عالم ًا موسيقياً‪،‬‬ ‫األصوات إلى ما ّ‬ ‫وليـس فقـط إلـى مـا هـو صائـت‪ ،‬أي أن‬ ‫تظهـر األصوات كوحدات منفصلة تنتمي‬ ‫إلـى سـلّم أو مقـام‪ ،‬هـو عبـارة عن شـكل‬ ‫أسـميه‬ ‫ُمحـّدد لتقسـيم الصائـت‪ ،‬وهـو ما ّ‬ ‫العالمـات الموسـيقية أو النوتـات‪ .‬أمـا‬ ‫الثانـي فهـو أن يكون هناك تقسـيم للمدة‬ ‫الزمنيـة بشـكل عقالنـي‪ ،‬فبـدون ذلـك ال‬ ‫وجـود لعالـم موسـيقي‪ .‬ولكـي تصبـح‬ ‫األصـوات المنتميـة إلـى هـذا العالـم‬ ‫الموسـيقي جديـرة باسـم الموسـيقى‪،‬‬ ‫يجـب أن تتعاقـب بطريقة تسـمح بالتنبؤ‬ ‫بهـا بعـد سـماعها‪ ،‬رغـم أننـا ال نسـتطيع‬ ‫ذلـك قبـل سـماعها وإنجازهـا بالفعـل‪.‬‬ ‫أسـميه(العالقة السـببية)؛ أي أن‬ ‫هـذا مـا ّ‬ ‫هنـاك شـيئ ًا مـا يحكـم عالقـة األصـوات‬

‫ قـد يحـدث أن نسـمع‪ ،‬مـن حيـن إلـى‬‫آخـر‪ ،‬متواليـات من األصـوات الطبيعية‬ ‫التي تشـبه الموسـيقى‪ ،‬إال أنه‪ ،‬في هذه‬ ‫الفن غائباً‪ .‬وباإلضافة إلى‬ ‫الحالـة يكون ّ‬ ‫مثـال العصفـور‪ ،‬فنحن حين نركب قطارًا‬ ‫مثلا‪ ،‬تأتـي لحظـة ّ‬ ‫نكـف فيهـا عن سـماع‬ ‫ً‬ ‫الضجيج‪ ،‬لنسمع‪ ،‬بدل ذلك‪ ،‬إيقاع ًا ثابت ًا‬ ‫ومنتظماً‪ .‬إذاً‪ ،‬هناك حاالت يمكن أن نقف‬ ‫سـميه (عناصر إيقاعية من‬ ‫فيها على ما ُأ ّ‬ ‫خارج الموسـيقى)‪ .‬لكن الموسـيقى‪ ،‬بما‬ ‫هي كذلك‪ ،‬تحتاج إلى علل صورية‪ ،‬على‬ ‫أسـاس أن األصـوات تبـدو شـاهدة علـى‬ ‫ميلاد بنيـة صوريـة‪ ،‬وهـذا مـا يجعلنـي‬ ‫ِ‬ ‫للموسيقى‪،‬العلّة‬ ‫أتحّدث عن العلل األربع‬ ‫المادية‪،‬العلّـة الصوريـة‪ِ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫العلّـة الفاعلـة‬ ‫ِ‬ ‫والعلّة الغائية‪.‬‬ ‫§ هذا يعني‪ ،‬كما يتجلّى من خالل‬ ‫كتابكم‪ ،‬أن الموسيقى ترتبط‪ -‬جوهرياً‪-‬‬ ‫باإلنسان‪.‬‬

‫ بالتأكيـد‪ ،‬هـذا مـا نفهمـه ضمنيـاً‪.‬‬‫فاإلنسـان والموسـيقى‪ ،‬كل واحـد منهمـا‬ ‫يحـّدد اآلخـر‪ ،‬إذا جـاز لـي التعبير‪ .‬فنحن‬ ‫نالحـظ أن الطفـل‪ ،‬منـذ لحظـة مبكـرة‬ ‫جـداً‪ ،‬يحتـاج إلـى إنتـاج أصـوات اعتمادًا‬ ‫علـى ذاته‪ ،‬وبشـكل يكـون فيه قادرًا على‬ ‫والتحكم فيها‪ ،‬حتى قبل اكتساب‬ ‫ضبطها‬ ‫ّ‬ ‫اللغة المنطوقة وتعلّم التفكير العقالني‪.‬‬ ‫إذا كانت األصوات التي تحيط بنا من كل‬ ‫تتشكل اعتباطياً‪ ،‬فاإلنسان‪ ،‬عكس‬ ‫جانب ّ‬ ‫ذلـك‪ ،‬يضفـي نوعـ ًا مـن الموسـيقى على‬ ‫أصواتـه‪ ،‬بحيـث يجعلهـا مألوفـة لديـه‪.‬‬ ‫فلا إنسـانية بـدون موسـيقى‪ ،‬وبالمثل‪،‬‬ ‫ال موسـيقى بالمعنـى الشـامل‪ ،‬مـن دون‬ ‫الخاصة‪.‬‬ ‫إنسانية تعرف شكلها وعالمتها‬ ‫ّ‬

‫§ يبدو هذا الكتاب حصيلة عامة‬ ‫أو خالصة لحياة ُكّرست للفلسفة‬ ‫والهتمامكم بالموسيقى‪ .‬لكنكم أوليتم‬ ‫عناية خاصة الهتمام آخر‪ ،‬هو الكوريدا‬ ‫أو مصارعة الثيران‪ ،‬وألّفتم في هذا‬ ‫المجال كتب ًا ذات طابع فلسفي‪ .‬أية‬ ‫عالقة يمكن أن تقوم‪ ،‬في نظركم‪ ،‬بين‬ ‫الكوريدا والموسيقى؟‬

‫ قـد تعـود هـذه العالقـة‪ -‬مبدئياً‪-‬إلـى‬‫اعتبارات ذاتية أو شخصية كلية‪ ،‬يتعلّق‬ ‫األمر بشـغفي الكبير بهذين المجالين‪ .‬لقد‬ ‫خصصـت جـزءًا من عملـي األدبي للكتابة‬ ‫عـن مصارعـة الثيـران‪ ،‬مثـل كتابـي‬ ‫«فلسـفة الكوريدا»‪ ...‬ويبدو لي أن عالقة‬ ‫الكوريـدا بالموسـيقى تظهر فـي كون هذا‬ ‫الفن‪ ،‬لحظة التعبير الشـخصي للمصارع‬ ‫حيـن يواجـه الثور‪ ،‬يكشـف عن شـيء ما‬ ‫مشـترك‪ ،‬وينتمي إلـى جميع الفنون‪،‬أي‬ ‫اإليقاع واالنتظام‪ ،‬التناسق واالنسجام‪،‬‬ ‫تمام ًا كما هو األمر في الموسيقى‪ .‬إن ثراء‬ ‫الكوريـدا يكمـن فـي إحالتهـا علـى جميـع‬ ‫الفنون‪ ،‬سـواء الفنون التشكيلية وفنون‬ ‫السـرد والمرويـات‪ ،‬مـا دام األمـر يتعلّـق‬ ‫بالحكاية نفسـها‪،‬حكاية الموت والحياة‪.‬‬ ‫وإذا نظرنـا إلـى هـذه العالقة مـن الزاوية‬ ‫المقابلـة‪ ،‬أي مـن زاويـة حضور الكوريدا‬ ‫فـي الموسـيقى‪ ،‬فأنـا أرى‪ ،‬مـن خلال‬ ‫تجربتـي‪ ،‬أنهـا تتمثـل فـي لحظـات األداء‬ ‫الراقي والمبهر في الغناء‪ .‬حين ُيْقِد ُم أحد‬ ‫كبـار المغنيـن علـى أداء لحـن فـي غايـة‬ ‫الصعوبـة‪ ،‬تتملكنـا مشـاعر خاصـة مثـل‬ ‫الخوف من أن ينكسر صوته‪ ،‬واإلعجاب‬ ‫الكبيـر بمهارته وبراعته في األداء‪ ،‬وهي‬ ‫المشاعر نفسها التي نحسها حين يالمس‬ ‫قرن الثور المصارع‪ ،‬ويعمل على تفاديه‬ ‫بمهارتـه الخاصـة‪ ...‬إن انتصـار مـا هـو‬ ‫إنساني‪ ،‬هو في نظري‪ -‬القاسم المشترك‬ ‫بيـن التعبير الموسـيقي والكوريدا‪.‬‬ ‫‪concertclassic.com‬‬ ‫‪Propos recueillis par Pierre René‬‬ ‫‪Serna ; Le 2 Avril 2015‬‬

‫‪157‬‬

‫تحقيق‬

‫الجمعيات الثقافية والفنية يف المغرب‬ ‫الم ْأ َسسة‬ ‫الحاجة إلى َ‬ ‫الدار البيضاء‪ :‬عبد الهادي رويض‬

‫يعيـش المغـرب‪ ،‬منـذ االسـتقالل حتـى‬ ‫اآلن‪ ،‬علـى مسـتوى حضـور الجمعيـات‬ ‫دينامية ال تخطئها العين يبلورها معطيان‬ ‫أساسـيان‪ ،‬أولهمـا عـدد الجمعيـات الـذي‬ ‫تضاعـف عشـرات المـرات قياسـ ًا بمـا كان‬ ‫عليـه األمر خلال العقدين األخيرين‪ ،‬وهو‬ ‫مـا تؤكـده األرقـام الصـادرة‪ ،‬مؤخـراً‪ ،‬عن‬ ‫أحدث دراسـة أنجزتها المندوبية السـامية‬ ‫مقرهـا بالربـاط‪ ،‬حيث‬ ‫للتخطيـط‪ ،‬الكائـن ّ‬ ‫بلـغ عـدد الجمعيات بالمغـرب ما مجموعه‬ ‫(‪ )44.771‬جمعية‪ ،‬أي بمعدل ‪ 145‬جمعية‬ ‫لـكل مئـة ألـف نسـمة‪ ..‬وثانيهمـا كثافـة‬ ‫األنشـطة اإلشـعاعية التـي تطلقهـا تلـك‬ ‫الجمعيات من حين آلخر‪ ،‬والالفت لالنتباه‬ ‫أن الجمعيات ذات االنشـغال الثقافي يبقى‬ ‫عددهـا ال بـأس بـه قياسـ ًا بالجمعيـات‬ ‫المشـتغلة فـي مجـاالت اجتماعيـة أخـرى‬ ‫كالبيئة‪ ،‬والصحة‪ ،‬والرياضة‪ ،‬والسـكن‪،‬‬ ‫وغيرهـا‪ ،‬وهـي تتبايـن من حيث مسـتوى‬ ‫األطقـم والكفـاءات التـي تشـتغل ضمنهـا‪،‬‬ ‫وكذلـك مـن حيـث اإلمكانيـات المرصـودة‬ ‫لهـا‪ ،‬وفـي هـذا الصـدد يجـب اإلشـارة إلـى‬ ‫أن مـن تلـك الجمعيـات الثقافيـة‪ -‬حصـراً‪-‬‬ ‫مـن تشـتغل وفـق إمكاناتهـا الذاتيـة‪ ،‬التـي‬ ‫تسـتقيها مـن المنضمين إليها واألشـخاص‬ ‫المعنوييـن المتعاطفيـن معهـا‪ ،‬ومنهـا مـا‬ ‫يحظى بدعم المجالس السياسية المنتخبة‬ ‫‪158‬‬

‫للمدينـة أو البلـدة التـي تؤويهـا‪ ،‬ومنهـا‬ ‫مـا يحظـى بدعـم وزارة الثقافـة بوصفهـا‬ ‫الجهة الوصية على الثقافة في البلد‪ ،‬عبر‬ ‫منحـة دعـم سـنوية تمنحهـا وزارة الثقافة‬ ‫للجمعيات النشيطة‪ ،‬وفق مقترحات الدعم‬ ‫الـذي تتقـّدم بـه إلـى الجهـة الوصية‪ ،‬وفق‬ ‫أجنـدة ُمحـّددة زمنياً‪.‬‬

‫عوامل الكثافة العددية‬

‫ومـن جملـة العوامـل التـي سـاهمت في‬ ‫تنامـي الجمعيـات الثقافيـة فـي المغـرب‪،‬‬ ‫وكثافتهـا‪ ،‬سـعي الجهـات الحكوميـة إلـى‬ ‫امتصاص االنزالقات الناجمة عن هشاشـة‬ ‫التنشـئة االجتماعية في صفوف الشباب‪،‬‬ ‫ومحاولـة إدماجهـم في سـيرورة المجتمع‬ ‫ومراميه‪ ،‬وانتشالهم من كل ما من شأنه أن‬ ‫والتطرف‬ ‫يفضي بهم إلى مهاوي االنحراف‬ ‫ّ‬ ‫بشـتى أنواعهمـا‪ ،‬وامتصـاص رفضهـم‬ ‫االنخراط في الحياة الجمعوية‪ ،‬وعزوفهم‬ ‫عـن االنخـراط فـي األحـزاب السياسـية‪،‬‬ ‫باإلضافـة إلـى انخـراط عـدد مـن المبدعين‬ ‫والمبدعات‪ ،‬ممن أخذوا على كاهلهم النزول‬ ‫إلى معترك المجتمع‪ ،‬وتأطير شبابه بكل‬ ‫الوسـائل الممكنـة‪ ،‬مسـتفيدين مـن تلييـن‬ ‫مساطير تأسيس الجمعيات‪ ،‬الذي َظّل إلى‬ ‫وقـت وجيـز تتحكـم فيـه عوامـل سياسـية‬

‫وانتخابية في األسـاس‪ ،‬ناهيك عن الدور‬ ‫الـذي لعبتـه المبـادرة الوطنيـة للتنميـة‪،‬‬ ‫ال في سيرورة الحركية‬ ‫بوصفها شريك ًا فاع ً‬ ‫الثقافية فـي البلد‪.‬‬

‫األنماط والدينامية‬ ‫وبموجب ذلك‪ ،‬الحت في أفق الممارسة‬ ‫الجمعوية ِعّدة جمعيات منشـغلة بالسؤال‬ ‫الثقافـي تنتمـي إلـى مـدن وجغرافيـات‬ ‫متباينـة سـكاني ًا وماديـاً‪ ،‬ومتراميـة بيـن‬ ‫مـدن المركـز ومـدن الهامـش علـى حـد‬ ‫سـواء‪ ،‬منهـا مـن يصـل عمرهـا إلـى نصف‬ ‫قرن من الحضور والعطاء واالستمرارية‪،‬‬ ‫مثـل جمعيـة أصدقـاء المعتمد بـن عباد في‬ ‫مدينـة شفشـاون‪ ،‬التـي تحتفـل سـنوي ًا‬ ‫بملتقاها الشعري المحتفي بالشعر المغربي‬ ‫الحديث‪ ،‬وهي جمعية قّدمت خدمة للشـعر‬ ‫المغربـي ولشـعرائه طيلة هذه السـنوات‪،‬‬ ‫ثـم جمعيـة األوراش فـي مدينـة مـوالي‬ ‫زرهون قرب مدينة مكناس‪ ،‬التي تواصل‬ ‫مهمة االحتفاء بالشـعر والشـعراء منفتحة‬ ‫ّ‬ ‫علـى الشـعر العربـي والشـعر الكونـي‪،‬‬ ‫وجمعيـة البلسـم فـي مدينـة أبـي الجعـد‬ ‫التـي دأبـت طيلـة تسـع عشـرة سـنة علـى‬ ‫تخليـد ملتقاهـا الشـعري كموعـد ثقافـي‬ ‫سـنوياً‪ ،‬وخيمـة أدبيـة تسـتضيف ُثلّة من‬

‫التعويـض عـن المشـاركين فـي أنشـطتها‬ ‫الثقافية‪ ،‬والحرص على اسـتدعاء أسـماء‬ ‫مقربة تفادي ًا للمسـاءلة واإلحراج‪ ،‬أسـماء‬ ‫َّ‬ ‫ترتـق بتجاربهـا ومشـاريعها الثقافيـة‬ ‫لـم‬ ‫ِ‬ ‫واإلبداعيـة‪ ،‬ناهيـك عـن التطاحنـات‬ ‫والمشـاحنات‪ ،‬وغيـاب سياسـة التخطيط‬ ‫المدَيْين‪ :‬المتوسط‪ ،‬والبعيد‪،‬‬ ‫الثقافي على َ‬ ‫ومحدوديـة األفـق الثقافـي المراهـن عليه‪،‬‬ ‫ممـا أقبـر تجـارب جمعويـة رائـدة‪ ،‬مثـل‬ ‫جمعية الحواس الخمس في الدار البيضاء‪،‬‬ ‫وجمعية بيت األدب في مكناس‪ ،‬باإلضافة‬ ‫إلى ظواهر أخرى ال يّتسع المجال للتفصيل‬ ‫فيها‪.‬‬

‫الجمعيات الثقافية‬ ‫وضرورة ال َم ْأ َسسة‬ ‫المبدعيـن المغاربـة والعـرب دعمـ ًا لتالقح‬ ‫التجارب الشـعرية واإلنسـانية‪ ،‬وبموازاة‬ ‫هـذه الجمعيـات المهتمـة بالشـعر‪ ،‬هنـاك‬ ‫جمعيـات أخـرى أخـذت علـى عاتقهـا لفـت‬ ‫االنتبـاه إلـى التشـكيل واللوحـة وعالقـات‬ ‫التشـكيليين بهـا‪ ،‬وباإلنسـان والطبيعـة‬ ‫تمثيلا‬ ‫والعالـم‪ ،‬ونشـير هنـا إلـى بعضهـا‬ ‫ً‬ ‫ضمـت‬ ‫ال حصـراً‪ ،‬كحلقـة ‪ 1965‬التـي ّ‬ ‫نخبـة مـن أبـرز التشـكيليين المغاربـة مـن‬ ‫جيـل التأسـيس أمثـال فريـد بلكاهيـة‪،‬‬ ‫ومحمـد شـبعة‪ ،‬ومحمـد المليحـي‪ ،‬ومحمد‬ ‫المنصوري‪ ،‬وغيرهـم‪ ،‬وجمعيـة الفكـر‬ ‫أسسـها بالرباط منذ تسـع‬ ‫التشـكيلي التي ّ‬ ‫سـنوات زمـرة مـن الفنانيـن التشـكيليين‬ ‫والكّتاب والنقّاد والشعراء‪ ،‬بهدف تخصيب‬ ‫أراضـي البحـث فـي التشـكيل ومداراتـه‪،‬‬ ‫وبلـورة متنفـس للكتابة الجمالية‪ ،‬وخلق‬ ‫حـوار هـادف مـن داخـل اللوحـة‪ ،‬وجمـع‬ ‫شـتات التشـكيليين المغاربـة‪ ،‬والعمـل‬ ‫علـى طبـع المؤلفـات عـددًا من اإلصـدارات‬ ‫المهتمـة باللوحـة واأللوان‪ ،‬حيث بلغ عدد‬ ‫إصداراتها التشكيلية أحد عشر كتاباً‪ ،‬غير‬ ‫أن هذه الجمعيات تعاني من غياب االهتمام‬ ‫الكافـي مـن الجهـات الوصيـة‪ ،‬ومحدودية‬ ‫الكتابـات النقديـة الموازيـة‪ ،‬والمتابعـات‬ ‫تخصصة‪ ،‬وكذلك عدم تكريس‬ ‫الم ّ‬ ‫اإلعالمية ُ‬ ‫ثقافـة إقامة المعارض الفنية وتقريبها من‬

‫العامة‪ ،‬وانحسـارها في فضاءات نخبوية‬ ‫ضيقة ‪.‬‬ ‫وهنـاك أيضـ ًا جمعيـات أخـرى ثقافيـة‬ ‫أخـذت علـى كاهلهـا مهمـة االعتنـاء براهـن‬ ‫السـينما المغربيـة والشاشـة الكبيـرة‬ ‫ومستجداتهما‪ ،‬كجمعية نقاد السينما‪ ،‬التي‬ ‫ُتعنـى بتتبـع المشـهد السـينمائي المغربي‬ ‫وخدمتـه عبـر بوابة النقد‪ ،‬ودعم ورشـات‬ ‫التكويـن والتأطيـر‪ ،‬وقـد تمكنـت بفضـل‬ ‫هـذه الجمعيـة مـن تجاوز وقهـر إمكانياتها‬ ‫المحـدودة‪ ،‬وأخرجـت إلـى الوجـود‬ ‫الثقافـي مجلـة المجلـة المغربيـة لألبحاث‬ ‫السـينمائية‪ ،‬وغيرهـا مـن المبـادرات التي‬ ‫تحسـب للجمعيـة وأطرهـا الفاعلـة‪.‬‬ ‫إن الديناميـة التـي تعيشـها الجمعيـات‬ ‫الثقافيـة فـي المغـرب كمـ ًا وكيفـاً‪ ،‬ال‬ ‫تعنـي بـأي حـال مـن األحـوال أن الوسـط‬ ‫الجمعوي الثقافي في أبهى حلله‪ ،‬إذ تطفو‬ ‫علـى السـطح جملـة ظواهـر سـلبية تعيق‬ ‫سـيرورة الفعـل الثقافي الجـاد‪ ،‬وتحيد به‬ ‫عن أهدافه وغاياته‪ ،‬فكثيرة هي الجمعيات‬ ‫الثقافيـة التـي تصطـاد في الميـاه العكرة‪،‬‬ ‫وتسـتفيد مـن حوافز ماديـة ومعنوية دون‬ ‫أن تتمكـن مـن تحقيـق االرتقـاء النوعـي‬ ‫فـي أنشـطتها المقدمة للعمـوم‪ ،‬بل صارت‬ ‫مرتع ًا سنوي ًا لسلوكيات غير ثقافية البتة‪،‬‬ ‫كمراكمـة الثـروات وبنـاء الشـقق‪ ،‬وحجـب‬

‫إن الظواهـر المرتبطـة بالممارسـة‬ ‫الثقافيـة المومـأ إليهـا سـلفاً‪ ،‬تسـتدعي‬ ‫ضـرورة إعـادة النظـر فـي كيفية تأسـيس‬ ‫الجمعيات الثقافية والفنية‪ ،‬وتخليق المشهد‬ ‫ـن قوانيـن واضحـة‪،‬‬ ‫الجمعـوي‪ ،‬عبـر َس ّ‬ ‫تضمـن مأسسـة الجمعيـات وتمتيعهـا‬ ‫باإلمكانـات الضامنـة شـروط المحاسـبة‬ ‫والمردوديـة‪ ،‬فمـن غيـر المعقـول أن يبقى‬ ‫المجال على ما هو عليه‪ ،‬فكثافة الجمعيات‬ ‫ال يوازيهـا اشـتغال نوعـي فـي الخدمـات‬ ‫المقّدمة‪ ،‬واألنشـطة غالب ًا ما تبقى أسـيرة‬ ‫ُ‬ ‫يحـول المشـهدين‬ ‫مناسـبات بعينهـا‪ ،‬ممـا ّ‬ ‫الثقافـي والفنـي في ذاتهما إلى فراغ قاتل‪،‬‬ ‫يجليه غياب أنشـطة نوعية وازنة تعكس‬ ‫طموحـات المعنيين والمتابعين لألنشـطة‬ ‫وتحول الكثير من‬ ‫ذات الصبغة الجمعوية‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫تلك الجمعيات إلى مشتل لتوليد الصراعات‬ ‫الجانبية‪ ،‬والتهافت نحو االمتيازات المادية‬ ‫مـن تعويضـات وسـفريات وغيرهمـا‪ ،‬وال‬ ‫دل علـى ذلـك ممـا يعيشـه اتحـاد كتـاب‬ ‫َأ ّ‬ ‫المغرب‪،‬بوصفـه جمعية ثقافية عمومية‪،‬‬ ‫مـن صراعـات وتجاذبـات تولّـدت فـي ِظ ّـل‬ ‫التسـابق حـول غنائـم هـذه المؤسسـة‪،‬‬ ‫وصـراع المصالـح والمنافـع بيـن أطـراف‬ ‫جسـد َحـّد‬ ‫الصـراع‪ ،‬وهـي كلهـا ظواهـر ُت ّ‬ ‫األزمـة التـي تعيشـها جمعياتنـا الثقافيـة‬ ‫للتدخل‬ ‫والفنية‪ ،‬مما يدعو الجهات الوصية‬ ‫ُّ‬ ‫والحـّد مـن تفشـي مظاهـر األزمـة‪ ،‬وافتقار‬ ‫والحـس الفني‪ ،‬ولـدى َم ْن‬ ‫الحـس الثقافـي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫والفن في البلد‪.‬‬ ‫هم محسوبون على الثقافة ّ‬ ‫‪159‬‬

‫صفحات مطوية‬

‫طه حسني ومعاركه مع ّ‬ ‫الشباب‬ ‫شعبان يوسف‬

‫بعدمـــا كان طـــه حســـين وزيـــرًا للمعـــارف‪ ،‬فـــي آخـــر‬ ‫حكومـــة وفديـــة قبـــل ثـــورة ‪ 23‬يوليو‪/‬تمـــوز ‪،1952‬‬ ‫ثـــم أطيـــح بهـــذه الحكومـــة‪ ،‬وجـــد نفســـه خـــارج الســـياق‬ ‫تيـــارات واتجاهـــات فكريـــة‬ ‫الـــوزاري‪ ،‬وبـــدأت معاركـــه مـــع ّ‬ ‫وثقافيـــة وسياســـية تشـــتّد‪ ،‬وتّتســـع‪ ،‬وتـــزداد‪ .‬وإذا‬ ‫كانـــت معـــارك طـــه حســـين التـــي ســـبقت هـــذا الّتاريـــخ مـــع‬ ‫ـــن جايلـــوه‪ ،‬ومـــن هـــم يطاولونـــه فـــي القيمـــة الفكريـــة‬ ‫َم ْ‬ ‫والثقافيـــة‪ ،‬مثـــل محمـــد حســـين هيـــكل وزكـــي مبـــارك‬ ‫ومحمـــود محمـــد شـــاكر وأحمـــد أميـــن وتوفيـــق الحكيـــم‪،‬‬ ‫وغيره ــم‪ ،‬ف ــإن الفئ ــة المتع ــارك معه ــا ف ــي المرحل ــة الجدي ــدة‬ ‫اختلفـــت‪ ،‬وهبطـــت‪ ،‬فـــي األعمـــار‪ ،‬إلـــى دون عمـــره بأكثـــر‬ ‫مـــن جيـــل‪:‬‬ ‫منه ــا معارك ــه م ــع عب ــد الرحم ــن الش ــرقاوي ال ــذي يصغ ــره‬ ‫بثالثيـــن عامـــاً‪ ،‬ولـــم يكـــن حينهـــا قـــد أصـــدر أكثـــر مـــن‬ ‫حـــادة علـــى صفحـــات‬ ‫وجـــه لـــه رســـالة‬ ‫ّ‬ ‫كتابيـــن‪ ،‬ولكنـــه ّ‬ ‫مجلّـــة «الغـــد»‪ ،‬عـــام ‪ ،1953‬وفعـــل الصحافـــي الكاتـــب‬ ‫الشـــيء ذاتـــه‪ ،‬ولـــم يكـــن قـــد أصـــدر شـــيئ ًا‬ ‫صـــاح حافـــظ ّ‬ ‫عل ــى اإلط ــاق‪ ،‬وم ــن بعده ــم أحم ــد به ــاء الدي ــن‪ ،‬وكان ف ــي‬ ‫الس ــابعة والعش ــرين‪ ،‬بينم ــا كان ط ــه حس ــين ف ــي الخامس ــة‬ ‫ّ‬ ‫والســـّتين‪ ،‬وكذلـــك محمـــود أميـــن العالـــم‪ ،‬وعبـــد العظيـــم‬ ‫أنيـــس‪ ،‬وعبـــد المنعـــم الســـباعي‪ ،‬وغيرهـــم‪.‬‬ ‫وهنـــا نســـتطيع القـــول إن طـــه حســـين كان مســـتهدف ًا‬ ‫بالفع ــل‪ ،‬لي ــس ألن ــه ل ــم يصب ــح صاح ــب س ــلطة حكومي ــة‪،‬‬ ‫فطـــه حســـين قبـــل الحكومـــة هـــو طـــه حســـين نفســـه بعـــد‬ ‫الحكوم ــة‪ ،‬فأمثال ــه ال ُتق ــاس قيمته ــم بالمنص ــب‪ ،‬ب ــل العك ــس‬ ‫هـــو الصحيـــح؛ أي إن المنصـــب هـــو الـــذي ُيقـــاس بهـــم‪.‬‬ ‫الرج ــل الثقافي ــة ه ــي الت ــي‬ ‫ولك ــن م ــا ح ــدث ه ــو أن س ــلطة ّ‬ ‫تطـــورًا يحـــدث فـــي الحيـــاة‬ ‫ازدادت‪ ،‬ولـــم يكـــن مـــدرك ًا أن‬ ‫ّ‬ ‫الفكريـــة‪ ،‬والسياســـية‪ ،‬والثقافيـــة‪ ،‬فاختلفـــت ذائقتـــه‪ ،‬بـــل‬ ‫كأنه ــا فوجئ ــت بم ــا َجــّد عل ــى الحي ــاة األدبي ــة‪ ،‬فكت ــب مق ــا ًال‬ ‫عنيفـــ ًا فـــي مجلّـــة «المواهـــب» فـــي عـــام ‪ ،1952‬أي قبـــل‬ ‫ثـــورة ‪ 23‬يوليو‪/‬تمـــوز مباشـــرة‪ ،‬عنوانـــه «محنـــة األدب»‪،‬‬ ‫وكانـــت األحـــوال فـــي مصـــر‪ ،‬آنـــذاك‪ ،‬مربكـــة ومرتبكـــة‬ ‫‪160‬‬

‫بشـــكل كبيـــر‪.‬‬ ‫وكان طـــه حســـين والحكومـــة التـــي كان ينتمـــي إليهـــا‬ ‫محـــل ســـخط وانتقـــاد مـــن‬ ‫والحـــزب الـــذي اســـتوزره‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫حافيي ــن‪ ،‬كان ــت مرحل ــة تترّن ــح فيه ــا‬ ‫الن ــاس والكّت ــاب ّ‬ ‫والص ّ‬ ‫كل الســـلطات أمـــام الـــروح الجديـــدة الصاعـــدة‪ ،‬والتـــي لـــم‬ ‫تلم ــس نبضه ــا‪ ،‬وعل ــى رأس ــهم ط ــه‬ ‫يس ــتطع الجي ــل القدي ــم ُّ‬ ‫حس ــين‪،‬الذي راح يض ــرب يمينــ ًا ويس ــاراً‪ ،‬غاضبــ ًا وس ــاخط ًا‬ ‫علـــى الكتابـــة الجديـــدة واألدب الجديـــد‪.‬‬ ‫وكان مق ــال «محن ــة األدب» فاتح ــة لسلس ــلة مق ــاالت‪ ،‬أراد‬ ‫يعبـــر فيهـــا عـــن ســـخطه وغضبـــه‬ ‫الدكتـــور طـــه حســـين أن ّ‬ ‫قائـــا‪:‬‬ ‫علـــى األجيـــال المعاصـــرة آنـــذاك‪ ،‬فبـــدأ مقالـــه‬ ‫ً‬ ‫«حياتنـــا األدبيـــة‪ ،‬فيمـــا ظهـــر مـــن أمرهـــا‪ ،‬راكـــدة خامـــدة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫القيمـــة نـــادرة‪،‬‬ ‫مـــا فـــي ذلـــك‬ ‫شـــك‪ ،‬فقـــد أصبحـــت الكتـــب ّ‬ ‫فضـــا عـــن‬ ‫يمـــر العـــام دون أن يظهـــر منهـــا كتـــاب واحـــد‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫والصحـــف اليوميـــة واألســـبوعية ال‬ ‫كتابيـــن أوثالثـــة كتـــب‪ّ ،‬‬ ‫ت ــكاد تحف ــل ب ــاألدب‪ ،‬وق ــد تم ـّـر األس ــابيع‪ ،‬وق ــد تم ـّـر الش ــهور‬ ‫فصـــا‬ ‫دون أن نقـــرأ‪ ،‬فـــي صحيفـــة يوميـــة أو أســـبوعية‬ ‫ً‬ ‫بلـــون مـــن األدب‬ ‫والمجـــات الشـــهرية ُتعنـــى‬ ‫أدبيـــ ًا ذا بـــال‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ـا‪ ،‬وال يكّل ــف قارئ ــه جه ــدًا‬ ‫ـ‬ ‫عن‬ ‫ـه‬ ‫ـ‬ ‫كاتب‬ ‫ـف‬ ‫يس ــير‪ ،‬اليكّل ـ‬ ‫ـاء طوي ـ ً‬ ‫ً‬ ‫مرثيـــة‬ ‫فـــي‬ ‫األدب‬ ‫ا‬ ‫ناعيـــ‬ ‫حســـين‬ ‫طـــه‬ ‫واســـتطرد‬ ‫ثقيـــا»‪..‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫مترحمـــ ًا علـــى زمـــن فـــات حيـــث يقـــول‪« :‬رحـــم‬ ‫طويلـــة‪ّ ،‬‬ ‫اهلل تلـــك األيـــام‪ ،‬فقـــد مضـــت‪ ،‬ومضـــى عهدهـــا حتـــى كأن‬ ‫أصحابه ــا ق ــد مض ــوا معه ــا‪ ،‬وه ــم‪ ،‬م ــع ذل ــك‪ ،‬أحي ــاء يلق ــى‬ ‫بعضهـــم بعضـــ ًا بيـــن حيـــن وحيـــن‪ ،‬ولكنهـــم ال يكتبـــون‪ ،‬أو‬ ‫الي ــكادون يكتب ــون‪ ،‬واليختصم ــون ف ــي األدب والنق ــد‪ ،‬وإنم ــا‬ ‫يختصمـــون فـــي السياســـة والمنافـــع العاجلـــة»‪.‬‬ ‫يختـــل اإلنتـــاج‬ ‫وعقـــد طـــه حســـين مقارنـــة بيـــن أن‬ ‫ّ‬ ‫الزراع ــي أوالصناع ــي‪ ،‬فيح ــدث ش ــعورًا مخيف ـ ًا ل ــدى الن ــاس‪،‬‬ ‫اختـــل إنتاجـــه فلـــن يشـــعر بـــه‬ ‫واختـــال األدب‪ ،‬الـــذي لـــو‬ ‫ّ‬ ‫أح ــد‪ ،‬وع ــزا ذل ــك إل ــى أن األدب افتق ــد‪ ،‬ف ــي مص ــر‪ ،‬ق ـ ّـراءه‪،‬‬ ‫تعس ــف ش ــديد‪ ،‬كم ــا‬ ‫حي ــث الرقي ــب ال ــذي يمن ــع ويمن ــح‪ ،‬ف ــي ُّ‬ ‫أن ــه َح َّم ــل مس ــؤولية ل ــدور النش ــر الت ــي تخش ــى عل ــى رأس‬ ‫مالهـــا‪ ،‬فتحجـــم عـــن نشـــر اآلداب‪ ،‬ممـــا يدفـــع الشـــباب إلـــى‬

‫اإلحبـــاط‪ ،‬وهنـــاك ســـبب ثالـــث‬ ‫يتمـــادى فـــي الترديـــد‬ ‫ذكـــره طـــه حســـين يتعلّـــق‬ ‫فتمـــر الســـاعات‬ ‫اللفظـــي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫بـــأن (اآلبـــاء) الكبـــار مـــن‬ ‫ـا‪ -‬مقط ــع‬ ‫وه ــو يك ـ ِّـرر‪ -‬مث ـ ً‬ ‫الينشـــغلون‬ ‫األدبـــاء‬ ‫(ياســـيدى زعـــان )‪،‬‬ ‫الشـــباب‪.‬‬ ‫ـــاب‬ ‫بالكّت‬ ‫الســـامع‬ ‫ويتـــرك‬ ‫حـــرك هـــذا المقـــال‬ ‫معلَّقـــ ًا طـــوال هـــذه‬ ‫ّ‬ ‫مـــن‬ ‫الحـــاد ردود عـــدد‬ ‫ّ‬ ‫المـــّدة دون أن يقولـــه‬ ‫الكّتـــاب الشـــباب آنـــذاك‪،‬‬ ‫لـــه‪( :‬زعـــان ليـــه؟!)»‪.‬‬ ‫وعلـــى رأســـهم إحســـان عبـــد‬ ‫إحســـان‬ ‫ويسترســـل‬ ‫تحريـــر‬ ‫القـــدوس‪ ،‬رئيـــس‬ ‫عبـــد القـــدوس فـــي تقريـــع‬ ‫مجلّـــة «روز اليوســـف» وقتهـــا‪،‬‬ ‫طه حسين‬ ‫الدكتـــور طـــه حســـين‪ ،‬والنيـــل‬ ‫كتـــب‬ ‫والـــذي كان قـــد نشـــر بضعـــة‬ ‫م ــن أس ــلوبه األدب ــي‪ ،‬ال ــذي أصب ــح‪-‬‬ ‫أدبيـــة فـــي ذلـــك الوقت‪،‬ونشـــر مقالـــه‬ ‫ـأي‬ ‫م ــن وجه ــة نظ ــره‪ -‬ال يناس ــب العص ــر‪ ،‬ب ـ ّ‬ ‫فـــي الــــعــــدد الصــــــــادر مـــن مـجـلّــــة‬ ‫شـــكل مـــن األشـــكال‪ ،‬واليســـتطيع القـــارئ العصـــري‬ ‫«روز اليوســـف» فـــي ‪ 9‬يونيو‪/‬حزيـــران‪ ،1952 ،‬وبـــدأه‬ ‫يتحملـــه‪ ،‬وعلـــى طـــه حســـين‪ -‬كمـــا يقـــول إحســـان‪-‬أن‬ ‫أن ّ‬ ‫هك ــذا‪« :‬إن ــي أحتف ــظ برأي ــي ف ــي الدكت ــور ط ــه حس ــين باش ــا‬ ‫يعتصـــم بـــدوره كرجـــل تعليـــم‪ ،‬ويتـــرك األدب لألجيـــال‬ ‫كوزيـــر ســـابق وكرجـــل مـــن رجـــال التعليـــم‪ ،‬وهـــو رأي‬ ‫الحديثـــة‪.‬‬ ‫لـــن ُي ِ‬ ‫يســـره!‪ .‬ولكنـــي‪ ،‬اليـــوم‪،‬‬ ‫غضـــب ســـعادته‪ ،‬إن لـــم‬ ‫ّ‬ ‫ورغ ــم أن ط ــه حس ــين كان ين ــازل م ــن يختل ــف مع ــه‪ ،‬إال‬ ‫الأســـتطيع أن أحتفـــظ برأيـــي فيـــه كأديـــب‪ ،‬بعـــد أن أبـــدى‬ ‫المفكـــر والدكتـــور منصـــور‬ ‫المهمـــة لصديقـــه‬ ‫ِّ‬ ‫أنـــه تـــرك هـــده ّ‬ ‫ســـعادته رأيـــه فـــي جميـــع األدبـــاء‪ ،‬فقـــال إن األدب فـــي‬ ‫ـو ًال ف ــي الع ــدد التال ــي‬ ‫باش ــا فهم ــي‪ ،‬ال ــذي كت ــب تعليقــ ًا مط ـ َّ‬ ‫محن ــة‪ ،‬وإن ــه أصب ــح أدب ـ ًا رخيص ـاً‪ ،‬وكان باألم ــس غالي ـاً!!‪.‬‬ ‫مـــن المجلّـــة‪ ،‬محـــاو ًال تخفيـــف حـــّدة الخـــاف بيـــن صديقـــه‬ ‫األدب ف ــي محن ــة! رغ ــم أن س ــعادته ال ي ــزال يعــّد نفس ــه‬ ‫ط ــه حس ــين‪ ،‬وإحس ــان عب ــد الق ــدوس وجيل ــه‪ ،‬ولك ــن كلم ــات‬ ‫أديبـــاً‪ ،‬وطـــه حســـين‪ -‬كأديـــب‪ -‬ال يزيـــد فـــي نظـــري عـــن‬ ‫فهمـــي لـــم تســـتطع أن تلعـــب هـــذا الـــدور‪ ،‬ألن طـــه حســـين‬ ‫رج ــل موس ــيقى‪ ،‬تق ــوم موس ــيقاه عل ــى تردي ــد اللّف ــظ تردي ــدًا‬ ‫أعـــاد نشـــر هـــذا المقـــال «األزمـــة» فـــي مجلّـــة «اآلداب» فـــي‬ ‫يجـــر الســـأم‬ ‫طويـــا «موزونـــاً»‪ ،‬إن لـــم يفقـــد حالوتـــه فهـــو‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫عددهـــا الثالـــث‪ ،‬عـــام ‪ ،1953‬وواصـــل مقاالتـــه فـــي نقـــد‬ ‫والملـــل‪ ،‬ألنـــه ال يصـــل بـــك إلـــى المعنـــى إال بعـــد أن تفـــرك‬ ‫األدبـــاء الشـــباب وتقريعهـــم‪ ،‬والذيـــن‪ -‬بدورهـــم‪ -‬ثـــاروا‬ ‫عيني ــك عش ــر م ــرات لتط ــرد عنهم ــا النع ــاس‪ ...‬وق ــد يك ــون‬ ‫لـــكل واحـــد منهـــم معركـــة معـــه عنـــد‬ ‫عليـــه‪ ،‬وأصبـــح‬ ‫ّ‬ ‫المعن ــى ال ــذي يرم ــي إلي ــه ط ــه حس ــين‪ ،‬ف ــي مقال ــه‪ ،‬معن ــى‬ ‫واســـتمر هـــذا األمـــر علـــى مـــدى عقـــد‬ ‫يكتبـــه‪،‬‬ ‫مقـــال‬ ‫كل‬ ‫راقيــ ًا جدي ــداً‪ ،‬وق ــد يك ــون حدثــ ًا ف ــي عال ــم المعان ــي‪ ،‬ولكن ــه‬ ‫َّ‬ ‫الخمس ــينات م ــن الق ــرن العش ــرين‪ ،‬وتكتس ــب ه ــذه المعرك ــة‬ ‫يضيـــع وســـط الترديـــد اللّفظـــي الجميـــل‪ ،‬الـــذي يبلـــغ فـــي‬ ‫خاصـــة‪ ،‬ألنهـــا‬ ‫جمال ــه حــّد المل ــل والس ــأم!‬ ‫أهمّيـــة ّ‬ ‫بينـــه وبيـــن إحســـان عبـــد القـــدوس ّ‬ ‫كان ــت فاتح ــة المع ــارك بين ــه وبي ــن الجي ــل الش ــاب كّل ــه‪ ،‬ف ــي‬ ‫الحـــي فـــي الغنـــاء‪،‬‬ ‫عبـــد‬ ‫كصالـــح‬ ‫إنـــه‪ ،‬فـــي األدب‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وصالـــح يمتـــاز بحـــاوة الصـــوت وبدقّـــة اإليقـــاع‪ ،‬ولكنـــه‬ ‫ذلـــك الوقـــت‪.‬‬ ‫‪161‬‬

‫حمد فرج العزران‬

‫الربيع العربي‪..‬‬ ‫هل قتل األدب والثقافة العربيَّ ْين؟!!!‬

‫رغـــم أن الربيـــع العربـــي شـــهد طفـــرة كبيـــرة فـــي‬ ‫صـــدور العديـــد مـــن الدراســـات األدبيـــة والقصائـــد‬ ‫والروايـــات التـــي تناقـــش الوضـــع العربـــي الراهـــن‪،‬‬ ‫إال أن الثقافـــة واألدب ‪ -‬بشـــكل عـــام ‪ -‬بـــدأا يفقـــدان‬ ‫هويتهمـــا ومكانتهمـــا علـــى كافـــة األصعـــدة‪ ،‬فـــا‬ ‫ـــم مـــن اإلغـــراق الفكـــري يجعـــل‬ ‫يعنـــي أن هـــذا َ‬ ‫الك ّ‬ ‫الثقافـــة واألدب فـــي ارتقـــاء تصاعـــدي‪ ،‬بـــل أصبـــح‬ ‫الوضـــع‪ ،‬فـــي الحقيقـــة‪ ،‬شـــحيحاً‪ ،‬وأصبـــح البعـــض‬ ‫يزمـــر‪ ،‬ويحاكـــي بعـــض األطـــراف السياســـية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫كتس ــخير القصائ ــد (كقصائ ــد الم ــدح) والرواي ــات‪ ،‬م ــن‬ ‫أجـــل حـــزب ُم َعّيـــن أو حكومـــة جديـــدة‪.‬‬ ‫ومنـــذ مـــدة طويلـــة لـــم نعـــد نســـمع عـــن‬ ‫الصالونـــات والمقاهـــي األدبيـــة‪ :‬بـــدء ًا بالحركـــة‬ ‫التشـــكيلية‪ ،‬مـــرور ًا بالروايـــة والقصـــة‪ ،‬حتـــى‬ ‫األنديـــة األدبيـــة لـــم تعـــد تقـــوم بدورهـــا المعهـــود‪،‬‬ ‫فالصـــورة األدبيـــة والشـــعاع الفكـــري اغتالتهمـــا‬ ‫السياســـة فـــي العـــراق وســـوريا واليمـــن ومصـــر‬ ‫وتون ــس‪ ،‬وحت ــى ال ــدول الت ــي ل ــم تدخ ــل ف ــي معمع ــة‬ ‫الربيـــع العربـــي‪ ،‬ومنهـــا دول الخليـــج ولبنـــان ودول‬ ‫تحولـــت إلـــى صمـــت وســـكون‬ ‫المغـــرب العربـــي‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫ربمـــا‪ -‬يكـــون‬‫وطاقـــات مدفونـــة‬ ‫ومنســـية‪ ،‬والســـبب ّ‬ ‫ّ‬

‫‪162‬‬

‫والمهتميـــن‪ ،‬وحتـــى‬ ‫وجليـــ ًا لـــدى المتابعيـــن‬ ‫واضحـــ ًا‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫المتذوقيـــن للحركـــة األدبيـــة العربيـــة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ـول إل ــى أدب الث ــورة؛‬ ‫وه ــل م ــن المعق ــول أن نتح ـ ّ‬ ‫تحـــدث عنـــه الكاتـــب اإلســـباني‬ ‫ذلـــك األدب الـــذي‬ ‫َّ‬ ‫خـــوان غويتيســـيللو بعـــد الثـــورة العربيـــة فـــي كل‬ ‫مـــن مصـــر وتونـــس‪ ،‬األدب الـــذي حظـــي باهتمـــام‬ ‫شـــعبي وبمـــا يحـــدث فـــي العالـــم العربـــي بســـبب‬ ‫تلـــك الظـــروف‪ ،‬ذلـــك األدب القـــادر علـــى تحويـــل‬ ‫المـــادة الخـــام القادمـــة مـــن حناجـــر الجيـــل الجديـــد‬ ‫الحرّيـــة‪ ،‬إلـــى‬ ‫(ومعـــه الجيـــل القديـــم) إلـــى مياديـــن ّ‬ ‫تتجســـد فـــي األدبيـــات والروائيـــات‬ ‫مـــادة أدبيـــة‬ ‫ّ‬ ‫مطويـــات جيـــدة انبثقـــت مـــن‬ ‫والقصائـــد لتصبـــح‬ ‫ّ‬ ‫الثـــورات العربيـــة؟‬ ‫ال ينبغـــي أن نصـــاب بإحبـــاط ونتأثـــر بمـــا حولنـــا‬ ‫مـــن همـــوم ومعانـــاة وقتـــل للمشـــاعر‪ ،‬فيجـــب أن‬ ‫نعـــود إلـــى وضعنـــا القديـــم‪ ،‬وأن تتـــأأل أيامنـــا‬ ‫ومنتدياتنـــا وأنديتنـــا األدبيـــة‪ ،‬كمـــا عهدناهـــا‪،‬‬ ‫ـرة مضيئ ــة ف ــي س ــماء الفك ــر العرب ــي ب ــدء ًا م ــن‬ ‫جوه ـ ً‬ ‫المقاهـــي األدبيـــة واألنديـــة وصـــو ًال إلـــى المؤتمـــرات‬ ‫المتخصصـــة فـــي الثقافـــة واألدب‪ ،‬لكـــي‬ ‫العمالقـــة‬ ‫ِّ‬ ‫نجعـــل إرثنـــا فـــي أبهـــج صـــوره‪.‬‬